كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي
أَحَدُهُمَا : جِبْرِيلُ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [ الشُّعَرَاءِ : ] . وَالثَّانِي : الْعِلْمُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ [ النَّحْلِ : ] فَهَذِهِ السُّورَةُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى تَدَلُّ عَلَى شَرَفِهَا ، وَفَضْلِ الْعَمَلِ فِيهَا وَمِنَ السُّنَّةِ مَا رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَقَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " .
بيان أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ
فَصْلٌ : لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ رُفِعَتْ لَيْلَةُ الْقَدْرِ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ أَمْ هِيَ بَاقِيَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ؟ قَالَ : " هِيَ بَاقِيَةٌ " قُلْتُ : هِيَ فِي رَمَضَانَ أَوْ فِي غَيْرِهِ ؟ قَالَ : " فِي رَمَضَانَ " قَالَ قُلْتُ : هِيَ فِي الْعَشْرِ الْأُوَلُ أَوِ الْأَوْسَطِ أَوِ الْأَخِيرِ قَالَ : " هِيَ فِي الْأَوَاخِرِ " وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ ، وَالْتَمِسُوهَا فِي كُلِّ وِتْرٍ " وَرُوِيَ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ قَالَ قُلْتُ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ : إِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ : مَنْ يَقُمِ الْحَوْلَ يَرَاهَا فَقَالَ : رَحِمَ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، قَدْ عَلِمَ أَنَّهَا فِي رَمَضَانَ ، وَلَكِنْ أُحبُ أَنْ لَا يَتَّكِلُ النَّاسُ عَلَى عَمَلِ رَمَضَانَ ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي مَوْضِعِهَا مِنَ الْعَشْرِ فَحُكِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا فِي لَيْلَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ ، أَمَّا أُبَيُّ فَكَانَ يُقْسِمُ بِاللَّهِ إِنَّهَا فِي لَيْلَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ فَقِيلَ : وَمَا آيَةُ ذَلِكَ ؟ قَالَ : مَا بَيَّنَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الشَّمْسَ تُصْبِحُ لَا شُعَاعَ لَهَا ، وَقَدْ رَاعَيْتُ ذَلِكَ فَوَجَدْتُهُ فِي صَبِيحَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَأَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَإِنَّهُ اسْتَدَلَّ بِأَنِ اعْتَبَرَ كَلِمَاتِ السُّورَةِ فَوَجَدَهَا ثَلَاثِينَ كَلِمَةً بِعَدَدِ لَيَالِي الشَّهْرِ ، ثُمَّ وَجَدَ الْإِشَارَةَ بِقَوْلِهِ سَلَامٌ هِيَ [ الْقَدْرِ : ] ، عَلَى رَأْسِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ كَلِمَةً فَعَلِمَ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي مِثْلِهَا مِنَ الشَّهْرِ ، وَحُكِيَ عَنْ آخَرِينَ أَنَّهَا فِي أَوْسَطِ الْعَشْرِ وَهِيَ لَيْلَةُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ ، تَعَلُّقًا بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ عَلَى أَنَّهَا فِي أَوْسَطِ الْعَشْرِ فَالْتَمِسُوهَا فِيهِ " وَحُكِيَ عَنْ آخَرِينَ أَنَّهَا فِي لَيْلَةِ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ الْأَعْرَابِيَّ رَآهَا عَلَى رَاحِلَتِهِ فِي لَيْلَةِ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَلِرِوَايَةِ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " أُنْزِلَتْ صُحُفُ إِبْرِاهِيمَ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ
رَمَضَانَ وَأُنْزِلَ الزَّبُورُ عَلَى دَاوُدَ فِي اثْنَيْ عَشْرَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ ، وَأُنْزِلَ الْإِنْجِيلُ عَلَى عِيسَى فِي ثَمَانِيَ عَشْرَةَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ ، وَأُنْزِلُ الْقُرْآنُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِمْ فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ " قَالُوا : وَإِنَّمَا نَزَلَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَدَلَّ أَنَّهَا فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ . قَالَ الشَّافِعِيُّ الَّذِي يُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ فِي إِحْدَى وَعِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " رَأَيْتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ وَخَرَجْتُ لِأُعْلِمَكُمْ ، فَتَلَاحَا رَجُلَانِ فَأُنْسِيتُهَا ، وَرَأَيْتُنِي أَسْجُدُ فِي صَبِيحَتِهَا فِي مَاءٍ وَطِينٍ " قَالَ أَبُو سَعِيدٍ : وَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَجْهِهِ وَأَنْفِهِ أَثَرُ الْمَاءِ وَالطِّينِ فِي صَبِيحَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ : وَكَانَ الْمَسْجِدُ عَلَى عَرْشٍ فَوَكَفَ فَأَخَذَ الشَّافِعِيُّ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ ، لِأَنَّهَا أَصَحُّ ، وَأَوْضَحُ وَإِنَّمَا قَالَ : أَوْ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ لِجَوَازِ الِاشْتِبَاهِ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ مِنَ الْوَاحِدِ إِلَى الثَّلَاثِ ، وَذَلِكَ مَأْمُونٌ فِيمَا زَادَ وَلَمْ يَقْطَعِ الشَّافِعِيُّ بِذَلِكَ ، بَلْ جَوَّزَهَا فِي جَمِيعِ لَيَالِي الْعَشْرِ وَبِخَاصَّةٍ فِي كُلِّ وِتْرٍ ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ ، وَلَيْلَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ ، وَلَيْلَةُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ ، وَلَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ ، وَلَيْلَةُ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ . قَالَ بَعْضُ النَّاسِ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى يَجْعَلُ فِي كُلِّ عَامٍ فِي لَيْلَةٍ مِنَ الْعَشْرِ حَتَّى لَا يَكُونَ زَمَانُهَا مَعْرُوفًا لِيَقَعَ الْجِدُّ فِي طَلَبِهَا ، وَتَرْكُ الِاتِّكَالِ عَلَيْهَا ثِقَةً بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُجِيبُ الدُّعَاءَ فِيهَا فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى جِدٍّ وَحَذَرٍ ، وَلَعَمْرِي أَنَّ لِهَذَا الْقَوْلِ وَجْهً ، فَلَوْ قَالَ رَجُلٌ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، طُلِّقَتْ فِي أَوَّلِ لَيْلَةِ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ لِأَنَّهَا الْيَقِينُ ، وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ رَأَى لَيْلَةَ الْقَدْرِ أَنْ يَكْتُمَهَا ، وَيَدْعُوَ بِإِخْلَاصِ نِيَّةٍ وَصِحَّةِ يَقِينٍ بِمَا أَوْجَبَ مِنْ دِينٍ وَدُنْيَا ، وَيَكُونُ أَكْثَرُ دُعَائِهِ لِدِينِهِ ، وَآخِرَتِهِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ رَأَيْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ بِمَاذَا أَدْعُو فَقَالَ : " تَسْأَلِي اللَّهَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ " .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَرُوِيَ حَدِيثُ عَائِشَةَ أَنَهَا قَالَتْ كَانَ رَسُولُ
اللَّهِ إِذَا اعْتَكَفَ يُدْنِي إِلَيَّ رَأْسَهُ فَأُرَجِّلُهُ وَكَانَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إِلَّا لِحَاجَّةِ الْإِنْسَانِ وَقَالَتْ عَائِشَةُ فَغَسَّلْتُهُ وَأَنَا حَائِضٌ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) فَلَا بَأْسَ أَنْ يُدْخِلَ الْمُعْتَكِفُ رَأْسَهُ فِي الْبَيْتِ لِيَغْسَلَ وَيُرَجِّلَ " .
لَا يَصِحُّ الِاعْتِكَافُ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ سَابِلٍ مِنْ جَامِعٍ أَوْ غَيْرِهِ
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الِاعْتِكَافُ مكان الإعتكاف فَلَا يَصِحُّ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ سَابِلٍ مِنْ جَامِعٍ أَوْ غَيْرِهِ ، وَحُكِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ وَابْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ الِاعْتِكَافَ لَا يَصِحُّ إِلَّا فِي ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَمَسْجِدِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ ، وَحُكِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَحَمَّادٍ وَالْحَكَمِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ تُقَامُ فِيهِ الْجُمُعَةُ ، وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [ الْبَقَرَةِ : ، فَعَمَّ بِالذِّكْرِ جَمِيعَ الْمَسَاجِدِ وَلَا يَخْلُو ذِكْرُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ . إِمَّا أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِي الْمَنْعِ مِنَ الْمُبَاشَرَةِ . أَوْ شَرْطًا لِصِحَّةِ الِاعْتِكَافِ ، فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا لِلْمَنْعِ مِنَ الْمُبَاشَرَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَكِفَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ أَقَامَ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ خَرَجَ مِنْهُ ، فَثَبَتَ أَنَّهُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الِاعْتِكَافِ وَلِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ يُبْنَى لِجَمَاعَاتِ الصَّلَاةِ ، فَالِاعْتِكَافُ فِيهِ جَائِزٌ كَالْجَوَامِعِ .
فَصْلٌ : وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ ، فِي أَنَّ اعْتِكَافَهُمَا لَا يَصِحُّ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ . قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ اعْتِكَافُ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا وَيُكْرَهُ ذَلِكَ لَهَا فِي الْمَسْجِدِ تَعَلُّقًا ، بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : صَلَاتُهَا فِي بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي الْمَسْجِدِ " فَلَمَّا كُرِهَ لَهَا أَنْ تَصَلِّيَ الْفَرْضَ فِي الْمَسْجِدِ كَانَ الِاعْتِكَافُ بِذَلِكَ أَوْلَى ، قَالَ : وَلِأَنَّهُ مَوْضِعٌ سُنَّ لِصَلَاتِهَا فَوَجَبَ أَنْ يُسَنَّ لِاعْتِكَافِهَا كَالرَّجُلِ لَمَّا كَانَ الْمَسْجِدُ مَوْضِعًا سُنَّ فِيهِ أَدَاءُ صِلَاتِهِ ، كَانَ مَوْضِعَ اعْتِكَافِهِ ، وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهَا عِبَادَةٌ ، لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ إِيقَاعُهَا فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ لِلْمَرْأَةِ إِيقَاعُهَا فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ كَالطَّوَافِ ، وَلِأَنَّهُ مَوْضِعٌ لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ الِاعْتِكَافُ فِيهِ فَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ كَالطَّرِيقِ ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ وَالْقِيَاسِ ، وَجَمْعِهِمْ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالِاعْتِكَافِ ، فَالْمَعْنَى فِي الصَّلَاةِ أَنَّهَا لَا تَفْتَقِرُ إِلَى مَكَانٍ مَخْصُوصٍ ، وَيَجُوزُ فِعْلُهَا فِي طَرِيقٍ وَغَيْرِهِ ، وَالِاعْتِكَافُ لَيْسَ كَذَلِكَ
فَصْلٌ : فَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فَفِيهِ دَلَائِلُ مِنْهَا . الدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ الِاعْتِكَافِ حكمه .
وَمِنْهَا : أَنَّهُ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْمَسَاجِدِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يُخْتَارُ فِي رَمَضَانَ ، وَدَلَّ عَلَى جَوَازِهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْخُرُوجَ مِنَ الْمَسْجِدِ يُنَافِيهِ ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا لَا يَصِحُّ عَمَلُهُ فِي الْمَسْجِدِ يَجُوزُ الْخُرُوجُ لِأَجْلِهِ ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ غَسْلَ الرَّأْسِ فِي الِاعْتِكَافِ جَائِزٌ ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ تَرْجِيلَ الشِّعْرِ في الاعتكاف جَائِزٌ ، وَدَلَّ عَلَى جَوَازِ أَنْ يُخْرِجَ الْمُعْتَكِفُ بَعْضَ بَدَنِهِ ، وَإِنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَخْرُجَ فَأَخْرَجَ بَعْضَ بَدَنِهِ لَا يَحْنَثُ ، بِخِلَافِ قَوْلِ مَالِكٍ وَدَلَّ عَلَى أَنَّ يَدَ الْمَرْأَةِ هل هي عورة لَيْسَتْ عَوْرَةً ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَسَّ الشَّعْرِ هل ينقض الوضوء لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ بَدَنَ الْحَائِضِ لَيْسَ بِنَجِسٍ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَالِاعْتِكَافُ سُنَّةٌ حَسَنَةٌ وَيَجُوزُ بِغَيْرِ صَوْمٍ وَفِي يَوْمِ الْفِطْرِ وَيَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) لَوْ كَانَ الِاعْتِكَافُ يُوجِبُ الصَّوْمَ وَإِنَّمَا هُوَ تَطَوُّعٌ لَمْ يَجُزْ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ بِغَيْرِ تَطَوُّعٍ وَفِي اعْتِكَافِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَصُمْ لِلِاعْتِكَافِ فَتَفَهَّمُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ ، وَدَلِيلٌ آخَرُ لَوْ كَانَ الِاعْتِكَافُ لَا يَجُوزُ إِلَّا مُقَارِنًا لِلصَوْمِ لَخَرَجَ مِنْهُ الصَّائِمُ بِاللَّيْلِ وَخُرُوجُهُ فِيهِ مِنَ الصَّوْمِ ، فَلَمَّا لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ مِنَ الِاعْتِكَافِ بِاللَّيْلِ وَخَرَجَ فِيهِ مِنَ الصَّوْمِ ثَبَتَ مُنْفَرِدًا بِغَيْرِ الصَوْمِ ، وَقَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ لَيْلَةً كَانَتْ نَذْرًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَلَا صِيَامَ فِيهَا . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا النِّيَّةُ فِي الِاعْتِكَافِ ، فَوَاجِبَةٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ " وَلِأَنَّ الِاعْتِكَافَ هُوَ اللُّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ ، وَقَدْ يَكُونُ اللُّبْثُ تَارَةً عَادَةً وَتَارَةً عِبَادَةً ، فَافْتَقَرَ إِلَى نِيَّةٍ يَصِحُّ بِهِ الْفَرْقُ بَيْنَ لُبْثِ الْعَادَةِ مِنْ لُبْثِ الْعِبَادَةِ ، فَأَمَّا الصَّوْمُ فَغَيْرُ وَاجِبٍ فِيهِ بَلْ إِنِ اعْتَكَفَ مُفْطِرًا جَازَ وَكَذَلِكَ لَوِ اعْتَكَفَ فِي الْعِيدَيْنِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، أَوِ اعْتَكَفَ لَيْلًا جَازَ ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَالْمُزَنِيِّ ، وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، أَنَّ الِاعْتِكَافَ لَا يَصِحُّ بِغَيْرِ صَوْمٍ ، وَلَا فِي الْأَيَّامِ الَّتِي لَا يَجُوزُ صِيَامُهَا ؛ تَعَلُّقًا بِمَا رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا اعْتِكَافَ إِلَّا بِصَوْمٍ " وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي نَذَرْتُ اعْتِكَافَ يَوْمٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " اعْتَكِفْ وَصُمْ " وَأَمَرَهُ بِالصَّوْمِ قَالَ : وَلِأَنَّهُ لُبْثٌ فِي مَكَانٍ مَخْصُوصٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ قُرْبَةً حَتَّى يُضَمَّ إِلَيْهِ مَا هُوَ قُرْبَةٌ كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ ، هَذَا مَعَ مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا اعْتَكَفَ إِلَّا وَهُوَ صَائِمٌ فَدَلَّ هَذَا مِنْ فِعْلِهِ عَلَى أَنَّ الِاعْتِكَافَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِصَوْمٍ ،
قَالُوا : وَلِأَنَّ الِاعْتِكَافَ يَلْزَمُ بِالنَّذْرِ وَالنَّذْرُ لَا يَلْزَمُ إِلَّا فِيمَا اسْتَقَرَّ لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ وَلَيْسَ لِلِاعْتِكَافِ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ ، إِلَّا أَنْ يَنْضَمَّ إِلَيْهِ الصَّوْمُ فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِهِ فِيهِ ، وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [ الْبَقَرَةِ : ] ، فَكَانَ هَذَا عَلَى ظَاهِرِهِ وَعُمُومِهِ فِي كُلِّ مُعْتَكِفٍ ، وَرَوَى طَاوُسٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَيْسَ عَلَى الْمُعْتَكِفِ صَوْمٌ إِلَّا أَنْ يُوجِبَهُ عَلَى نَفْسِهِ " وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي نَذَرْتُ اعْتِكَافَ لَيْلَةٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَوْفِ بِنَذْرِكَ " وَرَوَى يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ فَأَمَرَ أَنْ يُضَرَبَ لَهُ بِنَاءٌ فَخَرَجَ فَرَأَى أَرْبَعَةَ أَبْنِيَةٍ فَقَالَ : " لِمَنْ هَذِهِ الْأَبْنِيَةُ " ؟ فَقِيلَ : هَذَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا لِعَائِشَةَ وَهَذَا لِحَفْصَةَ وَهَذَا لِزَيْنَبَ فَنَقَضَ اعْتِكَافَهُ وَاعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ شَوَّالٍ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ اعْتِكَافِ يَوْمِ الْفِطْرِ ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ بِغَيْرِ صَوْمٍ ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهَا الْمَسْجِدُ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَفْتَقِرَ إِلَى الصَّوْمِ كَالطَّوَافِ ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ ابْتِدَائِهَا الصَّوْمُ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ شَرْطِ اسْتِدَامَتِهَا الصَّوْمُ كَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَعَكْسُهُ الْمَسْجِدُ ، لَمَّا كَانَ شَرْطًا فِي ابْتِدَائِهَا ، كَانَ شَرْطًا فِي اسْتِدَامَتِهَا ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ عِبَادَةً عَلَى الْبَدَنِ مَقْصُودَةً فِي نَفْسِهَا لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِي عِبَادَةٍ أُخْرَى كَالصَّلَاةِ ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ مَعَ حَفْصَةَ فَمَعْنَاهُ لَا اعْتِكَافَ كَامِلًا إِلَّا بِصَوْمٍ أَوْ لِمَنْ نَذَرَ اعْتِكَافًا بِصَوْمٍ ، وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ، وَإِنَّمَا الصَّحِيحُ مَا رَوَيْنَاهُ أَنَّهُ نَذَرَ اعْتِكَافَ لَيْلَةٍ وَإِنَّمَا تَفَرَّدَ بِتِلْكَ الرِّوَايَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ عَلَى أَنَّهَا لَوْ صَحَّتْ لَحَمَلْنَاهَا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ ، وَحَمَلْنَا رِوَايَتَنَا عَلَى الْجَوَازِ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَنَقُولُ بِمُوجِبِهِ ، وَهُوَ أَنَّ الْقُرْبَةَ الَّتِي تَنْضَمُّ إِلَيْهِ هِيَ النِّيَّةُ ثُمَّ يُقْلَبُ الْقِيَاسُ عَلَيْهِمْ بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ ، فَنَقُولُ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ شَرْطِ الصَّوْمِ كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ ، وَأَمَّا اعْتِكَافُهُ فِي مَسْجِدِهِ صَائِمًا ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ مِنْ شَرْطِهِ كَمَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَوْضِعَهُ وَمَسْجِدَهُ مِنْ شَرْطِهِ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّ النَّذْرَ يَلْزَمُ فِيمَا اسْتَقَرَّ لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ فَبَاطِلٌ بِمَنْ نَذَرَ الصَّوْمَ بِدَارِهِ قَدْ لَزِمَهُ نَذْرُهُ وَلَيْسَ لَهُ فِي الشَّرْعِ أَصْلٌ ، وَيَبْطُلُ عَلَى أَصْلِهِمْ بِالْعُمْرَةِ تَلْزَمُ بِالنَّذْرِ ، وَلَيْسَ لَهَا عِنْدَهُمْ أَصْلٌ وَاجِبٌ فِي الشَّرْعِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ دَخَلَ فِيهِ قَبْلَ الْغُرُوبِ ، فَإِذَا أَهَلَّ شَوَّالٌ فَقَدْ أَتَمَّ الْعَشْرَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ لِنَذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ ، دَخَلَ فِيهِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ لَيْلَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَخَرَجَ مِنْهُ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ لَيْلَةِ شَوَّالٍ وَإِنَّمَا أَمَرْنَاهُ بِالدُّخُولِ فِيهِ قَبْلَ الْغُرُوبِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ بَعْدَ الْغُرُوبِ لِيَكُونَ مُسْتَوْفِيًا لِلْعَشْرِ بِكَمَالِهِ ، وَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْمُجَاوَزَةِ ، كَمَا لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الصِّيَامِ إِلَّا بِمُجَاوَزَةِ الْإِمْسَاكِ إِلَى جُزْءٍ مِنَ اللَّيْلِ ، وَكَذَلِكَ سَتْرُ الْعَوْرَةِ وَغَسْلُ الْوَجْهِ فِي الطَّهَارَةِ ، وَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُمَا إِلَّا بِالْمُجَاوَزَةِ إِلَى غَيْرِهِمَا ، فَإِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ مِنْ لَيْلَةِ شَوَّالٍ ، فَقَدْ خَرَجَ مِنَ اعْتِكَافِهِ سَوَاءً كَانَ الشَّهْرُ تَامًّا أَوْ نَاقِصًا ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْعَشْرِ يَتَنَاوَلُهُ وَلَكِنْ لَوْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ أَيَّامًا كَامِلَةً ، فَإِنْ كَانَ الشَّهْرُ تَامًّا أَجْزَأَهُ وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا لَزِمَهُ اعْتِكَافُ يَوْمٍ آخَرَ مِنْ شَوَّالٍ ؛ لِأَنَّ الْعَشْرَةَ الْأَيَّامَ تُوجِبُ اسْتِيفَاءَ الْعَدَدِ ، كَمَا لَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ، فَاعْتَكَفَ شَهْرًا بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ فَإِنْ كَانَ تَامًّا أَجْزَأَهُ ، وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا لَزِمَهُ اعْتِكَافُ يَوْمٍ آخَرَ لِيَسْتَوْفِيَ الْعَدَدَ ، فَأَمَّا اعْتِكَافُ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ فَمِثَالُهُ : أَنْ يَقُولَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرًا ، فَإِذَا اعْتَكَفَ شَهْرًا بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ ، أَجْزَأَهُ تَامًّا كَانَ أَوْ نَاقِصًا ، وَحُكِيَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ إِذَا نَذَرَ اعْتِكَافَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ دَخَلَ فِيهِ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ ؛ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ صَلَّى الْفَجْرَ ثُمَّ دَخَلَ فِي مُعْتَكَفِهِ وَهَذَا غَلَطٌ وَبِمَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ قَالَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ لِرِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ فَلْيَبِتْ فِي مُعْتَكَفِهِ " وَلِأَنَّ كُلَّ لَيْلَةٍ تَتْبَعُ الْيَوْمَ الَّذِي بَعْدَهَا أَلَا تَرَى أَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ يَدْخُلُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ شَعْبَانَ فَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَلَا يُخَالِفُ مَا ذَكَرْنَا ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ فِيهِ عَلَى اخْتِيَارِهِ وَلَمْ يَقْصِدِ اسْتِيفَاءَ الْعَشْرِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ دَخَلَ فِيهِ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ أَوَّلَ الْعَشْرِ إِجْمَاعًا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَا بَأْسَ أَنْ يَشْتَرِطَ فِي الِاعْتِكَافِ الَّذِي أَوْجَبَهُ المعتكف بِأَنْ يَقُولَ إِنْ عَرَضَ لِي عَارِضٌ خَرَجْتُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ .
وَجُمْلَةُ الِاعْتِكَافِ ضَرْبَانِ : وَاجِبٌ وَتَطَوُّعٌ . فَأَمَّا التَّطَوُّعُ فَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى شَرْطِ الْخِيَارِ إِلَيْهِ فِي الْمَقَامِ عَلَى اعْتِكَافِهِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ ، وَأَمَّا الْوَاجِبُ فَهُوَ النَّذْرُ وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : مُطْلَقٌ بِغَيْرِ شَرْطٍ . وَمُقَيَّدٌ بِشَرْطٍ ، فَأَمَّا الْمُطْلَقُ بِغَيْرِ شَرْطٍ فَهُوَ مَمْنُوعٌ فِيهِ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ فَإِنْ خَرَجَ لِغَيْرِهَا بَطَلَ اعْتِكَافُهُ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ ، وَأَمَّا الْمُقَيَّدُ بِشَرْطٍ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَشْتَرِطَ قَطْعَ اعْتِكَافِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَشْتَرِطَ الْخُرُوجَ مِنْهُ فَإِنِ اشْتَرَطَ قَطْعَ اعْتِكَافِهِ ، فَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ : لِلَّهِ عَلَيَّ اعْتِكَافُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ إِلَّا أَنْ يَعْرِضَ لِي كَذَا وَكَذَا ، فَأَقْطَعُ فَهَذَا نَذْرٌ صَحِيحٌ ، وَشَرْطٌ جَائِزٌ ، فَإِذَا عَرَضَ لَهُ مَا شَرَطَ وَخَرَجَ لِأَجْلِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْعَوْدُ إِلَى اعْتِكَافِهِ ، وَتَكُونُ الْمُدَّةُ الَّتِي اعْتَكَفَهَا هِيَ الْقَدْرُ الَّذِي نَذَرَهُ ؛ لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ يَتَبَعَّضُ حُكْمُهُ وَيَصِحُّ فِي قَلِيلِ الزَّمَانِ وَكَثِيرِهِ ، فَإِذَا شَرَطَ فِي نَذْرِهِ قَطْعَ اعْتِكَافِهِ بِحُدُوثِ عَارِضٍ ، فَكَانَ نَذْرُهُ إِنَّمَا انْعَقَدَ عَلَى هَذِهِ مُعَلَّقَةً وَيَكُونُ مَا بَقِيَ مِنَ الْعَشْرِ خَارِجًا عَنِ النَّذْرِ ، وَإِنِ اشْتَرَطَ الْخُرُوجَ مِنَ اعْتِكَافِهِ ، فَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ : لِلَّهِ عَلَيَّ اعْتِكَافُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ إِلَّا أَنْ يَعْرِضَ لِي كَذَا وَكَذَا ، فَأَخْرُجَ فَهَذَا كَالْأَوَّلِ فِي صِحَّةِ نَذْرِهِ وَجَوَازِ اشْتِرَاطِهِ عَلَى مَا نُفَصِّلُهُ ، وَإِنَّمَا يَفْتَرِقَانِ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا شَرَطَ الْقَطْعَ لَمْ يَلْزَمْهُ الْعَوْدُ إِلَيْهِ ، وَإِذَا شَرَطَ الْخُرُوجَ لَزِمَهُ الْعَوْدُ إِلَيْهِ ؛ لِأَنَّ قَطْعَ الِاعْتِكَافِ يُوجِبُ رَفْعَهُ ، وَالْخُرُوجَ مِنْهُ لَا يُوجِبُ رَفْعَهُ وَإِنَّمَا يَقْتَضِي جَوَازَ خُرُوجِهِ مِنْهُ كَمَا يَخْرُجُ لِحَاجَةِ نَفْسِهِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا جَازَ مِثْلُ هَذَا الشَّرْطِ فِي الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ ، قِيلَ : هُمَا شَرْطَانِ : أَحَدُهُمَا : قَطْعُ الِاعْتِكَافِ . وَالثَّانِي : الْخُرُوجُ مِنْهُ ، فَأَمَّا شَرْطُ الْقَطْعِ فَيَجُوزُ مِثْلُهُ فِي الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ ، وَفِي جَوَازِ مِثْلِهِ فِي الْحَجِّ قَوْلَانِ ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ لِلَّهِ عَلَيَّ صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ أَوْ صِيَامُ يَوْمٍ أَوْ حَجُّ الْبَيْتِ إِلَّا أَنْ يَعْرِضَ لِي كَذَا فَأَقْطَعُ ، فَإِنْ عَرَضَ لَهُ ذَلِكَ الشَّيْءُ الَّذِي شَرَطَهُ جَازَ لَهُ قَطْعُ صَوْمِهِ وَصَلَاتِهِ ، وَهَلْ يَجُوزُ لَهُ قَطْعُ حَجِّهِ وَالْإِحْلَالُ مِنْهُ قَبْلَ كَمَالِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ أَيْضًا . وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ هُوَ أَنَّ الْحَجَّ يَلْزَمُ الْمُضِيُّ فِيهِ بِالْفِعْلِ ، فَإِذَا سَقَطَ مُوجِبُ النَّذْرِ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَالشَّرْطِ عَادَ إِلَى مُوجِبِ الْفِعْلِ فَلَزِمَهُ الْمُضِيُّ فِيهِ ، وَمَا يُسَنُّ فِي
الْحَجِّ وَالْعِبَادَاتِ كُلِّهَا ، إِذَا سَقَطَ مُوجِبُ النَّذْرِ فِيهَا بِالِاسْتِثْنَاءِ وَالشَّرْطِ ، وَعَادَتْ إِلَى مُوجِبِ الْفِعْلِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْمُضِيُّ فِيهَا ، فَوَضُحَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا . وَأَمَّا شَرْطُ الْخُرُوجِ فَلَا يَجُوزُ مِثْلُهُ فِي الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ ، وَيَجُوزُ فِي الِاعْتِكَافِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْخُرُوجَ لَا يُنَافِي الِاعْتِكَافَ لِأَنَّهُ قَدْ يَخْرُجُ لِحَاجَةِ نَفْسِهِ وَيَعُودُ إِلَى اعْتِكَافِهِ ، وَيُنَافِي الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ وَالْحَجَّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْخُرُوجُ مِنْهُ وَالْعَوْدُ إِلَيْهِ لِحَاجَةٍ وَلَا لِغَيْرِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّ الِاعْتِكَافَ لَا يَتَقَدَّرُ بِزَمَانٍ وَلَا يَرْتَبِطُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ وَالصَّلَاةُ قَدِ ارْتَبَطَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ وَتَقَدَّرَتْ بِعَمَلٍ لَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِهِ ، وَكَذَلِكَ الصِّيَامُ مُقَدَّرٌ بِزَمَانٍ لَا يَصِحُّ إِيقَاعُهُ فِي بَعْضِهِ ، فَلِذَلِكَ مَا افْتَرَقَ حُكْمُ الشَّرْطِ فِي ذَلِكَ ، فَإِذَا تَقَرَّرَ جَوَازُ اشْتِرَاطِ الْخُرُوجِ مِنَ الِاعْتِكَافِ دُونَ مَا سِوَاهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ ، لَمْ يَخْلُ حَالُ مَا اشْتَرَطَهُ وَخَرَجَ لَهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَحْظُورًا ، أَوْ مُبَاحًا فَإِنْ كَانَ مُبَاحًا كَاسْتِقْبَالِ قَادِمٍ ، أَوِ اقْتِضَاءِ غَرِيمٍ وَلِقَاءِ سُلْطَانٍ ، أَوْ كَانَ مُسْتَحَبًّا كَعِيَادَةِ مَرِيضٍ وَتَشْيِيعِ جِنَازَةٍ ، أَوْ كَانَ وَاجِبًا كَحُضُورِ الْجُمُعَةِ جَازَ ، وَلَزِمَهُ الْعَوْدُ إِلَى اعْتِكَافِهِ وَالْبِنَاءِ عَلَيْهِ ، وَتَكُونُ مُدَّةُ خُرُوجِهِ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ نَذْرِهِ بِالشَّرْطِ كَمَا أَنَّ أَوْقَاتَ الْحَاجَةِ مُسْتَثْنَاةٌ بِالشَّرْعِ ، وَإِنْ كَانَ مَحْظُورًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يُنَافِي الِاعْتِكَافَ كَالْوَطْءِ فَإِذَا خَرَجَ مِنَ اعْتِكَافِهِ وَوَطِئَ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ ، وَلَزِمَهُ اسْتِئْنَافُهُ وَلِأَنَّ الْوَطْءَ يَمْنَعُ مِنَ الْبِنَاءِ ، وَيَنْقُضُ حُكْمَ مَا مَضَى فَصَارَ بِمَثَابَةِ الْوَطْءِ فِي صَوْمِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يُنَافِي الِاعْتِكَافَ وَلَكِنَّهُ يَنْقُضُهُ كَالسَّرِقَةِ وَقَتْلِ النَّفْسِ الْمُحَرَّمَةِ ، فَفِي بُطْلَانِ اعْتِكَافِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : قَدْ بَطَلَ ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْمَعْصِيَةِ كَلَا اشْتِرَاطٍ فَصَارَ بِمَثَابَةِ مَنْ خَرَجَ بِغَيْرِ شَرْطٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَبْطُلُ وَلَهُ الْبِنَاءُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ نَذْرَهُ إِنَّمَا يَنْعَقِدُ عَلَى مَا سِوَى مُدَّةِ الشَّرْطِ ، فَلَمْ يَكُنْ نَذْرُ الْمُدَّةِ مَقْصُودَةً بِالْعَمَلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشٌافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : " وَلَا بَأْسَ أَنْ يَعْتَكِفَ وَلَا يَنْوِيَ أَيَّامًا مَتَى شَاءَ خَرَجَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الِاعْتِكَافَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ بِزَمَانٍ بَلْ يَصِحُّ فِعْلُهُ فِي قَلِيلِ الزَّمَانِ وَكَثِيرِهِ ، فَإِذَا نَذَرَ اعْتِكَافًا وَلَمْ يَذْكُرْ قَدْرَهُ ، فَإِذَا اعْتَكَفَ وَلَوْ سَاعَةً أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ النَّذْرِ يَقْتَضِي مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ ، كَمَا لَوْ نَذَرَ صَوْمًا أَوْ صَلَاةً أَجْزَأَهُ صَوْمُ يَوْمٍ وَصَلَاةُ
رَكْعَةٍ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي : صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ اعْتِبَارًا بِمَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ وَكَذَلِكَ الِاعْتِكَافُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَاعْتِكَافُهُ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ أَحَبُّ إِلَيَّ فَإِنِ اعْتَكَفَ فِي غَيْرِهِ ، فَمِنَ الْجُمُعَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْجَوَامِعُ فَالِاعْتِكَافُ فِيهَا أَوْلَى مِنَ الْمَسَاجِدِ لِكَثْرَةِ جَمَاعَتِهَا وَدَوَامِ الصَّلَاةِ فِيهَا ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " صَلَاتُكَ مَعَ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِكَ وَحْدَكَ وَصَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ عَلَى صَلَاةِ الْفَذِّ " فَكُلَّمَا كَثُرَتِ الْجَمَاعَةُ كَانَ أَفْضَلَ ، وَلِأَنَّهُ إِذَا اعْتَكَفَ فِي الْجَامِعِ اسْتَدَامَ لَهُ الِاعْتِكَافُ ، وَاتَّصَلَ وَإِنِ اعْتَكَفَ فِي غَيْرِهِ لَزِمَهُ حُضُورُ الْجُمُعَةِ ، فَكَانَ ذَلِكَ قَطْعًا لِاعْتِكَافِهِ ، فَإِنِ اعْتَكَفَ فِي مَسْجِدٍ غَيْرِ جَامِعٍ فَلَهُ حَالَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ اعْتِكَافُهُ تَطَوُّعًا ، فَإِذَا حَضَرَتِ الْجُمُعَةُ لَزِمَهُ إِتْيَانُهَا فَإِذَا عَادَ إِلَى الِاعْتِكَافِ صَارَ كَالْمُسْتَأْنِفِ لَهُ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ اعْتِكَافُهُ نَذْرًا وَاجِبًا ، فَإِنْ كَانَ قَدْرُهُ أَقَلَّ مِنَ الْجُمُعَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ لَزِمَهُ حُضُورُ الْجُمُعَةِ ، وَقَدْ خَرَجَ مِنْ نَذْرِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْرُهُ أَكْثَرَ مِنَ الْجُمُعَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ كَأَنَّهُ نَذَرَ اعْتِكَافَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ أَوْ شَهْرٍ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ اعْتِكَافُهُ مُتَتَابِعًا خَرَجَ إِلَى الْجُمُعَةِ ، وَعَادَ إِلَى اعْتِكَافِهِ وَبَنَى ، وَإِنْ كَانَ اعْتِكَافُهُ مُتَتَابِعًا فَإِنْ شَرَطَ فِيهِ الْخُرُوجَ إِلَى الْجُمُعَةِ ، فَإِذَا خَرَجَ عَادَ إِلَى اعْتِكَافِهِ ، وَبَنَى وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ فِيهِ الْخُرُوجَ إِلَى الْجُمُعَةِ فَعَلَيْهِ الْخُرُوجُ فَإِذَا خَرَجَ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ ، وَلَزِمَهُ اسْتِئْنَافُهُ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَبْطُلُ ؛ لِأَنَّ خُرُوجَهُ لِضَرُورَةٍ ، كَمَا لَوْ خَرَجَ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ التَّتَابُعَ إِذَا كَانَ مُسْتَحَقًّا فِي الْعِبَادَةِ كَانَ أَوْلَى فِيهَا عَلَى مَا يَمْنَعُ التَّتَابُعَ الْمُمْكِنَ فِيهَا مُبْطِلًا لَهَا ، مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ، فَدَخَلَ فِي صِيَامِهَا فِي شَعْبَانَ بَطَلَ صِيَامُهُ ؛ لِأَنَّ دُخُولَ رَمَضَانَ يَمْنَعُ مِنْ تَتَابُعِهِ عَنْ كَفَّارَتِهِ ، وَقَدْ يُمْكِنُهُ تَقْدِيمُهُ فِي أَوَّلِ رَجَبٍ فَيَكْمُلُ لَهُ صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ كَذَلِكَ الْمُعْتَكِفُ ، قَدْ يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي الْجَامِعِ فَيَسْتَغْنِيَ عَنِ الْخُرُوجِ مِنَ اعْتِكَافِهِ وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنِ الْخُرُوجِ لِلْغَائِطِ وَالْبَوْلِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الِاحْتِرَازِ مِنْهُ بِالشَّرْطِ وَالِاسْتِثْنَاءِ فَخَرَجَ مِنْ بَابِ الضَّرُورَةِ .
فَصْلٌ : إِذَا نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدٍ بِعَيْنِهِ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ وَهُوَ أَنْ يَنْذُرَ الِاعْتِكَافَ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، فَإِنِ اعْتَكَفَ فِي غَيْرِهِ لَمْ يُجْزِهِ لِاخْتِصَاصِهِ بِعِبَادَةٍ وَاجِبَةٍ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا يُسْتَحَبُّ لَهُ الْوَفَاءُ بِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ وَهُوَ كُلُّ مَسْجِدٍ سِوَى الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ فَإِنِ اعْتَكَفَ فِي غَيْرِهِ جَازَ .
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيهِ ، وَهُوَ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى ، وَمَسْجِدُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الِاعْتِكَافُ فِيهِمَا ، فَإِنِ اعْتَكَفَ فِي غَيْرِهِمَا لَمْ يُجْزِهِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يُسْتَحَبُّ لَهُ فَإِنِ اعْتَكَفَ فِي غَيْرِهِمَا جَازَ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيَخْرُجُ لِلْغَائِطِ وَالْبَوْلِ إِلَى مَنْزِلِهِ وَإِنْ بَعُدَ المعتكف . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا خُرُوجُهُ لِلْبَوْلِ وَالْغَائِطِ فَجَائِزٌ إِجْمَاعًا ، لِقَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَخْرُجُ إِلَى الْبَيْتِ إِلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ كِنَايَةً عَنِ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا بِهِ إِلَيْهِ حَاجَةٌ وَضَرُورَةٌ فَصَارَ ذَلِكَ مُسْتَثْنًى مِنْ جُمْلَةِ نَذْرِهِ . فَإِذَا تَقَرَّرَ جَوَازُ الْخُرُوجِ إِلَى مَنْزِلِهِ لِلْغَائِطِ وَالْبَوْلِ ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُنْزِلُهُ قَرِيبًا أَوْ بَعِيدًا ، أَوْ سَوَاءٌ قَدَرَ عَلَى قَضَاءِ حَاجَتِهِ فِي طَرِيقِهِ ، أَوْ مَنْزِلِ صَدِيقِهِ الَّذِي هُوَ أَقْرَبُ مِنْ مَنْزِلِهِ أَوْلَى ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ فِي عُدُولِهِ عَنْ مَنْزِلِهِ إِلَى طَرِيقِهِ بِذْلَةً وَإِلَى مَنْزِلِ صَدِيقِهِ حِشْمَةً فَكَانَ أَوْلَى الْأُمُورِ لَهُ قَصْدَ مَنْزِلِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا بَأْسَ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الْمَرِيضِ إِذَا دَخَلَ مَنْزِلَهُ ، وَإِنْ أَكَلَ فِيهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَلَا يُقِيمُ بَعْدَ فَرَاغِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا إِنْ خَرَجَ مِنَ اعْتِكَافِهِ قَاصِدًا لِعِيَادَةِ مَرِيضٍ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ ، وَلَكِنْ لَوْ خَرَجَ لِلْغَائِطِ وَالْبَوْلِ جَازَ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الْمَرِيضِ مِنْ غَيْرِ لُبْثٍ ، فَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمُرُّ بِالْمَرِيضِ فَيَمُرُّ كَمَا هُوَ وَلَا يُعَرِّجُ عَلَيْهِ ، وَكَانَ يَسْأَلُ عَنْهُ
فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ فَإِنْ خَرَجَ إِلَى مَنْزِلِهِ لِلْأَكْلِ خروج المعتكف جَازَ وَلَمْ يَبْطُلِ اعْتِكَافُهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ خَرَجَ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ جَازَ أَنْ يَقِفَ لِيَأْكُلَ . وَحُكِيَ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي الطِّيبِ بْنِ سَلَمَةَ : أَنَّهُ إِنْ خَرَجَ لِلْأَكْلِ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ ، وَلَكِنْ لَوْ خَرَجَ لِلْغَائِطِ وَالْبَوْلِ هل له أن يأكل في طريقه جَازَ أَنْ يَأْكُلَ فِي طَرِيقِهِ وَلَا يُطِيلُ ، فَإِنْ أَطَالَ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ ، قَالَا : لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ عَطَفَ بِالْأَكْلِ عَلَى عِيَادَةِ الْمَرِيضِ ، فَهُمَا فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ وَلِأَنَّهُ قَدْ يَقْدِرُ عَلَى الْأَكْلِ فِي الْمَسْجِدِ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَى الْخُرُوجِ حَاجَةً وَهَذَا الَّذِي قَالَاهُ خَطَأٌ ، لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ فِي أَكْلِهِ فِي الْمَسْجِدِ بِذْلَةً وَحِشْمَةً وَهُوَ مَأْمُورٌ بِالصِّيَانَةِ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ يَحْشِمُ مِنْ أَكْلِهِ الْمُصَلُّونَ ، فَرُبَّمَا دَعَاهُمْ ذَلِكَ إِلَى الْخُرُوجِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ فِي طَعَامِهِ قِلَّةٌ فَاسْتَحْيَى مِنْ إِظْهَارِهِ أَوْ كَانَ يَفْسُدُ إِنْ أُخْرِجَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلِذَلِكَ جَازَ لَهُ الْخُرُوجُ إِلَى مَنْزِلِهِ لِلْأَكْلِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا شُرْبُ الْمَاءِ هل يخرج له المعتكف فَإِنِ اشْتَدَّ عَطَشُهُ وَعَدِمَ الْمَاءَ فِي مَسْجِدِهِ أَجَازَ لَهُ الْخُرُوجَ إِلَى مَنْزِلِهِ ، وَإِنْ كَانَ وَاجِدًا لِلْمَاءِ فِي مَسْجِدِهِ ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَعَلَهُ كَالْأَكْلِ ، وَأَجَازَ لَهُ الْخُرُوجَ ، لِأَجْلِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ مِنَ الْخُرُوجِ لَهُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ ، بِخِلَافِ الْأَكْلِ ؛ لِأَنَّ فِي الْأَكْلِ فِي الْمَسْجِدِ بِذْلَةً لَيْسَتْ فِي شُرْبِ الْمَاءِ وَلِأَنَّ اسْتِطْعَامَ الطَّعَامِ مَكْرُوهٌ ، وَاسْتِسْقَاءَ الْمَاءِ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ وَقَدِ اسْتَسْقَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَاءَ ، وَلَمْ يَسْتَطْعِمِ الطَّعَامَ ، وَمَتَى أَقَامَ الْمُعْتَكِفُ فِي مَنْزِلِهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ حَاجَتِهِ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا بَأْسَ أَنْ يَشْتَرِيَ وَيَبِيعَ وَيَخِيطَ وَيُجَالِسَ الْعُلَمَاءَ وَيُحَدِّثَ بِمَا أَحَبَّ مَا لَمْ يَكُنْ مَأْثَمًا وَلَا يُفْسِدُهُ سِبَابٌ وَلَا جِدَالٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَعَمَلُ الصَّنَائِعِ فِي الْمَسْجِدِ ، فَمَكْرُوهٌ لِلْمُعْتَكِفِ وَغَيْرِهِ لِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِي الْمَسْجِدِ وَلِرِوَايَةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صُنَّاعَكُمْ " فَلَوْ بَاعَ الْمُعْتَكِفُ ، وَاشْتَرَى وَعَمِلَ صِنَاعَةً مِنْ خِيَاطَةٍ أَوْ غَيْرِهَا لَمْ يَبْطُلِ اعْتِكَافُهُ ، وَقَلِيلُ ذَلِكَ أَخَفُّ مِنْ كَثِيرِهِ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَبْطُلِ اعْتِكَافُهُ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ هُوَ اللُّبْثُ فِي مَكَانٍ مَخْصُوصٍ ، فَلَمَّا لَمْ يُفَارِقِ اللُّبْثَ فَهُوَ عَلَى الِاعْتِكَافِ ، وَلِأَنَّ الصَّوْمَ وَالْحَجَّ مَعَ تَغْلِيظِ حُكْمِهِمَا ، لَا يَمْنَعَانِ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ فَكَذَلِكَ الِاعْتِكَافُ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا مُجَالَسَةُ الْعُلَمَاءِ وَمُذَاكَرَتُهُمْ للمعتكف فَمُسْتَحَبَّةٌ لِلْمُعْتَكِفِ وَغَيْرِهِ ، وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ كَرَاهَةُ ذَلِكَ لِلْمُعْتَكِفِ ، وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ الْمُذَاكَرَةَ بِالْعِلْمِ قُرْبَةٌ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [ النُّورِ : ] وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّمَا بُنِيَتِ الْمَسَاجِدُ لِذِكْرِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ "
فَصْلٌ : فَأَمَّا مُحَادَثَةُ الْإِخْوَانِ للمعتكف فَمُبَاحَةٌ ، مَا لَمْ تَكُنْ مَأْثَمًا ، لِمَا رَوَى عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجِئْتُ أَزُورُهُ لَيْلًا فَقَعَدْتُ وَحَدَّثْتُهُ فَلَمَّا قُمْتُ وَانْقَلَبْتُ قَامَ لِيَقْلِبَنِي ، - يَعْنِي يَرُدَّنِي - فَلَمَّا بَلَغَ بَابَ الْمَسْجِدِ مَرَّ بِهِ رَجُلَانِ مِنَ الْأَنْصَارِ فَلَمَّا رَأَيَاهُ أَسْرَعَا فَقَالَ : " عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ " فَقَالَا : سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ : " إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ أَحَدِكُمُ مَجْرَى لَحْمِهِ وَدَمِهِ فَخَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمْ شَرًّا " أَوْ قَالَ شَيْئًا فَأَمَّا السَّبُّ وَالشَّتِيمَةُ وَالْقَذْفُ وَالنَّمِيمَةُ للمعتكف وغيره فَمَكْرُوهٌ ، لِكُلِّ أَحَدٍ وَالْمُعْتَكِفُ بِكَرَاهَتِهِ أَوْلَى كَالصَّائِمِ لِكَوْنِهِ فِي عِبَادَةٍ ، فَإِنْ فَعَلَ فَقَدْ أَسَاءَ وَأَثِمَ ، وَاعْتِكَافُهُ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ لَا تَبْطُلُ بِالْكَلَامِ الْمُبَاحِ ، لَا تَبْطُلُ بِالْكَلَامِ الْمَحْظُورِ كَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ .
فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ : " وَإِذَا شَرِبَ الْمُعْتَكِفُ نَبِيذًا فَسَكِرَ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ " وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِهِ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : إِنَّمَا أَرَادَ الشَّافِعِيُّ إِذَا سَكِرَ وَأُخْرِجَ مِنَ الْمَسْجِدِ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ أَوْ كُلِّفَ الْخُرُوجَ مِنْهُ ، إِذْ لَا يَجُوزُ لِلسَّكْرَانِ الْمُقَامُ فِيهِ فَأَشْبَهَ الْمَرَضَ ، قِيلَ : لَهُمْ : لَا يَصِحُّ حَمْلُ الْمَسْأَلَةِ عَلَيْهِ إِذَا أُخْرِجَ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ ؛ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ : وَلَوْ أَخْرَجَهُ السُّلْطَانُ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ لَمْ يَبْطُلِ اعْتِكَافُهُ ، قَالُوا : إِنَّمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ لَمْ يَبْطُلِ اعْتِكَافُهُ إِذَا أُخْرِجَ لِإِقَامَةِ حَدٍّ وَجَبَ عَلَيْهِ قَبْلَ اعْتِكَافِهِ ، فَأَمَّا مَا وَجَبَ عَلَيْهِ فِي حَالِ الِاعْتِكَافِ فَيُبْطِلُهُ ، وَكَأَنَّهُ اخْتَارَ الْخُرُوجَ . وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا : وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى ظَاهِرِهَا حَتَّى سَكِرَ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ ؛ لِأَنَّهُ بِالسُّكْرِ يَخْرُجُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْمَسْجِدِ ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ الْمُقَامِ فِيهِ ، فَصَارَ كَالْخَارِجِ مِنْهُ فَبَطَلَ اعْتِكَافُهُ .
فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِذَا ارْتَدَّ الْمُعْتَكِفُ لَمْ يَبْطُلِ اعْتِكَافُهُ ، فَإِذَا عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ " فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَقَالَ بَعْضُهُمْ : إِنَّ الشَّافِعِيَّ أَمَرَ الرَّبِيعَ أَنْ يَخُطَّ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَا تُقْرَأَ عَلَيْهِ ، وَمَذْهَبُهُ أَنَّ الرِّدَّةَ تُبْطِلُ الِاعْتِكَافَ ، لِأَنَّهَا أَسْوَأُ حَالًا مِنَ السُّكْرِ وَكَانَ بَعْضُهُمْ يُخْرِجُ فِي الْمُرْتَدِّ قَوْلًا آخَرَ مِنَ السَّكْرَانِ ، وَفِي السَّكْرَانِ قُولًا آخَرَ مِنَ الْمُرْتَدِّ ، فَجَعَلَ الْمَسْأَلَتَيْنِ عَلَى قَوْلَيْنِ وَقَالَ آخَرُونَ جَوَابُ الشَّافِعِيِّ فِي الرِّدَّةِ عَلَى ظَاهِرِهِ لَا يُبْطِلُ الِاعْتِكَافَ ، وَفِي السُّكْرِ عَلَى ظَاهِرِهِ يَبْطُلُ الِاعْتِكَافُ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ بِالسُّكْرِ مَمْنُوعٌ مِنَ الْمَسْجِدِ ، فَصَارَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ ، وَبِالرِّدَّةِ لَا يُمْتَنَعُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْمَسْجِدِ ؛ لِأَنَّهُ كَافِرٌ وَالْكَافِرُ يَجُوزُ لَهُ
دُخُولُ الْمَسْجِدِ فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا كَانَتِ الرِّدَّةُ فِي الصِّيَامِ لَا تُبْطِلُهُ كَالِاعْتِكَافِ قِيلَ : لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ قَدْ يَتَخَلَّلُهُ مَا لَيْسَ مِنْهُ ، وَهُوَ الْخُرُوجُ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الصِّيَامِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا جُنَّ الْمُعْتَكِفُ ثُمَّ أَفَاقَ فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ ، أَنَّهُ يَبْنِي عَلَى اعْتِكَافِهِ سَوَاءٌ خَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ فِي حَالِ جُنُونِهِ أَمْ لَا ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْمَجْنُونِ كَلَا فِعْلٍ فَكَانَ أَسْوَأَ حَالًا مِنَ النَّاسِي ، وَإِنَّمَا لَمْ يَبْطُلِ اعْتِكَافُهُ بِالْجُنُونِ ؛ لِأَنَّهُ مَغْلُوبٌ عَلَى زَوَالِ عَقْلِهِ بِأَمْرٍ هُوَ فِيهِ مَعْذُورٌ ، فَصَارَ كَمَنْ غَلَبَ عَلَى الْخُرُوجِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ ، أَوْ نَامَ طُولَ يَوْمِهِ كَانَ عَلَى اعْتِكَافِهِ ، غَيْرَ أَنَّ مُدَّةَ الْإِغْمَاءِ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهَا ، وَمُدَّةُ النُّوَّمِ مُعْتَدٌّ بِهَا ؛ لِأَنَّ النَّائِمَ كَالْمُسْتَيْقِظِ فِي جَرَيَانِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يَعُودُ الْمَرِيضُ ، وَلَا يَشْهَدُ الْجَنَازَةَ إِذَا كَانَ اعْتِكَافُهُ وَاجِبًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا عِيَادَةُ مَرِيضٍ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ حُضُورُ جِنَازَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ الْمُعْتَكِفُ ، فَأَمَّا إِنْ خَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ لِعِيَادَةِ مَرِيضٍ أَوْ حُضُورِ جِنَازَةٍ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ ، كَانَ فِي نِيَّتِهِ المعتكف ، لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ ذَوِي رَحِمِهِ ، وَلَيْسَ لَهُ مَنْ يَقُومُ بِمَرَضِهِ ، أَوْ بِدَفْنِهِ ، فَهُوَ مَأْمُورٌ بِالْخُرُوجِ لِأَجْلِهِ ، وَإِذَا خَرَجَ عَادَ وَبَنَى عَلَى اعْتِكَافِهِ كَالْعِدَّةِ الَّتِي تَخْرُجُ الْمَرْأَةُ لِأَجْلِهَا ثُمَّ تَرْجِعُ فَتَبْنِي ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ يَسْتَأْنِفُ . وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ عِيَادَتِهِ وَحُضُورِ جِنَازَتِهِ ، فَإِنْ خَرَجَ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ ، وَلِمَا رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : قَضَاءُ السُّنَّةِ أَنْ لَا يَعُودَ الْمُعْتَكِفُ مَرِيضًا ، وَلَا يَشْهَدَ جِنَازَةً ، وَلَا يَمَسَّ امْرَأَةً وَلَا يُبَاشِرَهَا ، وَلَا يَخْرُجَ فِيمَا لَهُ مِنْهُ بُدٌّ وَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمُرُّ بِالْمَرِيْضِ فَيَمُرُّ وَلَا يُعَرِّجُ عَلَيْهِ وَكَانَ يَسْأَلُ عَنْهُ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا بَأْسَ إِذَا كَانَ مُؤَذِّنًا أَنْ يَصْعَدَ الْمَنَارَةَ وَإِنْ كَانَ خَارِجًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَرِهَ لِلْمُعْتَكِفِ صُعُودَ الْمَنَارَةِ والاعتكاف ، وَلَا بَأْسَ بِهِ عِنْدَنَا إِذَا كَانَتِ الْمَنَارَةُ دَاخِلَ الْمَسْجِدِ أَوْ فِي رِحَابِهِ ، لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْمَسْجِدِ ، فَلَوِ اعْتَكَفَ فِيهَا أَوْ فِي رِحَابِ الْمَسْجِدِ ، وَسَقَطَاتِهِ وَعَلَى سَطْحِهِ جَازَ ، وَإِذَا جَازَ الِاعْتِكَافُ فِيهَا فَالْأَذَانُ غَيْرُ مَكْرُوهٍ ، فَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الْمَنَارَةُ خَارِجَ الْمَسْجِدِ نُظِرَ فِيهَا ، فَإِنْ كَانَتْ لِغَيْرِ هَذَا الْمَسْجِدِ الَّذِي هُوَ
فِيهِ مُعْتَكِفٌ مُنِعَ مِنْ صُعُودِهَا ، فَإِنْ خَرَجَ إِلَيْهَا ، وَصَعَدَهَا بَطَلَ اعْتِكَافُهُ وَإِنْ كَانَتْ لِلْمَسْجِدِ ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُمْنَعُ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَيْهَا فَإِنْ خَرَجَ إِلَيْهَا بَطَلَ اعْتِكَافُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ خَرَجَ إِلَى مَوْضِعِ الْمَنَارَةِ لِلصَّلَاةِ عَلَى جِنَازَةٍ المعتكف بَطَلَ اعْتِكَافُهُ ، فَكَذَلِكَ إِذَا خَرَجَ لِلْأَذَانِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ : إِنَّ لَهُ الْخُرُوجَ إِلَيْهَا ، وَلَا يَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ الْمَسْجِدِ ، وَإِنْ كَانَتْ خَارِجَةً كَالرِّحَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَأَكْرَهُ الْأَذَانَ بِالصَّلَاةِ لِلْوُلَاةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا : فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : أَرَادَ كَرَاهَةَ قَوْلِهِ فِي أَذَانِهِ حَيَّ عَلَى الْفَلَّاحِ أَيُّهَا الْأَمِيرُ ، فَعَلَى هَذَا لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْمُعْتَكِفِ ، وَغَيْرِهِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الزِّيَادَةِ فَإِنْ فَعَلَ الْمُعْتَكِفُ ذَلِكَ فَقَدْ أَسَاءَ ، وَهُوَ عَلَى اعْتِكَافِهِ وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ : إِنَّمَا أَرَادَ بِهِ إِذَا فَرَغَ مِنْ أَذَانِهِ أَنْ لَا يَخْرُجَ إِلَى بَابِ الْوَالِي ، فَيَقُولُ الصَّلَاةَ أَيُّهَا الْأَمِيرُ ، وَهَذَا ذَكَرَهُ لِلْمُعْتَكِفِ دُونَ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ بِلَالًا قَدْ كَانَ يُؤَذِّنُ أَذَانًا عَامًّا ، ثُمَّ يَقْصِدُ حُجْرَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَيَخُصُّهُ بِإِعْلَامِ الصَّلَاةِ ، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِهِ لِغَيْرِ الْمُعْتَكِفِ ، فَأَمَّا الْمُعْتَكِفُ فَإِنْ فَعَلَ هَذَا بَطَلَ اعْتِكَافُهُ لِأَجْلِ خُرُوجِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْهِ شَهَادَةٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يُجِيبَ ، فَإِنْ فَعَلَ خَرَجَ مِنَ اعْتِكَافِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَنَظَائِرُهَا مُصَوَّرَةٌ فِي اعْتِكَافٍ وَجَبَ مُتَتَابِعًا ، فَإِذَا اعْتَكَفَ الشَّاهِدُ ، ثُمَّ دُعِيَ لِإِقَامَةِ الشَّهَادَةِ فَلَهُ حَالَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ إِقَامَتُهَا لِوُجُودِ غَيْرِهِ مِنَ الشُّهُودِ فَهَذَا مَمْنُوعٌ مِنَ الْخُرُوجِ ، فَإِنْ خَرَجَ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ وَلَزِمَهُ اسْتِئْنَافُهُ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ إِقَامَةُ الشَّهَادَةِ لِعَدَمِ غَيْرِهِ مِنَ الشُّهُودِ ، فَهَذَا مَأْمُورٌ بِالْخُرُوجِ ، لِإِقَامَتِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ [ الطَّلَاقِ : ] فَإِذَا خَرَجَ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ تَحَمَّلَ الشَّهَادَةَ مُضْطَرًّا ، أَوْ مُخْتَارًا ، فَإِنْ تَحَمَّلَهَا مُخْتَارًا بَطَلَ اعْتِكَافُهُ بِخُرُوجِهِ ؛ لِأَنَّ فِي اخْتِيَارِهِ لِلتَّحَمُّلِ اخْتِيَارًا لِلْخُرُوجِ وَقْتَ الْأَدَاءِ وَإِنْ تَحَمَّلَهَا مُضْطَرًا لِعَدَمِ غَيْرِهِ لَمْ يَبْطُلِ اعْتِكَافُهُ بِخُرُوجِهِ فَإِذَا أَعَادَ بَنَى عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ لِأَمْرٍ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فِي الطَّرَفَيْنِ ، بِلَا اخْتِيَارٍ مِنْهُ ، فَصَارَ كَالْخَارِجِ لِلْغَائِطِ وَالْبَوْلِ ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا الْبَصْرِيُّونَ فِيهَا وَجْهَانِ :
أَحَدُهُمَا : اعْتِكَافُهُ جَائِزٌ لِمَا ذَكَرْنَا . وَالثَّانِي : بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ ، فَلَيْسَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ قَدْ يَجِيءُ إِلَيْهِ وَيَسْمَعُ شَهَادَتَهُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ مَرِضَ أَوْ أَخْرَجَهُ السُّلْطَانُ وَاعْتِكَافُهُ وَاجِبٌ المعتكف فَإِذَا بَرِئَ وَخُلِّيَ عَنْهُ بَنَى ، فَإِنْ مَكَثَ بَعْدَ بُرْئِهِ شَيْئًا مِنَ غَيْرِ عُذْرٍ ابْتَدَأَ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ اعْتِكَافُ أَيَّامٍ سَابِقَةٍ فَمَرِضَ ، فَلَهُ حَالَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مَرَضُهُ يَسِيرًا يُمْكِنُهُ الْمُقَامُ مَعَهُ فِي الْمَسْجِدِ ، كَالصُّدَاعِ وَوَجَعِ الضِّرْسِ وَنُفُورِ الْعَيْنِ ، فَهَذَا مَمْنُوعٌ مِنَ الْخُرُوجِ مِنَ الْمَسْجِدِ فَإِنْ خَرَجَ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ وَلَزِمَهُ اسْتِئْنَافُهُ ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ مُخْتَارًا لِغَيْرِ حَاجَةٍ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ مَرَضُهُ زَائِدًا لَا يَقْدِرُ مَعَهُ عَلَى الْمُقَامِ فِي الْمَسْجِدِ ، فَهَذَا يَجُوزُ لَهُ الْخُرُوجُ مِنَ الْمَسْجِدِ إِلَى مَنْزِلِهِ ، فَإِذَا بَرَأَ عَادَ إِلَى الْمَسْجِدِ ، وَبَنَى عَلَى اعْتِكَافِهِ ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ غَيْرَ مُخْتَارٍ فَصَارَ كَالْخَارِجِ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خَرَّجَ قَوْلًا آخَرَ أَنَّهُ يَسْتَأْنِفُ مِنَ الْمَرِيضِ إِذَا أَفْطَرَ فِي صَوْمِ الظِّهَارِ ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ وَفِي مَعْنَى الْمَرِيضِ مَنْ خَرَجَ خَوْفَ لِصٍّ أَوْ حَرِيقٍ ، فَإِذَا زَالَ خَوْفُهُ عَادَ إِلَى اعْتِكَافِهِ ، وَبَنَى عَلَيْهِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنْ أَخْرَجَهُ السُّلْطَانُ مِنَ عْتِكَافِهِ مالحكم ، فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ السُّلْطَانُ لَهُ ظَالِمًا ، وَهُوَ فِي الْخُرُوجِ مَظْلُومٌ فَلَا يَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ بِخُرُوجِهِ ، فَإِذَا أَطْلَقَ عَادَ وَبَنَى عَلَى اعْتِكَافِهِ ؛ لِأَنَّهُ مُكْرَهٌ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ السُّلْطَانُ مُحِقًّا فِي إِخْرَاجِهِ ، وَهُوَ الظَّالِمُ لِامْتِنَاعِهِ مِنْ حَقٍّ وَاجِبٍ عَلَيْهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى أَدَائِهِ ، فَقَدْ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ بِاخْتِيَارِهِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ السُّلْطَانُ مُحِقًّا فِي إِخْرَاجِهِ ، وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ وَلَا مُمْتَنِعٌ مَنْ حَقٍّ ، وَإِنَّمَا أُخْرِجَ لِإِقَامَةِ حَدٍّ وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ قَطْعٍ أَوْ جَلْدٍ أَوْ غَيْرِهِ ، فَلَا يَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ ، لِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ مِنْهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا فَعَلَ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ ، فَقَدْ صَارَ مُخْتَارًا لِلْخُرُوجِ ، فَقَدْ وَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ اعْتِكَافُهُ ، إِذَا أُخْرِجَ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ ، قِيلَ : لَمْ يَفْعَلْ مَا وَجَبَ بِهِ الْحَدُّ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا فَعَلَهُ لِلِاسْتِمْتَاعِ بِهِ ، وَاسْتِعَادَةِ الْمِلْكِ لِسَرِقَتِهِ ، فَصَارَ كَالْمُعْتَدَّةِ تَبْنِي عَلَى اعْتِكَافِهَا ، وَإِنْ فَعَلَتِ النِّكَاحَ بِاخْتِيَارِهَا لِأَنَّهَا لَمْ تَقْصِدْ بِالنِّكَاحِ وُجُوبَ الْعِدَّةِ ، وَإِنَّمَا قَصَدَتْ بِهِ اكْتِسَابَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ ، وَمَتَى قُلْنَا أَنَّ اعْتِكَافَهُ لَا يَبْطُلُ بِخُرُوجِهِ فَعَلَيْهِ الْمُبَادَرَةُ إِلَيْهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ ، فَإِنْ وَقَفَ بَعْدَ فَرَاغِهِ شَيْئًا ، وَإِنْ قَلَّ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ خَرَجَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ المعتكف نَقَضَ اعْتِكَافَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا اعْتِكَافُ التَّطَوُّعِ ، فَلَهُ الْخُرُوجُ مِنْهُ مَتَى شَاءَ وَالْعَوْدُ إِذَا شَاءَ وَأَمَّا الْوَاجِبُ فَضَرْبَانِ : مُتَتَابِعٌ وَغَيْرُ مُتَتَابِعٍ ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَتَابِعٍ لَمْ يَبْطُلْ بِخُرُوجِهِ ، وَبَنَى عَلَيْهِ بَعْدَ رُجُوعِهِ ، وَلَوْ كَانَ مُتَتَابِعًا بَطَلَ بِخُرُوجِهِ ، وَإِنْ قَلَّ . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : إِنْ خَرَجَ أَكْثَرَ النَّهَارِ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ ، وَإِنْ خَرَجَ أَقَلَّ النَّهَارِ لَمْ يَبْطُلْ هَذَا خَطَأٌ . وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا هُوَ أَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ أَبْطَلَهَا الْخُرُوجُ الطَّوِيلُ أَبْطَلَهَا الْيَسِيرُ كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ ، وَعَكْسُهُ الْمُعْتَكِفُ إِذَا أُخْرِجَ لِمَرَضٍ أَوْ حَاجَةٍ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ نَذَرَ اعْتِكَافًا بِصَوْمٍ فَأَفْطَرَ اسْتَأْنَفَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، فِي رَجُلٍ نَذَرَ اعْتِكَافَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ بِصَوْمٍ فَأَفْطَرَ فِيهَا ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الصَّوْمَ وَالِاعْتِكَافَ ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ وَإِنْ كَانَ عِبَادَةً مُفْرَدَةً ، فَقَدْ صَارَ صِفَةَ الِاعْتِكَافِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إِفْرَادُهُ عَنْهُ ، وَإِذَا أُبْطِلَ أَحَدُ صِفَاتِ الِاعْتِكَافِ لَزِمَهُ اسْتِئْنَافُهُ ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ يَسْتَأْنِفُ الصَّوْمَ ، وَيَبْنِي عَلَى الِاعْتِكَافِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِبَادَةٌ مُفْرَدَةٌ فَلَمْ يَكُنْ فَسَادُ أَحَدِهِمَا قَادِحًا فِي صِحَّةِ الْأُخْرَى ، كَمَا لَوْ نَذَرَ صَوْمًا وَصَلَاةً لَمْ يَقْدَحْ فَسَادُ أَحَدِهِمَا فِي صِحَّةِ الْآخَرِ ، فَأَمَّا إِنْ خَرَجَ مِنَ اعْتِكَافِهِ ، وَهُوَ صَائِمٌ لَزِمَهُ اسْتِئْنَافُ الِاعْتِكَافِ وَالصَّوْمِ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ هُوَ الْمَقْصُودُ وَالصَّوْمُ تَبَعٌ فَإِذَا بَطَلَ الْمَقْصُودُ بَطَلَ حُكْمُ تَوَابِعِهِ .
مَسْأَلَةٌ : وَقَالَ الْمُزَنِيُّ قَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي بَابِ مَا جَمَعْتُ لَهُ مِنْ كِتَابِ الصِّيَامَ وَالسُّنَنِ وَالْآثَارِ : " لَا يُبَاشِرُ الْمُعْتَكِفُ فَإِنْ فَعَلَ أَفْسَدَ اعْتِكَافَهُ " ( وَقَالَ ) فِي مَوْضِعٍ مِنْ مَسَائِلَ فِي الِاعْتِكَافَ : " لَا يَفْسُدُ الِاعْتِكَافُ مِنَ الْوَطْءِ إِلَّا مَا يُوجِبُ الْحَدَّ " ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) هَذَا أَشْبَهُ بِقَوْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ فِي الِاعْتِكَافِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ عَنِ الْجِمَاعِ فَلَمَّا لَمْ يَفْسَدْ عِنْدَهُ صَوْمٌ وَلَا حَجٌّ بِمُبَاشَرَةٍ دُونَ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ أَوِ الْإِنْزَالَ فِي الصَّوْمِ كَانَتِ الْمُبَاشَرَةُ فِي الِاعْتِكَافِ كَذَلِكَ عِنْدِي فِي الْقِيَاسِ " .
أَحَدُهُمَا : فِي الْفَرْجِ . وَالثَّانِي : دُونَ الْفَرْجِ فَإِنْ كَانَتْ فِي الْفَرْجِ فَضَرْبَانِ : عَامِدٌ ، وَنَاسٍ فَإِنْ وَطِئَ نَاسِيًا لَمْ يَبْطُلِ اعْتِكَافُهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ كَالْعَامِدِ وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ " وَلِأَنَّ الصَّوْمَ مَعَ تَعْلِيقِهِ بِالْكَفَّارَةِ لَا يَبْطُلُ بِوَطْءِ النَّاسِي فَكَانَ الِاعْتِكَافُ بِذَلِكَ أَوْلَى ، فَإِنْ وَطِئَ عَامِدًا فِي قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ ، فَقَدْ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ، [ الْبَقَرَةِ : ] وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ إِنْ كَانَ وَاجِبًا وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الْقَضَاءِ سَقَطَ عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةِ الْفُقَهَاءِ ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالزُّهْرِيُّ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْوَطْءِ فِي رَمَضَانَ وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ عِبَادَةٌ وَيَتَعَلَّقُ وُجُوبُهَا بِمَالٍ ، وَلَا يَنُوبُ عَنْهَا الْمَالُ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمَ الْكَفَّارَةُ بِإِفْسَادِهَا كَالصَّلَاةِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْمُبَاشَرَةُ فِي غَيْرِ الْفَرْجِ للمعتكف فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : الشَّهْوَةُ . وَالثَّانِي : لِغَيْرِ شَهْوَةٍ فَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ ، كَأَنْ مَسَّ بَدَنَهَا لِعَارِضٍ ، وَقَبَّلَهَا عِنْدَ قُدُومِهَا مِنْ سِفْرٍ غَيْرِ قَاصِدٍ لِلَذَّةٍ ، فَهَذَا غَيْرُ مَمْنُوعٍ ، وَلَا مُؤَثِّرٌ فِي الِاعْتِكَافِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تُرَجِّلُ شَعْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ بَدَنَهَا قَدْ مَسَّ بَدَنَهُ ، وَإِنْ كَانَ لِشَهْوَةٍ كَأَنْ قَبَّلَهَا ، أَوْ لَمَسَهَا لِشَهْوَةٍ أَوْ وَطِئَهَا دُونَ الْفَرْجِ ، فَهَذَا مَمْنُوعٌ مِنْهُ لَا يُخْتَلَفُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [ الْبَقَرَةِ : ] ، فَإِنْ فَعَلَهُ نَاسِيًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَهُوَ عَلَى اعْتِكَافِهِ ، وَإِنْ فَعَلَهُ عَامِدًا فَفِي اعْتِكَافِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : جَائِزٌ أَنْزَلَ أَمْ لَمْ يُنْزِلْ ، وَوَجْهُهُ أَنَّهَا عِبَادَةٌ تَتَعَلَّقُ بِمَكَانٍ مَخْصُوصٍ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تُبْطِلَهَا الْمُبَاشَرَةُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ كَالْحَجِّ ، وَلِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ حُرِّمَ فِيهَا الْوَطْءُ ، يُدْرَأُ مِنْهُ كَانَ لِلْوَطْءِ مَزِيَّةٌ ، وَاخْتَصَّ بِالتَّغْلِيظِ دُونَ غَيْرِهِ كَالْحَجِّ وَالصَّوْمِ وَالْحَدِّ فَلَوْ بَطَلَ الِاعْتِكَافُ بِالْمُبَاشَرَةِ كَمَا بَطَلَ بِالْوَطْءِ ، كَانَ فِي ذَلِكَ تَسْوِيَةً بَيْنَ حُكْمِ الْمُبَاشَرَةِ وَالْوَطْءِ ، وَهَذَا خِلَافُ الْأُصُولِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ اعْتِكَافَهُ قَدْ بَطَلَ أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ ، وَوَجْهُهُ أَنَّهَا مُبَاشَرَةٌ مُحَرَّمَةٌ فِي الِاعْتِكَافِ فَوَجَبَ أَنْ تُبْطِلَهُ كَالْوَطْءِ ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَخْتَصُّ بِمَكَانٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِلْمُبَاشَرَةِ فِيهَا تَأْثِيرٌ كَالْحَجِّ فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ كَانَ كَـ " الصَّوْمِ " . لَا يَبْطُلُ بِالْإِنْزَالِ ؟ قِيلَ : قَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُخْرِجُ قَوْلًا ثَالِثًا يَجْمَعُ فِيهِ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالِاعْتِكَافِ أَنَّهُ يَبْطُلُ إِنْ أَنْزَلَ ، وَلَا يَبْطُلُ إِنْ لَمْ يُنْزِلْ ، وَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى الْمَنْعِ مِنْ هَذَا التَّخْرِيجِ ، وَجَعَلُوا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا ، أَنَّ الْمُبَاشَرَةَ فِي
الِاعْتِكَافِ حَرَامٌ ، وَفِي الصَّوْمِ حَلَالٌ فَلَمَّا افْتَرَقَا فِي التَّحْرِيمِ جَازَ أَنْ يَفْتَرِقَا فِي الْإِفْسَادِ ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ لِأَصْحَابِنَا طُرُقٌ ، وَهَذَا أَصَحُّهَا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ اعْتِكَافَ شَهْرٍ ، وَلَمْ يَقُلْ مُتَتَابِعًا أَحْبَبْتُهُ مُتَتَابِعًا " . قَالَ الْمُزَنِيُّ : وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ مُتَفَرِّقًا . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا إِنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ ، لَزِمَهُ اعْتِكَافُ جَمِيعِهِ مُتَتَابِعًا لَيْلًا وَنَهَارًا ؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ جَمِيعُ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ فَأَمَّا إِنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ ، وَلَمْ يُعَيِّنْهُ بَلْ أَطْلَقَ نَذْرَهُ فِيهِ فَعَلَيْهِ اعْتِكَافُ اللَّيْلِ مَعَ النَّهَارِ ؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ يَجْمَعُهُمَا ، فَإِنْ تَابَعَ اعْتِكَافَهُ كَانَ أَوْلَى وَإِنْ فَرَّقَهُ جَازَ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : " يَلْزَمُهُ اعْتِكَافُ شَهْرٍ مُتَتَابِعٍ فَإِنْ فَرَّقَهُ لَمْ يُجْزِهِ " اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الِاعْتِكَافَ يَصِحُّ لَيْلًا وَنَهَارًا ، فَوَجَبَ إِذَا أَطْلَقَ شَهْرًا أَنْ يَلْزَمَهُ مُتَتَابِعًا ، كَمَا لَوْ قَالَ : وَاللَّهِ لَا كَلَّمْتُ زَيْدًا شَهْرًا لَزِمَهُ الِامْتِنَاعُ مِنْ كَلَامِهِ شَهْرًا مُتَوَالِيًا ، وَقَوْلُهُ يَصِحُّ لَيْلًا وَنَهَارًا احْتِرَازًا مِنَ الصِّيَامِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَذَرَ صِيَامَ شَهْرٍ أَجْزَأَهُ مُتَفَرِّقًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ : وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يَتَعَلَّقُ بِالْمُدَّةِ الْمُطْلَقَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَقْتَضِيَ إِطْلَاقَ التَّتَابُعِ كَالْعِدَّةِ وَالْإِيلَاءِ ، وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ الشَّهْرَ يَنْطَبِقُ عَلَى مَا بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ وَعَلَى الْعَدَدِ ، وَهُوَ ثَلَاثُونَ يَوْمًا مُجْتَمِعًا وَمُتَفَرِّقًا فَإِذَا لَمْ يَشْتَرِطْ أَحَدَهُمَا فَلَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ كَيْفَ شَاءَ مُتَتَابِعًا وَمُتَفَرِّقًا لِانْطِلَاقِ اسْمِ الشَّهْرِ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّهُ نَذَرَ عِبَادَةَ شَهْرٍ مُطْلَقٍ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ التَّتَابُعُ كَمَا لَوْ نَذَرَ مُطْلَقًا صِيَامَ شَهْرٍ ، فَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْيَمِينِ وَمُدَّةِ الْعِدَّةِ وَمُدَّةِ الْإِيلَاءِ ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ هُوَ أَنَّا إِنَّمَا أَلْزَمْنَاهُ الْمُوَالَاةَ فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ وَالْيَمِينِ ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَبْتَدِئَ بِالْمُدَّةِ مِنْ وَقْتِ الْيَمِينِ وَكَذَلِكَ الْعِدَّةُ ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا بِالْمُوَالَاةِ فَأَمَّا أَنْ تَكُونَ الْمُوَالَاةُ شَرْطًا فِيهِ ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ حَلَفَ عَلَى زَمَانٍ لَا يُوصَفُ بِالْمُوَالَاةِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : وَاللَّهِ لَا كَلَّمْتُ زَيْدًا يَوْمًا ابْتَدَأَ ذَلِكَ الْيَوْمُ مِنْ وَقْتِهِ فَعُلِمَ ، أَنَّ الْمُتَابَعَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا فِيهِ ، وَكَذَلِكَ الِاعْتِكَافُ لِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي ابْتِدَائِهِ أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ اعْتِكَافُ أَيِّ شَهْرٍ كَانَ إِنْ شَاءَ بَدَأَ فِيهِ مِنْ وَقْتِهِ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَّرَهُ ، وَمِثَالُ الْعِدَّةِ مِنَ الِاعْتِكَافِ وَالْيَمِينِ ، أَنْ يَقُولَ : لِلَّهِ عَلَيَّ اعْتِكَافُ شَهْرٍ مِنْ وَقْتِي هَذَا فَيَلْزَمُهُ الْمُتَابَعَةُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْبِدَايَةِ بِهِ مِنْ وَقْتِهِ فَبَطَلَ اسْتِدْلَالُهُ بِذَلِكَ .
فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرًا بِالنَّهَارِ ، فَلَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ النَّهَارَ دُونَ اللَّيْلِ مُتَفَرِّقًا وَمُتَتَابِعًا ، وَإِنَّمَا سَقَطَ عَنْهُ اعْتِكَافُ اللَّيْلِ ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَثْنَى بِاشْتِرَاطِ النَّهَارِ .
فَصْلٌ : وَإِذَا نَذَرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ ، فَذَهَبَ الشَّهْرُ بَعْدَ نَذْرِهِ ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ شَهْرًا سِوَاهُ ، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْقَضَاءُ بِالنِّسْيَانِ ، فَإِذَا أَرَادَ الْقَضَاءَ أَجْزَأَهُ مُتَفَرِّقًا ؛ لِأَنَّ فَوَاتَ زَمَانِ التَّعْيِينِ يُسْقِطُ حُكْمَ الْمُوَالَاةِ ، كَمَا سَقَطَ وُجُوبُ الْمُتَابَعَةِ وَالْمُوَالَاةِ فِي قَضَاءِ
رَمَضَانَ لِفَوَاتِ زَمَانِهِ ؛ لِأَنَّ مُوَالَاةَ صِيَامِهِ وَجَبَتْ بِالزَّمَانِ ، لَا بِالْفِعْلِ فَأَمَّا إِذَا نَذَرَ شَهْرًا بِعَيْنِهِ ، فَإِذَا الشَّهْرُ قَدْ ذَهَبَ قَبْلَ نَذْرِهِ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ نَذْرَهُ لَمْ يَنْعَقِدْ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ نَوَى يَوْمًا فَدَخَلَ فِي نِصْفِ النَّهَارِ اعْتَكَفَ إِلَى مِثْلِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُمَا مَسْأَلَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَقُولَ لِلَّهِ عَلَيَّ اعْتِكَافُ يَوْمٍ مِنْ وَقْتِي هَذَا ، وَهُوَ فِي بَعْضِ النَّهَارِ يَلْزَمُهُ الِاعْتِكَافُ مِنْ وَقْتِهِ ، إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنَ الْغَدِ ، فَيَعْتَكِفُ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ مِنَ الْغَدِ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ ، فَيَحْصُلُ لَهُ اعْتِكَافُ يَوْمٍ مِنْ جُمْلَةِ يَوْمَيْنِ ، وَإِنَّمَا لَزِمَهُ اعْتِكَافُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ ، لِأَنَّهَا تَخَلَّلَتْ زَمَانَ اعْتِكَافِهِ فَصَارَتْ تَبَعًا لِلطَّرَفَيْنِ ، كَمَنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ لَزِمَهُ الدُّخُولُ فِيهِمَا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ ، وَالْخُرُوجُ مِنْهُمَا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَتَكُونُ اللَّيْلَةُ الْمُتَوَسِّطَةُ بَيْنَ الْيَوْمَيْنِ ، دَاخِلَةٌ فِي الِاعْتِكَافِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ لَهُ نِيَّةُ النَّهَارِ دُونَ اللَّيْلِ . وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ اعْتِكَافُ يَوْمٍ دَخَلَ فِيهِ قَبْلَ الْفَجْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَمْسِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : لِأَنَّ مُطْلَقَ الْيَوْمِ يَقَعُ عَلَى هَذَا الزَّمَانِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ اعْتِكَافُ اللَّيْلِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَخَلَّلُ زَمَانَ الِاعْتِكَافِ ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي بَعْضِ النَّهَارِ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنَ الْغَدِ كَالْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ كَانَ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَصَحُّهُمَا : لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْيَوْمِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ . وَالثَّانِي : يَجُوزُ كَمَا كَانَ تَلْفِيقُ الْيَوْمِ فِي الْحَيْضِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ قَالَ يَوْمَيْنِ فَإِلَى غُرُوبِ الشَمْسِ مِنَ الَيْوَمِ الثَّانِي إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ نِيَّةُ النَهَارِ دُونَ اللَّيْلِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمَيْنِ فَذَلِكَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَشْتَرِطَ فِيهِمَا التَّتَابُعَ ، فَيَلْزَمُهُ الدُّخُولُ فِيهِمَا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ ، وَالْخُرُوجُ مِنْهُمَا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنَ الْيَوْمِ الثَّانِي ، وَتَكُونُ اللَّيْلَةُ الْمُتَوَسِّطَةُ بَيْنَ الْيَوْمَيْنِ دَاخِلَةٌ فِي الِاعْتِكَافِ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ نِيَّةُ النَّهَارِ دُونَ اللَّيْلِ ، فَيَعْمَلُ عَلَى نِيَّتِهِ فَأَمَّا اللَّيْلَةُ الْأُولَى ، فَلَا يَلْزَمُهُ اعْتِكَافُهَا وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَلْزَمُهُ اعْتِكَافُهَا تَبَعًا لِلنَّهَارِ ، فَيَدْخُلُ فِي اعْتِكَافِ يَوْمٍ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ نَذْرَهُ انْعَقَدَ عَلَى زَمَانِ النَّهَارِ فَلَمْ يَلْزَمْ دُخُولُ اللَّيْلَةِ الْأُولَى فِيهِ كَمَا نَذَرَ
اعْتِكَافَ يَوْمٍ وَإِنَّمَا دَخَلَتِ اللَّيْلَةُ بَيْنَ الْيَوْمَيْنِ ، لِأَنَّهَا تَخَلَّلَتْ بَيْنَ زَمَانَيْنِ قَدْ لَزِمَهُ مُتَابَعَةُ اعْتِكَافِهِمَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَشْتَرِطَ التَّتَابُعَ فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ اعْتَكَفَهُمَا مُتَتَابِعًا أَوْ مُتَفَرِّقًا ، وَهَلْ يَلْزَمُهُ اعْتِكَافُ اللَّيْلَةِ الَّتِي بَعْدَ يَوْمَيْنِ ، أَوْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَصَحُّهُمَا : يَلْزَمُهُ اعْتِكَافُهَا ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَخَلُّلِهَا بَيْنَ زَمَانَيِ الِاعْتِكَافِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَلْزَمُهُ اعْتِكَافُهَا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا سَقَطَتِ الْمُوَالَاةُ بَيْنَ الْيَوْمَيْنِ ، لَمْ يَكُنْ لِمَا تَخَلَّلَهُمَا مِنْ زَمَانِ اللَّيْلِ حُكْمٌ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيَجُوزُ اعْتِكَافُهُ لَيْلَةً " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا مُسْتَقِرٌّ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى صِيَامٍ فَجَازَ فِي كُلِّ زَمَانٍ ، وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنَ اعْتِكَافِ لَيْلَةٍ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي نَذَرْتُ اعْتِكَافَ لَيْلَةٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَالَ : النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَوْفِ بِنَذْرِكَ " فَإِنْ قِيلَ : لَا يَصِحُّ لَكُمُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الْحَدِيثِ ؛ لِأَنَّ نُذُورَ الْجَاهِلِيَّةِ عِنْدَكُمْ لَا تَلْزَمُ قُلْنَا : هِيَ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ لَازِمَةٍ فَالْوَفَاءُ بِهَا مُسْتَحَبٌّ ، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِالْحَدِيثِ ؛ لِأَنَّ أَمْرَهُ بِذَلِكَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَإِنْ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِحْبَابِ ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي الِاعْتِكَافَ الشَّرْعِيَّ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ يَوْمَ يَقْدُمُ فُلَانٌ فَقَدِمَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ اعْتَكَفَ فِي مَا بَقِيَ ، فَإِنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ مَحْبُوسًا فَإِذَا قَدَرَ قَضَاهُ ، ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ إِذَا قَدِمَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ أَنْ يَقْضِيَ مِقْدَارَ مَا مَضَى مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ يَوْمٍ آخَرَ ، حَتَى يَكُونَ قَدْ أَكْمَلَ اعْتِكَافَ يَوْمٍ وَقَدْ يُقْدِمُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ لِطُلُوعِ الشَمْسِ وَقَدْ مَضَى بَعْضُ يَوْمٍ فَيَقْضِيَ بَعْضَ يَوْمٍ فَلَا بُدَّ مِنْ قَضَائِهِ حَتَّى يَتِمَّ يَوْمٌ وَلَوِ اسْتَأْنَفَ يَوْمًا حَتَّى يَكُونَ اعْتِكَافُهُ مَوْصُولًا كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ يَوْمَ يَقْدُمُ فُلَانٌ ، فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّ نَذْرَهُ قَدِ انْعَقَدَ ؛ لِأَنَّ الْوَفَاءَ بِمُوجِبِ النَّذْرِ أَوْ بِبَعْضِهِ مُمْكِنٌ فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا كَانَ نَذْرُهُ بَاطِلًا ، كَمَا لَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ يَوْمَ يَقْدُمُ فَلَانٌ قُلْنَا : فِي نَذْرِ الصَّوْمِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا صَحِيحٌ كَالِاعْتِكَافِ . وَالثَّانِي : بَاطِلٌ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ بِالِاعْتِكَافِ أَوْ بَعْضِهِ ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ بِالصَّوْمِ وَلَا بِبَعْضِهِ ؛ لِأَنَّهُ إِنْ قَدِمَ لَيْلًا فَلَا نَذْرَ وَإِنْ قَدِمَ نَهَارًا لَمْ يُمْكِنْهُ صِيَامُ مَا
بَقِيَ ، وَيُمْكِنُهُ اعْتِكَافُ مَا بَقِيَ مِنْهُ ، فَإِنْ صَحَّ أَنَّ نَذْرَهُ قَدِ انْعَقَدَ فَمَا لَمْ يَقْدُمْ فَلَانٌ فَلَا اعْتِكَافَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ قَدِمَ حَيًّا مُخْتَارًا فَلَهُ حَالَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَقْدُمَ لَيْلًا . وَالثَّانِي : نَهَارًا فَإِنْ قَدِمَ لَيْلًا فَلَا اعْتِكَافَ عَلَى النَّاذِرِ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ نَذْرِهِ لَمْ يُوجَدْ وَإِنْ قَدِمَ نَهَارًا فَلِلنَّاذِرِ حَالَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مَالِكُ التَّصَرُّفِ قَادِرًا عَلَى الِاعْتِكَافِ ، فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَعْتَكِفَ بَقِيَّةَ نَهَارِهِ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ نَذْرِهِ وَقَدْ وُجِدَ ، وَفِي قَضَاءِ مَا مَضَى مِنَ النَّهَارِ وَجْهَانِ مُخْرَجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ يَوْمًا بِقُدُومِ فَلَانٍ . أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ ، إِذَا قِيلَ : إِنَّ نَذْرَ الصَّوْمِ بَاطِلٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : عَلَيْهِ الْقَضَاءُ ، إِذَا قِيلَ : إِنَّ نَذْرَ الصَّوْمِ صَحِيحٌ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ النَّاذِرُ مَمْلُوكَ التَّصَرُّفِ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى التَّصَرُّفِ ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ مَرِيضًا أَوْ مَحْبُوسًا هَلْ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ إِذَا صَحَّ وَخَرَجَ مِنَ الْحَبْسِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَصَحُّهُمَا : عَلَيْهِ الْقَضَاءُ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَزِمَهُ فِعْلُ عِبَادَةٍ إِذَا كَانَ صَحِيحًا ، فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا إِذَا أَتَى عَلَيْهِ زَمَانُهَا وَكَانَ مَرِيضًا كَصَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ مُخْرَجٌ مِنْ أَحَدِ قَوْلَيْهِ ، فِي نَذْرِ الصِّيَامِ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعَاجِزِ أَنَّ الْوُجُوبَ لَا يَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا بَأْسَ أَنْ يَلْبِسَ الْمُعْتَكِفُ وَالْمُعْتَكِفَةُ وَيَأْكُلَا وَيَتَطَيَّبَا بِمَا شَاءَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ صَحِيحٌ وَحُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَطَاوُسٍ ، أَنَّ الْمُعْتَكِفَ مَمْنُوعٌ مِنَ الطِّيبِ تَشْبِيهًا بِالْمُحْرِمِ ، وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ قَدْ وَرَدَتْ بِخِلَافِهِ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّهُ رَجَّلَ شَعْرَ رَأْسِهِ لِيُنَبِّهَ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُحْرِمِ وَالْمُعْتَكِفِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ مُنِعَ مِنَ الطِّيبِ كَالْمُحْرِمِ لَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مَنْ حَلْقِ رَأْسِهِ ، وَتَقْلِيمِ ظُفْرِهِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ لَا تَمْنَعُ مِنْ عَقْدِ النِّكَاحَ ، لَا تَنْفَعُ مِنَ الطِّيبِ ، أَصْلُهُ الصَّوْمُ وَعَكْسُهُ الْحَجُّ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ هَلَكَ زَوْجُهَا خَرَجَتْ فَاعْتَدَتْ ثُمَّ بَنَتْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَعْتَكِفَ إِلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا ، لِمَا يَمْلِكُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا ، فَإِنِ اعْتَكَفَتْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ كَانَ لَهُ مَنْعُهَا ، وَلَوْ أَذِنَ لَهَا فِي الِاعْتِكَافِ ثُمَّ أَرَادَ مَنْعَهَا قَبْلَ تَمَامِ ذَلِكَ جَازَ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى تَمْكِينُهَا مِنْ إِتْمَامِهِ ، وَلَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ إِنْ كَانَ اعْتِكَافُهَا
مُتَتَابِعًا ، فَإِذَا اعْتَكَفَتِ الْمَرْأَةُ ثُمَّ وَجَبَ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ بِطَلَاقِ زَوْجِهَا أَوْ وَفَاتِهِ ، لَزِمَهَا الْخُرُوجُ إِلَى مَنْزِلِهَا لِتَقْضِيَ فِيهِ عِدَّتَهَا ، وَقَالَ مَالِكٌ تُكْمِلُ اعْتِكَافَهَا ثُمَّ تَخْرُجُ لِقَضَاءِ عِدَّتِهَا ، وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّيْنِ إِذَا وَجَبَا قُدِّمَ أَقْوَاهُمَا وَالْعِدَّةُ أَقْوَى مِنَ الِاعْتِكَافِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْعِدَّةَ وَجَبَتِ ابْتِدَاءً مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى وَالِاعْتِكَافُ وَجَبَ عَلَيْهَا بِإِيجَابِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّ الْعِدَّةَ لَا يَجُوزُ تَبْعِيضُهَا وَالْخُرُوجُ مِنْهَا قَبْلَ إِتْمَامِهَا وَالِاعْتِكَافُ يَجُوزُ تَبْعِيضُهُ وَالْخُرُوجُ مِنْهُ قَبْلَ إِتْمَامِهِ لِعَارِضٍ أَوْ حَاجَةٍ ، فَلِهَذَيْنِ مَا وَجَبَ تَقْدِيمُ الْعِدَّةِ عَلَى الِاعْتِكَافِ ، فَإِذَا قَضَتْ عِدَّتَهَا عَادَتْ إِلَى اعْتِكَافِهَا فَبَنَتْ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهَا خَرَجَتِ اضْطِرَارًا لَا اخْتِيَارًا ، فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا اسْتَوَى حُكْمُ الْخُرُوجِ لِلْعِدَّةِ وَالْخُرُوجِ لِلشَّهَادَةِ فِي بُطْلَانِ الِاعْتِكَافِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ ، أَوْ جَوَازِ الْبِنَاءِ عَلَى الِاعْتِكَافِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ قِيلَ : قَدْ كَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ يُخْرِجُ فِي الْعِدَّةِ قَوْلًا مِنَ الشَّهَادَةِ وَفِي الشَّهَادَةِ قَوْلًا مِنَ الْعِدَّةِ ، فَيَجْعَلُهَا عَلَى قَوْلَيْنِ وَالصَّحِيحُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الشَّهَادَةِ هُوَ الْأَدَاءُ ، فَإِذَا تَحَمَّلَهَا مُخْتَارًا كَانَ خُرُوجُهُ لِأَدَائِهَا مُخْتَارًا ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنَ النِّكَاحِ الْفُرْقَةُ الْمُوجِبَةُ لِلْعِدَّةِ ، وَإِنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ الْأُلْفَةُ فَلَمْ يَكُنِ اخْتِيَارُهَا لِلنِّكَاحِ اخْتِيَارًا لِوُجُوبِ الْعِدَّةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ بِالْمَرْأَةِ إِلَى النِّكَاحِ ضَرُورَةً ؛ لِأَنَّهُ كَسْبُهَا وَبِهِ تَسْتَفِيدُ الْمَهْرَ وَالنَّفَقَةَ ، وَلَيْسَتِ الشَّهَادَةُ كَسْبًا لِلشَّاهِدِ ، فَلَمْ يَكُنْ بِهِ إِلَى تَحَمُّلِهَا ضَرُورَةٌ ، وَمِثَالُ الْعِدَّةِ مِنَ الشَّهَادَةِ أَنْ يَضْطَرَّ إِلَى تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ ، وَتَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ لِعَدَمِ غَيْرِهِ وهو معتكف ، فَهَذَا إِذَا أُخْرِجَ لِلْأَدَاءِ لَمْ يَبْطُلِ اعْتِكَافُهُ ، وَمِثَالُ الشَّهَادَةِ مِنَ الْعِدَّةِ أَنْ يَجْعَلَ إِلَيْهَا طَلَاقَهَا ، فَتَخْتَارُ الطَّلَاقَ ، فَإِذَا خَرَجَتْ لِلْعِدَّةِ بَطَلَ اعْتِكَافُهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : وَإِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ فِي اعْتِكَافِهَا ، خَرَجَتْ مِنَ الْمَسْجِدِ ، فَإِذَا طَهُرَتْ عَادَتْ إِلَى اعْتِكَافِهَا وَبَنَتْ لِأَنَّهَا مُضْطَرَّةٌ إِلَى الْخُرُوجِ مَمْنُوعَةٌ مِنَ الْمَقَامِ ، فَأَمَّا الْمُسْتَحَاضَةُ فَلَيْسَ لَهَا الْخُرُوجُ مِنَ اعْتِكَافِهَا ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحَاضَةَ لَا تَمْنَعُ مِنَ الْمَقَامِ فِي الْمَسْجِدِ ، وَإِنْ خَرَجَتْ بَطَلَ اعْتِكَافُهَا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا بَأْسَ أَنْ تُوضَعَ الْمَائِدَةُ فِي الْمَسْجِدِ وَغَسْلُ الْيَدَيْنِ فِي الطِّشْتِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ ، لَا يَمْنَعُ مِنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، وَلِأَنَّ أَكْلَهُ عَلَى الْمَائِدَةِ ، وَغَسْلَ يَدَيْهِ فِي الطِّشْتِ ، أَصْوَنُ لِلْمَسْجِدِ ، وَأَحْرَى أَنْ لَا يَنَالَهُ مَا يَتَأَذَّى بِهِ
الْمُصَلِّي وَالْأَوْلَى أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ حَيْثُ يَبْعُدُ عَنْ مَنْظَرِ النَّاسِ ، وَعَنْ مَجَالِسِ الْعُلَمَاءِ ؛ لِأَنَّهُ أَصْوَنُ وَكَيْفَ مَا فَعَلَ جَازَ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا بَأْسَ أَنْ يُنْكِحَ نَفْسَهُ وَيُنْكِحَ غَيْرَهُ المعتكف " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ، إِنَّمَا مَنَعَهُ مِنَ الْمُبَاشَرَةِ ، وَلَيْسَ كُلُّ مَمْنُوعٍ مِنَ الْمُبَاشَرَةِ مَمْنُوعًا مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ كَالصَّائِمِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَالْعَبْدُ وَالْمُسَافِرُ وَالْمَرْأَةُ أين يعتكفون يَعْتَكِفُونَ حَيْثُ شَاءُوا ؛ لِأَنَّهُ لَا جُمُعَةَ عَلَيْهِمْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ وَمَعْنَى قَوْلِهِ ، حَيْثُ شَاؤُوا مِنَ الْمَسَاجِدِ ؛ لِأَنَّ مَنْ لَا يَلْزَمُهُ الْجُمُعَةُ يَتَّصِلُ لَهُ الِاعْتِكَافُ ، وَمَا أَحَبَّ فِي مَسْجِدٍ أَوْ جَامِعٍ ، وَمَنْ تَلْزَمُهُ الْجُمُعَةُ إِذَا اعْتَكَفَ فِي مَسْجِدٍ اتَّصَلَ لَهُ الِاعْتِكَافُ مِنَ الْجُمُعَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ .
فَصْلٌ : وَإِذَا نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدٍ بِعَيْنِهِ ، فَخَرَجَ مِنْهُ لِقَضَاءِ حَاجَةِ الْإِنْسَانِ ثُمَّ دَخَلَ إِلَيَّ مَسْجِدٍ آخَرَ فِي طَرِيقِهِ فَبَنَى عَلَى اعْتِكَافِهِ جَازَ ؛ لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ لَا يَتَعَيَّنُ فِي مَسْجِدٍ دُونَ مَسْجِدٍ ، وَكَذَلِكَ لَوِ انْهَدَمَ الْمَسْجِدُ فَخَرَجَ ، إِلَى غَيْرِهِ هل يبني على اعتكافه بَنَى عَلَى اعْتِكَافِهِ .
فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَإِنْ جَعَلَ الْمُعْتَكِفُ عَلَى نَفْسِهِ اعْتِكَافَ أَيَّامٍ نَذَرَ لِلَّهِ إِنْ كَلَّمَ فُلَانًا فَكَلَّمَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْتَكِفَ ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ أَخْرَجَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّمَنِّي ، فَقَالَ : إِنْ رَزَقَنِي اللَّهُ كَلَامَ فُلَانٍ فَعَلَيَّ اعْتِكَافُ أَيَّامٍ فَهَذَا نَذْرٌ لَازِمٌ ؛ لِأَنَّهُ نَذَرَ عَلَى وَجْهِ الْمُجَازَاةِ قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَوْ قَالَ : إِنْ كَلَّمْتُ فُلَانًا فَعَلَيَّ اعْتِكَافُ شَهْرٍ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ كَلَّمَهُ ، فَعَلَيْهِ اعْتِكَافُ شَهْرٍ ، وَهَذَا اخْتِيَارٌ مِنْهُ وَالَا فَمَذْهَبُهُ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ اعْتِكَافِ شَهْرٍ أَوْ كَفَّارَةِ يَمِينٍ نُصَّ عَلَيْهِ فِي النُّذُورِ .
فَصْلٌ : وَإِذَا أَحْرَمَ الْمُعْتَكِفُ بِالْحَجِّ ، فَإِنْ كَانَ وَقْتُ الْحَجِّ بَاقِيًا أَتَمَّ اعْتِكَافَهُ ثُمَّ خَرَجَ لِحَجِّهِ ، وَإِنْ خَافَ فَوَاتَ الْحَجِّ خَرَجَ مِنَ الِاعْتِكَافِ ، وَمَضَى فِي حَجِّهِ ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ أَقْوَى مِنَ الِاعْتِكَافِ ، وَأَوْكَدُ ، فَإِذَا عَادَ اسْتَأْنَفَ لِأَنَّهُ اخْتَارُ قَطْعَ اعْتِكَافِهِ بِالْإِحْرَامِ ، فَلَوْ كَانَ إِحْرَامُهُ بِعُمْرَةٍ أَتَمَّ اعْتِكَافَهُ ، ثُمَّ خَرَجَ لِعُمْرَتِهِ ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الْعُمْرَةِ لَا يَفُوتُهُ فَلَوْ خَرَجَ مِنَ اعْتِكَافِهِ قَبْلَ إِتْمَامِهِ اسْتَأْنَفَ .
فَصْلٌ : لَيْسَ لِلْعَبْدِ وَلَا لِلْمُدَبَّرِ وَلَا لِأُمِّ الْوَلَدِ أَنْ يَعْتَكِفُوا إِلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِمْ ، فَإِنِ اعْتَكَفُوا بِغَيْرِ إِذْنِهِ ، كَانَ لَهُ مَنْعُهُمْ ، وَإِنِ اعْتَكَفُوا بِإِذْنِهِ كَانَ بِالْخِيَارِ ، إِنْ شَاءَ مَكَّنَهُمْ ، وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُمْ .
فَصْلٌ : فَلَوْ أَذِنَ لَهُمْ فِي النَّذْرِ ، فَنَذَرُوا الِاعْتِكَافَ بِإِذْنِهِ ، وَأَرَادَ مَنْعَهُمْ مِنْهُ ، فَذَلِكَ ضَرْبَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ زَمَانُ النَّذْرِ مُعَيَّنًا كَأَنَّهُمْ نَذَرُوا اعْتِكَافَ شَهْرِ رَجَبٍ ، فَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهُمْ مِنَ اعْتِكَافِهِ ؛ لِأَنَّ اعْتِكَافَهُ تَعَيَّنَ عَلَيْهِمْ بِدُخُولِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ زَمَانُ النَّذْرِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ كَأَنَّهُمْ نَذَرُوا اعْتِكَافَ شَهْرٍ مُطْلَقٍ ، فَلَمَّا لَمْ يَدْخُلُوا فِي الِاعْتِكَافِ فَلَهُ مَنْعُهُمْ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِذِمَمِهِمْ ، وَهُمْ فِي سَعَةٍ مِنْ تَأْخِيرِهِ وَإِنْ دَخَلُوا فِي الِاعْتِكَافِ ، فَذَلِكَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مُتَتَابِعًا . وَالثَّانِي : غَيْرُ مُتَتَابِعٍ ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَتَابِعٍ فَلَهُ مَنْعُهُمْ مِنْهُ ، لِأَنَّهُمْ فِي سَعَةٍ مِنْ تَفْرِيقِهِ ، وَإِنْ كَانَ مُتَتَابِعًا ، فَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهُمْ مِنْهُ قَبْلَ إِتْمَامِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِمْ بِالدُّخُولِ فِيهِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُكَاتِبُ فَلَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ بِغَيْرِ إِذَنْ سَيِّدِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَمْلَكُ لِمَنَافِعِهِ وَلَيْسَ لِسَيِّدِهِ مَنْعُهُ ، إِلَّا أَنْ يَعْجَزَ عَنْ قُوتِهِ ، فَيَكُونَ حِينَئِذٍ لَهُ مَنْعُهُ بَعْدَ الْعَجْزِ ، فَأَمَّا الْعَبْدُ الَّذِي قَدْ عُتِقَ نِصْفُهُ هل له الاعتكاف ، فَلَهُ حَالَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مُهَايَأً ، فَلَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ يَوْمًا وَيَخْدِمَ سَيِّدَهُ يَوْمًا . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُهَايَأٍ ، فَلَيْسَ لَهُ الِاعْتِكَافُ إِلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
_____كِتَابُ الْحَجِّ_____
بيان معنى الحج في لسان العرب
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابُ الْحَجِّ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : - " فَرَضَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْحَجَّ عَلَى كُلِّ حُرٍّ بَالِغٍ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : الْحَجُّ تعريفه فِي لِسَانِ الْعَرَبِ ، فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ الْقَصْدُ ، وَلِهَذَا سُمِّيَ الطَّرِيقُ مَحَجَّةً ، لِأَنَّهُ يُوصِلُ إِلَى الْمَقْصِدِ . قَالَ الشَّاعِرُ : يَحُجُّ مَأْمُومَةً فِي قَعْرِهَا لَجَفٌ فَاسْتُ الطَّبِيبِ قَذَاهَا كَالْمَغَارِيدِ فَعَلَى هَذَا سُمِّيَ بِهِ النُّسُكُ ، لِأَنَّ الْبَيْتَ مَقْصُودٌ فِيهِ ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ الْعَوْدُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ : وَأَشْهَدُ مِنْ عَوْفٍ حُلُولًا كَثِيرَةً يَحُجُّونَ سَبَّ الزِّبْرِقَانِ الْمُعَصْفَرَا يَعْنِي بِقَوْلِهِ : يَحُجُّونَ أَيْ يُكْثِرُونَ التَّرَدُّدَ إِلَيْهِ لِسُؤْدُدِهِ فَسُمِّي بِهِ الْحَجُّ حَجًّا ، لِأَنَّ الْحَاجَّ يَأْتِي إِلَيْهِ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ ، ثُمَّ يَعُودُ إِلَيْهِ لِطَوَافِ الْإِقَامَةِ ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ إِلَى مِنًى ثُمَّ يَعُودُ إِلَيْهِ لِطَوَافِ الصَّدْرِ فَيَتَكَرَّرُ الْعَوْدُ إِلَيْهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى فَقِيلَ لَهُ حَجٌّ ، ثُمَّ اسْتَقَرَّ الْحَجُّ فِي الشَّرْعِ عَلَى قَصْدِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ عَلَى أَوْصَافٍ نَذْكُرُهَا فِيمَا بَعْدُ ، وَالْأَصْلُ فِي إِثْبَاتِ فَرْضِ الْحَجِّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [ الْحَجِّ : ] ، فَخَاطَبَ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ نَبِيَّهُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ أَيْ رَبِّ فَأَيْنَ يَبْلُغُ نِدَائِي فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْكَ النِّدَاءُ وَعَلَيَّ الْبَلَاغُ ، فَصَعِدَ إِبْرَاهِيمُ عَلَى الْمَقَامِ ، وَقَالَ عِبَادَ اللَّهِ أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ ، فَأَجَابَ مَنْ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ ، وَأَرْحَامِ النِّسَاءِ ، لَبَّيْكَ أَدَاعِيَ رَبِّنَا لَبَّيْكَ فَيُقَالُ : إِنَّهُ لَا يَحُجُّ إِلَّا مَنْ أَجَابَ دَعْوَةَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَرُوِيَ عَنْ
عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : كَانَ أَوَّلَ مَنْ أَجَابَ دَعْوَةَ إِبْرَاهِيمَ بِالْحَجِّ بِالتَّلْبِيَةِ أَهْلُ الْيَمَنِ ، وَقَالَ تَعَالَى : وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [ الْبَقَرَةِ : ] أَيِ افْعَلُوهُمَا عَلَى التَّمَامِ ، وَقَالَ تَعَالَى : وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [ آلِ عِمْرَانَ : ] الْآيَةَ ، وَفِي قَوْلِهِ : وَمَنْ كَفَرَ [ آلِ عِمْرَانَ : ] ، ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا : وَهُوَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ ، وَمَنْ كَفَرَ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ ، فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [ آلِ عِمْرَانَ : ] ، رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [ آلِ عِمْرَانَ : ] ، قَالَتِ الْيَهُودُ : فَنَحْنُ الْمُسْلِمُونَ ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَجُّهُمْ ؟ فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحُجُّوا ! فَقَالَ لَمْ يُكْتَبْ عَلَيْنَا . وَأَبَوْا أَنْ يَحُجُّوا . قَالَ عِكْرِمَةُ : ( وَمَنْ كَفَرَ ) مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَمَا أَشْبَهَ مَا قَالَ عِكْرِمَةُ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ سَعِيدٍ بِمَا قَالَ . وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ : ( وَمَنْ كَفَرَ ) هُوَ مَنْ إِنْ حَجَّ لَمْ يَرَهُ بِرًّا وَإِنْ جَلَسَ لَمْ يَرَهُ مَأْثَمًا وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ سَعِيدٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ . وَالتَّأْوِيلُ الثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ سَالِمٍ ، ( وَمَنْ كَفَرَ ) بِفَرْضِ الْحَجِّ ، فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالِمَيْنِ ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ : شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحْمَدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَحَجِّ الْبَيْتِ ، وَصِيَامِ رَمَضَانَ وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ صَلُّوا خَمْسَكُمْ وَصُومُوا شَهْرَكُمْ وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ طَيِّبَةً بِهَا نُفُوسُكُمْ وَحُجُّوا بَيْتَ رَبِّكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَعِدَ الْمِنْبَرَ وَقَالَ إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ ، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ أَفِي كُلِّ عَامٍ ، فَلَمْ يُجِبْهُ فَأَعَادَ ثَالِثَةً ، فَقَالَ : لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَوْ وَجَبَتْ مَا قُمْتُمْ بِهَا ، وَلَوْ تَرَكْتُمُوهَا لَكَفَرْتُمْ ، أَلَا وَادِعُونِي مَا وَادَعْتُكُمْ وَرَوَى أَبُو أُمَامَةَ قَالَ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنَ الْحَجِّ حَاجَةٌ ظَاهِرَةٌ أَوْ مَرَضٌ حَابِسٌ أَوْ سُلْطَانٌ جَائِرٌ فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا . قِيلَ : مَنْ يَرَهُ وَاجِبًا كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ، وَقِيلَ : بَلْ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيظِ وَالزَّجْرِ ، وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : حُجُّوا قَبْلَ أَنْ لَا تَحِجُّوا قَالُوا : وَمَا شَأْنُ الْحَجِّ قَالَ : يَقْعُدُ أَعْرَابُهَا عَلَى أَدْنَابِ أَوْدِيَتِهَا فَلَا يَصِلُ إِلَى الْحَجِّ أَحَدٌ .
فَصْلٌ وُجُوبُ الحج مُعْتَبَرٌ بِخَمْسَةِ شُرُوطٍ
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْحَجِّ فَوُجُوبُهُ مُعْتَبَرٌ بِخَمْسَةِ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : الْبُلُوغُ ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْبَالِغِ لَا حَجَّ عَلَيْهِ ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ ؛ . . وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ . وَلِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَيُّمَا صَبِيٍّ حَجَّ بِهِ أَهْلُهُ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ فَعَلَيْهِ الْحَجُّ إِذَا بَلَغَ . فَلَوْ كَانَ الصَّبِيُّ مِنْ أَهْلِ الْحَجِّ لَسَقَطَتِ الْإِعَادَةُ عَنْهُ بَعْدَ بُلُوغِهِ . وَالشَّرْطُ الثَّانِي : الْعَقْلُ ؛ لِأَنَّ الْمَجْنُونَ لَا حَجَّ عَلَيْهِ لِعَدَمِ تَكْلِيفِهِ ، وَقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ وَذَكَرَ فِيهَا الْمَجْنُونَ حَتَّى يُفِيقَ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَإِنْ كَانَ يُجَنُّ وَيُفِيقُ فَعَلَيْهِ الْحَجُّ ، فَإِذَا حَجَّ مُفِيقًا أَجْزَأَ عَنْهُ . وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ : الْحُرِّيَّةُ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا حَجَّ عَلَيْهِ لِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَيُّمَا عَبْدٍ حَجَّ قَبْلَ أَنْ يُعْتَقَ فَعَلَيْهِ الْحَجُّ إِذَا عُتِقَ . وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ : الْإِسْلَامُ ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا حَجَّ عَلَيْهِ ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَيُّمَا أَعْرَابِيٍّ حَجَّ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ فَعَلَيْهِ الْحَجُّ إِذَا هَاجَرَ ، يَعْنِي بِالْهِجْرَةِ الْإِسْلَامَ . وَالشَّرْطُ الْخَامِسُ : الِاسْتِطَاعَةُ من شر وط الحج ؛ وَهِيَ ضَرْبَانِ : اسْتِطَاعَةُ مَكَانٍ . وَاسْتِطَاعَةُ زَمَانٍ ، وَسَنُبَيِّنُهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [ آلِ عِمْرَانَ : ] وَلِعَدَمِ تَكْلِيفِ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ ، فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْحَجِّ بِهَذِهِ الشُّرُوطِ الْخَمْسَةِ فَأَرْبَعَةٌ مِنْهَا شَرْطٌ فِي الْوُجُوبِ وَالْإِجْزَاءِ جَمِيعًا وَهِيَ : الْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالْإِسْلَامُ ، فَإِنْ حَجَّ قَبْلَ كَمَالِهَا لَمْ يُجْزِهِ . وَالشَّرْطُ الْخَامِسُ : هُوَ شَرْطٌ فِي الْوُجُوبِ دُونَ الْإِجْزَاءِ ، فَإِنْ حَجَّ غَيْرَ مُسْتَطِيعٍ أَجْزَأَ عَنْهُ .
مَسْأَلَةٌ مَنْ حَجَّ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي دَهْرِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهَا
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَنْ حَجَّ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي دَهْرِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهَا " .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ فَرْضُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ لَا يَجِبُ فِي الْعُمُرِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً ، وَلَا يَتَكَرَّرُ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [ آلِ عِمْرَانَ : ] ، وَمَنْ حَجَّ مَرَّةً فَقَدِ امْتَثَلَ الْأَمْرَ ، وَلِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ : فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ ، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ : أَفِي كُلِّ عَامٍ ، فَلَمْ يُجِبْهُ ، فَأَعَادَ ثَانِيَةً ، فَلَمْ يُجِبْهُ ، فَأَعَادَ ثَالِثَةً ، فَقَالَ : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ قُلْتُهَا لَوَجَبَتْ ، وَلَوْ وَجَبَتْ مَا قُمْتُمْ بِهَا ، وَلَوْ تَرَكْتُمُوهَا لَكَفَرْتُمْ ، أَلَا فَوَادِعُونِي مَا وَادَعْتُكُمْ وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحَجَّتُنَا هَذِهِ لِعَامِنَا أَمْ لِلْأَبَدِ ؟ فَقَالَ لِلْأَبَدِ ، وَرَوَى طَاوُسٌ أَنَّ سُرَاقَةَ بْنَ جَعْشَمٍ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْضِ لَنَا قَضَاءَ قَوْمٍ كَأَنَّمَا وُلِدُوا الْيَوْمَ ، عُمْرَتُنَا هَذِهِ لِعَامِنَا أَمْ لِلْأَبَدِ ، فَقَالَ : بَلْ لِلْأَبَدِ . وَلِأَنَّ الْحَجَّ يَتَعَلَّقُ بِقَطْعِ مَسَافَةٍ وَالْتِزَامِ مَؤُونَةٍ وَفِي تَكْرَارِ وُجُوبِهِ مَشَقَّةٌ وَلِهَذَا الْمَعْنَى فَارَقَ سَائِرَ الْعِبَادَاتِ .
وَالِاسْتِطَاعَةُ تَنْقَسِمُ اثْنَيْ عَشَرَ قِسْمًا
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَالِاسْتِطَاعَةُ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مُسْتَطِيعًا بِبَدَنِهِ وَاجِدًا مِنَ مَالِهِ مَا يُبَلِّغُهُ الْحَجَّ بِزَادٍ وَرَاحِلَةٍ ؛ لِأَنَّهُ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الِاسْتِطَاعَةُ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " زَادٌ وَرَاحِلَةٌ " ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنْ يَكُونَ مَعْضُوبًا فِي بَدَنِهِ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى مَرْكَبٍ بِحَالٍ ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى مَنْ يُطِيعُهُ إِذَا أَمَرَهُ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ بِطَاعَتِهِ لَهُ أَوْ مَنْ يَسْتَأْجِرُهُ فَيَكُونُ هَذَا مِمَّنْ لَزِمَهُ فَرْضُ الْحَجِّ كَمَا قُدِّرَ ، وَمَعْرُوفٌ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ أَنَا مُسْتَطِيعٌ لِأَنْ أَبْنِيَ دَارِي أَوْ أَخِيطَ ثَوْبِي يَعْنِي بِالْإِجَارَةِ أَوْ بِمَنْ يُطِيعُنِي ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمٍ قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ فِي الْحَجِّ عَلَى عِبَادِهِ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَمْسِكَ عَلَى رَاحِلَتِهِ فَهَلْ تَرَى أَنْ أَحُجَّ عَنْه ؟ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : نَعَمْ ، فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَهَلْ يَنْفَعُهُ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ ، كَمَا لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِهِ نَفَعَهُ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَاءَهَا الْحَجَّ عَنْهُ كَقَضَائِهَا الدَّيْنَ عَنْهُ ، فَلَا شَيْءَ أَوْلَى أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُ مِمَّا جَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُ ، وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ لَبَّيْكَ
عَنْ شُبْرُمَةَ ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ كُنْتَ حَجَجْتَ فَلَبِّ عَنْهُ وَإِلَّا فَاحْجُجْ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِشَيْخٍ كَبِيرٍ لَمْ يَحُجَّ : إِنْ شِئْتَ فَجَهِّزْ رَجُلًا يَحُجَّ عَنْكَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْحَجَّ بِالِاسْتِطَاعَةِ ، وَالِاسْتِطَاعَةُ تَنْقَسِمُ اثْنَيْ عَشَرَ قِسْمًا . فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنْهَا أَنْ يَكُونَ مُسْتَطِيعًا بِبَدَنِهِ وَمَالِهِ ، قَادِرًا عَلَى زَادٍ وَرَاحِلَةٍ الاستطاعة في الحج ، وَاجِدًا لِنَفَقَتِهِ وَنَفَقَةِ عِيَالِهِ فِي ذَهَابِهِ وَعَوْدِهِ مَعَ إِمْكَانِ الزَّمَانِ ، وَانْقِطَاعِ الْمَوَانِعِ فَعَلَيْهِ الْحَجُّ إِجْمَاعًا ، وَاعْتِبَارُ زَادِهِ وَرَاحِلَتِهِ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ فِي قُوَّتِهِ وَضَعْفِهِ ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ رُكُوبَ الرَّحْلِ وَالْقَتَبِ رَكِبَ ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ إِلَّا رُكُوبَ مَحْمَلٍ أَوْ سَاقِطَةٍ كَانَ ذَلِكَ شَرْطًا فِي اسْتِطَاعَتِهِ .
فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مُسْتَطِيعًا بِبَدَنِهِ قَادِرًا عَلَى الْمَشْيِ عَادِمًا لِلزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ الاستطاعة في الحج ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْحَرَمِ ، وَحَاضِرِيهِ الَّذِينَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْحَرَمِ دُونَ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ ، فَإِنْ وَجَدَ الزَّادَ وَعَدِمَ الرَّاحِلَةَ ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ ، لِأَنَّهُ لَا مَشَقَّةَ تَلْحَقُهُ فِي مَشْيِ هَذِهِ الْمَسَافَةِ ، فَصَارَ كَمَنْ سَمِعَ أَذَانَ الْجُمُعَةِ يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ إِلَيْهَا ، وَإِنْ عَدِمَ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ جَمِيعًا ، فَلَهُ حَالَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ ذَا صَنْعَةٍ يَكْتَسِبُ بِهَا قَدْرَ كِفَايَتِهِ ، وَكِفَايَةِ عِيَالِهِ ، وَيَفْضُلُ لَهُ مَؤُونَةُ حَجِّهِ ، فَعَلَيْهِ الْحَجُّ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِمَا فَضَلَ عَنِ الْكِفَايَةِ ، وَقَدْ فَضَلَ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ لَا يَكْتَسِبَ بِصَنْعَتِهِ قَدْرَ كِفَايَتِهِ ، وَمَتَى اشْتَغَلَ بِالْحَجِّ أَضَرَّ بِعِيلَتِهِ فَلَا حَجَّ عَلَيْهِ ، وَمَقَامُهُ عَلَى عِيَالِهِ أَولَى لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَى الْمَرْءَ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ بَعِيدَ الدَّارِ ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَرَمِ مَسَافَةُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَأَكْثَرُ فَلَا حَجَّ عَلَيْهِ ، وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، وَفِي التَّابِعِينَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ، وَفِي الْفُقَهَاءِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ ، وَقَالَ مَالِكٌ : عَلَيْهِ الْحَجُّ إِذَا كَانَ مُكْتَسِبًا إِمَّا بِصَنْعَةٍ أَوْ مَسْأَلَةٍ وَنَحْوِهِ ، عَنْ عِكْرِمَةَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ تَعَلَّقَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا [ الْحَجِّ : ] ، وَقُرِئَ ( رِجَّالًا ) مُشَدَّدًا أَيْ مُشَاةً ، وَلَهُ يَأْتُوكَ مَعْنَاهُ لِيَأْتُوكَ رِجَالًا ، فَأَخْبَرَ بِإِيجَابِ الْحَجِّ عَلَى الْمُشَاةِ ، وَالرُّكْبَانِ وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [ آلِ عِمْرَانَ : ] وَذَلِكَ عَلَى عُمُومِ الظَّاهِرِ فِي الِاسْتِطَاعَةِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْأَبْدَانِ يَجِبُ عَلَى
الْأَعْيَانِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ شَرْطِ وُجُوبِهِ الْمَالُ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ ، وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [ آلِ عِمْرَانَ : ] وَفِيهَا دَلِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : مِنْ جِهَةِ الِاسْتِنْبَاطِ . وَالثَّانِي : مِنْ جِهَةِ الْبَيَانِ ، فَأَمَّا الِاسْتِنْبَاطُ فَهُوَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْعِبَادَةِ إِذَا وَرَدَ مُطْلَقًا كَانَتِ الْقُدْرَةُ عَلَى أَدَائِهَا شَرْطًا فِي وُجُوبِهَا ، فَلَمَّا ضَمَّنَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِالِاسْتِطَاعَةِ قَدْ عَلَّمَنَا أَنَّ وُجُوبَهَا عَلَى غَيْرِ مُسْتَطِيعٍ لَا يَجُوزُ دَلَّ عَلَى أَنَّ انْضِمَامَ ذَلِكَ لِفَائِدَةٍ ، وَهُوَ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ ، وَأَمَّا الْبَيَانُ ، فَهُوَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : لَمَّا نَزَلَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ، [ آلِ عِمْرَانَ : ] ، قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ : مَا السَّبِيلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : زَادٌ وَرَاحِلَةٌ فَصَارَ هَذَا بَيَانًا مِنْهُ لِجُمْلَةِ الِاسْتِطَاعَةِ ، فَإِنْ قِيلَ : إِنَّمَا سَأَلَ الرَّجُلُ عَنِ اسْتِطَاعَةِ نَفْسِهِ قِيلَ : لَفْظَةُ السُّؤَالِ تَمْنَعُ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ ، لِأَنَّهُ قَالَ : مَا الِاسْتِطَاعَةُ ؟ فَسَأَلَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ ، فَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَعْهُودٍ أَوْ مَذْكُورٍ ، وَالْمَذْكُورُ مَا فِي الْآيَةِ ، وَالْمَعْهُودُ اسْتِطَاعَةُ كُلِّ النَّاسِ فَسَقَطَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالسُّؤَالِ اسْتِطَاعَةَ السَّائِلِ ، وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " السَّبِيلُ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ " فَكَانَ هَذَا بَيَانًا لِحُكْمِ الْآيَةِ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ وَجَدَ زَادًا وَرَاحِلَةً وَأَمْكَنَهُ الْحَجُّ فَلَمْ يَفْعَلْ فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا فَلَمَّا عَلَّقَ الْوَعِيدَ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ ، عُلِمَ أَنَّهُ شَرْطٌ فِي الْوُجُوبِ ، وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَامَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ : مَا يُوجِبُ الْحَجَّ . فَقَالَ : الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ ، وَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَتَعَلَّقُ بِقَطْعِ مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ شَرْطًا فِي وُجُوبِهَا كَالْجِهَادِ ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : يَأْتُوكَ رِجَالًا [ الْحَجِّ : ] ، فَقِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ غَيْرُ مَشْهُورَةٍ ، وَقِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ ( رِجَالًا ) بِالتَّخْفِيفِ عَلَى أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ ، فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِقَطْعِ مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ .
فَصْلٌ : وَالِاسْتِطَاعَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ مُسْتَطِيعًا بِمَالِهِ مَعْضُوبًا فِي بَدَنِهِ ، لَا يَقْدِرُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى مَرْكَبٍ لِضَعْفِهِ وَزَمَانَتِهِ الاستطاعة في الحج ، فَفَرْضُ الْحَجِّ عَلَيْهِ وَاجِبٌ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ ، إِذَا كَانَ فَرْضُهُ غَيْرَ مَرْجُوٍّ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَمِنَ التَّابِعِينَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إِنْ قَدَرَ عَلَى
الْحَجِّ قَبْلَ زَمَانَتِهِ لَزِمَهُ الْحَجُّ ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ ، وَقَالَ مَالِكٌ لَا حَجَّ عَلَيْهِ بِحَالٍ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ ، فَإِنْ أَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ جَازَ ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [ النَّجْمِ : ] ، وَفِعْلُ غَيْرِهِ لَيْسَ مِنْ سَعْيِهِ ، وَبُقُولِهِ تَعَالَى : وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [ آلِ عِمْرَانَ : ] ، وَالْمَعْضُوبُ لَا يَسْتَطِيعُ السَّبِيلَ إِلَيْهِ ، قَالَ : وَلِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ لَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهَا مَعَ الْقُدْرَةِ لَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهَا مَعَ الْعَجْزِ كَالصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا قَامَ عِنْدَ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [ آلِ عِمْرَانَ : ] ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا السَّبِيلُ ؟ فَقَالَ : زَادٌ وَرَاحِلَةٌ . فَصَارَ وُجُوبُ الْحَجِّ مُتَعَلِّقًا بِوُجُودِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ . وَرَوَى سَلْمَانُ بْنُ يَسَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ امْرَأَةً مَنْ خَثْعَمٍ ، قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ فِي الْحَجِّ عَلَى عِبَادِهِ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَمْسِكَ عَلَى الرَّاحِلَةِ فَهَلْ تَرَى أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ ، قَالَ : نَعَمْ . قَالَتْ : أَوَيَنْفَعُهُ ذَاكَ ، فَقَالَ : أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِهِ أَكَانَ يَنْفَعُهُ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ . قَالَ : فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى . وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَيْهِ ، وَعَلَى جَوَازِ النِّيَابَةِ عَنْهُ وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يَجِبُ بِإِفْسَادِهَا الْكَفَّارَةُ ، فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ عَلَى الْمَعْضُوبِ كَالصِّيَامِ ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [ النَّجْمِ : ] ، فَقَدْ وَجَدَ مِنَ الْمَعْضُوبِ السَّعْيَ ، وَهُوَ بَذْلُ الْمَالِ ، وَالِاسْتِئْجَارُ ، وَأَمَّا قِيَامُهُ عَلَى الصَّلَاةِ ، فَالْمَعْنَى فِيهَا : أَنَّهَا لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ بِحَالٍ .
فَصْلٌ : وَالِاسْتِطَاعَةُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُسْتَطِيعٍ بِمَالِهِ وَبَدَنِهِ لِفَقْرِهِ وَزَمَانَتِهِ لَكِنْ يَجِدُ مَنْ يَبْذُلُ لَهُ الطَّاعَةَ ، وَيَنُوبُ عَنْهُ فِي الْحَجِّ فَهَذَا فِي حُكْمِ مَنْ قَبْلَهُ فِي وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَيْهِ . قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ : لَا حَجَّ عَلَيْهِ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السُّبِيلُ زَادٌ وَرَاحِلَةٌ وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ عَلَى الْبَدَنِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمَ بِبَذْلِ طَاعَةِ الْغَيْرِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ ، وَلِأَنَّ الْعِبَادَةَ ضَرْبَانِ : مِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَبْدَانِ ، فَيَجِبُ بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهَا بِالْبَدَنِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ ، وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَمْوَالِ فَيُعْتَبَرُ فِي وُجُوبِهَا مِلْكُ الْمَالِ كَالزَّكَاةِ فَأَمَّا أَنْ تَجِبَ عِبَادَةٌ بِبَذْلِ الطَّاعَةِ فَغَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْأُصُولِ ، وَدَلِيلُنَا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ الْخَثْعَمِيَّةِ ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ هُوَ أَنَّهَا بَذَلَتِ الطَّاعَةَ لِأَبِيهَا وَأَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَجِّ عَنْهُ ، مِنْ غَيْرِ أَنْ جَرَى لِلْمَالِ ذِكْرٌ ، عَلَى أَنَّ الْفَرْضَ وَجَبَ بِبَذْلِ الطَّاعَةِ ، لِأَنَّهُ السَّبَبُ الْمَنْقُولُ ، وَرَوَى عَمْرُو بْنُ أَوْسٍ عَنْ أَبِي رَزِينٍ أَنَّهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَسْتَطِيعُ الْحَجَّ وَلَا الْعُمْرَةَ وَلَا الظَّعْنَ . فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُجَّ
عَنْ أَبِيكَ وَاعْتَمِرْ فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ عَنْ أَبِيهِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ عَنْ أَبِيهِ إِلَّا بِبَذْلِ الطَّاعَةِ لَهُ ، فَإِنْ قِيلَ : فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَبُ مُوسِرًا فَلَزِمَهُ الْفَرْضُ بِيَسَارِهِ ، لَا بِابْنِهِ قِيلَ الْفَرْضُ بِالْيَسَارِ ، لَا يَتَوَجَّهُ إِلَى الِابْنِ وَإِنَّمَا يَتَوَجَّهُ إِلَى الْأَبِ ، وَرَوَى ابْنُ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنَّ أُمِّي أَسْلَمَتْ وَهِيَ كَبِيرَةٌ لَا تَسْتَمْسِكُ عَلَى الرَّاحِلَةِ ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَحُجَّ عَنْهَا ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَزِمَهُ الْحَجُّ نَذْرًا جَازَ أَنْ يَلْزَمَهُ الْحَجُّ فَرْضًا كَالْمَعْضُوبِ الْمُوسِرِ ، وَلِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى فِعْلِ الْحَجِّ عَنْ نَفْسِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ فَرْضُهُ كَالْقَادِرِ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّبِيلُ زَادٌ وَرَاحِلَةٌ فَالْمُرَادُ بِهِ مَنِ اسْتَطَاعَ زَادًا وَرَاحِلَةً ، وَهُوَ بِطَاعَةِ الْغَيْرِ لَهُ مُسْتَطِيعٌ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ فَنَقُولُ بِمُوجَبِهِ لِأَنَّهُمْ قَالُوا فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ بِبَذْلِ الطَّاعَةِ ، وَنَحْنُ نَقُولُ لَا يَلْزَمُهُ بَذْلُ الطَّاعَةِ ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ بِالِاسْتِطَاعَةِ ، عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ مِمَّا لَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِبَادَاتِ ضَرْبَانِ فَبَاطِلٌ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ ، لِأَنَّهَا مِنْ عِبَادَاتِ الْأَبْدَانِ ، ثُمَّ تَجِبُ عَلَى الْغَيْرِ ، وَتَبْطُلُ أَيْضًا بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْحَجَّ لَهُ لَازِمٌ بِبَذْلِ الطَّاعَةِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُعْتَبَرٌ بِأَرْبَعِ شَرَائِطَ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ الْبَاذِلُ مِنْ أَهْلِ الْحَجِّ فَيَجْمَعُ الْبُلُوغَ وَالْحُرِّيَّةَ وَالْإِسْلَامَ ، لِأَنَّ مَنْ لَا يَصِحُّ مِنْهُ أَدَاءُ الْحَجِّ عَنْ نَفْسِهِ لَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهِ عَنْ غَيْرِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ قَدْ أَدَّى فَرْضَ الْحَجِّ عَنْ نَفْسِهِ لِتَصِحَّ النِّيَابَةُ عَنْ غَيْرِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ وَاجِدًا لِلزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ مُعْتَبَرًا فِي الْمَبْذُولِ لَهُ كَانَ اعْتِبَارُهُ فِي الْبَاذِلِ أَوْلَى إِذْ لَيْسَ حَالُ الْبَاذِلِ أَوْكَدَ مِنَ الْتِزَامِ الْفَرْضِ مِنَ الْمَبْذُولِ لَهُ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ هَذَا الشَّرْطَ فِي بَلَدِهِ لِلطَّاعَةِ ، وَإِنِ اعْتَبَرَهُ فِي فَرْضِ نَفْسِهِ ، لِأَنَّ الْتِزَامَ الطَّاعَةِ بِاخْتِيَارِهِ ، فَصَارَ كَحَجِّ النَّذْرِ ، وَخَالَفَ بِهِمَا ابْتِدَاءً الْفَرْضَ . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ الْمَبْذُولُ لَهُ وَاثِقًا بِطَاعَةِ الْبَاذِلِ ، عَالِمًا أَنَّهُ مَتَى أَمَرَهُ بِالْحَجِّ امْتَثَلَ أَمْرَهُ ، لِأَنَّ قُدْرَةَ الْبَاذِلِ قَدْ أُقِيمَتْ مَقَامَ قُدْرَتِهِ فَافْتَقَرَ إِلَى الثِّقَةِ بِطَاعَتِهِ ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ ذَلِكَ عَرَضًا لَا يُوثَقُ بِهِ فَلَا يَلْزَمُ ، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الشَّرَائِطُ الْأَرْبَعَةُ نُظِرَ حِينَئِذٍ فِي الْبَاذِلِ فَإِنْ كَانَ مِنْ وَالِدَيْهِ أَبًا أَوْ أُمًّا أَوْ مَوْلُودٍ بِهِ ابْنًا أَوْ بِنْتًا فَقَدْ لَزِمَهُ الْفَرْضُ بِبَذْلِهِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ وَلَدٍ وَلَا وَالِدٍ فَفِي لُزُومِ الْفَرْضِ بِبَذْلِهِ وَجْهَانِ :
أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الصَّحِيحُ وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي " الْإِمْلَاءِ " وَ ( الْمَبْسُوطِ ) ، أَنَّهُ كَالْوَلَدِ فِي لُزُومِ الْفَرْضِ بِبَذْلِ طَاعَتِهِ ، لِكَوْنِهِ مُسْتَطِيعًا لِلْحَجِّ فِي الْحَالَيْنِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْفَرْضَ لَا يَلْزَمُ بِبَذْلِ غَيْرِ وَلَدِهِ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ . . . فِي قَبُولِهِ ، وَلِأَنَّ حُكْمَ الْوَالِدِ مُخَالِفٌ لِغَيْرِهِ فِي الْقِصَّاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ ، وَالرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ مُخَالِفٌ غَيْرَهُ فِي بَذْلِ الطَّاعَةِ وَهَذَا الْقَوْلُ اعْتِذَارٌ وَتَقْرِيبٌ خَارِجٌ عَنْ مَعْنَى الْأَصْلِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا كَمُلَتِ الشَّرَائِطُ الَّتِي يَلْزَمُ بِهَا فَرْضُ الْحَجِّ بِبَذْلِ الطَّاعَةِ ، فَعَلَى الْمَبْذُولِ لَهُ الطَّاعَةُ أَنْ يَأْذَنَ لِلْبَاذِلِ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ بِوُجُوبِ الْفَرْضِ عَلَيْهِ . إِذَا أَذِنَ لَهُ وَقَبِلَ الْبَاذِلُ إِذْنَهُ فَقَدْ لَزِمَهُ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ مَتَى شَاءَ ، وَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ بَعْدَ الْقَبُولِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَبَذْلُهُ لِلطَّاعَةِ وَقَبُولُهُ لِلْإِذْنِ جَارٍ مَجْرَى الْهِبَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مُخَيَّرًا فِي الرُّجُوعِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ ، قِيلَ : قَدْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ بَذْلَهُ لِلطَّاعَةِ قَدْ أَلْزَمَ غَيْرَهُ فَرْضًا لَمْ يَكُنْ ، وَفِي رُجُوعِهِ إِسْقَاطٌ لِلْفَرْضِ قَبْلَ أَدَائِهِ ، وَلَا يَجُوزُ إِسْقَاطُ الْفَرْضِ بَعْدَ وُجُوبِهِ إِلَّا بِأَدَائِهِ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ بَعْدَ الْبَذْلِ وَالْقَبُولِ ، وَلَيْسَتِ الْهِبَةُ مِنْ هَذَا السَّبِيلِ عَلَى أَنَّ قَبُولَهُ الْإِذْنَ بَعْدَ الْبَذْلِ يَجْرِي مَجْرَى الْهِبَةِ بَعْدَ الْقَبْضِ فَإِنْ قِيلَ : فَلَوْ بَذَلَ الْمَاءَ لِغَيْرِهِ فِي السَّفَرِ عِنْدَ عَدَمِهِ ، لَمْ يَلْزَمْهُ إِقْبَاضُهُ وَجَازَ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَلْزَمَ غَيْرَهُ فَرْضًا بِبَذْلِهِ فَهَلَّا كَانَ فِي بَذْلِ الْحَجِّ كَذَلِكَ ، قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ بَذْلَ الْمَاءِ لَيْسَ بِمُوجِبٍ لِفَرْضِ الطَّهَارَةِ ، وَإِنَّمَا غَيَّرَ صِفَةَ الْأَدَاءِ ، وَبَذْلُ الْحَجِّ أَوْجَبَ فَرْضَهُ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمَبْذُولَ لَهُ الْمَاءُ يَرْجِعُ إِلَى بَذْلٍ يَقُومُ مَقَامَ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ ، وَهُوَ التَّيَمُّمُ وَلَيْسَ لِلْحَجِّ بَدَلٌ يَرْجِعُ إِلَيْهِ الْمَبْذُولُ لَهُ ، فَافْتَرَقَا مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَعَلَى الْمَبْذُولِ لَهُ أَنْ يَأْذَنَ ، وَعَلَى الْبَاذِلِ أَنْ يَحُجَّ ، فَإِنِ امْتَنَعَ الْمَبْذُولُ لَهُ مِنَ الْإِذْنِ ، فَهَلْ يَقُومُ الْحَاكِمُ مَقَامَهُ فِي الْإِذْنِ لِلْبَاذِلِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ يَقُومُ الْحَاكِمُ مَقَامَهُ ، فَيَأْذَنُ لِلْبَاذِلِ فِي الْحَجِّ لِأَنَّ الْإِذْنَ قَدْ لَزِمَهُ وَمَتَى امْتَنَعَ مِنْ فِعْلِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ ، قَامَ الْحَاكِمُ مَقَامَهُ فِي اسْتِيفَاءِ مَا لَزِمَهُ كَالدَّيْنِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ الصَّحِيحُ إِنَّ إِذْنَ الْحَاكِمِ لَا يَقُومُ مَقَامَ إِذْنِهِ لِأَنَّ الْبَذْلَ كَانَ لِغَيْرِهِ ، فَإِنْ أَذِنَ الْمَبْذُولُ لَهُ قَبْلَ وَفَاتِهِ انْتَقَلَ الْفَرْضُ عَنْهُمْ إِلَى الْبَاذِلِ ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ حَتَّى مَاتَ لَقِيَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ ، وَفَرْضُ الْحَجِّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ ، فَلَوْ حَجَّ الْبَاذِلُ بِغَيْرِ إِذَنِ الْمَبْذُولِ لَهُ كَانَتِ الْحَجَّةُ
وَاقِعَةً عَنْ نَفْسِهِ ، لِأَنَّ الْحَجَّ عَلَى الْحَيِّ لَا يَصِحُّ بِغَيْرِ إِذْنِهِ ، وَكَانَ فَرْضُ الْحَجِّ بَاقِيًا عَلَى الْمَبْذُولِ لَهُ .
فَصْلٌ : وَالِاسْتِطَاعَةُ الْخَامِسَةُ : أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُسْتَطِيعٍ بِمَالِهِ وَبَدَنِهِ وَفَقْرِهِ وَزَمَانَتِهِ لَكِنْ يَبْذُلُ مِنَ الْمَالِ قَدْرَ كِفَايَتِهِ ، فَإِنْ قَبِلَ الْمَالَ لَزِمَهُ الْحَجُّ لِحُدُوثِ الِاسْتِطَاعَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ نُظِرَ فِي الْبَاذِلِ لِلْمَالِ فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ وَالِدٍ وَلَا وَلَدٍ لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولَ الْمَالِ ، وَفَارَقَ قَبُولَ الطَّاعَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لُحُوقُ الْمِنَّةِ فِي قَبُولِ الْمَالِ وَعَدَمُهَا فِي قَبُولِ الطَّاعَةِ ، لِأَنَّ فِي بَعْضِ الْعِبَادَاتِ مَا يَلْزَمُ الِاسْتِغْنَاءُ بِهِ فِيهَا بِالْغَيْرِ ، كَاسْتِعَارَةِ ثَوْبٍ وَتَعَرُّفِ الْقِبْلَةِ ، وَلَيْسَ عِبَادَةً يَلْزَمُ الِاسْتِغْنَاءُ بِهِ فِيهَا بِمَالِ الْغَيْرِ . وَالثَّانِي : أَنَّ فِي قَبُولِ الْمَالِ وَمُمَلِّكِهِ إِيجَابَ سَبَبٍ يَلْزَمُهُ بِهِ الْفَرْضُ ، وَهُوَ الْقَبُولُ وَرُبَّمَا حَدَثَتْ عَلَيْهِ حُقُوقٌ كَانَتْ سَاقِطَةً ، فَيَلْزَمُهُ صَرْفُ الْمَالِ إِلَيْهَا مِنْ وُجُوبِ نَفَقَةٍ وَقَضَاءِ دَيْنٍ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَذْلُ الطَّاعَةِ لِأَنَّهُ إِذَا عَلِمَهُ طَايِعًا ، فَقَدْ لَزِمَهُ الْفَرْضُ مِنْ غَيْرِ إِحْدَاثِ سَبَبٍ ، وَلَا خَوْفِ مَا يَلْزَمُهُ صَرْفُ الطَّاعَةِ إِلَيْهِ ، فَبَانَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ كَانَ الْبَاذِلُ وَالِدًا فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَصَحُّهُمَا : لَا يَلْزَمُهُ قَبُولُ الْمَالِ مِنْهُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَلْزَمُهُ قَبُولُ الْمَالِ مِنْهُ لِأَنَّ الِابْنَ يُخَالِفُ غَيْرَهُ فِي بَابِ الْمِنَّةِ ، فَأَمَّا إِنْ بَذَلَ لَهُ الْمَالَ صَارَ فَرْضًا فِي ذِمَّتِهِ ، فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ ، وَلَا حَجَّ عَلَيْهِ لِمَا يَتَعَلَّقُ مِنَ الدَّيْنِ بِذِمَّتِهِ ، وَالْمَرْوِيُّ عَنْ طَارِقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى أَنَّهُ قَالَ : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذَا وَجَدَ مَنْ يَسْتَقْرِضُ مِنْهُ أَيَلْزَمُهُ الْحَجُّ فَقَالَ : " لَا " .
فَصْلٌ : وَالِاسْتِطَاعَةُ السَّادِسَةُ : أَنْ يَكُونَ مُسْتَطِيعًا بِبَدَنِهِ قَادِرًا عَلَى نَفَقَةِ ذَهَابِهِ دُونَ عَوْدِهِ ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ أَهْلٌ بِبَلَدِهِ ، أَوْ لَا أَهْلَ لَهُ ، فَإِنْ كَانَ لَهُ أَهْلٌ بِبَلَدِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَجُّ حَتَّى يَجِدَ نَفَقَةَ ذَهَابِهِ وَعَوْدِهِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ انْقِطَاعِ أَهْلِهِ ، وَتَضْيِيعِهِمْ وَمُقَاسَاةِ الْوَحْشَةِ فِي الْبُعْدِ عَنْهُمْ وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَهْلٌ بِبَلَدِهِ وَقَدْ وَجَدَ نَفَقَةَ ذَهَابِهِ دُونَ عَوْدِهِ ، فَفِي وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : قَدْ وَجَبَ الْحَجُّ عَلَيْهِ لِأَنَّ مُقَامَهُ بِمَكَّةَ كَمُقَامِهِ بِبَلَدِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَهْلٌ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْحَجَّ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قَدْ يَسْتَوْحِشُ بِغُرْبَتِهِ ، وَمُفَارَقَةِ وَطَنِهِ كَمَا يَسْتَوْحِشُ بِمُفَارَقَةِ أَهْلِهِ .
فَصْلٌ : وَالِاسْتِطَاعَةُ السَّابِعَةُ : أَنْ يَكُونَ مُسْتَطِيعًا بِمَالِهِ وَبَدَنِهِ فِي ذَهَابِهِ وَعَوْدِهِ ، لَكِنَّهُ عَادِمٌ لِنَفَقَةِ عِيَالِهِ الاستطاعة في الحج فَلَا حَجَّ عَلَيْهِ لِرُؤْيَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ فَكَانَ الْمُقَامُ عَلَى الْعِيَالِ وَالْإِنْفَاقُ عَلَيْهِمْ أَوْلَى مِنَ الْحَجِّ .
فَصْلٌ : وَالِاسْتِطَاعَةُ الثَّامِنَةُ : أَنْ يَكُونَ مُسْتَطِيعًا بِمَالِهِ وَبَدَنِهِ ، لَكِنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ قَدْ أَحَاطَ بِمَا فِي يَدِهِ الاستطاعة في الحج ، فَذَلِكَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ حَالًّا فَلَا يَلْزَمُهُ الْحَجُّ ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَوْصُوفٍ بِالِاسْتِطَاعَةِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مُؤَجَّلًا ، فَإِنْ كَانَ مَحَلُّهُ قَبْلَ عَرَفَةَ لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَجُّ أَيْضًا ، كَمَا مَضَى ، وَإِنْ كَانَ مَحَلُّهُ بِعَرَفَةَ فَفِي وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا حَجَّ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ . وَالثَّانِي : عَلَيْهِ الْحَجُّ ، لِأَنَّ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ قَبْلَ حُلُولِهِ .
فَصْلٌ : وَالِاسْتِطَاعَةُ التَّاسِعَةُ : أَنْ يَكُونَ مُسْتَطِيعًا بِمَالِهِ وَبَدَنِهِ غَيْرَ أَنَّهُ تَاجِرٌ الاستطاعة في الحج إِنَّ حَجَّ بِمَا فِي يَدَيْهِ ، كَانَ قَدْرَ كِفَايَتِهِ فِي ذَهَابِهِ وَعَوْدِهِ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ مَا يَتَّجِرُ بِهِ ، وَلَيْسَ لَهُ مَعِيشَةٌ ، وَلَا صَنْعَةٌ غَيْرَ التِّجَارَةِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ أَصْحَابِهِ أَنَّ الْحَجَّ عَلَيْهِ وَاجِبٌ ، لِأَنَّ الشَّرْطَ فِي وُجُوبِ الْحَجِّ زَادٌ وَرَاحِلَةٌ ، وَنَفَقَةُ أَهْلِهِ فِي ذَهَابِهِ وَعَوْدِهِ وَلَا اعْتِبَارَ بِمَا بَعْدَهُ ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ لَا حَجَّ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَفْضُلَ مِنْ نَفَقَتِهِ قَدْرُ مَا يَتَّجِرُ بِهِ ، خَوْفًا مِنْ فَقْرِهِ وَحَاجَتِهِ إِلَى الْمَسْأَلَةِ ، وَفِي ذَلِكَ أَعْظَمُ مَشَقَّةٍ .
فَصْلٌ : وَالِاسْتِطَاعَةُ الْعَاشِرَةُ : أَنْ يَكُونَ مُسْتَطِيعًا بِمَالِهِ وَبَدَنِهِ ، لَكِنَّ الطَّرِيقَ مُخَوِّفٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى سُلُوكِهِ الاستطاعة في الحج ، لِقِلَّةِ الْمَاءِ وَالْمَرْعَى ، أَوْ خَوْفِ اللُّصُوصِ ، فَلَا حَجَّ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [ الْبَقَرَةِ : ] .
فَصْلٌ : وَالِاسْتِطَاعَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَ : أَنْ يَكُونَ بِمَالِهِ وَبَدَنِهِ ، لَكِنَّ الْوَقْتَ يَقْصُرُ عَنْ إِدْرَاكِ الْحَجِّ لِبُعْدِ دَارِهِ وَدُنُوِّ زَمَانِهِ المستطيع للحج ، فَلَا حَجَّ عَلَيْهِ فِي عَامِهِ لِتَعَذُّرِ قُدْرَتِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَدَرَ عَلَى إِدْرَاكِ الْحَجِّ بِإِنْضَاءِ رَاحِلَتِهِ وَشِدَّةِ سَيْرِهِ ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَجُّ فِي عَامِهِ لِعِظَمِ الْمَشَقَّةِ .
فَصْلٌ : وَالِاسْتِطَاعَةُ الثَّانِيَةُ عَشْرَ : أَنْ يَكُونَ مُسْتَطِيعًا بِمَالِهِ ، وَبَدَنِهِ لَكِنَّ فِي طَرِيقِهِ مَنْ يَطْلُبُ مِنْهُ مَالًا عَنْ نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ الاستطاعة في الحج فَلَا حَجَّ عَلَيْهِ وَإِنْ قَدَرَ عَلَى بَذْلِ مَا طُلِبَ مِنْهُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ ، لِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَهُ بَذْلُ الْقَلِيلِ لَلَزِمَهُ بَذْلُ الْكَثِيرِ حَتَّى يُؤَدِّيَ إِلَى مَا لَا حَدَّ لَهُ ، وَلَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ أَحَدٌ فَإِنْ
قِيلَ : فَالْأَوْلَى دَفْعُ الْمَالِ إِلَيْهِمْ ، وَالْحَجُّ مَعَهُمْ أَوِ الْكَفُّ عَنْ ذَلِكَ الْمُقَامِ ، قُلْنَا : إِنْ كَانَ طَالِبُ الْمَالِ كَافِرًا فَالْأَوْلَى الْكَفُّ عَنْ دَفْعِ الْمَالِ إِلَيْهِ ، وَالْقُعُودُ عَنِ الْحَجِّ ، وَإِنْ كَانَ طَالِبُ الْمَالِ مُسْلِمًا ، فَالْأَوْلَى دَفْعُ الْمَالِ إِلَيْهِ ، وَالْخُرُوجُ مَعَهُ إِنْ كَانَ مَأْمُونًا ، وَلَوْ قَدَرَ عَلَى قِتَالِهِ ، وَأَنْ يَمْنَعَهُ عَنْ مَالِهِ وَنَفْسِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُقَاتِلَهُ ، لِأَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ حَصَرَهُ الْعَدُوُّ كَانَ لَهُ الْإِحْلَالُ مِنْ إِحْرَامِهِ ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى قِتَالِهِ فَلِأَنْ لَا يَلْزَمَهُ ذَلِكَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ أَوْلَى ، فَهَذِهِ أَقْسَامُ الِاسْتِطَاعَةِ فِي الْحَجِّ ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
فَصْلٌ : لَيْسَ لِمَنْ قَدَرَ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ فِي حَيَاتِهِ فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يُجْزِهِ ، فَلَوْ أَنَّ مَرِيضًا تُرْجَى سَلَامَتُهُ ، وَقَدْ لَزِمَهُ فَرْضُ الْحَجِّ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ ، كَالْمَعْضُوبِ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنِ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ ، وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا فِي الْحَالِ ، فَهُوَ غَيْرُ مَأْيُوسٍ مِنْهُ فَصَارَ كَالْمَحْبُوسِ ، وَفَارَقَ الْمَعْضُوبَ ، لِأَنَّهُ مَأْيُوسٌ مِنْهُ وَإِنِ اسْتَأْجَرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ نُظِرَ فِي حَالِهِ ، فَإِنْ صَحَّ مِنْ مَرَضِهِ لَمْ يُجْزِهِ عَنْ فَرْضِهِ ، وَإِنْ مَاتَ فِي مَرَضِهِ نُظِرَ فِي مَوْتِهِ ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ ، فَقَدْ أَجْزَأَهُ لِوُقُوعِ الْحَجِّ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي زَمَانٍ تَصِحُّ فِيهِ النِّيَابَةُ عَنْهُ ، وَإِنْ كَانَ مَوْتُهُ بَعْدَ أَنْ حَجَّ عَنْهُ ، فَفِي إِجْزَائِهِ قَوْلَانِ : أَصَحُّهُمَا : لَا يُجْزِئُ اعْتِبَارًا بِالِابْتِدَاءِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يُجْزِئُ اعْتِبَارًا بِالِانْتِهَاءِ ، وَلَوْ كَانَ مَرِيضًا لَا تُرْجَى سَلَامَتُهُ وَلَا بُرْؤُهُ : لِكَوْنِهِ زَمِنًا أَوْ مَعْضُوبًا ، جَازَ لَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ فِي حَيَاتِهِ لِوُجُودِ الْإِيَاسِ مِنْ بُرْئِهِ ، فَإِنِ اسْتَأْجَرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ ثُمَّ مَاتَ فِي مَرَضِهِ ذَلِكَ قَبْلَ بُرْئِهِ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَإِنْ صَحَّ مِنْ مَرَضِهِ ، وَصَارَ إِلَى حَالَةٍ يَقْدِرُ فِيهَا عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ نُظِرَ ، فَإِنْ حَجَّ عَنْهُ بَعْدَ صِحَّتِهِ لَمْ يُجْزِهِ وَإِنْ حَجَّ عَنْهُ قَبْلَ صِحَّتِهِ ، فَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَنَّ مَا مَضَى لَا يُجْزِيهِ ، وَفَرْضُ الْحَجِّ بَاقٍ عَلَيْهِ لِفَقْدِ مَا بِهِ مِنَ الْإِيَاسِ ، وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ أَنَّهُ يُجْزِيهِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْأَعْمَى إِذَا قَدَرَ عَلَى الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ ، وَوَجَدَ مَنْ يَقُودُهُ فَعَلَيْهِ الْحَجُّ بِنَفْسِهِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَلْزَمُهُ فَرْضُ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ ، فَإِنِ اسْتَأْجَرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ الأعمى جَازَ قَالَ لِأَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ تَعَلَّقَتْ بِقَطْعِ مَسَافَةٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمَ الْأَعْمَى كَالْمُجَاهِدِ وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ الْعَمَى لَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ فَقْدِ الْهِدَايَةِ بِالطَّرِيقِ وَمَوَاضِعِ النُّسُكِ ، وَالْجَهْلُ بِذَلِكَ لَا يُسْقِطُ وُجُوبَ الْقَصْدِ كَالْبَصِيرِ يَسْتَوِي حُكْمُ الْعَالَمِ بِهِ وَالْجَاهِلِ إِذَا وَجَدَ دَلِيلًا فَكَذَلِكَ الْأَعْمَى وَلِأَنَّهُ فَقَدَ حَاسَّتُهُ فَلَمْ يَسْقُطْ بِهَا فَرْضُ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ ، كَالصَّمَمِ فَلَوْ كَانَ
مَقْطُوعَ الْيَدَيْنِ أَوِ الرِّجْلَيْنِ مُسْتَطِيعًا أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ ، وَوَجَدَ قَائِدًا أَوْ مُعِينًا لَزِمَهُ أَنْ يَحُجَّ بِنَفْسِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ غَيْرَهُ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ كَالْأَعْمَى ، وَالْخِلَافُ فِيهِمَا وَاحِدٌ .
بَابُ إِمْكَانِ الْحَجِّ وَأَنَّهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ
بَابُ إِمْكَانِ الْحَجِّ وَأَنَّهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَإِذَا اسْتَطَاعَ الرَّجُلُ فَأَمْكَنَهُ مَسِيرُ النَّاسِ مِنْ بَلَدِهِ فَقَدْ لَزِمَهُ الْحَجُّ فَإِنْ مَاتَ قُضِيَ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ لِبُعْدِ دَارِهِ وَدُنُوِّ الْحَجِّ مِنْهُ وَلَمْ يَعِشْ حَتَّى يُمْكِنَهُ مِنْ قَابِلٍ لَمْ يَلْزَمْهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، قَدْ ذَكَرْنَا الشَّرَائِطَ فِي وُجُوبِ الْحَجِّ ، فَأَمَّا الشَّرْطُ فِي اسْتِقْرَارِ الْفَرْضِ ، فَهُوَ أَنْ يُمْكِنَهُ بَعْدَ وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَيْهِ الْمَسِيرُ مِنْ بَلَدِهِ عَلَى عَادَةِ النَّاسِ فِي سَيْرِهِمْ ، فَيُوَافِي الْحَجَّ فِي عَامِهِ ، فَإِذَا مَضَتْ عَلَيْهِ مُدَّةٌ مِثْلُ هَذِهِ الْمُدَّةِ بَعْدَ وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَيْهِ ، فَقَدِ اسْتَقَرَّ الْفَرْضُ فِي ذِمَّتِهِ لِإِمْكَانِ الْأَدَاءِ ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ فِي مَالِهِ ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الْمَسِيرُ فِي عَامِهِ لِبُعْدِ دَارِهِ ، وَدُنُوِّ الْحَجِّ مِنْهُ أَوْ أَمْكَنَهُ بِمُفَارَقَةِ عَادَةِ النَّاسِ فِي سَيْرِهِمْ ، فَفَرْضُ الْحَجِّ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ فِي ذِمَّتِهِ ، لِتَعَذُّرِ الْأَدَاءِ فَإِنْ مَاتَ فِي عَامِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْقَضَاءُ ، مِثَالُ ذَلِكَ الصَّلَاةُ تَجِبُ بِدُخُولِ الْوَقْتِ ، وَيَسْتَقِرُّ فَرْضُهَا بِإِمْكَانِ الْأَدَاءِ فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ ، فَقَدْ وَجَبَتْ صَلَاةُ الظُّهْرِ ، فَإِذَا مَرَّ مِنَ الْوَقْتِ قَدْرُ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ فَقَدِ اسْتَقَرَّ الْفَرْضُ فَلَوْ جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ قَبْلَ زَمَانِ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ الصَّلَاةِ ، وَلَوْ جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ بَعْدَ زَمَانِ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ ، وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءُ الصَّلَاةِ كَذَلِكَ فِي الْحَجِّ إِنْ مَاتَ قَبْلَ إِمْكَانِ الْأَدَاءِ ، فَلَا قَضَاءَ وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ إِمْكَانِ الْأَدَاءِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ . وَقَالَ أَبُو يَحْيَى الْبَلْخِيُّ ، لَيْسَ إِمْكَانُ الْأَدَاءِ شَرْطًا فِي اسْتِقْرَارِ الْفَرْضِ فِي الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ ، فَإِنْ مَاتَ بَعْدَ وُجُوبِ الْحَجِّ وَقَبْلَ إِمْكَانِ الْأَدَاءِ أَوْ جُنَّ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ ، وَقَبْلَ زَمَانِ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ فِيهِمَا جَمِيعًا وَلَيْسَ هَذَا بِصَوَابٍ ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا اسْتَقَرَّ فَرْضُ الْحَجِّ فِي ذِمَّتِهِ ، وَمَاتَ قَبْلَ أَدَائِهِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ بِمَوْتِهِ ، وَوَجَبَ أَنْ يُقْضَى عَنْهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ وَصَّى بِهِ أَمْ لَا وَكَذَلِكَ الدَّيْنُ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ ، كَانَ الْوَارِثُ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ قَضَاهُ عَنْهُ ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْضِهِ ، وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ قَدْ سَقَطَ الْفَرْضُ بِمَوْتِهِ وَصَّى بِهِ أَمْ لَا ، فَإِنْ وَصَّى بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ كَانَ تَطَوُّعًا فِي ثَلَاثَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا آلِ عِمْرَانَ : ] ، وَالْمَيِّتُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ بِفَرْضٍ وَلَا مُسْتَطِيعٍ
لِحَجٍّ ، قَالُوا : وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ عَلَى الْبَدَنِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ بِالْمَوْتِ كَالصَّلَاةِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَعَلَّقَتْ بِقَطْعِ مَسَافَةٍ فَوَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ بِالْمَوْتِ كَالْجِهَادِ ، وَهَذَا خَطَأٌ وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ الْخَثْعَمِيَّةِ ، وَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى ، فَشَبَّهَ الْحَجَّ بِالدَّيْنِ الَّذِي لَا يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي الْحُكْمِ . وَرَوَى عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ حَجَّ عَنْ وَالِدَيْهِ وَلَمْ يَحُجَّ أَجْزَأَهُ عَنْهُمَا وَنُشِرَتْ أَرْوَاحُهُمَا وَكُتِبَ عِنْدَ اللَّهِ بَرًّا وَلِأَنَّهُ حَقٌّ تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ عَنْهُ بِالْمَوْتِ كَالدُّيُونِ مَعَ مَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ " إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا حَجٌّ فَقَالَ لَهَا : " حُجِّي عَنْهَا " فَأَمَرَهَا بِالْحَجِّ عَنْهَا وَلَمْ يَسْأَلْهَا أَوْصَتْ لَهَا أَمْ لَا ؟ وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ ذَكَرَ مِنْهَا " حَجٌّ يُقْضَى " فَأَمَّا الْآيَةُ فَلَا دَلِيلَ فِيهَا لِأَنَّ التَّكْلِيفَ وَالِاسْتِطَاعَةَ إِنَّمَا لَزِمَاهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ وَمَا عَلَى الصَّلَاةِ فَبَعِيدٌ لِأَنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ إِنَّمَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهِمَا فَكَذَلِكَ لَمْ يُؤْمَرْ بِقَضَائِهَا وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْجِهَادِ فَالْمَعْنَى فِيهِ " أَنَّ النِّيَابَةَ لَا تَصِحُّ فِي حَالِ الْحَيَاةِ ، كَذَلِكَ بَعْدَ الْوَفَاةِ .
فَصْلٌ النِّيَابَةُ فِي حَجِّ التَّطَوُّعِ لَا تَجُوزُ مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ
فَصْلٌ : فَأَمَّا النِّيَابَةُ فِي حَجِّ التَّطَوُّعِ ، فَلَا تَجُوزُ مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ ، وَإِنْ وَصَّى بِهَا فَعَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي أَعْمَالِ الْأَبْدَانِ أَنَّ النِّيَابَةَ فِيهِ لَا تَجُوزُ وَإِنَّمَا جَازَ فِي حَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَلِأَجْلِ الضَّرُورَةِ وَتَعَذُّرِ أَدَاءِ الْفَرْضِ ، وَهَذَا غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي التَّطَوُّعِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَجُوزُ لِأَنَّ كُلَّمَا صَحَّتِ النِّيَابَةُ فِي فَرْضِهِ صَحَّتِ النِّيَابَةُ فِي نَفْلِهِ . أَصْلُهُ : الصَّدَقَاتُ ، وَعَكْسُهُ الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ ، فَإِذَا قُلْنَا بِجَوَازِ النِّيَابَةِ فِيهِ وَقَعَ الْحَجُّ عَنِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ ، وَاسْتَحَقَّ الْأَجِيرُ الْأُجْرَةَ الْمُسَمَّاةَ وَإِذَا قُلْنَا : إِنَّ النِّيَابَةَ فِيهِ غَيْرُ جَائِزَةٍ ، وَقَعَ الْحَجُّ عَنِ الْأَجِيرِ ، وَهَلْ لَهُ الْأُجْرَةُ الْمُسَمَّاةُ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا أُجْرَةَ لَهُ لِوُقُوعِ الْحَجِّ عَنْ نَفْسِهِ فَصَارَ كَمَا لَوِ اسْتُؤْجِرَ وَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ لَزِمَهُ رَدُّ الْأُجْرَةِ لِوُقُوعِ الْحَجِّ عَنْ نَفْسِهِ . وَالْقَوْلِ الثَّانِي : لَهُ الْأُجْرَةُ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ عَمَلَهُ بِأَدَائِهِ عَلَى وَجْهِ الْعِوَضِ ، فَصَارَ كَمَنِ اسْتُؤْجِرَ لِحُمُولَةٍ فَحَمَلَهَا ، ثُمَّ بَانَ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ أَعْطَاهُ حُمُولَةَ غَيْرِهِ ، فَالْأُجْرَةُ لَهُ مُسْتَحَقَّةٌ ، وَفَارَقَ أَنْ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ انْتِقَالَ الْحَجِّ إِلَى نَفْسِهِ كَانَ مِنْ جِهَتِهِ لَا مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ عَمَلَهُ فِي ذَلِكَ لَمْ يَتْلَفْ لِأَنَّهُ قَدْ أُسْقِطَ بِذَلِكَ عَلَيْهِ ، فَبِهَذَيْنِ الْفَرْقَيْنِ اخْتَلَفَا فِي رَدِّ الْأُجْرَةِ .
مَسْأَلَةٌ إِنْ كَانَ عَامَ جَدْبٍ أَوْ عَطَشٍ لَمْ يَلْزَمْهُ الحج
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ كَانَ عَامَ جَدْبٍ ، أَوْ عَطَشٍ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ المكلف بالحج ، أَوْ كَانَ خَوْفَ عَدُوٍّ ، وَأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ وَاجِدٍ لِلسَّبِيلِ ، لَمْ يَلْزَمْهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، أَمَّا قَوْلُهُ : ( عَامَ جَدْبٍ ) يُرِيدُ بِهِ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قِلَّةُ الْعُشْبِ فِي الطَّرِيقِ ، وَالْكَلَأِ . وَالثَّانِي : عَدَمُ الْمِيرَةِ ، وَالزَّادِ أَوْ وُجُودُهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهِ ، فِي وَقْتِهِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي جَرَتْ عَادَةُ النَّاسِ أَنْ يَتَزَوَّدُوا مِنْهُ ، لِأَنَّ الْوَاجِدَ لِلشَّيْءِ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهِ ، فِي حُكْمِ الْعَادِمِ لَهُ ، كَالْمُسَافِرِ يَتَيَمَّمُ إِذَا عَدِمَ الْمَاءَ فَإِذَا وَجَدَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ تَيَمَّمَ أَيْضًا ، وَأَمَّا قَوْلُهُ : ( أَوْ عَطَشٍ ) يُرِيدُ بِهِ : عَدِمَ الْمَاءَ فِي طَرِيقِهِ ، أَوْ وُجُودَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ : وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ ، يُرِيدُ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ وَمَا لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ مِنْ قِرْبَةٍ ، أَوْ مَحْمَلٍ أَوْ زَامِلَةٍ ، وَالْحُكْمُ فِي عَدَمِهِ كَالْحُكْمِ فِي عَدَمِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ : أَوْ كَانَ خَوْفَ عَدُوٍّ يُرِيدُ مَانِعًا مِنَ الْحَجِّ ، إِمَّا بِطَلَبِ مَالٍ ، أَوْ نَفْسٍ ، وَيَكُونُ ذَلِكَ عَامًّا فَأَمَّا إِنْ طَلَبَ وَاحِدًا بِعَيْنِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عُذْرًا فِي إِسْقَاطِ الْحَجِّ عَنْهُ ، وَكَانَ كَالْمَرِيضِ لِإِمْكَانِ فِعْلِ الْحَجِّ عَنْهُ ، فَإِذَا كَانَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ هَذِهِ الْأَعْذَارِ ، أَوْ كَانَ شَيْءٌ مِنْهَا سَقَطَ فَرْضُ الْحَجِّ لِأَجْلِهَا وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَمْ يَبْنِ عَلَى أنْ أُوجِبَ عَلَيْهِ رُكُوبَ الْبَحْرِ لِلْحَجِّ إِذَا قَدَرَ عَلَيْهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا أَهْلُ الْبَرِّ إِذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِمْ رُكُوبُ الْبَرِّ لِخَوْفٍ فِيهِ ، أَوْ مَانَعٍ وَأَمْكَنَهُمْ رُكُوبُ الْبَحْرِ ، فَلَيْسَ عَلَيْهِمْ رُكُوبُهُ ، وَفَرْضُ الْحَجِّ سَاقِطٌ عَنْهُمْ مَا كَانَتْ هَذِهِ حَالُهُمْ لِمَا يَعْتَرِضُهُمْ فِي الْبَحْرِ مِنْ عَظِيمِ الْخَوْفِ ، وَمَعَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَحْرُ نَارٌ فِي نَارٍ وَأَمَّا سُكَّانُ الْبَحْرِ وَمَنْ لَا طَرِيقَ لَهُ فِي الْبَرِّ ، فَرُكُوبُ الْبَحْرِ يَلْزَمُهُمْ فِي الْحَجِّ إِذَا أَمْكَنَهُمْ سُلُوكُهُ ، وَكَانَ غَالِبُهُ السَّلَامَةَ فَإِذَا اعْتَرَضَهُمُ الْخَوْفُ فَهُمْ كَأَهْلِ الْبَرِّ إِذَا خَافُوا ، هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَنْصُوصُهُ ، فَلَا مَعْنَى لِمَا تَأَوَّلَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا ذَلِكَ فِي الْأَنْهَارِ وَالْبِحَارِ الصِّغَارِ ، بَلْ لَا فَرْقَ بَيْنَ صِغَارِ الْبَحْرِ وَكِبَارِهَا وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَطَاوُسٍ أَنَّهُمَا قَالَا الْحَجَّةُ الْوَاجِبَةُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ ، وَهُوَ الْقِيَاسُ " .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا مَاتَ ، وَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ بِمَوْتِهِ لِمَا دَلَّلَنَا عَلَيْهِ ، وَوَجَبَ قَضَاؤُهَا عَنْهُ ، وَلَهُ حَالَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُوصِيَ بِإِخْرَاجِهَا . وَالثَّانِي : أَنْ لَا يُوصِيَ فَإِنْ لَمْ يُوصِ بِإِخْرَاجِهَا وَجَبَ أَنْ يُخْرَجَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ ، لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمَذْهَبُ ، وَكَذَلِكَ الزَّكَاةُ قِيَاسًا عَلَى الدُّيُونِ لِلْآدَمِيِّينَ وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى فَأَمَّا النُّذُورُ وَالْكَفَّارَاتُ وَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِاخْتِيَارِهِ ، فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يُخْرَجُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ قِيَاسًا عَلَى الْحَجِّ وَالزَّكَاةِ ، وَدُيُونِ الْآدَمِيِّينَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يُخْرَجُ مِنَ الثُّلُثِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَزِمَهُ بِاخْتِيَارِهِ ، فَكَانَ أَضْعَفَ حَالًا مِمَّنْ وَجَبَ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً بِالشَّرْعِ ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ ، لِأَنَّ هَذَا مُنْكَسِرٌ بِالدَّيْنِ ، فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَمَاتَ وَعَلَيْهِ دُيُونُ الْآدَمِيِّينَ ، وَحَجَّةُ الْإِسْلَامِ فَإِنِ اتَّسَعَ مَالُهُ لِقَضَاءِ الْجَمِيعِ فَذَاكَ ، فَإِنْ ضَاقَ عَنْهَا فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : تُقَدَّمُ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ عَلَى دُيُونِ الْآدَمِيِّينَ ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى . وَالثَّانِي : تُقَدَّمُ دُيُونُ الْآدَمِيِّينَ لِتَعَلُّقِهَا بِخَصْمٍ حَاضِرٍ ، وَقَدْ رَوَى سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، عَلَيَّ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ وَعَلَيَّ دَيْنٌ قَالَ : اقْضِ دَيْنَكَ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يُقَسَّمَ بِالْحِصَصِ .
فَصْلٌ : فَإِنْ أَوْصَى بِإِخْرَاجِهَا بَعْدَ مَوْتِهِ ، فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُوصِيَ بِإِخْرَاجِهَا مِنْ رَأْسِ مَالِهِ . وَالثَّانِي : مِنْ ثُلُثِهِ . وَالثَّالِثُ : تُطْلَقُ الْوَصِيَّةُ ، فَإِنْ وَصَّى بِإِخْرَاجِهَا مِنْ رَأْسِ مَالِهِ ، وَكَانَتْ وَصِيَّتُهُ أَفَادَتِ الْإِذْكَارَ وَالتَّأْكِيدَ ، وَإِنْ وَصَّى بِإِخْرَاجِهَا مِنْ ثُلُثِهِ أُخْرِجَتْ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ ، وَكَأَنَّهُ قَدْ وَفَّرَ عَلَى وَرَثَتِهِ ، فَإِنْ ضَاقَ الثُّلُثُ عَنْهَا وَجَبَ إِتْمَامُهَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ ، وَإِنْ أَطْلَقَ الْوَصِيَّةَ بِهَا فَلَمْ يَجْعَلْهَا فِي ثُلُثِهِ ، وَلَا مِنْ رَأْسِ مَالِهِ الحجة فَلَهُ حَالَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُوصِيَ مَعَهَا بِمَا يَكُونُ فِي الثُّلُثِ مِثْلَ عِتْقٍ ، أَوْ صَدَقَةٍ ، فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَعَامَّةُ أَصْحَابِهِ إِلَى أَنَّ الْحَجَّةَ فِي رَأْسِ مَالِهِ ، وَقَدْ قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ تَكُونُ
فِي ثُلُثِهِ ، لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا هُوَ فِي الثُّلُثِ ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ أَنْ تَكُونَ الْحَجَّةُ فِي الثُّلُثِ ، وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ لَا يُوجِبُ اشْتِرَاكَهُمَا فِي الْحُكْمِ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُوصِيَ بِإِخْرَاجِهَا مُفْرَدَةً ، وَلَا يُوصِيَ مَعَهَا بِشَيْءٍ سِوَاهَا ، فَمَذْهَبُ سَائِرِ أَصْحَابِنَا ، وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ مَعَهُمْ أَنَّهَا مِنْ رَأْسِ مَالِهِ ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا تَكُونُ فِي الثُّلُثِ لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ إِخْرَاجَهَا مِنْ رَأْسِ مَالِهِ ، لَأَمْسَكَ عَنِ الْوَصِيَّةِ بِهَا وَهَذَا أَضْعَفُ مِنْ قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِهَا لَا تَدُلُّ عَلَى إِخْرَاجِهَا مِنَ الثُّلُثِ ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ بِهِ إِذْكَارُ وَرَثَتِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَيَسْتَأْجِرُ عَنْهُ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِأَقَلَّ مَا يُؤَجِّرُ مِنْ مِيقَاتِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا جَوَازَ الْإِجَارَةِ فِي الْحَجِّ وَسَنَدُلُّ عَلَيْهِ فِي بَابِهِ ، وَنَذْكُرُ خِلَافَ أَبِي حَنِيفَةَ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَفْعَالَ الَّتِي تُفْعَلُ عَنِ الْغَيْرِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا يَجُوزُ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِهِ عَنِ الْغَيْرِ ، وَيَعُودُ ثَوَابُهُ إِلَيْهِ فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِي جَوَازِ فِعْلِهِ بِإِجَارَةٍ لَازِمَةٍ ، وَجَعَالَةٍ وَمَعُونَةٍ كَالْحَجِّ وَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ ، وَبِنَاءِ الْقَنَاطِرِ ، وَكَتْبِ الْمَصَاحِفِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِهِ الْغَيْرُ عَنِ الْغَيْرِ ، فَإِنْ فُعِلَ عَادَ ثَوَابُهُ إِلَى الْفَاعِلِ ، فَلَا يَجُوزُ فِعْلُهُ بِإِجَارَةٍ ، وَلَا جَعَالَةٍ كَالطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِهِ عَنِ الْغَيْرِ لَكِنْ إِنْ فَعَلَ عَنِ الْغَيْرِ عَادَ إِلَيْهِ نَفْعُهُ ، فَلَا يَجُوزُ فِعْلُهُ . بِإِجَارَةٍ لَازِمَةٍ ، وَيَجُوزُ فِعْلُهُ بِرِزْقٍ وَجَعَالَةٍ كَالْجِهَادِ ، وَالْأَذَانِ وَالْقَضَاءِ وَالْإِمَامَةِ .
فَصْلٌ : وَإِذَا وَجَبَ الْحَجُّ فِي مَالِ رَجُلٍ اسْتُؤْجِرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ بِأُجْرَةِ مِثْلِهِ ، وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ فَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى هَذَا فَلَا تَجُوزُ إِلَّا بِوَصِيَّةٍ فِي الثُّلُثِ ، لِأَنَّ أَوَّلَ أَفْعَالِ الْحَجِّ مِنَ الْمِيقَاتِ ، وَمَا قَبْلَهُ مَسَافَةٌ يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَيْهِ ، كَمَا يُتَوَصَّلُ إِلَى الطَّهَارَةِ بَطَلَبِ الْمَاءِ وَإِلَى الصَّلَاةِ ، بِالِاجْتِهَادِ فِي الْقِبْلَةِ وَالْوَقْتِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ أَفْعَالِ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ .
مَسْأَلَةٌ لَيْسَ لِمَنْ لَمْ يُؤَدِّ فَرْضَ الْحَجِّ عَنْ نَفْسِهِ أَنْ يَحُجَّ عَنْ غَيْرِهِ سَوَاءٌ أَمْكَنَهُ الْحَجُّ أَمْ لَا
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يَحُجُّ عَنْهُ إِلَّا مَنْ قَدْ أَدَّى الْفَرْضَ مَرَّةً فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَجَّ فَهِيَ عَنْهُ وَلَا أُجْرَةَ لَهُ وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يُلَبِّي عَنْ فُلَانٍ فَقَالَ لَهُ إِنَ كُنْتَ حَجَجْتَ فَلَبِّ عَنْهُ وَإِلَّا فَاحْجُجْ عَنْ نَفْسِكَ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ :
" لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ " فَقَالَ : وَيْحَكَ " وَمَنْ شُبْرُمَةُ ؟ " فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ " احْجُجْ عَنْ نَفْسِكَ ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ لَيْسَ لِمَنْ لَمْ يُؤَدِّ فَرْضَ الْحَجِّ عَنْ نَفْسِهِ أَنْ يَحُجَّ عَنْ غَيْرِهِ سَوَاءٌ أَمْكَنَهُ الْحَجُّ أَمْ لَا . وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ : يَجُوزُ أَنْ يَحُجَّ عَنْ غَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ إِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحُجَّ عَنْ غَيْرِهِ ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ جَازَ ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ الْخَثْعَمِيَّةِ قَالَتْ : إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ فِي الْحَجِّ عَلَى عِبَادِهِ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا ، فَهَلْ تَرَى أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، وَفِيهِ دَلِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ تَقَدُّمَ حَجِّهَا عَنْ نَفْسِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ شَبَّهَ قَضَاءَ الْحَجِّ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ وَبِرِوَايَةِ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ رَجُلًا يُلَبِّي عَنْ نُبَيْشَةَ فَقَالَ : حُجَّ عَنْ نُبَيْشَةَ ثُمَّ حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ وَهَذَا نَصٌّ ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ فَجَازَ أَنْ يَفْعَلَهَا عَنْ غَيْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا مِثْلُهَا كَالزَّكَاةِ . وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ رَجُلًا يُلَبِّي عَنْ شُبْرُمَةَ فَقَالَ لَهُ : أَحَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ قَالَ : لَا ، قَالَ حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ . وَرَوَى عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ سَمِعَ رَجُلًا يُلَبِّي عَنْ شُبْرُمَةَ فَقَالَ : إِنْ كُنْتَ حَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ فَلَبِّ عَنْهُ وَإِلَّا فَلَبِّ عَنْ نَفْسِكَ . فَأَمَرَهُ أَنْ يُقَدِّمَ حَجَّ نَفْسِهِ عَلَى حَجِّ غَيْرِهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَذَا الْخَبَرُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ قَدِ انْعَقَدَ إِحْرَامُهُ بِالْحَجِّ عَنْ غَيْرِهِ ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِنَقْلِهِ إِلَى نَفْسِهِ ، وَهَذَا خِلَافُ قَوْلِكُمْ لِأَنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ الْإِحْرَامَ قَدِ انْعَقَدَ عَنْهُ لَا عَنْ غَيْرِهِ . قِيلَ إِنَّمَا أَمَرَهُ أَنْ يَنْقُلَ التَّلْبِيَةَ لَا الْإِحْرَامَ ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : إِنْ كُنْتَ حَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ فَلَبِّ عَنْهُ وَإِلَّا فَلَبِّ عَنْ نَفْسِكَ . فَإِنْ قِيلَ : فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ بِفَسْخِ مَا انْعَقَدَ مِنَ الْإِحْرَامِ عَنْ غَيْرِهِ ، وَتَجْدِيدِ الْإِحْرَامِ عَنْ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ وَقْتٌ كَانَ الْفَسْخُ جَائِزًا فِيهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَخَ الْحَجَّ عَلَى أَصْحَابِهِ ، وَنَقَلَهُمْ إِلَى الْعُمْرَةِ قِيلَ : هَذَا غَلَطٌ ، لِأَنَّ الْفَسْخَ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَا يَجُوزُ بَعْدَهُ وَكَانَ السَّبَبُ فِي فَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ عَلَى مَا ذُكِرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ فِعْلَ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ لَا يَجُوزُ حَتَّى كَانُوا يَقُولُونَ : إِذَا بَرَأَ الدَّبَرُ وَعَفَا الْأَثَرُ وَانْسَلَخَ صَفَرٌ حَلَّتِ الْعُمْرَةُ لِمَنِ اعْتَمَرَ ، وَيَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا : أَنَّ الْإِحْرَامَ فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ عَنْ غَيْرِهِ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلَهُ عَنْ نَفْسِهِ . أَصْلُهُ : إِذَا كَانَ عَلَيْهِ طَوَافُ الزِّيَارَةِ وَطَوَافٌ عَنْ غَيْرِهِ ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَتَعَلَّقُ بِقَطْعِ مَسَافَةٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤَدِّيَهَا عَنْ غَيْرِهِ ، مَعَ وُجُوبِ فَرْضِهَا عَلَيْهِ كَالْجِهَادِ فَأَمَّا حَدِيثُ الْخَثْعَمِيَّةِ ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مَا رُوِيَ أَنَّهَا سَأَلَتْهُ ، وَقَدْ رَفَعَ مِنْ مُزْدَلِفَةَ إِلَى مِنًى فَكَانَ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِهَا ، أَنَّهَا قَدْ أَدَّتْ فَرْضَ الْحَجِّ عَنْ نَفْسِهَا سِيَّمَا وَقَدْ شَاهَدَهَا فِي الْمَوَاقِفِ مَعَ النَّاسِ وَعَلَى أَنَّهَا قَصَدَتْ بِالسُّؤَالِ بِعَرَفَةَ وُجُوبَ الْحَجِّ عَلَى أَبِيهَا ، وَلَمْ تَقْصِدْ بِهِ صِفَةَ الْحَجِّ وَكَيْفِيَّةَ النِّيَابَةِ فِيهِ ، وَأَمَّا حَدِيثُ نُبَيْشَةَ فَرِوَايَةُ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ وَهُوَ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ طَاوُسٍ ، وَقَدْ رُوِيَ بِإِسْنَادِهِ أَنَّهُ قَالَ : حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ ثُمَّ حُجَّ عَنْ نُبَيْشَةَ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الزَّكَاةِ فَالْمَعْنَى فِيهِ : جَوَازُ النِّيَابَةِ فِيهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى أَدَائِهِ الحج ، وَالْحَجُّ لَا يَصِحُّ فِيهِ النِّيَابَةُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا صَحَّ مَا ذَكَرْنَاهُ فَمَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ عَنْ غَيْرِهِ ، قَبْلَ أَدَاءِ فَرْضِ الْحَجِّ عَنْ نَفْسِهِ لَمْ يَبْطُلْ إِحْرَامُهُ بِخِلَافِ قَوْلِ دَاوُدَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اجْعَلْهَا عَنْ نَفْسِكَ وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ لَا يَبْطُلُ إِذَا انْعَقَدَ وَإِنِ اعْتَرَضَهُ الْفَسَادُ ، فَإِذَا صَحَّ إِحْرَامُهُ بِالْحَجِّ كَانَتْ عَنْ فَرْضِهِ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ يُصْرَفُ إِلَى مَا تَقْتَضِيهِ الْحَالُ كَمَا قُلْنَا ، فَمَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِهِ يَصِيرُ عُمْرَةً ، وَلَوْ كَانَتِ الْحَجَّةُ عَنْ نَفْسِهِ لَزِمَهُ رَدُّ الْأُجْرَةِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ ، لِأَنَّهُ عَاوَضَهُ عَلَى عَمَلٍ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ .
مَسْأَلَةٌ لَوْ أَحْرَمَ مُتَطَوِّعًا وَعَلَيْهِ حَجٌّ كَانَ فَرْضَهُ أَوْ عُمْرَةٌ كَانَتْ فَرْضَهُ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَكَذَلِكَ لَوْ أَحْرَمَ مُتَطَوِّعًا وَعَلَيْهِ حَجٌّ كَانَ فَرْضَهُ أَوْ عُمْرَةٌ كَانَتْ فَرْضَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا ، وَالْخِلَافُ فِيهَا مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَاحِدٌ فَإِذَا أَحْرَمَ تَطَوُّعًا وَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ كَانَتْ عَنْ فَرْضِهِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَكُونُ تَطَوُّعًا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ : لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا جَعَلَ إِحْرَامَهُ عَلَى الْغَيْرِ إِحْرَامًا عَنْ نَفْسِهِ ، لِأَنَّهُ كَانَ الْأَوْلَى بِحَالِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِحْرَامُهُ عَنِ التَّطَوُّعِ إِحْرَامًا عَنِ الْفَرْضِ ، لِأَنَّهُ
الْأَوْلَى بِحَالِهِ ، وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ أَنْ لَا يَتَطَوَّعَ بِهِ ، وَعَلَيْهِ فَرْضٌ كَمَنْ طَافَ يَنْوِي الْوَدَاعَ وَعَلَيْهِ طَوَافُ الزِّيَارَةِ ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يَجِبُ فِي إِفْسَادِهَا الْكَفَّارَةُ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ نَفْلُهَا مِمَّنْ يَصِحُّ مِنْهُ فَرْضُهَا ، كَالصَّوْمِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَكَالْحَجِّ سَوَاءٌ لَيْسَ لِمَنْ لَمْ يَعْتَمِرْ عَنْ نَفْسِهِ أَنْ يَعْتَمِرَ عَنْ غَيْرِهِ ، فَإِنِ اعْتَمَرَ عَنْ غَيْرِهِ كَانَتْ عَنْ نَفْسِهِ ، وَلَزِمَهُ رَدُّ الْأُجْرَةِ ، فَلَوْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ ، وَلَمْ يَعْتَمِرْ جَازَ أَنْ يَحُجَّ عَنْ غَيْرِهِ وَكَذَلِكَ لَوِ اعْتَمَرَ عَنْ نَفْسِهِ ، وَلَمْ يَحُجَّ جَازَ أَنْ يَعْتَمِرَ عَنْ غَيْرِهِ فَلَوْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ وَلَمْ يَعْتَمِرْ فَقَرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ عَنْ غَيْرِهِ كَانَ الْجَمِيعُ عَنْ نَفْسِهِ ، لِأَنَّ الْقِرَانَ كَالنُّسُكِ الْوَاحِدِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَقَعَ بَعْضُهُ عَنْهُ وَبَعْضُهُ عَنْ غَيْرِهِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
بَابُ بَيَانِ وَقْتِ فَرْضِ الْحَجِّ وَكَوْنِهِ عَلَى التَّرَاخِي
كُلُّ مَنْ لَزِمَهُ فَرْضُ الْحَجِّ فَالْأَوْلَى بِهِ تَقْدِيمُهُ وَيَجُوزُ لَهُ تَأْخِيرُهُ وَفِعْلُهُ مَتَى شَاءَ بِهِ
بَابُ بَيَانِ وَقْتِ فَرْضِ الْحَجِّ وَكَوْنِهِ عَلَى التَّرَاخِي قَالَ الشَّافِعِيُّ . رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أُنْزِلَتْ فَرِيضَةُ الْحَجِّ ، بَعْدَ الْهِجْرَةِ ؟ وَأَمَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ عَلَى الْحَجِّ وَتَخَلَّفَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ مُنْصَرَفِهِ مِنْ تَبُوكَ لَا مُحَارِبًا وَلَا مَشْغُولًا بِشَيْءٍ وَتَخَلَّفَ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ قَادِرِينَ عَلَى الْحَجِّ وَأَزْوَاجُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَوْ كَانَ كَمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ حَتَى يَخْرُجَ وَقْتُهَا مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفَرْضَ وَلَا تَرَكَ الْمُتَخَلِّفُونَ عَنْهُ وَلَمْ يَحُجَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ فَرْضِ الْحَجِّ إِلَّا حَجَّةَ الْإِسْلَامِ وَهِيَ حَجَّةُ الْوَدَاعِ وَرُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ تِسْعَ سِنِينَ وَلَمْ يَحُجَّ ثُمَّ حَجَّ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) فَوَقْتُ الْحَجِّ مَا بَيْنَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ إِلَى أَنْ يَمُوتَ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . كُلُّ مَنْ لَزِمَهُ فَرْضُ الْحَجِّ فَالْأَوْلَى بِهِ تَقْدِيمُهُ وَيَجُوزُ لَهُ تَأْخِيرُهُ ، وَفِعْلُهُ مَتَى شَاءَ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ جَابِرٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَمِنَ التَّابِعِينَ عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَقَالَ مَالِكٌ وَالْمُزَنِيُّ ، وَأَبُو يُوسُفَ فَرْضُ الْحَجِّ عَلَى الْفَوْرِ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ لَأَبَى حَنِيفَةَ فِيهِ نَصٌّ ، وَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ قَالَ : هُوَ قِيَاسُ مَذْهَبِهِ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : تَعَجَّلُوا الْحَجَّ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ مَا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ ، وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَجِّلُوا الْحَجَّ قَبْلَ أَنْ يَمْرَضَ الصَّحِيحُ وَيَضِلَّ الضَّالُّ وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُجُّوا قَبْلَ أَنْ لَا تَحُجُّوا فَأَمَرَ بِالْمُبَادَرَةِ ، وَبِرِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ وَجَدَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ الْبَيْتَ فَلَمْ يَحُجَّ فَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ لَهَا وَقْتٌ مَعْلُومٌ ، لَا تُفْعَلُ فِي السَّنَةِ إِلَّا مَرَّةً ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ عَلَى الْفَوْرِ كَالصِّيَامِ قَالَ : وَلِأَنَّهُ لَوْ مَاتَ قَبْلَ أَدَاءِ الْحَجِّ مَاتَ آثِمًا ، فَلَوْلَا أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ لَمْ يَأْثَمْ بِتَأْخِيرِهِ وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ فَرِيضَةَ الْحَجِّ نَزَلَتْ سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ ، وَتَخَلَّفَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَزْوَاجُهُ وَأَصْحَابُهُ قَادِرِينَ إِلَى سَنَةِ عَشْرٍ ثُمَّ حَجُّوا ، فَإِنْ قِيلَ فَرِيضَةُ الْحَجِّ نَزَلَتْ سَنَةَ عَشْرٍ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [ آلِ عِمْرَانَ : ] ، نَزَلَتْ سَنَةَ تِسْعٍ ، وَقِيلَ سَنَةَ عَشْرٍ فَبَادَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْحَجِّ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ قِيلَ : الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ فَرِيضَةَ الْحَجِّ نَزَلَتْ سَنَةَ سِتٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْرَمَ فِيهَا بِالْعُمْرَةِ ، وَهِيَ عَامُ الْحُدَيْبِيَةِ فَأُحْصِرَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [ الْبَقَرَةِ : ] ، فَإِنْ قِيلَ : فَإِنَّمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِإِتْمَامِ الْحَجِّ ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ أَنْ يَبْتَدُوا حَجًّا قِيلَ : فَقَدْ يُرَادُ بِالْإِتْمَامِ الْبِنَاءُ تَارَةً وَالِابْتِدَاءُ تَارَةً عَلَى أَنَّهُمْ فِي عَامِ الْحُدَيْبِيَةِ كَانُوا قَدْ أَحْرَمُوا بِعُمْرَةٍ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْمَرَ بِإِتْمَامِ الْعِبَادَةِ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ فِيهَا فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ إِنْشَاءَهَا ، وَابْتِدَاءَهَا . وَرُوِيَ أَنَّ ضِمَامَ بْنَ ثَعْلَبَةَ ، وَفَدَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَةَ خَمْسٍ مِنَ الْهِجْرَةِ ، وَسَأَلَهُ عَنْ أَشْيَاءَ فَكَانَ مِمَّا سَأَلَهُ أَنْ قَالَ : اللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَحُجَّ هَذَا الْبَيْتَ ؟ قَالَ : نَعَمْ فَدَلَّ مَا ذَكَرْنَاهُ عَلَى أَنَّ فَرِيضَةَ الْحَجِّ نَزَلَتْ قَبْلَ سَنَةَ عَشْرٍ ، وَلَا يُنْكِرُ نُزُولُ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [ آلِ عِمْرَانَ : ] ، سَنَةَ تِسْعٍ ، أَوْ عَشْرٍ عَلَى عَلَى وَجْهِ تَأْكِيدِ الْوُجُوبِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَرْضُ الْحَجِّ إِنَّمَا اسْتَقَرَّ سَنَةَ عَشْرٍ بَعْدَ أَنْ تَقَدَّمَ وُجُوبُهُ سَنَةَ سِتٍّ بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي حَجِّهِ سَنَةَ عَشْرٍ : أَلَا إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ . قِيلَ : فِي مُرَادِهِ بِهَذَا الْقَوْلِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَرَادَ حُصُولَ الْحَجِّ فِي ذِي الْحِجَّةِ ، لِأَنَّهُمْ رُبَّمَا كَانُوا قَدَّمُوهُ إِلَى ذِي الْقَعْدَةِ ، وَرُبَّمَا أَخَّرُوهُ إِلَى الْمُحَرَّمِ . وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي : أَنَّهُ أَرَادَ تَحْرِيمَ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ عَادَ تَحْرِيمُهُ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ ، بَعْدَ أَنْ كَانَ مُبَاحًا ، فَإِنْ قِيلَ : إِنَّمَا أَخَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَجَّ إِلَى سَنَةِ عَشْرٍ ، لِاشْتِغَالِهِ بِالْحَرْبِ ، وَخَوْفِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، قِيلَ : مَا نُقِلَ إِلَيْنَا مِنْ سِيرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَدْفَعُ هَذَا التَّأْوِيلَ ، وَذَاكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُحْصِرَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي سَنَةِ سِتٍّ فَأَحَلَّ ثُمَّ صَالَحَ أَهْلَ مَكَّةَ ، عَلَى أَنْ يَقْضِيَ الْعُمْرَةَ سَنَةَ سَبْعٍ وَيُقِيمَ بِمَكَّةَ ثَلَاثًا فَقَضَاهَا سَنَةَ تِسْعٍ ، وَلِهَذَا سُمِّيَتْ عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ ثُمَّ فَتَحَ مَكَّةَ سَنَةَ ثَمَانٍ ، فَصَارَتْ دَارَ الْإِسْلَامِ ، وَأَمَرَ عَتَّابَ بْنَ أُسَيْدٍ فَحَجَّ فِيهَا بِالنَّاسِ : ثُمَّ بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ سَنَةَ تِسْعٍ فَحَجَّ بِالنَّاسِ وَتَخَلَّفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، غَيْرَ مَشْغُولٍ بِحَرْبٍ وَلَا خَايِفٍ مِنْ عَدُوٍّ ، ثُمَّ أَنْفَذَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ بَعْدَ نُفُوذِ أَبِي بَكْرٍ ، يَأْمُرُهُ بِقِرَاءَةِ سُورَةِ
( بَرَاءَةٌ ) ، فَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا فَلِمَ أَنْفَذَهُ ؟ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْذُورٍ فَلِمَ أَخَّرَهُ ؟ وَلَوْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَمْنُوعًا مِنَ الْحَجِّ ، لَكَانَ مَمْنُوعًا مِنَ الْعُمْرَةِ سَنَةَ سَبْعٍ ، وَلَوْ كَانَ خَائِفًا عَلَى أَصْحَابِهِ لَمَا أَنْفَذَهُمْ مَعَ أَبِي بَكْرٍ سَنَةَ تِسْعٍ ، فَسَقَطَ مَا قَالُوهُ ، فَإِنْ قِيلَ : إِنَّمَا تَأَخَّرَ لِيَتَكَامَلَ الْمُسْلِمُونَ فَيُبَيِّنَ الْحَجَّ لِجَمِيعِهِمْ ، وَهَذَا مَعْنًى يَخْتَصُّ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ ، قِيلَ : هَذَا ظَنٌّ ، قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَأَخَّرَ لِلْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا ، لِيُبَيِّنَ جَوَازَ التَّأْخِيرِ ، وَلِيُبَيِّنَ لَهُمْ نُسُكَهُمْ ، وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ فَعْلَتَهُ بِالْإِرَادَةِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَخَّرَ الْحَجَّ عَنْ وَقْتِ الْإِمْكَانِ ، ثُمَّ فَعَلَهُ فِيمَا بَعْدُ لَمْ يُسَمَّ قَاضِيًا ، وَلَا نُسِبَ إِلَى التَّفْرِيطِ فَعُلِمَ أَنَّ وَقْتَهُ مُوَسَّعٌ ، وَأَنَّ تَأْخِيرَهُ جَايِزٌ أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّوْمَ لَمَّا كَانَ وَقْتُهُ مُضَيَّقًا سُمِّيَ مَنْ أَخَّرَ فِعْلَهُ قَاضِيًا ، وَإِنْ شِئْتَ حَرَّرَتْ هَذَا الْمَعْنَى عَلَيْهِ فَقُلْتَ : لِأَنَّهُ أُتِيَ بِالْحَجِّ فِي وَقْتٍ لَمْ يَزُلْ عَنْهُ اسْمُ الْأَدَاءِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ وَقْتًا لَهُ أَصْلُهُ إِذَا حَجَّ عُقَيْبَ الْإِمْكَانِ ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ وُسِّعَ وَقْتُ افْتِتَاحِهَا فَوَجَبَ أَنْ يُوَسَّعَ وَقْتُ أَدَائِهَا كَالصَّلَاةِ ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : عَجِّلُوا الْحَجَّ قَبْلَ أَنْ يَمْرَضَ الصَّحِيحُ قِيلَ : قَدْ بَيَّنَ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ أَمَرَ بِالتَّعْجِيلِ ، وَهُوَ الِاحْتِيَاطُ خَوْفَ الْمَرَضِ ، وَكَذَا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : حُجُّوا قَبْلَ أَنْ لَا تَحُجُّوا فَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، فَإِنَّمَا وَرَدَ فِيمَنْ مَاتَ قَبْلَ فِعْلِهِ ، وَنَحْنُ نَأْمُرُ بِفِعْلِهِ قَبْلَ الْمَوْتِ ، فَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الصَّوْمِ ، فَالْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّهُ يُسَمَّى قَاضِيًا بِتَأْخِيرِهِ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّهُ لَوْ مَاتَ قَبْلَ أَدَائِهِ مَاتَ آثِمًا عَاصِيًا قُلْنَا : مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ نَسَبَهُ إِلَى الْمَعْصِيَةِ ، كَمَا يُنْسَبُ تَارِكُ الصَّلَاةِ عَنْ أَوَّلِ وَقْتِهَا حَتَّى يَعْرِضَ لَهُ عَجْزٌ أَوْ مَوْتٌ إِلَى التَّفْرِيطِ لَا إِلَى الْمَعْصِيَةِ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ نَسَبَهُ إِلَى الْمَعْصِيَةِ وَقَالَ : إِنَّمَا أُبِيحَ لَهُ التَّأْخِيرُ مَا أَمِنَ الْفَوَاتَ ، كَمَا أُبِيحَ لِلرَّجُلِ ضَرْبُ امْرَأَتِهِ عَلَى شُرُوطِ السَّلَامَةِ ، فَإِنْ أَدَّى إِلَى التَّلَفِ عُلِمَ أَنَّهُ خَرَجَ عَنْ حَدِّ الْإِبَاحَةِ ، وَإِذَا قُلْنَا : إِنَّهُ مُفْرِطٌ عَاصٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : مُفْرِطٌ مِنْ أَوَّلِ وَقْتِ إِمْكَانِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مُفْرِطٌ مِنْ آخِرِ وَقْتِ إِمْكَانِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ بَيَانِ وَقْتِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ
بَابُ بَيَانِ وَقْتِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [ الْبَقَرَةِ : ] ، الْآيَةَ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : وَأَشْهُرُ الْحَجِّ شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَتِسْعٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَهُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ فَمَنْ لَمْ يُدْرِكْهُ إِلَى الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ ، وَرُوِيَ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ سُئِلَ أَيُهَلُّ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ ؟ قَالَ لَا . وَعَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ أَرَأَيْتَ رَجُلًا مُهِلًّا بِالْحَجِّ فِي رَمَضَانَ مَا كُنْتَ قَائِلًا لَهُ ؟ قَالَ : أَقُولُ لَهُ اجْعَلْهَا عُمْرَةً . وَعَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ إِلَّا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَجْلِ قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [ الْبَقَرَةِ : ] . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ كَمَا قَالَ أَشْهُرُ الْحَجِّ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ ، بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [ الْبَقَرَةِ : ] شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ ، وَعَشْرُ لَيَالٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ . وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ . وَمِنَ التَّابِعِينَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَالشَّعْبِيُّ . وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : شُهُورُ الْحَجِّ شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ إِلَى آخِرِ يَوْمِ النَّحْرِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ . وَقَالَ مَالِكٌ : شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ ، وَذُو الْحِجَّةِ ، فَجَعَلَهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ كُمَّلًا ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، وَمِنَ التَّابِعِينَ طَاوُسٌ ، فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [ الْبَقَرَةِ : ] ، فَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ حَرُمَ عَلَيْهِ الْوَطْءُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، وَوَطْءُ الْحَاجِّ فِي يَوْمِ النَّحْرِ حَرَامٌ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ ، وَلِأَنَّ كُلَّ لَيْلَةٍ كَانَتْ مِنْ شُهُورِ الْحَجِّ ، كَانَ يَوْمُهَا مِنْ شُهُورِ الْحَجِّ كَاللَّيْلَةِ الْأُولَى ، وَأَمَّا مَالِكٌ فَإِنَّهُ اسْتَدَلَّ
عَلَى أَنَّ شُهُورَ الْحَجِّ ثَلَاثَةٌ كَامِلَةٌ ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى : الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [ الْبَقَرَةِ : ] ، وَالْأَشْهَرُ عِبَارَةٌ عَنِ الْجَمْعِ ، وَأَقَلُّ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْجَمْعُ الْمُطْلَقُ ثَلَاثَةٌ ، وَلِأَنَّ كُلَّ شَهْرٍ كَانَ أَوَّلُهُ مِنْ شُهُورِ الْحَجِّ كَانَ آخِرُهُ مِنْ شُهُورِ الْحَجِّ كَالْأَوَّلِ وَالثَّانِي وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [ الْبَقَرَةِ : ] ، الْآيَةُ وَفِيهَا دَلِيلَانِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ خَصَّ أَشْهُرَ الْحَجِّ بِالذِّكْرِ لِاخْتِصَاصِهِمَا بِمَعْنًى ، وَهُوَ عِنْدُنَا جَوَازُ الْإِحْرَامِ فِيهَا بِالْحَجِّ وَعِنْدَهُمُ اسْتِحْبَابُ الْإِحْرَامِ فِيهَا بِالْحَجِّ ، وَأَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ مُخَالِفٌ لِمَا قَبْلَهُ ، لِأَنَّ عِنْدَنَا أَنَّ الْإِحْرَامَ فِيهِ بِالْحَجِّ لَا يَجُوزُ ، وَعِنْدَهُمْ لَا يُسْتَحَبُّ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَيَّامِ الْحَجِّ . وَالدَّلَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنَّ أَشْهُرَ الْحَجِّ زَمَانٌ لِإِدْرَاكِ الْحَجِّ ، وَآخِرُ زَمَانِ الْإِدْرَاكِ طُلُوعُ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ لَيْلَةَ النَّحْرِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ فَعُلِمَ أَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ ، وَلِأَنَّ كُلَّ زَمَانٍ لَوِ اعْتَمَرَ فِيهِ الْمُتَمَتِّعُ لَمْ يَلْزَمْهُ الدَّمُ بِوَجْهٍ ، فَلَيْسَ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ أَصْلُهُ رَمَضَانُ ، لِأَنَّهُ لَوِ اعْتَمَرَ فِي رَمَضَانَ لَمْ يَلْزَمْهُ الدَّمُ ، وَلَوِ اعْتَمَرَ فِي شَوَّالٍ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ لَزِمَهُ الدَّمُ بِوَجْهٍ ، وَلَوِ اعْتَمَرَ فِي يَوْمِ النَّحْرِ وَمَا بَعْدَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ الدَّمُ ، فَعُلِمَ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ ، وَيَدُلُّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَوْمٌ سُنَّ فِيهِ الرَّمْيُ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ كَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، فَأَمَّا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ تَحْرِيمِ الْوَطْءِ فَهُوَ مِنَ النَّحْرِ ، قُلْنَا : قَدْ يُمْكِنُ إِبَاحَةُ الْوَطْءِ فِيهِ ، وَهِيَ أَنْ يُعَجِّلَ الرَّمْي ، وَطَوَافَ الزِّيَارَةِ فَيَسْتَبِيحَ فِيهِ الْوَطْءَ ، وَأَمَّا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مَالِكٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : الْحَجُّ أَشْهُرٌ [ الْبَقَرَةِ : ] وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَقَلُّ الْجَمْعِ قُلْنَا : إِنَّمَا أَرَادَ أَفْعَالَ الْحَجِّ فِي أَشْهَرٍ مَعْلُومَاتٍ ، لِأَنَّ الْحَجَّ لَا يَكُونُ زَمَانًا وَإِنَّمَا تَقَعُ أَفْعَالُهُ فِي الزَّمَانِ ، وَإِذَا وَقَعَ الْفِعْلُ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ كَانَ وَاقِعًا فِي الشَّهْرِ ، عَلَى أَنَّ مُطْلَقَ الْجَمْعِ قَدْ يَقَعُ عَلَى اثْنَيْنِ وَبَعْضِ ثَالِثٍ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [ الْبَقَرَةِ : ] ، وَالْمُرَادُ بِهِ قُرْآنُ ، وَبَعْضُ ثَالِثٍ فَسَقَطَ مَا قَالُوهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ لا يَجُوزُ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِهِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَحُجَّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَإِنْ فَعَلَ فَإِنَهَا تَكُونُ عُمْرَةً كَرَجُلٍ دَخَلَ فِي صَلَاةٍ قَبْلَ وَقْتِهَا فَإِنَّهَا تَكُونُ نَافِلَةً " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، لَا يَجُوزُ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِهِ فَإِنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ انْعَقَدَ إِحْرَامُهُ عُمْرَةً . وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنُ عَبَّاسٍ .
وَمِنَ التَّابِعِينَ طَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ . وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ . وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ : يَنْعَقِدُ إِحْرَامُهُ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهَرِهِ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [ الْبَقَرَةِ : ] ، فَأَخْبَرَ أَنَّ الْأَهِلَّةَ كُلَّهَا وَقْتٌ لِلْحَجِّ ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَدْخُلُ فِيهَا النِّيَابَةُ ، وَتَجِبُ فِي إِفْسَادِهَا الْكَفَّارَةُ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَصَّ بِزَمَانٍ كَالْعُمْرَةِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّ الْحَجَّ يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ وَمَكَانٍ ، فَالزَّمَانُ هُوَ أَشْهُرُ الْحَجِّ وَالْمَكَانُ هُوَ الْمِيقَاتُ فَلَمَّا جَازَ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْمَكَانِ ، جَازِ تَقْدِيمُهُ عَلَى الزَّمَانِ وَعَكْسُ هَذَا الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ ، لَمَّا لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهُ عَلَى زَمَانِهِ لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهُ عَلَى مَكَانِهِ قَالُوا : وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ قَدْ يَصِحُّ فِي زَمَانٍ لَا يُمْكِنُهُ إِيقَاعُ أَفْعَالِ الْحَجِّ فِيهِ ، وَهُوَ شَوَّالٌ ، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ ، وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [ الْبَقَرَةِ : ] ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ قَوْلَهُ الْحَجُّ أَشْهُرٌ [ الْبَقَرَةِ : ] يُرِيدُ وَقْتَ الْحَجِّ فَجَعَلَ وَقْتَ الْحَجِّ أَشْهُرًا فَلَوِ انْعَقَدَ الْإِحْرَامُ فِي غَيْرِهَا ، لَمْ تَكُنِ الْأَشْهُرُ وَقْتًا لَهُ ، وَإِنَّمَا تَكُونُ فِي بَعْضِ وَقْتِهِ . وَالدَّلَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ وَقْتَ الْحَجِّ أَشْهُرًا مَعْلُومَاتٍ وَإِنْ كَانَ الْحَجُّ الْإِحْرَامُ ، وَالْوُقُوفُ ، وَالطَّوَافُ وَالسَّعْيُ وَكَانَ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ لَا يَخْتَصُّ بِهَا ، بَلْ يَصِحُّ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا وَلَمْ يَكُنِ الْوُقُوفُ فِي جَمِيعِهَا حَصَلَ الِاخْتِصَاصُ لَهَا بِالْإِحْرَامِ فَكَأَنَّهُ قَالَ : الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ فِي أَشْهَرٍ مَعْلُومَاتٍ ، فَإِنْ قَالُوا : لَيْسَ الْإِحْرَامُ عِنْدَنَا مِنَ الْحَجِّ قُلْنَا هُوَ عِنْدَنَا مِنَ الْحَجِّ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَكُمْ مِنَ الْحَجِّ ، فَإِنَّهُ يَدْخُلُ بِهِ فِي الْحَجِّ فَيَصِيرُ دَاخِلًا فِي الْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِهِ ، فَإِنْ قَالُوا : إِنَّمَا جُعِلَ وَقْتُ اسْتِحْبَابِ الْإِحْرَامِ أَشْهُرًا إِلَّا وَقْتَ انْعِقَادِهِ وَجَوَازِهِ ، قِيلَ : يَفْسُدُ عَلَيْكُمْ بِيَوْمِ النَّحْرِ لِأَنَّهُ عِنْدَكُمْ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ ، وَلَا يُسْتَحَبُّ الْإِحْرَامُ فِيهِ ، وَمِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِحْرَامَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ فَوَجَبَ أَنْ يَخْتَصَّ بِوَقْتٍ ، وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ . أَصْلُهُ : الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ وَلِأَنَّ كُلَّ وَقْتٍ لَا يَصِحُّ اسْتِدَامَةُ الْعِبَادَةِ فِيهِ لَا يَصِحُّ ابْتِدَاءُ تِلْكَ الْعِبَادَةِ فِيهِ . أَصْلُهُ : الْجُمُعَةُ إِذَا صَارَ كُلُّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ ، لَمَّا لَمْ يَصِحَّ اسْتِدَامَةُ الْجُمُعَةِ فِيهِ لَمْ يَصِحَّ الْإِحْرَامُ بِهَا فِيهِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ اخْتُصَّ بَعْضُ أَفْعَالِهَا بِزَمَانٍ مَخْصُوصٍ اخْتُصَّ الْإِحْرَامُ بِهَا بِزَمَانٍ مَخْصُوصٍ كَالصَّوْمِ ، وَعَكْسُهُ الْعُمْرَةُ ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مُؤَقَّتَةٌ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِحْرَامُ بِهَا مُؤَقَّتًا كَالصَّلَاةِ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [ الْبَقَرَةِ : ] ، فَالْجَوَابُ عَنْهَا مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَجِّ هُوَ الْإِحْرَامُ بِهِ لَا جَمِيعُ أَفْعَالِهِ ، وَلَيْسَ الْإِحْرَامُ عِنْدَهُمْ مِنَ الْحَجِّ فَسَقَطَ اسْتِدْلَالُهُمْ بِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَطْلَقَ الْأَهِلَّةَ وَلَمْ يُبَيِّنْهَا ، ثُمَّ بَيَّنَهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [ الْبَقَرَةِ : ] ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِمَا أَطْلَقَ مِنَ الْأَهِلَّةِ مَا فَسَّرَهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْعُمْرَةِ ، فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بَعْضَ أَفْعَالِهَا بِوَقْتٍ مَخْصُوصٍ ، فَلِذَلِكَ لَمَّ يَخْتَصَّ الْإِحْرَامَ لَهَا بِوَقْتٍ مَخْصُوصٍ ، فَخَالَفَ الْحَجَّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لَمَّا جَازَ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْمَكَانِ كَذَلِكَ عَلَى الزَّمَانِ قُلْنَا : إِنَّمَا جَازَ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْمَكَانِ ، وَهُوَ الْمِيقَاتُ لِأَنَّ مُجَاوَزَتَهُ لَا تَجُوزُ وَلَمَّا كَانَتْ مُجَاوَزَةُ الزَّمَانِ تَجُوزُ كَانَ التَّقْدِيمُ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ ، وَلَوْ جَازَ التَّقْدِيمُ عَلَيْهِ كَمَا جَازَ مُجَاوَزَتُهُ لَمْ يَكُنْ لِلْحَدِّ فَائِدَةٌ ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ لَمَّا انْعَقَدَ الْإِحْرَامُ فِي وَقْتٍ لَا يَجُوزُ فِيهِ فِعْلُ الْحَجِّ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ ، وَأَيُّ أَصْلٍ دَلَّكُمْ عَلَى هَذَا ، ثُمَّ هُوَ بَاطِلٌ بِالصَّلَاةِ يَصِحُّ الْإِحْرَامْ بِهَا عُقَيْبَ الزَّوَالِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا صَحَّ أَنَّ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِهِ ، لَا يَجُوزُ فَإِذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قبل أشهره لَمْ يَبْطُلْ إِحْرَامُهُ ، وَانْعَقَدَ عُمْرَةً . وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ يَبْطُلُ إِحْرَامُهُ بِبُطْلَانِ مَا قَصَدَهُ ، وَبِمَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ ، قَالَ بِهِ جَابِرٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَعَطَاءٌ ، فَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَمَّنْ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَقَالَ يُهِلُّ بِالْعُمْرَةِ ، وَلِأَنَّهُ جَمَعَ فِي قَصْدِهِ بَيْنَ الْإِحْرَامِ وَالْحَجِّ ، فَإِذَا أَبْطَلَ الشَّرْعُ حَجَّهُ لَمْ يَبْطُلْ إِحْرَامُهُ ، وَوَجَبَ صَرْفُهُ إِلَى مَا اقْتَضَاهُ الْوَقْتُ ، وَهُوَ الْعُمْرَةُ كَمَنْ أَحْرَمَ بِصَلَاةِ الظُّهْرِ قَبْلَ زَوَالِ الشَّمْسِ لَمَّا لَمْ تَصِحَّ مِنْهُ فَرْضًا لِمُنَافَاةِ الْوَقْتِ صَحَّتْ نَفْلًا .
مَسْأَلَةٌ وَقْتُ الْعُمْرَةِ مَتَى شَاءَ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَوَقْتُ الْعُمْرَةِ مَتَى شَاءَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَبِهِ قَالَ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّهُ مَنَعَ مِنَ الْعُمْرَةِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ ، وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَخْتَصَّ بَعْضَ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ بِزَمَانٍ لَمْ يَخْتَصَّ الْإِحْرَامَ لَهَا بِزَمَانٍ كَالطَّوَافِ لَهَا وَالسَّعْيِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا صَحَّ أَنَّ جَمِيعَ السَّنَةِ وَقْتٌ لِلْعُمْرَةِ ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ حَاجٍّ أَحْرَمَ بِهَا مَتَى شَاءَ ،
قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَاسْتُحِبَّ لَهُ الِاشْتِغَالُ بِالْحَجِّ فِي أَشْهُرِهِ لِأَنَّ الْحَجَّ أَفْضَلُ مِنَ الْعُمْرَةِ ، وَإِنْ كَانَ حَاجًّا ، وَلَمْ يُرِدْ إِدْخَالَ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ متى يحرم بالعمرة ؟ ، فَلَيْسَ لَهُ الْإِحْرَامُ بِهَا قَبْلَ إِحْلَالِهِ وَرَمْيِهِ ، فَيُمْنَعُ مِنْهَا فِي يَوْمِ النَّحْرِ ، وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ لِأَنَّهَا مِنْ بَقَايَا حَجِّهِ وَإِنْ أَحَلَّ ، إِلَّا أَنْ يَتَعَجَّلَ النَّفَرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فَيَجُوزُ لَهُ الْإِحْرَامُ بِهَا فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ لِسُقُوطِ الرَّمْيِ عَنْهُ .
مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ أَنْ يَعْتَمِرَ فِي السَّنَةِ مِرَارًا
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَمَنْ قَالَ لَا يَعْتَمِرُ فِي السَّنَةِ إِلَّا مَرَّةً خَالَفَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ أَعَمَرَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ ، وَخَالَفَ فِعْلَ عَائِشَةَ نَفْسِهَا ، وَعَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : يَجُوزُ أَنْ يَعْتَمِرَ فِي السَّنَةِ مِرَارًا حكم تكرار العمرة ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ . قَالَ بِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ ، وَعَلَيٌّ ، وَابْنُ عُمَرَ ، وَعَائِشَةُ ، وَأَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ . وَمِنَ التَّابِعِينَ عِكْرِمَةُ وَعَطَاءٌ وَطَاوُسٌ . وَقَالَ مَالِكٌ وَالنَّخَعِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَابْنُ سِيرِينَ وَالْمُزَنِيُّ : لَا تَجُوزُ الْعُمْرَةُ فِي السَّنَةِ إِلَّا مَرَّةً كَالْحَجِّ لِاقْتِرَانِهِمَا فِي الْأَمْرِ ، وَهَذَا خَطَأٌ ، وَدَلِيلُنَا مَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ فِي سَنَةٍ مَرَّتَيْنِ فِي شَوَّالٍ وَذِي الْقَعْدَةِ ، وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَعْمَرَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي سَنَةٍ مَرَّتَيْنِ لِأَنَّهَا أَحْرَمَتْ بِالْعُمْرَةِ فَلِمَا دَخَلَتْ مَكَّةَ حَاضَتْ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْفُضِي عُمْرَتَكِ وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ أَيِ ارْفُضِي عَمَلَ عُمْرَتِكِ فَلَمَّا فَرَغَتْ مِنَ الْقِرَانِ قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ : كُلُّ نِسَائِكَ يَنْصَرِفْنَ بِنُسُكَيْنِ وَأَنَا بِنُسُكٍ وَاحِدٍ فَأَمَرَ أَخَاهَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَنْ يُعْمِرَهَا مِنَ التَّنْعِيمِ فَحَصَلَ لَهَا عُمْرَتَانِ ، وَرَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ وَالْعُمْرَتَانِ تُكَفِّرُ مَا بَيْنَهُمَا وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ اعْتَمَرَ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ أَرْبَعَ عُمَرٍ وَحُكِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ
وَأَنَسٍ وَعَائِشَةَ وَقِيلَ : سُمِّيَتْ عُمْرَةً لِجَوَازِهَا فِي الْعُمُرِ كُلِّهِ وَسُمَّوا عُمَّارَ الْبَيْتِ لِمُدَوَامَتِهِمُ الِاعْتِمَارَ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ جَمِيعُ السَّنَةِ وَقْتًا لِلْعُمْرَةِ ، دَلَّ عَلَى تَكْرَارِهَا ، وَجَوَازِ فِعْلِهَا مِرَارًا كَالنَّوَافِلِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى فَارَقَ الْحَجَّ لِأَنَّ الْحَجَّ وَقْتٌ يَفُوتُ الْحَجُّ بِفَوَاتِهِ ، وَهُوَ عَرَفَةُ فَافْتَرَقَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ .
بَابُ بَيَانِ أَنَّ الْعُمْرَةَ وَاجِبَةٌ كَالْحَجِّ
بَابُ بَيَانِ أَنَّ الْعُمْرَةَ وَاجِبَةٌ كَالْحَجِّ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " قَالَ اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [ الْبَقَرَةِ : ] ، فَقَرَنَ الْعُمْرَةَ بِهِ وَأَشْبَهُ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ أَنْ تَكُونَ الْعُمْرَةُ وَاجِبَةً وَاعْتَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ الْحَجِّ وَمَعَ ذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ : وَالَذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَهَا لِقَرِينَتُهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ، وَعَنْ عَطَاءٍ قَالَ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ إِلَّا وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ وَاجِبَتَانِ ( قَالَ ) وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ مَكِّيِّينَا : وَسَنَّ رَسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِرَانِ الْعُمْرَةِ مَعَ الْحجَ هَدْيًا وَلَوْ كَانَتْ نَافِلَةً أَشْبَهَ أَنْ لَا تُقْرَنَ مَعَ الْحَجَّ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَرُوِيَ أَنَّ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنَّ الْعُمْرَةَ هِيَ الْحَجُّ الْأَصْغَرُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْعُمْرَةُ فِي كَلَامِهِمْ فَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا الْقَصْدُ ، وَكُلُّ قَاصِدٍ لِشَيْءٍ فَهُوَ مُعْتَمِرٌ قَالَ الْعَجَّاجُ : لَقَدْ سَمَا ابْنُ مَعْمَرٍ حِينَ اعْتَمَرْ مَغْزًا بَعِيدًا مِنْ بَعِيدٍ وَصَبَرْ وَالْقَوْلُ الثَّانِي : هِيَ الزِّيَارَةُ وَقَالَ أَعْشَى بِاهِلَةَ : وَجَاشَتِ النَّفْسُ لَمَّا جَاءَ فَلُّهُمُ وَرَاكِبٌ جَاءَ مِنْ تَثْلِيثِ مُعْتَمِرًا يَعْنِي : زَائِرًا هَكَذَا قَالَ الْأَصْمَعِيُّ ، لَكِنَّ الْعُمْرَةَ فِي الشَّرْعِ تَشْتَمِلُ عَلَى إِحْرَامٍ ، وَطَوَافٍ ، وَسَعْيٍ ، وَحِلَاقٍ . وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي وُجُوبِهَا فَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَالْمُعَوَّلِ عَلَيْهِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ كَالْحَجِّ ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ . وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ . وَمِنَ الْفُقَهَاءِ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ .
وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ ، وَأَحْكَامُ الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ . وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ . وَمِنَ التَّابِعِينَ عَامِرُ الشَّعْبِيُّ . وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خَرَّجَهُ قَوْلًا ثَانِيًا ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ إِنَّمَا ذَكَرَهُ حِكَايَةً عَنْ مَذْهَبِ غَيْرِهِ . وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ إِنَّهَا سُنَّةٌ بِمَا رَوَى الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَأَةَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الْعُمْرَةِ أَوَاجِبَةٌ . فَقَالَ لَا ، وَأَنْ تَعْتَمِرَ خَيْرٌ لَكَ وَبِمَا رَوَى مُعَاوِيَةُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ الْحَنَفِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الْحَجُّ جِهَادٌ وَالْعُمْرَةُ تَطَوُعٌ ، وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ . قَالُوا : وَلِأَنَّهُ نُسُكٌ يُفْعَلُ عَلَى وَجْهِ التَّتَبُّعِ لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ كَالصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ وَاجِبًا كَطَوَافِ اللُّزُومِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ كَانَتْ وَاجِبَةً بِأَصْلِ الشَّرْعِ كَانَ لَهَا وَقْتٌ مُعَيَّنٌ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْعُمْرَةِ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ عُلِمَ أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ بِأَصْلِ الشَّرْعِ كَالِاعْتِكَافِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ اخْتُصَّتْ بِزَمَانٍ كَانَ جِنْسُهَا نَفْلٌ يَتَكَرَّرُ ، فِي غَيْرِ وَقْتِهَا كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ الْحَجِّ نَفْلٌ يَتَكَرَّرُ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ ، دَلَّ عَلَى أَنَّ الْعُمْرَةَ نَفْلُ الْحَجِّ لِتَكَرُّرِهَا فِي غَيْرِ وَقْتِهِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [ الْبَقَرَةِ : ] وَفِيهِ قِرَاءَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : قَرَأَ بِهَا ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، قَالَ تَعَالَى : وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [ الْبَقَرَةِ : ] ، وَالْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ إِذَا صَحَّتْ جَرَتْ مَجْرَى خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ . وَالثَّانِيَةُ : قِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ الْبَقَرَةِ : ] ، وَالدَّلَالَةُ فِيهَا مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ إِتْمَامَهُمَا أَنْ يُفْعَلَا عَلَى التَّمَامِ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [ الْبَقَرَةِ : ] ، أَيْ فَعَلَهُنَّ تَامَّاتٍ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا : إِتْمَامُهُمَا أَنْ تُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ أَنَّهُ أُمِرَ بِالْإِتْمَامِ ، وَحَقِيقَةُ الْبِنَاءِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ إِتْمَامُ الْعُمْرَةِ وَاجِبًا وَإِتْمَامُهَا لَا يُتَوَصَّلُ إِلَيْهِ إِلَّا بِابْتِدَاءِ الدُّخُولِ فِيهَا ، وَمَا لَا يُتَوَصَّلُ إِلَى الْوَاجِبِ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ ، كَاسْتِقَاءِ الْمَاءِ لِلطَّهَارَةِ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ السُّنَّةِ مَا رَوَى يَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْإِسْلَامُ فَقَالَ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ شَهْرَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ ، وَتَعْتَمِرَ وَتَغْتَسِلَ مِنَ الْجَنَابَةِ ، وَتُتِمُّ الْوُضُوءَ قَالَ : فَإِذَا فَعَلْتُ هَذَا ، فَأَنَا مُسْلِمٌ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : صَدَقْتَ . فَجَعَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعُمْرَةَ مِنَ الْإِسْلَامِ ، وَقَرَنَهَا بِالْوَاجِبَاتِ . وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، أَنَّهَا قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعَلَى النَّسَاءِ جِهَادٌ ، فَقَالَ عَلَيْهِنَّ جِهَادٌ لَا قِتَالَ فِيهِ ؛ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ . وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فَرِيضَتَانِ لَا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِمَا بَدَأْتَ ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَفْتَقِرُ إِلَى الطَّوَافِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِهَا مَا هُوَ وَاجِبٌ بِأَصْلِ الشَّرْعِ كَالْحَجِّ ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَجِبُ فِي إِفْسَادِهَا الْكَفَّارَةُ فَوَجَبَ أَنْ تَتَنَوَّعَ فَرْضًا وَنَفْلًا كَالصَّوْمِ ، وَالْحَجِّ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَأَةَ فَلَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ ، لِأَنَّهُ ضَعِيفٌ رُوِيَ عَمَّنْ سَمِعَ وَعَمَّنْ لَمْ يَسْمَعْ ، عَلَى أَنَّهُ إِنْ صَحَّ حُمِلَ عَلَى سَائِلٍ سَأَلَ عَنْ عُمْرَةٍ ثَانِيَةٍ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ : الْحَجُّ جِهَادٌ وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ فَحَدِيثٌ مُرْسَلٌ لِأَنَّ أَبَا صَالِحٍ الْحَنَفِيَّ تَابِعِيٌّ عَلَى أَنَّهُ شَبَّهَ الْحَجَّ بِالْجِهَادِ لِعِظَمِ مَشَقَّتِهِ وَثَوَابِهِ ، وَالْعُمْرَةَ بِالتَّطَوُّعِ لِقِلَّةِ مَشَقَّتِهَا ، وَإِنَّ ثَوَابَ الْحَجِّ أَكْثَرُ مِنْ ثَوَابِهَا ، وَكَذَا الْجَوَابُ عَمَّا رُوِيَ ، أَنَّهُ قَالَ : مَنْ حَجَّ فَكَأَنَّمَا صَلَّى الْفَرِيضَةَ وَمَنِ اعْتَمَرَ فَكَأَنَّمَا صَلَّى النَّافِلَةَ فَجَعَلَ الْعُمْرَةَ كَالنَّافِلَةِ فِي قِلَّةِ عَمَلِهَا ، وَثَوَابِهَا ، وَالْحَجَّ ، كَالْفَرِيضَةِ فِي كَثْرَةِ عَمَلِهِ وَثَوَابِهِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ : دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجَّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ سُقُوطُ وُجُوبِهَا بِوُجُوبِ الْحَجِّ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ الْعُمْرَةَ دَخَلَتْ فِي وَقْتِ الْحَجِّ ، وَأَشْهُرِهِ ، لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا لَا يَرَوْنَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّ أَفْعَالَ الْعُمْرَةِ ، دَخَلَتْ فِي أَفْعَالِ الْحَجِّ فِي الْقِرَانِ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الطَّوَافِ فَلَيْسَ طَوَافُ الْقُدُومِ وَنُسُكٌ بِذَاتِهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ جُمْلَةِ نُسُكٍ كَمَا أَنَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ لَيْسَ بِصَلَاةٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ
جُمْلَةِ الصَّلَاةِ وَقَوْلُهُمْ يُفْعَلُ عَلَى وَجْهِ التَّبَعِ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي طَوَافِ الْقُدُومِ جَوَازُ الْخُرُوجِ مِنْهُ قَبْلَ تَمَامِهِ ، وَإِنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تُجِبْ فِي إِفْسَادِهِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ أَنَّ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهَا وَقْتٌ مُعَيَّنٌ ، دَلَّ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ ، فَيَبْطُلُ عَلَى أَصْلِهِمْ بِصَلَاةِ الْوِتْرِ ثُمَّ بِالزَّكَوَاتِ عَلَى أَنَّهُ قِيَاسُ الْعَكْسِ ، وَلَا نَقُولُ بِهِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْحَجِّ نَفْلٌ مِنْ جِنْسِهِ يَتَكَرَّرُ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ ، اقْتَضَى أَنْ تَكُونَ الْعُمْرَةُ نَفْلَهُ وَالْجَوَابُ : أَنْ يُقَالَ إِنَّمَا كَانَ لِلصَّلَاةِ نَفْلٌ يَتَكَرَّرُ فِي وَقْتِهَا لِأَنَّ فَرْضَهَا يُفْعَلُ فِي وَقْتِهَا ، وَغَيْرِ وَقْتِهَا ، وَغَيْرُ وَقْتِ الْحَجِّ لَمَّا لَمْ يَكُنْ وَقْتًا لِفَرْضِ الْحَجِّ ، لَمْ يَكُنْ لِلْحَجِّ نَفْلٌ يُفْعَلُ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ ، فَسَقَطَ مَا قَالُوهُ .
بَابُ مَا يُجْزِئُ مِنَ الْعُمْرَةِ إِذَا اجْتَمَعَتْ إِلَى غَيْرِهَا
الْقِرَانُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ جَائِزٌ
بَابُ مَا يُجْزِئُ مِنَ الْعُمْرَةِ إِذَا اجْتَمَعَتْ إِلَى غَيْرِهَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيُجْزِيهِ أَنْ يَقْرِنَ الْعُمْرَةَ مَعَ الْحَجِّ وَيُهْرِيقَ دَمًا ، وَالْقَارِنُ أَخَفُّ حَالًا مِنَ الْمُتَمَتِّعِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : وَالْقِرَانُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ جَائِزٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ ، وَقَالَ : الْقَارِنُ يَكْفِيهِ طَوَافٌ وَاحِدٌ وَسَعْيٌ وَاحِدٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَبَّيْكَ بِحِجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا . وَرَوِيَّ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : قَرَنَتْ بِإِذْنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهَا كَانَتْ مُحْرِمَةً بِعُمْرَةٍ فَحَاضَتْ فَأَمَرَهَا أَنْ تُهِلَّ بِالْحَجِّ وَقَالَ : أَفْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ - يَعْنِي فِي حَالِ حَيْضِهَا - فَلَمَّا طَهُرَتْ وَطَافَتْ قَالَ لَهَا طَوَافُكِ يَكْفِيكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِلصُّبَيِّ بْنِ مَعْبَدٍ حِينَ قَرَنَ ، وَقَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ زَيْدُ بْنُ صُوحَانَ وَسَلْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ هُدِيتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْقِرَانِ بَيْنَ التَّمْرَتَيْنِ وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ أَدَبًا . وَالثَّانِي : لِتَمَيُّزِ التَّمْرِ وَعِزَّتِهِ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْقِرَانِ فِي الصَّلَاةِ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فَسَأَلْتُ الشَّافِعِيَّ عَنْ مَعْنَاهُ ، فَذَكَرَ نَحْوًا مِنْ بِضْعَةِ عَشَرَ وَجْهًا ، مِنْهَا أَنْ يَدْخُلَ بَيْنَ الْإِحْرَامِ وَالتَّوَجُّهِ ، أَوْ يُوَاصِلَ بَيْنَ التَّوَجُّهِ وَالْقِرَاءَةِ ، أَوْ بَيْنَ الْقِرَاءَةِ وَالتَّكْبِيرِ إِلَى أَنْ ذَكَرَ الْقِرَانَ بَيْنَ التَّسْلِيمَتَيْنِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا صَحَّ جَوَازُ الْقِرَانِ ، فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : فَالضَّرْبُ الْأَوَّلُ : أَنْ يُحْرِمَ بِهِمَا مَعًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ ، فَهَذَا قَارِنٌ حَقِيقَةً لُغَةً وَشَرْعًا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ أَوَّلًا ثُمَّ يُدْخِلَ عَلَيْهَا حَجًّا فَإِنْ كَانَ قَبْلَ أَخْذِهِ فِي الطَّوَافِ جَازَ ، وَدَلِيلُ جَوَازِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ أَخْذِهِ فِي الطَّوَافِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِمُعْظَمِ عُمْرَتِهِ وَشَرَعَ فِي التَّحَلُّلِ مِنْهَا ، فَلَوْ وَقَفَ عِنْدَ الْحَجَرِ لِيَأْخُذَ فِي الطَّوَافِ فَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ ، قَبْلَ أَنْ يَشْرَعَ فِيهِ جَازَ ، وَكَانَ قَارِنًا وَلَوِ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ وَخَطَا خُطْوَةً أَوْ خُطْوَتَيْنِ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ لَمْ يَجْزِهِ لِأَخْذِهِ مِنَ الطَّوَافِ وَلَوِ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ وَلَمْ يَمْشِ حَتَّى أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ، فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُجْزِيهِ لِأَنَّ الِاسْتِلَامَ مُقَدِّمَةُ الطَّوَافِ . وَالثَّانِي : لَا يُجْزِيهِ لِأَنَّ ذَلِكَ أُولَى أَبْعَاضِهِ ، وَلَكِنْ لَوِ اسْتَلَمَ غَيْرَ مُرِيدٍ لِلطَّوَافِ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ أَجْزَأَهُ لَا يُخْتَلَفُ ، وَلَوْ شَكَّ هَلْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ الطَّوَافِ أَوْ بَعْدَهُ ، قَالَ أَصْحَابُنَا أَجْزَأَهُ قَالُوا : لِأَنَّ الْأَصْلَ جَوَازُ إِدْخَالِ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ عَلَى أَلَّا يَتَعَيَّنَ بِمَنْعٍ فَصَارَ كَمَنْ أَحْرَمَ وَتَزَوَّجَ ، وَلَمْ يَدْرِ هَلْ كَانَ تَزْوِيجُهُ قَبْلَ إِحْرَامِهِ أَوْ بَعْدَهُ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ أَجْزَأَهُ .
فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَبْتَدِئَ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ ثُمَّ يُدْخِلُ عَلَى حَجِّهِ عُمْرَةً قَالَ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ وُقُوفِهِ بِعَرَفَةَ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِمُعْظَمِ أَفْعَالِ الْحَجِّ ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ وُقُوفِهِ بِعَرَفَةَ فَفِيهِ قَوْلَانِ ، قَالَ فِي الْقَدِيمِ : يَجُوزُ لِأَنَّهُمَا عِبَادَتَانِ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا ، فَجَازَ إِدْخَالُ إِحْدَيْهِمَا عَلَى الْأُخْرَى ، أَصْلُهُ إِدْخَالُ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ ، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ : لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ أَضْعَفُ مِنَ الْحَجِّ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُزَاحِمَ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهَا بِالدُّخُولِ عَلَيْهَا ، وَجَازَ لِلْحَجِّ مُزَاحَمَتُهَا لِأَنَّهُ أَقْوَى مِنْهَا أَلَا تَرَى أَنَّ الْفِرَاشَ بِالنِّكَاحِ أَقْوَى مِنَ الْفِرَاشِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ ، فَلَوْ وَطِئَ أَمَةً بِمِلْكِ الْيَمِينِ ، ثُمَّ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا أُخْتَهَا ثَبَتَ نِكَاحُهَا ، وَحَرُمَ عَلَيْهِ وَطْءُ الْأَمَةِ ، لِأَنَّ أَقْوَى الْفِرَاشَيْنِ زَاحَمَ أَضْعَفَهُمَا ، وَإِنْ تَقَدَّمَ النِّكَاحُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْوَطْءُ بِالْمِلْكِ ، لِأَنَّهُ أَضْعَفُ الْفِرَاشَيْنِ زَاحَمَ أَقْوَاهُمَا ، فَلَوْ أَدْخَلَ الْعُمْرَةَ عَلَى حَجِّهِ ، وَهُوَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ لَمْ يَجُزْ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ بَعْدَ أَنْ مَرَّ
بِعَرَفَةَ وَهُوَ لَا يَعْرِفُهَا لَمْ يَجُزْ ، وَلَكِنْ لَوْ أَدْخَلَ الْعُمْرَةَ عَلَى حَجِّهِ فِي زَمَانِ عَرَفَةَ قَبْلَ أَنْ يَقِفَ بِهَا كَانَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ .
فَصْلٌ : وَإِذَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَفْسَدَهَا بِوَطْءٍ ، وَأَدْخَلَ عَلَيْهَا حَجًّا فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِمَا الْإِفْرَادُ ثُمَّ وَرَدَتِ الرُّخْصَةُ فِي إِدْخَالِ الْحَجِّ عَلَى عُمْرَةٍ سَلِيمَةٍ ، فَكَانَ الثَّانِي عَلَى حُكْمِ أَصْلِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ الْفَاسِدَةَ فِي حُكْمِ غَيْرِ الْفَاسِدَةِ فِي وُجُوبِ الْإِتْمَامِ ، كَذَلِكَ فِي جَوَازِ الْقِرَانِ فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الْعُمْرَةِ ، وَفِي قَضَاءِ الْحَجِّ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِسَلَامَةِ الْحَجِّ مِنَ الْوَطْءِ . وَالثَّانِي : عَلَيْهِ الْقَضَاءُ لِأَنَّ الشَّرْعَ قَدْ قَرَنَ إِدْخَالَ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ كَالْإِحْرَامِ بِهِمَا ، فَصَارَ كَالْوَاطِئِ فِيهِمَا .
فَصْلٌ : فَإِذَا قَرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ما يجب عليه عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، فَعَلَيْهِ دَمٌ بِقِرَانِهِ ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ عَلَيْهِ بَدَنَةٌ ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ لَا دَمَ عَلَيْهِ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : الْقَارِنُ عَلَيْهِ شَاةٌ ، وَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَبَحَ عَنْ جَمِيعِ نِسَائِهِ بَقَرَةً " وَنَحْنُ قَارِنَاتٌ ، فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ : وَالْقَارِنُ أَخَفُّ حَالًا مِنَ الْمُتَمَتِّعِ ، فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ الرَّدَّ عَلَى مَنْ أَوْجَبَ عَلَى الْقَارِنِ بَدَنَةً ، لِأَنَّ الْمُتَمَتِّعَ مَعَ إِخْلَالِهِ بِأَحَدِ النُّسُكَيْنِ وَتَمَتُّعِهِ بَيْنَ الْإِحْرَامَيْنِ ، لَا تَلْزَمُهُ بَدَنَةٌ فَالْقَارِنُ مَعَ اسْتِدَامَةِ إِحْرَامِهِ أَوْلَى أَنْ لَا تَلْزَمَهُ بَدَنَةٌ ، وَعَلَى هَذَا نَصَّ فِي الْقَدِيمِ . وَالثَّانِي : وَبِهِ صَرَّحَ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ الرَّدَّ عَلَى مَنْ أَسْقَطَ الدَّمَ عَنِ الْقَارِنِ لِأَنَّ الْمُتَمَتِّعَ وَإِنْ أَخَلَّ بِأَحَدِ الْإِحْرَامَيْنِ ، فَقَدْ أَتَى بِعَمَلَيْنِ كَامِلَيْنِ فِي زَمَانَيْنِ ، ثُمَّ عَلَيْهِ دَمٌ ، فَالْقَارِنُ مَعَ إِخْلَالِهِ بِأَحَدِ الْعَمَلَيْنِ أَوْلَى بِإِيجَابِ الدَّمِ عَلَيْهِ .
مَسْأَلَةٌ كُلُّ مَنْ مَرَّ بِمِيقَاتِ بَلَدِهِ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً أَوْ قِرَانًا فَعَلَيْهِ الْإِحْرَامُ مِنْ مِيقَاتِهِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنِ اعْتَمَدَ قَبْلَ الْحَجِّ ثُمَّ أَقَامَ بِمَكَّةَ حَتَّى يُنْشِئَ الْحَجَّ أَنْشَأَهُ مِنْ مَكَّةَ لَا مِنَ الْمِيقَاتِ وَلَوْ أَفْرَدَ الْحَجَّ وَأَرَادَ الْعُمْرَةَ بَعْدَ الْحَجِّ خَرَجَ مِنَ الْحَرَمِ ثُمَّ أَهَلَّ مِنْ أَيْنَ شَاءَ فَسَقَطَ عَنْهُ بِإِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ مِنَ الْمِيقَاتِ وَأَحْرَمَ مِنْ أَقْرَبِ
الْمَوَاضِعِ مِنْ مِيقَاتِهَا وَلَا مِيقَاتَ لَهَا دُونَ الْحِلِّ كَمَا يَسْقُطُ مِيقَاتُ الْحَجِّ إِذَا قَدَّمَ الْعُمْرَةَ قَبْلَهُ لِدُخُولِ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ كُلُّ مَنْ مَرَّ بِمِيقَاتِ بَلَدِهِ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً ، أَوْ قِرَانًا فَعَلَيْهِ الْإِحْرَامُ مِنْ مِيقَاتِهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَهٍ حَدَّ الْمَوَاقِيتَ وَقَالَ هَذِهِ الْمَوَاقِيتُ لِأَهْلِهَا وَلِكُلِّ آتٍ أَتَى عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا مَنْ أَرَادَ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً فَإِذَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ مِنَ الْمِيقَاتِ وَأَحَلَّ مِنْهَا وَأَرَادَ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ أَحْرَمَ بِهِ مِنْ مَكَّةَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ فَتَحَ الْحَجَّ عَلَى أَصْحَابِهِ وَأَمَرَهُمْ بِالْعُمْرَةِ قَالَ عِنْدَ فَرَاغِهِمْ مِنْهَا : مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيُهِلَّ . قَالَ جَابِرٌ : فَأَحْرَمْنَا بِالْحَجِّ مِنْ بَطْحَاءِ مَكَّةَ ، وَهَذَا هُوَ التَّمَتُّعُ تعريفه فَأَمَّا إِذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنَ الْمِيقَاتِ وَأَحَلَّ مِنْهُ وَأَرَادَ الْإِحْرَامَ بِالْعُمْرَةِ ، أَحْرَمَ بِهَا مِنَ الْحِلِّ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَمَّا أَرَادَتِ الْإِحْرَامَ بِالْعُمْرَةِ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَاهَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَنْ يُعَمِّرَهَا مِنَ التَّنْعِيمِ فِي الْحِلِّ ، وَهَذَا هُوَ الْإِفْرَادُ تعريفه . وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَحْرَمَ بِأَحَدِهِمَا مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ ، وَأَرَادَ الْإِحْرَامَ بِالْآخَرِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ أَهْلِ مَكَّةَ إِنْ أَرَادَ الْحَجَّ أَحْرَمَ بِهِ مِنْ مَكَّةَ ، وَإِنْ أَرَادَ الْعُمْرَةَ أَحْرَمَ بِهَا مِنَ الْحِلِّ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلَّ نُسُكٍ فِيهِمَا يَفْتَقِرُ إِلَى أَنْ يُجْمَعَ فِيهِ بَيْنَ حِلٍّ وَحَرَمٍ ، لِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ فِيهِمَا بِقَصْدِ الْبَيْتِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ ، [ الْبَقَرَةِ : ] أَيْ : مَرْجِعًا . قَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ : مَثَابٌ لِأَفْتَاءِ الْقَبَائِلِ كُلِّهَا تَخُبُّ إِلَيْهَا الْيَعْمَلَاتُ الزَّوَامِلُ وَكُلُّ الْحَرَمِ مَنْسُوبٌ إِلَى الْبَيْتِ ، فَافْتَقَرَ إِلَى الْقَصْدِ إِلَيْهِ مِنَ الْحِلِّ فَإِنْ أَرَادَ الْحَجَّ أَحْرَمَ بِهِ مِنْ مَكَّةَ ، أَوِ الْحَرَمِ لِأَنَّهُ قَدْ خَرَجَ مِنْهُ إِلَى الْحِلِّ ضَرُورَةً لِلْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ ، وَعَرَفَةُ حِلٌّ لَا حَرَمٌ ، وَإِذَا أَرَادَ الْعُمْرَةَ أَحْرَمَ بِهَا مِنَ الْحِلِّ ، لِأَنَّ جَمِيعَ أَفْعَالِهَا فِي الْحَرَمِ وَهُوَ الطَّوَافُ ، وَالسَّعْيُ وَالْحَلْقُ ، فَلَوْ جَازَ لَهُ الْإِحْرَامُ بِهَا مِنَ الْحَرَمِ لَمْ يَكُنْ قَاصِدًا مِنْ حِلٍّ إِلَى حَرَمٍ .
فَصْلٌ : فَإِذَا أَحْرَمَ الْمُتَمَتِّعُ بِالْحَجِّ مِنْ غَيْرِ مَكَّةَ ، فَإِنْ عَادَ مُحْرِمًا إِلَى مَكَّةَ ، ثُمَّ تَوَجَّهُ إِلَى عَرَفَةَ أَجْزَأَهُ ، وَإِنَّ تَوَجَّهَ مِنْ فَوْرِهِ إِلَى عَرَفَةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعُودَ إِلَى مَكَّةَ ، فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ قَدْ أَحْرَمَ مِنَ الْحَرَمِ . وَالثَّانِي : مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ . وَالثَّالِثُ : مِنْ حِلٍّ بَيْنَ الْحَرَمِ وَالْمِيقَاتِ فَإِنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ فَلَا دَمَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ قَدْ عَادَ إِلَى حُكْمِ الْأَصْلِ لِأَنَّ إِحْرَامَهُ مِنْ مَكَّةَ رُخْصَةٌ ، وَإِنْ أَحْرَمَ مِنَ الْحَرَمِ خَارِجَ مَكَّةَ كَانَ كَمَنْ أَحْرَمَ مِنْ مَكَّةَ ، لِأَنَّ حُكْمَ جَمِيعِ الْحَرَمِ وَاحِدٌ ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ بِقَاعُهُ ، وَإِنْ أَحْرَمَ مِنَ الْحِلِّ الَّذِي بَيْنَ الْمِيقَاتِ ، وَالْحَرَمِ كَانَ عَلَيْهِ دَمٌ لِأَنَّ لَهُ أَحَدُ مِيقَاتَيْنِ ؛ فَمِيقَاتُ بَلَدِهِ لِلْأَصْلِ . وَمَكَّةُ رُخْصَةٌ ، فَإِذَا عَدَلَ عَنْهَا صَارَ مُحْرِمًا مِنْ غَيْرِ مِيقَاتٍ ، فَلَزِمَهُ الدَّمُ هَذَا أَصَحُّ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ ، وَقَدْ خَرَجَ قَوْلٌ آخَرُ إِنَّهُ لَا دَمَ عَلَيْهِ لِأَنَّ حُكْمَ الْكُلِّ وَاحِدٌ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُفْرِدُ إِذَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ مِنَ الْحَرَمِ ، فَقَدِ انْعَقَدَ إِحْرَامُهُ وَعَلَيْهِ الْخُرُوجُ إِلَى الْحِلِّ ثُمَّ الرُّجُوعُ إِلَى الطَّوَافِ ، وَالسَّعْيِ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَجْزَأَهُ ، وَلَا دَمَ عَلَيْهِ وَقَدْ زَادَ خَيْرًا بِتَعْجِيلِ الْإِحْرَامِ مِنَ الْحَرَمِ ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ إِلَى الْحِلِّ حَتَّى طَافَ ، وَسَعَى وَحَلَقَ ، فَعَلَى قَوْلَيْنِ نَصَّ عَلَيْهِمَا الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ . أَحَدُهُمَا : يُجْزِئُهُ وَقَدْ تَحَلَّلَ مِنْ عُمْرَتِهِ ، وَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِ الْمِيقَاتِ ، وَإِنَّمَا أَجْزَأَهُ وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ إِلَى الْحِلِّ لِأَنَّ الْحِلِّ مِيقَاتٌ ، وَتَرْكُ الْمِيقَاتِ لَا يُوجِبُ بُطَلَانَ الْأَعْمَالِ ، وَإِنَّمَا يُوجِبُ الدَّمَ ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يَكُونُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْأَفْعَالِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يُجْزِئُهُ طَوَافُهُ وَسَعْيُهُ وَعَلَيْهِ دَمٌ لِحِلَاقِهِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ وَطِئَ فَسَدَتْ عُمْرَتُهُ ، وَلَزِمَهُ الْمُضِيُّ فِي فَسَادِهَا وَالْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ إِنْ كَانَ عَالِمًا بِبَقَاءِ إِحْرَامِهِ ، فَإِنْ كَانَ جَاهِلًا بِهِ فَفِي فَسَادِ عُمْرَتِهِ بِوَطْئِهِ ، قَوْلَانِ كَالنَّاسِي ، وَعَلَيْهِ الْخُرُوجُ إِلَى الْحِلِّ وَالرُّجُوعُ إِلَى الطَّوَافِ ، وَالسَّعْيُ وَالْحَلْقُ ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ لَا بُدَّ لَهَا مَنْ حِلٍّ ، فَإِذَا طَافَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ الْحِلَّ صَارَ فِي مَعْنَى مَنْ طَافَ فِي الْحَجِّ ، قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَلَا يَجْزِيهِ عَنْ طَوَافِ الْفَرْضِ .
مَسْأَلَةٌ الْحِلُّ كُلُّهُ مِيقَاتُ الْعُمْرَةِ لِأَهْلِ مَكَّةَ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَا ، وَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ تَعْتَمِرَ مِنَ الْجِعْرَانَةِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ مِنْهَا فَإِنْ أَخْطَأَهُ ذَلِكَ فَمِنَ التَّنْعِيمِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعَمَرَ عَائِشَةَ مِنْهَا وَهِيَ أَقْرَبُ الْحِلِّ إِلَى الْبَيْتِ فَإِنْ أَخْطَأَهُ ذَلِكَ فَمِنَ الْحُدَيْبِيَةِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِهَا وَأَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ بِعُمْرَةٍ مِنْهَا .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ كَمَا قَالَ : الْحِلُّ كُلُّهُ مِيقَاتُ الْعُمْرَةِ لِأَهْلِ مَكَّةَ ، وَإِنَّمَا الِاخْتِيَارُ فِي الشَّرْعِ مَا نَذْكُرُهُ ، فَأُولَى ذَلِكَ الْإِحْرَامُ بِهَا مِنَ الْجِعْرَانَةِ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ فَتَحَ مَكَّةَ سَنَةَ ثَمَانٍ خَرَجَ إِلَى هَوَازِنَ وَلَمَّا أَرَادَ الْعَوْدَةَ إِلَى مَكَّةَ أَحْرَمَ مِنَ الْجِعْرَانَةِ ، وَهِيَ أَبْعَدُ مَوَاقِيتِ الْعُمْرَةِ ثُمَّ يَلِيهَا فِي الْفَضْلِ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْمَرَ عَائِشَةَ مِنْهَا ثُمَّ يَلِي ذَلِكَ فِي الْفَضْلِ الْحُدَيْبِيَةُ ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُصِرَ بِالْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ فَصَلَّى بِهَا وَأَرَادَ الدُّخُولَ لِعُمْرَتِهِ مِنْهَا ، فَصَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ ، فَهَذَا الْكَلَامُ فِي الْفَضْلِ وَالِاخْتِيَارِ ، وَمِنْ أَيْنَ أَحْرَمَ مِنَ الْحِلِّ جَازَ لِأَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ أَنْ يَجْمَعَ فِي إِحْرَامِهِ بَيْنَ حِلٍّ وَحَرَمٍ .
فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ الْجِعْرَانَةِ عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ ، فَكَانَ مُتَطَوِّعًا بِعُمْرَةِ الْجِعْرَانَةِ ، فَعَلَى مَذْهَبِهِ اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، عُمْرَتَيْنِ عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ سَنَةَ سَبْعٍ وَعُمْرَةَ الْجِعْرَانَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ عَامَ الْفَتْحِ ، وَالثَّالِثَةُ مُخْتَلَفٌ فِيهَا إِنْ قِيلَ إِنَّهُ كَانَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ قَارِنًا حَصَلَتْ لَهُ ثَلَاثُ عُمَرٍ ، وَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ كَانَ مُفْرِدًا فَلَهُ عُمْرَتَانِ .
بَابُ بَيَانِ إِفْرَادِ الْحَجِّ عَنِ الْعُمْرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ
لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ الْإِفْرَادِ وَالتَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ
بَابُ بَيَانِ إِفْرَادِ الْحَجِّ عَنِ الْعُمْرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مُخْتَصَرِ الْحَجِّ : " وَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يُفْرِدَ لِأَنَّ الثَّابِتَ عِنْدَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْرَدَ وَقَالَ فِي كِتَابِ اخْتِلَافِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً " " قَالَ الشَّافِعِيُّ " وَمَنْ قَالَ إِنَّهُ أَفْرَدَ الْحَجَّ يُشْبِهُ أَنْ يَقُولَ قَالَهُ عَلَى مَا يَعْرِفُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الَّذِي أَدْرَكَ وَفْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَحَدًا لَا يَكُونُ مُقِيمًا عَلَى حَجٍّ إِلَا وَقَدِ ابْتَدَأَ إِحْرَامَهُ بِحَجٍّ وَأَحْسَبُ عُرْوَةَ حِينَ حَدَّثَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْرَمَ بِحَجٍّ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ سَمِعَ عَائِشَةَ تَقُولُ يَفْعَلُ فِي حَجِّهِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى وَقَالَ فِيمَا اخْتَلَفَتْ فِيهِ الْأَحَادِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ فِي مَخْرَجِهِ لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الِاخْتِلَافِ أَيْسَرُ مِنْ هَذَا وَإِنْ كَانَ الْغَلَطُ فِيهِ قَبِيحًا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مُبَاحٌ لِأَنَّ الْكِتَابَ ثُمَّ السُّنَّةَ ثُمَّ مَا لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّمَتُّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ وَإِفْرَادَ الْحَجِّ وَالْقِرَانَ وَاسِعٌ كُلُّهُ وَثَبَتَ أَنَّهُ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْتَظِرُ الْقَضَاءَ فَنَزَلَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَهُوَ فِيمَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ أَهَلَّ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً وَقَالَ : لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً ( فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ ) فَمِنْ أَيْنَ أَثْبَتَ حَدِيثَ عَائِشَةَ وَجَابِرٍ وَابْنِ عُمَرَ وَطَاوُسٍ دُونَ حَدِيثِ مَنْ قَالَ قَرَنَ ؟ ( قِيلَ ) لِتَقَدُّمِ صُحْبَةِ جَابِرٍ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحُسْنِ سِيَاقِهِ لِابْتِدَاءِ الْحَدِيثِ وَآخِرِهِ وَلِرِوَايَةِ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَضْلِ حِفْظِهَا عَنْهُ وَقُرْبِ ابْنِ عُمَرَ مِنْهُ وَلِأَنَّ مَنْ وَصَفَ انْتِظَارَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَضَاءَ إِذْ لَمْ يَحُجَّ مِنَ الْمَدِينَةِ بَعْدَ نُزُولِ فَرْضِ الْحَجِّ طَلَبَ الِاخْتِيَارَ فِيمَا وَسَّعَ اللَّهُ مِنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ أَحْفَظَ لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ فَانْتَظَرَ الْقَضَاءَ كَذَلِكَ حُفِظَ عَنْهُ فِي الْحَجِّ يَنْتَظِرُ الْقَضَاءَ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) إِنْ ثَبَتَ حَدِيثُ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَرَنَ حَتَّى يَكُونَ مُعَارِضًا لَلْأَحَادِيثِ سِوَاهُ فَأَصْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْعُمْرَةَ فَرْضٌ وَأَدَاءُ الْفَرْضَيْنِ فِي وَقْتِ الْحَجِّ أَفْضَلُ مِنْ أَدَاءِ فَرْضٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ مَنْ كَثُرَ عَمَلُهُ لِلَّهِ كَانَ أَكْثَرَ فِي ثَوَابِ اللَّهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ .
لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ الْإِفْرَادِ وَالتَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ التفاضل بينها ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْأَفْضَلِ مِنْ ذَلِكَ وَالْأَوْلَى ، فَلِلشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْإِفْرَادَ أَفْضَلُ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ التَّمَتُّعَ أَفْضَلُ وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَصْحَابُ الْآثَارِ ، وَهُمَا أَفْضَلُ مِنَ الْقِرَانِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْمُزَنِيُّ : الْقِرَانُ أَفْضَلُ مِنْهَا تَعَلُّقًا بِرِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَأَنَسٍ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ ، وَقَالَ أَنَسٌ : وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ : لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ ، وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ أَحْرَمَا بِالْيَمَنِ ، وَقَالَ إِهْلَالًا كِإِهْلَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : سُقْتُ الْهَدْيَ وَقَرَنْتُ وَرَوَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَهُوَ بِالْعَقِيرَةِ : أَتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي هَذِهِ اللَّيْلَةَ فَقَالَ : صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي رَكْعَتَيْنِ وَقُلْ عُمْرَةٌ فِي حَجَّةٍ قَالُوا : فَإِذَا ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَنَ وَهُوَ لَا يَخْتَارُ لِنَفْسِهِ إِلَّا أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْقِرَانَ أَفْضَلُ مِنَ التَّمَتُّعِ وَالْإِفْرَادِ قَالُوا : وَقَدْ رَوَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ لِلصُّبَيِّ بْنِ مَعْبَدٍ وَقَدْ قَرَنَ : هُدِيتَ لِسُّنَّةِ نَبِيِّكَ قَالُوا : وَلِأَنَّ فِي الْقِرَانِ تَعْجِيلُ الْعَمَلَيْنِ ، وَالْإِتْيَانُ بِهِمَا فِي أَشْرَفِ الزَّمَانَيْنِ فَكَانَ أَوْلَى مِنْ إِفْرَادِهِمَا فِي زَمَانَيْنِ أَحَدُهُمَا أَشْرَفُ مِنَ الْآخَرِ قَالُوا : وَلِأَنَّ فِي الْقِرَانِ زِيَادَةٌ ، وَهُوَ دَوْمُ نُسُكٍ لَا جُبْرَانٌ وَنَقْصٌ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : جَوَازُ أَكْلِهِ مِنْهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا [ الْحَجِّ : ] وَلَوْ كَانَ دَمُ جُبْرَانٍ لَمَنَعَ مِنْ أَكْلِهِ لِجَزَاءِ الصَّيْدِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَا دَخَلَهُ الدَّمُ عَلَى وَجْهِ الْجُبْرَانِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنَ الدُّخُولِ فِيهِ إِلَّا بِعُذْرٍ كَالْحَلْقِ وَاللِّبَاسِ ، فَلَمَّا جَازَ لَهُ الْقِرَانَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ عُلِّقَ عَلَى أَنَّ الدَّمَ الْمُتَعَلِّقَ بِهِ دَمُ نُسُكٍ .
فَصْلٌ : وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ : التَّمَتُّعُ أَفَضَلُ ، بِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمَتَّعَ بِالْحَجِّ وَبِمَا رُوِيَ عَنْ حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا بَالُ النَّاسِ قَدْ حَلُّوا مِنْ عُمْرَتِهِمْ وَلَمْ تَحِلَّ مِنْ عُمْرَتِكَ فَقَالَ : إِنِّي قَلَّدْتُ هَدْيِي وَلَبَّدْتُ رَأْسِي فَلَا أُحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ . فَلَمَّا سَأَلْتُهُ عَنْ سَبَبِ بَقَائِهِ عَلَى عُمْرَتِهِ أَخْبَرَهَا عَنِ السَّبَبِ الَّذِي لَمْ يَتَحَلَّلْ لِأَجْلِهِ ، وَبِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً فَتَأَسَّفَ عَلَى فَوَاتِ الْعُمْرَةِ ، وَهُوَ لَا يَتَأَسَّفُ إِلَّا عَلَى فَوَاتِ الْأَفْضَلِ وَهَذَا يُعَضِّدُ مَا تَقَدَّمَ .
فَصْلٌ : وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْإِفْرَادَ في الحج أَفْضَلُ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْرَدَ الْحَجَّ . وَرُوِيَ عَنْ جَابِرٍ ، وَهُوَ صَاحِبُ الْمَنَاسِكِ وَأَحْسَنُ الْجَمَاعَةِ سِيَاقًا لَهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْرَمَ سَنَةَ تِسْعٍ إِحْرَامًا مَوْقُوفًا لَا بِحَجٍّ وَلَا بِعُمْرَةٍ فَلَمَّا بَلَغَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَقَفَ يَنْتَظِرُ الْقَضَاءَ ، ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَرَوَى زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ عَنْ إِهْلَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَقْرَنَ الْحَجَّ فَأَتَاهُ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ فَسَأَلَهُ عَنْ إِهْلَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ قَدْ أَنْبَأْنَاكَ بِهِ فِي الْعَامِ الْأَوَّلِ فَقَالَ الرَّجُلُ : إِنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ أَتَانَا فَقَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَنَ فَقَالَ إِنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ كَانَ يَحُجُّ عَلَى النِّسَاءِ وَهُنَّ مُكَشَّفَاتِ الرُّؤُوسِ مِنْ صِغَرِهِ وَأَنَا تَحْتَ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمَسُّنِي لُعَابُهَا وَكُنْتُ اسْمَعُهُ يَقُولُ لَبَّيْكَ بِحَجٍّ ، وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ عَلَى الْحَجِّ سَنَةَ ثَمَانٍ فَأَفْرَدَ الْحَجَّ ثُمَّ اسْتَعْمَلَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَنَةَ تِسْعٍ فَأَفْرَدَ الْحَجَّ ثُمَّ حَجَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَخْلَفَ أَبُو بَكْرٍ عُمَرَ عَلَى الْحَجِّ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ فَأَفْرَدَ الْحَجَّ ، ثُمَّ اسْتَخْلَفَهُ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ فَأَفْرَدَ الْحَجَّ ثُمَّ تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاسْتُخْلِفَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَبَعَثَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ ، فَأَفْرَدَ الْحَجَّ ثُمَّ حَجَّ عُمَرُ فَأَفْرَدَ الْحَجَّ فِي تِسْعِ حِجَجٍ ، ثُمَّ تُوُفِّيَ عُمَرُ ، وَاسْتُخْلِفَ عُثْمَانُ ، فَأَفْرَدَ الْحَجَّ فَثَبَتَ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَفْرَدُوا الْحَجَّ ، وَلِأَنَّ الْمُفْرِدَ يَأْتِي بِعَمَلِ الْعِبَادَتَيْنِ عَلَى كَمَالِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُخِلَّ بِشَيْءٍ مِنْهَا ، فَكَانَ أَوْلَى مِنَ الْقَارِنِ الَّذِي قَدْ أَدْخَلَ إِحْدَى الْعِبَادَتَيْنِ فِي الْأُخْرَى ، وَاقْتَصَرَ عَلَى عَمَلِ إِحْدَيْهِمَا وَلِأَنَّ إِيقَاعَ الْعَشْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ رُخْصَةٌ ، وَإِيقَاعُهَا فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ عَزِيمَةٌ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ يَمْتَنِعُونَ مِنَ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، حَتَّى أَرْخَصَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالْأَخْذُ بِالْعَزِيمَةِ أُولَى مِنَ الرُّخْصَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي وَقْتِ إِحْدَيْهِمَا رُخْصَةً ، كَانَ فِعْلُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ، فِي وَقْتِهَا أَفْضَلَ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي وَقْتِ إِحْدَيْهِمَا وَلِأَنَّ التَّمَتُّعَ وَالْقِرَانَ يَجِبُ فِيهِمَا دَمٌ ، وَالدِّمَاءُ الْوَاجِبَةُ فِي
الْحَجِّ إِنَّمَا تَجِبُ عَلَى طَرِيقِ الْجُبْرَانِ لِلنَّقْصِ ، لِأَنَّهَا تَجِبُ لِتَرْكِ مَأْمُورٍ بِهِ وَلِارْتِكَابِ مَحْظُورٍ ، وَلَيْسَ فِي الْحَجِّ دَمٌ يَجِبُ لِغَيْرِ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَتَى بِالْحَجِّ أَوَّلًا ، ثُمَّ بِالْعُمْرَةِ آخِرًا ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ دَمٌ لَعَدَمِ النَّقْصَ فَإِذَا قَرَنَ بَيْنَهُمَا أَوْ أَتَى بِالْعُمْرَةِ فِي وَقْتِ الْحَجِّ ، ثُمَّ حَجَّ لَزِمَهُ دَمٌ وَلَوْ عَادَ الْمُتَمَتِّعُ إِلَى مِيقَاتِ بَلَدِهِ ، سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ ، فَعَلِمْتَ أَنَّ ذَلِكَ لِأَجْلِ تَرْكِ الْمِيقَاتِ ، وَالنَّقْصُ الْحَاصِلُ مِنْ جِهَةِ الْجَمْعِ وَالتَّمَتُّعِ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ مَنْ رَوَى أَنَّهُ قَرَنَ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ رِوَايَةَ عَائِشَةَ وَجَابِرٍ وَابْنِ عُمَرَ أُولَى لِتَقَدُّمِ صِحَّةِ حَدِيثِ جَابِرٍ ، وَحُسْنِ مَسَاقِهِ لِابْتِدَاءِ الْحَدِيثِ ، وَآخِرِهِ وَلِرِوَايَةِ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَفَضْلِ حِفْظِهَا عَنْهُ وَقُرْبِ ابْنِ عُمَرَ مِنْهُ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَعَ مَا رُوِّينَا مِنْ فِعْلِهِ قَوْلًا يَرُدُّ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ فَكَانَ أُولَى مِنْ فِعْلٍ مُجَرَّدٍ ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي نَقْلِهِ ، وَأَمَّا الِاسْتِعْمَالُ فَمَنْ رَوَى أَنَّهُ قَرَنَ أَرَادَ أَنَّهُ أَتَى بِالْعُمْرَةِ عُقَيْبَ الْحَجِّ ، وَصَارَ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ الَّتِي يَفْعَلُ إِحْدَيْهِمَا عُقَيْبَ الْأُخْرَى ، وَمَنْ رَوَى أَنَّهُ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَيَعْنِي أَنَّهُ أَهَّلَ بِالْحَجِّ فِي وَقْتٍ وَبِالْعُمْرَةِ فِي آخَرَ ، فَأَدْرَجَ الرَّاوِي ، وَأَضَافَ ذَلِكَ إِلَى وَقْتٍ وَاحِدٍ ، كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ نَهَى عَنِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَتَيْنِ ، وَإِنَّمَا نَهَى عَنِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَيْثُ كَانَ قِبْلَةً ، وَعَنِ اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ حِينَ صَارَتْ قِبْلَةً وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، فَقَدْ رَوَى عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ خِلَافَ هَذَا ، وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ : بِمَاذَا أَهْلَلْتَ قَالَ أَهْلَلْتُ بِالْحَجِّ وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ أَفْرَدْتُ فَتَعَارَضَتِ الرِّوَايَتَانِ ، وَسَقَطَتَا وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلصُّبَيِّ بْنِ مَعْبَدٍ هُدِيتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ ، فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ جَوَازَهُ فِي السُّنَّةِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ زَيْدَ بْنَ صُوحَانَ وَسَلْمَانَ بْنَ رَبِيعَةَ أَنْكَرَا عَلَى الصُّبَيِّ بْنِ مَعْبَدٍ الْقِرَانَ وَقَالَا لَهَذَا أَضَلُّ مِنْ بَعِيرِ أَهْلِهِ فَأَرَادَ عُمَرُ بِمَقَالَتِهِ إِنْكَارَهُمَا وَأَعْلَمَهُمَا أَنَّهُ هُدًى لَا ضَلَالٌ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ أَنَّهُ يَتَعَجَّلُ بِقِرَانِهِ فِعْلَ عَمَلَيْنِ ، فِي أَشْرَفِ الزَّمَانَيْنِ فَغَلَطٌ ، لِأَنَّ فِعْلَ كُلِّ عِبَادَةٍ فِي وَقْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ جَمْعِهَا مَعَ غَيْرِهَا كَالْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ وَلَيْسَ وَقْتُ الْحَجِّ زَمَانًا شَرِيفًا لِلْعُمْرَةِ ، وَإِنَّمَا هُوَ شَرِيفٌ لِلْحَجِّ وَفِعْلُ الْعُمْرَةِ فِيهِ رُخْصَةٌ ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّ فِيهِ زِيَادَةً فَقَدْ أَنْبَأْنَاهُمْ أَنَّ الدَّمَ لِجُبْرَانِ نَقْصٍ ، وَلَا نُسَلِّمُ لَهُمْ جَوَازًا كُلَّهِ بِحَالٍ وَقَدْ وَافَقُوا فِي الْمَكِّيِّ ، إِذَا قَرَنَ أَنَّ عَلَيْهِ دَمًا ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْأَكْلُ مِنْهُ ، وَأَنَّهُ دَمُ نَقْصٍ لَا نُسُكٍ ، وَكَذَلِكَ غَيْرُ الْمَكِّيِّ وَأَمَّا مَنْ رَوَى أَنَّهُ تَمَتَّعَ ، فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ تَمَتَّعَ بَيْنَ الْإِحْرَامَيْنِ ، وَأَمَّا حَدِيثُ
حَفْصَةَ وَقَوْلُهَا مَا بَالُهُمْ حَلُّوا ، وَلَمْ تَحِلَّ مِنْ عُمْرَتِكَ فَمَعْنَاهُ لَمْ تُحِلَّ مِنْ إِحْرَامِكَ فَأَخْبَرَهَا ، أَنَّهُ لَيْسَ بِمُعْتَمِرٍ كَأَصْحَابِهِ ، وَذَكَرَ لَهَا السَّبَبَ فَقَالَ لَبَّدْتُ رَأْسِي ، وَقَلَّدْتُ هَدْيِي لَا أُحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ يَعْنِي : حَتَّى يَحِلَّ الْحَجُّ ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ نَزَلَ عَلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَ مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ إِحْرَامَهُ حَجًّا ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ يَجْعَلُ إِحْرَامَهُ عُمْرَةً ، وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ ، وَقَوْلُهُ لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ ، وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً فَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّمَتُّعَ أَفْضَلُ ، وَلَا أَنَّهُ خَفِيَ عَلَيْهِ الْأَفْضَلُ ، وَإِنَّمَا خَرَجَ ذَلِكَ عَلَى سَبَبٍ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا أَخْبَرَهُمْ بِفَسْخِ حَجِّهِمْ إِلَى الْعُمْرَةِ ، وَالتَّحَلُّلِ مِنْهَا شَقَّ عَلَيْهِمْ ، وَاسْتَعْظَمُوهُ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ رَأَوْهُ مُقِيمًا عَلَى إِحْرَامِهِ لَمْ يَتَحَلَّلْ مِنْهُ فَظَنُّوا أَنَّهُ أَرَادَ بِهِمُ التَّخْفِيفَ وَالتَّسْهِيلَ فَتَوَقَّفُوا عَنِ الْمُبَادَرَةِ عَنْهُ فِي الْأَغْلَظِ دُونَ الْأَخَفِّ . وَالثَّانِي : أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَعْظِمُونَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، وَيَرَوْنَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمَ الْكَبَائِرِ فَلَمَّا دَعَاهُمْ إِلَى التَّحَلُّلِ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ عَظُمَ عَلَيْهِمْ ، وَقَالُوا ، كَيْفَ نَعْدُو إِلَى مِنًى وَمَذَاكِيرُنَا تَقْطُرُ مَنِيًّا يَعْنُونَ بِهِ اسْتِبَاحَةَ النِّسَاءِ بَيْنَ الْإِحْرَامَيْنِ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِمَّا عَلَى طَرِيقِ الزَّجْرِ لَهُمْ ، أَوِ التَّطْيِيبِ لِنُفُوسِهِمْ مَا قَالَهُ بِمَعْنَى إِنِّي لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكُمْ تَخْتَلِفُونَ عَلَيَّ أَوْ تَتَوَقَّفُونَ لَمَا سُقْتُ الْهَدْيَ الَّذِي قَدْ مَنَعَنِي مِنَ التَّحَلُّلِ وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً حَتَّى أَكُونَ مِثْلَكُمْ ، فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ يَمْنَعُهُ سَوْقُ الْهَدْيِ مِنَ التَّحَلُّلِ بِالْعُمْرَةِ وَهَذَا غَيْرُ مَانِعٍ ، بَلْ نَحْرُ الْهَدَايَا إِذَا وَصَلَتْ إِلَى الْحَرَمِ جَائِزٌ قِيلَ لَهُ : فِيهِ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِفَسْخِ حَجِّهِمْ إِلَى الْعُمْرَةِ شَقَّ عَلَيْهِمْ ، وَكَانَ أَكْثَرُهُمْ لَا هَدْيَ مَعَهُ بَلْ رُوِيَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ سَاقَ هَدْيًا إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ فَجَعَلَ سَوْقَ الْهَدْيِ عَلَمًا فِي جَوَازِ الْبَقَاءِ عَلَى الْحَجِّ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ كَانَ قَدْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ سَوْقَ هَدْيِهِ إِلَى مَحَلِّهِ بِالْحَجِّ ، وَأَنَّهُ لَا يَنْحَرُهَا إِلَى يَوْمِ النَّحْرِ عِنْدَ التَّحَلُّلِ ، فَلِذَلِكَ مَا امْتَنَعَ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ لَمْ يَأْمَنْ إِنْ نَحَرَ هَدْيَهُ بِمَكَّةَ عِنْدَ إِحْلَالِهِ مِنْ عُمْرَتِهِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَنْ يَصِيرَ الْمَوْضِعُ سُنَّةً لِنَحْرِ الْهَدْيِ ، وَمَعْدِنًا لِلْأَنْجَاسِ فَيَضِيقُ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ وَيَسْتَضِرُّوا فَإِنْ نَحَرَ هَدْيَهُ إِلَى إِحْلَالِهِ بِحَجِّهِ مِنْ مِنًى ، وَأَيُّ هَذِهِ الْمَعَانِي كَانَ فَقَدْ زَالَ الْيَوْمَ حُكْمُهُ .
فَصْلٌ : فَإِذَا صَحَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَفْضِيلِ الْإِفْرَادِ عَلَى الْقِرَانِ ، وَعَلَى التَّمَتُّعِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، فَإِنَّمَا أَرَادَ إِفْرَادَ الْحَجِّ إِذَا أَعْقَبَهُ بِفِعْلِ الْعُمْرَةِ فِي عَامِهِ ، فَأَمَّا وَهُوَ يُرِيدُ تَأْخِيرَ الْعُمْرَةِ عَنْ عَامِ حَجِّهِ فَالتَّمَتُّعُ وَالْقِرَانُ أَوْلَى ، لِمَا يُجَوِّزُهُ مِنْ فَضْلِ الْمُبَادَرَةِ ، وَالتَّعْجِيلِ وَإِنَّ تَأْخِيرَ الْعُمْرَةِ عَنِ الْحَجِّ مَكْرُوهٌ رَوَى عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجَ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِيمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي حَجِّهِ لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الِاخْتِلَافِ أَيْسَرَ مِنْ هَذَا يَعْنِي : إِنْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا ، وَلَيْسَ فِيهِ تَغْيِيرُ حُكْمٍ ، وَلَا إِسْقَاطُ فَرْضٍ لِأَنَّ الْإِفْرَادَ وَالتَّمَتُّعَ وَالْقِرَانَ مُبَاحٌ ، ثُمَّ قَالَ : وَإِنْ كَانَ الْغَلَطُ فِيهِ قَبِيحًا يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ الرِّوَايَةَ لِأَنَّهَا حُجَّةٌ وَاحِدَةٌ ، فَإِذَا اخْتَلَفُوا فِي نَقْلِهَا دَلَّ عَلَى تَقْصِيرِهِمْ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَرَادَ الْإِنْكَارَ عَلَى مَنْ لَا مَعْرِفَةَ لَهُ بِالْأَخْبَارِ ، وَتَرْتِيبَ مَا اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ فِيهِ ، وَأَنَّهَا غَيْرُ مُتَضَادَّةٍ عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَاهُ ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَمَنْ قَالَ أَفْرَدَ الْحَجَّ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ قَالَهُ فِيمَا يَعْرِفُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الَّذِينَ أَدْرَكَ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَحَدًا لَا يَكُونُ مُقِيمًا عَلَى حَجٍّ إِلَّا وَقَدِ ابْتَدَأَ إِحْرَامَهُ بِحَجٍّ ، وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ ذَلِكَ حُجَّةٌ لِقَوْلِهِ : إِنَّ التَّمَتُعَ أَفْضَلُ وَأَخَذَ يَتَأَوَّلُ رِوَايَةَ مَنْ نَقَلَ الْإِفْرَادَ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ حَكَى مَا شَاهَدَ مِنْ حَجِّهِ ، وَلَمْ يَعْلَمْ مَا تَقَدَّمَ مِنْ عُمْرَتِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ ذَلِكَ حُجَّةٌ لِفَضْلِ الْإِفْرَادِ ، وَالْجَمْعِ بَيْنَ الْأَخْبَارِ الْمُطْلَقَةِ وَحَمْلِهَا عَلَى رِوَايَةِ جَابِرٍ لِتَفْسِيرِهِ وَإِخْبَارِهِ عَنْ إِفْرَادِهِ وَالسَّبَبِ فِيهِ .
بَابُ صَوْمِ الْمُتَمَتِّعِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ
جُمْلَةُ التَّمَتُّعِ ضَرْبَانِ
بَابُ صَوْمِ الْمُتَمَتِّعِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَإِذَا أَهَلَّ بِالْحَجِّ فِي شَوَّالٍ ، أَوْ ذِي الْقَعْدَةِ أَوْ ذِي الْحِجَّةِ صَارَ مُتَمَتِّعًا . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَجُمْلَةُ التَّمَتُّعِ ضَرْبَانِ ضَرْبٌ يَجِبُ فِيهِ الدَّمُ وَضَرْبٌ لَا دَمَ فِيهِ ، فَأَمَّا الضَّرْبُ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الدَّمُ فَيَحْتَاجُ إِلَى أَرْبَعَةِ شَرَائِطَ مُتَّفَقٍ عَلَيْهَا ، وَشَرْطٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ . فَالشَّرْطُ الْأَوَّلُ : أَنْ يَأْتِيَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ . وَالشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ فِي سَنَتِهِ . وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ : أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ ، وَلَا يَرْجِعَ إِلَى مِيقَاتِ بَلَدِهِ . وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ : أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْحَرَمِ ، وَلَا مِنْ حَاضِرِهِ ، وَالشَّرْطُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ نِيَّةُ التَّمَتُّعِ فِيهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَيْسَتْ شَرْطًا فِي وُجُوبِ الدَّمِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا شَرْطٌ خَامِسٌ ، لَا يُجِبِ الدَّمُ إِلَّا بِهِ لِأَنَّ التَّمَتُّعَ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ نُسُكَيْنِ ، فِي وَقْتِ أَحَدِهِمَا وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْعِبَادَتَيْنِ فِي وَقْتِ إِحْدَيْهِمَا يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةِ الْجَمْعِ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ ، فَعَلَى هَذَا فِي زَمَانِ النِّيَّةِ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي زَمَانِ نِيَّةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ . أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ : يَحْتَاجُ أَنْ يَنْوِيَ التَّمَتُّعَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ . وَالثَّانِي : يَحْتَاجُ أَنْ يَنْوِيَ مَا بَيْنَ إِحْرَامِهِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى إِحْلَالِهِ مِنْهَا .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الضَّرْبُ الَّذِي لَا دَمَ فِيهِ ، فَهُوَ أَنْ يُخِلَّ بِأَحَدِ هَذِهِ الشُّرُوطِ فَلَا يَلْزَمُهُ دَمٌ ، فَإِنْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ لَمْ يَلْزَمْهُ دَمٌ لِإِحْلَالِهِ بِالْحَجِّ ، فَلَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ ، ثُمَّ طَافَ سَعَى فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، كَأَنَّهُ أَحْرَمَ بِهَا فِي رَمَضَانَ ، وَطَافَ لَهَا وَسَعَى فِي شَوَّالٍ ، فَفِي وُجُوبِ الدَّمِ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : لَا دَمَ عَلَيْهِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ ، لِأَنَّ الْإِحْرَامَ أَحَدُ أَرْكَانِ الْعُمْرَةِ فَصَارَ كَمَا لَوْ طَافَ قَبْلَ شَوَّالٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : عَلَيْهِ دَمٌ ، وَهُوَ قَوْلُ طَاوُسٍ لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِمُعْظَمِ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، فَصَارَ كَمَا لَوِ اسْتَأْنَفَهَا فِيهِ ، وَلَوِ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ عَادَ إِلَى مِيقَاتِ بَلَدِهِ فَأَحْرَمُ بِالْحَجِّ مِنْهُ سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ ، وَلَكِنْ لَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ ثُمَّ عَادَ إِلَى مِيقَاتِ بَلَدِهِ مُحْرِمًا فَفِي سُقُوطِ الدَّمِ عَنْهُ ، قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : قَدْ سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ ، كَمَا لَوِ ابْتَدَأَ إِحْرَامَهُ مِنَ الْمِيقَاتِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يَسْقُطُ عَنْهُ لِأَنَّ وُجُوبَهُ قَدِ اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ بِإِحْرَامِهِ مِنْ مَكَّةَ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ إِذَا رَجَعَ إِلَى مِيقَاتِ بَلَدِهِ ، فَأَحْرَمُ مِنْهُ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى بَلَدِهِ لِأَنَّهُ قَبْلَ رُجُوعِهِ إِلَى بَلَدِهِ عَلَى حُكْمِ سَفَرِهِ ، فَكَانَ عَلَى حُكْمِ حَجِّهِ ، وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ مَحَلَّ إِحْرَامِهِ مَا بَيْنَ بَلَدِهِ وَمِيقَاتِهِ ، فَلَمَّا سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ بِرُجُوعِهِ إِلَى بَلَدِهِ ، وَهُوَ أَوَّلُ مِيقَاتِهِ سَقَطَ عَنْهُ بِرُجُوعِهِ ، إِلَى آخِرِ مِيقَاتِهِ لِاسْتِوَاءِ حُكْمِ جَمِيعِهِ ، وَفِيهِ الْفِصَالُ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا أَهْلُ مَكَّةَ وَالْحَرَمِ وَحَاضِرِيهِ وَهُوَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَرَمِ مَسَافَةٌ لَا تُقْصَرُ فِي مِثْلِهَا الصَّلَاةُ ، فَلَا دَمَ عَلَيْهِمْ فِي التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ لأَهْلُ مَكَّةَ وَالْحَرَمِ وَحَاضِرِيهِ مَعًا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ : وَلَا يُكْرَهُ لَهُمْ ذَلِكَ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يُكْرَهُ لَهُمُ التَّمَتُّعُ وَالْقِرَانُ ، فَإِنْ فَعَلُوا فَعَلَيْهِمْ دَمٌ كَغَيْرِهِمْ ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى كَرَاهَةِ ذَلِكَ لَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [ الْبَقَرَةِ : ] ، فَاسْتَثْنَى حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي إِبَاحَةِ التَّمَتُّعِ ، وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ [ الْبَقَرَةِ : ] ، وَهَذَا شَرْطٌ ثُمَّ قَالَ : فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [ الْبَقَرَةِ : ] ، وَهَذَا جَزَاءٌ ثُمَّ قَالَ : ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [ الْبَقَرَةِ : ] ، وَهَذَا اسْتِثْنَاءٌ يَرْجِعُ إِلَى الدَّمِ الَّذِي هُوَ الْخَبَرُ لَا إِلَى الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ : مَنْ دَخَلَ الدَّارَ فَأَعْطِهِ دِرْهَمًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَكِّيًّا تَقْدِيرُهُ فَلَا تُعْطِهِ شَيْئًا ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ : " فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ " إِخْبَارٌ وَقَوْلُهُ : " فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ " حُكْمٌ ، وَقَوْلُهُ " ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ " اسْتِثْنَاءٌ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ الِاسْتِثْنَاءُ إِلَى مُجَرَّدِ الْخَبَرِ ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ : فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، فَعُلِمَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ رَاجِعٌ إِلَى الْحُكْمِ ، وَهُوَ الدَّمُ فَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ : فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَلَا دَمَ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ نُسُكٍ جَازَ لِأَهْلِ الْآفَاقِ جَازَ لِأَهْلِ مَكَّةَ كَالْإِفْرَادِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ لَهُ الْإِفْرَادُ جَازَ لَهُ التَّمَتُّعُ وَالْقِرَانُ كَأَهْلِ الْآفَاقِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَا يُكْرَهُ لِغَيْرِ أَهْلِ مَكَّةَ لَا يُكْرَهُ لِأَهْلِ مَكَّةَ كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا صَحَّ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ وَحَاضِرِيهَا لَا دَمَ عَلَيْهِمْ فِي تَمَتُّعِهِمْ وَقِرَانِهِمْ ، فَكَذَلِكَ مَنْ دَخَلَهَا لَا يُرِيدُ حَجًّا وَلَا عُمْرَةً ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَتَمَتَّعَ أَوْ يَقْرِنَ فَلَا دَمَ عَلَيْهِ ، وَلَكِنْ لَوْ مَرَّ بِمِيقَاتِ بَلَدِهِ يُرِيدُ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً فَلَمْ يُحْرِمْ مِنْ مِيقَاتِهِ حَتَّى دَخَلَ مَكَّةَ ، فَعَلَيْهِ إِذَا أَرَادَ الْإِحْرَامَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى مِيقَاتِ بَلَدِهِ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ : فَإِنْ عَادَ إِلَى مِيقَاتِ بَلَدِهِ ، فَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَمَتُّعِهِ فَلَوْ أَحْرَمَ مِنَ الْحِلِّ ، وَلَمْ يَعُدْ إِلَى مِيقَاتِ بَلَدِهِ كَانَ عَلَيْهِ دَمٌ لِمُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ ، ثُمَّ نَظَرَ فِي مَوْضِعِ إِحْرَامِهِ ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَرَمِ مَسَافَةٌ تُقْصَرُ فِي مِثْلِهَا الصَّلَاةُ فَلَا دَمَ عَلَيْهِ لِتَمَتُّعِهِ إِنْ تَمَتَّعَ أَوْ لِقِرَانٍ إِنْ قَرَنَ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَرَمِ مَسَافَةٌ لَا تُقْصَرُ فِي مِثْلِهَا الصَّلَاةُ ، فَلَا دَمَ عَلَيْهِ لِتَمَتُّعِهِ ، وَلَا لِقِرَانِهِ ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ كَحَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَصُومَ حِينَ يَدْخُلَ فِي الْحَجِّ ، وَهُوَ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ كَمَا قَالَ : إِذَا كَمُلَتْ شُرُوطُ التَّمَتُّعِ الْمُوجِبَةُ لِلدَّمِ فَلَهُ حَالَانِ : حَالُ يَسَارٍ أَوْ حَالُ إِعْسَارٍ : فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا فَعَلَيْهِ دَمُ شَاةٍ تَجِبُ عَلَيْهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْعُمْرَةِ ، وَعِنْدَ إِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ ، فَإِذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ لَزِمَهُ الدَّمُ لِأَنَّ الشَّرَائِطَ الْمُوجِبَةَ لِلدَّمِ لَا تُوجَدُ إِلَّا بَعْدَ إِهْلَالِهِ بِالْحَجِّ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ بِالدَّمِ فَلَهُ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : حَالُ اخْتِيَارٍ وَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ يَوْمَ النَّحْرِ . وَالثَّانِي : حَالُ جَوَازٍ وَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ بَعْدَ إِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ ، وَقَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ فَعِنْدَنَا يُجْزِيهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُجْزِيهِ إِلَّا فِي يَوْمِ النَّحْرِ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [ الْبَقَرَةِ : ] ، وَمَحِلُّ الْهَدْيِ يَوْمُ النَّحْرِ ، وَلِأَنَّهُ إِرَاقَةُ دَمِ هَدْيٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ قِيَاسًا عَلَى هَدْيِ الْبُلُوغِ وَالْأَضَاحِي ، وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [ الْبَقَرَةِ : ] ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْهَدْيَ يَلْزَمُهُ أَوْ يَجُوزُ لَهُ إِذَا تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ ، وَفِي أَيِّهِمَا كَانَ دَلِيلٌ عَلَى مَا قُلْنَاهُ ، وَلِأَنَّهُ جُبْرَانٌ لِلتَّمَتُّعِ فَجَازَ أَنْ يُؤْتَى بِهِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ ، أَصْلُهُ الصَّوْمُ وَلِأَنَّهُ دَمُ كَفَّارَةٍ فَجَازَ ، أَنْ يُؤْتَى بِهِ بَعْدَ وُجُوبِهِ ، وَقَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ قِيَاسًا عَلَى كَفَّارَةِ الْأَذَى ، وَجَزَاءِ الصَّيْدِ فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ، فَالْمُرَادُ بِالْمَحِلِّ الدَّمُ لَا يَوْمُ النَّحْرِ ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى : ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى هَدْيِ التَّطَوُّعِ ، وَالْأَضَاحِيِّ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَا بَدَلَ فِيهِ .
فَصْلٌ : وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَأْتِيَ بِهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْعُمْرَةِ ، وَقَبْلَ إِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ الهدي للمتمتع فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَصَحُّهُمَا : وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْإِمْلَاءِ يُجْزِئُهُ لِأَنَّ حُقُوقَ الْمَالِ إِذَا تَعَلَّقَتْ بِشَيْئَيْنِ جَازَ تَقْدِيمُهُمَا إِذَا وُجِدَ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ كَالزَّكْوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ وَكَذَلِكَ دَمُ التَّمَتُّعِ وَيَجِبُ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ ، وَبِكَمَالِ الْعُمْرَةِ قَدْ وَجَبَ مِنْهَا شَيْئَانِ وَهُوَ كَوْنُهُ غَيْرَ حَاضِرٍ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَقَبْلَ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَجَازَ تَقْدِيمُ الدَّمِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يُجْزِئُهُ قِيَاسًا عَلَى الصَّوْمِ ، نَقَلَهُ ابْنُ خَيْرَانَ عَنِ التَّمَتُّعِ . وَالْحَالَةُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَأْتِيَ بِهِ قَبْلَ فَرَاغِهِ مِنَ الْعُمْرَةِ ، فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ بِحَالٍ لِبَقَاءِ أَكْثَرِ أَسْبَابِهِ .
فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَفَرْضُهُ الصِّيَامُ حج متمتعا وعجز عن الهدي كَمَا قَالَ تَعَالَى : فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ [ الْبَقَرَةِ : ] ، وَاعْتِبَارُ يَسَارِهِ ، وَإِعْسَارِهِ بِمَكَّةَ لَا بِبَلَدِهِ ، وَخَالَفَ كَفَّارَةَ الْحِنْثِ الَّتِي لَا يَنْتَقِلُ فِيهَا إِلَى الصَّوْمِ ، إِذَا كَانَ لَهُ مَالٌ وَإِنْ بَعُدَ مِنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : اخْتِصَاصُ الْهَدْيِ بِمَكَانٍ مَخْصُوصٍ . وَالثَّانِي : اخْتِصَاصُ بَدَلِهِ ، وَهُوَ الصَّوْمُ بِزَمَانٍ مَخْصُوصٍ ، فَإِذَا أَرَادَ الصِّيَامَ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَصُومَ بَعْدَ إِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ فَيُجْزِيهِ ذَلِكَ بِإِجْمَاعٍ عَلَى مَا نَصِفُهُ وَنَذْكُرُهُ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَصُومَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْعُمْرَةِ وَقَبْلَ إِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ ، فَلَا يُجْزِئُهُ بِحَالٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يُجْزِيهِ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ [ الْبَقَرَةِ : ] ، وَلِأَنَّهُ صَوْمٌ وَاجِبٌ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ فِعْلُهُ قَبْلَ وُجُوبِهِ قِيَاسًا عَلَى صَوْمِ رَمَضَانَ ، وَالْعَجَبُ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَمْنَعُ مِنَ الْهَدْيِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مَعَ تَعَلُّقِهِ بِالْمَالِ ، وَيُجِيزُ الصِّيَامَ مَعَ كَوْنِهِ مِنْ أَعْمَالِ الْأَبْدَانِ ، وَهَذَا خُرُوجٌ عَنْ أُصُولِ الشَّرْعِ فِي الْعِبَادَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَبْدَانِ وَالْأَمْوَالِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الشَّرْعِ بَدَلٌ يَجِبُ فِي وَقْتٍ لَا يَجُوزُ فِيهِ مُبْدَلُهُ ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ خِلَافُ أُصُولِ الشَّرْعِ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ . وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَصُومَ قَبْلَ فَرَاغِهِ مِنَ الْعُمْرَةِ ، فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يُجْزِيهِ الصَّوْمُ بِحَالٍ .
مَسْأَلَةٌ إِذَا اعْتَمَرَ الْمُتَمَتِّعُ بِالْهَدْيِ فَفَرْضُهُ الصَّوْمُ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَعَلَيْهِ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنَ الْحَجِّ حَتَّى يَصُومَ إِذَا لَمْ يَجِدْ هَدْيًا وَأَنْ يَكُونَ آخِرُ مَالِهِ مِنَ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ فِي آخِرِ صِيَامِهِ يَوْمَ عَرَفَةَ لِأَنَهُ يَخْرُجُ بَعْدَ عَرَفَةَ مِنَ الْحَجِّ وَيَكُونَ فِي يَوْمٍ لَا صَوْمَ فِيهِ يَوْمَ النَّحْرِ ، وَلَا يُصَامُ فِيهِ وَلَا أَيَّامِ مِنًى لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا وَأَنَّ مَنْ طَافَ فِيهَا فَقَدْ حَلَّ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ أَقُولَ هَذَا فِي حَجٍّ وَهُوَ خَارِجٌ مِنْهُ وَقَدْ كُنْتُ أَرَاهُ وَقَدْ يَكُونُ مَنْ قَالَ يَصُومُ أَيَّامَ مِنًى ذَهَبَ عَنْهُ نَهْيُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) قَوْلُهُ هَذَا قِيَاسٌ : لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِوَى فِي نَهْيِهِ عَنْهَا وَعَنْ يَوْمِ النَّحْرِ فَإِذَا لَمْ يَجُزْ صِيَامُ يَوْمِ النَّحْرِ لِنَهْيِ النَّبِيِّ عَلِيًّا عَنْهُ فَكَذَلِكَ أَيَّامُ مِنًى لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا اعْتَمَرَ الْمُتَمَتِّعُ بِالْهَدْيِ فَفَرْضُهُ الصَّوْمُ ، فَيَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ كَمَا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَزَمَانُهَا مِنْ بَعْدِ إِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ إِلَى قَبْلِ يَوْمِ النَّحْرِ لِرِوَايَةِ عَبْدِ الْغَفَّارِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمُتَمَتِّعُ هَدْيًا فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ قَبْلَ النَّحْرِ فَإِنْ لَمْ يَصُمْ قَبْلَ النَّحْرِ فَلْيَصُمْ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ أَيَّامَ مِنًى وَيُسْتَحَبُّ لَهُ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ فِي الْيَوْمِ الْخَامِسِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ لِيَصُومَ السَّادِسَ وَالسَّابِعَ وَالثَّامِنَ وَيَكُونَ يَوْمَ عَرَفَةَ مُفْطِرًا لِأَنَّ فِطْرَهُ أَفْضَلُ لِلْحَاجِّ مِنْ صَوْمِهِ . رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ : لَقِيتُ ابْنَ عَبَّاسٍ بِعَرَفَةَ ، وَهُوَ يَأْكُلُ الرُّمَّانَ فَقَالَ : ادْنُ فَكُلْ لَعَلَّكَ صَايِمٌ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَصُمْ هَذَا الْيَوْمَ وَلِأَنَّ فِطْرَهُ أَقْوَى لَهُ عَلَى الدُّعَاءِ ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ فَإِنْ أَحْرَمَ يَوْمَ السَّادِسِ وَصَامَ السَّابِعَ وَالثَّامِنَ وَالتَّاسِعَ جَازَ ، وَلَكِنْ لَوْ أَحْرَمَ يَوْمَ السَّابِعِ ، وَصَامَ السَّابِعَ وَالثَّامِنَ وَالتَّاسِعَ لَمْ يَجُزْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ إِحْرَامُهُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنَ الْيَوْمِ السَّابِعِ ، فَيُجْزِئُهُ لِأَنَّ صِيَامَهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ إِحْرَامِهِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا صَوْمُ يَوْمِ النَّحْرِ فَحَرَامٌ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ ، وَغَيْرِهِ لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَوْمِهِ يَوْمَ النَّحْرِ ، فَأَمَّا أَيَّامُ مِنًى الثَّلَاثَةُ ، فَفِي جَوَازِ صَوْمِهَا لِلْمُتَمَتِّعِ قَوْلَانِ : قَالَ فِي الْقَدِيمِ يَجُوزُ لِلْمُتَمَتِّعِ صَوْمُهَا ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَرَبِيعَةَ وَعَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى :
فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ ، [ الْبَقَرَةِ : ] ، نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا يَوْمُ عَرَفَةَ فَعَلِمَ أَنَّهُمْ صَامُوا بَقِيَّةَ الثَّلَاثَةِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، لِأَنَّهَا مَحَلٌّ لِبَعْضِ أَفْعَالِ الْحَجِّ ، وَلِرِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْخَصَ لِلْمُتَمَتِّعِ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْهَدْيَ ، أَنْ يَصُومَ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ وَلِحَدِيثِ عَائِشَةَ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهُ ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ فِي الْجَدِيدِ ، وَمَنَعَ مِنْ صِيَامِهِ لِلْمُتَمَتِّعِ ، وَغَيْرِهِ لِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ أُمِّهِ قَالَتْ : بَيْنَمَا نَحْنُ بِمِنًى إِذَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَلَى جَمَلٍ لَهُ يُنَادِي ، وَيَقُولُ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : إِنَّهَا أَيَّامُ طُعْمٍ وَشُرْبٍ فَلَا يَصُومُهَا أَحَدٌ وَلِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ دَخَلْنَا عَلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ بَعْدَ الْأَضْحَى فَقَدَّمَ لَنَا طَعَامًا فَقُلْتُ : أَنَا صَائِمٌ ، فَقَالَ : كُلْ وَأَفْطِرْ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَانَا عَنْ صِيَامِهَا وَأَمَرَنَا بِإِفْطَارِهَا ، وَلِأَنَّهُ زَمَانٌ لَا يَصِحُّ فِيهِ صَوْمُ النَّفْلِ ، فَلَا يَصِحُّ فِيهِ صَوْمُ التَّمَتُّعِ كَزَمَانِ رَمَضَانَ ، وَلِأَنَّهُ زَمَانٌ سُنَّ فِيهِ الرَّمْيُ ، فَلَمْ يَجُزْ صَوْمُهُ كَيَوْمِ النَّحْرِ فَأَمَّا الْآيَةُ فَالْمُرَادُ بِهَا بَيَانُ الْحُكْمِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَرَوَاهُ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ ، وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فَرَوَاهُ عَبْدُ الْغَفَّارِ وَهُوَ ضَعِيفٌ .
فَصْلٌ إِذَا لَمْ يَصُمِ الثَّلَاثَةَ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ حَتَّى خَرَجَتْ أَيَّامُ الْحَجِّ قَضَاهَا فِيمَا بَعْدُ
فَصْلٌ : فَإِذَا لَمْ يَصُمِ الثَّلَاثَةَ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ حَتَّى خَرَجَتْ أَيَّامُ الْحَجِّ المتمتع في الحج قَضَاهَا فِيمَا بَعْدُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِذَا خَرَجَتْ أَيَّامُ الْحَجِّ قَبْلَ صِيَامِهِ لَزِمَهُ الدَّمُ وَلَمْ يُجْزِهِ الصَّوْمُ ، وَقَدْ كَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يَغْلَطُ فَيُخَرِّجُهُ قَوْلًا ثَانِيًا لِلشَّافِعِيِّ ، وَلَا يَدُّلُ مِنْ نَصِّ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ ، [ الْبَقَرَةِ : ] ، فَإِذَا لَمْ يَأْتِ بِهَا فِي الْحَجِّ ، وَأَتَى بِهَا فِيمَا بَعْدُ صَارَ قَاضِيًا ، وَالْقَضَاءُ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِدَلِيلٍ ، وَقِيَاسًا عَلَى الْجُمُعَةِ الَّتِي لَا يَثْبُتُ قَضَاؤُهَا ، بَعْدَ فَوَاتِ وَقْتِهَا لِتَعَلُّقِ فِعْلِهَا بِزَمَانٍ ، وَيُجْزِيهِ مَخْصُوصٌ قِيَاسًا أَنَّهُ بَدَلٌ مُوَقَّتٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فَوَاتُ وَقْتِهِ مُوجِبًا لِلْعَوْدِ إِلَى مُبْدَلِهِ كَالْجُمُعَةِ وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ فِي الْمُتَمَتِّعِ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْهَدْيَ وَلَمْ يَصُمْ حَتَّى فَاتَتْهُ أَيَّامُ الْعَشْرِ أَنْ يَصُومَ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ مَكَانَهَا ، وَلِأَنَّهُ صَوْمٌ مَخْصُوصٌ بِزَمَانٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَفُوتَ بِفَوَاتِ وَقْتِهِ أَصْلُهُ صَوْمُ رَمَضَانَ ، وَلِأَنَّهُ صَوْمٌ وَاجِبٌ فَجَازَ أَنْ يُؤْتَى بِهِ بَعْدَ وَقْتِهِ .
أَصْلُهُ : صَوْمُ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَقْتُهُ قَبْلَ الْمَسِيسِ ؟ فَإِنْ أَتَى بِهِ بَعْدَ الْمَسِيسِ ، أَجْزَأَهُ وَلِأَنَّ الصَّوْمَ فِي الْأُصُولِ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : فَقِسْمٌ يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ مُعَيَّنٍ كَصَوْمِ رَمَضَانَ . وَقِسْمٌ يُؤْتَى بِهِ قَبْلَ وُجُودِ شَرْطٍ كَصَوْمِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ يُفْعَلُ قَبْلَ الْمَسِيسِ . وَقِسْمٌ مُطْلَقٌ كَصَوْمِ الْكَفَّارَاتِ وَكُلُّ ذَلِكَ يُؤْتَى بِهِ فِي وَقْتِهِ وَغَيْرِ وَقْتِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ صَوْمُ التَّمَتُّعِ لَاحِقًا بِأَحَدِهَا فِي جَوَازِ الْإِتْيَانِ بِهِ فِي وَقْتِهِ وَغَيْرِ وَقْتِهِ ، فَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ إِثْبَاتَ الْقَضَاءِ يَفْتَقِرُ إِلَى دَلِيلٍ فَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنِ أَصْحَابِنَا ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يَجِبُ بِالْأَمْرِ الْمُتَقَدِّمِ فَعَلَى هَذَا سَقَطَ السُّؤَالُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يَفْتَقِرُ إِلَى دَلَالَةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ ، وَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْجُمُعَةِ فَيَبْطُلُ بِالصَّلَوَاتِ ، وَقَضَاءِ رَمَضَانَ ، فَإِذَا قِيلَ : إِذَا جَوَّزْتُمْ لَهُ قَضَاءَ الصَّوْمِ هَلْ تُوجِبُونَ عَلَيْهِ كَفَّارَةً بِتَأْخِيرِهِ ، كَمَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ فِي تَأْخِيرِ قَضَاءِ رَمَضَانَ ، قُلْنَا : لَا تَجِبْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ ، وَإِنْ أَخَّرَهُ لِأَنَّهُ جُبْرَانٌ فِي نَفْسِهِ فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى جُبْرَانٍ ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ خَالَفَ قَضَاءَ رَمَضَانَ .
فَصْلٌ : فَإِنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مُعْسِرًا ثُمَّ أَيْسَرَ قَبْلَ دُخُولِهِ فِي الصَّوْمِ المتمتع ، فَفِيهِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ ، فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ هَلْ يُرَاعَى بِهَا حَالُ الْوُجُوبِ أَوْ حَالُ الْأَدَاءِ ، فَإِنْ قِيلَ : الْمُرَاعِي بِهَا حَالَ الْوُجُوبِ أَجْزَأَهُ الصَّوْمُ ، وَإِنْ قِيلَ : الْمُرَاعِي بِهَا حَالَ الْأَدَاءِ لَمْ يُجْزِهِ إِلَّا الدَّمُ وَكَذَلِكَ لَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مُوسِرًا ، ثُمَّ أَعْسَرَ قَبْلَ الْإِتْيَانِ بِالدَّمِ فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجْزِيهِ إِلَّا الدَّمُ اعْتِبَارًا بِحَالِ الْوُجُوبِ . وَالثَّانِي : يُجْزِيهِ الصَّوْمُ اعْتِبَارًا بِحَالِ الْأَدَاءِ وَفِي الْكَفَّارَةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ : أَنَّهُ يَعْتَبِرُ بِهَا أَغْلَظَ الْأَحْوَالِ فَكَذَلِكَ فِي التَّمَتُّعِ ، فَأَمَّا إِنْ شَرَعَ فِي الصَّوْمِ ثُمَّ أَيْسَرَ فَلَهُ إِتْمَامُ صَوْمِهِ ، وَيَجْزِيهِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ أَيْسَرَ فِي صَوْمِ الثَّلَاثَةِ المتمتع رَجَعَ إِلَى الْهَدْيِ ، وَإِنْ أَيْسَرَ فِي صَوْمِ السَّبْعَةِ المتمتع مَضَى فِي صَوْمِهِ " ، وَأَجْزَأَهُ وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْمُتَيَمِّمُ إِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فِي صَلَاةٍ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهَا ثُمَّ نَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةٌ أَنَّهُ مُتَمَتِّعٌ تَلَبَّسَ بِالصَّوْمِ عِنْدَ عَدَمِ الْهَدْيِ ، فَوَجَبَ إِذَا وَجَدَ الْهَدْيَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ أَصْلُهُ إِذَا وَجَدَهُ فِي السَّبْعَةِ .
مَسْأَلَةٌ يَصُومُ السَّبْعَةَ إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَيَصُومُ السَّبْعَةَ إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ إِذَا كَانَ مُعْسِرًا صِيَامُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [ الْبَقَرَةِ : ] ، وَذَكَرْنَا وَقْتَ صِيَامِ الثَّلَاثَةِ ، فَأَمَّا وَقْتُ صِيَامِ السَّبْعَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ نَصُّهُ هَاهُنَا وَفِي " الْأُمِّ أَنَّهُ يَصُومُهَا إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ وَاسْتَقَرَّ فِي بَلَدِهِ .
وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ . وَمِنَ الْفُقَهَاءِ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ نَصُّهُ فِي الْإِمْلَاءِ أَنَّهُ يَصُومُهَا إِذَا رَجَعَ مِنْ حَجِّهِ " بَعْدَ كَمَالِ مَنَاسِكِهِ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ لِاحْتِمَالِ كَلَامِهِ فَذَهَبَ أَصْحَابُنَا الْبَصْرِيُّونَ إِلَى أَنَّ مَذْهَبَهُ فِي الْإِمْلَاءِ أَنْ يَصُومَهَا إِذَا أَخَذَ فِي الْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ رَاجِعًا إِلَى بَلَدِهِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَصُومَ بِمَكَّةَ قَبْلَ خُرُوجِهِ وَذَهَبَ الْبَغْدَادِيُّونَ إِلَى أَنَّ مَذْهَبَهُ فِي الْإِمْلَاءِ أَنْ يَصُومَهَا إِذَا رَجَعَ إِلَى مَكَّةَ ، بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ مَنَاسِكِهِ ، وَرَمْيِهِ سَوَاءٌ أَقَامَ بِمَكَّةَ أَوْ خَرَجَ مِنْهَا . وَبِهِ قَالَ مِنَ الصِّحَابِ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَمِنَ التَّابِعِينَ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ . وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [ الْبَقَرَةِ : ] ، أَيْ : رَجَعْتُمْ عَنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ : لِأَنَّهُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالرُّجُوعِ رُجُوعًا عَنِ الْحَجِّ أَيْ : عَنْ أَفْعَالِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الرُّجُوعُ إِلَى الْأَهْلِ وَالْوَطَنِ شَرْطًا فِي جَوَازِ هَذَا الصَّوْمِ لَوَجَبَ إِذَا نَوَى الْمُقَامَ بِمَكَّةَ ، أَنْ لَا يُجْزِئَهُ الصِّيَامُ بِهَا ، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى جَوَازِ صِيَامِهِ فِيهَا ، إِذَا نَوَى الْمُقَامَ بِهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرُّجُوعَ إِلَى الْأَهْلِ لَيْسَ بِشَرْطٍ ، وَلِأَنَّ صَوْمَ الْمُتَمَتِّعِ إِمَّا أَنْ يَجِبَ عَلَى طَرِيقِ الْجُبْرَانِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَوْ عَلَى طَرِيقِ النُّسُكِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ، قَالُوا : وَأَيُّهُمَا كَانَ فَالْوَاجِبُ ، أَنْ يُؤْتَى بِهِ عَلَى قَوْلِكُمْ قَبْلَ السَّلَامِ ، وَعَلَى قَوْلِنَا عُقَيْبَ السَّلَامِ فَهَذَا وَجْهُ قَوْلِهِ فِي الْإِمْلَاءِ " . وَحُجَّةُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يَصُومَهَا إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ وَاسْتَقَرَّ بِبَلَدِهِ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ، [ الْبَقَرَةِ : ] ، فَلَا يَخْلُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالرُّجُوعِ مَا ذَكَرُوا مِنَ الرُّجُوعِ عَنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ ، أَوْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الرُّجُوعُ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ فَبَطَلَ ، أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الرُّجُوعُ عَنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَجِّ وَقْتٌ الْحَجِّ ، دُونَ أَفْعَالِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ [ الْبَقَرَةِ : ] ، وَالصَّوْمُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي وَقْتِ الْحَجِّ ، لَا فِي أَفْعَالِهِ فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الرُّجُوعُ ، إِلَى مَوْضِعِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ وَرَوَى مُجَاهِدٌ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً فَمَنْ سَاقَ الْهَدْيَ فَلْيَدْعُ وَمَنْ لَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ ، وَهَذَا نَصٌّ ، وَلِأَنَّ الرُّجُوعَ إِذَا أُطْلِقَ فِيمَنْ خَرَجَ عَنْ أَهْلِهِ اقْتَضَى رُجُوعًا إِلَيْهِمْ لِأَنَّ الرُّجُوعَ فِي الْحَقِيقَةِ رُجُوعٌ
إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ أَلَا تَرَاهُمْ يَقُولُونَ خَرَجَ زَيْدٌ ثُمَّ رَجَعَ فَيُرِيدُونَ بِهِ الرُّجُوعَ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ مِنْهُ ابْتَدَأَ الْخُرُوجَ ، وَلِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْ أَمْرِ الْحَاجِّ أَنَّهُمْ يُنْشِئُونَ السَّفَرَ عِنْدَ الْفَرَاغِ وَقَدْ سَامَحَ اللَّهُ الْمُسَافِرَ بِالْإِفْطَارِ فِي الصَّوْمِ الَّذِي وَجَبَ فَرْضُهُ عَلَيْهِ ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَبْتَدِئَ إِيجَابَ فَرْضٍ عَلَيْهِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي سَامَحَهُ فِي تَرْكِ مَا فَرَضَ عَلَيْهِ ، فَأَمَّا إِذَا نَوَى الْإِقَامَةَ قَائِمًا ، وَجَازَ أَنْ يَصُومَ بِهَا لِأَنَّهَا صَارَتْ لَهُ وَطَنًا كَالْعَائِدِ إِلَى وَطَنِهِ ، أَلَا تَرَاهُ قَبْلَ نِيَّةِ مُقَامِهِ يَجُوزُ أَنْ يَقْصُرَ وَيُفْطِرَ ، وَلَا يَجُوزَ ذَلِكَ لَهُ بَعْدَ نِيَّةِ مُقَامِهِ كَالْمُسْتَوْطِنِ . فَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ جُبْرَانٌ كَسُجُودِ السَّهْوِ قِيلَ : إِنَّمَا يَلْزَمُ تَعْجِيلُ الْجُبْرَانِ فِي أَثْنَاءِ الْعِبَادَةِ ، أَوْ عُقَيْبَهَا إِذَا فَاتَ الْجُبْرَانُ بِتَأْخِيرِهِ كَسُجُودِ السَّهْوِ فَأَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي تَأْخِيرِهِ تَفْوِيتُهُ فَصَوْمُ التَّمَتُّعِ لَا يَفُوتُ بِتَأْخِيرِهِ فَلَمْ يَلْزَمْ تَعْجِيلُهُ .
فَصْلٌ : فَإِذَا وَضَحَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ ، فَإِنْ قُلْنَا : يَصُومُهَا إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَصُومَهَا عَقِيبَ رُجُوعِهِ ، فَإِنْ أَخَّرَ صِيَامَهَا كَانَ مُسِيئًا فَأَجْزَأَهُ وَلَوْ صَامَهَا قَبْلَ رُجُوعِهِ إِمَّا بِمَكَّةَ أَوْ فِي طَرِيقِهِ صوم المتمتع لَمْ يَجُزْ . لِأَنَّ أَعْمَالَ الْأَبْدَانِ إِذَا قُدِّمَتْ قَبْلَ وَقْتِهَا لَمْ تَجُزْ وَإِنْ فُعِلَتْ بَعْدَ وَقْتِهَا أَجْزَأَتْ كَالصَّلَاةِ لَا تُجْزِئُ إِذَا قُدِّمَتْ عَلَى وَقْتِهَا وَتُجْزِئُ إِذَا فُعِلَتْ بَعْدَ وَقْتِهَا وَإِنْ قُلْنَا بِقَوْلِهِ فِي الْإِمْلَاءِ إِنَّهُ يَصُومُهَا إِذَا خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ حَجِّهِ فَإِنْ قُلْنَا بِمَذْهَبِ أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ ، إِنَّهُ يَصُومُهَا إِذَا خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ رَاجِعًا إِلَى بَلَدِهِ فَصَامَهَا قَبْلَ خُرُوجِهِ مِنْ مَكَّةَ لَمْ يُجْزِهِ وَلَوْ أَخَّرَ صِيَامَهَا بَعْدَ خُرُوجِهِ حَتَّى رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ كَانَ مُسِيئًا وَأَجْزَأَهُ . وَإِنْ قُلْنَا بِمَذْهَبِ أَصْحَابِنَا الْبَغْدَادِيِّينَ ، إِنَّهُ يَصُومُهَا إِذَا فَرَغَ مِنْ أَعْمَالِ حَجِّهِ ، فَإِنْ صَامَ قَبْلَ فَرَاغِهِ مِنْ حَجِّهِ ، أَوْ قَبْلَ فَرَاغِهِ مِنْ جَمِيعِ رَمْيِهِ لَمْ يُجْزِهِ ، فَإِنْ صَامَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ حَجِّهِ وَهُوَ بِمَكَّةَ أَوْ فِي طَرِيقِهِ أَجْزَأَهُ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا مُتَابَعَةُ صِيَامِ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ فِي الْحَجِّ ، وَالسَّبْعَةِ الْأَيَّامِ إِذَا رَجَعَ ، فَمُسْتَحَبَّةٌ ، وَفِي وُجُوبِهَا وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي وُجُوبِ التَّتَابُعِ فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ : أَحَدُهُمَا : وَاجِبَةٌ ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَإِنْ فَرَّقَ صِيَامَهَا لَمْ يُجْزِهِ . وَالثَّانِي : مُسْتَحَبَّةٌ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ فَرَّقَ صِيَامَهَا أَجْزَأَهُ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنْ لَمْ يَصُمِ الثَّلَاثَةَ الْأَيَّامِ فِي الْحَجِّ ، وَلَا السَّبْعَةَ الْأَيَّامِ حِينَ رَجَعَ حَتَّى اسْتَقَرَّ بِبَلَدِهِ وَاسْتَوْطَنَ ، فَعَلَيْهِ صِيَامُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ ، وَهُوَ مَأْمُورٌ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ صِيَامِ الثَّلَاثَةِ ، وَبَيْنَ صِيَامِ السَّبْعَةِ ، وَفِي وُجُوبِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ التَّفْرِقَةَ بَيْنَهُمَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ ، لِأَنَّ وُجُوبَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا كَانَ فِي الْأَدَاءِ بِجِهَةِ الزَّمَانِ ، وَمَا كَانَ مُسْتَحَقًّا فِي الْأَدَاءِ بِجِهَةِ الزَّمَانِ بَطَلَ اسْتِحْقَاقُهُ فِي الْقَضَاءِ لِفَوَاتِ الزَّمَانِ ،
كَمَا أَنَّ تَتَابُعَ رَمَضَانَ مُسْتَحَقٌّ فِي الْأَدَاءِ لِتَتَابُعِ الزَّمَانِ ، غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ فِي الْقَضَاءِ لِفَوَاتِ الزَّمَانِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ تَابَعَ صِيَامَ الثَّلَاثَةِ وَصِيَامَ السَّبْعَةِ أَجْزَأَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، أَنَّ التَّفْرِقَةَ بَيْنَهُمَا وَاجِبَةٌ ، لِأَنَّ وُجُوبَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا كَانَ فِي الْأَدَاءِ مِنْ جِهَةِ الْفِعْلِ لَا مِنْ جِهَةِ الزَّمَانِ لِأَنَّهُ قَالَ : فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [ الْبَقَرَةِ : ] ، فَجَعَلَ السَّبْعَةَ بَعْدَ الرُّجُوعِ ، وَالرُّجُوعُ فِعْلٌ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ الرُّجُوعُ عَنِ الْحَجِّ ، أَوِ الرُّجُوعُ إِلَى الْوَطَنِ ، وَمَا كَانَ مُسْتَحَقًّا فِي الْأَدَاءِ مِنْ جِهَةِ الْفِعْلِ ، لَمْ يَبْطُلِ اسْتِحْقَاقُهُ فِي الْقَضَاءِ ، وَإِنْ مَضَى ذَلِكَ الْفِعْلُ ، كَمَا أَنَّ تَتَابُعَ صَوْمِ الظِّهَارِ ، وَمُسْتَحَقٌّ مِنْ جِهَةِ الْفِعْلِ ، فَلَمْ يَبْطُلِ اسْتِحْقَاقُ تَتَابُعِهِ بِمُضِيِّ ذَلِكَ الْفِعْلِ ، فَعَلَى هَذَا فِي قَدْرِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ ، يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِأَقَلِّ مَا تَكُونُ بِهِ التَّفْرِقَةُ ، وَذَلِكَ يَوْمٌ وَاحِدٌ : لِأَنَّ التَّفْرِقَةَ فِي الصَّوْمِ ضِدَّ الْمُتَابَعَةِ ، فَلَمَّا بَطَلَتِ الْمُتَابَعَةُ بِإِفْطَارِ يَوْمٍ ثَبَتَتِ التَّفْرِقَةُ بِإِفْطَارِ يَوْمٍ وَاحِدٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ، وَكَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا ، أَنَّ قَدْرَ التَّفْرِقَةِ فِي الْقَضَاءِ مُعْتَبَرٌ بِحَالِهِ فِي الْأَدَاءِ : لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَتِ الْفُرْقَةُ فِي الْقَضَاءِ لِثُبُوتِهَا فِي الْأَدَاءِ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَدْرُ التَّفْرِقَةِ فِي الْقَضَاءِ قِدْرَ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ التَّفْرِقَةِ وَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْقَضَاءِ قَدْرُ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ التَّفْرِقَةِ ، كَمَا لَمْ يُعْتَبَرْ فِي الْأَدَاءِ قَدْرُ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ التَّفْرِقَةِ ، فَعَلَى هَذَا الْأَدَاءِ أَصْلَانِ ، فِي كُلِّ أَصْلٍ مِنْهُمَا قَوْلَانِ : أَحَدُ الْأَصْلَيْنِ جَوَازُ صِيَامِ الثَّلَاثَةِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ كفارة المتمتع بالهدى وَفِي ذَلِكَ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ يَجُوزُ . وَالثَّانِي : وَهُوَ الْجَدِيدُ لَا يَجُوزُ . وَالْأَصْلُ الثَّانِي : صِيَامُ السَّبْعَةِ هَلْ يَجُوزُ إِذَا فَرَغَ مِنْ حَجِّهِ ؟ المتمتع أَوْ إِذَا رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ ؟ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْإِمْلَاءِ : إِذَا رَجَعَ مِنْ حَجِّهِ . وَالثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ ، إِذَا رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَانِ الْأَصْلَانِ ، كَانَ قَدْرُ التَّفْرِقَةِ مَبْنِيًّا عَلَيْهِمَا ، فَتَكُونُ فِيهِمَا أَرْبَعَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِيَوْمٍ ، إِذَا قِيلَ : إِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَصُومَ الثَّلَاثَةَ فِي أَيَّامِ مِنًى ، وَيَصُومَ السَّبْعَةَ إِذَا فَرَغَ مِنْ حَجِّهِ ، لِيَقَعَ بِهَذَا الْيَوْمِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الصَّوْمَيْنِ .