كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ مُوجِبٌ لِلتَّعْزِيرِ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي سَعِيدِ الْإِصْطَخْرِيِّ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ مُوجِبٌ لِلْقَتْلِ أَوْ لِحَدِّ الزِّنَا ، لَمْ يَثْبُتْ بِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةٍ . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ مُوجِبٌ لِلتَّعْزِيرِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَثْبُتُ بِشَاهِدَيْنِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ عَنْ حُكْمِ الزِّنَا نَقْصٌ عَنْ شُهُودِ الزِّنَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَثْبُتُ بِأَقَلِّ مِنْ أَرْبَعَةٍ ، لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْحَدِّ فِي الْجِنْسِ لَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْعَدَدِ فِي الشَّهَادَةِ ، كَمَا أَنَّ زِنًا الْعَبْدِ مُوجِبٌ لِنِصْفِ الْحَدِّ ، وَزِنَا الْبِكْرِ مُوجِبٌ لِلْجَلْدِ ، وَزِنَا الثَّيِّبِ مُوجِبٌ لِلرَّجْمِ ، وَلَا يَخْتَلِفُ عَدَدُ الشُّهُودِ لِاخْتِلَافِ الْحُدُودِ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ مُوجِبٌ لِلْقَتْلِ ، قُتِلَتِ الْبَهِيمَةُ الَّتِي أَتَاهَا ، لِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهِ وَقَتْلِهَا ، وَقَتْلُهَا لَيْسَ حَدًّا عَلَيْهَا لِسُقُوطِ التَّكْلِيفِ عَنْهَا . وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ بِقَتْلِهَا . وَقِيلَ : لِئَلَّا تَأْتِيَ بِخَلْقٍ مُشَوَّهٍ . وَقِيلَ : لِئَلَّا تَتَذَكَّرَ بِمُشَاهَدَتِهَا فِعْلَ مَنْ أَتَاهَا فَإِذَا قُتِلَتِ الْبَهِيمَةُ وَكَانَتْ لِغَيْرِ مَنْ أَتَاهَا ، فَفِي وُجُوبِ غُرْمِ قِيمَتِهَا لِمَالِكِهَا وَجْهَانِ : - أَحَدُهُمَا : لَا غُرْمَ لَهُ لِوُجُوبِ قَتْلِهَا بِالشَّرْعِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَهُ قِيمَتُهَا لِاسْتِهْلَاكِهَا عَلَيْهِ بِعُدْوَانٍ . فَعَلَى هَذَا فِي مُلْتَزِمِ قِيمَتِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : عَلَى مَنْ أَتَاهَا . وَالثَّانِي : فِي بَيْتِ الْمَالِ . فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْبَهِيمَةُ مَأْكُولَةً ، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي إِبَاحَةِ أَكْلِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا مُسْتَبَاحَةُ الْأَكْلِ ، فَعَلَى هَذَا تُذْبَحُ وَتُؤْكَلُ ، وَلَا تُغَرَّمُ ، وَيَكُونُ ذَبْحُهَا وَاجِبًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا تُؤَكَلُ وَتُقْتَلُ ، وَفِي وُجُوبِ غُرْمِهَا وَجْهَانِ .
وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ إِتْيَانَ الْبَهِيمَةِ مُوجِبٌ لِحَدِّ الزِّنَا ، لَمْ تُقْتَلِ الْبَهِيمَةُ ، وَوَجَبَ فِي الْقَذْفِ بِهَا الْحَدُّ . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ مُوجِبٌ لِلتَّعْزِيرِ ، لَمْ يَجِبْ فِي الْقَذْفِ بِهَا حَدٌّ ، وَعُزِّرَ الْقَاذِفُ كَمَا يُعَزَّرُ الْفَاعِلُ . وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ : يُحَدُّ الْقَاذِفُ وَإِنْ عُزِّرَ الْفَاعِلُ . وَهَذَا فَاسِدٌ ، لِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ بِالْفِعْلِ أَخَفُّ مِنْ حَدِّ الْفِعْلِ ، فَلَمَّا لَمْ يُجْزِ الْفِعْلُ حَدٌّ ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَجِبَ فِي الْقَذْفِ بِهِ .
فَصْلٌ : وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : الِاسْتِمْنَاءُ بِالْكَفِّ ، وَهُوَ حَرَامٌ . وَذَهَبَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْبَصْرَةِ إِلَى إِبَاحَتِهِ فِي السَّفَرِ دُونَ الْحَضَرِ ، لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنَ الْفُجُورِ ، وَيَبْعَثُ عَلَى غَضِّ الطَّرْفِ . وَهَذَا فَاسِدٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ " . فَصَارَ الْمُسْتَمْنِي مَنْسُوبًا إِلَى الْعُدْوَانِ ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ لِأَجْلِ التَّنَاسُلِ وَالتَّكَاثُرِ . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " تَنَاكَحُوا تَكَاثَرُوا فَإِنِّي أُبَاهِي بِكُمُ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى بِالسَّقْطِ " . وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَوْلَا الِاسْتِيلَادُ لَمَا تَزَوَّجْتُ . وَالِاسْتِمْنَاءُ بَعِيدٌ عَنِ النَّاكِحِ ، وَيَمْنَعُ مِنَ التَّنَاسُلِ فَكَانَ مَحْظُورًا لَكِنَّهُ مِنْ صَغَائِرِ الْمَعَاصِي ، فَيُنْهَى عَنْهُ الْفَاعِلُ ، وَإِنْ عَادَ بَعْدَ النَّهْيِ عُزِّرَ ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ شُهُودُ الزِّنَا ، وَيَقْبَلُ فِيهِ شَاهِدَيْنِ ، وَإِنِ اسْتَحَقَّ فِيهِ التَّعْزِيرُ بَعْدَ النَّهْيِ ، وَلَا يُجِبْ فِي الْقَذْفِ بِهِ حَدٌّ وَلَا تَعْزِيرٌ إِنْ لَمْ يُعَزَّرِ الْفَاعِلُ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي : فِي صِفَةِ الزِّنَا . فَلَا يُقْتَنَعُ مِنَ الشُّهُودِ أَنْ يَشْهَدُوا بِالزِّنَا حَتَّى يَصِفُوهُ ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا الْبَطْشُ وَالرِّجْلَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا الْمَشْيُ وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ وَيُكَذِّبُهُ الْفَرْجُ " . وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَثْبَتَ مَاعِزًا بَعْدَ إِقْرَارِهِ بِالزِّنَا فَقَالَ " لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ لَعَلَّكَ لَمَسْتَ " قَالَ : فَعَلْتُ ، بِصَرِيحِ اللَّفْظِ دُونَ كِنَايَتِهِ . فَإِذَا لَزِمَ ذَلِكَ فِي الْمُقِرِّ كَانَ فِي الشَّاهِدِ أَحَقُّ .
فَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا سَأَلَهُمُ الْحَاكِمُ : كَيْفَ زَنَى ؟ وَلَمْ يَحُدَّهُ قَبْلَ صِفَةِ الزِّنَا . وَلِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَأَلَ مَنْ شَهِدَ عَلَى الْمُغِيرَةِ بِالزِّنَا : كَيْفَ زَنَى ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ مَعَ شِبْلِ بْنِ مَعْبَدٍ وَنَافِعٍ : رَأَيْنَا ذَكَرَهُ يَدْخُلُ فِي فَرْجِهَا كَدُخُولِ الْمِرْوَدِ فِي الْمِكْحَلَةِ . وَعُرِضَ زِيَادٌ ، وَهُوَ الرَّابِعُ فَقَالَ رَأَيْتُ بَطْنَهُ عَلَى بَطْنِهَا ، وَرَأَيْتُ أَرْجُلًا مُخْتَلِفَةً وَنَفَسًا يَعْلُو وَاسْتًا تَنْبُو ، فَقَالَ عُمَرُ : رَأَيْتَ ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا ؟ فَقَالَ : لَا ، فَقَالَ عُمَرُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ قُمْ يَا أَرْخَى اجْلِدْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ . فَجَلَدَهُمْ حَدَّ الْقَذْفِ ، فَلَمْ يَجْلِدِ الْمُغِيرَةَ ، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَيْهِ لَمْ تَكْمُلْ ، وَلَمْ يَجْلِدْ زِيَادًا لِلْقَذْفِ ، لِأَنَّهُ عَرَّضَ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ . فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ، اعْتُبِرَ مَا وَصَفَهُ الشُّهُودُ . فَإِنْ صَرَّحُوا بِدُخُولِ ذَكَرِهُ فِي فَرْجِهَا ، كَمُلَتْ بِهِمُ الشَّهَادَةُ ، وَحَدُّ المَشْهُودُ عَلَيْهِ حَدَّ الزِّنَا ، وَسَلِمَ الشُّهُودُ مِنْ حَدِّ الْقَذْفِ . وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحُوا جَمِيعًا بِدُخُولِ ذَكَرِهِ فِي فَرْجِهَا ، فَلَا حَدَّ عَلَى الشُّهُودِ عَلَيْهِ ، فَأَمَّا الشُّهُودُ ، فَإِنْ قَالُوا فِي أَوَّلِ الشَّهَادَةِ : إِنَّهُ زَنَى وَوَصَفُوا مَا لَيْسَ بِزِنًا ، حُدُّوا حَدًّا وَاحِدًا . لِأَنَّهُمْ قَدْ صَرَّحُوا بِالْقَذْفِ وَلَمْ يَشْهَدُوا بِالزِّنَا . وَإِنْ لَمْ يَقُولُوا فِي أَوَّلِ الشَّهَادَةِ أَنَّهُ زَنَى وَشَهِدُوا عَلَيْهِ بِمَا لَيْسَ بِزِنًا ، لَمْ يُحَدُّوا قَوْلًا وَاحِدًا . وَإِنْ وَصَفَ ثَلَاثَةٌ مِنْهُمُ الزِّنَا ، وَوَصَفَ الرَّابِعُ مَا لَيْسَ بِزِنًا ، لَمْ يُحَدَّ المَشْهُودُ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ بِالزِّنَا لَمْ تَكْمُلْ ، وَفِي حَدِّ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ وَصَفُوا الزِّنَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يُحَدُّونَ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّهُمْ لِأَنَّهُمْ صَارُوا قَذَفَةً . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يُحَدُّونَ ، لِأَنَّهُمْ قَصَدُوا الشَّهَادَةَ بِالزِّنَا وَلَمْ يَقْصِدُوا الْمَعَرَّةَ بِالْقَذْفِ . فَإِنْ قِيلَ بِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ حَتَّى يَتُوبُوا ، وَقُبِلَ خَبَرُهُمْ قَبْلَ التَّوْبَةِ ، لِأَنَّ أَبَا بَكْرَةَ حِينَ حُدَّ قَالَ لَهُ عُمَرُ : تُبْ أَقْبَلُ شَهَادَتَكَ ، فَامْتَنَعَ وَقَالَ : وَاللَّهِ لَقَدْ زَنَى الْمُغِيرَةُ ، فَهَمَّ بِجَلْدِهِ مَرَّةً ثَانِيَةً ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ : إِنَّكَ إِنْ جَلَدْتَهُ رَجَمْتَ
صَاحِبَكَ ، يَعْنِي أَنَّكَ إِنْ جَعَلْتَ هَذَا غَيْرَ الْأَوَّلِ ، فَقَدْ كَمُلَتْ بِهِ الشَّهَادَةُ ، فَأَرْجُمُ الْمُغِيرَةَ ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْأَوَّلُ ، فَقَدْ جَلَدْتَهُ . وَكَانَ أَبُو بَكْرَةَ بَعْدَ ذَلِكَ يُقْبَلُ خَبَرُهُ ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ . وَأَمَّا الرَّابِعُ الَّذِي وَصَفَ مَا لَيْسَ بِزِنًا فَيُنْظَرُ فِي شَهَادَتِهِ : فَإِنْ قَالَ : إِنَّهُ زَنَا ، ثُمَّ وَصَفَ مَا لَيْسَ بِزِنًا حُدَّ قَوْلًا وَاحِدًا . وَإِنْ لَمْ يَقُلْ زَنَا ، وَوَصْفَ مَا لَيْسَ بِزِنًا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ قَوْلًا وَاحِدًا .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ : فِي ذِكْرِ الشُّهُودِ مَكَانَ الزِّنَا . فَهُوَ شَرْطٌ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِي الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا ، فَيَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَسْأَلَهُمْ عَنْهُ ، لِأَنَّهُمْ قَدْ يَتَّفِقُونَ عَلَى زِنَاهُ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ ، وَقَدْ يَخْتَلِفُونَ فِي الْمَكَانِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ ، فَلِذَلِكَ وَجَبَ سُؤَالُهُمْ عَنْ مَكَانِ الزِّنَا فَإِنِ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ حُدَّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فَاخْتِلَافُهُمْ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُهُمْ فِي بَيْتَيْنِ فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ : زَنَى فِي هَذَا الْبَيْتِ وَيَقُولُ آخَرُونَ : زَنَى فِي الْبَيْتِ الْآخَرِ ، فَلَا حَدَّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ، وَفِي حَدِّ الشُّهُودِ قَوْلَانِ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي زَاوِيَةِ الْبَيْتِ فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ : زَنَى بِهَا فِي هَذِهِ الزَّاوِيَةِ مِنْ هَذَا الْبَيْتِ ، وَيَقُولُ آخَرُونَ : زَنَى بِهَا فِي الزَّاوِيَةِ الْأُخْرَى مِنْ هَذَا الْبَيْتِ . فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَجِبُ عَلَيْهِمَا الْحَدُّ اسْتِحْسَانًا لَا قِيَاسًا ، لِأَنَّهُمَا قَدْ يَتَعَارَكَانِ فَيَنْتَقِلَانِ بِالزَّحْفِ مِنْ زَاوِيَةٍ إِلَى أُخْرَى . وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لِعَدَمِ الِاتِّفَاقِ عَلَى الْمَكَانِ كَالْبَيْتَيْنِ ، وَلَا وَجْهَ لِهَذَا ، لِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ وَلَا يُحَدُّ بِهَا . وَعَلَى قِيَاسِ سُؤَالِهِمْ عَنْ مَكَانِ الزِّنَا ، يَجِبُ سُؤَالُهُمْ عَنْ زَمَانِ الزِّنَا ، لِأَنَّ اخْتِلَافَ الزَّمَانِ كَاخْتِلَافِ الْمَكَانِ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ إِنِ اتَّفَقَ وَسُقُوطِهِ إِنِ اخْتَلَفَ . وَلَيْسَ إِطْلَاقُ هَذَا الْقَوْلِ عِنْدِي صَحِيحًا ، وَالْوَاجِبُ أَنْ يُنْظَرَ : فَإِنْ صَرَّحَ بَعْضُ الشُّهُودِ بِذِكْرِ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ ، وَجَبَ سُؤَالُ الْبَاقِينَ عَنْهُ ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بَعْضُهُمْ بِهِ لَمْ يُسْأَلُوا عَنْهُ ؟ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ سُؤَالُهُمْ عَنِ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ إِذَا لَمْ يَذْكُرُوهُ ، لَوَجَبَ سُؤَالُهُمْ عَنْ ثِيَابِهِ وَثِيَابِهَا ، وَعَنْ لَوْنِ الْمَزْنِيِّ بِهَا مِنْ سَوَادٍ أَوْ بَيَاضٍ ، وَعَنْ سِنِّهَا مِنْ صَغِيرَةٍ أَوْ كَبِيرَةٍ ، وَعَنْ قَدِّهَا مِنْ طُولٍ أَوْ قِصَرٍ ، لِأَنَّ اخْتِلَافَهُمْ فِيهِ مُوجِبٌ لِاخْتِلَافِ الشَّهَادَةِ ، فَيُتَنَاهَى إِلَى مَا لَا يُحْصَى ، وَهَذَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي السُّؤَالِ ، وَكَذَلِكَ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ ، إِلَّا
أَنْ يَبْتَدِئَ بَعْضُ الشُّهُودِ بِذِكْرِهِ ، فَيُسْأَلُ الْبَاقُونَ عَنْهُ لِيُعْلَمَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ مُوَافَقَةٍ وَاخْتِلَافٍ .
الْقَوْلُ فِي مَوْتِ الشُّهُودِ قَبْلَ ظُهُورِ عَدَالَتِهِمْ
الْقَوْلُ فِي مَوْتِ الشُّهُودِ قَبْلَ ظُهُورِ عَدَالَتِهِمْ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَلَوْ مَاتَ الشُّهُودُ قَبْلَ أَنْ يُعَدَّلُوا ثُمَّ عُدِّلُوا أُقِيمَ الْحَدُّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ كَمَا قَالَ : إِذَا مَاتَ الشُّهُودُ قَبْلَ ثُبُوتِ عَدَالَتِهِمْ ثُمَّ عُدِّلُوا بَعْدَ مَوْتِهِمْ حُكِمَ بِشَهَادَتِهِمْ فِي الْحَدِّ وَغَيْرِهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَحْكُمُ بِشَهَادَتِهِمْ فِي غَيْرِ الْحَدِّ وَلَا أَحْكُمُ بِهَا فِي الْحَدِّ ، لِأَنَّ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ يَبْدَأُ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ الشُّهُودُ . وَمَذْهَبُنَا أَنَّ شُهُودَ الْحَدِّ كَغَيْرِهِمْ ، فَإِنَّ الْحَدَّ كَغَيْرِهِ مِنَ الْحُقُوقِ ، وَلَا يَكُونُ مَوْتُ الشُّهُودِ قَبْلَ التَّعْدِيلِ مَانِعًا مِنَ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمْ بَعْدَ التَّعْدِيلِ لِأَنَّ الْعَدَالَةَ تُوجِبُ الْأَدَاءَ وَلَيْسَ مَوْتُهُمْ مُسْقِطًا لَهَا فِسْقًا طَرَأَ وَلَوْ وَجَبَ سُقُوطُ شَهَادَتِهِمْ لَوَجَبَ سُقُوطُهَا فِي غَيْرِ الْحَدِّ فَأَمَّا حُدُوثُ الْفِسْقِ بَعْدَ الشَّهَادَةِ وَقَبْلَ الْحُكْمِ فَمُوجِبٌ لِسُقُوطِ الشَّهَادَةِ فِي الْحَدِّ وَغَيْرِهِ ، لِأَنَّ النَّاسَ يَتَظَاهَرُونَ بِفِعْلِ الطَّاعَاتِ وَيُسِرُّونَ فِعْلَ الْمَعَاصِي ، فَإِذَا ظَهَرَتْ دَلَّ ظُهُورُهَا عَلَى تَقَدُّمِ كُمُونِهَا . وَأَمَّا حُدُوثُ الْخَرَسِ وَالْعَمَى بَعْدَ الشَّهَادَةِ وَقَبْلَ الْحُكْمِ بِهَا فَغَيْرُ مَانِعٍ مِنَ الْحُكْمِ بِهَا ، لِأَنَّ الْعِلْمَ بِحُدُوثِهِ وَعَدَمِ تَقَدُّمِهِ مَقْطُوعٌ بِهِ . وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ إِمْضَاءِ الْحُكْمِ بِشَهَادَةِ مَنْ حَدَثَ بِهِ الْعَمَى ، وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ إِمْضَائِهِ بِشَهَادَةِ مَنْ حَدَثَ بِهِ الْخَرَسُ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ فِيهِ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيُطْرَدُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ وَجُرِحَ مَنْ يَشْهَدُ عَلَيْهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ وَقَدْ عَرَفَ الْحَاكِمُ عَدَالَتَهُمْ عَلَى رَجُلٍ بِحَقٍّ مِنْ حَدٍّ أَوْ غَيْرِ حَدٍّ ، وَقَدَحَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فِي عَدَالَتِهِمْ مَكَّنَهُ الْحَاكِمُ مِنْ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ بِجَرْحِهِمْ ، لِأَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ مِنَ الِاهْتِمَامِ بِقَصْدِ الْكَشْفِ عَنْ جُرْحِهِمْ مَا يَقْصُرُ زَمَانُ الْحَاكِمِ عَنِ التَّشَاغُلِ بِهِ ، فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ بِجَرْحِهِمْ أَسْقَطَ الْحُكْمَ بِشَهَادَتِهِمْ ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا أَمْضَى الْحُكْمَ بِهَا عَلَيْهِ ، وَلَا يُضَيِّقْ عَلَيْهِ الزَّمَانَ فِي طَلَبِ الْجُرْحِ فَيَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ ، وَلَا يُوَسِّعْ لَهُ الزَّمَانَ فَيُؤَخِّرَ الْحُكْمَ ، وَتَكُونُ مُدَّةُ إِمْهَالِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، لِأَنَّهَا أَكْثَرُ الْقَلِيلِ وَأَقَلُّ الْكَثِيرِ .
فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَيَطْرُدَ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ جَرْحَهُمْ فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : مَعْنَاهُ يُمَكِّنُهُ مِنْ جَرْحِهِمْ ، وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْهُ . وَالثَّانِي : مَعْنَاهُ يُوَسِّعُ لَهُ فِي الزَّمَانِ وَلَا يُضَيِّقُهُ عَلَيْهِ . فَأَمَّا إِنْ أَمْسَكَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مِنْ طَلَبِ تَمْكِينِهِ مَنْ جَرْحِهِمْ ، فَإِنْ كَانَ فِيمَا لَا يُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ ، أَمْسَكَ الْحَاكِمُ عَنْ إطْرَادِ جَرْحِهِمْ ، وَإِنْ كَانَ فِي حَدٍّ لِلَّهِ تَعَالَى يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ نَظَرَ : فَإِنْ تَوَجَّهَ الْحَدُّ عَلَى مَنْ يَعْرِفُ جَوَازَ إِطْرَادِهِ ، وَلَمْ يَشْعُرْ بِهِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ لَهُ . وَإِنْ تَوَجَّهَ إِلَى مَنْ لَا يَعْرِفُهُ ، أَعْلَمَهُ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ إِطْرَادِ الْجَرْحِ ، فَإِنْ شَرَعَ فِيهِ مَكَّنَهُ مِنْهُ ، وَإِنْ أَمْسَكَ عَنْهُ أَقَامَ عَلَيْهِ الْحَدَّ ، لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُ وَلَيْسَ بِحَقٍّ عَلَيْهِ .
الْقَوْلُ فِي تَفْسِيرِ مَا يُجْرَحُ بِهِ الشُّهُودُ
[ الْقَوْلُ فِي تَفْسِيرِ مَا يُجْرَحُ بِهِ الشُّهُودُ ] . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا أَقْبَلُ الْجَرْحَ مِنَ الْجَارِحِ إِلَّا بِتَفْسِيرِ مَا يَجْرَحُ بِهِ لِلِاخْتِلَافِ فِي الْأَهْوَاءِ وَتَكْفِيرِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَيَجْرَحُونَ بِالتَّأْوِيلِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ كَذَلِكَ فِي دَعْوَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ جَرْحُ الشُّهُودِ ، لَمْ تَقْبَلْ دَعْوَاهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ حَتَّى يُفَسِّرُهَا بِمَا يَكُونُ جَرْحًا يُفَسَّقُ بِهِ ، لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ . كَمَا لَوْ قَالَ : هَذَا وَارِثٌ ، لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ حَتَّى يَذْكُرَ مَا صَارَ بِهِ وَارِثًا لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي الْمَوَارِيثِ . فَإِذَا قَالَ : هَذَا الشَّاهِدُ فَاسِقٌ أَوْ غَيْرُ مَرْضِيٍّ ، أَوْ لَيْسَ بِمَقْبُولِ الشَّهَادَةِ . قِيلَ لَهُ : فَسِّرْ مَا صَارَ بِهِ فَاسِقًا غَيْرَ مَقْبُولِ الشَّهَادَةِ . فَإِنْ فَسَّرَهَا بِمَا لَا يَكُونُ فِسْقًا ، رُدَّتْ دَعْوَاهُ وَحُكِمَ بِالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ فَسَّرَهَا بِمَا يَكُونُ فِسْقًا ، كُلِّفَ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ بِالْفِسْقِ الَّذِي ادَّعَاهُ ، لِيَكُونَ الْفِسْقُ مُفَسَّرًا فِي الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ فَإِنْ فَسَّرَهَا الْمُدَّعِي بِنَوْعٍ مِنَ الْفِسْقِ وَفَسَّرَهَا الْمَشْهُودُ بِنَوْعٍ آخَرَ ، حُكِمَ بِالْفِسْقِ مَعَ اخْتِلَافِ سَبَبِهِ فِي الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ ؟ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ ثُبُوتَ الْفِسْقِ ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ اخْتِلَافُ أَنْوَاعِهِ إِذَا فُسِّقَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا ، وَقَدْ يَعْلَمُ الشُّهُودُ مَا لَا يَعْلَمُهُ الْمُدَّعِي . فَأَمَّا الشَّهَادَةُ بِالتَّعْدِيلِ فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى التَّفْسِيرِ ، وَإِنْ كَانَ التَّفْسِيقُ مُحْتَاجًا إِلَى تَفْسِيرٍ ، لِمَا قَدَّمْنَاهُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ ، لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْعَدَالَةَ مُوَافَقَةُ أَصْلٍ فَاسْتَغْنَى عَنْ تَفْسِيرِ ، وَالتَّفْسِيقُ مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ فَاحْتَاجَ إِلَى تَفْسِيرٍ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْعَدَالَةَ أَصْلٌ ، وَالْفِسْقَ حَادِثٌ ، وَالْحَادِثُ يَحْتَاجُ إِلَى تَفْسِيرٍ ، وَالْمَعْدُومُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَفْسِيرٍ ، كَمَنْ قَالَ : هَذَا الْمَاءُ طَاهِرٌ ، لَمْ يُسْتَفْسَرْ عَنْ طَهَارَتِهِ ، وَلَوْ قَالَ : هُوَ نَجِسٌ ، اسْتُفْسِرَ عَنْ نَجَاسَتِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوِ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَهَالَةِ بِحَدٍّ لَمْ أَرَ بَأْسًا أَنْ يُعَرِّضَ لَهُ بِأَنْ يَقُولَ لَعَلَّهُ لَمْ يَسْرِقْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : الْحُقُوقُ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ ، فَلَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُعَرِّضَ لِلْمُقِرِّ بِالْإِنْكَارِ ، وَلَا يَعْرِّضَ لِلشُّهُودِ بِالتَّوَقُّفِ ، سَوَاءً كَانَ الْحَقُّ فِي مَالٍ أَوْ حَدٍّ ، لِأَنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ مَوْضُوعَةٌ عَلَى الْحِفْظِ وَالِاحْتِيَاطِ ، وَلِأَنَّ الْمُقِرَّ بِهَا لَوْ أَنْكَرَهَا لَمْ يُقْبَلْ إِنْكَارُهُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَحْضَةِ ، كَالْحَدِّ فِي الزِّنَا وَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ ، وَالْجَلَدِ فِي الْخَمْرِ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ إِنْ أَقَرَّ ، فَيُمْسِكُ الْحَاكِمُ عَنِ التَّعْرِيضِ لَهُ بِالْإِنْكَارِ ، حَتَّى يَبْتَدِئَ فَيُقِرُّ أَوْ يُنْكِرُ ، لِأَنَّ التَّعْرِيضَ لَا يَزِيدُهُ إِلَّا عِلْمًا بِوُجُوبِ الْحَدِّ إِنْ أَقَرَّ وَسُقُوطِهِ إِنْ أَنْكَرَ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَهَالَةِ بِوُجُوبِ الْحَدِّ ، إِمَّا لِأَنَّهُ أَسْلَمُ قَرِيبًا ، أَوْ لِأَنَّهُ مِنْ أَهَلَّ بَادِيَةٍ نَائِيَةٍ مِنْ جُفَاةِ الْأَعْرَابِ ، فَيَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُعَرِّضَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْإِنْكَارِ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ ، فَإِنْ كَانَ فِي الزِّنَا قَالَ لَهُ : لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ ، أَوْ لَمَسْتَ كَمَا عَرَّضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لْمَاعِزٍ حِينَ أَقَرَّ بِالزِّنَا فَقَالَ : " لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ لَعَلَّكَ لَمَسْتَ " . وَإِنْ كَانَ فِي حَدٍّ السَّرِقَةِ قَالَ : لَعَلَّكَ سَرَقْتَ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ . فَإِنْ عَرَّضَ لَهُ بِأَنْ قَالَ : لَعَلَّكَ لَمْ تَسْرِقْ ، وَكَانَتِ الدَّعْوَى مِنْ صَاحِبِ الْمَالِ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَرِّضَ لَهُ بِهَذَا ، لِأَنَّ فِي تَعْرِيضِهِ بِهِ إِسْقَاطًا لِحَقِّهِ ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ صَاحِبِ الْمَالِ ، جَازَ أَنْ يُعَرِّضَ لَهُ بِهِ . وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِسَارِقٍ ، فَقَالَ لَهُ : " أَسَرَقْتَ أَمْ لَا " وَإِنْ كَانَ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ قَالَ : لَعَلَّكَ لَمْ تَشْرَبْ ، أَوْ قَالَ : لَعَلَّكَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّهُ مُسْكِرٌ أَوْ لَعَلَّكَ أُكْرِهْتَ عَلَى شُرْبِ الْمُسْكِرِ . وَإِنَّمَا جَازَ التَّعْرِيضُ لِلْمُقِرِّ بِمَا يَتَنَبَّهُ بِهِ عَلَى الْإِنْكَارِ ، لِأَنَّهُ مَنْدُوبٌ إِلَى السَّتْرِ عَلَى نَفْسِهِ فِيمَا ارْتَكَبَهُ ، وَأَنْ يَسْتَغْفِرَ رَبَّهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ أَتَى مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ حَدَّ اللَّهِ " .
وَلَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُصَرِّحَ لَهُ بِالْإِنْكَارِ فَيَقُولُ لَهُ : قُلْ مَا زَنَيْتَ ، وَلَا سَرَقْتُ ، وَلَا شَرِبْتُ ، أَوْ يَقُولُ لَهُ : أَنْكِرْ وَلَا تُقِرَّ ، لِحَظْرِ التَّصْرِيحِ فِي إِسْقَاطِ الْحُدُودِ ، لِأَنَّهُ قَدْ يُلَقِّنُهُ الْكَذِبَ ، وَيَأْمُرُهُ بِهِ . فَأَمَّا تَعْرِيضُ الْحَاكِمِ لِلشُّهُودِ بِالتَّوَقُّفِ عَنِ الشَّهَادَةِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : - أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَقْدَحُ فِي شَهَادَتِهِمْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " هَلَّا سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ يَا هَزَّالُ " . وَقَالَ عُمَرُ لِزِيَادٍ حِينَ حَضَرَ لِشَهَادَتِهِ عَلَى الْمُغِيرَةِ بِالزِّنَا : أَيُّهُمَا يَا سَلْحَ الْعُقَابِ ، أَرْجُو أَنْ لَا يَفْضَحَ اللَّهُ عَلَى يَدِكَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَنَبَّهَ عَلَى تَعْرِيضِهِ ، فَلَمْ يُصَرِّحْ فِي شَهَادَتِهِ بِدُخُولِ الذَّكَرِ فِي الْفَرْجِ ، فَلَمْ تَكْمُلْ بِهِ الشَّهَادَةُ فِي الزِّنَا . وَهَذَا التَّعْرِيضُ بِالْإِنْكَارِ جَائِزٌ مُبَاحٌ ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلَا اسْتِحْبَابٍ ، وَهُوَ حَسَبُ رَأْيِ الْحَاكِمِ وَاجْتِهَادِهِ . وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَمْ أَرَ بَأْسًا بِهِ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَّضَ لِمَاعِزٍ وَلَمْ يُعَرِّضْ لِلْغَامِدِيَّةِ ، وَقَالَ : " اغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجِمْهَا " ، فَعَرَّضَ فِي الْأَقَلِّ وَلَمْ يَعْرِّضْ فِي الْأَكْثَرِ . فَإِنْ نَبَّهَ بِالتَّعْرِيضِ عَلَى الْإِنْكَارِ فَأَنْكَرَ ، فَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ إِقْرَارٌ ، قُبِلَ إِنْكَارِهِ فِي جَمِيعِ الْحُدُودِ وَلَمْ يُسْتَحْلَفْ عَلَى الْإِنْكَارِ ، فَإِنْ تَقَدَّمَ مِنْهُ الْإِقْرَارُ قَبْلَ الْإِنْكَارِ سَقَطَ حَدُّ الزِّنَا ، وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ غُرْمُ الْمَالِ الْمَسْرُوقِ ، وَفِي سُقُوطِ قَطْعِ الْيَدِ وَحَدِّ الْخَمْرِ قَوْلَانِ ، يَسْقُطُ فِي أَصَحِّهِمَا ، وَلَا يَسْقُطُ فِي الْآخَرِ .
الْقَوْلُ فِي اخْتِلَافِ الشَّهَادَةِ فِي السَّرِقَةِ
[ الْقَوْلُ فِي اخْتِلَافِ الشَّهَادَةِ فِي السَّرِقَةِ ] . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ شَهِدَا بِأَنَّهُ سَرَقَ مِنْ هَذَا الْبَيْتِ كَبْشًا لِفُلَانٍ فَقَالَ أَحَدُهُمَا : غَدْوَةً ، وَقَالَ الْآخَرُ : عَشِيَّةً ، أَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا : الْكَبْشُ أَبْيَضُ ، وَقَالَ الْآخَرُ : أَسْوَدُ ، لَمْ يُقْطَعْ حَتَّى يَجْتَمِعَا وَيَحْلِفَ مَعَ شَاهِدِهِ أَيُّهُمَا شَاءَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ فِي صُورَةِ الشَّهَادَةِ ، فَرَوَاهَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُمَا شَهِدَا أَنَّهُ سَرَقَ مِنْهُ كِيسًا ، إِشَارَةً إِلَى كِيسِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ . وَرَوَاهَا أَكْثَرُهُمْ أَنَّهُمَا شَهْدَا أَنَّهُ سَرَقَ مِنْهُ كَبْشًا ، إِشَارَةً إِلَى كَبْشِ الْغَنَمِ ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَصَحُّ الْأَمْرَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ كِيسَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ شَهَادَةٌ بِمَجْهُولٍ ، وَكَبْشُ الْغَنَمِ شَهَادَةٌ بِمَعْلُومٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ فِي الْأُمِّ : وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا : إِنَّهُ أَقْرَنُ ، وَقَالَ الْآخَرُ : إِنَّهُ أَجَّمُ ، وَقَالَ أَحَدُهُمَا : إِنَّهُ كَبْشٌ ، وَقَالَ الْآخَرُ : نَعْجَةٌ ، وَهَذَا مِنْ أَوْصَافِ الْغَنَمِ . فَإِذَا شَهِدَ الشَّاهِدَانِ بِسَرِقَةِ الْكَبْشِ ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا : سَرَقَهُ غَدْوَةً ، وَقَالَ الْآخَرُ : سَرَقَهُ عَشِيَّةً ، أَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا : هُوَ أَبْيَضُ ، وَقَالَ الْآخَرُ : هُوَ أَسْوَدُ ، لَمْ تَتَّفِقْ شَهَادَتُهُمَا عَلَى سَرِقَةٍ وَاحِدَةٍ ، لِأَنَّ السَّرِقَةَ غَدْوَةً غَيْرُ السَّرِقَةِ عَشِيَّةً ، وَالْمَسْرُوقُ الْأَبْيَضُ غَيْرُ الْمَسْرُوقِ الْأَسْوَدِ . وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّ الشَّهَادَةَ بِالْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ غَيْرُ مُخْتَلِفَةٍ ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ جَانِبَيِ الْكَبْشِ أَبْيَضُ وَجَانِبُهُ الْآخَرُ أَسْوَدُ ، فَيَرَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا إِلَى جَانِبِهِ فَيَصِفُهُ بِهِ ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَشْهَدُ بِصِفَةِ جَمِيعِهِ ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ يُنَافِيهَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ تَأْوِيلُ شَهَادَةٍ مُحْتَمِلَةٍ بِمَا بَعْدَ تَأْوِيلِهَا ، وَالشَّهَادَةُ لَا يُحْكَمُ بِهَا إِلَّا مَعَ انْتِفَاءِ التَّأْوِيلِ عَنْهَا . فَثَبَتَ أَنَّ شَهَادَتَهُمَا غَيْرُ مُتَّفِقَةٍ عَلَى سَرِقَةٍ وَاحِدَةٍ ، فَلَمْ تَكْمُلْ بِهِمَا بَيِّنَةٌ تُوجِبُ غُرْمًا وَلَا قَطْعًا .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنِ اخْتِلَافِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ ، فَاخْتِلَافُهُمَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تُكْمُلَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الشَّهَادَتَيْنِ مَعَ عَدَمِ التَّعَارُضِ فِيهِمَا ، وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَخْتَلِفَ الْمَسْرُوقُ مَعَ الْإِطْلَاقِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَخْتَلِفَ الزَّمَانُ مَعَ الِاتِّفَاقِ . فَأَمَّا اخْتِلَافُ الْمَسْرُوقِ مَعَ الْإِطْلَاقِ ، فَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ سَرَقَ مِنْهُ كَبْشًا أَبْيَضَ ، وَيَشْهَدُ شَاهِدَانِ آخَرَانِ أَنَّهُ سَرَقَ مِنْهُ كَبْشًا أَسْوَدَ ، فَيُحْكَمُ لَهُ بِالشَّهَادَتَيْنِ أَنَّهُ سَرَقَ مِنْهُ كَبْشَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْيَضُ بِالشَّهَادَةِ الْأَوْلَى ، وَالثَّانِي أَسْوَدُ بِشَهَادَةِ الْآخَرِينَ وَلَيْسَ فِيهِمَا تَعَارُضٌ . وَأَمَّا اخْتِلَافُ الزَّمَانِ مَعَ الِاتِّفَاقِ ، وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ سَرَقَ مِنْهُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ كَبْشًا أَبْيَضَ ، وَيَشْهَدُ شَاهِدَانِ آخَرَانِ أَنَّهُ سَرَقَ مِنْهُ فِي آخِرِ النَّهَارِ كَبْشًا أَبْيَضَ ،
فَيُحْكَمُ لَهُ بِالشَّهَادَتَيْنِ أَنَّهُ سَرَقَ مِنْهُ كَبْشَيْنِ أَبْيَضَيْنِ ، لِأَنَّ السَّرِقَةَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ غَيْرُ السَّرِقَةِ فِي آخِرِ النَّهَارِ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِمَا تَعَارُضٌ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ تَكْمُلَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الشَّهَادَتَيْنِ مَعَ وُجُودِ التَّعَارُضِ فِيهِمَا وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ السَّرِقَةُ وَاحِدَةٌ فِي زَمَانَيْنِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الزَّمَانُ وَاحِدًا فِي السَّرِقَتَيْنِ . وَأَمَّا السَّرِقَةُ الْوَاحِدَةُ فِي زَمَانَيْنِ فَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ سَرَقَ مِنْهُ كَبْشًا أَبْيَضَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ ، وَيَشْهَدُ شَاهِدَانِ آخَرَانِ أَنَّهُ سَرَقَ مِنْهُ ذَلِكَ الْكَبْشَ الْأَبْيَضَ فِي آخِرِ النَّهَارِ ، فَهُمَا شَهَادَتَانِ مُتَعَارِضَتَانِ ، لِأَنَّ الْمَسْرُوقَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ غَيْرُ الْمَسْرُوقِ فِي آخِرِهِ ، وَالْمَسْرُوقَ فِي آخِرِهِ غَيْرُ الْمَسْرُوقِ فِي أَوَّلِهِ ، فَأَوْجَبَ هَذَا التَّعَارُضُ إِسْقَاطَ الشَّهَادَتَيْنِ ، وَلَمْ تَثْبُتِ السَّرِقَةُ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا . وَأَمَّا الزَّمَانُ الْوَاحِدُ فِي سَرِقَتَيْنِ ، فَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ سَرَقَ مِنْهُ مَعَ طُلُوعِ الشَّمْسِ كَبْشًا أَبْيَضَ ، وَيَشْهَدُ شَاهِدَانِ آخَرَانِ أَنَّهُ سَرَقَ مِنْهُ مَعَ طُلُوعِ الشَّمْسِ كَبْشًا أَسْوَدَ ، فَهُمَا شَهَادَتَانِ مُتَعَارِضَتَانِ ، لِأَنَّ الْأَبْيَضَ غَيْرُ الْأَسْوَدِ ، فَصَارَتِ الشَّهَادَتَانِ مَعَ اتِّفَاقِ الزَّمَانِ مُتَعَارِضَتَيْنِ ، فَسَقَطَتَا ، وَلَمْ يُحْكَمْ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا .
فَصْلٌ : وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ تَنْتَقِضَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الشَّهَادَتَيْنِ مَعَ عَدَمِ التَّعَارُضِ فِيهِمَا . وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ السَّرِقَةُ مُطْلَقَةٌ فِي زَمَانَيْنِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الزَّمَانُ مُطْلَقًا فِي سَرِقَتَيْنِ . وَأَمَّا السَّرِقَةُ الْمُطْلَقَةُ فِي زَمَانَيْنِ ، فَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدٌ وَاحِدٌ أَنَّهُ سَرَقَ مِنْهُ كَبْشًا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ ، وَيَشْهَدُ شَاهِدٌ آخَرُ أَنَّهُ سَرَقَ مِنْهُ كَبْشًا فِي آخِرِ النَّهَارِ . فَلَمْ تَكْمُلُ بِهِمَا الشَّهَادَةُ لِاخْتِلَافِ الزَّمَانَيْنِ ، وَلَا تَعَارَضَتْ لِإِمْكَانِ السَّرِقَتَيْنِ ، وَيُقَالُ لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ لَكَ أَنْ تَحْلِفَ مَعَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الشَّاهِدَيْنِ وَيُحْكَمُ لَكَ بِسَرِقَةِ كَبْشَيْنِ ، إِنْ كُنْتَ مُدَّعِيًا لَهُمَا ، وَلَا قَطْعَ عَلَى السَّارِقِ ، لِأَنَّ الْقَطْعَ حَدٌّ لَا يَجِبُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ وَإِنْ وَجَبَ بِهِ الْغُرْمُ .
فَصْلٌ : وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ تُنْقَضَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الشَّهَادَتَيْنِ مَعَ وُجُودِ التَّعَارُضِ فِيهِمَا وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ السَّرِقَةُ مُعَيَّنَةٌ فِي زَمَانَيْنِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الزَّمَانُ مُعَيَّنًا فِي سَرِقَتَيْنِ . فَأَمَّا السَّرِقَةُ الْمُعَيَّنَةُ فِي زَمَانَيْنِ ، فَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدٌ وَاحِدٌ أَنَّهُ سَرَقَ مِنْهُ كَبْشًا أَبْيَضَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ ، وَيَشْهَدُ شَاهِدٌ آخَرُ أَنَّهُ سَرَقَ هَذَا الْكَبْشَ الْأَبْيَضَ فِي آخِرِ النَّهَارِ . وَأَمَّا الزَّمَانُ الْمُعَيَّنُ فِي سَرِقَتَيْنِ ، فَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدٌ وَاحِدٌ أَنَّهُ سَرَقَ مِنْهُ مَعَ طُلُوعِ الشَّمْسِ كَبْشًا أَسْوَدًا ، وَيَشْهَدُ شَاهِدٌ آخَرُ أَنَّهُ سَرَقَ مِنْهُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ بِعَيْنِهِ مَعَ طُلُوعِ الشَّمْسِ كَبْشَا أَبْيَضَ . فَقَدِ اخْتَلَفَتْ شَهَادَةُ الشَّاهِدَيْنِ فِي كِلَا الضَّرْبَيْنِ ، وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ هَلْ يَكُونُ تَعَارُضًا يُوجِبُ سُقُوطَ الشَّهَادَتَيْنِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدِي ، أَنَّهُ يَكُونُ تَعَارُضًا فِيهِمَا يُوجِبُ سُقُوطُهُمَا ، كَمَا يَتَعَارَضُ مَعَ كَمَالِ الشَّهَادَتَيْنِ ، فَعَلَى هَذَا لَيْسَ لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّاهِدَيْنِ لِسُقُوطِ شَهَادَتِهِمَا بِالتَّعَارُضِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ : أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ فِيهِمَا ، لِأَنَّ التَّعَارُضَ يَكُونُ فِي الْبَيِّنَةِ الْكَامِلَةِ دُونَ النَّاقِصَةِ ، لِأَنَّ الْكَامِلَةَ حَجَّةٌ بِذَاتِهَا وَالنَّاقِصَةَ حِجَّةٌ مَعَ غَيْرِهَا ، فَتَرَجَّحَتْ ذَاتُ الْيَمِينِ . فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي السَّرِقَةِ الْمُعَيَّنَةِ فِي زَمَانَيْنِ ، حَلَفَ مَعَ أَيِّهِمَا شَاءَ وَاسْتَحَقَّ كَبْشًا وَاحِدًا ، وَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الزَّمَانِ الْمُعَيَّنِ فِي سَرِقَتَيْنِ كَانَ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَيَسْتَحِقَّ كَبْشَيْنِ .
الْقَوْلُ فِي اخْتِلَافِ الشُّهُودِ فِي قَدْرِ الْمَالِ الْمَسْرُوقِ
[ الْقَوْلُ فِي اخْتِلَافِ الشُّهُودِ فِي قَدْرِ الْمَالِ الْمَسْرُوقِ ] . فَصْلٌ : وَإِذَا شَهِدَ لَهُ شَاهِدٌ أَنَّهُ سَرَقَ مِنْهُ كَبْشًا ، وَشَهِدَ لَهُ ثَانٍ أَنَّهُ سَرَقَ مِنْهُ كَبْشَيْنِ ، وَشَهِدَ لَهُ ثَالِثٌ أَنَّهُ سَرَقَ مِنْهُ ثَلَاثَ كِبَاشٍ ، كَمُلَتْ لَهُ الْبَيِّنَةُ بِسَرِقَةِ كَبْشَيْنِ ، أَحَدُهُمَا بِشَهَادَةِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَيْهِ ، وَالثَّانِي بِشَهَادَةِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَيْهِ ، وَيُفْرَدُ الثَّالِثُ بِسَرِقَةِ كَبْشٍ ثَالِثٍ ، فَإِنْ حَلَفَ مَعَهُ اسْتَحَقَّ الْكَبْشَ الثَّالِثَ ، وَوَجَبَ قَطْعُ السَّارِقِ لِكَمَالِ الْبَيِّنَةِ بِسَرِقَةِ الْكَبْشَيْنِ .
الْقَوْلُ فِي اخْتِلَافِ الشَّهَادَةِ فِي الْقَذْفِ وَالْقَتْلِ
[ الْقَوْلُ فِي اخْتِلَافِ الشَّهَادَةِ فِي الْقَذْفِ وَالْقَتْلِ ] . فَصْلٌ : وَلَوْ شَهِدَ لَهُ شَاهِدَانِ بِالْقَذْفِ وَاخْتَلَفَا فِي صِفَتِهِ ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا : قَذَفَهُ غُدْوَةً ، وَقَالَ الْآخَرُ قَذَفَهُ عَشِيَّةً ، أَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا : قَذَفَهُ بِالْبَصْرَةِ ، وَقَالَ الْآخَرُ قَذْفَهُ
بِالْكُوفَةِ لَمْ تُكْمُلْ بِهِمَا شَهَادَةُ الْقَذْفِ ، لِأَنَّهُمَا قَذْفَانِ لَمْ يَشْهَدْ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاهِدَانِ ، وَلَيْسَ لِلْمَقْذُوفِ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، لِأَنَّ الْقَذْفَ حَدٌّ لَا يَثْبُتُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ ، وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا : قَذَفَهُ بِالْعَرَبِيَّةِ ، وَقَالَ الْآخَرُ : قَذَفَهُ بِالْفَارِسِيَّةِ ، فَإِنْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى سَمَاعِ الْقَذْفِ ، فَهِيَ شَهَادَةٌ عَلَى قَذْفَيْنِ لَمْ تَكْمُلِ الْبَيِّنَةُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَإِنْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى إِقْرَارِ الْقَاذِفِ ، أَنَّهُ أَقَرَّ عِنْدَ أَحَدِهِمَا أَنَّهُ قَذَفَهُ بِالْعَرَبِيَّةِ وَأَقَرَّ عِنْدَ الْآخَرِ أَنَّهُ قَذَفَهُ بِالْفَارِسِيَّةِ ، فَقَدْ ذَكَرَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ فِيهِ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمَا قَذْفَانِ لَا تَتِمُّ الشَّهَادَةُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَا لَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا : أَقَرَّ عِنْدِي أَنَّهُ قَذَفَهُمَا بِالْبَصْرَةِ ، وَقَالَ الْآخَرُ : أَنَّهُ أَقَرَّ عِنْدِي أَنَّهُ قَذَفَهُمَا بِالْكُوفَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الشَّهَادَةَ كَامِلَةٌ مَعَ اخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ ، وَإِنْ لَمْ تَكْمُلْ مَعَ اخْتِلَافِ الْبَلَدَيْنِ وَاخْتِلَافِ الزَّمَانَيْنِ . وَلَا أَجِدُّ لِهَذَا الْوَجْهِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَجْهًا . وَلَوْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ فِي الْقَتْلِ ، فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَتَلَهُ بِالْبَصْرَةِ ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قَتَلَهُ بِالْكُوفَةِ ، فَإِنْ كَانَ قَتْلٌ عَمْدًا ، فَالشَّهَادَةُ مَطْرُوحَةٌ ، وَإِنْ كَانَ قَتْلٌ خَطَأٌ ، فَفِي تَعَارُضِهِمَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَتَعَارَضَانِ وَيَسْقُطَانِ . وَالثَّانِي : يَحْلِفُ مَعَ أَيِّهِمَا شَاءَ .
الْقَوْلُ فِي اخْتِلَافِ الْبَيِّنَاتِ فِي قِيمَةِ الْمَسْرُوقِ
[ الْقَوْلُ فِي اخْتِلَافِ الْبَيِّنَاتِ فِي قِيمَةِ الْمَسْرُوقِ ] . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ سَرَقَ ثَوْبَ كَذَا وَقِيمَتُهُ رُبُعُ دِينَارٍ وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ سَرَقَ ذَلِكَ الثَّوْبَ بِعَيْنِهِ وَأَنَّ قِيمَتَهُ أَقَلُّ مِنْ رُبُعِ دِينَارٍ فَلَا قَطْعَ وَهَذَا مِنْ أَقْوَى مَا تُدْرَأُ بِهِ الْحُدُودِ وَيَأْخُذُهُ بِأَقَلِّ الْقِيَمَتَيْنِ فِي الْغُرْمِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَاتَانِ بَيِّنَتَانِ اتَّفَقَتَا عَلَى سَرِقَةِ ثَوْبٍ بِعَيْنِهِ وَاخْتَلَفَتَا فِي قِيمَتِهِ ، فَشَهِدَ اثْنَانِ أَنَّ قِيمَتَهُ رُبُعُ دِينَارٍ " تُقْطَعُ فِيهِ الْيَدُ " ، وَشَهِدَ اثْنَانِ أَنَّ قِيمَتَهُ سُدُسُ دِينَارٍ ، " لَا تَقْطَعُ فِيهِ الْيَدُ " ، فَلَا تَعَارُضَ فِي الشَّهَادَتَيْنِ وَإِنِ اخْتَلَفَتَا فِي الْقِيمَتَيْنِ ، لِأَنَّ الثَّوْبَ وَاحِدٌ ، قَدِ اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَتَانِ ، وَالْقَيِّمَةُ عَنِ اجْتِهَادٍ ، اخْتَلَفَتْ فِيهِ الْبَيِّنَتَانِ ، وَلِاخْتِلَافِهِمَا وَجْهٌ مُحْتَمَلٌ لَا يُوجِبُ رَدَّهُمَا بِهِ . فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اخْتِلَافِهِمَا ، هَلْ يُوجِبُ الْعَمَلَ بِأَكْثَرِهِمَا أَوْ بِأَقَلِّهِمَا فِي الْغُرْمِ وَالْقَطْعِ ؟
مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُؤْخَذُ بِأَقَلِّهِمَا فِي الْغُرْمِ وَسُقُوطِ الْقَطْعِ ، اسْتِعْمَالًا لِلْبَيِّنَةِ الشَّاهِدَةِ أَنَّ قِيمَتَهُ سُدُسَيْ دِينَارٍ ، فَيَسْقُطُ عَنْهُ الْقَطْعُ وَلَا يَغْرَمُ الزِّيَادَةَ عَلَى السُّدُسِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : آخُذُ بِالْبَيِّنَةِ الزَّائِدَةِ فِي الْغُرْمِ وَوُجُوبِ الْقَطْعِ . وَأَحْسَبُ أَنَّ مَالِكًا يَأْخُذُ بِالْبَيِّنَةِ الزَّائِدَةِ فِي الْغُرْمِ وَالنَّاقِصَةِ فِي سُقُوطِ الْحَدِّ . وَاسْتَدَلَّ مَنْ عَمِلَ بِالْبَيِّنَةِ الزَّائِدَةِ بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا عَمِلَ فِي الْأَخْبَارِ الْمُخْتَلِفَةِ بِالزِّيَادَةِ دُونَ النُّقْصَانِ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ فِي الْبَيِّنَاتِ ، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ خَبَرٌ . وَالثَّانِي : أَنَّ النُّقْصَانَ دَاخِلٌ فِي الزِّيَادَةِ ، فَلَمْ يُنَافِيهَا ، فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهَا كَمَا لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى إِقْرَارِهِ بِأَلْفٍ ، وَشَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى إِقْرَارِهِ بِأَلْفَيْنِ دُونَ الْأَلْفِ بِأَلْفٍ ، لِدُخُولِ الْأَلْفِ فِي الْأَلْفَيْنِ ، وَدَلِيلُنَا شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ النُّقْصَانَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَالزِّيَادَةُ مُخْتَلَفٌ فِيهَا ، لِأَنَّ مِنْ قَوَّمَهُ بِالرُّبُعِ أَثْبَتَهَا وَمَنْ قَوَّمَهُ بِالسُّدُسِ نَفَاهَا ، فَكَانَ الْعَمَلُ بِالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَوْلَى مِنَ الْعَمَلِ بِالْمُخْتَلِفِ فِيهِ ، وَخَالَفَ الْعَمَلُ بِالزِّيَادَةِ فِي الْأَخْبَارِ لِأَنَّ مَنْ رَوَى النَّاقِصَ لَمْ يَنْفِ الزِّيَادَةَ . لِأَنَّ بِلَالًا لِمَّا رَوَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الْبَيْتَ وَرَوَى أُسَامَةُ أَنَّهُ دَخَلَ الْبَيْتَ وَصَلَّى عَمَلَ بِالزِّيَادَةِ فِي صَلَاتِهِ وَبَعْدَ دُخُولِهِ لِأَنَّ بِلَالًا لَمْ يَقُلْ دَخْلَ الْبَيْتَ وَلَمْ يَصِلْ ، فَكَذَلِكَ فِي الشَّهَادَةِ بِالنُّقْصَانِ دُونَ الزِّيَادَةِ ، وَعَمَلَ فِي الْأَخْبَارِ بِالزِّيَادَةِ دُونَ النُّقْصَانِ . وَالثَّانِي : أَنَّ النُّقْصَانَ يَقِينٌ ، وَالزِّيَادَةُ شَكٌّ ، وَقَدْ أُثْبِتَتْ فِي إِحْدَى الشَّهَادَتَيْنِ وَبَقِيَتْ فِي الْأُخْرَى فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِالْيَقِينِ دُونَ الشَّكِّ ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ ، فَخَالَفَ الشَّهَادَةَ بِأَلْفٍ وَالشَّهَادَةَ بِأَلْفَيْنِ ، لِأَنَّ مَنْ أَثْبَتَ الْأَلْفَ لَمْ يَنْفِ الْأَلْفَيْنِ .
فَصْلٌ : إِذَا اخْتَلَفَ شَاهِدَانِ فِي قِيمَةِ الثَّوْبِ الْمَسْرُوقِ ، فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّ قِيمَتَهُ رُبُعُ دِينَارٍ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّ قِيمَتَهُ سُدُسُ دِينَارٍ ، فَقَدِ اتَّفَقَا عَلَى السُّدُسِ وَتَمَّتِ الشَّهَادَةُ بِهِ ، وَاخْتَلَفَا فِي الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ ، فَأَثْبَتَهَا أَحَدُهُمَا وَنَفَاهَا الْآخَرُ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَسْقُطُ فِيهَا قَوْلُ مَنْ أَثْبَتَهَا بِقَوْلِ مَنْ نَفَاهَا ، وَيَمْنَعُ صَاحِبُ السَّرِقَةِ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ الشَّاهِدِ بِهَا وَيَسْتَحِقَّهَا ، كَمَا لَوْ أَثْبَتَهَا شَاهِدَانِ وَنَفَاهَا شَاهِدَانِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ قَوْلُ مَنْ أُثْبِتُهَا بِقَوْلِ مَنْ نَفَاهَا بِخِلَافِ إِثْبَاتِهَا بِشَاهِدَيْنِ وَنَفْيِهَا بِشَاهِدِينِ ، وَيَجُوزُ لِصَاحِبِ السَّرِقَةِ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ الشَّاهِدِ بِهَا وَيَسْتَحِقُّهَا ، وَلَا
يَقْطَعُ السَّارِقُ بِهَا خِلَافَ الشَّاهِدَيْنِ ، لِأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ حُجَّةٌ كَامِلَةٌ ، فَتَعَارَضَ فِيهَا قَوْلُ الْمُثْبِتِ وَالنَّافِي ، وَالشَّاهِدُ الْوَاحِدُ لَيْسَ حُجَّةً إِلَّا مَعَ الْيَمِينِ ، فَإِذَا انْضَمَّتْ إِلَى أَحَدِهِمَا كَمَلَتِ الْحُجَّةُ وَنَقَصَتْ عَنْهَا الْأُخْرَى ، فَحَكَمَ بِالْحُجَّةِ عَلَى مَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ .
الْقَوْلُ فِي اخْتِلَافِ الشُّهُودِ فِي ثَمَنِ الْمَبِيعِ
[ الْقَوْلُ فِي اخْتِلَافِ الشُّهُودِ فِي ثَمَنِ الْمَبِيعِ ] . فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ هَذَا الِاخْتِلَافُ فِي ثَمَنِ مَبِيعٍ ، فَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ بَاعَهُ هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفٍ ، وَشَهِدَ شَاهِدَانِ آخَرَانِ أَنَّهُ بَاعَهُ ذَلِكَ الْعَبْدَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ بِأَلْفَيْنِ فما الحكم ، تَعَارَضَتِ الشَّهَادَتَانِ وَرُدَّتَا . وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ أَنَّهُ بَاعَهُ هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفٍ ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ بَاعَهُ إِيَّاهُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ بِأَلْفَيْنِ ، فَفِي تَعَارُضِهِمَا وَجْهَانِ عَلَى مَا مَضَى : أَحَدُهُمَا : قَدْ تَعَارَضَتَا وَسَقَطَتَا . وَالثَّانِي : لَا تَعَارُضَ فِيهِمَا ، وَلِلْمُدَّعِي أَنْ يَحْلِفَ مَعَ الشَّاهِدِ بِالْأَلْفَيْنِ . وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ بَاعَهُ عَبْدًا تُرْكِيًا بِأَلْفٍ ، وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ بَاعَهُ عَبْدًا رُومِيًّا بِأَلْفَيْنِ ، فَلَا تَعَارُضَ فِي الشَّهَادَتَيْنِ ، فَيَحْكُمُ لَهُ بِبَيْعِ التُّرْكِيِّ بِأَلْفٍ وَبَيْعِ الرُّومِيِّ بِأَلْفَيْنِ ، وَلَوِ اخْتَلَفَ شَاهِدَانِ ، فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ بَاعَهُ عَبْدًا تُرْكِيًّا بِأَلْفٍ ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ بَاعَهُ عَبْدًا رُومِيًّا بِأَلْفَيْنِ ، فَلَا تَعَارُضَ فِيهِمَا ، وَلَهُ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَيَحْكُمُ لَهُ بَعْدَ الْيَمِينِ بِبَيْعِ التُّرْكِيِّ بِأَلْفٍ وَالرُّومِيِّ بِأَلْفَيْنِ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشِّافِعِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا لَمْ يَحْكُمُ بِشَهَادَةِ مَنْ شَهِدَ عِنْدَهُ حَتَى يَحْدُثَ مِنْهُ مَا تُرَدُّ بِهِ شَهَادَتُهُ رَدَّهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا شَهِدَ عَدْلَانِ بِحَقٍّ ثُمَّ فُسِّقَا قَبْلَ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمَا فما حكم شهادتهما ، رُدَّتِ الشَّهَادَةُ وَلَمْ يُحْكَمْ بِهَا ، وَهَذَا هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ . وَحُكِيَ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ وَالْمُزَنِيِّ أَنَّهُمَا قَالَا : يَحْكَمُ بِشَهَادَتِهِمَا وَلَا تُرَدُّ اعْتِبَارًا بِحَالِ الْأَدَاءِ . وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ [ الْحُجُرَاتِ : ] . فَاقْتَضَى الظَّاهِرُ أَنْ تُعْتَبَرَ الْعَدَالَةُ عِنْدَ الْأَدَاءِ وَعِنْدَ الْحَاكِمِ . وَلِأَنَّ عَدَالَةَ الْبَاطِنِ مَظْنُونَةٌ ، فَإِذَا ظَهَرَ الْفِسْقُ رَفْعَ مَا ظُنَّ بِبَاطِنِهِ مِنَ الْعَدَالَةِ ، وَدَلَّ
عَلَى تَقَدُّمِهِ وَقْتُ الشَّهَادَةِ ، وَلَا سِيَّمَا وَيَتَحَفَّظُ الْإِنْسَانُ بَعْدَ شَهَادَتِهِ أَكْثَرَ مِنْ تَحَفُّظِهِ قَبْلَهَا . وَلِأَنَّ مِنْ لُطْفِ اللَّهِ تَعَالَى بِعِبَادِهِ أَنْ لَا يَهْتِكَهُمْ بِأَوَّلِ الذَّنْبِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إِنَّ اللَّهَ أَكْرَمُ أَنْ يَهْتِكَ عَبْدَهُ بِأَوَّلِ خَطِيئَةٍ ، فَإِذَا أَظْهَرَهَا دَلَّتْ عَلَى تَقَدُّمِهَا عَلَيْهِ . وَلِأَنَّ ظُهُورَهَا يُوجِبُ الِاسْتِرَابَةَ بِمَا تَقَدَّمَهَا وَظُهُورِ الرِّيبَةِ فِي الشَّهَادَةِ يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِهَا .
الْقَوْلُ فِي صَيْرُورَةِ الشُّهُودِ وَرَثَةً
[ الْقَوْلُ فِي صَيْرُورَةِ الشُّهُودِ وَرَثَةً ] . فَصْلٌ : وَلَوْ شَهِدَ الْعَدْلَانِ ثُمَّ مَاتَ الْمَشْهُودُ لَهُ ، فَوَرِثَهُ الشَّاهِدَانِ قَبْلَ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمَا فما حكم شهادتهما ، رُدَّتِ الشَّهَادَةُ لِأَنَّهُمَا قَدْ صَارَا شَاهِدَيْنِ لِأَنْفُسِهِمَا عِنْدَ الْحُكْمِ بِهَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْكَمَ لِلْإِنْسَانِ بِشَهَادَةٍ لِنَفْسِهِ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ حَكَمَ بِهَا وَهُوَ عَدْلٌ ثُمَ تَغَيَّرَتْ حَالُهُ بَعْدَ الْحُكْمِ فما حكم شهادته ، لَمْ نَرُدُّهُ لِأَنِّي إِنَّمَا أَنْظُرُ يَوْمَ يَقْطَعُ الْحَاكِمُ بِشَهَادَتِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَحُدُوثُ فِسْقِهِمَا بَعْدَ نُفُوذِ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَحْدُثَ الْفِسْقُ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ ، فَلَا يَجُوزُ نَقْضُ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمَا سَوَاءً كَانَ فِي حُقُوقٍ لِلَّهِ تَعَالَى أَوِ الْآدَمِيِّينَ ، وَبِخِلَافِ حُدُوثِ الْفِسْقِ قَبْلَ الْحُكْمِ ، لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الشَّكَّ وَالِاحْتِمَالَ مَوْجُودٌ فِي الْحَالَيْنِ ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَثْبُتَ الْحُكْمُ بِالشَّكِّ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْقُضَ حُكْمَهُ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى الَّذِي مَنَعَ مِنَ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمَا هُوَ الْمَانِعُ مِنْ نَقْضِ الْحُكْمِ النَّافِذِ بِشَهَادَتِهِمَا . وَالثَّانِي : إِنْ تَغَيَّرَ الْحَالُ قَبْلَ نُفُوذِ الْحُكْمِ مُخَالِفٌ لِتَغَيُّرِهَا بَعْدَ نُفُوذِ الْحُكْمِ . لِأَنَّ الْحَاكِمَ إِذَا اجْتَهَدَ رَأْيَهُ فِي الْحُكْمِ ، فَأَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى حُكْمٍ ثُمَّ بَانَ أَنَّ الْحَقَّ فِي غَيْرِهِ ، نَقَضَهُ قَبْلَ نُفُوذِ حُكْمِهِ ، وَلَمْ يَنْقُضْهُ بَعْدَ نُفُوذِ حُكْمِهِ ، فَأَوْجَبَ هَذَا الْفَرْقُ فِي تَغْيِرِ الِاجْتِهَادِ قَبْلَ نُفُوذِ الْحُكْمِ وَبَعْدَهُ ، وُقُوعَ الْفَرْقِ فِي الْفِسْقِ بِحُدُوثِهِ قَبْلَ نُفُوذِ الْحُكْمِ وَبَعْدَهُ . فَهَذَا حُكْمُ أَحَدِ الضَّرْبَيْنِ فِي حُدُوثِ الْفِسْقِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى عُمُومِ إِمْضَائِهِ فِي جَمِيعِ الْحُقُوقِ .
وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَحْدُثَ الْفِسْقُ بَعْدَ نُفُوذِ الْحُكْمِ وَقَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ مَالًا أَوْ فِي مَعْنَى الْمَالِ ، فَيَجِبُ اسْتِيفَاؤُهُ بَعْدَ الْفِسْقِ لِنُفُوذِ الْحُكْمِ قَبْلَ الْفِسْقِ تَعْلِيلًا بِالْمَعْنَيَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ حَدًّا وَجَبَ لِلَّهِ خَاصَّةً ، كَحَدِّ الزِّنَا وَجِلْدِ الْخَمْرِ وَقِطَعِ السَّرِقَةِ ، مِمَّا يُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ ، فَيَسْقُطُ بِحُدُوثِ الْفِسْقِ وَلَا يُسْتَوْفَى لِأَنَّ حُدُوثَهُ شُبْهَةٌ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ حَدًّا قَدْ وَجَبَ لِلْآدَمِيٍّ كَالْقِصَّاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ ، فَفِي سُقُوطِهِ بِحُدُوثِ الْفِسْقِ قَبْلَ اسْتِيفَائِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَسْقُطُ لِكَوْنِهِ حَدًّا يُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَسْقُطُ لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ كَالْأَمْوَالِ .
الْقَوْلُ فِيمَا لَوْ حَكَمَ لِشُهُودٍ فَاسْقِينَ
[ الْقَوْلُ فِيمَا لَوْ حَكَمَ لِشُهُودٍ فَاسْقِينَ ] . فَصْلٌ : وَإِذَا بَانَ لِلْحَاكِمِ بَعْدَ حُكْمِهِ أَنَّ فِسْقَ الشَّاهِدَيْنِ حَدَثَ قَبْلَ شَهَادَتِهِمَا ، نَقَضُ حُكْمِهِ كَمَا لَوْ بَانَ لَهُ مُخَالَفَةُ النَّصِّ ، وَاسْتَرْجَعَ مَا اسْتَوْفَاهُ بِحُكْمِهِ إِنْ أَمْكَنَ ، وَإِنْ كَانَ قِصَاصًا لَا يُمْكِنُ اسْتِرْجَاعُهُ ضَمِنَ الْحَاكِمُ بِالدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ ، وَفِي مَحَلَّةِ الدِّيَةِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : عَلَى عَاقِلَتِهِ ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْكَفَّارَةُ فِي مَالِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : فِي بَيْتِ الْمَالِ ، فَعَلَى هَذَا فَفِي الْكَفَّارَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : فِي بَيْتِ الْمَالِ . وَالثَّانِي : فِي مَالِهِ ، وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي تَعْزِيرِ الْإِمَامِ إِذَا أَفْضَى إِلَى التَّلَفِ .
بَابُ الرُّجُوعِ عَنِ الشَّهَادَةِ
لَا يَخْلُو رُجُوعُ الشُّهُودِ فِي الشَّهَادَةِ بَعْدَ أَدَائِهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ
بَابُ الرُّجُوعِ عَنِ الشَّهَادَةِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " الرُّجُوعُ عَنِ الشَّهَادَةِ ضَرْبَانِ : فَإِنْ كَانَتْ عَلَى رَجُلٍ بِشَيْءٍ يَتْلَفُ مِنْ بَدَنِهِ ، أَوْ يُنَالُ بِقَطْعٍ أَوْ قِصَاصٍ ، فَأُخِذَ مِنْهُ ذَلِكَ ثُمَّ رَجَعُوا ، فَقَالُوا عَمَدْنَاهُ بِذَلِكَ ، فَهِيَ كَالْجِنَايَةِ فِيهَا الْقِصَاصُ ، وَاحْتُجَّ فِي ذَلِكَ بِعَلِيٍّ وَمَا لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَلِكَ فِيهِ الْقِصَاصُ أُغْرِمُوهُ وَعُزِّرُوا دُونَ الْحَدِّ ، وَإِنْ قَالُوا لَمْ نَعْلَمْ أَنَّ هَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ عُزِّرُوا وَأُخِذَ مِنْهُمُ الْعَقْلُ ، وَلَوْ قَالُوا أَخْطَأْنَا كَانَ عَلَيْهِمُ الْأَرْشُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ لَا يَخْلُو رُجُوعُ الشُّهُودِ فِي الشَّهَادَةِ بَعْدَ أَدَائِهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَرْجِعُوا قَبْلَ نُفُوذِ الْحُكْمِ بِهَا . وَالثَّانِي : أَنْ يَرْجِعُوا بَعْدَ الْحُكْمِ وَقَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَرْجِعُوا بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ . فَأَمَّا الْحَالَةُ الْأُولَى : وَهُوَ أَنْ يَرْجِعُوا قَبْلَ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمْ ، فَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِهَا بَعْدَ رُجُوعِهِمْ ، سَوَاءٌ كَانَتِ الشَّهَادَةُ فِي حَدٍّ لِلَّهِ تَعَالَى ، أَوْ مَالٍ لِآدَمِيِّ ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ إِلَّا أَبَا ثَوْرٍ فَإِنَّهُ تَفَرَّدَ بِإِمْضَاءِ الْحُكْمِ بَعْدَ رُجُوعِهِمْ . وَبَنَاهُ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي إِمْضَاءِ الْحُكْمِ بَعْدَ حُدُوثِ فِسْقِهِمْ ، وَهَذَا خَطَأٌ فِي الْمَذْهَبِ وَالْبِنَاءِ . وَأَمَّا خَطَؤُهُ فِي الْمَذْهَبِ ، فَهُوَ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُهُمْ فِي الشَّهَادَةِ وَالرُّجُوعِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونُوا صَادِقِينَ فِي الشَّهَادَةِ كَاذِبِينَ فِي الرُّجُوعِ ، أَوْ كَاذِبِينَ فِي الشَّهَادَةِ صَادِقِينَ فِي الرُّجُوعِ ، فَوَجَبَ رَدُّهَا لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الْجَهَالَةُ بِصِدْقِ شَهَادَتِهِمْ ، فَصَارَ كَالْجَهَالَةِ بِعَدَالَتِهِمْ . وَالثَّانِي : أَنَّهُمْ لَمْ يَنْكَفُّوا مِنَ الْكَذِبِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِمْ . وَأَمَّا خَطَؤُهُ فِي الْبِنَاءِ : فَهُوَ أَنَّ الْفَاسِقَ مُقِيمٌ عَلَى شَهَادَتِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا صَادِقًا ، وَالرَّاجِعُ مُقِرٌّ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الشَّهَادَةِ صَادِقًا ، فَافْتَرَقَا .
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِشَهَادَتِهِمْ ، نُظِرَ فِي الشَّهَادَةِ بَعْدَ رُجُوعِهِمْ عَنْهَا ، فَإِنَّهُمْ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَعَمَدُوهَا ، فَيَكُونُ قَدَحًا فِي عَدَالَتِهِمْ وَمُوجِبًا لِفِسْقِهِمْ ، وَيُعَزَّرُوا ، لِأَنَّهُمْ عَمَدُوا الشَّهَادَةَ بِالزُّورِ . وَالثَّانِي : أَنْ لَا يَتَعَمَّدُوهَا ، وَلَكِنْ سَهُوا فِيهَا ، فَيَكُونُ ذَلِكَ قَدْحًا فِي ضَبْطِهِمْ لَا فِي عَدَالَتِهِمْ ، فَوَجَبَ التَّوَقُّفُ فِي شَهَادَتِهِمْ إِلَّا فِيمَا تَحَقَّقُوهُ وَأَحَاطُوا بِهِ عِلْمًا . وَالثَّالِثُ : أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ بِعَمْدٍ وَلَا بِسَهْوٍ ، وَلَكِنْ بِشُبْهَةٍ اعْتَرَضَتْهُمْ يَجُوزُ مِثْلُهَا عَلَى أَهْلِ التَّيَقُّظِ وَالْعَدَالَةِ ، فَهُمْ عَلَى عَدَالَتِهِمْ وَضَبْطِهِمْ ، لَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ فِي غَيْرِ مَا رَجَعُوا عَنْهُ ، فَإِنِ الْتَمَسَ الْمَشْهُودُ لَهُ يَمِينَ الشُّهُودِ عَلَى صِحَّةِ رُجُوعِهِمْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِحْلَافُهُمْ ، لِأَنَّ حَقَّهُ عَلَى غَيْرِهِمْ ، وَلَوِ ادَّعَى الْمَشْهُودُ لَهُ أَنَّ الشُّهُودَ قَدْ رَجَعُوا وَأَنْكَرُوا الرُّجُوعَ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ إِحْلَافُهُمْ ، لِأَنَّهُ لَا خُصُومَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ . وَهَكَذَا لَوِ ادَّعَى عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنِّي بَرِئْتُ مِمَّا شَهِدُوا بِهِ ، وَقَدْ شَهِدُوا مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْهُ وَطَلَبَ يَمِينَهُمْ لَمْ يَحْلِفُوا عَلَيْهِ . وَلَوْ أَحْضَرَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بَيِّنَةً تَشَهَّدُ عَلَى الشُّهُودِ بِرُجُوعِهِمْ ، قُبِلَتْ ، وَحُكِمَ عَلَيْهِمْ بِالرُّجُوعِ ، وَبَطَلَتْ شَهَادَتُهُمْ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ لِلْمَشْهُودِ لَهُ ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ اللُّؤْلُؤِيُّ : يُضَمَّنُونَ لِلْمَشْهُودِ لَهُ مَا شَهِدُوا بِهِ مِنْ حَقِّهِ ، وَهَذَا خَطَأٌ ، لِأَنَّ حَقَّهُ بَاقٍ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ .
الْقَوْلُ فِي رُجُوعِ الشُّهُودِ بَعْدَ نُفُوذِ الْحُكْمِ وَقَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ
[ الْقَوْلُ فِي رُجُوعِ الشُّهُودِ بَعْدَ نُفُوذِ الْحُكْمِ وَقَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ ] . فَصْلٌ : وَأَمَّا الْحَالُ الثَّانِيَةُ : وَهُوَ أَنْ يَرْجِعُوا بَعْدَ نُفُوذِ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمْ وَقَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مَا شَهِدُوا بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَالًا أَوْ غَيْرَ مَالٍ ، فَإِنْ كَانَ مَالًا ، لَمْ يَنْقُضْ حُكَمَهُ بِهِ وَأَمْضَاهُ ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ . وَحُكِيَ عَنْ عَبِيدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ : يُنْقَضُ الْحَكَمُ بِرُجُوعِهِمْ لِإِبْطَالِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ بِالرُّجُوعِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْحُكْمَ إِذَا نَفَذَ بِالِاجْتِهَادِ ، لَمْ يُنْقَضْ بِالِاحْتِمَالِ ، وَالِاجْتِهَادُ تَغْلِيبُ صِدْقِهِمْ فِي الشَّهَادَةِ ، وَالِاحْتِمَالُ جَوَازُ كَذِبِهِمْ فِي الرُّجُوعِ . وَالثَّانِي : أَنَّ فِي شَهَادَتِهِمْ إِثْبَاتُ حَقٍّ يَجْرِي مَجْرَى الْإِقْرَارِ ، وَفِي رُجُوعِهِمْ نَفِيُ ذَلِكَ الْحَقِّ الْجَارِي مَجْرَى الْإِنْكَارِ ، فَلَمَّا لَمْ يَبْطُلِ الْحُكْمُ بِالْإِقْرَارِ لِحُدُوثِ الْإِنْكَارِ ، لَمْ يَبْطُلِ الْحُكْمُ بِالشَّهَادَةِ لِحُدُوثِ الرُّجُوعِ .
وَإِنْ كَانَ مَا شَهِدُوا بِهِ لَيْسَ بِمَالٍ ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يَبْطُلُ بِالشُّبْهَةِ كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ ، فَهُوَ كَالْمَالِ فِي نُفُوذِ الْحُكْمِ بِهِ ، فَلَا يَبْطِلُ بِرُجُوعِ الشُّهُودِ وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ كَالْحُدُودِ ، وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَحْضَةِ كَحَدِّ الزِّنَا ، وَجَلْدِ الْخَمْرِ ، وَقَطْعِ السَّرِقَةِ ، فَيَسْقُطُ بِرُجُوعِ الشُّهُودِ ، كَمَا يَسْقُطُ بِرُجُوعِ الْمُقِرِّ ، لِأَنَّ رُجُوعَ الشُّهُودِ شُبْهَةٌ تُدْرَأُ بِمِثْلِهَا الْحُدُودُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الْمَحْضَةِ كَالْقِصَّاصِ . وَحَدِّ الْقَذْفِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مِمَّا إِذَا سَقَطَ بِالشُّبْهَةِ رَجَعَ إِلَى الدِّيَةِ الَّتِي لَا تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ ، فَلْيَسْقُطْ بِرُجُوعِ الشُّهُودِ ، الْقِصَّاصُ ، وَلَا تَسْقُطِ الدِّيَةُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مِمَّا إِذَا سَقَطَ بِالشُّبْهَةِ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى بَدَلٍ ، كَحَدِّ الْقَذْفِ ، فَفِي سُقُوطِهِ بِرُجُوعِ شُهُودِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : تَسْقُطُ بِالرُّجُوعِ ، لِأَنَّهَا شُبْهَةٌ تُدْرَأُ بِمِثْلِهَا الْحُدُودُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا تَسْقُطُ بِالرُّجُوعِ لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الْمُغْلِظَةِ .
الْقَوْلُ فِي رُجُوعِ الشُّهُودِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ
[ الْقَوْلُ فِي رُجُوعِ الشُّهُودِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ ] . فَصْلٌ : وَأَمَّا الْحَالُ الثَّالِثَةُ : وَهُوَ أَنْ يَرْجِعَ الشُّهُودُ بَعْدَ نُفُوذِ الْحُكْمِ وَاسْتِيفَاءِ الْحَقِّ فما الحكم ، فَالْحُكْمُ عَلَى نَفَاذِهِ لَا يَنْقَضُّ بِرُجُوعِ شُهُودِهِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ . وَحُكِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ أَنَّ الْحُكْمَ يَنْقَضُّ بِرُجُوعِهِمْ ، لِأَنَّهُمْ بِالرُّجُوعِ غَيْرُ شُهُودٍ . وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الرُّجُوعَ مُخَالِفٌ لِلشَّهَادَةِ ، فَلَا يَخْلُو أَحَدُهُمَا مِنَ الْكَذِبِ ، فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّهَادَةِ وَالرُّجُوعِ مُحْتَمِلًا لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ ، وَقَدِ اقْتَرَنَ بِالشَّهَادَةِ حُكْمٌ وَاسْتِيفَاءٌ فَلَمْ يَجُزْ نَقْضُهَا بِرُجُوعٍ مُحْتَمَلٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ الشَّهَادَةَ إِلْزَامٌ وَالرُّجُوعُ إِقْرَارٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ وَارِدٌ بِغَيْرِ لَفْظِ الشَّهَادَةِ
وَالْإِقْرَارُ لَازِمٌ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ دُونَ غَيْرِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُنْقَضَ بِهِ الْحُكْمَ ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ إِقْرَارُهُ إِلْزَامًا لِغَيْرِهِ ، وَهُوَ مُوجِبٌ أَنْ يَعُودَ عَلَيْهِ لَا عَلَى غَيْرِهِ . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُنْقَضُ بِهِ الْحُكْمُ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ ، انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى مَا يَلْزَمُ الشُّهُودَ بِرُجُوعِهِمْ عن الشهادة ، وَهُوَ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْحَقِّ الْمُسْتَوْفَى ، وَيَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ إِتْلَافًا يَخْتَصُّ بِالْأَبْدَانِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ إِتْلَافًا يَخْتَصُّ بِالْأَحْكَامِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ إِتْلَافًا يُخْتَصُّ بِالْأَمْوَالِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : فِيمَا اخْتَصَّ بِالْأَبْدَانِ . فَهَلْ قُتِلَ نَفْسٌ أَوْ قُطِعَ طَرَفٌ بِشَهَادَتِهِمْ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَتَلَ فَقُتِلَ ، أَوْ قَطَعَ فَقُطِعَ ، ثُمَّ رَجَعُوا عَلَى شَهَادَتِهِمْ بَعْدَ أَنْ قُتِلَ أَوْ قُطِعَ أي الشهود فما الحكم ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَلْزَمُهُمْ بِرُجُوعِهِمْ إِذَا عَمَدُوا : فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّ عَلَيْهِمُ الْقَوَدَ ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ شُبْرُمَةَ ، وَأَحْمَدَ ، وَإِسْحَاقَ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنَّ عَلَيْهِمُ الدِّيَةُ دُونَ الْقَوَدِ . وَقَالَ مَالِكٌ : لَا قَوَدَ عَلَيْهِمْ وَلَا دِيَةَ ، وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى سُقُوطِ الْقَوَدِ بِأَنَّ الشَّهَادَةَ سَبَبٌ أَفْضَى إِلَى الْقَتْلِ مُوجِبٌ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ الْحُكْمُ الْغُرْمُ دُونَ الْقَوَدِ ، كَحَفْرِ الْبِئْرِ وَوَضْعِ الْحَجَرِ . وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُ مَالِكٍ عَلَى سُقُوطِ الدِّيَةِ بِأَنَّ الشَّهَادَةَ سَبَبٌ اقْتَرَنَ بِهِ مُبَاشَرَةً الْحَاكِمُ ، فَلَمَّا سَقَطَتِ الدِّيَةُ عَنِ الْحَاكِمِ بِالْمُبَاشَرَةِ كَانَ أَوْلَى أَنْ تَسْقُطَ عَنِ الشُّهُودِ بِالسَّبَبِ ، لِأَنَّ السَّبَبَ سَقَطَ بِالْمُبَاشَرَةِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ الْقَوَدِ : إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ فِي قَضِيَّتَيْنِ مَشْهُورَتَيْنِ عَنْ إِمَامَيْنِ مِنْهُمْ لَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِمَا أَحَدٌ مِنْهُمْ . إِحْدَاهُمَا : عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ شَاهِدَيْنِ شَهِدَا عِنْدَهُ بِالْقَتْلِ وَقِيلَ بِالْقَطْعِ فَاقْتَصَّ مِنْهُ ، ثُمَّ رَجَعَ الشَّاهِدَانِ وَقَالَا : أَخْطَأْنَا الْأَوَّلَ وَهَذَا هُوَ الْقَاتِلُ أَوِ الْقَاطِعُ ، فَقَالَ : لَوْ عَلِمَتْ أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَأَقَدْتُكُمَا . وَالْقِصَّةُ الثَّانِيَةُ : " وَهِيَ أَثْبَتُ " رَوَاهَا الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ مُطَرِّفٍ ، عَنِ الشَّعْبِيِّ ، أَنَّ رَجُلَيْنِ شَهِدَا عِنْدَ عَلِيٍّ ، عَلَيْهِ السَّلَامُ ، عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ سَرَقَ ، فَقَطَعَهُ ، ثُمَّ أَتَيَاهُ بَعْدَ بَرْجَلٍ آخَرَ وَقَالَا : أَخْطَأْنَا فِي الْأَوَّلِ ، وَهَذَا هُوَ السَّارِقُ ، فَأُبْطِلُ شَهَادَتَهُمَا عَلَى الْآخَرِ ثُمَّ ضَمَّنَهُمَا دِيَةَ
الْأَوَّلِ ، وَقَالَ : لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَقَطَعْتُكُمَا . وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ، عَنْ مُطَرِّفٍ ، عَنِ الشَّعْبِيِّ ، عَنْ عَلِيٍّ ، عَلَيْهِ السَّلَامُ غَيْرَ مَرْفُوعٍ ، أَنَّ رَجُلَيْنِ شَهِدَا عِنْدَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِخَبَرٍ مَرْفُوعٍ . وَقَدْ رَوَاهُ مَعَ سُفْيَانَ أَسْبَاطٌ ، عَنْ مُطَرِّفٍ هَذَا وَلَيْسَ لِهَذَيْنِ الْإِمَامَيْنِ مُخَالِفٌ فِي الصَّحَابَةِ ، فَثَبَتَ بِهِمَا الْإِجْمَاعُ . وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الِاعْتِبَارِ ، أَنَّ كُلَّ إِتْلَافٍ ضُمِنَ بِالْمُبَاشَرَةِ هل يضمن بالشهادة ضُمِنَ بِالشَّهَادَةِ كَالْأَمْوَالِ . وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ إِلْجَاءٌ ، فَوَجَبَ أَنْ يُضْمَنَ بِهِ النُّفُوسُ بِالْقَوَدِ كَالْإِكْرَاهِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنَّ الشَّهَادَةَ سَبَبٌ يَسْقُطُ بِهِ الْقَوَدُ ، كَحَفْرِ الْبِئْرِ ، فَفَاسِدٌ بِالْإِكْرَاهِ ، ثُمَّ حَفْرُ الْبِئْرِ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ الْقَتْلُ فَسَقَطَ بِهِ الْقَوَدُ ، وَالشَّهَادَةُ مَقْصُودٌ بِهَا الْقَتْلُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ مَالِكٍ بِالْحَاكِمِ ، فَهُوَ أَنَّ الْحَاكِمَ لَزِمَهُ الْحُكْمُ بِالشَّهَادَةِ فَلَمْ يُضَمَّنْ ، وَالشَّاهِدُ مُتَبَرِّعٌ بِالشَّهَادَةِ فَضَمِنَ بِهَا .
الْقَوْلُ فِي أَحْوَالِ رُجُوعِ شُهُودِ الْقَتْلِ
[ الْقَوْلُ فِي أَحْوَالِ رُجُوعِ شُهُودِ الْقَتْلِ ] . فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الشُّهُودَ بِالْقَتْلِ كَالْقَتَلَةِ ، لَمْ يَخْلُ حَالُهُمْ فِي الشَّهَادَةِ بِهِ إِذَا تَغَيَّرَتْ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَشْكُوَ فِيهَا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ بِهَا ، أَوْ يَقُولُوا لَعَلَّنَا أَخْطَأْنَا فِيهَا أ ي الشهود فما الحكم ، فَهَذَا قَدْحٌ فِي الضَّبْطِ لَا يَتَغَيَّرُ بِهِ حُكْمُ الشَّهَادَةِ بَعْدَ نُفُوذِ الْحُكْمِ بِهَا ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ بِهِ ، لِأَنَّ الضَّمَانَ لَا يَجِبُ بِالشَّكِّ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَرْجِعُوا جَمِيعًا عَنْهَا ، فَيَسْأَلُهُمُ الْحَاكِمُ عَنْ شَهَادَتِهِمْ هَلْ تَعَمَّدُوهَا أَوْ أَخْطَأُوا فِيهَا ؟ عن الشهادة فما الحكم لِاخْتِلَافِ حُكْمِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ فِي الْقَتْلِ . وَلَهُمْ فِي الْجَوَابِ عَنْهُ ثَمَانِيَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَقُولُوا : عَمَدْنَا كُلُّنَا لِيُقْتَلَ بِشَهَادَتِنَا فما الحكم الواقع على الشهود ، فَالْقَوَدُ عَلَى جَمِيعِهِمْ وَاجِبٌ ، لِأَنَّهُمْ قَتَلَةُ عَمْدٍ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَقُولُوا : عَمَدْنَا كُلُّنَا وَمَا عَلِمْنَا أَنَّ الْحَاكِمَ يَقْتُلُهُ بِشَهَادَتِنَا فما حكم الشهود ، فَهُمْ أَهْلُ جَهَالَةٍ بِمِثْلِهِ ، فَهَذَا مِنْهُمْ قَتْلُ عَمْدٍ شِبْهُ الْخَطَأِ ، وَلَا قَوَدَ عَلَيْهِمْ ، وَتُؤْخَذُ الدِّيَةُ مِنْهُمْ مُغْلِظَةً لِمَا فِيهِ مِنَ الْعَمْدِ ، وَمُؤَجَّلَةً لِمَا فِيهِ مِنَ الْخَطَأِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَقُولُوا : أَخْطَأْنَا كُلُّنَا شهود القتل فما الحكم ، فَعَلَيْهِمْ دِيَةُ الْخَطَأِ مُخَفَّفَةً وَمُؤَجَّلَةً
يُؤْخَذُونَ بِهَا دُونَ عَوَاقِلِهِمْ ، لِوُجُوبِهَا بِاعْتِرَافِهِمْ ، وَالْعَاقِلَةُ لَا تَتَحَمَّلُ عَنْهُمْ مَا وَجَبَ بِاعْتِرَافِهِمْ إِنْ لَمْ يُصَدِّقُوهُمْ ، فَإِنْ صَدَّقُوهُمْ تَحْمَّلُوهَا عَنْهُمْ . وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى أَنَّهُ عَمَدَ بَعْضُهُمْ وَأَخْطَأَ بَعْضُهُمْ ، فَلَا قَوَدَ عَلَى الْعَامِدِ لِمُشَارَكَتِهِ الْخَاطِئَ ، وَعَلَى الْعَامِدِ قِسْطُهُ مِنَ الدِّيَةِ مُغْلِظَةً حَالَّةً ، وَعَلَى الْخَاطِئِ قِسْطُهُ مِنَ الدِّيَةِ مُخَفَّفَةً مُؤَجَّلَةً . وَالْحَالُ الْخَامِسَةُ : أَنْ يَخْتَلِفُوا ، فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ عَمَدْنَا كُلُّنَا ، وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ : أَخْطَأْنَا كُلُّنَا ، فَعَلَى مَنْ أَقَرَّ بِعَمْدٍ جَمِيعِهِمُ الْقَوَدُ ، وَعَلَى مَنْ أَقَرَّ بِخَطَأٍ جَمِيعِهِمْ قِسْطُهُ مِنْهُ الدِّيَةُ مُخَفَّفَةٌ وَمُؤَجَّلَةٌ . وَالْحَالُ السَّادِسَةُ : أَنْ يَخْتَلِفُوا ، فَيَقُولُ اثْنَانِ مِنْهُمْ : عَمَدْنَا وَأَخْطَأَ هَذَانِ الْآخَرَانِ ، وَيَقُولُ الْآخَرَانِ : بَلْ عَمَدْنَا وَأَخَطَّأَ هَذَانِ الْأَوَّلَانِ ، فَفِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَيْهِمْ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : عَلَيْهِمُ الْقَوَدُ جَمِيعًا ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَدِ اعْتَرَفَ بِالْقَتْلِ بِالْعَمْدِ فِي حَقِّهِ ، وَأَضَافَ الْخَطَأَ إِلَى مَنْ قَدِ اعْتَرَفَ بِعَمْدِهِ ، فَصَارُوا كَالْمُعْتَرِفِينَ جَمِيعًا بِالْعَمْدِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ ، لَا قَوَدَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُقِرٌّ بِمُشَارَكَةٍ لِلْخَاطِئِ ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ إِقْرَارُ الْخَاطِئِ بِعَمْدِهِ ، وَلِأَنَّ أَحَدًا لَا يُؤَاخَذُ بِإِقْرَارِ غَيْرِهِ ، وَيَكُونُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قِسْطُهُ مِنْ دِيَةِ الْعَمْدِ مُغَلَّظَةً حَالَّةً . وَالْحَالُ السَّابِعَةُ : أَنْ يَقُولَ اثْنَانِ مِنْهُمْ : عَمَدْنَا كُلُّنَا ، وَيَقُولُ الْآخَرَانِ : عَمَدْنَا وَأَخْطَأَ الْأَوَّلَانِ ، فَعَلَى الْمُقِرِّ بِعَمْدِ جَمِيعِهِمُ الْقَوَدِ ، وَفِيمَا عَلَى الْمُقِرِّ بِعَمْدِهِ وَخَطَأِ غَيْرِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : الْقَوَدُ . وَالثَّانِي : قِسْطُهُ مِنْ دِيَةِ الْعَمْدِ مُغْلِظَةً حَالَّةً . وَالْحَالُ الثَّامِنَةُ : أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ : عَمَدْتُ وَمَا أَدْرِي مَا فَعَلَ أَصْحَابِي ، سَأَلْنَا أَصْحَابَهُ ، فَإِنْ قَالُوا : عَمَدْنَا ، وَجَبَ الْقَوَدُ عَلَى الْكُلِّ ، وَإِنْ قَالُوا : أَخْطَأْنَا ، سَقَطَ الْقَوَدُ عَنِ الْكُلِّ . فَهَذَا حُكْمُهُمْ إِذَا رَجَعُوا جَمِيعًا .
فَصْلٌ : وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يُقِيمَ بَعْضُهُمْ عَلَى شَهَادَتِهِ ، وَيَرْجِعَ بَعْضُهُمْ عَنْ شَهَادَتِهِ من رُجُوعُ الشُّهُودِ فِي الشَّهَادَةِ في القتل ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا يَزِيدَ الشُّهُودُ عَلَى عَدَدِ الْبَيِّنَةِ ، كَاثْنَيْنِ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ بِالْقَتْلِ فَقُتِلَ ، ثُمَّ رُجِمَ أَحَدُهُمَا ، أَوْ أَرْبَعَةٍ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَرُجِمَ ثُمَّ رَجَعَ أَحَدُهُمَا فما الحكم ، فَلَا
ضَمَانَ عَلَى الْمُقِيمِ عَلَى شَهَادَتِهِ ، وَالرَّاجِعِ عَنْهَا ضَامِنٌ يُسْأَلُ عَنْ حَالِهِ ، فَإِنْ قَالَ : أَخْطَأَتُ ضَمِنَ قِسْطَهُ مِنَ الدِّيَةِ ، فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا مِنِ اثْنَيْنِ فِي قَتْلٍ ضُمِّنَ نِصْفَ الدِّيَةِ ، وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا مِنْ أَرْبَعَةٍ فِي الزِّنَى ضُمِّنَ رُبُعَ الدِّيَةِ . وَإِنْ قَالَ : عَمَدْتُ ، سُئِلَ عَنْ مَنْ لَمْ يَرْجِعْ مِنْ شُرَكَائِهِ فِي الشَّهَادَةِ ، فَإِنْ قَالَ : أَخْطَأَ ، فَعَلَيْهِ قِسْطُهُ مِنَ الدِّيَةِ ، وَإِنْ قَالَ : عَمَدُوا ، فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَزِيدَ الشُّهُودُ عَلَى عَدَدِ الْبَيِّنَةِ ، كَثَلَاثَةٍ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِالْقَتْلِ فَقُتِلَ ، أَوْ خَمْسَةٌ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَى فَرُجِمَ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَرْجِعَ مَنْ زَادَ عَلَى عَدَدِ الْبَيِّنَةِ ، لِرُجُوعِ الثَّالِثِ فِي شَهَادَةِ الْقَتْلِ وَالْخَامِسِ فِي شَهَادَةِ الزِّنَا ، فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ لِوُجُوبِ الْقَتْلِ وَالرَّجْمِ بِشَهَادَةِ الْبَاقِينَ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْقَوَدَ فِي قَتْلٍ قَدْ وَجَبَ ، وَأَمَّا الدِّيَةُ فَفِيهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْهَا تَعْلِيلًا بِهَذَا الْمَعْنَى . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : عَلَيْهِ قِسْطُهُ مِنَ الدِّيَةِ ، لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بَعْدُ ، وَأَنْ يُوجِبَ الضَّمَانَ ، فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي الْقَتْلِ ضَمِنَ ثُلُثَ الدِّيَةِ ، وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا مِنْ خَمْسَةٍ فِي الزِّنَى ضَمِنَ خُمُسَ الدِّيَةِ ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مُغَلَّظًا حَالًا إِنْ عَمِدَ ، وَمُخَفَّفًا مُؤَجَّلًا إِنْ أَخْطَأَ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَرْجِعَ فِي الشَّهَادَةِ مَنْ يَنْقُصُ بِهِ عَدَدُ الْبَاقِينَ عَنِ الْبَيِّنَةِ ، كَثَلَاثَةٍ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِالْقَتْلِ فَرَجَعَ مِنْهُمُ اثْنَانِ فهل يجب عليهم القود ، أَوْ خَمْسَةٌ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَى فَرَجَعَ مِنْهُمُ اثْنَانِ فهل يجب عليهم القود ، فَهَاهُنَا يَجِبُ الْقَوَدُ عَلَى الرَّاجِعِينَ إِنْ عَمَدُوا وَأَقَرُّوا بِعَمْدِ مَنْ لَمْ يَرْجِعْ وَلَا شَيْءَ عَلَى مَنْ لَمْ يَرْجِعْ لِأَنَّ الْقَتْلَ لَمْ يَجِبْ إِلَّا بِشَهَادَةِ جَمِيعِهِمْ وَإِنْ أَخْطَأَ الرَّاجِعَانِ ضُمِّنَا الدِّيَةَ وَفِي قَدْرِ مَا يُضَمَّنَانِ مِنْهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُضَمَّنُ الِاثْنَانِ مِنَ الثَّلَاثَةِ فِي الْقَتْلِ ثُلُثَا الدِّيَةِ ، لِأَنَّهُمَا اثْنَانِ مِنْ ثَلَاثَةٍ ، وَيُضَمَّنُ الِاثْنَانِ مِنَ الْخَمْسَةِ فِي الزِّنَى خَمْسًا الدِّيَةِ ، لِأَنَّهُمَا اثْنَانِ مِنْ خَمْسَةٍ اعْتِبَارًا بِأَعْدَادِهِمْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُضَمَّنُ الِاثْنَانِ مِنَ الثَّلَاثَةِ فِي الْقَتْلِ نِصْفَ الدِّيَةِ ، لِبَقَاءِ الْوَاحِدِ الَّذِي هُوَ نِصْفُ الْبَيِّنَةِ ، وَيُضَمَّنُ الِاثْنَانِ مِنَ الْخَمْسَةِ فِي الزِّنَا رُبُعَ الدِّيَةِ لِبَقَاءِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ هُمْ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْبَيِّنَةِ ، اعْتِبَارًا بِعَدَدِ الْبَيِّنَةِ .
فَصْلٌ : وَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَى وَلَمْ يَثْبُتْ حَصَانَتُهُ ، فَشَهِدَ بِهَا اثْنَانِ ثُمَّ رَجَعَ شُهُودُ الْحَصَانَةِ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَشْهَدُوا بِالْفِعْلِ الْمُوجِبِ لِلرَّجْمِ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : عَلَيْهِمُ الضَّمَانُ لِأَنَّهُ رُجِمَ بِمَا شَهِدُوا بِهِ مِنَ الْإِحْصَانِ ، وَفِي قَدْرِ مَا يُضَمَّنَهُ شَاهِدَا الْحَصَانَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ نِصْفُ الدِّيَةِ ، لِأَنَّهُ رَجْمٌ بِنَوْعَيْنِ ، الْإِحْصَانُ وَالزِّنَا ، فَتَقَسَّطَتِ الدِّيَةُ عَلَيْهِمَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : عَلَيْهِمَا ثُلُثُ الدِّيَةِ ، لِأَنَّهُ رُجِمَ بِشَهَادَةِ سِتَّةٍ فَتَقَسَّطَتِ الدِّيَةُ عَلَى عَدَدِهِمْ . وَلَوْ رَجَعَ شُهُودُ الزِّنَا ، فَإِنْ أَخْطَأُوا وَجَبَتْ عَلَيْهِمُ الدِّيَةُ دُونَ الْقَوَدِ ، وَفِي قَدْرِ مَا يَلْزَمُهُمْ مِنْهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهَا : جَمِيعُ الدِّيَةِ إِذَا قِيلَ : إِنَّ شُهُودَ الْحَصَانَةِ لَا يُضَمَّنُونَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : ثُلُثُ الدِّيَةِ إِذَا قِيلَ إِنَّ شُهُودَ الْحَصَانَةِ يُضَمَّنُونَ نِصْفَ الدِّيَةِ . وَلَوْ عَمِدَ شُهُودُ الزِّنَى كَانَ وُجُوبُ الْقَوَدِ عَلَيْهِمْ مُعْتَبَرًا بِعِلْمِهِمْ بِحَصَانَتِهِ ، فَإِنْ عَلِمُوا بِهَا عِنْدَ شَهَادَتِهِمْ وَجَبَ عَلَيْهِمُ الْقَوَدُ ، لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِمَا تَعَمَّدُوا بِهِ الْقَتْلَ وَإِنْ جَهِلُوا حَصَانَتَهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمُ الْقَوَدُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَعَمَّدُوا قَتْلَهُ . وَلَوْ رَجَعَ وَاحِدٌ مِنْ شُهُودِ الزِّنَى وَوَاحِدٌ مِنْ شَاهِدَيِ الْحَصَانَةِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ عَلَى شَاهِدِ الزِّنَى رُبُعَ الدِّيَةِ وَلَا شَيْءَ عَلَى شَاهِدَيِ الْحَصَانَةِ إِذَا قِيلَ : إِنَّ شُهُودَ الْحَصَانَةِ لَا يُضَمَّنُونَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ عَلَى شَاهِدِ الزِّنَى سُدُسُ الدِّيَةِ ، وَعَلَى شَاهِدِ الْحَصَانَةِ سُدُسُ الدِّيَةِ ، إِذَا قِيلَ بِضَمَانِ شُهُودِ الْحَصَانَةِ عَلَى الْعَدَدِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : عَلَى شَاهِدِ الزِّنَى ثُمُنُ الدِّيَةِ وَعَلَى شَاهِدِ الْحَصَانَةِ رُبُعُ الدِّيَةِ ، إِذَا قِيلَ بِضَمَانِ شُهُودِ الْحَصَانَةِ عَلَى النَّوْعِ . وَأَمَّا الْقَوَدُ فَلَا يَجِبُ عَلَى شَاهِدِ الْحَصَانَةِ ، وَوُجُوبُهُ عَلَى شَاهِدِ الزِّنَى مُعْتَبَرٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ وُجُوبِهِ عَلَيْهِ إِنْ عَلِمَ بِحَصَانَتِهِ ، وَسُقُوطِهِ إِنْ جَهِلَهَا .
الْقَوْلُ فِي رُجُوعِ شُهُودِ الطَّلَاقِ
[ الْقَوْلُ فِي رُجُوعِ شُهُودِ الطَّلَاقِ ] . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ كَانَ هَذَا فِي طَلَاقِ ثَلَاثٍ أَغْرَمْتُهُمْ لِلزَّوْجِ صَدَاقَ مِثْلِهَا دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا ، لِأَنَّهُمْ حَرَّمُوهَا عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهَا قِيمَةٌ إِلَّا مَهْرُ مِثْلِهَا ، وَلَا أَلْتَفِتُ إِلَى مَا أَعْطَاهَا ، ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا غَلَطًا
مِنْ غَيْرِ الشَّافِعِيِّ وَمَعْنَى قَوْلِهِ الْمَعْرُوفُ أَنْ يَطْرَحَ عَنْهُمْ ذَلِكَ بِنِصْفِ مَهْرِ مِثْلِهَا إِذَا لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي رُجُوعِ الشُّهُودِ عَمَّا اخْتَصَّ بِالْأَبْدَانِ مِنَ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ الْقَسَمُ الثَّانِي فِي رُجُوعِهِمْ عَمَّا اخْتَصَّ بِالْأَحْكَامِ وَهُوَ شَيْئَانِ : الطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ . فَأَمَّا الطَّلَاقُ : فَهُوَ أَنْ يَشْهَدُوا عَلَى رَجُلٍ بِطَلَاقِ الثَّلَاثِ ، فَيُفَرِّقُ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا ، ثُمَّ يَرْجِعُ الشُّهُودُ ، فَهِيَ مَمْنُوعَةٌ مِنَ الزَّوْجِ بَعْدَ نُفُوذِ الْحُكْمِ بِطَلَاقِهَا وَعَلَى الشُّهُودِ مَهْرُ مِثْلِهَا لِلزَّوْجِ . وَقَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ : لَا ضَمَانَ عَلَى الشُّهُودِ . اسْتِدْلَالًا : بِأَنَّهُ لَيْسَ لِخُرُوجِ الْبِضْعِ عَنْ مِلْكِ الزَّوْجِ قِيمَةٌ ، وَلَوْ كَانَ مُقَوَّمًا بِمَهْرِ الْمِثْلِ فِي مِلْكِهِ ، لَوَجَبَ إِذَا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهَا ، أَنْ يَكُونَ مَهْرُ مِثْلِهَا مَحْسُوبًا مِنْ ثُلُثِهِ ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ فِي مَرَضِهِ ، وَلَوَجَبَ إِذَا طَلَّقَهَا وَقَدْ أَحَاطَ دَيْنُهُ بِتَرِكَتِهِ أَنْ لَا يَقَعَ طَلَاقُهُ ، كَمَا لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ وَهَذَا مَدْفُوعٌ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهُ فِي خُرُوجِهِ مِنْ مِلْكِهِ كَمَا لَا قِيمَةَ لَهُ فِيمَا اسْتَهْلَكَهُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ ذِي قِيمَةٍ . وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ ضَمَانِهِ ، أَنَّ عَقْدَ النِّكَاح بَعْدَ الدُّخُولِ أَقْوَى وَقَبْلَهُ أَضْعَفُ ، لِارْتِفَاعِ الْعَقْدِ بِالرِّدَّةِ قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَوُقُوفِهِ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بَعْدَ الدُّخُولِ ، وَوَافَقُونَا عَلَى تَضْمِينِ الشُّهُودِ إِذَا شَهِدُوا بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ ، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يَضْمَنُوا إِذَا شَهِدُوا بِهِ بَعْدَ الدُّخُولِ . وَتَحْرِيرُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسًا ، أَنَّهَا شَهَادَةٌ بِطَلَاقٍ فَرَّقَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الرُّجُوعُ عَنْهَا مُوجِبًا لِلضَّمَانِ كَالشَّهَادَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ . فَإِنْ قِيلَ : فَالْمَالُ قَبْلَ الدُّخُولِ مُعَرَّضٌ لِلسُّقُوطِ بِرِدَّتِهَا ، وَبِالْفَسْخِ إِذَا كَانَ مِنْ قَبْلِهَا ، وَهُوَ بَعْدَ الدُّخُولِ مُسْتَقِرٌّ لَا يَسْقُطُ بِحَالٍ ، فَإِذَا شَهِدُوا بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَقَدْ أَثْبَتُوا بِهِ صِفَةَ الْمُعَرَّضِ لِلسُّقُوطِ فَضُمِّنُوا ، وَإِذَا شَهِدُوا بِهِ بَعْدَ الدُّخُولِ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مُعَرَّضًا لِلسُّقُوطِ ، فَلَمْ يُضَمَّنُوا . قِيلَ : عَكْسُ هَذَا أَوْلَى ، لِأَنَّ الصَّدَاقَ وَاجِبٌ بِالْعَقْدِ ، فَإِذَا شَهِدُوا بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَقَدْ أَسْقَطُوا بِهَا نِصْفَ الصَّدَاقِ ، وَإِذَا شَهِدُوا بِهِ بَعْدَ الدُّخُولِ لَمْ يُسْقِطُوا بِهِ شَيْئًا مِنَ الصَّدَاقِ ، فَكَانَ ضَمَانُهُمْ بَعْدَ الدُّخُولِ أَقْوَى مِنْ ضَمَانِهِمْ قَبْلَهُ . فَإِنْ قِيلَ : فَهُوَ بَعْدُ الدُّخُولِ قَدِ اسْتَوْفَى حَقَّهُ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ ، فَلَمْ يُضَمَّنُوا ، وَقَبْلَ الدُّخُولِ لَمْ يَسْتَوْفِهِ ، فَضُمِّنُوا .
قِيلَ : حَقُّهُ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بَاقٍ بِبَقَاءِ النِّكَاحِ ، وَقَدْ أَبْطَلُوهُ بِشَهَادَتِهِمْ فِي الْحَالَتَيْنِ فَضَمَّنُوهُ فِيهَا . وَدَلِيلٌ ثَانٍ : أَنَّ الْإِحَالَةَ بَيْنَ الزَّوْجِ وَبِضْعِ امْرَأَتِهِ إِذَا لَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى خُلُوِّ الْعَقْدِ مِنْ مَهْرٍ ، فَهُوَ مُوجِبٌ لِضَمَانِ الْمَهْرِ ، كَمَا لَوْ أَرْضَعَتْ زَوْجَتُهُ الْكَبِيرَةُ زَوْجَتَهُ الصَّغِيرَةَ ضَمِنَتِ الْكَبِيرَةُ مَهْرَ الصَّغِيرَةِ . وَقَدْ وَافَقُوا عَلَى ذَلِكَ إِذَا قَصَدَتِ الْكَبِيرَةُ تَحْرِيمَ الصَّغِيرَةِ . فَإِنْ قِيلَ : فَبِفِعْلِ الْكَبِيرَةِ قَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهَا ، وَلَا يَلْزَمُهَا مَهْرُهَا . قِيلَ : لِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَهَا مَهْرُهَا ، لَأَفْضَى إِلَى خُلُوِّ الْعَقْدِ مِنْ مَهْرِهَا ، وَلَا يُفْضِي هَذَا إِلَى خُلُوِّ عَقْدِ الصَّغِيرَةِ مِنْ مَهْرِهَا ، فَلِذَلِكَ ضَمِنَتِ الْكَبِيرَةُ مَهْرَ الصَّغِيرَةِ ، وَلَمْ تَضْمَنْ مَهْرَ نَفْسِهَا . فَإِنْ قِيلَ بَعْدَ هَذَا : لَوْ قَتَلْتَهَا لَضَمِنَتْ دِيَتَهَا ، وَلَا تَضْمَنُ مَهْرَهَا . قِيلَ : ضَمَانُ الْمَنَافِعِ تَسْقُطُ بِضَمَانِ أَعْيَانِهَا ، فَأَوْجَبَ ضَمَانُ دِيَتِهَا سُقُوطَ مَهْرِهَا . وَدَلِيلٌ ثَالِثٌ : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لِدُخُولِ الْبِضْعِ فِي مِلْكِ الزَّوْجِ قِيمَةٌ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِخُرُوجِهِ عَنْ مِلْكِهِ قِيمَةٌ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الْأَمْوَالِ ، فَإِنْ مَنَعُوا أَنْ يَكُونَ لِخُرُوجِهِ عَنْ مِلْكِهِ قِيمَةً بِمَا ذَكَرُوهُ دَلَّلْنَا عَلَيْهِ بِجَوَازِ الْخُلْعِ عَلَى الْبِضْعِ ، فَإِنَّهُ يَمْلِكُ بِهِ الْعِوَضَ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَ الْعِوَضَ فِي مُقَابَلَةِ مَا لَيْسَ لَهُ عِوَضٌ . ثُمَّ نُجِيبُ عَمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ أَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِخُرُوجِهِ عَنْ مِلْكِهِ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا فِي مَرَضِهِ لَمْ يَكُنْ مِنْ ثَلَاثَةٍ ، وَلَوْ كَانَتْ مَالًا لَكَانَتْ مِنْ ثُلُثِهِ لِعِتْقِهِ ، فَهُوَ أَنَّنَا نَعْتَبِرُ مَا كَانَ مُنْتَقِلًا إِلَى وَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَالزَّوْجَةُ لَا تَنْتَقِلُ إِلَيْهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ . فَلِذَلِكَ لَمْ تُعْتَبَرْ مِنَ الثُّلُثِ ، وَإِنْ كَانَ بِضْعُهَا مِلْكًا لَهُ كَأُمِّ الْوَلَدِ لَوْ أَعْتَقَهَا فِي مَرَضِهِ لَمْ تَكُنْ مِنْ ثُلُثِهِ وَإِنْ كَانَتْ مِلْكًا ، لِأَنَّهَا لَا تَنْتَقِلُ بَعْدَ الْمَوْتِ إِلَى وَرَثَتِهِ ، وَهَكَذَا لَوْ طَلَّقَهَا فِي مَرَضِهِ وَقَدْ أَحَاطَ دَيْنُهُ بِتَرِكَتِهِ بَعْدَ طَلَاقِهِ وَإِنْ لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ ، لِأَنَّهَا لَا تَنْتَقِلُ إِلَى الْغُرَمَاءِ كَعِتْقِ أَمِ الْوَلَدِ ، وَخَالَفَ عِتْقُ الْعَبْدِ الْقِنِّ الَّذِي يُصْرَفُ فِي دُيُونِهِ لَوْ لَمْ يُعْتَقْ
فَصْلٌ : وَإِذْ قَدْ ذَكَرْنَا دَلَائِلَ مَنْ أَثْبَتَ الْغُرْمُ وَنَفَاهُ ، فَالَّذِي أَرَاهُ أَوْلَى مِنْ إِطْلَاقِ هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ أَنَّ الشَّهَادَةَ بِهَذَا الطَّلَاقِ الْكَاذِبِ يُوجِبُ تَحْرِيمَهَا فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ ، وَيَجُوزُ لَهُمَا الِاجْتِمَاعُ بَعْدَهَا فِيمَا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ، عَلَى أَصْلِ مَذْهَبِنَا فِي أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ فِي الظَّاهِرِ لَا يُحِيلُ الْأُمُورَ عَمَّا هِيَ عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ ، وَإِنْ خَالَفَنَا أَبُو حَنِيفَةَ .
فَاقْتَضَى مِنْ مَذْهَبِنَا أَنْ يُنْظَرَ فِي حَالِ الزَّوْجِ ، فَإِنْ وَصَلَ إِلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِزَوْجَتِهِ بِمُسَاعَدَتِهَا لَهُ عَلَى مَا أَبَاحَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْبَاطِنِ ، فَلَا رُجُوعَ لِلزَّوْجِ بِمَهْرِهَا عَلَى الشُّهُودِ إِذَا رَجَعُوا ، لِئَلَّا يَجْمَعَ بَيْنَ الِاسْتِبَاحَةِ وَالرُّجُوعِ بِالْمَهْرِ . وَإِنْ لَمْ يَصِلْ إِلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا ، لِامْتِنَاعِهَا عَلَيْهِ تَمَسُّكًا بِظَاهِرِ التَّحْرِيمِ ، رَجَعَ عَلَى الشُّهُودِ بِمَهْرِهَا لِتَفْوِيتِهِمْ عَلَيْهِ بِضْعَهَا . وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ بِقَذْفِ امْرَأَتِهِ بِالزِّنَا فَيُلَاعِنُ الْحَاكِمَ بَيْنَهُمَا ، ثُمَّ يَرْجِعُ الشَّاهِدَانِ ، وَاللَّعَّانُ فِي الظَّاهِرِ عَلَى نَفَاذِهِ فِي وُقُوعِ الْفُرْقَةِ وَتَحْرِيمِ الْأَبَدِ ، فَأَمَّا نُفُوذُهُ فِي الْبَاطِنِ فَمُعْتَبَرٌ بِحَالِ الزَّوْجِ ، فَإِنَّهُ أَمِنَ حَدَّ الْقَذْفِ حِينَ لَاعَنَ بِاخْتِيَارِهِ ، فَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَى الشُّهُودِ لِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِلِعَانِهِ " وَإِنْ خَافَ مِنْ حَدِّ الْقَذْفِ ، لَمْ تَقَعِ الْفُرْقَةُ فِي الْبَاطِنِ وَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَى الشُّهُودِ إِنْ أَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا ، وَيَرْجِعُ عَلَيْهِمْ إِنْ مَنَعَتْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْغُرْمِ عَلَى الشُّهُودِ إِذَا رَجَعُوا فِي الطَّلَاقِ فعلى من الغرم ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ ثَلَاثًا . وَالثَّانِي : دُونَ الثَّلَاثِ . فَإِنْ كَانَ مَا شَهِدُوا بِهِ مِنَ الطَّلَاقِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الدُّخُولِ : فَعَلَيْهِمْ ضَمَانُ جَمِيعِ الْمَهْرِ يُقَسِطُ بَيْنَهُمْ عَلَى أَعْدَادِهِمْ ، فَإِنْ شَهِدَ بِهِ اثْنَانِ ، كَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ ، وَإِنْ شَهِدَ بِهِ ثَلَاثَةٌ ، كَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثُهُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ شَهَادَتُهُمْ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي قَدْرِ مَا يَلْزَمُ الشُّهُودِ : فَرَوَى عَنْهُ الْمُزَنِيُّ أَنَّ عَلَيْهِمْ ضَمَانَ جَمِيعِ الْمَهْرِ . وَرَوَى عَنْهُ الرَّبِيعُ أَنَّ عَلَيْهِمْ ضَمَانُ نِصْفِهِ ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيِّ . فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اخْتِلَافِ مَا نَقَلَاهُ ، فَخَرَّجَهُ أَكْثَرُهُمْ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : عَلَيْهِمْ نِصْفُ الْمَهْرِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِأَنَّهُ قَدْرُ مَا الْتَزَمَ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ رَجَعَ عَلَى الزَّوْجَةِ بِنِصْفِهِ ، فَلَوْ رَجَعَ عَلَى الشُّهُودِ بِجَمِيعِهِ لَصَارَ إِلَيْهِ مَهْرٌ وَنِصْفٌ ، وَهُوَ لَا يَسْتَحِقُّ أَكْثَرَ مِنَ الْمَهْرِ ، فَعَلَى هَذَا عَلَيْهِمْ نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ ، لِأَنَّهُ قِيمَةُ الْمُتْلَفِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : نِصْفُ الْمَهْرِ الْمُسَمَّى اعْتِبَارًا بِمَا غَرِمَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَلْزَمُهُمْ جَمِيعُ مَهْرِ الْمِثْلِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ قَدْ أَحَالُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا مِلْكَهُ مِنْ جَمِيعِ الْبِضْعِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِمْ بِجَمِيعِ مَهْرِهَا كَمَا يَرْجِعُ بِهِ لَوْ دَخَلَ بِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ بِجَمِيعِ الْمَهْرِ إِذَا اسْتَمْتَعَ بِهَا ، كَانَ أَوْلَى أَنْ يَرْجِعَ بِجَمِيعِهِ إِذَا لَمْ يَسْتَمْتِعُ بِهَا فَعَلَى هَذَا ، إِنْ كَانَ الصَّدَاقُ قَدْ سَاقَهُ إِلَيْهَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا بِنِصْفِهِ ، لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِيهِ . وَإِنْ لَمْ يَسُقْهُ إِلَيْهَا لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا نِصْفُهُ ، وَإِنِ اعْتَرَفَ لَهَا بِجَمِيعِهِ لِأَجْلِ مَنْعِهِ مِنْهَا . وَامْتَنَعَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا مِنْ تَخْرِيجِ الرُّجُوعِ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَحَمَلُوا مَا رَوَاهُ مَنْ أَوْجَبَ جَمِيعَ الْمَهْرِ عَلَى الزَّوْجِ إِذَا سَاقَ جَمِيعَ الْمَهْرِ إِلَيْهَا ، لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ يَدِهِ جَمِيعُ الْمَهْرِ ، فَرَجَعَ عَلَيْهِمْ بِجَمِيعِ الْمَهْرِ . وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ عِنْدِي أَوْلَى عِنْدِي مِنْ تَخْرِيجِ الْقَوْلَيْنِ ، لِأَنَّ مَا أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى الِاتِّفَاقِ كَانَ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الِاخْتِلَافِ .
فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ مَا شَهِدُوا بِهِ مِنَ الطَّلَاقِ أَقَلَّ مِنَ الثَّلَاثِ ورجع فيه الشهود فما الحكم فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ ، فَيُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الشُّهُودِ إِذَا رَجَعُوا كَمَا يُوجِبُهُ طَلَاقُ الثَّلَاثِ ، لِأَنَّهَا تَبِينُ بِالْوَاحِدَةِ كَمَا تَبِينُ بِالثَّلَاثِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الدُّخُولِ ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا تَبِينَ بِالْوَاحِدَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ مِنْهُ طَلَاقٌ ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الشُّهُودِ إِذَا رَجَعُوا ، لِأَنَّ الزَّوْجَ يَقْدِرُ عَلَى اسْتِبَاحَتِهَا بِالرَّجْعَةِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَبِينَ بِالْوَاحِدَةِ الَّتِي شَهِدُوا بِهَا وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي خَلْعٍ تَبِينُ فِيهِ بِالْوَاحِدَةِ وَرَجَعَ الشُّهُودُ عَنْهُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ عَلَى الزَّوْجَةِ لِإِنْكَارِهَا عَقَّدَ الْخُلْعُ ، فَقَدْ أَلْزَمُوهَا الْعِوَضَ ، وَلَا يَكُونُ الطَّلَاقُ بَدَلًا مِنْهُ فِي حَقِّهَا ، فَلَهَا الرُّجُوعُ عَلَيْهِمْ بِمَا أَغْرَمُوهَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ عَلَى الزَّوْجِ لِإِنْكَارِهَا عَقْدَ الْخُلْعِ ، فَقَدْ كَانُوا
أَلْزَمُوهُ بِالطَّلَاقِ بِمَا أَوْجَبُوهُ لَهُ مِنَ الْعِوَضِ وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَدَعْهُ ، لِحَقِّهِ فِي بِضْعِهَا ، فَإِذَا لَمْ يَصِلُ إِلَيْهِ ، كَانَ لَهُ الْوُصُولُ إِلَى بَدَلِهِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ نُظِرَ . فَإِنْ كَانَ الْعِوَضُ بِقَدْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الشُّهُودِ بِشَيْءٍ ، لِوُصُولِهِ إِلَى الْمَهْرِ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجَةِ . وَإِنْ كَانَ الْعِوَضُ أَقَلُّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ في رجوع الشهود ، يَرْجِعُ عَلَى الشُّهُودِ بِالْبَاقِي مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ لِيَسْتَكْمِلَهُ مِنَ الشُّهُودِ وَالزَّوْجَةِ . وَمَثَلُهُ أَنْ يَشْهَدُوا بِشَفْعَتِهِ فِي مَبِيعٍ وَيُنْتَزَعُ مِنْ مُشْتَرِيهِ بِثَمَنِهِ ثُمَّ يَرْجِعُ الشُّهُودُ عَمَّا شَهِدُوا بِهِ مِنْ مِلْكِ الشَّفِيعِ ، فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ مِثْلَ قِيمَةِ الْمِلْكِ لَمْ يُضَمَّنُوا ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ ضُمِّنُوا فَاضِلَ الْقِيمَةِ . وَهَكَذَا لَوْ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ بَاعَ فَانْتُزِعَ مِنْهُ مَا شَهِدُوا بِهِ مِنَ الثَّمَنِ ثُمَّ رَجَعُوا إِنْ كَانَ الثَّمَنُ مِثْلَ قِيمَتِهِ لَمْ يُضَمَّنُوا ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنَ الْقِيمَةِ ضُمِّنُوا فَاضِلَ الْقِيمَةِ . وَلَوْ شَهِدُوا بِهِبَةٍ ثُمَّ رَجَعُوا . فَإِنْ قِيلَ بِوُجُوبِ الْمُكَافَأَةِ لَمْ يُضَمَّنُوا ، وَإِنْ قِيلَ بِسُقُوطِهَا ضُمِّنُوا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنَّ تَبِينَ بِالْوَاحِدَةِ ، لِأَنَّ الزَّوْجَ قَدْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الشَّهَادَةِ طَلْقَتَيْنِ فَصَارَتْ بَائِنَةً بِالثَّالِثَةِ ، فَقَدْ أَحَالَ الشُّهُودُ بِهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ بِضْعِهَا ، فَلَزِمَهُمُ الْغُرْمُ بِحُكْمِ الْإِحَالَةِ وَفِي قَدْرِ مَا يَلْزَمُهُمْ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : جَمِيعُ الْمَهْرِ ، لِأَنَّهُمْ مَنَعُوهُ مِنْهَا مِنْ جَمِيعِ الْبِضْعِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَلْزَمُهُمْ ثُلُثُ الْمَهْرِ ، لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ بِضْعِهَا بِثَلَاثِ طَلَقَاتٍ اخْتَصَّ الشُّهُودُ بِوَاحِدَةٍ مِنْهَا ، فَكَانَ ثُلُثُ الْمَنْعِ مِنْهُمْ فَوَجَبَ ثُلُثُ الْمَهْرِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ الزَّوْجُ قَدْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً ، وَشَهِدُوا بِطَلْقَتَيْنِ رَجَعَ عَلَيْهِمْ بِثُلُثَيِ الْمَهْرِ . فَهَذَا حُكْمُ شَهَادَتِهِمْ بِالطَّلَاقِ إِذَا رَجَعُوا عَنْهُ .
الْقَوْلُ فِي رُجُوعِ شُهُودِ الْعِتْقِ
[ الْقَوْلُ فِي رُجُوعِ شُهُودِ الْعِتْقِ ] فَصْلٌ : وَأَمَّا شَهَادَتُهُمْ بِالْعِتْقِ إِذَا رَجَعُوا عَنْهَا فِي عَبْدٍ كَانَ قِنَّا فما الحكم الواقع على الشهود ، فَعَلَيْهِمْ غُرْمُ قِيمَتِهِ بِوِفَاقِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَإِنْ خَالَفَ فِي الطَّلَاقِ . وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ عِنْدَ نُفُوذِ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمْ ، لَا وَقْتَ رُجُوعِهِمْ ، لِأَنَّهُ بِالْحُكْمِ صَارَ مُسْتَهْلَكًا لَا بِالرُّجُوعِ . فَإِنْ شَهِدُوا عَلَيْهِ بِعِتْقِ مُدَبَّرٍ ثُمَّ رَجَعُوا عَنْهُ فما الحكم الواقع على الشهود لَزِمَهُمْ غُرْمُ قِيمَتِهِ أَيْضًا : لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ
عَلَى الرِّقِّ وَجَوَازِ الْبَيْعِ ، فَإِنْ شَهِدُوا عَلَيْهِ بِعِتْقِ أُمِّ الْوَلَدِ رَجَعَ عَلَيْهِمْ بِقِيمَتِهَا ، وَإِنْ مَنَعَ مِنْ بَيْعِهَا كَمَا يَرْجِعُ بِالْقَيِّمَةِ عَلَى قَاتِلِهَا . وَإِنْ شَهِدُوا عَلَيْهِ بِكِتَابَةِ عَبْدِهِ فما الحكم الواقع على الشهود إذا رجعوا ، لَمْ يُغَرَّمُوا عِنْدَ الرُّجُوعِ ، وَيُنْظَرُ مَا يَكُونُ مِنْ حَالِ الْمُكَاتَبِ : فَإِنْ عَجَزَ وَعَادَ إِلَى الرِّقِّ فَلَا غُرْمَ عَلَى الشُّهُودِ بِعَوْدِهِ إِلَى الرِّقِّ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ الشَّهَادَةِ . وَإِنْ أَدَّى وَعُتِقَ نُظِرَ فِي مَا أَدَّاهُ مِنْ كِتَابَتِهِ ، فَإِنْ كَانَ بِقَدْرِ قِيمَتِهِ ، فَفِي وُجُوبِ غُرْمِهَا عَلَى الشُّهُودِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا غُرْمَ عَلَيْهِمْ ، لِأَنَّ السَّيِّدَ قَدْ وَصَلَ إِلَى الْقِيمَةِ مِنْ مُكَاتَبِهِ ، فَصَارَ كَوُصُولِهِ إِلَى الْمَهْرِ مِنْ خُلْعِ زَوْجَتِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَرْجِعُ عَلَيْهِمْ بِغُرْمِ قِيمَتِهِ وَإِنْ وَصَلَ إِلَيْهَا مِنْ مَكَاتَبِهِ ، لِأَنَّهُ أَدَّاهَا مِنِ اكْتِتَابِهِ الَّتِي قَدْ كَانَ يَمْلِكُهَا بِغَيْرِ كِتَابِهِ ، وَبِهَذَا خَالَفَ مَا أَدَّتْهُ الْمَرْأَةُ فِي الْخُلْعِ ، لِأَنَّ الْمُؤَدَّى لَا يَمْلِكُهُ الزَّوْجُ إِلَّا بِالْخُلْعِ . وَإِنْ كَانَ مَا أَدَّاهُ الْمُكَاتَبُ فَيُعْتَقُ بِهِ أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ ، رَجَعَ السَّيِّدُ عَلَى الشُّهُودِ بِالْبَاقِي مِنْ قِيمَتِهِ ، وَفِي رُجُوعِهِ عَلَيْهِمْ بِمَا أَدَّاهُ الْمُكَاتَبُ وَجْهَانِ تَعْلِيلًا بِمَا قَدَّمْنَاهُ فِيهَا . فَإِنْ شَهِدُوا بِإِبْرَاءِ مُكَاتَبِهِ مِنْ مَالِ كِتَابَتِهِ ، فَحُكِمَ عَلَيْهِ بِعِتْقِهِ ، ثُمَّ رَجَعَ الشُّهُودُ ، غُرِّمُوا لَهُ أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ مَالِ كِتَابَتِهِ ، لِأَنَّ الْقِيمَةَ إِذَا كَانَتْ أَقَلَّ ، فَلَيْسَ بِأَغْلَظَ مِنَ الْعَبْدِ الْقِنِّ . فَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْهَا ، وَإِنْ كَانَ مَالُ الْكِتَابَةِ أَقَلُّ ، فَلَيْسَ لَهُ عَلَى الْمُكَاتَبِ أَكْثَرُ مِنْهُ فَلَمْ يَرْجِعْ بِالزِّيَادَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
الْقَوْلُ فِي رُجُوعِ شُهُودِ الْمَالِ
[ الْقَوْلُ فِي رُجُوعِ شُهُودِ الْمَالِ ] . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَإِنْ كَانَ فِي دَارٍ ، فَأُخْرِجَتْ مِنْ يَدَيْهِ إِلَى غَيْرِهِ عُزِّرُوا عَلَى شَهَادَةِ الزُّورِ ، وَلَمْ يُعَاقَبُوا عَلَى الْخَطَأِ ، وَلَمْ أُغْرِمْهُمْ مِنْ قِبَلِ أَنِّي جَعَلْتُهُمْ عُدُولًا بِالْأَوَّلِ ، فَأَمْضَيْنَا بِهِمُ الْحُكْمَ ، وَلَمْ يَكُونُوا عُدُولًا بِالْآخَرِ ، فَتُرَدُّ الدَّارُ ، وَلَمْ يُفِيتُوا شَيْئًا لَا يُؤْخَذُ ، وَلَمْ يَأْخُذُوا شَيْئًا لِأَنْفُسِهِمْ ، فَأَنْتَزِعَهُ مِنْهُمْ ، وَهُمْ كَمُبْتَدِئِينَ شَهَادَةٍ لَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ ، فَلَا أُغْرِمُهُمْ مَا أقَرُوهُ فِي أَيْدِي غَيْرِهِمْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ الْقَسَمُ الثَّالِثُ فِي رُجُوعِهِمْ عَمَّا اخْتَصَّ بِالْأَمْوَالِ ، وَهُوَ ضَرْبَانِ : عَيْنٌ وَدَيْنٌ . فَأَمَّا الْعَيْنُ فَكَالدَّارِ وَالدَّابَّةِ إِذَا كَانَتْ فِي يَدِ رَجُلٍ يَتَصَرَّفُ فِيهَا تَصَرُّفَ الْمَالِكِينَ الْحَائِزِينَ ، فَشَهِدَ الشُّهُودُ بِهَا لِغَيْرِهِ فَانْتَزَعَهَا الْحَاكِمُ مِنْ يَدِهِ بِشَهَادَتِهِمْ وَسَلَّمَهَا ، إِلَى
الْمَشْهُودِ لَهُ ، ثُمَّ رَجَعَ الشُّهُودُ فما الحكم ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْتَزِعَهَا مِنَ الْمَشْهُودِ لَهُ لِنُفُوذِ الْحُكْمِ بِهَا ، وَالْحُكْمُ لَا يُنْتَقَضُ بِرُجُوعِهِمْ . فَأَمَّا وُجُوبُ غُرْمِهَا عَلَى الشُّهُودِ ، فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِيهَا وَذَكَرَهُ هُنَا وَفِي غَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ لَا رُجُوعَ عَلَى الشُّهُودِ بِغُرْمِهَا . وَقَالَ فِيمَنْ أَقَرَّ بِدَارٍ فِي يَدِهِ أَنَّهُ غَصَبَهَا مِنْ زَيْدٍ ثُمَّ قَالَ : لَا بَلْ غَصَبْتُهَا مِنْ عَمْرٍو : إِنَّهَا تَكُونُ لِزَيْدٍ لِتَقَدُّمِ الْإِقْرَارِ بِهَا لَهُ ، وَهَلْ يَجِبُ قِيمَتُهَا لِعَمْرٍو أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : وَكَذَا قَالَ فِي عَبْدٍ أَعْتَقَهُ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ ، ثُمَّ أَقَرَّ بِغَصْبِهِ مِنْ عَمْرٍو ، هَلْ يَغْرَمُ قِيمَتَهُ لِعَمْرٍو أَمْ لَا ؟ عَلَى الْقَوْلَيْنِ . وَرُجُوعِ الشُّهُودِ كَرُجُوعِ الْمُقِرِّ بِالْغَصْبِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَطَائِفَةٍ " أَنَّهُمَا سِيَّانِ ، وَفِي غُرْمِ الشُّهُودِ إِذَا رَجِعُوا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : عَلَيْهِمْ غُرْمُ قِيمَةِ الْعَيْنِ ، وَهُوَ الْمَخْرَجُ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لِاسْتِهْلَاكِهَا عَلَى مَالِكِهَا حُكْمًا ، فَصَارَ كَاسْتِهْلَاكِهَا عَلَيْهِ ، فَعَلَى هَذَا فِي قِيمَتِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ عَلَيْهِمْ قِيمَتُهَا يَوْمَ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : عَلَيْهِمْ أَكْثَرُ قِيمَتِهَا مِنْ يَوْمِ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمْ إِلَى وَقْتِ رُجُوعِهِمْ . فَهَذَا حُكْمُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ : لَا غُرْمَ عَلَيْهِمْ ، لِأَنَّ الْأَعْيَانَ تُضْمَنُ بِوَاحِدٍ مِنْ أَمْرَيْنِ : إِمَّا بِإِتْلَافٍ أَوْ بِيَدٍ ، وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الشُّهُودِ إِتْلَافُ الْعَيْنِ لِبَقَائِهَا ، وَلَا يَدَ لِعَدَمِ تَصَرُّفِهِمْ فِيهَا . فَسَقَطَ غُرْمُهَا عَنْهُمْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا : وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِهِمْ ، أَنَّهُ لَا غُرْمَ عَلَى الشُّهُودِ قَوْلًا وَاحِدًا . وَإِنْ كَانَ فِي غُرْمِ الْمُقِرِّ بِالْغَصْبِ قَوْلَانِ لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ لِلْغَاصِبِ يَدًا صَارَ بِهَا ضَامِنًا ، وَلَيْسَ لِلشُّهُودِ يَدٌ يُضَمِّنُونَ بِهَا فَافْتَرَقَ حُكْمُهَا .
الْقَوْلُ فِي رُجُوعِ شُهُودِ الدَّيْنِ
[ الْقَوْلُ فِي رُجُوعِ شُهُودِ الدَّيْنِ ] . فَصْلٌ : فَأَمَّا الدَّيْنُ إِذَا شَهِدُوا بِهِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّ عَلَيْهِ لِزَيْدٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مِنْ قَرْضٍ أَوْ غَصْبٍ ، فَأَلْزَمَهُ الْحَاكِمُ دَفَعَهَا إِلَيْهِ بِشَهَادَتِهِمْ فَدَفَعَهَا ، ثُمَّ رَجَعُوا عَنْ شَهَادَتِهِمْ فما الحكم ، وَلِلدَّيْنِ الْمَقْبُوضِ حَالَتَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ قَدِ اسْتَهْلَكَهُ الْمَشْهُودُ لَهُ ، فَعَلَى الشُّهُودِ غُرْمُهُ لِتَلَفِ الْعَيْنِ
بِالِاسْتِهْلَاكِ ، وَلَا يَجُوزُ لِلشُّهُودِ أَنْ يَرْجِعُوا بِهِ عَلَى الْمَشْهُودِ لَهُ إِذَا غَرِمُوا ، وَلَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُمْ عَلَيْهِ لِمَا سَبَقَ مِنِ اعْتِرَافِهِمْ لَهُ بِالْحَقِّ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ الدَّيْنِ الْمَقْبُوضِ بَاقِيًا فِي يَدِ الْمَشْهُودِ لَهُ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ فِي حُكْمِ الدَّيْنِ أَمْ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ لِبَقَاءِ عَيْنِهِ ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الشُّهُودِ بِغُرْمِهِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ فِي حُكْمِ الْمُسْتَهْلَكِ مِنَ الدَّيْنِ لِتَعَلُّقِهِ بِالذِّمَّةِ ، فَيَرْجِعُ عَلَى الشُّهُودِ بِغُرْمِهِ .
فَصْلٌ : وَإِذَا ثَبَتَ الرُّجُوعُ عَلَى الشُّهُودِ بِغُرْمِ الدَّيْنِ ، لَمْ يَخْلُ رُجُوعُهُمْ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ جَمِيعِهِمْ أَوْ بَعْضِهِمْ . فَإِنْ رَجَعُوا جَمِيعًا وَكَانُوا شَاهِدِينَ الدين كَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الدَّيْنِ ، وَلَوْ كَانُوا شَاهِدًا وَامْرَأَتَيْنِ ، كَانَ عَلَى الرَّجُلِ نِصْفُ الدَّيْنِ ، لِأَنَّهُ نِصْفُ الْبَيِّنَةِ ، وَكَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَرْأَتَيْنِ رُبُعُ الدَّيْنِ لِأَنَّهَا رُبُعُ الْبَيِّنَةِ . وَلَوْ كَانَ الشُّهُودُ ثَلَاثَةُ رِجَالٍ ، كَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثُ الدَّيْنِ ، لِأَنَّهُ ثُلُثُ الْبَيِّنَةِ وَلَوْ كَانُوا عَشْرَةً كَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عُشْرُ الدَّيْنِ ، لِأَنَّهُ عُشْرُ الْبَيِّنَةِ . وَلَوْ كَانُوا رَجُلًا وَعَشْرُ نِسْوَةٍ كَانَ عَلَى الرَّجُلِ سُدُسُ الدَّيْنِ وَعَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ النِّسْوَةِ نِصْفُ سُدُسِ الدَّيْنِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : عَلَى الرَّجُلِ نِصْفُ الدَّيْنِ ، لِأَنَّهُ نِصْفُ الْبَيِّنَةِ وَعَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ النِّسَاءِ نِصْفُ عُشْرٍ ، لِأَنَّهَا نِصْفُ عُشْرِ الْبَيِّنَةِ وَبِهِ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ ، وَهَذَا خَطَأٌ ، لِأَنَّ كُلَّ امْرَأَتَيْنِ تَقُومَانِ مَقَامَ الرَّجُلِ ، فَصَارَ النِّسَاءُ الْعَشْرُ كَخَمْسَةِ رِجَالٍ ، فَإِذَا اقْتَرَنَ بِهِمْ رَجُلٌ صَارُوا مَعَهُ كَسِتَّةِ رِجَالٍ ، يَلْزَمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سُدُسُ الدَّيْنِ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَلْزَمَ الرَّجُلَ سُدُسَ الدَّيْنِ وَيَلْزَمَ كُلَّ امْرَأَتَيْنِ سُدُسُهُ ، فَتَخْتَصُّ كُلُّ وَاحِدَةٍ بِنِصْفِهِ . وَإِنْ رَجَعَ بَعْضُ الشُّهُودِ دُونَ جَمِيعِهِمْ في الدين فما الحكم ، فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا يَزِيدُوا عَلَى عَدَدِ الْبَيِّنَةِ ، وَيَكُونُوا رَجُلَيْنِ فَيَرْجِعُ أَحَدُهُمَا ، فَعَلَيْهِ نِصْفُ الدَّيْنِ ، لِأَنَّهُ نِصْفُ الْبَيِّنَةِ ، وَإِنْ كَانُوا رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ وَلَوْ رَجَعَتْ وَاحِدَةٌ مِنَ الْمَرْأَتَيْنِ ، فَعَلَيْهَا رُبُعُ الدَّيْنِ ، لِأَنَّهَا رُبُعُ الْبَيِّنَةِ .
وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَزِيدُوا عَلَى عَدَدِ الْبَيِّنَةِ ، وَيَرْجِعُ مَنْ زَادَ عَلَيْهَا كَأَرْبَعَةِ رِجَالٍ يَرْجِعُ مِنْهُمُ اثْنَانِ ، فَفِي الرُّجُوعِ عَلَى الرَّاجِعِينَ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ : لَا رُجُوعَ عَلَيْهِمَا لِكَمَالِ الْبَيِّنَةِ بِغَيْرِهِمَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي " وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ حَكَاهُ عَنْهُ أَصْحَابُهُ : يَرْجِعُ عَلَيْهِمَا ، لِأَنَّ الْحَقَّ لَمْ يَتَعَيَّنْ بِشَهَادَةِ غَيْرِهِمَا فَلَزِمَهُمَا نِصْفُ الدَّيْنِ ، لِأَنَّهُمَا نِصْفُ الْبَيِّنَةِ . فَلَوْ شَهِدَتْ مَعَ الْأَرْبَعَةِ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ ثُمَّ رَجَعَتِ الْمَرْأَةُ مِنَ الرَّجُلَيْنِ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمَرْأَةِ ، لِأَنَّهَا إِذَا انْفَرَدَتْ لَمْ تَدْخُلْ فِي جُمْلَةِ الْبَيِّنَةِ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ يَزِيدُوا عَلَى عَدَدِ الْبَيِّنَةِ وَيَرْجِعُ الزَّائِدُ عَلَى الْبَيِّنَةِ وَبَعْضُ الْبَيِّنَةِ كَالثَّلَاثَةِ إِذَا رَجَعَ مِنْهُمُ اثْنَانِ وَجَبَ الرُّجُوعُ عَلَيْهِمَا وَفِي قَدْرِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَرْجِعُ عَلَيْهِمَا بِنِصْفِ الدَّيْنِ ، لِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ نِصْفُ الْبَيِّنَةِ وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُسْقِطُ الرُّجُوعُ عَلَيْهِمْ إِذَا بَقِيَ بَعْدَهُمْ عَدَدُ الْبَيِّنَةِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِمَا بِثُلُثَيِ الدَّيْنِ ، لِأَنَّهُمَا ثُلُثَا الْبَيِّنَةِ ، وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُوجِبُ الرُّجُوعَ عَلَيْهِمْ إِذَا بَقِيَ بَعْدَهُمْ عَدَدُ الْبَيِّنَةِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيِّ . فَلَوْ كَانُوا رَجُلَيْنِ وَامْرَأَتَيْنِ ، فَرَجَعَ مِنْهُمْ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ ، فَفِي قَدْرِ الرُّجُوعِ عَلَيْهِمْ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُرْجَعُ عَلَيْهِمَا بِرُبُعِ الدَّيْنِ ، لِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ بِالرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْبَيِّنَةِ ، وَيَتَحَمَّلُ الرَّجُلُ مِنَ الرُّبُعِ ثُلُثَيْهِ وَهُوَ سُدُسُ الدَّيْنِ وَتَتَحَمَّلُ الْمَرْأَةُ ثُلُثَهُ وَهُوَ نِصْفُ السُّدُسِ مِنَ الدَّيْنِ ، وَهُوَ قِيَاسُ ابْنِ سُرَيْجٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الدَّيْنِ ، لِأَنَّهُمَا نِصْفُ الْبَيِّنَةِ ، فَيَتَحَمَّلُ الرَّجُلُ ثُلُثَيِ النِّصْفِ وَهُوَ ثُلُثُ الدَّيْنِ ، وَتَتَحَمَّلُ الْمَرْأَةُ ثُلُثَهُ . وَهُوَ سُدُسُ الدَّيْنِ ، وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ الْمُزَنِيِّ .
الْقَوْلُ فِي اخْتِلَافِ الشُّهُودِ فِي قَدْرِ الدَّيْنِ وَرُجُوعِهِمْ عَنْهُ
[ الْقَوْلُ فِي اخْتِلَافِ الشُّهُودِ فِي قَدْرِ الدَّيْنِ وَرُجُوعِهِمْ عَنْهُ ] فَصْلٌ : وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ مَالًا فَشَهِدَ لَهُ شَاهِدٌ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، وَشَهِدَ لَهُ شَاهِدٌ ثَانٍ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ ، وَشَهِدَ لَهُ شَاهِدٌ ثَالِثٌ بِثَلَاثِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، وَشَهِدَ لَهُ رَابِعٌ بِأَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ فما الحكم فَقَدْ قَامَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِثَلَاثِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، لِأَنَّ الْمِائَةَ الرَّابِعَةَ شَهِدَ بِهَا شَاهِدٌ وَاحِدٌ فَلَمْ تَثْبُتْ . فَإِنْ رَجَعَ الشُّهُودُ الْأَرْبَعَةُ بَعْدَ الْغُرْمِ ، رَجَعَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِمَا غَرِمَهُ وَهُوَ ثَلَاثُمِائَةٍ ، وَيَخْتَلِفُ قَدْرُ مَا يُرْجَعُ بِهِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ عَنْهُمْ بِاخْتِلَافِ مَا شَهِدُوا
بِهِ فَالْمِائَةُ الْأَوْلَى قَدْ شَهِدَ بِهَا الْأَرْبَعَةُ ، فَيَكُونُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رُبُعُهَا وَهُوَ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا ، وَالْمِائَةُ الثَّانِيَةُ قَدْ شَهِدَ بِهَا ثَلَاثَةٌ سِوَى الْأَوَّلِ ، فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثُهُ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ دِرْهَمًا وَثُلُثُ دِرْهَمٍ ، وَالْمِائَةُ الثَّالِثَةُ قَدْ شَهِدَ بِهَا اثْنَانِ سِوَى الْأَوَّلِ وَالثَّانِي ، فَيَكُونُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهَا ، خَمْسُونَ دِرْهَمًا ، فَيَصِيرُ الْجَمِيعُ ثَلَاثَمِائَةِ دِرْهَمٍ . عَلَى الْأَوَّلِ مِنْهَا خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا ، وَعَلَى الثَّانِي مِنْهَا ثَمَانِيَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا وَثُلُثٌ ، وَعَلَى الثَّالِثِ مِائَةٌ وَثَمَانِيَةٌ وَثُلُثٌ وَعَلَى الرَّابِعِ مِائَةٌ وَثَمَانِيَةٌ وَثُلُثٌ .
الْقَوْلُ فِي رُجُوعِ شُهُودِ الدَّيْنِ عَنْ بَعْضِ مَا شَهِدُوا بِهِ
[ الْقَوْلُ فِي رُجُوعِ شُهُودِ الدَّيْنِ عَنْ بَعْضِ مَا شَهِدُوا بِهِ ] . فَصْلٌ : وَإِذَا شَهِدَ ثَلَاثَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِثَلَاثِينَ دِرْهَمًا ثُمَّ رَجَعَ أَحَدُهُمْ عَنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ ، وَرَجَعَ ثَانٍ عَنْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا ، وَرَجْعَ الثَّالِثُ عَنْ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا فما الحكم ، فَلِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ إِذَا غَرِمَ الثَّلَاثِينَ أَنْ يَرْجِعَ مِنْهَا بِعِشْرِينَ ، لِأَنَّ الْعَشْرَةَ الثَّانِيَةَ قَدْ بَقِيَ مِنْهَا بَعْدَ الرَّاجِعِ شَاهِدَانِ ، فَتَكُونُ الْعَشْرَةُ الْأَوْلَى عَلَيْهِمْ أَثْلَاثًا ، لِأَنَّهُ قَدْ رَجَعَ عَنْهَا الثَّلَاثَةُ فَيَلْزَمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثُ دِرْهَمٍ . وَالْعَشَرَةُ الثَّانِيَةُ قَدْ رَجَعَ عَنْهَا اثْنَانِ ، فَهِيَ عَلَيْهِمَا نِصْفَانِ ، عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ ، يَصِيرُ الْجَمِيعُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا ، مِنْهَا عَلَى الرَّاجِعِ عَنِ الْعَشْرَةِ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثٌ ، وَعَلَى الرَّاجِعِ عَنِ الْعِشْرِينَ ثَمَانِيَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثٌ ، وَعَلَى الرَّاجِعِ عَنِ الثَّلَاثِينَ ثَمَانِيَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثٌ . فَأَمَّا الْعَشْرَةُ الرَّابِعَةُ فَلَا رُجُوعَ عَنْهَا بِشَيْءٍ عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ . وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي : يَرْجِعُ عَلَى الرَّاجِعِ عَنْهَا بِثُلُثِهَا وَهِيَ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثٌ . وَالْعَشَرَةُ الثَّانِيَةُ تَثْبُتُ بِثَلَاثَةٍ وَرَجَعَ عَلَيْهَا اثْنَانِ ، فَعَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ يَلْزَمُهُمَا نِصْفُهَا لِأَنَّهُ بَقِيَ شَاهِدٌ وَاحِدٌ ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي : ثُلُثَاهَا ، فَأَمَّا جَمِيعُهَا فَلَا .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ الرُّجُوعُ عَلَى الشُّهُودِ بِغُرْمِ الدَّيْنِ الَّذِي رَجَعُوا عَنْهُ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنَ التَّقْرِيرِ وَالتَّفْرِيعِ ، فَلَا فَرْقَ فِي الرُّجُوعِ بَيْنَ عَمْدِهِمْ وَخَطَئِهِمْ بِخِلَافِ الدِّمَاءِ ، لِأَنَّ ضَمَانَ الْأَمْوَالِ يَسْتَوِي فِيهِ الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ وَالدِّمَاءُ يَفْتَرِقُ فِيهَا حُكْمُ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ ، وَيُفَسَّقُونَ فِيهَا بِالْعَمْدِ دُونَ الْخَطَأِ وَيُعَزَّرُونَ فِي عَمْدِ الْأَمْوَالِ وَعَمْدِ الدِّمَاءِ إِذَا لَمْ يَجِبْ فِيهَا الْقَوَدُ فَإِنْ وَجَبَ فِيهَا الْقَوَدُ فَأُقِيدُوا فِي نَفْسٍ أَوْ طَرَفٍ ، سَقَطَ التَّعْزِيرُ لِدُخُولِهِ عَلَى الْقَوَدِ فَإِنْ عَدَلَ وَلِيُّ الدَّمِ فِيهِ عَنِ الْقَوَدِ إِلَى الدِّيَةِ فَفِي تَعْزِيرِ الشُّهُودِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا تَعْزِيرَ عَلَيْهِمَا ، لِأَنَّ الدِّيَةَ بَدْلٌ عَنِ الْقَوَدِ الَّذِي يَسْقُطُ بِهِ التَّعْزِيرُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُعَزَّرُونَ ، لِأَنَّ التَّعْزِيرَ ثَابِتٌ يَخْتَصُّ بِالْأَبْدَانِ .
بَابُ عِلْمِ الْحَاكِمِ بِحَالِ مَنْ قَضَى بِشَهَادَتِهِ
[ بَابُ عِلْمِ الْحَاكِمِ بِحَالِ مَنْ قَضَى بِشَهَادَتِهِ ] . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : ( وَإِذَا عَلِمَ الْقَاضِي أَنَّهُ قَضَى بِشَهَادَةِ عَبْدَيْنِ أَوْ مُشْرِكَيْنِ أَوْ غَيْرِ عَدْلَيْنِ مِنْ جَرْحٍ بَيِّنٍ ، أَوْ أَحَدِهِمَا ، رَدَّ الْحُكْمَ عَلَى نَفْسِهِ ، وَرَدَّهُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي أَنَّ شَهَادَةَ الْعَبْدِ وَالْكَافِرِ هل تقبل أم لا غَيْرُ مَقْبُولَةٍ بِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ ، فَإِذَا ثَبَتَ حُكْمُ الْحَاكِمِ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ فِي حَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ ، أَوْ عِتْقٍ ، أَوْ طَلَاقٍ ، أَوْ مِلْكٍ ، أَوْ مَالٍ ، ثُمَّ بَانَ لَهُ بَعْدَ نُفُوذِ حُكْمِهِ بِهِمَا ، أَنَّهُمَا عَبْدَانِ أَوْ أَحَدَهُمَا أَوْ كَافِرَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا عَبْدٌ وَالْآخِرُ كَافِرٌ فما الحكم ، فَإِنَّ الْحُكْمَ بِشَهَادَتِهِمَا مَرْدُودٌ ، لِأَنَّهُ حَكَمَ بِشَهَادَةِ مَنْ لَا يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ بِهَا ، فَصَارَ كَحُكْمِهِ بِهَا مَعَ عِلْمِهِ وَجَرَى مَجْرَى مِنْ حَكَمَ بِالِاجْتِهَادِ ثُمَّ بَانَ لَهُ مُخَالَفَةُ النَّصِّ ، كَانَ حُكْمُهُ مَرْدُودًا قَبْلَ الْحُكْمِ وَبَعْدَهُ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي شَهَادَةِ الْعَبْدِ ، فَأَجَازَهَا شُرَيْحٌ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَدَاوُدُ ، وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ شَهَادَةَ الْكَافِرِ فِي مَوْضِعٍ ، وَالِاخْتِلَافُ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ فِيهَا ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْقَضَ بِالِاجْتِهَادِ حُكْمًا نَفَذَ بِالِاجْتِهَادِ . قِيلَ : قَدِ اخْتُلِفَ فِيمَا رُدَّتْ بِهِ شَهَادَةُ الْعَبْدِ الأسباب عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : بِظَاهِرِ نَصٍّ لَمْ يَدْفَعْهُ دَلِيلٌ ، فَصَارَ كَالدَّلِيلِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [ الْبَقَرَةِ : ] . وَلَيْسَ الْعَبْدُ مِمَّنْ يُرْضَى . فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِ مُخَالِفًا لِلنَّصِّ ، فَكَانَ مَرْدُودًا . وَالثَّانِي : أَنَّهَا مَرْدُودَةٌ بِقِيَاسٍ عَلَى الشَّوَاهِدِ غَيْرِ مُحْتَمَلٍ ، انْعَقَدَ عَلَيْهِ إِجْمَاعُ الْمُتَأَخِّرِينَ بَعْدَ شُذُوذِ الْخِلَافِ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ ، فَصَارَ مَرْدُودًا بِإِجْمَاعٍ انْعَقَدَ عَلَى قِيَاسٍ جَلِيٍّ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهَا رُدَّتْ بِاجْتِهَادٍ ظَاهِرِ الشَّوَاهِدِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُنْقَضَ بِاجْتِهَادٍ خَفِيِّ الشَّوَاهِدِ ، لِأَنَّ الْأَقْوَى أَمْضَى مِنَ الْأَضْعَفِ ، وَإِنَّمَا يَتَعَارَضَانِ إِذَا تَسَاوَيَا فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ ، عَلَى أَنَّ الِاجْتِهَادَ لَمْ يَكُنْ فِي الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِ ، وَإِنَّمَا حَكَمَ بِهَا ، لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ عَبْدٌ ثُمَّ عَلِمَ بِعُبُودِيَّتِهِ قَطْعًا ، فَوَجَبَ أَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِهِ عَلَى مَا اشْتَبَهَ وَأَشْكَلَ .
فَثَبَتَ أَنَّ الْحُكْمَ بِشَهَادَةِ الْعَبْدِ وَالْكَافِرِ مَرْدُودٌ ، وَقَدْ وَافَقَ عَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَالُكٌ ، وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْحُكْمَ بِهَا مَرْدُودٌ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا ، هَلْ يَقَعُ بَاطِلًا لَا يَفْتَقِرُ إِلَى الْحُكْمِ بِنَقْضِهِ ، أَوْ يَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى وُجُوبِ الْحُكْمِ بِنَقْضِهِ ؟ بِحَسَبَ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْمَانِعِ مِنَ الْحُكْمِ بِهِ . فَمَنْ جَعَلَ دَلِيلَ رَدِّهِ نَصًّا أَوْ إِجْمَاعًا ، جَعَلَهُ بَاطِلًا لَا يَفْتَقِرُ إِلَى الْحُكْمِ بِنَقْضِهِ ، لَكِنْ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يُظْهِرَ بُطْلَانَهُ لِمَا قَدَّمَهُ مِنْ ظُهُورِ نُفُوذِهِ " وَمَنْ جَعَلَ رَدَّهُ قُوَّةُ الِاجْتِهَادِ فِي شَوَاهِدِهِ ، جَعَلَهُ مَوْقُوفًا عَلَى وُجُوبِ الْحُكْمِ لَا بِنَقْضِهِ لِأَنَّ غَيْرَهُ شَوَاهِدُهُ مَعْلُومَةٌ بِالِاجْتِهَادِ فَصَارَ مَوْقُوفًا عَلَى الْحُكْمِ بِنَقْضِهِ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَنَّهُ قَالَ مِنْ بَعْدُ : وَرَدُّ شَهَادَةِ الْعَبْدِ إِنَّمَا هُوَ بِتَأْوِيلٍ . وَلَيْسَ بِتَحْرِيفِ السِّجِلِّ نَقْضًا لِلْحُكْمِ حَتَّى يَنْقُضَهُ بِالْحُكْمِ قَوْلًا ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُسَجِّلَ بِالنَّقْضِ كَمَا أَسْجَلَ بِالْحُكْمِ لِيَكُونَ السِّجِلُّ الثَّانِي مُبْطِلًا لِلسِّجِلِّ الْأَوَّلِ ، كَمَا صَارَ الْحُكْمُ الثَّانِي نَاقِضًا لِلْحُكْمِ الْأَوَّلِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ قَدْ أَسْجَلَ الْحُكْمَ لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِسْجَالَ بِالنَّقْضِ ، وَإِنْ كَانَ الْإِسْجَالُ بِهِ أَوْلَى . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " بَلِ الْقَاضِي بِشَهَادَةِ الْفَاسِقِ أَبْيَنُ خَطَأً مِنْهُ بِشَهَادَةِ الْعَبْدِ وَذَلِكَ أَنَ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَالَ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَقَالَ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ وَلَيْسَ الْفَاسِقُ بِوَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ ، فَمَنْ قَضَى بِشَهَادَتِهِ فَقَدْ خَالَفَ حُكْمَ اللَّهِ وَرَدُّ شَهَادَةِ الْعَبْدِ إِنَّمَا هُوَ تَأْوِيلٌ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِنْ طَلَبَ الْخَصْمُ الْجَرْحَةَ أَجَّلَهُ بِالْمِصْرِ وَمَا قَارَبَهُ فَإِنْ لَمْ يَجِئْ بِهَا أُنْفِذَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ ثُمَ إِنْ جَرَحَهُمْ بَعْدُ لَمْ يُرَدَّ عَنْهُ الْحُكْمُ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ : ) قِيَاسُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنْ يَقْبَلَ الشُّهُودَ الْعُدُولَ أَنْهُمَا فَاسِقَانِ كَمَا يَقْبَلُ أَنَّهُمَا عَبْدَانِ وَمُشْرِكَانِ وَيَرُدُّ الْحُكْمَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي رَدِّ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ حكمها بِالنَّصِّ ، فَإِذَا حَكَمَ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ ثُمَّ بَانَ لَهُ فِسْقُهُمَا ، فَإِنْ كَانَ الْفِسْقُ طَارِئًا أَمْضَى الْحُكْمَ بِشَهَادَتِهِمَا ، فَهُوَ عَلَى صِحَّتِهِ وَنَفَاذِهِ . وَإِنْ كَانَ الْفِسْقُ مُتَقَدِّمًا قَبْلَ إِمْضَاءِ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمَا ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ كُتُبِهِ ، أَنَّ الْحُكْمَ بِشَهَادَتِهِمَا مَرْدُودٌ ، وَأَنَّ الْفِسْقَ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الرِّقِّ ، لِأَنَّ خَبَرَ الْعَبْدِ مَقْبُولٌ وَخَبَرُ الْفَاسِقِ مَرْدُودٌ .
وَنَقَلَ الْمُزَنِيُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَنِ الشَّافِعِيِّ : أَنَّ الْحَاكِمَ إِذَا أَطْرَدَ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ جَرْحَ الشُّهُودِ مُدَّةَ إِطْرَادِهِ ، فَلَمْ يَأْتِ بِالْجَرْحِ ، فَأَمْضَى الْحُكْمَ عَلَيْهِ بِشَهَادَتِهِمَا ، ثُمَّ أَتَى بَعْدَ إِمْضَاءِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِبَيِّنَةِ الْجَرْحِ ثُمَّ كَانَ حُكْمُهُ عَلَيْهِ مَاضِيًا ، وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ قَوْلٌ بِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يُنْقَضُ بِشَهَادَةِ الْفَاسِقِ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِحَّةِ تَخْرِيجِهِ : فَمَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ وَأَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ تَخْرِيجُهُ قَوْلًا ثَانِيًا ، وَجَعَلُوا نَقْضَ الْحُكْمِ بِشَهَادَةِ الْفَاسِقِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَنْقُضُهُ ، وَهُوَ النَّصُّ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يَنْقُضُهُ ، وَهُوَ الْمُخَرَّجُ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ . وَذَهَبَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إِلَى الْمَنْعِ مِنْ تَخْرِيجِهِ قَوْلًا ثَانِيًا ، وَأَنَّهُ لَا يَجِيءُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إِلَّا مَا نَصَّ عَلَيْهِ وَصَرَّحَ بِهِ مِنْ نَقْضِ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِ قَوْلًا وَاحِدًا . وَأَجَابُوا عَمَّا نَقَلَهُ الْمُزَنِيِّ ، فِيمَنْ أَطْرَدَهُ الْحَاكِمُ بِجَرْحِ شُهُودِهِ فَأَحَضَرَ بَيِّنَةَ الْجَرْحِ بَعْدَ انْقِضَاءِ زَمَانِهِ وَنُفُوذِ حُكْمِهِ بِجَوَابَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمْ يَنْقُضْهُ ، لِأَنَّ الْخَصْمَ أَقَامَ بَيِّنَةً بِفِسْقِ الشُّهُودِ مُطْلَقًا ، وَلَمْ يَشْهَدُوا بِفِسْقِ الشُّهُودِ قَبْلَ الْحُكْمِ ، فَلَمْ يَنْقُضْهُ لِجَوَازِ حُدُوثِهِ بَعْدَ نُفُوذِ الْحُكْمِ بِهَا حَتَّى يُعَيَّنُوا أَنَّهُ كَانَ فَاسِقًا قَبْلَ الشَّهَادَةِ أَوْ بَعْدَهَا وَقَبْلَ نُفُوذِ الْحُكْمِ بِهَا فَيَنْقُضُهَا . وَأَنَّ الْجَوَابَ الثَّانِيَ : أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الْخَصْمَ عَجَزَ عَنْ بَيِّنَةِ الْجَرْحِ عِنْدَ اطِّرَادِهِ فَحُكِمَ عَلَيْهِ ، ثُمَّ عَادَ يَسْأَلُ الْحَاكِمَ إِطْرَادَهُ ثَانِيَةً ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَطْرُدَهُ الْجَرْحَ بَعْدَ إِبْطَالِ الْإِطْرَادِ ، لِأَنَّ الْإِطْرَادَ يُوجِبُ نَقْضَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ ، وَالْحُكْمُ قَدْ نَفَذَ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعَادَ إِلَى الْوَقْفِ عَلَى الْإِطْرَادِ . فَإِنْ بَانَ لِلْحَاكِمِ الْفِسْقُ مِنْ غَيْرِ إِطْرَادِ الْخَصْمِ ، بِأَنْ قَامَتْ عِنْدَهُ الْبَيِّنَةُ بِأَنَّهُ شَرِبَ خَمْرًا أَوْ قَذَفَ مُحْصَنًا قَبْلَ شَهَادَتِهِ ، نَقَضَ الْحُكْمَ بِهَا ، فَبَانَ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ نَقَضَ الْحَكَمُ بِشَهَادَةِ الْفَاسِقِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْتَلِفَ قَوْلُهُ فِيهِ كَمَا يَنْقُضُهُ بِشَهَادَةِ الْعَبْدِ وَالْكَافِرِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُنْقَضُ الْحُكْمُ بِشَهَادَةِ الْفَاسِقِ ، وَإِنْ نَقَضَهُ بِشَهَادَةِ الْعَبْدِ وَالْكَافِرِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الرِّقَّ وَالْكُفْرَ مَقْطُوعٌ بِهِمَا وَالْفِسْقَ مُجْتَهَدٌ فِيهِ ، فَجَازَ نَقْضُهُ بِالْمَقْطُوعِ بِهِ كَمَا يَنْقُضُ بِمُخَالَفَةِ النَّصِّ ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْقُضَ بِمُجْتَهِدٍ فِيهِ ، لِأَنَّ الْحُكْمَ إِذَا نَفَذَ بِالِاجْتِهَادِ لَمْ يُنْقَضْ بِالِاجْتِهَادِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى نَقْضِ الْحُكْمِ بِفِسْقِهِ كَمَا يُنْقَضُ بِرِقِّهِ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اشْتِرَاطَ الْعَدَالَةِ نَصٌّ ، وَاشْتِرَاطَ الْحَرِيَّةِ اجْتِهَادٌ ، فَإِنْ نُقِضَ الْحُكْمُ بِمُخَالَفَةِ الْمَشْرُوطِ بِالنَّصِّ لِاجْتِهَادٍ ، كَانَ أَوْلَى أَنْ يُنْقَضَ لِمُخَالَفَةِ الْمَشْرُوطِ بِالنَّصِّ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْعَبْدَ مَقْبُولُ الْخَبَرِ ، وَالْفَاسِقَ مَرْدُودُ الْخَبَرِ ، وَالشَّهَادَةُ كَالْخَبَرِ ، فَلَمَّا نُقِضَ الْحُكْمُ بِشَهَادَةِ مَنْ يُقْبَلُ خَبَرُهُ ، كَانَ أَوْلَى أَنْ يُنْقَضَ بِشَهَادَةِ مَنْ يُرَدُّ خَبَرُهُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : إِنَّ الرِّقَّ مَقْطُوعٌ بِهِ وَالْفِسْقُ مُجْتَهَدٌ فِيهِ ، فَهُوَ أَنَّهُمَا إِذَا صَارَا مَعْلُومَيْنِ ، صَارَ الرَّدُّ بِالْفِسْقِ مَقْطُوعًا بِهِ ، وَالرَّدُّ بِالرِّقِّ مُجْتَهَدًا فِيهِ ، فَكَانَ بِالْعَكْسِ أَحَقُّ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " إِذَا أَنَفَذَ الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا قَطْعًا ثُمَّ بَانَ لَهُ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمَا شَيْئٌ : لِأَنَّهُمَا صَادِقَانِ فِي الظَّاهِرِ ، وَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَقْبَلَ مِنْهُمَا ، فَهَذَا خَطَأٌ مِنْهُ تَحْمِلُهُ عَاقِلَتُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا وَجَبَ نَقْضُ الْحُكْمِ بِرَدِّ الشَّهَادَةِ إِمَّا لِفِسْقٍ أَوْ لِرِقٍّ أَوْ كُفْرٍ ، فَسَوَاءٌ ، وَلَا يَخْلُو الْحُكْمُ مِنْ أَنْ يُفْضِيَ إِلَى اسْتِهْلَاكٍ أَوْ لَا يُفْضِيَ . فَإِنْ لَمْ يُفْضِ إِلَى اسْتِهْلَاكٍ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِنَقْضِهِ ضَمَانٌ ، وَكَانَ نَقْضُهُ مُعْتَبَرًا بِالْحُكْمِ . فَإِنْ كَانَ فِي عَقْدِ نِكَاحٍ عُقِدَ بِشَاهِدَيْنِ فَبَانَا عَبْدَيْنِ ، أَوْ كَافِرَيْنِ ، أَوْ فَاسِقَيْنِ ، افْتَقَرَ ، إِلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ بِنَقْضِهِ ، لِأَنَّ مَالِكًا يُجِيزُ عَقْدَ النِّكَاحِ بِغَيْرِ شُهُودٍ إِذَا أُعْلِنَ . وَإِنْ كَانَ فِي إِثْبَاتِ نِكَاحِ اخْتَلَفَ فِيهِ الزَّوْجَانِ ، فَإِنْ بَانَ فِسْقُ الشَّاهِدَيْنِ حُكِمَ بِنَقْضِهِ وَلَمْ يُنْقَضْ بِظُهُورِ فِسْقِهِمَا إِلَّا أَنْ يُحْكَمَ بِهِ لِخِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ وَفَرَّقَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِيهِ بَعْدَ يَمِينِ الزَّوْجَةِ الْمُنْكِرَةِ . وَإِنْ بَانَ كُفْرُ الشَّاهِدَيْنِ أَظْهَرَ نَقْضَ الْحُكْمَ وَلَمْ يَفْتَقِرْ نَقْضُهُ إِلَى حُكْمٍ لِوُقُوعِهِ مُنْتَقِضًا لِرَدِّ شَهَادَتْهِمَا بِالنَّصِّ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ . وَإِنْ بَانَ رِقُّ الشَّاهِدَيْنِ ، فَهَلْ يَفْتَقِرُ نَقْضُهُ إِلَى الْحُكْمِ بِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي شَهَادَتِهِ ، هَلْ رُدَّتْ بِظَاهِرِ نَصٍّ ، أَوْ إِجْمَاعٍ عَنْ ظَاهِرِ اجْتِهَادٍ ظَاهِرٍ أَوْ عَلَى مَا قَدَّمْنَا . وَهَكَذَا فِي كُلِّ حُكْمٍ نَفَذَ بِشَهَادَتِهِمْ يَكُونُ الْحُكْمُ بِنَقْضِهِ مُعْتَبَرًا بِأَحْوَالِ شُهُودِهِ فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ فِي الرِّقِّ وَالْكُفْرِ وَالْفِسْقِ فَيُحْتَاجُ إِلَى الْحُكْمِ بِنَقْضِهِ فِي الْفِسْقِ ، وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى الْحُكْمِ بِنَقْضِهِ فِي الْكُفْرِ ، وَفِي احْتِيَاجِهِ إِلَى الْحُكْمِ بِحَقِّهِ فِي الرِّقِّ وَجْهَانِ .
وَإِنْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ بِنَقْضِهِ فِي طَلَاقٍ فَرَّقَ فِيهِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ ، وَقَعَ مَا أَوْقَعَهُ مِنَ الطَّلَاقِ وَجَمَعَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بَعْدَ يَمِينِ الزَّوْجِ الْمُنْكِرِ . وَإِنْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ فِي عِتْقٍ أُنَفِذَ بِهَا حُرِّيَّةُ الْعَبْدِ ، حُكِمَ بِرِقِّهِ وَبَقَائِهِ عَلَى مِلْكِ سَيِّدِهِ ، وَيَمْلِكُ اكْتِتَابَهُ بَعْدَ يَمِينِ السَّيِّدِ فِي إِنْكَارِ عِتْقِهِ . وَإِنْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى نَقْلِ مِلْكٍ مِنْ دَارٍ أَوْ عَقَارٍ ، حُكِمَ بِإِعَادَتِهِ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ مَعَ أُجْرَةِ مِثْلِهِ بَعْدَ يَمِينِهِ عَلَى إِنْكَارِهِ ، فَإِنْ طَلَبَ إِعَادَةَ الدَّارِ إِلَى يَدِهِ لِيَحْلِفَ بَعْدَ رَدِّهَا عَلَيْهِ ، وَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَرْفَعَ عَنْهَا يَدَ الْمَشْهُودِ لَهُ ، لِبُطْلَانِ بَيِّنَتِهِ وَلَا يَأْمُرُ بِرَدِّهَا عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ أَمْرَهُ بِالرَّدِّ حُكِمَ لَهُ بِالِاسْتِحْقَاقِ وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْهُمَا ، لِأَنَّ مَنْعَهُ حُكِمَ عَلَيْهِ بِإِبْطَالِ الِاسْتِحْقَاقِ ، وَيُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ بَاتٍّ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ الَّذِي لَا يَجُوزُ التَّمْكِينُ مِنْهُمَا إِلَّا بَعْدَ الْيَمِينِ لِمَا فِيهَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى . وَإِنْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ فِي دَيْنٍ حُكِمَ بِقَضَائِهِ ، فَإِنْ كَانَ مَالُهُ بَعْدَ قَضَائِهِ بَاقِيًا فِي يَدِ الْمَشْهُودِ لَهُ حُكِمَ بِرَدِّهِ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ وَلَمْ يُعْدَلْ عَنْهُ إِلَى بَدَلِهِ ، وَإِنِ اسْتَهْلَكَهُ الْمَشْهُودُ لَهُ ، أُخِذَ بِرَدِّ مِثْلِهِ ، فَإِنْ أَعْسَرَ بِهِ أَقْرَضَهُ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِيَكُونَ دَيْنًا عَلَيْهِ فِي ذِمَّتِهِ يُؤَدِّيهِ إِذَا أَيْسَرَ بِهِ وَيَدْفَعُهُ إِلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بَدَلًا مِنَ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْحُكْمُ مُفْضِيًا إِلَى الِاسْتِهْلَاكِ وَالْإِتْلَافِ ، كَالْقِصَاصِ الرجوع في الشهادة فِي نَفْسٍ أَوْ طَرَفٍ ، فَهُوَ مُوجِبٌ لِضَمَانِ الدِّيَةِ دُونَ الْقَوَدِ ، لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ حُكْمِ الْعَمْدِ إِلَى الْخَطَأِ وَالْحُكْمُ بِهِ تَمَّ بِالشُّهُودِ وَالْحَاكِمِ وَالْمَشْهُودِ لَهُ ، فَأَمَّا الشُّهُودُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ لِظُهُورِ رِقِّهِمْ ، فَلَا يَمْنَعُ وُجُودُ ذَلِكَ فِيهِمْ مِنْ أَنْ يَكُونُوا صَادِقِينَ فِي شَهَادَتِهِمْ ، وَخَالَفَ حَالُ الشُّهُودِ إِذَا رَجَعُوا لِاعْتِرَافِهِمْ بِكَذِبِهِمْ ، فَلِذَلِكَ ضُمِنُوا بِالرُّجُوعِ وَلَمْ يُضْمَنُوا بِالْفِسْقِ وَالرِّقِّ ، وَأَمَّا الْمَشْهُودُ لَهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ فِسْقُ شُهُودِهُ مِنِ اسْتِحْقَاقِهِ لِمَا شَهِدُوا بِهِ . وَإِذَا سَقَطَ الضَّمَانُ عَنْ هَؤُلَاءِ ، وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَى الْحَاكِمِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنَّ الضَّمَانَ عَلَى الْمُزَكِّينَ لِلشُّهُودِ عِنْدَ الْحَاكِمِ دُونَ الْحَاكِمِ ، لِأَنَّهُمْ أَلِجَأُوهُ إِلَى الْحُكْمِ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ . وَهَذَا فَاسِدٌ ، لِأَنَّ الْمُزَكِّينَ شَهِدُوا بِالْعَدَالَةِ دُونَ الْقَتْلِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُضَمَّنُوا مَا لَمْ يَشْهَدُوا بِهِ مِنَ الْقَتْلِ وَوَجَبَ الضَّمَانُ عَلَى مَنْ حَكَمَ بِالْقَتْلِ ، لِأَنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَ مِنْهُ فِي فِعْلِهِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ ضَمَانُ الدِّيَةِ عَلَى الْحَاكِمِ ، سَوَاءٌ تَقَدَّمَ بِالْقِصَاصِ إِلَى وَلِيِّ الدَّمِ أَوْ إِلَى غَيْرِهِ .
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ : إِنْ تَقَدَّمَ بِهِ الْحَاكِمُ إِلَى وَلِيِّ الدَّمِ كَانَ ضَمَانُ الدِّيَةِ عَلَى الْوَلِيِّ ، وَإِنْ تَقَدَّمَ بِهِ إِلَى غَيْرِهِ كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْحَاكِمِ . وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ عَنْ أَمْرِهِ فِي الْحَالَيْنِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُضَمِّنْهُ مُبَاشَرَةً إِذَا كَانَ وَلِيُّ الدَّمِ مَعَ عَدَمِ اسْتِحْقَاقِهِ ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَضْمَنَهُ وَلِيُّهُ مَعَ جَوَازِ اسْتِحْقَاقِهِ . فَإِذَا تَقَرَّرَ ضَمَانُ الدِّيَةِ عَلَى الْحَاكِمِ لَمْ يَضْمَنْهَا فِي مَالِهِ ، وَفِي مَحَلِّ ضَمَانِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : عَلَى عَاقِلَتِهِ ، لِأَنَّهَا دِيَةُ خَطَأٍ بِهِ وَتَكُونُ كَفَّارَةُ الْقَتْلِ فِي مَالِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَضْمَنُهَا فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ لِنِيَابَتِهِ عَنْهُمْ ، وَفِي الْكَفَّارَةِ عَلَى هَذَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : فِي بَيْتِ الْمَالِ كَالدِّيَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : فِي مَالِهِ ، لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْمُكَفِّرِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
بَابُ الشَّهَادَةِ فِي الْوَصِيَّةِ
مَسْأَلَةٌ لَوْ شَهِدَ أَجْنَبِيَّانِ لِعَبْدٍ أَنَّ فُلَانًا الْمُتَوَفَّى أَعْتَقَهُ وَهُوَ الثُّلُثُ فِي وَصِيَّتِهِ
[ بَابُ الشَّهَادَةِ فِي الْوَصِيَّةِ ] . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَلَوْ شَهِدَ أَجْنَبِيَّانِ لِعَبْدٍ أَنَّ فُلَانًا الْمُتَوَفَّى أَعْتَقَهُ وَهُوَ الثُّلُثُ فِي وَصِيَّتِهِ ، وَشَهِدَ وَارِثَانِ لِعَبْدٍ غَيْرِهِ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ وَهُوَ الثُّلُثُ ، فِي الِاثْنَيْنِ فَسَوَاءٌ وَيُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَهُ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ : ) قِيَاسُ قَوْلِهِ أَنْ يُقْرَعَ بَيْنَهُمَا ، وَقَدْ قَالَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْبَابِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صُورَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هَلْ هِيَ فِي الْعِتْقِ النَّاجِزِ فِي الْمَرَضِ ، أَوِ الْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ بَعْدَ الْمَوْتِ ؟ وَكَلَامُ الشَّافِعِيِّ يَحْتَمِلُ كِلَا الْأَمْرَيْنِ ، لِأَنَّهُ قَالَ : وَلَوْ شَهِدَ أَجْنَبِيَّانِ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ وَهُوَ الثُّلُثُ فِي وَصِيَّتِهِ ، وَيَشْهَدُ وَارِثَانِ لَعَبْدٍ غَيْرِهِ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ وَهُوَ الثُّلُثُ فِي وَصِيَّتِهِ ، فَلَهُمْ فِي مُرَادِ الشَّافِعِيِّ تَأْوِيلَانِ تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهُمَا بِاخْتِلَافِ الْمُرَادِ بِهَا : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ ، وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّهَا مَقْصُورَةٌ فِي الْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ بَعْدَ الْمَوْتِ . فَيَشْهَدُ أَجْنَبِيَّانِ أَنَّ الْمُتَوَفَّى وَصَّى بِعِتْقِ عَبْدِهِ سَالِمٍ بَعْدَ الْمَوْتِ وَهُوَ الثُّلُثُ . وَيَشْهَدُ وَارِثَانِ أَنَّهُ وَصَّى بِعِتْقِ عَبْدِهِ غَانِمٍ وَهُوَ الثُّلُثُ ، فَعَبَّرَ عَنِ الْعِتْقِ بِالْوَصِيَّةِ ، لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ بِالْعِتْقِ . فَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَارِثَيْنِ كَمَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَجْنَبِيَّيْنِ ، لِأَنَّهُمَا لَا يَجُرَّانِ بِهَا نَفْعًا وَلَا يَدْفَعَانِ بِهَا ضَرَرًا ، فَصَارَ بِالشَّهَادَتَيْنِ مُوجَبًا بِعِتْقِ عَبْدَيْنِ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثُ التَّرِكَةِ ، وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِعِتْقِهِمَا فِي الصِّحَّةِ أَوِ فِي الْمَرَضِ ، أَوْ أَحَدِهِمَا فِي الصِّحَّةِ ، وَالْآخَرِ فِي الْمَرَضِ ، لِاسْتِوَاءِ الْوَصَايَا فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ وَالْمُتَقَدِّمِ وَالْمُتَأَخِّرِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ فِي الْوَصِيَّةِ بِعِتْقِهِمَا دَلِيلٌ عَلَى تَبْعِيضِ الْعِتْقِ كَأَنَّهُ قَالَ : أَعْتِقُوا سَالِمًا إِنِ احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ ، وَإِلَّا فَأَعْتَقُوا مِنْهُ قَدْرَ مَا احْتَمَلَهُ وَأَعْتِقُوا غَانِمًا إِنِ احْتَمَلُوا الثُّلُثَ ، وَإِلَّا فَأَعْتِقُوا مِنْهُ قَدْرَ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ ، فَإِذَا كَانَتْ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَوَاءٌ صَارَ كَأَنَّهُ قَدْ وَصَّى بِعِتْقِ النِّصْفِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، فَهَاهُنَا يُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ
وَلَا يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ مَنْ أَوْصَى بِعِتْقِ النِّصْفِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ عَبْدَيْنِ عُتِقَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ وَلَمْ يُكْمَلُ الْعِتْقُ فِي أَحَدِهِمَا بِالْقُرْعَةِ كَذَلِكَ هَاهُنَا . فَإِنْ أَرَادَ الْمُزَنِيُّ الْقُرْعَةَ بَيْنَهُمَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَانَ خَطَأً مِنْهُ لِمَا بَيَّنَاهُ ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ بِعِتْقِهِمَا مُطْلَقَةٌ ، لَيْسَ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى تَبْعِيضِ الْعِتْقِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، فَيَكُونُ كَالْمُوصِي بِعِتْقِهِمَا مَعًا ، وَالثُّلُثُ لَا يَحْتَمِلُهَا لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْوَصِيَّةِ بِعِتْقِهِمَا بَيْنَ الْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُقْرِعَ بَيْنَهُمَا لِيُكْمِلَ الْعِتْقَ فِي أَحَدِهِمَا ، كَمَا أَقْرَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ سِتَّةِ أَعْبُدٍ أُعْتِقُوا فِي الْمَرَضِ فَأُعْتِقَ مِنْهُمُ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَقَا مَعًا مَعَ زِيَادَتِهِمَا عَلَى الثُّلُثِ الَّذِي مَنَعَ الشَّرْعُ مِنْهُ إِلَّا بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْصِدَ عِتْقَ أَحَدِهِمَا مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ ، لِأَنَّهُ لَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ ، وَلَا يَجُوزُ تَبْعِيضُ الْعِتْقِ فِيهِمَا ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْعِتْقِ تَكْمِيلُ الْمَنَافِعِ بِالْحُرِّيَّةِ ، وَلِذَلِكَ إِذَا أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ ، قُوِّمَ عَلَيْهِ بَاقِيهِ لِتَكْمِيلِ مَنَافِعِهِ بِعِتْقِ جَمِيعِهِ ، فَلَمْ تَبْقَ بَعْدَ امْتِنَاعِ هَذِهِ الْوُجُوهِ إِلَّا دُخُولُ الْقُرْعَةِ بَيْنَهُمَا ، لِتَكْمِيلِ الْعِتْقِ فِيمَنْ قَرَعَ مِنْهُمَا . فَإِنِ اسْتَوَتْ قِيمَةُ الْعَبْدَيْنِ وَكَانَ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثُ التَّرِكَةِ فَأَيُّهُمَا قَرَعَ عَتَقَ جَمِيعُهُ وَرَقَّ الْآخَرُ ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ قِيمَةُ الْعَبْدَيْنِ فَكَانَتْ قِيمَةُ أَحَدِهِمَا ثُلُثُ التَّرِكَةِ وَقِيمَةُ الْآخَرِ سُدُسُهَا ، فَإِنْ قَرَعَ مَنْ قِيمَتُهُ الثُّلُثُ عُتِقَ جَمِيعُهُ وَرُقَّ جَمِيعُ الْآخَرِ ، وَإِنْ قَرَعَ مَنْ قِيمَتُهُ السُّدُسُ عُتِقَ جَمِيعُهُ وَنِصْفُ الْآخَرِ وَرُقَّ بَاقِيهِ . وَإِنْ أَرَادَ الْمُزَنِيُّ الْإِقْرَاعَ بَيْنَهُمَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ، فَقَدْ أَصَابَ فِي الْجَوَابِ ، وَأَخْطَأَ فِي الْعِبَارَةِ ، لِأَنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَلَيْسَ بِمَقِيسٍ عَلَى مَذْهَبِهِ ، فَكَانَ الْأَصَحُّ فِي عِبَارَتِهِ أَنْ يَقُولَ : هَذَا مُقْتَضَى قَوْلِهِ ، وَلَا يَقُولُ : هَذَا قِيَاسُ قَوْلِهِ . " وَإِنْ كَانَ الْخَطَأُ فِي الْعِبَارَةِ مَعَ الصَّوَابِ فِي الْمَعْنَى مَغْفُورًا " فَإِنَّمَا أَرَادَ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ : [ عُتِقَ ] مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ ، يَعْنِي فِي الْحُكْمِ ، وَيُكْمَلُ فِي أَحَدِهِمَا بِالْقُرْعَةِ ، تَعْوِيلًا عَلَى مَا أَبَانَهُ مِنْ مَذْهَبِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَهَذَا الْجَوَابُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ إِذَا ثَبَتَتْ عَدَالَةُ الْوَارِثَيْنِ وَعَدَالَةُ الْأَجْنَبِيَّيْنِ ، فَإِنْ ثَبَتَتْ عَدَالَةُ الْوَارِثَيْنِ وَفِسْقُ الْأَجْنَبِيَّيْنِ بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ بِعِتْقِ مَنْ شَهِدَ بِهَا الْأَجْنَبِيَّانِ وَرُقَّ جَمِيعُهُ ، وَصَحَّتْ بِعِتْقِ مَنْ شَهِدَ بِهَا الْوَارِثَانِ وَعُتِقَ جَمِيعُهُ . وَإِنْ ثَبَتَتْ عَدَالَةُ الْأَجْنَبِيَّيْنِ وَفِسْقُ الْوَارِثَيْنِ ، بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ بِعِتْقِ مَنْ شَهِدَ لَهُ الْوَارِثَانِ وَرُقَّ جَمِيعُهُ ، وَصَحَّتْ بِعِتْقِ مَنْ شَهِدَ لَهُ الْأَجْنَبِيَّانِ وَعُتِقَ جَمِيعُهُ وَلَا يَلْزَمْهُمَا
بِالْإِقْرَارِ بَعْدَ رَدِّ الشَّهَادَةِ أَنْ يُعْتَقَ مَنْ شَهِدَا لَهُ بِالْوَصِيَّةِ ، لِأَنَّهُ لَا يَنْفُذُ الْعِتْقُ بِالْوَصِيَّةِ حَتَّى يُعْتَقَ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ يُعْتَقَ بِالْوَصِيَّةِ إِلَّا مَنِ احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ ، وَقَدِ اسْتَوْعَبَ الثُّلُثَ بِعِتْقِ مَنْ شَهِدَ لَهُ الْأَجْنَبِيَّانِ ، فَبَطَلَتْ فِي غَيْرِهِ وَإِنْ أَقَرَّ بِهَا الْوَارِثَانِ .
فَصْلٌ : وَالثَّانِي مِنْ تَأْوِيلِ أَصْحَابِنَا : أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَقْصُورَةٌ فِي عِتْقٍ نَاجِزٍ فِي حَيَاةِ الْمُعْتِقِ ، فَشَهِدَ أَجْنَبِيَّانِ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ سَالِمًا وَهُوَ الثُّلُثُ ، وَيَشْهَدُ وَارِثَانِ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ غَانِمًا وَهُوَ الثُّلُثُ ، وَقَوْلُهُمْ : وَفِيهِ أَيْ : فِي الْمَرَضِ الَّذِي يَكُونُ الْعِتْقُ فِيهِ مُعْتَبَرًا بِالثُّلُثِ كَالْوَصِيَّةِ ، فَعَبَّرَ عَنِ الْمَرَضِ بِالْوَصِيَّةِ ، لِأَنَّ الْعِتْقَ لَوْ كَانَ فِي الصِّحَّةِ لَأَوْجَبَتِ الشَّهَادَتَانِ عِتْقَ الْعَبْدَيْنِ ، وَإِنْ زَادَا عَلَى الثُّلُثِ ، لَأَنَّ عَطَايَا الصِّحَّةِ لَا تُعْتَبَرُ بِالثُّلُثِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالشَّهَادَتَانِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَدُلَّ عَلَى تَقَدُّمِ عِتْقِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ ، فَيَتَحَدَّدُ بِهَا عِتْقُ الْمُتَقَدِّمِ وَرِقُّ الْمُتَأَخِّرِ إِذَا تَسَاوَيَا فِي تَقْوِيمِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالثُّلُثِ ، وَلَا يُقْرِعُ بَيْنَهُمَا لِتَحَرِّي الْعِتْقِ الْمُتَقَدِّمِ الْمُزِيلِ لِلْإِشْكَالِ ، فَامْتَنَعَتْ فِيهِ الْقُرْعَةُ الْمُسْتَعْمَلَةُ مَعَ الْإِشْكَالِ . فَإِنْ أَرَادَ الْمُزَنِيُّ الْإِقْرَاعَ بَيْنَهُمَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَقَدْ أَخْطَأَ لِمَا بَيَّنَاهُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَدُلَّ الشَّهَادَتَانِ عَلَى وُقُوعِ عِتْقِهِمَا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَهَذَا يَكُونُ فِي تَعْلِيقِ عِتْقِهِمَا بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ كَقَوْلِهِ : إِذَا أَهَّلَ رَمَضَانُ فَسَالِمٌ حُرٌّ ، وَإِذَا أَهَّلَ رَمَضَانُ فَغَانِمٌ حُرٌّ فَإِنْ أَهْلَ رَمَضَانُ عُتِقَا وَاسْتَوَى [ فِي ] ، عِتْقِهِمَا حُكْمُ الْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ . فَيَجِبُ الْإِقْرَاعُ بَيْنَهُمَا لِامْتِنَاعِ عِتْقِهِمَا مَعًا ، وَأُعْتِقَ مِنْهُمَا مَنْ قَرَعَ وَرُقَّ الْآخَرُ . وَإِنْ أَرَادَ الْمُزَنِيُّ بِالْقُرْعَةِ بَيْنَهُمَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَقَدْ أَصَابَ فِي الْحُكْمِ وَإِنْ أَخْطَأَ فِي الْعِبَارَةِ ، وَالْجَوَابُ فِي هَذَيْنِ الضَّرْبَيْنِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ تَدُلَّ الشَّهَادَتَانِ عَلَى تَقَدُّمِ عِتْقِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ وَلَا يَكُونُ فِيهَا بَيَانُ الْمُتَقَدِّمِ وَالْمُتَأَخِّرِ ، فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا وَيُعْتَقُ مَنْ قَرَعَ مِنْهُمَا . نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " . وَيَكُونُ الْمُزَنِيُّ فِي هَذَا الْقَوْلِ مُصِيبًا فِي اعْتِرَاضِهِ ، وَإِنَّمَا اسْتُعْمِلَتِ الْقُرْعَةُ بَيْنَهُمَا ، لِامْتِنَاعِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَعَدَمِ الْمَزِيَّةِ فِي أَحَدِهِمَا ، فَكَانَ تَكْمِيلُ الْحُرِّيَّةِ فِي أَحَدِهِمَا أَوْلَى مِنْ تَبْعِيضِهَا فِيهِمَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ، أَنْ يُعْتَقَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ وَلَا يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا عُتِقَ بِالْقُرْعَةِ مُسْتَحِقُّ الرِّقِّ لِتَأَخُّرِهِ وَرُقَّ بِهَا مُسْتَحِقُّ الْعِتْقِ لِتَقَدُّمِهِ ، فَإِذَا عُتِقَ نِصْفُهُمَا وَرُقَّ نِصْفُهُمَا ، عُتِقَ نِصْفُ الْمُتَقَدِّمِ وَعِتْقُهُ
مُسْتَحَقٌّ ، وَرِقُّ نِصْفُ الْمُتَأَخِّرِ وَرِقُّهُ مُسْتَحَقٌّ ، فَصَارَتْ أَقْرَبَ إِلَى الِاسْتِحْقَاقِ مِنَ الْإِقْرَاعِ . وَيَكُونُ الْمُزَنِيُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مُخْطِئًا فِي اعْتِرَاضِهِ .
فَصْلٌ : وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ : إِذَا اخْتَلَفَتْ قِيمَةُ الْعَبْدَيْنِ ، فَكَانَتْ قِيمَةُ أَحَدِهِمَا الثُّلُثُ ، وَقِيمَةُ الْآخَرِ السُّدُسُ اختلاف شهادة الشهود ، فَإِنْ قِيلَ بِالْقَوْلِ بِالْأَوَّلِ أَنَّهُ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا ، نُظِرَ فِي الْقَارِعِ مِنْ هَذَيْنِ ، فَإِنْ كَانَ صَاحِبَ الثُّلُثِ عُتِقَ جَمِيعُهُ وَرُقَّ جَمِيعُ الْآخَرِ ، وَإِنْ كَانَ الْقَارِعُ مِنْهَا صَاحِبُ السُّدُسِ ، عُتِقَ جَمِيعُهُ وَنِصْفُ الْآخَرِ وَرُقَّ بَاقِيهِ . وَإِنْ قِيلَ بِالثَّانِي : أَنَّهُ يُعْتَقُ النِّصْفُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِذَا تَسَاوَيَا عُتِقَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ ثُلُثَاهُ ، لِأَنَّ ثُلُثَيِ الثُّلُثِ وَثُلُثَيِ السُّدُسِ ، ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ ، وَيَصِحُّ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا هِيَ مَخْرَجُ " ثُلُثَيِ السُّدُسِ " ثُلُثَا ثُلُثِهَا أَرْبَعَةٌ ، وَثُلُثَا سُدُسِهَا سَهْمَانِ ، وَهِيَ مَعَ الْأَرْبَعَةِ سِتَّةٌ ، وَهِيَ ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ جَوَازِ الشَّهَادَةِ بِالْعِتْقِ النَّاجِزِ عَنِ الْأَضْرُبِ الثَّلَاثَةِ فَهُوَ إِذَا ثَبَتَتْ عَدَالَةُ الْأَجْنَبِيَّيْنِ وَعَدَالَةُ الْوَارِثَيْنِ . فَإِنْ ثَبَتَتْ عَدَالَةُ الْوَارِثَيْنِ وَفِسْقُ الْأَجْنَبِيَّيْنِ عند نفاذ العتق ، بَطَلَ عِتْقُ مَنْ شَهِدَ لَهُ الْأَجْنَبِيَّانِ وَرُقَّ جَمِيعُهُ ، وَنَفَذَ عِتْقُ مَنْ شَهِدَ لَهُ الْوَارِثَانِ وَتَحَرَّرَ جَمِيعُهُ . وَإِنْ ثَبَتَتْ عَدَالَةُ الْأَجْنَبِيَّيْنِ وَفِسْقُ الْوَارِثَيْنِ عند نفاذ العتق ، عُتِقَ جَمِيعُ مَنْ شَهِدَ لَهُ الْأَجْنَبِيَّانِ ، فَبَطَلَتْ شَهَادَةُ الْوَارِثَيْنِ وَصَارَا بَعْدَ رَدِّ الشَّهَادَةِ مُقِرَّيْنِ وَإِقْرَارُهُمَا بِالْعِتْقِ النَّاجِزِ مُخَالِفٌ لِإِقْرَارِهِمَا بِالْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ : لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْعِتْقِ النَّاجِزِ مُوجِبٌ لِزَوَالِ الْمِلْكِ ، وَالْإِقْرَارِ بِالْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِزَوَالِ الْمِلْكِ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُمَا فِي الْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ غَيْرُ مَا أَوْجَبَتْهُ الشَّهَادَةُ لِدُخُولِهِ فِي مِيرَاثِهِمَا بَعْدَ إِقْرَارِهِمَا وَلَزِمَهُمَا فِي الْعِتْقِ النَّاجِزِ غَيْرُ مَا أَوْجَبَتْهُ الشَّهَادَةُ لِإِقْرَارِهِمَا بِخُرُوجِهِ عَنْ مِيرَاثِهِمَا بَعْدَ إِقْرَارِهِمَا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُهُمَا بَعْدَ أَنْ صَارَا بِرَدِّ الشَّهَادَةِ مُقِرِّينَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُصَدِّقَا الْأَجْنَبِيَّيْنِ عَلَى شَهَادَتِهِمَا ، فَيَلْزَمْهُمَا بَعْدَ اسْتِيعَابِ الثُّلُثِ بِشَهَادَةِ الْأَجْنَبِيَّيْنِ مَا كَانَ يَلْزَمُ فِي التَّرِكَةِ لَوْ أُمْضِيَتْ شَهَادَتُهُمَا مَعَ الْأَجْنَبِيَّيْنِ وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْأَضْرُبِ الثَّلَاثَةِ : فَإِنْ كَانَ فِي الضَّرْبِ الْأَوَّلِ : أَنْ تَدُلَّ الشَّهَادَتَانِ عَلَى تَقَدُّمِ عِتْقِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ وَتَعْيِينِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى الْمُتَأَخِّرِ يُنْظَرُ : فَإِنْ كَانَ عِتْقُ الْمُتَأَخِّرِ بِشَهَادَةِ الْأَجْنَبِيَّيْنِ ، عَتَقَ فِي التَّرِكَةِ بِشَهَادَتْهِمَا وَعَتَقَ الْمُتَقَدِّمُ عَلَى الْوَارِثَيْنِ بِإِقْرَارِهِمَا .
وَإِنْ كَانَ عِتْقُ الْمُتَقَدِّمِ بِشَهَادَةِ الْأَجْنَبِيَّيْنِ ، عَتَقَ فِي التَّرِكَةِ بِشَهَادَتِهِمَا وَلَمْ يُعْتَقِ الْمُتَأَخِّرُ عَلَى الْوَارِثَيْنِ مَعَ إِقْرَارِهِمَا ، لِأَنَّهُ يُرَقُّ وَلَوْ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا ، لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ فِي الشَّهَادَتَيْنِ عِتْقُ الْمُتَقَدِّمِ دُونَ الْمُتَأَخِّرِ . وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي الضَّرْبِ الثَّانِي أَنْ تَدُلَّ الشَّهَادَتَانِ عَلَى وُقُوعِ عِتْقِهِمَا مَعًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا عُتِقَ فِي التَّرِكَةِ مَنْ شَهِدَ بِعِتْقِهِ الْأَجْنَبِيَّانِ ، وَلَمْ يُعْتَقْ عَلَى الْوَارِثَيْنِ مَنْ شَهِدَا بِعِتْقِهِ ، لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا لَوْ قُبِلَتْ لَأَوْجَبَتِ الْإِقْرَاعَ بَيْنَ الْعَبْدَيْنِ ، وَلَوْ أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا جَازَ أَنْ تَقَعَ الْقُرْعَةُ عَلَى مَنْ شَهِدَ لَهُ الْأَجْنَبِيَّانِ وَيُرَقُّ مَنْ شَهِدَ لَهُ الْوَارِثَانِ ، فَتَرَدَّدَتْ حَالُهُ مَعَ صِحَّةِ الشَّهَادَتَيْنِ بَيْنَ الرِّقِّ وَالْعِتْقِ ، فَلَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَتَعَيَّنَ فِيهِ الْعِتْقُ مَعَ الرِّقِّ . وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي الضَّرْبِ الثَّالِثِ : أَنْ تَدُلَّ الشَّهَادَتَانِ عَلَى تَقَدُّمِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ وَيُشْكِلُ الْمُتَقَدِّمُ وَالْمُتَأَخِّرُ ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيهِمَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ : فَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا مَعَ صِحَّةِ الشَّهَادَتَيْنِ ، لَمْ يُعْتَقْ عَلَى الْوَارِثِينَ مَنْ شَهِدَا بِعِتْقِهِ وَعُتِقَ فِي التَّرِكَةِ مَنْ شَهِدَ الْأَجْنَبِيَّانِ بِعِتْقِهِ ، لِأَنَّ دُخُولَ الْقُرْعَةِ بَيْنَهُمَا مَعَ صِحَّةِ الشَّهَادَتَيْنِ لَا تُوجِبُ تَعْيِينَ الْعِتْقِ فِي شَهَادَةِ الْوَارِثَيْنِ . وَإِنْ قِيلَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي : إِنَّهُ يُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ مَعَ صِحَّةِ الشَّهَادَتَيْنِ عُتِقَ فِي التَّرِكَةِ جَمِيعُ مَنْ شَهِدَ لَهُ الْأَجْنَبِيَّانِ ، وَعُتِقَ عَلَى الْوَارِثَيْنِ نِصْفُ مَنْ شَهِدَا لَهُ ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يُعْتَقُ نِصْفُهُ مَعَ صِحَّةِ شَهَادَتِهِمَا فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَقَ مَعَ رَدِّهَا ، بِإِقْرَارِهِمَا . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَقْدَحَ الْوَارِثَانِ فِي شَهَادَةِ الْأَجْنَبِيَّيْنِ بِتَكْذِيبِهِمَا ، فَيُعْتَقُ جَمِيعُ الْعَبْدَيْنِ أَحَدُهُمَا بِشَهَادَةِ الْأَجْنَبِيَّيْنِ وَالْآخَرُ بِإِقْرَارِ الْوَارِثَيْنِ فِي الْأَضْرُبِ الثَّلَاثَةِ ، لِأَنَّ الْوَارِثَيْنِ مُقِرَّانِ أَنَّهُ لَمْ يُعْتَقْ غَيْرُ مَنْ شَهِدَا بِعِتْقِهِ ، فَأَلْزَمْنَاهُمَا عِتْقَهُ بِإِقْرَارِهِمَا ، وَقَدْ شَهِدَ الْأَجْنَبِيَّانِ بِعِتْقِ غَيْرِهِ فَأَعْتَقْنَاهُ بِشَهَادَتِهِمَا وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَخْتَلِفَ الْوَارِثَانِ فِي تَصْدِيقِ الْأَجْنَبِيَّيْنِ فَيُصَدِّقُهُمَا أَحَدُ الْوَارِثَيْنِ وَيُكَذِّبُهُمَا الْآخَرُ ، فَيَلْزَمُ الْمُصَدِّقَ مَا كَانَ يَلْزَمُهُ مَعَ أَخِيهِ لَوْ صَدَّقَ ، وَيُلْزَمُ الْمُكَذِّبُ مَا كَانَ يَلْزَمُهُ مَعَ أَخِيهِ لَوْ كَذَّبَ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ شَهِدَ الْوَارِثَانِ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ عِتْقِ الْأَوَّلِ وَأَعْتَقَ الْآخَرَ هل تجزئ شهادتهما أَجَزْتُ شَهَادَتَهُمَا ، وَإِنَمَا أَرُدُّ شَهَادَتَهُمَا فِيمَا جَرَّا إِلَى أَنْفُسِهِمَا ، فَإِذَا لَمْ يَجُرَّا ، فَلَا ، فَأَمَّا الْوَلَاءُ فَلَا يُمْلَكُ مِلْكُ الْأَمْوَالِ ، وَقَدْ لَا يَصِيرُ فِي أَيْدِيِهِمَا بِالْوَلَاءِ شَيْءٌ ، وَلَوْ أَبْطَلْتُهُمَا بِأَنَّهُمَا يَرِثَانِ الْوَلَاءَ إِنْ مَاتَ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُمَا أَبْطَلْتُهَا لِذَوِي أَرْحَامِهِمَا " .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُصَوَّرَةٌ فِي الْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَوْلَى الْوَصِيَّةُ بِالْعِتْقِ ، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ أَنْ يُذْكَرَ حُكْمُ الْعِتْقِ النَّاجِزِ وَالْمُوصَى بِهِ جَمِيعًا . وَالزِّيَادَةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَشْهَدَ أَجْنَبِيَّانِ أَنَّهُ أَوْصَى بِعِتْقِ عَبْدِهِ سَالِمًا قِيمَتُهُ الثُّلُثُ ، وَيَشْهَدُ وَارِثَانِ أَنَّهُ رَجَعَ عَنِ الْوَصِيَّةِ بِعِتْقِ سَالِمٍ وَأَوْصَى بِعِتْقِ غَانِمٍ وَقِيمَتُهُ الثُّلُثُ . وَيَشْهَدُ وَارِثَانِ أَنَّهُ رَجَعَ عَنِ الْوَصِيَّةِ بِعِتْقِ سَالِمٍ وَأَوْصَى بِعِتْقِ غَانِمٍ رُدَّتْ شَهَادَتُهُمَا وَإِنْ كَانَا عَدْلَيْنِ ، وَلَا تُرَدُّ فِيهِ شَهَادَةُ الْأَجْنَبِيَّيْنِ لِلُحُوقِ التُّهْمَةِ بِالْوَارِثَيْنِ لِعَوْدِهِ إِلَى مِيرَاثِهِمَا . فَأَمَّا إِذَا شَهِدَا أَنَّهُ رَجَعَ عَنِ الْوَصِيَّةِ بِعِتْقِ سَالِمٍ وَأَوْصَى بِعِتْقِ غَانِمٍ وَهِيَ فِي الْقِيمَةِ سَوَاءٌ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا فِي الرُّجُوعِ عَنِ الْوَصِيَّةِ بِعِتْقِ سَالِمٍ وَفِي الْوَصِيَّةِ بِعِتْقِ غَانِمٍ . وَزَعَمَ بَعْضُ الْعِرَاقِيِّينَ أَنَّهَا تُقْبَلُ فِي الْوَصِيَّةِ بِعِتْقِ غَانِمٍ وَلَا تُقْبَلُ فِي الرُّجُوعِ عَنْ عِتْقِ سَالِمٍ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا لَمَّا رُدَّتْ فِي الرُّجُوعِ لَوِ انْفَرَدَتْ رُدَّتْ فِيهِ إِذَا اقْتَرَنَتْ بِغَيْرِهِ . وَالثَّانِي : لِدُخُولِ التُّهْمَةِ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ سَالِمٌ أَكْثَرَ كَسْبًا فَيَتَمَلَّكَاهُ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ غَانِمٌ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُمَا فَيَرِثَاهُ ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمَا لَوْ شَهِدَا بِالْوَصِيَّةِ وَلَمْ يَشْهَدَا بِالرُّجُوعِ صَحَّتْ شَهَادَتُهُمَا وَتَعَيَّنَ الْعِتْقُ بِالْقُرْعَةِ فِي أَحَدِهِمَا ، فَجَازَ أَنْ يَتَعَيَّنَ فِيهِ بِشَهَادَتِهِمَا . وَالثَّانِي : أَنَّ الْوَاجِبَ بِالْوَصِيَّةِ إِخْرَاجُ الثُّلُثِ مِنَ الْعِتْقِ ، وَشَهَادَتُهُمَا بِالرُّجُوعِ لَا يَمْنَعُ مِنْهُ ، لِأَنَّ تَعْيِينَهُ فِي أَحَدِهِمَا يَنْفِي التُّهْمَةَ عَنْهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْقِيمَةُ وَقَدِ الْتَزَمَاهَا . وَالثَّانِي : أَنَّ مَا ظُنَّ بِهِمَا مِنْ طَلَبِ الْكَسْبِ وَالْمِيرَاثُ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِي الْحَالِ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ بَعْدُ وَقَدْ لَا يَكُونُ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْتَبِرَ بِهِ التُّهْمَةَ فِي الْحَالِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : " لَوْ أُبْطِلَتْ شَهَادَتُهُمَا لِذَلِكَ لَأَبْطَلْتُهَا لِذَوِي أَرْحَامِهِمَا " .
فَصْلٌ : وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا أَنْ يَشْهَدَ أَجْنَبِيَّانِ بِعِتْقِ سَالِمٍ وَغَانِمٍ وَقِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الثُّلُثُ . وَيَشْهَدُ وَارِثَانِ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ عِتْقِ سَالِمٍ إِلَى عِتْقِ غَانِمٍ فما الحكم ، قُبِلَتْ شَهَادَتَهُمَا ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِالشَّهَادَةِ عِتْقُ أَحَدِهِمَا ، فَلَمَّا جَازَ تَعْيِينُهُ بِالْقُرْعَةِ ، جَازَ تَعْيِينُهُ بِشَهَادَةِ الْوَرَثَةِ
لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ وَعِتْقِ غَانِمٍ وَرِقِّ سَالِمٍ بِغَيْرِ قُرْعَةٍ ، كَمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ بِالْقُرْعَةِ ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى كُلِّ هَذَا ، إِذَا شَهِدَ أَجْنَبِيَّانِ أَنَّهُ أَوْصَى بِعِتْقِ سَالِمٍ وَهُوَ الثُّلُثُ ، وَشَهِدَ وَارِثَانِ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ عِتْقِ سَالِمٍ وَأَوْصَى بِعِتْقِ غَانِمٍ وَهُوَ الثُّلُثُ ، وَشَهِدَ أَجْنَبِيَّانِ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ عِتْقِ أَحَدِهِمَا وَأَوْصَى بِعِتْقِ نَافِعٍ بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ بِعِتْقِ سَالِمٍ بِشَهَادَةِ الْوَارِثَيْنِ ، وَلَمْ تَبْطُلْ فِي غَانِمٍ بِشَهَادَةِ الْأَجْنَبِيَّيْنِ ، لِأَنَّهُمَا أَطْلَقَا الرُّجُوعَ وَلَمْ يُعَيِّنَاهُ فِي غَانِمٍ وَثَبَتَتْ بِهِمَا الْوَصِيَّةُ بِعِتْقِ نَافِعٍ ، وَقَدْ ثَبَتَتْ بِشَهَادَةِ الْوَارِثَيْنِ الْوَصِيَّةُ بِعِتْقِ غَانِمٍ وَإِبْطَالِ الْوَصِيَّةِ بِعِتْقِ سَالِمٍ ، فَيَرِقُّ سَالِمٌ ، وَيُقْرَعُ بَيْنَ غَانِمٍ وَنَافِعٍ وَيُعْتَقُ مِنْهُمَا مِنْ قَرَعَ وَيُرَقُّ الْآخَرُ . فَإِنْ شَهِدَ الْوَارِثَانِ بِرُجُوعِهِ عَنْ عِتْقِ نَافِعٍ ، جَازَ وَتَعَيَّنَتِ الْوَصِيَّةُ بِعِتْقِ غَانِمٍ . وَلَوْ شَهِدَ أَجْنَبِيَّانِ أَنَّهُ أَوْصَى بِعِتْقِ سَالِمٍ ، وَشَهِدَ وَارِثَانِ أَنَّهُ أَوْصَى بِعِتْقِ غَانِمٍ ، وَشَهِدَ أَجْنَبِيَّانِ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ عِتْقِ أَحَدِهِمَا ، لَمْ يَكُنْ لِلشَّهَادَةِ بِالرُّجُوعِ تَأْثِيرٌ ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَرْجِعْ أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا ، وَالرُّجُوعُ إِذَا لَمْ يُعِيِّنْ يَقْتَضِي الْإِقْرَاعَ ، فَبَطَلَ تَأْثِيرُ الشَّهَادَةِ بِالرُّجُوعِ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ شَهِدَ أَجْنَبِيَّانِ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدًا هُوَ الثُّلُثُ وَصِيَّةً ، وَشَهِدَ وَارِثَانِ أَنَّهُ رَجَعَ فِيهِ وَأَعْتَقَ عَبْدًا هُوَ السُّدُسُ ، عَتَقَ الْأَوَّلُ بِغَيْرِ قُرْعَةٍ لِلْجَرِّ إِلَى أَنْفُسِهِمَا ، وَأَبْطَلْتُ حَقَّهُمَا مِنَ الْآخَرِ بِالْإِقْرَارِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي قَبُولِ شَهَادَةِ الْوَرَثَةِ بِالرُّجُوعِ فِي الْوَصِيَّةِ إِذَا لَمْ يُتَّهَمَا ، وَرَدَّهَا إِذَا اتُّهِمُوا ، وَصُورَةُ مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ أَنْ يَشْهَدَ أَجْنَبِيَّانِ أَنَّهُ أَوْصَى بِعِتْقِ سَالِمٍ وَقِيمَتُهُ الثُّلُثُ ، وَيَشْهَدَ وَارِثَانِ أَنَّهُ رَجَعَ عَنِ الْوَصِيَّةِ بِعِتْقِ سَالَمٍ وَأَعْتَقَ غَانِمًا وَقِيمَتُهُ السُّدُسُ ، فَقَدْ صَارَا بِشَهَادَتِهِمَا مُتَّهَمَيْنِ ، لِأَنَّهُمَا جَرًّا بِهَا بِسُدُسِ التَّرِكَةِ إِلَى أَنْفُسِهِمَا ، فَتَوَجَّهَتِ التُّهْمَةُ إِلَيْهِمَا فِي نِصْفِ الرُّجُوعِ وَهُوَ السُّدُسُ . وَلِلشَّافِعِيِّ فِي تَبْعِيضِ الشَّهَادَةِ إِذَا رُدَّتْ بِالتُّهْمَةِ فِي بَعْضِ الْمَشْهُودِ فِيهِ ، هَلْ يُوجِبُ رَدُّهَا فِي بَاقِيهِ ؟ قَوْلَانِ . كَشَاهِدَيْنِ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَذَفَ أُمَّهُمَا وَأَجْنَبِيَّةً ، رُدَّتْ شَهَادَتُهُمَا فِي قَذْفِ أُمِّهِمَا لِلتُّهْمَةِ وَهَلْ تُرَدُّ فِي قَذْفِ الْأَجْنَبِيَّةِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَخْرِيجِ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ . فَذَهَبَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَجُمْهُورُ الْبَغْدَادِيِّينَ إِلَى أَنَّ تَبْعِيضَ الشَّهَادَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا تَرُدُّ فِي الْجَمِيعِ وَلَا تَبْعِيضَ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا ، الْمَوْضِعِ ، فَعَلَى هَذَا تَبْطُلُ شَهَادَةُ الْوَارِثَيْنِ فِي كُلِّ الرُّجُوعِ ، وَيُعْتَقُ فِي التَّرِكَةِ سَالِمٌ
بِشَهَادَةِ الْأَجْنَبِيَّيْنِ وَهُوَ الثُّلُثُ ، وَيُعْتَقُ غَانِمٌ عَلَى الْوَارِثَيْنِ بِإِقْرَارِهِمَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : تَبْعِيضُ الشَّهَادَةِ هَاهُنَا كَمَا بَعَّضَهَا الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْقَذْفِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، فَعَلَى هَذَا تُرَدُّ شَهَادَةُ الْوَارِثَيْنِ بِالرُّجُوعِ فِي نِصْفِ سَالِمٍ " وَتُقْبَلُ فِي الرُّجُوعِ بِنِصْفِهِ " وَيُعْتَقُ نِصْفُهُ بِالْوَصِيَّةِ بِشَهَادَةِ الْأَجْنَبِيَّيْنِ ، وَيُرَقُّ نِصْفُهُ بِشَهَادَةِ الْوَارِثَيْنِ ، وَيُعْتَقُ جَمِيعُ غَانِمٍ بِشَهَادَةِ الْوَارِثَيْنِ وَقَدِ اسْتَوْعَبَ ثُلُثَ التَّرِكَةِ بِالشَّهَادَتَيْنِ . وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْبَصْرِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِنَا إِلَى الْمَنْعِ مِنْ تَبْعِيضِ الشَّهَادَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ، وَإِنْ كَانَ تَبْعِيضُهَا فِي الشَّهَادَةِ بِالْقَذْفِ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَجَعَلُوا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا مُعْتَبَرًا بِأَنَّ التُّهْمَةَ إِذَا تَوَجَّهَتْ إِلَى صِفَةِ الشَّاهِدِ رُدَّتْ ، وَلَمْ يَجُزْ تَبْعِيضُهَا كَالْعَدَاوَةِ ، وَإِذَا تَوَجَّهَتْ إِلَى صِفَةِ الْمَشْهُودِ فِيهِ جَازَ تَبْعِيضُهَا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، وَالتُّهْمَةُ هَاهُنَا فِي صِفَةِ الشَّاهِدِ دُونَ الْمَشْهُودِ فِيهِ ، فَرُدَّتْ جَمِيعُهَا وَلَمْ تُبَعَّضْ . وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا ، إِذَا شَهِدَ أَجْنَبِيَّانِ أَنَّهُ أَوْصَى بِعِتْقِ عَبْدٍ قِيمَتُهُ نِصْفُ التَّرِكَةِ ، وَشَهِدَ وَارِثَانِ أَنَّهُ رَجَعَ عَنِ الْوَصِيَّةِ بِعِتْقِهِ وَأَعْتَقَ عَبْدًا قِيمَتُهُ ثُلُثُ التَّرِكَةِ ، قُبِلَتْ شَهَادَةُ الْوَارِثَيْنِ فِي الرُّجُوعِ عَنِ الْأَوَّلِ وَفِي عِتْقِ الثَّانِي فِي الثُّلُثِ وَتَنْتَفِي عَنْهُمَا التُّهْمَةُ فِي الرُّجُوعِ بِالزِّيَادَةِ لِأَنَّهَا مَرْدُودَةٌ بِالشَّرْعِ ، فَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا فِي الرُّجُوعِ بِالْكُلِّ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ لَمْ يَقُولَا أَنَّهُ رَجَعَ فِي الْأَوَّلِ ، أَقْرَعْتُ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَسْتَوْظِفَ الثُّلُثَ ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفْتِينَ إِنَّ شَهَادَةَ الْأَجْنَبِيَّيْنِ وَالْوَرَثَةِ سَوَاءٌ مَا لَمْ يَجُرَّ إِلَى أَنْفُسِهِمَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي أَنَّ شَهَادَةَ الْوَرَثَةِ بِالْعِتْقِ وَالْوَصِيَّةِ هل تقبل أم لا مَقْبُولَةٌ كَالْأَجَانِبِ إِذَا لَمْ يَجْرُّوا بِهِمَا نَفْعًا ، فَإِذَا شَهِدَ الْأَجَانِبُ بِعِتْقِ عَبْدٍ قِيمَتُهُ الثُّلُثُ ، وَشَهِدَ الْوَرَثَةُ بِعِتْقِ عَبْدٍ قِيمَتُهُ السُّدُسُ ، وَلَمْ يَقُولُوا : إِنَّهُ رَجِعَ عَنْ عِتْقِ صَاحِبِ الثُّلُثِ ، فَالشَّهَادَتَانِ ثَابِتَتَانِ بِعِتْقِ عَبْدَيْنِ يَسْتَوْعِبَانِ نِصْفَ التَّرِكَةِ ، فَيُعْتَبَرُ فِي تَحْرِيرِ الْعَبْدِ حَالُ الشَّهَادَتَيْنِ ، فَإِنَّهُمَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ شَهَادَةُ الْأَجْنَبِيَّيْنِ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ بِعِتْقٍ بَاتٍّ فِي الْحَيَاةِ ، وَشَهَادَةُ الْوَرَثَةِ لِصَاحِبِ السُّدُسِ بِالْوَصِيَّةِ بِعِتْقِهِ بَعْدَ الْوَفَاةِ ، فَيُسْتَوْعَبُ الثُّلُثُ بِالْعِتْقِ الْبَاتِّ فِي صَاحِبِ الثُّلُثِ ، وَتَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ بِعِتْقِ صَاحِبِ السُّدُسِ لِتَقَدُّمِ النَّاجِزِ فِي الْحَيَاةِ عَلَى الْوَصِيَّةِ بَعْدَ الْوَفَاةِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ شَهَادَةُ الْأَجْنَبِيَّيْنِ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ بِالْوَصِيَّةِ بِعِتْقِهِ بَعْدَ الْوَفَاةِ ، وَشَهَادَةُ الْوَارِثَيْنِ لِصَاحِبِ السُّدُسِ بِعِتْقِهِ بَاتٍّ فِي الْحَيَاةِ فَيُعْتَقُ [ جَمِيعُ ] ، صَاحِبِ
السُّدُسِ ، وَيُعْتَقُ مِنْ صَاحِبِ الثُّلُثِ نِصْفُهُ اسْتِكْمَالًا لِلثُّلُثِ ، وَيُرَقُّ بَاقِيهِ وَهُوَ النِّصْفُ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَتَانِ بِالْوَصِيَّةِ بِعِتْقِ الْعَبْدَيْنِ بَعْدَ الْوَفَاةِ ، فَيَسْتَوِي فِيهِمَا مَنْ تَقَدَّمَتْ فِيهِ الْوَصِيَّةُ وَمَنْ تَأَخَّرَتْ ، وَيُقْرَعُ بَيْنَهُمَا لِيَسْتَوْظِفَ الثُّلُثَ مَنْ قَرَعَ مِنْهُمَا ، فَإِنْ قَرَعَ صَاحِبُ الثُّلُثِ ، عُتِقَ جَمِيعُهُ وَرُقَّ جَمِيعُ الْآخَرِ ، وَإِنْ قَرَعَ صَاحِبُ السُّدُسِ ، عُتِقَ جَمِيعُهُ وَبَعْضُ صَاحِبِ الثُّلُثِ اسْتِكْمَالًا لِلثُّلُثِ ، وَرُقَّ بَاقِيهِ وَهُوَ نِصْفُهُ . وَالضَّرْبُ الرَّابِعُ : أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَتَانِ بِالْعِتْقِ الْبَاتِّ فِي الْحَيَاةِ ، فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَدُلَّ الشَّهَادَتَانِ عَلَى وُقُوعِ عِتْقِهِمَا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَيُقْرَعُ بَيْنَهُمَا فَيَتَحَرَّرُ بِالْقُرْعَةِ لِيَسْتَكْمِلَ الثُّلُثَ بِعِتْقِ الْقَارِعِ وَرِقِّ الْمَقْرُوعِ عَلَى مَا بَيَّنَاهُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَدُلَّ الشَّهَادَتَانِ عَلَى عِتْقِ أَحَدِهِمَا قَبْلَ الْآخَرِ ، وَيَعْلَمُ بِهَا الْمُتَقَدِّمُ مِنَ الْمُتَأَخِّرِ فَيْسَتَوْظِفَ الثُّلُثَ بِالْأَوَّلِ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ صَاحِبَ الثُّلُثِ عُتِقَ جَمِيعُهُ وَرُقَّ صَاحِبُ السُّدُسِ ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ هُوَ صَاحِبُ السُّدُسِ ، عُتِقَ جَمِيعُهُ وَنِصْفُ صَاحِبِ الثُّلُثِ ، اسْتِكْمَالًا لِلثُّلُثِ وَيَرِقُّ نِصْفُهُ الْبَاقِي . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ تَدُلَّ الشَّهَادَتَانِ عَلَى تَقَدُّمِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ ، وَلَا تَدُلُّ عَلَى الْمُتَقَدِّمِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِ ، فَقَدْ ذَكَرْنَا فِيهَا قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا لِيُسْتَوْظَفَ الثُّلُثُ بِعِتْقِ الْقَارِعِ وَرِقِّ الْمَقْرُوعِ عَلَى مَا بَيَّنَاهُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَدْرِ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ بِغَيْرِ قُرْعَةٍ ، فَيُعْتَقُ مِنْ صَاحِبِ الثُّلُثِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ ، وَيُعْتَقُ مِنْ صَاحِبِ السُّدُسِ رُبُعُهُ . وَبَيَانُهُ : أَنْ نُنَزِّلَهَا تَنْزِيلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ صَاحِبَ الثُّلُثِ فَيُعْتَقُ جَمِيعُهُ وَيُرَقُّ صَاحِبُ السُّدُسِ كُلِّهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ صَاحِبَ السُّدُسِ فَيُعْتَقُ جَمِيعُهُ وَنِصْفُ صَاحِبِ الثُّلُثِ ، فَيَتَحَرَّرُ فِي التَّنْزِيلَيْنِ أَنَّهُ عُتِقَ نِصْفُ صَاحِبِ الثُّلُثِ يَقِينًا . وَتَعَارُضَ التَّنْزِيلَانِ فِي صَاحِبِ السُّدُسِ وَنِصْفِ صَاحِبِ الثُّلُثِ وَهُمَا فِي الْقِيمَةِ مُتَسَاوِيَانِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ السُّدُسُ الْبَاقِي مِنَ الثُّلُثِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، فَيُعْتَقُ مِنْ صَاحِبِ الثُّلُثِ نِصْفُهُ وَمِنْ صَاحِبِ السُّدُسِ نِصْفُهُ ، فَيَصِيرُ النِّصْفُ مِنْ صَاحِبِ الثُّلُثِ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ ، وَمِنْ صَاحِبِ السُّدُسِ نِصْفَهُ . وَمِثَالُهُ : أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الثُّلُثِ قِيمَتُهُ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ ، وَقِيمَةُ صَاحِبِ السُّدُسِ خَمْسَةُ
دَنَانِيرَ ، وَقَدْ خَلَّفَ الْمُعْتِقُ سِوَاهُمَا خَمْسَةَ عَشْرَةَ دِينَارًا ، فَتَصِيرُ التَّرِكَةُ مَعَ قِيمَتِهِمَا ثَلَاثِينَ دِينَارًا ، ثُلُثُهَا عَشَرَةُ دَنَانِيرَ ، فَيُعْتَقُ مِنْ صَاحِبِ الثُّلُثِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ ، سَبْعَةُ دَنَانِيرَ وَنِصْفٌ ، وَيُعْتَقُ مِنْ صَاحِبِ السُّدُسِ نِصْفُهُ بِدِينَارَيْنِ وَنِصْفٍ ، فَتَصِيرُ قِيمَةُ الْمُعْتِقِ مِنْهُمَا عَشَرَةُ دَنَانِيرَ هِيَ الثُّلُثُ ، وَيَبْقَى لِلْوَرَثَةِ رُبُعُ صَاحِبِ الثُّلُثِ بِدِينَارَيْنِ وَنِصْفٍ وَنِصْفُ صَاحِبِ السُّدُسِ بِدِينَارَيْنِ وَنِصْفٍ يُضَافَانِ إِلَى خَمْسَةَ عَشْرَةَ دِينَارًا يَصِيرُ عِشْرِينَ دِينَارًا هِيَ مِثْلَا مَا خَرَجَ بِالْعِتْقِ .
مَسْأَلَةٌ الْقَوْلُ فِي الشَّهَادَةِ بِالْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ
[ الْقَوْلُ فِي الشَّهَادَةِ بِالْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ ] . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ لِرَجُلٍ بِالثُّلُثِ وَآخَرَانِ لَآخَرَ بِالثُّلُثِ وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ أَحَدِهِمَا فَالثُلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِزَيْدٍ ، وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِعَمْرٍو فما الحكم ، صَحَّتِ الشَّهَادَتَانِ بِثُلُثِ الْمَالِ لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو نِصْفَيْنِ فَإِنْ أَجَازَ الْوَرَثَةُ الْوَصِيَّةَ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ أُمْضِيَتِ الْوَصِيَّتَانِ بِثُلُثَيِ الْمَالِ لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو ، فَإِنِ امْتَنَعُوا عَنْ إِجَازَةِ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ ، جُعِلَ الثُّلُثُ بَيْنَ زَيْدٍ وَعَمْرٍو نِصْفَيْنِ ، وَلَمْ يَقْرَعْ بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ قُرِعَ بَيْنَ الْعَبْدَيْنِ لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتَ دُخُولَ الْقُرْعَةِ فِي الْعِتْقِ دُونَ التَّمْلِيكِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْعِتْقِ كَمَالُ أَحْكَامِ الْمُعْتَقِ وَلَا يَكْمُلُ تَبْعِيضُ الْعِتْقِ فِيهِ ، فَأُقْرِعَ لِكَمَالِ أَحْكَامِهِ ، وَالْمَقْصُودُ بِالْوَصِيَّةِ نَفْعُ الْمُوصَى لَهُ ، وَهُوَ يَنْتَفِعُ بِتَبْعِيضِ الْوَصِيَّةِ ، فَلَمْ يُقْرَعْ مَعَ وُجُودِ الْمَنْفَعَةِ . فَلَوْ شَهِدَ وَارِثَانِ أَوْ أَجْنَبِيَّانِ أَنَّهُ رَجَعَ عَنِ الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ لِزَيْدٍ إِلَى الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ لِعَمْرٍو ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا وَصَارَ الثُّلُثُ كُلُّهُ لِعَمْرٍو . فَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ رَجَعَ عَنِ الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ لِعَمْرٍو ، وَوَصَّى بِالثُّلُثِ لِبَكْرٍ فما الحكم ، صَارَ الثُّلُثُ كُلُّهُ لِبَكْرٍ ، وَبَطَلَتْ فِي حَقِّ زَيْدٍ وَعَمْرٍو ، وَسَوَاءٌ كَانَتِ الشَّهَادَةُ مِنْ وَرَثَةٍ أَوْ أَجَانِبَ . وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ لِزَيْدٍ بِالثُّلُثِ وَشَهِدَ آخَرَانِ لِعَمْرٍو بِالثُّلُثِ ، وَشَهِدَ آخَرَانِ بِرُجُوعِهِ عَنْ إِحْدَى الْوَصِيَّتَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ ، لَمْ تَكُنْ لِلشَّهَادَةِ بِالرُّجُوعِ تَأْثِيرٌ ، وَبَطَلَ حُكْمُهَا . وَجُعِلَ الثُّلُثُ بَيْنَ زَيْدٍ وَعَمْرٍو .
فَصْلٌ : وَلَوْ شَهِدَ أَجْنَبِيَّانِ أَنَّهُ أَوْصَى بِعِتْقِ سَالِمٍ وَهُوَ الثُّلُثُ ، وَشَهِدَ وَارِثَانِ أَنَّهُ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِزَيْدٍ هل يقرع بينهما لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْرَعَ بَيْنَهُمَا عِنْدَ امْتِنَاعِ الْوَرَثَةِ مِنْ إِجَازَتِهَا ، لِأَنَّ الْقُرْعَةَ لَا تَدْخُلْ فِي الْمَالِ وَإِنْ دَخَلَتْ فِي الْعِتْقِ ، فَوَجَبَ إِذَا اجْتَمَعَا أَنْ يُغَلَّبَ مَا لَا
تَدْخُلُهُ الْقُرْعَةُ ، لِأَنَّ دُخُولَهَا رُخْصَةٌ ، فَإِذَا امْتَنَعَتِ الْقُرْعَةُ فِي اجْتِمَاعِهِمَا ، فَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُشْرَكَ بَيْنَهُمَا فِي الثُّلُثِ فَيُعْتَقُ نِصْفُ الْعَبْدِ وَيُدْفَعُ إِلَى زَيْدٍ السُّدُسُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنْ يُغَلِّبَ الْعِتْقَ عَلَى الْوَصِيَّةِ فَيُعْتِقُ جَمِيعَ الْعَبْدِ وَتُرَدُّ جَمِيعُ الْوَصِيَّةِ ، لِأَنَّ لِلْعِتْقِ مَزِيَّةٌ بِالسِّرَايَةِ إِلَى غَيْرِ الْمِلْكِ فَقُدِّمَ عَلَى الْوَصَايَا . فَلَوْ شَهِدَ وَارِثَانِ أَنَّهُ رَجَعَ عَنِ الْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ فما الحكم ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا فِي رَدِّ الْعِتْقِ ، وَأُمْضِيَتِ الْوَصِيَّةُ بِالثُّلُثِ ، وَلَوْ شَهِدَا بِالرُّجُوعِ فِي الثُّلُثِ ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا وَأُمْضِيَتِ الْوَصِيَّةُ بِالْعِتْقِ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ عَنْهُمَا فِي الشَّهَادَةِ بِهَذَا الرُّجُوعِ .
فَصْلٌ : وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ دَبَّرَ عَبَدَهُ سَالِمًا وَهُوَ الثُّلُثُ ، وَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ أَوْصَى بِعِتْقِ عَبْدِهِ غَانِمًا وَهُوَ الثُّلُثُ فما الحكم فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمَا سَوَاءٌ وَيُقْرَعُ بَيْنَهُمَا وَيُعْتِقُ مِنْ قَرَعَ مِنْهُمَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ التَّدْبِيرَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ ، لِوُقُوعِ الْعِتْقِ فِيهِ بِالْمَوْتِ ، فَيُعْتَقُ الْمُدَبَّرُ ، وَيُرَقُّ الْمُوصَى بِعِتْقِهِ . وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ دَبَّرَ عَبْدَهُ سَالِمًا وَهُوَ الثُّلُثُ ، وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ أَوْصَى بِعِتْقِ عَبْدِهِ غَانِمًا وَهُوَ الثُّلُثُ ، وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ أَوْصَى بِثُلُثِهِ لِزَيْدٍ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يُقَدَّمُ التَّدْبِيرَ فَيُسْتَوْظَفُ بِهِ الثُّلُثُ ، وَيُرَقُّ الْمُوصَى بِعِتْقِهِ ، وَتَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ بِثُلُثِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُشْرَكُ بَيْنَ الْمُدَبَّرِ وَالْمُوصَى بِعِتْقِهِ وَيُقْرَعُ بَيْنَهُمَا وَيُعْتَقُ مَنْ قَرَعَ مِنْهُمَا ، وَتَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ بِثُلُثِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ يُشْرَكُ بَيْنَ الْجَمِيعِ فِي الثُّلُثِ فَيُدْفَعُ ثُلُثُ الثُّلُثِ إِلَى الْمُوصَى لَهُ وَيُقْرَعُ بَيْنَ الْمُدَبَّرِ وَالْمُوصَى بِعِتْقِهِ فِي ثُلُثَيِ الثُّلُثِ ، فَإِذَا قَرَعَ أَحَدُهُمَا عُتِقَ ثُلُثَاهُ وَرُقَّ ثُلُثُهُ وَجَمِيعُ الْآخَرِ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَقَالَ فِي الشَّهَادَاتِ فِي الْعِتْقِ وَالْحُدُودِ إِمْلَاءً ، وَإِذَا شَهِدَا أَنَ سَيِّدَهُ أَعْتَقَهُ ، فَلَمْ يُعَدَّلَا ، فَسَأَلَ الْعَبْدُ أَنْ يُحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ أُجِّرَ ، وَوُقِفَتْ إِجَارَتُهُ ، فَإِنْ تَمَّ عِتْقُهُ أَخَذَهَا ، وَإِنْ رُقَّ أَخَذَهَا السَّيِّدُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي عَبْدٍ ادَّعَى عَلَى سَيِّدِهِ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ وَأَنْكَرَ السَّيِّدُ عِتْقَهُ ، فَأَقَامَ الْعَبْدُ بَيِّنَةً بِعِتْقِهِ شَاهِدَيْنِ مَجْهُولَيِ الْعَدَالَةِ ، فَسَأَلَ الْعَبْدُ أَنْ يُحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ حَتَّى تَظْهَرَ الْعَدَالَةُ لِيُحْكَمَ بِعِتْقِهِ ، أُجِيبَ إِلَى الْإِحَالَةِ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ السَّيِّدِ حَتَّى تَظْهَرَ الْعَدَالَةُ لِأَمْرَيْنِ : -
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَدْ قَامَ بِمَا عَلَيْهِ مِنَ الشَّهَادَةِ ، وَبَقِيَ مَا عَلَى الْحَاكِمِ مِنْ كَشْفِ الْعَدَالَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الظَّاهِرَ مِنَ الشَّهَادَةِ صِحَّتُهَا ، وَلَا يُؤْمَنُ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يُبَاعَ ، وَلَا عَلَى الْأَمَةِ أَنْ تُوطَأَ . فَإِذَا أُحِيلَ بَيْنَهُمَا ، لَزِمَ الْحَاكِمُ أَنْ يَسْتَظْهِرَ لِلسَّيِّدِ بِأَمْرَيْنِ كَمَا اسْتَظْهَرَ لِلْعَبْدِ بِالْمَنْعِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَضَعَهُ عَلَى يَدِ أَمِينٍ نِيَابَةً عَنْ يَدِ السَّيِّدِ . وَالثَّانِي : أَنْ يُؤَجِّرَهُ بِأُجْرَةٍ يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْهَا ، وَيُوقِفُ بَاقِيهَا عَلَى عَدَالَةِ الشَّاهِدَيْنِ ، فَإِنْ ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُمَا حُكِمَ بِعِتْقِهِ وَرُدَّ عَلَيْهِ بَاقِي أُجْرَتِهِ ، وَإِنْ ثَبَتَ فِسْقُهُمَا حُكِمَ بِرِقِّهِ وَإِعَادَتِهِ إِلَى سَيِّدِهِ مَعَ بَقِيَّةِ أُجْرَتِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ لَهُمَا عَدَالَةٌ وَلَا فِسْقٌ كَانَ بَاقِيًا عَلَى الْوَقْفِ مَا بَقِيَ حَالُ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَالْجَهَالَةِ . وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الدَّعْوَى فِي غَيْرِ الْعِتْقِ مِنْ دَيْنٍ مُدَّعًى ، وَأَقَامَ مُدَّعِيهِ شَاهِدَيْنِ مَجْهُولَيِ الْعَدَالَةِ وَالْجَرْحِ ، فَوَقَفَتْ شَهَادَتُهُمَا عَلَى الْكَشْفِ ، وَسَأَلَ الْمُدَّعِي حَبْسَ خَصْمِهِ عَلَى الْكَشْفِ عَلَى الْعَدَالَةِ ، أُجِيبَ إِلَيْهَا اعْتِبَارًا بِعَدَالَةِ الظَّاهِرِ ، وَلَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ بِهَا حَتَّى تَثْبُتَ عَدَالَةُ الْبَاطِنِ ، وَلَمْ يَكُنْ لِحَبْسِهِ غَايَةً إِلَّا أَنْ تَثْبُتَ الْعَدَالَةُ لِيَسْتَوْفِيَ مِنْهُ الْحَقَّ ، أَوْ يَثْبُتَ الْفِسْقَ وَيُطْلَقَ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ شَهِدَ لَهُ شَاهَدًا وَادَّعَى شَاهِدًا قَرِيبًا فَالْقَوْلُ فِيهَا وَاحِدٌ مِنْ قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا مَا وَصَفْتُ فِي الْوَقْفِ ، وَالثَّانِي لَا يُمْنَعُ مِنْهُ سَيِّدُهُ وَيَحْلِفُ لَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا : أَنْ يُقِيمَ الْمُدَّعِي لِلْعِتْقِ شَاهِدًا عَلَى عِتْقِهِ ، وَيَسْأَلُ أَنْ يُحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ عَلَى إِقَامَةِ الشَّاهِدِ الْآخَرِ ، فَفِي إِجَابَتِهِ إِلَى ذَلِكَ قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ : أَحَدُهُمَا : يُجَابُ إِلَى ذَلِكَ ، لِأَنَّ بَقِيَّةَ الْعَدَدِ كَبَيِّنَةِ الْعَدَالَةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يُجَابُ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى فِي كَمَالِ الْعَدَدِ بِمَا عَلَيْهِ ، وَبَقِيَ مَا عَلَى الْحَاكِمِ مِنْ ظُهُورِ الْعَدَالَةِ ، وَلَمْ يَأْتِ فِي نُقْصَانِ الْعَدَدِ بِمَا عَلَيْهِ فَلَمْ يُحْكَمْ لَهُ بِمَا سَأَلَ . فَإِنْ قِيلَ : بِأَنَّهُ لَا يُجَابُ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ الَّذِي أَقَامَهُ مَعْرُوفَ الْعَدَالَةِ أَوْ مَجْهُولَهَا ، وَيَحْلِفُ السَّيِّدُ عَلَى إِنْكَارِ الْعِتْقِ ، فَيَكُونُ الْعَبْدُ فِي يَدِهِ عَلَى الرِّقِّ . وَإِنْ قِيلَ بِأَنَّهُ يُجَابُ إِلَى الْإِحَالَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ لَمْ يَخْلُ حَالُ الشَّاهِدِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفَ الْعَدَالَةِ أَوْ مَجْهُولَهَا ، فَإِنْ كَانَ مَعْرُوفَ الْعَدَالَةِ ، حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ إِلَى مُدَّةِ
ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، فَإِنْ أَقَامَ الشَّاهِدَ الْآخَرَ حُكِمَ لَهُ بِالْعِتْقِ ، وَإِنْ لَمْ يُقِمْهُ أُحْلِفَ السَّيِّدَ عَلَى إِنْكَارِ الْعِتْقِ ، وَأُعِيدَ الْعَبْدُ إِلَى يَدِهِ عَلَى الرِّقِّ ، وَإِنْ كَانَ الشَّاهِدُ الَّذِي أَقَامَهُ مَجْهُولَ الْعَدَالَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فِي جَوَازِ الْإِحَالَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُحَالُ بَيْنَهُمَا كَمَا لَوْ كَانَ الشَّاهِدُ عَدْلًا ، اعْتِبَارًا بِعَدَالَةِ ظَاهِرِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ لَا يُحَالَ ، لِأَنَّ الْبَاقِيَ مِنَ الْعَدَالَةِ وَالْعَدَدِ أَكْثَرُ مِنَ الْمَاضِي ، فَيَسْقُطُ بِاعْتِبَارِ الْأَقَلِّ .
فَصْلٌ : وَلَوْ كَانَتِ الدَّعْوَى فِي حَقِّ أَيْتَامٍ ، فَأَقَامَ مُدَّعِيهِ شَاهِدًا وَاحِدًا ، وَسَأَلَ حَبْسَ خَصْمِهِ عَلَى إِقَامَةِ شَاهِدٍ آخَرَ ، فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ مِمَّا لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ كَالْقِصَاصِ وَالنِّكَاحِ ، فَفِي جَوَازِ حَبْسِهِ عَلَى إِقَامَةِ الشَّاهِدِ الْآخَرِ قَوْلَانِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي دَعْوَى الْعِتْقِ . أَحَدُهُمَا : لَا يُحْبَسُ بِهِ . وَالثَّانِي : يُحْبَسُ إِلَى مُدَّةِ ثَلَاثِةِ أَيَّامٍ ثُمَّ يُطْلَقُ إِنْ لَمْ يُقِمِ الْآخَرَ . وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ مِمَّا يَثْبُتُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي حَبْسِ الْخَصْمِ فِيهِ بِالشَّاهِدِ الْوَاحِدِ : فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى جَوَازِهِ قَوْلًا وَاحِدًا ، لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ مَعَهُ وَيَسْتَحِقَّ ، وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّهُ عَلَى قَوْلَيْنِ أَيْضًا كَغَيْرِهِ ، لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْيَمِينَ لِعَجَّلَهُ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
فَصْلٌ : وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِزَيْدٍ ، وَشَهِدَ شَاهِدٌ وَاحِدٌ أَنَّهُ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِعَمْرٍو ، وَلْيَحْلِفْ مَعَهُ عَمْرٌو ، فَالشَّاهِدُ وَالْيَمِينُ بَيِّنَةٌ فِي الْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ ، فَإِذَا قَابَلَتَ شَاهِدَيْنِ فَفِي مُزَاحَمَتِهِمَا لَهُ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يُزَاحِمُهُمَا ، لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ فِي إِثْبَاتِ الْوَصِيَّةِ كَالشَّاهِدَيْنِ ، وَيَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنِ عَمْرٍو وَزَيْدٍ نِصْفَيْنِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الشَّاهِدَ وَالْيَمِينَ هل يزاحما الشاهدين لَا يُزَاحِمُ الشَّاهِدَيْنِ لِكَمَالِ الشَّاهِدَيْنِ وَقُصُورِ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ . وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدُ عَمْرٍو أَنَّهُ رَجَعَ عَنِ الْوَصِيَّةِ لِزَيْدٍ ، وَأَوْصَى بِثُلُثِهِ لِعَمْرٍو وَحَلَفَ مَعَهُ عَمْرٌو ، صَحَّ الرُّجُوعُ وَالْوَصِيَّةُ لِعَمْرٍو بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ قَوْلًا وَاحِدًا ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ هَاهُنَا مُزَاحَمَةٌ لِلشَّاهِدَيْنِ ، وَإِنَّمَا هِيَ بَيِّنَةٌ بِرُجُوعٍ لَمْ يَتَضَمَّنْهُ شَهَادَةُ الشَّاهِدَيْنِ .
وَهَاتَانِ الْمَسْأَلَتَانِ نَصَّ عَلَيْهِمَا الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ : إِنْ قُتِلْتُ ، فَعَبْدِي حُرٌّ وَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ قُتِلَ وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ مَاتَ فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يُحْكَمُ بِشَهَادَةِ الْقَتْلِ وَتُسْقَطُ شَهَادَةُ الْمَوْتِ ، لِأَنَّهُمَا أَزْيَدُ عِلْمًا فَيَسْتَحِقُّ الْقَوَدَ وَيُعْتَقُ الْعَبْدُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : قَدْ تَعَارَضَتِ الْبَيِّنَتَانِ فِيمَا شَهِدَ ، لِأَنَّهُ لَا اسْتِحَالَةَ أَنْ يَمُوتَ مَقْتُولٌ أَوْ يُقْتَلَ مَيِّتٌ ، فَلَا يَسْتَحِقُّ الْقَوَدَ وَلَا يُعْتَقُ الْعَبْدُ لِأَجْلِ الِاسْتِحَالَةِ . فَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ : إِنْ مُتُّ فِي رَمَضَانَ ، فَسَالِمٌ حُرٌّ ، وَإِنْ مُتُّ فِي شَوَّالٍ ، فَغَانِمٌ حُرٌّ ثُمَّ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ مَاتَ فِي رَمَضَانَ وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ مَاتَ فِي شَوَّالٍ فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : قَدْ تَعَارَضَتِ الشَّهَادَتَانِ بِتَنَافِيهِمَا وَيُعْمَلُ فِي الْعِتْقِ عَلَى تَصْدِيقِ الْوَرَثَةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يُحْكَمُ بِقَوْلِ مَنْ شَهِدَ بِمَوْتِهِ فِي رَمَضَانَ ، لِأَنَّهُ أَزْيَدُ عِلْمًا ، وَيُعْتَقُ الْعَبْدُ الْأَوَّلُ ، فَإِنْ صَدَّقَ الْوَرَثَةُ الثَّانِي عُتِقَ عَلَيْهِمْ بِمَوْتِهِ . وَلَوْ قَالَ : إِنْ مُتُّ فِي مَرَضِي هَذَا فَعَبْدِي سَالِمٌ حُرٌّ ، وَإِنْ مُتُّ فِي غَيْرِهِ فَعَبْدِي غَانِمٌ حُرٌّ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ مَاتَ فِي مَرَضِهِ ذَلِكَ وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ مَاتَ فِي غَيْرِهِ ، فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : قَدْ تَعَارَضَتِ الْبَيِّنَتَانِ وَسَقَطَتَا ، وَعِتْقُ أَحَدِهِمَا لَمْ يَتَعَيَّنْ فَيَرْجِعُ إِلَى بَيَانِ الْوَرَثَةِ فِي ذَلِكَ ، فَإِنْ أَثْبَتُوا عِتْقَ أَحَدِهِمَا عُمِلَ فِي ذَلِكَ عَلَى بَيَانِهِمْ وَحُكِمَ بِرِقِّ الْآخَرِ ، وَلَهُ إِحْلَافُهُمْ ، وَإِنْ عَدِمَ بَيَانُ الْوَرَثَةِ أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا وَعُتِقَ الْقَارِعُ وَرُقَّ الْمَقْرُوعُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ ، وَيُحْكَمُ بِأَسْبَقِ الشَّهَادَتَيْنِ ، وَيُعْتَقُ أَوَّلُ الْعَبْدَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
مُخْتَصَرٌ مِنْ جَامِعِ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَاتِ
مَسْأَلَةٌ قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ
مُخْتَصَرٌ مِنْ جَامِعِ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَاتِ إِمْلَاءً عَلَى كِتَابِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَمِنْ كِتَابِ الدَّعْوَى إِمْلَاءً عَلَى كِتَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمِنِ اخْتِلَافِ الْأَحَادِيثِ وَمِنِ اخْتِلَافِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمِنْ مَسَائِلَ شَتَّى سَمِعْتُهَا لَفْظًا مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " أَخْبَرْنَا مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي " ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) أَحْسَبُهُ قَالَ وَلَا أُثْبِتُهُ قَالَ " وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ " . ابْنُ حَجَّاجٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ : أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ ، أَنَّ امْرَأَتَيْنِ كَانَتَا فِي بَيْتٍ تَخْرُزَانِ لَيْسَ مَعَهُمَا فِيهِ غَيْرُهُمَا ، فَخَرَجَتْ إِحْدَاهُمَا وَقَدْ طُعِنَتْ فِي كَفِّهَا بِإِشْفًى حَتَّى خَرَجَ مِنْ ظَهْرِ كَفِّهَا ، تَقُولُ طَعَنَتْهَا صَاحِبَتُهَا ، وَتُنْكِرُ الْأُخْرَى قَالَ : فَأَرْسَلْتُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهِمَا ، فَأَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ ، فَقَالَ : لَا تُعْطِ شَيْئًا . إِلَّا بِبَيِّنَةٍ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعَاوِيهِمْ لَادَّعَى رِجَالٌ أَمْوَالَ رِجَالٍ وَدِمَاءَهُمْ ، لَكِنِ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ " فَكَمَلَ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ " مَعَ مَا قُدِّمَ مِنَ التَّعْلِيلِ . رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنْ عَطَاءٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ : رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنِ ادَعَى وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ إِلَّا فِي الْقَسَامَةِ . وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ ، عَنْ أُمِّهَا أُمِّ سَلَمَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِنَمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ لَتَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضُكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِيَ عَلَى مَا أَسْمَعُ مِنْهُ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ ، فَلَا يَأْخُذْهُ فَإِنَمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ " . وَقِيلَ : إِنَّ أَوَّلَ دَعْوَى كَانَتْ فِي الْأَرْضِ دَعْوَى قَابِيلَ بْنِ آدَمَ عَلَى أَخِيهِ هَابِيلَ ، أَنَّهُ أَحَقُّ بِنِكَاحِ تَوْأَمَتِهِ مِنْهُ ، فَتَنَازَعَا إِلَى آدَمَ ، فَأَمَرَهُمَا بِمَا قَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا بِقَوْلِهِ : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ " ) [ الْمَائِدَةِ : ] . فَأَفْضَى تَنَازُعُهُمَا إِلَى الْقَتْلِ فَقَتَلَ قَابِيلُ هَابِيلَ ، فَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ فِي الْأَرْضِ .
فَصْلٌ : وَحَدُّ الدَّعْوَى أَنَّهُ طَلَبُ مَا يُذْكَرُ اسْتِحْقَاقُهُ ، وَسُمِّيَتْ دَعْوَى ، لِأَنَّهُ قَدْ دَعَاهُ
إِلَى نَفْسِهِ ، وَالدَّعْوَى تَشْتَمِلُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ : مُدَّعٍ ، مُدَّعًى عَلَيْهِ ، وَمُدَّعًى بِهِ ، وَمُدَّعًى عِنْدَهُ . فَأَمَّا الْمُدَّعِي : فَهُوَ الطَّالِبُ مِنْ غَيْرِهِ شَيْئًا فِي يَدِهِ ، أَوْ فِي ذِمَّتِهِ . وَأَمَّا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ : فَهُوَ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ شَيْئًا فِي يَدِهِ ، أَوْ فِي ذِمَّتِهِ . وَفَرْقُ مَا بَيْنَ الطَّالِبِ ، وَالْمَطْلُوبِ مِنْهُ ، أَنَّ الطَّالِبَ إِذَا تَارَكَ تُرِكَ وَالْمَطْلُوبَ إِذَا تَارَكَ لَمْ يُتْرَكْ . وَأَمَّا الْمُدَّعَى بِهِ فَهُوَ مَا تَنَازَعَ فِيهِ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ . وَأَمَّا الْمُدَّعَى عِنْدَهُ فَهُوَ مَنْ نَفَذَ حُكْمُهُ مِنْ قَاضٍ أَوْ أَمِيرٍ .
فَصْلٌ : وَالدَّعْوَى عَلَى سِتَّةٍ أَضْرُبٍ : صَحِيحَةٌ ، وَفَاسِدَةٌ ، وَمُجْمَلَةٌ ، وَنَاقِصَةٌ ، وَزَائِدَةٌ ، وَكَاذِبَةٌ . فَأَمَّا الدَّعْوَى الصَّحِيحَةُ فَضَرْبَانِ : دَعْوَى اسْتِحْقَاقٍ ، وَدَعْوَى اعْتِرَاضٍ . فَأَمَّا دَعْوَى الِاسْتِحْقَاقِ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَتَوَجَّهَ إِلَى عَيْنٍ فِي الْيَدِ . وَالثَّانِي : إِلَى مَالٍ فِي الذِّمَّةِ . فَأَمَّا تَوَجُّهُ الدَّعْوَى إِلَى عَيْنٍ فِي الْيَدِ فَضَرْبَانِ : مَنْقُولٌ ، وَغَيْرُ مَنْقُولٍ ، فَأَمَّا الْمَنْقُولُ فَضَرْبَانِ : حَاضِرٌ ، وَغَائِبٌ . فَإِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ الْمَنْقُولَةُ حَاضِرَةٌ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ ، كَعَبْدٍ أَوْ ثَوْبٍ ، أَغْنَتِ الْإِشَارَةُ عَنْ صِفَتِهَا ، وَعَنْ ذِكْرِ قِيمَتِهَا فَإِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى فِي غَصْبٍ صَحَّتِ الدَّعْوَى ، إِذَا قَالَ غَصَبَنِي هَذَا الْعَبْدَ ، أَوْ هَذَا الثَّوْبَ وَإِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى فِي وَدِيعَةٍ فَقَالَ : أَوْدَعْتُهُ هَذَا ، وَإِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى فِي ابْتِيَاعٍ مِنْهُ ، فَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِهَا دَعْوَى الْعَقْدِ ، كَانَ فِي صِحَّةِ الدَّعْوَى ذِكْرُ قَدْرِ الثَّمَنِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِهَا انْتِزَاعُهُ مِنْ يَدِهِ كَانَ فِي صِحَّةِ الدَّعْوَى أَنْ يَذْكُرَ أَنَّهُ ابْتَاعَهُ مِنْهُ ، وَدَفَعَ إِلَيْهِ ثَمَنَهُ ، وَقَدْ مَنَعَهُ مِنْهُ وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَذْكُرَ قَدْرَ الثَّمَنِ . وَإِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ الْمَنْقُولَةُ غَائِبَةً ، فَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ كَالْحِنْطَةِ ، اقْتُصِرَ فِي تَعْيِينِهَا عَلَى ذِكْرِ الصِّفَةِ ، ثُمَّ صَارَ الْحُكْمُ فِيهَا كَالْعَيْنِ الْحَاضِرَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ، كَالْجَوَاهِرِ لَزِمَهُ فِي تَعْيِينِهَا ذِكْرُ الْجِنْسِ ، وَالنَّوْعِ ، وَمَا يُضْبَطُ بِهِ مِنْ صِفَاتِهَا فَإِنْ كَانَتْ وَدِيعَةً لَمْ يَلْزَمْهُ ذِكْرُ قِيمَتِهَا ، لِأَنَّ الْوَدِيعَةَ أَمَانَةٌ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ ، وَإِنْ كَانَتْ عَارِيَةً أَوْ غَصْبًا لَزِمَهُ فِي التَّعْيِينِ ذِكْرُ قِيمَتِهَا ، لِضَمَانِ الْعَارِيَةِ وَالْغَصْبِ بِالْقِيمَةِ ،
وَإِنْ كَانَتْ مَبِيعَةً لَزِمَهُ فِي التَّعْيِينِ ذِكْرُ ثَمَنِهَا لِضَمَانِ مَا لَمْ يُقْبَضْ مِنَ الْمَبِيعِ بِالثَّمَنِ دُونَ الْقِيمَةِ . وَأَمَّا غَيْرُ الْمَنْقُولِ كَدَارٍ ، أَوْ ضَيْعَةٍ ، فَتَعْيِينُهَا فِي الدَّعْوَى يَكُونُ بِذِكْرِ النَّاحِيَةِ ، وَالْحُدُودِ الْأَرْبَعَةِ : لِتَتَمَيَّزَ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِهَا ، وَلَا يُغْنِيَ ذِكْرُ النَّاحِيَةِ عَنْ ذِكْرِ الْحُدُودِ ، وَلَا ذِكْرُ الْحُدُودِ عَنْ ذِكْرِ النَّاحِيَةِ ، وَلَا أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى بَعْضِ الْحُدُودِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ جَمِيعَهَا ، فَتَصِيرُ بِذِكْرِ النَّاحِيَةِ وَالْحُدُودِ الْأَرْبَعَةِ مُتَمَيِّزَةً عَنْ غَيْرِهَا ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ الدَّارُ مَشْهُورَةً بِاسْمِهَا مُتَمَيِّزَةً بِهِ عَنْ غَيْرِهَا ، " كَدَارِ النَّدْوَةِ " بِمَكَّةَ وَ ( دَارِ الْخَيْزُرَانِ ) ، فَيُغْنِي ذِكْرُ اسْمِهَا عَنْ ذِكْرِ حُدُودِهَا ، وَإِذَا ذُكِرَتِ النَّاحِيَةُ وَالْحُدُودُ الْأَرْبَعَةُ ، صَحَّ دَعْوَاهَا وَإِنْ جَازَ أَنْ يُشَارِكَهَا غَيْرُهَا فِي حُدُودِهَا ، كَمَا إِذَا ذُكِرَ الرَّجُلُ بِاسْمِهِ ، وَاسْمِ أَبِيهِ وَجَدِّهُ ، وَقَبِيلَتِهِ ، وَصِنَاعَتِهِ ، صَحَّ ، وَتَمَيَّزَ فِي الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يُشَارِكَهُ غَيْرُهُ فِي الِاسْمِ ، وَالنَّسَبِ ، لِأَنَّهُ غَايَةُ الْمُمْكِنِ وَلِأَنَّ الْمُشَارَكَةَ نَادِرَةٌ ، ثُمَّ صِحَّةُ دَعَوَاهَا بَعْدَ تَحْدِيدِهَا مُعْتَبَرَةٌ بِشَرْطَيْنِ : أَنْ يَذْكُرَ أَنَّهَا مِلْكُهُ . وَالثَّانِي : أَنْ يَذْكُرَ أَنَّهَا فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ . وَهُوَ إِذَا ذَكَرَ ذَلِكَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُعَيِّنَ السَّبَبَ الَّذِي صَارَتْ بِهِ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَبَيْنَ أَنْ يُطْلِقَهُ .
فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى بِمَالٍ فِي الذِّمَّةِ ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مِنْ ذَوِي الْأَمْثَالِ كَالدَّرَاهِمِ ، وَالدَّنَانِيرِ ، أَوِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ مِمَّا يَصِحُّ أَنْ يُثْبَتَ فِي الذِّمَّةِ ثَمَنًا ، أَوْ يُضْمَنَ فِي الْعَمْدِ بِمِثْلِهِ ، فَيَلْزَمُهُ فِي الدَّعْوَى أَنْ يَذْكُرَ الْجِنْسَ وَالنَّوْعَ ، وَالصِّفَةَ ، وَالْقَدَرَ ، بِمَا يَصِيرُ بِهِ عِنْدَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ مَعْلُومًا ، وَهُوَ بِالْخِيَارِ فِي أَنْ يَذْكُرَ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ ، أَوْ لَا يَذْكُرَ ، فَتَكُونُ صِحَّةُ الدَّعْوَى شُرُوطُ الدَّعْوَى بِمَالٍ فِي الذِّمَّةِ مُعْتَبَرَةً بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَقُولَ لِي عَلَيْهِ كَذَا وَيَصِفَهُ . وَالشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ يَقُولَ وَهُوَ حَالٌّ ، لِأَنَّ الْمُؤَجَّلَ لَا يَسْتَحِقُّ الْمُطَالَبَةَ بِهِ قَبْلَ حُلُولِهِ ، فَلَمْ تَصِحَّ دَعْوَاهُ ، فَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ حَالًّا ، وَبَعْضُهُ مُؤَجَّلًا صَحَّ دَعْوَى جَمِيعِهِ لِاسْتِحْقَاقِ الْمُطَالَبَةِ بِبَعْضِهِ وَيَكُونُ الْمُؤَجَّلُ تَبَعًا ، فَلَوْ كَانَ الْمُؤَجَّلُ فِي عَقْدٍ قُصِدَ بِدَعْوَاهُ تَصْحِيحُ الْعَقْدِ ، كَالسَّلَمِ الْمُؤَجَّلِ ، صَحَّتْ دَعْوَاهُ ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ مُسْتَحَقٌّ فِي الْحَالِ . وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ : أَنْ يَقُولَ : وَقَدْ مَنَعَنِي ، أَوْ أَخَّرَهُ عَنِّي فَإِنْ قَالَ : وَقَدْ أَنْكَرْتُ صَحَّ ، لِأَنَّ الْمُنْكِرَ مَانِعٌ . ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا بَعْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الشُّرُوطِ الثَّلَاثَةِ : هَلْ يُعْتَبَرُ فِي صِحَّةِ الدَّعْوَى أَنْ
يَقُولُ : وَأَنَا أَسْأَلُ الْقَاضِي ، أَنْ يُلْزِمَهُ الْخُرُوجَ إِلَيَّ مِنْ حَقِّي الدَّعْوَى بِمَالٍ فِي الذِّمَّةِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُعْتَبَرُ فِي صِحَّةِ الدَّعْوَى ، لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالتَّحَاكُمِ إِلَيْهِ ، وَإِلَّا كَانَ خَبَرًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يُعْتَبَرُ ، لِأَنَّ شَاهِدَ الْحَالِ يَدُلُّ عَلَيْهِ ، فَاعْتُبِرَ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَا فِي الذِّمَّةِ غَيْرَ ذِي مِثْلٍ ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الشَّرْعُ مَانِعًا مِنْ ثُبُوتِهِ فِي الذِّمَّةِ ، كَاللُّؤْلُؤِ ، وَالْجَوْهَرِ ، فَلَا تَصِحُّ دَعْوَى عَيْنِهِ ، لِأَنَّهَا لَا يَصِحُّ ثُبُوتُهَا فِي الذِّمَّةِ إِلَّا أَنْ يَقْصِدَ بِالدَّعْوَى ثُبُوتَ عِوَضِهَا ، لِأَنَّهَا مَغْصُوبَةٌ ، فَتَصِحُّ دَعْوَاهَا بِذِكْرِ قِيمَتِهَا ، أَوْ تَكُونَ عَنْ سَلَمٍ فَاسِدٍ ، فَتَكُونُ الدَّعْوَى بِرَدِّ ثَمَنِهَا ، وَيَكُونُ ذِكْرُهَا إِخْبَارًا عَنِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِعِوَضِهَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَصِحَّ فِي الشَّرْعِ ثُبُوتُهُ فِي الذِّمَّةِ ، وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي السَّلَمِ أَنْ يَكُونَ مَعْقُودًا عَلَى ثِيَابٍ ، فَيَلْزَمُهُ فِي صِحَّةِ دَعْوَاهَا شَرْطَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَصِفَهَا بِأَوْصَافِهَا الْمُسْتَحَقَّةِ فِي عَقْدِ السَّلَمِ . وَالشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ يَذْكُرَ أَنَّهَا عَنْ عَقْدِ سَلَمٍ ، يَذْكُرُ فِيهِ الشُّرُوطَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي صِحَّةِ السَّلَمِ . ثُمَّ يَذْكُرُ بَعْدَهَا مَا يُوجِبُهُ مَقْصُودُ الدَّعْوَى فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ عَنْ سَلَمٍ ، لَمْ تَصِحَّ دَعْوَى أَعْيَانِهَا ، لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ مَغْصُوبَةً تُوجِبُ غُرْمَ قِيمَتِهَا ، فَيَلْزَمُهُ مَعَ ذِكْرِ الصِّفَةِ أَنْ يَذْكُرَ الْقِيمَةَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : الْإِبِلُ الْمُسْتَحَقَّةُ فِي الدِّيَةِ وَالْغُرَّةُ الْمُسْتَحَقَّةُ فِي الْجَنِينِ ، فَلَا يَلْزَمْهُ صِفَتُهَا فِي دَعْوَاهُ ، لِأَنَّ أَوْصَافَهَا مُسْتَحَقَّةٌ بِالشَّرْعِ ، وَصِحَّةِ الدَّعْوَى فِيهَا مُعْتَبَرَةٌ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَذْكُرَ أَنَّهَا عَنْ جِنَايَةٍ يَصِفُهَا بِعَمْدٍ ، أَوْ خَطَأٍ ، لِاخْتِلَافِ صِفَاتِهَا بِالْعَمْدِ ، وَالْخَطَأِ ، وَهِيَ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَى الْجَانِي فِي الْعَمْدِ ، وَفِي الْخَطَأِ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَى الْعَاقِلَةِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَذْكُرَ أَنَّهَا عَلَى حُرٍّ ، لِأَنَّ الْإِبِلَ لَا تُسْتَحَقُّ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْعَبْدِ ، وَأَنَّ الْمُجْهِضَةَ لِجَنِينِهَا حُرَّةٌ ، لِأَنَّ الْغُرَّةَ لَا تُسْتَحَقُّ فِي جَنِينِ الْأَمَةِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَذْكُرَ مَا وَصَفْنَا فِيهِ الْجِنَايَةَ مِنْ نَفْسٍ ، أَوْ طَرَفٍ ، أَوْ جِرَاحٍ تَقَدَّرَتْ دِيَتُهُ بِالشَّرْعِ ، كَالْمُوَضِّحَةِ ، وَالْجَائِفَةِ ، فَتَكُونُ الْمُطَالَبَةُ بِالدَّعْوَى عَفْوًا عَنِ الْقِصَّاصِ ، فَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ فِيمَا لَا تَتَقَدَّرُ دِيَتُهُ بِالشَّرْعِ ، كَانَتْ دَعْوَاهُ مَقْصُورَةً عَلَى وَصْفِ
الْجِنَايَةِ وَلَمْ تَصِحَّ دَعْوَاهُ بِقَدْرِ أَرْشِهَا لِأَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ ، وَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى عَبْدٍ اسْتَحَقَّ فِيهَا الْقِيمَةَ فَيَذْكُرُ قَدْرَ قِيمَتِهِ لِيَعْلَمَ بِهَا دِيَةَ نَفْسِهِ وَأَطْرَافِهِ . وَإِنْ كَانَتْ فِي جَنِينِ أَمَةٍ ، ذَكَرَ فِي الدَّعْوَى قَدْرَ قِيمَتِهَا ، لِأَنَّ فِي جَنِينِ الْأَمَةِ عُشْرُ قِيمَتِهَا ، ثُمَّ تُسْتَوْفَى شُرُوطُ الْمَقْصُودِ بِالدَّعْوَى فَهَذَا حُكْمُ دَعْوَى الِاسْتِحْقَاقِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا دَعْوَى الِاعْتِرَاضِ أقسامها فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَى مَا فِي يَدِهِ . وَالثَّانِي : إِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ . فَأَمَّا تَوَجُّهُ الدَّعْوَى إِلَى مَا فِي يَدِهِ ، فَلَا تَكُونُ إِلَّا بَعْدَ مُعَارَضَتِهِ ، فَإِنْ كَانَتِ الْمُعَارَضَةُ بِمَا لَا يُسْتَضَرُّ بِهِ الْمُدَّعِي لَمْ تَصْحَّ الدَّعْوَى مِنْهُ . وَإِنْ كَانَتْ بِمَا يُسْتَضَرُّ بِهِ الْمُدَّعِي إِمَّا بِمَدِّ الْيَدِ إِلَى مِلْكِهِ ، وَإِمَّا بِمَنْعِهِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ وَإِمَّا بِمُلَازَمَتِهِ عَلَيْهِ ، أَوْ بِقَطْعِهِ عَنْ أَشْغَالِهِ صَحَّتْ دَعْوَاهُ بِخَمْسَةِ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَصِفَ الْمِلْكَ بِمَا يَصِيرُ بِهِ مُتَعَيَّنًا مَنْقُولًا وَغَيْرَ مَنْقُولٍ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَهُ وَفِي مِلْكِهِ ، لِأَنَّ مَا لَا يَمْلِكُهُ ، أَوْ لَمْ يَسْتَتِبُّهُ مَالِكُهُ فِيهِ لَا يُمْنَعُ مِنَ الْمُعَارَضَةِ فِيهِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَذْكُرَ الْمُعَارِضَ لَهُ بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ ، إِنْ كَانَ حَاضِرًا ، أَوْ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ إِنْ كَانَ غَائِبًا . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَذْكُرَ الْمُعَارَضَةَ هَلْ هِيَ فِي الْمِلْكِ ، أَوْ فِي نَفْسِهِ ؟ لِأَجْلِ الْمِلْكِ لِافْتِرَاقِهِمَا فِي الْحُكْمِ . وَالْخَامِسُ : أَنْ يَذْكُرَ أَنَّهُ عَارَضَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ لِأَنَّهُ رُبَّمَا اسْتَحَقَّ الْمُعَارَضَةَ بِرَهْنٍ ، أَوْ إِجَارَةٍ حَتَّى لَا يَتَّقِيَ فِي دَعْوَاهُ مَا يَحْتَاجُ الْحَاكِمُ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْهُ لِيَعْدِلَ بِسُؤَالِهِ إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ . وَأَمَّا تَوَجُّهُ الدَّعْوَى إِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ ، لِأَنَّهُ قَدْ طُولِبَ بِمَا لَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَلْحَقْهُ بِالْمُطَالَبَةِ ضَرَرٌ ، لَمْ تَصِحَّ الدَّعْوَى ، وَإِنْ لَحِقَهُ بِهَا ضَرَرٌ ، إِمَّا فِي نَفْسِهِ بِالْمُلَازِمَةِ ، أَوْ فِي جَاهِهِ بِالْإِشَاعَةِ ، وَإِمَّا فِي مَالِهِ بِالْمُعَارَضَةِ صَحَّتْ مِنْهُ الدَّعْوَى لِيَسْتَدْفِعَ بِهَا الضَّرَرَ وَصِحَّتُهَا مُعْتَبَرَةٌ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ : أَحَدُّهَا : أَنْ يَذْكُرَ مَا طُولِبَ بِهِ ، إِمَّا مُفَسَّرًا ، أَوْ مُجْمَلًا ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالدَّعْوَى مَا سِوَاهُ . وَالثَّانِي : أَنْ يَذْكُرَ أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِالْحَقِّ لَا تُرَدُّ .
وَالثَّالِثُ : أَنْ يَذْكُرَ مَا اسْتَضَرَّ بِهِ ، لِأَنَّ مَقْصُودَ الدَّعْوَى لِيَكُونَ الْكَفُّ عَنْهُ مُتَوَجِّهًا إِلَيْهِ ، فَإِنِ اقْتَرَنَ بِهَذِهِ الشُّرُوطِ مَا يَكْمُلُ بِهِ جَمِيعُ الدَّعَاوَى ، سَأَلَ الْحَاكِمُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَلَهُ فِي الْجَوَابِ ، عَنْ دَعْوَى هَذِهِ الْمُعَارَضَةِ ، ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَعْتَرِفَ بِجَمِيعِ مَا تَضَمَّنَهَا ، فَيَمْنَعُهُ الْحَاكِمُ مِنْ مُعَارَضَتِهِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُنْكِرَ الْمُعَارَضَةَ ، فَيُخَلَّى سَبِيلُهُ ، فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ لِأَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِالْمُعَارَضَةِ اسْتِحْقَاقُ غُرْمٍ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَذْكُرَ أَنَّهُ يُعَارِضُهُ فِيهِ بِحَقٍّ يَصِفُهُ ، فَيَصِيرُ مُدَّعِيًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مُدَّعًى عَلَيْهِ ، وَيَصِيرُ الْمُدَّعِي مُدَّعًى عَلَيْهِ ، بَعْدَ أَنْ كَانَ مُدَّعِيًا ، فَهَذَا الْكَلَامُ فِي صِحَّةِ الدَّعْوَى ، وَإِنْ تَضَمَّنَتْ ضُرُوبًا أَغْفَلْنَاهَا اقْتِصَارًا وَتَعْوِيلًا بِهَا عَلَى اعْتِبَارِ مَا بَيَّنَاهُ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الدَّعْوَى الْفَاسِدَةُ أقسامها ، فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : مَا عَادَ فَسَادُهُ إِلَى الْمُدَّعِي . وَالثَّانِي : مَا عَادَ فَسَادُهُ إِلَى الشَّيْءِ الْمُدَّعَى . وَالثَّالِثُ : مَا عَادَ فَسَادُهُ إِلَى سَبَبِ الدَّعْوَى . فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ فِي عَوْدِ فَسَادِهِ إِلَى الْمُدَّعِي ، فَكَمُسْلِمٍ ادَّعَى نِكَاحَ مَجُوسِيَّةٍ أَوْ حُرٍّ وَاجِدٍ الطَّوْلَ ادَّعَى نِكَاحَ أَمَةٍ ، فَهَذِهِ دَعْوَى فَاسِدَةٌ ، لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ مَجُوسِيَّةً ، وَالْوَاجِدُ الطَّوْلِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْكِحَ أَمَةً ، فَبَطَلَتْ دَعْوَاهُ لِامْتِنَاعِ مَقْصُودِهَا فِي حَقِّهِ ، فَلَمْ يَكُنْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَسْمَعَهَا مِنْهُ . وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي : فِيمَا عَادَ فَسَادُهُ إِلَى الشَّيْءِ الْمُدَّعَى ، فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَدَّعِيَ مَا لَا تَقِرُّ عَلَيْهِ يَدٌ كَالْخَمْرِ ، وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ ، وَالسِّبَاعِ الضَّارِيَةِ ، وَالْحَشَرَاتِ الْمُؤْذِيَةِ ، فَدَعَوَاهُ فَاسِدَةٌ ، لِوُجُوبِ رَفْعِ الْيَدِ عَنْهَا فِي حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يَكُنْ لِلْحَاكِمِ ، أَنْ يَسْمَعَهَا مِنْ كَافَّةِ النَّاسِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَدَّعِي مَا تَقَرُّ عَلَيْهِ الْيَدُ ، وَلَا تَصِحُّ الْمُعَارَضَةُ عَنْهُ كَجُلُودِ الْمَيِّتَةِ ، وَالسِّرَاجِينِ ، وَالسِّمَادِ ، وَالنَّجِسِ ، وَالْكِلَابِ الْمُعَلَّمَةِ ، تَقِرُّ عَلَيْهَا الْيَدُ لِلِانْتِفَاعِ بِجُلُودِ الْمَيِّتَةِ ، إِذَا دُبِغَتْ ، وَبِالسَّمَادِ ، وَالسِّرَاجِينِ فِي الزُّرُوعِ ، وَالشَّجَرِ ، وَالْكِلَابِ فِي الصَّيْدِ ، وَالْمَوَاشِي ، وَاخْتُلِفَ فِي الْيَدِ عَلَيْهَا إِذَا كَانَتِ الْجُلُودُ مِنْ أَمْوَاتِ حَيَوَانٍ ، وَالسِّرَاجِينُ مِنْ أَرْوَاثِ بَهَائِمِهِ ، هَلْ تَكُونُ يَدُ مِلْكٍ أَوْ يَدِ انْتِفَاعٍ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهَا يَدُ انْتِفَاعٍ لَا يَدُ مِلْكٍ لِخُرُوجِهَا عَنْ مُعَارَضَةِ الْأَمْلَاكِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا يَدُ مِلْكٍ لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِهَا كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ .
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ مَا كَانَ مِنْهَا مِلْكًا يُعْتَاضُ عَنْهُ ، وَيَصِيرُ فِي الثَّانِي يُعْتَاضُ عَنْهُ كَجُلُودِ الْمَيْتَةِ كَانَتِ الْيَدُ عَلَيْهَا يَدُ مِلْكٍ اعْتِبَارًا بِالطَّرَفَيْنِ وَمَا خَرَجَ عَنْ أَمْلَاكِ الْمُعَاوِضَةِ فِي طَرَفَيْهِ ، كَالْكِلَابِ ، وَالْأَنْجَاسِ ، كَانَتِ الْيَدُ عَلَيْهَا يَدُ انْتِفَاعٍ لَا يَدَ مِلْكٍ فَإِذَا تَوَجَّهَتِ الدَّعْوَى إِلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا ، لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا أَوْ تَالِفًا . فَإِنْ كَانَ تَالِفًا كَانَتِ الدَّعْوَى فِيهِ بَاطِلَةً ، لِأَنَّهُ لَا يُسْتَحَقُّ بِتَلَفِهَا مِثْلٌ ، وَلَا قِيمَةٌ ، وَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً لَمْ يَخْلُ أَنْ يَدَّعِيَهَا بِمُعَاوِضَةٍ ، أَوْ غَيْرِ مُعَاوِضَةٍ . فَإِنِ ادَّعَاهَا بِمُعَاوَضَةٍ أَنَّهُ ابْتَاعَهَا ، كَانَتِ الدَّعْوَى فَاسِدَةٌ ، لِأَنَّهَا لَا تُمْلَكُ بِالِابْتِيَاعِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ دَفَعَ ثَمَنَهَا ، فَتَكُونُ دَعْوَاهُ مُتَوَجِّهَةً إِلَى الثَّمَنِ إِنْ طَلَبَهُ ، وَيَكُونُ ذِكْرُ ابْتِيَاعِهَا إِخْبَارًا عَنِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِاسْتِرْجَاعِ الثَّمَنِ بِهِ ، وَإِنِ ادَّعَاهَا بِغَيْرِ مُعَاوَضَةٍ فَقَدْ تَصِحُّ دَعْوَاهَا فِي أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تُغْصَبَ مِنْهُ ، فَتَصِحُّ دَعْوَى غَصْبِهَا . وَالثَّانِي : أَنْ يُوصِيَ بِهَا ، فَتَصِحُّ دَعْوَى الْوَصِيَّةِ بِهَا . وَالثَّالِثُ : أَنْ تُوهَبَ لَهُ ، فَتَصِحُّ دَعْوَى هِبَتِهَا . فَإِنْ أَطْلَقَ الدَّعْوَى وَلَمْ يُفَسِّرْهَا ، بِمَا تَصِحُّ بِهِ أَوْ تَفْسُدَ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيمَا يَكُونُ مِنَ الْحَاكِمِ فِيهَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَسْتَفْسِرُ لِيَعْمَلَ عَلَى تَفْسِيرِهِ فِي صِحَّتِهَا ، وَفَسَادِهَا ، لِأَنَّهُ مَنْدُوبٌ لِفَصْلِ مَا اشْتَبَهَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يُمْسِكَهُ مُتَوَقِّفًا عَنْهُمَا ، وَلَا يَسْتَفْسِرَهُ إِيَّاهَا ، لِيَكُونَ هُوَ الْمُبْتَدِئُ بِتَفْسِيرِهَا ، لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ دَعْوَاهُ حَقٌّ لَهُ ، يَقِفُ عَلَى خِيَارِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : مَا تُقَرُّ عَلَيْهِ الْيَدُ مِلْكًا ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ مَالِكٍ إِلَى مَالِكٍ كَالْوَقْفِ وَأُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَالدَّعْوَى فِيهِ عَلَى الْمَالِكِ فَاسِدَةٌ ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْمَعَهَا الْحَاكِمُ عَلَى مَالِكٍ لِاسْتِحَالَةِ انْتِقَالِهِ عَنْ مِلْكِهِ إِلَى مِلْكِ غَيْرِهِ إِلَّا أَنْ يَدَّعِيَ ابْتِيَاعَهُ لِاسْتِرْجَاعِ الثَّمَنِ ، فَتَكُونُ الدَّعْوَى مُتَوَجِّهَةً إِلَى الثَّمَنِ وَيَكُونُ ذِكْرُ ابْتِيَاعِهِ إِخْبَارًا عَنِ السَّبَبِ . وَيَجُوزُ أَنْ يَدَّعِيَ الْوَقْفَ وَأُمَّ الْوَلَدِ عَلَى غَاصِبِهَا ، وَإِنْ لَمْ يَدَّعِيَا عَلَى مَالِكِهِمَا . وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ : فِي الْأَصْلِ وَهُوَ مَا عَادَ فَسَادُهُ إِلَى سَبَبِ الدَّعْوَى وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : عَقْدٌ - وَمُقْتَضَى عَقْدٍ : فَأَمَّا الْعَقْدُ فَكَالْبَيْعِ ، إِذَا ادَّعَى مَا ابْتَاعَهُ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : صَحِيحٌ وَمُتَّفَقٌ عَلَى فَسَادِهِ ، وَمُخْتَلَفٌ فِيهِ :
فَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ صَحِيحًا ، صَحَّتِ الدَّعْوَى فِيهِ : إِذَا اسْتَوْفَى شُرُوطَهَا عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ . وَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ مُتَّفَقًا عَلَى فَسَادِهِ كَبَيْعِ الْحَمْلِ فِي الْبَطْنِ ، وَبَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ أَنْ تُخْلَقَ ، فَالدَّعْوَى فِيهِ بَاطِلَةٌ لَا يَسْمَعُهَا إِنْ طَلَبَ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ ، وَيَسْمَعُهَا إِنْ طَلَبَ مُوجَبَهَا مِنْ رَدِّ الثَّمَنِ . وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ مُخْتَلَفًا فِيهِ ، كَبَيْعِ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ ، يَسْمَعُهَا لِيَحْكُمَ فِيهَا بِمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ ، مِنْ صِحَّةِ الْبَيْعِ ، وَتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ ، أَوْ يَحْكُمَ بِفَسَادِهِ وَرَدِّ الثَّمَنِ . وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي عُقُودِ الْإِجَارَاتِ ، وَالْمَنَاكِحِ ، وَالرُّهُونِ . وَأَمَّا نَقْصُ الْعَقْدِ فَكَالشُّفْعَةِ ، وَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : مُسْتَحَقَّةٌ ، وَبَاطِلَةٌ وَمُخْتَلَفٌ فِيهَا . فَأَمَّا الْمُسْتَحَقَّةُ : فَشُفْعَةُ الْخُلْطَةِ تَصِحُّ دَعْوَاهَا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ شُرُوطِهَا وَأَمَّا الْبَاطِلَةُ فَالشُّفْعَةُ فِيمَا يُنْقَلُ مِنْ مَتَاعٍ ، أَوْ حَيَوَانٍ فَلَا يَسْمَعُ الْحَاكِمُ مِمَّنْ مِنْهُ الدَّعْوَى . فَإِنْ جَهِلَ الْمُدَّعِي حُكْمَهَا أَخْبَرَهُ بِسُقُوطِ حَقِّهِ فِيهَا . وَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهَا ، فَشُفْعَةُ الْجَارِ ، فَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ مِمَّنْ يَرَى وُجُوبَهَا سَمِعَ الدَّعْوَى فِيهَا ، وَحَكَمَ بِهَا لِمُدَّعِيهَا ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَرَى وُجُوبَهَا لَمْ يَسْمَعِ الدَّعْوَى فِيهَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ ، لِأَنَّ فِي الْبَيْعِ عَقْدًا يَفْتَقِرُ إِلَى الْحَاكِمِ بِإِبْطَالِهِ ، فَلِذَلِكَ سَمِعَ فِيهِ الدَّعْوَى لِيَحْكُمَ بِإِبْطَالِهِ وَرَدِّ مَا تَقَابَضَاهُ ، وَلَيْسَ هَذَا فِي الشُّفْعَةِ ، لِأَنَّهَا مُجَرَّدُ دَعْوَى ، يَبْطُلُ بِرَدِّهَا وَالْإِعْرَاضِ عَنْهَا ، فَلِذَلِكَ مَا افْتَرَقَا .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الدَّعْوَى الْمُجْمَلَةُ فَكَقَوْلِهِ : لِي عَلَيْهِ شَيْءٌ حكمها ، فَالشَّيْءُ مَجْهُولٌ لِانْطِلَاقِهِ عَلَى كُلِّ مَوْجُودٍ مِنْ حَقٍّ وَبَاطِلٍ ، وَصَحِيحٍ وَفَاسِدٍ ، فَلَا يُسْمَعُ دَعْوَى الْمُجْمَلِ وَالْمَجْهُولِ ، وَإِنْ سُمِعَ الْإِقْرَارُ ، بِالْمُجَمَّلِ وَالْمَجْهُولِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الدَّعْوَى ، وَالْإِقْرَارِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُدَّعِي لَا يَجُوزُ أَنْ يَدَّعِيَ مَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مُدَّعِيَ الْمَجْهُولِ مُقَصِّرٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، فَلَمْ تُسْمَعْ مِنْهُ ، وَالْمُقِرُّ مُقَصِّرٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ ، فَأُضِرَّ بِهِ . وَلَا يَلْزَمُ الْحَاكِمَ أَنْ يَسْتَفْسِرَهُ عَمَّا ادَّعَاهُ مِنْ مُجْمَلٍ ، أَوْ مَجْهُولٍ ، حَتَّى يَكُونَ هُوَ الْمُبْتَدِئُ بِتَفْسِيرِهِ بِخِلَافِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْوَجْهَيْنِ فِي اسْتِقْرَارِ الْمَقْصُودِ بِالدَّعْوَى ، لِأَنَّ تِلْكَ مَعْلُومَةٌ سُئِلَ فِيهَا عَنْ مَقْصُودِهِ ، وَهَذِهِ مَجْهُولَةٌ أَخْفَاهَا لِقَصْدِهِ ، فَإِنْ قَالَ لَهُ فَسِّرْ مَا
أَجْمَلْتَ لَمْ يَجُزْ ، لِأَنَّهُ تَلْقِينٌ وَإِنْ قَالَ لَهُ إِنْ فَسَّرْتَ مَا أَجْمَلْتَ جَازَ لِأَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ ، وَالْحَاكِمُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُلَقِّنَ وَيَجُوزَ أَنْ يَسْتَفْهِمَ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الدَّعْوَى النَّاقِصَةُ أقسامها وحكم كل قسم فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : نُقْصَانُ صِفَةٍ ، وَنُقْصَانُ شَرْطٍ ، فَأَمَّا نُقْصَانُ الصِّفَةِ ، فَكَقَوْلِهِ : لِي عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ ، لَا يَصِفُهَا ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْهَا ، وَلَا يَحْمِلَهَا عَلَى الْغَالِبِ مِنْ نَقْدِ الْبَلَدِ فَإِنْ كَانَ إِطْلَاقُهَا فِي الْبَيْعِ مَحْمُولًا عَلَى الْغَالِبِ ، لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ فِي الدَّعْوَى مِنْ غَيْرِهَا ، فَإِنْ كَانَتْ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ سَأَلَهُ عَنْهَا أَيْضًا ، لِجَوَازِ أَنْ يُعْقَدَ بِغَيْرِهَا . وَأَمَّا نُقْصَانُ الشَّرْطِ فَكَدَعْوَى عَقْدِ نِكَاحٍ ، لَا يُذْكَرُ فِيهَا الْوَلِيُّ ، أَوِ الشُّهُودُ ، فَلَا يَسْأَلُهُ الْحَاكِمُ عَنْ نُقْصَانِ الشَّرْطِ ، وَيَتَوَقَّفُ عَنِ السَّمَاعِ ، حَتَّى يَكُونَ الْمُبْتَدِئُ بِذِكْرِهِ ، أَوْ لَا يَذْكُرُهُ فَيَطْرَحُهَا . وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْ نُقْصَانِ الصِّفَةِ ، وَلَا يَسْأَلَهُ عَنْ نُقْصَانِ الشَّرْطِ : أَنَّ نُقْصَانَ الصِّفَةِ لَا يَتَرَدَّدُ ذِكْرُهُ بَيْنَ صِحَّةٍ وَفَسَادٍ ، فَجَازَ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْهُ وَنُقْصَانُ الشَّرْطِ يَتَرَدَّدُ ذِكْرُهُ بَيْنَ الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْهُ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الدَّعْوَى الزَّائِدَةُ أنواعها فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ هَدْرًا غَيْرُ مُؤَثِّرَةٍ كَقَوْلِهِ : ابْتَعْتُ مِنْهُ هَذَا الْعَبْدَ فِي بَلَدِ كَذَا ، أَوْ فِي سُوقِ كَذَا ، فَلَا يُؤَثِّرُ فِي الدَّعْوَى وَيَطْرَحُ لِلْحَاكِمِ سَمَاعَهَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ تَأْكِيدًا كَقَوْلِهِ : ابْتَعْتُ هَذَا الْعَبْدَ عَلَى أَنِّي إِنْ وَجَدْتُ بِهِ عَيْبًا رَدَدْتُهُ ، أَوْ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ أَنِّي أَسْتَحِقُّ دَرَكَهُ فَلَا يَمْنَعُ الْحَاكِمُ مِنْ سَمَاعِهَا ، وَإِنْ لَمْ تَحْتَجِ الدَّعْوَى إِلَيْهَا بِمَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ مِنْ رَدِّ الْعَيْبِ ، وَدَرْكِ الْمُسْتَحَقِّ ، لِأَنَّ التَّأْكِيدَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْعُقُودِ فَجَرَتِ الدَّعْوَى فِيهِ عَلَى الْمَعْهُودِ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ مُنَافِيَةٌ لِمُوجَبِ الدَّعْوَى . كَقَوْلِهِ : ابْتَعْتُ هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفٍ إِنِ اسْتَقَالَنِي أَقَلْتُهُ ، وَإِنْ رَدَّهَا عَلَيَّ فَسَخْتُهُ فما حكم الزيادة في الدعوة فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي الدَّعْوَى مُعْتَبَرَةٌ بِمَخْرَجِهَا مِنْهُ ، فَإِنْ خَرَجَتْ مَخْرَجَ الْوَعْدِ بَعْدَ صِحَّةِ الْعَقْدِ ، لَمْ تَمْنَعْ مِنْ صِحَّةِ الدَّعْوَى وَكَانَ ذِكْرُهَا حِكَايَةَ حَالٍ تَقِفُ عَلَى خِيَارِهِ ، وَإِنْ خَرَجَتْ مَخْرَجَ الشَّرْطِ فِي الْعَقْدِ ، أَبْطَلَ بِهَا الدَّعْوَى فَإِنْ قَصَدَ بِهَا تَمَلُّكَ الْمَبِيعِ لَمْ يَسْمَعْهَا وَإِنْ قَصَدَ بِهَا اسْتِرْجَاعَ الثَّمَنِ سَمِعَهَا .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الدَّعْوَى الْكَاذِبَةُ فَهِيَ الْمُسْتَحِيلَةُ : كَمَنِ ادَّعَى وَهُوَ بِمَكَّةَ أَنَّهُ نَكَحَ بِالْأَمْسِ فُلَانَةً بِالْبَصْرَةِ حكم هذه الدعوى .
أَوِ ادَّعَى أَنَّهُ وَرِثَ هَذَا الْعَبْدَ مِنْ أَبِيهِ وَقَدْ وُلِدَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ حكم هذه الدعوى . أَوِ ادَّعَى أَنَّ فُلَانًا جَرَحَهُ هَذِهِ الْجِرَاحَةَ فِي يَوْمِهِ ، وَفُلَانٌ غَائِبٌ حكم هذه الدعوى إِلَى نَظَائِرِ هَذَا مِنَ الدَّعَاوَى الْمُمْتَنِعَةِ ، فَتَكُونُ كَاذِبَةً ، يُقْطَعُ بِكَذِبِ مُدَّعِيهَا ، لَا يَسْمَعُهَا الْحَاكِمُ ، وَإِنْ صَدَّقَهُ الْخَصْمُ عَلَيْهَا لِاسْتِحَالَتِهَا ، وَتَزُولُ بِهَا عَدَالَةُ الْمُدَّعِي لِلْعِلْمِ بِكَذِبِهِ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .
فَصْلٌ : فَإِذَا صَحَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا الْبَابِ ، فَالدَّعْوَى الصَّحِيحَةُ مَمْنُوعَةٌ مِنْ كُلِّ جَائِزِ الْأَمْرِ فِيمَا يَدَّعِيهِ ، عَلَى كُلِّ جَائِزِ الْأَمْرِ ، فِيمَا يُدَّعَى عَلَيْهِ سَوَاءٌ عُرِفَ بَيْنَهُمَا مُعَامَلَةٌ ، أَوْ لَمْ يُعْرَفْ ، وَيُعْدِيهِ الْحَاكِمُ إِذَا اسْتَعْدَاهُ وَإِنْ جَلَّ قَدْرُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَتَصَوَّنَ ، وَقَالَ مَالِكٌ لَا يُعْدِيهِ عَلَى أَهْلِ الصِّيَانَةِ ، فَلَا يَسْتَحْضِرْهُ الْحَاكِمُ ، إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ بَيْنَهُمَا مُعَامَلَةً ، لِئَلَّا يَسْتَبْذِلَ أَهْلَ الصِّيَانَاتِ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ " وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : يَادَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَأَمَرَهُ بِالتَّسْوِيَةِ وَتَرَكِ الْمَيْلِ . وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي عَهْدِهِ إِلَى أَبِي مُوسَى : آسِ بَيْنَ النَّاسِ فِي وَجْهِكَ ، وَعَدْلِكَ ، وَمَجْلِسِكَ ، حَتَّى لَا يَطْمَعَ شَرِيفٌ فِي حَيْفِكَ ، وَلَا يَيْأَسْ ضَعِيفٌ فِي عَدْلِكَ . وَقَدِ احْتَكَمَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيَهُودِيٌّ إِلَى شُرَيْحٍ فِي حَالِ خِلَافَتِهِ فَلَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يُسَاوِيَ فِي الْمُحَاكَمَةِ بَيْنَ الْيَهُودِيِّ ، وَبَيْنَ نَفْسِهِ ، وَلِأَنَّ خُمُولَ الْمُدَّعِي لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ ذَا حَقٍّ ، وَصِيَانَةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ حَقٌّ . وَلِأَنَّ الْمُعَامَلَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ الْحَقِّ ، وَعَدَمُهَا لَا يَمْنَعُ مِنْ حُدُوثِ الْحَقِّ ، فَلَمْ يَكُنْ لِاعْتِبَارِهَا فِي الدَّعَاوَى وَجْهٌ . وَالَّذِي يَجُوزُ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ الْحَاكِمُ فِي تَحَاكُمِ أَهْلِ الصِّيَانَةِ أَنْ يُمَيِّزَهُمْ عَنْ مَجَالِسِ الْعَامَّةِ ، وَيُفْرِدَ لِمُحَاكَمَتِهِمْ مَجْلِسًا خَاصًا يُصَانُونَ بِهِ ، عَنْ بِذْلَةِ الْعَامَّةِ ، يُجْمَعُ فِيهِ بَيْنَهُمْ ، وَبَيْنَ خُصُومِهِمْ ، فَلَا تُرَدُّ فِيهِ الدَّعْوَى وَلَا تُبْتَذَلُ فِيهِ الصِّيَانَةُ .
مَسْأَلَةٌ إِذَا ادَّعَى الرَّجُلُ الشَّيءَ فِي يَدَيِ الرَّجُلِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا ادَّعَى الرَّجُلُ الشَّيءَ فِي يَدَيِ الرَّجُلِ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لِمَنْ هُوَ فِي يَدَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ ، لِأَنَّهُ أَقْوَى سَبَبًا ، فَإِنِ اسْتَوَى سَبَبُهُمَا ، فَهُمَا فِيهِ سَوَاءٌ ، فَإِنْ أَقَامَ الَّذِي لَيْسَ فِي يَدَيْهِ الْبَيِّنَةَ ، قِيلَ لِصَاحِبِ الْيَدِ الْبَيِّنَةُ الَّتِي لَا تَجُرُّ إِلَى أَنْفُسِهَا بِشَهَادَتِهَا أَقْوَى مِنْ كَيْنُونَةِ الشَّيءِ فِي يَدَيْكَ ، وَقَدْ يَكُونُ فِي يَدَيْكَ مَا لَا تَمْلِكُهُ ، فَهُوَ لِفَضْلِ قُوَةِ سَبَبِهِ عَلَى سَبَبِكَ ، فَإِنْ أَقَامَ الْآخَرُ بَيِّنَةً قِيلَ قَدِ اسْتَوَيْتُمَا فِي الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَةِ وَالَذِي
الشَّيْءُ فِي يَدَيْهِ أَقْوَى سَبَبَا ، فَهُوَ لَهُ لِفَضْلِ قُوَةِ سَبَبِهِ ، وَهَذَا مُعْتَدِلٌ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ وَالسُنَّةِ عَلَى مَا قُلْنَا فِي رَجُلَيْنِ تَدَاعَيَا دَابَّةً وَأَقَامَ كلُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا دَابَّتُهُ نَتَجَهَا ، فَقَضَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي هُوَ فِي يَدَيْهِ قَالَ وَسَوَاءٌ التَّدَاعِيَ وَالْبَيِّنَةِ فِي النِّتَاجِ وَغَيْرِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ مُجَرَّدَ الدَّعَاوَى فِي الْمُطَالَبَاتِ لَا يُحْكَمُ فِي فَصْلِهَا إِلَّا بِحُجَّةٍ تَقْتَرِنُ بِهَا ، فَحُجَّةُ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةُ عَلَى إِثْبَاتِ مَا ادَّعَاهُ ، وَحَجَّةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْيَمِينُ عَلَى نَفْيِ مَا أَنْكَرَهُ ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ " . وَرَوَى الْأَعْمَشُ ، عَنْ شَقِيقِ بْنِ وَائِلٍ ، عَنِ الْأَشْعَثِ ، قَالَ : كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ يَهُودِيٍّ أَرْضٌ فَجَحَدَنِي عَلَيْهَا ، فَقَدَّمْتُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَلَكَ بَيِّنَةٌ ، فَقُلْتُ لَا . فَقَالَ لِلْيَهُودِيِّ : احْلِفْ . قُلْتُ : إِذَنْ يَحْلِفُ ، فَيَذْهَبُ بِمَالِي ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا [ آلِ عِمْرَانَ : ] ، فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الْخَبَرِ حُجَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا . وَرَوَى سِمَاكٌ ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، أَنَّ رَجُلًا مِنْ حَضْرَمَوْتَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ رَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ هَذَا غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ كَانَتْ لِأَبِي فَقَالَ الْكِنْدِيُّ : أَرْضِي ، وَفِي يَدِي ازْرَعُهَا ، لَا حَقَ لَهُ فِيهَا ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْحَضْرَمِيِّ : أَلَكَ بَيِّنَةٌ ، قَالَ : لَا . فَقَالَ : لَكَ يَمِينُهُ . فَقَالَ الْحَضْرَمِيُّ : إِنَّهُ فَاجِرٌ لَا يُبَالِي عَلَى مَا حَلَفَ إِنَهُ لَا يَتَوَرَّعُ مِنْ شَيْءٍ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَيْسَ لَكَ مِنْهُ إِلَّا ذَاكَ " فَدَلَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ . وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّ الْبَيِّنَةَ أَقْوَى مِنَ الْيَمِينِ ، لِزَوَالِ التُّهْمَةِ عَنِ الْبَيِّنَةِ وَتَوَجُّهِهَا إِلَى الْيَمِينِ . وَجَنَبَةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَقْوَى مِنْ جَنَبَةِ الْمُدَّعِي ، لِأَنَّ الدَّعْوَةَ إِنْ تَوَجَّهَتْ إِلَى مَا فِي يَدِهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَلَى مِلْكِهِ ، وَإِنْ تَوَجَّهَتْ إِلَى دَيْنٍ فِي ذِمَّتِهِ ، فَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ ، فَجُعِلَتْ أَقْوَى الْحُجَّتَيْنِ وَهِيَ الْبَيِّنَةُ فِي أَضْعَفِ الْجَنَبَتَيْنِ وَهِيَ الْمُدَّعِي ، وَجُعِلَتْ أَضْعَفَ الْحُجَّتَيْنِ وَهِيَ الْيَمِينُ فِي أَقْوَى الْجَنَبَتَيْنِ وَهِيَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، لِتَكُونَ قُوَّةُ الْحُجَّةِ جُبْرَانًا ، لِضَعْفِ الْجَنَبَةِ وَفِي الْجَنَبَةِ جُبْرَانًا لِضَعْفِ الْحُجَّةِ فَتَعَادَلَا فِي الضَّعْفِ وَالْقُوَّةِ .
فَصْلٌ : وَإِذَا تَعَيَّنَ الْمُدَّعِي ، وَتَحَرَّرَتِ الدَّعْوَى ، سَأَلَ الْحَاكِمُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، عَنِ الدَّعْوَى ، وَلَمْ يَسْأَلِ الْمُدَّعِيَ عَنِ الْبَيِّنَةِ ، لِأَنَّهُ قَدْ يُقِرُّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَلَا يُحْوَجُ إِلَى
الْبَيِّنَةِ ، فَإِنْ أَقَرَّ لَزِمَهُ إِقْرَارُهُ ، وَأَخْذَهُ بِمُوجِبِهِ ، وَقَدْ فَصَلَ الْحُكْمَ بَيْنَهُمَا . وَإِنْ أَنْكَرَ سَأَلَ الْحَاكِمُ الْمُدَّعِي : أَلِكَ بَيِّنَةٌ ؟ فَإِنْ ذَكَرَهَا أَمَرَهُ بِإِحْضَارِهَا ، فَإِذَا أُحْضِرَتْ سَمِعَ الْحَاكِمُ مِنْهَا وَحَكَمَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، بِهَا ، وَقَدَّمَهَا عَلَى يَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَّمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْيَمِينِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْبَيِّنَةَ أَقْوَى مِنَ الْيَمِينِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ التُّهْمَةَ مُنْتَفِيَةٌ عَنِ الْبَيِّنَةِ ، لِأَنَّهَا لَا تَجُرُّ إِلَى نَفْسِهَا نَفْعًا ، وَلَا تَدْفَعُ ضَرَرًا ، وَالتُّهْمَةُ مُتَوَجِّهَةٌ إِلَى يَمِينِ الْحَالِفِ ، لِأَنَّهُ يَدْفَعُ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ ضَرَرًا ، وَيَجُرُّ بِهَا إِلَى نَفْسِهِ نَفْعًا . وَالثَّانِي : أنَ الْبَيِّنَةَ تَشْهَدُ بِتَصْرِيحِ الْمِلْكِ ، وَتُوجِبُهُ ، وَالْيَمِينُ تَدُلُّ عَلَيْهِ وَلَا تُوجِبُهُ . وَإِنْ عَدِمَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ سَأَلَ الْحَاكِمُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْحَلِفَ ، وَلَمْ يَقُلْ لَهُ احْلِفْ ، لِأَنَّ سُؤَالَهُ اسْتِفْهَامٌ ، وَأَمْرُهُ تَلْقِينٌ ، فَإِنْ حَلَفَ فَصَلَ الْحُكْمَ بَيْنَهُمَا بِيَمِينِهِ ، وَسَقَطَتِ الدَّعْوَى فَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهَا ، وَتُرَدُّ يَمِينُهُ عَلَى الْمُدَّعِي ، بَعْدَ اسْتِقْرَارِ نُكُولِهِ ، وَلَا يُقْضَى عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ ، مِنْ غَيْرِ إِحْلَافِ الْمُدَّعِي ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُقْضَى عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ ، مِنْ غَيْرِ إِحْلَافِ الْمُدَّعِي ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ ، وَإِنِ امْتَنَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنَ الْيَمِينِ لِيُقِيمَ الْبَيِّنَةَ بَدَلًا مِنْ يَمِينِهِ نُظِرَ فِي الدَّعْوَى . فَإِنْ كَانَتْ بِدَيْنٍ فِي الذِّمَّةِ لَمْ تُسْمَعْ مِنْهُ الْبَيِّنَةُ لِأَنَّهُ نَفَى الدَّيْنَ بِإِنْكَارِهِ وَالْبَيِّنَةُ لَا تُسْمَعُ عَلَى النَّفْيِ وَقِيلَ لَهُ لَا بَرَاءَةَ لَكَ مِنَ الدَّعْوَى إِلَّا بِيَمِينِكَ ، فَإِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى بِعَيْنٍ فِي يَدِهِ ، فَفِي سَمَاعِ بَيِّنَتِهِ بَدَلًا مِنْ يَمِينِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ ، لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ بِهِ إِلَيْهَا ، وَيُسْتَغْنَى بِيَمِينِهِ عَنْهَا . وَالثَّانِي : تَسْمَعُ بَيِّنَتُهُ عَلَيْهَا وَتَرْتَفِعُ الدَّعْوَى بِهَا ، وَتَكُونُ بَيِّنَتُهُ أَوْكَدُ مِنْ يَمِينِهِ ، لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ قَدْ جَمَعَتْ إِثْبَاتًا وَنَفْيًا ، فَصَحَّ سَمَاعُهَا مِنْهُ فِي الْأَعْيَانِ لِمَا تَضَمَّنَهَا مِنَ الْإِثْبَاتِ ، وَلَمْ يَسْمَعْهَا فِيمَا تَعَلَّقَ بِالذِّمَّةِ لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ النَّفْيَ دُونَ الْإِثْبَاتِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْيَمِينُ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَلَا تُنْقَلُ إِلَى الْمُدَّعِي ، وَالْبَيِّنَةُ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَى الْمُدَّعِي ، فَلَا تُنْقَلُ إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَلِذَلِكَ قَضَى عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ ، وَلَمْ تُسْمَعْ مِنْهُ الْبَيِّنَةُ ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ الْمُدَّعِي وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ مَعَهُ .
فَصْلٌ : فَإِنْ أَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَتَهُ ، وَأَقَامَ صَاحِبُ الْيَدِ بَيِّنَةً أيهما تسمع بينته ، سُمِعَتْ بَيِّنَتُهُ وَقَضَى بِبَيِّنَتِهِ عَلَى بَيِّنَةِ الْمُدَّعِي ، لِفَضْلِ يَدِهِ فِي جَمِيعِ الْأَعْيَانِ سَوَاءٌ كَانَ الْمِلْكُ مُطْلَقًا ، أَوْ مَذْكُورًا
لِسَبَبٍ وَسَوَاءٌ فِيمَا ذُكِرَ سَبَبُهُ مِمَّا يَتَكَرَّرُ كَصِنَاعَةِ الْأَوَانِي ، وَمَا يُنْتَجُ مِنَ الْخَزِّ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى ، لَوْ كَانَ مِمَّا لَا يَتَكَرَّرُ سَبَبُهُ كَالنِّتَاجِ ، وَثِيَابِ الْقُطْنِ ، وَالْكَتَّانِ ، وَبِهِ قَالَ مَالكٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَقَالَ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ شُرَيْحٌ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالْحَكَمُ بْنُ عُيَيْنَةَ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ : إِنْ كَانَ التَّنَازُعُ فِي مِلْكٍ مُطْلَقٍ ، أَوْ مِمَّا يَتَكَرَّرُ سَبَبُهُ لَمْ تُسْمَعْ بَيِّنَةُ صَاحِبِ الْيَدِ ، وَقُضِيَ بِبَيِّنَةِ الْمُدَّعِي ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَتَكَرَّرُ سُمِعَتْ بَيِّنَةُ صَاحِبِ الْيَدِ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا ، وَسَمَّوُا الْمُدَّعِي خَارِجًا ، وَصَاحِبَ الْيَدِ دَاخِلًا ، فَقَالَ : تُسْمَعُ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ ، وَلَا تُسْمَعُ بَيِّنَةُ الدَّاخِلِ ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ " فَأَضَافَ الْبَيِّنَةَ إِلَى جَنَبَةِ الْمُدَّعِي وَأَضَافَ الْيَمِينَ إِلَى جَنَبَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِحَذْفِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ الْمُوجِبِ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ ، فَاقْتَضَى أَنْ لَا تَنْتَقِلَ الْبَيِّنَةُ إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَلَا تَنْتَقِلُ الْيَمِينُ إِلَى الْمُدَّعِي . وَلِأَنَّ الْيَمِينَ مُوجِبَةٌ لِلْمِلْكِ ، فَلَمْ يَسْتَفِدْ صَاحِبُ الْيَدِ بِالْبَيِّنَةِ مَا لَا يَسْتَفِيدُ بِيَدِهِ وَبَيِّنَةُ الْمُدَّعِي يُحْكَمُ بِهَا مَعَ يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَحْكُمَ بِهَا مَعَ بَيِّنَتِهِ ، لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ لَمْ تَعْدُ إِلَّا مَا أَفَادَتْهُ يَدُهُ ، ثُمَّ الْيَدُ أَقْوَى مِنَ الْبَيِّنَةِ ، لِأَنَّ الْيَدَ تَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ مُشَاهَدَةً وَالْبَيِّنَةُ تَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ اسْتِدْلَالًا ، فَافْتَرَقَا وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ تُسْمَعْ بَيِّنَةُ الدَّاخِلِ فِي الدَّيْنِ لَمْ تُسْمَعْ فِي الْعَيْنِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي حَقِّ الْخَارِجِ فِي الْقَبُولِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي حَقِّ الدَّاخِلِ فِي الرَّدِّ . قَالُوا : وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ تُسْمَعْ بَيِّنَةُ الدَّاخِلِ إِذَا لَمْ يُقِمِ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ مَعَ قُوَّةِ الدَّاخِلِ ، وَضَعْفِ الْخَارِجِ كَانَ أَوْلَى أَنْ لَا تُسْمَعَ بَيِّنَةُ الدَّاخِلِ إِذَا أَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ مَعَ ضَعْفِ الدَّاخِلِ ، وَقُوَّةِ الْخَارِجِ لِأَنَّ مَنْ لَمْ تُسْمَعْ بَيِّنَتُهُ مَعَ قُوَّتِهِ ، كَانَ أَوْلَى أَنْ لَا تُسْمَعَ مَعَ ضَعْفِهِ . وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ جَابِرٍ أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَابَّةٍ ، أَوْ بَعِيرٍ ، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ بِنَتَجِهَا فَقَضَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ فَدَلَّ عَلَى قَبُولِ بَيِّنَةِ الدَّاخِلِ ، فَإِنْ قِيلَ فَبَيِّنَةُ الدَّاخِلِ فِي النِّتَاجِ مَقْبُولَةٌ . قِيلَ : وَجْهُ الدَّلِيلِ أَنَّهُ قَضَى بِبَيِّنَةِ الدَّاخِلِ تَعْلِيلًا بِالْيَدِ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي " وَقَدْ صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُدَّعِيًا لِلْعَيْنِ ، وَإِنْ لَمْ يَصِرْ مُدَّعِيًا لِلدَّيْنِ ، فَوَجَبَ بِهَذَا الْخَبَرِ ، أَنْ تُسْمَعَ بَيِّنَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا . وَلِأَنَّ جَنَبَةَ الْخَارِجِ ، أَضْعَفُ مِنْ جَنَبَةِ الدَّاخِلِ ، فَلَمَّا سُمِعَتْ لِلْيَدِ مَعَ الضَّعْفِ كَانَ سَمَاعُهَا مَعَ الْقُوَّةِ أَوْلَى .
وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا ، أَنَّهَا بَيِّنَةٌ تُسْمَعُ مَعَ ضَعْفِ الْجَنَبَةِ ، فَكَانَ أَوْلَى أَنَّ تُسْمَعْ مَعَ قُوَّةِ الْجَنَبَةِ كَسَمَاعِهَا مِنِ الْمُدَّعِي ، إِذَا كَانَتْ لَهُ يَدٌ مُتَقَدِّمَةٌ وَلِأَنَّهُمَا إِذَا تَنَازَعَا مِلْكًا ، لَا يَدَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا ، سُمِعَتْ بَيِّنَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، فَإِذَا انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِالْيَدِ ، لَمْ يُمْنَعْ مِنْ سَمَاعِ بَيِّنَتِهِ ، لِأَنَّهَا إِنْ لَمْ تُفِدْهُ قُوَّةً لَمْ تُفِدْهُ ضَعْفًا . وَتَحْرِيرُهُ أَنَّ تَسَاوِيهُمَا فِي ادِّعَاءِ الْمِلْكِ ، يُوجِبُ تَسَاوِيهِمَا فِي سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ يَدٌ ، أَوْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدٌ عَلَيْهِ . وَلِأَنَّ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ قَدْ رَفَعَتْ يَدَ الدَّاخِلِ ، فَصَارَ كَالْخَارِجِ ، فَوَجَبَ أَنْ تُسْمَعَ بَيِّنَتُهُ كَسَمَاعِهَا مِنَ الْخَارِجِ . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّ كُلَّ مَنْ حُكِمَ عَلَيْهِ إِذَا عَدِمَ الْبَيِّنَةَ ، وَجَبَ أَنْ يُحْكَمَ لَهُ إِذَا وَجَدَ الْبَيِّنَةَ كَالْخَارِجِ ، وَلِأَنَّ الْيَدَ فِعْلٌ زَائِدٌ فِي الْقُوَّةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ . كَمَا لَوْ شَهِدَ لِأَحَدِهِمَا شَاهِدَانِ ، وَشَهِدَ لِلْآخَرِ عَشَرَةٌ . وَلِأَنَّ كُلَّ حُجَّةٍ صَحَّ دَفْعُهَا بِالْقَدْحِ فِيهَا ، صَحَّ دَفْعُهَا بِالْمُعَارَضَةِ لَهَا كَالْخَبْرَيْنِ وَعُمْدَةُ الْقِيَاسِ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَمَّا سُمِعَتْ بَيِّنَةُ الدَّاخِلِ فِيمَا لَا يَتَكَرَّرُ مِنَ النِّتَاجِ ، وَثَوْبِ الْقُطْنِ ، سُمِعَتْ بَيِّنَتُهُ فِي مَا يَتَكَرَّرُ مِنْ أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، وَثَوْبِ الْخَزِّ . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ كُلَّ مَنْ سُمِعَتْ بَيِّنَتُهُ فِيمَا لَا يَتَكَرَّرُ مِنَ الْأَعْيَانِ سُمِعَتْ بَيِّنَتُهُ فِيمَا يَتَكَرَّرُ مِنْهَا كَالْخَارِجِ . وَالثَّانِي : أَنَّ كُلَّ يَمِينٍ صَحَّ سَمَاعُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهَا مِنَ الْخَارِجِ ، صَحَّ سَمَاعُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهَا مِنَ الدَّاخِلِ ، كَالنِّتَاجِ ، وَالْأَعْيَانِ الَّتِي لَا تَتَكَرَّرُ ، فَاعْتَرَضَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى هَذَا بِمَا اخْتَلَفَ فِيهِ مُتَقَدِّمُوهُمْ ، وَمُتَأَخِّرُوهُمْ ، فَأَمَّا الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْهُمْ فَعَارَضُوا فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْبَيِّنَةَ فِي النِّتَاجِ وَمَا لَا يَتَكَرَّرُ سَبَبُهُ ، تُفِيدُ مَا لَا تُفِيدُهُ يَدُهُ ، لِأَنَّ الْيَدَ تَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ دُونَ السَّبَبِ وَالْبَيِّنَةَ تَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ وَالسَّبَبِ فَلِذَلِكَ سُمِعَتْ بَيِّنَتُهُ مَعَ يَدِهِ وَالْبَيِّنَةُ فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ ، لَا تُفِيدُ إِلَّا مَا أَفَادَتْهُ يَدُهُ ، فَلِذَلِكَ لَمْ تُسْمَعْ بَيِّنَتُهُ مَعَ يَدِهِ ، وَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ عَكْسَ هَذَا بِأَنَّ مَا كَانَ التَّعَارُضُ فِيهِ مُمْكِنًا ، أَوْلَى بِالْقَبُولِ مِمَّا كَانَ التَّعَارُضُ فِيهِ كَذِبًا . وَالثَّانِي : أَنَّهُمَا مُتَكَاذِبَتَانِ فِي الْمِلْكِ ، وَإِنْ أَمْكَنَ صِدْقُهَا فِي السَّبَبِ الْمُتَكَرِّرِ فَلَئِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ التَّكَاذُبُ فِي السَّبَبِ مُوجِبًا لِتَغْلِيظِ الصِّدْقِ بِالْيَدِ جَازَ أَنْ يَكُونَ التَّكَاذُبُ فِي الْمِلْكِ مُوجِبًا لِتَغْلِيبِ الصِّدْقِ بِالْيَدِ ، فَلَمْ يَنْقُلُوا فِي كُلِّ الْفَرْقَيْنِ مِنْ فَسَادِ مَوْضُوعِهَا .
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ " فَمِنْ وَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا : مَا قَدَّمْنَاهُ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَيْهِمْ ، بِأَنَّهُ قَدْ صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُدَّعِيًا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنَّهُ يُحْمَلُ قَوْلُهُ : " الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي " أَنَّهَا تُسْمَعُ مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى الْمُدَّعِي ، وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهَا تُسْمَعُ عَلَى الْمُدَّعِي لِأَنَّ قَوْلَهُ عَلَى مُقْتَضَى ظَاهِرِهِ ، أَنْ يَكُونَ مُتَوَجِّهًا إِلَى مَنْ سُمِعَتْ مِنْهُ الْبَيِّنَةُ ، وَسَمِعَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ ، فَيَكُونُ الْخَبَرُ مَحْمُولًا عَلَى تَأْوِيلَيْنِ مُسْتَعْمَلَيْنِ ، ثُمَّ أَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنْ يَكُونَ عَامًّا فِي جِنْسِ الْأَيْمَانِ وَالْبَيِّنَاتِ ، وَالْعُمُومُ يَجُوزُ تَخْصِيصُ بَعْضِهِ فَيُخَصُّ هَذَا بِأَدِلَّتِنَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ أَنَّ الْيَدَ مُوجِبَةٌ لِلْمِلْكِ ، فَلَمْ يَسْتَفِدْ صَاحِبُهَا بِالْبَيِّنَةِ ، مَا لَمْ يَسْتَفِدْهُ بِيَدِهِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْيَدَ تَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ ، وَلَا تُوجِبُهُ ، لِأَنَّ الْيَدَ قَدْ تَكُونُ لِغَصْبٍ ، أَوْ أَمَانَةٍ ، أَوْ إِجَارَةٍ فَلَمْ تُوجِبِ الْمِلْكَ دُونَ غَيْرِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الظَّاهِرِ مَحْمُولَةٌ عَلَيْهِ مَعَ الْيَمِينِ ، وَالْبَيِّنَةٌ مُوجِبَةٌ لِلْمِلْكِ بِغَيْرِ يَمِينٍ ، فَصَارَ مُسْتَفِيدًا بِالْبَيِّنَةِ ، مَا لَا يَسْتَفِيدُهُ بِيَدِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا أَوْجَبَتِ الْمِلْكَ وَالْيَدُ لَا تُوجِبُهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا أَسْقَطَتِ الْيَمِينَ ، وَالْيَدُ لَا تُسْقِطُهَا . وَالْجَوَابُ الثَّانِي مَا قَدَّمْنَاهُ أَنَّ بَيِّنَةَ الْمُدَّعِي ، قَدْ رَفَعَتْ يَدَهُ فِي الْحُكْمِ ، فَاسْتَفَادَ بِالْبَيِّنَةِ إِقْرَارَ يَدِهِ عَلَى الْمِلْكِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ ، إِنَّهُ لَمَّا لَمْ تُسْمَعْ بَيِّنَةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الدَّيْنِ لَمْ تُسْمَعْ بَيِّنَتُهُ فِي الْيَمِينِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْبَيِّنَةَ فِي الدَّيْنِ ، فِي جِهَةِ الْمُدَّعِي تَكُونُ عَلَى الْإِثْبَاتِ ، وَمِنْ جِهَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ تَكُونُ عَلَى النَّفْيِ ، وَالْبَيِّنَةُ ، تُسْمَعُ عَلَى الْإِثْبَاتِ ، وَلَا تُسْمَعُ عَلَى النَّفْيِ ، وَهِيَ عَلَى الْأَيْمَانِ مُوجِبَةٌ لِلْإِثْبَاتِ فِي الْجِهَتَيْنِ فَسُمِعَتْ مِنْهُمَا . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّهَا تُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ فِي الدَّيْنِ مِنْ جِهَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، إِذَا شَهِدَتْ بِالْقَضَاءِ ، فَصَارَتْ مَسْمُوعَةً مِنَ الْجِهَتَيْنِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّهُ لَمَّا لَمْ تُسْمَعْ بَيِّنَتُهُ ، مَعَ عَدَمِ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ ، كَانَ أَوْلَى أَنْ لَا تُسْمَعَ مَعَ وُجُودِ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ ، فَهُوَ أَنَّ لِأَصْحَابِنَا فِي سَمَاعِهَا وَجْهَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا :
أَحَدُهُمَا : تُسْمَعُ وَيَسْقُطُ الِاسْتِدْلَالُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا تُسْمَعُ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ لَا تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ ، مَعَ عَدَمِ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ ، لِأَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنْهَا بِيَمِينِهِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْبَيِّنَةَ مَسْمُوعَةٌ مِنِ الْمُدَّعِي ، الَّذِي هُوَ الْخَارِجُ ، وَمِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، الَّذِي هُوَ الدَّاخِلُ ، فَبَيِّنَةُ الْمُدَّعِي مَسْمُوعَةٌ عَلَى التَّقْيِيدِ ، وَالْإِطْلَاقِ ، فَتَقْيِيدُهَا أَنْ تَشْهَدَ لَهُ بِالْمِلْكِ الْمُضَافِ إِلَى سَبَبِهِ ، وَإِطْلَاقُهَا أَنْ تَشْهَدَ لَهُ بِالْمِلْكِ عَلَى الْإِطْلَاقِ مِنْ غَيْرِ إِضَافَةٍ إِلَى سَبَبِهِ . وَأَمَّا بَيِّنَةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَإِنْ شَهِدَتْ بِالْمِلْكِ الْمُقَيَّدِ الْمُضَافِ إِلَى سَبَبِهِ سُمِعَتْ ، وَإِنْ شَهِدَتْ لَهُ بِالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ مِنْ غَيْرِ إِضَافَةٍ إِلَى سَبَبِهِ ، فَفِي سَمَاعِهَا مِنْهُ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ لَا تُسْمَعُ مِنْهُ لِجَوَازِ أَنْ تَشْهَدَ لَهُ بِالْمِلْكِ لِأَجْلِ الْيَدِ الَّتِي قَدْ زَالَ حُكْمُهَا ، بِبَيِّنَةِ الْمُدَّعِي . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ تُسْمَعُ مِنْهُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنَ الشُّهُودِ إِذَا أَطْلَقُوا أَنَّهُمْ لَا يَشْهَدُونَ لَهُ بِالْمِلْكِ عَنْ يَدٍ قَدْ عَلِمُوا زَوَالَهَا بِبَيِّنَةِ الْمُدَّعِي ، إِلَّا وَقَدْ عَلِمُوا غَيْرَهَا مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْمِلْكِ ، فَحُمِلَتْ شَهَادَتُهُمْ عَلَى ظَاهِرِ الصِّحَّةِ ، فَإِذَا سُمِعَتْ بَيِّنَةُ الْمُدَّعِي وَسَمِعَتْ بَيِّنَةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، عَلَى مَا وَصَفْنَا فَقَدْ تَعَارَضَتِ الْبَيِّنَتَانِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُحْكَمَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ دُونَ الْمُدَّعِي ، وَفِي وُجُوبِ اسْتِحْلَافِهِ عَلَى الْحُكْمِ لَهُ بِالْمِلْكِ قَوْلَانِ ، مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِيمَا يُوجِبُهُ تَعَارُضُ الْبَيِّنَتَيْنِ ، فَأَحَدُ قَوْلَيْهِ أَنَّهُمَا يَسْقُطَانِ بِالتَّعَارُضِ ، وَتُقَرُّ يَدُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَيُحْكَمُ لَهُ بِيَدِهِ مَعَ يَمِينِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ بَيِّنَةَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَدْ تَرَجَّحَتْ بِيَدِهِ ، فَأُسْقِطَتْ بَيِّنَةُ الْمُدَّعِي بِبَيِّنَتِهِ ، فَحُكِمَ لَهُ بِالْبَيِّنَةِ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ تَرْجِيحًا بِالْيَدِ وَلَمْ يُحْكَمْ لَهُ بِالْيَدِ .
مَسْأَلَةٌ إِذَا أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَدَاعِيَيْنِ بَيِّنَةً عَلَى مَا تَنَازَعَاهُ مِنَ الْعَيْنِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَسَوَاءٌ أَقَامَ أَحَدُهُمَا شَاهِدًا وَامْرَأَتَيْنِ وَالْآخَرُ عَشَرَةً إِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَرْجَحُ مِنْ بَعْضٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَدَاعِيَيْنِ بَيِّنَةً عَلَى مَا تَنَازَعَاهُ مِنَ الْعَيْنِ ، وَلَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدٌ ، وَتَرَجَّحَتْ بَيِّنَةُ أَحَدِهِمَا عَلَى بَيِّنَةِ الْآخَرِ ، بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ ، وَكَانَتْ بَيِّنَةُ أَحَدِهِمَا شَاهِدَيْنِ ، وَبَيِّنَةُ الْآخَرِ عَشَرَةٌ ، أَوْ تَرَجَّحَتْ بِزِيَادَةِ الْعَدَالَةِ ، فَكَانَتْ بَيِّنَةُ أَحَدِهِمَا أَظْهَرُ زُهْدًا ، وَأَوْفَرُ تَحَرُّجًا فَهُمَا فِي التَّعَارُضِ سَوَاءٌ ، وَلَا يُغَلَّبُ الْحُكْمُ بِالْبَيِّنَةِ الزَّائِدَةِ فِي الْعَدَدِ وَالْعَدَالَةِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ . وَقَالَ مَالِكٌ : الْمُرَجَّحَةُ بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ ، وَقُوَّةِ الْعَدَالَةِ أَوْلَى ، وَالْحُكْمُ بِهَا أَحَقُّ .
حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ ، فَخَرَّجَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ قَوْلًا ثَانِيًا ، وَنَفَاهُ أَكْثَرُهُمْ عَنْهُ . وَحُكِيَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ قَالَ : أَقْسِمُ الشَّيْءَ الْمَشْهُودَ فِيهِ عَلَى عَدَدِ الْبَيِّنَتَيْنِ ، فَإِذَا كَانَتْ إِحْدَاهُمَا شَاهِدَيْنِ وَالْأُخْرَى أَرْبَعَةٌ قَسَمْتُ الْمَشْهُودَ فِيهِ أَثْلَاثًا ، فَجَعَلْتُ لِصَاحِبِ الشَّاهِدَيْنِ سَهْمًا ، وَلِصَاحِبِ الْأَرْبَعَةِ سَهْمَيْنِ . فَأَمَّا مَالِكٌ فَاسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَ الشَّيطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الْجَمَاعَةِ أَبْعَدُ " ، وَلِأَنَّ النَّفْسَ إِلَى زِيَادَةِ الْعَدَدِ أَسْكَنُ ، وَبِقُوَّةِ الْعَدَالَةِ أَوْثَقُ ، وَلِذَلِكَ رُجِّحَتْ بِهَا أَخْبَارُ الرَّسُولِ ، إِذَا تَعَارَضَتْ ، فَوَجَبَ أَنْ تُرَجَّحَ بِهَا الشَّهَادَاتُ إِذَا تَعَارَضَتْ . وَأَمَّا الْأَوْزَاعِيُّ ، فَاسْتَدَلَّ لَهُ بِأَنَّ الْمَشْهُودَ فِيهِ مُسْتَحَقٌّ بِقَوْلِهِمْ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مُقَسَّطًا عَلَى عَدَدِهِمْ . وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَى عَدَدِ الشَّهَادَةِ بِقَوْلِهِ : وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ ) [ الْبَقَرَةِ : ] . وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ) [ الطَّلَاقِ : ] . فَمَنَعَ النَّصُّ مِنَ الِاجْتِهَادِ فِي الزِّيَادَةِ ، وَالنُّقْصَانِ . وَلِأَنَّ لَمَّا جَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ مَعَ وُجُودِ مَنْ هُوَ أَكْثَرُ ، وَعَلَى قَبُولِ الْعَدْلِ مَعَ مَنْ هُوَ أَعْدَلُ ، دَلَّ عَلَى أَنْ لَا تَأْثِيرَ لِزِيَادَةِ الْعَدَدِ ، وَزِيَادَةِ الْعَدَالَةِ . وَلِأَنَّ مَا تَقَدَّرَ بِالشَّرْعِ لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُهُ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ كَدِيَةِ الْحُرِّ ، وَمَا تَقَدَّرَ بِالِاجْتِهَادِ ، اخْتَلَفَ حُكْمُهُ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ ، كَقِيمَةِ الْعَبْدِ ، وَبِهِمَا فَرَّقْنَا فِي الْأَخْبَارِ الْمُتَعَارِضَةِ بَيْنَ زِيَادَةِ الْعَدَدِ ، وَنُقْصَانِهِ ، لِعَدَمِ النَّصِّ فِي عَدَدِهِ وَسَوَّيْنَا فِي الشَّهَادَاتِ الْمُتَعَارِضَةِ ، بَيْنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ ، لِوُرُودِ النَّصِّ فِي عَدَدِهِ وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ انْفِصَالٌ عَمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ . وَقَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ أَوْهَى ، لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ الْحَقُّ بِشَهَادَةِ عَشْرَةٍ ، ثُمَّ ثَبَتَ قَضَاؤُهُ بِشَاهِدَيْنِ قَضَى بِهِمَا عَلَى شَهَادَةِ الْعَشْرَةِ ، وَلَمْ يُقَسَّطِ الْقَضَاءُ عَلَى الْعَدَدِ كَذَلِكَ فِي إِثْبَاتِ الْحَقِّ ، وَهُوَ حُجَّةٌ ، عَلَى مَالِكٍ أَيْضًا .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا تُرَجَّحُ الشَّهَادَةُ بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ وَزِيَادَةِ الْعَدَالَةِ كَذَلِكَ لَا تُرَجَّحُ بِأَنْ يَكُونَ مَعَ أَحَدِهِمَا شَاهِدَانِ ، وَالْأُخْرَى شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الشَّاهِدَتَيْنِ بَيِّنَةٌ كَامِلَةٌ ، فَإِذَا تَعَارَضَ شَاهِدَانِ وَشَاهِدٌ وَيَمِينٌ فَفِيهِمَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمَا سَوَاءٌ لِأَنَّ الْحَقَّ يَثْبُتُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّ الشَّاهِدَيْنِ يَقُومُ عَلَى الشَّاهِدِ ، وَالْيَمِينِ ، لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ التُّهْمَةَ مُتَوَجِّهَةٌ فِي الْيَمِينِ ، وَغَيْرُ مُتَوَجِّهَةٍ فِي الشَّهَادَةِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْحُكْمَ بِالشَّاهِدَيْنِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَبِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ ، وَسَنَذْكُرُ حُكْمَ التَّعَارُضِ مِنْ بَعْدُ .
مَسْأَلَةٌ إِنْ أَرَادَ الَّذِي قَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ أَنْ يُحْلِفَ صَاحِبَهُ مَعَ بَيِّنَتِهِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ أَرَادَ الَّذِي قَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ أَنْ يُحْلِفَ صَاحِبَهُ مَعَ بَيِّنَتِهِ لَمَ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُ إِلَّا أَنْ يَدَّعِيَ أنَهُ أَخْرَجَهُ إِلَى مِلْكِهِ ، فَهَذِهِ دَعْوَى أُخْرَى فَعَلَيْهِ الْيَمِينُ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ ، بِدَيْنٍ فِي ذِمَّتِهِ ، أَوْ بِمِلْكٍ فِي يَدِهِ ، فَيَسْأَلَ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ إِحْلَافَ الْمَشْهُودِ لَهُ ، أَنَّ مَا شَهِدَ بِهِ شَاهِدَاهُ حَقٌّ لَهُ ، لَمْ يَجُزْ إِحْلَافُهُ ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ . وَحُكِيَ عَنْ شُرَيْحٍ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَالشَّعْبِيِّ ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى : أَنَّهُمْ جَوَّزُوا إِحْلَافَ الْمُدَّعِي مَعَ بَيِّنَتِهِ ، اسْتِعْمَالًا لِمَا أَمْكَنَ فِي الِاسْتِظْهَارِ فِي الْأَحْكَامِ . وَهَذَا خَطَأٌ لِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ " فَلَمْ يَجْعَلْ فِي جَنَبَةِ الْمُدَّعِي غَيْرَ الْبَيِّنَةِ ، فَلَمْ يَجُزْ إِحْلَافُهُ مَعَهَا ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُدَّعِي : " شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ " . وَلِأَنَّ فِي إِحْلَافِهِ مَعَ شَهَادَةِ شُهُودِهِ قَدْحًا فِي شَهَادَتِهِمْ ، وَطَعْنًا فِي عَدَالَتِهِمْ ، وَمَا أَفْضَى إِلَى الْقَدْحِ فِي شَهَادَةٍ صَحَّتْ ، وَعَدَالَةٍ ثَبَتَتْ ، مَمْنُوعٌ مِنْهُ ، كَمَا يُمْنَعُ مِنْ إِحْلَافِهِ أَنَّ مَا حَكَمَ بِهِ الْحَاكِمُ حَقٌّ لِإِفْضَائِهِ إِلَى الْقَدْحِ فِي حُكْمِهِ ، وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِظْهَارُ بِمَا يَمْنَعُ مِنْهُ الشَّرْعُ ، وَلَمْ يَرِدْ بِهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدَ جَوَّزَ الشَّافِعِيُّ فِي الرَّهْنِ ، إِذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى إِقْرَارِ الرَّاهِنِ ، بِإِقْبَاضِهِ ، ثُمَّ سَأَلَ الرَّاهِنَ إِحْلَافَ الْمُرْتَهِنِ عَلَى قَبْضِهِ ، أَنَّهُ يَحْلِفُ عَلَيْهِ . قِيلَ : إِنْ سَأَلَ إِحْلَافَهُ عَلَى أَنَّهُ أَقَرَّ بِإِقْبَاضِهِ ، لَمْ يَجُزْ لِشَهَادَةِ الشُّهُودِ عَلَى إِقْرَارِهِ ، وَإِنْ سَأَلَ إِحْلَافَهُ عَلَى أَنَّ مَا أَقَرَّ بِإِقْبَاضِهِ ، كَانَ صَحِيحًا نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ إِقْرَارُهُ بِأَنَّ وَكِيلَهُ أَقْبَضَهُ أُحْلِفَ عَلَيْهِ ، لِجَوَازِ أَنْ يُكَذِّبَهُ الْوَكِيلُ فِي الْقَبْضِ ، وَلَيْسَ فِيهِ قَدْحٌ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى إِقْرَارِهِ ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي أَقْبَضَهُ إِيَّاهُ ، فَفِي جَوَازِ إِحْلَافِهِ عَلَى قَبْضِهِ مِنْهُ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ لِمَا فِيهِ مِنَ الرُّجُوعِ عَنْ إِقْرَارِهِ . وَالثَّانِي : يَجُوزُ لِأَنَّهُ قَدْ عُرِفَ الْإِقْرَارُ بِالتَّقَابُضِ قَبْلَ الْإِقْبَاضِ ، فَصَارَ الْإِقْبَاضُ بِالْعُرْفِ مُحْتَمَلًا .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا سَأَلَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ ، إِحْلَافَ الْمَشْهُودِ لَهُ ، أَنَّهُ مَا قَبَضَ الدَّيْنَ أَوْ لَمْ يَبِعْهُ الْعَيْنَ ، أُجِيبَ إِلَى إِحْلَافِهِ لِأَنَّهَا دَعْوَى مُسْتَأْنَفَةٌ أَنَّهُ ابْتَاعَ الْعَيْنَ ، وَقَضَاهُ الدَّيْنَ ، وَلَيْسَ فِيهَا تَكْذِيبٌ لِلشُّهُودِ ، فَجَازَ إِحْلَافُهُ عَلَيْهَا .
وَهَكَذَا لَوْ شَهِدَ الشُّهُودُ بِدَيْنٍ عَلَى غَائِبٍ ، أَوْ مَيِّتٍ ، جَازَ إِحْلَافُ الْمَشْهُودِ لَهُ ، أَنَّهُ مَا بَرِئَ إِلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ وَلَا مِنْ شَيْءٍ فِيهِ ، لِأَنَّ الْغَائِبَ وَالْمَيِّتَ لَوْ كَانَا حَاضِرَيْنِ لَجَازَ أَنْ يَدَّعِيَا قَضَاءَ الدَّيْنِ ، أَوِ الْإِبْرَاءَ مِنْهُ ، فَلَزِمَ لِأَجْلِ الِاحْتِيَاطِ أَنْ يَحْلِفَ الْمَشْهُودُ لَهُ عَلَى مِثْلِ ما لَوِ ادَّعَاهُ الْحَاضِرُ أُحْلِفَ لَهُ ، فَإِنْ قَضَى الدَّيْنَ مِنْ مَالٍ نَاجِزٍ أُحْلِفَ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي قَضَائِهِ ، ثُمَّ قَضَى بَعْدَ يَمِينِهِ . وَإِنْ كَانَ نَقْضًا مِنْ بَيْعِ عَقَارٍ ، أُحْلِفَ قَبْلَ بَيْعِهِ ثُمَّ بِيعَ وَقُضِيَ مِنْ ثَمَنِهِ ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُبَاعَ قَبْلَ يَمِينِهِ ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَنْكُلَ عَنِ الْيَمِينِ ، فَيَفُوتُ اسْتِدْرَاكَ الْمَبِيعِ ، فَأَمَّا إِحْلَافُ الشُّهُودِ عَلَى صِدْقِهِمْ فِيمَا شَهِدُوا بِهِ ، فَلَا يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ جَمِيعِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَحُكِيَ عَنِ الْهَادِي الْعَلَوِيِّ أَنَّهُ بِالْيَمِينِ كَأَنْ يَحْلِفَ الشُّهُودُ إِذَا ارْتَابَ بِهِمْ ، ثُمَّ يَحْكُمُ بِشَهَادَتِهِمْ ، وَهَذَا قَوْلٌ خَرَقَ بِهِ الْإِجْمَاعَ ، وَخَالَفَ بِهِ الْأُمَّةَ ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ [ الْبَقَرَةِ : ] . فَأَمَرَ بِالْحُكْمِ بِهَا ، وَلَمْ يُوجِبِ الْيَمِينَ مَعَهَا . وَلِأَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا صَادِقِينَ ، وَجَبَ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِمْ ، مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ ، وَإِنْ كَانُوا كَاذِبِينَ لَمْ يَجُزِ الْحُكْمُ بِهَا مَعَ الْيَمِينِ . وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ إِحْلَافُ الشُّهُودِ مَعَ الِارْتِيَابِ لَجَازَ إِحْلَافُ الْحُكَّامِ ، ثُمَّ إِحْلَافُ الْأَئِمَّةِ ، ثُمَّ إِحْلَافُ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّ مَا أَدَّوْهُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى حَقٌّ ، وَمَا أَفْضَى إِلَى هَذَا كَانَ مُطْرَحًا .
مَسْأَلَةٌ الدَّعْوَى الْمَجْهُولَةَ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : ( وَلَوْ ادَّعَى أَنَّهُ نَكَحَ امْرَأَةً ، لَمْ أَقْبَلْ دَعْوَاهُ حَتَّى يَقُولَ نَكَحْتُهَا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ وَرِضَاهَا ، فَإِنْ حَلَفَتْ بَرِئَتْ ، وَإِنْ نَكَلَتْ ، حَلَفَ وَقُضِيَ لَهُ أَنَّهَا زَوْجَةٌ لَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الدَّعْوَى الْمَجْهُولَةَ لَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَسْمَعَهَا ، وَيَسْأَلُ الْخَصْمَ عَنْهَا إِلَّا فِي الْوَصَايَا لِجَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِالْمَجْهُولِ ، فَأَمَّا غَيْرُ الْوَصَايَا الَّتِي تَمْنَعُ الْجَهَالَةُ مِنْهَا ، فَلَا يَصِحُّ ادِّعَاؤُهُ مَجْهُولًا حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْمُدَّعِي مَا يَمْنَعُ مِنْ جَهَالَةِ الدَّعْوَى ، لِأَنَّ سَمَاعَ الدَّعْوَى يَكُونُ لِلسُّؤَالِ عَنْهَا ، وَالْحُكْمَ بِهَا ، وَلَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنَّ يَحْكُمَ بِمَجْهُولٍ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْمَعَ الدَّعْوَى بِمَجْهُولٍ ، فَإِذَا كَانَ هَذَا أَصْلًا ، وَكَانَتِ الدَّعْوَى مَعْلُومَةٌ ، تَعَلَّقَ الْكَلَامُ بِالْكَشْفِ عَنْ سَبَبِهَا ، وَلِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ لَا يُجِبِ الْكَشْفُ عَنْ سَبَبِهِ . وَقِسْمٌ يَجِبُ الْكَشْفُ عَنْ سَبَبِهِ .
وَقِسْمٌ مُخْتَلَفٌ فِي وُجُوبِ الْكَشْفِ عَنْ سَبَبِهِ . [ قِسْمٌ لَا يَجِبُ الْكَشْفُ عَنْ سَبَبِهِ أقسام المدعي من حيث مطالبته الكشف عن سبب الدعوى ] فَأَمَّا الَّذِي لَا يَجِبُ الْكَشْفُ عَنْ سَبَبِهِ : فَالْأَمْلَاكُ الْمُدَّعَاةُ مِنْ عَيْنٍ ، أَوْ دَيْنٍ ، فَالْعَيْنُ أَنْ يَدَّعِيَ دَارًا أَوْ ثَوْبًا أَوْ عَبْدًا مَعْلُومًا بِصِفَةٍ أَوْ تَعْيِينٍ ، وَالِدَيْنُ أَنْ يَقُولَ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ بِصِفَتِهَا فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْ سَبَبِ مِلْكِهِ ، لِمَا ادَّعَاهُ ، وَلَوْ سَأَلَهُ لَمْ يَجِبْ عَلَى الْمُدَّعِي ذِكْرُ سَبَبِهِ . وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبِ الْكَشْفُ عَنْ سَبَبِ الْمِلْكِ ، لِأَنَّ أَسْبَابَ الْمِلْكِ تَكُونُ مِنْ جِهَاتٍ شَتَّى بِكَثْرَةِ عَدَدِهَا ، لِأَنَّهُ قَدْ يَمْلِكُ بِالْمِيرَاثِ ، وَالِابْتِيَاعِ ، وَبِالْهِبَةِ ، وَالْقِيمَةِ ، وَبِالْوَصِيَّةِ ، وَبِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْوُجُوهِ كَالْإِجْبَاءِ ، وَحُدُوثِ النِّتَاجِ ، وَالثِّمَارِ ، فَسَقَطَ الْكَشْفُ عَنْ سَبَبِهَا لِكَثْرَتِهَا وَاخْتِلَافِهَا . [ قِسْمٌ يَجِبُ الْكَشْفُ عَنْ سَبَبِهِ ] . وَأَمَّا الْقِسْمُ الَّذِي يَجِبُ الْكَشْفُ عَنْ سَبَبِهِ ، فَدَعْوَى الْقَذْفِ وَالْقَتْلِ ، فَإِنِ ادَّعَى قَتْلًا قِيلَ أَعَمْدٌ أَمْ خَطَأٌ ؟ فَإِنْ قَالَ : عَمْدٌ سُئِلَ عَنْ صِفَةِ الْعَمْدِ ، وَإِنِ ادَّعَى قَذْفًا سُئِلَ عَنْ لَفْظِ الْقَذْفِ ، لِأَنَّ الْقَتْلَ يَخْتَلِفُ حُكْمُ عَمْدِهِ ، وَخَطَئِهِ ، وَقَدْ يُدَّعَى مِنَ الْعَمْدِ مَا لَا يَكُونُ عَمْدًا ، وَلِمَا فِي الْعَمْدِ مِنِ اخْتِلَافِ أَسْبَابِهِ ، وَأَحْكَامِهِ وَفِي الْحُكْمِ بِهِ قَبْلَ السُّؤَالِ فَوَاتُ مَا لَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ ، وَالْقَذْفُ قَدْ تَخْتَلِفُ أَلْفَاظُهُ وَأَحْكَامُهُ فَافْتَقَرَ ذَلِكَ إِلَى كَشْفِ السَّبَبِ ، وَصِفَتِهِ لِيَزُولَ عَنْ الِاحْتِمَالِ وَصَارَ كَالشَّاهِدِ إِذَا شَهِدَ بِفِسْقِ مَجْرُوحٍ ، أَوْ نَجَاسَةِ مَاءٍ لَمْ يُحْكَمْ بِنَجَاسَتِهِ حَتَّى يَذْكُرَ سَبَبَ مَا صَارَ بِهِ الْمَجْرُوحُ ، فَاسِقًا ، وَالْمَاءُ نَجِسًا ، ، لِلِاخْتِلَافِ فِي التَّفْسِيقِ وَالتَّنْجِيسِ .
[ الْقِسْمُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ ] . فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الْمُخْتَلَفُ فِي وُجُوبِ الْكَشْفِ عَنْ سَبَبِهِ ، فَهُوَ أَنْ تَتَوَجَّهَ الدَّعْوَى إِلَى عَقْدٍ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُغَلَّظُ حُكْمُهُ فِي الشَّرْعِ ، كَالنِّكَاحِ الْمُغَلَّظِ بِالْوَلِيِّ وَالشَّاهِدَيْنِ ، فَالْحَاكِمُ مَنْدُوبٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنْ يَسْأَلَ مُدَّعِي النِّكَاحِ عَنْ صِفَتِهِ ، فَيَقُولُ نَكَحْتُهَا بِوَلِيٍّ ، وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ ، وَرِضَاهَا ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِيمَا خُصَّ بِهِ النِّكَاحُ مِنْ صِفَةِ الْعَقْدِ ، هَلْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْوُجُوبِ أَوْ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ دُونَ الْوُجُوبِ سَوَاءً ادَّعَى الْعَقْدَ فَقَالَ :
تَزَوَّجَتْ بِهَذِهِ الْمَرْأَةِ ، أَوِ ادَّعَى النِّكَاحَ فَقَالَ هَذِهِ زَوْجَتِي ، وَتَصِحُّ الدَّعْوَى ، وَإِنْ لَمْ يَصِفِ الْعَقْدَ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَلْزَمِ فِي دَعْوَى الْبَيْعِ صِفَةُ الْعَقْدِ ، وَإِنِ اعْتُبِرَتْ فِيهِ شُرُوطُ اخْتُلِفَ فِيهَا لَمْ يَلْزَمْ صِفَةُ النِّكَاحِ لِأَجْلِ شُرُوطِهِ ، وَاخْتِلَافِ النَّاسِ فِيهَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ يُعْتَبَرُ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ وُجُودُ شَرَائِطٍ كَالْوَلِيِّ ، وَالشَّاهِدَيْنِ ، وَرِضَا الْمَنْكُوحَةِ ، وَعَدَمِ شُرُوطٍ كَعَدَمِ الْعِدَّةِ ، وَالرِّدَّةِ ، وَالْإِحْرَامِ ، فَلَمَّا لَمْ يُعْتَبَرْ فِي دَعْوَى النِّكَاحِ ، الشُّرُوطُ الْمَعْدُومَةُ لَمْ تُعْتَبَرِ الشُّرُوطُ الْمَوْجُودَةُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِهِ ، وَعَلَيْهِ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْوُجُوبِ ، وَأَنَّ الشُّرُوطَ الْمُعْتَبَرُ وُجُودُهَا فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ ، شَرْطٌ فِي صِحَّةِ دَعَوَاهُ ، سَوَاءٌ تَوَجَّهَتِ الدَّعْوَى إِلَى الْعَقْدِ أَوْ إِلَى الزَّوْجِيَّةِ ، وَاخْتُلِفَ عَلَى هَذَا فِي سَبَبِ اخْتِصَاصِهِ فِي الدَّعْوَى بِصِفَةِ الْعَقْدِ ، فَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَصَّهُ مِنْ سَائِرِ الْعُقُودِ بِأَنْ قَالَ : " لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ " ، وَلَوْلَا هَذَا التَّخْصِيصُ لَكَانَ كَغَيْرِهِ ، وَعَلَّلَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ بِأَنَّ الْفُرُوجَ مَوْضُوعَةٌ عَلَى الْحَظْرِ ، وَالتَّغْلِيظِ فَلَمْ يَجُزْ اسْتِبَاحَتُهَا بِدَعْوَى مُحْتَمَلَةٍ ، حَتَّى يَنْفِيَ عَنْهَا الِاحْتِمَالَ بِهِ لِصِفَةٍ . وَعَلَّلَ أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ بِأَنَّ فِي اسْتِبَاحَةِ الزَّوْجِ إِتْلَافًا لَا يُسْتَدْرَكُ وَمَأْثَمًا لَا يَرْتَفِعُ بِالْإِبَاحَةِ ، فَأَشْبَهَ دَعْوَى الْقَتْلِ ، وَخَالَفَ مَا سِوَاهُ مِنْ عُقُودِ الْأَمْلَاكِ . وَعَلَّلَ آخَرُونَ بِأَنَّ الْإِطْلَاقَ فِي عُقُودِ النِّكَاحِ أَكْثَرُ ، وَمَا يُطْلَقُ عَلَى اسْمِ النِّكَاحِ مِنْ فَاسِدِ الْعُقُودِ أَقَلُّ ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ شُرُوطِ الْوُجُودِ ، وَشُرُوطِ الْعَدَمِ وَأَنَّ الشُّرُوطَ الْمَعْدُومَةَ أَصِلٌ فِي الْعَدَمِ ، فَحُمِلَتْ عَلَى ظَاهِرِ الْعَدَمِ وَلَيْسَ لِشُرُوطِ الْوُجُودِ أَصْلٌ فِي الْوُجُودِ ، فَلَمْ يُحْمَلْ عَلَى ظَاهِرِ الْوُجُودِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : إِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى ، فِي عَقْدِ النِّكَاحِ ، فَقَالَ تَزَوَّجْتُ هَذِهِ الْمَرْأَةَ ، كَانَتْ شُرُوطُ الْعَقْدِ مُعْتَبَرَةٌ فِي صِحَّةِ الدَّعْوَى وَإِنْ اقْتَصَرَتِ الدَّعْوَى عَلَى النِّكَاحِ الْأَوَّلِ ، دُونَ الْعَقْدِ ، فَقَالَ هَذِهِ زَوْجَتِي ، لَمْ يَعْتَبِرْ شُرُوطًا لِلْعَقْدِ فِي صِحَّةِ الدَّعْوَى ، لِأَنَّ الِاسْتِدَامَةَ أَخَفُّ حُكْمًا مِنْ الِابْتِدَاءِ ، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى عَقْدِ الْبَيْعِ ، وَالنِّكَاحِ بِالْخَبَرِ الشَّائِعِ لَا
تَصِحُّ ، حَتَّى يُشَاهِدَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ، وَيَسْمَعَ لَفْظَهُمَا بِالْعَقْدِ وَالشَّهَادَةِ عَلَى الْأَمْلَاكِ ، وَالزَّوْجِيَّةِ بِالْخَبَرِ الشَّائِعِ تَصِحُّ ، فَلِذَلِكَ تَغَلَّظَتْ دَعْوَى الْعَقْدِ وَتَخَفَّفَتْ دَعْوَى الزَّوْجِيَّةِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا صَحَّتْ دَعْوَى النِّكَاحِ عَلَى مَا وَصَفْنَا فَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَتَوَجَّهَ الدَّعْوَى مِنَ الزَّوْجِ عَلَى الزَّوْجَةِ من ضروب دعوى النكاح ، فَتُؤْخَذُ بِالْجَوَابِ عَنْهَا ، وَلَهَا فِي الْجَوَابِ حَالَتَانِ : إِقْرَارٌ وَإِنْكَارٌ فَإِنْ أَقَرَّتْ بِالزَّوْجَةِ ، حُكِمَ بِإِقْرَارِهَا ، وَأَنَّهَا زَوْجَةٌ لِمُدَّعِي نِكَاحِهَا وَسَوَاءٌ كَانَا فِي حَضَرٍ أَوْ سَفَرٍ . وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يَحْكُمُ بِذَلِكَ فِي السَّفَرِ ، وَلَا يَحْكُمُ بِهِ فِي الْحَضَرِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ ، أَوْ يَرَى دُخُولَهُ عَلَيْهَا ، وَخُرُوجَهُ مِنْ عِنْدِهَا ، لِإِمْكَانِ ذَلِكَ فِي الْحَضَرِ وَتَعَذُّرِهِ فِي السَّفَرِ إِلَّا أَنْ يَكُونَا فِي غُرْبَةٍ فَيُقْبَلُ . وَقَدْ ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ ، فَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ خَرَّجَهُ قَوْلًا لَهُ فِي الْقَدِيمِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ نَسَبَهُ إِلَى حِكَايَتِهِ لَهُ عَنْ مَالِكٍ وَأَنَّ مَذْهَبَهُ فِي الْقَدِيمِ ، وَالْجَدِيدِ ، وَقَوْلَ فُقَهَاءِ الْعِرَاقِ أَنَّ تَصَادُقَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ يُوجِبُ الْحُكْمَ بِصِحَّتِهِ فِي الْحَضَرِ وَالسِّفْرِ ، وَفِي الْغُرْبَةِ وَالْوَطَنِ ، لِأَنَّهُ مِنْ لَوَازِمِ الْعُقُودِ لَهُمَا ، فَحُكِمَ فِيهِ بِالصِّحَّةِ لِتَصَادُقِهَا كَسَائِرِ الْعُقُودِ . وَلِأَنَّ التَّصَادُقَ عَلَى الْعَقْدِ أَثْبَتُ مِنَ الْبَيِّنَةِ . وَلِأَنَّ الْعَقْدَ يَسْبِقُ التَّصَرُّفَ فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِي الْإِقْرَارِ بِهِ وَإِنْ أَنْكَرَتْهُ الزَّوْجَةُ أُحْلِفَتْ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَمِينَ عَلَيْهِمَا وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي وُجُوبِ الْأَيْمَانِ فِي جَمِيعِ الدَّعَاوَى . فَإِنْ حَلَفَتْ فَلَا نِكَاحَ بَيْنِهِمَا ، مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ بِالْعَقْدِ عَلَيْهَا وَبَيِّنَتُهُ شَاهِدَانِ عَدْلَانِ لَا غَيْرَ ، إِمَّا عَلَى حُضُورِ الْعَقْدِ وَإِمَّا عَلَى إِقْرَارِهَا بِهِ ، وَأُخِذَتْ بِالِاجْتِمَاعِ مَعَهُ جَبْرًا . وَإِنْ نَكَلَتْ عَنِ الْيَمِينِ مَعَ عَدَمِهِ لِلْبَيِّنَةِ ، رُدَّتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ ، وَحُكِمَ لَهُ بِنِكَاحِهَا ، إِذَا حَلَفَ وَإِنْ نَكَلَ عَنْ يَمِينِ الرَّدِّ انْقَطَعَتِ الدَّعْوَى ، وَزَالَ حُكْمُهَا .
فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ دَعْوَى النِّكَاحِ ، مُتَوَجِّهَةٌ مِنَ الزَّوْجَةِ عَلَى الزَّوْجِ من ضروب دعوى النكاح ، فَإِنِ اقْتَرَنَ بِدَعْوَاهَا ، طَلَبُ حَقٍّ يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ مَهْرٍ ، أَوْ نَفَقَةٍ سُمِعَتْ دَعْوَاهَا عَلَيْهِ ، وَهَلْ يُعْتَبَرُ فِي صِحَّةِ دَعْوَاهَا ، ذِكْرُ شُرُوطِ الْعَقْدِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ ، وَأَخْذِ الزَّوْجِ بِالْجَوَابِ عَنْ دَعْوَاهَا ، وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِدَعْوَاهَا ، طَلَبُ حَقٍّ يَتَعَلَّقُ فَفِي وُجُوبِ أَخْذِ الزَّوْجِ بِجَوَابِ دَعْوَاهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُسْأَلُ عَنِ الْجَوَابِ ، وَلَا يُؤْخَذُ بِهِ ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالدَّعْوَى ، طَلَبُ حَقٍّ صَارَ إِقْرَارًا لَهُ بِالْعَقْدِ ، وَلَا جَوَابَ عَلَى الْمُقِرِّ لَهُ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَظْهَرُ أَنَّهُ يُؤْخَذُ بِالْجَوَابِ عَنْهُ ، لِأَنَّهُ قَدْ يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الدَّعْوَى مَا يَحْدُثُ بَعْدَهَا ، مِنْ ثُبُوتِ نَسَبٍ وَاسْتِحْقَاقِ مِيرَاثٍ ، فَإِذَا صَحَّتْ دَعْوَاهَا عَلَى مَا بَيَّنَّا وَأَخَذَ الزَّوْجُ بِجَوَابِهِ عَنْهَا ، فَلَهُ حَالَتَانِ : إِقْرَارٌ وَإِنْكَارٌ . فَإِنْ أَقَرَّ حُكِمَ بِثُبُوتِ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا بِتَصَادُقِهِمَا فِي الْحَضَرِ وَالسِّفْرِ ، عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ ، وَإِنْ خَالَفَ فِيهِ مَالِكٌ ، فَإِنْ أَنْكَرَهَا وَلَهَا بَيِّنَةٌ ، سُمِعَتْ ، وَحُكِمَ لَهَا بِالنِّكَاحِ . وَإِنْ عَدِمَتِ الْبَيِّنَةَ ، أُحْلِفَ لَهَا عَلَى إِنْكَارِهِ ، فَإِنْ حَلَفَ فَلَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا ، وَجَازَ لَهَا أَنْ تَنْكِحَ غَيْرَهُ ، وَإِنْ أَقَرَّتْ بِنِكَاحِهِ ، لِأَنَّ نِكَاحَهَا قَدْ زَالَ بِيَمِينِهِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ لَا تَكُونَ زَوْجَةً لَهُ ، وَتَحْرُمُ عَلَى غَيْرِهِ . وَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ رَدُّتْ عَلَيْهَا ، فَإِذَا حَلَفَ بَعْدَ نُكُولِهِ حُكِمَ لَهَا عَلَيْهِ بِالزَّوْجِيَّةِ ، وَحَلَّ لَهُ إِصَابَتُهَا ، وَالِاسْتِمْتَاعُ بِهَا ، وَإِنْ أَنْكَرَ الْعَقْدَ ، لِأَنَّهُ قَدْ حُكِمَ بَيْنَهُمَا بِالزَّوْجِيَّةِ فَكَانَ الْحُكْمُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَطْعُهُ . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْكَمَ عَلَيْهِ بِالنِّكَاحِ ، وَيُحْكَمَ عَلَيْهِ بِتَحْرِيمِ الِاسْتِمْتَاعِ ، وَلَيْسَ جُحُودُ النِّكَاحِ طَلَاقًا ، تَحْرُمُ بِهِ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ طَلَاقًا لَارْتَفَعَ بِهِ النِّكَاحُ ، وَإِذَا كَانَ النِّكَاحُ بَعْدَهُ ثَابِتًا ، امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ طَلَاقًا فَامْتَنَعَ أَنْ يَحْرُمَ عَلَيْهِ الِاسْتِمْتَاعُ .
دَعْوَى غَيْرِ النِّكَاحِ
[ دَعْوَى غَيْرِ النِّكَاحِ ] . فَصْلٌ : فَأَمَّا دَعْوَى غَيْرِ النِّكَاحِ مِنْ سَائِرِ الْعُقُودِ كَالْبَيْعِ ، وَالْإِجَارَةِ ، وَالرَّهْنِ ، فَإِنْ لَمْ يُعْتَبَرْ شُرُوطُ الْعَقْدِ فِي دَعْوَى النِّكَاحِ ، فَأَوْلَى أَنْ لَا تُعْتَبَرَ فِي دَعْوَى غَيْرِهِ مِنَ الْعُقُودِ ، لِأَنَّهَا إِذَا لَمْ تُعْتَبَرْ فِي الْأَغْلَظِ ، كَانَ أَوْلَى أَنْ لَا تُعْتَبَرَ فِي الْأَخَفِّ ، وَإِنِ اعْتُبِرَتْ فِي النِّكَاحِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اعْتِبَارِهَا فِي دَعْوَى غَيْرِهِ مِنَ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : يُعْتَبَرُ فِي دَعْوَاهَا شُرُوطُ الْعَقْدِ ، سَوَاءٌ اسْتُبِيحَ بِهَا ، ذَاتُ فَرَجٍ أَمْ لَا ، لِأَنَّهَا قَدْ تُوجَدُ فِيهَا الصِّحَّةُ ، وَالْفَسَادُ كَالنِّكَاحِ ، فَيَقُولُ فِي دَعْوَى الْعَبْدِ ابْتَعْتُ هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ بَعْدَ رُؤْيَتِهِ وَافْتَرَقْنَا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ إِطْلَاقُ الدَّعْوَى ، وَلَا تُعْتَبَرُ فِيهَا شُرُوطَ الْعَقْدِ وَسَوَاءٌ اسْتُبِيحَ بِهَا ذَاتُ فَرْجٍ أَمْ لَا بِخِلَافِ النِّكَاحِ ، لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِي التَّغْلِيظِ بِاعْتِبَارِ الْوَلِيِّ وَالشَّاهِدَيْنِ فِي النِّكَاحِ ، وَسُقُوطِ اعْتِبَارِهِ فِي الْبَيْعِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : إِنِ اسْتُبِيحَ بِالْبَيْعِ ذَاتُ فَرْجٍ كَابْتِيَاعِ الْأَمَةِ ، اعْتُبِرَ فِي دَعْوَى ابْتِيَاعِهَا شُرُوطُ الْعَقْدِ ، كَالنِّكَاحِ ، وَإِنْ لَمْ يُسْتَبَحْ بِهِ ذَاتُ فَرْجٍ كَابْتِيَاعِ الْبَهَائِمِ ، وَالْأَمْتِعَةِ ، لَمْ يُعْتَبَرْ فِي دَعْوَى ابْتِيَاعِهَا شُرُوطُ الْعَقْدِ ، لِتَخْفِيفِ حُكْمِهَا بِأَنَّهَا تُمْلَكُ بِالْإِبَاحَةِ ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ لِهَذَا الْمُوَجِّهِ وَجْهٌ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَالْأَيْمَانُ فِي الدِّمَاءِ مُخَالِفَةٌ لِغَيْرِهَا ، لَا يُبْرَأُ مِنْهُ إِلَّا بِخَمْسِينَ يَمِينًا ، وَسَوَاءٌ النَّفْسُ وَالْجُرْحُ فِي هَذَا ، نَقْتُلُهُ وَنَقُصُّهُ مِنْهُ بِنُكُولِهِ وَيَمِينِ صَاحِبِهِ ، ( قَالَ الْمُزَنِيُّ : ) رَحِمَهُ اللَّهُ : قَطَعَ فِي الْإِمْلَاءِ بِأَنْ لَا قَسَامَةَ بِدَعْوَى مَيِّتٍ ، وَلَكِنْ يَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَيَبْرَأُ ، فَإِنْ أَبَى حَلَفَ الْأَوْلِيَاءُ وَاسْتَحَقُّوا دَمَهُ ، وَإِنْ أَبَوْا ، بَطَلَ حَقُّهُمْ ، وَقَالَ فِي كِتَابِ اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ : مَنِ ادَّعَى دَمًا وَلَا دَلَالَةَ لِلْحَاكِمِ عَلَى دَعْوَاهُ كَدِلَالَةِ الَّتِي قَضَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَسَامَةِ ، أُحْلِفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَمَا يَحْلِفُ فِيمَا سَوَى الدَّمِ ، ( قَالَ الْمُزَنِيُّ : ) رَحِمَهُ اللَّهُ : وَهَذَا بِهِ أَشْبَهُ ، وَدَلِيلٌ آخَرُ ، حَكَمَ النَّبِيُّ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقَسَامَةِ بَتَبْدِئَةِ الْمُدَّعِي لَا غَيْرِهِ ، وَحُكِمَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ بِتَبْدِئَةِ يَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا غَيْرِهِ ، فَإِذَا حَكَمَ الشَّافِعِيُّ فِيمَا وَصَفْتُ بِتَبْدِئَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، ارْتَفَعَ عَدَدُ أَيْمَانِ الْقَسَامَةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ الْقَسَامَةِ ، وَذَكَرْنَا أَنَّ دَعْوَى الدِّمَاءِ ، تُخَالِفُ دَعْوَى الْأَمْوَالِ ، مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : بِالتَّبْدِئَةِ بِيَمِينِ الْمُدَّعِي مَعَ اللَّوْثِ ، وَبِأَعْدَادِ الْأَيْمَانِ خَمْسِينَ يَمِينًا . وَإِذَا اخْتَصَّتِ الدِّمَاءُ بِهَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ لَمْ تَخْلُ دَعْوَاهُمَا مِنْ أَنْ تَكُونَ فِي نَفْسٍ أَوْ طَرَفٍ ، فَإِنْ كَانَتْ فِي نَفْسٍ لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ مَعَهَا لَوْثٌ ، أَمْ لَا . فَإِنْ كَانَ مَعَهُمَا لَوْثٌ تَعَلَّقَ عَلَيْهِمَا الْحُكْمَانِ فِي التَّبْدِئَةِ بِيَمِينِ الْمُدَّعِي وَبِإِحْلَافِهِ خَمْسِينَ يَمِينًا ، فَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ وَاحِدًا ، أُحْلِفَ خَمْسِينَ يَمِينًا وَاسْتَحَقَّ الدَّمَ ، وَفِيمَا يَسْتَحِقُّهُ بِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : الْقَوَدُ قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ . وَالثَّانِي : الدِّيَةُ قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ . وَإِنْ كَانَ وَلِيُّ الدَّمِ جَمَاعَةٌ كيف تكون أيمانهم ؟ فَفِي أَيْمَانِهِمْ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَمْسِينَ يَمِينًا ، يَسْتَوِي فِيهِ مَنْ قَلَّ سَهْمُهُ وَكَثُرَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْخَمْسِينَ يُقَسَّطُ بَيْنَهُمْ ، عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِ ، فَيَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِقَدْرِ قِسْطِهِ مِنْ مَوَارِيثِهِ ، بِجَبْرِ الْكَسْرِ ، فَإِنْ كَانُوا ابْنًا وَبِنْتًا حَلَفَ الِابْنُ أَرْبَعَةً وَثَلَاثِينَ يَمِينًا ، وَحَلَفَتِ الْبِنْتُ سَبْعَ عَشْرَةَ يَمِينًا . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ الدَّعْوَى لَوْثٌ ، سَقَطَتِ التَّبْدِئَةُ بِيَمِينِ الْمُدَّعِي وَأُحْلِفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَمَا يُبْتَدَأُ بِإِحْلَافِهِ فِي دَعْوَى الْأَمْوَالِ ، وَلَكِنْ هَلْ تُغَلَّظُ الدَّعْوَى بِعَدَدِ الْأَيْمَانِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : لَا يُغَلَّظُ بِالْعَدَدِ ، وَيَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَمِينًا وَاحِدَةً ، لِأَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ فِيهَا حُكْمُ التَّبْدِئَةِ سَقَطَ فِيهَا حُكْمُ الْعَدَدِ كَالْأَمْوَالِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : تُغَلَّظُ فِيهَا الْأَيْمَانُ بِالْعَدَدِ ، وَإِنْ سَقَطَ التَّغْلِيظُ بِالتَّبْدِئَةِ ، لِتَغْلِيظِ حُكْمِ الدِّمَاءِ ، بِوُجُوبِ الْقَوَدِ ، وَالْكَفَّارَةِ فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَاحِدًا ، حَلَفَ خَمْسِينَ يَمِينًا ، وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً فَعَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَمْسِينَ يَمِينًا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يُقَسَّطُ الْخَمْسُونَ بَيْنَهُمْ عَلَى عَدَدِهِمْ إِلَّا أَنْ يَكُونُوا وَرَثَةَ مَيِّتٍ ، فَتُقَسَّطُ بَيْنَهُمْ عَلَى مَوَارِيثِهِمْ ، فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ ، وَإِنْ نَكَلَ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى ، وَفِي تَغْلِيظِ يَمِينِهِ بِالْعَدَدِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُغَلَّظُ وَيَحْلِفُ يَمِينًا وَاحِدَةً ، يَسْتَحِقُّ بِهَا الْقَوَدَ فِي الْعَمْدِ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَحِقُّهُ مَعَ اللَّوْثِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، لِأَنَّ يَمِينَ الرَّدِّ فِي النُّكُولِ تَقُومُ مَقَامَ الْإِقْرَارِ ، فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَمَقَامَ الْبَيِّنَةِ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ ، وَالْقَوَدُ يُسْتَحَقُّ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ إِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَبَيِّنَةِ الْمُدَّعِي . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَحْلِفُ الْمُدَّعِي خَمْسِينَ يَمِينًا ، ثُمَّ يَحْكُمُ لَهُ بِالْقَوَدِ إِنْ حَلَفَهَا فَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً فَعَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَمْسِينَ يَمِينًا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهَا تُقَسَّطُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ بِجَبْرِ الْكَسْرِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ دَعْوَى الدَّمُ فِي الْأَطْرَافِ فَتَسْقُطُ فِيهَا التَّبْدِئَةُ ، بِيَمِينِ الْمُدَّعِي ، سَوَاءٌ كَانَ مَعَهَا لَوْثٌ ، أَوْ لَمْ يَكُنْ لِسُقُوطِ تَغْلِيظِهَا ، بِسُقُوطِ الْكَفَّارَةِ فِيهَا ، فَأَمَّا تَغْلِيظُهُ بِعَدَدِ الْأَيْمَانِ ، فَإِنْ لَمْ تُغْلَّظْ بِالْعَدَدِ فِي النُّفُوسِ عِنْدَ عَدَمِ اللَّوْثِ ، فَأَوْلَى أَنْ لَا تُغَلَّظَ بِالْعَدَدِ فِي الْأَطْرَافِ وَإِنْ غُلِّظَتْ بِالْعَدَدِ فِي النُّفُوسِ فَفِي تَغْلِيظِ الْأَيْمَانِ بِالْعَدَدِ فِي الْأَطْرَافِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا تُغَلَّظُ ، وَيَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَمِينًا وَاحِدَةً ، وَيَبْرَأُ مِنَ الدَّعْوَى ، فَإِنْ نَكَلَ عَنْهَا رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي ، وَحَلَفَ يَمِينًا وَاحِدَةً ، وَاسْتَحَقَّ بِهَا الْقَوَدَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنْ تُغَلَّظَ الْأَيْمَانُ بِالْعَدَدِ وَفِي كَيْفِيَّةِ تَغْلِيظِهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : تُغْلَّظُ فِي دَعْوَى كُلِّ طَرَفٍ خَمْسِينَ يَمِينًا ، سَوَاءٌ قَلَّتْ دِيَتُهُ أَوْ كَثُرَتْ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهَا تَسْقُطُ عَلَى دِيَةِ الطَّرَفَ مِنْ جُمْلَةِ دِيَةِ النَّفْسِ ، فَإِنْ كَانَ الطَّرَفُ مُوجِبًا لِجَمِيعِ الدِّيَةِ كَاللِّسَانِ وَالذِّكْرِ حَلَفَ خَمْسِينَ يَمِينًا وَإِنْ كَانَ فِيهِ نِصْفُ الدِّيَةِ
كَإِحْدَى الْيَدَيْنِ حَلَفَ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ يَمِينًا ، وَإِذَا كَانَ فِيهِ ثُلُثِ الدِّيَةِ كَالْمَأْمُومَةِ ، وَالْجَائِفَةِ ، حَلَفَ سَبْعَ عَشْرَةَ يَمِينًا وَإِنْ كَانَ فِيهِ عُشْرُ الدِّيَةِ ، كَالْأُصْبُعِ حَلَفَ خَمْسَةَ أَيْمَانٍ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ نِصْفُ الْعَشْرِ كَالْمُوَضِّحَةِ حَلَفَ ثَلَاثَةَ أَيْمَانٍ فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَاحِدًا حَلَفَهَا ، وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً فَعَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَحْلِفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَمِيعَ هَذَا الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُقَسِّطُ هَذَا الْعَدَدَ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ بِجَبْرِ الْكَسْرِ ، فَإِنْ نَكَلُوا عَنِ الْيَمِينِ ، رُدَّتْ عَلَى الْمُدَّعِي وَكَانَتْ عَدَدُ أَيْمَانِهِ مِثْلَ عَدَدِ أَيْمَانِهِمْ عَلَى الْأَقَاوِيلِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُزَنِيِّ فَإِنَّهُ اخْتَارَ أَنْ يَكُونَ عَدَدُ الْأَيْمَانِ مُعْتَبَرًا بِالتَّبْدِئَةِ فَإِنْ حُكِمَ بِتَبْدِئَةِ الْمُدَّعِي لِوُجُودِ اللَّوْثِ ، غُلِّظَتِ الْأَيْمَانُ بِالْعَدَدِ وَإِنْ سَقَطَتِ التَّبْدِئَةُ بِيَمِينِ الْمُدَّعِي سَقَطَتْ عَدَدُ الْأَيْمَانِ ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمُزَنِيُّ فِي كَلَامِهِ مَسْأَلَةً حَكَاهَا عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْإِمْلَاءِ ، فَقَالَ : " وَلَا قَسَامَةَ ، بِدَعْوَى مَيِّتٍ " يُرِيدُ بِهِ أَنَّ الْمَقْتُولَ إِذَا قَالَ قَبْلَ مَوْتِهِ ، قَتَلَنِي فُلَانٌ ، فَلَا قَسَامَةَ لِوَارِثِهِ ، يَعْنِي أَنَّهُ لَا يُبْدَأُ بِيَمِينِهِ وَلَا يُجْعَلُ ذَلِكَ لَوْثًا لَهُ ، رَدًا عَلَى مَالِكٍ حَيْثُ جَعَلَهُ لَوْثًا وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ . فَأَمَّا عَدَدُ الْأَيْمَانِ فِيهِ ، فَيَكُونُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي عَدَدِهَا ، مَعَ عَدَمِ اللَّوْثِ ، فَلَمْ يَكُنْ لِلْمُزَنِيِّ فِي إِيرَادِهَا دَلِيلٌ عَلَى مَا اخْتَارَهُ ، مِنْ سُقُوطِ الْعَدَدِ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَالدَّعْوَى فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ وَالنُّكُولِ وَرَدِّ الْيَمِينِ كَهِيَ فِي الْمَالِ ، إِلَّا أَنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ ضَعِيفَةٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كَفَالَةِ النُّفُوسِ ، قَدْ مَضَتْ فِي كِتَابِ الضَّمَانِ مُسْتَوْفَاةٌ ، وَأَعَادَهَا الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : بِصِحَّةِ الدَّعْوَى بِصِحَّتِهَا ، وَفَسَادِ دَعْوَاهَا بِفَسَادِهَا . وَالثَّانِي : لِوُجُوبِ الْيَمِينِ فِي إِنْكَارِهَا إِذَا صَحَّتْ ، وَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الضَّمَانِ ، أَنَّ كَفَالَةَ النُّفُوسِ صَحِيحَةٌ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ يُوسُفَ ، عَلَيْهِ السَّلَامُ : قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ [ يُوسُفَ : ] . يَعْنِي كَفِيلًا بِنَفْسِهِ ، وَلِأَنَّهُ قَدْ عَمِلَ بِهَا الصَّدْرَ الْأَوَّلَ ، وَلِأَنَّ فِيهَا رِفْقًا بَالنَّاسِ ، وَتَعَاوُنًا عَلَى الصِّيَانَةِ . ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا : " إِلَّا أَنَّ الْكَفَالَةَ فِي النَّفْسِ ضَعِيفَةٌ " . فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُرَادِهِ بِضَعْفِهَا ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : أَرَادَ بِهِ بُطْلَانَهَا .
فَخَرَّجُوا هَذَا قَوْلًا ثَانِيًا ، فِي إِبْطَالِهَا لِأَنَّهُ لَمْ يُكْفَلْ بِمَالٍ فِي الذِّمَّةِ ، وَلَا بِعَيْنٍ مَضْمُونَةٍ ، يَجِبُ غُرْمُ قِيمَتِهَا . وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ : لَمْ يُرِدْ بِالضَّعْفِ إِبْطَالَهَا ، وَإِنَّمَا أَرَادَ ضَعْفَهَا فِي قِيَاسِ الْأُصُولِ ، وَإِنْ صَحَّتْ بِالْآثَارِ وَالْعَمَلِ الْمُتَّفِقِ عَلَيْهِ . فَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى : فَإِنْ مُنِعَ مِنْهَا فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ عَلَى التَّخْرِيجِ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا كَانَتْ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى أَمْنَعُ لِإِدْرَائِهَا بِالشُّبُهَاتِ . وَإِنْ أُجِيزَتْ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ عَلَى الظَّاهِرِ الْمَشْهُودِ ، مِنَ الْمَذْهَبِ فَفِي جَوَازِهَا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى قَوْلَانِ : أَحَدُهَا : لَا تَجُوزُ تَعْلِيلًا بِمَا ذَكَرْنَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : تَجُوزُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " قَدَرُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى " .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَوَجَّهَتْ دَعْوَى الْكَفَالَةُ عَلَى رَجُلٍ ، خُوصِمَ فِيهَا إِلَى الْحَاكِمِ فَإِنْ كَانَ يَرَى إِبْطَالَ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ ، لَمْ تُسْمَعِ الدَّعْوَى فِيهَا ، وَلَمْ تَجِبِ الْيَمِينُ فِي إِنْكَارِهَا ، وَإِنْ كَانَ يَرَى جَوَازَهَا سَمِعَ الدَّعْوَى فِيهَا وَأَوْجَبَ الْيَمِينَ عَلَى مُنْكِرِهَا ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَمِينَ عَلَى مُنْكِرِهَا ، وَإِنْ صَحَّتْ ، وَبَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ فِي إِسْقَاطِ الْيَمِينِ عَلَى الْمُنْكَرِ ، فِي خَمْسَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا يَطُولُ شَرْحُهَا ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي نَظَائِرِهَا . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهُ أَكْرَاهُ بَيْتًا مِنْ دَارِهِ شَهْرًا بِعَشَرَةٍ ، وَأَقَامَ الْمُكْتَرِي الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اكْتَرَى مِنْهُ الدَّارَ كُلَّهَا ذَلِكَ الشَّهْرَ بِعَشَرَةٍ ، فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ وَيَتَحَالَفَانِ وَيَتَرَادَّانِ ، فَإِنْ كَانَ سَكَنَ فَعَلَيْهِ كِرَاءُ مِثْلِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ اخْتِلَافَ الْمُتَكَارِيَيْنِ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ كَاخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ ، فَيَكُونُ اخْتِلَافُهُمَا تَارَةً فِي الْأُجْرَةِ كَاخْتِلَافِهِمَا فِي الثَّمَنِ ، وَيَخْتَلِفَانِ تَارَةً فِي قَدْرِ الْمُدَّةِ ، كَاخْتِلَافِهِمَا فِي قَدْرِ الْمَبِيعِ ، وَيَخْتَلِفَانِ فِي صِفَةِ الْمَكْرِيِّ كَاخْتِلَافِهِمَا فِي صِفَةِ الْمَبِيعِ ، فَيُحْكَمُ بِالْبَيِّنَةِ ، وَيَتَحَالَفَانِ عِنْدَ عَدَمِهَا ، لِأَنَّ الْإِجَارَةَ صِنْفٌ مِنَ الْبُيُوعِ ، فَتَسَاوَيَا فِي التَّحَالُفِ . فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ : أَنْ يَخْتَلِفَ الْمُتَكَارِيَانِ فَيَقُولُ الْمُكْرِي أَكْرَيْتُكَ بَيْتًا مِنْ هَذِهِ الدَّارِ شَهْرَ رَمَضَانَ بِعَشَرَةٍ .