كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي
فَلَوْ وَكَّلَ الْمُرْتَهِنَانِ رَجُلًا يَقْبِضُ حَقَّهُمَا فَأَعْطَاهُ الرَّاهِنُ خَمْسِينَ وَقَالَ هِيَ قَضَاءُ مَا عَلَيَّ وَلَمْ يَدْفَعْهَا الْوَكِيلُ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى قَالَ لَهُ ادْفَعْهَا إِلَى أَحَدِهِمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ : كَانَتْ لِلَّذِي أَمْرَهُ بِدَفْعِهَا إِلَيْهِ ، فَلَوْ دَفَعَهُ الْوَكِيلُ إِلَيْهِمَا مَعًا فَقَبَضَاهَا ثُمَّ قَالَ هِيَ لِفُلَانٍ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْآخَرِ مَا قَبَضَ مِنْ مَالِ غَرِيمِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَجَدَ لِغَرِيمِهِ مَالًا وَأَخَذَهُ لَمْ يَكُنْ لِغَرِيمِهِ إِخْرَاجُهُ مِنْ يَدِهِ .
فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الرَّهْنِ الْكَبِيرِ فِي الْأُمِّ فِي بَابِ الرِّسَالَةِ فِي الرَّهْنِ : وَإِذَا دَفَعَ رَجُلٌ إِلَى رَجُلٍ مَتَاعًا فَقَالَ ارْهَنْهُ عِنْدَ فُلَانٍ فَرَهَنَهُ عِنْدَهُ ثُمَّ اخْتَلَفَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ ، فَقَالَ الرَّاهِنُ : إِنَّمَا أَمَرْتُ الرَّسُولَ أَنْ يَرْهَنَ عِنْدَكَ بِعَشَرَةٍ ، وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ جَاءَنِي فِي رِسَالَتِكَ أَنْ أُسَلِّفَكَ عِشْرِينَ فَأَعْطَيْتُهُ إِيَّاهَا وَكَذَّبَهُ الرَّسُولُ فَالْقَوْلُ قَوْلِ الرَّسُولِ وَالْمُرْسِلِ : لِأَنَّهُمَا يُنْكِرَانِ دَعْوَاهُ وَلَهُ إِحْلَافُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَا أَنْظُرُ إِلَى قِيمَةِ الرَّهْنِ ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ قَالَ ذَلِكَ رَدًّا عَلَى مَالِكٍ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَلَوْ صَدَّقَهُ الرَّسُولُ فَقَالَ : قَبَضْتُ مِنْكَ عِشْرِينَ وَدَفَعْتُهَا إِلَى الْمُرْسِلِ وَكَذَّبَهُ الْمُرْسِلُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُرْسِلِ مَعَ يَمِينِهِ ، وَكَانَ الرَّاهِنُ عَلَيْهِ عَشَرَةٌ وَالرَّسُولُ ضَامِنٌ لِلْعَشَرَةِ الَّتِي أَقَرَّ بِقَبْضِهَا الزَّائِدَةِ عَلَى الْعَشَرَةِ الْمَأْمُورِ بِقَبْضِهَا .
فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي بَابِ الرِّسَالَةِ فِي الرَّهْنِ : وَلَوِ اخْتَلَفَ الرَّسُولُ وَالْمُرْسِلُ فَقَالَ الْمُرْسِلُ أَمَرْتُكَ أَنْ تَسْتَلِفَ مِنْهُ عَشَرَةً بِغَيْرِ رَهْنٍ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْسِلِ مَعَ يَمِينِهِ ، وَالْعَشَرَةُ حَالَّةٌ عَلَيْهِ بِلَا رَهْنٍ ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ : لِأَنَّ قَوْلَ الرَّسُولِ دَعْوَى غَيْرُ مَقْبُولَةٍ عَلَيْهِ : وَلِأَنَّ ضَمَانَهُ عَلَى الرَّسُولِ مِنَ الْعَشَرَةِ ، لِأَنَّ الْمُرْسِلَ قَدْ أَقَرَّ بِقَبْضِهَا . قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَلَوْ قَالَ الْمُرْسِلُ : أَمَرْتُكَ بِأَنْ تَأْخُذَ عَشَرَةً عَلَى عَبْدِ فُلَانٍ ، وَقَالَ الرَّسُولُ بَلْ عَلَى ثَوْبِكَ مِنْهَا ، أَوْ عَبْدٍ غَيْرِ الْعَبْدِ الَّذِي قَالَهُ الْمُرْسِلُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْآمِرِ ، وَالْعَشَرَةُ حَالَّةٌ عَلَيْهِ ، وَلَا رَهْنَ فِيمَا أَقَرَّ بِهِ الْمُرْسِلُ ، وَلَا فِيمَا رَهَنَ الرَّسُولُ ، إِلَّا أَنْ يُجَدِّدَ فِيهِ رَهْنًا ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ مَا رَهَنَهُ الرَّسُولُ لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ الْمُرْسِلُ ، وَمَا أَذِنَ فِيهِ الْمُرْسِلُ لَمْ يَرْهَنْهُ الرَّسُولُ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَوْ أَقَامَ الْمُرْتَهِنُ يَسْأَلُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِرَهْنِ الْعَبْدِ دُونَ الثَّوْبِ ، وَأَنَّهُ نَهَاهُ عَنْ رَهْنِ الثَّوْبِ كَانَتِ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةَ الْمُرْتَهِنِ ، وَجَعَلْتُ مَا قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَيْهِ رَهْنًا ، وَالْبَيِّنَتَانِ هَاهُنَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَا صَادِقَتَيْنِ : لِأَنَّهُ قَدْ بَيَّنَهَا عَنْ رَهْنِهِ بَعْدَ مَا يَأْذَنُ فِيهِ وَيَرْهَنُ وَلَا يَنْفَسِخُ ذَلِكَ الرَّهْنُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ رَهَنَ عَبْدَهُ رَجُلَيْنِ وَأَقَرَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
بِقَبْضِهِ كُلِّهِ بِالرَّهْنِ وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ رَهْنَهُ وَقَبْضَهُ كَانَ قَبْلَ صَاحِبِهِ وَلَيْسَ الرَّهْنُ فِي يَدَيْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَصَدَّقَ الرَّاهِنُ أَحَدَهُمَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ ، وَلَوْ أَنْكَرَ أَيُّهُمَا أَوَّلٌ أُحْلِفَ ، وَكَانَ الرَّهْنُ مَفْسُوخًا ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمَا مَعًا ، وَإِنْ كَانَ فِي يَدَيْ أَحَدِهِمَا وَصَدَّقَ الَّذِي لَيْسَ فِي يَدَيْهِ فَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يُصَدَّقُ ، وَالْآخَرُ : لَا يُصَدَّقُ لِأَنَّ الَّذِي فِي يَدَيْهِ الْعَبْدُ يَمْلِكُ بِالرَّهْنِ مِثْلَ مَا يَمْلِكُ الْمُرْتَهِنُ غَيْرُهُ ، ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) قُلْتُ أَنَا : أَصَحُّهُمَا أَنْ يُصَدَّقَ لِأَنَّهُ حَقٌّ مِنَ الْحُقُوقِ اجْتَمَعَ فِيهِ إِقْرَارُ الْمُرْتَهِنِ وَرَبِّ الرَّهْنِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) ثُمَّ رَأَيْتُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ الَّذِي هُوَ فِي يَدَيْهِ لِأَنَّ الرَّاهِنَ مُقِرٌّ لَهُ أَنَّهُ أَقْبَضَهُ إِيَّاهُ فِي جُمْلَةِ قَوْلِهِ وَلَهُ فَضْلُ يَدَيْهِ عَلَى صَاحِبِهِ فَلَا تُقْبَلُ دَعْوَى الرَّاهِنِ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يُقِرَّ الَذِي فِي يَدَيْهِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ قَبَضَهُ فَيُعْلَمَ بِذَلِكَ أَنَّ قَبْضَ صَاحِبِهِ قَبْلَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَبْدٌ فَادَّعَى عَلَيْهِ رَجُلَانِ بِارْتِهَانِهِ مِنْهُ فَقَالَ أَحَدُهُمَا : رَهَنْتَنِي عَبْدَكَ هَذَا وَأَقْبَضْتَ كُلَّ وَاحِدٍ فَهُوَ رَهْنٌ بِحَقِّي ، وَقَالَ الْآخَرُ بَلْ رَهَنْتَنِيهِ وَأَقْبَضْتَنِيهِ قَبْلَ كُلِّ وَاحِدٍ فَهُوَ رَهْنٌ بِحَقِّي ، فَلَا يَخْلُو حَالُ هَذَا الْعَبْدِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُكَذِّبَهُمَا مَعًا . وَالثَّانِي : أَنْ يُكَذِّبَ أَحَدَهُمَا وَيُصَدِّقَ الْآخَرَ . وَالثَّالِثَ : أَنْ يُصَدِّقَهُمَا مَعًا . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ أَنْ يُكَذِّبَهُمَا جَمِيعًا فَيَقُولُ مَا رَهَنْتُهُ مِنْ وَاحِدٍ مِنْكُمَا ، فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ بَيِّنَةٌ أَوْ لَا يَكُونَ ، فَإِنْ كَانَتْ هُنَاكَ بَيِّنَةٌ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ تَكُونَ لِأَحَدِهِمَا أَوْ لَهُمَا ، فَإِنْ كَانَتِ الْبَيِّنَةُ لِأَحَدِ الْمُدَّعِيَيْنِ حُكِمَ بِهَا وَجُعِلَ الْعَبْدُ رَهْنًا فِي يَدِ صَاحِبِهَا ، وَالْبَيِّنَةُ هَاهُنَا شَاهِدَانِ أَوْ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ أَوْ شَاهِدٌ وَيَمِينٌ ، لِأَنَّهَا مَسْمُوعَةٌ فِيمَا يُفْضَى إِلَى مَالٍ ، وَإِنْ كَانَتِ الْبَيِّنَةُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُدَّعِيَيْنِ جَمِيعًا فَقَدْ تَعَارَضَتِ الْبَيِّنَتَانِ ، وَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْبَيِّنَتَيْنِ إِذَا تَعَارَضَتَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : إِسْقَاطُهَا وَالرُّجُوعُ إِلَى الدَّعْوَى . وَالثَّانِي : الْإِقْرَاعُ بَيْنَهُمَا وَالْحُكْمُ لِمَنْ قُرِعَتْ مِنْهُمَا . وَالثَّالِثُ : اسْتِعْمَالُهَا وَقَسْمُ الشَّيْءِ بَيْنَهُمَا ، فَيَجِيءُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : إِسْقَاطُ الْبَيِّنَتَيْنِ وَالرُّجُوعُ إِلَى الدَّعْوَى . وَالثَّانِي : الْإِقْرَاعُ بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ وَالْحُكْمُ لِمَنْ قُرِعَتْ مِنْهُمَا .
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَخْرِيجِ الْقَوْلِ الثَّالِثِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ، وَهُوَ اسْتِعْمَالُ الْبَيِّنَتَيْنِ ، وَجَعْلُ الْعَبْدِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ عَلَى وَجْهَيْنِ ، وَهَذَا حُكْمُ الْبَيِّنَةِ ، فَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ بَيِّنَةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ مَعَ يَمِينِهِ بِاللَّهِ مَا رَهَنَهُ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، فَإِنْ حَلَفَ فَالْعَبْدُ غَيْرُ مَرْهُونٍ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَإِنْ نَكَلَ فَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِيَيْنِ ، فَإِذَا رُدَّتْ عَلَيْهِمَا لَمْ يَخْلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : إِمَّا أَنْ يَحْلِفَا مَعًا ، أَوْ يَنْكُلَا مَعًا ، أَوْ يَحْلِفَ أَحَدُهُمَا وَيَنْكُلَ الْآخَرُ ، فَإِنْ حَلَفَا فَفِيهِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا لَا يَكُونُ رَهْنًا عِنْدَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، لِأَنَّ يَمِينَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تُعَارِضُ يَمِينَ صَاحِبِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ رَهْنًا بَيْنَهُمَا . وَإِنْ نَكَلَا لَمْ يَكُنِ الْعَبْدُ رَهْنًا عِنْدَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا . فَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا وَنَكَلَ الْآخَرُ قُضِيَ بِهِ رَهْنًا لِلْحَالِفِ دُونَ النَّاكِلِ ، فَهَذَا حُكْمُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فِي تَكْذِيبِهِ لَهُمَا .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يُصَدِّقَ أَحَدَهُمَا وَيُكَذِّبَ الْآخَرَ ، فَيَقُولُ : رَهَنْتُهُ مِنْ فُلَانٍ وَأُقْبِضُهُ دُونَ غَيْرِهِ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُكَذَّبِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ بَيِّنَةٌ ، أَوْ لَا يَكُونَ لَهُ بَيِّنَةٌ . فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ الْمُقِرِّ مِنْ كَوْنِ الْعَبْدِ رَهْنًا عِنْدَ الْمُصَدَّقِ ، وَهَلْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ، الْمَنْصُوصُ مِنْهُمَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُ لَا يَمِينَ عَلَيْهِ : لِأَنَّ الْيَمِينَ تَجِبُ زَجْرًا لِلْمُسْتَحْلَفِ لِيَرْجِعَ عَنْهَا فَيُحْكَمُ بِرُجُوعِهِ ، وَهَذَا الرَّاهِنُ لَوْ رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ لَمْ يُحْكَمْ بِرُجُوعِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ لِوُجُوبِ الْيَمِينِ عَلَيْهِ فِيهِ وَجْهٌ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ مُخَرَّجٌ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْإِمْلَاءِ فِي الزَّوْجَةِ إِذَا أَنْكَحَهَا الْوَلِيَّانِ وَصَدَّقَتْ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ أَنَّ عَلَيْهَا الْيَمِينَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، وَفِي الرَّاهِنِ إِذَا أَقَرَّ بِجِنَايَةِ عَبْدِهِ الْمَرْهُونِ وَقُبِلَ قَوْلُهُ أَنَّ عَلَيْهِ الْيَمِينَ وَإِنْ لَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ ، وَوَجْهُ وُجُوبِ الْيَمِينِ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ يُسْتَفَادُ بِهَا إِنْ نَكَلَ أَنْ تُرَدَّ عَلَى الْمُكَذَّبِ فَيَسْتَحِقُّ بِهَا إِنْ حَلَفَ مَا سَنَذْكُرُهُ ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَانِ الْقَوْلَانِ فِي وُجُوبِ الْيَمِينِ عَلَيْهِ ، فَإِنْ قُلْنَا : لَا يَمِينَ عَلَيْهِ أَوْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ فَحَلَفَ كَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا فِي يَدِ الْمُصَدَّقِ ، وَإِنْ قُلْنَا عَلَيْهِ الْيَمِينُ فَنَكَلَ عَنْهَا لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَنْكُلَ عَنِ الْيَمِينِ وَيَعْتَرِفَ لِلْمُكَذَّبِ ، أَوْ يَنْكُلَ عَنْهَا وَلَا يَعْتَرِفَ لِلْمُكَذَّبِ ، فَإِنْ نَكَلَ عَنْهَا وَاعْتَرَفَ لِلْمُكَذَّبِ لَمْ تُرَدَّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُكَذَّبِ لِحُدُوثِ الِاعْتِرَافِ لَهُ ، وَيَصِيرُ الرَّاهِنُ بِهَذَا الِاعْتِرَافِ رَاجِعًا عَنِ الْأَوَّلِ مُقِرًّا لِلثَّانِي فَلَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ عَنِ الْأَوَّلِ ، وَكَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِيَدِهِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ إِقْرَارِهِ ، وَهَلْ يُغَرَّمُ قِيمَةَ الرَّهْنِ لِلثَّانِي أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مُخَرَّجَيْنِ مِنَ
اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَنْ أَقَرَّ فِي دَارٍ بِيَدِهِ لِزَيْدٍ ثُمَّ أَقَرَّ بِهَا لِعَمْرٍو ، وَهَلْ يُغَرَّمُ قِيمَتَهَا لِعَمْرٍو أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ خَرَجَ مِنْهُمَا هَذَانِ الْوَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : عَلَيْهِ غُرْمُ قِيمَةِ الْعَبْدِ يَكُونُ رَهْنًا بِيَدِ الثَّانِي لِتَفْوِيتِهِ الرَّهْنَ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ الْمُتَقَدِّمِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ أَصَحُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ : أَنَّهُ لَا غُرْمَ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ قَدْ أَقَرَّ بِمَا لَزِمَهُ وَلَمْ يُتْلِفْ عَلَيْهِ مَالًا فَيَلْزَمُهُ غُرْمُهُ ، وَهَذَا إِنْ نَكَلَ وَاعْتَرَفَ ، فَأَمَّا إِنْ نَكَلَ وَلَمْ يَعْتَرِفْ فَإِنَّ الْيَمِينَ تُرَدُّ عَلَى الْمُكَذَّبِ ، فَإِنْ نَكَلَ عَنْهَا كَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِيَدِ الْمُصَدَّقِ وَلَا شَيْءَ لِلْمُكَذَّبِ ، وَإِنْ حَلَفَ الْمُكَذَّبُ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَيْهِ وَكَانَتْ يَمِينُهُ بَعْدَ نُكُولِ الرَّاهِنِ عَنْهَا بِمَنْزِلَةِ إِقْرَارِهِ لِلْأَوَّلِ فَاسْتَوَيَا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ حَكَاهُمُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ ، فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الرَّهْنَ مَنْسُوخٌ ، لِأَنَّ جَمِيعَهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَرْهُونًا عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْعَبْدَ يُجْعَلُ رَهْنًا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، لِأَنَّهُمَا فِيهِ مُتَسَاوِيَانِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْعَبْدَ رَهْنٌ لِلْأَوَّلِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ إِقْرَارِهِ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُغَرَّمَ قِيمَتَهُ وَتَكُونَ رَهْنًا بِيَدِ الثَّانِي لِأَجْلِ اعْتِرَافِهِ ، فَهَذَا الْحُكْمُ فِيهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُكَذَّبِ بَيِّنَةٌ ، فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ لِلْمُكَذَّبِ بَيِّنَةٌ تَشْهَدُ لَهُ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُصَدَّقِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ بَيِّنَةٌ تُعَارِضُ بَيِّنَةَ الْمُكَذَّبِ أَوْ لَا تَكُونَ لَهُ بَيِّنَةٌ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ حُكِمَ لِلْمُكَذَّبِ بِبَيِّنَتِهِ ، وَكَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِيَدِ الْمُكَذَّبِ دُونَ الْمُصَدَّقِ ، لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ أَوْلَى مِنَ الْإِقْرَارِ ، وَإِنْ كَانَ لِلْمُصَدَّقِ بَيِّنَةٌ سُمِعَتْ لَا عَلَى الرَّاهِنِ : لِأَنَّهُ مُقِرٌّ وَالْمُقِرُّ لَا تُسْمَعُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ بِإِقْرَارِهِ ، وَلَكِنْ تُسْمَعُ فِي مُعَارَضَةِ بَيِّنَةِ الْمُكَذَّبِ ، فَإِذَا تَعَارَضَتْ قُوَى الْمُصَدَّقِ بِالْإِقْرَارِ لَهُ فَحُكِمَ لَهُ لِقَوْلِهِ ، وَسَقَطَتِ الْبَيِّنَتَانِ لِتَعَارُضِهِمَا ، وَكَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِيَدِ الْمُصَدَّقِ ، وَهَذَا حُكْمُ الْقِسْمِ الثَّانِي فِي تَصْدِيقِ أَحَدِهِمَا وَيُكَذَّبُ الْآخَرُ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يُصَدِّقَهُمَا مَعًا فَيَقُولُ : قَدْ رَهَنْتُهُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا وَأَقْبَضْتُهُ إِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَبْدٌ فَادَّعَى عَلَيْهِ رَجُلَانِ بِارْتِهَانِهِ مِنْهُ ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ ، إِلَّا أَنْ يَتَقَدَّمَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ ، وَالْمُتَقَدِّمُ مِنْهُمَا أَحَقُّ بِرَهْنِهِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ الرَّاهِنِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَعْلَمَ الْمُتَقَدِّمَ مِنْهُمَا أَوْ لَا يَعْلَمَ ، فَإِنْ قَالَ كُنْتُ عَلِمْتُ الْمُتَقَدِّمَ فِيهِمَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ مَا لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنَ الْمُرْتَهِنَيْنِ بَيِّنَةٌ ، وَإِنَّمَا لَزِمَهُ الْيَمِينُ قَوْلًا وَاحِدًا : لِأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ عَنْهُمَا وَعَنِ الْأَوَّلِ مِنْهَا قُبِلَ مِنْهُ فَلِذَلِكَ لَزِمَتْهُ الْيَمِينُ ، وَإِذَا كَانَتِ الْيَمِينُ لَازِمَةً لَهُ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَحْلِفَ أَوْ يَنْكُلَ ، فَإِنْ حَلَفَ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الرَّهْنَ مَقْسُومٌ وَسَوَاءٌ كَانَ الرَّهْنُ فِي يَدِهِ أَوْ
فِي يَدِ أَحَدِ الْمُرْتَهِنَيْنِ ، لِاسْتِوَائِهِمَا فَيَ الدَّعْوَى ، وَسُقُوطِ دَعْوَيْهِمَا بِالْيَمِينِ ، وَفِي الرَّهْنِ وَجْهٌ آخَرُ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَنْفَسِحُ يَمِينُ الرَّاهِنِ : لِأَنَّ يَمِينَهُ لَمْ تَكُنْ لِنَفْيِ الرَّهْنِ ، وَإِنَّمَا كَانَتْ لِنَفْيِ الْعِلْمِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْطُلَ بِهَا الرَّهْنُ ، وَإِذَا لَمْ يَبْطُلِ الرَّهْنُ بِيَمِينِهِ كَانَ الْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ نَكَلَا عَنِ الْيَمِينِ وَجَبَ رَدُّهَا عَلَى الْمُرْتَهِنَيْنِ وَلَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَنْكُلَا عَنْهَا ، فَالرَّهْنُ حِينَئِذٍ مَفْسُوخٌ لِنُكُولِهِمَا ، وَالْعَبْدُ فِي يَدِ مَالِكِهِ غَيْرُ مَرْهُونٍ . الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَحْلِفَ أَحَدُهُمَا وَيَنْكُلَ الْآخَرُ ، فَيُقْضَى لِلْعَبْدِ رَهْنًا فِي يَدِ الْحَالِفِ مِنْهَا دُونَ النَّاكِلِ . وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَحْلِفَا مَعًا فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الرَّهْنَ مَفْسُوخٌ لِتَعَارُضِ بَيِّنَتِهِمَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ رَهْنٌ بَيْنَهُمَا لِتَسَاوِيهِمَا ، وَهَذَا حُكْمُ الرَّهْنِ إِذَا لَمْ يُعْلَمْ تَقَدُّمُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ ، فَأَمَّا إِذَا عُلِمَ تَقَدُّمُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ ، قَالَ هُوَ فُلَانٌ دُونَ فُلَانٍ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ الرَّاهِنِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ أَحَدِ الْمُرْتَهِنَيْنِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنَيْنِ جَمِيعًا . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ أَجْنَبِيٍّ . فَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الرَّاهِنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ، وَيَكُونُ رَهْنًا لِمَنْ أَقَرَّ لَهُ مَا لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ بَيِّنَةٌ ، وَهَلْ عَلَيْهِ التَّمْيِيزُ أَمْ لَا ؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ ، أَحَدُهُمَا : لَا يَمِينَ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ لَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ . وَالثَّانِي : عَلَيْهِ الْيَمِينُ زَجْرًا لَهُ لِيَنْكُلَ عَنْهَا فَتُرَدَّ عَلَى الْآخَرِ . فَإِنْ قِيلَ : لَا يَمِينَ عَلَيْهِ أَوْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ فَحَلَفَ كَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا فِي يَدِ الْمُقَرِّ لَهُ بِالتَّقَدُّمِ دُونَ الْآخَرِ ، وَإِنْ قِيلَ : عَلَيْهِ الْيَمِينُ فَنَكَلَ عَنْهَا رُدَّتْ عَلَى الْآخَرِ ، فَإِنْ نَكَلَ عَنْهَا كَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِيَدِ الْمُقَرِّ لَهُ بِالتَّقَدُّمِ ، وَإِنْ حَلَفَ فَفِي الرَّهْنِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ مَضَتْ . أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ مَفْسُوخًا لِتَعَارُضِهِمَا . وَالثَّانِي : يَكُونُ بَيْنَهُمَا لِتَسَاوِيهِمَا .
وَالثَّالِثُ : يَكُونُ رَهْنًا بِيَدِ الْمُقَرِّ لَهُ بِالتَّقَدُّمِ ، وَيُغْرَمُ لِلرَّاهِنِ قِيمَتُهُ تَكُونُ رَهْنًا بِيَدِ الْآخَرِ ، وَهَذَا حُكْمُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فِي كَوْنِ الْعَبْدِ بِيَدِ الرَّاهِنِ ، وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ بِيَدِ أَحَدِ الْمُرْتَهِنَيْنِ ، وَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ قَدْ أَقَرَّ بِالتَّقَدُّمِ لِمَنْ هُوَ فِي يَدِهِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ، وَهَلْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ثُمَّ عَلَى مَا مَضَى . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ قَدْ أَقَرَّ بِالتَّقَدُّمِ وَالسَّبْقِ لِمَنْ لَيْسَ الْعَبْدُ بِيَدِهِ ، فَفِيهِ قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ صَاحِبِ الْيَدِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ ، وَوَجْهُهُ أَنَّ مَا فِي الْيَدِ يُنَافِي التَّدَاعِي ، أَلَا تَرَى لَوْ تَدَاعَيَا عَبْدًا بِعَبْدٍ مَبِيعًا لَا رَهْنًا وَكَانَ الْعَبْدُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا فَصَدَّقَهُمَا عَلَى الْبَيْعِ وَأَقَرَّ بِالتَّقَدُّمِ وَالسَّبْقِ لِغَيْرِ صَاحِبِ الْيَدِ لَمْ يُقْبَلْ إِقْرَارُهُ ، وَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ صَاحِبِ الْيَدِ كَذَلِكَ فِي الرَّهْنِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ ، فَإِنْ حَلَفَ كَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِيَدِهِ ، وَإِنْ نَكَلَ كَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِيَدِ الْمُقَرِّ لَهُ بِالتَّقَدُّمِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُرَدَّ عَلَيْهِ الْيَمِينُ : لِأَنَّ ارْتِهَانَهُ مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ قَدْ بَطَلَ بِنُكُولِهِ وَمَعَ هَذَا الْإِقْرَارِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى يَمِينٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاهِنِ دُونَ صَاحِبِ الْيَدِ ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْيَدَ فِي الرَّهْنِ لَيْسَتْ بَيَانًا لِصِحَّةِ الدَّعْوَى ، أَلَا تَرَى لَوْ أَنْكَرَ الرَّهْنَ وَكَانَ فِي يَدِهِ لَمْ تَكُنْ يَدُهُ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاهُ ، وَكَذَلِكَ إِذَا اعْتَرَفَ أَنَّ رَهْنَهُ بَعْدَ الْأَوَّلِ رَهْنًا فَاسِدًا ، كَمَا لَوْ أَنْكَرَهُ وَلَمْ تَكُنْ يَدُهُ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاهُ ، وَيُفَارِقُ الْبَيْعَ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْبَيْعَ يَنْقُلُ الْمِلْكَ ، وَالْيَدَ تَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الرَّهْنُ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْبَيْعَ قَدْ أَزَالَ مِلْكَ الْبَائِعِ فَصَارَ مُقَرًّا فِي غَيْرِ مَالِهِ فَلَمْ يُقْبَلْ إِقْرَارُهُ عَلَى صَاحِبِ الْيَدِ ، وَالرَّهْنُ لَمْ يُزِلْ مِلْكَ الرَّاهِنِ وَكَانَ مُقَرًّا فِي مِلْكِهِ ، وَكَانَ إِقْرَارُهُ نَافِذًا عَلَى صَاحِبِ الْيَدِ ، فَعَلَى هَذَا - الْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ - وَهَلْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ أَمْ لَا ؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ ثُمَّ عَلَى مَا مَضَى - حَلِفِهِ وَنُكُولِهِ - ، وَهَذَا حُكْمُ الْقِسْمِ الثَّانِي فِي كَوْنِ الْعَبْدِ فِي يَدِ أَحَدِ الْمُرْتَهِنَيْنِ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنَيْنِ جَمِيعًا . فَمَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاهِنَيْنِ فِي جَمِيعِ الْعَبْدِ ، وَيَكُونُ الْعَبْدُ كُلُّهُ رَهْنًا فِي يَدِ الْمُقَرِّ لَهُ ، وَهَلْ عَلَى الرَّاهِنِ الْيَمِينُ أَمْ لَا ؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ ، وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الرَّاهِنِ فِي نِصْفِ الْعَبْدِ وَهُوَ الَّذِي فِي يَدِ الْمُقَرِّ لَهُ ، وَفِي النِّصْفِ الْآخَرِ الَّذِي فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ
الْآخَرِ عَلَى قَوْلَيْنِ : لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِهِ لِغَيْرِهِ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ ، وَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ أَوْلَى : لِأَنَّهُمَا قَدِ اسْتَوَيَا فِي الْيَدِ وَفُضِّلَ أَحَدُهُمَا بِالْإِقْرَارِ فَكَانَ الْحُكْمُ لَهُ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ فِي يَدِ أَجْنَبِيٍّ ، فَإِنَّهُ يَسْأَلُ عَنْ يَدِهِ ، فَإِنْ كَانَتْ نَابِتَةً عَنِ الرَّاهِنِ فَالْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ كَانَ فِي يَدِ الرَّاهِنِ ، وَإِنْ كَانَتْ نَابِتَةً عَنْ أَحَدِ الْمُرْتَهِنَيْنِ كَانَ حُكْمُهُ كَمَا لَوْ كَانَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ ، وَإِنْ كَانَتْ غَاصِبَةً لَا يَنُوبُ بِهَا عَنْ أَحَدٍ ، فَالْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ كَانَ فِي يَدِ الرَّاهِنِ : لِأَنَّهُ مُسْتَحِقُّ الْيَدِ بِحُكْمِ الْمِلْكِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ : أَصَحُّهُمَا عِنْدِي أَنْ يُصَدَّقَ : لِأَنَّهُ حَقٌّ مِنَ الْحُقُوقِ اجْتَمَعَ فِيهِ إِقْرَارُ الْمُرْتَهِنِ وَرَبِّ الرَّهْنِ ، ثُمَّ رَأَيْتُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ إِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَبْدٌ فَادَّعَى عَلَيْهِ رَجُلَانِ بِارْتِهَانِهِ مِنْهُ الَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ الْفَصْلُ إِلَى آخِرِهِ . وَكَانَ أَوَّلُ كَلَامِهِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ اخْتَارَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الرَّاهِنِ دُونَ صَاحِبِ الْيَدِ : لِأَنَّهُ قَالَ : أَصَحُّهُمَا عِنْدِي أَنْ يُصَدَّقَ ؛ يَعْنِي الرَّاهِنَ ، لِأَنَّهُ حَقٌّ مِنَ الْحُقُوقِ اجْتَمَعَ فِيهِ إِقْرَارُ الْمُرْتَهِنِ وَرَبِّ الرَّهْنِ ، ثُمَّ آخِرُ كَلَامِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ اخْتَارَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ صَاحِبِ الْيَدِ دُونَ الرَّاهِنِ : لِأَنَّهُ قَالَ : ثُمَّ رَأَيْتُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ الَّذِي هُوَ فِي يَدَيْهِ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ لِلْمُزَنِيِّ أَيْضًا فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ ، وَقَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا : إِنَّ الْمُزَنِيَّ قَالَ : أَصَحُّهُمَا عِنْدِي أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاهِنِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ صَرِيحُ أُصُولِهِ ، وَالَّذِي أَرَاهُ عَلَى مَذْهَبِي أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ : لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي اخْتِيَارِهِ قَوْلَيْنِ ، ثُمَّ أَخَذَ بِنَصِّ اخْتِيَارِهِ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ . وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
بَابُ رَهْنِ الْأَرْضِ
مَسْأَلَةٌ إِذَا رَهَنَ أَرْضًا وَلَمْ يَقُلْ بِبِنَائِهَا وَشَجَرِهَا فَالْأَرْضُ رَهْنٌ دُونَ بِنَائِهَا وَشَجَرِهَا
بَابُ رَهْنِ الْأَرْضِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " إِذَا رَهَنَ أَرْضًا وَلَمْ يَقُلْ بِبِنَائِهَا وَشَجَرِهَا فَالْأَرْضُ رَهْنٌ دُونَ بِنَائِهَا وَشَجَرِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا رَهَنَ أَرْضًا ذَاتَ نَبَاتٍ وَشَجَرٍ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَشْتَرِطَ دُخُولَ نَبَاتِهَا وَشَجَرِهَا فِي الْأَرْضِ ، فَيَكُونَ جَمِيعُ ذَلِكَ رَهْنًا مَعَ الْأَرْضِ وِفَاقًا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَشْتَرِطَ خُرُوجَ نَبَاتِهَا وَشَجَرِهَا مِنَ الرَّهْنِ فَيَكُونَ جَمِيعُ ذَلِكَ خَارِجًا مِنَ الرَّهْنِ ، وَتَكُونَ الْأَرْضُ وَحْدَهَا رَهْنًا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يُطْلَقَ الرَّهْنُ فِي الْأَرْضِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ فِي الْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ شَرْطٌ ، فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الرَّهْنِ أَنَّ الْأَرْضَ تَكُونُ رَهْنًا دُونَ نَبَاتِهَا ، وَقَالَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ : إِذَا بَاعَهُ الْأَرْضَ ذَاتَ الْبِنَاءِ وَالشَّجَرِ مُطْلَقًا كَانَ الْبِنَاءُ وَالشَّجَرُ دَاخِلًا فِي الْبَيْعِ تَبَعًا لِلْأَرْضِ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْبَيْعِ وَالرَّهْنِ سَوَاءٌ ، وَأَنَّ الْبِنَاءَ وَالشَّجَرَ خَارِجٌ مِنَ الْعَقْدِ وَغَيْرُ تَابِعٍ لِلْأَرْضِ فِي الْبَيْعِ وَالرَّهْنِ ، وَحَمَلُوا مَا ذَكَرُوهُ فِي الْبُيُوعِ عَلَى بَيْعِ الْأَرْضِ بِحُقُوقِهَا ، وَأَمَّا مَعَ الْإِطْلَاقِ فَلَا . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : أَنَّهُمْ خَرَّجُوا فِي الرَّهْنِ مِنَ الْبُيُوعِ قَوْلًا ، وَفِي الْبُيُوعِ مِنَ الرَّهْنِ قَوْلًا ، وَجَعَلُوا مَسْأَلَةَ الرَّهْنِ وَالْبُيُوعِ مَعًا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : دُخُولُ الْبِنَاءِ وَالشَّجَرِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ وَالرَّهْنِ تَبَعًا لِلْأَرْضِ لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِالْأَرْضِ فَأَشْبَهَ حُقُوقَ الْأَرْضِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : خُرُوجُ الْبِنَاءِ وَالشَّجَرِ فِي الْبَيْعِ وَالرَّهْنِ لِأَنَّهُ مِمَّا يُمْكِنُ إِفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ فَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ إِلَّا بِالشَّرْطِ كَالْأَرْضِ .
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ وَهُوَ الصَّحِيحُ ، حَمْلُ الْجَوَابِ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ فَيَكُونُ الْبِنَاءُ وَالشَّجَرُ يَدْخُلَانِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ بِغَيْرِ شَرْطٍ وَلَا يَدْخُلَانِ فِيِ عَقْدِ الرَّهْنِ إِلَّا بِشَرْطٍ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالرَّهْنِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْبَيْعَ عَقْدٌ يَنْقُلُ الْمِلْكَ قَدْ حَلَّ فِيهِ تَوَابِعُ الْمَبِيعِ بِغَيْرِ شَرْطٍ لِقُوَّتِهِ ، وَعَقْدُ الرَّهْنِ وَثِيقَةٌ لَا تَنْقُلُ الْمِلْكَ ، فَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ إِلَّا مَا سُمِّيَ لِضَعْفِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْبَيْعَ لَمَّا تَبِعَهُ مَا حَدَثَ بَعْدَ الْعَقْدِ تَبِعَهُ مَا كَانَ مَوْجُودًا حِينَ الْعَقْدِ ، وَالرَّهْنُ لَمَّا لَمْ يَتْبَعْهُ مَا حَدَثَ بَعْدَ الْعَقْدِ لَمْ يَتْبَعْهُ مَا كَانَ مَوْجُودًا حِينَ الْعَقْدِ .
فَصْلٌ : إِذَا قَالَ : رَهَنْتُكَ هَذَا الْبُسْتَانَ فَإِنَّ الْغِرَاسَ وَالشَّجَرَ يَدْخُلَانِ فِي الرَّهْنِ لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ فِي الْبَيْعِ ، لِأَنَّ الْبُسْتَانَ اسْمٌ يَشْتَمِلُ عَلَى الْأَرْضِ وَمَا فِيهَا ، وَكَذَا لَوْ قَالَ : رَهَنْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ دَخَلَ فِي الرَّهْنِ جَمِيعُ بِنَائِهَا ، لِأَنَّ اسْمَ الدَّارِ لَا يَنْطَبِقُ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا مَعَ بِنَائِهَا .
مَسْأَلَةٌ لَوْ رَهَنَ شَجَرًا وَبَيْنَ الشَّجَرِ بَيَاضٌ فَالشَّجَرُ رَهْنٌ دُونَ الْبَيَاضِ وَلَا يَدْخُلُ فِي الرَّهْنِ إِلَّا مَا سُمِّيَ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ رَهَنَ شَجَرًا وَبَيْنَ الشَّجَرِ بَيَاضٌ فَالشَّجَرُ رَهْنٌ دُونَ الْبَيَاضِ ، وَلَا يَدْخُلُ فِي الرَّهْنِ إِلَّا مَا سُمِّيَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا رَهَنَ الْبِنَاءَ وَالشَّجَرَ لَمْ يَدْخُلْ فِي الرَّهْنِ بَيَاضُ الْأَرْضِ ، وَكَذَا الْبَيْعُ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ أَصْحَابُنَا ، لِأَنَّ الشَّجَرَ فَرْعٌ تَابِعٌ وَالْأَرْضَ أَصْلٌ مَتْبُوعٌ ، وَالْفَرْعُ قَدْ يَتْبَعُ أَصْلَهُ ، وَالْأَصْلُ لَا يَتْبَعُ فَرْعَهُ . فَأَمَّا قَرَارُ الْبِنَاءِ وَالشَّجَرِ مِنَ الْأَرْضِ فَغَيْرُ دَاخِلٍ فِي الرَّهْنِ ، لَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِيهِ ، وَهَلْ يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَدْخُلُ فِيهِ كَالرَّهْنِ . وَالثَّانِي : يَدْخُلُ فِيهِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالرَّهْنِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قُوَّةِ الْبَيْعِ وَضَعْفِ الرَّهْنِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا رَهَنَ ثَمَرًا قَدْ خَرَجَ مِنْ نَخْلَةٍ قَبْلُ يَحِلُّ بَيْعُهُ وَمَعَهُ النَّخْلُ فَهُمَا رَهْنٌ لِأَنَّ الْحَقَّ لَوْ حَلَّ جَازَ أَنْ يُبَاعَ ، وَكَذَلِكَ إِذَا بَلَغَتْ هَذِهِ الثَّمَرَةُ قَبْلَ مَحَلِّ الْحَقِّ وَبِيعَتْ خُيِّرَ الرَّاهِنُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنُهَا مَرْهُونًا مَعَ النَّخْلِ أَوْ قِصَاصًا ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الثَّمَرَةُ تَيْبَسُ فَلَا يَكُونَ لَهُ بَيْعُهَا إِلَّا بِإِذْنِ الرَّاهِنِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا رَهَنَهُ تَمْرًا مَعَ نَخْلِهِ صَحَّ الرَّهْنُ مِنْهُمَا ، سَوَاءٌ كَانَتِ الثَّمَرَةُ بَادِيَةَ الصَّلَاحِ أَوْ غَيْرَ بَادِيَةِ الصَّلَاحِ ، مُرَّةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مُرَّةٍ ، وَلَيْسَ يَحْتَاجُ صِحَّةُ الرَّهْنِ
إِلَى اشْتِرَاطِ قَطْعِهَا فِي الْعَقْدِ : لِأَنَّهَا تَبَعٌ لِلنَّخْلِ يَجُوزُ بَيْعُهَا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ ، فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الرَّهْنِ فِيهِمَا لَمْ يَخْلُ حَالُ الْحَقِّ مَنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعَجَّلًا أَوْ مُؤَجَّلًا ، فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ مُعَجَّلًا اسْتَقَرَّتْ صِحَّةُ الرَّهْنِ فِي النَّخْلِ وَالثَّمَرَةِ ، سَوَاءٌ كَانَتِ الثَّمَرَةُ تَيْبَسُ وَتَبْقَى مُدَّخَرَةً أَمْ لَا : لِأَنَّ تَعْجِيلَ حَقِّهَا مُسْتَحَقٌّ ، وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ مُؤَجَّلًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مَحَلُّهُ قَبْلَ تَنَاهِي الثَّمَرَةِ وَإِدْرَاكِهَا فَالرَّاهِنُ فِيهِمَا مُسْتَقِرٌّ عَلَى مَا مَضَى . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَحَلُّهُ بَعْدَ تَنَاهِي الثَّمَرَةِ مِنْ إِدْرَاكِهَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الثَّمَرَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ مِمَّا يَيْبَسُ وَيُدَّخَرُ ، وَذَلِكَ أَزْيَدُ فِي ثَمَنِهَا . وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ مِمَّا يَيْبَسُ مُدَّخَرًا . وَالثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ مِمَّا يُؤْكَلُ وَلَا يَيْبَسُ مُدَّخَرًا .
فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا تَيْبَسُ مُدَّخَرَةً وَيَكُونُ أَوْفَرَ مِنْ ثَمَنِهَا أي الثمرة فَلَا يَخْلُو حَالُ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ كَالرُّطَبِ الَّذِي يَصِيرُ تَمْرًا ، أَوِ الْعِنَبِ الَّذِي يُصِيرُ ذَبِيبًا ، فَالْوَاجِبُ تَجْفِيفُهَا وَاسْتِبْقَاؤُهَا إِلَى حُلُولِ الْحَقِّ ، فَإِنْ دَعَا أَحَدُهُمَا إِلَى بَيْعِهَا وَدَعَا الْآخَرُ إِلَى اسْتِبْقَائِهَا حُكِمَ بِقَوْلِ مَنْ دَعَا إِلَى اسْتِبْقَائِهَا ، لِأَنَّ مُوجَبَ الرَّهْنِ يَقْتَضِيهِ ، وَإِنِ اتُّفِقَ عَلَى بَيْعِهَا فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى بَيْعِهَا بِشَرْطِ أَنْ يَتَعَجَّلَ الْمُرْتَهِنُ ثَمَنَهَا ، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ لِفَسَادِ الشَّرْطِ وَتَأْخِيرِ الْحَقِّ . وَالثَّانِي : أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى بَيْعِهَا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ شَرْطِ التَّعْجِيلِ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ ، وَقَدْ بَطَلَ الرَّهْنُ فِي الثَّمَرَةِ إِذَا بِيعَتْ وَلَا حَقَّ لِلْمُرْتَهِنِ فِي ثَمَنِهَا . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى بَيْعِهَا لِيَكُونَ ثَمَنُهَا رَهْنًا مَكَانَهَا ، فَفِي صِحَّةِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : صَحِيحٌ وَيَكُونُ الثَّمَرُ رَهْنًا . وَالثَّانِي : بَاطِلٌ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَوْجِيهَ الْقَوْلَيْنِ مِنْ قَبْلُ .
فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ مِمَّا تَيْبَسُ مُدَّخَرَةً لَكِنَّ ذَلِكَ مُوكِسٌ لِثَمَنِهَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ مِنْ ثَلَاثَة أَقْسَامٍ ، وَبَيْعُهَا قَبْلَ الْيُبْسِ وَالْجَفَافِ أَوْفَرُ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى تَرْكِهَا . وَالثَّانِي : أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى بَيْعِهَا .
وَالثَّالِثُ : أَنْ يَخْتَلِفَا فَيَدْعُو أَحَدُهُمَا إِلَى بَيْعِهَا وَيَدْعُو الْآخَرُ إِلَى تَرْكِهَا ، فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى تَرْكِهَا إِلَى حُلُولِ الْحَقِّ جَازَ ، وَكَانَ النَّقْصُ لِجَفَافِهَا دَاخِلًا عَلَيْهَا بِاخْتِيَارِهِمَا ، فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى بَيْعِهَا فَإِنْ بِيعَتْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ رَهْنًا أَوْ بِيعَتْ مُطْلَقًا حَقَّ الْبَيْعُ وَكَانَ الثَّمَنُ رَهْنًا : لِأَنَّ هَذَا الْبَيْعَ لِحِفَاظِ الْحَقِّ وَتَوْفِيرِ الثَّمَنِ وَلَيْسَ كَالَّذِي تَقَدَّمَ ، فَإِنْ بِيعَتْ بِشَرْطِ تَعْجِيلِ الثَّمَنِ كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فَدَعَا أَحَدُهُمَا إِلَى بَيْعِهَا وَدَعَا الْآخَرُ إِلَى تَرْكِهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مَنْ دَعَا إِلَى تَرْكِهَا إِلَى مَحَلِّ الْحَقِّ لِأَنَّهُ مُوجَبُ الرَّهْنِ . وَالثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : الْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ دَعَا إِلَى بَيْعِهَا لِمَا فِيهِ مِنْ تَوْفِيرِ الثَّمَنِ وَحِفْظِ الزِّيَادَةِ ، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ .
فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ مِمَّا تُؤْكَلُ رَطْبًا وَتَفَكُّهًا وَلَا تَيْبَسُ مُدَّخَرَةً فَهَذِهِ الثَّمَرَةُ تَفْسُدُ إِنْ تُرِكَتْ إِلَى مَحَلِّ الْحَقِّ ، وَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيمَنِ ارْتَهَنَ طَعَامًا رَطْبًا إِلَى أَجَلٍ يَفْسُدُ قَبْلَ مَحَلِّهِ عَلَى قَوْلَيْنِ . فَأَمَّا رَهْنُ هَذِهِ الثَّمَرَةِ : فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ فَكَانَ بَعْضُهُمْ يُخْرِجُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالطَّعَامِ الرَّطْبِ ، لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْوَصْفِ ، أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ الرَّهْنَ فِي الثَّمَرَةِ جَائِزٌ وَفِي النَّخْلِ مَعًا . وَفِي الْقَوْلِ الثَّانِي : الرَّهْنُ بَاطِلٌ فِي الثَّمَرِ . وَهَلْ يَبْطُلُ فِي النَّخْلِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ ، وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا : الرَّهْنُ فِي الثَّمَرَةِ جَائِزٌ قَوْلًا وَاحِدًا بِخِلَافِ الطَّعَامِ الرَّطْبِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ الثَّمَرَةَ تَبَعٌ لِلنَّخْلِ فَلَمْ يُغَيَّرْ حُكْمُهَا مُفْرَدَةً كَسَائِرِ التَّوَابِعِ ، وَلَيْسَ الطَّعَامُ الرَّطْبُ كَذَلِكَ : لِأَنَّهُ غَيْرُ تَبَعٍ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الرَّهْنَ فِي التَّمْرِ لَا يَبْطُلُ فَهَلْ يُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى بَيْعِهَا عِنْدَ تَنَاهِيهَا وَإِدْرَاكِهَا أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهَا كَالطَّعَامِ الرَّطْبِ الَّذِي لَا يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ عِنْدَ حُدُوثِ فَسَادِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهَا بِخِلَافِ الطَّعَامِ الرَّطْبِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ الثَّمَرَةَ هَاهُنَا تَبَعٌ لِأَصْلٍ بَاقٍ وَهُوَ النَّخْلُ فَالْحَقُّ يَحْكُمُ أَصْلَهُ ، وَوَجَبَ بَيْعُهُ لِيَكُونَ بَاقِيًا مَعًا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الطَّعَامُ الرَّطْبُ : لِأَنَّهُ لَا يَتْبَعُ أَصْلًا بَاقِيًا فَكَانَ يَحْكُمُ نَفْسَهُ مُفْرَدًا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ رَهَنَهُ التَّمْرَ دُونَ النَّخْلِ طَلْعَا أَوْ مُؤَبَّرَةً أَوْ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا لَمْ يَجُزِ الرَّهْنُ إِلَّا أَنْ يَتَشَارَطَا أَنَّ الْمُرْتَهِنَ إِذَا حَلَّ حَقُّهُ قَطَعَهَا وَبَاعَهَا فَيَجُوزُ الرَّهْنُ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ مِنَ الثَّمَرِ أَنَّهُ يُتْرَكُ إِلَى أَنْ يَصْلُحَ ، أَلَا تَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا لِمَعْرِفَةِ النَّاسِ أَنَّهَا تُتْرَكُ إِلَى بُدُوِّ صَلَاحِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي رَهْنِ النَّخْلِ مَعَ الثَّمَرَةِ آنِفًا ، وَمَضَى الْكَلَامُ فِي رَهْنِ النَّخْلِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي حُكْمِهِ ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي رَهْنِ الثَّمَرَةِ دُونَ النَّخْلِ ، وَهِيَ إِذَا رُهِنَتْ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ بَادِيَةَ الصَّلَاحِ . وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ غَيْرَ بَادِيَةِ الصَّلَاحِ . فَإِنْ كَانَتْ بَادِيَةَ الصَّلَاحِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تُرْهَنَ فِي حَقٍّ حَالٍّ ، فَرَهْنُهَا جَائِزٌ ، سَوَاءٌ كَانَتْ مِمَّا تَيْبَسُ مُدَّخَرَةً أَمْ لَا . وَالثَّانِي : أَنْ تُرْهَنَ فِي مُؤَجَّلٍ ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ مِمَّا تَيْبَسُ وَتَجِفُّ ، فَرَهْنُهَا جَائِزٌ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ حُلُولُ الْحَقِّ قَبْلَ جَفَافِهَا أَوْ بَعْدَهُ . وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ مِمَّا لَا تَيْبَسُ وَلَا تَجِفُّ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ حُلُولُ الْأَجَلِ قَبْلَ تَنَاهِيهَا وَفَسَادِهَا فَرَهْنُهَا جَائِزٌ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ حُلُولُ الْأَجَلِ بَعْدَ تَنَاهِيهَا وَفَسَادِهَا ، فَفِي رَهْنِهَا قَوْلَانِ ، كَالطَّعَامِ الرَّطْبِ سَوَاءٌ ، بَلْ هِيَ طَعَامٌ رَطْبٌ . أَحَدُهَا : أَنَّ رَهْنَهَا بَاطِلٌ . وَالثَّانِي : أَنَّ رَهْنَهَا جَائِزٌ .
فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ غَيْرَ بَادِيَةِ الصَّلَاحِ فهل يجوز رهنها ، وهَلْ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ رَهْنِهَا اشْتِرَاطُ قَطْعِهَا ، أَمْ لَا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تُرْهَنَ فِي دَيْنٍ حَالٍّ . وَالثَّانِي : فِي مُؤَجَّلٍ . فَإِنْ رُهِنَتْ فِي دَيْنٍ حَالٍّ فَهَلْ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ رَهْنِهَا اشْتِرَاطُ قَطْعِهَا ، أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ اشْتِرَاطَ الْقَطْعِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الرَّهْنِ ، فَإِنْ رُهِنَتْ بِغَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ كَانَ رَهْنًا بَاطِلًا كَالْبَيْعِ ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَنْصُوصٌ فِي كِتَابِ التَّفْلِيسِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ صَحَّ رَهْنُهَا بِاشْتِرَاطِ قَطْعِهَا فَقَالَ الْمُرْتَهِنُ بِعْتُهَا عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ قَبْلَ الْقَطْعِ ، وَقَالَ الرَّاهِنُ لَسْتُ أَبِيعُهَا إِلَّا بَعْدَ الْقَطْعِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ لِأَجْلِ شَرْطِهِ ، وَيُؤْخَذُ الْمُرْتَهِنُ بِقَطْعِهِ قَبْلَ بَيْعِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : نَصَّ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ : أَنَّ اشْتِرَاطَ الْقَطْعِ فِيهَا لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي صِحَّةِ الرَّهْنِ ، فَإِنْ رَهَنَهَا بِشَرْطِ الْقَطْعِ صَحَّ الرَّهْنُ ، وَوَجَبَ بِالْقَطْعِ ، فَإِنْ رَهَنَهَا بِغَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ صَحَّ الرَّهْنُ وَلَمْ يَجِبِ الْقَطْعُ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنِ الْقَطْعُ فِي صِحَّةِ الرَّهْنِ شَرْطًا ، وَإِنْ كَانَ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ شَرْطًا أَنَّ فِي الْبَيْعِ ثَمَنًا مَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ اسْتِحْلَالِهِ فِي الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَأَيْتَ إِنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ فِيمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ فَكَانَ الْقَطْعُ شَرْطًا فِي صِحَّتِهِ ، لِأَنْ لَا يُؤَدِّيَ إِلَى اسْتِحْلَالِ الثَّمَنِ مِنْ غَيْرِ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ ، وَلِأَنَّ حُصُولَهُ فِي يَدِ مُشْتَرِيهِ ، وَالرَّهْنُ لَا يُقَابِلُ ثَمَنًا ، وَإِنَّمَا دَخَلَ فِي الْحَقِّ وَثِيقَةً ، فَلَمْ يَكُنِ الْقَطْعُ فِي صِحَّتِهِ شَرْطًا .
فَصْلٌ : وَإِذَا رُهِنَتِ الثَّمَرَةُ فِي دَيْنٍ مُؤَجَّلٍ ، فَالْأَجَلُ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ حُلُولُهُ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ رَهْنِهَا فِي الدَّيْنِ الْحَالِّ ، وَهَلْ يَكُونُ اشْتِرَاطُ الْقَطْعِ فِي صِحَّةِ رَهْنِهَا شَرْطًا أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ حُلُولُ الدَّيْنِ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ حُلُولُ الدَّيْنِ بَعْدَ شَهْرٍ وَبُدُوُّ الصَّلَاحِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ ، فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : أَنَّ اشْتِرَاطَ الْقَطْعِ مَعَ الْعَقْدِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الرَّهْنِ ، فَإِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ قَطْعُهَا فِي الرَّهْنِ فَسَدَ الرَّهْنُ ، سَوَاءٌ شُرِطَ قَطْعُهَا عِنْدَ حُلُولِ الدَّيْنِ أَمْ لَا ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمَ الطَّعَامِ الرَّطْبِ ، لِأَنَّ قَطْعَهَا وَاجِبٌ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : إِنَّ شَرْطَ قَطْعِهَا مَعَ حُلُولِ الدَّيْنِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الرَّهْنِ ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ يُشْتَرَطَ قَطْعُهَا مَعَ الْعَقْدِ قَبْلَ حُلُولِ الدَّيْنِ ، فَعَلَى هَذَا رَهْنُهَا جَائِزٌ ، سَوَاءٌ كَانَتْ مِمَّا تَيْبَسُ وَتَجِفُّ أَمْ لَا . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : إِنَّ اشْتِرَاطَ قَطْعِهَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ ، لَا حَالَ الْعَقْدِ وَلَا عِنْدَ حُلُولِ الدَّيْنِ ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ مَعَ الْبَيْعِ ، فَلَوْ قَالَ الرَّاهِنُ : أَقْطَعُهَا عِنْدَ حُلُولِ الدَّيْنِ وَأَبِيعُهَا ، وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ : بِعْهَا عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ يَشْرُطُ الْقَطْعَ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ : لِأَنَّ قَطْعَهَا يَضُرُّ وَلَا يُوجِبُهُ شَرْطٌ وَلَا عَقْدٌ إِذَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِبَيْعِهَا عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ ، فَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الْعَادَةُ جَارِيَةً بِبَيْعِهَا
مَقْطُوعَةً ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ دَعَا إِلَى قَطْعِهَا ، لِأَنَّ الْعُرْفَ مَعَهُ ، فَأَمَّا إِذَا رَهَنَهَا بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ كَانَ رَهْنُهَا بَاطِلًا قَوْلًا وَاحِدًا : لِأَنَّ رَهْنَهَا يَمْنَعُ مِنْ تَبْقِيَتِهَا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي كُلِّ ثَمَرَةٍ وَزَرْعٍ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا فَمَا لَمْ يَحِلَّ بَيْعُهُ فَلَا يَجُوزُ رَهْنُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي رَهْنِ ثِمَارِ النَّخْلِ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ وَبَعْدَهُ ، وَكَذَا الْحُكْمُ فِي غَيْرِ ثِمَارِ النَّخْلِ كَالْحُكْمِ فِي ثِمَارِ النَّخْلِ ، فَأَمَّا الزَّرْعُ فَكَالثَّمَرَةِ أَيْضًا وَالِاشْتِدَادُ كَبُدُوِّ الصَّلَاحِ ، وَعَدَمُ الِاشْتِدَادِ كَعَدَمِ الصَّلَاحِ ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الزَّرْعُ مُتَّصِلًا غَيْرَ مُشْتَدٍّ ، فَإِنْ رَهَنَهُ فِي حَقٍّ مُعَجَّلٍ فَهَلْ يَلْزَمُ اشْتِرَاطُ الْقَطْعِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَإِنْ كَانَ فِي حَقٍّ مُؤَجَّلٍ : فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ اخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ مُشْتَدًّا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ بَائِنًا فِي سُنْبُلِهِ غَيْرَ مَسْتُورٍ بِحَائِلٍ كَالشَّعِيرِ فِي سُنْبُلِهِ جَازَ فِي الْمُعَجَّلِ وَالْمُؤَجَّلِ ، لِأَنَّ الْحُبُوبَ الْمَزْرُوعَةَ تَيْبَسُ مُدَّخَرَةً فِي الْغَالِبِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَسْتُورًا فِي سُنْبُلِهِ بِحَائِلٍ يَمْنَعُ مِنْ مُشَاهَدَتِهِ كَالتِّينِ ، فَفِي جَوَازِهِ قَوْلَانِ كَالْبَيْعِ ، مُعَجَّلًا كَانَ الْحَقُّ أَوْ مُؤَجَّلًا : لِأَنَّ مَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ لَمْ يَجُزْ رَهْنُهُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ كَانَ مِنَ الثَّمَرِ شَيْءٌ يَخْرُجُ فَرَهَنَهُ وَكَانَ يَخْرُجُ بَعْدَهُ غَيْرُهُ مِنْهُ فَلَا يَتَمَيَّزُ الْخَارِجُ الْأَوَّلُ الْمَرْهُونُ مِنَ الْآخَرِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الرَّهْنَ لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَا أَنْ يُقْطَعَ فِي مِدَةٍ قَبْلَ أَنْ يَلْحَقَهُ الثَّانِي فَيَجُوزَ الرَّهْنُ ، فَإِنْ تُرِكَ حَتَى يُخْرِجَ بَعْدَهُ ثَمَرَةً لَا تَتَمَيَّزُ فَفِيهَا قَوْلَانِ ، أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يُفْسِدُ الرَّهْنَ كَمَا يُفْسِدُ الْبَيْعَ . وَالثَّانِي أَنَّهُ لَا يُفْسِدُ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ فِي قَدْرِ الثَّمْرَةِ الْمُخْتَلِطَةِ مِنَ الْمَرْهُونَةِ ، كَمَا لَوْ رَهَنَهُ حِنْطَةً فَاخْتَلَطَتْ بِحِنْطَةٍ لِلرَّاهِنِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي قَدْرِ الْمَرْهُونَةِ مِنَ الْمُخْتَلِطَةِ بِهَا مَعَ يَمِينِهِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) قُلْتُ أَنَا : هَذَا أَشْبَهُ بِقَوْلِهِ ، وَقَدْ بَيَّنْتُهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي بَابِ ثَمَرِ الْحَائِطِ يُبَاعُ أَصْلُهُ ( قُلْتُ أَنَا ) وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ فِي الزِّيَادَةِ قَوْلَ الْمُرْتَهِنِ ، لِأَنَّ الثَّمْرَةَ فِي يَدَيْهِ وَالرَّاهِنُ مُدَّعٍ قَدْرَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الَذِي هِيَ فِي يَدَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ فِي قِيَاسِهِ عِنْدِي وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا رَهَنَهُ ثَمَرَةً تُخْرِجُ بَعْدَهَا ثَمَرَةً أُخْرَى فَلَا يَخْلُو حَالُ الثَّمَرَةِ الْخَارِجَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُتَمَيِّزَةً عَنِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، أَوْ غَيْرَ مُتَمَيِّزَةٍ ، فَإِنْ كَانَتْ مُتَمَيِّزَةً عَنِ الْمُتَقَدِّمَةِ كَانَ
رَهْنُ الثَّمَرَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ جَائِزٌ ، سَوَاءٌ كَانَ الْحَقُّ مُعَجَّلًا أَوْ مُؤَجَّلًا ، وَإِنْ كَانَتِ الْحَادِثَةُ غَيْرَ مُتَمَيِّزَةٍ عَنِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْحَقِّ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعَجَّلًا ، أَوْ مُؤَجَّلًا ، فَإِنْ كَانَ مُعَجَّلًا جَازَ رَهْنُ الثَّمَرَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا فَلَا يَخْلُو حَالُ الْأَجَلِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ حُلُولُهُ قَبْلَ ثَمَرَةٍ أُخْرَى أَوْ بَعْدَ حُدُوثِهَا ، فَإِنْ كَانَ حُلُولُهُ قَبْلَ حُدُوثِ ثَمَرَةٍ أُخْرَى فَرَهْنُهَا جَائِزٌ ، لِأَنَّهَا وَقْتَ الْبَيْعِ مُمْتَازَةٌ عَنْ غَيْرِهَا ، وَإِنْ كَانَ حُلُولُهُ بَعْدَ ثَمَرَةٍ أُخْرَى فَلَا يَخْلُو حَالُ رَهْنِهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَرْهَنَ بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ إِلَى حُلُولِ الْأَجَلِ ، فَرَهْنُهَا بَاطِلٌ : لِأَنَّهَا وَقْتَ حُلُولُ الْأَجَلِ غَيْرُ مُمْتَازَةٍ ، وَإِفْرَادُهَا بِالْبَيْعِ غَيْرُ مُمْكِنٍ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَرْهَنَهَا بِشَرْطِ الْقَطْعِ أَوِ اشْتِرَاطِ الْقَطْعِ مَعَ الرَّهْنِ أَوْ بَعْدَ مُدَّةٍ لَمْ تَخْرُجْ فِيهَا الثَّمَرَةُ الْحَادِثَةُ ، فَالْحُكْمُ فِيهِ سَوَاءٌ ، وَلَا يَخْلُو حَالُ الثَّمَرَةِ بَعْدَ الْقَطْعِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَبْقَى إِلَى حُلُولِ الْأَجَلِ أَوْ لَا تَبْقَى ، فَإِنْ كَانَتْ تَبْقَى إِلَى حُلُولِ الْأَجَلِ فَرَهْنُهَا جَائِزٌ : لِأَنَّهَا بِالْقَطْعِ تَمْتَازُ عَنْ غَيْرِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَبْقَى إِلَى وَقْتِ حُلُولِ الْأَجَلِ فَرَهْنُهَا عَلَى قَوْلَيْنِ ، كَالطَّعَامِ الرَّطْبِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَرْهَنَهَا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ وَلَا شَرْطِ التَّرْكِ ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّ رَهْنَهَا بَاطِلٌ : لِأَنَّ مُطْلَقَ الرَّهْنِ يُوجِبُ تَرْكَهَا إِلَى حُلُولِ الْأَجَلِ ، فَهَذَا الرَّهْنُ بَاطِلٌ ، وَفِيهَا وَجْهٌ آخَرُ خَرَّجَهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَهْنَهَا جَائِزٌ ، قَالَ : لِأَنَّهُمَا يَتَطَوَّعَانِ بِبَيْعِهَا وَقَطْعِهَا .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ رَهْنِهَا مَشْرُوطٌ بِمَا ذَكَرْنَا فَرَهْنُهَا جَائِزٌ ، وَإِنْ لَمْ تُقْطَعْ حَتَّى حَدَثَتْ ثَمَرَةٌ أُخْرَى ، فَإِنْ كَانَتِ الْحَادِثَةُ مُتَمَيِّزَةً عَنِ الْأُولَى فَرَهْنُ الْأُولَى عَلَى حَالِهِ فِي الْجَوَازِ لَا يَتَغَيَّرُ بِحُدُوثِ مَا يُمَيَّزُ عَنْهَا ، وَإِنْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ الْحَادِثَةُ غَيْرَ مُتَمَيِّزَةٍ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ حَادِثَةً قَبْلَ الْقَبْضِ فَيَكُونَ الرَّهْنُ بَاطِلًا لِلْجَهَالَةِ بِقَدْرِ الْمَرْهُونِ قَبْلَ تَمَامِ الرَّهْنِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ جَائِزًا بَعْدَ الْقَبْضِ ، فَفِي بُطْلَانِ الرَّهْنِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ بَاطِلٌ لِلْجَهَالَةِ بِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ جَائِزٌ لِسَلَامَتِهِ إِلَى حِينِ تَمَامِهِ بِالْقَبْضِ ، وَبَقَاءُ مَا تَنَاوَلَهُ عَقْدُ الرَّهْنِ ، وَالْجَوَابُ فِي الرَّهْنِ مِمَّا يُخَالِفُ الْجَوَابَ فِي الْبَيْعِ ، لِأَنَّ الِاخْتِلَاطَ إِذَا حَدَثَ فِي الْبَيْعِ بَعْدَ الْقَبْضِ كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ فِي الرَّهْنِ ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ
كَانَ الرَّهْنُ بَاطِلًا ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَبْضِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ الْقَبْضَ فِي الرَّهْنِ شَرْطٌ فِي تَمَامِهِ ، وَفِي الْبَيْعِ حَقٌّ مِنْ أَحْكَامِهِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى التَّفْرِيعِ عَلَيْهِمَا ، فَإِذَا قُلْنَا بِبُطْلَانِ الرَّهْنِ فَفِي زَمَانِ بُطْلَانِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الرَّهْنَ قَدْ بَطَلَ حِينَ اخْتِلَاطِهِ وَيَجْرِي مَجْرَى تَلَفِ الرَّهْنِ فَيَكُونُ قَاطِعًا لِتَمَامِهِ وَاسْتِدَامَتِهِ ، وَلَا يَكُونُ رَافِعًا مِنْ أَصْلِهِ ، فَعَلَى هَذَا لَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ ، كَمَا لَا يَسْتَحِقُّ بِتَلَفِ الرَّهْنِ بَعْدَ الْقَبْضِ الْخِيَارَ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الرَّهْنَ بَاطِلٌ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ ، وَيَكُونُ حُدُوثُ الِاخْتِلَاطِ وَإِلَّا عَلَى الْجَهَالَةِ بِهِ حِينَ الْعَقْدِ فَيَصِيرُ رَافِعًا لَهُ مِنْ أَصْلِهِ ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ ، فَعَلَى هَذَا إِذَا كَانَ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ فَفِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ بَاطِلٌ . وَالثَّانِي : جَائِزٌ وَلِلْبَائِعِ الْخِيَارُ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِالرَّهْنِ وَبَيْنَ فَسْخِهِ ، وَإِذَا قُلْنَا بِجَوَازِ الرَّهْنِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الرَّاهِنِ مِنَ الثَّمَرَةِ الْحَادِثَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَرْهَنَهُ إِيَّاهَا . وَالثَّانِي : أَنْ لَا يُسَامِحَهُ . وَالثَّالِثُ : أَنْ لَا يَفْعَلَ أَحَدَهُمَا وَلَكِنْ يُرِيدُ أَخْذَهَا . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ أَنْ يَرْهَنَهُ إِيَّاهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَعْلَمَا قَدْرَهَا أَوْ يَتَّفِقَا عَلَى قَدْرِهَا ، فَرَهْنُهَا جَائِزٌ ، سَوَاءٌ رَهَنَهَا فِي الْحَقِّ الْأَوَّلِ أَوْ فِي غَيْرِهِ ، فَإِنْ كَانَ فِي الْحَقِّ الْأَوَّلِ صَارَ مُدْخِلًا رَهْنًا ثَانِيًا عَلَى رَهْنٍ أَوَّلٍ فِي حَقٍّ وَاحِدٍ ، وَذَلِكَ جَائِزٌ ، فَيَكُونُ جَمِيعُ الثَّمَرَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْهَا وَالْحَادِثَةِ رَهْنًا فِي حَقٍّ وَاحِدٍ ، وَإِنْ رَهَنَهَا فِي حَقٍّ ثَانٍ صَارَتِ الثَّمَرَةُ رَهْنَيْنِ فِي وَقْتَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الرَّهْنَيْنِ مُبْتَاعٌ فِي الرَّهْنِ الْآخَرِ ، فَيَكُونُ بِقَدْرِ الثَّمَرَةِ الْأُولَى الَّذِي قَدْ عَلِمَاهُ ، أَوِ اتَّفَقَا عِلَيْهِ مِنْ نِصْفٍ أَوْ ثُلُثٍ رَهْنًا فِي الْحَقِّ الْأَوَّلِ ، وَالثَّمَرَةُ الْحَادِثَةُ الَّتِي قَدْ عَلِمَاهَا أَوِ اتَّفَقَا عَلَيْهَا مِنْ ثُلُثٍ أَوْ ثُلُثَيْنِ رَهْنًا مُسَاغًا فِي الْحَقِّ الثَّانِي . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَعْلَمَا قَدْرَ الثَّمَرَةِ الْحَادِثَةِ وَلَا يَتَّفِقَا عَلَيْهَا ، وَإِنْ رَهَنَهَا فِي غَيْرِ الْحَقِّ الْأَوَّلِ كَانَ رَهْنًا بَاطِلًا : لِأَنَّهُ رَهْنٌ مَجْهُولُ الْقَدْرِ ، وَإِنْ رَهَنَهَا فِي الْحَقِّ الْأَوَّلِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ رَهْنٌ بَاطِلٌ لِلْجَهَالَةِ بِقَدْرِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ رَهْنٌ جَائِزٌ : لِأَنَّ الرَّهْنَ الثَّانِيَ إِذَا دَخَلَ عَلَى رَهْنٍ أَوَّلٍ صَارَا جَمِيعًا رَهْنًا وَاحِدًا ، وَالْجَمِيعُ مَعْلُومٌ ، وَإِنْ جُهِلَ قَدْرُ الثَّانِي فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الرَّهْنِ لِلْجَمِيعِ جَهَالَةُ قَدْرِ الثَّانِي ، وَهَذَا حُكْمُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ ، وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يُسَامِحَهُ بِهَا فَيَقُولَ : قَدْ سَامَحْتُكَ بِالثَّمَرَةِ الْحَادِثَةِ ، فَهَذِهِ الْمُسَامَحَةُ تُتْرَكُ الْمُطَالَبَةُ بِهَا ، وَلَيْسَتْ رَهْنًا وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا مَتَى شَاءَ ، وَيُطَالِبَهُ بِهَا ، وَمَا لَمْ يُطَالِبْهُ بِهَا فَهِيَ تَابِعَةٌ لِلرَّهْنِ تُبَاعُ مَعَهُ إِذَا بِيعَ ، وَتَكُونُ هَذِهِ الْمُسَامَحَةُ قَطْعًا لِلِاخْتِلَافِ وَالْمُنَازَعَةِ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ لَا يَرْهَنَهَا وَلَا يُسَامِحَ بِهَا وَيُطَالِبَ بِأَخْذِهَا فَلَهُ ذَلِكَ : لِأَنَّهَا غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي الرَّهْنِ ، فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى قَدْرِهَا وَأَنَّهَا ثُلُثُ الْجُمْلَةِ أَوْ رُبُعُهَا سَقَطَ النِّزَاعُ ، وَكَانَ ذَلِكَ الْعَقْدُ مِنَ الْجُمْلَةِ مَشَاعًا فِي الثَّمَرَةِ خَارِجًا مِنَ الرَّهْنِ ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِهَا فَقَالَ الرَّاهِنُ : هِي النِّصْفُ ، وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ ، هِيَ الثُّلُثُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ : لِأَنَّهُ حَلِفٌ فِي قَدْرِ الرَّهْنِ ، وَاخْتِلَافُهُمَا فِي قَدْرِ الرَّهْنِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الرَّاهِنِ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا كَانَ اخْتِلَافُهُمَا فِي قَدْرِ الْمَرْهُونِ بَعْدَ الِاخْتِلَاطِ إِذَا لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي صِحَّةِ الرَّهْنِ يُوجِبُ فَسْخَ الرَّهْنِ ، كَمَا أَنَّ اخْتِلَافَ الْمُتَبَايِعَيْنِ فِي قَدْرِ الْمَبِيعِ بَعْدَ الِاخْتِلَاطِ إِذَا لَمْ يَقْدَحْ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ يُوجِبُ فَسْخَ الْبَيْعِ ، قِيلَ : هُمَا سَوَاءٌ إِذَا كَانَ اخْتِلَافُهُمَا فِي الْمَبِيعِ فِيمَا لَا يَتَمَيَّزُ أَوْجَبَ فَسْخَ الْبَيْعِ كَالْبُقُولِ الْمَبِيعَةِ بِشَرْطِ الْجَزِّ ، فَإِذَا تَأَخَّرَ جَزُّهَا حَتَّى زَادَتْ وَطَابَتْ فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ : إِنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي : جَائِزٌ . فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى قَدْرِ الزَّائِدِ مِنْهَا صَحَّ الْبَيْعُ ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فُسِخَ الْبَيْعُ ، وَكَذَا لَوْ كَانَتْ زِيَادَةُ الْمَرْهُونِ غَيْرَ مُنْفَصِلَةٍ كَالْعَلَفِ إِذَا طَالَ وَالْبَقْلِ إِذَا زَادَ ، فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ الرَّهْنَ بَاطِلٌ ، وَالثَّانِي جَائِزٌ ، فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى قَدْرِ الزِّيَادَةِ فَالرَّهْنُ صَحِيحٌ ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي فَسْخِ الرَّهْنِ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى قَوْلِ الرَّاهِنِ : لِأَنَّ مَا لَا يَنْفَصِلُ يَسْتَحِيلُ الْعِلْمُ بِحَقِيقَةِ قَدْرِهِ ، وَهَلِ الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ إِذَا اخْتَلَطَتْ بِالرَّهْنِ إِذَا كَانَتْ فِي الْبَيْعِ كَانَ الْحُكْمُ فِيهَا كَالْحُكْمِ فِي الرَّهْنِ فَاسْتَوَيَا .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ اعْتَرَضَ عَلَى الشَّافِعِيِّ حَيْثُ قَالَ : إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاهِنِ ، وَقَالَ : يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُرْتَهِنِ : لِأَنَّ الثَّمَرَةَ فِي يَدِهِ كَالْمُشْتَرِي إِذَا قَبَضَ مَا ابْتَاعَهُ وَاخْتَلَطَ بِمَالِ الْبَائِعِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي ، لِكَوْنِهِ فِي يَدِهِ ، وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ مِنَ الْمُزَنِيِّ غَيْرُ صَحِيحٍ ، وَالْمَذْهَبُ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ فَاسِدٌ .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُشْتَرِي وَالْمُرْتَهِنِ : أَنَّ نِزَاعَهُمَا فِي الْبَيْعِ نِزَاعٌ فِي الْمِلْكِ ، وَالْيَدُ تَدُلُّ ، فَكَأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ صَاحِبِ الْيَدِ ، وَنِزَاعُهُمَا فِي الرَّهْنِ نِزَاعٌ فِي قَدْرِ الْمَرْهُونِ ، وَالْيَدُ لَا تَدُلُّ عَلَى الرَّهْنِ ، فَلَمْ يَجِبْ أَنْ يُحْكَمَ بِقَوْلِ صَاحِبِ الْيَدِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا رَهَنَهُ ثَمَرَةً فَعَلَى الرَّاهِنِ سَقْيُهَا وَصَلَاحُهَا وَجِدَادُهَا وَتَشْمِيسُهَا كَمَا يَكُونُ عَلَيْهِ نَفْقَةُ الْعَبْدِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، كُلُّ مَا احْتَاجَتِ الثَّمَرَةُ إِلَيْهِ مِنْ نَفَقَةِ سَقْيٍ أَوْ مَئُونَةِ حِفَاظٍ فَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ مِنْ رَاهِنِهِ الَّذِي رَهَنَهُ ، لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ : لِأَنَّ نَفَقَةَ الرَّهْنِ لَوْ كَانَ دَابَّةً لَوَجَبَتْ عَلَى الرَّاهِنِ ، فَكَذَلِكَ الثَّمَرَةُ ، فَأَمَّا الْجِدَادُ وَالتَّشْمِيسُ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا : هُوَ وَاجِبٌ عَلَى الرَّاهِنِ ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَى الرَّاهِنِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ ، فَالْمَوْضِعُ الَّذِي قَالَ : يَجِبُ عَلَيْهِ جِدَادُهَا وَتَشْمِيسُهَا إِذَا بَلَغَ وَقْتَ الْجِدَادِ وَالتَّشْمِيسِ فَالْحَقُّ لَمْ يَحِلَّ بَعْدُ ، فَعَلَى الرَّاهِنِ جِدَادُهَا وَتَشْمِيسُهَا لِمَا فِيهِ مِنْ حِفْظِهَا وَصَلَاحِهَا ، فَإِنِ امْتَنَعَ مِنْهُ الرَّاهِنُ أُجْبِرَ عَلَيْهِ ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي قَالَ : لَيْسَ عَلَيْهِ جِدَادُهَا وَتَشْمِيسُهَا هُوَ إِذَا بَلَغَ وَقْتَ الْجِدَادِ وَالتَّشْمِيسِ وَالْحَقُّ قَدْ حَلَّ ، لِأَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ بَعْدَ حُلُولِهِ فِي بَيْعِهَا دُونَ تَبْقِيَتِهَا فَلَمْ يَجِبْ عَلَى الرَّاهِنِ جِدَادُهَا وَتَشْمِيسُهَا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ وَلَا لِلْمُرْتَهِنِ قَطْعُهَا قَبْلَ أَوَانِهَا الثمرة إِلَّا بِأَنْ يَرْضَيَا بِهِ وَإِذَا بَلَغَتْ إِبَّانَهَا فَأَيُّهُمَا أَرَادَ قَطْعَهَا جُبِرَ الْآخَرُ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنْ صَلَاحِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا إِنِ اتَّفَقَا عَلَى قَطْعِهَا فَذَاكَ لَهُمَا ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ إِدْرَاكِهَا أَوْ بَعْدَهُ : لِأَنَّهَا حَقٌّ لَهُمَا ، وَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى تَرْكِهَا فَذَلِكَ لَهُمَا ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ إِدْرَاكِهَا أَوْ قَبْلَهُ ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فَدَعَا أَحَدُهُمَا إِلَى قَطْعِهَا وَدَعَا الْآخَرُ إِلَى تَرْكِهَا وَالْحَقُّ مُؤَجَّلٌ لَمْ يَحِلَّ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الثَّمَرَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُدْرَكَةً أَوْ غَيْرَ مُدْرَكَةٍ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ دَعَا إِلَى تَرْكِهَا ، سَوَاءٌ كَانَ الرَّاهِنُ دَاعِيًا إِلَى تَرْكِهَا أَوِ الْمُرْتَهِنُ ، لِأَنَّ الثَّمَرَةَ زِيدَ فِي ثَمَنِهَا ، وَفِي نَفْسِهَا إِلَى وَقْتِ إِدْرَاكِهَا ، وَالزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ بِالرَّهْنِ حَادِثَةٌ عَلَى مِلْكِ الرَّاهِنِ ، وَدَاخِلَةٌ فِي وَثِيقَةِ الْمُرْتَهِنِ ، فَلَمْ يُجْبَرِ الرَّاهِنُ عَلَى قَطْعِهَا : لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْطَالِ مِلْكِهِ مِنْ زِيَادَتِهَا ، وَلَمْ يُجْبَرِ الْمُرْتَهِنُ عَلَى قَطْعِهَا ، لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْطَالِ اسْتِسَاقَةِ زِيَادَتِهَا ، وَإِنْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ مُدْرَكَةً فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ دَعَا إِلَى قَطْعِهَا ، سَوَاءٌ كَانَ الرَّاهِنُ دَاعِيًا إِلَى قَطْعِهَا أَوِ الْمُرْتَهِنُ : لِأَنَّ فِي تَرْكِهَا بَعْدَ الْإِدْرَاكِ إِضَاعَةً لَهَا وَإِتْلَافًا ، وَفِي قَطْعِهَا
حِرَاسَةٌ لَهَا وَحِفْظٌ ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ دَعَا إِلَى حِرَاسَتِهَا وَحِفْظِهَا ، دُونَ مَنْ دَعَا إِلَى إِضَاعَتِهَا وَإِتْلَافِهَا . فَلَوْ دَعَا أَحَدُهُمَا إِلَى قَطْعِهَا فِي أَوَّلِ إِدْرَاكِهَا ، وَدَعَا الْآخَرُ إِلَى قَطْعِهَا بَعْدَ تَنَاهِي إِدْرَاكِهَا ، فَإِنْ كَانَتْ مِمَّا يُجْتَنَى رَطْبًا وَلَا يُشَمَّسُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ دَعَا إِلَى قَطْعِهَا مِنْ أَوَّلِ إِدْرَاكِهَا : لِأَنَّهُ أَحْفَظُ لَهَا ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا يُجَفَّفُ وَتُشَمَّسُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ دَعَا إِلَى قَطْعِهَا بَعْدَ تَنَاهِي إِدْرَاكِهَا : لِأَنَّهُ أَكْمَلُ لِزِيَادَتِهَا وَأَوْفَرُ لِثَمَنِهَا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ أَبَى الْمَوْضُوعَةُ عَلَى يَدَيْهِ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِأَنْ يَضَعَهَا فِي مَنْزِلِهِ إِلَّا بِكِرَاءٍ قِيلَ لِلرَّاهِنِ عَلَيْكَ لَهَا مَنْزِلٌ تُحْرَزُ فِيهِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ صَلَاحِهَا ، فَإِنْ جِئْتَ بِهِ وَإِلَّا اكْتَرَى عَلَيْكَ مِنْهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا كَانَ الرَّهْنُ مَوْضُوعًا عَلَى يَدِ عَدْلٍ لِيَشْتَرِطَ فِي عَقْدِ الرَّهْنِ فَأَبَى الْعَدْلُ أَنْ يُحْرِزَهُ فِي مَنْزِلِهِ إِلَّا بِكِرَاءٍ لَمْ يُجْبَرِ الْعَدْلُ عَلَى إِحْرَازِهِ فِي مَنْزِلِهِ بِغَيْرِ كِرَاءٍ ، وَلَا الرَّاهِنُ عَلَى أَنْ يَدْفَعَ لِلْعَدْلِ الْكِرَاءَ ، وَقِيلَ لِلرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ : إِنِ اتَّفَقْتُمَا عَلَى نَقْلِهِ إِلَى يَدِ عَدْلٍ يَتَطَوَّعُ بِإِحْرَازِهِ فِي مَنْزِلِهِ بِغَيْرِ كِرَاءٍ ، وَإِلَّا عَلَى الرَّاهِنِ كِرَاءُ مَنْزِلٍ يُحْرِزُ فِيهِ ، لِأَنَّ كِرَاءَ الْمَنْزِلِ مِنْ مَئُونَةِ الرَّهْنِ الَّذِي يَجِبُ عَلَى الرَّاهِنِ ، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ . وَإِنِ امْتَنَعَ الرَّاهِنُ مِنَ اكْتِرَاءِ مَنْزِلٍ اكْتَرَى الْقَاضِي عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ ، فَإِنْ وَجَدَ لَهُ مَالًا غَيْرَ الرَّهْنِ اكْتَرَى فِيهِ وَلَمْ يَبِعْ مِنَ الرَّهْنِ مَا يُكْتَرَى فِيهِ ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ لَهُ مَالًا غَيْرَ الرَّهْنِ بَاعَ مِنَ الرَّهْنِ بِقَدْرِ مَا يَكْتَرِي بِهِ مَنْزِلًا يُحْرِزُهُ فِيهِ ، وَيَكُونُ مَكْرِيُّ الْمَنْزِلِ مُقَدَّمًا بِالْكِرَاءِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ وَعَلَى سَائِرِ الْغُرَمَاءِ .
فَصْلٌ : فَإِنِ اكْتَرَى الْمُرْتَهِنُ مَنْزِلًا مِنْ مَالِهِ لِإِحْرَازِ الرَّهْنِ فِيهِ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الرَّاهِنِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا ، فَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ حَاضِرًا لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمُرْتَهِنِ فِي دَفْعِ الْكِرَاءِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَدْفَعَهُ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ ، أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ ، فَإِنْ دَفَعَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ كَانَ مُتَطَوِّعًا بِهِ وَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ ، وَإِنْ دَفَعَهُ بِإِذْنِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ بِشَرْطِ الرُّجُوعِ بِمَا يَدْفَعُ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الرَّاهِنِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ شَرْطِ الرُّجُوعِ ، فَهَلْ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الرَّاهِنِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ .
فَلَوْ شَرَطَ الْمُرْتَهِنُ الرُّجُوعَ بِمَا دَفَعَ مِنَ الْكِرَاءِ ، عَلَى أَنَّ الرَّاهِنَ مَرْهُونٌ فِي يَدِهِ بِالْحَقِّ الْمُتَقَدِّمِ ، وَالْأُجْرَةِ الْمُسْتَأْخِرَةِ فَيَصِيرُ مُدْخِلًا لِحَقٍّ ثَانٍ عَلَى حَقٍّ أَوَّلٍ فِي رَهْنٍ وَاحِدٍ ، إِلَّا أَنَّ فِيهِ صَلَاحًا فَجَرَى مَجْرَى جِنَايَةِ الْعَبْدِ إِذَا فَدَاهُ الْمُرْتَهِنُ مِنْهَا عَلَى أَنْ يَكُونَ رَهْنًا بِهَا وَبِحَقِّهِ الْأَوَّلِ ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : يَكُونُ جَوَازُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ قَوْلًا وَاحِدًا . فَأَمَّا إِنْ كَانَ الرَّاهِنُ غَائِبًا ، فَإِنْ دَفَعَ الْمُرْتَهِنُ الْكِرَاءَ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ فَلَهُ الرُّجُوعُ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ مَوْجُودًا وَالْمُرْتَهِنُ عَلَى اسْتِئْذَانِهِ قَادِرًا فَلَا رُجُوعَ لِلْمُرْتَهِنِ بِالْكِرَاءِ ، وَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ غَيْرَ مَوْجُودٍ فَهَلْ لِلْمُرْتَهِنِ الرُّجُوعُ بِالْكِرَاءِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
بَابُ مَا يُفْسِدُ الرَّهْنَ مِنَ الشَّرْطِ وَمَا لَا يُفْسِدُهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ
مَسْأَلَةٌ إِنِ اشْتَرَطَ الْمُرْتَهِنُ مِنْ مَنَافِعِ الرَّهْنِ شَيْئًا فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ
بَابُ مَا يُفْسِدُ الرَّهْنَ مِنَ الشَّرْطِ وَمَا لَا يُفْسِدُهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " إِنِ اشْتَرَطَ الْمُرْتَهِنُ مِنْ مَنَافِعِ الرَّهْنِ شَيْئًا فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : عُقِدَ هَذَا الْبَابُ وَمُقَدَّمَتُهُ وَمَا تُبْنَى عَلَيْهِ مَسَائِلُهُ أَنَّ الشَّرْطَ فِي الرَّهْنِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : مَا كَانَ مِنْ مُوجِبَاتِهِ . وَالثَّانِي : مَا كَانَ مِنْ جَائِزَاتِهِ . وَالثَّالِثُ : " مَا كَانَ مِنْ مَمْنُوعَاتِهِ النَّاقِصَةِ . وَالرَّابِعُ : مَا كَانَ مِنْ مَمْنُوعَاتِهِ الزَّائِدَةِ . فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ مِنْهَا وَهُوَ مَا كَانَ مِنْ مُوجِبَاتِهِ ، فَمِثْلُ اشْتِرَاطِ سُقُوطِ ضَمَانِهِ عَنْ مُرْتَهِنِهِ ، وَتَمْلِيكِ مَنَافِعِهِ لِرَاهِنِهِ ، وَبَيْعِهِ عِنْدَ حُلُولِ أَجَلِهِ ، وَقَضَاءِ الْحَقِّ مِنْ ثَمَنِهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ قَبْضِهِ ، وَهَذِهِ وَمَا بَيَّنَّا كُلُّهَا مِنْ مُوجِبَاتِ الرَّهْنِ لَوْ لَمْ يَشْتَرِطْهَا لَوَجَبَتْ وَإِذَا اشْتَرَطَهَا تَأَكَّدَتْ . وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي مِنْهَا وَهُوَ مَا كَانَ مِنْ جَائِزَاتِهِ ، فَمِثْلُ اشْتِرَاطِ وَضْعِهِ عَلَى يَدِ عَدْلٍ يَرْضَيَانِ بِهِ ، وَالتَّوْكِيلِ فِي بَيْعِهِ نِيَابَةً لِرَاهِنِهِ وَمُرْتَهِنِهِ ، فَإِنْ شُرِطَ هَذَا مَعَ الْعَقْدِ أَوْ بَعْدَهُ صَحَّ الْعَقْدُ وَجَازَ الشَّرْطُ ، وَإِنْ أَخَلَّا بِتَعْيِينِهِ وَبِالشَّرْطِ صَحَّ الْعَقْدُ وَسَقَطَ الشَّرْطُ ، فَأَمَّا حُلُولُ الرَّهْنِ وَتَأْجِيلُهُ فَلَيْسَ مِنْ جَائِزَاتِ الرَّهْنِ ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ مُوجِبَاتِ الدَّيْنِ لَا عَقْدِ الرَّهْنِ ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِحَسَبِ الدَّيْنِ مِنْ حُلُولِهِ وَتَأْجِيلِهِ ، فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَقْدُ الرَّهْنِ حَالًّا ، فَإِنْ عُقِدَ مُؤَجَّلًا بَطَلَ : لِأَنَّ الرَّهْنَ مِمَّا أَمْكَنَ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْهُ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِهِ ، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَقْدُ الرَّهْنِ مُؤَجَّلًا ، فَإِنْ عَقَدَهُ حَالًّا بَطَلَ : لِأَنَّ الرَّهْنَ مَا أَمْكَنَ اسْتِدَامَةَ التَّوَثُّقِ إِلَى حُلُولِ الدَّيْنِ : فَلِذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُلُولُ الرَّهْنِ وَتَأْجِيلُهُ عَلَى حَسَبِ الدَّيْنِ وَتَأْجِيلِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ مِنْهَا : وَهُوَ مَا كَانَ مِنْ مَمْنُوعَاتِهِ النَّاقِصَةِ قَبْلَ اشْتِرَاطِ تَأْخِيرِ بَيْعِهِ شَهْرًا بَعْدَ حُلُولِ أَجَلِهِ أَوْ يَمْتَنِعُ مِنْ بَيْعِهِ عِنْدَ حُلُولِهِ إِلَّا بِاخْتِيَارِ رَاهِنِهِ ، أَوْ يُبَاعُ بِيَمِينٍ عِنْدَ
اسْتِحْقَاقِ بَيْعِهِ ، فَإِذَا بِيعَ لَمْ يَسْتَوْفِ جَمِيعَ الْحَقِّ مِنْ ثَمَنِهِ ، فَهَذِهِ وَمَا شَاءَ كُلُّهَا شُرُوطٌ يَمْنَعُ الرَّهْنُ مِنْهَا ، وَهِيَ شُرُوطٌ نَاقِصَةٌ فَكَانَتْ بَاطِلَةً ، لِمُنَافَاتِهَا مُقْتَضَى الْعَقْدِ ، وَكَانَ الرَّهْنُ بَاطِلًا لِأَنَّهَا تَمْنَعُ مِنْ مُوجَبِ الرَّهْنِ ، وَإِذَا بَطَلَ الرَّهْنُ بِهَا ، فَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ فَهَلْ يَبْطُلُ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِبُطْلَانِهِ ، لِأَنَّ الرَّهْنَ مِنْ مُقَابَلَةِ جُزْءٍ مِنَ الثَّمَنِ ، بِدَلِيلِ أَنَّ الثَّمَنَ فِي الْعُرْفِ يَزِيدُ بِعَدَمِهِ ، وَيَنْقُصُ بِاشْتِرَاطِهِ كَالْخِيَارِ وَالْأَجَلِ ، وَإِذَا بَطَلَ الرَّهْنُ بَطَلَ مِنَ الثَّمَنِ مَا قَابَلَهُ وَذَلِكَ مَجْهُولٌ ، وَيُؤَدِّي إِلَى جَهَالَةِ بَاقِي الثَّمَنِ ، وَالثَّمَنُ الْمَجْهُولُ يُبْطِلُ صِحَّةَ الْبَيْعِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي إِنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ ، وَالْمُرْتَهِنُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ وَفَسْخِهِ ، وَإِنَّمَا كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا وَإِنْ بَطَلَ الرَّهْنُ : لِأَنَّ الرَّهْنَ عَقْدٌ يَصِحُّ إِفْرَادُهُ عَنِ الْبَيْعِ ، فَإِذَا اقْتَرَنَ بِهِ وَجَبَ أَنْ يَخْتَصَّ بِحُكْمِهِ فَلَا يَكُونُ فَسَادُهُ مُوجِبًا لِفَسَادِ الْبَيْعِ الْمُقْتَرِنِ بِهِ ، كَالصَّدَاقِ الَّذِي لَمَّا صَحَّ أَنْ يَكُونَ مُفْرَدًا عَنِ النِّكَاحِ لَمْ يَكُنْ بُطْلَانُهُ مُبْطِلًا لِلنِّكَاحِ ، وَبِهَذَا فَارَقَ الْخِيَارَ وَالْأَجَلَ الَّذَيْنِ لَمَّا لَمْ يُمْكِنْ إِفْرَادُهُمَا عَنِ الْعَقْدِ كَانَ بُطْلَانُهُمَا مُبْطِلًا لِلْعَقْدِ ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ : لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : إِنَّ الرَّهْنَ فِي مُقَابَلَةِ جُزْءٍ مِنَ الثَّمَنِ لِجَوَازِ اشْتِرَاطِهِ فِي الْقَرْضِ الَّذِي لَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ بِشَرْطٍ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الضَّرْبُ الرَّابِعُ مِنْهَا : وَهُوَ مَا كَانَ مِنْ مَمْنُوعَاتِهِ الزَّائِدَةِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ زِيَادَةَ صِفَةٍ فِي الْحُكْمِ . وَالثَّانِي : زِيَادَةً وَثِيقَةً كَالرَّهْنِ . وَالثَّالِثُ : زِيَادَةَ تَمْلِيكٍ مِنَ الرَّهْنِ . فَأَمَّا زِيَادَةُ الصِّفَةِ فِي الْحُكْمِ فَمِثْلُ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُرْتَهِنُ فِي الْعَقْدِ بَيْعَ الرَّهْنِ مَتَى شَاءَ ، أَوْ يَشْتَرِطَ بَيْعَهُ بِأَيِّ ثَمَنٍ شَاءَ فَهَذَا وَمَا شَاءَ كُلُّهُ شُرُوطٌ زَائِدَةٌ عَلَى مُقْتَضَى الرَّهْنِ فَكَانَتْ بَاطِلَةً لِمُنَافَاتِهَا مُقْتَضَى الْعَقْدِ ، وَهَلْ يَبْطُلُ الْعَقْدُ بِبُطْلَانِهَا أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَدْ بَطَلَ لِشَرْطِ مَا يُنَافِيهِ ، وَإِنْ كَانَتْ شُرُوطًا زَائِدَةً ، كَمَا يَبْطُلُ بِاشْتِرَاطِ مَا يُنَافِيهِ مِنَ الشُّرُوطِ النَّاقِصَةِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ الشُّرُوطَ النَّاقِصَةَ تَمْنَعُ بَعْضَ مُوجِبَاتِ الرَّهْنِ فَكَانَتْ مُبْطِلَةً ، وَالشُّرُوطُ الزَّائِدَةُ قَدِ اسْتَوْفَى مَعَهَا مُوجِبَاتِ الرَّهْنِ فَلَمْ تُبْطِلْهُ ، وَأَمَّا زِيَادَةُ الْوَثِيقَةِ فِي الرَّهْنِ فَمِثْلُ أَنْ يَرْهَنَهُ نَخْلًا عَلَى أَنَّ مَا أَثْمَرَتْ كَانَ رَهْنًا مَعَهَا ، أَوْ مَاشِيَةً عَلَى أَنَّ مَا أَنْتَجَتْ كَانَ رَهْنًا مَعَهَا ، أَوْ دَارًا عَلَى أَنَّ مَا اسْتُغِلَّ مِنْ أُجْرَتِهَا كَانَ رَهْنًا مَعَهَا ، فَهَذَا وَمَا يَشَاءُ كُلُّهُ مِنَ الشُّرُوطِ الزَّائِدَةِ فِي وَثِيقَةِ الرَّهْنِ ، وَفِيهَا قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ : إِنَّهَا لَازِمَةٌ وَعَقْدُ الرَّهْنِ بِاشْتِرَاطِهَا صَحِيحٌ وَتَدْخُلُ فِي الرَّهْنِ تَبَعًا لِلرَّهْنِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : إِنَّهَا بَاطِلَةٌ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : غُرْمُهُ وَقْتَ عَقْدِهِ . وَالثَّانِي : جَهَالَةُ قَدْرِهِ . فَعَلَى هَذَا فِي بُطْلَانِ الرَّهْنِ بِبُطْلَانِ هَذَا الشَّرْطِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الرَّهْنَ بَاطِلٌ بِبُطْلَانِ هَذَا الشَّرْطِ ، فَعَلَى هَذَا فِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الرَّهْنَ جَائِزٌ وَإِنْ بَطَلَ هَذَا الشَّرْطُ ، فَعَلَى هَذَا الْبَيْعُ أَجْوَزُ ، وَالْبَائِعُ فِيهِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إِمْضَائِهِ وَفَسْخِهِ لِبُطْلَانِ الشَّرْطِ فِي إِرْهَانِ الْحَادِثِ . وَأَمَّا زِيَادَةُ التَّمْلِيكِ فِي الرَّهْنِ : فَمِثْلُ أَنْ يَرْهَنَ نَخْلًا عَلَى أَنَّ لِلْمُرْتَهِنِ ثَمَرَتَهَا ، أَوْ مَاشِيَةً عَلَى أَنَّ لَهُ نِتَاجَهَا ، أَوْ دَارًا عَلَى أَنَّ لَهُ سُكْنَاهَا ، أَوْ دَابَّةً عَلَى أَنَّ لَهُ رُكُوبَهَا ، فَهَذَا وَمَا شَاءَ كُلُّهَا مِنَ الشُّرُوطِ الزَّائِدَةِ فِي تَمَلُّكِهِ مِنَ الرَّهْنِ إِذَا كَانَتْ مُشْتَرَطَةً فِي رَهْنٍ لَمْ يَخْلُ ذَلِكَ الرَّهْنُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَأْخُوذًا مِنْ دَيْنٍ أَوْ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ ، فَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ مَأْخُوذًا فِي بَيْعٍ كَانَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ كُلُّهَا بَاطِلَةً ، لِأَنَّهَا تَمْلِيكُ أَعْيَانٍ وَمَنَافِعَ بِعَقْدٍ لَا يُوجِبُهَا مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ يُقَابِلُهَا ، وَإِذَا بَطَلَتِ الشُّرُوطُ فَفِي بُطْلَانِ الرَّهْنِ قَوْلَانِ : لِأَنَّهَا شُرُوطٌ زَائِدَةٌ ، وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ لَمْ تَخْلُ هَذِهِ الشُّرُوطُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَكُونَ مَشْرُوطَةً فِي الرَّهْنِ أَوْ فِي الْبَيْعِ ، فَإِنْ كَانَتْ مَشْرُوطَةً فِي الرَّهْنِ كَانَتِ الشُّرُوطُ بَاطِلَةً ، وَفِي بُطْلَانِ الرَّهْنِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ ، فَعَلَى هَذَا فِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ . وَالثَّانِي : جَائِزٌ ، فَعَلَى هَذَا الْبَيْعُ أَجْوَزُ ، وَالْبَائِعُ فِي الْبَيْعِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إِمْضَائِهِ وَفَسْخِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ مَشْرُوطَةً فِي الْبَيْعِ لَمْ يَخْلُ حَالُ الشَّرْطِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَكُونَ أَعْيَانًا أَوْ مَنَافِعَ ، فَإِنْ كَانَتْ أَعْيَانًا كَالثِّمَارِ وَالنِّتَاجِ كَانَ الشَّرْطُ بَاطِلًا وَالْبَيْعُ بَاطِلًا ، لِأَنَّهَا تَصِيرُ مِنْ جُمْلَةِ الثَّمَنِ وَهِيَ أَعْيَانٌ مَجْهُولَةٌ لَمْ تُخْلَقْ فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ تَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ الثَّمَنِ فَبَطَلَتْ وَبَطَلَ الْبَيْعُ بِبُطْلَانِهَا ، وَلَا رَهْنَ ، فَإِنْ كَانَتْ مَنَافِعَ كَسُكْنَى الدَّارِ وَرُكُوبِ الدَّابَّةِ كَانَ كَاشْتِرَاطِهِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ الَّذِي قَدِ ارْتَهَنَ فِيهِ دَارًا عَلَى أَنْ يَسْكُنَهَا سَنَةً ، أَوِ ارْتَهَنَ
فِيهِ دَابَّةً عَلَى أَنْ يَرْكَبَهَا سَنَةً ، فَهَذَا عَقْدٌ قَدْ جَمَعَ بَيْعًا وَإِجَارَةً بِعِوَضٍ وَاحِدٍ لَا يُعْرَفُ مِنْهُ حِصَّةُ الْبَيْعِ مِنْ حِصَّةِ الْإِجَارَةِ ، وَلِلشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْبَيْعَ وَالْإِجَارَةَ جَائِزَانِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الشَّرْطُ لَازِمًا ، وَالْبَيْعُ صَحِيحًا ، وَالرَّهْنُ جَائِزًا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْبَيْعَ وَالْإِجَارَةَ بَاطِلَانِ ، لِأَنَّ الْبَيْعَ وَالْإِجَارَةَ مُخْتَلِفَا الْحُكْمِ ، فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يَجْتَمِعَا فِي الْمَنْفَعَةِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الشَّرْطُ بَاطِلًا ، وَالْبَيْعُ فَاسِدًا ، وَالرَّهْنُ مَحْلُولًا ، فَهَذَا عَقْدُ هَذَا الْبَابِ وَمُقَدِّمَتُهُ وَمَا يُبْنَى عَلَيْهِ مَسَائِلُهُ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ فَالْبَابُ كُلُّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى تِسْعِ مَسَائِلَ مَسْطُورَةٍ ، فَأَوَّلُ مَسَائِلِهِ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَوِ اشْتَرَطَ الْمُرْتَهِنُ مِنْ مَنَافِعِ الرَّهْنِ شَيْئًا فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ ، وَصُورَتُهَا فِي رَهْنٍ مُسْتَقِرٍّ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ ، أَوْ أَرْشِ جِنَايَةٍ ، أَوْ صَدَاقِ زَوْجَةٍ ، أَخَذَ بِهِ رَهْنًا وَشَرَطَ الْمُرْتَهِنُ مَنَافِعَهُ لِنَفْسِهِ ، وَهَذَا الشَّرْطُ بَاطِلٌ بِكُلِّ حَالٍ ، وَفِي بُطْلَانِ الرَّهْنِ قَوْلَانِ : لِأَنَّهَا شُرُوطٌ زَائِدَةٌ ، سَوَاءٌ كَانَ الشَّرْطُ أَعْيَانًا أَوْ مَنَافِعَ ، فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الرَّهْنَ قَدْ بَطَلَ كَانَ الدَّيْنُ مُسْتَقِرًّا بِلَا رَهْنٍ وَلَا خِيَارٍ لَهُ . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الرَّهْنَ لَمْ يَبْطُلْ كَانَ وَثِيقَةً فِي الدَّيْنِ وَلَا خِيَارَ لَهُ .
مَسْأَلَةٌ لَوْ كَانَتْ لَهُ أَلْفٌ فَقَالَ زِدْنِي أَلْفًا عَلَى أَنْ أَرْهَنَكَ بِهِمَا مَعًا رَهْنًا يَعْرِفَانِهِ كَانَ الرَّهْنُ مَفْسُوخًا
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ كَانَتْ لَهُ أَلْفٌ فَقَالَ : زِدْنِي أَلْفًا عَلَى أَنْ أَرْهَنَكَ بِهِمَا مَعًا رَهْنًا يَعْرِفَانِهِ كَانَ الرَّهْنُ مَفْسُوخًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ عَلَيْهِ لِرَجُلٍ أَلْفٌ ، فَقَالَ لِمَنْ لَهُ الْأَلْفُ أَقْرِضْنِي أَلْفًا عَلَى أَنْ أُعْطِيَكَ بِهَا وَبِالْأَلْفِ الْأُولَى عَبْدِي الْفُلَانِيِّ رَهْنًا ، فَهَذَا قَرْضٌ بَاطِلٌ ، وَرَهْنٌ بَاطِلٌ ، وَإِنَّمَا يَبْطُلُ الْقَرْضُ : لِأَنَّهُ شَرَطَ فِيهِ رَهْنًا فِي الْأُولَى فَصَارَ قَرْضًا جَرَّ مَنْفَعَةً ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً فَهُوَ رِبًا وَيَبْطُلُ الرَّهْنُ فِي الْأَلْفِ الْأُولَى وَفِي الْقَرْضِ ، وَإِنَّمَا بَطَلَ فِي الرَّهْنِ لِبُطْلَانِ الْقَرْضِ ، وَبَطَلَ فِي الْأُولَى لِأَنَّ الرَّهْنَ فِيهِمَا كَانَ يَشْرُطُ الْقَرْضَ ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : هَذَا فَاسِدٌ مِنْ جِهَةِ الشَّرْطِ فِي الرَّهْنِ ، وَهُوَ شَرْطٌ زَائِدٌ فَيَكُونُ الشَّرْطُ فِي نَفْسِهِ بَاطِلًا ، وَهَلْ يَبْطُلُ الرَّهْنُ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَالصَّحِيحُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ ، وَهُوَ قَوْلُ سَائِرِ أَصْحَابِنَا .
مَسْأَلَةٌ وَلَوْ قَالَ لَهُ بِعْنِي عَبْدًا بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ أُعْطِيَكَ بِهَا وَبِالْأَلْفِ الَّتِي لَكَ عَلَيَّ بِلَا رَهْنٍ دَارِي رَهْنًا . . .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ قَالَ لَهُ : بِعْنِي عَبْدًا بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ أُعْطِيَكَ بِهَا وَبِالْأَلْفِ الَّتِي لَكَ عَلَيَّ بِلَا رَهْنٍ دَارِي رَهْنًا فَفَعَلَ كَانَ الْبَيْعُ وَالرَّهْنُ مَفْسُوخًا " .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ عَلَيْهِ لِرَجُلٍ أَلْفٌ ، فَقَالَ لِمَنْ لَهُ الْأَلْفُ بِعْنِي عَبْدَكَ بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ أُعْطِيَكَ بِهَا وَبِالْأَلْفِ الَّتِي لَكَ عَلَيَّ بِلَا رَهْنٍ دَارِي هَذِهِ رَهْنًا ، فَهَذَا بَيْعٌ بَاطِلٌ ، وَرَهْنٌ بَاطِلٌ ، أَمَّا بُطْلَانُ الْبَيْعِ ، فَلِأَنَّهُ شَرَطَ فِيهِ رَهْنًا فِيمَا لَا يَسْتَحِقُّ رَهْنًا فَبَطَلَ ، فَكَانَ ذَلِكَ مَضْمُونًا إِلَى الثَّمَنِ فَأَدَّى إِلَى جَهَالَةٍ فِي بَابِ الثَّمَنِ ، وَأَمَّا بُطْلَانُ الرَّهْنِ فَيَبْطُلُ فِي الْبَيْعِ لِبُطْلَانِ الْبَيْعِ وَبَطَلَ فِي الْأَلْفِ الْأُولَى : لِأَنَّ الرَّهْنَ فِيهَا كَانَ بِشَرْطِ الْبَيْعِ ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : هَذَا فَسَادٌ مِنْ جِهَةِ الشَّرْطِ فِي الرَّهْنِ وَهُوَ شَرْطٌ زَائِدٌ فَكَانَ شَرْطًا بَاطِلًا ، وَفِي بُطْلَانِ الرَّهْنِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : إِنَّهُ بَاطِلٌ ، فَعَلَى هَذَا فِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ . وَالثَّانِي : جَائِزٌ ، فَعَلَى هَذَا ؛ الْبَيْعُ جَائِزٌ ، وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَ : لِأَنَّ التَّعْلِيلَ يَقْتَضِيهِ .
مَسْأَلَةٌ لَوْ أَسْلَفَهُ أَلْفًا عَلَى أَنْ يَرْهَنَهُ بِهَا رَهْنًا وَشَرَطَ الْمُرْتَهِنِ لِنَفْسِهِ مَنْفَعَةَ الرَّهْنِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ أَسْلَفَهُ أَلْفًا عَلَى أَنْ يَرْهَنَهُ بِهَا رَهْنًا وَشَرَطَ الْمُرْتَهِنِ لِنَفْسِهِ مَنْفَعَةَ الرَّهْنِ فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ لِأَنَّ ذَلِكَ زِيَادَةٌ فِي الْأَلْفِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : صُورَتُهَا فِي رَجُلٍ اقْتَرَضَ مِنْ رَجُلٍ أَلْفًا عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ بِهَا رَهْنًا مُعَيَّنًا عَلَى أَنَّ لَهُ مَنَافِعَ الرَّهْنِ ، وَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَشْتَرِطَ مَنَافِعَ الرَّهْنِ مِلْكًا لِنَفْسِهِ ، فَهَذَا قَرْضٌ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ يَجُرُّ مَنْفَعَةً ، وَرَهْنٌ بَاطِلٌ : لِأَنَّهُ مَشْرُوطٌ فِي قَرْضٍ قَدْ بَطَلَ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَشْتَرِطَ فِي مَنَافِعِ الرَّهْنِ أَنْ يَكُونَ رَهْنًا وَهِيَ أَعْيَانٌ ، فَالْقَرْضُ لَا يَبْطُلُ ، لِأَنَّ فَسَادَ الرَّهْنِ فِي الْقَرْضِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْقَرْضِ ، وَفِي صِحَّةِ الشَّرْطِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ صَحِيحٌ ، وَتَكُونُ الْمَنَافِعُ رَهْنًا . وَالثَّانِي : أَنَّ الشَّرْطَ بَاطِلٌ ، وَلَا تَكُونُ الْمَنَافِعُ الْحَادِثَةُ رَهْنًا ، فَعَلَى هَذَا فِي بُطْلَانِ الرَّهْنِ قَوْلَانِ . مُسَالَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ كَانَ اشْتَرَى مِنْهُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ فَالْبَيْعُ بِالْخِيَارِ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ أَوْ إِثْبَاتِهِ ، وَالرَّهْنُ وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) قُلْتُ أَنَا : أَصْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ : كُلُّ بَيْعٍ فَاسِدٍ بِشَرْطٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ، وَإِنْ أُجِيزَ حَتَّى يُبْتَدَأَ بِمَا يَجُوزُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ ابْتَاعَ مِنْ رَجُلٍ بَيْعًا وَشَرَطَ أَنْ يُعْطِيَهُ بِثَمَنِهِ رَهْنًا مُعَيَّنًا عَلَى أَنَّ مَنَافِعَ الرَّهْنِ لِلْمُرْتَهِنِ ، وَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : وَهُوَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ : أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ بَاطِلًا ، وَهَلْ يَبْطُلُ الرَّهْنُ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إِنَّهُ بَاطِلٌ ، فَعَلَى هَذَا مِنْ بُطْلَانِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا بَاطِلٌ ، وَالثَّانِي جَائِزٌ ، وَلِلْبَائِعِ الْمُرْتَهِنِ الْخِيَارُ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِلَا رَهْنٍ وَبَيْنَ فَسْخِهِ ، وَإِنَّمَا كَانَ لَهُ فَسْخُهُ وَإِنْ صَحَّ الرَّهْنُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ : لِأَنَّهُ شَرَطَ مَنَافِعَهُ لِنَفْسِهِ ، فَلَمَّا فَاتَهُ الشَّرْطُ ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُرَتِّبُهَا غَيْرَ هَذَا التَّرْتِيبِ ، وَخَرَّجَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : بُطْلَانُ الشَّرْطِ فِي الرَّهْنِ وَالْبَيْعِ . وَالثَّانِي : بُطْلَانُ الشَّرْطِ وَالرَّهْنِ وَجَوَازُ الْبَيْعِ . وَالثَّالِثُ : بُطْلَانُ الشَّرْطِ وَجَوَازُ الرَّهْنِ وَالْبَيْعِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ فِي الْبَيْعِ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمَنَافِعِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَكُونَ أَعْيَانًا كَالنِّتَاجِ وَالثِّمَارِ ، أَوْ آثَارًا كَالسُّكْنَى وَالرُّكُوبِ ، فَإِنْ كَانَتْ أَعْيَانًا كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا : لِأَنَّ الْأَعْيَانَ الْمَعْدُومَةَ صَارَتْ ثَمَنًا فِي الْبَيْعِ ، وَإِذَا بَطَلَ الْبَيْعُ فَلَا رَهْنَ أَصْلًا . وَإِنْ كَانَتْ آثَارًا كَالسُّكْنَى وَالرُّكُوبِ ، فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُقَدَّرَةٍ بِزَمَانٍ وَإِنَّمَا شُرِطَتْ مَا بَقِيَ الرَّهْنُ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ : لِأَنَّ الرَّاهِنَ قَدْ يُعَجِّلُ قَضَاءَ الْحَقِّ أَوْ يُؤَخِّرُهُ ، فَتُجْهَلُ الْمَنَافِعُ الَّتِي هِيَ مُضَافَةٌ إِلَى الثَّمَنِ ، وَكَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا وَالرَّهْنُ مَجْهُولًا ، وَإِنْ كَانَتْ مُقَدَّرَةً بِزَمَانٍ كَأَنَّهُ شَرَطَ سُكْنَى الدَّارِ الْمَرْهُونَةِ سَنَةً ، أَوْ شَرَطَ رُكُوبَ الدَّابَّةِ الْمَرْهُونَةِ شَهْرًا ، فَهَذَا عَقْدٌ قَدْ جَمَعَ بَيْعًا وَإِجَارَةً فَكَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إِنَّهُمَا بَاطِلَانِ وَلَا رَهْنَ . وَالثَّانِي : إِنَّهُمَا جَائِزَانِ وَالرَّهْنُ صَحِيحٌ وَلَا خِيَارَ لِلْبَائِعِ الْمُرْتَهِنِ لِحُصُولِ غَرَضِهِ وَاسْتِيفَائِهِ .
فَصْلٌ : قَدْ ذَكَرْنَا فِي أَصْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ كُلَّ بَيْعٍ فَاسِدٍ بِشَرْطٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَإِنْ أُجْبِرَ حَتَّى يَعْقِدَا بِمَا يَجُوزُ ، وَهَذَا اعْتِرَاضٌ مِنَ الْمُزَنِيِّ عَلَى الضَّرْبِ الْأَوَّلِ الَّذِي هُوَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ ، ظَنَّ فِيهِ أَنَّ الْبَيْعَ إِذَا بَطَلَ بِفَسَادِ الشَّرْطِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ جَعَلَ لِلْمُرْتَهِنِ الْبَائِعِ فِيهِ الْخِيَارَ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِلَا رَهْنٍ وَبَيْنَ فَسْخِهِ ، فَقَالَ : كَيْفَ يُجْعَلُ الْخِيَارُ فِي بَيْعٍ فَاسِدٍ ، وَهَذَا غَلَطٌ
مِنَ الْمُزَنِيِّ وَهِمَ فِيهِ عَلَى الشَّافِعِيِّ ، لِأَنَّ الْبَيْعَ إِذَا بَطَلَ لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ إِمْضَاؤُهُ ، وَإِنَّمَا جَعَلَ الشَّافِعِيُّ لِلْبَائِعِ الْخِيَارَ فِي إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِلَا رَهْنٍ إِذَا قِيلَ بِبُطْلَانِ الرَّهْنِ وَجَوَازِ الْبَيْعِ .
الشُّرُوطَ الَّتِي يَمْنَعُ مِنْهَا الرَّهْنُ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوِ اشْتَرَطَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ أَنْ لَا يُبَاعَ الرَّهْنُ عِنْدَ مَحَلِّ الْحَقِّ إِلَّا بِمَا يُرْضِي الرَّاهِنَ أَوْ حَتَى يَبْلُغَ كَذَا أَوْ بَعْدَ مَحَلِّ الْحَقِّ بِشَهْرٍ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ كَانَ الرَّهْنُ فَاسِدًا حَتَى لَا يَكُونَ دُونَ بَيْعِهِ حَائِلٌ عِنْدَ مَحَلِّ الْحَقِّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الشُّرُوطَ الَّتِي يَمْنَعُ مِنْهَا الرَّهْنُ ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهَا : شُرُوطٌ نَاقِصَةٌ . وَالثَّانِي : شُرُوطٌ زَائِدَةٌ . فَأَمَّا الشُّرُوطُ النَّاقِصَةُ : فَهِيَ مَا شَرَطَهَا الرَّاهِنُ لِنَفْسِهِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ ، وَأَمَّا الشُّرُوطُ الزَّائِدَةُ فَهِيَ مَا شَرَطَهَا الْمُرْتَهِنُ لِنَفْسِهِ عَلَى الرَّاهِنِ ، فَإِذَا كَانَ الشَّرْطُ نَاقِصًا كَاشْتِرَاطِ الرَّاهِنِ لِنَفْسِهِ أَنْ لَا يُبَاعَ إِلَّا بِمَا يَرْضَى ، أَوْ لَا يُبَاعَ إِلَّا بِمَا سَمَّى ، أَوْ لَا يُبَاعَ إِلَّا بَعْدَ مَحَلِّ الْحَقِّ بِشَهْرٍ ، أَوْ لَا يُبَاعَ مِنْهُ إِلَّا الْبَعْضُ فَهَذَا شَرْطٌ بَاطِلٌ لِمُنَافَاتِهِ الرَّهْنَ ، لِأَنَّ الرَّهْنَ يُوجِبُ بَيْعَهُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْحَقِّ ، رَضِيَ الرَّاهِنُ أَوْ لَمْ يَرْضَ ، وَبِثَمَنِ مِثْلِهِ وَإِنْ لَمْ يُسَمَّ عِنْدَ مَحَلِّ الْحَقِّ ، وَيُبَاعُ مِنْهُ بِقَدْرِ الْحَقِّ ، وَإِنْ كَانَ الْأَجَلُ وَالشَّرْطُ إِذْنًا فِي الْعَقْدِ لَوَجَبَ بُطْلَانُ الشَّرْطِ وَالْعَقْدِ ، وَإِذَا صَحَّ بِمَا ذَكَرْنَا بِأَنَّ الشَّرْطَ وَالْعَقْدَ بَاطِلَانِ فَفِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ . وَالثَّانِي : جَائِزٌ . وَلِلْبَائِعِ الْخِيَارُ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ بَيْنَ الْإِمْضَاءِ وَالْفَسْخِ ، وَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ زَائِدًا فَقَدْ تَقَدَّمَ مِثَالُهُ ، فَإِذَا بَطَلَ الشَّرْطُ كَانَ فِي بُطْلَانِ الرَّهْنِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ كَالشَّرْطِ فِي النَّاقِصِ . وَالثَّانِي : الرَّهْنُ جَائِزٌ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الشَّرْطِ النَّاقِصِ وَالشَّرْطِ الزَّائِدِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ النَّاقِصَ قَدْ أَسْقَطَ بَعْضَ مُوجِبَاتِ الرَّهْنِ فَأَبْطَلَهُ ، وَالزَّائِدَ قَدِ اسْتَوْفَى مَعَهُ مُوجِبَاتِ الرَّهْنِ فَلَمْ يُبْطِلْهُ . وَالثَّانِي : أَنَّ الشَّرْطَ النَّاقِصَ مُقْتَرِنٌ بِالْعَقْدِ فِي الْحَالِ ، وَالزَّائِدَ مُنْتَظَرٌ فِي ثَانِي الْحَالِ ، فَصَارَ الرَّهْنُ بِالشَّرْطِ النَّاقِصِ مُقْتَرِنًا وَمِنَ الشَّرْطِ خَالِيًا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ رَهَنَهُ نَخْلًا عَلَى أَنَّ مَا أَثْمَرَتْ أَوْ مَاشِيَةً عَلَى أَنَّ مَا نَتَجَتْ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الرَّهْنِ كَانَ الرَّهْنُ مِنَ النَّخْلِ وَالْمَاشِيَةِ رَهْنًا وَلَمْ يَدْخُلْ مَعَهُ ثَمَرُ الْحَائِطِ وَلَا نِتَاجُ الْمَاشِيَةِ إِذَا كَانَ الرَّهْنُ بِحَقٍّ وَاجِبٍ قَبْلَ الرَّهْنِ ، وَهَذَا كَرَجُلٍ رَهَنَ مِنْ رَجُلٍ دَارًا عَلَى أَنْ يَرْهَنَهُ أُخْرَى غَيْرَ أَنَّ الْبَيْعَ إِنْ وَقَعَ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ فُسِخَ الرَّهْنُ وَكَانَ الْبَائِعُ بِالْخِيَارِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ لَهُ الشَّرْطُ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) قُلْتُ أَنَا : وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ هَذَا جَائِزٌ فِي قَوْلِ مَنْ أَجَازَ أَنْ يَرْهَنَهُ عَبْدَيْنِ فَيُصِيبَ أَحَدَهُمَا حُرًّا فَيُجِيزَ الْجَائِزَ وَيَرُدَّ الْمَرْدُودَ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) وَفِيهَا قَوْلٌ آخَرُ يَفْسُدُ كَمَا يَفْسُدُ الْبَيْعُ إِذَا جَمَعَتِ الصَّفْقَةُ جَائِزًا وَغَيْرَ جَائِزٍ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) قُلْتُ أَنَا : مَا قَطَعَ بِهِ وَأَثْبَتَهُ أَوْلَى ، وَجَوَابَاتُهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى بِالَّذِي قَطَعَ بِهِ شَبِيهٌ ، وَقَدْ قَالَ : لَوْ تَبَايَعَا عَلَى أَنْ يَرْهَنَهُ هَذَا الْعَصِيرَ فَرَهَنَهُ إِيَّاهُ فَإِذَا هُوَ مِنْ سَاعَتِهِ خَمْرٌ فَلَهُ الْخِيَارُ فِي الْبَيْعِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ لَهُ الرَّهْنُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ ابْتَاعَ بَيْعًا وَشَرَطَ فِيهِ رَهْنًا عَلَى أَنَّ مَنَافِعَ الرَّهْنِ دَاخِلَةٌ فِي الرَّهْنِ حكمه ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمَنَافِعِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَكُونَ أَعْيَانًا أَوْ آثَارًا ، فَإِنْ كَانَتِ الْمَنَافِعُ آثَارًا كَدَارٍ ارْتَهَنَهَا وَشَرَطَ مَعَهَا ارْتِهَانَ سُكْنَاهَا ، أَوْ دَابَّةٍ ارْتَهَنَهَا وَشَرَطَ مَعَهَا ارْتِهَانَ رُكُوبِهَا ، فَهَذَا شَرْطٌ بَاطِلٌ ، لِأَنَّ ارْتِهَانَ سُكْنَى الدَّارِ وَرُكُوبِ الدَّابَّةِ لَا يَصِحُّ : لِأَنَّ الرَّهْنَ مَا أَمْكَنَ اسْتِيفَاءَ الْحَقِّ مِنْهُ عِنْدَ مَحَلِّهِ ، وَالرُّكُوبُ وَالسُّكْنَى يَتْلِفُ بِمُضِيِّهِ ، وَإِذَا كَانَ الشَّرْطُ بَاطِلًا فَفِي بُطْلَانِ الرَّهْنِ قَوْلَانِ ، وَإِذَا بَطَلَ الرَّهْنُ فَفِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَنَافِعُ أَعْيَانًا كَنَخْلٍ ارْتَهَنَهَا وَشَرَطَ مَعَهَا ارْتِهَانَ مَا يَحْدُثُ مِنْ ثَمَرَتِهَا ، أَوْ مَاشِيَةٍ ارْتَهَنَهَا وَشَرَطَ مَعَهَا ارْتِهَانَ مَا يَحْدُثُ مِنْ نِتَاجِهَا فَإِنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ أَنَّ الشَّرْطَ فِي ارْتِهَانِ مَا يَحْدُثُ مِنَ الثَّمَرَةِ وَالنِّتَاجِ بَاطِلٌ . وَقَالَ فِي كِتَابِ الرَّهْنِ الْقَدِيمِ وَفِي الرَّهْنِ الصَّغِيرِ مِنَ الْجَدِيدِ : وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ إِذَا تَشَارَطَا عِنْدَ الرَّهْنِ أَنْ يَكُونَ مَا يَحْدُثُ مِنَ النِّتَاجِ وَالثَّمَرَةِ رَهْنًا يُشْبِهُ أَنْ يَجُوزَ عِنْدِي ، وَإِنَّمَا أَجَزْتُهُ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ أَنَّهُ لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ ، ثُمَّ احْتَجَّ بِمَا رَوَاهُ مُطَرِّفُ بْنُ مَازِنٍ " أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَضَى بِالْيَمَنِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيٌّ أَنَّ مَنِ ارْتَهَنَ نَخْلًا فَثَمَرَتُهَا مَحْسُوبَةٌ عَلَى الْمُرْتَهِنِ " ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ فِي شَرْحِهِ وَأَبُو حَامِدٍ فِي جَامِعِهِ يُخَرِّجَانِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الشَّرْطَ فِي ارْتِهَانِ مَا يَحْدُثُ مِنَ الثَّمَرَةِ وَالنِّتَاجِ حكمه جَائِزٌ : لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَعْدُومًا مَجْهُولًا فَهُوَ تَبَعٌ لِمَوْجُودٍ مَعْلُومٍ .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي : إِنَّ الشَّرْطَ فِي ارْتِهَانِ مَا يَحْدُثُ مِنَ الثَّمَرَةِ وَالنِّتَاجِ بَاطِلٌ : لِأَنَّهُ لَمَّا امْتَنَعَ دُخُولُهُ فِي الرَّهْنِ بِغَيْرِ شَرْطٍ صَارَ رَهْنًا مَقْصُودًا فَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ تَبَعًا فَجَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الرَّهْنِ إِنْ كَانَ مُفْرَدًا ، فَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَمْتَنِعُ مِنْ تَخْرِيجِ الشَّرْطِ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَيَقُولُ هُوَ بَاطِلٌ قَوْلًا وَاحِدًا . وَمَا قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ لَيْسَ بِنَصٍّ صَرِيحٍ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حِكَايَةً عَنْ غَيْرِهِ وَهُوَ الْعَبَّاسُ عَلَى قَوْلِهِ ، فَإِذَا قِيلَ بِصِحَّةِ الشَّرْطِ كَانَ الرَّهْنُ صَحِيحًا وَالْبَيْعُ لَازِمًا ، وَلَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ الْبَائِعِ . وَإِذَا قِيلَ بِبُطْلَانِ الشَّرْطِ فَفِي بُطْلَانِ الرَّهْنِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ ، فَعَلَى هَذَا فِي الْبَيْعِ قَوْلَانِ . وَالثَّانِي : جَائِزٌ فَعَلَى هَذَا الْبَيْعُ جَائِزٌ ، وَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ وَلَهُ مَا شَرَطَهُ مِنِ ارْتِهَانِ مَا يَحْدُثُ مِنْ ثَمَرَةٍ أَوْ نِتَاجٍ . وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يُرَتِّبُ الْمَسْأَلَةَ غَيْرَ هَذَا التَّرْتِيبِ فَيُخَرِّجُ فِيهَا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي إِسْحَاقَ أَرْبَعَةَ أَقَاوِيلَ ، وَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي عَلِيٍّ ثَلَاثَةَ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : أَنَّ الشَّرْطَ وَالرَّهْنَ فِي الْبَيْعِ جَائِزٌ كُلُّهُ . وَالثَّانِي : أَنَّ الشَّرْطَ وَالرَّهْنَ فِي الْبَيْعِ بَاطِلٌ كُلُّهُ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ الشَّرْطَ بَاطِلٌ وَالرَّهْنَ وَالْبَيْعَ جَائِزٌ ، وَلِلْمُرْتَهِنِ الْخِيَارُ ، وَكَانَ الْقَاضِي أَبُو الْقَاسِمِ الْمَيْمُونِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُرَتِّبُ الْمَسْأَلَةَ تَرْتِيبًا ثَالِثًا وَيَقُولُ فِي الْبَيْعِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ ، فَعَلَى هَذَا الرَّهْنُ وَالشَّرْطُ أَبْطَلُ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ فَعَلَى هَذَا فِي الرَّهْنِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ ، فَعَلَى هَذَا الشَّرْطُ أَبْطَلُ . وَالثَّانِي : جَائِزٌ ، فَعَلَى هَذَا فِي الشَّرْطِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ وَلَهُ الْخِيَارُ . وَالثَّانِي : جَازَ وَلَيْسَ لَهُ خِيَارٌ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ اخْتَارَ أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ صَحِيحًا وَإِنْ بَطَلَ الشَّرْطُ ، وَالْبَيْعُ جَائِزًا وَإِنْ بَطَلَ الرَّهْنُ .
وَاسْتَدَلَّ بِصِحَّةِ الرَّهْنِ مَعَ بُطْلَانِ الشَّرْطِ بِمِثْلِهِ ، وَبِصِحَّةِ الْبَيْعِ مَعَ بُطْلَانِ الرَّهْنِ بِمِثْلِهِ . فَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا فِي صِحَّةِ الرَّهْنِ مَعَ بُطْلَانِ الشَّرْطِ فَهِيَ أَنْ قَالَ : لَوِ ارْتَهَنَ عَبْدَيْنِ فَوَجَدَ أَحَدَهُمَا حُرًّا حكمه فَإِنَّ الرَّهْنَ بَاطِلٌ فِي الْحُرِّ جَائِزٌ فِي الْمَمْلُوكِ ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَمَسْأَلَةُ الْكِتَابِ سَوَاءٌ فِي الصُّورَةِ وَالْحُكْمِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْجَوَابِ ، لِأَنَّ الرَّهْنَ بَاطِلٌ فِي الْحُرِّ وَفِي الْمَمْلُوكِ عَلَى قَوْلَيْنِ ، كَمَا أَنَّ الرَّهْنَ إِذَا بَطَلَ فِي الثَّمَرَةِ وَالنِّتَاجِ كَانَ الرَّهْنُ عَلَى قَوْلَيْنِ فَلَمْ يَكُنْ لِلْمُزَنِيِّ فِيمَا اسْتَشْهَدَ بِهِ دَلِيلٌ ، وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ مَعَ بُطْلَانِ الرَّهْنِ فَهِيَ إِنْ قَالَ : لَوِ ارْتَهَنَ مِنْهُ عَصِيرًا حُلْوًا فَصَارَ مِنْ سَاعَتِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ خَمْرًا إِذِ الرَّهْنُ فِي الْعَصِيرِ حكمه بَاطِلٌ ، وَالْبَيْعُ جَائِزٌ ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي الْعَصِيرِ تُخَالِفُ مَسْأَلَتَنَا فِي الصُّورَةِ وَالْحُكْمِ ، لِأَنَّ الرَّهْنَ فِي الْعَصِيرِ عَقْدٌ صَحِيحٌ ، وَإِنَّمَا طَرَأَ الْفَسَادُ بَعْدَ صِحَّتِهِ بِمَا حَدَثَ فِيهِ مِنَ الشِّدَّةِ الَّتِي صَارَ بِهَا خَمْرًا ، فَجَرَى مَجْرَى تَلَفِ الرَّهْنِ وَمَوْتِ الْعَبْدِ بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ فَبَطَلَ الرَّهْنُ لِتَلَفِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَلَمْ يَبْطُلْ لِصِحَّةِ الرَّهْنِ حِينَ الْعَقْدِ فَكَانَ لِلْمُرْتَهِنِ الْخِيَارُ فِي الْبَيْعِ لِفَوَاتِ مَا شَرَطَهُ مِنَ الرَّهْنِ . وَمَسْأَلَةُ الْكِتَابِ إِنْ كَانَ عَقْدُ الرَّهْنِ فِيهَا فَاسِدًا فَكَانَ فَاسِدُ الرَّهْنِ قَادِحًا فِيمَا قُرِنَ مِنَ الْبَيْعِ ، فَلَمَّا اخْتَلَفَا فِي الشَّرْطِ وَجَبَ أَنْ يَخْتَلِفَا فِي الْحُكْمِ فَلَمْ يَكُنْ فِيمَا اسْتَشْهَدَ بِهِ فِيهَا دَلِيلٌ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ حَقًّا فَقَالَ : قَدْ رَهَنْتُكَهُ بِمَا فِيِهِ وَقَبَضَهُ الْمُرْتَهِنُ وَرَضِيَ كَانَ الْحَقُّ رَهْنًا وَمَا فِيهِ خَارِجًا مِنَ الرَّهْنِ إِنْ كَانَ فِيهِ شَيْءٌ لِجَهْلِ الْمُرْتَهِنِ بِمَا فِيهِ ، وَأَمَّا الْخَرِيطَةُ فَلَا يَجُوزُ الرَّهْنُ فِيهَا إِلَّا بِأَنْ يَقُولَ دُونَ مَا فِيهَا ، وَيَجُوزُ فِي الْحَقِّ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنَ الْحَقِّ أَنَّ لَهُ قِيمَةً وَالظَّاهِرَ مِنَ الْخَرِيطَةِ أَنْ لَا قِيمَةَ لَهَا وَإِنَمَا يُرَادُ مَا فِيهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا رَهَنَهُ حَقًّا أَوْ خَرِيطَةً وَفِي جَوْفِ ذَلِكَ شَيْءٌ مِنْ ثِيَابٍ أَوْ عَرَضٍ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةٍ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَرْهَنَهُ مَا فِي الْحَقِّ أَوِ الْخَرِيطَةِ دُونَ الْحَقِّ أَوِ الْخَرِيطَةِ فَهَذَا يُنْظَرُ فِيهِ فَإِنْ كَانَا يَعْلَمَانِ مَا فِي الْحَقِّ أَوِ الْخَرِيطَةِ صَحَّ الرَّهْنُ ، وَإِنْ كَانَا يَجْهَلَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا مَا فِي الْحَقِّ أَوِ الْخَرِيطَةِ بَطَلَ الرَّهْنُ ، وَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ فَفِي بُطْلَانِ الرَّهْنِ قَوْلَانِ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَرْهَنَهُ الْحَقَّ أَوِ الْخَرِيطَةَ دُونَ مَا فِيهَا ، فَالرَّهْنُ فِي الْحَقِّ جَائِزٌ ، لِأَنَّ
غَالِبَ الْحِقَاقِ أَنَّ لَهَا قِيمَةً فَجَازَ رَهْنُهَا ، وَالرَّهْنُ فِي الْخَرِيطَةِ بَاطِلٌ : لِأَنَّ غَالِبَ الْخَرِيطَةِ لَا قِيمَةَ لَهَا فَلَمْ يَجُزْ رَهْنُهَا ، فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ مِمَّا لَا قِيمَةَ لِمِثْلِهِ لَمْ يَجُزْ رَهْنُهَا كَالْخَرِيطَةِ ، وَلَوْ كَانَتِ الْخَرِيطَةُ مِمَّا لَهَا قِيمَةٌ جَازَ رَهْنُهَا كَالْحَقِّ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ يَرْهَنَهُ الْحَقَّ وَالْخَرِيطَةَ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ ، فَإِنْ كَانَا يَعْلَمَانِ مَا فِيهَا صَحَّ الرَّهْنُ فِي الْحَقِّ وَالْخَرِيطَةِ مَعَ مَا فِيهَا ، وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْخَرِيطَةُ مِمَّا لَهَا قِيمَةٌ أَوْ لَا : لِأَنَّهَا صَارَتْ تَبَعًا لِمَا لَهُ قِيمَةٌ ، وَإِنْ كَانَا يَجْهَلَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا مَا فِي الْحَقِّ أَوِ الْخَرِيطَةِ كَانَ رَهْنُ مَا فِيهَا بَاطِلًا لِلْجَهْلِ بِهِ ، وَهَلْ يَبْطُلُ الرَّهْنُ فِي الْحَقِّ أَوِ الْخَرِيطَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ . أَحَدُهُمَا : يَبْطُلُ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يُمْنَعُ فِيهِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ ، فَعَلَى هَذَا فِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ . وَالثَّانِي : لَا يَبْطُلُ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ ، فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ الرَّهْنُ فِي الْحَقِّ إِنْ كَانَ لَهُ قِيمَةٌ ، وَيَبْطُلُ فِي الْخَرِيطَةِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا قِيمَةٌ ، وَالْبَيْعُ لَا يَبْطُلُ ، وَالْبَائِعُ مُخَيَّرٌ فِيهِ بَيْنَ الْإِمْضَاءِ وَالْفَسْخِ .
مَسْأَلَةٌ لَوْ شُرِطَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ أَنَّهُ ضَامِنٌ لِلرَّهْنِ وَدَفَعَهُ فَالرَّهْنُ فَاسِدٌ وَغَيْرُ مَضْمُونٍ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ شُرِطَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ أَنَّهُ ضَامِنٌ لِلرَّهْنِ وَدَفَعَهُ فَالرَّهْنُ فَاسِدٌ وَغَيْرُ مَضْمُونٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، لِأَنَّ مِنْ مَذْهَبِنَا أَنَّ الرَّهْنَ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى الْمُرْتَهِنِ . فَإِذَا شُرِطَ لِلرَّاهِنِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ ضَمَانُ الرَّهْنِ كَانَ شَرْطًا بَاطِلًا ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَلَوْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ ، شَرْطُ اللَّهِ أَحَقُّ وَعَقْدُهُ أَوْثَقُ ، وَلِأَنَّ لِلْعُقُودِ أُصُولًا مُقَدَّرَةً ، وَأَحْكَامُهَا مُعْتَبَرَةٌ لَا تُغَيِّرُهَا الشُّرُوطُ عَنْ أَحْكَامِهَا فِي شَرْطِ سُقُوطِ الضَّمَانِ وَإِيجَابِهِ كَالْوَدَائِعِ ، وَالشَّرِكَةُ لَمَّا كَانَتْ غَيْرَ مَضْمُونَةٍ كَالْعُقُودِ لَا تُعْتَبَرُ مَضْمُونَةً بِالشُّرُوطِ وَالْقُرُوضِ ، وَالْعَوَارِي لَمَّا كَانَتْ مَضْمُونَةً بِالْعَقْدِ لَمْ يَسْقُطِ الضَّمَانُ بِالشَّرْطِ كَذَلِكَ الرَّهْنُ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ اشْتِرَاطَ ضَمَانِ الرَّهْنِ فَاسِدٌ وَجَبَ اعْتِبَارُهُ ، فَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي عَقْدِ الرَّهْنِ صَحَّ الرَّهْنُ وَبَطَلَ الشَّرْطُ ، وَلَمْ يَكُنْ بُطْلَانُهُ قَادِحًا فِي صِحَّةِ الرَّهْنِ وَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي عَقْدِ الرَّهْنِ فَهَذَا مِنَ الشُّرُوطِ النَّاقِصَةِ ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ مِنْ جِهَةِ الرَّاهِنِ يَنْفِي بَعْضَ أَحْكَامِ الرَّهْنِ فَكَانَ الرَّهْنُ بِاشْتِرَاطِهِ فِيهِ بَاطِلًا قَوْلًا وَاحِدًا ، وَهَلْ يَبْطُلُ الْبَيْعُ الْمَشْرُوطُ فِيهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَبْطُلُ . وَالثَّانِي : لَا يَبْطُلُ ، لَكِنْ يَكُونُ الْبَائِعُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ فَسْخِ الْبَيْعِ وَإِمْضَائِهِ بِلَا رَهْنٍ ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
بَابٌ الرَّاهِنُ غَيْرُ مَضْمُونٍ
بَابٌ الرَّاهِنُ غَيْرُ مَضْمُونٍ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي فُدَيْكٍ ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ ، وَالرَّهْنُ مِنْ صَاحِبِهِ الَّذِي رَهَنَهُ ، لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ وَوَصَلَهُ ابْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ أَوْ مِثْلَ مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ إِذْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّهْنُ مِنْ صَاحِبِهِ فَمَنْ كَانَ مِنْهُ شَيْءٌ فَضَمَانُهُ مِنْهُ لَا مِنْ غَيْرِهِ ثَمَّ أَكَدَهُ بِقَوْلِهِ لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ وَغُنْمُهُ سَلَامَتُهُ وَزِيَادَتُهُ ، وَغُرْمُهُ عَطَبُهُ وَنُقْصَانُهُ ، أَلَا تَرَى لَوِ ارْتَهَنَ خَاتَمًا بِدِرْهَمٍ يُسَاوِي دِرْهَمًا فَهَلَكَ الْخَاتَمُ فَمَنْ قَالَ ذَهَبَ دِرْهَمُ الْمُرْتَهِنِ بِالْخَاتَمِ زَعَمَ أَنَّهُ غُرْمُهُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ ؛ لِأَنَّ دِرْهَمَهُ ذَهَبَ ، وَكَانَ الرَّاهِنُ بَرِيئًا مِنْ غُرْمِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ ثَمَنَهُ مِنَ الْمُرْتَهِنِ وَلَمْ يَغْرَمْ لَهُ شَيْئًا ، وَأَحَالَ مَا جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( قَالَ ) وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ لَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُرْتَهِنُ بِأَنْ يَدَعَ الرَّاهِنُ قَضَاءَ حَقِّهِ عِنْدَ مَحَلِّهِ ، ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) مِلْكُ الرَّهْنِ لِرَبِّهِ وَالْمُرْتَهِنُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ بِأَخْذِهِ وَلَا مُخَاطِرٍ بِارْتِهَانِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ إِذَا هَلَكَ بَطَلَ مَالُهُ كَانَ مُخَاطِرًا بِمَالِهِ ، وَإِنَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَثِيقَةً لَهُ ، وَكَانَ خَيْرًا لَهُ تَرْكُ الِارْتِهَانِ بِأَنْ يَكُونَ مَالُهُ مَضْمُونًا فِي جَمِيعِ مَالِ غَرِيمِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الرَّهْنِ هَلْ هُوَ مَضْمُونٌ عَلَى الْمُرْتَهِنِ أَوْ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى خَمْسَةِ مَذَاهِبَ : إِحْدَاهَا : وَهُوَ مَذْهَبُنَا : أَنَّ الرَّهْنَ أَمَانَةٌ لَا يُضْمَنُ إِلَّا بِالتَّعَدِّي ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَمِنَ التَّابِعِينَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ، وَأَبُو ثَوْرٍ . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : أَنَّ الرَّهْنَ مَضْمُونٌ بِأَقَلِّ أَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهِ أَوِ الْحَقِّ الْمَرْهُونِ فِيهِ ، مِثَالُهُ : أَنْ تَكُونَ قِيمَةُ الرَّهْنِ أَلْفًا وَالْحَقُّ أَلْفَيْنِ فَيَكُونَ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ وَهِيَ أَلْفٌ ، وَلَوْ كَانَ قِيمَةُ الرَّهْنِ أَلْفَيْنِ وَالْحَقُّ أَلْفًا كَانَ مَضْمُونًا بِالْحَقِّ وَهُوَ أَلْفٌ ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ ،
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : أَنَّ الرَّهْنَ مَضْمُونٌ بِقِيمَتِهِ وَإِنْ زَادَتْ عَلَى الْحَقِّ وَيَتَرَادَّا فِي الْفَضْلِ ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ أَلْفًا وَالْحَقُّ أَلْفَيْنِ ضَمِنَهُ الْمُرْتَهِنُ بِأَلْفٍ وَرَجَعَ عَلَى الرَّاهِنِ بِبَقِيَّةِ الْقِيمَةِ وَهِيَ أَلْفٌ ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمِنَ التَّابِعِينَ عَطَاءٌ ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ إِسْحَاقُ . وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ : أَنَّ الرَّهْنَ مَضْمُونٌ بِالْحَقِّ فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ أَلْفَيْنِ وَقِيمَةُ الرَّهْنِ أَلْفًا ضَمِنَهُ بِالْحَقِّ وَهُوَ أَلْفَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ أَلْفًا وَقِيمَةُ الرَّهْنِ أَلْفَيْنِ ضَمِنَهُ بِالْحَقِّ وَهُوَ أَلْفٌ ، حَتَّى قَالَ أَصْحَابُ هَذَا الْمَذْهَبِ : لَوْ كَانَ قِيمَةُ الرَّهْنِ دِرْهَمًا وَالْحَقُّ أَلْفًا ضَمِنَهُ بِأَلْفٍ ، وَبِهِ قَالَ مِنَ التَّابِعِينَ شُرَيْحٌ ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ، وَعَامِرٌ الشَّعْبِيُّ . وَالْمَذْهَبُ الْخَامِسُ : أَنَّهُ إِنْ كَانَ تَلَفُهُ ظَاهِرًا كَالنُّصْبِ وَالْحَرِيقِ وَانْهِدَامِ الدَّارِ وَنَفَاقِ الْحَيَوَانِ فَهُوَ غَيْرُ مَضْمُونٍ ، وَإِنْ كَانَ تَلَفُهُ بَاطِنًا كَالسَّرِقَةِ فَهُوَ مَضْمُونٌ بِقِيمَتِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ ، فَهَذِهِ جُمْلَةُ مَذَاهِبِ النَّاسِ فِي ضَمَانِ الرَّهْنِ .
فَصْلٌ : فَمَنْ أَوْجَبَ ضَمَانَهُ اسْتَدَلَّ بِرِوَايَةِ مُصْعَبِ بْنِ ثَابِتٍ ، عَنْ عَطَاءٍ ، أَنَّ رَجُلًا رَهَنَ عِنْدَ رَجُلٍ فَرَسًا فَنَفَقَ الْفَرَسُ فِي يَدَيِ الْمُرْتَهِنِ فَاخْتَلَفَا فَتَدَافَعَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَهَبَ حَقُّكَ ، قَالُوا : فَلَمَّا خُيِّرَ الْمُرْتَهِنُ بِذَهَابِ حَقِّهِ لَمْ يَخْلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ . إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَخْبَرْ بِذَهَابِ وَثِيقَتِهِ أَوْ بِذَهَابِ الْمُطَالَبَةِ بِبَدَلِهِ أَوْ بِذَهَابِ دَيْنِهِ ، فَلَمْ يَحْسُنْ أَنْ يُخْبِرَ بِذَهَابِ وَثِيقَتِهِ لِأَنَّ هَذَا يُعْلَمُ ضَرُورَةً بِالْحُسْنِ وَلَمْ يَكُنِ اخْتِلَافُهُمَا فِيهِ ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُخْبِرَهُ بِذَهَابِ الْمُطَالَبَةِ بِبَدَلِهِ ، لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِبَدَلِهِ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً قَبْلَ تَلَفِهِ فَيَذْهَبُ بِتَلَفِهِ ، فَعُلِمَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ بِذَهَابِ دَيْنِهِ ، وَبِرِوَايَةِ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ ، عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الرَّهْنُ بِمَا فِيهِ . قَالُوا : فَلَمَّا جَعَلَ الرَّهْنَ بِمَا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَلَفُهُ مُسْقِطًا لِلْحَقِّ . قَالُوا : وَلِأَنَّ الْحَقَّ مُتَعَلِّقٌ بِالرَّهْنِ كَتَعَلُّقِ أَرْشِ الْجِنَايَةِ بِالْعَبْدِ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ تَلَفَ الْعَبْدِ الْجَانِي مُسْقِطٌ لِلْأَرْشِ ، فَكَذَا تَلَفُ الرَّهْنِ مُسْقِطٌ لِلْحَقِّ .
وَتَحْرِيرُهُ عِلَّةُ أَنَّهُ اسْتِيفَاءُ حَقٍّ تَعَلَّقَ ابْتِدَاءً بِالْعَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ بِتَلَفِ الْعَيْنِ كَالْعَبْدِ الْجَانِي . وَقَوْلُهُمُ ابْتِدَاءً احْتِرَازًا مِنْ وَلَدِ الْمَرْهُونِ : لِأَنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْحَقَّ يَتَعَلَّقُ بِهِ ، وَلَا يُسْقِطُ بِتَلَفِهِ لِأَنَّ حَقَّ الِاسْتِيفَاءِ لَمْ يَتَعَلَّقْ فِي الِابْتِدَاءِ ، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ مُحْتَبَسٌ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ بِالْحَقِّ كَمَا أَنَّ الْمَبِيعَ مُحْتَبَسٌ فِي يَدِ الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ ، فَلَمَّا كَانَ تَلَفُ الْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ مُوجِبًا لِسُقُوطِ الثَّمَنِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَلَفُ الرَّهْنِ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ مُوجِبًا لِسُقُوطِ الْحَقِّ . وَتَحْرِيرُهُ عِلَّةُ أَنَّهُ مُحْتَبِسٌ بِعَقْدٍ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِيثَاقِ لِاسْتِيفَاءِ مَالٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَلَفُهُ مُوجِبًا لِسُقُوطِ الْمَالِ كَالْمَبِيعِ إِذَا تَلِفَ فِي يَدِ الْبَائِعِ ، وَلِأَنَّ أَخْذَ الشَّيْءِ عَلَى وَجْهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِتَلَفِهِ ضَمَانُ ذَلِكَ الْوَجْهِ كَالسَّوْمِ ، لِأَنَّ الْمُسَاوِمَ يَأْخُذُ الشَّيْءَ عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ ، فَإِذَا تَلِفَ فِي يَدِهِ لَزِمَهُ الْبَدَلُ ، كَذَلِكَ الْمُرْتَهِنُ يَأْخُذُ الرَّهْنَ عَلَى وَجْهِ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ ، فَإِذَا تَلِفَ فِي يَدِهِ تَلِفَ بِالْحَقِّ . وَتَحْرِيرُهُ عِلَّةُ أَخْذٍ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ إِذَا تَلِفَ حُكْمَ الْمُسْتَوْفَى كَالسَّوْمِ ، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ فِي مُقَابَلَةِ الْحَقِّ فَلَمَّا كَانَ الْحَقُّ مَضْمُونًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا فِي مُقَابَلَتِهِ مِنَ الرَّهْنِ مَضْمُونًا كَالدُّيُونِ ، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ مَضْمُونٍ كَانَ مَا فِي مُقَابَلَتِهِ مِنَ الْحَقِّ غَيْرَ مَضْمُونٍ كَالْوَدَائِعِ . تَحْرِيرُهُ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ فِي مُقَابَلَةِ حَقٍّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ فِي الضَّمَانِ حُكْمَ مَا فِي مُقَابَلَتِهِ مِنَ الْحَقِّ كَالْقُرُوضِ الْمَأْخُوذَةِ فِي الدَّيْنِ ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ يَقْضِي إِلَى زَوَالِ الْمِلْكِ فِي ثَانِي حَالٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا فِي الْحَالِ كَالْقَرْضِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ رِوَايَةُ مَعْمَرٍ وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاشِدٍ وَابْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ مِنْ صَاحِبِهِ الَّذِي رَهَنَهُ ، لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ . فَالدَّلَالَةُ مِنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : قَوْلُهُ لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : لَهُ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَا يَمْلِكُهُ عِنْدَ تَأَخُّرِ الْحَقِّ . وَالثَّانِي : أَنْ لَا يَكُونَ غَلْقًا فَيَتْلَفَ الْحَقُّ بِتَلَفِهِ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ : لِأَنَّ اللَّفْظَ الْمُبْهَمَ إِذَا لَمْ يُعْلَمْ مُرَادُهُ بِمُجَرَّدِهِ لَمْ يَجُزِ ادِّعَاءُ الْعُمُومِ فِي مُوجَبِهِ حَتَّى يَكُونَ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ يَتَنَاوَلُ شَيْئَيْنِ فَصَاعِدًا ، فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ ادِّعَاءُ الْعُمُومِ فِيهِ . وَالدَّلَالَةُ الثَّانِيَةُ مِنَ الْخَبَرِ قَوْلُهُ " الرَّهْنُ مِنْ صَاحِبِهِ الَّذِي رَهَنَهُ " يَعْنِي : مِنْ ضَمَانِ
صَاحِبِهِ ، وَلَا يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ مِلْكِ صَاحِبِهِ ، لِأَنَّ حَرْفَ التَّمْلِيكِ هُوَ اللَّامُ ، فَلَوْ أَرَادَ الْمِلْكَ لَقَالَ : الرَّهْنُ لِصَاحِبِهِ ، وَلَفْظَةُ " مِنْ " مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الضَّمَانِ : لِأَنَّهُ يُقَالُ : هَذَا مِنْ ضَمَانِ فُلَانٍ ، فَلَمَّا قَالَ : " مِنْ صَاحِبِهِ " عُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ : مِنْ ضَمَانِ صَاحِبِهِ ، وَالدَّلَالَةُ الثَّالِثَةُ مِنَ الْخَبَرِ قَوْلُهُ " لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ " قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : غُنْمُهُ زِيَادَتُهُ وَنَمَاؤُهُ ، وَغُرْمُهُ عَطَبُهُ وَنَقْصُهُ . فَإِنْ قِيلَ : الْغُرْمُ فِي اللِّسَانِ هُوَ الْتِزَامُ الْبَدَلِ عَنِ الشَّيْءِ عَنْ تَلَفِهِ وَلَا يَنْطَلِقُ اسْمُ الْغُرْمِ عَلَى مَنْ تَلِفَ الشَّيْءُ مِنْ مَالِهِ . قِيلَ : قَدْ يَنْطَلِقُ اسْمُ الْغُرْمِ عَلَى الْأَمْرَيْنِ مَعًا عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَصِيرُ غَارِمًا لِلْحَقِّ ، ثُمَّ مِنَ الدَّلِيلِ أَيْضًا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [ الْبَقَرَةِ : 282 ] فَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الرَّهْنَ بَدَلًا مِنَ الْكِتَابِ وَالْإِبْدَالِ فِي عَامِّ أَحْكَامِهَا وَفِي حُكْمِ مُبْدَلَاتِهَا ، كَالصِّيَامِ فِي الْكَفَّارَةِ لَمَّا كَانَ بَدَلًا مِنَ الْعِتْقِ كَانَ فِي الْوُجُوبِ كَالْعِتْقِ ، وَكَالتَّيَمُّمِ فِي الطَّهَارَةِ لَمَّا كَانَ بَدَلًا مِنَ الْمَاءِ كَانَ فِي الْوُجُوبِ كَالطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ ، وَإِذَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْبَدَلِ حُكْمَ الْمُبْدَلِ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الشَّاهِدِ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الرَّهْنِ حُكْمَ الْكِتَابِ فَلَمَّا كَانَ تَلَفُ الْكِتَابِ لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْحَقِّ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَلَفُ الرَّهْنِ لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْحَقِّ ، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ كَالضَّمَانِ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الْحَقَّ لَا يَسْقُطُ بِتَلَفِ الضَّامِنِ وَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ بِتَلَفِ الرَّهْنِ . وَتَحْرِيرُهُ عِلَّةُ أَنَّهُ وَثِيقَةٌ فِي الْحَقِّ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ تَلَفُهُ مُسْقِطًا لِلْحَقِّ كَالضَّمَانِ ، وَلِأَنَّ فَاسِدَ كُلِّ عَقْدٍ مَرْدُودٌ إِلَى صَحِيحِهِ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ وَسُقُوطِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيْعَ لَمَّا كَانَ فَاسِدُهُ مَضْمُونًا كَانَ صَحِيحُهُ مَضْمُونًا ، وَالشَّرِكَةُ وَالْمُضَارَبَاتُ لَمَّا كَانَ صَحِيحُهَا غَيْرَ مَضْمُونٍ كَانَ فَاسِدُهَا غَيْرَ مَضْمُونٍ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الرَّهْنَ الْفَاسِدَ غَيْرُ مَضْمُونٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ الصَّحِيحُ غَيْرَ مَضْمُونٍ . وَتَحْرِيرُهُ عِلَّةُ أَنَّهُ عَقْدٌ فَاسِدٌ غَيْرُ مَضْمُونٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ صَحِيحُهُ غَيْرَ مَضْمُونٍ كَالشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَاتِ ، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ قَدْ يَبْطُلُ بِتَلَفِهِ كَمَا يَبْطُلُ بِفَسْخِهِ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ بُطْلَانَهُ بِالْفَسْخِ لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْحَقِّ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بُطْلَانَهُ بِالتَّلَفِ لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْحَقِّ . وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهُ مَعْنًى يُبْطِلُ الرَّهْنَ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُسْقِطَ الْحَقَّ كَالْفَسْخِ ، وَلِأَنَّ الْأُصُولَ مَوْضُوعَةٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ كَانَ بَعْضُهُ غَيْرَ مَضْمُونٍ كَانَ جَمِيعُهُ غَيْرَ مَضْمُونٍ كَالْوَدَائِعِ وَالشَّيْءِ الْمُسْتَأْجَرِ ، وَكُلُّ شَيْءٍ كَانَ بَعْضُهُ مَضْمُونًا كَانَ جَمِيعُهُ مَضْمُونًا كَالْبُيُوعِ وَالْغُصُوبِ ، فَلَمَّا كَانَ بَعْضُ الرَّهْنِ غَيْرَ مَضْمُونٍ وَهُوَ مَا زَادَ عَلَى قَدْرِ الْحَقِّ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهُ غَيْرَ مَضْمُونٍ بِالْحَقِّ . وَقَدْ يَتَحَرَّرُ مِنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَقْبُوضٌ لَا يُوجِبُهُ ضَمَانُ بَعْضِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ ضَمَانُ جَمِيعِهِ كَالْوَدَائِعِ وَالشَّيْءِ الْمُسْتَأْجَرِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَرْهُونٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِالْعَقْدِ غَيْرَ مَضْمُونٍ كَالزِّيَادَةِ عَلَى الْحَقِّ ، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ لِمَنْ لَهُ الْحَقُّ ، فَلَوْ كَانَ مَضْمُونًا بِالْحَقِّ لَكَانَ وَثِيقَةً عَلَى مَنْ لَهُ الْحَقُّ ، وَفِي ذَلِكَ إِبْطَالٌ لِمَعْنَى الرَّهْنِ ، وَهَذَا اسْتِدْلَالُ الشَّافِعِيِّ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُرْتَهِنِ الْفَرَسِ ذَهَبَ حَقُّكَ فَرَاوِيهِ مُصْعَبُ بْنُ ثَابِتٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ ، ثُمَّ هُوَ مُرْسَلٌ : لِأَنَّهُ عَنْ عَطَاءٍ ، وَالْمَرَاسِيلُ عِنْدَنَا لَا يَجِبُ بِهَا الْعَمَلُ ، ثُمَّ هِيَ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَلَى وَجْهِ التَّعَدِّي فَلَزِمَ فِيهِ الضَّمَانُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ خَلَا مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الْمَانِعَةِ مِنْ وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ وَجَاءَ مَجِيئًا يُلْزِمُ الْآخِذَ بِهِ لَكَانَ عَنْ قَوْلِهِ ذَهَبَ حَقُّكَ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : الْمُرَادُ بِهِ حَقُّ الْوَثِيقَةِ ، وَسُقُوطُ حَقِّهِ مِنَ الدَّيْنِ مُسْقِطٌ لِحَقِّهِ مِنَ الْوَثِيقَةِ ، وَلَيْسَ سُقُوطُ حَقِّهِ مِنَ الْوَثِيقَةِ مُسْقِطًا لِحَقِّهِ مِنَ الدَّيْنِ ، فَلَوْ كَانَ أَرَادَ بِهِ ذَهَابَ حَقِّهِ مِنَ الدَّيْنِ لَقَالَ ذَهَبَ حَقُّكَ ، فَلَمَّا قَالَ : ذَهَبَ حَقُّكَ وَأَشَارَ إِلَى حَقٍّ وَاحِدٍ عُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ حَقَّ الْوَثِيقَةِ دُونَ الدَّيْنِ . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُ ذَهَبَ حَقُّكَ ، مَحْمُولٌ عَلَى ذَهَابِ حَقِّهِ مِنْ فَسْخِ الْبَيْعِ : لِأَنَّهُ لَوْ تَلِفَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَكَانَ يَسْتَحِقُّ فَسْخَ الْبَيْعِ ، فَإِذَا تَلِفَ بَعْدَ الْقَبْضِ كَانَ فِي الْجَائِزِ أَنْ يَسْتَحِقَّ فَسْخَ الْبَيْعِ ، فَأَذْهَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقَّهُ فِي الْفَسْخِ بَعْدَ الْقَبْضِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ " الرَّهْنُ بِمَا فِيهِ " إِنْ صَحَّ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ وَثِيقَةٌ بِمَا فِيهِ فَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ مَضْمُونٌ بِمَا فِيهِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ زِيَادَةٌ لِضَمَانٍ لَا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ جَعَلَ الرَّهْنَ بِمَا فِيهِ مَعَ بَقَائِهِ ، وَهُوَ عَلَى بَقَائِهِ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى مُرْتَهِنِهِ حِينَ يَتْلَفُ ، وَإِنَّمَا هُوَ مَعَ بَقَائِهِ وَثِيقَةٌ بِمَا فِيهِ فَلَمْ تَصِحَّ الدَّلَالَةُ مِنْهُ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى تَلَفِ الْعَبْدِ الْجَانِي فَالْمَعْنَى فِي الْعَبْدِ الْجَانِي أَنَّ الْأَرْشَ تَعَلَّقَ بِمَحَلٍّ وَاحِدٍ وَهُوَ رَقَبَةُ الْجَانِي ، فَإِذَا تَلِفَ الْعَبْدُ بُذِلَ الْأَرْشُ كَتَلَفِ مَحَلِّهِ ، وَحَقُّ الْمُرْتَهِنِ مُتَعَلِّقٌ بِمَحَلَّيْنِ ، أَحَدُهُمَا : ذِمَّةُ الرَّاهِنِ ، وَالثَّانِي : رَقَبَةُ الرَّهْنِ .
فَإِذَا تَلِفَ الرَّهْنُ فَقَدْ تَلِفَ أَحَدُ الْمَحَلَّيْنِ ، وَبَقِيَ الْآخَرُ فَلَمْ يَتْلَفِ الْحَقُّ لِبَقَاءِ أَحَدِ مَحَلَّيْهِ ، كَالدَّيْنِ الْمَضْمُونِ لَمَّا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالْمَحَلَّيْنِ يَلْزَمُهُ الْمَضْمُونُ عَنْهُ ، وَبِذِمَّةِ الضَّامِنِ لَمْ يَكُنْ تَلَفُ الضَّامِنِ لِلدَّيْنِ مُبْطِلًا لِلْحَقِّ لِبَقَاءِ الْمَحَلِّ الْآخَرِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى تَلَفِ الْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ ، فَالْمَبِيعُ غَيْرُ مُحْتَبَسٍ بِعَقْدٍ : لِأَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ يُوجِبُ تَسْلِيمَهُ ، وَيَمْنَعُ مِنْ حَبْسِهِ ، وَإِنَّمَا تَأْخِيرُ الثَّمَنِ يُوجِبُ حَبْسَهُ ، أَلَا تَرَاهُ يَسْتَدِيمُ حَبْسًا قَبْلَ الْبَيْعِ فَلَمْ يَسْلَمِ الْوَصْفُ فِي قَوْلِهِمْ مُحْتَبَسٌ بِعَقْدٍ ، وَإِذَا لَمْ يَسْلَمِ الْوَصْفُ انْتَقَصَتِ الْعِلَّةُ عَلَى أَصْلِهِمْ بِزِيَادَاتِ الرَّهْنِ مِنَ الْأَوْلَادِ وَالنِّتَاجِ وَهِيَ مُحْتَبَسَةٌ بِالْحَقِّ ، ثُمَّ لَا يَضْمَنُهَا الْمُرْتَهِنُ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي الْبَيْعِ أَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٍ يَسْقُطُ بِالْفَسْخِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَسْقُطْ بِالتَّلَفِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى السَّوْمِ فَمُنْتَقَضٌ بِالشَّيْءِ الْمُسْتَأْجَرِ : لِأَنَّهُ أَخَذَهُ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِيفَاءِ ، وَلَا يُضْمَنُ إِذَا تَلِفَ ضَمَانُ الِاسْتِيفَاءِ عَلَى أَنَّ السَّوْمَ دَلِيلُنَا . وَذَلِكَ أَنَّ سَبَبَ كُلِّ شَيْءٍ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالضَّمَانِ حُكْمُ سَبَبِهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ أَخَذَ الشَّيْءَ مِنْ مُسَاوِمِهِ كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ ، وَلَوْ أَخَذَهُ عَنْ عَقْدِ مُبَايَعَةٍ كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ ، فَلَمَّا كَانَ لَوْ أَخَذَ الشَّيْءَ لِمُرْتَهِنِهِ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا عَلَيْهِ وَجَبَ إِذَا أَخَذَهُ عَنْ عَقْدِ رَهْنٍ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْقُرُوضِ الْمَأْخُوذَةِ بِالدَّيْنِ وَعَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْقَرْضِ فَوَاحِدٌ ؛ وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ مَأْخُوذٌ عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ مِنَ الْحَقِّ ، بِدَلِيلِ أَنَّ قِيمَتَهُ لَا تُوجِبُ سُقُوطَ الْحَقِّ فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَا ظَهَرَ هَلَاكُهُ وَخَفِيَ سَوَاءٌ ، لَا يَضْمَنُ الْمُرْتَهِنُ وَلَا الْمَوْضُوعُ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الرَّهْنِ شَيْئًا إِلَّا فِيمَا يَضْمَنَانِ فِيهِ مِنَ الْوَدِيعَةِ بِالتَّعَدِّي " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا لَهُ رَدًّا عَلَى مَالِكٍ حَيْثُ أَوْجَبَ ضَمَانَ مَا خَفِيَ هَلَاكُهُ مِنَ الرَّهْنِ وَأَسْقَطَ ضَمَانَ مَا ظَهَرَ هَلَاكُهُ وَكَانَ مِنْ صِحَّتِهِ فِيهِ أَنَّ النَّاسَ مُضْطَرُّونَ إِلَى الرَّهْنِ ، فَلَوْ سَقَطَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ مِمَّا خَفِيَ هَلَاكُهُ لَصَارَ ذَرِيعَةً إِلَى ادِّعَاءِ تَلَفِ الرَّهْنِ وَالْمُطَالَبَةِ بِالْحَقِّ ، فَإِذَا وَجَبَ الضَّمَانُ كَانَ ذَلِكَ مَأْمُونًا ، وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ اعْتِبَارُ هَذَا الْمَعْنَى فِي الرَّهْنِ خَوْفًا مَنِ ادَّعَى بِتَلَفِ الرَّهْنِ مَعَ بَقَائِهِ ، وَلَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ فِي الْوَدَائِعِ وَالْمُضَارَبَاتِ وَالشِّرَكِ وَالْأَمَانَاتِ فَيَجِبُ ضَمَانُ مَا خَفِيَ هَلَاكُهُ مِنْهَا ، وَيَسْقُطُ ضَمَانُ مَا ظَهَرَ ، وَلَا غَيْرَ مِثْلِهِ فِي الْعَوَارِي وَالْغَصْبِ ، فَلَمَّا كَانَتِ الْأَمَانَاتُ غَيْرَ مَضْمُونَةٍ فِيمَا خَفِيَ هَلَاكُهُ أَوْ ظَهَرَ وَالْعَوَارِي وَالْغُصُوبُ مَضْمُونَةً فِيمَا خَفِيَ هَلَاكُهُ أَوْ ظَهَرَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ لَاحِقًا لِأَحَدِهِمَا فِي وُجُوبِ ضَمَانِهِ أَوْ سُقُوطِهِ ، إِذْ هُمَا أَصْلَانِ لَيْسَ لَهُمَا ثَالِثٌ فَيُرَدُّ الرَّهْنُ إِلَيْهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ قَضَاهُ مَا فِي الرَّهْنِ ثُمَّ سَأَلَهُ الرَّاهِنُ فَحَبَسَهُ عَنْهُ وَهُوَ يُمْكِنُهُ فَهُوَ ضَامِنٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، لِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ وَلِلْمُرْتَهِنِ حَبْسُهُ فِي حَقِّهِ ، فَإِنْ تَلِفَ لَمْ يَضْمَنْهُ : لِأَنَّهُ مُحْتَبَسٌ بِحَقِّهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَقِيَ مِنَ الْحَقِّ شَيْءٌ وَإِنْ قَلَّ فَحَبَسَهُ بِمَا بَقِيَ مِنْهُ لَمْ يَضْمَنْهُ ، فَإِذَا اسْتَوْفَى حَقَّهُ لَزِمَهُ تَسْلِيمُهُ وَرَفْعُ يَدِهِ ، فَإِنْ حَبَسَهُ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ حَتَّى تَلِفَ بِطَرَفَيْهِ الرهن فَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا فِي حَبْسِهِ بِحُدُوثِ سَبَبٍ مَنَعَ مِنْ رَدِّهِ لِغَيْبَةٍ أَوْ مَرَضٍ لَمْ يَضْمَنْهُ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْذُورٍ فِي حَبْسِهِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ : لِأَنَّهُ صَارَ بِحَبْسِهِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ مُتَعَدِّيًا ، فَلَوِ اخْتَلَفَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ فِيهِ فَقَالَ الرَّاهِنُ : حَبَسَهُ غَيْرَ مَعْذُورٍ فَعَلَيْكَ ضَمَانُهُ ، وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ : حَبَسَهُ مَعْذُورًا ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيَّ ، فَالْقَوْلُ لِلْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ بِاللَّهِ لَقَدْ حَبَسْتُهُ مَعْذُورًا ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ يَرَى الذِّمَّةَ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ . هَذَا آخِرُ كِتَابِ الرَّهْنِ مِنَ الْمُزَنِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ .
فَصْلٌ : فِي فُرُوعِ الرَّهْنِ يَجُوزُ أَنْ يَرْهَنَ الدَّنَانِيرَ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّرَاهِمَ فِي الدَّنَانِيرِ سَوَاءٌ كَانَتِ الْمَرْهُونَةُ مَوْزُونَةً أَوْ غَيْرَ مَوْزُونَةٍ إِذَا كَانَتْ مُشَاهَدَةً : لِأَنَّ أَخْذَ الْحَقِّ مِنْهَا مُمْكِنٌ ، وَبَيْعُ الدَّرَاهِمِ بِالدَّنَانِيرِ جُزَافًا جَائِزٌ . فَرْعٌ : وَيَجُوزُ رَهْنُ الدَّرَاهِمِ فِي الدَّنَانِيرِ وَالدَّنَانِيرَ فِي الدَّنَانِيرِ ، سَوَاءٌ كَانَتِ الدَّرَاهِمُ أَوِ الدَّنَانِيرُ الْمَرْهُونَةُ جُزَافًا أَوْ مَوْزُونَةً : لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْحَقِّ كَانَ الرَّهْنُ مِنْ جِنْسِ الْحَقِّ بِالْجَوَازِ أَحَقَّ . فَرْعٌ : إِذَا رَهَنَهُ بِحَقِّهِ دَيْنًا لَهُ عَلَى غَيْرِهِ لَمْ يُجِزْهُ ، لِأَنَّ الدَّيْنَ لَيْسَ بِعَيْنٍ فَيُمْكِنُ بَيْعُهَا ، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ لَيْسَ بِحَوَالَةٍ فَيَسْتَحِقُّ الْمُطَالَبَةَ بِهَا ، وَمَا لَا يُمْكِنُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ وَلَا اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ مِنْهُ فَرَهْنُهُ بَاطِلٌ . فَرْعٌ : إِذَا رَهَنَهُ بِحَقِّهِ دَيْنًا لَهُ فِي ذِمَّتِهِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ لَهُ دَرَاهِمُ وَعَلَيْهِ دَنَانِيرُ أَوْ حِنْطَةٌ مِنْ سَلَمٍ فَيَرْهَنُهُ مَا فِي ذِمَّتِهِ مِنَ الْحِنْطَةِ بِمَالِهِ مِنَ الدَّرَاهِمِ كَانَ فَاسِدًا لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ . فَرْعٌ : إِذَا رَهَنَهُ بِدَيْنِهِ سُكْنَى دَارٍ مُدَّةً مَعْلُومَةً كَانَ فَاسِدًا : لِأَنَّ السُّكْنَى بِمُضِيِّ مُدَّتِهِ فَاتَتْ ، فَلَا يَبْقَى رَهْنٌ يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَوْفَى مِنْهُ الدَّيْنُ . فَرْعٌ : إِذَا آجَرَهُ دَارًا سَنَةً جَازَ أَنْ يَأْخُذَ بِالْأُجْرَةِ رَهْنًا قَبْلَ مُضِيِّ السَّنَةِ ، لِأَنَّ الْأُجْرَةَ وَاجِبَةٌ فِي الذِّمَّةِ . فَرْعٌ : إِذَا اسْتَأْجَرَ مِنْهُ عَمَلًا مَعْلُومًا أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ بِالْعَمَلِ رَهْنًا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ الْإِجَارَةُ مُعَيَّنَةً .
وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ فِي الذِّمَّةِ ، فَإِنْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ مُعَيَّنَةً وَهُوَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ فِي عَيْنِهِ لِبِنَاءِ دَارٍ ، أَوْ لِعَمَلٍ مَعْلُومٍ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ بِهِ رَهْنًا ، لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ لَا يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ فِيهِ ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَعْيَانِ فَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ كَالْعَوَارِي وَالْغُصُوبِ ، فَإِنْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ فِي الذِّمَّةِ ، وَهُوَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مِنْهُ فِي ذِمَّتِهِ بِنَاءُ دَارٍ أَوْ عَمَلٌ مَعْلُومٌ فَلَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ دَفَعَ الْأُجْرَةَ إِلَيْهِ أَوْ لَمْ يَدْفَعْهَا ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَدْفَعْ إِلَيْهِ الْأُجْرَةَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ رِضًا ، لِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ مِنَ الْحَقِّ الْمُسْتَحَقِّ ، وَالْعَمَلُ قَبْلَ دَفْعِ الْأُجْرَةِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ دَفَعَ الْأُجْرَةَ إِلَيْهِ فَفِي جَوَازِ أَخْذِ الرَّهْنِ فِي الْعَمَلِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ فِيهِ ، لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْعَمَلِ مِنَ الرَّهْنِ غَيْرُ مُمْكِنٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ أَخْذَ الرَّهْنِ فِيهِ جَائِزٌ : لِأَنَّهُ حَقٌّ مُسْتَقِرٌّ فِي الذِّمَّةِ لَهُ قِيمَةٌ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهَا مِنَ الرَّهْنِ فَجَازَ فِيهِ كَالدَّيْنِ . فَصْلٌ آخَرُ : إِذَا ضَمِنَ لَهُ أَلْفًا وَاسْتَقَرَّ ضَمَانُ الْأَلْفِ عَلَيْهِ جَازَ أَنْ يُعْطِيَهُ بِالْأَلْفِ الَّتِي ضَمِنَهَا رَهْنًا : لِأَنَّهُ حَقٌّ مُسْتَقِرٌّ . فَرْعٌ : وَلَوْ ضَمِنَهَا بِشَرْطِ أَنْ يُعْطِيَهُ بِهَا رَهْنًا مِثْلَ أَنْ يَقُولَ ضَمِنْتُ لَكَ عَنْ فُلَانٍ أَلْفًا عَلَى أَنَّنِي أُعْطِيكَ بِهَا رَهْنًا كَانَ فِي صِحَّةِ الضَّمَانِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ صَحِيحٌ : لِأَنَّهُ رَهْنُ شَرْطٍ مَعَ وُجُوبِ الْحَقِّ كَالْبَيْعِ ، فَعَلَى هَذَا الضَّامِنُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِقْبَاضِ الرَّهْنِ وَمَنْعِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : الضَّمَانُ فَاسِدٌ : لِأَنَّهُ وَثِيقَةٌ فَإِذَا شَرَطَ فِيهِ الِاسْتِيثَاقَ بِالرَّهْنِ صَارَتْ وَثِيقَةُ الضَّمَانِ وَاهِيَةً فَبَطَلَتْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ . فَرْعٌ : فَلَوْ أَعْطَاهُ رَهْنًا بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ يَضْمَنَ الْأَلْفَ فُلَانٌ حكمه كَانَ فِي صِحَّةِ الرَّهْنِ وَجْهَانِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الضَّمَانِ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الضَّمَانِ فِي الرَّهْنِ كَشَرْطِ الرَّهْنِ فِي الضَّمَانِ ، أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ : أَنَّ الرَّهْنَ صَحِيحٌ ، وَالْمَشْرُوطُ ضَمَانُهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَضْمَنَ أَوْ يَمْتَنِعَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الرَّهْنَ فَاسِدٌ لِوَهَاءِ الِاسْتِيثَاقِ بِهِ عِنْدَ شَرْطِ الضَّمَانِ فِيهِ . فَرْعٌ : وَلَوْ كَانَتْ عَلَيْهِ أَلْفٌ فَأَعْطَاهُ بِهَا رَهْنًا وَأَقَامَ لَهُ بِهَا ضَامِنًا جَازَ ، لِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ وَالضَّمَانَ وَثِيقَةٌ ، فَلَمْ يَمْتَنِعِ اجْتِمَاعُهُمَا مِنْ حَقٍّ وَاحِدٍ كَاجْتِمَاعِ الشَّهَادَةِ وَالضَّمَانِ ، فَإِذَا حَلَّ الْحَقُّ فَفِيهِ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا أَبُو حَامِدٍ فِي جَامِعِهِ أَحَدُهُمَا أَنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مُطَالَبَةَ الضَّامِنِ بِهِ ،
وَلَيْسَ لَهُ بَيْعُ الرَّهْنِ إِلَّا بَعْدَ اسْتِيفَائِهِ مِنَ الضَّمَانِ ، لِأَنَّ مَا أَمْكَنَ اسْتِيفَاؤُهُ مِنَ الْحُقُوقِ مِنْ غَيْرِ إِزَالَةِ مِلْكٍ وَجَبَ اسْتِيفَاؤُهَا مِنْ غَيْرِ إِزَالَةِ مِلْكٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ بَيْعَ الرَّهْنِ وَاسْتِيفَاءَ حَقِّهِ مِنْ صُلْبِهِ ، وَلَيْسَ لَهُ مُطَالَبَةُ الضَّامِنِ بِهِ إِلَّا بَعْدَ تَعَذُّرِ اسْتِيفَائِهِ مِنَ الرَّهْنِ : لِأَنَّ الرَّهْنَ عَيْنٌ بِيَدِهِ أَخْذُهَا لِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ ، وَالصَّحِيحُ عِنْدِي غَيْرُ هَذَيْنِ ، وَأَنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ بِالْخِيَارِ فِي حَقِّهِ بَيْنَ مُطَالَبَةِ الضَّامِنِ بِهِ وَبَيْنَ بَيْعِ الرَّهْنِ فِيهِ لِأَنَّ ضَمَانَ الْحَقِّ لَا يَمْنَعُ مِنْ مُطَالَبَةِ غَيْرِهِ بِهِ ، وَمُطَالَبَةُ غَيْرِهِ بِهِ لَا تَمْنَعُ مِنْ مُطَالَبَةِ الضَّامِنِ بِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ فَضَمِنَهُ ضَامِنٌ فَلَهُ مُطَالَبَةُ الضَّامِنِ وَالْمَضْمُونِ عَنْهُ وَلَا تَكُونُ مُطَالَبَةُ أَحَدِهِمَا مَانِعًا مِنْ مُطَالَبَةِ الْآخَرِ .
فَصْلٌ : إِذَا كَانَ عَلَى رَجُلٍ أَلْفٌ فَأَحَالَ بِهَا عَلَى رَجُلٍ انْتَقَلَتِ الْأَلْفُ بِالْحَوَالَةِ مِنْ ذِمَّةِ الْمُحِيلِ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ ، وَجَازَ أَنْ يَأْخُذَ بِهَا رَهْنًا مِنَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهَا دَيْنٌ مُسْتَقِرٌّ عَلَيْهِ . فَرْعٌ : وَلَوْ أَحَالَهُ بِالْأَلْفِ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ الْمُحِيلُ بِهَا رَهْنًا لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّ الْحَوَالَةَ قَدْ نَقَلَتِ الْحَقَّ مِنْ ذِمَّتِهِ فَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ مَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى رَهْنًا فِيهِ ، وَلَيْسَ كَالضَّمَانِ الَّذِي لَا يَنْقُلُ الْحَقَّ وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطَى فِيهِ رَهْنًا . فَرْعٌ : وَلَوْ أَحَالَهُ بِالْأَلْفِ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ الْمُحَالُ عَلَيْهِ رَهْنًا بِهَا فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي الْحَوَالَةِ ، هَلْ هِيَ بَيْعٌ أَوْ عَقْدُ إِرْفَاقٍ . أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا بَيْعٌ ، فَعَلَى هَذَا اشْتِرَاطُ الرَّهْنِ مِنْهَا جَائِزٌ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا عَقْدُ إِرْفَاقٍ فَعَلَى هَذَا اشْتِرَاطُ الرَّهْنِ فِيهَا بَاطِلٌ ، وَفِي بُطْلَانِ الْحَوَالَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : قَدْ بَطَلَتْ لِقَدْحِ الشَّرْطِ الْبَاطِلِ فِيهَا . وَالثَّانِي : لَا تَبْطُلُ لِخُرُوجِهَا عَنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ وَلُحُوقِهَا بِعُقُودِ الْإِرْفَاقِ وَالْمَعُونَاتِ .
فَصْلٌ : إِذَا وَهَبَ لَهُ عَبْدًا فَرَهَنَهُ قَبْلَ قَبْضِهِ كَانَ رَهْنًا فَاسِدًا : لِأَنَّ الْهِبَةَ لَا تُمْلَكُ إِلَّا بِالْقَبْضِ ، وَلَوْ رَهَنَهُ بَعْدَ قَبْضِهِ كَانَ رَهْنُهُ جَائِزًا سَوَاءٌ وَهَبَهُ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ الرُّجُوعُ فِي هِبَتِهِ كَالْوَالِدِ أَمْ لِإِتْمَامِ الْمِلْكِ بِحُصُولِ الْقَبْضِ ، فَلَوْ وَهَبَ لَهُ عَبْدًا وَأَذِنَ لَهُ فِي رَهْنِهِ صَحَّ الرَّهْنُ وَلَمْ تَتِمَّ الْهِبَةُ ، لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالرَّهْنِ لَيْسَ بِقَبْضٍ فَتَتِمُّ بِهِ الْهِبَةُ . وَالرَّهْنُ وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْهُ فَقَدْ رَهَنَهُ بِإِذْنِ
مَالِكِهِ ، فَلَمْ يَمْتَنِعْ مِنَ الصِّحَّةِ ، فَإِنْ أَقْبَضَهُ الْمُرْتَهِنُ ثَمَّ الرَّهْنَ بِالْعَقْدِ السَّابِقِ عَنْ إِذْنِهِ ، وَالْقَبْضِ الْحَادِثِ عَنْ إِذْنِهِ ، وَلَمْ تَتِمَّ الْهِبَةُ ، لِأَنَّ قَبْضَهُ رَهْنًا غَيْرُ قَبْضِهِ هِبَةً ، وَيَكُونُ حُكْمُ هَذَا الْعَبْدِ كَحُكْمِ الْمُعَارِ فِي الرَّهْنِ . فَرْعٌ : إِذَا ابْتَاعَ عَبْدًا وَرَهَنَهُ قَبْلَ قَبْضِهِ نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ لَمْ يَقْبِضْ عَنْهُ فَالرَّهْنُ بَاطِلٌ : لِأَنَّهُ مَحْبُوسٌ بِثَمَنِهِ فَصَارَ كَالْمَرْهُونِ فَلَمْ يَجُزْ رَهْنُهُ قَبْلَ فَكَاكِهِ ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ قَبْضِ ثَمَنِهِ فَفِي جَوَازِ رَهْنِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لِتَمَامِ مِلْكِهِ . وَالثَّانِي : وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْهُ فِي الْبُيُوعِ أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ كَالْبَيْعِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
كِتَابُ التَّفْلِيسِ
تعريف التَّفْلِيسِ
كِتَابُ التَّفْلِيسِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَاصِمٍ قَالَ : سَمِعْتُ الْمُزَنِيَّ قَالَ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ قَالَ : حَدَّثَنِي أَبُو الْمُعْتَمِرِ بْنُ عَمْرِو بْنِ رَافِعٍ ، عَنْ خَلْدَةَ أَوِ ابْنِ خَلْدَةَ الزُّرَقِيِّ ( الشَّكُ مِنَ الْمُزَنِيِّ ) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا أَفْلَسَ فَقَالَ هَذَا الَذِي قَضَى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّمَا رَجُلٍ مَاتَ أَوْ أَفْلَسَ فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أَحَقُّ بِمَتَاعِهِ إِذَا وَجَدَهُ بِعَيْنِهِ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَفِي ذَلِكَ بَيَانٌ أَنَّهُ جَعَلَ نَقْضَ الْبَيْعِ الْأَوَّلِ إِنْ شَاءَ إِذَا مَاتَ أَوْ أَفْلَسَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . كِتَابُ التَّفْلِيسِ ، وَيُقَالُ كِتَابُ الْفَلَسِ ، قَالَ بَعْضَ أَصْحَابِنَا : وَأَكْرَهُ أَنْ يُقَالَ كِتَابُ الْإِفْلَاسِ ، لِأَنَّ الْإِفْلَاسَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِعْسَارِ بَعْدَ الْيَسَارِ وَالتَّفْلِيسُ يُسْتَعْمَلُ فِي حَجْرِ الْحَاكِمِ عَلَى الْمَدْيُونِ فَكَانَ أَلْيَقَ بِالْحَالِ ، وَالْأَصْلُ فِي جَوَازِ الْحَجْرِ بِالْفَلَسِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَرَ عَلَى مُعَاذٍ وَقَالَ لِغُرَمَائِهِ : خُذُوا مَا مَعَهُ فَلَيْسَ لَكُمْ إِلَّا مَا وَجَدْتُمْ ، وَرَوَى عِيَاضُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : أُصِيبَ رَجُلٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا فَكَثُرَ دَيْنَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِغُرَمَائِهِ : خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ لَيْسَ لَكُمْ إِلَّا ذَلِكَ ، وَرَوَى عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ ، أَنَّ رَجُلًا مِنْ جُهَيْنَةَ يُقَالُ لَهُ أُسَيْفِعُ أَفْلَسَ ، فَقَامَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ : أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْأُسَيْفِعَ أُسَيْفِعَ جُهَيْنَةَ وَكَانَ يُغَالِي بِالرَّوَاحِلِ رَضِيَ مِنَ أَمَانَتِهِ وَدِينِهِ بِأَنْ يُقَالَ سَبَقَ الْحَاجَّ فَأَدَانَ مَعْرِضًا فَأَصْبَحَ قَدْ دِينَ بِهِ ، فَمَنْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ فَلْيَأْتِنَا فَإِنَّا آخِذُوا مَالَهُ وَقَاسِمُوهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ ، وَإِيَّاكُمْ وَالدَّيْنُ فَإِنَّ أُوَلَهُ هَمٌّ وَآخِرَهُ حَرْبٌ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ الْحَجْرُ بِالْمَرَضِ لِأَجْلِ الْوَرَثَةِ لِأَنَّ الْمَالَ صَائِرٌ إِلَيْهِمْ وَإِنْ لَمْ يَمْلِكُوهُ فِي الْحَالِ فَأَوْلَى أَنْ يَجُوزَ الْحَجْرُ بِدُيُونِ الْغُرَمَاءِ لِأَنَّ الْمَالَ لَهُمْ وَقَدِ اسْتَحَقُّوهُ فِي الْحَالِ .
فَصْلٌ إِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْحَجْرِ بِالْفَلَسِ فَلَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَبْتَدِئَهُ مِنْ غَيْرِ سُؤَالِ الْغُرَمَاءِ
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْحَجْرِ بِالْفَلَسِ فَلَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَبْتَدِئَهُ مِنْ غَيْرِ سُؤَالِ الْغُرَمَاءِ ، فَإِذَا سَأَلُوهُ الْحَجْرَ عَلَيْهِ بِدَيْنٍ لَهُمْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُوقِعَ الْحَجْرَ عَلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ دُيُونِهِمْ ، وَثُبُوتُهَا بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ : اى ديون الغرماء إِمَّا بِإِقْرَارِهِ ، وَإِمَّا بِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ عِنْدَ إِنْكَارِهِ ، فَإِذَا ثَبَتَ دُيُونُ الْغُرَمَاءِ وَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَنْظُرَ قَدْرَ مَالِهِ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَعْجِزَ عَنْ دَيْنِهِ أَوْ يَكُونَ فِيهِ وَفَاءٌ بِدَيْنِهِ ، فَإِنْ عَجَزَ مَالُهُ عَنْ دُيُونِهِ وَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ ؛ سَوَاءٌ سَأَلَهُ جَمِيعُ الْغُرَمَاءِ أَوْ بَعْضُهُمْ : لِأَنَّ فِي تَرْكِهِ مُتَصَرِّفًا فِي مَالِهِ إِضَاعَةً لِدُيُونِهِمْ وَإِبْطَالًا لِحُقُوقِهِمْ ، وَأَنَّهُ رُبَّمَا عَجَّلَ قَضَاءَ بَعْضِهِمْ وَتَرَكَ دُيُونَ الْبَاقِينَ تَالِفَةً فَكَانَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ أَوْلَى لِيَمْتَنِعَ مِنَ التَّبْذِيرِ وَيَصِلَ جَمِيعُ الْغُرَمَاءِ إِلَى حُقُوقِهِمْ بِالسَّوَاءِ ، وَإِنْ كَانَ مَالُهُ يَفِي بِدُيُونِهِ أَوْ يَزِيدُ عَلَيْهَا لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَظْهَرَ مِنْهُ إِمَارَاتُ الْإِفْلَاسِ أَوْ لَا يَظْهَرَ ، فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ إِمَارَاتُ الْإِفْلَاسِ - بَلْ كَانَ مَالُهُ يَفِي بِدُيُونِهِ وَيَكْتَسِبُ قَدْرَ نَفَقَتِهِ وَلَمْ يَكُنْ مُبَذِّرًا لِمَالِهِ - لَمْ يَجُزِ الْحَجْرُ عَلَيْهِ ؛ بَلْ يَأْخُذُهُ الْحَاكِمُ بِقَضَاءِ دُيُونِهِ ، فَإِنْ أَبَى حَبَسَهُ بِهَا إِنْ سَأَلَ أَرْبَابُهَا ، وَإِنْ ظَهَرَتْ عَلَيْهِ إِمَارَاتُ الْفَلَسِ وَذَلِكَ يَكُونُ فِي أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إِمَّا مِنْ عَجْزٍ عَنْ كَسْبِهِ عَنْ قَدَرِ حَاجَتِهِ ، وَإِمَّا مِنْ تَبْذِيرِهِ وَإِسْرَافِهِ فِي نَفَقَتِهِ ، فَهَلْ يَسْتَحِقُّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَحْجُرُ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ فِي مَالِهِ : لِأَنَّ فِي تَرْكِهِ مُتَصَرِّفًا فِيهِ إِضَاعَةً لَهُ وَإِبْطَالًا لِحُقُوقِ غُرَمَائِهِ ، وَيَسْتَدِلُّ قَائِلُ هَذَا الْوَجْهِ لِذَلِكَ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ بِقَوْلِهِ فِي اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ : إِذَا قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا : لَا أَدْفَعُ حَتَّى أَقْبِضَ أَنَّهُ يُجْبَرُ الْبَائِعُ عَلَى تَسْلِيمِ السِّلْعَةِ وَيُجْبَرُ الْمُشْتَرِي عَلَى دَفْعِ الثَّمَنِ ، فَإِنْ كَانَ مَالُهُ غَائِبًا حُجِرَ عَلَيْهِ فِي السِّلْعَةِ وَفِي جَمِيعِ مَالِهِ ، فَقَدْ أَوْقَعَ الشَّافِعِيُّ الْحَجْرَ عَلَى مَنْ كَانَ مَالُهُ يَفِي بِدَيْنِهِ وَيَزِيدُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى أَدَاءِ دَيْنِهِ ، وَلِأَنَّ فِي إِيقَاعِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ تَعْجِيلُ الْحُكْمِ لِعِلَّةٍ مَظْنُونَةٍ غَيْرِ مُتَحَقِّقَةٍ ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ ، وَمَا يُخَالِفُ مِنْ تَبْذِيرِ مَالِهِ قَدْ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ بِأَنْ يُؤْخَذَ بِتَعْجِيلِ الْقَضَاءِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْحَجْرَ بِالْفَلَسِ مُسْتَحِقٌّ بِمَا ذَكَرْنَا فَحَجَرَ الْحَاكِمُ عَلَى مَالِهِ لِغُرَمَائِهِ ، وَكَانَ فِيهِمْ مَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ قَبْلَ قَبْضِ ثَمَنِهِ فَأَرَادَ الرُّجُوعَ بِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ لِعَجْزِ مَالِهِ عَنْ دُيُونِ غُرَمَائِهِ كَانَ لِكُلِّ مَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ مَعَ وَفَاءِ مَالِهِ بِدُيُونِهِ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فَهَلْ لِمَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ الرُّجُوعُ بِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَهُ الرُّجُوعُ بِعَيْنِ مَالِهِ : لِأَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ بِالْفَلَسِ كَالْعَاجِزِ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا رُجُوعَ لَهُ : لِأَنَّهُ إِنَّمَا رَجَعَ بِعَيْنِ مَالِهِ فِي الْحَجْرِ بِالْعَجْزِ حَتَّى لَا يَلْحَقَهُ نَقْصٌ ، وَصَاحِبُ الْوَفَاءِ قَدْ يَصِلُ جَمِيعُ غُرَمَائِهِ إِلَى دُيُونِهِمْ فَلَمْ يَلْحَقْ أَرْبَابَ الْأَعْيَانِ بِتَرْكِهَا نَقْصٌ .
فَصْلٌ : فَلَوْ كَانَ فِي يَدِ الْمُفْلِسِ أَعْيَانٌ لَمْ يُؤَدِّ أَثْمَانَهَا وَقَدْ زَادَتْ أَسْعَارُهَا فَإِنِ اسْتَرْجَعَهَا أَرْبَابُهَا عَجَزَ مَالُهُ عَنْ دَيْنِهِ ، وَإِنْ تَرَكُوهَا عَلَيْهِ كَانَ فِي مَالِهِ وَفَاءٌ بِدَيْنِهِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْعَاجِزِ عَنْ دَيْنِهِ أَوْ حُكْمُ الْمَلِيءِ بِهِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْعَاجِزِ عَنْ دَيْنِهِ : لِأَنَّ تِلْكَ الْأَعْيَانَ مُسْتَحَقَّةُ الِاسْتِرْجَاعِ فَلَمْ تُعْتَبَرْ زِيَادَةُ أَثْمَانِهَا فِي مَالِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْمَلِيءِ بِدَيْنِهِ : لِأَنَّ تِلْكَ الْأَعْيَانَ عَلَى مِلْكِهِ قَبْلَ الِاسْتِرْجَاعِ فَكَانَتْ زِيَادَةُ أَثْمَانِهَا مِلْكًا لَهُ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ تَظْهَرْ عَلَيْهِ إِمَارَاتُ الْإِفْلَاسِ لَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ ، وَإِنْ ظَهَرَتْ عَلَيْهِ إِمَارَاتُ الْإِفْلَاسِ فَفِي وُجُوبِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَمَهَّدَ مَا ذَكَرْنَا فَكُلُّ غَرِيمٍ لِلْمُفْلِسِ ثَبَتَ دَيْنُهُ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْعَيْنِ الْمَبِيعَةِ إِذَا لَمْ يَقْبِضِ الْبَائِعُ ثَمَنَهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ فِي يَدِ الْبَائِعِ لَمْ يُسَلِّمْهَا إِلَى الْمُشْتَرِي حَتَّى حُجِرَ عَلَيْهِ بِالْفَلَسِ ؛ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ فِيهَا وَيَأْخُذَ بِثَمَنِهَا ، وَلَهُ أَنْ يُمْضِيَ الْبَيْعَ وَيُسَلِّمَهَا وَيَضْرِبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِثَمَنِهَا ، وَهَذَا قَوْلٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لَيْسَ يُعْرَفُ خِلَافٌ فِيهِ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ : يُقَدِّمُ بَائِعُهُ بِثَمَنِهَا . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي قَدْ قَبَضَهَا وَخَرَجَتْ عَنْ مِلْكِهِ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوِ اسْتِهْلَاكٍ فَالْبَائِعُ لَهَا أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ يَضْرِبُ بِثَمَنِهَا مَعَهُمْ كَأَحَدِهِمْ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي قَدْ قَبَضَهَا وَهِيَ قَائِمَةٌ فِي يَدِهِ وَبَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ يَسْتَحِقُّ الْبَائِعُ الرُّجُوعَ بِهَا أَمْ لَا ؟ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ الْبَائِعَ أَحَقُّ بِهَا وَلَهُ أَنْ يَسْتَرْجِعَهَا بِثَمَنِهَا ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُثْمَانُ ، وَعَلِيٌّ ، وَابْنُ مَسْعُودٍ ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ ، وَمِنَ التَّابِعِينَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَأَحْمَدُ ، وَإِسْحَاقُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْبَائِعُ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ لَا حَقَّ لَهُ فِي الرُّجُوعِ بِعَيْنِ مَالِهِ ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَرُبَّمَا أَسْنَدُوهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : أَيُّمَا
امْرِئٍ هَلَكَ وَعِنْدَهُ مَتَاعُ امْرِئٍ بِعَيْنِهِ اقْتَضَى مِنْهُ شَيْئًا أَوْ لَمْ يَقْتَضِ فَهُوَ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ وَلِأَنَ الْبَائِعَ حَبَسَ الْمَبِيعَ عَلَى ثَمَنِهِ كَمَا أَنَّ لِلْمُرْتَهِنِ حَبْسَ الرَّهْنِ عَلَى حَقِّهِ ، فَلَمَّا كَانَ الْمُرْتَهِنُ لَوْ رَدَّ الرَّهْنَ عَلَى رَاهِنِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ حَقِّهِ وَجَبَ إِذَا سَلَّمَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ إِلَى مُشْتَرِيهِ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ ثَمَنِهِ ، وَتَحْدِيدُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُ مَحْبُوسٌ لِاسْتِيفَاءِ الْحَقِّ مِنْهُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ رَفْعُ الْيَدِ عَنْهُ مُسْقِطًا لِحَقِّ الِاسْتِيفَاءِ مِنْهُ كَالرَّهْنِ ، وَلِأَنَّ الْبَائِعَ قَدْ وَجَبَ لَهُ بِعَقْدِ الْبَيْعِ حَقَّانِ : أَحَدُهُمَا : ثُبُوتُ الثَّمَنِ فِي الذِّمَّةِ . وَالثَّانِي : حَبْسُ الْمَبِيعِ عَلَى قَبْضِ ثَمَنِهِ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ أَسْقَطَ حَقَّهُ مِنَ الثَّمَنِ الَّذِي فِي الذِّمَّةِ بِالْإِبْرَاءِ لَمْ يَعُدْ إِلَيْهِ لِحُدُوثِ الْفَلَسِ وَجَبَ إِذَا أَسْقَطَ حَقَّهُ مِنْ حَبْسِ الْمَبِيعِ بِالتَّسْلِيمِ أَنْ لَا يَعُودَ إِلَيْهِ لِحُدُوثِ الْفَلَسِ . وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا : أَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ حَقٍّ يُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَعُودَ إِلَيْهِ بِالْفَلَسِ بَعْدَ سُقُوطِهِ بِالْعَفْوِ كَالثَّمَنِ ، وَلِأَنَّ الْحُقُوقَ الْمُسْتَقِرَّةَ فِي الذِّمَمِ لَا تَنْتَقِلُ إِلَى الْأَعْيَانِ بِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ كَالْمُوسِرِ إِذَا مَطَلَ ، وَلِأَنَّهُ تَسْلِيمٌ يَمْنَعُ حَقَّ الْإِمْسَاكِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَعُودَ إِلَيْهِ بِالْإِفْلَاسِ كَالْهِبَةِ إِذَا قُبِضَتْ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ مَلَكَ الْمَبِيعَ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ وَكَانَ الثَّمَنُ مُسْتَقِرًّا فِي ذِمَّتِهِ كَدُيُونِ غُرَمَائِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْبَائِعِ كَحُكْمِ جَمِيعِ الْغُرَمَاءِ ، وَحُكْمُ الْمَبِيعِ كَحُكْمِ سَائِرِ الْأَمْوَالِ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا حَدِيثُ خَلْدَةَ أَوِ ابْنِ خَلْدَةَ الزُّرَقِيِّ قَاضِي الْمَدِينَةِ قَالَ : أَتَيْنَا أَبَا هُرَيْرَةَ فِي صَاحِبٍ لَنَا قَدْ أَفْلَسَ فَقَالَ : هَذَا الَذِي قَضَى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَيُّمَا رَجُلٍ مَاتَ أَوْ أَفْلَسَ فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أَحَقُّ بِالْمَتَاعِ إِذَا وَجَدَهُ بِعَيْنِهِ " فَإِنْ قَالُوا : هَذَا الْحَدِيثُ لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ ، لِأَنَّ رَاوِيَهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ هَلْ هُوَ خَلْدَةُ أَوِ ابْنُ خَلْدَةَ : فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ شَكَّ فِي اسْمِهِ لَا فِي عَيْنِهِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَانِعٍ مِنَ الْأَخْذِ بِرِوَايَتِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ شَكٌّ بَيْنَ ثِقَتَيْنِ ، لِأَنَّ خَلْدَةَ ثِقَةٌ مَقْبُولُ الْحَدِيثِ وَابْنَ خَلْدَةَ ثِقَةٌ مَقْبُولُ الْحَدِيثِ ، وَالشَّكُّ بَيْنَ رَاوِيَيْنِ لَا يَمْنَعُ مِنَ الْأَخْذِ بِالْحَدِيثِ إِذَا كَانَا ثِقَتَيْنِ عَلَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ عَنْ مَالِكٍ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ ،
عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَيُّمَا رَجُلٍ أَفْلَسَ فَأَدْرَكَ الرَّجُلُ مَالَهَ بِعَيْنِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ . فَإِنْ قَالُوا : هَذَا حَدِيثٌ تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو هُرَيْرَةَ وَلَمْ يُسَاعِدْهُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَذَلِكَ وَهَنٌ فِي الْحَدِيثِ يَمْنَعُ مِنَ الْأَخْذِ بِهِ : قُلْنَا : أَبُو هُرَيْرَةَ مِنْ جُمْلَةِ الصَّحَابَةِ وَلَيْسَ تَفَرُّدُهُ بِالْحَدِيثِ مَانِعًا مِنَ الْأَخْذِ بِهِ كَمَا تَفَرَّدَ بِالرِّوَايَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا ، ثُمَّ قَدْ أَخَذَ الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ بِهِ وَعَمِلُوا ، وَكَمَا تَفَرَّدَ أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ بِالنَّهْيِ عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ ، وَتَفَرَّدَتْ عَائِشَةُ رَحِمَهَا اللَّهُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى أَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ ، عَلَى أَنَّ غَيْرَ أَبِي هُرَيْرَةَ قَدْ وَافَقَهُ عَلَى الرِّوَايَةِ وَهُوَ مَا رَوَى فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِذَا عَدِمَ الرَّجُلُ فَوَجَدَ الرَّجُلُ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ وَإِنْ قَالُوا : فَقَوْلُهُ : " صَاحِبُ الْمَتَاعِ أَحَقُّ بِمَتَاعِهِ " لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَى الْبَائِعِ ، لِأَنَّ الْمَتَاعَ لَيْسَ لَهُ وَإِنَّمَا هُوَ لِلْمُشْتَرِي ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْمُفْلِسِ إِذَا كَانَ مُودَعًا أَوْ غَاصِبًا لِيَصِحَّ كَوْنُ الْمَتَاعِ مِلْكًا لِمُسْتَرْجِعِهِ ، قُلْنَا : هَذَا التَّأْوِيلُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ أَحَقَّ بِمَتَاعِهِ بِوُجُوبِ شَرْطٍ وَهُوَ حُدُوثُ الْفَلَسِ ، وَصَاحِبُ الْوَدِيعَةِ وَالْغَصْبِ مُسْتَحِقٌّ اسْتِرْجَاعَ مَالِهِ بِشَرْطٍ وَغَيْرِ شَرْطٍ وَفَلَسٍ وَغَيْرِ فَلَسٍ ، وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ : " فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ " الَّذِي كَانَ صَاحِبَ الْمَتَاعِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ يُوسُفَ : اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ [ يُوسُفَ : 62 ] يَعْنِي الَّتِي كَانَتْ بِضَاعَتَهُمْ ، لِأَنَّهَا خَرَجَتْ عَنْ مِلْكِهِمْ ، وَقَالَ حَاكِيًا عَنْ إِخْوَتِهِ : هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا [ يُوسُفَ : 65 ] يَعْنِي : الَّتِي كَانَتْ بِضَاعَتَنَا ، عَلَى أَنَّنَا قَدْ رُوِّينَا مَا ذَكَرْنَاهُ نَصًّا وَهُوَ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَيُّمَا رَجُلٍ بَاعَ مَتَاعًا فَأَفْلَسَ الَّذِي ابْتَاعَهُ وَلَمْ يَقْبِضِ الَّذِي بَاعَهُ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْئًا فَوَجَدَهُ بِعَيْنِهِ فَهُوَ أَحَقُّ ، فَإِنْ مَاتَ الْمُشْتَرِي فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ ثُمَّ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى ، هُوَ أَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ قَدْ مَلَكَ بِهِ الْبَائِعُ الثَّمَنَ فِي الذِّمَّةِ ، كَمَا مَلَكَ بِهِ الْمُشْتَرِي الْعَيْنَ الْمَبِيعَةَ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَسْتَحِقُّ الْفَسْخَ بِوُجُودِ الْعَيْبِ فِي الْعَيْنِ الْمَبِيعَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْبَائِعُ الْفَسْخَ بِحُدُوثِ الْعَيْبِ فِي الْعَيْنِ الْمَبِيعَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْبَائِعُ الْفَسْخَ
كَالْعَيْنِ ، وَلِأَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ قَدْ يَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ ثَمَنًا وَمُثَمَّنًا ، فَلَمَّا كَانَ الْعَجْزُ عَمَّا كَانَ فِي الذِّمَّةِ مِنَ الثَّمَنِ فِي عَقْدِ السَّلَمِ يَقْتَضِي الْفَسْخَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعَجْزُ عَمَّا فِي الذِّمَّةِ مِنَ الثَّمَنِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ يَقْتَضِي الْفَسْخَ ، وَتَحْدِيدُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ مَا ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ عَنْ عَقْدِ مُعَاوَضَةٍ فَجَازَ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْفَسْخَ بِتَعَذُّرِهِ كَالثَّمَنِ فِي السَّلَمِ ، وَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَدْ مَلَكَ مَا ابْتَاعَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ ( كَمَا مَلَكَهُ بَعْدَ الْقَبْضِ ) فَلَمَّا اسْتَحَقَّ الْبَائِعُ بِفَلَسِ الْمُشْتَرِي اسْتِرْجَاعَ مَا بَاعَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ اسْتَحَقَّهُ بَعْدَ الْقَبْضِ ، وَتَحْدِيدُ ذَلِكَ أَنَّهُ مُشْتَرٍ أَفْلَسَ بِثَمَنِ مَا ابْتَاعَهُ فَجَازَ أَنْ يَسْتَحِقَّ بِهِ الْبَائِعُ اسْتِرْجَاعَ مَا بَاعَهُ - إِذَا كَانَ عَلَى مَالِهِ - قِيَاسًا عَلَى مَا قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَلِأَنَّ الثَّمَنَ فِي الْبَيْعِ مُسْتَوْفًى مِنْ ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي كَمَا أَنَّ السُّكْنَى فِي الْإِجَارَةِ مُسْتَوْفَاةٌ مِنَ الدَّارِ الْمُسْتَأْجَرَةِ ، فَلَمَّا كَانَ خَرَابُ الدَّارِ يَقْتَضِي فَسْخَ الْإِجَارَةِ وَاسْتِرْجَاعَ الْأُجْرَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ خَرَابُ الذِّمَّةِ يَقْتَضِي فَسْخَ الْبَيْعِ وَاسْتِرْجَاعَ الْعَيْنِ الْمَبِيعَةِ ، وَتَحْدِيدُ ذَلِكَ أَنَّهُ حَقٌّ تَعَيَّنَ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ مَحَلٍّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ خَرَابُ الْمَحَلِّ عِنْدَ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ مِنْهُ مُوجِبًا لِلْفَسْخِ كَالْإِجَارَةِ ، وَلِأَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ قَدْ نَقَلَ مِلْكَ الْبَائِعِ عَنِ الْعَيْنِ الْمَبِيعَةِ إِلَى الثَّمَنِ فِي الذِّمَّةِ ؛ كَمَا أَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ قَدْ نَقَلَ مِلْكَ الْمُشْتَرِي عَنْ رَقَبَةِ الْعَبْدِ إِلَى مَا حَصَلَ لَهُ فِي ذِمَّتِهِ ، فَلَمَّا كَانَ عَجْزُ الْمَكَاتَبِ عَمَّا فِي ذِمَّتِهِ مُوجِبًا لِاسْتِرْجَاعِ الْعَيْنِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَجْزُ الْمُشْتَرِي عَمَّا فِي ذِمَّتِهِ مُوجِبًا لِاسْتِرْجَاعِ الْعَيْنِ ، وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهُ نَوْعُ مُعَاوَضَةٍ يَنْتَقِلُ بِهِ حَقُّ الْمُعَاوَضِ مِنْ عَيْنٍ إِلَى ذِمَّةٍ فَجَازَ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْعَيْنِ عِنْدَ خَرَابِ الذِّمَّةِ كَالْكِتَابَةِ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ فَهُوَ مُرْسَلٌ لَا يَلْزَمُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ ، وَقَدْ تَفَرَّدَ قَتَادَةُ بِنَقْلِهِ وَغَلِطَ فِيهِ ، وَالْمَشْهُورُ مَا رَوَيْنَا مِنَ الطُّرُقِ الْمُخْتَلِفَةِ ، وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ حِينَ مَاتَ مُوسِرًا . وَإِمَّا أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ أَنْ يَكُونَ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ ، عَلَى أَنَّ أَبَا حَامِدٍ كَانَ يَقُولُ : إِنَّ الْغُرَمَاءَ ضَرْبَانِ : مِنْهُمْ مَنْ يَرْجِعُ بِعَيْنِ مَالِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا عَيْنَ لَهُ فَيُضْرَبُ بِدَيْنِهِ فِي مِلْكِهِ فَلَمْ يَكُنْ حَمْلُهُ عَلَى أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ بِأَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْفَرِيقِ الْآخَرِ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الرَّهْنِ فَهُوَ أَنَّ الرَّهْنَ لَمَّا كَانَ عَقْدًا بَطَلَ بِفَسْخِهِ فَلَمْ يَعُدْ إِلَى الرَّهْنِ إِلَّا بِاسْتِيثَاقِهِ وَحَقُّ الْحَبْسِ هَاهُنَا كَانَ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى بَاقٍ بَعْدَ رَفْعِ يَدَيْهِ فَجَازَ أَنْ يَعُودَ لِبَقَاءِ الْحَقِّ إِلَى آخِذِهِ ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْإِبْرَاءِ مِنَ الثَّمَنِ فَالْإِبْرَاءُ لَمَّا أَسْقَطَ الْحَقَّ لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ ، وَرَفْعُ يَدِهِ عَنِ الْمَبِيعِ لَمَّا لَمْ يُسْقِطِ الْحَقَّ جَازَ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْمُوسِرِ الْمُمَاطِلِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَطَلَ الْمُوسِرِ لَمْ تَخْرَبْ بِهِ الذِّمَّةُ فَلَمْ يَسْتَحِقَّ بِهِ الْفَسْخُ ، وَالْفَلَسُ قَدْ خَرِبَتْ بِهِ الذِّمَّةُ فَاسْتَحَقَّ بِهِ الْفَسْخَ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْمُوسِرَ إِذَا مَطَلَ أَمْكَنَ اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ مِنْهُ جَبْرًا بِالْحَاكِمِ ، وَالْمُفْلِسُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْهُ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْهِبَةِ فَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَلْحَقِ الْوَاهِبُ ضَرَرٌ بِفَلَسِ مَنْ وَهَبَ لَهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ بِفَلَسِهِ ، وَلَمَّا لَحِقَ الْبَائِعُ ضَرَرٌ بِفَلَسِ الْمُشْتَرِي اسْتَحَقَّ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ بِفَلَسِهِ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِعَيْنِ الْبَائِعِ فَهُوَ أَنْ عَيْنَ الْبَائِعِ لَمَّا لَمْ يَتَعَلَّقْ حَقُّهُ بِعَيْنٍ لَمْ يَنْصَرِفْ دَيْنُهُ إِلَيْهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْبَائِعُ فِي عَيْنِ مَالِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : إِذَا ثَبَتَ أَنَّ لِلْبَائِعِ الرُّجُوعَ بِعَيْنِ مَالِهِ عِنْدَ فَلَسِ الْمُشْتَرِي فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْفَسْخِ وَاسْتِرْجَاعِهِ لِلْعَيْنِ وَبَيْنَ الْإِمْضَاءِ وَأَنْ يَكُونَ بِالثَّمَنِ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدِ بْنُ حَرْبَوَيْهِ مِنْ أَصْحَابِنَا : إِنَّمَا يَكُونُ الْبَائِعُ أَحَقَّ بِعَيْنِ مَالِهِ لِيَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ مِنْ ثَمَنِهِ وَيَمْنَعَ الْغُرَمَاءَ مِنْ مُشَارَكَتِهِ فِيهِ كَالرَّهْنِ ، وَأَمَّا أَنْ يَسْتَحِقَّ الْفَسْخَ وَاسْتِرْجَاعَ السِّلْعَةِ إِلَى مِلْكِهِ فَلَا ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ خَطَأٌ خَالَفَ بِهِ الْإِجْمَاعَ ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى قَوْلَيْنِ ، مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَا حَقَّ لَهُ فِي عَيْنِ مَالِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يَسْتَحِقُّ الْفَسْخَ وَالرُّجُوعَ بِهِ ، وَقَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ ثَالِثٌ يُخَالِفُهُمَا فَكَانَ مُطْرِحًا هَذَا مَعَ عُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أَحَقُّ بِمَتَاعِهِ إِذَا وَجَدَهُ بِعَيْنِهِ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لَهُ الْفَسْخَ فَهَلْ يَكُونُ خِيَارُ الْفَسْخِ مُسْتَحِقًّا عَلَى الْفَوْرِ أَوْ عَلَى التَّرَاخِي ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ فَإِنْ أَخَّرَهُ مَعَ الْإِمْكَانِ بَطَلَ خِيَارُهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي مَا لَمْ يَعْزِمِ الْحَاكِمُ عَلَى بَيْعِ مَالِهِ كَالْقِصَاصِ الَّذِي لَا يَكُونُ عَلَى الْفَوْرِ بَلْ عَلَى التَّرَاخِي ثُمَّ لَا يَسْتَحِقُّ الْفَسْخَ إِلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ : لِأَنَّهُ خِيَارٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ ، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا بِمَاذَا يَكُونُ الْفَسْخُ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَكُونُ بِصَرِيحِ الْقَوْلِ أَوْ بِالْفِعْلِ كَمَا انْفَسَخَ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَخِيَارِ الثَّلَاثِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ - أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْفَسْخُ إِلَّا بِالْقَوْلِ الصَّرِيحِ دُونَ الْفِعْلِ ، بِخِلَافِ الْفَسْخِ فِي زَمَانِ الْخِيَارِ ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُشْتَرِي فِي زَمَانِ الْخِيَارِ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ فَجَازَ أَنْ يَفْسَخَ بِالْفِعْلِ ، وَمِلْكُ الْمُفْلِسِ مُسْتَقِرٌّ فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يَفْسَخَ إِلَّا بِالْقَوْلِ الصَّرِيحِ دُونَ الْفِعْلِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا مَا إِنْ كَانَ عَيْنُ مَالِ الْبَائِعِ قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي حَقٌّ لِغَيْرِهِ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَمْنَعَ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الرَّقَبَةِ ، أَوْ لَا يَمْنَعُ ، فَإِنْ لَمْ يَمْنَعْ مِنَ التَّصَرُّفِ لَمْ يَمْنَعْ مِنَ اسْتِرْجَاعِ الْبَائِعِ لَهُ ، وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي قَدْ أَجَّرَهُ أَوْ يَكُونَ عَبْدًا قَدْ زَوَّجَهُ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ بَعْدَ إِجَارَتِهِ وَتَزْوِيجِهِ وَالْإِجَارَةُ
عَلَى حَالِهَا وَالْأُجْرَةُ لِلْمُشْتَرِي تُقَسَّمُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ دُونَ الْبَائِعِ ، لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَدْ مَلَكَهَا بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ ، وَكَذَلِكَ صَدَاقُ الْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ مَانِعًا مِنْ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي فِي رَقَبَتِهِ مِثْلَ الرَّهْنِ وَالْكِتَابَةِ وَالْجِنَايَةِ مُنِعَ الْبَائِعُ مِنَ اسْتِرْجَاعِهِ وَضَرَبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِثَمَنِهِ ، فَإِذَا رَهَنَهُ الْمُشْتَرِي كَانَ الْمُرْتَهِنُ أَوْلَى بِثَمَنِهِ وَلَا حَقَّ لِمَانِعِهِ فِي اسْتِرْجَاعِهِ ، لِأَنَّ الْبَائِعَ يَقُومُ فِي اسْتِرْجَاعِهِ مَقَامَ الْمُشْتَرِي ، فَلَمَّا كَانَ الْمُشْتَرِي مَمْنُوعًا مِنْهُ ، فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْبَائِعُ مَمْنُوعًا مِنْهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَاتَبَهُ كِتَابَةً صَحِيحَةً لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ اسْتِرْجَاعُهُ ، لِأَنَّ الْكِتَابَةَ قَيْدٌ أَزَالَتْ يَدَ الْمُشْتَرِي عَنْهُ فَأَوْلَى أَنْ يُزِيلَ يَدَ الْبَائِعِ عَنْهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَنَى جِنَايَةً تَعَلَّقَ أَرْشُهَا بِرَقَبَتِهِ كَانَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ أَوْلَى بِثَمَنِهِ كَالْمُرْتَهِنِ وَلَا حَقَّ لِلْبَائِعِ فِي اسْتِرْجَاعِهِ ، فَلَوْ فُكَّ مِنَ الرَّهْنِ وَعَجَزَ فِي الْكِتَابَةِ وَأُبْرِئَ مِنَ الْجِنَايَةِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ ضَرَبَ بِثَمَنِهِ الْبَائِعُ مِنَ الْغُرَمَاءِ فَلَا حَقَّ لَهُ فِي اسْتِرْجَاعِهِ ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَضْرِبَ بِالثَّمَنِ مَعَ الْغُرَمَاءِ فَهَلْ لَهُ الْفَسْخُ وَاسْتِرْجَاعُهُ عَيْنَ مَالِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا حَقَّ لَهُ فِي اسْتِرْجَاعِهِ وَيَضْرِبُ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِثَمَنِهِ : لِأَنَّهُ صَارَ إِلَى حَالٍ زَالَ عَنْهُ حُكْمُ الِاسْتِرْجَاعِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَهُ اسْتِرْجَاعُهُ بِالْفَسْخِ وَأَخْذُهُ بِالثَّمَنِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أَحَقُّ بِمَتَاعِهِ إِذَا وَجَدَهُ بِعَيْنِهِ فَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ بَاعَهُ وَكَانَ الْبَيْعُ قَدْ لَزِمَ بِالِافْتِرَاقِ وَتُقْضَى زَمَنَ الْخِيَارِ مُنِعَ الْبَائِعُ مِنْهُ لِزَوَالِ مِلْكِ الْمُشْتَرِي عَنْهُ ، وَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ لَمْ يَلْزَمْ بَعْدُ لِبَقَاءِ زَمَانِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ أَوْ خِيَارِ الثَّلَاثِ كَانَ لِلْبَائِعِ اسْتِرْجَاعُهُ كَمَا كَانَ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي الَّذِي بَاعَهُ ، فَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ وَهَبَهُ وَلَمْ يَقْبِضْهُ كَانَ لِلْبَائِعِ اسْتِرْجَاعُهُ ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا تَلْزَمُ ، وَلَوْ كَانَ قَدْ أَقْبَضَهُ لَمْ يَسْتَرْجِعْهُ الْبَائِعُ ، فَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ أَقْرَضَهُ وَأَقْبَضَهُ كَانَ لِلْبَائِعِ اسْتِرْجَاعُهُ مِنْ يَدِ مُقْرِضِهِ كَمَا كَانَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ قَرْضِهِ وَإِقْبَاضِهِ أَنْ يَسْتَرْجِعَهُ ، فَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ أَخْرَجَهُ عَنْ مِلْكِهِ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مِلْكِهِ بِابْتِيَاعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ إِرْثٍ فَهَلْ يَسْتَحِقُّ الْبَائِعُ اسْتِرْجَاعَهُ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا حَقَّ لَهُ فِي اسْتِرْجَاعِهِ : لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ إِلَى حَالٍ لَا يَصِحُّ اسْتِرْجَاعُهُ سَقَطَ حَقُّهُ مِنَ الرُّجُوعِ بِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَهُ اسْتِرْجَاعُهُ لِوُجُودِهِ فِي مِلْكِ مُبْتَاعِهِ قَبْلَ دَفْعِ ثَمَنِهِ ، فَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ بَاعَهُ ثُمَّ ابْتَاعَهُ بِثَمَنٍ لَمْ يَدْفَعْهُ حَتَّى فَلَسَ كَانَ الْبَائِعُ الثَّانِي أَحَقَّ بِاسْتِرْجَاعِهِ مِنَ الْأَوَّلِ ، فَإِنْ عَفَا الْبَائِعُ الثَّانِي عَنِ اسْتِرْجَاعِهِ وَضَرَبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِثَمَنِهِ فَهَلْ يَسْتَحِقُّ الْبَائِعُ الْأَوَّلُ اسْتِرْجَاعَهُ أَمْ لَا ؟ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ . فَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ بَاعَهُ عَلَى ثَالِثٍ ثُمَّ ابْتَاعَهُ بِثَمَنٍ لَمْ يَدْفَعْهُ
حَتَّى فَلَسَ فَحَضَرَ الْبَاعَةُ الثَّلَاثَةُ قَبْلَ قَبْضِ ثَمَنِهِ كَانَ الْبَائِعُ الثَّالِثُ أَحَقُّ بِاسْتِرْجَاعِهِ ، فَإِنْ عَفَا الثَّالِثُ عَنْهُ فَهَلْ لِلْأَوَّلِ وَالثَّانِي حَقٌّ فِي اسْتِرْجَاعِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَا حَقَّ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي اسْتِرْجَاعِهِ . وَالثَّانِي : يَسْتَحِقُّهُ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُمَا يَسْتَرْجِعَانِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَهُ بِنِصْفِ الثَّمَنِ وَيَضْرِبُ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِالنِّصْفِ الْبَاقِي مِنَ الثَّمَنِ .
فَصْلٌ : فَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ شِقْصًا فَاسْتَحَقَّتْ فِيهِ الشُّفْعَةُ وَفَلَسَ الْمُشْتَرِي ثُمَّ حَضَرَ الْبَائِعُ وَالشَّفِيعُ وَتَنَازَعَا فِي أَخْذِ الشِّقْصِ فَاخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُنَا أَيُّهُمَا أَحَقُّ بِأَخْذِهِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْبَائِعَ أَحَقُّ بِهِ مِنَ الشَّفِيعِ لِأَنَّ مَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنَ الضَّرَرِ أَكْثَرُ مِمَّا يَدْخُلُ عَلَى الشَّفِيعِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : - وَهُوَ أَصَحُّ - أَنَّ الشَّفِيعَ أَوْلَى بِهِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ اسْتَحَقَّ الشُّفْعَةَ بِالْبَيْعِ الْمُتَقَدِّمِ ، وَالْبَائِعُ اسْتَحَقَّ الِاسْتِرْجَاعَ بِالْفَلَسِ الْحَادِثِ فَكَانَ الشَّفِيعُ أَوْلَى لِتَقَدُّمِ حَقِّهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمُشْتَرِي لَوْ بَاعَ الشِّقْصَ كَانَ الشَّفِيعُ أَوْلَى بِأَخْذِهِ فَأَوْلَى إِذَا أَفْلَسَ أَنْ يَكُونَ أَحَقَّ بِأَخْذِهِ ، فَعَلَى هَذَا إِذَا أَخَذَ الشَّفِيعُ الشِّقْصَ بِالشُّفْعَةِ ، فَهَلْ يُقَدَّمُ الْبَائِعُ بِثَمَنِهِ أَوْ يَكُونَ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ فِيهِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْبَائِعَ يُقَدَّمُ بِثَمَنِهِ عَلَى جَمِيعِ الْغُرَمَاءِ كَمَا كَانَ مُقَدَّمًا بِاسْتِرْجَاعِهِ عَلَى جَمِيعِ الْغُرَمَاءِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْبَائِعَ أُسْوَةُ جَمِيعِ الْغُرَمَاءِ فِي ثَمَنِهِ لِفَوَاتِ الْعَيْنِ ، وَأَنَّ مَا دَفَعَ الشَّفِيعُ مِنَ الثَّمَنِ فِي حُكْمِ مُشْتَرٍ لَوِ اشْتَرَاهُ فَدَفَعَ الثَّمَنَ كَانَ جَمِيعُ الْغُرَمَاءِ فِيهِ أُسْوَةً ، فَكَذَلِكَ مَا دَفَعَ الشَّفِيعُ مِنَ الثَّمَنِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الْغُرَمَاءِ فِيهِ أُسْوَةً .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيُقَالُ لِمَنْ قَبِلَ الْحَدِيثَ فِي الْمُفْلِسِ فِي الْحَيَاةِ دُونَ الْمَوْتِ قَدْ حَكَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشُّفْعَةِ عَلَى الْحَيِّ فَحَكَمْتُمْ بِهَا عَلَى وَرَثَتِهِ ، فَكَيْفَ لَمْ تَحْكُمُوا فِي الْمُفْلِسِ فِي مَوْتِهِ عَلَى وَرَثَتِهِ كَمَا حَكَمْتُمْ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ فَقَدْ جَعَلْتُمْ لِلْوَرَثَةِ أَكْثَرَ مِمَّا لِلْمُوَرِّثِ الَّذِي عَنْهُ مَلَكُوا ، وَأَكْثَرُ حَالِ الْوَارِثِ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ إِلَّا مَا لِلْمَيِّتِ " .
مَسْأَلَةٌ مَوْتَ الْمُشْتَرِي قَبْلَ دَفْعِ الثَّمَنِ مَعَ بَقَاءِ السِّلْعَةِ مَعَهُ
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : " اعْلَمْ أَنَّ مَوْتَ الْمُشْتَرِي قَبْلَ دَفْعِ الثَّمَنِ مَعَ بَقَاءِ السِّلْعَةِ مَعَهُ حكمه لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَمُوتَ مُفْلِسًا ، أَوْ مُوسِرًا ، فَإِنْ مَاتَ مُوسِرًا كَانَ الْبَائِعُ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ وَلَا حَقَّ لَهُ فِي اسْتِرْجَاعِ مَا بَاعَ ، هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ ، وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ : مَنْ يَتَّهِمُ أَنَّ لِلْبَائِعِ اسْتِرْجَاعَ مَالِهِ بِمَوْتِ الْمُشْتَرِي مُوسِرًا كَمَا لَهُ اسْتِرْجَاعُهُ بِمَوْتِ الْمُشْتَرِي مُفْلِسًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَيُّمَا رَجُلٍ مَاتَ أَوْ أَفْلَسَ فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أَحَقُّ بِمَتَاعِهِ إِذَا وَجَدَهُ بِعَيْنِهِ قَالَ وَلِأَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ بِعَيْنِ مَالِهِ بِإِفْلَاسِ الْمُشْتَرِي لِخَرَابِ الذِّمَّةِ بِالْإِفْلَاسِ كَانَ رُجُوعُهُ بِعَيْنِ مَالِهِ بِمَوْتِ الْمُشْتَرِي أَوْلَى لِتَلَفِ ذِمَّتِهِ بِالْمَوْتِ وَهَذَا خَطَأٌ ، لِأَنَّ رُجُوعَ الْبَائِعِ بِعَيْنِ مَالِهِ لَمَّا لَمْ يَلْحَقْهُ مِنَ الضَّرَرِ بِقَبْضِ الثَّمَنِ - وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْمُفْلِسِ الْحَيِّ وَمَعْدُومٌ فِي الْمُوسِرِ الْمَيِّتِ - فَلَا وَجْهَ لِلْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي افْتِرَاقِ الْمَعْنَى فِيهِمَا وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ : " أَيُّمَا رَجُلٍ مَاتَ أَوْ أَفْلَسَ " بِمَعْنَى : مَاتَ مُفْلِسًا أَوْ أَفْلَسَ حَيًّا ، وَتَلَفُ الذِّمَّةِ بِالْمَوْتِ لَيْسَ يَمْنَعُ عَنْ وُصُولِ الْبَائِعِ إِلَى حَقِّهِ ، وَخَرَابُهَا بِالْفَلَسِ فِي الْحَيَاةِ يَمْنَعُهُ مِنْ وُصُولِهِ إِلَى حَقِّهِ فَلَمْ يَكُنْ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا وَجْهٌ .
فَصْلٌ إِذَا مَاتَ الْمُشْتَرِي مُفْلِسًا فَلِلْبَائِعِ اسْتِرْجَاعُ مَالِهِ
فَصْلٌ : وَإِذَا مَاتَ الْمُشْتَرِي مُفْلِسًا فَلِلْبَائِعِ اسْتِرْجَاعُ مَالِهِ ، وَقَالَ مَالِكٌ : قَدْ سَقَطَ بِمَوْتِ الْمُشْتَرِي رُجُوعُ الْبَائِعِ بِعَيْنِ مَالِهِ فَلَا حَقَّ لَهُ فِيهِ وَيَضْرِبُ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِثَمَنِهِ ، اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَتِهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَيُّمَا رَجُلٍ بَاعَ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْئًا فَوَجَدَهُ بِعَيْنِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ ، فَإِنْ مَاتَ الْمُشْتَرِي فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ وَهَذَا نَصٌّ ، قَالَ : وَلِأَنَّ الْمَبِيعَ بَعْدَ الْمَوْتِ قَدْ صَارَ مِلْكًا لِوَارِثِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُنْتَزَعَ مِنْهُ بِفَلَسِ غَيْرِهِ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْتَزَعَ مِمَّنِ انْتَقَلَ إِلَيْهِ بِبَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ ، قَالَ : وَلِأَنَّ دُيُونَ الْمَيِّتِ قَدِ انْتَقَلَتْ بِالْمَوْتِ مِنْ ذِمَّتِهِ إِلَى عَيْنِ تَرِكَتِهِ ، فَاسْتَوَى الْبَائِعُ وَجَمِيعُ الْغُرَمَاءِ فِي تَعَلُّقِ حُقُوقِهِمْ بِأَعْيَانِ تَرِكَتِهِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَيُّمَا رَجُلٍ مَاتَ أَوْ أَفْلَسَ فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أَحَقُّ بِمَتَاعِهِ إِذَا وَجَدَهُ بِعَيْنِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَحَقَّ بِفَلَسِ الْحَيِّ أَنْ يَرْجِعَ بِعَيْنِ مَالِهِ مَعَ بَقَاءِ ذِمَّتِهِ فَرُجُوعُهُ بِفَلَسِ الْمَيِّتِ أَوْلَى ذِمَّتَهُ ، وَلِأَنَّ كُلَّ حَقٍّ تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ لَمْ يَبْطُلْ بِالْمَوْتِ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ كَالرَّهْنِ إِذَا مَاتَ رَاهِنُهُ وَالْعَبْدِ الْجَانِي إِذَا مَاتَ سَيِّدُهُ ، وَأَيْضًا مِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ أَنَّ أَقْوَى أَحْوَالِ الْوَارِثِ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ مَوْرُوثِهِ ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْمُفْلِسِ أَنْ يَمْنَعَ الْبَائِعَ مِنَ الرُّجُوعِ بِعَيْنِ مَالِهِ فَوَارِثُهُ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ مَنْعُ الْبَائِعِ مِنَ الرُّجُوعِ بِعَيْنِ مَالِهِ ، اعْتَرَضَ الْمُزَنِيُّ عَلَى هَذَا الِاسْتِدْلَالِ فَقَالَ : قَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْحَبْسِ : إِذَا هَلَكَ أَهْلُهُ رَجَعَ إِلَى أَقْرَبِ النَّاسِ بِالْمَحْبَسِ ، قَدْ جَعَلَ الْأَقْرَبَ بِالْمَحْبَسِ فِي حَيَاتِهِ مَا لَمْ يَجْعَلْ لِلْمَحْبَسِ
يُرِيدُ : أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا وَقَفَ عَلَى أَوْلَادِهِ فَهَلَكُوا فِي حَيَاتِهِ حكمه كَانَ الْوَقْفُ رَاجِعًا إِلَى أَقْرَبِ النَّاسِ بِالْوَاقِفِ ، وَلَا يَرْجِعُ إِلَى الْوَاقِفِ ، لَكِنْ رَوَى الْمُزَنِيُّ : أَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى أَقْرَبِهِمْ ، فَظَاهَرُ هَذَا اسْتِوَاءُ الْأَغْنِيَاءِ فِيهِ وَالْفُقَرَاءِ ، وَرَوَى حَرْمَلَةُ : أَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى الْفُقَرَاءِ مِنْ قَرَابَتِهِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا وَهِمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِيهِ ، وَأَمَّا الْإِطْلَاقُ فِي رِوَايَةِ الْمُزَنِيِّ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي رِوَايَةِ حَرْمَلَةَ ، قَالَ الْمُزَنِيُّ : قَدْ جُعِلَ لِوَرَثَتِهِ مَا لَمْ يُجْعَلْ لَهُ فِي حَيَاتِهِ ، فَأَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْ ذَلِكَ بِجَوَابِينَ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ جَوَابُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : أَنَّ الْوَاقِفَ أَخْرَجَ الْوَقْفَ لِلَّهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعُودَ إِلَيْهِ لِهَذَا الْمَعْنَى ، وَهَذَا مَعْدُومٌ فِي قَرَابَتِهِ . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : وَهُوَ جَوَابُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ رُجُوعَ الْوَقْفِ إِلَى قُرَابَةِ الْوَاقِفِ لَيْسَ بِالْإِرْثِ لِأَنَّ الْحَيَّ لَا يُورَثُ ، وَلِأَنَّ الْوَاقِفَ لَوْ تَرَكَ بِنْتَ بِنْتٍ وَعَمًّا رَجَعَ الْوَقْفُ إِلَى بِنْتِ الْبِنْتِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَارِثَةً لِأَنَّهَا أَقْرَبُ ، وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَى الْعَمِّ وَإِنْ كَانَ وَارِثًا لِأَنَّهُ أَبْعَدُ ، فَإِذَا لَمْ يَرْجِعِ الْوَقْفُ إِلَيْهِمْ بِالْإِرْثِ لَمْ يَقُومُوا فِيهِ مَقَامَهُ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ أَقْوَى مِنْهُ ، وَمَالُ الْمُفْلِسِ إِنَّمَا صَارَ إِلَى وَرَثَتِهِ بِالْمَوْتِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونُوا فِيهِ أَقْوَى مِنْهُ ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ مَالِكٌ مِنَ الْخَبَرِ فَهُوَ أَنَّهُ مُرْسَلٌ وَالِاحْتِجَاجُ بِهِ لَا يَلْزَمُ ، وَلَوِ الْتَزَمْنَاهُ لَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إِمَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَنْ مَاتَ مُوسِرًا . وَإِمَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْبَائِعِ إِذَا لَمْ يُرِدِ الرُّجُوعَ بِعَيْنِ مَالِهِ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ أَنَّهُ قَدِ انْتَقَلَ بِالْمَوْتِ إِلَى مِلْكِ وَارِثِهِ فَهُوَ أَنَّ الْمِلْكَ انْتَقَلَ بِالْمَوْتِ إِلَى مِلْكِ الْوَارِثِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ عَلَى مِلْكِ الْمُوَرَّثِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ مَاتَ عَنْ شِقْصٍ قَدِ اسْتَحَقَّ بِالشُّفْعَةِ كَانَ الشِّقْصُ مُنْتَقِلًا إِلَى الْوَارِثِ مَعَ مَا قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ مِنَ اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ ، كَذَلِكَ مَالُ الْمُفْلِسِ قَدِ انْتَقَلَ إِلَى الْوَارِثِ بِمَا قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ حَقِّ الِاسْتِرْجَاعِ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : إِنَّ دُيُونَ الْمَيِّتِ قَدِ انْتَقَلَتْ بِتَلَفِ الذِّمَّةِ إِلَى عَيْنِ مَالِهِ فَاسْتَوَى الْبَائِعُ وَجَمِيعُ الْغُرَمَاءِ فَهُوَ أَنَّ هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ : لِأَنَّهُ لَوْ تَعَلَّقَتْ حُقُوقُهُمْ بِعَيْنِ مَالِهِ لَمَا جَازَ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَقْضُوا دُيُونَهُمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ عَلَى أَنَّنَا لَوْ سَلَّمْنَا هَذَا لَكَانَتْ مُتَعَلِّقَةً بِمَا سِوَى الْأَعْيَانِ الَّتِي بِيعَتْ عَلَيْهِ لِتَعَلُّقِ حُقُوقِ بَائِعِهَا بِهَا .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ لِكُلِّ مَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الْمُفْلِسِ حَيًّا وَمَيِّتًا فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمَيِّتِ مُفْلِسًا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ وُقُوعِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ بِالْفَلَسِ . أَوْ يَكُونَ قَبْلَ وُقُوعِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ بِالْفَلَسِ ، فَإِنْ كَانَ مَوْتُهُ بَعْدَ أَنْ حَجَرَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ بِالْفَلَسِ فَالْمَقْصُودُ بِالْحَجْرِ عَلَيْهِ شَيْئَانِ :
أَحَدُهُمَا : حِفْظُ مَالِهِ عَلَى غُرَمَائِهِ لِيَصِلُوا إِلَى حُقُوقِهِمْ مِنْهُ . وَالثَّانِي : رَدُّ الْأَعْيَانِ إِلَى بَائِعِهَا إِذَا لَمْ يَقْضُوا أَثْمَانَهَا ، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ حَجْرِ الْحَاكِمِ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُوقَعَ الْحَجْرُ حَجْرَ الْمُفْلِسِ عَلَى مَالِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَاجِزًا عَنْ قَدْرِ الدَّيْنِ ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ وَفَاءٌ بِالدَّيْنِ سَقَطَ حَجْرُ الْمُفْلِسِ عَنْهُ وَجْهًا وَاحِدًا ، وَإِنْ كَانَ فِي الْحَيِّ عَلَى وَجْهَيْنِ ، لِأَنَّ الْحَيَّ يُخَافُ تَبْذِيرُهُ فَجَازَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ مَعَ الْوَفَاءِ وَقَدْ أُمِنَ ذَلِكَ فِي حَالِ الْمَيِّتِ ، لِأَنَّ الْوَرَثَةَ مَمْنُوعُونَ مِنَ التَّصَرُّفِ بِكُلِّ حَالٍ فِي تَرِكَةِ الْمَيِّتِ إِلَّا بَعْدَ قَضَاءِ دَيْنِهِ فَلَمْ يَجُزْ إِيقَاعُ حَجْرِ الْمُفْلِسِ عَلَى مَالِهِ مَعَ وُجُودِ الْوَفَاءِ ، ثُمَّ الْمَقْصُودُ بِهَذَا الْحَجْرِ عِنْدَ عَجْزِ الْمَالِ رَدُّ الْأَعْيَانِ عَلَى بَائِعِهَا إِذَا لَمْ يَقْبِضْ أَثْمَانَهَا ، فَأَمَّا حِفْظُ التَّرِكَةِ عَلَى الْغُرَمَاءِ فَذَلِكَ مُسْتَحَقٌّ مَعَ وُجُودِ الْفَلَسِ وَعَدَمِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا أَجْعَلُ لِلْغُرَمَاءِ مَنْعَهُ بِدَفْعِ الثَّمَنِ وَلَا لِوَرَثَةِ الْمَيِّتِ ، وَقَدْ جَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَقَّ بِهِ مِنْهُمْ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) قُلْتُ أَنَا : وَقَالَ فِي الْمَحْبَسِ إِذَا هَلَكَ أَهْلُهُ رَجَعَ إِلَى أَقْرَبِ النَّاسِ إِلَى الْمَحْبَسِ فَقَدْ جَعَلَ لِأَقْرَبِ النَّاسِ بِالْمَحْبَسِ فِي حَيَاتِهِ مَا لَمْ يَجْعَلْ لِلْمَحْبَسِ ، وَهَذَا عِنْدِي غَيْرُ جَائِزٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا كَانَ عَيْنُ مَالِ الْبَائِعِ زَائِدَ الْقِيمَةِ عَلَى ثَمَنِهِ فَبَذَلَ لَهُ غُرَمَاءُ الْمُفْلِسِ جَمِيعَ الثَّمَنِ وَافِيًا لِيَبِيعُوا السِّلْعَةَ مَعَ زِيَادَتِهَا لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ وَكَانَ أَحَقَّ بِعَيْنِ مَالِهِ ، وَكَذَلِكَ وَرَثَةُ الْمَيِّتِ إِذَا بَذَلُوا لَهُ الثَّمَنَ مُوفَرًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ، وَقَالَ مَالِكٌ : إِذَا بَذَلَ الْغُرَمَاءُ لِلْبَائِعِ ثَمَنَ سِلْعَتِهِ سَقَطَ حَقُّهُ مِنَ الرُّجُوعِ بِهَا اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ رُجُوعَهُ بِعَيْنِ مَالِهِ إِنَّمَا كَانَ لِإِزَالَةِ الضَّرَرِ عَنْهُ بِمَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنَ النَّقْصِ مِنْ مُشَارَكَةِ الْغُرَمَاءِ ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ بِعَيْنِ مَالِهِ فِي غَيْرِ الْمُفْلِسِ لِفَقْدِ هَذَا الْمَعْنَى ، فَإِذَا بَذَلَ لَهُ الْغُرَمَاءُ الثَّمَنَ مُوفَرًا زَالَ عَنْهُ الضَّرَرُ فَسَقَطَ حَقُّهُ مِنَ الرُّجُوعِ كَمَا سَقَطَ فِي غَيْرِ الْمُفْلِسِ ، وَلِأَنَّ تَعَلُّقَ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِالرَّهْنِ أَقْوَى مِنْ تَعَلُّقِ حَقِّ الْبَائِعِ بِالْعَيْنِ ، لِأَنَّهُمَا إِذَا اجْتَمَعَا قُدِّمَ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الْبَائِعِ ، فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْغُرَمَاءَ لَوْ بَذَلُوا لِلْمُرْتَهِنِ دَيْنَهُ سَقَطَ حَقُّهُ مِنَ الرَّهْنِ وَجَبَ إِذَا بَذَلُوا لِلْبَائِعِ الثَّمَنَ أَنْ يَسْقُطَ حَقُّهُ مِنَ الْعَيْنِ ، وَلِأَنَّ لِلْمُؤَجِّرِ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ بِفَلَسِ الْمُسْتَأْجِرِ كَمَا لِلْبَائِعِ أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ بِفَلَسِ الْمُشْتَرِي ، فَلَمَّا كَانَ الْغُرَمَاءُ لَوْ بَذَلُوا لِلْمُؤَجِّرِ الْأُجْرَةَ سَقَطَ حَقُّهُ مِنَ الْفَسْخِ وَجَبَ إِذَا بَذَلُوا لِلْبَائِعِ الثَّمَنَ أَنْ يَسْقُطَ حَقُّهُ مِنَ الْفَسْخِ ، وَدَلِيلُنَا : عُمُومُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أَحَقُّ بِمَتَاعِهِ إِذَا وَجَدَهُ بِعَيْنِهِ " ، وَلِأَنَّ حُدُوثَ الْعَيْبِ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي كَوُجُودِ الْعَيْبِ فِي الْمَبِيعِ ، فَلَمَّا كَانَ بَذْلُ الْبَائِعِ أَرْشَ الْعَيْبِ لَا يَمْنَعُ الْمُشْتَرِي مِنَ الرَّدِّ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَذْلُ الْغُرَمَاءِ الثَّمَنَ لَا يَمْنَعُ الْبَائِعَ مِنَ اسْتِرْجَاعِ الْعَيْنِ ، وَلِأَنَّ حَقَّ الْبَائِعِ فِي اسْتِرْجَاعِ الْعَيْنِ كَحَقِّ الشَّفِيعِ فِي انْتِزَاعِ الشِّقْصِ بِالشُّفْعَةِ ، فَلَمَّا كَانَ بَذْلُ الْغُرَمَاءِ
الثَّمَنَ لِلشَّفِيعِ لَا يُسْقِطُ حَقَّهُ مِنَ الشُّفْعَةِ كَانَ بَذْلُ الْغُرَمَاءِ الثَّمَنَ لِلْبَائِعِ لَا يُسْقِطُ حَقَّهُ مِنَ اسْتِرْجَاعِ الْعَيْنِ ، وَلِأَنَّ الْمَالَ الْمَبْذُولَ لِلْبَائِعِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْمُفْلِسِ أَوْ لِلْغُرَمَاءِ ، فَإِنْ كَانَ لِلْمُفْلِسِ لَمْ يَجُزْ بَذْلُهُ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ بَعْضُ الْغُرَمَاءِ بِالتَّوْفِيرِ عَلَيْهِ دُونَ بَعْضٍ ، وَأَنَّ الْبَائِعَ لَا يَأْمَنُ ظُهُورَ غَرِيمٍ لَمْ يَرْضَ ، وَإِنْ كَانَ الْمَبْذُولُ مِنْ مَالِ الْغُرَمَاءِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى قَبُولِهِ لِأَنَّهُ لَا مُعَامَلَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِزَوَالِ الضَّرَرِ عَنْهُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فَسَادَهُ بِبَذْلِ أَرْشِ الْعَيْبِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الضَّرَرَ لَمْ يَزُلْ لِجَوَازِ حُدُوثِ غَرِيمٍ لَمْ يَرْضَ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِالرَّهْنِ فَهُوَ أَنَّ تَعَلُّقَ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِالرَّهْنِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِيثَاقِ لَا عَلَى سَبِيلِ التَّمْلِيكِ ، فَإِذَا وَصَلَ إِلَى حَقِّهِ مِنْ غَيْرِ الرَّهْنِ فَقَدْ حَصَلَ لَهُ الِاسْتِيثَاقُ بِهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْبَائِعُ ؛ لِأَنَّ تَعَلُّقَ حَقِّهِ بِعَيْنِ مَالِهِ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ لَهُ فَلَمْ يَسْقُطْ بِبَذْلِ الثَّمَنِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَيْسَ لَهُ أَخْذُ الرَّهْنِ بِحَقِّهِ وَلِلْبَائِعِ أَخْذُ الْعَيْنِ بِحَقِّهِ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِالْإِجَارَةِ فَهُوَ أَنَّهُ مَتَى لَمْ يَكُنِ الشَّيْءُ الْمُسْتَأْجَرُ مَشْغُولًا بِزَرْعٍ لِلْمُفْلِسِ فَلِلْمُؤَجِّرِ فَسْخُ الْإِجَارَةِ وَلَا يَلْزَمُهُ الْإِمْسَاكُ بِبَذْلِ الْأُجْرَةِ ، وَإِنْ كَانَ مَشْغُولًا بِزَرْعِهِ وَاتَّفَقَ الْغُرَمَاءُ عَلَى بَذْلِ تَسْلِيمِ الْأُجْرَةِ فَلِلْمُؤَجِّرِ الْفَسْخُ وَأَخْذُ أُجْرَةِ الْمِثْلِ وَلَا يَسْتَرْجِعُ الْأَرْضَ قَبْلَ حَصَادِ الزَّرْعِ فَقَدْ فَسَخَ الْإِجَارَةَ وَإِنْ لَمْ يَسْتَرْجِعِ الْأَرْضَ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَرْجِعَهَا إِذَا بَذَلَ لَهُ ثَمَنَ مَثَلِهَا وَجَازَ لِلْبَائِعِ اسْتِرْجَاعُ الْعَيْنِ وَإِنْ بَذَلَ لَهُ ثَمَنَ مِثْلِهَا ؛ أَنَّ بَذْلَ الْأُجْرَةِ مِنَ اسْتِصْلَاحِ مَالِ الْمُفْلِسِ فَيَقَعُ لَازِمًا لَا خِيَارَ فِيهِ لِمَنْ غَابَ مِنَ الْغُرَمَاءِ كَمَا يَبْذُلُ مِنْ مَالِهِ أُجُورَ حِفَاظِهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَذْلُ ثَمَنِ الْمَبِيعِ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ لَازِمًا وَلَا فِيهِ اسْتِصْلَاحٌ لِبَاقِي مَالِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَإِنْ تَغَيَّرَتِ السِّلْعَةُ بِنَقْصٍ فِي بَدَنِهَا بِعَوَرٍ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ زَادَتْ فَسَوَاءٌ إِنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا كَمَا تَنْقُصُ الشُّفْعَةُ بِهَدْمٍ مِنَ السَّمَاءِ إِنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا فَصْلٌ يَجِبُ تَفْصِيلُهُ ، وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ السِّلْعَةَ الْمَبِيعَةَ إِذَا تَغَيَّرَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي لَمْ يَخْلُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَتَغَيَّرَ بِنَقْصٍ أَوْ بِزِيَادَةٍ فَإِنْ كَانَ تَغَيُّرُهَا بِنَقْصٍ فَالنَّقْصُ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ نَقْصُهَا مُتَمَيِّزًا .
وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ نَقْصُهَا غَيْرَ مُمَيَّزٍ ، فَإِنْ كَانَ النَّقْصُ مُمَيَّزًا وَلَمْ يَكُنْ تَبَعًا لِمَا بَقِيَ كَعَبْدَيْنِ مَاتَ أَحَدُهُمَا أَوْ ثَوْبَيْنِ تَلِفَ أَحَدُهُمَا فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِالْبَاقِي مِنْهُمَا بِحِسَابِهِ مِنَ الثَّمَنِ وَقِسْطِهِ ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ كَانَ مُقْسَطًا عَلَيْهِمَا ، وَيَضْرِبُ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِحِصَّةِ التَّالِفِ مِنْهُمَا وَيَكُونُ الثَّمَنُ مُقْسَطًا عَلَى قِيمَتِهِمَا لِأَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُمَاثَلُ الْأَجْزَاءِ مِثْلَ : قَفِيزَيْنِ مِنْ طَعَامٍ يَتْلِفُ أَحَدُهُمَا وَيَبْقَى الْآخَرُ فَيَأْخُذُ الْبَاقِي مِنْهُمَا بِنِصْفِ الثَّمَنِ لِيَقْسِطَ ذَلِكَ عَلَى أَجْزَائِهِمَا ، وَيَضْرِبُ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِالنِّصْفِ الْبَاقِي مِنَ الثَّمَنِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ التَّالِفُ مِنْهُمَا بِاسْتِهْلَاكٍ مِنْهُ أَمْ لَا ، فَإِنْ قِيلَ فَهَلَّا كَانَ فِيمَا يَأْخُذُ الْبَاقِي بِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : بِجَمِيعِ الثَّمَنِ . وَالثَّانِي : بِحِسَابِهِ كَمَا لَوْ تَلِفَ حِينَ الْعَقْدِ كَانَ فِيمَا يَأْخُذُهُ الْمُشْتَرِي بِهِ قَوْلَانِ : قِيلَ قَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَغْلَطُ فَيَفْعَلُ ذَلِكَ وَيُخَرِّجُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَامْتَنَعَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا وَالْمُحَقِّقُونَ مِنْهُمْ أَنْ يُخَرِّجُوهُ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا بِأَنَّ أَوَائِلَ الْعُقُودِ تُؤَكَّدُ بِمَا لَا يُؤَكَّدُ بِهِ أَوَاخِرُهَا فَدَعَتِ الضَّرُورَةُ فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ لِيُأَكَّدَ الْعَقْدُ فِي أَوَّلِهِ أَنْ يُجْعَلَ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْنِ حَتَّى لَا يُوقِعَ جَهَالَةً فِي الثَّمَنِ فَبَطَلَ الْعَقْدُ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي اسْتِرْجَاعِ الْبَائِعِ لَهُ بِفَلَسِ الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَأْنِفْ عَقْدًا تَقَعُ الْجَهَالَةُ فِي ثَمَنِهِ ، فَهَذَا حُكْمُ النَّقْصِ إِذَا تَمَيَّزَ وَانْفَصَلَ .
فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ النَّقْصُ غَيْرَ مُتَمَيِّزٍ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ في المبيع : ضَرْبٌ يُمْكِنُ إِفْرَادُهُ ، وَضَرْبٌ لَا يُمْكِنُ إِفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ إِفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ مِثْلَ عَوَرِ الْعَبْدِ أَوْ ذَهَابِ يَدِهِ أَوْ هُزَالِهِ بَعْدَ سِمَنِهِ لَمْ يَخْلُ ذَلِكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِحَادِثٍ مِنَ السَّمَاءِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ بِجِنَايَةِ الْمُشْتَرِي . وَالثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ بِجِنَايَةِ أَجْنَبِيٍّ . فَإِنْ كَانَ هَذَا النَّقْصُ بِحَادِثٍ مِنَ السَّمَاءِ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَهُ نَاقِصًا بِجَمِيعِ ثَمَنِهِ وَلَا يَرْجِعَ عَلَى الْمُفْلِسِ الْمُشْتَرِي بِأَرْشِ نَقْصِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ ضَمَنَهُ بِثَمَنِهِ ، وَمَنْ ضَمِنَ الشَّيْءَ بِثَمَنِهِ لَمْ يَضْمَنْ أَرْشَ نَقْصِهِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْعَيْنِ مِنْ يَدِهِ ؛ كَالْبَائِعِ لَمَّا ضَمِنَ الْمَبِيعَ لِلْمُشْتَرِي بِثَمَنِهِ دُونَ قِيمَتِهِ لَمْ يَضْمَنْ أَرْشَ مَا حَدَثَ مِنْ نَقْصِهِ فِي يَدِهِ وَكَانَ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِلْغَاصِبِ ، لِأَنَّ الْغَاصِبَ لَمَّا كَانَ ضَامِنًا لِلشَّيْءِ الْمَغْصُوبِ بِقِيمَتِهِ دُونَ ثَمَنِهِ ضَمِنَ أَرْشَ مَا حَدَثَ مِنَ النَّقْصِ فِي يَدِهِ ، وَإِنْ كَانَ هَذَا النَّقْصُ بِجِنَايَةِ أَجْنَبِيٍّ فَأَرْشُهَا مَضْمُونٌ عَلَيْهِ بِجِنَايَتِهِ ، فَيَكُونُ لِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَهُ نَاقِصًا بِالثَّمَنِ وَيَرْجِعَ بِأَرْشِ النَّقْصِ ؛ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَى جِنَايَتِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي يَدِ بَائِعِهِ فَجَنَى عَلَيْهِ أَجْنَبِيٌّ أَخَذَهُ الْمُشْتَرِي بِثَمَنِهِ وَأَخَذَ أَرْشَ نَقْصِهِ ، وَإِذَا
وَجَبَ لِلْبَائِعِ - إِذِ اسْتَرْجَعَ الْعَبْدَ بِثَمَنِهِ - أَنْ يَرْجِعَ بِأَرْشِ نَقْصِهِ نَظَرَ فِي الْأَرْشِ فَإِنْ كَانَ بَاقِيًا عَلَى الْجَانِي لَمْ يَأْخُذْهُ الْمُشْتَرِي كَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَخْتَصَّ بِأَخْذِهِ وَلَا يُشَارِكَ الْغُرَمَاءَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ عَيْنِ الَّذِي تَفَرَّدَ بِاسْتِرْجَاعِهَا ، فَإِنْ كَانَ الْأَرْشُ قَدْ أَخَذَهُ الْمُشْتَرِي وَاسْتَهْلَكَهُ ضَرَبَ الْبَائِعُ بِقَدْرِ الْأَرْشِ مَعَ الْغُرَمَاءِ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ بِهِ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنْ مُسْتَهْلَكِهِ غَيْرُ مَوْجُودٍ ، وَإِنْ كَانَ هَذَا النَّقْصُ بِجِنَايَةِ الْمُشْتَرِي فَفِيهَا وَجْهَانِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي الْبُيُوعِ إِذَا جَنَى الْبَائِعُ عَلَى مَا فِي يَدِهِ مِنَ الْمَبِيعِ . أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ : أَنَّ أَرْشَ جِنَايَتِهِ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ - كَحَادِثٍ مِنَ السَّمَاءِ - فَعَلَى هَذَا لِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَرْجِعَهُ نَاقِصًا بِكُلِّ الثَّمَنِ إِنْ شَاءَ وَلَا أَرْشَ لَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ أَرْشَ جِنَايَتِهِ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ كَجِنَايَةِ الْأَجْنَبِيِّ ، فَعَلَى هَذَا لِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَرْجِعَهُ نَاقِصًا بِكُلِّ الثَّمَنِ وَضَرَبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِأَرْشِ النَّقْصِ ، فَهَذَا حُكْمُ النَّقْصِ الْمُتَّصِلِ إِذَا لَمْ يُمْكِنْ إِفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ .
فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ النَّقْصُ الْمُتَّصِلُ مِمَّا يُمْكِنُ إِفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ كَدَارٍ انْهَدَمَتْ أَوْ بَعْضُهَا أَوْ كَأَرْضٍ غَرِقَ شَيْءٌ مِنْهَا فَرَوَى الْمُزَنِيُّ وَحَرْمَلَةُ : أَنَّ الْبَائِعَ يَأْخُذُ الْمَبِيعَ نَاقِصًا بِكُلِّ الثَّمَنِ ، وَرَوَى الرَّبِيعُ ، وَالْبُوَيْطِيُّ ، وَالزَّعْفَرَانِيُّ فِي الْقَدِيمِ فِي الشُّفْعَةِ : أَنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُ ذَلِكَ نَاقِصًا بِحِسَابِهِ مِنَ الثَّمَنِ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الشُّفْعَةِ وَالْفَلَسِ عَلَى أَرْبَعَةِ طُرُقٍ : فَمِنْهُمْ مَنْ خَرَّجَ مَسْأَلَةَ الْمُفْلِسِ وَالشُّفْعَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ لِاخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ أَبِي الطَّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ وَأَبِي حَفْصِ بْنِ الْوَكِيلِ . أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ : أَنَّ لِلْبَائِعِ وَالشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَاهُ نَاقِصًا بِكُلِّ الثَّمَنِ لِأَنَّ النَّقْصَ تَابِعٌ فَأَشْبَهَ الْعَوَرَ وَذَهَابَ الْيَدِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ لِلْبَائِعِ وَالشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَاهُ نَاقِصًا بِحِسَابِهِ مِنَ الثَّمَنِ ، لِأَنَّ النَّقْصَ لَمَّا صَحَّ إِفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ جَرَى مَجْرَى الْعَبْدَيْنِ وَالثَّوْبَيْنِ إِذَا تَلِفَ أَحَدُهُمَا . وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ طَرِيقَةُ طَائِفَةٍ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ : أَنَّ فِي الْفَلَسِ يَرْجِعُ الْبَائِعُ بِهِ نَاقِصًا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ إِنْ شَاءَ عَلَى ظَاهِرِ نَصِّهِ فِي رِوَايَةِ الْمُزَنِيِّ وَحَرْمَلَةَ ، وَفِي الشُّفْعَةِ إِذَا أَخَذَهَا الشَّفِيعُ نَاقِصًا عَلَى قَوْلَيْنِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ . وَالطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ : أَنَّ فِي الْفَلَسِ يَأْخُذُهُ الْبَائِعُ نَاقِصًا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ كَمَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ وَحَرْمَلَةُ ، وَفِي الشُّفْعَةِ يَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ نَاقِصًا بِحِسَابِهِ مِنَ الثَّمَنِ وَقِسْطِهِ كَمَا نَقَلَهُ الرَّبِيعُ وَالْبُوَيْطِيُّ وَنُسِبَ الْمُزَنِيُّ إِلَى الْخَطَأِ حِينَ نَقَلَ فِي الْفَلَسِ ، وَكَذَلِكَ
الشُّفْعَةُ ، وَكَانَ مِنْ فَرْقِهِ بَيْنَ الْفَلَسِ وَالشُّفْعَةِ أَنَّ الشَّفِيعَ فِي الشُّفْعَةِ يَحُلُّ مَحَلَّ الْمُشْتَرِي ؛ فَلَمَّا كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ لَزِمَهُ الثَّمَنُ فِي مُقَابَلَةِ جَمِيعِ الْمَبِيعِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَلْتَزِمَ الشَّفِيعُ الثَّمَنَ كُلَّهُ فِي مُقَابَلَةِ بَعْضِ الْمَبِيعِ ، وَالْبَائِعُ فِي الْفَلَسِ لَا يَحُلُّ مَحَلَّ الْمُشْتَرِي وَإِنَّمَا يَقْطَعُ الْعَقْدَ الْمُتَقَدِّمَ لِمَا لَحِقَهُ مِنَ الضَّرَرِ الْمُسْتَحْدَثِ ، فَلِذَلِكَ زَالَ بِقَطْعِ الْعَقْدِ جَمِيعُ الثَّمَنِ . وَالطَّرِيقَةُ الرَّابِعَةُ وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : أَنَّ اخْتِلَافَ الرِّوَايَتَيْنِ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ ، فَرِوَايَةُ الْمُزَنِيِّ وَحَرْمَلَةَ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ بِكُلِّ الثَّمَنِ فِي الشُّفْعَةِ وَالْفَلَسِ إِذَا كَانَتِ الْآلَةُ بَعْدَ الْهَدْمِ بَاقِيَةً ؛ لِأَنَّ لِلنَّقْصِ آثَارًا غَيْرَ مُتَمَيِّزَةٍ كَالْعَوَرِ وَالْهُزَالِ ، وَرِوَايَةُ الرَّبِيعِ وَالْبُوَيْطِيِّ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ بِحِسَابِهِ وَقِسْطِهِ مِنَ الثَّمَنِ فِي الشُّفْعَةِ وَالْفَلَسِ إِذَا كَانَتِ الْآلَةُ بَعْدَ الْهَدْمِ تَالِفَةً لِأَنَّهُ نَقْصٌ مُمَيَّزٌ وَقَدْ تَلِفَ بَعْضُ التَّمَيُّزِ أَتْلَفَ بَعْضَ الْمَبِيعِ كَمَوْتِ أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ وَتَلَفِ أَحَدِ الثَّوْبَيْنِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ قَدْ زَادَ فَالزِّيَادَةُ ضَرْبَانِ : مُتَمَيِّزَةٌ وَغَيْرُ مُتَمَيِّزَةٍ ، فَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ مُتَمَيِّزَةً كَالنِّتَاجِ وَالثَّمَرَةِ فَهِيَ لِلْمُشْتَرِي ، وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِالْأَصْلِ دُونَ الزِّيَادَةِ ؛ لِأَنَّ مِنْ حُكْمِ الزِّيَادَةِ الْمُتَمَيِّزَةِ أَنْ تَتْبَعَ الْمِلْكَ دُونَ الْمَالِكِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ رَدَّ الْأَصْلِ بِالْعَيْبِ لَا يُوجِبُ رَدَّ زِيَادَتِهِ الْمُتَمَيِّزَةِ ، كَذَلِكَ فِي الْفَلَسِ فَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ غَيْرَ مُمَيَّزَةٍ كَالطُّولِ وَالسِّمَنِ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِالْأَصْلِ زَائِدًا لِأَنَّ الزِّيَادَةَ الْمُتَّصِلَةَ مِنْ حُكْمِهِمَا أَنْ تَتْبَعَ الْمِلْكَ دُونَ الْمَالِكِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ رَدَّ الْأَصْلِ بِالْعَيْبِ يُوجِبُ رَدَّ زِيَادَتِهِ الْمُتَّصِلَةِ بِهِ ، فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ الصَّدَاقُ إِذَا زَادَ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً غَيْرَ مُتَمَيِّزَةٍ مُنِعَ الزَّوْجُ إِذَا طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَنْ يَرْجِعَ بِنِصْفِ الصَّدَاقِ زَائِدًا وَرَجَعَ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ لِحُدُوثِ الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ عَلَى مِلْكِ الزَّوْجَةِ ، فَهَلَّا كَانَ فِي الْفَلَسِ كَذَلِكَ ؟ قِيلَ : قَدْ كَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ يُسَوِّي بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ وَيَقُولُ : إِنَّمَا رَجَعَ الْبَائِعُ بِعَيْنِ مَالِهِ زَائِدًا فِي الْفَلَسِ لِتَعَذُّرِ الْبَذْلِ عَلَيْهِ وَإِعْوَازِهِ بِالْفَلَسِ ، وَالزَّوْجُ لَمَّا لَمْ يَتَعَذَّرْ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ بِبَذْلِ الصَّدَاقِ لَمْ يَرْجِعْ بِنِصْفِ الصَّدَاقِ زَائِدًا ، وَلَوْ تَعَذَّرَ بَذْلُ الصَّدَاقِ مِنْ جِهَتِهَا بِحُدُوثِ فَلَسِهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِنِصْفِ الصَّدَاقِ زَائِدًا فَاسْتَوَى الْحُكْمُ فِيهِمَا مَعَ الْيَسَارِ فِي الْعُدُولِ عَنِ الْعَيْنِ فِي الْفَلَسِ فِي الرُّجُوعِ بِزِيَادَةِ الْعَيْنِ . وَفَرَّقَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ ، فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْفَلَسِ وَالصَّدَاقِ : بِأَنَّ الصَّدَاقَ لَمَّا كَانَ لَوْ تَلِفَ رَجَعَ الزَّوْجُ إِلَى قِيمَتِهِ الَّتِي لَا تَزِيدُ عَلَى الصَّدَاقِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْجِعَ مَعَ الْبَقَاءِ بِزِيَادَةِ الصَّدَاقِ ، وَلَمَّا كَانَ الْمَبِيعُ لَوْ تَلِفَ رَجَعَ الْبَائِعُ بِالثَّمَنِ الَّذِي قَدْ يَزِيدُ عَلَى قِيمَةِ الْمَبِيعِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ مَعَ الْبَقَاءِ بِزِيَادَةِ الْمَبِيعِ ، وَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا بِفَرْقٍ ثَانٍ فَيَقُولُ : إِنَّمَا لَمْ يَرْجِعِ الزَّوْجُ بِزِيَادَةِ الصَّدَاقِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقٌّ قَبْلَ الطَّلَاقِ وَلَا تَعَلَّقَ بِالصَّدَاقِ ، وَإِنَّمَا اسْتُحْدِثَ الْحَقُّ بِالطَّلَاقِ بَعْدَ حُدُوثِ الزِّيَادَةِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ حَقٌّ فِي الزِّيَادَةِ ، وَفِي الْفَلَسِ لَمَّا كَانَ حَقُّ الْبَائِعِ
مُتَقَدِّمًا عَلَى الْفَلَسِ وَكَانَ لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْمَبِيعِ قَبْلَ الزِّيَادَةِ جَازَ أَنْ يَرْجِعَ بِالْمَبِيعِ بَعْدَ حُدُوثِ الزِّيَادَةِ ، وَكَانَ أَبُو الْفَيَّاضِ الْبَصْرِيُّ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا بِفَرْقٍ ثَالِثٍ فَيَقُولُ : لَمَّا كَانَ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِ الصَّدَاقِ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ بِطَلَاقِهِ صَارَ مُتَّهَمًا بِالطَّمَعِ فِي الزِّيَادَةِ فَكَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ بِالصَّدَاقِ مَعَ حُدُوثِ الزِّيَادَةِ ، وَلَمَّا كَانَ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِ الْبَائِعِ عَيْنَ مَالِهِ مِنْ جِهَةِ الْمُشْتَرِي بِفَلَسِهِ انْتَفَتِ التُّهْمَةُ عَنِ الْبَائِعِ بِالطَّمَعِ فِي الزِّيَادَةِ فَكَانَ لَهُ الرُّجُوعُ بِعَيْنِ مَالِهِ مَعَ حُدُوثِ الزِّيَادَةِ ، وَكَانَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا بِفَرْقٍ رَابِعٍ فَيَقُولُ : لَمَّا كَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَعْدِلَ عَنْ عَيْنِ مَالِهِ إِذَا كَانَ مَوْجُودًا إِلَى الثَّمَنِ وَإِنْ كَانَ أَضْعَافَ الْقِيمَةِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ عَيْنَ مَالِهِ مَعَ حُدُوثِ الزِّيَادَةِ ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ أَنْ يَعْدِلَ عَنِ الصَّدَاقِ إِذَا كَانَ مَوْجُودًا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ حَقٌّ إِذَا كَانَ زَائِدًا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ بَاعَهُ نَخْلًا فِيهِ ثَمْرٌ أَوْ طَلْعٌ قَدْ أُبِّرَ وَاسْتَثْنَاهُ الْمُشْتَرِي وَقَبَضَهَا وَأَكَلَ الثَّمَرَ أَوْ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ ثَمَّ فَلَسَ أَوْ مَاتَ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ عَيْنَ مَالِهِ وَيَكُونُ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ فِي حِصَّةِ الثَّمَرِ يَوْمَ قَبْضِهِ لَا يَوْمَ أَكْلِهِ وَلَا يَوْمَ أَصَابَتْهُ الْجَائِحَةُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا أَنْ يَبْتَاعَ النَّخْلَ مَعَ الثَّمَرَةِ ثُمَّ فَلَسَ وَقَدْ بَقِيَتِ النَّخْلُ وَتَلِفَتِ الثَّمَرَةُ فَلَا تَخْلُو الثَّمَرَةُ وَقْتَ الْعَقْدِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُؤَبَّرَةً ، أَوْ غَيْرَ مُؤَبَّرَةٍ ، فَإِنْ كَانَتْ مُؤَبَّرَةً لَمْ تَدْخُلْ فِي الْعَقْدِ إِلَّا بِالشَّرْطِ فَيَصِيرُ الْعَقْدُ قَدْ تَضَمَّنَ شَيْئَيْنِ مَقْصُودَيْنِ بِهِ ، فَإِذَا أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ اسْتِهْلَاكِ الثَّمَرِ كَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَ النَّخْلَ بِحِصَّتِهَا مِنَ الثَّمَنِ سَوَاءٌ تَلِفَتِ الثَّمَرَةُ بِاسْتِهْلَاكِ الْمُشْتَرِي أَوْ بِجَائِحَةٍ مِنَ السَّمَاءِ كَمَا لَوْ تَلِفَ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ كَانَ لِلْبَائِعِ أَخْذُ الْبَاقِي بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ سَوَاءٌ كَانَ تَلَفُ التَّالِفِ بِحَادِثِ سَمَاءٍ أَوْ جِنَايَةِ آدَمِيٍّ ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُودٌ بِالْعَقْدِ ، وَإِنْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ وَقْتَ الْعَقْدِ غَيْرَ مُؤَبَّرَةٍ فَدُخُولُهَا فِي الْعَقْدِ عَلَى وَجْهِ التَّبَعِ لَا بِالشَّرْطِ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَخْلُو تَلَفُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِجَائِحَةٍ مِنْ سَمَاءٍ أَوْ بِجِنَايَةٍ بِاسْتِهْلَاكِ آدَمِيٍّ ، فَإِنْ كَانَ تَلَفُهَا بِاسْتِهْلَاكِ آدَمِيٍّ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَ النَّخْلَ بِحِسَابِهِ مِنَ الثَّمَنِ وَقِسْطِهِ سَوَاءٌ كَانَ اسْتَهْلَكَهَا الْمُشْتَرِي أَوْ أَجْنَبِيٌّ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ إِذَا اسْتَهْلَكَهَا فَقَدْ صَارَتْ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ ، وَإِذَا اسْتَهْلَكَهَا غَيْرُهُ فَقَدِ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ بَدَلُهَا فَصَارَتْ فِي الْحَالَيْنِ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ بِقِسْطِهَا مِنَ الثَّمَنِ فَيَضْرِبُ بِهِ الْبَائِعُ مَعَ الْغُرَمَاءِ ، وَإِنْ كَانَ تَلَفُهَا بِجَائِحَةٍ مِنَ السَّمَاءِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ لِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَ النَّخْلَ إِنْ شَاءَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ لِأَنَّ الثَّمَرَةَ هَاهُنَا تَبَعٌ وَلَمْ يَصِلِ الْمُشْتَرِي إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا فَلَمْ يَلْزَمْهُ غُرْمُهَا .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ لِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَ النَّخْلَ بِحِسَابِهِ مِنَ الثَّمَنِ وَقِسْطِهِ ، لِأَنَّ الثَّمَرَةَ التَّالِفَةَ مِمَّا يُمْكِنُ إِفْرَادُهَا بِالْعَقْدِ وَإِنْ كَانَتْ تَبَعًا .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْبَائِعَ يَأْخُذُ النَّخْلَ بِحِسَابِهِ مِنَ الثَّمَنِ إذا أفلس المشتري فَاعْتِبَارُ ذَلِكَ أَنْ تَقُومَ النَّخْلُ مَعَ الثَّمَرَةِ فِي أَقَلِّ الْحَالَيْنِ قِيمَةً مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ إِلَى وَقْتِ الْقَبْضِ : لِأَنَّهُ إِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ وَقْتَ الْعَقْدِ أَقَلَّ فَمَا حَدَثَ بَعْدَ الْعَقْدِ مِنَ الزِّيَادَةِ فَهُوَ بِحَادِثٍ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَقُومَ فِي حَقِّ الْبَائِعِ ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ وَقْتَ الْعَقْدِ أَكْثَرَ فَنَقْصُهُ مَضْمُونٌ عَلَى الْبَائِعِ ، وَمَا كَانَ مِنْ ضَمَانِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقُومَ عَلَى غَيْرِهِ ، فَلِذَلِكَ مَا وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ أَقَلَّ الْقِيمَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ إِلَى وَقْتِ الْقَبْضِ فَالشَّافِعِيُّ وَإِنْ أَطْلَقَ الْقَوْلَ فِي أَنَّ اعْتِبَارَ قِيمَتِهِ وَقْتَ الْقَبْضِ فَإِنَّ مُرَادَهُ أَنْ يُقَوَّمَ وَقْتَ الْقَبْضِ إِذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ فِيهِ أَقَلَّ ، وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ وَجَبَ أَنْ تُقَوَّمَ وَقْتَ الْعَقْدِ فَتُقَوَّمَ النَّخْلُ مَعَ الثَّمَرَةِ ، فَإِذَا قِيلَ قِيمَتُهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ قُوِّمَتِ النَّخْلُ ، فَإِذَا قِيلَ قِيمَتُهَا تِسْعُمِائَةِ دِرْهَمٍ كَانَ قِسْطُ الثَّمَرَةِ عُشْرَ الْقِيمَةِ فَيَضْرِبُ الْبَائِعُ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِعُشْرِ الثَّمَنَ ، فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ أَلْفًا فَعُشْرُهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ فَيَضْرِبُ بِهَا مَعَ الْغُرَمَاءِ ، وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ فَعُشْرُهَا مِائَةٌ وَخَمْسُونَ وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ ، فَيَضْرِبُ بِهَا مَعَ الْغُرَمَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ بَاعَهَا مَعَ ثَمَرٍ فِيهَا قَدِ اخْضَرَّ ثُمَّ فَلَسُ وَالثَّمَرُ رُطَبٌ أَوْ تَمْرٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا مِمَّا قَدْ دَخَلَ فِي التَّقْسِيمِ وَقَدْ تَقَدَّمُ الْجَوَابُ عَنْهُ ، وَهُوَ أَنْ يَبِيعَهُ نَخْلًا مَعَ ثَمَرَةٍ وَالثَّمَرَةُ بَلَحٌ أَوْ خِلَالٌ أَخْضَرُ وَفَلَسَ الْمُشْتَرِي وَقَدْ صَارَتِ الثَّمَرَةُ رُطَبًا أَوْ تَمْرًا فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِالنَّخْلِ مَعَ الثَّمَرَةِ ، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الثَّمَرَةِ غَيْرُ مُتَمَيِّزَةٍ فَصَارَتْ تَبَعًا لِلْمِلْكِ فَإِذَا رَجَعَ الْبَائِعُ بِعَيْنِ مَالِهِ لَمْ تَنْفَصِلِ الزِّيَادَةُ عَنْهُ وَرَجَعَ بِهِ زَائِدًا وَهَكَذَا لَوْ بَاعَهُ فَسِيلًا فَصَارَ الْفَسِيلُ نَخْلًا رَجَعَ بِهَا نَخْلًا زَائِدًا ، وَكَذَلِكَ أَشْبَاهُ ذَلِكَ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " أَوْ بَاعَهُ زَرْعًا مَعَ أَرْضٍ خَرَجَ أَوْ لَمْ يَخْرُجْ ثُمَّ أَصَابَهُ مُدْرَكًا أَخَذَهُ كُلَّهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : وَجُمْلَةُ حَالِ الْأَرْضِ الْمَزْرُوعَةِ إِذَا بِيعَتْ مَعَ زَرْعِهَا أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ الزَّرْعِ الَّذِي فِيهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ بَذْرًا . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ بَقْلًا . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ سُنْبُلًا ، فَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ بَذْرًا مَدْفُونًا لَمْ يَظْهَرْ بَعْدُ فَإِنْ جَهِلَا جِنْسَهُ
وَقَدْرَهُ بَطَلَ الْبَيْعُ فِي الْبَذْرِ ، وَهَلْ يَبْطُلُ فِي الْأَرْضِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ أَبْطَلَهُ قَوْلًا وَاحِدًا لِلْجَهَالَةِ بِثَمَنِ الْبَذْرِ ، وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مَعْلُومَ الْجِنْسِ وَالْقَدَرِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ مُفْرَدًا ، وَفِي جَوَازِ بَيْعِهِ مَعَ الْأَرْضِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ هَاهُنَا - جَوَازُهُ خَرَجَ أَوْ لَمْ يَخْرُجْ ، وَوَجْهُهُ أَنَّ مَا كَانَ تَبَعًا لِمَعْلُومٍ لَمْ تَضُرَّ الْجَهَالَةُ بِهِ كَأَسَاسِ الْبِنَاءِ وَاللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : - وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ فِي كِتَابِ الْأُمِّ - أَنَّ بَيْعَهُ بَاطِلٌ : لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ تَبَعًا فَهُوَ مَقْصُودٌ بِخِلَافِ الْأَسَاسِ وَاللَّبَنِ فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ إِلَّا بِشَرْطٍ ، وَتَأَوَّلَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْوَجْهِ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ : ( خَرَجَ أَوْ لَمْ يَخْرُجْ ) لِمَعْنَى خَرَجَ سُنْبُلُهُ أَوْ لَمْ يَخْرُجْ سُنْبُلُهُ ، فَعَلَى هَذَا فِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : يَكُونُ بَاطِلًا قَوْلًا وَاحِدًا ، وَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ بَقْلًا أَوْ فَصِيلًا فَبَيْعُهُ مُفْرَدًا يَجُوزُ بِشَرْطِ الْقَطْعِ وَمَعَ الْأَرْضِ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ الْقَطْعِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ تَبَعًا لِغَيْرِهِ كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ الثَّمَرَةِ عَلَى رُءُوسِ نَخْلِهَا قَبْلَ بَدْوِّ صَلَاحِهَا مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ ، وَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ سُنْبُلًا مُشْتَدًّا فَلَا يَخْلُو مَنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَبُّهُ بَارِزًا لَا كِمَامَ عَلَيْهِ كَالشَّعِيرِ . وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَجْنًا بِكِمَامٍ كَالْحِنْطَةِ ، فَإِنْ كَانَ بَارِزًا بِغَيْرِ كِمَامٍ جَازَ بَيْعُهُ مُفْرَدًا وَجَازَ بَيْعُهُ مَعَ الْأَرْضِ ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَجْنًا بِكِمَامٍ فَفِي جَوَازِ بَيْعِهِ مُفْرَدًا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ بَيْعَهُ مُنْفَرِدًا جَائِزٌ ، فَعَلَى هَذَا إِذَا بِيعَ مَعَ الْأَرْضِ فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ جَائِزًا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ بَيْعَهُ مُنْفَرِدًا بَاطِلٌ ، فَعَلَى هَذَا فِي بَيْعِهِ مَعَ الْأَرْضِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ لِكَوْنِهِ تَبَعًا . وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ ، وَإِنْ كَانَ تَبَعًا فَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِي بَيْعِ الْأَرْضِ قَوْلَانِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ أَبْطَلَ بِيعَ الْأَرْضِ قَوْلًا وَاحِدًا .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا مِنْ بَيْعِ الْأَرْضِ مَعَ زَرْعِهَا وَقُلْنَا بِجَوَازِ بَيْعِهَا ، فَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ بَذْرًا نُظِرَ حَالُهُ عِنْدَ فَلَسِ الْمُشْتَرِي ، فَإِنْ كَانَ بَذْرًا أَيْضًا لَمْ يَنْبُتْ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِالْأَرْضِ مَعَ بَذْرِهَا ، وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ قَدْ نَبَتَ وَصَارَ بَقْلًا أَوْ فَصِيلًا رَجَعَ بِالْأَرْضِ ، وَفِي رُجُوعِهِ بِالزَّرْعِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَرْجِعُ بِالزَّرْعِ لِأَنَّهُ غَيْرُ الْبَذْرِ فَصَارَ الْبَذْرُ الْمَبِيعُ غَيْرَ مَوْجُودِ الْعَيْنِ فَيَرْجِعُ بِالْأَرْضِ وَيَضْرِبُ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِمَا قَابَلَ الْبَذْرَ ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَوْ بَاعَهُ بَيْضًا فَحَضَنَهُ حَتَّى صَارَ فِرَاخًا لَمْ يَرْجِعِ الْبَائِعُ بِالْفِرَاخِ وَضَرَبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِثَمَنِ الْبَيْضِ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُرْجِعُ بِالزَّرْعِ بَعْدَ نَبَاتِهِ ، لِأَنَّ نَبَاتَ الزَّرْعِ هُوَ مِنْ عَيْنِ الْبَذْرِ وَلِذَلِكَ قُلْنَا أَنَّ مَنْ غَصَبَ بَذْرًا فَزَرَعَهُ كَانَ الزَّرْعُ بَعْدَ نَبَاتِهِ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ لِأَنَّهُ مِنْ عَيْنِ بَذْرِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ غَصَبَ بَيْضًا فَحَضَنَهُ حَتَّى صَارَ فِرَاخًا كَانَتِ الْفِرَاخُ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِبَائِعِ الْبَيْضِ إِذَا صَارَ فِرَاخًا أَنْ يَرْجِعَ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ حِينَ بِيعَ مَعَ الْأَرْضِ بَقْلًا نُظِرَ حَالُهُ عِنْدَ فَلَسِ الْمُشْتَرِي ، فَإِنْ كَانَ فَصِيلًا أَوْ سُنْبُلًا غَيْرَ مُنْعَقِدٍ كَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ مَعَ الْأَرْضِ ، وَإِنْ كَانَ سُنْبُلًا مُشْتَدًّا فَفِي رُجُوعِ الْبَائِعِ بِهِ مَعَ الْأَرْضِ وَجْهَانِ عَلَى مَا مَضَى ، وَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ حِينَ بِيعَ مَعَ الْأَرْضِ سُنْبُلًا مُشْتَدًّا فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ مَعَ الْأَرْضِ سَوَاءٌ كَانَ الْحَبُّ بَاقِيًا فِي سُنْبُلِهِ أَوْ قَدْ صُفِّيَ وَأُخْرِجَ مِنْهُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ بَاعَهُ حَائِطًا لَا ثَمَرَ فِيهِ أَوْ أَرْضًا لَا زَرْعَ فِيهَا ثُمَّ فَلَسَ الْمُشْتَرِي ، فَإِنْ كَانَ النَّخْلُ قَدْ أُبِّرَ وَالْأَرْضُ قَدْ زُرِعَتْ كَانَ لَهُ الْخِيَارُ فِي النَّخْلِ وَالْأَرْضِ وَتَبْقَى الثِّمَارُ إِلَى الْجِدَادِ وَالزَّرْعُ إِلَى الْحَصَادِ إِنْ أَرَادَ الْغُرَمَاءُ تَأْخِيرَ ذَلِكَ ، وَإِنْ شَاءَ ضَرَبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ أَرْضًا بَيْضَاءَ لَا زَرْعَ فِيهَا فَزَرَعَهَا الْمُشْتَرِي ثُمَّ أَفْلَسَ وَالزَّرْعُ بَقْلٌ أَخْضَرُ فَلَا حَقَّ فِيهِ لِلْبَائِعِ ؛ لِأَنَّ الزَّرْعَ مُودَعٌ فِي الْأَرْضِ لِتَكَامُلِ مَنْفَعَتِهِ فَصَارَ مُنْفَصِلًا عَنِ الْبَيْعِ فَلَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ ، وَيَرْجِعُ بِالْأَرْضِ وَحْدَهَا الَّتِي هِيَ عَيْنُ مَالِهِ ، وَعَلَيْهِ إِذَا رَجَعَ بِالْأَرْضِ أَنْ يُقِرَّ الزَّرْعَ فِيهَا إِلَى وَقْتِ حَصَادِهِ إِذَا شَاءَ ذَلِكَ الْمُفْلِسُ وَالْغُرَمَاءُ : لِأَنَّ زَرْعَهَا كَانَ بِحَقٍّ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقْطَعَ وَلَزِمَ أَنْ يُقِرَّهُ ، ثُمَّ لَا أُجْرَةَ لِلْبَائِعِ فِي تَرْكِ الزَّرْعِ فِي أَرْضِهِ إِلَى وَقْتِ حَصَادِهِ : لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يَمْلِكُ الْمَنْفَعَةَ حِينَ زُرِعَ عَلَى غَيْرِ بَدَلٍ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَدْ أَجَّرَهَا مُدَّةً ثُمَّ اسْتَرْجَعَهَا الْبَائِعُ بِفَلَسِهِ كَانَتِ الْإِجَارَةُ لَازِمَةً لِلْبَائِعِ إِلَى انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ فِي الْإِجَارَةِ ، وَالْأُجْرَةُ مِلْكٌ لِلْمُفْلِسِ الْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ مَالِكًا لِمَنَافِعِهَا حِينَ أَجَّرَ فَكَذَلِكَ فِيمَا زَرَعَ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمَبِيعُ نَخْلًا لَا ثَمَرَ عَلَيْهِ فَفَلَسَ الْمُشْتَرِي وَقَدْ أَثْمَرَتِ النَّخْلُ فَلَا يَخْلُو حَالُ الثَّمَرَةِ عِنْدَ فَلَسِ الْمُشْتَرِي مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُؤَبَّرَةً ، أَوْ غَيْرَ مُؤَبَّرَةٍ ، فَإِنْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ مُؤَبَّرَةً فَهِيَ لِلْمُشْتَرِي تُقْسَمُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ وَيَرْجِعُ الْبَائِعُ بِالنَّخْلِ دُونَ الثَّمَرَةِ ، لِأَنَّ الثَّمَرَةَ زِيَادَةٌ مُتَمَيِّزَةٌ ، وَعَلَى الْبَائِعِ تَرْكُ الثَّمَرَةِ عَلَى نَخْلِهِ إِلَى أَوَانِ الْجُذَاذِ وَلَا أُجْرَةَ لَهُ فِي تَرْكِهَا كَمَا قُلْنَا فِي الزَّرْعِ ، وَعَلَيْهِ التَّمْكِينُ مِنْ سَقْيِهَا وَكَذَلِكَ سَقْيُ الزَّرْعِ ، وَإِنْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ عِنْدَ فَلَسِ الْمُشْتَرِي غَيْرَ مُؤَبَّرَةٍ فَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : رَوَاهُ الْمُزَنِيُّ وَحَرْمَلَةُ : أَنَّ الثَّمَرَةَ لِلْبَائِعِ إِنْ رَجَعَ بِالنَّخْلِ تَبَعًا كَمَا يَكُونُ فِي
الْبَيْعِ تَبَعًا لَهَا ، وَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الزَّرْعِ فِي الْأَرْضِ أَنَّ الزَّرْعَ مُودَعٌ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ بِحَادِثٍ مِنْ خِلْقَةِ الْأَصْلِ فَلَمْ يَرْجِعْ بِهِ الْبَائِعُ كَمَا لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ ، وَالثَّمَرَةُ الْحَادِثَةُ حَادِثَةٌ مِنْ خِلْقَةِ الْأَصْلِ يَرْجِعُ بِهَا الْبَائِعُ كَمَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي رَوَاهُ الرَّبِيعُ : إِنَّ الثَّمَرَةَ لِلْمُفْلِسِ لَا حَقَّ لِلْبَائِعِ فِيهَا وَيَرْجِعُ بِالنَّخْلِ دُونَهَا لِأَنَّ الْبَائِعَ يَسْتَرْجِعُ الْمَبِيعَ جَبْرًا فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ إِلَّا بِعَيْنِ مَالِهِ الَّذِي يَتَنَاوَلُهُ عَقْدُهُ ، وَفَارَقَ ذَلِكَ حَالَ الْمَبِيعِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ عَنْ مُرَاضَاةٍ فَجَازَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ تَوَابِعُ الْمَبِيعِ وَهَذَا عَنْ إِكْرَاهٍ فَلَمْ يَتَوَجَّهْ إِلَّا إِلَى مَا تَضَمَّنَهُ الْعَقْدُ . وَالثَّانِي : أَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ لَمَّا كَانَ يَقْدِرُ الْبَائِعُ فِيهِ عَلَى اسْتِيفَاءِ الثَّمَرَةِ لَفْظًا دَخَلَتْ فِيهِ الثَّمَرَةُ إِطْلَاقًا وَلَيْسَ يُقَدَّرُ فِي فَلَسِ الْمُشْتَرِي عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ فَافْتَرَقَا ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا لِلْمُفْلِسِ لَا يَرْجِعُ بِهَا الْبَائِعُ وَجَبَ عَلَى الْبَائِعِ تَرْكُهَا عَلَى النَّخْلِ إِلَى أَوَانِ الْجُذَاذِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ أَرَادَ الْغُرَمَاءُ بَيْعَ الثَّمَرِ قَبْلَ الْجُذَاذِ وَالزَّرْعِ بَقْلًا فَذَلِكَ لَهُمْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا رَجَعَ الْبَائِعُ بِعَيْنِ مَالِهِ مِنَ الْأَرْضِ وَالنَّخْلِ فَصَارَتِ الثَّمَرَةُ وَالزَّرْعُ لِلْمُفْلِسِ فَلَهُ وَلِغُرَمَائِهِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَتَّفِقُوا جَمِيعًا عَلَى تَرْكِ الثَّمَرَةِ إِلَى أَوَانِ الْجُذَاذِ وَالزَّرْعِ إِلَى أَوَانِ الْحَصَادِ فَذَلِكَ لَهُمْ ، وَعَلَى الْبَائِعِ تَرْكُ ذَلِكَ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ عَلَى مَا مَضَى . وَالْحَالُ الثَّانِي : أَنْ يَتَّفِقُوا جَمِيعًا عَلَى بَيْعِ الثَّمَرَةِ فِي الْحَالِ بُسْرًا أَخْضَرَ وَبَيْعِ الزَّرْعِ فِي الْحَالِ بَقْلًا أَخْضَرَ فَذَلِكَ لَهُمْ لِيَتَعَجَّلُوا الْحَقَّ وَيَأْمَنُوا الْخَطَرَ . وَالْحَالُ الثَّالِثُ : أَنْ يَدْعُوا الْغُرَمَاءَ إِلَى تَرْكِهَا إِلَى وَقْتِ الْجُذَاذِ وَالْحَصَادِ لِيَتَوَفَّرَ عَلَيْهِمْ ثَمَنُهَا وَيَدْعُوا الْمُفْلِسَ إِلَى بَيْعِهَا فِي الْحَالِ لِيُأْمَنَ خَطَرُهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُفْلِسِ وَتُبَاعُ فِي الْحَالِ لِأَنَّ ذِمَّتَهُ مُرْتَهِنَةٌ بِدَيْنِهِ وَلَا يُأْمَنُ تَلَفُ الثَّمَرَةِ وَبَقَاءُ الدَّيْنِ . وَالْحَالُ الرَّابِعُ : أَنْ يَدْعُوَ الْمُفْلِسُ إِلَى تَرْكِهَا إِلَى وَقْتِ الْجُذَاذِ وَالْحَصَادِ لِيَزِيدَ ثَمَنُهَا فَيَخِفَّ دَيْنُهُ وَيَدْعُوَ الْغُرَمَاءُ إِلَى بَيْعِهَا فِي الْحَالِ لِيَتَعَجَّلُوا حُقُوقَهُمْ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغُرَمَاءِ وَتُبَاعُ فِي الْحَالِ ، لِأَنَّ حُقُوقَهُمْ مُعَجَّلَةٌ فَلَا يَلْزَمُهُمْ تَأْخِيرُهَا ، وَهَكَذَا لَوْ رَضِيَ أَكْثَرُ الْغُرَمَاءِ وَالْمُفْلِسُ بِتَرْكِهَا وَكَرِهَ أَقَلُّهُمْ وَطَلَبُوا تَعْجِيلَ بَيْعِهَا كَانَ الْقَوْلُ فِيهَا قَوْلَ مَنْ دَعَا إِلَى تَعْجِيلِ الْبَيْعِ وَلَوْ كَانَ وَاحِدًا ، لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ تَأْخِيرُ حَقِّهِ بِرِضَى غَيْرِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَهُ أَمَةً فَوَلَدَتْ ثُمَّ أَفْلَسَ كَانَتْ لَهُ الْأَمَةُ إِنْ شَاءَ وَالْوَلَدُ لِلْغُرَمَاءِ ، وَإِنْ كَانَتْ حُبْلَى كَانَتْ لَهُ حُبْلَى لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الْإِبَارَ كَالْوِلَادَةِ وَإِذَا لَمْ تُؤْبَرْ فَهِيَ كَالْحَامِلِ لَمْ تَلِدْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُقَدِّمَةٌ وَهِيَ : الْحَمْلُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ هَلْ يَكُونُ تَبَعًا أَوْ يَأْخُذُ مِنَ الثَّمَنِ قِسْطًا ؟ وَفِيهِ لِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَكُونُ تَبَعًا كَأَعْضَائِهَا ، لِأَنَّهَا لَوْ أُعْتِقَتْ سَرَى الْعِتْقُ إِلَى حَمْلِهَا كَمَا يَسْرِي إِلَى جَمِيعِ أَعْضَائِهَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَأْخُذُ مِنَ الثَّمَنِ قِسْطًا كَاللَّبَنِ : لِأَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَ حَمْلَهَا لَمْ يَسْرِ إِلَيْهَا عِتْقُهُ ، وَلَوْ كَانَ كَالْعُضْوِ مِنْهَا عُتِقَتْ بِعِتْقِهِ كَمَا تُعْتَقُ بِعِتْقِ أَعْضَائِهَا ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَكَانَ الْمَبِيعُ أَمَةً حَصَلَ مِنْهَا حَمْلٌ أَوْ وَلَدٌ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ حَامِلًا وَقْتَ الْعَقْدِ وَوَقْتَ الْفَلَسِ فَإِنْ كَانَ الْحَمْلُ الَّذِي مَعَهَا وَقْتَ الْفَلَسِ هُوَ الْحَمْلُ الَّذِي كَانَ مَعَهَا وَقْتَ الْبَيْعِ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا حَامِلًا عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا : لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ تَبَعًا فَهُوَ فِي الْحَالَيْنِ تَبَعٌ ، وَإِنْ كَانَ يَأْخُذُ مِنَ الثَّمَنِ قِسْطًا فَلَهُ فِي الْحَالَيْنِ قِسْطٌ ، وَإِنْ كَانَ الْحَمْلُ الَّذِي مَعَهَا وَقْتَ الْفَلَسِ غَيْرَ الْحَمْلِ الَّذِي كَانَ مَعَهَا وَقْتَ الْعَقْدِ ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْحَمْلَ يَكُونُ تَبَعًا كَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا حَامِلًا وَلَا حَقَّ لَهُ فِي الْوَلَدِ الَّذِي كَانَتْ بِهِ وَقْتَ الْبَيْعِ حَامِلًا ، وَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْحَمْلَ يَأْخُذُ مِنَ الثَّمَنِ قِسْطًا فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا دُونَ حَمْلِهَا الَّذِي هُوَ وَقْتَ الْفَلَسِ مَعَهَا وَيَرْجِعُ بِالْوَلَدِ الَّذِي وَضَعَتْهُ وَكَانَتْ حَامِلًا بِهِ وَقْتَ بَيْعِهَا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ حَائِلًا وَقْتَ الْبَيْعِ وَحَامِلًا وَقْتَ الْفَلَسِ وَكَانَ حَمْلُهَا وَوَضْعُهَا مَا بَيْنَ الْبَيْعِ وَالْفَلَسِ ، فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا دُونَ حَمْلِهَا عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا : لِأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ مِنَ الثَّمَنِ قِسْطًا وَلَا كَانَ فِي الْحَالَيْنِ تَبَعًا ، فَإِذَا رَجَعَ الْبَائِعُ بِالْأَمَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ وَلَدِهَا " لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ " وَمِنْ أَصْحَابِنَا مِمَّنْ جَوَّزَ الْفُرْقَةَ بَيْنَهُمَا لِلضَّرُورَةِ عَلَى مِثْلِ مَا قَالَ فِي الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا فِي الرَّهْنِ ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِارْتِفَاعِ الضَّرُورَةِ ، إِذْ قَدْ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَيَصِلُ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى حَقِّهِ مِنْهُمَا فَيُقَالُ لِلْبَائِعِ تُعْطِي ثَمَنَ الْوَلَدِ ؛ فَإِنْ دَفَعَ ثَمَنَ الْوَلَدِ أُجْبِرَ الْمُفْلِسُ وَالْغُرَمَاءُ عَلَى قَبُولِ الثَّمَنِ وَدَفْعِ الْوَلَدِ ، وَإِنِ امْتَنَعَ الْبَائِعُ أَنْ يَدْفَعَ ثَمَنَ الْوَلَدِ لَمْ يُمَكَّنْ مِنَ الْأُمِّ بَعْدَ اسْتِرْجَاعِهَا وَبِيعَتْ مَعَ وَلَدِهَا ، فَمَا حَصَلَ مِنْ ثَمَنِهَا دُفِعَ إِلَى الْبَائِعِ مِنْهُ مَا قَابَلَ الْأُمَّ ذَاتَ وَلَدٍ وَدُفِعَ
إِلَى غُرَمَاءِ الْمُفْلِسِ مَا قَابَلَ الْوَلَدَ إِذَا كَانَ مَعَ أُمِّهِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا دَفَعْتُمْ إِلَى الْبَائِعِ مَا قَابَلَ ثَمَنَ الْأُمِّ مُفْرَدَةً غَيْرَ ذَاتِ وَلَدٍ كَمَا دَفَعْتُمْ إِلَى مُرْتَهِنِ الْأَرْضِ إِذَا غَرَسَهَا الرَّاهِنُ بَعْدَ الرَّهْنِ نَخْلًا وَبِيعَا مَعًا ثَمَنَ الْأَرْضِ بَيْضَاءَ لَا نَخْلَ فِيهَا ؟ قُلْنَا : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الرَّاهِنَ لَمَّا كَانَ مُتَعَدِّيًا بِغَرْسِ النَّخْلِ فِي الْأَرْضِ الْمَرْهُونَةِ دَفَعَ ضَرُورَةَ تَعَدِّيهِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ فَدَفَعَ إِلَيْهِ ثَمَنَ أَرْضٍ بَيْضَاءَ ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْتَرِي تَعَدٍّ فِي إِيلَادِ الْجَارِيَةِ لَمْ يَكُنْ دَفْعُ الضَّرُورَةِ عَنِ الْبَائِعِ بِأَوْلَى مِنْ دَفْعِهَا عَنِ الْمُشْتَرِي . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ حَامِلًا وَقْتَ الْبَيْعِ حَائِلًا وَقْتَ الْفَلَسِ ، فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الْحَمْلَ يَكُونُ تَبَعًا رَجَعَ بِالْأُمِّ دُونَ وَلَدِهَا لِأَنَّهُ بَعْدَ الِانْفِصَالِ لَا يَكُونُ تَبَعًا ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الْحَمْلَ يَأْخُذُ مِنَ الثَّمَنِ قِسْطًا لَمْ يَخْلُ حَالُ الْوَلَدِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا أَوْ تَالِفًا ، فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ بَاقِيًا رَجَعَ الْبَائِعُ بِالْأُمِّ مَعَ وَلَدِهَا ، وَإِنْ كَانَ تَالِفًا رَجَعَ بِالْأُمِّ وَضَرَبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِمَا قَابَلَ الْوَلَدَ حَمْلًا فِي بَطْنِ أُمِّهِ حِينَ أُقْبِضَ لِأَنَّهُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ أَكْثَرُ ثَمَنًا ، وَكَثْرَةُ ثَمَنِهِ حَادِثَةٌ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَوَّمَ فِي حَقِّ الْبَائِعِ ، فَتُقَوَّمُ الْأُمُّ حَامِلًا وَقْتَ الْقَبْضِ وَحَائِلًا وَيُنْظَرُ مَا بَيْنَهُمَا فَهُوَ الَّذِي يُقَابِلُ ثَمَنَ الْحَمَلِ ، فَإِنْ كَانَ الْعُشْرَ ضَرَبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِعُشْرِ الثَّمَنِ ، وَإِنْ كَانَ الْخُمْسَ ضَرَبَ بِخُمْسِ الثَّمَنِ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ تَكُونَ حَائِلًا وَقْتَ الْبَيْعِ حَامِلًا وَقْتَ الْفَلَسِ ، فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الْحَمْلَ يَكُونُ تَبَعًا رَجَعَ الْبَائِعُ بِالْأُمِّ حَامِلًا وَلَا حَقَّ لِلْمُشْتَرِي فِي حَمْلِهَا ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الْحَمْلَ يَأْخُذُ قِسْطًا مِنَ الثَّمَنِ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ بِالْأُمِّ دُونَ الْحَمْلِ وَكَانَ الْحَمْلُ لِلْمُشْتَرِي الْمُفْلِسِ ، وَلَا يَلْزَمُ تَسْلِيمُهَا إِلَيْهِ حَامِلًا لِحَقِّ الْمُفْلِسِ فِي الْحَمْلِ ، وَلَا يَلْزَمُ إِقْرَارُهَا فِي يَدِ الْمُفْلِسِ أَوْ غُرَمَائِهِ لِحَقِّ الْبَائِعِ فِي الْأُمِّ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنَ الْبَائِعِ قِيمَةُ الْحَمْلِ ، لِأَنَّ الْحَمْلَ لَا تَصِحُّ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهِ دُونَ أُمِّهِ ، وَتُوضَعُ الْأَمَةُ الْحَامِلُ عَلَى يَدِ عَدْلٍ يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ ، فَإِنِ اخْتَلَفَا اخْتَارَ الْحَاكِمُ لَهُمَا عَدْلًا وَنَفَقَتُهَا عَلَى الْبَائِعِ مَالِكِ الْأُمِّ دُونَ الْمُفْلِسِ مَالِكِ الْحَمْلِ ، سَوَاءٌ قُلْنَا إِنَّ نَفَقَةَ الْحَامِلِ تَجِبُ لَهَا أَوْ لِحَمْلِهَا ، لِأَنَّهَا نَفَقَةٌ تَجِبُ بِحَقِّ الْمِلْكِ فَاخْتَصَّتْ بِالْمِلْكِ الظَّاهِرِ الْمُتَحَقِّقِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَلَوْ بَاعَهُ نَخْلًا لَا ثَمَرَ فِيهَا ثُمَّ أَثْمَرَتْ فَلَمْ تُؤَبَّرْ حَتَّى أَفْلَسَ فَلَمْ يَخْتَرِ الْبَائِعُ حَتَّى أُبِّرَتْ كَانَ لَهُ النَّخْلُ دُونَ الثَّمْرَةِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ عَيْنَ مَالِهِ إِلَّا بِالتَّفْلِيسِ وَالِاخْتِيَارِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَالْجَوَابُ فِيهِ مَبْنِيٌّ عَلَى رِوَايَةِ الْمُزَنِيِّ وَحَرْمَلَةَ : أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إِذَا أَفْلَسَ وَالثَّمَرَةُ غَيْرُ مُؤَبَّرَةٍ كَانَتْ لِلْبَائِعِ إِذَا رَجَعَ بِالنَّخْلِ ، فَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ الرَّبِيعِ أَنَّهَا لِلْمُفْلِسِ فَلَا مَعْنَى لِتَفْرِيعِهَا ، فَإِذَا فَلَسَ الْمُشْتَرِي وَالثَّمَرَةُ غَيْرُ مُؤَبَّرَةٍ فَتَأَخَّرَ اخْتِيَارُ الْبَائِعِ عَيْنَ
مَالِهِ حَتَّى أُبِّرَتِ الثَّمَرَةُ ثُمَّ اخْتَارَ عَيْنَ مَالِهِ بَعْدَ التَّأْبِيرِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِالنَّخْلِ دُونَ الثَّمَرَةِ ، لِأَنَّ الْبَائِعَ لَيْسَ يَمْلِكُ عَيْنَ مَالِهِ بِحُدُوثِ الْفَلَسِ ، وَإِنَّمَا مَلَكَ بِحَجْرِ الْفَلَسِ أَنْ يَتَمَلَّكَ عَيْنَ مَالِهِ بِالِاخْتِيَارِ ، فَإِذَا اخْتَارَ عَيْنَ مَالِهِ صَارَ حِينَئِذٍ مِلْكًا لَهُ بِالِاخْتِيَارِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَعْتَبِرَ حَالَ الثَّمَرَةِ ، وَعِنْدَ تَمَلُّكِهِ بِالِاخْتِيَارِ لَا وَقْتَ الْحَجْرِ بِالْفَلَسِ وَالثَّمَرَةُ وَقْتَ تَمَلُّكِهِ بِالِاخْتِيَارِ مُؤَبَّرَةٌ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهَا حَقٌّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا كَانَ يَخْرُجُ مِنْ ثَمَرِ الشَّجَرِ فِي أَكْمَامٍ فَيَنْشَقُّ كَالْكُرْسُفِ وَمَا أَشْبَهَهُ ، فَإِذَا انْشَقَّ فَمِثْلُ النَّخْلِ يُؤَبَّرُ ، وَإِذَا لَمْ يَنْشَقَّ فَمِثْلُ النَّخْلِ لَمْ يُؤَبَّرْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا أَيْضًا يَتَفَرَّعُ عَلَى رِوَايَةِ الْمُزَنِيِّ وَحَرْمَلَةَ دُونَ الرَّبِيعِ ، فَإِذَا كَانَ الْمَبِيعُ شَجَرًا غَيْرَ مُثْمِرٍ فَفَلَسَ الْمُشْتَرِي وَقَدْ أَثْمَرَ الشَّجَرُ فَإِنْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ فِي حُكْمِ الْمُؤَبَّرَةِ لَا تَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ لَمْ يُمْكِنْ لِلْبَائِعِ فِيهَا حَقٌّ إِذَا رَجَعَ بِالشَّجَرِ ، وَإِنْ كَانَتْ فِي حُكْمِ غَيْرِ الْمُؤَبَّرَةِ كَالْكُرْسُفِ الَّذِي لَمْ يَتَشَقَّقْ فِي جَوْزِهِ وَالْوِرْدِ الَّذِي لَمْ يَنْعَقِدْ فِي شَجَرِهِ وَمَا جَرَى ذَلِكَ مِمَّا اسْتَوْفَيْنَا تَفْصِيلَهُ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ ، وَفِيهِ قَوْلَانِ كَالثَّمَرَةِ الَّتِي لَمْ تُؤَبَّرْ : أَحَدُهُمَا : لِلْبَائِعِ إِذَا رَجَعَ بِعَيْنِ مَالِهِ ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْمُزَنِيِّ وَحَرْمَلَةَ . وَالثَّانِي : لِلْمُفْلِسِ تُقَسَّمُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ ، وَهِيَ رِوَايَةُ الرَّبِيعِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ قَالَ الْبَائِعُ : اخْتَرْتُ عَيْنَ مَالِي قَبْلَ الْإِبَارِ وَأَنْكَرَ الْمُفْلِسُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ، وَعَلَى الْبَائِعِ الْبَيِّنَةُ وَإِنْ صَدَّقَهُ الْغُرَمَاءُ لَمْ أَجْعَلْ لَهُمْ مِنَ الثَّمَرِ شَيْئًا لِأَنَّهُمْ أَقَرُّوا بِهِ لِلْبَائِعِ وَأَجْعَلُهُ لِلْغَرِيمِ سِوَى مَنْ صَدَّقَ الْبَائِعَ وَيُحَاصُّهُمْ فِيمَا بَقِيَ ، إِلَّا أَنْ يَشْهَدَ مِنَ الْغُرَمَاءِ عَدْلَانِ فَيَجُوزَ ، وَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُفْلِسُ وَكَذَّبَهُ الْغُرَمَاءُ فَمَنْ أَجَازَ إِقْرَارَهُ أَجَازَهُ ، وَمَنْ لَمْ يُجِزْهُ لَمْ يُجِزْهُ ، وَأُحْلِفَ لَهُ الْغُرَمَاءُ الَّذِينَ يَدْفَعُونَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا التَّفْرِيعُ إِنَّمَا يَجِيءُ عَلَى رِوَايَةِ الْمُزَنِيِّ وَحَرْمَلَةَ حَيْثُ جَعَلَا لِلْبَائِعِ مَا لَمْ يُؤَبَّرْ مِنَ الثَّمَرَةِ ، فَإِذَا ادَّعَى الْبَائِعُ الرُّجُوعَ بِعَيْنِ مَالِهِ قَبْلَ تَأْبِيرِ الثَّمَرَةِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُفْلِسِ وَالْغُرَمَاءِ مِنْ سِتَّةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُصَدِّقُوهُ جَمِيعًا عَلَى اسْتِرْجَاعِهِ النَّخْلَ قَبْلَ تَأْبِيرِ الثَّمَرَةِ فَتَكُونَ الثَّمَرَةُ لِلْبَائِعِ يَأْخُذُهَا مَعَ الْأَصْلِ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُكَذِّبُوهُ جَمِيعًا الْمُفْلِسُ وَالْغُرَمَاءُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمْ وَعَلَى الْمُفْلِسِ
الْيَمِينُ ؛ لِأَنَّ حُدُوثَ الثَّمَرَةِ عَلَى مِلْكِهِ فَلَمْ تُقْبَلْ دَعْوَى الْبَائِعِ أَنَّهُ قَدْ مَلَكَهَا عَلَيْهِ ، فَإِنْ حَلَفَ الْمُفْلِسُ كَانَتِ الثَّمَرَةُ لَهُ مَقْسُومَةً بَيْنَ غُرَمَائِهِ ، وَإِنْ نَكَلَ الْمُفْلِسُ عَنِ الْيَمِينِ فَهَلْ يَجُوزُ إِحْلَافُ الْغُرَمَاءِ عَلَيْهَا أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَحْلِفُونَ لِأَنَّ الثَّمَرَةَ تَصِيرُ إِلَيْهِمْ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ حَلَفُوا اقْتَسَمُوا الثَّمَرَةَ ، وَإِنْ نَكَلُوا أُحَلِفَ الْبَائِعُ عَلَيْهَا وَدُفِعَتْ إِلَيْهِ ، وَإِنْ حَلَفَ بَعْضُهُمُ اسْتَحَقُّوا بِأَيْمَانِهِمْ بِقِسْطِ دُيُونِهِمْ مِنَ الثَّمَرَةِ يَخْتَصُّونَ بِهِ دُونَ مَنْ لَمْ يَحْلِفْ وَحَلَفَ الْبَائِعُ عَلَى الْبَاقِي وَاسْتَحَقَّهُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ إِحْلَافُ الْغُرَمَاءِ عَلَيْهَا ، لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَقْتَسِمُونَ مِلْكَ الْمُشْتَرِي الْمُفْلِسِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُمَلَّكَ أَحَدٌ بِيَمِينِ غَيْرِهِ مَالًا ، فَعَلَى هَذَا تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْبَائِعِ عِنْدَ نُكُولِ الْمُفْلِسِ ، فَإِنْ حَلَفَ اسْتَحَقَّ الثَّمَرَةَ ، فَلَوْ شَهِدَ لِلْمُفْلِسِ شَاهِدَانِ مِنْ غُرَمَائِهِ أَنَّ الثَّمَرَ أُبِّرَتْ عَلَى مِلْكِهِ رُدَّتْ شَهَادَتُهُمَا لِأَنَّهُمَا يَجُرَّانِ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ نَفْعًا إِلَى أَنْفُسِهِمَا ، لِأَنَّ الثَّمَرَةَ إِذَا حَصَلَتْ لِلْمُفْلِسِ قُسِّمَتْ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ فَيُوَفَّوْنَ " حُقُوقَهُمْ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يُصَدِّقَهُ الْمُفْلِسُ وَيُكَذِّبَهُ الْغُرَمَاءُ ، فَيَقُولُ الْمُفْلِسُ لِلْبَائِعِ : اخْتَرْتَ عَيْنَ مَالِكَ قَبْلَ التَّأْبِيرِ فَالثَّمَرَةُ لَكَ فَيَقُولُ الْغُرَمَاءُ : بَلِ اخْتَرْتَ عَيْنَ مَالِكَ بَعْدَ التَّأْبِيرِ فَالثَّمَرَةُ لِلْمُفْلِسِ مَقْسُومَةٌ بَيْنَنَا فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُفْلِسِ وَتُدْفَعُ الثَّمَرَةُ إِلَى الْبَائِعِ وَلَا يَمِينَ عَلَى الْمُفْلِسِ لِغُرَمَائِهِ ، لِأَنَّ ذَلِكَ إِقْرَارٌ مِنْهُ ، وَالْمُقِرُّ لَا يَمِينَ عَلَيْهِ فِيمَا أَقَرَّ بِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْغُرَمَاءِ مَعَ أَيْمَانِهِمْ لِأَنَّهُمْ مُنْكِرُونَ ، وَعَلَى الْمُنْكَرِ الْيَمِينُ ، وَأَصْلُ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ الْمُفْلِسَ إِذَا أَقَرَّ بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ بِمَالٍ كَانَ إِقْرَارُهُ لَازِمًا ، وَلَكِنْ هَلْ يَكُونُ الْمُقَرُّ لَهُ فِي مَالِ الْمُفْلِسِ مُشَارِكًا لِجَمِيعِ الْغُرَمَاءِ إِذَا كَذَّبُوهُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي حَجْرِ الْمُفْلِسِ هَلْ يَجْرِي مَجْرَى حَجْرِ الْمَرَضِ أَوْ يَجْرِي مَجْرَى حَجْرِ السَّفَهِ - عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ بَعْدُ - فَإِذَا حَلَفَ الْغُرَمَاءُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ قُسِّمَتِ الثَّمَرَةُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ دُيُونِهِمْ وَكَانَتِ الثَّمَرَةُ دَيْنًا لِلْبَائِعِ عَلَى الْمُفْلِسِ يُؤَدِّيهِ إِلَيْهِ إِذَا فُكَّ الْحَجْرُ عَنْهُ . وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يُكَذِّبَهُ الْمُفْلِسُ وَيُصَدِّقَهُ الْغُرَمَاءُ فَيَقُولَ الْمُفْلِسُ : اخْتَرْتَ عَيْنَ مَالِكَ بَعْدَ التَّأْبِيرِ وَالثَّمَرَةُ لِي ، وَيَقُولُ الْغُرَمَاءُ : بَلِ اخْتَرْتَ عَيْنَ مَالِكَ قَبْلَ التَّأْبِيرِ فَالثَّمَرَةُ لَكَ ، فَالْقَوْلُ فِيهَا قَوْلُ الْمُفْلِسِ مَعَ يَمِينِهِ لِحُدُوثِهَا عَلَى مِلْكِهِ ، فَإِنْ شَهِدَ لِلْبَائِعِ عَدْلَانِ مِنَ الْغُرَمَاءِ سُمِعَتْ شَهَادَتُهُمْ عَلَى الْمُفْلِسِ وَحُكِمَ بِالثَّمَرَةِ لِلْبَائِعِ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ تَنْفِي عَنْهُمُ التُّهْمَةَ فِيهَا ، فَلَوْ شَهِدَ مِنْهُمْ عَدْلٌ وَاحِدٌ حُلِّفَ الْبَائِعُ مَعَهُ وَاسْتَحَقَّ الثَّمَرَةَ لِأَنَّهُ مَالٌ يُحْكَمُ فِيهِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ ، وَإِنْ كَانَ مَنْ شَهِدَ مِنَ الْغُرَمَاءِ غَيْرَ مَقْبُولِ الشَّهَادَةِ حُلِّفَ الْمُفْلِسُ وَكَانَتِ الثَّمَرَةُ لَهُ ، فَإِذَا امْتَنَعَ الْمُفْلِسُ مِنْ
تَسْلِيمِ الثَّمَرَةِ إِلَى غُرَمَائِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يُطَالِبُوهُ بِهَا ؛ لِأَنَّهُمْ مُقِرُّونَ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا ، وَإِنْ بَذَلَهَا الْمُفْلِسُ لَهُمْ وَطَالَبَهُمْ بِأَخْذِهَا مِنْ دُيُونِهِمْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ أَخْذُهَا لِأَنَّهُ قَدْ حُكِمَ بِأَنَّهَا مِلْكُهُ فِي الظَّاهِرِ ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يُبْرِئَ ذِمَّتَهُ مِنْ دُيُونِهِمْ بِدَفْعِهَا إِلَيْهِمْ ، وَقِيلَ لِلْغُرَمَاءِ : إِمَّا أَنْ تَأْخُذُوا الثَّمَرَةَ مِنْ دُيُونِكُمْ أَوْ تُبَرِّئُوهُ مِنْهَا ، فَإِذَا قُسِّمَتِ الثَّمَرَةُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ بِقَدْرِ دُيُونِهِمْ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ ، إِمَّا أَنْ تُقَسَّمَ عَيْنُ الثَّمَرَةِ عَلَيْهِمْ أَوْ ثَمَنُهَا ، فَإِنْ قُسِّمَتِ الثَّمَرَةُ عَلَيْهِمْ - لِأَنَّهَا كَانَتْ مِنْ جِنْسِ دُيُونِهِمْ - وَجَبَ عَلَيْهِمْ إِذَا قَبَضُوهَا مِنْ دُيُونِهِمْ أَنْ يَرُدُّوهَا عَلَى الْبَائِعِ لِإِقْرَارِهِمْ بِأَنَّ الثَّمَرَةَ مِلْكٌ لَهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ شَهِدَ عَلَى رَجُلٍ بِعِتْقِ عَبْدِهِ فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ ثُمَّ إِنَّ الشَّاهِدَ اشْتَرَى الْعَبْدَ عُتِقَ عَلَيْهِ بِسَابِقِ إِقْرَارِهِ ، وَإِنْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ بِيعَتْ وَقُسِّمَ فِيهِمْ ثَمَنُهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَلْزَمُهُمْ رَدُّ ثَمَنِهَا عَلَى الْبَائِعِ صَاحِبِ النَّخْلِ ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ بَدَلٌ مِنَ الثَّمَرَةِ فَكَانَ حُكْمُهُ كَحُكْمِ الثَّمَرَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُمْ رَدُّ الثَّمَنِ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَا يَمْلِكُهُ ، وَلِأَنَّ الثَّمَرَةَ إِنْ كَانَتْ لَهُ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ وَالثَّمَنُ مَرْدُودٌ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَأْخُذَ ثَمَنَ مَا لَا يَمْلِكُهُ . وَالْحَالُ الْخَامِسَةُ : أَنْ يُصَدِّقَهُ الْمُفْلِسُ وَبَعْضُ الْغُرَمَاءِ وَيُكَذِّبَهُ بَاقِي الْغُرَمَاءِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُفْلِسِ فِي حِصَصِ الَّذِينَ تَابَعُوهُ فِي تَصْدِيقِ الْبَائِعِ ، وَهَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي حِصَصِ الَّذِينَ خَالَفُوهُ وَأَكْذَبُوا الْبَائِعَ عَلَى قَوْلَيْنِ مَضَيَا ، فَإِنْ شَهِدَ عَدْلَانِ مِنَ الْغُرَمَاءِ الَّذِينَ تَابَعُوا الْمُفْلِسَ فِي تَصْدِيقِ الْبَائِعِ حُكِمَ بِشَهَادَتِهِمْ إِذَا لَمْ يُقْبَلْ إِقْرَارُ الْمُفْلِسِ بِهَا ، وَإِنْ قُبِلَ إِقْرَارُهُ فَلَا مَعْنَى لِلشَّهَادَةِ . وَالْحَالُ السَّادِسَةُ : أَنْ يُكَذِّبَهُ الْمُفْلِسُ وَبَعْضُ الْغُرَمَاءِ وَيُصَدِّقَهُ الْبَاقُونَ مِنَ الْغُرَمَاءِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُفْلِسِ فِي التَّكْذِيبِ مَعَ يَمِينِهِ لِحُدُوثِ الثَّمَرَةِ عَلَى مِلْكِهِ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ صَدَّقَ الْبَائِعَ مِنَ الْغُرَمَاءِ جَائِزُ الشَّهَادَةِ فَشَهِدُوا لَهُ بِالثَّمَرَةِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ حُلِّفَ الْمُفْلِسُ وَكَانَتِ الثَّمَرَةُ لَهُ يَقْسِمُهَا بَيْنَ مَنْ تَابَعَهُ فِي تَكْذِيبِ الْبَائِعِ مِنْ غُرَمَائِهِ وَلَا حَقَّ فِيهَا لِمَنْ صَدَّقَ الْبَائِعَ مِنْهُمْ ، فَإِنْ قَالَ الْمُفْلِسُ أُرِيدُ أَنْ أَقْسِمَ الثَّمَرَةَ بَيْنَ جَمِيعِ الْغُرَمَاءِ بِقِسْطِ دُيُونِهِمْ فَهَلْ يُجْبَرُ مَنْ صَدَّقَ الْبَائِعَ مِنَ الْغُرَمَاءِ عَلَى قَبُولِ ذَلِكَ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُجْبَرُونَ كَمَا لَوْ كَانَ الْكُلُّ مُصَدِّقِينَ ، فَمَا حَصَلَ مَعَ الْغُرَمَاءِ الْمُكَذِّبِينَ لِلْبَائِعِ مَلَكُوهُ ، وَمَا حَصَلَ مَعَ الْغُرَمَاءِ الْمُصَدِّقِينَ لِلْبَائِعِ رَدُّوهُ عَلَيْهِ لِاعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّهُ مِلْكٌ لَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ مَنْ صَدَّقَ الْبَائِعَ مِنَ الْغُرَمَاءِ لَا يُجْبَرُ عَلَى قَبُولِ الثَّمَرَةِ مِنْ دَيْنِهِ ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إِجْبَارِهِمْ عَلَى قَبُولِ ذَلِكَ أَنْ تَبْرَأَ ذِمَّةُ الْمُفْلِسِ مِنْ دُيُونِهِ ، وَذِمَّتُهُ تَبْرَأُ مِنْ دُيُونِ الْمُكَذِّبِينَ بِدَفْعِ الثَّمَرَةِ إِلَيْهِمْ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَبْرَأَ ذِمَّةُ الْمُفْلِسِ مِنْ جَمِيعِ دُيُونِ بَعْضِ الْغُرَمَاءِ وَبَيْنَ أَنْ تَبْرَأَ مِنْ بَعْضِ دُيُونِ جَمِيعِ الْغُرَمَاءِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ وَجَدَ بَعْضَ مَالِهِ كَانَ لَهُ بِحِصَّتِهِ وَيَضْرِبُ مَعَ الْغُرَمَاءِ فِي بَقِيَّتِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا مِمَّا تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْهُ لِدُخُولِهِ فِي التَّقْسِيمِ الْمَاضِي ، فَإِذَا بَاعَهُ شَيْئَيْنِ يَتَقَسَّطُ الثَّمَنَ عَلَيْهِمَا وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا تَبَعًا لِصَاحِبِهِ كَعَبْدَيْنِ أَوْ ثَوْبَيْنِ فَتَلِفَ أَحَدُهُمَا وَبَقِيَ الْآخَرُ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالْبَاقِي مِنْهُمَا : لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَحَقَّ الرُّجُوعَ بِكُلِّ الْمَبِيعِ إِذَا كَانَ مَوْجُودًا فَأَوْلَى أَنْ يَجُوزَ لَهُ الرُّجُوعُ بِبَعْضِهِ إِذَا كَانَ الْبَاقِي مَعْدُومًا ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ تَعَلَّقَ حَقُّهُ بِعَيْنٍ وَجَبَ تَقْدِيمُهُ بِهَا عَلَى غَيْرِهِ ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ وُجُودِ جَمِيعِ الْعَيْنِ أَوْ بَعْضِهَا كَالرَّهْنِ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِالْبَاقِي فَإِنَّهُ يَأْخُذُهُ بِحِسَابِهِ مِنَ الثَّمَنِ وَقِسْطِهِ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ غَلِطَ فَخَرَّجَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْبَائِعِ إِذَا تَلِفَ بَعْضُ الْمَبِيعِ فِي يَدِهِ ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَأْخُذُ مَا بَقِيَ عَلَى قَوْلَيْنِ - وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ مَا يُوَضِّحُ هَذَا الْغَلَطَ - فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَأْخُذُهُ بِحِسَابِهِ مِنَ الثَّمَنِ وَقِسْطِهِ فَقَدْ ذَكَرْنَا وَقْتَ اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ وَذَلِكَ فِي أَقَلِّ الْحَالَيْنِ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ أَوْ وَقْتِ الْقَبْضِ فَلَوِ اخْتَلَفَا فِي قِسْطِ مَا تَلِفَ مِنَ الثَّمَنِ وَلَا بَيِّنَةَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ مَالِكًا لِجَمِيعِ الثَّمَنِ فَلَا يَسْقُطُ حَقُّهُ مِنْهُ إِلَّا بِمَا اعْتَرَفَ بِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ كَانَتْ دَارًا فَبُنِيَتْ أَوْ أَرْضًا فَغُرِسَتْ خَيَّرْتُهُ بَيْنَ أَنْ يُعْطَى الْعِمَارَةَ وَيَكُونَ ذَلِكَ لَهُ أَوْ يَكُونَ لَهُ الْأَرْضُ وَالْعِمَارَةُ تُبَاعُ لِلْغُرَمَاءِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الْمُفْلِسُ وَالْغُرَمَاءُ أَنْ يُقْلِعُوا وَيَضْمَنُوا مَا نَقَصَ الْقَلْعُ فَيَكُونَ لَهُمُ ( وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ) إِنْ لَمْ يَأْخُذِ الْعِمَارَةَ وَأَبَى الْغُرَمَاءُ أَنْ يَقْلَعُوهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَّا الثَّمَنُ يُخَاضُ بِهِ الْغُرَمَاءُ ، ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) قُلْتُ أَنَا : الْأَوَّلُ عِنْدِي بِقَوْلِهِ أَشْبَهُ وَأَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ الثَّوْبَ إِذَا صُبِغَ لِبَائِعِهِ يَكُونُ بِهِ شَرِيكًا ، وَكَذَلِكَ الْأَرْضَ تُغْرَسُ لِبَائِعِهَا يَكُونُ بِهَا شَرِيكًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : صُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي رَجُلٍ بَاعَ أَرْضًا فَبَنَى فِيهَا الْمُشْتَرِي بِنَاءً وَغَرَسَ فِيهَا غِرَاسًا ثُمَّ أَفْلَسَ وَالْبِنَاءُ وَالْغِرَاسُ قَائِمٌ فِي الْأَرْضِ فَلِلْمُفْلِسِ وَلِغُرَمَائِهِ حَالَانِ : حَالٌ يَتَّفِقُوا عَلَى قَلْعِ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ فَلَهُمْ ذَلِكَ وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِأَرْضِهِ بَيْضَاءَ ، فَإِنْ كَانَ قَلْعُ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ بَعْدَ رُجُوعِ الْبَائِعِ بِأَرْضِهِ ، وَكَانَ لِقَلْعِ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ نَقْصٌ قَدْ أَضَرَّ بِالْأَرْضِ ، فَإِنْ أَمْكَنَ إِزَالَةُ النَّقْصِ بِتَسْوِيَةٍ لِلْأَرْضِ وَتَعْدِيلِهَا فَعَلَيْهِمْ تَسْوِيَتُهَا وَإِزَالَةُ النَّقْصِ الدَّاخِلِ عَلَيْهَا ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ إِزَالَةُ النَّقْصِ بِتَسْوِيَتِهَا فَعَلَيْهِمْ غُرْمُ مَا نَقَصَتِ الْأَرْضُ يَرْجِعُ لِكَوْنِ الْبَائِعِ مُقَدَّمٌ عَلَى جَمِيعِ الْغُرَمَاءِ لِأَنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ لِاسْتِصْلَاحِ مَالِهِ بَعْدَ وُقُوعِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ قَلْعَ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ قَبْلَ رُجُوعِ الْبَائِعِ بِأَرْضِهِ فَهَلْ عَلَى الْمُشْتَرِي الْمُفْلِسِ غُرْمُ نَقْصِهِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ - مِنَ اخْتِلَافِ
الْوَجْهَيْنِ فِيمَا حَدَثَ بِالْمَبِيعِ مِنْ نَقْصٍ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي هَلْ يَجْرِي مَجْرَى حَادِثٍ مِنْ سَمَاءٍ أَوْ مَجْرَى جِنَايَةِ أَجْنَبِيٍّ - أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لَا غُرْمَ عَلَيْهِ إِذَا قِيلَ إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى حَادِثٍ مِنْ سَمَاءٍ . وَالثَّانِي : عَلَيْهِ الْغُرْمُ إِذَا قِيلَ إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى جِنَايَةِ آدَمِيٍّ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْبَائِعُ بِقَدْرِ غَرَامَةِ النَّقْصِ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ وَلَا يَتَقَدَّمُ بِهِ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ عَلَى اسْتِهْلَاكٍ : وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ مِنْ أَحْوَالِ الْمُفْلِسِ وَغُرَمَائِهِ أَنْ يَمْتَنِعُوا مِنْ قَلْعِ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ فَلَا يُجْبَرُوا عَلَى قَلْعِهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ ، فَدَلَّ عَلَى غَيْرِ الظَّالِمِ لِعِرْقِهِ حَقٌّ ، وَالْمُشْتَرِي حِينَ بَنَى وَغَرَسَ لَمْ يَكُنْ ظَالِمًا ، وَإِذَا لَمْ يُجْبَرُ عَلَى قَلْعِهِ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْبَائِعِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَبْذُلَ لَهُمْ قِيمَةَ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ قَائِمًا أَوْ يَمْتَنِعَ ، فَإِنْ بَذَلَ لَهُمْ قِيمَةَ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ قَائِمًا فَلِلْبَائِعِ - إِذَا بَذَلَ قِيمَةَ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ قَائِمًا - أَنْ يَرْجِعَ بِأَرْشِهِ وَيُجْبِرَ الْمُفْلِسَ وَالْغُرَمَاءَ عَلَى أَخْذِ قِيمَةِ ذَلِكَ قَائِمًا أَوْ قَلْعِهِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَمْتَنِعَ الْبَائِعُ مِنَ الرُّجُوعِ بِأَرْضِهِ ، وَإِنِ امْتَنَعَ الْبَائِعُ مِنْ بَذْلِ قِيمَةِ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ قَائِمًا وَامْتَنَعَ الْمُفْلِسُ وَغُرَمَاؤُهُ مِنْ قَلْعِهِمَا مَعًا فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْأُمِّ ، وَنَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ عَنْهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِأَرْضِهِ ، وَقَالَ بَعْدَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ أُسْوَةً لِلْغُرَمَاءِ وَلَا يَرْجِعُ بِأَرْضِهِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا ، فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَطَائِفَةٌ يُخْرِجُونَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا وَبِهِ قَالَ الْمُزَنِيُّ : أَنَّ لِلْبَائِعِ الرُّجُوعَ بِأَرْضِهِ وَلَا يَكُونُ مَا حَصَلَ فِيهَا مِنْ مِلْكِ الْمُشْتَرِي مَانِعًا مِنَ الرُّجُوعِ بِهَا ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوِ اشْتَرَى ثَوْبًا فَصَبَغَهُ ثُمَّ أَفْلَسَ كَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِالثَّوْبِ وَإِنْ كَانَ مَصْبُوغًا بِصَبْغِ الْمُشْتَرِي وَيَكُونُ الصَّبْغُ لِلْمُشْتَرِي ، وَالْأَرْضُ الْمَغْرُوسَةُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ لِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ بِهَا وَإِنْ كَانَ الْغِرَاسُ لِلْمُشْتَرِي . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهَا لِلْبَائِعِ يَضْرِبُ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِالثَّمَنِ وَلَا حَقَّ لَهُ فِي الرُّجُوعِ بِالْأَرْضِ ؛ لِأَنَّ فِي الرُّجُوعِ بِالْأَرْضِ مَعَ بَقَاءِ الْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ فِيهَا ضَرَرًا لَاحِقًا بِمَالِكِ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ ؛ لِأَنَّ حِيطَانَ الْبِنَاءِ وَسُقُوفَهُ تَزُولُ مَنَافِعُهَا إِذَا لَمْ يُمْكِنِ التَّصَرُّفُ فِي الْأَرْضِ وَالْغِرَاسِ فَلَا يُمْكِنُ الِاسْتِطْرَاقُ إِلَيْهِ إِلَّا بِالتَّصَرُّفِ فِي الْأَرْضِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُزِيلَ عَنِ الْبَائِعِ ضَرَرًا بِاسْتِرْجَاعِ الْأَرْضِ بِإِدْخَالِ ضَرَرٍ عَلَى الْمُفْلِسِ وَالْغُرَمَاءِ فِي الْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ ، كَمَا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إِذَا بَنَى وَغَرَسَ لَمْ يَكُنْ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ الشِّقْصَ إِلَّا بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُزِيلَ ضَرَرًا عَنِ الشَّفِيعِ بِإِدْخَالِ ضَرَرٍ عَلَى الْمُشْتَرِي ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَارَقَ الثَّوْبَ الْمَصْبُوغَ ، لِأَنَّ الْبَائِعَ إِذَا رَجَعَ بِالثَّوْبِ لَمْ يَدْخُلْ عَلَى الْمُفْلِسِ ضَرَرٌ فِي الصَّبْغِ ، لِأَنَّ الثَّوْبَ الْمَصْبُوغَ يَسْتَوْدِعُ أَمِينًا حَتَّى
يُبَاعَ لَهُمَا فَلَا يُدْخِلُ ضَرَرًا عَلَيْهِمَا ، وَكَانَ أَبُو الْفَيَّاضِ الْبَصْرِيُّ وَأَكْثَرُ الْبَصْرِيِّينَ يُخْرِجُونَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ : فَالْمَوْضِعُ الَّذِي قَالَ فِيهِ بِأَنَّ لِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِأَرْضِهِ إِذَا كَانَ الْبِنَاءُ وَالْغِرَاسُ يَسِيرًا أَوْ أَكْثَرُ مَنَافِعِ الْأَرْضِ إِذَا اسْتُرْجِعَتْ بَاقِيًا لِبَقَاءِ الْمَقْصُودِ مِنْهَا ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي قَالَ إِنَّهُ يَضْرِبُ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِالثَّمَنِ وَلَا يَرْجِعُ بِالْأَرْضِ إِذَا كَانَ الْبِنَاءُ وَالْغِرَاسُ كَثِيرًا أَوْ أَكْثَرُ مَنَافِعِ الْأَرْضِ مَشْغُولًا لِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ مِنْهَا وَزَوَالِ الِانْتِفَاعِ بِهَا فَتَصِيرَ مُسْتَهْلَكَةً .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَإِذَا قُلْنَا : إِنَّهُ لَا رُجُوعَ لِلْبَائِعِ بِالْأَرْضِ بِيعَتْ مَعَ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ فِي مِلْكِ الْمُفْلِسِ وَكَانَ الْبَائِعُ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ فِي ثَمَنِهَا ، وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ لِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِالْأَرْضِ فَإِذَا رَجَعَ بِهَا فَإِنْ رَضِيَ أَنْ تُبَاعَ مَعَ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ - بِيعَتْ مَعَ ذَلِكَ وَدُفِعَ إِلَى الْبَائِعِ مَا قَابَلَ ثَمَنَ الْأَرْضِ وَدُفِعَ إِلَى الْغُرَمَاءِ مَا قَابَلَ ثَمَنَ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ - وَهَلْ يُدْفَعُ إِلَى الْبَائِعِ نِصْفُ مَا قَابَلَ ثَمَنَ الْأَرْضِ بَيْضَاءَ أَوْ مَا قَابَلَ ثَمَنَهَا مَعَ الْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَحَدُهُمَا : يُدْفَعُ إِلَيْهِ مَا قَابَلَ ثَمَنَ الْأَرْضِ مَعَ الْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ لِيَكُونَ النَّقْصُ دَاخِلًا عَلَيْهِمَا ، لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ غَيْرُ مُتَعَدٍّ بِغَرْسِهِ وَبِنَائِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالنَّقْصِ دُونَ غَيْرِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ - أَنَّهُ يَدْفَعُ إِلَى الْبَائِعِ مَا قَابَلَ ثَمَنَ الْأَرْضِ بَيْضَاءَ لِيَكُونَ النَّقْصُ إِنْ كَانَ دَاخِلًا عَلَى الْمُشْتَرِي ـ كَمَا يَكُونُ النَّقْصُ فِي الثَّوْبِ الْمَصْبُوغِ ـ دَاخِلًا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ غَيْرُ مَدْعُوٍّ بِغَرْسٍ وَبِنَاءٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالنَّقْصِ دُونَ غَيْرِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ أَصَحُّ : أَنْ يُدْفَعَ إِلَى الْبَائِعِ مَا بَلَغَتِ الْأَرْضُ بَيْضَاءَ لِيَكُونَ النَّقْصُ إِنْ كَانَ دَاخِلًا عَلَى الْمُشْتَرِي ـ كَمَا يَكُونُ النَّقْصُ فِي الثَّوْبِ الْمَصْبُوغِ ـ دَاخِلًا عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ قَالَ : إِنَّ الْمُفْلِسَ وَالْغُرَمَاءَ إِنِ اتَّفَقُوا عَلَى قَلْعِ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ لَزِمَهُمْ أَنْ يُغَرَّمُوا نَقْصَ الْأَرْضِ بِقَلْعِ ذَلِكَ ، فَأَمَّا إِنِ امْتَنَعَ الْبَائِعُ مِنْ بَيْعِ الْأَرْضِ مَعَ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ فَهَلْ يُجْبَرُ الْبَائِعُ عَلَى الْبَيْعِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ : أَحَدُهُمَا : يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِ الْأَرْضِ مَعَ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ كَمَا يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِ الْجَارِيَةِ مَعَ وَلَدِهَا ، وَكَمَا يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِ الثَّوْبِ مَعَ صَبْغِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ أَصَحُّ : يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِ الْأَرْضِ وَيُبَاعُ الْبِنَاءُ وَالْغِرَاسُ مُنْفَرِدًا لِإِمْكَانِ إِفْرَادِهِ بِالْبَيْعِ عَقْدًا - بِخِلَافِ الصَّبْغِ - وَشَرْعًا - بِخِلَافِ الْوَلَدِ - ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا اشْتَرَى أَرْضًا مِنْ رَجُلٍ وَغِرَاسًا مِنْ آخَرَ وَغَرَسَهُ فِيهَا ثُمَّ أَفْلَسَ وَحَضَرَ صَاحِبُ الْأَرْضِ وَصَاحِبُ الْغَرْسِ حكمه فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَرْجِعَ بِعَيْنِ مَالِهِ لِيَرْجِعَ صَاحِبُ الْأَرْضِ بِأَرْضِهِ وَصَاحِبُ الْغِرَاسِ بِغَرْسِهِ ، فَإِنْ أَحَبَّ صَاحِبُ الْغِرَاسِ قَلْعَ غَرْسِهِ فَلَهُ ذَلِكَ وَعَلَيْهِ غُرْمُ مَا
نَقَصَتِ الْأَرْضُ بِقَلْعِ الْغَرْسِ ، فَإِنِ امْتَنَعَ مِنْ قَلْعِهِ وَبَذَلَ صَاحِبُ الْأَرْضِ قِيمَةَ الْغَرْسِ قَائِمًا لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ الْغِرَاسِ إِقْرَارُ غَرْسِهِ وَقِيلَ : أَنْتَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ قَلْعِ غَرْسِكَ أَوْ أَخْذِ قِيمَتِهِ قَائِمًا ، وَإِنِ امْتَنَعَ صَاحِبُ الْأَرْضِ مَنْ بَذْلِ قِيمَةِ الْغَرْسِ قَائِمًا وَامْتَنَعَ صَاحِبُ الْغَرْسِ مِنْ قَلْعِهِ - فَإِنْ رَضِيَ صَاحِبُ الْأَرْضِ بِإِقْرَارِ الْغَرْسِ فِي أَرْضِهِ كَانَ ذَلِكَ مُقَرًّا وَلَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ مَا بَقِيَ الْغَرْسُ فِي أَرْضِهِ ، وَإِنْ مَنَعَ مِنْ إِقْرَارِهِ فِي أَرْضِهِ فَهَلْ يُجْبَرُ صَاحِبُ الْغَرْسِ عَلَى قَلْعِ غَرْسِهِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُجْبَرُ عَلَى قَلْعِهِ كَمَا لَا يُجْبَرُ الْمُفْلِسُ - لَوْ كَانَ الْغَرْسُ لَهُ - عَلَى قَلْعِهِ لِأَنَّهُ عِرْقٌ لَيْسَ بِظَالِمٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى قَلْعِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْمُفْلِسُ لَا يُجْبَرُ عَلَى قَلْعِهِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُفْلِسَ قَدِ اسْتَقَرَّ مِلْكُهُ عَلَى غَرْسٍ نَامٍ وَقَلْعُهُ يُزِيلُ النَّمَاءَ فَلَحِقَهُ بِقَلْعِهِ ضَرَرٌ فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَائِعُ الْغَرْسِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَامِيًا حِينَ كَانَ عَلَى مِلْكِهِ ، فَلَمْ يَلْحَقْهُ بَعْدَ قِلْعِهِ ضَرَرٌ فَلِذَلِكَ أُجْبِرَ عَلَيْهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ كَانَا عَبْدَيْنِ بِمَائَةٍ فَقَبَضَ نِصْفَ الثَّمَنِ وَبَقِيَ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ وَهُمَا سَوَاءٌ كَانَ لَهُ نِصْفُ الثَّمَنِ وَنِصْفُ الَّذِي قَبَضَ ثَمَنَ الْهَالِكِ كَمَا لَوْ رَهَنَهُمَا بِمَائَةٍ فَقَبَضَ تِسْعِينَ وَهَلَكَ أَحَدُهُمَا كَانَ الْآخَرُ رَهْنًا بِالْعَشَرَةِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) قُلْتُ أَنَا : أَصْلُ قَوْلِهِ أَنْ لَيْسَ الرَّهْنُ مِنَ الْبَيْعِ بِسَبِيلٍ لِأَنَّ الرَّهْنَ مَعْنًى وَاحِدٌ بِمَعْنًى وَاحِدٍ مَا بَقِيَ مِنَ الْحَقِّ شَيْءٌ ( قَالَ ) وَلَوْ بَقِيَ مِنْ ثَمَنِ السِّلْعَةِ فِي التَّفْلِيسِ دِرْهَمٌ لَمْ يَرْجِعْ فِي قَوْلِهِ مِنَ السَّلْعَةِ إِلَا بِقَدْرِ الدِّرْهَمِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ لِنَقْصِ الثَّمَنِ أَوِ الْمَبِيعِ عِنْدَ فَلَسِ الْمُشْتَرِي ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْمَبِيعِ قَدْ تَلِفَ وَالثَّمَنُ عَلَى حَالِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الثَّمَنِ قَدْ قُبِضَ وَالْمَبِيعُ عَلَى حَالِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْمَبِيعِ قَدْ تَلِفَ وَبَعْضُ الثَّمَنِ قَدْ قُبِضَ . فَأَمَّا الْأَوَّلُ مِنْ أَقْسَامِهِ فَهُوَ أَنْ يُفْلِسَ الْمُشْتَرِي قَبْلَ دَفْعِ شَيْءٍ مِنَ الثَّمَنِ وَقَدْ تَلِفَ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ الْمُبِيعَيْنِ وَبَقِيَ الْآخَرُ ، فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَ الْعَبْدَ الْبَاقِيَ بِحِسَابِهِ مِنَ الثَّمَنِ ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُمَا سَوَاءً أَخَذَهُ بِنِصْفِ الثَّمَنِ وَضَرَبَ بِالنِّصْفِ الْبَاقِي مِنَ الثَّمَنِ مَعَ الْغُرَمَاءِ ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُمَا مُخْتَلِفَةً قَسَّطَ الثَّمَنَ عَلَى قِيمَتِهِمَا وَأَخَذَهُ بِقِسْطِهِ مِنَ الثَّمَنِ وَضَرَبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِبَاقِي الثَّمَنِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الثَّانِي مِنْ أَقْسَامِهِ : فَهُوَ أَنْ يُفْلِسَ الْمُشْتَرِي وَالْمَبِيعُ بَاقٍ وَقَدْ قَبَضَ الْبَائِعُ بَعْضَ ثَمَنِهِ حكمه ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّ لِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْمَبِيعِ بِقِسْطِ مَا بَقِيَ لَهُ مِنْ ثَمَنِهِ وَيَكُونَ بَاقِي الْمَبِيعِ لِلْمُفْلِسِ يُبَاعُ فِي حَقِّ غُرَمَائِهِ ، وَقَالَ مَالِكٌ : إِذَا قَبَضَ الْبَائِعُ بَعْضَ الثَّمَنِ بَطَلَ حَقُّهُ مِنَ اسْتِرْجَاعِ الْمَبِيعِ وَضَرَبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِبَاقِي الثَّمَنِ ، وَحَكَى نَحْوَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ إِمَّا مَذْهَبًا لِنَفْسِهِ أَوْ حِكَايَةً عَنْ غَيْرِهِ تَعَلُّقًا بِمَا رَوَى مَالِكٌ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَّالَ : أَيُّمَا رَجُلٍ بَاعَ سِلْعَةً بِعَيْنِهَا عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أَفْلَسَ وَلَمْ يَقْبِضْ مِنْ ثَمَنِهَا شَيْئًا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا ، وَإِنْ قَبَضَ مِنْ ثَمَنِهَا شَيْئًا فَهُوَ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ وَلِأَنَّ الْبَائِعَ إِنَّمَا يَرْجِعُ بِعَيْنِ مَالِهِ لِيُزِيلَ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ ، وَفِي اسْتِرْجَاعِ بَعْضِ الْمَبِيعِ إِدْخَالُ ضَرَرٍ عَلَى الْمُشْتَرِي لِتَفْرِيقِ صَفْقَتِهِ وَسُوءِ مُشَارَكَتِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُزِيلَ ضَرَرًا عَنْ نَفْسِهِ بِإِدْخَالِ ضَرَرٍ عَلَى غَيْرِهِ ، وَهَذَا خَطَأٌ ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أَحَقُّ بِمَتَاعِهِ إِذَا وَجَدَهُ بِعَيْنِهِ وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ أَنْ يَعُودَ إِلَى عَيْنِ مَالِهِ بِالْفَسْخِ جَازَ أَنْ يَعُودَ إِلَى بَعْضِهَا بِالْفَسْخِ كَالْمُزَوَّجِ يَعُودُ إِلَى جَمِيعِ الصَّدَاقِ بِالرِّدَّةِ قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَإِلَى نِصْفِهِ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ فَهُوَ مُرْسَلٌ لَا يَلْزَمُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ : فَهُوَ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ ، بِمَعْنَى : أَنَّ الْبَائِعَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا بَقِيَ مِنْ ثَمَنِهِ وَيُبَاعُ فِي حُقُوقِ الْغُرَمَاءِ مَا بَقِيَ ، فَيَصِيرَ وَافِيَهُ أُسْوَةً لِأَنَّهُ لَمْ يَخْتَصَّ الْبَائِعُ بِجَمِيعِهِ دُونَ الْغُرَمَاءِ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ مِنْ إِدْخَالِ الضَّرَرِ عَلَى الْمُفْلِسِ بِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ وَسُوءِ الْمُشَارَكَةِ فَهُوَ إِنَّمَا يَكُونُ دَاخِلًا عَلَيْهِ بِذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ مُبْقَى عَلَى مِلْكِهِ وَالْمُفْلِسُ فَلَا يُسْتَبْقَى عَلَى مِلْكِهِ فَيَدْخُلُ عَلَيْهِ ضَرَرٌ ، بَلْ يُبَاعُ عَلَيْهِ لِغُرَمَائِهِ فَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ ضَرَرٌ لِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ وَلَا بِسُوءِ الْمُشَارَكَةِ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ قَبْضَ بَعْضِ الْمَبِيعِ لَا يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَرْجِعَ مِنَ الْمَبِيعِ بِقِسْطِ بَاقِي الثَّمَنِ فَإِنْ كَانَ الْمَقْبُوضُ نِصْفَ الثَّمَنِ رَجَعَ بِنِصْفِ الْمَبِيعِ مَشَاعًا ، فَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ عَبْدًا وَاحِدًا اسْتَحَقَّ نِصْفَهُ ، وَإِنْ كَانَ عَبْدَيْنِ رَجَعَ بِنِصْفِهِمَا جَمِيعًا ، وَإِنْ كَانُوا ثَلَاثَةً رَجَعَ بِنِصْفِ الثَّلَاثَةِ ، وَلَوْ كَانَ الْمَقْبُوضُ ثُلُثَ الثَّمَنِ وَالْبَاقِي الثُّلُثَانِ رَجَعَ بِثُلُثَيِ الثَّلَاثَةِ إِلَّا عَبْدًا مَشَاعًا ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْبُوضَ مِنَ الثَّمَنِ الثُّلْثَانِ رَجَعَ بِثُلُثِ الثَّلَاثَةِ إِلَّا عَبْدًا مَشَاعًا حَتَّى يَتَرَاضَوْا عَلَى الْقِسْمَةِ مِنْ بَعْدُ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الثَّالِثُ مِنْ أَقْسَامِهِ - وَهُوَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ - فَصُورَتُهُ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ عَبْدَيْنِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَيُفْلِسَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ أَنْ قَبَضَ الْبَائِعُ نِصْفَ الْمِائَةِ وَمَاتَ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : كَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِالْعَبْدِ الْبَاقِي بِمَا بَقِيَ لَهُ مِنْ نِصْفِ الثَّمَنِ إِذَا كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدَيْنِ سَوَاءً ، وَيَكُونُ الْمَقْبُوضُ مِنَ الثَّمَنِ فِي مُقَابَلَةِ التَّالِفِ مِنَ الْعَبْدَيْنِ ، فَلَوْ كَانَ الْبَاقِي بِأَكْثَرِهِمَا ثَمَنًا اسْتَرْجَعَ مِنْهُ مَا قَابَلَ الْبَاقِيَ مِنَ الثَّمَنِ وَرَدَّ الْفَضْلَ عَلَى الْغُرَمَاءِ ، وَلَوْ كَانَ الْبَاقِي أَقَلَّهُمَا ثَمَنًا اسْتَرْجَعَهُ بِحِسَابِهِ مِنَ الثَّمَنِ وَضَرَبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِبَاقِيهِ فَهَذَا عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي
الْفَلَسِ ، وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي الزَّوْجَةِ إِذَا طُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ - وَقَدْ تَلِفَ بَعْضُ الصَّدَاقِ فِي يَدِهَا حكمها - عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَرْجِعَ بِمَا اسْتَحَقَّهُ مِنْ نِصْفِ الصَّدَاقِ بِمَا بَقِيَ مِنْهُ كَمَا قَالَ فِي الْمُفْلِسِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَرْجِعُ بِنِصْفِ الْبَاقِي وَبِنِصْفِ قِيمَةِ التَّالِفِ - بِخِلَافِ مَا قَالَهُ فِي الْمُفْلِسِ - فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ بَعْضُهُمْ يُخْرِجُ مَسْأَلَةَ الْمُفْلِسِ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالصَّدَاقِ : أَحَدُهُمَا : يَأْخُذُ نِصْفَ الْعَبْدِ الْبَاقِي بِنِصْفِ مَا بَقِيَ لَهُ مِنَ الثَّمَنِ وَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَيَضْرِبُ بِمَا بَقِيَ مِنْهُ وَهُوَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا مَعَ الْغُرَمَاءِ ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْخَمْسِينَ الْمَقْبُوضَةَ هِيَ مِنْ ثَمَنِ الْعَبْدَيْنِ الْمُبِيعَيْنِ جَمِيعًا ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْعَبْدَانِ بَاقِيَيْنِ وَقَدْ قَبَضَ نِصْفَ الثَّمَنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْجِعَ بِأَحَدِ الْعَبْدَيْنِ وَيَجْعَلَ الْمَقْبُوضَ مِنْ ثَمَنِ أَحَدِهِمَا ، بَلْ يَرْجِعُ بِنِصْفِ الْعَبْدَيْنِ وَيَكُونُ الْمَقْبُوضُ مِنْ ثَمَنِهِمَا ، فَإِذَا كَانَ الْمَقْبُوضُ - بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا - مِنْ ثَمَنِهِمَا مَعًا صَارَ نِصْفُ الْخَمْسِينَ الْمَقْبُوضَةِ مِنْ ثَمَنِ الْعَبْدِ التَّالِفِ وَنِصْفُهَا مِنْ ثَمَنِ الْعَبْدِ الْبَاقِي وَنِصْفُ الْخَمْسِينَ الْبَاقِيَةِ مِنْ ثَمَنِ الْعَبْدِ التَّالِفِ وَنِصْفُهَا مِنْ ثَمَنِ الْبَاقِي فَوَجَبَ أَنْ يَرْجِعَ بِنِصْفِ الْعَبْدِ الْبَاقِي لِبَقَاءِ نِصْفِ ثَمَنِهِ وَلَا يَرْجِعُ بِالنِّصْفِ الْبَاقِي لِقَبْضِ ثَمَنِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : - وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ هَاهُنَا - أَنَّ الْبَاقِيَ بِجَمِيعِ الْعَبْدِ الْبَاقِي بِمَا بَقِيَ لَهُ مِنْ نِصْفِ الثَّمَنِ ، وَيَكُونُ نِصْفُ الثَّمَنِ الْمَقْبُوضِ مِنْ ثَمَنِ الْعَبْدِ التَّالِفِ ، وَوَجْهُ ذَلِكَ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُزِيلَ جَمِيعَ الثَّمَنِ مِنَ الذِّمَّةِ إِذَا كَانَ الْجَمِيعُ بَاقِيًا إِلَى جَمِيعِ الْعَيْنِ إِذَا كَانَ جَمِيعُهَا بَاقِيًا جَازَ أَنْ يَنْقُلَ بَعْضَ الثَّمَنِ مِنَ الذِّمَّةِ إِذَا كَانَ بَعْضُهُ بَاقِيًا إِلَى بَعْضِ الْعَيْنِ إِذَا كَانَ بَعْضُهَا بَاقِيًا لِيَكُونَ فِي الْحَالَيْنِ وَاصِلًا إِلَى حَقِّهِ بِعَيْنِ مَالِهِ وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَصِيرَ الْمَقْبُوضُ مِنْ ثَمَنِ الْجُمْلَةِ مُتَحَيِّزًا فِي بَعْضِهَا ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَقَبَضَهُمَا وَدَفَعَ مِنَ الثَّمَنِ خَمْسِينَ دِرْهَمًا فَمَاتَ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ وَوَجَدَ بِالْبَاقِي عَيْبًا فَرَدَّهُ صَارَتِ الْخَمْسُونَ الْمَقْبُوضَةُ ثَمَنًا لِلتَّالِفِ فَلَا يَرْجِعُ بِهَا ، وَالْخَمْسُونَ الْبَاقِيَةُ ثَمَنًا لِلْمَرْدُودِ غَيْرَ مُطَالَبٍ بِهَا ، وَكَذَلِكَ الْفَلَسُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَتَوَصَّلَ إِلَى حَقِّهِ بِاسْتِرْجَاعِ الْعَيْنِ كَمَا كَانَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَتَوَصَّلَ إِلَى حَقِّهِ مِنَ الرَّهْنِ ثُمَّ كَانَ لَوِ ارْتَهَنَ عَبْدَيْنِ بِمِائَةٍ فَقَبْضَ مِنْهَا تِسْعِينَ وَمَاتَ أَحَدُهُمَا كَانَ الْعَبْدُ الْبَاقِي رَهْنًا بِالْعَشَرَةِ الْبَاقِيَةِ ، كَذَلِكَ الْبَائِعُ يَأْخُذُ مَا بَقِيَ مِنَ الْعَيْنِ بِمَا بَقِيَ مِنَ الثَّمَنِ وَهَذِهِ دَلَالَةُ الشَّافِعِيِّ ، فَاعْتَرَضَ الْمُزَنِيُّ عَلَيْهَا وَقَالَ : لَيْسَ الرَّهْنُ مِنَ الْبَيْعِ بِسَبِيلٍ ، لِأَنَّ جَمِيعَ الرَّهْنِ وَكُلَّ جُزْءٍ مِنْهُ مَرْهُونٌ بِالْحَقِّ وَبِكُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ ، وَلَيْسَ جَمِيعُ الْمَبِيعِ وَكُلُّ جُزْءٍ مِنْهُ مَبِيعًا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَبِكُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ . وَهَذَا الَّذِي اعْتَرَضَ بِهِ الْمُزَنِيُّ لَا يَقْدَحُ فِي دَلَالَةِ الشَّافِعِيِّ ، لِأَنَّ
افْتِرَاقَهُمَا مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ ؛ لِأَنَّ لِلْبَائِعِ أَنْ يَمْنَعَ الْغُرَمَاءَ مِنَ الْمَبِيعِ لِيَتَوَصَّلَ إِلَى حَقِّهِ مِنْهُ وَيَزُولَ عَنْهُ ضَرَرُ الْعَجْزِ بِهِ ، فَهَذَا تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ عَلَى طَرِيقَةِ مَنْ خَرَّجَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا : إِنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ فِي الْفَلَسِ : أَنَّهُ يَأْخُذُ الْعَبْدَ الْبَاقِيَ بِمَا بَقِيَ مِنَ الثَّمَنِ ، وَإِنْ كَانَ الصَّدَاقُ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنَّ رُجُوعَ الْبَائِعِ فِي الْفَلَسِ أَقْوَى مِنْ رُجُوعِ الزَّوْجِ فِي الصَّدَاقِ ، لِأَنَّ لِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِالْمَبِيعِ زَائِدًا ، وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ بِالصَّدَاقِ زَائِدًا ، فَجَازَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِجَمِيعِ مَا بَقِيَ لِقُوَّةِ سَبَبِهِ ، وَلَمْ يَجُزْ لِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ بِجَمِيعِ حَقِّهِ مِنَ الْبَاقِي لِضَعْفِ سَبَبِهِ ، وَالْفَرْقُ الثَّانِي : أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا رَجَعَ بِنِصْفِ الْمَوْجُودِ أَمْكَنَهُ الرُّجُوعُ بِقِيمَةِ الْبَاقِي ؛ لِأَنَّ ذِمَّةَ الزَّوْجَةِ مَلِيئَةٌ فَلَا يَلْحَقُهُ ضَرَرٌ ، وَالْبَائِعُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْوُصُولِ إِلَى حَقِّهِ إِلَّا بِاسْتِرْجَاعِ مَا بَقِيَ ؛ لِأَنَّ ذِمَّةَ الْمُشْتَرِي بِالْفَلَسِ خَرِبَةٌ ، وَوِزَانُ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ مُفْلِسَةً .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ أَكْرَاهُ أَرْضًا فَفَلَسَ وَالزَّرْعُ بَقْلٌ فِي أَرْضِهِ كَانَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَنْ يُحَاصَّ الْغُرَمَاءَ بِقَدْرِ مَا أَقَامَتِ الْأَرْضُ فِي يَدَيْهِ إِلَى أَنْ أَفْلَسَ وَيَقْلَعَ الزَّرْعَ عَنْ أَرْضِهِ ، إِلَّا أَنْ يَتَطَوَّعَ الْمُفْلِسُ وَالْغُرَمَاءُ بِأَنْ يَدْفَعُوا إِلَيْهِ إِجَارَةً مِثْلَ الْأَرْضَ إِلَى أَنْ يُسْتَحْصَدَ الزَّرْعُ ؛ لِأَنَّ الزَّارِعَ كَانَ غَيْرَ مُتَعَدٍّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : يَجُوزُ لِلْمُؤَاجِرِ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ بِفَلَسِ الْمُسْتَأْجِرِ كَمَا جَازَ ذَلِكَ لِلْبَائِعِ ، وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ : يَجُوزُ فَسْخُ الْبَيْعِ بِالْفَلَسِ وَلَا يَجُوزُ فَسْخُ الْإِجَارَةِ بِالْفَلَسِ مِنَ الْمُسْتَأْجِرِ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا جَعَلَ لَهُ الرَّجُوعَ بِسِلْعَتِهِ فِي الْمَبِيعِ دُونَ غَيْرِهِ ، وَمَا سِوَاهُ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى : أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ، وَهَذَا خَطَأٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أَحَقُّ بِمَتَاعِهِ إِذَا وَجَدَهُ بِعَيْنِهِ ، وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ تَجْرِي مَجْرَى الْأَعْيَانِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا تُضَمَّنُ فِي الْعَقْدِ الصَّحِيحِ بِالْمُسَمَّى وَفِي الْفَاسِدِ بِالْمِثْلِ ، فَلَمَّا أَوْجَبَ الْفَلَسُ اسْتِرْجَاعَ مَا تَضَمَّنَهُ الْعَقْدُ إِذَا كَانَ عَيْنًا فَوَجَبَ اسْتِرْجَاعُهُ إِذَا كَانَ مَنْفَعَةً ، وَلِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ لَيْسَ بِأَوْكَدَ مِنْ عَقْدِ الْبَيْعِ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَمْلِكُ بِهِ الرَّقَبَةَ وَالْمَنْفَعَةَ ، فَلَمَّا جَازَ فَسْخُ الْبَيْعِ بِالْفَلَسِ فَأَوْلَى أَنْ يَجُوزَ فَسْخُ الْإِجَارَةِ بِالْفَلَسِ ، وَلِأَنَّ مَا تَضَمَّنَهُ عَقْدُ الْإِجَارَةِ مِنَ الْمَنَافِعِ لَيْسَتْ مَوْجُودَةً فِي الْحَالِ ، وَإِنَّمَا تَحْدُثُ حَالًا بَعْدَ حَالٍ ، وَمَا تَضَمَّنَهُ عَقْدُ الْبَيْعِ مَوْجُودٌ فِي الْحَالِ ، فَلَمَّا جَازَ بِالْفَلَسِ فَسْخُ الْعَقْدِ عَلَى مَوْجُودٍ فِي الْحَالِ فَأَوْلَى أَنْ يَجُوزَ فِي فَسْخِ مَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ إِلَّا فِي ثَانِي الْحَالِ ، وَمَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنَ الْعُمُومِ فَمَخْصُوصٌ بِمَا ذَكَرْنَا .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ فَسْخَ الْإِجَارَةِ بِالْفَلَسِ حكمه جَائِزٌ لِمَا ذَكَرْنَا فَلَا يَخْلُو فَلَسُ الْمُسْتَأْجِرِ إِذَا لَمْ يَدْفَعِ الْأُجْرَةَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ :
أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ قَبْلَ مُضِيِّ شَيْءٍ مِنَ الْمُدَّةِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ بَعْدَ تَقَضِّي جَمِيعِ الْمُدَّةِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ بَعْدَ مُضِيِّ بَعْضِ الْمُدَّةِ ، فَإِنْ كَانَ الْفَلَسُ قَبْلَ مُضِيِّ شَيْءٍ مِنَ الْمُدَّةِ كَانَ لِلْمُؤَاجِرِ أَنْ يَفْسَخَ عَقْدَ الْإِجَارَةِ وَيَسْتَرْجِعَ الْأَرْضَ الْمُؤَاجَرَةَ ، وَيَسْقُطَ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ جَمِيعُ الْأُجْرَةِ كَاسْتِرْجَاعِ الْمَبِيعِ بِالثَّمَنِ ، فَلَوْ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ قَدْ أُقْبِضَ بَعْضَ الْأُجْرَةِ كَانَ لِلْمُؤَاجِرِ أَنْ يَفْسَخَ مِنَ الْمُدَّةِ بِقَدْرِ مَا بَقِيَ لَهُ مِنَ الْأُجْرَةِ ، وَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ إِذَا قَبَضَ بَعْضَ الثَّمَنِ ، وَإِنْ كَانَ الْفَلَسُ بَعْدَ تَقَضِّي جَمِيعِ الْمُدَّةِ فَقَدْ صَارَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مُسْتَهْلَكًا فَصَارَتِ الْأُجْرَةُ فِي ذِمَّةِ الْمُسْتَأْجِرِ مُسْتَقِرَّةً فَيَضْرِبُ بِهَا الْمُؤَاجِرُ مَعَ الْغُرَمَاءِ ، كَالْبَائِعِ إِذَا اسْتَهْلَكَ الْمُشْتَرِي عَيْنَ مَالِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْفَلَسُ بَعْدَ مُضِيِّ بَعْضِ الْمُدَّةِ وَبَقِيَ بَعْضُهَا كَأَنْ قُضِيَ نِصْفُهَا وَبَقِيَ نِصْفُهَا فَقَدِ اسْتَقَرَّ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أُجْرَةُ مَا مَضَى مِنْ نِصْفِ الْمُدَّةِ ، وَكَانَ لِلْمُؤَاجِرِ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ فِيمَا بَقِيَ مِنْ نِصْفِ الْمُدَّةِ ، وَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمَبِيعِ إِذَا اسْتَهْلَكَ الْمُشْتَرِي بَعْضَهُ وَبَقِيَ بَعْضُهُ ، فَإِذَا فَسَخَ الْمُؤَاجِرُ الْإِجَارَةَ فِيمَا بَقِيَ مِنَ الْمُدَّةِ وَضَرَبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِأُجْرَةِ مَا مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْأَرْضِ حِينَئِذٍ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَكُونَ مَشْغُولَةً بِزَرْعِ الْمُفْلِسِ أَوْ خَالِيَةً مِنْ زَرْعِهِ ، فَإِنْ كَانَتْ خَالِيَةً مِنْ زَرْعِهِ اسْتَرْجَعَهَا الْمُؤَاجِرُ وَتَصَرَّفَ فِيهَا ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا زَرْعُهُ وَلَمْ يُسْتَحْصَدْ بَعْدُ فَلَا يَخْلُو حَالُ الزَّرْعِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَهُ قِيمَةٌ أَوْ لَا قِيمَةَ لَهُ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا قِيمَةَ لَهُ فِي الْحَالِ لِكَوْنِهِ حَشِيشًا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ إِلَّا بَعْدَ كُبْرِهِ وَطُولِهِ فَهَذَا يَجِبُ أَنْ يُقَرَّ فِي الْأَرْضِ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى حَالِ الِانْتِفَاعِ بِهِ ، فَلَا يَجُوزُ قَلْعُهُ لِلْمُفْلِسِ وَلَا لِلْغُرَمَاءِ لِمَا فِيهِ مِنَ الِاسْتِهْلَاكِ لِعَيْنٍ نَامِيَةٍ وَإِتْلَافِ مَالٍ مَوْجُودٍ ، وَإِذَا أَقَرَّ اسْتَحَقَّ صَاحِبُ الْأَرْضِ أُجْرَةَ الْمِثْلِ - عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ - وَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ فَصِيلًا لِمِثْلِهِ قِيمَةٌ وَفِيهِ إِنْ قُلِعَ مَنْفَعَةٌ فَلِلْمُفْلِسِ وَالْغُرَمَاءِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى قَلْعِهِ فِي الْحَالِ ، فَذَلِكَ لَهُمْ وَيَتَسَلَّمُ صَاحِبُ الْأَرْضِ أَرْضَهُ بَيْضَاءَ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى تَرْكِهِ إِلَى وَقْتِ كَمَالِهِ وَحَصَادِهِ لِيَكُونَ أَوْفَرَ ثَمَنًا ، فَذَلِكَ لَهُمْ إِنْ بَذَلُوا لِصَاحِبِ الْأَرْضِ أُجْرَةَ مِثْلِ أَرْضِهِ ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَنْ يُجْبِرَهُمْ عَلَى قَلْعِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعِرْقٍ ظَالِمٍ فَيُقْلَعُ ، وَإِنَّمَا هُوَ زَرْعٌ بِحَقٍّ فَأُقِرَّ ، فَإِذَا أُقِرَّ اسْتَحَقَّ صَاحِبُ الْأَرْضِ أُجْرَةَ مِثْلِ أَرْضِهِ مِنْ حِينِ الْفَسْخِ إِلَى وَقْتِ الْحَصَادِ ، فَإِنِ امْتَنَعُوا مِنْ بَذْلِ الْأُجْرَةِ لَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُمْ بِقَلْعِ الزَّرْعِ : لِأَنَّهُ إِنَّمَا فَسَخَ لِيَصِلَ إِلَى مَنَافِعِ أَرْضِهِ فَلَا يَلْحَقُهُ ضَرَرٌ بِفَوَاتِهَا عَلَيْهِ ، وَفِي إِقْرَارِ الزَّرْعِ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ إِبْطَالٌ لِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ اسْتَحَقَّ الْفَسْخَ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْفَرْقَ بَيْنَ بَائِعِ الْأَرْضِ
حَيْثُ لَمْ يَسْتَحِقَّ أُجْرَةً لِمَا بَقِيَ فِيهَا مِنْ زَرْعِ الْمُفْلِسِ وَبَيْنَ الْمُؤَاجِرِ حَيْثُ اسْتَحَقَّ الْأُجْرَةَ لِمَا يُسْتَبْقَى فِيهَا مِنْ زَرْعِ الْمُفْلِسِ ، وَهُوَ أَنَّ رَقَبَةَ الْأَرْضِ فِي الْمَبِيعِ هِيَ الْمَقْصُودَةُ بِالْعَقْدِ وَالْمُشْتَرِي غَيْرُ مُعَاوِضٍ عَلَى مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ ، فَإِذَا اسْتَحَقَّ الْبَائِعُ الرَّقَبَةَ فَقَدْ وَصَلَ إِلَى حَقِّهِ الَّذِي عَارَضَ ، وَإِنِ اسْتَحَقَّتِ الْمَنْفَعَةُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْإِجَارَةُ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ هِيَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهَا ، وَفَسْخُ الْعَقْدِ بِالْفَلَسِ يُوجِبُ اسْتِرْجَاعَهَا فَقَدْ صَحَّ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ، فَهَذَا الْحُكْمُ فِي الزَّرْعِ إِذَا اتَّفَقَ الْمُفْلِسُ وَالْغُرَمَاءُ عَلَى تَرْكِهِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَدْعُوَ الْمُفْلِسُ إِلَى تَرْكِهِ إِلَى وَقْتِ الْحَصَادِ لِيَتَوَفَّرَ عَلَيْهِمْ ثَمَنُهُ وَيَدْعُوَ الْغُرَمَاءُ إِلَى قَلْعِهِ فِي الْحَالِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغُرَمَاءِ فِي تَعْجِيلِ قَلْعِهِ فِي الْحَالِ ، وَبَيْعُهُ فِي حُقُوقِهِمْ ، لِأَنَّ دُيُونَهُمْ مُعَجَّلَةٌ فَلَا يَلْزَمُهُمْ تَأْخِيرُهَا ، وَلِأَنَّ فِي اسْتِبْقَاءِ الزَّرْعِ خَطَرًا لِحُدُوثِ الْجَائِحَةِ بِهِ . وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَدْعُوَ الْمُفْلِسُ إِلَى قَلْعِهِ فِي الْحَالِ لِيَتَعَجَّلَ قَضَاءَ دَيْنِهِ وَيَدْعُوَ الْغُرَمَاءُ إِلَى اسْتِبْقَائِهِ إِلَى وَقْتِ حَصَادِهِ لِوُفُورِ ثَمَنِهِ ، فَالْقَوْلُ فِي تَعْجِيلِ قَلْعِهِ قَوْلُ الْمُفْلِسِ ، لِأَنَّ ذِمَّتَهُ مُرْتَهِنَةٌ بِدَيْنٍ يَقْدِرُ عَلَى تَعْجِيلِ قَضَائِهِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ تَأْخِيرُهُ ، وَلِمَا يُخَافُ عَلَى الزَّرْعِ مِنْ حُدُوثِ الْجَائِحَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَغْنِي عَنِ السَّقْيِ قِيلَ لِلْغُرَمَاءِ : إِنْ تَطَوَّعْتُمْ بِأَنْ تُنْفِقُوا عَلَيْهِ حَتَى يُسْتَحْصَدَ الزَّرْعُ فَتَأْخَذُوا نَفَقَتَكُمْ مَعَ مَالِكُمْ بِأَنْ يَرْضَاهُ صَاحِبُ الزَّرْعِ ، وَإِنْ لَمْ تَشَاءُوا وَشِئْتُمُ الْبَيْعَ فَبِيعُوهُ بِحَالِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا اتَّفَقَ الْمُفْلِسُ وَالْغُرَمَاءُ عَلَى تَرْكِ الزَّرْعِ إِلَى وَقْتِ الْحَصَادِ وَكَانَ الزَّرْعُ يَحْتَاجُ إِلَى سَقْيٍ وَمُؤْنَةٍ ، فَإِنْ لَمْ تُوجَدِ النَّفَقَةُ - وَلَا وُجِدَ مَنْ يَبْذُلُهَا - فَلَا مَعْنَى لِاسْتِيفَاءِ الزَّرْعِ مَعَ حَاجَتِهِ إِلَى السَّقْيِ الْمُعْوَزِّ لِمَا فِيهِ مِنْ تَلَفِهِ عَلَى الْمُفْلِسِ وَالْغُرَمَاءِ ، وَإِنْ وُجِدَ مَنْ يَبْذُلُ لَهُمْ نَفَقَةَ بَعْضِ السَّقْيِ وَمَئُونَةِ الزَّرْعِ إِلَى وَقْتِ الْحَصَادِ أَنْفَقَ وَكَانَ الزَّرْعُ مُقَرًّا ، ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ الْمُنْفِقِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يُنْفِقَ بِأَمْرٍ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرٍ ، فَإِنْ أَنْفَقَ بِغَيْرِ أَمْرٍ كَانَ مُتَطَوِّعًا بِمَا أَنْفَقَ وَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ مِنْهُ ، وَإِنْ أَنْفَقَ بِأَمْرٍ فَلِلْآمِرِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ الْحَاكِمُ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْمُفْلِسُ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ الْغُرَمَاءُ . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ الْمُفْلِسُ وَالْغُرَمَاءُ ، فَإِنْ كَانَ الْمُنْفِقُ قَدْ أَنْفَقَ بِأَمْرِ الْحَاكِمِ فَلَهُ الرُّجُوعُ