كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تُسْأَلْ عَنِ الْحَمْلِ قَبْلَ الْوَضْعِ ، وَلَا إِنْ وَضَعَتْهُ مَيِّتًا : لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِسُؤَالِهَا حُكْمٌ سِوَى الْحَدِّ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُسْأَلَ عَمَّا يُوجِبُ حَدَّ الزِّنَى عَلَيْهَا : لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ أَتَى مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسَتْرِ اللَّهِ ، فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ حَدَّ اللَّهِ عَلَيْهِ . وَإِنْ وَضَعَتْ وَلَدًا حَيًّا سُئِلَتْ عَنْهُ حِينَئِذٍ : لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ حَقِّ الْوَلَدِ فِي ثُبُوتِ نَسَبِهِ ، فَإِنْ أَقَرَّتْ بِهِ مِنْ زِنًا حُدَّتْ بِإِقْرَارِهَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ شَهِدُوا مُتَفَرِّقِينَ قَبِلْتُهُمْ إِذَا كَانَ الزِّنَا وَاحِدًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، لَا فَرْقَ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا بَيْنَ أَنْ يُفَرَّقَ الشُّهُودُ فِي أَدَائِهَا أَوْ يَجْتَمِعُوا عَلَيْهَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ : تُسْمَعُ شَهَادَتُهُمْ إِنِ اجْتَمَعُوا عَلَيْهَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ، وَيُحَدُّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ ، وَلَا تُقْبَلُ إِنِ افْتَرَقُوا فِي الْأَدَاءِ الشهود علي الزنا ، فَشَهِدَ بَعْضُهُمْ فِي مَجْلِسٍ وَشَهِدَ آخَرُونَ مِنْهُمْ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ ، وَلَا يَجِبُ بِشَهَادَتِهِمْ حَدٌّ : اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الزِّنَا تَكُونُ بِلَفْظِ الْقَذْفِ . فَإِنْ تَكَامَلَ فِيهَا الْعَدَدُ خَرَجَتْ عَنْ حُكْمِ الْقَذْفِ إِلَى الشَّهَادَةِ . وَإِنْ لَمْ يَتَكَامَلِ الْعَدَدُ ، اسْتَقَرَّ فِيهَا حُكْمُ الْقَذْفِ وَلَمْ تَكُنْ شَهَادَةً . فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمَجْلِسُ مُعْتَبَرًا فِي اسْتِقْرَارِ حُكْمِهَا : لِأَنَّ لِلْمَجْلِسِ تَأْثِيرًا فِي اسْتِقْرَارِ الْأَحْكَامِ كَالْقَبُولِ بَعْدَ الْبَدَلِ فِي الْعُقُودِ ، وَكَالْقَبْضِ فِي عَقْدِ التَّصَرُّفِ . قَالُوا : وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ فِيهِ مُعْتَبِرَةٌ بِكَمَالِ الْأَدَاءِ وَكَمَالِ الْعَدَدِ ، فَلَمَّا كَانَ تَفْرِيقُ الْأَدَاءِ فِي مَجْلِسٍ ذُكِرَ فِي أَحَدِهِمَا أَنَّهُ زِنًا ، وَوَصِفَ فِي الْآخَرِ الزِّنَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الشَّهَادَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَفْرِيقُ الْعَدَدِ فِي مَجْلِسَيْنِ مَانِعًا مِنْ صِحَّةِ الشَّهَادَةِ . قَالُوا : وَلِأَنَّ حَدَّ الزِّنَا ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ تَارَةً وَبِالشَّهَادَةِ أُخْرَى ، ثُمَّ تَغَلَّظَ الْإِقْرَارُ مِنْ وَجْهَيْنِ : تَصْرِيحٌ بِصِفَةٍ ، وَعَدَدٌ فِي تَكْرَارِهِ ، وَجَبَ أَنْ تَتَغَلَّظَ الشَّهَادَةُ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ : زِيَادَةُ عَدَدٍ ، وَاجْتِمَاعٌ فِي مَجْلِسٍ . وَدَلِيلُنَا : قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ الْآيَةَ [ النُّورِ : 4 ] وَلَمْ يُفَرِّقْ فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ شَهَادَةٍ يَجِبُ الْحُكْمُ بِهَا إِذَا تَكَامَلَ عَدَدُهَا
فِي مَجْلِسٍ ، وَجَبَ الْحُكْمُ بِهَا إِذَا تَكَامَلَ عَدَدُهَا فِي مَجْلِسَيْنِ ، وَوَجَبَ الْحُكْمُ إِذَا تَكَامَلَ عَدَدُهَا فِي مَجَالِسَ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الشَّهَادَاتِ . وَلِأَنَّهُ زَمَانٌ لَا يُعْتَبَرُ فِي شَهَادَةِ غَيْرِ الزِّنَا ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ فِي غَيْرِ الزِّنَا كَالْمُوَالَاةِ : وَلِأَنَّ شَهَادَةَ الْحُقُوقِ نَوْعَانِ : لِلَّهِ ، وَلِلْآدَمِيِّينَ وَلَيْسَتْ يُعْتَبَرُ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا اجْتِمَاعُ الشُّهُودِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الزِّنَا مُلْحَقًا بِأَحَدِهِمَا ، وَلِأَنَّ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ إِذَا تَقَدَّمَتْ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهَا شَاهِدًا ، أَوْ قَاذِفًا . فَإِنْ كَانَ شَاهِدًا لَمْ يَصِرْ قَاذِفًا بِتَأَخُّرِ غَيْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ قَاذِفًا لَمْ يَصِرْ شَاهِدًا بِشَهَادَةِ غَيْرِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي تَفَرُّقِ الشَّهَادَةِ فِي مَجْلِسَيْنِ علي الزنا أَكْثَرُ مِنْ تَبَاعُدِ مَا بَيْنَ الزَّمَانَيْنِ ، وَهَذَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الشَّهَادَةِ ، كَمَا لَوِ اسْتَدَامَ الْمَجْلِسُ فِي جَمِيعِ الْيَوْمِ فَشَهِدَ بَعْضُهُمْ فِي أَوَّلِهِ ، وَبَعْضُهُمْ فِي آخِرِهِ . وَلِأَنَّ قَوْلَهُمْ يُفْضِي إِلَى رَدِّ الشَّهَادَةِ إِذَا تَفَرَّقَتْ فِي الزَّمَانِ الْقَصِيرِ ، وَهُوَ إِذَا قَامَ الْحَاكِمُ مِنْ مَجْلِسِهِ بَيْنَ الشَّهَادَتَيْنِ قَدْرَ الصَّلَاةِ وَإِلَى إِمْضَائِهَا إِذَا تَفَرَّقَتْ فِي الزَّمَانِ الطَّوِيلِ . وَهُوَ إِذَا اسْتَدَامَ مَجْلِسُهُ فِي جَمِيعِ النَّهَارِ فَشَهِدَ بَعْضُهُمْ فِي صَبَاحِهِ وَشَهِدَ بَعْضُهُمْ فِي مَسَائِهِ ، وَمَا أَفْضَى إِلَى هَذَا كَانَ اعْتِبَارُهُ مُطَّرَحًا ، وَلِأَنَّ تَفَرُّقَ الشُّهُودِ أَنْفَى لِلرِّيبَةِ وَأَمْنَعُ مِنَ التَّوَاطُؤِ وَالْمُتَابَعَةِ : لِأَنَّ الِاسْتِرَابَةَ بِالشُّهُودِ تَقْتَضِي تَفْرِيقًا لِيَخْتَبِرَ بِالتَّفْرِيقِ رُتْبَتَهُمْ ، فَكَانَ افْتِرَاقُهُمْ أَوْلَى أَنْ يُعْتَبَرَ مِنَ اجْتِمَاعِهِمْ . فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّهُ فِي صُورَةِ الْقَاذِفِ وَإِنْ لَمْ يُكْمِلِ الْعَدَدَ : فَهُوَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَاذِفًا لَمَا جَازَ أَنْ يُكْمِلَ بِهِ الْعَدَدَ : لِأَنَّ شَهَادَةَ الْقَاذِفِ غَيْرَ مَقْبُولَةٍ ، وَمَا ادَّعَوْهُ مِنْ تَأْثِيرِ الْمَجْلِسِ فِي الْعُقُودِ فَلَيْسَ يَصِحُّ : لِأَنَّ التَّأْثِيرَ فِيهَا يَكُونُ بِالتَّرَاخِي ، وَإِنْ كَانَ الْمَجْلِسُ وَاحِدًا ، وَالْقَبْضُ بِالصَّرْفِ هُوَ الْمُعْتَبِرُ بِالْمَجْلِسِ ، وَلَيْسَ الْقَبْضُ قَوْلًا فَيَعْتَبِرُ بِهِ الشَّهَادَةَ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِتَفَرُّقِ الْأَدَاءِ فَالْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّهُ لَوْ تَفَرَّقَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ لَمْ يَتِمَّ ، فَكَذَلِكَ فِي مَجْلِسَيْنِ . وَالْعَدَدُ لَوْ تَفَرَّقَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ تَمَّ ، فَكَذَلِكَ فِي مَجْلِسَيْنِ . وَأَمَّا اعْتِبَارُهُمْ بِتَغْلِيظِ الْإِقْرَارِ مِنْ وَجْهَيْنِ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ : لِأَنَّهُ لَا يَتَغَلَّظُ عِنْدَنَا بِالتَّكْرَارِ وَإِنْ تَغَلَّظَ عِنْدَهُمْ ، ثُمَّ لَا يَسْتَوِيَانِ عَلَى قَوْلِهِمْ : لِأَنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ تَكْرَارَ الْإِقْرَارِ فِي مَجَالِسَ فَإِنْ تَكَرَّرَ فِي مَجْلِسٍ لَمْ يَتِمَّ ، وَيَعْتَبِرُونَ أَعْدَادَ الشَّهَادَةِ فِي مَجْلِسٍ ، وَإِنْ كَانَ فِي مَجَالِسَ لَمْ يَتِمَّ . فَلَمْ يَسْلَمْ لَهُمْ مَعْنَى الْجَمْعِ فَبَطُلَ .
فَصْلٌ : وَتُسْمَعُ شَهَادَتُهُمْ عَلَى قَدِيمِ الزِّنَا وَحَدِيثِهِ ، وَيُحَدُّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِشَهَادَتِهِمْ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ عَلَى قَدِيمِ الزِّنَا ، وَلَا يُحَدُّ . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : جَهَدْتُ بِأَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يُوَقِّتَ لِلْمُتَقَدِّمِ وَقْتًا فَأَبَى . وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ : وَقَّتَهُ أَبُو حَنِيفَةَ بِسَنَةٍ ، فَإِنْ شَهِدَ قَبْلَهَا قُبِلَ ، وَإِنْ شَهِدَ بَعْدَهَا لَمْ يُقْبَلْ ، احْتِجَاجًا بِرِوَايَةِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّهُ قَالَ : أَيُّمَا شُهُودٍ شَهِدُوا عَلَى حَدٍّ لَمْ يَشْهَدُوا عِنْدَ حَضْرَتِهِ ، فَإِنَّمَا هُمْ شُهُودُ ضَغْنٍ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ . وَلِأَنَّ شُهُودَ الزِّنَا مُخَيَّرُونَ بَيْنَ إِقَامَتِهَا وَتَرْكِهَا ، فَإِنْ أَخَّرَهَا صَارَ تَارِكًا لَهَا ، وَالْعَائِدُ فِي الشَّهَادَةِ بَعْدَ تَرْكِهَا مُتَّهَمٌ ، وَشَهَادَةُ الْمُتَّهَمِ مَرْدُودَةٌ ، وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ مُعْتَبَرَةٌ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى قَوْلٍ وَعَدَدٍ كَالْعُقُودِ ، فَلَمَّا بَطُلَتِ الْعُقُودُ بِتَأْخِيرِ الْقَوْلِ وَافْتِرَاقِ الْعَدَدِ ، وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ بِمَثَابَتِهَا فِي إِبْطَالِهَا بِتَأْخِيرِ الْقَوْلِ وَافْتِرَاقِ الْعَدَدِ . وَدَلِيلُنَا : قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [ النُّورِ : 4 ] ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى عُمُومِ الْأَحْوَالِ فِي الْفَوْرِ وَالتَّرَاخِي ، وَلِأَنَّ كُلَّ شَهَادَةٍ قُبِلَتْ عَلَى الْفَوْرِ قُبِلَتْ عَلَى التَّرَاخِي كَالشَّهَادَةِ عَلَى سَائِرِ الْحُقُوقِ : وَلِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ مَا ثَبَتَ بِهِ الزِّنَا ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَبْطُلَ بِالتَّرَاخِي كَالْإِقْرَارِ . وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ فَهُوَ مُرْسَلٌ : لِأَنَّ عَمَّرَ لَمْ يَلْقَهُ وَخَالَفَهُ ، وَقَدْ خَالَفَ عُمَرُ هَذَا الْقَوْلِ فِي قِصَّةِ الْمُغِيرَةِ ، فَإِنَّهُ نَقَلَ الشُّهُودَ فِيهَا مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ ، وَسَمِعَهَا بَعْدَ تَطَاوُلِ الْمُدَّةِ وَعَلَى أَنَّ قَوْلَهُ : " لَمْ يَشْهَدُوا " مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَشْهَدُوا الْفِعْلَ ، فَلَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ شَهَادَتُهُمْ . وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِالتُّهْمَةِ ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ التُّهْمَةَ فِي الْمُبَادَرَةِ أَقْوَى مِنْهَا فِي التَّأْخِيرِ . رَوَى عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِذَا تَثَبَّتَّ أَصَبْتَ أَوْ كِدْتَ تُصِيبُ ، وَإِذَا اسْتَعْجَلْتَ أَخْطَأْتَ أَوْ كِدْتَ تُخْطِئُ . وَالثَّانِي : أَنَّ التُّهْمَةَ بِالْعَدَاوَةِ لَا تُوجِبُ عِنْدَهُ رَدَّ الشَّهَادَةِ ، وَإِنْ رُدَّتْ عِنْدَنَا ، وَلَوْ صَارَ مَتْهُومًا بِالتَّأْخِيرِ لَرُدَّتْ بِهِ فِي غَيْرِ الزِّنَا . وَأَمَّا اعْتِبَارُهُمْ بِالْعُقُودِ ، فَبَاطِلٌ بِسَائِرِ الشَّهَادَاتِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعُيُّ : " وَمَنْ رَجَعَ بَعْدَ تَمَامِ الشَّهَادَةِ حد الزنا لَمْ يُحَدَّ غَيْرُهُ . وَإِنْ لَمْ تَتِمَّ شُهُودُ الزِّنَا أَرْبَعَةً ، فَهُمْ قَذَفَةٌ يُحَدُّونَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : هَاتَانِ مَسْأَلَتَانِ ، وَالْأُولَى فِيهِمَا تَقْدِيمٌ لِلثَّانِيَةِ : لِأَنَّهَا أَصْلٌ لِلْأُولَى . وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ بِالزِّنَا أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةٍ ، إِمَّا أَنْ يَكُونُوا ثَلَاثَةً ، أَوِ اثْنَيْنِ ، أَوْ وَاحِدًا ، الْحُكْمُ فِيهِمْ سَوَاءٌ ، وَسَوَاءٌ حَضَرَ الرَّابِعُ فَتَوَقَّفَ أَوْ لَمْ يَحْضُرْ ، فَهَلْ يَصِيرُ الشُّهُودُ إِذَا لَمْ يَكْمُلُ عَدَدُهُمْ قَذَفَةً يُحَدُّونَ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : - وَهُوَ الْأَظْهَرُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي أَكْثَرِ كُتُبِهِ مِنْ قَدِيمٍ وَجَدِيدٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - أَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا قَذَفَةً يُحَدُّونَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : مُخَرَّجٌ مِنْ كَلَامٍ عَلَّقَهُ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ : أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِمْ ، وَيَكُونُوا عَلَى عَدَالَتِهِمْ ، وَلَا يَصِيرُوا قَذَفَةً بِنُقْصَانِ عَدَدِهِمْ ، فَإِذَا قِيلَ بِالْأَوَّلِ : أَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا قَذَفَةً يُحَدُّونَ . فَدَلِيلُهُ : قِصَّةُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ ، وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى الْبَصْرَةِ مِنْ قِبَلِ عُمَرَ ، وَكَانَ مِنْكَاحًا ، فَخَلَا بِامْرَأَةٍ فِي دَارٍ كَانَ يَنْزِلُهَا وَيَنْزِلُ مَعَهُ فِيهَا أَبُو بَكَرَةَ ، وَنَافِعٌ ، وَشِبْلُ بْنُ مَعْبَدٍ ، وَنُفَيْعٌ ، وَزِيَادُ بْنُ أُمَيَّةَ ، وَكَانَ جَمِيعُهُمْ مِنْ ثَقِيفٍ ، فَهَبَّتْ رِيحٌ فَتَحَتِ الْبَابَ عَنِ الْمُغِيرَةِ ، فَرَأَوْهُ عَلَى بَطْنِ الْمَرْأَةِ يَفْعَلُ بِهَا مَا يَفْعَلُ الزَّوْجُ بِزَوْجَتِهِ ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا تَقَدَّمَ الْمُغِيرَةُ فِي الْمَسْجِدِ لِيُصَلِّيَ فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكَرَةَ : تَنَحَّ عَنْ مُصَلَّانَا . وَانْتَشَرَتِ الْقِصَّةُ ، فَبَلَغَتْ عُمَرَ ، فَكَتَبُوا وَكَتَبَ أَنْ يُرْفَعُوا جَمِيعًا إِلَيْهِ ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَيْهِ حَضَرُوا مَجْلِسَهُ ، بَدَأَ أَبُو بَكَرَةَ فَشَهِدَ بِالزِّنَا وَوَصَفَهُ ، فَقَالَ عَلِيٌّ لِلْمُغِيرَةِ : ذَهَبَ رُبُعُكَ . ثُمَّ شَهِدَ بَعْدَهُ نَافِعٌ ، فَقَالَ عَلِيٌّ لِلْمُغِيرَةِ : ذَهَبَ نِصْفُكَ . ثُمَّ شَهِدَ بَعْدَهُ شِبْلُ بْنُ مَعْبَدٍ ، فَقَالَ عَلِيٌّ لِلْمُغِيرَةِ : ذَهَبَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِكَ . وَقَالَ عُمَرُ : أَوَدُّ الْأَرْبَعَةَ . وَأَقْبَلَ زِيَادٌ لِيَشْهَدَ ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : إِيهًا يَا سَرْحَ الْعُقَابِ ، قُلْ مَا عِنْدَكَ أَوْ أَرْجُو أَنْ لَا يَفْضَحَ اللَّهُ عَلَى يَدَيْكَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَتَنَبَّهَ زِيَادٌ فَقَالَ : رَأَيْتُ أَرْجُلًا مُخْتَلِفَةً ، وَأَنْفَاسًا عَالِيَةً ، وَرَأَيْتُهُ عَلَى بَطْنِهَا ، وَأَنَّ رِجْلَيْهَا عَلَى كَتِفَيْهِ كَأَنَّهُمَا أُذُنَا حِمَارٍ ، وَلَا أَعْلَمُ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ . فَقَالَ عُمَرُ : اللَّهُ أَكْبَرُ ، يَا أَخِي قُمْ فَاجْلِدْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ ، فَجُلِدُوا جَلْدَ الْقَذْفِ ، وَقَالَ عُمَرُ لِأَبِي بَكَرَةَ : تُبْ أَقْبَلْ شَهَادَتَكَ . فَقَالَ : وَاللَّهِ لَا أَتُوبُ ، وَاللَّهِ لَقَدْ زَنَا ، وَاللَّهِ لَقَدْ زَنَا . فَهَمَّ عُمَرُ بِجَلْدِهِ ، فَقَالَ عَلِيٌّ : إِنْ جَلَدْتَهُ ، رَجَمْتُ صَاحِبَكُمَا . وَفِي هَذَا الْقَوْلِ مِنْهُ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : إِنْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ غَيْرَ الْأَوَّلِ ، فَقَدْ كَمُلَتِ الشَّهَادَةُ فَارْجُمْ صَاحِبَكَ ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْأَوَّلُ فَقَدْ جُلِدَ فِيهِ . وَالثَّانِي : مَعْنَاهُ أَنَّكَ إِنْ جَلَدْتَهُ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ فَارْجُمْ صَاحِبَكَ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ ، فَصَارَتْ إِجْمَاعًا . فَاعْتَرَضَ طَاعِنٌ عَلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : إِنْ قَالَ : لَمَّا عَرَّضَ عُمَرُ لِزِيَادٍ أَنْ لَا يَسْتَوْفِيَ شَهَادَتَهُ ، وَفِيهَا إِسْقَاطٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَإِضَاعَةٌ لِحُدُودِهِ . وَالْجَوَابُ عَنْهُ : أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اتَّبَعَ فِي ذَلِكَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّعْرِيضِ بِمَا يَدْرَأُ بِهِ الْحُدُودَ ، فَإِنَّهُ عَرَّضَ لِمَاعِزٍ حِينَ أَقَرَّ عِنْدَهُ بِالزِّنَا فَقَالَ : " لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ ، لَعَلَّكَ لَامَسْتَ " لِيَرْجِعَ عَنْ إِقْرَارِهِ ، كَذَلِكَ فَعَلَ عُمَرُ فِي تَعْرِيضِهِ لِلشَّاهِدِ أَنْ لَا يَسْتَكْمِلَ الشَّهَادَةَ : لِأَنَّ جَنْبَ الْمُؤْمِنِ حِمًى .
وَالِاعْتِرَاضُ الثَّانِي : قَالَ : لِمَ عَرَّضَ عُمَرُ بِمَا أَسْقَطَ بِهِ الْحَدَّ عَنِ الْمُغِيرَةِ ، وَهُوَ وَاحِدٌ وَأَوْجَبَ بِهِ الْحَدَّ عَلَى الشُّهُودِ وَهُمْ ثَلَاثَةٌ ؟ فَقِيلَ : عَنْهُ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَمَّا تَرَدَّدَ الْأَمْرُ بَيْنَ قَتْلٍ وَجَلْدٍ ، كَانَ إِسْقَاطُ الْقَتْلِ بِالْجَلْدِ أَوْلَى مِنْ إِسْقَاطِ الْجَلْدِ بِالْقَتْلِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا خَالَفَ الشُّهُودُ مَا نُدِبُوا إِلَيْهِ مِنْ سِتْرِ الْعَوْرَاتِ ، وَخَالَفُوا قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " هَلَّا سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ يَا هَزَّالُ " كَانُوا بِالتَّغْلِيظِ أَحَقَّ مِنْ غَيْرِهِمْ . وَالثَّالِثِ : أَنَّ رَجْمَ الْمُغِيرَةِ لَمْ يَجِبْ إِلَّا أَنْ تَتِمَّ شَهَادَتُهُمْ ، وَجَلْدُهُمْ قَدْ وَجَبَ مَا لَمْ تَتِمَّ شَهَادَتُهُمْ ، فَكَانَ إِسْقَاطُ مَا لَمْ يَجِبْ أَوْلَى مِنْ إِسْقَاطِ مَا وَجَبَ . الِاعْتِرَاضُ الثَّالِثُ : إِنْ قَالُوا : إِنَّ الصَّحَابَةَ عُدُولٌ ، وَهَذِهِ الصِّفَةُ لَا تَخْلُو مِنْ جَرْحِ بَعْضِهِمْ وَفِسْقِهِ : لِأَنَّهُمْ إِنْ صَدَقُوا فِي الشَّهَادَةِ فَالْمُغِيرَةُ زَانٍ ، وَالزِّنَا فِسْقٌ ، وَإِنْ كَذَبُوا فَهُمْ قَذَفَةٌ ، وَالْقَذْفُ فِسْقٌ . قِيلَ : هَذِهِ الصِّفَةُ لَا تَمْنَعُ مِنْ عَدَالَةِ جَمِيعِهِمْ ، وَالْخَلَاصُ مِنْ قَدْحٍ يَعُودُ عَلَى بَعْضِهِمْ ، أَمَّا الْمُغِيرَةُ وَهُوَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فَقَدْ قِيلَ : إِنَّهُ نَكَحَهَا سِرًّا فَلَمْ يَذْكُرُوهُ لِعُمَرَ : لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى نِكَاحَ السِّرِّ وَيَحُدُّ فِيهِ ، وَكَانَ يَتَبَسَّمُ عِنْدَ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ : لَأَنْ أَعْجَبَ مِمَّا أُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَهُ بَعْدَ كَمَالِ شَهَادَتِهِمْ . فَقِيلَ : وَمَا تَفْعَلُ ؟ قَالَ : أُقِيمُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا زَوْجَتِي . وَأَمَّا الشُّهُودُ فَلِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِظَاهِرِ مَا شَاهَدُوا ، فَسَلِمَ جَمَاعَتُهُمْ مِنْ جَرْحٍ وَتَفْسِيقٍ ، وَلِذَلِكَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى قَبُولِ أَخْبَارِهِمْ فِي الدِّينِ ، وَأَثْبَتُوا أَحَادِيثَهُمْ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَإِنْ كَانَ أَبُو بَكَرَةَ إِذَا أُتِيَ بِكِتَابٍ لَمْ يَشْهَدْ فِيهِ ، وَقَالَ : إِنَّ الْقَوْمَ فَسَّقُونِي . وَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ ثِقَةً بِنَفْسِهِ ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ مِنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الشُّهُودِ إِذَا لَمْ يَكْمُلْ عَدَدُهُمْ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الشَّهَادَةَ بِالزِّنَا أَغْلَظُ مِنْ لَفْظِ الْقَذْفِ بِالزِّنَا ، لِأَنَّهُ يَقُولُ فِي الْقَذْفِ : زَنَيْتُ . وَلَا يَصِفُ الزِّنَا ، وَيَقُولُ فِي الشَّهَادَةِ : أَشْهَدُ أَنَّكَ زَنَيْتُ وَيَصِفُ الزِّنَا ، وَالْقَذْفُ لَا يُوجِبُ حَدَّ الْمَقْذُوفِ ، وَالشَّهَادَةُ تُوجِبُ حَدَّ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ، وَلَمَّا كَانَتِ الشَّهَادَةُ أَغْلَظَ مِنَ الْقَذْفِ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ كَانَتْ بِوُجُوبِ الْحَدِّ إِذَا لَمْ تَتِمَّ أَوْلَى . وَالثَّانِي : أَنَّ سُقُوطَ الْحَدِّ عَنْهُمْ ذَرِيعَةٌ إِلَى تَسَرُّعِ النَّاسِ إِلَى الْقَذْفِ إِذَا أَرَادُوهُ أَنْ يُخْرِجُوهُ مَخْرَجَ الشَّهَادَةِ حَتَّى لَا يُحَدُّوا ، وَفِي حَدِّهِمْ صِيَانَةُ الْأَعْرَاضِ عَنْ تَوَقِّي الْقَذْفِ فَكَانَ أَوْلَى وَأَحَقَّ . وَإِنْ قِيلَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّهُمْ عَلَى عَدَالَتِهِمْ لَا يُحَدُّونَ ، فَدَلِيلُهُ : قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [ النُّورِ : 14 ] فَفَرَّقَ بَيْنَ الْقَذَفَةِ وَالشُّهُودِ ، فَدَلَّ عَلَى افْتِرَاقِهِمْ فِي الْحُدُودِ ، وَلِأَنَّ الْقَذْفَ مَعَرَّةٌ ، وَالشَّهَادَةُ إِقَامَةُ حَقٍّ ، وَلِذَلِكَ إِذَا أَكْثَرَ الْقَذْفَةُ حُدُّوا ، وَلَوْ كَثُرَ الشُّهُودُ لَمْ يُحَدُّوا ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ وُقُوعَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمْ إِذَا قَلُّوا ، كَمَا وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمْ إِذَا كَثُرُوا ، وَلِأَنَّ حُكْمَ كُلِّ
وَاحِدٍ مِنَ الشُّهُودِ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ مُعْتَبَرٌ بِنَفْسِهِ لَا بِغَيْرِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ تَأْخِيرُ غَيْرِهِ عَنِ الشَّهَادَةِ مُوجِبًا لِفِسْقِهِ ، وَلِأَنَّ حَدَّ الشُّهُودِ - إِذَا لَمْ يَكْمُلُوا - مُفْضٍ إِلَى كَتْمِ الشَّهَادَةِ : خَوْفًا أَنْ يُحُدُّوا إِنْ لَمْ يُكْمِلُوا ، فَتُكْتَمُ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا تُؤَدَّى ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [ الْبَقَرَةِ : 283 ] ، فَهَذَا تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فِيهِمْ إِذَا نَقَصَ عَدَدُهُمْ ، وَكَمُلَتْ فِي الْعَدَالَةِ أَوْصَافُهُمْ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا كَمُلَ عَدَدُهُمْ وَنَقَصَتْ أَوْصَافُهُمْ فَشَهِدَ عَلَيْهِ بِالزِّنَا أَرْبَعَةٌ فَكَانُوا عَبِيدًا ، أَوْ فُسَّاقًا ، أَوْ أَعْدَاءً ، لَا تُقْبَلُ عَلَيْهِ شَهَادَتُهُمْ ، وَلَمْ يُجْلَدْ بِهِمُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي رَدِّهِمْ بِنُقْصَانِ الصِّفَةِ مَعَ كَمَالِ الْعَدَدِ ، هَلْ يَجْرِي مَجْرَى رَدِّهِمْ بِنُقْصَانِ الْعَدَدِ مَعَ كَمَالِ الصِّفَةِ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُمَا سَوَاءٌ ، وَأَنَّ كُلَّ مَا مَنَعَ مِنَ الْحُكْمِ بِالشَّهَادَةِ مِنْ نُقْصَانِ عَدَدٍ أَوْ نُقْصَانِ صِفَةٍ ، هَلْ يَصِيرُ الشُّهُودُ بِهِ قَذَفَةً يُحَدُّونَ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ لَمْ تُوجِبِ الْحُكْمَ بِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُمَا مُخْتَلَفَانِ فَلَا يَصِيرُوا بِنُقْصَانِ الصِّفَةِ مَعَ كَمَالِ الْعَدَدِ قَذَفَةً ، وَلَا يُحَدُّونَ ، وَإِنْ صَارُوا بِنُقْصَانِ الْعَدَدِ مَعَ كَمَالِ الصِّفَةِ قَذَفَةً وَحُدُّوا فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، لِأَنَّ نُقْصَانَ الْعَدَدِ نَصٌّ ، وَنُقْصَانُ الصِّفَةِ اجْتِهَادٌ ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : حَكَاهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ : أَنَّهُ إِنْ كَانَ الرَّدُّ بِنُقْصَانِ الصِّفَةِ أَمْرًا ظَاهِرًا كَالرِّقِّ وَالْفِسْقِ الظَّاهِرِ ، جَرَى مَجْرَى نُقْصَانِ الْعَدَدِ ، هَلْ يَصِيرُونَ قَذَفَةً يُحَدُّونَ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . فَإِنْ كَانَ نُقْصَانُ الصِّفَةِ بِأَمْرٍ خَفِيٍّ كَالْفِسْقِ الْخَفِيِّ وَالْعَدَاوَةِ الْخَفِيَّةِ ، كَانَ مُخَالِفًا لِنُقْصَانِ الْعَدَدِ فَلَمْ يَصِيرُوا بِهِ قَذَفَةً ، وَلَمْ يُحَدُّوا قَوْلًا وَاحِدًا : لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْهُ كَالنَّصِّ تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ قَبْلَ سَمَاعِهَا ، وَالْخَفِيُّ مِنْهُ اجْتِهَادٌ تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ بَعْدَ سَمَاعِهَا فَافْتَرَقَا .
فَصْلٌ : وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ فِي نُقْصَانِ الْعَدَدِ وَنُقْصَانِ الصِّفَةِ فَرْعَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكْمُلَ عَدَدُهُمْ وَتُكْمُلَ صِفَةُ بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ ، كَأَرْبَعَةٍ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا وَفِيهِمْ عَبْدٌ ، أَوْ فَاسِقٌ وَبَاقِيهِمْ عُدُولٌ ، فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ نُقْصَانَ الْعَدَدِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ فَهُوَ أَوْلَى ، وَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ مُوجِبٌ الْحَدَّ فَفِي هَذَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : وَهُوَ الْأَصَحُّ ، أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى جَمِيعِهِمْ : لِقُوَّةِ الشَّهَادَةِ بِكَمَالِ الْعَدَدِ وَبِكَمَالِ صِفَةِ الْأَكْثَرِينَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُحَدُّ جَمِيعُهُمْ لِرَدِّ شَهَادَتِهِمْ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : يُحَدُّ مَنْ نَقَصَتْ صِفَتُهُ بِالرِّقِّ وَالْفِسْقِ ، وَلَا يُحَدُّ مَنْ كَمُلَتْ صِفَتُهُ
بِالْعَدَالَةِ : لِلُحُوقِ الظِّنَّةِ بِالْفَاسِقِ ، وَانْتِفَائِهَا عَنِ الْعَدْلِ . وَالْفَرْعُ الثَّانِي : أَنْ يَكْمُلَ عَدَدُهُمْ وَتَكْمُلَ صِفَتُهُمْ فَتُرَدُّ شَهَادَتُهُمْ ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تُرَدَّ لِتَكَاذُبٍ فِيهَا وَتَعَارُضٍ ، وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ اثْنَانِ مِنْهُمْ أَنَّهُ زَنَا بِهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِبَغْدَادَ ، وَيَشْهَدُ الْآخَرَانِ أَنَّهُ زَنَا بِهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِالْبَصْرَةِ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ رَدَّ الشُّهُودِ مِنْ غَيْرِ تَكَاذُبٍ مُوجِبٌ الْحَدَّ ، فَوَجَبَ بِهِ مَعَ التَّكَاذُبِ أَوْلَى . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ ، فَفِي رَدِّهِمْ بِالتَّكَاذُبِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : يُحَدُّونَ جَمِيعًا لِلْقَطْعِ بِالْكَذِبِ فِي شَهَادَتِهِمْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يُحَدُّونَ جَمِيعًا : لِأَنَّ الْكَذِبَ لَمْ يَتَعَيَّنْ فِي إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنْ يُحَدَّ الْأَخِيرَانِ : لِتَقَدُّمِ إِكْذَابِ الْأَوَّلَيْنِ لَهُمَا قَبْلَ شَهَادَتِهِمَا ، وَلَا يُحَدُّ الْأَوَّلَانِ : لِحُدُوثِ إِكْذَابِ الْآخَرَيْنِ لَهُمَا بَعْدَ شَهَادَتِهِمَا ، وَهَذَا صَحِيحٌ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُمْ : لِاخْتِلَافِ الزِّنَا مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى وُجُودِهِ مِنْهُمَا ، وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ اثْنَانِ مِنْهُمْ أَنَّهُ زَنَا بِهَا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ ، وَيَشْهَدُ الْآخَرَانِ أَنَّهُ زَنَا بِهَا فِي يَوْمِ السَّبْتِ ، أَوْ يَشْهَدُ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَا بِهَا فِي الدَّارِ ، وَيَشْهَدُ آخَرَانِ أَنَّهُ زَنَا بِهَا فِي الْبَيْتِ ، فَلَيْسَ فِي هَذَا تَكَاذُبٌ : لِأَنَّهُمَا فِعْلَانِ لَمْ تَكْمُلِ الشَّهَادَةُ بِأَحَدِهِمَا فَلَمْ يُحَدَّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ . فَأَمَّا حَدُّ الشُّهُودِ ، فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ نُقْصَانَ الْعَدَدِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْحَدِّ فَهَذَا أَوْلَى . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ ، فَفِي وُجُوبِهِ هَاهُنَا وَجْهَانِ : أْحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَجِبُ الْحَدُّ عَلَيْهِمْ : لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَمْ تُكْمَلْ بِهِمْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا حَدَّ عَلَيْهِمْ : لِكَمَالِ الشَّهَادَةِ بِالزِّنَا وَإِنِ اخْتَلَفَتْ ، فَصَارَتْ كَامِلَةً فِي سُقُوطِهِ الْعِفَّةُ وَإِنْ لَمْ تُكْمَلْ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : مَا اخْتُلِفَ فِي رَدِّ شَهَادَتِهِمْ بِهِ ، وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ اثْنَانِ مِنْهُمْ أَنَّهُ أَكْرَهَهَا عَلَى الزِّنَا ، وَيَشْهَدُ الْآخَرَانِ أَنَّهَا طَاوَعَتْهُ عَلَى الزِّنَا ، فَلَا حَدَّ عَلَى الْمَرْأَةِ : لِأَنَّهَا تَحَدُّ بِالْمُطَاوَعَةِ دُونَ الْإِكْرَاهِ ، وَلَمْ تَكْمُلِ الشَّهَادَةُ عَلَيْهَا بِالْمُطَاوَعَةِ ، فَسَقَطَ الْحَدُّ عَنْهَا . وَأَمَّا الرَّجُلُ فَفِي وُجُوبِ حَدِّهِ بِشَهَادَتِهِمْ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ فِي " جَامِعِهِ " . أَحَدُهُمَا : لَا يُحَدُّ : لِأَنَّ اخْتِلَافَ الصِّفَةِ كَاخْتِلَافِ الْفِعْلِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُحَدُّ : لِاتِّفَاقِهِمْ فِي الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ بِزِنًا وَاحِدٍ يُوجِبُ الْحَدَّ ، وَلَيْسَ فِيهَا تَعَارُضٌ : لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ يَكُونُ فِي أَوَّلِ الْفِعْلِ ، وَالْمُطَاوَعَةَ فِي آخِرِهِ . فَعَلَى هَذَا : إِنْ حُكِمَ بِشَهَادَتِهِمْ فِي حَدِّ الرَّجُلِ ، لَمْ يُحَدُّوَا فِي حَقِّ الرَّجُلِ وَلَا فِي الْمَرْأَةِ لِثُبُوتِهَا ، وَإِنْ لَمْ يُحْكَمْ
بِشَهَادَتِهِمْ فِي حَدِّ الرَّجُلِ ، جَازَ الْحُكْمُ فِي وُجُوبِ حَدِّهِمْ ، كَالضَّرْبِ الثَّانِي إِنْ قِيلَ : إِنَّهُمْ لَا يُحَدُّونَ إِذَا نَقَصُوا ، فَهَؤُلَاءِ أَوْلَى أَنْ لَا يُحَدُّوا . وَإِنْ قِيلَ : يُحَدُّونَ إِذَا نَقَصُوا ، فَفِي وُجُوبِ حَدِّ هَؤُلَاءِ وَجْهَانِ : فَإِنْ قُلْنَا : لَا حَدَّ عَلَيْهِمْ . فَلَا مَسْأَلَةَ . وَإِنْ قُلْنَا : الْحَدُّ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ حَدُّ شَاهِدِ الْإِكْرَاهِ فِي حَقِّ الرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ ، وَحَدُّ شَاهِدِ الْمُطَاوَعَةِ فِي حَقِّ الرَّجُلِ وَحَقِّ الْمَرْأَةِ ، وَهُوَ قَذْفٌ لَهُمَا بِزِنًا وَاحِدٍ ، فَهَلْ يَحُدُّونَ لَهُمَا حَدًّا وَاحِدًا أَوْ حَدَّيْنِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الْقَدِيمُ : يُحَدُّونَ حَدًّا وَاحِدًا : لِأَنَّ الزِّنَا وَاحِدٌ . وَالثَّانِي : وَهُوَ الْجَدِيدُ : يُحَدُّونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدًّا مُفْرَدًا : لِأَنَّهُ مَقْذُوفٌ فِي عَيْنِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الْمَسْطُورَةُ أَوَّلُهُ فَصُورَتُهَا فِي أَرْبَعَةٍ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا ، ثُمَّ رَجَعَ أَحَدُهُمْ عَنْ شَهَادَتِهِ بَعْدَ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمْ ، وَقَبْلَ إِقَامَةِ الْحَدِّ بِهَا ، سَقَطَ الْحَدُّ عَنِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ، وَحُدَّ مِنَ الشُّهُودِ الرَّاجِعُ عَنْ شَهَادَتِهِ : لِاعْتِرَافِهِ بِالْقَذْفِ ، وَلَمْ يُحَدَّ مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْهَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : حُدَّ مَنْ رَجَعَ ، وَمَنْ لَمْ يَرْجِعْ : إِلَّا أَنْ يَكُونَ رُجُوعُهُ بَعْدَ إِقَامَةِ الْحَدِّ ، فَيُحَدُّ الرَّاجِعُ وَحْدَهُ : احْتِجَاجًا بِأَنَّ نُقْصَانَ الْعَدَدِ فِي الِانْتِهَاءِ كَنُقْصَانِهِ فِي الِابْتِدَاءِ فِي سُقُوطِ حَدِّ الزِّنَا ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِمَثَابَتِهِ فِي وُجُوبِ حَدِّ الْقَذْفِ . وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ : هُوَ أَنَّ مَنْ وَجَبَ الْحَدُّ بِشَهَادَتِهِ لَمْ يُحَدَّ إِذَا أَقَامَ عَلَى شَهَادَتِهِ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَرْجِعْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ ، وَلِأَنَّ نُقْصَانَ الْعَدَدِ بَعْدَ كَمَالِهِ لَا يُوجِبُ حَدَّ مَنْ بَقِيَ ، كَمَا لَوْ مَاتَ بَعْضُهُمْ أَوْ فُسِّقَ قَبْلَ إِقَامَةِ الْحَدِّ . وَهَذَا أَلْزَمُ لِأَبِي حَنِيفَةَ : لِأَنَّهُ يَقُولُ : لَوْ مَاتَ أَحَدُهُمْ لَمْ يُحَدَّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ عِنْدَهُ ، وَلَمْ يُحَدَّ الْبَاقُونَ مِنَ الشُّهُودِ ، وَيُحَدُّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا ، وَلَا يُحَدُّ الشُّهُودُ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ نُقْصَانِ الْعَدَدِ مِنَ الِابْتِدَاءِ وَنُقْصَانِهِ فِي الِانْتِهَاءِ : أَنَّ التَّحَرُّزَ مِنْ نُقْصَانِهِ فِي الِابْتِدَاءِ مُمْكِنٌ ، وَالتَّحَرُّزُ مِنْ نُقْصَانِهِ فِي الِانْتِهَاءِ غَيْرُ مُمْكِنٍ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حُكْمِ الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا إِذَا لَمْ يَجِبْ بِهَا حَدُّ الزِّنَا ، وَفِي وُجُوبِ حَدِّ الْقَذْفِ عَلَى الشُّهُودِ أَوْ سُقُوطِهِ عَنْهُمْ عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ . فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِمْ ، كَانُوا عَلَى عَدَالَتِهِمْ فِي سَمَاعِ شَهَادَتِهِمْ وَقَبُولِ خَبَرِهِمْ . وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ الْحَدَّ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ ، لَمْ تُسْمَعْ شَهَادَتُهُمْ : لِأَنَّهُ لَا يُحَدُّ لِلْقَذْفِ إِلَّا قَاذِفٌ ، وَالْقَاذِفُ لَا تُسْمَعُ شَهَادَتُهُ حَتَّى يَتُوبَ ، وَبِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَبِي بَكْرَةَ : " تُبْ أَقْبَلْ شَهَادَتَكَ " . فَأَمَّا قَبُولُ أَخْبَارِهِمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفِيهِ وَجْهَانِ :
أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيِّ أَنَّ أَخْبَارَهُمْ مَقْبُولَةٌ : لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَبِلُوا رِوَايَاتِ أَبِي بَكْرَةَ ، وَمَنْ حُدَّ مَعَهُ وَلَمْ يَقْبَلُوا شَهَادَتَهُمْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَقْيَسُ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ أَخْبَارُهُمْ كَمَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ : لِأَنَّ مَا جُرِحَ فِي تَعْدِيلِ الشَّهَادَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْحُقُوقِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يُجْرَحَ فِي تَعْدِيلِ الرِّوَايَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالدِّينِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِنْ رُجِمَ بِشَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ ثُمَّ رَجَعَ أَحَدُهُمْ سَأَلْتُهُ ، فَإِنْ قَالَ : عَمَدْتُ أَنْ أَشْهَدَ بِزُورٍ مَعَ غَيْرِي لِيُقْتَلَ ، فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ . وَإِنْ قَالَ : شَهَدْتُ وَلَا أَعْلَمُ عَلَيْهِ الْقَتْلَ أَوْ غَيْرَهُ . أُحْلِفَ وَكَانَ عَلَيْهِ رُبُعُ الدِّيَةِ وَالْحَدُّ ، وَكَذَلِكَ إِنْ رَجَعَ الْبَاقُونَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَحُدَّ بِشَهَادَتِهِمْ ثُمَّ رَجَعُوا عَنِ الشَّهَادَةِ ، فَقَدْ صَارُوا بِالرُّجُوعِ قَذَفَةً وَيُحَدُّونَ ، وَلَا يَخْلُو حَالُ مَا أُقِيمَ بِشَهَادَتِهِمْ مِنَ الْحَدِّ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ رَجْمًا ، أَوْ جَلْدًا ، فَإِنْ كَانَ رَجْمًا ضَمِنُوا بِالرُّجُوعِ نَفْسَ الْمَرْجُومِ ، وَسُئِلُوا عَنْ شَهَادَتِهِمْ هَلْ عَمَدُوا الْكَذِبَ فِيهَا لِيُقْتَلَ أَوْ لَمْ يَعْمَدُوهُ ؟ وَلَهُمْ فِي الْجَوَابِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَقُولُوا : أَخْطَأْنَا جَمِيعًا . فَعَلَيْهِمْ دِيَةُ الْخَطَأِ مُؤَجَّلَةٌ فِي أَمْوَالِهِمْ لَا عَلَى عَوَاقِلِهِمْ : لِأَنَّهَا عَنِ اعْتِرَافٍ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَقُولُوا : عَمَدْنَا وَلَمْ نَعْلَمْ أَنَّهُ يُقْتَلُ وَظَنَنَّاهُ بِكْرًا . فَعَلَيْهِمْ دِيَةُ شِبْهِ الْعَمْدِ ، وَلَا قَوَدَ ، وَتَكُونُ فِي أَمْوَالِهِمْ دُونَ عَوَاقِلِهِمْ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَقُولُوا عَمَدْنَا لِيُقْتَلَ . فَعَلَيْهِمُ الْقَوَدُ ، فَإِنْ عَفَا عَنْهُ فَدِيَةُ الْعَمْدِ الْمَحْضِ فِي أَمْوَالِهِمْ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : عَلَيْهِمُ الدِّيَةُ دُونَ الْقَوَدِ ، وَالْكَلَامُ مَعَهُ يَأْتِي فِي الشَّهَادَاتِ . وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَقُولُوا عَمَدَ بَعْضُنَا وَأَخْطَأَ بَعْضُنَا فَلَا قَوَدَ عَلَى الْعَامِدِ وَلَا عَلَى الْخَاطِئِ : لَكِنْ عَلَى الْعَامِدِ دِيَةُ الْعَمْدِ ، وَعَلَى الْخَاطِئِ دِيَةُ الْخَطَأِ مُؤَجَّلَةٌ .
فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الْحَدُّ جَلْدًا فَلَمْ يُؤَثِّرِ الْجَلْدُ فِي بَدَنِهِ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الشُّهُودِ . وَإِنْ أَثَّرَ فِي بَدَنِهِ فَأَنْهَرَ دَمًا وَأَحْدَثَ جُرْحًا ، ضَمِنَهُ الشُّهُودُ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَضْمَنُونَ أَثَرَ الْجَلْدِ وَمَا حَدَثَ مِنْهُ ، وَإِنْ ضَمِنُوا دِيَةَ النَّفْسِ فِي الرَّجْمِ : لِأَنَّ الشَّهَادَةَ أَوْجَبَتِ الرَّجْمَ فَضَمِنُوهُ ، وَلَمْ تُوجِبْ أَثَرَ الْجَلْدِ فَلَمْ يَضْمَنُوهُ . وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّهَا جِنَايَةٌ حَدَثَتْ عَنْ شَهَادَتِهِمْ ، فَوَجَبَ أَنْ تَلْزَمَهُمْ غُرْمُهَا كَالنَّفْسِ ، وَلِأَنَّ مَا ضُمِّنَ بِهِ النَّفْسُ ضُمِنَ بِهِ مَا دُونَهَا كَالْمُبَاشِرَةِ . وَمَا اسْتُدِلَّ بِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ : لِأَنَّ
السَّرَايَةَ مَضْمُونَةٌ كَالْجِنَايَةِ ، فَهَذَا حُكْمُ رُجُوعِهِمْ جَمِيعًا ، فَأَمَّا إِذَا رَجَعَ أَحَدُهُمْ فَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَيُنْظَرُ ، فَإِنْ قَالَ : عَمَدْتُ وَعَمَدَ أَصْحَابِي . وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ دُونَهُمْ . وَإِنْ قَالَ : أَخْطَأْتُ . أَوْ قَالَ : عَمَدْتُ وَأَخْطَأَ أَصْحَابِي . فَعَلَيْهِ رُبُعُ الدِّيَةِ دُونَ الْقَوَدِ . وَلَوْ رَجَعَ اثْنَانِ وَجَبَ عَلَيْهِمَا نِصْفُ الدِّيَةِ . وَلَوْ رَجَعَ ثَلَاثَةٌ كَانَ عَلَيْهِمْ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ .
فَصْلٌ : وَإِذَا شَهِدَ سِتَّةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَرُجِمَ ، ثُمَّ رَجَعَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ أَوِ اثْنَانِ ، وَبَقِيَ بَعْدَ الرَّاجِعِ بَيِّنَةٌ كَامِلَةٌ ، فَفِي ضَمَانِ الرَّاجِعِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الْأَصَحُّ ، وَرَوَاهُ الْبُوَيْطِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ : لِبَقَاءِ بَيِّنَةٍ يَجِبُ بِهَا الرَّجْمُ ، فَصَارَ رُجُوعُهُ كَعَدَمِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : حَكَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ : أَنَّ الرَّاجِعَ يُضْمَنُ مَعَ بَقَاءِ الْبَيِّنَةِ : لِأَنَّهُ رُجِمَ بِشَهَادَةِ جَمِيعِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَعَيَّنَ فِي الشَّهَادَةِ بَعْضَهُمْ . فَعَلَى هَذَا : إِنْ كَانَ الرَّاجِعُ مِنَ السِّتَّةِ وَاحِدًا فَعَلَيْهِ سُدُسُ الدِّيَةِ : لِأَنَّهُ وَاحِدٌ مِنْ سِتَّةٍ . وَلَوْ رَجَعَ اثْنَانِ ، فَعَلَيْهِمَا ثُلُثُ الدِّيَةِ . وَلَكِنْ لَوْ رَجَعَ مِنَ السِّتَّةِ ثَلَاثَةٌ ضَمَنُوا ، لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمَذْهَبُ : لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ رُجُوعِهِمْ بَيِّنَةٌ كَامِلَةٌ ، وَفِي قَدْرِ مَا يَضْمَنُونَهُ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ : عَلَى الثَّلَاثَةِ رُبُعُ الدِّيَةِ : لِأَنَّ الْبَاقِيَ مِنَ الْبَيِّنَةِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : - وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَنْصُوصِ الْبُوَيْطِيِّ عَنِ الشَّافِعِيِّ - أَنَّ عَلَيْهِمْ نِصْفَ الدِّيَةِ : لِرُجُوعِ نِصْفِ الشُّهُودِ . وَلَوْ رَجَعَ مِنَ السِّتَّةِ أَرْبَعَةٌ ، فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ : عَلَيْهِمْ نِصْفُ الدِّيَةِ اعْتِبَارًا بِعَدَدِ مَنْ بَقِيَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : عَلَيْهِمْ ثُلُثَا الدِّيَةِ اعْتِبَارًا بِعَدَدِ مَنْ رَجَعَ .
فَصْلٌ : وَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا ، وَشَهِدَ اثْنَانِ بِإِحْصَانِهِ ، ثُمَّ رَجَعَ شَاهِدَا الْإِحْصَانِ دُونَ شُهُودِ الزِّنَا ، فَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِمَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ : لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا : لِأَنَّهُ رُجِمَ بِالزِّنَا لَا بِالْإِحْصَانِ ، فَلَمْ يَلْزَمْ شُهُودَ الْإِحْصَانِ ضَمَانٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ ، وَحَكَاهُ أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ فِي جَامِعِهِ عَنِ الْمُزَنِيِّ أَنَّ عَلَيْهِمَا الضَّمَانَ : لِأَنَّهُ لَوْلَا شَهَادَتُهُمَا بِالْإِحْصَانِ لَمْ يُرْجَمْ . وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : إِنْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ بِالْإِحْصَانِ قَبْلَ الشَّهَادَةِ بِالزِّنَا لَمْ
يَضْمَنُ شُهُودُ الْإِحْصَانِ ، وَإِنْ كَانَتْ بَعْدَهَا ضَمِنُوا . وَلِقَوْلِهِ وَجْهٌ ، فَعَلَى هَذَا : إِذَا ضُمِنَ شَاهِدَا الْإِحْصَانِ ، فَفِي قَدْرِ الضَّمَانِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : ثُلُثُ الدِّيَةِ ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ رِوَايَةِ الْمُزَنِيِّ اعْتِبَارًا بِأَعْدَادِ الْجَمْعِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : نِصْفُ الدِّيَةِ ، اعْتِبَارًا بِأَنَّهُمَا أَحَدُ خَبَرَيْنِ ، وَلَوْ رَجَعَ شُهُودُ الزِّنَا الْأَرْبَعَةُ ، وَلَمْ يَرْجِعْ شَاهِدَا الْإِحْصَانِ ضَمِنُوا . وَفِي قَدْرِ مَا يَلْزَمُهُمْ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : جَمِيعُ الدِّيَةِ ، إِذَا قِيلَ : إِنَّ شُهُودَ الْإِحْصَانِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَضْمَنُونَ ثُلُثَيِ الدِّيَةِ ، إِذَا قِيلَ : إِنَّ شَاهِدَيِ الْإِحْصَانِ يَضْمَنَانِ الثُّلُثَ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : لَوْ رَجَعَ وَاحِدٌ مِنْ شُهُودِ الزِّنَا ، وَوَاحِدٌ مِنْ شُهُودِ الْإِحْصَانِ ، فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ عَلَى شَاهِدِ الزِّنَا رُبُعَ الدِّيَةِ ، وَلَا شَيْءَ عَلَى شَاهِدَيِ الْإِحْصَانِ ، إِذَا قِيلَ بِخُرُوجِهِمْ عَنِ الضَّمَانِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ عَلَى شَاهِدِ الزِّنَا سُدُسُ الدِّيَةِ ، وَعَلَى شَاهِدِ الْإِحْصَانِ سُدُسُ الدِّيَةِ ، إِذَا اعْتُبِرَ عَدَدُ الْجَمِيعِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ عَلَى شَاهِدِ الزِّنَا ثُمُنَ الدِّيَةِ ، وَعَلَى شَاهِدِ الْإِحْصَانِ رُبُعُ الدِّيَةِ ، إِذَا اعْتُبِرَ كُلُّ خَبَرٍ .
فَصْلٌ : وَلَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَأَنْكَرَ الْإِحْصَانَ وَكَانَ لَهُ زَوْجَةً لَهُ مِنْهَا وَلَدٌ ، لَمْ يَثْبُتْ بِهِ إِحْصَانُهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَثْبُتُ إِحْصَانُهُ بِوَلَدٍ مِنْ زَوْجَتِهِ : احْتِجَاجًا بِأَنَّ لُحُوقَ الْوَلَدِ بِهِ إِنَّمَا يَكُونُ لِإِجْرَاءِ حُكْمِ الْوَطْءِ عَلَيْهِ ، وَإِذَا جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْوَطْءِ فِي لُحُوقِهِ جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْوَطْءِ فِي إِحْصَانِهِ وَكَمَالِ الْمَهْرِ بِهِ . وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّ وَلَدَ الزَّوْجَةِ يَلْحَقُ بِالْإِمْكَانِ : لِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبَهَاتِ ، وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وَطِئَهَا دُونَ الْفَرْجِ ، فَاسْتَدْخَلَتْ مَنِيَّهُ فَلَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ ، وَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ الْحَصَانَةُ . فَأَمَّا كَمَالُ الْمَهْرِ بِلُحُوقِ الْوَلَدِ فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُكْمَلُ كَمَا لَا تَثْبُتُ الْحَصَانَةُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَكْمُلُ الْمَهْرُ وَإِنْ لَمْ تَثْبُتِ الْحَصَانَةُ : لِأَنَّ الشُّبْهَةَ تُدْرَأُ بِهَا الْحُدُودُ دُونَ الْحُقُوقِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ شَهِدَ عَلَيْهَا بِالزِّنَا أَرْبَعَةٌ ، وَشَهِدَ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ عُدُولٍ أَنَّهَا عَذْرَاءُ فَلَا حَدَّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ : لِأَنَّ بَقَاءَ الْعُذْرَةِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِعَدَمِ الزِّنَا ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَعَوْدِ الْبَكَارَةِ بَعْدَ الزِّنَا ، فَلَمَّا احْتُمِلَ الْأَمْرَيْنِ سَقَطَ الْحَدُّ عَنْهَا : لِأَنَّ الْحَدَّ يُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ ، وَلَا يَجِبُ مَعَ الِاحْتِمَالِ . وَأَمَّا الشُّهُودُ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِمْ : لِأَنَّ بَقَاءَ الْعُذْرَةِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَعَوْدِهَا بَعْدَ الزِّنَا فَيَكُونُوا صَادِقِينَ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِعَدَمِ الزِّنَا فَيَكُونُوا كَاذِبِينَ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِمْ وَهُمْ عَلَى الْعَدَالَةِ . فَلَمْ يَجِبْ أَنْ يُجَرَّحُوا بِالشَّكِّ ، وَجَنْبُ الْمُؤْمِنِ حِمًى فَلَمْ يَجِبْ أَنْ يُحَدَّ بِالشُّبْهَةِ . وَلَوْ بَانَ بَعْدَ الشَّهَادَةِ عَلَيْهَا بِالزِّنَا أَنَّهَا رَتْقَاءُ أَوْ قَرْنَاءُ نُظِرَ : فَإِنْ كَانَ الْقَرْنُ وَالرَّتْقُ يَمْنَعُ مِنْ إِيلَاجِ الْحَشَفَةِ فِي الْفَرْجِ لَمْ تُحَدَّ كَالْعُذْرَةِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَمْنَعُ مِنْ إِيلَاجِهَا فِي الْفَرْجِ حَدَثٌ بِخِلَافِ الْعُذْرَةِ ، ثُمَّ تَكُونُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ - وَإِنْ سَقَطَ الْحَدُّ - مُسْقِطَةً لِعِفَّتِهَا ، فَإِنْ قَذَفَهَا قَاذِفٌ لَمْ يُحَدَّ لِكَمَالِ الشَّهَادَةِ بِالزِّنَا وَسُقُوطِ الْحَدِّ بِالشُّبْهَةِ .
فَصْلٌ : وَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ زَنَا بِامْرَأَةٍ ، فَشَهِدَ اثْنَانِ مِنْهُمْ أَنَّهُ زَنَا بِهَا فِي الزَّاوِيَةِ الْيُمْنَى مِنْ هَذَا الْبَيْتِ ، وَشَهِدَ الْآخَرَانِ أَنَّهُ زَنَا بِهَا فِي الزَّاوِيَةِ الْيُسْرَى مِنْهُ ، لَمْ يَجِبِ الْحَدُّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : أَحَدُهُمَا اسْتِحْسَانًا لَا قِيَاسًا . وَكَذَلِكَ لَوِ اخْتَلَفَ الشُّهُودُ الْأَرْبَعَةُ فِي الزَّوَايَا الْأَرْبَعِ حَدَّهُمُ اسْتِحْسَانًا . وَسُمِّيَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ الزَّوَايَا : احْتِجَاجًا بِأَنَّ الشَّهَادَةَ إِذَا أَمْكَنَ حَمْلُهَا عَلَى الصِّحَّةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ تُحْمَلَ عَلَى الْفَسَادِ ، وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَزْحَفَ الزَّانِيَانِ مِنْ زَاوِيَةٍ إِلَى أُخْرَى فَيَكُونَا فِي أَوَّلِ الْفِعْلِ فِي زَاوِيَةٍ فَيَرَاهُمَا شَاهِدَانِ ، وَفِي آخِرِ الْفِعْلِ فِي زَاوِيَةٍ أُخْرَى فَيَرَاهُمَا فِيهَا شَاهِدَانِ ، وَيَكُونُ الزِّنَا وَاحِدًا . وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّ الزِّنَا يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ وَمَكَانٍ ، فَلَمَّا كَانَ اخْتِلَافُهُمَا فِي الزَّمَانِ يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ ، وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ اثْنَانِ مِنْهُمْ أَنَّهُ زَنَا بِهَا وَقْتَ الظُّهْرِ ، وَيَشْهَدُ الْآخَرَانِ أَنَّهُ زَنَا بِهَا وَقْتَ الْعَصْرِ . وَإِنِ احْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُ الْفِعْلِ فِي الظُّهْرِ وَآخِرُهُ فِي الْعَصْرِ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُهُمَا فِي الْمَكَانِ بِمَثَابَتِهِ ، وَإِنْ أَمْكَنَ حُكِمَ اخْتِلَافُهُ عَلَى أَوَّلِ الْفِعْلِ وَآخِرِهِ ، وَالْعِلَّةُ فِيهِ أَنَّ الْفِعْلَ فِي أَحَدِ الْمَكَانَيْنِ غَيْرُ الْفِعْلِ فِي الْمَكَانِ الْآخَرِ ، وَفِيهِ انْفِصَالٌ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ أَكْرَهَهَا عَلَى الزِّنَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ دُونَهَا وَمَهْرُ مِثْلِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا اسْتَكْرَهَ امْرَأَةً عَلَى نَفْسِهَا حَتَّى زَنَا بِهَا ، وَجَبَ الْحَدُّ عَلَيْهِ دُونَهَا ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ : لِرِوَايَةِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَأَةَ ، عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ
وَائِلِ بْنِ حَجَرٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، أَنَّ امْرَأَةً اسْتُكْرِهَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَرَأَ الْحَدَّ عَنْهَا ، وَحَدَّ الزَّانِي بِهَا . فَأَمَّا الْمَهْرُ فَمُخْتَلَفٌ فِي وُجُوبِهِ ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ : أَنَّ عَلَيْهِ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا مَهْرَ عَلَيْهِ : احْتِجَاجًا بِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مَهْرِ الْبَغِيِّ ، رَوَاهُ بِالتَّسْكِينِ ، وَالْبَغْيُ الزِّنَا ، وَهَذَا زِنًا . قَالَ : وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ وَجَبَ بِهِ الْحَدُّ عَلَى الْوَاطِئِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ الْمَهْرُ كَالْمُطَاوَعَةِ . قَالَ : وَلِأَنَّ الْحَدَّ يَجِبُ مَعَ انْتِفَاءِ الشُّبْهَةِ ، وَالْمَهْرُ يَجِبُ مَعَ وُجُودِ الشُّبْهَةِ ، فَامْتَنَعَ اجْتِمَاعُهُمَا . وَدَلِيلُنَا : قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ ، فَإِنْ مَسَّهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا وَهَذَا مُسْتَحِلٌّ لِفَرْجِهَا ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ مَهْرُهَا . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّمَا لَزِمَهُ الْمَهْرُ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ . قِيلَ : كُلُّ مَا ضُمِنَ بِالْبَدَلِ مِنَ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ ضُمِنَ بِالْغَصْبِ وَالْإِكْرَاهِ كَالْأَمْوَالِ : لِأَنَّهُ وَطْءٌ فِي غَيْرِ مِلْكٍ ، فَإِذَا سَقَطَ بِهِ الْحَدُّ عَنِ الْمَوْطُوءَةِ وَجَبَ بِهِ الْمَهْرُ عَلَى الْوَاطِئِ ، كَالْوَاطِئِ بِالشُّبْهَةِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ الْمَهْرُ لِلْمَوْطُوءَةِ بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ كَانَ وُجُوبُهُ لِلْمُسْتَكْرَهَةِ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَنْكُوحَةَ مَعَ عِلْمِهَا عَاصِيَةٌ ، وَالْمُسْتَكْرَهَةَ غَيْرُ عَاصِيَةٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمَنْكُوحَةَ مُمَكِّنَةٌ ، وَالْمُسْتَكْرِهَةَ غَيْرُ مُمَكِّنَةٍ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ نَهْيِهِ عَنْ " مَهْرِ الْبَغِيِّ " : فَالرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ الْبَغِيُّ بِالتَّشْدِيدِ ، يَعْنِي الزَّانِيَةَ ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الزَّانِيَةَ . وَلَا دَلِيلَ أَيْضًا لِمَنْ رَوَى بِالتَّحْفِيفِ - يَعْنَى الزِّنَا - : لِأَنَّ هَذَا الْوَطْءَ زِنًا فِي حَقِّ مَنْ حُدَّ ، وَلَيْسَ زِنًا فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يُحَدَّ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُطَاوَعَةِ فَالْمَعْنَى فِيهِ : وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَيْهَا . وَأَمَّا اسْتِحَالَةُ وُجُوبِ الشُّبْهَةِ وَعَدَمِهَا فِي الْفِعْلِ الْوَاحِدِ : فَهُوَ مُسْتَحِيلٌ فِي حَقِّ
الْوَاحِدِ ، وَلَيْسَ بِمُسْتَحِيلٍ فِي حَقِّ الِاثْنَيْنِ ، كَمَا لَمْ يَسْتَحِلَّ أَنْ يَجِبَ الْحَدُّ عَلَى الْوَاطِئِ وَيَسْقُطَ الْحَدُّ عَنِ الْمَوْطُوءَةِ . وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الَّذِي يَخْتَصُّ بِالرَّجُلِ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ : الْحَدُّ ، وَالْمَهْرُ ، وَالنَّسَبُ . وَأَمَّا النَّسَبُ : فَيُعْتَبَرُ بِهِ شُبْهَةُ الْوَاطِئِ دُونَ الْمَوْطُوءَةِ ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ شُبْهَةٌ لَحِقَ بِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ شُبْهَةٌ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ . وَأَمَّا الْمَهْرُ : فَيُعْتَبَرُ بِهِ شُبْهَةُ الْمَوْطُوءَةِ دُونَ الْوَاطِئِ ، فَإِنْ كَانَ لَهَا شُبْهَةٌ وَجَبَ لَهَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا شُبْهَةٌ لَمْ يَجِبْ . وَأَمَّا الْحَدُّ فَيُعْتَبَرُ بِهِ شُبْهَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُمَا شُبْهَةٌ سَقَطَ الْحَدُّ عَنْهُمَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا شُبْهَةٌ وَجَبَ الْحَدُّ عَلَيْهَا ، وَإِنْ كَانَتْ لِأَحَدِهِمَا شُبْهَةٌ دُونَ الْآخَرِ وَجَبَ عَلَى مَنِ انْتَفَتْ عَنْهُ الشُّبْهَةُ ، وَسَقَطَ عَمَّنْ لَحِقَتْ بِهِ الشُّبْهَةُ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الرَّجُلُ إِذَا أُكْرِهَ عَلَى الزِّنَا ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لَا حَدَّ عَلَيْهِ كَالْمَرْأَةِ . وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ إِلَى وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ : لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ الِانْتِشَارِ الْحَادِثِ عَنِ الشَّهْوَةِ ، وَحُدُوثُ الشَّهْوَةِ يَكُونُ عَنِ الِاخْتِيَارِ دُونَ الْإِكْرَاهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ أَكْرَهَهُ السُّلْطَانَ عَلَى الزِّنَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ، وَإِنْ أَكْرَهْهُ غَيْرُ السُّلْطَانِ حُدَّ : اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ إِكْرَاهَ السُّلْطَانِ فِسْقٌ يَخْرُجُ بِهِ مِنَ الْإِمَامَةِ فَيَصِيرُ الْوَقْتُ خَالِيًا مِنْ إِمَامٍ كَزَمَانِ الْفَتْرَةِ ، وَيَصِيرُ عِنْدَهُ كَدَارِ الْحَرْبِ الَّتِي لَا يَجِبُ عَلَى الزَّانِي فِيهَا حَدٌّ عِنْدِهِ ، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ فَاسِدٌ . وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِمْ : قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ وَالْإِكْرَاهُ مِنْ أَعْظَمِ الشُّبَهَاتِ : وَلِأَنَّهُ إِكْرَاهٌ عَلَى الزِّنَا فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ بِهِ الْحَدُّ كَإِكْرَاهِ الْمَرْأَةِ : وَلِأَنَّ كُلَّ مَا سَقَطَ فِيهِ الْحَدُّ أَوْ أُكْرِهَتْ عَلَيْهِ الْمَرْأَةُ ، سَقَطَ فِيهِ الْحَدُّ إِذَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ الرَّجُلُ ، كَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِحُدُوثِ الِانْتِشَارِ عَنِ الشَّهْوَةِ فَهُوَ أَنَّ الشَّهْوَةَ مَرْكُوزَةٌ فِي الطِّبَاعِ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهَا ، وَإِنَّمَا يُمْكِنُ دَفْعُ النَّفْسِ عَنِ الِانْقِيَادِ لَهَا لِدَيْنٍ أَوْ تَقِيَةٍ ، فَصَارَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْفِعْلِ لَا عَلَى الشَّهْوَةِ ، وَالْحَدُّ إِنَّمَا يَجِبُ فِي الْفِعْلِ دُونَ الشَّهْوَةِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ أَبِي حَنِيفَةَ بِخُلُوِّ الدَّارِ مِنَ الْإِمَامِ لِخُرُوجِهِ بِالْفِسْقِ مِنَ الْإِمَامَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ السُّلْطَانُ الْمُكْرِهُ غَيْرُ إِمَامٍ ، فَلَا تَخْلُو الدَّارُ مِنْ إِمَامٍ ، وَأَنْتَ تُسَوِّي بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَلَمْ يَصِحَّ التَّعْلِيلُ . وَالثَّانِي : أَنَّ خُلُوَّ الدَّارِ مِنْ إِمَامٍ لَا يُوجِبُ إِسْقَاطَ الْحُدُودِ ، كَمَا لَمْ يُوجِبِ اسْتِبَاحَةَ أَسْبَابِهَا ، وَكَذَلِكَ دَارُ الْحَرْبِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهَا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَحَدُّ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ - أُحْصِنَا بِالزَّوَاجِ أَوْ لَمْ يُحْصَنَا - نِصْفُ حَدِّ الْحُرِّ ، وَالْجَلْدُ خَمْسُونَ جَلْدَةً . ( وَقَالَ ) فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : أَسْتَخِيرُ اللَّهَ فِي نَفْيِهِ نِصْفَ سَنَةٍ . وَقَطَعَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِأَنْ يُنْفَى نِصْفَ سَنَةٍ . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : قُلْتُ : أَنَا وَهَذَا بِقَوْلِهِ أَوْلَى ، قِيَاسًا عَلَى نِصْفِ مَا يَجِبُ عَلَى الْحُرِّ مِنْ عُقُوبَةِ الزِّنَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، حَدُّ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ إِذَا زَنَيَا الْجَلْدُ ، وَإِنْ تَزَوَّجَا دُونَ الرَّجْمِ . وَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ أَنَّ عَلَيْهِمُ الرَّجْمَ إِذَا تَزَوَّجَا : احْتِجَاجًا بِعُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ " ، لِأَنَّ مَا أَوْجَبَ إِرَاقَةَ الدَّمِ حَدٌّ اسْتَوَى فِيهِ الْحُرُّ وَالْعَبْدُ كَالْقَتْلِ بِالرِّدَّةِ ، وَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ ، وَهَذَا قَوْلٌ شَاذٌّ قَدْ تَقَدَّمَ دَلِيلُهُ فِي اشْتِرَاطِ الْحُرِّيَّةِ فِي الْإِحْصَانِ . وَالْخَبَرُ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَحْرَارِ : لِأَنَّهُ بَيَانٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ [ النِّسَاءِ : 15 ] ، وَأَمَّا الْقَتْلُ بِالرِّدَّةِ وَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ فَلِأَنَّهُمَا لَا يَرْجِعَانِ إِلَى بَدَلٍ ، فَاسْتَوَى فِيهِمَا الْحُرُّ وَالْعَبْدُ وَلَمْ يَتَنَصَّفْ فِي الْعَبْدِ : لِأَنَّهُ لَا يَتَبَعَّضُ . وَلَمَّا كَانَ لِلرَّجْمِ فِي الزِّنَا بَدَلٌ يَتَنَصَّفُ وَهُوَ الْجَلْدُ ، سَقَطَ الرَّجْمُ عَنْهُ إِلَى الْبَدَلِ الَّذِي يَتَنَصَّفُ وَهُوَ الْجَلْدُ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ سُقُوطُ الرَّجْمِ عَنِ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ ، فَحَدُّهُمَا الْجَلْدُ . وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ : فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ : أَنَّهُمَا يُحَدَّانِ نِصْفَ حَدِّ الزِّنَا خَمْسِينَ جَلْدَةً . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ : إِنْ تَزَوَّجَا فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الْجَلْدِ ، وَإِنْ لَمْ يَتَزَوَّجَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِمَا . وَقَالَ دَاوُدُ : عَلَى الْعَبْدِ جَمِيعُ الْحَدِّ تَزَوَّجْ أَوْ لَمْ يَتَزَوَّجْ . وَأَمَّا الْأُمَّةُ فَإِنْ تَزَوَّجَتْ فَعَلَيْهَا نِصْفُ الْحَدِّ ، وَإِنْ لَمْ تَتَزَوَّجْ فَعَنْهُ رِوَايَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : عَلَيْهَا حَدٌّ كَامِلٌ .
وَالثَّانِيَةُ : لَا حَدَّ عَلَيْهَا : لِأَنَّهُ حَمَلَ قَوْلَهُ تَعَالَى : فَإِذَا أُحْصِنَّ [ النِّسَاءِ : 25 ] ، أَيْ تَزَوَّجْنَ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [ النِّسَاءِ : 25 ] وَأَمْسَكَ عَنْ ذِكْرِهِنَّ إِذَا لَمْ يَتَزَوَّجْنَ ، فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكْمُلَ عَلَيْهَا الْحَدُّ ، وَاحْتُمِلَ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهَا حَدٌّ فَلِذَلِكَ مَا اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْهُ . وَدَلِيلُنَا عَلَى وُجُوبِ نِصْفِ الْحَدِّ عَلَى الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ فِيمَنْ تَزَوَّجَ أَوْ لَمْ يَتَزَوَّجْ - قَوْلُ اللَّهِ - تَعَالَى - : فَإِذَا أُحْصِنَّ فِيهِ قِرَاءَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : بِالضَّمِّ ، وَمَعْنَاهُ تَزَوَّجْنَ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِيَةُ : بِالْفَتْحِ ، وَمَعْنَاهُ أَسْلَمْنَ ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ . فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ يَعْنِي الزِّنَا فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ يَعْنِي نِصْفَ حَدِّ الْحُرَّةِ ، فَذَكَرَ إِحْصَانَهُنَّ فِي تَنْصِيفِ الْحَدِّ لِيُنَبِّهَ بِأَنَّ تَنْصِيفَهُ فِي غَيْرِ الْإِحْصَانِ أَوْلَى ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ ثُبُوتِ الرِّقِّ إِحْصَانٌ . وَرَوَى الشَّافِعِيُّ ، عَنْ مَالِكٍ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَزِيدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الْأَمَةِ إِذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَنْ ، فَقَالَ : إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا ، ثَمَّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا ، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا ، ثَمَّ بِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ . قَالَ الزُّهْرِيُّ : لَا أَدْرِي أَبْعَدَ الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ ، وَالضَّفِيرُ : الْحَبْلُ . وَرَوَى الزُّهْرِيُّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَلَدَ وَلَائِدَ أَبْكَارًا مِنْ وَلَائِدِ الْإِمَارَةِ فِي الزِّنَا ، وَلِأَنَّ حَدَّ الزِّنَا مَوْضُوعٌ عَلَى الْمُفَاضَلَةِ : لِأَنَّ الْحُرَّ مُفَضَّلٌ فِيهِ عَلَى الْعَبْدِ ، وَالثَّيِّبَ مُفَضَّلٌ فِيهِ عَلَى الْبِكْرِ ، وَقَالَ تَعَالَى : يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ [ الْأَحْزَابِ : 30 ] ، لِفَضْلِهِنَّ عَلَى مَنْ سِوَاهُنَّ ، فَلَمْ يَجُزْ مِنْ نَقْصِ الْعَبْدِ أَنْ يُسَاوِيَ الْحُرَّ فِي حَدِّهِ ، وَلَمْ يَجُزْ إِسْقَاطُ حَدِّهِ : لِئَلَّا تُضَاعَ حُدُودُ اللَّهِ تَعَالَى فَوَجَبَ تَنْصِيفُهَا فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا . وَيُقَالُ لِدَاوُدَ لِمَا وَجَبَ عَلَى الْأَمَةِ نِصْفُ الْجَلْدِ وَلَمْ يَكُنْ لِتَنْصِيفِهِ سَبَبٌ سِوَى الرِّقِّ ، وَجَبَ أَنْ يُتْنَصَفَ فِي الْعَبْدِ لِأَجْلِ الرِّقِّ وَهَذَا مِنْ فَحْوَى الْخِطَابِ . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ حَدَّهَا عَلَى النِّصْفِ فَهُوَ خَمْسُونَ جَلْدَةً ، وَاخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي وُجُوبِ التَّغْرِيبِ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : لَا تَغْرِيبَ فِيهِ : لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِذَا زَنَتِ الْأَمَةُ فَاجْلِدُوهَا وَلَمْ يَأْمُرْ بِتَغْرِيبِهَا : لِأَنَّ التَّغْرِيبَ مَوْضُوعٌ لِلُحُوقِ الْمَعَرَّةِ وَإِدْخَالِ الْمَشَقَّةِ ، وَلَا مَعَرَّةَ فِيهِ عَلَى الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ ، وَلَا مَشَقَّةَ تَلْحَقُهَا فِي الْغُرْبَةِ : لِأَنَّهُمَا مَعَ الْعَبْدِ أَرْفَهُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ التَّغْرِيبَ للعبد والأمة عند الزنا وَاجِبٌ : لِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [ النِّسَاءِ : 25 ] ، فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ . وَرَوَى نَافِعٌ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ أَمَةً لَهُ زَنَتْ ، فَجَلَدَهَا وَنَفَاهَا إِلَى فَدَكَ . وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ جُلِدَ فِي الزِّنَا غُرِّبَ كَالْحُرِّ ، وَلِأَنَّهُ حَدٌّ يَتَبَعَّضُ فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَحَقَّ فِي الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ كَالْجَلْدِ ، وَفِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا : أَنَّهُ إِنْ تَوَلَّى الْإِمَامُ جَلْدَهَا غَرَّبَهَا ، وَإِنْ تَوَلَّاهُ السَّيِّدُ لَمْ يُغَرِّبْهَا ، وَفَرَّقَ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : نُفُوذُ أَمْرِ الْإِمَامِ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ دُونَ السَّيِّدِ . وَالثَّانِي : لِاتِّسَاعِ بَيْتِ الْمَالِ لِنَفَقَةِ التَّغْرِيبِ دُونَ السَّيِّدِ . فَإِذَا قِيلَ بِوُجُوبِ التَّغْرِيبِ ، فَفِي قَدْرِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ تَغْرِيبُ عَامٍ كَالْحُرِّ ، قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ : لِأَنَّ مَا قُدِّرَ بِالْحَوْلِ اسْتَوَى فِيهِ الْحُرُّ وَالْعَبْدُ كَالْحَوْلِ فِي أَجْلِ الْعُنَّةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ تَغْرِيبُ نِصْفِ عَامٍ ، قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ هَاهُنَا : " أَسْتَخِيرُ اللَّهَ فِي نَفْيِهِ نِصْفَ سَنَةٍ " وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ : لِأَنَّهُ حَدٌّ يَتَبَعَّضُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَلَى النِّصْفِ مِنَ الْحُرِّ كَالْجَلْدِ ، وَخَالَفَ أَجْلَ الْعُنَّةِ : لِأَنَّهُ مَضْرُوبٌ لِظُهُورِ عَيْبٍ يُعْلَمُ بِتَغْيِيرِ الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ ، فَيَسْتَوِي فِيهِ الْحُرُّ ، وَخَالَفَهُ فِي مُدَّةِ التَّغْرِيبِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَيَحُدُّ الرَّجُلُ أَمَتَهُ إِذَا زَنَتْ : لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا فَلْيَجْلِدْهَا . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ إِقَامَةُ الْحُدُودِ عَلَى عَبِيدِهِ وَإِمَائِهِ ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَتَوَلَّاهُ ، وَالْإِمَامُ أَحَقُّ بِإِقَامَتِهِ . وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّى السَّيِّدُ حَدَّ أَمَتِهِ إِذَا كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّاهُ فِي الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ غَيْرِ ذَاتِ الزَّوْجِ . وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَئِمَّةُ أَحَقَّ بِإِقَامَتِهِ ، قِيَاسًا عَلَى حَدِّ الْحُرِّ : وَلِأَنَّ مَنْ لَا يَمْلِكُ إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى الْحُرِّ لَمْ يَمْلِكْ إِقَامَتَهُ عَلَى الْعَبْدِ كَالصَّغِيرِ
وَالْمَجْنُونِ ، وَلِأَنَّ مَنْ لَا يَمْلِكُ إِقَامَةَ الْحَدِّ بِالْبَيِّنَةِ ، لَمْ يَمْلِكْ إِقَامَتَهُ بِالْإِقْرَارِ كَالْأَجْنَبِيِّ ، وَلِأَنَّهُ حَدٌّ لَا يَمْلِكُ السَّيِّدُ إِقَامَتَهُ عَلَيْهِ بَعْدَ عِتْقِهِ ، فَلَمْ يَمْلِكْ إِقَامَتَهُ عَلَيْهِ فِي حَالِ رِقِّهِ كَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ . وَدَلِيلُنَا : رِوَايَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَهَذَا نَصٌّ . فَإِنْ قِيلَ : يَعْنِي بِإِذْنِ الْإِمَامِ . فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : إِنَّ إِطْلَاقَهُ يَمْنَعُ مِنْ هَذَا التَّقْيِيدِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يُسْقِطُ فَائِدَةَ الْخَبَرِ : لِأَنَّ الْإِمَامَ لَوْ أَذِنَ لِغَيْرِ السَّيِّدِ جَازَ . وَرَوَى الزُّهْرِيُّ ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ بِوَلِيدَةٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ جَارِيَتِي زَنَتْ . فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اجْلِدْهَا خَمْسِينَ ، فَإِنْ عَادَتْ فَعُدْ ، وَإِنْ عَادَتْ فَعُدْ ، وَفِي الرَّابِعَةِ : فَإِنْ عَادَتْ فَبِعْهَا وَلَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعْرٍ . وَرَوَى إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا ، فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ وَلَا يُثَرِّبْ ، فَإِنْ عَادَتْ فَزَنَتْ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا ، فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِعَقْدٍ مِنْ شَعْرٍ وَمَعْنَى لَا يُثَرِّبُ : أَنْ لَا يُعَيِّرَ . فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ نَهَاهُ عَنْ تَعْيِيرِهَا وَالتَّثْرِيبِ عَلْيَهَا وَهُوَ أَبْلَغُ فِي الزَّجْرِ ؟ فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ نَهَاهُ عَنِ الِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ دُونَ الْحَدِّ . وَالثَّانِي : أَنَّ التَّعْيِيرَ وَالتَّثْرِيبَ تَعْزِيرٌ يَسْقُطُ مَعَ الْحَدِّ . فَإِنْ قِيلَ : يَحْمِلُ مَا أُمِرَ بِهِ مِنَ الْجَلْدِ عَلَى التَّعْزِيرِ دُونَ الْحَدِّ . فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ إِطْلَاقَ الْحَدِّ يَخْرُجُ عَنْ حُكْمِ التَّعْزِيرِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْحَدَّ يَسْقُطُ بِالتَّعْزِيرِ ، وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ . رَوَى حَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَامُ جَلَدَتْ أَمَةً لَهَا . . . الْحَدِيثَ . وَرُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَطَعَتْ جَارِيَةً لَهَا سَرَقَتْ .
وَرُوِيَ أَنَّ حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَتَلَتْ جَارِيَةً لَهَا سَحَرَتْهَا . وَرَوَى نَافِعٌ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَطَعَ يَدَ غُلَامٍ لَهُ سَرَقَ . وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بُرْدَةَ جَلَدَ وَلِيدَةً لَهُ زَنَتْ . وَرُوِيَ أَنَّ مُقْرِنًا سَأَلَ ابْنَ مَسْعُودٍ عَنْ أَمَةٍ لَهُ زَنَتْ ، فَقَالَ : اجْلِدْهَا . وَرُوِيَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : كَانَ الْأَنْصَارُ عِنْدَ رَأْسِ الْحَوْلِ يَخْرُجُونَ مَنْ زَنَا مِنْ إِمَائِهِمْ فَيَجْلِدُونَهُمْ فِي مَجَالِسِهِمْ ، وَلَا يُعْرَفُ لَهُمْ مُخَالِفٌ ، فَثَبَتَ أَنَّهُ إِجْمَاعٌ . وَمِنَ الْقِيَاسِ : أَنَّ لِلْإِمَامِ حَقَّ الْوِلَايَةِ ، وَلِلسَّيِّدِ حَقَّ الْمِلْكِ ، فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا إِحْدَى عِلَّتَيْنِ : إِحْدَاهُمَا : أَنَّ كُلَّ مَنْ مَلَكَ تَزْوِيجَهَا مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينَيْنِ مَلَكَ حَدَّهَا كَالْإِمَامِ . وَالثَّانِيَةُ : أَنَّ كُلَّ مَنْ مَلَكَ الْإِقْرَارَ عَلَيْهِ بِجِنَايَةِ الْخَطَأِ فِي رَقَبَتِهِ ، مَلَكَ إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى يَدَيْهِ كَالْإِمَامِ ، وَلِأَنَّ تَصَرُّفَ السَّيِّدِ فِي عَبْدِهِ أَعَمُّ ، وَعُقُودَهُ فِيهِ أَتَمُّ مِنَ الْإِمَامِ الْمُتَفَرِّدِ بِنَظَرِ الْوِلَايَةِ ، فَكَانَ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ أَحَقُّ . وَخَالَفَ الْأَجْنَبِيُّ الَّذِي لَا نَظَرَ لَهُ فِيهِ وَلَا حَقَّ ، وَخَالَفَ الْحُرُّ الَّذِي لَا وِلَايَةَ لَهُ إِلَّا لِلْإِمَامِ ، وَخَالَفَ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ لِثُبُوتِ الْوِلَايَةِ عَلَيْهِمَا ، فَلَمْ تَصِحَّ الْوِلَايَةُ مِنْهُمَا . وَسَنَذْكُرُ فِي حُكْمِ الْبَيِّنَةِ وَالسَّرِقَةِ فِي شَرْحِ الْمَذْهَبِ مَا يَكُونُ جَوَابًا وَانْفِصَالًا .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ لِلسَّيِّدِ إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى عَبِيدِهِ وَإِمَائِهِ ، فَالْكَلَامُ فِيهِ مُشْتَمِلٌ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ : أَحَدُهَا : فِي السَّيِّدِ الَّذِي يَمْلِكُ إِقَامَةَ الْحُدُودِ . وَالثَّانِي : فِيمَا يَمْلِكُهُ السَّيِّدُ مِنْ إِقَامَةِ الْحُدُودِ . وَالثَّالِثُ : فِيمَا يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ أَنْ يُقِيمَ بِهِ الْحُدُودَ . فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ وَهُوَ السَّيِّدُ الَّذِي يَمْلِكُ إِقَامَةَ الْحُدُودِ : فَهُوَ مَنِ اسْتُكْمِلَتْ فِيهِ أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : جَوَازُ الْأَمْرِ بِالْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ وَالرُّشْدِ : لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَنْفُذْ مَرَّةً فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، فَأَوْلَى أَنْ يَنْفُذَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ ، فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا ، أَوْ مَجْنُونًا ، أَوْ سَفِيهًا لَمْ يَمْلِكْ إِقَامَةَ الْحَدِّ ، فَإِنْ أَقَامَهُ أَحَدُ هَؤُلَاءِ كَانَ تَعَدِّيًا مِنْهُ عَلَى عَبْدِهِ ، وَلَمْ يَسْقُطِ الْحَدُّ بِجَلْدِهِ ، وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا . فَفِي جَوَازِ إِقَامَتِهِ لِلْحَدِّ عَلَى عَبْدِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ : لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِوِلَايَةٍ تَنْتَفِي مَعَ الْفِسْقِ .
وَالثَّانِي : يَجُوزُ لَهُ إِقَامَتُهُ : لِأَنَّ فِسْقَهُ لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ إِنْكَاحِ عَبْدِهِ وَأَمَتِهِ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمَا . وَالشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ رَجُلًا : لِأَنَّ الرِّجَالَ أَحْصَنُ بِالْوِلَايَاتِ مِنَ النِّسَاءِ . فَإِنْ كَانَ امْرَأَةً فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهَا فِيهِ وَلَا لِوَلِيِّهَا ، وَيَتَوَلَّاهُ الْإِمَامُ لِقُصُورِهَا عَنْ وِلَايَاتِ الرِّجَالِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّاهُ وَلَيُّهَا نِيَابَةً عَنْهَا ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُبَاشِرَهُ بِنَفْسِهَا كَالنِّكَاحِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهَا تَسْتَحِقُّ مُبَاشَرَةَ إِقَامَتِهِ بِنَفْسِهَا وَبِمَنْ تَسْتَنِيبُهُ فِيهِ مِنْ وَلِيٍّ وَغَيْرِ وَلِيٍّ : لِتَفَرُّدِهَا بِالْمِلْكِ وَحُقُوقِهِ . وَقَدْ جَلَدَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلَامُ أَمَةً لَهَا زَنَتْ ، وَقَطَعَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَمَةً لَهَا سَرَقَتْ . وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ تَامَّ الْمِلْكِ فِي كَامِلِ الرِّقِّ ، فَإِنْ كَانَ السَّيِّدُ بَعْضُهُ حُرٌّ وَبَعْضُهُ مَمْلُوكٌ فَلَا حَقَّ لَهُ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ : لِنَقْصِهِ بِمَا فِيهِ مِنَ الرِّقِّ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مُدَبَّرًا ، أَوْ مُخَارِجًا ، أَوْ مُعْتَقًا نَصْفُهُ لَمْ يَمْلِكْ إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى عَبْدِهِ بِجَرَيَانِ أَحْكَامِ الرِّقِّ عَلَيْهِ . وَلَوْ كَانَ مُكَاتِبًا فَفِي اسْتِحْقَاقِهِ بِحَدِّ عَبْدِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَسْتَحِقُّهُ : لِاسْتِقْرَارِ مِلْكِهِ عَلَيْهِ . وَالثَّانِي : لَا يَسْتَحِقُّهُ : لِنَقْصِهِ بِمَا يَجْرِي عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ الرِّقِّ . وَلَوْ كَانَ السَّيِّدُ تَامَّ الْمِلْكِ بِكَمَالِ الْحُرِّيَّةِ ، إِلَّا أَنَّ الْعَبْدَ غَيْرُ تَامِّ الرِّقِّ : لِعِتْقِ بَعْضِهِ وَرِقِّ بَعْضِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِ وَجْهًا وَاحِدًا : لِمَا فِيهِ مِنَ الْحُرِّيَّةِ الَّتِي لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهَا . وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ لَمْ يَجُزْ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ ، فَإِنِ اجْتَمَعَا عَلَى إِقَامَتِهِ جَازَ . وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحُدُودِ ، وَمِنَ الْمُجْتَهِدِينَ فِيهِ : لِيَعْلَمَ مَا يَجِبُ فِيهِ وَلَا يَجِبُ ، فَإِنْ كَانَ مُتَّفَقًا عَلَى وُجُوبِهِ عُمِلَ فِيهِ عَلَى الِاتِّفَاقِ مِنَ الْفُقَهَاءِ ، وَإِنْ كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ لَمْ يَخْلُ رَأْيُهُ وَرَأْيُ الْإِمَامِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى وُجُوبِهِ ، فَلِلسَّيِّدِ أَنْ يَتَفَرَّدَ بِاسْتِيفَائِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى إِسْقَاطِهِ فَلَا حَدَّ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَرَى الْإِمَامُ وُجُوبَهُ وَالسَّيِّدُ إِسْقَاطَهُ ، فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ دُونَ السَّيِّدِ . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَرَى السَّيِّدُ وُجُوبَهُ دُونَ الْإِمَامِ ، فَلِلسَّيِّدِ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ بِرَأْيِهِ مَا لَمْ يَحْكُمِ الْإِمَامُ بِإِسْقَاطِهِ . فَإِنْ حُكِمَ بِهِ مُنِعَ مِنْهُ السَّيِّدُ : لِأَنَّ حُكْمَ الْإِمَامِ أَنْفَذُ وَأَعَمُّ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ
السَّيِّدُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحُدُودِ مُنِعَ مِنْ إِقَامَتِهَا : لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ وُجُوبَهَا حَتَّى يَرْجِعَ فِيهَا إِلَى مَنْ يَجُوزُ لَهُ الْعَمَلُ بِقَوْلِهِ ، فَإِنْ رَجَعَ إِلَى حَاكِمٍ ، جَازَ أَنْ يَعْمَلَ عَلَى قَوْلِهِ فِيمَا حَكَمَ بِهِ مِنْ وُجُوبِ إِسْقَاطِهِ ، وَيَقُومَ بِاسْتِيفَاءِ مَا حَكَمَ الْحَاكِمُ بِوُجُوبِهِ . وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ نَقْضُهُ ، وَإِنْ رَجَعَ فِيهِ إِلَى اسْتِيفَاءٍ ، وَفِيهِ نَظَرٌ . فَإِنْ كَانَ الْحَدُّ مُتَّفَقًا عَلَى وُجُوبِهِ ، كَانَ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ بِقَوْلِ مَنْ أَفْتَاهُ . وَإِنْ كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ فَفِي جَوَازِ اسْتِيفَاءِ السَّيِّدِ لَهُ بِفُتْيَاهُ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ : لِأَنَّ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ لَا يَتَعَيَّنُ إِلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ ، لِأَنَّ تَصَرُّفَ السَّيِّدِ فِي عَبْدِهِ أَقْوَى مِنْ تَصَرُّفِ الْحَاكِمِ ، إِلَّا أَنْ يَحْكُمَ الْحَاكِمُ بِسُقُوطِهِ فَيُمْنَعُ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي وَهُوَ مَا يَمْلِكُهُ السَّيِّدُ مِنْ إِقَامَةِ الْحُدُودِ : فَهُوَ مَا كَانَ جَلْدًا ، إِمَّا فِي زِنًا ، أَوْ قَذْفٍ ، أَوْ شُرْبِ خَمْرٍ : لِأَنَّهُ يَمْلِكُ تَأْدِيبَهُ بِالْجَلْدِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، وَهَلْ يَمْلِكُ مِنْ حَدِّهِ مَا تَعَلَّقَ بِإِرَاقَةِ الدِّمَاءِ ، مِنْ قَطْعِهِ فِي السَّرِقَةِ وَقَتْلِهِ بِالرِّدَّةِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَمْلِكُ : لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مِثْلَهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، فَلَا يَقْطَعُهُ إِذَا سَرَقَ وَلَا يَقْتُلَهُ إِذَا ارْتَدَّ ، وَيَكُونُ الْإِمَامُ أَحَقَّ بِقَطْعِهِ وَقَتْلِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَمْلِكُ مِنْ حُدُودِ الدِّمَاءِ مِثْلَ مَا يَمْلِكُهُ مِنْ حُدُودِ الْجَلْدِ : لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَدْ يَمْلِكُ مِثْلَهُ مِنْهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، كَالْجِنَايَةِ وَقَطْعِ السِّلْعَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْعِلَّةَ فِي إِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَيْهِ مِلْكُ الرَّقَبَةِ دُونَ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ التَّأْدِيبِ : لِأَنَّ الزَّوْجَ يَسْتَحِقُّ تَأْدِيبَ زَوْجَتِهِ فِي النُّشُوزِ ، وَالْأَبَ يَسْتَحِقُّ تَأْدِيبَ وَلَدِهِ فِي الِاسْتِصْلَاحِ ، وَلَا يَسْتَحِقُّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إِقَامَةَ الْحُدُودِ . وَرَوَى نَافِعٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَطَعَ عَبْدًا لَهُ سَرَقَ . وَرُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ قَطَعَتْ أَمَةً لَهَا سَرَقَتْ . وَقَتَلَتْ حَفْصَةُ جَارِيَةً لَهَا سَحَرَتْهَا . فَأَمَّا التَّغْرِيبُ - إِذَا قِيلَ بِوُجُوبِهِ فِي الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ إِذَا زَنَيَا - : فَفِي اسْتِحْقَاقِ السَّيِّدِ لَهُ وَتَفَرُّدِهِ بِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَسْتَحِقُّهُ السَّيِّدُ : لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِأَنَّهُ أَحَدُّ الْحَدَّيْنِ كَالْجَلْدِ . وَالثَّانِي : لِأَنَّهُ يَمْلِكُ تَغْرِيبَهُ فِي غَيْرِ الزِّنَا ، فَكَانَ بِتَغْرِيبُ الزِّنَا أَحَقُّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهُ لِأَمْرَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ تَغْرِيبَ الزِّنَا مَا خَرَجَ عَنِ الْمَأْلُوفِ إِلَى النَّكَالِ ، وَهَذَا بِتَغْرِيبِ الْإِمَامِ أَخَصُّ . وَالثَّانِي : لِاخْتِصَاصِ الْإِمَامِ بِنُفُوذِ الْأَمْرِ فِي بِلَادِ النَّفْيِ دُونَ السَّيِّدِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِيمَا يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ أَنْ يُقِيمَ بِهِ الْحُدُودَ : فَهُوَ إِقْرَارٌ عِنْدَهُ بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ فَيَحُدُّهُ بِإِقْرَارِهِ ، وَأَمَّا بِسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ عِنْدَ إِنْكَارِهِ ، فَفِي جَوَازِ حَدِّهِ بِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ أَنْ يَحُدَّهُ بِهَا : لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ سَمَاعَ الْبَيِّنَاتِ مُخْتَصٌّ بِأَوْلَى الْوِلَايَاتِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى اجْتِهَادٍ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ : لِأَنَّهُ رُبَّمَا تُوَجَّهَ إِلَى السَّيِّدِ فِيهِ تُهْمَةٌ فَاخْتَصَّ بِمَنْ يَنْتَفِي عَنْهُ التُّهْمَةُ مِنَ الْوُلَاةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَحُدَّهُ بِالْبَيِّنَةِ : لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَنْ مَلَكَ حَدَّهُ بِالْإِقْرَارِ مَلَكَ بِالْبَيِّنَةِ كَالْحُكَّامِ . وَالثَّانِي : أَنَّ السَّيِّدَ أَبْعَدُ مِنَ التُّهْمَةِ فِي عَبْدِهِ لِحِفْظِ مِلْكِهِ مِنَ الْحُكَّامِ ، فَكَانَ بِذَلِكَ أَحَقَّ . فَأَمَّا إِذَا أَرَادَ أَنْ يَحُدَّهُ بِعِلْمِهِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ هَلْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ . فَعَلَى هَذَا : فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى أَنْ لَا يَحْكُمَ فِيهَا بِعِلْمِهِ : لِأَنَّهَا تُدْرَأُ بِالشُّبَهَاتِ . الْقَوْلُ الثَّانِي : يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ . فَعَلَى هَذَا : هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْحُدُودِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ اعْتِبَارًا بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ : لِأَنَّهَا حُدُودٌ تُدْرَأُ بِالشُّبَهَاتِ . وَأَمَّا السَّيِّدُ فِي حَقِّ عَبْدِهِ بِعِلْمِهِ ، فَإِنْ مُنِعَ مِنْهُ الْحَاكِمُ كَانَ السَّيِّدُ أَوْلَى أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ ، وَإِنْ جُوِّزَ لِلْحَاكِمِ كَانَ فِي جَوَازِهِ لِلسَّيِّدِ وَجْهَانِ ، مِنَ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي جَوَازِ حَدِّهِ بِالْبَيِّنَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
بَابُ مَا جَاءَ فِي حَدِّ الذِّمِّيِّينَ
بَابُ مَا جَاءَ فِي حَدِّ الذِّمِّيِّينَ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ : وَإِنْ تَحَاكَمُوا إِلَيْنَا فَلَنَا أَنْ نَحْكُمَ أَوْ نَدَعَ . فَإِنْ حَكَمْنَا حَدَدْنَا الْمُحْصَنَ بِالرَّجْمِ : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ زَنَيَا ، وَجَلَدْنَا الْبِكْرَ مِائَةً وَغَرَّبْنَاهُ عَامًا . ( وَقَالَ ) فِي كِتَابِ الْجِزْيَةِ : إِنَّهُ لَا خِيَارَ لَهُ إِذَا جَاءُوهُ فِي حَدِّ اللَّهِ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُقِيمَهُ لِمَا وَصَفْتُ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهُمْ صَاغِرُونَ . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : هَذَا أَوْلَى قَوْلَيْهِ بِهِ ، إِذْ زَعَمَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَهُمْ صَاغِرُونَ أَنْ تُجْرَى عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ ، مَا لَمْ يَكُنْ أَمْرُ حُكْمِ الْإِسْلَامِ فِيهِ تَرْكَهُمْ وَإِيَّاهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا الْبَابُ يَشْتَمِلُ عَلَى مَسْأَلَتَيْنِ قَدْ مَضَتَا : إِحْدَاهُمَا : فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ ، هَلْ تَلْزَمُهُمْ أَحْكَامُنَا أَمْ لَا ؟ وَالثَّانِيَةُ : هَلِ الْإِسْلَامُ شَرْطٌ فِي إِحْصَانِ الزِّنَا أَمْ لَا ؟ فَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي جَرَيَانِ أَحْكَامِنَا عَلَيْهِمْ ، فَإِنْ كَانُوا أَهْلَ عَهْدٍ وَلَمْ يَكُونُوا أَهْلَ ذِمَّةٍ فَحَاكِمُنَا إِذَا تَحَاكَمُوا إِلَيْهِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَنْ لَا يَحْكُمَ ، وَهُوَ إِذَا اسْتَعَدُّوا إِلَيْهِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُعْدِيَ عَلَيْهِمْ أَوْ لَا يُعْدِيَ . فَإِنْ أَعْدَى وَحَكَمَ ، كَانُوا مُخَيَّرِينَ بَيْنَ الْتِزَامِ حُكْمِهِ وَبَيْنَ رَدِّهِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ أَوْ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَأَصْلُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى : فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [ الْمَائِدَةِ : 42 ] ، وَلِأَنَّ مُوجِبَ الْعَهْدِ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ أَنْ يَأْمَنُونَا وَنَأْمَنَهُمْ فَلَمْ يَنْفُذْ حُكْمُ الْأَمَانِ إِلَى غَيْرِهِ ، إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْإِمَامُ عَلَيْهِمْ فِي عَهْدِ الْأَمَانِ لَهُمْ أَنْ يَلْتَزِمُوا أَحْكَامَنَا فَتَلْزَمُهُمْ بِالشَّرْطِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِمْ ، فَلَوْ دَخَلَ مُعَاهَدٌ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ فَزَنَا بِمُسْلِمَةٍ مُطَاوِعَةً ، فَإِنْ شَرَطَ فِي أَمَانِهِ الْتِزَامَ حُكْمِنَا حَدَدْنَاهُمَا ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ فِي أَمَانِهِ حَدَدْنَا الْمُسْلِمَةَ دُونَ الْمُعَاهَدِ . وَكَذَلِكَ الْمُعَاهَدَةُ إِذَا دَخَلَتْ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ فَزَنَا بِهَا مُسْلِمٌ حُدَّ الْمُسْلِمُ وَلَمْ تُحَدَّ الْمُعَاهَدَةُ ، إِلَّا أَنْ يُشْتَرَطَ فِي أَمَانِهَا الْتِزَامُ حُكْمِنَا فَتُحَدُّ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا أَهْلُ الذِّمَّةِ وَهُمْ أَصْحَابُ الْجِزْيَةِ ، فَفِي وُجُوبِ الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ إِذَا اسْتَعَدُّوا إِلَيْنَا أَهْلُ الذِّمَّةِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ :
أَحَدُهَا : لَا يَلْزَمُ ، وَالْحَاكِمُ مُخَيَّرٌ بَيْنَهُمْ فِي الْحُكْمِ ، وَهُمْ مُخَيَّرُونَ فِي الْتِزَامِ حُكْمِهِ كَأَهْلِ الْعَهْدِ : لِعُمُومِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [ الْمَائِدَةِ : 42 ] ، وَقَالَ تَعَالَى : فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ [ الْمَائِدَةِ : 49 ] وَلَمْ يَقُلْ : فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ . وَسَوَاءٌ كَانَ هَذَا فِي حُقُوقِ اللَّهِ أَوْ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ ، فَعَلَى هَذَا إِنِ اسْتَعْدَوُا الْحَاكِمَ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يُعْدِيَ الْمُسْتَعْدِيَ وَبَيْنَ أَنْ لَا يُعْدِيَهُ ، وَإِذَا أَعْدَاهُ كَانَ الْمُسْتَعْدِي عَلَيْهِ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْحُضُورِ وَالِامْتِنَاعِ ، إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِمْ فِي عَقْدِ الذِّمَّةِ أَنْ يُجْرِيَ عَلَيْهِمْ أَحْكَامَنَا ، فَيَلْزَمُ الْحَاكِمُ أَنْ يُعْدِيَهُمْ وَيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ، وَيُلْزِمَهُمُ الْحُضُورَ إِلَيْهِ وَالْتِزَامَ حُكْمِهِ ، فَإِنْ تَرَاضَوْا بِالْمُحَاكَمَةِ إِلَيْهِ تَوَجَّهَ لُزُومُ الْحُكْمِ إِلَيْهِمْ دُونَهُ ، فَيَكُونُ مُخَيَّرًا فِي الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ ، فَإِنْ حَكَمَ وَجَبَ عَلَيْهِمُ الْتِزَامُ حُكْمِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْحَاكِمُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ وَيُعْدِيَ الْمُسْتَعْدِي مِنْهُمْ وَيُخَيِّرَ الْمُسْتَعْدِيَ عَلَيْهِ عَلَى الْحُضُورِ ، وَيُلْزِمَهُ الْحُكْمَ جَبْرًا ، سَوَاءٌ كَانَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ : لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [ التَّوْبَةِ : 29 ] . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : وَالصَّغَارُ : أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ . وَإِنْ كَانَ عِنْدَ غَيْرِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الصَّغَارَ هُوَ الْإِذْعَانُ بِبَذْلِ الْجِزْيَةِ ، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ زَنَيَا ، وَلَوْ لَمْ تَلْزَمْهُمْ أَحْكَامُهُ لَامْتَنَعُوا عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ تُوجِبُ حِفْظَ الْحُقُوقِ وَتَمْنَعُ مِنَ التَّظَالُمِ . فَعَلَى هَذَا : إِنْ كَانَ مَا ارْتَكَبُوهُ مِنَ الْحُدُودِ مَحْظُورًا عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ كَالزِّنَا ، أَقَمْنَا الْحَدَّ عَلَيْهِمْ ، وَإِنْ كَانَ مَحْظُورًا عِنْدَنَا مُبَاحًا عِنْدَهُمْ كَشُرْبِ الْخَمْرِ ، لَمْ نَحُدَّهُمْ لِإِقْرَارِنَا لَهُمْ عَلَى اسْتِبَاحَتِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنْ يَلْزَمَهُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ ، وَلَا يَلْزَمَهُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى : لِأَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ فِي كُفْرِهِمْ أَعْظَمُ وَقَدْ أَقَرُّوا عَلَيْهِ ، وَحُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ مَحْفُوظَةٌ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ ، كَمَا يَلْزَمُنَا حِفْظُ أَمْوَالِهِمْ . فَإِنْ كَانَ التَّحَاكُمُ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَذِمِّيٍّ لَزِمَ الْحُكْمُ بَيْنَهُمِ قَوْلًا وَاحِدًا ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْلِمُ مُسْتَعْدِيًا أَوْ مُسْتَعْدًى عَلَيْهِ : لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى وَإِنْ كَانَ التَّحَاكُمُ بَيْنَ ذِمِّيِّينَ مِنْ مِلَّتَيْنِ كَيَهُودِيٍّ وَنَصْرَانِيٍّ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : يَلْزَمُ الْحُكْمُ بَيْنَهُمَا قَوْلًا وَاحِدًا : لِاخْتِلَافِ الْمُعْتَقَدَيْنِ كَمَا لَوْ كَانَتْ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَذِمِّيٍّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : - يُشْبِهُ قَوْلَ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ - أَنْ يَكُونَ عَلَى الْأَقَاوِيلِ الثَّلَاثَةِ : لِأَنَّ الْكُفْرَ كُلُّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ الْإِسْلَامُ وَهَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي الْإِحْصَانِ أَمْ لَا ؟ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْإِحْصَانِ ، وَأَنَّ الْكَافِرَ إِذَا أَصَابَ كَافِرَةً فِي عَقْدٍ شرط الإحصان عند الزنا صَارَا مُحْصَنَيْنِ ، فَإِنْ زَنَيَا فَحَدُّهُمَا الرَّجْمُ . وَالثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّ الْإِسْلَامَ شَرْطٌ فِي الْإِحْصَانِ ، فَإِذَا أَصَابَ الْكَافِرُ كَافِرَةً فِي عَقْدِ نِكَاحٍ لَمْ يَتَحَصَّنْ بِهِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا ، وَحَدُّهُمَا إِذَا زَنَيَا الْجَلْدُ . وَإِنْ أَصَابَ مُسْلِمٌ كَافِرَةً فِي عَقْدِ نِكَاحٍ شرط الإحصان عند الزنا لَمْ يَتَحَصَّنْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا ، فَأَيُّهُمَا زَنَا فَحَدُّهُ الْجَلْدُ . وَالثَّالِثُ : مَا قَالَهُ مَالِكٌ : أَنَّ الْإِصَابَةَ فِي نِكَاحِ الْإِسْلَامِ شَبِيهٌ فِي الْإِحْصَانِ ، فَإِنْ أَصَابَ الْكَافِرُ كَافِرَةً فِي عَقْدِ نِكَاحٍ فِي الْكُفْرِ لَمْ يَتَحَصَّنْ بِهِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا . وَإِنْ أَصَابَ الْمُسْلِمُ كَافِرَةً فِي عَقْدِ نِكَاحٍ تَحَصَّنَ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، فَأَيُّهُمَا زَنَا رُجِمَ ، وَبَنَى ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ مَنَاكِحَ الشِّرْكِ بَاطِلَةٌ . وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي جَوَازِهَا وَالْعَفْوِ عَنْهَا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ ، وَمَضَى مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَوَّلِ هَذَا الْكِتَابِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .
بَابُ حَدِّ الْقَذْفِ
بَابُ حَدِّ الْقَذْفِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " إِذَا قَذَفَ الْبَالِغُ حُرًّا بَالِغًا مُسْلِمًا ، أَوْ حُرَّةً بَالِغَةً مُسْلِمَةً حُدَّ ثَمَانِينَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَالْأَصْلُ فِي تَحْرِيمِ الْقَذْفِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [ النُّورِ : 23 ] وَرَوَى حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : قَذْفُ مُحْصَنَةٍ يُحْبِطُ عَمَلَ مِائَةِ سَنَةٍ " . وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنْ أَقَامَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ ، وَاجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ السَّبْعَ ، نُودِيَ فِي الْقِيَامَةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَةَ مِنْ أَيِّ بَابٍ شَاءَ قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عُمَرَ الْكَبَائِرُ السَّبْعُ سَمِعْتَهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَ : " نَعَمْ ، الشِّرْكُ بِاللَّهِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ ، وَالْقَتْلُ ، وَالْفِرَارُ يَوْمَ الزَّحْفِ ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ ، وَالزِّنَا " ، وَقَدْ كَانَ مِنْ شَأْنِ عَائِشَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهَا فِي الْإِفْكِ عَلَيْهَا مَا بَرَّأَهَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ . وَسَبَبُهُ : أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ ، وَهِيَ غَزْوَةُ بَنِي الْمُصْطَلَقِ سَنَةَ سِتٍّ ، فَضَاعَ عِقْدٌ لَهَا مِنْ جِزْعِ أَظْفَارٍ وَقَدْ تَوَجَّهَتْ لِحَاجَتِهَا ، فَعَادَتْ فِي طَلَبِهِ وَرَحَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَنْزِلِهِ ، وَرَفَعَ هَوْدَجَهَا وَلَمْ يَشْعُرْ بِهَا أَنَّهَا لَيْسَتْ فِيهِ لِخِفَّتِهَا ، وَعَادَتْ فَلَمْ تَرَ فِي الْمَنْزِلِ أَحَدًا ، فَأَدْرَكَهَا صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ فَحَمَلَهَا عَلَى رَاحِلَتِهِ وَأَلْحَقَهَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَتَكَلَّمَ فِيهَا وَفِي صَفْوَانَ مَنْ تَكَلَّمَ ، وَقَدِمَتِ الْمَدِينَةَ وَانْتَشَرَ الْإِفْكُ وَهِيَ لَا تَعْلَمُ ، ثُمَّ عَلِمَتْ فَأَخَذَهَا مِنْهُ كُلُّ عَظِيمٍ إِلَى أَنْ أَنْزَلَ تَعَالَى بَرَاءَتَهَا بَعْدَ شَهْرٍ مِنْ قُدُومِ الْمَدِينَةِ مَا أَنْزَلَ ، فَقَالَ تَعَالَى : إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ [ النُّورِ : 11 ] ، وَفِي الْمُرَادِ بِالْإِفْكِ وَجْهَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ الْإِثْمُ ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ الْكَذِبُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ . وَزُعَمَاءُ الْإِفْكِ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ ، وَمِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ ، وَزَيْدُ بْنُ رِفَاعَةَ ، وَحَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ . لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [ النُّورِ : 11 ] ، أَيْ : لَا تَحْسَبُوا مَا ذُكِرَ مِنَ الْإِفْكِ شَرًّا لَكُمْ ، أَيْ : أَذًى ، بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ بَرَّأَ مِنْهُ وَأَثَابَ عَلَيْهِ ، وَفِي الْمَقْصُودِ بِهَذَا الْقَوْلِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : عَائِشَةُ وَصَفْوَانُ : لِأَنَّهُمَا قُصِدَا بِالْإِفْكِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ [ النُّورِ : 11 ] ، أَيْ : لَهُ عِقَابُ مَا اكْتَسَبَ بِقَدْرِ إِثْمِهِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ [ النُّورِ : 11 ] ، فِيهِ قِرَاءَتَانِ : " كِبْرَهُ " بِكَسْرِ الْكَافِ وَمَعْنَاهُ إِثْمَهُ . وَقُرِئَ بِضَمِّ الْكَافِ وَمَعْنَاهُ بِعِظَمِهِ . وَمُتَوَلِّي كِبْرِهِ مِنْهُمْ : حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ ، وَمِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ وَحَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ ، لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ [ النُّورِ : 11 ] ، فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ حَدُّ الْقَذْفِ الَّذِي أَقَامَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ ، قَالَهُ عُرْوَةُ ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، حَتَّى قَالَ فِيهِ بَعْضُ شُعَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ : لَقَدْ ذَاقَ حَسَّانُ الَذِي كَانَ أَهْلُهُ وَحَمْنَةُ إِذْ قَالَا فُجُورًا وَمِسْطَحُ تَعَاطَوْا بِرَجْمِ الْغَيْبِ زَوْجَ نَبِيِّهِمْ وَسُخْطَةَ ذِي الْعَرْشِ الْعَظِيمِ فَأَبْرَحُوا فَصُبَّتْ عَلَيْهِمْ مُحْصَدَاتٌ كَأَنَّهَا شَآبِيبُ قَطْرٍ مِنْ ذُرَى الْمُزْنِ تُسْفَحُ وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمْ يَجْلِدْهُمْ : لِأَنَّ الْحُدُودَ إِنَّمَا تُقَامُ بِإِقْرَارٍ أَوْ بِبَيِّنَةٍ ، وَلَا تُقَامُ بِإِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهَا ، كَمَا لَمْ يَتَعَبَّدْنَا بِقَتْلِ الْمُنَافِقِينَ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ كُفْرِهِمْ ، وَالْعَذَابُ الْعَظِيمُ هُوَ أَنَّ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ ، وَمِسْطَحَ بْنَ أَثَاثَةَ عَمِيَا ، وَحَمْنَةَ بِنْتَ جَحْشٍ اسْتُحِيضَتْ ، وَاتَّصَلَ دَمُهَا عُقُوبَةً لِمَا كَانَ مِنْهَا .
فَصْلٌ : ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَلَّظَ تَحْرِيمَ الْقَذْفِ بِالزِّنَا بِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الْقَاذِفِ فَقَالَ : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ [ النُّورِ : 4 ] ، يَعْنِي بِالزِّنَا
ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [ النُّورِ : 4 ] . فَغَلَّظَ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : الْحَدُّ ، وَالْفِسْقُ ، وَالْمَنْعُ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ ، وَلَمْ يُوجِبْ بِالْقَذْفِ بِغَيْرِ الزِّنَا مِنَ الْكُفْرِ وَسَائِرِ الْفَوَاحِشِ حَدًّا : لِأَنَّ الْقَذْفَ بِالزِّنَا أَعَرُّ وَهُوَ بِالنَّسْلِ أَضَرُّ ، وَلِأَنَّ الْمَقْذُوفَ بِالْكُفْرِ يَقْدِرُ عَلَى نَفْيِهِ عَنْ نَفْسِهِ بِإِظْهَار الشَّهَادَتَيْنِ ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى نَفْيِ الزِّنَا عَنْ نَفْسِهِ . وَجَعَلَ حَدَّهُ ثَمَانِينَ جَلْدَةً : لِأَنَّ الْقَذْفَ بِالزِّنَا أَقَلُّ مِنْ فِعْلِ الزِّنَا فَكَانَ أَقَلَّ حَدًّا مِنْهُ ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَاسَ عَلَيْهِ حَدَّ شَارِبِ الْخَمْرِ فَقَالَ : لِأَنَّهُ إِذَا شَرِبَ سَكِرَ ، وَإِذَا سَكِرَ هَذَى ، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى ، وَحَدُّ الْمُفْتَرِي ثَمَانُونَ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْقَاذِفِ وَالْمَقْذُوفِ
فَصْلٌ : [ الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْقَاذِفِ وَالْمَقْذُوفِ ] فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ ثَمَانُونَ جَلْدَةً فَهُوَ أَكْمَلُ حُدُودِهِ ، وَكَمَالُهُ مُعْتَبَرٌ بِشُرُوطٍ فِي الْمَقْذُوفِ وَشُرُوطٍ فِي الْقَاذِفِ . فَأَمَّا الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْمَقْذُوفِ فَخَمْسَةٌ : الْبُلُوغُ ، وَالْعَقْلُ ، وَالْحُرِّيَّةُ ، وَالْإِسْلَامُ ، وَالْعِفَّةُ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ فِي حَدِّ الْقَاذِفِ إِحْصَانَ الْمَقْذُوفِ ، فَقَالَ : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ [ النُّورِ : 4 ] ، فَاعْتُبِرَ بِالْبُلُوغِ لِنَقْصِ الصِّغَرِ . وَاعْتُبِرَ بِالْعَقْلِ لِنَقْصِ الْجُنُونِ . وَاعْتُبِرَ بِالْحُرِّيَّةِ لِنَقْصِ الرِّقِّ . وَاعْتُبِرَ بِالْإِسْلَامِ لِنَقْصِ الْكُفْرِ . وَاعْتُبِرَ بِالْعِفَّةِ لِنَقْصِ الزِّنَا ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ [ النُّورِ : 4 ] ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ إِذَا أَتَوْا بِالشُّهَدَاءِ لَمْ يُحَدُّوا ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ [ النُّورِ : 23 ] ، أَنَّهُ أَرَادَ الْغَافِلَاتِ عَنِ الْفَوَاحِشِ بِتَرْكِهَا . وَإِنْ كَانَ الْمَقْذُوفُ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا فَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهَا لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِنُقْصَانِهِمَا عَنْ كَمَالِ الْإِحْصَانِ . وَالثَّانِي : لِأَنَّهُمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا بِالزِّنَا حَدٌّ ، فَلَمْ يَجِبْ لَهُمَا بِالْقَذْفِ حَدٌّ . وَإِنْ كَانَ الْمَقْذُوفُ عَبْدًا فَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ . وَقَالَ دَاوُدُ : يُحَدُّ قَاذِفُهُ لِعُمُومِ الظَّاهِرِ ، وَلِأَنَّهُ يُحَدُّ بِالزِّنَا فَحُدَّ لَهُ الْقَاذِفُ بِالزِّنَا كَالْحُرِّ . وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ فِيهِ الْإِحْصَانَ وَهُوَ مُنْطَلِقٌ عَلَى الْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَا شُرِطَا فِيهِ ، وَلِأَنَّ فِعْلَ الزِّنَا أَغْلَظُ مِنَ الْقَذْفِ ، فَلَمَّا مَنَعَهُ نَقْصُ الرِّقِّ مِنْ كَمَالِ حَدِّ الزِّنَا كَانَ أَوْلَى أَنْ يُمْنَعَ مِنْ حَدِّ قَذْفِهِ بِالزِّنَا ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا مَنَعَهُ نَقْصُ الرِّقِّ أَنْ تُؤْخَذَ بِنَفْسِهِ نَفْسُ حُرٍّ كَانَ أَوْلَى أَنْ يُمْنَعَ أَنْ يُؤْخَذَ بِعِرْضِهِ عَنْ عِوَضِ حُرٍّ . فَإِنْ قِيلَ : يَنْبَغِي إِذَا قَذَفَهُ عَبْدٌ مِثْلُهُ أَنْ يُحَدَّ لِقَذْفِهِ كَمَا يُقْتَصُّ بِقَتْلِهِ . قِيلَ : هَذَا لَا يَلْزَمُ : لِأَنَّ الْمَقْذُوفَ قَدْ عَدِمَ شَرْطَ الْإِحْصَانِ فَسَقَطَ حَدُّ قَذْفِهِ وَإِنْ سَاوَاهُ الْقَاذِفُ ، كَمَا لَوْ كَانَ غَيْرَ عَفِيفٍ فَقَذَفَهُ غَيْرُ عَفِيفٍ لَمْ يُحَدَّ ، وَإِنِ اسْتَوَيَا فِي سُقُوطِ
الْعِفَّةِ لِعَدَمِ شَرْطِ الْإِحْصَانِ ، وَكَذَلِكَ قَذْفُ الْعَبْدِ لِلْعَبْدِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِّهِ بِالزِّنَا : فَلِأَنَّ حَدَّ الزِّنَا عَلَيْهِ وَحَدُّ الْقَذْفِ لَهُ ، وَنَقْصُهُ مُؤَثِّرٌ فِي الْحَقِّ الَّذِي لَهُ ، وَإِنْ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ ، كَالْقِصَاصِ لَا يَسْتَحِقُّهُ عَلَى الْحُرِّ ، وَيَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهِ الْحُرُّ . وَهَكَذَا لَوْ كَانَ الْمَقْذُوفُ مُدَبَّرًا أَوْ مُكَاتِبًا أَوْ مَنْ رُقَّ بَعْضُهُ وَإِنْ قَلَّ فَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ ، سَوَاءٌ سَاوَاهُ فِي الرِّقِّ أَوْ فُضِّلَ عَلَيْهِ بِالْحُرِّيَّةِ ، لَكِنْ يُعَزَّرُ لِلْأَذَى ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْذُوفُ كَافِرًا فَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ ، سَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا : لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ عَدَمِ شَرْطَ الْإِحْصَانِ فِيهِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَأْخُذْ نَفْسَ الْمُسْلِمِ بِنَفْسِ الْكَافِرِ لَمْ يُؤْخَذْ عِرْضُهُ بِعِرْضِهِ ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ الْمَقْذُوفُ غَيْرَ عَفِيفٍ فَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ ، وَسَنَذْكُرُ مَا تَسْقُطُ بِهِ الْعِفَّةُ مِنْ بَعْدُ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْقَاذِفِ فَثَلَاثَةُ شُرُوطٍ : الْبُلُوغُ ، وَالْعَقْلُ ، وَالْحُرِّيَّةُ ، فَإِذَا اسْتَكْمَلَهَا الْقَاذِفُ حُدَّ حَدًّا كَامِلًا إِذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ كَامِلًا . فَإِنْ أَخَلَّ بِالْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ بِالْقَذْفِ : لِارْتِفَاعِ الْقَلَمِ عَنْهُ ، وَلِأَنَّهُ لَا يُحَدَّ بِالزِّنَا ، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يُحَدَ لِلْقَذْفِ بِالزِّنَا . وَإِنْ كَانَ الْقَاذِفُ عَبْدًا حُدَّ بِالْقَذْفِ أَرْبَعِينَ نِصْفَ حَدِّ الْحُرِّ . وَقَالَ دَاوُدُ : يُحَدُّ ثَمَانِينَ حَدًّا كَامِلًا كَالْحُرِّ ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَالزُّهْرِيِّ تَعَلُّقًا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى : فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [ النُّورِ : 4 ] ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ : لِأَنَّ فِعْلَ الزِّنَا أَغْلَظُ مِنَ الْقَذْفِ بِهِ ، وَهُوَ لَا يُسَاوِي الْحُرَّ فِي حَدِّ الزِّنَا ، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يُسَاوِيَهُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ بِالزِّنَا . رُوِيَ عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبِيعَةَ أَنَّهُ قَالَ : أَدْرَكْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَمَنْ بَعْدَهُمَا مِنَ الْخُلَفَاءِ فَلَمْ أَرَهُمْ يَضْرِبُونَ الْمَمْلُوكَ فِي الْقَذْفِ إِلَّا أَرْبَعِينَ فَكَانَ إِجْمَاعًا . فَأَمَّا الْآيَةُ فَوَارِدَةٌ فِي الْأَحْرَارِ : لِأَنَّهُ مَنَعَ فِيهَا مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ لِقَذْفِهِمْ ، وَالْعَبْدُ لَا تُسْمَعُ شَهَادَتُهُ قَاذِفًا أَوْ غَيْرَ قَاذِفٍ ، فَإِنْ كَانَ الْقَاذِفُ كَافِرًا حُدَّ حَدًّا كَامِلًا : لِأَنَّهُ يَنْقُصُ عَنِ الْمُسْلِمِ فِي الْحَقِّ الَّذِي لَهُ ، وَلَا يَنْقُصُ عَنْهُ فِي الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِنْ قَذَفَ نَفَرًا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ ، كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَدُّهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَذْفُ الْوَاحِدِ لِلْجَمَاعَةِ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُفْرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالْقَذْفِ فَيَقْذِفُهُ بِكَلِمَةٍ مُفْرَدَةٍ ، فَلَا تَتَدَاخَلُ حُدُودُهُمْ ، وَيُحَدُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَدًّا مُفْرَدًا .
وَالضَّرْبُ الثَّانِي : يَجْمَعُهُمْ فِي الْقَذْفِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَقُولُ : زَنَيْتُمْ ، أَوْ أَنْتُمْ زُنَاةٌ . فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : - وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ - أَنَّهُ تَتَدَاخَلُ حُدُودُهُمْ ، وَيُحَدُّ لِجَمِيعِهِمْ حَدًّا وَاحِدًا ، اعْتِبَارًا بِكَلِمَةِ الْقَذْفِ أَنَّهَا وَاحِدَةٌ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : - وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ - أَنَّ حُدُودَهُمْ لَا تَتَدَاخَلُ ، وَيُحَدُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَدًّا مُنْفَرِدًا اعْتِبَارًا بِهِمْ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَتَدَاخَلُ حُدُودُ جَمَاعَتِهِمْ ، وَيَحُدُّ لِجَمِيعِهِمْ حَدًّا وَاحِدًا ، سَوَاءً جَمَعَهُمْ فِي الْقَذْفِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ أَفْرَدَهُمْ وَقَذَفَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِكَلِمَةٍ مُفْرَدَةٍ : احْتِجَاجًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ [ النُّورِ : 4 ] ، الْآيَةَ فَجَعَلَ لِكُلِّ الْمُحْصَنَاتِ حَدًّا وَاحِدًا . وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ بْنِ السَّمْحَاءِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْبَيِّنَةُ وَحَدًّا ، أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ فَقَذْفُ اثْنَيْنِ أَوْجَبَ عَلَيْهِ حَدًّا . وَلِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّ الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى الْمُغِيرَةِ بِالزِّنَا حَدًّا وَاحِدًا ، وَقَدْ صَارُوا قَذَفَةً لَهُ وَلِلْمَرْأَةِ . وَلِأَنَّ فِعْلَ الزِّنَا أَغْلَظُ مِنَ الْقَذْفِ بِهِ ، ثُمَّ كَانَ الزِّنَا إِذَا تَكَرَّرَ فِي جَمَاعَةٍ تَدَاخَلَتْ حُدُودٌ ، فَكَانَ الْقَذْفُ بِهِ أَوْلَى أَنْ تَتَدَاخَلَ حُدُودُهُ . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا : أَنَّهَا حُدُودٌ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَوَجَبَ أَنْ تَتَدَاخَلَ كَالزِّنَا ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا تَدَاخَلَ الْقَذْفُ إِذَا تَكَرَّرَ فِي وَاحِدٍ وَجَبَ أَنْ يَتَدَاخَلَ إِذَا تَكَرَّرَ فِي جَمَاعَةٍ ، وَلِأَنَّهَا حُدُودٌ تَتَدَاخَلُ فِي الزِّنَا ، فَوَجَبَ أَنْ تَتَدَاخَلَ فِي الْقَذْفِ كَالْمُتَكَرِّرِ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ . وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ الْقَذْفَ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ فِي الْأَجَانِبِ وَاللِّعَانَ فِي الزَّوْجَاتِ ، فَلَمَّا لَمْ يَتَدَاخَلِ اللِّعَانُ فِي الزَّوْجَاتِ وَأَفْرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُنَّ بِلِعَانٍ لَمْ تَتَدَاخَلِ الْحُدُودُ فِي الْأَجَانِبِ ، وَانْفَرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِحَدٍّ . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا : أَنَّهُ أَحَدُ مُوجِبَيِ الْقَذْفِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَدَاخَلَ فِي حُقُوقِ الْجَمَاعَةِ كَاللِّعَانِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ حُقِّقَ قَذْفُهُ الْجَمَاعَةَ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ لَزِمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَدٌّ كَامِلٌ وَجَبَ إِذَا تَحَقَّقَ قَذْفُهُ أَنْ يُحَدَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَدًّا كَامِلًا : لِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ مُقَابِلٌ كَحَدِّ الزِّنَا عَلَيْهِمْ . وَيَتَحَرَّرُ مِنْهُ قِيَاسَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَحَدُ حَالَتَيِ الْقَذْفِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَدَاخَلَ مُوجِبُهُ كَمَا لَوْ تَحَقَّقَ . وَالثَّانِي : أَنَّ كُلَّ مَقْذُوفٍ لَوْ تَحَقَّقَ قَذْفُهُ ، لَمْ يَتَدَاخَلِ الْحَدُّ عَلَيْهِ وَجَبَ إِذَا لَمْ يَتَحَقَّقُ
أَنْ لَا يَتَدَاخَلَ لَهُ ، كَقَذْفِ الْوَاحِدِ لِوَاحِدٍ ، وَلِأَنَّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلِنَا فِي حَدِّ الْقَذْفِ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ عَلَى مَا سَنَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ بَعْدُ . فَنَقُولُ عِنْدَ ثُبُوتِهِ : إِنَّ كُلَّ حَقٍّ لِآدَمِيٍّ إِذَا لَمْ يَتَدَاخَلْ فِي وُجُوبِهِ لِلْوَاحِدِ عَلَى الْجَمَاعَةِ لَمْ يَتَدَاخَلْ فِي وُجُوبِهِ لِلْجَمَاعَةِ عَلَى الْوَاحِدِ كَالْقِصَاصِ ، وَفِيهِ احْتِرَازٌ مِنْ آجَالِ الدُّيُونِ : لِأَنَّهَا تَتَدَاخَلُ فِي حَقِّ الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ : فَهُوَ أَنَّهَا دَلِيلُنَا : لِأَنَّهُ أَوْجَبَ لِلْجَمَاعَةِ عَلَى الْجَمَاعَةِ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ، فَلَمَّا كَانَ الْمُرَادُ بِهَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَاذِفِينَ ، دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَقْذُوفِينَ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ ، فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ قَوْلَهُ : " حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ " إِشَارَةٌ إِلَى الْحَبْسِ وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَجِبَ فِيهِ حَدَّانِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَوْجَبَ الْحَدَّ لِمَنْ طَالَبَ بِهِ ، وَلَمْ يَخُصَّ شَرِيكَ بْنَ السَّحْمَاءِ مُطَالِبًا فَيُوجِبُ لَهُ الْحَدَّ . وَالثَّالِثُ : مَا حُكِيَ أَنَّ شَرِيكَ بْنَ السَّحْمَاءِ كَانَ يَهُودِيًّا وَلَا حَدَّ فِي قَذْفِ الْيَهُودِيِّ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عُمَرَ فِي حَدِّهِ الشُّهُودَ عَلَى الْمُغِيرَةِ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُمْ لَمْ يُعَيِّنُوا الْمَزَنِيَّ بِهَا ، فَيَجِبُ الْحَدُّ بِقَذْفِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّهَا لَمْ تُطَالَبْ بِهِ فَيُحَدُّونَ لَهَا . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ فِعْلٌ وَاحِدٌ فَلَمْ يَجِبْ فِي الْقَذْفِ بِهِ إِلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى حَدِّ الزِّنَا : فَهُوَ أَنَّهُ حَدٌّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَوْضُوعَةِ عَلَى الْمُسَاهَلَةِ ، وَإِدْرَائِهَا بِالشُّبْهَةِ ، وَحَدُّ الْقَذْفِ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الَّتِي تَدْخُلُهَا الْمُضَايَقَةُ وَالْمُشَاحَنَةُ ، وَلَا تُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ ، فَكَانَ افْتِرَاقُهَا فِي التَّغْلِيظِ مُوجِبًا لِافْتِرَاقِهَا فِي التَّدَاخُلِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اعْتِبَارِ تَكْرَارِ الْقَذْفِ لِلْجَمَاعَةِ بِتَكْرَارِهِ فِي الْوَاحِدِ ، فَهُوَ فَسَادٌ ، مَوْضُوعُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا تَدَاخَلَ لِعَانُهُ إِذَا تَكَرَّرَ فِي الزَّوْجَةِ الْوَاحِدَةِ ، وَلَمْ يَتَدَاخَلْ إِذَا تَكَرَّرَ فِي الزَّوْجَاتِ ، كَذَلِكَ الْقَذْفُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ تَكْرَارُ الْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ يُوجِبُ تَدَاخُلَ الْمَهْرِ فِي الْمَنْكُوحَةِ الْوَاحِدَةِ ، وَلَا يُوجِبُ تَدَخُّلَهُ فِي مُهُورِ الْجَمَاعَةِ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْتَبَرَ مَا تَكَرَّرَ فِي الْوَاحِدِ بِمَا تَكَرَّرَ فِي الْجَمَاعَةِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِنْ قَالَ : يَا ابْنَ الزَّانِيَيْنِ . وَكَانَ أَبَوَاهُ حُرَّيْنِ مُسْلِمَيْنِ مَيِّتَيْنِ فَعَلَيْهِ حَدَّانِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الْمَحْضَةِ عِنْدَنَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هِيَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ الْمَحْضَةِ ، وَتَأْثِيرُ هَذَا الْخِلَافِ حُكْمَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَسْقُطُ بِالْعَفْوِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ، وَلَا يَسْقُطُ بِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يُورَثُ بِالْمَوْتِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَلَا يُورَثُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ . وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فِي كِتَابِ اللِّعَانِ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ . وَلَوْ قَذَفَ مَيِّتَةً اسْتَحَقَّ وَلَدُهَا حَدَّ قَاذِفِهَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ . فَوَافَقَ أَبُو حَنِيفَةَ إِذَا قَذَفَهَا بَعْدَ مَوْتِهَا ، وَخَالَفَ إِذَا قَذَفَهَا فِي حَيَاتِهَا ثُمَّ مَاتَتْ ، وَوِفَاقُهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعِ خِلَافِهِ . وَفَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَثْبُتُ لَهُ حَقٌّ بَعْدَ مَوْتِهِ ، فَصَارَ الْحَدُّ حَقًّا لِوَلَدِهَا دُونَهَا فَلَمْ يَكُنْ مَوْرُوثًا عَنْهَا . وَهَذَا فَاسِدٌ : لِأَنَّهُ يُرَاعِي فِي وُجُوبِ الْحَدِّ إِحْصَانَ الْأُمِّ دُونَ الْوَلَدِ ، وَلَوْ كَانَ لَهُ لَرَاعَيْنَا إِحْصَانَهُ دُونَ الْأُمِّ ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَجِبَ لَهَا بَعْدَ مَوْتِهَا حَدُّ الْقَذْفِ ، كَمَا وَجَبَ عَلَيْهَا بَعْدَ مَوْتِهَا غُرِّمَ مَا تَلَفَ بِجِنَايَتِهَا مِنْ حَفْرِ بِئْرٍ وَوَضْعِ حَجَرٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ حَالَ الْأُمِّ يَقْدَحُ فِي نَسَبِ الِابْنِ ، فَوَجَبَ لَهُ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ إِرْثٍ . وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَوْ قُذِفَ أَبَوْهُ بِالزِّنَا بِغَيْرِ أُمِّهِ ، أَوْ قُذِفَتْ أُمُّهُ بِالزِّنَا بَعْدَ وِلَادَتِهِ وَكِبَرِهِ لَمْ يَكُنْ هَذَا قَادِحًا فِي نَسَبِهِ وَيَمْلِكُ الْحَدَّ فِيهَا ، فَبَطُلَ التَّعْلِيلُ بِقَدْحِ النَّسَبِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ وَجَبَ الْحَدُّ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ لَاسْتَحَقَّهُ فِي حَيَاةِ أُمِّهِ ، وَهُوَ لَا يَسْتَحِقُّهُ ، فَبَطُلَ الِاعْتِلَالُ بِهِ ، وَلَمْ يَبْقَ لِاسْتِحْقَاقِهِ عِلَّةٌ إِلَّا الْمِيرَاثُ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مَوْرُوثٌ فَصُورَةُ مَسْأَلَتِنَا فِي رَجُلٍ قَالَ لِرَجُلٍ : يَا ابْنَ الزَّانِيَيْنِ . فَهَذَا قَاذِفٌ لِأَبَوَيْهِ دُونَهُ ، فَإِنْ كَانَ أَبَوَاهُ حَيَّيْنِ فَهُمَا الْمُطَالِبَانِ بِحَدِّ قَذْفِهِمَا دُونَهُ ، فَإِنْ عَفَوَا صَحَّ عَفْوُهُمَا وَلَا حَقَّ لِلْوَلَدِ فِي حَدِّ قَاذِفِهِمَا . وَإِنْ كَانَا مَيِّتَيْنِ فَهُوَ مِيرَاثٌ لِلْوَلَدِ عَنْهُمَا وَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْمُطَالَبَةِ بِحَدِّ قَذْفِهِمَا ، وَهُوَ قَذْفُ اثْنَيْنِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَكُونُ فِيمَا يَسْتَحِقُّ بِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الْقَدِيمُ حَدٌّ وَاحِدٌ : لِأَنَّهُ قَذَفَ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ .
وَالثَّانِي : - وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ - حَدَّانِ : لِأَنَّ الْمَقْذُوفَ اثْنَانِ . فَإِنْ عَفَا الِابْنُ عَنِ الْحَدِّ صَحَّ عَفْوُهُ ، وَلَوْ عَفَا عَنْ حَدِّ أَحَدِهِمَا كَانَ لَهُ الْحَدُّ فِي قَذْفِ الْآخَرِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : أَوْ يَأْخُذُ حَدَّ الْمَيِّتِ وَلَدُهُ وَعَصَمَتُهُ مَنْ كَانُوا . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي وَارِثِ حَدِّ الْقَذْفِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ : أَحَدُّهَا : أَنَّهُ يَرِثُهُ ذُكُورُ الْعَصَبَاتِ دُونَ غَيْرِهِمْ كَوِلَايَةِ النِّكَاحِ : لِأَنَّهُمَا مَعًا مَوْضُوعَانِ لِنَفْيِ الْعَارِ . نُصَّ عَلَيْهِ فِي اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَرِثُهُ جَمِيعُ ذَوِي الْأَنْسَابِ دُونَ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ : لِاخْتِصَاصِهِ بِمَعَرَّةِ النَّسَبِ ، فَخَرَجَ مِنْ مُسْتَحِقِّهِ مَنْ خَرَجَ مِنَ النَّسَبِ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : يَرِثُهُ جَمِيعُ الْوَرَثَةِ مِنْ دُونِ الْأَنْسَابِ وَالْأَسْبَابِ كَالْمَالِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا اسْتَحَقَّ بِالْإِرْثِ عَلَى مَا وَصَفْنَا كَانَ لِجَمِيعِهِمْ ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ ، فَلَوْ طَالَبَ بِهِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَعَفَا الْبَاقُونَ عَنْهُ كَانَ لِلطَّالِبِ بِهِ مِنْهُمْ أَنْ يَسْتَوْفِيَ جَمِيعَهُ بِخِلَافِ الْقِصَاصِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ فِي عَفْوِ الْقِصَاصِ يُرْجَعُ إِلَى بَدَلٍ هُوَ الدِّيَةُ ، فَسَقَطَ حَقُّهُ بِعَفْوِ غَيْرِهِ ، وَلَا يُرْجَعُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ إِلَى بَدَلٍ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْقُطَ حَقُّهُ بِعَفْوِ غَيْرِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ تَأْثِيرَ الْجِنَايَةِ لَا يَتَعَدَّى الْمَجْنِي عَلَيْهِ فَقَامَ جَمِيعُ وَرَثَتِهِ فِيهِ مَقَامَهُ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا كَانَ لَهُ مِنَ الْحَدِّ بِقَدْرِ إِرْثِهِ : لِأَنَّهُ يَتَبَعَّضُ كَالدِّيَةِ . قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الدِّيَةَ عِوَضٌ فَجَازَ أَنْ تَتَبَعَّضَ ، وَحَدُّ الْقَذْفِ لِنَفْيِ الْمَعَرَّةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَبَعَّضَ . وَالثَّانِي : أَنَّ الدِّيَةَ لَمَّا تَبَعَّضَتْ فِي الْوُجُوبِ جَازَ أَنْ تَتَبَعَّضَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ ، وَحَدُّ الْقَذْفِ لَمَّا لَمْ يَتَبَعَّضْ فِي الْوُجُوبِ لَمْ يَتَبَعَّضْ فِي الِاسْتِحْقَاقِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ الْقَاذِفُ لِلْمَقْذُوفِ : إِنَّهُ عَبْدٌ . فَعَلَى الْمَقْذُوفِ الْبَيِّنَةُ : لِأَنَّهُ يَدَّعِي الْحَدَّ وَعَلَى الْقَاذِفِ الْيَمِينُ : لِأَنَّهُ يُنْكِرُ الْحَدَّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ لَقِيطًا أَوْ مَجْهُولَ النَّسَبِ فَادَّعَى أَنَّهُ حُرٌّ لِيَحُدَّ قَاذِفُهُ ، وَأَنْكَرَ الْقَاذِفُ حُرِّيَّتَهُ ، وَقَالَ : أَنْتَ عَبْدٌ . فَلَا حَدَّ لَكَ عَلَيَّ ، فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ اللَّقِيطِ اخْتِلَافَ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي حُكْمِ اللَّقِيطِ ، فَأَحَدُ قَوْلَيْهِ : إِنَّهُ مَجْهُولُ الْأَصْلِ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ حُرٌّ فِي الظَّاهِرِ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ مَجْهُولُ الْأَصْلِ . كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ قَاذِفِهِ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ عَبْدٌ ، إِلَّا أَنْ يُقِيمَ الْمَقْذُوفُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ حُرٌّ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ حُرٌّ فِي الظَّاهِرِ . فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَقْذُوفِ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ حُرٌّ اعْتِبَارًا بِالظَّاهِرِ مِنْ حَالِهِ ، إِلَّا أَنْ يُقِيمَ الْقَاذِفُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ قَاذِفِهِ أَيْضًا : لِأَنَّ حُدُودَ الْأَبْدَانِ مَوْضُوعَةٌ عَلَى إِدْرَائِهَا بِالشُّبْهَةِ ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي الْقَذْفِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْقَاذِفِ دُونَ الْمَقْذُوفِ . وَقَالَ فِي كِتَابِ الْجِنَايَاتِ : إِذَا قَالَ الْجَانِي وَهُوَ حُرٌّ : إِنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ عَبْدٌ . فَلَا قَوَدَ لَهُ ، وَقَالَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ : أَنَا حُرٌّ فَلِيَ الْقَوَدُ . أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ دُونَ الْجَانِي ، فَخَالَفَ بَيْنَ الْقَذْفِ وَالْجِنَايَةِ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ نَقَلُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْجَوَابَيْنِ إِلَى الْآخَرِ وَخَرَّجُوا الْقَذْفَ وَالْجِنَايَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْقَاذِفِ وَالْجَانِي مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ عَبْدٌ ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي الْقَذْفِ ، وَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ فِي الْجِنَايَةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَقْذُوفِ وَالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنَّهُ حُرٌّ ، وَلَهُ الْحَدُّ فِي الْقَذْفِ وَالْقَوَدِ فِي الْجِنَايَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ ، وَالْجَوَابُ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ فِي الْقَذْفِ قَوْلَ الْقَاذِفِ دُونَ الْمَقْذُوفِ ، وَفِي الْجِنَايَةِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ دُونَ الْجَانِي . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ سُقُوطَ الْحَدِّ يُوجِبُ الِانْتِقَالَ إِلَى رَادِعٍ مِنْ جِنْسِهِ وَهُوَ التَّعْزِيرُ ، فَجَازَ أَنْ يَسْقُطَ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْقَوْلُ : لِأَنَّهُ إِذَا أُسْقِطَ لَمْ يُوجِبْ الِانْتِقَالَ إِلَى رَادِعٍ مِنْ جِنْسِهِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَسْقُطْ . وَالثَّانِي : أَنَّ التَّعْزِيرَ بَعْدَ سُقُوطِ الْحَدِّ يَقِينٌ : لِأَنَّهُ بَعْضُ الْحَدِّ ، وَالدِّيَةُ بَعْدَ سُقُوطِ الْحَدِّ شَكٌّ ، فَجَازَ الِانْتِقَالُ إِلَى يَقِينٍ ، وَلَمْ يَجُزْ الِانْتِقَالُ إِلَى شَكٍّ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا يُحَدُّ فِي التَّعْرِيضِ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ التَّعْرِيضَ فِيمَا حُرُمَ عَقْدُهُ فَقَالَ : وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ
وَقَالَ تَعَالَى : وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ فَجَعَلَ التَّعْرِيضَ مُخَالِفًا لِلتَّصْرِيحِ ، فَلَا يُحَدُّ إِلَّا بِقَذْفٍ صَرِيحٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ " اللِّعَانِ " ، وَالتَّعْرِيضُ كِنَايَاتُ الْقَذْفِ فَلَا يَكُونُ قَذْفًا إِلَّا بِالْإِرَادَةِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ . وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ : الْمَعَارِيضُ قَذْفٌ فِي الْغَضَبِ دُونَ الرِّضَا كَقَوْلِهِ : أَنَا مَا زَنَيْتُ ، أَوْ يَا حَلَالَ ابْنَ الْحَلَالِ ، إِلَى مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ . وَقَدْ قَدَّمْنَا مِنَ الدَّلَائِلِ مَا كَفَى ، وَإِذَا سَقَطَ الْحَدُّ فِيهَا نُظِرَ إِلَى مُجَرَّدِهَا ، فَإِنْ تَجَرَّدَتْ عَنْ أَسْبَابِ الْأَذَى فَلَا تَعْزِيرَ فِيهَا ، وَإِنِ اقْتَرَنَتْ بِالْأَذَى وَالسَّبِّ عُزِّرَ فِيهَا ، فَأَمَّا مَا كَانَ ظَاهِرُهُ الْفُحْشَ وَالسَّبَّ كَقَوْلِهِ : يَا فَاسِقُ ، أَوْ يَا فَاجِرُ ، فَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ التَّصْرِيحِ : لِأَنَّهُ سَبٌّ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ ، فَيُعَزَّرُ بِهِ فِي الْأَحْوَالِ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْقَذْفَ فَيُحَدَّ . فَأَمَّا إِذَا قَالَ : يَا عَاهِرُ كنايات القذف . فَقَدْ ذَكَرْنَا فِيهِ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ قَذْفًا صَرِيحًا : لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَكُونُ كِنَايَةً ، إِنْ أَرَادَ بِهِ الْقَذْفَ حُدَّ ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْهُ عُزِّرَ . فَإِنْ أَرَادَ بِهَذِهِ الْمَعَارِيضِ وَالْكِنَايَاتِ الْقَذْفَ حُدَّ لَهَا ، وَإِنْ أَنْكَرَ إِرَادَةَ الْقَذْفِ أُحْلِفَ لَهَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُحَدُّ لَهَا وَلَا يُحْلَفْ عَلَيْهَا وَلَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى فِيهَا : احْتِجَاجًا بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْكِنَايَةَ تَقُومُ مَقَامَ الصَّرِيحِ ، وَالْحَدُّ إِنَّمَا يَجِبُ بِالْقَذْفِ ، وَلَا يَجِبُ بِمَا قَامَ مَقَامَ الْقَذْفِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَفْظُ الْكِنَايَةِ قَذْفًا صَارَ بِالنِّيَّةِ قَاذِفًا ، وَنِيَّةُ الْقَذْفِ لَا تُوجِبُ الْحَدَّ ، وَدَلِيلُنَا شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ عِنْدَنَا ، وَمِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَهُ ، وَالْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ يَجْمَعَانِ حُقُوقَ اللَّهِ وَحُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ ، ثُمَّ كَانَ الْكِنَايَةُ فِيهِمَا مَعَ النِّيَّةِ كَالصَّرِيحِ : لِأَنَّ الشَّهَادَةَ فِيهَا غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ بِخِلَافِ النِّكَاحِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَذْفُ فِي اخْتِصَاصِهِ بِأَحَدِ الْحَقَّيْنِ مُلْحَقًا بِمَا جَمَعَ الْحَقَّيْنِ . وَالثَّانِي : أَنَّ كُلَّ لَفْظٍ احْتَمَلَ مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيِ الْحُكْمِ فَقَصْدُهُ لِأَحَدِهِمَا مُوجِبٌ لِحَمْلِهِ عَلَيْهِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا [ يُوسُفَ : 129 ] إِنْ قَصَدَ بِهِ الْقُرْآنَ حُرِّمَ فِي الْجِنَايَةِ ، وَلَمْ يَبْطُلْ بِهِ الصَّلَاةُ ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الْقُرْآنَ لَمْ يُحَرَّمْ فِي الْجِنَايَةِ ، وَبَطُلَتْ بِهِ الصَّلَاةُ . فَأَمَّا الْجَوَابُ : أَنَّهُ مِثْلُ الْقَذْفِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ مِثْلَ الشَّيْءِ مَا أَوْجَبَ مِثْلَ حُكْمِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ جَارٍ مَجْرَاهُ ، وَلَيْسَ بِمِثْلٍ لَهُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ النِّيَّةِ : فَلَمْ نَجْعَلْهُ قَاذِفًا بِهَا كَمَا لَا نَجْعَلُهُ مُطَلِّقًا ، وَإِنَّمَا جَعَلْنَاهُ قَاذِفًا بِاللَّفْظِ مَعَ النِّيَّةِ كَمَا نَجْعَلُهُ مُطَلِّقًا بِاللَّفْظِ مَعَ النِّيَّةِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ لِعَرَبِيٍّ : يَا نَبَطِيُّ كنايات القذف . فَإِنْ قَالَ : عَنَيْتُ نَبَطِيَّ الدَّارِ أَوِ اللِّسَانِ . أَحْلَفْتَهُ مَا أَرَادَ أَنْ يَنْسُبَهُ إِلَى النَّبَطِ ، وَنَهَيْتَهُ أَنْ يَعُودَ ، وَأَدَّبْتَهُ عَلَى الْأَذَى . فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ حَلَفَ الْمَقْذُوفُ : لَقَدْ أَرَادَ نَفْيَهُ ، وَحُدَّ لَهُ ، فَإِنْ عَفَا فَلَا حَدَّ لَهُ . وَإِنْ قَالَ : عَنَيْتُ بِالْقَذْفِ الْأَبَ الْجَاهِلِيَّ . حَلَفَ وَعُزِّرَ عَلَى الْأَذَى " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، لِأَنَّ قَوْلَهُ لِلْعَرَبِيِّ : يَا نَبَطِيُّ ، يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ نَفْيَهُ مِنْ نَسَبِ الْعَرَبِ فَيَكُونَ قَذْفًا ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ نَبَطِيُّ الدَّارِ ، أَوِ اللِّسَانِ فَلَا يَكُونُ قَذْفًا . فَخَرَجَ مِنْ صَرِيحِ الْقَذْفِ إِلَى كِنَايَتِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ مُرَادِهِ ، فَإِنْ قَالَ : لَمْ أُرِدْ بِهِ الْقَذْفَ بَلْ أَرَدْتُ بِهِ نَبَطِيَّ الدَّارِ وَاللِّسَانِ . كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ . ثُمَّ يُنْظَرُ فِي مَخْرَجِ كَلَامِهِ ، فَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِهِ الدَّمَ وَالنَّسَبَ فَلَا يُعَزَّرُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ دَمَهُ وَنَسَبَهُ عُزِّرَ لِلْأَذَى ، فَإِنْ نَكِلَ عَنِ الْيَمِينِ حَلَفَ الْمَقْذُوفُ لَقَدْ أَرَادَ بِهِ نَفْيَ نَسَبِي ، وَصَارَ قَاذِفًا عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ ، وَإِنْ قَالَ : أَرَدْتُ بِهِ نَفْيَ نَسَبِهِ مِنَ الْعَرَبِ وَإِضَافَتَهُ إِلَى نَسَبِ النَّبَطِ ، صَارَ قَاذِفًا لِإِحْدَى أُمَّهَاتِهِ ، فَيُسْأَلُ عَمَّنْ أَرَادَ قَذْفَهَا مِنْهُنَّ ، فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُهُنَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُرِيدَ قَذْفَ أُمِّ أَبٍ مِنْ آبَائِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، فَيَكُونُ قَاذِفًا لِكَافِرَةٍ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ ، لَكِنْ يُعَزَّرُ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يُرِيدَ أُمَّ أَبٍ مِنْ آبَائِهِ فِي الْإِسْلَامِ ، فَيَكُونَ قَاذِفًا لِأُمِّ الْأَبِ الَّذِي أَرَادَهُ فَيَجِبُ فِي قَذْفِهَا الْحَدُّ : لِأَنَّهَا مُسَلَّمَةٌ ، وَيَكُونَ ذَلِكَ لِلْأُمِّ إِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً هِيَ الْمُسْتَحِقَّةُ لِحَدِّهِ ، فَإِنْ مَاتَتْ فَوَلَدُهَا إِنْ كَانَ بَاقِيًا ، فَإِنْ مَاتَ فَلِوَارِثِهِ ، فَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ وَرِثَ الْحَدَّ مَعَهُمْ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ لِوُجُودِ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ كَانَ الْأَقْرَبُ أَحَقَّ بِالْحَدِّ : لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِالْمِيرَاثِ . فَإِنْ عَفَا الْأَقْرَبُ عَنْهُ فَفِي اسْتِحْقَاقِ هَذَا الْأَبْعَدِ لَهُ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ أَقَاوِيلِهِ فِي مِيرَاثِ هَذَا الْحَدِّ ، هَلْ يَجْرِي مَجْرَى مِيرَاثِ الْأَمْوَالِ أَوْ لَا ؟ القذف عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ ، إِذَا قِيلَ إِنَّهُ يُوَرَّثُ مِيرَاثَ الْأَمْوَالِ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَسْتَحِقُّهُ بَعْدَ عَفْوِ الْأَقْرَبِ ، إِذَا قِيلَ : إِنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْعَصَبَاتِ لِنَفْيِ الْعَارِ عَنْهُمْ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يُرِيدَ أُمَّهُ الَّتِي وَلَدَتْهُ فَيَكُونُ قَاذِفًا لَهَا ، فَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً كَانَ الْحَدُّ مُسْتَحِقًّا لَهَا ، فَإِنْ عَفَتْ عَنْهُ فَلَا حَقَّ لِوَلَدِهَا وَجْهًا وَاحِدًا ، بِخِلَافِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ عَفْوِ الْأَقْرَبِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ الْأُمَّ فِي اسْتِحْقَاقِهِ أَصْلٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى وَارِثِهَا مَعَ سُقُوطِهِ بِعَفْوِهَا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْأَقْرَبُ : لِأَنَّهُ فَرْعٌ يَجْرِي عَفْوُهُ مَجْرَى عَدَمِهِ ، فَجَازَ أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى غَيْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ أَبْعَدَ مِنْهُ ، فَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الْأُمُّ مَيِّتَةً فَهُوَ يَسْتَحِقُّ الْحَدَّ مِيرَاثًا عَنْهَا ، فَإِنْ عَفَا عَنْهُ وَكَانَ لَهَا وَارِثٌ غَيْرَهُ فِي دَرَجَتِهِ فَلَهُ اسْتِيفَاءُ الْحَدِّ وَلَا يَسْقُطُ بِالْعَفْوِ ، وَإِنْ كَانَ لَهَا مَنْ لَا يَرِثُ مَعَ الِابْنِ كَالْإِخْوَةِ ، فَفِي اسْتِحْقَاقِهِمْ لِلْحَدِّ بَعْدَ عَفْوِ الِابْنِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَذَفَ امْرَأَةً وُطِئَتْ وَطْئًا حَرَامًا ، دُرِئَ عَنْهُ فِي هَذَا الْحَدِّ وَعُزِّرَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْعِفَّةَ شَرْطٌ فِي الْإِحْصَانِ لِلْقَذْفِ ، فَإِنْ وُطِئَتْ وَطْئًا حَرَامًا انْقَسَمَ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَيُسْقِطُ الْعِفَّةَ القذف وَهُوَ الزِّنَا ، سَوَاءٌ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ ، فَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهَا ، سَوَاءٌ حُدَّ فِي الزِّنَا أَوْ لَمْ يُحَدَّ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَلَكِنْ يُسْقِطُ الْعِفَّةَ القذف ، وَهُوَ وَطْءُ الْأَبِ جَارِيَةَ ابْنِهِ ، أَوْ وَطْءُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ لِلْأَمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ ، فَلَا حَدَّ فِيهِ لَكِنْ يُسْقِطُ الْعِفَّةَ فِي الْوَاطِئِ وَالْمَوْطُوءَةِ ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ مُسْتَكْرِهَةً ، فَأَيُّهُمَا قُذِفَ فَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ ، وَفِي سُقُوطِ الْعِفَّةِ وَجْهَانِ القذف ، وَهُوَ الْوَطْءُ فِي نِكَاحٍ بِلَا وَلِيٍّ ، أَوْ بِغَيْرِ شُهُودٍ ، أَوْ فِي نِكَاحِ مُتْعَةٍ أَوْ شِغَارٍ ، فَإِنْ قَذَفَ أَحَدُهُمَا فَفِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الْقَاذِفِ وَجْهَانِ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : مَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَلَا يُسْقِطُ الْعِفَّةَ القذف ، وَهُوَ وَطْءُ الزَّوْجَةِ أَوِ الْأَمَةِ فِي حَيْضٍ ، أَوْ فِي إِحْرَامٍ ، أَوْ فِي صِيَامٍ ، فَتَكُونُ الْعِفَّةُ بَاقِيَةً : لِأَنَّهُ صَادَفَ مَحَلَّ الْأَنْكِحَةِ ، وَالتَّحْرِيمُ عَارِضٌ ، فَأَيُّهُمَا قَذَفَ وَجَبَ الْحَدُّ عَلَى قَاذِفِهِ . وَقَدِ اسْتَوْفَيْنَا هَذَا فِي كِتَابِ " اللِّعَانِ " .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا يُحَدُّ مَنْ لَمْ تَكْمُلْ فِيهِ الْحُرِّيَّةُ إِلَّا حَدَّ الْعَبْدِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا لَمْ تَكْمُلْ حُرِّيَّةُ الْمَقْذُوفِ لِكَوْنِهِ مُدَبَّرًا ، أَوْ مُكَاتِبًا ، أَوْ أُمَّ وَلَدٍ : لِبَقَاءِ جُزْءٍ مِنَ الرِّقِّ فِيهِ وَإِنْ قَلَّ ، فَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ ، كَمَا لَوْ قَذَفَ عَبْدًا قِنًّا ، وَيُعَزَّرُ لِلْأَذَى . فَأَمَّا إِنْ كَمُلَتْ حُرِّيَّةُ الْمَقْذُوفِ وَلَمْ تَكْمُلْ حُرِّيَّةُ الْقَاذِفِ ، وَكَانَ مُكَاتِبًا أَوْ مُدَبَّرًا ، أَوْ فِيهِ جُزْءٌ مِنَ الرِّقِّ ، فَعَلَيْهِ حَدُّ الْعَبِيدِ : وَهُوَ نِصْفُ حَدِّ الْحَرِّ ، كَالْعَبْدِ الْقِنِّ : لِأَنَّ أَحْكَامَ الرِّقِّ جَارِيَةٌ عَلَيْهِ فِي وِلَايَتِهِ وَشَهَادَتِهِ وَنِكَاحِهِ وَطَلَاقِهِ ، فَكَذَلِكَ فِي الْقَذْفِ وَالزِّنَا . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
_____كِتَابُ السَّرِقَةِ _____
بَابُ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ
كِتَابُ السَّرِقَةِ بَابُ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ مِنْ كِتَابِ الْحُدُودِ وَغَيْرِهِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " الْقَطْعُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا : لِثُبُوتِ الْخَبَرِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَالْأَصْلُ فِي وُجُوبِ قَطْعِ السَّارِقِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [ الْمَائِدَةِ : 38 ] ، وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ : " وَالسَّارِقُونَ وَالسَّارِقَاتُ فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا " ، فَجَعَلَ حَدَّ السَّرِقَةِ قَطْعَ الْيَدِ : لِتَنَاوُلِ الْمَالِ بِهَا ، وَلَمْ يَجْعَلْ حَدَّ الزِّنَا قَطْعَ الذَّكَرِ لِمُوَاقَعَةِ الزِّنَا بِهِ : لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ لِلسَّارِقِ مِثْلَ يَدِهِ إِذَا قُطِعَتْ ، وَلَيْسَ لِلزَّانِي مِثْلَ ذَكَرِهِ إِذَا قُطِعَ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْحُدُودَ زَجْرٌ لِلْمَحْدُودِ وَغَيْرِهِ ، وَالْيَدُ تُرَى ، وَالذَّكَرِ لَا يُرَى . وَالثَّالِثُ : أَنَّ فِي قَطْعِ الذَّكَرِ إِبْطَالُ النَّسْلِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي قَطْعِ الْيَدِ . وَقَدْ قُطِعَ السَّارِقُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ حَكَمَ بِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِي الْإِسْلَامِ ، فَكَانَ أَوَّلُ سَارِقٍ قُطِعَ مِنَ الرِّجَالِ فِي الْإِسْلَامِ الْخِيَارَ بْنَ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ ، وَمِنَ النِّسَاءِ مُرَّةَ بِنْتَ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ . وَرَوَى الزُّهْرِيُّ ، عَنْ عُرْوَةَ ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ، أَنَّ قُرَيْشًا هَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ ، فَقَالُوا : مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالُوا : مَا يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَكَلَّمُوهُ ، فَأَتَاهُ فَكَلَّمَهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ : كَانَ إِذَا سَرَقَ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ ، وَإِذَا سَرَقَ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ . لَوْ كَانَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ لَقَطَعْتُهَا " . ثُمَّ أَمَرَ بِقَطْعِ يَدِهَا .
وَرَوَى عُمَرُ بْنُ أَبِي بَكَّارٍ التَّمِيمِيُّ : أَنَّهَا خَرَجَتْ فِي اللَّيْلِ إِلَى رَكْبٍ بِجَانِبِ الْمَدِينَةِ ، فَسَرَقَتْ عَيْبَةً لَهُمْ ، فَلَمَّا قَطَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَبُوهَا : اذْهَبُوا بِهَا إِلَى أَخْوَالِهَا بَنِي حُوَيْطِبٍ ، فَإِنَّهَا أَشْبَهَتْهُمْ . فَقَالَ فِيهَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْوَلِيدِ : يَا رُبَّ بِنْتٍ لِأَبِي سُلْمَى جَعَدْ سَرَّاقَةٍ لِحَقَائِبِ الرُّكْبَانْ بَانَتْ تَحُوشُ عَلَيْهِمْ بِيَمِينِهَا حَتَّى أَقَرَّتْ غَيْرَ ذَاتِ بَيَانْ كُونُوا عَبِيدًا وَاقْتَدُوا بِأَبِيكُمُ وَذَرُوا التَّبَخْتُرَ يَا بَنِي سُفْيَانْ اخْشَوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لَكُمْ كَنْزَ الْمُغِيرَةِ أَوْ بَنِي عِمْرَانْ وَحَكَى الْكَلْبِيُّ أَنَّ آيَةَ السَّرِقَةِ نَزَلَتْ فِي طُعْمَةَ بْنِ أُبَيْرِقٍ الظَّفَرِيِّ ، سَارِقِ الدِّرْعِ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهَا ، هَلْ هِيَ عُمُومٌ خُصَّ ، أَوْ مُجْمَلٌ فُسِّرَ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا مِنَ الْعُمُومِ الَّذِي خُصَّ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا مِنَ الْمُجْمَلِ الَّذِي فُسِّرَ . وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ، وَقَالَ : سَرَقَتِ امْرَأَةٌ حُلِيًّا فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَطْعِ يَدِهَا الْيُمْنَى ، فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنْتِ الْيَوْمَ مِنْ خَطِيئَتِكِ كَيَوْمِ وَلَدَتْكِ أُمُّكِ . فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ [ الْمَائِدَةِ : 39 ] وَفِي قَوْلِهِ هَاهُنَا : وَأَصْلَحَ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَصْلَحَ سَرِيرَتَهُ بِتَرْكِ الْعَزْمِ . وَالثَّانِي : أَصْلَحَ عَمَلَهُ بِتَرْكِ الْمُعَاوَدَةِ . وَرَوَى الْأَعْمَشُ ، عَنِ أَبِي صَالِحٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ ، وَيَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ . وَرَوَى الشَّافِعِيُّ ، عَنْ مَالِكٍ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ ، أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ ، قِيلَ لَهُ : إِنَّ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ هَلَكَ . فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ فَنَامَ فِي الْمَسْجِدِ وَتَوَسَّدَ رِدَاءَهُ ، فَجَاءَ سَارِقٌ فَأَخَذَهُ مِنْ تَحْتِ رَأْسِهِ ، فَأَخَذَ صَفْوَانُ السَّارِقَ ، وَجَاءَ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَأَمَرَ أَنْ تُقْطَعَ يَدُهُ . فَقَالَ صَفْوَانُ : إِنِّي لَمْ أُرِدْ هَذَا ، هُوَ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَهَلَّا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ .
فَصْلٌ : رَوَى الشَّافِعِيُّ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ ، عَنِ الْأَعْرَجِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : لَا يَزْنِي الْمُؤْمِنُ حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَلَا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَلَا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ . وَيُحْتَمَلُ تَأْوِيلُهَا أَرْبَعَةَ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَسْتَحِلُّهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ : لِأَنَّ تَحْرِيمَهَا مَنْصُوصٌ فَيَكْفُرُ بِاسْتِحْلَالِهَا . وَالثَّانِي : يَعْنِي لَا يَفْعَلُ أَفْعَالَ الْمُؤْمِنِينَ : لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ يَمْتَنِعُ مِنْهَا . وَالثَّالِثُ : مَعْنَاهُ لَا يُصَدِّقُ أَنَّهُ يُحَدُّ إِنْ زَنَا ، وَيُقْطَعُ إِنْ سَرَقَ ، وَيُجْلَدُ إِنْ شَرِبَ الْخَمْرَ : لِأَنَّهُ لَوْ تَحَقَّقَ أَنَّهُ يُقَامُ عَلَيْهِ لَامْتَنَعَ مِنْهُ ، وَلَمْ يُقَدَّمْ عَلَيْهِ . وَالرَّابِعُ : أَنَّهُ قَالَهُ مُبَالَغَةً فِي الزَّجْرِ عَنْهَا ، كَمَا قَالَ : مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ ، وَمَنْ غَلَّ صَدَقَتَهُ فَإِنَّا آخِذُوهَا مِنْهُ وَشِطْرَ مَالِهِ .
فَصْلٌ : وَقَطْعُ السَّارِقِ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ الْمَحْضَةِ ، وَالْغُرْمُ فِيهِ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الْمَحْضَةِ . فَأَمَّا الْغُرْمُ : فَيَصِحُّ الْعَفْوُ عَنْهُ قَبْلَ عِلْمِ الْإِمَامِ وَبَعْدِهِ . وَأَمَّا الْقَطْعُ : فَيَصِحُّ الْعَفْوُ عَنْهُ قَبْلَ عِلْمِ الْإِمَامِ بِهِ ، وَلَا يَصِحُّ الْعَفْوُ عَنْهُ بَعْدَ عِلْمِهِ : لِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ لِصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ فِي سَارِقِ رِدَائِهِ حِينَ قَالَ : هُوَ لَهُ صَدَقَةٌ . فَقَالَ : هَلَّا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ ، اشْفَعُوا مَا لَمْ يَصِلْ إِلَى الْوَالِي ، فَإِذَا وَصَلَ إِلَى الْوَالِي فَلَا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ . فَأَمَرَ بِقَطْعِهِ .
وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، أَنَّ الزُّبَيْرَ ، شُفِّعَ فِي سَارِقٍ ، فَقِيلَ لَهُ : حَتَّى يَبْلُغَهُ الْإِمَامُ ، فَقَالَ : إِذَا بَلَغَ الْإِمَامَ فَلَعَنَ اللَّهُ الشَّافِعَ وَالْمُشَفَّعَ ، وَكَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَرُوِيَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ أُتَي بِلُصُوصٍ فَقَطَعَهُمْ ، حَتَّى بَقِيَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَقُدِّمَ لِيُقْطَعَ فَقَالَ : يَمِينِي أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أُعِيذُهَا بِعَفْوِكَ أَنْ تَلْقَى مَكَانًا يَشِينُهَا يَدَيَّ كَانَتِ الْحَسْنَاءُ لَوْ تَمَّ سَبْرُهَا وَلَنْ تَعْدَمَ الْحَسْنَاءُ عَابًا يَشِينُهَا فَلَا خَيْرَ فِي الدُّنْيَا وَكَانَتْ حَبِيبَةً إِذَا مَا شِمَالِي فَارَقَتْهَا يَمِينُهَا فَقَالَ مُعَاوِيَةُ : كَيْفَ أَصْنَعُ بِكَ ، وَقَدْ قَطَعْتُ أَصْحَابَكَ ؟ فَقَالَتْ أُمُّ السَّارِقِ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اجْعَلْهَا مِنْ ذُنُوبِكَ الَّتِي تَتُوبُ مِنْهَا . فَخَلَّى سَبِيلَهُ ، فَكَانَ أَوَّلَ حَدٍّ يُتْرَكُ فِي الْإِسْلَامِ .
فَصْلٌ شُرُوطُ الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ
فَصْلٌ : [ /1 L10172 L10180 شُرُوطُ الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ /1 ] . فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَطْعِ السَّارِقِ فَوُجُوبُهُ مُعْتَبَرٌ بِشَرْطَيْنِ : الْحِرْزُ ، وَالْقَدْرُ . فَأَمَّا الْحِرْزُ فَيَأْتِي . وَأَمَّا الْقَدْرُ : فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي اعْتِبَارِهِ ، فَذَهَبَ دَاوُدُ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الشَّافِعِيُّ وَالْخَوَارِجُ إِلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ ، وَأَنَّهُ يُقْطَعُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ . وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ . وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالزُّهْرِيُّ : لِعُمُومِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [ الْمَائِدَةِ : 38 ] . وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ ، وَيَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ . وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى اعْتِبَارِ الْقَدْرِ فِي وُجُوبِ الْقَطْعِ السرقة ، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى مَذَاهِبَ شَتَّى ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِرُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا يُقْطَعُ فِيهِ ، وَلَا يُقْطَعُ فِيمَا نَقَصَ مِنْهُ . فَإِنْ كَانَ الْمَسْرُوقُ دَرَاهِمَ أَوْ مَتَاعًا قُوِّمَ بِالذَّهَبِ . وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ : يُقْطَعُ فِي دِرْهَمٍ وَاحِدٍ فَصَاعِدًا : لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَعْدُودٍ مِنْهَا .
وَقَالَ زِيَادُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ : يُقْطَعُ فِي دِرْهَمَيْنِ فَصَاعِدًا : لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنِ اسْتَحَلَّ بِدِرْهَمَيْنِ فَقَدِ اسْتَحَلَّ . وَقَالَ مَالِكٌ : يُقْطَعُ فِي ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ فَصَاعِدًا : لِرِوَايَتِهِ عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ . وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ : يُقْطَعُ فِي أَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ فَصَاعِدًا . وَلَعَلَّهُمَا قَوَّمَا الْمِجَنَّ بِأَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ . وَرَوَى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ ثَمَنَ الْمِجَنِّ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ . وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ : يُقْطَعُ فِي خَمْسَةِ دَرَاهِمَ فَصَاعِدًا : لِرِوَايَةِ قَتَادَةَ ، عَنْ أَنَسٍ ، أَنَّ رَجُلًا سَرَقَ مِجَنًّا عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقُوِّمَ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ فَقَطَعَهُ . وَلِرِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " لَا تُقْطَعُ الْخَمْسُ إِلَّا فِي خَمْسٍ " . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَصْحَابُهُ : تُقْطَعُ فِي عَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَصَاعِدًا ، وَإِنْ سَرَقَ مِنْ غَيْرِهَا قُوِّمَ بِهَا ، فَصَارَ مُخَالِفًا لِلشَّافِعِيِّ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي الْقَدْرِ . وَالثَّانِي : فِي جِنْسِ مَا يَقَعُ بِهِ التَّقْوِيمُ ، اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ زُفَرَ بْنِ الْهُذَيْلِ ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَأَةَ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا قَطْعَ إِلَّا فِي عَشَرَةِ دَرَاهِمَ .
وَرَوَى مُجَاهِدٌ ، وَعَطَاءٌ ، عَنْ أَيْمَنَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّهُ قَالَ : أَدْنَى مَا يُقْطَعُ فِيهِ السَّارِقُ ثَمَنُ مِجَنٍّ ، وَكَانَ يُقَوَّمُ دِينَارًا . وَمِنَ الْقِيَاسِ : أَنَّهُ مَالٌ يُسْتَبَاحُ بِهِ عُضْوٌ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَقَدَّرَ بِرُبُعِ دِينَارٍ كَالْمَهْرِ ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِمَالٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِرُبُعِ دِينَارٍ كَالزَّكَاةِ . وَدَلِيلُنَا : عُمُومُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [ الْمَائِدَةِ : 38 ] ، إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ وَالْإِجْمَاعُ . وَرَوَى الشَّافِعِيُّ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ عَمْرَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، قَالَتْ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : الْقِطَعُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا وَهَذَا أَوْكَدُ : لِأَنَّهَا إِضَافَةٌ إِلَى سَمَاعِهَا مِنْهُ . وَرَوَى الشَّعْبِيُّ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَطَعَ فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ . وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ سَارِقًا سَرَقَ مِنْ صِفَةِ النِّسَاءِ تُرْسًا ، قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ . وَالتُّرْسُ : الْمِجَنُّ . وَمِنَ الْقِيَاسِ : - وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا فِي الْمَسْأَلَةِ - أَنْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ سَرَقَ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ قِيمَتُهَا رُبُعُ دِينَارٍ قُطِعَ فِيهَا ، فَنَقُولُ : إِنَّهَا فَرِيضَةٌ تَجِبُ فِي نِصَابِ الزَّكَاةِ فَجَازَ أَنْ
تُقْطَعَ بِسَرِقَتِهَا كَالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ الْأَوَّلِ : فَرَاوِيهِ الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ وَهُوَ مَطْعُونٌ عَلَيْهِ وَفِي حَدِيثِهِ ، قِيلَ : إِنَّهُ كَانَ لَا يَحْضُرُ الْجُمُعَةَ . يَقُولُ : يُزَاحِمُنِي فِيهَا الطَّوَّافُونَ وَالنَّقَّالُونَ . وَكَانَ يَقُولُ : لَا يَنْسَلُّ الْإِنْسَانُ إِلَّا بِتَرْكِ الْجَمَاعَةِ . وَمِثْلُ هَذَا لَا يُقْبَلُ حَدِيثُهُ . وَأَمَّا عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ : فَقَدْ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِيهِ ، وَلَوْ صَحَّ كَانَتْ أَخْبَارُهَا أَصَحَّ . وَيُمْكِنُ أَنْ يُتَأَوَّلَ عَلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ قِيمَتُهَا رُبُعُ دِينَارٍ : لِأَنَّ النُّقُودَ كَانَتْ مُخْتَلَفَةً وَأَوْزَانُهَا مُخْتَلَفَةً . وَأَمَّا حَدِيثُ أَيْمَنَ فَهُمَا اثْنَانِ : أَحَدُهُمَا : هُوَ أَيْمَنُ ابْنُ أُمِّ أَيْمَنَ صَحَابِيٌّ قُتِلَ يَوْمَ حُنَيْنٍ وَلَمْ يَلْقَهُ مُجَاهِدٌ . وَالثَّانِي : هُوَ أَيْمَنُ الْحَبَشِيُّ مَوْلًى لِبَنِي الزُّبَيْرِ ، تَابِعِيٌّ وَلَيْسَ لَهُ صُحْبَةٌ ، وَقَدْ لَقِيَهُ مُجَاهِدٌ ، فَكَانَ الْحَدِيثُ فِي الْحَالَيْنِ مُرْسَلًا . وَلَوْ صَحَّ ، لَكَانَ جَوَابُهُ مَا ذَكَرْنَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْمَهْرِ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنْ وَصْفَهُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ : لِأَنَّ الْعُضْوَ فِي السَّرِقَةِ يُسْتَبَاحُ بِإِخْرَاجِ الْمَالِ مِنَ الْحِرْزِ ، وَفِي النِّكَاحِ يُسْتَبَاحُ بِالْعَقْدِ . وَالثَّانِي : أَنَّ النِّكَاحَ يُسْتَبَاحُ فِيهِ مَنْفَعَةُ الْجَسَدِ كُلِّهِ ، وَلَا يَخْتَصُّ بِالْبُضْعِ وَحْدَهُ ، وَالْقَطْعُ فِي السَّرِقَةِ يُسْتَبَاحُ بِهِ نَقْصُ الْأَعْضَاءِ ، فَافْتَرَقَا فِي الْحُكْمِ وَالْمَعْنَى . وَالثَّالِثُ : أَنَّ مَعْنَى الْمَهْرِ عِوَضٌ فِي عَقْدٍ ، فَلَمْ يَتَقَدَّرْ إِلَّا بِرِضَى الْمُتَعَاقِدَيْنِ ، وَخَالَفَ قَطْعَ السَّرِقَةِ لِتَقَدُّرِ الْمَسْرُوقِ بِهِ شَرْعًا ، وَعَلَى أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَا يَأْخُذُ الْمَقَادِيرَ قِيَاسًا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الزَّكَاةِ : فَهُوَ أَنْ نَقُولَ : أَنْ لَا تَتَقَدَّرَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ كَالزَّكَاةِ . فَأَمَّا اسْتِدْلَالُ دَاوُدَ : فَمَخْصُوصٌ بِمَا ذَكَرْنَا .
وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ ، وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ ، فَعَنْهُ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالِغَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى بَيْضَةِ الْحَرْبِ وَحَبْلِ الْمَتَاعِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَبْقَى مِنْ نِصَابِ الْقَطْعِ ثَمَنُ الْبَيْضَةِ وَالْحَبْلِ فَيُقْطَعُ بِسَرِقَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ مَذْهَبُهُ مَدْفُوعًا بِرِوَايَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : مَا كَانَتِ الْيَدُ تُقْطَعُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقَطْعَ فِي السَّرِقَةِ مُقَدَّرٌ بِرُبُعِ دِينَارٍ ، فَإِنْ سَرَقَهُ فِي دُفْعَةٍ وَاحِدَةٍ قُطِعَ فِيهِ ، وَإِنْ سَرَقَهُ مُتَفَرِّقًا المقدار المعتبر في القطع بالسرقة فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مِنْ أَحْرَازٍ مُتَفَرِّقَةٍ ، مِثْلَ أَنْ يَسْرِقَ مِنْ حِرْزٍ ثُمُنَ دِينَارٍ ، وَمِنْ حِرْزٍ آخَرَ ثُمُنَ دِينَارٍ ، فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ : لِانْفِرَادِ كُلِّ حِرْزٍ بِحُكْمِهِ ، وَلَمْ يَسْرِقْ مِنْ أَحَدِهِمَا رُبُعَ دِينَارٍ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُقْطَعْ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مِنْ حِرْزٍ وَاحِدٍ مِثْلَ أَنْ يَهْتِكَ الْحِرْزَ ، وَيَأْخُذَ مِنْهُ ثُمُنَ دِينَارٍ ، ثُمَّ يَعْدُو إِلَيْهِ فَيَأْخُذُ ثُمُنَ دِينَارٍ تَمَامَ النِّصَابِ الْمُقَدَّرِ فِي الْقَطْعِ ، فَفِي وُجُوبِ قَطْعِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ : يُقْطَعُ ، سَوَاءٌ عَادَ إِلَيْهِ لِوَقْتِهِ أَوْ مِنْ غَدِهِ : لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَكْمَلَ سَرِقَةَ نِصَابٍ مِنْ حِرْزٍ ، فَصَارَ كَسَرِقَتِهِ فِي دُفْعَةٍ وَاحِدَةٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ ، سَوَاءٌ عَادَ لِوَقْتِهِ أَوْ مِنْ غَدِهِ : لِأَنَّهُ سَرَقَ فِي الْعَوْدِ مِنْ حِرْزٍ مَهْتُوكٍ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ : أَنَّهُ إِنْ عَادَ لِوَقْتِهِ فَاسْتَكْمَلَ النِّصَابَ قَبْلَ إِشْهَارِ هَتْكِهِ قُطِعَ ، وَإِنْ عَادَ مِنْ غَدِهِ بَعْدَ اشْتِهَارِ هَتْكِهِ لَمْ يُقْطَعْ : لِاسْتِقْرَارِ هَتْكِ الْحِرْزِ بِالِاشْتِهَارِ ، وَهَذَا أَصَحُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَأَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَطَعَ سَارِقًا فِي أُتْرُجَّةٍ قُوِّمَتْ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ مِنْ صِرْفِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا بِدِينَارٍ . قَالَ مَالِكٌ : هِيَ الْأُتْرُجَّةُ الَّتِي تُؤْكَلُ . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى قَطْعِ مَنْ سَرَقَ الرُّطَبَ مِنْ طَعَامٍ وَغَيْرِهِ إِذَا بَلَغَتْ سَرِقَتُهُ رُبُعَ دِينَارٍ وَأَخْرَجَهَا مِنْ حِرْزِهَا " .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : الْقَطْعُ يَجِبُ فِي جَمِيعِ الْأَمْوَالِ ، سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يُسْرِعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ كَالطَّعَامِ الرَّطْبِ ما تقطع به يد السارق ، أَوْ لَا يُسْرِعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا قَطْعَ فِيمَا يُسْرِعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ : اسْتِدْلَالًا بِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ وَفِي الْكَثَرِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ الْفَسِيلُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ جُمَّارُ النَّخْلِ . وَرَوَى الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَا قَطْعَ فِي طَعَامٍ . وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : مَا كَانَتِ الْيَدُ تُقْطَعُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ . وَالتَّافِهُ الْحَقِيرُ ، وَمَا يُسْرِعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ حَقِيرٌ . وَلِأَنَّهُ مُعَرَّضٌ لِلْهَلَاكِ وَالتَّلَفِ ، فَلَمْ تُقْطَعْ فِيهِ الْيَدُ كَالَّذِي لَيْسَ بِمُحْرَزٍ . وَدَلِيلُنَا : رِوَايَةُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ فَقَالَ : مَنْ سَرَقَ مِنْهُ بَعْدَ أَنْ يُئْوِيَهُ الْجَرِينُ ، وَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَفِيهِ الْقَطْعُ فَنَفَى عَنْهُ الْقَطْعَ قَبْلَ الْجَرِينِ : لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْرَزٍ ، وَعَلَّقَ الْقَطْعَ بِهِ فِي الْجَرِينِ : لِأَنَّهُ مُحْرَزٌ .
فَإِنْ قِيلَ : إِنَّمَا عُلِّقَ الْقَطْعُ بِهِ فِي الْجَرِينِ : لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ فِيهِ يَابِسًا مُدَّخَرًا . فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَكُونُ فِي الْجَرِينِ رَطْبًا وَيَابِسًا وَلَمْ يُفَرِّقْ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَوْجَبَ الْقَطْعَ فِي الْجَرِينِ عَمَّا نَفَاهُ عَنْهُ قَبْلَ الْحِرْزِ ، وَهُوَ قَبْلَ الْجَرِينِ رَطْبٌ ، فَكَذَلِكَ فِي الْجَرِينِ ، وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، رَوَتْ عَمْرَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ سَارِقًا سَرَقَ أُتْرُجَّةً عَلَى عَهْدِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقُوِّمَتْ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ مِنْ صَرْفِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا بِدِينَارٍ ، فَأَمَرَ بِقَطْعِهِ . وَلَيْسَ لَهُ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ . وَمِنَ الْقِيَاسِ : أَنَّهُ نَوْعُ مَالٍ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْقَطْعَ بِسَرِقَتِهِ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ ، وَلَا يُنْتَقَضُ بِالْعَبْدِ : لِأَنَّهُ يُقْطَعُ سَارِقُهُ إِذَا سَرَقَهُ وَهُوَ صَغِيرٌ أَوْ كَبِيرٌ نَائِمٌ ، وَلِأَنَّ مَا قُطِعَ فِي يَابِسَةٍ قُطِعَ فِي رُطَبِهِ كَالْغَزِّ وَالثِّيَابِ ، وَأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ فَرَّقَ بَيْنَ رُطَبِ الْفَوَاكِهِ وَيَابِسِهَا فِي وُجُوبِ الْقَطْعِ ، وَسَوَّى بَيْنَ طَرِيِّ اللَّحْمِ وَقَدِيدِهِ ، وَطَرِيِّ السَّمَكِ وَمَمْلُوحِهِ فِي سُقُوطِ الْقَطْعِ ، وَهَذَا تَنَاقُضٌ ، وَلِأَنَّ الطَّعَامَ الرَّطْبَ أَلَذُّ وَأَشْهَى ، وَالنُّفُوسَ إِلَى تَنَاوُلِهِ أَدْعَى فَكَانَ بِالْقَطْعِ أَوْلَى . فَأَمَّا قَوْلُهُ : " لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ " فَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْرَزٍ : لِأَنَّ ثِمَارَهُمْ كَانَتْ بَارِزَةً ، وَلِذَلِكَ قَالَ : " فَإِذَا آوَاهُ الْجَرِينُ فَفِيهِ الْقَطْعُ " . وَحَدِيثُ الْحَسَنِ مُرْسَلٌ ، وَيُحْمَلُ - لَوْ صَحَّ - عَلَى الطَّعَامِ الرَّطْبِ إِذَا كَانَ فِي سُنْبُلِهِ غَيْرَ مُحْرَزٍ كَالثَّمَرِ : لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَافَقَ عَلَى الْقَطْعِ فِي الْحِنْطَةِ إِذَا كَانَتْ مُحْرَزَةً . وَخَبَرُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا كَانَ تَافِهَ الْمِقْدَارِ : لِقِلَّتِهِ لَا لِجِنْسِهِ : لِأَنَّ الطَّعَامَ الرَّطْبَ لَيْسَ بِحَقِيرٍ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّهُ مُعَرَّضٌ لِلتَّلَفِ ، فَفِيهِ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مُعَرَّضٌ لِلِاسْتِعْمَالِ دُونَ الْبَذْلِ ، كَمَا يُسْتَعْمَلُ الطَّعَامُ الْيَابِسُ ، وَلَيْسَ قِلَّةُ بَقَائِهِ مُوجِبًا لِسُقُوطِ الْقَطْعِ فِيهِ ، كَالشَّاةِ الْمَرِيضَةِ يَجِبُ الْقَطْعُ فِيهَا وَإِنْ لَمْ يَطُلْ بَقَاؤُهَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ قِيَاسٌ جُمِعَ فِيهِ بَيْنَ الْمُحْرَزِ وَغَيْرِ الْمُحْرَزِ وَهُمَا مُفْتَرِقَانِ فِي وُجُوبِ الْقَطْعِ : لِأَنَّ الْحِرْزَ شَرْطٌ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .
فَصْلٌ : وَيُقْطَعُ فِيمَا كَانَ مُبَاحَ الْأَصْلِ قَبْلَ أَنْ يَمْلِكَهُ ما تقطع به يد السارق كَالصَّيْدِ الْمَأْكُولِ وَغَيْرِ الْمَأْكُولِ ، وَالْخَشَبِ مِنَ السَّاجِ وَغَيْرِ السَّاجِ مَعْمُولًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَعْمُولٍ ، وَمَا أُخِذَ مِنَ الْمَعَادِنِ مَطْبُوعٌ وَغَيْرُ مَطْبُوعٍ ، وَمَا عُمِلَ مِنَ الطِّينِ كَالْفَخَّارِ ، وَمَا عُمِلَ مِنَ الْحَجَرِ كَالْبِرَامِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُقْطَعُ فِيمَا كَانَ مُبَاحَ الْأَصْلِ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ، وَلَا فِي جَمِيعِ الطَّيْرِ ، وَلَا فِي الْخَشَبِ إِلَّا فِي السَّاجِ وَالْعُودِ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا أَبْوَابًا أَوْ أَبْنِيَةً ، وَلَا فِي الْمَعْمُولِ مِنَ الطِّينِ وَالْحَجَرِ ، وَلَا فِي الْمَأْخُوذِ مِنَ الْمَعَادِنِ كُلِّهَا ، إِلَّا الْفِضَّةَ وَالذَّهَبَ وَالْيَاقُوتَ وَالْفَيْرُوزَجَ ، وَلَا فِي الْحَشَائِشِ كُلِّهَا إِلَّا فِي الصَّنْدَلَةِ ، فَإِنْ عُمِلَ مِنَ الْحَشِيشِ حُصْرًا كَالْأَسْلِ وَالسَّامَانِ قُطِعَ ، وَإِنْ عُمِلَ مِنَ الْقَصَبِ بَوَارٍ لَمْ يُقْطَعْ : لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي عَمَلِ السَّامَانِ كَثِيرَةٌ ، وَفِي عَمَلِ الْبَوَارِي قَلِيلَةٌ ، وَاحْتُجَّ فِيهِ بِرِوَايَةِ يُوسُفَ بْنِ رَوْحٍ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَا قَطْعَ فِي الطَّيْرِ . وَهَمَّ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِقَطْعِ رَجُلٍ سَرَقَ دَجَاجَةً ، فَقَالَ لَهُ أَبُو سَلَمَةَ : سَمِعْتُ عُثْمَانَ يَقُولُ : لَا قَطْعَ فِي الطَّيْرِ . فَتَرَكَهُ عُمَرُ وَلَمْ يَقْطَعْهُ . وَلَيْسَ فِيهِ مُخَالِفٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا فَجَعَلَهُ أَصْلًا لِجَمِيعِ الصَّيْدِ ، ثُمَّ احْتَجَّ بِعُمُومِ مَذْهَبِهِ بِثَلَاثَةِ مَعَانٍ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مُبَاحُ الْأَصْلِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَيَسْقُطُ فِيهِ الْقَطْعُ كَالْمَاءِ وَالتُّرَابِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ تَافِهُ الْجِنْسِ لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِ مَتَى أُرِيدَ فَسَقَطَ فِيهِ الْقَطْعُ كَالسِّرْجَيْنِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ الْقَطْعُ فِي مِقْدَارٍ مِنَ الْمَالِ وَلَمْ يَعُمَّ كُلَّ مِقْدَارٍ ، اقْتَضَى أَنْ يَجِبَ فِي جِنْسٍ مِنَ الْمَالِ وَلَا يَعُمَّ جَمِيعَ الْأَجْنَاسِ . وَدَلِيلُنَا : مَعَ عُمُومِ الظَّوَاهِرِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّهُ جِنْسُ مَالٍ مُتَمَوَّلٍ فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ ، كَسَائِرِ الْأَجْنَاسِ ، وَلِأَنَّ مَا وَجَبَ الْقَطْعُ فِي مَعْمُولِهِ وَجَبَ فِي أَصْلِهِ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، وَلِأَنَّ الْمُتَعَلِّقَ بِالْأَمْوَالِ الْمَأْخُوذَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ حُكْمَانِ : ضَمَانٌ وَقَطْعٌ ، فَلَمَّا كَانَ الضَّمَانُ عَامًّا فِي جَمِيعِ الْأَمْوَالِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَطْعُ عَامًّا فِي جَمِيعِ الْأَمْوَالِ . وَيَتَحَرَّرُ مِنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ الَّذِي أَصْلُهُ غَيْرُ مُبَاحٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْمَالِ الَّذِي أَصْلُهُ مُبَاحٌ كَالضَّمَانِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَالٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ الضَّمَانُ فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ الْقَطْعُ كَالَّذِي أَصْلُهُ غَيْرُ مُبَاحٍ ، وَلِأَنَّ الْقَطْعَ فِي السَّرِقَةِ مَوْضُوعٌ لِلزَّجْرِ عَنْهَا وَحِفْظِ الْأَمْوَالِ عَلَى أَهْلِهَا ، فَاقْتَضَى أَنْ
يَكُونُ عَامًّا فِيهَا : لِعُمُومِ مَعْنَاهَا ، وَلِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْقَطْعِ حَظْرُ الْمَالِ فِي حَالِ السَّرِقَةِ دُونَ مَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْإِبَاحَةِ أَوْ تَعَقَّبَهُ مِنَ الْمِلْكِ . أَلَا تَرَى أَنَّ الطَّعَامَ مُبَاحٌ لِلْمُضْطَرِّ وَيُقْطَعُ فِيهِ بَعْدَ زَوَالِ الضَّرُورَةِ . وَمَنْ وُهِبَ لَهُ مَالٌ فَرَدَّهُ قُطِعَ فِي سَرِقَتِهِ بَعْدَ تَقَدُّمِ إِبَاحَتِهِ . كَذَلِكَ مَا كَانَ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ قَبْلَ السَّرِقَةِ ثُمَّ صَارَ مَحْظُورًا عِنْدَ السَّرِقَةِ ، وَفِيهِ انْفِصَالٌ عَنْ تَعْلِيلِهِمْ بِأَصْلِ الْإِبَاحَةِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ خَبَرِ عُثْمَانَ : فَرَاوِيهِ الزُّهْرِيُّ وَلَمْ يَلْقَهُ فَكَانَ مُرْسَلًا . وَخَبَرُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ : رَوَاهُ جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ وَكَانَ مَطْعُونًا فِي دِينِهِ : لِأَنَّهُ يَقُولُ بِالرَّجْعَةِ . وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَطْعَنُ فِيهِ وَلَا يَعْمَلُ عَلَى حَدِيثِهِ ، ثُمَّ يُحْمَلُ إِنْ صَحَّ عَلَى مَا كَانَ مُرْسَلًا مِنْ طَيْرٍ أَنَّهُ غَيْرُ مُحْرَزٍ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمَاءِ وَالتُّرَابِ تَعْلِيلًا بِإِبَاحَةِ أَصْلِهِ فَمُنْتَقَضٌ بِالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْقَطْعِ فِي الْمَاءِ ما تقطع به يد السارق عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُقْطَعُ فِي سَرِقَتِهِ إِذَا كَانَ مُحْرَزًا بَلَغَتْ قِيمَتُهُ نِصَابًا ، فَعَلَى هَذَا بَطَلَ الْأَصْلُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا قَطْعَ فِيهِ ، لِأَنَّ النُّفُوسَ لَا تَتْبَعُ سَرِقَتَهُ إِلَّا فِي حَالٍ نَادِرَةٍ عِنْدَ ضَرُورَةٍ تُخَالِفُ حَالَ الِاخْتِيَارِ فَلَمْ يَسْلَمِ الْأَصْلُ . وَاحْتِجَاجُهُ بِأَنَّهُ تَافِهٌ دَعْوَى غَيْرُ مُسَلَّمَةٍ . وَاحْتِجَاجُهُ بِأَنَّ اخْتِصَاصَهُ بِمِقْدَارٍ يُوجِبُ اخْتِصَاصَهُ بِجِنْسٍ مُنْتَقَضٌ عَلَى أَصْلِهِ بِالْمَهْرِ يَخْتَصُّ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ وَلَا يَخْتَصُّ بِجِنْسٍ . ثُمَّ الْمَعْنَى فِي اعْتِبَارِ الْمِقْدَارِ : أَنَّهُ قَدْرٌ تَتْبَعُهُ النُّفُوسُ وَلَمْ يُعْتَبَرِ الْجِنْسُ : لِأَنَّ جَمِيعَ الْأَجْنَاسِ تَتْبَعُهَا النُّفُوسُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَالدِّينَارُ هُوَ الْمِثْقَالُ الَّذِي كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ نِصَابَ الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ مُقَدَّرٌ بِرُبْعِ دِينَارٍ يُقَوَّمُ بِذَلِكَ كُلُّ مَسْرُوقٍ مِنْ دَرَاهِمَ وَغَيْرِهَا . وَيُعْتَبَرُ فِي هَذَا الدِّينَارُ شَرْطَانِ : أَحَدُهُمَا : وَزْنُهُ . وَالثَّانِي : نَوْعُهُ . فَأَمَّا وَزْنُهُ فَهُوَ مِثْقَالُ الْإِسْلَامِ الْمُعَادِلُ كُلُّ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ وَزْنَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ مِنْ دَرَاهِمَ الْإِسْلَامِ الَّتِي وَزْنُ كُلِّ دِرْهَمٍ مِنْهَا سِتَّةُ دَوَانِيقَ : لِأَنَّهُ كَانَ فِيمَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ دِرْهَمَانِ أَكْبَرُهُمَا الْبَغْلِيُّ وَوَزْنُهُ ثَمَانِيَةُ دَوَانِيقَ ، وَأَصْغَرُهُمَا الطَّبَرِيُّ وَوَزْنُهُ أَرْبَعَةُ دَوَانِيقَ ،
فَجُمِعَ بَيْنِهِمَا فِي الْإِسْلَامِ ، وَأُخِذَ نِصْفُهَا ، فَكَانَ سِتَّةَ دَوَانِيقَ ، فَعَادَلَتْ كُلُّ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ سَبْعَةَ مَثَاقِيلَ : لِأَنَّ الْمِثْقَالَ لَمْ يَخْتَلِفْ ، وَمَتَى زِدْتَ عَلَى الدَّرَاهِمِ ثَلَاثَةَ أَسِبَاعِهِ كَانَ مِثْقَالًا ، وَمَتَى نَقَصَتْ مِنَ الْمِثْقَالِ ثَلَاثَةُ أَعْشَارٍ كَانَ دِرْهَمًا ، فَهَذَا هُوَ الْمِثْقَالُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَى وَقْتِنَا هَذَا . فَإِنْ أَحْدَثَ النَّاسُ مِثْقَالًا يَزِيدُ عَلَيْهِ أَوْ يُنْقِصُ مِنْهُ لَمْ يُعْتَبَرْ بِهِ . وَأَمَّا نَوْعُ الدِّينَارِ فَهُوَ الْأَغْلَبُ مِمَّا يُتَعَامَلُ بِهِ مِنْ خَيْرِ الدَّنَانِيرِ وَخَلَاصِهَا ، سَوَاءٌ كَانَ أَعْلَاهَا سِعْرًا أَوْ أَدْنَاهَا ، وَهُوَ مُخْتَلَفٌ بِاخْتِلَافِ الْبِلَادِ ، وَمَا يُحْدِثُهُ النَّاسُ فِي زَمَانٍ بَعْدَ زَمَانٍ فَيُعْتَبَرُ الْأَغْلَبُ مِنْ دَنَانِيرِ الْبَلَدِ مِنْ زَمَانِ السَّرِقَةِ ، فَلَوْ كَانَ لِلْبَلَدِ دِينَارَانِ أَعْلَى وَأَدْنَى وَكِلَاهُمَا خَلَاصٌ جَازَ ، وَفِيمَا تُقَوَّمُ بِهِ السَّرِقَةُ مِنْهُمَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : بِالْأَدْنَى اعْتِبَارًا بِعُمُومِ الظَّاهِرِ . وَالثَّانِي : بِالْأَعْلَى إِدْرَاءً لِلْقَطْعِ بِالشُّبْهَةِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ وَزْنِهِ وَنَوْعِهِ ، لَمْ يَخْلُ الْمَسْرُوقُ مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَهَبًا ، أَوْ غَيْرَ ذَهَبٍ ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَهَبٍ قُوِّمَ بِالذَّهَبِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، فَإِنْ كَانَ ذَهَبًا لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ مَطْبُوعَ الدَّنَانِيرِ الَّتِي يَتَعَامَلُ بِهَا النَّاسُ فِي الْأَغْلَبِ ، فَيُقْطَعُ فِي رُبُعِ مِثْقَالٍ مِنْهَا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ تِبْرًا مَعْدِنِيًّا لَا يَخْلُصُ ذَهَبُهُ إِلَّا بِالتَّصْفِيَةِ وَالسَّبْكِ ، فَيُعْتَبَرُ فِي سَرِقَتِهِ مَا عَادَلَ رُبُعَ دِينَارٍ مِنَ الدَّنَانِيرِ الْمَطْبُوعَةِ ، وَلَا يُعْتَبَرُ رُبُعُ مِثْقَالٍ مِنْهُ لِنُقْصَانِهِ فِي الْقَدْرِ وَالْقِيمَةِ عَنْهُ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ ذَهَبًا خَالِصًا أَوْ مَطْبُوعًا لَا يَتَعَامَلُ بِهِ النَّاسُ ، أَوْ كَسْرًا يَنْقُصُ عَنْ قِيمَةِ الصِّحَاحِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : - وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ - أَنَّهُ يُقْطَعُ فِي رُبُعِ مِثْقَالٍ مِنْهُ وَإِنْ نَقَصَ عَنْ قِيمَةِ الْمَطْبُوعِ : اعْتِبَارًا بِجِنْسِهِ وَوَزْنِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ إِلَّا فِيمَا تَبْلُغُ قِيمَتُهُ رُبُعَ دِينَارٍ مِنْ مَطْبُوعِ الذَّهَبِ اعْتِبَارًا بِمَا يُرَاعَى مِنَ الْأَثْمَانِ وَالْقِيَمِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا يُقْطَعُ إِلَّا مَنْ بَلَغَ الِاحْتِلَامَ مِنَ الرِّجَالِ وَالْحُيَّضِ مِنَ النِّسَاءِ ، أَوْ أَيُّهُمَا اسْتَكْمَلَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَإِنْ لَمْ يَحْتَلِمْ أَوْ لَمْ تَحِضْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، لَا يَجِبُ الْقَطَعُ إِلَّا عَلَى مُكَلَّفٍ بِالْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ حد السرقة .
فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا ، أَوْ مَجْنُونًا لَمْ يُقْطَعْ فِي الْحَالِ ، وَلَا إِذَا بَلَغَ وَأَفَاقَ فِي ثَانِي حَالٍ : لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ : عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَنْتَبِهَ وَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِجَارِيَةٍ قَدْ سَرَقَتْ ، فَوَجَدَهَا لَمْ تَحِضْ فَلَمْ يَقْطَعْهَا . وَلِأَنَّهُ حَدٌّ فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْحُدُودِ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَنَّهُ شَقَّ بُطُونَ أَصَابِعِ صَبِيٍّ سَرَقَ . وَهَذَا إِنْ صَحَّ عَنْهُ فَلَمْ يَفْعَلْهُ حَدًّا ، وَإِنَّمَا ضَرَبَهُ عَلَى كَفِّهِ تَأْدِيبًا فَانْشَقَّتْ بُطُونُ أَصَابِعِهِ لِرِقِّهَا . فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ أُتِيَ بِصَبِيٍّ سَرَقَ فَقَالَ : اشْبِرُوهُ . فَكَانَ دُونَ خَمْسَةِ أَشْبَارٍ ، فَلَمْ يَقْطَعْهُ . وَأُتِيَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِسَارِقٍ ، فَقَالَ : اشْبِرُوهُ . فَكَانَ سِتَّةَ أَشْبَارٍ إِلَّا أُنْمُلَةً ، فَلَمْ يَقْطَعْهُ ، وَسُمِّيَ أُنْمُلَةً . وَلَيْسَ هَذَا مُعْتَبَرٌ فِي الْبُلُوغِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَعَلَهُ اسْتِظْهَارًا ، وَالْبُلُوغُ يَكُونُ بِمَا قَدَّمْنَاهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِنَا مِنَ احْتِلَامِ الْغُلَامِ ، وَحَيْضِ الْجَارِيَةِ ، فَإِنِ اسْتَكْمَلَا قَبْلَ الِاحْتِلَامِ وَالْحَيْضِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً كَانَا بَالِغَيْنِ . فَأَمَّا إِنْبَاتُ الشَّعْرِ فِي الْعَانَةِ فَيُحْكَمُ بِهِ فِي بُلُوغِ الْمُشْرِكِينَ : لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْضَى حُكْمَ سَعْدٍ فِي سَبِّي بَنِي قُرَيْظَةَ بِأَنَّ مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمَوَاسُ قُتِلَ ، وَمَنْ لَمْ تَجْرِ عَلَيْهِ اسْتُرِقَّ . وَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ بُلُوغًا فِيهِمْ أَوْ دَلَالَةً عَلَى بُلُوغِهِمْ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : - قَالَهُ فِي سِيَرِ الْوَاقِدِيِّ - يَكُونُ بُلُوغًا فِيهِمْ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ بُلُوغًا فِي الْمُسْلِمِينَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : - قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ - أَنَّهُ يَكُونُ دَلَالَةً عَلَى بُلُوغِهِمْ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ دَلَالَةً عَلَى بُلُوغِ الْمُسْلِمِينَ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ دَلَالَةً عَلَى بُلُوغِهِمْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : - قَالَهُ فِي الْإِقْرَارِ - لَا يَكُونُ دَلَالَةً عَلَى بُلُوغِهِمْ ، لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الرَّجُلَ الْمُسْلِمَ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي سِنِّهِ ، فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِغَيْرِهِ . وَأَهْلُ الشِّرْكِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمْ فِي سِنِّهِمْ ، فَاحْتَجْنَا إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالْإِنْبَاتِ عَلَى بُلُوغِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمُسْلِمَ تَخِفُّ أَحْكَامُهُ بِالْبُلُوغِ ، فَاتُّهِمَ فِي مُعَالَجَةِ الْإِنْبَاتِ ، وَالْمُشْرِكُ تَتَغَلَّظْ أَحْكَامُهُ بِالْبُلُوغِ فَلَمْ يُتَّهَمْ فِي مُعَالَجَةِ الْإِنْبَاتِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَجُمْلَةُ الْحِرْزِ : أَنْ يُنْظَرَ إِلَى الْمَسْرُوقِ فَإِنْ كَانَ الْمَوْضِعُ الَّذِي سُرِقَ مِنْهُ يَنْسُبُهُ الْعَامَّةُ إِلَى أَنَّهُ حِرْزٌ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ، قُطِعَ إِذَا أَخْرَجَهَا مِنَ الْحِرْزِ . وَإِنْ لَمْ يَنْسُبْهُ الْعَامَّةُ إِلَى أَنَّهُ حِرْزٌ لَمْ يُقْطَعْ . وَرِدَاءُ صَفْوَانَ كَانَ مُحْرَزًا بِاضْطِجَاعِهِ عَلَيْهِ ، فَقَطَعَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَارِقَ رِدَائِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا هُوَ الشَّرْطُ الثَّانِي فِي الْقَطْعِ : وَهُوَ الْحِرْزُ . فَلَا يَجِبُ الْقَطْعِ إِلَّا فِي السَّرِقَةِ مِنْ حِرْزٍ ، وَالسَّرِقَةُ أَخْذُ الشَّيْءِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِخْفَاءِ ، فَإِنْ جَاهَرَ بِأَخْذِهِ غَصْبًا أَوْ نَهْبًا وَاخْتِلَاسًا ، فَلَيْسَ بِسَارِقٍ وَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ . وَأَمَّا الْحِرْزُ تعريفه : فَهُوَ مَا يَصِيرُ الْمَالُ بِهِ مَحْفُوظًا عَلَى مَا سَنَصِفُهُ . فَإِنْ كَانَ الْمَالُ فِي غَيْرِ حِرْزٍ حد السرقة فَلَا قَطْعَ فِيهِ . فَإِذَا اسْتَكْمَلَ هَذَانِ الشَّرْطَانِ مَعَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ قَدْرِ النِّصَابِ وَجَبَ الْقَطْعُ حِينَئِذٍ ، وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ . وَقَالَ دَاوُدُ : لَا اعْتِبَارَ بِالْحِرْزِ ، وَالْقَطْعُ وَاجِبٌ بِالسَّرِقَةِ مِنْ حِرْزٍ وَغَيْرِ حِرْزٍ . وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : لَا اعْتِبَارَ بِالسَّرِقَةِ وَالِاسْتِخْفَاءِ ، وَالْقَطْعُ وَاجِبٌ عَلَى الْمُجَاهِرِ بِأَخْذِ الْمَالِ بِغَصْبٍ أَوِ انْتِهَابٍ أَوِ اخْتِلَاسٍ ، حَتَّى لَوْ خَانَ أَوْ جَحَدَ وَدِيعَةً أَوْ عَارِيَّةً وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَطْعُ . وَاسْتَدَلَّ دَاوُدُ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [ الْمَائِدَةِ : 38 ] ، فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ . وَاسْتَدَلَّ أَحْمَدُ بِرِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ امْرَأَةً مَخْزُومِيَّةً كَانَتْ تَسْتَعِيرُ وَتَجْحَدُ ، فَقَطَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالدَّلِيلُ عَلَى دَاوُدَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ فَأَسْقَطَ الْقَطْعَ فِيهِ : لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْرَزٍ ، ثُمَّ قَالَ : فَإِذَا آوَاهُ الْجَرِينُ فَفِيهِ الْقَطْعُ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ حِرْزًا بِهِ . وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، قَالَ : سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ حَرِيسَةِ
الْجَبَلَ ، فَقَالَ : لَيْسَ فِي الْمَاشِيَةِ قَطْعٌ ، إِلَّا أَنْ يَأْوِيَهَا الْمُرَاحُ ، وَلَا فِي الثَّمَرِ قَطْعٌ إِلَّا أَنْ يَأْوِيهِ الْجَرِينُ وَفِي حَرِيسَةِ الْجَبَلِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَعْنِي مَحْرُوسَةَ الْجَبَلِ ، فَعَبَّرَ عَنِ الْمَحْرُوسَةِ بِالْحَرِيسَةِ ، كَمَا يُقَالُ مَقْتُولَةٌ وَقَتِيلَةٌ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَرَادَ سَرِقَةَ الْجَبَلِ ، يُقَالُ : حَرَسَ إِذَا سَرَقَ . فَيَكُونُ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَضْدَادِ . وَرَوَى بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا قَطْعَ إِلَّا مِنْ حِرْزٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ ، وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى حِفْظِ مَالِهِ بِنَفْسِهِ أَبَدًا ، فَأُقِيمَتِ الْأَحْرَازُ مَقَامَ الْأَنْفُسِ فِي الْحِفْظِ وَالصِّيَانَةِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَحْمَدَ ، مَا رَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ ، عَنْ جَابِرٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَيْسَ عَلَى الْخَائِنِ وَلَا الْمُخْتَلِسِ وَلَا الْمُنْتَهِبِ قَطْعٌ وَهَذَا نَصٌّ ، وَلِأَنَّ السَّرِقَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْمُسَارَقَةِ وَهُوَ الِاسْتِخْفَاءُ ، فَخَرَجَ مِنْهَا الْمُجَاهِرُ وَالْجَاحِدُ ، فَأَمَّا الْآيَةُ فَمَخْصُوصُهُ الْعُمُومُ بِمَا ذَكَرْنَا . وَأَمَّا خَبَرُ الْمَخْزُومِيَّةِ فَإِنَّمَا قَطَعَهَا لِأَنَّهَا سَرَقَتْ . وَقَوْلُهُمْ : كَانَتْ تَسْتَعِيرُ الْحُلِيَّ فَتَجْحَدُ ذُكِرَ عَلَى سَبِيلِ التَّعْرِيفِ ، كَمَا قِيلَ : مَخْزُومِيَّةٌ . وَلَمْ يَكُنْ قَطْعُهَا بِجُحُودِ الْعَارِيَّةِ ، كَمَا لَمْ يَقْطَعْهَا لِأَنَّهَا مَخْزُومِيَّةٌ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْحِرْزَ شَرْطٌ فِي قَطْعِ السَّرِقَةِ ، فَالْأَحْرَازُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُحْرَزَاتِ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ : لِأَنَّهَا لَمَّا لَمْ تَتَقَدَّرْ بِشَرْعٍ وَلَا لُغَةٍ ، اعْتُبِرَ فِيهَا الْعُرْفُ . كَمَا اعْتُبِرَ الْعُرْفُ فِي الْقَبْضِ وَالِافْتِرَاقُ فِي الْبَيْعِ وَالْإِحْيَاءُ فِي الْمَوَاتِ : لَمَّا لَمْ يَتَقَدَّرْ بِشَرْعٍ وَلَا لُغَةٍ تَقَدَّرَ بِالْعُرْفِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ، فَالْعُرْفُ جَارٍ بِأَنَّ مَا قَلَّتَ قِيمَتُهُ مِنَ الْخَشَبِ وَالْحَطَبِ
خَفَّتْ أَحْرَازُهُ ، وَمَا كَثُرَتْ قِيمَتُهُ مِنَ الْجَوَاهِرِ وَالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ غَلُظَتْ أَحْرَازُهُ ، وَمَا تَوَسَّطَتْ قِيمَتُهُ مِنَ الْحِنْطَةِ وَالزَّيْتِ تَوَسَّطَتْ أَحْرَازُهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْإِحْرَازُ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمْوَالِ ، وَكَانَ حِرْزًا لِأَقَلِّهَا كَانَ حِرْزًا لِأَكْثَرِهَا ، حَتَّى جُعِلَ دُكَّانُ الْبَقْلِيِّ حِرْزًا لِلْجَوَاهِرِ . وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : اخْتِلَافُ الْعُرْفِ فِيهِ ، فَإِنَّ الْجَوَاهِرَ فِي الْعُرْفِ مُحَرَّزَةٌ فِي أَخَصِّ الْبُيُوتِ بِأَوْثَقِ الْأَبْوَابِ وَأَكْثَرِ الْإِغْلَاقِ ، وَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ يُحَرَّزُ فِي الْحَظَائِرِ الْمُرْسَلَةِ ، وَشَرَائِحِ الْخَشَبِ ، وَالْبَقْلُ يُحْرَزُ فِي دَكَاكِينِ الْأَسْوَاقِ بِشَرَائِحِ الْقَصَبِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُ الْعُرْفِ فِيهِ مُعْتَبَرًا . وَالثَّانِي : أَنَّ التَّفْرِيطَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى مَنْ أَحْرَزَ أَنْفَسَ الْأَمْوَالِ وَأَكْثَرَهَا فِي أَقَلِّهَا حِرْزًا وَأَحْقَرِهَا ، وَتَوَجُّهُ التَّفْرِيطِ إِلَيْهِ يَمْنَعُ مِنَ اسْتِكْمَالِ الْحِرْزِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ اعْتِبَارُ الْعُرْفِ فِيهِ فَالْأَحْرَازُ تَخْتَلِفُ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : اخْتِلَافُ جِنْسِ الْمَالِ وَنَفَاسَتُهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا . وَالثَّانِي : بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ ، فَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ وَاسِعَ الْأَقْطَارِ كَثِيرَ الدُّعَّارِ غَلُظَتْ أَحْرَازُهُ ، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا قَلِيلَ الْمَارِّ لَا يَخْتَلِطُ بِأَهْلِهِ غَيْرُهُمْ خَفَّتْ أَحْرَازُهُ . وَالثَّالِثُ : بِاخْتِلَافِ الزَّمَنِ ، فَإِنْ كَانَ زَمَانَ سِلْمٍ وَدَعَةٍ خَفَّتْ أَحْرَازُهُ ، وَإِنْ كَانَ زَمَانَ فِتْنَةٍ وَخَوْفٍ غَلُظَتْ أَحْرَازُهُ . وَالرَّابِعُ : بِاخْتِلَافِ السُّلْطَانِ ، فَإِنْ كَانَ عَادِلًا غَلِيظًا عَلَى أَهْلِ الْفَسَادِ خَفَّتَ أَحْرَازُهُ ، وَإِنْ كَانَ جَائِرًا مُهْمَلًا لِأَهْلِ الْفَسَادِ غَلُظَتْ أَحْرَازُهُ . وَالْخَامِسُ : بِاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، فَيَكُونُ الْإِحْرَازُ فِي اللَّيْلِ أَغْلَظَ : لِاخْتِصَاصِهِ بِأَهْلِ الْعَبَثِ وَالْفَسَادِ ، فَلَا يُمْتَنَعُ فِيهِ بِكَثْرَةِ الْأَغْلَاقِ وَغَلْقِ الْأَبْوَابِ حَتَّى يَكُونَ لَهَا حَارِسٌ يَحْرُسُهَا . وَهِيَ بِالنَّهَارِ أَخَفُّ : لِانْتِشَارِ أَهْلِ الْخَيْرِ فِيهِ ، وَمُرَاعَاةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا ، فَلَا تَفْتَقِرُ إِلَى حُرَّاسٍ . وَإِذَا جَلَسَ أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ فِي دَكَاكِينِهِمْ وَأَمْتِعَتُهُمْ بَارِزَةٌ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ كَانَ ذَلِكَ حِرْزًا لَهَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي اللَّيْلِ حِرْزًا . وَجَعَلَهُ ذَلِكَ اعْتِبَارَ شَرْطَيْنِ : الْعُرْفُ ، وَعَدَمُ التَّفْرِيطِ . وَقَدْ فَصَّلَ الشَّافِعِيُّ الْأَحْرَازَ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ عَلَى حَسَبِ زَمَانِهِ وَعُرْفِ أَهْلِهِ ، وَقَدْ يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَتَغَيُّرِ الْعَادَاتِ ، فَيَصِيرُ مَا جَعَلَهُ حِرْزًا لَيْسَ بِحِرْزٍ ، وَمَا لَمْ يَجْعَلْهُ حِرْزًا يَصِيرُ حِرْزًا : لِأَنَّ الزَّمَانَ لَا يَبْقَى عَلَى حَالٍ ، وَرُبَّمَا انْتَقَلَ مِنْ صَلَاحٍ إِلَى فَسَادٍ ، وَمِنْ فَسَادٍ إِلَى صَلَاحٍ : فَلِذَلِكَ تَتَغَيَّرُ أَحْوَالُ الْأَحْرَازِ حد السرقة لِكَثْرَتِهَا ، مَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا مَعَ وُجُودِ أَسْبَابِهِ وَظُهُورِ عُرْفِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " إِذَا ضُمَّ مَتَاعُ السُّوقِ إِلَى بَعْضٍ فِي مَوْضِعٍ تَبَايَعَاهُ وَرُبِطَ بِحَبْلٍ ، أَوْ جُعِلَ الطَّعَامُ فِي حَبْسٍ وَخِيطَ عَلَيْهِ السرقة من الحرز ، قُطِعَ وَهَكَذَا يُحْرَزُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : هَذَا الْمَتَاعُ فِي شَوَارِعِ الْأَسْوَاقِ يَكُونُ لَهَا حِرْزًا عَلَى سِتَّةِ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ مِنَ الْأَمْتِعَةِ الْجَافَّةِ الَّتِي لَا تُسْتَثْقَلُ بِالْيَدِ ، فَإِنْ كَانَتْ مِنْ خَفِيفِهَا الَّذِي يُتَنَاوَلُ بِالْيَدِ مِنْ غَيْرِ كُلْفَةٍ وَلَا مَشَقَّةٍ كَالثَّوْبِ وَالْإِنَاءِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حِرْزًا لَهَا . وَالثَّانِي : أَنْ يُضَمَّ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ حَتَّى يَجْتَمِعَ وَلَا يَفْتَرِقَ ، فَإِنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ حَفِظَ بَعْضُهُ بَعْضًا ، فَإِنِ افْتَرَقَ لَمْ يَكُنْ حِرْزًا . وَالثَّالِثُ : أَنْ يُدْرَأَ عَلَيْهِ حَبْلٌ يُشَدُّ بِهِ جَمِيعُهُ إِنْ كَانَ خَشَبًا ، حَتَّى لَا يُمْكِنَ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْهُ إِلَّا بِحَلِّ الْحَبْلِ ، وَيُخَاطُ فِي أَعْدَالٍ إِنْ كَانَ حِنْطَةً أَوْ دَقِيقًا حَتَّى لَا يُوصَلَ إِلَيْهِ إِلَّا بِفَتْقِ خِيَاطَتِهِ وَحَلِّ أَعْدَالِهِ ، فَإِنْ كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ حِرْزًا . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ فِي سُوقٍ تُغْلِقُ دُرُوبَهَا ، أَوْ فِي قَرْيَةٍ يَقِلُّ أَهْلُهَا ، فَإِنْ كَانَ فِي بَلَدٍ وَاسِعٍ وَلَيْسَ عَلَيْهِ دُرُوبٌ ، لَمْ يَكُنْ حِرْزًا . وَالْخَامِسُ : أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ أَنِيسًا إِمَّا بِمَسَاكِنَ فِيهَا أَهْلُهَا أَوْ بِحَارِسٍ يَكُونُ مُرَاعِيًا لَهَا ، فَإِنِ انْقَطَعَتْ عَنْهُ أُنْسَةُ النَّاسِ لَمْ يَكُنْ حِرْزًا . وَالسَّادِسُ : أَنْ يَكُونَ الْوَقْتُ سَاكِنًا وَالْفَسَادُ قَلِيلًا ، فَإِنْ تَحَرَّكَتْ فِتْنَةٌ أَوِ انْتَشَرَ فَسَادٌ لَمْ يَكُنْ حِرْزًا ، فَهَذَا أَوَّلُ نَوْعٍ ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ مِنَ الْأَحْرَازِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِذَا كَانَ يَقُودُ قِطَارَ إِبِلٍ أَوْ يَسُوقُهَا وَقُطِرَ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ ، فَسَرَقَ مِنْهَا أَوْ مِمَّا عَلَيْهَا شَيْئًا قُطِعَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا نَوْعٌ ثَانٍ مِنَ الْأَحْرَازِ : لِأَنَّهَا فِي السَّيْرِ فِي الْأَسْفَارِ مُخَالِفَةٌ لَهَا فِي الْمُقَامِ وَالْأَمْصَارِ ، فَإِذَا قُطِرَتِ الْإِبِلُ سَائِرَةً وَعَلَيْهَا الْحُمُولَةُ كَانَ لِلرَّجُلِ الْوَاحِدِ فِي الْقِطَارِ حِرْزًا لِمَا رَآهُ مِنْهَا وَقَدَرَ عَلَى زَجْرِهَا فِي مَسِيرِهَا ، فَيَصِيرُ بِهَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ الرُّؤْيَةِ وَالزَّجْرِ حِرْزًا دُونَ إِحْدَاهُمَا ، وَالْأَغْلَبُ أَنَّهُ يَكُونُ فِي ثَلَاثَةٍ مِنَ الْإِبِلِ ، فَإِنْ تَجَاوَزَتْ إِلَى أَرْبَعَةٍ - وَغَايَتُهُ خَمْسَةٌ - إِنْ كَانَ فِي الْجَمَالِ فَضْلُ جَلْدٍ وَشَهَامَةٍ ، سَوَاءٌ كَانَ قَائِدًا أَوْ سَائِقًا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ كَانَ سَائِقًا كَانَ حِرْزًا لَهَا ، وَإِنْ كَانَ قَائِدًا كَانَ حِرْزًا لِلْأَوَّلِ الَّذِي يَقُودُهُ دُونَ غَيْرِهِ . وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ السَّائِقُ يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْقَائِدُ . وَالثَّانِي : أَنَّ بُعْدَ الْأَخِيرِ مِنَ الْقَائِدِ كَبُعْدِ الْأَوَّلِ مِنَ السَّائِقِ ، وَلَمْ يَمْنَعْ أَنْ يَكُونَ
حِرْزًا لَهُ مَعَ بُعْدِهِ كَذَلِكَ بُعْدُ الْأَخِيرِ مِنَ الْقَائِدِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ جَمَالُهَا مَاشِيًا أَوْ رَاكِبًا ، وَيَكُونُ حِرْزًا لَهَا مَا كَانَ مُسْتَيْقِظًا ، فَإِنْ نَامَ عَنْهَا لَمْ يَكُنْ حِرْزًا لَهَا .
فَصْلٌ : وَإِذَا جَعَلْنَاهُ حِرْزًا لَهَا صَارَ حِرْزًا لِمَا عَلَيْهَا مِنَ الْحُمُولَةِ ، فَإِنْ سُرِقَ وَاحِدٌ مِنْهَا وَحَلَّ مِنْ قِطَارِهِ قُطِعَ سَارِقُهُ إِذَا بَعُدَ بِالْجَمَلِ عَنْ بَصَرِ جَمَّالِهِ وَمَوْضِعِ زَجْرِهِ ، وَيَكُونُ حُكْمُهُ قَبْلَ بُعْدِهِ عَنْ نَظَرِهِ وَزَجْرِهِ كَبَقَائِهِ فِي حِرْزِهِ . فَإِذَا تَجَاوَزَ ذَلِكَ ، صَارَ كَالْخَارِجِ مِنْ حِرْزِهِ ، فَيَجِبُ حِينَئِذٍ قَطْعُهُ . وَلَوْ أَنَّهُ تَرَكَ الْجَمَلَ فِي قِطَارِهِ وَسَرَقَ مِنْ حُمُولَتِهِ وَالْمَتَاعِ الَّذِي عَلَى ظَهْرِهِ قُطِعَ بِتَنَاوُلِ الْمَتَاعِ وَحَلِّهِ عَنْ شِدَادِهِ وَوِعَائِهِ ، سَوَاءٌ بَعُدَ الْمَتَاعُ عَنْ بَصَرِ الْجَمَّالِ أَوْ لَمْ يَبْعُدْ . بِخِلَافِ الْبَعِيرِ : لِأَنَّ تَحَرُّزَ الْبَعِيرِ رُؤْيَةُ الْجَمَّالِ ، وَحِرْزُ الْمَتَاعِ شِدَادُهُ فِي وِعَائِهِ ، وَسَوَاءٌ أَخَذَ جَمِيعَ الْوِعَاءِ أَوْ أَخَذَ مِمَّا فِي الْوِعَاءِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ أَخَذَ جَمِيعَ الْوِعَاءِ لَمْ يُقْطَعْ ، وَإِنْ أَخَذَ مِمَّا فِي الْوِعَاءِ قُطِعَ : احْتِجَاجًا بِأَنَّهُ يَصِيرُ بِأَخْذِ مَا فِيهِ هَاتِكًا لِلْحِرْزِ ، وَبِأَخْذِ جَمِيعِهِ غَيْرِ هَاتِكٍ لِلْحِرْزِ . وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ الْوِعَاءَ مُحْرَزٌ بِشِدَادِهِ عَلَى الْجُمْلَةِ ، كَمَا أَنَّ مَا فِي الْوِعَاءِ مُحْرَزًا بِالْوِعَاءِ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ يُقْطَعُ بِمَا فِي الْوِعَاءِ فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يُقْطَعَ بِجَمِيعِ الْوِعَاءِ ، وَفِيهِ انْفِصَالٌ ، وَلَكِنْ لَوْ حَلَّ الْجَمَلَ مِنْ قِطَارِهِ وَسَرَقَهُ وَمَا عَلَيْهِ ، وَصَاحِبُهُ رَاكِبُهُ لَمْ يُقْطَعْ سَارِقُهُ : لِبَقَائِهِ مَعَ حِرْزِهِ فَصَارَ سَارِقًا لِلْحِرْزِ وَالْمُحْرِزِ : فَلِذَلِكَ سَقَطَ الْقَطْعُ لِبَقَاءِ يَدِ الْحَافِظِ عَلَيْهِ ، فَإِنْ دَفْعَهُ عَنْهُ بَعْدَ بُعْدِهِ عَنِ الْأَبْصَارِ صَارَ كَالْغَاصِبِ وَلَا قَطْعَ عَلَى غَاصِبٍ .
فَصْلٌ : وَلَوْ طَالَ الْقِطَارُ وَكَثُرَ عَدَدُهُ عَنْ مُرَاعَاةِ الْوَاحِدِ ، كَانَ الْوَاحِدُ فِيهَا حِرْزًا لِمَا أَمْكَنَ أَنْ تَرَى عَيْنُهُ مَا قَرُبَ مِنْهُ دُونَ مَا بَعُدَ عَنْهُ . فَإِنْ كَانَ قَائِدًا كَانَ حِرْزًا لِمَا بَعْدَهُ مِنَ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ ، وَإِنْ كَانَ سَائِقًا كَانَ حِرْزًا لِمَا قَبْلَهُ مِنَ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ ، وَإِنْ كَانَ مُتَوَسِّطًا كَانَ حِرْزًا لِوَاحِدٍ مِمَّا قَادُوا بَقِيَّةَ الْعَدَدِ مِمَّا يُسَاقُ : لِأَنَّهُ إِذَا تَوَزَّعَتْ مُرَاعَاتُهُ مِنْ أَمَامِهِ وَوَرَائِهِ كَانَ بِأَمَامِهِ أَحْرَزَ ، وَيَكُونُ مَا تَجَاوَزَ ذَلِكَ مِنَ الْقِطَارِ غَيْرَ مَحْرُوزٍ ، فَإِنْ سَرَقَ مِمَّا جَعَلْنَاهُ حِرْزًا لَهُ قُطِعَ ، وَإِنْ سَرَقَ مِمَّا لَمْ نَجْعَلْهُ حِرْزًا لَهُ لَمْ يُقْطَعْ ، فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَقْطُورَةٍ فِي سَيْرِهَا كَانَ الْوَاحِدُ حِرْزًا لِمَا يَنَالُهُ سَوْطُهُ مِنْهَا ، لِأَنَّهُ بِالسَّوْطِ يَسُوقُهَا وَيُؤَجِّرُهَا ، وَلَا يَكُونُ حِرْزًا لِمَا لَا يَنَالُهُ سَوْطُهُ وَإِنْ كَانَ يَرَاهُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ أَنَاخَهَا حَيْثُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا فِي صَحْرَاءَ ، أَوْ كَانَتْ غَنَمًا فَآوَاهَا إِلَى مُرَاحٍ ، فَاضْطَجَعَ حَيْثُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا فَهَذَا حِرْزُهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا نَوْعٌ ثَالِثٌ مِنَ الْأَحْرَازِ فِيمَا يَخْتَصُّ بِالْبَهَائِمِ فِي الصَّحْرَاءِ ، وَذَلِكَ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ : فَالْفَصْلُ الْأَوَّلُ : فِي الْإِبِلِ وَالدَّوَابِّ إِذَا حَطَّتْ حُمُولَتَهَا فَنَزَلَتْ فِي مَنْزِلِ الِاسْتِرَاحَةِ ،
فَحِرْزُهَا فِي مَنْزِلِ الِاسْتِرَاحَةِ يَكُونُ بِخَمْسَةِ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تُضَمَّ الْبَهَائِمُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ حَتَّى لَا تَفْتَرِقَ . وَالثَّانِي : أَنْ يَرْبُطَهَا إِلَى حَبَلٍ قَدْ مَدَّهُ بِجَمِيعِهَا . وَالثَّالِثُ : أَنْ يُنِيخَهَا إِنْ كَانَتْ إِبِلًا : لِأَنَّهَا لَا تَنَامُ إِلَّا بَارِكَةً ، فَأَمَّا الدَّوَابُّ وَالْبِغَالُ فَتَنَامُ قِيَامًا فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى إِنَاخَتِهَا . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَعْقِلَهَا إِنْ كَانَتْ إِبِلًا ، وَيُشْكِلَهَا إِنْ كَانَتْ دَوَابًّا . وَالْخَامِسُ : أَنْ يَكُونَ مَعَهَا مَنْ يَحْفَظُهَا ، مِثْلُ عَدَدِهَا إِمَّا نَائِمًا وَإِمَّا مُسْتَيْقِظًا : لِأَنَّ وَقْتَ الِاسْتِرَاحَةِ لَا يُسْتَغْنَى فِيهِ عَنِ النَّوْمِ ، وَهُوَ يَسْتَيْقِظُ بِحَرَكَتِهَا إِنْ سُرِقَتْ ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَعَهَا نَائِمًا أَوْ مُسْتَيْقِظًا ، لَكِنَّهُ إِنْ نَامَ لَزِمَهُ اعْتِبَارُ الشَّرْطِ الرَّابِعِ فِي عَقْلِهَا وَشَكْلِهَا ، وَإِنِ اسْتَيْقَظَ لَمْ يَلْزَمْ هَذَا . فَإِذَا تَكَامَلَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ صَارَتْ مُحْرَزَةً وَوَجَبَ الْقَطْعُ عَلَى سَارِقِهَا ، وَإِنِ اخْتَلَّ شَرْطٌ مِنْهَا لَمْ يُقْطَعْ .
فَصْلٌ : وَالْفَصْلُ الثَّانِي فِي الْبَهَائِمِ الرَّاعِيَةِ فِي مَسَارِحِهَا مِنَ الْمَوَاشِي وَالدَّوَابِّ ، فَحِرْزُهَا فِي الْمَرَاعِي مُعْتَبِرٌ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ عَلَى مَاءٍ وَاحِدٍ وَفِي مَسْرَحٍ وَاحِدٍ ، لَا يَخْتَلِفُ لَهَا مَاءٌ وَلَا مَسْرَحٌ . وَالثَّانِي : أَنْ لَا يَبْعُدَ مَا بَيْنَ أَوَائِلِهَا وَأَوَاخِرِهَا حَتَّى لَا يَخْرُجَ عَنِ الْعُرْفِ فِي الْمَسْرَحِ ، وَالْعُرْفُ فِي الْإِبِلِ أَنَّهَا أَكْثَرُ تَبَاعُدًا فِي الْمَسْرَحِ مِنَ الْغَنَمِ ، فَيُرَاعِي فِي تَبَاعُدِ كُلِّ جِنْسٍ مِنْهَا عُرْفَهُ الْمَعْهُودَ . وَالثَّالِثُ : الرَّاعِي ، وَفِي الرَّاعِي ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ مُعْتَبَرَةٌ : أَحَدُهَا : أَنْ يَرَى جَمِيعَهَا ، فَإِنْ رَأَى بَعْضَهَا كَانَ حِرْزًا لِمَا رَآهُ مِنْهَا دُونَ مَا لَمْ يَرَهُ . وَالثَّانِي : أَنْ لَا يَخْرُجَ عَنْ مَدَى صَوْتِهِ : لِأَنَّهَا تَجْتَمِعُ وَتَفْتَرِقُ فِي الْمَرَاعِي بِصَوْتِهِ ، فَإِنْ بَعُدَتْ عَنْ مَدَى صَوْتِهِ كَانَ حِرْزًا لِمَا انْتَهَى إِلَيْهِ صَوْتُهُ ، وَلَمْ يَكُنْ حِرْزًا لِمَا لَمْ يَبْلُغُهُ صَوْتُهُ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ مُسْتَيْقِظًا : لِأَنَّهَا تَرْعَى نَهَارًا فِي زَمَانِ التَّصَرُّفِ وَالْيَقَظَةِ ، فَإِنْ نَامَ عَنْهَا لَمْ يَكُنْ حِرْزًا لِشَيْءٍ مِنْهَا .
فَصْلٌ : وَالْفَصْلُ الثَّالِثُ : فِي الْبَهَائِمِ إِذَا اجْتَمَعَتْ فِي مُرَاحِهَا ، فَالْمُرَاحُ حِرْزٌ لَهَا السرقة من الحرز ، وَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ كُلُّ مُرَاحِهَا فِي بَلَدٍ أَوْ قَرْيَةٍ ، فَإِذَا كَانَ لِلْمُرَاحِ حَظِيرَةٌ تَحُوطُهُ ، وَبَابٌ يُغْلَقُ عَلَيْهِ كَانَ حِرْزًا ، سَوَاءٌ كَانَ مَعَهَا رَاعِيهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ ، فَإِنْ سُرِقَتْ مِنْهُ قُطِعَ .
وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مُرَاحُهَا فِي أَقْبِيَةِ أَهْلِهَا بِالْبَادِيَةِ بِحَيْثُ يُدْرِكُهَا الصَّوْتُ ، فَاجْتِمَاعُهَا فِيهِ حِرْزٌ لَهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا أَحَدٌ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ مُرَاحُهَا فِي الصَّحْرَاءِ عَلَى بُعْدٍ مِنْ بُيُوتِ أَهْلِهَا ، فَحِرْزُهَا فِيهِ مُعْتَبَرٌ بِشَرْطَيْنِ : أَحَدُهُمَا : اجْتِمَاعُهُمَا فِيهِ بِحَيْثُ يَحُثُّ بَعْضُهَا بِحَرَكَةِ بَعْضٍ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَعَهَا رَاعٍ يَحْفَظُهَا ، فَإِنْ كَانَ مُسْتَيْقِظًا لَمْ يَحْتَجْ مَعَ الِاسْتِيقَاظِ إِلَى غَيْرِهِ ، وَإِنْ نَامَ احْتَاجَ مَعَ نَوْمِهِ إِلَى شَرْطٍ ثَالِثٍ : وَهُوَ مَا يُوقِظُهُ إِنْ سُرِقَتْ مِنْ كِلَابٍ تَنْبَحُ ، أَوْ أَجْرَاسٍ تَتَحَرَّكُ . فَإِنْ أَخَلَّ بِهَذَا عِنْدَ نَوْمِهِ لَمْ يَكُنْ حِرْزًا ، وَلَمْ يُقْطَعْ سَارِقُهَا .
فَصْلٌ : فَأَمَّا أَلْبَانُ الْمَوَاشِي إِذَا احْتَلَبَهَا مِنْ ضُرُوعِهَا السرقة من الحرز ، فَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْمَوَاشِي فِي حِرْزٍ فَلَا قَطْعَ فِي أَلْبَانِهَا كَمَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا لَوْ سُرِقَتْ قَطْعٌ ، وَإِنْ كَانَتْ فِي حِرْزٍ مِنْ مُرَاحٍ أَوْ مَرْعَى فَضُرُوعُ الْمَوَاشِي حِرْزُ أَلْبَانِهَا ، فَيُنْظَرُ فَإِنْ بَلَغَ لَبَنُ الْبَهِيمَةِ الْوَاحِدَةِ نِصَابًا قُطِعَ ، وَإِنْ لَمْ يَكْمُلِ النِّصَابُ إِلَّا بِاحْتِلَابِ جَمَاعَةٍ مِنْهَا فَفِي قَطْعِهِ إِذَا احْتَلَبَهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُقْطَعُ : لِأَنَّهَا سَرِقَاتٌ مِنْ أَحْرَازٍ : لِأَنَّ كُلَّ ضَرْعٍ حِرْزُ لَبَنِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُقْطَعُ : لِأَنَّ الْمُرَاحَ حِرْزٌ وَاحِدٌ لِجَمِيعِهَا ، وَهُوَ لَوْ سَرَقَ جَمَاعَةً تَبْلُغُ نِصَابًا قُطِعَ ، وَكَذَلِكَ إِذَا احْتَلَبَ أَلْبَانَ جَمَاعَةٍ تَبْلُغُ نِصَابًا قُطِعَ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ ضَرَبَ فُسْطَاطًا وَآوَى فِيهِ مَتَاعَهُ فَاضْطَجَعَ ، فَسُرِقَ الْفُسْطَاطُ وَالْمَتَاعُ مِنْ جَوْفِهِ السرقة من الحرز قُطِعَ : لِأَنَّ اضْطِجَاعَهُ حِرْزٌ لَهُ وَلِمَا فِيهِ ، إِلَّا أَنَّ الْأَحْرَازَ تَخْتَلِفُ فَيُحْرَزُ كُلٌّ بِمَا تَكُونُ الْعَامَّةُ تُحْرَزُ مِثْلُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا نَوْعٌ رَابِعٌ مِنَ الْأَحْرَازِ وَهُوَ إِذَا حَطَّ الْمُسَافِرُ مَتَاعَهُ فِي سَفَرِهِ فِي مَنْزِلِ اسْتِرَاحَةٍ فَضَرَبَ فُسْطَاطًا أَوْ خَيْمَةً مِنْ جُلُودٍ أَوْ شِعْرٍ أَوْ خَرْقٍ ، فَشَدَّ أَطْنَابَهُ وَأَرْسَى أَوْتَادَهُ ، كَانَ هَذَا حِرْزًا لِلْفُسْطَاطِ إِذَا كَانَ صَاحِبُهُ يَرَاهُ ، سَوَاءٌ كَانَ فِيهِ أَوْ خَارِجًا مِنْهُ ، فَإِنْ سُرِقَ هَذَا الْفُسْطَاطُ قُطِعَ سَارِقُهُ ، فَإِنْ أَحْرَزَ فِي الْفُسْطَاطِ مَتَاعَهُ لَمْ يَكُنِ الْمَتَاعُ مُحْرَزًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهُ مَعَهُ فِي الْفُسْطَاطِ مُضْطَجِعًا عَلَيْهِ إِنْ كَانَ نَائِمًا ، أَوْ نَاظِرًا إِلَيْهِ إِنْ كَانَ مُسْتَيْقِظًا ، فَإِنْ سُرِقَ مِنَ الْمَتَاعِ وَهُوَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ وَالْفُسْطَاطِ قُطِعَ سَارِقُهُ : لِأَنَّ مَا كَانَ حِرْزًا لِغَيْرِهِ كَانَ حِرْزًا لِنَفْسِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوِ اضْطَجَعَ فِي صَحْرَاءَ وَوَضَعَ ثَوْبَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ السرقة من الحرز " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا نَوْعٌ خَامِسٌ مِنَ الْأَحْرَازِ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِي صَحْرَاءَ فَيَكُونُ حِرْزًا لِثِيَابِهِ الَّتِي هُوَ لَابِسُهَا ، سَوَاءٌ كَانَ نَائِمًا أَوْ مُسْتَيْقِظًا ، فَأَمَّا ثِيَابُهُ الَّتِي لَمْ يَلْبَسْهَا ، فَإِنْ
كَانَ مُسْتَيْقِظًا فَحِرْزُ ثِيَابِهِ أَنْ تَكُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ يَرَاهَا ، وَإِنْ كَانَ نَائِمًا فَحِرْزُهَا أَنْ يَضْطَجِعَ عَلَيْهَا أَوْ يَضَعَهَا تَحْتَ رَأْسِهِ وَيَنَامَ عَلَيْهَا : لِأَنَّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ نَامَ فِي الْمَسْجِدِ وَوَضَعَ رِدَاءَهُ تَحْتَ رَأْسِهِ فَسُرِقَ مِنْهُ ، فَقَطَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَارِقَهُ ، وَلِأَنَّ هَذَا فِي الْعُرْفِ حِرْزٌ لِثَوْبِ النَّائِمِ ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ مَعَهُ هِمْيَانٌ فِيهِ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ لَمْ يَكُنْ وَضْعُهُ تَحْتَ رَأْسِهِ إِذَا نَامَ حِرْزًا لَهُ حَتَّى يَشُدَّهُ فِي وَسَطِهِ : لِأَنَّ الْأَحْرَازَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُحْرَزَاتِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " أَوْ تَرَكَ أَهْلُ الْأَسْوَاقِ مَتَاعَهُمْ فِي مَقَاعِدَ لَيْسَ عَلَيْهَا حِرْزٌ لَمْ يُضَمَّ وَلَمْ يُرْبَطْ السرقة من الحرز ، أَوْ أَرْسَلَ رَجُلٌ إِبِلَهُ تَرْعَى أَوْ تَمْضِي عَلَى الطَّرِيقِ غَيْرِ مَقْطُورَةٍ ، أَوْ أَبَاتَهَا بِصَحْرَاءَ وَلَمْ يَضْطَجِعْ عِنْدَهَا ، أَوْ ضَرَبَ فُسْطَاطًا فَلَمْ يَضْطَجِعْ فِيهِ ، فَسُرِقَ مِنْ هَذَا شَيْءٌ لَمْ يُقْطَعْ : لِأَنَّ الْعَامَّةَ لَا تَرَى هَذَا حِرْزًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ نَوْعٌ سَادِسٌ مِنَ الْأَحْرَازِ وَهُوَ أَمْتِعَةُ أَهْلِ الْأَسْوَاقِ إِذَا وَضَعُوهَا لِلْبَيْعِ السرقة من الحرز فَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ فِي حَوَانِيتِهِمْ ، فَإِذَا فَتَحَ حَانُوتَهُ وَجَلَسَ عَلَى بَابِهِ كَانَ حِرْزًا لِجَمِيعِ مَا فِيهِ ، فَإِنِ انْصَرَفَ عَنْهُ أَوْ نَامَ صَارَ مَا فِيهِ غَيْرَ مُحَرَّزٍ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ أَمْتِعَتُهُمْ فِي أَفْنِيَةِ أَسْوَاقِهِمْ وَطُرُقَاتِهِمْ ، فَالْحِرْزُ فِيهَا أَغْلَظُ : لِأَنَّ الْأَيْدِيَ إِلَى تَنَاوُلِهَا أَسْرَعُ ، فَحِرْزُهَا مُعْتَبَرٌ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَإِنْ كَانَتْ وَرَاءَهُ فَلَيْسَتْ فِي حِرْزٍ . وَالثَّانِي : أَنْ يَرَى جَمِيعَهَا ، فَإِنْ لَمْ يَرَ مِنْهَا شَيْئًا فَلَيْسَتْ فِي حِرْزٍ لِمَا لَا يَرَاهُ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ مُجْتَمِعًا لَا تَمْشِي بَيْنَهُ مَارَّةٌ فِي الطَّرِيقِ ، فَإِنْ تَفَرَّقَ وَمَشَى فِيهِ مَارَّةُ الطَّرِيقِ لَمْ يَكُنْ حِرْزًا لَمَّا حَالَ الْمَاشِيَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَالْبُيُوتُ الْمُغْلَقَةُ حِرْزٌ لِمَا فِيهَا السرقة من الحرز " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا نَوْعٌ سَابِعٌ مِنَ الْأَحْرَازِ ، وَهِيَ الْبُيُوتُ وَالْأَبْنِيَةُ فِي الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى ، وَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : حَوَانِيتُ مُتَاجِرَ ، وَدُورُ مَسَاكِنَ ، وَبُيُوتُ خَانَاتٍ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ حَوَانِيتُ الْمُتَاجِرِ فِي الْأَسْوَاقِ فَلَهَا حَالَتَانِ : لَيْلٌ وَنَهَارٌ ، فَأَمَّا النَّهَارُ فَأَمْرُهَا أَخَفُّ : لِانْتِشَارِ النَّاسِ فِيهَا ، فَيَكُونُ حِرْزًا فِي نَفِيسِ الْمَتَاعِ لِمَا لَا يَكُونُ حِرْزًا لَهُ فِي اللَّيْلِ ، أَوْ يَكُونُ الْحَانُوتُ فِيهِ مُحْرَزًا بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يُغْلِقَ بَابَهُ بِإِقْفَالِهِ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَفْتُوحًا وَفِيهِ صَاحِبُهُ . وَأَمَّا اللَّيْلُ فَالْإِحْرَازُ فِيهِ أَغْلَظُ ، فَتَكُونُ حَوَانِيتُ كُلِّ سُوقٍ حِرْزًا : لِجِنْسِ أَمْتِعَةِ تِلْكَ
السُّوقِ ، فَتَكُونُ حَوَانِيتُ سُوقِ الدَّقِيقِ حِرْزًا لِلدَّقِيقِ ، وَلَا تَكُونُ حِرْزًا لِلصَّيْدَلَةِ : لِأَنَّ أَبْوَابَهَا فِي الْعُرْفِ أَضْعَفُ وَأَغْلَاقَهَا أَسْهَلُ . وَحَوَانِيتُ سُوقِ الصَّيْدَلَةِ حِرْزًا لِلصَّيْدَلَةِ ، وَلَا تَكُونُ حِرْزًا لِلْعِطْرِ : لِأَنَّ أَحْرَازَ الْعِطْرِ أَغْلَظُ وَأَصْعَبُ وَأَغْلَاقَهَا أَشَدُّ . وَحَوَانِيتُ سُوقِ الْعِطْرِ حِرْزٌ لِلْعِطْرِ ، وَلَا تَكُونُ حِرْزًا لِلْبَزِّ : لِأَنَّ إِحْرَازَ الْبَزِّ أَغْلَظُ ، وَحَوَانِيتُ سُوقِ الْبَزِّ حِرْزٌ لِلْبَزِّ ، وَلَا تَكُونُ حِرْزًا لِلصَّيَارِفِ فِي الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ : لِأَنَّ حِرْزَ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ أَغْلَظُ ، وَقَلَّ مَا أَحْرَزَ الصَّيَارِفُ الْفِضَّةَ وَالذَّهَبَ فِي حَوَانِيتِهِمْ ، إِلَّا مَعَ الْغَايَةِ فِي عَدْلِ السُّلْطَانِ وَأَمْنِ الزَّمَانِ ، فَإِنِ انْتَهَى الزَّمَانُ إِلَى هَذَا الْحَالِ فِي عَدْلِهِ وَأَمْنِهِ كَانَتْ حَوَانِيتُهُمْ حِرْزًا لِأَمْوَالِهِمْ وَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ ، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ بِنَاؤُهَا مُحْكَمًا ، وَأَبْوَابُهَا وَثِيقَةً وَأَقْفَالُهَا صَعْبَةً ، وَيَكُونُ عَلَى أَسْوَاقِهِمْ دُرُوبٌ . وَكَذَلِكَ أَسْوَاقُ الْبَزَّازِينَ إِذَا أَحْرَزُوا الْبَزَّ فِي حَوَانِيتِهِمْ ، وَيَكُونُ فِيهَا مَعَ الدُّرُوبِ حُرَّاسٌ ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَبِيتَ فِي الْحَوَانِيتِ أَرْبَابُهَا لِخُرُوجِهِ عَنِ الْعُرْفِ ، وَإِنْ كَانَ الزَّمَانُ مُنْتَشِرَ الْفَسَادِ قَلِيلَ الْأَمْنِ ، لَمْ تَكُنْ حَوَانِيتُ الصَّيَارِفِ وَالْبَزَّازِينَ حِرْزًا لِأَمْوَالِهِمْ مِنَ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ وَالْبَزِّ حَتَّى يَنْقُلُوهَا فِي اللَّيْلِ إِلَى مَسَاكِنِهِمْ أَوْ خَانَاتِهِمْ ، فَهَذَا حُكْمُ الْحَوَانِيتِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ الْمَسَاكِنُ الْمُسْتَوْطَنَةُ فَتَخْتَلِفُ فِي أَحْرَازِهَا بِحَسَبِ اخْتِلَافِ سُكَّانِهَا السرقة من الحرز مِنَ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ ، فَأَمَّا مَسَاكِنُ ذَوِي الْإِعْسَارِ فَأَخَفُّ أَحْرَازًا : لِأَنَّ مَتَاعَ بُيُوتِهِمْ زَهِيدٌ لَا يُرْغَبُ فِيهِ ، فَإِنْ كَانَتْ أَبْنِيَتُهُمْ قَصِيرَةً وَأَبْوَابُهُمْ خَفِيفَةً وَأَغْلَاقُهُمْ سَهْلَةً ، كَانَتْ حِرْزًا لِأَمْثَالِهِمْ ، فَإِنْ سَكَنَهَا أَهْلُ الْيَسَارِ لَمْ تَكُنْ حِرْزًا لَهُمْ : لِأَنَّ مَسَاكِنَ ذَوِي الْيَسَارِ مَحْكَمَةُ الْأَبْنِيَةِ ، عَالِيَةُ الْجُدْرَانِ وَثِيقَةُ الْأَبْوَابِ ، صَعْبَةُ الْأَغْلَاقِ ، فَإِنْ كَانَتْ جُدْرَانُهَا قِصَارًا وَهِيَ مُسَقَّفَةٌ بِسَقْفِ وَثِيقَةٍ كَانَتْ حِرْزًا لِأَمْثَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْيَسَارِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُسَقَّفَةً ، لَمْ تَكُنْ حِرْزًا لِذَوِي الْيَسَارِ : لِأَنَّهُ يُمْكِنُ الصُّعُودُ إِلَيْهَا إِذَا قَصُرَتْ وَلَا يُمْكِنُ الصُّعُودُ إِلَيْهَا إِذَا عَلَتْ ، فَإِذَا سَكَنَ أَهْلُ الْيَسَارِ فِي مَسَاكِنِ أَمْثَالِهِمْ فَلَهُمْ حَالَتَانِ : لَيْلٌ ، وَنَهَارٌ : فَأَمَّا النَّهَارُ : فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَبْوَابُهُمْ مَفْتُوحَةً إِذَا كَانُوا - أَوْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ - يَرَى الدَّاخِلَ إِلَيْهَا وَالْخَارِجَ مِنْهَا ، وَإِنْ لَمْ يَرَوْهُ لَمْ يَكُنْ حِرْزًا إِلَّا بِغَلْقِ الْبَابِ . وَإِغْلَاقُهُ فِي النَّهَارِ أَخَفُّ مِنْ إِغْلَاقِهِ فِي اللَّيْلِ ، فَلَا تَكُونُ فِي اللَّيْلِ حِرْزًا إِلَّا بَعْدَ غَلْقِ أَبْوَابِهَا وَإِحْكَامِ إِغْلَاقِهَا ، ثُمَّ لِأَمْتِعَةِ بُيُوتِهِمْ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : مَا كَانَ جَافِيًا لِلْبِذْلَةِ كَالْبُسُطِ وَالْأَوَانِي ، فَصُحُونُ مَسَاكِنِهِمْ حِرْزٌ لَهَا . وَالثَّانِي : مَا كَانَ مِنْ ذَخَائِرِهِمْ وَنَفِيسِ أَمْوَالِهِمْ ، فَالْبُيُوتُ الْمُغْلِقَةُ فِي الْمَسَاكِنِ حِرْزٌ لَهَا ، وَلَا يَكُونُ تَرْكُهَا فِي صُحُونِ الْمَسَاكِنِ حِرْزًا لِمِثْلِهَا : لِأَنَّهَا تُحْفَظُ مِنْ أَهْلِ الْمَسْكَنِ وَغَيْرِ أَهْلِ الْمَسْكَنِ . فَإِنْ سَرَقَهَا غَرِيبٌ مِنْهُمْ وَخَارِجٌ عَنْهُمْ قُطِعَ ، وَإِنْ سَرَقَهَا أَحَدُهُمْ لَمْ
يُقْطَعْ : لِمَا تُرِكَ فِي صُحُونِ الْمَسَاكِنِ الَّتِي يُدْخَلُ إِلَيْهَا وَيُخْرَجُ مِنْهَا ، وَقُطِعَ بِمَا فِي الْبُيُوتِ الْمُقْفَلَةِ مِنْهُ . فَلَوْ كَانَ فِي جِدَارِ الدَّارِ فَتْحَةٌ طَوِيلَةٌ ، وَكَانَتْ عَالِيَةً لَا تُنَالُ ، فَالْحِرْزُ بِحَالِهِ . وَإِنْ كَانَتْ قَصِيرَةً ، نُظِرَ : فَإِنْ كَانَتْ ضَيِّقَةً لَا يُمْكِنُ وُلُوجُهَا إِلَّا بِهَدْمِ بُنْيَانٍ لَمْ تَمْنَعْ مِنَ الْحِرْزِ ، وَإِنْ كَانَتْ وَاسِعَةً يُمْكِنُ وُلُوجُهَا مُنِعَتْ مِنَ الْحِرْزِ ، وَصَارَتْ كَالْبَابِ الْمَفْتُوحِ . فَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا بَابٌ كَبَابِ الدَّارِ فِي الْوِثَاقَةِ جَرَى مَجْرَاهُ ، وَجَازَ فَتْحُهُ نَهَارًا وَغَلْقُهُ لَيْلًا . وَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا شُبَّاكٌ فَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا لَا يُرَدُّ فَلَيْسَ بِحِرْزٍ ، وَإِنْ كَانَ قَوِيًّا مِنْ حَدِيدٍ أَوْ خَشَبٍ وَثِيقٍ كَانَ حِرْزًا ، فَهَذَا حُكْمُ الْمَسَاكِنِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ بُيُوتُ الْخَانَاتِ الَّتِي يُدْخَلُ إِلَى صُحُونِهَا بِغَيْرِ إِذْنٍ السرقة من الحرز ، وَيَنْفَرِدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِهَا بِبَيْتٍ ، فَلَهَا حُكْمَانِ : أَحَدُهُمَا : حُكْمُ صُحُونِهَا . وَالثَّانِي : حُكْمُ بُيُوتِهَا . فَأَمَّا حُكْمُ صُحُونِهَا إِذَا تُرِكَ فِيهِ مَتَاعٌ فَهُوَ غَيْرُ حِرْزٍ فِي النَّهَارِ مِنْ أَهْلِ الْخَانِ وَغَيْرِ أَهْلِهِ : لِاسْتِبْذَالِهِ بِالدُّخُولِ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ الْمَتَاعِ حَافِظٌ يَرَاهُ فَيَصِيرُ بِهِ مُحْرِزًا . فَأَمَّا اللَّيْلُ إِذَا غَلَّقَ عَلَى الْخَانِ بَابَهُ فَهُوَ حِرْزٌ لِمَا فِي صَحْنِهِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ ، وَلَا يَكُونُ حِرْزًا مَعَ أَهْلِهِ ، فَإِنْ سَرَقَهُ غَيْرُهُمْ قُطِعَ ، وَإِنْ سَرَقَهُ أَحَدُهُمْ لَمْ يُقْطَعْ . وَأَمَّا حُكْمُ بُيُوتِهَا فَكُلُّ بَيْتٍ مِنْهَا حِرْزٌ لِصَاحِبِهِ مِنْ أَهْلِ الْخَانِ وَغَيْرِ أَهْلِهِ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَعًا ، وَكَمَالُ حِرْزِهِ مُعْتَبَرٌ بِشَرْطَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ بَابُهُ مُغْلَقًا مُقْفَلًا . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ لِجَمِيعِ بُيُوتِ الْخَانِ حَافِظٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ حَالُ كُلِّ بَيْتٍ ، هَلْ قَصَدَهُ صَاحِبُهُ أَوْ غَيْرُ صَاحِبِهِ ؟ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ بَيْتٍ حَافِظٌ ، وَلَا أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهُ فِيهِ : لِأَنَّهَا بُيُوتٌ وُضِعَتْ فِي الْأَغْلَبِ لِإِحْرَازِ الْأَمْتِعَةِ دُونَ السُّكْنَى . فَإِنْ سَكَنَهَا قَوْمٌ ، صَارَ كُلُّ بَيْتٍ بِسُكْنَى صَاحِبِهِ حِرْزًا ، فَصَارَ مَا لَا سَاكِنَ فِيهِ مِنْهَا أَخْطَرَ ، يَحْتَاجُ إِلَى فَضْلِ مُرَاعَاةٍ فِي لَيْلِهِ دُونَ نَهَارِهِ . فَهَذِهِ سَبْعَةُ أَمْثِلَةٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَحْرَازِ أَطْلَقَ الشَّافِعِيُّ ذِكْرَهَا ، فَاسْتَوْفَيْنَا شَرْحَهَا وَشُرُوطَهَا : لِيَعْتَبِرَ بِهَا نَظَائِرُهَا ، وَهُنَاكَ نَوْعٌ ثَامِنٌ لَمْ نَذْكُرْهُ وَهُوَ حِرْزُ الثِّمَارِ .
فَصْلٌ : وَالْأَصْلُ فِي حِرْزِ الثِّمَارِ مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ مُزَيْنَةَ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الثَّمَرَ الْمُعَلَّقَ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَيْسَ فِيهِ قَطْعٌ إِلَّا مَا آوَاهُ الْجَرِينُ ، وَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ ، فِفِيهِ الْقَطْعُ . وَمَا لَمْ يَبْلُغْ ثَمَنَ الْمِجَنِّ ، فِفِيهِ غَرَامَةُ مِثْلِهِ ، وَجَلْدٍ ، ثُمَّ نَكَالٍ وَهَذَا خَارِجٌ عَلَى عُرْفِ الْحِجَازِ ، وَلَهُ تَفْصِيلٌ يَعُمُّ ، وَلِلثِّمَارِ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَكُونَ عَلَى رُءُوسِ نَخْلِهَا وَشَجَرِهَا ، فَتَكُونُ حِرْزُهَا بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِيهَا حَافِظٌ يَنْظُرُ إِلَى جَمِيعِهَا ، فَيَصِيرُ بِهِ مُحْرِزًا يُقْطَعُ سَارِقُهَا . وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهَا حَظَائِرُ تُغْلَقُ ، أَوْ بَابٌ مُغْلَقٌ فَتَصِيرُ بِهِ مُحْرَزَةً ، فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَحْظُورَةٍ وَلَا مَحْفُوظَةٍ فَلَا قَطْعَ عَلَى سَارِقِهَا ، وَهُوَ الْأَغْلَبُ مِنْ ثِمَارِ الْحِجَازِ ، وَإِلَيْهِ تَوَجَّهَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ تَكُونَ قَدْ صُرِمَتْ مِنْ نَخْلِهَا ، وَقُطِعَتْ مِنْ شَجَرِهَا ، وَوُضِعَتْ فِي جَرِينِهَا وَبَيْدَرِهَا ، إِمَّا لِلْبَيْعِ وَإِمَّا لِلتَّجْفِيفِ وَالْيُبْسِ ، فَالْجَرِينُ لِلثَّمَرَةِ كَالْمَرَاحِ لِلْمَاشِيَةِ ، فَإِنْ كَانَتْ عَلَى سُطُوحِ أَهْلِهَا أَوْ فِي مَسَاكِنِهِمْ وَأَفْنِيَتِهِمْ ، فَهِيَ مُحْرَزَةٌ بِقَطْعِ سَارِقِهَا . وَإِنْ كَانَتْ فِي بَسَاتِينِهِمْ وَضَيَاعِهِمْ ، فَإِنْ كَانَ الْمَوْضِعُ أَنِيسًا لِاتِّصَالِ الْبَسَاتِينَ وَانْتِشَارِ أَهْلِهَا لَمْ يَحْتَجْ إِلَى حَافِظٍ بِالنَّهَارِ ، وَاحْتَاجَتْ إِلَى حَافِظٍ بِاللَّيْلِ ، فَإِنْ سُرِقَتْ نَهَارًا قُطِعَ سَارِقُهَا ، وَإِنْ سُرِقَتْ لَيْلًا قُطِعَ إِنْ كَانَ لَهَا حَافِظٌ لَهُ ، وَلَمْ يُقْطَعْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا حَافِظٌ ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْضِعُ غَيْرَ أَنِيسٍ احْتَاجَتْ إِلَى حَافِظٍ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فَيُقْطَعُ سَارِقُهَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا حَافِظٌ لَمْ يُقْطَعْ . فَأَمَّا إِذَا سُرِقَتِ الْأَشْجَارُ وَفَسِيلُ النَّخْلِ السرقة من الحرز ، فَإِنْ كَانَتْ مِمَّا يُقْطَعُ سَارِقُ ثِمَارِهَا قُطِعَ سَارِقُ أَشْجَارِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا يُقْطَعُ فِي ثِمَارِهَا لَمْ يُقْطَعْ مِنْ أَشْجَارِهَا . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ سُرِقَ مِنْهَا شَيْءٌ فَأُخْرِجَ بِنَقْبٍ أَوْ فَتْحِ بَابٍ أَوْ قَلْعَةٍ ، قُطِعَ . وَإِنْ كَانَ الْبَيْتُ مَفْتُوحًا لَمْ يُقْطَعْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَبْوَابَ الْمُغْلَقَةَ حِرْزٌ لِمَا فِيهَا السرقة من الحرز ، فَإِذَا هَتَكَ حِرْزَهَا وَأَخْرَجَ نِصَابَ السَّرِقَةِ مِنْهُ قُطِعَ ، وَهَتْكُ الْحِرْزِ يَكُونُ بِأَحَدِ وُجُوهٍ : إِمَّا بِأَنْ يَفْتَحَ أَغْلَاقَهُ وَيَدْخُلَ إِلَيْهِ مِنْ بَابِهِ ، سَوَاءٌ كَانَتْ أَغْلَاقُهُ خَارِجَةً أَوْ دَاخِلَةً . وَفَتْحُ أَغْلَاقِهِ قَدْ يَكُونُ تَارَةً بِكَسْرِهَا ، وَتَارَةً بِأَنْ يَتَوَصَّلَ بِالْحِيلَةِ إِلَى فَتْحِهَا . وَمِنْهَا : أَنْ يَتَوَصَّلَ إِلَى قَلْعِ الْبَابِ أَوْ كَسْرِهِ ، أَوْ إِحْرَاقِهِ بِالنَّارِ . وَمِنْهَا : أَنْ يَنْقُبَ فِي جِدَارِ الْحِرْزِ أَوْ سَطْحِهِ حَتَّى يَدْخُلَ مِنْهُ إِلَى الْحِرْزِ . وَمِنْهَا : أَنْ يَعْلُوَ عَلَى جِدَارِهِ إِمَّا بِسُلَّمٍ يَصْعَدُ عَلَيْهِ أَوْ آلَةٍ يَنْصِبُهَا ، حَتَّى يَتَسَوَّرَ إِلَيْهِ نَظَائِرَ هَذَا فَيَصِيرُ هَاتِكًا لِلْحِرْزِ فَيُقْطَعُ بِهَتْكِهِ وَأَخْذِهِ ، فَإِنْ نَقَضَ جِدَارَ الْحِرْزِ وَسَرَقَ آلَتَهُ
قُطِعَ إِذَا بَلَغَتْ نِصَابًا : لِأَنَّ الْبَنَّاءَ حِرْزٌ لِآلَتِهِ ، وَهَكَذَا لَوْ سَرَقَ بَابَ الْحِرْزِ بِقَلْعٍ إِذَا كَانَ وَثِيقًا فِي نَصْبِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْبَابُ مُغْلَقًا أَوْ مَفْتُوحًا : لِأَنَّ غَلْقَ الْبَابِ حِرْزٌ لِمَا وَرَاءَهُ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي حِرْزِهِ ، فَإِنْ سَرَقَ مَا فِي الْبَيْتِ وَبَابُهُ مَفْتُوحٌ لَمْ يُقْطَعْ ، فَإِنْ سَرَقَ بَابَهُ قُطِعَ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُقْطَعُ فِي سَرِقَةِ الْبَابِ مَفْتُوحًا كَانَ أَوْ مُغْلَقًا ، وَكَذَلِكَ مَا أَخَذَهُ مِنْ بِنَاءِ الْحِرْزِ : اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ سَرَقَ الْحِرْزَ وَلَمْ يَهْتِكْهُ . وَهَذَا فَاسِدٌ : لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا كَانَ حِرْزًا لِغَيْرِهِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ حِرْزًا لِنَفْسِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْأَحْرَازَ مُعْتَبَرَةٌ بِالْعُرْفِ الْمَعْهُودِ ، وَأَبْوَابُ الْجُدُرِ وَآلَةُ بِنَائِهِ لَا تُحْفَظُ عُرْفًا إِلَّا بِنَصْبِ الْأَبْوَابِ وَبِنَاءِ الْآلَةِ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حِرْزًا كَسَائِرِ الْأَحْرَازِ . فَعَلَى هَذَا : لَوْ قَلَّعَ حَلْقَةَ الْبَابِ أَوْ مَسَامِيرَهُ أَوْ أَقْفَالَهُ قُطِعَ : لِأَنَّهُ فِي مَحَلِّ حِرْزِهَا ، وَكَذَا لَوْ قَلَعَ عَتَبَةَ الْبَابِ قُطِعَ : لِأَنَّ مَوْضِعَهَا حِرْزٌ لَهَا ، وَلَوْ نَقَضَ آلَةً مِنْ بِنَاءٍ قَدْ خَلَا مِنْ أَهْلِهِ حَتَّى خَرِبَ نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ بِنَاؤُهُ وَثِيقًا لَمْ يُسْتَهْدَمْ قُطِعَ ، وَإِنْ كَانَ مُتَهَدِّمًا مُتَخَلْخِلًا لَمْ يُقْطَعْ . فَإِنْ كَانَ عَلَى خَرَابِ الْبِنَاءِ أَبْوَابٌ ، لَمْ يُقْطَعْ فِي أَخْذِهَا وَإِنْ قُطِعَ فِي آلَةِ بِنَائِهَا ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَبْوَابَ مُحْرَزَةٌ بِالسُّكْنَى ، وَالْآلَةُ مُحْرَزَةٌ بِالْبِنَاءِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ أَخْرَجَهُ مِنَ الْبَيْتِ وَالْحُجْرَةِ إِلَى الدَّارِ ، وَالدَّارُ لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ وَحْدَهُ ، لَمْ يُقْطَعْ حَتَّى يُخْرِجَهُ مِنْ جَمِيعِ الدَّارِ : لِأَنَّهَا حِرْزٌ لِمَا فِيهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا كَانَ الْمَتَاعُ مُحْرَزًا فِي حُجْرَةٍ فِي دَارٍ خَاصَّةٍ ، أَوْ فِي بَيْتٍ فِي الدَّارِ ، فَأَخْرَجَهُ إِلَى صَحْنِ الدَّارِ السرقة من الحرز ، فَالْحُكْمُ فِي الْحُجْرَةِ وَالْبَيْتِ سَوَاءٌ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ بَابُ الْحُجْرَةِ وَالدَّارِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَا مَفْتُوحَيْنِ ، فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ يَفْتَحُ الْبَابَ غَيْرَ مُحْرَزٍ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ بَابُ الدَّارِ مُغْلَقًا وَبَابُ الْحُجْرَةِ مَفْتُوحًا ، فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ : لِأَنَّ جَمِيعَ الدَّارِ حِرْزٌ فَصَارَ نَاقِلًا لَهُ فِي الْحِرْزِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ ، لَكِنْ يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ : لِأَنَّ إِخْرَاجَهُ عُدْوَانٌ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ بَابُ الدَّارِ مَفْتُوحًا وَبَابُ الْحُجْرَةِ مُغْلَقًا ، فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ : لِأَنَّ الْحِرْزَ هُوَ الْحُجْرَةُ دُونَ الدَّارِ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ بَابُ الْحُجْرَةِ مُغْلَقًا ، وَبَابُ الدَّارِ مُغْلَقًا ، فَفِي قَطْعِهِ إِذَا أَخْرَجَهُ مِنَ الْحُجْرَةِ أَوِ الْبَيْتِ الْمُغْلَقِ إِلَى الدَّارِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُقْطَعُ : لِأَنَّهَا بِالْغَلْقِ تَصِيرُ هِيَ الْحِرْزُ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ ، لَا يُقْطَعُ : لِأَنَّ الدَّارَ الْمُفْرَدَةَ حِرْزٌ لِجَمِيعِ مَا فِيهَا ، وَغَلْقُ الْحُجْرَةِ يَجْرِي مَجْرَى غَلْقِ الصُّنْدُوقِ ، وَلَا يُقْطَعُ بِإِخْرَاجِهِ مِنَ الصُّنْدُوقِ إِلَى الْحُجْرَةِ ، كَذَلِكَ لَا يُقْطَعُ بِإِخْرَاجِهِ مِنَ الْحُجْرَةِ إِلَى الدَّارِ ، وَيَكُونُ كَمَا لَوْ رَفَعَ السَّرِقَةَ مِنْ قَرَارِ الدَّارِ إِلَى غُرَفِهَا ، أَوْ حَطَّهَا مِنْ غُرَفِهَا إِلَى قَرَارِهَا لَمْ يُقْطَعْ : لِأَنَّ جَمِيعَ السُّفْلِ وَالْعُلُوِّ حِرْزٌ وَاحِدٌ ، فَإِنْ أَصْعَدْ بِالسَّرِقَةِ مِنَ الدَّارِ إِلَى سَطْحِهَا نُظِرَ : فَإِنْ كَانَ عَلَى السَّطْحِ مُمَرَّقٌ يُعَلَّقُ عَلَى السَّفْلِ قُطِعَ : لِأَنَّ خُرُوجَهُ مِنَ الْمُمَرَّقِ كَخُرُوجِهِ مِنَ الْبَابِ : لِأَنَّ الْمُمَرَّقَ أَحَدُ الْبَابَيْنِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى السَّطْحِ سَرْقٌ يُعَلَّقُ نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ السَّطْحُ عَالِيًا عَلَيْهِ سُتْرَةٌ مُبِينَةٌ تَمْنَعُ مِنَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ لَمْ يُقْطَعْ : لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْحِرْزِ ، وَإِنْ كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ قُطِعَ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ كَانَتْ مُشْتَرَكَةً وَأَخْرَجَهُ مِنَ الْحُجْرَةِ إِلَى الدَّارِ ، فَلَيْسَتِ الدَّارُ بِحِرْزٍ لِأَحَدٍ مِنَ السُّكَّانِ فَيُقْطَعَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي الْحَانَاتِ الْمُشْتَرَكَةِ ، فَإِذَا كَانَتِ الدَّارُ مُشْتَرِكَةً بَيْنَ جَمَاعَةٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيهَا حُجْرَةٌ يَخْتَصُّ بِسُكَّانِهَا ، فَدَخَلَ الْحُجْرَةَ سَارِقٌ وَأَخْرَجَ مِنْهَا السَّرِقَةَ إِلَى صَحْنِ الدَّارِ قُطِعَ : لِأَنَّهُ قَدْ أَخْرَجَهَا عَنْ حِرْزِهَا ، وَيَكُونُ حُكْمُ هَذِهِ الدَّارِ كَالزُّقَاقِ الْمَرْفُوعِ بَيْنَ أَهْلِهِ ، إِذَا اخْتَصَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيهِ بِدَارٍ كَانَ إِخْرَاجُ السَّرِقَةِ مِنْهَا إِلَى الزُّقَاقِ مُوجِبًا لِلْقَطْعِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ أَخْرَجَ السَّرِقَةَ فَوَضَعَهَا فِي بَعْضِ النَّقْبِ ، وَأَخَذَهَا رَجُلٌ مِنْ خَارِجٍ ، لَمْ يُقْطَعْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا : فِي رَجُلَيْنِ اجْتَمَعَا عَلَى سَرِقَةٍ ، فَنَقَبَ أَحَدُهُمَا وَأَخَذَ الْآخَرُ ، فَهَذَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَشْتَرِكَا فِي النَّقْبِ ، وَيَدْخُلَ أَحَدُهُمَا فَيَأْخُذُ السَّرِقَةَ وَيَضَعَهَا فِي النَّقْبِ وَلَا يُخْرِجُهَا مِنْهُ ، وَيَأْتِي وَهُوَ خَارِجُ النَّقْبِ فَلْيَأْخُذْهَا وَلَا يَدْخُلِ الْبَيْتَ ، فَمَذْهَبُ مَالِكٍ : أَنَّهُمَا يُقْطَعَانِ : لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمَا قَدْ صَارَا بِالتَّعَاوُنِ كَالْوَاحِدِ . وَالثَّانِي : لِئَلَّا يَصِيرَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى أَخْذِ الْأَمْوَالِ وَإِسْقَاطِ الْحُدُودِ ، وَهَذَا الْقَوْلُ قَدْ حَكَاهُ الْحَارِثُ بْنُ سُرَيْجِ بْنِ هِلَالٍ النَّقَّالِ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ وَأَحَدُ قَوْلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ : أَنْ لَا قَطْعَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، فَصَارَ فِي وُجُوبِ قَطْعِهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الْأَضْعَفُ ، أَنَّهُمَا يُقْطَعَانِ لِلْمَعْنَيَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ .
وَالثَّانِي : وَهُوَ الْأَصَحُّ ، أَنَّهُمَا لَا يُقْطَعَانِ : لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الدَّاخِلَ إِلَى الْحِرْزِ مَا أَخْرَجَهَا مِنْ جَمِيعِهِ ، وَالْآخِذُ بِهَا مِنَ النَّقْبِ لَمْ يَأْخُذْهَا مِنْ حِرْزٍ ، فَلَمْ يُوجَدْ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا شُرُوطُ الْقَطْعِ فَسَقَطَ ، وَلِهَذَا قَالَ الشَّعْبِيُّ : اللِّصُّ الظَّرِيفُ لَا يُقْطَعُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ أَخَذَهَا غَيْرُ الْمُعَاوِنِ ، لَمْ يُقْطَعْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا ، كَذَلِكَ إِذَا أَخَذَهَا الْمُعَاوِنُ : لِأَنَّ الْقَطْعَ لَا يَجِبُ بِالْمُعَاوَنَةِ وَإِنَّمَا يَجِبُ بِالْأَخْذِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالنَّقْبِ وَلَا يَدْخُلُ الْحِرْزَ ، وَيَدْخُلُ الْآخَرُ فَيُخْرِجَهَا وَلَمْ يُشَارِكْ فِي النَّقْبِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهَا فَأَجْرَاهَا كَثِيرٌ مِنْهُمْ مَجْرَى الضَّرْبِ الْأَوَّلِ ، وَخَرَجَ وُجُوبُ قَطْعِهِمَا عَلَى قَوْلَيْنِ . وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَطَائِفَةٌ أُخْرَى : إِنَّهُ لَا قَطْعَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَوْلًا وَاحِدًا : لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَفَرَّدَ بِأَحَدِ شَرْطَيِ الْقَطْعِ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ يَشْتَرِكَا فِي النَّقْبِ ، فَيَدْخُلُ أَحَدُهُمَا فَيَأْخُذُ السَّرِقَةَ وَيُخْرِجُهَا ، فَيَقْطَعُ مَخْرَجَهَا : لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ هَتْكِ الْحِرْزِ وَالْإِخْرَاجِ ، وَلَا يُقْطَعُ الْآخَرُ : لِأَنَّهُ انْفَرَدَ بِالنَّقْبِ دُونَ الْإِخْرَاجِ . وَالضَّرْبُ الرَّابِعُ : أَنْ يَحْضُرَ وَاحِدٌ فَيُنَقِّبُ الْحِرْزَ وَيَخَافُ الطَّلَبَ فَيَهْرُبُ ، وَيَأْتِي آخَرُ لَمْ يَشْهَدِ النَّقْبَ فَيُدْخِلُهُ حِينَ زَاغَ ، وَيُخْرِجُ السَّرِقَةَ مِنْهُ ، فَلَا قَطْعَ عَلَى نَاقِبِ الْحِرْزِ لَا يَخْتَلِفُ : لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ إِلَّا النَّقْبُ الَّذِي لَا يُوجِبُ الْقَطْعَ . وَأَمَّا الْآخِذُ لَهَا : فَإِنْ كَانَ النَّقْبُ قَدِ اشْتُهِرَ وَظَهَرَ فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ سَرَقَ مَالًا مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَهِرْ وَلَمْ يَظْهَرْ فَفِي وُجُوبِ قَطْعِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا قَطْعَ : لِمَا ذَكَرْنَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُقْطَعُ اعْتِبَارًا بِظَاهِرِ الْحِرْزِ ، وَهَكَذَا لَوْ عَادَ الَّذِي نَقَّبَ بَعْدَ هَرَبِهِ مِنَ الطَّلَبِ فِي لَيْلَةٍ أُخْرَى فَدَخَلَ الْحِرْزَ وَأَخْرَجَ السَّرِقَةَ ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ ظُهُورِ النَّقْبِ وَانْتِشَارِهِ لَمْ يُقْطَعْ ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ ظُهُورِهِ وَانْتِشَارِهِ ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أْحَدُهُمَا : وَهُوَ الْأَظْهَرُ فِيهِ أَنَّهُ يُقْطَعُ . وَالثَّانِي : وَهُوَ الْأَظْهَرُ فِي غَيْرِهِ : أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ رَمَى بِهَا فَأَخْرَجَهَا مِنَ الْحِرْزِ قُطِعَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، لَا يَخْلُو حَالُهُ فِي إِخْرَاجِ السَّرِقَةِ بَعْدَ هَتْكِهِ حِرْزَهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ :
أَحَدُهَا : أَنْ يَدْخُلَ الْحِرْزُ فَيَأْخُذَ السَّرِقَةَ وَيُخْرِجَهَا مَعَهُ مِنَ الْحِرْزِ ، فَهَذَا يُقْطَعُ بِإِجْمَاعٍ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَدْخُلَ الْحِرْزَ وَيَأْخُذَ السَّرِقَةَ وَيَرْمِي بِهَا خَارِجَ الْحِرْزِ ، أَوْ يَدْفَعَهَا إِلَى رَجُلٍ آخَرَ خَارِجَ الْحِرْزِ ، فَهَذَا يُقْطَعُ ، سَوَاءٌ ظَفِرَ بِهَا بَعْدَ خُرُوجِهَا مِنَ الْحِرْزِ أَوْ لَمْ يَظْفَرْ ، حَتَّى بَالَغَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا ، فَقَالُوا : لَوْ أَخْرَجَ يَدَهُ مِنَ الْحِرْزِ وَالسَّرِقَةُ فِي يَدِهِ ثُمَّ أَعَادَهَا إِلَى حِرْزِهَا قُطِعَ . وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَقِفَ خَارِجَ الْحِرْزِ وَيَمُدَّ يَدَهُ فَيَأْخُذَ السَّرِقَةَ ، أَوْ يَمُدَّ خَشَبَةً فَيَجْذِبَ بِهَا السَّرِقَةَ حَتَّى يُخْرِجَهَا ، أَوْ يُدْخِلَ مِحْجَنًا يَمُدُّ بِهِ السَّرِقَةَ حَتَّى يُخْرِجَهَا قُطِعَ . وَالْمِحْجَنُ : خَشَبَةٌ فِي رَأْسِهَا حَدِيدَةٌ مَعْقُوفَةٌ . حُكِيَ أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَسْرِقُ مَتَاعَ الْحَاجِّ بِمِحْجَنِهِ ، فَقِيلَ لَهُ : تَسْرِقُ مَتَاعَ الْحَاجِّ ؟ فَقَالَ : لَسْتُ أَسْرِقُ وَإِنَّمَا يَسْرِقُ الْمِحْجَنُ . فَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : رَأَيْتُهُ يُجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ يَعْنِي أَمْعَاءَهُ لِمَا كَانَ يَتَنَاوَلُ مِنْ مَالِ الْحَاجِّ . فَيَجِبُ قَطْعُهُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ كُلِّهَا : اعْتِبَارًا بِخُرُوجِهَا مِنَ الْحِرْزِ بِفِعْلِهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجِبُ قَطْعُهُ إِلَّا فِي أَحَدِهَا ، وَهُوَ إِذَا أَخْرَجَهَا مَعَهُ بِنَفْسِهِ ، فَأَمَّا إِنْ رَمَى بِهَا خَارِجَ الْحِرْزِ فَلَا قَطْعَ : احْتِجَاجًا بِأَنَّ وُجُوبَ الْقَطْعِ مُتَعَلِّقٌ بِشَرْطَيْنِ : أَحَدُهُمَا : هَتْكُ الْحِرْزِ . وَالثَّانِي : إِخْرَاجُ السَّرِقَةِ وَالْآخِذِ لَهَا مِنْ خَارِجِ الْحِرْزِ لَمْ يَهْتِكْهُ ، وَالرَّامِي بِهَا مِنْ دَاخِلِ الْحِرْزِ لَمْ يُخْرِجْهَا . فَلَمْ يَجِبْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَطْعٌ حَتَّى يَجْتَمِعَ فِيهِ الشَّرْطَانِ : هَتْكُ الْحِرْزِ بِالدُّخُولِ ، وَتَنَاوُلُ السَّرِقَةِ بِالْإِخْرَاجِ . فَإِنْ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا كَانَ مُسْتَلِبًا ، أَوْ مُخْتَلِسًا وَلَا قَطْعَ عَلَى مُخْتَلِسٍ وَلَا مُسْتَلِبٍ بِنَصِّ السُّنَّةِ . وَدَلِيلُنَا : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْرَى عَلَى السَّارِقِ بِمِحْجَنِهِ حُكْمَ السَّرِقَةِ اسْمًا وَوَعِيدًا : لِأَنَّ شَرْطَيِ الْقَطْعِ مَوْجُودَانِ فِي الْحَالَيْنِ . أَمَّا هَتْكُ الْحِرْزِ السرقة من الحرز : فَهُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى مَا فِيهِ بَعْدَ امْتِنَاعِهِ . وَهَذَا قَدْ وُجِدَ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْهُ . أَلَا تَرَى أَنَّ رَبَّ الْمَالِ لَوْ نَقَّبَ حِرْزَهُ وَلَمْ يَحْفَظْ مَا فِيهِ لَمْ يُقْطَعْ سَارِقُهُ ، وَإِنْ دَخَلَهُ لِهَتْكِ الْحِرْزِ قَبْلَ دُخُولِهِ . وَلَوْ أَدْخَلَ يَدَهُ إِلَى كُمِّ رَجُلٍ وَأَخَذَ مَا فِيهِ قُطِعَ ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْهُ ، فَلَمْ يَكُنِ الدُّخُولُ شَرْطًا فِي هَتْكِ الْحِرْزِ . وَأَمَّا إِخْرَاجُ السَّرِقَةِ : فَهُوَ أَنْ يَكُونَ خُرُوجُهَا مِنْهُ بِفِعْلِهِ ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِيمَا إِذَا رَمَاهُ مِنْ دَاخِلِهِ ، أَوْ جَذَبَهُ مِنْ خَارِجِهِ : لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مُخْرِجًا لَهَا بِفِعْلِهِ وَلَوْ سَقَطَ الْقَطْعُ عَنْهُ ، إِلَّا أَنْ يُبَاشِرَ حَمْلَهَا مِنْ حِرْزِهِ لَصَارَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى انْتِهَاكِ الْأَمْوَالِ بِغَيْرِ زَاجِرٍ عَنْهَا ، وَلَا
مَانِعٍ مِنْهَا . وَهَذَا فَسَادٌ ، وَفِيهِ انْفِصَالٌ ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَتَفَرَّعُ جَمِيعُ مَا نَذْكُرُهُ . فَمِنْ فُرُوعِهِ أَنْ يَشْتَرِكَ اثْنَانِ فِي نَقْبِ حِرْزٍ وَيَدْخُلُهُ أَحَدُهُمَا فَيَأْخُذَ السَّرِقَةَ بِيَدِهِ وَلَا يَخْرُجُ مِنَ الْحِرْزِ ، وَيَأْخُذُهَا الْآخَرُ مِنْهُ وَلَا يَدْخُلُ فَيُنْظَرُ ، فَإِنْ كَانَتْ يَدُ الدَّاخِلِ قَدْ خَرَجَتْ بِالسَّرِقَةِ مِنَ الْحِرْزِ قُطِعَ الدَّاخِلُ دُونَ الْخَارِجِ : لِأَنَّهُ الْمُخْرِجُ مِنَ الْحِرْزِ . وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ : لَا يُقْطَعُ : لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مَعَهَا مِنَ الْحِرْزِ ، وَإِنْ كَانَ الْخَارِجُ قَدْ أَدْخَلَ يَدَهُ إِلَى الْحِرْزِ ، وَأَخَذَهَا مِنْهُ قُطِعَ الْخَارِجُ دُونَ الدَّاخِلِ : لِأَنَّهُ هُوَ الْمُخْرِجُ لَهَا مِنَ الْحِرْزِ . وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ : لَا يُقْطَعُ : لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ إِلَى الْحِرْزِ فَيَسْقُطُ الْقَطْعُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْحَالَيْنِ . وَعِنْدَنَا يَجِبُ الْقَطْعُ فِي الْحَالَيْنِ عَلَى الدَّاخِلِ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ ، وَعَلَى الْخَارِجِ إِذَا أَدْخَلَ يَدَهُ .
فَصْلٌ : إِذَا دَخَلَ الْحِرْزَ بَعْدَ هَتْكِهِ وَفِيهِ مَاءٌ جَارٍ فَوَضَعَ السَّرِقَةَ عَلَى الْمَاءِ فَخَرَجَتْ بِجَرَيَانِ الْمَاءِ قُطِعَ : لِأَنَّ الْمَاءَ يَجْرِي بِطَبْعٍ لَا اخْتِيَارٍ ، وَلَوْ كَانَ الْمَاءُ رَاكِدًا فَحَرَّكَهُ حَتَّى جَرَى وَجَرَى بِالسَّرِقَةِ قُطِعَ ، وَلَوْ حَرَّكَهُ غَيْرُهُ لَمْ يُقْطَعْ ، لِأَنَّهَا إِذَا خَرَجَتْ بِحَرَكَتِهِ نُسِبَتْ إِلَى فِعْلِهِ ، وَإِذَا خَرَجَتْ بِحَرَكَةِ غَيْرِهِ نُسِبَتْ إِلَى فِعْلِ غَيْرِهِ ، وَلَوِ انْفَجَرَ الْمَاءُ الرَّاكِدُ فِي الْحِرْزِ مِنْ غَيْرِ فِعْلِ أَحَدٍ حَتَّى جَرَى فَخَرَجَتْ بِهِ السَّرِقَةُ ، فَفِي قَطْعِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُقْطَعُ : لِأَنَّهُ سَبَبُ خُرُوجِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يُقْطَعُ : لِأَنَّ خُرُوجَهَا بِالِانْفِجَارِ الْحَادِثِ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ .
فَصْلٌ : لَوْ وَضَعَ السَّرِقَةَ فِي النَّقْبِ فَأَطَارَتْهَا الرِّيحُ حَتَّى خَرَجَتْ ، فَإِنْ كَانَتِ الرِّيحُ عَلَى هُبُوبِهَا عِنْدَ وَضْعِ السَّرِقَةِ قُطِعَ كَالْمَاءِ الْجَارِي ؛ وَإِنْ حَدَثَ هُبُوبِهَا بَعْدَ وَضْعِهَا فَفِي قَطْعِهِ وَجْهَانِ ، كَانْفِجَارِ الْمَاءِ بَعْدَ رُكُودِهِ . وَمِثْلُهُ رَمْيُ الْهَدَفِ إِذَا أَصَابَهُ السَّهْمُ بِقُوَّةِ الرِّيحِ ، فَإِنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً عِنْدَ إِرْسَالِ السَّهْمِ احْتُسِبَ لَهُ بِإِصَابَتِهِ ، وَإِنْ حَدَثَ بَعْدَ إِرْسَالِهِ ، فَفِي الِاحْتِسَابِ بِهِ وَجْهَانِ .
فَصْلٌ : وَلَوْ وَضَعَ السَّرِقَةِ فِي الْحِرْزِ عَلَى حِمَارٍ فَخَرَجَ بِهَا الْحِمَارُ ، فَإِنْ سَاقَهُ أَوْ قَادَهُ غَيْرُهُ لَمْ يُقْطَعْ ، وَإِنْ خَرَجَ الْحِمَارُ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ سَوْقٍ ، وَلَا قَوَدٍ فَفِي قَطْعِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُقْطَعُ السَّارِقُ : لِأَنَّ مِنْ عَادَةِ الْبَهَائِمِ أَنْ تَسِيرَ إِذَا أَثْقَلَهَا الْحِمْلُ ، فَصَارَ خُرُوجُهَا عَلَيْهِ كَوَضْعِهَا فِي الْمَاءِ الْجَارِي .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يُقْطَعُ : لِأَنَّ لِلْحِمَارِ اخْتِيَارًا يَتَصَرَّفُ بِهِ إِذَا لَمْ يُقْهَرْ ، بِخِلَافِ الْمَاءِ الْجَارِي . وَذَكَرَهُ أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ فِي جَامِعِهِ . وَمِثْلُهُ : إِذَا فَتَحَ قَفَصًا عَنْ طَائِرٍ فَطَارَ عَقِيبَ فَتْحِهِ ، فَإِنْ نَفَّرَهُ حَتَّى طَارَ ضَمِنَهُ ، وَإِنْ لَمْ يُنَفِّرْهُ حَتَّى طَارَ عَقِيبَ فَتْحِهِ فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ . وَذَكَرَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْحِمَارِ وَجْهًا ثَالِثًا : أَنَّهُ إِنْ سَارَ عَقِيبَ حَمْلِهِ قُطِعَ ، وَإِنْ سَارَ بَعْدَ وُقُوفِهِ لَمْ يُقْطَعْ ، كَمَا لَوْ وَقَفَ الطَّائِرُ بَعْدَ فَتْحِ الْقَفَصِ ، ثُمَّ طَارَ لَمْ يُضَمَّنْ ، وَلِهَذَا الْوَجْهِ وَجْهٌ .
فَصْلٌ : وَلَوْ دَفَعَ السَّرِقَةَ فِي الْحِرْزِ إِلَى صَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ فَخَرَجَ بِهَا ، فَإِنْ كَانَ عَنْ أَمْرِهِ أَوْ بِإِشَارَتِهِ قُطِعَ ، وَإِنْ لَمْ يَأْمُرْهُ وَلَمْ يُشِرْ إِلَيْهِ حَتَّى خَرَجَ بِهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي جِنَايَةِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ ، هَلْ يَجْرِي عَلَيْهَا حُكْمُ الْعَمْدِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَجْرِي عَلَيْهَا حُكْمُ الْعُمَدِ . فَعَلَى هَذَا : لَا يُقْطَعُ السَّارِقُ ، كَمَا لَوْ دَفَعَهَا إِلَى بَالِغٍ عَاقِلٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَكُونُ خَطَأً لَا يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْعَمْدِ . فَعَلَى هَذَا : يَكُونُ كَوَضْعِهَا عَلَى الْحِمَارِ ، فَيَكُونُ فِي قَطْعِ السَّارِقِ وَجْهَانِ .
فَصْلٌ : وَلَوْ دَخَلَ الْحِرْزَ فَأَخَذَ جَوْهَرَةً فَابْتَلَعَهَا ، وَخَرَجَ بِهَا فِي جَوْفِهِ السرقة من الحرز ، فَفِي قَطْعِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : لَا يُقْطَعُ : لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَهْلَكَهَا فِي حِرْزِهَا وَصَارَ كَالطَّعَامِ إِذَا أَكَلَهُ فِيهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُقْطَعُ : لِبَقَاءِ عَيْنِهَا عِنْدَ خُرُوجِهِ بِهَا ، وَوُصُولِهِ إِلَى آخِذِهَا . وَذَكَرَ أَبُو الْفَيَّاضِ وَجْهًا ثَالِثًا : أَنَّهَا إِنْ خَرَجَتْ بِدَوَاءٍ وَعِلَاجٍ لَمْ يُقْطَعْ ، وَإِنْ خَرَجَتْ عَفْوًا بِغَيْرِ عِلَاجٍ وَلَا دَوَاءٍ قُطِعَ .
فَصْلٌ : وَإِذَا نَقَبَ أَسْفَلَ غُرْفَةٍ فِيهَا حِنْطَةٌ فَانْثَالَثْ عَلَيْهِ حَتَّى خَرَجَتْ مِنْ حِرْزِهَا السرقة من الحرز ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَنْثَالَ مِنْهَا فِي دُفْعَةٍ وَاحِدَةٍ مَا يَبْلُغُ نِصَابًا فَيَقْطَعُ : لِأَنَّهَا خَرَجَتْ مِنَ الْحِرْزِ بِفِعْلِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَنْثَالَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ نِصَابًا فِي دُفُعَاتٍ ، فَفِي قَطْعِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُقْطَعُ : لِأَنَّهُ الْمُتَفَرِّقَةُ مِنَ السَّرِقَةِ لَا يَنْبَنِي بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُقْطَعُ : لِأَنَّ انْثِيَالَهُ عَنْ فِعْلٍ وَاحِدٍ ، وَكَانَ مَجْمُوعًا عَنْ سَرِقَةٍ وَاحِدَةٍ
فَلِذَلِكَ قُطِعَ ، وَسَوَاءٌ أَخَذَهَا أَوْ تَرَكَهَا . وَهَكَذَا لَوْ نَزَّلَ زِقًّا فِيهِ دُهْنٌ أَوْ عَسَلٌ ، فَجَرَى مِنْهُ إِلَى خَارِجِ الْحِرْزِ ، قُطِعَ إِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ بَعْدَ خُرُوجِهِ قِيمَةَ النِّصَابِ ، وَإِنْ تَمَحَّقَ عِنْدَ خُرُوجِهِ حَتَّى لَمْ يُمْكِنْ أَخْذُهُ ضَمِنَ وَلَمْ يُقْطَعْ : لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ كَالْمُسْتَهْلِكِ فِي الْحِرْزِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقَطْعُ بِإِخْرَاجِ السَّرِقَةِ ، فَأَعَادَهَا إِلَى حِرْزِهَا لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْقَطْعُ وَلَا الضَّمَانُ . وَيَجِيءُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ الْقَطْعُ وَالضَّمَانُ ، وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ الضَّمَانُ وَلَا يَسْقُطَ الْقَطْعُ . وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الضَّمَانِ فِي الْوَدِيعَةِ إِذَا تَعَدَّى فِيهَا ثُمَّ كَفَّ ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي السَّرِقَةِ إِذَا وُهِبَتْ لَهُ بَعْدَ وُجُوبِ الْقَطْعِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ كَانُوا ثَلَاثَةً فَحَمَلُوا مَتَاعًا فَأَخْرَجُوهُ مَعًا يَبْلُغُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ دِينَارٍ قُطِعُوا ، وَإِنْ نَقَصَ شَيْئًا لَمْ يُقْطَعُوا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي ثَلَاثَةٍ اشْتَرَكُوا فِي نَقْبِ حِرْزٍ وَحَمَلُوا بَيْنَهُمْ مَا سَرَقُوهُ مُشْتَرِكِينَ فِي حَمْلِهِ ، فَإِنْ بَلَغَتْ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةَ نُصُبٍ ، وَكَانَتْ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصَابًا قُطِعُوا إِجْمَاعًا ، سَوَاءٌ خَفَّ أَوْ ثَقُلَ ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ نِصَابًا وَحِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ لَمْ يُقْطَعُوا ، سَوَاءٌ خَفَّ أَوْ ثَقُلَ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ . وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ كَانَ ثَقِيلًا لَا يَقْدِرُ أَحَدُهُمْ عَلَى حَمْلِهِ قُطِعُوا ، وَإِنْ كَانَ خَفِيفًا يَقْدِرُ أَحَدُهُمْ عَلَى حَمْلِهِ لَمِ يُقْطَعُوا فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ كَقَوْلِنَا ، وَقُطِعُوا فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عَنْهُ كَالثِّقَلِ : اسْتِدْلَالًا مَعَ عُمُومِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ قَطْعَ السَّرِقَةِ مُعْتَبَرٌ بِشَرْطَيْنِ : هَتْكُ الْحِرْزِ ، وَسَرِقَةُ النِّصَابِ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُمْ لَوِ اشْتَرَكُوا فِي هَتْكِ الْحِرْزِ جَرَى عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حُكْمُ الْمُنْفَرِدِ بِهَتْكِهِ ، كَذَلِكَ إِذَا اشْتَرَكُوا فِي سَرِقَةِ النِّصَابِ وَجَبَ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حُكْمُ الْمُنْفَرِدِ بِسَرِقَتِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْوَاحِدَ لَوْ سَرَقَ نِصَابًا مُشْتَرَكًا بَيْنَ جَمَاعَةٍ قُطِعَ ، وَإِنْ سَرَقَ الْجَمَاعَةُ مِنَ الْوَاحِدِ نِصَابًا لَمْ يُقْطَعُوا ، وَإِنْ سَرَقَ كُلُّ وَاحِدٍ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ اعْتِبَارًا بِالْقَدْرِ الْمَسْرُوقِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ : لِأَنَّ سَرِقَةَ الْوَاحِدِ مِنَ الْجَمَاعَةِ كَسَرِقَةِ الْجَمَاعَةِ مِنَ الْوَاحِدِ . وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّ سَرِقَةَ كُلِّ وَاحِدٍ لَمْ يَبْلُغْ نِصَابًا فَوَجَبَ أَنْ لَا يُقْطَعَ كَالْمُنْفَرِدِ ، وَلِأَنَّ مُوجِبَ السَّرِقَةِ شَيْئَانِ : غُرْمٌ وَقَطْعٌ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ غُرْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُعْتَبَرٌ بِنَفْسِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَطْعُهُ مُعْتَبَرًا بِنَفْسِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا امْتَنَعَ إِذَا سَرَقَ الْوَاحِدُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْرَازٍ نِصَابًا أَنْ يُقْطَعَ وَلَا يُبْنَى بَعْضُ فِعْلِهِ عَلَى بَعْضٍ ، كَانَ امْتِنَاعُ قَطْعِ الثَّلَاثَةِ وَإِذَا سَرَقُوا مِنْ
حِرْزٍ نِصَابًا أَوْلَى ، وَلَا يُبْنَى فِعْلُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ : لِأَنَّهُ بِأَفْعَالِ نَفْسِهِ أَخَصُّ مِنْهُ بِأَفْعَالِ غَيْرِهِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِهَتْكِ الْحِرْزِ : فَهُوَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَتْكِهِ الْوُصُولُ إِلَى السَّرِقَةِ ، وَقَدْ حَصَلَ هَذَا الْمَقْصُودُ بِالْمُشَارِكَةِ كَحُصُولِهِ بِالِانْفِرَادِ فَاسْتَوَيَا ، وَالْمَقْصُودُ بِالسَّرِقَةِ : تَمَلُّكُ الْمَالِ الْمَسْرُوقِ وَالِاشْتِرَاكُ فِي النِّصَابِ ، فَخَالَفَ لِلتَّفَرُّدِ بِهِ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُقْطَعُوا . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ السَّرِقَةِ مِنْ مَالٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ جَمَاعَةٍ : فَهُوَ أَنَّ سَرِقَتَهُ مِنْهُمْ بَلَغَتْ نِصَابًا فَلِذَلِكَ قُطِعَ ، وَإِذَا اشْتَرَكَ الْجَمَاعَةُ لَمْ تَبْلُغْ سَرِقَةُ أَحَدِهِمْ نِصَابًا فَلِذَلِكَ لَمْ يُقْطَعُوا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ أَخْرَجُوهُ مُتَفَرِّقًا ، فَمَنْ أَخْرَجَ مَا يُسَاوِي رُبُعَ دِينَارٍ قُطِعَ ، وَإِنْ لَمْ يَسْوَ رُبُعَ دِينَارٍ لَمْ يُقْطَعْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا : فِي ثَلَاثَةٍ اشْتَرَكُوا فِي النَّقْبِ وَتَفَرَّقُوا فِي الْأَخْذِ ، فَانْفَرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِأَخْذِ شَيْءٍ مِنْهُ السرقة من الحرز ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُمْ فِيمَا أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ وِفَاقًا مَعَ مَالِكٍ لِافْتِرَاقِهِمْ فِي الْأَخْذِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصَابًا فَصَاعِدًا ، فَعَلَيْهِمُ الْقَطْعُ جَمِيعًا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَأْخُذَ بَعْضُهُمْ نِصَابًا وَبَعْضُهُمْ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّهُ يُقْطَعُ مَنْ بَلَغَتْ سَرِقَتُهُ نِصَابًا ، وَلَا يُقْطَعُ مَنْ لَمْ تَبْلُغْ سَرِقَتُهُ نِصَابًا . وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : أَجْمَعُ مَا أَخَذُوهُ ، فَإِنْ بَلَغَ ثَلَاثَةَ نُصُبٍ قَطَعْتُهُمْ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ أَخَذَ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ . وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ مَا أَخَذُوهُ ثَلَاثَةَ نُصُبٍ لَمْ أَقَطَعْهُمْ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ أَخَذَ نِصَابًا : احْتِجَاجًا بِأَنَّ اشْتِرَاكَهُمْ فِي النَّقْبِ مُوجِبٌ بِنَاءَ أَفْعَالِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ . وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقَطْعَ تَابِعٌ لِلضَّمَانِ ، فَلَمَّا اخْتَصَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِضَمَانِ مَا تَفَرَّدَ بِأَخْذِهِ وَجَبَ أَنْ يَخْتَصَّ بِقَطْعِ مَا تَفَرَّدَ بِأَخْذِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْقَطْعَ عُقُوبَةٌ عَلَى أَخْذِ النِّصَابِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْقُطَ عَمَّنْ أَخَذَ نِصَابًا مَعَ وُجُودِ شَرْطِهِ فِيهِ ، وَيَجِبُ عَلَى مَنْ أَخَذَ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ مَعَ عَدَمِ شَرْطِهِ فِيهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ نَقَّبُوا مَعًا ثُمَّ أَخْرَجَ بَعْضُهُمْ وَلَمْ يُخْرِجْ بَعْضٌ قُطِعَ الْمُخْرِجُ خَاصَّةً " .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا : فِي ثَلَاثَةٍ اشْتَرَكُوا فِي النَّقْبِ وَانْفَرَدَ أَحَدُهُمْ بِالْأَخْذِ السرقة من الحرز ، فَالْقَطْعُ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ تَفَرَّدَ بِالْأَخْذِ دُونَ مَنْ شَارَكَ فِي النَّقْبِ وَلَمْ يَأْخُذْ ، سَوَاءٌ دَخَلُوا الْحِرْزِ أَوْ لَمْ يَدْخُلُوهُ ، تَقَاسَمُوا بِالسَّرِقَةِ أَوْ لَمْ يَقْتَسِمُوا بِهَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْقَطْعُ وَاجِبٌ عَلَى جَمِيعِهِمْ لِيَسْتَوِيَ فِيهِ مَنْ أَخَذَ وَمَنْ لَمْ يَأْخُذْ ، إِذَا كَانَتِ السَّرِقَةُ لَوْ فُضَّتْ عَلَيْهِمْ بَلَغَتْ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصَابًا ، وَلَوْ نَقُصَتْ حِصَّتُهُ عَنِ النِّصَابِ لَمْ يُقْطَعْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ . وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ أَنَّ الْعُقُوبَةَ تَجِبُ عَلَى مَنْ بَاشَرَ وَعَلَى مَنْ لَمْ يُبَاشِرْ إِذَا كَانَ رِدَأً : احْتِجَاجًا بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْحَاضِرَ مُعِينٌ عَلَى الْأَخْذِ بِحِرَاسَتِهِ ، فَصَارَ بِالْمَعُونَةِ كَالْمُبَاشِرِ لِأَخْذِهِ . الثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا اشْتَرَكَ فِي الْغَنِيمَةِ مَنْ بَاشَرَ الْقِتَالَ وَمَنْ لَمْ يُقَاتِلْ : لِأَنَّهُ بِالْحُضُورِ كَالْمُبَاشِرِ ، وَجَبَ أَنْ يَشْتَرِكَ فِي الْقَطْعِ مَنْ بَاشَرَ السَّرِقَةَ وَمَنْ لَمْ يُبَاشِرْ : لِأَنَّهُ بِالْحُضُورِ كَالْمُبَاشِرِ ، وَدَلِيلُنَا : قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [ الشُّورَى : 40 ] ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجَازِيَ غَيْرَ الْآخِذِ بِمَا يُجَازِي بِهِ الْآخِذَ ، وَلِأَنَّ الْمُعِينَ عَلَى فِعْلِ الْمَعْصِيَةِ لَا يَسْتَوْجِبُ عُقُوبَةَ فَاعِلِ الْمَعْصِيَةِ ، كَالْمُعِينِ عَلَى الْقَتْلِ لَا يَسْتَوْجِبُ قِصَاصَ الْقَاتِلِ ، وَالْمُعِينُ عَلَى الزِّنَا لَا يَسْتَوْجِبُ حَدَّ الزَّانِي ، كَذَلِكَ الْمُعِينُ عَلَى السَّرِقَةِ لَا يَسْتَوْجِبُ قَطْعَ السَّارِقِ ، وَهُوَ انْفِصَالٌ عَنِ احْتِجَاجِهِ الْأَوَّلِ ، وَلِأَنَّ قَطْعَ السَّرِقَةِ مُعْتَبَرٌ بِشَرْطَيْنِ : هَتْكُ الْحِرْزِ ، وَإِخْرَاجُ السَّرِقَةِ ، فَلَمَّا كَانَ لَوْ شَارَكَ فِي إِخْرَاجِهَا وَلَمْ يُشَارِكْ فِي هَتْكِ حِرْزِهَا لَمْ يُقْطَعْ ، فَأَوْلَى إِذَا شَارَكَ فِي هَتْكِ حِرْزِهَا وَلَمْ يُشَارِكْ فِي إِخْرَاجِهَا أَنْ لَا يُقْطَعَ : لِأَنَّ إِخْرَاجَهَا أَخَصُّ بِالْقَطْعِ مِنْ هَتْكِ حِرْزِهَا ، وَلِأَنَّهُ لَوْ وَقَفَ خَارِجَ الْحِرْزِ لَمْ يُقْطَعْ وَإِنْ كَانَ عَوْنًا : لِأَنَّهُ لَمْ يُخْرِجْهَا ، كَذَلِكَ لَا يُقْطَعُ وَإِنْ دَخَلَ : لِأَنَّهُ غَيْرُ مُخْرِجٍ لَهَا فِي الْحَالَيْنِ . وَأَمَّا مَالُ الْغَنِيمَةِ : فَلَمَّا كَانَ فِيهَا خُمْسٌ يَسْتَحِقُّهُ مَنْ لَمْ يَشْهَدْهَا جَازَ أَنْ يُفَرَّقَ عَلَى مَنْ شَهِدَهَا وَإِنْ لَمْ يُبَاشِرْ أَخْذَهَا ، وَخَالَفَ قَطْعُ السَّرِقَةِ فِي سُقُوطِهِ عَمَّنْ لَمْ يَشْهَدْ ، فَسَقَطَ عَمَّنْ شَهِدَ إِذَا لَمْ يُبَاشِرْ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ سَرَقَ سَارِقٌ ثَوْبًا فَشَقَّهُ أَوْ شَاةً فَذَبَحَهَا فِي حِرْزِهَا ، ثُمَّ أَخْرَجَ مَا سَرَقَ ، فَإِنْ بَلَغَ رُبُعَ دِينَارٍ قُطِعَ وَإِلَّا لَمْ يُقْطَعْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الثَّوْبُ إِذَا شَقَّهُ فِي الْحِرْزِ ثُمَّ أَخْرَجَهُ وبلغ ربع دينار فَعَلَيْهِ أَرْشُ شِقِّهِ ، ثُمَّ يَنْظُرُ فِي قِيمَتِهِ عِنْدَ إِخْرَاجِهِ ، فَإِنْ بَلَغَتْ رُبُعَ دِينَارٍ قُطِعَ ، وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ رُبُعِ دِينَارٍ وَتَبْلُغُ مَعَ أَرْشِ الشَّقِّ رُبُعَ دِينَارٍ لَمْ يُقْطَعْ : لِأَنَّ أَرْشَ الشَّقِّ مُسْتَهْلَكٌ فِي الْحِرْزِ ، فَصَارَ كَالدَّاخِلِ إِلَى الْحِرْزِ إِذَا أَكَلَ طَعَامًا فِيهِ ضَمَّنَهُ وَلَمْ يَقْطَعْ بِهِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الثَّوْبِ إِذَا شَقَّهُ : إِنَّ مَالِكَهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ تَرْكِهِ عَلَيْهِ وَأَخْذِ قِيمَتِهِ مِنْهُ ، وَبَيْنَ أَخْذِهِ وَأَخْذِ أَرْشِهِ - كَمَا قَالَهُ فِي الْغَاصِبِ - ، فَإِنْ أَخَذَهُ وَأَرَشَهُ قُطِعَ إِذَا بَلَغَتْ قِيمَتُهُ مَشْقُوقًا نِصَابًا كَمَا قُلْنَا ، وَإِنْ تَرَكَهُ عَلَيْهِ وَأَخَذَ مِنْهُ قِيمَتَهُ لَمْ يُقْطَعْ : لِأَنَّهُ بِجَعْلِهِ مَالِكًا لَهُ عِنْدَ شِقِّهِ وَقَبْلَ إِخْرَاجِهِ فَلَمْ يُقْطَعْ فِي مِلْكِهِ ، وَالْكَلَامُ مَعَهُ فِي أَصْلِهَا قَدْ مَضَى .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الشَّاةُ إِذَا ذَبَحَهَا فِي الْحِرْزِ وبلغت قيمتها ربع دينار ، وَأَخْرَجَهَا مَذْبُوحَةً قِيمَتُهَا رُبُعُ دِينَارٍ قُطِعَ ، وَضَمِنَ أَرْشَ ذَبْحِهَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُقْطَعُ : لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ بَعْدَ الذَّبْحِ طَعَامًا رَطْبًا - بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي سُقُوطِ الْقَطْعِ فِي الطَّعَامِ الرَّطْبِ - ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِيهِ الْكَلَامُ . وَلَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الشَّاةِ قَبْلَ الذَّبْحِ أَقَلَّ مِنْ رُبُعِ دِينَارٍ فَزَادَتْ بِالذَّبْحِ حَتَّى بَلَغَتْ رُبُعَ دِينَارٍ ، ثُمَّ أَخْرَجَهَا ، فَفِي قَطْعِهِ وَجْهَانِ مُحْتَمَلَانِ : أَحَدُهُمَا : يُقْطَعُ : لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لِلْمَالِكِ دُونَ الذَّابِحِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يُقْطَعُ : لِحُدُوثِهَا بِالذَّبْحِ ، فَلَمْ يَسْتَقِرَّ لِلْمَالِكِ عَلَيْهَا يَدٌ ، وَهَكَذَا لَوْ سَرَقَ لَحْمًا فَطَبَخَهُ أَوْ دَقِيقًا فَخَبَزَهُ ، أَوْ دِبْسًا فَعَقَدَهُ وَأَخْرَجَهُ وَقَدْ بَلَغَتْ قِيمَتُهُ بِالصَّنْعَةِ نِصَابًا ، وَكَانَ قَبْلَ الصَّنْعَةِ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ ، كَانَ قَطْعُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ الْمُحْتَمَلَيْنِ .
فَصْلٌ : وَلَوْ أَخَذَ جِلْدَ مَيْتَةٍ مِنَ الْحِرْزِ وَدَبَغَهُ فِيهِ ، وَأَخْرَجَهُ مَدْبُوغًا وَقِيَمُتُهُ رُبُعُ دِينَارٍ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي بَغْيِ جِلْدِ الْمَيِّتَةِ بَعْدَ دِبَاغَتِهِ فَمَنَعَ مِنْهُ فِي الْقَدِيمِ ، وَأَسْقَطَ الْغُرْمَ عَنْ مُسْتَهْلِكِهِ . فَعَلَى هَذَا : لَا قَطْعَ عَلَيْهِ ، كَمَا لَوْ أَخْرَجَهُ مِنَ الْحِرْزِ قَبْلَ دِبَاغَتِهِ . وَأَجَازَ بَيْعَهُ فِي الْجَدِيدِ ، وَأَوْجَبَ غُرْمَ قِيمَتِهِ عَلَى مُسْتَهْلِكِهِ . فَعَلَى هَذَا : لَوْ دَبَغَهُ مَالِكُهُ قُطِعَ فِيهِ ، وَإِنْ دَبْغَهُ السَّارِقَ بِنَفْسِهِ ، فَفِي قَطْعِهِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ .
فَصْلٌ : وَلَوْ كَانَ السَّارِقُ مَجُوسِيًّا فَذَبَحَ الشَّاةَ فِي حِرْزِهَا وَأَخْرَجَهَا ، ضَمِنَ قِيمَتَهَا وَلَمْ يُقْطَعْ : لِأَنَّهَا مَيْتَةٌ لَا يُسْتَبَاحُ أَكْلُهَا ، فَلَوْ كَانَ عَلَيْهَا صُوفٌ ، فَإِنْ صَحَّ مَا حَكَاهُ إِبْرَاهِيمُ الْبَلَدِيُّ عَنِ الْمُزَنِيِّ : أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَجَعَ عَنْ تَنْجِيسِ شَعْرِ الْمَيْتَةِ ، قَطَعَ فِيهِ إِذَا بَلَغَتْ قِيمَتُهُ رُبُعَ دِينَارٍ ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ مَا حَكَاهُ فَلَا قَطْعِ فِيهِ : لِأَنَّهُ نَجِسٌ لَا قِيمَةَ لَهُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ كَانَتْ قِيمَةُ مَا سَرَقَ رُبُعَ دِينَارٍ ، ثُمَّ نَقُصَتِ الْقِيمَةُ فَصَارَتْ أَقَلَّ مِنْ رُبُعِ دِينَارٍ ، ثُمَّ زَادَتِ الْقِيمَةُ ، فَإِنَّمَا أَنْظُرُ إِلَى الْحَالِ الَّتِي خَرَجَ بِهَا مِنَ الْحِرْزِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، قِيمَةُ السَّرِقَةِ فِي الْقَطْعِ مُعْتَبِرَةٌ بِوَقْتِ إِخْرَاجِهَا ، فَإِنْ بَلَغَتْ نِصَابًا ثُمَّ نَقُصَتْ عَنِ النِّصَابِ بَعْدَ إِخْرَاجِهَا قُطِعَ ، وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْقَطْعُ .
بِنُقْصَانِ الْقِيمَةِ ، سَوَاءٌ نَقَصَتْ قِيمَتُهَا بِنُقْصَانِ عَيْنِهَا أَوْ لِنُقْصَانِ سِعْرِهَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ كَانَ لِنُقْصَانِ عَيْنِهَا قُطِعَ ، وَإِنْ كَانَ لِنُقْصَانِ سِعْرِهَا لَمْ يُقْطَعْ : اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ مَا مَنَعَ مِنْ وُجُوبِ الْقَطْعِ عِنْدَ إِخْرَاجِهَا مَنَعَ مِنْ حُدُوثِهِ بَعْدَ إِخْرَاجِهَا ، كَمَا لَوْ ثَبَتَ بِإِقْرَارٍ أَوْ بَيِّنَةٍ أَنَّهَا مِلْكٌ لِسَارِقِهَا ، وَلِأَنَّ نُقْصَانَ السِّعْرِ لَا يُضْمَنُ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ ، وَمَا لَمْ يَضْمَنْهُ لَمْ يُقْطَعْ فِيهِ كَنُقْصَانِهِ قَبْلَ إِخْرَاجِهِ ، وَلِأَنَّ مَا طَرَأَ بَعْدَ وُجُوبِ الْحَدِّ وَقَبْلَ اسْتِيفَائِهِ يَجْرِي فِي سُقُوطِ الْحَدِّ مَجْرَى وُجُودِهِ عِنْدَ وُجُوبِهِ ، كَالْقَذْفِ إِذَا زَنَا بَعْدَهُ الْمَقْذُوفُ سَقَطَ بِهِ الْحَدُّ عَنِ الْقَاذِفِ كَمَا لَوْ زَنَا عِنْدَ قَذْفِهِ . وَدَلِيلُنَا مَعَ عُمُومِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ : أَنَّهُ نُقْصَانٌ حَدَثَ بَعْدَ وُجُوبِ الْقَطْعِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ بِهِ الْقَطْعُ لِنُقْصَانِ الْعَيْنِ . فَإِنْ قِيلَ : نُقْصَانُ عَيْنِهِ مَضْمُونٌ فَقُطِعَ فِيهِ ، وَنُقْصَانُ سِعْرِهِ غَيْرُ مَضْمُونٍ ، فَلَمْ يُقْطَعْ فِيهِ . قِيلَ : نُقْصَانُ السِّعْرِ مَضْمُونٌ مَعَ التَّلَفِ ، فَأَشْبَهَ نُقْصَانَ عَيْنِهِ الْمَضْمُونَةِ بِالتَّلَفِ فَاسْتَوَيَا ، وَلِأَنَّ الْقَدْرَ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ الْقَطْعِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ نُقْصَانُهُ بَعْدَ وُجُوبِ الْقَطْعِ غَيْرَ مُؤَثِّرٍ فِي إِسْقَاطِهِ ، قِيَاسًا عَلَى خَرَابِ الْحِرْزِ : لِأَنَّ قَدْرَ النِّصَابِ إِذَا اخْتَلَفَ فِي حَالِ وُجُوبِ الْقَطْعِ وَحَالِ اسْتِيفَائِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الِاعْتِبَارُ بِحَالِ وُجُوبِهِ دُونَ اسْتِيفَائِهِ . أَصْلُهُ : إِذَا كَانَ نَاقِصًا عِنْدَ الْإِخْرَاجِ وَزَائِدًا بَعْدَ الْإِخْرَاجِ ، وَلِأَنَّ الْحُدُودَ مُعْتَبَرَةٌ بِحَالِ الْوُجُوبِ دُونَ الِاسْتِيفَاءِ ، كَالْبِكْرِ إِذَا زَنَا فَلَمْ يُحَدَّ حَتَّى أُحْصِنَ ، وَالْعَبْدِ إِذَا زَنَا فَلَمْ يُحَدَّ حَتَّى أُعْتِقَ ، كَذَلِكَ السَّرِقَةُ . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا : أَنَّهُ حَدٌّ فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ بِحَالِ وُجُوبِهِ دُونَ اسْتِيفَائِهِ كَالزِّنَا . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ بِأَنَّ مَا مَنَعَ مِنْ وُجُوبِ الْقَطْعِ عِنْدَ إِخْرَاجِهَا مَنَعَ مِنْهُ حُدُوثُهُ بَعْدَ إِخْرَاجِهَا : فَهُوَ أَنَّهُ مُنْتَقَضٌ بِخَرَابِ الْحِرْزِ يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الْقَطْعِ إِذَا كَانَ خَرَابًا عِنْدَ إِخْرَاجِهَا ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْهُ إِذَا حَدَثَ خَرَابُهُ بَعْدَ إِخْرَاجِهَا . ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ إِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مَالِكٌ لِلسَّرِقَةِ : هُوَ أَنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِذَلِكَ عَلَى مِلْكِهِ لَهَا عِنْدَ إِخْرَاجِهَا : فَلِذَلِكَ لَمْ يُقْطَعْ ، وَإِذَا حَدَثَ نَقْصُهَا لَمْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى نَقْصِهَا عِنْدَ إِخْرَاجِهَا فَلِذَلِكَ قُطِعَ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ نُقْصَانَ السِّعْرِ لَا يُضْمَنُ : فَهُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ ضَمَانِهِ مَعَ تَلَفِ الْعَيْنِ : لِأَنَّهُ يَضْمَنُهَا أَكْثَرَ مَا كَانَتْ قِيمَةً مِنْ وَقْتِ السَّرِقَةِ إِلَى وَقْتِ التَّلَفِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ مَا يَطْرَأُ بَعْدَ الْحِرْزِ كَالْمَوْجُودِ فِي الْحِرْزِ : فَهُوَ انْتِقَاضُهُ بِخَرَابِ الْحِرْزِ ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي زِنَا الْمَقْذُوفِ بَعْدَ قَذْفِهِ : أَنَّهُ دَلَّ حُدُوثُهُ عَلَى انْتِفَاءِ عِفَّتِهِ وَتَقَدُّمِ نَظَائِرِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ وُهِبَتْ لَهُ لَمْ أَدْرَأْ بِذَلِكَ عَنْهُ الْحَدَّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا مَلَكَ السَّارِقُ السَّرِقَةَ بَعْدَ إِخْرَاجِهَا مِنْ حِرْزِهَا وَوُجُوبِ الْقَطْعِ فِيهَا ، إِمَّا بِهِبَةٍ أَوِ ابْتِيَاعٍ أَوْ مِيرَاثٍ ، لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْقَطْعُ : اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ لَمَّا مَنَعَ مِلْكُهُ لِلسَّرِقَةِ عِنْدَ إِخْرَاجِهَا مِنْ وُجُوبِ الْقَطْعِ ، وَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ حُدُوثُ مِلْكِهِ بَعْدَ إِخْرَاجِهَا مِنَ اسْتِيفَاءِ الْقَطْعِ : لِئَلَّا يَصِيرَ مَقْطُوعًا بِمِلْكِهِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْطَعَ أَحَدٌ فِي مِلْكِهِ ، وَلِأَنَّ مَا طَرَأَ عِنْدَ اسْتِيفَاءِ الْقَطْعِ بِمَثَابَةِ وُجُودِهِ عِنْدَ وُجُوبِ الْقَطْعِ كَالْجُحُودِ ، وَفِسْقِ الشُّهُودِ ، وَلِأَنَّ مُطَالَبَتَهُ الْخَصْمَ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ الْقَطْعِ ، وَقَدْ زَالَتْ مُطَالَبَتُهُ بِزَوَالِ مِلْكِهِ فَسَقَطَ شَرْطُ الْوُجُوبِ . وَدَلِيلُنَا : مَعَ عُمُومِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ ، عَنْ مَالِكٍ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ قِيلَ لَهُ : إِنَّهُ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ هَلَكَ ، فَقَدِمَ صَفْوَانُ الْمَدِينَةَ ، فَنَامَ فِي الْمَسْجِدِ وَتَوَسَّدَ رِدَاءَهُ ، فَجَاءَ سَارِقٌ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ ، فَأَخَذَ صَفْوَانُ السَّارِقَ فَجَاءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَمَرَ بِهِ أَنْ تُقْطَعَ يَدُهُ ، فَقَالَ صَفْوَانُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَمْ أُرِدْ هَذَا ، هُوَ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَهَلَّا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ فَلَمْ يَسْقُطِ الْقَطْعُ عَنْهُ مَعَ الصَّدَقَةِ بِهَا عَلَيْهِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مِلْكَ الْمَسْرُوقِ لَا يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الْقَطْعِ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّمَا قَطَعَهُ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ لَمْ تَتِمَّ إِلَّا بِالْقَبْضِ بَعْدَ الْقَبُولِ . قِيلَ : لَوْ كَانَ لِهَذَا لَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَمَا قَالَ : " هَلَّا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ " . فَإِنْ قِيلَ : فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ مَلَكَهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُ بِهِ سَقَطَ عَنْهُ الْقَطْعُ ، وَلَا تَقُولُونَ بِهِ ، فَصَارَ دَلِيلًا عَلَيْكُمْ . قِيلَ : مَعْنَاهُ هَلَّا سَتَرْتَ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ وَلَمْ تُخْبِرْنِي بِهِ ، فَإِنَّ مَا لَمْ يُعْلَمْ بِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ اسْتِيفَاؤُهُ . وَقَدْ رَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : تَعَافَوْا عَنِ الْحُدُودِ فِيمَا بَيْنَكُمْ ، فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ قول النبي . وَمِنَ الْقِيَاسِ : أَنَّ مَا حَدَثَ فِي الْمَسْرُوقِ بَعْدَ وُجُوبِ الْقَطْعِ فِيهِ لَمْ يَمْنَعْ مِنَ اسْتِيفَائِهِ لِنَقْصِهِ أَوْ تَلَفِهِ ، وَلِأَنَّ الْهِبَةَ تُوجِبُ سُقُوطَ الْمُطَالَبَةِ بِالْمَسْرُوقِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنَ اسْتِيفَاءِ مَا وَجَبَ فِيهِ مِنَ الْقَطْعِ ، قِيَاسًا عَلَى رَدِّهِ وَالْإِبْرَاءِ مِنْهُ ، وَلِأَنَّهُ قَطْعٌ وَجَبَ
بِالسَّرِقَةِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْهِبَةِ ، كَالسَّرِقَةِ فِي الْحِرَابَةِ . وَلِأَنَّهُ مِلْكٌ حَدَثَ بَعْدَ وُجُوبِ الْحَدِّ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ بِهِ الْحَدُّ ، قِيَاسًا عَلَى مَا لَوْ زَنَا بِأَمَةٍ ثُمَّ ابْتَاعَهَا ، أَوْ بِحُرَّةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَيْهِ وَلَوْ مَلَكَهَا قَبْلَ إِخْرَاجِهَا : فَهُوَ أَنَّهُ مَلَكَهَا قَبْلَ وُجُوبِ الْقَطْعِ ، فَصَارَ كَمَا لَوْ مَلَكَ الْأَمَةَ قَبْلَ وُجُوبِ الْحَدِّ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ جَمْعِهِ بَيْنَ مَا طَرَأَ وَتَقَدَّمَ : فَهُوَ انْتِقَاضُهُ بِخَرَابِ الْحِرْزِ . ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مَا قَدَّمْنَاهُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ سُقُوطِ الْمُطَالَبَةِ : فَهُوَ أَنَّ أَصْحَابَنَا قَدِ اخْتَلَفُوا فِيهَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : أَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي الْقَطْعِ . فَيَسْقُطُ مَعَهُ الِاسْتِدْلَالُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ : أَنَّهَا شَرْطٌ فِي اسْتِيفَاءِ الْقَطْعِ . فَعَلَى هَذَا : يَسْقُطُ بِهَا اسْتِيفَاؤُهُ مَعَ وُجُوبِهِ ، كَالْحُقُوقِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا مُطَالِبٌ بِهَا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ سَرَقَ عَبْدًا صَغِيرًا لَا يَعْقِلُ أَوْ أَعْجَمِيًّا مِنْ حِرْزٍ فما الحكم قُطِعَ ، وَإِنْ كَانَ يَعْقِلُ لَمْ يُقْطَعْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَلَيْسَ يَخْلُو حَالُ الْعَبْدِ إِذَا سُرِقَ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي حِرْزٍ أَوْ فِي غَيْرِ حِرْزٍ . فَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ حِرْزٍ فَلَا قَطْعَ عَلَى سَارِقِهِ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا ، وَإِنْ كَانَ فِي حِرْزٍ ، وَحِرْزُهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ دَارًا مُغْلَقَةَ الْبَابِ أَوْ مَعَ سَيِّدِهِ ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا مُمَيِّزًا ، يُفَرِّقُ بَيْنَ أَمْرِ سَيِّدِهِ وَغَيْرِ سَيِّدِهِ ، فَلَا قَطْعَ عَلَى سَارِقِهِ : لِأَنَّ هَذَا يَكُونُ مُخَادِعًا وَلَا يَكُونُ مَسْرُوقًا . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ صَغِيرًا أَوْ أَعْجَمِيًّا لَا يَعْقِلُ عَقْلَ الْمُمَيِّزِ ، وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ أَمْرِ سَيِّدِهِ وَغَيْرِهِ ، فَالْقَطْعُ عَلَى سَارِقِهِ وَاجِبٌ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَمُحَمَّدٌ . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا قَطْعَ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُقْطَعْ بِسَرِقَتِهِ إِذَا كَانَ كَبِيرًا ، لَمْ يُقْطَعْ بِهَا إِذَا كَانَ صَغِيرًا كَالْحُرِّ . وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّهُ حَيَوَانٌ مَمْلُوكٌ لَا تَمْيِيزَ لَهُ ، فَوَجَبَ أَنْ يُقْطَعَ بِسَرِقَتِهِ كَالْبَهِيمَةِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْحُرُّ إِذَا سُرِقَ فَلَا قَطْعَ عَلَى سَارِقِهِ . وَقَالَ مَالِكٌ : يُقْطَعُ : لِعُمُومِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [ الْمَائِدَةِ : 38 ] وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ لَا يُمَيِّزُ ، فَوَجَبَ أَنْ يُقْطَعَ سَارِقُهُ كَالْعَبْدِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا قُطِعَ بِسَرِقَةِ مَالِهِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يُقْطَعَ بِسَرِقَةِ نَفْسِهِ .
وَدَلِيلُنَا : حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الْقَطْعُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ حد السرقة . وَمَعْنَاهُ رُبُعُ دِينَارٍ أَوْ مَا قِيمَتُهُ رُبُعُ دِينَارٍ ، وَلَيْسَ الْحُرُّ وَاحِدًا مِنْهُمَا فَلَمْ يُقْطَعْ بِسَرِقَتِهِ ، وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ لَا يُضْمَنُ بِالْيَدِ فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ الْقَطْعُ كَالْكَبِيرِ ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَمْ يُقْطَعْ فِيهِ كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ . وَبِهَذِهِ الْأَدِلَّةِ خَصَّصْنَا عُمُومَ الْآيَةِ ، وَقِيَاسُهُ عَلَى الْعَبْدِ مُنْتَقَضٌ بِالْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ . ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْعَبْدِ أَنَّهُ مَالٌ وَلَيْسَ الْحُرُّ مَالًا . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : فَإِنْ سَرَقَ حُرًّا صَغِيرًا وَعَلَيْهِ حُلِيٌّ وَثِيَابٌ ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْحُلِيُّ وَالثِّيَابُ لِلصَّبِيِّ مِنْ مَلَابِسِهِ ، فَفِي وُجُوبِ قَطْعِهِ لِأَجْلِ الْحُلِيِّ وَالثِّيَابِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : يُقْطَعُ إِذَا تَنَاوَلَهُ مِنْ حِرْزِ الصَّبِيِّ ، وَحِرْزُ الصَّبِيِّ أَنْ يَكُونَ فِي دَارٍ أَوْ عَلَى بَابِهَا بِحَيْثُ يُرَى ، أَوْ يَكُونَ مَعَ حَافِظٍ : لِأَنَّ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ لَا يَسْقُطُ إِذَا اقْتَرَنَ بِمَا لَا يُوجِبُ الْقَطْعَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا قَطْعَ عَلَيْهِ : لِأَنَّ يَدَ الصَّبِيِّ عَلَيْهِ وَهُوَ حِرْزٌ لَهُ ، فَصَارَ سَارِقًا لِلْحِرْزِ وَالْمُحْرِزِ . فَإِنْ أَخَذَهُ مِنَ الصَّبِيِّ مُسْتَخْفِيًا قُطِعَ : لِأَخْذِهِ مِنْ حِرْزِهِ . وَإِنْ أَخَذَهُ مُجَاهِرًا ، فَإِنْ كَانَ لِلصَّبِيِّ تَمْيِيزٌ يُنْكِرُ بِهِ أَخْذَ ذَلِكَ مِنْهُ لَمْ يُقْطَعْ : لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَالْغَاصِبِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَمْيِيزٌ يُنْكِرُ بِهِ أَخْذَهُ مِنْهُ قُطِعَ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْحُلِيُّ وَالثِّيَابُ لِغَيْرِ الصَّبِيِّ وَمِنْ غَيْرِ مَلَابِسِهِ ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَأْخُذَ مِنْ حِرْزٍ أَوْ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ ، وَحِرْزُهُ هُوَ حِرْزُ الْحُلِيِّ وَالثِّيَابِ لَا حِرْزُ الصَّبِيِّ ، فَإِنْ أَخَذَهُ مِنْ حِرْزِهِ قُطِعَ وَجْهًا وَاحِدًا : لِأَنَّ يَدَ الصَّبِيِّ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَتْ يَدَ مَالِكٍ وَلَا حَافِظٍ ، وَإِنْ أَخَذَهُ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ لَمْ يُقْطَعْ وَجْهًا وَاحِدًا : لِمَا عَلَّلْنَا مِنْ أَنَّهُ لَا يَدَ عَلَيْهِ لِمَالِكٍ وَلَا فِي حِرْزٍ لِمَالِكٍ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَافِعِيُّ : " وَإِنْ سَرَقَ مُصْحَفًا أَوْ سَيْفًا أَوْ شَيْئًا مِمَّا يَحِلُّ ثَمَنُهُ ، قُطِعَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا سَرَقَ مُصْحَفَ الْقُرْآنِ أَوْ كُتُبَ الْفِقْهِ أَوِ الشِّعْرِ وَالنَّحْوِ . . . . . . . . وَجَمِيعَ الْكُتُبِ قُطِعَ فِيهَا إِذَا بَلَغَتْ قِيمَتُهَا نِصَابًا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا قَطْعَ فِي الْمُصْحَفِ ، وَلَا فِي جَمِيعِ الْكُتُبِ الْمَكْتُوبَةِ أَوْ غَيْرِ الْمَكْتُوبَةِ فِي الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ وَغَيْرِ الدِّينِيَّةِ ، وَإِنْ كَانَتْ مُحَلَّاةً بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ وَرَقًا بَيَاضًا لَا كِتَابَةَ فِيهِ ، أَوْ جِلْدًا مُفْرَدًا عَلَى غَيْرِ كِتَابٍ ، فَيُقْطَعُ فِيهِ اسْتِدْلَالًا بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ :
أَحَدُهَا : أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْكُتُبِ قِرَاءَةُ مَا فِيهَا ، وَالْوَرَقُ وَالْجِلْدُ تَبَعٌ لِلْمَقْصُودِ ، وَلَيْسَ مَا فِيهَا مِنَ الْمَكْتُوبِ مَالًا ، فَسَقَطَ الْقَطْعُ فِيهِ وَفِي تَبَعِهِ مِنَ الْوَرَقِ وَالْجِلْدِ ، وَإِنْ كَانَ مَالًا : لِأَنَّ التَّبَعَ مُلْحَقٌ بِالْمَتْبُوعِ . وَالثَّانِي : وَهُوَ خَاصٌّ فِي الْمُصْحَفِ : لِيَكُونَ غَيْرُهُ مِنَ الْكُتُبِ مُلْحَقًا بِهِ : أَنَّ الْمُصْحَفَ مُشْتَرَكٌ يَخْتَصُّ بِهِ صَاحِبُهُ لِمَا عَلَيْهِ مِنْ إِعَارَتِهِ لِمَنِ الْتَمَسَ أَنْ يَقْرَأَ فِيهِ وَأَنْ يَتَعَلَّمَ مِنْهُ الْقُرْآنَ : لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ وَعَلِّمُوهُ النَّاسَ وَهُوَ مِنْ أَقْوَى الشُّبَهِ فِي سُقُوطِ الْقَطْعِ فِيهِ ، كَمَالِ بَيْتِ الْمَالِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ بَيْعَهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ : لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ يَكْرَهُ بَيْعَ الْمَصَاحِفِ ، وَكَذَلِكَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي ، وَمَا اخْتُلِفَ فِي بَيْعِهِ لَمْ يُقْطَعْ فِي سَرِقَتِهِ ، كَالْكَلْبِ [ وَالْخَمْرِ ] ، وَالْخِنْزِيرِ مَعَ الذِّمِّيِّ . وَدَلِيلُنَا : مَعَ عُمُومِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّهُ نَوْعُ مَالٍ فَجَازَ الْقَطْعُ فِيهِ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ . فَإِنْ مَنَعُوا أَنْ يَكُونَ مَالًا احْتُجَّ عَلَيْهِمْ بِجَوَازِ بَيْعِهِ وَإِبَاحَةِ ثَمَنِهِ ، وَضَمَانِهِ بِالْيَدِ ، وَغُرْمِ قِيمَتِهِ بِالْإِتْلَافِ ، وَاخْتِصَاصِهِ بِسُوقٍ يُبَاعُ فِيهَا ، كَمَا يَخْتَصُّ كُلُّ نَوْعٍ مِنَ الْأَمْوَالِ بِسُوقٍ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا قُطِعَ فِي وَرَقِ الْمُصْحَفِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَكْتُوبًا ، كَانَ الْقَطْعُ فِيهِ بَعْدَ كِتَابَتِهِ أَوْلَى : لِأَنَّ ثَمَنَهُ أَزْيَدُ وَالرَّغْبَةُ فِيهِ أَكْثَرُ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْطَعَ فِيهِ قَبْلَ الزِّيَادَةِ ، وَيَسْقُطَ الْقَطْعُ مَعَ الزِّيَادَةِ ، وَهَذَا أَلْزَمُ لِأَبِي حَنِيفَةَ : لِأَنَّهُ لَا يُقْطَعُ فِي الْخَشَبِ وَالْعَاجِ قَبْلَ الْعَمَلِ فِيهِ ، وَيَقْطَعُ فِيهِ بَعْدَ عَمَلِهِ وَإِحْدَاثِ صَنْعَةٍ فِيهِ ، وَلِأَنَّ الْقَطْعَ يَجِبُ فِي الْأَمْوَالِ الْمَرْغُوبِ فِيهَا : لِيُزْجَرَ عَنْ سَرِقَتِهَا فَتُحْفَظَ عَلَى مَالِكِهَا ، وَقَدْ تَكُونُ الرَّغْبَةُ فِي الْمَصَاحِفِ وَالْكُتُبِ أَكْثَرَ ، فَكَانَتْ بِوُجُوبِ الْقَطْعِ أَحَقَّ . فَأَمَّا قَوْلُهُ : إِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا الْقِرَاءَةُ الَّتِي لَا قَطْعَ فِيهَا . فَالْجَوَابُ عَنْهُ : أَنَّ الْقِرَاءَةَ هِيَ الْمَنْفَعَةُ كَمَا أَنَّ مَنْفَعَةَ الثِّيَابِ لِبَاسُهَا ، وَمَنْفَعَةَ الدَّوَابِّ رُكُوبُهَا ، وَالْقَطْعُ يَجِبُ فِي الْأَعْيَانِ دُونَ الْمَنَافِعِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : إِنَّهُ مُشْتَرَكٌ تَلْزَمُ إِعَارَتُهُ ، فَدَعْوَى غَيْرُ مُسَلَّمَةٍ : لِأَنَّهُ مِلْكٌ خَاصٌّ لَا تَلْزَمُ إِعَارَتُهُ وَلَا تَعْلِيمُ الْقُرْآنِ مِنْهُ إِلَّا قَدْرَ مَا يَلْزَمُ الصَّلَاةَ مِنَ الْفَاتِحَةِ عِنْدَنَا ، وَآيَةٍ مِنْ جَمِيعِ الْقُرْآنِ عِنْدَهُمْ ، لَا يَتَعَيَّنُ الْفَرْضُ فِيهَا عَلَى أَحَدٍ بِعَيْنِهِ ، وَلَا مِنْ مُصْحَفٍ بِعَيْنِهِ : لِأَنَّ الْفَرْضَ مُتَعَيَّنٌ عَلَى الْمُتَعَلِّمِ وَلَيْسَ بِمُتَعَيَّنٍ عَلَى
الْمُعَلِّمِ ، وَلَوْ تَعَيَّنَ لَكَانَ تَلْقِينُهُ مِنْ لَفْظِ الْقَارِئِ كَافِيًا ، وَعَنِ الْمُصْحَفِ مُغْنِيًا ، وَخَالَفَ مَالَ بَيْتِ الْمَالِ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْمُعَدَّ لِمَصَالِحِهِمْ ، وَالْخَيْرُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَالنَّدْبِ . وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ فِي جَوَازِ بَيْعِهِ : فَلَا يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الْقَطْعِ فِيهِ عِنْدَ مَنْ يَرَى جَوَازَ بَيْعِهِ ، كَجُلُودِ الْمَيْتَةِ إِذَا دُبِغَتْ ، وَكَالْعَاجِ عِنْدَهُمْ إِذَا حَدَثَتْ فِيهِ صَنْعَةٌ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا سَرَقَ أَسْتَارَ الْكَعْبَةِ وَهِيَ مَخِيطَةٌ عَلَيْهَا مَحْفُوظَةٌ بِهَا قُطِعَ بِهَا ، نَقَلَهُ الْحَارِثُ بْنُ سُرَيْجٍ النَّقَّالُ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَلَيْسَ لَهُ فِي الْجَدِيدِ مَا يُخَالِفُهُ وَكَذَلِكَ آلَةُ الْمَسَاجِدِ الْمُحْرَزَةُ فِيهَا إِمَّا بِأَبْوَابِهَا أَوْ بِقَوَامِهَا أَوْ بِكَثْرَةِ الْغَاشِيَةِ وَالْمُصَلِّينَ فِيهَا ، يُقْطَعُ فِيهَا إِذَا كَانَتْ مُعَدَّةً لِلزِّينَةِ كَالسُّتُورِ وَالْقِبَلِ ، أَوْ لِلْأَحْرَازِ كَالصَّنَادِيقِ وَالْأَبْوَابِ ، فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ مُعَدَّةً لِانْتِفَاعِ الْمُصَلِّينَ بِهَا كَالْحُصْرِ والْبَوَارِي المسروقات . . . . . . . فهل فيها القطع ؟ وَالْقنَادِيلِ فَفِي قَطْعِ سَارِقِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ : أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ لِاشْتِرَاكِ الْكَافَّةِ فِيهَا ، فَأَشْبَهَ مَالَ بَيْتِ الْمَالِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ : أَنَّهُ يُقْطَعُ كَأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ وَمَا أُعِدَّ لِلزِّينَةِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُقْطَعُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِاشْتِرَاكِ الْكَافَّةِ فِيهَا كَأَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ فِيهِ خَصْمٌ مُطَالِبٌ . وَدَلِيلُنَا : مَعَ عُمُومِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا رَوَاهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ صُلِبَ فِي الْإِسْلَامِ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ سَرَقَ كُسْوَةَ الْكَعْبَةِ ، فَصَلَبَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ صَلَبَهُ : لِأَنَّهُ جَعَلَهُ مِمَّنْ سَعَى فِي الْأَرْضِ فَسَادًا . وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَطَعَ سَارِقًا سَرَقَ مِنْ أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ ، وَأَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَطَعَ سَارِقًا سَرَقَ قَطِيفَةً مِنْ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَيْسَ يُعْرَفُ لَهُمَا مُخَالِفٌ ، فَكَانَ إِجْمَاعًا . وَلِأَنَّهُ مَالٌ يُضْمَنُ بِالْيَدِ ، وَيُغْرَمُ بِالْإِتْلَافِ ، فَجَازَ أَنْ يَجِبَ فِيهِ الْقَطْعُ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ ، وَلِأَنَّ الْقَطْعَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى ، فَإِذَا وَجَبَ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فَأَوْلَى أَنْ يَجِبَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى : لِأَنَّ تَحْرِيمَهَا أَغْلَظُ وَتَمَلُّكَهَا مُحَرَّمٌ . فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِمَالِ بَيْتِ الْمَالِ : فَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْهُ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْخَصْمِ فِيهِ : فَهُوَ حَقٌّ لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَالْإِمَامُ يَنُوبُ عَنْهُمْ فِيهِ .
فَصْلٌ : وَإِذَا سَرَقَ مَا يُتَّخَذُ لِلْمَعَاصِي كَصَلِيبٍ أَوْ صَنَمٍ ، أَوْ طُنْبُورٍ ، أَوْ مِزْمَارٍ فَإِنْ كَانَ لَوْ فُصِلَ مَا صَلَحَ لِغَيْرِ مَا اتُّخِذَ لَهُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ فَلَا قَطْعَ فِيهِ : لِأَنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَى مَالِكِهِ ، وَلَا يَقُومُ عَلَى مُتْلِفِهِ كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ ، وَإِنْ كَانَ لَوْ فُصِلَ صَلَحَ لِغَيْرِ الْمَعْصِيَةِ أَوْ كَانَ مِنْ فِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ ، فَفِي قَطْعِ سَارِقِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ ، حَكَاهَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُقْطَعُ ، سَوَاءٌ أَخْرَجَهُ مِنْ حِرْزٍ مُفَصَّلًا أَوْ غَيْرَ مُفَصَّلٍ : لِأَنَّهُ مَالٌ يُقِرُّ عَلَى مَالِكِهِ وَيَقُومُ عَلَى مُتْلِفِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ فِيهِ ، سَوَاءٌ أُخْرِجَ مُفَصَّلًا أَوْ غَيْرَ مُفَصَّلٍ : لِأَنَّ لَهُ شُبْهَةً فِي هَتْكِ حِرْزٍ لِإِزَالَةِ مَعْصِيَتِهِ هل تصح شبهة في درء حد قطع السارق من الحرز ؟ : لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمَلَاهِي . وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : تُمْسَخُ أُمَّةٌ مِنْ أُمَّتِي . قِيلَ لَهُ : وَلِمَ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : لِشُرْبِهِمُ الْخَمْرَ وَضَرْبِهِمْ بِالْكُوبَةِ وَالْمَعَازِفِ وَتَأَوَّلَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَمُجَاهِدٌ قَوْلَهُ تَعَالَى : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ لُقْمَانَ : 6 ] : إِنَّهَا الْمَلَاهِي . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ إِنْ أَخْرَجَهُ مُفَصَّلًا قُطِعَ ، وَإِنْ أَخْرَجَهُ غَيْرَ مُفَصَّلٍ لَمْ يُقْطَعْ : لِزَوَالِ الْمَعْصِيَةِ عَمَّا فُصِلَ ، وَبَقَائِهَا فِيمَا لَمْ يُفْصَلْ . فَأَمَّا أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ حكم سرقتها فَفِيهَا الْقَطْعُ وَجْهًا وَاحِدًا ، وَإِنْ كَانَتْ مُحَرَّمَةَ الِاسْتِعْمَالِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ فِيهَا صُوَرُ ذَوَاتِ الْأَرْوَاحِ أَوْ لَمْ يَكُنْ : لِأَنَّهَا تُتَّخَذُ لِلزِّينَةِ لَا لِلْمَعْصِيَةِ ، وَإِنْ كَانَ اسْتِعْمَالُهَا مَعْصِيَةً .
فَصْلٌ : وَإِذَا سَرَقَ وَقْفًا مُسْبَلًا مِنْ حِرْزٍ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَامًّا أَوْ خَاصًّا ، فَإِنْ كَانَ عَامًّا فِي وُجُوهِ الْخَيْرَاتِ وَعُمُومِ الْمَصَالِحِ فَلَا قَطْعَ عَلَى سَارِقِهِ : لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ ، الَّذِي يَعُمُّ مَصَالِحَ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ أَحَدُهُمْ . وَلَوْ كَانَ السَّارِقُ ذِمِّيًّا لَمْ يُقْطَعْ : لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلْمُسْلِمِينَ ، فَإِنْ كَانَ خَاصًّا عَلَى قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ فَإِنْ كَانَ السَّارِقُ وَاحِدًا مِنْ أَهْلِهِ لَمْ يُقْطَعْ : لِأَنَّ لَهُ فِيهِ شِرْكًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ ، فَفِي قَطْعِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُقْطَعُ ، سَوَاءٌ قِيلَ : إِنَّ رَقَبَةَ الْوَقْفِ مَمْلُوكَةٌ أَوْ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ . كَمَا يُقْطَعُ فِي أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ وَآلَةِ الْمَسَاجِدِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ ، سَوَاءً قِيلَ : إِنَّ رَقَبَةَ الْوَقْفِ مَمْلُوكَةٌ أَوْ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ : لِأَنَّ تَحْرِيمَ بَيْعِهِ قُوَّةٌ لِمِلْكِهِ ، وَخَالَفَ آلَةَ الْمَسْجِدِ وَأَسْتَارَ الْكَعْبَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُغَلَّظَةِ ، وَالْوَقْفُ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الْمُحَرَّمَةِ ، فَلِهَذَا الْفَرْقِ مَا افْتَرَقَا ، وَإِنْ كَانَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ مُسَوِّيًا بَيْنَهُمَا . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنْ يُقْطَعَ فِيهِ إِنْ قِيلَ : إِنَّهُ مَمْلُوكُ الرَّقَبَةِ . وَلَا يُقْطَعُ إِنْ قِيلَ : إِنَّهَا لَا تُمْلَكُ : لِأَنَّهُ مَا لَا يُمْلَكُ فِي حُكْمِ الْمُبَاحِ ، وَإِنْ لَمْ يُسْتَبَحْ ، فَأَمَّا نَمَاءُ الْوَقْفِ كَالثِّمَارِ
وَالنِّتَاجِ فَيُقْطَعُ فِيهِ وَجْهًا وَاحِدًا كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ : لِأَنَّهُ عَلَى حُكْمِهَا فِي جَوَازِ الْبَيْعِ وَالتَّصَرُّفِ .
فَصْلٌ : وَإِذَا سَرَقَ إِنَاءً فِيهِ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ قُطِعَ فِيهَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُقْطَعُ فِيهَا حَتَّى قَالَ : لَوْ هَتَكَ حِرْزًا وَسَرَقَ مِنْهُ كُوزَ ذَهَبٍ وَصَبَّ فِيهِ مَاءً وَخَرَجَ بِهِ مِنْ حِرْزِهِ لَمْ يُقْطَعْ : بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ لَا قَطْعَ فِيهِمَا في السرقة ، وَإِنْ ضَمَّ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ إِلَى مَا لَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ سَقَطَ الْقَطْعُ في السرقة كَالْمَالِ الْمُشْتَرِكِ بَيْنَ السَّارِقِ وَغَيْرِهِ ، وَكَالصَّبِيِّ إِذَا سُرِقَ وَعَلَيْهِ حُلِيٌّ لَا يُقْطَعُ فِيهِ : لِأَنَّهُ لَا يُقْطَعُ فِي الصَّبِيِّ لَوِ انْفَرَدَ . وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّ سُقُوطَ الْقَطْعِ عَنْ أَحَدِ الْمَسْرُوقَيْنِ لَا يُوجِبُ سُقُوطَهُ عَنِ الْآخَرِ قِيَاسًا عَلَى انْفِرَادِهِمَا ، وَلِأَنَّ مَا لَا يَسْقُطُ فِيهِ الْقَطْعُ بِانْفِرَادِهِ لَا يَسْقُطُ بِضَمِّهِ إِلَى غَيْرِهِ ، كَالْعَاجِ إِذَا كَانَ مُعَيَّنًا بِالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ ، فَأَمَّا سُقُوطُ الْقَطْعِ فِي الْمَالِ الْمُشْتَرِكِ فَلِأَنَّ لَهُ فِيهِ حَقًّا ، وَأَمَّا الْحُلِيُّ عَلَى الصَّبِيِّ فَسُقُوطُ الْقَطْعِ فِيهِ لِبَقَاءِ يَدِ مَالِكِهِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ أَخَذَهُ مِنْ يَدِهِ فَعَلَى مَا مَضَى .
فَصْلٌ : وَإِذَا سَرَقَ إِنَاءً فِيهِ خَمْرٌ لَمْ يُقْطَعْ فِي الْخَمْرِ ، وَفِي قَطْعِهِ فِي الْإِنَاءِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُقْطَعُ لِلتَّعْلِيلِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ : مِنْ أَنَّ سُقُوطَ الْقَطْعِ عَنْ أَحَدِ الْمَسْرُوقَيْنِ لَا يُوجِبُ سُقُوطَهُ عَنِ الْآخَرِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يُقْطَعُ : لِأَنَّ الْخَمْرَ يَلْزَمُ إِرَاقَتُهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقِرَّ فِي إِنَائِهِ ، فَصَارَ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي إِخْرَاجِهِ مِنْ حِرْزِهِ . وَلَوْ كَانَ فِيهِ بَدَلَ الْخَمْرِ مَاءٌ نَجِسٌ أَوْ بَوْلٌ قُطِعَ فِيهِ ، وَإِنْ لَمْ يُقْطَعْ فِي الْمَاءِ النَّجِسِ وَفِي الْبَوْلِ : لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْبَوْلِ وَالْمَاءِ النَّجِسِ يَجُوزُ ، وَاسْتِيفَاءُ الْخَمْرِ لَا يَجُوزُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ أَعَارَ رَجُلًا بَيْتًا ، فَكَانَ يُغْلِقُهُ دُونَهُ ، فَسَرَقَ مِنْهُ رَبُّ الْبَيْتِ قُطِعَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا أَعَارَهُ بَيْتًا فَأَحْرَزَ الْمُسْتَعِيرُ فِيهِ مَتَاعًا ، وَتَفَرَّدَ بِغَلْقِهِ ، فَنَقَبَ الْمُعِيرُ الْبَيْتَ وَسَرَقَ مِنَ الْمَتَاعِ ، قُطِعَ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ مِنَ الْأَقْسَامِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا قَطْعَ عَلَيْهِ بِحَالٍ : احْتِجَاجًا بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ لَهُ الرُّجُوعَ فِي عَارِيَتِهِ ، وَهَذَا نَوْعٌ مِنْهُ . وَالثَّانِي : أَنَّ لَهُ هَدْمَ الْبَيْتِ وَنَقْبَهُ ، فَصَارَ الْمَالُ فِي غَيْرِ حِرْزٍ مِنْهُ . وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّهُ قَدْ مَلَكَ مَنَافِعَ الْحِرْزِ بِحَقٍّ ، فَلَمْ يَكُنْ مِلْكُ الرَّقَبَةِ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ الْقَطْعِ كَالْإِجَارَةِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا حَرُمَ عَلَيْهِ هَتْكُ الْحِرْزِ كَتَحْرِيمِهِ عَلَى غَيْرِهِ ، اقْتَضَى أَنْ يَجِبَ
عَلَيْهِ الْقَطْعُ كَوُجُوبِهِ عَلَى غَيْرِهِ ، وَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ بِهَتْكِ الْحِرْزِ بِأَنْ يَرْجِعَ بِهِ قَوْلًا ، فَصَارَ الْحِرْزُ مَعَهُ بَاقِيًا ، فَبَطَلَ اسْتِدْلَالُهُ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُعِيرِ عِنْدَ هَتْكِ الْحِرْزِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ قَدْ تَقَدَّمَ مِنْهُ الرُّجُوعُ فِي الْعَارِيَةِ قَوْلًا ، فَمَنَعَ الْمُسْتَعِيرُ مِنْ رَدِّهِ مَعَ الْمُكْنَةِ ، فَلَا قَطْعَ عَلَى الْمُعِيرِ إِذَا نَقَبَ عَلَيْهِ : لِأَنَّ الْمُسْتَعِيرَ مُتَصَرِّفٌ فِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَصَارَ كَالْغَاصِبِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ لَا يُقَدِّمَ الرُّجُوعَ فِيهِ وَلَا يُرِيدَ بِهَتْكِهِ الرُّجُوعَ فِيهِ ، فَهَذَا يُقْطَعُ إِذَا سَرَقَ مِنْهُ ، وَفِيهِ يَتَعَيَّنُ خِلَافُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ لَا يُقَدِّمَ الرُّجُوعَ قَوْلًا وَيَنْوِي بِهَتْكِهِ الرُّجُوعَ فِيهِ ، فَفِي قَطْعِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ لَا يُقْطَعُ : لِأَنَّهَا شُبْهَةٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ يُقْطَعُ : لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ إِلَّا بِالْقَوْلِ ، فَكَانَ مَا عَدَاهُ عُدْوَانًا مِنْهُ .
فَصْلٌ : وَإِذَا اسْتَأْجَرَ بَيْتًا فَنَقَبَ الْمُؤَجِّرُ عَلَيْهِ وَسَرَقَ مِنْهُ قُطِعَ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : لَا يُقْطَعُ : لِأَنَّ وُجُوبَ الْقَطْعِ مُعْتَبَرٌ بِهَتْكِ حِرْزٍ وَسَرِقَةِ مَالٍ ، فَلَمَّا كَانَتِ الشَّرِكَةُ فِي الْمَالِ تَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الْقَطْعِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِلْكُ الْحِرْزِ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ الْقَطْعِ . وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَ مَنَافِعَ الْحِرْزِ بِالْإِجَارَةِ كَمَا مَلَكَهَا بِالشِّرَاءِ ، فَاقْتَضَى أَنْ تَنْتَفِيَ الشُّبْهَةُ فِي هَتْكِهِ ، وَأَنْ يَجِبَ الْقَطْعُ فِي سَرِقَتِهِ ، وَلِأَنَّهُ يَمْلِكُ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ مَا لَا يَمْلِكُهُ مِنْ دُخُولِ دَارِهِ إِذَا أَجَّرَهَا ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ سَرَقَ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْمَسْجِدِ قُطِعَ ، فَإِذَا سَرَقَ مِمَّا أَجَّرَ فَأَوْلَى أَنْ يُقْطَعَ .
فَصْلٌ : وَإِذَا غَصَبَ بَيْتَا وَأَحْرَزَ فِيهِ مَتَاعًا فَسَرَقَ مِنْهُ لَمْ يُقْطَعْ ، سَوَاءٌ سَرَقَ مِنْهُ مَالِكُ الْحِرْزِ أَوْ غَيْرُهُ : لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ إِحْرَازِ مَالِهِ فِي الْغَصْبِ ، فَصَارَ كَغَيْرِ الْمُحْرِزِ فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ قَطْعٌ . وَكَذَلِكَ لَوِ ارْتَهَنَ دَارًا فَأَحْرَزَ فِيهَا مَتَاعًا ، لَمْ يُقْطَعْ سَارِقُهُ ، سَوَاءٌ سَرَقَهُ الرَّاهِنُ أَوْ غَيْرُهُ : لِأَنَّ مَنَافِعَ الرَّهْنِ لِلرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ ، فَصَارَ كَالْغَاصِبِ .
فَصْلٌ : وَإِذَا سَرَقَ ثِيَابًا مِنْ حَمَّامٍ ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الثِّيَابِ خَلَعَهَا وَأَلْقَاهَا فِي الْحَمَّامِ وَلَمْ يُودِعْهَا حَافِظًا ، فَلَا قَطْعَ عَلَى سَارِقِهَا : لِأَنَّهَا فِي غَيْرِ حِرْزٍ وَيَضْمَنُهَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يُودِعَهَا عِنْدَ الْحَمَّامِيِّ أَوْ عِنْدَ غَيْرِهِ مِنَ الْمُسْتَحْفَظِينَ ، فَإِنْ غَفَلَ عَنْ حِفْظِهَا حَتَّى سُرِقَتْ ، فَالضَّمَانُ عَلَى مَنْ فَرَّطَ فِي الْحِفْظِ ، وَلَا قَطْعَ عَلَى
السَّارِقِ . وَإِنْ لَمْ يَغْفَلْ عَنِ الْحِفْظِ وَلَا فَرَّطَ فِيهِ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى مَنْ يَحْفَظُهَا ، وَيُقْطَعُ سَارِقُهَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُقْطَعُ احْتِجَاجًا بِأَنَّ الدُّخُولَ إِلَى الْحَمَّامِ مَأْذُونٌ فِيهِ ، فَلَمْ يَكُنْ حِرْزًا . وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ الْأَحْرَازَ مُعْتَبَرَةٌ بِالْعُرْفِ ، وَالْعُرْفُ جَارٍ بِأَنَّ الْحَمَّامَ حِرْزٌ لِثِيَابٍ دَاخِلِيَّةٍ ، وَلَيْسَ الْإِذْنُ فِي دُخُولِهِ بِمَانِعٍ مِنْ أَنْ يَكُونَ حِرْزًا ، فَإِنَّ الْمَسْجِدَ أَعَمُّ دُخُولًا وَأَكْثَرُ غَاشِيَةً ، وَهُوَ حِرْزٌ لِمَنْ نَامَ فِيهِ وَوَضَعَ ثَوْبَهُ تَحْتَ رَأْسِهِ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ سَارِقَ رِدَاءِ صَفْوَانَ ، وَقَدْ نَامَ فِي الْمَسْجِدِ وَوَضَعَهُ تَحْتَ رَأْسِهِ . فَإِنْ قِيلَ : الْإِذْنُ فِي دُخُولِ الْحَمَّامِ مَوْقُوفٌ عَلَى صَاحِبِهِ ، فَجَرَى مَجْرَى الْبُيُوتِ إِذَا أَذِنَ رَبُّهَا بِالدُّخُولِ إِلَيْهَا ، لَمْ يَكُنْ حِرْزًا لِمَنْ دَخَلَهَا ، وَالْمَسَاجِدُ لَا يَقِفُ الْإِذْنُ فِيهَا عَلَى أَحَدٍ بِعَيْنِهِ ، فَجَرَى مَجْرَى الطُّرُقَاتِ الَّتِي تَكُونُ حِرْزًا لِلْأَمْتِعَةِ الَّتِي فِيهَا مَعَ أَرْبَابِهَا . قِيلَ : صِحَّةُ هَذَا الْفَرْقِ يُوجِبُ عَكْسَ الْحُكْمِ فِي أَنْ يَكُونَ الْحَمَّامُ حِرْزًا ، وَالْمَسْجِدُ غَيْرَ حِرْزٍ : لِأَنَّ دُخُولَ الْمَسْجِدِ حَقٌّ لِدَاخِلِهِ ، وَدُخُولُ الْحَمَّامِ حَقٌّ لِصَاحِبِهِ : لِأَنَّهُ يَدْخُلُ إِلَى الْمَسْجِدِ بِغَيْرِ إِذْنٍ وَلَا يَدْخُلُ إِلَى الْحَمَّامِ إِلَّا بِإِذْنٍ ، وَعَكْسُ الْحُكْمِ مَدْفُوعٌ ، فَصَارَ الْفَرْقُ مُطَّرَحًا ، فَإِذَا ثَبَتَ اسْتِوَاءُ الْمَسْجِدِ وَالْحَمَّامِ فِي الْحِرْزِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ ، كَانَ الْقَطْعُ فِي السَّرِقَةِ مِنَ الْمَسْجِدِ مُعْتَبَرًا بِأَخْذِهِ مِنْ تَحْتِ صَاحِبِهِ إِنْ كَانَ نَائِمًا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَحْتَهُ فَلَيْسَ بِمُحْرِزٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَيْقِظًا ، فَيَكُونُ حِرْزًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَمَا يَمْتَدُّ إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِمَّا قَارَبَهُ ، وَلَا يُعْتَبَرُ خُرُوجُهُ مِنَ الْمَسْجِدِ فِي وُجُوبِ الْقَطْعِ . فَأَمَّا الْحَمَّامُ : فَهَلْ يُعْتَبَرُ فِي قَطْعِ السَّارِقِ مِنْهُ خُرُوجُهُ مِنَ الْحَمَّامِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أْحَدُهُمَا : لَا يُعْتَبَرُ كَالْمَسْجِدِ ، وَيُقْطَعُ إِذَا أَخَذَ الثِّيَابَ مِنْ مَوْضِعِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ خُرُوجُهُ مِنَ الْحَمَّامِ ، وَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ : لِأَنَّهُ حِرْزٌ خَاصٌّ وَالْمَسْجِدُ عَامٌّ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الضَّيْفُ إِذَا سَرَقَ مِنْ دَارِ مَنْ أَضَافَهُ ، فَإِنْ سَرَقَ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَضَافَهُ فِيهِ لَمْ يُقْطَعْ ، وَإِنْ سَرَقَ مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْبُيُوتِ الْمُغَلَّقَةِ عَلَيْهِ قُطِعَ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُقْطَعُ بِحَالٍ : لِارْتِفَاعِ الْحِرْزِ مَعَ الْإِذْنِ بِالدُّخُولِ . وَدَلِيلُنَا : مَا أَخْبَرَ بِهِ أَيُّوبُ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّ رَجُلًا أَقْطَعَ نَزَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَكَانَ يُصَلِّي اللَّيْلَ ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : مَا لَيْلُكَ بِلَيْلِ سَارِقٍ ، مَنْ قَطَعَكَ ؟ قَالَ : يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ ظَالِمًا . فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : لِأَكْتُبَنَّ وَأَتَوَعَّدُهُ ، فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ فَقَدُوا حُلِيًّا لِأَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ ، فَجَعَلَ يَقُولُ : اللَّهُمَّ أَظْهِرْ عَلَى صَاحِبِهِ ، قَالَ فَوُجِدَ عِنْدَ صَائِغٍ ، فَأُلْجِئَ حَتَّى