كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي
بَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ ، وَأَنْفَذَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ بِدِيَاتِ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ قَالَهُ يَوْمَ الْفَتْحِ جَازَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُ قَبْلَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُمْ قَاتَلُوهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
بَابُ وُقُوعِ الرَّجُلِ عَلَى الْجَارِيَةِ قَبْلَ الْقَسْمِ أَوْ يَكُونُ لَهُ فِيهِمْ أَبٌ أَوِ ابْنٌ وَحُكْمُ السَّبْيِ
بَابُ وُقُوعِ الرَّجُلِ عَلَى الْجَارِيَةِ قَبْلَ الْقَسْمِ أَوْ يَكُونُ لَهُ فِيهِمْ أَبٌ أَوِ ابْنٌ وَحُكْمُ السَّبْيِ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " إِنْ وَقَعَ عَلَى جَارِيَةٍ مِنَ الْمَغْنَمِ قَبْلَ الْقَسْمِ : فَعَلْيهِ مَهْرُ مِثْلِهَا يُؤَدِّيهِ فِي الْمَغْنَمِ ، وَيُنْهَى إِنْ جَهِلَ ، وَيُعَزَّرُ إِنْ عَلِمَ ، وَلَا حَدَّ لِلشُّبْهَةِ : لِأَنَّ لَهُ فِيهَا شَيْئًا ، قَالَ : وَإِنْ أَحْصَوُا الْمَغْنَمَ فَعُلِمَ كَمْ حَقُّهُ فِيهَا مَعَ جَمَاعَةِ أَهْلِ الْمَغْنَمِ سَقَطَ عَنْهُ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ مِنْهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْغَنَائِمُ قَبْلَ إِحَازَتِهَا وَاسْتِقْرَارِ الظَّفَرِ بِهَزِيمَةِ أَهْلِهَا فَهِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِ أَرْبَابِهَا ، فَإِنْ وَطِئَ مِنْهُمْ جَارِيَةً كَانَ الْوَاطِئُ زَانِيًا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ ، فَأَمَّا إِذَا اسْتَقَرَّ الظَّفَرُ بِالْهَزِيمَةِ ، وَأُحِيزَتِ الْأَمْوَالُ وَالسَّبْيُ فَقَدْ مَلَكَهَا جَمِيعُ الْغَانِمِينَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْقَاقِ ، لَا عَلَى وَجْهِ التَّعْيِينِ كَمَا يَمْلِكُ أَهْلُ السَّهْمَانِ الزَّكَاةَ قَبْلَ دَفْعِهَا ، فَأَمَّا كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْغَانِمِينَ فَإِنَّمَا يَمْلِكُ بِالْحُضُورِ أَنْ يَتَمَلَّكَ بِالْقَسْمِ كَالشُّفْعَةِ مِلْكُ الْخَلِيطِ بِالْبَيْعِ أَنْ يَتَمَلَّكَ بِالْأَخْذِ ، وَإِنَّمَا مِلْكُ الْغَانِمِ أَنْ يَتَمَلَّكْ ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ لَهُ الْمِلْكُ لِمَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ حَقَّهُ فِيهَا يَزُولُ بِتَرْكِهِ وَيَعُودُ إِلَى غَيْرِهِ كَالشُّفْعَةِ ، وَلَوْ مَلَكَهُ لَمْ يَزُلْ بِتَرْكِهِ كَالْوَرَثَةِ . وَالثَّانِي : لَوْ تَأَخَّرَ قَسْمُهَا حِينَ حَالَ حَوْلُهَا لَمْ تَجِبْ زَكَاتُهَا ، وَلَوْ مُلِكَتْ وَجَبَتْ زَكَاتُهَا ، فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَصُورَةُ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فِي رَجُلٍ مِنَ الْغَانِمِينَ وَطِئَ جَارِيَةً مِنَ السَّبْيِ الْمَغْنُومِ فَهُوَ وَطْءٌ مُحَرَّمٌ : لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهَا وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِلشُّبْهَةِ . وَقَالَ مَالِكُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ : عَلَيْهِ الْحَدُّ : لِأَنَّهُ وَطْءٌ مُحَرَّمٌ فِي غَيْرِ مَلِكٍ ، فَوَجَبَ بِهِ الْحَدُّ كَالزِّنَا ، وَدَلِيلُنَا فِي سُقُوطِ الْحَدِّ عَنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ ، وَشُبْهَةُ الْوَطْءِ فِيهَا أَنَّهُ مَلَكَ مِنْهَا أَنْ يَتَمَلَّكَهَا فَكَانَتْ أَقْوَى مِنْ شُبْهَةِ الْأَبِ فِي جَارِيَةِ ابْنِهِ الَّتِي مَا مَلَكَ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا ، فَلَمَّا سَقَطَ الْحَدُّ عَنِ الْأَبِ فِي جَارِيَةِ ابْنِهِ كَانَ سُقُوطُهُ عَنْ هَذَا أَوْلَى ، وَبِهِ خَالَفَ مَحْضَ الزِّنَا ، وَصَارَ كَوَطْءِ الْأَجْنَبِيَّةِ بِشُبْهَةٍ . فَإِذَا ثَبَتَ سُقُوطُ الْحَدِّ نُظِرَ ، فَإِنْ عَلِمَ بِالتَّحْرِيمِ عُزِّرَ ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ لَا تَمْنَعُ مِنَ التَّعْزِيرِ وَإِنْ مَنَعَتِ الْحَدَّ لِحَظْرِ الْإِقْدَامِ عَلَى الشُّبُهَاتِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالتَّحْرِيمِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا تَعْزِيرَ ، فَأَمَّا الْمَهْرُ فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ فِي الْحَالَيْنِ مَعَ عِلْمِهِ بِالتَّحْرِيمِ وَجَهْلِهِ بِهِ كَغَيْرِهِ مِنْ وَطْءِ الشُّبْهَةِ ، فَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ نُظِرَ فِي عَدَدِ الْغَانِمِينَ ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَحْصُورٍ لِكَثْرَتِهِمْ
دَفَعَ جَمِيعَ الْمَهْرِ ، وَضُمَّ إِلَى الْغَنِيمَةِ حَتَّى يُقَسَّمَ مَعَهَا فِي جَمِيعِ الْغَانِمِينَ ، فَلَوْ صَارَتِ الْجَارِيَةُ الَّتِي وَطِئَهَا فِي سَهْمِهِ وَمَلَكَهَا بِالْقِسْمَةِ بَعْدَ وَطْئِهِ ، لَمْ يَسْتَرْجِعِ الْمَهْرَ بَعْدَ دَفْعِهِ ، وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ قَبْلَ دَفْعِهِ : لِأَنَّهُ اسْتَحْدَثَ مِلْكَهَا بَعْدَ وُجُوبِ مَهْرِهَا ، فَصَارَتْ كَأَمَةٍ وَطِئَهَا بِشُبْهَةٍ ، ثُمَّ ابْتَاعَهَا بَعْدَ الْوَطْءِ مِنْ سَيِّدِهَا ، لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ مَهْرُهَا ، وَإِنْ كَانَ عَدَدُ الْغَانِمِينَ مَحْصُورًا ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : يَسْقُطُ عَنْهُ مِنَ الْمَهْرِ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ فِيهَا ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَحَلِّ سُقُوطِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ ، حَكَاهُمَا أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ قَدْرُ حَقِّهِ مِنْهَا إِذَا كَانَ قَدْ تَمَلَّكَهَا بِالْقِسْمَةِ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْغَانِمِينَ مَحْصُورِينَ ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ وَطِئَهَا قَبْلَ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا ، فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ مَهْرِهَا ، وَإِنْ كَانَ عَدَدُهُمْ مَحْصُورًا ؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ فِي حَالٍ لَيْسَ بِمَالِكٍ فِيهَا ، وَإِنَّمَا مَلَكَ أَنْ يَتَمَلَّكَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ فِي الْحَالَيْنِ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ مِنْهَا ، سَوَاءٌ كَانَ وَطْؤُهُ قَبْلَ التَّمَلُّكِ أَوْ بَعْدَهُ ؛ لِأَنَّ مِلْكَهَا مَوْقُوفٌ عَلَيْهِمْ ، وَلَا حَقَّ فِيهَا لِغَيْرِهِمْ ، وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَإِنْ حَمَلَتْ فَهَكَذَا وَتُقَوَّمُ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ بِهَا حَمْلٌ وَكَانَتْ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا أَنْ تَحْمِلَ مِنْهُ الْجَارِيَةَ الَّتِي وَطِئَهَا مِنَ الْمَغْنَمِ ما يتعلق بوطئها من أحكام ، فَيَتَعَلَّقَ بِحَمْلِهَا أَرْبَعَةُ أَحْكَامٍ بَعْدَ ثَلَاثَةٍ قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا فِي اخْتِصَاصِهَا بِالْوَطْءِ : أَحَدُهَا : سُقُوطُ الْحَدِّ . وَالثَّانِي : وُجُوبُ التَّعْزِيرِ مَعَ الْعِلْمِ بِالتَّحْرِيمِ . وَالثَّالِثُ : اسْتِحْقَاقُ الْمَهْرِ ، فَأَمَّا الْأَحْكَامُ الْأَرْبَعَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِإِحْبَالِهَا : فَأَحَدُهَا : لُحُوقُ الْوَلَدِ بِهِ . وَالثَّانِي : حُرِّيَّتُهُ . وَالثَّالِثُ : وُجُوبُ قِيمَتِهِ . وَالرَّابِعُ : أَنْ تَصِيرَ الْجَارِيَةُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ . فَأَمَّا لُحُوقُ الْوَلَدِ فَهُوَ لَاحِقٌ بِهِ ، سَوَاءٌ اعْتَرَفَ بِهِ أَوْ لَمْ يَعْتَرِفْ ، إِذَا وَضَعَتْهُ لِزَمَانٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُلْحَقُ بِهِ ، وَبَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ وَلَدَ الْأَمَةِ لَا يُلْحَقُ بِسَيِّدِهَا إِلَّا بِالِاعْتِرَافِ ، وَعِنْدَنَا يُلْحَقُ بِالْفِرَاشِ ، وَقَدْ صَارَتْ فِرَاشًا بِهَذَا الْوَطْءِ ؛ لِأَنَّهُ وَطْءُ شُبْهَةٍ يَسْقُطُ فِيهِ الْحَدُّ فَأَشْبَهَ وَطْءَ الْحُرَّةِ .
وَأَمَّا حُرِّيَّةُ الْوَلَدِ فَهُوَ حُرٌّ : لِأَنَّهُ لَحِقَ بِهِ عَنْ شُبْهَةِ مِلْكٍ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَكُونُ مَمْلُوكًا لِأَنَّهُ لَمْ يُلْحِقْهُ بِهِ . وَأَمَّا قِيمَةُ الْوَلَدِ فَتُعْتَبَرُ بِحَالِ الْأُمِّ فِيمَا يَسْتَقِرُّ لَهَا مِنْ حُكْمٍ ، وَالْأُمُّ قَدْ أَحْبَلَهَا فِي شُبْهَةِ مِلْكٍ ، وَوَلَدُ الْمَمْلُوكَةِ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ قَدْ تَكَرَّرَتْ فِي كَثِيرٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ : أَحَدُهَا : مَا تَصِيرُ بِهِ الْمَمْلُوكَةُ أُمَّ وَلَدٍ ، هُوَ أَنْ تَلِدَ حُرًّا مِنْ مَالِكٍ كَالسَّيِّدِ . وَالثَّانِي : مَا لَا تَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ ، وَهُوَ أَنْ تَلِدَ مَمْلُوكًا مِنْ غَيْرِ مَالِكٍ كَالزَّوْجِ . وَالثَّالِثُ : مَا اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ وَهُوَ أَنْ تَلِدَ حُرًّا مِنْ غَيْرِ مَالِكٍ كَالْحُرِّ إِذَا وَطِئَ أَمَةَ غَيْرِهِ بِشُبْهَةٍ هل تصير أم ولد فَلَا تَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَمْلِكَهَا الْوَاطِئُ أُمَّ وَلَدٍ ، وَهَلْ تَصِيرُ لَهُ بَعْدَ مِلْكِهَا أُمَّ وَلَدٍ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تَصِيرُ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ ، قَالَهُ فِي كِتَابِ حَرْمَلَةَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا تَصِيرُ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ ، قَالَهُ فِي كِتَابِ الْأُمِّ ، وَهَذِهِ الْجَارِيَةُ السَّبِيَّةُ قَدْ وَلَدَتْ حُرًّا فِي شُبْهَةِ مِلْكٍ ، وَلَهَا حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ قِسْمَتِهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ تَكُونَ بَعْدَ قِسْمَتِهَا بَيْنَ الْقَبَائِلِ . فَأَمَّا الْحَالُ الْأُولَى فَهِيَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ قِسْمَتِهَا فِي الْغَانِمِينَ ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ أَنْ يَطَأَهَا بَعْدَ السَّبْيِ ، وَقَبْلَ أَنْ يَتَعَيَّنَ فِيهَا حَقُّ أَحَدٍ مِنَ الْغَانِمِينَ الجارية ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكْثُرَ عَدَدُ الْغَانِمِينَ حَتَّى لَا يَنْحَصِرَ حَقُّ الْوَاطِئِ مِنْ هَذِهِ الْجَارِيَةِ ، فَيَكُونَ وَاطِئًا لِجَارِيَةٍ لَمْ يَمْلِكْهَا ، وَلَا مَلَكَ شَيْئًا مِنْهَا ، وَإِنَّمَا لَهُ فِيهَا شُبْهَةُ مِلْكٍ وَهُوَ أَنَّهُ يَمْلِكُ مِنْهَا فِي الْحَالِ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا فِي ثَانِي حَالٍ ، فَهَلْ تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ بِحَبْلِهَا إِذَا مَلَكَهَا أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ، فَعَلَى هَذَا قَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ تُقَوَّمُ عَلَيْهِ قَبْلَ الْوِلَادَةِ لِأَجْلِ عُلُوقِهَا مِنْهُ بِحُرٍّ من وطئ جارية بعد السبي وقبل تعين حق الغانمين ، عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : لَا تُقَوَّمُ عَلَيْهِ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا ، سَوَاءٌ قِيلَ : إِنَّهَا تَصِيرُ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ إِذَا مَلَكَهَا أَمْ لَا ؟ كَمَا لَا تُقَوَّمُ عَلَيْهِ أَمَةُ غَيْرِهِ إِذَا أَحْبَلَهَا بِشُبْهَةٍ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عَلَيْهِ قِيمَةُ وَلَدِهَا إِذَا وَضَعَتْهُ ، فَإِنْ قُسِّمَتْ فَصَارَتْ فِي سَهْمِهِ ، فَهَلْ تَصِيرُ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ أَمْ لَا ؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : تُقَوَّمُ عَلَيْهِ ، سَوَاءٌ قِيلَ : إِنَّهَا تَصِيرُ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ إِذَا مَلَكَهَا أَمْ لَا : لِأَنَّهَا حَامِلٌ مِنْهُ بِحُرٍّ ، وَفِي قَسْمِهَا قَبْلَ وِلَادَتِهِ ضَرَرٌ عَلَى وَلَدِهِ ، وَفِي تَأْخِيرِهَا إِلَى الْوِلَادَةِ ضَرَرٌ عَلَى الْغَانِمِينَ فَوَجَبَ أَنْ تُؤْخَذَ بِقِيمَتِهَا : لِأَجْلِ الضَّرَرِ الْحَادِثِ عَنْ فِعْلِهِ ، فَإِنْ
كَانَتْ قِيمَتُهَا بِقَدْرِ سَهْمِهِ مِنَ الْمَغْنَمِ حَصَلَتْ قِصَاصًا ، وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ رَدَّ الْفَضْلَ ، وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ دَفَعَ الْبَاقِيَ ، فَإِذَا وَضَعَتْ لَمْ يَلْزَمْهُ قِيمَةُ وَلَدِهَا ، وَهَلْ لَهُ بَيْعُهَا أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهَا فِي أَحَدِهِمَا إِذَا قِيلَ : إِنَّهَا لَا تَصِيرُ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهَا تُقَوَّمُ عَلَيْهِ إِذَا قِيلَ : إِنَّهَا تَصِيرُ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ إِذَا مَلَكَهَا ، وَلَا تُقَوَّمُ عَلَيْهِ إِذَا قِيلَ : إِنَّهَا لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ إِذَا مَلَكَهَا ، اعْتِبَارًا بِمَا يَتَعَدَّى إِلَيْهَا مِنْ حُكْمِ إِيلَادِهِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ قُوِّمَتْ عَلَيْهِ لَمْ يَلْزَمْهُ قِيمَةُ وَلَدِهَا ، وَإِنْ لَمْ تُقَوَّمْ عَلَيْهِ لَزِمَهُ قِيمَةُ وَلَدِهَا .
فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَقِلَّ عَدَدُ الْغَانِمِينَ حَتَّى يَنْحَصِرَ سَهْمُهُ مِنْهَا وطء جارية من الغنيمة قبل قسمتها ، مِثْلُ أَنْ يَكُونُوا عَشَرَةً فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْغَنِيمَةِ غَيْرُهَا ، وَهِيَ جَمِيعُ الْمَغْنُومِ ، فَيَصِيرَ حَقُّهُ فِيهَا مُمْتَنِعًا ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْدِلَهُ بِهِ إِلَى غَيْرِهِ ، فَيَصِيرَ قَدْرُ حَقِّهِ مِنْهَا أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ، وَالْبَاقِي يَكُونُ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي قِسْمَةِ الْقَبَائِلِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ فِي الْغَنِيمَةِ غَيْرُهَا مِنْ خَيْلٍ وَمَوَاشِي ، فَلِأَمِيرِ الْجَيْشِ أَنْ يُقَسِّمَ هَذِهِ الْغَنِيمَةَ قِسْمَةَ تَحَكُّمٍ لَا قِسْمَةَ مُرَاضَاةٍ ، فَيَجْعَلَ كُلَّ نَوْعٍ مِنَ الْغَنِيمَةِ فِي سَهْمِ مَنْ شَاءَ مِنَ الْغَانِمِينَ ، وَرُبَّمَا جَعَلَ هَذِهِ الْجَارِيَةَ فِي سَهْمِهِ ، وَرُبَّمَا جَعَلَهَا فِي سَهْمِ غَيْرِهِ ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يَصِيرُ قَدْرُ سَهْمِهِ الْمَحْصُورِ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ بِنَاءً عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي سُقُوطِ قَدْرِ سَهْمِهِ مِنْ مَهْرِهَا إِذَا حَصَرَ عَدَدَهُمْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ ، كَذَلِكَ هَاهُنَا هَلْ يَصِيرُ قَدْرُ سَهْمِهِ مِنْهَا إِذَا انْحَصَرَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ ، فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى إِذَا لَمْ يَنْحَصِرْ عَدَدُهُمْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ، وَيَكُونُ مَحْسُوبًا عَلَيْهِ مِنْ حَقِّهِ ، وَيَكُونُ حُكْمُ بَاقِيهَا عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي وَطْئِهَا بَعْدَ قِسْمَةِ الْقَبَائِلِ ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يَسْقُطُ خِيَارُ الْإِمَامِ فِي الْإِمَامِ لِمَنْ شَاءَ وَيَلْزَمُهُ دَفْعُهَا إِلَيْهِ ؟ أَوْ يَكُونُ عَلَى خِيَارِهِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مُحْتَمَلَانِ : لِاحْتِمَالِ التَّعْلِيلِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْحَالُ الثَّانِيَةُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ إِحْبَالُهُ لَهَا بَعْدَ قَسْمِهَا بَيْنَ الْقَبَائِلِ بِأَنْ حَصَلَتْ مِلْكًا لِعَشَرَةٍ مِنَ الْغَانِمِينَ الجاريه : لِأَنَّ الْحُكْمَ لِأَمِيرِ الْجَيْشِ إِذَا قَلَّتِ الْغَنِيمَةُ وَكَثُرَ الْعَدَدُ أَنْ يُشْرِكَ بَيْنَ الْجَمَاعَةِ فِي الرَّأْسِ الْوَاحِدِ ، فَيُعْطِيَ لِعَشَرَةٍ فَرَسًا وَلِعَشَرَةٍ جَارِيَةً وَلِعَشَرَةٍ بَعِيرًا ، فَإِذَا اخْتَارُوا ذَلِكَ وَقَبِلُوهُ صَارَ مُشْتَرِكًا بَيْنَهُمْ ، كَسَائِرِ أَمْوَالِهِمُ الْمُشْتَرَكَةِ بِابْتِيَاعٍ أَوْ مِيرَاثٍ ، فَيَكُونُ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْجَارِيَةِ بَعْدَ إِحْبَالِهَا كَحُكْمِ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ إِذَا أَحْبَلَهَا أَحَدُ الشُّرَكَاءِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ قَدْرُ مِلْكِهِ فِيهَا شُبْهَةٌ فِي بَاقِيهَا ، وَعَلَيْهِ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا
بِقَدْرِ حِصَصِ شُرَكَائِهِ فِيهَا ، وَيَصِيرُ مِلْكُهُ مِنْهَا أُمَّ وَلَدٍ لَهُ : لِأَنَّهُ قَدْ أَحْبَلَهَا بِحُرٍّ فِي مِلْكٍ وَلَا يَخْلُو فِي بَاقِيهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا بِقِيمَتِهِ أَوْ مُعْسِرًا بِهِ ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا بِبَاقِيهَا قُوِّمَ عَلَيْهِ ، كَمَا تُقَوَّمُ عَلَيْهِ حِصَصُ شُرَكَائِهِ لَوْ أَعْتَقَ قَدْرَ سَهْمِهِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ جَمِيعُ وَلَدِهِ حُرًّا : لِأَنَّهَا عُلِّقَتْ بِهِ فِي مِلْكٍ وَفِي شُبْهَةِ مِلْكٍ ، وَلَا قِيمَةَ عَلَيْهِ لِلْوَلَدِ : لِأَنَّهَا وَلَدَتْهُ فِي مِلْكِهِ ، وَقَدْ صَارَ جَمِيعُهَا أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ؛ لِأَنَّهَا عُلِّقَتْ مِنْهُ بِحَرٍّ فِي مِلْكٍ ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا بِحِصَصِ شُرَكَائِهِ مِنْهَا لَمْ يُقَوَّمْ عَلَيْهِ بَاقِيهَا ، وَكَانَ مِلْكًا لِشُرَكَائِهِ فِيهَا ، وَكَانَ قَدْرُ سَهْمِهِ مِنَ الْوَلَدِ وَهُوَ الْعُشْرُ : لِأَنَّ أَحَدَ الشُّرَكَاءِ الْعَشَرَةِ حُرٌّ : لِأَنَّهُ قَدْرُ مَا يَمْلِكُهُ مِنْهُ ، كَمَا قَدْ صَارَ عُشْرُ الْأُمِّ أُمَّ وَلَدٍ فِي تَقْوِيمِ بَاقِي الْوَلَدِ عَلَيْهِ مَعَ إِعْسَارِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُقَوَّمُ عَلَيْهِ مَعَ الْإِعْسَارِ ، كَمَا لَا يُقَوَّمُ عَلَيْهِ بَاقِي الْأُمِّ إِذَا كَانَ مُعْسِرًا ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عُشْرُ الْوَلَدِ حُرًّا ، وَبَاقِيهِ مَمْلُوكًا ، وَعُشْرُ الْجَارِيَةِ أُمَّ وَلَدٍ وَبَاقِيهَا مَمْلُوكًا ، وَإِنْ مَلَكَ بَاقِيَهَا مِنْ بَعْدُ بِابْتِيَاعٍ أَوْ مِيرَاثٍ كَانَ بَاقِيهَا عَلَى رِقِّهِ ، وَلَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ : لِأَنَّهُ مُقَابِلٌ لِرِقِّ وَلَدِهِ : لِأَنَّهَا عُلِّقَتْ بِمَمْلُوكٍ فِي غَيْرِ مِلْكٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُقَوَّمُ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ مَعَ إِعْسَارِهِ ، وَإِنْ لَمْ تُقَوَّمْ عَلَيْهِ بَقِيَّةُ الْأُمِّ بِإِعْسَارِهِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْحُرِّيَّةَ فِي الْوَلَدِ أَصْلٌ مُتَقَدِّمٌ ، وَهِيَ فِي الْأُمِّ فَرْعٌ طَارِئٌ فَلَمْ تَتَبَعَّضْ حُرِّيَّةُ الْوَلَدِ : لِأَنَّ الرِّقَّ لَا يَطْرَأُ عَلَى حُرِّيَّةٍ ثَابِتَةٍ ، فَجَازَ أَنْ يَتَبَعَّضَ فِي الْأُمِّ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَجُوزُ أَنْ يَطْرَأَ عَلَى رِقٍّ ثَابِتٍ ، فَعَلَى هَذَا يَصِيرُ جَمِيعُ الْوَلَدِ حُرًّا ، وَيَكُونُ عُشْرُ الْأُمِّ أُمَّ وَلَدٍ ، فَإِنْ مَلَكَ بَاقِيَهَا مِنْ بَعْدُ ، فَهَلْ تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ : لِأَنَّهُ قَدْ أَوْلَدَهَا حُرًّا فِي غَيْرِ مِلْكٍ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَإِنْ كَانَ فِي السَّبْيِ ابْنٌ وَأَبٌ لِرَجُلٍ لَمْ يُعْتَقْ عَلَيْهِ حَتَّى يُقَسِّمَهُ وَإِنَّمَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ مَنِ اجْتَلَبَهُ بِشِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ وَهُوَ لَوْ تَرَكَ حَقَّهُ مِنْ مَغْنَمِهِ لَمْ يُعْتَقْ عَلَيْهِ حَتَّى يُقَسِّمَ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ) : وَإِذَا كَانَ فِيهِمُ ابْنُهُ فَلَمْ يُعْتَقْ مِنْهُ ، عَلَيْهِ نَصِيبُهُ قَبْلَ الْقَسْمِ كَانَتِ الْأَمَةُ تَحْمِلُ مِنْهُ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ أَبْعَدَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا أَنْ يَكُونَ فِي السَّبْيِ الْمُسْتَرَقِّ أَحَدُ مَنْ يُعْتَقُ بِالْمِلْكِ عَلَى الْغَانِمِينَ مِنْ وَالِدَيْهِ أَوْ مَوْلُودَيْهِ ، كَالْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَالْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ ، فَلَهُ فِي عِتْقِهِ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : حَالٌ لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ ، وَحَالٌ يُعْتَقُ عَلَيْهِ ، وَحَالٌ مُخْتَلَفٌ فِيهَا . فَأَمَّا الْحَالُ الَّتِي لَا تُعْتَقُ عَلَيْهِ فِيهَا فَهُوَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ ، وَالْغَانِمُونَ عَدَدٌ كَثِيرٌ لَا يَنْحَصِرُونَ وَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ قَدْرُ سَهْمِهِ مِنْهُ ، فَلَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهُ : لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ ، وَإِنْ مَلَكَ أَنْ يَتَمَلَّكَهُ : لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ فِي سَهْمِ غَيْرِهِ .
وَأَمَّا الْحَالُ الَّتِي يَعْتِقُ عَلَيْهِ فِيهَا قَدْرَ سَهْمِهِ مِنْهُ ، فَهُوَ أَنْ يُقَسِّمَ الْغَنَائِمَ فَيَجْعَلَ فِي سَهْمٍ عَشَرَةً هُوَ أَحَدُهُمْ ، فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ مِنْهُ قَدْرُ حَقِّهِ وَهُوَ عُشْرُهُ : لِاسْتِقْرَارِ مِلْكِهِ عَلَى عُشْرِهِ وَيُقَوَّمَ عَلَيْهِ بَاقِيهِ إِنْ كَانَ مُوسِرًا : لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِاخْتِيَارِهِ . وَأَمَّا الْحَالُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا فَهُوَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ إِذَا كَانَ عَدَدُ الْغَانِمِينَ مَحْصُورًا ، فَيَكُونُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ حُكْمِ أُمِّ الْوَلَدِ ، وَهُوَ أَنْ يَنْظُرَ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي تِلْكَ الْغَنِيمَةِ غَيْرُهُ ، فَقَدْ تَعَيَّنَ مِلْكُهُ فِيهِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْدِلَ بِهِ إِلَى غَيْرِهِ ، فَعَلَى هَذَا يَعْتِقُ عَلَيْهِ قَدْرَ حَقِّهِ مِنْهُ ، وَلَا يُقَوَّمُ عَلَيْهِ بَاقِيهِ : لِأَنَّهُ مَلَكَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ ، وَإِنْ كَانَ فِي الْقِسْمَةِ غَيْرُهُ ، وَهِيَ الْحَالُ الَّتِي يَجُوزُ لِأَمِيرِ الْجَيْشِ أَنْ يُقَسِّمَ فِيهَا الْغَنِيمَةَ بِحُكْمِهِ عَلَى اخْتِيَارِهِ ، لَا يُعْتَبَرُ فِيهَا الْمُرَاضَاةُ ، فَفِي نُفُوذِ عِتْقِ حَقِّهِ مِنْهُ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ مَا مَلَكَ ، وَإِنَّمَا جَازَ أَنْ يَمْلِكَهُ : لِجَوَازِ أَنْ يُجْعَلَ فِي سَهْمِ غَيْرِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُعْتَقُ عَلَيْهِ قَدْرَ حَقِّهِ مِنْهُ : لِأَنَّهُ عَلَى مِلْكِ جَمِيعِ الْغَانِمِينَ ، فَغَلَبَ فِيهِ حُكْمُ الْإِشَاعَةِ ، فَإِذْ أَعْتَقَ قَدْرَ حَقِّهِ كَانَ مَحْسُوبًا عَلَيْهِ مِنْ سَهْمِهِ ، وَلَمْ يُقَوِّمْ عَلَيْهِ بَاقِيَهُ : لِأَنَّهُ عُتِقَ عَلَيْهِ بِلَا اخْتِيَارِهِ . فَأَمَّا إِذَا بَدَأَ أَحَدُ الْغَانِمِينَ فِي هَذِهِ الْحَالِ فَأَعْتَقَ أَحَدَ السَّبْيِ لَمْ يُعْتَقُ عَلَيْهِ بِحَالٍ ، بِخِلَافِ أُمِّ الْوَلَدِ ، وَعِتْقِ بَعْضِ الْمُنَاسِبِينَ : لِأَنَّ مَا يُعْتَقُ بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ أَقْوَى ، وَمَا يُعْتَقُ بِالِاخْتِيَارِ أَضْعَفُ ، وَلِذَلِكَ نَفَذَ فِي حَقِّ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ عِتْقُ مَا مَلَكَهُ مِنْ مَا سَبِيَهُ ، وَأَنْ تَصِيرَ أَمَتُهُ إِذَا أَحْبَلَهَا أُمَّ وَلَدٍ ، وَلَمْ يُعْتَقُ عَلَيْهِ مَنْ تَلَفَّظَ بِعِتْقِهِ . فَأَمَّا اعْتِرَاضُ الْمُزَنِيِّ بِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُعْتَقُ عَلَيْهِ قَدْرُ حَقِّهِ مِنْ أَبِيهِ ، فَكَذَلِكَ فِي أُمِّ الْوَلَدِ فَهُوَ فَاسِدٌ : لِأَنَّهُمَا فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ وَإِنَّمَا يُخَالِفَانِ عِتْقَ الْمُبَاشَرَةِ : لِلْفَرْقِ الَّذِي ذَكَرْنَا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَمَنْ سُبِيَ مِنْهُمْ مِنَ الْحَرَائِرِ فَقَدْ رُقَّتْ وَبَانَتْ مِنَ الزَّوْجِ كَانَ مَعَهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ : سَبَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نِسَاءَ أَوْطَاسٍ وَبَنِي الْمُصْطَلِقِ وَرِجَالَهَمْ جَمِيعًا فَقَسَّمَ السَّبْيَ وَأَمَرَ أَنْ لَا تُوطَأَ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ ، وَلَا حَائِضٌ حَتَّى تَحِيضَ ، وَلَمْ يَسْأَلْ عَنْ ذَاتِ زَوْجٍ وَلَا غَيْرِهَا وَلَيْسَ قَطْعُ الْعِصْمَةِ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِنَّ بِأَكثَرَ مِنَ اسْتِبَائِهِنَّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَمُقَدِّمَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ سَبْيَ الذُّرِّيَّةِ مُوجِبٌ لِرِقِّهِمْ ، وَالذُّرِّيَّةُ هُمُ النِّسَاءُ وَالْأَطْفَالُ ، فَإِذَا أُحِيزُوا بَعْدَ تَقَضِّي الْحَرْبِ رُقُّوا ، فَأَمَّا سَبْيُ الْمُقَاتِلَةِ فَلَا يُرَقُّونَ بِالسَّبْيِ ، حَتَّى يُسْتَرَقُّوا . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ لِأَمِيرِ الْجَيْشِ خِيَارًا فِي الرِّجَالِ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالْفِدَاءِ وَالْمَنِّ
وَالِاسْتِرْقَاقِ ، فَلَمْ يَتَعَيَّنِ الِاسْتِرْقَاقُ إِلَّا بِالِاخْتِيَارِ ، وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي الذَّرَّارِي ، فَرُقُّوا بِالسَّبْيِ لِاخْتِصَاصِهِمْ بِحُكْمِ الرِّقِّ . فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا لَمْ يَخْلُ حُدُوثُ السَّبْيِ فِي الزَّوْجَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تُسْبَى الزَّوْجَةُ دُونَ الزَّوْجِ ، فَقَدْ بَطَلَ نِكَاحُهَا بِالسَّبْيِ بِوِفَاقٍ مِنَ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ فِي الْحُكْمِ مَعَ اخْتِلَافِهِمَا فِي الْعِلَّةِ ، فَهِيَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ حُدُوثُ الرِّقِّ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ اخْتِلَافُ الدَّارِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يُسْبَى الزَّوْجُ دُونَ الزَّوْجَةِ ، فَإِنْ لَمْ يُسْتَرَقَّ وَمُنَّ عَلَيْهِ أَوْ فُودِيَ بِهِ لَمْ يَبْطُلْ نِكَاحُ زَوْجَتِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ، لَكِنْ عَلَيْهِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ حُدُوثُ الرِّقِّ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ اخْتِلَافُ الدَّارِ . الْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يُسْبَى الزَّوْجَانِ مَعًا ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَبْطُلُ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا بِحُدُوثِ الرِّقِّ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ : لِأَنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفِ الدَّارُ بِهِمَا ؛ اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَمَّا اسْتَرَقَّ سَبْيَ هَوَازِنَ بِأَوْطَاسَ جَاءَتْهُ هَوَازِنُ بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ لَيَسْتَعْطِفُونَهُ وَيَسْتَنْزِلُونَهُ مِنْ عَلَى سَبْيِهِمْ وَرَدِّهِمْ عَلَيْهِمْ ، وَأَكْثَرُهُمْ ذَوَاتُ أَزْوَاجٍ وَأَقَرَّهُمْ عَلَى مَنَاكِحِهِمْ ، وَلَوْ بَطَلَ النِّكَاحُ بِحُدُوثِ الرِّقِّ لَأَعْلَمَهُمْ ، وَلَأَمَرَهُمْ بِاسْتِئْنَافِ النِّكَاحِ بَيْنَهُمْ ، وَفِي تَرْكٍ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى بَقَاءِ النِّكَاحِ وَصِحَّتِهِ : وَلِأَنَّ الرِّقَّ لَا يَمْنَعُ مِنَ ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَمْتَنِعَ مِنَ اسْتِدَامَتِهِ كَالصِّغَرِ : وَلِأَنَّهُ قَدْ يَطْرَأُ الرِّقُّ عَلَى الْحُرِّيَّةِ ، كَمَا تَطْرَأُ الْحَرِيَّةُ عَلَى الرِّقِّ ، فَلَمَّا لَمْ يَبْطُلِ النِّكَاحُ بِحُدُوثِ الْحُرِّيَّةِ عَلَى الرِّقِّ ، وَجَبَ أَنْ لَا يَبْطُلَ بِحُدُوثِ الرِّقِّ عَلَى الْحُرِّيَّةِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ إِلَى قَوْلِهِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [ النِّسَاءِ : 22 - 23 ] ، وَالْمُرَادُ بِالْمُحْصَنَاتِ هَاهُنَا ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ ، فَحَرَّمَهُنَ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُنَا بِحُدُوثِ السَّبْيِ ، فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي الْإِبَاحَةِ فِيمَنْ كَانَ مَعَهَا زَوْجُهَا ، أَوْ لَمْ يَكُنْ . وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي سَبْيِ هَوَازِنَ ، وَلَوْ كَانَ النِّكَاحُ بَاقِيًا لَمَا جَازَتِ الْإِبَاحَةُ ، وَلَكَانَ التَّحْرِيمُ بَاقِيًا . وَالْقِيَاسُ : هُوَ أَنَّهُ رِقٌّ طَرَأَ عَلَى نِكَاحٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ بِهِ ، كَمَا لَوِ اسْتُرِقَّ أَحَدُهُمَا . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّمَا بَطَلَ النِّكَاحُ بِاسْتِرْقَاقِ أَحَدِهِمَا : لِاخْتِلَافِ الدَّارِينَ ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ إِذَا اتَّفَقَ مُوجِبُ الْعِلَّتَيْنِ لَمْ يَتَنَافَيَا ، فَلَمْ يَصِحَّ التَّعَارُضُ .
وَالثَّانِي : أَنَّ اخْتِلَافَ الدَّارَيْنِ لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ النِّكَاحِ ؛ لِأَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ ، وَحَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ أَسْلَمَا بِمَرِّ الظَّهْرَانِ ، وَزَوْجَاتُهُمَا بِمَكَّةَ ، فَأَقَرَّهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا مَعَ اخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ بَيْنَهُمَا ، أَوَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسْلِمَ لَوْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَنَكَحَ زَوْجَةً ، وَلَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أُخْرَى لَمْ يَبْطُلْ نِكَاحُ زَوْجَتِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَلَوْ عَادَ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَبْطُلْ نِكَاحُ زَوْجَتِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ مَعَ اخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ ، فَبَطَلَ أَنْ تَكُونَ عِلَّةً فِي فَسْخِ النِّكَاحِ . وَقِيَاسٌ آخَرُ : أَنَّ النِّكَاحَ مِلْكٌ ، فَوَجَبَ أَنْ يَزُولَ بِحُدُوثِ الرِّقِّ ، كَالْأَمْوَالِ عَلَى أَنَّ مِلْكَ الْأَمْوَالِ يَشْتَمِلُ عَلَى الْعَيْنِ وَالْمَنْفَعَةِ ، وَالنِّكَاحُ مُخْتَصٌّ بِالِاسْتِمْتَاعِ الَّذِي هُوَ مَنْفَعَةٌ ، وَلَكَ فِي هَذَا التَّعْلِيلِ قِيَاسٌ ثَالِثٌ : أَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَةٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ بِحُدُوثِ الرِّقِّ ، كَمَا لَوْ آجَرَهُ الْحَرْبِيُّ نَفْسَهُ ثُمَّ اسْتُرِقَّ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِسَبْيِ هَوَازِنَ : هُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا عِنْدَ ذَلِكَ عَلَى شِرْكِهِمْ ، وَإِنَّمَا ظَهَرَ إِسْلَامُ وَافِدِهِمْ فَلَمْ يَلْزَمْهُ بَيَانُ مَنَاكِحِهِمْ قَبْلَ إِسْلَامِهِمْ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ تَعْلِيلِهِمْ بِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْنَعِ الرِّقُّ مِنَ ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ لَمْ يَمْنَعْ مِنَ اسْتِدَامَتِهِ ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : انْتِقَاضُهُ بِالْخُلْعِ يَمْنَعُ مِنَ اسْتِدَامَةِ النِّكَاحِ ، وَلَا يَمْنَعُ مِنَ ابْتِدَائِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ حُدُوثَ الرِّقِّ لَا يُتَصَوَّرُ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ ، وَيُتَصَوَّرُ فِي أَثْنَائِهِ فَلَمْ يَصِحَّ الْجَمْعُ بَيْنَ مُمْكِنٍ وَمُمْتَنِعٍ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُؤَثِّرْ فِي النِّكَاحِ حُدُوثُ الْحُرِّيَّةِ عَلَى الرِّقِّ ، كَذَلِكَ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ حُدُوثُ الرِّقِّ عَلَى الْحُرِّيَّةِ ، فَهُوَ أَنَّ حُدُوثَ الْحُرِّيَّةِ كَمَالٌ فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي النِّكَاحِ ، وَحُدُوثُ الرِّقِّ نَقْصٌ فَجَازَ أَنْ يُؤَثِّرَ فِي النِّكَاحِ .
فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الزَّوْجَانِ الْحَرْبِيَّانِ مَمْلُوكَيْنِ فَسُبِيَا أَوْ أَحَدُهُمَا هل يبطل نكاحهما ، فَفِي بُطْلَانِ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَبْطُلُ ، وَيَكُونَانِ عَلَى النِّكَاحِ : لِأَنَّ رِقَّهُمَا مُتَقَدِّمٌ ، وَلَيْسَ بِحَادِثٍ ، فَصَارَ انْتِقَالُ مِلْكِهِمَا بِالسَّبْيِ كَانْتِقَالِهِ بِالْبَيْعِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ النِّكَاحَ يَبْطُلُ : لِأَنَّ الِاسْتِرْقَاقَ الثَّانِيَ أَثْبَتُ مِنَ الرِّقِّ الْأَوَّلِ لِثُبُوتٍ الْحَادِثِ بِالْإِسْلَامِ وَثُبُوتِ الْأَوَّلِ بِالشِّرْكِ ، فَتَعَلَّقَ حُكْمُ الرِّقِّ بِأَثْبَتِهِمَا ، وَكَانَ الْأَوَّلُ دَاخِلًا فِيهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ وَلَدِهَا حَتَّى يَبْلُغَ سَبْعَ أَوْ ثَمَانِ سِنِينَ وَهُوَ عِنْدَنَا اسْتِغْنَاءُ الْوَلَدِ عَنْهَا وَكَذَلِكَ وَلَدُ الْوَلَدِ " .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، لَا يَجُوزُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْأُمِّ وَوَلَدِهَا فِي الْقِسْمَةِ إِذَا سَبَوْا ، وَلَا فِي الْبِيَعِ إِذَا مَلَكُوا ؛ لِرِوَايَةِ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . وَرَوَى عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : مَلْعُونٌ مَلْعُونٌ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ امْرَأَةٍ وَبَيْنَ وَلَدِهَا . وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعَ امْرَأَةً تَبْكِي فَقَالَ : مَا لِهَذِهِ تَبْكِي ؟ فَقِيلَ لَهُ : فُرِّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ وَلَدِهَا . فَقَالَ : لَا تُوَلَّهْ وَالِدَةٌ عَلَى وَلَدِهَا . أَيْ : لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِالْبَيْعِ فَتُوَلِّهُ عَلَيْهِ بِالْحُزْنِ وَالْأَسَفِ ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْوَلَهِ ، وَلِأَنَّ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا فِي الصِّغَرِ إِدْخَالُ ضَرَرٍ عَلَيْهِمَا بِحُزْنِ الْأُمِّ وَضَيَاعِ الْوَلَدِ . فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَفِي الزَّمَانِ الَّذِي تَحْرُمُ فِيهِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا الأم وولدها قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ : أَحَدُهُمَا : نَصَّ عَلَيْهِ فِي سِيَرِ الْوَاقِدِيِّ ، وَنَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ إِلَى اسْتِكْمَالِ سَبْعِ سِنِينَ ، ثُمَّ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا مِنْ بَعْدُ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ : لِأَنَّهُ حَدُّ التَّفْرِقَةِ فِي تَخْيِيرِ الْكَفَالَةِ ، وَلِأَنَّهُ يَسْتَقِلُّ فِيهَا بِنَفْسِهِ فِي لِبَاسِهِ وَمَطْعَمِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : إِلَى وَقْتِ الْبُلُوغِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لِرِوَايَةِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا ، قِيلِ : إِلَى مَتَى ؟ قَالَ : حَتَّى يَبْلُغَ الْغُلَامُ وَتَحِيضَ الْجَارِيَةُ وَلَوْلَا أَنَّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ضَعْفًا : لِأَنَّ رَاوِيَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الرَّبِيعِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ، وَقَدْ طَعَنَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ ، وَنَسَبَهُ إِلَى الْكَذِبِ ، لَمَّا اخْتَلَفَ الْقَوْلُ فِيهِ ، وَلَمَّا شَاعَ خِلَافُهُ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَحَقَّتِ الْكَفَالَةُ عَلَى الْوَالِدَيْنِ إِلَى الْبُلُوغِ ، ثُمَّ يُفَارِقُهُمَا الْوَلَدُ بَعْدَ الْبُلُوغِ كَانَ الْبُلُوغُ حَدًّا فِي التَّفْرِقَةِ . وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : لَا تَجُوزُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى الْأَبَدِ تَمَسُّكًا بِعُمُومِ الظَّاهِرِ ، وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ إِنْ صَحَّ ، ثُمَّ الْمَعْنَى الْمُعْتَبَرُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي الصِّغَرِ مَفْقُودٌ فِي الْكِبَرِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مُضِرٌّ فِي الصِّغَرِ ، وَغَيْرُ مُضِرٍّ فِي الْكِبَرِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَعْهُودٌ فِي الْكِبَرِ ، وَغَيْرُ مَعْهُودٍ فِي الصِّغَرِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْوَلَدِ وَوَالِدِهِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا كَالْأُمِّ ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْبَعْضِيَّةِ الْمُفْضِيَةِ لِلشَّفَقَةِ وَالْحُنُوِّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا ، بِخِلَافِ الْأُمِّ لِعَدَمِ التَّرْبِيَةِ فِي الْأَبِ ، وَوُجُودِهَا فِي الْأُمِّ
فَأَمَّا الْأَجْدَادُ وَالْجَدَّاتُ فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ غَيْرَ مُسْتَحِقٍّ لِلْحَضَانَةِ ، كَالْجَدِّ أَبَى الْأُمِّ وَأُمَّهَاتِهِ لَمْ تَحْرُمِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا ، لِضَعْفِ سَبَبِهِ ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُسْتَحِقًّا لِلْحَضَانَةِ ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ مُجْتَمِعًا مَعَ الْأُمِّ ، فَحُكْمُ الْجَمْعِ مُخْتَصٌّ بِهَا ، وَلَا تَحْرُمُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ عَدَاهَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَكُونَ مُجْتَمِعًا مَعَ الْأُمِّ ، إِمَّا لِمَوْتِ الْأُمِّ أَوْ بُعْدِهَا ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مُجْتَمِعًا مَعَ جَدَّاتِهِ الْمُدْلِيَاتِ بِأُمِّهِ ، فَلَا يَجُوزُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقُرْبَى مِنْ جَدَّاتِ أُمِّهِ ، لِقِيَامِهَا فِي الْحَضَانَةِ مَقَامَ أُمِّهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مُجْتَمِعًا مَعَ جَدَّاتِهِ وَأَجْدَادِهِ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : تَجُوزُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جَمِيعِهِمْ ذُكُورًا كَانُوا أَوْ إِنَاثًا ، إِذَا قِيلَ : تَجُوزُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَبِ الَّذِي أَدْلَوْا بِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَقْرَبِهِمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى ، إِذَا قِيلَ بِتَحْرِيمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَبِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : إِنْ كَانَ ذَكَرًا كَالْجَدِّ أَبِي الْأَبِ جَازَ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ كَانَتْ أُنْثَى كَالْجَدَّةِ أُمِّ الْأَبِ لَمْ تَجُزِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا : لِأَنَّ فِي الْجَدَّةِ تَرْبِيَةٌ لَيْسَتْ فِي الْجَدِّ .
فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ مَعَ الْأُمِّ أَوْ مَنْ قَامَ مَقَامَهَا فِي تَحْرِيمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا ، فَرَضِيَتْ بِالتَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّ حَقَّ الْجَمْعِ مُشْتَرِكٌ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْوَلَدِ ، فَإِنْ رَضِيَتْ بِسُقُوطِ حَقِّهَا لَمْ يَسْقُطْ بِهِ حَقُّ الْوَلَدِ ، وَتُؤْخَذْ بِحَضَانَتِهِ فِي زَمَانِهَا ، فَإِنْ عُتِقَ أَحَدُهُمَا جَازَ بَعْدَ عِتْقِهِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا ، سَوَاءٌ أُعْتِقَتِ الْأُمُّ أَوِ الْوَلَدُ : لِأَنَّهُ لَا يَدَ عَلَى الْحُرِّ ، وَالْيَدُ مُخْتَصَّةٌ بِالْمَمْلُوكِ ، فَانْفَرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحُكْمِهِ .
فَصْلٌ : وَإِذَا حَرَّمَ التَّفْرِقَةَ بَيْنَهُمَا ، فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا الأم وولدها بِبَيْعٍ ، فَفِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : - وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَغْدَادِيِّينَ - أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ ، لِرِوَايَةِ الْحَكَمِ ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ أَبِي شَبِيبٍ ، عَنْ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - " أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ جَارِيَةٍ وَبَيْنَ وَلَدِهَا ، فَنَهَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ وَرَدَّ الْبَيْعَ " . وَرَوَى ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، قَالَ : قَدِمَ أَبُو أُسَيْدٍ بِسَبْيٍ مِنَ الْبَحْرِينِ ، فَصَفُّوا لِيَنْظُرَ إِلَيْهِمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَأَى امْرَأَةً تَبْكِي ، فَقَالَ : مَا لَكِ
تَبْكِينَ ؟ قَالَتْ : بِيعَ وَلَدِي فِي بَنِي عَبْسٍ فَقَالَ لِأَبِي أُسَيْدٍ : لَتَرْكَبَنَّ وَلَتَجِيئَنَّ بِهِ كَمَا بِعْتَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : - وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ - أَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لِأَنَّ النَّهْيَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، كَالنَّهْيِ عَنِ الْبَيْعِ فِي وَقْتِ الْجُمُعَةِ حكمه ، وَأَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ ، لَكِنْ لَا يُقِرُّ الْمُتَبَايِعَانِ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا ، وَيُقَالُ لِلْمُشْتَرِي وَالْبَائِعِ : إِنْ تَرَاضَيْتُمَا بِبَيْعِ الْآخَرِ لِتَجْتَمِعَا فِي الْمِلْكِ كَانَ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ مَاضِيًا ، وَإِنْ تَمَانَعْتُمَا فُسِخَ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ بَيْنَكُمَا ، لِيَجْمَعَ بَيْنَهُمَا ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ فِعْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ فَسَخَ الْبَيْعَ ، لِتَعَذُّرِ الْجَمْعِ دُونَ فَسَادِ الْعَقْدِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَأَمَّا الْأَخَوَانِ فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، يَجُوزُ التَّفْرِقَةُ فِي الْمِلْكِ بَيْنَ مَا عَدَا الْوَالِدِينَ وَالْمَوْلُودِينَ مِنَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَالْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ وَالْأَخْوَالِ ، وَالْخَالَاتِ ، وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَحْرُمُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مُحَرَّمٍ حكمها ، اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ أَبَى مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا ، وَلَا بَيْنَ وَالِدٍ وَوَلَدِهِ وَلَا بَيْنَ أَخٍ وَأَخِيهِ ، وَبِرِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ : قَدِمَ سَبْيٌ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَنِي بِبَيْعِ غُلَامَيْنِ أَخَوَيْنِ ، فَبِعْتُهُمَا وَفَرَّقْتُ بَيْنَهُمَا ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : أَدْرِكْهُمَا فَارْتَجِعْهُمَا وَبِعْهُمَا مَعًا وَلَا تُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا . وَمِنَ الْقِيَاسِ : أَنَّهُ ذُو رَحِمٍ مُحَرَّمٌ بِنَسَبٍ ، فَلَمْ تَجُزِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْمِلْكِ كَالْوَالِدينَ وَالْمَوْلُودِينَ . وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ كُلَّ نَسَبٍ لَا يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الزَّوْجِيَّةِ كَغَيْرِ ذَوِي الْمَحَارِمِ طَرْدًا ، وَكَالْوَالِدِينَ وَالْمَوْلُودِينَ عَكْسًا ، وَلِأَنَّ الْأَحْكَامَ الْمُخْتَصَّةَ بِالْأَنْسَابِ إِذَا وَقَفَتْ عَلَى بَعْضِ الْمُنَاسِبِينَ كَانَتْ مَقْصُورَةً عَلَى الْوَالِدِينَ مَعَ الْمَوْلُودِينَ ، كَالْوِلَايَةِ وَالشَّهَادَةِ وَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ ، وَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَحْكَامٍ وَافَقُوا عَلَيْهَا ، فَكَذَلِكَ فِي أَرْبَعَةِ أَحْكَامٍ خَالَفُوا فِيهَا ، وَهِيَ وُجُوبُ النَّفَقَةِ ، وَالْعِتْقِ بِالْمِلْكِ ، وَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ ، وَالتَّفْرِقَةِ فِي الْبَيْعِ ، فَأَمَّا الْخَبَرَانِ فَضَعِيفَانِ ، وَلَوْ صَحَّا حُمِلَا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ بِدَلِيلِنَا وَقِيَاسِهِمْ عَلَى الْوَالِدَيْنِ ، فَالْمَعْنَى فِيهِ وُجُودُ الْبَعْضِيَّةِ الْمَانِعَةِ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَإِنَّمَا نَبِيعُ أَوْلَادَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ مَوْتِ أُمَّهَاتِهِمْ إِلَّا أَنْ يَبْلُغُوا فَيَصِفُوا الْإِسْلَامَ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ) وَمِنْ قَوْلِهِ : إِذَا سُبِيَ الطِّفْلُ وَلَيْسَ مَعَهُ أَبَوَاهُ وَلَا أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مُسْلِمٌ ، وَإِذَا سُبِيَ وَمَعَهُ أَحَدُهُمَا فَعَلَى دِينِهِمَا ، فَمَعْنَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي قَوْلِهِ أَنْ يَكُونَ سَبْيُ الْأَطْفَالِ مَعَ أُمَّهَاتِهِمْ فَيَثْبُتُ فِي الْإِسْلَامِ حُكْمُ
أُمَّهَاتِهِمْ وَلَا يُوجِبُ إِسْلَامُهُمْ مَوْتَ أُمَّهَاتِهِمْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَمُقَدِّمَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمُسْبَى مِنْ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ لَا يَخْلُو حَالُ سَبْيِهِ ، أَنْ يَكُونَ مَعَ أَحَدِ أَبَوَيْهِ أَوْ مُفْرَدًا ، فَإِنْ سُبِيَ مَعَ أَحَدِ أَبَوَيْهِ كَانَ حُكْمُهُ بَعْدَ السَّبْيِ كَحُكْمِ الْمُسبَى مَعَ أَبَوَيْهِ ، فَإِنْ أَسْلَمَ أَبَوَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا كَانَ إِسْلَامًا لَهُ وَلِصِغَارِ أَوْلَادِهِمَا ، سَوَاءٌ اجْتَمَعَ الْأَبَوَانِ عَلَى الْإِسْلَامِ أَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُسْلِمُ مِنْهُمَا أَبَاهُ أَوْ أُمَّهُ ، وَلَا اعْتِبَارَ بِحُكْمِ السَّابِي ، وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ وَاحِدٌ مِنْ أَبَوَيْهِ كَانَ مُشْرِكًا بِشِرْكِهِمَا ، وَلَا يَصِيرُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ سَابِيهِ ، وَلِأَنَّ اعْتِبَارَهُ بِأَحَدِ أَبَوَيْهِ أَوْلَى مِنَ اعْتِبَارِ سَابِيهِ لِأَجْلِ الْبَعْضِيَّةِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : يَصِيرُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ السَّابِي وَإِنْ كَانَ مَعَ أَحَدِ أَبَوَيْهِ ، وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ . وَقَالَ مَالِكٌ : يَصِيرُ الْوَلَدُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ أَبِيهِ ، وَلَا يَصِيرُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ أُمِّهِ ، وَيَكُونُ فِي الدِّينِ تَابِعًا لِسَابِيهِ دُونَ أُمِّهِ ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ ، لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ ، فَاعْتَبَرَ حُكْمَهُ بِأَبَوَيْهِ دُونَ سَابِيهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مِنْ أُمِّهِ يَقِينًا ، وَمِنْ أَبِيهِ ظَنًّا ، فَلَمَّا صَارَ مُعْتَبَرًا بِأَبِيهِ فَأَوْلَى أَنْ يَصِيرَ مُعْتَبَرًا بِأُمِّهِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا سُبِيَ الصَّغِيرُ وَحْدَهُ ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَ أَحَدِ أَبَوَيْهِ ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ سَابِيهِ ، وَيَصِيرُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِهِ : لِأَنَّ الطِّفْلَ لَابُدَّ أَنْ يُعْتَبَرَ فِي الدِّينِ بِغَيْرِهِ ، إِذْ لَيْسَ يَصِحُّ مَعَ عَدَمِ التَّكْلِيفِ أَنْ يُعْتَبَرَ بِنَفْسِهِ ، فَإِذَا ثَبَتَ اعْتِبَارُهُ بِالسَّابِي فِي جَرَيَانِ حُكْمِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ قَطْعًا فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ ، كَمَا يَصِيرُ بِأَحَدِ أَبَوَيْهِ مُسْلِمًا ، فَإِنْ بَلَغَ وَوَصَفَ الشِّرْكَ لَمْ يُقِرَّ عَلَيْهِ ، وَبِهِ قَالَ الْمُزَنِيُّ ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَقَوْلِ جُمْهُورِ الْبَغْدَادِيِّينَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ ، تَغْلِيبًا لِحُكْمِ السَّابِي ، فَإِنْ بَلَغَ وَوَصَفَ الشِّرْكَ أُقِرَّ عَلَيْهِ بَعْدَ إِرْهَابِهِ ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ ، كَمَا يُعْتَبَرُ إِسْلَامُ اللَّقِيطِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِحُكْمِ الدَّارِ ، فَيَكُونُ مُسْلِمًا فِي الظَّاهِرِ ، تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الدَّارِ ، فَإِنْ بَلَغَ وَوَصَفَ الشِّرْكَ أُقِرَّ عَلَيْهِ بَعْدَ إِرْهَابِهِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ فِي أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ إِذَا سُبُوا صِغَارًا ، فَمَتَى أَجْرَيْنَا
عَلَيْهِمْ حُكْمَ الْإِسْلَامِ إِمَّا بِأَحَدِ الْأَبَوَيْنِ أَوْ بِالسَّابِي جَازَ بَيْعُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ، وَإِنْ أَجْرَيْنَا عَلَيْهِ حُكْمَ الشِّرْكِ جَازَ بَيْعُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَعَلَى الْمُشْرِكِينَ ، وَلَمْ يُكْرَهْ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ بَيْعُهُمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ، وَلَكِنْ يُكْرَهُ . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : لَا يَجُوزُ بَيْعُهُمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِحَالٍ ؛ احْتِجَاجًا بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا فِي بَيْعِهِمْ مِنْ تَقْوِيَةِ الْمُشْرِكِينَ بِهِمْ . وَالثَّانِي : أَنَّهُمْ يَصِيرُونَ فِي الْأَغْلَبِ عَلَى دِينِ سَادَتِهِمْ إِذَا بَلَغُوا . وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَبَى بَنِي قُرَيْظَةَ سَنَةَ خَمْسٍ ، فَفَرَّقَ سَبْيَهُمْ أَثْلَاثًا : فَبَعَثَ ثُلُثًا بِيعُوا بِتِهَامَةَ ، وَثُلُثًا بِيعُوا بِنَجْدِ وَثُلُثًا بِيعُوا بِالشَّامِ ، وَكَانَتْ مَكَّةُ وَالشَّامُ دَارَ شِرْكٍ : وَكَذَلِكَ أَكْثَرُ بِلَادِ تِهَامَةَ وَنَجْدٍ ، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنَّ عَلَى سَبْيِ هَوَازِنَ ، وَرَدَّهُمْ عَلَى أَهْلِهِمْ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ بَقِيَ عَلَى شِرْكِهِ ، وَلِأَنَّ الْمَمْلُوكَ إِذَا جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ دِينٍ جَازَ عَلَيْهِ بَيْعُهُ مِنْ أَهْلِ دِينِهِ ، كَالْعَبْدِ الْبَالِغِ ، وَيَبْطُلُ بِهِ مَا احْتَجُّوا بِهِ مِنْ تَقْوِيَتِهِمْ بِهِ ، وَيَبْطُلُ أَيْضًا بَيْعُ الطَّعَامِ عَلَيْهِمْ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ تَقْوِيَتِهِمْ بِهِ ، وَبِهِ يَبْطُلُ احْتِجَاجُهُمْ أَنَّهُمْ يَصِيرُونَ فِي الْأَغْلَبِ عَلَى دِينِ سَادَتِهِمْ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَمَنْ أُعْتِقَ مِنْهُمْ فَلَا يُورَثُ كَمَثَلِ أَنْ لَا تَقُومَ بِنَسَبِهِ بَيِّنَةٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِمَّا لِحَمِيلٍ فِي النَّسَبِ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَمْلِكَ مُسْلِمٌ بِالسَّبْيِ مُشْرِكًا فَيُعْتِقَهُ وَيَسْتَلْحِقَ بِهِ ، وَيَجْعَلَهُ لِنَفْسِهِ وَلَدًا ، فَيَصِيرَ مَحْمُولَ النَّسَبِ عَنْ أَبِيهِ إِلَى سَابِيهِ ، وَيَكُونَ الْحَمِيلُ بِمَعْنَى الْمَحْمُولِ ، كَمَا يُقَالُ : قَتِيلٌ بِمَعْنَى مَقْتُولٍ ، فَهَذَا لَا يَلْحَقُ النَّسَبَ ، وَلَا يَتَغَيَّرُ بِهِ حُكْمُ الْمُسْتَلْحِقِ وَهُوَ إِجْمَاعٌ ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحِجَرُ ، فَنَقَلَهُمْ عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ اسْتِلْحَاقِ الْأَنْسَابِ إِلَى مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ مِنْ إِلْحَاقِهَا بِالْفِرَاشِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يُقِرَّ الْمُسْبَى بَعْدَ عِتْقِهِ بِنَسَبٍ وَارِدٍ مِنْ بِلَادِ الْمُشْرِكِينَ ، وَيَكُونَ الْحَمِيلُ بِمَعْنَى الْحَامِلِ ، فَيُقَسَّمَ النَّسَبُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : مَرْدُودٌ ، وَمَقْبُولٌ ، وَمُخْتَلَفٌ فِيهِ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْمَرْدُودُ : فَهُوَ أَنْ يُقِرَّ بِنَسَبٍ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْمِيرَاثَ ، وَلَا يَمْلِكُ الْمُقِرُّ اسْتِحْدَاثَ مِثْلِهِ ، كَالْمُقِرِّ بِأَبٍ ، أَوْ بِأَخٍ ، أَوْ عَمٍّ ، فَيَرِدُ إِقْرَارُهُ بِهِ ، وَلَا يُقْبَلُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ
بِنَسَبِهِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ يَرِثُ جَمِيعَ الْمَالِ كَالْأَبِ أَوْ بَعْضَهُ كَالْأُمِّ ، لِرِوَايَةِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَتَبَ إِلَى شُرَيْحٍ أَنْ لَا يُوَرِّثَ حَمِيلًا حَتَّى تَقُومَ بِهِ بَيِّنَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ " . وَرَوَى الزُّهْرِيُّ قَالَ : جَمَعَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاسْتَشَارَهُمْ فِي الْحَمِيلِ ، فَأَجْمَعُوا أَنَّهُ لَا يُوَرَّثُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ ، وَلِأَنَّ مُعْتِقَهُ قَدْ مَلَكَ وَلَاءَهُ عَنِ الرِّقِّ الَّذِي لَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ إِزَالَةَ مَا اسْتَحَقَّهُ مِنَ الْمِلْكِ ، فَكَذَلِكَ إِذَا أُعْتِقَ لَا يَمْلِكُ إِزَالَةَ مَا اسْتَحَقَّهُ مُعْتِقُهُ بِوَلَائِهِ مِنَ الْإِرْثِ . فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ لَوْ أَقَرَّ الْحُرُّ بِأَخٍ ، وَلَهُ عَمٌّ قُبِلَ إِقْرَارُهُ ، وَإِنْ حَجَبَ الْأَخُ الْعَمَّ ، فَهَلَّا كَانَ إِقْرَارُهُ بِالنَّسَبِ مَعَ الْوَلَاءِ مَقْبُولًا كَذَلِكَ ؟ قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ النَّسَبَ يَرِثُ بِهِ وَيُوَرَّثُ ، فَزَالَتِ التُّهْمَةُ ، وَالْوَلَاءُ لَا يَرِثُ بِهِ وَلَا يُوَرَّثُ ، فَلَحِقَتِ التُّهْمَةُ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الْمَقْبُولُ : فَهُوَ أَنْ يُقِرَّ بِنَسَبٍ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْمِيرَاثَ ، كَالْخَالِ وَالْجَدِّ مِنَ الْأُمِّ فَمَقْبُولٌ مِنْهُ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ : لِأَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِهِ حَقُّ مُعْتِقِهِ مِنَ الْمِيرَاثِ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ : فَهُوَ أَنْ يُقِرَّ بِنَسَبٍ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْمِيرَاثَ ، وَيَمْلِكُ اسْتِحْدَاثَ مِثْلِهِ كَإِقْرَارِهِ بِابْنٍ أَوْ بِنْتٍ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ثُبُوتِ نَسَبِهِ بِإِقْرَارِهِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ إِقْرَارَهُ بِنَسَبِهِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ بِهِ ، كَالنَّسَبِ الَّذِي لَا يَمْلِكُ اسْتِحْدَاثَ مِثْلِهِ لِعُمُومِ مَا اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ مِنَ الْمَنْعِ مِنْ تَوْرِيثِ الْحَمِيلِ ، وَلِمَا جَمَعَهُمَا التَّعْلِيلُ مِنْ إِسْقَاطِ الْمِيرَاثِ بِالْوَلَاءِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَقْبَلُ إِقْرَارَهُ بِبَيِّنَةٍ بِخِلَافٍ مَا لَا يَمْلِكُ اسْتِحْدَاثَ مِثْلِهِ ، لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مِنْ مَلَكَ اسْتِحْدَاثَهُ جَازَ أَنْ يَمْلِكَ الْإِقْرَارَ بِهِ أَوْلَى . وَالثَّانِي : أَنَّ وَلَدَهُ يَدْخُلُ فِي وَلَاءِ مُعْتِقِهِ ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ أَبُوهُ فَافْتَرَقَا . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ يَقْبَلُ إِقْرَارَهُ بِمَنْ وُلِدَ بَعْدَ عِتْقِهِ ، وَلَا يَقْبَلُ إِقْرَارَهُ بِمَنْ وُلِدَ قَبْلَ عِتْقِهِ : لِأَنَّهُ بَعْدَ الْعِتْقِ يَمْلِكُ اسْتِحْدَاثَ مِثْلِهِ بِغَيْرِ إِذْنٍ ، وَلَا يَمْلِكُ قَبْلَ الْعِتْقِ اسْتِحْدَاثَ مِثْلِهِ إِلَّا عَنْ إِذْنٍ فَافْتَرَقَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ الْمُبَارَزَةِ
الْمُبَارَزَةُ فِي قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ ضَرْبَانِ إِجَابَةٌ وَدُعَاءٌ
بَابُ الْمُبَارَزَةِ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : " وَلَا بَأْسَ بِالْمُبَارَزَةِ ، وَقَدْ بَارَزَ يَوْمَ بَدْرٍ عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ ، وَحَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، بِإِذْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَارَزَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ مَرْحَبًا يَوْمَ خَيْبَرَ بِأَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَارَزَ يَوْمَئِذٍ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ يَاسِرًا ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَوْمَ الْخَنْدَقِ عَمْرَو بْنَ عَبْدِ وُدٍّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : الْمُبَارَزَةُ فِي قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ ضَرْبَانِ : إِجَابَةٌ وَدُعَاءٌ . فَأَمَّا الْإِجَابَةُ : فَهُوَ أَنْ يَبْتَدِئَ الْمُشْرِكُ وَيَدْعُوَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْمُبَارَزَةِ ، فَيُجِيبَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَبْرُزُ إِلَيْهِ ، وَهَذِهِ الْإِجَابَةُ مُسْتَحَبَّةٌ لِمَنْ أَقْدَمَ عَلَيْهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنَّ أَوَّلَ حَرْبٍ شَهِدَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ بَدْرٍ ، دَعَا إِلَى الْمُبَارَزَةِ فِيهَا ثَلَاثَةٌ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ ، وَهُمْ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ ، وَأَخُوهُ شَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ ، وَابْنُهُ الْوَلِيدُ بِنُ عُتْبَةَ ، فَبَرَزَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْأَنْصَارِ عَوْفٌ وَمُعَوِّذٌ ابْنَا عَفْرَاءَ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ ، فَقَالُوا : لِيَبْرُزْ إِلَيْنَا أَكْفَاؤُنَا فَمَا نَعْرِفُكُمْ ، فَبَرَزَ إِلَيْهِمْ ثَلَاثَةٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ ، حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَعُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ فَمَالَ حَمْزَةُ عَلَى عُتْبَةَ فَقَتَلَهُ ، وَمَالَ عَلِيٌّ عَلَى الْوَلِيدِ فَقَتَلَهُ ، وَاخْتَلَفَ عُبَيْدَةُ وَشَيْبَةُ ضَرْبَتَيْنِ ، أَثْبَتَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ بِهَا ، فَمَاتَ شَيْبَةُ لِوَقْتِهِ ، وَقُدَّتْ رِجْلُ عُبْيَدَةَ وَاحْتُمِلَ حَيًّا فَمَاتَ بِالصَّفْرَاءِ ، فَقَالَ فِيهِ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ : أَيَا عَيْنُ جُودِي وَلَا تَبْخَلِي بِدَمْعِكِ حَقًّا وَلَا تَنْزُرِي عَلَى سَيِّدٍ هَدَّنَا هَلْكُهُ كَرِيمِ الْمَشَاهِدِ وَالْعُنْصُرِ عُبَيْدَةُ أَمْسَى وَلَا نَرْتَجِيهِ لِعُرْفٍ عَرَانَا وَلَا مُنْكَرِ وَقَدْ كَانَ يَحْمِي غَدَاةَ الَقِتَالِ لِحَامِيَةِ الْجَيْشَ بِالْمُبْتِرِ ثُمَّ شَهِدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَهَا أُحُدًا ، فَدَعَاهُ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ إِلَى الْمُبَارَزَةِ وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لَهُ ، حَلَفَ أَنْ يَقْتُلَهُ عَلَيْهَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ أَنَا أَقْتُلُهُ عَلَيْهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَبَرَزَ إِلَيْهِ فَرَمَاهُ بِحِرْبَةٍ كَسَرَ بِهَا أَحَدَ أَضْلَاعِهِ بِجُرْحٍ كَالْخَدْشِ ، فَاحْتُمِلَ وَهُوَ يَخُورُ كَالثَّوْرِ ، فَقِيلَ لَهُ : مَا بِكَ ؟ ، فَقَالَ : وَاللَّهِ لَوْ تَفَلَ عَلَيَّ لَقَتَلَنِي ثُمَّ دَعَا إِلَى الْمُبَارَزَةِ فِي حَرْبِ الْخَنْدَقِ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدٍّ فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَحَدٌ ، ثُمَّ دَعَا إِلَيْهَا فِي الْيَوْمِ
الثَّانِي فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ ، ثُمَّ دَعَا إِلَيْهَا فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ ، فَلَمَّا رَأَى الْإِحْجَامَ عَنْهُ قَالَ : يَا مُحَمَدُ ، أَلَسْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ قَتْلَاكُمْ فِي الْجَنَّةِ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ، وَقَتْلَانَا فِي النَّارِ يُعَذَّبُونَ ، فَمَا يُبَالِي أَحَدُكُمْ أَيَقْدُمُ عَلَى كَرَامَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوْ يُقْدِمُ عَدْوًا إِلَى النَّارِ ، وَأَنْشَأَ يَقُولُ : وَلَقَدْ دَنَوْتُ مِنَ النِّدَا ءِ لِجَمْعِكُمْ هَلْ مِنْ مُبَارِزْ وَوَقَفْتُ إِذْ جَبُنَ الشُّجَا عُ بَمَوقِفِ الْقَرْنِ الْمُنَاجِزْ إِنِّي كَذَلِكَ لَمْ أَزَلْ مُتَشَوِّقًا نَحْوَ الْهَزَاهِزْ إِنَّ الشَّجَاعَةَ فِي الْفَتَى وَالْجُودَ مِنْ خَيْرِ الْغَرَائِزْ فَقَامَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَاسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مُبَارَزَتِهِ ، فَأَذِنَ لَهُ وَقَالَ : اخْرُجْ يَا عَلِيُّ فِي حِفْظِ اللَّهِ وَعِيَاذِهِ ، فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ : يَا عَمْرُو وَيْحَكَ قَدْ أَتَا كَ مُجِيبُ صَوْتِكَ غَيْرَ عَاجِزْ ذُو نِيَّةٍ وَبَصِيرَةٍ وَالصَّدْقُ مُنْجِي كُلِّ فَائِزْ إِنِّي لَأَرْجُوَ أَنْ أُقِي مَ عَلَيْكَ نَائِحَةَ الْجَنَائِزْ مِنْ ضَرْبَةٍ نَجْلَاءَ يَبْ قَى صِيتُهَا عِنْدَ الْهَزَاهِزْ فَتَجَاوَلَا ، وَثَارَتْ عَجَاجَةٌ أَخْفَتْهُمَا عَنِ الْأَبْصَارِ ، ثُمَّ أَجْلَتْ عَنْهُمَا ، وَعَلِيٌّ يَمْسَحُ سَيْفَهُ بِثَوْبِ عَمْرٍو وَهُوَ قَتِيلٌ ، حَكَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ . ثُمَّ دَعَا إِلَى الْمُبَارَزَةِ بِخَيْبَرَ سَنَةَ سَبْعٍ مَرْحَبٌ الْيَهُودِيُّ ، فَخَرَجَ مُرْتَجِزًا يَقُولُ : قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَرْحَبُ شَاكِي السِّلَاحِ بَطَلٌ مُجَرَّبُ أَطْعَنُ أَحْيَانًا وَحِينًا أَضْرِبُ إِذَا الْحُرُوبُ أَقْبَلَتْ تَلَهَّبُ إِذَا اللُّيُوثُ أَقْبَلَتْ تَحَرَّبُ كَانَ حِمَايَ لِلْحِمَى لَا يُقْرَبُ فَبَرَزَ إِلَيْهِ مَنْ قَتَلَهُ ، وَاخْتُلِفَ فِي قَاتِلِهِ ، فَحَكَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ الَّذِي بَرَزَ إِلَيْهِ فَقَتَلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ الْأَنْصَارِيُّ ، وَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ ، وَحَكَى بُرَيْدَةُ الْأَسْلَمِيُّ أَنَّ الَّذِي بَرَزَ إِلَيْهِ فَقَتَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، خَرَجَ إِلَيْهِ مُرْتَجِزًا بِقَوْلِهِ : أَنَّا الَذي سَمَتْنِي أُمِّي حَيْدَرَهْ لَيْثُ غَابَاتٍ شَدِيدُ الْقَسْوَرَهْ أَكِيلُكُمْ بِالسَّيْفِ كَيْلَ السَّنْدَرَهْ وَدَعَا يَاسِرٌ إِلَى الْمُبَارَزَةِ بِخَيْبَرَ ، فَبَرَزَ إِلَيْهِ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ ، فَقَالَتْ أُمُّهُ صَفِيَّةُ : يُقْتَلُ ابْنِي ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : بَلِ ابْنُكِ يَقْتُلُهُ فَقَتَلَهُ الزُّبَيْرُ ، فَهَذِهِ مَوَاقِفُ قَدْ أَجَابَ إِلَى
الْمُبَارَزَةِ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ ذَكَرْنَا مِنْ أَهْلِهِ وَأَصْحَابِهِ فَدَلَّ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الدُّعَاءُ إِلَى الْمُبَارَزَةِ تعريفها فَهُوَ أَنْ يَبْتَدِئَ الْمُسْلِمُ بِدُعَاءِ الْمُشْرِكِينَ إِلَيْهَا ، فَهُوَ مُبَاحٌ وَلَيْسَ بِمُسْتَحَبٍّ وَلَا مَكْرُوهٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هُوَ مَكْرُوهٌ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ احْتِجَاجًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ نَهَى بِصِفِّينَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَنِ الْمُبَارَزَةِ ، وَقَالَ لِابْنِهِ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ : لَا تَدْعُونَ إِلَى الْبِرَازِ ، فَإِنْ دُعِيتَ فَأَجِبْ ، فَإِنَّ الدَّاعِيَ بَاغٍ وَالْبَاغِيَ مَصْرُوعٌ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا قِيلَ : خِفَافًا فِي الْإِسْرَاعِ إِلَى الْمُبَارَزَةِ وَثِقَالًا فِي الثَّبَاتِ لِلْمُصَابَرَةِ . وَرَوَى أَبُو الزِّنَادِ ، عَنِ الْأَعْرَجِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنِ الْمُبَارَزَةِ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ فَقَالَ : لَا بَأْسَ بِهِ . وَجَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَيْشَ مُؤْتَةَ ، وَقَالَ : الْأَمِيرُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ ، فَإِنْ أُصِيبَ فَالْأَمِيرُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، فَإِنْ أُصِيبَ فَالْأَمِيرُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ ، فَإِنْ أُصِيبَ فَلْيَرْتَضِ الْمُسْلِمُونَ رَجُلًا ، فَتَقَدَّمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ وَبَرَزَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ ، ثُمَّ تَقَدَّمَ جَعْفَرٌ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ ، وَتَقَدَّمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ وَبَرَزَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ ، فَاخْتَارَ الْمُسْلِمُونَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ ، فَقَاتَلَ وَحَمَى الْمُسْلِمِينَ حَتَّى خَاضُوا وَعَادُوا ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَثْنَى عَلَيْهِمْ ، وَأَخْبَرَ بِعِظَمِ ثَوَابِهِمْ . وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ظَاهَرَ يَوْمَ أُحُدٍ بَيْنَ دِرْعَيْنِ وَأَخَذَ سَيْفًا فَهَزَّهُ وَقَالَ : مَنْ يَأْخُذُ هَذَا السَّيْفَ بِحَقِّهِ فَقَالَ عُمَرُ : أَنَا آخُذُهُ بِحَقِّهِ ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ ، ثُمَّ هَزَّهُ ثَانِيَةً ، وَقَالَ : مَنْ يَأْخُذُ هَذَا السَّيْفَ بِحَقِّهِ فَقَالَ الزُّبَيْرُ : أَنَا آخُذُهُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ ، ثُمَّ هَزَّهُ ثَالِثَةً وَقَالَ : مَنْ يَأْخُذُهُ بِحَقِّهِ فَقَامَ أَبُو دُجَانَةَ سِمَاكُ بْنُ خَرَشَةَ فَقَالَ : وَمَا حَقُّهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : أَنْ تَضْرِبَ بِهِ فِي الْعَدُوِّ حَتْيَ يَنْحَنِيَ ، فَأَخَذَهُ مِنْهُ وَتَعَمَّمَ بِعِصَابَةٍ حَمْرَاءَ وَمَشَى إِلَى الْحَرْبِ مُتَبَخْتِرًا ، وَهُوَ يَقُولُ : أَنَا أَخَذْتُهُ فِي رِقِّهِ إِذْ قِيلَ مَنْ يَأْخُذُهُ بِحَقِّهِ قَبِلْتُهُ بِعَدْلِهِ وَصِدْقِهِ لِلْقَادِرِ الرَّحْمَنِ بَيْنَ خَلْقِهِ الْمُدْرِكِ الْقَابِضِ فَضْلَ رِزْقِهِ مَنْ كَانَ فِي مَغْرِبِهِ وَشَرْقِهِ فَعَادَ وَقَدْ نَكَأَ وَجَعَلَ يَتَبَخْتَرُ فِي مَشْيِهِ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّهَا لَمِشْيَةٌ يُبْغِضُهَا اللَّهُ إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْطِنِ : فَإِذَا لَمْ يَكْرَهْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مُبَارَزَةِ جَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَكْرَهَ لَهُمْ مُبَارَزَةَ أَحَدِهِمْ .
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا احْتَجَّ بِهِ مِنَ الْآيَةِ : فَهُوَ أَنَّهُ إِذَا أَمَرَ بِقِتَالِهِمْ كَافَّةً إِذَا قَاتَلُوا كَافَّةً جَازَ أَنْ يُقَاتَلُوا آحَادًا وَكَافَّةً ، لِأَنَّ الْوَاحِدَ بَعْضُ الْكَافَّةِ ، وَأَمَّا نَهْيُ عَلِيٍّ - - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْهُ فَلِمَصْلَحَةٍ رَآهَا ، خَافَ مِنْهَا عَلَى وَلَدِهِ وَابْنِ عَمِّهِ ، خُصُوصًا فِي قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ ، كَيْفَ وَقَدْ لَبِسَ دِرْعَ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَبَرَزَ عَنْهُ حَتَّى قَتَلَ اللَّخْمِيَّ الَّذِي بَارَزَهُ ، وَفِعْلُهُ أَوْكَدُ مِنْ نَهْيِهِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا صَحَّ جَوَازُ الْمُبَارِزَةِ ، إِمَّا اسْتِحْبَابًا إِنْ أَجَابَ أَوْ إِبَاحَةً إِنْ دَعَا ، فَلِجَوَازِهَا ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ قَوِيًّا عَلَى مُقَاوَمَةِ مَنْ بَرَزَ المبارز إِلَيْهِ بِقُوَّةِ جِسْمِهِ ، وَفَضْلِ شَجَاعَتِهِ ، وَظُهُورِ عُدَّتِهِ ، فَإِنْ ضَعُفَ عَنْهُ لَمْ يَجُزْهُ . فَإِنْ قِيلَ : فَلَوْ تَعَرَّضَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ لِلشَّهَادَةِ جَازَ ، وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا فَهَلَّا كَانَ الْمُبَارِزُ كَذَلِكَ ، قُلْنَا : لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْمُبَارَزَةِ ظُهُورُ الْغَلَبَةِ ، فَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهَا إِلَّا مَنْ وَثِقَ بِنَفْسِهِ فِيهَا ، وَالْمَقْصُودُ بِالشَّهَادَةِ فَضْلُ الثَّوَابِ فَجَازَ أَنْ يَتَعَرَّضَ لَهَا مَنْ شَاءَ . وَالشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَدْخُلَ بِقَتْلِ الْمُبَارِزَةِ ضَرَرٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ : لِهَزِيمَةٍ تَنْكَأُهُمْ أَوْ لِأَنَّهُ أَمِيرُهُمُ الَّذِي تَخْتَلُّ بِفَقْدِهِ أُمُورُهُمْ ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُبَارِزَ . وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ : أَنْ يَسْتَأْذِنَ أَمِيرَ الْجَيْشِ فِي بِرَازِهِ المبارز ، لِيَكُونَ رَدْءًا لَهُ وَعَوْنًا : وَلِفَضْلِ عِلْمِهِ بِالْمُبَارَزَةِ ، وَمَنْ بَرَزَ إِلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ كَفَّ ، وَإِنَّ أَذِنَ لَهُ أَقْدَمَ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " فَإِذَا بَارَزَ مُسْلِمٌ مُشْرِكًا أَوْ مُشْرِكٌ مُسْلِمًا عَلَى أَلَّا يُقَاتِلَهُ غَيْرُهُ وَفَى بِذَلِكَ لَهُ ، فَإِنْ وَلَّى عَنْهُ الْمُسْلِمُ أَوْ جَرَحَهُ فَأَثْخَنَهُ ، فَلَهُمْ أَنْ يَحْمِلُوا عَلَيْهِ وَيَقْتُلُوهُ : لِأَنَّ قِتَالَهُمَا قَدِ انْقَضَى وَلَا أَمَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ شَرَطَ أَنَّهُ آمِنٌ حَتَى يَرْجِعَ إِلَى مَخْرَجِهِ مِنَ الصَّفِّ فَلَا يَكُونُ لَهُمْ قَتْلُهُ ، وَلَهُمْ دَفْعُهُ وَاسْتِنْقَاذُ الْمُسْلِمِ مِنْهُ ، فَإِنِ امْتَنَعَ وَعَرَضَ دُونَهُ لِيُقَاتِلَهُمْ قَاتَلُوهُ : لِأَنَّهُ نَقَضَ أَمَانَ نَفْسِهِ . أَعَانَ حَمْزَةُ وَعَلِيٌّ عَلَى عُتْبَةَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فِي عُبَيْدَةَ قِتَالٌ وَلَمْ يَكُنْ لِعُتْبَةَ أَمَانٌ يَكُفُّونَ بِهِ عَنْهُ ، وَلَوْ أَعَانَ الْمُشْرِكُونَ صَاحِبَهُمْ كَانَ حَقًّا عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُعِينُوا صَاحِبَهُمْ وَيَقْتُلُوا مَنْ أَعَانَ عَلَيْهُ وَلَا يَقْتُلُونَ الْمُبَارِزَ مَا لَمْ يَكُنِ اسْتَنْجَدَهُمْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَإِذَا بَارَزَ مُسْلِمٌ مُشْرِكًا إِمَّا دَاعِيًا أَوْ مُجِيبًا ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا يَكُونَ لِلْمُشْرِكِ الْمُبَارِزِ شَرْطٌ ، فَيَجُوزَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُقَاتِلُوهُ مَعَ
الْمُبَارِزِ مِنْهُمْ وَيَقْتُلُوهُ : لِأَنَّهُ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ ، وَإِنِ اخْتَصَّ بِالْمُبَارَزَةِ الْوَاحِدُ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : اللَّهُمَّ إِلَّا أَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ أَنَّ مَنْ بَارَزَ لَا يُعْرَضُ لَهُ حَتَّى يَعُودَ إِلَى صَفِّهِ ، فَيُحْمَلُ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ ، وَتَصِيرُ الْعَادَةُ كَالشَّرْطِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرْطٌ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَشْتَرِطَ أَنْ لَا يُقَاتِلَهُ غَيْرُ مَنْ بَرَزَ إِلَيْهِ ، فَيَجِبَ الْوَفَاءُ بِشَرْطِهِ : لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [ الْمَائِدَةِ : ا ] . وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ : فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَاتِلَ الْمُشْرِكَ مَا كَانَ الْمُسْلِمُ عَلَى قِتَالِهِ ، فَإِذَا انْقَضَى الْقِتَالُ بَيْنَهُمَا إِمَّا بِأَنْ وَلَّى الْمُسْلِمُ أَوْ جُرِحَ فَكَفَّهُ عَنِ الْقِتَالِ ، أَوْ وَلَّى الْمُشْرِكُ أَوْ جُرِحَ فَكَفَّ عَنِ الْقِتَالِ كَانَ لَنَا أَنْ نُقَاتِلَ الْمُشْرِكَ وَنَقْتُلَهُ : لِأَنَّ أَمَانَهُ كَانَ مَشْرُوطًا بِمُدَّةِ الْمُقَاتَلَةِ فَانْقَضَى بِزَوَالِ الْمُقَاتَلَةِ : وَلِأَنَّ شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ لَمَّا أَثْخَنَ عُبَيْدَةَ بْنَ الْحَارِثِ يَوْمَ بَدْرٍ وَلَمْ يَبْقَ فِيهِ قِتَالٌ ، مَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَحَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَلَى شَيْبَةَ حَتَّى أَجَازَا عَلَيْهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَسْتَظْهِرَ فِي إِشْرَاطِ الْأَمَانِ لِنَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ آمِنًا حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى صَفِّهِ ، فَيُحْمَلَ عَلَى شَرْطِهِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَاتَلَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُبَارَزَةِ ، حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى صَفِّهِ ، وَفَاءً بِالشَّرْطِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُشْرِكِ إِحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ ، يَبْطُلُ بِهَا أَمَانُهُ : إِحْدَاهُنَّ : أَنْ يُوَلِّيَ عَنْهُ الْمُسْلِمُ ، فَيَتْبَعَهُ ، فَيَبْطُلَ أَمَانُهُ ، وَيَجُوزُ لَنَا أَنْ نُقَاتِلَهُ وَنَقْتُلَهُ : لِأَنَّ الْمُبَارَزَةَ قَدِ انْقَضَتْ ، وَأَمَانَهُ مِنَّا مُسْتَحَقٌّ عِنْدَ أَمَانِنَا مِنْهُ ، فَإِذَا لَمْ نَأْمَنْهُ لَمْ نُؤَمِّنْهُ . وَالْخَصْلَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَظْهَرَ الْمُشْرِكُ عَلَى الْمُسْلِمِ ، وَيَعْزِمَ عَلَى قَتْلِهِ ، فَيَجِبَ عَلَيْنَا أَنْ نَسْتَنْقِذَ مِنْهُ الْمُسْلِمَ لِمَا يَلْزَمُ مِنْ حِرَاسَةِ نَفْسِهِ ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى اسْتِنْقَاذِهِ مِنْهُ بِغَيْرِ قَتْلِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقْتَلَ ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِنْقَاذِهِ مِنْهُ إِلَّا بِقَتْلِهِ جَازَ لَنَا أَنْ نَقْتُلَهُ : لِأَنَّهُ لَا أَمَانَ عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ . وَالْخَصْلَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَسْتَنْجِدَ الْمُشْرِكُ أَصْحَابَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي مَعُونَتِهِ عَلَى الْمُسْلِمِ ، يَبْطُلُ أَمَانُهُ : لِأَنَّهُ كَانَ مَشْرُوطًا بِالْمُبَارَزَةِ ، وَقَدْ زَالَ حُكْمُهَا بِالِاسْتِنْجَادِ ، فَإِنْ أَعَانُوهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَنْجِدَهُمْ نُظِرَ ، فَإِنْ نَهَاهُمْ عَنْ مَعُونَتِهِ فَلَمْ يَنْتَهُوا كَانَ عَلَى أَمَانِهِ ، وَكَانَ لَنَا قِتَالُ مَنْ أَعَانَهُ دُونَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَنْهَهُمْ كَانَ إِمْسَاكُهُ عَنْهُمْ رِضًا مِنْهُ بِمَعُونَتِهِمْ لَهُ ، فَصَارَ كَاسْتِنْجَادِهِ لَهُمْ فِي نَقْضِ أَمَانِهِ وَجَوَازِ قِتَالِهِ وَقَتْلِهِ .
فَصْلٌ : وَإِذَا أُخِذَتْ رُءُوسُ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ قَتْلِهِمْ : لِتُحْمَلَ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ ، فَقَدْ كَرِهَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالزُّهْرِيُّ ذَلِكَ : لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ بِقَتْلَى بَدْرٍ .
وَرَوَى عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ أَنَّهُ حَمَلَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رُءُوسَ مَنْ قُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي فَتْحِ دِمَشْقَ ، فَكَرِهَ ذَلِكَ ، وَقَالَ : تَحْمِلُ جِيَفَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى مَدِينَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . وَأَجَازَ آخَرُونَ ذَلِكَ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَلَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ فِيهِ نَصٌّ ، وَذَهَبَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِي إِلَى كَرَاهِيَتِهِ ، وَعِنْدِي أَنَّ إِطْلَاقَ الْكَرَاهِيَةِ فِيهِ أَوِ الِاسْتِحْبَابِ غَيْرُ صَوَابٍ ، وَيَجِبُ أَنْ يُنْظَرَ فِي نَقْلِهَا ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ وَهَنٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَوْ قُوَّةٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَنَقْلُهَا مُسْتَحَبٌّ : لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُكْرَهْ نَقْلُهُمْ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ أَحْيَاءً لِيُقْتَلُوا بِهَا كَانَ نَقْلُ رُءُوسِهِمْ أَقْرَبَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي نَقْلِهَا وَهَنٌ لِمُشْرِكٍ وَلَا قُوَّةٌ لِمُسْلِمٍ كَانَ نَقْلُهَا مَكْرُوهًا ، عَلَى هَذَا يُحْمَلُ نَهْيُ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
بَابُ فَتْحِ السَّوَادِ وَحُكْمُ مَا يُوقِفُهُ الْإِمَامُ مِنَ الْأَرْضِ لِلْمُسْلِمِينَ
بَابُ فَتْحِ السَّوَادِ وَحُكْمُ مَا يُوقِفُهُ الْإِمَامُ مِنَ الْأَرْضِ لِلْمُسْلِمِينَ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : " وَلَا أَعْرِفُ مَا أَقُولُ فِي أَرْضِ السَّوَادِ إِلَّا بِظَنٍّ مَقْرُونٍ إِلَى عِلْمٍ : وَذَلِكَ أَنِّي وَجَدْتُ أَصَحَّ حَدِيثٍ يَرْوِيهِ الْكُوفِيُّونَ عِنْدَهُمْ فِي السَّوَادِ لَيْسَ فِيهِ بَيَانٌ ، وَوَجَدْتُ أَحَادِيثَ مِنْ أَحَادِيثِهِمْ تُخَالِفُهُ : مِنْهَا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ : إِنَّ السَّوَادَ صُلْحٌ ، وَيَقُولُونَ : إِنَّ السَّوَادَ عَنْوَةٌ ، وَيَقُولُونَ : بَعْضُ السَّوَادِ صُلْحٌ وَبَعْضُهُ عَنْوَةٌ ، وَيَقُولُونَ : إِنَّ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيَّ وَهَذَا أَثْبَتُ حَدِيثٍ عِنْدَهُمْ فِيهِ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ ، عَنْ جَرِيرٍ قَالَ : كَانَتْ بَجِيلَةُ رُبْعَ النَّاسِ ، فَقُسِّمَ لَهُمْ رُبْعُ السَّوَادِ فَاسْتَغَلُّوهُ ثَلَاثَ أَوْ أَرْبَعَ سِنِينَ - شَكَّ الشَّافِعِيُّ - ثُمَّ قَدِمْتُ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمَعِي بِنْتُ فُلَانٍ - امْرَأَةٌ مِنْهُمْ قَدْ سَمَّاهَا وَلَمْ يَحْضُرْنِي ذِكْرُ اسْمِهَا - قَالَ عُمَرُ : لَوْلَا أَنَّنِي قَاسِمٌ مَسْئُولٌ لَتَرَكْتُكُمْ عَلَى مَا قُسِمَ لَكُمْ ، وَلَكِنِّي أَرَى أَنْ تَرُدُّوا عَلَى النَّاسِ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : وَكَانَ فِي حَدِيثِهِ وَعَاضَنِي مِنْ حَقِّي فِيهِ نَيِّفًا وَثَمَانِينَ دِينَارًا ، وَكَانَ فِي حَدِيثِهِ ، فَقَالَتْ فُلَانَةُ : قَدْ شَهِدَ أَبِي الْقَادِسِيَّةَ ، وَثَبَتَ سَهْمُهُ ، وَلَا أُسْلِمُ حَتَّى تُعْطِيَنِي كَذَا وَكَذَا : فَأَعْطَاهَا إِيَّاهُ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - : فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ إِذْ أَعْطَى جَرِيرًا عِوَضًا مِنْ سَهْمِهِ ، وَالْمَرْأَةَ عِوَضًا مِنْ سَهْمِ أَبِيهَا عَلَى أَنَّهُ اسْتَطَابَ أَنْفُسَ الَّذِينَ أَوْجَفُوا عَلَيْهِ فَتَرَكُوا حُقُوقَهُمْ مِنْهُ فَجَعَلَهُ وَقْفًا لِلْمُسْلِمِينَ ، وَقَدْ سَبَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَوَازِنَ وَقَسَّمَ الْأَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسِ بَيْنَ الْمُوجِفِينَ ، ثُمَّ جَاءَتْهُ وُفُودُ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ فَسَأَلُوهُ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِمُ ، وَأَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ مَا أُخِذَ مِنْهُمْ فَخَيَّرَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ الْأَمْوَالِ وَالسَّبْيِ ، فَقَالُوا : خَيَّرْتَنَا بَيْنَ أَحْسَابِنَا وَأَمْوَالِنَا فَنَخْتَارُ أَحْسَابَنَا ، فَتَرَكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَقَّهُ وَحَقَّ أَهْلِ بَيْتِهِ ، فَسَمِعَ بِذَلِكَ الْمُهَاجِرُونَ فَتَرَكُوا لَهُ حُقُوقَهُمْ ، وَسَمِعَ بِذَلِكَ الْأَنْصَارُ فَتَرَكُوا لَهُ حُقُوقَهُمْ ، ثُمَّ بَقِيَ قَوْمٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ، فَأَمَرَ فَعَرَّفَ عَلَى كُلِّ عَشَرَةٍ وَاحِدًا ، ثُمَّ قَالَ ائْتُونِي بِطِيبِ أَنْفُسِ مَنْ بَقِيَ ، فَمَنْ كَرِهَ فَلَهُ عَلَيَّ كَذَا وَكَذَا مِنَ الْإِبِلِ إِلَى وَقْتٍ ذَكَرَهُ ، قَالَ : فَجَاءُوهُ بِطِيبِ أَنْفُسِهِمْ إِلَّا الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ وَعُيَيْنَةَ بْنَ بَدْرٍ : فَإِنَّهُمَا أَتَيَا لِيُعِيرَا هَوَازِنَ فَلَمْ يُكْرِهْهُمَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ذَلِكَ حَتَّى كَانَا هُمَا تَرَكَا بَعْدُ بِأَنْ خَدَعَ عُيَيْنَةُ عَنْ حَقِّهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَقَّ مَنْ طَابَ نَفْسًا عَنْ حَقِّهِ . قَالَ : وَهَذَا أَوْلَى
الْأَمْرَيْنِ بِعُمَرَ عِنْدَنَا فِي السَّوَادِ وَفُتُوحِهِ إِنْ كَانَ عَنْوَةً لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قُسِّمَ إِلَّا عَنْ أَمْرِ عُمَرَ لِكِبَرِ قَدْرِهِ ، وَلَوُ يَفُوتُ عَلَيْهِ مَا انْبَغَى أَنْ يَغِيبَ عَنْهُ قَسْمُهُ ثَلَاثَ سِنِينَ ، وَلَوْ كَانَ الْقَسْمُ لَيْسَ لِمَنْ قُسِّمَ لَهُ ، مَا كَانَ لَهُ مِنْهُ عِوَضٌ وَلَكَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَرُدُّوا الْغَلَّةَ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ كَيْفَ كَانَ ، وَهَكَذَا صَنَعَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي خَيْبَرَ وَبَنِي قُرَيْظَةَ لِمَنْ أَوْجَفَ عَلَيْهَا أَرْبَعَةَ أَخْمَاسٍ وَالْخُمْسُ لِأَهْلِهِ ، فَمَنْ طَابَ نَفْسًا عَنْ حَقِّهِ فَجَائِزٌ لِلْإِمَامِ نَظَرًا لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَجْعَلَهَا وَقْفًا عَلَيْهِمْ تُقَسَّمُ غَلَّتُهُ عَلَى أَهْلِ الْفَيْءِ وَالصَّدَقَةِ وَحَيْثُ يَرَى الْإِمَامُ وَمَنْ يَطِبْ نَفْسًا فَهُوَ أَحَقُّ بِمَالِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا أَرْضُ السَّوَادِ ، فَهُوَ سَوَادُ كِسْرَى مَلِكِ الْفُرْسِ الَّذِي فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ ، وَمَلَكُوهُ عَنْوَةً فِي أَيَّامِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَعْدَ أَنْ فُتِحَتْ أَطْرَافُهُ فِي أَيَّامِ أَبِي بَكْرٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . وَحَدُّهُ طُولًا مِنْ حُرَيْثَةِ الْمَوْصِلِ إِلَى عَبَّادَانِ ، وَعَرْضًا مِنْ عُذَيْبِ الْقَادِسِيَّةِ إِلَى حُلْوَانَ ، يَكُونُ طُولُهُ مِائَةً وَسِتِّينَ فَرْسَخًا ، وَعَرْضُهُ ثَمَانِينَ فَرْسَخًا ، وَلَيْسَتِ الْبَصْرَةُ وَإِنْ دَخَلَتْ فِي هَذَا الْحَدِّ مِنْ أَرْضِ السَّوَادِ : لِأَنَّهَا مِمَّا أَحْيَاهُ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْمَوَاتِ إِلَّا مَوَاضِعَ مِنْ شَرْقِيِّ دَجْلَتِهَا يُسَمِّيهِ أَهْلُ الْبَصْرَةِ الْفُرَاتُ . وَمِنْ غَرْبِيِّ دَجْلَتِهَا لِلنَّهْرِ الْمَعْرُوفِ بِنَهْرِ الْمَرْأَةِ ، وَيُسَمَّى بِالْفَهْرَجِ . وَحَضَرْتُ الشَّيْخَ أَبَا حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِي ، وَهُوَ يُدَرِّسُ تَحْدِيدَ السَّوَادِ فِي كِتَابِ " الرَّهْنِ " وَأَدْخَلَ فِيهِ الْبَصْرَةَ ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيَّ ، وَقَالَ : هَكَذَا تَقُولُ ؟ قُلْتُ : لَا ، قَالَ : وَلِمَ ؟ قُلْتُ : لِأَنَّهَا كَانَتْ مَوَاتًا أَحْيَاهُ الْمُسْلِمُونَ ، فَأَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ ، وَقَالَ : عَلِّقُوا مَا يَقُولُ ، فَإِنَّ أَهْلَ الْبَصْرَةِ أَعْرَفُ بِالْبَصْرَةِ . وَفِي تَسْمِيَتِهِ سَوَادًا ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : لِكَثْرَتِهِ مَأْخُوذٌ مِنْ سَوَادِ الْقَوْمِ إِذَا كَثُرُوا ، وَهَذَا قَوْلُ الْأَصْمَعِيِّ . وَالثَّانِي : لِسَوَادِهِ بِالزُّرُوعِ وَالْأَشْجَارِ : لِأَنَّ الْخُضْرَةَ تُرَى مِنَ الْبُعْدِ سَوَادًا ، ثُمَّ تَظْهَرُ الْخُضْرَةُ بِالدُّنُوِّ مِنْهَا ، فَقَالُوا الْمُسْلِمُونَ حِينَ أَقْبَلُوا مِنْ بَيَاضِ الْفَلَاةِ : مَا هَذَا السَّوَادُ ؟ ، فَسَمَّوْهُ سَوَادًا . وَالثَّالِثُ : لِأَنَّ الْعَرَبَ تَجْمَعُ بَيْنَ الْخُضْرَةِ وَالسَّوَادِ فِي الِاسْمِ ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ : وَرَاحَتْ رَوَاحًا مِنْ زُرُودٍ فَصَادَفَتْ زُبَالَةَ جِلْبَابًا مِنَ اللَّيْلِ أَخْضَرَا يَعْنِي : أَسْوَدَ ، وَسَوَادُ كِسْرَى أَزْيَدُ مِنَ الْعِرَاقِ بِخَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ فَرْسَخًا ، فَيَكُونُ الْعِرَاقُ أَقْصَرَ مِنَ السَّوَادِ بِخُمْسِهِ ، وَالسَّوَادُ أَطْوَلَ مِنَ الْعِرَاقِ بِرُبْعِهِ : لِأَنَّ أَوَّلَ الْعِرَاقِ مِنْ
شَرْقِيِّ دِجْلَةَ الْعَلْثُ ، وَمِنْ غَرْبِيِّهَا جَرْبَى ، وَطُولُهُ مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ فَرْسَخًا ، وَعَرْضُهُ مُسْتَوْعِبٌ لِعَرْضِ السَّوَادِ . وَسُمِّيَ عِرَاقًا لِاسْتِوَاءِ أَرْضِهِ حِينَ خَلَتْ مِنْ جِبَالٍ تَعْلُو ، وَأَوْدِيَةٍ تَنْخَفِضُ ، وَالْعِرَاقُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ : الِاسْتِوَاءُ ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : سُقْتُمْ إِلَى الْحَقِّ مَعًا وَسَاقُوا سِيَاقَ مَنْ لَيْسَ لَهُ عِرَاقُ أَيْ لَيْسَ لَهُ اسْتِوَاءٌ . وَقَالَ قُدَامَةُ بْنُ جَعْفَرٍ : تَكُونُ مِسَاحَةُ الْعِرَاقِ مُكَسَّرًا مِنْ ضَرْبِ طُولِهِ فِي عُرْضِهِ عَشَرَةَ آلَافِ فَرْسَخٍ ، يَصِيرُ تَكْسِيرُ مِسَاحَةِ السَّوَادِ مُكَسَّرًا بِزِيَادَةِ الرُّبْعِ . مِسَاحَةُ الْعِرَاقِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ فَرْسَخٍ وَخَمْسُمِائَةِ فَرْسَخٍ ، وَمِسَاحَةُ تَكْسِيرِ فَرْسَخٍ فِي فَرْسَخٍ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ أَلْفَ جَرِيبٍ وَخَمْسُمِائَةِ جَرِيبٍ : لِأَنَّ طُولَ الْفَرْسَخِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ ذِرَاعٍ بِالْمُرْسَلَةِ ، وَيَكُونُ بِذِرَاعِ الْمِسَاحَةِ ، وَهِيَ الذِّرَاعُ الْهَاشِمِيَّةُ تِسْعَةَ آلَافِ ذِرَاعٍ ، فَيَكُونُ مِسَاحَةُ أَرْضِ الْعِرَاقِ ، وَهِيَ عَشَرَةُ آلَافِ فَرْسَخٍ مُكَسَّرَةً مِائَتَيْ أَلْفِ أَلْفِ جَرِيبٍ ، وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ أَلْفَ أَلْفِ جَرِيبٍ ، يَزِيدُ عَلَيْهَا فِي مِسَاحَةِ السَّوَادِ رُبْعُهَا ، فَيَصِيرُ مِسَاحَةُ السَّوَادِ مِائَتَيْ أَلْفِ أَلْفِ جَرِيبٍ وَثَمَانِينَ أَلْفَ أَلْفِ جَرِيبٍ ، يَسْقُطُ مِنْهَا مَجَارِي الْأَنْهَارِ ، وَالْآجَامُ وَالسِّبَاخُ وَالْآكَامُ وَمَوَاضِعُ الْمُدُنِ وَالْقُرَى وَمَدَارِسُ الطُّرُقِ نَحْوَ ثُلْثِهَا ، وَيَبْقَى مِائَتَا أَلْفِ أَلْفِ جَرِيبٍ يُرَاحُ نِصْفُهَا ، وَيُزْرَعُ نِصْفُهَا ، إِذَا تَكَامَلَتْ مَصَالِحُنَا ، وَعِمَارَتُهَا ، وَذَلِكَ نَحْوُ مِائَةِ أَلْفِ أَلْفِ جَرِيبٍ ، يَنْقُصُ عَنْهَا فِي مِسَاحَةِ الْعِرَاقِ خُمْسُهَا ، وَقَدْ كَانَتْ مِسَاحَةُ الْمَزْرُوعِ فِي أَيَّامِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ أَلْفِ جَرِيبٍ إِلَى سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ أَلْفِ جَرِيبٍ : لِأَنَّ الْبَطَائِحَ تَعَطَّلَتْ بِالْمَاءِ ، وَنَوَاحِيَ تَعَطَّلَتْ بِالْبَتُوقِ ، وَفِي الْمُتَقَدِّرَاتِ تَتَكَامَلُ جَمِيعُ الْعِبَارَاتِ حَتَّى تَسْتَوْعِبَ مَنْ زَرَعَهَا ، لِأَنَّ الْعَوَارِضَ وَالْحَوَادِثَ لَا يَخْلُو الزَّمَانُ مِنْهَا خُصُوصًا وَعُمُومًا .
فَصْلٌ : فَإِذَا اسْتَقَرَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حُدُودِ السَّوَادِ وَمِسَاحَةِ أَرَاضِيهِ وَقَدْرِ مَزْرُوعِهِ وَفَضْلِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعِرَاقِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي فَتْحِهِ هَلْ كَانَ عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا فتح أرض السواد : فَقَدِمَ الشَّافِعِيُّ مِنَ الْحِجَازِ إِلَى الْعِرَاقِ ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ أَعْلَمُ بِفُتُوحِ سَوَادِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ ، فَسَأَلَهُمُ عَنْهُ فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ ، فَرَوَى بَعْضُهُمْ أَنَّ السَّوَادَ فُتِحَ صُلْحًا . وَرَوَى لَهُ بَعْضُهُمْ أَنَّ السَّوَادَ فُتِحَ عَنْوَةً . وَرَوَى لَهُ آخَرُونَ أَنَّ بَعْضَ السَّوَادِ فُتِحَ صُلْحًا ، وَبَعْضَهُ فُتِحَ عَنْوَةً . فَلَمَّا اخْتَلَفُوا عَلَيْهِ فِي النَّقْلِ وَالرِّوَايَةِ نَظَرَ أَثْبَتَ مَا رَوَوْهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ ، وَأَصَحَّهَا ، فَكَانَ حَدِيثُ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ يَعْنِي : أَبَا أُسَامَةَ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ قَالَ : كَانَتْ بَجِيلَةُ رُبْعَ النَّاسِ ، فَقُسِّمَ لَهُمْ رُبْعُ السَّوَادِ ، فَاسْتَغَلُّوهُ ثَلَاثًا - أَرْبَعَ سِنِينَ - شَكَّ الشَّافِعِيُّ - فَقَدِمْتُ عَلَى عُمَرَ ، وَمَعِي فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانٍ - امْرَأَةٌ مِنْهُمْ قَدْ سَمَّاهَا ، وَلَمْ يَحْضُرْنِي ذِكْرُ اسْمِهَا - فَقَالَ عُمَرُ : " لَوْلَا أَنِّي قَاسِمٌ مَسْئُولٌ لَتَرَكْتُكُمْ عَلَى مَا قُسِّمَ لَكُمْ ، وَلَكِنْ أَرَى أَنْ تَرُدُّوا عَلَى النَّاسِ " . قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَكَانَ فِي حَدِيثِهِ وَعَافِنِي مِنْ حَقِّي نَيِّفًا وَثَمَانِينَ دِينَارًا ، وَفِي الْحَدِيثِ : فَقَالَتْ فُلَانَةُ : قَدْ شَهِدَ أَبِي الْقَادِسِيَّةَ ، وَثَبَتَ سَهْمُهُ ، وَلَا أُسْلِمُ حَتَّى تُعْطِيَنِي كَذَا وَكَذَا ، فَأَعْطَاهَا إِيَّاهُ . وَرَوَى غَيْرُ الشَّافِعِيِّ ، فَقَالَتْ أُمُّ كُرْزٍ : لَا أَنْزِلُ عَنْ حَقِّي حَتَّى تَحْمِلَنِي عَلَى نَاقَةٍ ذَلُولٍ ، عَلَيْهَا قَطِيفَةٌ حَمْرَاءُ ، وَتَمْلَأُ كَفِّيَ ذَهَبًا ، فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهَا ، فَكَانَ مَا أَعْطَاهَا مِنَ الْعَيْنِ ثَمَانِينَ دِينَارًا ، فَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ السَّوَادَ فُتِحَ صُلْحًا ، فَقَدْ أَشَارَ الشَّافِعِيُّ إِلَيْهِ فِي كِتَابِ قَسْمِ الْفَيْءِ ، وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ عُمَرَ انْتَزَعَهُ مِنْ أَيْدِي الْغَانِمِينَ حِينَ عَلِمَ بِحُصُولِهِ مَعَهُمْ ، وَلَوْ كَانَ عَنْوَةً لَكَانَ غَنِيمَةً لَهُمْ ، وَلَمْ يَجُزِ انْتِزَاعُهُ مِنْهُمْ . وَالثَّانِي : قَوْلُ عُمَرَ : لَوْلَا أَنِّي قَاسِمٌ مَسْئُولٌ لَتَرَكْتُكُمْ عَلَى مَا قُسِّمَ لَكُمْ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ انْتَزَعَهُ مِنْهُمْ بِحَقٍّ لَمْ يَسْتَجِزْ تَرْكُهُ مَعَهُمْ ، وَهَذَا حُكْمُ الصُّلْحِ دُونَ الْعَنْوَةِ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ فَتْحَ السَّوَادِ عَنْوَةٌ ، وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْمَنْقُولِ عَنْهُ فِي أَكْثَرِ كُتُبِهِ . وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ خَمْسَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ أَقَرَّ السَّوَادَ فِي أَيْدِي الْغَانِمِينَ ثَلَاثَ سِنِينَ ، أَوْ أَرْبَعَ يَسْتَغِلُّونَهُ ، وَلَمْ يَنْتَزِعْهُ مِنْهُمْ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهِ حَقُّ الْغَنِيمَةِ لَمْ يَسْتَجِزْ تَرْكَهُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْمُدَّةَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُمُ اقْتَسَمُوهُ قِسْمَةَ الْغَنَائِمِ حَتَّى صَارَ لِبَجِيلَةَ ، وَهُمْ رُبْعُ النَّاسِ رُبْعُ السَّوَادِ ، وَمَا اقْتَسَمُوهُ إِلَّا بِأَمْرِ عُمَرَ ، وَعَنْ عِلْمِهِ : لِأَنَّهُ مِنَ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ وَالْفُتُوحِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي لَا يَسْتَبِدُّ الْجَيْشُ فِيهَا بِآرَائِهِمْ إِلَّا بِمُطَالَعَتِهِ ، وَأَمْرِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُمْ لَوْ تَصَرَّفُوا فِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ لَاسْتَرَدَّ مِنْهُمْ مَا اسْتَغَلُّوهُ : لِأَنَّهُ يَكُونُ لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ دُونَهُمْ . وَالرَّابِعُ : أَنَّهُ عَاوَضَ مَنْ لَمْ يَطِبْ نَفْسًا بِالنُّزُولِ عَنْ سَهْمِهِ بِعِوَضٍ دَفَعَهُ إِلَيْهِمْ ، جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الثَّمَنِ حَتَّى أَعْطَى جَرِيرًا ، وَأُمَّ كُرْزٍ مَا أَعْطَى ، وَهُوَ لَا يَبْذُلُ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا فِي حَقٍّ .
وَالْخَامِسُ : أَنَّهُ اسْتَطَابَ نُفُوسَهُمْ عَنْهُ ، وَلَوْ كَانَتْ أَيْدِيهِمْ فِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ لَأَخَذَهُ مِنْهُمْ جَبْرًا . فَدَلَّتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَنْوَةً مَغْنُومًا اقْتِدَاءً فِي اسْتِطَابَةِ نُفُوسِهِمْ عَنْهُ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَبْيِ هَوَازِنَ حِينَ سَأَلُوهُ بَعْدَ إِسْلَامِهِمُ الْمَنَّ عَلَيْهِمْ ، فَخَيَّرَهُمْ بَيْنَ أَمْوَالِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ ، فَاخْتَارُوا الْأَهْلَ وَالْأَوْلَادَ ، فَمَنَّ عَلَيْهِمْ ، وَعَرَّفَ الْعُرَفَاءَ عَنِ اسْتِنْزَالِ النَّاسِ عَنْوًا ، وَجَعَلَ لِمَنْ لَمْ يَطِبْ نَفْسًا بِالنُّزُولِ عَنْ كُلِّ رَأْسٍ مِنَ السَّبْيِ سِتَّ قَلَائِصَ حَتَّى نَزَلَ جَمِيعُهُمْ ، إِلَّا عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعَ إِلَى أَنْ جُدِعَ عُيَيْنَةُ ، وَنَزَلَ الْأَقْرَعُ ، فَلَمَّا اسْتَنْزَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَنَّ وَالتَّكْرِيمَ كَانَ اسْتِنْزَالُ عُمَرَ لِلْغَانِمِينَ فِي عُمُومِ الْمَصَالِحِ لِلْمُسْلِمِينَ أَوْلَى وَأَوْكَدَ ، وَاخْتُلِفَ فِي السَّبَبِ الَّذِي اسْتَنْزَلَهُمْ عُمَرُ لِأَجْلِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ رَأَى إِنْ أَقَامُوا فِيهِ عَلَى عِمَارَتِهِ وَاسْتِغْلَالِهِ ، وَأَلِفُوا رِيفَ الْعِرَاقِ وَخِصْبَهُ تَعَطَّلَ الْجِهَادُ ، وَإِنْ أَنْهَضَهُمْ عَنْهُ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى مِلْكِهِمْ خَرِبَ مَعَ جَلَالَةِ قَدْرِهِ وَكَثْرَةِ اسْتِغْلَالِهِ ، فَعَلَى أَنَّ الْأَصْلَحَ إِقْرَارٌ فِي أَيْدِي الدَّهَاقِينِ وَالْأُكْرَةِ الَّذِينَ هُمْ بِعِمَارَتِهِ أَعْرَفُ ، وَزِرَاعَتِهِ أَقْوَمُ بِخَرَاجٍ يَضْرِبُهُ عَلَيْهِمْ يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَيَتَوَفَّرُوا بِهِ عَلَى جِهَادِ الْمُشْرِكِينَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِنَظَرِهِ فِي الْمُتَعَقِّبِ : لِأَنَّهُ جَعَلَ مَصْرَيِ الْعِرَاقِ الْبَصْرَةَ وَالْكُوفَةَ وَطَنًا لِلْمُجَاهِدِينَ : لِيَخُصُّوا بِجِهَادِ مَنْ بِإِزَائِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، وَيَسْتَمِدُّوا بِسَوَادِ عِرَاقِهِمْ فِي أَرْزَاقِهِمْ وَنَفَقَاتِهِمْ فِي جِهَادِهِمْ ، وَعَلِمَ أَنَّهُ إِنْ أَقَرَّهُ عَلَى مِلْكِهِمْ مَعَ سِعَتِهِ وَكَثْرَةِ ارْتِفَاعِهِ بَقِيَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَجِدُونَ مَا يَسْتَمِدُّونَهُ ، وَقَدْ قَامُوا مَقَامَهُمْ ، وَسَدُّوا مَسَدَّهُمْ فَرَأَى أَنَّ الْأَعَمَّ فِي صَلَاحِ أَهْلِ كُلِّ عَصْرٍ أَنْ يَكُونَ وَقْفًا عَامًّا عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ لِيَكُونَ لِأَهْلِ كُلِّ عَصْرٍ فِيهِ حَظٌّ يَقُومُ بِكِفَايَتِهِمْ فَاسْتَنْزَلَهُمْ عَنْ أَصْلِ مِلْكِهِ ، وَأَمَدَّهُمْ بِارْتِفَاعِهِ لِيَكُونَ مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ فِيهِ بِمَثَابَتِهِمْ . وَقَدْ رَوَى زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ : لَوْلَا أَخْشَى أَنْ يَبْقَى آخِرُ النَّاسِ لَا شَيْءَ لَهُمْ لَتَرَكْتُكُمْ ، وَمَا قُسِّمَ لَكُمْ ، لَكِنْ أُحِبُّ أَنْ يَلْحَقَ آخِرُهُمْ أَوَّلَهُمْ ، وَتَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى : وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ [ الْحَشْرِ : 10 ] .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ فَتْحَ أَرْضِ السَّوَادِ عَنْوَةٌ انْتَقَلَ ، الْكَلَامُ إِلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : حُكْمُ أَرْضِ الْعَنْوَةِ . وَالثَّانِي : مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ حُكْمُ أَرْضِ السَّوَادِ بَعْدَ الِاسْتِنْزَالِ . فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ : فِي حُكْمِ كُلِّ أَرْضٍ إِذَا فُتِحَتْ عَنْوَةً ، فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَذَاهِبَ شَتَّى .
فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهَا تَكُونُ غَنِيمَةً كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ ، يُخْرَجُ خُمْسُهَا لِأَهْلٍ الْخُمْسِ ، وَتُقَسَّمُ بَاقِيهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ كَقِسْمَةِ الْأَمْوَالِ الْمَنْقُولَةِ إِلَّا أَنْ يَرَى إِمَامُ الْعَصْرِ أَنْ يَسْتَنْزِلَهُمْ عَنْهُ بِطِيبِ أَنْفُسِهِمْ ، أَوْ بِعِوَضٍ يَبْذُلُهُ لَهُمْ لِيَفُضَّهَا عَلَى كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ ، فَيَمْضِي ، وَإِلَّا فَهِيَ غَنِيمَةٌ مَقْسُومَةٌ لِعُمُومِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ [ الْأَنْفَالِ 41 ] . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا سِوَى الْخُمْسِ لِلْغَانِمِينَ ، كَمَا قَالَ : وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ [ النِّسَاءِ : 11 ] . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا سِوَى الثُّلُثِ لِلْأَبِ . وَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ : الْأَرْضُ غَيْرُ مَغْنُومَةٍ ، وَتَصِيرُ بِالْفَتْحِ وَقْفًا عَلَى كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ ، لَا يَجُوزُ لَهُمْ بَيْعُهَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَكُونُ الْإِمَامُ فِيهَا مُخَيَّرًا بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : بَيْنَ أَنْ يُقَسِّمَهَا عَلَى الْغَانِمِينَ كَالَّذِي قَالَهُ الشَّافِعِيُّ ، وَبَيْنَ أَنْ يُقِرَّهَا عَلَى مِلْكِ أَرْبَابِهَا ، وَيَضْرِبَ عَلَيْهِمْ جِزَيَتَيْنِ : إِحْدَاهُمَا : عَلَى رُءُوسِهِمْ ، وَالْأُخْرَى عَلَى أَرْضِهِمْ . فَإِذَا أَسْلَمُوا سَقَطَتْ جِزْيَةُ رُءُوسِهِمْ ، وَبَقِيَتْ جِزْيَةُ أَرْضِهِمْ تُؤْخَذُ بِاسْمِ الْخَرَاجِ : وَيَجُوزُ لَهُمْ بَيْعُهَا . وَبَيْنَ أَنْ يَقِفَهَا عَلَى كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ ، فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ بَيْعُهَا . وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي : فِيمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ حُكْمُ أَرْضِ السَّوَادِ بَعْدَ الِاسْتِنْزَالِ عَنْهَا ، فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي سِيَرِ الْوَاقِدِيِّ أَنَّ عُمَرَ وَقَفَهَا عَلَى كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ ، فَلَا تُبَاعُ ، وَلَا تُوهَبُ ، وَلَا تُوَرَّثُ كَسَائِرِ الْوُقُوفِ ، وَقَالَ فِي مِثْلِهِ مِنْ كِتَابِ الرَّهْنِ : إِنَّهُ لَوْ رَهَنَ أَرْضًا مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ كَانَ الرَّهْنُ بَاطِلًا ، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ بَعْدَ وَقْفِهَا أَجَّرَهَا لِلدَّهَاقِينِ وَالْأُكَرَةِ بِالْخَرَاجِ الَّذِي ضَرَبَهُ عَلَيْهَا يُؤَدِّيهِ فِي كُلِّ سَنَةٍ أُجْرَةً عَنْ رِقَابِهَا ، فَيَكُونُوا أَحَقَّ بِالتَّصَرُّفِ فِيهَا لِأَصْلِ الْإِجَازَةِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِلْكًا لَهُمْ وَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمُ انْتَقَلَ إِلَى وَارِثِهِ يَدًا لَا مِلْكًا كَالْمَوْرُوثِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ ، وَأَكْثَرُ الْبَصْرِيِّينَ ، وَاخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِهَذَا فِيمَا تُوُجَّهَ الْوَقْفُ إِلَيْهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إِلَى جَمِيعِ الْأَرْضِ مِنْ مَزَارِعَ وَمَنَازِلَ . وَالثَّانِي : إِلَى الْمَزَارِعِ دُونَ الْمَنَازِلِ : لِأَنَّ وَقْفَ الْمَنَازِلِ مُفْضٍ إِلَى خَرَابِهَا ، فَهَذَا قَوْلُ مَنْ جَعَلَهَا وَقْفًا . وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ ، وَأَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ : لَمْ يَقِفْهَا عُمَرُ ، وَإِنَّمَا بَاعَهَا عَلَى أَرْبَابِهَا بِثَمَنٍ يُؤَدَّى فِي كُلِّ سَنَةٍ عَلَى الْأَبَدِ بِالْخَرَاجِ الْمَضْرُوبِ عَلَيْهَا لِيَنْتَفِعَ بِهَا
الْآخَرُونَ كَمَا انْتَفَعَ بِهَا الْأَوَّلُونَ ، وَيَكُونَ الْخَرَاجُ ثَمَنًا وَيَجُوزُ أَنْ تُبَاعَ ، وَتُوهَبَ ، وَتُوَرَّثَ ، قَالُوا : وَإِنَّمَا كَانَتْ مَبِيعَةً ، وَلَمْ تَكُنْ وَقْفًا لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ عُمَرَ قَصَدَ بِمَا فَعَلَهُ فِيهَا حِفْظَ عِمَارَتِهَا ، وَلَوْ كَانَتْ وَقْفًا لَا يَمْلِكُهَا الْمُتَصَرِّفُ ، وَيَرَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِلْكًا مَبِيعًا مَوْرُوثًا لَمْ يَشْرَعْ أَهْلُهَا فِي تَأْبِيدِ عِمَارَتِهَا ، وَرَاعَوْا مَا يَتَعَجَّلُونَ بِهِ اسْتِغْلَالَهَا ، فَأَفْضَى ذَلِكَ إِلَى خَرَابِهَا ، وَزَوَالِ الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ بِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَزُلْ أَهْلُهَا عَلَى قَدِيمِ الْوَقْتِ وَحَدِيثِهِ ، يَتَبَايَعُونَهَا وَيَتَوَارَثُونَهَا ، وَلَا يُنْكِرُهُ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْأَمْصَارِ ، وَلَا يُبْطِلُهُ أَحَدٌ مِنَ الْقُضَاةِ وَالْحُكَّامِ ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ الدِّيَانَاتِ أَنْ يَتَبَايَعُوهَا ، وَيَتَوَارَثُوهَا ، دَلَّ عَلَى انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى خُرُوجِهَا مِنْ أَحْكَامِ الْوَقْفِ إِلَى أَحْكَامِ الْأَمْلَاكِ . قَالُوا : وَإِنَّمَا اسْتَجَازَ عُمَرُ بَيْعَهَا بِهَذَا الثَّمَنِ الْمَجْهُولِ الْمُؤَبَّدِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِوُصُولِهَا مِنْ جِهَةِ الْمُشْرِكِينَ الْمَعْفُوِّ عَنِ الْجَهَالَةِ فِيمَا صَارَ مِنْهُمْ ، كَمَا بَذَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْبَدْأَةِ وَالرَّجْعَةِ الثُّلُثَ وَالرُّبْعَ مِنَ الْغَنِيمَةِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْرُهَا مَجْهُولًا ، وَكَمَا يَجُوزُ أَنْ يُبْذُلَ لِمَنْ دَلَّ عَلَى الْقَلْعَةِ فِي بِلَادِ الشِّرْكِ جَارِيَةٌ مِنْ أَهْلِهَا وَإِنْ جُهِلَتْ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ يُخَفَّفُ حُكْمُ الْجَهَالَةِ فِيهِ لِلْجَهَالَةِ بِأَحْكَامِ الْعُمُومِ . وَإِطْلَاقُ هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ فِي وَقْفِهَا وَبَيْعِهَا عِنْدِي مَعْلُولٌ : لِأَنَّ مَا فَعَلَهُ عُمَرُ فِيهَا لَا يَثْبُتُ بِالِاجْتِهَادِ حَتَّى يَكُونَ نَقْلًا مَرْوِيًّا ، وَقَوْلًا مَحْكِيًّا عَنْ عَقْدٍ صَرِيحٍ يَسْتَوْثِقُ فِيهِ بِالْكِتَابِ وَالشَّهَادَاتِ فِي الْأَغْلَبِ ، وَهَذَا مَعْدُومٌ فِيهِ ، فَلَمْ يَصِحَّ الْقَطْعُ بِوَقْفِهَا لِمَا عَلَيْهِ النَّاسُ مِنْ تَبَايُعِهَا ، وَلَا الْقَطْعُ بِبَيْعِهَا بِالْخَرَاجِ الْمَضْرُوبِ عَلَيْهَا ، لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْخَرَاجَ مُخَالِفٌ لِلْأَثْمَانِ بِالْجَهَالَةِ ، وَأَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالزِّرَاعَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مُشْتَرِيَهَا يَدْفَعُ خَرَاجَهَا دُونَ بَائِعِهَا ، فَيَصِيرُ دَافِعًا لِثَمَنَيْنِ ، وَلَيْسَ لِلْمَبِيعِ إِلَّا ثُمُنٌ وَاحِدٌ ، وَيَكُونُ مَا قِيلَ مِنْ وَقْفِهَا مَحْمُولًا عَلَى أَنَّهُ وَقَفَهَا عَلَى قِسْمَةِ الْغَانِمِينَ وَوَقَفَ خَرَاجَهَا عَلَى كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ ، فَيَكُونُ مِلْكُهَا مُطْلَقًا لِمَنْ أَقَرَّتْ عَلَيْهِ اسْتِصْحَابًا لِقَدِيمِ مِلْكِهِمْ ، لِمَا عُلِمَ مِنْ عُمُومِ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ ، وَدَوَامِ الِانْتِفَاعِ بِهِ ، فَتَصِيرُ مُخَالِفَةً لِلْأَرْضِ الصُّلْحِ مِنْ وَجْهَيْنِ ، وَمُوَافِقَةً لَهَا مِنْ وَجْهَيْنِ :
فَأَمَّا الْوَجْهَانِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ ، فَأَحَدُهُمَا : أَنَّ أَرْضَ الصُّلْحِ لَا حَقَّ لِلْغَانِمِينَ فِي رِقَابِهَا ، فَيُمْنَعُونَ مِنْهَا جَبْرًا ، وَأَرْضَ السَّوَادِ كَانَتْ رِقَابُهَا لِلْغَانِمِينَ ، فَاسْتُنْزِلُوا عَنْهَا عَفْوًا ، وَعُوِّضَ مِنْهُم مَنْ أَبَى . وَالثَّانِي : أَنَّ خَرَاجَ أَرْضِ الصُّلْحِ لِأَهْلِ الْفَيْءِ خَاصَّةً ، وَفِيهِ الْخُمْسُ لِأَهْلِ الْخُمْسِ ، وَخَرَاجَ أَرْضِ السَّوَادِ لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَا خُمْسَ فِيهِ لِأَهْلِ الْخُمْسِ لِأَنَّ الْخُمْسَ أُخْرِجَ عَنْهُ عِنْدَ قَسْمِهِ . وَأَمَّا الْوَجْهَانِ فِي الْمُوَافَقَةِ ، فَأَحَدُهُمَا : وَضْعُ الْخَرَاجِ عَلَى رِقَابِهَا . وَالثَّانِي : جَوَازُ بَيْعِهَا . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رُوِيَ عَنْ فَرْقَدٍ السَّبْخِيِّ أَنَّهُ قَالَ : اشْتَرَيْتُ شَيْئًا مِنْ أَرْضِ السَّوَادِ ، فَأَتَيْتُ عُمَرَ ، فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ ، فَقَالَ : مِمَّنِ اشْتَرَيْتَهَا ؟ فَقُلْتُ : مِنْ أَرْبَابِهَا ، فَقَالَ : هَؤُلَاءِ أَرْبَابُهَا يَعْنِي الصَّحَابَةَ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ بَيْعَهَا لَا يَجُوزُ . فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَنْكَرَ الْبَائِعَ ، وَلَمْ يُنْكِرِ الْبَيْعَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا قَبْلَ اسْتِنْزَالِهِمْ عَنْهَا أَنَّ ابْتِيَاعَهَا لَا يَجُوزُ إِلَّا مِنَ الْغَانِمِينَ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا بَيْعُ الْعِمَارَةِ وَالْيَدِ الْمُتَصَرِّفَةِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِهِ . فَقَالَ مَالِكٌ : يَجُوزُ بَيْعُهَا سَوَاءٌ كَانَ فِيهَا إِثَارَةٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ كَانَ فِيهَا إِثَارَةٌ جَازَ بَيْعُهَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا إِثَارَةٌ لَمْ يَجُزْ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إِنْ كَانَ فِيهَا أَعْيَانٌ كَالزَّرْعِ وَالشَّجَرِ جَازَ بَيْعُهَا ، وَإِنْ كَانَتْ آثَارًا كَالْإِثَارَةِ ، لَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا : لِأَنَّهَا مَنَافِعُ ، وَالْبَيْعُ إِنَّمَا يَصِحُّ فِي الْأَعْيَانِ دُونَ الْمَنَافِعِ ، كَمَا أَنَّ الْإِجَارَةَ تَصِحُّ فِي الْمَنَافِعِ دُونَ الْأَعْيَانِ : لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَقْدَيْنِ حُكْمًا .
فَصْلٌ : فَأَمَّا قَدْرُ الْخَرَاجِ الْمَطْلُوبِ عَلَى الْأَرْضِ السَّوَادِ ، فَقَدْ رَوَى قَتَادَةُ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ جَعَلَ عَلَى كُلِّ جَرِيبٍ مِنَ الْكَرْمِ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ ، وَقِيلَ : عَلَى كُلِّ جَرِيبٍ مِنَ النَّخْلِ ثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ ، وَعَلَى كُلِّ جَرِيبٍ مِنْ قَصَبِ السُّكَّرِ سِتَّةَ دَرَاهِمَ ، وَعَلَى كُلِّ جَرِيبٍ مِنَ الرَّطْبَةِ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ ، وَعَلَى كُلِّ جَرِيبٍ مِنَ الْبُرِّ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ ، وَعَلَى كُلِّ جَرِيبٍ مِنَ الشَّعِيرِ دِرْهَمَيْنِ .
وَحَكَى الشَّعْبِيُّ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ مَسَحَ السَّوَادَ ، فَوَجَدَهُ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ أَلْفَ أَلْفِ جَرِيبٍ ، فَوَضَعَ عَلَى كُلِّ جَرِيبٍ دِرْهَمًا وَقَفِيزًا . قَالَ يَحْيَى بْنُ آدَمَ وَهُوَ الْمَخْتُومُ الْحَجَّاجِيُّ : قِيلَ : إِنَّ وَزَنَهُ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ ، فَكَانَ خَرَاجُهَا سِوَى الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ مُتَّفَقًا عَلَى قَدْرِهِ فِي الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا . وَاخْتُلِفَ فِي خَرَاجِ الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ ، فَذَهَبَ أَهْلُ الْعِرَاقِ إِلَى تَقْدِيرِهِ بِقَفِيزٍ وَدِرْهَمٍ ، وَهَلِ الْمَأْخُوذُ مِنْهُمْ فِي الْأَيَّامِ الْعَادِلَةِ مِنْ مَمَالِكِ الْفُرْسِ ، وَقَدْ ذَكَرَهُ زُهَيْرٌ فِي شِعْرِهِ فَقَالَ : فَتُغْلِلْ لَكُمْ مَا لَا تُغِلُّ لِأَهْلِهَا قُرًى بِالْعِرَاقِ مِنْ قَفِيزٍ وَدِرْهَمِ وَذَهَبَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ ، وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّ خَرَاجَ الْبُرِّ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ ، وَخَرَاجَ الشَّعِيرِ دِرْهَمَانِ ، تَعْوِيلًا عَلَى رِوَايَةِ أَبِي مِجْلَزٍ . وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ عَلَى إِطْلَاقِهِ مَعْلُولٌ عِنْدِي : لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِسْقَاطٌ لِلْآخَرِ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ كِلَا الرِّوَايَتَيْنِ صَحِيحَتَانِ ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَا لِاخْتِلَافِ النَّوَاحِي ، فَوُضِعَ عَلَى بَعْضِهَا قَفِيزٌ وَدِرْهَمٌ ، وَعَلَى بَعْضِهَا أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ عَلَى الْبُرِّ وَدِرْهَمَانِ عَلَى الشَّعِيرِ ، فَأَخَذَ الدِّرْهَمَ وَالْقَفِيزَ فَمَا كَانَ غَالِبُ زَرْعِهِ بُرًّا وَشَعِيرًا ، وَأَخَذَ الْأَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ عَنِ الْبُرِّ ، وَالدِّرْهَمَيْنِ عَلَى الشَّعِيرِ مِمَّا كَانَ أَقَلُّ مُنْزَرَعِهِ بُرًّا وَشَعِيرًا : لِأَنَّ مَا قَلَّ مَنْ نَاحِيَتِهِ غَلَا ، وَمَا كَثُرَ فِيهَا رَخُصَ ، فَزِيدَ مِنْ خَرَاجِ الْمَالِ ، وَنُقِصَ مِنْ خَرَاجِ الرَّخِيصِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ . فَكَانَتْ ذِرَاعُ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ فِي مِسَاحَتِهِ ذِرَاعَ الْيَدِ وَقَبْضَةً وَإِبْهَامًا مَمْدُودَةً ، وَكَانَ مَبْلَغُ ارْتِفَاعِ السَّوَادِ فِي أَيَّامِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مِائَةَ أَلْفِ أَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَعِشْرِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَحَيَاةَ زِيَادٍ مِائَةَ أَلْفِ أَلْفٍ وَخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ أَلْفَ أَلْفٍ ، وَحَيَاةَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ مِائَةَ أَلْفِ أَلْفٍ ، وَخَمْسَةً وَثَلَاثِينَ أَلْفَ أَلْفٍ ، وَحَيَاةَ الْحَجَّاجِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفَ أَلْفٍ ، لِغَشْمِهِ وَإِخْرَابِهِ ، وَحَيَاةَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ثَمَانِينَ أَلْفَ أَلْفٍ ، ثُمَّ بَلَغَ فِي آخِرِ أَيَّامِهِ مِائَةَ أَلْفِ أَلْفٍ وَعِشْرِينَ أَلْفَ أَلْفٍ ، لِعَدْلِهِ وَعِمَارَتِهِ .
فَصْلٌ : وَلَا يَسْقُطُ عُشْرُ الزُّرُوعِ بِخَرَاجِ الْأَرْضِ ، وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ : لِأَنَّ الْخَرَاجَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ أُجْرَةً عَلَى قَوْلِهِ ، أَوْ ثَمَنًا عَلَى قَوْلِ مَنْ خَالَفَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ ، وَالْعُشْرُ يَسْقُطُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا . وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا ، وَأَسْقَطَ الْعُشْرَ بِالْخَرَاجِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ . فَأَمَّا عُشْرُ زُرُوعِهِ فَمَصْرُوفٌ فِي أَهْلِ الصَّدَقَاتِ كَسَائِرِ الزَّكَوَاتِ .
وَخَالَفَ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ ، فَجَعَلَ مَصْرِفَ الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ مُشْتَرَكًا ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي كِتَابِ قَسْمِ الصَّدَقَاتِ . وَأَمَّا خَرَاجُ السَّوَادِ مصرفه ، فَمَصْرِفُهُ فِي كُلِّ مَصْلَحَةٍ عَادَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ نَفْعُهَا مِنْ أَرْزَاقِ الْجَيْشِ ، وَتَحْصِينِ الثُّغُورِ ، وَابْتِيَاعِ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ ، وَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَالْقَنَاطِرِ ، وَأَرْزَاقِ الْقُضَاةِ وَالْأَئِمَّةِ ، وَمَنِ انْتَفَعَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْقُرَّاءِ وَالْمُؤَذِّنِينَ .
فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ ، وَلَا لِوَالٍ مِنْ قِبَلِهِ يَضْمَنُ الْعُشْرَ وَالْخَرَاجَ لِأَحَدٍ مِنَ الْعُمَّالِ ، فَإِنْ عَقَدَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَمَانًا كَانَ عَقْدُهُ بَاطِلًا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي الشَّرْعِ حُكْمٌ : لِأَنَّ الْعَامِلَ مُؤْتَمَنٌ يَسْتَوْفِي مَا وَجَبَ ، وَيُؤَدِّي مَا حَصَّلَ لَا يَضْمَنُ نُقْصَانًا ، وَلَا يَمْلِكُ زِيَادَةً ، وَضَمَانُ الْأَمْوَالِ بِمُقَدَّرٍ مَعْلُومٍ يَقْتَضِي الِاقْتِصَارَ عَلَيْهِ ، وَيَمْلِكُ مَا زَادَ ، وَيَغْرَمُ مَا نَقَصَ ، وَهَذَا مُنَافٍ لِوَضْعِ الْعِمَالَةِ وَحُكْمِ الْأَمَانَةِ فَبَطَلَ . حُكِيَ أَنَّ رَجُلًا أَتَى ابْنَ عَبَّاسٍ يَتَقَبَّلُ مِنْهُ الْأُبُلَّةَ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ ، فَضَرَبَهُ مِائَةَ سَوْطٍ ، وَصَلَبَهُ حَيًّا تَعْزِيرًا وَأَدَبًا . . . وَلَا يَجُوزُ تَضْمِينُ الْأَرْضِ لِأَرْبَابِهَا حكمه فِي عُشْرٍ وَلَا خَرَاجٍ : لِأَنَّ الْعُشْرَ مُسْتَحَقٌّ إِنْ زُرِعَ ، وَسَاقِطٌ إِنْ قُطِعَ ، وَالْخَرَاجُ مُقَدَّرٌ عَلَى الْمِسَاحَةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُزَادَ فِيهِ ، وَلَا يُنْقَصَ مِنْهُ ، وَمَا هَذِهِ سَبِيلُهُ لَا يَصِحُّ تَضْمِينُهُ . فَأَمَّا إِجَارَتُهَا أرض السواد ، فَيَصِحُّ أَنْ يُؤَجِّرَهَا أَرْبَابُهَا ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُؤَجِّرَهَا غَيْرُهَا : لِأَنَّ حَقَّ السُّلْطَانِ فِيهَا قَدْ سَقَطَ بِخَرَاجِهَا .
فَصْلٌ : فَأَمَّا تَفْسِيرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فِي أَوَّلِ الْبَابِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : " لَا أَعْرِفُ مَا أَقُولُهُ فِي أَرْضِ السَّوَادِ إِلَّا بِظَنٍّ مَقْرُونٍ إِلَى عِلْمٍ " فَقَدْ أُنْكِرَ هَذَا الْكَلَامُ عَلَى الشَّافِعِيِّ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَوْلُهُ : لَا أَعْرِفُ مَا أَقُولُ فِي أَرْضِ السَّوَادِ ، مَا أَحَدٌ بَدَأَ فِي كِتَابٍ فِي عِلْمٍ بِمِثْلِ هَذَا اللَّفْظِ : لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ شَيْئًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِإِثْبَاتِ حُكْمِهِ . وَالثَّانِي : قَوْلُهُ : إِلَّا بِظَنٍّ مَقْرُونٍ إِلَى عِلْمٍ ، وَالظَّنُّ شَكٌّ وَالْعِلْمُ يَقِينٌ ، وَهُمَا ضِدَّانِ فَكَيْفَ يَصِحُّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ ؟ . قِيلَ : أَمَّا قَوْلُهُ : لَا أَعْرِفُ مَا أَقُولُ فِي أَرْضِ السَّوَادِ : فَلِأَنَّ الطَّرِيقَ إِلَى الْعِلْمِ يَفْتَحُهَا النَّقْلُ الْمَرْوِيُّ ، وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْهُ ، فَرَوَى بَعْضُهُمْ أَنَّهَا فُتِحَتْ صُلْحًا ، وَرَوَى بَعْضُهُمْ أَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً ، وَرَوَى آخَرُونَ أَنَّ بَعْضَهَا فُتِحَ صُلْحًا ، وَبَعْضَهَا فُتِحَ عَنْوَةً .
وَهَذَا الِاخْتِلَافُ فِي النَّقْلِ يَمْنَعُ مِنَ الْأَخْذِ بِأَحَدِهَا إِلَّا بِدَلِيلٍ ، فَحَسُنَ أَنْ يَقُولَ : لَا أَعْرِفُ إِثْبَاتَ أَحَدِهِمَا ، وَإِنْ كُنْتُ أَعْرِفُ نَقْلَ جَمِيعِهَا . وَأَمَّا قَوْلُهُ : " إِلَّا بِظَنٍّ مَقْرُونٍ إِلَى عِلْمٍ " ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُرَادِهِ بِهِ عَلَى مَا هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى فَتْحِهَا أَوْ عَلَى حُكْمِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى فَتْحِهَا أَنَّهُ عَنْوَةٌ لَا صُلْحًا ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ قَوْلِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى حُكْمِهَا أَنَّهَا وَقْفٌ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِهِ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْمُرَادَ فَتْحُهَا ، فَفِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ : " إِلَّا بِظَنٍّ مَقْرُونٍ إِلَى عِلْمٍ " وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَرَادَ بِالظَّنِّ هُنَا الِاجْتِهَادَ الَّذِي هُوَ غَلَبَةُ الظَّنِّ ، وَأَرَادَ بِالْعِلْمِ الْخَبَرَ : لِأَنَّ جِنْسَ الْأَخْبَارِ قَدْ يُفْضِي إِلَى الْعِلْمِ ، فَكَأَنَّهُ تَوَصَّلَ بِاجْتِهَادِهِ وَغَلَبَةِ ظَنِّهِ إِلَى إِثْبَاتِ خَبَرِ جَرِيرٍ ، وَعَلِمَ مِنْ خَبَرِ جَرِيرٍ أَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الِاجْتِهَادَ وَغَلَبَةَ الظَّنِّ هُوَ فِيمَا خَفِيَ وَاشْتَبَهَ مَنْ سَبَبِ فَتْحِهَا ، وَالْعِلْمُ هُوَ فِيمَا ظَهَرَ وَانْتَشَرَ مِنْ قَسْمِهَا ، فَاسْتَدَلَّ بِظَاهِرِ الْقِسْمَةِ عَلَى بَاطِنِ الْعَنْوَةِ . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ حُكْمُهَا : لِأَنَّهَا وَقْفٌ ، فَفِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ : إِلَّا بِظَنٍّ مَقْرُونٍ إِلَى عِلْمٍ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْعِلْمَ مَا فَعَلَهُ عُمَرُ مِنَ اسْتِنْزَالِهِمْ عَنْهَا ، وَغَلَبَةَ الظَّنِّ فِيمَا حَكَمَ بِهِ مِنْ وَقْفِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّ الْعِلْمَ وَضْعُ الْخَرَاجِ عَلَيْهَا ، وَغَلَبَةَ الظَّنِّ فِي الْمَنْعِ مِنْ بَيْعِهَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَأَيُّ أَرْضٍ فُتِحَتْ صُلْحًا عَلَى أَنَّ أَرْضَهَا لِأَهْلِهَا يُؤَدُّونَ فِيهَا خَرَاجًا : فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَخْذُهَا مِنْ أَيْدِيهِمْ ، وَمَا أُخِذَ مِنْ خَرَاجِهَا فَهُوَ لِأَهْلِ الْفَيْءِ دُونَ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ : لِأَنَّهُ فَيْءٌ مِنْ مَالِ مُشْرِكٍ ، وَإِنَّمَا فَرَّقَ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَالْمَسَأَلةِ قَبْلَهَا أَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مِنْ مُشْرِكٍ فَقَدْ مَلَكَ الْمُسْلِمُونَ رَقَبَةَ الْأَرْضِ : أَفَلَيْسَ بِحَرَامٍ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ صَاحِبُ صَدَقَةٍ وَلَا صَاحِبُ فَيْءٍ وَلَا غَنِيٌّ وَلَا فَقِيرٌ : لِأَنَّهُ كَالصَّدَقَةِ الْمَوْقُوفَةِ يَأْخُذُهَا مَنْ وُقِفَتْ عَلَيْهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ مَا اسْتُولِيَ عَلَيْهِ مِنْ أَرْضِ بِلَادِ التُّرْكِ يَنْقَسِمُ عَلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ :
أَحَدُهَا : مَا فَتَحُوهُ عَنْوَةً وَاسْتَوْلَوْا عَلَيْهِ قَهْرًا ما فتحه المسلمون من البلاد عنوة ، فَهِيَ مِلْكٌ لِلْغَانِمِينَ تُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ قِسْمَةَ الْأَمْوَالِ بَعْدَ أَخْذِ خُمْسِهَا لِأَهْلِ الْخُمْسِ ، وَلِلْغَانِمِينَ أَنْ يَتَصَرَّفُوا فِيمَا قُسِّمَ لَهُمْ تَصَرُّفَ الْمَالِكِينَ بِالْبَيْعِ وَالرَّهْنِ وَالْهِبَةِ ، وَإِنْ خَالَفَ فِيهَا مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ خِلَافًا قَدَّمْنَاهُ ، وَتَكُونُ أَرْضَ عُشْرٍ لَا خَرَاجَ عَلَيْهَا إِلَّا أَنْ يَسْتَنْزِلَهُمُ الْإِمَامُ عَنْهَا كَالَّذِي فَعَلَهُ عُمَرُ ، فَيَكُونَ حُكْمًا عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فِي أَرْضِ السَّوَادِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا أَسْلَمَ عَلَيْهِ أَهْلُهُ من الأرض ، فَقَدْ صَارَتْ تِلْكَ الْأَرْضُ بِإِسْلَامِ أَهْلِهَا دَارَ إِسْلَامٍ ، وَأَرْضُهَا مَعْشُورَةٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يُوضَعَ عَلَيْهَا خَرَاجٌ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْإِمَامُ مُخَيَّرٌ فِيهَا بَيْنَ أَنْ يَجْعَلَهَا عُشْرًا أَوْ خَرَاجًا ، فَإِنْ جَعْلَهَا خَرَاجًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْقُلَهَا إِلَى الْعُشْرِ ، وَإِنْ جَعَلَهَا عُشْرًا جَازَ أَنْ يَنْقُلَهَا إِلَى الْخَرَاجِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : نَصٌّ وَتَعْلِيلٌ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ أَهْلَ الطَّائِفِ أَسْلَمُوا ، فَأَقَرَّهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَمْلَاكِهِمْ فِي أَرْضِهِمْ ، فَكَانَتْ أَرْضَ عُشْرٍ لَمْ يَضْرِبْ عَلَيْهَا خَرَاجًا . وَالثَّانِي : أَنَّ الْخَرَاجَ أَحَدُ الْجِزْيَتَيْنِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ مُسْلِمٍ كَالْجِزْيَةِ عَلَى الرُّءُوسِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا جَلَا عَنْهُ أَهْلُهُ مِنَ الْبِلَادِ خَوْفًا حَتَّى اسْتَوْلَى عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ ، فَأَرْضُهُمْ فِي مَخْمُوسٍ تُوقَفُ رِقَابُهَا ، وَيُصْرَفُ ارْتِفَاعُهَا مَصْرِفَ الْفَيْءِ ، فَإِنْ ضَرَبَ الْإِمَامُ عَلَيْهَا خَرَاجًا جَازَ ، وَكَانَ الْخَرَاجُ أُجْرَةً يُصْرَفُ مَصْرِفَ الْفَيْءِ ، فَيَكُونُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ بَعْدَ الْخُمْسِ مَصْرُوفًا إِلَى الْجَيْشِ خَاصَّةً ، وَفِي الْقَوْلِ الثَّانِي فِي جَمِيعِ الْمَصَالِحِ الَّتِي مِنْهَا أَرْزَاقُ الْجَيْشِ ، وَفِيمَا يَصِيرُ بِهِ وَقْفًا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَصِيرُ وَقْفًا بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا ، وَلَا يُرَاعَى فِيهَا لَفْظُ الْإِمَامِ بِوَقْفِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا تَصِيرُ وَقْفًا إِلَّا أَنْ يَتَلَفَّظَ الْإِمَامُ بِوَقْفِهَا . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : مَا صُولِحَ عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَرْضِهِمْ عَلَى أَنْ يَكُونَ مِلْكًا لِلْمُسْلِمِينَ بِخَرَاجٍ يُؤَدِّيهِ أَهْلُهَا إِلَى الْإِمَامِ ، فَهَذِهِ الْأَرْضُ فِي ذَلِكَ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا بِغَيْرِ إِيجَافِ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَتَصِيرُ وَقْفًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَدْ صَارَتْ وَقْفًا بِمُجَرَّدِ الصُّلْحِ . وَالثَّانِي : بِأَنْ يَتَلَفَّظَ الْإِمَامُ أَوْ مَنِ اسْتَنَابَهُ فِيهَا بِوَقْفِهَا ، وَتَصِيرُ الْأَرْضُ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا كَسَائِرِ الْوُقُوفِ ، وَلَا يَقَرُّ فِيهَا أَهْلُهَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَّا بِالْجِزْيَةِ الْمُؤَدَّاةِ عَنْ رُءُوسِهِمْ ، وَلَا تَسْقُطُ جِزْيَتُهُمْ بِخَرَاجِ أَرْضِهِمْ : لِأَنَّ خَرَاجَهَا أُجْرَةٌ لَا جِزْيَةٌ . فَإِنِ انْتَقَلَتْ إِلَى يَدِ مُسْلِمٍ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ خَرَاجُهَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَسْلَمَ أَهْلُهَا .
وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ : وَهُوَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ أَنْ يُصَالِحُوا عَلَى الْأَرَضِينَ لَهُمْ بِخَرَاجٍ يُؤَدُّونَهُ عَنْهَا ، فَيَجُوزُ وَيَكُونُ هَذَا الْخَرَاجُ جِزْيَةً ، وَالْأَمْلَاكُ طَلْقٌ يَجُوزُ بَيْعُهَا ، وَيُنْظَرُ فِي بِلَادِهَا ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَوْطِنْهَا الْمُسْلِمُونَ ، فَهِيَ دَارُ عَهْدٍ ، وَلَيْسَتْ دَارَ إِسْلَامٍ ، وَلَا دَارَ حَرْبٍ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقِرَّ أَهْلُهَا بِالْخَرَاجِ مِنْ غَيْرِ جِزْيَةِ رُءُوسِهِمْ ، وَلَا يَجْرِي عَلَيْهَا مِنْ أَحْكَامِنَا إِلَّا مَا يَجْرِي عَلَى الْمُعَاهِدِينَ دُونَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْمُسْلِمِينَ ، وَإِنِ اسْتَوْطَنَهَا الْمُسْلِمُونَ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا صَارَتْ دَارَ إِسْلَامٍ ، وَصَارَ الْمُشْرِكُونَ فِيهَا أَهْلَ ذِمَّةٍ يَجِبُ عَلَيْهِمْ جِزْيَةُ رُءُوسِهِمْ فَإِنْ جَمَعَ عَلَيْهِمْ بَيْنَ جِزْيَةِ رُءُوسِهِمْ وَبَيْنَ جِزْيَةِ أَرْضِهِمَا جَازَ ، وَإِنِ اقْتَصَرَ مِنْهُمْ عَلَى جِزْيَةِ أَرْضِهِمْ وَحْدَهَا جَازَ إِذَا بَلَغَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِهَا دِينَارًا فَصَاعِدًا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجِبُ أَنْ يَجْمَعَ عَلَيْهِمْ بَيْنَ جِزْيَةِ رُءُوسِهِمْ وَجِزْيَةِ أَرْضِهِمْ ، وَلَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى جِزْيَةِ الْأَرْضِ وَحْدَهَا ، وَهَذَا فَسَادٌ : لِأَنَّ الْجِزْيَةَ وَاحِدَةٌ لَا يَجُوزُ مُضَاعَفَتُهَا عَلَى ذِي مَالٍ وَلَا غَيْرِهِ كَسَائِرِ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، فَإِنْ أَسْلَمُوا سَقَطَتْ عَنْهُمْ جِزْيَةُ رُءُوسِهِمْ وَجِزْيَةُ أَرْضِهِمْ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا تَسْقُطُ عَنْهُمْ جِزْيَةُ أَرْضِهِمْ بِالْإِسْلَامِ احْتِجَاجًا لَا خَرَاجَ عَنْ أَرْضٍ ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْإِسْلَامِ كَالْخَرَاجِ عَلَى سَوَادِ الْعِرَاقِ . وَدَلِيلُنَا : مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : لَا يَنْبَغِي لِمُسْلِمٍ أَنْ يُؤَدِّيَ الْخَرَاجَ ، وَلَا لِمُشْرِكٍ أَنْ يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ حُقِنَتْ بِهِ دِمَاؤُهُمْ فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ بِإِسْلَامِهِمْ كَالْجِزْيَةِ عَلَى الرُّءُوسِ . فَأَمَّا خَرَاجُ أَرْضِ السَّوَادِ فَلَيْسَ بِجِزْيَةٍ ، وَهُوَ أُجْرَةُ أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ، وَثَمَنٌ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِيهِ ، فَافْتَرَقَا ، وَهَكَذَا لَوْ بَاعُوا أَرْضَهُمْ عَلَى مُسْلِمٍ سَقَطَ خَرَاجُهَا عَنْهُ كَمَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِإِسْلَامِهِمْ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا بَأْسَ أَنْ يَكْتَرِيَ الْمُسْلِمُ مِنْ أَرْضِ الصُّلْحِ كَمَا يَكْتَرِي دَوَابَّهُمْ ، وَالْحَدِيثُ الَذِي جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَنْبَغِي لِمُسْلِمٍ أَنْ يُؤَدِّيَ الْخَرَاجَ وَلَا لِمُشْرِكٍ أَنْ يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنَّمَا هُوَ خَرَاجُ الْجِزْيَةِ وَهَذَا كِرَاءٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا كَانَتْ أَرْضُ الصُّلْحِ مِلْكًا لِلْمُشْرِكِينَ ، وَعَلَيْهَا خَرَاجٌ لِلْمُسْلِمِينَ جَازَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَسْتَأْجِرَهَا مِنْهُمِ ، وَلَا يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ وَكَرِهَهُ الْإِسْلَامُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَا يَنْبَغِي لِمُسْلِمٍ أَنْ يُؤَدِّيَ الْخَرَاجَ ، وَلَا لِمُشْرِكٍ أَنْ يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ " .
وَدَلِيلُنَا عَلَى إِبَاحَتِهِ وَعَدَمِ كَرَاهَتِهِ : مَا رُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - اسْتَأْجَرَ قِطْعَةً كَبِيرَةً مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَلَيْسَ يُعْرَفُ لَهُمْ مُخَالِفٌ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُكْرَهْ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مِنْهُمْ غَيْرَ الْأَرْضِينَ مِنَ الدَّوَابِّ وَالْآلَاتِ لَمْ يُكْرَهْ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مِنْهُمُ الْأَرْضِينَ . فَأَمَّا الْخَبَرُ فَلَا دَلِيلَ فِيهِ : لِأَنَّ الْخَرَاجَ يُؤْخَذُ مِنْ مُؤَجِّرِهَا ، وَالْأُجْرَةَ تُؤْخَذُ مِنْ مُسْتَأْجِرِهَا ، فَإِنْ شَرَطَ الْخَرَاجَ عَلَى مُسْتَأْجِرِهَا صَحَّ إِنْ كَانَ مَعْلُومًا ، وَكَانَ أُجْرَةً فِي حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ وَخَرَاجًا فِي حَقِّ الْمُؤَجِّرِ .
فَصْلٌ : فَإِنْ بَاعَ الْمُشْرِكُ أَرْضَهُ التي عليها خراج ، هل يصح بيعه ؟ هَذِهِ عَلَى مُشْرِكٍ صَحَّ ، وَكَانَ خَرَاجُهَا بَاقِيًا ، وَإِنْ بَاعَهَا عَلَى مُسْلِمٍ صَحَّ الْبَيْعُ ، وَسَقَطَ الْخَرَاجُ بِانْتِقَالِهَا إِلَى مِلْكِ الْمُسْلِمِ كَمَا لَوْ كَانَ مَالِكُهَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَدْ أَسْلَمَ . وَقَالَ : بَيْعُهَا عَلَى الْمُسْلِمِ بَاطِلٌ : لِأَنَّهُ مُفْضٍ إِلَى سُقُوطِهِ مَا اسْتَحَقَّهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا مِنَ الْخَرَاجِ ، وَهَذَا بَاطِلٌ ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [ الْبَقَرَةِ : 275 ] . وَلِأَنَّ كُلَّ مَا صَحَّ بَيْعُهُ مِنْ مُسْلِمٍ صَحَّ بَيْعُهُ مِنْ مُشْرِكٍ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ ، وَلِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَوْ بَاعَ أَرْضَهُ عَلَى مُسْلِمٍ صَحَّ ، وَإِنْ أَفْضَى إِلَى إِسْقَاطِ الْعُشْرِ ، فَلِأَنْ يَجُوزَ بَيْعُ أَرْضِ الْمُشْرِكِ عَلَى الْمُسْلِمِ وَإِنْ أَفْضَى إِلَى إِسْقَاطِ الْخَرَاجِ أَوْلَى ، وَفِيهِ انْفِصَالٌ ، فَإِذَا ثَبَتَ صِحَّةُ الْبَيْعِ وَسُقُوطُ الْخَرَاجِ ، فَقَدْ قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : يَرْجِعُ الْإِمَامُ بِمَا سَقَطَ مِنْ خَرَاجِهَا عَلَى أَهْلِ الصُّلْحِ ، فَإِنْ بَذَلُوهُ وَإِلَّا نَبَذَ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ ، وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ خَرَاجُ أَمْلَاكِهِمْ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُمْ خَرَاجُ مَا خَرَجَ عَنْ أَمْلَاكِهِمْ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ سُقُوطُ خَرَاجِهَا بِإِسْلَامِ مَالِكِهَا لَا يَقْتَضِي الرُّجُوعَ عَلَيْهَا بِخَرَاجِهَا كَانَ بِإِسْلَامِ غَيْرِهِ أَوْلَى ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ الْأَسِيرِ يُؤْخَذُ عَلَيْهِ الْعَهْدُ أَنْ لَا يَهْرُبَ أَوْ عَلَى الْفِدَاءِ
أُسِرَ الْمُسْلِمُ فَأَحْلَفَهُ الْمُشْرِكُونَ عَلَى أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ بِلَادِهِمْ إِلَّا أَنْ يُخْلُوهُ
بَابُ الْأَسِيرِ يُؤْخَذُ عَلَيْهِ الْعَهْدُ أَنْ لَا يَهْرُبَ ، أَوْ عَلَى الْفِدَاءِ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : " وَإِذَا أُسِرَ الْمُسْلِمُ فَأَحْلَفَهُ الْمُشْرِكُونَ عَلَى أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ بِلَادِهِمْ إِلَّا أَنْ يُخْلُوهُ فَلَهُ أَنْ يَخْرُجَ لَا يَسَعُهُ أَنْ يُقِيمَ وَيَمِينُهُ يَمِينُ مُكْرَهٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَمُقَدِّمَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هِجْرَةُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ فِيهَا مُمْتَنِعًا أَوْ مُسْتَضْعَفًا ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا مُسْتَضْعَفًا لَا يَأْمَنُ أَهْلَهَا عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ ، وَجَبَ عَلَيْهِ إِذَا قَدَرَ عَلَى الْهِجْرَةِ أَنْ يُهَاجِرَ مِنْهَا إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا الْآيَةَ ، [ النِّسَاءِ : 97 ] . فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْهِجْرَةِ ، وَلِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْرِكٍ قِيلَ : وَلِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : لَا تَرَاءَا نَارَاهُمَا ، يَعْنِي تُنْظَرُ نَارُهُ إِلَى نَارِهِ فَيَكْثُرُ سَوَادُ الْمُشْرِكِينَ . وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : مَنْ كَثَّرَ سَوَادَ قَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ " ، وَلِأَنَّهُ لَا يَأَمَنُ أَنْ يُفْتَنَ عَنْ دِينِهِ أَوْ تُسْبَى الدَّارُ فَيُسْتَرَقُّ وَلَدُهُ ، فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الْهِجْرَةِ لِضَعْفِهِ كَانَ مَعْذُورًا فِي التَّأَخُّرِ عَنِ الْهِجْرَةِ حَتَّى يَقْدِرَ عَلَيْهَا ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا [ النِّسَاءِ : 98 ، 99 ] . فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمُسْلِمُ فِي دَارِ الْحَرْبِ مُمْتَنِعًا فِي أَهْلٍ وَعَشِيرَةٍ هل تجب عليه الهجرة ؟ ، فَإِنْ لَمْ يَأْمَنِ الِافْتِتَانَ عَنْ دِينِهِ كَانَ فَرْضُ الْهِجْرَةِ بَاقِيًا عَلَيْهِ . وَإِنْ أَمِنَ الِافْتِتَانَ فِي دِينِهِ سَقَطَ فَرْضُ الْهِجْرَةِ عَنْهُ لِاخْتِصَاصِ وُجُوبِهَا نَصًّا بِالْمُسْتَضْعَفِينَ وَكَانَ مُقَامُهُ بَيْنَهُمْ مَكْرُوهًا : لِأَنَّ الْمُقَامَ عَلَى مُشَاهَدَةِ الْمُنْكَرَاتِ مُنْكَرٌ ، وَالْإِقْرَارَ عَلَى الْبَاطِلِ مَعْصِيَةٌ : لِأَنَّهَا تَبْعَثُ عَلَى الرِّضَا ، وَتُفْضِي إِلَى الْوَلَاءِ . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [ الْمَائِدَةِ : 51 ] .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ حُكْمُ الْهِجْرَةِ فِيمَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ ، فَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْمُسْلِمِ إِذَا أَسَرَهُ أَهْلُ الْحَرْبِ ، فَالْأَسِيرُ مُسْتَضْعَفٌ تَكُونُ الْهِجْرَةُ عَلَيْهِ إِذَا قَدَرَ عَلَيْهَا فَرْضًا ، ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَغْتَالَهُمْ فِي نُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ، وَيُقَاتِلَهُمْ إِنْ أَدْرَكُوهُ هَارِبًا ، فَإِنْ أَطْلَقُوهُ وَأَحْلَفُوهُ أَنْ يُقِيمَ بَيْنَهُمْ ، وَلَا يَخْرُجَ عَنْهُمْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ عَنْهُمْ مُهَاجِرًا ، وَلَمْ تَمْنَعْهُ الْيَمِينُ مِنَ الْخُرُوجِ الْمَفْرُوضِ ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ ، فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا ، فَلْيَأْتِ الَذِي هُوَ خَيْرٌ ، وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ . فَأَمَّا حِنْثُهُ فِي يَمِينِهِ إِذَا خَرَجَ يمين الأسير ، فَمُعْتَبَرٌ بِحَالِ إِحْلَافِهِ ، وَلَهُ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَبْدَءُوا بِهِ ، فَيُحَلِّفُوهُ فِي حَبْسِهِ قَبْلَ إِطْلَاقِهِ أَنَّهُمْ إِذَا أَطْلَقُوهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْهُمْ ، فَهَذِهِ يَمِينُ مُكْرَهٍ لَا يَلْزَمُهُ الْحِنْثُ فِيهَا . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُطْلِقُوهُ عَلَى غَيْرِ يَمِينٍ ، فَيَحْلِفَ لَهُمْ بَعْدَ إِطْلَاقِهِ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْهُمْ ، فَهَذِهِ يَمِينُ مُخْتَارٍ يَحْنَثُ فِيهَا إِذَا خَرَجَ ، وَكَانَ الْتِزَامُهُ لِلْحِنْثِ مُسْتَحَقًّا . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَبْتَدِئَ قَبْلَ إِطْلَاقِهِ ، فَيَتَبَرَّعَ بِالْيَمِينِ ، أَنَّهُمْ إِنْ أَطْلَقُوهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْهُمْ . فَفِي يَمِينِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا يَمِينُ اخْتِيَارٍ يَحْنَثُ فِيهَا لِابْتِدَائِهِ بِهَا ، كَمَا لَوْ حَلَفَ مُطْلَقًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا يَمِينُ إِكْرَاهٍ لَا يَحْنَثُ فِيهَا : لِأَنَّهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْخُرُوجِ مِنَ الْحَبْسِ إِلَّا بِهَا كَمَا لَوْ أَحْلَفُوهُ مَحْبُوسًا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَغْتَالَهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ لِأَنَّهُمْ إِذَا أَمَّنُوهُ فَهُمْ فِي أَمَانٍ مِنْهُ وَلَوْ حَلَفَ وَهُوَ مُطْلَقٌ كَفَّرَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ لِلْأَسِيرِ إِذَا أُطْلِقَ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَرْبَعَةَ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُؤَمِّنُوهُ وَيَسْتَأْمِنُوهُ يأمن المشركون الأسير المسلم ، فَيَحْرُمَ عَلَيْهِ بَعْدَ اسْتِئْمَانِهِمْ لَهُ أَنْ يَغْتَالَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [ الْمَائِدَةِ : ا ] . إِلَّا أَنْ يَنْقُضُوا أَمَانَهُمْ لَهُ ، فَيَنْتَقِدَ بِهِ أَمَانُهُ لَهُمْ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ [ الْأَنْفَالِ : 58 ] . وَلَوِ اسْتَرَقُّوهُ بَعْدَ أَمَانِهِمْ كَانَ الِاسْتِرْقَاقُ نَقْضًا لِأَمَانِهِمْ وَاسْتِئْمَانِهِمْ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ لَا يُؤَمِّنُوهُ وَلَا يَسْتَأْمِنُوهُ أن لا يأمن المشركون الأسير المسلم ، فَلَا يَكُونُ الْإِطْلَاقُ اسْتِئْمَانًا كَمَا لَمْ يَكُنْ أَمَانًا ، وَيَجُوزُ أَنْ يَغْتَالَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ، وَلَوْ أَطْلَقُوهُ بَعْدَ أَنِ اسْتَرَقُّوهُ لَمْ يَكُنِ الِاسْتِرْقَاقُ أَمَانًا فِيهِمْ وَلَا أَمَانًا لَهُمْ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَسْتَأْمِنُوهُ ، وَلَا يُؤَمِّنُوهُ الأسير المسلم ، فَيُنْظَرَ ، فَإِنْ كَانَ لَا يَخَافُهُمْ إِمَّا لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْخُرُوجِ ، وَإِمَّا لِثِقَتِهِ بِكَفِّهِمْ عَنْهُ ، فَهُمْ عَلَى أَمَانِهِمْ مِنْهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَغْتَالَهُمْ فِي نَفْسٍ
وَلَا مَالَ ، وَإِنْ لَمْ يَأْمَنْهُمْ ، فَلَا أَمَانَ لَهُمْ ، وَيَجُوزُ لَهُ اغْتِيَالُهُمْ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ ، [ الْأَنْفَالِ : 58 ] . وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يُؤَمِّنُوهُ وَلَا يَسْتَأْمِنُوهُ الأسير المسلم ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ - إِنَّهُمْ لَا أَمَانَ لَهُمْ مِنْهُ ، وَإِنْ عَقَدُوا لَهُ أَمَانًا مِنْهُمْ : لِأَنَّ تَرْكَهُمْ لِاسْتِئْمَانِهِ قِلَّةُ رَغْبَةٍ فِي أَمَانِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : - وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، وَقَوْلِ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ - إِنَّهُ قَدْ صَارَ لَهُمْ بِأَمَانِهِمْ لَهُ أَمَانٌ مِنْهُ ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَأْمِنُوهُ ، لِمَا يُوجِبْهُ عَقْدُ الْأَمَانِ مِنَ التَّكَافُؤِ فِيهِ .
أَطْلَقَ أَهْلُ الْحَرْبِ أَسِيرًا عَلَى اشْتِرَاطِ فِدَاءٍ يَحْمِلُهُ إِلَيْهِمْ فَإِنْ حَمَلَهُ وَإِلَّا عَادَ إِلَيْهِمْ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ خَلَّوْهُ عَلَى فِدَاءٍ إِلَى وَقْتٍ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ عَادَ إِلَى أَسْرِهِمْ : فَلَا يَعُودُ ، وَلَا يَدَعُهُ الْإِمَامُ أَنْ يَعُودَ ، وَلَوِ امْتَنَعُوا مِنْ تَخْلِيَتِهِ إِلَّا عَلَى مَالٍ يُعْطِيهِمُوهُ فَلَا يُعْطِيهِمْ مِنْهُ شَيْئًا : لِأَنَّهُ مَالٌ أَكْرَهُوهُ عَلَى دَفْعِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا أَطْلَقَ أَهْلُ الْحَرْبِ أَسِيرًا عَلَى اشْتِرَاطِ فِدَاءٍ يَحْمِلُهُ إِلَيْهِمْ ، فَإِنْ حَمَلَهُ ، وَإِلَّا عَادَ إِلَيْهِمْ ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ حَمْلُ الْفِدَاءِ ، وَلَا الْعَوْدُ إِلَيْهِمْ ، وَيَكُونُ الشَّرْطَانِ بَاطِلَيْنِ . وَقَالَ الزُّهْرِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ : الشَّرْطَانِ وَاجِبَانِ ، فَيُؤْخَذُ بِحَمْلِ الْمَالِ إِلَيْهِمْ ، فَإِنْ حَمَلَهُ ، وَإِلَّا أَخَذَ بِالْعَوْدِ إِلَيْهِمْ . وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخْعِيُّ ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ : اشْتِرَاطُ الْفِدَاءِ لَازِمٌ ، وَاشْتِرَاطُ الْعَوْدِ بَاطِلٌ . وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَقَدَ صُلْحَ الْحُدَيْبِيَةِ مَعَ قُرَيْشٍ عَلَى أَنَّهُ يَرُدُّ إِلَيْهِمْ مَنْ جَاءَ مُسْلِمًا مِنْهُمْ ، فَجَاءَهُ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سَهْلِ بْنِ عَمْرٍو مُسْلِمًا ، فَرَدَّهُ إِلَى أَبِيهِ ، وَجَاءَهُ أَبُو بَصِيرٍ مُسْلِمًا ، فَرَدَّهُ إِلَيْهِمْ مَعَ رَسُولٍ لَهُمْ ، فَقَتَلَ الرَّسُولَ ، وَعَادَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَدْ وَفَّيْتُ لَهُمْ ، وَنَجَّانِي اللَّهُ مِنْهُمْ ، فَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِ . وَدَلِيلُنَا : مَا رُوِيَ أَنَّ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ ، قَدِمَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ مُسْلِمَةً ، وَجَاءَ أَخَوَاهَا فِي طَلَبِهَا ، فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رَدِّهَا إِلَيْهِمْ ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ [ الْمُمْتَحَنَةِ : 15 ] . وَلِأَنَّ الْمُعَاوَضَةَ عَنْ رَقَبَةِ الْحُرِّ لَا تَصِحُّ ، فَبَطَلَ الْفِدَاءُ ، وَسَقَطَ الْمَالُ . وَالْهِجْرَةُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ وَاجِبَةٌ ، وَالْعَوْدُ إِلَيْهَا مَعْصِيَةٌ ، فَلَمْ يَجُزِ الْعَوْدُ .
فَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي جَنْدَلٍ ، وَأَبِي بَصِيرٍ ، فَهُوَ مَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ أُمِّ كُلْثُومٍ ، وَعَلَى أَنَّهُمَا كَانَا ذَوِي عِشْرَةٍ طُلِبَا رَغْبَةً فِيهِمَا ، وَإِشْفَاقًا عَلَيْهِمَا ، فَخَالَفَا مَنْ عَدَاهُمَا .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ سُقُوطُ الْفِدَاءِ ، وَتَحْرِيمُ الْعَوْدِ ، فَالْوَفَاءُ لَهُمْ بِالْفِدَاءِ مُسْتَحَبٌّ ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ ، لِيَكُونَ ذَرِيعَةً إِلَى إِطْلَاقِ الْأَسْرَى . وَالْوَفَاءُ بِالْعَوْدِ لمن أطلق على أن يأتيهم بفداء مَحْظُورٌ ، لَا يَجِبُ ، وَلَا يُسْتَحَبُّ لِمَا فِيهِ مِنَ الْخَوْفِ عَلَى نَفْسِهِ وَدِينِهِ . فَإِنِ افْتَدَى نَفْسَهُ بِمَالِهِ سَاقَهُ إِلَيْهِمْ ، ثُمَّ غَنِمَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ بَذْلُهُ لَهُمْ مُبْتَدِئًا كَانَ ذَلِكَ الْمَالُ مَغْنُومًا ، وَإِنْ شَرَطُوهُ عَلَى إِطْلَاقِهِ ، كَانَ ذَلِكَ الْحَالُ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِهِ ، وَيَكُونُ أَحَقَّ مِنَ الْغَانِمِينَ بِهِ . وَهَكَذَا إِذَا افْتَدَى الْإِمَامُ أَسْرَى فِي دَارِ الْحَرْبِ بِمَالِهِ سَاقَهُ إِلَيْهِمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ، ثُمَّ غَنِمَ ذَلِكَ الْمَالَ مِنْهُمْ ، لَمْ يَمْلِكْهُ الْغَانِمُونَ عَنْهُمْ : لِأَنَّهُ مَالُ الْمُسْلِمِينَ صَارَ إِلَيْهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ ، فَوَجَبَ أَنْ يَعُودَ إِلَى حَقِّهِ فِي بَيْتِ الْمَالِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ أَعْطَاهُمُوهُ عَلَى شَيْءٍ أَخَذَهُ مِنْهُمْ لَمْ يَحِلَّ لَهُ إِلَّا أَدَاؤُهُ إِلَيْهِمْ إِنَّمَا أَطْرَحُ عَنْهُ مَا اسْتُكْرِهَ عَلَيْهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا ابْتَاعَ الْأَسِيرُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ مَالًا بِثَمَنٍ أَطْلَقُوهُ عَلَيْهِ ، لِيَحْمِلَهُ إِلَيْهِمْ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ ، لَمْ يَخْلُ ابْتِيَاعُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَنْ مُرَاضَاةٍ أَوْ إِكْرَاهٍ . فَإِنْ كَانَ عَنْ مُرَاضَاةٍ لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِهِ ، وَحَمَلَ الثَّمَنَ إِلَيْهِمْ : لِأَنَّ الْعُقُودَ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَازِمَةٌ ، كَلُزُومِهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَلِذَلِكَ كَانَ تَحْرِيمُ الرِّبَا فِي الدَّارَيْنِ سَوَاءً ، وَإِنْ كَانَ عَنْ إِكْرَاهٍ فَعَقْدُ الْمُكْرَهِ بَاطِلٌ ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ الْمَالِ : لِأَنَّهُ قَبَضَهُ عِنْدَ اسْتِئْمَانٍ ، وَفِيمَا يَلْزَمُهُ مِنْ رَدِّهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَلْزَمُهُ رَدُّ مَا ابْتَاعَهُ لِفَسَادِ الْعَقْدِ ، وَضَمَانِهِ الرَّدَّ ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ - أَنَّهُ يَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ رَدِّ مَا ابْتَاعَهُ مِنْهُمْ : لِأَنَّهُ عَيْنُ مَالِهِمْ ، وَبَيْنَ دَفْعِ ثَمَنِهِ : لِأَنَّهُمْ قَدِ امْتَنَعُوا بِهِ ، فَلَوْ تَلِفَ مِنْهُ مَا ابْتَاعَهُ نُظِرَ فِي تَلَفِهِ . فَإِنْ كَانَ بِفِعْلِهِ ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ ، وَإِنْ تَلِفَ بِغَيْرِ فِعْلِهِ اعْتُبِرَ حَالُ قَبْضِهِ مِنْهُمْ ، فَإِنْ كَانَ بِاخْتِيَارِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ ، وَإِنْ كَانَ مُكْرَهًا عَلَيْهِ لَمْ يَضْمَنْهُ . وَفِي ضَمَانِهِ إِذَا لَزِمَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : قِيمَتُهُ إِذَا قِيلَ : إِنَّ الْوَاجِبَ رَدُّ عَيْنِهِ . وَالثَّانِي : يَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْقِيمَةِ وَالثَّمَنِ إِذَا قِيلَ مَعَ بَقَائِهِ : إِنَّهُ مُخَيَّرٌ فِيهِمَا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِذَا قُدِّمَ لِيُقْتَلَ لَمْ يَجُزْ لَهُ مِنْ مَالِهِ إِلَّا الثُّلُثُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْأَسِيرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ ، إِذَا وَهَبَا مَالًا وَأَعْطَيَا عَطَايَا لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ هِبَاتُهُمَا وَعَطَايَاهُمَا قَبْلَ تَقْدِيمِهِمَا لِلْقَتْلِ وَالْقِصَاصِ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ رُءُوسِ أَمْوَالِهِمْ دُونَ الثُّلُثِ : لِأَنَّ السَّلَامَةَ عَلَيْهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ أَغْلَبُ مِنَ الْخَوْفِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ عَطَايَاهُمَا بَعْدَ تَقْدِيمِهِمَا لِلْقَتْلِ وَالْقِصَاصِ ، وَوُقُوعِ الْجُرْحِ بِهِمَا ، وَإِنْهَارِ دَمِهِمَا ، فَيَكُونَ مِنَ الثُّلُثِ لَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ : لِأَنَّ الْخَوْفَ عَلَيْهِمَا بَعْدَ الْجُرْحِ أَغْلَبُ ، وَالسَّلَامَةَ فِيهَا نَادِرَةٌ ، فَأَجْرَى عَلَيْهِمَا فِي الْحَيَاةِ حُكْمَ الْوَصَايَا بَعْدَ الْمَوْتِ ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ، [ آلِ عِمْرَانَ : 143 ] . فَأَجْرَى عَلَيْهِمَا عِنْدَ حُضُورِ أَسْبَابِ الْمَوْتِ حُكْمَ الْمَوْتِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ عَطَايَاهُمَا بَعْدَ تَقْدِيمِهِمَا لِلْقَتْلِ وَالْقِصَاصِ ، وَقَبْلَ وُقُوعِ الْجُرْحِ بِهِمَا ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأَسِيرِ : تَكُونُ عَطَايَاهُ مِنَ الثُّلُثِ ، فَجَعَلَ الْخَوْفَ عَلَيْهِ أَغْلَبَ ، وَقَالَ فِي الْمُقْتَصِّ مِنْهُ : تَكُونُ عَطَايَاهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ دُونَ الثُّلُثِ ، فَجَعَلَ السَّلَامَةَ عَلَيْهِ أَغْلَبَ ، فَخَالَفَ بَيْنَهُمَا فِي الْجَوَازِ مَعَ اتِّفَاقِهِمَا فِي الصُّورَةِ . فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ - إِنْ جَمَعَ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ وَجَمَعَ اخْتِلَافَ الْجَوَابَيْنِ وَخَرَّجَهُمَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تَكُونُ عَطَايَاهُمَا مِنَ الثُّلُثِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأَسِيرِ : لِأَنَّ الْخَوْفَ عَلَيْهِمَا أَرْجَى مِنَ الْخَوْفِ عَلَى الْمَرِيضِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : تَكُونُ عَطَايَاهُمَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمُقْتَصِّ مِنْهُ بِخِلَافِ الْمَرِيضِ مَا لَمْ يَقَعْ بِهِ جُرْحٌ : لِأَنَّ سَبَبَ الْمَوْتِ حَالٌ فِي بَدَنِ الْمَرِيضِ ، وَلَيْسَ بِحَالٍ فِي بَدَنِ الْأَسِيرِ وَالْمُقْتَصِّ مِنْهُ ، فَهَذَا وَجْهٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْجَوَابَ عَلَى ظَاهِرِهِ فِيهِمَا ، فَتَكُونُ عَطَايَا الْأَسِيرِ مِنَ الثُّلُثِ ، وَعَطَايَا الْمُقْتَصِّ مِنْهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ ، وَيَكُونُ الْأَسِيرُ أَخْوَفَ حَالًا مِنْهُ : لِأَنَّهُ مَعَ أَعْدَائِهِ
فِي الدِّينِ يَرَوْنَ قَتْلَهُ تَدَيُّنًا وَقُرْبَةً ، وَالْمُقْتَصُّ مِنْهُ مَعَ مُوَافِقِينَ فِيهِ وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ ، وَنَدَبَهُمْ إِلَى الْعَفْوِ مَعَ الْمَقْدِرَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنْ تَغْلِبَ شَوَاهِدُ الْحَالِ فِيهِمَا ، فَإِنْ شُوهِدَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي الْأَسِيرِ رِقَّةٌ وَلِينٌ كَانَتْ عَطَايَاهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ ، وَإِنْ لَمْ يُشَاهَدْ ذَلِكَ كَانَتْ مِنَ الثُّلُثِ . وَإِنْ شُوهِدَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْقِصَاصِ غِلْظَةٌ وَحَنَقٌ ، كَانَتْ عَطَايَاهُ مِنَ الثُّلُثِ ، وَإِنْ لَمْ يُشَاهَدْ ذَلِكَ كَانَتْ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ ، وَهَذَا مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْوَصَايَا مِنَ التَّفْرِيعِ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، فِيمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ فِي الْحِرَابَةِ ، وَالرَّجْمُ فِي الزِّنَا ، وَالْحَامِلُ إِذَا ضَرَبَهَا الطَّلْقُ ، وَرَاكِبُ الْبَحْرِ إِذَا اشْتَدَّ بِهِ الرِّيحُ ، وَالْمُلْتَحِمُ فِي الْقِتَالِ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ مَا أَغْنَى عَنِ الْإِعَادَةِ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .
بَابُ إِظْهَارِ دِينِ النَّبِيِّ عَلَى الْأَدْيَانِ كُلِّهَا
بَابُ إِظْهَارِ دِينِ النَّبِيِّ عَلَى الْأَدْيَانِ كُلِّهَا مِنْ كِتَابِ الْجِزْيَةِ قَالَ الشَّافِعِيُّ : - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ . وَرُوِيَ مُسْنَدًا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : إِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ ، وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، ( وَقَالَ ) : وَلَمَّا أَتَى كِتَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى كِسْرَى مَزَّقَهُ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : يُمَزَّقُ مُلْكُهُ قَالَ : وَحَفِظْنَا أَنَّ قَيْصَرَ أَكْرَمَ كِتَابَهُ وَوَضَعَهُ فِي مِسْكٍ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُثَبَّتُ مُلْكُهُ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - : وَوَعَدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّاسَ فَتْحَ فَارِسَ وَالشَّامِ ، فَأَغْزَى أَبُو بَكْرٍ الشَّامَ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ فَتْحِهَا لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَفَتَحَ بَعْضَهَا وَتَمَّ فَتْحُهَا فِي زَمَنِ عُمَرَ ، وَفَتَحَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْعِرَاقَ وَفَارِسَ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : فَقَدْ أَظْهَرَ اللَّهُ دِينَ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ بِأَنْ أَبَانَ لِكُلِّ مَنْ تَبِعَهُ أَنَّهُ الْحَقُّ وَمَا خَالَفَهُ مِنَ الْأَدْيَانِ فَبَاطِلٌ ، وَأَظْهَرَهُ بِأَنَّ جِمَاعَ الشِّرْكِ دِينَانِ : دِينُ أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَدِينُ الْأُمِّيِّينَ فَقَهَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأُمَّتَيْنِ حَتَّى دَانُوا بِالْإِسْلَامِ طَوْعًا وَكَرْهًا ، وَقَتَلَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَسَبَى حَتَّى دَانَ بَعْضُهُمْ بِالْإِسْلَامِ وَأَعْطَى بَعْضٌ الْجِزْيَةِ صَاغِرِينَ ، وَجَرَى عَلَيْهِمْ حُكْمَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : فَهَذَا ظُهُورُهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ، قَالَ : وَيُقَالُ وَيَظْهَرُ دِينُهُ عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ حَتَّى لَا يُدَانَ لِلَّهِ إِلَّا بِهِ ، وَذِلِكَ مَتَى شَاءَ اللَّهُ ( قَالَ ) : وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَنْتَابُ الشَّامَ انْتِيَابًا كَثِيرًا ، وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْ مَعَاشِهِمْ مِنْهُ ، وَتَأْتِي الْعِرَاقَ ، فَلَمَّا دَخَلَتْ فِي الْإِسْلَامِ ذَكَرَتْ لِلنَّبِيَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَوْفَهَا مِنَ انْقِطَاعِ مَعَاشِهَا بِالتِّجَارَةِ مِنَ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ إِذَا فَارَقَتِ الْكُفْرَ وَدَخَلَتْ فِي الْإِسْلَامِ ، مَعَ خِلَافِ مُلْكِ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : إِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ ، فَلَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ الْعِرَاقَ كِسْرَى ثَبَتَ لَهُ أَمْرٌ بَعْدَهُ ، وَقَالَ إِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ ، فَلَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ الشَّامِ قَيْصَرُ بَعْدَهُ وَأَجَابَهُمْ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى نَحْوِ مَا قَالُوا وَكَانَ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَقَطَعَ اللَّهُ الْأَكَاسِرَةَ عَنِ الْعِرَاقِ وَفَارِسَ وَقَيْصَرَ وَمَنْ قَامَ بَعْدَهُ بِالشَّامِ ، وَقَالَ فِي قَيْصَرَ : يُثَبَّتُ مُلْكُهُ ، فَثَبَتَ لَهُ مُلْكُهُ بِبِلَادِ الرُّومِ ، وَتَنَحَّى مُلْكُهُ عَنِ الشَّامِ وَكُلُّ هَذَا مُتَّفَقٌ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا " .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا الْبَابُ أَوْرَدَهُ الشَّافِعِيُّ ، وَلَيْسَ مِنَ الْفِقْهِ ، لِيُوَضِّحَ بِهِ صِدْقَ اللَّهِ تَعَالَى فِي وَعْدِهِ ، وَصِدْقَ رَسُولِهِ فِي خَبَرِهِ ، لِيَرُدَّ بِهِ عَلَى مَنِ ارْتَابَ بِهِمَا ، فَصَارَ تَالِيًا لِلسِّيَرِ . فَأَمَّا كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى ، فَقَالَ : هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ، [ التَّوْبَةِ : 33 ] . أَمَّا قَوْلُهُ : بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ تفسيرها فَفِيهِ ثَلَاثُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْهُدَى هُوَ دِينُ الْحَقِّ ، وَإِنَّمَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا لِتَغَايُرِ لَفْظَيْهِمَا ، لِيَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَفْسِيرًا لِلْآخَرِ . وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي : مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى إِلَى دِينِ الْحَقِّ : لِأَنَّ الرَّسُولَ هَادٍ ، وَالْقُرْآنَ هِدَايَةٌ ، وَالْمَأْمُورَ بِهِ هُوَ دِينُ الْحَقِّ . وَالتَّأْوِيلُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْهُدَى هُوَ الدَّلِيلُ ، وَدِينَ الْحَقِّ هُوَ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [ التَّوْبَةِ : 33 ] . فَقَدْ دَفَعَهُ الْمُتَشَكِّكُونَ فِي أَدْيَانِهِمْ ، وَقَالُوا : قَدْ بَقِيَتْ أَطْرَافُ الْأَرْضِ مِنَ الرُّومِ ، وَالتُّرْكِ ، وَالْهِنْدِ ، وَالزِّنْجِ ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الْقَاصِيَةِ ، مَا أَظْهَرَ دِينَهُ عَلَى أَدْيَانِهِمْ ، فَلَمْ يَصِحَّ هَذَا الْمَوْعِدُ . وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا الْقَدْحِ : أَنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي هَاءِ الْكِنَايَةِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ : لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ إِلَى مَاذَا تَعُودُ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَعُودَ إِلَى الْهُدَى . وَالثَّانِي : أَنَّهَا تَعُودُ إِلَى دِينِ الْحَقِّ وَحْدَهُ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهَا تَعُودُ إِلَيْهِمَا ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ . فَأَمَّا الْهُدَى فَفِي مَعْنَى إِظْهَارِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ إِظْهَارُ دَلَائِلِهِ ، وَحُجَجِهِ ، وَقَدْ حَقَّقَ اللَّهُ فِعْلَ ذَلِكَ ، فَإِنَّ حُجَجَ الْإِسْلَامِ أَظْهَرُ وَدَلَائِلَهُ أَقْهَرُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ إِظْهَارُ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ حَقَّقَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ مَا حَارَبَ قَوْمًا إِلَّا انْتَصَفَ مِنْهُمْ ، وَظَهَرَ عَلَيْهِمْ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ بَقَاءُ إِعْجَازِهِ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ ، فَإِنَّ مُعْجِزَةَ الْقُرْآنِ بَاقِيَةٌ عَلَى مُرُورِ الْأَعْصَارِ ، وَمُعْجِزَةَ مُوسَى فَلْقُ الْبَحْرِ ، وَعِيسَى فِي إِحْيَاءِ الْمَوْتَى ، مُنْقَطِعٌ لَمْ يَبْقَ . وَأَمَّا الدِّينُ ، فَفِي إِظْهَارِهِ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّ إِظْهَارَهُ هُوَ انْتِشَارُ ذِكْرِهِ فِي الْعَالَمِينَ ، وَمَعْرِفَةُ الْخَلْقِ بِهِ أَجْمَعِينَ ، وَهَذَا مَوْجُودٌ : لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ أُمَّةٌ إِلَّا وَقَدْ عَلِمَتْ بِدِينِ الْإِسْلَامِ ، وَدَعْوَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيْهِ ، وَهُوَ بِالْحِجَازِ ، وَهُوَ أَحَدُ التَّأْوِيلَاتِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ، [ الشَّرْحِ : 4 ] . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ إِظْهَارَهُ هُوَ عُلُوُّهُ عَلَى الْأَدْيَانِ كُلِّهَا ، فَهُوَ طَالِبٌ وَغَيْرُهُ مَطْلُوبٌ ، وَقَاهِرٌ وَغَيْرُهُ مَقْهُورٌ ، وَغَانِمٌ وَغَيْرُهُ مَغْنُومٌ ، وَزَائِدٌ وَغَيْرُهُ مَنْقُوصٌ ، وَهَذَا ظَاهِرٌ مَوْجُودٌ ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى ، وَيَزِيدُ وَلَا يَنْقَصُ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ إِظْهَارَهُ عَلَى الْأَدْيَانِ كُلِّهَا سَيَكُونُ عِنْدَ ظُهُورِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَنُزُولِهِ مِنَ السَّمَاءِ حَتَّى لَا يُعْبَدَ اللَّهُ تَعَالَى بِغَيْرِهِ مِنَ الْأَدْيَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ، [ النِّسَاءِ : 159 ] . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : زُوِيَتْ لِيَ الْأَرْضُ ، فَأُرِيتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا ، وَسَيَبْلُغُ مُلْكُ أُمَّتِي مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا ، وَمَعْنَى زُوِيَتْ : أَيْ جُمِعَتْ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا السُّنَّةُ ، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَبَرَانِ : أَحَدُهُمَا : رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : إِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ ، وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبَيلِ اللَّهِ . وَالْخَبَرُ الثَّانِي : مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ إِلَى كِسْرَى يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ ، فَلَمَّا وَصَلَ كِتَابُهُ إِلَيْهِ مَزَّقَهُ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : تَمَزَّقَ مُلْكُهُ . وَكَتَبَ إِلَى قَيْصَرَ كِتَابًا إِلَى الْإِسْلَامِ ، لَمَّا وَصَلَ كِتَابُهُ إِلَيْهِ قَبَّلَهُ ، وَأَكْرَمَهُ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : ثَبَّتَ مُلْكَهُ . وَالْأَكَاسِرَةُ هُمْ مُلُوكُ الْفُرْسِ ، وَدِينُهُمُ الْمَجُوسِيَّةُ ، وَالْقَيَاصِرَةُ هُمْ مُلُوكُ الرُّومِ ، وَدِينُهُمُ النَّصْرَانِيَّةُ . فَكَانَ الْخَبَرَانِ فِي الْأَكَاسِرَةِ مُتَّفِقَيْنِ ، وَقَدْ وُجِدَ الْخَبَرُ فِيهِمَا عَلَى مُخْبَرِهِ : لِأَنَّهُ قَالَ فِي الْخَبَرِ الْأَوَّلِ : إِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ ، وَقَالَ فِي الْخَبَرِ الثَّانِي : تَمَزَّقَ مُلْكُهُ ، وَكَانَ ظَاهِرُ الْخَبَرَيْنِ فِي الْقَيَاصِرَةِ مُخْتَلِفًا ، وَالْمُخْبَرُ فِيهِمَا مُتَنَافِيًا لِأَنَّهُ قَالَ فِي الْأَوَّلِ : وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ ، وَقَالَ فِي الثَّانِي : ثَبَّتَ مُلْكَهُ ، وَهَذَا مُتَنَافٍ ، وَقَدْ نَرَى مُلْكَ الرُّومِ ثَابِتًا فَكَانَ ثَبَاتُهُ مُوَافِقًا لِلْخَبَرِ الثَّانِي مُنَافِيًا لِلْخَبَرِ الْأَوَّلِ ، فَعَنْهُ جَوَابَانِ يَمْنَعَانِ مِنَ التَّنَافِي :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ : إِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ يَعْنِي بِهِ زَوَالَ هَذَا الِاسْمِ عَنْ مُلُوكِهِمْ ، وَكَانَ اسْمًا لِكُلِّ مَلِكٍ مِنْهُمْ ، فَلَمَّا هَلَكَ قَيْصَرُ لَمْ يَتَسَمَّ بِهِ أَحَدٌ مِنْ مُلُوكِهِمْ ، وَثَبَتَ مُلْكُهُ الْآنَ فِي بِلَادِهِمْ . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّ لِهَذَا الْحَدِيثِ سَبَبًا ، وَهُوَ أَنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ تَنْتَابُ الْيَمَنَ فِي الشِّتَاءِ ، وَالشَّامَ وَالْعِرَاقَ فِي الصَّيْفِ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى : إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ، [ قُرَيْشٍ : 2 ] . فَلَمَّا أَسْلَمُوا وَبِلَادُ الرِّحْلَتَيْنِ عَلَى شِرْكِهِمْ شَكَوْا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِانْقِطَاعِ الرِّحْلَتَيْنِ عَنْهُمْ بِالشَّامِ وَالْعِرَاقِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا طَيَّبَ بِهِ نُفُوسَهُمْ : إِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ ، يَعْنِي بِالْعِرَاقِ ، فَهَلَكَ ، فَلَمْ يَبْقَ بِالْعِرَاقِ وَلَا بِغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ ، وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ ، فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ يَعْنِي بِالشَّامِ ، فَهَلَكَ ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ مُلْكٌ بِالشَّامِ ، وَإِنْ بَقِيَ فِي غَيْرِهَا فِي بِلَادِ الرُّومِ ، فَصَدَقَ خَبَرُهُ ، وَصَحَّ مَوْعِدُهُ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .
فَصْلٌ يَشْتَمِلُ عَلَى فُرُوعٍ مِنْ كِتَابِ الْأُسَارَى وَالْغُلُولِ
فَصْلٌ : يَشْتَمِلُ عَلَى فُرُوعٍ مِنْ كِتَابِ الْأُسَارَى وَالْغُلُولِ وَإِذَا سَبَى الْحَرْبِيُّ جَارِيَةً لِمُسْلِمٍ ، فَأَوْلَدَهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوَّلًا ثُمَّ غَنِمَهَا الْمُسْلِمُونَ لَمْ يَمْلِكُوهَا ، وَكَانَ مَالِكُهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَحَقَّ بِهَا وَبِأَوْلَادِهَا . وَلَوْ أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ وَهِيَ مَعَهُ وَأَوْلَادُهَا لَمْ يَمْلِكْهَا : لِأَنَّهَا مِلْكٌ لِمُسْلِمٍ غَلَبَ عَلَيْهَا بِغَيْرِ حَقٍّ . فَأَمَّا قِيمَةُ أَوْلَادِهَا ، وَمَهْرُ مِثْلِهَا ، فَمُعْتَبِرٌ بِحَالِ إِيلَادِهِ لَهَا ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ إِسْلَامِهِ ، فَلَا قِيمَةَ عَلَيْهِ لِأَوْلَادِهَا ، وَلَا مَهْرَ لَهَا عَلَيْهِ : لِأَنَّ ذَلِكَ اسْتِهْلَاكٌ مِنْهُ فِي حَالِ كُفْرِهِ ، وَمَا اسْتَهْلَكَهُ الْحَرْبِيُّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ هَدْرٌ . وَإِنْ أَوَلَدَهَا بَعْدَ إِسْلَامِهِ كَانَ عَلَيْهِ قِيمَةُ أَوْلَادِهَا ، وَمَهْرُ مِثْلِهَا : لِأَنَّهُ أَوْلَدَهَا بِشُبْهَةِ مِلْكٍ ، فَلَحِقُوا بِهِ ، وَعُتِقُوا عَلَيْهِ ، وَهُوَ مُسْلِمٌ ، فَلَا يَنْهَدِرُ مَا اسْتَهْلَكَهُ كَالْمُسْلِمِ . فَرْعٌ : وَلَوْ دَخَلَ مُسْلِمٌ دَارَ الْحَرْبِ ، فَدَفَعَ إِلَيْهِ أَهْلُهَا مَالًا لِيَشْتَرِيَ لَهُمْ بِهِ مَتَاعًا مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ ، فَلِلْمَالِ أَمَانٌ إِذَا دَخَلَ بِهِ الْمُسْلِمُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِمَالِكِهِ أَمَانٌ : لِأَنَّ اسْتِئْمَانَهُمْ لَهُ أَمَانٌ مِنْهُ ، وَلَوْ خَرَجَ بِالْمَالِ ذِمِّيٌّ كَانَ أَمَانُهُ فَاسِدًا ، فَإِنْ عَلِمَ مَالِكُهُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَسَادَ أَمَانِهِ كَانَ الْمَالُ مَغْنُومًا ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَسَادَ أَمَانِهِ كَانَ مَحْرُوسًا عَلَيْهِ حَتَّى يَصِلَ إِلَيْهِ ، وَحَالُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ إِذَا أَمَّنَ أَحَدُهُمَا حَرْبِيًّا كَانَ الْأَمَانُ فَاسِدًا ، وَكَانَ مُسْتَأْمَنُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ مَحْقُونَ الدَّمِ ، حَتَّى يَعُودَ إِلَى مَأْمَنِهِ إِنْ لَمْ يُعْلَمْ بِفَسَادِ الْأَمَانِ ، فَإِنْ عُلِمَ بِهِ كَانَ مُبَاحَ الدَّمِ ، وَخَرَّجَ الرَّبِيعُ اسْتِئْمَانَ الذِّمِّيِّ عَلَى الْمَالِ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَهُوَ خَطَأٌ مِنْهُ ، وَحَمْلُهُ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ أَصَحُّ .
فَرْعٌ : وَلَوْ أَسْلَمَ عَبْدٌ لِحَرْبِيٍّ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، وَخَرَجَ إِلَيْنَا عُتِقَ ، وَلَوْ أَقَامَ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَانَ عَلَى رِقِّهِ ، فَإِنْ سُبِيَ الْعَبْدُ مَلَكَهُ الْغَانِمُونَ : لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا فَهُوَ عَبْدٌ لِحَرْبِيٍّ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يُعْتَقَ إِذَا خَرَجَ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ لَا يُعْتَقَ إِنْ أَقَامَ فَيَ دَارِ الْحَرْبِ أَنَّهُ إِذَا خَرَجَ ، فَقَدْ قَهَرَ سَيِّدَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَعُتِقَ ، وَإِذَا أَقَامَ لَمْ يَقْهَرْهُ عَلَيْهَا فَرُقَّ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ لَوْ أَسْلَمَ ، وَغَلَبَ عَلَى سَيِّدِهِ الْحَرْبِيِّ وَأَوْلَادِهِ ، وَأَزْوَاجِهِ ، وَدَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ عُتِقَ ، وَصَارُوا لَهُ رَقِيقًا . فَرْعٌ : وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَ الْإِسْلَامِ ، وَاشْتَرَى عَبْدًا مُسْلِمًا ، وَدَخَلَ بِهِ دَارَ الْحَرْبِ ، فَسُبِيَ الْعَبْدُ ، فَهَلْ يَمْلِكُهُ غَانِمُوهُ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي صِحَّةِ ابْتِيَاعِ الْكَافِرِ لِلْعَبْدِ الْمُسْلِمِ ، فَإِنْ قِيلَ بِصِحَّةِ مِلْكِهِ ، مَلَكَهُ الْغَانِمُونَ ، وَإِنْ قِيلَ بِفَسَادِهِ لَمْ يَمْلِكُوهُ ، وَكَانَ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِ سَيِّدِهِ الْمُسْلِمِ . فَرْعٌ : وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْتَكْمِلَ مَقَامَ حَوْلٍ إِلَّا بِبَذْلِ الْجِزْيَةِ ، وَإِنْ شَرَطَ الْإِمَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ دُخُولِهِ أَنَّهُ إِنْ أَقَامَ حَوْلًا أُخِذَتْ مِنْهُ الْجِزْيَةُ ، فَأَقَامَ حَوْلًا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ ، وَلَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنَّهُ إِنْ أَقَامَ حَوْلًا جَعَلَ نَفْسَهُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، فَاسْتَكْمَلَ حَوْلًا لَمْ يَصِرْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ إِلَّا بِاخْتِيَارِهِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ : أَنَّ الشَّرْطَ فِي الْأُولَى لِلْإِمَامِ : فَالْتَزَمَهُ الْحَرْبِيُّ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ ، وَفِي الثَّانِيَةِ لِلذِّمِّيِّ فَلَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا بِاخْتِيَارِهِ . وَسَوَّى أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَهُمَا فِي اللُّزُومِ ، وَالْفَرْقُ يَمْنَعُ مِنَ اسْتِوَائِهِمَا . فَرْعٌ : وَإِذَا غَزَا صِبْيَانٌ لَا بَالِغَ فِيهِمْ حكم أخذهم السهم من الأخماس الأربعة ، أَوْ نِسَاءٌ لَا رَجُلَ بَيْنَهُنَّ حكم أخذهم السهم من الأخماس الأربعة ، أَوْ عَبِيدٌ لَا حُرَّ مَعَهُمْ حكم أخذهم السهم من الأخماس الأربعة ، وَغَنِمُوا أَخَذَ الْإِمَامُ خُمْسَ غَنِيمَتِهِمْ ، وَفِي أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهَا وَجْهَانِ أَشَارَ إِلَيْهِمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُقَسِّمَ جَمِيعَهُ بَيْنَهُمْ بِاسْمِ الرَّضْخِ ، وَإِنْ كَانَ فِي حُكْمِ السِّهَامِ ، وَلِيُسَوِّيَ بَيْنَهُمْ فِيهِ كَأَهْلِ السِّهَامِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَحْبِسُ بَعْضَهُ عَنْهُمْ بِحَسْبِ مَا يُؤَدِّيهِ اجْتِهَادُهُ إِلَيْهِ ، لِئَلَّا يُسَاوُوا فِيهِ أَهْلَ السِّهَامِ ، وَيُقَسِّمُ الْبَاقِيَ بَيْنَهُمْ بِحَسْبَ مَا يَرَاهُ مِنْ مُسَاوَاةٍ وَتَفْضِيلٍ .
فَصْلٌ : وَإِذَا حَاصَرَ الْإِمَامُ بَلَدًا أَوْ قَلْعَةً فِي دَارِ الْحَرْبِ ، ثُمَّ صَالَحَهُمْ عَلَى تَحْكِيمِ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، لِيُحَكِّمَ فِيهِمْ بِمَا يُؤَدِّيهِ اجْتِهَادُهُ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ مُسْتَوْفِيًا لِشُرُوطِ الْحُكَّامِ شروط الحاكم الذي ينزل على حكمه ، وَهِيَ الْبُلُوغُ ، وَالْعَقْلُ ، وَالْحُرِّيَّةُ ، وَالْإِسْلَامُ ، وَالذُّكُورِيَّةُ ، وَالْعِلْمُ .
فَإِذَا اسْتَكْمَلَ هَذِهِ الشُّرُوطَ السَّبْعَةَ صَحَّ أَنْ يُحَكِّمَ فِيهِمْ بِرَأْيِهِ كَمَا حَكَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ ، فَحَكَمَ أَنَّ مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمُوسَى قُتِلَ ، وَمَنْ لَمْ تَجْرِ عَلَيْهِ اسْتُرِقَّ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : هَذَا حُكْمُ اللَّهِ مَنْ فَوْقِ سَبْعِ أَرْقُعَةٍ ، وَهِيَ سَبْعُ سَمَاوَاتٍ ، وَإِنْ أَخَلَّ بِشَرْطٍ مِنْهَا فقد شرط من شروط الحاكم الذي ينزل على حكمه لَمْ يَجُزْ أَنْ يُحَكِّمَ فِيهِمْ ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْمُحَكَّمُ فِيهِمْ أَعْمَى جَازَ تَحْكِيمُهُ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَاكِمًا فِي عُمُومِ الْأَحْكَامِ : لِأَنَّهُ يَحْكمُ بِمَا اشْتَهَرَتْ فِيهِ أَحْوَالُهُمْ ، وَتَظَاهَرَتْ بِهِ أَخْبَارُهُمْ ، فَاسْتَوَى فِيهَا الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ، كَمَا يَسْتَوِيَانِ فِي الشَّهَادَةِ بِمَا تُعَلَّقُ بِاسْتِفَاضَةِ الْأَخْبَارِ ، فَإِنْ صُولِحُوا عَلَى تَحْكِيمِ غَيْرِ مُعَيَّنٍ صالح المشركون ، لِيَقَعَ الِاخْتِيَارُ لَهُ ، أَوِ التَّعْيِينُ عَلَيْهِ مِنْ بَعْدُ لَمْ يَخْلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى اخْتِيَارِ الْمُسْلِمِينَ لَهُ ، فَيَصِحَّ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى اخْتِيَارِ الْمُشْرِكِينَ لَهُ ، فَلَا يَصِحَّ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى اخْتِيَارِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ ، فَيَصِحَّ : لِأَنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَحْكِيمَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَأَجَابَهُمْ إِلَيْهِ ، فَإِنِ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ عَلَى اخْتِيَارِهِ انْعَقَدَ تَحْكِيمُهُ وَنَفَذَ فِيهِمْ حُكْمُهُ ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا لَمْ يَنْعَقِدْ تَحْكِيمُهُ وَأُعِيدُوا إِلَى مَأْمَنِهِمْ حَتَّى يَسْتَأْنِفُوا اخْتِيَارًا أَوْ صُلْحًا ، فَإِنْ صُولِحُوا عَلَى تَحْكِيمِ أَسِيرٍ فِي أَيْدِيهِمْ نُظِرَ . فَإِنْ كَانَ فِي وَقْتِ اخْتِيَارِهِ لِلتَّحْكِيمِ أَسِيرًا لَمْ يَصِحَّ تَحْكِيمُهُ : لِأَنَّهُ مَقْهُورٌ لَا يَنْفَذُ حُكْمُهُ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أُطْلِقَ قَبْلَ تَحْكِيمِهِ كَرِهْنَاهُ حَذَرًا لِلْمُمَايَلَةِ وَصَحَّ تَحْكِيمُهُ لِأَنَّ دِينَهُ يَمْنَعُهُ مِنَ الْمُمَايَلَةِ ، وَهَكَذَا لَوْ عُقِدَ التَّحْكِيمُ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ قَدْ أَسْلَمَ قَبْلَ التَّحْكِيمِ جَازَ وَإِنْ كُرِهَ . وَإِذَا انْعَقَدَ الصُّلْحُ عَلَى تَحْكِيمِ رَجُلَيْنِ جَازَ : لِأَنَّ اجْتِهَادَهُمَا أَقْوَى وَنَفَذَ حُكْمُهُمَا إِنِ اتَّفَقَا عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَنْفُذْ إِنِ اخْتَلَفَا فِيهِ ، وَإِذَا مَاتَ الْحَكَمُ قَبْلَ حُكْمِهِ ، أَوِ اسْتَعْفَى وَاعْتَزَلَ أُعِيدُوا إِلَى مَأْمَنِهِمْ حَتَّى يَسْتَأْنِفُوا صُلْحًا عَلَى تَحْكِيمِ غَيْرِهِ . فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَانْعَقَدَ التَّحْكِيمُ عَلَى رَجُلٍ بِعَيْنِهِ اجْتَهَدَ رَأْيَهُ فِي الْأَصْلَحِ لِلْمُسْلِمِينَ دُونَ الْمُشْرِكِينَ : لِعُلُوِّ الْإِسْلَامِ عَلَى الشِّرْكِ ، فَإِنْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى قَتْلِ رِجَالِهِمْ ، وَسَبْيِ ذَرَارِيهِمْ جَازَ وَلَزِمَهُمْ حُكْمُهُ كَالَّذِي حَكَمَ لَهُ سَعْدٌ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ ، فَإِنْ رَأَى الْإِمَامُ بَعْدَ ذَلِكَ الْمَنَّ عَلَى مَنْ حُكِمَ بِقَتْلِهِ مِنْ رِجَالِهِمْ جَازَ ، وَإِنْ رَأَى الْمَنَّ عَلَى مَنْ حُكِمَ بِسَبْيِهِ مِنْ ذَرَارِيهِمْ نُظِرَ . فَإِنْ كَانَ بَعْدَ اسْتِرْقَاقِهِمْ لَمْ يَجُزْ إِلَّا بِمُرَاضَاةِ الْغَانِمِينَ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَبْيِ هَوَازِنَ حِينَ مَنَّ ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ اسْتِرْقَاقِهِمْ جَازَ : لِأَنَّ سَعْدًا لَمَّا حَكَمَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ
بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ ، جَاءَ ثَابِتٌ الْأَنْصَارِيُّ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ بَاطَأَ الْيَهُودِيَّ عِنْدِي ، وَقَدْ سَأَلَ أَنْ نَهَبَ لَهُ دَمَهُ وَمَالَهُ ، فَفَعَلَ وَوَهَبَ لَهُ دَمَهُ وَمَالَهُ . وَإِنْ رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يَسْتَرِقَّ رِجَالَهُمْ أَوْ يَأْخُذَ فِدَاهُمَ لَمْ يَجُزْ إِلَّا عَنْ مُرَاضَاتِهِمْ : لِأَنَّهُ نَقْضُ حُكْمٍ نَفَذَ بِالِاسْتِئْنَافِ لِحُكْمٍ مُجَدَّدٍ ، وَلَوْ كَانَ الْمُحَكَّمُ فِيهِمْ قَدْ حَكَمَ بِالْمَنِّ عَلَى رِجَالِهِمْ وَذَرَارِيهِمْ نَفَذَ حُكْمُهُ إِذَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَيْهِ ، وَلَمْ يَجُزْ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْسَخَ حُكْمَهُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ حَكَمَ عَلَيْهِ بِالْفِدَاءِ لَمْ يَلْزَمْهُمْ حُكْمُهُ إِنْ كَانَ الْمَالُ غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ لَا يَلْزَمُ إِلَّا عَنْ مُرَاضَاةٍ ، وَلَزِمَهُمْ حُكْمُهُ إِنْ كَانَ الْمَالُ مَقْدُورًا عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ حُكْمٌ مِنْهُ بِغَنِيمَةِ ذَلِكَ الْمَالِ ، فَنَفَذَ حُكْمُهُ بِهِ ، وَإِنْ حَكَمَ بِاسْتِرْقَاقِهِمْ صَارُوا بِحُكْمِهِ رَقِيقًا وَلَمْ يَجُزْ لِلْإِمَامِ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِمْ إِلَّا بِاسْتِطَابَةِ نُفُوسِ الْغَانِمِينَ ، وَإِنْ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالْجِزْيَةِ وَأَنْ يَكُونُوا أَهْلَ ذِمَّةٍ لَمْ يَلْزَمْهُمْ حُكْمُهُ بِذَلِكَ : لِأَنَّهَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ لَا يَصِحُّ إِلَّا عَنْ مُرَاضَاةٍ ، وَلَوْ حَكَمَ بِقَتْلِهِمْ ، فَأَسْلَمُوا سَقَطَ الْقَتْلُ عَنْهُمْ ، وَلَمْ يَجُزِ اسْتِرْقَاقُهُمْ ، وَلَوْ حَكَمَ اسْتِرْقَاقَهُمْ ، فَأَسْلَمُوا لَمْ يَسْقُطِ اسْتِرْقَاقُهُمْ : لِأَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ ، وَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُمْ بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .
_____كِتَابِ الْجِزْيَةِ _____
بَابُ مَنْ يَلْحَقُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ
كِتَابُ مُخْتَصَرِ الْجَامِعِ مِنْ كِتَابِ الْجِزْيَةِ وَمَا دَخَلَ فِيهِ مِنَ اخْتِلَافِ الْأَحَادِيثِ وَمِنْ كِتَابِ الْوَاقِدِيِّ وَاخْتِلَافِ الْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بَابُ مَنْ يَلْحَقُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : انْتَوَتْ قَبَائِلُ مِنَ الْعَرَبِ قَبْلَ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُنْزِلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ فَدَانَتْ دِينَ أَهْلِ الْكِتَابِ فَأَخَذَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْجِزْيَةَ مِنْ أُكَيْدَرِ دَوْمَةَ ، وَهُوَ رَجُلٌ يُقَالُ : إِنَّهُ مِنْ غَسَّانَ أَوْ مِنْ كِنْدَةَ ، وَمِنْ أَهْلِ ذِمَّةِ الْيَمَنِ ، وَعَامَّتُهُمْ عَرَبٌ ، وَمِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ وَفِيهِمْ عَرَبٌ ، فَدَلَّ مَا وَصَفْتُ أَنَّ الْجِزْيَةَ لَيْسَتْ عَلَى الْأَحْسَابِ وَإِنَّمَا هِيَ عَلَى الْأَدْيَانِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَالْأَصْلُ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ وَأَنْ يَصِيرَ الْمُشْرِكُونَ بِهَا أَهْلَ ذِمَّةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ : قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ تفسيرها إِلَى أَنْ قَالَ : حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ تفسيرها ، [ التوَبةِ : 29 ] . أَمَّا قَوْلُهُ هَاهُنَا : قَاتِلُوا فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَعْنِي جَاهِدُوا . وَالثَّانِي : اقْتُلُوا ، فَعَبَّرَ عَنِ الْقَتْلِ بِالْمُقَاتَلَةِ لِحُدُوثِهِ فِي الْأَغْلَبِ عَنِ الْقِتَالِ ، وَفِي قَوْلِهِ : الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُؤْمِنُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ . وَالثَّانِي : لَا يُؤْمِنُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لِأَنَّ تَصْدِيقَ الرَّسُولِ إِيمَانٌ بِالرُّسُلِ وَإِلَّا فَهُمْ مُؤْمِنُونَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَاحِدٌ مَعْبُودٌ . وَفِي قَوْلِهِ : وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَإِنْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ الْبَعْثَ وَالْجَزَاءَ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ إِقْرَارَهُمْ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوجِبُ الْإِقْرَارَ بِجَمِيعِ حُقُوقِهِ ، فَصَارُوا بِتَرْكِ الْإِقْرَارِ بِحُقُوقِهِ كَمَنْ لَمْ يُقِرَّ بِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُمْ لَا يَخَافُونَ وَعِيدَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ، فَذَمَّهُمْ ذَمَّ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ . وَقَوْلُهُ : وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَا أَمَرَ بِنَسْخِهِ مِنْ شَرَائِعِهِمْ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَا أَحَلَّهُ لَهُمْ ، وَحَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ . وَقَوْلُهُ : وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنَ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ ، وَهُوَ قَوْلُ الْكَلْبِيِّ . وَالثَّانِي : الدُّخُولُ فِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ ، وَالْحَقُّ هَاهُنَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى . وَقَوْلُهُ : مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَعْنِي مِنْ آبَاءِ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ . وَالثَّانِي : مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ : لِأَنَّهُمْ فِي اتِّبَاعِهِ كَآبَائِهِمْ . وَقَوْلُهُ : حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : حَتَّى يَدْفَعُوا الْجِزْيَةَ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ : لِأَنَّهُ يُوجِبُهُ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ . وَالثَّانِي : حَتَّى يَضْمَنُوا الْجِزْيَةَ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ : لِأَنَّهُ يُوجِبُهَا بِانْقِضَاءِ الْحَوْلِ . وَالْجِزْيَةُ تعريفها : اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الْجَزَاءِ ، إِمَّا عَلَى إِقْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ ، وَإِمَّا عَلَى مُقَامِهِمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَالْجِزْيَةُ هُوَ الْمَالُ الْمَأْخُوذُ مِنْهُمْ عَنْ رِقَابِهِمْ ، وَفِيهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا مِنَ الْمُجْمَلِ الَّذِي يَفْتَقِرُ إِلَى الْبَيَانِ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا مِنَ الْعُمُومِ الَّذِي يَعْمَلُ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ مَا لَمْ يَخُصُّهُ دَلِيلٌ . وَقَوْلُهُ : عَنْ يَدٍ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : عَنْ غِنًى وَقُدْرَةٍ . وَالثَّانِي : أَنْ يَرَوْا لَنَا فِي أَخْذِهَا مِنْهُمْ بُدًّا عَلَيْهِمْ . وَقَوْلُهُ : وَهُمْ صَاغِرُونَ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونُوا أَذِلَّاءَ مَقْهُورِينَ . وَالثَّانِي : أَنَّ تَجْرِيَ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ : أَحَدُهَا : وُجُوبُ جِهَادِهِمْ . وَالثَّانِي : جَوَازُ قَتْلِهِمْ . وَالثَّالِثُ : حَقْنُ دِمَائِهِمْ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ . وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ السُّنَّةِ مَا رَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ بُرَيْدَةَ ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا بَعَثَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْصَاهُ بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ وَبِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
خَيْرًا ، وَقَالَ لَهُ : إِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى إِحْدَى خِصَالٍ ثَلَاثٍ أَيَّتُهُنَّ أَجَابُوكَ إِلَيْهَا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ : ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ، وَإِنْ أَبَوْا فَالْجِزْيَةُ ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ، وَإِنْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ . وَقَدْ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجِزْيَةَ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ ، وَمِنْ مَجُوسِ هَجَرَ ، وَأَخَذَهَا مَنْ أَهْلِ أَيْلَةَ ، وَهُمْ ثَلَاثُمِائَةِ رَجُلٍ أَخَذَ مِنْهُمْ ثَلَاثَمِائَةِ دِينَارٍ ، وَلِأَنَّ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ مَعُونَةً لِلْمُسْلِمِينَ ، وَأَنَاةً بِالْمُشْرِكِينَ فِي تَوَقُّعِ اسْتِنْصَارِهِمْ ، وَذِلَّةً لَهُمْ رُبَّمَا تَبْعَثُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ ، فَجَوَّزَ النَّصُّ لِهَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ أَخْذَهَا مِنْهُمْ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ وُجُوبُ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنَ الْكُفَّارِ ، لِإِقْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ فِي مَأْخُوذَةٍ مِنْ بَعْضِهِمْ دُونَ جَمِيعِهِمْ . وَاخْتُلِفَ فِي الْمَأْخُوذِ مِنْهُمْ الجزية ، من هم ؟ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : - وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - أَنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَرَبًا كَانُوا أَوْ عَجَمًا ، وَلَا تُؤْخَذُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَرَبًا وَلَا عَجَمًا ، فَاعْتَبَرَهَا بِالْأَدْيَانِ دُونَ الْأَنْسَابِ . وَالثَّانِي : - عَلَى مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ - بِأَنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَمِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ إِذَا كَانُوا عَجَمًا ، وَلَا تُؤْخَذُ مِنْهُمْ إِذَا كَانُوا عَرَبًا . وَالثَّالِثُ : - مَا قَالَهُ مَالِكٌ - إِنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ كَافِرٍ مِنْ كِتَابِيٍّ ، وَوَثَنِيٍّ ، وَعَجَمِيٍّ ، وَعَرَبِيٍّ ، إِلَّا مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ ، فَلَا تُؤْخَذُ مِنْهُمْ ، وَإِنْ دَانُوا دِينَ أَهْلِ الْكِتَابِ . وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ : - مَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ - إِنَّهَا تُؤْخَذُ مِنَ الْعَجَمِ سَوَاءً كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ أَوْ عَبَدَةَ أَوْثَانٍ حكم أخذ الجزية منهم ، وَلَا تُؤْخَذُ مِنَ الْعَرَبِ سَوَاءً كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَوْ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ ، فَجَعَلَهَا مُعْتَبَرَةً بِالْأَنْسَابِ دُونَ الْأَدْيَانِ ، فَصَارَ الْخِلَافُ مَعَ الشَّافِعِيِّ فِي حُكْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تُقْبَلُ جِزْيَتُهُمْ ، وَعِنْدَ غَيْرِهِ تُقْبَلُ . وَالثَّانِي : فِي الْعَرَبِ ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تُقْبَلُ جِزْيَتُهُمْ ، وَعِنْدَ غَيْرِهِ لَا تُقْبَلُ . فَأَمَّا الْحُكْمُ الْأَوَّلُ فِي عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ ، فَاسْتَدَلَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى قَبُولِ جِزْيَتِهِمْ بِحَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا بَعَثَهُ عَلَى جَيْشٍ قَالَ لَهُ : ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَأَهْلِ الْكِتَابِ ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُهُمْ عَبَدَةَ أَوْثَانٍ ، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنَ الْمَجُوسِ وَلَيْسَ لَهُمْ
كِتَابٌ ، فَكَذَلِكَ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ ، وَلِأَنَّهُ اسْتِذْلَالٌ يَجُوزُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ ، فَجَازَ فِي عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ كَالْقَتْلِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ، [ التَّوْبَةِ : 29 ] . فَجَعَلَ الْكِتَابَ شَرْطًا فِي قَبُولِهَا مِنْهُمْ ، فَلَمْ يَجُزْ لِعَدَمِ الشَّرْطِ أَنْ تُقْبَلَ مِنْ غَيْرِهِمْ . وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي الْمَجُوسِ : سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ ، فَدَلَّ عَلَى اخْتِصَاصِ الْجِزْيَةِ بِهِمْ . وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ - عَنْ أَبِيهِ - عَنْ جَدِّهِ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ أَنْ تُؤْخَذَ الْجِزْيَةُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ، فَخَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ لِاخْتِصَاصِهِمْ بِالْحُكْمِ وَلِأَنَّهُ وَثَنِيٌّ فَلَمْ يُقَرَّ عَلَى حُكْمِهِ بِالْجِزْيَةِ كَالْعَرَبِيِّ ، وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يُقَرَّ بِالْجِزْيَةِ مِنَ الْعَرَبِ لَمْ يُقَرَّ بِهَا مِنَ الْعَجَمِ كَالْمُرْتَدِّ ، وَلِأَنَّ لِأَهْلِ الْكِتَابِ حُرْمَتَيْنِ . إِحْدَاهُمَا : حُرْمَةُ الْكِتَابِ الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِمْ . وَالثَّانِيَةُ : حُرْمَةُ دِينِ الْحَقِّ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ . وَهَاتَانِ الْحُرْمَتَانِ مَعْدُومَتَانِ فِي عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ ، فَافْتَرَقَا فِي حُكْمِ الْإِقْرَارِ بِالْجِزْيَةِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ بُرَيْدَةَ ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تَخْصِيصُ عُمُومِهِ بِأَدِلَّتِنَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَصِحُّ التَّعَلُّقُ بِظَاهِرِهِ حَتَّى يُقْرَنَ بِهِ إِضْمَارٌ ، فَهُمْ يُضْمِرُونَ أَخْذَ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ إِذَا كَانُوا عَجَمًا ، وَنَحْنُ نُضْمِرُ أَخْذَ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ إِذَا كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ ، وَلَوْ تَكَافَأَ الْإِضْمَاراِنْ سَقَطَ الدَّلِيلُ ، وَاخْتِيَارُنَا أَوْلَى لِثُبُوتِ حُكْمِهِ عَنْ إِجْمَاعٍ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ أَخْذِهَا مِنَ الْمَجُوسِ ، فَهُوَ مَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ بَعْدُ فِي أَنَّ لَهُمْ كِتَابًا . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْقَتْلِ ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقَتْلَ لَا يَبْقَى مَعَهُ إِقْرَارٌ عَلَى الْكُفْرِ ، وَفِي الْجِزْيَةِ إِقْرَارٌ عَلَى الْكُفْرِ فَافْتَرَقَا . وَالثَّانِي : أَنَّ الْقَتْلَ أَغْلَظُ مِنَ الْجِزْيَةِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَلْحَقَ بِهِ مَا هُوَ أَخَفُّ مِنْهُ إِذَا كَانَ مَحْمُولًا عَلَى التَّغْلِيظِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّانِي : فَيَ الْعَرَبِ هل تؤخذ منهم الجزية ؟ ، فَاسْتَدَلَّ مَنْ مَنَعَ مِنْ قَبُولِهِ جِزْيَتَهُمْ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ إِذَا عَرَضَ نَفْسَهُ فِي الْمَوَاسِمِ قَبْلَ هِجْرَتِهِ عَلَى الْقَبَائِلِ قَالَ لَهُمْ : هَلْ لَكُمْ فِي كَلِمَةٍ إِذَا قُلْتُمُوهَا دَانَتْ لَكُمُ الْعَرَبُ ، وَأَدَّتْ إِلَيْكُمُ الْجِزْيَةَ الْعَجَمُ ، فَأَضَافَ الْجِزْيَةَ إِلَى الْعَجَمِ وَنَفَاهَا عَنِ الْعَرَبِ .
وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : لَا يَجْرِي عَلَى عَرَبِيٍّ صَغَارٌ . وَالْجِزْيَةُ صَغَارٌ بِالنَّصِّ ، وَقَدْ نَفَاهُ عَنْهُمْ ، فَلَمْ يُجِزْهُ أَخْذُهَا مِنْهُمْ ، وَلِأَنَّ كُلَّ حُرْمَةٍ ثَبَتَتْ بِالْإِسْلَامِ مَنَعَتْ مِنْ قَبُولِهِ الْجِزْيَةَ كَالْإِسْلَامِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَجُزِ اسْتِرْقَاقُهُ لَمْ تُؤْخَذْ جِزْيَتُهُ كَالْمُرْتَدِّ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ ، [ التَّوْبَةِ : 29 ] . فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ مِنْ كُلِّ كِتَابِيٍّ مِنْ عَجَمِيٍّ وَعَرَبِيٍّ ، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنَ الْعَرَبِ ، فَأَخَذَهَا مِنْ أُكَيْدَرِ دَوْمَةَ بَعْدَ أَسْرِهِ ، وَحَمَلَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ ، وَكَانَ مِنْ غَسَّانَ أَوْ مِنْ كِنْدَةَ ، وَأَخَذَهَا مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ ، وَأَكْثَرُهُمْ عَرَبٌ ، وَمِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ ، وَفِيهِمْ عَرَبٌ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ إِقْرَارُهُ عَلَى كُفْرِهِ جَازَ أَخْذُ جِزْيَتِهِ كَالْعَجَمِ ، وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْقَتْلِ أَغْلَظُ مِنْ أَخْذِ الْجِزْيَةِ ، فَلَمَّا لَمْ يَمْنَعِ النَّسَبُ مِنَ الْقَتْلِ ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنَ الْجِزْيَةِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُحْقَنَ بِالْجِزْيَةِ دَمٌ ضَعُفَتْ حُرْمَتُهُ مِنَ الْعَجَمِ ، فَلِأَنْ يُحْقَنَ بِهَا دَمُ مَنْ قَوِيَتْ حُرْمَتُهُ مِنَ الْعَرَبِ أَوْلَى . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ الْأَوَّلِ ، فَهُوَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ سُرْعَةُ إِجَابَةِ الْعَرَبِ إِلَى الْإِسْلَامِ ، وَإِبْطَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ عَنْهُ ، وَهَذَا مَوْجُودٌ وَمَعْهُودٌ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : لَا يَجْرِي عَلَى عَرَبِيٍّ صَغَارٌ ، فَالْقَتْلُ أَغْلَظُ ، وَهُوَ يَجْرِي عَلَيْهِ ، فَكَانَتِ الْجِزْيَةُ أَقْرَبَ ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إِمَّا صَغَارُ الِاسْتِرْقَاقِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ حِينَ مَنَّ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْفَتْحِ أَنَّهُمْ لَا يُغْزَوْنَ بَعْدَهُ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ . فَأَمَّا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ : إِنَّهُ لَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِنَ الْعَرَبِ ، فَنَحْنُ كُنَّا عَلَى هَذَا أَحْرَصَ ، وَلَوْلَا أَنْ نَأْثَمَ بِثَمَنٍ بَاطِلٍ لَرَدَدْنَاهُ كَمَـا قَالَ ، وَأَنْ لَا يَجْرِيَ عَلَى عَرَبِيٍّ صَغَارٌ ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَجَلُّ فِي أَعْيُنِنَا مِنْ أَنْ نُحِبَّ غَيْرَ مَا حَكَمَ بِهِ . فَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ فَبَاطِلٌ : لِأَنَّ الْكُفْرَ ضِدُّ الْإِسْلَامِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَاسَ عَلَيْهِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُرْتَدِّ ، فَالْمُرْتَدُّ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَرَّ عَلَى رِدَّتِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ قَبُولُ جِزْيَتِهِ ، وَالْعَرَبِيُّ يُقَرُّ عَلَى كُفْرِهِ ، فَجَازَ أَخْذُ جِزْيَتِهِ . فَأَمَّا اسْتِرْقَاقُهُ ، فَفِيهِ قَوْلَانِ مَضَيَا . فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ : " انْتَوَتْ قَبَائِلُ مِنَ الْعَرَبِ " فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : مَعْـنَاهُ قَرُبَتْ مِنْ بِلَادِ أَهْلِ الْكِتَابِ . وَالثَّانِي : اخْتَلَطَتْ بِأَهْلِ الْكِتَابِ ، فَدَانَتْ دِينَ أَهْلِ الْكِتَابِ ، فَأَخَذَهَا عُمَرُ بِالشَّامِ
مِنْ تَنُوخَ وَبَهْرَاءَ وَبَنِي تَغْلِبَ ، فَدَلَّتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسُنَّةُ خُلَفَائِهِ مِنْ بَعْدِهَا عَلَى جَوَازِ أَخْذِهَا مِنَ الْعَرَبِ كَمَا جَازَ أَخْذُهَا مِنْ غَيْرِ الْعَرَبِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ - الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْعَامَّةِ - أَهْلَ التَّوْرَاةِ مِنَ الْيَهُودِ وَالْإِنْجِيلِ مِنَ النَّصَارَى وَكَانُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ، وَأَحَطْنَا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ كُتُبًا مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْفُرْقَانِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ، وَقَالَ تَعَالَى وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ ، فَأَخْبَرَ أَنَّ لَهُ كِتَابًا سِوَى هَذَا الْمَشْهُورِ ، قَالَ : فَأَمَّا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ : لَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِنَ الْعَرَبِ ، فَنَحْنُ كُنَّا عَلَى هَذَا أَحْرَصَ ، وَلَوْلَا أَنْ نَأْثَمَ بِتَمَنٍّي بَاطِلٍ لَوَدِدْنَاهُ كَمَا قَالَ ، وَأَنْ لَا يَجْرِيَ عَلَى عَرَبِيٍّ صَغَارٌ ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَجَلُّ فِي أَعْيُنِنَا مِنْ أَنْ نُحِبَّ غَيْرَ مَا حَكَمَ اللَّهُ بِهِ تَعَالَى " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ : إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ دُونَ غَيْرِهِمْ ، فَالْكِتَابُ الْمَشْهُورُ كِتَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ التَّوْرَاةَ أُنْزِلَتْ عَلَى مُوسَى ، وَدَانَ بِهَا الْيَهُودُ ، وَالْإِنْجِيلَ أُنْزِلَ عَلَى عِيسَى ، وَدَانَ بِهِ النَّصَارَى . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا بِالْأَنْعَامِ : ] . فَكَانَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى أَهْلَ كِتَابٍ مَقْطُوعٍ بِصِحَّتِهِ ، فَأَمَّا غَيْرُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى أَنْبِيَائِهِ ، فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا ، وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهَا ، وَلَمْ يُعَيِّنْ مَنْ دَانَ بِهَا . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [ النَّجْمِ : 36 ، 37 ] . وَقَالَ تَعَالَى : إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ، [ الْأَعْلَى : 18 ، 19 ] وَقَالَ : وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ ، [ الشُّعَرَاءِ : 196 ] . فَإِنْ عَرَفْنَا مِنْ كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ، وَعَرَفْنَا مَنْ دَانَ بِهَا غَيْرَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُونَ أَهْلَ كِتَابٍ يُقَرُّونَ عَلَيْهِ بِالْجِزْيَةِ ، وَتُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ ، وَتُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ، أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ يُقَرُّونَ عَلَى التَّدَيُّنِ بِهِ ، وَتُؤْخَذُ جِزْيَتُهُمْ ، وَتُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ ، وَتُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ . وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ : لِأَنَّ حُرْمَةَ الْكِتَابِ لِنُزُولِهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَحُرْمَةَ
مَنْ دَانَ بِهِ أَنَّهُ كَانَ عَلَى حَقٍّ ، فَكَانَ كِتَابُهُمْ مُسَاوِيًا لِلتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ، وَكَانُوا هُمْ مُسَاوِينَ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ، كَمَا كَانَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ فِي أَيَّامِ مُوسَى وَعِيسَى مُسَاوِيَيْنِ لِلْقُرْآنِ فِي نُزُولِهِ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فِي أَيَّامِهَا مُسَاوِينَ لِلْمُسْلِمِينَ ، وَلَيْسَ التَّفَاضُلُ بَيْنَهُمْ بِمَانِعٍ مِنَ التَّسَاوِي فِي الْحَقِّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُمْ لَا يُقَرُّونَ عَلَى كِتَابِهِمْ ، وَلَا تُقْبَلُ جِزْيَتُهُمْ ، وَلَا تُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ ، فَيَكُونُونَ مُخَالِفِينَ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي تَمَسُّكِهِمْ بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا رَفَعَهَا بَعْدَ نُزُولِهَا دَلَّ عَلَى ارْتِفَاعِ حُكْمِهَا ، فَزَوَالُ حُرْمَتِهَا ، وَلَمَّا بَقَّى التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ دَلَّ عَلَى بَقَاءِ حُكْمِهِمَا وَثُبُوتِ حُرْمَتِهِمَا ، وَإِطْلَاقُ هَذَيْنِ الْجَوَابَيْنِ عِنْدِي غَيْرُ صَحِيحٍ ، فَالْوَاجِبُ اعْتِبَارُ كِتَابِهِمْ ، فَإِنْ كَانَ يَتَضَمَّنُ تَعَبُّدًا وَأَحْكَامًا يَكْتَفِي أَهْلُهُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ كَانَ كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فِي ثُبُوتِ حُرْمَتِهِ وَإِقْرَارِ أَهْلِهِ . وَإِنْ لَمْ يَتَضَمَّنْ تَعَبُّدًا وَأَحْكَامًا ، وَكَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى مَوَاعِظَ وَأَمْثَالٍ يَفْتَقِرُ أَهْلُهُ فِي التَّعَبُّدِ وَالْأَحْكَامِ إِلَى غَيْرِهِ كَانَ مُخَالِفًا لِحُرْمَةِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَرَّ أَهْلُهُ عَلَيْهِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ حُكْمُ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ مُقَرُّونَ بِالْجِزْيَةِ عَلَى مَا تَدَيَّنُوا بِهِ مِنْ شَرَائِعِهِمْ ، فَالْكَلَامُ فِي تَعْيِينِهِمْ ، وَحُكْمِ مَنْ دَخَلَ فِي أَدْيَانِهِمْ تعيين أهل الكتاب وحكم من دخل في أديانهم مُشْتَمِلٌ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَنْ عَرَفَ كِتَابَهُ وَدِينَهُ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى . وَالثَّانِي : مَنْ لَمْ يَعْرِفْ . فَأَمَّا الْمَعْرُوفُونَ مِنَ الْيَهُودِ الْمُتَدَيِّنُونَ بِالتَّوْرَاةِ وَالنَّصَارَى الْمُتَدَيِّنُونَ بِالْإِنْجِيلِ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَنْ عَايَنَهُ وَآمَنَ بِهِ وَتَدَيَّنَ بِكِتَابِهِ كَالْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَصْرِ مُوسَى ، وَالنَّصَارَى الَّذِينَ كَانُوا فِي عَصْرِ عِيسَى مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ، وَإِسْرَائِيلُ هُوَ يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ ، وَأَبْنَاءُ هَؤُلَاءِ الْآبَاءِ مُقَرُّونَ عَلَى دِينِهِمْ بِالْجِزْيَةِ ، وَهُمْ أَبْنَاءُ مَنْ عَاصَرَ مُوسَى وَعِيسَى ، فَإِنْ لَمْ يُبَدِّلُوا كَانَتْ لَهُمْ حُرْمَتَانِ : حُرْمَةُ آبَائِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى حَقٍّ ، وَحُرْمَةٌ بِأَنْفُسِهِمْ فِي تَمَسُّكِهِمْ بِكِتَابِهِمْ ، وَإِنْ بَدَّلُوا أَقَرُّوا مَعَ التَّبْدِيلِ لِإِحْدَى الْحُرْمَتَيْنِ ، وَهِيَ حُرْمَةُ آبَائِهِمْ ، وَلَيْسَ لَهُمْ حُرْمَةُ أَنْفُسِهِمْ فِي التَّمَسُّكِ بِكِتَابِهِمْ : لِأَنَّ الْمُبَدِّلَ لَا حُرْمَةَ لَهُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَنْ دَخَلَ فِي دِينِهِمَا مِنْ غَيْرِهِمَا ، بَعْدَ انْقِضَاءِ عَصْرِ نُبُوَّتِهِمَا ، وَهُوَ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْيَهُودِيَّةِ بَعْدَ مُوسَى ، وَفِي النَّصْرَانِيَّةِ بَعْدَ عِيسَى ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ يَدْخُلُوا فِيهِ قَبْلَ تَبْدِيلِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَدْخُلُوا فِيهِ بَعْدَ نَسْخِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَدْخُلُوا فِيهِ بَعْدَ تَبْدِيلِهِ وَقَبْلَ نَسْخِهِ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ أَنْ يَدْخُلُوا فِيهِ قَبْلَ تَبْدِيلِهِ ، فَهُمْ مُقَرُّونَ عَلَيْهِ بِالْجِزْيَةِ كَالدَّاخِلِ فِيهِ عَلَى عَصْرِ نَبِيِّهِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ أَبْنَاؤُهُمُ الْآنَ مُبْدَلِينَ أَوْ غَيْرَ مُبَدِّلِينَ ، وَلِأَنَّ لَهُمْ حُرْمَتَيْنِ إِنْ لَمْ يُبَدِّلُوا ، وَحُرْمَةً وَاحِدَةً إِنْ بَدَّلُوا : لِأَنَّ دِينَهُمْ عَلَى حَقٍّ بَعْدَ مَوْتِ نَبِيِّهِمْ كَمَا كَانَ عَلَى حَقٍّ قَبْلَ مَوْتِهِ ، فَاسْتَوَتْ حُرْمَةُ الدُّخُولِ فِيهِ مِنَ الْحَالَيْنِ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يَدْخُلُوا فِيهِ بَعْدَ نَسْخِهِ ، وَبَعْدَ نَسْخِ شَرِيعَةِ عِيسَى فِي النَّصْرَانِيَّةِ بِشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ . فَأَمَّا نَسْخُ شَرِيعَةِ مُوسَى فَفِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا تَكُونُ مَنْسُوخَةً بِالنَّصْرَانِيَّةِ - شَرِيعَةِ عِيسَى - وَهُوَ أَظْهَرُهَا ، لِاخْتِلَافِهِمَا وَأَنَّ الْحَقَّ فِي أَحَدِهِمَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ دُونَ النَّصْرَانِيَّةِ : لِأَنَّ عِيسَى نَسَخَ مِنْ شَرِيعَةِ مُوسَى مَا خَالَفَهَا ، وَلَمْ يَنْسَخْ مِنْهَا مَا وَافَقَهَا ، وَإِنَّمَا نَسَخَ الْإِسْلَامُ جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الشَّرَائِعِ . فَإِذَا ثَبَتَ مَا نَسَخَ بِهِ كُلَّ شَرِيعَةٍ ، فَمَنْ دَخَلَ فِي دِينٍ بَعْدَ نَسْخِهِ لَمْ يُقَرَّ عَلَيْهِ ، لِعَدَمِ حُرْمَتِهِ عِنْدَ دُخُولِهِ فِيهِ ، فَصَارَ كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فِي عَدَمِ الْحُرْمَةِ . وَقَالَ الْمُزَنِيُّ : يُقَرُّ الدَّاخِلُ فِيهِ بَعْدَ نَسْخِهِ كَمَا يُقَرُّ الدَّاخِلُ فِيهِ قَبْلَ نَسْخِهِ وَتَبْدِيلِهِ ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ، [ الْمَائِدَةِ : 51 ] . وَهَذَا فَاسِدٌ بِمَا عَلَّلْنَا بِهِ مِنْ عَدَمِ الْحُرْمَةِ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ . وَقَوْلُهُ : وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ يَعْنِي فِي وُجُوبِ الْقَتْلِ : لِأَنَّ مَنْ تَوَلَّاهُمْ مِنَّا مُرْتَدٌّ لَا يُقَرُّ عَلَى رِدَّتِهِ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يَدْخُلُوا فِيهِ بَعْدَ التَّنْزِيلِ وَقَبْلَ النَّسْخِ ، فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَدْخُلُوا فِيهِ مَعَ غَيْرِ الْمُبَدِّلِينَ مِثْلَ الرُّومِ ، فَيَكُونُوا كَالدَّاخِلِ فِيهِ قَبْلَ التَّبْدِيلِ فِي إِقْرَارِهِمْ بِالْجِزْيَةِ وَنِكَاحِ نِسَائِهِمْ وَأَكْلِ ذَبَائِحِهِمْ : لِأَنَّ حُرْمَتَهُ فِي غَيْرِ الْمُبَدِّلِينَ ثَابِتَةٌ .
وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَدْخُلُوا فِيهِ مَعَ الْمُبَدِّلِينَ كَطَوَائِفَ مِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ ، فَيَكُونُوا كَالدَّاخِلِ فِيهِ بَعْدَ النَّسْخِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يُشْكِلَ حَالُ دُخُولِهِمْ فِيهِ هَلْ كَانَ مَعَ الْمُبَدِّلِينَ أَوْ مَعَ غَيْرِ الْمُبَدِّلِينَ : أَوْ يُشْكِلَ هَلْ دَخَلُوا قَبْلَ التَّبْدِيلِ أَوْ بَعْدَ التَّبْدِيلِ كَتَنُوخَ وَبَهْرَاءَ وَبَنِي تَغْلِبَ ، فَهَؤُلَاءِ قَدْ وَقَفَهُمُ الْإِشْكَالُ بَيْنَ أَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُوجِبُ حَقْنَ دِمَائِهِمْ وَاسْتِبَاحَةَ نِكَاحِهِمْ ، كَالدَّاخِلِ فِيهِ مَعَ غَيْرِ الْمُبَدِّلِينَ . وَالثَّانِي : يُوجِبُ إِبَاحَةَ دِمَائِهِمْ ، وَحَظْرَ مَنَاكِحِهِمْ كَالدَّاخِلِ فِيهِ مَعَ الْمُبَدِّلِينَ ، فَوَجَبَ أَنْ يَغْلِبَ فِي الْأَصْلَيْنِ مَعًا حُكْمُ الْحَظْرِ دُونَ الْإِبَاحَةِ ، فَيُقَرُّوا بِالْجِزْيَةِ حَقْنًا لِدِمَائِهِمْ : لِأَنَّ أَصْلَ الدِّمَاءِ عَلَى الْحَظْرِ ، وَلَا تُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ ، وَلَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ : لِأَنَّ أَصْلَ الْفُرُوجِ عَلَى الْحَظْرِ ، وَالْحَظْرُ تَعْيِينٌ ، وَالْإِبَاحَةُ شَكٌّ ، فَغَلَبَ حُكْمُ الْيَقِينِ عَلَى الشَّكِّ ، وَصَارُوا فِي ذَلِكَ كَالْمَجُوسِ ، فَهَذَا حُكْمُ الْكِتَابِ الْمَشْهُورِ ، وَالدِّينِ الْمَعْرُوفِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي : وَهُوَ مَنِ ادَّعَى كِتَابًا غَيْرَ مَشْهُورٍ ، وَدِينًا غَيْرَ مَعْرُوفٍ هل يجري عليهم أحكام أهل الكتاب كَالزُّبُرِ الْأُولَى ، وَالصُّحُفِ الْمُتَقَدِّمَةِ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ لَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ أَهْلِ الْكِتَابِ ، لَمْ يُقَرُّوا عَلَى دِينِهِمْ وَإِنْ تَحَقَّقْنَا كِتَابَهُمْ . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُمْ يُقَرُّونَ عَلَى دِينِهِمْ وَتُحْفَظُ حُرْمَةُ كِتَابِهِمْ ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُمْ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَتَحَقَّقَ صِدْقُهُمْ ، يُعْرَفُ كِتَابُهُمْ ، فَيَكُونُوا كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي إِقْرَارِهِمْ بِالْجِزْيَةِ ، وَاسْتِبَاحَةِ مَنَاكِحِهِمْ ، وَأَكْلِ ذَبَائِحِهِمْ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَتَحَقَّ كَذِبُ قَوْلِهِمْ ، وَأَنْ لَا كِتَابَ لَهُمْ ، فَيَكُونُوا كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فِي اسْتِبَاحَةِ دِمَائِهِمْ ، وَحَظْرِ مَنَاكِحِهِمْ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَحْتَمِلَ مَا قَالُوهُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ ، وَلَيْسَ عَلَى أَحَدِهِمَا دَلِيلٌ يُقْطَعُ بِهِ ، فَلَا يُقْبَلُ فِيهِمْ قَوْلُ كُفَّارِهِمْ . فَإِنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ عَدَدٌ يَكُونُ خَبَرُهُمْ مُسْتَفِيضًا حُكِمَ بِقَوْلِهِمْ فِي ثُبُوتِ كِتَابِهِمْ وَإِقْرَارِهِمْ بِالْجِزْيَةِ عَلَى دِينِهِمْ ، وَاسْتِبَاحَةِ مَنَاكِحِهِمْ . وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ مِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ خَبَرُهُ مُسْتَفِيضًا مُتَوَاتِرًا ، وَلَمْ يُعْلَمْ قَوْلُهُمْ إِلَّا مِنْهُمْ فِي حَالِ كُفْرِهِمْ ، فَيُقَرُّونَ بِالْجِزْيَةِ : لِأَنَّهَا مَالٌ بَذَلُوهُ لَا يَحْرُمُ عَلَيْنَا أَخْذُهُ ، وَأَصْلُ الدِّمَاءِ عَلَى الْحَظْرِ ، فَلَا يَحِلُّ لَنَا قَتْلُهُمْ .
فَأَمَّا اسْتِبَاحَةُ مَنَاكِحِهِمْ ، وَأَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمْ فِيهَا : لِأَنَّهَا عَلَى أَصْلِ الْحَظْرِ ، فَلَا تُسْتَبَاحُ بِقَوْلِ مَنْ لَا يُوثَقُ بِصِدْقِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَالْمَجُوسُ أَهْلُ كِتَابٍ دَانُوا بِغَيْرِ دِينِ أَهْلِ الْأَوْثَانِ ، وَخَالَفُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فِي بَعْضِ دِينِهِمْ ، كَمَا خَالَفَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فِي بَعْضِ دِينِهِمْ ، وَكَانَتِ الْمَجُوسُ فِي طَرَفٍ مِنَ الْأَرْضِ ، لَا يَعْرِفُ السَّلَفُ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ مِنْ دِينِهِمْ مَا يَعْرِفُونَ مِنْ دِينِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى حَتَّى عَرَفُوهُ ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : هُمْ أَهْلُ كِتَابٍ بَدَّلُوا فَأَصْبَحُوا وَقَدْ أُسْرِيَ بِكِتَابِهِمْ ، وَأَخَذَهَا مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَمَّا الْمَجُوسُ ، فَقَدْ كَانُوا عَلَى بُعْدٍ مِنَ الْحِجَازِ ، وَكَانَتْ دِيَارُهُمُ الْعِرَاقَ وَفَارِسَ ، وَهُمْ يَتَدَيَّنُونَ بِنُبُوَّةِ زَرَادُشْتَ وَإِقْرَارِهِمْ بِالْجِزْيَةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، لِمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ أُشْكِلَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْمَجُوسِ حِينَ افْتَتَحَ بِلَادَهُمْ بالْعِرَاقِ ، وَقَالَ : مَا أَدْرِي مَا أَصْنَعُ فِي أَمْرِهِمْ : فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ : أَشْهَدُ لَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ . فَأَخَذَ عُمَرُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ بِالْعِرَاقِ وَفَارِسَ ، وَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ أَخَذَهَا مِنْهُمْ فِيمَا افْتَتَحَهُ مِنْ أَطْرَافِ الْعِرَاقِ ، وَأَخَذَهَا بَعْدَهُمَا عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ ، فَكَانَ أَخْذُهَا مِنْهُمْ سُنَّةً عَنِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَثَرًا عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا كِتَابُ الْمَجُوسِ ، فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ فِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ كِتَابٌ ، وَاخْتُلِفَ هَلْ كَانَ لَهُمْ ، فَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ - فِيمَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا - أَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْأُمِّ ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : لَا كِتَابَ لَهُمْ ، وَقَدْ عَلَّقَ الْقَوْلَ فِي مَوْضِعٍ ثَالِثٍ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي مَذْهَبِهِ ، فَذَهَبَ الْبَغْدَادِيُّونَ إِلَى أَنَّهُ عَلَى قَوْلَيْنِ بِحَسْبَ اخْتِلَافِ نَصِّهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ . وَالثَّانِي : لَيْسَ لَهُمْ كِتَابٌ . وَذَهَبَ الْبَصْرِيُّونَ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِمْ ، وَحَمَلُوا قَوْلَهُ : إِنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ عَلَى أَنَّ حُكْمَهُمْ حُكْمُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي إِقْرَارِهِمْ بِالْجِزْيَةِ خَاصَّةً ، وَقَوْلِهِ : إِنَّهُ لَا كِتَابَ لَهُمْ فِي أَنَّهُ لَا تُسْتَبَاحُ مَنَاكِحِهِمْ ، وَلَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ ، وَأَنَّهُمْ لَا يَتْلُونَ كِتَابًا لَهُمْ . وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ أَصْحَابِنَا مَا قَالَهُ الْبَغْدَادِيُّونَ مِنَ الْقَوْلَيْنِ دُونَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْبَصْرِيُّونَ مِنَ اخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ .
فَإِذَا قِيلَ : إِنَّهُ لَا كِتَابَ لَهُمْ ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْعِرَاقِ ، فَدَلِيلُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا ، [ الْأَنْعَامِ : 156 ] . فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا كِتَابَ لِمَنْ عَدَاهُمَا ، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ كَاتَبَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ ، قَالَ فِي كِتَابِهِ إِلَى قَيْصَرَ : يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا [ آلِ عِمْرَانَ : 64 ] . فَجَعَلَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَلَمْ يَكْتُبْ إِلَى كِسْرَى بِهَذَا ، وَكَتَبَ : أَسْلِمِ تَسْلَمْ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ كِتَابٌ ، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَلَوْ كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ لَاسْتَغْنَى عَنْ هَذَا بِأَنْ قَالَ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ . وَلِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ كَانُوا يُحِبُّونَ أَنْ يَظْهَرَ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ : لِأَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ ، وَكَانَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ يُحِبُّونَ أَنْ يَظْهَرَ فَارِسُ عَلَى الرُّومِ : لِأَنَّهُمْ غَيْرُ أَهْلِ كِتَابٍ ، فَلَمَّا غَلَبَتْ فَارِسُ الرُّومَ سُرَّ الْمُشْرِكُونَ ، وَقَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ : تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ سَتَغْلِبُونَا : لِأَنَّكُمْ أَهْلُ كِتَابٍ ، وَقَدْ غَلَبَتْ فَارِسُ الرُّومَ ، وَالرُّومُ أَهْلُ كِتَابٍ ، فَأُخْبَرُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ فَسَاءَهُ فَنَزَلَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ [ الرُّومِ : 1 - 5 ] . فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ ، وَبَادَرَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى كَفَّارِ قُرَيْشٍ ، فَأَخْبَرَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَنَّ الرُّومَ سَتَغْلِبُ فَارِسًا ، وَتَقَامَرَ أَبُو بَكْرٍ وَأُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ عَلَى هَذَا بِأَرْبَعِ قَلَائِصَ إِلَى ثَلَاثِ سِنِينَ ، وَكَانَ الْقِمَارُ يَوْمَئِذٍ حَلَالًا ، فَلَمَّا عَلِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَدَّرَ لَهُمْ هَذِهِ الْمُدَّةَ أَنْكَرَهَا ، وَقَالَ : مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا فَعَلْتَ ؟ قَالَ : ثِقَةٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ . قَالَ : فَكَمِ الْبِضْعُ ؟ قَالَ : مَا بَيْنَ الثَّلَاثِ إِلَى الْعَشْرِ . فَقَالَ لَهُ : زِدْهُمْ فِي الْخَطَرِ ، وَازْدَدْ فَيَ الْأَجَلِ فَزَادَهُمْ قَلُوصَيْنِ وَازْدَادَ مِنْهُمْ فِي الْأَجَلِ سَنَتَيْنِ ، فَصَارَتِ الْقَلَائِصُ سِتًّا ، وَالْأَجَلُ خَمْسًا ، فَلَمَّا أَرَادَ أَبُو بَكْرٍ الْهِجْرَةَ عَلِقَ بِهِ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ وَقَالَ لَهُ : أَعْطِنِي كَفِيلًا بِالْخَطَرِ إِنْ غَلَبْتُ ، فَكَفَلَ بِهِ ابْنَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْجَزَ وَعْدَهُ فِي غَلَبَةِ الرُّومِ لِفَارِسَ فِي عَامِ بَدْرٍ ، وَنَصَرَ رَسُولَهُ عَلَى قُرَيْشٍ يَوْمَ بَدْرٍ ، وَقِيلَ : إِنَّهُ كَانَ النَّصْرَانِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ ، فَعُلِمَ بِهَذَا الْخَبَرِ أَنَّ الْفُرْسَ ، وَهُمُ الْمَجُوسُ ، لَمْ يَكُنْ لَهُمْ كِتَابٌ ، وَأَنَّ الرُّومَ مِنَ النَّصَارَى هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ ، وَلِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ ، لَظَهَرَ فِيهِمْ كَظُهُورِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ، وَلَجَرَتْ عَلَيْهِمْ مِنَ اسْتِبَاحَةِ مَنَاكِحِهِمْ ، وَأَكْلِ ذَبَائِحِهِمْ أَحْكَامُ أَهْلِ الْكِتَابِ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى . وَإِذَا قُلْنَا بِالْقَوْلِ الثَّانِي إِنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ ، فَدَلِيلُنَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ ، عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمَرْزُبَانِ ، عَنْ نَصْرِ بْنِ عَاصِمٍ ، قَالَ : قَالَ فَرْوَةُ بْنُ نَوْفَلٍ الْأَشْجَعِيُّ
عَلَى مَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِنَ الْمَجُوسِ ، وَلَيْسُوا بِأَهْلِ كِتَابٍ ، فَقَامَ إِلَيْهِ الْمُسْتَوْرِدُ ، فَأَخَذَ بِلَبَّتِهِ وَقَالَ : يَا عَدُوَّ اللَّهِ تَطْعَنُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ ، وَعُمَرَ وَعَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ - يَعْنِي عَلِيًّا - وَقَدْ أَخَذُوا مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ ، فَذَهَبَ بِهِ إِلَى الْقَصْرِ فَخَرَجَ عَلِيٌّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَالَ : اتَّئِدَا فَجَلَسْنَا فِي ظِلِّ الْقَصْرِ ، فَقَالَ : أَنَا أَعْلَمُ النَّاسِ بِالْمَجُوسِ ، كَانَ لَهُمْ عِلْمٌ يُعَلِّمُونَهُ ، وَكِتَابٌ يُدَرِّسُونَهُ ، وَإِنَّ مَلِكَهُمْ سَكِرَ ، فَوَقَعَ عَلَى ابْنَتِهِ أَوْ أُخْتِهِ ، فَاطَّلَعَ عَلَيْهِ بَعْضُ أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ فَلَمَّا صَحَا جَاءُوا يُقِيمُونَ عَلَيْهِ الْحَدَّ ، فَامْتَنَعَ مِنْهُمْ فَدَعَا أَهْلَ مَمْلَكَتِهِ ، فَلَمَّا أَتَوْهُ قَالَ : أَتَعْلَمُونَ دِينًا خَيْرًا مِنْ دِينِ آدَمَ ، وَقَدْ كَانَ يُنْكِحُ بَنِيهِ مِنْ بَنَاتِهِ ، وَأَنَا عَلَى دِينِ آدَمَ مَا نَزَعْتُ بِكُمْ عَنْ دِينِهِ ، فَبَايَعُوهُ ، وَقَاتَلُوا الَّذِينَ خَالَفُوهُمْ حَتَّى قَتَلُوهُمْ ، فَأَصْبَحُوا وَقَدْ أُسْرِيَ عَلَى كِتَابِهِمْ فَرُفِعَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ ، وَذَهَبَ الْعِلْمُ الَّذِي فِي صُدُورِهِمْ فَهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ . وَقَدْ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ ، وَانْتِشَارُ هَذَا مَعَ عَدَمِ الْمُخَالِفِ فِيهِ إِجْمَاعٌ مُنْعَقِدٌ ، وَلِأَنَّ الِاتِّفَاقَ عَلَى جَوَازِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ ، وَهِيَ مَقْصُورَةٌ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ تَجْعَلُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الدَّاخِلِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ ، [ التَّوْبَةِ : 29 ] . وَلِأَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا يَنْتَسِبُونَ إِلَى نَبِيٍّ مَبْعُوثٍ ، وَيَتَعَـبَّدُونَ بِدِينٍ مَشْرُوعٍ ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ كِتَابٍ يَلْتَزِمُونَ أَحْكَامَهُ ، وَيَعْتَقِدُونَ حَلَالَهُ وَحَرَامَهُ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، فَإِنْ قِيلَ بِالْأَوَّلِ مِنْهُمَا : إِنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ كِتَابٌ لو قيل أن المجوس ليسوا بأهل كتاب فهل تحل مناكحهم وأكل ذبائحهم جَازَ إِقْرَارُهُمْ عَلَى الْجِزْيَةِ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَلَمْ يَجُزِ اسْتِبَاحَةُ مَنَاكِحِهِمْ المجوس ، وَلَا أَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ المجوس . وَإِنْ قِيلَ بِالثَّانِي : إِنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ فَفِي اسْتِبَاحَةِ مَنَاكِحِهِمْ ، وَأَكْلِ ذَبَائِحِهِمْ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ : أَحَدُهُمَا : يَحِلُّ نِكَاحُ نِسَائِهِمْ ، وَأَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ لِثُبُوتِ كِتَابِهِمْ ، وَلِأَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ نَكَحَ مَجُوسِيَّةً بِالْعِرَاقِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَظْهَرُ أَنَّهُ لَا تَحِلُّ نِسَاؤُهُمْ ، وَلَا أَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ ، وَإِنْ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ : لِأَنَّ كِتَابَهُمْ رُفِعَ ، فَارْتَفَعَ حُكْمُهُ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ ، مَعَ مَا انْعَقَدَ عَلَيْهِ إِجْمَاعُ الْأَعْصَارِ أَنَّهُ قَوْلُ بِضْعَةَ عَشَرَ مِنَ الصَّحَابَةِ ، وَمَا عَلِمْنَا مُخَالِفًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى بُعِثَ نَبِيٌّ مِنَ الْكَرْخِ يَعْنِي أَبَا ثَوْرٍ يُرِيدُ أَنَّهُ لَمَّا تَفَرَّدَ بِقَوْلٍ خَالَفَ فِيهِ مَنْ تَقَدَّمَهُ صَارَ كَنَبِيٍّ يُشَرِّعُ الْأَحْكَامَ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : " وَالصَّابِئُونَ هل يؤخذ الجزية منهم وَالسَّامِرَةُ هل يؤخذ الجزية منهم مِثْلُهُمْ يُؤْخَذُ مِنْ جَمِيعِهِمُ الْجِزْيَةُ ، وَلَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مَنْ أَهِلِ الْأَوْثَانِ ، وَلَا مِمَنْ عَبَدَ مَا اسْتَحْسَنَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الصَّابِئَةُ ، فَطَائِفَةٌ تَنْضَمُّ إِلَى النَّصَارَى ، وَالسَّامِرَةُ طَائِفَةٌ تَنْضَمُّ إِلَى الْيَهُودِ ، وَلَا يَخْلُو حَالُ انْضِمَامِهَمَا إِلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ خَمْسَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ نَعْلَمَ أَنَّهُمْ يُوَافِقُونَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فِي أُصُولِ دِينِهِمْ ، وَفُرُوعِهِ ، فَيَجُوزُ أَنْ يُقَرُّوا بِالْجِزْيَةِ ، وَتُنْكَحَ نِسَاؤُهُمْ ، وَتُؤْكَلَ ذَبَائِحُهُمْ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يُخَالِفُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فِي أُصُولِ دِينِهِمْ وَفُرُوعِهِ ، فَلَا يَجُوزُ إِقْرَارُهُمْ بِالْجِزْيَةِ ، وَلَا تُسْتَبَاحُ مَنَاكِحُهُمْ ، وَلَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يُوَافِقُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فِي أُصُولِ دِينِهِمْ ، وَيُخَالِفُوهُمْ فِي فُرُوعِهِ ، فَيَجُوزُ أَنْ يُقَرُّوا بِالْجِزْيَةِ ، وَتُسْتَبَاحُ مَنَاكِحُهُمْ ، وَأَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ : لِأَنَّ الْأَحْكَامَ تَجْرِي عَلَى أُصُولِ الْأَدْيَانِ ، وَلَا يُؤَثِّرُ الِاخْتِلَافُ فِي فُرُوعِهَا كَمَا لَمْ يُؤَثِّرِ اخْتِلَافُ الْمُسْلِمِينَ فِي فُرُوعِ دِينِهِمْ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يُوَافِقُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فِي فُرُوعِ دِينِهِمْ ، وَيُخَالِفُوهُمْ فِي أُصُولِهِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَرُّوا بِالْجِزْيَةِ ، وَلَا تُسْتَبَاحَ مَنَاكِحُهُمْ ، وَلَا أَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ تَعْلِيلًا بِاعْتِبَارِ الْأُصُولِ فِي الدِّينِ . وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ : أَنْ يُشْكِلَ أَمْرُهُمْ ، وَلَا يُعْلَمَ مَا خَالَفُوهُمْ فِيهِ ، وَوَافَقُوهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَصْلٍ وَفَرْعٍ ، فَيُقَرُّوا بِالْجِزْيَةِ حَقْنًا لِدِمَائِهِمْ ، وَلَا تُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ ، وَلَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ تَغْلِيبًا لِلْحَظْرِ فِي الْأَمْرَيْنِ كَالَّذِي قُلْنَاهُ فِيمَنْ أُشْكِلَ دُخُولُهُ فِي الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ ، هَلْ كَانَ مِنَ الْمُبَدِّلِينَ . فَإِنْ أَسْلَمَ اثْنَانِ مِنَ الصَّابِئِينَ وَالسَّامِرَةِ ، فَشَهِدَا بِمَا وَافَقُوا عَلَيْهِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ أَصْلٍ وَفَرْعٍ حُكِمَ بِشَهَادَتِهِمَا ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِمْ حُكْمُهَا ، وَلَا يُرَاعَى فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ عَدَدُ التَّوَاتُرِ ، وَيُرَاعَى عَدَدُ التَّوَاتُرِ فِيمَنِ ادَّعَوْا أَنَّ لَهُمْ كِتَابًا غَيْرَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ : لِأَنَّ هَذَا إِخْبَارٌ عَنْ أَصْلِ دِينٍ مَجْهُولٍ ، فَرَاعَيْنَا فِيهِ خَبَرَ التَّوَاتُرِ وَالِاسْتِفَاضَةِ ، وَمُعْتَقَدُ الصَّابِئِينَ وَالسَّامِرَةِ دِينٌ مَعْرُوفٌ يُعَوَّلُ فِي صِفَتِهِ عَلَى الشَّهَادَةِ فَافْتَرَقَا ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : إِنَّ السَّامِرَةَ مِنْ نَسْلِ السَّامِرِيِّ ، وَإِنَّهُمُ اعْتَزَلُوا عَنِ الْيَهُودِ بِأَنْ يَقُولُوا لَا مِسَاسَ ، فَإِنْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا فَهُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَحِلُّ نِكَاحُ نِسَائِهِمْ ، وَأَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ . وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ فِي الصَّابِئِينَ : إِنَّهُمْ يَقُولُونَ : إِنَّ الْمَلِكَ حَيٌّ نَاطِقٌ وَإِنَّ الْكَوَاكِبَ السَّبْعَةَ آلِهَةٌ ، وَاسْتُفْتِيَ فِيهِمْ فِي أَيَّامِ الْقَاهِرِ فَأَفْتَى ، فَهَمَّ الْقَاهِرُ بِقَتْلِهِمْ ، إِنْ
لَمْ يُسْلِمُوا ، فَاسْتَدْفَعُوا الْقَتْلَ بِبَذْلِ مَالٍ جَزِيلٍ ، فَإِنْ كَانُوا عَلَى مَا حَكَاهُ أَبُو سَعِيدٍ فَهُمْ كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ ، لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَرُّوا بِالْجِزْيَةِ ، وَلَا تُسْتَبَاحَ مَنَاكِحُهُمْ ، وَلَا يَحِلَّ أَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ الْجِزْيَةِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَالضِّيَافَةِ وَمَا لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ
بيان مَا تُحْقَنُ بِهِ دِمَاءُ الْمُشْرِكِينَ
بَابُ الْجِزْيَةِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَالضِّيَافَةِ ضيافة أهل الذمة وَمَا لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ، قَالَ : وَالصَّغَارُ أَنْ تُؤْخَذَ مِنْهُمْ وَتُجْرَى عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ مَا تُحْقَنُ بِهِ دِمَاءُ الْمُشْرِكِينَ يَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ : هُدْنَةٌ ، وَعَهْدٌ ، وَأَمَانٌ ، وَذِمَّةٌ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ الْهُدْنَةُ تعريفها : فَهُوَ أَنْ يُوَادَعَ أَهْلُ الْحَرْبِ فِي دَارِهِمْ عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ مُدَّةً أَكْثَرُهَا عَشْرُ سِنِينَ المدة في الهدنة ، كَمَا هَادَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُرَيْشًا عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّى عَقْدَهَا إِلَّا الْإِمَامُ أَوْ مَنْ يَسْتَنِيبُهُ شروط عقد الهدنة فِيهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا وَظُهُورِ الْمَصْلَحَةِ فِيهَا من شروط عقد الهدنة ظهور المصلحة فيها للمسلمين . وَيَجُوزُ أَنْ يَعْقِدَ عَلَى مَالٍ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ الهدنة على مال من قبل الكفار إِذَا أَمْكَنَ وَعَلَى غَيْرِ مَالٍ إِذَا تَعَذَّرَ ، وَعَلَى مَالٍ يُدْفَعُ إِلَيْهِمْ عِنْدَ الضَّرُورَةِ الهدنة على مال يدفع للكفار كَالَّذِي هَمَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ الْخَنْدَقِ حِينَ تَمَالَأَتْ عَلَيْهِ قُرَيْشٌ ، وَغَطَفَانُ وَالْأَحَابِيشُ أَنْ يُعْطِيَهُمْ شَطْرَ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ ، لِيَنْصَرِفُوا عَنْهَا ، فَقَالَ أَهْلُهَا مِنَ الْأَنْصَارِ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنْ كُنْتَ تَفْعَلُ هَذَا بِوَحْيٍ مِنَ السَّمَاءِ فَالسَّمْعُ وَالطَّاعَةُ ، وَإِنْ كَانَ رَأْيًا رَأَيْتَهُ فَوَاللَّهِ مَا كُنَّا نُعْطِيهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَمْرَةً إِلَّا قِرًى أَوْ شَرًّا : فَكَيْفَ وَقَدْ أَعَزَّنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ : فَلَمَّا عَرَفَ قُوَّةَ أَنْفُسِهِمْ كَفَّ ، وَصَابَرَهُمْ عَلَى الْقِتَالِ حَتَّى انْصَرَفُوا ، فَكَانَ فِيمَا هَمَّ بِفِعْلِهِ مِنْ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِهِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ الْعَهْدُ تعريفه : فَهُوَ أَنْ يُجْعَلَ لِمَنْ دَخَلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ أَمَانٌ إِلَى مُدَّةٍ مُقَدَّرَةٍ من شروط عقد الأمان تحديد المدة بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَبْلُغَ سَنَةً من شروط عقد الأمان ، وَفِيمَا بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَسَنَةٍ قَوْلَانِ . فَإِنْ كَانَ عَلَى مَالٍ عقد الأمان على مال يُؤْخَذُ مِنْهُمْ كَانَ أَوْلَى ، وَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ مَالٍ جَازَ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْقَدَ عَلَى مَالٍ يُدْفَعُ إِلَيْهِمْ ، وَلَا أَنْ يَتَوَلَّى عَهْدَهُمْ غَيْرُ الْإِمَامِ من شروط عقد الأمان ، فَيَكُونَ الْعَهْدُ مُوَافِقًا لِلْهُدْنَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ ، وَمُخَالِفًا لَهَا مِنْ وَجْهَيْنِ : فَأَمَّا الْوَجْهَانِ فِي الْمُوَافَقَةِ :
فَأَحَدُهُمَا : أَنْ لَا يَتَوَلَّاهُمَا إِلَّا الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ أمان نائب الإمام . وَالثَّانِي : أَنْ لَا يُجِيبَ إِلَيْهِمَا إِلَّا عِنْدَ الْمَصْلَحَةِ من شروط عقد الأمان حصول المصلحة للمسلمين فِيمَا لِلْمُسْلِمِينَ دُونَهُمْ . وَأَمَّا الْوَجْهَانِ فِي الْمُخَالَفَةِ : فَأَحَدُهُمَا : أَنَّ الْهُدْنَةَ يَجُوزُ أَنْ تُعْقَدَ عَلَى مَالٍ يُدْفَعُ إِلَيْهِمْ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْقَدَ الْعَهْدُ عَلَى مَالٍ يُدْفَعُ إِلَيْهِمْ . وَالثَّانِي : فِي قَدْرِ الْمُدَّةِ ، وَاخْتِلَافِهِمَا فِيهِمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ انْتِهَاءَ مُدَّةِ الْهُدْنَةِ مُقَدَّرَةٌ بِعَشْرِ سِنِينَ ، وَانْتِهَاءَ مُدَّةِ الْمُقَامِ فِي الْعَهْدِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَجُوزُ فِي مُدَّةِ الْعَهْدِ أَنْ يَتَكَرَّرَ دُخُولُهُمْ بِذَلِكَ الْعَهْدِ ، وَلَا يَجُوزُ بَعْدَ مُدَّةِ الْهُدْنَةِ أَنْ تَتَكَرَّرَ مُوَادَعَتُهُمْ إِلَّا بِاسْتِئْنَافِ عَقْدٍ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ الْأَمَانُ تعريف عقد الأمان : فَهُوَ مَا بَذَلَهُ الْوَاحِدُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ عَدَدٌ يَسِيرٌ لِوَاحِدٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَوْ لِعَدَدٍ كَثِيرٍ فَيَكُونُ مُوَافِقًا لِلْعَهْدِ مِنْ وَجْهَيْنِ ، وَمُخَالِفًا لَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : فَأَمَّا الْوَجْهَانِ فِي الْمُوَافَقَةِ : فَأَحَدُهُمَا : فِي تَقْدِيرِ مُدَّتِهَا بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ . وَالثَّانِي : الْتِزَامُ حُكْمِهِمَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَا يَلْزَمُ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، وَلَا مِنَ الْمُحَارِبِينَ . وَأَمَّا الْوَجْهَانِ فِي الْمُخَالَفَةِ : فَأَحَدُهُمَا : أَنَّ الْعَهْدَ عَامٌّ لَا يَتَوَلَّاهُ إِلَّا الْإِمَامُ ، وَالْأَمَانَ خَاصٌّ يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّاهُ غَيْرُ الْإِمَامِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْعَهْدَ يَلْزَمُ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ ، فَنَأْمَنُهُمْ إِذَا دَخَلْنَا إِلَيْهِمْ كَمَا نُؤَمِّنُهُمْ إِذَا دَخَلُوا إِلَيْنَا . وَالْأَمَانُ الْخَاصُّ لَا تَلْزَمُ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ ، فَيَجُوزُ أَنْ يُؤَمَّنَ آحَادُهُمْ إِذَا دَخَلُوا إِلَيْنَا وَإِنْ لَمْ يُؤَمِّنُوا آحَادَنَا إِذَا دَخَلْنَا إِلَيْهِمْ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ : وَهُوَ عَقْدُ الذِّمَّةِ تعريفه : فَهُوَ أَنْ يُقَرَّ أَهْلُ الْكِتَابِ عَلَى الْمُقَامِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِجِزْيَةٍ يُؤَدُّونَهَا عَنْ رِقَابِهِمْ فِي كُلِّ عَامٍ ، وَهُوَ أَوْكَدُ الْعُقُودِ الْأَرْبَعَةِ : لِأَنَّهَا مُوَافِقَةٌ لَهَا مِنْ وَجْهَيْنِ ، وَمُخَالِفَةٌ لَهَا مِنْ وَجْهَيْنِ ، وَزَائِدَةٌ عَلَيْهَا مِنْ وَجْهَيْنِ .
فَأَمَّا الْوَجْهَانِ فِي الْمُوَافَقَةِ : فَأَحَدُهُمَا : الْأَمَانُ . وَالثَّانِي : كَفُّهُمْ عَنْ مُطَاوَلَةِ الْإِسْلَامِ . وَأَمَّا الْوَجْهَانِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ : فَأَحَدُهُمَا : اخْتِصَاصُ الذِّمَّةِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ ، وَعُمُومُ مَا عَدَاهَا فِي أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ . وَالثَّانِي : وُجُوبُ الْجِزْيَةِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ ، وَسُقُوطُهَا عَنْ غَيْرِ أَهْلِ الذِّمَّةِ . وَأَمَّا الْوَجْهَانِ فِي الزِّيَادَةِ : فَأَحَدُهُمَا : أَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ مُؤَبَّدٌ ، وَمَا عَدَاهُ مُقَدَّرٌ ، فَإِنْ قَدَرَهَا بِمُدَّةٍ فَهِيَ نَاقِصَةٌ عَنْ حُكْمِ الْكَمَالِ ، وَيَتَقَدَّرُ أَقَلُّهَا بِسَنَةٍ يَسْتَحِقُّ فِيهَا الْجِزْيَةَ ، وَلَا يَتَقَدَّرُ أَكْثَرُهَا بِالشَّرْعِ ، وَتَتَقَدَّرُ بِالشَّرْطِ ، وَإِنْ زَادَتْ عَلَى مُدَّةِ الْهُدْنَةِ أَضْعَافًا لِأَنَّهَا لَمَّا انْعَقَدَتْ عَلَى الْأَبَدِ جَازَ أَنْ تُعْقَدَ مُقَدَّرَةً بِأَكْثَرِ الْأَبَدِ . وَالثَّانِي : أَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ يُوجِبُ الذَّبَّ عَنْهُمْ مِنْ كُلِّ مَنْ أَرَادَهُمْ مِنْ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ ، وَمَا عَدَاهُ يُوجِبُ ذَبَّ الْمُسْلِمِينَ عَنْهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ . فَإِنْ عَقَدَهَا لِأَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى أَنْ لَا يَذُبَّ أَهْلَ الْحَرْبِ عَنْهُمْ نُظِرَ . فَإِنْ كَانُوا فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَجُزْ ، وَإِنْ كَانُوا فِي بِلَادِ الْحَرْبِ جَازَ : لِأَنَّ التَّمْكِينَ مِنْهُمْ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ تَسْلِيطٌ لِأَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَلَوْ عُقِدَ الْعَهْدُ عَلَى أَنْ يَمْنَعَ أَهْلَ الْحَرْبِ عَنْهُمْ ، فَإِنْ كَانُوا فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ جَازَ ، وَإِنْ كَانُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَجُزْ إِلَّا بِشَرْطَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَعْلَمَ الْإِمَامُ مِنْ نَفْسِهِ قُوَّةً عَلَى الْمَنْعِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَعْقِدَهَا عَلَى مَالٍ يَبْذُلُونَهُ . فَإِنْ عُدِمَ أَحَدُ الشَّرْطَيْنِ لَمْ يَجُزْ . فَأَمَّا جَرَيَانُ أَحْكَامِنَا عَلَيْهِمْ جريان أحكام الإسلام على أهل الذمة ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [ التَّوْبَةِ : 29 ] . إِنَّ الصَّغَارَ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ ، وَلَهُ فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : التَّحَكُّمُ بِالْقُوَّةِ وَالِاسْتِطَالَةِ . وَالثَّانِي : الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ .
فَعَلَى الْأَوَّلِ لَا تَلْزَمُهُمْ أَحْكَامُنَا . وَعَلَى الثَّانِي تَلْزَمُهُمْ أَحْكَامُنَا ، وَلَا تَلْزَمُ مَنْ عَدَاهُمْ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَلَا يَتَوَلَّى عَقْدَ الذِّمَّةِ إِلَّا الْإِمَامُ ، وَإِذَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ وَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَعْقِدَ لَهُمُ الذِّمَّةَ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا نَعْلَمُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَالَحَ أَحَدًا عَلَى أَقَلَّ مِنْ دِينَارٍ ، فَمَنْ أَعْطَى مِنْهُمْ دِينَارًا غَنِيًّا كَانَ أَوْ فَقِيرًا فِي كُلِّ سَنَةٍ قُبِلَ مِنْهُ وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ أقَلُّ مِنْ دِينَارٍ مِنْ غَنِيٍّ وَلَا فَقِيرٍ ، فَإِنْ زَادُوا قُبِلَ مِنْهُمْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَقَلِّ الْجِزْيَةِ وَأَكْثَرِهَا ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ أَقَلَّهَا مُقَدَّرٌ بِدِينَارٍ لَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى أَقَلَّ مِنْهُ مَنْ غَنِيٍّ وَلَا فَقِيرٍ ، وَأَكْثَرُهَا غَيْرُ مُقَدَّرٍ ، وَهُوَ مُوَكَلٌ إِلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ . فَإِنْ لَمْ يُجِيبُوا إِلَى الزِّيَادَةِ عَلَى الدِّينَارِ مِنْ غَنِيٍّ وَلَا فَقِيرٍ وَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ إِجَابَتُهُمْ إِلَيْهِ ، وَإِنْ طَبَّقُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْغِنَى وَالتَّوَسُّطِ ، وَالَّذِي عَاقَدَهُمْ عَلَيْهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هِيَ مُقَدَّرَةُ الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ بِحَسَبِ طَبَقَاتِهِمْ ، فَيُؤْخَذُ مِنَ الْغَنِيِّ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا مُصَارَفَةً اثْنَا عَشَرَ دِينَارًا ، وَمِنَ الْمُتَوَسِّطِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا ، وَمِنَ الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِلِ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا . وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ : لَا يَتَقَدَّرُ أَقَلُّهَا ، وَلَا أَكْثَرُهَا ، وَهِيَ مَوْكُولَةٌ إِلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ فِي أَقَلِّهَا وَأَكْثَرِهَا ، فَإِنْ رَأَى الِاقْتِصَارَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ دِينَارٍ جَازَ ، وَإِنْ رَأَى الزِّيَادَةَ عَلَى الْأَرْبَعَةِ فَعَلَ . وَقَدْ حُكِيَ عَنْ مَالِكٍ كِلَا الْمَذْهَبَيْنِ مِنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَوْلِ سُفْيَانَ . وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى تَقْدِيرِ أَقَلِّهَا وَأَكْثَرِهَا بِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ضَرَبَ الْجِزْيَةَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فِيمَا فَتَحَهُ مِنْ سَوَادِ الْعِرَاقِ ، عَلَى الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِلِ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا ، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا ، وَعَلَى الْغَنِيِّ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا عَنْ رَأْيٍ شَاوَرَ فِيهِ الصَّحَابَةَ ، فَصَارَ إِجْمَاعًا ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ يَتَعَيَّنُ وُجُوبُهُ بِالْحَوْلِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَخْتَلِفَ بِزِيَادَةِ الْمَالِ كَالزَّكَاةِ ، وَلِأَنَّ الْمَأْخُوذَ بِالشِّرْكِ صَارَ جِزْيَةً وَخَرَاجًا ، فَلَمَّا اخْتَلَفَ الْخَرَاجُ بِاخْتِلَافِ الْمَالِ وَجَبَ أَنْ تَخْتَلِفَ الْجِزْيَةُ بِاخْتِلَافِ الْمَالِ . وَاسْتَدَلَّ الثَّوْرِيُّ بِأَنْ قَالَ : الْهُدْنَةُ لَمَّا كَانَتْ مَوْكُولَةً إِلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ ، وَلَمْ يَتَقَدَّرْ أَقَلُّهَا وَأَكْثَرُهَا وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْجِزْيَةُ بِمَثَابَتِهَا لَا يَتَقَدَّرُ أَقَلُّهَا وَأَكْثَرُهَا . وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ أَبُو وَائِلٍ شَقِيقُ بْنُ سَلَمَةَ ، عَنْ مَسْرُوقٍ ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهُ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا ، وَعِدْلَهُ مِنَ الْمُعَافِرِ ،
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى اخْتِلَافٍ فِي الْغِنَى وَالتَّوَسُّطِ فَسَوَّى بَيْنَهُمْ ، وَلَمْ يُفَاضِلْ . وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَالَحَ أُكَيْدِرَ دَوْمَةَ عَلَى نَصَارَى أَيْلَةَ ، وَهُمْ ثَلَاثُمِائَةِ رَجُلٍ عَلَى ثَلَاثِمِائَةِ دِينَارٍ ، فَجَعَلَهَا مُعْتَبَرَةً بِعَدَدِهِمْ ، وَلَيْسَ يَعْتَبِرُهَا بِيَسَارِهِمْ وَإِعْسَارِهِمْ . وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَ جِزْيَةَ نَصْرَانِيٍّ بِمَكَّةَ يُقَالُ لَهُ أَبُو مَوْهِبٍ دِينَارًا ، وَلَمْ يَذْكُرْ يَسَارَهُ وَلَا إِعْسَارَهُ ، فَدَلَّ عَلَى اسْتِوَاءِ الْحَالَيْنِ . وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ - مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا ، وَلَمْ يُفَضِّلْ فَدَلَّ عَلَى التَّسَاوِي . وَمِنَ الْقِيَاسِ أَنَّ كُلَّ مَنْ حَقَنَ دَمَهُ بِالْجِزْيَةِ جَازَ أَنْ يَتَقَدَّرَ بِالدِّينَارِ - كَالْمُقِلِّ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا جَازَ أنَ يَتَقَدَّرَ بِهِ جِزْيَةُ الْمُقِلِّ جَازَ أَنْ يَتَقَدَّرَ بِهِ جِزْيَةُ الْمُكْثِرِ كَالْأَرْبَعَةِ ، وَلِأَنَّ حُرْمَةَ دَمِهِمَا وَاحِدَةٌ ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ جِزْيَتُهُمَا وَاحِدَةً . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا فَعَلَهُ عُمَرُ ، فَهَذَا أَنَّهُ قَدَّرَهُ عَلَيْهِمْ عَنْ مُرَاضَاةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ لَا يُنْكِرُ مِثْلَهَا إِذَا فَعَلُوهُ . وَقِيَاسُهُمْ عَلَى الزَّكَاةِ مُنْتَقَضٌ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ الَّتِي لَا تَزِيدُ زِيَادَةَ الْمَالِ ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الزَّكَاةِ وُجُوبُهَا فِي عَيْنِ الْمَالِ ، فَجَازَ أَنْ تَخْتَلِفَ بِقِلَّتِهِ وَكَثْرَتِهِ ، وَالْجِزْيَةُ فِي الذِّمَّةِ عَنْ حَقْنِ الدَّمِ كَالْأُجْرَةِ ، فَلَمْ تَخْتَلِفْ بِزِيَادَةِ الْمَالِ وَكَثْرَتِهِ كَالْإِجَارَةِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ جَمْعِهِمْ بَيْنَ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ ، فَهُوَ أَنَّ الْخَرَاجَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أُجْرَةٌ عَنْ أَرْضٍ ذَاتِ مَنْفَعَةٍ ، فَجَازَ أَنْ يَخْتَلِفَ بِاخْتِلَافِ الْمَنَافِعِ ، وَالْجِزْيَةُ عِوَضٌ عَنْ حَقْنِ الدَّمِ وَالْإِقْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُخْتَلِفٍ بِاخْتِلَافِ الْمَالِ ، فَلَمْ يَتَفَاضَلْ بِتَفَاضُلِ الْمَالِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ بِالْهُدْنَةِ ، فَهُوَ أَنَّ الْهُدْنَةَ لَمَّا جَازَ أَنْ تَكُونَ مَوْقُوفَةً عَلَى رَأْيِ الْإِمَامِ فِي عَقْدِهَا بِمَالٍ وَغَيْرِ مَالٍ جَازَ عَقْدُهَا عَلَى رَأْيِ الْإِمَامِ فِي قَدْرِ الْمَالِ ، وَالْجِزْيَةُ لَا تَقِفُ عَلَى رَأْيِهِ فِي عَقْدِهَا بِغَيْرِ مَالٍ ، فَلَمْ تَقِفْ عَلَى رَأْيِهِ فِي تَقْدِيرِ الْمَالِ .
لَا جِزْيَةَ عَلَى فَقِيرٍ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فِي كِتَابِ السِّيَرِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا جِزْيَةَ عَلَى فَقِيرٍ حَتَّى يَسْتَغْنِيَ ، ( قَالَ الْمُزَنِيُّ : ) وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ عَنْدِي فِي أَصْلِهِ ، وَأَوْلَى عِنْدِي بِقَوْلِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَمَّا الْمُقِلُّ الَّذِي يَمْلِكُ قَدْرَ الْجِزْيَةِ وَلَا يَمْلِكُ مَا سِوَاهَا ، فَهِيَ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ ، لِقُدْرَتِهِ عَلَى أَدَائِهَا ، فَأَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي لَا يَمْلِكُ قَدْرَ الْجِزْيَةِ ، فَضَرْبَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مُعْتَمِلًا يَكْسِبُ بِعَمَلِهِ فِي السُّنَّةِ قَدْرَ جِزْيَتِهِ فَاضِلَةً عَنْ نَفَقَتِهِ ، فَالْجِزْيَةُ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُعْتَمِلٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِاكْتِسَابِ إِلَّا بِالْمَسْأَلَةِ لِقَدْرِ قُوتِهِ مِنْ غَيْرِ فَضْلٍ ، فَفِي وُجُوبِ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْجِزْيَةِ ، وَعَامَّةِ كُتُبِهِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ ، وَلَا تُعْقَدُ لَهُ الذِّمَّةُ إِلَّا بِهَا ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : نُصَّ عَلَيْهِ فِي سِيَرِ الْوَاقِدِيِّ : أَنَّهُ لَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ ، وَيَكُونُ فِي عَقْدِ الذِّمَّةِ تَبَعًا لِأَهْلِ الْمَسْكَنَةِ ، كَالنِّسَاءِ وَالْعَبِيدِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، احْتِجَاجًا بِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ طَبَّقَ فِي الْجِزْيَةِ أَهْلَ الْعِرَاقِ ثَلَاثَ طَبَقَاتٍ ، جَعَلَ أَدْنَاهَا الْفَقِيرَ الْمُعْتَمِلَ ، فَدَلَّ عَلَى سُقُوطِهَا عَنْ غَيْرِ الْمُعْتَمِلِ ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ يَجِبُ فِي كُلِّ حَوْلٍ ، فَلَمْ تَجِبْ عَلَى الْفَقِيرِ كَالزَّكَاةِ ، وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ ضَرْبَانِ عَلَى الرُّءُوسِ وَالْأَرَضِينَ ، فَلَمَّا سَقَطَتْ عَنِ الْأَرْضِ إِذَا أَعْوَزَ نَفَقَتَهَا ، سَقَطَتْ عَنِ الرُّءُوسِ إِذَا أَعْوَزَ وُجُودُهَا . وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِهَا عَلَى الْفَقِيرِ : قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ إِلَى قَوْلِهِ : حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ [ التَّوْبَةِ : 29 ] . فَلَمَّا كَانَ قِتَالُهُمْ عَامًّا فِي الْمُوسِرِ وَالْمُعْسِرِ : وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا جَعَلَهُ غَايَةً فِي الْكَفِّ عَنْ قِتَالِهِمْ مِنْ بَذْلِ الْجِزْيَةِ عَامًّا فِي الْمُوسِرِ وَالْمُعْسِرِ : لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ : خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ فِيهِمْ فَقِيرًا ، وَلَمْ يُمَيِّزْهُمْ ، فَدَلَّ عَلَى أَخْذِهَا مِنْهُمْ . فَإِنْ قِيلَ : فَالْأَمْرُ بِالْأَخْذِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَشْرُوطٌ بِالْقُدْرَةِ ، وَيَسْقُطُ التَّكْلِيفُ فِيمَا خَرَجَ مِنَ الْقُدْرَةِ . قِيلَ : هَذَا الْأَمْرُ إِنَّمَا تَوَجَّهَ إِلَى الضَّمَانِ دُونَ الدَّفْعِ : لِأَنَّهُ فِي ابْتِدَاءِ الْحَوْلِ ، وَالدَّفْعُ يَكُونُ بَعْدَ الْحَوْلِ ، وَقَدْ يَتَوَجَّهُ الضَّمَانُ إِلَى الْمُعْسِرِ لِيَدْفَعَهُ إِذَا أَيْسَرَ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ . وَمِنَ الْقِيَاسِ أَنَّهُ حُرٌّ مُكَلَّفٌ ، فَلَمْ يَجُزْ إِقْرَارُهُ عَلَى كُفْرِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ كَالْمُوسِرِ ، وَفِيهِ احْتِرَازٌ مِنَ الْمَرْأَةِ : لِأَنَّهَا تَدْخُلُ فِي اللَّفْظِ الْمُذَكِّرِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ حَلَّ قَتْلُهُ بِالْأَسْرِ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ الْجِزْيَةُ بِالْفَقْرِ كَالْغَنِيِّ إِذَا افْتَقَرَ ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ سَبَبَيْ مَا يُحْقَنُ بِهِ الدَّمُ ، فَوَجَبَ أَنْ يَقْوَى فِيهِ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ كَالْإِسْلَامِ ، وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ فِي مُقَابَلَةِ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : حَقْنُ الدَّمِ . وَالْآخَرُ : الْإِقْرَارُ فِي دَارِنَا عَلَى الْكُفْرِ .
وَمَا حُقِنَ بِهِ الدَّمُ لَمْ يَسْقُطْ بِالْإِعْسَارِ ، كَالدِّيَةِ . وَمَا اسْتَحَقَّ بِهِ الْمُقَامُ فِي مَكَانٍ لَمْ يَسْقُطْ بِالْإِعْسَارِ كَالْأُجْرَةِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ فِعْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ أَخْذَهَا مِنَ الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِلِ لَا يُوجِبُ سُقُوطَهَا عَنْ غَيْرِ الْمُعْتَمِلِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمُعْتَمِلَ هُوَ الْمُكْتَسِبُ بِالْعَمَلِ - وَغَيْرُ الْمُعْتَمِلِ قَدْ يَتَكَسَّبُ بِالْمَسْأَلَةِ ، وَهِيَ عَمَلٌ فَصَارَ كَالْمُعْتَمِلِ . وَالْقِيَاسُ عَلَى الزَّكَاةِ فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي الْمَالِ ، فَاعْتَبَرْنَاهُ فِي الْوُجُوبِ ، وَالْجِزْيَةُ تَجِبُ فِي الذِّمَّةِ ، فَلَمْ يُعْتَبَرِ الْمَالُ فِي الْوُجُوبِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْجِزْيَةَ تَجِبُ عَلَى الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِلِ ، وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ ، فَلَمْ يَجُزِ اعْتِبَارُهَا بِالزَّكَاةِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ مَعَ اخْتِلَالِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْخَرَاجَ لَا يَسْقُطُ بِالْفَقْرِ ، فَكَذَلِكَ الْجِزْيَةُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَسْقُطْ مَا فِي مُقَابَلَةِ الْجِزْيَةِ مِنْ حَقْنِ الدَّمِ فِي حَقِّ الْفَقِيرِ لَمْ تَسْقُطِ الْجِزْيَةُ ، وَلَمَّا سَقَطَ مَا قِي مُقَابَلَةِ الْخَرَاجِ مِنَ الْمَنْفَعَةِ سَقَطَ بِهِ الْخَرَاجُ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ ، فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّهُ لَا جِزْيَةَ عَلَى الْفَقِيرِ مطالبته بالجزية ، كَانَتِ الْقُدْرَةُ عَلَيْهَا شَرْطًا فِي الْوُجُوبِ وَالْأَدَاءِ ، فَلَا يُخَاطَبُ بِوُجُوبِهَا مَعَ الْفَقْرِ ، إِذَا أَيْسَرَ بِهَا اسْتُوقِفَ حَوْلَهُ ، وَأُخِذَتْ مِنْهُ بِانْقِضَائِهِ . وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ الْجِزْيَةَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْفَقِيرِ ، لَمْ تَكُنِ الْقُدْرَةُ شَرْطًا فِي وُجُوبِهَا ، فَإِذَا حَالَ الْحَوْلُ ، وَهُوَ فَقِيرٌ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ ، وَفِيهَا وَجْهَانِ دَلَّ كَلَامُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَيْهِمَا : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يُنْظَرُ بِهَا إِلَى مَيْسَرَتِهِ مَعَ إِقْرَارِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ الَّتِي يَجِبُ الْإِنْظَارُ بِهَا إِلَى وَقْتِ الْيَسَارِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْظَرَ بِهَا لِإِعْسَارِهِ : لِأَنَّ لَهَا بَدَلًا فِي حَقْنِ دَمِهِ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَيْهِ ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ ، فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْهُ لَمْ يَجُزْ إِنْظَارُهُ . وَقِيلَ : إِنْ لَمْ تُسْلِمْ ، وَلَمْ يُتَوَصَّلْ إِلَى تَحْصِيلِ الْجِزْيَةِ بِالطَّلَبِ وَالْمَسْأَلَةِ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ تُقَرَّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَأُبْلِغْتَ مَأْمَنَكَ ، ثُمَّ كُنْتَ حَرْبًا ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ ، لَمَّا كَانَ الصَّوْمُ فِيهَا بَدَلًا لَمْ تَسْقُطْ بِالْإِعْسَارِ ؟ وَلَمْ يَجِبْ فِيهَا إِنْظَارٌ إِلَى وَقْتِ الْيَسَارِ ؟ كَذَلِكَ الْجِزْيَةُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ صَالَحُوا عَلَى ضِيَافَةِ ضيافة أهل الذمة للمسلمين إذا اشترطها الإمام مَا ضِفْتَ ثَلَاثًا ، قَالَ : وَيُضِيفُ الْمُوسِرُ كَذَا وَالْوَسَطُ كَذَا ، وَيُسَمَّى مَا يُطْعِمُونَهُمْ خُبْزُ كَذَا ، وَيَعْلِفُونَ دَوَابَّهُمْ مِنَ التِّبْنِ وَالشَعِيرِ كَذَا ، وَيُضِيفُ مَنْ مَرَّ بِهِ مِنْ وَاحِدٍ إِلَى كَذَا ، وَأَيْنَ يُنْزِلُونَهُمْ مِنْ فُضُولِ مَنَازِلِهِمْ ، أَوْ فِي كَنَائِسِهِمْ ، أَوْ فِيمَا يُكِنُّ مِنْ حَرٍّ وَبَرْدٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : يَجُوزُ أَنْ يُصَالَحَ أَهْلُ الذِّمَّةِ عَلَى عَقْدِ الْجِزْيَةِ عَلَى ضِيَافَةِ مَنْ يَمُرُّ بِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَالَحَ أُكَيْدِرَ دُومَةَ عَنْ نَصَارَى أَيْلَةَ عَلَى ثَلَاثِمِائَةِ دِينَارٍ ، وَكَانُوا ثَلَاثَمِائَةِ رَجُلٍ ، وَأَنْ يُضِيفُوا مَا مَرَّ بِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا يَغُشُّوا مُسْلِمًا . وَصَالَحَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَصَارَى الشَّامِ عَلَى أَنْ ضَرَبَ عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ ، وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا ، وَضِيَافَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، وَلِأَنَّهُ مِرْفَقٌ يُسْتَزَادُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَيَسْتَعِينُ بِهِ سَابِلَةُ الْمُسْلِمِينَ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْكَلَامُ فِي عَقْدِ هَذِهِ الضِّيَافَةِ مُشْتَمِلٌ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ : أَحَدُهَا : حُكْمُهَا فِيمَنْ يُشْتَرَطُ عَلَيْهِ . وَالثَّانِي : حُكْمُهَا فِيمَنْ تُشْتَرَطُ لَهُ . وَالثَّالِثُ : حُكْمُ بَيَانِهَا . فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ : فِيمَنْ يُشْتَرَطُ عَلَيْهِ ، فَمُعْتَبَرٌ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَبْذُلُوهَا طَوْعًا لَا يُجْبَرُونَ عَلَيْهَا : لِأَنَّهَا عَقْدُ مُرَاضَاةٍ ، فَلَمْ يَصِحَّ إِلَّا عَنِ اخْتِيَارٍ كَالْجِزْيَةِ ، فَإِنِ امْتَنَعُوا مِنَ الضِّيَافَةِ ، وَلَمْ يُجِيبُوا إِلَى غَيْرِ الدِّينَارِ قُبِلَ مِنْهُمْ ، وَأُسْقِطَتِ الضِّيَافَةُ عَنْهُمْ كَمَا تَسْقُطُ عَنْهُمُ الزِّيَادَةُ عَلَى الدِّينَارِ إِذَا امْتَنَعُوا مِنْهَا ، فَإِنِ امْتَنَعَ مِنْهَا بَعْضُهُمْ ، وَأَجَابَ إِلَيْهَا بَعْضُهُمْ سَقَطَتْ عَمَّنِ امْتَنَعَ وَلَزِمَتْ مَنْ أَجَابَ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ بِهِمْ قُوَّةٌ عَلَيْهَا لَا يَضْعُفُونَ عَنْهَا إِمَّا لِخِصْبِ بِلَادِهِمْ ، وَإِمَّا لِكَثْرَةِ أَمْوَالِهِمْ ، فَإِنْ ضَعُفُوا عَنْهَا لَمْ يُؤْخَذُوا بِهَا ، وَاخْتَصَّ وَجُوبُهَا بِالْأَغْنِيَاءِ وَالْمُتَوَسِّطِينَ دُونَ الْمُقِلِّينَ ، بِخِلَافِ الْجِزْيَةِ : لِأَنَّ الضِّيَافَةَ تَتَكَرَّرُ فِي السُّنَّةِ ، وَالْجِزْيَةَ لَا تَتَكَرَّرُ . وَالثَّالِثُ : أَنْ تُشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ جِزْيَةِ رُءُوسِهِمْ وَهُوَ الدِّينَارُ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْمَأْخُوذِ مِنْهُمْ ، لِيَكُونَ زِيَادَةَ مَعُونَةٍ وَمِرْفَقٍ ، فَإِنْ جُعِلَتِ الضِّيَافَةُ هِيَ الْجِزْيَةَ ، وَلَمْ يُؤْخَذْ دِينَارُ الْجِزْيَةِ ، فَفِي جَوَازِهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَجُمْهُورِ
الْبَغْدَادِيِّينَ - أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا بَعْدَ الدِّينَارِ : لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَالَحَ أَهْلَ أَيْلَةَ عَلَيْهِمَا ، وَكَذَلِكَ عُمَرُ فِي صُلْحِ أَهْلِ الشَّامِ ، وَلِأَنَّ الدِّينَارَ مَعْلُومٌ يَعُمُّ نَفْعُهُ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْقُطَ بِالضَّيَافَةِ الَّتِي يَخُصُّ نَفْعُهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : - وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ - يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهَا إِذَا لَمْ يَبْذُلُوا الدِّينَارَ مَعَهَا ، إِذَا كَانَ مَبْلَغُهَا فِي السُّنَّةِ مَعْلُومًا قَدْرُ الدِّينَارِ فَمَا زَادَ : لِأَنَّ الضِّيَافَةَ جِزْيَةٌ ، فَلَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَجْمَعَ عَلَيْهِمْ بَيْنَ جِزْيَتَيْنِ ، كَمَا لَمْ يَلْزَمْ فِي نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ حِينَ ضَاعَفَ عُمَرُ عَلَيْهِمُ الصَّدَقَةَ أَنْ يَأْخُذَهَا مَعَ دِينَارِ الْجِزْيَةِ : لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جِزْيَةٌ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُصَالَحُوا عَلَى الدِّينَارِ دُونَ الضِّيَافَةِ جَازَ أَنْ يُصَالَحُوا عَلَى الضِّيَافَةِ دُونَ الدِّينَارِ . فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ : يَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ ضِيَافَةُ مَنْ يَمُرُّ بِهِمْ ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ عَدَدُهُمْ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَمُرَّ بِهِمْ أَحَدٌ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُمْ ثَمَنُ الضِّيَافَةِ . وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي : لَا يَصِحُّ حَتَّى يُعْلَمَ عَدَدُ الْأَضْيَافِ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَمُرَّ بِهِمْ أَحَدٌ ، أَوْ مَرَّ بِهِمْ بَعْضُ الْعَدَدِ حُوسِبُوا ، وَأُخِذَ مِنْهُمْ ثَمَنُ ضِيَافَةِ مَنْ بَقِيَ ، فَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَجْهَيْنِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : جَوَازُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ عَدَدُهُمْ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي حَتَّى يُعْلَمَ عَدَدُهُمْ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ . وَالثَّانِي : أَنْ لَا يُؤْخَذَ مِنْهُمْ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ قِيمَةُ الضِّيَافَةِ إِنْ تَأَخَّرَ الْأَضْيَافُ ، وَتُؤْخَذَ مِنْهُمْ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي قِيمَتُهَا إِنْ تَأَخَّرُوا .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي : وَهُوَ مَنْ يُشْتَرَطُ لَهُ مِنَ الْأَضْيَافِ على أهل الذمة ، فَهُمْ أَهْلُ الْفَيْءِ مِنَ الْمُجْتَازِينَ بِهِمْ دُونَ الْمُقِيمِينَ بَيْنَهُمْ : لِأَنَّ الضِّيَافَةَ جِزْيَةٌ ، وَالْجِزْيَةَ لِأَهْلِ الْفَيْءِ خَاصَّةٌ : فَعَلَى هَذَا تَكُونُ مَقْصُورَةً عَلَى الْجَيْشِ الْمُجَاهِدِينَ خَاصَّةً ، أَوْ تَكُونُ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ مَصْرِفِ مَالِ الْفَيْءِ ، هَلْ يَخْتَصُّ بِالْجَيْشِ أَوْ يَعُمُّ جَمِيعَ أَهْلِ الْفَيْءِ ؟ فَإِنْ شُرِطَتِ الضِّيَافَةُ لِغَيْرِ أَهْلِ الْفَيْءِ مِنْ تُجَّارِ الْمُسْلِمِينَ ، وَجَمِيعِ السابَلَةِ جَازَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ إِذَا قِيلَ : إِنَّهَا تُشْتَرَطُ بَعْدَ الدِّينَارِ ، وَلَمْ تَجُزْ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي إِذَا قِيلَ : يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهَا وَحْدَهَا ، فَإِنْ أَرَادَ الضَّيْفُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ قَدْرَ ضِيَافَتِهِ ، وَلَا يَأْكُلَ مِنْ عِنْدِهِمْ نُظِرَ . فَإِنْ طَالَبَهُمْ بِثَمَنِ الضِّيَافَةِ لَمْ يَلْزَمْهُمْ دَفْعُهُ ، وَإِنْ طَالَبَهُمْ بِطَعَامِ الضِّيَافَةِ لَزِمَهُمْ دَفْعُهُ ، وَفَارَقَ مَا أُبِيحُ مِنْ أَكْلِ طَعَامِ الْوَلَائِمِ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَخْذُهُ : لِأَنَّ هَذِهِ مُعَارَضَةٌ ، وَالْوَلِيمَةُ مَكْرُمَةٌ ، وَلَا يُطَالِبُهُمْ بِطَعَامِ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ فِي الْأَوَّلِ مِنْهَا : لِأَنَّهُ مُؤَجَّلٌ فِيهَا ، فَلَا يُطَالَبُونَ بِهِ قَبْلَ حُلُولِهِ ، وَيُطَالِبُ فِي كُلِّ يَوْمٍ بِقَدْرِ ضِيَافَتِهِ ، فَإِنْ لَمْ يُطَالِبْ بِضِيَافَةِ الْيَوْمِ
حَتَّى مَضَى لَمْ يَجُزْ أَنْ يُطَالِبَهُمْ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ إِذَا جُعِلَ تَبَعًا لِلدِّينَارِ ، وَجَازَ أَنْ يُطَالِبَهُمْ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي إِذَا جُعِلَ مَقْصُودًا كَالدِّينَارِ . وَلَوْ تَكَاثَرَ أَهْلُ الذِّمَّةِ عَلَى ضَيْفٍ تَنَازَعُوهُ كَانَ الْخِيَارُ إِلَى الضَّيْفِ دُونَ الْمُضِيفِ فِي نُزُولِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْهُمْ بِغَيْرِ قُرْعَةٍ ، وَلَوْ تَكَاثَرَ الْأَضْيَافُ عَلَى الْمُضِيفِ كَانَ الْخِيَارُ إِلَى الْمُضِيفِ دُونَ الْأَضْيَافِ إِلَّا أَنْ يُقَصِّرَ عَدَدُ أَهْلِ النَّاحِيَةِ عَنْ إِضَافَةِ جَمِيعِهِمْ ، فَيُقْرَعَ بَيْنَهُمْ ، وَيُضِيفُ كُلُّ وَاحِدِ مِنْهُمْ مَنْ قَرَعَ ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ لِلْأَضْيَافِ عَرِّيفٌ يَكُونُ هُوَ الْمُرَتِّبَ لَهُمْ ، لِيَنْقَطِعَ التَّنَازُعُ بَيْنَهُمْ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ : فِي بَيَانِ الضِّيَافَةِ ، فَيُعْتَبَرُ فِيهَا ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : عَدَدُ الْأَضْيَافِ . وَالثَّانِي : أَيَّامُ الضِّيَافَةِ . وَالثَّالِثُ : قَدْرُ الضِّيَافَةِ . فَأَمَّا الشَّرْطُ الْأَوَّلُ : فِي عَدَدِ الْأَضْيَافِ ، فَهُوَ أَنْ يُشْتَرَطَ عَلَى الْمُوسِرِ مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ مِنْ خَمْسَةٍ إِلَى عَشَرَةٍ ، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ مِنْ ثَلَاثَةٍ إِلَى خَمْسَةٍ بِحَسَبِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ التَّرَاضِي ، لِيُضِيفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْقَدْرَ الْمَشْرُوطَ عَلَيْهِ فِي يَسَارِهِ وَتَوَسُّطِهِ ، فَإِنْ سَوَّى بَيْنِ الْمُوسِرِ وَالْمُتَوَسِّطِ فِي عَدَدِ الْأَضْيَافِ جَازَ مَعَ الْمُرَاضَاةِ ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُمْ فِي دِينَارِ الْجِزْيَةِ ، فَإِنْ شَرَطَ عَلَى جَمِيعِ النَّاحِيَةِ عَدَدًا مِنَ الْأَضْيَافِ كَأَنَّهُ شَرَطَ عَلَى النَّاحِيَةِ ضِيَافَةَ أَلْفِ رَجُلٍ جَازَ ، وَاجْتَمَعُوا عَلَى تَقْسِيطِ الْأَلْفِ بَيْنَهُمْ عَلَى مَا يُنْفِقُونَ عَلَيْهِ مِنْ تُفَاضِلٍ أَوْ تَسَاوٍ ، فَإِنِ اخْتَلَفُوا ، وَتَنَازَعُوا إِلَيْنَا قُسِّطَتْ بَيْنَهُمْ عَلَى التَّسَاوِي دُونَ التَّفَاضُلِ ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ جِزْيَةُ رُءُوسٍ : تَفَاضَلُوا فِيهَا ، فَفِي اعْتِبَارِ الضِّيَافَةِ بِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَتَفَاضَلُونَ فِي الضِّيَافَةِ بِحَسَبِ تَفَاضُلِهِمْ فِي جِزْيَةِ الرُّءُوسِ إِذَا جُعِلَتِ الضِّيَافَةُ تَبَعًا . وَالثَّانِي : يَتَسَاوَوْنَ فِي الضِّيَافَةِ ، وَإِنْ تَفَاضَلُوا فِي الْجِزْيَةِ إِذَا جُعِلَتِ الضِّيَافَةُ أَصْلًا . وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي : فِي أَيَّامِ الضِّيَافَةِ : فَالْعُرْفُ وَالشَّرْعُ فِيهَا لِكُلِّ ضَيْفٍ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ . أَمَّا الْعُرْفُ فَمَشْهُورٌ فِي النَّاسِ تَقْدِيرُهَا بِالثَّلَاثِ . وَأَمَّا الشَّرْعُ : فَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : الضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ ، وَمَا زَادَ عَلَيْهَا مَكْرُمَةٌ . وَرُوِيَ : صَدَقَةٌ ، وَلِأَنَّ الضِّيَافَةَ مُسْتَحَقَّةٌ لِلْمُسَافِرِ ، وَمُقَامُهُ فِي سَفَرِهِ ثَلَاثٌ ، وَمَا زَادَ عَلَيْهَا مُغَيِّرٌ لِحُكْمِ السَّفَرِ إِلَى الْإِقَامَةِ ، وَالضِّيَافَةُ لَا يَسْتَحِقُّهَا مُقِيمٌ ، فَإِنْ زَادَ فِي الشَّرْطِ
عَلَى ثَلَاثٍ أَوْ نَقَصَ مِنْهَا كَانَ الشَّرْطُ أَحَقَّ مِنْ مُطْلَقِ الشَّرْعِ وَالْعُرْفِ ، وَيَذْكَرُ عَدَدَ أَيَّامِ الضِّيَافَةِ فِي السَّنَةِ أَنَّهَا مِائَةُ يَوْمٍ أَوْ أَقَلُّ ، أَوْ أَكْثَرُ لِيَكُونَ أَنْفَى لِلْجَهَالَةِ ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ عَدَدَ الضِّيَافَةِ ، وَأَيَّامَهَا فِي السَّنَةِ ، وَاقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ عِنْدَ قُدُومِ كُلِّ قَوْمٍ كَانَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي الضِّيَافَةِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ إِذَا جُعِلَتْ تَبَعًا . وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ إِذَا جُعِلَتْ أَصْلًا . وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّالِثُ : فَهُوَ قَدْرُ الضِّيَافَةِ على أهل الذمة ، فَمُعْتَبَرَةٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : جِنْسُ الطَّعَامِ ، وَذَلِكَ غَالِبُ أَقْوَاتِهِمْ مِنَ الْخُبْزِ وَالْأُدْمِ ، فَإِنْ كَانُوا يَقْتَاتُونَ الْحِنْطَةَ ، وَيَتَأَدَّمُونَ بِاللَّحْمِ ، فَإِنَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يُضِيفُوهُمْ بِخُبْزِ الْحِنْطَةِ وَأُدْمِ اللَّحْمِ . وَإِنْ كَانُوا يَقْتَاتُونَ الشَّعِيرَ ، وَيَتَأَدَّمُونَ بِالْأَلْبَانِ أَضَافُوهُمْ مِنْهُ أَوْ بِمَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا هُوَ غَالِبُ قُوتِهِمْ وَإِدَامِهِمْ ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ ثِمَارٌ وَفَوَاكِهُ يَأْكُلُونَهَا غَالِبًا فِي كُلِّ يَوْمٍ شَرَطَهَا عَلَيْهِمْ فِي زَمَانِهَا ، وَلَيْسَ لِلْأَضْيَافِ أَنْ يُكَلِّفُوهُمْ مَا لَيْسَ بِغَالِبٍ مِنْ أَقْوَاتِهِمْ ، وَإِدَامِهِمْ ، وَلَا ذَبْحَ حُمْلَانِهِمْ وَدَجَاجِهِمْ ، وَلَا الْفَوَاكِهَ النَّادِرَةَ وَالْحَلْوَى الَّتِي لَا تُؤْكَلُ فِي يَوْمٍ غَالِبًا ، وَلَا مَا لَمْ يَتَضَمَّنْهُ شَرْطُ صُلْحِهِمْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : مِقْدَارُ الطَّعَامِ وَالْإِدَامِ ، وَلِلطَّعَامِ فِي الشَّرْعِ أَصْلٌ أَكْثَرُهُ " مُدَّانِ " مِنْ حَبٍّ فِي فِدْيَةِ الْأَذَى ، وَأَقَلُّهُ " مُدٌّ " فِي كَفَّارَةِ الْأَيْمَانِ : لِأَنَّهُ لَيْسَ يَحْتَاجُ أَحَدٌ فِي الْأَغْلَبِ إِلَى أَكْثَرَ مِنْ " مُدَّيْنِ " ، وَلَا يَقْتَنِعُ فِي الْأَغْلَبِ بِأَقَلَّ مِنْ " مُدٍّ " ، وَ " الْمُدُّ " رِطْلٌ وَثُلُثٌ ، وَيَكُونُ خُبْزُهُ رَطْلَيْنِ ، وَالْمُدَّانِ أَرْبَعَةُ أَرْطَالٍ خُبْزًا . فَأَمَّا الْإِدَامُ ، فَلَا أَصْلَ لَهُ فِي الشَّرْعِ ، فَيَكُونُ مِقْدَارُهُ مُعْتَبَرًا بِالْعُرْفِ الْغَالِبِ يَشْرِطُ لِكُلِّ ضَيْفٍ مِنَ الْخُبْزِ كَذَا ، فَإِنْ ذَكَرَ أَقَلَّ مِنْ رِطْلَيْنِ لَمْ يَقْتَنِعْ ، وَإِنْ ذَكَرَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةٍ لَمْ يَحْتَجْ إِلَيْهَا ، وَلَوْ شَرَطَ ثَلَاثَةً كَانَ وَسَطًا ، وَيَذْكُرُ جِنْسَ الْإِدَامِ ، وَمِقْدَارَهُ لِلضَّيْفِ فِي كُلِّ يَوْمٍ ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ دَوَابُّ ذَكَرَ مَا يَعْلِفُهُ الْوَاحِدُ مِنْهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنَ التِّبْنِ وَالْقَتِّ وَالشَّعِيرِ بِمِقْدَارٍ كَافٍ ، لَا سَرَفَ فِيهِ وَلَا تَقْتِيرَ ، فَإِنْ شَرَطَ عَلْفَهَا ، وَأَطْلَقَهُ عُلِفَتِ التِّبْنَ وَالْقَتَّ ، وَلَا يَلْزَمُهُمْ لِلْأَضْيَافِ أُجْرَةُ حَمَّامٍ ، وَلَا طَبِيبٍ ، وَيُشْتَرَطُ عَلَيْهِمْ أَنَّ مَنِ انْقَطَعَ مَرْكُوبُهُ حَمَلُوهُ إِلَى أَقْرَبِ بِلَادِ الضِّيَافَةِ لَهُمْ ، فَإِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ عَلَيْهِمْ لَمْ يَلْزَمْهُمْ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : السَّكَنُ لِحَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ فِي الْحَرِّ وَالْبَرْدِ ، فَيُشْتَرَطُ عَلَيْهِمْ أَنْ يُسَكِّنُوهُمْ مِنْ فُضُولِ مَنَازِلِهِمْ ، وَكَنَائِسِهِمْ ، وَبِيَعِهِمْ ، لِيَكِنُّوا فِيهَا مِنْ حَرٍّ وَبَرْدٍ ، وَكَذَلِكَ لِدَوَابِّهِمْ . وَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِلَى الشَّامِ أَنْ يُؤْخَذَ أَهْلُ الذِّمَّةِ
بِتَوْسِيعِ أَبْوَابِ كَنَائِسِهِمْ وَبِيَعِهِمْ ، لِيَدْخُلَهَا الرَّاكِبُ إِذَا نَزَلَهَا ، وَلَيْسَ لِلْأَضْيَافِ إِخْرَاجُهُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ إِذَا نَزَلُوا عَلَيْهِمْ ، وَإِنْ ضَاقَتْ بِهِمْ . وَيُثْبِتُ الْإِمَامُ مَا اسْتَقَرَّ مِنْ صُلْحِ هَذِهِ الضِّيَافَةِ فِي دِيوَانِ كُلِّ بَلَدٍ مِنْ بِلَادِ الضِّيَافَةِ ، لِيَأْخُذَهُمْ عَامِلُ ذَلِكَ الْبَلَدِ بِمُوجِبِهِ ، ثُمَّ يُثْبِتُهُ فِي الدِّيوَانِ الْعَامِّ : لِثُبُوتِ الْأَمْوَالِ كُلِّهَا لِيُرْفَعَ إِلَيْهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِذَا تَنَازَعَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ وَأَهْلُ الذِّمَّةِ ، وَإِنْ فُقِدَ الدِّيوَانُ ، وَلَمْ يُعْرَفْ فِيهِ مَا صُولِحُوا عَلَيْهِ عَمِلَ مَا يَشْهَدُ بِهِ شَاهِدَانِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ شَهَادَةٌ قُبِلَ فِيهِ قَوْلُ أَهْلِ الذِّمَّةِ إِقْرَارًا لَا خَبَرًا وَلَا شَهَادَةً ، فَإِنْ عَمِلَ عَلَى قَوْلِهِمْ فِيهَا ثُمَّ بَانَ لَهُ زِيَادَةٌ رَجَعَ عَلَيْهِمْ بِهَا .
تَسْقُطُ الْجِزْيَةُ عَنْ النِّسَاءَ وَالْمَجَانِينَ وَالْعَبِيدَ وَالصِّبْيَانَ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا يُؤْخَذُ مِنِ امْرَأَةٍ وَلَا مَجْنُونٍ حَتَّى يَفِيقَ ، وَلَا مَمْلُوكٍ حَتَّى يَعْتِقَ ، وَلَا صَبِيٍّ حَتَّى يَنْبُتَ الشَعْرُ تَحْتَ ثِيَابِهِ أَوْ يَحْتَلِمَ أَوْ يَبْلُغَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً : فَيَلْزَمُهُ الْجِزْيَةُ كَأَصْحَابِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِيمَنْ تَسْقُطُ الْجِزْيَةُ عَنْهُ أَرْبَعَةَ أَصْنَافٍ : النِّسَاءَ وَالْمَجَانِينَ وَالْعَبِيدَ وَالصِّبْيَانَ . فَأَمَّا النِّسَاءُ ، فَلَا جِزْيَةَ عَلَيْهِمْ لِخُرُوجِهِنَّ عَنِ الْمُقَاتِلَةِ ، وَتَحْرِيمِ قَتْلِهِنَّ عِنْدَ السَّبْيِ ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ، [ التَّوْبَةِ : 29 ] . وَهُنَّ غَيْرُ مُقَاتِلَاتٍ . وَقَدْ مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ بِامْرَأَةٍ مَقْتُولَةٍ ، فَقَالَ : مَا بَالُ هَذِهِ تُقْتَلُ وَهِيَ لَا تُقَاتِلُ ؟ : فَلِذَلِكَ قُلْنَا : إِنَّهُ لَا جِزْيَةَ عَلَيْهَا ، سَوَاءٌ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ يُؤَدِّي الْجِزْيَةَ أَوْ كَانَتْ خَالِيَةً لَا تَتْبَعُ رَجُلًا ، وَهَكَذَا الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ لَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً ، فَلَوْ بَذَلَتِ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ الْجِزْيَةَ عَنْ نَفْسِهَا لَمْ يَلْزَمْ لِخُرُوجِهَا مِنْ أَهْلَ الْجِزْيَةِ ، فَإِنْ دَفَعَتْهَا مُخْتَارَةً جَازَ قَبُولُهَا مِنْهَا ، وَتَكُونُ هَدِيَّةً لَا جِزْيَةً ، فَإِنِ امْتَنَعَتْ مِنْ إِقْبَاضِهَا لَمْ تُجْبَرْ عَلَى دَفْعِهَا : لِأَنَّ الْهَدَايَا لَا إِجْبَارَ فِيهَا ، وَإِذَا نَزَلَ جَيْشُ الْمُسْلِمِينَ حِصْنًا ، فَبَذَلَ نِسَاؤُهُ الْجِزْيَةَ لَمْ يَخْلُ حَالُهُنَّ مِنْ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مَعَهُنَّ رِجَالٌ ، فَلَا يَصِحُّ عَقْدُ الْجِزْيَةِ مَعَهُنَّ ، سَوَاءٌ بَذَلْنَ الْجِزْيَةَ مِنْ أَمْوَالِهِنَّ أَوْ مِنْ أَمْوَالِ رِجَالِهِنَّ : لِأَنَّهُنَّ إِنْ بَذَلْنَهَا مِنْ أَمْوَالِهِنَّ ، فَلَسْنَ مِنْ أَهْلِ الْجِزْيَةِ ، فَلَا تَلْزَمُهُنَّ ، وَإِنْ بَذَلْنَهَا مِنْ أَمْوَالِ رِجَالِهِنَّ لَمْ يُلْزَمِ الرِّجَالُ بِعَقْدِ غَيْرِهِمْ . وَالثَّانِي : أَنْ يَنْفَرِدَ النِّسَاءُ فِي الْحِصْنِ عَنْ رَجُلٍ مُخْتَلِطٍ بِهِنَّ ، فَفِي انْعِقَادِ الْجِزْيَةِ مَعَهُنَّ مُنْفَرِدَاتٍ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ ، وَأَشَارَ إِلَيْهِمَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ تَوْجِيهًا : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا تَنْعَقِدُ بِهِمَا الذِّمَّةُ لَهُنَّ لِخُرُوجِهِنَّ مِنْ أَهْلِ الْجِزْيَةِ ، فَلَمْ تَنْعَقِدْ
مَعَهُمُ الْجِزْيَةُ ، فَعَلَى هَذَا يُصَمِّمُ أَمِيرُ الْجَيْشِ عَلَى حِصَارِهِنَّ حَتَّى يُسْبَيْنَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : تَنْعَقِدُ مَعَهُنَّ الذِّمَّةُ بِمَا بَذَلْنَهُ مِنَ الْجِزْيَةِ وَيَحْرُمُ سَبْيُهُنَّ : لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ إِقْرَارُهُنَّ بِالْجِزْيَةِ تَبَعًا : كَانَ إِقْرَارُهُنَّ بِمَا بَذَلْنَهُ مُنْفَرِدَاتٍ أَوْلَى ، فَعَلَى هَذَا ، هَلْ تَلْزَمُهُنَّ الْجِزْيَةُ بِبَذْلِهِنَّ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ أَشَارَ إِلَيْهِمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَحَدُهُمَا : يَلْزَمُهُنَّ أَدَاؤُهَا بَعْدَ إِعْلَامِهِنَّ عِنْدَ عَقْدِهَا أَنَّهُنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا فَإِنِ امْتَنَعْنَ مِنْ بَذْلِهَا بَعْدَ لُزُومِهَا خَرَجْنَ عَنِ الذِّمَّةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُنَّ أَدَاؤُهَا ، وَتَكُونُ كَالْهَدِيَّةِ تُؤْخَذُ مِنْهُنَّ إِذَا أَجَبْنَ إِلَيْهَا ، وَلَا تُؤْخَذُ إِذَا امْتَنَعْنَ مِنْهَا ، وَهَلْ عَلَى ذِمَّتِهِنَّ فِي حَالَتَيِ الْإِجَابَةِ وَالْمَنْعِ . وَإِذَا اجْتَمَعَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ ، فَبَذَلَ الرِّجَالُ الْجِزْيَةَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَنِسَائِهِمْ نُظِرَ . فَإِنْ بَذَلُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ جَازَ ، وَلَزِمَهُمْ مَا بَذَلُوهُ ، وَجَرَى مَجْرَى زِيَادَةٍ بَذَلُوهَا مِنْ جِزْيَتِهِمْ ، وَلَا يُؤْخَذُ الرِّجَالُ إِلَّا بِجِزْيَةِ أَنْفُسِهِمْ دُونَ نِسَائِهِمْ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْمَجَانِينُ أخذ الجزية منهم فَلَا جِزْيَةَ عَلَيْهِمْ لِارْتِفَاعِ الْقَلَمِ عَنْهُمْ ، وَأَنَّهُمْ فِي جُمْلَةِ الذَّرَارِي ، وَلَا يُقْتَلُ الْمَجْنُونُ إِذَا سُبِيَ ، هَذَا إِذَا كَانَ جُنُونُهُ مُطْبِقًا ، فَأَمَّا إِذَا جُنَّ فِي زَمَانٍ ، وَأَفَاقَ فِي زَمَانٍ ، فَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُرَاعَى فِيهِ أَغْلَبُ حَالَتَيْهِ . فَإِنْ كَانَ الْمَجْنُونُ أَكْثَرَ ، فَلَا جِزْيَةَ ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ ، فَعَلَيْهِ الْجِزْيَةُ . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ يُلَفَّقُ زَمَانُ الْإِفَاقَةِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ حَتَّى يَسْتَكْمِلَ حَوْلًا ، فَإِنْ كَانَ يُجَنُّ يَوْمًا وَيُفِيقُ يَوْمًا أُخِذَتْ مِنْهُ جِزْيَةُ سَنَةٍ مِنْ سَنَتَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ يُجَنُّ يَوْمَيْنِ وَيُفِيقُ يَوْمًا أُخِذَتْ مِنْهُ جِزْيَةُ سَنَةٍ مِنْ ثَلَاثِ سِنِينَ ، وَإِنْ كَانَ يُجَنُّ يَوْمًا ، وَيُفِيقُ يَوْمَيْنِ أُخِذَتْ مِنْهُ جِزْيَةُ سَنَةٍ مِنْ سَنَةٍ وَنِصْفٍ ، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ : لِأَنَّهُ لَمَّا اخْتَلَفَ حُكْمُ الْإِفَاقَةِ ، وَحُكْمُ الْجُنُونِ كَانَ تَمَيُّزُهَا أَوْلَى مِنْ تَغْلِيبِ أَحَدِهِمَا : لِأَنَّ فِي التَّمْيِيزِ جَمْعًا بَيْنَ الْحُكْمَيْنِ وَفِي تَغْلِيبِ الْأَكْثَرِ إِسْقَاطُ أَحَدِهِمَا .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْعَبِيدُ أخذ الجزية منهم ، فَلَا جِزْيَةَ عَلَيْهِمْ ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : لَا جِزْيَةَ عَلَى الْعَبِيدِ . وَقَالَ عُمَرُ : لَا جِزْيَةَ عَلَى مَمْلُوكٍ . وَلِأَنَّهُمْ تَبَعٌ لِسَادَاتِهِمْ ، وَلِأَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ ، فَكَانُوا أَسْوَأَ حَالًا مِنَ الْفُقَرَاءِ ، وَلِأَنَّهُمْ مَمَالِيكُ ، فَكَانُوا كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ ، وَكَذَا لَا جِزْيَةَ عَلَى مُدَبَّرٍ ، وَلَا مُكَاتَبٍ ، وَلَا أُمِّ وَلَدٍ : لِأَنَّهُمْ عَبِيدٌ ، وَلَا جِزْيَةَ عَلَى مَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ وَبَعْضُهُ مَمْلُوكٌ : لِأَنَّ أَحْكَامَ الرِّقِّ عَلَيْهِ أَغْلَبُ . وَقِيلَ : إِنَّهُ يُؤَدِّي مِنَ الْجِزْيَةِ بِقَدْرِ مَا فِيهِ مِنَ الْحُرِّيَّةِ : لِأَنَّهُ يُمْلَكُ بِهَا ، فَإِذَا عَتَقَ
الْعَبْدُ عَلَى كُفْرِهِ ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ اسْتُؤْنِفَتْ جِزْيَتُهُ ، وَسَوَاءٌ أَعْتَقَهُ مُسْلِمٌ أَوْ كَافِرٌ . وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ أَعْتَقَهُ مُسْلِمٌ ، فَلَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ ، لِحُرْمَةِ وَلَائِهِ ، وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ حُرْمَةَ النَّسَبِ أَغْلَظُ ، وَلَا تَسْقُطُ الْجِزْيَةُ بِإِسْلَامِ الْأَبِ ، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ لَا تَسْقُطَ بِإِسْلَامِ الْمُعْتِقِ ، لَكِنْ إِنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُسْلِمًا اسْتُؤْنِفَتْ جِزْيَتُهُ عَنْ مُرَاضَاةٍ ، وَإِنْ كَانَ مُعْتِقُهُ ذِمِّيًّا ، فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ يَلْزَمُهُ جِزْيَةُ مُعْتِقِهِ : لِأَنَّهَا لَزِمَتْهُ بِعِتْقِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَلْزَمُهُ جِزْيَةُ عَصَبَتِهِ : لِأَنَّهُمْ أَخَصُّ بِمِيرَاثِهِ وَنُصْرَتِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إِلَّا مَا اسْتَأْنَفَ الصُّلْحَ عَلَيْهِ بِمُرَاضَاتِهِ ، لِيُفْرِدَهُ بِهَا مِنْ غَيْرِهِ ، فَإِنِ امْتَنَعَ مِنْهَا نُبِذَ إِلَيْهِ عَهْدُهُ ثُمَّ صَارَ حُرًّا ، وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلِينَ تُؤْخَذُ مِنْهُ جَبْرًا .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الصِّبْيَانُ أخذ الجزية منهم ، فَلَا جِزْيَةَ عَلَيْهِمْ لِارْتِفَاعِ الْقَلَمِ عَنْهُمْ ، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِمُعَاذٍ : خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا ، فَدَلَّ عَلَى سُقُوطِهَا عَنْ غَيْرِ الْحَالِمِ ، وَلِأَنَّهُمْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْقِتَالِ ، وَلِأَنَّهُمْ يُسْتَرَقُّونَ إِذَا سُبُوا ، فَصَارُوا أَمْوَالًا ، فَإِذَا بَلَغُوا وَجَبَتْ عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةُ . وَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُمْ يَلْتَزِمُونَ جِزْيَةَ آبَائِهِمْ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْنَافِ عَقْدٍ مَعَهُمْ : لِأَنَّهُمْ خَلَفٌ لِسَلَفِهِمْ . وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ : لَا تَلْزَمُهُمْ جِزْيَةُ آبَائِهِمْ ، وَيُسْتَأْنَفُ مَعَهُمْ عَقْدُهَا عَنْ مُرَاضَاتِهِمْ ، إِمَّا بِمِثْلِهَا أَوْ بِأَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ إِذَا لَمْ يَنْقُصْ عَنِ الدِّينَارِ ، وَهَذَا وَهَمٌ فِيهِ يَفْسُدُ مِنْ وَجْهَيْنِ : مَذْهَبٍ ، وَحِجَاجٍ . أَمَّا الْمَذْهَبُ : فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ جَعَلَ جِزْيَةَ الْوَلَدِ إِذَا اخْتَلَفَتْ جِزْيَةُ أَبَوَيْهِ أَنَّ جِزْيَتَهُ جِزْيَةُ أَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ . وَأَمَّا الْحِجَاجُ : فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا تَبَعًا لِآبَائِهِمْ فِي أَمَانِ الذِّمَّةِ كَانُوا تَبَعًا لَهُمْ فِي قَدْرِ الْجِزْيَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ مُؤَبَّدٌ ، وَهَذَا يَجْعَلُهُ مُؤَقَّتًا يَلْزَمُ اسْتِئْنَافُهُ مَعَ بُلُوغِ كُلِّ وَلَدٍ ، وَفِيهِ أَعْظَمُ مَشَقَّةٍ ، وَمَا فَعَلَهُ أَحَدٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ . فَأَمَّا الْبُلُوغُ : فَيَكُونُ بِالِاحْتِلَامِ ، وَبِاسْتِكْمَالِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً ، وَيُحْكَمُ بِبُلُوغِهِ بِإِنْبَاتِ الشَّعْرِ : لِأَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ حَكَمَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ أَنَّ مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمَوَاسِيُّ قُتِلَ ، وَمَنْ لَمْ تَجْرِ عَلَيْهِ اسْتُرِقَّ .
فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : هَذَا حُكْمُ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ . وَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ بُلُوغًا فِيهِمْ كَالسِّنِّ وَالِاحْتِلَامِ ، أَوْ يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى بُلُوغِهِمْ ، فِيهِ قَوْلَانِ مَضَيَا .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا ، وَبَلَغَ الصَّبِيُّ ، وَأُعْتِقَ الْعَبْدُ ، وَأَفَاقَ الْمَجْنُونُ نُظِرَ . فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ : فَقَدْ سَاوَوْا أَهْلَ دِينِهِمْ فِي حَوْلِ جِزْيَتِهِمْ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي تَضَاعِيفِ الْحَوْلِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ قَدْ مَضَى مِنَ الْحَوْلِ نِصْفُهُ قِيلَ لَهُمْ : لَا يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَأْنَفَ لَكُمْ حَوْلٌ غَيْرُ حَوْلِ أَهْلِ دِينِكُمْ لِأَنَّهُ شَاقٌّ ، وَأَنْتُمْ بِالْخِيَارِ إِذَا حَالَ حَوْلُ الْجَمَاعَةِ وَقَدْ مَضَى لَكُمْ مِنَ الْحَوْلِ نِصْفُهُ بَيْنَ أَنْ تُعْطُوا جِزْيَةَ نِصْفِ سَنَةٍ ثُمَّ يُسْتَأْنَفُ لَكُمُ الْحَوْلُ مَعَ الْجَمَاعَةِ ، وَبَيْنَ أَنْ تَتَعَجَّلُوا جِزْيَةَ سَنَةٍ حَتَّى تُؤْخَذَ مِنْكُمْ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ جِزْيَةُ نِصْفِ سَنَةٍ ، وَبَيْنَ أَنْ تَسْتَنْظِرُوا بِجِزْيَةِ نِصْفِ هَذِهِ السَّنَةِ حَتَّى تُؤْخَذَ مِنْكُمْ مَعَ جِزْيَةِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ إِذَا تَمَّتْ جِزْيَةُ سَنَةٍ وَنِصْفٍ فَأَيُّ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ سَأَلُوهَا أُجِيبُوا إِلَيْهَا .
تُؤْخَذُ الجزية مِنَ الشَّيْخِ الْفَانِي وَالزَّمِنِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَتُؤْخَذُ مِنَ الشَّيْخِ الْفَانِي وَالزَّمِنِ أخذ الجزية منهم " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى إِبَاحَةِ قَتْلِ مَنْ أُسِرَ مِنْهُمْ ، وَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي إِبَاحَةِ قَتْلِ الرُّهْبَانِ ، وَأَصْحَابِ الصَّوَامِعِ ، وَالْأَعْمَى وَمَنْ لَا نَهْضَةَ فِيهِ مِنَ الشُّيُوخِ وَالزَّمْنَى الَّذِينَ لَا يُقَاتِلُونَ إِمَّا لِتَعَبُّدٍ كَالرُّهْبَانِ ، أَوْ لِعَجْزٍ كَالشَّيْخِ الْفَانِي ، فَفِي جَوَازِ قَتْلِهِمْ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ قَتْلُهُمْ : لِأَنَّهُمْ مِنْ جِنْسٍ مُبَاحِ الْقَتْلِ ، وَلِأَنَّهُمْ كَانَ رَأْيُهُمْ ، وَتَدْبِيرُهُمْ أَضَرَّ عَلَيْنَا مِنْ قِتَالِ غَيْرِهِمْ ، فَعَلَى هَذَا لَا يُقَرُّونَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إِلَّا بِجِزْيَةٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُمْ : لِأَنَّ الْقَتْلَ لِلْكَفِّ عَنِ الْقِتَالِ ، وَقَدْ كَفُّوا أَنْفُسَهُمْ عَنْهُ ، فَلَمْ يُقْتَلُوا ، فَعَلَى هَذَا يُقَرُّونَ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فَصَارَ فِي إِقْرَارِهِمْ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ قَوْلَانِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا يَهُودُ خَيْبَرَ وفرض الجزية عليهم ، فَالَّذِي عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ أَنَّهُمْ مِمَّنْ أُخِذَ الْجِزْيَةُ مِنْهُمْ كَغَيْرِهِمْ ، وَقَدْ تَظَاهَرُوا فِي هَذَا الزَّمَانِ بِأَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كِتَابٍ نَسَبُوهُ إِلَيْهِ أَسْقَطُوا بِهِ الْجِزْيَةَ عَنْ نُفُوسِهِمْ ، وَلَمْ يَنْقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ رُوَاةِ الْأَخْبَارِ ، وَلَا مِنْ أَصْحَابِ الْمَغَازِي ، وَلَمْ أَرَ لِأَحَدٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ فِي إِثْبَاتِهِ قَوْلًا غَيْرَ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ - فَإِنَّهُ - جَعَلَ مُسَاقَاةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نَخْلِ خَيْبَرَ حِينَ افْتَتَحَهَا ، وَقَوْلُهُ لَهُمْ : أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ أَمَانًا ، وَجَعْلَهُمْ بِالْمُسَاقَاةِ خَوَلًا ، وَأَنَّ بِهَذَيْنِ سَقَطَتِ الْجِزْيَةُ عَنْهُمْ ، وَهَذَا قَوْلٌ تَفَرَّدَ بِهِ لَا أَعْرِفُ لَهُ مُوَافِقًا عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ الْأَمَانُ مُوجِبًا لِسُقُوطِ الْجِزْيَةِ : لِأَنَّهَا تَجِبُ بِالْأَمَانِ ، فَلَمْ تَسْقُطْ
بِهِ ، وَلَا تَسْقُطُ بِالْمُعَامَلَةِ كَمَا لَا تَسْقُطُ بِهَا جِزْيَةُ غَيْرِهِمْ ، وَلَوْ جَازَ هَذَا فِيهِمْ لَكَانَ فِي أَهْلِ فَدَكَ أَجْوَزَ : لِأَنَّهُ فَتَحَهَا صُلْحًا ، وَفَتَحَ خَيْبَرَ عَنْوَةً ، وَأَحْسَبُ أَبَا عَلِيِّ بْنَ أَبِي هُرَيْرَةَ لَمَّا رَأَى الْوُلَاةَ عَلَى هَذَا أَخْرَجَ لِفِعْلِهِمْ وَجْهًا ، وَمَا لَمْ يُثْبِتْهُ الْفُقَهَاءُ لِنَقْلٍ أَوْجَبَ التَّخْصِيصَ فَحُكْمُ الْعُمُومِ فِيهِ أَمْضَى ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَنْ بَلَغَ وَأُمُّهُ نَصْرَانِيَّةٌ وَأَبُوهُ مَجُوسِيٌّ أَوْ أُمُّهُ مَجُوسِيَّةٌ وَأَبُوهُ نَصْرَانِيٌّ فَجِزْيَتُهُ جِزْيَةُ أَبِيهِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَافِعِيُّ : " وَمَنْ بَلَغَ وَأُمُّهُ نَصْرَانِيَّةٌ وَأَبُوهُ مَجُوسِيٌّ أَوْ أُمُّهُ مَجُوسِيَّةٌ وَأَبُوهُ نَصْرَانِيٌّ قدر جزيته في هذه الحالة فَجِزْيَتُهُ جِزْيَةُ أَبِيهِ : لِأَنَّ الْأَبَ هُوَ الَذِي عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ لَسْتُ أَنْظُرُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إِذَا اخْتَلَفَ حُكْمُ أَبَوَيِ الْكَافِرِ فِي حُكْمِ كُفْرِهِمَا الْمُتَعَدِّي عَنْهُمَا إِلَى وَلَدِهِمَا تَعَلَّقَ بِاخْتِلَافِهِمَا أَرْبَعَةُ أَحْكَامٍ : أَحَدُهَا : الْجِزْيَةُ . وَالثَّانِي : النِّكَاحُ وَالذَّبِيحَةُ . وَالثَّالِثُ : عَقْدُ الذِّمَّةِ . وَالرَّابِعُ : الدِّيَةُ . فَأَمَّا الْحُكْمُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ الْجِزْيَةُ ، فَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَبُوهُ نَصْرَانِيًّا لَهُ جِزْيَةٌ ، وَأُمُّهُ يَهُودِيَّةً لِقَوْمِهَا جِزْيَةٌ أُخْرَى ، فَجِزْيَةُ الْوَلَدِ جِزْيَةُ أَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ سَوَاءٌ قَلَّتْ جِزْيَةُ أَبِيهِ أَوْ كَثُرَتْ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي نَسَبِ أَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ ، فَدَخَلَ فِي جِزْيَتِهِ دُونَهَا . وَالثَّانِي : أَنَّ الْجِزْيَةَ عَلَى أَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ ، فَدَخَلَ فِي جِزْيَةِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ دُونَ مَنْ لَا تَجِبْ عَلَيْهِ . وَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّانِي : وَهُوَ اسْتِبَاحَةُ النِّكَاحِ وَالذَّبِيحَةِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ يَهُودِيًّا ، وَالْآخَرُ مَجُوسِيًّا ، فَيُنْظَرُ . فَإِنْ كَانَ أَبُوهُ مَجُوسِيًّا وَأُمُّهُ نَصْرَانِيَّةً ، لَمْ تَحِلَّ ذَبِيحَةُ الْوَلَدِ ، وَلَمْ يُنْكَحْ إِنْ كَانَ امْرَأَةً تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْحَظْرِ ، وَاعْتِبَارًا بِلُحُوقِ النَّسَبِ . وَإِنْ كَانَ أَبُوهُ نَصْرَانِيًّا وَأُمُّهُ مَجُوسِيَّةً ، فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يُعْتَبَرُ بِأَبِيهِ وَاسْتِبَاحَةِ نِكَاحِهِ ، وَأَكْلِ ذَبِيحَتِهِ ، تَعْلِيلًا بِلُحُوقِ النَّسَبِ بِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يُعْتَبَرُ بِأُمِّهِ فِي حَظْرِ نِكَاحِهِ ، وَتَحْرِيمِ ذَبِيحَتِهِ تَعْلِيلًا لِتَغْلِيبِ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ . وَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ عَقْدُ الذِّمَّةِ ، فَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ كِتَابِيًّا يُقَرُّ بِالْجِزْيَةِ ،
وَالْآخَرُ وَثَنِيًّا لَا يُقَرُّ بِالْجِزْيَةِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ كَلَامُ أَصْحَابِنَا فِيهِ : لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ عَطَفَ بِهِ عَلَى اسْتِبَاحَةِ النِّكَاحِ وَالذَّبِيحَةِ عَطْفًا مُرْسَلًا ، فَخَرَجَ عَنِ اخْتِلَافِهِمْ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ فِي ذِمَّتِهِ وَدِينِهِ مُلْحَقًا بِأَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ اعْتِبَارًا بِنَسَبِهِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ أَبُوهُ كِتَابِيًّا ، فَهُوَ كِتَابِيٌ يُقَرُّ بِالْجِزْيَةِ وَإِنْ كَانَ وَثَنِيًّا فَهُوَ وَثَنِيٌّ لَا يُقَرُّ بِالْجِزْيَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ فِي دِينِهِ مُلْحَقًا بِأُمِّهِ دُونَ أَبِيهِ اعْتِبَارًا بِجِزْيَتِهِ وَرِقِّهِ فِي لُحُوقِهِ بِأُمِّهِ دُونَ أَبِيهِ ، وَلِحُدُوثِهِ عَنِ اخْتِلَافِ الدِّينِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَتْ أُمُّهُ كِتَابِيَّةً ، فَهُوَ كِتَابِيٌّ يُقَرُّ بِالْجِزْيَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ وَثَنِيَّةً ، فَهُوَ وَثَنِيٌّ لَا يُقَرُّ بِالْجِزْيَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنْ يُلْحَقَ بِأَثْبَتِهِمَا دِينًا كَمَا يُلْحَقُ بِالْمُسْلِمِ مِنْهُمَا دُونَ الْكَافِرِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ أَبُوهُ كِتَابِيًّا وَأُمُّهُ وَثَنِيَّةً أُلْحِقَ بِأَبِيهِ ، وَجُعِلَ كِتَابِيًّا يُقَرُّ بِالْجِزْيَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ كِتَابِيَّةً ، وَأَبُوهُ وَثَنِيًّا أُلْحِقَ بِأُمِّهِ ، وَجُعِلَ كِتَابِيًّا يُقَرُّ بِالْجِزْيَةِ . وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنْ يُلْحَقَ بِأَغْلَظِهِمَا كُفْرًا : لِأَنَّ التَّخْفِيفَ رُخْصَةٌ مُسْتَثْنَاةٌ ، فَعَلَى هَذَا أَيُّهُمَا كَانَ فِي دِينِهِ وَثَنِيًّا ، فَهُوَ وَثَنِيٌّ لَا يُقَرُّ بِالْجِزْيَةِ سَوَاءٌ كَانَ الْوَثَنِيُّ مِنْهُمَا أَبًا أَوْ أُمًّا ، وَهُوَ ضِدُّ الْوَجْهِ الثَّالِثِ كَمَا أَنَّ الْوَجْهَ الثَّانِيَ ضِدُّ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ . وَأَمَّا الْحُكْمُ الرَّابِعُ : وَهُوَ الدِّيَةُ : إِذَا قُتِلَ ، فَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ نَصْرَانِيًّا وَالْآخَرُ مَجُوسِيًّا ، فَهُوَ مُلْحَقٌ فِي الدِّيَةِ بِأَكْثَرِ أَبَوَيْهِ دِيَةً سَوَاءٌ كَانَ أَبًا أَوْ أُمًّا ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الدِّيَةِ وَالنَّسَبِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الدِّيَةَ لَمَّا اخْتَلَفَتْ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ ، وَلَمْ تَخْتَلِفْ بِاخْتِلَافِ النِّسَبِ ، وَكَانَ فِي الدِّينِ مُلْحَقًا بِالْمُسْلِمِ مِنْهُمَا تَغْلِيظًا كَانَ فِي الدِّيَةِ مُلْحَقًا بِأَغْلَظِهِمَا دِيَةً . وَالثَّانِي : أَنَّ مَا أَوْجَبَ ضَمَانَ النُّفُوسِ كَانَ مُعْتَبَرًا بِأَغْلَظِ الْحُكْمَيْنِ كَالْمُحْرِمِ إِذَا قَتَلَ مَا تَوَلَّدُ مِنْ بَيْنِ وَحْشِيٍّ وَأَهْلِيٍّ ، أَوْ مَأْكُولٍ وَمَحْظُورٍ لَزِمَهُ الْجَزَاءُ تَغْلِيظًا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَأَيُّهُمْ أَفْلَسَ أَوْ مَاتَ فَالْإِمَامُ غَرِيمٌ يَضْرِبُ مَعَ غُرَمَائِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا مَاتَ الذِّمِّيُّ أَوْ أَفْلَسَ بَعْدَ الْحَوْلِ هل تسقط عنه الجزية في هذه الحالة لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ الْجِزْيَةُ بِمَوْتِهِ وَفَلَسِهِ ، وَأَسْقَطَهَا أَبُو حَنِيفَةَ بِمَوْتِهِ احْتِجَاجًا بِأَنَّ الْجِزْيَةَ عُقُوبَةٌ تَسْقُطُ عَنِ الْمَيِّتِ كَالْحُدُودِ : لِأَنَّهُ يَخْرُجُ بِالْمَوْتِ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ ، فَوَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ عَنْهُ الْجِزْيَةُ كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ . وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّهُ مَالٌ اسْتَقَرَّ قَبُولُهُ فِي ذِمَّتِهِ ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِمَوْتِهِ كَالدُّيُونِ ، وَلِأَنَّ
الْجِزْيَةَ عِوَضٌ عَنْ حَقْنِ دَمِهِ ، وَإِقْرَارِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ عَلَى كُفْرِهِ ، فَلَمْ يَسْقُطْ مَا وَجَبَ مِنْهَا بِمَوْتِهِ كَالْأُجُورِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اعْتِبَارِهِمْ بِالْحُدُودِ ، فَهُوَ أَنَّ الْحَدَّ مُتَعَلِّقٌ بِالْبَدَنِ ، فَسَقَطَ بِالْمَوْتِ كَالْقِصَاصِ ، وَالْجِزْيَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَالِ ، فَلَمْ تَسْقُطْ بِالْمَوْتِ كَالدِّيَةِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِخُرُوجِهِ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ ، فَهُوَ أَنَّهَا تُؤْخَذُ عَلَى مَا مَضَى فِي حَيَاتِهِ ، وَقَدْ كَانَ فِيهِ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ . فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ وَالْفَلَسِ ، كَانَتْ كَالدُّيُونِ الْمُسْتَقِرَّةِ تُقَدَّمُ عَلَى الْوَصَايَا ، وَالْوَرَثَةِ ، وَيُسَاهِمُ فِيهَا الْغُرَمَاءُ بِالْحِصَصِ ، وَيَكُونُ مَا عَجَزَ الْمَالُ عَنْهَا دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ ، وَثَابِتًا عَلَى الْمَيِّتِ . وَهَكَذَا لَوْ زَمِنَ أَوْ عَمِيَ أَوْ جُنَّ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ ، وَأَسْقَطَهَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْهُ ، وَدَلِيلُهُ مَا قَدَّمْنَاهُ .
أَسْلَمَ الذِّمِّيُّ بَعْدَ وُجُوبِ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِ لَمْ تَسْقُطْ بِإِسْلَامِهِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ أَسْلَمَ وَقَدْ مَضَى بَعْضُ السَّنَةِ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا مَضَى مِنْهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا أَسْلَمَ الذِّمِّيُّ بَعْدَ وُجُوبِ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِ حكم الجزية في هذه الحالة لَمْ تَسْقُطْ بِإِسْلَامِهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَسْقُطُ عَنْهُ بِإِسْلَامِهِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [ التَّوْبَةِ : 29 ] . وَالْمُسْلِمُ لَا صَغَارَ عَلَيْهِ ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ ، [ الْأَنْفَالِ : 38 ] . وَقَدِ انْتَهَى بِالْإِسْلَامِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ مَا سَلَفَ مِنَ الْجِزْيَةِ . وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ . وَبِمَا رَوَى مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : لَا جِزْيَةَ عَلَى مُسْلِمٍ ، وَهَذَا نَصٌّ . وَمِنَ الْقِيَاسِ : أَنَّهَا عُقُوبَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْكُفْرِ ، فَوَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ بِالْإِسْلَامِ كَالْقِتَالِ . وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنْهُ صَغَارًا وَذِلَّةً ، وَالْمُسْلِمُ لَا صَغَارَ عَلَيْهِ ، فَوَجَبَ سُقُوطُهَا عَنْهُ . وَدَلِيلُنَا : قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : الزَّعِيمُ غَارِمٌ وَقَدْ ضَمِنَهَا ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ غُرْمُهَا .
وَمِنَ الْقِيَاسِ : أَنَّهُ مَالٌ اسْتَقَرَّ ثُبُوتُهُ فِي ذِمَّتِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ بِإِسْلَامِهِ كَالدُّيُونِ . فَإِنْ قِيلَ : يَبْطُلُ بِالزَّوْجَيْنِ الْوَثَنِيَّيْنِ إِذَا أَسْلَمَ الزَّوْجُ مِنْهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ سَقَطَ عَنْهُ صَدَاقُهَا بِإِسْلَامِهِ . قِيلَ : صَدَاقُهَا إِنَّمَا بَطَلَ بِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ كَمَا يَبْطُلُ صَدَاقُهَا بِالرِّدَّةِ ، لِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي صَلَاتِهِ ، فَبَطَلَتْ بِكَلَامِهِ حَلَّ لَهُ الْكَلَامُ بِبُطْلَانِ الصَّلَاةِ لَا بِالْكَلَامِ ؟ فَإِنْ قِيلَ : إِنَّمَا لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الدَّيْنُ بِإِسْلَامِهِ : لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ ابْتِدَاؤُهُ فِي إِسْلَامِهِ ، وَسَقَطَتِ الْجِزْيَةُ بِإِسْلَامِهِ : لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ ابْتِدَاؤُهَا فِي إِسْلَامِهِ . فَالْجَوَابُ عَنْهُ : أَنَّهُ تَبْطُلُ عِلَّةُ الْأَصْلِ بِالْمَوْتِ : لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنِ ابْتِدَاءِ الدِّينِ وَلَا يَمْنَعُ مِنِ اسْتَدَامَتِهِ ، وَتُبْطُلُ عِلَّةُ الْفَرْعِ بِالِاسْتِرْقَاقِ ، وَيَمْنَعُ الْإِسْلَامُ مِنِ ابْتِدَائِهِ ، وَلَا يَمْنَعُ مِنِ اسْتَدَامَتِهِ ، وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ وَالْخَرَاجَ مُسْتَحَقَّانِ بِالْكُفْرِ ، لَمَّا لَمْ يَسْقُطْ بِالْإِسْلَامِ مَا وَجَبَ مِنَ الْخَرَاجِ لَمْ يَسْقُطْ بِهِ مَا وَجَبَ مِنَ الْجِزْيَةِ . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا : أَنَّهُ مَالٌ مُسْتَحَقٌّ بِالْكُفْرِ ، فَلَمْ يَسْقُطْ مَا وَجَبَ مِنْهُ بِالْإِسْلَامِ كَالْخَرَاجِ ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بَعْضُ أَهْلِ خُرَاسَانَ بِأَنَّ مَا وَجَبَ عَلَى الْكَافِرِ بِالِالْتِزَامِ لَمْ يَسْقُطْ بِالْإِسْلَامِ كَالْخَرَاجِ ، وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ مُعَاوَضَةٌ عَنْ حَقْنِ الدَّمِ وَالْمُسَاكَنَةِ ، فَلَمْ يَسْقُطْ مَا وَجَبَ مِنْهَا بِالْإِسْلَامِ كَالْأُجْرَةِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَهُمْ صَاغِرُونَ ، [ التَّوْبَةِ : 129 ] . فَهُوَ أَنَّ الصَّغَارَ عِلَّةٌ فِي الْوُجُوبِ دُونَ الْأَدَاءِ ، وَوُجُوبُهَا يَسْقُطُ بِالْإِسْلَامِ ، وَأَدَاؤُهَا لَا يَسْقُطُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ ، [ الْأَنْفَالِ : 38 ] . فَهُوَ أَنَّ الْغُفْرَانَ مُخْتَصٌّ بِالْآثَامِ دُونَ الْحُقُوقِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ ، فَهُوَ أَنَّهُ يَقْطَعُ وُجُوبَ مَا قَبْلَهُ ، وَلَا يَرْفَعُ مَا وَجَبَ مِنْهُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : لَا جِزْيَةَ عَلَى مُسْلِمٍ فَهُوَ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى ابْتِدَاءِ الْوُجُوبِ دُونَ الِاسْتِيفَاءِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْقَتْلِ ، فَهُوَ أَنَّ الْجِزْيَةَ مُعَاوَضَةٌ ، وَلَيْسَتْ عُقُوبَةً ، ثُمَّ هُوَ مُنْتَقِضٌ بِالِاسْتِرْقَاقِ لَا يَبْطُلُ بِالْإِسْلَامِ ، وَإِنْ وَجَبَ بِالْكُفْرِ ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْقَتْلِ أَنَّهُ وَجَبَ بِالْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ ، وَقَدْ زَالَ الْإِصْرَارُ بِالْإِسْلَامِ ، فَلِذَلِكَ سَقَطَ . وَالْجِزْيَةُ وَجَبَتْ مُعَاوَضَةً عَنِ الْمُسَاكَنَةِ ، وَتِلْكَ الْمُسَاكَنَةُ لَمْ تَنْزِلْ ، فَلَمْ تَسْقُطْ بِالْإِسْلَامِ .