كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي
قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : الشِّيَاعُ دُعَاءُ الدَّاعِي ، أَيْ : يُتَابِعُ بَيْتَهُ فِي الطَّيَرَانِ : لِأَنَّهُ مَنَعَ بَعْضُهُ بَعْضًا ، وَيَأْتَلِفُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُشَايَعَ كَمَا تُشَايَعُ الْغَنَمُ ، فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا سَأَلَتْ رَبَّهَا أَنْ يُطْعِمَهَا لَحْمًا لَا دَمَ فِيهِ ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ صَيْدَ الْبَحْرِ لَا دَمَ فِيهِ ، فَأَطْعَمَهَا الْجَرَادَ ، وَلَيْسَ فِي صَيْدِ الْبَرِّ لَحْمٌ لَا دَمَ فِيهِ سِوَى الْجَرَادِ . وَالثَّانِي : قَوْلُ مَرْيَمَ : اللَّهُمَّ أَعِشْهُ بِغَيْرِ رَضَاعٍ ، وَتَابِعْ بَيْتَهُ بِغَيْرِ شِيَاعٍ ، فَدَعَتْ رَبَّهَا أَنْ يَخُصَّهُ بِذَلِكَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مَخْصُوصًا ، فَعُلِمَ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ دَعْوَتِهَا يَعِيشُ بِرِضَاعٍ ، وَلَا يَجْتَمِعُ بِغَيْرِ شِيَاعٍ ، وَذَلِكَ " مِنْ صِفَاتِ صَيْدِ الْبَرِّ : وَلِأَنَّ صَيْدَ الْبَحْرِ : مَا كَانَ عَيْشُهُ فِي الْبَحْرِ ، وَعَيْشُ الْجَرَادِ فِي الْبَرِّ ، وَمَوْتُهُ فِي الْبَحْرِ ، فَعُلِمَ أَنَّهُ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ دُونَ الْبَحْرِ ، وَإِذَا كَانَ هَكَذَا وَجَبَ فِيهِ الْجَزَاءُ : لِقَوْلِهِ تَعَالَى : لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [ الْمَائِدَةِ : ] ، وَرَوَى يُوسُفُ بْنُ مَاهِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ أَقْبَلَ مَعَ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَكَعْبِ الْأَحْبَارِ فِي أُنَاسٍ مُحْرِمِينَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِغَمْرَةَ ، حَتَى إِذَا كُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ ، وَكَعْبٌ عَلَى نَارٍ يَصْطَلِي مَرَّ بِهِ رِجْلٌ مِنْ جَرَادٍ ، فَأَخَذَ جَرَادَتَيْنِ فَقَتَلَهُمَا وَنَسِيَ إِحْرَامَهُ ، ثُمَّ ذَكَرَ إِحْرَامَهُ فَأَلْقَاهُمَا ، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ قَصَّ كَعْبٌ قِصَّةَ الْجَرَادَتَيْنِ عَلَى عُمَرَ فَقَالَ : مَا جَعَلْتَ فِي نَفْسِكَ ، قَالَ : دِرْهَمَيْنِ ، قَالَ عُمَرُ : بَخٍ دِرْهَمَانِ خَيْرٌ مِنْ مِائَةِ جَرَادَةٍ ، فَدَلَّ حَدِيثُ كَعْبٍ عَلَى جَوَازِ الْإِحْرَامِ قَبْلَ الْمِيقَاتِ ، وَأَنَّ قَاتِلَ الصَّيْدِ نَاسِيًا كَالْعَامِدِ حال الإحرام ، وَأَنَّ الْجَرَادَ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ ، وَأَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْجَزَاءِ وَأَنَّ فِيهِ قِيمَتَهُ : لِأَنَّهُ صَيْدٌ مَأْكُولٌ يَأْوِي الْبَرَّ . فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا بِالْجَزَاءِ كَسَائِرِ الْقُيُودِ ، فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْخَبَرِ فَضَعِيفٌ : لِأَنَّ أَبَا الْمُهَزِّمِ مَجْهُولٌ ، وَأَمَّا جَوَازُ أَكْلِهَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَا يَمْنَعُ مِنَ اخْتِلَافِ حُكْمِهَا فِي الْحَيَاةِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْجَزَاءِ ، فَفِيهِ قِيمَتُهُ : لِأَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ ، فَإِنَّ قَتْلَ جَرَادَةٍ فِي الْحَرَمِ ، أَوْ فِي الْإِحْرَامِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْإِمْلَاءِ : عَلَيْهِ تَمْرَةٌ ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهَا أَكْثَرَ مِنْ تَمْرَةٍ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا أَقَلَّ مِنْ تَمْرَةٍ أَحْبَبْتُ أَلَّا تَنْقُصَ عَنْ تَمْرَةٍ : لِأَنَّ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ قَبِيحٌ أَنْ يُتَصَدَّقَ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ جَرَادًا كَثِيرًا احْتَاطَ حَتَّى يَعْلَمَ قَدْرَهُ فَتَكُونَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ طَعَامًا أَوْ تَمْرًا يَتَصَدَّقُ بِهِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ : وَالدَّبَاءُ جَرَادٌ صِغَارٌ ، فَفِي الدَّبَاةِ مِنْهُ أَقَلُّ مِنْ تَمْرَةٍ قتله حال الإحرام إِنْ شَاءَ الَّذِي يَفْدِيهِ أَوْ لُقَيْمَةٍ صَغِيرَةٍ وَمَا فَدَاهُ بِهِ فَهُوَ خَيْرٌ مِنْهُ ، وَإِذَا كَسَرَ بَيْضَ الْجَرَادِ حال الإحرام فَدَاهُ ، وَمَا فَدَا بِهِ كُلَّ
بَيْضَةٍ مِنْهُ مِنْ طَعَامٍ فَهُوَ خَيْرٌ مِنْهَا ، فَأَمَّا الْجُنْدُبُ وَالْكَدْمُ فَهُمَا وَإِنْ كَانَا كَالْجَرَادِ فَلَيْسَا مَأْكُولَيْنِ ، وَلَا شَيْءَ فِيهِمَا ، وَيُكْرَهُ قَتْلُهُمَا : لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَا مَأْكُولَيْنِ .
فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ : وَإِذَا كَانَ الْمُحْرِمُ عَلَى بَعِيرِهِ أَوْ يَقُودُهُ أَوْ يَسُوقُهُ غَرِمَ مَا أَصَابَهُ بِعِيرُهُ مِنَ الْجَرَادِ ، فَإِنْ كَانَ بَعِيرُهُ مُنْفَلِتًا لَمْ يُغَرَّمْ مَا أَصَابَ بِعِيرُهُ مِنْهُ ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ : لِأَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ أَوْ مَعَهُ نُسِبَتْ إِلَيْهِ أَفْعَالُهُ ، وَإِذَا فَلَتَ مِنْهُ لَمْ يُنْسَبْ أَفْعَالُهُ إِلَيْهِ ، فَلَوْ كَانَ الْجَرَادُ فِي طَرِيقِهِ مُفْتَرِشًا لَا يَجِدُ مَسْلَكًا إِلَّا عَلَيْهِ ، فَوَطِئَهُ بِقَدَمِهِ أَوْ سَارَ عَلَيْهِ بِعِيرُهُ حال الإحرام ، فَقَدْ عَلَّقَ الشَّافِعِيُّ الْقَوْلَ فِيهِ ، فَخَرَّجَهُ أَصْحَابُنَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا جَزَاءَ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ لِقَتْلِهِ ، فَلَمْ يُضْمَنْ ، كَالصَّيْدِ إِذَا صَالَ عَلَيْهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : عَلَيْهِ الْجَزَاءُ : لِأَنَّهُ وَإِنِ اضْطُرَّ إِلَيْهِ فَهُوَ لِمَعْنًى فِيهِ ، لَا فِي الْجَرَادِ ، فَصَارَ كَاضْطِرَارِهِ إِلَى قَتْلِ الصَّيْدِ لِأَكْلِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَا كَانَ مِنْ بَيْضِ طَيْرٍ يُؤْكَلُ فَفِي كُلِّ بَيْضَةٍ قِيمَتُهَا وَإِنْ كَانَ فِيهَا فَرْخٌ فَقِيمَتُهَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَصَابَهَا فِيهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الْبَيْضَ ضَرْبَانِ : مَأْكُولٌ وَغَيْرُ مَأْكُولٍ كسره في الحرم . فَغَيْرُ الْمَأْكُولِ : لَا شَيْءَ فِيهِ ، كَبَيْضِ الرَّخَمِ وَالْغُرَابِ وَالنَّسْرِ وَالْبَازِيِّ . وَأَمَّا الْمَأْكُولُ : فَهُوَ صَيْدٌ يَمْنَعُ مِنْهُ الْحَرَمُ وَالْإِحْرَامُ ، وَيُضْمَنُ بِالْجَزَاءِ . وَقَالَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيُّ وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ : الْبَيْضُ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْجَزَاءِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا : قَوْلُهُ تَعَالَى : لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ [ الْمَائِدَةِ : ] ، قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ : الْبَيْضُ . وَرَوَى أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " فِي بَيْضِ النَّعَامَةِ يُصِيبُهَا الْمُحْرِمُ قِيمَتُهَا " : وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ . وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي مُوسَى : أَنَّهُمْ أَوْجَبُوا فِي بَيْضِ الصَّيْدِ الْجَزَاءَ ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْجَزَاءِ : وَلِأَنَّ كُلَّ بَائِضٍ كَانَ مَضْمُونًا بِالْإِتْلَافِ ، فَبَيْضُهُ مَضْمُونٌ بِالْإِتْلَافِ ، كَالْبَيْضِ الْمَمْلُوكِ طَرْدًا ، وَكَبَيْضِ الْحُوتِ عَكْسًا : وَلِأَنَّ الْمُزَنِيَّ قَدْ وَافَقَنَا فِي ضَمَانِ رِيشِ الطَّائِرِ إِذَا نُتِفَ عَنْهُ : لِأَنَّهُ شَيْءٌ مِنْهُ ، فَضَمَانُ بَيْضِهِ أَوْلَى مِنْهُ : لِأَنَّ الرِّيشَ لَا يَكُونُ مِنْهُ صَيْدٌ ، وَالْبَيْضُ قَدْ يَكُونُ مِنْهُ صَيْدٌ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ بَيْضَ الصَّيْدِ مَضْمُونٌ بِالْجَزَاءِ ، فَالْبَيْضُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ في الحرم : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ بَيْضًا صَحِيحًا لَا فَرْخَ فِيهِ ، فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ ، وَحُكِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ مَنْ أَتْلَفَ بَيْضًا فَعَلَيْهِ أَنْ يُلَقِّحَ مَحِلَّهُ عَلَى ذَوْقٍ بِعَدَدِ الْبَيْضِ فَمَا نَتَجَتْ مِنْ شَيْءٍ تَصَدَّقَ بِهِ . وَقَالَ مَالِكٌ : فِي الْبَيْضِ عُشْرُ قِيمَةِ أُمِّهِ ، كَالْجَنِينِ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ عُشْرُ قِيمَةِ أُمِّهِ . وَدَلِيلُنَا : حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " فِي بَيْضِ النَّعَامَةِ يُصِيبُهَا الْمُحْرِمُ قِيمَتُهَا " . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَلَيْهِ قِيمَتَهُ ، فَالْقِيمَةُ مُعْتَبِرَةٌ بِاجْتِهَادِ فَقِيهَيْنِ ، وَكَذَلِكَ قِيمَةُ مَا لَا مِثْلَ لَهُ مِنَ الصَّيْدِ كُلِّهِ ، يَجِبُ أَنْ يَحْكُمَ بِهَا فَقِيهَانِ عَدْلَانِ ، كَمَا يَحْكُمَانِ بِالْمِثْلِ مِنَ الْجَزَاءِ : لِقَوْلِهِ تَعَالَى : يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ [ الْمَائِدَةِ : ] وَهَلْ تُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْبَيْضِ فِي مَوْضِعِ إِتْلَافِهِ أَوْ بِمَكَّةَ ؟ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ ، فَإِذَا حَكَمَا بِالْقِيمَةِ كَانَ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ مُخَيَّرًا بَيْنَ إِخْرَاجِ الْقِيمَةِ دَرَاهِمَ يَصْرِفُهَا فِي مَسَاكِينِ الْحَرَمِ ، وَبَيْنَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِالْقِيمَةِ طَعَامًا يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَيْهِمْ ، وَبَيْنَ أَنْ يَصُومَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا ، كَمَا كَانَ مُخَيَّرًا فِي جَزَاءِ مَالِهِ مِثْلٌ مِنَ النَّعَمِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْبَيْضُ فَاسِدًا إتلافه في الحرم ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا قِيمَةَ لِقِشْرِهِ ، فَلَا شَيْءَ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لِقِشْرِهِ قِيمَةٌ كَبَيْضِ النَّعَامِ ، فَعَلَيْهِ قِيمَةُ قِشْرِهِ . فَإِنْ قِيلَ : لَوْ أَتْلَفَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا مَيِّتًا لَمْ يَلْزَمْهُ قِيمَةُ جِلْدِهِ ، فَهَلَّا كَانَ الْبَيْضُ الْفَاسِدُ أَيْضًا لَا يَلْزَمُهُ قِيمَةُ قِشْرِهِ . قِيلَ : لِأَنَّ جِلْدَ الْمَيْتَةِ لَا قِيمَةَ لَهُ : لِأَنَّهُ مَيْتَةٌ ، وَقِشْرُ الْبَيْضِ لَهُ قِيمَةٌ .
فَصْلٌ : وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ الْبَيْضُ صَحِيحًا فِيهِ فَرْخٌ إتلافه في الحرم ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْفَرْخِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَيًّا ، أَوْ مَيِّتًا . فَإِنْ كَانَ مَيِّتًا ، فَلَا شَيْءَ فِيهِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : فِيهِ الْجَزَاءُ ، وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا ، وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ ضَمَانَ الْأُمِّ أَقْوَى مِنْ ضَمَانِ الْفَرْخِ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ أَتْلَفَ الْأُمَّ بَعْدَ مَوْتِهَا الصيد في الحرم لَمْ يَضْمَنْهَا بِالْجَزَاءِ ، فَالْفَرْخُ إِذَا أَتْلَفَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ أَوْلَى أَلَّا يَضْمَنَهُ بِالْجَزَاءِ . وَالثَّانِي : أَنَّ ضَمَانَ الْبَيْضِ فِي حَقِّ الْآدَمِيِّ أَقْوَى مِنْ ضَمَانِهِ بِالْجَزَاءِ : لِأَنَّ ضَمَانَهُ فِي حَقِّ الْآدَمِيِّ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ ، وَبِالْجَزَاءِ مُخْتَلِفٌ فِيهِ ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْفَرْخُ بِمَيِّتٍ فِي حَقِّ الْآدَمِيِّ مَضْمُونًا فَأَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ بِالْجَزَاءِ مَضْمُونًا وَإِنْ كَانَ الْفَرْخُ حَيًّا لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَعِيشَ وَيَمْتَنِعَ أَوْ يَمُوتَ ، فَإِنْ عَاشَ فَلَا شَيْءَ فِيهِ وَإِنْ مَاتَ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ ، ثُمَّ لَهُ حَالَتَانِ :
إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَكُونَ ضَعِيفًا غَيْرَ مُسْتَقِرِّ الْحَيَاةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعِيشَ مِثْلُهُ إتلاف فرخ البيض في الحرم ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَةُ فَرْخٍ يَحْكُمُ بِهَا عَدْلَانِ مِنَ الْفُقَهَاءِ عَلَى مَا مَضَى . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ قَوِيًّا مُسْتَقِرَّ الْحَيَاةِ يَجُوزُ أَنْ يَعِيشَ مِثْلُهُ إتلاف فرخ البيض في الحرم ، فَلَا يَخْلُو مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ فَرْخَ نَعَامَةٍ ، فَفِيهِ وَلَدُ نَاقَةٍ صَغِيرٌ ، هُبَعٌ أَوْ كُبَعٌ أَوْ رُبَعٌ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ فَرْخَ حَمَامَةٍ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : فِيهِ شَاةٌ كَمَا يَجِبُ فِي أُمِّهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : فِيهِ وَلَدُ شَاةٍ صَغِيرٌ ، رَاضِعٌ أَوْ فَطِيمٌ ، يَكُونُ قَدْرَ بَدَنَةٍ مِنَ الشَّاةِ بِقَدْرِ بَدَنِ الْفَرْخِ مِنْ أُمِّهِ ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي الشَّاةِ الْوَاجِبَةِ فِي الْحَمَامَةِ ، هَلْ وَجَبَتْ تَوْقِيفًا أَوْ مِنْ طَرِيقِ الشَّبَهِ وَالْمُمَاثِلَةِ ؟ وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ فَرْخَ مَا دُونَ الْحَمَامَةِ كَفَرْخِ الْعُصْفُورِ وَالْقُنْبُرِ ، فَفِيهِ قِيمَتُهُ كَمَا يَجِبُ فِي أُمِّهِ قِيمَتُهَا . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ فَرْخَ مَا فَوْقَ الْحَمَامِ كَفَرْخِ الْفَتَخِ وَالْقَطَا ، فَهُوَ مُعْتَبِرٌ بِأُمِّهِ ، فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ مَا فَوْقَ الْحَمَامِ فِيهِ قِيمَتُهُ ، فَفِي فَرْخِهِ أَيْضًا قِيمَتُهُ ، فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ فِيهِ شَاةً ، كَفَرْخِ الْحَمَامِ ، فَيَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِيهِ شَاةٌ . وَالثَّانِي : وَلَدُ شَاةٍ صَغِيرٌ .
فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَوْ أَخَذَ بَيْضَ حَمَامٍ فَجَعَلَهُ تَحْتَ دَجَاجٍ ، فَإِنْ خَرَجَ وَطَارَ فَقَدْ أَسَاءَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ أَفْسَدَهُ فَهُوَ ضَامِنٌ : لِأَنَّهُ فَسَدَ بِفِعْلِهِ ، وَإِنْ أَخَذَ بَيْضَ دَجَاجٍ فَجَعَلَهُ تَحْتَ حَمَامٍ ، فَذُعِرَ عَنْ بَيْضٍ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا فَسَدَ مِنْ بَيْضٍ : لِأَنَّهُ فَسَدَ بِجِنَايَتِهِ ، وَإِنْ حَصَّنَ جَمِيعَهُ ، لَكِنْ ضَاقَ عَنْ أَنْ يَدْفِنَهُ ، فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا فَسَدَ مِنْ بَيْضِهِ ، فَلَوْ رَأَى عَلَى فِرَاشِهِ بَيْضَ حَمَامٍ فَأَزَالُهُ عَنْهُ فَفَسَدَ بِإِزَالَتِهِ حال إحرامه ، فَقَدْ عَلَّقَ الشَّافِعِيُّ الْقَوْلَ فِيهِ ، فَخَرَّجَهُ أَصْحَابُنَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : عَلَيْهِ ضَمَانُهُ : لِأَنَّهُ فَسَدَ بِفِعْلِهِ . وَالثَّانِي : لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ . فَأَمَّا بَيْضُ الْحُوتِ : فَهُوَ مَأْكُولٌ وَلَا جَزَاءَ فِيهِ في الحرم اعْتِبَارًا بِأَصْلِهِ وَبَائِضِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يَأْكُلُهَا مُحْرِمٌ ؛ لِأَنَّهَا مِنَ الصَّيْدِ وَقَدْ يَكُونَ فِيهَا صَيْدًا " .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا بَيْضُ الْحَرَمِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَكَلَ بِحَالٍ ، فَلَوْ كَسَرَهُ إِنْسَانٌ فَضَمِنَهُ ، لَمْ يَجُزْ لَهُ وَلَا لِغَيْرِهِ إِنْ أَكْلَهُ قَوْلًا وَاحِدًا ، فَأَمَّا بَيْضُ الْحِلِّ فَحَرَامٌ عَلَى الْمُحْرِمِ ، حَلَالٌ لِلْمُحِلِّ ، فَلَوْ أَفْسَدَ الْمُحْرِمُ بَيْضًا فِي الْحِلِّ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْكُلَهُ وَلَا أَحَدٌ مِنَ الْمُحْرِمِينَ : لِأَنَّهُمْ مِثْلُهُ فِي تَحْرِيمِهِ عَلَيْهِمْ ، فَأَمَّا الْمُحِلُّونَ يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوهُ ، وَإِنْ أَفْسَدَهُ مُحْرِمٌ ، وَجَهِلَ بَعْضُ مُتَأَخَّرِي أَصْحَابِنَا ، فَخَرَّجَ جَوَازَ أَكْلِ الْحَلَالِ لَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالصَّيْدِ ، وَهَذَا قَوْلٌ قَبِيحٌ : لِأَنَّ الْبَيْضَ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى ذَكَاةٍ ، فَيَكُونُ فِعْلُ الْمُحْرِمِ فِيهِ غَيْرَ ذَكَاةٍ : وَكَذَلِكَ الْجَرَادُ وَلَوْ قَتَلَهُ مُحْرِمٌ فِي الْحِلِّ جَازَ أَنْ يَأْكُلَهُ الْمُحِلُّ : لِأَنَّهُ يُؤْكَلُ مَيِّتًا ، فَلَمْ يَكُنْ قَتْلُ الْمُحْرِمِ لَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ مَوْتِهِ . فَإِنْ قِيلَ : مَا الْفَرْقُ بَيْنَ بَيْضِ الْحَرَمِ لَا يَجُوزُ إِذَا أَفْسَدَهُ مُفْسِدٌ أَنْ يُؤْكَلَ بِحَالٍ ، وَبَيْنَ بَيْضِ الْحِلِّ إِذَا أَفْسَدَهُ الْمُحْرِمُ ، حَيْثُ جَازَ أَنْ يَأْكُلَهُ الْمُحِلُّ ؟ قِيلَ : لِأَنَّ حُرْمَةَ الْحَرَمِ لَمْ تَزُلْ عَنْهُ بِكَسْرِهِ ، وَحُرْمَةُ الْإِحْرَامِ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فِي الْمَحِلَّيْنِ فَزَالَتْ عَنْهُ بِكَسْرِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ نَتَفَ طَيْرًا فَعَلَيْهِ بِقَدْرِ مَا نَقَصَ النَتْفُ فَإِنْ تَلِفَ بَعْدُ فَالِاحْتِيَاطُ أَنْ يَفْدِيَهُ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مُمْتَنِعًا حَتَى يُعْلَمَ أَنَّهُ مَاتَ مِنْ نَتْفِهِ فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ حَبَسَهُ وَأَسْقَطَهُ وَسَقَاهُ مُمْتَنِعًا وَفَدَى مَا نَقَصَ النَتْفُ مِنْهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَسَرَهُ فَجَبَرَهُ فَصَارَ أَعْرَجَ لَا يَمْتَنِعُ فَدَاهُ كَامَلًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا نَتَفَ رِيشَ طَائِرٍ مِنَ الصَّيْدِ الْمَضْمُونِ فِي الْحَرَمِ أَوْ فِي الْإِحْرَامِ المحرم ، لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى امْتِنَاعِهِ بَعْدَ النَّتْفِ ، أَوْ يَصِيرَ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ بَعْدَ النَّتْفِ ، فَإِنْ كَانَ مُمْتَنِعًا بَعْدَ النَّتْفِ فَالْكَلَامُ فِيهِ يَتَعَلَّقُ بِفَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : ضَمَانُ نَقْصِهِ بِالنَّتْفِ . وَالثَّانِي : ضَمَانُ نَقْصِهِ بِالتَّلَفِ . فَأَمَّا ضَمَانُ نَقْصِهِ بِالنَّتْفِ ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ لَا يَسْتَخْلِفَ مَا نَتَفَ مِنْ رِيشِهِ نتف ريش طائر في الحرم ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا نَقَصَ مِنْهُ ، وَهُوَ : أَنْ يُقَوِّمَهُ قَبْلَ نَتْفِ رِيشِهِ ، فَإِذَا قِيلَ : عَشْرُ دَرَاهِمَ ، قَوَّمَهُ بَعْدَ نَتْفِ رِيشِهِ ، فَإِذَا قِيلَ : تِسْعَةٌ ، عَلِمَ أَنَّ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ عُشْرُ الْقِيمَةِ ، وَيُنْظَرُ فِي الطَّائِرِ الْمَنْتُوفِ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا تَجِبُ فِيهِ شَاةٌ ، فَعَلَيْهِ عُشْرُ ثَمَنِ شَاةٍ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، وَعُشْرُ شَاةٍ عَلَى مَذْهَبِ الْمُزَنِيِّ ، وَإِنْ كَانَ مَا يَجِبُ قِيمَتُهُ ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ ، وَهُوَ : دِرْهَمٌ وَاحِدٌ .
وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَسْتَخْلِفَ مَا نُتِفَ مِنْ رِيشِهِ نتف ريش طائر في الحرم ، وَيَعُودَ كَمَا كَانَ قَبْلَ نَتْفِ رِيشِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؟ لِعَوْدِهِ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ . وَالثَّانِي : عَلَيْهِ ضَمَانُ مَا نَقَصَ بِالنَّتْفِ قَبْلَ حُدُوثِ مَا اسْتَخْلَفَ : لِأَنَّ الرِّيشَ الْمَضْمُونَ بِالنَّتْفِ غَيْرُ الرِّيشِ الَّذِي اسْتَخْلَفَ ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِيمَنْ حَنَى عَلَى سِنِّهِ فَانْقَلَعَتْ ، فَأَخَذَ دِيَتَهَا ، ثُمَّ نَبَتَتْ سِنُّهُ وَعَادَتْ هَلْ يُسْتَرْجَعُ مِنْهُ مَا أَخَذَ مِنَ الدِّيَةِ أَمْ لَا ؟ وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَمْتَنِعَ الطَّائِرُ فَلَا يُعْلَمُ هَلِ اسْتَخْلَفَ رِيشُهُ أَمْ لَمْ يَسْتَخْلِفْ نتف ريش طائر في الحرم ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُ نَقْصِهِ وَجْهًا وَاحِدًا : لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّهُ بِالَّتِي عَلَى حَالِهِ ، وَأَمَّا ضَمَانُ نَفْسِهِ إِنْ تَلِفَ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ نتف ريش طائر في الحرم : أَحَدُهَا : أَنْ يَتْلَفَ مِنْ ذَلِكَ النَّتْفِ ، وَهُوَ أَنْ يَمْتَنِعَ بَعْدَ النَّتْفِ فَيَطِيرَ مُتَحَامِلًا لِنَفْسِهِ ، وَيَسْقُطَ مِنْ شِدَّةِ الْأَلَمِ فَيَمُوتَ ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُ نَفْسِهِ ، وَيَسْقُطُ ضَمَانُ نَقْصِهِ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَجِبُ فِيهِ شَاةٌ فَعَلَيْهِ شَاةٌ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَجِبُ فِيهِ قِيمَتُهُ ، فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ قَبْلَ النَّتْفِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَمُوتَ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ النَّتْفِ ، إِمَّا حَتْفَ أَنْفِهِ ، أَوْ مِنْ حَادِثٍ غَيْرِهِ ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ ضَمَانُ نَفْسِهِ ، لَكِنْ عَلَيْهِ ضَمَانُ نَقْصِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ لَا يُعْلَمَ هَلْ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ النَّتْفِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ ، فَالِاحْتِيَاطُ أَنْ يَفْدِيَهُ كُلَّهُ ، وَيَضْمَنَ نَفْسَهُ : لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُ مِنْ نَتْفِهِ ، وَلَا يَلْزَمَهُ أَنْ يَضْمَنَ إِلَّا قَدْرَ نَقْصِهِ : لِأَنَّ ظَاهِرَ مَوْتِهِ بَعْدَ امْتِنَاعِهِ أَنَّهُ مِنْ حَادِثٍ غَيْرِهِ .
فَصْلٌ : وَإِنْ صَارَ الطَّائِرُ بِالنَّتْفِ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ نتف ريش طائر في الحرم ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُمْسِكَهُ وَيُطْعِمَهُ وَيَسْقِيَهُ لِيُنْظُرَ مَا يَئُولُ إِلَيْهِ حَالُهُ ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَعِيشَ أَوْ يَمُوتَ ، فَإِنْ عَاشَ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَعِيشَ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ ، وَيَصِيرَ مَطْرُوحًا كَالْكَسِيرِ الزَّمِنِ نتف ريش طائر في الحرم ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُ نَفْسِهِ ، وَفِدَاءُ جَمِيعِهِ ، لِأَنَّ الصَّيْدَ بِامْتِنَاعِهِ ، فَإِذَا صَارَ بِجِنَايَتِهِ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ فَقَدْ أَتْلَفَهُ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَعِيشَ مُمْتَنِعًا ، وَيَعُودَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ النَّتْفِ نتف ريش طائر في الحرم ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ، عَلَى مَا مَضَى : أَحَدُهُمَا : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ : لِعَدَمِ نَقْصِهِ . وَالثَّانِي : عَلَيْهِ ضَمَانُ مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ عَافِيًا مُمْتَنِعًا وَمَنْتُوفًا غَيْرَ مُمْتَنِعٍ .
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَعِيشَ وَيَغِيبَ ، فَلَا يُعْلَمُ هَلِ امْتَنَعَ أَوْ لَمْ يَمْتَنِعْ نتف ريش طائر في الحرم : إِلَّا أَنَّ جِنَايَتَهُ مَعْلُومَةٌ ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُ نَفْسِهِ : لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّهُ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ ، حَتَّى يَعْلَمَ امْتِنَاعَهُ ، وَفِي غَيْرِ الْمُمْتَنِعِ قِيمَتُهُ ، وَإِنْ مَاتَ الصَّيْدُ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَمُوتَ بِالنَّتْفِ نتف ريش طائر في الحرم ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَتِهِ ، أَوْ فِدَاءُ مِثْلِهِ : لِأَنَّ مَوْتَهُ مِنْ جِنَايَتِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَمُوتَ بِسَبَبِ حَادِثٍ غَيْرِ النَّتْفِ نتف ريش طائر في الحرم ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ الْحَادِثُ مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ضَمَانُ الصَّيْدِ لَوِ انْفَرَدَ ، مِثْلَ أَنْ يَفْتَرِسَهُ سَبُعٌ أَوْ يَقْتُلَهُ مُحِلٌّ ، فَيَكُونَ عَلَى الْجَانِي الْأَوَّلِ أَنْ يَفْدِيَهُ كَامِلًا : لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ لَهُ ضَامِنًا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ الْحَادِثُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ ضَمَانُ الصَّيْدِ لَوِ انْفَرَدَ ، مِثْلَ : أَنْ يَقْتُلَهُ مُحْرِمٌ ، أَوْ يَقْتُلَهُ مُحِلٌّ وَالصَّيْدُ فِي الْحَرَمِ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ جِنَايَةُ الْأَوَّلِ بِالنَّتْفِ قَدِ اسْتَقَرَّتْ فِيهِ ، وَبَرَأَ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ عَلَى الْأَوَّلِ أَنْ يَفْدِيَهُ كَامِلًا : لِأَنَّهُ قَدْ كَفَّهُ عَنِ الِامْتِنَاعِ ، وَوَجَبَ عَلَى الثَّانِي أَنْ يَفْدِيَهُ كَامِلًا : لِأَنَّهُ قَتَلَ صَيْدًا حَيًّا ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُضْمَنُ بِشَاةٍ ، كَانَ عَلَى الْأَوَّلِ شَاةٌ كَامِلَةٌ ، وَعَلَى الثَّانِي شَاةٌ كَامِلَةٌ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ ، فَعَلَى الْأَوَّلِ قِيمَتُهُ وَهُوَ صَيْدٌ مُمْتَنِعٌ ، وَعَلَى الثَّانِي قِيمَتُهُ وَهُوَ صَيْدٌ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ جِنَايَةُ الْأَوَّلِ بِالنَّتْفِ لَمْ تَسْتَقِرَّ ، وَلَا بَرَأَ مِنْهَا ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الثَّانِي قَاتِلًا لِلصَّيْدِ بِالتَّوْجِيهِ ، وَهُوَ أَنْ يَذْبَحَهُ أَوْ يَشُقَّ بَطْنَهُ وَيُخْرِجَ حَشَوْتَهُ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ عَلَى الْأَوَّلِ مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ عَافِيًا وَمَنْتُوفًا : لِأَنَّهُ بِالنَّتْفِ جَارِحٌ ، وَوَجَبَ عَلَى الثَّانِي أَنْ يَفْدِيَهُ كَامِلًا : لِأَنَّهُ بِالتَّوْجِيهِ قَاتِلٌ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الثَّانِي جَارِحًا لَهُ مِنْ غَيْرِ تَوْجِيهٍ ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدِ اسْتَوَيَا فَيَكُونَانِ قَاتِلِينَ ، وَتَكُونُ الْفِدْيَةُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ ، فَهَذَا حُكْمُ الْقِسْمِ الثَّانِي . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَمُوتَ بَعْدَ أَنْ يَغِيبَ عَنِ الْعَيْنِ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ نتف ريش طائر في الحرم ، وَلَا يُعْلَمُ هَلْ مَاتَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْجِنَايَةِ ، أَوْ بِسَبَبِ حَادِثٍ غَيْرِ الْجِنَايَةِ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَفْدِيَهُ كَامِلًا : لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ حُدُوثَ سَبَبِهِ بَعْدَ الْأَوَّلِ مَظْنُونٌ : فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْقُطَ بِهِ حُكْمُ الْيَقِينِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْأَوَّلَ قَدْ ضَمِنَ جَمِيعَ قِيمَتِهِ ، فَلَمْ يَسْقُطْ مِمَّا ضَمِنَهُ شَيْءٌ بِالشَّكِّ . قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : وَمَنْ رَمَى طَيْرًا فَجَرَحَهُ جُرْحًا لَا يَمْتَنِعُ مَعَهُ المحرم ، أَوْ كَسَرَهُ كَسْرًا لَا يَمْتَنِعُ مَعَهُ ، فَالْجَوَابُ فِيهِ كَالْجَوَابِ فِي نَتْفِ رِيشِ الطَّائِرِ سَوَاءٌ ، لَا يُخَالِفُهُ .
فَصْلٌ : إِذَا أَخَذَ حَمَامَةً لِيَدْفَعَ عَنْهَا مَا يَضُرُّهَا المحرم ، أَوْ لِيَفْعَلَ بِهَا مَا يَنْفَعُهَا ، مِثْلَ أَنْ يُخَلِّصَ مَا فِي رِجْلِهَا ، أَوْ يُخَلِّصَهَا مِنْ فِي هِرٍّ ، أَوْ سَبُعٍ ، أَوْ شَقِّ جِدَارٍ وَلَجَتْ فِيهِ ، أَوْ أَصَابَتْهَا لَدْغَةٌ ، فَسَقَاهَا تِرْيَاقًا ، أَوْ عَالَجَهَا بِدَوَاءٍ ، فَمَاتَتْ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا ، فَقَدْ عَلَّقَ الشَّافِعِيُّ الْقَوْلَ فِيهِ ، فَخَرَّجَهُ أَصْحَابُنَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَضْمَنُهَا بِالْيَدِ . وَالثَّانِي : لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ جِنَايَةٌ ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ .
فَصْلٌ : فَإِنْ وَقَعَتْ حَمَامَةٌ عَلَى فِرَاشِهِ فَأَزَالَهَا عَنْهُ ، فَتَلِفَتَ المحرم ، أَوْ أَخَذَتْهَا حَيَّةٌ فَمَاتَتْ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ ، فَالْفِدْيَةُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ ، أَظْهَرُهُمَا هَاهُنَا وُجُوبُهَا عَلَيْهِ ، فَلَوْ أَغْلَقَ بَابَهُ فِي الْحَرَمِ وَكَانَ فِيهِ حَمَامَةٌ تَحْتَهَا بَيْضٌ ، فَعَادَ وَقَدْ مَاتَتِ الْحَمَامَةُ عَطَشًا ، وَفَسَدَ الْبَيْضُ ، فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِهَا ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَفْدِيَ الْحَمَامَةَ وَالْبَيْضَ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ بِهَا ، فَعَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَضْمَنُهَا وَبَيْضَهَا . وَالثَّانِي : لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ مَا يَحِلُّ لِلْمُحْرِمِ قَتْلُهُ
بَابُ مَا يَحِلُّ لِلْمُحْرِمِ قَتْلُهُ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلِلْمُحْرِمِ أَنْ يَقْتُلَ الْحَيَّةَ وَالْعَقْرَبَ وَالْفَأْرَةَ وَالْحِدَأَةَ وَالْغُرَابَ وَالْكَلْبَ الْعَقُورَ وَمَا أَشْبَهَ الْكَلْبَ الْعَقُورَ مِثْلُ السَّبُعِ وَالنَّمِرِ وَالْفَهْدِ وَالذِّئْبِ ، صِغَارُ ذَلِكَ وَكِبَارُهُ سَوَاءٌ ، وَلَيْسَ فِي الرَّخَمِ وَالْخَنَافِسِ وَالْقُرْدَانِ وَالْحَلَمِ وَمَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ جَزَاءٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنَ الصَّيْدِ ، وَقَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ : وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الصَّيْدَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْهِمْ مَا كَانَ لَهُمْ قَبْلَ الْإِحْرَامِ حَلَالًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُشْبِهُ أَنْ يُحَرَّمَ فِي الْإِحْرَامِ خَاصَةً إِلَّا مَا كَانَ مُبَاحًا قَبْلَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ وَحْشِيَّ الْحَيَوَانِ ضَرْبَانِ : مَأْكُولٌ ، وَغَيْرُ مَأْكُولٍ . فَالْمَأْكُولُ قَدْ مَضَى حُكْمُهُ فِي تَحْرِيمِ قَتْلِهِ ، وَوُجُوبِ جَزَائِهِ ، وَغَيْرُ الْمَأْكُولِ عَلَى ثَلَاثَةٍ أَضْرُبٍ وحشي الحيوان في الحرم : ضَرْبٌ لَا جَزَاءَ فِي قَتْلِهِ إِجْمَاعًا ، وَذَلِكَ الْهَوَامُّ وَحَشَرَاتُ الْأَرْضِ ، فَالْهَوَامُ كَالْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ ، وَالزُّنْبُورِ ، وَالْحَشَرَاتُ كَالدُّودِ وَالْخَنَافِسِ وَالْجُعُولِ . وَضَرْبٌ فِيهِ الْجَزَاءُ وَهُوَ الْمُتَوَلِّدُ بَيْنَ مَأْكُولٍ وَغَيْرِ مَأْكُولٍ ، كَالسِّمْعِ وَهُوَ الْمُتَوَلِّدُ بَيْنَ الضَّبُعِ وَالذِّئْبِ ، وَالْمُخَتَّمِ وَهُوَ الْمُتَوَلِّدُ بَيْنَ الْحُبَارَى وَالْغُرَابِ ، وَكَالْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ حِمَارِ وَحْشٍ ، وَحِمَارٍ أَهْلِيٍّ ، فَهَذَا غَيْرُ مَأْكُولٍ ، تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْحَظْرِ ، وَفِيهِ الْجَزَاءُ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْجَزَاءِ . وَضَرْبٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَهُوَ سِبَاعُ الْبَهَائِمِ ، وَجَوَارِحُ الطَّيْرِ قتله في الحرم ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ قَتْلَهَا مُبَاحٌ ، وَلَا جَزَاءَ فِيهِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْجَزَاءُ فِي قَتْلِهَا وَاجِبٌ ، إِلَّا الْكَلْبَ وَالذِّئْبَ ، وَقَالَ فِي السِّمْعِ إِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ مِثْلَ قِيمَةِ الشَّاةِ أَوْ أَقَلَّ ، فَفِيهِ قِيمَتُهُ ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الشَّاةِ ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَةِ الشَّاةِ : وَقَالَ مَالِكٌ : مَا كَانَ مِنْ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ وَجَوَارِحِ الطَّيْرِ كِبَارًا فِيهَا عَدْوَى فَفِيهَا الْجَزَاءُ ، وَمَا كَانَ مِنْهَا صِغَارًا لَيْسَ فِيهَا عَدْوَى فَلَا جَزَاءَ عَلَيْهَا . وَاسْتَدَلُّوا عَلَى وُجُوبِ الْجَزَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [ الْمَائِدَةِ : ] ، فَأَوْجَبَ الْجَزَاءَ فِي الصَّيْدِ ، وَالسِّبَاعُ مِنْ جُمْلَةِ الصَّيْدِ : لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ : فُلَانٌ صَارَ سَبْعًا ، كَمَا يَقُولُونَ : صَارَ ظَبْيًا ، قَالُوا : وَلِأَنَّهُ حَبَسَ مِنَ الصَّيْدِ الْمُمْتَنِعِ الَّذِي لَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى فَجَازَ أَنْ يَجِبَ الْجَزَاءُ
بِقَتْلِهِ كَالضَّبُعِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّ مَا حَلَّ قَتْلُهُ فِي حَالِ الْإِحْلَالِ جَازَ أَنْ يُحَرَّمَ قَتْلُهُ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ كَسَائِرِ الصَّيْدِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّ الْجَزَاءَ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَى مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ بَلْ يَجِبُ فِيمَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَلَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ كَالسِّمْعِ الْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ الذِّئْبِ وَالضَّبُعِ وَكَالْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ وَالْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ . وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُنَّ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ : الْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ وَالْفَأْرَةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ وَفِيهِ دَلِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ نَصَّ عَلَى قَتْلِ مَا يَقِلُّ ضَرَرُهُ : لِيُنَبِّهَ عَلَى جَوَازِ قَتْلِ مَا يَكْثُرُ ضَرَرُهُ من الحيوان فَنَصَّ عَلَى الْغُرَابِ وَالْحِدَأَةِ : لِيُنَبَّهَ عَلَى الْعُقَابِ وَالرَّخَمَةِ ، وَنَصَّ عَلَى الْفَأْرَةِ ، لِيُنَبَّهَ عَلَى حَشَرَاتِ الْأَرْضِ ، وَعَلَى الْعَقْرَبِ : لِيُنَبَّهَ عَلَى الْحَيَّةِ ، وَعَلَى الْكَلْبِ الْعَقُورِ : لِيُنَبَّهَ عَلَى السُّبُعِ وَالْفَهْدِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ ، وَإِذَا أَفَادَ النَّصُّ دَلِيلًا وَتَنْبِيهًا كَانَ حُكْمُ التَّنْبِيهِ مُسْقِطًا لِدَلِيلِ اللَّفْظِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [ الْإِسْرَاءِ : ] ، فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى تَحْرِيمِ الضَّرْبِ ، وَدَلِيلُ لَفْظِهِ يَقْتَضِي جَوَازَ الضَّرْبِ ، فَقَضَى بِتَنْبِيهِهِ عَلَى دَلِيلِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَبَاحَ قَتْلَ الْكَلْبِ الْعَقُورِ ، وَاسْمُ الْكَلْبِ يَقَعُ عَلَى السُّبُعِ لُغَةً وَشَرْعًا : أَمَا اللُّغَةُ : فَلِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ التَّكَلُّبِ وَهُوَ الْعَدْوَى وَالضَّرَارَةُ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي السَّبُعِ . وَأَمَّا الشَّرْعُ فَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا عَلَى عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ فَقَالَ : اللَّهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْبًا مِنْ كِلَابِكَ ، فَأَكَلَهُ السَّبُعُ فِي طَرِيقِ الشَّامِ وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ عَنْ هَشِيمٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نُعْمٍ الْبَجَلِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَمَّا يَحِلُّ لِلْحُرُمِ قَتْلُهُ فَقَالَ : الْحَيَّةُ وَالْعَقْرَبُ وَالسَّبُعَةُ وَالْفُوَيْسِقَةُ وَالْحِدَأَةُ وَالْغُرَابُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ وَالسَّبُعُ الْعَادِيُّ ، وَهَذَا نَصٌّ فِي إِبَاحَةِ قَتْلِ السَّبُعِ للمحرم وَدَلِيلٌ عَلَى سُقُوطِ الْجَزَاءِ فِيهِ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّمَا أَبَاحَ قَتْلَهُ عَلَى صِفَةٍ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ عَدْوَى ، وَقَتْلُ ذَلِكَ مُبَاحٌ ، قِيلَ السِّبَاعُ كُلُّهَا مَوْصُوفَةٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِيهَا عَدْوَى ، كَمَا يُوصَفُ السَّيْفُ بِأَنَّهُ قَاطِعٌ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْقَطْعُ ، وَالنَّارُ بِأَنَّهَا مُحْرِقَةٌ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهَا الْإِحْرَاقُ : وَلِأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِمَّا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُ شَيْءٍ مِنْ جِنْسِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ الْجَزَاءُ فِي قَتْلِهِ كَالذِّئْبِ .
فَإِنْ قِيلَ : يَبْطُلُ بِقَتْلِ الْقَمْلِ ، قِيلَ : الْقَمْلُ لَا يَجِبُ بِقَتْلِهِ الْجَزَاءُ ، وَإِنَّمَا يَجِبُ لِإِزَالَةِ الْأَذَى مِنْ رَأَسِهِ : أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ إِذَا قَتَلَهُ مِنْ عَلَى بَدَنِهِ ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ إِذَا قَتَلَهُ عَلَى رَأْسِهِ : وَلِأَنَّ مَا يُوجِبُ الْجَزَاءَ مِنَ الصَّيْدِ الْمَقْتُولِ إِنَّمَا يُوجِبُ الْمِثْلَ أَوِ الْقِيمَةَ الْكَامِلَةَ ، فَلَمَّا كَانَ قَتْلُ السَّبُعِ غَيْرَ مُوجِبٍ لِلْمِثْلِ وَلَا لِلْقِيمَةِ الْكَامِلَةِ عُلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ . فَإِنْ شِئْتَ حَرَّرْتُ ذَلِكَ قِيَاسًا فَقُلْتُ : لِأَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يُضْمَنْ بِالْمِثْلِ وَلَا بِكَمْالِ الْقِيمَةِ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا بِالْجَزَاءِ كَالذِّئْبِ . وَأَمَا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اسْمَ الصَّيْدِ لَا يَقَعُ عَلَى السَّبُعِ : لِأَنَّ الصَّيْدَ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْبَرِّ ، وَلَيْسَ السَّبُعُ مِمَّا أَحَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْبَرِّ ، فَلَمْ يَكُنْ مِنْ جُمْلَةِ الصَّيْدِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الصَّيْدَ مَا وَجَبَ فِيهِ الْمِثْلُ عِنْدَنَا أَوِ الْقِيمَةُ عِنْدَهُمْ ، وَالسَّبُعُ لَا يَجِبُ فِيهِ الْمِثْلُ وَلَا الْقِيمَةُ الْكَامِلَةُ فَلَمْ تَكُنْ مِنَ الصَّيْدِ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الضَّبُعِ فَالْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّهُ صَيْدٌ مَأْكُولٌ ، فَلَيْسَ كَذَلِكَ السَّبُعُ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّ الْجَزَاءَ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَى مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ كَالسِّمْعِ الْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ الضَّبُعِ وَالذِّئْبِ ، فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مَا بَيْنَ مَأْكُولٍ وَغَيْرِ مَأْكُولٍ ، فَغَلَبَ حُكْمُ التَّحْرِيمِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ السَّبُعُ ، فَأَمَّا مَالِكٌ فَإِنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ صِغَارِ ذَلِكَ وَكِبَارِهِ . وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ : لِأَنَّ مَا يَحْرُمُ بِالْإِحْرَامِ ، وَيُضْمَنُ بِالْجَزَاءِ ، يَسْتَوِي حُكْمُ صِغَارِهِ وَكِبَارِهِ فَكَذَلِكَ مَا يُسْتَبَاحُ مَعَ الْإِحْرَامِ ، وَسَقَطَ فِيهِ الْجَزَاءُ يَجِبُ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُ صِغَارِهِ وَكِبَارِهِ ، كَالْحَشَرَاتِ ، فَإِذَا ثَبَتَ سُقُوطُ الْجَزَاءِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فِي الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ ، فَمَا كَانَ مِنْهُ مُؤْذٍ لَمْ يَحْرُمْ قَتْلُهُ ، وَمَا لَمْ يَكُنْ مُؤْذِيًا فَفِي تَحْرِيمِ قَتْلِهِ وَجْهَانِ الحيوان في الحرم : أَحَدُهُمَا : لَا يَحْرُمُ قَتْلُهُ لِضَعْفِ حُرْمَتِهِ . وَالثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : قَتْلُهُ حَرَامٌ : لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ حَرَّى أَجْرٌ .
فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ : وَإِذَا صَالَ الصَّيْدُ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ دَفْعًا عَنْ نَفْسِهِ المحرم فَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : عَلَيْهِ الْجَزَاءُ ، وَقَالَ فِي السَّبُعِ إِذَا صَالَ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ دَفْعًا عَنْ نَفْسِهِ ، فَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ ، وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْفَحْلُ إِذَا صَالَ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ ، عِنْدَنَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، وَعِنْدَهُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ ، فَنَقُولُ : لِأَنَّهُ قَتَلَهُ دَفْعًا عَنْ نَفْسِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَضْمَنَهُ ، كَالصَّيْدِ إِذَا صَالَ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ ، فَنَجْعَلُ الصَّيْدَ أَصْلًا فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ .
فَصْلٌ : إِذَا قَتَلَ فِي الْحَرَمِ أَوِ الْإِحْرَامِ حَيَوَانًا لَا يَعْلَمُ أَوَحْشِيٌّ أَمْ إِنْسِيٌّ : فَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ : لِأَنَّ الْجَزَاءَ لَا يَجِبُ بِالشَّكِّ ، وَكَذَلِكَ لَوْ عَلِمَ أَنَّهُ وَحْشِيٌّ ، وَشَكَّ هَلْ هُوَ مَأْكُولٌ أَوْ غَيْرُ مَأْكُولٍ ؟ فَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ .
فَصْلٌ : وَصَيْدُ الْبَحْرِ حَلَالٌ فِي الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا [ الْمَائِدَةِ : ] ، فَأَبَاحَ لِلْمُحْرِمِينَ صَيْدَ الْبَحْرِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَكُلُّ مَا عَاشَ فِي الْمَاءِ أَكْثَرَ عَيْشِهِ ، وَكَانَ فِي بَحْرٍ أَوْ نَهْرٍ أَوْ وَادٍ أَوْ بِئْرٍ أَوْ مُسْتَنْقَعٍ أَوْ غَيْرِهِ فَسَوَاءٌ وَمُبَاحٌ لَهُ صَيْدُهُ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ ، وَأَمَّا طَائِرُهُ فَإِنَّمَا يَأْوِي إِلَى أَرْضٍ فِيهِ فَهُوَ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ إِذَا أُصِيبَ .
بَابُ الْإِحْصَارِ
إِذَا أُحْصِرَ الْمُحْرِمُ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ وَصُدَّ عَنِ الْبَيْتِ بِعَدُوٍّ مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ فَلَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْ إِحْرَامِهِ
بَابُ الْإِحْصَارِ قَالَ الشَافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ : فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَأُحْصِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحُدَيْبِيَةِ فَنَحَرَ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ ( قَالَ ) وَإِذَا أَحُصِرَ بِعَدُوٍّ كَافِرٍ أَوْ مُسْلِمٍ أَوْ سُلْطَانٍ بِحَبْسٍ فِي سِجْنٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا أُحْصِرَ الْمُحْرِمُ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ : وَصُدَّ عَنِ الْبَيْتِ بِعَدُوٍّ مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ ، فَلَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْ إِحْرَامِهِ ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ سَنَةَ سِتٍّ فِي أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ، فَصَدَّتْهُ قُرَيْشٌ عَنِ الْبَيْتِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [ الْبَقَرَةِ : ] ، تَقْدِيرُهُ : فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ وَحَلَلْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ، فَكَانَ التَّحَلُّلُ مُضْمَرًا فِيهِ : لِأَنَّ الْهَدْيَ لَا يَجِبُ بِمُجَرَّدِ الْحَصْرِ ، وَإِنَّمَا يَجِبُ بِالتَّحَلُّلِ فِي الْحَصْرِ ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ، تَحَلَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عُمْرَتِهِ بَعْدَ أَنْ نَحَرَ هَدْيَهُ . وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : أُحْصِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ ، فَنَحَرْنَا الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ ، وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ : وَلِأَنَّ الْإِحْصَارَ عُذْرٌ ، وَالْخُرُوجَ مِنَ الْعِبَادَةِ بِالْعُذْرِ جَائِزٌ ، كَالصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ ، كَذَلِكَ الْحَجُّ . فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ التَّحَلُّلِ بِإِحْصَارِ الْعَدُوِّ ، فَسَوَاءٌ كَانَ الْعَدُوُّ كَافِرًا أَوْ مُسْلِمًا . وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ التَّحَلُّلَ إِنَّمَا يَجُوزُ بِإِحْصَارِ الْعَدُوِّ الْكَافِرِ دُونَ الْمُسْلِمِ : لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحَلَّلَ بِإِحْصَارِ عَدُوٍّ كَافِرٍ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى ذَلِكَ عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى : فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ حَصْرِ كَافِرٍ وَمُسْلِمٍ . وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى مَكَةَ مُعْتَمِرًا فِي الْفِتْنَةِ ، فَقَالَ : إِنْ صُدِدْتُ عَنِ الْبَيْتِ صَنَعْتُ مَا صَنَعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَلِأَنَّهُ مَصْدُودٌ عَنِ الْبَيْتِ فَجَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ كَالْمَصْدُودِ بِعَدُوٍّ مُشْرِكٍ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مَنْ أُحْصِرَ بِعَدُوٍّ كَافِرٍ أَوْ مُسْلِمٍ سَوَاءٌ فِي التَّحَلُّلِ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ
الْمُحْصَرِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي حِلٍّ أَوْ فِي حَرَمٍ ؛ فَإِنْ كَانَ فِي حِلٍّ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْإِحْصَارِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَامًّا ، أَوْ خَاصًّا . فَإِنْ كَانَ عَامًّا ؛ وَهُوَ أَنْ يُصَدَّ جَمِيعُ النَّاسِ عَنِ الْحَرَمِ وَيُمْنَعُوا مِنْ فِعْلِ مَا أَحْرَمُوا بِهِ الإحصار في الحج مَنْ حَجًّ أَوْ عُمْرَةٍ ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُمْ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَجِدُوا طَرِيقًا يَسْلُكُونَهَا إِلَى الْحَرَمِ غَيْرَ الطَّرِيقِ الَّتِي أُحْصِرُوا فِيهَا ، أَوْ لَا يَجِدُوا طَرِيقَا غَيْرَهَا ، فَإِنْ لَمْ يَجِدُوا طَرِيقًا غَيْرَهَا ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُمْ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَرْجُوا انْكِشَافَ الْعَدُوِّ ، أَوْ لَا يَرْجُونَهُ . فَإِنْ لَمْ يَرْجُوَا انْكِشَافَ الْعَدُوِّ الإحصار في الحج جَازَ لَهُمْ أَنْ يُحِلُّوا مِنْ إِحْرَامِهِمْ ، سَوَاءٌ كَانَ إِحْرَامُهُمْ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ : لِأَنَّ الْعُمْرَةَ وَإِنْ لَمْ تَفُتْ فَفِي الْمَقَامِ عَلَى الْإِحْرَامِ بِهَا مَشَقَّةٌ ، وَقَدْ كَانَ إِحْرَامُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعُمْرَةٍ فَأَحَلَّ مِنْهَا بِإِحْصَارِهِ ، وَلَا يَلْزَمُهُمْ قِتَالُ عَدُوِّهِمْ ، وَإِنْ كَانَ بِهِمْ قُوَّةٌ عَلَيْهِ : لِأَنَّ الْقِتَالَ لَا يَلْزَمُهُمْ إِلَّا فِي النَّفِيرِ ، فَإِذَا حَلُّوا فَعَلَيْهِمْ دَمُ الْإِحْصَارِ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِمْ ، فَهَذَا الْكَلَامُ فِيمَا إِذَا كَانُوا لَا يَرْجُونَ انْكِشَافَ الْعَدُوِّ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنْ كَانُوا يَرْجُونَ انْكِشَافَ الْعَدُوِّ وَزَوَالَهُ الإحصار في الحج فَلَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ . إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْيَقِينِ ، أَوْ مِنْ طَرِيقِ غَلَبَةِ الظَّنِّ ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْيَقِينِ ، وَهُوَ أَنْ يَعْتَرِضَهُمُ الْعَدُوُّ مُجْتَازًا ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْمَقَامُ عَلَيْهِمْ ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْإِحْرَامِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِحَجٍّ أَوْ بِعُمْرَةٍ ، فَإِنْ كَانَ الْإِحْرَامُ بِحَجٍّ الإحصار في الحج ، نُظِرَ : فَإِنْ كَانَ إِدْرَاكُ الْحَجِّ مُمْكِنًا بَعْدَ انْكِشَافِ الْعَدُوِّ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْإِحْصَارُ قَبْلَ الْحَجِّ بِشَهْرٍ ، وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْحَرَمِ مَسَافَةُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ ، فَيَكُونُ الْفَاضِلُ مِنَ الْقُوتِ عِشْرِينَ يَوْمًا ، فَإِذَا تَيَقَّنَ أَنَّ الْعَدُوَّ يَنْكَشِفُ إِلَى عِشْرِينَ يَوْمًا فَمَا دُونَ ، فَعَلَيْهِ الْمَقَامُ عَلَى الْإِحْرَامِ ، وَلَيْسَ لَهُ التَّحَلُّلُ مِنْهُ بِالْإِحْصَارِ ، وَإِنَّ تَيَقَّنَ أَنَّ الْعَدُوَّ يَنْكَشِفُ بَعْدَ عِشْرِينَ يَوْمًا ، وَلَا يَنْكَشِفُ قَبْلَهَا ، فَهَذَا لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْ إِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ ، وَهُوَ الْأَوْلَى لَهُ : لِأَنَّهُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ يُدْرِكُ الْحَجَّ ، فَإِنْ لَمْ يَتَحَلَّلْ حَتَّى انْكَشَفَ الْعَدُوُّ وَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِغَيْرِ طَوَافٍ وَسَعَيٍ : لِزَوَالِ الْإِحْصَارِ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَطُوفَ وَيَسْعَى ، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ : لِأَجْلِ الْفَوَاتِ ، وَعَلَيْهِ دَمٌ : لِلْفَوَاتِ دُونَ الْإِحْصَارِ ، فَهَذَا إِنْ كَانَ إِحْرَامُهُ بِحَجٍّ ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ إِحْرَامُهُ بِعُمْرَةٍ الإحصار في الحج فَإِنْ تَيَقَّنَ انْكِشَافَ الْعَدُوِّ عَنْ زَمَانٍ قَرِيبٍ ، وَذَلِكَ يَوْمٌ أَوْ يَوْمَانِ أَوْ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ لَزِمَهُ الْمَقَامُ عَلَى إِحْرَامِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ التَّحَلُّلُ مِنْهُ : لِأَنَّهُ لَا مَشَقَّةَ عَلَيْهِ فِي اسْتِدَامَةِ الْإِحْرَامِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ ، وَلَا يَخْرُجُ بِهَا عَنْ حَدِّ السَّفَرِ إِلَى الْإِمَامَةِ ، وَإِنْ تَيَقَّنَ أَنَّ الْعَدُوَّ يَنْكَشِفُ بَعْدَ زَمَانٍ بَعِيدٍ الإحصار في الحج ، جَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ مِنْ إِحْرَامِهِ وَلَمْ يَلْزَمْهُ الْمَقَامُ عَلَيْهِ ، فَإِنْ قِيلَ : مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ الإحصار في الحج حَيْثُ قُلْتُمْ : إِنَّهُ إِذَا كَانَ مُحْرِمًا بِحَجٍّ ، فَأُحْصِرَ ، وَالْوَقْتُ وَاسِعٌ ، وَعَلِمَ أَنَّ الْعَدُوَّ يَنْكَشِفُ بَعْدَ شَهْرٍ ، وَإِدْرَاكُ الْحَجِّ لَا يَفُوتُهُ بَعْدَ شَهْرٍ - أَنَّ عَلَيْهِ
الْمَقَامَ عَلَى إِحْرَامِهِ ، وَلَيْسَ لَهُ التَّحَلُّلُ مِنْهُ ، وَلَوْ كَانَ مُحْرِمًا بِعُمْرَةٍ ، فَأُحْصِرَ ، وَعَلِمَ أَنَّ الْعَدُوَّ يَنْكَشِفُ بَعْدَ شَهْرٍ ، أَنَّ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْ إِحْرَامِهِ ، وَلَيْسَ لِلْعُمْرَةِ وَقْتٌ يَفُوتُ ، كَمَا أَنَّ الْحَجَّ هُنَاكَ بَعْدَ شَهْرٍ لَيْسَ يَفُوتُ : قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُحْرِمَ بِالْحَجِّ لَوْ لَمْ يَحْصُرْ لَمْ يُمْكِنُهُ التَّحَلُّلُ مِنْهُ قَبْلَ وَقْتِ الْحَجِّ ، وَكَانَ عَلَيْهِ الْمَقَامُ عَلَى إِحْرَامِهِ إِلَى وَقْتِ الْحَجِّ ، فَلَمْ يَلْتَزِمْ بِالْإِحْصَارِ اسْتِدَامَةَ إِحْرَامٍ لَمْ يَكُنْ لَازِمًا لَهُ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِلْمُحْرِمِ بِالْعُمْرَةِ : لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ إِحْصَارٌ لَأَمْكَنَهُ التَّحَلُّلُ مِنْ إِحْرَامِهِ عِنْدَ فَرَاغِهِ مِنْ عُمْرَتِهِ ، إِذْ لَيْسَ لِلْعُمْرَةِ وَقْتٌ يَخْتَصُّ بِهِ ، فَجَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ مِنْ إِحْرَامِهِ بِالْإِحْصَارِ : لِأَنَّهُ بِالْمَقَامِ عَلَى إِحْرَامِهِ يَلْتَزِمُ اسْتِدَامَةَ إِحْرَامٍ لَمْ يَكُنْ لَازِمًا لَهُ ، فَهَذَا الْكَلَامُ فِيهِ إِذَا تَيَقَّنَ انْكِشَافَ الْعَدُوِّ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ انْكِشَافُ الْعَدُوِّ وَلَمْ يَتَيَقَّنْهُ الإحصار في الحج ، فَلَهُ التَّحَلُّلُ بِكُلِّ حَالٍ ، سَوَاءٌ كَانَ مُحْرِمًا بِحَجٍّ أَوْ بِعُمْرَةٍ ، وَلَوِ انْتَظَرَ مُرُورَ أَيَّامٍ لَا يَخَافُ مَعَهَا فَوَاتَ الْحَجِّ كَانَ حَسَنًا ، وَإِنْ عَجَّلَ الْإِحْلَالَ كَانَ جَائِزًا ، فَلَوْ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى انْكَشَفَ الْعَدُوُّ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَحِلَّ ، وَمَضَى فِي إِحْرَامِهِ ، فَإِنْ كَانَ مُعْتَمِرًا ، أَتَى بِأَرْكَانِ الْعُمْرَةِ ، وَأَحَلَّ مِنْهَا ، وَأَجْزَأَتْهُ عَنْ عُمْرَةِ الْإِسْلَامِ ، وَإِنْ كَانَ حَاجًّا فَإِنْ أَدْرَكَ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ ، أَتَمَّ حَجَّهُ ، وَأَجْزَأَهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ، وَإِنْ فَاتَهُ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ ، وَأَحَلَّ بِطَوَافٍ وَسَعْيٍ وَحِلَاقٍ ، لَزِمَهُ دَمُ الْفَوَاتِ ، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ بِالْفَوَاتِ ، وَلَا يَكُونُ لِلْإِحْصَارِ الَّذِي لَمْ يَتَحَلَّلْ مِنْهُ تَأْثِيرٌ فِي سُقُوطِ الْقَضَاءِ ، فَهَذَا حُكْمُ الْمُحْصَرِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ طَرِيقٌ غَيْرُ الطَّرِيقِ الَّتِي أُحْصِرَ فِيهَا .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا وَجَدَ طَرِيقًا يَسْلُكُهَا إِلَى الْحَرَمِ غَيْرَ الطَّرِيقِ الَّتِي أُحْصِرَ فِيهَا ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي هَذَا الطَّرِيقِ عُذْرٌ مَانِعٌ الإحصار في الحج ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مِنْ أَحَدِ وُجُوهٍ : إِمَّا أَنْ يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قِلَّةِ مَاءٍ أَوْ مَرْعَى ، أَوْ يَخَافَ عَلَى مَالِهِ مِنْ لِصٍّ غَالِبٍ ، أَوْ يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ عَدُوٍّ قَاهِرٍ ، أَوْ يُضْطَرَّ فِيهِ إِلَى رُكُوبِ بَحْرٍ ، أَوْ يَحْتَاجَ فِيهِ إِلَى زِيَادَةِ نَفَقَةٍ وَهُوَ لَهَا عَادِمٌ ، فَهَذِهِ كُلُّهَا أَعْذَارُ لَا يَلْزَمُهُ مَعَهَا سُلُوكُ الطَّرِيقِ الْآخَرِ ، وَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ مَنْ لَيْسَ لَهُ طَرِيقٌ إِلَّا الطَّرِيقَ الَّتِي أَحُصِرَ فِيهَا ، فَيَجُوزُ لَهُ التَّحَلُّلُ عَلَى مَا مَضَى . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ عُذْرٌ مَانِعٌ مِنْ سُلُوكِ هَذَا الطَّرِيقِ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْلُكَهُ المحصر في الحج ، وَلَا يَجُوزَ لَهُ التَّحَلُّلُ سَوَاءٌ كَانَ إِدْرَاكُ الْحَجِّ بِسُلُوكِهِ مُمْكِنًا أَمْ لَا ، فَإِنْ سَلَكَهُ وَوَصَلَ إِلَى مَكَّةَ ، فَإِنْ أَدْرَكَ الْحَجَّ أَجُزْأَهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ، وَإِنْ لَمْ يُدْرِكِ الْحَجَّ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ إِدْرَاكُ الْحَجِّ مُمْكِنًا حِينَ سَلَكَهُ المحصر في الحج : لِأَنَّهُ مَسَافَةُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ يَوْمِ عَرَفَةَ عَشَرَةُ أَيَّامٍ ، فَهَذَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الْحَجِّ بِالْفَوَاتِ : لِأَنَّ فَوَاتَ الْحَجِّ مَعَ إِمْكَانِ الْإِدْرَاكِ لَمْ يَكُنْ بِالْإِحْصَارِ ، وَلَا لِلْإِحْصَارِ فِيهِ تَأْثِيرٌ : فَلِذَلِكَ لَزِمَ فِيهِ الْقَضَاءُ ، وَعَلَيْهِ مَعَ الْقَضَاءِ دَمُ الْفَوَاتِ .
وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ إِدْرَاكُ الْحَجِّ حِينَ سَلَكَهُ غَيْرَ مُمْكِنٍ المحصر في الحج : لِأَنَّ الْبَاقِيَ إِلَى يَوْمِ عَرَفَةَ خَمْسَةُ أَيَّامٍ ، وَالْمَسَافَةَ عَشَرَةُ أَيَّامٍ ، فَفِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ على المحصر في الحج قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ : أَحَدُهُمَا : عَلَيْهِ الْقَضَاءُ بِالْفَوَاتِ كَمَا لَوْ فَاتَهُ الْوُقُوفُ بِأَنْ ضَلَّ عَنِ الطَّرِيقِ ، أَوْ أَخْطَأَ فِي الْعَدَدِ ، فَعَلَى هَذَا عَلَيْهِ دَمُ الْفَوَاتِ ، وَلَا يَكُونُ لِلْإِحْصَارِ تَأْثِيرٌ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ : لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ : لِأَنَّ الْفَوَاتَ لَمْ يَكُنْ بِتَفْرِيطٍ مِنْهُ ، وَإِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ الْإِحْصَارِ ، فَكَانَ حُكْمُ الْإِحْصَارِ بَاقِيًا عَلَيْهِ ، فَعَلَى هَذَا ؛ الدَّمُ عَلَيْهِ وَاجِبٌ لِلْإِحْصَارِ دُونَ الْفَوَاتِ ، فَهَذَا حُكْمُ الْمُحْصَرِ إِذَا وَجَدَ طَرِيقًا يَسْلُكُهَا غَيْرَ الطَّرِيقِ الَّذِي أُحْصِرَ فِيهَا ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْإِحْصَارِ إِذَا كَانَ عَامًّا .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْإِحْصَارُ خَاصًّا في الحج ، وَهُوَ أَنْ يَحْبِسَهُ سُلْطَانٌ أَوْ يُلَازِمَهُ غَرِيمٌ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ حَبْسُ السُّلْطَانِ لَهُ بِحَقٍّ هُوَ قَادِرٌ عَلَى أَدَائِهِ المحصر في الحج ، وَمُلَازَمَةُ الْغَرِيمِ لَهُ بِدَيْنٍ هُوَ قَادِرٌ عَلَى وَفَائِهِ ، فَهَذَا لَا يَجُوزُ لَهُ التَّحَلُّلُ : لِأَنَّ الْإِحْصَارَ مِنْ قِبَلِهِ ، وَهُوَ حَابِسُ نَفْسِهِ ، إِذْ قَدْ يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ مِنْهُ وَأَدَاءُ مَا عَلَيْهِ ، فَصَارَ كَمَنِ اخْتَارَ الْمَقَامَ فِي مَنْزِلِهِ بَعْدَ تَقَدُّمِ إِحْرَامِهِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ فَاتَهُ الْحَجُّ تَحَلَّلَ بِطَوَافٍ وَسَعْيٍ ، وَكَانَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَدَمُ الْفَوَاتِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ حَبْسُ السُّلْطَانِ لَهُ بِظُلْمٍ المحصر في الحج ، وَمُلَازَمَةُ الْغَرِيمِ لَهُ مَعَ إِعْسَارٍ ، فَهَذَا يَجُوزُ لَهُ التَّحَلُّلُ ، لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمَذْهَبُ ، كَالْإِحْصَارِ الْعَامِّ ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ المحصر في الحج عَلَيْهِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ دَمُ الْإِحْصَارِ دُونَ الْقَضَاءِ ، كَالْإِحْصَارِ الْعَامِّ سَوَاءٌ ، إِذْ هُوَ بِهِمَا مَعْذُورٌ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : عَلَيْهِ الْقَضَاءُ مَعَ دَمِ الْإِحْصَارِ . فَإِنْ قِيلَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِحْصَارِ الْعَامِّ حَيْثُ لَمْ يَجِبُ فِيهِ الْقَضَاءُ ، وَبَيْنَ الْإِحْصَارِ الْخَاصِّ حَيْثُ وَجَبَ فِيهِ الْقَضَاءُ ؟ . قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَعْذَارَ الْعَامَّةَ أَدْخَلُ فِي سُقُوطِ الْقَضَاءِ مِنَ الْأَعْذَارِ الْخَاصَّةِ : لِمَا يَلْحَقُ مِنَ الْمَشَقَّةِ فِي إِيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَى الْكَافَّةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْحُجَّاجَ لَوْ أَخْطَأُوا جَمِيعُهُمُ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ فَوَقَفُوا فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ أَجْزَأَهُمْ وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمُ الْقَضَاءُ لِمَا فِيهِ مِنْ عِظَمِ الْمَشَقَّةِ وَلَوْ أَخْطَأَ وَاحِدٌ فَوَقَفَ فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ لَمْ يُجْزِهِ ؟ كَذَلِكَ الْإِحْصَارُ الْعَامُّ لَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ ، وَالْإِحْصَارُ الْخَاصُّ يُوجِبُ الْقَضَاءَ ، فَهَذَا حُكْمُ الْمُحْصَرِ فِي الْحِلِّ بِإِحْصَارٍ خَاصٍّ وَعَامٍّ ، وَمَا يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَحْكَامِ .
فَصْلٌ الْمُحْصَرُ فِي الْحَرَمِ عَلَى ثَلَاثَةٍ أَضْرُبٍ
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُحْصَرُ فِي الْحَرَمِ حكم قضائه فَعَلَى ثَلَاثَةٍ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُصَدَّ عَنِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ ، وَعَنِ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ تحلل المحصر في الحرم ، فَحُكْمُ هَذَا حُكْمُ الْمُحْصَرِ فِي الْحِلِّ ، فَيَجُوزُ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْ إِحْرَامِهِ بِالْهَدْيِ وَالْحَلْقِ ، فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ ، وَقَالَ مَالِكٌ : الْمُحْصَرُ فِي الْحَرَمِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَحَلَّلَ إِلَّا أَنْ يَفُوتَهُ الْحَجُّ ، فَإِذَا فَاتَهُ خَرَجَ إِلَى الْحِلِّ ، وَأَهَلَّ بِعُمْرَةٍ ، وَكَانَ بَاقِيًا عَلَى إِحْرَامِهِ حَتَّى يَزُولَ إِحْصَارُهُ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ إِحْلَالِهِ عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى : فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [ الْبَقَرَةِ : ] ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْإِحْصَارُ فِي حِلٍّ أَوْ حَرَمٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُمَا سَوَاءً : وَلِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ إِكْمَالِ نُسُكِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ ، فَجَازَ لَهُ الْإِحْلَالُ قِيَاسًا عَلَى الْمُحْصَرِ فِي الْحِلِّ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يُصَدَّ عَنِ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ دُونَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ تحلل المحصر في الحرم ، فَلَهُ إِذَا وَقَفَ بِعَرَفَةَ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْ إِحْرَامِهِ قَبْلَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ ، وَيُقِيمَ عَلَى إِحْرَامِهِ حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ ، وَيَسْعَى ، وَدَلِيلُنَا : عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى : فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [ الْبَقَرَةِ : ] : وَلِأَنَّهُ إِحْرَامٌ تَامٌّ ، فَجَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ مِنْهُ قِيَاسًا عَلَى مَا قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِالْإِحْصَارِ مِنْ جَمِيعِ الْأَرْكَانِ ، كَانَ تَحَلُّلُهُ مِنْ بَعْضِهَا أَوْلَى ، فَإِذَا أَحَلَّ بِالْهَدْيِ وَالْحَلْقِ ، فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ . فَإِنْ قِيلَ : أَفَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقِفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ إِحْلَالِهِ ؟ . قِيلَ : يَجِبُ عَلَيْهِ الْوُقُوفُ بِهَا : لِأَنَّهُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ إِحْرَامِهِ ، فَإِذَا قَدَرَ عَلَيْهِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ بِالْعَجْزِ عَنْ غَيْرِهِ ، كَالْمُصَلِّي إِذَا عَجَزَ عَنْ سَتْرِ الْعَوْرَةِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ فَرْضُ الْقِيَامِ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ يُصَدَّ عَنِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ دُونَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ تحلل المحصر في الحرم ، فَلَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْ إِحْرَامِهِ بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ : لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَتَحَلَّلَ عَنْ جَمِيعِ الْأَرْكَانِ كَانَ إِحْلَالُهُ مِنْ بَعْضِهَا أَوْلَى ، وَعَلَيْهِ دَمُ الْإِحْصَارِ ، وَهَلْ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ أَمْ لَا ؟ المحصر في الحل عَلَى قَوْلَيْنِ مَنْصُوصَيْنِ كَالَّذِي أُحْصِرَ فِي طَرِيقٍ وَلَهُ طَرِيقٌ غَيْرُهَا ، فَسَلَكَهَا فَفَاتَهُ الْوُقُوفُ فَأَحَلَّ بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ : أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ : لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمُحْصَرُ عَنْ جَمِيعِ الْأَرْكَانِ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ فَالْمُحْصَرُ عَنْ بَعْضِهَا أَوْلَى أَنْ لَا يَلْزَمَهُ الْقَضَاءُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : عَلَيْهِ الْقَضَاءُ : لِأَنَّهُ غَيْرُ مَصْدُودٍ عَنِ الْبَيْتِ فَصَارَ كَالْغَائِبِ . فَإِنْ قِيلَ : مَا الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَصْدُودًا عَنِ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ دُونَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَلَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ إِذَا أَحَلَّ قَوْلًا وَاحِدًا وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَصْدُودًا عَنِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ دُونَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ فَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ إِذَا أَحَلَّ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ؟ . قِيلَ : لِأَنَّ فَوَاتَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ قَدْ يُوجِبُ الْقَضَاءَ ، وَلَيْسَ لِلطَّوَافِ وَقْتٌ يَفُوتُ فَيُوجِبَ الْقَضَاءَ ، فَكَانَ الصَّدُّ عَنِ الْوُقُوفِ أَغْلَظَ حُكْمًا ؟ فَلِذَلِكَ افْتَرَقَا . فَهَذَا حُكْمُ الْإِحْصَارِ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ ، وَمَا يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ مِنْ فُرُوعِهِ وَأَحْكَامِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " نَحَرَ هَدْيًا لِإِحْصَارِهِ حَيْثُ أُحْصِرَ فِي حِلٍّ أَوْ حَرَمٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ كَمَا قَالَ ، عَلَى الْمُتَحَلِّلِ بِالْإِحْصَارِ دَمٌ ؛ لِأَجْلِ إِحْلَالِهِ ، وَقَالَ مَالِكٌ : لَا دَمَ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ يَتَحَلَّلُ مَنْ نُسُكِهِ بِسَبَبٍ لَمْ يَنْتَسِبْ فِيهِ إِلَى التَّفْرِيطِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ الدَّمُ قِيَاسًا عَلَى الْمُتَحَلِّلِ بِإِكْمَالِ الْحَجِّ ، قَالَ : وَلِأَنَّ الْمُحْصَرَ إِنَّمَا جُوِّزَ لَهُ التَّحَلُّلُ قَبْلَ إِتْمَامِ الْحَجِّ : رِفْقًا بِهِ وَتَخْفِيفًا عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَجِبْ أَنْ تُغْلِظَ عَلَيْهِ بِإِيجَابِ الدَّمِ فِي مَحِلِّ التَّخْفِيفِ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [ الْبَقَرَةِ : ] ، فَذَكَرَ السَّبَبَ وَحُكْمَهُ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ مُتَعَلِّقٌ بِهِ . وَرَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : أُحْصِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ فَنَحَرْنَا الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ ، وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْبَدَنَةَ قَدْ وَجَبَتْ بِالْإِحْصَارِ عَلَى سَبْعَةٍ : لِيَصِحَّ أَنْ تَكُونَ الْبَدَنَةُ مَنْحُورَةً عَنْ سَبْعَةٍ : وَلِأَنَّهُ تَحَلَّلَ مَنْ نُسُكِهِ قَبْلَ إِتْمَامِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ الْهَدْيُ كَالْفَائِتِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْمُتَحَلِّلِ بَعْدَ كَمَالِ نُسُكِهِ فَمُنْتَقَضٌ بِالْقَارِنِ وَالْمُتَمَتِّعِ قَدْ أَحَلَّ بَعْدَ كَمَالِ نُسُكِهِ ، وَعَلَيْهِ دَمٌ ثُمَّ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ أَحَلَّ بَعْدَ كَمَالِ نُسُكِهِ ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ دَمٌ ، وَهَذَا الْمُحْصَرُ قَدْ أَحَلَّ قَبْلَ كَمَالِ نُسُكِهِ فَلَزِمَهُ دَمٌ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : إِنَّ إِحْلَالَ الْمُحْصَرِ تَخْفِيفٌ ، وَإِيجَابَ الدَّمِ تَغْلِيطٌ فَغَيْرُ لَازِمٍ : لِأَنَّ الدَّمَ قَدْ يَجِبُ فِي مَحِلِّ التَّخْفِيفِ كَمَا يَجِبُ فِي مَحِلِّ التَّغْلِيطِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ يَلْزَمُهُ دَمٌ ، وَإِنْ كَانَ الْمُتَمَتِّعُ مَحِلَّ تَخْفِيفٍ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَلَى الْمُتَحَلِّلِ بِالْإِحْصَارِ هَدْيًا ، انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يَنْحَرَ فِيهِ الْهَدْيَ المتحلل بالإحصار في الحرم ، فَنَقُولُ : لَيْسَ يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مُحْصِرًا فِي حَلٍّ أَوْ فِي حَرَمٍ ، فَإِنْ كَانَ مُحْصَرًا فِي حَرَمٍ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْحَرَ هَدْيَ إِحْصَارِهِ فِي الْحَرَمِ ، فَإِنْ نَحَرَهُ فِي الْحِلِّ لَمْ يُجْزِهِ ، وَإِنْ كَانَ مُحْصَرًا فِي الْحِلِّ موضع نحر هديه فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى إِيصَالِ هَدْيِهِ إِلَى الْحَرَمِ ، أَوْ غَيْرَ قَادِرٍ ، فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى إِيصَالِ هَدْيِهِ إِلَى الْحَرَمِ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْحَرَ ، فِي الْحِلِّ ، وَكَانَ عَلَيْهِ إِيصَالُهُ إِلَى الْحَرَمِ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا الْبَغْدَادِيِّينَ مَنْ جَوَّزَ نَحْرَ هَدْيِهِ فِي الْحِلِّ ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى إِيصَالِهِ إِلَى الْحَرَمِ ، وَالْمَذْهَبُ هُوَ الْأَوَّلُ ، وَعَلَيْهِ جَمِيعُ أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ ، وَقَدْ حَكَاهُ أَبُو حَامِدٍ فِي جَامِعِهِ عَنِ الشَّافِعِيِّ نَصًّا ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمُحْصَرُ فِي الْحِلِّ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى إِيصَالِ هَدْيِهِ إِلَى الْحَرَمِ ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَنْحَرَهُ فِي الْحِلِّ ، حَيْثُ أَحُصِرَ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : عَلَيْهِ أَنْ يُوَصِّلَهُ إِلَى الْحَرَمِ ، وَلَا يَجُوزَ أَنْ يَنْحَرَهُ فِي الْحِلِّ ؛ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ
[ الْبَقَرَةِ : ] ، فَأَمَرَ بِإِبْلَاغِ الْهَدْيِ مَحِلَّهُ ، وَمَحِلُّهُ الْحَرَمُ : لِقَوْلِهِ تَعَالَى : ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ . وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ بِهَدْيِهِ إِلَى مَكَّةَ مَعَ نَاجِيَةَ بْنِ جُنْدُبٍ ، فَكَانَ يَنْحَرُهُ فِي الْفِجَاجِ وَالْأَوْدِيَةِ ، فَلَوْ جَازَ نَحْرُهُ فِي الْحِلِّ لَكَانَ لَا يَتَعَذَّرُ بِإِنْفَاذِهِ إِلَى الْحَرَمِ ، وَلَكَانَ نَحْرُهُ بِحَضْرَتِهِ أَفْضَلَ ، فَعُلِمَ أَنَّهُ إِنَّمَا أَنْفَذَهُ إِلَى الْحَرَمِ : لِأَنَّ نَحْرَهُ فِي الْحِلِّ لَا يَجُوزُ ، قَالَ : وَلِأَنَّهُ دَمٌ لَزِمَ بِحُكْمِ الْإِحْرَامِ ، فَوَجَبَ أَنْ تَجِبَ إِرَاقَتُهُ فِي الْحَرَمِ ، قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الدِّمَاءِ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَأَوْجَبَ الْهَدْيَ وَلَمْ يَجْرِ لِلْمَكَانِ ذِكْرٌ ، فَكَانَ الظَّاهِرُ يَقْتَضِي جَوَازَ نَحْرِهِ عُقَيْبَ الْإِحْصَارِ وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْإِحْصَارُ فِي حِلٍّ أَوْ حَرَمٍ . رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ : " أَحُصِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ ، فَنَحَرْنَا الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ ، وَنَحَرْنَا الْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ " فَدَلَّ عَلَى نَحْرِ ذَلِكَ بِالْحُدَيْبِيَةِ . فَإِنْ قِيلَ : هَذَا يَدُلُّ عَلَى إِحْصَارِهِ بِالْحُدَيْبِيَةَ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرْسَلَ هَدْيَهُ إِلَى الْحَرَمِ . قِيلَ : هَذَا تَأْوِيلٌ يَرُدُّهُ نَصُّ الْكِتَابِ ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ، وَالْمُرَادُ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الْحَرَمُ ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ مَنَعُوا الْهَدْيَ أَنْ يَصِلَ مَحِلَّهُ مِنَ الْحَرَمِ . فَإِنْ قِيلَ : فَالْحُدَيْبِيَةُ الَّتِي نَحَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْحَرَمِ . قِيلَ : هَذَا صَحِيحٌ : لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَةِ ، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَلَغَتْ رَاحِلَتُهُ إِلَى ثَنِيَّةِ ذَاتِ الْحَنْظَلِ بَرَكَتْ نَاقَةُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ثَقُلَ عَلَيْهَا الْحَرَمُ ، وَهُوَ عَلَيَّ أَثْقَلُ ، فَقَدْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلِ الْحَرَمَ ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ : نَحَرْنَا فِي حِلٍّ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ : وَلِأَنَّهُ مَوْضِعٌ لِتُحَلُّلِهِ ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَحِلًّا لِهَدْيِهِ كَالْحَرَمِ ، وَلِأَنَّ إِحْلَالَ الْمُحْصَرِ يَكُونُ بِالنَّحْرِ وَالْحَلْقِ ، فَلَمَّا كَانَ الْحَلْقُ فِي مَوْضِعِ إِحْصَارِهِ ، كَذَلِكَ النَّحْرُ فِي مَوْضِعِ إِحْصَارِهِ . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّهُ أَحَدُ سَبَبَيِ التَّحَلُّلِ ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ إِحْصَارِهِ مِنَ الْحِلِّ كَالْحَلْقِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [ الْبَقَرَةِ : ] ، فَالْمَحِلُّ مَوْضِعُ الْإِحْلَالِ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ : أَحْرِمِي وَاشْتَرِطِي أَنَّ مَحِلِّيَ حَيْثُ حَبَسْتَنِي ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ [ الْحَجِّ : ] ، وَارِدٌ فِي غَيْرِ الْمُحْصَرِ ، وَأَمَّا مَا رُوِيَ أَنَّهُ بَعَثَ بِهَدْيِهِ إِلَى مَكَّةَ مَعَ نَاجِيَةَ بْنِ جُنْدُبٍ ، فَذَاكَ فِي غَيْرِ السَّنَةِ الَّتِي أُحْصِرَ فِيهَا .
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى غَيْرِ الْمُحْصَرِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ إِيصَالُهُ إِلَى الْحَرَمِ ، فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ غَيْرَ الْمُحْصَرِ لَا يَتَحَلَّلُ إِلَّا فِي الْحَرَمِ : فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْحَرَ إِلَّا فِي الْحَرَمِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُحْصَرُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا فَيَقْضِيَ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُحْصَرَ إِذَا تَحَلَّلَ مِنْ إِحْرَامِهِ بِالْهَدْيِ وَالْحِلَاقِ حكم قضائه ، فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ قَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ إِحْصَارِهِ فَعَلَيْهِ أَدَاؤُهَا ، وَإِنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ فِي الْعَامِ الَّذِي أُحْصِرَ فِيهِ لَمْ يَلْزَمْهُ قَضَاؤُهَا ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : عَلَى الْمُتَحَلِّلِ بِالْإِحْصَارِ الْقَضَاءُ ، سَوَاءٌ كَانَ إِحْرَامُهُ فَرْضًا أَوْ تَطَوُّعًا ، فَإِنْ كَانَ مُحْرِمًا بِحَجٍّ لَزِمَهُ أَنْ يَقْضِيَ حَجَّةً أَوْ عُمْرَةً ، وَإِنْ كَانَ قَارِنًا قَضَى حَجًّا وَعُمْرَتَيْنِ ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ بِرِوَايَةِ عِكْرِمَةَ قَالَ سَمِعْتُ الْحَجَّاجَ بْنَ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيَّ يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ كُسِرَ أَوْ عُرِجَ فَقَدْ حَلَّ وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ فَسَأَلْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ وَابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَا : صَدَقَ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَحَلَّ مِنْ عُمْرَتِهِ بِالْإِحْصَارِ سَنَةَ سِتٍّ بِالْحُدَيْبِيَةِ ، قَضَاهَا سَنَةَ سَبْعٍ ، فَسُمِّيَتْ عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ ، وَعُمْرَةَ الْقَضَاءِ ، وَعُمْرَةَ الْقِصَاصِ : وَلِأَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لَمَّا حَاضَتْ بِمَكَّةَ ، قَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " اقْضِي عُمْرَتَكِ وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ " ، ثُمَّ أَمَرَ أَخَاهَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَنْ يُعَمِّرَهَا مِنَ التَّنْعِيمِ ، فَأَلْزَمَهَا قَضَاءَ الْعُمْرَةِ الَّتِي رَفَضَتْهَا ، وَتَحَلَّلَتْ مِنْهَا ، وَكَانَتْ فِي حُكْمِ الْمُحْصَرِ : لِأَنَّهَا لَمْ تَقْدِرْ عَلَى إِكْمَالِ الْعُمْرَةِ : لِأَجْلِ الْحَيْضِ ، وَلَا أَمْكَنَهَا الْمَقَامُ عَلَى الْعُمْرَةِ إِلَى أَنْ تَطْهُرَ خَوْفًا مِنْ فَوَاتِ الْحَجِّ : وَلِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ نُسُكِهِ قَبْلَ تَمَامِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ الْقَضَاءُ ، كَالْفَائِتِ ، وَلِأَنَّ الْحَصْرَ نَوْعَانِ : عَامٌّ ، وَخَاصٌّ . فَلَمَّا لَزِمَهُ الْقَضَاءُ بِالتَّحَلُّلِ مِنَ الْحَصْرِ الْخَاصِّ ، وَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ بِالتَّحَلُّلِ مِنَ الْحَصْرِ الْعَامِّ ، وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [ الْبَقَرَةِ : ] ، فَذَكَرَ الْإِحْصَارَ ، وَبَيَّنَ حُكْمَهُ وَهُوَ الْهَدْيُ ، فَدَلَّ أَنَّهُ لَا مُوجَبَ لَهُ غَيْرُهُ ، وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُحْصِرَ بِالْعُمْرَةِ سَنَةَ سِتٍّ ، وَأُحْصِرَ مَعَهُ أَصْحَابُهُ وَكَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ ، ثُمَّ تَحَلَّلُوا مَعَهُ ، فَلَمَّا كَانَ فِي السَّنَةُ الْمُقْبِلَةُ ، وَهِيَ سَنَةُ سَبْعٍ خَرَجَ لِلْقَضَاءِ ، وَخَرَجَ مَعَهُ نَاسٌ مِنَ الصَّحَابَةِ ، أَكْثَرُ مَا قِيلَ ، سَبْعُمِائَةٍ ، فَمَوْضِعُ الدَّلِيلِ مِنْ هَذَا ، هُوَ أَنَّ الْقَضَاءَ لَوْ كَانَ يَلْزَمُهُمْ لَذَكَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ لِيَخْرُجَ مَعَهُ جَمِيعُهُمْ : لِأَنَّ مَنْ أَوْجَبَهُ عَلَى الْفَوْرِ مَنَعَ مِنَ التَّرَاخِي ، وَمَنْ جَعَلَهُ عَلَى التَّرَاخِي ، مَنَعَ أَنْ يُجْبَرَ التَّأْخِيرُ فِي ذَلِكَ الْعَامِ : لِأَنَّ مَكَّةَ كَانَتْ إِذْ ذَاكَ دَارَ شِرْكٍ ، وَكَانَ الْقَضَاءُ فِي غَيْرِ الْعَامِ الَّذِي قَضَى فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ مُمْكِنٍ ، فَلَمَّا لَمْ يَخْرُجُوا وَأَقَرَّهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَرْكِ الْخُرُوجِ ، دَلَّ عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ غَيْرُ وَاجِبٍ ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا قَالَا : لَا قَضَاءَ عَلَى الْمُحْصَرِ ، وَلَيْسَ لَهُمَا مُخَالِفٌ ، فَكَانَ إِجْمَاعًا : وَلِأَنَّهُ تَحَلَّلَ مَنْ نُسُكِهِ بِسَبَبٍ عَامٍّ ، لَمْ يُنْسَبْ فِيهِ إِلَى التَّفْرِيطِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ الْقَضَاءُ ، كَالْمُتَحَلِّلِ بَعْدَ
كَمَالِ الْحَجِّ : وَلِأَنَّ دَمَ الْإِحْصَارِ إِنَّمَا وَجَبَ بَدَلًا عَمَّا أَحَلَّ بِفِعْلِهِ مِنَ الْأَرْكَانِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَحَلَّلَ قَبْلَ نَحْرِهِ ، وَإِذَا كَانَ الدَّمُ بَدَلًا مِنْهَا ، وَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ الْقَضَاءُ كَمَا لَوْ أَكْمَلَهَا . فَإِنْ قِيلَ : فَيَجِبُ عَلَى هَذَا أَنْ لَا يَلْزَمَ الْفَائِتَ الْقَضَاءُ . قُلْنَا : دَمُ الْفَوَاتِ وَجَبَ لِأَجْلِ التَّأْخِيرِ بَدَلًا مِنَ الْأَفْعَالِ . فَإِنْ قِيلَ : إِذَا قَامَ الدَّمُ مَقَامَ الْأَفْعَالِ ، يَجِبُ أَنْ يُجْزِئَهُ ذَلِكَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ . قُلْنَا : قَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ بَدَلًا عَنِ الشَّيْءِ فِي حُكْمٍ ، وَلَا يَكُونُ بَدَلًا عَنْهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ ، كَالتَّيَمُّمِ بَدَلٌ مِنَ الطَّهَارَةِ فِي سُقُوطِ الْفَرْضِ ، وَلَيْسَ هُوَ بِبَدَلٍ عَنْهُ فِي أَنْ يُؤَدِّيَ بِهِ كُلَّ فَرْضٍ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ الْحَجَّاجِ ، يَقْتَضِي أَنَّ الْمُتَحَلِّلَ بِالْمَرَضِ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ ، وَلَنَا فِيهِ كَلَامٌ سَيَأْتِي . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى عُمْرَتَهُ ، وَسَمَّاهَا عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ وَالْقَضَاءِ . قُلْنَا : هَذِهِ التَّسْمِيَةُ لَيْسَتْ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا مِنْ أَصْحَابِهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ أَهْلِ السِّيَرِ وَالْمَغَازِي ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّهَا سُمِّيَتْ عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ وَالْقَضَاءِ : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاضَى عَلَيْهَا سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو عَلَى أَنْ يَرْجِعَ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ عُمْرَةَ الْقِصَاصِ : لِأَنَّهُ اقْتَصَّ مِنْهُمْ حِينَ مَنَعُوهُ ، وَفِيهَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ [ الْبَقَرَةِ : ] ، وَأَمَّا عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَكَانَتْ قَارِنَةً : لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا : طَوَافُكِ بِالْبَيْتِ يَكْفِيكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْفَوَاتِ ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْغَالِبَ مِنَ الْفَوَاتِ حُدُوثُهُ مِنْ تَفْرِيطٍ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْإِحْصَارُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا لَزِمَهُ بَعْدَ الْفَوَاتِ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَفْعَالِ ، لَزِمَهُ الْقَضَاءُ ، وَلَمَّا لَمْ يَلْزَمْهُ بَعْدَ تَحَلُّلِ الْإِحْصَارِ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْقَضَاءُ . وَأَمَّا الْإِحْصَارُ الْخَاصُّ حكم القضاء ، فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا قَضَاءَ ، فَعَلَى هَذَا قَدِ اسْتَوَيَا . وَالثَّانِي : عَلَيْهِ الْقَضَاءُ ، فَعَلَى هَذَا ، الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَدْ ذَكَرْنَاهُ : وَهُوَ لُحُوقُ الْمَشَقَّةِ الْغَالِبَةِ فِي الْعَامِ ، وَعَدَمُهَا فِي الْخَاصِّ . وَالثَّانِي : أَنَّ فِي الْإِحْصَارِ الْعَامِّ يَمْتَنِعُ سُلُوكُ الطَّرِيقِ ، وَذَلِكَ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ الْحَجِّ ، فَسَقَطَ الْقَضَاءُ ، وَفِي الْخَاصِّ لَا يَمْتَنِعُ سُلُوكُ الطَّرِيقِ ، فَوَجَبَ الْقَضَاءُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا لَمْ يَجِدْ هَدْيًا يَشْتَرِيهِ أَوْ كَانَ مُعْسِرًا فَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنْ لَا يَحِلَّ إِلَّا بِهَدْيٍ ، وَالْآخَرُ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى شَيْءٍ حَلَّ وَأَتَى بِهِ إِذَا قَدَرَ عَلَيْهِ إِذَا أُمِرَ بِالرُّجُوعِ لِلْخَوْفِ أَنْ لَا يُؤْمَرَ بِالْمُقَامِ لِلصِّيَامِ وَالصَّوْمُ يُجْزِئُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) الْقِيَاسُ عِنْدَهُ حَقٌّ وَقَدْ زَعَمَ أَنَّ هَذَا أَشْبَهُ بِالْقِيَاسِ ، وَالصَّوْمُ عِنْدَهُ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْهَدْيَ أَنْ يُقَوِّمَ الشَّاةَ دَرَاهِمَ ثُمَّ الدَّرَاهِمَ طَعَامًا ثُمَّ يَصُومَ مَكَانَ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ عَلَى الْمُحْصَرِ تَحَلُّلَهُ هَدْيًا ، فَالْهَدْيُ شَاةٌ : لِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [ الْبَقَرَةِ : ] ، وَأَقَلُّ مَا يَجُوزُ فِي الْمَيْسُورِ من الهدي شَاةٌ تَجُوزُ أُضْحِيَةً ، وَقَالَ جَابِرٌ : أُحْصِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ ، فَنَحَرْنَا الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ ، وَنَحَرْنَا الْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَدْيَ الْإِحْصَارِ شَاةٌ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُحْصَرِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِدًا لِلشَّاةِ ، أَوْ عَادِمًا لَهَا . فَإِنْ كَانَ وَاجِدًا لَهَا نَحَرَهَا مَوْضِعَهُ - عَلَى مَا ذَكَرْنَا - وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَحَلَّلَ قَبْلَ نَحْرِهَا : لِقَوْلِهِ : وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [ الْبَقَرَةِ : ] : وَلِأَنَّ الْهَدْيَ بَدَلٌ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَرَكَهَا ، وَهُوَ لَمْ يَكُنْ يَتَحَلَّلُ إِلَّا بِهَا ، فَكَذَلِكَ الْهَدْيُ الَّذِي هُوَ بَدَلٌ لَهَا ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَحَلَّلَ قَبْلَ النَّحْرِ ، فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ الْحِلَاقَ إِبَاحَةٌ بَعْدَ حَظْرٍ ، وَلَيْسَ بِنُسُكٍ ، فَإِحْلَالُهُ يَكُونُ بِالنَّحْرِ وَحْدَهُ ، وَلَا يُجْزِئُهُ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ نَاوِيًا بِهِ الْإِحْلَالَ : لِأَنَّهُ لَيْسَ يَتَحَلَّلُ بِالْأَفْعَالِ الَّتِي انْعَقَدَ عَلَيْهَا إِحْرَامُهُ فَيُجْزِئُهُ فِعْلُهَا بِالنِّيَّةِ الْمُقَدَّمَةِ لَهَا ، وَإِنَّمَا يَتَحَلَّلُ بِغَيْرِهَا وَهُوَ الَّذِي لَمْ تَضْمَنْهُ نِيَّةُ إِحْرَامِهِ ، فَافْتَقَرَ فِي نَحْرِهِ إِلَى نِيَّةٍ لِيَقَعَ بِهَا التَّمَيُّزُ ، وَيَحْصُلَ بِهَا الْإِحْلَالُ ، فَإِذَا نَحَرَ هَدْيَهُ فَقَدْ حَلَّ وَإِنْ قَالَ : إِنَّ الْحِلَاقَ نُسُكٌ ، فَإِحْلَالُهُ يَكُونُ بِشَيْئَيْنِ : وَهُمَا نَحْرُ الْهَدْيِ نَاوِيًا ثُمَّ الْحَلْقُ ، فَإِنَّ نَحَرَ وَلَمْ يَحْلِقْ فَهُوَ بَعْدُ عَلَى إِحْرَامِهِ ، فَهَذَا حُكْمُ الْمُحْصَرِ إِذَا كَانَ وَاجِدًا لِهَدْيٍ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا كَانَ عَادِمًا لِلْهَدْيِ ، إِمَّا لِتَعَذُّرِهِ أَوْ لِإِعْسَارِهِ هدي الإحصار ، فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ هَلْ لَهُ بَدَلٌ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا بَدَلَ لَهُ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَنُصَّ عَلَى بَدَلِهِ ، فَلَوْ كَانَ ذَا بَدَلٍ لَنَصَّ عَلَيْهِ كَمَا نَصَّ عَلَى غَيْرِهِ ، مِنْ دَمِ الْمُتْعَةِ ، وَالْأَدَاءِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَهُ بَدَلٌ يُنْقَلُ إِلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِهِ : لِأَنَّ سَائِرَ الدِّمَاءِ الْوَاجِبَةِ فِي الْإِحْرَامِ لَهَا أَبْدَالٌ تُنْقَلُ إِلَيْهَا مَعَ الْإِعْدَامِ ، فَكَذَلِكَ دَمُ الْإِحْصَارِ ، فَإِذَا قُلْنَا : لَيْسَ لَهُ بَدَلٌ ، كَانَ الدَّمُ فِي ذِمَّتِهِ إِلَى وَقْتِ وُجُودِهِ ، وَهَلْ لَهُ التَّحَلُّلُ قَبْلَ وُجُوبِهِ وَنَحْرِهِ هدي الإحصار أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ : لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ
[ الْبَقَرَةِ : ] ، وَلِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَفْعَالِ الَّتِي لَا يَتَحَلَّلُ قَبْلَهَا ، فَكَذَلِكَ الْهَدْيُ الَّذِي هُوَ بَدَلٌ مِنْهَا ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ بَاقِيًا عَلَى إِحْرَامِهِ إِلَى أَنْ يَجِدَ الْهَدْيَ ، فَيَتَحَلَّلَ بِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ فِي الْحَالِ قَبْلَ وُجُودِ الْهَدْيِ : لِأَنَّ الْهَدْيَ بَدَلٌ مِنَ الْأَفْعَالِ ، وَالْأَفْعَالُ مُبْدَلَاتٌ مِنَ الْهَدْيِ ، فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنَ الْمُبْدَلِ قَبْلَ فِعْلِهِ عِنْدَ تَعَذُّرِهِ ، فَأَوْلَى أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنَ الْبَدَلِ قَبْلَ فِعْلِهِ عِنْدَ تَعَذُّرِهِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ قُلْنَا : إِنَّ الْحِلَاقَ نُسُكٌ يَقَعُ بِهِ الْإِحْلَالُ ؛ يَتَحَلَّلُ بِهِ . وَإِنْ قُلْنَا : إِبَاحَةٌ بَعْدَ حَظْرٍ ، نَوَى الْإِحْلَالَ ، فَإِذَا نَوَاهُ فَقَدْ حَلَّ ، وَإِذَا قُلْنَا : لِهَدْيِ الْإِحْصَارِ بَدَلٌ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُحْصَرِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَادِمًا لِلْهَدْيِ بِالْإِعْسَارِ ، أَوْ عَادِمًا لِلْهَدْيِ لِتَعَذُّرِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَالِ ، فَإِذَا كَانَ عَادِمًا لِلْهَدْيِ بِإِعْسَارِهِ هدي الإحصار ، فَبَدَلُهُ الصَّوْمُ ، وَفِيهِ ثَلَاثَةُ الْأَقَاوِيلِ : أَحَدُهَا : صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، مِثْلَ كَفَّارَةِ الْأَذَى . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : صِيَامُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ كَالْمُتَمَتِّعِ . وَالثَّالِثُ : يُقَوِّمُ الْهَدْيَ دَرَاهِمَ ، وَالدَّرَاهِمَ طَعَامًا ، وَيَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا ، مِثْلَ جَزَاءِ الصَّيْدِ . وَإِنْ كَانَ عَادِمًا لِلْهَدْيِ لِتَعَذُّرِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَالِ هدي المحصر ، فَهَلْ يَكُونُ الْمُبْدَلُ الَّذِي يَنْتَقِلُ إِلَيْهِ طَعَامًا أَوْ صِيَامًا ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : الصِّيَامُ كَالتَّمَتُّعِ الَّذِي يَنْتَقِلُ فِيهِ عَنِ الدَّمِ إِلَى الصِّيَامِ ، وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْإِطْعَامِ ، فَعَلَى هَذَا فِي الصَّوْمِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ - عَلَى مَا مَضَتْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَنْتَقِلُ إِلَى الْإِطْعَامِ ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى نَفْعِ الْمَسَاكِينِ مِنَ الصِّيَامِ ، فَعَلَى هَذَا فِي كَيْفِيَّتِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يُقَوِّمُ الْهَدْيَ دَرَاهِمَ ، وَيَشْتَرِي بِالدَّرَاهِمِ طَعَامًا كَجَزَاءِ الصَّيْدِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ إِطْعَامُ ثَلَاثَةِ آصُعٍ سِتَّةَ مَسَاكِينَ ، كُلُّ مِسْكِينٍ مُدَّانِ ، كَفِدْيَةِ الْأَذَى . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْإِطْعَامِ وَالصِّيَامِ ، كَفِدْيَةِ الْأَذَى ، وَجَزَاءِ الصَّيْدِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ عَدَلَ إِلَى الصِّيَامِ ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ مَضَتْ ، وَإِنْ عَدَلَ إِلَى الْإِطْعَامِ فَفِي كَيْفِيَّتِهِ وَجْهَانِ مَضَيَا ، ثُمَّ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَتَحَلَّلَ قَبْلَ الصَّوْمِ أَوِ الْإِطْعَامِ أَمْ يَكُونُ عَلَى إِحْرَامِهِ حَتَّى يَأْتِيَ بِالصَّوْمِ وَالْإِطْعَامِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ عَلَى إِحْرَامِهِ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ . وَالثَّانِي : يَجُوزُ أَنْ يَتَحَلَّلَ قَبْلَ الْإِتْيَانِ بِهِ .
فَصْلٌ : إِذَا أَفْسَدَ حَجَّهُ ثُمَّ أُحْصِرَ ، ثُمَّ أَفْسَدَ حَجَّهُ قَبْلَ أَنْ يَتَحَلَّلَ ، فَلَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْهُ بِالْإِحْصَارِ : لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِالْإِحْصَارِ مِنْ حَجٍّ صَحِيحٍ ، كَانَ تَحَلُّلُهُ مِنَ الْحَجِّ الْفَاسِدِ أَوْلَى ، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ : لِأَجْلِ الْإِفْسَادِ دُونَ الْإِحْصَارِ ، وَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ وَشَاةٌ ، أَمَّا الْبَدَنَةُ فَلِأَجْلِ الْإِفْسَادِ وَأَمَّا الشَّاةُ فَلِأَجْلِ الْإِحْصَارِ ، فَإِذَا أَحَلَّ وَزَالَ الْعَدُوُّ ، وَكَانَ وَقْتُ الْحَجِّ مُمْكِنًا ، جَازَ أَنْ يَقْضِيَ الْحَجَّ فِي عَامِهِ .
فَصْلٌ : إِذَا فَاتَهُ الْحَجُّ ، ثُمَّ أُحْصِرَ ، أَوْ أُحْصِرَ ثُمَّ فَاتَهُ الْحَجُّ قَبْلَ أَنْ يَتَحَلَّلَ فَلَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِالْإِحْصَارِ : لِمَا ذَكَرْنَا ، ثُمَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ بِالْفَوَاتِ ، وَدَمَانِ : أَحَدُهُمَا : لِأَجْلِ الْفَوَاتِ . وَالثَّانِي : لِأَجْلِ الْإِحْصَارِ .
فَصْلٌ : إِذَا فَعَلَ الْمُحْصَرُ قَبْلَ إِحْلَالِهِ شَيْئًا يُوجِبُ عَلَيْهِ الْفِدْيَةَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ ، كَالطِّيبِ وَاللِّبَاسِ ، وَالْحَلْقِ وَغَيْرِهِ ، فَالْفِدْيَةُ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ كَغَيْرِ الْمُحْصَرِ : لِأَنَّ كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ قَالَ : مَرَّ بِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَأَنَا أَطْبُخُ وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ مِنْ رَأْسِي ، فَقَالَ : يَا كَعْبُ أَيُؤْذِيكَ هَوَامُ رَأْسِكَ ، قُلْتُ : نَعَمْ ، فَأَمَرَهُ بِالْفِدْيَةِ ، وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الْإِحْصَارِ .
فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : إِذَا أُحْصِرُوا وَكَانَ بِهِمْ قُوَّةٌ عَلَى قِتَالِ عَدُوِّهِمْ ، كَانَ لَهُمُ الْقِتَالُ وَالِانْصِرَافُ أَيْنَمَا شَاءُوا : لِأَنَّ لَهُمْ تَرْكَ الْقِتَالِ إِلَّا فِي النَّفِيرِ ، وَأَنْ يَبْدَأُوا بِالْقِتَالِ ، فَإِنْ أَرَادُوا قِتَالَ عَدُوِّهِمْ ، فَإِنْ كَانَ النَّظَرُ لِلْمُسْلِمِينَ الرُّجُوعَ عَنْهُمْ ، اخْتَرْتُ لَهُمْ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ النَّظَرُ لِلْمُسْلِمِينَ قِتَالَهُمْ ، قَاتَلُوا وَلَبِسُوا السِّلَاحَ ، وَافْتَدَوْا إِنْ لَبِسُوهُ قَبْلَ إِحْلَالِهِمْ ، وَإِنْ أُحْصِرُوا بِغَيْرِ الْمُشْرِكِينَ ، اخْتَرْتُ الِانْصِرَافَ عَنْهُمْ بِكُلِّ حَالٍ .
فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَإِنْ أُحْصِرُوا بِالْمُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِمْ ، فَأَعْطَوْهُمُ الْأَمَانَ عَلَى أَنْ يَأْذَنُوا لَهُمْ فِي الْحَجِّ ، لَمْ يَكُنْ لَهُمُ الرُّجُوعُ ، وَكَانُوا غَيْرَ مُحْصَرَيْنِ ، إِلَّا أَنْ يَكُونُوا مِمَّنْ لَا يُوثَقُ بِأَمَانِهِمْ ، أَوْ يُعْرَفُ غَدْرُهُمْ ، فَيَكُونَ لَهُمُ الِانْصِرَافُ إِذَا كَانُوا هَكَذَا بَعْدَ الْإِحْلَالِ .
فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَوْ كَانُوا مِمَّنْ يُوثَقُ بِأَمَانِهِمْ ، فَأَعْطَوْهُمُ الْأَمَانَ عَلَى جَعْلٍ كَبِيرٍ أَوْ قَلِيلٍ الإحصار للمحرم ، لَمْ أَرَ أَنْ يُعْطُوهُمْ شَيْئًا : لِأَنَّ لَهُمْ عُذْرًا فِي الْإِحْصَارِ يَحِلُّ لَهُمْ بِهِ الْخُرُوجُ مِنَ الْإِحْرَامِ ، وَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ يَنَالَ الْمُشْرِكُ مِنَ الْمُسْلِمِ أَخَذَ شَيْءٍ : لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُمُ الصَّغَارُ . وَلَوْ فَعَلُوا لَمْ يَحْرُمْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ ، فَإِنِّي كَرِهْتُهُ ، كَمَا لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِمْ مَا وَهَبُوهُ لِمُشْرِكٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ .
فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَلَوْ قَاتَلَهُمُ الْمُحْصَرُ ، فَقُتِلَ وَجُرِحَ وَأَصَابَ دَوَابَّ أَنِيسَةً ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ غُرْمٌ ، وَلَوْ أَصَابَ لَهُمْ صَيْدًا يَمْلِكُونَهُ ، جَزَاهُ بِمِثْلِهِ وَلَمْ يَضْمَنْ لَهُمْ شَيْئًا ، وَلَوْ كَانَ الصَّيْدُ لِمَنْ هُوَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ لَا يُقَاتِلُهُمْ جَزَاهُ ، وَضَمِنَ
قِيمَتَهُ لِصَاحِبِهِ ، وَلَوْ كَانَ الصَّيْدُ لِغَيْرِ مَالِكٍ جَزَاهُ الْمُحْرِمُ بِمِثْلِهِ إِنْ شَاءَ مَكَانَهُ فِي الْحِلِّ كَانَ أَمْ فِي الْحَرَمِ ، وَلَوْ أَرَادُوا الْإِحْلَالَ ثُمَّ الْقِتَالَ ، لَمْ أَرَ بِذَلِكَ بَأْسًا .
مَسْأَلَةٌ حال الْإِحْصَارُ بِالْمَرَضِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لَا حَصْرَ إِلَّا حَصْرُ الْعَدُوِّ ، وَذَهَبَ الْحَصْرُ الْآنَ ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : لَا يُحِلَّ مُحْرِمٌ حَبَسَهُ بَلَاءٌ حَتَى يَطُوفَ إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ عَدُوٌّ ( قَالَ ) فَيُقِيمُ عَلَى إِحْرَامِهِ ، قَالَ فَإِنْ أَدْرَكَ الْحَجَّ وَإِلَّا طَافَ وَسَعَى وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ وَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ، فَإِنْ كَانَ مُعْتَمِرًا أَجْزَأَهُ وَلَا وَقْتَ لِلْعُمْرَةِ فَتَفُوتُهُ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُحْصَرِ بِالْعَدُوِّ وَالْمَرَضِ أَنَّ الْمُحْصَرَ بِالْعَدُوِّ خَائِفٌ الْقَتْلَ إِنْ أَقَامَ ، وَقَدْ رُخِّصَ لِمَنْ لَقِيَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَتَحَرَّفَ لِقِتَالٍ أَوْ يَتَحَيَّزَ إِلَى فِئَةٍ فَيَنْتَقِلَ بِالرُّجُوعِ مِنْ خَوْفِ قَتْلٍ إِلَى أَمْنٍ ، وَالْمَرِيضُ حَالُهُ وَاحِدَةٌ فِي التَّقَدُّمِ وَالرُّجُوعِ ، وَالْإِحْلَالُ رُخْصَةٌ فَلَا يُعَدَّى بِهَا مَوْضِعُهَا كَمَا أَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ رُخْصَةٌ فَلَمْ يُقَسْ عَلَيْهِ مَسْحُ عِمَامَةٍ وَلَا قُفَّازَيْنِ وَلَوْ جَازَ أَنْ يُقَاسَ حِلُّ الْمَرِيضِ عَلَى حَصْرِ الْعَدُوِّ وَجَازَ أَنْ يُقَاسَ حِلُّ مُخْطِئِ الطَرِيقِ وَمُخْطِئِ الْعَدَدِ حَتَى يَفُوتَهُ الْحَجُّ عَلَى حَصْرِ الْعَدُوِّ . وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْإِحْصَارِ بِالْعَدُوِّ . فَأَمَّا الْإِحْصَارُ بِالْمَرَضِ حكم تحلله ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِالْمَرَضِ كَمَا يَتَحَلَّلَ بِالْعَدُوِّ ؛ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [ الْبَقَرَةِ : ] فَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ إِلَى أَنَّهُ يُقَالُ : أَحْصَرَهُ الْمَرَضُ وَحَصَرَهُ الْعَدُوُّ فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْآيَةُ وَارِدَةً فِي الْإِحْصَارِ بِالْمَرَضِ وَيَكُونُ الْإِحْصَارُ بِالْعَدُوِّ قِيَاسًا عَلَيْهِ ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ يُقَالُ : أَحْصَرَهُ الْمَرَضُ وَأَحْصَرَهُ الْعَدُوُّ مَعًا ، فَعَلَى هَذَا الْآيَةُ عَامَّةٌ فِيهِمَا جَمِيعًا ، وَرَوَى عِكْرِمَةُ قَالَ : سَمِعْتُ الْحَجَّاجَ بْنَ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيَّ يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كُسِرَ أَوْ عُرِجَ فَقَدْ حَلَّ وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ ، فَسَأَلْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ وَابْنَ عَبَّاسٍ ، فَقَالَا : صَدَقَ ، قَالَ : وَلِأَنَّهُ مَصْدُودٌ عَنِ الْبَيْتِ ، فَجَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ كَالْمُحْصَرِ بِالْعَدُوِّ ، قَالَ : وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَجِبُ بِوُجُودِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ فَجَازَ لَهُ الْخُرُوجُ مِنْهَا بِالْمَرَضِ كَالْجِهَادِ ، وَلِأَنَّ الْإِحْصَارَ بِالْمَرَضِ أَشَدُّ مِنَ الْإِحْصَارِ بِالْعَدُوِّ : لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِ الْمَرَضِ عَنْ نَفْسِهِ ، وَيَقْدِرُ عَلَى دَفْعِ الْعَدُوِّ عَنْ نَفْسِهِ ، إِمَّا بِقِتَالٍ ، أَوْ بِمَالٍ ، فَلَمَّا جَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ بِمَا قَدْ يُمْكِنُهُ أَنْ يَدْفَعَهُ عَنْ نَفْسِهِ ، كَانَ تَحَلُّلُهُ فِيمَا لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَدْفَعَهُ عَنْ نَفْسِهِ أَوْلَى ، وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ سُفْيَانَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ ضُبَاعَةَ بِنْتَ الزُّبَيْرِ ، فَقَالَ لَهَا : تُرِيدِينَ الْحَجَّ ؟ فَقَالَتْ : إِنِّي شَاكِيَةٌ ، فَقَالَ : حُجِّي وَاشْتَرِطِي إِنَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي . وَالدَّلَالَةُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَوْ جَازَ لَهَا الْخُرُوجُ بِالْمَرَضِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ ، لَأَخْبَرَهَا وَلَمْ يُعَلِّقْهُ بِالشَّرْطِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ عَلَّقَ جَوَازَ إِحْلَالِهَا مِنَ الْمَرَضِ بِالشَّرْطِ ، وَالْحُكْمُ الْمُعَلَّقُ بِشَرْطٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِهِ ، وَيَنْتَفِي عِنْدَ عَدَمِهِ ؟ وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَذَلِكَ مَا رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَيُّوبَ السِّجِسْتَانِيِّ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْبَصْرَةِ خَرَجَ لِيَحُجَّ ، فَوَقَعَ مِنْ عَلَى بَعِيرِهِ ، فَانْكَسَرَتْ فَخِذُهُ فَمَضَوْا إِلَى مَكَّةَ وَبِهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَالنَّاسُ ، فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ أَحَدٌ فِي التَّحَلُّلِ ، فَبَقِيَ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ ، ثُمَّ تَحَلَّلَ بِعُمْرَةٍ ، وَلَيْسَ يُعْرَفُ مِنَ الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ لِهَذَا الْقَوْلِ ، فَثَبَتَ أَنَّهُ إِجْمَاعٌ ، وَلِأَنَّ الْمَرَضَ مَعْنًى لَا يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الْحَجِّ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُعِيدَ التَّحَلُّلَ مِنْهُ ، كَالصُّدَاعِ طَرْدًا ، أَوْ كَانْسِدَادِ الطَّرِيقِ عَكْسًا : وَلِأَنَّهُ لَا يَسْتَفِيدُ بِتَحَلُّلِهِ التَّخَلُّصَ مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْأَذَى الَّذِي هُوَ فِيهِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ التَّحَلُّلُ ، كَضَالِّ الطَّرِيقِ طَرْدًا ، وَكَالْمُحْصَرِ عَكْسًا . فَإِنْ قِيلَ : فَالْمُحْصَرُ إِذَا حَصَرَهُ الْعَدُوُّ مِنْ سَائِرِ جِهَاتِهِ ، لَهُ التَّحَلُّلُ وَلَا يَسْتَفِيدُ بِهِ التَّخَلُّصَ مِنَ الْأَذَى الَّذِي هُوَ فِيهِ . قِيلَ : لَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ فِيهِ نَصٌّ ، وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَيْسَ لَهُ التَّحَلُّلُ ، كَالْمَرِيضِ . وَالثَّانِي : لَهُ التَّحَلُّلُ لِأَنَّهُ قَدْ يَسْتَفِيدُ بِهِ التَّخَلُّصَ مِنْ بَعْضِ الْأَذَى ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَفِدْ بِهِ التَّخَلُّصَ مِنْ جَمِيعِهِ ، وَهُوَ الْعَدُوُّ الَّذِي فِي وَجْهِهِ : لِأَنَّهُ بِالْإِحْلَالِ وَالْعَوْدِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى لِقَائِهِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَهُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا : إِنَّهَا فِي الْإِحْصَارِ بِالْمَرَضِ كَانَ فَاسِدًا : لِأَنَّهَا نَزَلَتْ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةُ مُحَاصَرُونَ بِالْعَدُوِّ . فَإِنْ قَالُوا : اللَّفْظُ مُسْتَعْمَلٌ فِي إِحْصَارِ الْمَرَضِ : لِأَنَّهُ يُقَالُ : أَحْصَرَهُ الْمَرَضُ ، وَحَصَرَهُ الْعَدُوُّ . قُلْنَا : قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْإِحْصَارَ بِالْعَدُوِّ مُرَادٌ ، وَإِذَا كَانَ مُرَادًا كَانَ اللَّفْظُ مُسْتَعْمَلًا فِيهِ مَجَازًا ، وَاللَّفْظَةُ الْوَاحِدَةُ إِذَا أُرِيدَ بِهَا الْمَجَازُ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْحَقِيقَةُ أَيْضًا حَتَّى تَصِيرَ مُسْتَعْمَلَةً فِيهِمَا جَمِيعًا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا ، وَإِنْ قَالُوا : إِنَّ ذَلِكَ مُسْتَعْمَلٌ فِيهِمَا حَقِيقَةً ، وَعُمُومَ اللَّفْظِ يَتَنَاوَلُهَا .
قِيلَ : ظَاهِرُ الْآيَةِ لَا يَدُلُّ إِلَّا عَلَى الْهَدْيِ ، فَأَمَّا التَّحَلُّلُ فَغَيْرُ مَذْكُورٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ مُضْمَرٌ فِيهِ ، فَلَا يُدَّعَى فِيهِ الْعُمُومُ ، وَالْإِضْمَارُ لَا يُوصَلُ إِلَى تَعْيِينِهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ ، ثُمَّ لَوْ كَانَ الْعُمُومُ يَتَنَاوَلُهُمَا جَمِيعًا ، لَكَانَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ الْإِحْصَارَ بِالْعَدُوِّ دُونَ الْمَرَضِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَوْلُهُ فِي أَثْنَاءِ الْآيَةِ : وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [ الْبَقَرَةِ : ] ، فَمَنَعَ تَوْجِيهَ الْخِطَابِ إِلَيْهِ أَنْ يَحْلِقَ رَأْسَهُ حَتَّى يَنْحَرَ ، وَهَذَا فِي الْمُحْصَرِ بِالْعَدُوِّ ، وَلِأَنَّ الْمُحْصَرَ بِالْمَرَضِ يَجُوزُ أَنْ يَحْلِقَ قَبْلَ أَنْ يَنْحَرَ . وَالثَّانِي : قَوْلُهُ فِيهَا : فَإِذَا أَمِنْتُمْ [ الْبَقَرَةِ : ] ، وَالْأَمْنُ إِنَّمَا يَكُونُ عَنْ خَوْفٍ ، فَأَمَّا عَنْ مَرَضٍ فَإِنَّمَا يُقَالُ : بُرْءٌ ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا إِحْصَارُ الْعَدُوِّ دُونَ الْمَرَضِ ، فَأَمَّا قَوْلُهُ : مَنْ كُسِرَ أَوْ عُرِجَ فَقَدْ حَلَّ . قُلْنَا : مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ شَرَطَ التَّحَلُّلَ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ أَضْمَرْتُمْ فِي الْخَبَرِ شَرْطًا غَيْرَ مَذْكُورٍ مَعَ إِمْكَانِ حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى ظَاهِرِهِ قِيلَ : لَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارٍ فِي الْخَبَرِ : لِأَنَّهُ لَا يَتَحَلَّلُ بِنَفْسِ الْكَسْرِ وَالْعَرَجِ ، فَلَمْ يُمْكِنْ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى ظَاهِرِهِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُحْصَرِ بِالْعَدُوِّ ، بِعِلَّةِ أَنَّهُ مَصْدُودٌ عَنِ الْبَيْتِ فَغَيْرُ سَلِيمٍ : لِأَنَّ الْمَرِيضَ غَيْرُ مَصْدُودٍ عَنِ الْبَيْتِ : لِأَنَّهُ لَمْ يَحْمِلِ الْمَشَقَّةَ لِمَوْصِلٍ إِلَيْهِ ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْإِحْصَارِ بِالْعَدُوِّ ، أَنَّهُ يَسْتَفِيدُ بِالتَّحَلُّلِ التَّخَلُّصَ مِنَ الْأَذَى الَّذِي هُوَ فِيهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمَرِيضُ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْجِهَادِ ، فَالْجِهَادُ قِتَالٌ ، وَالْمَرِيضُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ ، فَجَازَ لَهُ الْخُرُوجُ مِنْهُ ، وَالْحَجُّ سَيْرٌ ، وَالْمَرِيضُ يُمْكِنُهُ السَّيْرُ إِذَا كَانَ رَاكِبًا ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الْخُرُوجُ مِنْهُ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّ الْمَرِيضَ أَسْوَأُ حَالًا ، فَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْهُ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا شَرَطَ مَعَ الْإِحْرَامِ الْإِحْلَالَ بِالْمَرَضِ ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ فِي إِحْرَامِهِ : إِنْ حَبَسَنِي مَرَضٌ ، أَوِ انْقَطَعْتُ فِي نَفَقَةٍ ، أَوْ عَاقَنِي عَائِقُ مِنْ ضَلَالِ طَرِيقٍ أَوْ خَطَأٍ فِي عَدْوٍ ، تَحَلَّلَتْ ، فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ إِلَى انْعِقَادِ هَذَا الشَّرْطِ ، وَجَوَازِ الْإِحْلَالِ بِهِ ، كَحَدِيثِ ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ ، وَعَلَّقَ الْقَوْلَ فِي الْجَدِيدِ عَلَى صِحَّةِ حَدِيثِ ضُبَاعَةَ : لِأَنَّهُ رَوَاهُ مُرْسَلًا ، وَرَوَاهُ مُسْنَدًا ، وَرَوَى مِثْلَهُ مَوْقُوفًا ، فَأَمَّا الْمُرْسَلُ فَهُوَ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ ، فَقَالَ لَهَا : أَتُرِيدِينَ الْحَجَّ ، فَقَالَتْ : إِنِّي شَاكِيَةٌ ، فَقَالَ : حُجِّي وَاشْتَرِطِي أَنَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي ، وَأَمَّا الْمُسْنَدُ فَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَرْثِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ طَاوُسٍ وَعِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَتْ ضُبَاعَةُ بِنْتُ الزُّبَيْرِ : يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، إِنِّي امْرَأَةٌ ثَقِيلَةٌ ، وَإِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ ، فَقَالَ : أَهِلِّي وَاشْتَرِطِي أَنَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي . وَأَمَّا الْمَوْقُوفُ فَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قَالَتْ لِي عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : هَلْ تَسْتَثْنِي إِذَا حَجَجْتُ ؟ قُلْتُ لَهَا : مَاذَا أَقُولُ ؟ فَقَالَتْ : قُلِ اللَّهُمَّ الْحَجَّ أَرَدْتُ ، وَلَهُ عَمَدْتُ ، فَإِنْ يَسَّرْتَهُ لِي فَهُوَ الْحَجُّ ، وَإِنْ حَبَسَنِي حَابِسٌ فَهِيَ عُمْرَةٌ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا ، فَكَانَ بَعْضُهُمْ يُخَرِّجُ انْعِقَادَ الشَّرْطِ وَجَوَازَ الْإِحْلَالِ بِهِ ، عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مُنْعَقِدٌ بِهِ ، وَالْعَمَلُ بِهِ جَائِزٌ : لِمَا رُوِيَ فِيهِ مِنَ الْأَخْبَارِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ ، وَالْعَمَلُ بِهِ غَيْرُ جَائِزٍ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [ الْبَقَرَةِ : ] ، وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا : الشَّرْطُ مُنْعَقِدٌ قَوْلًا وَاحِدًا : لِأَنَّهُ فِي الْجَدِيدِ تَوَقَّفَ عَنِ الْعَمَلِ بِهِ : لِأَجْلِ الْحَدِيثِ وَصِحَّتِهِ ، أَوْ قَدْ صَحَّحَهُ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ ، فَلِذَلِكَ انْعَقَدَ الشَّرْطُ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَجَازَ الْعَمَلُ بِهِ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَنْعَقِدُ الشَّرْطُ حَتَّى يَكُونَ مُقْتَرِنًا بِإِحْرَامِهِ ، فَإِنْ شَرَطَ قَبْلَ إِحْرَامِهِ أَوْ بَعْدَهُ لَمْ يَنْعَقِدِ الشَّرْطُ ، وَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ مُقْتَرِنًا بِإِحْرَامِهِ ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ فِيهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ . وَالثَّانِي : أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ . فَإِنْ كَانَ فِيهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : إِنْ حَبَسَنِي مَرَضٌ ، أَوِ انْقَطَعَتْ بِي نَفَقَةٌ ، أَحْلَلْتُ ، أَوْ أَنَا حَلَالٌ ، أَوْ يُشْتَرَطُ فَيَقُولُ : إِنْ أَخْطَأْتُ الْعَدَدَ ، أَوْ ضَلَلْتُ عَنِ الطَّرِيقِ ، أَوْ عَاقَنِي عَائِقٌ ، فَفَاتَنِي الْحَجُّ ، كَانَ حَجِّي عُمْرَةً ، فَهَذِهِ الشُّرُوطُ كُلُّهَا مُنْعَقِدَةٌ : لِمَا فِيهَا مِنَ الْغَرَضِ الصَّحِيحِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الشُّرُوطِ غَرَضٌ صَحِيحٌ ، مِثْلَ قَوْلِهِ : أَنَا مُحْرِمٌ بِحَجٍّ ، فَإِنْ أَحْبَبْتُ الْخُرُوجَ مِنْهُ خَرَجْتُ ، وَإِنْ لَمْ يُسَاعِدْنِي زَيْدٌ قَعَدْتُ ، فَهَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ مِنَ الشُّرُوطِ فَاسِدَةٌ ، لَا تَنْعَقِدُ ، وَلَا يَجُوزُ الْإِحْلَالُ بِهَا .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ انْعِقَادُ الشَّرْطِ فِي الْإِحْرَامِ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي شَاءَ ، فَهَلْ يَصِيرُ حَلَالًا بِنَفْسِ الشَّرْطِ إِذَا وُجِدَ أَمْ لَا يَصِيرُ حَلَالًا حَتَّى يَنْوِيَ التَّحَلُّلَ فَيَنْظُرَ فِي الشَّرْطِ فَإِنْ كَانَ قَالَ : إِنْ حَبَسَنِي مَرَضٌ تَحَلَّلْتُ فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ حَلَالًا بِوُجُودِ الْمَرَضِ حَتَّى يَنْوِيَ التَّحَلُّلَ وَالْخُرُوجَ مِنْ إِحْرَامِهِ ، وَإِنْ كَانَ قَالَ : إِنْ حَبَسَنِي مَرَضٌ فَأَنَا حَلَالٌ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَصِيرُ حَلَالًا بِوُجُودِ الشَّرْطِ : اعْتِبَارًا بِمُوجِبِ اللَّفْظِ فِيهِ ، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ كُسِرَ أَوْ عُرِجَ فَقَدْ حَلَّ . الْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَصِيرُ حَلَالًا حَتَّى يَنْوِيَ التَّحَلُّلَ وَالْخُرُوجَ مِنْهُ ، فَيَصِيرَ حِينَئِذٍ حَلَالًا : لِأَنَّ الْإِحْلَالَ بِإِحْصَارِ الْعَدُوِّ أَقْوَى مِنَ الْإِحْلَالِ بِالْمَرَضِ ، فَلَمَّا لَمْ يَتَحَلَّلْ بِوُجُودِ الْإِحْصَارِ ، حَتَّى يَنْوِيَ الْإِحْلَالَ ، فَالْمَرَضُ أَوْلَى ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَتَحَلَّلَ مِنْ إِحْرَامِهِ بِالشَّرْطِ ، فَهَلْ عَلَيْهِ دَمٌ لِتَحَلُّلِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : عَلَيْهِ دَمٌ كَالْإِحْصَارِ بِالْعَدُوِّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ : لَا دَمَ عَلَيْهِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِحْصَارِ الْعَدُوِّ ، أَنَّ مُوجَبَ الشَّرْطِ أَنْ يَكُونَ إِحْرَامُهُ مُنْتَهِيًا إِلَى حِينِ وُجُودِ الشَّرْطِ ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ بِعَقْدِ الْإِحْرَامِ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْأَفْعَالِ ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ دَمٌ ، وَالْمُحْصَرُ بِالْعَدُوِّ قَدْ كَانَ إِحْرَامُهُ مُوجِبًا لِلْإِتْيَانِ بِجَمِيعِ أَفْعَالِ الْحَجِّ ، فَإِذَا أَحَلَّ بِالْإِحْصَارِ فَقَدْ تَرَكَ الْإِتْيَانَ بِفِعْلِ مَا وَجَبَ بِالْإِحْرَامِ : فَلِذَلِكَ لَزِمَهُ دَمٌ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ حَصْرِ الْعَبْدِ الْمُحْرِمِ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ وَالْمَرْأَةُ تُحْرِمُ بِغَيْرِ إِذْنِ زَوْجِهَا
بَابُ حَصْرِ الْعَبْدِ الْمُحْرِمِ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ ، وَالْمَرْأَةُ تُحْرِمُ بِغَيْرِ إِذْنِ زَوْجِهَا ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَإِنْ أَحْرَمَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ وَالْمَرْأَةُ بِغَيْرِ إِذْنِ زَوْجِهَا فَهُمَا فِي مَعْنَى الْإِحْصَارِ وَلِلسَّيِّدِ وَالزَوْجِ مَنْعُهُمَا وَهُمَا فِي مَعْنَى الْعَدُوِّ فِي الْإِحْصَارِ وَفِي أَكْثَرَ مِنْ مَعَنَاهُ ، فَإِنَّ لَهُمَا مَنْعَهُمَا وَلَيْسَ ذَلِكَ لِلْعَدُوِّ ، وَمُخَالِفُونَ لَهُ فِي أَنَّهُمَا غَيْرُ خَائِفِينَ خَوْفَهُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْعَبْدُ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ الْإِحْرَامُ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْعَبْدَ مَمْلُوكُ الرَّقَبَةِ ، مُسْتَحِقُّ الْمَنْفَعَةِ ، وَفِي إِحْرَامِهِ تَعْطِيلٌ لِمَا مَلَكَ عَلَيْهِ مِنْ مَنْفَعَتِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَلْزَمُهُ الْحَجُّ ، فَإِذَا أَحْرَمَ كَانَ تَطَوُّعًا ، وَلِلسَّيِّدِ أَنْ يَمْنَعَ عَبْدَهُ مِنْ تَطَوُّعِهِ ، فَإِذَا أَحْرَمَ الْعَبْدُ ، فَإِنْ كَانَ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ ، لَزِمَهُ تَمْكِينُهُ ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ ، فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُمَكِّنَهُ ، وَيَجُوزَ أَنْ يَمْنَعَهُ : لِمَا عَلَيْهِ مِنَ الضَّرَرِ بِإِحْرَامِهِ ، وَتَعْطِيلِ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ مَنَافِعِهِ ، فَإِذَا مَنَعَهُ السَّيِّدُ ، كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ ، وَلَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ : لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَتَحَلَّلَ الْمُحْصَرُ بِالْعَدُوِّ ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ بِظُلْمٍ ، فَأَوْلَى أَنْ يَتَحَلَّلَ الْعَبْدُ بِمَنْعِ السَّيِّدِ ، إِذْ هُوَ مَمْنُوعٌ بِحُقٍّ ، فَإِذَا أَرَادَ الْإِحْلَالَ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ سَيِّدِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يُمَلِّكَهُ هَدْيًا ، أَوْ لَا يُمَلِّكَهُ ، فَإِنْ لَمْ يُمَلِّكْهُ هَدْيًا فَهُوَ كَالْحُرِّ الْمُعْسِرِ ، فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ دَمُ الْإِحْصَارِ للعبد لَا بَدَلَ لَهُ ، كَانَ الدَّمُ فِي ذِمَّتِهِ إِذَا أُعْتِقَ وَأَيْسَرَ أَتَى بِهِ ، وَهَلْ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ قَبْلَ الْإِتْيَانِ بِهِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَضَيَا ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : يَتَحَلَّلُ الْعَبْدُ قَوْلًا وَاحِدًا ، بِخِلَافِ الْحُرِّ الْمُعْسِرِ : لِأَنَّ فِي بَقَائِهِ عَلَى إِحْرَامِهِ إِضْرَارًا بِسَيِّدِهِ ، وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ لِدَمِ الْإِحْصَارَ بَدَلًا فَبَدَلُهُ هَاهُنَا الصَّوْمُ : لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا ، وَفِي قَدْرِهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ . وَالثَّانِي : صِيَامُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ . وَالثَّالِثُ : تُقَوَّمُ الشَّاةُ دَرَاهِمَ ، وَالدَّرَاهِمُ طَعَامًا ، وَيَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا ، ثُمَّ هَلْ يَكُونُ عَلَى إِحْرَامِهِ حَتَّى يَصُومَ أَوْ يَجُوزَ أَنْ يَتَحَلَّلَ ؟ قِيلَ : يَصُومُ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : يَتَحَلَّلُ قَوْلًا وَاحِدًا ، فَأَمَّا إِنْ مَلَّكَهُ سَيِّدُهُ دَمًا ، فَعَلَى قَوْلَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : يَنْحَرُهُ وَلَا يَصُومُ عَلَى قَوْلِهِ - فِي الْقَدِيمِ - : إِنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ . وَالثَّانِي : لَا يُجْزِئُهُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلِهِ - فِي الْجَدِيدِ : إِنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمَرْأَةُ إِذَا كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ وَأَرَادَتِ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ ، فَقَدْ يَكُونُ فَرْضًا ، وَقَدْ يَكُونُ تَطَوُّعًا : لِأَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ يَلْزَمُهَا فَرْضُ الْحَجِّ بِالشَّرَائِطِ الَّتِي تُلْزِمُ الرَّجُلَ ، وَهِيَ سِتٌّ ، فَإِذَا أَرَادَتِ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ ، فَعَلَيْهَا اسْتِئْذَانُ الزَّوْجِ : لِمَا قَدِ اسْتَحَقَّهُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا ، فَإِنْ أَحْرَمَتْ بِإِذْنِهِ ، فَعَلَيْهِ تَمْكِينُهَا ، وَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا ، فَإِنْ أَحْرَمَتْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ ، فَهَلْ لَهُ مَنْعُهَا أَمْ لَا ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ - حَكَاهَا أَبُو حَامِدٍ فِي جَامِعِهِ : أَحَدُهَا : أَنَّ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْهُ ، فَرْضًا كَانَ أَوْ تَطَوُّعًا : لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا عَاجِلًا ، وَإِحْرَامُهَا إِنْ كَانَ فَرْضًا فَفَرْضُ الْحَجِّ عَلَى التَّرَاخِي ، فَكَانَ لَهُ مَنْعُهَا مِنْ تَعْجِيلِهِ ، وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا ، فَأَوْلَى أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْهُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْهُ فَرْضًا كَانَ أَوْ تَطَوُّعًا : لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ فَرْضًا ، فَالْفَرَائِضُ مُسْتَثْنَاةٌ مِنَ الزَّوْجِيَّةِ ، وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا ، فَبِالدُّخُولِ فِيهِ صَارَ فَرْضًا . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْهُ إِنْ كَانَ تَطَوُّعًا ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْهُ وَإِنْ كَانَ فَرْضًا ، كَمَا لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ وَصِيَامِ التَّطَوُّعِ ، وَلَا يَمْنَعَهَا مِنَ الْفَرْضِ . فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَقُلْنَا : لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا ، فَإِنْ مَنْعَهَا كَانَتْ كَالْمُحْصَرِ بِالْعَدُوِّ ، وَتَتَحَلَّلُ مِنْ إِحْرَامِهَا المحصرة بإذن زوجها ، وَعَلَيْهَا دَمُ الْإِحْصَارِ المحصرة بإذن زوجها ، وَلَا قَضَاءَ المتحللة بعد إحصار بإذن زوحها عَلَيْهَا ، وَإِنْ مَكَّنَهَا فَعَلَيْهَا إِتْمَامُ حَجِّهَا ، وَلَيْسَ لَهَا الْإِحْلَالُ مِنْهُ ، وَلَا لِلزَّوْجِ الرُّجُوعُ فِيهِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا أَرَادَتِ الْمَرْأَةُ أَنْ تَبْتَدِئَ بِالْحَجِّ ، فَإِنْ كَانَ فَرْضًا جَازَ أَنْ تَخْرُجَ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ ، أَوْ مَعَ نِسَاءٍ ثِقَاتٍ وَلَوْ كَانَتِ امْرَأَةً وَاحِدَةً ، إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَخْرُجَ بِلَا مَحْرَمٍ وَلَا امْرَأَةٍ تَثِقُ بِهَا للحج وَإِنْ كَانَ حَجُّهَا وَاجِبًا ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا لَا تَخَافُ خَلْوَةَ الرِّجَالِ مَعَهَا ، جَازَ أَنْ تَخْرُجَ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ ، وَبِغَيْرِ امْرَأَةِ ثِقَةٍ ، وَهُوَ خِلَافُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - . فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْحَجُّ تَطَوُّعًا سفر المرأة بدون محرم ، لَمْ يَجُزْ أَنْ تَخْرُجَ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ ، وَكَذَلِكَ فِي السَّفَرِ الْمُبَاحِ ، كَسَفَرِ الزِّيَارَةِ وَالتِّجَارَةِ ، لَا يَجُوزُ أَنْ تَخْرُجَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : يَجُوزُ أَنْ تَخْرُجَ مَعَ نِسَاءٍ ثِقَاتٍ ، كَسَفَرِ الْحَجِّ الْوَاجِبِ ، وَهُوَ خِلَافُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ ، وَقَالَ مَالِكٌ : يَجُوزُ أَنْ تَخْرُجَ فِي الْفَرْضِ مَعَ نِسَاءٍ ثِقَاتٍ ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ تَخْرُجَ مَعَ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجُوزُ أَنْ تَخْرُجَ فِي الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ ؛ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا تُسَافِرِ امْرَأَةٌ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إِلَّا وَمَعَهَا أَخُوهَا أَوْ أَبُوهَا أَوْ زَوْجُهَا أَوْ مَحْرَمٌ ، وَبِرِوَايَةِ أَبِي
سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيٍّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا تُسَافِرِ امْرَأَةٌ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إِلَّا مَعَ مَحْرَمٍ ، وَبِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا تَحُجَّنَّ امْرَأَةٌ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ : وَلِأَنَّهُ سَفَرٌ تُقْصَرُ فِي مِثْلِهِ الصَّلَاةُ ، فَلَمْ يَجُزْ لَهَا قَطْعُهُ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ كَالْأَسْفَارِ الْمُبَاحَةِ ، وَلِأَنَّ حَجَّ التَّطَوُّعِ قَدْ يَلْزَمُ بِالدُّخُولِ فِيهِ كَالْفَرْضِ ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ لَهَا الْخُرُوجُ فِي التَّطَوُّعِ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ ، وَإِنْ صَارَ بِالدُّخُولِ فَرْضًا ، فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ ابْتِدَاؤُهُ فَرْضًا ، وَدَلِيلُنَا عَلَى جَوَازِ خُرُوجِهَا بِغَيْرِ مَحْرَمٍ ، رِوَايَةُ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَتُوشِكُ الظَّعِينَةُ تَخْرُجُ مِنَ الْحِيرَةِ بِغَيْرِ خِفَارٍ حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ ، وَيُوشِكُ أَنْ تُفْتَحَ كُنُوزُ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ ، وَيُوشِكُ الرَّجُلُ يَسْعَى يَبْتَغِي أَنْ يُؤْخَذَ مَالُهُ صَدَقَةً فَلَا تُقْبَلُ مِنْهُ ، فَلَقَدْ رَأَيْتُ الظَّعِينَةَ تَخْرُجُ مِنَ الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ بِغَيْرٍ خِفَارٍ ، وَكُنْتُ فِي الْخَيْلِ الَّتِي أَغَارَتْ عَلَى الْمَدَائِنِ حَتَّى فَتَحُوا كُنُوزَ كِسْرَى ، وَاللَّهِ لَتَكُونَنَّ الثَّالِثَةُ ، فَمَوْضِعُ الدَّلِيلِ مِنْ هَذَا أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ مِنِ اسْتِقَامَةِ الزَّمَانِ أَنْ تَخْرُجَ الْمَرْأَةُ إِلَى الْحَجِّ بِغَيْرِ خِفَارٍ ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ جَائِزٍ لَكَانَ الزَّمَانُ بِفِعْلِهِ غَيْرَ مُسْتَقِيمٍ ، فَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : أَحِجُّوا هَذِهِ الذُّرِّيَّةَ ، وَلَا تَأْكُلُوا أَرْزَاقَهَا وَتَدَعُوا أَوْبَاقَهَا فِي أَعْنَاقِهَا ، فَأَمَرَ بِالْإِذْنِ لِلنِّسَاءِ فِي الْحَجِّ وَأَنْ لَا يُمْنَعْنَ مِنْهُ ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ فِي إِخْرَاجِهِنَّ ذَا مَحْرَمٍ : وَلِأَنَّهُ سَفَرٌ وَاجِبٌ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ الْمُحْرِمُ شَرْطًا فِي قَطْعِهِ : وَلِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ لَمْ يَكُنِ الْمُحْرِمُ شَرْطًا فِي وُجُوبِهَا لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِي أَدَائِهَا كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ ، وَاسْتِدْلَالُ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا ادُّعِيَ عِنْدَ الْحَاكِمِ عَلَى امْرَأَةٍ غَائِبَةٍ دَعْوَى ، فَإِنَّ الْحَاكِمَ يَبْعَثُ إِلَيْهَا لِيُحْضِرَهَا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَحْرَمٌ إِذَا كَانَتْ مِمَّنْ تَبْرُزُ ، فَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهَا الْخُرُوجُ بِلَا مَحْرَمٍ فِي حَقٍّ لَا يَتَحَقَّقُ وُجُوبُهُ عَلَيْهَا ، إِذْ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْطِلًا فِي الدَّعْوَى عَلَيْهَا ، فَلَأَنْ يَجِبَ فِي حَقٍّ يَتَحَقَّقُ وُجُوبُهُ عَلَيْهَا أَوْلَى ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ فَمَحْمُولٌ بِدِلَالَتِنَا عَلَى السَّفَرِ الْمُبَاحِ دُونَ الْوَاجِبِ ، وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَمَحْمُولٌ وَإِنْ صَحَّ عَلَى حَجِّ التَّطَوُّعِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى التَّطَوُّعِ فَمُنْتَقِضٌ بِالْهِجْرَةِ كَمَا أَنَّ التَّطَوُّعَ قَدْ يَلْزَمُ بِالدُّخُولِ فِيهِ كَالْهِجْرَةِ ثُمَّ كَانَ أَضْعَفَ حَالًا مِنَ الْهِجْرَةِ ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِيهِ لَوْ صَحَّ أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ : إِنَّ التَّطَوُّعَ قَدْ يَلْزَمُ بِالدُّخُولِ كَالْفَرْضِ إِنْ كَانَ لَازِمًا بِالدُّخُولِ كَالْفَرْضِ فَهُوَ أَضْعَفُ حَالًا مِنَ الْفَرْضِ ، فَيَكُونُ فَرْقًا بَيْنَ الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ ، كَفَرْقِهِمْ بَيْنَ الْهِجْرَةِ وَالتَّطَوُّعِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُعْتَدَّةُ إِذَا أَحْرَمَتْ بِالْحَجِّ فَإِنَّهَا تُمْنَعُ مِنَ الْمُضِيِّ فِي الْحَجِّ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْعِدَّةُ مِنْ وَفَاةٍ أَوْ طَلَاقٍ ، كَانَ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا رَجْعَةٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ ، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَتَحَلَّلَ بِهَذَا الْمَنْعِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : لِأَنَّ مَانِعَهَا إِلَى مُدَّةٍ إِذَا بَلَغَتْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُهَا فَإِذَا
انْتَقَضَتْ عِدَّتُهَا مَضَتْ فِي حَجِّهَا ، فَإِنْ أَدْرَكَتِ الْحَجَّ أَجْزَأَهَا ، وَإِنْ فَاتَهَا الْحَجُّ أَحَلَّتْ بِطَوَافٍ وَسَعْيٍ ، وَوَجَبَ عَلَيْهَا الْقَضَاءُ ، وَدَمُ الْفَوَاتِ كَالْغَائِبِ سَوَاءٌ ، فَأَمَّا إِذَا أَحْرَمَتْ بِالْحَجِّ غَيْرَ مُعْتَدَّةٍ ، ثُمَّ طَرَأَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ فِي الْإِحْرَامِ بِوَفَاةِ زَوْجٍ أَوْ طَلَاقٍ ، فَعَلَيْهَا الْمُضِيُّ فِي إِحْرَامِهَا ، وَلَا تَكُونُ الْعِدَّةُ مَانِعَةً لَهَا لِتَقَدُّمِ الْإِحْرَامِ عَلَيْهَا فَإِنْ مَنَعَهَا مِنْ إِتْمَامِ حَجِّهَا حَاكِمٌ لِأَجْلِ عِدَّتِهَا كَانَتْ كَالْمُحْصَرَةِ حِينَئِذٍ فَيَجُوزُ لَهَا أَنْ تَتَحَلَّلَ وَعَلَيْهَا دَمُ الْإِحْصَارِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا أَرَادَ الْوَلَدُ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ فَيَنْبَغِيَ أَنْ يَسْتَأْذِنَ أَبَوَيْهِ أَوِ الْبَاقِيَ مِنْهُمَا فَإِنْ أَحْرَمَ بِإِذْنِهِمَا انْعَقَدَ إِحْرَامُهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَنْعُهُ وَلَوْ أَحْرَمَ بِغَيْرِ إِذْنِهِمَا فَإِنْ كَانَ غَيْرَ بَالِغٍ فَإِحْرَامُهُ بَاطِلٌ : لِأَنَّ إِحْرَامَ غَيْرِ الْبَالِغِ لَا يَنْعَقِدُ إِلَّا بِإِذْنِ وَلَيِّهِ وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا . وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ : إِحْرَامُهُ يَنْعَقِدُ كَالْبَالِغِ وَلِوَالِدِهِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْهُ وَيَفْسَخَهُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ بَالِغًا فَإِحْرَامُهُ مُنْعَقِدٌ فَإِنْ أَرَادَ وَالِدَاهُ أَنْ يَمْنَعَاهُ نَظَرْتَ فَإِنْ كَانَ الْحَجُّ الَّذِي أَحْرَمَ بِهِ فَرْضًا فَلَيْسَ لَهُمَا مَنْعُهُ : لِأَنَّ الْمَقَامَ عَلَيْهِمَا مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ وَكَانَ تَقْدِيمُ الْفَرْضِ أَوْلَى مِنْهُ وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا فَهَلْ لَهُمَا مَنْعُهُ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَهُمَا مَنْعُهُ وَأَشَارَ إِلَيْهِ فِي " الْإِمْلَاءِ " كَالْجِهَادِ أَلَا تَرَى إِلَى مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا يُجَاهِدُ فَقَالَ : " أَلَكَ أَبَوَانِ " قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : " فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ " فَلَمَّا مَنَعَهُ مِنَ الْجِهَادِ الَّذِي هُوَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ يَتَعَيَّنُ بِالدُّخُولِ فِيهِ كَانَ مَنْعُهُ مِنْ حَجِّ التَّطَوُّعِ أَوْلَى ، فَعَلَى هَذَا إِذَا مَنَعَاهُ كَانَ كَالْمُحْصَرِ يَتَحَلَّلُ وَعَلَيْهِ دَمٌ ، فَلَوْ أَذِنَ لَهُ أَحَدُهُمَا وَمَنْعَهُ الْآخَرُ فَإِنْ كَانَ الْآذِنَ مِنْهُمَا الْأَبُ وَالْمَانِعَ الْأُمُّ مَضَى فِي حَجِّهِ وَلَمْ يَتَحَلَّلْ ، وَإِنْ كَانَ الْمَانِعَ الْأَبُ وَالْآذِنَ الْأُمُّ كَانَ لَهُ مَنْعُهُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَيْسَ لِأَبَوَيْهِ وَلَا لِأَحَدُهُمَا مَنْعُهُ مِنَ التَّطَوُّعِ كَمَا لَمْ يُمْكِنْ لَهُمَا مَنْعُهُ مِنَ الْفُرُوضِ : لِأَنَّ التَّطَوُّعَ قَدْ صَارَ لَازِمًا فِيهِ كَالْفَرْضِ ، وَهَذَا الْقَوْلُ نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُولَى عَلَيْهِ بِالسَّفَهِ فَلَيْسَ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَعَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ نَفَقَةَ حَجِّهِ وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا ، قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي " الْإِمْلَاءِ " : لَمْ يُجْبَرْ وَلِيُّهُ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ شَيْئًا ، وَيُقَالُ لَهُ إِنْ قَدَرْتَ عَلَى إِتْمَامِ حَجِّكَ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَمْنَعَكَ وَلَا لَكَ أَنْ تُحِلَّ وَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ فَلَكَ أَنْ تُحِلَّ بِمَا يُحِلُّ بِهِ الْمُحْصَرُ مِنَ الْعَدُوِّ ، وَهَذَا صَحِيحٌ : لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى نَفَقَةٍ هُوَ مَمْنُوعٌ مِنْهَا فَصَارَ كَالْمَمْنُوعِ بِإِحْصَارِ الْعَدُوِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ الْأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ وَالْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ
بَابُ الْأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ وَالْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَالْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ الْعَشْرُ وَآخِرُهَا يَوْمُ النَّحْرِ ، وَالْمَعْدُودَاتُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَ النَّحْرِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) سَمَّاهُنَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِاسْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَأَجْمَعُوا أَنَّ الِاسْمَيْنِ لَمْ يَقَعَا عَلَى أَيَّامٍ وَاحِدَةٍ وَإِنْ لَمْ يَقَعَا عَلَى أَيَّامٍ وَاحِدَةٍ فَأَشْبَهُ الْأَمْرَيْنِ أَنْ تَكُونَ كُلُّ أَيَّامٍ مِنْهَا غَيَرَ الْأُخْرَى كَمَا أَنَّ اسْمَ كُلِّ يَوْمٍ غَيْرُ الْآخَرِ وَهُوَ مَا قَالَ الشَّافِعِيُّ عِنْدِي ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) فَإِنْ قِيلَ لَوْ كَانَتِ الْمَعْلُومَاتُ الْعَشَرَ لَكَانَ النَّحْرُ فِي جَمِيعِهَا فَلَمَّا لَمْ يَجُزِ النَّحْرَ فِيِ جَمِيعِهَا بَطَلَ أَنْ تَكُونَ الْمَعْلُومَاتُ فِيهَا - يُقَالُ لَهُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ، وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَلَيْسَ الْقَمَرُ فِي جَمِيعِهَا وَإِنَّمَا هُوَ فِي وَاحِدِهَا ؛ أَفَيَبْطَلُ أَنْ يَكُونَ الْقَمَرُ فِيهِنَّ نُورًا كَمَا قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ لِمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ أَيَّامًا مَعْلُومَاتٍ ، وَأَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ [ الْحَجِّ : ] ، وَقَالَ تَعَالَى : وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ [ الْبَقَرَةِ : ] ، فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْمَعْلُومَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ ؛ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى أَنَّ الْأَيَّامَ الْمَعْلُومَاتِ الْعَشْرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ آخِرُهَا يَوْمُ النَّحْرِ ، وَالْأَيَّامَ الْمَعْلُومَاتِ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ الثَّلَاثَةُ وَهِيَ الْحَادِي عَشَرَ ، وَالثَّانِي عَشَرُ وَالثَّالِثَ عَشَرَ . وَقَالَ مَالِكٌ : يَوْمُ النَّحْرِ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ الْمَحْضَةِ دُونَ مَا قَبْلَهُ مِنَ الْعَشْرِ ، وَالْيَوْمُ الثَّالِثَ عَشَرَ وَهُوَ آخَرُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ مِنَ الْمَعْدُودَاتِ الْمَحْضَةِ وَالْيَوْمُ - الْحَادِي عَشَرَ ، وَالثَّانِي عَشَرَ مُشْتَرِكَانِ فِي الْمَعْلُومَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ الْمَحْضَةِ ، وَالْيَوْمُ الثَّانِي عَشَرَ وَالثَّالِثَ عَشَرَ مِنَ الْمَعْدُودَاتِ الْمَحْضَةِ وَالْيَوْمُ الْحَادِي عَشَرَ مُشْتَرِكٌ فِي الْمَعْلُومَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ ؛ وَاسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالِي : لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ [ الْحَجِّ : ] .
قَالَ مَالِكٌ : فَلَمَّا جَعَلَ التَّسْمِيَةَ عَلَى بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فِي الْأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ وَذَلِكَ فِي يَوْمِ النَّحْرِ دُونَ مَا قَبْلَهُ مِنَ الْعَشْرِ دَلَّ عَلَى أَنَّ مَا قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ لَيْسَ مِنْهَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَمَّا قَالَ : لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ بِالْحَجِّ : ] يَعْنِي : الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ دَلَّ عَلَى أَنَّ يَوْمَ عَرَفَةَ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ وَمَا قَبْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ لَيْسَ مِنْهَا . وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا قُلْنَا : هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَهُمَا بِاسْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ الْمُسَمَّيَيْنِ ، وَإِذَا اخْتَلَفَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِكَا ، فَإِذَا انْفَرَدَا وَلَمْ يَشْتَرِكَا ثَبَتَ قَوْلُنَا ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ أَفْرَدَهُمَا جَعَلَ الْعَشْرَ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ ، وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ مِنَ الْمَعْدُودَاتِ وَقَالَ تَعَالَى : وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ [ الْفَجْرِ : ] ، قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ : وَلَيَالٍ عَشْرٍ ، يَعْنِي : عَشْرَ ذِي الْحِجَّةِ ، وَ " وَالشَّفْعِ " يَعْنِي : يَوْمَ النَّحْرِ ، وَ " وَالْوَتْرِ " يَعْنِي يَوْمَ عَرَفَةَ فَلَمَّا جَعَلَ فِي الْعَشْرِ الَّتِي شَرَّفَهَا وَأَقْسَمَ بِهَا يَوْمَ النَّحْرِ وَعَرَفَةَ وَهُمَا مِنَ الْمَعْلُومَاتِ عَلِمَ أَنَّ مَا دَخَلَا فِيهِ فِي الْعَشْرِ كُلِّهِ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حُسَيْنٍ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعَمٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : كُلُّ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ذَبْحٌ ، وَمَالِكٌ يَمْنَعُ مِنَ الذَّبْحِ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ من أيام التشريق ، وَلِأَنَّ يَوْمَ الْحَادِيَ عَشَرَ يَوْمٌ يُسَنُّ فِيهِ رَمْيُ الْجَمَرَاتِ الثَّلَاثِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ كَالثَّالِثَ عَشَرَ ، وَلِأَنَّ مَا دَخَلَ فِي أَحَدِ الْعَدَدَيْنِ انْتَفَى عَنِ الْآخَرِ كَالْعَاشِرِ لَمَّا دَخَلَ فِي الْمَعْلُومَاتِ انْتَفَى عَنِ الْمَعْدُودَاتِ وَكَالثَّالِثَ عَشَرَ لَمَّا دَخَلَ فِي الْمَعْدُودَاتِ انْتَفَى عَنِ الْمَعْلُومَاتِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْآيَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يُضَافُ إِلَى الْجُمْلَةِ وَإِنْ كَانَ يَقَعُ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْجُمْلَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا [ نُوحٍ : ] ، وَلَيْسَ الْقَمَرُ فِي جَمِيعِهَا وَإِنَّمَا هُوَ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهَا وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [ الْبَقَرَةِ : ] ، وَلَيْسَ الْحَجُّ فِي جَمِيعِهَا وَإِنَّمَا هُوَ فِي بَعْضِهَا وَكَمَا يُقَالُ : يَوْمُ الْجُمُعَةِ ، وَلَيْسَتِ الْجُمُعَةُ تُقَامُ فِي جَمِيعِ الْيَوْمِ وَإِنَّمَا تُقَامُ فِي بَعْضِهِ . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَضَافَ الذِّكْرَ عَلَى الْبَهِيمَةِ إِلَى الْأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ ، وَالذِّكْرُ عِنْدَنَا يَقَعُ فِي جَمِيعِ الْعَشْرِ : لِأَنَّهُ - إِذَا سَاقَ الْهَدْيَ وَسَمَّى اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى وَكَبَّرَ مِنْ أَوَّلِ الْعَشْرِ - عَلَى مَا فَعَلَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَجَرَى بِهِ الْعَمَلُ فَأَمَّا الْمَنَافِعُ الَّتِي أَرَادَهَا تَعَالَى بِقَوْلِهِ : لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ [ الْحَجِّ : ] ، فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : إِنَّهَا الْمَوَاقِفُ وَقَضَاءُ الْمَنَاسِكِ . وَالثَّانِي : إِنَّهَا الْمَغْفِرَةُ .
وَالثَّالِثُ : إِنَّهَا التِّجَارَةُ . فَإِنْ قِيلَ فَلَمَّا ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِهَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ : قِيلَ : لِأَمْرٍ عَلِمَهُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَمَّى الْمَعْلُومَاتِ بِهَذَا الِاسْمِ : لِأَنَّ مَا عُلِمَ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ يَقَعُ فِيهَا كَالتَّعْرِيفِ يَوْمَ عَرَفَةَ وَالرَّمْيِ وَالنَّحْرِ وَالطَّوَافِ يَوْمَ النَّحْرِ ، كَمَا أَنَّ الْحَجَّ أَشْهَرٌ مَعْلُومَاتٌ مِنْ أَجْلِ مَا عُلِمَ فِيهِنَّ مِنَ الْحَجِّ وَسَمَّى الْمَعْدُودَاتِ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ فضلها : لِأَنَّهَا أَيَّامٌ مَعْدُودَةٌ مُسْتَوِيَةُ الْأَحْكَامِ فِي الرَّمْيِ وَالتَّلْبِيَةِ وَالنَّحْرِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَيَوْمُ النَّحْرِ يَقَعُ فِيهِ النَّحْرُ قِيلَ لَمْ يَقَعْ فِيهِ لِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا وَقَعَ فِيهِ ، لِأَنَّهُ يَقَعُ لِمَا يَتَعَلَّقُ الْإِحْلَالُ بِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ . فَإِنْ قِيلَ أَيُّ الْأَيَّامِ أَشْرَفُ : الْمَعْلُومَاتُ أَوِ الْمَعْدُودَاتُ ؟ قِيلَ الْمَعْلُومَاتُ أَشْرَفُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ ، [ الْفَجْرِ : ] ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّحْمِيدِ ، فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى ؟ قَالَ : وَلَا الْجِهَادُ ، إِلَّا الْمُعَفَّرُ فِي التُّرَابِ .
بَابُ نَذْرِ الْهَدْيِ
جُمْلَةُ الْهَدْيِ ضَرْبَانِ وَاجِبٌ وَغَيْرُ وَاجِبٍ
بَابُ نَذْرِ الْهَدْيِ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَالْهَدْيُ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ فَمَنْ نَذَرَ لِلَّهِ هَدْيًا فَسَأَلَ شَيْئًا فَهُوَ عَلَى مَا سَمَّى وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِ فَلَا يُجْزِئُهُ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ الْأُنْثَى فَصَاعِدًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَجُمْلَةُ الْهَدْيِ ضَرْبَانِ : وَاجِبٌ وَغَيْرُ وَاجِبٍ ؛ فَأَمَّا غَيْرُ الْوَاجِبِ فَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى خِيَارِهِ ، وَأَمَّا الْوَاجِبُ فَضَرْبَانِ : ضَرْبٌ وَجَبَ بِالشَّرْعِ ، وَضَرْبٌ وَجَبَ بِالنَّذْرِ . فَأَمَّا الْوَاجِبُ بِالشَّرْعِ من الهدي فَهُوَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ هَدْيِ الْإِحْصَارِ ، وَالْمُتْعَةِ ، وَالْقِرَانِ ، وَسَائِرِ الدِّمَاءِ الْوَاجِبَةِ فِي الْحَجِّ إِمَّا لِتَرْكِ مَأْمُورٍ أَوْ لِارْتِكَابِ مَحْظُورٍ ، وَقَدْ فَصَّلْنَا جَمِيعَهَا وَذَكَرْنَا حُكْمَ كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهَا . وَأَمَّا الْوَاجِبُ بِالنَّذْرِ من الهدي فَضَرْبَانِ : مُعَيَّنٌ ، وَغَيْرُ مُعَيَّنٍ . فَأَمَّا الْمُعِينُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُهْدِيَ هَذِهِ الْبَدَنَةَ أَوْ هَذِهِ الْبَقَرَةَ ، أَوْ هَذِهِ الشَّاةَ ، أَوْ هَذَا الثَّوْبَ أَوْ هَذَا الدِّينَارَ ، أَوْ هَذَا الطَّعَامَ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُهْدِيَ مَا عَيَّنَهُ فِي نَذْرِهِ سَوَاءٌ أَكَانَ مِمَّا يَجُوزُ أُضْحِيَةً أَمْ لَا ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُبَدِّلَهُ بِغَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ سَوَاءٌ أَبَدَّلَهُ بِمِثْلِهِ أَوْ فَوْقَهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ بِبَيْعٍ وَلَا هِبَةٍ وَلَا غَيْرِهِ وَإِنْ مَاتَ لَمْ يُورَثْ عَنْهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِذَا عَيَّنَهُ بِنَذْرٍ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ مِلْكِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ بِأَنْ يَبِيعَهُ وَيَشْتَرِيَ بِثَمَنِهِ هَدْيًا غَيْرَهُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي جَوَازِ إِخْرَاجِ الْقِيمَةِ فِي الزَّكَاةِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ مَعَ مَا تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي إِخْرَاجِ الْقِيمَةِ فِي الزَّكَوَاتِ مَا رَوَى سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَهْدَى بُخْتِيًّا فَأُعْطِيَ بِهِ ثَلَاثَمِائَةِ دِينَارٍ ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَهْدَيْتُ بُخْتِيًّا فَأُعْطِيتُ بِهِ ثَلَاثَمِائَةِ دِينَارٍ فَأَبِيعُهُ وَأَشْتَرِي بِثَمَنِهِ بَدَنًا ؟ قَالَ : لَا ، انْحَرْهُ ، فَلَوْ جَازَ بَيْعُهُ بَعْدَ أَنْ تَعَيَّنَ فِي النَّذْرِ لَأَذِنَ فِيهِ : لِأَنَّ الْبُدْنَ أَوْفَرُ عَلَى الْمَسَاكِينِ لَحْمًا مِنَ النَّجِيبِ الَّذِي لَا لَحْمَ فِيهِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مَا تَعَيَّنَ إِيجَابُهُ بِالنَّذْرِ هل يجوز بيعه ؟ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ وَلَا التَّصَرُّفُ فِيهِ ، انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى مَا يَصِيرُ بِهِ وَاجِبًا هدي النذر ؛ وَذَلِكَ ضَرْبَانِ : إِمَّا أَنْ يُوجِبَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ أَوْ بِنِيَّتِهِ ، فَإِنْ أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ فَقَدْ وَجَبَ سَوَاءٌ قَلَّدَهُ وَأَشْعَرَهُ أَمْ لَا وَإِيجَابُهُ بِالْقَوْلِ أَنْ يَقُولَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُهْدِيَ هَذِهِ الْبَدَنَةَ ، وَإِنْ أَوْجَبَهُ بِنِيِّتِهِ وَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ هَذِهِ الْبَدَنَةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِلِسَانِهِ _ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا يُوجَدَ مِنْهُ غَيْرُ النِّيَّةِ فَحَسْبُ ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقَلِّدَ وَيُشْعِرَ أَوْ يَكُونَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُقَلَّدُ وَلَا يُشْعَرُ ، فَهَذَا غَيْرُ وَاجِبٍ وَهُوَ عَلَى أَصْلِ مِلْكِهِ لَا يَلْزَمُهُ هَدْيُهُ ؛ لِأَنَّ الْأَمْوَالَ الْمُخْرَجَةَ فِي الْقُرَبِ لَا تَلْزَمُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ كَالضَّحَايَا وَالْعِتْقِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَضُمَّ إِلَى نِيَّتِهِ التَّقْلِيدَ وَالْإِشْعَارَ وَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ هَدْيَ هَذِهِ الْبَدَنَةِ وَيُقَلِّدَهَا وَيُشْعِرَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِإِيجَابِهَا ، فَفِيهَا قَوْلَانِ ذَكَرَهُمَا أَبُو حَامِدٍ فِي جَامِعِهِ ؛ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ : إِنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ لِمَا ذَكَرْنَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : إِنَّهَا قَدْ وَجَبَتْ وَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا : لِأَنَّ التَّقْلِيدَ وَالْإِشْعَارَ مَعَ النِّيَّةِ عِلْمٌ ظَاهِرٌ كَالْقَوْلِ فَوَجَبَتْ بِهِ كَمَا تَجِبُ بِالْقَوْلِ فَهَذَا حُكْمُ الْهَدْيِ الْمُعَيَّنِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا غَيْرُ الْمُعَيَّنِ هدي النذر فَضَرْبَانِ : مُطْلَقٌ ، وَمُقَيَّدٌ . فَأَمَّا الْمُقَيَّدُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُهْدِيَ كَذَا ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُهْدِيَ مَا سَمَّاهُ سَوَاءٌ جَازَ أُضْحِيَةً أَمْ لَا حَتَّى لَوْ سَمَّى بَيْضَةً لَمْ يَلْزَمْهُ غَيْرُهَا ، فَإِنْ نَوَى هَدْيَ شَيْءٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ بِخِلَافِ الْمُعَيَّنِ قَوْلًا وَاحِدًا . وَأَمَّا الْمُطْلَقُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ لِلَّهِ عَلَيَّ أُهْدِيَ هَدْيًا وَيُطْلِقَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعَيِّنَهُ فِي شَيْءٍ وَلَا يُقَيِّدَهُ لِشَيْءٍ ، فَفِيمَا يَلْزَمُهُ بِهَذَا الْإِطْلَاقِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ ؛ قَالَهُ فِي كِتَابِ " النُّذُورِ " أَنَّهُ يَلْزَمُهُ مَا يَجُوزُ فِي الصَّدَقَةِ مِنَ النَّعَمِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ مِنْ كَثِيرٍ حَتَّى لَوْ أَهْدَى بَيْضَةً أَوْ تَمْرَةً أَجْزَأَهُ : لَأَنَّ اسْمَ الْهَدْيِ يَنْطَلِقُ عَلَى النَّعَمِ وَغَيْرِ النَّعَمِ لُغَةً وَشَرْعًا . أَمَّا اللُّغَةُ : فَلِأَنَّ الْهَدْيَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْهَدِيَّةِ ، وَالْهَدِيَّةُ لَا تَخْتَصُّ بِالنَّعَمِ دُونَ غَيْرِهَا ، وَأَمَّا الشَّرْعُ ؛ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ [ الْمَائِدَةِ : ] ، وَقَدْ يَجِبُ فِي الْجَزَاءِ مَا لَا يَجُوزُ أُضْحِيَةً وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى هَدْيًا ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي التَّبْكِيرِ إِلَى الْجُمُعَةِ : وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنَّهُ يَلْزَمُهُ مِنَ النَّعَمِ مَا يَجُوزُ أُضْحِيَةً وَذَلِكَ الثَّنِيُّ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْمَاعِزِ وَالْجَزَعُ مِنَ الضَّأْنِ ، فَإِنْ أَهْدَى مَا لَا يَجُوزُ أُضْحِيَةً لَمْ يُجْزِهِ ، لِأَنَّ الِاسْمَ الْمُطْلَقَ إِذَا كَانَ لَهُ حَقِيقَةٌ فِي اللُّغَةِ وَمَعْهُودٌ فِي الشَّرْعِ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى مَعْهُودِ الشَّرْعِ دُونَ حَقِيقَةِ اللُّغَةِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ ، وَمَعْهُودُ الشَّرْعِ فِي الْهَدْيِ مَا يَجُوزُ مِنَ النَّعَمِ فِي الْأَضَاحِيِّ دُونَ غَيْرِهَا ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْمُتْعَةِ وَالْإِحْصَارِ : فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [ الْبَقَرَةِ : ] ثُمَّ كَانَ إِطْلَاقُ هَذَا الْهَدْيِ يُوجِبُ إِخْرَاجَ مَا يَجُوزُ أُضْحِيَةً مِنَ النَّعَمِ فَكَذَلِكَ إِطْلَاقُ الْهَدْيِ مِنَ النَّذْرِ ، فَعَلَى هَذَا أَقَلُّ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ شَاةٌ : إِمَّا جَذَعٌ مِنَ الضَّأْنِ أَوْ ثَنِيٌّ مِنَ الْمَعْزِ ، فَلَوْ أَخْرَجَ بَقَرَةً أَوْ بَدَنَةً فَهَلْ يَكُونُ سُبُعُهَا وَاجِبًا أَوْ جَمِيعُهَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهَا وَاجِبًا : لِأَنَّ الْهَدْيَ يَنْطَلِقُ عَلَى الْبَدَنَةِ كَانْطِلَاقِهِ عَلَى الشَّاةِ ، فَلَمْ يَكُنْ تَخْيِيرُهُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا هُوَ أَقَلُّ مِنْهَا مُوجِبًا لِإِسْقَاطِ الْإِيجَابِ فِي بَعْضِهَا كَالْكَفَّارَاتِ ، فَعَلَى هَذَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ شَيْئًا مِنْهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْوَاجِبَ سُبُعُهَا دُونَ مَا بَقِيَ مِنْ سِتَّةِ أَسْبَاعِهَا ؛ لِأَنَّ كُلَّ سُبُعٍ مِنْهَا قَدْ أُقِيمَ مَقَامَ شَاةٍ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ مَا قَابَلَ الشَّاةَ مِنْهَا وَبَاقِيهَا تَطَوُّعٌ ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ سِتَّةِ أَسْبَاعِهَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : إِذَا قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُهْدِيَ هَذِهِ الدَّارَ أَوْ هَذِهِ الْأَرْضَ أَوْ مَالًا يُنْقَلُ مِنَ الْعَقَارَاتِ ؛ فَعَلَيْهِ بَيْعُ ذَلِكَ وَحَمْلُ ثَمَنِهِ إِلَى الْحَرَمِ وَتَفْرِيقُهُ فِي الْمَسَاكِينِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ فَيُحْمَلَ عَلَى نِيَّتِهِ ، فَإِنْ نَوَى أَنْ يُنْفِقَهُ وَيَصْرِفَ عَلَيْهِ فِي مَصَالِحِ الْكَعْبَةِ فَعَلَى ذَلِكَ أَجْزَأَهُ وَإِنْ نَوَى أَنْ يُنْفِقَهُ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فِي مَصْرِفِ غَلَّتِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُنْفِقَهُ وَيَصْرِفَ غَلَّتَهُ فِي مَسَاكِينِ الْحَرَمِ .
مَسْأَلَةٌ يُجْزِئُهُ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى وَلَا يُجْزِئُهُ مِنَ الضَّأْنِ إِلَّا الْجَذَعُ فَصَاعِدًا
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيُجْزِئُهُ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى وَلَا يُجْزِئُهُ مِنَ الضَّأْنِ إِلَّا الْجَذَعُ فَصَاعِدًا . إِذَا نَذَرَ هَدْيًا مِنَ النَّعَمِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ أَجْزَأَهُ أَنْ يُهْدِيَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى ؛ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي اسْمِ الْهَدْيِ ، وَقَدْ رَوَى مِقْسَمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْدَى مِائَةَ بَدَنَةٍ فِيهَا جَمَلٌ لِأَبِي جَهْلٍ عَلَيْهِ بَرَّةٌ مِنَ فِضَّةٍ ، وَاسْمُ الْجُمَلِ يَتَنَاوَلُ الذَّكَرَ دُونَ الْأُنْثَى ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْهَدَايَا اللَّحْمُ ، وَلَحْمُ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى سَوَاءٌ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوَى الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى فِي جَوَازِ الْأُضْحِيَةِ كَذَلِكَ فِي الْهَدَايَا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْحَرَ دُونَ الْحَرَمِ وَهُوَ مَحِلُّهَا ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ، إِلَّا أَنْ يُحْصَرَ فَيَنْحَرَ حَيْثُ أُحْصِرَ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ هَدْيًا فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يُعَيِّنَ مَوْضِعَ نَحْرِهِ أَوْ لَا يُعَيِّنَ ، فَإِنْ عَيَّنَ مَوْضِعَ نَحْرِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُفَرِّقَهُ حَيْثُ عَيَّنَ سَوَاءٌ كَانَ الْمَوْضِعُ الَّذِي عَيَّنَ نَحْرَهُ فِيهِ حِلًّا أَوْ حَرَمًا ، فَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَنْحَرَهُ بِمَكَّةَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْحَرَهُ بِغَيْرِهَا ، وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَنْحَرَهُ بِالْبَصْرَةِ فَإِنْ نَحْرَهُ بِالْبَصْرَةِ أَجْزَأَهُ وَكَانَ أَوْلَى ، وَإِنْ نَحَرَهُ بِغَيْرِ الْبَصْرَةِ وَأُوصِلَ لَحْمُهُ طَرِيًّا إِلَى الْبَصْرَةِ أَجْزَأَهُ بِخِلَافِ مَكَّةَ وَالْحَرَمِ ؛ لِأَنَّ فِي الْحَرَمِ يَسْتَحِقُّ فِيهِ الْإِرَاقَةَ وَالتَّفْرِقَةَ لِوُجُودِ الْقُرْبَةِ فِي الْإِرَاقَةِ ، وَفِي غَيْرِ الْحَرَمِ يَسْتَحِقُّ فِيهِ التَّفْرِقَةَ دُونَ الْإِرَاقَةِ فَلَا يَجُوزُ إِذَا عَيَّنَهُ بِالْبَصْرَةِ أَنْ يُفَرِّقَهُ بِغَيْرِهَا : لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ حَقًّا لِمَسَاكِينِهَا ، فَلَوْ سَاقَهُ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي عَيَّنَهُ فَأُحْصِرَ دُونَهُ جَازَ أَنْ يَنْحَرَهُ حَيْثُ أُحْصِرَ ، وَكَذَلِكَ مَا سَاقَ مَعَهُ مِنَ الدِّمَاءِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ كَدَمِ الْمُتْعَةِ ، وَالْقِرَانِ ، وَدَمِ الطِّيبِ وَاللِّبَاسِ فَأُحْصِرَ دُونَ الْحَرَمِ فَنَحَرَهُ حَيْثُ أُحْصِرَ أَجْزَأَهُ ، لِأَنَّهُ مَحِلُّ إِحْلَالِهِ ، فَهَذَا الْكَلَامَ فِي الْهَدْيِ الَّذِي عَيَّنَ مَوْضِعَ نَحْرِهِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا لَمْ يُعَيِّنْ مَوْضِعَ نَحْرِهِ بَلْ نَذَرَ هَدْيًا مُطْلَقًا فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ إِطْلَاقَ ذَلِكَ يُوجِبُ هَدْيَ مَا يَجُوزُ أُضْحِيَةً مِنَ النَّعَمِ دُونَ غَيْرِهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْحَرَهُ بِمَكَّةَ ؛ لِأَنَّنَا نَجْعَلُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ حُكْمَ الْهَدْيِ الْوَاجِبِ بِالنَّذْرِ كَحُكْمِ الْهَدَايَا الْوَاجِبَةِ فِي الْحَجِّ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ [ الْحَجِّ : ] ، فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ إِطْلَاقَ ذَلِكَ يُجِيزُ هَدْيَ النَّعَمِ وَغَيْرِهَا فَهَلْ يَلْزَمُهُ إِيصَالُهُ إِلَى الْحَرَمِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُجْزِئُهُ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ ، لِأَنَّنَا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ نُجْرِيهِ مَجْرَى الصَّدَقَاتِ الَّتِي تَجُوزُ فِي الْحَرَمِ وَغَيْرِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي - وَهُوَ الصَّحِيحُ - : لَا يُجْزِئُهُ إِلَّا فِي الْحَرَمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ [ الْمَائِدَةِ : ] ، فَجَعَلَ شَرْطًا فِي الْهَدْيِ إِبْلَاغَهُ الْحَرَمَ .
مَسْأَلَةٌ إِذَا كَانَ الْهَدْيُ بَدَنَةً أَوْ بَقَرَةً فَمِنَ السُّنَّةَ تَقْلِيدُهَا وَإِشْعَارُهَا وَإِنْ كَانَتْ شَاةً فَمِنَ السُّنَّةِ تَقْلِيدُهَا دُونَ إِشْعَارِهَا
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ كَانَ الْهَدْيُ بَدَنَةً أَوْ بَقَرَةً حكم تقليدها وإشعارها قَلَّدَهَا نَعْلَيْنِ وَأَشْعَرَهَا وَضَرَبَ شِقَّهَا الْأَيْمَنَ مِنْ مَوْضِعِ السَّنَامِ بِحَدِيدَةٍ : حَتَّى يُدْمِيَهَا وَهِيَ مُسْتَقْبِلَةٌ الْقُبْلَةَ وَإِنْ كَانَتْ شَاةً قَلَّدَهَا خُرْبَ الْقِرَبِ وَلَا يُشْعِرُهَا وَإِنْ تَرَكَ التَّقْلِيدَ وَالْإِشْعَارَ إذا كان الهدي شاة أَجْزَأَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا كَانَ الْهَدْيُ بَدَنَةً أَوْ بَقَرَةً فَمِنَ السُّنَّةَ تَقْلِيدُهَا وَإِشْعَارُهَا وَإِنْ كَانَتْ شَاةً فَمِنَ السُّنَّةِ تَقْلِيدُهَا دُونَ إِشْعَارِهَا سَوَاءٌ كَانَ هَدْيَ إِحْصَارٍ أَوْ غَيْرَهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْإِشْعَارُ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ وَالتَّقْلِيدُ سُنَّةٌ إِلَّا فِي هَدْيِ الْإِحْصَارِ وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْمُثْلَةِ ، وَفِي الْإِشْعَارِ مُثْلَةٌ وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ حكمه وَفِي الْإِشْعَارِ تَعْذِيبٌ لَهَا ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْهَدْيِ لَحْمُهُ وَالْإِشْعَارُ يَهْزِلُهُ وَيُفْسِدُهُ وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ حَتَّى إِذَا أَتَى ذَا
الْحُلَيْفَةَ قَلَّدَ هَدْيَهُ وَأَشْعَرَهُ وَأَحْرَمَ ، وَلِأَنَّ فِي الْإِشْعَارِ أَغْرَاضًا مُسْتَفَادَةً فَجَازَ أَنْ يَكُونَ عِبَادَةً كَالْوَسْمِ ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنْ تَتَمَيَّزَ بِالْإِشْعَارِ عَلَى غَيْرِهَا وَلِتُعْرَفَ إِذَا ضَلَّتْ فَيَسُوقُهَا وَاجِدُهَا وَلِيُؤْمَنَ بِظُهُورِ الْإِشْعَارِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا مَهْدِيًّا وَلِيَحْتَسِبَ اللُّصُوصُ سَرِقَتَهَا وَلِيَتْبَعَهَا الْمَسَاكِينُ عِنْدَ مُشَاهَدَتِهَا . " وَأَمَّا " نَهْيُهُ عَنِ الْمُثْلَةِ في الحيوان " فَإِنَّمَا كَانَ فِي عَامِ أُحُدٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ حِينَ مَثَّلَتْ قُرَيْشٌ بِعَمِّهِ حَمْزَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ - وَقَدْ أَشْعَرَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سَبْعٍ فَعُلِمَ أَنَّ الْإِشْعَارَ لَيْسَ مِنَ الْمُثْلَةِ الَّتِي نَهَى عَنْهَا ، وَأَمَّا نَهْيُهُ عَنْ تَعْذِيبِ الْبَهَائِمِ فَمَخْصُوصٌ فِيمَا لَا غَرَضَ فِيهِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ الْإِشْعَارَ يَهْزِلُهَا فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ : لِأَنَّهُ يَسِيرٌ لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا بِهَا الْوَسْمُ أَشُدُّ عَلَيْهَا .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّقْلِيدَ وَالْإِشْعَارَ كيفيته وحكمه سُنَّةٌ فَالتَّقْلِيدُ هُوَ : أَنْ يُقَلِّدَهَا بِالْحِبَالِ الْمَفْتُولَةِ مِنَ الْمَسَدِ وَغَيْرِهِ وَيَشُدَّ فِيهِ نَعْلٌ أَوْ قِطْعَةٌ مِنْ جِرَابٍ أَوْ قِرْبَةٍ . وَأَمَّا الْإِشْعَارُ فَهُوَ : أَنْ يَضْرِبَ صَفْحَةَ سَنَامِهَا الْأَيْمَنِ بِحَدِيدَةٍ حَتَّى يَدْمَى . وَقَالَ مَالِكٌ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى : يُشْعِرُهَا فِي سَنَامِهَا الْأَيْسَرِ . وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي حَسَّانٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْعَرَ بَدَنَتَهُ فِي الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ ثُمَّ سَلَتِ الدَّمَ عَنْهَا ثُمَّ قَلَّدَهَا نَعْلَيْنِ . قَالَ أَصْحَابُنَا : وَيَسْتَحِبُّ أَنْ يُقَدِّمَ الْإِشْعَارَ عَلَى التَّقْلِيدِ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَنَخْتَارُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ بِهَا الْقِبْلَةَ عِنْدَ إِشْعَارِهَا وَتَقْلِيدِهَا : لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ هَكَذَا فَعَلَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْبَدَنَةِ أَوِ الْبَقَرَةِ سَنَامٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ : أَشْعَرَ مَوْضِعَ سَنَامِهَا ، فَأَمَّا الْغَنَمُ تُرَاجَعُ فَيُقَلِّدُهَا فِي أَعْنَاقِهَا بِنَعْلٍ أَوْ قِطْعَةٍ مِنْ شَنٍّ وَلَا يُشْعِرُهَا : لِأَنَّهَا تَضْعُفُ عَنِ احْتِمَالِهِ .
فَصْلٌ إِذَا قَلَّدَ هَدْيَهُ وَأَشْعَرَ لَمْ يَصِرْ مُحْرِمًا مَا لَمْ يَعْقِدِ الْإِحْرَامَ
فَصْلٌ : فَإِذَا قَلَّدَ هَدْيَهُ وَأَشْعَرَ لَمْ يَصِرْ مُحْرِمًا مَا لَمْ يَعْقِدِ الْإِحْرَامَ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ قَلَّدَ هَدْيَهُ وَلَبَّى صَارَ مُحْرِمًا وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ . وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا قَالَا : يَصِيرُ مُحْرِمًا بِالتَّقْلِيدِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا حَدِيثُ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ زِيَادَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ كَتَبَ إِلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ قَالَ مَنْ أَهْدَى هَدْيًا حَرُمَ عَلَيْهِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْحَاجِّ ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ لَيْسَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ؛ أَنَا قَلَّدْتُ قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِي ثُمَّ قَلَّدَهَا رَسُولُ اللَّهِ بِيَدِهِ ثُمَّ بَعَثَ بِهَا مَعَ أَبِي فَلَمْ يَحْرُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُ حَتَى نَحَرَ الْهَدْيَ .
مَسْأَلَةٌ : ( قَالَ ) : " وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِكَ السَّبْعَةُ فِي الْبَدَنَةِ الْوَاحِدَةِ وَفِي الْبَقَرَةِ كَذَلِكَ ، وَرُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ نَحَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَدَنَةَ بِالْحُدَيْبِيَةِ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ يَجُوزُ اشْتِرَاكُ السَّبْعَةِ فِي الْبَدَنَةِ أَوِ الْبَقَرَةِ سَوَاءٌ كَانُوا مُقَرِّبِينَ قُرَبًا مُتَّفِقَةً أَوْ مُخْتَلِفَةً وَسَوَاءٌ كَانَ بَعْضُهُمْ مُتَقَرِّبًا وَبَعْضُهُمْ غَيْرَ مُتَقَرِّبٍ . وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ كَانُوا مُتَقَرِّبِينَ تَطَوُّعًا جَازَ وَإِنْ كَانُوا مُتَقَرِّبِينَ وَاجِبًا لَمْ يَجُزْ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ كَانَ جَمِيعُهُمْ مُتَقَرِّبِينَ جَازَ ، تَطَوُّعًا كَانَ أَوْ وَاجِبًا ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ مُتَقَرِّبًا وَبَعْضُهُمْ غَيْرَ مُتَقَرِّبٍ لَمْ يَجُزْ وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَالِكِ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَبَحَ عَمَّنِ اعْتَمَرَ مِنْ نِسَائِهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بَقَرَةً بَيْنَهُنُّ . وَرَوَى عَطَاءٌ عَنْ جَابِرٍ قَالَ كُنَّا نَتَمَتَّعُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَشْتَرِكُ السَّبْعَةُ فِي بَدَنَةٍ أَوْ بَقَرَةٍ ، وَلِأَنَّ كُلَّ بَدَنَةٍ جَازَ أَنْ يُهْدِيَهَا الْوَاحِدُ جَازَ أَنْ يُهْدِيَهَا الْجَمَاعَةُ كَالْمُتَطَوِّعِينَ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَةُ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عَلَيَّ بَدَنَةٌ وَأَنَا مُوسِرٌ وَلَا أَجِدُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اذْبَحْ سَبْعَ شِيَاهٍ ؛ فَلَمَّا جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَدَنَةَ وَسَبْعَ الشِّيَاهِ فِي الْحُكْمِ سَوَاءً كَانَ كُلَّ سَبْعٍ مِنْهَا بِإِزَاءِ شَاةٍ فَلَمْ يَضُرَّ اخْتِلَافُ جِهَاتِهِمْ ، وَلِأَنَّ كُلَّ هَدْيٍ جَازَ أَنْ يَشْتَرِكَ فِيهِ السَّبْعَةُ فِي وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ قِيَاسًا عَلَى الْمُتَقَرِّبِينَ إِذَا كَانَتْ وُجُوهُ قُرَبِهِمْ مُخْتَلِفَةً .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ اشْتِرَاكِ السَّبْعَةِ فِي الْبَدَنَةِ نووا بها الواجب فَإِذَا اشْتَرَكُوا فِيهَا نَظَرْتَ فِي أَحْوَالِهِمْ فَإِنَّهَا لَا تَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونُوا مُتَقَرِّبِينَ عَنْ وَاجِبٍ عَلَيْهِمْ فَإِذَا ذَبَحُوهَا وَنَوَوْا بِهَا الْوَاجِبَ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْهُمْ وَعَلَيْهِمْ تَسْلِيمُهُ إِلَى الْفُقَرَاءِ مَذْبُوحًا فَإِذَا قَبَضُوهُ مُشَاعًا جَازَ أَنْ يَتَصَرَّفُوا فِيهِ كَيْفَ شَاءُوا وَأَقَلُّ مَا يُجْزِئُ أَنْ يَدْفَعَ كُلٌّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ سَهْمَهُ إِلَى ثَلَاثَةٍ فَإِنْ دَفَعُوهُ إِلَى وَاحِدٍ وَعِشْرِينَ فَقِيرًا لِيَكُونَ كُلُّ سَبْعٍ مِنْهَا مَدْفُوعًا إِلَى ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ أَجْزَأَ وَإِنْ دَفَعُوهُ إِلَى ثَلَاثَةٍ فَإِنْ قَصَدُوا أَنَّ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ السَّبْعَةِ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ أَجْزَأَهُ : لِأَنَّ مَنْ أَخَذَ مِنْ كَفَّارَةٍ جَازَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ غَيْرِهَا وَإِنْ أَطْلَقُوهُ لَمْ يَجُزْ .
وَالْقِسْمُ الثُّانِي : أَنْ يَكُونُوا مُتَقَرِّبِينَ عَنْ وَاجِبٍ وَتَطَوُّعٍ السبعة يشتركون في بدنة فَإِنْ لَمْ يُرِدِ الْمُتَطَوِّعُ مِنْهُمْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ نَصِيبِهِ شَيْئًا خَلَّوْا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْفُقَرَاءِ مَذْبُوحَةً عَلَى مَا مَضَى ، فَإِنْ أَرَادَ الْمُتَطَوِّعُ مِنْهُمْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ تَطَوُّعِهِ شَيْئًا خَلَّا الْمُعْتَرِضُونَ بَيْنَ حِصَصِهِمْ وَبَيْنَ الْفُقَرَاءِ وَكَانَ هَذَا الْمُتَطَوِّعُ شَرِيكًا لَهُمْ فِيمَا يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَهُ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِيمَا بَعْدُ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ مُتَقَرِّبًا وَبَعْضُهُمْ يُرِيدُ حِصَّتَهُ لَحْمًا السبعة يشتركون في بدنة فَيَنْبَغِي لِمَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُتَقَرِّبًا أَنْ يُسَلِّمَ حِصَّتَهُ مُشَاعَةً إِلَى ثَلَاثَةِ فُقَرَاءَ وَيَكُونَ مَنْ أَرَادَ حِصَّتَهُ لَحْمًا شَرِيكًا لَهُمْ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ ، فَإِذَا أَرَادُوا قِسْمَةَ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ الْقِسْمَةَ إِقْرَارُ حَقٍّ وَتَمْيِيزُ نَصِيبٍ جَازَ أَنْ يَقْتَسِمُوا ذَلِكَ لَحْمًا طَرِيًّا وَزْنًا وَجُزَافًا ، وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ الْقِسْمَةَ بَيْعٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْتَسِمُوا ذَلِكَ جُزَافًا وَلَا وَزْنًا وَالطَّرِيقُ إِلَى قِسْمَتِهِ بَيْنَهُمْ أَحَدُ وَجْهَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَتْرُكُوا ذَلِكَ حَتَّى يَصِيرَ لَحْمًا يَابِسًا ثُمَّ يَقْتَسِمُوهُ وَزْنًا ، وَإِمَّا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي الْحَالِ سَبْعَ حِصَصٍ وَيَأْتِيَ كُلٌّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلَى حِصَّتِهِ مِنْهَا فَيَشْتَرِيَ مِنْ شُرَكَائِهِ حَقَّهُمْ مِنْ تِلْكَ الْحِصَّةِ بِدِرْهَمٍ مَعْلُومٍ فَتَصِيرَ الْحِصَّةُ كُلُّهَا لَهُ وَعَلَيْهِ ثَمَنُ مَا لِشُرَكَائِهِ فِيهَا وَيَفْعَلَ كَالْوَاحِدِ مِنْهُمْ كَذَلِكَ فَتَصِيرَ كُلُّ حِصَّةٍ لِوَاحِدٍ وَعَلَيْهِ لِشُرَكَائِهِ ثَمَنُ حُقُوقِهِمْ مِنْهَا ثُمَّ يُبَرِّئَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
فَصْلٌ : إِذَا اشْتَرَكَ اثْنَانِ فِي شَاةٍ عَنْ قِرَانٍ أَوْ تَمَتُّعٍ لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّ عَلَى كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِقِرَانِهِ شَاةً فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِكَا فِي شَاةٍ ، ثُمَّ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : عَلَى كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاةٌ كَامِلَةٌ وَيَكُونُ مَا اشْتَرَكَا فِيهِ مِنَ الشَّاةِ تَطَوُّعًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ أَصَحُّ : عَلَى كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ شَاةٍ وَيَكُونُ مَا اشْتَرَكَا فِيهِ وَاجِبًا فَيَصِيرُ كُلٌّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مُخْرِجًا لِشَاةٍ مُنَصَّفَةٍ مِنْ شَاتَيْنِ .
مَسْأَلَةٌ إِنْ كَانَ الْهَدْيُ نَاقَةً فَنَتَجَتْ سِيقَ مَعَهَا فَصِيلُهَا
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ كَانَ الْهَدْيُ نَاقَةً فَنَتَجَتْ سِيقَ مَعَهَا فَصِيلُهَا . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا سَاقَ الْمُحْرِمُ هَدْيًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُوجِبَهُ عَلَى نَفْسِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ لَا يُوجِبَهُ عَلَى نَفْسِهِ ، فَإِنْ لَمْ يُوجِبْهُ عَلَى نَفْسِهِ وَلَكِنْ سَاقَهُ حَتَّى إِنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ أَخْرَجَهُ ، فَهَذَا الْهَدْيُ عَلَى مِلْكِهِ ، لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ بِبَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْهَدْيُ بَدَنَةً فَنَتَجَتْ فَصِيلًا أَوَشَاةً فَنَتَجَتْ جَدْيًا كَانَ النَّتَاجُ عَلَى مِلْكِهِ ، وَإِنْ أَوْجَبَ الْهَدْيَ عَلَى نَفْسِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُوجِبَهُ بِالنَّذْرِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُهْدِيَ هَذِهِ الْبَدَنَةَ فَتَصِيرَ وَاجِبَةً بِالنَّذْرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِلْوُجُوبِ تَعَلُّقٌ بِذِمَّتِهِ ، فَهَذِهِ الْبَدَنَةُ قَدْ خَرَجَتْ مَنْ مِلْكِهِ بِالنَّذْرِ وَصَارَتْ
مَلِكًا لِلْمَسَاكِينِ وَهُوَ عَلَيْهَا أَمِينٌ فَإِنْ نَتَجَتْ فِي الطَّرِيقِ لَزِمَهُ أَنْ يَسُوقَ النَّتَاجَ مَعَهَا : لِأَنَّهُ تَبَعٌ لَهَا ، كَذَلِكَ الْأَمَةُ إِذَا أُعْتِقَتْ ، فَإِنْ كَانَ النَّتَاجُ لَا يَبْلُغُ بِنَفْسِهِ حَمَلَهُ عَلَى أُمِّهِ فَإِنْ غَابَ الْهَدْيُ فِي الطَّرِيقِ لَمْ يَضْمَنْهُ وَأَجْزَأَهُ أَنْ يَنْحَرَهُ مَعِيبًا ، لِأَنَّ حُدُوثَ الْعَيْبِ كَانَ فِي مِلْكِ الْمَسَاكِينِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَعَلَّقَ لَهُمْ بِذِمَّتِهِ ضَمَانٌ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يُوجِبَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنْ يُعَيِّنَهُ عَنْ وَاجِبٍ فِي ذِمَّتِهِ ؛ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِي ذِمَّتِهِ هَدْيٌ وَاجِبٌ فَيَقُولَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُهْدِيَ هَذِهِ الْبَدَنَةَ عَمَّا عَلَيَّ وَفِي ذِمَّتِي مِنَ الْهَدْيِ الْوَاجِبِ ؛ فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ تَعَيَّنَ وُجُوبُهَا عَلَيْهِ وَلَزِمَهُ أَنْ يَهْدِيَهَا بِعَيْنِهَا وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُبَدِّلَهَا بِغَيْرِهَا ؛ كَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ عِتْقُ رَقَبَةٍ فَقَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُعْتِقَ هَذَا الْعَبْدَ عَمَّا عَلَيَّ ، لَزِمَهُ عِتْقُهُ وَلَمْ يُجْزِهِ غَيْرُهُ . فَإِذَا ثَبَتَ تَعْيِينُ هَذِهِ الْبَدَنَةِ عَلَيْهِ بَدَلًا مِمَّا فِي ذِمَّتِهِ ، فَإِنْ وَصَلَتْ إِلَى الْمَسَاكِينِ سَالِمَةً أَجْزَأَتْهُ وَإِنْ عَابَتْ قَبْلَ وُصُولِهَا إِلَيْهِمْ لَمْ يُجْزِهِ أَنْ يُهْدِيَهَا مَعِيبَةً عَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ وَلَزِمَهُ أَنْ يُهْدِيَ سَلِيمَةً بَدَلَهَا لِتُكُونَ نَائِبَةً عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُهْدِيَهَا بَعْدَ عَيْبِهَا وَلَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا بِمَا شَاءَ مِنْ بَيْعٍ وَغَيْرِهِ : لِأَنَّهُ إِنَّمَا كَانَتْ قَدْ تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ : لِأَنَّهَا مَعَ سَلَامَتِهَا قَدْ كَانَتْ تُجْزِئُهُ عَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ ، فَإِذَا عَابَتْ زَالَ عَنْهَا مَعْنَى الْإِجْزَاءِ فَزَالَ عَنْهَا مَعْنَى الْوُجُوبِ ، فَلَوْ كَانَتْ عَلَى سَلَامَتِهَا فَنَتَجَتْ فَصِيلًا ، فَهَلْ يَكُونُ مِلْكًا لِلْمَسَاكِينِ يَلْزَمُهُ أَنْ يَسُوقَهُ مَعَهَا أَوْ يَكُونُ مَلِكًا لَهُ يَتَصَرَّفُ فِيهِ كَيْفَ شَاءَ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لِلْمَسَاكِينِ وَعَلَيْهِ أَنْ يَسُوقَهُ مَعَهَا ؛ لِأَنَّهَا قَدْ خَرَجَتْ عَنْ مِلْكِهِ بِالتَّعْيِينِ فَوَجَبَتْ أَنْ لَا يَمْلِكَ نَتَاجَهَا كَالَّتِي خَرَجَتْ مِنْ مِلْكِهِ بِالنَّذْرِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ مِلْكُهُ وَلَا يَلْزَمُهُ سَوْقُهُ كَالْأُمِّ ، لِأَنَّ مَا وَجَبَ فِي ذِمَّتِهِ مِنْ حَقِّ الْمَسَاكِينِ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ فِيهَا ؛ إِذْ قَدْ تَعَيَّنَتْ فَلَا يَسْقُطُ الْوُجُوبُ فِيهَا فَلَمْ يَكُنِ النَّتَاجُ تَابِعًا لَهَا .
فَصْلٌ : فَأَمَّا لَبَنُ الْهَدْيِ الإنتفاع به فَلَيْسَ لَهُ شُرْبُهُ وَلَا سَقْيُ أَحَدٍ مِنْهُ إِلَّا بَعْدَ رَيِّ فَصِيلِهَا فَإِذَا ارْتَوَى الْفَصِيلُ مِنْ لَبَنِهَا جَازَ أَنْ يَشْرَبَهُ وَيَسْقِيَ النَّاسَ مِنْهُ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ ، فَإِنْ قِيلَ مَا الْفَرْقُ بَيْنَ اللَّبَنِ وَالنَّتَاجِ حَيْثُ جَازَ أَنْ تَشْرَبَ اللَّبَنَ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤْكَلَ النَّتَاجُ وَكُلَاهُمَا حَادِثٌ مِنْهَا ؟ قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اللَّبَنَ يَسْتَخْلِفُ مَعَ الْأَوْقَاتِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ النِّتَاجُ . وَالثَّانِي : إِنَّ فِي تَبْقِيَةِ اللَّبَنِ إِلَى بُلُوغِ مَحِلِّهِ فَسَادًا لَهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ النَّتَاجُ .
فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ وَيَرْكَبُ الْهَدْيَ إِنِ اضْطُرَّ إِلَيْهِ رُكُوبًا غَيْرَ قَادِحٍ وَيُحْمَلُ الْمُضْطَرُّ عَلَيْهَا لِرِوَايَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رُكُوبِ الْهَدْيِ فَقَالَ : " ارْكَبْهَا
بِالْمَعْرُوفِ إِذَا أُلْجِئْتَ إِلَيْهَا حَتَّى تَجِدَ ظَهْرًا " وَكَذَلِكَ لَوْ رَكِبَهَا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ جَازَ مَا لَمْ يَضُرَّ بِهَا سَوَاءٌ كَانَ وَاجِبًا أَوْ تَطَوُّعًا ؛ لِرِوَايَةِ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً فَقَالَ ارْكَبْهَا ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ : إِنَّهَا بَدَنَةٌ فَقَالَ : ارْكَبْهَا وَيْلَكَ ! فَلَوْ رَكِبَهَا غَيْرَ مُضْطَرٍّ فَأَعْجَفَهَا غُرِّمَ قِيمَةَ مَا نَقَصَهَا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَتُنْحَرُ الْإِبِلُ قِيَامًا مَعْقُولَةً وَغَيْرَ مَعْقُولَةٍ ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ نَحَرَهَا بَارِكَةً ، وَيُذْبَحُ الْبَقَرُ وَالْغَنَمُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ مِنَ السُّنَّةِ فِي الْإِبِلِ أَنْ تُنْحَرَ فِي لَبَّتِّهَا قِيَامًا . وَقَالَ عَطَاءٌ : تُنْحَرُ بَارِكَةً . وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ [ الْحَجِّ : ] ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ صَوَافِيَ ؛ يَعْنِي : قِيَامًا عَلَى ثَلَاثٍ ثُمَّ قَالَ : فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا [ الْحَجِّ : ] ، يَعْنِي : سَقَطَتْ جُنُوبُهَا ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا إِذَا نُحِرَتْ قِيَامًا : لِأَنَّهَا تَسْقُطُ مِنِ قِيَامٍ ، وَيُخْتَارُ أَنْ تُعْقَلَ يَدُهَا الْيُسْرَى لِتَقُومَ عَلَى ثَلَاثَةٍ ؛ لِرِوَايَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحَرَ بَدَنَةً قِيَامًا مَعْقُولَةً يَدُهَا الْيُسْرَى فَإِنْ نَحَرَهَا بَارِكَةً أَجْزَأَهُ . فَأَمَّا الْبَقَرُ وَالْغَنَمُ فَالسُّنَّةُ فِيهَا أَنْ يَذْبَحَهَا فِي حَلْقِهَا مَضْجُوعَةً عَلَى جَنْبِهَا الْأَيْسَرِ فَإِنْ ذَبَحَهَا قَائِمَةً أَجْزَأَ وَقَدْ أَسَاءَ .
مَسْأَلَةٌ إِنْ ذَبَحَ الْإِبِلَ وَنَحَرَ الْبَقَرَ وَالْغَنَمَ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ وَكَرِهه الشافعي
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " فَإِنْ ذَبَحَ الْإِبِلَ وَنَحَرَ الْبَقَرَ وَالْغَنَمَ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ وَكَرِهْتُهُ لَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ السُّنَّةَ فِي الْإِبِلِ نَحْرُهَا فِي اللَّبَّةِ وَفِي الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ ذَبْحُهَا فِي الْحَلْقِ ، فَإِنْ خَالَفَ السُّنَّةَ فَذَبَحَ الْإِبِلَ وَنَحَرَ الْبَقَرَ وَالْغَنَمَ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ وَقَدْ أَسَاءَ . وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ نَحَرَ الْبَقَرَ وَالْغَنَمَ جَازَ وَإِنْ ذَبَحَ الْإِبِلَ لَمْ يَجُزْ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى أَنْ تُعْقَرَ الْإِبِلُ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ ، [ الْمَائِدَةِ : ] ، وَالتَّذْكِيَةُ فِي كَلَامِهِمُ : الْقَطْعُ : وَلِأَنَّ كُلَّ مَا جَازَ نَحْرُهُ جَازَ ذَبْحُهُ كَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ ذَكَاةً فِي الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ كَانَ ذَكَاةً فِي الْإِبِلِ كَالنَّحْرِ ، فَأَمَّا نَهْيُهُ عَنْ عَقْرِ الْإِبِلِ فَإِنَّمَا خُرِّجَ عَلَى مَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَفْعَلُهُ مِنْ عَقْرِ الْإِبِلِ فِي أَرْجُلِهَا قَبْلَ نَحْرِهَا ، فَأَمَّا هَذَا فَلَيْسَ بِعَقْرٍ وَإِنَّمَا هُوَ ذَكَاةٌ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : فَإِنْ كَانَ مُعْتَمِرًا نَحَرَهُ بَعْدَ مَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَيَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ قَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ عِنْدَ الْمَرْوَةِ ، وَحَيْثُ نَحَرَ مِنْ فِجَاجِ مَكَّةَ أَجْزَأَهُ ، وَإِنْ كَانَ حَاجًّا نَحَرَهُ بَعْدَ مَا يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ قَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ ، وَحَيْثُ نَحَرَ مِنْ شَاةٍ أَجْزَأَهُ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : السُّنَّةُ فِي نَحْرِ الْهَدْيِ مكانه للحاج والمعتمر أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْإِحْلَالِ ، فَإِنْ كَانَ مُعْتَمِرًا نَحَرَهُ عِنْدَ الْمَرْوَةِ بَعْدَ سَعْيِهِ وَقَبْلَ حِلَاقِهِ : لِأَنَّهُ يَتَحَلَّلُ مِنْ عُمْرَتِهِ عِنْدَ الْمَرْوَةِ ، وَإِنْ كَانَ حَاجًّا نَحَرَهُ بِمِنًى بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَقَبْلَ الْحَلْقِ : لِأَنَّهُ مَوْضِعُ إِحْلَالِهِ الْأَوَّلِ مِنْ حَجِّهِ ، فَلَوْ نَحَرَ الْمُعْتَمِرُ بِمِنًى وَنَحَرَ الْحَاجُّ عِنْدَ الْمَرْوَةِ أَوْ نَحَرَا مَعًا فِي مَوْضِعٍ مِنْ فِجَاجِ مَكَّةَ أَوْ فِي سَائِرِ الْحَرَمِ أَجْزَأَهُمَا وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يُجْزِئُ الْمُعْتَمِرَ أَنْ يَنْحَرَ إِلَّا عِنْدَ الْمَرْوَةِ وَلَا الْحَاجَّ أَنْ يَنْحَرَ إِلَّا بِمِنًى . وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وَمَزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ وَفِجَاجُ مَكَّةَ كُلُّهَا مَنْحَرٌ ، وَلِأَنَّهُ مَوْضِعٌ مِنَ الْحَرَمِ فَجَازَ نَحْرُ الْهَدْيِ فِيهِ قِيَاسًا عَلَى مِنًى فِي الْحَجِّ وَالْمَرْوَةِ فِي الْعُمْرَةِ .
فَصْلٌ زَمَانُ النَّحْرِ
فَصْلٌ : فَأَمَّا زَمَانُ النَّحْرِ فَالْهَدْيُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ عَنْ وَاجِبٍ فِي الذِّمَّةِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا عَنْ نَذْرٍ مِنْ غَيْرِ تَعَلُّقٍ بِالذِّمَّةِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ تَطَوُّعًا . فَإِنْ كَانَ عَنْ وَاجِبٍ فِي الذِّمَّةِ زمان نحره كَدَمِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ وَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ جُبْرَانًا فِي الْحَجِّ فَالْمُخْتَارُ أَنْ يَنْحَرَهَا فِي يَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ الثَّلَاثَةِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ آخِرِهَا فَإِنْ نَحَرَهَا قَبْلَ هَذَا الزَّمَانِ أَجْزَأَ وَكَانَتْ تَعْجِيلًا . قَالَ الشَّافِعِيُّ : مَنْ قَالَ إِنَّ عَلَى النَّاسِ فَرْضَيْنِ : أَحَدُهُمَا : عَلَى الْأَبْدَانِ فَلَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الْوَقْتِ وَفَرْضٌ مِنَ الْأَمْوَالِ فَيَكُونُ قَبْلَ الْوَقْتِ ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الْهَدْيُ تَطَوُّعًا زمان نحره لَمْ يُجْزِهِ أَنْ يَنْحَرَهُ إِلَّا فِي يَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَإِنْ نَحَرَ قَبْلَ ذَلِكَ أَوْ بَعْدَهُ لَمْ يُجْزِهِ : لِأَنَّهُ كَالضَّحَايَا ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الْهَدْيُ وَاجِبًا عَنْ نَذْرٍ تَعَيَّنَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالذِّمَّةِ زمان نحره فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْحَرَهُ إِلَّا فِي أَيَّامِ النَّحْرِ وَقَدْ أَشَارَ الشَّافِعِيُّ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْمُخْتَصَرِ إِلَى أَنَّهُ إِنْ نَحَرَهُ قَبْلَ أَيَّامِ النَّحْرِ أَوْ بَعْدَهَا أَجْزَأَهُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَمَا كَانَ مِنْهَا تَطَوُّعًا أَكَلَ مِنْهَا لِقَوْلِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَكَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ لَحْمِ هَدْيِهِ وَأَطْعَمَ وَكَانَ هَدْيُهُ تَطَوُّعًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَجُمْلَةُ الْهَدَايَا ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ : ضَرْبٌ وَجَبَ فِي الْحَجِّ جُبْرَانًا ، وَضَرْبٌ وَجَبَ نَذْرًا ، وَضَرْبٌ سَاقَهُ تَطَوُّعًا .
فَأَمَّا الْوَاجِبُ فِي الْحَجِّ جُبْرَانًا الأكل من هديه وَهُوَ : مَا وَجَبَ لِتَرْكِ مَأْمُورٍ بِهِ أَوْ فِعْلِ مَنْهِيٍّ عَنْهُ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ شَيْءٍ مِنْهُ بِحَالٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ مِنَ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ دُونَ مَا سِوَاهُمَا : لِأَنَّهُمَا عِنْدَهُ نُسُكٌ لَا جُبْرَانٌ . وَقَالَ مَالِكٌ : يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ جَمِيعِ الدِّمَاءِ الْوَاجِبَةِ إِلَّا مِنْ دَمَيْنِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُمَا وَهُمَا جَزَاءُ الصَّيْدِ وَفِدْيَةُ الْأَذَى ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ مِنْ قَبْلُ ، ثُمَّ نَقِيسُ مَا خَالَفُوا فِيهِ عَلَى مَا أَجْمَعُوا هَاهُنَا عَلَيْهِ فَنَقُولُ : لِأَنَّهُ دَمٌ وَجَبَتْ إِرَاقَتُهُ فِي حَجٍّ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ كَجَزَاءِ الصَّيْدِ : وَلِأَنَّ الدَّمَ أَحَدُ نَوْعَيْ مَا يَقَعُ بِهِ التَّكْفِيرُ فِي الْإِحْرَامِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ كَالطَّعَامِ يَعْنِي : الْحِنْطَةُ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ فَأَكَلَ كَانَ ضَامِنًا لَهُ وَفِي كَيْفِيَّةِ ضَمَانِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهُمَا : أَنْ يَضْمَنَ قِيمَتَهُ وَرِقًا ، لِأَنَّهُ أَتْلَفَ عَلَى الْمَسَاكِينِ مَا لَا مِثْلَ لَهُ فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : عَلَيْهِ بِقَدْرِ وَزْنِهِ لَحْمًا ، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ عَلَيْهِ وَأَسْهَلُ وَأَنْفَعُ لِلْمَسَاكِينِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَبِرَ مَا أَكَلَهُ مِنَ اللَّحْمِ كَمْ هُوَ مِنَ الْهَدْيِ أَنِصْفٌ أَمْ ثُلْثٌ ؟ فَيَلْزَمُهُ مِثْلُهُ مِنَ الْحَيَوَانِ الْحَيِّ .
فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الْهَدْيُ نَذْرًا الأكل منه فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ الْمُجَازَاةِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي أَوْ قَدِمَ غَائِبِي أَوْ سَلِمَ مَالِي فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُهْدِيَ هَذِهِ الْبَدَنَةَ ، فَهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ : لِأَنَّهُ جَارٍ مَجْرَى الْبَدَلِ فَشَابَهَ الْجُبْرَانَ ، فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ كَانَ ضَامِنًا عَلَى مَا مَضَى . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ النَّذْرُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْمُجَازَاةِ وَإِنَّمَا هُوَ تَبَرُّرٌ : أَنْ يَقُولَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُهْدِيَ هَذِهِ الْبَدَنَةَ فَهَذَا عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَاجِبٌ كَوُجُوبِ الْمُجَازَاةِ ، وَهَلْ يَجُوزُ عَلَى هَذَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ كَالنَّذْرِ عَلَى وَجْهِ الْمُجَازَاةِ وَهَذَا أَشْبَهُ بِمَنْصُوصِ الشَّافِعِيِّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ : لِأَنَّهُ مُتَطَوِّعٌ بِإِيجَابِهِ فَصَارَ كَالتَّطَوُّعِ مِنْ غَيْرِ إِيجَابٍ .
فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الْهَدْيُ تَطَوُّعًا الأكل منه فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ ؛ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا ، [ الْحَجِّ : ] ، وَرَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْدَى
مِائَةَ بَدَنٍ فَقَدِمَ عَلِيٌّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي الْيَمَنِ فَأَشْرَكَهُ رَسُولُ اللَّهِ بِالثُّلْثِ فَنَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ سِتًّا وَسِتِّينَ بَدَنَةً وَأَمَرَ عَلِيًّا فَنَحَرَ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ ثُمَّ أَمَرَ مِنْ كُلِّ جَزُورٍ بِنِصْفِهِ فَجُعِلَتْ فِي قِدْرٍ فَأَكَلَا مِنَ الْفَحْمِ وَحَسَوْا مِنَ الْمَرَقِ " فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ أَكْلِهِ مِنْهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُطْعِمَ الْفُقَرَاءَ مِنْهُ فَيَكُونَ أَكْلُهُ مُبَاحًا وَإِطْعَامُ الْفُقَرَاءِ وَاجِبًا . وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ : إِطْعَامُ الْفُقَرَاءِ مُبَاحٌ كَالْأَكْلِ فَإِنْ أَكَلَ جَمِيعَهَا جَازَ ، وَقَالَ أَبُو حَفْصِ بْنُ الْوَكِيلِ : الْأَكْلُ وَاجِبٌ كَإِطْعَامِ الْفُقَرَاءِ ، فَإِنْ أَطْعَمَ جَمِيعَهُ الْفُقَرَاءَ لَمْ يَجُزْ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْأَكْلَ مُبَاحٌ وَالْإِطْعَامَ وَاجِبٌ وَهُوَ أَصَحُّ ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْهَدْيِ الْقُرْبَةُ وَالْقُرْبَةُ فِي إِطْعَامِ الْفُقَرَاءِ دُونَ أَكْلِهِ فِي نَفْسِهِ . فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالْكَلَامُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي فِعْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي الِاسْتِحْبَابِ . وَالثَّانِي : فِي الْإِجْزَاءِ ، فَأَمَّا الِاسْتِحْبَابُ فِي قَدْرِ مَا يَأْكُلُ مِنْهُ فَعَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : هُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ : يَأْكُلُ وَيَدَّخِرُ الثُّلُثَ وَيُهْدِي إِلَى الْمُتَحَمِّلِينَ الثُّلُثَ وَيَتَصَدَّقُ عَلَى الْمَسَاكِينِ بِالثُّلُثِ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ [ الْحَجِّ : ] ، فَاقْتَضَى فَجَعَلَهُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَانِعِ وَالْمُعْتَرِّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : الْقَانِعُ الَذِي يَقْتَنِعُ بِمَا أَخَذَهُ وَلَا يَسْأَلُ ، وَالْمُعْتَرُّ هُوَ الَذِي يَعْتَرِيكَ بِالسُّؤَالِ وَهُوَ الْمُلِحُّ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ : إِنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ يَأْكُلَ وَيَدَّخِرَ النِّصْفَ وَيَتَصَدَّقَ عَلَى الْمَسَاكِينِ بِالنِّصْفِ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ، [ الْحَجِّ : ] .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْكَلَامُ فِي قَدْرِ الْجَائِزِ من أكل هدي التطوع فَإِنْ أَكَلَ جَمِيعَهُ إِلَّا رِطْلًا وَاحِدًا تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ أَجْزَأَهُ وَإِنْ تَصَدَّقَ بِجَمِيعِهِ إِلَّا رِطْلًا وَاحِدًا أَكَلَهُ أَجْزَأَهُ وَإِنْ تَصَدَّقَ بِجَمِيعِهِ وَلَمْ يَأْكُلْ شَيْئًا مِنْهُ أَجْزَأَهُ وَإِنْ أَكَلَ جَمِيعَهُ وَلَمْ يَتَصَدَّقْ بِشَيْءٍ مِنْهُ لَمْ يُجْزِهِ وَكَانَ ضَامِنًا ، وَفِي قَدْرِ مَا يَضْمَنُهُ من الهدى للفقراء وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَضْمَنَ مِنْهُ قَدْرَ الْجَائِزِ وَهُوَ الْقَلِيلُ الَّذِي لَوْ تَصَدَّقَ بِهِ أَجْزَأَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَضْمَنُ مِنْهُ قَدْرَ الِاسْتِحْبَابِ ، وَفِي قَدْرِ الِاسْتِحْبَابِ قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى . أَحَدُهُمَا : النِّصْفُ . وَالثَّانِي : الثُّلُثُ ، ثُمَّ إِذَا لَزِمَهُ ضَمَانُ قَدْرٍ مِنْهُ فَفِي كَيْفِيَّةِ ضَمَانِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ مَضَتْ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَا عَطِبَ مِنْهَا هدي التطوع نَحَرَهَا وَخَلَّى بَيْنَهَا وَبَيْنَ
الْمَسَاكِينِ وَلَا بَدَلَ عَلَيْهِ فِيهَا وَمَا كَانَ وَاجِبًا مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ أَوْ غَيْرِهِ فَلَا يَأْكُلُ مِنْهَا شَيْئًا ، فَإِنْ أَكَلَ فَعَلَيْهِ بِقَدْرِ مَا أَكَلَ لِمَسَاكِينِ الْحَرَمِ وَمَا عَطِبَ مِنْهَا فَعَلَيْهِ مَكَانُهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْهَدْيِ إِذَا بَلَغَ مَحِلَّهُ ، فَأَمَّا إِذَا عَطِبَ فِي طَرِيقِهِ وَضَعُفَ عَنْ بُلُوغِ مَحِلِّهِ الهدي التطوع بِمَرَضٍ أَوْ عَرَجٍ أَوْ زَمَانَةٍ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ تَطَوُّعًا . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا فِي الدِّقَّةِ كَدِمَاءِ الْحَجِّ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا لَا يَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ كَالنَّذْرِ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْهَدْيُ تَطَوُّعًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْحَرَهُ فِي مَوْضِعِهِ وَيَغْمِسَ نَعْلَيْهِ فِي دَمِهِ وَيَضْرِبَهَا عَلَى صَفْحَتِهِ وَيُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَسَاكِينِ الْمَوْضِعِ وَيُنَادِيَ فِيهِمْ بِإِبَاحَتِهِ ، وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِمَا رَوَى سِنَانُ بْنُ سَلَمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ ذُؤَيْبًا أَبَا قَبِيصَةَ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَبْعَثُ مَعَهُ بِالنَّذْرِ ثُمَّ يَقُولُ إِنْ عَطِبَ مِنْهَا شَيْءٌ فَخَشِيتَ عَلَيْهِ مَوْتًا فَانْحَرْهَا ثُمَّ اغْمِسْ نَعْلَكَ فِي دَمِهَا ثُمَّ اضْرِبْهُ صَفْحَتَهَا وَلَا تَطْعَمْهَا أَنْتَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِكَ ، فَإِذَا فَعَلَ بِالْهَدْيِ مَا ذَكَرْنَا وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ : النَّحْرُ ، وَغَمْسُ نَعْلَيْهِ بِدَمِهِ ، وَالنِّدَاءُ عَلَيْهِ ، وَالتَّخْلِيَةُ بَيْنَ مَسَاكِينِ الْمَوْضِعِ وَبَيْنَهُ - فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ غَنِيًّا كَانَ أَوْ فَقِيرًا وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَغْنِيَاءِ أَهْلِ رُفْقَتِهِ ، فَأَمَّا فُقَرَاءُ رُفْقَتِهِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا أَشْيَاءَ مِنْهُ وَإِنْ كَانُوا فُقَرَاءَ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَلَا تَطْعَمْهَا أَنْتَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِكَ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا فُقَرَاءُ رُفْقَتِهِ لِأَنَّ بِحُصُولِهِمْ بِالْمَوْضِعِ قَدْ صَارُوا مِنْ أَهْلِهِ وَهَذَا قَوْلٌ يَدْفَعُهُ نَصُّ السُّنَّةِ الْمَرْوِيَّةِ وَيُبْطِلُهُ مَعْنَى النَّهْيِ فِي الِاحْتِيَاطِ : لِأَنَّهُ لَوْ رَخَّصَ لِأَهْلِ الرُّفْقَةِ فِي أَكْلِهِ لَجَازَ أَنْ يَتَوَصَّلُوا إِلَى عَطَبِهِ لِيَتَعَجَّلُوا اسْتِبَاحَةَ أَكْلِهِ فَإِذَا مُنِعُوا مِنْ أَكْلِهِ عِنْدَ عَطَبِهِ كَانَ ذَلِكَ دَاعِيَةَ حِفَاظِهِ وَسَبَبَ الِاحْتِيَاطِ فِي إِبْلَاغِهِ ، فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ أَوْ أَكَلَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِهِ كَانَ ضَامِنًا لِقَدْرِ مَا أُكِلَ وَعَلَيْهِ إِبْلَاعُ مَا ضَمِنَهُ الْحَرَمُ ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى إِبْلَاغِهِ الْحَرَمَ بِخِلَافِ الْهَدْيِ الَّذِي قَدْ عَطِبَ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى إِبْلَاغِهِ الْحَرَمَ ، فَإِنْ لَمْ يَأْكُلْ هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِهِ مِنْهُ وَفَعَلَ بِهِ الْأَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ فَلَمْ يَأْكُلْ أَحَدٌ مِنْ مَسَاكِينِ الْمَوْضِعِ مِنْهُ حَتَّى تَغَيَّرَ أَوْ هَلَكَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ : لِأَنَّ عَلَيْهِ تَمْكِينَ أَهْلِ الْمَوْضِعِ مِنْهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْهُ ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَفْعَلْ بِهِ شَيْئًا مِمَّا ذَكَرْنَا فَتَرَكَهُ حَتَّى مَاتَ فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى نَحْرِهِ فَلَمْ يَنْحَرْهُ حَتَّى هَلَكَ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ وَغَرَامَةُ مَثْلِهِ لِمَسَاكِينِ الْحَرَمِ ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى نَحْرِهِ حَتَّى مَاتَ بِعَجَلَةِ هَلَاكِهِ وَسُرْعَةِ مَوْتِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، فَأَمَّا إِنْ نَحَرَهُ وَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَسَاكِينِ وَأَبَاحَ أَكْلَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَصْبُغَ نَعْلَيْهِ بِدَمِهِ أَجْزَأَهُ وَاسْتَبَاحَ الْمَسَاكِينُ أَنْ
يَأْكُلُوهُ لِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُرْطٍ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَعْظَمُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمُ النَّحْرِ ثُمَّ يَوْمُ النَّفْرِ وَقُرِّبَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدَنَاتٌ خَمْسٌ أَوْ سِتٌّ يَنْحَرُهُنَّ فَطَفِقْنَ يَزْدَلِفْنَ إِلَيْهِ أَيَّتُهُنَّ يَبْدَأُ بِهَا فَلَمَّا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا قَالَ كَلِمَةً خَفِيفَةً لَمْ أَفْهَمْهَا فَسَأَلْتُ بَعْضَ مَنْ يَلِينِي مَا قَالَ : قَالُوا قَالَ : " مَنْ شَاءَ اقْتَطَعَ " . فَأَمَّا إِنْ نَحَرَهُ وَغَمَسَ نَعْلَيْهِ فِي دَمِهِ وَضَرَبَهَا عَلَى صَفْحَتِهِ وَلَمْ يُنَادِ فِي النَّاسِ بِهِ وَلَا أَعْلَمَهُمْ بِإِبَاحَتِهِ فَهَلْ يُجْزِئُهُ وَتَسْتَبِيحُ النَّاسُ بِذَلِكَ أَكْلَهُ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ : إِنَّ هَذِهِ عَلَامَةٌ يَسْتَبِيحُ النَّاسُ أَكْلَهُ بِهَا كَالنِّدَاءِ عَلَيْهَا ، فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ يَأْكُلُوهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ . الْقَوْلُ الثَّانِي : قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ الصَّحِيحُ : لَيْسَتْ هَذِهِ عَلَامَةً يُسْتَبَاحُ بِهَا الْأَكْلُ إِلَّا بِالنِّدَاءِ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعَقْدَ قَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَنْ وَاجِبٍ فِي تَطَوُّعٍ يَسْتَبِيحُ النَّاسُ أَكْلَهُ ، وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَنْ وَاجِبٍ فِي ذِمَّتِهِ لَا يَسْتَبِيحُ النَّاسُ أَكْلَهُ ؛ فَلَمْ يَتَمَيَّزْ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ إِلَّا بِالنِّدَاءِ ، فَعَلَى هَذَا وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْهُ النَّاسُ حَتَّى هَلَكَ أَوْ تَغَيَّرَ ضَمَانُهُ لِمَسَاكِينِ الْحَرَمِ ، فَأَمَّا جِلَالُ الْهَدْيِ الَّتِي عَلَيْهَا فَعَلَيْهِ إِيصَالُهَا إِلَى الْحَرَمِ وَتَفْرِيقُهَا فِي مَسَاكِينِهِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ وَلِمَا رَوَى ابْنُ أَبَى لَيْلَى عَنْ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَقُومَ عَلَى بَدَنَةٍ وَأَنْ أُقَسِّمَ جِلَالَهَا وَجُلُودَهَا ، وَرُوِيَ فِي الْحَدِيثِ وَأَلَّا أُعْطِيَ الْجَازِرَ مِنْهَا شَيْئًا ، وَقَالَ : نَحْنُ نُعْطِيهِ مِنْ عِنْدِنَا ، فَهَذَا حُكْمُ هَدْيِ التَّطَوُّعِ إِذَا أَعْطَبَ فِي طَرِيقٍ ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ بَدَلُهُ : لِأَنَّ التَّطَوُّعَ لَمْ يُعَلَّقْ بِذِمَّتِهِ وَقَدْ فَعَلَ فِيهَا مَا أُمِرَ بِهِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْهَدْيُ وَاجِبًا فِي الذِّمَّةِ كَدِمَاءِ الْحَجِّ فَيُعَيِّنَهُ فِي هَدْيٍ بِعَيْنِهِ فَيَقُولُ : هَذَا عَمَّا عَلَيَّ مِنْ هَدْيِ الْمُتْعَةِ أَوِ الْقِرَانِ فَإِنْ عَطِبَ عَلَيْهِ فِي الطَّرِيقِ قَبْلَ بُلُوغِ مَحِلِّهِ فَقَدْ عَادَ إِلَى مِلْكِهِ وَجَازَ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ بِبَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ وَإِنْ نَحَرَهُ كَانَ لَحْمًا عَلَى مِلْكِهِ يَأْكُلُ مِنْهُ إِنْ شَاءَ وَيُطْعِمُ مِنْهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَبِيعُهُ إِنْ شَاءَ ؛ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِالتَّعْيِينِ لِيَكُونَ مُسْقِطًا لِمَا فِي الذِّمَّةِ فَإِذَا غَابَ لَمْ يَسْقُطْ مَا فِي الذِّمَّةِ فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ بِالتَّعْيِينِ كَرَجُلٍ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتِقَ هَذَا الْعَبْدَ عَنْ كَفَّارَتِي فَقَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ عِتْقُهُ فِي كَفَّارَتِهِ ، فَإِنْ غَابَ لَمْ يَلْزَمْهُ عِتْقُهُ : لِأَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ . فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ يَعُودُ إِلَى مِلْكِهِ بِحُدُوثِ الْعَيْبِ وَيَجُوزُ أَنْ يَصْنَعَ فِيهِ مَا شَاءَ مِنْ بَيْعٍ وَغَيْرِهِ فَعَلَيْهِ إِخْرَاجُ بَدَلِهِ : لِأَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ بَاقٍ لِحَالِهِ ، فَإِذَا أَخْرَجَ بَدَلَهُ نَظَرَ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ مِثْلَ قِيمَةِ الْأَوَّلِ أَوْ أَكْثَرَ أَجْزَأَهُ وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ قِيمَةِ الْأَوَّلِ فَهَلْ يُجْزِئُهُ إِخْرَاجُ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْفَضْلِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ : عَلَيْهِ إِخْرَاجُ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْفَضْلِ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى مَسَاكِينِ الْحَرَمِ ، لِأَنَّهُ قَدِ الْتَزَمَ الزِّيَادَةَ بِتَعْيِينِ الْأَوَّلِ .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي : قَالَ فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ الصَّحِيحُ : لَيْسَ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْفَضْلِ : لِأَنَّ حُدُوثَ الْعَيْبِ فِي الْأَوَّلِ قَدْ أَبْطَلَ وُجُوبَهُ فَسَقَطَ حُكْمُهُ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا يَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ كَالنَّذْرِ إِذَا تَعَيَّنَ فِي هَدْيٍ بِقَوْلِهِ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُهْدِيَ هَذِهِ الْبَدَنَةَ فَإِذَا عَطِبَتْ فِي الطَّرِيقِ قَبْلَ بُلُوغِهَا مَحِلَّهَا فَهَلْ عَلَيْهِ بَدَلُهَا أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ وِجْهَتَيْ أَصْحَابِنَا فِي هَذَا النَّذْرِ إِذَا بَلَغَ مَحِلَّهُ : هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ أَمْ لَا ؟ فَإِنْ قِيلَ يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ أَجْرَيْتَ عَلَيْهِ حُكْمَ هَدْيِ التَّطَوُّعِ فَإِذَا عَطِبَ دُونَ مَحِلِّهِ نَحَرَهُ فِي مَوْضِعِهِ وَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَسَاكِينِ الْمَوْضِعِ فَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ بَدَلِهِ ، وَإِنْ قِيلَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ عِنْدَ بُلُوغِ مَحِلِّهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ نَحْرُهُ وَإِنْ نَحَرَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ وَعَلَيْهِ بَدَلُهُ وَالْأَوَّلُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ أَصَحُّ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ عِتْقَ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ فَمَاتَ لَمْ يَلْزَمْهُ ؟ كَذَلِكَ إِذَا نَذَرَ هَدْيًا بِعَيْنِهِ ثُمَّ مَاتَ لَمْ يَلْزَمْهُ بَدَلُهُ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْهَدْيِ إِذَا نَذَرَهُ وَالْعَبْدِ إِذَا نَذَرَ عِتْقَهُ سَوَاءٌ إِلَّا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ ؛ وَهُوَ إِذَا نَذَرَ عِتْقَ عَبْدِهِ فَقَتَلَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ بَدَلُهُ ، وَلَوْ نَذَرَ هَدْيًا فَقَتَلَهُ لَزِمَهُ بَدَلُهُ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ حَقَّ الْمِسْكِينِ قَدْ تَعَلَّقَ بِنَذْرِ الْهَدْيِ فَلَزِمَهُ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْعِتْقِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ بَدَلُهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : إِذَا سَاقَ الْمُحْرِمُ هَدْيًا فَضَلَّ مِنْهُ وضل الطريق فَإِنْ كَانَ فِي عُمْرَةٍ انْتَظَرَ بِهِ أَبَدًا فَإِنْ وَجَدَهُ نَحَرَهُ ، وَإِنْ كَانَ فِي حَجٍّ تَرَبَّصَ بِهِ إِلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَلَا يَفُوتُهُ ذَلِكَ مَا لَمْ تَغِبِ الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِهِ ، وَإِنْ وَجَدَهُ نَحَرَهُ وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمُعْتَمِرُ ذَلِكَ بَعْدَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ وَلَا وَجَدَ الْحَاجُّ ذَلِكَ حَتَّى خَرَجَتْ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ فَهَلْ عَلَيْهِ مِثْلُهُ بَدَلًا أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : عَلَيْهِ بَدَلُهُ ، وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ : لِأَنَّهُ يَضِلُّ بِتَفْرِيطٍ مِنْ سَائْقِهِ وَإِنْ خَفِيَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : قَالَهُ فِي كِتَابِ الضَّحَايَا : لَيْسَ عَلَيْهِ بَدَلُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ مَاتَ لَمْ يَلْزَمْهُ بَدَلُهُ وَهُوَ بِالْمَوْتِ غَيْرُ مَرْجُوٍّ فَإِذَا ضَلَّ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَلْزَمَهُ بَدَلُهُ : لِأَنَّهُ بَعْدَ الضَّلَالِ مَرْجُوٌّ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَبْدَلَهُ ثُمَّ وَجَدَهُ قَالَ الشَّافِعِيُّ : نَحَرَهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَوْجَبَهُ فَلَا يَعُودُ فِي مِلْكِهِ أَبَدًا وَقَدْ أَخْرَجَهُ إِلَى شَيْءٍ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا حَجَّتْ فَأَهْدَتْ بَدَنَتَيْنِ وَقَلَّدَتْهُمَا فَضَلَّتَا فَاشْتَرَتْ مَكَانَهُمَا فَقَلَّدَتْهُمَا ثُمَّ وَجَدَتِ الْأَوَّلَيْنِ ، قَالَ : فَنَحَرَتْهُنَّ أَرْبَعَتَهُنَّ فَكَانَتْ كُلَّمَا حَجَّتْ بَعْدَ ذَلِكَ أَهْدَتْ أَرْبَعًا مِنَ الْبُدْنِ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .
_____كِتَابُ الْبُيُوعِ_____
بَابُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ مِنَ الْمُبَايَعَاتِ وَسُنَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ
بيان الْأَصْلُ فِي إِحْلَالِ الْبُيُوع
ِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابُ الْبُيُوعِ بَابُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ مِنَ الْمُبَايَعَاتِ وَسُنَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) قَالَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَزَّ - : لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [ النِّسَاءِ : ] فَلَمَّا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بُيُوعٍ تَرَاضَى بِهَا الْمُتَبَايِعَانِ اسْتَدْلَلْنَا أَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَزَّ - أَحَلَّ الْبُيُوعَ إِلَّا مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، أَوْ مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : الْأَصْلُ فِي إِحْلَالِ الْبُيُوعِ : كِتَابُ اللَّهِ ، وَسُنَّةُ نَبِيِّهِ ، وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ . فَأَمَّا الْكِتَابُ : فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [ النِّسَاءِ : ] وَقولُهُ سُبْحَانَهُ : ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [ الْبَقَرَةِ : ] وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ [ الْبَقَرَةِ : ] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : نَزَلَتْ فِي السَّلَمِ الأصل فيه . وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [ الْبَقَرَةِ : ] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : نَزَلَتْ فِي إِبَاحَةِ التِّجَارَةِ فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ . أَمَّا السُّنَّةُ : فَقَدْ رُوِيَتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلًا وَفِعْلًا : أَمَّا الْقَوْلُ : فَمَا رَوَى الْأَعْمَشُ ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي غَرَزَةَ ، قَالَ : كُنَّا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نُسَمَّى السَّمَاسِرَةَ ، فَمَرَّ بِنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَمَّانَا بِاسْمٍ هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ ، فَقَالَ : " يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ إِنَّ الْبَيْعَ يَحْضُرُهُ اللَّغْوُ وَالْحَلِفُ ، فَشُوبُوهُ بِالصَّدَقَةِ .
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِصْمَةَ ، أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ ، حَدَّثَهُ أَنَّهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَشْتَرِي بُيُوعًا ، مَا يَحِلُّ لِي مِنْهَا ، وَمَا يَحْرُمُ ؟ قَالَ : " إِذَا اشْتَرَيْتَ بَيْعًا فَلَا تَبِعْهُ حَتَّى تَقْبِضَهُ ، وَلَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ " . فَدَلَّ عَلَى إِبَاحَةِ مَا عَدَا ذَلِكَ . وَرَوَى ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ ، عَنْ أَبِي رَاشِدٍ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِبْلٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " إِنَّ التُّجَّارَ هُمُ الْفُجَّارُ " . قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسَ قَدْ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ ؟ قَالَ : " بَلَى وَلَكِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ فَيَكْذِبُونَ ، وَيَحْلِفُونَ فَيَأْثَمُونَ " . وَرَوَى يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " لَا خَيْرَ فِي التِّجَارَةِ إِلَّا لِمَنْ لَمْ يَمْدَحْ بَيْعًا ، وَلَمْ يَذُمَّ شِرًى ، وَكَسَبَ حَلَالًا فَأَعْطَاهُ فِي حَقِّهِ ، وَعَزَلَ مِنْ ذَلِكَ الْحَلِفَ " . وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " تِسْعَةُ أَعْشَارِ الرِّزْقِ فِي التِّجَارَةِ ، وَالْجُزْءُ الْبَاقِي فِي السَّبَايَا " ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : السَّبَايَا : النِّتَاجُ . وَأَمَّا الْفِعْلُ مِنْ بُيُوعِهِ الَّتِي عَقَدَهَا بِنَفْسِهِ فَكَثِيرَةٌ لَا تُحْصَى عَدَدًا ، غَيْرَ أنَّ الْمَنْقُولَ مِنْهَا مَا اخْتُصَّ بِأَحْكَامٍ مُسْتَفَادَةٍ ، فَمِنْ ذَلِكَ ، مَا رَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ : اشْتَرَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَعْرَابِ حِمْلَ خَبَطٍ ، فَلَمَّا وَجَبَ الْبَيْعُ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " اخْتَرْ " قَالَ الْأَعْرَابِيُّ : عَمْرَكَ اللَّهَ بَيِّعًا . وَرَوَى سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ : جَلَبْتُ أَنَا وَمَخْرَمَةُ الْعَبْدِيُّ بَزًّا مِنْ هَجَرَ ، فَأَتَيْنَا بِهِ مَكَّةَ ، فَجَاءَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاشْتَرَى مِنَّا سَرَاوِيلَ ، وَوَزَّانٌ يَزِنُ بِالْأَجْرِ ، فَقَالَ لِلْوَزَّانِ : " زِنْ وَأَرْجِحْ " .
وَرَوَى عَطَاءٌ ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ : كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفَرٍ عَلَى جَمَلٍ ، إِنَّمَا هُوَ فِي آخِرِ الْقَوْمِ ، فَمَرَّ بِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ : " أَمَعَكَ قَضِيبٌ ؟ " قُلْتُ : نَعَمْ ، فَأَعْطَيْتُهُ ، فَنَخَسَهُ وَزَجَرَهُ ، فَكَانَ فِي أَوَّلِ الْقَوْمِ ، فَقَالَ : " بِعْنِيهِ " قُلْتُ : هُوَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : " بَلْ بِعْنِيهِ " . قَالَ : " قَدْ أَخَذْتُهُ بِأَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ ، وَلَكَ ظَهْرُهُ حَتَى تَأْتِيَ الْمَدِينَةَ " ، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " يَا بِلَالُ اقْضِهِ وَزِدْهُ " . فَأَعْطَاهُ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ وَقِيرَاطًا زَادَهُ ، قَالَ جَابِرٌ : لَا تُفَارِقُنِي زِيَادَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَاعَ لِرَجِلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ شَكَا فَقْرًا قَدَحًا وَحِلْسًا بِدِرْهَمَيْنِ فِيمَنْ يَزِيدُ . وَأَمَّا إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ : فَظَاهِرٌ فِيهِمْ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ بِجُمْلَتِهِ ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّتِهِ وَصِفَتِهِ ، حَتَّى أَنَّ كُبَرَاءَ الصَّحَابَةِ ارْتَسَمُوا بِهِ وَنَدَبُوا نُفُوسَهُمْ لَهُ ، فَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ تَاجِرًا فِي الْبَزِّ ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ تَاجِرًا فِي الطَّعَامِ وَالْأَقِطِ . وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ تَاجِرًا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ . وَرُوِيَ عَنِ الْعَبَّاسِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ تَاجِرًا فِي الْعِطْرِ . وَعَلَى ذَلِكَ جَرَتْ أَحْوَالُ الصَّحَابَةِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَبَعْدَهَا ، فَمِنْهُمْ مَنْ تَفَرَّدَ بِجِنْسٍ مِنْهَا ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَلَبَ فِي جَمِيعِ صُنُوفِهَا كَعُثْمَانَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَدَلَّ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْبَيْعَ مُبَاحٌ . فَصْلٌ : فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى : لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [ النِّسَاءِ ] أَمَّا قَوْلُهُ : لَا تَأْكُلُوا فَمَعْنَاهُ : لَا تَأْخُذُوا ، فَعَبَّرَ عَنِ الْأَخْذِ بِالْأَكْلِ : لِأَنَّهُ مُعْظَمُ مَا يُقْصَدُ بِالْأَخْذِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا [ النِّسَاءِ : ] أَيْ : يَأْخُذُونَ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : أَمْوَالَكُمْ فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَرَادَ مَالَ كُلِّ إِنْسَانٍ فِي نَفْسِهِ أَنْ لَا يَأْخُذَهُ فَيَصْرِفَهُ فِي الْمَحْظُورَاتِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَعْنَاهُ : لَا يَأْخُذُ بَعْضُكُمْ مَالَ بَعْضٍ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [ النِّسَاءِ ] أَيْ : لَا يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا .
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : بِالْبَاطِلِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتِ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُصْرِفَ فِي الْمَحْظُورَاتِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنْ لَا يُؤْخَذُ بِالِانْتِهَابِ وَالْغَارَاتِ عَلَى عَادَتِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَاطِلِ التِّجَارَاتُ الْفَاسِدَةُ الْمَأْلُوفَةُ عِنْدَهُمْ فِي بُيُوعِ الْجَاهِلِيَّةِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً . فَلَفَظُ ( إِلَّا ) مَوْضُوعٌ فِي اللُّغَةِ لِلِاسْتِثْنَاءِ ، وَلَكِنِ اخْتَلَفَ النَّاسُ وَأَصْحَابُنَا مَعَهُمْ فِي الْمُرَادِ بِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ ( إِلَّا ) فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ لَمْ يُرَدْ بِهَا الِاسْتِثْنَاءُ ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهَا : لَكِنْ . فَيَصِيرُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ : لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ، وَلَكِنْ كُلُوهَا تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً [ النِّسَاءِ ] مَعْنَاهُ : وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا عَمْدًا وَلَا خَطَأً ، لَكِنْ إِنْ قَتَلَهُ خَطَأً ، فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ . وَبِهَذَا قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَعْنَى : إِلَّا : فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَعْنَى : الْوَاوِ ، فَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ : لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ، وَكُلُوهَا تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [ الْأَنْبِيَاءِ ] أَيْ وَاللَّهُ لَفَسَدَتَا . وَقَوْلُ الشَّاعِرِ : وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوهُ لَعَمْرُ أَبِيكَ إِلَّا الْفَرْقَدَانِ أَيْ وَالْفَرْقَدَانِ أَيْضًا سَيَفْتَرِقَانِ ، وَلَوْ أَرَادَ الِاسْتِثْنَاءَ لَقَالَ : إِلَّا الْفَرْقَدَيْنِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ مَعْنَى إِلَّا ، فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ ، غَيْرَ أَنَّهُ مِنْ مُضْمَرٍ دَلَّ عَلَيْهِ مُظْهَرٌ ، لِيَصِحَّ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مِنْ جِنْسِهِ ، فَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ : لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَلَا بِالتِّجَارَةِ ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ مَنَعَ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ ، وَجَعَلُوا ذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [ الْمَائِدَةِ : ] وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ : أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ وَالصَّيْدِ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا مُحْرِمِينَ ، فَيَحْرُمُ عَلَيْكُمُ الصَّيْدُ . وَالرَّابِعُ : أَنَّ ذَلِكَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ - وَهُوَ أَشْبَهُ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - قَوْلُهُ تَعَالَى : لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا [ مَرْيَمَ : ] وَلَيْسَ السَّلَامُ مِنْ جِنْسِ اللَّغْوِ .
وَقَالَ تَعَالَى : فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ [ الْحِجْرِ : ] وَلَيْسَ إِبْلِيسُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ . وَقَالَ تَعَالَى : فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ [ الشُّعَرَاءِ : ] وَتَعَالَى اللَّهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ مَنِ اسْتَثْنَى مِنْهُ . وَقَالَ الشَّاعِرُ : وَبَلْدَةٍ لَيْسَ بِهَا أَنِيسُ إِلَّا الْيَعَافِيرُ وَإِلَّا الْعِيسُ وَالْأَنِيسُ : النَّاسُ ، وَالْيَعَافِيرُ : حَمِيرُ الْوَحْشِ ، وَقِيلَ : الظِّبَاءُ وَاحِدُهَا يَعْفُورٌ مَقْلُوبُ أَعْفَرَ . وَالْعِيسُ : الْإِبِلُ . وَاسْتَثْنَى الْحَمِيرَ وَالْإِبِلَ مِنْ جُمْلَةِ النَّاسِ . وَقَالَ النَّابِغَةُ الذِّبْيَانِيُّ : وَقَفْتُ فِيهَا أُصَيْلَالًا أُسَائِلُهَا عَيَّتْ جَوَابًا وَلَا بِالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ إِلَّا أَوَارِيَّ لَأْيًا مَا أُبَيِّنُهَا وَالنُّؤْيُ كَالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَةِ الْجَلِدِ فَذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ بِالرَّبْعِ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ يَسْأَلُهُ إِلَّا الْأَوَارِيَّ ، وَالْعَامَّةُ تَقُولُ : الْأَوَارِيُّ : هِيَ الْمَعَالِفُ . وَقَالَ الْعُتْبِيُّ : هِيَ الْحِبَالُ الْمَمْدُودَةُ يُشَدُّ عَلَيْهَا الدَّوَابُّ ، وَهُوَ جَمْعٌ وَاحِدُهُ أَوْرَى . فَصْلٌ : فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [ الْبَقَرَةِ : ] وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ مَعَانِيَ الْآيَةِ مُسْتَوْفَاةً جَمِيعَهَا فِي كِتَابِ الْأُمِّ بِكَلَامٍ وَجِيزٍ ، فَقَالَ : احْتَمَلَ إِحْلَالُ اللَّهِ تَعَالَى الْبَيْعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ أَحَلَّ كُلَّ بَيْعٍ تَبَايَعَهُ مُتَبَايِعَانِ جَائِزًا الْأَمْرَ فِيمَا يَتَبَايَعَانِهُ عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا ، وَهَذَا أَظْهَرُ مَعَانِيهِ . الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ أَحَلَّ الْبَيْعَ إِذَا كَانَ مِمَّا لَمْ يَنْهَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُبَيِّنُ عَنِ اللَّهِ مَعْنَى مَا أَرَادَ . فَيَكُونُ هَذَا مِنَ الْجُمَلِ الَّتِي أَحْكَمَ فَرْضَهَا فِي كِتَابِهِ ، وَبَيَّنَ كَيْفَ هِيَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ ، أَوْ مِنَ الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ ، فَبَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا أَرَادَ بِإِحْلَالِهِ مِنْهُ وَمَا حَرَّمَ ، أَوْ يَكُونُ دَاخِلًا مِنْهُمَا ، أَوْ مِنَ الْعَامِّ الَّذِي أَبَاحَهُ إِلَّا مَا حُرِّمَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مِنْهُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ - ثُمَّ
قَالَ : وَأَيُّ هَذِهِ الْمَعَانِي كَانَ ، فَقَدْ أَلْزَمَ اللَّهُ خَلْقَهُ بِمَا فَرَضَ مِنْ طَاعَةِ رَسُولِهِ ، وَأَنَّ مَا قِيلَ عَنْهُ فَعَنِ اللَّهِ قِيلَ ، لِأَنَّهُ بِكِتَابِ اللَّهِ قِيلَ ، فَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي مَعْنَى الْآيَةِ . وَجُمْلَتُهُ : أَنَّ لِلشَّافِعِيِّ فِي مَعْنَى الْآيَةِ أَرْبَعَةَ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : أَنَّهَا عَامَّةٌ ، وَأَنَّ لَفْظَهَا لَفْظُ عُمُومٍ يَتَنَاوَلُ إِبَاحَةَ كُلِّ بَيْعٍ إِلَّا مَا خصَّهُ الدَّلِيلُ . وَوَجْهُ ذَلِكَ هُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا نَهَى عَنْ بِيَاعَاتٍ كَانُوا يَسْتَعْمِلُونَهَا ، وَلَمْ يَقْصِدْ إِلَى بَيَانِ الْجَائِزِ مِنْهَا ، وَإِنَّمَا قَصَدَ إِلَى بَيَانِ فَاسِدِهَا مِنْهُ ، فَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ قَدْ شَمِلَتْ إِبَاحَةَ الْبِيَاعَاتِ كُلِّهَا ، فَاسْتَثْنَى مَا لَا يَجُوزُ مِنْهَا . فَعَلَى هَذَا هَلْ هِيَ عُمُومٌ أُرِيدَ بِهِ الْعُمُومُ ؟ أَوْ عُمُومٌ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا عُمُومٌ أُرِيدَ بِهِ الْعُمُومُ ، وَإِنْ دَخَلَهُ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا عُمُومٌ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : هُوَ أَنَّ الْعُمُومَ الْمُطْلَقَ الَّذِي يَجْرِي عَلَى عُمُومِهِ وَإِنْ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ ، مَا يَكُونُ الْمُرَادُ بِاللَّفْظِ أَكْثَرُ ، وَمَا لَيْسَ بِمُرَادٍ بِاللَّفْظِ أَقَلُّ ، وَالْعُمُومُ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ مَا يَكُونُ الْمُرَادُ بِاللَّفْظِ أَقَلَّ وَمَا لَيْسَ بِمُرَادٍ بِاللَّفْظِ أَكْثَرُ . وَالْفَرْقُ الثَّانِي : أَنَّ الْبَيَانَ فِيمَا أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ مُتَقَدِّمٌ عَلَى اللَّفْظِ ، وَفِيمَا أُرِيدَ بِهِ الْعُمُومُ تَتَأخَّرُ عَنِ اللَّفْظِ أَوْ مُقْتَرِنٌ بِهِ . وَعَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ يَجُوزُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا عَلَى إِبَاحَةِ الْبُيُوعِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا ، مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ عَلَى إِخْرَاجِهَا مِنْ عُمُومِهَا . فَصْلٌ : الْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهَا مُجْمَلَةٌ لَا يُعْقَلُ مِنْهَا صِحَّةُ بَيْعٍ مِنْ فَسَادِهِ إِلَّا بِبَيَانٍ مِنَ السُّنَّةِ ، وَوَجْهُ ذَلِكَ : هُوَ أَنَّ مِنَ الْبِيَاعَاتِ مَا يَجُوزُ ، وَمِنْهَا مَا لَا يَجُوزُ ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَتَمَيَّزُ بِهِ الْجَائِزُ مِنْ غَيْرِ الْجَائِزِ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُجْمَلِ الَّذِي لَا نَعْقِلُ الْمُرَادَ مِنْ ظَاهِرِهِ إِلَّا بِبَيَانٍ يَقْتَرِنُ بِهِ . فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا . هَلْ هِيَ مُجْمَلَةٌ بِنَفْسِهَا : لِتَعَارُضٍ فِيهَا أَوْ هِيَ مُجْمَلَةٌ بِغَيْرِهَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مُجْمَلَةٌ بِنَفْسِهَا لِتَعَارُضٍ فِيهَا . وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ : وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ يَقْتَضِي جَوَازَ الْبَيْعِ مُتَفَاضِلًا ، وَقَوْلُهُ : وَحَرَّمَ الرِّبَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الْبَيْعِ مُتَفَاضِلًا ، فَصَارَ آخِرُهَا مُعَارِضًا لِأَوَّلِهَا ، فَوَقَعَ الْإِجْمَالُ فِيهَا بِنَفْسِهَا .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا مُجْمَلَةٌ بِغَيْرِهَا ، وَذَلِكَ أَنَّهَا تَقْتَضِي جَوَازَ كُلِّ بَيْعٍ مِنْ غَرَرٍ ، وَمَعْدُومٍ ، وَغَيْرِهِ . وَقَدْ وَرَدَتِ السُّنَّةُ بِالْمَنْعِ مِنْ بَيْعِ الْغَرَرِ حكمه ، وَالْمُلَامَسَةِ حكم بيعها ، وَالْمُنَابَذَةِ حكم بيعها ، وَغَيْرِ ذَلِكَ ، فَصَارَتِ السُّنَّةُ مُعَارِضَةً لَهَا ، فَوَقَعَ الْإِجْمَالُ فِيهَا بِغَيْرِهَا . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا مُجْمَلَةٌ بِنَفْسِهَا عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ، أَوْ بِغَيْرِهَا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا : هَلْ وَقَعَ الْإِجْمَالُ فِي صِيغَةِ لَفْظِهَا وَفِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ بِهَا ؟ أَوْ وَقَعَ الْإِجْمَالُ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ بِهَا دُونَ صِيغَةِ لَفْظِهَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْإِجْمَالَ فِي الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ : لِأَنَّ لَفْظَ الْبَيْعِ ، اسْمٌ لُغَوِيٌّ لَمْ يَرِدْ مِنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ ، وَمَعْنَاهُ مَعْقُولٌ ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا قَامَ بِإِزَائِهِ مَا يُعَارِضُهُ تَدَافَعَ الْعُمُومَانِ ، وَلَمْ يَتَعَيَّنِ الْمُرَادُ مِنْهُمَا إِلَّا بِالسُّنَّةِ ، صَارَا مُجْمَلَيْنِ لِهَذَا الْمَعْنَى ، لِأَنَّ اللَّفْظَ مُشْكِلُ الْمَعْنَى . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ اللَّفْظَ مُجْمَلٌ ، وَالْمَعْنَى الْمُرَادُ بِهِ مُشْكِلٌ : لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنِ الْمُرَادُ بِاللَّفْظِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الِاسْمُ ، وَصَارَ مُضَمَّنًا بِشَرَائِطَ لَمْ تَكُنْ مَعْقُولَةً فِي اللُّغَةِ ، خَرَجَ اللَّفْظُ بِالشَّرَائِطِ عَنْ مَوْضُوعِهِ فِي اللُّغَةِ إِلَى مَا اسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ شَرَائِطُ الشَّرْعِ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ فِي اللُّغَةِ مَعَانٍ مَعْقُولَةٌ ، كَمَا قُلْنَا فِي الصَّلَاةِ : إِنَّهَا مُجْمَلَةٌ : لِأَنَّهَا مُضَمَّنَةٌ بِشَرَائِطَ لَمْ تَكُنْ مَعْقُولَةٌ فِي اللُّغَةِ ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَعَانٍ مَعْقُولَةٌ فِي اللُّغَةِ كَالْخُضُوعِ ، وَمَا يَقَعُ فِيهَا مِنَ الدُّعَاءِ ، فَكَذَلِكَ لَفَظُ الْبَيْعِ . وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ لَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا عَلَى صِحَّةِ بَيْعٍ مِنْ فَسَادِهِ ، وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى إِبَاحَةِ الْبَيْعِ فِي أَصْلِهِ . وَهَذَا فَرْقٌ مَا بَيْنَ الْعُمُومِ وَالْمُجْمَلِ ، حَيْثُ جَازَ الِاسْتِدْلَالُ بِظَاهِرَةِ الْعُمُومِ ، وَلَمْ يَجُزِ الِاسْتِدْلَالُ بِظَاهِرِ الْمُجْمَلِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ . فَصْلٌ : وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ دَاخِلٌ فِيهِمَا جَمِيعًا ، فَيَكُونُ اللَّفْظُ عُمُومًا دَخَلَهُ الْخُصُوصُ ، وَمُجْمَلًا لَحِقَهُ التَّفْسِيرُ ، لِقِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِمَا . فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وَجْهِ دُخُولِ ذَلِكَ فِيهِمَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْعُمُومَ فِي اللَّفْظِ وَالْإِجْمَالُ فِي الْمَعْنَى . فَيَكُونُ اللَّفْظُ عُمُومًا دَخَلَهُ الْخُصُوصُ ، وَالْمَعْنَى مُجْمَلًا لَحِقَهُ التَّفْسِيرُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْعُمُومَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَالْإِجْمَالُ فِي آخِرِهَا ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَحَرَّمَ الرِّبَا فَيَكُونُ أَوَّلُ الْآيَةِ عَامًّا دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ ، وَآخِرُهَا مُجْمَلًا لَحِقَهُ التَّفْسِيرُ .
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ اللَّفْظَ كَانَ مُجْمَلًا ، فَلَمَّا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَارَ عَامًّا . فَيَكُونُ دَاخِلًا فِي الْمُجْمَلِ قَبْلَ الْبَيَانِ ، وَفِي الْعُمُومِ بَعْدَ الْبَيَانِ . فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَجُوزُ الِاسْتِدْلَالُ بِظَاهِرِهَا فِي الْبُيُوعِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا كَالْقَوْلِ الْأَوَّلِ . وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ ، لَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَالُ بِظَاهِرِهَا فِي الْبُيُوعِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا كَالْقَوْلِ الثَّانِي . فَصْلٌ : وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ : أَنَّهَا تَنَاوَلَتْ بَيْعًا مَعْهُودًا ، وَنَزَلَتْ بَعْدَ أَنْ أَحَلَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُيُوعًا وَحَرَّمَ بُيُوعًا ، وَكَانَ قَوْلُهُ : وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ يَعْنِي : الَّذِي بَيَّنَهُ الرَّسُولُ مِنْ قَبْلُ ، وَعَرَفَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُ ، فَتَرَتَّبَ الْكِتَابُ عَلَى السُّنَّةِ ، وَتَنَاوَلَتِ الْآيَةُ بَيْعًا مَعْهُودًا . وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ فَأَدْخَلَ فِيهِ الْأَلِفَ وَاللَّامَ ، وَذَلِكَ يَدْخُلُ فِي الْكَلَامِ لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا لِجِنْسٍ ، أَوْ مَعْهُودٍ . فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْجِنْسُ مُرَادًا : لِخُرُوجِ بَعْضِهِ مِنْهُ ، ثَبَتَ أَنَّ الْمَعْهُودَ مُرَادٌ . فَعَلَى هَذَا ، لَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَالُ بِظَاهِرِهَا عَلَى صِحَّةِ بَيْعٍ وَلَا فَسَادِهِ ، بَلْ يَرْجِعُ فِي حُكْمِ مَا اخْتُلِفَ فِيهِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِمَا تَقَدَّمَهَا مِنَ السُّنَّةِ الَّتِي عُرِفَ بِهَا الْبُيُوعُ الصَّحِيحَةُ مِنَ الْفَاسِدَةِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَارَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُجْمَلِ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ . وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعُمُومِ مِنْ وَجْهَيْنِ . فَأَمَّا الْوَجْهُ الَّذِي يَقَعُ بِهِ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُجْمَلِ : فَهُوَ أَنَّ بَيَانَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا نَهَى عَنْهُ مِنَ الْبُيُوعِ وَأَمَرَ بِهِ سَابِقٌ لِلْآيَةِ . وَبَيَانُ الْمُجْمَلِ مُقْتَرِنٌ بِاللَّفْظِ ، أَوْ مُتَأَخِّرٌ عَنْهُ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجَوِّزُ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ ، فَافْتَرَقَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ . أَمَّا الْوَجْهَانِ اللَّذَانِ يَقَعُ بِهِمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعُمُومِ : فَأَحَدُهُمَا : مَا مَضَى مِنْ تَقْدِيمِ الْبَيَانِ فِي الْمَعْهُودِ ، وَاقْتِرَانِ بَيَانِ التَّخْصِيصِ بِالْعُمُومِ . وَالثَّانِي : جَوَازُ الِاسْتِدْلَالِ بِظَاهِرِ الْعُمُومِ فِيمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْبُيُوعِ ، وَفَسَادُ الِاسْتِدْلَالِ بِظَاهِرِ الْمَعْهُودِ فِيمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْبُيُوعِ .
فَصْلٌ الْقَوْلُ فِي مَاهِيَّةِ الْبَيْعِ
فَصْلٌ : الْقَوْلُ فِي مَاهِيَّةِ الْبَيْعِ فَإِذَا تَقَرَّرَ إِحْلَالُ الْبُيُوعِ فِي الْجُمْلَةِ . فَحَقِيقَةُ الْبَيْعِ تعريفه لغة فِي اللِّسَانِ : تَبَدُّلُ شَيْءٍ بِشَيْءٍ .
وَحَقِيقَتُهُ فِي الشَّرْعِ تعريفه : نَقَلُ مِلْكٍ بِعِوَضٍ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْذُونِ فِيهِ . وَإِنَّمَا قُلْنَا : نَقْلُ مِلْكٍ : احْتِرَازًا مِمَّا لَا يُمْلَكُ ، وَمِمَّنْ لَا يَمْلِكُ . وَقُلْنَا : بِعِوَضٍ احْتِرَازًا مِنَ الْهِبَاتِ ، وَمِمَّا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا . وَقُلْنَا : عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْذُونِ فِيهِ ، احْتِرَازًا مِنَ الْبُيُوعِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا كَالْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ .
أَفْضَلُ الْمَكَاسِبِ
أَفْضَلُ الْمَكَاسِبِ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ حَقِيقَةَ الْبُيُوعِ الْجَائِزِةِ فِي الشَّرْعِ . فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ : هَلِ الْبُيُوعُ الْجَائِزَةُ مِنْ أَجَلِّ الْمَكَاسِبِ وَأَطْيَبِهَا ؟ أَوْ غَيْرُهَا مِنَ الْمَكَاسِبِ أَجَلُّ مِنْهَا ؟ فَقَالَ قَوْمٌ : الزِّرَاعَاتُ أَجَلُّ الْمَكَاسِبِ كُلِّهَا ، وَأَطْيَبُ مِنَ الْبُيُوعِ وَغَيْرِهَا : لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي الِاكْتِسَابِ بِهَا أَحْسَنُ تَوَكُّلًا ، وَأَقْوَى إِخْلَاصًا ، وَأَكْثَرُ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى تَفْوِيضًا وَتَسْلِيمًا . وَقَالَ آخَرُونَ : إنَّ الصِّنَاعَاتِ أَجَلُّ كَسْبًا مِنْهَا وَأَطْيَبُ مِنَ الْبُيُوعِ وَغَيْرِهَا : لِأَنَّهَا اكْتِسَابٌ تُنَالُ بِكَدِّ الْجِسْمِ وَإِتْعَابِ النَّفْسِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : " إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ الْمُحْتَرِفَ " فَظَاهِرُ الِاحْتِرَافِ بِالنَّفْسِ دُونَ الْمَالِ . وَقَالَ آخَرُونَ : الْبِيَاعَاتُ أَجَلُّ الْمَكَاسِبِ كُلِّهَا ، وَأَطْيَبُ مِنَ الزِّرَاعَاتِ وَغَيْرِهَا ، وَهُوَ أَشْبَهُ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَالْعِرَاقِيِّينَ ، حَتَّى إِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ قِيلَ لَهُ : هَلَّا صَنَعْتَ كِتَابًا فِي الزُّهْدِ ، قَالَ : قَدْ فَعَلْتُ ، قِيلَ : فَمَا ذَلِكَ الْكِتَابُ ؟ قَالَ : هُوَ كِتَابُ الْبُيُوعِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْبُيُوعَ أَجَلُّ الْمَكَاسِبِ كُلِّهَا إِذَا وَقَعَتْ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْذُونِ فِيهِ : أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ صَرَّحَ فِي كِتَابِهِ بِإِحْلَالِهَا ، فَقَالَ : وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ ، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِإِحْلَالِ غَيْرِهَا ، وَلَا ذَكَرَ جَوَازَهَا وَإِبَاحَتَهَا . وَرَوَتْ عَائِشَةُ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " أَطْيَبُ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ " وَالْكَسْبُ فِي كِتَابِ اللَّهِ التِّجَارَةُ . وَرَوَى رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ قَالَ : قَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَيُّ الْعَمَلِ أَطْيَبُ ؟ فَقَالَ : " عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ ، وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ " .
وَلِأَنَّ الْبُيُوعَ أَكْثَرُ مَكَاسِبِ الصَّحَابَةِ ، وَهِيَ أَظْهَرُ فِيهِمْ مِنَ الزِّرَاعَةِ وَالصِّنَاعَةِ . وَلِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ بِهَا أَعَمُّ ، وَالْحَاجَةَ إِلَيْهَا أَكْثَرُ ، إِذْ لَيْسَ أَحَدٌ يَسْتَغْنِي عَنِ ابْتِيَاعِ مَأْكُولٍ أَوْ مَلْبُوسٍ ، وَقَدْ يَسْتَغْنِي عَنْ صِنَاعَةٍ وَزِرَاعَةٍ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رَوَى سَلْمَانُ فَقَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " لَا تَكُنْ أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ السُّوقَ وَلَا آخِرَ مَنْ يَخْرُجُ مِنْهَا ، فَإِنَّ فِيهَا بَاضَ الشَّيْطَانُ وَفَرَّخَ " ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ مَكْرُوهًا : لِيَصِحَّ أَنْ يَكُونَ عَنْ مُلَازَمَتِهِ مَنْهِيًّا . قِيلَ : هَذَا غَلَطٌ ، كَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُكْرَهَ مَا صَرَّحَ اللَّهُ بِإِحْلَالِهِ فِي كِتَابِهِ ؟ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنْ لَا يَصْرِفَ أَكْثَرَ زَمَانِهِ إِلَى الِاكْتِسَابِ ، وَيَشْتَغِلَ بِهِ عَنِ الْعِبَادَةِ حَتَّى يَصِيرَ إِلَيْهِ مُنْقَطِعًا ، وَبِهِ مُتَشَاغِلًا ، كَمَا رُوِيَ عَنِ الْإِمَامِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " نَهَى عَنِ السَّوْمِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ " يُرِيدُ أَنْ لَا يَجْعَلَهُ أَكْبَرَ هَمِّهِ ، حَتَّى يَبْتَدِئَ بِهِ فِي صَدْرِ يَوْمِهِ ، لَا أَنَّهُ حَرَامٌ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : " يَا تُجَّارُ كُلُّكُمْ فُجَّارٌ إِلَّا مَنْ أَخَذَ الْحَقَّ وَأَعْطَى الْحَقَّ " فَجَعَلَ الْفُجُورَ فِيهِمْ عُمُومًا ، وَمُعَاطَاةَ الْحَقِّ خُصُوصًا ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ صِفَاتِ أَجَلِّ الْمَكَاسِبِ . قِيلَ : إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ : لِأَنَّ مِنَ الْبُيُوعِ مَا يَحِلُّ ، وَمِنْهَا مَا يَحْرُمُ ، وَمِنْهَا مَا يُسْتَحَبُّ وَمِنْهَا مَا يُكْرَهُ ، كَمَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : " لَوِ اتَّجَرَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ مَا اتَّجَرُوا إِلَا فِي الْبُرِّ ، وَلَوِ اتَّجَرَ أَهْلُ النَّارِ مَا اتَّجَرُوا إِلَّا فِي الصَّرْفِ " . قَالَ ذَلِكَ اسْتِحْبَابًا لِتِجَارَةِ الْبُرِّ ، وَكَرَاهَةً لِتِجَارَةِ الصَّرْفِ . وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " مَنْ كَانَ يَبِيعُ الطَّعَامَ وَلَيْسَ لَهُ تِجَارَةٌ غَيْرُهُ ، حَاطَ ، أَوْ بَاعَ ، أَوْ طَاغَ ، أَوْ زَاغَ " ، يُرِيدُ بِذَلِكَ كَرَاهَةَ التَّفَرُّدِ بِالتِّجَارَةِ فِي هَذَا الْجِنْسِ .
وَلَيْسَ كَلَامُنَا فِيمَا كُرِهَ مِنْهَا ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِيمَا اسْتُحِبَّ مِنْهَا ، وَهُوَ مَا اسْتَثْنَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهَا .
فَصْلٌ فِي شُرُوطِ الْبَيْعِ
فَصْلٌ : فِي شُرُوطِ الْبَيْعِ فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا فِي حَقِيقَةِ الْبَيْعِ وَانْتِقَالِ الْمِلْكِ بِهِ : فَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ مَا يَلْزَمُ بِهِ الْبَيْعُ ، وَمَا يَجُوزُ أَنْ يُفْسَخَ بِهِ الْبَيْعُ . فَقَالَ : وَجِمَاعُ مَا يَجُوزُ مِنْ كُلِّ بَيْعٍ آجِلٍ وَعَاجِلٍ ، وَمَا لَزِمَهُ اسْمُ بَيْعٍ بِوَجْهٍ ، لَا يُلْزِمُ الْبَائِعَ وَالْمُشْتَرِيَ حَتَّى يَجْتَمِعَا أَنْ يَتَبَايَعَاهُ بِرِضًا مِنْهُمَا بِالتَّبَايُعِ بِهِ وَلَا يَعْقِدَاهُ بِأَمْرٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ ، وَلَا عَلَى أَمْرٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ ، وَأَنْ يَتَفَرَّقَا بَعْدَ تَبَايُعِهِمَا عَنْ مَقَامِهِمَا الَّذِي تَبَايَعَا فِيهِ عَلَى التَّرَاضِي بِالْبَيْعِ ، فَإِذَا اجْتَمَعَ هَذَا لَزِمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيْعُ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ رَدُّهُ إِلَّا بِخِيَارٍ ، أَوْ فِي عَيْبٍ يَجِدُهُ ، أَوْ شَرْطٍ يَشْتَرِطُهُ ، أَوْ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ - إِنْ جَازَ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ - وَمَتَى لَمْ يَكُنْ هَذَا لَمْ يَقَعِ الْبَيْعُ بَيْنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ . وَحَكَى الْمُزَنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ مِثْلَهُ سَوَاءً . فَأَرَادَ الشَّافِعِيُّ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنْ يُبَيِّنَ شُرُوطَ الْعَقْدِ ، وَشُرُوطَ الرَّدِّ . فَأَمَّا شُرُوطُ الْعَقْدِ الَّتِي يَصِيرُ بِهَا لَازِمًا في البيع فَأَرْبَعَةٌ : أَحَدُهَا : أَنْ يَتَبَايَعَاهُ بِرِضًا مِنْهُمَا بِالتَّبَايُعِ بِهِ حَتَّى لَا يَكُونَا مُكْرَهَيْنِ وَلَا أَحَدُهُمَا : لِأَنَّ بَيْعَ الْمُكْرَهِ لَا يَصِحُّ . وَالثَّانِي : أَنْ لَا يَعْقِدَاهُ بِأَمْرٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ يَعْنِي بِذَلِكَ الْأَجَلَ الْمَجْهُولَ ، وَالشُّرُوطَ الْمُبْطِلَةَ لِلْعُقُودِ ، وَمَا وَرَدَ النَّهْيُ فِي تَحْرِيمِهِ مِنَ الْبُيُوعِ كَالْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ لَا يَعْقِدَاهُ عَلَى أَمْرٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ ، يَعْنِي بِذَلِكَ الْأَعْيَانَ الْمُحَرَّمَةَ : كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ ، وَمَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ : كَالْهَوَامِّ وَالْحَشَرَاتِ . وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ هِيَ شُرُوطٌ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ ، فَمَتَى أُخِلَّ بِشَرْطٍ مِنْهَا ، فَسَدَ الْعَقْدُ . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَفْتَرِقَا بَعْدَ تَبَايُعِهِمَا عَنْ مَقَامِهِمَا الَّذِي تَبَايَعَا فِيهِ عَلَى التَّرَاضِي بِالْبَيْعِ . وَهَذَا شَرْطٌ فِي لُزُومِ الْعَقْدِ بَعْدَ وُقُوعِ صِحَّتِهِ . وَكَانَ ابْنُ الْمَرْزُبَانِ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا يَضُمُّونَ إِلَى الْأَرْبَعَةِ شَرْطًا خَامِسًا : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُتَبَايِعَانِ جَائِزَيِ الْأَمْرِ ، فَلَا يَكُونَا ، وَلَا أَحَدُهُمَا ، مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِصِغَرٍ أَوْ جُنُونٍ ، أَوْ سَفَهٍ : لِأَنَّ بَيْعَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بَاطِلٌ . وَامْتَنَعَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا مِنْ تَخْرِيجِ هَذَا الشَّرْطِ الْخَامِسِ . وَأَجَابُوا عَنْهُ بِجَوَابَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ هَذَا شَرْطٌ فِي الْبَائِعِ لَا فِي الْبَيْعِ ، وَالشَّافِعِيُّ إِنَّمَا ذَكَرَ شُرُوطَ الْبَيْعِ ، وَهَذَا جَوَابُ الْبَغْدَادِيِّينَ .
وَالثَّانِي : وَهُوَ جَوَابُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي جُمْلَةِ الشَّرْطِ الثَّانِي ، وَهُوَ أَنْ لَا يَعْقِدَاهُ بِأَمْرٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ ، لِأَنَّ عَقْدَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ، فَلَمْ يَحْتَجْ أَنْ يَجْعَلَهُ شَرْطًا خَامِسًا . وَهَذَا أَصَحُّ الْجَوَابَيْنِ : لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ ذَكَرَ فِي الشَّرْطِ الْأَوَّلِ أَنْ يَعْقِدَاهُ عَنْ تَرَاضٍ ، وَهَذَا شَرْطٌ فِي الْبَائِعِ دُونَ الْبَيْعِ . فَهَذِهِ شُرُوطُ الْعَقْدِ . فَأَمَّا شُرُوطُ الرَّدِّ وَمَا يَكُونُ بِهِ الْفَسْخُ في البيع فَأَرْبَعَةٌ أَيْضًا : أَحَدُهَا : الْخِيَارُ الْمَوْضُوعُ لِلْفَسْخِ ، وَهُوَ أَحَدُ خِيَارَيْنِ : إِمَّا خِيَارُ الْمَجْلِسِ أَوْ خِيَارُ الثَّلَاثِ . وَالثَّانِي : وُجُودُ الْعَيْبِ بِالْمَبِيعِ ، فَيَسْتَحِقُّ بِهِ خِيَارُ الْفَسْخِ . وَالثَّالِثُ : شَرْطٌ يَشْتَرِطُهُ فِي الْعَقْدِ فَيَعْقِدُهُ ، مِثْلُ أَنْ يُشْتَرَطَ فِي الْعَقْدِ رَهْنًا فِي الثَّمَنِ بِهِ ، أَوْ كَفِيلًا بِهِ ، فَيَمْتَنِعُ الْمُشْتَرِي مِنْ دَفْعِ الرَّهْنَ فِيهِ أَوِ الْكَفِيلَ بِهِ ، فَيَكُونُ لِلْبَائِعِ الْفَسْخُ ، أَوْ يَشْتَرِطُ الْمُشْتَرِي فِي ابْتِيَاعِ الْعَبْدِ أَنَّهُ ذُو صَنْعَةٍ ، فَيَجِدُهُ لَا يُحْسِنُهَا فَيَكُونُ لِلْمُشْتَرِي الْفَسْخُ . وَالرَّابِعُ : الرُّؤْيَةُ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ عَلَى خِيَارِ الرُّؤْيَةِ ، إِذَا قِيلَ بِجَوَازِهِ ، فَيَسْتَحِقُّ بِهِ الْفَسْخَ عَلَى مَا سَيَأْتِي . فَهَذِهِ شُرُوطُ الرَّدِّ مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ شُرُوطِ الْعَقْدِ .
مَسْأَلَةٌ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ
مَسْأَلَةٌ : فِي بَيْعِ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " فَإِذَا عَقَدَا بَيْعًا مِمَّا يَجُوزُ وَافْتَرَقَا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا بِهِ الرد في هذه الحالة ، لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْهُمَا رَدُّهُ إِلَّا بِعَيْبٍ أَوْ بِشَرْطِ خِيَارٍ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) وَقَدْ أَجَازَ فِي الِإمْلاءِ وَفِي كِتَابِ الْجَدِيدِ وَالْقَدِيمِ وَفِي الصَّدَاقِ وَفِي الصُّلْحِ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ وَهَذَا كُلُّهُ غَيْرُ جَائِزٍ فِي مَعْنَاهُ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) وَهَذَا بِنَفْيِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ أَوْلَى بِهِ إِذْ أَصْلُ قَوْلِهِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْبَيْعَ بَيْعَانِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا صِفَةٌ مَضْمُونَةٌ وَعَيْنٌ مَعْرُوفَةٌ وأنَهُ يُبْطِلُ بَيْعَ الثَّوْبِ لَمْ يُرَ بَعْضُهُ لِجَهْلِهِ بِهِ فَكَيْفَ يُجِيزُ شِرَاءَ مَا لَمْ يَرَ شَيْئًا مِنْهُ قَطُّ وَلَا يَدْرِي أَنَّهُ ثَوْبٌ أَمْ لَا حَتَّى يَجْعَلَ لَهُ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : هَذَا كَمَا قَالَ : الْبُيُوعُ أنواعها نَوْعَانِ : بَيْعُ رَقَبَةٍ ، وَبَيْعُ مَنْفَعَةٍ : فَأَمَّا بَيْعُ الْمَنَافِعِ النوع الأول من أنواع البيوع فَهُوَ الْإِجَارَاتُ ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : إِنَّهَا صِنْفٌ مِنَ الْبُيُوعِ ، وَلَهَا كِتَابٌ : وَأَمَّا بَيْعُ الرِّقَابِ أنواعه ، فَضَرْبَانِ : بُيُوعُ أَعْيَانٍ أنواعها ، وَبُيُوعُ صِفَاتٍ أنواعها : فَأَمَّا بُيُوعُ الصِّفَاتِ : فَالسَّلَمُ ، وَلَهُ بَابٌ . وَأَمَّا بُيُوعُ الْأَعْيَانِ ، فَضَرْبَانِ : عَيْنٌ حَاضِرَةٌ ، وَعَيْنٌ غَائِبَةٌ . فَأَمَّا الْعَيْنُ الْحَاضِرَةُ حكم بيعها ، فَبَيْعُهَا جَائِزٌ . وَأَمَّا الْعَيْنُ الْغَائِبَةُ في البيوع أنواعها فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : مَوْصُوفَةٌ ، وَغَيْرُ مَوْصُوفَةٍ : فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَوْصُوفَةٍ ، فَبَيْعُهَا بَاطِلٌ . وَإِنْ كَانَتْ مَوْصُوفَةً فَفِي جَوَازِ بَيْعِهَا قَوْلَانِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ بَيْعُ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ مَوْصُوفَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مَوْصُوفَةٍ . وَقَالَ مَالِكٌ : يَجُوزُ بَيْعُهَا مَوْصُوفَةً ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا غَيْرَ مَوْصُوفَةٍ .
الْأَدِلَّةُ : اسْتَدَلَّ مَنْ أَجَازَ بَيْعَ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ : بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ . وَبِمَا رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : " مَنِ اشْتَرَى مَا لَمْ يَرَهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِذَا رَآهُ " . وَقَالُوا : وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ : رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَطَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - تَنَاقَلَا دَارَيْنِ : إِحْدَاهُمَا بِالْكُوفَةِ ، وَالْأُخْرَى بِالْبَصْرَةِ ، فَقِيلَ لِعُثْمَانَ : غَبَنْتَ . فَقَالَ : لَا أُبَالِي لِي الْخِيَارُ إِذَا رَأَيْتُهَا ، فَتَرَافَعَا إِلَى جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ، فَقَضَى بِالْخِيَارِ لِطَلْحَةَ . وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ اشْتَرَى أَرْضًا لَمْ يَرَهَا . وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ اشْتَرَى إِبِلًا لَمْ يَرَهَا . فَصَارَ هَذَا قَوْلُ خَمْسَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ ، وَلَيْسَ لَهُمْ مُخَالِفٌ ، فَثَبَتَ أَنَّهُ إِجْمَاعٌ . وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنْهُ فَقْدُ رُؤْيَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَالنِّكَاحِ . وَلِأَنَّ فَقْدَ رُؤْيَةِ الْمَبِيعِ لَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنَ الْجَهْلِ بِصِفَاتِ الْمَبِيعِ ، وَالْجَهْلُ بِصِفَاتِ الْمَبِيعِ ، لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ فِيهِ كَالْمَبِيعِ إِذَا ظَهَرَ عَلَى عَيْبِهِ وَالْمَفْقُودُ لِلرُّؤْيَةِ بِقِشْرِهِ ، وَلِأَنَّ الرُّؤْيَةَ لَوْ كَانَتْ شَرْطًا فِي بُيُوعِ الْأَعْيَانِ كَالصِّفَةِ فِي بُيُوعِ الصِّفَاتِ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ رُؤْيَةُ جَمِيعِ الْمَبِيعِ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ ، كَمَا أَنَّ صِفَةَ جَمِيعِ السَّلَمِ فِيهِ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهِ ، فَلَمَّا كَانَ مُشْتَرِي الصُّبْرَةِ إِذَا رَأَى بَعْضَهَا جَازَ لَهُ أَنْ يَبْتَاعَ جَمِيعَهَا ، عُلِمَ أَنَّ الرُّؤْيَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي بُيُوعِ الْأَعْيَانِ . وَلِأَنَّ الرُّؤْيَةَ لَوْ كَانَتْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ . لَكَانَ وُجُودُهَا شَرْطًا فِي حَالِ الْعَقْدِ ، وَلَمْ يُسْتَغْنَ بِرُؤْيَةٍ تَقَدَّمَتِ الْعَقْدَ ، كَالصِّفَاتِ فِي السَّلَمِ ، وَذِكْرِ الثَّمَنِ ، فَلَمَّا صَحَّ الْعَقْدُ بِالرُّؤْيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى الْعَقْدِ ثَبَتَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى بُطْلَانِ الْبَيْعِ : رِوَايَةُ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ " . وَحَقِيقَةُ الْغَرَرِ في البيع ؛ مَا تَرَدَّدَ بَيْنَ جَائِزَيْنِ أَخْوَفُهُمَا أَغْلَبُهُمَا .
وَبَيْعُ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ غَرَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يُعْلَمُ هَلِ الْمَبِيعُ سَالِمٌ أَوْ هَالِكٌ ؟ وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ هَلْ يَصِلُ إِلَيْهِ أَوْ لَا يَصِلُ ؟ وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ : " نَهَى عَنْ بَيْعِ غَائِبٍ بِنَاجِزٍ " ، وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ صَرْفٍ وَغَيْرِهِ ، فَهُوَ عَلَى عُمُومِهِ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ " نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمُلَامَسَةِ " ، فَالْمُلَامَسَةُ : بَيْعُ الثَّوْبِ الْمَطْوِيِّ . فَإِذَا نَهَى عَنِ الْمُلَامَسَةِ لِجَهْلٍ بِالْمَبِيعِ ، وَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ حَاضِرًا ، كَانَ بُطْلَانُهُ أَوْلَى إِذَا كَانَ غَائِبًا . وَلِأَنَّ بَيْعَ الصِّفَةِ إِذَا عُلِّقَ بِالْعَيْنِ بَطَلَ ، كَذَلِكَ بَيْعُ الْعَيْنِ إِذَا عُلِّقَ بِالصِّفَةِ بَطَلَ . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا : أَنَّهُ بَيْعُ عَيْنٍ بِصِفَةٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا ، كَالسَّلَمِ فِي الْأَعْيَانِ . وَلِأَنَّ الِاعْتِمَادَ فِي السَّلَمِ عَلَى الصِّفَةِ ، وَالِاعْتِمَادُ فِي بَيْعِ الْأَعْيَانِ عَلَى الرُّؤْيَةِ : لِأَنَّ السَّلَمَ يَصِيرُ مَعْلُومًا بِالصِّفَةِ ، كَمَا أَنَّ الْعَيْنَ تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِالرُّؤْيَةِ . فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ السَّلَمَ إِذَا لَمْ يُوصَفْ حَتَّى يَصِيرَ السَّلَمُ فِيهِ مَعْلُومًا بَطَلَ الْعَقْدُ ، وَجَبَ إِذَا لَمْ يَرَ الْعَيْنَ حَتَّى تَصِيرَ مَعْلُومَةً بِالرُّؤْيَةِ أَنْ يَبْطُلَ الْعَقْدُ ، إِذِ الْإِخْلَالُ بِالرُّؤْيَةِ فِي الْمَرْئِيَّاتِ كَالْإِخْلَالِ بِالصِّفَةِ فِي الْمَوْصُوفَاتِ . وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا : إِنَّ جَهْلَ الْمُشْتَرِي بِصِفَاتِ الْمَبِيعِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ كَالسَّلَمِ إِذَا لَمْ يُوصَفْ . وَلِأَنَّهُ بَيْعٌ مَجْهُولُ الصِّفَةِ عِنْدَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا ، كَقَوْلِهِ : بِعْتُكَ عَبْدًا أَوْ ثَوْبًا . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّمَا بَطَلَ إِذَا بَاعَهُ عَبْدًا ، لَا أَنَّهُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ وَلَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ لِأَنَّهُ بَطَلَ لِكَوْنِهِ مَجْهُولَ الصِّفَةِ . قِيلَ : فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بُطْلَانُهُ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ ، لِأَنَّ السَّلَمَ يَصِحُّ وَهُوَ غَيْرُ مُعَيَّنٍ ، فَثَبَتَ أَنَّهُ بَطَلَ لِكَوْنِهِ مَجْهُولَ الصِّفَةِ ، وَيُمْكِنُ تَسْلِيمُ عَبْدٍ وَسَطٍ . وَلِأَنَّهُ بَيْعُ عَيْنٍ لَمْ يَرَ شَيْئًا مِنْهَا ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ كَالسَّمَكِ فِي الْمَاءِ حكم بيعه وَالطَّيْرِ فِي
الْهَوَاءِ حكم بيعه . وَلِأَنَّهُ خِيَارٌ مُمْتَدٌّ بَعْدَ الْمَجْلِسِ غَيْرُ مَوْضُوعٍ لِاسْتِدْرَاكِ الْغَبْنِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ صِحَّةَ الْعَقْدِ ، أَصْلُهُ إِذَا اشْتَرَطَ خِيَارًا مُطْلَقًا . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ : إِنْ سُلِّمَ أَنَّهَا عَامَّةٌ فَخَصَّصَهَا بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَدِلَّةِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ : فَقَدْ قَالَ الْحُفَّاظُ مِنْ حَمَلَةِ الْآثَارِ وَالْجَهَابِذَةُ مِنْ نَقَلَةِ الْأَخْبَارِ : إِنَّ عُمَرَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ الْأَهْوَازِيَّ تَفَرَّدَ بِرِوَايَتِهِ ، وَهُوَ مَشْهُورٌ بِاخْتِرَاعِ الْأَحَادِيثِ وَوَضْعِهَا ، وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ مَنْزِلَتَهُ ، فَغَيْرُ مُلْتَفَتٍ إِلَى رِوَايَتِهِ . عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَحَّ ، لَأَمْكَنَ اسْتِعْمَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ قَوْلَهُ " مَنِ اشْتَرَى مَا لَمْ يَرَهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِذَا رَآهُ " فِي الِاسْتِئْنَافِ لِلْعَقْدِ عَلَيْهِ ، لَا فِي اسْتِصْحَابِ الْعَقْدِ الْمُتَقَدِّمِ مِنْهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى السَّلَمِ الَّذِي لَمْ يَرَهُ ، فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِذَا رَآهُ نَاقِصًا عَنِ الصِّفَةِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَنِ اشْتَرَى مَا لَمْ يَرَهُ فِي حَالِ الْعَقْدِ إِذَا كَانَ قَدْ رَآهُ قَبْلَ الْعَقْدِ ، فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِذَا وَجَدَهُ نَاقِصًا فِيمَا بَعْدُ . أَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ مِنَ الْإِجْمَاعِ : فَقَدْ خَالَفَ فِيهِ عُمَرَ ، فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ إِجْمَاعًا يُحْتَجُّ بِهِ ، أَوْ دَلَالَةً تَلْزَمُ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عُمَرُ مُخَالِفًا ، لَكَانَ قَوْلُ خَمْسَةٍ لَا يُعْلَمُ انْتِشَارُهُ فِي جَمِيعِهِمْ ، وَالْقِيَاسُ يُخَالِفُهُ ، فَوَجَبَ أَنْ يُقَدَّمَ عَلَيْهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى النِّكَاحِ ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الْجَمْعِ ، وَهُوَ أَنَّ الرُّؤْيَةَ مَوْضُوعَةٌ لِاسْتِدْرَاكِ الصِّفَةِ وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ فِي النِّكَاحِ صِفَةَ الْمَنْكُوحَةِ ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ فِيهِ الْوَصْلَةَ ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ وَجَدَهَا مَعِيبَةً لَمْ يَكُنْ لَهُ خِيَارٌ ، فَكَذَلِكَ لَمْ يَكُنِ الْجَهْلُ بِصِفَاتِهَا مَانِعًا مِنْ صِحَّةِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا ، وَصِفَاتُ الْمَبِيعِ مَقْصُودَةٌ فِي الْبَيْعِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ وَجَدَهُ مَعِيبًا كَانَ لَهُ الْخِيَارُ ، وَكَذَلِكَ كَانَ الْجَهْلُ بِصِفَاتِهِ مَانِعًا مِنْ صِحَّةِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ . عَلَى أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَدْ فَرَّقَ بَيْنَ النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ فِي الرُّؤْيَةِ ، فَقَالَ : عَقْدُ النِّكَاحِ لَازِمٌ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ ، وَعَقْدُ الْبَيْعِ فِي الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ لَا يَلْزَمُ إِلَّا بِالرُّؤْيَةِ . فَيُقَالَ لَهُ : لَمَّا كَانَتِ الرُّؤْيَةُ شَرْطًا فِي لُزُومِ الْبَيْعِ ، كَانَتْ شَرْطًا فِي انْعِقَادِهِ ، وَلَمَّا لَمْ تَكُنِ الرُّؤْيَةُ شَرْطًا فِي لُزُومِ النِّكَاحِ ، لَمْ تَكُنْ شَرْطًا فِي انْعِقَادِهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : إِنَّ فَقْدَ الرُّؤْيَةِ يُوقِعُ الْجَهْلَ بِصِفَاتِ الْمَبِيعِ ، وَالْجَهْلُ بِصِفَاتِ الْمَبِيعِ ، يُوجِبُ الْخِيَارَ ، وَلَا يُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ كَالْمَعِيبِ وَالْمَسْتُورِ بِقِشْرِهِ . فَهُوَ أَنَّ الْمَعِيبَ وَالْمَسْتُورَ بِقِشْرِهِ قَدْ جُهِلَ بَعْضُ صِفَاتِهِ ، وَالْغَائِبُ قَدْ جَهِلَ جَمِيعَ صِفَاتِهِ ، وَالْجَهْلُ بِبَعْضِ الصِّفَاتِ لَا يُسَاوِي حُكْمَ الْجَهْلِ بِجَمِيعِهَا ، لِأَمْرَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَدْ يُسْتَدَلُّ بِالْأَمْرِ الْمُشَاهَدِ عَلَى مَا لَيْسَ بُمَشَاهَدٍ ، فَيَصِيرُ الْكُلُّ فِي حُكْمِ الْمَعْلُومِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْغَائِبُ الَّذِي لَمْ يُشَاهَدْ شَيْئًا مِنْهُ . وَالثَّانِي : أَنَّ الرُّؤْيَةَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : رُؤْيَةٌ لَا تَلْحَقُ فِيهَا الْمَشَقَّةَ وَهِيَ رُؤْيَةُ الْجُمْلَةِ دُونَ [ جَمِيعِ ] الْأَجْزَاءِ ، وَرُؤْيَةٌ تَلْحَقُ فِيهَا الْمَشَقَّةَ وَهِيَ رُؤْيَةُ جَمِيعِ الْأَجْزَاءِ كَالْعُيُوبِ الْخَفِيَّةِ وَالْمَأْكُولَاتِ الَّتِي فِي قُشُورِهَا . فَالرُّؤْيَةُ الَّتِي تَجِبُ وَتَكُونُ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ ، هِيَ رُؤْيَةُ الْجُمْلَةِ لِعَدَمِ الْمَشَقَّةِ فِيهَا [ دُونَ رُؤْيَةِ جَمِيعِ الْأَجْزَاءِ لِوُجُودِ الْمَشَقَّةِ فِيهَا ] . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : لَوْ كَانَتِ الرُّؤْيَةُ شَرْطًا كَالصِّفَةِ ، لَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ رُؤْيَةُ الْجَمِيعِ شَرْطًا كَالصِّفَةِ : فَهُوَ أَنَّ رُؤْيَةَ الْبَعْضِ قَدْ أُقِيمَتْ فِي الشَّرْعِ مَقَامَ رُؤْيَةِ الْكُلِّ ، بِدَلِيلِ أَنَّ مَا لَمْ يُشَاهَدْ مِنْهُ لَا خِيَارَ فِيهِ إِذَا شُوهِدَ إِلَّا بِوُجُودِ عَيْبٍ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ كَالْمُشَاهَدِ ، لَثَبَتَ فِيهِ الْخِيَارُ كَالْغَائِبِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الصِّفَةُ : لِأَنَّ صِفَةَ الْبَعْضِ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهَا فِي الشَّرْعِ حُكْمُ صِفَةِ الْكُلِّ ، فَافْتَرَقَا مِنْ حَيْثُ ظُنَّ أَنَّهُمَا قَدِ اجْتَمَعَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : لَوْ كَانَتِ الرُّؤْيَةُ شَرْطًا ، لَكَانَ وُجُودُهَا حَالَ الْعَقْدِ شَرْطًا كَالصِّفَةِ فِي السَّلَمِ . فَهُوَ أَنَّ الرُّؤْيَةَ قَبْلَ الْعَقْدِ تَجْعَلُ الْمَبِيعَ مَعْلُومًا فِي حَالِ الْعَقْدِ ، وَالصِّفَةُ قَبْلَ الْعَقْدِ لَا تَجْعَلُ الْمُسَلَّمَ فِيهِ مَعْلُومًا فِي حَالِ الْعَقْدِ ، فَلِذَلِكَ لَزِمَ أَنْ تَكُونَ الصِّفَةُ مَعَ الْعَقْدِ ، وَلَمْ يَلْزَمْ أَنْ تَكُونَ الرُّؤْيَةُ مَعَ الْعَقْدِ . فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ بَيْعَ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ بَاطِلٌ إِذَا لَمْ تُوصَفْ ، فَفِي جَوَازِ بَيْعِهَا إِذَا وُصِفَتْ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ . نَصَّ عَلَيْهِ فِي سِتَّةِ كُتُبٍ : فِي الْقَدِيمِ ، وَالْإِمْلَاءِ ، وَالصُّلْحِ ، وَالصَّدَاقِ ، وَالصَّرْفِ ، وَالْمُزَارِعَةِ ، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ، وَهُوَ أَظْهَرُهُمَا : نَصَّ عَلَيْهِ فِي سِتَّةِ كُتُبٍ : فِي الرِّسَالَةِ ، وَالسُّنَنِ ، وَالْإِجَارَةِ ، وَالْغَصْبِ ، وَالِاسْتِبْرَاءِ ، وَالصَّرْفِ فِي بَابِ الْعُرُوضِ . وَبِهِ قَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ ، وَالْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ وَالرَّبِيعِ ، وَالْبُوَيْطِيِّ .
وَقَدْ يَدْخُلُ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْحَجَّاجِينَ . فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ : فَإِنَّهُ احْتَجَّ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ عَلَى بُطْلَانِ بَيْعِ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ ، بِشَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ قَالَ : أَصْلُ قَوْلِهِ وَمَعْنَاهُ : أَنَّ الْبَيْعَ بَيْعَانِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا : صِفَةٌ مَضْمُونَةٌ ، وَعَيْنٌ مَعْرُوفَةٌ . وَالثَّانِي : أَنْ قَالَ : فَإِنَّهُ يَبْطُلُ بَيْعُ الثَّوْبِ يُرَى بَعْضُهُ ، فَكَيْفَ يُجِيزُ شِرَى مَا لَمْ يَرَ شَيْئًا مِنْهُ قَطُّ ، وَلَا يَدْرِي أَنَّهُ ثَوْبٌ أَمْ لَا ، حَتَّى يُجْعَلَ لَهُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ . وَالْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ مِنَ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الشَّافِعِيَّ إِنَّمَا قَالَ : الْبَيْعُ بَيْعَانِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا ، عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي لَا يُجِيزُ فِيهِ بَيْعَ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ . فَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْأَخِيرِ ، فَقَدْ قَالَ فِي كِتَابِ الصَّرْفِ فِي بَابِ بَيْعِ الْعُرُوضِ وَلَا يَجُوزُ مِنَ الْبُيُوعِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ : بَيْعُ عَيْنٍ حَاضِرَةٍ ، وَبَيْعُ عَيْنٍ غَائِبَةٍ ، فَإِذَا رَآهَا الْمُشْتَرِي فَلَهُ الْخِيَارُ ، وَصِفَةٌ مَضْمُونَةٌ ، فَبَطَلَ هَذَا . وَالثَّانِي : أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَصَدَ بِقَوْلِهِ : الْبَيْعُ بَيْعَانِ ، الْفَرْقَ بَيْنَ بُيُوعِ الصِّفَاتِ الْمَضْمُونَةِ فِي الذِّمَمِ ، وَبَيْنَ بُيُوعِ الْأَعْيَانِ غَيْرِ الْمَضْمُونَةِ فِي الذِّمَمِ . وَهَذَا يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ : عَيْنٌ حَاضِرَةٌ ، وَعَيْنٌ غَائِبَةٌ . وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي : فِي بَيْعِ الثَّوْبِ يُرَى بَعْضُهُ : فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ إِنَّمَا أَبْطَلَ بَيْعَ الثَّوْبِ يُرَى بَعْضُهُ ، عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي لَا يُجِيزُ فِيهِ بَيْعَ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ ، فَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يُجِيزُهُ ، فَهَذَا الْبَيْعُ أَجْوَزُ ، وَكَيْفَ يُجِيزُ بَيْعَ مَا لَمْ يَرَ شَيْئًا مِنْهُ : وَلَا يُجِيزُ بَيْعَ ذَلِكَ الشَّيْءَ وَقَدْ رَأَى بَعْضَهُ : هَذَا مِمَّا لَا يُتَوَهَّمُ عَلَى الشَّافِعِيِّ . فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ احْتِجَاجُ الْمُزَنِيِّ بِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ بَيْعَ الثَّوْبِ يُرَى بَعْضُهُ لَا يَجُوزُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ بيع الثوب يرى بعضه مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الثَّوْبَ إِذَا رَأَى بَعْضَهُ اجْتَمَعَ فِيهِ حُكْمَانِ مُخْتَلِفَانِ ، لِأَنَّ مَا رَأَى مِنْهُ لَا خِيَارَ لَهُ فِيهِ ، وَمَا لَمْ يَرَ مِنْهُ لَهُ فِيهِ الْخِيَارُ ، فَصَارَا حُكْمَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ جَمَعَهُمَا عَقْدٌ وَاحِدٌ ، فَبَطَلَ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا كَانَ غَائِبًا كُلَّهُ . وَالثَّانِي : أَنَّ بَيْعَ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ إِنَّمَا أُجِيزَ عَلَى خِيَارِ الرُّؤْيَةِ ، لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الرُّؤْيَةِ ، لِيَنْفَعَ النَّفْعَ الْعَاجِلَ لِلْبَائِعِ بِتَعْجِيلِ الثَّمَنِ ، وَلِلْمُشْتَرِي بِالِاسْتِرْخَاصِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْعَيْنِ الْحَاضِرَةِ : لِأَنَّ الضَّرُورَةَ لَيْسَتْ دَاعِيَةً إِلَيْهِ وَلَا الرُّؤْيَةُ مُتَعَذِّرَةٌ مِنْهُ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ بَيْعَ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ إِذَا وُصِفَتْ عَلَى قَوْلَيْنِ . فَإِنْ قِيلَ : إِنْ بَيْعَهَا غَيْرُ جَائِزٍ فَلَا تَفْرِيعَ عَلَيْهِ . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ بَيْعَهَا جَائِزٌ إِذَا وُصِفَتْ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْبَائِعِ الْوَاصِفِ لَهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ وَصَفَهَا عَنْ مُشَاهَدَةٍ ، أَوْ عَنْ صِفَةٍ : فَإِنْ كَانَ قَدْ وَصَفَهَا عَنْ مُشَاهَدَةٍ ، جَازَ . وَإِنْ كَانَ قَدْ وَصَفَهَا عَنْ صِفَةٍ : لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ وَكَّلَ فِي ابْتِيَاعِهَا وكيَلًا ، وَوَصَفَهَا الْوَكِيلُ لَهُ بَعْدَ الِابْتِيَاعِ مِنْ غَيْرِ مُشَاهِدَةٍ ، ثُمَّ وَصَفَهَا الْبَائِعُ عَنْ صِفَةِ الْوَكِيلِ ، فَفِي جَوَازٍ ذَلِكَ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ جَائِزٌ : لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَشْتَرِيَ الْمُشْتَرِي بِالصِّفَةِ مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ : جَازَ أَنْ يَبِيعَ الْبَائِعُ بِالصِّفَةِ مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَبِيعَ إِذَا لَمْ يَرَهُ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي ، كَانَ أَكْثَرَ غَرَرًا ، وَإِذَا لَمْ يَرَهُ الْمُشْتَرِي وَحْدَهُ ، كَانَ أَقَلَّ غَرَرًا ، وَالْغَرَرُ إِذَا قَلَّ فِي الْعَقْدِ أو كثر عُفِيَ عَنْهُ ، وَإِذَا كَثُرَ لَمْ يُعْفَ عَنْهُ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْبَائِعَ إِذَا وَصَفَهَا مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ ، صَارَ بَائِعًا لَهَا بِصِفَةٍ عَنْ صِفَةٍ . وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ كَالْأَعْمَى فِي بُيُوعِ الْأَعْيَانِ لَا يَصِحُّ مِنْهُ : لِأَنَّهُ يَبِيعُهَا بِصِفَةٍ عَنْ صِفَةٍ . فَعَلَى هَذَيْنِ التَّعْلِيلَيْنِ لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ رَأَى الْمَبِيعَ وَلَمْ يَرَهُ الْبَائِعُ لَكِنْ وَصْفَهُ لَهُ ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يَجُوزُ لِقِلَّةِ الْغَرَرِ بِرُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا ، وَعَلَى التَّعْلِيلِ الثَّانِي لَا يَجُوزُ ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ بَائِعًا بِصِفَةٍ عَنْ صِفَةٍ . فَصْلٌ : فَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الصِّفَةِ : فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ . فَالْجِنْسُ أَنْ يَقُولَ : عَبْدٌ أَوْ ثَوْبٌ . وَالنَّوْعُ أَنْ يَقُولَ فِي الثَّوْبِ : إِنَّهُ قُطْنٌ أَوْ كِتَّانٌ ، وَفِي الْعَبْدِ أَنْ يَقُولَ : رُومِيٌّ أَوْ زِنْجِيٌّ ، لِيَصِيرَ الْمَبِيعُ مَعْلُومَ الْجُمْلَةِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي . وَهَلْ يُحْتَاجُ مَعَ ذِكْرِ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ إِلَى ذِكْرِ الصِّفَةِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُحْتَاجُ إِلَى ذِكْرِ الصِّفَةِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ : لِأَنَّهُ مَبِيعٌ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالذِّمَّةِ ، فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى صِفَةٍ كَسَائِرِ الْأَعْيَانِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الصِّفَةِ ، لِأَنَّهُ مَبِيعٌ غَائِبٌ ، فَافْتَقَرَ إِلَى ذِكْرِ الصِّفَةِ كَالْمُسَلَّمِ فِيهِ . فَعَلَى هَذَا إِذَا قِيلَ : إِنَّ الصِّفَةَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ ، فَهَلْ يَصِحُّ أَنْ يَصِفَهُ بِأَقَلِّ صِفَاتِهِ أَوْ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِذِكْرِ أَكْثَرِ صِفَاتِهِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَصِفَهُ بِأَقَلِّ صِفَاتِهِ : لِأَنَّهُ قَدْ يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنِ الْجَهَالَةِ . فَعَلَى هَذَا يَذْكُرُ فِي الْعَبْدِ الرُّومِيِّ بِصِفَةٍ أَنَّهُ خُمَاسِيٌّ أَوْ سُدَاسِيٌّ ، وَفِي الثَّوْبِ الْقُطْنِ أَنَّهُ مَرْوِيٌّ أَوْ هُرَوِيٌّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَصِحُّ حَتَّى يَصِفَهُ بِأَكْثَرِ صِفَاتِهِ : لِيَتَمَيَّزَ بِكَثْرَةِ الصِّفَاتِ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْمَوْصُوفَاتِ . فَعَلَى هَذَا يَذْكُرُ فِي الْعَبْدِ الرُّومِيِّ الْخُمَاسِيِّ قَدَّهُ وَبَدَنَهُ ، وَفِي الثَّوْبِ الْقُطْنِ الْمَرْوِيِّ طُولَهُ وَعَرْضَهُ . فَأَمَّا ذِكْرُ جَمِيعِ صِفَاتِهِ فَلَيْسَتْ شَرْطًا بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا ، فَإِنَّ وَصْفَهُ بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ ، فَقَالَ الْبَغْدَادِيُّونَ : يَجُوزُ : لِأَنَّهُ أَنْفَى لِلْجَهَالَةِ ، وَأَبْلَغُ فِي التَّمْيِيزِ . وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ : لَا يَجُوزُ : لِأَنَّهُ يَخْرُجُ عَنْ بُيُوعِ الْأَعْيَانِ ، وَيَصِيرُ مِنْ بُيُوعِ السَّلَمِ ، وَالسَّلَمُ فِي الْأَعْيَانِ لَا يَجُوزُ ، فَكَذَلِكَ وَصْفُ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ بِجَمِيعِ صِفَاتِهَا في البيوع لَا يَجُوزُ . فَهَذَا حُكْمُ الصِّفَةِ .
فَصْلٌ بَيَانُ مَوْضِعِ الْبَيْعِ
فَصْلٌ : [ بَيَانُ مَوْضِعِ الْبَيْعِ ] فَأَمَّا ذِكْرُ مَوْضِعِ الْمَبِيعِ ، فَيَخْتَلِفُ بِحَسْبِ اخْتِلَافِ الْمَبِيعِ . فَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ مِمَّا لَا يُنْقَلُ كَالْأَرْضِ وَالْعَقَارِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ ، فَيَقُولُ : بِعْتُكَ دَارًا بِالْبَصْرَةِ أَوْ بَغْدَادَ : لِأَنَّ بِذِكْرِ الْبَلَدِ ، يَتَحَقَّقُ ذِكْرُ الْجِنْسِ ، وَيَصِيرُ فِي جُمْلَةِ الْمَعْلُومِ . فَأَمَّا ذِكْرُ الْبُقْعَةِ مِنَ الْبَلَدِ ؟ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَلْزَمُ ذِكْرُهَا . وَالثَّانِي : لَا يَلْزَمُ ذِكْرُهَا ؟ لِأَنَّ الْبُقْعَةَ تَجْرِي مَجْرَى الصِّفَةِ . فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمَبِيعُ الْغَائِبُ مِمَّا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ كَالْعَبْدِ وَالثَّوْبِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْبَلَدِ الَّذِي هُوَ فِيهِ : لِأَنَّ الْقَبْضَ يَتَعَجَّلُ إِنْ كَانَ الْبَلَدُ قَرِيبًا ، وَيَتَأَخَّرُ إِنْ كَانَ الْبَلَدُ بَعِيدًا ، فَافْتَقَرَ الْعَقْدُ إِلَى ذِكْرِهِ : لِيُعْلَمَ بِهِ تَعْجِيلُ الْقَبْضِ مِنْ تَأْخِيرِهِ . فَأَمَّا ذِكْرُ الْبُقْعَةِ مِنَ الْبَلَدِ ، فَلَا يَلْزَمُ : لِأَنَّ الْبَلَدَ الْوَاحِدَ لَا يَخْتَلِفُ أَطْرَافُهُ كَالْبِلَادِ الْمُخْتَلِفَةِ . فَإِذَا ذُكِرَ لَهُ الْبَلَدُ الَّذِي هُوَ فِيهِ ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يُسَلِّمَهُ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ لَا فِي غَيْرِهِ ، فَإِنَّ شَرْطَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ أَنْ يُسَلِّمَهُ إِلَيْهِ فِي الْبَلَدِ الَّذِي تَبَايَعَا فِيهِ وَهُوَ فِي غَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ ، وَكَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا . فَإِذَا قِيلَ : أَلَيْسَ لَوْ شُرِطَ فِي السَّلَمِ أَنْ يُسَلِّمَهُ فِي بَلَدٍ بِعَيْنِهِ جَازَ ، فَهَلَّا جَازَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ ؟ .
قِيلَ : لِأَنَّ السَّلَمَ مَضْمُونٌ فِي الذِّمَّةِ ، وَلَيْسَ يَخْتَصُّ بِمَوْضِعٍ دُونَ غَيْرِهِ ، فَاسْتَوَى جَمِيعُ الْمَوَاضِعِ فِيهِ ، فَافْتَقَرَ إِلَى ذِكْرِ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَقَعُ الْقَبْضُ فِيهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْعَيْنُ الْغَائِبَةُ ، لِأَنَّهَا غَيْرُ مَضْمُونَةٍ فِي الذِّمَّةِ ، وَهِيَ مُعَيَّنَةٌ قَدِ اخْتُصَّتْ بِمَوْضِعٍ هِيَ فِيهِ فَلَمْ يَجُزِ اشْتِرَاطُ نَقْلِهَا إِلَى غَيْرِهِ : لِأَنَّهُ يَصِيرُ تَبَعًا وَشَرْطًا فِي مَعْنَى بَيْعِ ثَوْبٍ عَلَى أَنَّهُ عَلَى الْبَائِعِ خِيَاطَتُهُ ، أَوْ طَعَامٌ أَنَّ عَلَى الْبَائِعِ طَحْنَهُ . هَلِ الْعَقْدُ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ تَامٌّ أَمْ لَا رؤية المبيع ؟ فَإِذَا عُقِدَ بَيْعُ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ عَلَى الْوَصْفِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ . فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ الْعَقْدُ تَامًّا قَبْلَ الرُّؤْيَةِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : أَنَّ الْعَقْدَ لَيْسَ بِتَامٍّ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ : لِأَنَّ تَمَامَ الْعَقْدِ يَكُونُ بِالرِّضَا بِهِ ، وَقَبْلَ الرُّؤْيَةِ لَمْ يَقَعِ الرِّضَا بِهِ ، فَلَمْ يَكُنِ الْعَقْدُ تَامًّا ، فَعَلَى هَذَا ، لَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا بَطَلَ الْعَقْدُ ، وَلَمْ يَقُمْ وَارِثُهُ مَقَامَهُ : لِأَنَّ الْعُقُودَ غَيْرَ اللَّازِمَةِ ، تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ جُنَّ أَحَدُهُمَا ، أَوْ حُجِرَ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ بَطَلَ الْعَقْدُ . وَعَلَى هَذَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ الْعَقْدَ قَدْ تَمَّ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ بِالْبَذْلِ وَالْقَبُولِ ، وَإِنَّمَا فِيهِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا ، كَسَائِرِ الْبُيُوعِ . فَعَلَى هَذَا لَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا لَمْ يَبْطُلِ الْعَقْدُ ، وَقَامَ وَارِثُهُ مَقَامَهُ وَكَذَلِكَ لَوْ جُنَّ أَحَدُهُمَا ، أَوْ حُجِرَ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ ، لَمْ يَبْطُلِ الْعَقْدُ وَقَامَ وَلَيُّهُ مَقَامَهُ . وَعَلَى هَذَا لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ وَقَبْلَ الرُّؤْيَةِ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ .
فَصْلٌ بَيَانُ وَقْتِ الْخِيَارِ
فَصْلٌ : [ بَيَانُ وَقْتِ الْخِيَارِ ] فَإِذَا رَأَى الْمُشْتَرِي السِّلْعَةَ الْمَبِيعَةَ ، فَهَلْ يَثْبُتُ لَهُ خِيَارُ الْمَجْلِسِ أَوْ خِيَارُ الْعَيْبِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَثْبُتُ لَهُ خِيَارُ الْمَجْلِسِ - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ - لِأَنَّ عِنْدَهُ بِالرُّؤْيَةِ تَمَّ الْعَقْدُ . فَعَلَى هَذَا لَهُ الْخِيَارُ فِي الْفَسْخِ عَلَى التَّرَاخِي ، مَا لَمْ يُفَارِقْ مَجْلِسَهُ ، سَوَاءٌ وَجَدَ السِّلْعَةَ نَاقِصَةً عَمَّا وُصِفَتْ أَمْ لَا . وَلَهُ أَنْ يَشْتَرِطَ فِي الْمَجْلِسِ خِيَارَ الثَّلَاثِ ، وَتَأْجِيلَ الثَّمَنِ ، وَالزِّيَادَةَ فِيهِ ، وَالنُّقْصَانَ مِنْهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَثْبُتُ لَهُ بِالرُّؤْيَةِ خِيَارُ الْعَيْبِ - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ - لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ بِالْبَذْلِ وَالْقَبُولِ قَدْ تَمَّ الْعَقْدُ . فَعَلَى هَذَا إِنْ وَجَدَهَا عَلَى مَا وُصِفَتْ لَمْ يَكُنْ لَهُ خِيَارٌ ، وَإِنْ وَجَدَهَا نَاقِصَةً ، كَانَ لَهُ الْخِيَارُ فِي الْفَسْخِ عَلَى الْفَوْرِ .
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ خِيَارُ الثَّلَاثِ ، وَلَا تَأْجِيلُ الثَّمَنِ ، وَلَا الزِّيَادَةُ فِيهِ وَالنُّقْصَانُ مِنْهُ . فَصْلٌ : فَأَمَّا خِيَارُ الْبَائِعِ ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَيْعُهُ عَنْ رُؤْيَةٍ ، أَوْ عَنْ صِفَةٍ : فَإِنْ كَانَ بَيْعُهُ عَنْ رُؤْيَةٍ ، فَهَلْ لَهُ الْخِيَارُ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَهُ الْخِيَارُ في بيع الرؤية - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ - لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ بِالرُّؤْيَةِ يَثْبُتُ خِيَارُ الْمَجْلِسِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا خِيَارَ لَهُ - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ - لِأَنَّهُ يَقُولُ : إِنَّ الْعَقْدَ قَدْ تَمَّ ، وَبِالرُّؤْيَةِ يَثْبُتُ خِيَارُ الْعَيْبِ . وَإِنْ كَانَ بَيْعُهُ عَنْ صِفَةٍ ، وَجَوَّزْنَاهُ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْمَبِيعِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَجِدَهُ زَائِدًا عَلَى مَا وُصِفَ لَهُ ، أَوْ غَيْرَ زَائِدٍ . فَإِنْ وَجَدَهُ زَائِدًا عَمَّا وُصِفَ لَهُ ، فَلَهُ الْخِيَارُ فِي الْفَسْخِ ، لَا يَخْتَلِفُ ، كَالْمُشْتَرِي إِذَا رَآهُ نَاقِصًا . وَهَلْ يَكُونُ خِيَارُهُ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ عَلَى التَّرَاخِي ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : عَلَى التَّرَاخِي مَا لَمْ يُفَارِقْ مَجْلِسَهُ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ . وَالثَّانِي : عَلَى الْفَوْرِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ . فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ زَائِدًا ، فَهَلْ لَهُ الْخِيَارُ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ : لَهُ الْخِيَارُ : لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ الْعَقْدَ يَتِمُّ بِالرُّؤْيَةِ ، وَيَثْبُتُ بَعْدَهَا خِيَارُ الْمَجْلِسِ . وَالثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : لَا خِيَارَ لَهُ : لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ الْعَقْدَ قَدْ تَمَّ بِالْبَذْلِ وَالْقَبُولِ ، وَيَثْبُتُ بِالرُّؤْيَةِ خِيَارُ الْعَيْبِ . فَهَذَا الْكَلَامُ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ عَلَى خِيَارِ الرُّؤْيَةِ ، وَمَا يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامٍ . فَصْلٌ : فَأَمَّا بَيْعُ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ بِغَيْرِ شَرْطِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ ، فَبَاطِلٌ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمَذْهَبُ : لِأَنَّهُ بَيْعٌ نَاجِزٌ عَلَى عَيْنٍ غَائِبَةٍ ، وَهُوَ أَصْلُ الْغَرَرِ . وَأَمَّا بَيْعُ الْعَيْنِ الْحَاضِرَةِ عَلَى شَرْطِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ ، كَثَوْبٍ فِي سَفَطٍ ، أَوْ مَطْوِيٍّ ، يَبِيعُهُ مَوْصُوفًا مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ ، بِشَرْطِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ . فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ كَبَيْعِ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ : لِأَنَّ الْحَاضِرَ يُسَاوِي الْغَائِبَ فِي الْعِلْمِ بِهِ إِذَا وُصِفَ ، وَيَزِيدُ عَلَيْهِ فِي زَوَالِ الْغَرَرِ بِتَعْجِيلِ الْقَبْضِ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَوْلًا وَاحِدًا ، بِخِلَافِ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ ، وَابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : لِأَنَّ الْحَاضِرَ مَقْدُورٌ عَلَى رُؤْيَتِهِ ، فَارْتَفَعَتِ الضَّرُورَةُ فِي جَوَازِ بَيْعِهِ عَلَى خِيَارِ الرُّؤْيَةِ ، وَالْغَائِبُ لَمَّا لَمْ يُقْدَرْ عَلَى رُؤْيَتِهِ دَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى جَوَازِ بَيْعِهِ عَلَى خِيَارِ الرُّؤْيَةِ . فَأَمَّا بَيْعُ السَّلْجَمِ ، وَالْجَزَرِ ، وَالْبَصَلِ ، وَالْفِجْلِ ، فِي الْأَرْضِ قَبْلَ قَلْعِهِ عَلَى شَرْطِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ . فَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُخْرِجُ جَوَازَ بَيْعِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْعَيْنِ الْغَائِبَةِ . وَقَالَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا : إِنَّ بَيْعَ ذَلِكَ بَاطِلٌ قَوْلًا وَاحِدًا . وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ وَصْفَ الْغَائِبِ مُمْكِنٌ : لِتَقَدُّمِ الرُّؤْيَةِ لَهُ ، وَوَصْفُ هَذَا فِي الْأَرْضِ قَبْلَ قَلْعِهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إِذَا فَسَخَ بَيْعَ الْغَائِبِ ، أُمْكِنَ رَدُّهُ إِلَى حَالِهِ ، وَإِذَا فَسَخَ بَيْعَ هَذَا الْمَقْلُوعِ مِنَ الْأَرْضِ ، لَمْ يُمْكِنْ رَدُّهُ إِلَى حَالِهِ . فَأَمَّا بَيْعُ التَّمْرِ الْمَكْنُونِ فِي قَوَاصِرِهِ وَجِلَالِهِ : فَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُخْرِجُ بَيْعَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْغَائِبِ . وَقَالَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ : يَجُوزُ بَيْعُهُ فِي قَوَاصِرِهِ ، قَوْلًا وَاحِدًا إِذَا شَاهَدَ رَأَسَ كُلِّ قَوْصَرَّةٍ : لِأَنَّ فِي كَسْرِ كُلِّ قَوْصَرَّةٍ لِمُشَاهَدَةِ مَا فِيهَا مَشَقَّةً وَفَسَادًا ، وَقَدْ أَجْمَعَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْأَعْصَارِ بِالْبَصْرَةِ . وَأَمَّا مَا سِوَى التَّمْرِ مِنَ الْأَمْتِعَةِ الَّتِي فِي أَوْعِيَتِهَا ، فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَائِبًا ، أَوْ غَيْرَ ذَائِبٍ . فَإِنْ كَانَ ذَائِبًا كَالزَّيْتِ وَالْعَسَلِ ، فَإِذَا شَاهَدَ يَسِيرًا مِمَّا فِي الْوِعَاءِ أَجْزَأَهُ عَنْ مُشَاهَدَةِ جَمِيعِهِ ، وَجَازَ بَيْعُهُ قَوْلًا وَاحِدًا ، كَالصُّبْرَةِ مِنَ الطَّعَامِ . وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَائِبٍ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مِمَّا تَتَفَاوَتُ أَجْزَاؤُهُ ، وَيُبَايِنُ بَعْضُهُ بَعْضًا ، كَالثِّيَابِ ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا إِلَّا بِمُشَاهَدَةِ جَمِيعِهَا ، إِلَّا أَنْ يَبِيعَهَا مِنْ غَيْرِ مُشَاهِدَةٍ بِشَرْطِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ ، فَيَكُونُ فِي حُكْمِ بَيْعِ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ أَوِ الْحَاضِرَةِ عَلَى خِيَارِ الرُّؤْيَةِ . وَالثَّانِي : إِنْ كَانَ مِمَّا تَتَمَاثَلُ أَجْزَاؤُهُ فِي الْغَالِبِ ، أَوْ تَتَقَارَبُ كَالدَّقِيقِ وَالْقُطْنِ . فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ إِلَّا بِرُؤْيَةِ جَمِيعِهِ كَالثِّيَابِ . وَقَالَ آخَرُونَ : يَجُوزُ بَيْعُهُ بِرُؤْيَةِ بَعْضِهِ كَالذَّائِبِ .
فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الصَّرْفِ : وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ مُؤَجَّلًا وَلَا بِصِفَةٍ . فَأَمَّا قَوْلُهُ : مُؤَجَّلًا : يَعْنِي بِهِ تَأْجِيلَ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ ، كَقَوْلِهِ بِعْتُكَ دَارًا بِالْبَصْرَةِ ، أَوْ بَغْدَادَ ، عَلَى أَنْ أُسَلِّمَهَا إِلَيْكَ بَعْدَ شَهْرٍ ، فَهَذَا بَاطِلٌ ، لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى عَيْنٍ بِشَرْطِ تَأْخِيرِ الْقَبْضِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَبَضُ الْغَائِبِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُؤَخَّرًا . قِيلَ : هُوَ مُؤَخَّرٌ بِغَيْرِ أَجْلٍ مَحْدُودٍ ، فَجَازَ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَعَ الشَّرْطِ ، لِأَنَّهُ قَدْ يَقْدِرُ عَلَى التَّسْلِيمِ قَبْلَ الْأَجَلِ ، فَيُؤَخِّرُهُ لِأَجْلِ الشَّرْطِ ، وَقَدْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْأَجَلِ ، فَيَلْزَمُ تَسْلِيمُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ بِالشَّرْطِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : وَلَا بِصِفَةٍ . فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ تَأْوِيلُ الْبَصْرِيِّينَ : أَنْ يَصِفَ الْعَيْنَ الْغَائِبَةَ بِجَمِيعِ صِفَاتِهَا ، فَلَا يَجُوزُ : لِأَنَّهَا تَصِيرُ عَلَى قَوْلِهِمْ فِي مَعْنَى السَّلَمِ فِي الْأَعْيَانِ . وَالثَّانِي : تَأْوِيلُ الْبَغْدَادِيِّينَ : أَنْ يَجْعَلَ بَيْعَ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ مَضْمُونًا فِي ذِمَّتِهِ ، فَلَا يَجُوزُ كَالسَّلَمِ فِي الْأَعْيَانِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَيَجُوزُ بَيْعُ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ بِثَمَنٍ حَالٍّ وَمُؤَجَّلٍ : لِأَنَّ بُيُوعَ الْأَعْيَانِ يَصِحُّ تَأْجِيلُ الثَّمَنِ فِيهَا ، سَوَاءً كَانَتِ الْعَيْنُ حَاضِرَةً أَوْ غَائِبَةً ، لِأَنَّهُ بَيْعُ عَيْنٍ بِدَيْنٍ ، وَلَيْسَ كَالسَّلَمِ الْمَضْمُونِ فِي الذِّمَمِ ، فَلَا يَصِحُّ بَيْعُهُ بِمُؤَجَّلٍ : لِأَنَّهُ يَصِيرُ فِي مَعْنَى بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ . فَهَذَا جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي بَيْعِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَمَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ وَيَتَّصِلُ بِهِ . فَصْلٌ : فَأَمَّا بَيْعُ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ مَعَ تَقَدُّمِ الرُّؤْيَةِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي قَدْ شَاهَدَا السِّلْعَةَ ثُمَّ غَابَا عَنْهَا ، وَعَقْدَا الْبَيْعَ عَلَيْهَا . فَلَا يَخْلُو حَالُ الرُّؤْيَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَكُونَ قَرِيبَةَ الْمُدَّةِ ، أَوْ بَعِيدَتَهَا . فَإِنْ كَانَتِ الْمُدَّةُ قَرِيبَةً وَلَيْسَ لَهَا حَدٌّ مُقَدَّرٌ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِهِ أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ . وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيُّ مِنْ أَصْحَابِهِ : الْبَيْعُ بَاطِلٌ ، حَتَّى تَكُونَ الرُّؤْيَةُ مُقَارِنَةً لِلْعَقْدِ . وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ : قُلْتُ لِمَنْ يُنَاظِرُ عَنِ الْأَنْمَاطِيِّ : مَا يَقُولُ صَاحِبُكَ فِي الدَّارِ إِذَا رَآهَا الْمُشْتَرِي ، وَخَرَجَ إِلَى الْبَابِ ، وَاشْتَرَاهَا ؟ قَالَ : لَا يَجُوزُ . قُلْتُ : فَإِنْ رَأَى خَاتَمًا وَأَخَذَهُ فِي كَفِّهِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ ؟ قَالَ : لَا يَجُوزُ قُلْتُ : فَإِنْ رَأَى أَرْضًا وَخَرَجَ مِنْهَا إِلَى جَانِبِهَا ثُمَّ اشْتَرَاهَا ؟ قَالَ : فَتَوَقَّفَ : لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ : يَجُوزُ لَنَاقَضَ مَذْهَبَهُ ، وَلَوْ قَالَ : لَا يَجُوزُ ، لَمَا أَمْكَنَ ابْتِيَاعُ الْأَرْضِ . فَهَذَا قَوْلُ الْأَنْمَاطِيِّ ، وَقَلَّ مَنْ تَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْفُقَهَاءِ .
وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ : بِأَنَّ الرُّؤْيَةَ لَمَّا كَانَتْ شَرْطًا فِي بُيُوعِ الْأَعْيَانِ ، وَجَبَ أَنْ تَقْتَرِنَ بِالْعَقْدِ ، كَالصِّفَةِ فِي بَيْعِ السَّلَمِ . وَهَذَا الْمَذْهَبُ شَاذُّ الِاعْتِقَادِ وَاضِحُ الْفَسَادِ : لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ إِنَّمَا أُرِيدَتْ لِيَصِيرَ الْمَبِيعُ مَعْلُومًا ، وَلَا يَكُونَ مَجْهُولًا ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الرُّؤْيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى الْعَقْدِ ، كَوُجُودِهِ فِي الرُّؤْيَةِ الْمُقْتَرِنَةِ بِالْعَقْدِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الصِّفَةُ . فَهَذَا حُكْمُ الرُّؤْيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ إِذَا كَانَتِ الْمُدَّةُ قَرِيبَةً . فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ مُدَّةُ الرُّؤْيَةِ بَعِيدَةٌ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُشْتَرِي مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَاكِرًا لِأَوْصَافِ الْمَبِيعِ أَوْ غَيْرَ ذَاكِرٍ : فَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَاكِرٍ لِأَوْصَافِ الْمَبِيعِ لِبُعْدِ الْعَهْدِ وَطُولِ الْمُدَّةِ ، فَهَذَا فِي حُكْمِ مَنْ لَمْ يَرَهُ ، فَإِنِ ابْتَاعَهُ عَلَى غَيْرِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ ، لَمْ يَجُزْ . وَإِنِ ابْتَاعَهُ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ ، كَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا لِأَوْصَافِ الْمَبِيعِ ، لَمْ تَخْلُ حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يَتَغَيَّرُ فِي الْعَادَةِ ، كَالْحَدِيدِ ، وَالنُّحَاسِ ، فَبَيْعُهُ جَائِزٌ ، فَإِنْ رَأَى فِيهِ بَعْدَ الْعَقْدِ عَيْبًا ، فَلَهُ الْخِيَارُ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَتَغَيَّرُ فَلَا يَبْقَى مَعَ طُولِ الْمُدَّةِ ، كَالْفَوَاكِهِ الرَّطْبَةِ ، وَالطَّبَائِخِ . فَيُنْظَرُ فِي حَالِهِ حِينَ الْعَقْدِ : فَإِنْ كَانَ قَدْ مَضَى عَلَيْهِ مِنَ الْمُدَّةِ لَا يَبْقَى فِيهَا كَانَ بَيْعُهُ بَاطِلًا ، وَإِنْ كَانَ قَدْ مَضَى عَلَيْهِ مِنَ الْمُدَّةِ مَا يُعْلَمُ بَقَاؤُهُ فِيهَا ، فَبَيْعُهُ جَائِزٌ . وَإِنْ كَانَ قَدْ مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ مَا يَجُوزُ أَنْ يَبْقَى فِيهَا ، وَيَجُوزَ أَنْ يَتْلِفَ ، فَبَيْعُهُ بَاطِل : لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى عَيْنٍ لَا يُعْلَمُ بَقَاؤُهَا . وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ : أَنَّ بَيْعَهُ جَائِزٌ : لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْعَيْنِ مَا لَمْ يُعْلَمْ تَلَفُهَا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يَتَغَيَّرَ وَيَجُوزَ أَنْ لَا يَتَغَيَّرَ كَالْحَيَوَانِ ، فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ بَيْعُهُ بِالرُّؤْيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْبُيُوعِ : لِأَنَّ الْأَصْلَ سَلَامَتُهُ وَبَقَاؤُهُ عَلَى حَالِهِ ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ بَيْعَهُ لَا يَجُوزُ ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ : لِأَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ سَلَامَةٍ وَعَطَبٍ . وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ ، وَعَلَيْهِ يَكُونُ التَّفْرِيعُ ، فَإِذَا تَبَايَعَا بِالرُّؤْيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، ثُمَّ رَآهُ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْبَيْعِ عَلَى مَا كَانَ رَآهُ مِنْ قَبْلُ ، فَلَا خِيَارَ لَهُ ، وَإِنْ رَآهُ مُتَغَيِّرًا ، فَلَهُ الْخِيَارُ .
فَلَوِ اخْتَلَفَا ، فَقَالَ الْمُشْتَرِي : وَجَدْتُهُ مُتَغَيِّرًا ، وَقَالَ الْبَائِعُ : بَلْ هُوَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ . قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الصَّرْفِ : الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ : لِأَنَّهُ يُرِيدُ انْتِزَاعَ الثَّمَنِ مِنْ يَدِهِ ، فَلَا يُنْتَزَعُ مِنْهُ إِلَّا بِقَوْلِهِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
بَابُ خِيَارِ الْمُتَبَايِعَيْنِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا
أقسام العقود
بَابُ خِيَارِ الْمُتَبَايِعَيْنِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " الْمُتَبَايِعَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إِلَّا بَيْعَ الْخِيَارِ " . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُوجِبَ الْبَيْعَ مَشَى قَلِيلًا ثُمَّ رَجَعَ . وَفِي حَدِيثِ أَبِي الْوَضِيءِ قَالَ : كُنَّا فِي غَزَاةٍ فَبَاعَ صَاحِبٌ لَنَا فَرَسًا مِنْ رَجُلٍ ، فَلَمَّا أَرَدْنَا الرَّحِيلَ خَاصَمَهُ فِيهِ إِلَى أَبِي بَرْزَةَ ، فَقَالَ أَبُو بَرْزَةَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : " الْبَيَّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا " ( قَالَ ) وَفِي الْحَدِيثِ مَا لَمْ يَحْضُرْ يَحْيَى بْنَ حَسَّانَ حِفْظُهُ ، وَقَدْ سَمِعْتُهُ مِنْ غَيْرِهِ أَنَّهُمَا بَاتَا لَيْلَةً ثُمَّ غَدَوْا عَلَيْهِ ، فَقَالَ : لَا أَرَاكُمَا تَفَرَّقْتُمَا ، وَجَعَلَ لَهُمَا الْخِيَارَ إِذْ بَقِيَا فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ بَعْدَ الْبَيْعِ . وَقَالَ عَطَاءٌ يُخَيَّرُ بَعْدَ وُجُوبِ الْبَيْعِ . وَقَالَ شُرَيْحٌ : شَاهِدَا عَدْلٍ أَنَّكُمَا تَفَرَّقْتُمَا بَعْدَ رِضًا بِبَيْعٍ أَوْ خَيَّرَ أَحَدُكُمَا صَاحِبَهُ بَعْدَ الْبَيْعِ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَبِهَذَا نَأْخُذُ ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ ، وَالْأَكْثَرِ مِنْ أَهْلِ الْآثَارِ بِالْبُلْدَانِ ( قَالَ ) وَهُمَا قَبْلَ التَّسَاوُمِ غَيْرُ مُتَسَاوِمَيْنِ ، ثُمَّ يَكُونَانِ مُتَسَاوِمَيْنِ ، ثُمَّ يَكُونَانِ مُتَبَايِعَيْنِ ، فَلَوْ تَسَاوَمَا فَقَالَ رَجُلٌ : امْرَأَتِي طَالِقٌ إِنْ كُنْتُمَا تَبَايَعْتُمَا كَانَ صَادِقًا . وَإِنَّمَا جَعَلَ لَهُمَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْخِيَارَ بَعْدَ التَّبَايُعِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا ، فَلَا تَفَرُّقَ بَعْدَمَا صَارَا مُتَبَايِعَيْنِ إِلَا تَفَرُّقُ الْأَبْدَانِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الْعُقُودَ أنواعها عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا كَانَ غَيْرَ لَازِمٍ مِنْ جِهَةِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي الْحَالِ ، وَلَا يُفْضِي إِلَى اللُّزُومِ فِي ثَانِي حَالٍ . وَالثَّانِي : مَا كَانَ غَيْرَ لَازِمٍ مِنْ جِهَةِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي الْحَالِ ، وَلَكِنْ قَدْ يُفْضِي إِلَى اللُّزُومِ فِي ثَانِي حَالٍ . وَالثَّالِثُ : مَا كَانَ لَازِمًا مِنْ جِهَةِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنَ فِي الْحَالِ دُونَ الْعَاقِدِ الْآخِرِ بِكُلِّ حَالٍ .
وَالرَّابِعُ : مَا كَانَ لَازِمًا مِنْ جِهَةِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي الْحَالِ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ مَا كَانَ غَيْرَ لَازِمٍ مِنْ جِهَةِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي الْحَالِ ، وَلَا يُفْضِي إِلَى اللُّزُومِ فِي ثَانِي حَالٍ ، فَهُوَ خَمْسَةُ عُقُودٍ : الْوِكَالَةُ ، وَالشَّرِكَةُ ، وَالْمُضَارَبَةُ ، وَالْعَارِيَةُ ، وَالْوَدِيعَةُ . فَالْخِيَارُ فِيهَا مُؤَبَّدٌ مِنْ جِهَتَيِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مَعًا . فَإِنَّ شُرِطَ فِيهَا إِسْقَاطُ الْخِيَارِ ، بَطَلَتْ : لِأَنَّهَا تَصِيرُ بِإِسْقَاطِ الْخِيَارِ لَازِمَةً ، وَهِيَ عُقُودٌ جَائِزَةٌ غَيْرُ لَازِمَةٍ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ مَا كَانَ غَيْرَ لَازِمٍ فِي الْحَالِ ، وَلَكِنْ قَدْ يُفْضِي إِلَى اللُّزُومِ فِي ثَانِي حَالٍ ، فَهُوَ خَمْسَةُ عُقُودٍ : الْجُعَالَةُ : وَهِيَ قَوْلُ الرَّجُلِ : مَنْ جَاءَنِي بِعَبْدِي الْآبِقِ فَلَهُ دِينَارٌ . وَالْعِتْقُ بِعِوَضٍ ، كَقَوْلِهِ : اعْتَقْ عَبْدَكَ عَنِّي بِدِينَارٍ . وَاسْتِهْلَاكُ الْأَمْوَالِ بِالضَّمَانِ كَقَوْلِهِ : أَلْقِ مَتَاعَكَ فِي الْبَحْرِ وَعَلَيَّ قِيمَتُهُ . وَالْقَرْضُ ، وَالْهِبَةُ . فَهَذِهِ الْعُقُودُ الْخَمْسَةُ غَيْرُ لَازِمَةٍ فِي الْحَالِ ، فَإِنْ جِيءَ بِالْآبِقِ ، وَأُعْتِقَ الْعَبْدُ ، وَأُلْقِيَ الْمَتَاعُ فِي الْبَحْرِ ، وَاسْتُهْلِكَ الْقَرْضُ ، وَأُقْبِضَتِ الْهِبَةُ ، لَزِمَتْ . فَيَكُونُ الْخِيَارُ فِيهَا قَبْلَ لُزُومِهَا لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ مَعًا . فَإِذَا لَزِمَتْ سَقَطَ الْخِيَارُ مِنْ جِهَتِهِمَا جَمِيعًا . فَلَوْ شُرِطَ فِيهَا إِسْقَاطُ الْخِيَارِ قَبْلَ لُزُومِهَا ، أَوْ شُرِطَ إِثْبَاتُ الْخِيَارِ فِيهَا بَعْدَ لُزُومِهَا ، بَطَلَتْ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ مَا كَانَ لَازِمًا مِنْ جِهَةِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ دُونَ الْآخَرِ ، فَهُوَ ثَلَاثَةُ عُقُودٍ : الرِّهْنُ وَالضَّمَانُ وَالْكِتَابَةُ . فَالْخِيَارُ فِيهَا ثَابِتٌ لِلْمُرْتَهِنِ دُونَ الرَّاهِنِ ، وَلِلْمَضْمُونِ لَهُ دُونَ الضَّامِنِ ، وَلِلْمُكَاتَبِ دُونَ السَّيِّدِ . فَإِنْ شُرِطَ إِسْقَاطُ الْخِيَارِ فِي الْجِهَةِ الَّتِي فِيهَا الْخِيَارُ ، أَوْ شُرِطَ إِثْبَاتُ الْخِيَارِ فِي الْجِهَةِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا الْخِيَارُ ، بَطَلَتْ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ : وَهُوَ مَا كَانَ لَازِمًا مِنْ جِهَةِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مَعًا فَهُوَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا لَا يَثْبُتُ فِيهِ الْخِيَارُ لِوَاحِدٍ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِحَالٍ ، لَا فِي الْمَجْلِسِ ، وَلَا بِالشَّرْطِ ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ عُقُودٍ : النِّكَاحُ ، وَالْخُلْعُ ، وَالرَّجْعَةُ .
لَيْسَ فِيهَا إِذَا تَمَّتْ خِيَارُ مَجْلِسٍ وَلَا خِيَارُ شَرْطٍ . فَإِنْ شُرِطَ فِيهَا أَحَدُ الْخِيَارَيْنِ ، بَطَلَتْ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا لَا يَدْخُلُهُ خِيَارُ الشَّرْطِ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي دُخُولِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ عُقُودٍ : الْإِجَازَةُ ، وَالْمُسَاقَاةُ ، وَالْحِوَالَةُ . وَهَلْ تَبْطُلُ بِاشْتِرَاطِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا لَا يَدْخُلُهُ خِيَارُ الشَّرْطِ ، وَيَدْخُلُهُ خِيَارُ الْمَجْلِسِ قَوْلًا وَاحِدًا : وَهُوَ مَا كَانَ الْقَبْضُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ شَرْطًا فِي صِحَّتِهِ ، وَذَلِكَ عَقْدَانِ : الْمَصْرِفُ ، وَالسَّلَمُ . فَإِنْ شُرِطَ فِيهَا خِيَارُ الثَّلَاثِ بَطَلَا . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : مَا يَدْخُلُهُ خِيَارُ الْمَجْلِسِ بِغَيْرِ شَرْطٍ ، وَخِيَارُ الثَّلَاثِ بِالشَّرْطِ . وَهُوَ سَائِرُ عُقُودِ الْبِيَاعَاتِ . يَثْبُتُ فِيهَا خِيَارُ الْمَجْلِسِ بِالْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ . وَبِمَذْهَبِنَا فِي ثُبُوتِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ فِي سَائِرِ الْبِيَاعَاتِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ : عُثْمَانُ ، وَابْنُ عُمَرَ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَأَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ . وَمِنَ التَّابِعِينَ : شُرَيْحٌ ، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ ، وَالْحَسَنُ ، وَعَطَاءٌ ، وَطَاوُسٌ . وَمِنَ الْفُقَهَاءِ : الزُّهْرِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَأَحْمَدُ ، وَإِسْحَاقُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَالُكٌ : الْبَيْعُ لَازِمٌ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ ، وَلَا يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ بِحَالٍ . اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ [ الْبَقَرَةِ : ] فَنَدَبَ إِلَى الْإِشْهَادِ عَلَى الْبَيْعِ ، لِأَجْلِ الِاسْتِيثَاقِ فِيهِ ، فَلَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا الْفَسْخُ بَعْدَ الْعَقْدِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ، لَمْ يَحْصُلِ الِاسْتِيثَاقُ ، وَلَبَطَلَتْ فَائِدَةُ الْإِشْهَادِ . وَبِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنِ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : " الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ صَفْقَةَ خِيَارٍ ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ تُفَارِقَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ " . وَلَوْ جَازَ لِأَحَدِهِمَا الْفَسْخُ مِنْ غَيْرِ اسْتِقَالَةٍ لَمْ يَكُنْ لِنَهْيِهِ عَنِ الِافْتِرَاقِ خَشْيَةَ الِاسْتِقَالَةِ مَعْنًى ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْفَسْخَ لَا يَسْتَحِقُّ إِلَّا بِالِاسْتِقَالَةِ . وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " الْبَيْعُ عَنْ صَفْقَةٍ أَوْ خِيَارٍ " .