كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي
وَلَوْ قَالَتْ : حَيْضِي خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا كَانَ يَقِينُ حَيْضِهَا يَوْمَيْنِ الرَّابِعَ عَشَرَ وَالْخَامِسَ عَشَرَ وَقَبْلَهَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا شَكٌّ بِالْوُضُوءِ وَبَعْدَهَا ثَلَاثَةَ عَشْرَةَ يَوْمًا شَكٌّ بِالْغُسْلِ . وَلَوْ قَالَتْ : حَيْضِي خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا مِنْ تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا كَانَ يَقِينُ حَيْضِهَا يَوْمًا وَهُوَ الْخَامِسَ عَشَرَ وَقَبْلَهُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا شَكٌّ بِالْغُسْلِ . وَلَوْ قَالَتْ : حَيْضِي خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا مِنْ ثَلَاثِينَ يَوْمًا مَا لَمْ يَكُنْ لَهَا يَقِينُ حَيْضٍ لِأَنَّ أَيَّامَ الْحَيْضِ لَا يَزِيدُ عَلَى النِّصْفِ شَيْئًا ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قِيَاسُ مَا وَرَدَ عَلَيْكَ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ .
فَهَذَا آخِرُ أَقْسَامِ النَّاسِيَةِ ، وَهُوَ آخِرُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَقْسَامِ الْمُسْتَحَاضَةِ ، وَقَدْ يَتَعَقَّبُ ذَلِكَ فُصُولٌ أَرْبَعٌ هِيَ تَابِعَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَحْوَالِ الْمُسْتَحَاضَةِ : أَحَدُهَا : فِي التَّلْفِيقِ وَهُوَ مِنْ تَوَابِعِ التَّمْيِيزِ . وَالثَّانِي : فِي الِانْتِقَالِ وَهُوَ مِنْ تَوَابِعِ الْعَادَةِ . وَالثَّالِثُ : فِي الْخَلْطَةِ وَهُوَ مِنْ تَوَابِعِ النَّاسِيَةِ . وَالرَّابِعُ : فِي الْغَفْلَةِ وَهُوَ مُلْحَقٌ بِذَاتِ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ . الْفَصْلُ الْأَوَّلُ : فِي التَّلْفِيقِ في الحيض وَصُورَتُهُ أَنْ تَرَى الْمَرْأَةُ يَوْمًا دَمًا وَيَوْمًا نَقَاءً ، وَيَوْمًا دَمًا وَيَوْمًا نَقَاءً ، فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ ذَلِكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَوْ لَا يَتَجَاوَزُهَا وَانْقَطَعَ عِنْدَ اسْتِكْمَالِهَا ، فَالَّذِي صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيُّ فِي سَائِرِ كُتُبِهِ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ حَيْضٌ أَيَّامُ الدَّمِ وَأَيَّامُ النَّقَاءِ ، وَقَالَ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ ، فِي مُنَاظَرَةٍ جَرَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ مَا اقْتَضَى أَنْ تَكُونَ أَيَّامُ الدَّمِ حَيْضًا ، وَأَيَّامُ النَّقَاءِ طُهْرًا فَخَرَّجَهُ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ حَيْضٌ أَيَّامُ الدَّمِ وَأَيَّامُ النَّقَاءِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ أَقَلَّ طُهْرٍ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا [ فَلَا يَجُوزُ ] . وَالثَّانِي : أَنَّ عَادَةَ النِّسَاءِ فِي الْحَيْضِ مُسْتَمِرَّةٌ بِأَنْ يَجْرِيَ الدَّمُ زَمَانًا وَيَرْقَأَ زَمَانًا ، وَلَيْسَ مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يَسْتَدِيمَ جَرَيَانُهُ إِلَى انْقِضَاءِ مُدَّتِهِ ، فَلَمَّا كَانَ زَمَانُ إِمْسَاكِهِ حَيْضًا : لِكَوْنِهِ بَيْنَ دَمَيْنِ كَانَ زَمَانُ النَّقَاءِ حَيْضًا لِحُصُولِهِ بَيْنَ دَمَيْنِ ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْخَمْسَةَ عَشَرَ كُلُّهَا حَيْضًا ، يَحْرُمُ عَلَيْهَا فِي أَيَّامِ النَّقَاءِ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهَا فِي أَيَّامِ الدَّمِ .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ أَيَّامَ الدَّمِ حَيْضٌ ، وَأَيَّامَ النَّقَاءِ طُهْرٌ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ ، لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الدَّمُ دَالًّا عَلَى الْحَيْضِ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ النَّقَاءُ الْأَعْلَى الطُّهْرَ . وَالثَّانِي : لَوْ جَازَ أَنْ يُجْعَلَ النَّقَاءُ حَيْضًا لِمَا تَعَقَّبَهُ مِنَ الْحَيْضِ لَجَازَ أَنْ يُجْعَلَ الْحَيْضُ طُهْرًا ، لِمَا تَعَقَّبَهُ مِنَ الطُّهْرِ فَعَلَى هَذَا تُلَفِّقُ أَيَّامَ الدَّمِ فَتَكُونُ حَيْضًا تَجْتَنِبُ فِيهِ مَا تَجْتَنِبُهُ الْحَائِضُ ، وَتُلَفِّقُ أَيَّامَ النَّقَاءِ فَتَكُونُ طُهْرًا تَسْتَبِيحُ مَا تَسْتَبِيحُهُ الطَّاهِرُ ، وَيَكُونُ حَيْضُهَا ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ هِيَ الْأَفْرَادُ مِنْ أَيَّامِهَا : الْأَوَّلُ وَالثَّالِثُ وَالْخَامِسُ وَالسَّابِعُ وَالتَّاسِعُ وَالْحَادِي عَشَرَ وَالثَّالِثَ عَشَرَ وَالْخَامِسَ عَشَرَ ، وَيَكُونُ طُهْرُهَا سَبْعَةَ أَيَّامٍ هِيَ الْأَزْوَاجُ مِنْ أَيَّامِهَا : الثَّانِي وَالرَّابِعُ وَالسَّادِسُ وَالثَّامِنُ وَالْعَاشِرُ وَالثَّانِي عَشَرَ وَالرَّابِعَ عَشَرَ ثُمَّ عَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ إِنِ انْقَطَعَ دَمُهَا عِنْدَ تَقَضِّي الدَّمِ الْأَوَّلِ اغْتَسَلَتْ وَصَلَتْ وَصَامَتْ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ طُهْرًا تَامًّا ، فَإِذَا رَأَتِ الدَّمَ مِنَ الْيَوْمِ الثَّالِثِ أَمْسَكَتْ ، فَإِذَا انْقَطَعَ عِنْدَ تَقَضِّيهِ وَدُخُولِ الرَّابِعِ اغْتَسَلَتْ وَصَلَّتْ لِجَوَازِ أَنْ يَسْتَدِيمَ الطُّهْرُ ثُمَّ تَفْعَلُ هَكَذَا فِي جَمِيعِ الْأَيَّامِ النَّقَاءِ إِلَّا أَنْ يَصِيرَ ذَلِكَ عَادَةً لَهَا فِي كُلِّ شَهْرٍ فَلَا يَلْزَمُهَا أَنْ تَفْعَلَ ذَلِكَ فَيَ أَيَّامِ النَّقَاءِ إِنْ قُلْنَا : إِنَّهَا حَيْضٌ ، وَيَلْزَمُهَا ذَلِكَ إِنْ قُلْنَا : إِنَّهَا طُهْرٌ ، وَهَكَذَا لَوْ رَأَتْ يَوْمَيْنِ دَمًا ، وَيَوْمَيْنِ نَقَاءً ، وَلَمْ تَتَجَاوَزْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا : لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي الْخَامِسَ عَشَرَ طَاهِرًا ، فَإِنْ لَفَّقْنَا حَيْضَهَا كَانَ حَيْضُهَا أَيَّامَ الدَّمِ ، وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ وَهَكَذَا لَوْ رَأَتْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ دَمًا وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ نَقَاءً ، فَإِنْ لَمْ نُلَفِّقْ كَانَ حَيْضُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، وَإِنْ لَفَّقْنَا كَانَ حَيْضُهَا أَيَّامَ الدَّمِ وَهِيَ تِسْعَةٌ ، وَهَكَذَا لَوْ رَأَتْ يَوْمًا دَمًا وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ نَقَاءً ، أَوْ رَأَتْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ دَمًا وَيَوْمًا نَقَاءً فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ فِي التَّلْفِيقِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَتَجَاوَزَ دَمُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، فَقَدْ حُكِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ بِنْتِ الشَّافِعِيِّ ، وَكَانَ مُقَدَّمًا فِي الْحَيْضِ وَالْمَنَاسِكِ أَنَّ هَذِهِ غَيْرُ مُسْتَحَاضَةٍ حُكْمُهَا كَحُكْمِ الَّتِي انْقَطَعَ دَمُهَا الْخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا : لِأَنَّهَا مِنَ السَّادِسَ عَشَرَ طَاهِرٌ طُهْرًا لَمْ يَتَّصِلْ بِدَمِ الْحَيْضِ ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ أَنَّ هَذِهِ مُسْتَحَاضَةٌ : لِأَنَّهَا بَعْدَ أَيَّامِ الْحَيْضِ عَلَى صِفَتِهَا مِنْ أَيَّامِ الْحَيْضِ ، وَهَذَا حَالُ الْمُسْتَحَاضَةِ ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا مُسْتَحَاضَةٌ فَلَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ . حَالٌ تَكُونُ مُمَيِّزَةً ، وَحَالٌ تَكُونُ مُعْتَادَةً ، وَحَالٌ لَا يَكُونُ لَهَا تَمْيِيزٌ وَلَا عَادَةٌ ، فَإِنْ كَانَتْ مُمَيِّزَةً رُدَّتْ إِلَى تَمْيِيزِهَا ، فَإِنْ قَالَتْ : رَأَيْتُ خَمْسَةَ أَيَّامٍ يَتَخَلَّلُهَا النَّقَاءُ دَمًا أَسْوَدَ ، وَبَاقِيَ ذَلِكَ دَمًا أَصْفَرَ ، رُدَّتْ إِلَى الْخَمْسِ ، فَإِنْ لَمْ نُلَفِّقْ كَانَتِ الْخَمْسُ كُلُّهَا حَيْضًا ، وَإِنْ لَفَّقْنَا كَانَ التَّلْفِيقُ مِنَ الْخَمْسِ فَيَكُونُ حَيْضُهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ الْأَوَّلُ وَالثَّالِثُ وَالْخَامِسُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا تَمْيِيزًا لِكَوْنِ دَمِهَا لَوْنًا وَاحِدًا وَكَانَتْ لَهَا عَادَةٌ فِي الْحَيْضِ مُسْتَمِرَّةٌ ، فَوَجَبَ رَدُّهَا إِلَى عَادَتِهَا ، فَإِنْ كَانَتْ عَادَتُهَا مِنْ كُلِّ شَهْرٍ خَمْسًا رُدَّتْ إِلَى الْخَمْسِ ، فَإِنْ لَمْ نُلَفِّقْ كَانَتِ الْخَمْسُ كُلُّهَا حَيْضًا ، وَإِنْ لَفَّقْنَا ، فَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ التَّلْفِيقُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : مِنْ أَيَّامِ الْعَادَةِ ، وَهِيَ الْخَمْسُ وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ : لِأَنَّهَا أَخَصُّ فَيَكُونُ حَيْضُهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَهِيَ الْأَوَّلُ وَالثَّالِثُ وَالْخَامِسُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : مِنْ أَيَّامِ الْحَيْضِ وَهِيَ الْخَمْسَ عَشْرَةَ لِأَنَّهَا أَمْسُ ، فَيَكُونُ حَيْضُهَا خَمْسَةً مِنْ تِسْعَةٍ ، وَهِيَ الْأَوَّلُ وَالثَّالِثُ وَالْخَامِسُ وَالسَّابِعُ وَالتَّاسِعُ ، فَلَوْ كَانَتْ عَادَتُهَا عَشْرًا فَإِنْ لَمْ نُلَفِّقْ كَانَ حَيْضُهَا تِسْعَةَ أَيَّامٍ : لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي الْعَاشِرِ فِي طُهْرٍ لَمْ تَتَّصِلْ بِدَمِ الْحَيْضِ وَإِنْ لَفَّقْنَا فَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ التَّلْفِيقُ ؟ عَلَى الْقَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مِنْ أَيَّامِ الْعَادَةِ وَهِيَ الْعَشْرُ ، فَيَكُونُ حَيْضُهَا خَمْسَةَ أَيَّامٍ ، تِسْعَةٌ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : مِنْ أَيَّامِ الْحَيْضِ ، وَهِيَ الْخَمْسَ عَشْرَةَ فَيَكُونُ حَيْضُهَا ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ : لِأَنَّهُ لَا يُلَفِّقُ مِنَ الْخَمْسَةَ عَشَرَ أَكْثَرَ مِنْهَا وَتَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ مُعْتَادَةٍ فَحَفِظَتْ عَادَتَهَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا تَمْيِيزٌ وَلَا عَادَةٌ وَكَانَتْ مُبْتَدَأَةً فَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : تُرَدُّ إِلَى يِومٍ وَلَيْلَةٍ ، وَهُوَ أَقَلُّ الْحَيْضِ فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ حُكْمُ التَّلْفِيقِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : تُرَدُّ إِلَى سِتٍّ أَوْ سَبْعٍ فَإِنْ رُدَّتْ إِلَى السِّتِّ ، وَلَمْ نُلَفِّقْ كَانَ حَيْضُهَا خَمْسًا : لِكَوْنِهَا فِي السَّادِسِ طَاهِرًا وَإِنْ لَفَّقْنَا مِنَ السِّتِّ كَانَ حَيْضُهَا ثَلَاثًا ، وَإِنْ لَفَّقْنَا مِنْ أَيَّامِ الْحَيْضِ كَانَ حَيْضُهَا سِتًّا مِنْ إِحْدَى عَشْرَةَ ، وَلَوْ رُدَّتْ إِلَى السَّبْعِ ، فَإِنْ لَمْ نُلَفِّقْ كَانَ حَيْضُهَا سَبْعًا [ و إِنْ لَفَّقْنَا مِنَ السَّبْعَةِ كَانَ حَيْضُهَا أَرْبَعَةً ] وَإِنْ لَفَّقْنَا مِنْ أَيَّامِ الْحَيْضِ كَانَ حَيْضُهَا سَبْعًا مِنْ ثَلَاثِ عَشْرَةَ .
فَصْلٌ : وَإِذَا رَأَتْ نِصْفَ يَوْمٍ دَمًا وَنِصْفَ يَوْمٍ نَقَاءً وَنِصْفَ يَوْمٍ دَمًا وَنِصْفَ يَوْمٍ نَقَاءً مُسْتَمِرًّا بِهَا هَكَذَا فَلَهَا حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ تَتَجَاوَزَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا . وَالثَّانِيَةُ : أَنْ لَا تَتَجَاوَزَهَا ، فَإِنْ لَمْ تَتَجَاوَزْهَا وَانْقَطَعَ عِنْدَ تَقَضِّيهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : إِنَّهُ لَا يَكُونُ حَيْضًا حَتَّى يَسْتَدِيمَ فِي أَوَّلِهِ يَوْمًا وَلَيْلَةً دَمًا ، وَمِنْ آخِرِهِ يَوْمًا وَلَيْلَةً دَمًا فَيَصِيرُ حِينَئِذٍ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ أَنْصَافِ الْأَيَّامِ حَيْضًا فَيَكُونُ تَبَعًا لِحَيْضٍ فِي الطَّرَفَيْنِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : إِنِ اسْتَدَامَ فِي أَوَّلِهِ يَوْمًا وَلَيْلَةً كَانَ مَا تَعَقَّبَهُ مِنْ أَنْصَافِ الْأَيَّامِ حَيْضًا ، وَلَا تُعْتَبَرُ اسْتِدَامَةُ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ فِي آخِرِهِ ، لِأَنَّ آخِرَ الْيَوْمِ تَبَعٌ لِأَوَّلِهِ ، وَمَا لَمْ يَسْتَدِمْ فِي الْأَوَّلِ يَوْمًا وَلَيْلَةً دَمًا فَهُوَ دَمُ فَسَادٍ ، وَلَيْسَ بِحَيْضٍ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا : أَنَّهُ مَتَى تُلُفِّقَ مِنَ الْجُمْلَةِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ فَصَاعِدًا ، دَمًا كَانَ حَيْضًا وَإِنْ لَمْ يَتَّصِلْ ، وَيَسْتَدِيمُ : لِأَنَّهَا أَيَّامُ حَيْضٍ قَدْ
وُجِدَ فِيهَا مِنَ الدَّمِ قَدْرَ الْحَيْضِ ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الَّذِي يَقَعُ عَلَيْهِ التَّفْرِيعُ فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ نُلَفِّقْ فَحَيْضُهَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَنِصْفٌ : لِأَنَّهَا فِي النِّصْفِ الثَّانِي مِنْهُ فِي طُهْرٍ لَمْ يَتَّصِلْ بِدَمِ الْحَيْضِ ، وَإِنْ لَفَّقْنَا كَانَ حَيْضُهَا سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَنِصْفٌ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ رَأَتْ ثُلُثَ يَوْمٍ دَمًا وَبَاقِيَهُ نَقَاءً حَتَّى اسْتَكْمَلَتْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، فَإِنْ لَمْ نُلَفِّقْ كَانَ حَيْضُهَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَثُلُثًا ، وَإِنْ لَفَّقْنَا كَانَ حَيْضُهَا خَمْسَةَ أَيَّامٍ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَتَجَاوَزَ الدَّمُ أَنْصَافَ الْأَيَّامِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَهَذِهِ مُسْتَحَاضَةٌ قَدْ دَخَلَتِ اسْتِحَاضَتُهَا فَيَ حَيْضِهَا ، فَوَجَبَ أَنْ تُرَدَّ إِلَى تَمْيِيزِهَا إِنْ كَانَتْ مُمَيِّزَةً ، فَإِذَا مَيَّزَتْ أَنْصَافَ خَمْسَةِ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ وَبَاقِيهِ دَمًا أَصْفَرَ ، فَإِنْ لَمْ نُلَفِّقْ كَانَ حَيْضُهَا أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ وَنِصْفًا ، وَإِنْ لَفَّقْنَا كَانَ التَّلْفِيقُ مِنَ الْخَمْسِ فَيَكُونُ حَيْضُهِا يَوْمَيْنِ وَنِصْفًا ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُمَيِّزَةً رُدَّتْ إِلَى عَادَتِهَا إِنْ كَانَتْ مُعْتَادَةً فَإِنْ كَانَتْ عَادَتُهَا عَشْرًا رُدَّتْ إِلَى الْعَشْرِ ، فَإِنْ لَمْ نُلَفِّقْ كَانَ حَيْضُهَا تِسْعَةَ أَيَّامٍ وَنِصْفًا ، وَإِنْ لَفَّقْنَا فَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ التَّلْفِيقُ ؟ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مِنْ أَيَّامِ الْعَادَةِ فَيَكُونُ حَيْضُهَا خَمْسَةَ أَيَّامٍ أَيْضًا مِنْ عَشْرِ الْعَادَةِ . وَالثَّانِي : مِنْ أَيَّامِ الْحَيْضِ فَيَكُونُ حَيْضُهَا سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَنِصْفًا ، أَنْصَافُ أَكْثَرِ الْحَيْضِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، وَتَصِيرُ عَادَتُهَا فِي حُكْمِ النَّاقِصَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَمْيِيزٌ وَلَا عَادَةَ وَكَانَتْ مُبْتَدَأَةً فَفِيمَا تُرَدُّ إِلَيْهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : إِلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَقَلُّ الْحَيْضِ ، وَإِنْ لَمْ نُلَفِّقْ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ لَا حَيْضَ لِهَذِهِ ، لِأَنَّهَا لَمْ تَرَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ كُلِّهِ دَمًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهَا تَحِيضُ يَوْمًا وَلَيْلَةً مِنْ أَوَّلِهِ ، وَإِنْ لَمْ تَرَ الدَّمَ فِي جَمِيعِهِ ، لِأَنَّ النَّقَاءَ عَلَى هَذَا فِي حُكْمِ الدَّمِ ، وَإِنْ لَفَّقْنَا فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ التَّلْفِيقَ مِنَ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ ، فَلَا حَيْضَ لِهَذِهِ لَا يَخْتَلِفُ ، لِأَنَّهُ لَا يَتَلَفَّقُ مِنَ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ حَيْضٌ ، فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ التَّلْفِيقَ مِنْ أَيَّامِ الْحَيْضِ كَانَ حَيْضُهَا يَوْمًا وَلَيْلَةً مِنْ جُمْلَةِ يَوْمَيْنِ وَلَيْلَتَيْنِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : إِنَّهَا تُرَدُّ إِلَى سِتَّةِ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةِ أَيَّامٍ فَإِذَا رُدَّتْ إِلَى السَّبْعِ فَإِنْ لَمْ نُلَفِّقْ كَانَ حَيْضُهَا سِتَّةَ أَيَّامٍ وَنِصْفًا ، وَإِنْ لَفَّقْنَا فَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ التَّلْفِيقُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مِنَ السَّبْعِ فَيَكُونُ حَيْضُهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَنِصْفًا . وَالثَّانِي : مِنْ أَيَّامِ الْحَيْضِ فَيَكُونُ حَيْضُهَا سَبْعَةَ أَيَّامٍ مِنْ جُمْلَةِ ثَلَاثَةِ عَشَرَ يَوْمًا وَنِصْفٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ . فَرْعٌ : وَإِذَا رَأَتِ الْمَرْأَةُ يَوْمًا وَلَيْلَةً دَمًا وَثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا طُهْرًا ثُمَّ يَوْمًا وَلَيْلَةً دَمًا ، وَهُوَ عَلَى
قَوْلَيِ التَّلْفِيقِ ، فَإِنْ لَمْ نُلَفِّقْ كَانَ حَيْضُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، وَإِنْ لَفَّقْنَا كَانَ حَيْضُهَا يَوْمَيْنِ الْأَوَّلُ وَالْخَامِسَ عَشَرَ ، وَهَكَذَا لَوْ رَأَتْ نِصْفَ يَوْمٍ دَمًا وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا طُهْرًا وَنِصْفَ يَوْمٍ دَمًا ، فَإِنْ لَمْ نُلَفِّقْ كَانَ حَيْضُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، وَإِنْ لَفَّقْنَا كَانَ حَيْضُهَا يَوْمًا وَاحِدًا ، وَهُوَ نِصْفُ الْأَوَّلِ وَنِصْفُ الْأَخِيرِ . فَرْعٌ : وَلَوْ رَأَتْ يَوْمًا وَلَيْلَةً دَمًا وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا طُهْرًا وَيَوْمًا وَلَيْلَةً دَمًا ، كَانَ حَيْضُهَا الْيَوْمَ الْأَوَّلَ ، وَكَانَ الْيَوْمُ الْأَخِيرُ دَمَ فَسَادٍ ، وَهَكَذَا لَوْ رَأَتْ يَوْمَيْنِ دَمًا وَثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا طُهْرًا وَيَوْمَيْنِ دَمًا ، كَانَ حَيْضُهَا الْيَوْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ ، وَكَانَ الْيَوْمَانِ الْآخَرَانِ فَسَادًا ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُلَفِّقَ مَا قَبْلَ الْخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا إِلَى مَا بَعْدَهَا قَوْلًا وَاحِدًا ، وَلَكِنْ لَوْ رَأَتْ يَوْمًا وَلَيْلَةً دَمًا وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا طُهْرًا ، وَيَوْمًا وَلَيْلَةً دَمًا ، كَانَ حَيْضُهَا الْيَوْمَ الْأَخِيرَ دُونَ الْأَوَّلِ : لِأَنَّ الْأَوَّلَ بِفَقْدِ اللَّيْلَةِ يَقْصُرُ عَنْ أَقَلِّ الْحَيْضِ ، فَلَوْ رَأَتْ يَوْمًا بِلَا لَيْلَةٍ دَمًا وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا طُهْرًا ، وَيَوْمًا بِلَا لَيْلَةٍ دَمًا فَكِلَا الْيَوْمَيْنِ الْأَوَّلِ وَالْأَخِيرِ دَمَ فَسَادٍ ، وَلَيْسَ لَهَا حَيْضٌ : لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ لَا يَكُونُ حَيْضًا ، وَلَا يَجُوزُ لِبُعْدِ مَا بَيْنَهُمَا عَنْ قَدْرِ الْحَيْضِ أَنْ يُلَفِّقَ أَحَدَهُمَا إِلَى الْآخَرِ . فَرْعٌ : وَإِذَا كَانَتْ عَادَتُهَا مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ عَشْرًا فَرَأَتْ فِي يَوْمَيْنِ دَمًا وَسِتَّةِ أَيَّامٍ طُهْرًا وَيَوْمَيْنِ دَمًا ، فَإِنْ لَمْ نُلَفِّقْ كَانَتِ الْعَشْرُ كُلُّهَا حَيْضًا ، وَهِيَ عَلَى عَادَتِهَا ، وَإِنْ لَفَّقْنَا كَانَ حَيْضُهَا أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ الْيَوْمَانِ الْأَوَّلَانِ وَالْيَوْمَانِ الْآخَرَانِ ، وَتَصِيرُ عَادَتُهَا نَاقِصَةً وَحَيْضُهَا مُتَفَرِّقًا [ وَلَوْ كَانَتْ عَادَتُهَا خَمْسَةَ مَرَّاتٍ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ دَمًا ، وَأَرْبَعَةُ أَيَّامٍ طُهْرًا ، وَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ دَمًا ، فَإِنْ لَمْ نُلَفِّقْ كَانَ حَيْضُهَا عَشَرَةً ، وَقَدْ زَادَتْ عَادَتُهَا وَلَمْ تُفَرِّقْ ، وَإِنْ لَفَّقْنَا كَانَ حَيْضُهَا سِتَّةَ أَيَّامٍ الثَّلَاثَةُ الْأُولَى ، وَالثَّلَاثَةُ الْأَخِيرَةُ ، وَتَصِيرُ عَادَتُهَا زَائِدَةً ، وَحَيْضُهَا مُتَفَرِّقًا ] . فَرْعٌ : فَإِذَا رَأَتْ بَيْنَ أَثْنَاءِ النَّقَاءِ نِصْفَ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ دَمًا ، وَنِصْفَ الْخَامِسِ دَمًا وَالْخَامِسَ عَشَرَ وَالسَّادِسَ عَشَرَ فَإِنْ كَانَ النِّصْفَانِ الْمَوْجُودَانِ فِي الْأَوَّلِ وَالْخَامِسِ يَنْقُصَانِ عَنْ أَقَلِّ الْحَيْضِ لِعَدَمِ اللَّيْلَةِ مَعَ الْيَوْمِ ، وَالنُّقْصَانُ دَمُ فَسَادٍ . وَحَيْضُهَا يَوْمًا الدَّمَ الْخَامِسَ عَشَرَ وَالسَّادِسَ عَشَرَ ، وَإِنْ كَانَ النَّاقِصَانِ يَبْلُغَانِ أَقَلَّ الْحَيْضِ لِوُجُودِ اللَّيْلَةِ مَعَهُمَا ، فَقَدْ دَخَلَتِ اسْتِحَاضَتُهَا وَحَيْضُهَا ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الدَّمَيْنِ لِمُجَاوَزَةِ الثَّانِي أَكْثَرَ الْحَيْضِ ، وَالْوَاجِبُ إِنْ لَمْ يَكُنْ تَمْيِيزٌ أَنْ تُرَدَّ إِلَى عَادَتِهَا فَإِنْ كَانَتْ عَادَتُهَا خَمْسًا رُدَّتْ إِلَيْهَا ، فَإِنْ لَمْ تُلَفِّقْ نُظِرَتْ فَإِنْ كَانَ مَا رَأَتْهُ مِنَ الدَّمِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ فِي نِصْفِهِ الْأَوَّلِ ، وَمَا رَأَتْهُ فِي الْخَامِسِ فِي نِصْفِهِ الثَّانِي فَحَيْضُهَا خَمْسٌ لِلْعَادَةِ مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ ، وَلَا زِيَادَةَ وَإِنْ كَانَ مَا رَأَتْهُ مِنَ الدَّمِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ فِي نِصْفِهِ الثَّانِي ، وَمَا رَأَتْهُ فِي الْخَامِسِ فِي نِصْفِهِ الْأَوَّلِ كَانَ حَيْضُهَا أَرْبَعًا ، وَقَدْ نَقَصَتْ عَادَتُهَا يَوْمًا ، وَإِنْ كَانَ الدَّمُ الْأَوَّلُ فِي نِصْفِهِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي فِي نِصْفِهِ الْأَوَّلِ ، كَانَ حَيْضُهَا أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ وَنِصْفًا وَقَدْ نَقَصَتْ عَادَتُهَا نِصْفَ يَوْمٍ وَهَكَذَا لَوْ رَأَتْهُ بِالْعَكْسِ فَهَذَا إِذَا لَمْ نُلَفِّقُ فَأَمَّا إِذَا لَفَّقْنَا ، فَإِنْ
قُلْنَا : إِنَّ التَّلْفِيقَ مِنْ أَيَّامِ الْعَادَةِ ، كَانَ حَيْضُهَا يَوْمًا هُوَ نِصْفُ الْأَوَّلِ وَنِصْفُ الْخَامِسِ ، وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ التَّلْفِيقَ مِنْ أَيَّامِ الْحَيْضِ ، كَانَ حَيْضُهَا يَوْمَيْنِ وَهُمَا نِصْفَانِ مَعَ الْيَوْمِ الْخَامِسَ عَشَرَ دُونَ السَّادِسَ عَشَرَ ، لِوُجُودِ الْخَامِسَ عَشَرَ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ وَوُجُودِ السَّادِسَ عَشَرَ فِي غَيْرِهَا ، فَإِنْ كَانَتْ عَادَتُهَا فِي أَقَلَّ مِنَ الْخَمْسِ أَوْ أَكْثَرَ فَاعْتَبِرْهُ بِمَا وَصَفْنَا فَلَوْلَا خَوْفُ الْإِطَالَةِ لَذَكَرْنَاهُ .
الْفَصْلُ الثَّانِي : الِانْتِقَالُ للمعتادة وَالِانْتِقَالُ أَنْ تَرَى الْمُعْتَادَةُ حَيْضَهَا فِي غَيْرِ أَيَّامِ عَادَتِهَا ، وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ انْتِقَالٌ فِي الزَّمَانِ ، وَانْتِقَالٌ فِي الْقَدْرِ ، فَأَمَّا الِانْتِقَالُ فِي الزَّمَانِ فَهُوَ ضَرْبَانِ : ضَرْبٌ يَتَقَدَّمُ فِيهِ الْحَيْضُ ، وَضَرْبٌ يَتَأَخَّرُ فِيهِ الْحَيْضُ ، فَأَمَّا الْمُتَقَدِّمُ فَصُورَتُهُ : أَنْ تَكُونَ عَادَتُهَا أَنَّ الْحَيْضَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ مِنْ وَسَطِ الشَّهْرِ فَتَحِيضُ فِي شَهْرِهَا عَشَرَةَ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِهِ ، فَيَصِيرُ حَيْضُهَا مُقَدَّمًا عَلَى عَادَتِهَا وَأَمَّا الْمُتَأَخِّرُ فَصُورَتُهُ أَنْ تَكُونَ عَادَتُهَا أَنْ تَحِيضَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ ، فَتَحِيضُ فِي شَهْرِهَا عَشَرَةَ أَيَّامٍ مِنْ وَسَطِهِ ، فَيَصِيرُ حَيْضُهَا مُتَأَخِّرًا عَنْ عَادَتِهَا ، وَقَدْ رُبَّمَا يَتَأَخَّرُ بَعْضُهُ دُونَ جَمِيعِهِ ، وَرُبَّمَا تَقَدَّمَ بَعْضُهُ دُونَ جَمِيعِهِ ، وَأَمَّا الِانْتِقَالُ فِي الْقَدْرِ فَضَرْبَانِ : ضَرْبٌ يَنْتَقِلُ إِلَى الزِّيَادَةِ ، وَضَرْبٌ يَنْتَقِلُ إِلَى النُّقْصَانِ ، فَأَمَّا الْمُنْتَقِلُ إِلَى الزِّيَادَةِ فَهُوَ أَنْ تَكُونَ عَادَتُهَا فِي الشَّهْرِ خَمْسًا فَتَحِيضُ فِي شَهْرِهَا عَشْرًا وَأَمَّا الْمُنْتَقِلُ إِلَى النُّقْصَانِ فَهُوَ أَنْ تَكُونَ عَادَتُهَا فِي الشَّهْرِ عَشْرًا فَتَحِيضُ فِي شَهْرِهَا خَمْسًا ، وَقَدْ تَجْمَعُ الْمُنْتَقِلَةُ بَيْنَ الِانْتِقَالِ فِي الزَّمَانِ ، وَبَيْنَ الِانْتِقَالِ فِي الْقَدْرِ ، وَقَدْ تَنْتَقِلُ عَادَتُهَا فِي الطُّهْرِ كَمَا تَنْتَقِلُ عَادَتُهَا فِي الْحَيْضِ ، فَتَكُونُ عَادَتُهَا أَنْ تَرَى فِي طُهْرِ كُلِّ شَهْرٍ حَيْضَةً ، فَتَصِيرُ فِي طُهْرِ كُلِّ شَهْرَيْنِ حَيْضَةٌ أَوْ تَكُونُ فِي شَهْرَيْنِ فَتَصِيرُ فِي شَهْرٍ ، فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا ، مِنْ حَالِ الِانْتِقَالِ ، فَمَتَى انْقَطَعَ دَمُ الْمُنْتَقِلَةِ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ ، وَلَمْ يَتَجَاوَزْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَهُوَ حَيْضٌ ، وَإِنْ تَكَرَّرَ مِرَارًا بَطُلَ حُكْمُ الْعَادَةِ الْأُولَى إِلَى [ مَا انْتَقَلَتْ إِلَيْهِ مِنَ الْأُخْرَى ، حَتَّى إِنِ اسْتُحِيضَتْ مِنْ بَعْدُ وَجَبَ رَدُّهَا عِنْدَ اعْتِبَارِ الْعَادَةِ ] إِلَى مَا انْتَقَلَتْ إِلَيْهِ ، دُونَ مَا انْتَقَلَتْ عَنْهُ فَأَمَّا انْتِقَالُهَا عَنِ الْعَادَةِ الْمَرَّةَ الْوَاحِدَةَ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَبْطُلُ بِهِ حُكْمُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْعَادَةِ فِي الزَّمَانِ ، وَالْقَدْرِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ حُكْمَ الْعَادَةِ الْأُولَى لَا يَبْطُلُ بِانْتِقَالِ مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ ، حَتَّى تَعُودَ ثَانِيَةً فَتَصِيرُ بِعَوْدِهَا عَادَةً يَبْطُلُ بِهَا سَالِفُ الْعَادَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَوَجَدْتُ أَبَا إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيَّ اخْتَارَهُ مِنْ كِتَابِ الْحَيْضِ لَهُ أَنَّ انْتِقَالَ الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ فَقَدْ أَبْطَلَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْعَادَةِ ، وَصَارَ مَا انْتَقَلَتْ إِلَيْهِ عَادَةً ، قَالَ : لِأَنَّ الْمُبْتَدَأَةَ قَدْ ثَبَتَ لَهَا عَادَةٌ بِحَيْضِ مَرَّةٍ فَكَذَا غَيْرُهَا مِنْ ذَوَاتِ الْعَادَةِ . فَرْعٌ : وَإِذَا كَانَتْ عَادَتُهَا عَشْرًا مِنْ أَوَّلِ كُلِّ شَهْرٍ فَرَأَتْ قَبْلَ الشَّهْرِ خَمْسًا وَإِنِ انْقَطَعَ دَمُهَا
فَقَدِ انْتَقَلَتْ عَادَتُهَا فِي الزَّمَانِ بِأَنْ تَقَدَّمَتْ وَفِي الْقَدْرِ بِأَنْ نَقَصَتْ وَإِنْ تَجَاوَزَ الدَّمُ حَتَّى بَلَغَ خَمْسًا فِي الشَّهْرِ ، فَقَدِ انْتَقَلَتْ بَعْضُ أَيَّامِهَا دُونَ جَمِيعِهَا ، وَلَمْ تَنْقُصْ فِي الْقَدْرِ إِنْ تَجَاوَزَهَا الدَّمُ حَتَّى بَلَغَ عَشْرًا فِي الشَّهْرِ فَقَدِ انْتَقَلَتْ عَادَتُهَا بِزِيَادَةِ خَمْسٍ فِي الْقَدْرِ تَقَدَّمَتْ ، وَلَمْ يَنْتَقِلْ زَمَانُ الْعَادَةِ فِي الْعَشْرِ ، فَإِنْ تَجَاوَزَهَا الدَّمُ حَتَّى تَمَيَّزَ الْعَشْرُ فَقَدْ دَخَلَتِ الِاسْتِحَاضَةُ ، فِي الْحَيْضِ لِمُجَاوَزَةِ دَمِهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَوَجَبَ رَدُّهَا عِنْدَ عَدَمِ التَّمْيِيزِ إِلَى عَادَتِهَا ، وَهِيَ الْعَشْرُ السَّالِفَةُ ، وَفِي ابْتِدَاءِ الْعَشْرِ الَّذِي تُرَدُّ إِلَيْهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ أَنَّ ابْتِدَاءَهَا مِنْ حِينِ رَأَتْ فِيهِ الدَّمَ فِي مُنْتَهَى إِشْكَالِهَا فَيَكُونُ حَيْضُهَا خَمْسًا قَبْلَ الشَّهْرِ ، وَخَمْسًا بَعْدَهُ ، وَمَا تَعَقَّبَهُ اسْتِحَاضَةٌ فَتُرَدُّ إِلَى الْعَادَةِ ، مِنَ الْقَدْرِ دُونَ الزَّمَانِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ إِنَّ ابْتِدَاءَهَا مَنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ الَّذِي هُوَ شَهْرُ عَادَتِهَا ، فَيَكُونُ حَيْضُهَا مِنْ أَوَّلِهِ ، وَمَا تُقَدِّمُهُ وَمَا تَعَقَّبَهُ اسْتِحَاضَةٌ ، فَتُرَدُّ إِلَى الْعَادَةِ فِي الْقَدَرِ وَالزَّمَانِ مَعًا ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ تَكُونُ مُنْتَقِلَةً فِي بَعْضِ أَيَّامِهَا ، وَعَلَى الثَّانِي لَا تَكُونُ مُنْتَقِلَةً .
الْفَصْلُ الثَّالِثُ : الْخَلْطَةُ وَإِذَا قَالَتْ أَعْلَمُ أَنَّ حَيْضِي مِنَ الشَّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَأَعْلَمُ أَنِّي أَخْلِطُ مِنْ أَحَدِ النِّصْفَيْنِ فِي الْآخَرِ بِيَوْمٍ وَاحِدٍ وَلَسْتُ أَعْلَمُ هَلْ هُوَ النِّصْفُ الْأَوَّلُ إِلَّا يَوْمًا مِنَ النِّصْفِ الثَّانِي أَوْ هُوَ النِّصْفُ الْأَوَّلُ إِلَّا يَوْمًا مِنَ النِّصْفِ الْأَوَّلِ ؟ فَهَذِهِ تُنَزَّلُ عَلَى حَالَيْنِ وَتَلْتَزِمُ الْأَغْلَظَ مِنْهُمَا وَالْأَحْوَطَ فِيهِمَا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ، فَهَذِهِ لَهَا يَوْمَانِ طُهْرٌ بِيَقِينٍ أَوَّلَ الشَّهْرِ وَآخِرَهُ ، وَيَوْمَانِ حَيْضٌ بِيَقِينٍ الْخَامِسَ عَشَرَ وَالسَّادِسَ عَشَرَ : لِأَنَّ حَيْضَتَهَا إِنْ كَانَتْ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ فَأَوَّلُهُ الثَّانِي وَآخِرُهُ السَّادِسَ عَشَرَ ، فَكَانَ الْأَوَّلُ مِنَ الشَّهْرِ طُهْرًا بِيَقِينٍ وَإِنْ كَانَ النِّصْفَ الثَّانِي فَأَوَّلُهُ الْخَامِسَ عَشَرَ ، وَآخِرُهُ التَّاسِعَ وَالْعِشْرِينَ فَكَانَ الْيَوْمُ الْأَخِيرُ مِنَ الشَّهْرِ طُهْرًا يَقِينًا ، وَصَارَ فِي التَّنْزِيلِ مَعًا الْخَامِسَ عَشَرَ وَالسَّادِسَ عَشَرَ حَيْضًا يَقِينًا ، ثُمَّ هِيَ مِنَ الثَّانِي إِلَى الرَّابِعَ عَشَرَ فِي طُهْرٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ وَتَغْتَسِلُ فِي آخِرِ السَّادِسَ عَشَرَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ آخِرَ حَيْضِهَا ثُمَّ هِيَ فِي السَّابِعَ عَشَرَ إِلَى الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ فِي طُهْرٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ وَتَغْتَسِلُ فِي آخِرِ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ آخِرَ حَيْضِهَا ، فَلَوْ قَالَتْ أَخْلِطُ مِنْ أَحَدِ النِّصْفَيْنِ فِي الْآخَرِ يَوْمَيْنِ كَانَ لَهَا أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ طُهْرًا يَوْمَانِ فِي أَوَّلِهِ وَيَوْمَانِ فِي آخِرِهِ وَأَرْبَعَةُ أَيَّامٍ حَيْضٌ فِي وَسَطِهِ مِنَ الرَّابِعَ عَشَرَ إِلَى السَّابِعَ عَشَرَ تَغْتَسِلُ غُسْلَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي آخِرِ السَّابِعَ عَشَرَ وَالثَّانِي فِي آخِرِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ ، وَلَوْ قَالَتْ كُنْتُ أَخْلِطُ مِنْ أَحَدِ النِّصْفَيْنِ فِي الْآخَرِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلَهَا سِتَّةُ أَيَّامٍ طُهْرٌ بِيَقِينٍ ثَلَاثَةٌ فِي أَوَّلِهِ ، وَثَلَاثَةٌ مِنْ آخِرِهِ ، وَسِتَّةُ أَيَّامٍ حَيْضٌ بِيَقِينٍ فِي وَسَطِهِ ، وَتَغْتَسِلُ فِي آخِرِ الثَّامِنَ عَشَرَ وَفِي آخِرِ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ ، ثُمَّ عَلَى هَذَا كُلَّمَا زَادَ مِنَ الْخَلْطَةِ يَوْمٌ زَادَ فِي يَقِينِ الْحَيْضِ يَوْمَانِ فِي الْوَسَطِ ، وَفِي يَقِينِ الطُّهْرِ يَوْمَانِ فِي الطَّرَفَيْنِ فَلَوْ قَالَتْ
كُنْتُ أَخْلِطُ مَنْ أَحَدِ النِّصْفَيْنِ فِي الْآخَرِ بِنِصْفِ يَوْمٍ كَانَ لَهَا نِصْفُ يَوْمٍ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ طُهْرٌ بِيَقِينٍ وَنِصْفُ يَوْمٍ مِنْ آخِرِهِ طُهْرٌ بِيَقِينٍ ، وَيَوْمٌ حَيْضٌ بِيَقِينٍ مِنْ يَوْمَيْنِ نِصْفُ الْخَامِسَ عَشَرَ وَنِصْفُ السَّادِسَ عَشَرَ فَلَوْ شَكَّتْ هَلْ كَانَتْ تَخْلِطُ مِنْ أَحَدِ النِّصْفَيْنِ فِي الْآخَرِ شَيْئًا أَمْ لَا ؟ فَهَذِهِ لَيْسَ لَهَا يَقِينُ حَيْضٍ وَلَا طُهْرٍ ، وَتُصَلِّي النِّصْفَ الْأَوَّلَ بِالْوُضُوءِ ، وَالثَّانِيَ بِالْغُسْلِ فَلَوْ ثَبَتَ أَنَّهَا كَانَتْ تَخْلِطُ بِيَوْمٍ وَشَكَّتْ فِيمَا زَادَ عَلَيْهِ كَانَ الْأَوَّلُ طُهْرًا ، وَالْخَامِسَ عَشَرَ وَالسَّادِسَ عَشَرَ حَيْضًا ، وَتُصَلِّي مَا قَبْلَهُمَا بِالْوُضُوءِ ، وَمَا بَعْدَهُمَا بِالْغُسْلِ ، فَلَوْ قَالَتْ : أَعْلَمُ أَنَّنِي أَخْلِطُ مِنْ أَحَدِ النِّصْفَيْنِ فِي الْآخَرِ بِجُزْءٍ يَسِيرٍ ، فَلِهَذِهِ جُزْآنِ طُهْرٌ بِيَقِينٍ أَحَدُهُمَا مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ ، وَالثَّانِي مِنْ آخِرِهِ ، وَجُزْآنِ حَيْضٌ بِيَقِينٍ مِنْ وَسَطِهِ أَحَدُهُمَا مِنْ آخِرِ النِّصْفِ الْأَوَّلِ ، وَالثَّانِي مِنْ أَوَّلِ النِّصْفِ الثَّانِي ، لَكِنْ لَا تَدَعُ فِيهِمَا شَيْئًا مِنَ الصَّلَاةِ : لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ آخِرَ وَقْتِ الْعَصْرِ ، فَلَا تَسْقُطُ عَنْهَا صَلَاةُ الْعَصْرِ ، وَالْجُزْءُ الثَّانِي مِنْ أَوَّلِ وَقْتِ الْمَغْرِبِ فَلَا تَسْقُطُ عَنْهَا صَلَاةُ الْمَغْرِبِ ، فَلَوْ قَالَتْ حَيْضِي مِنَ الشَّهْرِ عَشَرَةُ أَيَّامٍ ، وَأَعْلَمُ أَنَّنِي أَخْلِطُ مَنْ أَحَدِ النِّصْفَيْنِ فِي الْآخَرِ بِيَوْمٍ ، وَقَدْ أُشْكِلَ فَهَذِهِ لَهَا سِتَّةُ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ طُهْرٌ بِيَقِينٍ وَسِتَّةُ أَيَّامٍ مِنْ آخِرِهِ طُهْرٌ بِيَقِينٍ ، وَيَوْمَانِ مِنْ وَسَطِهِ حَيْضٌ بِيَقِينٍ ، وَتَغْتَسِلُ فِي آخِرِ السَّادِسَ عَشَرَ وَفِي آخِرِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ ، فَلَوْ قَالَتْ : حَيْضِي تِسْعَةُ أَيَّامٍ وَأَخْلِطُهَا بِيَوْمٍ كَانَ لَهَا سَبْعَةُ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ طُهْرٌ بِيَقِينٍ وَسَبْعَةُ أَيَّامٍ مِنْ آخِرِهِ طُهْرٌ بِيَقِينٍ ، وَيَوْمَانِ مِنْ وَسَطِهِ حَيْضٌ بِيَقِينٍ ، ثُمَّ هَكَذَا كُلَّمَا نَقَصَتْ مِنْ أَيَّامِ حَيْضِهَا يَوْمًا زَادَ فِي يَقِينِ طُهْرِهَا مِنْ كُلِّ طَرَفٍ يَوْمٌ ، فَلَوْ كَانَ حَيْضُهَا خَمْسًا مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَّلِ ، وَتَخْلِطُ مَنْ أَحَدِ الْخَمْسَيْنِ فِي الْآخَرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ . فَالْجَوَابُ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا مَضَى . فَرْعٌ : فَلَوْ قَالَتْ : حَيْضِي مِنَ الشَّهْرِ عَشَرَةُ أَيَّامٍ لَا أَعْرِفُهَا وَطُهْرِي عِشْرُونَ يَوْمًا مُتَّصِلَةً ، وَأَخْلِطُ مِنْهُمَا فِي أَحَدِ النِّصْفَيْنِ خَمْسَةَ أَيَّامٍ فَهَذِهِ فِي الْعَشْرِ الْأَوْسَطِ طَاهِرٌ بِيَقِينٍ ، وَهِيَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَّلِ فِي شَكٍّ تُصَلِّي فِيهِ بِالْوُضُوءِ ، وَتَغْتَسِلُ فِي آخِرِهِ ، وَفِي الْعَشْرِ الْآخَرِ فِي شَكٍّ تُصَلِّي فِيهِ بِالْوُضُوءِ ، وَتَغْتَسِلُ فِي آخِرِهِ . فَرْعٌ : لَوْ قَالَتْ : حَيْضِي مِنَ الشَّهْرِ خَمْسَةُ أَيَّامٍ ، أَعْرِفُهَا وَأَخْلِطُ مِنَ الطُّهْرِ الْمُتَّصِلِ مِنْ أَحَدِ النِّصْفَيْنِ فِي الْآخَرِ بِخَمْسَةِ أَيَّامٍ ، فَهَذِهِ فِي الْعَشْرِ الْأَوْسَطِ طَاهِرٌ بِيَقِينٍ ، وَفِي الْعَشْرِ الْأَوَّلِ فِي شَكٍّ تُصَلِّي الْخَمْسَ الْأَوَّلَ مِنْهُ بِالْوُضُوءِ ، لِعَدَمِ انْقِطَاعِ الدَّمِ فِيهِ ، وَالْخَمْسَ الثَّانِيَ بِالْغُسْلِ لِجَوَازِ انْقِطَاعِ الدَّمِ فِيهِ ، وَهِيَ كَذَلِكَ فِي الْعَشْرِ الْآخَرِ فِي شَكٍّ تُصَلِّي الْخَمْسَ الْأَوَّلَ مِنْهُ بِالْوُضُوءِ ، وَالْخَمْسَ الثَّانِيَ مِنْهُ بِالْغُسْلِ ، ثُمَّ قِسْ عَلَى هَذَا مَا يَرِدُ عَلَيْكَ مِنْ أَمْثَالِهِ .
الْفَصْلُ الرَّابِعُ : فِي الْغَفْلَةِ وَالْغَافِلَةُ هِيَ الَّتِي تَعْلَمُ مِنْ حَالِهَا مَا يَدُلُّ عَلَى يَقِينِ طُهْرِهَا ، وَيَقِينِ حَيْضِهَا لَكِنْ قَدْ غَفَلَتْ جَهْلًا مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ .
مِثَالُهُ : أَنْ تَقُولَ حَيْضِي خَمْسَةُ أَيَّامٍ مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَّلِ لَا أَعْرِفُهَا وَأَعْلَمُ أَنَّنِي كُنْتُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ حَائِضًا ، فَهَذِهِ حَيْضُهَا الْخَمْسَةُ الْأُولَى وَطُهْرُهَا الْخَمْسُ الثَّانِيَةُ ، وَلَوْ قَالَتْ : كُنْتُ فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ حَائِضًا فَهَذِهِ حَيْضُهَا الْخَمْسَةُ الثَّانِيَةُ وَطُهْرُهَا الْخَمْسُ الْأُولَى وَلَوْ قَالَتْ كُنْتُ فِي الْيَوْمِ السَّادِسِ طَاهِرًا كَانَ حَيْضُهَا الْخَمْسُ الْأُولَى . فَلَوْ قَالَتْ حَيْضِي أَحَدُ الْخَمْسَتَيْنِ بِكَمَالِهِ وَكُنْتُ فِي الثَّالِثِ حَائِضًا كَانَ حَيْضُهَا الْخَمْسَةُ الْأُولَى ، وَلَوْ قَالَتْ : كُنْتُ فِي الثَّالِثِ طَاهِرًا كَانَ حَيْضُهَا الْخَمْسَةُ الثَّانِيَةُ ، وَلَوْ قَالَتْ كُنْتُ فِي السَّابِعِ طَاهِرًا كَانَ حَيْضُهَا الْخَمْسَةُ الْأُولَى ، فَلَوْ قَالَتْ : حَيْضِي أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ مِنَ الْعَشْرِ ، وَأَخْلِطُ مِنْ أَحَدِ الْخَمْسَتَيْنِ فِي الْآخَرِ بِيَوْمَيْنِ فَحَيْضُهَا مِنْ أَوَّلِ الرَّابِعِ إِلَى آخِرِ السَّابِعِ ، وَلَوْ قَالَتْ كُنْتُ أَخْلِطُ مِنْ أَحَدِ الْخَمْسَتَيْنِ فِي الْآخَرِ إِمَّا بِيَوْمٍ أَوْ بِيَوْمَيْنِ ، وَكُنْتُ فِي السَّابِعِ طَاهِرًا كَانَ حَيْضُهَا مِنْ أَوَّلِ الثَّالِثِ إِلَى آخِرِ السَّادِسِ ، وَلَوْ قَالَتْ كُنْتُ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ طَاهِرًا كَانَ حَيْضُهَا مِنْ أَوَّلِ الْخَامِسِ إِلَى آخِرِ الثَّامِنِ فَقِسْ عَلَى هَذَا نَظَائِرَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَأُشْكِلَ وَقْتُ الْحَيْضِ عَلَيْهَا مِنَ الِاسْتِحَاضَةِ فَلَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَتْرُكَ الصَّلَاةَ إِلَّا أَقَلَّ مَا تَحِيضُ لَهُ النَسَاءُ وَذَلِكَ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ فَعَلَيْهَا أَنْ تَغْتَسِلَ وَتَقْضِيَ الصَّلَاةَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَقْصُورَةٌ عَلَى الْكَلَامِ فِي أَقَلِّ الْحَيْضِ وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ عَلَى مَذَاهِبَ شَتَّى فَأَمَّا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ هَاهُنَا ، وَفِي كِتَابِ الْأُمِّ أَنَّ أَقَلَّ الْحَيْضِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَقَالَ فِي كِتَابِ الْعَدَدِ أَقَلُّهُ يَوْمٌ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اخْتِلَافِ هَذَيْنِ النَّصَّيْنِ عَلَى ثَلَاثَةِ طُرُقٍ : أَحَدُهَا : وَهُوَ طَرِيقَةُ الْمُزَنِيِّ وَابْنِ شُرَيْحٍ أَنَّ أَقَلَّ الْحَيْضِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَمَا قَالَهُ مِنْ كِتَابِ الْعَدَدِ أَنَّ أَقَلَّهُ يَوْمٌ يُرِيدُ بِهِ مَعَ لَيْلَةٍ ، وَهَذِهِ عَادَةُ الْعَرَبِ وَأَهْلِ اللِّسَانِ أَنَّهُمْ يُطْلِقُونَ ذِكْرَ الْأَيَّامِ يُرِيدُونَ بِهَا مَعَ اللَّيَالِي ، وَيُطْلِقُونَ ذِكْرَ اللَّيَالِي ، وَيُرِيدُونَ بِهَا مَعَ الْأَيَّامِ ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً [ الْأَعْرَافِ : ] يُرِيدُ مَعَ الْأَيَّامِ ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ [ هُودٍ : ] يُرِيدُ مَعَ اللَّيَالِي غَيْرَ أَنَّ الْمُزَنِيَّ عَلَّلَ لِطَرِيقَتِهِ هَذِهِ تَعْلِيلًا قَدَحَ فِيهِ أَصْحَابُنَا فَقَالَ : لِأَنَّ الْيَوْمَ وَاللَّيْلَةَ زِيَادَةُ عِلْمٍ ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا : هَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ زِيَادَةَ الْعِلْمِ وُجُودُ الْأَقَلِّ لَا وُجُودُ الْأَكْثَرِ ، وَلَوْ كَانَ الْيَوْمُ وَاللَّيْلَةُ أَزْيَدَ عِلْمًا مِنَ الْيَوْمِ لَكَانَ الثَّلَاثُ أَزْيَدَ عِلْمًا ، وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ عَلَى الْمُزَنِيِّ خَطَأٌ فِي تَأْوِيلِ كَلَامِهِ : لِأَنَّ الْمُزَنِيَّ إِنَّمَا أَرَادَ بِهِ زِيَادَةَ عِلْمٍ فِي النَّقْلِ ، لَا فِي الْوُجُودِ .
وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ حَكَاهَا أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ عَنْ بَعْضِ مُتَقَدِّمِي أَصْحَابِنَا أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ لِاخْتِلَافِ النَّصِّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ أَقَلَّهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ . وَالثَّانِي : أَنَّ أَقَلَّهُ يَوْمٌ ، وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ فَاسِدَةٌ : لِأَنَّهُ إِنْ وَجَدَ فِي الْعَادَةِ يَوْمًا لَمْ يَكُنْ لِزِيَادَةِ اللَّيْلَةِ مَعْنًى ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ لَمْ يَكُنْ لِنُقْصَانِهَا وَجْهًا . وَالطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ : أَنَّ أَقَلَّهُ يَوْمٌ ، وَإِنَّمَا كَانَ الشَّافِعِيُّ يَرَى أَنَّ أَقَلَّهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ إِلَى أَنْ أَخْبَرَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ أَنَّ عِنْدَهُمُ امْرَأَةً تَحِيضُ غَدْوَةً وَتَطْهُرُ عَشِيَّةً فَرَجَعَ إِلَى قَوْلِهِ ، وَأَصَحُّ هَذِهِ الطُّرُقِ الثَّلَاثِ الطَّرِيقَةُ الْأُولَى أَنَّ أَقَلَّهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِهِ ، وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَمِنَ التَّابِعِينَ عَطَاءٌ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الْأَوْزَاعِيُّ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : أَقَلُّ الْحَيْضِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَعَلَّهُ يَوْمَانِ . وَقَالَ مَالِكٌ : لَا حَدَّ لِأَقَلِّهِ ، وَاسْتَدَلَّ نَاصِرُ أَبِي حَنِيفَةَ لِمَذْهَبِهِ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَقَلُّ الْحَيْضِ ثَلَاثٌ وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ الثَّلَاثِ حَيْضٌ " وَبِرِوَايَةِ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ : " تَدَعُ الصَّلَاةَ أقْرَاءَهَا " قَالَ : وَأَقَلُّ مَا يَنْطَلِقُ ذِكْرُ الْأَيَّامِ ثَلَاثَةٌ وَأَكْثَرُهُ عَشَرَةٌ ، قَالَ وَقَدْ رَوَى الْجَلْدُ بْنُ أَيُّوبَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قُرْءُ الْحَيْضِ ثَلَاثٌ أَرْبَعٌ خَمْسٌ حَتَّى انْتَهَى إِلَى عَشْرٍ . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : أَقَلُّ الْحَيْضِ ثَلَاثٌ ، وَهَذَانِ صَحَابِيَّانِ لَا يَقُولَانِ ذَلِكَ ، إِلَّا عَنِ تَوْقِيفٍ : لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِيهِ ، قَالَ : وَلِأَنَّ مَا نَقَصَ مِنَ الثَّلَاثِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا قِيَاسًا عَلَى مَا نَقَصَ الْيَوْمَ وَاللَّيْلَةَ . دَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ [ الْبَقَرَةِ : ] فَلَمَّا أَطْلَقَ ذِكْرَهُ وَلَمْ يَحُدَّ قَدْرَهُ فَكَانَ الرُّجُوعُ فِيهِ عِنْدَ عَدَمِ حَدِّهِ فِي الشَّرْعِ إِلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ ، وَكَالْقَصْرِ وَالْيَوْمُ وَاللَّيْلَةُ مَوْجُودٌ فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ ، وَإِنْ كَانَ مُخْتَلِفًا بِاخْتِلَافِ الْأَبْدَانِ وَالْأَسْفَارِ وَالْبُلْدَانِ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَوَجَدْتُ نِسَاءَ مَكَّةَ وَتِهَامَةَ يَحِضْنَ يَوْمًا
وَلَيْلَةً ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ : " فَإِذَا أَقْبَلْتِ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْتَسِلِي وَصَلِّي " وَأَمَرَهَا بِتَرْكِ الصَّلَاةِ عِنْدَ وُجُودِ صِفَةِ الْحَيْضِ فِي دَمِهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ بِثَلَاثَةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى إِطْلَاقِهِ إِلَّا مَا قَامَ دَلِيلُ تَخْصِيصِهِ ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : مَا زَادَ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَهُوَ اسْتِحَاضَةٌ ، وَأَقَلُّ الْحَيْضِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ ، وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ قَالَ : أَدْرَكْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ أَقَلُّ الْحَيْضِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ ، وَالصَّحَابِيُّ إِذَا قَالَ هَذَا فَإِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ أَكَابِرَ الصَّحَابَةِ وَعُلَمَائِهَا ، فَدَلَّ هَذَانِ الْأَثَرَانِ عَلَى أَنَّ التَّوْقِيتَ بِالْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مَوْجُودٌ وَالْوِفَاقُ عَلَيْهِ مَشْهُورٌ ، وَلِأَنَّهُ دَمٌ يُسْقِطُ فَرْضَ الصَّلَاةِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ يَوْمًا وَلَيْلَةً كَالنِّفَاسِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مُدَّةٍ صَلُحَتْ أَنْ تَكُونَ زَمَنًا لِلْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ شَرْعًا صَلُحَتْ لِأَنْ تَكُونَ زَمَنًا لِأَقَلِّ الْحَيْضِ ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْحَمْلُ ، لِأَنَّهُ تُقُدِّرَ بِالشُّهُورِ دُونَ الْأَيَّامِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ رِوَايَتِهِمْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّهُ قَالَ : أَقَلُّ الْحَيْضِ ثَلَاثٌ فَهُوَ أَنَّهُ خَبَرٌ مَرْدُودٌ ، لِأَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ مَجْهُولٌ ، وَالْعَلَاءُ ضَعِيفٌ ، وَمَكْحُولٌ لَمْ يَلْقَ أَبَا أُمَامَةَ ، فَكَانَ مُرْسَلًا ، وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى سُؤَالِ امْرَأَةٍ كَانَتْ عَادَتُهَا ثَلَاثًا ، وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ " تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا " وَأَمَّا ابْنُ مَسْعُودٍ فَقَوْلُهُ مَعَارِضٌ بِقَوْلِ عَلِيٍّ ، وَهُوَ أَوْلَى : لِأَنَّ عُمُومَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يُعَاضِدُهُ وَأَمَّا أَنَسٌ فَلَمْ يَكُنْ فِي الْحَيْضِ أَصْلًا ، قَالَ ابْنُ عُلَيَّةَ اسْتُحِيضَتِ امْرَأَةٌ مِنْ آلِ أَنَسٍ فَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْهَا ، وَأَنَسٌ حَيٌّ ، وَلَوْ كَانَ أَصْلًا فِيهِ لَاكْتَفَوْا بِسُؤَالِهِ عَنْ غَيْرِهِ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى مَا دُونَ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ ، فَالْمَعْنَى فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ أَنَّهُ مُسْتَوْعِبٌ لِأَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ . فَصْلٌ : وَأَمَّا مَالِكٌ فَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا حَدَّ لِأَقَلِّهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى [ الْبَقَرَةِ : ] فَجُعِلَ الْأَذَى حَيْضًا ، وَيَسِيرُ الدَّمِ أَذًى فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا ، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " فَإِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ " قَالَ : وَلِأَنَّهُ دَمٌ يُسْقِطُ فَرْضَ الصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَقَلُّهُ غَيْرَ مَحْدُودٍ كَالنِّفَاسِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَإِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ فَجَعَلَ زَمَانَ الْحَيْضِ مُسْقِطًا لِفَرْضِ الصَّلَاةِ ، وَسُقُوطِهَا يَتَعَلَّقُ بِزَمَانٍ مَحْدُودٍ ، وَلِأَنَّهُ خَارِجٌ مِنَ الرَّحِمِ يَدُلُّ عَلَى بَرَاءَتِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحْدُودًا كَالْحَمْلِ ، فَأَمَّا الْآيَةُ فَلَا دَلِيلَ فِيهَا : لِأَنَّهُ جَعَلَ الْحَيْضَ أَذًى ، وَلَمْ يَجْعَلِ الْأَذَى حَيْضًا ، وَأَمَّا حَدِيثُ فَاطِمَةَ فَالْمُرَادُ بِهِ إِقْبَالُ حَيْضِهَا ، وَقَدْ كَانَ أَيَّامًا ، وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى النِّفَاسِ فَالْمَعْنَى فِيهِ وُجُودُ الْعَادَةِ بِيَسِيرِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَأَكْثَرُ الْحَيْضِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ أَكْثَرَهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ ، وَعَنْ مَكْحُولٍ أَنَّ أَكْثَرَهُ سَبْعَةُ أَيَّامٍ ، وَعَنْ
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ أَكْثَرَهُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ فِي أَكْثَرِهِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ إِحْدَاهُنَّ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، كَقَوْلِنَا وَالثَّانِيَةُ سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا كَقَوْلِ الْمَاجِشُونِ ، وَالثَّالِثُ أَنَّهُ غَيْرُ مَحْدُودٍ ، وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِحَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " وَأَكْثَرُ الْحَيْضِ عَشْرٌ " ، وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لِتَنْظُرْ عَدَدَ اللَيَالِي وَالْأَيَّامِ " ، وَهَذَا يَنْطَلِقُ عَلَى الْعَشَرَةِ وَمَا دُونُ ، وَبِقَوْلِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قُرْءُ الْحَيْضِ ثَلَاثٌ إِلَى أَنِ انْتَهَى إِلَى عَشْرٍ . وَدَلِيلُنَا مَا رَوَى زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : خَرَجَ النَبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَضْحًى أَوْ فِطْرٍ إِلَى الْمُصَلَّى وَانْصَرَفَ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ ، تَصَدَّقْنَ ؛ مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَ ، يَا مَعْشَرَ النَسَاءِ ، فَقُلْنَ : مَا نُقْصَانُ عَقْلِنَا وَدِينِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : أَلَيْسَ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ بِنِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ ؟ قُلْنَ : بَلَى ، قَالَ فَذَلِكَ نُقْصَانُ عَقْلِهَا ، أَرَأَيْتِ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ ؟ . رَوَى شَطْرَ دَهْرِهَا قَالَ : فَذَلِكَ نُقْصَانُ دِينِهَا " . وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا لَا تَصِيرُ مَوْصُوفَةً بِهَذِهِ الصِّفَةِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ نِصْفُ كُلِّ شَهْرٍ حَيْضًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ أَكْثَرَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، وَلِأَنَّهُ دَمٌ يُسْقِطُ فَرْضَ الصَّلَاةِ ، فَجَازَ أَنْ يَبْلُغَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، كَالنِّفَاسِ ، وَلِأَنَّهُ دَمٌ يُرْخِيهِ الرَّحِمُ جَرَتْ بِهِ عَادَةٌ صَحِيحَةٌ ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، كَالطُّهْرِ ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِمَا ذَكَرَهُ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْهُ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا أَقَلُّ الطُّهْرِ بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ فَخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، فَهُوَ قَوْلُ أَبَى حَنِيفَةَ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ ، وَقَالَ مَالِكٌ : أَقَلُّهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ ، وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ لَا حَدَّ لِأَقَلِّهِ . وَدَلِيلُنَا مَعَ اعْتِبَارِ الْعَادَةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " تَقْعُدُ شَطْرَ دَهْرِهَا لَا تُصَلِّي " ، وَلِأَنَّ الشَّرْعَ قَدِ اسْتَقَرَّ نَصًّا بِأَنَّ الشَّهْرَ فِي مُقَابَلَةِ قُرْءٍ جَامِعٍ لِحَيْضٍ وَطُهْرٍ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ عَلَى الْمُؤَيَّسَةِ فِي مُقَابَلَةِ ثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ فِي الْعِدَّةِ ، وَلَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ إِمَّا لِأَنَّ الشَّهْرَ يَجْمَعُ أَكْثَرَ الْحَيْضِ ، وَأَكْثَرَ الطُّهْرِ ، أَوْ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ أَقَلَّ الْحَيْضِ ، وَأَقَلَّ الطُّهْرِ أَوْ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ أَكْثَرَ الْحَيْضِ ، وَأَقَلَّ الطُّهْرِ أَوْ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ أَقَلَّ الْحَيْضِ وَأَكْثَرَ الطُّهْرِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ جَامِعًا لِأَكْثَرِ الْأَمْرَيْنِ : لِأَنَّ [ أَكْثَرَ الطُّهْرِ غَيْرُ مَحْدُودٍ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ جَامِعًا ، لِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ : ] لِأَنَّهُ يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ شَهْرٍ ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ جَامِعًا لِأَقَلِّ الْحَيْضِ وَأَكْثَرِ الطُّهْرِ ، لِأَنَّهُ يَتَجَاوَزُ الشَّهْرَ فَثَبَتَ أَنَّهُ جَامِعٌ لِأَكْثَرِ الْحَيْضِ وَأَقَلِّ الطُّهْرِ ، فَلَمَّا كَانَ أَكْثَرُ الْحَيْضِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا بِمَا دَلَّلْنَا ثَبَتَ أَنَّ أَقَلَّ الطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا .
الْقَوْلُ فِي النِّفَاسِ
مَسْأَلَةٌ : الْقَوْلُ فِي [ النِّفَاسِ ] قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَهُ عَنْهُ : " وَأَكْثَرُ النِّفَاسِ سِتُّونَ يَوْمًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا النِّفَاسُ تعريفه فَهُوَ دَمٌ يُرْخِيهِ الرَّحِمُ فِي حَالِ الْوِلَادَةِ وَبَعْدَهَا ، مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ فَلَانٌ قَدْ نَفَسَ الدَّمَ إِذَا أَخْرَجَهُ ، وَتَنَفَّسَ النَّهَارُ إِذَا طَالَ ، وَتَنَفَّسَ الصُّبْحُ إِذَا ظَهَرَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ [ التَّكْوِيرِ : ] أَيْ ظَهَرَ ، وَالنِّفَاسُ كَالْحَيْضِ أوجه الاتفاق والاختلاف بين النفاس والحيض فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ أَحْكَامِ الْحَيْضَ ، وَهِيَ السَّبْعَةُ الْمَذْكُورَةُ فِيمَا يَحْرُمُ بِالْحَيْضِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالطَّوَافِ وَدُخُولِ الْمَسْجِدِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ وَقِرَاءَةِ الْقِرَانِ وَوَطْءِ الزَّوْجِ ، وَمُخَالِفٌ لَهُ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : أَحدُهَا : أَنَّ الْحَيْضَ قَدْ يَكُونُ بُلُوغًا مِنَ الصَّغِيرَةِ ، وَالنِّفَاسُ لَا يَكُونُ بُلُوغًا ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْبُلُوغُ بِمَا قَبْلَهُ مِنَ الْحَمْلِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْحَيْضَ يَكُونُ اسْتِبْرَاءً فِي الْعِدَّةِ ، وَالنِّفَاسُ لَا يَكُونُ اسْتِبْرَاءً فِي الْعِدَّةِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ قَدْرَ النِّفَاسِ مُخَالِفٌ لِقَدْرِ الْحَيْضِ فِي أَقَلِّهِ وَأَكْثَرِهِ وَأَوْسَطِهِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا أَقَلُّ النِّفَاسِ فَلَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ فِي كُتُبِهِ نَصٌّ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا رَوَى أَبُو ثَوْرٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ أَقَلُّ النِّفَاسِ سَاعَةً فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلِ السَّاعَةُ حَدٌّ لِأَقَلِّهِ أَوْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ وَجَمِيعِ الْبَغْدَادِيِّينَ أَنَّهُ مَحْدُودُ الْأَقَلِّ بِسَاعَةٍ ، وَبِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَأَبُو ثَوْرٍ . الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهُ لَا حَدَّ لِأَقَلِّهِ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ السَّاعَةَ تَقْلِيلًا وَتَفْرِيقًا لَا أَنَّهُ جَعَلَهَا حَدًّا ، وَأَقَلُّهُ مَجَّةٌ مِنْ دَمٍ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ والْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : أَقَلُّ النِّفَاسِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ أَقَلُّهُ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا ، وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ أَقَلُّهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ ، وَكُلُّ هَذِهِ الْحُدُودِ لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ ، وَلَا قِيَاسٌ عَلَى أَصْلٍ ، وَإِنَّمَا وَجَدَ قَائِلُوهَا نِسَاءً كَانَ أَقَلُّ نِفَاسِهِنَّ مَا ذَكَرُوا فَجَعَلُوهُ حَدًّا مُسْتَحْسَنًا ، وَلَيْسَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى مَنْ وَجَدَ أَقَلَّ مِنْ حَدِّهِمْ ، وَقَدْ وُجِدَ نِسَاءٌ كَانَ نِفَاسُهُنَّ أَقَلَّ مِنْ هَذِهِ الْحُدُودِ . رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً وَلَدَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ تَرَ مَعَهُ دَمًا فَسُمِّيَتْ ذَاتَ الْجَفَافِ . وَرَوَى أَبُو أُمَامَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِذَا طَهُرَتِ النُّفَسَاءُ حِينَ تَضَعُ صَلَّتْ وَهَذَا نَصٌّ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا أَكْثَرُ النِّفَاسِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ أَكْثَرَهُ سِتُّونَ يَوْمًا وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّعْبِيُّ وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ أَكْثَرُهُ خَمْسُونَ يَوْمًا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : أَكْثَرُهُ أَرْبَعُونَ يَوْمًا ، وَحَكَى الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ أَهْلِ دِمَشْقَ أَنَّ أَكْثَرَ النِّفَاسِ مِنَ الْغُلَامِ ثَلَاثُونَ يَوْمًا وَمِنَ الْجَارِيَةِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ رَجَعَ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنَ الْحَدِّ إِلَى مَا
وَجَدَ فَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى حَدِّهِ بِالْأَرْبَعِينَ بِرِوَايَةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَّتَ لِلنُّفَسَاءَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا . وَرَوَتْ مُسَّةُ أُمُّ بُسَّةُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ كَانَ النِّسَاءُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقْعُدُ بَعْدَ نِفَاسِهَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَكُنَّا نُطْلِقُ عَلَى وُجُوهِنَا الْوَرَسَ يَعْنِي : مِنَ الْكَلَفِ " وَلِأَنَّ الْأَرْبَعِينَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا ، وَالزِّيَادَةَ مُخْتَلَفٌ فِيهَا ، فَلَمْ يَجُزْ تَرْكُ يَقِينِ الصَّلَاةِ : بِمُخْتَلَفٍ فِيهِ . وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " النُّفَسَاءُ تَجْلِسُ إِلَى أَنْ تَرَى الطُّهْرَ " فَكَانَ عُمُومُهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَا جَاوَزَ الْأَرْبَعِينَ يَكُونُ نِفَاسًا ، وَلِأَنَّ حَدَّ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ مَأْخُوذٌ مِنْ وُجُودِ الْعَادَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ فِيهِ ، وَقَدْ وَجَدَ الشَّافِعِيُّ السِّتِّينَ فِي عَادَةٍ مُسْتَمِرَّةٍ ، وَتَحَرَّرَ هَذَا قِيَاسًا ، فَيُقَالُ لِأَنَّهُ دَمٌ أَرْخَاهُ الرَّحِمُ جَرَتْ بِهِ عَادَةٌ مُسْتَقِرَّةٌ ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ نِفَاسًا كَالْأَرْبَعِينَ ، وَلِأَنَّ أَكْثَرَ الدَّمِ يَزِيدُ عَلَى عَادَتِهِ فِي الْغَالِبِ ، كَالْحَيْضِ غَالِبُهُ السَّبْعُ ، وَأَكْثَرُهُ يَزِيدُ عَلَى السَّبْعِ ، فَلَمَّا كَانَ غَالِبُ النِّفَاسِ أَرْبَعِينَ ، وَجَبَ أَنْ يَزِيدَ أَكْثَرُهُ عَلَى الْأَرْبَعِينَ ، وَلِأَنَّ النِّفَاسَ هُوَ مَا كَانَ مُحْتَسِبًا مِنَ الْحَيْضِ فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ ، فَلَمَّا كَانَ غَالِبُ الْحَمْلِ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ ، وَغَالِبُ الْحَيْضِ سِتٌّ أَوْ سَبْعٌ ، فَإِنِ اعْتَبَرْنَا السَّبْعَ كَانَ النِّفَاسُ ثَلَاثَةً وَسِتِّينَ يَوْمًا ، وَإِنِ اعْتَبَرْنَا السِّتَّ كَانَ النِّفَاسُ أَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ يَوْمًا ، وَإِنِ اعْتَبَرْنَاهُمَا مَعًا كَانَ النِّفَاسُ سِتِّينَ يَوْمًا ، وَهُوَ أَنْ يُجْعَلَ حَيْضُهَا فِي سِتَّةِ أَشْهُرٍ سَبْعًا ، وَفِي ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ سِتًّا فَصَحَّ أَنَّ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ أَصَحُّ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فَهُوَ أَنَّهُ ضَعِيفٌ ، لِأَنَّ رِوَايَةَ سَلَامِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنِ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ وَسَلَامٌ قَدْ أُسْقِطَ حَدِيثُهُ ذَكَرَهُ السَّاجِيُّ ، وَقَالَ كَانَ ضَعِيفًا ، وَلَوْ كَانَ صَحِيحًا لَحَمَلَ عَلَى مَنْ تَجَاوَزَ دَمُهَا سِتِّينَ يَوْمًا ، فَرَدَّهَا إِلَى أَوْسَطِهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا كَمَا رَدَّ حَمْنَةَ بِنْتَ جَحْشٍ حِينَ اسْتُحِيضَتْ إِلَى أَوْسَطِ الْحَيْضِ سِتٍّ أَوْ سَبْعٍ ، وَأَمَّا حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ فَلَا دَلِيلَ فِيهِ ، لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنْ قَدْرِ عَادَتِهِنَّ ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِالْوِفَاقِ فَلَيْسَ الْوِفَاقُ عَلَى أَنَّ الْأَرْبَعِينَ نِفَاسٌ ، دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْأَرْبَعِينَ أَكْثَرُ النِّفَاسِ كَالْعِشْرِينِ فَأَمَّا أَوْسَطُ النِّفَاسِ فَأَرْبَعُونَ يَوْمًا : لِأَنَّ غَالِبَ عَادَةِ النِّسَاءِ جَارِيَةٌ بِهِ كَالسَّبْعِ فِي الْحَيْضِ ، وَوُجُودُهُ فِي الْعَادَةِ يُغْنِي عَنْ دَلِيلِ أَصْلِهِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حُكْمِ النِّفَاسِ ، وَقِدْرِهِ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمَرْأَةِ فِي وِلَادَتِهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَضَعَ مَا فِيهِ خَلْقٌ مُصَوَّرٌ أَمْ لَا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيمَا وَضَعَتْهُ خَلْقٌ مُصَوَّرٌ لَا جَلِيٌّ وَلَا خَفِيٌّ ، كَالْعَلَقَةِ وَالْمُضْغَةِ الَّتِي لَا تَصِيرُ بِهَا أُمَّ وَلَدٍ ، وَلَا تَجِبُ فِيهَا عِدَّةٌ لَمْ يَكُنِ الدَّمُ الْخَارِجُ مَعَهُ نِفَاسًا ، وَكَانَ دَمَ اسْتِحَاضَةٍ أَوْ حَيْضٍ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ : لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَحْكُمْ لِمَا
وَضَعَتْهُ حُكْمَ الْوَلَدِ فِيمَا سِوَى النِّفَاسِ ، فَكَذَلِكَ فِي النِّفَاسِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ خَلْقٌ مُصَوَّرٌ تَقْضِي بِهِ الْعِدَّةَ وَتَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ ، فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ تَرَى مَعَهُ دَمًا أَمْ لَا ، فَإِنْ لَمْ تَرَ مَعَهُ دَمًا ، وَقَدْ يُوجَدُ هَذَا كَثِيرًا فِي نِسَاءِ الْأَكْرَادِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَيْهَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ لَا غُسْلَ عَلَيْهَا ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، لِأَنَّ وُجُوبَ الْغُسْلِ مُتَعَلِّقٌ بِانْقِطَاعِ الدَّمِ ، فَإِذَا عُدِمَ الدَّمُ لَمْ يَجِبِ الْغُسْلُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ ، أَنَّ الْغُسْلَ عَلَيْهَا وَاجِبٌ بِهِ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ : لِأَنَّ الْوَلَدَ مَخْلُوقٌ مِنْ مَائِهَا وَمَاءِ الزَّوْجِ ، فَإِذَا وَلَدَتْ فَكَأَنَّمَا قَدْ أَنْزَلَتْ ، فَعَلَى هَذَا هَلْ تَغْتَسِلُ فِي حَالِ وَضْعِهَا أَوْ بَعْدَ مُضِيِّ سَاعَةٍ مِنْهُ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِهِمْ فِي أَقَلِّ النِّفَاسِ هَلْ هُوَ مَحْدُودٌ بِسَاعَةٍ أَمْ لَا ؟ عَلَى هَذَا لَوْ كَانَتْ وِلَادَتُهَا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ فَبُطْلَانُ صَوْمِهَا عَلَى الْوَجْهَيْنِ ، إِنْ قِيلَ لَا غُسْلَ عَلَيْهَا ، فَهِيَ عَلَى صَوْمِهَا وَإِنْ قِيلَ بِوُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَيْهَا بَطُلَ صَوْمُهَا .
فَصْلٌ : وَإِنْ رَأَتْ فِي وِلَادَتِهَا دَمًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَبْتَدِئَ بِهَا مَعَ الْوِلَادَةِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَبْتَدِئَ بِهَا قَبْلَ الْوِلَادَةِ ، فَإِنْ بَدَأَ بِهَا الدَّمُ قَبْلَ الْوِلَادَةِ للنفساء فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَتَّصِلِ بِدَمِ الْوِلَادَةِ أَمْ لَا ، فَإِنْ لَمْ يَتَّصِلْ إِلَى مَا بَعْدَ الْوِلَادَةِ ، وَانْقَطَعَ قَبْلَهَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الدمُ نِفَاسًا ، لَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِيهِ ، كَانَ كَالَّذِي تَرَاهُ الْمَرْأَةُ مِنَ الدَّمِ عَلَى حَمْلِهَا هَلْ يَكُونُ حَيْضًا أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ يَكُونُ دَمَ فَسَادٍ ، فَلَا يَكُونُ حَيْضًا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ يَكُونُ حَيْضًا وَسَنَذْكُرُ تَوْجِيهَ الْقَوْلَيْنِ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ كِتَابِ الْعَدَدِ ، وَإِنِ اتَّصَلَ الدَّمُ بِمَا بَعْدَ الْوِلَادَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الطِّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَّهُ دَمُ نِفَاسٍ ، وَإِنَّ أَوَّلَ نِفَاسِهَا مِنْ حِينِ بَدَأَ بِهَا الدَّمُ قَبْلَ الْوِلَادَةِ لِاتِّصَالِهِ بِهَا وَكَوْنِهِ أَحَدَ أَسْبَابِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ الْوِلَادَةَ لَيْسَ بِنِفَاسٍ ، وَإِنَّ أَوَّلَ النِّفَاسِ مَا بَعْدَ الْوِلَادَةِ : لِأَنَّ دَمَ النِّفَاسِ مَا بَقِيَ مِنْ غِذَاءِ الْمَوْلُودِ مِنَ الْحَيْضِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ ، فَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ ، لَوْ وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ وَرَأَتْ مَعَ الْأَوَّلِ مِنْهُمَا دَمًا ، وَاتَّصَلَ
بِوِلَادَةِ الثَّانِي فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَكُونُ نِفَاسُهَا مِنْ حِينِ رَأَتِ الدَّمَ مَعَ الْأَوَّلِ ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يَكُونُ أَوَّلُهُ بَعْدَ وِلَادَةِ الثَّانِي .
فَصْلٌ : وَإِنْ رَأَتِ الدَّمَ بَعْدَ الْوِلَادَةِ ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ عَلَى الْوِلَادَةِ فَهُوَ دَمُ نِفَاسٍ سَوَاءٌ كَانَ أَسْوَدَ ثَخِينًا ، أَوْ كَانَ أَصْفَرَ رَقِيقًا فِي الْمُبْتَدَأَةِ وَغَيْرِهَا لَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِيهِ بِخِلَافِ الْحَيْضِ : لِأَنَّ الْوِلَادَةَ شَاهِرٌ لِلنِّفَاسِ ، فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى اعْتِبَارٍ شَاهِرٍ فِي الدَّمِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْحَيْضُ فَإِنِ اتَّصَلَ إِلَى سِتِّينَ يَوْمًا ، فَكُلُّهُ نِفَاسٌ فَإِنِ انْقَطَعَ الدَّمُ فِي أَثْنَاءِ نِفَاسِهَا ، وَلَمْ يَتَّصِلْ كَأَنَّهَا رَأَتْ يَوْمًا دَمًا وَيَوْمًا نَقَاءً حَتَّى بَلَغَ سِتِّينَ يَوْمًا ثُمَّ انْقَطَعَ كَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَلْفِيقِ الْحَيْضِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ جَمِيعَهُ نِفَاسٌ . وَالثَّانِي : أَنَّ أَيَّامَ الدَّمِ نِفَاسٌ ، وَأَيَّامَ النَّقَاءِ طُهْرٌ ، فَلَوْ رَأَتْ خَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا ، وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ نَقَاءً حَتَّى بَلَغَ سِتِّينَ يَوْمًا كَانَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ أَيْضًا ، فَإِنِ اتَّصَلَ النَّقَاءُ فِي أَثْنَاءِ الدَّمِ حَتَّى بَلَغَ طُهْرًا كَامِلًا كَأَنَّهَا رَأَتْ ثَلَاثِينَ يَوْمًا دَمًا ، وَخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا طُهْرًا ، وَخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا دَمًا ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ هَلْ يَكُونُ طُهْرًا فَاصِلًا بَيْنَ الدَّمَيْنِ وَقَاطِعًا لِلنِّفَاسِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ قَاطِعٌ لِلنِّفَاسِ ، وَفَاصِلٌ بَيْنَ الدَّمَيْنِ : لِأَنَّ النِّفَاسَ مُعْتَبَرٌ بِالْحَيْضِ ، فَلَمَّا كَانَ الطُّهْرُ الْكَامِلُ فِي الْحَيْضِ فَاصِلًا بَيْنَ الدَّمَيْنِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي النِّفَاسِ أَيْضًا فَاصِلًا بَيْنَ الدَّمَيْنِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الدَّمُ الْأَوَّلُ - وَهُوَ ثَلَاثُونَ يَوْمًا - نِفَاسًا ، وَالْخَمْسَةَ عَشَرَ النَّقَاءُ طُهْرًا ، وَالدَّمُ الثَّانِي وَهُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ حَيْضًا فَإِنْ زَادَ عَلَى الْخَمْسَةَ عَشَرَ فَقَدْ دَخَلَتِ الِاسْتِحَاضَةُ فِي حَيْضِهَا فَصَارَتْ مُسْتَحَاضَةً وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي ثَوْرٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّ هَذَا الطُّهْرَ غَيْرُ قَاطِعٍ لِلنِّفَاسِ وَلَا فَاصِلٌ بَيْنَ الدَّمَيْنِ : لِأَنَّ النِّفَاسَ لَمَّا خَالَفَ الْحَيْضَ فِي أَقَلِّهِ وَأَكْثَرِهِ خَالَفَهُ فِي الطُّهْرِ الَّذِي فِي خِلَالِ دَمِهِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الزَّمَانُ نِفَاسًا وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَيَكُونُ الطُّهْرُ الَّذِي بَيْنَهُمَا عَلَى قَوْلَيْنِ مِنَ التَّلْفِيقِ .
فَصْلٌ : فَإِنِ اتَّصَلَ دَمُ نِفَاسِهَا حَتَّى تَجَاوَزَ سِتِّينَ يَوْمًا ، فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهَا عَادَةٌ فَي الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ أَوْ مُبْتَدَأَةً ، فَإِنْ كَانَتْ مُبْتَدَأَةً فِي النِّفَاسِ وَالْحَيْضِ ، فَمَا تَجَاوَزَ السِّتِّينَ يَوْمًا اسْتِحَاضَةٌ ، وَلَيْسَ بِحَيْضٍ لَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِيهِ ، لِأَنَّ يَقِينَ النِّفَاسِ يَغْلِبُ عَلَى شَكِّ الْحَيْضِ ، فَعَلَى هَذَا تَصِيرُ الِاسْتِحَاضَةُ دَاخِلَةً فِي النِّفَاسِ ، وَلَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ . الْأَوَّلُ : حَالٌ يَكُونُ لَهَا تَمْيِيزٌ . الثَّانِي : وَحَالٌ يَكُونُ لَهَا وَلَا عَادَةٌ . الثَّالِثُ : وَحَالٌ يَكُونُ مُبْتَدَأَةً لَيْسَ لَهَا تَمْيِيزٌ وَلَا عَادَةٌ ، فَإِنْ كَانَ لَهَا تَمْيِيزٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ
بَعْضُهُ دَمًا أَسْوَدَ ثَخِينًا وَبَعْضُهُ أَحْمَرُ رَقِيقٌ ، فَيَكُونُ السَّوَادُ مِنْهُ نِفَاسًا ، وَالْحُمْرَةُ اسْتِحَاضَةً ، وَإِنْ كَانَ لَهَا عَادَةٌ بِلَا تَمْيِيزٍ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ الدَّمِ لَوْنًا وَاحِدًا وَلَهَا عَادَةٌ سَالِفَةٌ فِي نِفَاسٍ مُسْتَمِرٍّ فَتُرَدُّ إِلَى عَادَتِهَا فِي نِفَاسِهَا ، وَيَكُونُ مَا تَجَاوَزَهَا اسْتِحَاضَةً ، وَإِنْ كَانَتْ مُبْتَدَأَةً لَيْسَ لَهَا تَمْيِيزٌ وَلَا عَادَةٌ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا تُرَدُّ إِلَيْهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهَا تُرَدُّ إِلَى أَقَلِّ النِّفَاسِ فَعَلَى هَذَا تُعِيدُ جَمِيعَ مَا تَرَكَتْ مِنَ الصَّلَوَاتِ سَوَاءٌ حَدَدْنَا أَوَّلَهُ بِسَاعَةٍ أَمْ لَا : لِأَنَّ السَّاعَةَ حَدٌّ لَا يُصَادِفُ وَقْتَ صَلَاةٍ مُسْتَوْعِبٍ ، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي تُرَدُّ فِيهِ الْحَائِضُ إِلَى أَقَلِّ حَيْضِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهَا تُرَدُّ إِلَى أَوْسَطِ النِّفَاسِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَتُعِيدُ صَلَاةَ مَا زَادَ عَلَيْهِ ، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي تُرَدُّ فِيهِ الْحَائِضُ إِلَى أَوْسَطِ حَيْضِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيِّ ذَكَرَهُ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ أَنَّهَا تُرَدُّ إِلَى أَكْثَرِ النِّفَاسِ سِتِّينَ يَوْمًا ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَيْضِ أَنَّ النِّفَاسَ يَقِينٌ فَجَازَ أَنْ تُرَدَّ فِيهِ إِلَى أَكْثَرِهِ ، وَلَيْسَ الْحَيْضُ بِيَقِينٍ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُرَدَّ فِيهِ إِلَى أَكْثَرِهِ .
فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ لِهَذِهِ النُّفَسَاءِ الَّتِي قَدْ تَجَاوَزَ دَمُهَا سِتِّينَ يَوْمًا حَيْضٌ مُعْتَادٌ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَتَّصِلَ دَمُ الْحَيْضِ بِدَمِ النِّفَاسِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ فِي كِتَابِهِ فِي الْحَيْضِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَّصِلَ ، لِأَنَّ النِّفَاسَ نَوْعٌ مِنَ الْحَيْضِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَّصِلَ حَيْضٌ بِحَيْضٍ ، فَكَذَلِكَ نِفَاسٌ بِحَيْضٍ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْجَوَابُ عَلَى مَا مَضَى مِنْ رَدِّهَا إِلَى التَّمْيِيزِ ثُمَّ إِلَى الْعَادَةِ ثُمَّ عَلَى الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ أَنْ يَتَّصِلَ : لِأَنَّ النِّفَاسَ مُخَالِفٌ لِلْحَيْضِ فِي أَقَلِّهِ وَأَكْثَرِهِ ، فَجَازَ أَنْ يَتَّصِلَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ ، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ التَّفْرِيعُ فَيُنْظَرُ فِي قَدْرِ الدَّمِ الزَّائِدِ عَلَى السِّتِّينَ ، فَإِنْ لَمْ يَتَجَاوَزْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَأَمْرُهَا غَيْرُ مُشْكِلٍ ، وَتَكُونُ السِّتُّونَ يَوْمًا نِفَاسًا ، وَمَا زَادَ عَلَى السِّتِّينَ حَيْضٌ ، فَإِنْ كَانَ الدَّمُ سَبْعِينَ يَوْمًا فَحَيْضُهَا عَشَرَةُ أَيَّامٍ : لِأَنَّكَ تَسْتَكْمِلُ النِّفَاسَ سِتِّينَ يَوْمًا : لِأَنَّهُ يَقِينٌ ، وَتَجْعَلُ الزِّيَادَةَ بَعْدَهَا حَيْضًا وَإِنْ بَلَغَ دَمُهَا خَمْسَةً وَسَبْعِينَ يَوْمًا ، فَقَدِ اسْتُكْمِلَ أَكْثَرُ النِّفَاسِ ، وَأَكْثَرُ الْحَيْضِ ، فَأَمَّا إِذَا تَجَاوَزَ دَمُهَا خَمْسَةً وَسَبْعِينَ يَوْمًا ، فَقَدْ صَارَتْ حِينَئِذٍ مُسْتَحَاضَةً ، دَخَلَتِ اسْتِحَاضَتُهَا فِي الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ جَمِيعًا ، وَلَا يَخْلُو حَالُهَا مَنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهَا تَمْيِيزٌ أَمْ لَا ؟ فَإِنْ كَانَتْ مُمَيِّزَةً رُدَّتْ إِلَى تَمْيِيزِهَا وَلَا يَخْلُو حَالُ مَا مُيِّزَ بِهِ مِنْ سَوَادٍ مِنْ أَنْ يَتَجَاوَزَ السِّتِّينَ أَوْ لَا يَتَجَاوَزُهَا ، فَإِنْ تَجَاوَزَ السِّتِّينَ ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى الْخَمْسَةِ وَالسَّبْعِينَ ، فَقَدِ اسْتَقَرَّ لَهَا نِفَاسُهَا وَحَيْضُهَا بِالتَّمْيِيزِ ، فَيَكُونُ نِفَاسُهَا سِتِّينَ يَوْمًا ، وَالْحَيْضُ مَا زَادَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَتَجَاوَزْ دَمُهَا سِتِّينَ يَوْمًا فَقَدْ حَصَلَ لَهَا بِالتَّمْيِيزِ النِّفَاسُ وَحْدَهُ ، فَيَكُونُ نِفَاسُهَا سِتِّينَ يَوْمًا وَتُرَدُّ إِلَى عَادَتِهَا فِي الْحَيْضِ ، فَإِنْ كَانَتْ عَشْرًا صَارَ مَا تَتْرُكُهُ مِنْ
الصَّلَوَاتِ سَبْعِينَ يَوْمًا ، وَلَوْ كَانَ مَا مُيِّزَ بِهِ مِنْ سَوَادِ الدَّمِ خَمْسِينَ يَوْمًا صَارَ مَا تَتْرُكُهُ مِنَ الصَّلَوَاتِ مَعَ عَادَتِهَا فِي الْحَيْضِ سِتِّينَ يَوْمًا ، وَلَوْ كَانَ سَوَادُ الدَّمِ عِشْرِينَ يَوْمًا صَارَ مَا تَتْرُكُهُ مِنَ الصَّلَوَاتِ مَعَ عَادَتِهَا فِي الْحَيْضِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا فَيَسْتَقِرُّ لَهَا النِّفَاسُ بِالتَّمْيِيزِ وَالْحَيْضِ بِالْعَادَةِ ، وَإِنْ يَتَمَيَّزْ دَمُهَا - وَلَوْ كَانَ لَوْنًا وَاحِدًا - رُدَّتْ إِلَى عَادَتِهَا فِي النِّفَاسِ وَالْحَيْضِ جَمِيعًا ، وَلَا يَخْلُو حَالُ مَا فِيهِمَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ عَادَةً فِي النِّفَاسِ وَالْحَيْضِ جَمِيعًا ، فَتُرَدُّ إِلَى الْعَادَةِ فِيهِمَا . مِثَالُهُ : أَنْ تَكُونَ عَادَتُهَا فِي النِّفَاسِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ، وَفِي الْحَيْضِ عَشَرَةُ أَيَّامٍ فَتَتْرُكُ الصَّلَاةَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ، وَتُعِيدُ صَلَاةَ مَا زَادَ عَلَيْهَا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ لَهَا عَادَةٌ فِي النِّفَاسِ دُونَ الْحَيْضِ . مِثَالُهُ : أَنْ يَكُونَ عَادَتُهَا فِي النِّفَاسِ ثَلَاثُينَ يَوْمًا ، وَلَيْسَ لَهَا فِي الْحَيْضِ عَادَةٌ تَعْرِفُهَا فَتُرَدُّ فِي نِفَاسِهَا إِلَى الثَّلَاثِينَ الْمُعْتَادَةِ ، وَفِيمَا تُرَدُّ إِلَيْهِ مِنَ الْحَيْضِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : تُرَدُّ إِلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ، فَعَلَى هَذَا تَدَعُ الصَّلَاةَ أَحَدًا وَثَلَاثِينَ يَوْمًا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : تُرَدُّ إِلَى سِتٍّ أَوْ سَبْعٍ ، فَعَلَى [ هَذَا ] تَدَعُ الصَّلَاةَ سِتَّةً أَوْ سَبْعَةً وَثَلَاثِينَ يَوْمًا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ لَهَا عَادَةٌ فِي الْحَيْضِ دُونَ النِّفَاسِ . مِثَالُهُ : أَنْ تَكُونَ عَادَتُهَا فِي الْحَيْضِ عَشْرًا ، وَهِيَ مُبْتَدَأَةٌ بِالنِّفَاسِ ، فَتُرَدُّ إِلَى عَادَتِهَا الْعَشْرِ فِي الْحَيْضِ ، وَيَكُونُ فِيمَا تُرَدُّ إِلَيْهِ مِنَ النِّفَاسِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : إِلَى أَقَلِّهِ فَلِهَذَا تَدَعُ الصَّلَاةَ عَشْرَ الْحَيْضِ وَحْدَهَا . وَالثَّانِي : إِلَى أَوْسَطِهِ فَعَلَى هَذَا تَدَعُ الصَّلَاةَ خَمْسِينَ يَوْمًا . وَالثَّالِثُ : إِلَى أَكْثَرِهِ فَعَلَى هَذَا تَدَعُ الصَّلَاةَ سَبْعِينَ يَوْمًا . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا عَادَةٌ فِي النِّفَاسِ ، وَلَا فِي الْحَيْضِ ، فَفِيمَا تُرَدُّ إِلَيْهِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : تُرَدُّ إِلَى أَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ فَعَلَى هَذَا تَدَعُ الصَّلَاةَ يَوْمًا وَلَيْلَةً . وَالثَّانِي : تُرَدُّ إِلَى أَوْسَطِ الْأَمْرَيْنِ ، فَعَلَى هَذَا تَدَعُ الصَّلَاةَ سِتَّةً أَوْ سَبْعَةً وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا . الثَّالِثُ : تُرَدُّ إِلَى أَكْثَرِ النِّفَاسِ وَأَوْسَطِهِ فَعَلَى هَذَا تَضَعُ الصَّلَاةَ سِتَّةً أَوْ سَبْعَةً وَسِتِّينَ يَوْمًا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَالَّذِي يُبْتَلَى بِالْمَذْيِ طهارته فَلَا يَنْقَطِعُ مِثْلَ الْمُسْتَحَاضَةِ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ فَرِيضَةٍ بَعْدَ غَسْلِ فَرْجِهِ وَيَعْصِبُهُ " .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَفِي حُكْمِ الْمُسْتَحَاضَةِ وَذَاتِ الْفَسَادِ فَأَمَّا الْمُسْتَحَاضَةُ والطهارة فَحُكْمُهَا فِيمَا يَلْزَمُهَا مِنَ الْعَادَاتِ ، وَتَسْتَبِيحُهُ مِنَ الْقُرْبِ حُكْمُ النِّسَاءِ الطَّاهِرَاتِ إِلَّا فِي الطَّهَارَةِ وَحْدَهَا ، فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ عَلَيْهَا أَنْ تَتَوَضَّأَ لِصَلَاةِ كُلِّ فَرِيضَةٍ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَجْمَعَ بِالْوُضُوءِ الْوَاحِدِ بَيْنَ فَرْضَيْنِ . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، أَنَّهَا تَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كُلِّ فَرِيضَةٍ ، وَتُصَلِّي بِذَلِكَ الْوُضُوءِ مَا شَاءَتْ مِنَ الْفُرُوضِ وَالنَّوَافِلِ ، مَا لَمْ يَخْرُجِ الْوَقْتُ . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ أَنَّهَا كَغَيْرِهَا مِنَ النِّسَاءِ لَا وُضُوءَ عَلَيْهَا إِلَّا مِنْ حَدَثٍ ، غَيْرِ الِاسْتِحَاضَةِ . فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَاسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ الْمُسْتَحَاضَةُ تَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ ، وَلِأَنَّ كُلَّ طَهَارَةٍ صَحَّ أَنْ يُؤَدَّى بِهَا النَّفْلُ صَحَّ أَنْ يُؤَدَّى بِهَا الْفَرْضُ قِيَاسًا عَلَى غَيْرِ الْمُسْتَحَاضَةِ ، وَلِأَنَّهَا طَهَارَةُ عُذْرٍ فَوَجَبَ أَنْ يَتَقَدَّرَ بِالْوَقْتِ دُونَ الْفِعْلِ ، قِيَاسًا عَلَى الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ . وَأَمَّا مَالِكٌ فَإِنَّهُ بَنَى ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ النَّادِرَ لَا وُضُوءَ فِيهِ ، وَدَمُ الِاسْتِحَاضَةِ نَادِرٌ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ الْوُضُوءِ لِكُلِّ فَرِيضَةٍ مَا رَوَى شَرِيكٌ عَنْ أَبِي الْيَقْظَانِ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ " تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا ثُمَّ تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي " وَالْوُضُوءُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ وَتَصُومُ وَتُصَلِّي وَرَوَى حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ خَبَرَهَا قَالَ : ثُمَّ اغْتَسِلِي ثُمِّ تَوَضَّئِي لِكُلِ صَلَاةٍ . ذَكَرَ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ ، وَلِأَنَّهَا طَهَارَةُ ضَرُورَةٍ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَجْمَعَ بِهَا بَيْنَ فَرْضَيْنِ قِيَاسًا عَلَى فَرْضِهِ فِي وَقْتَيْنِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَ فَرْضِهِ إِذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَ فَرْضِهِ قَضَاءً كَالْمُحْدِثِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ مِنَ الْخَبَرِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ لِلْفَائِتِ وَقْتًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا فَذَلِكَ وَقْتُهَا " فَصَارَ أَمْرُهُ بِالْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ يَتَنَاوَلُ الْفَوَائِتَ وَغَيْرَهَا . وَالثَّانِي : أَنَّ الصَّلَاةَ تَجِبُ بِالْوَقْتِ ، فَصَارَ أَمْرُهُ بِالْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ أَمْرًا بِالْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ : لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْوُضُوءِ الصَّلَاةُ دُونَ الْوَقْتِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْمُتَنَفِّلِ فَفَاسِدُ الْمَوْضُوعِ : لِأَنَّ النَّفْلَ أَخَفُّ حَالًا ، وَأَقَلُّ شُرُوطًا وَالْفَرْضَ أَغْلَظُ حَالًا وَآكَدُ شُرُوطًا ، فَلَمْ يَجُزْ مَعَ اخْتِلَافِ مَوْضُوعِهِمَا بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّغْلِيظِ أَنْ
يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا فِيمَا اخْتَلَفَا فِيهِ مِنْ تَخْفِيفٍ وَتَغْلِيظٍ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي أَصْلِهِ الْمَرْدُودِ إِلَيْهِ مِنْ طَهَارَةِ غَيْرِ الْمُسْتَحَاضَةِ أَنَّهَا طَهَارَةٌ يُصَلَّى بِهَا الْفُرُوضُ الْمُؤَدَّاةُ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَلَا يَصِحُّ ، لِأَنَّ الْمَسْحَ طَهَارَةُ رَفَاهِيَةٍ ، وَطَهَارَةُ الْمُسْتَحَاضَةِ طَهَارَةُ ضَرُورَةٍ ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْمَسْحِ أَنَّهَا لَمَّا جَازَ أَنْ يُؤَدَّيَ بِهِ فَرْضَيْنِ فِي وَقْتَيْنِ جَازَ فِي وَقْتٍ ، وَهَاهُنَا بِخِلَافِهِ ، وَأَمَّا مَالِكٌ فَقَدْ قَدَّمْنَا مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي رَدَّهُ إِلَيْهِ مَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا تَتَوَضَّأُ لِكُلِّ فَرِيضَةٍ فَعَلَيْهَا طَهَارَتَانِ المستحاضة : إِحْدَاهُمَا : طَهَارَةُ فَرْجِهَا مِنْ دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ . وَالثَّانِي : الْوُضُوءُ مِنَ الْحَدَثِ . فَأَمَّا طَهَارَةُ فَرْجِهَا فَهِيَ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى الْوُضُوءِ كَتَقَدُّمِ الِاسْتِحَاضَةِ وَصِفَتُهُ أَنْ تَغْسِلَ فَرْجَهَا بِالْمَاءِ ، حَتَّى تُنَقِّيَهُ مِنَ الدَّمِ ، ثُمَّ تَحْشُوهُ بِالْقُطْنِ ، فَإِنْ كَانَ الدَّمُ يَحْتَبِسُ مِنْ غَيْرِ شِدَادٍ لِضَعْفِهِ اقْتَصَرَتْ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ الدَّمُ لَا يَحْتَبِسُ بِالْقُطْنِ وَحْدَهُ لِقُوَّتِهِ شَدَّتْهُ بِخِرْقَةٍ تَتَلَجَّمُ بِهَا مُسْتَثْفِرَةً مِنْ وَرَائِهَا ، كَمَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمْنَةَ بِنْتَ جَحْشٍ ، وَكَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ ثُمَّ لِتَسْتَثْفِرَ بِثَوْبٍ ، وَصُورَةُ الِاسْتِثْفَارِ أَنْ تَشُدَّ فِي وَسَطِهَا حَبْلًا ، ثُمَّ تَأْخُذَ خِرْقَةً عَرِيضَةً مَشْقُوقَةَ الطَّرَفَيْنِ فَتَشُدَّ أَحَدَ طَرَفَيْهَا فِي الْحَبْلِ مِنْ مُقَدَّمِهَا ، وَعِنْدَ سُرَّتِهَا ثُمَّ تُحَدِّرَ الْخِرْقَةَ عَلَى فَرْجِهَا ، وَبَيْنَ الْإِلْيَتَيْنِ وَتَعْقِدُ طَرَفَهَا الْآخَرَ مِنْ وَرَائِهَا فِي الْحَبْلِ الْمُسْتَدِيرِ فِي وَسَطِهَا كَثَفَرِ الدَّابَّةِ وَسُمِّي اسْتِثْفَارًا مِنْ قَوْلِهِمْ ثَفَّرَ الْكَلْبُ ، وَاسْتَثْفَرَ إِذَا جَلَسَ عَاطِفًا بِذَنَبِهِ عَلَى فَرْجِهِ وَبَيْنَ فَخِذَيْهِ حَتَّى يَخْرُجَ إِلَى بَطْنِهِ فَإِنْ كَانَ الدَّمُ زَائِدًا تَخَافُ أَنْ يَظْهَرَ مِنَ الْخِرْقَةِ جَعَلَتْ مَكَانَ الْخِرْقَةِ جِلْدًا أَوْ لِبْدًا فَهَذِهِ صِفَةُ تَطْهِيرِهَا لِفَرْجِهَا .
فَصْلٌ : وَأَمَّا طَهَارَتُهَا مِنْ حَدَثِهَا المستحاضة فَتَحْتَاجُ إِلَى شَرْطَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ عُقَيْبَ طَهَارَةِ الْفَرْجِ وَشَدِّهِ مِنْ غَيْرِ تَرَاخٍ ، وَلَا بُعْدٍ ، فَإِنْ تَوَضَّأَتْ بَعْدَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ مِنْ غَسْلِ الْفَرْجِ وَشِدَادِهِ صَارَتْ مُتَطَهِّرَةً طَهَارَةَ ضَرُورَةٍ مَعَ كَوْنِهَا حَامِلَةً لِلنَّجَاسَةِ ، فَتَكُونُ كَالْعَادِمِ لِلْمَاءِ إِذَا تَيَمَّمَ ، وَعَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ يَقْدِرُ عَلَى غَسْلِهَا فَتَكُونُ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ وُضُوءَهَا بَاطِلٌ بِكُلِّ حَالٍ ، وَتَسْتَأْنِفُ غَسْلَ الْفَرْجِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ جَائِزٌ ، وَيُعْتَبَرُ حَالُ النَّجَاسَةِ ، فَإِنْ ظَهَرَتْ إِلَى مَكَانٍ يَلْزَمُ تَطْهِيرُهُ ، وَأَمْكَنَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ حَدَثٍ فَوُضُوؤُهَا عَلَى صِحَّتِهِ . فَصْلٌ : وَالشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ وُضُوؤُهَا بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ الَّتِي تُرِيدُ أَنْ تَتَوَضَّأَ لَهَا فَإِنْ تَوَضَّأَتْ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ كَانَ وُضُوؤُهَا بَاطِلًا كَالْمُتَيَمِّمِ قَبْلَ الْوَقْتِ وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ
وُضُوءَهَا قَبْلَ الْوَقْتِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ فَإِذَا تَوَضَّأَتْ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ فَهَلْ يَلْزَمُهَا فِعْلُ الصَّلَاةِ عَلَى الْفَوْرِ فِي الْحَالِ أَمْ يَجُوزُ التَّرَاخِي المستحاضة فِيهَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ أَنَّهُ يَجُوزُ فِعْلُهَا عَلَى التَّرَاخِي مَا لَمْ يَخْرُجِ الْوَقْتُ : لِأَنَّ أَدَاءَ الصَّلَاةِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ كَأَدَائِهَا فِي أَوَّلِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا وَعَلَيْهَا الْمُبَادَرَةُ بِهَا عَلَى الْفَوْرِ بِحَسْبَ الْإِمْكَانِ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي : لِأَنَّ وُضُوءَ الْمُسْتَحَاضَةِ إِنَّمَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ الْمُتَقَدِّمَ عَلَيْهِ ، وَلَا يَرْفَعُ مَا قَارَنَهُ أَوْ تَأَخَّرَ عَنْهُ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُؤَخِّرَ الصَّلَاةَ مَعَ حَدَثِهَا إِلَّا بِحَسْبِ ضَرُورَتِهَا الَّتِي لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهَا ، وَفِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ أَنَّهُ يَجُوزُ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ انْتِظَارًا لِأَسْبَابِ كَمَالِهَا كَالْجَمَاعَةِ ، وَقَصْدِ الْبِقَاعِ الشَّرِيفَةِ ، وَارْتِيَادِ سُرَّةٍ تَسْتَقْبِلُهَا وَمَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى : لِأَنَّ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ لِهَذِهِ الْأَسْبَابِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ ، وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا لِغَيْرِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ : لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْدُوبٍ إِلَيْهِ . فَصْلٌ : فَإِذَا فَعَلَتْ مَا وَصَفْنَا مِنَ الطَّهَارَتَيْنِ فَجَرَى دَمُهَا مِنَ الشِّدَادِ وَظَهَرَ هل تبطل طهارة المستحاضة فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَجْرِيَ لِضَعْفِ الشِّدَادِ وَتَقْصِيرِهَا فِيهِ فَقَدْ بَطُلَتْ طَهَارَتُهَا وَصَلَاتُهَا إِنْ كَانَتْ فِي الصَّلَاةِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَجْرِيَ دَمُهَا لِغَلَبَتِهِ وَكَثْرَتِهِ مَعَ كَوْنِ الشِّدَادِ مُحْكَمًا ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ جَرَيَانُ الدَّمِ وَسَيَلَانُهُ فِي الصَّلَاةِ فَصَلَاتُهَا صَحِيحَةٌ وَتَيَمُّمُهَا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ حَيْثُ وَصَفَ لَهَا حَالَ الِاسْتِحَاضَةِ " صَلِّي وَلَوْ قُطِرَ الدَّمُ عَلَى الْحَصِيرِ " . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ جَرَيَانُ دَمِهَا فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ فَفِي بُطْلَانِ طَهَارَتِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا تَبْطُلُ وَهِيَ عَلَى حَالِ الصِّحَّةِ وَهَذَا ظَاهِرُ قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ إِذْ لَمْ يَجْعَلْ صَلَاةَ الِاسْتِحَاضَةِ عَلَى الْفَوْرِ مِنْ طَهَارَتِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ طَهَارَتَهَا قَدْ بَطُلَتْ كَمَا يَبْطُلُ التَّيَمُّمُ ، بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ قَبْلَ الصَّلَاةِ ، وَلَا يَبْطُلُ بِرُؤْيَتِهِ فِي الصَّلَاةِ ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ جَعَلَ صَلَاةَ الْمُسْتَحَاضَةِ عَلَى الْفَوْرِ مِنْ طَهَارَتِهَا ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ يَتَفَرَّعُ حُكْمُ مَنْ جَرَى دَمُهَا فِي الصَّلَاةِ فَأَرَادَتْ أَنْ تَتَنَفَّلَ بِتِلْكَ الطَّهَارَةِ بَعْدَ فَرَاغِهَا مِنَ الصَّلَاةِ ، فَإِنْ قِيلَ : بِبُطْلَانِ طَهَارَتِهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَتَنَفَّلَ بِتِلْكَ الطَّهَارَةِ إِلَّا بِطِهَارَةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ ، وَإِنْ قِيلَ بِصِحَّةِ طَهَارَتِهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ جَازَ أَنْ تَتَنَفَّلَ بَعْدَ تِلْكَ الصَّلَاةِ فِيمَا شَاءَتْ مِنْ صَلَاةٍ وَطَوَافٍ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا انْقَطَعَ دَمُ اسْتِحَاضَتِهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ انْقِطَاعُهُ لِارْتِفَاعِ الِاسْتِحَاضَةِ ، فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي صَلَاةٍ أَوْ غَيْرِ صَلَاةٍ ، فَإِنْ كَانَتْ فِي صَلَاةٍ فَفِي بُطْلَانِ صَلَاتِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ أَنَّ صَلَاتَهَا لَا تَبْطُلُ وَتَمْضِي فِيهَا ، وَإِنِ ارْتَفَعَتِ اسْتِحَاضَتُهَا كَالْمُتَيَمِّمِ لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ فِيهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ صَلَاتَهَا قَدْ بَطُلَتْ بِارْتِفَاعِ الِاسْتِحَاضَةِ : لِارْتِفَاعِ الضَّرُورَةِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمُتَيَمِّمِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُتَيَمِّمَ قَدْ أَتَى بِبَدَلِ الطَّهَارَةِ فَجَازَ أَنْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ بِالْبَدَلِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ ، وَالْمُسْتَحَاضَةُ لَمْ تَأْتِ بِبَدَلِ الطَّهَارَةِ مَعَ كَوْنِهَا مُحْدِثَةً فَلَمْ تَصِحَّ مِنْهَا الصَّلَاةُ وَالثَّانِي أَنَّ مَعَ حَدَثِ الْمُسْتَحَاضَةِ نَجَاسَةً لَا تَصِحُّ الصَّلَوَاتُ مَعَهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى إِزَالَتِهَا فَكَانَتْ أَغْلَظَ حَالًا مِنَ الْمُتَيَمِّمِ الَّذِي لَا نَجَاسَةَ عَلَيْهِ فَهَذَا حُكْمُ اسْتِحَاضَتِهَا إِذَا ارْتَفَعَتْ فِي الصَّلَاةِ فَأَمَّا إِنِ ارْتَفَعَتْ فِي غَيْرِ صَلَاةٍ فَهَذِهِ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ وَقْتُ الصَّلَاةِ مُتَّسِعًا لِلطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ فَلَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا أَنَّ طَهَارَتَهَا قَدْ بَطُلَتْ لِارْتِفَاعِ ضَرُورَتِهَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ وَقْتُ الصَّلَاةِ قَدْ ضَاقَ عَنْ فِعْلِ الطَّهَارَةِ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ إِلَّا قَدْرًا لِصَلَاةٍ فَفِي بُطْلَانِ طَهَارَتِهَا وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِهَا : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا بَاطِلَةٌ إِذَا قِيلَ : إِنَّ الصَّلَاةَ بِهَا بَاطِلَةٌ ، وَهَذَا أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا صَحِيحَةٌ لِصَلَاةِ وَقْتِهَا ، دُونَ مَا سِوَاهَا مِنْ فَرْضٍ وَنَفْلٍ ، إِذَا قِيلَ إِنَّ الصَّلَاةَ بِهَا لَا تَبْطُلُ ، وَهَذَا وَجْهٌ ضَعِيفٌ : لِأَنَّ التَّيَمُّمَ يَبْطُلُ بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ قَبْلَ الصَّلَاةِ ، وَإِنْ ضَاقَ وَقْتُهَا وَلَكِنْ ذُكِرَ فَذَكَرْتُهُ . فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي : فِي الْأَصْلِ ، أَنْ يَكُونَ انْقِطَاعُ ذَلِكَ لِرُؤْيَةِ الدَّمِ لَا لِارْتِفَاعِ الِاسْتِحَاضَةِ ، كَأَنَّهُ يَنْقَطِعُ سَاعَةً ثُمَّ يَجْرِي سَاعَةً فَإِنْ كَانَ قَدْ عُرِفَ بِالْعَادَةِ أَنَّهُ يَنْقَطِعُ ، وَيَعُودُ كَانَ وُضُوؤُهَا جَائِزًا وَإِنْ كَانَتْ فِي الصَّلَاةِ مَاضِيَةً وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ ذَلِكَ بِالْعَادَةِ فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي صَلَاةٍ أَوْ فَي غَيْرِ صَلَاةٍ فَإِنْ كَانَتْ فِي صَلَاةٍ فَصَلَاتُهَا بَاطِلَةٌ ، سَوَاءٌ عَاوَدَهَا الدَّمُ فِي الصَّلَاةِ فَصَارَ مُعْتَادًا أَمْ لَا : لِأَنَّهَا عِنْدَ انْقِطَاعِهِ شَاكَّةٌ فِي عَوْدِهِ ، فَلَمْ تَصِحَّ الصَّلَاةُ بِزَوَالِ الشَّكِّ بَعْدَ عَوْدِهِ كَالْمُصَلِّي إِذَا شَكَّ فِي طَهَارَتِهِ ثُمَّ تَيَقَّنَ صِحَّتَهَا قَبْلَ فَرَاغِهِ مِنْ صَلَاتِهِ كَانَتْ صَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ ، بِالشَّكِّ الْمُتَقَدِّمِ ، وَإِنْ تَعَقَّبَهُ يَقِينٌ طَارِئٌ ، وَإِنْ كَانَتْ فِي غَيْرِ صَلَاةٍ ، حُكِمَ فِي الظَّاهِرِ بِبُطْلَانِ وُضُوئِهَا ، فَإِنْ لَمْ يُعَاوِدْهَا الدَّمُ حَتَّى تَوَضَّأَتْ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ
الصَّلَاةِ ، اسْتَقَرَّ الْحُكْمُ ، وَإِنْ عَاوَدَهَا الدَّمُ قَبْلَ اسْتِئْنَافِ وُضُوئِهَا صَارَ عَادَةً فِيمَا بَعْدُ ، وَفِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ طَهَارَتِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلَةٌ لِلْحُكْمِ بِبُطْلَانِهَا بِالشَّكِّ الْمُتَقَدِّمِ كَالصَّلَاةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : صَحِيحَةٌ لِلْعَادَةِ الطَّارِئَةِ الَّتِي زَالَ بِهَا الشَّكُّ كَالْمُسَافِرِ إِذَا شَكَّ هَلْ بَدَأَ بِمَسْحِ مُسَافِرٍ جَازَ ، أَوْ مُقِيمٍ مَسَحَ مَسْحَ مُقِيمٍ ، فَلَوْ تَيَقَّنَ أَنَّهُ ابْتَدَأَ الْمَسْحَ مُسَافِرًا جَازَ لِزَوَالِ الشَّكِّ أَنْ يُبْنَى عَلَى مَسْحِ مُسَافِرٍ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ أَنَّ الصَّلَاةَ بَطُلَتْ بِالشَّكِّ لِأَنَّهُ لَا يَتَخَلَّلُهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا وَالْوُضُوءُ لَا يَبْطُلُ بِالشَّكِّ إِذَا ارْتَفَعَ ، لِأَنَّهُ قَدْ يَتَخَلَّلُهُ مَا لَيْسَ مِنْهُ .
الْقَوْلُ فِي دَمِ الْفَسَادِ
[ الْقَوْلُ فِي دَمِ الْفَسَادِ ] فَصْلٌ : فَأَمَّا ذَاتُ الْفَسَادِ وَهُوَ الدَّمُ الَّذِي لَيْسَ بِحَيْضٍ وَلَا اسْتِحَاضَةٍ أحكامها فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهَا فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ يَجْعَلُهَا كَـ " الِاسْتِحَاضَةِ " فِي الطَّهَارَةِ وَأَحْكَامِهَا . وَلَا يَكُونُ دَمُ الْفَسَادِ بِأَنْدَرَ مِنَ الْمَذْيِ الَّذِي يُسَاوِي حُكْمَ الْمُسْتَحَاضَةِ ، وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ يَجْعَلُ ذَلِكَ حَدَثًا كَسَائِرِ الْأَحْدَاثِ لَا يَجْمَعُ إِلَى الْفَرْضِ بَعْدَ ظُهُورِ الدَّمِ نَفْلًا ، لِأَنَّ دَمَ الْفَسَادِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَنْدَرَ مِنَ الْمَذْيِ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَذْيَ ، وَسَلَسَ الْبَوْلِ قَدْ يَدُومُ زَمَانًا إِذَا حَدَثَ بِصَاحِبِهِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ فِي حُكْمِ الِاسْتِحَاضَةِ الَّتِي قَدْ تَدُومُ بِهَا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ دَمُ الْفَسَادِ لِأَنَّهُ إِنْ دَامَ خَرَجَ عَنْ دَمِ الْفَسَادِ فَصَارَ حَيْضًا أَمِ اسْتِحَاضَةً . فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُبْتَلَى بِالْمَذْيِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ لِحُدُوثِ سَبَبٍ مِنْ لَمْسٍ ، أَوْ نَظَرٍ ، أَوْ تَحْرِيكِ شَهْوَةٍ فَهُوَ كَسَائِرِ الْأَحْدَاثِ فِي غُسْلِهِ وَوُجُوبِ الْوُضُوءِ مِنْهُ قَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ حِينَ أَمَرَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنْ يَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّضْحِ عَلَى فَرْجِهِ وَالْوُضُوءِ مِنْهُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَسْتَدِيمَ بِصَاحِبِهِ لَا مِنْ حُدُوثِ سَبَبٍ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمُسْتَحَاضَةِ فِي غَسْلِ فَرْجِهِ وَشَدِّهِ وَالْوُضُوءِ مِنْهُ لِكُلِّ فَرِيضَةٍ وَكَذَا مَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ أَوِ اسْتِطْلَاقُ الرِّيحِ الْمُسْتَدِيمُ . فَأَمَّا مِنِ اسْتَدَامَ بِهِ الْمَنِيُّ فَعَلَيْهِ أَنْ يَغْتَسِلَ مِنْهُ لِكُلِّ فَرِيضَةٍ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَقَلَّ مَنْ يَسْتَدِيمُ بِهِ الْمَنِيُّ ، لِأَنَّ مَعَهُ تَلَفَ النَّفْسِ " . فَأَمَّا مَنْ بِهِ جَرْحٌ يَسِيلُ دَمُهُ فَلَا يَرْقَأُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَغْسِلَهُ عِنْدَ كُلِّ فَرِيضَةٍ وَيَشُدَّهُ مُكْتَفِيًا بِهِ مِنْ غَيْرِ وُضُوءٍ لِأَنَّ خُرُوجَ الدَّمِ مِنَ الْجَسَدِ يُوجِبُ غَسْلَ مَحَلِّهِ مِنْ غَيْرِ وُضُوءٍ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
_____كِتَابُ الصَّلَاةِ_____
بَابُ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَالْأَذَانِ وَالْعُذْرِ فِيهِ
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَالْوَقْتُ لِلصَّلَاةِ وَقْتَانِ : وَقْتُ مَقَامٍ وَرَفَاهِيَةٍ ، وَوَقْتُ عُذْرٍ ، وَضَرُورَةٍ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : الْأَصْلُ فِي وُجُوبِ الصَّلَاةِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مَعًا ، انْعَقَدَ بِهِ إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَهَذَا أَمْرٌ بِمُدَاوَمَةِ فِعْلِهَا فِي أَوْقَاتِهَا ، وَقَالَ تَعَالَى : وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [ الْبَيِّنَةِ : ] ، فَالْحُنَفَاءُ : الْمُسْتَقِيمُونَ عَلَى دِينِهِمْ كَقَوْلِهِ : فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا [ الرُّومِ : ] ، فَأَمَرَ بِعِبَادَتِهِ بِالْإِخْلَاصِ مَشْرُوطًا بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَقَالَ تَعَالَى : فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ إِلَى قَوْلِهِ : فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [ التَّوْبَةِ : ] ، فَجَعَلَ إِقَامَةَ الصَّلَاةِ وَالْإِذْعَانَ بِإِيتَاءِ الزَّكَاةِ شَرْطًا فِي حَقْنِ دِمَائِهِمْ بَعْدَ التَّوْحِيدِ وَأَمَّا السُّنَّةُ : فَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ " بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ : شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ، وَصَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ ، وَحَجِّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ لَمَّا أَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ غَيْرَ خَزَايَا وَلَا نَدَامَى قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَأْتِيَكَ إِلَّا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ فَمُرْنَا بِأَمْرٍ فَصْلٍ نَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّة . فَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعَةٍ وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعَةٍ ؛ أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَقَالَ أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ ؟ قَالُوا : اللَهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . قَالَ : شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَصَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ وَأَنْ تُعْطُوا مِنَ الْمَغْنَمِ الْخُمْسَ فَكَانَ هَذَا قَبْلَ فَرْضِ الْحَجِّ
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ وُجُوبُ الصَّلَاةِ فَأَوَّلُ مَا فَرَضَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى نَبِيِّهِ قِيَامُ اللَّيْلِ بِقَوْلِهِ يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [ الْمُزَّمِّلِ : ] وَالْمُزَّمِّلُ : الْمُلْتَفُّ . وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ بِثِيَابِهِ مُتَأَهِّبٌ لِلصَّلَاةِ وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ وَالثَّانِي : يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ بِالنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَهَذَا قَوْلُ عِكْرِمَةَ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوًا مِنْ قِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ ، وَعَلِمَ بِهِ قَوْمٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، فَقَامُوا مَعَهُ حَتَّى انْتَفَخَتْ أَقْدَامُهُمْ ، وَشَقَّ عَلَيْهِمْ ، فَرَوَتْ عَائِشَةُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ كَالْمُغْضَبِ وَخَشِيَ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهِمْ قِيَامُ اللَّيْلِ فَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ اكْلَفُوا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَمَلُّ مِنَ الثَّوَابِ حَتَّى تَمَلُّوا مِنَ الْعَمَلِ ، وَخَيْرُ الْعَمَلِ مَا دِيمَ عَلَيْهِ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : نُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [ الْمُزَّمِّلِ : ] . قَالَ : وَكَانَ بَيْنَ أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا سَنَةٌ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَقِيلَ : إِنَّهُ نُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ [ الْإِسْرَاءِ : ] . فَلَمَّا نُسِخَ قِيَامُ اللَّيْلِ فَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ . وَذَلِكَ عَلَى مَا حَكَى فِي شَوَّالٍ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا فَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ ، عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ثَابِرَ الرَّأْسِ يُسْمَعُ دَوِيُّ صَوْتِهِ وَلَا يُفْهَمُ مَا يَقُولُ ، حَتَّى دَنَا ، فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الْإِسْلَامِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَيْلَةِ فَقَالَ : هَلْ عَلَيَّ غَيْرُ هَذَا ؟ فَقَالَ : لَا إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ وَرَوَى خَالِدُ بْنُ قَيْسٍ عَنْ قَتَادَةَ ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ : قَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، كَمِ افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ مِنَ الصَّلَوَاتِ . قَالَ : خَمْسُ صَلَوَاتٍ . قَالَ : هَلْ قَبْلَهُنَّ أَوْ بَعْدَهُنَّ شَيْءٌ ؟ قَالَ افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ صَلَوَاتٍ خَمْسًا . فَحَلَفَ الرَّجُلُ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِنَّ وَلَا يَنْقُصُ مِنْهُنَّ . فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنْ صَدَقَ دَخَلَ الْجَنَّةَ
وَرَوَى ابْنُ مُحَيْرِيزٍ عَنِ الْمَخْدَجِيِّ ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَهُ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ ، فَمَنْ أَتَى بِهِنَّ وَلَمْ يَنْقُصْ مِنْهُنَّ شَيْئًا فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لَهُ عَهْدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ بِمَا رُوِّينَا أَنَّ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ خَمْسٌ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ ، وَهُنَّ مُوَقَّتَاتٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [ النِّسَاءِ : ] ، ثُمَّ وَرَدَ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى بِذِكْرِ أَوْقَاتِهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَمِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ ، ثُمَّ جَاءَتِ السُّنَّةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَصْفِ أَوْقَاتِهَا عَلَى التَّحْدِيدِ ، فَأَمَّا مَا دَلَّ عَلَيْهِ كِتَابُ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ أَوْقَاتِهَا فَخَمْسُ آيَاتٍ : إِحْدَاهُنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى : فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ [ الرُّومِ : ] . فَعَبَّرَ عَنِ الصَّلَاةِ بِالتَّسْبِيحِ لِمَا يَتَضَمَّنُهَا مِنْهُ فَقَالَ تَعَالَى : فَسُبْحَانَ اللَّهِ أَيْ : صَلُّوا لِلَّهِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ [ الصَّافَّاتِ : ] أَيْ : مِنَ الْمُصَلِّينَ . وَقِيلَ : الْمُسْتَغْفِرِينَ وَقَالَ الْأَعْشَى فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَسَبِّحْ عَلَى حِينِ الْعَشِيَّاتِ وَالضُّحَى وَلَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ وَاللَّهَ فَاعْبُدَا وَقَوْلُهُ : حِينَ تُمْسُونَ يُرِيدُ بِهِ الْمَغْرِبَ ، وَالْعِشَاءَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ يُرِيدُ الصُّبْحَ ، وَعَشِيًّا - يَعْنِي - صَلَاةَ الْعَصْرِ ، وَحِينَ تُظْهِرُونَ - يَعْنِي - صَلَاةَ الظُّهْرِ فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ تَعَالَى : وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ [ ق : ] ، قَوْلُهُ : وَسَبِّحْ أَيْ : وَصَلِّ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ - يَعْنِي - صَلَاةَ الصُّبْحِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ الظَّهْرَ وَالْعَصْرَ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ - يَعْنِي - صَلَاةَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ الْآخِرَةِ " وَفِي أَدْبَارِ السُّجُودِ " تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمَا رَكْعَتَانِ بَعْدَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ
وَالثَّانِي : أَنَّهَا النَّوَافِلُ فِي أَدْبَارِ الْمَكْتُوبَاتِ ، وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ وَالْآيَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ تَعَالَى : وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ [ هُودٍ : ] أَمَّا الطَّرَفُ الْأَوَّلُ مِنَ النَّهَارِ ، فَالْمُرَادُ بِهِ : صَلَاةُ الصُّبْحِ وَأَمَّا الطَّرَفُ الثَّانِي : فَالْمُرَادُ بِهِ عَلَى مَا حَكَاهُ مُجَاهِدٌ : صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ رَوَى الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا صَلَاةُ الْمَغْرِبِ وَعِشَاءُ الْآخِرَةِ وَمَعْنَى الزُّلَفِ مِنَ اللَّيْلِ : السَّاعَاتُ الَّتِي يَقْرُبُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ ، كَمَا قَالَ الْعَجَّاجُ : طَيُّ اللَّيَالِي زُلَفًا وَزُلَفًا الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى : أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [ الْإِسْرَاءِ : ] ، أَمَّا دُلُوكُ الشَّمْسِ فَهُوَ مَيْلُهَا وَانْتِقَالُهَا ، وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ غُرُوبُهَا ، وَأَنَّهُ عَنَى صَلَاةَ الْمَغْرِبِ ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَابْنِ زَيْدٍ ، اسْتِشْهَادًا بِقَوْلِ الشَّاعِرِ : هَذَا مُقَامُ قَدَمَيْ رُبَاحٍ غَدْوَةً حَتَّى دَلَكَتْ بَرَاحُ يَعْنِي : حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ . وَالْبَرَاحُ : اسْمٌ لِلشَّمْسِ وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي : أَنَّ دُلُوكَ الشَّمْسِ زَوَالُهَا وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَأَبِي وَجْزَةَ ، وَالْحَسَنِ ، وَقَتَادَةَ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ لِرِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ عُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَتَانِي جِبْرِيلُ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ حِينَ زَالَتْ فَصَلَّى بِيَ الظُّهْرَ
وَأَمَّا غَسَقُ اللَّيْلِ فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : اجْتِمَاعُ اللَّيْلِ وَظُلْمَتُهُ . وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالثَّانِي : إِقْبَالُهُ وَدَبْرُهُ . وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ ، فَالْمُرَادُ بِهِ عَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ صَلَاةُ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ ، وَعَلَى التَّأْوِيلِ الثَّانِي صَلَاةُ الْمَغْرِبِ قُلْنَا : قَوْلُهُ تَعَالَى : وَقُرْآنَ الْفَجْرِ [ الْإِسْرَاءِ : ] . فَيُرِيدُ بِهِ صَلَاةَ الْفَجْرِ ، وَسَمَّاهَا ( قُرْآنَ الْفَجْرِ ) لِمَا يَتَضَمَّنُهَا مِنَ الْقِرَاءَةِ ، إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا . فَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ : يَشْهَدُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ . وَهَذَا دَلِيلٌ ، وَزَعَمَ أَنَّ صَلَاةَ الصُّبْحِ لَيْسَتْ مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ وَلَا مِنْ صَلَاةِ النَّهَارِ وَأَمَّا الْآيَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ تَعَالَى : حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [ الْبَقَرَةِ : ] ، فَهَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ لَمْ تَدُلَّ عَلَى مَوَاقِيتِ الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا ، فَفِيهَا حَثٌّ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا بِأَدَائِهَا فِي أَوْقَاتِهَا ، وَذَكَرَ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى الَّتِي هِيَ أَوْكَدُ الصَّلَوَاتِ ، وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا عَلَى خَمْسَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : أَنَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى هِيَ صَلَاةُ الصُّبْحِ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَجَابِرٍ ، وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ لِقَوْلِهِ : وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ . وَأَنَّ الْقُنُوتَ فِي الصُّبْحِ : وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ لَا تُجْمَعُ إِلَى غَيْرِهَا فِي سَفَرٍ وَلَا مَطَرٍ لِتَأَكُّدِهَا عَنْ غَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ : وَلِأَنَّهُ يَجْتَمِعُ فِيهَا ظُلْمَةُ اللَّيْلِ وَضَوْءُ النَّهَارِ ، وَتَشْهَدُهَا مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : أَنَّهَا صَلَاةُ الظُّهْرِ ، وَهُوَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، قَالَ أَبُو عَمْرٍو : هِيَ الَّتِي تَوَجَّهَ مِنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْقِبْلَةِ ، وَرَوَى عُرْوَةُ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ ، وَلَمْ تَكُنْ صَلَاةٌ أَشَدَّ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا . قَالَ : فَنَزَلَتْ : حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى . وَقَالَ : إِنَّ قَبْلَهَا صَلَاةٌ وَبَعْدَهَا صَلَاةٌ وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : أَنَّهَا صَلَاةُ الْعَصْرِ ، وَهُوَ قَوْلُ عَلَيٍّ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، وَأَبِي أَيُّوبَ ، وَعَائِشَةَ ، وَأُمِّ سَلَمَةَ ، وَحَفْصَةَ ، وَأُمِّ حَبِيبَةَ ، وَجُمْهُورِ التَّابِعِينَ لِرِوَايَةِ عُبَيْدَةَ السَّلْمَانِيِّ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ : لَمْ يُصَلِّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَصْرَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ
إِلَّا بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ . قَالَ : مَا لَهُمْ مَلَأَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَرَوَى ابْنُ رَافِعٍ عَنْ حَفْصَةَ ، أَنَّهَا قَالَتْ لِكَاتِبِ مُصْحَفِهَا : إِذَا بَلَغْتَ إِلَى مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ ، فَأَخْبِرْنِي . فَلَمَّا أَخْبَرَهَا ، قَالَتْ : اكْتُبْ ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى " وَهِيَ صَلَاةُ الْعَصْرِ وَرَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةُ الْوُسْطَى صَلَاةُ الْعَصْرِ وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ : أَنَّهَا صَلَاةُ الْمَغْرِبِ . وَهُوَ قَوْلُ قَبِيصَةَ : لِأَنَّهَا وَسَطُ الْعَدَدِ ، لَيْسَتْ بِأَقَلِّهَا وَلَا بِأَكْثَرِهَا ، وَلَا تُقْصَرُ فِي السَّفَرِ ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَجْعَلْ لَهَا إِلَّا وَقْتًا وَاحِدًا لَا تَتَقَدَّمُ إِلَيْهِ وَلَا تَتَأَخَّرُ عَنْهُ وَالْمَذْهَبُ الْخَامِسُ : أَنَّهَا إِحْدَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ ، وَلَا تُعْرَفُ بِعَيْنِهَا . وَهُوَ قَوْلُ نَافِعٍ ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ، وَالرَّبِيعِ بْنِ خَيْثَمٍ ، لِأَنَّ إِبْهَامَهَا وَتَرْكَ تَعْيِينِهَا أَحَبُّ عَلَى الْمُبَادَرَةِ لِجَمِيعِهَا ، وَأَبْعَثُ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى سَائِرِهَا ، فَكَانَ أَوْلَى مِنَ التَّعْيِينِ الْمُفْضِي إِلَى إِهْمَالِ مَا سِوَاهَا ، فَهَذِهِ مَذَاهِبُ النَّاسِ فِي الصَّلَاةِ الْوُسْطَى عَلَى اخْتِلَافِهَا ، فَأَمَّا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، فَالَّذِي يَصِحُّ عَلَيْهِ أَنَّهَا صَلَاةُ الصُّبْحِ اسْتِدْلَالًا ، لَكِنْ مَهْمَا قُلْتُ قَوْلًا فَخَالَفْتُ فِيهِ خَبَرًا ، فَأَنَا أَوَّلُ رَاجِعٍ عَنْهُ ، وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَخْبَارُ نَقْلًا صَحِيحًا : بِأَنَّهَا صَلَاةُ الْعَصْرِ ، فَصَارَ مَذْهَبُهُ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي مَهَّدَهُ ، أَنَّهَا صَلَاةُ الْعَصْرِ دُونَ مَا نَصَّ عَلَيْهِ مِنَ الصُّبْحِ ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا وَهِمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا ، فَهَذَا مَا وَرَدَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَذِكْرِ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ ، فَأَمَّا مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِنْ تَحْدِيدِ أَوْقَاتِهَا أَوَّلًا وَآخِرًا وَاخْتِيَارًا وَجَوَازًا وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي سَلَمَةَ ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ حَكِيمٍ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنْ جَبْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَمَّنِي جِبْرِيلُ عِنْدَ بَابِ الْكَعْبَةِ مَرَّتَيْنِ : فَصَلَّى الظُّهْرَ حِينَ كَانَ الظِّلُ مِثْلَ الشِّرَاكِ ، ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ بِقَدْرِ ظِلِّهِ ، ثَمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ حِينَ أَفْطَرَ الصَائِمُ ، ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ ، ثُمَ صَلَّى الصُّبْحَ حِينَ حَرُمَ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ عَلَى الصَّائِمِ ، ثُمَّ صَلَّى الْمَرَّةَ الْآخِرَةَ الظُّهْرَ حِينَ كَانَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ قَدْرَ ظِلِّهِ دُونَ الْعَصْرِ بِالْأَمْسِ الْأَوَّلِ لَمْ يُؤَخِّرْهَا ، ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ حِينَ ذَهَبَ ثُلُثَا اللَّيْلِ ، ثُمَّ صَلَى الصُّبْحَ حِينَ أَسْفَرَ ، ثُمَّ الْتَفَتَ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، هَذَا وَقْتُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِكَ وَالْوَقْتُ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ فَدَلَّتْ هَذِهِ السُّنَّةُ عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ مِنْ تَحْدِيدِ الْأَوْقَاتِ
فَصْلٌ : وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَغَيْرُهَا مِنَ الْآيِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا ذِكْرُ الصَّلَاةِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جُمْلَةِ الْعُلَمَاءِ : هَلْ ذَلِكَ مِنَ الْمُجْمَلِ الَّذِي لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ إِلَّا بِالْبَيَانِ ؟ أَوْ هُوَ ظَاهِرٌ مَعْقُولُ الْمَعْنَى ؟ قِيلَ : وُرُودُ الْبَيَانِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مِنَ الْمُجْمَلِ الْمُفْتَقِرِ إِلَى الْبَيَانِ فِي مَعْرِفَةِ الْمُرَادِ بِهِ ، لِأَنَّ مُجَرَّدَ اللَّفْظِ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ، وَالْبَيَانُ لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ وَالْوَجْهُ الثَّانِي : إِنَّ لِهَذَا اللَّفْظِ ظَاهِرًا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ مَا لَمْ يَرِدِ الْبَيَانُ بِالْعُدُولِ عَنْهُ ، أَوْ بِاسْتِعْمَالِ شُرُوطٍ فِيهِ : لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ تَحَدَّى اللَّهُ بِهِ الْعَرَبَ ، فَلَوْ كَانَ فِيهِ مَا لَيْسَ بِمَعْقُولِ الْمَعْنَى لَأَنْكَرُوهُ ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الِاسْمِ : هَلْ جَاءَ بِهِ الشَّرْعُ كَمَا جَاءَ بِبَيَانِ الْحُكْمِ أَوْ كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ أَهْلِ اللِّسَانِ ، وَالشَّرْعُ الْمُخْتَصُّ بِبَيَانِ الْأَحْكَامِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْدَثَ الْأَسْمَاءَ شَرْعًا ، كَمَا بَيَّنَ الْأَحْكَامَ شَرْعًا ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَرِدَ الشَّرْعُ بِمَا لَمْ يَكُنْ عِبَادَةً مِنْ قَبْلُ افْتَقَرَ مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ إِلَى أَسْمَاءٍ مُسْتَحْدَثَةٍ بِالشَّرْعِ ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ اسْمَ الصَّلَاةِ مُجْمَلٌ ، فَجَعَلَهُ مُسْتَحْدَثًا بِالشَّرْعِ ، لِأَنَّ الْعَرَبَ لَمْ تَكُنْ تَعْرِفُهُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : أَنَّ الشَّرْعَ مُخْتَصٌّ بِوُرُودِ الْأَحْكَامِ ، فَأَمَّا الْأَسْمَاءُ فَمَأْخُوذَةٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَاللِّسَانِ : لِأَنَّ الْأَسْمَاءَ لَوْ رُدَّتْ شَرْعًا لَصَارُوا مُخَاطَبِينَ بِمَا لَيْسَ مِنْ لُغَتِهِمْ ، وَلَخَرَجَ
الْقُرْآنُ كُلُّهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً [ الْأَنْفَالِ : ] . فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ وَيَعْتَقِدُونَهَا عِبَادَةً وَإِنْ كَانَتْ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً وَالْمُكَاءُ : الصَّفِيرُ ، وَفِي التَّصْدِيَةِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : التَّصْفِيقُ ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالثَّانِي : الصَّدُّ عَنِ الْبَيْتِ ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَابْنِ زَيْدٍ ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ اسْمَ الصَّلَاةِ ظَاهِرٌ وَلَيْسَ بِمُجْمَلٍ الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَكَافَّةِ أَهْلِ اللُّغَةِ ، أَنَّهَا أَسْمَاءٌ قَدْ كَانَ لَهَا فِي اللِّسَانِ حَقِيقَةٌ ، وَمَجَازٌ فَكَانَ حَقِيقَتُهَا مَا نَقَلَهَا الشَّرْعُ عَنْهُ ، وَمَجَازُهَا مَا قَرَّرَهَا الشَّرْعُ عَلَيْهِ لِوُجُودِ مَعْنًى مِنْ مَعَانِي الْحَقِيقَةِ فِيهَا ، فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفُوا فِي الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ سُمِّيَتِ الصَّلَاةُ الشَّرْعِيَّةُ صَلَاةً عَلَى سِتَّةِ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ أَشْهَرُهَا أَنَّهَا سُمِّيَتْ صَلَاةً لِمَا يَتَضَمَّنُهَا مِنَ الدُّعَاءِ ، وَالَّذِي هُوَ مُسَمًّى فِي اللُّغَةِ صَلَاةً ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [ التَّوْبَةِ : ] . أَيِ ادْعُ لَهُمْ ، وَقَالَ الْأَعْشَى : تَقُولُ بِنْتِي وَقَدْ قَرَّبَتْ مُرْتَجَلًا يَا رَبِّ جَنِّبْ أَبِي الْأَوْصَابَ وَالْوَجَعَا عَلَيْكِ مِثْلُ الَّذِي صَلَّيْتُ فَاغْتَمِضِي يَوْمًا فَإِنَّ لِجَنْبِ الْمَرْءِ مُضْطَجَعَا وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهَا سُمِّيَتْ صَلَاةً لِمَا يَعُودُ عَلَى فَاعِلِهَا مِنَ الْبَرَكَةِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ ، وَالْبَرَكَةُ تُسَمَّى صَلَاةً . قَالَ الشَّاعِرُ : وَصَهْبَاءُ طَافَ يَهُودِيُّهَا وَأَبْرَزَهَا وَعَلَيْهَا خُتُمْ وَقَابَلَهَا الرِّيحُ فِي دَنِّهَا وَصَلَّى عَلَى دَنِّهَا وَارْتَسَمْ يَعْنِي : أَنَّهُ دَعَا لَهَا بِالْبَرَكَةِ وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّهَا سُمِّيَتْ صَلَاةً لِأَنَّهَا تَقْضِي إِلَى الْمَغْفِرَةِ الَّتِي هِيَ مَقْصُودُ الصَّلَاةِ ، وَمَقْصُودُ الشَّيْءِ أَحَقُّ بِإِطْلَاقِ اسْمِهِ عَلَيْهِ مِمَّا لَيْسَ مَقْصُودًا فِيهِ ، وَالْمَغْفِرَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ يُسَمَّى صَلَاةً . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ [ الْبَقَرَةِ : ] . يُرِيدُ بِصَلَوَاتِ اللَّهِ : الْمَغْفِرَةَ ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ بَعْدَهَا الرَّحْمَةَ . قَالَ الشَّاعِرُ : صَلَّى عَلَى يَحْيَى وَأَشْيَاعِهِ رَبٌّ كَرِيمٌ وَشَفِيعٌ مُطَاعٌ
وَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ الصَّلَاةُ اسْتِغْفَارًا . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ يَعْنِي : الْمُصَلِّينَ وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ : أَنَّهَا سُمِّيَتْ صَلَاةً ، لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ إِذَا قَامَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الصَّلَاةِ ، فَأَصَابَهُ مِنْ خَشْيَتِهِ وَمُرَاقَبَتِهِ مَا يَلِينُ وَيَسْتَقِيمُ اعْوِجَاجُهُ ، مَأْخُوذٌ مِنَ التَّصْلِيَةِ ، يُقَالُ : صَلَّيْتُ الْعُودَ . إِذَا لَيَّنْتُهُ بِالنَّارِ فَيَسْهُلُ تَقْوِيمُهُ مِنَ الِاعْوِجَاجِ : قَالَ الشَّاعِرُ : وَلَكِنَّمَا صَلَّوْا عَصَا خَيْزُرَانَةٍ إِذَا مَسَّهَا عَضُّ الثِّقَافِ تَلِينُ وَالْقَوْلُ الْخَامِسُ : أَنَّهَا سُمِّيَتْ صَلَاةً ، لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ يَتْبَعُ فِعْلَ مَنْ تَقَدَّمَهُ ، فَجِبْرِيلُ أَوَّلُ مَنْ تَقَدَّمَ بِفِعْلِهَا ، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَابِعًا لَهُ مُصَلِّيًا ، ثُمَّ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ قَالَ الشَّاعِرُ : أَنْتَ الْمُصَلِّي وَأَبُوكَ السَّابِقُ الْقَوْلُ السَّادِسُ : أَنَّهَا سُمِّيَتْ صَلَاةً وَفَاعِلُهَا مُصَلِّيًا ، لِأَنَّ رَأْسَ الْمَأْمُومِ عِنْدَ صَلَوَى إِمَامِهِ ، وَالصَّلَوَانِ عَظْمَانِ عَنْ يَمِينِ الذَّنَبِ وَيَسَارِهِ فِي مَوْضِعِ الرِّدْفِ . قَالَ الشَّاعِرُ : تَرَكْتُ الرُّمْحَ يَعْمَلُ فِي صَلَاهُ وَيُكْبَوْا لِلتَرَائِبِ وَالْجَبِينِ
فَصْلٌ في قول الشافعي وَالْوَقْتُ لِلصَّلَاةِ وَقْتَانِ وَقْتُ مَقَامٍ وَرَفَاهِيَةٍ وَوَقْتُ عُذْرٍ وَضَرُورَةٍ
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَالْوَقْتُ لِلصَّلَاةِ وَقْتَانِ : وَقْتُ مَقَامٍ وَرَفَاهِيَةٍ ، وَوَقْتُ عُذْرٍ وَضَرُورَةٍ " . فَقَسَمَ الشَّافِعِيُّ أَوْقَاتَ الصَّلَاةِ قِسْمَيْنِ : قِسْمًا جَعَلَهُ وَقْتًا لِلْمُقِيمِينَ الْمُتَرَفِّهِينَ ، وَقِسْمًا جَعَلَهُ وَقْتًا لِلْمَعْذُورِينَ وَالْمُضْطَرِّينَ . فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْمُقِيمِينَ الْمُتَرَفِّهِينَ ، هَلْ هُمْ صِنْفٌ وَاحِدٌ ؟ وَفِي الْمَعْذُورِينَ الْمُضْطَرِّينَ هَلْ هُمْ أَيْضًا صِنْفٌ وَاحِدٌ ؟ فَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ وَقْتَ الْمَقَامِ هُوَ أَوَّلُ الْوَقْتِ لِلْمُقِيمِينَ الَّذِينَ لَا يَتَرَفَّهُونَ ، وَوَقْتَ الرَّفَاهِيَةِ هُوَ آخِرُ الْوَقْتِ لِلْمُقِيمِينَ الَّذِينَ لَا يَتَرَفَّهُونَ الْمُرَفَّهِينَ بِتَأْخِيرِ الصَّلَاةِ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ ، وَأَنَّ الْمَعْذُورِينَ هُمُ الْمُسَافِرُونَ وَالْمُضْطَرُّونَ فِي تَأْخِيرِ الصَّلَوَاتِ لِلْجَمْعِ ، وَأَنَّ الْمُضْطَرِّينَ هُمْ مَنْ ذَكَرَهُمُ الشَّافِعِيُّ : مِنَ الْمَجْنُونِ إِذَا أَفَاقَ ، وَالْحَائِضِ إِذَا طَهُرَتْ ، وَالصَّبِيِّ إِذَا بَلَغَ ، وَالْكَافِرِ إِذَا أَسْلَمَ ، فَجَعَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْقِسْمَيْنِ مُنَوَّعًا نَوْعَيْنِ لِصِنْفَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ : اسْتِشْهَادًا بِأَنَّ اخْتِلَافَ الْأَسْمَاءِ تَدُلُّ عَلَى اخْتِلَافِ الْمُسَمَّى وَمَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ ، وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِنَا : بِأَنَّ الْمُقِيمِينَ الْمُرَفَّهِينَ صِنْفٌ وَاحِدٌ وَهُمْ : مَنْ صَلَّى مَا بَيْنَ أَوَّلِ الْوَقْتِ وَآخِرِهِ ، وَأَنَّ الْمَعْذُورِينَ الْمُضْطَرِّينَ صِنْفٌ وَاحِدٌ هُمُ : الَّذِينَ يَلْزَمُهُمْ فَرْضُ الصَّلَاةِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ كَالْحَائِضِ إِذَا طَهُرَتْ ، وَالْمَجْنُونِ إِذَا أَفَاقَ ، وَالصَّبِيِّ إِذَا بَلَغَ ، وَالْكَافِرِ إِذَا أَسْلَمَ ، وَلَمْ يُرِدْ بِالْمَعْذُورِ الْمُسَافِرَ ، وَالْمَمْطُورَ ، لِأَنَّ وَقْتَ الْجَمْعِ وَقْتٌ لِصَلَاتَيِ الْجَمْعِ . وَقَدْ ذَكَرَهُ مِنْ بَعْدُ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ معرفة وقت الزوال
فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ فَهُوَ أَوَّلُ وَقْتِ الظُّهْرِ وَالْأَذَانِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الظُّهْرُ فَهِيَ أَوَّلُ الصَّلَوَاتِ ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ الْأُولَى ، وَفِي تَسْمِيَتِهَا بِالظُّهْرِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : سُمِّيَتْ بِذَلِكَ ، لِأَنَّهَا أَوَّلُ صَلَاةٍ ظَهَرَتْ حِينَ صَلَّاهَا جِبْرِيلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهَا حُوِّلَتِ الْقِبْلَةُ إِلَى الْكَعْبَةِ وَالثَّانِي : أَنَّهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ ، لِأَنَّهَا تُفْعَلُ عِنْدَ قِيَامِ الظَّهِيرَةِ ، وَأَوَّلُ وَقْتِهَا إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ ، وَلَيْسَ مَا قَبْلَ الزَّوَالِ وَقْتًا لَهَا ، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ تَقْدِيمَ الظُّهْرِ قَبْلَ الزَّوَالِ جَائِزٌ . وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَجُوزُ فِعْلُهَا إِلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ بِقَدْرِ الذِّرَاعِ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مَدْخُولٌ . وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَصَحُّ لِرِوَايَةِ بَشِيرِ بْنِ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ " سَمِعْتُ أَبَا مَسْعُودٍ يَقُولُ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الظُّهْرَ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ " . وَهَذَا مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى : أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ أَنَّهُ زَوَالُهَا ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْوَقْتِ يَسِيرَ الزَّمَانِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، لَجَازَ لِكَثِيرِهِ ، وَلَجَازَ فِي غَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ وَلَوْ لَزِمَ تَأْخِيرُهَا عَنِ الْوَقْتِ بِذِرَاعٍ ، كَمَا قَالَ مَالِكٌ لَجَازَ بِأَذْرُعٍ وَلَجَازَ فِي غَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ
فَصْلٌ : فَأَمَّا الزَّوَالُ فَهُوَ ابْتِدَاءُ هُبُوطِ الشَّمْسِ بَعْدَ انْتِهَاءِ انْدِفَاعِهَا وَمَعْرِفَتُهُ تَكُونُ بِأَنْ يَزِيدَ الظِّلُّ بَعْدَ تَنَاهِي مَقَرِّهِ : لِأَنَّ الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ كَانَ ظِلُّ الشَّخْصِ طَوِيلًا فَكُلَّمَا ارْتَفَعَتْ قَصُرَ ظِلُّ الشَّخْصِ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى وَسَطِ الْفُلْكِ ، فَيَصِيرُ الظِّلُّ يَسِيرًا لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ ، ثُمَّ إِنَّ الشَّمْسَ تَمِيلُ نَحْوَ الْمَغْرِبِ هَابِطَةً ، فَإِذَا ابْتَدَأَتْ بِالْهُبُوطِ ابْتَدَأَ الظِّلُّ بِالزِّيَادَةِ ، فَأَوَّلُ مَا يَبْتَدِئُ الظِّلُّ بِالزِّيَادَةِ فَهُوَ حِينَئِذٍ زَوَالُ الشَّمْسِ وَقَالَ الشَّاعِرُ : هِيَ شَمْسُ الضُّحَى إِذَا انْتَقَلَتْ بَعْدَ سَيْرٍ فَلَيْسَ غَيْرُ الزَّوَالِ وَأَعْلَمُ : أَنَّ ظِلَّ الزَّوَالِ قَدْ يَخْتَلِفُ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ ، وَيَتَغَيَّرُ بِحَسَبِ تَنَقُّلِ الْأَزْمَانِ ، فَيَكُونُ ظِلُّ الزَّوَالِ فِي الْبَلَدِ الْمُحَاذِي لِقِبْلَةِ الْفَلَكِ أَقْصَرَ مِنْهُ فِي غَيْرِهِ ، لِأَنَّ الشَّمْسَ فِيهِ قَدْ تَسَامَتِ الشَّخْصَ ، حَتَّى قِيلَ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَبْقَى لِلشَّخْصِ فِي مَكَّةَ ظِلٌّ وَقْتَ الزَّوَالِ فِي أَطْوَلِ يَوْمٍ فِي السَّنَةِ ، وَهُوَ الْيَوْمُ السَّابِعُ مِنْ حُزَيْرَانَ ، ثُمَّ يَكُونُ ظِلُّ الزَّوَالِ فِي الصَّيْفِ أَقَلَّ مِنْهُ فِي الشِّتَاءِ ، لِأَنَّ الشَّمْسَ فِي الصَّيْفِ تَعْتَرِضُ وَسَطَ الْفَلَكِ وَيَكُونُ زَوَالُهَا فِي وَسَطِهِ فَيَكُونُ الظِّلُّ أَقْصَرَ . وَفِي الشِّتَاءِ تَعْتَرِضُ جَانِبَ الْفَلَكِ ، فَيَكُونُ زَوَالُهَا فِي جَانِبِهِ ، فَيَكُونُ الْفَلَكُ أَطْوَلَ ، وَلِلشَّمْسِ عِنْدَ الزَّوَالِ كَالْوَقْفَةِ لِإِبْطَاءِ سَيْرِهَا فِي وَسَطِ الْفَلَكِ قَالَ الشَّاعِرُ :
فَعُدْ بَعْدَ تَفْرِيقٍ وَقَدْ وَقَفَتْ شَمْسُ النَّهَارِ وَلَاذَ الظِّلُّ بِالْعُودِ
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الزَّوَالَ مُعْتَبَرٌ بِمَا وَصَفْنَا فَالنَّاسُ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : بَصِيرٌ قَادِرٌ عَلَى الْوُصُولِ إِلَى عِلْمِ الزَّوَالِ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَوَصَّلَ إِلَى عِلْمِ الزَّوَالِ بِنَفْسِهِ ، وَلَا يَسَعُهُ أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ ، لِأَنَّهُ مِمَّا يَسْتَوِي الْبُصَرَاءُ فِيهِ فَلَمْ يَسَعْ بَعْضَهُمْ تَقْلِيدُ بَعْضٍ ، كَالْقِبْلَةِ فَإِنْ كَانَ غَيْمًا رَاعَى الشَّمْسَ مُحْتَاطًا ، فَإِنْ بَدَا لَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى زَوَالِهَا وَإِلَّا تَأَخَّى مُرُورَ الزَّمَانِ حَتَّى يَتَيَقَّنَ دُخُولَ الْوَقْتِ ، ثُمَّ يُصَلِّيَ ، فَلَوْ سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ لَمْ يَسَعْهُ تَقْلِيدُهُ حَتَّى يَعْلَمَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُونَ عَدَدًا فِي جِهَاتٍ شَتَّى لَا يَجُوزُ عَلَى مِثْلِهِمُ الْغَلَطُ وَالتَّوَاطُؤُ ، فَهَذَا مِمَّا يَقَعُ بِهِ الْعِلْمُ ، فَيَجُوزُ لَهُ قَبُولُهُمْ فِي دُخُولِ الْوَقْتِ ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْمُؤَذِّنِ فِي الْوَقْتِ إِذَا كَانَتِ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً ، وَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ إِذَا كَانَتِ السَّمَاءُ مُغَيِّمَةً ، قَالَ : لِأَنَّهُ فِي الصَّحْوِ يُخْبِرُ عَنْ نَظَرٍ ، وَفِي الْغَيْمِ يُخْبِرُ عَنِ اجْتِهَادٍ وَيَسْتَوِي فِيهِ الْمُخْبِرُ وَالْمُخْبَرُ . وَالْأَوَّلُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ : لِمَا اسْتَشْهَدْنَا بِهِ مِنْ حَالِ الْقِبْلَةِ ، فَلَوْ خَفِيَ عَلَيْهِ الزَّوَالُ فَاجْتَهَدَ وَصَلَّى ، ثُمَّ بَانَ لَهُ مُصَادَفَةُ الْوَقْتِ أَوْ مَا بَعْدَهُ أَجْزَأَهُ إِمَّا مُؤَدِّيًا فِي الْوَقْتِ ، أَوْ قَاضِيًا بَعْدَ الْوَقْتِ ، وَإِنْ بَانَ لَهُ تَقَدُّمُهُ عَلَى الْوَقْتِ لَمْ يُجْزِهِ وَأَعَادَ فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ مَنْ بَانَ لَهُ يَقِينُ الْخَطَأِ فِي الْقِبْلَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِعَادَةُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَهَلَّا كَانَ الْخَاطِئُ فِي الْوَقْتِ مِثْلَهُ ؟ قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْوُصُولَ إِلَى يَقِينِ الْوَقْتِ مُمْكِنٌ بِالصَّبْرِ إِلَى يَقِينِ دُخُولِ الْوَقْتِ ، وَتَبَيُّنُ الْقِبْلَةِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِالْمَصِيرِ إِلَيْهَا ، فَالْمَصِيرُ إِلَى نَفْسِ الْقِبْلَةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ وَالثَّانِي : أَنَّ الْخَاطِئَ فِي الْوَقْتِ فَاعِلٌ لِلصَّلَاةِ قَبْلَ وُجُوبِهَا فَلَمْ يُجْزِهِ ، وَالْخَاطِئَ فِي الْقِبْلَةِ فَاعِلٌ لَهَا بَعْدَ وُجُوبِهَا فَأَجْزَأَهُ ، وَلَوْ لَمْ يَبِنْ لَهُ بَعْدَ الِاجْتِهَادِ صَوَابٌ وَلَا خَطَأٌ أَجْزَأَهُ ، وَلَكِنْ لَوِ ابْتَدَأَ بِالصَّلَاةِ شَاكًّا فِي زَوَالِ الشَّمْسِ لَمْ يُجْزِهِ ، وَإِنْ بَانَ لَهُ بَعْدَ زَوَالِهَا ، لِأَنَّ أَدَاءَ الصَّلَاةِ بِالشَّكِّ غَيْرُ مُجْزِئٍ فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ لَوْ أَفْطَرَ شَاكًّا فِي غُرُوبِ الشَّمْسِ ثُمَّ بَانَ لَهُ غُرُوبُهَا أَجْزَأَهُ ، فَهَلَّا كَانَ إِذَا صَلَّى شَاكًّا فِي زَوَالِ الشَّمْسِ ثُمَّ بَانَ لَهُ زَوَالُهَا أَجْزَاهُ ؟ قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الصَّائِمَ يَكُونُ مُفْطِرًا بِغُرُوبِ الشَّمْسِ ، وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْ ، وَلَا يَكُونُ مُصَلِّيًا بِدُخُولِ الْوَقْتِ حَتَّى يُصَلِّيَ وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ ضَرِيرًا ، أَوْ مَحْبُوسًا لَا يَقْدِرُ عَلَى مَعْرِفَةِ الزَّوَالِ بِنَفْسِهِ ، فَهَذَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ فِي دُخُولِ الْوَقْتِ غَيْرَهُ مِنَ الْبُصَرَاءِ الثِّقَاتِ وَاحْتَرَزَ مَعَ قَوْلِهِ : دُخُولُ الْوَقْتِ ،
كَمَا يَجُوزُ لَهُ إِنْ كَانَ ضَرِيرًا أَنْ يُقَلِّدَ فِي الْقِبْلَةِ بَصِيرًا ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ بَصِيرًا يُقَلِّدُهُ فِي الْوَقْتِ فَاجْتَهَدَ لِنَفْسِهِ وَصَلَّى ، أَجْزَأَهُ إِذَا لَمْ يَبِنْ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ التَّقَدُّمُ عَلَى الْوَقْتِ ، فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ الضَّرِيرُ إِذَا عَدِمَ بَصِيرًا يُقَلِّدُ فِي الْقِبْلَةِ فَصَلَّى بِاجْتِهَادِ نَفْسِهِ لَمْ يُجْزِهِ وَإِنْ أَصَابَ ، فَهَلَّا إِذَا اجْتَهَدَ لِنَفْسِهِ فِي الْوَقْتِ أَنْ لَا يُجْزِئَهُ وَإِنْ أَصَابَ ؟ قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنْ تَعَيُّنَ الْوَقْتِ مَعْلُومٌ بِمُرُورِ الزَّمَانِ فَأَجْزَأَهُ لِاسْتِوَاءِ الْبَصِيرِ وَالضَّرِيرِ فِيهِ ، وَالْقِبْلَةُ مُدْرِكَةٌ بِحَاسَةَ الْبَصَرِ فَلَمْ يُجْزِهِ لِاخْتِلَافِ الضَّرِيرِ وَالْبَصِيرِ فِيهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " ثُمَّ لَا يَزَالُ وَقْتُ الظُّهْرِ قَائِمًا حَتَّى يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى أَوَّلُ وَقْتِ الظُّهْرِ ، فَأَمَّا آخِرُ وَقْتِهَا صلاة الظهر فَهُوَ أَنْ يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ سِوَى مَا بَانَ بِهِ الزَّوَالُ مِنْ ظِلِّ الشَّخْصِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ عَنْهُ : " أَنَّ وَقْتَ الظُّهْرِ مُمْتَدٌ إِلَى أَنْ يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ " . وَحَكَى عَنْهُ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ اللُّؤْلُؤِيُّ مِثْلَ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ ، وَحَكَى عَنْ طَاوُسٍ وَمَالِكٍ . فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْهُ : " أَنَّ وَقْتَ الظُّهْرِ مُمْتَدُّ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ : أَوَّلُ وَقْتِ الْعَصْرِ مُشْتَرَكٌ مَعَ آخِرِ وَقْتِ الظُّهْرِ ، وَحَكَى نَحْوَهُ عَنِ الْمُزَنِيِّ اسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى : أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ [ الْإِسْرَاءِ : ] وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِالْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ فَدَلَّ عَلَى اشْتِرَاكِ وَقْتِهِمَا ، قَالُوا : وَلِأَنَّ الْأَوْقَاتَ لَمْ تَقِفْ عَلَى بَيَانِ جِبْرِيلَ حَتَّى زِيدَ فِي وَقْتِ عِشَاءِ الْآخِرَةِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ ، وَوَقْتِ الصُّبْحِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ ، وَوَقْتِ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ كَذَلِكَ ، وَقْتُ الظُّهْرِ وَدَلِيلُنَا عَلَى كَافَّتِهِمْ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : جَاءَ جِبْرِيلُ فَصَلَّى بِيَ الظُّهْرَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ حِينَ كَانَ الْفَيْءُ مِثْلَ الشِّرَاكِ ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي حِينَ كَانِ فَيْءُ كُلِّ شَيْءٍ قَدْرَ ظِلِّهِ دُونَ الْعَصْرِ بِالْأَمْسِ ، وَقَالَ : الْوَقْتُ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَ الزِّيَادَةِ عَلَى ظِلِّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلِهِ بِوَقْتٍ لَهَا كَمَا أَنَّ مَا قَبْلَ الزَّوَالِ لَيْسَ بِوَقْتٍ لَهَا ، فَإِنْ قِيلَ : فَتُحْمَلُ صَلَاةُ جِبْرِيلَ بِهِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي حِينَ كَانَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ عَلَى ابْتِدَاءِ الصَّلَاةِ ، كَمَا حَمَلْنَا صَلَاتَهُ بِهِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ عِنْدَ الزَّوَالِ عَلَى ابْتِدَاءِ الصَّلَاةِ ، قِيلَ : لَا يَجُوزُ أَنْ تُحْمَلَ صَلَاتُهُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ إِلَّا عَلَى الِابْتِدَاءِ ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي إِلَّا عَلَى الِانْتِهَاءِ ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ تَحْدِيدُ أَوَّلِ الْوَقْتِ ، وَلَا يُمْكِنُ تَحْدِيدُهُ إِلَّا بِابْتِدَاءِ الصَّلَاةِ فِيهِ ، وَالْمَقْصُودُ بِهَا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي تَحْدِيدُ آخِرِ الْوَقْتِ ، وَلَا يُمْكِنُ تَحْدِيدُهُ إِلَّا بِانْتِهَاءِ الصَّلَاةِ فِيهِ . وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِنَ لِلصَّلَاةِ أَوَّلًا وَآخِرًا ، وَآخِرُ وَقْتِ الظُّهْرِ إِذَا صَارَ ظِلُّ كُلَ شَيْءٍ مِثْلَهُ ، وَآخِرُ وَقْتِ الْعَصْرِ إِذَا صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ وَهَذَا نَصٌّ إِنْ كَانَ ثَابِتًا وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : وَقْتُ الظُّهْرِ إِذَا زَالَتِ الشَمْسُ إِلَى أَنْ يَكُونَ ظِلُّ الرَّجُلِ بِطُولِهِ مَا لَمْ تَحْضُرِ الْعَصْرُ وَهَذَا نَصٌّ ، وَلِأَنَّ كُلَّ صَلَاتَيْنِ جُمِعَتَا لِحَقِّ النُّسُكِ فَأُولَاهُمَا أَقْصَرُهُمَا كَالْمَغْرِبِ مَعَ الْعِشَاءِ ، ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَى مَنْ ذَهَبَ إِلَى إِشْرَاكِ الْوَقْتِ رِوَايَةُ قَتَادَةَ عَنْ أَيُّوبَ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : وَقْتُ الظُّهْرِ مَا لَمْ يَدْخُلْ وَقْتُ الْعَصْرِ إِلَى اصْفِرَارِ الشَّمْسِ وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَيْسَ التَّفْرِيطُ أَنْ تُؤَخِّرَ الصَّلاةَ إِلَى آخِرِ وَقْتِهَا ، إِنَمَا التَّفْرِيطُ أَنْ تُؤَخِّرَ حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ الْأُخْرَى فَدَلَّتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ عَلَى بُطْلَانِ الْإِشْرَاكِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا امْتَنَعَ إِشْرَاكُ الْوَقْتَيْنِ فِيمَا سِوَى الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَامْتَنَعَ مِنَ الْإِشْرَاكِ وَقْتُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ ، وَلِأَنَّهُ قَدْرٌ بِمَا يَشْتَرِكَانِ فِيهِ مِنَ الْوَقْتَيْنِ كَثِيرٌ مَحْدُودٌ ، وَذَلِكَ مُؤَدٍّ إِلَى أَنْ يَصِيرَ وَقْتُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا غَيْرَ مَحْدُودٍ : لِأَنَّ الظُّهْرَ تَصِيرُ غَيْرَ مَحْدُودَةِ الِانْتِهَاءِ وَالْعَصْرَ غَيْرَ مَحْدُودَةِ الِابْتِدَاءِ ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْآيَةِ فَمُسْتَعْمَلٌ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ ، إِمَّا فِي جِنْسِ الصَّلَوَاتِ مِنَ الظُّهْرِ ، وَالْعَصْرِ ، وَالْمَغْرِبِ ، وَالْعَشَاءِ ، وَإِمَّا فِي أَوْقَاتِ أَصْحَابِ الْعُذْرِ ، وَالضَّرُورَاتِ ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ " ، فَقَوْلُهُ : " وَلَا مَطَرَ " زِيَادَةٌ لَمْ تُعْرَفْ ، ثُمَّ لَوْ سُلِّمَتْ لَاسْتُعْلِمَتْ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إِمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَطَرٌ يُصِيبُهُ وَقْتَ الْجَمْعِ لِخُرُوجِهِ مِنْ بَابِ حُجْرَتِهِ الَّذِي إِلَى الْمَسْجِدِ وَإِنْ كَانَ الْمَطَرُ مَوْجُودًا ، وَإِمَّا أَنْ يُسْتَعْمَلَ عَلَى أَنَّهُ إِنْ جَمَعَ بِأَنْ صَلَّى الظُّهْرَ فِي آخِرِ وَقْتِهَا وَالْعَصْرَ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا فَصَارَ جَامِعًا بَيْنَهُمَا وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الْأَوْقَاتَ قَدْ زِيدَ فِيهَا عَلَى بَيَانِ جِبْرِيلَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ يَزِيدُ فِيهَا بِالنَّصِّ ، وَلَيْسَ فِيمَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ مِنَ الظُّهْرِ نَصٌّ وَالثَّانِي : أَنَّهُ وَإِنْ زِيدَ فِي بَعْضِهَا ، فَالْمَغْرِبُ لَمْ يَرِدْ فِي وَقْتِهَا ، فَلَيْسَ هُمْ فِي رَدِّهَا إِلَى مَا زِيدَ فِي وَقْتٍ بِأَوْلَى مِنْ غَيْرِهِمْ فِي رَدِّهَا إِلَى مَا لَمْ يُزَدْ فِي وَقْتِهِ وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ وَإِنْ وَرَدَتِ الزِّيَادَةُ فِي أَوْقَاتِ بَعْضِ الصَّلَوَاتِ فَقَدِ اتَّفَقُوا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ
النُّقْصَانُ مِنْ وَقْتِ شَيْءٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ ، وَإِذَا جَعَلَ الْوَقْتَ مُشْتَرِكًا كَانَ مَا زَادَ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ نُقْصَانًا مِنْ وَقْتِ الْعَصْرِ ، فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَحْمِلُوا ذَلِكَ عَلَى الْجَوَازِ لِمَا حَصَلَ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ مِنَ الزِّيَادَةِ إِلَّا وَلِغَيْرِهِمْ أَنْ يَحْمِلَ ذَلِكَ عَلَى الْفَسَادِ لِمَا حَصَلَ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ مِنَ النُّقْصَانِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِذَا جَاوَزَ ذَلِكَ بِأَقَلِّ زِيَادَةٍ فَقَدْ دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ وَالْأَذَانِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : " إِذَا تَجَاوَزَ ظَلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ سِوَى ظِلِّ الزَّوَالِ دَخَلَ أَوَّلُ وَقْتِ الْعَصْرِ ، وَخَرَجَ وَقْتُ الظُّهْرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا فَصْلٌ " وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ : أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الْعَصْرِ إِذَا صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ : اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : وَقْتُ الظُّهْرِ مَا لَمْ يَدْخُلْ وَقْتُ الْعَصْرِ ، وَوَقْتُ الْعَصْرِ مَا لَمْ تَغْرُبِ الشَّمْسُ وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : مَثَلُكُمْ [ وَ ] ، مَثَلُ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ قَبْلِكُمْ كَرَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا مِنَ الْغَدَاةِ إِلَى الظُّهْرِ بِقِيرَاطٍ أَلَا فَعَمِلَتِ الْيَهُودُ ، وَاسْتَأْجَرَ آَخَرَ مِنَ الظُّهْرِ إِلَى الْعَصْرِ بِقِيرَاطٍ أَلَا فَعَمِلَتِ النَصَارَى ، وَاسْتَأْجَرَ آخَرَ مِنَ الْعَصْرِ إِلَى الْمَغْرِبِ بِقِيرَاطَيْنِ أَلَا فَعَمِلْتُمْ أَنْتُمْ ، قَالَ : فَغَضِبَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَقَالُوا : مَا بَالُنَا نَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَقَلُّ أَجْرًا ؟ قِيلَ : هَلْ نُقِصْتُمْ مِنْ أَجْرِكُمْ شَيْئًا ؟ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ وَقْتَ الْعَصْرِ أَقْصَرُ مِنْ وَقْتِ الظُّهْرِ ، قَالَ : وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ يُكْرَهُ التَّنَفُّلُ فِي بَعْضِ وَقْتِهَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ وَقْتُهَا أَقْصَرَ مِنْ وَقْتِ مَا قَبْلَهَا ، كَالصُّبْحِ مَعَ الْعِشَاءِ وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَمَّنِي جِبْرِيلُ فَصَلَّى بِيَ الْعَصْرَ حَتَّى صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ بِقَدْرِ ظِلِّهِ وَرَوَى عَطَاءٌ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَالًا فَأَذَّنَ بِالصَّلَاةِ حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ مِثْلَ الشِّرَاكِ ، فَصَلَّى الظُّهْرَ ، ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ ، الْحَدِيثَ وَرَوَى الزُّهْرِيُّ - عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ بَيْضَاءُ حَيَّةٌ ثُمَّ يَذْهَبُ الذَّاهِبُ إِلَى الْعَوَالِي فَيَأْتِيهَا وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ وَرَوَى عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ طَالِعَةٌ بِيِّنَةٌ فِي حُجْرَتِهِ
لَمْ يَظْهَرِ الْفَيْءُ عَلَيْهَا ، أَيْ : لَمْ يَصْعَدْ وَيَرْتَفِعْ ، وَالظُّهُورُ الصُّعُودُ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ [ الزُّخْرُفِ : ] ، أَيْ : يَصْعَدُونَ وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ : مَا كَانَ أَحَدٌ أَشَدَّ تَعْجِيلًا لِلْعَصْرِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ كَانَ أَبْعَدُ الرَّجُلَيْنِ دَارًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو لُبَابَةَ وَأَبُو عَبْسٍ : دَارُ أَبِي لُبَابَةَ بِقُبَاءٍ ، وَدَارُ أَبِي عَبْسٍ بِبَنِي حَارِثَةَ ، كَانَا يُصَلِّيَانِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَصْرَ ، وَيَأْتِيَانِ قَوْمَهُمَا وَمَا صَلَّوْهَا : لِتَبْكِيرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا وَرَوَى أَنَسٌ قَالَ : صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَصْرَ ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ لِي جَزُورًا أُرِيدُ أَنْ أَنْحَرَهَا وَأُحِبُّ أَنْ تَحْضُرَهَا . قَالَ : فَحَضَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَنُحِرَتِ الْجَزُورُ وَقُطِعَتْ وَطُبِخَتْ ، وَأَكَلْنَاهَا نَضِيجًا قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ " فَدَلَّتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ كُلُّهَا عَلَى تَقْدِيمِ وَقْتِ الْعَصْرِ وَامْتِدَادِهِ ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ تُجْمَعُ إِلَى مَا قَبْلَهَا ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ وَقْتُهَا أَمَدَّ مِنْ وَقْتِ الَّتِي قَبْلَهَا كَالْعِشَاءِ مَعَ الْمَغْرِبِ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَهُوَ أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ ، لِأَنَّ وَقْتَ اصْفِرَارِ الشَّمْسِ مِنْ وَقْتِ الْعَصْرِ ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَوَّلِهِ وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَمْنَعُ مِنْ تَقَدُّمِهِ وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِحَدِيثِ الْأُجَرَاءِ فَفِيهِ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ قَوْلَهُمْ نَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلًا يَرْجِعُ إِلَى زَمَانِ الْفَرِيقَيْنِ الْيَهُودِ ، وَالنَّصَارَى مِنَ الْغَدَاةِ إِلَى الْعَصْرِ لَا إِلَى زَمَانِ أَحَدِهِمَا ، لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ مِنْهُمَا فَإِنْ قِيلَ : وَقَدْ قَالُوا وَنَحْنُ أَقَلُّ أَجْرًا وَلَيْسَ الْفَرِيقَانِ أَقَلَّ أَجْرًا ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَقَلَّ أَجْرًا قُلْنَا : الْأُجْرَةُ قَدْ تُسْتَعْمَلُ لِكَثْرَةِ الْعَمَلِ وَإِنْ كَانَتْ مُسَاوِيَةً لِغَيْرِهَا فِي الزَّمَانِ الْقَلِيلِ وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُمْ أَكْثَرُ عَمَلًا بِكَثْرَةِ الْعِبَادَةِ لَا طُولِ الزَّمَانِ ، لِأَنَّ الزَّمَانَ بِمُجَرَّدِهِ لَا يَكُونُ عَمَلًا وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ ، فَمُعَارَضٌ بِقِيَاسِنَا عَلَى أَنَّهُ مطرح مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ النَّصِّ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " ثُمَّ لَا يَزَالُ وَقْتُ الْعَصْرِ قَائِمًا حَتَّى يَصِيرَ ظِلُّ كُلِ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ ، فَمَنْ جَاوَزَهُ ذَلِكَ فَقَدْ فَاتَهُ وَقْتُ الِاخْتِيَارِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ أَقُولَ فَائَتَةٌ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ آخِرُ وَقْتِ الْعَصْرِ فِي الِاخْتِيَارِ : أَنْ يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ ، وَفِي الْجَوَازِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : آخِرُ وَقْتَ الْعَصْرِ فِي الِاخْتِيَارِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخَرِيُّ : آخِرُ وَقْتِ الْعَصْرِ فِي الِاخْتِيَارِ ، وَالْجَوَازُ أَنْ يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ [ ق : ] - يَعْنِي - صَلَاةَ الْعَصْرِ وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَا يَفُوتُ وَقْتُ صَلَاةٍ حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ الْأُخْرَى وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : وَصَلَّى بِيَ الْعَصْرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ وَحَدِيثُ عَطَاءٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ ، فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ بِالصَّلَاةِ حِينَ زَاغَتِ الشَمْسُ مِثْلَ الشِّرَاكِ فَصَلَّى الظُّهْرَ ، ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ إِلَى أَنْ قَالَ وَصَلَّى فِي الْيَوْمِ الثَّانِي الْعَصْرَ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ " وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ : دَخَلْنَا عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ بَعْدَ الظُّهْرِ ، فَقَامَ يُصَلِّي الْعَصْرَ ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صِلَاتِهِ ذَكَرْنَا تَعْجِيلَ الصَّلَاةِ ، أَوْ ذِكْرَهَا فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِينَ تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِينَ ثَلَاثًا ، فَجَلَسَ أَحَدُهُمْ حَتَّى إِذَا اصْفَرَّتِ الشَّمْسُ وَكَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطِانٍ قَامَ فَنَقَرَ أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهِمَا إِلَّا قَلِيلًا وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ عَرَفَ أَوَّلَ وَقْتِهَا بِالظِّلِّ فَوَجَبَ أَنْ يَعْرِفَ آخِرَ وَقْتِهَا بِالظِّلِّ كَالظُّهْرِ ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ يُكْرَهُ التَّنَفُّلُ فِي بَعْضِ وَقْتِهَا فَوَجَبَ أَنْ يَنْفَصِلَ وَقْتُهَا عَنْ وَقْتِ مَا بَعْدَهَا كَالصُّبْحِ ، وَيُحْمَلُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ مِنَ الْآيَةِ وَالْخَبَرِ عَلَى وَقْتِ الْجَوَازِ
فَصْلٌ : وَأَمَّا أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخَرِيُّ فَإِنَّهُ اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ فِي تَحْدِيدِ وَقْتِ الْعَصْرِ ، بِأَنْ يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ ، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى وَقْتِ الِاخْتِيَارِ ، فَأَمَّا وَقْتُ الْجَوَازِ فَبَاقٍ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ لِرِوَايَةِ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنِ الْأَعْرَجِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ ، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ وَقْتَ الْعَصْرِ يَمْتَدُّ جَوَازًا إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ فَمَتَى أَدْرَكَهُ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي الْحَضَرِ أَوْ رَكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ فَقَدْ أَدْرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ فِي وَقْتِهَا ، وَكَانَ مُؤَدِّيًا لَهَا لَا قَاضِيًا ، وَإِنْ كَانَ فِعْلُهَا فِي وَقْتِ الِاخْتِيَارِ أَوْلَى ، وَإِنْ صَلَّى رَكْعَةً مِنْهَا قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَبَاقِيهَا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ ، فَإِنْ كَانَ لِعُذْرٍ فِي التَّأْخِيرِ جَازَ وَكَانَ مُؤَدِّيًا لِجَمِيعِهَا وَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْذُورٍ فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجِ ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ : أَنَّهُ يَكُونُ مُؤَدِّيًا لِجَمِيعِهَا غَيْرَ عَاصٍ بِتَأْخِيرِهَا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : أَنَّهُ يَكُونُ مُؤَدِّيًا لِمَا فَعَلَهُ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ قَاضِيًا لِمَا فَعَلَهُ بَعْدَهَا عَاصِيًا بِتَأْخِيرِهَا : لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّمَا التَّفْرِيطُ أَنْ تُؤَخِّرَ الصَّلَاةَ حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ الْأُخْرَى - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ -
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ فَهُوَ وَقْتُ الْمَغْرِبِ وَالْأَذَانِ وَلَا وَقْتَ لِلْمَغْرِبِ إِلَّا وَقْتٌ وَاحِدٌ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : فَهَذَا كَمَا قَالَ : " وَأَوَّلُ وَقْتِ الْمَغْرِبِ غُرُوبُ الشَّمْسِ وَهُوَ : أَنْ يَسْقُطَ الْقُرْصُ وَيَغِيبَ حَاجِبُ الشَّمْسِ ، وَهُوَ الضَّوْءُ الْمُسْتَعْلِي عَلَيْهَا كَالْمُتَّصِلِ بِهَا ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ : هُوَ أَحَدُ قَرْنَيْهَا أَوَّلُ مَا يَطْلُعُ مِنْهَا وَآخِرُ مَا يَغْرُبُ مِنْهَا وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ قَيْسِ بْنِ الْخَطِيمِ : تَبَدَّتْ لَنَا كَالشَّمْسِ تَحْتَ غَمَامَةٍ بَدَا حَاجِبٌ مِنْهَا وَضَنَّتْ بِحَاجِبِ وَلَا وَجْهَ لِمَا ذَهَبَتْ إِلَيْهِ الشِّيعَةُ مِنْ أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِهَا إِذَا اشْتَبَكَتِ النُّجُومُ ، لِرِوَايَةِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي سَاعَةَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ إِذَا غَابَ حَاجِبُهَا " وَرَوَى أَبُو مَحْذُورَةَ قَالَ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِذَا أَذَّنْتَ لِلْمَغْرِبِ فَاحْدَرْهَا مَعَ الشَّمْسِ حَدَرًا " وَرَوَى " أَبُو نُعَيْمٍ " عَنْ جَابِرٍ قَالَ : كُنَّا نُصَلِّي الْمَغْرِبَ ، ثُمَّ نَخْرُجُ نَتَنَاضَلُ حَتَّى نَبْلُغَ بُيُوتَ بَنِي سَلْمَةَ ، فَنُبْصِرَ مَوَاقِعَ النَّبْلِ مِنَ الْأَسْفَارِ " . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِهَا سُقُوطُ الْقُرْصِ فَلَيْسَ لَهَا إِلَّا وَقْتٌ وَاحِدٌ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَهَا وَقْتَانِ يَمْتَدُّ الثَّانِي مِنْهُمَا إِلَى غُرُوبِ الشَّفَقِ وَقَدْ حَكَاهُ أَبُو ثَوْرٍ عَنْ
الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خَرَّجَهُ قَوْلًا ثَانِيًا وَأَنْكَرَهُ جُمْهُورُهُمْ أَنْ يَكُونَ قَوْلًا مَحْكِيًّا عَنْهُ : لِأَنَّ الزَّعْفَرَانِيَّ وَهُوَ أَثْبَتُ أَصْحَابِ الْقَدِيمِ حَكَى عَنْهُ لِلْمَغْرِبِ وَقْتًا وَاحِدًا وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِالْوَقْتَيْنِ بِرِوَايَةِ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : وَقْتُ الْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَسْقُطْ نُورُ الشَّفَقِ وَبِرِوَايَةِ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الْمَغْرِبَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ حِينَ غَرَبَتِ الشَمْسُ ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي حِينَ غَابَ الشَّفَقُ " وَبِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِنَّ لِلصَّلَاةِ أَوَّلًا وَآخِرًا ، وَإِنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الْمَغْرِبِ إِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَآخِرَهُ حِينَ يَغِيبُ [ الشَّفَقُ ] وَبِرِوَايَةِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ الْأَعْرَافَ فِي الْمَغْرِبِ ، وَلَا يُمْكِنُ قِرَاءَتُهَا مَعَ طُولِهَا إِلَّا مَعَ طَوِيلِ الزَّمَانِ ، فَدَلَّ عَلَى طُولِ الْمَغْرِبِ ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةُ فَرْضٍ فَجَازَ أَنْ تَكُونَ ذَاتَ وَقْتَيْنِ كَسَائِرِ الْمَفْرُوضَاتِ ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ تُجْمَعُ إِلَى غَيْرِهَا فَوَجَبَ أَنْ يَتَّصِلَ وَقْتُهَا بِوَقْتِ مَا يُجْمَعُ إِلَيْهَا ، كَالظُّهْرِ ، وَالْعَصْرِ ، وَلِأَنَّ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ تَجِبُ عَلَى الصَّبِيِّ إِذَا بَلَغَ ، وَالْحَائِضِ إِذَا طَهُرَتْ ، وَالْكَافِرِ إِذَا أَسْلَمَ قَبْلَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ ، فَلَوْلَا أَنَّهُ وَقْتُهَا مَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ فَرْضُهَا اعْتِبَارًا لِأَوَّلِ وَقْتِهَا وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَمَّنِي جِبْرِيلُ فَصَلَّى بِيَ الْمَغْرِبَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ حِينَ أَفْطَرَ الصَّائِمُ ، ثُمَ صَلَّى بِيَ الْمَغْرِبَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي لِلْقَدْرِ الْأَوَّلِ لَمْ يُؤَخِّرْهَا وَحَدِيثُ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَيَّنَ الْأَوْقَاتَ لِلسَّائِلِ ، صَلَّى الْمَغْرِبَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ حِينَ غَابَتِ الشَّمْسُ ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي لِوَقْتِهَا بِالْأَمْسِ وَرَوَى مَخْرَمَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : أَمَّنِي جِبْرِيلُ ظُهْرَيْنِ وَعَصْرَيْنِ وَعِشَاءَيْنِ ، فَقَدَّمَ وَأَخَّرَ ، وَالْمَغْرِبَ لِوَقْتٍ وَاحِدٍ
وَرَوَى يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ مَرْثَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : قَدِمَ عَلَيْنَا أَبُو أَيُّوبَ غَازِيًا ، وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ يَوْمَئِذٍ عَلَى " مِصْرَ " ، فَأَخَّرَ الْمَغْرِبَ ، فَقَامَ إِلَيْهِ أَبُو أَيُّوبَ فَقَالَ : مَا هَذِهِ الصَّلَاةُ يَا عُقْبَةُ ؟ فَقَالَ : شُغِلْنَا ، فَقَالَ : أَمَا سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : لَا تَزَالُ أُمَّتِي عَلَى فِطْرَتِي مَا لَمْ يُؤَخِّرُوا الْمَغْرِبَ إِلَى أَنْ تَشْتَبِكَ النُّجُومُ " فَكَانَ صَرِيحُ الْخَبَرِ ، وَإِنْكَارُ أَبِي أَيُّوبَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهَا لَيْسَ لَهَا إِلَّا وَقْتٌ وَاحِدٌ وَرَوَتْ عَائِشَةُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا تَزَالُ أُمَّتِي عَلَى سُنَّتِي مَا بَكَّرُوا بِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ تَأْخِيرَهَا لَيْسَ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ سُنَّتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَخَّرَ لَيْلَةً الْمَغْرِبَ حَتَّى طَلَعَ نَجْمَانِ فَأَعْتَقَ رَقَبَتَيْنِ . قَالَ : " صَلُّوا هَذِهِ الصَّلَاةَ وَالْفِجَاجُ مُسْفِرَةٌ " . وَهَذَا بِمَشْهَدِ الصَّحَابَةِ ، فَدَلَّ هَذَا مَعَ إِنْكَارِ أَبِي أَيُّوبَ عَلَى عُقْبَةَ عَلَى أَنَّهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَغْرِبِ إِلَّا وَقْتٌ وَاحِدٌ وَأَمَّا الْقِيَاسُ : وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَوَاقِيتِ أَصْلًا مُعْتَبَرًا ، وَلَكِنْ يُقَابَلُ بِهِ مَا أَوْرَدَهُ فَهُوَ أَنَّهَا صَلَاةُ فَرْضٍ لَا تَقْصُرُ ، فَوَجَبَ أَنْ يَنْفَصِلَ وَقْتُهَا عَنْ وَقْتِ مَا بَعْدَهَا كَالصُّبْحِ ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةُ فَرْضٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ وَقْتُهَا فِي الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ كَعَدَدِهَا أَصْلُهُ سَائِرُ الصَّلَوَاتِ ، لَمَّا كَانَتْ شَفْعًا فِي الْعَدَدِ كَانَتْ شَفْعًا فِي الْوَقْتِ ، وَالْمَغْرِبِ لَمَّا كَانَتْ وِتْرًا فِي الْعَدَدِ كَانَتْ وِتْرًا فِي الْوَقْتِ ، وَقَدْ قِيلَ : فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ [ الْفَجْرِ : ] . أَنَّهَا الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ مِنْهَا شَفْعٌ كَالظُّهْرِ ، وَوِتْرٌ كَالْمَغْرِبِ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، فَقَدْ رَوَاهُ شُعْبَةُ فِي آخِرِ أَيَّامِهِ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ ، فَقِيلَ : إِنَّكَ وَصَلْتَهُ . فَقَالَ : إِنْ كُنْتُ مَجْنُونًا فَقَدْ أَفَقْتُ وَأَمَّا حَدِيثُ سَلْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ ، فَهُوَ فِي الضَّعْفِ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ ، كَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، وَقَدْ أَنْكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ ، وَقَالَ مُسْلِمٌ : لَا يُحَدَّثُ بِهَذَا وَأُمْرِضَ سَمِعَهُ فَضَرَبَ عَلَيْهِ وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ ، فَقَدْ غَلِطَ فِيهِ ابْنُ فُضَيْلٍ ، وَهُوَ الَّذِي رَوَاهُ عَنِ الْأَعْمَشِ ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مُسْنَدًا أَنَّ لَهَا وَقْتًا وَاحِدًا ، ثُمَّ لَوْ سَلَّمْنَا هَذِهِ الْأَخْبَارَ الثَّلَاثَةَ لَجَازَ أَنْ نَسْتَعْمِلَهَا عَلَى وَقْتِ الِاسْتِدَامَةِ دُونَ الِابْتِدَاءِ عَلَى مَذْهَبِ الْإِصْطَخَرِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " بِالْأَعْرَافِ فِي الْمَغْرِبِ " فَفِيهِ أَجْوِبَةٌ :
أَحَدُهَا : أَنَّ السُّورَةَ كَانَتْ تَنْزِلُ مُتَفَرِّقَةً وَلَمْ تَكُنْ تَكَامَلُ إِلَّا بَعْدَ حِينٍ فَيَجُوزُ إِنْ قَرَأَهَا قَبْلَ تَكَامُلِهَا وَكَانَتْ آيَاتٍ يَسِيرَةً ، أَلَّا تَرَى أَنَّ سُورَةَ الْمُزَّمِّلِ مَعَ قِصَرِهَا عَنِ الْأَعْرَافِ فَكَانَ بَيْنَ أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا سَنَةٌ وَالثَّانِي : أَنَّهُ قَرَأَ مِنْهَا الْآيَ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الْأَعْرَافِ ، فَقِيلَ : قَرَأَ الْأَعْرَافَ . كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ : شَرِبْتُ مَاءَ الْمَطَرِ وَأَكَلْتُ خُبْزَ الْبَصْرَةِ . وَإِنَّمَا أَكَلَ وَشَرِبَ شَيْئًا مِنْهُ وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِدَامَةِ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى سَائِرِ الصَّلَوَاتِ ، فَالْمَعْنَى فِيهَا : أَنَّهَا شَفْعٌ فِي الْعَدَدِ ، وَهَذَا وِتْرٌ فِي الْعَدَدِ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ ، فَمُنَازَعٌ فِيهِ بِمُعَارَضَةِ قِيَاسِنَا لَهُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِوُجُوبِهَا عَلَى أَصْحَابِ الضَّرُورَاتِ ، فَهُوَ : أَنَّ أَصْحَابَ الضَّرُورَاتِ وَالْأَعْذَارِ يَلْزَمُهُمْ فَرْضُهَا إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ عِنْدَنَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَقْتًا لَهَا ، لِأَنَّ وَقْتَ الْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ فِي الضَّرُورَاتِ وَاحِدٌ
فَصْلٌ هَلْ يَتَقَدَّرُ الْمَغْرِبِ بِالْفِعْلِ أَوْ بِالْعُرْفِ
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ لِلْمَغْرِبِ وَقْتًا وَاحِدًا ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا ، هَلْ يَتَقَدَّرُ بِالْفِعْلِ أَوْ بِالْعُرْفِ ؟ وقت المغرب عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالْفِعْلِ ، وَهُوَ أَنْ يَمْضِيَ عَلَيْهِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ قَدْرَ مَا يَتَطَهَّرُ ، وَيَلْبَسُ ثَوْبَهُ ، وَيُؤَذِّنُ ، وَيُقِيمُ ، وَيُصَلِّي ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ عَلَى مَهَلٍ ، فَهَذَا قَدْرُ وَقْتِهَا ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنِ الْوَقْتُ إِلَّا وَاحِدًا وَكَانَ ابْتِدَاؤُهُ مَعْلُومًا اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ بِالْفِعْلِ وَالْإِمْكَانِ مُقَدَّرًا وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالْعُرْفِ لَا بِالْفِعْلِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ إِذَا أَتَى بِالصَّلَاةِ فِيهِ لَمْ يُنْسَبْ فِي الْعُرْفِ إِلَى تَأْخِيرِهَا عِنْدَ أَوَّلِ الْوَقْتِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَحَدَّدَ بِالْفِعْلِ ، لِأَنَّ الْفِعْلَ يُخْتَلَفُ فِيهِ بِالْعَجَلَةِ وَالْإِبْطَاءِ ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ ذَاتَ الْوَقْتَيْنِ يَتَقَدَّرُ أَوَّلُ وَقْتِهَا بِالْعُرْفِ لَا بِالْفِعْلِ ، وَمَنْزِلَةُ الْمَغْرِبِ فِي تَفَرُّدِهَا بِوَقْتٍ وَاحِدٍ ، وَإِنَّ مَنْزِلَةَ الْمُؤَقَّتِ الْأَوَّلُ مِنَ الْوَقْتَيْنِ ، فَإِذَا ثَبَتَ تَقْرِيرُ وَقْتِهَا بِمَا وَصَفْنَا مِنَ الْفِعْلِ أَوِ الْعُرْفِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا ، هَلْ هُوَ وَقْتٌ لِابْتِدَاءِ الصَّلَاةِ وَاسْتِدَامَتِهَا أَمْ هُوَ وَقْتٌ لِابْتِدَائِهَا دُونَ اسْتَدَامَتِهَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الْأَشْبَهُ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ وَقْتٌ لِلِابْتِدَاءِ وَالِاسْتِدَامَةِ ، فَمَنْ تَجَاوَزَ هَذَا الْوَقْتَ قَبْلَ إِتْمَامِ الصَّلَاةِ صَارَ مُتَمِّمًا لَهَا فِي غَيْرِ وَقْتِهَا ، لِأَنَّ سَائِرَ الْأَوْقَاتِ الْمُقَدَّرَةِ لِلِابْتِدَاءِ وَالِاسْتِدَامَةِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ ، وَاخْتَارَهُ أَبُو إِسْحَاقَ أَنَّهُ وَقْتٌ لِلِابْتِدَاءِ دُونَ الِاسْتِدَامَةِ ، وَأَنَّهُ إِذَا ابْتَدَأَ بِهَا فِي هَذَا الْوَقْتِ جَازَ أَنْ يَسْتَدِيمَهَا إِلَى غُرُوبِ الشَّفَقِ اسْتِعْمَالًا لِلْأَخْبَارِ كُلِّهَا ، وَتَلْفِيقًا بَيْنَ مُخْتَلِفِهَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَافِعِيُّ : " فَإِذَا غَابَ الشَفَقُ الْأَحْمَرُ فَهُوَ أَوَّلُ وَقْتِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ وَالْأَذَانِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : يُكْرَهُ أَنَّ تُصَلَّى هَذِهِ الصَّلَاةُ بِاسْمِ الْعَتَمَةِ ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ تُسَمَّى عِشَاءً الْآخِرَةَ لِرِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ أَبِي لَبِيدٍ ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا يَغْلِبَنَّكُمُ الْأَعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلَاتِكُمْ هِيَ الْعِشَاءُ إِلَّا أَنَّهُمْ يُعْتِمُونَ بِالْإِبِلِ وَالْعُتْمُ : الْإِبْطَاءُ وَالتَّأْخِيرُ ، وَإِعْتَامُ الْإِبِلِ هُوَ تَأْخِيرُ عَلْفِهَا وَحَلْبِهَا . قَالَ الشَّاعِرُ : فَلَمَّا رَأَيْنَا أَنَّهُ عَاتِمُ الْقِرَى بَخِيلٌ ذَكَرْنَا لَيْلَةَ الْهَضْبِ كَرْدَمَا وَلَا يَأْثَمُ مُسَمِّيهَا بِالْعَتَمَةِ وَلَا يَسْتَحِقُّ وَعِيدًا بِهِ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَنْهَ عَنْهُ نَهْيَ تَحْرِيمٍ ، وَإِنَّمَا قَالَ : " لَا يَغْلِبَنَّكُمُ الْأَعْرَابُ عَلَيْهَا " ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَوَّلُ وَقْتِ عِشَاءِ الْآخِرَةِ إِذَا غَابَ الشَّفَقُ إِجْمَاعًا ، إِلَّا أَنَّهُمَا شَفَقَانِ : الْأَوَّلُ وَهُوَ الْحُمْرَةُ ، وَالثَّانِي وَهُوَ الْبَيَاضُ ، وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَدْخُلُ وَقْتُهَا بِغَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ الْأَحْمَرِ أَوْ بِغَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ الْأَبْيَضِ ؟ العشاء الآخرة فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ وَقْتَهَا يَدْخُلُ إِذَا غَابَ الشَّفَقُ الْأَحْمَرُ ، وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ عُمَرَ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ ، وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ، وَمِنَ التَّابِعِينَ قَوْلُ عَطَاءٍ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَالزُّهْرِيِّ ، وَمَكْحُولٍ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَأَبِي يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٍ ، وَأَحْمَدَ ، وَإِسْحَاقَ ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ دُخُولَ وَقْتِهَا يَكُونُ بِغَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ الْأَبْيَضِ ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ ، وَالْمُزَنِيُّ ، اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ [ الْإِسْرَاءِ : ] . يَعْنِي : إِظْلَامَهُ ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِغَيْبُوبَةِ الْبَيَاضِ ، وَلِمَا رَوَى بَشِيرُ بْنُ أَبِي مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عِشَاءَ الْآخِرَةِ حِينَ يَسْوَدُّ الْأَفَقُ ، وَلِأَنَّ صَلَاةَ الْعِشَاءِ تَتَعَلَّقُ بِغَارِبٍ وَصَلَاةَ الصُّبْحِ بِطَالِعٍ ، فَلَمَّا وَجَبَتِ الصُّبْحِ بِالطَّالِعِ الثَّانِي اقْتَضَى أَنْ تَجِبَ الْعَشَاءُ بِالْغَارِبِ الثَّانِي ، وَاسْتَدَلَّ الْمُزَنِيُّ : أَنَّ الصُّبْحَ أَوَّلَ صَلَاةِ النَّهَارِ وَالْعَشَاءِ آخِرَ صَلَاةِ اللَّيْلِ ، فَلَمَّا وَجَبَتِ الصُّبْحُ بِالْبَيَاضِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى الشَّمْسِ اقْتَضَى أَنْ تَجِبَ الْعِشَاءُ بِالْبَيَاضِ الْمُتَأَخِّرِ عَنِ الشَّمْسِ وَدَلِيلُنَا : حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : وَصَلَّى بِي جِبْرِيلُ الْعِشَاءَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ وَحَمْلُ إِطْلَاقِهِ عَلَى الْأَحْمَرِ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْحُكْمَ إِذَا عُلِّقَ بِاسْمٍ اقْتَضَى أَنْ يَتَنَاوَلَ أَوَّلُ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ أَوَّلَ ذَلِكَ الِاسْمِ
وَالثَّانِي : أَنَّ الِاسْمَ إِذَا تَنَاوَلَ شَيْئَيْنِ عَلَى سَوَاءٍ كَانَ حَمْلُهُ عَلَى أَشْهَرِهِمَا أَوْلَى ، وَالْأَحْمَرُ مِنَ الشَّفَقَيْنَ أَشْهَرُ فِي اللِّسَانِ ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ : صَبَغْتُ ثَوْبِي شَفَقًا ، وَقِيلَ : فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ [ الِانْشِقَاقِ : ] . أَنَّهُ الْحُمْرَةُ . قَالَ الشَّاعِرُ : رَمَقْتُهَا بِنَظْرَةٍ مِنْ ذِي عَلَقْ قَدْ أَثَّرَتْ فِي خَدِّهَا لَوْنَ الشَّفَقِ وَرَوَى حَبِيبُ بْنُ سَالِمٍ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ : أَنَا أَعْلَمُ النَّاسِ بِوَقْتِ هَذِهِ الصَّلَاةِ ، صَلَاةِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ ، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّيهَا لِسُقُوطِ الْقَمَرِ لِثَلَاثَةٍ " . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَمَرَ يَسْقُطُ فِي الثَّالِثَةِ قَبْلَ الشَّفَقِ الْأَبْيَضِ وَرَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى عَنْ عَطَاءٍ ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عِشَاءَ الْآخِرَةِ قَبْلَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ ، وَبِالْإِجْمَاعِ أَنَّهَا لَا تَجُوزُ قَبْلَ الْأَحْمَرِ فَثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّاهَا بَعْدَ الْأَحْمَرِ وَقَبْلَ الْأَبْيَضِ وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الشَّفَقُ الْحُمْرَةُ فَإِذَا غَابَ الشَّفَقُ فَقَدْ وَجَبَتِ الصَّلَاةُ وَالشَّافِعِيُّ رَوَاهُ مَوْقُوفًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَقَدْ أَسْنَدَهُ غَيْرُهُ ، وَلِأَنَّ إِجْمَاعَ أَهْلِ الْأَعْصَارِ فِي سَائِرِ الْأَمْصَارِ أَنَّهُمْ عَلَى إِقَامَتِهَا عِنْدَ سُقُوطِ الْأَحْمَرِ لَا يَتَنَاكَرُونَهُ بَيْنَهُمْ ، وَلَا يَخْتَلِفُونَ فِي فِعْلِهِ مَعَ اخْتِلَافِهِمْ ، وَلِأَنَّ الشَّفَقَ الْأَبْيَضَ قَدْ رُوعِيَ فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ وَبَعْضِ الْبُلْدَانِ فَوُجِدَ لَابِثًا إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ ، فَرُوِيَ عَنِ الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ : رَاعَيْتُهُ فَلَمْ يَغِبْ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ . وَكَانَ يَتَنَقَّلُ مِنْ جَوٍّ إِلَى جَوٍّ ، وَحَكَى أَبُو عُبَيْدٍ عَمَّنْ حَدَّثَهُ إِذَا رَاعَاهُ فِي جِبَالِ الْيَمَنِ ، فَلَمْ يَغِبْ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ ، وَإِذَا كَانَ الْأَبْيَضُ بِهَذِهِ الْحَالِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ وَقْتًا لِصَلَاةٍ ، وَلِأَنَّ الطَّوَالِعَ ثَلَاثَةٌ الْفَجْرَانِ ، وَالشَّمْسُ ، وَالْغَوَارِبُ ثَلَاثَةٌ الشَّفَقَانِ ، وَالشَّمْسُ ، فَلَمَّا وَجَبَتْ صَلَاةُ الصُّبْحِ بِالطَّالِعِ الْأَوْسَطِ وَهُوَ الْفَجْرُ الصَّادِقُ اقْتَضَى أَنْ تَجِبَ الْعِشَاءُ بِالْغَارِبِ الْأَوْسَطِ - وَهُوَ الشَّفَقُ الْأَحْمَرُ - وَلِأَنَّ صَلَاةَ الصُّبْحِ مِنْ صَلَاةِ النَّهَارِ وَصَلَاةَ الْعِشَاءِ مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ ، فَلَمَّا وَجَبَتِ الصُّبْحُ بِأَقْرَبِ الْفَجْرَيْنِ مِنَ الشَّمْسِ ، اقْتَضَى أَنْ تَجِبَ الْعِشَاءُ بِأَقْرَبِ الشَّفَقَيْنِ مِنَ الشَّمْسِ ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ تَجِبُ بِانْتِقَالِ أَحَدِ النَّيِّرَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِأَنْوَرِهِمَا كَالصُّبْحِ وَأَمَّا الْآيَةُ فَتَأْوِيلُ الْغَسَقِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَأَحَدُ تَأْوِيلَيْهِ أَنَّهُ إِقْبَالُ اللَّيْلِ وَدُنُوُّهُ ، فَسَقَطَ الدَّلِيلُ بِهَذَا التَّأْوِيلِ
وَالثَّانِي : أَنَّهُ اجْتِمَاعُ اللَّيْلِ وَظُلْمَتُهُ ، فَعَلَى هَذَا قَدْ يُظْلِمُ اللَّيْلُ إِذَا غَابَ الشَّفَقُ الْأَحْمَرُ ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى وَقْتِهَا الثَّانِي ، وَكَذَا الْجَوَابُ عَنِ اسْوِدَادِ الْأُفُقِ ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ فَمَدْفُوعٌ بِمُعَارَضَتِنَا لَهُ بِمَا ذَكَرْنَا مِنِ اسْتِدْلَالِنَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ -
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " ثُمَّ لَا يَزَالُ وَقْتُ الْعِشَاءِ قَائِمًا حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اخْتَلَفَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ فِيهِ فَقَالَ فِي الْقَدِيمِ ، وَالْإِمْلَاءِ : آخِرُهُ نِصْفُ اللَّيْلِ ، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ : آخِرُهُ ثُلْثُ اللَّيْلِ . فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا ، فَكَانَ جُمْهُورُهُمْ يُخْرِجُونَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَفِي التَّابِعِينَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ ، وقَتَادَةَ ، وَفِي الْفُقَهَاءِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَوَجْهُهُ رِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : وَقْتُ الْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَسْقُطْ نُورُ الشَّفَقِ ، وَوَقْتُ الْعِشَاءِ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ : صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِشَاءَ حِينَ ذَهَبَ نِصْفُ اللَّيْلِ " وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ إِلَى ثُلْثِ اللَّيْلِ وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ عُمَرَ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ ، وَفِي الْفُقَهَاءِ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ ، وَالثَّوْرِيِّ وَوَجْهُهُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَمَّنِي جِبْرِيلُ فَصَلَّى بِيَ عِشَاءَ الْآخِرَةِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي حِينَ ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ يَمْنَعُ تَخْرِيجَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَيَجْعَلُ اخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا حَكَيْنَا ، وَاخْتِلَافَ النَّصِّ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِيمَا ذَكَرْنَا عَلَى اخْتِلَافِ حَالِ الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ ، فَيَسْتَعْمِلُ رِوَايَةَ مَنْ رَوَى إِلَى ثُلْثِ اللَّيْلِ عَلَى أَنَّهُ آخِرُ وَقْتِ الِابْتِدَاءِ بِهَا ، وَرِوَايَةَ مَنْ رَوَى إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ عَلَى أَنَّهُ آخِرُ وَقْتَ انْتِهَائِهَا حَتَّى لَا يُعَارِضَ بَعْضُهَا بَعْضًا ، وَلَا يَكُونُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ مُخْتَلِفًا
فَصْلٌ : فَإِذَا تَجَاوَزَ هَذَا الْقَدْرَ فَقَدْ خَرَجَ وَقْتُ الِاخْتِيَارِ ، ثُمَّ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ وَقْتَهَا فِي الْجَوَازِ بَاقٍ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ صلاة العشاء ، وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخَرِيُّ : قَدْ خَرَجَ وَقْتُهَا اخْتِيَارًا وَجَوَازًا ، وَمَنْ فَعَلَهَا بَعْدَهُ كَانَ قَاضِيًا لَا مُؤَدِّيًا ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مَا بَعْدَ ذَلِكَ وَقْتًا لِأَصْحَابِ الْأَعْذَارِ دُونَ الرَّفَاهِيَةِ ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِ " الْأُمِّ " ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا جَعَلَ الْمُدْرِكَ لِرَكْعَةٍ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مُدْرِكًا لِلْعَصْرِ ، وَالْمُدْرِكَ لِرَكْعَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مُدْرِكًا لِلصُّبْحِ ، وَلَمْ يَجْعَلِ الْمُدْرِكَ لِرَكْعَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مُدْرِكًا لِلْعَشَاءِ ، دَلَّ عَلَى افْتِرَاقِ الْحُكْمَيْنِ بَيْنَ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ ، وَالصَّحِيحُ بَقَاءُ وَقْتِهَا فِي الْجَوَازِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا تَفُوتُ صَلَاةٌ حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ الْأُخْرَى وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَا بَعْدَ ثُلْثِ
اللَّيْلِ وَقْتًا لِصَلَاةِ الْوِتْرِ أَدَاءً وَلَا قَضَاءَ وَهِيَ مِنْ تَوَابِعِ الْعِشَاءِ ، اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ وَقْتًا لِلْعَشَاءِ أَدَاءً لَا قَضَاءً ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ التَّابِعَةَ إِنَّمَا تُصَلَّى فِي وَقْتِ الْمَتْبُوعَةِ كَرَكْعَتِي الْفَجْرِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا أَذَانَ إِلَّا بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ خَلَا الصُّبْحَ فَإِنَّهَا يُؤَذَّنُ قَبْلَهَا بِلَيْلٍ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِقِيَاسٍ وَلَكِنَّا اتَّبَعْنَا فِيهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ بِلَالًا يُنَادِي بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا يَجُوزُ الْأَذَانُ لِشَيْءٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهَا إِلَّا الصُّبْحَ ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُؤَذَّنَ لَهَا بِلَيْلٍ قَبْلَ الْفَجْرِ وَبَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَأَحْمَدُ ، وَإِسْحَاقُ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالثَّوْرِيُّ : لَا يَجُوزُ الْأَذَانُ لَهَا إِلَّا بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِهَا لِرِوَايَةِ شَدَّادٍ عَنْ بِلَالٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا تُؤَذِّنْ حَتَّى يَسْتَنِيرَ لَكَ الْفَجْرُ هَكَذَا وَمَدَّ يَدَيْهِ عَرْضَا وَرَوَى أَيُّوبُ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ بِلَالًا أَذَّنَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَرْجِعُ فَيُنَادِي : أَلَا إِنَّ الْعَبْدَ قَدْ نَامَ . فَرَجَعَ فَنَادَى أَلَا إِنَّ الْعَبْدَ قَدْ نَامَ وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ بِلَالًا أَذَّنَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْقَى فَيُنَادِيَ أَلَا إِنَّ الْعَبْدَ قَدْ نَامَ . فَرَقَا وَهُوَ يَقُولُ : لَيْتَ بِلَالًا لَمْ تَلِدْهُ أُمُّهُ وَابْتَلَّ مِنْ نَضْحِ دَمٍ جَبِينُهُ قَالَ : وَلِأَنَّهُ أَذَانٌ لِلصَّلَاةِ فَلَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهُ قَبْلَ وَقْتِهَا كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ قَالَ : وَلِأَنَّ كُلَّ وَقْتٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلَّى فِيهِ الصُّبْحُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤَذَّنَ لَهَا فِيهِ قِيَاسًا عَلَى مَا قَبْلَ نِصْفِ اللَّيْلِ . وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ سَالِمٍ ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِنَّ بِلَالًا يُنَادِي بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ فَإِنْ قِيلَ : فَإِنَّمَا كَانَ بِلَالٌ يُنَادِي لِلسُّحُورِ وَلَا يُؤَذِّنُ لِلصَّلَاةِ فِيهِ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ لَفْظَ الْأَذَانِ مُخْتَصٌّ بِالصَّلَاةِ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ فِي جَمِيعِهَا وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ كَانَ سُحُورًا لَمْ يُشْكِلْ عَلَيْهِمْ وَلَا احْتَاجُوا إِلَى تَعْرِيفِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَا يَمْنَعَنَّكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ مِنْ سَحُورِكُمْ فَإِنَّمَا يُؤْذِنُكُمْ لِيَرْجِعَ قَائِمُكُمْ وَيُنَبَّهَ نَائِمُكُمْ
وَهَذَا نَصٌّ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ وَمَنْعٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ السُّؤَالِ وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادِ بْنِ نُعَيْمٍ الْحَضْرَمِيُّ عَنْ زِيَادِ بْنِ الْحَارِثِ الصُّدَائِيِّ قَالَ : قَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَافَرْتُ مَعَهُ ، فَانْقَطَعَ النَّاسُ عَنْهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ غَيْرِي ، فَلَمَّا كَانَ أَوَّلُ أَذَانِ وَقْتِ الصُّبْحِ ، أَمَرَنِي أَنْ أُوَذِّنَ لِلصُّبْحِ ، فَأَذَّنْتُ وَجَعَلْتُ أَقُولُ : أُقِيمُ ؟ وَهُوَ يَقُولُ : لَا وَيَنْظُرُ إِلَى نَاحِيَةِ الْمَشْرِقِ وَالْفَجْرِ ، فَلَمَّا بَرَزَ الْفَجْرُ نَزَلَ عَنْ رَاحِلَتِهِ وَتَوَضَّأَ ، فَتَلَاحَقَ النَّاسُ بِهِ ، وَجَاءَ بِلَالٌ لِيُقِيمَ ، فَقَالَ : يَا بِلَالُ ، إِنَّ أَخَا صَدَا أَذَّنَ ، وَإِنَّمَا يُقِيمُ مَنْ أَذَّنَ وَهَذَا نَصٌّ . وَرُوِيَ عَنْ سَعْدِ الْقَرَظِ قَالَ : أَذَّنَّا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقُبَاءٍ ، وَفِي زَمَنِ عُمَرَ بِالْمَدِينَةِ ، فَكَانَ فِي أَذَانِنَا لِلصُّبْحِ لِوَقْتٍ وَاحِدٍ فِي الشِّتَاءِ ، لِسَبْعٍ وَنِصْفٍ يَبْقَى ، وَفِي الصَّيْفِ لِسَبْعٍ يَبْقَى ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ أَرَادَ لِبَقَاءِ سَبْعٍ وَنِصْفٍ مِنَ اللَّيْلِ ، لَا مِنَ النَّهَارِ ، فَدَلَّ عَلَى تَقْدِيمِ الْأَذَانِ عَلَى الْفَجْرِ فَإِنْ قِيلَ : إِنَّمَا أَرَادَ لِبَقَاءِ سَبْعٍ وَنِصْفٍ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ ، وَبَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ . فَقِيلَ : هَذَا بَعِيدٌ ، لِأَنَّ مَا بَعْدَ الْفَجْرِ لَيْسَ مِنَ اللَّيْلِ فَيُضَافُ إِلَيْهِ ، ثُمَّ لَوْ كَانَ كَمَا قَالُوا لَثَبَتَ اسْتِدْلَالُنَا بِهِ أَيْضًا ، لِأَنَّ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَالشَّمْسِ يَكُونُ مِثْلَ سَبْعِ ذَلِكَ الْيَوْمِ فِي طُولِهِ وَقِصْرَهِ ، وَهُوَ كَانَ يَتَقَدَّمُ لِسَبْعٍ وَنِصْفٍ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ تَقَدَّمَ عَلَى الْفَجْرِ ، وَلِأَنَّ الْفَجْرَ يَتَعَلَّقُ بِهِ عِبَادَتَانِ : الصَّوْمُ ، وَصَلَاةُ الصُّبْحِ ، فَلَمَّا جَازَ فِي الصَّوْمِ تَقْدِيمُ بَعْضِ أَسْبَابِهِ عَلَى الْفَجْرِ ، وَهُوَ النِّيَّةُ لِلْحَاجَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَى تَقْدِيمِهَا ، جَازَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ تَقْدِيمُ بَعْضِ أَسْبَابِهَا ، وَهُوَ الْأَذَانُ لِلْحَاجَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَيْهِ ، لِيَتَأَهَّبَ النَّاسُ لَهَا فَيُدْرِكُونَ فَضِيلَةَ تَعْجِيلِهَا . فَكَذَلِكَ هُوَ الِاسْتِدْلَالُ قِيَاسًا أَنَّهَا عِبَادَةٌ يَدْخُلُ وَقْتُهَا بِطُلُوعِ الْفَجْرِ ، فَجَازِ تَقْدِيمُ بَعْضِ أَسْبَابِهَا عَلَيْهِ كَالصَّوْمِ ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةُ جَهْرٍ فِي نَهَارٍ فَجَازَ تَقْدِيمُ أَذَانِهَا قَبْلَ جَوَازِ فِعْلِهَا ، كَالْجُمْعَةِ يُؤَذَّنُ لَهَا قَبْلَ خُطْبَتِهَا ، وَلِأَنَّ الْأَذَانَ إِنْ جُعِلَ تَنْبِيهًا عَلَى الْوَقْتِ كَمَا أَنَّ الْإِقَامَةَ جُعِلَتْ تَنْبِيهًا عَلَى الْفِعْلِ ، فَلَمَّا جَازَ إِيقَاعُ الْإِقَامَةِ قَبْلَ الْفِعْلِ جَازَ ارْتِفَاعُ الْأَذَانِ قَبْلَ الْوَقْتِ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : " لَا تُؤَذِّنْ حَتَّى يَسْتَنِيرَ لَكَ الْفَجْرُ هَكَذَا " . فَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْإِقَامَةُ ، لِأَنَّهُ قَدْ سُمِّيَ أَذَانَا . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ إِلَّا الْمَغْرِبَ يَعْنِي : بَيْنَ كُلِّ أَذَانٍ وَإِقَامَةٍ
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ، وَأَنَسٍ أَنَّ بِلَالًا أَذَّنَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُنَادِيَ عَلَى نَفْسِهِ : أَلَا إِنَّ الْعَبْدَ قَدْ نَامَ . فَمِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ يُقَدِّمُ بِهِ عَلَى الْوَقْتِ الْمُعْتَادِ وَالثَّانِي : أَنَّهُ يُقَدِّمُ الْإِقَامَةَ ، لِأَنَّهَا تُسَمَّى أَذَانًا وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ أَخَّرَ الْأَذَانَ حَتَّى صَارَ مَعَ طُلُوعِ الْفَجْرِ بَعْدَ الْوَقْتِ الْمُعْتَادِ ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ : " أَلَا إِنَّ الْعَبْدَ قَدْ نَامَ " ، وَالنَّوْمُ يَقْتَضِي التَّأْخِيرَ لَا التَّقْدِيمَ وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى سَائِرِ الصَّلَوَاتِ ، فَالْمَعْنَى فِيهَا تَأَهُّبُ النَّاسِ لَهَا عِنْدَ دُخُولِ وَقْتِهَا لِاسْتِيفَاءِ الظُّهْرِ وَالصُّبْحِ ، يَدْخُلُ وَقْتُهُمَا وَلَمْ يَتَأَهَّبِ النَّاسُ لَهَا : لِتَنَوُّمِهِمْ ، فَافْتَرَقَتِ الصُّبْحُ مَعَ غَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى مَا قَبْلَ نِصْفِ اللَّيْلِ فَالْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّهُ وَقْتُ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ ، فَلَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُ الْأَذَانِ إِلَيْهِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَالشَّافِعِيُّ حِينَ جَوَّزَ تَقْدِيمَ الْأَذَانِ لَهَا قَبْلَ الْفَجْرِ قَالَ : وَلَيْسَ ذَلِكَ بِقِيَاسٍ ، وَأَنْتُمْ قَدْ جَوَّزْتُمْ ذَلِكَ قِيَاسًا فَفِيهِ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الْأَصْلُ فِي تَقْدِيمِ الْأَذَانِ الْقِيَاسَ ، وَلَكِنِ السُّنَّةَ ، ثُمَّ كَانَ الْقِيَاسُ تَبَعًا وَمُؤَكِّدًا ، لِأَنَّ مَا وَرَدَ فِيهِ نَصٌّ لَا يُقَالُ إِنَّهُ حُكْمٌ مَأْخُوذٌ مِنَ الْقِيَاسِ ، وَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ يَقْتَضِيهِ وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَرَادَ وَلَيْسَ ذَاكَ بِقِيَاسٍ عَلَى سَائِرِ الصَّلَوَاتِ ، وَإِنْ كَانَ قِيَاسًا عَلَى غَيْرِهَا لِمَنْعِ ذَاكَ مِنْ تَقْدِيمِ الْأَذَانِ لِغَيْرِ الصُّبْحِ
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ تَقْدِيمَ الْأَذَانِ للفجر لَهَا جَائِزٌ ، فَمِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُؤَذِّنَ لَهَا أَذَانَيْنِ : أَذَانٌ قَبْلَ الْفَجْرِ ، وَأَذَانٌ بَعْدَهُ ، ثُمَّ يُقَامُ لَهَا عِنْدَ تَصَوُّرِ فِعْلِهَا ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ إِنَّ بِلَالًا يُنَادِي بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَلَا يَحْمِلُ أَذَانُ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ عَلَى الْإِقَامَةِ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِنَّمَا يُقِيمُ مَنْ أَذَّنَ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " ثُمَّ لَا يَزَالُ وَقْتُ الصُّبْحِ قَائِمًا بَعْدَ الْفَجْرِ مَا لَمْ يُسْفِرْ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا أَوَّلُ وَقْتِ الصُّبْحِ فَهُوَ طُلُوعُ الْفَجْرِ ، وَالْفَجْرُ هُوَ ابْتِدَاءُ تَنَفُّسِ الصُّبْحِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ [ التَّكْوِيرِ : ] ، وَقَالَ الشَّاعِرُ : حَتَّى إِذَا الصُّبْحُ لَهَا تَنَفَّسَا وَانْجَابَ عَنْهَا لَيْلُهَا وَعَسْعَسَا
وَسُمِّيَ فَجْرًا : لِانْفِجَارِ الضَّوْءِ مِنْهُ ، وَهُوَ فَجْرَانِ : فَالْأَوَّلُ أَزْرَقُ يَبْدُو مِثْلَ الْعَمُودِ طُولًا فِي السَّمَاءِ لَهُ شُعَاعٌ ثُمَّ يَهْمَدُ ضَوْؤُهُ ثُمَّ يَبْدُو بَيَاضٌ الثَّانِي بَعْدَهُ عَرَضَا مُنْتَشِرًا فِي الْأُفُقِ ، قَالَ الشَّاعِرُ : وَأَزْرَقُ الْفَجْرِ يَبْدُو قَبْلَ أَبْيَضِهِ وَأَوَّلُ الْغَيْثِ قَطْرٌ ثُمَّ يَنْسَكِبُ وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْفَجْرَيْنَ أَنَّهُ قَالَ : الْفَجْرُ فَجْرَانِ الْأَوَّلُ مُسْتَطِيلٌ وَالثَّانِي مُسْتَطِيرٌ فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ صِفَةِ الْفَجْرَيْنِ ، فَصَلَاةُ الصُّبْحِ تَجِبُ بِالثَّانِي مِنْهُمَا دُونَ الْأَوَّلِ ، لِأَنَّ حَدِيثَ الْمَوَاقِيتِ وَإِنْ لَمْ يَخْتَصَّ أَحَدَ الْفَجْرَيْنَ فَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الْفَجْرُ فَجْرَانِ الْأَوَّلُ كَذَنَبِ السِّرْحَانِ دَقِيقٌ صَعْدٌ لَا يُحَرِّمُ الطُّولَ وَلَا يُحِلُّ الصَّلَاةَ وَرَوَى سَوَادَةُ بْنُ حَنْظَلَةَ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يَمْنَعَنَّكُمْ مِنْ سُحُورِكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ وَلَكِنَّ الْفَجْرَ الْمُسْتَطِيلَ فِي الْأُفُقِ فَدَلَّ هَذَانِ الْحَدِيثَانِ عَلَى افْتِرَاقِ حُكْمِ الْفَجْرَيْنِ وَتَعْلِيقِ الْحُكْمِ فِي الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ بِالثَّانِي مِنْهُمَا دُونَ الْأَوَّلِ ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْأَوَّلَ الْفَجْرَ الْكَذَّابَ ، لِأَنَّهُ يَزُولُ وَلَا يَثْبُتُ ، وَتُسَمِّي الْفَجْرَ الثَّانِيَ الْفَجْرَ الصَّادِقَ ، لِأَنَّهُ صَدَقَكَ عَنِ الصُّبْحِ قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ : شَغَفَ الْكِلَابُ الضَّارِيَاتُ فُؤَادَهُ فَإِذَا بَدَا الصُّبْحُ الْمُصَدِّقُ يَفْزَعُ يُرِيدُ أَنَّ الصَّيْدَ يَأْمَنُ بِاللَّيْلِ ، فَإِذَا بَدَا الصُّبْحُ فَزِعَ مِنَ الْقَنَّاصِ يَجِيءُ نَهَارًا
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا تَجِبُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي ، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهَا ، هَلْ هِيَ مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ أَوْ مِنْ صَلَاةِ النَّهَارِ ؟ صلاة الفجر فَقَالَ قَوْمٌ : هِيَ مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ . حُكِيَ ذَلِكَ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيِمَانِ ، وَالشَّعْبِيِّ ، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : صَلَاةُ النَّهَارِ عُجَمًا إِلَّا الْجُمُعَةَ ، وَالْعِيدَيْنِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنَ اللَّيْلِ ، اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مَا قَبْلَ طُلُوعِهَا مِنَ اللَّيْلِ وَقَالَ آخَرُونَ : هِيَ مِنْ صَلَاةِ النَّوْمِ وَلَيْسَتْ مِنْ صَلَاةِ النَّهَارِ وَلَا مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ [ آلِ عِمْرَانَ : ] ، فَاقْتَضَى أَنْ
يَكُونَ زَمَانُ وُلُوجِ اللَّيْلِ فِي النَّهَارِ وَلَيْسَ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا مِنَ النَّهَارِ ، وَيَكُونَ اللَّيْلُ الَّذِي لَمْ يَلِجْ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ النَّهَارِ لَيْلًا وَهُوَ مَا قَبْلَ الْفَجْرِ ، وَالنَّهَارُ الَّذِي لَمْ يَلِجْ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ اللَّيْلِ نَهَارًا ، وَهُوَ مَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ، أَنَّهَا مِنْ صَلَاةِ النَّهَارِ ، وَأَوَّلُ صَلَاةِ النَّهَارِ طُلُوعُ الْفَجْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ [ الْإِسْرَاءِ : ] . وَالْمُرَادُ بِالطَّرَفِ الْأَوَّلِ : صَلَاةُ الصُّبْحِ فِي قَوْلِ جَمِيعِ الْمُفَسِّرِينَ ، وَقَدْ أَضَافَهَا إِلَى النَّهَارِ ، وَلِأَنَّنَا وَجَدْنَا ضِيَاءَ النَّهَارِ يَطْرَأُ عَلَى ظُلْمَةِ اللَّيْلِ فِي الْفَجْرِ ، كَمَا طَرَأَتْ ظُلْمَةُ اللَّيْلِ عَلَى ضِيَاءِ النَّهَارِ فِي الْمَغْرِبِ ، فَلَمَّا كَانَ الْحُكْمُ لِلطَّارِئِ فِي الْمَغْرِبِ لَا لِلزَّائِلِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ لِلطَّارِئِ فِي الْفَجْرِ مِنَ الضِّيَاءِ لَا لِلزَّائِلِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ زَمَانًا لَيْسَ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا مِنَ النَّهَارِ وَإِنْ كَانَ وَقْتًا لِوُلُوجِ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَا قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ زَمَانًا لَيْسَ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا مِنَ النَّهَارِ وَإِنْ كَانَ وَقْتًا لِوُلُوجِ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا مِنْ صَلَاةِ النَّهَارِ فَوَقْتُهَا فِي الِاخْتِيَارِ بَاقٍ إِلَى أَنْ يَتَكَامَلَ الْإِسْفَارُ : لِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَجَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي الْيَوْمِ الثَّانِي الصُّبْحَ حِينَ أَسْفَرَ ، وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ : " وَتَبَيَّنَ وُجُوهُ الْقَوْمِ " . ثُمَّ يَكُونُ مَا بَعْدَ الْإِسْفَارِ مِنْ وَقْتِهَا فِي الْجَوَازِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ ، قَالَهُ الشَّافِعِيُّ نَصًّا ، وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ : قَدْ خَرَجَ وَقْتُ الصُّبْحِ بِالْإِسْفَارِ فِي الِاخْتِيَارِ وَالْجَوَازِ حَتَّى يَكُونَ فَاعِلُهَا قَاضِيًا ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : وَوَقْتُ الصُّبْحِ مَا لَمْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَةً مِنْهَا فَقَدْ خَرَجَ وَقْتُهَا ، فَاعْتَمَدَ فِي ذَلِكَ عَلَى إِمَامَةِ جِبْرِيلَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي بَيَانِ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ الْخَمْسِ فِي أَوَائِلِهَا وَأَوَاخِرِهَا وَمَا يَتَعَقَّبُهَا أَوْقَاتُ الْجَوَازِ مِنْهَا ، وَهِيَ أَوْقَاتُ الْمُرَفَّهِينَ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ مُقَدَّرًا فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ تَجِبُ الصَّلَاةُ بِأَوَّلِ وَقْتِهَا أَوْ بِآخِرِهِ ؟ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَمَالِكٍ ، وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهَا تَجِبُ بِأَوَّلِ وَقْتِ وَرَفَّهَ بِتَأْخِيرِهَا إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ ، وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي مَذْهَبِهِ ، فَحَكَى عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ الْبَلْخِيُّ مِثْلَ مَذْهَبِنَا ، وَحَكَى أَبُو الْحُسَيْنِ الْكَرْخِيُّ أَنَّ جَمِيعَ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَقْتٌ لِأَدَائِهَا ، وَيَتَعَيَّنُ الْوُجُوبُ بِفِعْلِهَا أَوْ بِضِيقِ وَقْتِهَا ،
وَحَكَى جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ أَنَّهَا تَجِبُ بِآخِرِ الْوَقْتِ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ . فَحَكَى بَعْضُهُمْ عَنْهُ أَنَّهَا تَكُونُ نَفْلًا تَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الْفَرْضِ ، وَحَكَى بَعْضُهُمْ : أَنَّهَا تَكُونُ مَوْقُوفَةً مُرَاعَاةً ، فَإِنْ بَقِيَ عَلَى صِفَةِ الْمُكَلَّفِينَ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ تَيَقُّنًا أَنَّهَا كَانَتْ فَرْضًا وَإِنْ زَالَ عَنْ صِفَةِ التَّكْلِيفِ تَبَيَّنَّا أَنَّهَا كَانَتْ نَفْلًا ، وَهَكَذَا قَالَ فِي تَعْجِيلِ الزَّكَاةِ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْخِيرِهَا عَنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ إِلَى آخِرِهِ ، هَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوطًا بِالْعَزْمِ عَلَى فِعْلِهَا فِيهِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَلْزَمُ اشْتِرَاطُ الْعَزْمِ فِيهِ وَلَا يَقْضِي بِتَأْخِيرِهَا مِنْ غَيْرِ عَزْمٍ وَالثَّانِي : يَلْزَمُ اشْتِرَاطُ الْعَزْمِ فِي تَأْخِيرِهَا لِإِبَاحَةِ التَّأْخِيرِ عَلَى صِفَةِ الْأَوَّلِ قَبْلَ الْعَزْمِ ، فَإِنْ أَخَّرَهَا مِنْ غَيْرِ عَزْمٍ عَلَى فِعْلِهَا فِي آخِرِ الْوَقْتِ كَانَ عَاصِيًا ، وَإِنْ كَانَ لَهَا مُؤَدِّيًا ، وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ إِذَا بَقِيَ مِنْهُ قَدْرُ الْإِحْرَامِ إِلَّا زُفَرَ بْنَ الْهُذَيْلِ ، فَإِنَّهُ قَالَ : تَجِبُ إِذَا بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ قَدْرَ تِلْكَ الصَّلَاةِ ، فَإِنْ صَحَّ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ مَا وَجَبَ فِي زَمَانٍ لَمْ يَجُزْ تَأْخِيرُهُ عَنْ ذَلِكَ الزَّمَانِ ، كَصِيَامِ رَمَضَانَ ، وَمَا جَازَ تَأْخِيرُهُ عَنْ زَمَانٍ لَمْ يَجِبْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ ، كَقَضَاءِ رَمَضَانَ ، فَلَمَّا جَازَ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ عَنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ إِلَى آخِرِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ وَتَجِبُ بِآخِرِهِ ، وَلِأَنَّ وَقْتَ الصَّلَاةِ كَالْحَوْلِ فِي الزَّكَاةِ ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ تَقْدِيمُ الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَتَأْخِيرُهَا إِلَى آخِرِهِ ، كَمَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ وَتَأْخِيرُهَا إِلَى آخِرِهِ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ بِآخِرِ الْحَوْلِ لَا بِأَوَّلِهِ ، وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ يَقْتَضِي أَنْ تَجِبَ بِآخِرِ الْوَقْتِ لَا بِأَوَّلِهِ وَدَلِيلُنَا قَوْلُ جِبْرِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَيَّنَ لَهُ فِي الْيَوْمَيْنِ أَوَّلَ الْوَقْتِ وَآخِرَهُ بَيْنَ هَذَيْنِ وَقْتٌ - يَعْنِي - وَقْتَ الْوُجُوبِ وَالْأَدَاءِ ، لِأَنَّهُ قَصَدَ بَيَانَ الْأَمْرَيْنِ ، وَلِأَنَّهَا مِنْ عِبَادَاتِ الْأَبْدَانِ الْمَحْضَةِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ وَقْتُ فِعْلِهَا الْمَتْبُوعُ وَقْتًا لَهَا فِي الْوُجُوبِ ، كَالصِّيَامِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ وَقْتٍ كَانَ الْمُصَلِّي فِيهِ مُؤَدِّيًا كَانَ الْفَرْضُ بِهِ وَاجِبًا كَآخِرِ الْوَقْتِ وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْجَمْعُ ، لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ الْأَدَاءِ ، وَلَيْسَ بِأَدَاءٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَلِأَنَّ مَا يُسْتَفَادُ بِالْوَقْتِ مِنْ أَحْكَامِ الصَّلَاةِ شَيْئَانِ ، الْوُجُوبُ وَالْأَدَاءُ فَلَمَّا كَانَ آخِرُ الْوَقْتِ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمَانِ مَعًا ، فَأَوَّلُ الْوَقْتِ أَوْلَى أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ الْحُكْمَانِ مَعًا ، لِأَنَّ أَوَّلَهُ مَتْبُوعٌ ، وَآخِرَهُ تَابِعٌ ، وَلِأَنَّ الْوُجُوبَ أَصْلٌ ، وَالْأَدَاءَ فَرْعٌ ، فَلَمَّا كَانَ أَوَّلُ الْوَقْتِ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَدَاءُ وَهُوَ فَرْعٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْتَفِيَ عَنْهُ الْوُجُوبُ الَّذِي هُوَ أَصْلٌ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ الْأَوَّلِ بِجَوَازِ التَّأْخِيرِ فَهُوَ : إِنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ إِنَّمَا هُوَ وَقْتٌ إِلَى بَدَلٍ ، وَهُوَ فِعْلُهَا فِي ثَانِي وَقْتٍ ، وَتَرْكُ الشَّيْءِ إِلَى بَدَلٍ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ ، كَالْكَفَّارَةِ الْوَاجِبَةِ فِيهَا أَحَدُ الثَّلَاثَةِ ، ثُمَّ لَمْ يَدُلُّ تَرْكُ أَحَدِ الثَّلَاثَةِ إِلَى غَيْرِهِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ ، كَذَلِكَ الصَّلَاةُ . عَلَى أَنَّ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ الْوَاجِبُ عَلَى ضَرْبَيْنِ مُوَسَّعُ الْوَقْتِ ، وَمُضَيَّقُ الْوَقْتِ ، فَمَا ضُيِّقَ وَقْتُهُ فَحَدُّهُ مَا ذَكَرُوهُ ، وَمَا وُسِّعَ وَقْتُهُ فَلَيْسَ حَدُّهُ
مَا ذَكَرُوهُ [ وَالصَّلَاةُ وُسِّعَ وَقْتُهَا ، وَلَمْ يُضَيَّقْ ، وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ ، ] مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ وَقْتِ الصَّلَاةِ ، وَحَوْلَ الزَّكَاةِ فَجَمْعٌ فَاسِدٌ ، لِأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ بِانْقِضَاءِ الْحَوْلِ ، وَالصَّلَاةَ تَجِبُ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْوُجُوبِ فَصْلٌ . فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّ وُجُوبَ الصَّلَاةِ يَكُونُ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ ، فَاسْتِقْرَارُ فَرْضِهَا يَكُونُ بِإِمْكَانِ الْأَدَاءِ ، وَهُوَ : أَنْ يَمْضِيَ عَلَيْهِ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ قَدْرَ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ ، وَعِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ ، وَبَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ قَدْرَ رَكْعَتَيْنِ ، فَيَسْتَقِرُّ حِينَئِذٍ فَرْضُهَا بِهَذَا الزَّمَانِ الَّذِي أَمْكَنَ فِيهِ أَدَاؤُهَا بَعْدَ تَقَدُّمِ وُجُوبِهَا بِأَوَّلِ الْوَقْتِ حَتَّى لَوْ مَاتَ مِنْ بَعْدِ هَذَا الزَّمَانِ كَانَ مَيِّتًا بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْفَرْضِ ، وَلَوْ مَاتَ قَبْلَهُ وَبَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ سَقَطَ عَنْهُ الْفَرْضُ ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ : تَجِبُ الصَّلَاةُ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ ، وَيَسْتَقِرُّ فَرْضُهَا بِآخِرِهِ . قَالَ : لِأَنَّ فَرْضَهَا لَوِ اسْتَقَرَّ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ بِإِمْكَانِ الْأَدَاءِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْصُرَهَا إِذَا سَافَرَ فِي آخِرِ وَقْتِهَا ، لِاسْتِقْرَارِ فَرْضِهَا فَلَمَّا جَازَ لَهُ الْقَصْرُ إِذَا سَافَرَ فِي آخِرِ الْوَقْتِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْفَرْضَ لَمْ يَكُنْ قَدِ اسْتَقَرَّ وَإِنَّهُ بِآخِرِ الْوَقْتِ يَسْتَيْقِنُ ، قَالَ أَبُو يَحْيَى الْبُخْلِيُّ : ـ مِنْ أَصْحَابِنَا - أَنَّ الصَّلَاةَ تَجِبُ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ وُجُوبًا مُسْتَقِرًّا وَلَيْسَ إِمْكَانُ الْأَدَاءِ فِيهَا مُعْتَبَرًا ، وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ فَاسِدٌ ، وَاعْتِبَارُ الْإِمْكَانِ فِي اسْتِقْرَارِ الْفَرْضِ أَوْلَى وَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ مُوَسَّعًا ، لِأَنَّ حُقُوقَ الْأَمْوَالِ لَمَّا كَانَ الْإِمْكَانُ شَرْطًا فِي اسْتِقْرَارِ فَرْضِهَا كَانَتْ حُقُوقُ الْأَبْدَانِ أَوْلَى ، وَلَيْسَ جَوَازُ الْقَصْرِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْفَرْضَ لَمْ يَكُنْ مُسْتَقِرًّا ، لِأَنَّ الْقَصْرَ مِنْ صِفَاتِ الْأَدَاءِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ سِمَةً فِي اسْتِقْرَارِ الْفَرْضِ ، كَمَا أَنَّ الصِّحَّةَ ، وَالْمَرَضَ لَمَّا كَانَا مِنْ صِفَاتِ الْأَدَاءِ لَمْ يُجْعَلَا سِمَةً فِي اسْتِقْرَارِ الْفَرْضِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ اسْتِقْرَارَ الْفَرْضِ بِإِمْكَانِ الْأَدَاءِ فَمَتَى أُتِيَ بِالصَّلَاةِ مَا بَيْنَ أَوَّلِ الْوَقْتِ وَآخِرِهِ كَانَ أَدَاءً مُجْزِيًا إِذَا كَانَ الْإِحْرَامُ بِهَا بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ وَالسَّلَامُ مِنْهَا قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ ، وَلَوْ كَانَ الْإِحْرَامُ بِهَا قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ لَمْ يُجْزِهِ لَا أَدَاءً ، وَلَا قَضَاءً ، وَكَانَ عَلَيْهِ إِعَادَتُهَا : وَلَوْ أَحْرَمَ بِهَا بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ فَسَلَّمَ مِنْهَا بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ ، فَإِنْ كَانَ لِعُذْرٍ فِي التَّأْخِيرِ أَجْزَأَتْهُ أَدَاءً ، فَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ أَجْزَأَتْهُ ، وَهَلْ يَكُونُ مَا فَعَلَهُ مِنْهَا بَعْدَ الْوَقْتِ أَدَاءً ، أَوْ قَضَاءً ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي آخِرِ وَقْتِ الْعَصْرِ : فَعَلَى هَذَا لَوْ صَلَّى رَكْعَةً مِنَ الصُّبْحِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَالرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ كَانَتِ الصَّلَاةُ مُجْزِئَةً أَمَّا إِذَا كَانَ مَعْذُورًا وَعَلَى وَجْهَيْنِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا وَلَا تَبْطُلُ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ فِي أَثْنَائِهَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : قَدْ بَطَلَتْ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ . وَقَالَ : إِنَّهَا تَطْلُعُ وَمَعَهَا قَرْنُ الشَيْطَانِ فَكَانَتِ الصَّلَاةُ فِي هَذَا الْوَقْتِ مَنْهِيًّا عَنْهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَقَعَ مَوْقِعَ صَلَاةِ الْمَأْمُورِ بِهَا ، وَلِأَنَّ الْمَفْعُولَ مِنْهَا قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ [ أَدَاءً وَالْمَفْعُولَ مِنْهَا بَعْدَ
طُلُوعِ الشَّمْسِ قَضَاءً ] وَالصَّلَاةُ الْوَاحِدَةُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَتَبَعَّضَ حُكْمًا فِي الْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ فَبَطَلَتْ وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ فَجَعَلَهُ مُدْرِكًا وَمُصَلِّيًا وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَطَالَ صَلَاةَ الصُّبْحِ يَوْمًا فَقِيلَ لَهُ : إِنَّكَ أَطَلْتَ الصَّلَاةَ حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ تَطْلُعُ فَقَالَ : " لَوْ طَلَعَتْ مَا وَجَدَنَا اللَّهُ غَافِلِينَ " . وَكَانَ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ فَلَمْ يُنْكِرُوا عَلَيْهِ فَصَارَ كَالْإِجْمَاعِ ، وَلِأَنَّ خُرُوجَ وَقْتِ الصَّلَاةِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ ، وَلِأَنَّ مَا لَمْ يُبْطِلْ غَيْرَ الصُّبْحِ لَمْ يُبْطِلِ الصُّبْحَ كَالْعَمَلِ الْقَلِيلِ طَرْدًا ، وَالْحَدِيثِ عَكْسًا ، وَلِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الصَّلَاةِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ كَالنَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِهَا ، فَلَمَّا كَانَ الْمُدْرِكُ لِرَكْعَةٍ مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ وَإِنْ صَارَ خَارِجًا إِلَى وَقْتِ صَلَاةٍ ، فَالْمُدْرِكُ لِرَكْعَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَوْلَى ، أَنْ لَا تَبْطُلَ صَلَاتُهُ ، لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ خَارِجًا إِلَى وَقْتِ صَلَاةٍ ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ وَانْفِصَالٌ عَنْ حَيِّزِهِ وَاسْتِدْلَالِهِ ، وَلِأَنَّ طُلُوعَ الشَّمْسِ لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ مِنَ ابْتِدَاءِ الصَّلَاةِ مَعَ النَّهْيِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنَ الْبِنَاءِ عَلَى الصَّلَاةِ مَعَ وُرُودِ النَّهْيِ ، لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْعِبَادَةِ أَغْلَظُ شُرُوطًا مِنَ اسْتِدَامَتِهَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَالْوَقْتُ الْآخَرُ هُوَ وَقْتُ الْعُذْرِ وَالضَّرُورَةِ ، فَإِذَا أُغْمِيَ عَلَى رَجُلٍ فَأَفَاقَ ، وَطَهُرَتِ امْرَأَةٌ مِنْ حَيْضٍ أَوْ نَفَاسٍ ، وَأَسْلَمَ نَصْرَانِيٌّ ، وَبَلَغَ صَبِيٌّ قَبْلَ مَغِيبِ الشَّمْسِ بِرِكْعَةٍ أَعَادُوا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ ، وَكَذَلِكَ قَبْلَ الْفَجْرِ بِرَكْعَةٍ أَعَادُوا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ ، وَكَذَلِكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ بِرَكْعَةٍ أَعَادُوا الصُّبْحَ ، وَذَلِكَ وَقْتُ إِدْرَاكِ الصَّلَوَاتِ فِي الْعُذْرِ وَالضَّرُورَاتِ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ وَأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ بِعَرَفَةَ ، وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ بِمُزْدَلِفَةَ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ وَقْتَهُمَا لِلضَّرُورَاتِ وَاحِدٌ . وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : إِنْ أَدْرَكَ الْإِحْرَامَ فِي وَقْتِ الْآخِرَةِ صَلَّاهُمَا جَمِيعًا . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : لَيْسَ هَذَا عِنْدِي بِشَيْءٍ . وَزَعَمَ الشَافِعِيُّ أَنْ مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الْجُمْعَةِ رَكْعَةً بِسَجْدَتَيْنِ أَتَمَّهَا جُمُعَةً ، وَمَنْ أَدْرَكَ مِنْهَا سَجْدَةً أَتَمَّهَا ظُهْرًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الصَّلَاةِ رَكْعَةً فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ وَمَعْنَى قَوْلِهِ عِنْدِي إِنْ لَمْ تَفُتْهُ وَإِذَا لَمْ تَفُتْهُ صَلَّاهَا جُمُعَةً ، وَالرَّكْعَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِسَجْدَتَيْنِ . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) قُلْتُ : وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الصَّلَاةِ رَكْعَةً قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ لَا يَكُونُ مُدْرِكًا لَهَا إِلَّا بِكَمَالِ
سَجْدَتَيْنِ فَكَيْفَ يَكُونُ مُدْرِكًا لَهَا وَالظُّهْرَ مَعَهَا بِإِحْرَامٍ قَبْلَ الْمَغِيبِ فَأَحَدُ قَوْلَيْهِ يَقْضِي عَلَى الْآخَرِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي أَصْلِ وَقْتِ الْإِقَامَةِ وَالرَّفَاهَةِ . فَأَمَّا وَقْتُ أَهْلِ الْعُذْرِ ، وَالضَّرُورَةِ : كَالْحَائِضِ ، وَالنُّفَسَاءِ إِذَا طَهُرَتَا ، وَالْمَجْنُونِ ، وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ إِذَا أَفَاقَا ، وَالصَّبِيِّ إِذَا بَلَغَ ، وَالْكَافِرِ إِذَا أَسْلَمَ فِي آخِرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ ، فَهُمْ أَهْلُ الْعُذْرِ وَالضَّرُورَةِ ، فَإِنْ قِيلَ فَكَيْفَ يَجُوزُ إِدْخَالُ الْكَافِرِ فِي جُمْلَتِهِمْ وَهُوَ غَيْرُ مَعْذُورٍ بِالتَّأَخُّرِ عَنِ الْإِسْلَامِ وَلَا مُضْطَرٍّ فِي الْمُقَامِ عَلَى الْكُفْرِ . قِيلَ : لِأَنَّ الْكَافِرَ لَمَّا لَزِمَتْهُ الصَّلَاةُ بِإِسْلَامِهِ وَسَقَطَ عَنْهُ مَا تَقَدَّمَ فِي كُفْرِهِ كَالْحَائِضِ إِذَا طَهُرَتْ ، وَالْمَجْنُونِ إِذَا أَفَاقَ ، صَارَ مِنَ الْمَعْذُورِينَ حُكْمًا فِي الْإِسْقَاطِ ، وَالْإِيجَابِ ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لَهُمْ مِنْ قَبْلُ فِي الْإِثْمِ وَالْعِقَابِ فَصَارَ مَجْمُوعُ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَزِمَهُ تَكْلِيفُ الصَّلَاةِ فِي شَيْءٍ مِنْ آخِرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ تَعَلُّقُ الْكَلَامِ بِفَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : بِمَا يُدْرِكُونَهُ مِنَ الْوَقْتِ وَالثَّانِي : مَا يُدْرِكُونَ بِهِ مَا يَجْمَعُ إِلَى صَلَاةِ ذَلِكَ الْوَقْتِ ، وَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِيمَا يُدْرِكُونَ بِهِ صَلَاةَ ذَلِكَ الْوَقْتِ ، فَإِنْ أَدْرَكُوا مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ قَدْرَ رَكْعَةٍ أَدْرَكُوا صَلَاةَ ذَلِكَ الْوَقْتِ ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ بِرَكْعَةٍ أَدْرَكُوا صَلَاةَ الْعَصْرِ ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي بِرَكْعَةٍ أَدْرَكُوا صَلَاةَ عِشَاءِ الْآخِرَةِ ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ بِرَكْعَةٍ أَدْرَكُوا صَلَاةَ الصُّبْحِ ، وَإِنَّمَا لَزِمَتْهُمْ صَلَاةُ ذَلِكَ الْوَقْتِ بِإِدْرَاكِ رَكْعَةٍ مِنْهُ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ ، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ فَأَمَّا إِذَا أَدْرَكُوا مِنَ الْوَقْتِ أَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ فَيَسْتَوِي حُكْمُ مَا نَقَصَ عَنِ الرَّكْعَةِ بِأَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ الرَّكْعَةِ أَوْ قَدْرَ الْإِحْرَامِ مِنْهَا ، وَالْحُكْمُ فِيهَا عَلَى سَوَاءٍ ، وَفِي إِدْرَاكِهِمْ لِصَلَاةِ ذَلِكَ الْوَقْتِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ كُلِّهِ وَأَحَدُ قَوْلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ : أَنَّهُمْ لَا يُدْرِكُونَهَا بِأَقَلِّ مِنْ رَكْعَةٍ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَّرَ الْإِدْرَاكَ بِرَكْعَةٍ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِأَقَلِّ مِنْ رَكْعَةٍ ، لِأَنَّ إِدْرَاكَ الْجُمْعَةِ لَمَّا تَعَلَّقَ بِرَكْعَةٍ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِأَقَلَّ مِنْهَا ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِدْرَاكُ غَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ مُتَعَلِّقًا بِرَكْعَةٍ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِأَقَلَّ مِنْهَا وَالْقَوْلُ الثَّانِي : فِي الْجَدِيدِ أَنَّهُمْ يُدْرِكُونَ صَلَاةَ ذَلِكَ الْوَقْتِ بِأَقَلِّ مِنْ رَكْعَةٍ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لِرِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ فِي عَائِشَةَ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الْعَصْرِ سَجْدَةً قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ ، وَمَنْ أَدْرَكَ مِنَ الصُّبْحِ سَجْدَةً قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ
أَدْرَكَ وَلِأَنَّ إِدْرَاكَ الصَّلَاةِ بِزَمَانِ رَكْعَةٍ إِنَّمَا هُوَ لِمَا لِذَلِكَ الزَّمَانِ مِنَ الْحُرْمَةِ ، وَحُرْمَةُ قَلِيلِ الزَّمَانِ كَحُرْمَةِ كَثِيرِهِ فَوَجَبَ أَنْ يُدْرِكَ صَلَاةَ ذَلِكَ الْوَقْتِ بِقَلِيلِ الزَّمَانِ ، وَكَثِيرِهِ ، وَلِأَنَّ مَا دُونَ الرَّكْعَةِ لَمَّا كَانَ مُسَاوِيًا لِلرَّكْعَةِ فِي إِدْرَاكِ صَلَاةِ الْوَقْتِ فَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَالْمُرَادُ بِهِ إِدْرَاكُ الصَّلَاةِ ، فَيَكُونُ بِإِدْرَاكِ بَعْضِ وَقْتِهَا ، وَقَدْ عَارَضَهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ وَأَمَّا الْجُمْعَةُ فِي أَنَّ إِدْرَاكَهَا لَا يَكُونُ بِأَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ الجمعة فَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ إِدْرَاكِ مَا سِوَاهَا بِأَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْجُمْعَةَ لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْتِيَ بِبَعْضِهَا فِي الْوَقْتِ وَبَعْضِهَا خَارِجَ الْوَقْتِ تَغَلَّظَ حُكْمُهَا : فَلَمْ يُدْرِكْهَا إِلَّا بِرَكْعَةٍ ، وَسَائِرَ الصَّلَوَاتِ لَمَّا جَازَ أَنْ يَأْتِيَ بِبَعْضِهَا فِي الْوَقْتِ وَبَعْضِهَا خَارِجَ الْوَقْتِ خَفَّ حُكْمُهَا ، فَأَدْرَكَهَا بِأَقَلِّ مِنْ رَكْعَةٍ ، وَهَذَا فَرْقُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَالثَّانِي : أَنَّ الْإِدْرَاكَ نَوْعَانِ : إِدْرَاكُ إِلْزَامٍ ، وَإِدْرَاكُ إِسْقَاطٍ ، فَأَمَّا إِدْرَاكُ الْإِسْقَاطِ فَلَا يَكُونُ إِلَّا بِرَكْعَةٍ كَامِلَةٍ كَمَنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ سَاجِدًا لَمْ يُسْقِطْ عَنْ نَفْسِهِ تِلْكَ الرَّكْعَةَ ، فَكَذَا الْجُمْعَةُ لَمَّا كَانَ فِي إِدْرَاكِهَا إِسْقَاطٌ لَمْ يُدْرِكْهَا إِلَّا بِرَكْعَةٍ وَأَمَّا إِدْرَاكُ الْإِلْزَامِ فَيَكُونُ بِأَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ كَمُسَافِرٍ أَدْرَكَ خَلْفَ مُقِيمٍ أَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ لَزِمَهُ الِائْتِمَامُ ، فَكَذَا مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الْوَقْتِ أَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ لَزِمَتْهُ تِلْكَ الصَّلَاةُ لِمَا فِيهَا مِنَ الْإِلْزَامِ وَهَذَا فَرْقُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالثَّالِثُ : أَنَّ صَلَاةَ الْجُمْعَةِ مُدْرَكَةٌ بِالْفِعْلِ ، وَلِذَلِكَ تَسْقُطُ بِفَوَاتِ الْفِعْلِ فَلَمْ يُصَيَّرْ مُدْرِكًا إِلَّا بِمَا يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ أَفْعَالِهَا ، وَسَائِرُ الصَّلَوَاتِ تُدْرَكُ بِالزَّمَانِ فَلِذَلِكَ لَمْ تَسْقُطْ بِفَوَاتِ الزَّمَانِ فَصَارَ مُدْرِكًا لَهَا بِقَلِيلِ الزَّمَانِ وَكَثِيرِهِ . وَهَذَا ذَكَرَهُ أَبُو حَامِدٍ ، فَعَلَى هَذَا يَصِيرُ مُدْرِكًا لِلْعَصْرِ إِذَا أَدْرَكَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ بِقَدْرِ الْإِحْرَامِ وَمُدْرِكًا لِعَشَاءِ الْآخِرَةِ إِذَا أَدْرَكَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي بِقَدْرِ الْإِحْرَامِ ، وَمُدْرِكًا لِلصُّبْحِ إِذَا أَدْرَكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ بِقَدْرِ الْإِحْرَامِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي فِي إِدْرَاكِ الصَّلَاةِ الْمَجْمُوعَةِ إِلَيْهَا كَإِدْرَاكِ الظُّهْرِ بِإِدْرَاكِ الْعَصْرِ ، وَإِدْرَاكِ الْمَغْرِبِ بِإِدْرَاكِ عِشَاءِ الْآخِرَةِ . فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّهُ يُدْرِكُ الْعَصْرَ بِقَدْرِ الْإِحْرَامِ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ فَقَدْ أَدْرَكَ الظُّهْرَ ، لِأَنَّ مِنْ مَذْهَبِهِ فِي الْجَدِيدِ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ أَدْرَكَ الظُّهْرَ ، فَعَلَى هَذَا يَصِيرُ مُدْرِكًا لِلظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِقَدْرِ الْإِحْرَامِ مِنْ وَقْتِ الْعَصْرِ وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّهُ يُدْرِكُ الْعَصْرَ بِرَكْعَةٍ عَلَى الْقَدِيمِ وَأَحَدِ قَوْلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ فَهَلْ يَصِيرُ مُدْرِكًا لِلظُّهْرِ بِإِدْرَاكِ الرَّكْعَةِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ يَصِيرُ مُدْرِكًا لِلظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِإِدْرَاكِ رَكْعَةٍ مِنْ وَقْتِ الْعَصْرِ وَالثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ : إِنَّهُ لَا يَصِيرُ مُدْرِكًا لِلظُّهْرِ بِالرَّكْعَةِ الَّتِي أَدْرَكَ حَتَّى يَنْضَمَّ إِلَى زَمَانِ الرَّكْعَةِ زَمَانٌ آخَرُ ، وَفِيهِ قَوْلَانِ نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي الْقَدِيمِ : أَحَدُهُمَا : زَمَانُ طَهَارَةٍ يَنْضَمُّ إِلَى زَمَانِ الرَّكْعَةِ حَتَّى يَصِيرَ بِذَلِكَ مُدْرِكًا لِلظُّهْرِ وَالْعَصْرِ ، لِأَنَّ الرَّكْعَةَ إِنَّمَا اعْتُبِرَ بِهَا إِدْرَاكُ الْعَصْرِ لِتَكُونَ قَدْرًا مُعْتَدًّا بِهِ إِنَّمَا يَكُونُ بِطَهَارَةٍ وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَصِيرُ مُدْرِكًا لِلظُّهْرِ بِإِدْرَاكٍ لِلظُّهْرِ بِإِدْرَاكِ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ تَنْضَمُّ إِلَى الرَّكْعَةِ حَتَّى يَصِيرَ بِذَلِكَ مُدْرِكًا لِلظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِإِدْرَاكِ خَمْسِ رَكَعَاتٍ : لِيُدْرِكَ زَمَانَ إِحْدَى الصَّلَاتَيْنِ بِكَمَالِهَا وَبِمَا يُعْتَدُّ بِهِ مِنَ الْأُخْرَى . فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْخَمْسِ رَكَعَاتٍ مَا هِيَ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ : أَنَّهَا أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ هِيَ الْعَصْرُ وَرَكْعَةٌ مِنَ الظُّهْرِ ، فَعَلَى هَذَا لَا يُدْرِكُ الْمَغْرِبَ مَعَ عِشَاءِ الْآخِرَةِ إِلَّا بِخَمْسِ رَكَعَاتٍ : أَرْبَعٍ هِيَ الْعِشَاءُ وَرَكْعَةٍ مِنَ الْمَغْرِبِ الْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا : أَنَّهَا أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ هِيَ الظُّهْرُ ، وَرَكْعَةٌ مِنَ الْعَصْرِ ، لِأَنَّ الْعَصْرَ تُدْرَكُ بِرَكْعَةٍ نَصًّا ، وَإِجْمَاعًا ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَعَلَّقَ إِدْرَاكُهَا بِأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ ، فَعَلَى هَذَا يُدْرِكُ الْمَغْرِبَ مَعَ عِشَاءِ الْآخِرَةَ بِإِدْرَاكِ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ : ثَلَاثٌ مِنْهَا الْمَغْرِبُ وَرَكْعَةٌ مِنْ عِشَاءِ الْآخِرَةِ ، فَإِذَا وَضَحَ مَا ذَكَرْنَا صَارَ فِي إِدْرَاكِ الْعَصْرِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : بِرَكْعَةٍ وَالثَّانِي : بِالْإِحْرَامِ ، وَفِي إِدْرَاكِ الظُّهْرِ مَعَهَا أَرْبَعَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : بِقَدْرِ الْإِحْرَامِ وَالثَّانِي : بِرَكْعَةٍ وَالثَّالِثُ : بِرَكْعَةٍ وَطَهَارَةٍ وَالرَّابِعُ : بِخَمْسِ رَكَعَاتٍ ، وَكَذَا فِي إِدْرَاكِ عِشَاءِ الْآخِرَةِ قَوْلَانِ : أَحَدُ هُمَا : بِالْإِحْرَامِ وَالثَّانِي : بِرَكْعَةٍ ، وَفِي إِدْرَاكِ الْمَغْرِبِ مَعَهَا أَرْبَعَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : بِالْإِحْرَامِ أَيْضًا
وَالثَّانِي : بِرَكْعَةٍ وَالثَّالِثُ : بِرَكْعَةٍ وَطَهَارَةٍ وَالرَّابِعُ : فِيهِ وَجْهَانِ : عَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ هُوَ خَمْسُ رَكَعَاتٍ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ هُوَ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ ، وَكَذَا فِي إِدْرَاكِ الصُّبْحِ قَوْلَانِ : أَحَدُ هُمَا : بِالْإِحْرَامِ وَالثَّانِي : بِرَكْعَةٍ وَلَا يُدْرِكُ مَعَ الصُّبْحِ غَيْرَهَا ، لِأَنَّ صَلَاةَ الصُّبْحِ لَا تُجْمَعُ إِلَى غَيْرِهَا
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا فَقَدْ يَصِيرُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مُدْرِكًا لِلظُّهْرِ بِإِدْرَاكِ شَيْءٍ مِنْ وَقْتِ الْعَصْرِ وَقَالَ أَبُوِ حَنِيفَةَ : لَا يَصِيرُ مُدْرِكًا لِلظُّهْرِ إِلَّا بِإِدْرَاكِ شَيْءٍ مِنْ وَقْتِهَا اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ فَجَعَلَ مَا تَعَلَّقَ بِالرَّكْعَةِ مِنَ الْحُكْمِ إِدْرَاكَ الْعَصْرِ دُونَ الظُّهْرِ ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ لَمْ يُدْرِكْ شَيْئًا مِنْ وَقْتِهَا فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَ فَرْضَهَا ، كَمَا لَوْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ لَمْ يُدْرِكِ الَّتِي قَبْلَهَا ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَلْزَمْهُ الْعَصْرُ بِإِدْرَاكِ الظُّهْرِ وَإِنْ كَانَ وَقْتَاهُمَا فِي الْجَمْعِ وَاحِدًا ، لَمْ يَلْزَمْهُ الظُّهْرُ بِإِدْرَاكِ الْعَصْرِ ، وَإِنْ كَانَ وَقْتَاهُمَا فِي الْجَمْعِ وَاحِدًا وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ [ الْإِسْرَاءِ : ] . وَالْمُرَادُ بِالطَّرَفِ الثَّانِي عَلَى مَا حَكَيْنَا عَنْ مُجَاهِدٍ صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ ، وَعَلَّقَهُمَا بِطَرَفٍ النَّهَارِ ، وَطَرَفُهُ آخِرُهُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِإِدْرَاكِ شَيْءٍ مِنْ طَرَفِ النَّهَارِ ، وَلِأَنَّ وَقْتَ الْعَصْرِ فِي أَدَاءِ ، الْمَعْذُورِينَ مِنَ الْمُسَافِرِينَ وَالْمَمْطُورِينَ وَقْتُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ أَدَاءً لَا قَضَاءً فَكَانَ إِدْرَاكُ الْعَصْرِ إِدْرَاكًا لَهُمَا لِاشْتِرَاكِ وَقْتِهِمَا ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَى هَذَا الِاسْتِدْلَالِ وَقْتُ الظُّهْرِ أَنَّهُ لَا يُدْرِكُ بِهِ صَلَاةَ الْعَصْرِ ، لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَ وَقْتًا لِلْمُسَافِرِينَ مِنَ الْمَعْذُورِينَ فَلَيْسَ بِوَقْتٍ لِلْمَمْطُورِينَ ، وَفِيهِ انْفِصَالٌ وَيَتَحَرَّرُ مِنَ اعْتِلَالِهِ قِيَاسَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ وَقْتٌ لَوْ أُخِّرَتْ صَلَاةُ الظُّهْرِ إِلَيْهِ كَانَتْ أَدَاءً فِيهِ ، فَوَجَبَ أَنْ تَصِيرَ لَازِمَةً بِهِ قِيَاسًا عَلَى وَقْتِ الظُّهْرِ وَالثَّانِي : أَنَّهَا صَلَاةٌ يَجُوزُ تَأْخِيرُ أَدَائِهَا إِلَى وَقْتٍ فَوَجَبَ أَنْ يُلْزَمَ بِإِدْرَاكِ ذَلِكَ الْوَقْتِ كَالْعَصْرِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِالْخَبَرِ فَهُوَ أَنَّ إِثْبَاتَ الْعَصْرِ بِهِ لَا يُوجِبُ نَفْيَ الظُّهْرِ عَنْهُ ، لِأَنَّ إِثْبَاتَ الشَّيْءِ يُوجِبُ نَفْيَ ضِدِّهِ ، وَلَا يُوجِبُ نَفْيَ غَيْرِهِ وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الصُّبْحِ فَالْمَعْنَى فِيهِ يُنَافِي وَقْتَهَا فِي الْعُذْرِ وَالضَّرُورَاتِ
فَصْلٌ : قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي زَوَالِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَعْذَارِ ، وَالضَّرُورَاتِ فِي آخِرِ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ ، فَأَمَّا إِذَا طَرَأَتْ هَذِهِ الْأَعْذَارُ عَلَى إِنْسَانٍ فِي وَقْتٍ مِنْ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ ، فَيَجِبُ أَنْ يَبْدَأَ بِحُكْمِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي إِسْقَاطِ الصَّلَاةِ بِهِ مُدَّةَ بَقَائِهِ ، ثُمَّ يُعْقِبُهُ بِحُكْمِ صَلَاةِ الْوَقْتِ الَّذِي طَرَأَ الْعُذْرُ عَلَيْهِ فِي أَثْنَائِهِ فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ الْحُكْمُ فِي إِسْقَاطِ الصَّلَاةِ بِهِ فَنَقُولُ : أَمَّا الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ فَيُسْقِطَانِ فَرْضَ الصَّلَاةِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي " كِتَابِ الْحَيْضِ " ، أَمَّا الْكُفْرُ إِذَا طَرَأَ بِالرِّدَّةِ فَلَا يُوجِبُ سُقُوطَ الصَّلَاةِ بِخِلَافِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ مَعَهُ مِنْ بَعْدُ فِي مَوْضِعِهِ ، وَأَمَّا الْجُنُونُ فَيُسْقِطُ فَرْضِ الصَّلَاةِ إِجْمَاعًا لِسُقُوطِ التَّكْلِيفِ فِيهِ ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ ذَكَرَ فِيهَا الْمَجْنُونَ حَتَّى يُفِيقَ وَأَمَّا الْإِغْمَاءُ فَيُسْقِطُ فَرْضَ الصَّلَاةِ إِذَا اسْتَدَامَ جَمِيعَ وَقْتِهَا وَإِنْ كَانَتْ صَلَاةً وَاحِدَةً وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنِ اسْتَدَامَ أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ حَتَّى دَخَلَتِ الصَّلَاةُ فِي حَدِّ التَّكْرَارِ سَقَطَ فَرْضُهَا ، وَإِنْ قَصَرَ عَنِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةَ حَتَّى لَمْ تَدْخُلِ الصَّلَاةُ فِي التَّكْرَارِ لَمْ يَسْقُطْ فَرْضُهَا وَلَزِمَ إِعَادَتُهَا : اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ صَلَوَاتٍ - الظُّهْرُ ، وَالْعَصْرُ ، وَالْمَغْرِبُ ، وَالْعِشَاءُ ، - فَلَمَّا أَفَاقَ قَضَاهَا قَالَ : وَلِأَنَّ الْخَمْسَ فِي حَدِّ الْقِلَّةِ ، وَلَيْسَ فِي إِعَادَتِهَا مَشَقَّةٌ ، وَالزِّيَادَةَ عَلَيْهَا فِي حَدِّ الْكَثْرَةِ ، وَفِي إِعَادَتِهَا مَشَقَّةٌ قَالَ : وَلِأَنَّ الْإِغْمَاءَ لَا يُسْقِطُ فَرْضَ الصِّيَامِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُسْقِطَ فَرْضَ الصَّلَاةِ كَالسُّكْرِ وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي كِتَابِهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُلُ يُغْمَى عَلَيْهِ فَيَتْرُكُ الصَّلَاةَ فَقَالَ : " لَيْسَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ قَضَاءٌ إِلَّا أَنْ يُغْمَى عَلَيْهِ فَيُفِيقَ فِي وَقْتِهَا فَيُصَلِّيَهَا هَذَا نَصٌّ . وَلِأَنَّ زَوَالَ الْعَقْلِ إِذَا لَمْ يَلْزَمْ مَعَهُ قَضَاءُ الْمَتْرُوكِ فِي الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ لَمْ يَلْزَمْ مَعَهُ قَضَاءُ الْمَتْرُوكِ فِي الْمُدَّةِ الْقَصِيرَةِ كَالْجُنُونِ طَرْدًا ، وَالسُّكْرِ عَكْسًا ، وَلِأَنَّ كُلَّ صَلَاةٍ لَوْ مَضَى عَلَيْهَا وَقْتُهَا فِي الْجُنُونِ لَمْ يُقْضَ فَإِذَا مَضَى عَلَيْهِ وَقْتُهَا فِي الْإِغْمَاءِ لَمْ يُقْضَ قِيَاسًا عَلَى مَا زَادَ عَلَى الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ طَرْدًا ، وَكَوَقْتِ الظُّهْرِ عَكْسًا ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَعْنًى يَسْقُطُ مَعَهُ أَدَاءُ الصَّلَاةِ يَسْقُطُ مَعَهُ قَضَاءُ الصَّلَاةِ ، كَالصِّغَرِ ، وَلِأَنَّ زَوَالَ الْعَقْلِ ضَرْبَانِ : ضَرْبٌ لَا يُسْقِطُ الْقَضَاءَ فَيَسْتَوِي قَلِيلُ الزَّمَانِ وَكَثِيرُهُ كَالسُّكْرِ ، وَضَرْبٌ يُسْقِطُ الْقَضَاءَ
فَيَسْتَوِي قَلِيلُ الزَّمَانِ وَكَثِيرُهُ كَالْجُنُونِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا اخْتَلَفَا فِيهِ مِنَ الْإِغْمَاءِ مُلْحَقًا بِأَحَدِ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِحَدِيثِ عَمَّارٍ فَقَدْ خَالَفَهُ ابْنُ عُمَرَ ، أُغْمِيَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَقْضِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَضَاهُ اسْتِحْبَابًا وَأَمَّا اعْتِبَارُهُمْ بِأَنَّ الْقَلِيلَ لَا يُلْحِقُ فِي إِعَادَتِهِ مَشَقَّةً فَيَعْسُرُ بِالْجُنُونِ لِأَنَّهُ يُسْقِطُ إِعَادَةَ الْقَلِيلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي إِعَادَتِهِ مَشَقَّةٌ ، وَأَمَّا اعْتِبَارُهُمُ الصَّلَاةَ بِالصِّيَامِ فَفَاسِدٌ عَلَى قَوْلِنَا ، وَقَوْلِهِمْ ، لِأَنَّ الصَّوْمَ تَجِبُ إِعَادَتُهُ وَإِنْ كَثُرَ ، وَالصَّلَاةَ عِنْدَهُمْ لَا تَجِبُ إِعَادَتُهَا إِذَا كَثُرَتْ ، فَالْمَعْنَى الَّذِي فَرَّقُوا بِهِ فِي الْإِغْمَاءِ بَيْنَ كَثِيرِ الصَّلَاةِ وَكَثِيرِ الصِّيَامِ بِمِثْلِهِ فَرَّقْنَا بَيْنَ كُلِّ الصَّلَاةِ وَكُلِّ الصِّيَامِ ، وَثَمَّ يُقَالُ : لَهُمُ الصَّوْمُ أُدْخِلَ فِي الْقَضَاءِ مِنَ الصَّلَاةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَائِضَ نُوجِبُ عَلَيْهَا قَضَاءَ الصِّيَامَ وَلَا نُوجِبُ قَضَاءَ الصَّلَاةِ
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ فَرْضَ الصَّلَاةِ يَسْقُطُ بِالْإِغْمَاءِ وَالْجُنُونِ ، وَالْحَيْضِ ، وَالنِّفَاسِ ، فَطَرَآنُ هَذِهِ الْأَعْرَاضِ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ مِثَالُهُ : أَنْ يَطْرَأَ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ ، نُظِرَ فَإِنْ مَضَى مِنْ حَالِ السَّلَامَةِ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ قَدْرَ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ لَزِمَهُ صَلَاةُ الظُّهْرِ وَحْدَهَا دُونَ الْعَصْرِ ، لِاسْتِقْرَارِ فَرْضِهَا بِهَذَا الْقَدْرِ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ : لَا يَلْزَمُهُمْ صَلَاةُ الظُّهْرِ ، لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ اسْتِقْرَارَ الْفَرْضِ بِآخِرِ الْوَقْتِ ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ مَعَهُ فَإِنْ مَضَى مِنْ وَقْتِ السَّلَامَةِ بَعْدَ الزَّوَالِ قَدْرُ رَكْعَةٍ وَطَرَأَتْ هَذِهِ الْأَعْذَارُ الطارئة بعد دخول وقت الصلاة ( الإغماء - الجنون - الحيض ) لَمْ يَلْزَمْهُمْ فَرْضُ الظُّهْرِ ، لِأَنَّ فَرْضَهَا بِزَمَانِ الْإِمْكَانِ يَسْتَقِرُّ ، وَقَالَ أَبُو يَحْيَى الْبَلْخِيُّ . قَدْ لَزِمَتْهُمْ صَلَاةُ الظُّهْرِ ، لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ الْفَرْضَ يَجِبُ وُجُوبًا مُسْتَقِرًّا بِأَوَّلِ الْوَقْتِ ، قَالَ : وَفِي إِدْرَاكِ الْعَصْرِ مَعَهَا قَوْلَانِ . فَجَعَلَ أَبُو يَحْيَى إِدْرَاكَ رَكْعَةٍ مِنْ أَوَّلِ وَقْتِ الظُّهْرِ كَإِدْرَاكِ رَكْعَةٍ مِنْ آخِرِ وَقْتِ الْعَصْرِ ، وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ الْبِنَاءَ عَلَى مَا أُدْرِكَ مِنْ آخِرِ وَقْتِ الْعَصْرِ مُمْكِنٌ فَلَزِمَ بِهِ الْفَرْضُ ، وَالْبِنَاءَ عَلَى مَا أُدْرِكَ مِنْ أَوَّلِ وَقْتِ الظُّهْرِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَلَمْ يَلْزَمْ بِهِ الْفَرْضُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -
بَابُ صِفَةِ الْأَذَانِ وَمَا يُقَامُ لَهُ مِنَ الصَّلَوَاتِ وَلَا يُؤَذَّنُ
بَابُ صِفَةِ الْأَذَانِ وَمَا يُقَامُ لَهُ مِنَ الصَّلَوَاتِ وَلَا يُؤَذَّنُ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ فِي أَذَانِهِ ، وَإِقَامَتِهِ إِلَّا مُسْتَقْبِلًا الْقِبْلَةَ لَا تَزُولُ قَدَمَاهُ وَلَا وَجْهُهُ عَنْهَا " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْأَذَانُ تعريفه فِي اللُّغَةِ : فَهُوَ الْإِعْلَامُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [ الْحَجِّ : ] ، أَيْ : أَعْلَمَهُمْ بِهِ وَقَالَ الْحُطَيْئَةُ : أَلَا إِنَّ لَيْلَى أَذَّنَتْ بِقُفُولٍ وَمَا أَذَنَتْ ذَا حَاجَةٍ بِرَحِيلِ فَسُمِّيَ الْأَذَانُ لِلصَّلَاةِ أَذَانًا ، لِأَنَّهُ إِعْلَامٌ بِدُخُولِ وَقْتِهَا وَحُضُورِ فَعْلِهَا وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [ الْجُمْعَةِ : ] . وَقَالَ تَعَالَى : وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا [ فُصِّلَتْ : ] ، وَقَالَ تَعَالَى : وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا [ فُصِّلَتْ : ] ، قِيلَ فِي أَحَدِ تَأْوِيلَيْهَا : أَنَّهُمُ الْمُؤَذِّنُونَ ، وَكَانَ السَّبَبُ فِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاوَرَ أَصْحَابَهُ فِي عَلَامَةٍ تَكُونُ لَهُمْ عِنْدَ أَوْقَاتِ صَلَوَاتِهِمْ . فَأَشَارَ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ بِالنَّاقُوسِ فَقَالَ : ذَاكَ مِزْمَارُ النَّصَارَى . وَأَشَارَ آخَرُونَ بِالْقَرْنِ فَقَالَ : ذَاكَ مِزْمَارُ الْيَهُودِ . وَأَشَارَ آخَرُونَ بِالرَّايَةِ فَقَالَ : مَا تَصْنَعُونَ بِاللَّيْلِ . ثُمَّ هَمَّ أَنْ يُعْمِلَ النَّاقُوسَ فَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ ، عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ : لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاقُوسِ يُعْمَلُ لِيُضْرَبَ بِهِ لِلنَّاسِ لِجَمْعِ الصَّلَاةِ ، طَافَ بِي رَجُلٌ وَأَنَا نَائِمٌ ، رَجُلٌ يَحْمِلُ نَاقُوسًا فِي يَدِهِ فَقُلْتُ : يَا عَبْدَ اللَّهِ أَتَبِيعُ النَّاقُوسَ . قَالَ : وَمَا تَصْنَعُ بِهِ . فَقُلْتُ : نَدْعُو بِهِ إِلَى الصَّلَاةِ . قَالَ : أَفَلَا أَدُلُّكَ عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ ؟ فَقُلْتُ : بَلَى . قَالَ : تَقُولُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ . إِلَى آخِرِ الْأَذَانِ - مِنْ غَيْرِ تَرْجِيعٍ - قَالَ : ثُمَّ اسْتَأْخَرَ عَنِّي غَيْرَ بَعِيدٍ ، ثُمَّ قَالَ : ثُمَّ تَقُولُ إِذَا أَقَمْتَ الصَّلَاةَ : اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِلَى آخِرِ الْإِقَامَةِ . فُرَادَى ، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا رَأَيْتُ فَقَالَ : إِنَّهَا لَرُؤْيَا حَقٍّ ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، فَقُمْ مَعَ بِلَالٍ فَأَلْقِ عَلَيْهِ مَا رَأَيْتَ فَلْيُؤَذِّنْ بِهِ فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْكَ . فَقُمْتُ مَعَ بِلَالٍ فَجَعَلْتُ أُلْقِيهِ عَلَيْهِ وَيُؤَذِّنُ بِهِ . قَالَ : فَسَمِعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَهُوَ
فِي بَيْتِهِ فَخَرَجَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ وَهُوَ يَقُولُ : وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لَقَدْ رَأَيْتُ مِثْلَ مَا رَأَى ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَلِلَّهِ الْحَمْدُ . فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الْأَذَانَ سُنَّةٌ
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَذَانَ لِلصَّلَاةِ سُنَّةٌ فَالصَّلَوَاتُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ مِنَ السُّنَّةِ لَهَا الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ في الصَّلَوَاتُ الْمَفْرُوضَاتُ وَهِيَ الصَّلَوَاتُ الْمَفْرُوضَاتُ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَقِسْمٌ مِنَ السُّنَّةِ يُنَادِي لَهَا الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ مِنْ غَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ وَهُوَ مَا يُقَامُ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ غَيْرِ الْمَفْرُوضِ كَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ ، وَالْخُسُوفَيْنِ ، وَالِاسْتِسْقَاءِ ، هل يجب فيه الأذان اقْتِدَاءً بِالسُّنَّةِ فِيهَا وَأَنَّ فِي الْأَذَانِ لَهَا إِدْخَالَ شَكٍّ عَلَى سَامِعِيهِ فِي الدُّعَاءِ إِلَيْهَا وَإِلَى صَلَاةِ الْوَقْتِ ، وَقِسْمٌ لَيْسَ مِنَ السُّنَّةِ لَا أَذَانَ لَهَا وَلَا نِدَاءَ إِلَيْهَا وَهُوَ مَا سِوَى الْقِسْمَيْنِ مِنَ النُّذُورِ ، وَالسُّنَنِ ، وَالنَّوَافِلِ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُومُ إِلَى سُنَنِهِ وَإِلَى نَوَافِلِهِ مِنْ غَيْرِ أَذَانٍ وَلَا نِدَاءٍ
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَاهُ مِنْ سُنَنِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ بِهِمَا اتِّبَاعًا لِمُؤَذِّنِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِرِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ شَرَفًا وَإِنَّ شَرَفَ الْمَجْلِسِ مَا اسْتَقْبَلَ بِهِ الْقِبْلَةَ وَإِنَّمَا تُجَالِسُونَ بِالْأَمَانَةِ وَلِأَنَّ الْأَذَانَ دُعَاءٌ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مِنْ سُنَّتِهِ التَّوَجُّهُ إِلَيْهَا وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخُطْبَةِ حَيْثُ اسْتَقْبَلَ بِهَا النَّاسَ وَاسْتَدْبَرَ بِهَا الْقِبْلَةَ أَنَّ الْخُطْبَةَ مَوْعِظَةٌ وَتَخْوِيفٌ لِلْمُحَاضِرِينَ ، فَكَانَ مِنْ إِجْمَالِ عِشْرَتِهِمُ الْإِقْبَالُ عَلَيْهِمْ وَالْأَذَانُ إِعْلَامٌ لِمَنْ بَعُدَ وَدُعَاءٌ لِمَنْ غَابَ مِمَّنْ فِي سَائِرِ الْجِهَاتِ ، فَكَانَ مِنْ سُنَّتِهِ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ ، في الأذان فَأَمَّا الْمُؤَذِّنُ فِي الْمَنَارَةِ إِذَا أَرَادَ الطَّوَافَ فِي مَجَالِهَا فَقَدْ كَانَتِ الْمَنَارَةُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَهْدِ خُلَفَائِهِ مِنْ بَعْدِهِ مُرَبَّعَةً لَا مَجَالَ لَهَا ، حَتَّى أَحْدَثَ الْمَنَارَةَ الْمُدَوَّرُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ بِالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ ، فَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ لَطِيفًا وَالْعَدَدُ يَسِيرًا فَلَيْسَ لِلْمُؤَذِّنِ أَنْ يَدُورَ فِي مَجَالِهَا لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ دَاعِيَةٍ ، وَوَقَفَ إِلَى جِهَةَ الْقِبْلَةِ حَتَّى يَنْتَهِيَ أَذَانُهُ وَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ وَاسِعًا ، وَالْعَدَدُ كَثِيرًا كَالْبَصْرَةِ فَفِي جَوَازِ طَوَافِهِ فِي مَجَالِهَا وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ لِمَا ذَكَرْنَا وَالثَّانِي : يَجُوزُ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْإِبْلَاغِ وَالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْجِهَاتِ وَإِنَّ عَدَا الْأَمْصَارِ أَقَرُّوا
الْمُؤَذِّنِينَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُنْكِرُوهُ ، وَلَكِنْ لَا يَطُوفُ إِلَّا فِي قَوْلِهِ " حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ " ، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَلْتَفِتُ فِيهِ يَمِينًا وَشِمَالًا ، فَلَوْ خَالَفَ الْمُؤَذِّنُ وَاسْتَدْبَرَ الْقِبْلَةَ بِأَذَانِهِ فَقَدْ أَسَاءَ وَأَجْزَأَهُ فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ شَرَعَ فِي الْخُطْبَةِ اسْتِقْبَالَ جِهَةٍ وَلَوِ اسْتَدْبَرَهَا لَمْ يُجْزِهِ ، وَشَرَعَ فِي الْأَذَانِ اسْتِقْبَالَ جِهَةٍ وَلَوِ اسْتَدْبَرَهَا أَجْزَأَهُ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ؟ قِيلَ : مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ : يَجْزِيهِ مِنَ الْخُطْبَةِ كَمَا يُجْزِئُهُ مِنَ الْأَذَانِ وَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ فِي الْخُطْبَةِ بِخِلَافِ الْأَذَانِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْخُطْبَةَ لَمَّا كَانَتْ فَرْضًا كَانَ اسْتِقْبَالُ الْجِهَةِ الْمَشْرُوعَةِ فِيهَا فَرْضًا ، وَالْأَذَانَ لَمَّا كَانَ سُنَّةً كَانَ اسْتِقْبَالُ الْجِهَةِ الْمَشْرُوعَةِ فِيهِ سُنَّةً وَالثَّانِي : أَنَّ فِي الْعُدُولِ عَنِ الْجِهَةِ الْمَشْرُوعَةِ فِي الْخُطْبَةِ عُدُولًا عَنْ أَهْلِهَا الْمَقْصُودِينَ بِهَا وَلَيْسَ فِي الْعُدُولِ عَنِ الْجِهَةِ الْمَشْرُوعَةِ فِي الْأَذَانِ عُدُولٌ عَنْ أَهْلِهِ الْمَقْصُودِينَ بِهِ
فَصْلٌ : وَمِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُؤَذِّنَ قَائِمًا اقْتِدَاءً بِمُؤَذِّنِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَإِنْ أَذَّنَ جَالِسًا أَجْزَأَهُ ، وَلَوْ خَطَبَ فِي الْجُمْعَةِ جَالِسًا لَمْ يُجْزِهِ ، لِأَنَّ الْأَذَانَ لَمَّا كَانَ مَسْنُونًا كَانَ الْقِيَامُ فِيهِ مَسْنُونًا ، وَالْخُطْبَةَ لَمَّا كَانَتْ وَاجِبَةً كَانَ الْقِيَامُ فِيهَا وَاجِبًا ، فَأَمَّا إِنْ أَذَّنَ مَاشِيًا فَإِنْ كَانَ قَدِ انْتَهَى فِي مَشْيِهِ إِلَى حَيْثُ لَا يَسْمَعُ مَنْ كَانَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي ابْتَدَأَ فِي الْأَذَانِ فِيهِ بَقِيَّةَ أَذَانِهِ لَمْ يُجْزِهِ ، وَإِنِ انْتَهَى إِلَى حَيْثُ يَسْمَعُونَهُ أَجْزَأَهُ ، لِأَنَّهُ إِذَا انْتَهَى إِلَى حَيْثُ لَا يَسْمَعُهُ مَنْ كَانَ فِي الْمَوْضِعِ الْأَوَّلِ صَارَ الْمَوْضِعُ مُخْتَلِفًا فِي ابْتِدَاءِ الْأَذَانِ وَانْتِهَائِهِ فَلَمْ يَصْرِدْ أَعْيَابَهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَيَقُولُ " اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَهُ أَكْبَرُ ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ أَشْهَدُ أَنَّ مُحْمَدًا رَسُولُ اللَّهِ ، ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَمُدُّ صَوْتَهُ فَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَا اللَّهُ ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " وَاحْتَجَّ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَ أَبَا مَحْذُورَةَ هَذَا الْأَذَانَ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْأَذَانِ عدد كلماته عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهُ تِسْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً عَلَى مَا وَصَفَهُ بِتَرْجِيعِ الشَّهَادَتَيْنِ وَالثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ : أَنَّ الْأَذَانَ سَبْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً بِتَرْجِيعِ الشَّهَادَتَيْنِ لَكِنْ بِإِسْقَاطِ تَكْبِيرَتَيْنِ مِنَ التَّكْبِيرَاتِ الْأَرْبَعِ فِي أَوَّلِهِ
وَالثَّالِثُ : هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَذَانَ خَمْسَ عَشْرَةَ كَلِمَةً بِإِثْبَاتِ التَّكْبِيرَاتِ الْأَرْبَعِ فِي أَوَّلِهِ وَإِسْقَاطِ تَرْجِيعِ الشَّهَادَتَيْنِ ، فَصَارَ مَالِكٌ مُوَافِقًا لَنَا فِي التَّرْجِيعِ مُخَالِفًا فِي التَّكْبِيرِ ، وَصَارَ أَبُو حَنِيفَةَ مُوَافِقًا لَنَا فِي التَّكْبِيرِ مُخَالِفًا فِي التَّرْجِيعِ وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ وَأَنَّهُ أَصْلُ الْأَذَانِ ، وَهُوَ خَمْسَ عَشْرَةَ كَلِمَةً فَتَرَكَ التَّرْجِيعَ وَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَالًا بِهِ فَكَانَ يُؤَذِّنُ كَذَلِكَ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا بِمَشْهَدِهِ قَالَ : وَلِأَنَّهُ دُعَاءٌ لِلصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّرْجِيعُ غَيْرَ مَسْنُونٍ فِيهِ كَالْإِقَامَةِ . قَالَ : وَلِأَنَّ كَلِمَةَ الْإِخْلَاصِ إِذَا تَعَقَّبَتِ التَّكْبِيرَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَلَى الشَّطْرِ مِنْ عَدَدِ ذَلِكَ التَّكْبِيرِ أَصْلُهُ : آخِرُ الْأَذَانِ يُكَبَّرُ فِيهِ مَرَّتَيْنِ وَيَقُولُ : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مَرَّةً وَاحِدَةً وَلِأَنَّ لَفْظَ الْأَذَانِ إِذَا كَانَ مَسْنُونَ التَّكْرَارِ أَرْبَعًا كَانَ مَسْنُونَ الْمُوَالَاةِ كَالتَّكْبِيرَاتِ الْأُولَى وَدَلِيلُنَا : رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي مَحْذُورَةَ ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَيْرِيزٍ أَخْبَرَهُ وَكَانَ يَتِيمًا فِي حِجْرِ أَبِي مَحْذُورَةَ حِينَ جَهَّزَهُ إِلَى الشَّامِ قَالَ : قُلْتُ لِأَبِي مَحْذُورَةَ : أَيْ عَمِّ إِنِّي خَارِجٌ إِلَى الشَّامِ وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ أُسْأَلَ عَنْ تَأْذِينِكَ فَأَخْبِرْنِي . قَالَ : نَعَمْ ، لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى غَزَاةِ خَيْبَرَ خَرَجْنَا نَنْظُرُ إِلَيْهِ ، فَأَذَّنَ مُؤَذِّنُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَرَخْنَا نَحْكِيهِ وَنَسْتَهْزِئُ بِهِ ، فَلَمْ يُرْسِلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا وَقَدْ أَخَذُونَا وَذَهَبُوا بِنَا إِلَيْهِ فَقَالَ : أَيُّكُمْ سَمِعْتُ صَوْتَهُ مُرْتَفِعًا . فَأَشَارَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ إِلَيَّ وَصَدَقُوا ، فَأَرْسَلَهُمْ وَحَبَسَنِي وَقَالَ : قُمْ فَأَذِّنْ بِالصَّلَاةِ . فَقُمْتُ وَمَا شَيْءٌ أَكْرَهُ إِلَيَّ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا مِمَّا يَأْمُرُ بِهِ فَقُمْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَلْقَى عَلَيَّ التَّأْذِينَ هُوَ بِنَفْسِهِ فَقَالَ : قُلْ : اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ . إِلَى أَنْ قَالَ لِيَ : ارْجِعْ وَامْدُدْ مِنْ صَوْتِكَ . ثُمَّ قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ . إِلَى آخِرِ الْأَذَانِ ، ثُمَّ دَعَا لِيَ وَأَعْطَانِي صُرَّةً فِيهَا شَيْءٌ مِنْ فِضَّةٍ وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى نَاصِيَتِي ، وَقَالَ : بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ . فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مُرْنِي بِالتَّأْذِينِ بِمَكَّةَ . فَقَالَ : قَدْ أَمَرْتُكَ بِهِ . فَذَهَبَ كُلُّ شَيْءٍ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كَرَاهِيَةٍ وَعَادَ ذَلِكَ مَحَبَّةً قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَأَدْرَكْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي مَحْذُورَةَ يُؤَذِّنُ كَمَا حَكَى ابْنُ مُحَيْرِيزٍ " وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ سَعْدِ الْقَرَظِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِلَالًا بِالتَّرْجِيعِ وَرُوِيَ أَنَّ سَعْدَ الْقَرَظِ أَذَّنَ وَرَجَّعَ وَقَالَ : هَكَذَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَالًا أَنْ يُؤَذِّنَ ، وَلِأَنَّهُ سُنَّةُ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ يَنْقُلُهُ خَلْفُهُمْ عَنْ سَلَفِهِمْ ، وَأَصَاغِرُهُمْ عَنْ أَكَابِرِهِمْ ، مِنْ غَيْرِ تَنَازُعٍ بَيْنَهُمْ ، وَلَا اخْتِلَافٍ فِيهِ ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ دَلَائِلَ الْإِجْمَاعِ وَحُجَجِ الِاتِّفَاقِ ، وَلِأَنَّهُ نَوْعُ ذِكْرٍ فِي الْأَذَانِ قَبْلَ الدُّعَاءِ إِلَى الصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنَ السُّنَّةِ تَكْرَارُهُ أَرْبَعًا ، كَالتَّكْبِيرِ فَأَمَّا حَدِيثُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ وَأَخَذَ بِلَالٌ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيعٍ فَقَدْ رُوِّينَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِلَالًا بِالتَّرْجِيعِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ تَعَارَضَ الْحَدِيثَانِ لَكَانَ حَدِيثُ أَبِي مَحْذُورَةَ أَوْلَى مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ أَزْيَدُ ، وَالْأَخْذُ بِالزِّيَادَةِ أَوْلَى وَالثَّانِي : أَنَّهُ مُتَأَخِّرٌ ، وَالْمُتَأَخِّرُ أَوْلَى وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ تَلْقِينِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ فَكَانَ هَذَا أَوْلَى وَالرَّابِعُ : أَنَّهُ يُطَابِقُ فِعْلَ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فَكَانَ أَوْلَى وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْإِقَامَةِ فَالْمَعْنَى فِي الْأَذَانِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لِأَجْلِ إِعْلَامِ الْغَائِبِينَ أَكْمَلَ هَيْئَةً كَانَ أَكْمَلَ ذِكْرًا ، وَالْإِقَامَةُ لَمَّا كَانَتْ لِأَجْلِ إِعْلَامِ الْحَاضِرِينَ أَنْقَصَ هَيْئَةً فَكَانَتْ أَنْقَصَ ذِكْرًا ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ بِأَنَّ كَلِمَةَ الْإِخْلَاصِ إِذَا تَعَقَّبَتْ كَلِمَةَ التَّكْبِيرِ كَانَتْ عَلَى الشَّطْرِ مِنْ عَدَدِهِ فِيمَنْ يَقُولُ بِمُوجَبِهِ ، لِأَنَّ الشَّهَادَتَيْنِ عَلَى الشَّطْرِ مِنْ عَدَدِ التَّكْبِيرِ ، وَالتَّرْجِيعُ في الأذان إِنَّمَا هُوَ بَعْدَ الِانْتِقَالِ مِنْ نَوْعٍ إِلَى نَوْعٍ عَلَى أَنَّ هَذَا قِيَاسُ أَوَّلِ الْأَذَانِ عَلَى آخِرِهِ ، وَهُوَ فَاسِدٌ ، لِأَنَّ أَوَّلَ الْأَذَانِ أَكْمَلُ مِنْ آخِرِهِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لَوْ تَكَرَّرَ أَرْبَعًا لَكَانَ مُتَوَالِيًا فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ مُوَالَاةَ الْأَذَانِ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي الْأَذَانِ كَالتَّكْبِيرِ الْأَوَّلِ وَالْآخِرِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَيَلْتَوِي فِي حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ يَمِينًا وَشِمَالًا لِيُسْمِعَ النَّوَاحِيَ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، يُسْتَحَبُّ لِلْمُؤَذِّنِ إِذَا قَالَ : حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ أَنْ يَلْوِيَ رَأْسَهُ وَعُنُقَهُ جَمِيعًا يَمِينًا ، وَإِذَا قَالَ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ أَنْ يَلْوِيَ رَأْسَهُ وَعُنُقَهُ شِمَالًا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَزُولَ قَدَمَاهُ عَنِ الْقِبْلَةِ ، وَيَكُونَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ أَذَانِهِ عَلَى حَالِ التَّوَجُّهِ إِلَى الْقِبْلَةِ اقْتِدَاءً بِمُؤَذِّنِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ كَانَ بِلَالٌ ، وَأَبُو مَحْذُورَةَ يَفْعَلَانِهِ ، لِأَنَّ ذَلِكَ خِطَابٌ لِلْآدَمِيِّينَ فَاقْتَضَى أَنْ يُوَاجِهَهُمْ لِيَعُمَّهُمْ بِالْخِطَابِ ، فَأَمَّا قَوْلُهُ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ وما ورد فيها من تأويل فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَعْنَاهُ يَا أَهْلَ الْحَيِّ هَلُمُّوا وَأَقْبِلُوا إِلَى الصَّلَاةِ وَالثَّانِي : أَنَّ مَعْنَاهُ بَادِرُوا وَأَسْرِعُوا إِلَى الصَّلَاةِ ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ " إِذَا ذُكِرَ الصَّالِحُونَ فَحَيَّ هَلَّا بِعُمَرَ " أَيْ : فَبَادِرْ بِذِكْرِهِ فِي أَوَّلِهِمْ وَقَالَ لَبِيدٌ : يَتَمَارَى فِي الَّذِي قُلْتُ لَهُ وَلَقَدْ يَسْمَعُ قَوْلَ حَيَّ هَلْ وَأَمَّا قَوْلُهُ : حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ وما ورد فيها من تأويل فَفِي الْفَلَاحِ تَأْوِيلَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ إِدْرَاكُ الطِّلْبَةِ وَالظَّفَرُ بِالْحَاجَةِ قَالَ لَبِيدٌ : فَاعْقِلِي إِنْ كُنْتِ لَمَّا تَعْقِلِي وَلَقَدْ أَفْلَحَ مَنْ كَانَ عَقَلْ وَالثَّانِي : أَنَّهُ الْبَقَاءُ - يَعْنِي فِي الْجَنَّةِ قَالَ الْأَعْشَى : وَلَئِنْ كُنَّا كَقَوْمٍ هَلَكُوا مَا لِحَيٍّ يَا لَقَوْمِي مِنْ فَلَاحٍ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَحَسُنَ أَنْ يَضَعَ أُصْبَعَيْهِ فِي صِمَاخَيْ أُذُنَيْهِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : رَوَى عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ عَنْ عَمَّارِ بْنِ سَعْدِ الْقَرَظِ ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ لِبِلَالٍ : إِذَا أَذَّنْتَ فَأَدْخِلْ أُصْبَعَيْكَ فِي أُذُنَيْكَ فَإِنَّهُ أَرْفَعُ لِصَوْتِكَ وَلِأَنَّهُ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ أَعْلَمَ الْأَصَمَّ بِفِعْلِهِ وَالسَّمِيعَ بِقَوْلِهِ ، فَكَانَ أَبْلَغَ فِي إِعْلَامِهِ ، وَلِأَنَّهُ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ اسْتَدَّتْ أُذُنَاهُ فَاجْتَمَعَ الصَّوْتُ فِي فَمِهِ ، فَكَانَ أَرْفَعَ لِصَوْتِهِ ، وَأَبْلَغَ فِي إِعْلَامِهِ ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَذِّنَ قَائِمًا عَلَى ارْتِفَاعٍ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَ مَنَارَةٍ ، أَوْ مِئْذَنَةٍ ، أَوْ سَطْحٍ اقْتِدَاءً بِمُؤَذِّنِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْإِبْلَاغِ ، فَإِنْ أَذَّنَ جَالِسًا عَلَى الْأَرْضِ فَقَدْ تَرَكَ السُّنَّةَ مِنْ هَيْئَتِهِ وَأَجْزَأَهُ . - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَيَكُونُ عَلَى طُهْرٍ فَإِنْ أَذَّنَ جُنُبًا كَرِهْتُهُ وَأَجْزَاهُ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : يُسْتَحَبُّ لِلْمُؤَذِّنِ أَنْ يَكُونَ فِي أَذَانِهِ عَلَى أَكْمَلِ أَحْوَالِهِ فِي الطَّهَارَةِ ، وَاللِّبَاسِ ، مُتَهَيِّئًا مُتَأَهِّبًا لِلصَّلَاةِ ، فَقَدْ رَوَى عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ وَائِلِ بْنِ حَجَرٍ عَنْ أَبِيهِ وَائِلِ بْنِ حَجَرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : حَقٌّ وَمَسْنُونٌ أَنْ لَا يُؤَذِّنَ أَحَدٌ إِلَّا طَاهِرًا وَلِأَنَّهُ دَاعٍ إِلَى فِعْلِ الصَّلَاةِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ عَلَى صِفَاتِ الْمُصَلِّينَ فَإِنَّ أَذَّنَ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ مُحْدِثًا كَانَ أَوْ جُنُبًا فَقَدْ أَسَاءَ وَأَجْزَأَهُ أَذَانُهُ ، وَيَعْصِي الْمُؤَذِّنُ بِالدُّخُولِ فِي الْمَسْجِدِ إِنْ كَانَ جُنُبًا وَيُجْزِئُهُ أَذَانُهُ ، وَهَكَذَا لَوْ أَذَّنَ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ كَانَ عَاصِيًا بِكَشْفِ عَوْرَتِهِ ، وَالْأَذَانُ مُجْزِئٌ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ " وَإِنَّا لِتَرْكِ الطَّهَارَةِ فِي الْإِقَامَةِ أَكْرَهُ مِنِّي لِتَرْكِهَا فِي الْأَذَانِ ، لِأَنَّ الْإِقَامَةَ يَعْقُبُهَا الصَّلَاةُ فَإِنْ أَقَامَ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ للصلاة أَجْزَأَهُ كَالْأَذَانِ ، لِأَنَّ الْأَذَانَ ، وَالْإِقَامَةَ ، لَيْسَا مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ
بِخِلَافِ الْخُطْبَةِ الَّتِي لَا تَصِحُّ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ إِلَّا بِالطَّهَارَةِ ، لِأَنَّهَا مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَأُحِبُّ رَفْعَ الصَّوْتِ لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَإِنَّمَا اسْتَحَبَّ لَهُ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ لِرِوَايَةِ أَبِي ، يَحْيَى ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : الْمُؤَذِّنُ يُغْفَرُ لَهُ مَدَى صَوْتِهِ وَرَوَى ابْنُ صَعْصَعَةَ عَنِ [ أَبِيهِ ] عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : إِذَا كُنْتَ فِي بِادِيَتِكَ فَأَذِّنْ بِالصَّلَاةِ فَارْفَعْ صَوْتَكَ فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِكَ حَجَرٌ ، وَلَا إِنْسٌ ، وَلَا حَيٌّ ، وَلَا شَجَرٌ ، إِلَّا وَشَهِدَ لَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِأَنَّهُ إِعْلَامٌ لِمَنْ غَابَ أَوْ بَعُدَ فَمَا كَانَ أَبْلَغَ كَانَ أَوْلَى ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ لَهُ أَوْلَى فَمِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَكُونَ فِي الشَّهَادَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ أَخْفَضَ صَوْتًا ، وَفِي تَرْجِيعِ الشَّهَادَتَيْنِ ثَانِيَةً أَرْفَعَ صَوْتًا ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَبَا مَحْذُورَةَ أَنْ يَخْفِضَ صَوْتَهُ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَيَرْفَعَهُ بِالتَّرْجِيعِ ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْمَقْصُودَ فِي الشَّهَادَتَيْنِ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : الْإِخْلَاصُ بِالْقَلْبِ وَالثَّانِي : الْإِعْلَامُ لِمَنْ غَابَ فَأَمَرَهُ بِخَفْضِ الْأَوَّلِ لِيُعْلَمَ لَهُ الْإِخْلَاصُ بِالْقَلْبِ فَإِنَّ شَدَّةَ رَفْعِ الصَّوْتِ بِهِ يَصُدُّ عَنْ حَقِيقَةِ الْإِخْلَاصِ بِالْقَلْبِ ، وَأَمَرَهُ بِرَفْعِ الصَّوْتِ الثَّانِي لِيَحْصُلَ لَهُ إِعْلَامُ مَنْ غَابَ ، ثُمَّ يَكُونُ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْأَذَانِ عَلَى حَالٍ وَاحِدَةٍ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ صَوْتُهُ بِالْأَذَانِ أَرْفَعَ مِنْ صَوْتِهِ بِالْإِقَامَةِ ، لِأَنَّ الْأَذَانَ إِعْلَامٌ لِمَنْ غَابَ ، وَالْإِقَامَةَ إِعْلَامٌ لِلْحَاضِرِينَ ، فَلَوْ خَافَتَ بِالْأَذَانِ مُخَافَتَةً أَسْمَعْ بِهَا وَاحِدًا أَجْزَأَهُ فِي الْفُرَادَى ، وَالْجَمَاعَةُ تَتِمُّ بِوَاحِدٍ وَلَوْ أَسَرَّ بِهِ لَمْ يُجْزِهِ إِنْ كَانَ يُؤَذِّنُ لِجَمَاعَةٍ لِأَنَّهُ لَمْ يُبَلِّغْ مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِ جَمَاعَةٌ وَإِنْ كَانَ يُؤَذِّنُ لِنَفْسِهِ أَجْزَاهُ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَأَنْ لَا يَتَكَلَّمَ فِي أَذَانِهِ فَإِنْ تَكَلَّمَ لَمْ يُعِدْ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا لَهُ ذَلِكَ اتِّبَاعًا لِمُؤَذِّنِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ نَظْمَ الْأَذَانِ يَزُولُ بِالْكَلَامِ ، فَإِنْ تَكَلَّمَ فِي أَذَانٍ لَمْ يُبْطِلْهُ ، فَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ يَسِيرًا بُنِيَ عَلَى أَذَانٍ ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ ، فَإِنْ بَنَى عَلَيْهِ أَجْزَأَهُ : أَلَا تَرَى أَنَّ الْخُطْبَةَ الَّتِي هِيَ فَرْضٌ لَا تُبْطَلُ بِالْكَلَامِ ، فَالْأَذَانُ الَّذِي هُوَ مَسْنُونٌ أَوْلَى . أَنْ لَا يَبْطُلَ بِالْكَلَامِ ، وَمِنَ السُّنَّةِ لِلْمُؤَذِّنِ أَنْ يُوَالِيَ
أَذَانَهُ ، وَلَا يَفْصِلَهُ بِالسُّكُوتِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِلْبَاسِ وَفَسَادِ الْإِعْلَامِ ، فَإِنْ سَكَتَ فِي أَثْنَاءِ أَذَانِهِ بَنَى ، وَيُسْتَحَبُّ لَوْ أَطَالَ السُّكُوتَ أَنْ يَسْتَأْنِفَ ، لِأَنَّ أَذَانَ الْوَقْتِ يَرْتَفِعُ حُكْمُهُ بِقِرَاءَتِهِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ
فَصْلٌ لَوْ نَامَ فِي أَذَانِهِ أَوْ غُلِبَ عَلَى عَقْلِهِ بِجُنُونٍ أَوْ مَرَضٍ
فَصْلٌ : فَلَوْ نَامَ فِي أَذَانِهِ أَوْ غُلِبَ عَلَى عَقْلِهِ بِجُنُونٍ أَوْ مَرَضٍ ، فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ فِي طَوِيلِ الزَّمَانِ وَقَصِيرِهِ لِخُرُوجِهِ بِذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْأَذَانِ ، فَإِنْ بَنَى عَلَيْهِ أَجْزَأَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْمُوَالَاةَ في الآذان لَيْسَتْ شَرْطًا فِيهِ ، فَلَوْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ فِي خِلَالِ أَذَانِهِ فَبَنَى أَجْزَأَهُ ، فَلَوْ أَحْدَثَ فَتَيَمَّمَ فِي أَذَانِهِ أَجْزَأَهُ : لِأَنَّ الطَّهَارَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا فِيهِ ، فَأَمَّا إِذَا ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ فِي تَضَاعِيفِ أَذَانِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهِ فِي حَالِ رِدَّتِهِ لِخُرُوجِهِ عَنْ أَهْلِ الْأَذَانِ ، فَإِنْ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ الْبِنَاءُ عَلَى مَا مَضَى مِنْ أَذَانِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ لِبُطْلَانِهِ بِالرِّدَّةِ وَالثَّانِي : وَهُوَ ظَاهِرُ مَنْصُوصِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْبِنَاءُ عَلَيْهِ لِإِسْلَامِهِ فِي الْحَالِ وَتَفْرِيقِهِ لَا يُمْنَعُ الْبِنَاءُ ، فَلَوْ مَاتَ فِي أَذَانِهِ لَمْ يَجُزْ لِغَيْرِهِ الْبَنَاءُ عَلَيْهِ ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ حَيًّا لَمْ يَجُزْ لَهُ اسْتِخْلَافُ غَيْرِهِ فِي تَمَامِهِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ الَّتِي يَجُوزُ الِاسْتِخْلَافُ فِيهَا عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ ، لِأَنَّ الْمُسْتَخْلَفَ فِي الصَّلَاةِ يَأْتِي بِهَا كَامِلَةً وَإِنْ بَنَى عَلَى صَلَاةِ غَيْرِهِ ، وَالْمُسْتَخْلَفُ فِي الْأَذَانِ إِذَا بَنَى لَمْ يَأْتِ بِهِ كَامِلًا فَلَمْ يُجْزِهِ ، فَأَمَّا الِاسْتِخْلَافُ فِي الْخُطْبَةِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ كَالْأَذَانِ وَالثَّانِي : يَجُوزُ كَالصَّلَاةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَمَا فَاتَ وَقْتُهُ أَقَامَ وَلَمْ يُؤَذِّنْ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُبِسَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ حَتَّى بَعْدَ الْمَغْرِبِ بِهَوِيٍّ مِنَ اللَيْلِ فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَقَامَ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَلَمْ يُؤَذِّنْ ، وَجَمَعَ بِعَرَفَةَ بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ ، وَبِمُزْدَلِفَةَ بِإِقَامَتَيْنِ وَلَمْ يُؤَذِّنْ ، فَدَلَّ أَنَّ مَنْ جَمَعَ فِي وَقْتِ الْأَوْلَى مِنْهُمَا فَبِأَذَانٍ وَفِي الْآخِرَةِ فَبِإِقَامَةٍ وَغَيْرِ أَذَانٍ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا : فِيمَنْ فَاتَهُ صَلَوَاتٌ بِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِ عُذْرٍ فَأَرَادَ أَنْ يَقْضِيَ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ ، فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْإِقَامَةِ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَمَنْهِيٌّ عَنِ الْأَذَانِ لِمَا سِوَى الصَّلَاةِ الْأُولَى ، وَهَلْ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُؤَذِّنَ لِلصَّلَاةِ الْأُولَى أَمْ لَا ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ أَنَّهُ يُؤَذِّنُ لِلصَّلَاةِ الْأُولَى ، وَيُقِيمُ لِمَا سِوَاهَا لِرِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَفَلَ مِنْ خَيْبَرَ فَعَرَّسَ بِالْوَادِي فَلَمْ يَسْتَيْقِظُوا حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ لِلصُّبْحِ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَمَرَ فَأَقَامَ لِلصُّبْحِ وَصَلَّى بِهِمْ ، وَلِأَنَّ الْأَذَانَ مِنْ سُنَنِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ فَاسْتَوَى حَالُهُ فِي الْوَقْتِ وَغَيْرِهِ كَالْإِقَامَةِ
وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ ، أَنَّهُ يُقِيمُ لِلْأُولَى وَجَمِيعِ الْفَوَائِتِ ، وَلَا يُؤَذِّنُ ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُبِسَ عَامَ الْخَنْدَقِ حَتَّى بَعْدَ الْمَغْرِبِ لِهَوِيٍّ مِنَ اللَيْلِ فَأَخَّرَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ ، فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَقَامَ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَلَمْ يُؤَذِّنْ وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ الْآخِرَةِ بِمُزْدَلِفَةَ فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَقَامَ لَهُمَا وَصَلَّاهُمَا ، وَلِأَنَّ الْأَذَانَ عَلَمٌ عَلَى فَرْضٍ بِوَقْتٍ وَلَيْسَ بِعَلَمٍ عَلَى نَفْسِ الْفَرْضِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ تَقَدُّمَ الْعَصْرِ إِلَى وَقْتِ الظُّهْرِ لِلْجَمْعِ لَا يُؤَذَّنُ لَهَا وَهِيَ فَرْضٌ ، وَلِأَنَّ فِي الْأَذَانِ لِلْفَوَائِتِ إِلْبَاسًا عَلَى السَّامِعِينَ وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : وَبِهِ قَالَ فِي الْإِمْلَاءِ : إِنَّ أَمَّلَ اجْتِمَاعَ النَّاسِ أَذَّنَ ، وَإِنْ لَمْ يُؤَمِّلِ اجْتِمَاعَ النَّاسِ لَمْ يُؤَذِّنْ ، لِأَنَّ مَقْصُودَ الْأَذَانِ اجْتِمَاعُ النَّاسِ بِهِ
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ الأذان والإقامة فِي وَقْتِ إِحْدَيْهِمَا ، فَإِنْ كَانَ مُقَدِّمًا لِلْعَصْرِ إِلَى وَقْتِ الظُّهْرِ وَالْعَشَاءِ إِلَى وَقْتِ الْمَغْرِبِ أَذَّنَ وَأَقَامَ لِلْأُولَى ثُمَّ أَقَامَ لِلثَّانِيَةِ وَلَمْ يُؤَذِّنْ ، وَإِنْ كَانَ مُؤَخِّرًا لِلظُّهْرِ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ إِلَى وَقْتِ الْعَشَاءِ كَانَ حُكْمُ الْأُولَى مِنْهُمَا فِي الْأَذَانِ لَهَا كَالْفَائِتَةِ ، فَيَكُونُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ فِي الثَّانِيَةِ فَيُقِيمُ لَهَا ، وَلَا يُؤَذِّنُ ، فَلَوْ أَخَّرَ الْأُولَى إِلَى وَقْتِ الثَّانِيَةِ ثُمَّ قَدَّمَ الصَّلَاةَ الثَّانِيَةَ حِينَ دَخَلَ وَقْتُهَا أَذَّنَ لِلثَّانِيَةِ وَأَقَامَ ، لِأَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ الْجَمْعَ بِتَقْدِيمِهَا ، وَفِي أَذَانِهِ لِلْأُولَى ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ لِأَنَّهَا فَائِتَةٌ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا أُحِبُّ لِأَحَدٍ أَنْ يُصَلِّيَ فِي جَمَاعَةٍ وَلَا وَحْدَهُ إِلَّا بِأَذَانٍ ، وَإِقَامَةٍ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ أَجْزَأَهُ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الْأَذَانَ ، وَالْإِقَامَةَ ، لِلصَّلَوَاتِ الْمَفُرَوضَاتِ سُنَّةٌ فِي الْجَمَاعَةِ وَالْفُرَادَى فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ فِي حَالٍ ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ : الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ وَاجِبَانِ مَعًا ، لَا يَنُوبُ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ ، فَإِنْ تَرَكَهُمَا أَوْ أَحَدَهُمَا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ وَاجِبَانِ ، إِلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا يَنُوبُ عَنِ الْآخَرِ ، فَإِنْ أَتَى بِأَحَدِهِمَا أَجْزَأَهُ عَنْهُمَا وَإِنْ تَرَكَهُمَا لَمْ يُجْزِهِ وَأَعَادَ إِنْ كَانَ وَقْتُ الصَّلَاةِ بَاقِيًا ، وَلَمْ يُعِدْ إِنْ كَانَ فَائِتًا ، وَقَالَ عَطَاءٌ : الْإِقَامَةُ وَاجِبَةٌ دُونَ الْأَذَانِ فَإِنْ تَرَكَهُمَا بِعُذْرٍ أَجْزَأَهُ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ عُذْرٍ قَضَى وَاسْتَدَلُّوا عَلَى وُجُوبِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [ الْجُمْعَةِ : ] . فَلَمَّا كَانَ النِّدَاءُ سَبَبًا لِلسَّعْيِ ، وَكَانَ السَّعْيُ وَاجِبًا كَانَ النِّدَاءُ
وَاجِبًا ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَبْعَثُ أَصْحَابَهُ فِي السَّرَايَا ، وَيَأْمُرُهُمْ إِنْ لَمْ يَسْمَعُوا الْأَذَانَ يَشُنُّوا عَلَيْهِمُ الْغَارَةَ ، وَإِنْ سَمِعُوا الْأَذَانَ كَفُّوا ، وَلَمْ يَشُنُّوا الْغَارَةَ ، فَصَارَتْ مَنْزِلَةُ الْأَذَانِ فِي مَنْعِ ، التَّحْرِيمِ مَنْزِلَةَ الْإِيمَانِ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُذْ شَرَعَ الْأَذَانَ دَاوَمَ عَلَيْهِ لِصَلَوَاتِهِ ، وَلَمْ يُرَخِّصْ فِي تَرْكِهِ فِي حَضَرٍ وَلَا سَفَرٍ ، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ وَاجِبٍ لَأَبَانَ حُكْمَهُ بِالتَّرْكِ لَهُ ، وَلَوْ دَفَعَهُ وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّ الْأَذَانَ إِنَّمَا ثَبَتَ عَنْ مَشُورَةٍ أَوْقَعَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ حَتَّى تَقَدَّرَ بِرُؤْيَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ عَلَى الْأَذَانِ ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ صِفَاتِ الْوَاجِبَاتِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ صِفَاتِ الْمَنْدُوبَاتِ الْمَسْنُونَاتِ ، لِأَنَّهُ مَا شَرَّعَ بِنَفْسِهِ ، وَإِنَّمَا أَقَرَّهُ عَلَى فِعْلِ غَيْرِهِ ، فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مُعَاذًا جَاءَ فَدَخَلَ فِي صَلَاةِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَامَ فَقَضَى مَا عَلَيْهِ مِنْهَا ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ مَعَاذًا قَدْ سَنَّ لَكُمْ فَاتَّبِعُوهُ قُلْنَا : هَذَا دَلِيلُنَا لِأَنَّهُ أَمَرَ بِهِ فَصَارَ شَرْعًا بِأَمْرِهِ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ قَضَاءِ الْفَوَائِتِ قَدْ عُلِمَ بِالشَّرْعِ قَبْلَ فِعْلِ مُعَاذٍ ، وَإِنَّمَا مُعَاذٌ أَوَّلُ مَنْ فَعَلَهُ ، وَلِأَنَّ الْأَذَانَ لَوْ وَجَبَ لِلصَّلَاةِ وَكَانَ شَرْطًا فِي صِحَّتِهَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ زَمَانُهُ مُسْتَثْنًى مِنْ وَقْتِهَا ، فَلَمَّا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " بَيْنَ هَذَيْنِ وَقْتٌ " . إِشَارَةً إِلَى أَوَّلِ الْوَقْتِ وَآخِرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَثْنِيَ مِنْهُ زَمَانَ الْأَذَانِ ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي صِحَّتِهَا ، وَإِنَّمَا هُوَ سُنَّةٌ لَهَا وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ التَّيَمُّمُ ، لِأَنَّهُ حَالُ ضَرُورَةٍ ؟ وَلَا يَعُمُّ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْآيَةِ فَهُوَ : أَنَّ السَّعْيَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بِالنِّدَاءِ لِأَنَّ أَهْلَ الْبَلَدِ يَلْزَمُهُمُ السَّعْيُ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعُوهُ ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي الْخَارِجِينَ عَلَى أَنَّ هَذَا يَفْسُدُ بِرَدِّ السَّلَامِ هُوَ وَاجِبٌ ، وَلَيْسَ أَصْلُ السَّلَامِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الرَّدِّ وَاجِبًا فَلَمْ يُسَلِّمِ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَنَّ الْجُمْعَةَ قَدْ تُفَارِقُ غَيْرَهَا عَلَى مَا يَذْكُرُهُ وَأَمَّا أَمْرُهُ بِشَنِّ الْغَارَةِ عَلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْ أَذَانَهُ فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ وَدَارُ الشِّرْكِ مُخَالِطَةٌ لِدَارِ الْإِسْلَامِ ، فَلَمْ يَكُنْ يَمْتَازُ الْفَرِيقَانِ إِلَّا بِهِ ، فَأَمَّا الْآنَ فَقَدْ تَمَيَّزُوا فِي الدَّارِ وَاشْتَهَرُوا بِالْإِسْلَامِ ، فَلَمْ يَتَعَلَّقْ هَذَا الْحُكْمُ بِهِ أَلَا تَرَاهُ قَالَ أَيْضًا : إِذَا رَأَيْتُمْ مَسْجِدًا فَلَا تُغِيرُوا وَكُفُّوا ، وَلَمْ يَدُلَّ هَذَا عَلَى وُجُوبِ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ ، وَأَمَّا مُلَازَمَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى تَأْكِيدِهِ ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهِ كَمَا لَازَمَ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ لِتَأَكُّدِهِمَا لَا لِوُجُوبِهِمَا ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ تَرَكَ الْأَذَانَ فِي السَّفَرِ بِعَرَفَةَ وَفِي الْحَضَرِ عَامَ الْخَنْدَقِ ، وَلَمْ يَقْضِهِ ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَقَضَاهُ كَالصِّيَامِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ حكمهما لَيْسَا بِفَرْضٍ عَلَى الْأَعْيَانِ ، فَقَدْ ذَهَبَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ إِلَى أَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَغُسْلِ الْمَوْتَى وَرَدِّ السَّلَامِ فَإِذَا قَامَ بِهِ
مَنْ فِيهِ كِفَايَةٌ سَقَطَ فَرْضُهُ عَنِ الْبَاقِينَ ، كَذَلِكَ الْأَذَانُ إِذَا انْتَشَرَ فِعْلُهُ فِي الْبَلَدِ وَالْقَبِيلَةِ انْتِشَارًا ظَاهِرًا سَقَطَ فَرْضُهُ عَنِ الْبَاقِينَ وَإِنْ لَمْ يُؤَذَّنْ ، أَوْ أُذِّنَ وَلَمْ يَنْتَشِرْ فِي الْبَلَدِ انْتِشَارًا ظَاهِرًا خَرَجَ النَّاسُ أَجْمَعُونَ ، وَأَمَّا أَذَانُ الْجُمْعَةِ حكمه فَزَعَمَ أَبُو سَعِيدٍ : أَنَّهُ وَاجِبٌ بِالْإِجْمَاعِ ، وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ الْأَذَانَ لِلْجُمْعَةِ وَغَيْرِهَا سُنَّةٌ ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ ، لِأَنَّ مَا يَنْفَعُ مِنْ وُجُوبِهِ عَلَى أَعْيَانِ الْجَمَاعَاتِ وَآحَادِ الْمُصَلِّينَ مَنَعَ مِنْ إِيجَابِهِ عَلَى الْكِفَايَةِ ، فَعَلَى هَذَا إِذَا قِيلَ بِوُجُوبِهِ عَلَى الْكِفَايَةِ فَأَطْبَقَ أَهْلُ بَلَدٍ عَلَى تَرْكِهِ قُوتِلُوا عَلَيْهِ وَحُورِبُوا لِأَجْلِهِ ، وَإِذَا قِيلَ : إِنَّهُ سُنَّةٌ عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ مِنْ أَصْحَابِنَا فَلَوْ أَطْبَقَ أَهْلُ بَلَدٍ عَلَى تَرْكِهِ فَهَلْ يُقَاتَلُونَ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : يُقَاتَلُونَ عَلَى تَرْكِهِ ، لِأَنَّ فِي إِهْمَالِهِمْ وَتَرْكِهِ ذَرِيعَةً إِلَى إِهْمَالِ السُّنَنِ وَحَابِطًا لَهَا ، حَتَّى إِذَا انْقَرَضَ الْعَصْرُ عَلَيْهِ وَنَشَأَ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ لَمْ يَرَوْهُ سُنَّةً وَلَا اعْتَقَدُوهُ شَرْعًا وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّهُمْ لَا يُقَاتَلُونَ عَلَى تَرْكِهِ وَلَكِنْ يُعَنَّفُونَ بِالْقَوْلِ وَيُزْجَرُونَ بِالْإِنْكَارِ ، وَلَوْ قُوتِلُوا عَلَيْهِ لَخَرَجَ مِنْ حُكْمِ الْمَسْنُونِ إِلَى حَدِّ الِوَاجِبِ
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ سُنَّةٌ فِي الْفُرُوضَاتِ كُلِّهَا فَهُوَ سُنَّةٌ فِي الْجَمَاعَةِ وَالْفُرَادَى فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ بِهِ فِي تَأْذِينِهِ ، إِلَّا أَنَّ الْأَذَانَ فِي الْجَمَاعَةِ أَوْكَدُ ، وَتَرْكَهُ فِي الْفُرَادَى أَيْسَرُ ، وَهُوَ فِي الْحَضَرِ أَوْكَدُ ، وَتَرْكُهُ فِي السَّفَرِ أَقْرَبُ ، وَإِنَّ كَانَ سُنَّةً فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا رَوَى أَبُو قِلَابَةَ عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ قَالَ : أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَرَجُلٌ فَوَدَّعَنَا وَقَالَ : إِذَا سَافَرْتُمَا وَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَأَذِّنَا وَأَقِيمَا وَلْيَؤُمُّكُمَا أَكْبَرُكُمَا
فَصْلٌ حضر رجل مسجدا قد أقيمت فيه الصلاة فأراد أن يصلي منفردا أسر الأذان لنفسه
فَصْلٌ : فَلَوْ أَرَادَ رَجُلٌ صَلَاةَ وَقْتِهِ فَسَمِعَ أَذَانًا مِنْ غَيْرِهِ فَهَلْ يَسْقُطُ عَنْهُ سُنَّةُ الْأَذَانِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْأَذَانُ لِلْجَمَاعَةِ الَّتِي يَحْضُرُهَا وَيُصَلِّي مَعَهَا سَقَطَ عَنْهُ سُنَّةُ الْأَذَانِ بِسَمَاعِ ذَلِكَ الْأَذَانِ ، وَإِنْ كَانَ يُصَلِّي فِي مُنْفَرِدًا أَوْ فِي جَمَاعَةٍ أُخْرَى فَهَلْ يَسْقُطُ عَنْهُ سُنَّةُ الْأَذَانِ بِسَمَاعِ ذَلِكَ الْأَذَانِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ قَدْ سَقَطَ عَنْهُ بِسَمَاعِهِ ، كَمَا لَوْ كَانَ مَسْمُوعًا مِنْ جَمَاعَةٍ وَالثَّانِي : قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّ سُنَّةَ الْأَذَانِ بَاقِيَةٌ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ لِكُلِّ جَمَاعَةٍ أَذَانًا مَسْنُونًا
فَصْلٌ : وَإِذَا حَضَرَ رَجُلٌ مَسْجِدًا قَدْ أُقِيمَتْ فِيهِ الصَّلَاةُ جَمَاعَةً بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ فَأَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ مُنْفَرِدًا ، أَسَرَّ الْأَذَانَ لِنَفْسِهِ ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ جَمَاعَةً تَخَيَّرَ بِالْأَذَانِ لَهَا ، فَإِنْ كَانَ
هَذَا مَسْجِدًا عَظِيمًا لَهُ إِمَامٌ رَاتِبٌ بِوِلَايَةٍ سُلْطَانِيَّةٍ لَمْ يَجُزْ لِمَنْ دَخَلَهُ أَنْ يُقِيمَ فِيهِ جَمَاعَةً بَعْدَ جَمَاعَتِهِ ، وَلَا أَنْ يَجْهَرَ بِالْأَذَانِ بَعْدَ أَذَانِهِ : لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ شَقِّ الْعَصَا وَخَوْفِ التَّقَاطُعِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَسْجِدُ صَغِيرًا مِنْ مَسَاجِدِ الْمَحَالِّ وَالْأَسْوَاقِ الَّتِي يَؤُمُّ فِيهَا جِيرَانُهَا جَازَ إِقَامَةُ الْجَمَاعَةِ بَعْدَ جَمَاعَتِهِ ، وَالْجَهْرُ بِالْأَذَانِ بَعْدَ أَذَانِهِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : - " وَأُحِبُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُقِيمَ وَلَا تُؤَذِّنَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ أَجْزَأَهَا " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَإِنَّمَا كَرِهَ الْأَذَانَ لَهَا ، وَاسْتَحَبَّ الْإِقَامَةَ لِرِوَايَةِ الْحَكَمِ عَنِ الْقَاسِمِ ، عَنْ أَسْمَاءَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ أَذَانٌ ، وَلَا إِقَامَةٌ ، وَلَا جُمُعَةٌ ، وَلَا اغْتِسَالٌ لِلْجُمُعَةِ ، وَلَا تَقَدَّمَهُنَّ امْرَأَةٌ ، لَكِنْ تَقُومُ وَسْطَهُنَّ وَعُنِيَ بِالْإِقَامَةِ مَا يَفْعَلُهُ مُؤَذِّنُو الْجَمَاعَةِ مِنَ الْجَهْرِ بِهَا ، وَلِأَنَّ الْأَذَانَ دُعَاءُ مَنْ غَابَ وَبَعُدَ ، وَالْمَرْأَةُ مَنْهِيَّةٌ عَنِ الِاخْتِلَاطِ بِالرِّجَالِ مَأْمُورَةٌ بِلُزُومِ الْمَنْزِلِ وَصَلَاتُهَا فِيهِ أَفْضَلُ ، وَأَمَّا الْإِقَامَةُ فَهِيَ اسْتِفْتَاحُ صَلَاةٍ قَبْلَ الْإِحْرَامِ فَاسْتَوَى فِيهِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ كَاسْتِفْتَاحِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ
فَصْلٌ في قَولَ الشَّافِعِيُّ وَالْعَبْدُ فِي الْأَذَانِ كَالْحُرِّ
فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَالْعَبْدُ فِي الْأَذَانِ كَالْحُرِّ " فَاحْتَمَلَ مُرَادُهُ بِذَلِكَ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُؤَذِّنًا كَالْحُرِّ وَالثَّانِي : أَنَّ مِنَ السُّنَّةِ لَهُ الْأَذَانَ ، وَالْإِقَامَةَ لِصَلَاتِهِ كَالْحُرِّ ، وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ : لِأَنَّ مَسْنُونَاتِ الصَّلَاةِ وَمَفْرُوضَاتِهَا يَسْتَوِي فِيهَا الْحُرُّ وَالْعَبْدُ ، إِلَّا أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يُؤَذِّنَ لِنَفْسِهِ ، لَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِئْذَانُ سَيِّدِهِ ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ بِخِدْمَتِهِ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ مُؤَذِّنًا لِلْجَمَاعَةِ لَمْ يَجُزْ إِلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إِضْرَارًا بِخِدْمَتِهِ لِمَا احْتَاجَ إِلَى مُرَاعَاةِ الْأَوْقَاتِ
مَسْأَلَةٌ : [ الْقَوْلُ مِثْلَمَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ ] قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَمَنْ سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ أَحْبَبْتُ أَنْ يَقُولَ مِثْلَ مَا يَقُولُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي صَلَاةٍ فَإِذَا فَرَغَ قَالَهُ ، وَتَرْكُ الْأَذَانِ فِي السَّفَرِ أَخَصُّ مِنْهُ فِي الْحَضَرِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : هَذَا كَمَا قَالَ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ أَنْ يَقُولَ مِثْلَ قَوْلِهِ لِرِوَايَةِ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِذَا سَمِعْتُمُ النِّدَاءَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ
وَرَوَى أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ - يَعْنِي الْحُبُلِيَّ - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ الْمُؤَذِّنِينَ يَفْضُلُونَنَا . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قُلْ كَمَا يَقُولُونَ فَإِذَا انْتَهَيْتَ فَسَلْ تُعْطَ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ أَنْ يَقُولَ مِثْلَ قَوْلِهِ فِي الْأَذَانِ كُلِّهِ إِلَّا فِي الْمَوْضِعَيْنِ : أَحَدُهُمَا : حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ فَيَقُولُ الْمُسْتَمِعُ بَدَلًا مِنْ ذَلِكَ : لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ . رَوَاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالثَّانِي : قَوْلُهُ قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ فَيَقُولُ الْمُسْتَمِعُ بَدَلًا مِنْ ذَلِكَ : أَقَامَهَا اللَّهُ وَأَدَامَهَا . رَوَاهُ أَبُو أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلِأَنَّ مَا سِوَى هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ ذِكْرُ اللَّهِ فَاسْتَوَى فِيهِ الْمُؤَذِّنُ وَالْمُسْتَمِعُ ، وَهَذَانِ الْمَوْضِعَانِ خِطَابٌ لِلْآدَمِيِّينَ فَعَدَلَ الْمُسْتَمِعُ عَنْهُ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ فِي الِاسْتِغَاثَةِ بِهِ وَالرَّغْبَةِ إِلَيْهِ فِي إِمَامَةِ الصَّلَاةِ
فَصْلٌ : فَإِذَا وَضَحَ مَا ذَكَرْنَا فَمِنَ السُّنَّةِ لِكُلِّ مُسْتَمِعٍ أَنْ يَقُولَهُ مِنْ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ إجابة المؤذن ، وَلَيْسَ هَذَا كَالْأَذَانِ الَّذِي يُكْرَهُ لِلْمَرْأَةِ لِأَنَّ هَذَا دُعَاءٌ ، وَذَلِكَ نِدَاءٌ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَمِعُ مِمَّنْ يَحْضُرُ تِلْكَ الْجَمَاعَةَ أَوْ لَا يَحْضُرُهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَمِعُ عَلَى غَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ ، فَإِذَا قَضَى حَاجَتَهُ قَالَهُ ، وَلَوْ كَانَ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ قَطَعَ قِرَاءَتَهُ ، وَقَالَ كَقَوْلِهِ : فَإِذَا فَرَغَ عَادَ فِي قِرَاءَتِهِ ، وَلَوْ كَانَ فِي طَوَافٍ قَالَهُ وَهُوَ عَلَى طَوَافِهِ ، لِأَنَّ الطَّوَافَ لَا يَمْنَعُ مِنَ الْكَلَامِ ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمُسْتَمِعُ فِي صَلَاةٍ أَمْسَكَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْ صِلَاتِهِ قَالَهُ ، فَإِنْ خَالَفَ وَقَالَهُ فِي صَلَاتِهِ لَمْ يَخْلُ أَنْ يَقُولَهُ عَلَى شِبْهِ الْمُسْتَمِعِ ، أَوْ عَلَى شِبْهِ الْمُؤَذِّنِ ، فَإِنْ قَالَهُ عَلَى شِبْهِ لِسَانِ الْمُسْتَمِعِ وَأُبْدِلَ مِنْ قَوْلِهِ : " حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ " " لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ " كَانَتْ صَلَاتُهُ جَائِزَةً ، سَوَاءٌ أَتَى بِذَلِكَ سَاهِيًا أَوْ عَامِدًا ، لِأَنَّهُ ذِكْرُ اللَّهِ ، فَإِذَا أَتَى بِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ مِنَ الصَّلَاةِ لَمْ تَفْسَدْ صَلَاتُهُ ، كَالْقَارِئِ فِي رُكُوعِهِ ، وَالْمُسَبِّحِ فِي قِيَامِهِ وَإِنْ قَالَهُ عَلَى شِبْهِ الْمُؤَذِّنِ فَقَالَ : حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ ، وَقَالَ : قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ ، فَإِنْ قَالَهُ نَاسِيًا لِصَلَاةٍ أَوْ جَاهِلًا ، بِأَنَّ مَا قَالَهُ خِطَابُ آدَمِيٍّ أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ ، وَكَانَ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ كَالْمُتَكَلِّمِ نَاسِيًا ، وَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا لِصَلَاتِهِ عَالِمًا بِأَنَّ مَا قَالَهُ خِطَابُ آدَمِيٍّ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ كَالْمُتَكَلِّمِ عَامِدًا
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَالْإِقَامَةِ فُرَادَى إقامة الصلاة إِلَّا أَنَّهُ يَقُولُ قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ مَرَّتَيْنِ ، وَكَذَلِكَ كَانَ يَفْعَلُ أَبُو مَحْذُورَةَ مُؤَذِّنُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَدْ أُمِرَ بِلَالٌ بِأَنْ يُوتِرَ الْإِقَامَةَ . قِيلَ لَهُ فَأَنْتَ تُثَنِّي اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ فَتَجْعَلُهَا مَرَّتَيْنِ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْإِقَامَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ فُرَادَى إِلَّا قَوْلَهُ : " قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ . " فَإِنَّهُ يَقُولُ مَرَّتَيْنِ فَتَكُونُ إِحْدَى عَشْرَةَ كَلِمَةً ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ ، وَابْنُ عُمَرَ ، وَأَنَسٌ ، وَمِنَ التَّابِعِينَ الْحَسَنُ ، وَابْنُ سِيرِينَ ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ أَحْمَدُ ، وَإِسْحَاقُ وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ فُرَادَى مَعَ قَوْلِهِ قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ فَيَكُونُ عَشْرَ كَلِمَاتٍ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّهُ مَثْنَى مَثْنَى كَالْأَذَانِ وَزِيَادَةُ قَوْلِهِ " قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ " مَرَّتَيْنِ فَيَكُونُ سَبْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ عَامِرٍ الْأَحْوَلِ أَنَّ مَكْحُولًا حَدَّثَهُ أَنَّ ابْنَ مُحَيْرِيزٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا مَحْذُورَةَ حَدَّثَهُ قَالَ : عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَذَانَ تِسْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَالْإِقَامَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً " . وَبِرِوَايَةِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ بِلَالًا كَانَ يُؤَذِّنُ مَثْنَى مَثْنَى ، وَيُقِيمُ مَثْنَى مَثْنَى وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَمِعَ رَجُلًا يُفْرِدُ الْإِقَامَةَ فَقَالَ : ثَنِّ لَا أُمَّ لَكَ قَالَ : وَلِأَنَّهُ دُعَاءٌ إِلَى الصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَثْنَى كَالْأَذَانِ قَالَ : وَلِأَنَّهُ أَحْوَطُ فِي الْإِقَامَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَهُوَ فِي الْأَذَانِ كَالطَّرَفِ الْأَخِيرِ . قَالَ : وَلِأَنَّ فِي الْإِقَامَةِ مَا لَيْسَ فِي الْأَذَانِ فَلَا يَكُونُ مَا فِيهَا مَا فِي الْأَذَانِ أَوْلَى وَدَلِيلُنَا : رِوَايَةُ سِمَاكٍ عَنْ أَيُّوبَ ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ ، عَنْ أَنَسٍ : أُمِرَ بِلَالٌ أَنْ يُشَفِّعَ الْأَذَانَ وَيُوَتِّرَ الْإِقَامَةَ وَرَوَى يَعْمَرُ عَنْ أَيُّوبَ ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ : أُمِرَ بِلَالٌ أَنْ يُشَفِّعَ الْأَذَانَ وَيُوَتِّرَ الْإِقَامَةَ إِلَى قَوْلِهِ : قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ ، قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي الْمُثَنَّى عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : إِنَّمَا كَانَ الْأَذَانُ عَلَى
عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّتَيْنِ مَرْتَيْنِ ، وَالْإِقَامَةُ مَرَّةً مَرَّةً غَيْرَ أَنَّهُ يَقُولُ : قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ وَرَوَى عَمَّارُ بْنُ سَعْدٍ الْقَرَظُ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أَذَّنَ مَثْنَى مَثْنَى ، وَأَقَامَ فُرَادَى ، وَقَالَ هَذَا الَّذِي أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَالًا أَنْ يُؤَذِّنَ بِهِ لِأَبِي سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ ، فَإِنَّهُ كَانَ الْأَذَانُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَثْنَى مَثْنَى ، وَالْإِقَامَةُ فُرَادَى وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ : نَزَلَ جِيرِيلُ بِالْإِقَامَةِ فُرَادَى ، وَلِأَنَّهُ ثَانٍ لِأَوَّلَ يُسْتَفْتَحُ بِتَكْبِيرَاتٍ مُتَوَالِيَةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الثَّانِي أَقْصَرَ مِنَ الْأَوَّلِ ، كَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ فِي عَدَدِ التَّكْبِيرِ ، وَلِأَنَّ الْأَذَانَ أَوْفَى صِفَةً مِنَ الْإِقَامَةِ ، لِأَنَّهُ يَأْتِي بِهِ مُرَتَّلًا ، وَبِالْإِقَامَةِ أَدْرَاجًا ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ أَوْفَى قَدْرًا ، كَالرَّكْعَتَيْنِ الْأَوَّلِيَّتَيْنِ لَمَّا كَانَتْ أَوْفَى صِفَةً بِالْجَهْرِ كَانَتْ أَوْفَى قَدْرًا بِالسُّورَةِ ، وَلِأَنَّ أَسْبَابَ الصَّلَاةِ إِذَا تَجَانَسَتْ ، وَبُنِيَ أَحَدُهُمَا عَلَى التَّخْفِيفِ بُنِيَ عَلَى التَّبْعِيضِ ، كَالتَّيَمُّمِ لَمَّا جَانَسَ الْوُضُوءَ ثُمَّ يُبْنَى عَلَى التَّخْفِيفِ فِي تَجْوِيزِهِ بِالتُّرَابِ ، وَالْمَسْحِ بُنِيَ عَلَى التَّخْفِيفِ فِي الِاقْتِصَارِ مِنَ الْأَعْضَاءِ عَلَى الْبَعْضِ وَالرَّأْسِ ، لَمَّا قُصِرَ عَنِ الْأَعْضَاءِ بِالتَّخْفِيفِ قَسْمًا قُصِرَ عَنْهَا بِالتَّخْفِيفِ تَبْعِيضًا ، فَلَمَّا كَانَتِ الْإِقَامَةُ مَبْنِيَّةً عَلَى التَّخْفِيفِ أَدْرَاجًا اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ عَلَى التَّخْفِيفِ تَبْعِيضًا وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ أَبِي مَحْذُورَةَ وَبِلَالٍ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا كَانَتْ مُتَقَدِّمَةً تَعْقُبُهَا أَخْبَارُنَا ، لِأَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِالْإِفْرَادِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا عَلَى خِلَافِهِ وَالثَّانِي : أَنَّهَا وَإِنْ عَارَضَتْ أَخْبَارَنَا ، فَأَخْبَارُنَا أَوْلَى لِمُطَابَقَةِ فِعْلِ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ لَهَا وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْأَذَانِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَمَّا وُضِعَ لِلْإِعْلَامِ كَانَ أَكْمَلَ قَدْرًا كَمَا كَانَ أَكْمَلَ صِفَةً ، وَالْإِقَامَةُ لَمَّا وُضِعَتْ لِلِاسْتِفْتَاحِ كَانَتْ أَقَلَّ قَدْرًا ، كَمَا كَانَتْ أَقَلَّ صِفَةً وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الطَّرَفِ الْآخَرِ فَلَا يَصِحُّ ، لِأَنَّ الْأَذَانَ لَمَّا كَانَ مَوْضُوعًا لِلْإِعْلَامِ وَكَانَ الْإِعْلَامُ بِأَوَّلِهِ كَانَ أَوَّلُهُ زَائِدًا عَلَى آخِرِهِ لِحُصُولِ الْإِعْلَامِ بِأَوَّلِهِ ، وَالْإِقَامَةُ لَمَّا كَانَتْ مَوْضُوعَةً لِلِاسْتِفْتَاحِ جَازَ أَنْ يَسْتَوِيَ أَوَّلُهَا وَآخِرُهَا وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي الْإِقَامَةِ مَا لَيْسَ فِي الْأَذَانِ فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ فِيهَا مَا فِي الْأَذَانِ ، فَفَاسِدٌ بِالتَّثْوِيبِ ثُمَّ بِالتَّرْتِيلِ ، فَإِنْ صَحَّ مَا ذَكَرْنَا فَالسُّنَّةُ فِي الْأَذَانِ التَّثْنِيَةُ بِالتَّرْجِيعِ ، وَالسُّنَّةُ