كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي
عَلَى قَوْلَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ مَرَّ بِالْمِيقَاتِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ فَلَا دَمَ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ بِمَوْضِعٍ تَعَيَّنَ مِنْهُ الْإِحْرَامُ فَيَلْزَمُهُ دَمٌ بِتَرْكِهِ وَإِذَا لَمْ يَلْزَمْهُ دَمٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ مِنَ الْأُجْرَةِ بِقِسْطِ مَا بَيْنَ الْمِيقَاتَيْنِ قَوْلًا وَاحِدًا ، فَهَذَا الْكَلَامُ فِيهِ إِذَا عُيِّنَ لَهُ الْإِحْرَامُ مِنْ مِيقَاتٍ فَأَحْرَمَ مِنْ غَيْرِهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ فُرُوعِهِ وَأَحْكَامِهِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي مِنَ الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ وَهُوَ أَنْ يُعَيِّنَ لَهُ الْإِحْرَامَ بِنُسُكٍ فَيُحْرِمَ بِغَيْرِهِ فَهَذَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُعَيِّنَ لَهُ فَيَ الْعَقْدِ الْإِحْرَامَ بِحَجٍّ فَيُحْرِمَ بِغَيْرِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يُعَيِّنَ لَهُ الْإِحْرَامَ بِعُمْرَةٍ فَيُحْرِمَ بِغَيْرِهَا . وَالثَّالِثُ : أَنْ يُعَيِّنَ لَهُ الْإِحْرَامَ بِالْقِرَانِ فَيُحْرِمَ بِغَيْرِهِ . وَالرَّابِعُ : أَنْ يُعَيِّنَ لَهُ الْإِحْرَامَ بِالتَّمَتُّعِ فَيُحْرِمَ بِغَيْرِهِ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ - وَهُوَ أَنْ يُعَيِّنَ لَهُ الْإِحْرَامَ بِحَجَّةٍ مُفْرَدَةٍ فَيُحْرِمَ بِغَيْرِهَا - فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُحْرِمَ بِعُمْرَةٍ . وَالثَّانِي : أَنْ يُحْرِمَ قَارِنًا . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَتَمَتَّعَ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ : وَهُوَ أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ لِحَجَّةٍ مُفْرَدَةٍ فَيَعْتَمِرَ لِهَذِهِ الْعُمْرَةِ فَلَا يُسْقِطَ مَا لَزِمَهُ مِنَ الْحَجِّ ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ . إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا فَإِنْ كَانَ حَيًّا كَانَتِ الْعُمْرَةُ وَاقِعَةً عَنِ الْأَجِيِرِ دُونَ الْمُسْتَأْجِرِ : لِأَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي الْعُمْرَةِ وَالْحَيُّ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَمَرَ عَنْهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ، وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَكُونَ عُمْرَةُ الْإِسْلَامِ وَاجِبَةً عَلَيْهِ أَوْ سَاقِطَةً عَنْهُ ؛ فَإِنْ كَانَتْ عُمْرَةُ الْإِسْلَامِ وَاجِبَةً عَلَيْهِ كَانَتِ الْعُمْرَةُ وَاقِعَةً عَنْهُ : لِأَنَّ الْأَجِيرَ قَدْ نَوَاهُ بِهَا وَالْمَيِّتُ يَجُوزُ أَدَاءُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ عَنْهُ بِإِذْنٍ وَبِغَيْرِ إِذْنٍ وَيَكُونُ مُتَطَوِّعًا بِهَا وَلَا أُجْرَةَ لَهُ فِيهَا وَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ عُمْرَةُ الْإِسْلَامِ غَيْرَ وَاجِبَةٍ عَلَى الْمَيِّتِ فَهَلْ تَكُونُ الْعُمْرَةُ وَاقِعَةً عَنِ الْأَجِيرِ أَوْ عَنِ الْمَيِّتِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي جَوَازِ النِّيَابَةِ فِي حَجِّ التَّطَوُّعِ وَعُمْرَةِ التَّطَوُّعِ ، وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ النِّيَابَةَ فِي تَطَوُّعِ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْعُمْرَةُ وَاقِعَةً عَنِ الْأَجِيرِ دُونَ الْمَيِّتِ وَعَلَى الْأَجِيرِ أَنْ يَحُجَّ عَنِ الْمَيِّتِ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ النِّيَابَةَ فِي تَطَوُّعِ ذَلِكَ جَائِزَةٌ ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْعُمْرَةُ وَاقِعَةً عَنِ الْمَيِّتِ دُونَ الْأَجِيرِ وَهُوَ مُتَطَوِّعٌ بِهَا لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا أُجْرَةً ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ عَنِ الْمَيِّتِ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ .
وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ لِحَجَّةٍ مُفْرَدَةٍ فَيَقْرِنَ عَنْهُ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْحَجُّ عَنْ حَيٍّ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ عَنْ مَيِّتٍ فَإِنْ كَانَ الْحَجُّ عَنْ حَيٍّ فَالْقِرَانُ وَاقِعٌ عَنِ الْأَجِيرِ دُونَ الْمُسْتَأْجِرِ الْحَيِّ : لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنُوبَ عَنِ الْحَيِّ فِي الْعُمْرَةِ إِلَّا بِإِذْنِهِ وَالْحَيُّ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي أُجْرَةٍ فَلَمْ تَقَعْ عَنْهُ ، إِذَا لَمْ تَقَعْ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ كَانَتْ وَاقِعَةً عَنِ الْأَجِيرِ وَإِذَا وَقَعَتِ الْعُمْرَةُ عَنِ الْأَجِيرِ كَانَ الْحَجُّ تَبَعًا لَهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ أَحَدُ نُسُكَيِ الْفَوَاتِ عَنْ شَخْصٍ وَالْآخَرُ عَنْ غَيْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْحَجُّ عَنْ مَيِّتٍ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ فَرْضُ الْعُمْرَةِ بَاقِيًا عَلَيْهِ ، فَهَذَا يَكُونُ عَنِ الْمَيِّتِ فَيَقَعُ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ مَعًا عَنْهُ وَيَكُونُ الْأَجِيرُ مُتَطَوِّعًا بِالْعُمْرَةِ مُؤَدِّيًا لِلْحَجِّ فَيَسْقُطُ عَنْهُ الْحَجُّ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ وَيَسْتَحِقُّ جَمِيعَ الْأُجْرَةِ ، وَقَدْ تَطَوَّعَ بِالْعُمْرَةِ فَلَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا أُجْرَةً ، وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ دَمُ الْقِرَانِ فِي مَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ تَطَوَّعَ بِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ فَرْضُ الْعُمْرَةِ قَدْ سَقَطَ عَنْهُ فَيَكُونُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ فِي جَوَازِ التَّطَوُّعِ بِذَلِكَ عَنِ الْمَيِّتِ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْعُمْرَةَ وَالْحَجَّ مَعًا يَكُونَانِ عَنِ الْمَيِّتِ وَقَدْ تَطَوَّعَ الْأَجِيرُ بِالْعُمْرَةِ فَلَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا عِوَضًا ، وَقَدْ سَقَطَ عَنْهُ الْحَجُّ وَاسْتَحَقَّ جَمِيعَ الْأُجْرَةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : إِنَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ مَعًا يَقَعَانِ عَنِ الْأَجِيرِ : لِأَنَّ الْعُمْرَةَ لَا يَصِحُّ التَّطَوُّعُ بِهَا عَنِ الْمَيِّتِ فَوَقَعَتْ عَنِ الْأَجِيرِ ، وَالْحَجُّ فِي الْقِرَانِ لَا يَصِحُّ أَنْ يُفْرَدَ عَنِ الْعُمْرَةِ فَوَقَعَ عَنِ الْأَجِيرِ وَلَا يَسْتَحِقُّ عَلَى ذَلِكَ أُجْرَةً : لِأَنَّهُ عَمِلَ لِنَفْسِهِ وَيَكُونُ مَا اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ مِنَ الْأُجْرَةِ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ بَاقِيًا عَلَيْهِ . فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " : وَإِذَا أَسْتَأْجَرَهُ لِيَحُجَّ عَنْهُ فَقَرَنَ فَقَدْ زَادَهُ خَيْرًا وَاسْتَحَقَّ الْأُجْرَةَ الْمُسَمَّاةَ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْحَجِّ عَنِ الْمَيِّتِ دُونَ الْحَيِّ عَلَى مَا قَسَّمْنَا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ لِحَجَّةٍ مُفْرَدَةٍ ، فَتَمَتَّعَ ؛ فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعُمْرَةَ فِي التَّمَتُّعِ مُفْرَدَةٌ عَنِ الْحَجِّ فَيَكُونُ الْكَلَامُ فِي الْعُمْرَةِ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ وُقُوعِهَا عَنِ الْأَجِيرِ أَوِ الْمُسْتَأْجِرِ ، فَإِنْ وَقَعَتْ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ كَانَ الْأَجِيرُ مُتَطَوِّعًا بِهَا ، فَأَمَّا الْحَجَّةُ فَهِيَ وَاقِعَةٌ عَنِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ حَيًّا كَانَ أَوْ مَيِّتًا دُونَ الْأَجِيرِ لِإِفْرَادِهَا عَنِ الْعُمْرَةِ إِلَّا أَنَّهُ اسْتُؤْجِرَ لِيُحْرِمَ بِهَا مِنَ الْمِيقَاتِ فَأَحْرَمَ بِهَا مِنْ مَكَّةَ فَيَكُونُ عَلَيْهِ دَمٌ لِمُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ ، وَهَلْ يَرُدُّ مِنَ الْأُجْرَةِ قِسْطَ ذَلِكَ أَمْ لَا ؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا وَلَا دَمَ عَلَى الْأَجِيرِ فِي تَمَتُّعِهِ : لِأَنَّ دَمَ التَّمَتُّعِ إِنَّمَا يَجِبُ إِذَا وَقَعَ النُّسُكَانِ مَعًا عَنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ ، فَأَمَّا إِذَا وَقَعَا عَنْ شَخْصَيْنِ فَلَا ، إِلَّا أَنْ تَقَعَ
الْعُمْرَةُ عَنِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ لِكَوْنِهِ مَيِّتًا فَيَجِبُ عَلَى الْأَجِيرِ دَمُ التَّمَتُّعِ لِوُقُوعِ النُّسُكَيْنِ عَنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ فَيَكُونُ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ دَمَيْنِ : دَمُ الْمُتْعَةِ وَدَمُ مُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي مِنَ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ وَهُوَ : أَنْ يُعَيِّنَ لَهُ الْإِحْرَامَ بِعُمْرَةٍ فَيُحْرِمَ بِغَيْرِهَا فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ أَيْضًا : أَحَدُهَا : أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ لِعُمْرَةٍ فَيُحْرِمَ بِحَجٍّ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَنْ حَيٍّ فَيَكُونَ الْحَجُّ وَاقِعًا عَنِ الْأَجِيرِ لِعَدَمِ إِذْنِ الْحَيِّ ، وَعَلَى الْأَجِيرِ أَنْ يُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْعُمْرَةِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ عَنْ مَيِّتٍ فَيَكُونَ عَلَى مَا مَضَى فِي الْعُمْرَةِ مِنَ اعْتِبَارِ حَالِ الْمَيِّتِ فِي بَقَاءِ فَرْضِ الْحَجِّ عَلَيْهِ أَوْ سُقُوطِهِ عَنْهُ ، ثُمَّ عَلَى الْأَجِيرِ أَنْ يُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْعُمْرَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ لِعُمْرَةٍ فَيُحْرِمَ قَارِنًا بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ ، فَهَذَا يَكُونُ كَمَنِ اسْتُؤْجِرَ لِحَجَّةٍ مُفْرَدَةٍ فَأَحْرَمَ قَارِنًا لِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ ؛ فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى مِنَ التَّقْسِيمِ وَالْجَوَابِ . وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ : أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ لِعُمْرَةٍ فَيَتَمَتَّعَ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ؛ فَتَكُونَ الْعُمْرَةُ وَاقِعَةً عَنِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ حَيًّا كَانَ أَوْ مَيِّتًا ؛ لِانْفِرَادِهَا عَنِ الْحَجِّ وَلَهُ جَمِيعُ الْأُجْرَةِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَحْرَمَ بِهَا مِنَ الْمِيقَاتِ ، فَأَمَّا الْحَجُّ فَإِنْ كَانَ عَنْ حَيٍّ فَهُوَ وَاقِعٌ عَنِ الْأَجِيرِ دُونَ الْمُسْتَأْجِرِ الْحَيِّ ؛ لِعَدَمِ إِذْنِهِ وَإِنْ كَانَ عَنْ مَيِّتٍ فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ اعْتِبَارِ حَالِهِ فِي بَقَاءِ فَرْضِ الْحَجِّ عَلَيْهِ أَوْ سُقُوطِهِ عَنْهُ ، فَإِنْ أَوْقَعْنَا الْحَجَّ عَنِ الْأَجِيرِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ دَمُ التَّمَتُّعِ ؛ لِوُقُوعِ الْحَجِّ عَنْ شَخْصٍ وَالْعُمْرَةِ عَنْ غَيْرِهِ ، وَإِنْ أَوْقَعْنَا الْحَجَّ عَنِ الْمَيِّتِ فَعَلَى الْأَجِيرِ دَمُ التَّمَتُّعِ ؛ لِوُقُوعِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ عَنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنَ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ وَهُوَ أَنْ يُعَيِّنَ لَهُ الْإِحْرَامَ بِالْقِرَانِ فَيُحْرِمَ بِغَيْرِهِ ، فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ لِيَقْرِنَ فَيُحْرِمَ بِحَجَّةٍ مُفْرَدَةٍ ؛ فَتَكُونَ الْحَجَّةُ وَاقِعَةً عَنِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ وَقَدْ وَفَّى أَحَدَ النُّسُكَيْنِ مُفْرِدًا ؛ وَهُوَ الْحَجُّ وَبَقِيَ عَلَيْهِ النُّسُكُ الثَّانِي ؛ وَهُوَ الْعُمْرَةُ ثُمَّ لَا تَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَأْتِيَ بِالْعُمْرَةِ مُفْرَدَةً أَوْ لَا يَأْتِيَ بِهَا ، فَلَهُ مِنَ الْأُجْرَةِ بِقِسْطِ مَا يَحِلُّ مِنَ الْحَجِّ وَيَرُدُّ مِنَ الْأُجْرَةِ بِقِسْطِ مَا بَقِيَ مِنَ الْعُمْرَةِ فَيُقَالُ : بِكَمْ يُوجَدُ مَنْ يُحْرِمُ بِالْقِرَانِ . فَيُقَالُ : بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ ، وَيُقَالُ : بِكَمْ يُوجَدُ مَنْ يُحْرِمُ بِحَجَّةٍ مُفْرَدَةٍ فَيُقَالُ : بِثَمَانِيَةِ دَنَانِيرَ فَيُرْجِعُ عَلَيْهِ مِنَ الْأُجْرَةِ بِخُمْسِهَا ، وَإِنْ أَتَى بِالْعُمْرَةِ مُفْرَدَةً سَقَطَتْ عَنْهُ ، ثُمَّ يَنْظُرُ فَإِنْ أَحْرَمَ بِهَا مِنَ الْمِيقَاتِ فَلَا دَمَ عَلَيْهِ وَقَدِ اسْتَحَقَّ جَمِيعَ الْأُجْرَةِ : لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِالنُّسُكَيْنِ مِنَ الْمِيقَاتِ مَعَ زِيَادَةِ الْعَمَلِ فِي إِفْرَادِهَا ، وَإِنْ أَحْرَمَ بِهَا مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ فَقَدْ وَفَّى النُّسُكَ الثَّانِيَ أَيْضًا ، لَكِنْ قَدْ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ
بِهَا مِنَ الْمِيقَاتِ فَأَحْرَمَ بِهَا مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ فَيَلْزَمُهُ دَمٌ ؛ لِتَرْكِ الْإِحْرَامِ مِنَ الْمِيقَاتِ ، وَهَلْ يَرُدُّ مِنَ الْأُجْرَةِ بِقِسْطِ مَا بَيْنَ الْمِيقَاتَيْنِ ؟ عَلَى اخْتِلَافٍ أَصْحَابُنَا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ لِيَقْرِنَ فَيُحْرِمَ بِعُمْرَةٍ مُفْرَدَةٍ ؛ فَتَكُونَ الْعُمْرَةُ وَاقِعَةً عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ وَقَدْ وَفَّى أَحَدَ النُّسُكَيْنِ مُفْرِدًا وَهُوَ الْعُمْرَةُ وَبَقِيَ النُّسُكُ الثَّانِي وَهُوَ الْحَجُّ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَأْتِيَ بِالْحَجِّ مُفْرِدًا أَوْ لَا يَأْتِيَ بِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ رَدَّ مِنَ الْأُجْرَةِ مَا قَابَلَهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَإِنْ أَتَى بِهِ سَقَطَ عَنْهُ النُّسُكَانِ ثُمَّ اعْتَبَرَ مَوْضِعَ إِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْعُمْرَةِ مِنْ قَبْلُ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ لِيَقْرِنَ فَتَمَتَّعَ ؛ فَقَدْ وَفَّى النُّسُكَيْنِ مَعًا ؛ لِأَنَّهُ قَدِ اسْتُؤْجِرَ عَلَى عَمَلِهَا قَارِنًا فَأَفْرَدَهُمَا فَأَجْزَأَ : لِأَنَّ الْفَرْضَ يَسْقُطُ بِإِفْرَادِهِمَا كَمَا يَسْقُطُ بِقِرَانِهَا إِلَّا أَنَّهُ اسْتُؤْجِرَ لِيُحْرِمَ بِهَا مِنَ الْمِيقَاتِ فَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ مِنَ الْمِيقَاتِ وَبِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ فَكَانَ تَارِكًا لِلْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ مِنَ الْمِيقَاتِ فَلَزِمَهُ دَمٌ لِتَرْكِهِ ، وَهَلْ يَرُدُّ مِنَ الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ ذَلِكَ ؟ عَلَى اخْتِلَافٍ أَصْحَابُنَا ، وَلَزِمَهُ أَخْذُ دَمٍ آخَرَ لِتَمَتُّعِهِ ، فَإِنْ قِيلَ فَدَمُ الْمُتْعَةِ إِنَّمَا وَجَبَ لِتَرْكِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ مِنَ الْمِيقَاتِ وَقَدْ أَوْجَبْتُمْ عَلَيْهِ لِأَجْلِهِ دَمًا ، فَلَمَّا أَوْجَبْتُمْ عَلَيْهِ دَمًا ثَانِيًا قِيلَ هُمَا وَإِنْ وَجَبَا بِتَرْكِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ مِنَ الْمِيقَاتِ فَمَعْنَى وُجُوبِهَا مُخْتَلِفٌ : لِأَنَّ أَحَدَهُمَا وَاجِبٌ بِالْعَقْدِ وَالْآخِرَ وَاجِبٌ بِالشَّرْعِ ، وَإِذَا اخْتَلَفَ مَعْنَاهُمَا لَنْ يَمْتَنِعَ وُجُوبُهُمَا ، فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الدَّمَيْنِ فَدَمُ الْمُجَاوَزَةِ وَاجِبٌ عَلَى الْأَجِيرِ وَفِي دَمِ الْمُتْعَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ بَدَلًا مِنْ دَمِ الْقِرَانِ : لِأَنَّهُ قَدْ أَذِنَ لَهُ فِي فِعْلِ النُّسُكَيْنِ عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ دَمًا وَقَدْ فَعَلَهَا عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ دَمًا فَكَانَ الدَّمُ لَازِمًا لَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : إِنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى الْأَجِيرِ : لِأَنَّهُ وَاجِبٌ بِالتَّمَتُّعِ دُونَ الْقِرَانِ وَهُوَ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي التَّمَتُّعِ فَيَكُونُ مُلْتَزِمًا لِمُوجِبِهِ وَإِنَّمَا أَذِنَ لَهُ فِي الْقِرَانِ فَعَدَلَ عَنْهُ إِلَى التَّمَتُّعِ تَطَوُّعًا بِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْتَزِمَ الْأَجِيرُ مُوجَبَ تَطَوُّعِهِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ مِنَ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ _ وَهُوَ أَنْ يُعَيِّنَ لَهُ الْإِحْرَامَ بِالتَّمَتُّعِ فَيُحْرِمَ بِغَيْرِهِ - فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ لِيَتَمَتَّعَ بِحَجَّةٍ مُفْرَدَةٍ فَتَكُونَ الْحَجَّةُ وَاقِعَةً عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ وَقَدْ وَفَّى أَحَدَ النُّسُكَيْنِ ؛ وَهُوَ الْحَجُّ وَبَقِيَ النُّسُكُ الثَّانِي ؛ وَهُوَ الْعُمْرَةُ ، ثُمَّ لَهُ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَأْتِيَ بِالْعُمْرَةِ بَعْدَ الْحَجِّ ، فَإِذَا أَتَى بِهَا سَقَطَ عَنْهُ النُّسُكُ الثَّانِي ، ثُمَّ يَنْظُرُ فَإِنْ أَحْرَمَ بِهَا مِنَ الْمِيقَاتِ فَقَدْ أَكْمَلَ النُّسُكَ وَاسْتَحَقَّ جَمِيعَ الْأُجْرَةِ وَقَدْ تَرَفَّهَ الْمُسْتَأْجِرُ بِإِسْقَاطِ دَمِ الْمُتْعَةِ ، وَإِنْ أَحْرَمَ الثَّانِي بِهَا مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ فَقَدْ كَانَ يَلْزَمُهُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ أَنْ يُحْرِمَ بِهَا مِنَ الْمِيقَاتِ فَتَرَكَ ذَلِكَ وَكَانَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ فَأَحْرَمَ بِهِ مِنَ الْمِيقَاتِ فَكَانَ
مُتَطَوِّعًا بِذَلِكَ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ دَمٌ فِيمَا تَرَكَ مِنَ الْإِحْرَامِ فِي الْعُمْرَةِ ، وَهَلْ يَرُدُّ بِقِسْطِهِ مِنَ الْأُجْرَةِ ؟ عَلَى مَا مَضَى مِنَ اخْتِلَافٍ أَصْحَابُنَا . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ لَا يَأْتِيَ بِالْعُمْرَةِ فَيَبْقَى عَلَيْهِ النُّسُكُ الثَّانِي وَهُوَ الْعُمْرَةُ فَيَرُدَّ بِقِسْطِهَا مِنَ الْأُجْرَةِ ، فَإِنْ قِيلَ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ ؟ قِيلَ عَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ بِهَا ؛ لِأَنَّهُ اسْتُؤْجِرَ عَلَى عَمَلَيْنِ فَفَعَلَ أَحَدَهُمَا إِلَّا أَنَّهُ إِنْ كَانَ عَنْ مَيِّتٍ فَلَا خِيَارَ لِمُسْتَأْجِرِهِ وَإِنْ كَانَ عَنْ حَيٍّ كَانَ بِالْخِيَارِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ لِيَتَمَتَّعَ فَيُحْرِمَ بِعُمْرَةٍ مُفْرَدَةٍ : الْعُمْرَةُ وَاقِعَةٌ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ وَقَدْ وَفَّى الْأَجِيرُ أَحَدَ النُّسُكَيْنِ ؛ وَهُوَ الْعُمْرَةُ وَبَقِيَ عَلَيْهِ النُّسُكُ الثَّانِي ؛ وَهُوَ الْحَجُّ وَلَهُ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَأْتِيَ بِالْحَجِّ . وَالثَّانِي : أَنْ لَا يَأْتِيَ بِهِ ، فَإِنْ أَتَى بِالْحَجِّ كَانَ عَلَى مَا مَضَى فِي إِتْيَانِهِ بِالْعُمْرَةِ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ لِيَتَمَتَّعَ فَيَقْرِنَ فَيَقَعَ نُسُكَا الْقِرَانِ جَمِيعًا مِنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ : لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ عَلَيْهِمَا لِيَأْتِيَ بِأَحَدِهِمَا مِنَ الْمِيقَاتِ وَالْآخِرِ مِنْ مَكَّةَ فَأَتَى بِهِمَا جَمِيعًا مِنَ الْمِيقَاتِ إِلَّا أَنَّهُ اسْتُؤْجِرَ لِيُفْرِدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ النُّسُكَيْنِ فَقَرَنَ بَيْنَهُمَا فَلَزِمَهُ دَمٌ لِأَجْلِ مَا تَرَكَ مِنَ الْعَمَلِ فِي إِفْرَادِهِمَا ؛ لِأَنَّهُ إِذَا أَفْرَدَهُمَا لَزِمَهُ أَنْ يَطُوفَ وَيَسْعَى سَعْيَيْنِ أَيُسْقِطُ ذَلِكَ أَمْ لَا ؟ قِيلَ لَا يُسْقِطُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يُجْزِئُهُ أَحَدُهُمَا فَصَارَ مُتَطَوِّعًا بِالثَّانِي ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ تَرَفَّهَ بِسُقُوطِ أَحَدِ الْإِحْرَامَيْنِ فَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَجْبُرَ ذَلِكَ بِدَمٍ ، وَهَلْ يَرُدُّ مِنَ الْأُجْرَةِ بِقِسْطِهِ ؟ عَلَى اخْتِلَافٍ أَصْحَابُنَا ، وَعَلَيْهِ دَمٌ لِلْقِرَانِ يَجِبُ بِقِرَانِهِ دَمَانِ : أَحَدُهُمَا : بِتَرْكِ الْعَمَلِ فِي إِفْرَادِهِمَا وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْأَجِيرِ . وَالثَّانِي : بِالْفَوَاتِ ، وَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ بَدَلًا مِنْ دَمِ التَّمَتُّعِ . وَالثَّانِي : عَلَى الْأَجِيرِ لِتَرْكِهِ مَا أَذِنَ فِيهِ وَتَطَوُّعِهِ ، يَفْعَلُ مَا لَمْ يُؤْذَنْ فِيهِ ، فَهَذَا الْكَلَامُ فِيهِ إِذَا عَيَّنَ لَهُ الْإِحْرَامَ بِنُسُكٍ فَأَحْرَمَ بِغَيْرِهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ مِنْ فُرُوعِهِ وَأَحْكَامِهِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ مِنَ الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ - وَهُوَ أَنْ يُعَيِّنَ لَهُ الْإِحْرَامَ فِي عَامٍ فَيُحْرِمَ فِي غَيْرِهِ - فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُعَجِّلَ مَا ثَبَتَ مُؤَجَّلًا ؛ وَهُوَ أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ لِيَحُجَّ عَنْهُ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَحَجَّ عَنْهُ فِي الْعَامِ الَّذِي هُوَ فِيهِ فَهَذَا الْحَجُّ مُجْزِئٌ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ ، وَلِلْأَجِيرِ جَمِيعُ الْأُجْرَةِ : لِأَنَّهُ قَدْ أَدَّى جَمِيعَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَلَا خِيَارَ لِلْمُسْتَأْجِرِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَعَجَّلَ اسْتِحْقَاقَهُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يُؤَجِّلَ مَا ثَبَتَ مُعَجَّلًا ؛ وَهُوَ أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ لِيَحُجَّ عَنْهُ فِي عَامِهِ فَلَا يَحُجَّ عَنْهُ فِي عَامِهِ وَيُؤَخِّرَهُ إِلَى عَامٍ غَيْرِهِ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ عَقْدُ الْإِجَارَةِ مُعَيَّنًا فَتَبْطُلَ الْإِجَارَةُ بِتَأَخُّرِهِ ؛ لِأَنَّ فَوَاتَهُ فِي الْعَامِ يُوجِبُ تَأْخِيرَهُ إِلَى الْعَامِ الْمُقْبِلِ وَالْعَقْدُ الْمُعَيَّنُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ فَبَطَلَ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ حَجَّ الْأَجِيرُ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ كَانَ الْحَجُّ وَاقِعًا عَنْ نَفْسِهِ دُونَ مُسْتَأْجِرِهِ وَلَا أُجْرَةَ لَهُ : لِأَنَّ الْإِجَارَةَ بِفَوَاتِ الْوَقْتِ قَدْ بَطَلَتْ وَالْوَقْتَ الَّذِي حَجَّ فِيهِ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ ، فَصَارَ مَا فَعَلَهُ الْأَجِيرُ مِنَ الْحَجِّ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ عَقْدٌ وَلَا إِذْنٌ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ عَقْدُ الْإِجَارَةِ فِي الذِّمَّةِ فَلَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ بِتَأَخُّرِهِ : لِأَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ لَا يَبْطُلُ بِتَأَخُّرِهِ عَنْ مَحِلِّهِ كَـ " السَّلَمِ " ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ فَلِلْمُسْتَأْجِرِ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَكُونَ قَدِ اسْتَأْجَرَهُ لِيَحُجَّ عَنْهُ وَهُوَ حَيٌّ ؛ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُقِيمَ عَلَى الْإِجَارَةِ إِلَى الْعَامِ الْمُقْبِلِ وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ : لِأَنَّهُ قَدْ يَسْتَفِيدُ بِفَسْخِهِ الِاتِّفَاقَ بِالْأُجْرَةِ إِلَى الْعَامِ الْمُقْبِلِ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ قَدِ اسْتَأْجَرَهُ لِيَحُجَّ عَنْ مَيِّتٍ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَأْجِرُ قَدْ تَطَوَّعَ بِذَلِكَ عَنِ الْمَيِّتِ مِنْ مَالِهِ دُونَ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ فَلِلْمُسْتَأْجِرِ الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يُقِيمَ عَلَى الْإِجَارَةِ إِلَى الْعَامِ الْمُقْبِلِ وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ : لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَرْتَفِقَ بِالْمَالِ إِلَى الْعَامِ الْمُقْبِلِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ قَدِ اسْتَأْجَرَهُ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ ، فَلَيْسَ لَهُ فَسْخُ الْإِجَارَةِ وَعَلَيْهِ الصَّبْرُ إِلَى الْعَامِ الْمُقْبِلِ : لِأَنَّهُ لَيْسَ يَقْدِرُ عَلَى اسْتِئْجَارِ مَنْ يَحُجُّ قَبْلَهُ وَلَا يَجُوزُ لَهُ الِارْتِفَاقُ بِالْمَالِ إِنِ ارْتَجَعَهُ ، فَلَمْ يَكُنْ لِفَسْخِهِ مَعْنًى ، فَإِنْ خَافَ الْمُسْتَأْجِرُ فَلَيْسَ لِلْأَجِيرِ رَفْعُ أَمْرِهِ إِلَى الْحَاكِمِ لِيَتَوَلَّى فَسْخَ الْإِجَارَةِ لِحُكْمِهِ عَلَى حَسَبِ نَظَرِهِ وَاجْتِهَادِهِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ لَمْ يَعْلَمِ الْمُسْتَأْجِرُ حَالَ الْأَجِيرِ فِي تَأْخِيرِ الْحَجِّ حَتَّى يَحُجَّ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ كَانَ الْحَجُّ وَاقِعًا عَنِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ دُونَ الْأَجِيرِ وَاسْتَحَقَّ الْأَجِيرُ جَمِيعَ الْأُجْرَةِ الْمُسَمَّاةِ : لِأَنَّ الْإِجَارَةَ بِفَوَاتِ الْعَامِ الْمَاضِي لَمْ تَبْطُلْ فَكَانَ فِعْلُهُ مِنَ الْحَجِّ قَدْ تَنَاوَلَهُ عَقْدُ الْإِجَارَةِ فَاسْتَحَقَّ بِهِ جَمِيعَ الْأُجْرَةِ . فَهَذَا الْكَلَامُ فِيهِ إِذَا عَيَّنَ لَهُ الْإِحْرَامَ فِي عَامٍ فَأَحْرَمَ فِي عَامٍ غَيْرِهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ أَحْكَامِهِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الرَّابِعُ مِنَ الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ - وَهُوَ أَنْ يُعَيِّنَ لَهُ الْإِحْرَامَ عَنْ شَخْصٍ فَيُحْرِمَ عَنْ غَيْرِهِ - فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَنْتَقِلَ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ إِلَى غَيْرِهِ بِالْعَقْدِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْهُ إِلَى غَيْرِهِ بِالشَّرْعِ ؛ فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ وَهُوَ مَا انْتَقَلَ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ إِلَى غَيْرِهِ بِالْعَقْدِ وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : مَا انْتَقَلَ عَنْهُ بِالْعَقْدِ وَالْحُكْمِ جَمِيعًا وَهُوَ أَنْ يُحْرِمَ الْأَجِيرُ مُبْتَدِئًا عَنْ نَفْسِهِ أَوْ عَنْ أَجْنَبِيٍّ غَيْرِ مُسْتَأْجِرِهِ ؛ فَالْحَجُّ وَاقِعٌ عَنِ الْأَجِيرِ أَوْ عَنْ مَنْ نَوَاهُ الْأَجِيرُ عَنْهُ دُونَ الْمُسْتَأْجِرِ ، وَيَكُونُ حَالُ الْأَجِيرِ فِي ذَلِكَ حَالَ مَنِ اسْتُؤْجِرَ لِيَحُجَّ فِي عَامٍ فَأَخَّرَهُ إِلَى غَيْرِهِ عَلَى مَا مَضَى . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا انْتَقَلَ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ إِلَى غَيْرِهِ بِالْعَقْدِ دُونَ الْحُكْمِ ؛ وَهُوَ أَنْ يُحْرِمَ الْأَجِيرُ مُبْتَدِئًا عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ ثُمَّ يَقْصِدُ صَرْفَ الْإِحْرَامِ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ إِلَى نَفْسِهِ أَوْ إِلَى أَجْنَبِيٍّ غَيْرِهِ ، فَالْحَجُّ وَاقِعٌ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ لِانْعِقَادِهِ عَنْهُ وَحْدَهُ . الثَّانِي : غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي انْتِقَالِهِ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ إِذَا انْتَقَلَ عَنْ شَخْصٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْتَقِلَ بِالْقَصْدِ إِلَى غَيْرِهِ ، كَمَا إِذَا انْعَقَدَ الْإِحْرَامُ بِنُسُكٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى غَيْرِهِ إِذَا كَانَ الْحَجُّ وَاقِعًا عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا ، فَهَلْ لِلْأَجِيرِ الْمُطَالَبَةُ بِالْأُجْرَةِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ذَكَرَهُمَا فِي الْأُمِّ : أَحَدُهُمَا : لَا أُجْرَةَ لَهُ : لِأَنَّهُ أَتَى بِأَفْعَالِ الْحَجِّ عَنْ نَفْسِهِ دُونَ مُسْتَأْجِرِهِ وَإِنَّمَا انْصَرَفَ حُكْمًا إِلَى مُسْتَأْجِرِهِ ، وَمَنْ عَمِلَ لِنَفْسِهِ فَصَرَفَهُ الْحُكْمُ إِلَى غَيْرِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ أُجْرَةَ عَمَلِهِ ، كَمَنْ عَمِلَ فِي مَعْدِنِ غَيْرِهِ بِإِذْنِهِ عَلَى أَنَّ مَا حَصَلَ بِعَمَلِهِ فَهُوَ هِبَةٌ لَهُ كَانَ جَمِيعُ مَا أَخَذَهُ بِعَمَلِهِ لِرَبِّ الْمَعْدِنِ دُونَهُ : لِأَنَّهَا هِبَةٌ مَجْهُولَةٌ وَلَا أُجْرَةَ لِلْعَامِلِ فِي عَمَلِهِ : لِأَنَّهُ عَمِلَ لِنَفْسِهِ ؛ كَذَلِكَ الْأَجِيرُ فِي الْحَجِّ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَهُ أُجْرَةٌ : لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ بَذَلَ الْأُجْرَةَ فِيمَا يَفْعَلُهُ عَنْهُ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ ، فَإِذَا حَصَلَ الْحَجُّ لَهُ لَزِمَهُ مِنَ الْعِوَضِ مَا بَذَلَهُ ، فَأَمَّا الْقَصْدُ فَلَمَّا لَمْ يُؤَثِّرُ فِي صَرْفِ الْحَجِّ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي إِسْقَاطِ الْأُجْرَةِ . وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي فِي الْأَصْلِ - وَهُوَ مَا انْتَقَلَ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ إِلَى غَيْرِهِ بِالشَّرْعِ دُونَ الْعَقْدِ - عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا نَقَلَهُ الشَّرْعُ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْتَدَّ بِهِ لِغَيْرِهِ وَذَلِكَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا انْتَقَلَ بِالْفَسَادِ وَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ الْإِحْرَامَ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ ثُمَّ يُفْسِدُهُ بِوَطْءٍ فَيَنْصَرِفَ الْإِحْرَامُ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ إِلَى الْأَجِيرِ شَرْعًا عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ . وَالثَّانِي : مَا انْتَقَلَ بِالْفَوَاتِ وَهُوَ أَنْ يُحْرِمَ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ ثُمَّ يَفُوتَهُ الْحَجُّ بِفَوَاتِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ إِمَّا لِخَطَأٍ فِي الْعَدَدِ أَوْ مَانِعٍ خَاصٍّ ، وَيَنْتَقِلُ الْإِحْرَامُ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ إِلَى الْأَجِيرِ شَرْعًا : لِأَنَّ الْعَقْدَ إِنَّمَا اقْتَضَى حَجًّا سَلِيمًا يَسْقُطُ بِهِ الْفَرْضُ فَإِذَا تَخَلَّلَهُ فَسَادٌ ، أَوْ فَوَاتٌ لَمْ يَسْقُطِ الْفَرْضُ فَنَقَلَهُ الشَّرْعُ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ إِلَى الْأَجِيرِ وَعَلَى الْأَجِيرِ الْقَضَاءُ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا أُجْرَةَ لَهُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا نَقَلَهُ الشَّرْعُ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ إِلَى غَيْرِهِ مَعَ الِاعْتِدَادِ بِهِ لِغَيْرِهِ وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : مَا نَقَلَهُ الشَّرْعُ بِالشَّكِّ الطَّارِئِ عَلَى الْإِحْرَامِ وَهُوَ أَنْ يُحْرِمَ الْأَجِيرُ ثُمَّ يَشُكَّ فَلَا يَعْلَمَ : هَلْ أَحْرَمَ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ أَمْ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ عَنْ أَجْنَبِيٍّ غَيْرِ مُسْتَأْجِرِهِ ؛ فَإِنَّ الْإِحْرَامَ يَنْصَرِفُ بِالشَّرْعِ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ إِلَى الْأَجِيرِ : لِأَنَّ الْعَقْدَ يَقْتَضِي إِحْرَامًا يُسْقِطُ الْفَرْضَ وَالشَّكُّ لَا يُسْقِطُ الْفَرْضَ ، فَلِذَلِكَ مَا انْصَرَفَ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ إِلَى الْأَجِيرِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ تَيَقَّنَ الْأَجِيرُ بَعْدَ شَكِّهِ إِنْ كَانَ قَدْ أَحْرَمَ عَنْ مُسْتَأْجِرِهِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَتَيَقَّنَ ذَلِكَ بَعْدَ فِعْلِ شَيْءٍ أَوْ قَبْلَ فِعْلِ شَيْءٍ مِنَ الْأَرْكَانِ فَإِنْ تَيَقَّنَ ذَلِكَ بَعْدَ فِعْلِ شَيْءٍ مِنَ الْأَرْكَانِ كَانَ الْحَجُّ وَاقِعًا عَنْهُ دُونَ الْمُسْتَأْجِرِ ، وَإِنْ تَيَقَّنَ ذَلِكَ قَبْلَ فِعْلِ شَيْءٍ عَنِ الْأَرْكَانِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ وَلِلْأَجِيرِ جَمِيعُ الْأُجْرَةِ : لِأَنَّ حُدُوثَ الْيَقِينِ يَرْفَعُ حُكْمَ مَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الشَّكِّ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْثِيرٌ وَلَا يَعْقُبُهُ فِعْلٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ عَنِ الْأَجِيرِ وَلَا يَكُونَ حُدُوثُ الْيَقِينِ الرَّافِعِ لِلشَّكِّ نَاقِلًا لِلْإِحْرَامِ إِلَى الْمُسْتَأْجَرِ ؛ كَمَنْ أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ مُسَافِرًا ثُمَّ شَكَّ هَلْ نَوَى الْقَصْرَ أَوِ الْإِتْمَامَ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ فَلَوْ زَالَ الشَّكُّ وَتَيَقَّنَ أَنَّهُ نَوَى الْقَصْرَ لَمْ يَزُلْ حُكْمُ الْإِتْمَامِ ؛ كَذَلِكَ الْحَجُّ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا نَقَلَهُ الشَّرْعُ بِالتَّشْرِيكِ بَيْنَ الْمُسْتَأْجِرِ وَغَيْرِهِ ؛ وَهُوَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ وَعَنْ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ عَنْ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ النُّسُكَ الْوَاحِدَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَقَعَ عَنْ شَخْصَيْنِ ؛ وَكَذَلِكَ لَوِ اسْتَأْجَرَهُ رَجُلَانِ لِيَحُجَّ عَنْهُمَا فَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ يَنْوِيهُمَا كَانَ الْحَجُّ وَاقِعًا عَنْ نَفْسِهِ دُونَهُمَا فَلَوِ اسْتَأْجَرَهُ أَحَدُهُمَا لِحَجٍّ وَاسْتَأْجَرَهُ الْآخَرُ لِعُمْرَةٍ فَأَحْرَمَ قَارِنًا يَنْوِي بِالْحَجِّ أَحَدَهُمَا وَبِالْعُمْرَةِ الْآخَرَ لَمْ يُجْزِهِ ذَلِكَ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَوَقَعَا مَعًا عَنْ نَفْسِهِ وَلَمْ يَسْتَحِقَّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَيْئًا مِنَ الْأُجْرَةِ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْقِرَانِ حُكْمُ النُّسُكِ الْوَاحِدِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ النُّسُكُ الْوَاحِدُ عَنْ شَخْصَيْنِ فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ الْقِرَانُ عَنْ شَخْصَيْنِ ، فَلَوِ اسْتَأْجَرَهُ رَجُلٌ لِيَحُجَّ عَنْهُ فَأَحْرَمَ عَنْهُ بِحَجَّةٍ مُفْرَدَةٍ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهَا لِنَفْسِهِ عُمْرَةً فَصَارَ قَارِنًا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَوْ أَحْرَمَ عَنْ غَيْرِهِ بِعُمْرَةٍ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهَا لِنَفْسِهِ حَجًّا قَارِنًا قَوْلًا وَاحِدًا ، فَإِنَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ يَقَعَانِ عَنْ نَفْسِهِ دُونَ مُسْتَأْجِرِهِ : لِأَنَّ مُدْخِلَ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ عَلَى الْآخَرِ كَالْمُحْرِمِ بِهِمَا مَعًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ أَفْسَدَ حَجَّهُ أَفْسَدَ إِجَارَتَهُ وَعَلَيْهِ لِمَا أَفْسَدَ عَنْ نَفْسِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا أَفْسَدَ الْأَجِيرُ حَجَّهُ بِالْوَطْءِ . صَارَتِ الْحَجَّةُ عَلَى الْأَجِيرِ دُونَ مُسْتَأْجِرِهِ وَلَزِمَهُ إِتْمَامُهَا لِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا صَارَتِ الْحَجَّةُ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَحْرَمَ بِهَا عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ : لِأَنَّ مُطْلَقَ إِذْنِهِ وَمَا يَقْتَضِيهِ مُوجَبُ عَقْدِهِ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ حَجًّا سَلِيمًا يَسْقُطُ بِهِ الْفَرْضُ ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ مَا يَقْتَضِيهِ مُطْلَقُ إِذْنِهِ صَارَ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ ؛ كَالْوَكِيلِ إِذَا وُكِّلَ فِي ابْتِيَاعِ شَيْءٍ فَخَالَفَ مُوَكِّلَهُ فِي الصِّفَةِ الَّتِي أَمَرَهُ صَارَ الشِّرَاءُ لِلْوَكِيلِ دُونَ الْمُوَكِّلِ ؛ كَذَلِكَ الْحَجُّ .
فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنْ يَحُجَّ قَدِ انْتَقَلَ بِالْفَسَادِ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ إِلَى الْأَجِيرِ فَعَلَيْهِ الْمُضِيُّ فِي فَسَادِهِ ؛ لِأَنَّ فَسَادَ الْحَجِّ يُوجِبُ الْمُضِيَّ فِيهِ ، ثُمَّ عَلَيْهِ قَضَاءُ الْحَجِّ عَنْ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ فَاسِدِ الْحَجِّ وَاجِبٌ ، وَقَالَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيُّ فِي مَسَائِلِهِ الْمَنْثُورَةِ : لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ لَمْ يُفْسِدْ حَجَّ نَفْسِهِ وَإِنَّمَا أَفْسَدَ حَجَّ غَيْرِهِ ، وَالْإِنْسَانُ لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ حَجٍّ فَسَدَ عَلَى غَيْرِهِ . وَهَذَا غَلَطٌ ؛ لِأَنَّا قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ الْحَجَّ يَنْقَلِبُ بِالْفَسَادِ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ إِلَى الْأَجِيرِ ، وَإِذَا صَارَ الْحَجُّ عَنْهُ دُونَ مُسْتَأْجِرِهِ لَزِمَهُ قَضَاؤُهُ ؛ لِأَنَّهُ مَنْ أَفْسَدَ حَجَّهُ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ قَضَاءَ الْحَجِّ الإجارة في الحج وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْإِجَارَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُعَيَّنَةً فِي الذِّمَّةِ ؛ فَإِنْ كَانَتْ مُعَيَّنَةً فَقَدْ بَطَلَتْ ؛ لِفَوَاتِ وَقْتِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الذِّمَّةِ لَمْ تَبْطُلْ : لِأَنَّ الْعُقُودَ الْمُسْتَقِرَّةَ فِي الذِّمَمِ لَا تَبْطُلُ بِالتَّأْخِيرِ كَالسَّلَمِ ، فَإِنْ كَانَ الْحَجُّ عَنْ حَيٍّ كَانَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُقِيمَ عَلَى الْإِجَارَةِ وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ ، فَإِنْ فَسَخَ كَانَ ذَلِكَ لَهُ وَعَلَى الْأَجِيرِ أَنْ يَحُجَّ قَضَاءً عَنْ نَفْسِهِ ، وَإِنْ أَقَامَ عَلَى الْإِجَارَةِ فَعَلَى الْأَجِيرِ أَنْ يُقَدِّمَ حَجَّ الْقَضَاءِ عَلَى حَجِّ الْإِجَارَةِ ؛ لِأَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَدِّيَ عَنْ غَيْرِهِ الْحَجَّ ، فَإِنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ كَانَ وَاقِعًا عَنْ نَفْسِهِ وَحَجُّ الْإِجَارَةِ بَاقٍ فِي ذِمَّتِهِ : هَذَا إِنْ كَانَ الْحَجُّ عَنْ حَيٍّ ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْحَجُّ عَنْ مَيِّتٍ فَعَلَى وَلِيِّهِ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ وَيَسْتَرْجِعَ الْأُجْرَةَ لَيْسَتَأْجِرَ غَيْرَهُ ، فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قُلْتُمْ : إِنَّ الْأَجِيرَ لَوْ أَخَّرَ الْحَجَّ عَنِ الْمَيِّتِ فِي عَامِهِ لَمْ يَكُنْ لِوَلِيِّهِ فَسْخُ الْإِجَارَةِ وَأَوْجَبْتُمْ هَا هُنَا عَلَى وَلِيِّهِ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ ، فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ؟ قُلْنَا : الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَجِيرَ إِذَا أَخَّرَ الْحَجَّ عَنِ الْمَيِّتِ فِي عَامِهِ أَمْكَنَهُ أَنْ يَحُجَّ عَنِ الْمَيِّتِ فِي الْعَامِ الثَّانِي وَلَيْسَ حُكْمُ الْوَلِيِّ إِنْ فَسَخَ الْإِجَارَةَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ ، فَلَمْ يَكُنْ لِفَسْخِهِ مَعَ الْعَقْدِ مَعْنًى ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ حَالُ الْأَجِيرِ إِذَا أَفْسَدَ حَجَّهُ : لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَحُجَّ عَنِ الْمَيِّتِ فِي الْعَامِ الثَّانِي ؛ لِأَجْلِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنَ الْقَضَاءِ بِالْإِفْسَادِ وَيُمْكِنُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَحُجُّ عَنِ الْمَيِّتِ فِي الْعَامِ الثَّانِي ، وَإِذَا أَمْكَنَ تَقْدِيمُ الْحَجِّ عَنِ الْمَيِّتِ لَمْ يَجُزْ تَأْخِيرُهُ لِذَلِكَ مَا افْتَرَقَ حُكْمُهُمَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ لَمْ يُفْسِدْ فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُتِمَّ الْحَجَّ ، فَلَهُ بِقَدْرِ عَمَلِهِ وَلَا يُحْرِمُ عَنْ رَجُلٍ إِلَّا مَنْ قَدْ حَجَّ مَرَّةً " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَنِ اسْتُؤْجِرَ لِيَحُجَّ عَنْ مَيِّتٍ فَمَاتَ لَمْ تَخْلُ حَالُ مَوْتِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : إِمَّا أَنْ يَمُوتَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ أَوْ يَمُوتَ بَعْدَ كَمَالِ الْأَرْكَانِ ، أَوْ يَمُوتَ بَعْدَ الْإِحْرَامِ وَقَبْلَ كَمَالِ الْأَرْكَانِ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ أَنْ يَمُوتَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَمُوتَ قَبْلَ التَّوَجُّهِ فِي سَفَرِهِ وَقَبْلَ الْحُصُولِ بِمِيقَاتِهِ ؛ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ بِسَفَرِهِ شَيْئًا مِنَ الْأُجْرَةِ : لِأَنَّ قَطْعَ الْمَسَافَةِ إِنَّمَا يُرَادُ لِلْعَمَلِ ، فَإِذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ عَمَلٌ لَمْ
يَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ عِوَضًا ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنِ اسْتُؤْجِرَ لِبِنَاءِ حَائِطٍ فَجَمَعَ الْآلَةَ لِلْبِنَاءِ ثُمَّ لَمْ يَبْنِ ، لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا مِنَ الْأُجْرَةِ لِعَدَمِ الْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ ؟ كَذَلِكَ الْإِجَارَةُ عَلَى الْحَجِّ ، وَقَدْ خُرِّجَ قَوْلٌ آخَرُ : أَنَّ لَهُ مِنَ الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ الْمَسَافَةِ مَخْرَجًا مِنِ احْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْأُجْرَةِ : هَلْ تَتَقَسَّطُ عَلَى الْمَسَافَةِ وَالْعَمَلِ أَمْ لَا ؟ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ : لِأَنَّ الْمَسَافَةَ إِنَّمَا تَتَقَسَّطُ الْأُجْرَةُ عَلَيْهَا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ إِذَا اقْتَرَنَ بِهَا الْعَمَلُ الْمَقْصُودُ ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِهَا الْعَمَلُ فَلَا تَتَقَسَّطُ عَلَيْهَا الْأُجْرَةُ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ بِذَلِكَ شَيْئًا مِنَ الْأُجْرَةِ نُظِرَ فِي الْإِجَارَةِ ؛ فَإِنْ كَانَتْ مُعَيَّنَةً بَطَلَتْ ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الذِّمَّةِ لَمْ تَبْطُلْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَمُوتَ بَعْدَ التَّوَجُّهِ فِي سَفَرِهِ وَبَعْدَ مُجَاوَزَةِ مِيقَاتِهِ وَقَبْلَ الْإِحْرَامِ بِنُسُكِهِ ، فَالْكَلَامُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْأُجْرَةِ بِسَفَرِهِ عَلَى مَا مَضَى ، لَكِنْ قَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا : هَلْ وَجَبَ عَلَيْهِ لِمُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ دَمٌ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ دَمٌ فِي مَالِهِ : لِأَنَّهُ قَدْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ مُرِيدًا الْإِحْرَامَ كَالْحَيِّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ الصَّحِيحُ لَا دَمَ عَلَيْهِ : لِأَنَّ مُجَاوَزَةَ الْمِيقَاتِ إِنَّمَا يَجِبُ بِهَا الدَّمُ إِذَا تَعَقَّبَهَا الْإِحْرَامُ ، وَالْمَوْتُ قَاطِعٌ عَنِ الْإِحْرَامِ فَصَارَ كَمَنْ مَرَّ بِمِيقَاتِهِ مُرِيدًا الْحَجَّ فَلَمْ يُحْرِمْ فِي عَامِهِ وَلَا دَخَلَ مَكَّةَ بَعْدَ مُجَاوَزَتِهِ ، فَهَذَا الْكَلَامُ فِيمَا إِذَا مَاتَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : فِي الْأَصْلِ وَهُوَ أَنْ يَمُوتَ بَعْدَ الْإِحْرَامِ وَبَعْدَ كَمَالِ الْأَرْكَانِ الإجارة في الحج فَقَدْ سَقَطَ فَرْضُ الْحَجِّ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ وَاسْتَحَقَّ الْأَجِيرُ الْأُجْرَةَ لِإِتْيَانِهِ بِالْأَعْمَالِ الْمَقْصُودَةِ ، فَأَمَّا الْبَاقِي مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ كَالرَّمْيِ وَالْمَبِيتِ بِمِنًى وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ سُنَنِ الْحَجِّ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا لَمْ يَجِبْ بِتَرْكِهِ دَمٌ ، وَإِنْ كَانَ مَأْمُورًا بِهِ كَالْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى إِذَا جَعَلْنَا الدَّمَ فِيهِ مُسْتَحَبًّا فَهَذَا الْحَجُّ فِيهِ مُجْزِئٌ وَيَسْتَرْجِعُ مِنَ الْأُجْرَةِ بِقِسْطِ مَا تَرَكَ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا يُوجِبُ دَمًا ، فَفِي مَالِ الْأَجِيرِ الدَّمُ الْوَاجِبُ فِي تَرْكِهِ ذَلِكَ ، وَهَلْ يَسْتَرْجِعُ مِنَ الْأُجْرَةِ بِقِسْطِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ الْبَاقِيَةِ ؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي رَدِّ الْأُجْرَةِ بِتَرْكِ مَا أَوْجَبَ دَمًا ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ تُرَدُّ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ عَلَى قَوْلَيْنِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يَمُوتَ بَعْدَ الْإِحْرَامِ وَقَبْلَ كَمَالِ الْأَرْكَانِ الإجارة في الحج كَأَنَّهُ أَحْرَمَ وَأَتَى بِبَعْضِ الْأَرْكَانِ وَبَقِيَ بَعْضُهَا ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ إِكْمَالِهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ الْإِجَارَةُ مُعَيَّنَةً . وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ فِي الذِّمَّةِ . فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْإِجَارَةُ مُعَيَّنَةً ؛ فَقَدْ بَطَلَتْ فِيمَا بَقِيَ مِنَ الْأَرْكَانِ ، فَأَمَّا الْمَاضِي مِنْهَا فَثَوَابُهُ لِلْمُسْتَأْجِرِ دُونَ الْأَجِيرِ ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ لَمْ يَنْقُلِ الْإِحْرَامَ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ إِلَى الْأَجِيرِ ، وَهَلْ يَسْتَحِقُّ الْأَجِيرُ مِنَ الْأُجْرَةِ بِقِسْطِ مَا عَمِلَ مِنَ الْأَرْكَإِنِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِيِ الْقَدِيمِ : لَا يَسْتَحِقُّ مِنَ الْأُجْرَةِ شَيْئًا وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْإِجَارَةِ إِسْقَاطُ الْفَرْضِ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ ، وَمَوْتُهُ قَبْلَ كَمَالِ الْأَرْكَانِ غَيْرُ مُسْقِطٍ لِلْفَرْضِ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ فَلَمْ يَسْتَحِقَّ الْأُجْرَةَ وَلَا شَيْئًا مِنْهَا ؛ لِعَدَمِ الْمَقْصُودِ بِهَا ، وَكَانَ كَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ : إِنْ جِئْتَنِي بِعَبْدِي الْآبِقِ فَلَكَ دِينَارٌ فَجَاءَ بِهِ بَعْضَ الْمَسَافَةِ ثُمَّ هَرَبَ أَوْ مَاتَ لَمْ يَسْتَحِقَّ مِنَ الْعِوَضِ شَيْئًا وَإِنْ عَمِلَ بَعْضَ الْعَمَلِ ؛ لِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ رَدُّ الْآبِقِ ؛ كَذَلِكَ مَوْتُ الْأَجِيرِ فِي الْحَجِّ قَبْلَ كَمَالِ أَرْكَانِ الْحَجِّ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ الصَّحِيحُ وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ : إِنَّهُ يَسْتَحِقُّ مِنَ الْأُجْرَةِ بِقِسْطِ مَا عَمِلَ ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ مُقَسَّطَةٌ عَلَى الْأَعْمَالِ الْمَقْصُودَةِ وَهِيَ أَرْكَانُ الْحَجِّ وَمَنَاسِكُهُ ؛ كَالْإِجَارَةِ عَلَى بِنَاءِ حَائِطٍ ، أَوْ خِيَاطَةِ ثَوْبٍ بِتَقْسِيطِ الْأُجْرَةِ فِيهِ عَلَى أَجْزَائِهِ ، فَلَوْ مَاتَ الْأَجِيرُ بَعْدَ عَمَلِ بَعْضِهِ اسْتَحَقَّ مِنَ الْأُجْرَةِ بِقِسْطِهِ ؛ كَذَلِكَ الْإِجَارَةُ عَلَى الْحَجِّ ، وَلَا يُشْبِهُ ذَلِكَ الْجَعَالَةَ ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ لَازِمٌ ، فَتَقَسَّطَتِ الْأُجْرَةُ عَلَى الْأَعْمَالِ ، وَالْجَعَالَةُ غَيْرُ لَازِمَةٍ فَاسْتَحَقَّ الْعِوَضَ فِيهَا بِعَمَلِ الْمَقْصُودِ وَلَمْ تَتَقَسَّطْ عَلَى الْأَعْمَالِ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ مِنَ الْأُجْرَةِ بِقِسْطِ مَا عَمِلَ فَهَلْ تَكُونُ الْأُجْرَةُ مُقَسَّطَةً عَلَى الْمَسَافَةِ وَالْعَمَلِ أَمْ تَكُونُ مُقَسَّطَةً عَلَى الْعَمَلِ دُونَ الْمَسَافَةِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إِنَّهَا تُقَسَّطُ عَلَيْهِمَا فَيَكُونُ لَهُ مِنَ الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ سَفَرِهِ وَعَمَلِهِ ؛ لِأَنَّ مَا لَا يُتَوَصَّلُ إِلَى الْمَقْصُودِ إِلَّا بِهِ فَهُوَ مَقْصُودٌ فِي نَفْسِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : إِنَّهَا تُقَسَّطُ عَلَى الْعَمَلِ دُونَ الْمَسَافَةِ فَيَكُونُ لَهُ مِنَ الْأُجْرَةِ بِقِسْطِ عَمَلِهِ دُونَ سَفَرِهِ ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ عِنْدِي . وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْإِجَارَةُ فِي الذِّمَّةِ ، فَلَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْأَجِيرِ ، لَكِنْ قَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ : هَلْ يَجُوزُ لِغَيْرِهِ الْبِنَاءُ عَلَى عَمَلِهِ أَمْ لَا موت الأجير فى الحج ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ : يَجُوزُ لِغَيْرِهِ الْبِنَاءُ عَلَى عَمَلِهِ ، وَوَجْهُ ذَلِكَ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَقْصُودَ إِكْمَالُ الْأَرْكَانِ لِيَسْقُطَ بِهَا الْفَرْضُ فَلَمْ يَفْتَرِقِ الْحَالُ بَيْنَ أَنْ يُكْمِلَهَا شَخْصٌ وَاحِدٌ أَوْ شَخْصَانِ . وَالشَّيْءُ الثَّانِي : أَنَّ الْحَجَّ قَدْ يَكْمُلُ لِشَخْصَيْنِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ حَجَّ الصَّبِيِّ قَدْ يَكْمُلُ لِشَخْصَيْنِ ؛ لِأَنَّ وَلَيَّهُ يُحْرِمُ عَنْهُ ثُمَّ يَأْتِي الصَّبِيُّ بِبَاقِي الْأَرْكَانِ بِنَفْسِهِ ؟ كَذَلِكَ الْأَجِيرُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ : إِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ الْبِنَاءُ عَلَى عَمَلِهِ ، وَوَجْهُ ذَلِكَ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : إِنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ يَفْسُدُ أَوَّلُهَا بِفَسَادِ آخِرِهَا فَلَمْ يَجُزْ إِكْمَالُهَا بِشَخْصَيْنِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ .
وَالشَّيْءُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ جَازَ لِغَيْرِهِ الْبِنَاءُ عَلَى عَمَلِهِ مَيِّتًا لَجَازَ لِغَيْرِهِ الْبِنَاءُ عَلَى عَمَلِهِ حَيًّا ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزِ الْبِنَاءُ عَلَى عَمَلِ الْأَجِيرِ إِذَا كَانَ حَيًّا لَمْ يَجُزِ الْبِنَاءُ عَلَى عَمَلِهِ إِذَا كَانَ مَيِّتًا .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَانِ الْقَوْلَانِ فَإِنْ قُلْنَا بِقَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ : إِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ الْبِنَاءُ عَلَى عَمَلِهِ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُسْتَأْجَرَ مِنْ تَرِكَتِهِ مَنْ يَسْتَأْنِفُ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ وَعَلَى الْمُسْتَأْجِرِ الْأُجْرَةُ الْمُسَمَّاةُ لِوَرَثَةِ الْأَجِيرِ ، وَلَا شَيْءَ لِلْأَجِيرِ فِيمَا عَمِلَهُ بِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ بِهِ اعْتِدَادٌ وَلَا يَسْقُطْ بِهِ فَرْضٌ وَإِنْ قُلْنَا بِقَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ : إِنَّهُ يَجُوزُ لِغَيْرِهِ الْبِنَاءُ عَلَى عَمَلِهِ نُظِرَ ؛ فَإِنْ مَاتَ الْأَجِيرُ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ اسْتُؤْجِرَ مَنْ يَسْتَأْنِفُ عَنْهُ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ وَيَقِفُ بِعَرَفَةَ ؛ لِأَنَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ لَا يُعْتَدُّ بِهِ إِلَّا بَعْدَ تَقَدُّمِ الْإِحْرَامِ عَلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَ الْأَجِيرُ قَدْ سَعَى قَبْلَ عَرَفَةَ لَمْ يُعِدِ النَّائِبُ عَنْهُ السَّعْيَ بَعْدَ عَرَفَةَ ؛ لِأَنَّهُ يَبْنِي عَلَى عَمَلِهِ وَيَأْتِي فِيهِ بِبَاقِيهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَعَى قَبْلَ عَرَفَةَ فَعَلَى النَّائِبِ عَنْهُ أَنْ يَسْعَى بَعْدَ عَرَفَةَ وَبَعْدَ الطَّوَافِ وَيَأْتِيَ بِبَاقِي الْمَنَاسِكِ مِنَ الرَّمْيِ وَالْمَبِيتِ ، وَإِنْ مَاتَ الْأَجِيرُ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَقَبْلَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ أَحْرَمَ النَّائِبُ عَنْهُ وَأَتَى بِأَعْمَالِ الْعُمْرَةِ وَسَوَاءٌ كَانَ النَّائِبُ عَنْهُ وَارِثًا أَوْ أَجْنَبِيًّا مُسْتَأْجَرًا ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِلَّا مُحِلًّا ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ ؛ لِأَنَّ الْمُحْرِمَ لَا يَصِحُّ عَنْهُ الْإِحْرَامُ عَنْ غَيْرِهِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ تَكُونُ نِيَّتُهُ فِي إِحْرَامِهِ ؟ قِيلَ : لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْوِيَ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْإِتْيَانُ بِجَمِيعِ أَرْكَانِ الْحَجِّ وَمَنَاسِكِهِ وَلَا يَنْوِي الْإِحْرَامَ بِالْعُمْرَةِ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْحَجِّ وَلَا تُجْزِئُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَرْكَانِهِ ، وَلَكِنْ يَنْوِي الْإِحْرَامَ لِمَا بَقِيَ عَلَى الْأَجِيرِ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ ؛ لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي إِتْمَامِ بَاقِيهِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا أَحْرَمَ الْأَجِيرُ بِالْحَجِّ ثُمَّ أُحْصِرَ بِعَدُوٍّ فَلَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْ إِحْرَامِهِ ، فَإِنْ فَاتَهُ الْوُقُوفُ وَأَمْكَنَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ تَحَلَّلَ بِهِ ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ التَّحَلُّلُ بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ تَحَلَّلَ بِالْهَدْيِ وَالْحِلَاقِ ، وَمَا فَعَلَهُ بَعْدَ الْإِحْصَارِ لِتَحَلُّلِهِ مِنَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ أَوِ النَّحْرِ وَالْحِلَاقِ لَمْ يَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنَ الْأُجْرَةِ ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَهُ لِتَحَلُّلِهِ لَا عَنْ مُسْتَأْجِرِهِ ، فَأَمَّا مَا فَعَلَهُ قَبْلَ الْإِحْصَارِ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ فَهَلْ يَسْتَحِقُّ بِقِسْطِهِ مِنَ الْأُجْرَةِ بِقَدْرِهِ ؟ وَهَلْ تَبْطُلُ الْإِجَارَةُ ، عَلَى مَا مَضَى فِي مَوْتِ الْأَجِيرِ سَوَاءٌ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْإِجَارَةِ عَلَى الْحَجِّ ، فَأَمَّا الْجَعَالَةُ عَلَى الْحَجِّ فَجَائِزَةٌ كَالْإِجَارَةِ ؛ لِأَنَّ الْجَعَالَةَ أَوْسَعُ حُكْمًا مِنَ الْإِجَارَةِ لِجَوَازِهَا مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ الْعَامِلِ فِيهَا وَمَعَ الْجَهْلِ بِالْحَمْلِ الْمَقْصُودِ بِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ مَنْ جَاءَنِي بِعَبْدِي الْآبِقِ فَلَهُ دِينَارٌ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا ، وَإِنَّ كَانَ مَكَانُ ذَلِكَ الْعَبْدِ مَجْهُولًا وَالْجَائِي بِهِ مَجْهُولًا وَلَا تَصِحُّ الْإِجَارَةُ عَلَى مِثْلِ هَذَا فَلَمَّا صَحَّتِ الْإِجَارَةُ عَلَى الْحَجِّ مَعَ ضِيقِ حُكْمِهَا ؛ فَالْجَعَالَةُ أَوْلَى أَنْ تَصِحَّ لِسَعَةِ حُكْمِهَا فَإِذَا صَحَّ هَذَا ، فَقَدَ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِيمَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ عَنْهُ فِي مَسَائِلِهِ الْمَنْثُورَةِ وَلَوْ قَالَ : أَوْ مَنْ يَحُجُّ عَنِّي فَلَهُ مِائَةُ دِينَارٍ فَبَادَرَ رَجُلٌ فَحَجَّ عَنْهُ اسْتَحَقَّ الْمِائَةَ وَوَقَعَ الْحَجُّ عَنِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ ، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ هَذَا غَلَطٌ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّ الْأَجِيرَ إِذَا لَمْ يُعَيَّنَ فَسَدَتِ الْإِجَارَةُ وَمَعَ فَسَادِ
الْإِجَارَةِ لَا يَسْتَحِقُّ الْمُسَمَّى وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ أُجْرَةَ الْمِثْلِ . وَهَذَا غَلَطٌ مِنَ الْمُزَنِيِّ ؛ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ إِنَّمَا جَعَلَ لَهُ الْمِائَةَ ؛ لِأَنَّهَا جَعَالَةٌ وَلَيْسَتْ إِجَارَةً وَالْجَعَالَةُ تَصِحُّ مَعَ الْجَهْلِ بِالْعَامِلِ فِيهَا ؛ فَلَوْ قَالَ أَوَّلُ مَنْ يَحُجُّ عَنِّي فَلَهُ مَا شَاءَ ، فَهَذِهِ جَعَالَةٌ فَاسِدَةٌ ؛ لِلْجَهْلِ بِالْعِوَضِ فِيهَا ، فَإِنَّ حَجَّ عَنْهُ آخَرُ كَانَ الْحَجُّ وَاقِعًا عَلَى الْمَحْجُوجِ عَنْهُ وَكَانَ لَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ الْمُدَوَّنَ فِيهِ بِالْجَعَالَةِ الْفَاسِدَةِ عَلَيْهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ ، كَالْمِثْلِ فِيهِ بِالْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ .
فَصْلٌ : إِذَا قَالَ لِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ حُجَّ عَنِّي وَلَكَ مِائَةٌ ، صَحَّ ذَلِكَ وَكَانَتْ جَعَالَةً مُعَيَّنَةً ، فَإِذَا حَجَّ عَنْهُ أَجْزَأَهُ وَاسْتَحَقَّ الْمِائَةَ ، فَلَوْ قَالَ : قَدِ اسْتَأْجَرْتُكَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ لِتَحُجَّ عَنِّي أَوْ تَعْتَمِرَ فَهَذِهِ إِجَارَةٌ فَاسِدَةٌ ؛ لِلْجَهْلِ بِالْعَمَلِ ، فَإِنْ حَجَّ الْأَجِيرُ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ : حُجَّ عَنِّي أَوِ اعْتَمِرْ وَلَكَ مِائَةٌ ، كَانَتْ هَذِهِ جَعَالَةً صَحِيحَةً وَلَيْسَتْ إِجَارَةً ، وَإِنَّمَا صَحَّتْ هَذِهِ الْجَعَالَةُ وَلَمْ تَصِحَّ أَنْ لَوْ كَانَتْ إِجَارَةً ؛ لَأَنَّ الْجَهَالَةَ بِالْعَمَلِ لَا تُبْطِلُ الْجَعَالَةَ فَلِذَلِكَ صَحَّتْ ، وَالْجَهَالَةُ بِالْعَمَلِ تَبْطُلُ بِالْإِجَارَةِ فَلِذَلِكَ بَطَلَتْ ، فَلَوْ قَالَ : حُجَّ عَنِّي بِنَفَقَتِكَ فَهَذِهِ جَعَالَةٌ فَاسِدَةٌ ؛ لِلْجَهْلِ بِالْعِوَضِ ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا فِي الْجَعَالَةِ وَالْإِجَارَةِ ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي الْعَمَلِ ، فَإِنْ حَجَّ كَانَ الْحَجُّ وَاقِعًا عَنِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ وَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْإِجَارَةُ عَلَى زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ مَضْبُوطٍ بِوَصْفٍ وَلَا يُقَدَّرُ بِشَرْعٍ ، فَأَمَّا الْجَعَالَةُ عَلَى زِيَارَةِ الْقَبْرِ قبر النبي صلى الله عليه وسلم فَإِنْ وَقَعَتِ الْجَعَالَةُ عَلَى نَفْسِ الْوُقُوفِ هُنَاكَ عِنْدَ الْقَبْرِ وَمُشَاهَدَتِهِ لَمْ تَصِحَّ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا تَصِحُّ فِيهِ النِّيَابَةُ عَنِ الْغَيْرِ ، وَإِنْ وَقَعَتِ الْجَعَالَةُ عَلَى الدُّعَاءِ عِنْدَ زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَتِ الْجَعَالَةُ صَحِيحَةً ؛ لِأَنَّ الْجَهْلَ بِالدُّعَاءِ لَا يُبْطِلُهَا ، وَالدُّعَاءُ مِمَّا تَصِحُّ فِيهِ النِّيَابَةُ ؛ لِقَوْلِهِ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَلْحَقُ الْمَيِّتَ مِنْ فِعْلِ غَيْرِهِ ثَلَاثٌ : حَجٌّ يُؤَدَّى ، وَدَيْنٌ يُقْضَى ، وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ " .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ أَوْصَى أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ وَارِثٌ وَلَمْ يُسَمِّ شَيْئًا أُحِجَّ عَنْهُ بِأَقَلِّ مَا وَجَدَ أَحَدٌ يَحُجُّ بِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ أُحِجَّ عَنْهُ غَيْرَهُ ، وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِائَةِ دِينَارٍ يَحُجُّ بِهَا عَنْهُ فَمَا زَادَ عَلَى أَجْرِ مِثْلِهِ فَهُوَ وَصِيَّةٌ لَهُ فَإِنِ امْتَنَعَ لَمْ يَحُجَّ عَنْهُ أَحَدٌ إِلَّا بِأَقَلِّ مَا يُوجَدُ بِهِ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَاجِبَةٌ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يُوصِيَ بِإِخْرَاجِهَا عَنْهُ أَوْ لَا يُوصِيَ ، فَإِنْ لَمْ يُوصِ بِإِخْرَاجِهَا عَنْهُ وَجَبَ عَنْهُ وَارِثُهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ بِأَقَلِّ مَا يُوجَدُ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ ، وَسَوَاءٌ حَجَّ عَنْهُ وَارِثٌ أَوْ غَيْرُ وَارِثٍ وَإِنْ أَوْصَى بِإِخْرَاجِهَا عَنْهُ فَعَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُعَيِّنَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ وَيُعَيِّنَ الْقَدْرَ الَّذِي يَحُجُّ بِهِ عَنْهُ . وَالثَّانِي : أَنْ لَا يُعَيِّنَهَا جَمِيعًا .
وَالثَّالِثُ : أَنْ يُعَيِّنَ مَنْ يَحُجُّ دُونَ الْقَدْرِ . وَالرَّابِعُ : أَنْ يُعَيِّنَ الْقَدْرَ دُونَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يُعَيِّنَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ وَيُعَيِّنَ الْقَدْرَ الَّذِي يَحُجُّ بِهِ عَنْهُ الوصية في حج الفريضة ، فَهُوَ أَنْ يَقُولَ أَحِجُّوا عَنِّي زَيْدًا بِمِائَةِ دِينَارٍ ، وَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ الْقَدْرُ الَّذِي وَصَّى بِهِ هُوَ أُجْرَةَ الْمِثْلِ ، فَهَذَا جَائِزٌ وَيَكُونُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ لِأَنَّهُ الْقَدْرُ الْوَاجِبُ إِلَّا أَنْ يَجْعَلَهُ مِنْ ثُلُثِهِ فَيَكُونَ فِي الثُّلُثِ ، وَسَوَاءٌ وَصَّى بِذَلِكَ لِوَارِثٍ أَوْ غَيْرِ وَارِثٍ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ وَصِيَّةً يُمْنَعُ فِيهَا الْوَارِثُ وَإِنَّمَا هِيَ مُعَارَضَةٌ فِي مُقَابَلَةِ عَمَلٍ لَيْسَ فِيهِمَا مُحَابَاةٌ فَاسْتَوَى فِيهَا الْأَجْنَبِيُّ وَالْوَارِثُ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْقَدْرُ الَّذِي وَصَّى بِهِ أَقَلَّ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ ، فَإِنْ وَصَّى زَيْدًا أَنْ يَحُجَّ بِهِ لَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ زَيْدٌ بِذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يُتَمِّمَ لَهُ أُجْرَةَ الْمِثْلِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْرٌ يَجِبُ إِخْرَاجُهُ مِنْهُ إِلَّا أَنْ يَجْعَلَهُ فِي الثُّلُثِ فَيَكُونَ فِي الثُّلُثِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ زَيْدٌ وَارِثًا أَوْ أَجْنَبِيًّا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ الْقَدْرُ الَّذِي وَصَّى بِهِ أَكْثَرَ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ ؛ كَأَنْ كَانَتْ أُجْرَةُ الْمِثْلِ خَمْسِينَ دِينَارًا وَقَدْ وَصَّى بِمِائَةِ دِينَارٍ فَقَدْرُ أُجْرَةِ الْمِثْلِ وَاجِبٌ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ ، وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ وَصِيَّةٌ مِنْ ثُلُثِهِ إِلَّا أَنْ يَجْعَلَ جَمِيعَ ذَلِكَ مِنْ ثُلُثِهِ فَيَكُونَ فِي الثُّلُثِ ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ زَيْدٍ الْمُعَيَّنِ بِالْحَجِّ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَارِثًا أَوْ أَجْنَبِيًّا ، فَإِنْ كَانَ وَارِثًا لَمْ يَسْتَحِقَّ الزِّيَادَةَ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ وَالْوَارِثُ لَا وَصِيَّةَ لَهُ إِلَّا أَنْ يُجِيزَ ذَلِكَ جَمِيعُ الْوَرَثَةِ وَيُقَالَ لَهُ : أَنْتَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ تَحُجَّ عَنْهُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ دُونَ الزِّيَادَةِ وَبَيْنَ أَنْ يَتَمَتَّعَ فَيَسْتَأْجِرَ عَنْهُ غَيْرَهُ مِنَ الْأَجَانِبِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ دُونَ الزِّيَادَةِ ، وَإِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا اسْتَحَقَّ جَمِيعَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ وَصِيَّةٌ ، وَالْوَصِيَّةُ تَصِحُّ لِلْأَجْنَبِيِّ إِذَا احْتَمَلَهَا الثُّلُثُ ، فَإِنَّ حَجَّ عَنْهُ اسْتَحَقَّ الْمِائَةَ كُلَّهَا ، وَإِنِ امْتَنَعَ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ اسْتُؤْجِرَ غَيْرُهُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ وَرُدَّتِ الزِّيَادَةُ إِلَى التَّرِكَةِ ، فَإِنْ قَالَ زَيْدٌ أَعْطُونِي الزِّيَادَةَ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ لِي ، قِيلَ : لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ لَكَ عَلَى صِفَةٍ ؛ وَهِيَ أَنْ تَحُجَّ عَنِ الْمَيِّتِ فَإِذَا لَمْ تُوجَدْ مِنْكَ الصِّفَةُ لَمْ تَسْتَحِقَّ الْوَصِيَّةَ ؛ كَمَنْ وَصَّى أَنْ يُبَاعَ عَبْدُهُ عَلَى زَيْدٍ بِمِائَةٍ وَيُتَصَدَّقَ عَنْهُ بِثَمَنِهِ ، وَالْعَبْدُ يُسَاوِي مِائَتَيْنِ ، فَقَالَ زَيْدٌ : لَسْتُ أَبْتَاعُ الْعَبْدَ بِمِائَةٍ وَلَكِنْ بِيعُوهُ بِمِائَتَيْنِ وَأَعْطُونِي مِائَةً ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ الْمِائَةَ إِنَّمَا هِيَ وَصِيَّةٌ لَهُ عَلَى وَجْهِ الْمُحَابَاةِ إِذَا ابْتَاعَ الْعَبْدَ ، فَإِذَا لَمْ يَبْتَعْهُ بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ ؛ كَذَلِكَ الْحِجُّ فَلَوْ قَالَ زَيْدٌ : أَنَا آخُذُ الْمِائَةَ وَأَسْتَأْجِرُ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ وَآخُذُ الزِّيَادَةَ لَمْ يَجُزْ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا وَصَّى لَهُ بِالزِّيَادَةِ إِذَا حَجَّ بِنَفْسِهِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ لَا يُعَيِّنَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ وَلَا يُعَيِّنَ الْقَدْرَ الَّذِي يَحُجُّ بِهِ عَنْهُ الوصية في حج الفريضة ، فَهُوَ أَنْ يَقُولَ : أَحِجُّوا عَنِّي رَجُلًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعَيِّنَهُ وَلَا يُعَيِّنَ عِوَضَهُ ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ
يَحُجُّ عَنْهُ بِأَقَلِّ مَا يُوجَدُ أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ وَيَكُونَ ذَلِكَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ إِلَّا أَنْ يَجْعَلَهُ فِي ثُلُثِهِ ، فَهَلْ يُعْتَبَرُ أَقَلُّ مَا يُوجَدُ مِنْ مِيقَاتِهِ أَوْ مِنْ بَلَدِهِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ : وَالْوَصَايَا تُعْتَبَرُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ أَقَلَّ مَا يُوجَدُ مِنْ بَلَدِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ شَرْطًا فِي اسْتِطَاعَتِهِ فِي حَيَاتِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا مِنْ رَأْسِ مَالِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْإِمْلَاءِ وَسَائِرِ كُتُبِهِ فِي الْجَدِيدِ : أَنَّهُ يَعْتَبِرُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ أَقَلَّ مَا يُوجَدُ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ قَدْ يَسْقُطُ بِهِ فَكَانَ مَا سِوَاهُ تَطَوُّعًا ، وَلَا يَجُوزَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ تَطَوُّعًا إِلَّا بِوَصِيَّتِهِ مِنَ الثُّلُثِ ، وَسَوَاءٌ حَجَّ بِذَلِكَ وَارِثٌ أَوْ غَيْرُ وَارِثٍ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يُعَيِّنَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ وَلَا يُعَيِّنَ الْقَدْرَ الَّذِي يَحُجُّ بِهِ عَنْهُ الوصية في حج الفريضة فَهُوَ أَنْ يَقُولَ : أَحِجُّوا عَنِّي زَيْدًا فَيُعَيِّنَهُ وَلَا يُعَيِّنَ عِوَضَهُ ، فَالْوَاجِبُ لَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ مِنْ بَلَدِهِ دُونَ مِيقَاتِ بَلَدِهِ قَوْلًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ زَيْدٌ فِي بَلَدِهِ وَقَدْ وَصَّى أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ عَلِمَ بِإِطْلَاقِ الْوَصِيَّةِ أَنَّهُ يَحُجُّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ ، وَإِذَا كَانَ لَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ مِنْ بَلَدِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ لَهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ فِي نَفْسِهِ أَوْ أَقَلُّ مَا يُوجَدُ مِنْ أُجْرَةِ مِثْلِ غَيْرِهِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ مِنْ نُظَرَائِهِ فِي الْفَضْلِ وَالْعِلْمِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَمَيَّزَ بِتَبَعِيَّتِهِ عَنْ غَيْرِهِ وَجَبَ أَنْ يَتَمَيَّزَ بِأُجْرَةِ مِثْلِ نُظَرَائِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ مَنْصُوصٌ : أَنَّ لَهُ أَقَلَّ مَا يُوجَدُ مِنْ أُجْرَةِ مِثْلِ غَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُعَيِّنْهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ إِلَّا أَقَلَّ مَا يُوجَدُ مَنْ يَحُجُّ بِهِ ؛ فَكَذَلِكَ إِذَا عَيَّنَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَفَادُ بِتَعْيِينِهِ قَدْرُ الْعِوَضِ ، وَإِنَّمَا يُسْتَفَادُ تَمْيِيزُ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ يَكُونُ الْقَدْرَ الَّذِي يَجِبُ إِخْرَاجُهُ لَوْ لَمْ يُعَيِّنْ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ بِالتَّعْيِينِ فِي الثُّلُثِ ، فَلَوْ لَمْ يَقْبَلْ زَيْدٌ الْوَصِيَّةَ وَامْتَنَعَ مِنَ الْحَجِّ عَنْهُ اسْتُؤْجِرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ بِأَقَلِّ مَا يُوجَدُ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ وَيَبْطُلُ حُكْمُ التَّعْيِينِ ، وَهَلْ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ مِنْ بَلَدِهِ أَوْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ ؟ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ - وَهُوَ أَنْ لَا يُعَيِّنَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ وَيُعَيِّنَ الْقَدْرَ الَّذِي يُحَجُّ بِهِ عَنْهُ الوصية في حج الفريضة - فَهُوَ أَنْ يَقُولَ : أَحِجُّوا عَنِّي رَجُلًا بِمِائَةِ دِينَارٍ فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ يُقَدِّرُ أُجْرَةَ الْمِثْلِ فَيَكُونَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ إِلَّا أَنْ يَجْعَلَهَا فِي الثُّلُثِ وَيَسْتَأْجِرَ مَنْ يَحُجُّ بِهَا مِنْ وَارِثٍ أَوْ غَيْرِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يُتِمَّ أُجْرَةَ الْمِثْلِ وَيَكُونَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَيَسْتَأْجِرَ مَنْ يَحُجُّ بِهَا مِنْ وَارِثٍ أَوْ غَيْرِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ فَتَكُونَ الزِّيَادَةُ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ وَصِيَّةً فِي
الثُّلْثِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحُجَّ بِهَا وَارِثٌ ؛ لِأَنَّ فِيهَا وَصِيَّةً لَا تَصِحُّ لِوَارِثٍ ، فَلَوْ قَالَ الْوَارِثُ : أَنَا أَحُجُّ عَنْهُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ دُونَ الزِّيَادَةِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الثُّلُثُ لَا يَحْتَمِلُ شَيْئًا مِنَ الزِّيَادَةِ لِإِحَاطَةِ الدُّيُونِ بِالتَّرِكَةِ ، فَيَجُوزَ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ الْوَارِثُ لِبُطْلَانِ قَدْرِ الْوَصِيَّةِ وَاسْتِوَاءِ الْوَارِثِ وَغَيْرِهِ فِيمَا عَدَا الْوَصِيَّةِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الثُّلُثُ مُحْتَمِلًا لِلزِّيَادَةِ أَوْ بَعْضِهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : إِنَّ الْوَارِثَ يُجَابُ إِلَى ذَلِكَ فَيَحُجُّ عَنْهُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ وَتَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ بِالزِّيَادَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْوَصِيَّةِ إِسْقَاطُ الْفَرْضِ بِالْمُسَمَّى ، فَإِذَا أُسْقِطَ بِبَعْضِ الْمُسَمَّى كَانَ أَوْلَى . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِجَابَةُ الْوَارِثِ إِلَى ذَلِكَ وَيُسْتَأْجَرُ غَيْرُهُ بِجَمِيعِ الْمِائَةِ ؛ لِأَنَّ مَعَ الْحَجِّ وَصِيَّةً لَا تَصِحُّ لِلْوَارِثِ يَجِبُ صَرْفُهَا إِلَى غَيْرِهِ ، وَالْوَصَايَا إِذَا أَمْكَنَ نَفَاذُهَا لَمْ يَجُزْ إِبْطَالُهَا ، فَهَذَا الْكَلَامُ فِيمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَاجِبَةٌ : إِمَّا حَجَّةُ الْإِسْلَامِ أَوْ حَجَّةُ نَذْرٍ أَوْ قَضَاءٍ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا مَاتَ وَقَدْ أَدَّى فَرْضَ الْحَجِّ وَلَمْ يَكُنْ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ فَوَصَّى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ مُتَطَوِّعًا ، فَفِي صِحَّةِ وَصِيَّتِهِ وَجَوَازِهِ النِّيَابَةَ عَنْهُ فِي تَطَوُّعِهِ قَوْلَانِ مْنَصُوصَانِ نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي الْأُمِّ : أَحَدُهُمَا : إِنَّهَا وَصِيَّةٌ صَحِيحَةٌ وَالنِّيَابَةُ عَنْهُ فِي تَطَوُّعِهِ جَائِزَةٌ ، وَقَدْ مَضَى تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ ، فَإِنْ قُلْنَا وَلَمْ تَجُزِ النِّيَابَةُ عَنْهُ بِبُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ سَقَطَ حُكْمُهَا فِيهَا ، وَإِنْ قُلْنَا بِصِحَّةِ الْوَصِيَّةِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُعَيِّنَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ وَيُعَيِّنَ الْقَدْرَ الَّذِي يَحُجُّ بِهِ الوصية في حج التطوع فَيَقُولَ : أَحِجُّوا عَنِّي زَيْدًا بِمِائَةِ دِينَارٍ فَلَا يَخْلُو حَالُ زَيْدٍ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَجْنَبِيًّا أَوْ وَارِثًا ؛ فَإِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا صَحَّتْ لَهُ الْوَصِيَّةُ وَكَانَ جَمِيعُ الْوَصِيَّةِ فِي الثُّلُثِ ؛ لِأَنَّهَا تَطَوُّعٌ ، فَإِنْ قَبِلَ الْوَصِيَّةَ حَجَّ عَنْهُ بِجَمِيعِ الْمِائَةِ أَوْ بِمَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ مِنَ الْمِائَةِ وَإِنْ رَدَّ الْوَصِيَّةَ بِالْحَجِّ وَلَمْ يَقْبَلْهَا فَفِي بُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : قَدْ بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ إِذَا تَعَلَّقَتْ بِعَيْنٍ لَمْ يَجُزْ صَرْفُهَا إِلَى غَيْرِ تِلْكَ الْعَيْنِ ؛ كَمَا لَوْ أَوْصَى إِلَى رَجُلٍ بِمِائَةٍ فَلَمْ يَقْبَلْهَا لَمْ يَجُزْ صَرْفُهَا إِلَى غَيْرِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهَا لَا تَبْطُلُ ؛ لِأَنَّهَا فِي مُقَابَلَةِ عَمَلٍ يُعَاوِضُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَكُنْ تُعْيِينُهَا فِي شَخْصٍ مَانِعًا مِنْ نَقْلِهَا إِلَى غَيْرِهِ عِنْدَ عَدَمِ قَبُولِهِ ؛ كَمَنْ وَصَّى بِبَيْعِ عَبْدِهِ عَلَى زَيْدٍ وَيُتَصَدَّقُ بِثَمَنِهِ فَامْتَنَعَ زَيْدٌ مِنَ ابْتِيَاعِهِ لَمْ تَبْطُلِ الْوَصِيَّةُ وَبِيعَ إِلَى غَيْرِهِ ، فَعَلَى هَذَا هَلْ تُصْرَفُ جَمِيعُ الْمِائَةِ فِي غَيْرِهِ أَوْ يَصْرَفُ أَقَلُّ مَا يُوجَدُ مَنْ يَحُجُّ بِهِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الصَّحِيحُ : أَنَّهُ يُصْرَفُ إِلَى غَيْرِهِ أَقَلُّ مَا يُوجَدُ أَحَدٌ يَحُجُّ بِهِ وَتَبْطُلُ الزِّيَادَةُ وَتَعُودُ إِلَى التَّرِكَةِ ؛ لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ مُعَيَّنَةٌ لِشَخْصٍ لَمْ يَقْبَلْهَا ؛ كَمَنْ وَصَّى بِبَيْعِ عَبْدِهِ عَلَى زَيْدٍ بِمِائَةٍ وَهُوَ يُسَاوِي مِائَتَيْنِ عَلَى أَنْ يُتَصَدَّقَ بِثَمَنِهِ فَامْتَنَعَ زَيْدٌ مِنَ ابْتِيَاعِهِ بِيعَ عَلَى غَيْرِهِ بِالْمِائَتَيْنِ وَلَمْ يُبَعْ عَلَى غَيْرِهِ بِالْمِائَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ قَدْ كَانَتْ وَصِيَّةً لِشَخْصٍ لَمْ يَقْبَلْهَا فَبَطَلُ حُكْمُهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يُصْرَفَ إِلَى غَيْرِهِ جَمِيعُ الْمِائَةِ وَكَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا صَرْفُ جَمِيعِهَا فِي الْحَجِّ ، وَالتَّعْيِينُ يُسْتَفَادُ بِهِ تَقْدِيمُ الْمُسْتَحِقِّ ، وَالْأَوَّلُ أَقِيسُ وَبِنَصِّ الشَّافِعِيِّ أَشْبَهُ ، وَإِنْ كَانَ زَيْدٌ وَارِثًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحُجَّ بِهَا ؛ لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ ، وَالْوَصِيَّةُ لَا تَصِحُّ لِوَارِثٍ ، فَعَلَى هَذَا فِي بُطْلَانِهَا وَجْهَانِ عَلَى مَا مَضَى . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ لَا يُعَيِّنَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ وَلَا يُعَيِّنَ الْقَدْرَ الَّذِي يُحَجُّ بِهِ عَنْهُ الوصية في حج التطوع ؛ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ أَحِجُّوا عَنِّي ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ رَجُلًا يَحُجُّ عَنْهُ بِأَقَلِّ مَا يُوجَدُ أَحَدٌ يَحُجُّ بِهِ وَيَكُونَ ذَلِكَ فِي الثُّلُثِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ تَطَوُّعٌ لَيْسَ بِوَاجِبٍ ، فَإِنَّ حَجَّ بِذَلِكَ وَارِثٌ جَازَ ، فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ مَا كَانَ مَحِلُّهُ فِي الثُّلُثِ وَصِيَّةً وَالْوَصِيَّةُ لَا تَصِحُّ لِوَارِثٍ فَهَلَّا مَنَعْتُمُوهُ مِنْ ذَلِكَ ؟ قِيلَ إِنَّمَا يُمْنَعُ مِنَ الْوَصِيَّةِ لَهُ وَلَيْسَ يُمْنَعُ مِنْ أَنْ يُعَاوِضَ عَلَى مَا يُنَفَّذُ فِي الْوَصَايَا ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَصَّى بِابْتِيَاعِ عَبْدٍ يُعْتَقُ عَنْهُ أَوْ طَعَامٍ يُتَصَدَّقُ بِهِ عَنْهُ جَازَ أَنْ يُبْتَاعَ ذَلِكَ مِنَ الْوَارِثِ بِثَمَنِ مِثْلِهِ ؟ لِأَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مَحِلُّهُ فِي الثُّلُثِ فَهُوَ لَيْسَ يَأْخُذُهُ وَصِيَّةً وَإِنَّمَا يَأْخُذُهُ مُعَاوَضَةً ؛ فَكَذَلِكَ فِي الْحَجِّ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ أُجْرَةَ مِثْلِهِ عِوَضًا مِنْ عَمَلِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يُعَيِّنَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ وَلَا يُعَيِّنَ الْقَدْرَ الَّذِي يُحَجُّ بِهِ عَنْهُ الوصية في حج التطوع وَهُوَ أَنْ يَقُولُ : أَحِجُّوا عَنِّي زَيْدًا ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يُدْفَعَ إِلَى زَيْدٍ أَقَلَّ مَا يُوجِبُ مَنْ يَحُجُّ بِهِ وَارِثًا كَانَ أَوْ غَيْرَ وَارِثٍ ، فَإِنِ امْتَنَعَ زَيْدٌ مِنْ قَبُولِ ذَلِكَ ، فَفِي بُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ وَجْهَانِ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ لَا يُعَيِّنَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ وَيُعَيِّنَ الْقَدْرَ الَّذِي يُحَجُّ بِهِ عَنْهُ الوصية في حج التطوع ؛ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ أَحِجُّوا عَنِّي بِمِائَةِ دِينَارٍ ، فَتُصْرَفُ إِلَى غَيْرِ وَارِثٍ إِذَا كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ ، فَإِنْ عُرِضَتْ عَلَى شَخْصٍ فَلَمْ يَقْبَلْهَا نُقِلَتْ إِلَى غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ فِي شَخْصٍ بِعَيْنِهِ .
فَصْلٌ : إِذَا قَالَ أَحِجُّوا عَنِّي مَنْ يَرْضَاهُ فُلَانٌ فَرَضِيَ فُلَانٌ إِنْسَانًا الوصية في الحج كَانَ كَمَا لَوْ عَيَّنَهُ الْمُوصِي ، فَإِنْ كَانَ فِي حَجٍّ وَاجِبٍ كَانَ كَالْمُعَيَّنِ فِي حَجٍّ وَاجِبٍ ، فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى ، وَإِنْ كَانَ فِي تَطَوُّعٍ كَانَ كَالْمُعَيَّنِ فِي حَجِّ التَّطَوُّعِ فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى .
فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ : وَلَوْ قَالَ أَوَّلُ وَاحِدٍ يَحُجُّ عَنِّي فَلَهُ مِائَةُ دِينَارٍ فَحَجَّ عَنْهُ غَيْرُ وَارِثٍ فَلَهُ مِائَةٌ ، وَإِنَّ حَجَّ عَنْهُ وَارِثٌ فَلَهُ أَقَلُّ مَا يُوجَدُ بِهِ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مَرْدُودٌ ؛ لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ لِوَارِثٍ .
فَصْلٌ : إِذَا قَالَ أَحِجُّوا عَنِّي حِجَجًا بِأَلْفِ دِينَارٍ ، فَيَنْبَغِي لِلْوَصِيِّ أَنْ يُخْرِجَ أَكْثَرَ مَا يُمْكِنُ
أَنْ يَخْرُجَ بِأَلْفِ دِينَارٍ مِنَ الْحَجِّ مِنَ الْمِيقَاتِ ؛ لِأَنَّ إِطْلَاقَ الْحَجِّ يُوصِيهِ ، وَأَقَلُّ مَا عَلَيْهِ أَنْ يُخْرِجَ بِهَا ثَلَاثَ حِجَجٍ إِذَا أَمْكَنَ .
فَصْلٌ : إِذَا مَاتَ وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَاجِبَةٌ مِنْ نَذْرٍ أَوْ قَضَاءٍ فَاسْتُؤْجِرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ تَطَوُّعًا فَأَحْرَمَ الْأَجِيرُ بِالتَّطَوُّعِ انْصَرَفَ إِحْرَامُهُ إِلَى الْحَجِّ الْوَاجِبِ دُونَ التَّطَوُّعِ ؛ لِأَنَّ حَجَّ الْأَجِيرِ عَنْهُ قَدْ أُقِيمَ مَقَامَ حَجِّهِ عَنْ نَفْسِهِ ، وَلَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ عَنْ نَفْسِهِ تَطَوُّعًا وَعَلَيْهِ حَجٌّ وَاجِبٌ كَانَ عَنْ حَجِّهِ الْوَاجِبِ ، فَكَذَا إِحْرَامُ الْأَجِيرِ عَنْهُ ، فَلَوْ مَاتَ وَعَلَيْهِ حَجَّتَانِ : إِحْدَاهُمَا : حَجَّةُ الْإِسْلَامِ وَالْأُخْرَى حَجَّةُ نَذْرٍ وَجَبَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ أَوَّلًا ثُمَّ حَجَّةَ النَّذْرِ ، فَإِنْ أَحْرَمَ الْأَجِيرُ عَنْهُ أَوَّلًا بِحَجَّةِ النَّذْرِ انْعَقَدَتْ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَدَّمَ عَلَى حَجَّةِ الْإِسْلَامِ غَيْرُهَا ، فَلَوِ اسْتُؤْجِرَ رَجُلَانِ لِيَحُجَّا عَنْهُ فِي عَامٍ وَاحِدٍ ، أَحَدُهُمَا يُحْرِمُ لِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَالْآخِرُ لِحَجَّةٍ لِنَذْرٍ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ حَجَّ الْأَجِيرِ يَقُومُ مَقَامَ حَجِّهِ عَنْ نَفْسِهِ وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى حَجَّتَيْنِ فِي عَامٍ فَكَذَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ رَجُلَانِ فِي عَامٍ وَاحِدٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا لَمْ تَصِحَّ مِنْهُ حَجَّتَانِ فِي عَامٍ وَاحِدٍ ؛ لِاسْتِحَالَةِ وُقُوعِهِمَا مِنْهُ ، وَالْأَجِيرَانِ قَدْ تَصِحُّ مِنْهُمَا حَجَّتَانِ فِي عَامٍ فَاخْتَلَفَا ، فَعَلَى هَذَا أَيُّ الْأَجِيرَيْنِ سَبَقَ بِالْإِحْرَامِ كَانَ إِحْرَامُهُ مُنْعَقِدًا لِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَإِحْرَامُ الَّذِي بَعْدَهُ مُنْعَقِدًا لِحَجَّةِ النَّذْرِ ، فَإِنْ أَحْرَمَا مَعًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْبِقَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يُعْتَبَرُ أَسْبَقُهُمَا إِجَارَةً وَإِذْنًا فَيَنْعَقِدُ إِحْرَامُهُ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَالَّذِي بَعْدَهُ بِحَجَّةِ النَّذْرِ . وَالثَّانِي : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَحْتَسِبُ لَهُ بِإِحْدَاهُمَا عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ لَا يُعَيِّنُهَا وَالْأُخْرَى عَنْ حَجَّةِ النَّذْرِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ قَتْلِ الْمُحْرِمِ الصَّيْدَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً
قَتْلُ الصَّيْدِ حَرَامٌ فِي الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ
بَابُ قَتْلِ الْمُحْرِمِ الصَّيْدَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَعَلَى مَنْ قَتَلَ الصَّيْدَ الْجَزَاءُ عَمْدًا كَانَ أَوْ خَطَأً ، وَالْكَفَارَةُ فِيهِمَا سَوَاءٌ لِأَنَّ كُلًّا مَمْنُوعٌ بِحُرْمَةٍ وَكَانَ فِيهِ الْكَفَّارَةُ ، وَقِيَاسُ مَا اخْتَلَفُوا مِنْ كَفَّارَةِ قَتْلِ الْمُؤْمِنِ عَمْدًا عَلَى مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ كَفَّارَةِ قَتْلِ الصَّيْدِ عَمْدًا ( قَالَ ) وَالْعَامِدُ أَوْلَى بِالْكَفَّارَةِ فِي الْقِيَاسِ مِنَ الْمُخْطِئِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : قَتْلُ الصَّيْدِ حَرَامٌ فِي الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ وَهُوَ مَضْمُونٌ بِالْجَزَاءِ عَمْدًا كَانَ أَوْ خَطَأً . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ [ الْمَائِدَةِ : ] ، فَفِي قَوْلِهِ لَيَبْلُوَنَّكُمْ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : مَعْنَاهُ لَيَخْتَبِرَنَّكُمْ . وَالثَّانِي : لَيُكَلِّفَنَكُمْ . وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى : تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : " تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ " الْبَيْضُ ، وَرِمَاحُكُمْ : الصَّيْدُ وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ . وَالثَّانِي : تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ صِغَارُ الصَّيْدِ وَمَا ضَعُفَ مِنْهُ وَرِمَاحُكُمْ كِبَارُ الصَّيْدِ وَمَا قَوِيَ مِنْهُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَالْآيَةُ تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَيْنِ مَعًا ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ [ الْمَائِدَةِ : ] وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَعْنَاهُ لِتَعْلَمُوا أَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ [ سَبَأَ : ] . مَعْنَاهُ : تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنَّ الْإِنْسَ قَدْ عَلِمُوا أَنَّ الْجِنَّ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْمُهِينِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَعْنَاهُ إِلَّا لِيَعْلَمَ عِلْمَ مُشَاهِدَةٍ وَنَظَرٍ ، فَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّيْدَ حُكْمًا قَدِ ابْتُلِيَ بِهِ الْخَلْقُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْلَمَ مِنْهُ تَحْرِيمُ قَتْلِهِ عَلَى الْمُحْرِمِ وَلَا إِيجَابُ الْجَزَاءِ فِيهِ ، ثُمَّ يُبَيِّنُ سُبْحَانَهُ تَحْرِيمَ قَتْلِهِ وَإِيجَابَ الْجَزَاءِ فِيهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [ الْمَائِدَةِ : ] ، فَيُسْتَدَلُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى تَحْرِيمِ قَتْلِ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ وَإِيجَابِ الْجَزَاءِ فِيهِ ، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا [ الْمَائِدَةِ : ] ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ مَا لَفِظَهُ الْبَحْرُ .
وَالثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ مَا تُزُوِّدَ بِهِ مَمْلُوحًا ، وَفِيهِ تَأْوِيلٌ ثَالِثٌ حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ بَعْضِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ فِي كِتَابِ " اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى " " أَنَّ طَعَامَهُ كُلُّ مَا فِيهِ " وَهَذَا أَعَمُّ التُّأْوِيلَيْنِ ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى تَحْرِيمِ قَتْلِ الصَّيْدِ دُونَ إِيجَابِ الْجَزَاءِ فِيهِ وَدَلَّ عَلَى تَحْرِيمِهِ مِنَ الْسُنَّةِ رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ قَالَ : أَخْبَرَنِي الصَّعْبُ بْنُ جَثَّامَةَ قَالَ : أَهْدَيْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَحْمَ حِمَارٍ وَحْشِيٍّ وَهُوَ بِالْأَبْوَاءِ - أَوْ بِوِدَّانَ - فَرَدَّهُ عَلَيْهِ فَلَمَّا رَأَى الْكَرَاهَةَ فِي وَجْهِي قَالَ : " إِنَهُ لَيْسَ مِنَّا رَدٌّ عَلَيْكَ وَلَكِنَّا حُرُمٌ " .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ تَحْرِيمُ قَتْلِ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ وَإِيجَابُ الْجَزَاءِ فِيهِ فَالْبَابُ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ : أَحَدُهَا : إِيجَابُ الْجَزَاءِ عَلَى الْعَامِدِ . وَالثَّانِي : إِيجَابُ الْجَزَاءِ عَلَى الْخَاطِئِ . وَالثَّالِثُ : إِيجَابُ الْجَزَاءِ عَلَى الْعَائِدِ . فَأَمَّا الْعَامِدُ مِنْ قَتْلِهِ وَهُوَ : أَنْ يَتَعَمَّدَ قَتْلَهُ مَعَ ذِكْرِهِ لِإِحْرَامِهِ قتل صيد الحرم فَالْجَزَاءُ عَلَيْهِ وَاجِبٌ ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ : لَا جَزَاءَ عَلَى الْعَامِدِ فِي قَتْلِهِ ، وَإِنْ قَتَلَهُ ذَاكِرًا لِإِحْرَامِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَامِدًا مِنْ قَتْلِهِ نَاسِيًا لِإِحْرَامِهِ أَوْ خَاطِئًا فِي قَتْلِهِ ذَاكِرًا لِإِحْرَامِهِ أَوْ خَاطِئًا فِي قَتْلِهِ نَاسِيًا لِإِحْرَامِهِ _ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ . فَأَمَّا الْعَامِدُ فِيهَا فَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ ؛ قَالَ : لِأَنَّ اللَّهَ تَوَعَّدَهُ بِالْعُقُوبَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ [ الْمَائِدَةِ : ] ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الْوَعِيدِ بِالْعُقُوبَةِ وَبَيْنَ التَّكْفِيرِ بِالْجَزَاءِ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [ الْمَائِدَةِ : ] ، فَأَوْجَبَ الْجَزَاءَ عَلَى الْعَامِدِ ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ عَامِدٍ فِي الْقَتْلِ ذَاكِرٍ لِلْإِحْرَامِ ، وَبَيْنَ عَامِدٍ لِلْقَتْلِ ، نَاسٍ لِلْإِحْرَامِ ، فَكَانَ الظَّاهِرُ يَقْتَضِي عُمُومَ الْأَحْوَالِ ، وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ تَتَغَلَّظُ بِأَعْظَمِ الْإِثْمَيْنِ وَتَخِفُّ بِأَدْوَنِهِمَا فَلَمَّا وَجَبَتْ بِالْخَطَأِ كَانَ وُجُوبُهَا بِالْعَمْدِ أَوْلَى ، وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا : أَنَّهَا نَفْسٌ مَضْمُونَةٌ بِالتَّكْفِيرِ خَطَأً ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً بِالتَّكْفِيرِ عَمْدًا لِلْآدَمِيِّ ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنَ الْوَعِيدِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ لِلْآدَمِيِّ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْخَاطِئُ فِي قَتْلِهِ وَهُوَ : أَنْ يَقْتُلَهُ خَطَأً مَعَ ذِكْرِهِ لِإِحْرَامِهِ أَوْ نِسْيَانِهِ لِإِحْرَامِهِ قتل صيد الحرم فَسَوَاءٌ ، وَالْجَزَاءُ عَلَيْهِ وَاجِبٌ ، وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ الظَّاهِرِيُّ : لَا جَزَاءَ عَلَيْهِ ، وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ ، قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَفِي التَّابِعَيْنِ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ : وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ [ الْمَائِدَةِ : ] ، فَشَرْطُ الْعُمَدِ فِيهِ إِيجَابُ الْجَزَاءِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَاطِئَ لَيْسَ عَلَيْهِ جَزَاءٌ ، وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ فَوَجَبَ بِحَقِّ الظَّاهِرِ أَنْ يَرْتَفِعَ حُكْمُهُ وَلِأَنَّ كُلَّ فِعْلٍ يَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِعَمْدِهِ الْكَفَّارَةُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ بِخَطَئِهِ الْكَفَّارَةُ كَـ " الطِّيبِ وَاللِّبَاسِ " وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ
[ الْمَائِدَةِ : ] ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ مُتَعَمِّدًا لِقَتْلِهِ نَاسِيًا لِإِحْرَامِهِ ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مُتَعَمِّدًا لِقَتْلِهِ ذَاكِرًا لِإِحْرَامِهِ ، فَإِذَا احْتَمَلَ الْأَمْرَيْنِ يُحْمَلُ عَلَيْهِمَا : لِأَنَّ ظَاهِرَ الْعُمُومِ يَتَنَاوَلُهَا ، وَدَاوُدُ يُخْرِجُ مِنَ الْعُمُومِ أَحَدَهُمَا ، وَرَوَى مُخَارِقٌ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ : خَرَجْنَا مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ فَرُحْنَا عَشِيَّةً فَبَدَا لَنَا ضَبٌّ فَابْتَدَرْنَاهُ وَنَسِينَا إِهْلَالَنَا فِي الْحَجِّ فَانْصَدَرَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنَّا يُقَالُ لَهُ أَرْبَدُ فَقَتَلَهُ فَقُلْنَا مَا صَنَعْتُمُ ! أَلَسْنَا مُحْرِمِينَ ؟ ! فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ صَارَ أَرْبَدُ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ احْكُمْ فَقَاْلَ : فَأَنْتَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَأَعْلَمُ مِنِّي قَالَ : إِنِّي لَمْ أَقُلْ لَكَ أَنْ تُزَكِّيَنِي وَلَكِنِ احْكُمْ ، قَالَ : فَإِنِّي أَحْكُمُ جِدْيًا قَدْ جَمَعَ الْمَاءَ وَالشَّجَرَ ، يَقُولُ قَدْ أَكَلَ وَشَرِبَ ، قَالَ : فَهُوَ كَمَا حَكَمْتَ . فَمَوْضِعُ الدَّلَالَةِ مِنْ هَذَا اسْتِفَاضَةُ حُكْمِ الْجَزَاءِ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ ، وَالتَّابِعَيْنِ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ ، أَوْ نِزَاعٍ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ إِجْمَاعٌ ، أَوْ كَالْإِجْمَاعِ ، وَلِأَنَّهَا نَفْسٌ مَضْمُونَةٌ بِالتَّكْفِيرِ عَمْدًا فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً بِالتَّكْفِيرِ خَطَأً كَالْآدَمِيِّ : وَلِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَجِبُ الْغُرْمُ بِإِتْلَافِهِ فَالْعَمْدُ وَالْخَطَأُ فِيهِ سَوَاءٌ كَأَمْوَالِ الْآدَمِيِّينَ . فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْآيَةِ فَقَدْ جَعَلْنَاهَا دَلِيلًا عَلَيْهِ ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْخَبَرِ فَمَحْمُولٌ عَلَى رَفْعِ الْإِثْمِ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الطِّيبِ وَاللِّبَاسِ فَالْمَعْنَى فِي الطِّيبِ وَاللِّبَاسِ أَنَّهُ اسْتِمْتَاعٌ فَافْتَرَقَ حُكْمُ عَمْدِهِ وَسَهْوِهِ ، وَقَتْلُ الصَّيْدِ إِتْلَافٌ فَاسْتَوَى حُكْمُ عَمْدِهِ وَسَهْوُهُ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْعَائِدُ فِي قَتْلِهِ وَهُوَ أَنْ يَقْتُلَ صَيْدًا فَيَفْدِيَهُ أَوَّلًا بِفِدْيَةٍ ، ثُمَّ يَقْتُلَ صَيْدًا ثَانِيًا قتل صيد الحرم فَعَلَيْهِ جَزَاءٌ ثَانٍ . وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ الظَّاهِرِيُّ : لَا جَزَاءَ عَلَيْهِ فِي الثَّانِي وَلَوْ عَادَ مِائَةَ مَرَّةٍ ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْجَزَاءُ بِالْمَرَّةِ الْأَوْلَى وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَفِي التَّابِعَيْنِ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَشُرَيْحٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالنَّخْعِيِّ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ [ الْمَائِدَةِ : ] ، فَعَلَّقَ وُجُوبَ الْجَزَاءِ عَلَى لَفْظِ " مَنْ " وَالْحُكْمُ إِذَا تَعَلَّقَ بِلَفْظِ " مَنِ " اقْتَضَى مَرَّةً وَاحِدَةً ، وَلَمْ يَتَكَرَّرِ الْحُكْمُ بِتَكْرَارِ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِمْ : مَنْ دَخَلَ دَارِي فَلَهُ دِرْهَمٌ ، فَإِذَا دَخَلَهَا مَرَّةً وَاحِدَةً اسْتَحَقَّ دِرْهَمًا ، وَلَوْ عَادَ فِي دُخُولِهَا لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا ، وَكَمَا لَوْ قَالَ لِنِسَائِهِ : مَنْ خَرَجَتْ مِنَ الدَّارِ فَهِيَ طَالِقٌ ، فَخَرَجَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ طُلِّقَتْ ، وَلَوْ عَادَتْ فَخَرَجَتْ ثَانِيَةً لَمْ تُطَلَّقْ ، كَذَلِكَ قَاتِلُ الصَّيْدِ إِذَا قَتَلَهُ مَرَّةً لَزِمَهُ الْجَزَاءُ وَلَوْ عَادَ لِقَتْلِهِ لَمْ يَكُنْ يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ . قَالُوا : وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ : وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ فَأَخْبَرَ بِأَنَّ حُكْمَ الْعَائِدِ الِانْتِقَامُ مِنْهُ كَمَا أَخْبَرَ أَنَّ حُكْمَ الْمُبْتَدِئِ الْجَزَاءُ ، فَدَلَّ عَلَى أَنْ لَا حُكْمَ لِلْعَائِدِ غَيْرُ الِانْتِقَامِ ؛ كَمَا أَنْ لَا حُكْمَ لِلْمُبْتَدِئِ غَيْرُ الْجَزَاءِ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [ الْمَائِدَةِ : ] ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ إِشَارَةٌ إِلَى جِنْسِ الصَّيْدِ : لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ يَدْخُلَانِ لِجِنْسٍ أَوْ مَعْهُودٍ ، وَلَيْسَ فِي صَيْدٍ مَعْهُودٌ فَثَبَتَ دُخُولُهُمَا لِلْجِنْسِ ، وَلَفْظُ الْجِنْسِ يَسْتَوْعِبُ جُمْلَتَهُ وَآحَادَهُ ، ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [ الْمَائِدَةِ : ] ، فَكَانَ ذَلِكَ عَائِدًا إِلَى جُمْلَةِ الْجِنْسِ وَآحَادِهِ : لِأَنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهِ بِهَا الْكِنَايَةَ ، وَحُكْمُ الْعَطْفِ أَنْ يَعُودَ إِلَى مَا تَنَاوَلَهُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ . فَإِنْ قِيلَ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا يَعْنِي وَمَنْ قَتَلَ وَاحِدًا مِنَ الْجِنْسِ دُونَ جَمِيعِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ جَمِيعَ الْجِنْسِ لَكَانَتِ الْكِنَايَةُ عَائِدَةً إِلَيْهِ بِالْهَاءِ وَالْأَلِفِ فَيَقُولُ : وَمَنْ قَتَلَهَا مِنْكُمْ مُتَعَمَّدًا قِيلَ : إِنَّمَا تَرْجِعُ الْكِنَايَةُ بِالْهَاءِ وَالْأَلْفِ إِذَا عَادَتْ إِلَى اسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى كَقَوْلِهِمْ صُيُودٌ ، فَأَمَّا إِذَا عَادَتْ إِلَى لَفْظٍ يَسْتَغْرِقُ الْجِنْسَ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ فَإِنَّمَا تَعُودُ بِكِنَايَةِ التَّذْكِيرِ وَالتَّوْحِيدِ وَهِيَ الْهَاءُ دُونَ الْأَلْفِ ؛ كَقَوْلِهِمْ : مَنْ دَخَلَ الدَّارَ فَلَهُ دِرْهَمٌ ، " فَمَنْ " وَإِنْ كَانَتْ تَتَنَاوَلُ الْجِنْسَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَقَدْ عَادَتِ الْكِنَايَةُ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِمْ : فَلَهُ دِرْهَمٌ بِلَفْظِ التَّوْحِيدِ وَالتَّذْكِيرِ ، لِأَنَّ اسْتِغْرَاقَ الْجِنْسِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ ، كَذَلِكَ الصَّيْدُ إِنَّمَا عُلِمَ اسْتِغْرَاقُ جِنْسِهِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَهُوَ دُخُولُ الْأَلِفِ وَاللَّامِ دُونَ اللَّفْظِ فَجَازَ أَنْ تَعُودَ الْكِنَايَةُ بِالْهَاءِ دُونَ الْأَلِفِ ، وَالدَّلَالَةُ الثَّانِيَةُ مِنَ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى : فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ، فَأَوْجَبَ مِثْلَ مَا قَتَلَ ، فَإِذَا قَتَلَ صَيْدَيْنِ وَجَبَ عَلَيْهِ مِثْلُهُمَا ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ مِثْلًا لَهُمَا ؛ وَلِأَنَّهَا نَفْسٌ مَضْمُونَةٌ بِالتَّكْفِيرِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَكْرَارُ الْقَتْلِ مُوجِبًا لِتَكْرَارِ التَّكْفِيرِ كَنُفُوسِ الْآدَمِيِّينَ ؛ وَلِأَنَّهُ غُرْمُ مَالٍ يَجِبُ بِالْإِتْلَافِ فَوَجَبَ أَنْ يَتَكَرَّرَ الْغُرْمُ فِيهِ بِتَكَرُّرِ الْفِعْلِ مِنْهُ كَأَمْوَالِ الْآدَمِيِّينَ . فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ مِنَ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ : إِنَّ الْحُكْمَ الْمُعَلَّقَ بِمَا لَا يُوجِبُ تَكْرَارَهُ بِتَكْرَارِ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ : مَنْ دَخَلَ الدَّارَ فَلَهُ دِرْهَمٌ . فَالْجَوَابُ : أَنَّ الْحُكْمَ الْمُعَلَّقَ بِـ " مَنْ " لَا يَتَكَرَّرُ بِتَكْرَارِ الْفِعْلِ إِذَا كَانَ الْفِعْلُ الثَّانِي وَاقِعًا فِي مَحَلِّ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْفِعْلُ الثَّانِي وَاقِعًا فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ تَكْرَارَ الْفِعْلِ يُوجِبُ تَكْرَارَ الْحُكْمِ كَقَوْلِهِ " مَنْ دَخَلَ دَارِي فَلَهُ دِرْهَمٌ " فَإِذَا دَخَلَ دَارًا لَهُ اسْتَحَقَّ دِرْهَمًا وَلَوْ دَخَلَ دَارًا لَهُ أُخْرَى اسْتَحَقَّ ثَانِيًا ؛ كَذَلِكَ الصَّيْدُ لَمَّا كَانَ الثَّانِي غَيْرَ الْأَوَّلِ وَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالثَّانِي مِثْلَ مَا تَعَلَّقَ بِالْأَوَّلِ وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ مَعْنَاهُ وَمَنْ عَادَ فِي الْإِسْلَامِ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ بِالْجَزَاءِ : لِأَنَّ قَبْلَهُ قَوْلَهُ تَعَالَى : عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ يَعْنِي : فِي الْجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ قَالَ : وَمَنْ عَادَ يَعْنِي : فِي الْإِسْلَامِ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ يَعْنِي : بِالْجَزَاءِ ؛ هَكَذَا فَسَّرَهُ عَطَاءٌ وَغَيْرُهُ ، وَلَفْظُ الْآيَةِ لَا يَقْتَضِي غَيْرَهُ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَا يُعَاقِبُهُ الْإِمَامُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا ذَنْبٌ جُعِلَتْ عُقُوبَتُهُ فِدْيَةً إِلَّا أَنْ يَزْعُمَ أَنَّهُ يَأْتِي ذَلِكَ عَامِدًا مُسْتَخِفًّا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
بَابُ جَزَاءِ الصَّيْدِ
إِذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا لَهُ مِثْلٌ مِنَ النَّعَمِ فَعَلَيْهِ مِثْلُهُ مِنَ النَّعَمِ
بَابُ جَزَاءِ الصَّيْدِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ : فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ، ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَالنَّعَمُ : الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا لَهُ مِثْلٌ مِنَ النَّعَمِ فَعَلَيْهِ مِثْلُهُ مِنَ النَّعَمِ ، وَالنَّعَمُ : الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ فَيَلْزَمُهُ مِثْلُهُ فِي الشَّبَهِ وَالصُّورَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُعْتَبَرَ قِيمَةُ الصَّيْدِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تُعْتَبَرُ قِيمَةُ الصَّيْدِ ، فَيُقَوَّمُ الصَّيْدُ دَرَاهِمَ ، ثُمَّ تُصْرَفُ الدَّرَاهِمُ إِلَى النَّعَمِ لِيَشْتَرِيَ بِهَا مِنَ النَّعَمِ مَا يَجُوزُ أُضْحِيَةً ، وَلَا اعْتِبَارَ بِمِثْلِ الصَّيْدِ مِنَ النَّعَمِ فِي الصُّورَةِ وَالشَّبَهِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [ الْمَائِدَةِ ] ، وَاسْتِدْلَالُهُمْ بِهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ فِي الْجَزَاءِ الْمِثْلَ مِنَ النَّعَمِ ، وَالْمِثْلُ فِي الشَّرْعِ إِمَّا أَنْ يَتَنَاوَلَ الْمِثْلَ مِنَ الْجِنْسِ فِي الصُّورَةِ وَالشَّبَهِ ، وَهَذَا قَدْ يَكُونُ مِثْلًا شَرْعًا وَلُغَةً ، وَإِمَّا أَنْ يَتَنَاوَلَ الْقِيمَةَ فَيَكُونَ مِثْلًا شَرْعًا لَا لُغَةً ، أَوْ لَا يَتَنَاوَلُ الْمِثْلَ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ لَا شَرْعًا وَلَا لُغَةً . وَإِذَا كَانَ الْمِثْلُ يَتَنَاوَلُ أَحَدَ هَذَيْنِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَا مُرَادَيْنِ وَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ الْمِثْلُ مِنَ الْجِنْسِ مُرَادًا وَهُوَ أَنْ يَجِبَ فِي النَّعَامَةِ نَعَامَةٌ وَمِنَ الْحِمَارِ حِمَارٌ - ثَبَتَ أَنَّ الْمِثْلَ مِنْ طَرِيقِ الْقِيمَةِ مُرَادًا . وَقَوْلُهُ تَعَالَى : مِنَ النَّعَمِ يَعْنِي أَنَّهُ يُصْرَفُ قِيمَةُ الصَّيْدِ فِي النَّعَمِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : مِنَ الْاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ أَنَّهُ قَالَ : يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْمِثْلَ فِي الصُّورَةِ وَالشَّبَهِ لَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى حُكْمِ عَدْلَيْنِ : لِأَنَّهُ يُدْرَكُ بِالْمُشَاهَدَةِ وَالنَّظَرِ الَّذِي يَسْتَوِي فِيهِ الْعَادِلُ ، وَالْفَاسِقُ ، وَالْعَالِمُ ، وَالْجَاهِلُ ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْقِيمَةُ الَّتِي تَفْتَقِرُ إِلَى تَقْوِيمٍ وَاجْتِهَادٍ وَيُرْجَعُ فِيهَا إِلَى الْعُدُولِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : مِنَ الْاسْتِدْلَالِ بِهَا : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْمِثْلَ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ ، وَهَذَا
الْمِثْلُ فِي الْجَزَاءِ رَاجِعٌ إِلَى جَمِيعِ الصَّيْدِ ، وَالْمِثْلُ فِي جَمِيعِهِ وَاحِدٌ ، فَلَمَّا كَانَ الْمُرَادُ بِالْمِثْلِ - فِيمَا لَيْسَ لَهُ مِنَ النَّعَمِ مِثْلٌ - الْقِيمَةَ دُونَ مَا كَانَ مِثْلًا فِي الشَّبَهِ وَالصُّورَةِ ؛ إِذِ الْمُرَادُ بِالْمِثْلِ فِي جَمِيعِ الصَّيْدِ الْقِيمَةُ دُونَ مَا كَانَ مِثْلًا فِي الشَّبَهِ وَالصُّورَةِ ، وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَذْكُرَ اللَّهُ تَعَالَى مِثْلًا وَاحِدًا لِجَمِيعِ الصَّيْدِ ، فَيَجْعَلَ لِمِثْلِ بَعْضِهِ حُكْمًا وَلِمِثْلِ بَاقِيهِ حُكْمًا ! وَرُبَّمَا جَوَّزُوا هَذَا الِاسْتِدْلَالَ قِيَاسًا فَقَالُوا : لِأَنَّهُ حَيَوَانٌ مَمْنُوعٌ مِنْ إِتْلَافِهِ بِحُرْمَةِ الْإِحْرَامِ فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ بِقَتْلِهِ قِيمَتُهُ قِيَاسًا عَلَى مَا لَا مِثْلَ لَهُ مِنَ الْعُصْفُورِ وَغَيْرِهِ . قَالُوا : وَلِأَنَّهَا عَيْنٌ مَضْمُونَةٌ فَوَجَبَ : إِذْ لَمْ تُضْمَنْ بِالْمِثْلِ مِنْ جِنْسِهَا أَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً بِقِيمَتِهَا كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ . قَالُوا : وَلِأَنَّ إِيجَابَ مِثْلِهِ فِي الشَّبَهِ وَالصَّوْتِ يُفْضِي إِلَى أَنْ يَجِبَ فِي مُتْلَفٍ وَاحِدٍ بَدَلَانِ مُخْتَلِفَانِ فَيَلْزَمَ مَنْ قَتَلَ صَيْدًا مَمْلُوكًا قِيمَتُهُ لِمَالِكِهِ ، وَهِيَ مِثْلٌ وَجَزَاؤُهُ بِالْمِثْلِ فِي الشَّبَهِ وَالصُّورَةِ ، وَهِيَ مِثْلٌ فَيَخْتَلِفَ الْمِثْلَانِ فِي الْعَيْنِ الْوَاحِدَةِ : وَهَذَا فِي الْأُصُولِ مُمْتَنِعٌ : وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ . وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْمِثْلَ ، وَإِطْلَاقُ الْمِثْلِ يَتَنَاوَلُ الْمِثْلَ فِي الصُّورَةِ وَالْجِنْسِ حَتَّى يَجِبَ فِي النَّعَامَةِ نَعَامَةٌ ، وَفِي الْغَزَالِ غَزَالٌ ، فَلَمَّا قَيَّدَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِالْمِثْلِ مِنَ النَّعَمِ انْصَرَفَ الْمِثْلُ عَنِ الْجِنْسِ إِلَى الْمِثْلِ مِنَ النَّعَمِ بَقِيَ الْمِثْلُ فِي الشَّبَهِ وَالصُّورَةِ عَلَى مَا كَانَ يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الْآيَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : مِنَ الْاسْتِدْلَالِ بِهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْمِثْلَ مِنَ النَّعَمِ وَالْقِيمَةَ إِنْ كَانَتْ مِثْلًا فَهِيَ مِنَ الدَّرَاهِمِ : فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْدَلَ عَمَّا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنَ النَّعَمِ إِلَى مَا لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ مِنَ الدَّرَاهِمِ ، وَلَمْ يَقُلْ : " فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ الدَّرَاهِمِ " تَصَرَّفَ فِي النَّعَمِ فَيَصِحُّ لَهُمُ الْمَذْهَبُ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : مِنَ الْاسْتِدْلَالِ بِهَا : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ وَذَلِكَ كِنَايَةٌ تَرْجِعُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ ، وَلَيْسَ يَخْلُو أَنْ تَرْجِعَ إِلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ أَوْ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورِ مِنْهُ . فَإِنْ رَجَعَتْ إِلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ كَانَتْ رَاجِعَةً إِلَى الْمِثْلِ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ ، وَإِنْ رَجَعَتْ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورِ كَانَتْ رَاجِعَةً إِلَى النَّعَمِ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ : الْكِنَايَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ لَيْسَتْ رَاجِعَةً إِلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ وَلَا إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورِ
مِنْهُ ، وَإِنَّمَا تَرْجِعُ إِلَى أَبْعَدِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ الْمِثْلُ دُونَ النَّعَمِ : لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ ذَوَيْ عَدْلٍ إِنَّمَا يَحْكُمَانِ بِالْقِيمَةِ دُونَ النَّعَمِ . وَعِنْدَنَا أَنَّهُمَا يَحْكُمَانِ بِالْمِثْلِ مِنَ النَّعَمِ ، وَمَا قُلْنَاهُ أَوْلَى بِالظَّاهِرِ وَأَحَقُّ بِالتِّبْيَانِ . وَمِنَ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ حَدِيثُ جَابِرٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الضَّبُعِ : أَصِيدٌ هُوَ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قِيلَ : أَيُؤْكَلُ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قِيلَ : فِيهِ كَبْشٌ إِذَا أَصَابَهُ الْمُحْرِمُ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، وَقِيلَ : وَسَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : نَعَمْ ، فَصَارَ كَأَنَّهُ رَوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " الضَّبُعُ صَيْدٌ يُؤْكَلُ ، وَفِيهِ كَبْشٌ إِذَا أَصَابَهُ الْمُحْرِمُ ، وَفِي هَذَا الْخَبَرِ اسْتِدْلَالٌ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ النبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْجَبَ مِنَ الضَّبُعِ كَبْشًا ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يُوجِبُ الْقِيمَةَ وَلَا يُوجِبُ الْكَبْشَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ جَعَلَ الْكَبْشَ بَدَلًا مُقَدَّرًا ، وَالْقِيمَةُ لَا تَتَقَدَّرُ وَإِنَّمَا تَكُونُ اجْتِهَادًا . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ قَدَّرَهُ بِكَبْشٍ ، جَعَلَهُ كُلَّ مُوجِبِهِ : وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ وَالنُّقْصَانِ مِنْهُ . وَالرَّابِعُ : أَنَّهُ نَصَّ عَلَى الْكَبْشِ فِي جَزَاءِ الضَّبُعِ وَخَصَّهُ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْحَيَوَانِ ، فَعُلِمَ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ فِي جَزَاءِ الضَّبُعِ ، وَأَنَّ الْقِيمَةَ لَا تَجِبُ إِذْ وَجَبَتِ الْقِيمَةُ لَجَازَ صَرْفُهَا فِي الْكَبْشِ وَغَيْرِهِ ، وَكَمَا كَانَ لِلْكَبْشِ اخْتِصَاصٌ بِهِ . وَمِنَ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ؛ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعُثْمَانَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَمُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ حَكَمُوا فِي قَضَايَا مُخْتَلِفَةٍ فِي بُلْدَانٍ شَتَّى ، وَأَوْقَاتٍ مُتَبَايِنَةٍ فِي الضَّبُعِ بِكَبْشٍ ، وَفِي النَّعَامَةِ بِبَدَنَةٍ ، فَلَمَّا اتَفَقَتْ أَحْكَامُهُمْ فِي الْبُلْدَانِ الْمُخْتَلِفَةِ وَالْأَوْقَاتِ الْمُتَبَايِنَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ مِثْلُهُ مِنَ النَّعَمِ دُونَ قِيمَتِهِ : لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقِيمَةَ قَدْ تَزِيدُ فِي بَلَدٍ ، وَتَنْقُصُ فِي غَيْرِهِ ، وَتَزِيدُ فِي وَقْتٍ وَتَنْقُصُ فِي غَيْرِهِ . وَالثَّانِيَةُ أَنَّهُمْ قَدْ حَكَمُوا فِيهِ بِأَكْثَرِ مِنْ قِيمَتِهِ : لِأَنَّهُمْ حَكَمُوا فِي النَّعَامَةِ بِبَدَنَةٍ وَلَا تُسَاوِي بَدَنَةً ، وَحَكَمُوا فِي الضَّبُعِ بِكَبْشٍ وَهُوَ لَا يُسَاوِي كَبْشًا فَإِنْ قِيلَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَافَقَ قِيمَةُ الضَّبُعِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَبْشًا ، وَقِيمَةُ النَّعَامَةِ بَدَنَةً .
قِيلَ عَنْ هَذَا جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : لَوْ جَازَ أَنْ يُوَافِقَ ذَلِكَ فِي وَقْتٍ لَجَازَ أَنْ يُخَالِفَهُ فِي غَيْرِهِ ، وَقَدِ اتَّفَقَ حُكْمُهُمْ فِي كُلِّ وَقْتٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُمْ قَدْ أَوْجَبُوا فِي الْأَرْنَبِ عِنَاقًا وَفِي الْيَرْبُوعِ جَفْرَةً ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُصْرَفَ قِيمَةُ الصَّيْدِ فِي عِنَاقٍ وَلَا جَفْرَةٍ وَإِنَّمَا تُصْرَفُ فِيمَا يَجُوزُ أُضْحِيَةً ( وْجَبَ أَنْ يَتَنَوَّعَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى نَوْعَيْنِ : نَوْعٌ يُضْمَنُ بِالْمِثْلِ ، وَنَوْعٌ يُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ ) . فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ حَكَمُوا بِالْمِثْلِ ، وَلَمْ يَحْكُمُوا بِالْقِيمَةِ . وَمِنَ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّهُ تَكْفِيرُ قَتْلٍ بِحَيَوَانٍ فَوَجَبَ أَلَّا تُعْتَبَرَ فِيهِ قِيمَةُ الْمَقْتُولِ مِنَ الْحَيَوَانِ قِيَاسًا عَلَى كَفَّارَةِ قَتْلِ الْآدَمِيِّينَ : وَلِأَنَّهُ تَكْفِيرٌ بِحَيَوَانٍ وَجَبَ بِحُرْمَةِ الْإِحْرَامِ ، فَوَجَبَ أَلَّا تُعْتَبَرَ فِيهِ الْقِيمَةُ كَكَفَّارَةِ الْأَذَى وَغَيْرِهَا مِنْ سَائِرِ الدِّمَاءِ : وَلِأَنَّ الْحُقُوقَ الْمَضْمُونَةَ بِالْإِتْلَافِ حَقَّانِ : حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَحَقٌّ لِآدَمِيٍّ . فَلَمَّا كَانَ حَقُّ الْآدَمِيِّ يَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ : نَوْعٌ يُضْمَنُ بِالْمِثْلِ ، وَنَوْعٌ يُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ ، وَجَبَ أَنْ يَتَنَوَّعَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى نَوْعَيْنِ : نَوْعٌ يُضْمَنُ بِالْمِثْلِ ، وَنَوْعٌ يُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ . وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُ أَحَدُ جِنْسَيْ مَا يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ فَوَجَبَ أَنْ يَتَنَوَّعَ ضَمَانُهُ نَوْعَيْنِ : مِثْلًا وَقِيمَةً كَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ . الْجَوَابُ : أَمَّا اسْتِدْلَالُهُمُ الْأَوَّلُ مِنَ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ : إِنَّ الْمِثْلَ إِمَّا أَنَّهُ يَكُونُ فِي الصُّورَةِ وَالْجِنْسِ ، أَوْ فِي الْقِيمَةِ . فَالْجَوَابُ عَنْهُ : أَنَّ الْمِثْلَ إِذَا وَرَدَ مُطْلَقًا حُمِلَ عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ ، فَأَمَّا إِذَا وَرَدَ مُقَيَّدًا فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى تَقْيِيدِهِ ، وَقَدْ قَيَّدَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِالْمِثْلِ مِنَ النَّعَمِ فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمُ الثَّانِي مِنَ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ : إِنَّ الْمِثْلَ فِي الصُّورَةِ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى اجْتِهَادٍ وَعَدْلَيْنِ : لِأَنَّهُ يُدْرَكُ بِالْمُشَاهَدَةِ ، وَإِنَّمَا تَفْتَقِرُ إِلَى ذَلِكَ الْقِيمَةُ . فَالْجَوَابُ : أَنَّ الِاجْتِهَادَ فِي الْمِثْلِ فِي النَّعَمِ أَخْفَى مِنَ الْاجْتِهَادِ فِي الْقِيمَةِ : لِأَنَّ الْقِيمَةَ قَدْ يَعْرِفُهَا سُوقَةُ النَّاسِ وَعَوَامُّهُمْ ، وَالْمِثْلُ إِنَّمَا يَعْرِفُهُ خَوَاصُّهُمْ وَعُلَمَاؤُهُمْ ؟ فَكَانَ بِاجْتِهَادِ عَدْلَيْنِ أَوْلَى . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمُ الثَّالِثُ مِنَ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ : إِنَّ الْجَزَاءَ بِالْمِثْلِ رَاجِعٌ إِلَى جَمِيعِ الصَّيْدِ ، فَلَمَّا أُرِيدَ بِبَعْضِهِ الْقِيمَةُ دُونَ الْمِثْلِ وَهُوَ مَا لَا مِثْلَ لَهُ ، فَكَذَلِكَ مَا لَهُ مِثْلٌ .
فَالْجَوَابُ : أَنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا تَنَاوَلَتْ مِنَ الصَّيْدِ مَا لَهُ مِثْلٌ مِنَ النَّعَمِ دُونَ مَا لَا مِثْلَ لَهُ ، وَإِنَّمَا وَجَبَتِ الْقِيمَةُ فِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ بِالِاسْتِدْلَالِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُنَّةِ وَالْآثَارِ ، نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " ، فَلَمْ يَسْلَمِ الِاسْتِدْلَالُ ، فَإِنْ حَرَّرُوهُ قِيَاسًا عَلَى الْعُصْفُورِ ، فَالْمَعْنَى فِي الْعُصْفُورِ أَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ مِنَ النَّعَمِ : فَلِذَلِكَ وَجَبَتْ فِيهِ الْقِيمَةُ ، فَأَمَّا مَا لَهُ مِثْلٌ مِنَ النَّعَمِ فَالْوَاجِبُ فِيهِ الْمِثْلُ مِنَ النَّعَمِ دُونَ الْقِيمَةِ ، كَمَا أَنَّ أَمْوَالَ الْآدَمِيِّينَ تَجِبُ بِإِتْلَافِ مَا لَهُ مِثْلُ مِثْلِهِ دُونَ قِيمَتِهِ ، وَبِإِتْلَافِ مَا لَا مِثْلَ لَهُ الْقِيمَةُ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى أَمْوَالِ الْآدَمِيِّينَ فَبَاطِلٌ بِقَتْلِ الْحَدِّ خَطَأً : لِأَنَّهُ لَا يُضْمَنُ بِالْمِثْلِ ؛ لِسُقُوطِ الْقَوَدِ وَلَا بِالْقَيِّمَةِ ؛ لِوُجُوبِ الدِّيَةِ ، وَلَيْسَتِ الدِّيَةُ قِيمَةً لِكَوْنِهَا إِبِلًا ثُمَّ لَمْ يَسْلَمْ مِنْ هَذَا الْقَدْحِ وَلَمْ يَصِحَّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرُوا : لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى يُضْمَنُ بِالْمَالِ وَغَيْرِ الْمَالِ وَهُوَ الصِّيَامُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ حَقُّ الْآدَمِيِّينَ فَاخْتَلَفَا . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّ إِيجَابَ بَدَلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي مُتْلَفٍ وَاحِدٍ مُمْتَنِعٌ فِي الْأُصُولِ . فَالْجَوَابُ : أَنَّ ذَلِكَ يَمْتَنِعُ فِي الْأُصُولِ إِذَا كَانَتْ جِهَةُ ضَمَانِهَا وَاحِدَةً ، فَأَمَّا مَعَ اخْتِلَافِ جِهَةِ ضَمَانِهَا فَلَا يَمْتَنِعُ اخْتِلَافُ الْبَدَلِ فِيهِمَا ؛ كَالْقَتْلِ يُضْمَنُ بِبَدَلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ : الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ ، عَلَى أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْتَنِعْ وُجُوبُ بَدَلَيْنِ فِي مُتْلَفٍ وَاحِدٍ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مُخَالَفَةُ الْأُصُولِ لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَخْتَلِفَ الْبَدَلَانِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مُخَالَفَةُ الْأُصُولِ .
مَسْأَلَةٌ الْحَيَوَانُ كُلُّهُ ضَرْبَانِ إِنْسِيٌّ وَوَحْشِيٌ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَا أُكِلَ مِنَ الصَّيْدِ أكل المحرم من الصيد صِنْفَانِ : دَوَابٌّ وَطَائِرٌ فَمَا أَصَابَ الْمُحْرِمُ مِنَ الْدَوَابِّ نَظَرَ إِلَى أَقْرَبِ الْأَشْيَاءِ مِنَ الْمَقْتُولِ شَبَهًا مِنَ النَّعَمِ فَفَدَى بِهِ وَقَدْ حَكَمَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَغَيْرُهُمْ فِي بُلْدَانٍ مُخْتَلِفَةٍ وَأَزْمَانٍ شَتَّى بِالْمِثْلِ مِنَ النَّعَمِ فَحَكَمَ حَاكِمُهُمْ فِي النَّعَامَةِ بِبَدَنَةٍ وَهِيَ لَا تُسَوِّي بَدَنَةً وَفِي حِمَارِ الْوَحْشِ بِبَقَرَةٍ وَهُوَ لَا يُسَوِّي بَقَرَةً وَفِي الضَّبُعِ بِكَبْشٍ وَهُوَ لَا يُسَوِّي كَبْشًا وَفِي الْغَزَالِ بِعَنْزٍ وَقَدْ يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهَا أَضْعَافًا وَدُونَهَا وَمِثْلَهَا وَفِي الْأَرْنَبِ بِعَنَاقٍ وَفِي الْيَرْبُوعِ بِجَفْرَةٍ وَهُمَا لَا يُسَاوِيَانِ عَنَاقًا وَلَا جَفْرَةً فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ نَظَرُوا إِلَى أَقْرَبِ مَا يُقْتَلُ مِنَ الصَّيْدِ شَبَهًا بِالْبَدَلِ مِنَ النَّعَمِ لَا بِالْقِيمَةِ وَلَوْ حَكَمُوا بِالْقِيمَةِ لَاخْتَلَفَ لِاخْتِلَافِ الْأَسْعَارِ وَتَبَايُنِهَا فِي الْأَزْمَانِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : الْحَيَوَانُ كُلُّهُ ضَرْبَانِ : إِنْسِيٌّ وَوَحْشِيٌ . فَأَمَّا الْإِنْسِيُّ الْأَصْلِيُّ فُحُكْمُ الْمُحْرِمِ فِيهِ كَحُكْمِ الْمُحِلِّ ، وَأَمَّا الْوَحْشِيُّ فَضَرْبَانِ : هُوَ مَأْكُولٌ ، وَغَيْرُ مَأْكُولٍ : فَأَمَّا غَيْرُ الْمَأْكُولِ فَيَأْتِي ، وَأَمَّا الْمَأْكُولُ فَضَرْبَانِ : بَرِّيٌّ وَبَحْرِيٌّ . فَأَمَّا الْبَحْرِيُّ فَيَأْتِي وَأَمَّا الْبَرِّيُّ فَضَرْبَانِ : دَوَابُّ وَطَائِرٌ :
فَأَمَّا الطَّائِرُ فَيَأْتِي ، وَأَمَّا الدَّوَابُّ فَفِيهَا مِثْلُهَا مِنَ النَّعَمِ ، وَهُوَ أَنْ يَنْظُرَ أَقْرَبَ الِأَشْيَاءِ مِنَ الْمَقْتُولِ شَبَهًا مِنَ النَّعَمِ فَيَفْتَدِي بِهِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَقَدَّمَ لِلصَّحَابَةِ فِيهِ حُكْمٌ أَمْ لَا . فَإِنْ تَقَدَّمَ حُكْمُ الصَّحَابَةِ فِيهِ بِشَيْءٍ فَلَا اجْتِهَادَ لَنَا فِيهِ ، وَحُكْمُ الصَّحَابَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى قَوْلِنَا ، وَقَالَ مَالِكٌ : لَا بُدَّ فِيهِ مِنِ اجْتِهَادِ فَقِيهَيْنِ ، وَهَذَا غَلَطٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ : يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ فَأَمَرَ بِالرُّجُوعِ فِيهِ إِلَى حُكْمِ ذَوَيْ عَدْلٍ . وَعَدَالَةُ الصَّحَابَةِ أَوْكَدُ مِنْ عَدَالَتِنَا : لِأَنَّهُمْ شَاهَدُوا الْوَحْيَ وَحَضَرُوا التَّنْزِيلَ وَالتَّأْوِيلَ ، وَجَعَلَهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْنَا اهْتَدَيْنَا : فَكَانَ حُكْمُهُمْ أَوْلَى مِنْ حُكْمِنَا . وَالثَّانِي : أَنَّ الصَّحَابَةَ إِذَا حَكَمُوا بِشَيْءٍ أَوْ حَكَمَ بَعْضُهُمْ بِهِ وَسَكَتَ بَاقُوهُمْ عَلَيْهِ صَارَ إِجْمَاعًا وَمَا انْعَقَدَ لِلْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ الِاجْتِهَادُ فِيهِ لِجَوَازِ أَنْ يُؤَدِّيَ الِاجْتِهَادُ إِلَى غَيْرِ مَا انْعَقَدَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ وَكَذَا حُكْمُ التَّابِعِينَ بَعْدَ الصَّحَابَةِ كَحُكْمِ الصَّحَابَةِ فِي وُجُوبِ اتِّبَاعِهِ ، وَمَنْعِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ . فَأَمَّا مَا لَمْ يَكُنْ لِلصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِيهِ حُكْمٌ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُرْجَعَ فِيهِ إِلَى اجْتِهَادِ فَقِيهَيْنِ عَدْلَيْنِ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ وَرُوِيَ أَنَّ قَبِيصَةَ بْنَ جَابِرٍ أَصَابَ ظَبْيًا وَهُوَ مُحْرِمٌ فَأَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَشَاوَرَ عُمَرُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ فِي ذَلِكَ ، قَالَ قَبِيصَةُ لِصَاحِبَيْهِ : وَاللَّهِ مَا عَلِمَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ حَتَى سَأَلَ غَيْرَهُ ، وَأَحْسَبُنِي سَأَذْبَحُ نَاقَتِيِ فَسَمِعَ عُمَرُ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ ضَرْبًا بِالدِّرَّةِ ، وَقَالَ : تَقْتُلُ الصَّيْدَ مُحْرِمًا وَتَغْمُصُ الْفُتْيَا ، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى : يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ فَهَذَا عُمَرُ وَهَذَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِذَبْحِ شَاةٍ ، مَعْنَى قَوْلِهِ : تَغْمُضُ الْفُتْيَا أَيْ : تَحْتَقِرُهَا وَتَتَهَاوَنُ بِهَا ، يُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذَا كَانَ مَطْعُونًا عَلَيْهِ فِي دِينٍ : إِنَّهُ لِمَغْمُوصٌ عَلَيْهِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْكُمَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فَقِيهًا : لِأَنَّهُ حُكْمٌ فَلَمْ يَجُزْ إِلَّا بِحُكْمِ عَدْلٍ يَجُوزُ حُكْمُهُ ، فَإِنْ كَانَ قَاتِلُ الصَّيْدِ فَقِيهًا عَدْلًا جَازَ أَنْ يَكُونَ أَحَدَ الْعَدْلَيْنِ الْمُجْتَهِدَيْنِ ، هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَمِنْهُ وَجْهٌ آخَرُ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ أَحَدَ الْعَدْلَيْنِ الْمُجْتَهِدَيْنِ : لِأَنَّهُ اجْتِهَادٌ فِي بَدَلٍ مُتْلَفٍ فَلَمْ يَجُزِ الرُّجُوعُ فِيهِ إِلَى اجْتِهَادِ الْمُتْلِفِ كَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الَّتِي تُرْجَعُ فِي إِتْلَافِهَا إِلَى اجْتِهَادِ مُقَوِّمِينَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُتْلِفُ أَحَدَهُمَا ، كَذَلِكَ جَزَاءُ الصَّيْدِ ، وَهَذَا خَطَأٌ : لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى : يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ ، وَلِمَا رَوَيْنَا أَيْضًا عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لَأَرْبَدَ وَقَدْ قَتَلَ صَيْدًا : احْكُمْ ، قَالَ : إِنِّي أَحْكُمُ
جَدْيًا قَدْ جَمَعَ الْمَاءَ وَالشَّجَرَ ، قَالَ : فَهُوَ كَمَا حَكَمْتَ ، فَأَمْضَى عُمَرُ الْحُكْمَ بِاجْتِهَادِهِ وَاجْتِهَادِ أَرْبَدَ ، وَقَدْ كَانَ قَاتِلًا ، : وَلَيْسَ يُعْرَفُ لَهُ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ ؟ فَكَانَ إِجْمَاعًا ، وَلِأَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَحُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا إِلَى اجْتِهَادِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ ، كَالزَّكْوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ ، وَخَالَفَتْ حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا ، فَمَا حَكَمَتْ فِيهِ الصَّحَابَةُ ، إِنْ حَكَمُوا فِي النَّعَامَةِ بِبَدَنَةٍ حَكَمَ بِذَلِكَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمُعَاوِيَةُ وَابْنُ الزُّبَيْرِ ، وَفِي الضَّبُعِ بِكَبْشٍ حَكَمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ حَكَمَ بِهِ بَعْدَهُ عُمَرُ " وَعَلِيٌّ ، وَجَابِرٌ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عَمَّارٍ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الضَّبُعُ مِنَ الصَّيْدِ ، وَجَعَلَ فِيهِ إِذَا أَصَابَهُ الْمُحْرِمُ كَبْشًا ، وَفِي بَقَرَةِ الْوَحْشِ بَقَرَةً ، حَكَمَ بِهَا مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمِنَ التَّابِعِينَ عَطَاءٌ ، وَفِي الْإِبِلِ بَقَرَةٌ ، حَكَمَ بِهَا ابْنُ عَبَّاسِ ، وَفِي حِمَارِ الْوَحْشِ بَقَرَةٌ ، حَكَمَ بِهَا عَطَاءٌ ، وَفِي الْأَرْوَى بَقَرَةٌ ، حَكَمَ بِهَا عَطَاءٌ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَرْوَى دُونَ الْبَقَرَةِ الْمُسِنَّةِ وَفَوْقَ الْكَبْشِ ، فَفِيهِ ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى ، أَيَّ ذَلِكَ شَاءَ ، وَفِي الثَّيْتَلِ بَقَرَةٌ ، ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ وَلَمْ يَرْوِهِ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَفِي الظَّبْيِ تَيْسٌ حَكَمَ بِهِ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَفِي الْغَزَالِ عَنْزٌ ، حَكَمَ بِهِ عُمَرُ ، وَفِي الْأَرْنَبِ عَنَاقًا ، حَكَمَ بِهِ عُمَرُ وَعَطَاءٌ ، وَفِي الْيَرْبُوعِ جَفْرَةٌ ، حَكَمَ بِهَا عُمَرُ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَفِي الضَّبِّ جَدْيٌ ، حَكَمَ بِهِ عُمَرُ وَأَرْبَدُ وَعَطَاءٌ ، وَفِي الثَّعْلَبِ شَاةٌ ، حَكَمَ بِهِ عَطَاءٌ ، وَقَالَ شُرَيْحٌ : لَوْ كَانَ مَعِي حَاكِمٌ لَحَكَمْتُ فِي الثَّعْلَبِ بِجَدْيٍ ، فَإِطْلَاقُ عَطَاءٍ مَحْمُولٌ عَلَى بَيَانِ شُرَيْحٍ ، وَفِي الْوَبَرِ شَاةٌ ، حَكَمَ بِهِ عَطَاءٌ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَإِنْ كَانَتِ الْعَرَبُ تَأْكُلُ الْوَبَرَ فَفِيهِ جَفْرَةٌ ، وَلَيْسَ بِأَكْثَرَ مِنْ جَفْرَةٍ بَدَنًا ، وَفِي أُمِّ حُبَيْنٍ بِحُمْلَانٍ مِنَ الْغَنَمِ وَحَكَمَ بِهِ عُثْمَانُ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : يَعْنِي : حَمَلًا فَإِنْ كَانَتِ الْعَرَبُ تَأْكُلُهَا فَفِيهَا وَلَدُ شَاةٍ . حَمَلٌ أَوْ مِثْلُهُ مِنَ الْمَعْزِ مِمَّا لَا يَفُوتُهُ ، فَهَذَا مَا حَكَمَ فِيهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَكُلٌّ دَابَّةٍ مِنَ الْصَيْدِ الْمَأْكُولِ سَّمَيْنَاهَا فَفِدَاؤُهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَكُلُّ دَابَّةٍ مِنْ دَوَابِّ الصَّيْدِ الْمَأْكُولِ لَمْ نُسَمِّهَا فَقِيلَ : إِنَّهَا قِيَاسٌ عَلَى مَا سَمَّيْنَا مِنْهَا ، فَإِنَّ اخْتِلَافَ اجْتِهَادِ عَدْلَيْنِ مِنَ الْفُقَهَاءِ لَمْ يُؤْخَذْ بِقَوْلٍ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى يَنْضَمَّ إِلَيْهِ قَوْلُ غَيْرِهِ فَيَصِيرَا اثْنَيْنِ ، فَيُؤْخَذَ
حِينَئِذٍ بِهِ ، فَلَوْ حَكَمَ بِهِ عَدْلَانِ بِمِثْلٍ مِنَ النَّعَمِ ، وَحَكَمَ فِيهِ عَدْلَانِ آخَرَانِ بِمِثْلٍ آخَرَ غَيْرِ الْمِثْلِ الَّذِي حَكَمَ بِهِ الْعَدْلَانِ الْأَوَّلَانِ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي الْأَخْذِ بِأَيِّهِمَا شَاءَ . وَالثَّانِي : يَأْخُذُ بِأَغْلَظِهِمَا : بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي اجْتِهَادِ الْفَقِيهَيْنِ إِذَا تَعَارَضَا ، فَلَوْ حَكَمَ فِيهِ عَدْلَانِ بِالْمِثْلِ مِنَ النَّعَمِ ، وَحَكَمَ فِيهِ عَدْلَانِ أَنْ لَا مِثْلَ لَهُ مِنَ النَّعَمِ ، كَانَ حُكْمُ مَنْ حَكَمَ فِيهِ بِالْمِثْلِ أَوْلَى مِنْ حُكْمِ مَنْ حَكَمَ بِأَنْ لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ ، وَلِأَنَّ النَّفْيَ لَا يُعَارِضُ الْإِثْبَاتَ .
مَسْأَلَةٌ لَا يُفْدِي إِلَّا مِنَ النَّعَمِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يُفْدِي إِلَّا مِنَ النَّعَمِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [ الْمَائِدَةِ : ] ، فَعَلَّقَ الْمِثْلَ بِالنَّعَمِ فَانْتَفَى عَمَّا سِوَى النَّعَمِ ، وَالنَّعَمُ : الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ ، وَهِيَ الَّتِي تُذْبَحُ فِي الْأَضَاحِيِّ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ [ الْمَائِدَةِ : ] قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَلَمْ أَعْلَمْ مُخَالِفًا أَنَّهُ غَيْرُ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالضَّأْنِ ، وَهِيَ الْأَزْوَاجُ الثَّمَانِيَةُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا : ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ [ الْأَنْعَامِ : ] ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ [ الْأَنْعَامِ : ] ، فَهِيَ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ ، فَإِذَا أَجْزَأَ الصَّيْدُ بِالْمِثْلِ مِنَ النَّعَمِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَدْفَعَهُ حَيًّا إِلَى الْفُقَرَاءِ حَتَّى يَنْحَرَهُ فِي الْحَرَمِ ، سَوَاءٌ أَصَابَ الصَّيْدَ فِي حِلٍّ أَوْ حَرَمٍ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ : فَإِنْ دَفَعَهُ إِلَيْهِمْ حَيًّا لَمْ يُجْزِهِ : لِأَنَّهُ مُتَعَبَّدٌ بِالْجَزَاءِ مِنَ النَّعَمِ وَإِرَاقَةِ دَمِهِ فِي الْحَرَمِ ، فَإِذَا فَعَلَ أَحَدَهُمَا لَمْ يُجْزِهِ ، ثُمَّ يَنْظُرُ فَإِنْ أَعْلَمَ الْفُقَرَاءَ أَنَّ مَا دَفَعَهُ إِلَيْهِمْ هُوَ جَزَاءُ الصَّيْدِ فَلَهُ اسْتِرْجَاعُهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ ، فَإِذَا اسْتَرْجَعَهُ وَنَحَرَهُ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ دَفْعِهِ إِلَيْهِمْ أَوْ إِلَى غَيْرِهِمْ ، وَلَا يَلْزَمُهُ بِالدَّفْعِ الْأَوَّلِ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ النَّحْرِ : لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ مَوْقِعَ الْإِجْزَاءِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ حُكْمٌ ، وَإِنْ لَمْ يُعْلِمْهُمْ أَنَّهُ هَدْيٌ فَلَيْسَ لَهُ اسْتِرْجَاعُهُ إِلَّا أَنْ يُصَدِّقُوهُ وَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُهُمْ مَعَ أَيْمَانِهِمْ : لِأَنَّ ظَاهِرَ دَفْعِهِ إِلَيْهِمْ يُوجِبُ تَمْلِيكَهُمْ ، فَإِذَا ذَبَحَ الْجَزَاءَ فِي الْحَرَمِ فَرَّقَ لَحْمَهُ طَارِئًا عَلَى فُقَرَاءِ الْحَرَمِ ، وَلَيْسَ بِمَا يُعْطَى كُلُّ فَقِيرٍ مِنْهُمْ قَدْرٌ مَحْدُودٌ بِالشَّرْعِ ، وَأَقَلُّ مَا يُجْزِئُهُ أَنْ تُفَرِّقَهُ عَلَى ثَلَاثَةٍ إِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِمْ أَوْ عَلَى مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ ، وَلَوْ كَانَ وَاحِدًا فَلَوْ دَفَعَهُ إِلَى اثْنَيْنِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الثَّالِثِ كَانَ ضَامِنًا لِذَلِكَ : لِأَنَّهُ دَفَعَ وَاجِبًا عَلَيْهِ إِلَى غَيْرِ مُسْتَحِقِّهِ ، وَفِي قَدْرِ ضَمَانِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَضْمَنُ الثَّلَاثَةَ مُسَاوَاةً بَيْنَ جَمِيعِهِمْ فِيهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَضْمَنُ مِنْهُ أَقَلَّ مَا يُجْزِئُ أَنْ يُعْطِيَ أَحَدَهُمْ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ بِالثُّلُثِ : لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُمْ فِي التَفْرِقَةِ لَا تَلْزَمُ .
مَسْأَلَةٌ فِي صِغَارِ أَوْلَادِهَا صِغَارُ أَوْلَادِ هَذِهِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَفِي صِغَارِ أَوْلَادِهَا صِغَارُ أَوْلَادِ هَذِهِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا لِمَا قَالَ فَيَجِبُ فِي فَرْخِ النَّعَامَةِ فَصِيلٌ ، وَفِي جَحْشِ حِمَارِ الْوَحْشِيِّ عِجْلٌ ، فَيَخْتَلِفُ الْجَزَاءُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِهِ فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ صيد الحرم . وَقَالَ مَالِكٌ : فِي الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ جَزَاءٌ وَاحِدٌ لَا يَخْتَلِفُ بِصِغَرِهِ وَكِبَرِهِ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ ، فَجَعَلَ الْجَزَاءَ هَدْيًا ، وَمُطْلَقُ الْهَدْيِ مَا يَجُوزُ فِي الضَّحَايَا ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُهْدِيَ هَدْيًا لَمْ يُجْزِهِ إِلَّا مَا يَجُزْ فِي الضَّحَايَا وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ حَكَمَتْ فِي النَّعَامَةِ بِبَدَنَةٍ ، وَفِي الضَّبُعِ بِكَبْشٍ ، وَفِي الْغَزَالِ بِعَنْزٍ ، وَلَمْ يَسْأَلُوا عَنْ صِغَرِ الْمَقْتُولِ وَكِبَرِهِ ، فَلَوْ كَانَ الْجَزَاءُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ لَسَأَلُوا عَنْ حَالِهِ ، وَلَافْتَقَرُوا إِلَى شَهَادَتِهِ لِيُفَرِّقُوا بَيْنَ جَزَاءِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ ، فَلَا أَمْسَكُوا عَنِ السُّؤَالِ ، وَلَمْ يَفْتَقِرُوا إِلَى الْمُشَاهَدَةِ عَلَى اسْتِوَاءِ الْحُكْمِ فِي الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ مُخَرَّجٌ بِاسْمِ التَّكْفِيرِ فَوَجَبَ أَلَّا يَخْتَلِفَ بِاخْتِلَافِ حَالِ مَا أُتْلِفَ مِنْ صِغَرٍ وَكِبَرٍ كَالرَّقَبَةِ فِي كَفَارَّةِ الْقَتْلِ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّ الْجَزَاءَ لَيْسَ يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ جَارِيًا مَجْرَى الْكَفَّارَاتِ ، وَمَجْرَى الدِّيَاتِ ، فَإِنْ جَرَى مَجْرَى الْكَفَّارَاتِ لَمْ يَخْتَلِفْ بِاخْتِلَافِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ، وَإِنْ جَرَى مَجْرَى الدِّيَاتِ ، فَالدِّيَاتُ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ، فَمِثْلُ الصَّغِيرِ صَغِيرٌ ، وَلَيْسَ الْكَبِيرُ مِثْلًا لِلصَّغِيرِ ، وَلِأَنَّ الصَّيْدَ قَدْ يَخْتَلِفُ فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : بِاخْتِلَافِ أَجْنَاسِهِ . وَالثَّانِي : بِاخْتِلَافِ أَسْبَابِهِ . فَلَمَّا كَانَ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ بِاخْتِلَافِ أَجْنَاسِهِ مُعْتَبَرًا حَتَى وَجَبَوَا فِي الضَّبُعِ كَبْشًا ، وَفِي الْغَزَالِ عَنْزًا ، وَفِي الْيَرْبُوعِ جَفْرَةً اعْتِبَارًا بِالْمِثْلِ فِي الْجَفْرَةِ وَإِنْ كَانَ كُلُّ ذَلِكَ صَيْدًا _ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الصِّغَرُ وَالْكِبَرُ بِاخْتِلَافِ أَسْبَابِهِ مُعْتَبَرًا فَلَا يَجِبْ فِي الصَّغِيرِ مَا يَجِبُ فِي الْكَبِيرِ اعْتِبَارًا بِالْمِثْلِ فِي الْجَفْرَةِ ، وَإِنْ كَانَ جَمِيعُ ذَلِكَ صَيْدًا ، وَلِأَنَّ جَزَاءَ الصَّيْدِ مُعْتَبَرٌ بِضَمَانِ الْأَمْوَالِ وَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ دُونَ الْكَفَّارَاتِ ، وَدِيَاتُ النُّفُوسِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا تَجِبُ بِالْيَدِ وَبِالْجِنَايَةِ ، وَالدِّيَاتُ وَالْكَفَّارَاتُ لَا تَجِبُ بِالْيَدِ وَإِنَّمَا تَجِبُ بِالْجِنَايَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ جَزَاءَ الصَّيْدِ إِنَّمَا وَجَبَ لِحُرْمَةٍ ثَبَتَتْ لَهُ بِغَيْرِهِ ؛ وَهُوَ الْحَرَمُ أَوِ الْإِحْرَامُ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ الَّتِي وَجَبَ ضَمَانُهَا لِحُرْمَةِ الْمَالِ وَالْكَفَّارَاتِ ، وَدَيَاتُ النُّفُوسِ إِنَّمَا وَجَبَتْ لِحُرْمَةِ النُّفُوسِ دُونَ غَيْرِهَا ، وَإِذَا كَانَ ضَمَانُ الْأَمْوَالِ مُعْتَبَرًا وَجَبَ أَنْ يَخْتَلِفَ بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ كَسَائِرِ
الْأَمْوَالِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَتْلَفَ عَلَى آدَمِيٍّ عِجْلًا صَغِيرًا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ مَا يَجِبُ عَلَى مَنْ أَتْلَفَ عَلَى آدَمِيٍّ ثَوْرًا كَبِيرًا ؟ وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنْ نَقُولَ : لِأَنَّهُ ضَمَانٌ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْأَجْنَاسِ فَوَجَبَ أَنْ يَخْتَلِفَ بِاخْتِلَافِ الْأَسْنَانِ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْآيَةِ ، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْجَزَاءَ هَدْيًا ، فَلِلشَّافِعِيِّ فِي الْهَدْيِ إِذَا أُطْلِقَ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ وَلَوْ بَيْضَةً ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ ، فَعَلَى هَذَا الِاسْتِدْلَالُ بِهِ سَاقِطٌ . وَالثَّانِي : يَقْتَضِي مَا يُجْزِئُ فِي الْأَضَاحِيِّ ، وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ ، فَعَلَى هَذَا إِنَّمَا يَقْتَضِي مَا يَجُوزُ فِي الْأَضَاحِيِّ إِذَا كَانَ لَفْظُ الْهَدْيِ مُطْلَقًا ، وَالْهَدْيُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ مُقَيَّدٌ بِالْمِثْلِ ، فَحُمِلَ عَلَى تَقْيِيدِهِ دُونَ مَا يَقْتَضِيهِ إِطْلَاقُ لَفْظِهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حُكْمِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ عَنْ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ : فَلِأَنَّ مَفْهُومَ السُّؤَالِ يُغْنِي عَنِ الِاسْتِفْهَامِ : لِأَنَّ السَّائِلَ عَنْ جَزَاءِ النَّعَامَةِ يُفْهَمُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ فَرْخَ النَّعَامَةِ ، وَكَذَا فِي سَائِرِ الصَّيْدِ : لِذَلِكَ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى الْمَسْأَلَةِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الرَّقَبَةِ فِي الْكَفَّارَاتِ فَالْمَعْنَى فِيهَا أَنَّهَا لَا تَجِبُ بِالْيَدِ وَإِنَّمَا تَجِبُ بِالْجِنَايَةِ ، وَالْجَزَاءُ بِالْيَدِ وَالْجِنَايَةِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَجْرِيَ مَجْرَى الْكَفَّارَاتِ أَوْ مَجْرَى الدِّيَاتِ ، فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ : قَدْ يَخْلُو مِنْ هَذَيْنِ : لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى أَمْوَالِ الْآدَمِيِّينَ ، عَلَى أَنَّهُمْ إِنْ رَدُّوهُ إِلَى الْكَفَّارَاتِ فَقَدْ ذَكَرْنَا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ رَدُّوهُ إِلَى الدِّيَاتِ كَانَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الدِّيَاتِ لَمَّا لَمْ تَخْتَلِفْ بِاخْتِلَافِ الْأَجْنَاسِ وَالْأَنْوَاعِ حَتَّى كَانَتْ دِيَةُ الْعَرَبِيِّ كَدِيَةِ الْقِبْطِيِّ ، وَدِيَةُ الشَّرِيفِ كَدِيَةِ الدَّنِيءِ ، وَدِيَةُ الْأَسْوَدِ كَدِيَةِ الْأَبْيَضِ ، لَمْ يَخْتَلِفْ بِاخْتِلَافِ الْأَسْنَانِ ، وَلَمَّا كَانَ الْجَزَاءُ مُخْتَلِفًا بِاخْتِلَافِ الْأَجْنَاسِ ، اخْتَلَفَ بِاخْتِلَافِ الْأَسْنَانِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ إِذَا أَصَابَ صَيْدًا أَعْوَرَ أَوْ مَكْسُورًا فَدَاهُ بِمِثْلِهِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا أَصَابَ صَيْدًا أَعْوَرَ أَوْ مَكْسُورًا فَدَاهُ بِمِثْلِهِ وَالصَّحِيحُ أَحَبُّ إِلَيَّ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَجُمْلَةُ ذَلِكَ : أَنَّ الْمِثْلِيَّةَ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ مُعْتَبَرَةٌ مِنَ الْوُجُوهِ كُلِّهَا ، فَإِذَا قَتَلَ صَيْدًا أَعْوَرَ أَوْ أَعْرَجَ فَدَاهُ بِمِثْلِهِ مِنَ النَّعَمِ أَعْوَرَ أَوْ أَعْرَجَ ، وَإِنْ كَانَ لَوْ فَدَاهُ بِالصَّحِيحِ كَانَ أَوْلَى لِكَمَالِهِ ، غَيْرَ أَنَّهُ يَجُوزُ بِمِثْلِهِ أَعْوَرَ أَوْ أَعْرَجَ ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : لَا يَجُوزُ أَنْ يَفْدِيَهُ بِمُعَيَّنٍ مِثْلِهِ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَفْدِيَهُ بِصَحِيحٍ ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَذْهَبَ مَالِكٍ : لِأَنَّهُ تَجْرِي عِنْدَهُ مَجْرَى الْكَفَّارَاتِ ، وَهَذَا خَطَأٌ : لِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [ الْمَائِدَةِ : ] ، فَمِثْلُ الْأَعْوَرِ أَعْوَرُ ، وَلَيْسَ الصَّحِيحُ مِثْلًا لَهُ : وَلِأَنَّ النَّقْصَ قَدْ يَعْتَوِرُ الصَّيْدَ مِنْ
وَجْهَيْنِ : نَقَصُ صِغَرٍ ، وَنَقْصُ عَيْبٍ ، فَلَمَّا كَانَ نَقْصُ الصِّغَرِ مُعْتَبَرًا فِي الْمِثْلِ . وَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَقْصُ الْعَيْبِ مُعْتَبَرًا فِي الْمِثْلِ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ مُعْتَبَرٌ فِي الْمِثْلِ ، فَإِنْ كَانَ الصَّيْدُ أَعْوَرَ الْيُمْنَى فَدَاهُ بِمِثْلِهِ مِنَ النَّعَمِ أَعْوَرِ الْيُمْنَى ، فَإِنْ فَدَاهُ بِأَعْوَرِ الْيُسْرَى دُونَ الْيُمْنَى فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُجْزِئُهُ بِحَالٍ ، وَيَكُونُ مُتَطَوِّعًا بِهِ : لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْمَعِيبِ يَجْرِي مَجْرَى اخْتِلَافِ الْجِنْسِ : لِاعْتِبَارِهِ فِي الْمِثْلِ ، فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْمِثْلُ مِنْ جِنْسٍ فَأَخْرَجَ مِنْ غَيْرِهِ لَمْ يُجْزِهِ ، كَذَلِكَ إِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْمِثْلُ مَعِيبًا فَأَخْرَجَهُ بِعَيْبٍ غَيْرِهِ لَمْ يُجْزِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُجْزِئُهُ ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْعَوَرِ لَيْسَ بِنَقْصٍ دَاخِلٍ عَلَى الْفُقَرَاءِ : لِأَنَّ قَدْرَ لَحْمِهِ إِذَا كَانَ أَعْوَرَ الْيُسْرَى كَقَدْرِ لَحْمِهِ إِذَا كَانَ أَعْوَرَ الْيُمْنَى ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ اخْتِلَافُ أَجْنَاسِهِ : لِأَنَّهُ قَدْ يَدْخُلُ عَلَى الْفُقَرَاءِ إِضْرَارٌ بِهِ .
مَسْأَلَةٌ وَيَفْدِي الذَّكَرَ بِالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : ( قَالَ ) وَيَفْدِي الذَّكَرَ بِالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى جزاء الصيد في الحرم ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : وَيَفْدِي بِالْإِنَاثِ أَحَبُّ إِلَيَّ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْوَاجِبُ فِي الْجَزَاءِ فَهُوَ أَنْ يَفْدِيَ الذَّكَرَ بِالذَّكَرِ ، وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى اعْتِبَارًا بِالْمِثْلِ : لِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ، فَإِنْ فَدَى الذَّكَرَ بِالْأُنْثَى وَهُوَ أَنْ يَقْتُلَ صَيْدًا ذَكَرًا يَفْدِيهِ بِمِثْلِهِ مِنَ النَّعَمِ أُنْثَى فَيُجْزِئُهُ ذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ ، وَلَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا : هَلْ ذَلِكَ أَفْضَلُ أَمْ هُمَا سَوَاءٌ بِأَنِ اعْتَبَرُوا حَالَ الْمُفْتَدِي ؛ فَإِنْ أَرَادَ تَقْوِيمَ الْأُنْثَى فِي الْجَزَاءِ دَرَاهِمَ ، وَيَشْتَرِي بِالدَّرَاهِمِ طَعَامًا فَتَقْوِيمُ الْأُنْثَى أَفْضَلُ لَا يَخْتَلِفُ ؛ لِأَنَّهُمَا أَكْثَرُ ثَمَنًا وَأَزْيَدُ فِي الطَّعَامِ أَمْدَادًا ، وَأَزْيَدُ فِي الصِّيَامِ أَيَّامًا ، فَلَوْ لَمْ يُرِدْ تَقْوِيمَ الْأُنْثَى مِنَ الْمِثْلِ وَإِنَّمَا أَرَادَ ذَبْحَ الْأُنْثَى ، فَهَلْ ذَلِكَ أَفْضَلُ وَأَوْلَى أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا أَفْضَلُ : لِأَنَّهَا أَرْطَبُ لَحْمًا ، وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيِّ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهَا لَيْسَتْ بِأَفْضَلَ مِنَ الذَّكَرِ وَإِنْ أَجْزَأَتْ ؛ لِأَنَّ لَحْمَهُمَا قَدْ يَتَقَارَبَانِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ الصَّيْدُ الْمَقْتُولُ أُنْثَى فَفَدَاهُ بِمِثْلِهِ مِنَ النَّعَمِ ذَكَرًا ، فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا : أَحَدُهُمَا : لَا يُجْزِئُهُ : لِأَنَّ الْأُنْثَى أَرْطَبُ لَحْمًا مِنَ الذَّكَرِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَفْدِيَ الْأُنْثَى بِالذَّكَرِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُجْزِئُهُ : لِأَنَّ الذَّكَرَ قَدْ يَكُونُ أَكْثَرَ لَحْمًا مِنَ الْأُنْثَى .
فَصْلٌ : إِذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا مَاخِضًا فَعَلَيْهِ مِثْلُهُ مِنَ النَّعَمِ مَاخِضًا : لِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ وَلَا يَذْبَحُهَا ، لَكِنْ يُقَوِّمُهَا وَيَشْتَرِي بِثَمَنِهَا طَعَامًا ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : لِأَنِّي لَوْ قُلْتُ أَذْبَحُ شَاةً مَاخِضًا كَانَتْ شَرًّا مِنْ شَاةٍ غَيْرِ مَاخِضٍ لِلْمَسَاكِينِ ، وَإِنَّمَا
أَرَدْتُ الزِّيَادَةَ لَهُمْ ، وَلَمْ أُرِدْ لَهُمْ مَا أُدْخِلُ بِهِ النَّقْصَ عَلَيْهِمْ ، وَلَكِنْ تُقَوَّمُ الشَّاةُ الْمَاخِضُ فَتَكُونُ أَزْيَدَ ثَمَنًا ، وَيُتَصَدَّقُ بِقِيمَتِهَا طَعَامًا فَيَكُونُ أَزْيَدَ أَمْدَادًا ، وَإِنْ أَرَادَ الصِّيَامَ كَانَ أَزْيَدَ أَيَّامًا .
فَصْلٌ : إِذَا ضَرَبَ الْمُحْرِمُ بَطْنَ بَقَرَةٍ وَحْشِيَّةٍ فَأَلْقَتْ مَا فِي بَطْنِهَا ، فَهَذَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَعِيشَ الْأُمُّ وَالْوَلَدُ جَمِيعًا فَقَدْ أَسَاءَ بِضَرْبِهِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ لَمْ يَحْدُثْ عَنْ ضَرْبِهِ إِتْلَافٌ يُضْمَنُ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ تَمُوتَ الْأُمُّ وَالْوَلَدُ جَمِيعًا فَلَا يَخْلُو حَالَيِ الْوَلَدِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَسْقُطَ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا ، فَإِنْ سَقَطَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَفْدِيَ الْإِثْمَ بِبَقَرَةٍ كَبِيرَةٍ ، وَيَفْدِيَ الْوَلَدَ بِعِجْلٍ صَغِيرٍ ، وَإِنْ سَقَطَ مَيِّتًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَفْدِيَ الْوَلَدَ الْمَيِّتَ بِمَا نَقَصَ مِنْ قِيمَةِ الْأُمِّ بِوَضْعِهِ ، وَلَا يَفْدِيَهُ بِعِجْلٍ : لِأَنَّهُ لَمْ يَسْقُطْ حَيًّا ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَفْدِيَ الْأُمَّ بِبَقَرَةٍ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ تَمُوتَ الْأُمُّ دُونَ الْوَلَدِ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَفْدِيَ الْأُمَّ بِبَقَرَةٍ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الْوَلَدِ : لِأَنَّهُ حَيٌّ يَعِيشُ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يَمُوتَ الْوَلَدُ دُونَ الْأُمِّ ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ ، ثُمَّ يَنْظُرُ فِي الْوَلَدِ ، فَإِنْ سَقَطَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَدَاهُ بِعِجْلٍ صَغِيرٍ ، وَإِنْ سَقَطَ مَيِّتًا فَدَاهُ بِمَا نَقَصَ مِنْ قِيمَةِ الْأُمِّ بِوَضْعِهِ ، وَهُوَ أَنْ يُقَوِّمَهَا حَامِلًا قَبْلَ الْوَضْعِ ثُمَّ حَائِلًا بَعْدَ الْوَضْعِ ، ثُمَّ يَنْظُرُ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ ، فَإِنْ كَانَ الْعُشْرَ فَهُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ ، وَيَكُونُ الْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي الصَّيْدِ إِذَا جَرَحَهُ جُرْحًا نَقَصَ بِهِ عُشْرُ قِيمَتِهِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ بَعْدُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ جَرَحَ ظَبْيًا فَنَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ الْعُشْرُ فَعَلَيْهِ مِنْ ثَمَنِ شَاةٍ ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ النَّقْصُ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) عَلَيْهِ عُشْرُ الشَّاةِ أَوْلَى بِأَصْلِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ ، فَأَمَّا إِذَا جَرَحَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا ، أَوْ قَطَعَ مِنْهُ عُضْوًا ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَسْرِيَ الْجِرَاحَةُ إِلَى نَفْسِهِ فَيَمُوتَ ، فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَفْدِيَهُ بِمِثْلِهِ مِنَ النَّعَمِ : لِأَنَّ السَّرَايَةَ تُضْمَنُ بِالتَّوْجِيهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا تَسْرِيَ إِلَى نَفْسِهِ ، بَلْ تَنْدَمِلَ وَالصَّيْدُ حَيٌّ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الصَّيْدُ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَفْدِيَهُ بِجَزَاءٍ كَامِلٍ : لِأَنَّهُ لَمَّا حَبَسَهُ عَنِ الِامْتِنَاعِ بِجِرَاحَتِهِ فَقَدْ جَعَلَهُ فِي حُكْمِ الْهَالِكِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الصَّيْدُ بَعْدَ انْدِمَالِ جِرَاحَتِهِ مُمْتَنِعًا ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا نَقَصَ بِجِرَاحَتِهِ ، وَبِهِ قَالَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ ، وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ الظَّاهِرِيُّ : جُرْحُ الصَّيْدِ غَيْرُ مَضْمُونٍ ،
فَإِذَا جَرَحَ صَيْدًا ، أَوْ قَطَعَ مِنْهُ عُضْوًا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَقْتُلَهُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ : وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [ الْمَائِدَةِ : ] ، فَلَمَّا أَوْجَبَ الْجَزَاءَ فِي قَتْلِهِ انْتَفَى وُجُوبُ الْجَزَاءِ فِي غَيْرِ قَتْلِهِ ، قَالَ : وَلِأَنَّ الْجَزَاءَ كَفَّارَةٌ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ [ الْمَائِدَةِ : ] ، وَالْكَفَّارَةُ إِنَّمَا تَجِبُ فِي النُّفُوسِ ، وَلَا تَجِبُ فِي الْأَطْرَافِ وَالْأَبْعَاضِ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا [ الْمَائِدَةِ : ] ، وَالصَّيْدُ هُوَ الْمَصِيدُ ، فَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى أَفْعَالَنَا فِيهِ ، وَإِذَا كَانَ الْجُرْحُ مُحَرَّمًا كَالْقَتْلِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا كَالْقَتْلِ : وَلِأَنَّ كُلَّ حَيَوَانٍ كَانَتْ نَفْسُهُ مَضْمُونَةً كَانَتْ أَطْرَافُهُ مَضْمُونَةً كَالْبَهَائِمِ ، فَأَمَّا الْآيَةُ فَإِنَّهَا تَقْتَضِي إِيجَابَ الْجَزَاءِ الْكَامِلِ فِي الْقَتْلِ ، وَلَا يَبْقَى وُجُوبُ الضَّمَانِ بِنَقْصِ الْجَزَاءِ فِيمَا سِوَى الْقَتْلِ ، لَا مِنْ طَرِيقِ النُّطْقِ وَلَا مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ : إِنَّ الْجَزَاءَ كَفَّارَةٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهَا بِاسْمِ الْكَفَّارَةِ ، فَهِيَ إِنْ كَانَتْ مُسَمَّاةً بِالْكَفَّارَةِ فَذَاكَ فِي الْإِطْعَامِ دُونَ الْجَزَاءِ ، وَهِيَ فِي مَعْنَى حُقُوقِ الْأَمْوَالِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ جَزَاءَ الصَّيْدِ وَقَطْعَ عُضْوٍ مِنْهُ مَضْمُونٌ كَضَمَانِ نَفْسِهِ وَجَبَ عَلَى جَارِحِ الصَّيْدِ أَنْ يُرَاعِيَ جُرْحَهُ ، وَيَتَعَاهَدَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ ، فَإِذَا انْدَمَلَ الْجُرْحُ اسْتَقَرَّ الضَّمَانُ ، فَيُقَوَّمُ الصَّيْدُ حِينَئِذٍ وَهُوَ صَحِيحٌ لَا جُرْحَ بِهِ ، فَإِذَا قِيلَ : قِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ قُوِّمَ وَهُوَ مَجْرُوحٌ قَدِ انْدَمَلَ جُرْحُهُ ، فَإِذَا قِيلَ : تِسْعُونَ دِرْهَمًا عُلِمَ أَنَّهُ قَدْ نَقَصَ بِالْجِرَاحَةِ الْعُشْرَ ؛ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ : فَيَكُونُ عَلَيْهِ عُشْرُ ثَمَنِ شَاةٍ : لِأَنَّ الصَّيْدَ ظَبْيٌ ، لَوْ قَتَلَهُ لَافْتَدَاهُ بِشَاةٍ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا ، فَكَانَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيُّ يَقُولُ : عَلَيْهِ عُشْرُ شَاةٍ ، فَأَوْجَبَ الْمِثْلَ فِي الْجِرَاحِ جراح صيد الحرم كَمَا أَوْجَبَ الْمِثْلَ فِي النَّفْسِ ، وَسَاعَدَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَلَى ذَلِكَ : لِأَنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ كَانَتْ مَضْمُونَةً بِالْمِثْلِ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا مَضْمُونَةً بِالْمِثْلِ ، كَالطَّعَامِ الْمَغْصُوبِ إِذَا أَتْلَفَ جَمِيعَهُ ضَمِنَهُ بِمِثْلِهِ ، وَلَوْ أَتْلَفَ قَفِيزًا مِنْهُ ضَمِنَهُ بِمِثْلِهِ ، وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَسَائِرُ أَصْحَابِنَا يَحْمِلُونَ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ عَلَى ظَاهِرِهِ ، وَيُوجِبُونَ عَلَيْهِ عُشْرَ ثَمَنِ شَاةٍ ؛ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ مَضْمُونَةٍ بِالْمِثْلِ كَانَ النَّقْصُ الدَّاخِلُ عَلَيْهَا بِالْجِنَايَةِ مَضْمُونًا بِالْأَرْشِ مِنَ الْقِيمَةِ دُونَ الْمِثْلِ كَالطَّعَامِ الْمَغْصُوبِ إِذَا بَلَّهُ بِالْمَاءِ ، أَوْ قَلَاهُ بِالنَّارِ ، ضَمِنَ أَرْشَ نَقْصٍ دُونَ الْمِثْلِ . وَالثَّانِي : أَنَّ فِي إِيجَابِ عُشْرِ شَاةٍ إِضْرَارًا بِهِ : لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى شُرَكَاءَ فِي الشَّاةِ لِيَكُونَ فِي شَرِيكِهِمْ فِيهَا بِالْعُشْرِ ، فَهَذَا مُتَعَذَّرٌ ، وَإِلَى أَنْ يَهْدِيَ شَاةً كَامِلَةً : لِيَصِلَ عُشْرُهَا إِلَى الْمَسَاكِينِ ، وَفِي ذَلِكَ إِضْرَارٌ ، فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَانِ الْمَذْهَبَانِ فَعَلَى مَذْهَبِ الْمُزَنِيِّ أَنْ يَكُونَ مُخَيَّرًا بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : بَيْنَ أَنْ يَهْدِيَ عُشْرَ شَاةٍ ، أَوْ يُخْرِجَ قِيمَةَ الْعُشْرِ طَعَامًا ، أَوْ يُكَفِّرَ بَدَلَ الطَّعَامِ صِيَامًا ، وَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَظَاهِرِ نَصِّهِ يَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ : بَيْنَ عُشْرِ ثَمَنِ الشَّاةِ ،
وَبَيْنَ أَنْ يَهْدِيَ عُشْرَ شَاةٍ ، وَبَيْنَ أَنْ يُخْرِجَ قِيمَةَ الْعُشْرِ طَعَامًا ، وَبَيْنَ أَنْ يُكَفِّرَ عَدْلَ الطَّعَامِ صِيَامًا .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا غَابَ الصَّيْدُ الْمَجْرُوحُ فَلَمْ يَعْلَمْ هَلْ مَاتَ مِنَ الْجُرْحِ أَوْ عَاشَ صيد الحرم ؟ فَالِاحْتِيَاطُ أَنْ يَفْدِيَهُ بِشَاةٍ كَامِلَةٍ ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَدْ مَاتَ ، وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ فَيُقَوَّمُ صَحِيحًا حِينَ جَرَحَهُ ، وَمَجْرُوحًا حِينَ غَابَ عَنْهُ ، ثُمَّ يَكُونُ بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ عَلَى مَا مَضَى . وَقَالَ مَالِكٌ : إِذَا غَابَ مَجْرُوحًا فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ كَامِلَةٌ : لِأَنَّ جُرْحَهُ مُتَحَقِّقٌ ، وَوَجُودُهُ وَمَوْتُهُ مِنْ غَيْرِهِ ، مَشْكُوكٌ فِيهِ . وَهَذَا غَلَطٌ ؛ لِأَنَّ الْفِدْيَةَ بِالشَّكِّ لَا تَجِبُ ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَيًّا فَلَا تَجِبُ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَيِّتًا مِنْ غَيْرِ الْجُرْحِ فَلَا تَجِبُ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَيِّتًا مِنَ الْجُرْحِ فَتَجِبُ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْكَمَ بِوُجُوبِهَا بِالشَّكِّ وَلَا يُحْكَمَ بِإِسْقَاطِهَا بِالْيَقِينِ : وَلِأَنَّ حُرْمَةَ الْآدَمِيِّ أَوْكَدُ مِنْ حُرْمَةِ الصَّيْدِ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ جَرَحَ آدَمِيًّا فَغَابَ عَنْهُ لَمْ تَلْزَمْهُ كَفَّارَةُ نَفْسِهِ ، وَلَا كَمَالُ دِيَتِهِ ، فَالصَّيْدُ الَّذِي هُوَ أَقَلُّ مِنْهُ حُرْمَةً أَوْلَى أَلَّا يَلْزَمَهُ بِجَرْحِهِ وَغَيْبَتِهِ كَمَالُ فِدْيَتِهِ .
مَسْأَلَةٌ جَزَاءُ الصَّيْدِ عَلَى التَّخْيِيرِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ قَتَلَ الصَّيْدَ فَإِنْ شَاءَ جَزَاهُ بِمِثْلِهِ وَإِنْ شَاءَ قَوَّمَ الْمِثْلَ دَرَاهِمَ ثُمَّ الدَّرَاهِمَ طَعَامًا ثُمَّ تَصَدَّقَ بِهِ ، وَإِنْ شَاءَ صَامَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ جَزَاءُ الصَّيْدِ عَلَى التَّخْيِيرِ صيد الحرم عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ ، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهَا عَلَى التَّرْتِيبِ ، فَلَا يَجُوزُ الطَّعَامُ إِلَّا بَعْدَ عَدَمِ الْهَدْيِ ، وَلَا الصِّيَامُ إِلَّا بَعْدَ عَدَمِ الطَّعَامِ ، وَقَدْ حَكَاهُ أَبُو ثَوْرٍ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ ، وَلَيْسَ بِمَشْهُورٍ عَنْهُ ، بَلْ نَصُّهُ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ وَالْإِمْلَاءِ أَنَّهَا عَلَى التَّخْيِيرِ ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَوْجَبَهَا عَلَى التَّرْتِيبِ بِأَنْ قَالَ : جَزَاءُ الصَّيْدِ كَفَّارَةُ نَفْسٍ مَحْظُورَةٍ ، وَكَفَّارَاتُ النُّفُوسِ مُرَتَّبَةٌ لَا تَخْيِيرَ فِيهَا كَالْكَفَّارَةِ فِي قَتْلِ الْآدَمِيِّ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ، إِلَى قَوْلِهِ : أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا ، وَمَوْضِعُ لَفْظَةِ " أَوْ " فِي اللُّغَةِ أَنَّهَا تَدْخُلُ فِي الْأَوَامِرِ لِلتَّخْيِيرِ ، كَقَوْلِهِ : اضْرِبْ زَيْدًا أَوْ عَمْرًا ، وَفِي الْأَخْبَارِ لِلشَّكِّ كَقَوْلِهِ : رَأَيْتُ زَيْدًا أَوْ عُمْرًا ، فَلَمَّا كَانَ الْخِطَابُ أَمْرًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ مُخَيَّرًا ، وَلِأَنَّهُ إِتْلَافُ مَا هُوَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ بِحُرْمَةِ الْحَرَامِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَدَلُهُ عَلَى التَّخْيِيرِ كَالْحَلْقِ وَفِدْيَةِ الْأَذَى ، فَأَمَّا اعْتِبَارُهُمْ بِكَفَّارَةِ الْقَتْلِ ، فَاخْتِلَافُ الْأَمْرِ بِهِمَا يَمْنَعُ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ جَزَاءَ الصَّدِ عَلَى التَّخْيِيرِ فَقَاتِلُ الصَّيْدِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْمِثْلِ مِنَ النَّعَمِ وَبَيْنَ الْإِطْعَامِ وَبَيْنَ الصَّيَامِ صيد الحرم ، فَإِنِ اخْتَارَ الْمِثْلَ مِنَ النَّعَمِ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ عَلَيْهِ مِثْلَهُ فِي الشَّبَهِ وَالصُّورَةِ مِنْ غَيْرِ تَقْوِيمٍ وَقَدْ مَضَى حُكْمُهُ ، وَخِلَافُ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ : وَإِنِ اخْتَارَ الْإِطْعَامَ فَإِنَّهُ يُقَوِّمُ الْمِثْلَ دَرَاهِمَ ، يَشْتَرِي بِالدَّرَاهِمِ طَعَامًا يَتَصَدَّقُ بِهِ ، وَقَالَ مَالِكٌ : يُقَوِّمُ الصَّيْدَ دُونَ الْمِثْلِ
مَعَ مُوَافَقَتِهِ عَلَى إِخْرَاجِ الْمِثْلِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْإِطْعَامَ إِنَّمَا وَجَبَ بِقَتْلِ الصَّيْدِ كَمَا أَنَّ الْمِثْلَ إِنَّمَا وَجَبَ بِقَتْلِ الصَّيْدِ ، فَلَمَّا كَانَ الْمِثْلُ مُعْتَبَرًا بِالصَّيْدِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِطْعَامُ مُعْتَبَرًا بِالصَّيْدِ ، وَلِأَنَّهُ إِذَا عَدَلَ عَنِ الْمِثْلِ إِلَى الْإِطْعَامِ فَقَدِ اسْتَوَى حُكْمُ مَا لَهُ مِثْلٌ وَمَا لَا مِثْلَ لَهُ فِي تَقْوِيمِ الصَّيْدِ ، وَلِأَنَّ ضَمَانَ الصَّيْدِ ضَمَانُ مُتْلَفٍ وَسَائِرُ الْمُتْلَفَاتِ تُعْتَبَرُ فِيهَا قِيمَةُ الْمُتْلَفِ لَا قِيمَةُ مِثْلِهِ - فَكَذَا الصَّيْدُ يَجِبُ أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ قِيمَةُ الصَّيْدِ الْمُتْلَفِ لَا قِيمَةُ مِثْلِهِ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ [ الْمَائِدَةِ : ] ، وَفِي الْآيَةِ دَلِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : قَوْلُهُ تَعَالَى : فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ فَرَفَعَ الْجَزَاءَ وَجَرَّ الْمِثْلَ عَلَى قِرَاءَةِ كَثِيرٍ مِنَ الْقُرَّاءِ فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ جَزَاءً مِثْلَ الْمَقْتُولِ ، وَلَمْ يُوجِبْ جَزَاءً الْمَقْتُولَ ، وَالدَّلَالَةُ الثَّانِيَةُ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى : أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ يَعْنِي كَفَارَّةَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الصَّيْدِ وَالْمِثْلِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهَا جَمِيعًا ، وَإِنَّمَا تَرْجِعُ الْكَفَّارَةُ إِلَى أَحَدِهِمَا ، وَرُجُوعُهَا إِلَى الْمِثْلِ دُونَ الصَّيْدِ أَوْلَى : لِأَنَّهُ أَقْرَبُ الْمَذْكُورَيْنِ ، وَلِأَنَّ الْإِطْعَامَ قَدْ يَتَقَدَّمُهُ الْمِثْلُ وَيَتَعَقَّبُهُ الصِّيَامُ ، فَلَمَّا كَانَ مَا يَتَقَدَّمُهُ مِنَ الْمِثْلِ مُعْتَبَرًا بِمَا يَلِيهِ وَهُوَ الصَّيْدُ ، وَمَا يَتَعَقَّبُهُ مِنَ الصِّيَامِ مُعْتَبَرًا بِمَا يَلِيهِ مِنَ الْإِطْعَامِ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِطْعَامُ مُعْتَبَرًا بِمَا يَلِيهِ وَهُوَ الْمِثْلُ ، وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُ مُخْرَجٌ فِي الْجَزَاءِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا بِمَا يَلِيهِ فِي التِّلَاوَةِ كَالْمِثْلِ وَالصِّيَامِ ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِأَنَّ الْمِثْلَ لَمَّا كَانَ مُعْتَبَرًا بِالصَّيْدِ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِطْعَامُ مُعْتَبَرًا بِالصَّيْدِ : وَهُوَ أَنْ يُقَالَ : إِنَّمَا اعْتُبِرَ الْمِثْلُ بِالصَّيْدِ : لِأَنَّهُ يَلِيهِ فِي التِّلَاوَةِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِطْعَامُ مِثْلَهُ مُعْتَبَرًا بِمَا يَلِيهِ فِي التِّلَاوَةِ ، وَقَدْ جَعَلْنَا ذَلِكَ دَلِيلًا . وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ ، فَإِنَّمَا اعْتُبِرَ فِيهِ قِيمَةُ الصَّيْدِ لِعَدَمِ الْمِثْلِ صيد الحرم ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا لَهُ مِثْلٌ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ : إِنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي سَائِرِ الْمُتْلَفَاتِ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا دُونَ أَمْثَالِهَا ، فَكَذَلِكَ فِي الصَّيْدِ ، قُلْنَا الِاعْتِبَارُ فِي سَائِرِ الْمُتْلَفَاتِ قِيمَةُ أَمْثَالِهَا دُونَ الْمُتْلَفَاتِ فِي أَنْفُسِهَا : لِأَنَّهُ يُقَالُ : كَمْ قِيمَةُ هَذَا الْمُتْلَفِ ؟ إِلَّا أَنَّ مَا لَهُ مِثْلٌ مِنْ جِنْسِهِ قَدْ تَسْتَوِي قِيمَتُهُ وَقِيمَةُ مِثْلِهِ ، وَمَا لَا مِثْلَ لَهُ مِنْ جَنْسِهِ كَالصَّيْدِ قَدْ تَخْتَلِفُ قِيمَتُهُ وَقِيمَةُ مِثْلِهِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا أَرَادَ التَّكْفِيرَ بِالصِّيَامِ قتل صيد الحرم فَإِنَّهُ يُقَوِّمُ الْمِثْلَ دَرَاهِمَ ، وَالدَّرَاهِمَ طَعَامًا ، ثُمَّ يَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا ، وَلَا اعْتِبَارَ بِالشِّبَعِ وَحُكِيَ عَنْ طَاوُسٍ الْيَمَانِيِّ وَعَنِ الْقَاشَانِيِّ أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الصَّوْمِ بِقَدْرِ مَا يُشْبِعُ الصَّيْدُ مِنَ النَّاسِ ، فَإِنْ كَانَ الصَّيْدُ مِمَّا يَشْبَعُ مِنْهُ وَاحِدٌ وَجَبَ عَلَى قَاتِلِهِ أَنْ يَصُومَ عَنْهُ يَوْمًا وَاحِدًا ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَشْبَعُ مِنْهُ عَشْرَةُ أَنْفُسٍ وَجَبَ عَلَى قَاتِلِهِ أَنْ يَصُومَ عَشْرَةَ أَيَّامٍ ، فَجَعَلَا شَبِعَ يَوْمٍ مِنْهُ مُقَابِلًا لِجُوعِ يَوْمٍ فِي الصَّوْمِ عَنْهُ : بِقَوْلِهِ تَعَالَى : أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا .
وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى مَالِكٍ ، ثُمَّ فَسَادُ مَا ذَكَرَاهُ مِنَ اعْتِبَارِ الشِّبَعِ ، أَصَحُّ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا حَدَّ لِلشِّبَعِ لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِيهِ : لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ صَيْدٌ يَشْبَعُ مِنْهُ عَشْرَةُ أَنْفُسٍ لِقِلَّةِ أَكْلِهِمْ ، وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ خَمْسَةٌ مِنْ غَيْرِهِمْ لِكَثْرَةِ أَكْلِهِمْ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حَدًّا فِي الْجَزَاءِ مُعْتَبَرًا . وَالثَّانِي : أَنَّ جَمِيعَ الصَّيْدِ مَضْمُونٌ وَالشِّبَعُ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ لَحْمِهِ الْمَأْكُولِ دُونَ عَظْمِهِ وَشَعَرِهِ وَجِلْدِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ بَعْضٌ مَضْمُونًا وَهُوَ اللَّحْمُ وَبَعْضٌ غَيْرَ مَضْمُونٍ ، وَهُوَ الْجِلْدُ وَالْعَظْمُ فَبَطَلَ اعْتِبَارُ الشِّبَعِ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي صِيَامِهِ الطَّعَامُ دُونَ الشِّبَعِ بِالصَّيْدِ فَإِنَّهُ يَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدَّيْنِ يَوْمًا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الْإِطْعَامَ مِنَ الْكَفَّارَاتِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدَّيْنِ ، فَجَعَلَ صِيَامَ يَوْمٍ بِإِزَاءِ إِطْعَامِ مِسْكِينٍ ، وَنَحْنُ بَيَّنَّا ذَلِكَ عَلَى أَصْلِنَا أَنَّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدًّا ، فَجَعَلْنَا صِيَامَ يَوْمٍ بِإِزَاءِ إِطْعَامِ مِسْكِينٍ ؛ لِيَكُونَ جُوعُ يَوْمٍ بِإِزَاءِ إِشْبَاعِ مِسْكِينٍ فِي يَوْمٍ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا مَا لَا مِثْلَ لَهُ مِنَ الصَّيْدِ فَهُوَ مُخَيَّرٌ فِيهِ بَيْنَ الْإِطْعَامِ أَوِ الصِّيَامِ صيد الحرم ، فَمَنْ كَفَّرَ بِالْإِطْعَامِ قَوَّمَ الصَّيْدَ لِلْمَقْتُولِ دَرَاهِمَ وَاشْتَرَى بِالدَّرَاهِمِ طَعَامًا . يَتَصَدَّقُ بِهِ ، فَإِنْ أَرَادَ الصِّيَامَ صَامَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا ، وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ : مَا لَا مِثْلَ لَهُ مِنَ النَّعَمِ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْجَزَاءِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [ الْمَائِدَةِ : ] ، فَلَمَّا ثَبَتَ الْجَزَاءُ فِيمَا لَهُ مِثْلٌ لَهُ مِنَ النَّعَمِ وَجَبَ أَنْ يَنْتَفِيَ الْجَزَاءُ عَنْ مَا لَا مِثْلَ لَهُ مِنَ النَّعَمِ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا ، فَلَمَّا كَانَ جَمِيعُ الصَّيْدِ بِحَقِّ الْعُمُومِ مُحَرَّمًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهُ بِحُكْمِ الْبَعْضِ مَضْمُونًا ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : فِي بَيْضَةِ النَّعَامَةِ يُصِيبُهَا الْمُحْرِمُ قِيمَتُهَا : وَالْبَيْضُ لَا مِثْلَ لَهُ وَقَدْ حَكَمَتِ الصَّحَابَةُ فِي الْحَمَامَةِ بِشَاةٍ وَفِي الْجَرَادِ بِالْقِيمَةِ وَذَلِكَ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ فَثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ إِجْمَاعٌ . فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِالْآيَةِ فَفِيهَا جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ جَمِيعَ الصَّيْدِ لَهُ مِثْلٌ إِلَّا أَنَّ الْمِثْلَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مِثْلٌ مِنْ جِهَةِ الصُّورَةِ . وَالثَّانِي : مِثْلٌ مِنْ جِهَةِ الْقِيمَةِ ، وَجَمِيعًا مِثْلَانِ لِلْمُتْلَفِ ، كَمَا يُحْكَمُ عَلَى مَنْ أَتْلَفَ طَعَامًا بِمِثْلِهِ ، وَعَلَى مَنْ أَتْلَفَ عَبْدًا بِقِيمَتِهِ ، وَكِلَاهُمَا مِثْلٌ عَلَى حَسَبِ الْإِمْكَانِ ، وَقَدْ أَوْمَأَ الشَّافِعِيُّ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي الْقَدِيمِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُورُ مِنْ قَوْلِهِ غَيْرُهُ . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا دَخَلَ فِيهَا الصَّيْدُ الَّذِي لَهُ مِثْلٌ مِنَ النَّعَمِ وَهُوَ قَوْلُهُ فِي كِتَابِ الْأُمِّ وَغَيْرِهِ : وَمَا لَا مِثْلَ لَهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْجَزَاءِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَلَكِنْ دَخَلَ فِي قَوْلِهِ : وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ جَمِيعَ الصَّيْدِ مَضْمُونٌ ، سَوَاءٌ كَانَ ذَا مِثْلٍ أَوْ غَيْرَ ذِي مِثْلٍ ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُكَفِّرَ بِالْإِطْعَامِ عَنْ مَالَهُ مِنَ النَّعَمِ مِثْلٌ صيد الحرم فَيَحْتَاجُ إِلَى اعْتِبَارِ قِيمَتِهِ بِمَكَانٍ مَخْصُوصٍ فِي زَمَانٍ مُعَيَّنٍ ، فَأَمَّا الْمَكَانُ فَمَكَّةُ ، وَأَمَّا الزَّمَانُ فَوَقْتُ التَّكْفِيرِ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يُقَوِّمَ الْمِثْلَ مِنَ النَّعَمِ بِمَكَّةَ فِي وَقْتِ تَكْفِيرِهِ لَا فِي وَقْتِ قَتْلِهِ ، وَإِنَّمَا وَجَبَ اعْتِبَارُ قِيمَتِهِ وَقْتَ تَكْفِيرِهِ بِمَكَّةَ : لِأَنَّ مَحِلَّ الْمِثْلِ مِنَ النَّعَمِ بِمَكَّةَ ، وَإِنَّمَا وَجَبَ اعْتِبَارُ قِيمَتِهِ وَقْتَ تَكْفِيرِهِ لَا وَقْتَ قَتْلِهِ : لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى مِثْلِ الْمُتْلَفِ إِذَا تَعَقَّبَهَا الْعُدُولُ إِلَى قِيمَةِ الْمُتْلَفِ يُوجِبُ اعْتِبَارَ الْقَيِّمَةِ وَقْتَ الْعُدُولِ لَا وَقْتَ التَّلَفِ كَمَنْ أَتْلَفَ عَلَى غَيْرِهِ طَعَامًا فَلَمْ يَأْتِ بِمِثْلِهِ حَتَّى تَعَذَّرَ الْمِثْلُ ، وَجَبَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ وَقْتَ التَّعَذُّرِ لَا وَقْتَ التَّلَفِ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُكَفِّرَ بِالْإِطْعَامِ عَنْ مَا لَا مِثْلَ لَهُ مِنَ النَّعَمِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُقَوِّمَ الصَّيْدَ الْمَقْتُولَ وَقْتَ قَتْلِهِ لَا وَقْتَ تَكْفِيرِهِ : لِأَنَّ مَا لَا مِثْلَ لَهُ فَاعْتِبَارُ قِيمَتِهِ وَقْتَ إِتْلَافِهِ لَا وَقْتَ عَدَمِهِ ؛ كَمَنْ قَتَلَ عَبْدًا كَانَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ وَقْتَ إِتْلَافِهِ : لِأَنَّ وَقْتَ عَدَمِهِ وَقْتُ قَتْلِهِ . فَأَمَّا مَوْضِعُ تَقْوِيمِ الصَّيْدِ صيد الحرم فَعَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُقَوِّمُهُ بِمَكَّةَ ؛ نَصَّ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ كَالْإِمْلَاءِ إِلْحَاقًا بِتَقْوِيمِ مَا لَهُ مِثْلٌ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ وَالْإِمْلَاءِ وَالْأُمِّ : يَقَوِّمُهُ بِمَكَانِهِ الَّذِي قَتَلَهُ فِيهِ وَهُوَ الصَّحِيحُ : لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ اعْتِبَارُ قِيمَتِهِ وَقْتَ الْقَتْلِ دُونَ وَقْتِ التَّكْفِيرِ وَجَبَ أَنْ يَعْتَبِرَ قِيمَتَهُ فِي مَوْضِعِ الْقَتْلِ دُونَ مَوْضِعِ التَّكْفِيرِ .
مَسْأَلَةٌ لَا يُجْزِئُهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ مِنَ الْجَزَاءِ إِلَّا بِمَكَّةَ أَوْ بِمِنًى
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يُجْزِئُهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ مِنَ الْجَزَاءِ إِلَّا بِمَكَّةَ أَوْ بِمِنًى ، فَأَمَّا الصَّوْمُ فَحَيْثُ شَاءَ لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لِمَسَاكِينِ الْحَرَمِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُسْتَوْفَاةً ، وَذَكَرْنَا أَنَّ مَنْ كَفَّرَ بِالْهَدْيِ أَوِ الْإِطْعَامِ فَعَلَيْهِ إِيصَالُهُ إِلَى الْحَرَمِ وَنَحْرُ هَدْيِهِ فِيهِ وَتَفْرِيقُ لَحْمِهِ عَلَى مَسَاكِينِهِ ، وَأَنَّ مَنْ كَفَّرَ بِالصَّيَامِ حَيْثُ شَاءَ صَامَ ، سَوَاءٌ كَانَ فِي حِلٍّ أَوْ حَرَمٍ ، فَلَمْ يَكُنْ بِنَا إِلَى إِعَادَةِ ذَلِكَ حَاجَةٌ .
مَسْأَلَةٌ إِنْ أَكَلَ مِنْ لَحْمِهِ فَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ إِلَّا فِي قَتْلِهِ أَوْ جَرْحِهِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ أَكَلَ مِنْ لَحْمِهِ فَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ إِلَّا فِي قَتْلِهِ أَوْ جَرْحِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي مُحْرِمٍ قَتَلَ صَيْدًا : هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ . وَالثَّانِي : فِي مُحِلٍّ قَتَلَ صَيْدًا : هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ مُحْرِمٌ . فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ أَنْ يَقْتُلَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ ؛ لِتَحْرِيمِهِ عَلَيْهِ ثُمَّ الْكَلَامُ بَعْدَ ذَلِكَ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : حُكْمُ الْقَاتِلِ إِنْ أَكَلَ مِنْهُ .
وَالثَّانِي : حُكْمُ غَيْرِهِ إِنْ أَكَلَ مِنْهُ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا حُكْمُ الْقَاتِلِ إِنْ أَكَلَ مِنْهُ صيد الحرم ، وَهُوَ أَنْ يَقْتُلَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا فَيَفْدِيَهُ ثُمَّ يَأْكُلَ مِنْهُ فَإِنَّهُ يَكُونُ بِأَكْلِهِ عَاصِيًا ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : أَكْلُهُ لِلصَّيْدِ حَرَامٌ ، وَعَلَيْهِ جَزَاءُ مَا أَكَلَ ، وَجَزَاؤُهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِقِيمَتِهِ ؛ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الصَّيْدَ الْمَقْتُولَ حَرَامٌ عَلَى قَاتِلِهِ ، فَلَمَّا كَانَ لَوْ أَكَلَ مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ ، وَجَبَ إِذَا أَكَلَ مِنْ لَحْمِ الصَّيْدِ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ . وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُ أَكَلَ لَحْمَ حَيَوَانٍ حَرُمَ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْإِحْرَامِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ كَلَحْمِ الْجَزَاءِ وَلِأَنَّ أَكْلَ هَذَا الصَّيْدِ مُحَرَّمٌ ، كَمَا أَنْ قَتَلَهُ مُحَرَّمٌ ، فَلَمَّا كَانَ قَتْلُهُ مُوجِبًا لِلْجَزَاءِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَكْلُهُ مُوجِبًا لِلْجَزَاءِ . وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُ فَعَلَ فِي الصَّيْدِ مَا هُوَ حَرَامٌ عَلَيْهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ كَالْقَتْلِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ رِوَايَةُ أَبِي زَيْدٍ الْمُزَنِيِّ قَالَ : " قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الضَّبُعِ كَبْشًا فَجَدْيًا " فَكَانَ ظَاهِرُ قَضِيَّتِهِ أَنَّ الْكَبْشَ جَمِيعُهُمْ يُوجِبُهُ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مَضْمُونًا بِالْأَكْلِ كَانَ مَضْمُونًا بِالْإِتْلَافِ كَالْجَزَاءِ ، وَكُلَّ مَا كَانَ غَيْرَ مَضْمُونٍ بِالْإِتْلَافِ كَانَ غَيْرَ مَضْمُونٍ بِالْأَكْلِ كَالْمَيْتَةِ ، فَلَمَّا كَانَ لَحْمُ الصَّيْدِ غَيْرَ مَضْمُونٍ عَلَى قَاتِلِهِ إِذَا أَتْلَفَهُ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ إِذَا أَكَلَهُ ، وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ قَدْ يَتَحَرَّرُ مِنَ اعْتِلَالِهِ قِيَاسَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْإِتْلَافِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَضْمُونٍ بِالْأَكْلِ كَالْمَيْتَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ فِعْلٌ لَوْ أَحْدَثَهُ فِي مَيْتَتِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ الضَّمَانُ ، فَوَجَبَ إِذَا أَحْدَثَهُ مِنْ لَحْمِ صَيْدٍ أَلَّا يَلْزَمَهُ الضَّمَانُ كَالْإِتْلَافِ ، وَلَأَنُّ لَحْمَ الصَّيْدِ الْمَقْتُولِ فِي الْحَرَمِ حَرَامٌ عَلَى قَاتِلِهِ كَمَا أَنَّ لَحْمَ الصَّيْدِ الْمَقْتُولِ فِي الْإِحْرَامِ حَرَامٌ عَلَى قَاتِلِهِ فَلَمَّا كَانَ قَاتِلُ الصَّيْدِ مِنَ الْحَرَمِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ بِأَكْلِهِ ضَمَانٌ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَاتِلُ الصَّيْدِ فِي الْإِحْرَامِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ بِأَكْلِهِ ضَمَانٌ . وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُ صَيْدٌ ضَمِنَهُ بِالْقَتْلِ فَوَجَبَ أَلَّا يَضْمَنَهُ بِالْأَكْلِ كَالْمَقْتُولِ فِي الْحَرَمِ ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَضْمَنُ الصَّيْدَ بِقَتْلِهِ ، كَمَا يَضْمَنُ الْبَيْضَ بِكَسْرِهِ ، وَالشَّجَرَ بِقَطْعِهِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ ضَمِنَ الْبَيْضَ بِكَسْرِهِ وَالشَّجَرَ بِقَطْعِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ فِيمَا بَعْدُ بِإِتْلَافِهِ وَأَكْلِهِ ؛ فَكَذَلِكَ الصَّيْدُ . وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهَا عَيْنٌ ضَمِنَهَا بِإِتْلَافٍ فَوَجَبَ أَلَّا يَضْمَنَهَا بِالْأَكْلِ وَالِاسْتِهْلَاكِ ، كَالْبَيْضِ وَالشَّجَرِ : وَلِأَنَّهُ قَدْ يَضْمَنُ الصَّيْدَ بِمَوْتِهِ فِي يَدِهِ كَمَا يَضْمَنُهُ بِقَتْلِهِ فِي يَدِهِ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ أَمْسَكَ صَيْدًا فَمَاتَ فِي يَدِهِ المحرم لَزِمَهُ الْجَزَاءُ ، وَلَمْ يَضْمَنْ مَا أَكَلَ مِنْهُ ؛ كَذَلِكَ إِذَا قَتَلَهُ بِيَدِهِ . وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُ صَيْدٌ مَضْمُونٌ بِالْجَزَاءِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَضْمُونٍ بِالْأَكْلِ كَالْمَيِّتِ حَتْفَ أَنْفِهِ .
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْجَزَاءِ فَالْمَعْنَى فِي الْجَزَاءِ أَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ بِالْإِتْلَافِ : فَلِذَلِكَ كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالْأَكْلِ ، وَلَمَّا كَانَ لَحْمُ الصَّيْدِ غَيْرَ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ بِالْإِتْلَافِ كَانَ غَيْرَ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ بِالْأَكْلَ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمُ الْأَكْلَ عَلَى الْقَتْلِ فَبَاطِلٌ بِالصَّيْدِ الْمَيِّتِ فِي يَدِهِ فَيَضْمَنُهُ بِالْمَوْتِ وَلَا يَضْمَنُهُ بِالْأَكْلِ ، عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي الْقَتْلِ حُصُولُ الْإِتْلَافِ بِهِ وَعَدَمُ النَّمَاءِ بِوُجُودِهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْأَكْلُ بَعْدَ الْقَتْلِ .
فَصْلٌ حُكْمُ غَيْرِ الْقَاتِلِ فِي أَكْلِ الصَّيْدِ الْمَقْتُولِ
فَصْلٌ : وَأَمَّا حُكْمُ غَيْرِ الْقَاتِلِ فِي أَكْلِ الصَّيْدِ الْمَقْتُولِ صيد الحرم ، فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ حَلَالٌ لِغَيْرِ قَاتِلِهِ مِنَ الْمُحِلِّينَ وَالْمُحْرِمِينَ وَيَكُونُ ذَلِكَ ذَكَاةً لِغَيْرِ قَاتِلِهِ مِنَ الْمُحِلِّينَ ، وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ : لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الذَّكَاةِ فِي غَيْرِ الصَّيْدِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الذَّكَاةِ فِي الصَّيْدِ كَالْحَلَالِ طَرْدًا وَالْمَجُوسِيِّ عَكْسًا : وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ يَصِحُّ فِيهِ ذَكَاةُ الْمُحِلِّ : فَوَجَبَ أَنْ تَصِحَّ فِيهِ ذَكَاةُ الْمُحْرِمِ كَالنَّعَمِ طَرْدًا وَغَيْرِ الْمَأْكُولِ عَكْسًا ، وَلِأَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ ذَكَاةِ الصَّيْدِ لِعَارِضٍ يَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْحَيَوَانِ ، وَالْمَنْعُ مِنَ الذَّكَاةِ لِعَارِضٍ يَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْحَيَوَانِ لَا يَمْنَعُ مِنْ وُقُوعِ الذَّكَاةِ ، كَالْغَاصِبِ يُمْنَعُ مِنْ ذَكَاةِ مَا غَصَبَهُ وَتَصِحُّ مِنْهُ ذَكَاتُهُ - فَكَذَلِكَ الْمُحْرِمُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ مَيْتَةٌ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ لِمُحِلٍّ وَلَا لِمُحْرِمٍ وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ . وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهَا ذَكَاةٌ مَمْنُوعٌ مِنْهَا لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَوَجَبَ أَلَّا تَقَعَ بِهَا الْإِبَاحَةُ كَذَكَاةِ الْمَجُوسِيِّ : لِأَنَّهَا ذَكَاةٌ لَا تُبِيحُ الْمُذَكَّى بِوَجْهٍ ، فَوَجَبَ أَلَّا تُبِيحَ غَيْرَ الْمُذَكَّى بِكُلِّ وَجْهٍ قِيَاسًا عَلَى ذَكَاةِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَلِأَنَّهُ صَيْدٌ مَضْمُونٌ بِالْجَزَاءِ فَوَجَبَ أَنْ يُحَرَّمَ أَكْلُهُ قِيَاسًا عَلَى قَاتِلِهِ . فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فَلَا جَزَاءَ عَلَى أَكْلِهِ سَوَاءٌ قُلْنَا بِتَحْلِيلِهِ أَوْ بِتَحْرِيمِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَقْتُلَ الْمُحِلُّ صَيْدًا صيد الحرم ، فَيَجُوزُ لَهُ وَلِكُلِّ مُحِلٍّ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ ، فَأَمَّا الْمُحْرِمُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْهُ مَعُونَةٌ فِي قَتْلِهِ وَلَا قَتَلَهُ الْحَلَالُ مِنْ أَجْلِهِ فَهُوَ حَلَالٌ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ هَذَا الْمُحْرِمِ مَعُونَةٌ فِي قَتْلِهِ إِمَّا بَدَلًا لَهُ أَوْ آلَةً أَوْ قَتَلَهُ الْحَلَالُ مِنْ أَجْلِهِ إِمَّا عَنْ إِذْنِهِ أَوْ غَيْرِ إِذْنِهِ ، فَهُوَ حَرَامٌ عَلَى الْمُحْرِمِ . قَالَ بَعْضُ النَّاسِ : هُوَ حَرَامٌ عَلَى الْمُحْرِمِ بِكُلِّ حَالٍ ، وَقَدْ حُكِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هُوَ حَلَالٌ لِلْمُحْرِمِ ، وَإِنْ صِيدَ مِنْ أَجْلِهِ أَوْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِهِ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ لَا يَصِلُ إِلَى قَتْلِهِ إِلَّا بِمَعُونَتِهِ مِثْلَ أَنْ يَدُلَّ الْقَاتِلَ
عَلَيْهِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَوْ يَدْفَعَ إِلَى الْقَاتِلِ آلَةً لَوْلَاهَا مَا قَدَرَ الْقَاتِلُ عَلَى قَتْلِهِ فَيَكُونُ الْمُحْرِمُ حِينَئِذٍ قَاتِلًا يَجِبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ وَيُحْرُمُ عَلَيْهِ الْأَكْلُ . فَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ إِلَى تَحْرِيمِهِ عَلَى الْمُحْرِمِ بِكُلِّ حَالٍ فَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ قَالَ : أَهْدَيْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَحْمَ حِمَارٍ وَحْشِيٍّ ، وَهُوَ بِالْأَبْوَاءِ ، أَوْ بِوَدَّانَ ، فَرَدَّهُ عَلَيَّ فَلَمَّا رَأَى الْكَرَاهَةَ فِي وَجْهِي قَالَ : إِنَّنَا لَسْنَا بِرَادِّيهِ عَلَيْكَ وَلَكِنَّا حُرُمٌ . وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ - حَيْثُ ذَهَبَ إِلَى إِبَاحَتِهِ لِلْمُحْرِمِ ، وَإِنْ صِيدَ مِنْ أَجْلِهِ أَوْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِهِ - فَاسْتَدَلَّ بِأَنْ قَالَ : لِأَنَّهُ صَيْدٌ لَمْ يَضْمَنْهُ الْمُحْرِمُ فَوَجَبَ أَلَّا يَحْرُمَ أَكْلُهُ عَلَى الْمُحْرِمِ أَصْلُهُ ، إِذَا صَادَهُ الْمُحِلُّ لِنَفْسِهِ بِغَيْرِ مَعُونَةِ الْمُحْرِمِ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا رِوَايَةُ الْمُطَلِّبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَحْمُ صَيْدِ الْبَرِّ لَكُمْ حَلَالٌ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ مَا لَمْ تَصِيدُوهُ أَوْ يُصَادَ لَكُمْ ، فَقَوْلُهُ : لَحْمُ صَيْدِ الْبَرِّ لَكُمْ حَلَالٌ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ، دَلَالَةٌ عَلَى مَنْ مُنِعَ مِنْ أَكْلِهِ ، وَقَوْلُهُ : مَا لَمْ تَصِيدُوهُ ، أَوْ يُصَادُ لَكُمْ ، دَلَالَةٌ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ قَالَ : يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَهُ مَنْ صِيدَ لَهُ . وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ مَعَ قَوْمٍ وَهُمْ مُحْرِمُونَ فَأَصَابُوا حِمَارًا وَحْشِيًّا فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَفْتُوهُ فَقَالَ هَلْ ضَرَبْتُمْ أَوْ أَعَنْتُمْ أَوْ أَشَرْتُمْ ؟ قَالُوا : لَا ، قَالَ : فَكَلُوا ، فَلَمَّا سَأَلَهُمْ عَنِ الضَّرْبِ وَالْإِعَانَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ حَرَامٌ عَلَيْهِمْ بِوُجُودِ الضَّرْبِ وَالْإِعَانَةِ . وَرَوَى عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : حَجَّ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَمَّا بَلَغَ الْعَرَجَ أَهْدَى لَهُ صَاحِبُ الْعَرَجِ قَطًا مَذْبُوحَاتٍ ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ : كَلُوا ، وَلَمْ يَأْكُلْ هُوَ ، وَقَالَ : إِنَّمَا صِيدَ مِنْ أَجْلِي . وَلِأَنَّهُ صَيْدٌ قُتِلَ بِمَعُونَةِ الْمُحْرِمِ فَوَجَبَ أَنْ يَحْرُمَ أَكْلُهُ عَلَى الْمُحْرِمِ أَصْلِهِ ، إِذَا كَانَ الْمُحِلُّ لَا يَصِلُ إِلَى قَتْلِهِ إِلَّا بِمَعُونَةِ الْمُحْرِمِ ، فَأَمَّا حَدِيثُ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ قَدْ صَادَهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَلِذَلِكَ رَدَّهُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْأَشْبَهُ بِالْحَالِ . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّهُ إِنَّمَا رَدَّهُ تَنْزِيهًا ، وَهُوَ الْأَوْلَى بِالْمُحْرِمِ . وَأَمَّا قِيَاسُ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى الصَّيْدِ إِذَا قَتَلَهُ الْمُحِلُّ بِغَيْرِ مَعُونَةِ الْمُحْرِمِ ، فَالْمَعْنَى مَا ذَكَرْنَا فِي قِيَاسِنَا .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَإِنْ أَكَلَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا لَمْ يَقْتُلْهُ الْمُحِلُّ لِأَجْلِهِ وَلَا بِمَعُونَتِهِ فَقَدْ أَكَلَ حَلَالًا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ أَكَلَ الْمُحْرِمُ مِنْ صَيْدٍ قَتَلَهُ الْمُحِلُّ لِأَجْلِهِ أَوْ بِمَعُونَتِهِ فَقَدْ أَكَلَ حَرَامًا ، وَهَلْ عَلَيْهِ جَزَاءُ مَا أَكَلَ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : عَلَيْهِ الْجَزَاءُ وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ : لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا ، فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ قَتْلُهُ وَأَكْلُهُ ، فَلَمَّا كَانَ فِي قَتْلِهِ الْجَزَاءُ : لِتَحْرِيمِ قَتْلِهِ عَلَيْهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي أَكْلِهِ الْجَزَاءُ : لِتَحْرِيمِ أَكْلِهِ عَلَيْهِ ، فَعَلَى هَذَا فِي كَيْفِيَّةِ الْجَزَاءِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ صيد الحرم : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ ضَامِنًا لِمِثْلِهِ لَحْمًا مِنْ لُحُومِ النَّعَمِ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى مَسَاكِينِ الْحَرَمِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَكُونُ ضَامِنًا لِمِثْلِهِ مِنَ النَّعَمِ فَيَضْمَنُ مِنْ مِثْلِهِ بِقَدْرِ مَا أَكَلَ مِنْ لَحْمِهِ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَكَلَ عُشْرَ لَحْمِهِ لَزِمَهُ عُشْرُ مِثْلِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ ضَامِنًا لِقِيمَةِ مَا أَكَلَ دَرَاهِمَ يَتَصَدَّقُ بِهَا إِنْ شَاءَ أَوْ يَصْرِفُهَا فِي طَعَامٍ يَتَصَدَّقُ بِهِ إِنْ شَاءَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا جَزَاءَ عَلَيْهِ ، وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ وَالْإِمْلَاءِ : لِأَنَّ مَا قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ بِنَفْسِهِ أَغْلَظُ تَحْرِيمًا مِمَّا قَتَلَهُ الْمُحِلُّ لِأَجْلِهِ ، فَلَمَّا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ فِي أَكْلِ مَا قَتَلَهُ بِنَفْسِهِ فَأَوْلَى أَلَّا يَجِبَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ فِي أَكْلِ مَا قَتَلَهُ لِأَجْلِهِ . وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُ أَكَلَ لَحْمَ صَيْدٍ مُحَرَّمٍ ، فَوَجَبَ أَلَّا يَلْزَمَهُ جَزَاؤُهُ كَمَا لَوْ قَتَلَهُ مُحْرِمٌ وَلِأَنَّ قَتْلَ الصَّيْدِ أَغْلَظُ مِنْ أَكْلِهِ : لَأَنَّ الْمُحْرِمَ إِذَا قَتَلَ صَيْدًا لَزِمَهُ الْجَزَاءُ بِقَتْلِهِ ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ الْجَزَاءُ بِأَكْلِهِ ، فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ قَتْلَ هَذَا الصَّيْدِ لَا يَجِبُ فِيهِ جَزَاءٌ : فَأَكْلُهُ أَوْلَى أَلَّا يَجِبَ فِيهِ جَزَاءٌ . وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُ صَيْدٌ لَمْ يُضْمَنْ قَتْلُهُ بِالْجَزَاءِ ، فَوَجَبَ أَلَّا يُضْمَنَ أَكْلُهُ بِالْجَزَاءِ أَصْلِهِ ، إِذَا أَكَلَهُ مُحْرِمٌ وَلَمْ يُصَدْ لَهُ وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ لَوْ دَلَّ عَلَى صَيْدٍ كَانَ مُسِيئًا وَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَوْ دَلَّ عَلَى صَيْدٍ كَانَ مُسِيئًا وَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ أَمَرَ بِقَتْلِ مُسْلِمٍ لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ وَكَانَ مُسِيئًا . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : هَذَا كَمَا قَالَ إِذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا بِدَلَالَةِ غَيْرِهِ فَالْجَزَاءُ عَلَى الْقَاتِلِ دُونَ الدَّالِّ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الدَّالُّ عَلَى الصَّيْدِ كَالْقَاتِلِ ، فَإِنْ كَانَا مُحْرِمَيْنِ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْجَزَاءُ ، وَإِنْ كَانَ الدَّالُّ مُحْرِمًا وَالْقَاتِلُ حَلَالًا فَالْجَزَاءُ عَلَى الدَّالِّ دُونَ الْقَاتِلِ ، وَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ مُحْرِمًا ، وَالدَّالُّ حَلَالًا فَالْجَزَاءُ عَلَى الْقَاتِلِ دُونَ الدَّالِّ ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الدَّالُّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ فَجَمَعَ بَيْنَ الدَّلَالَةِ وَالْفِعْلِ ، فَدَلَّ عَلَى اجْتِمَاعِهِمَا فِي الْحُكْمِ ،
وَبِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " هَلْ ضَرَبْتُمْ أَوْ أَعَنْتُمْ أَوْ أَشَرْتُمْ ، قَالُوا : لَا ، قَالَ : فَكُلُوا " ، فَجَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ الضَّرْبِ وَبَيْنَ الْإِشَارَةِ فِي الِاسْتِفْهَامِ وَأَبَاحَ الْأَكْلَ بِعَدَهُمَا فَدَلَّ عَلَى اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْحُكْمِ ، ثُمَّ كَانَ الضَّرْبُ مُوجِبًا لِلْجَزَاءِ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ بِالدَّلَالَةِ مُوجِبَةً لِلْجَزَاءِ : وَلِأَنَّ الدَّلَالَةَ كَسَبَبٍ أَفْضَى إِلَى قَتْلِ الصَّيْدِ فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ ضَمَانُ الصَّيْدِ كَالشَّبَكَةِ إِذَا طَرَحَهَا ، وَالْأُحْبُولَةِ إِذَا نَصَبَهَا : وَلِأَنَّهُ تَسَبَّبَ ، فَحَرُمَ بِهِ أَكْلُ الصَّيْدِ بِحُرْمَةِ الْإِحْرَامِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُلْزَمَ بِهِ الضَّمَانُ كَالْقَتْلِ : وَلِأَنَّ الصَّيْدَ قَدْ يُضْمَنُ بِالتَّسَبُّبِ كَمَا يُضْمَنُ بِالْمُبَاشَرَةِ : لِأَنَّ حَافِرَ الْبِئْرِ يَضْمَنُ مَا وَقَعَ فِيهَا مِنْ صَيْدٍ ، كَمَا يُضْمَنُ بِالْمُبَاشَرَةِ ، وَإِذَا اسْتَوَى التَسَبُّبُ وَالْمُبَاشَرَةُ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ وَجَبَ أَنْ تَسْتَوِيَ الدَّلَالَةُ وَالْقَتْلُ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ : لِأَنَّ الدَّلَالَةَ سَبَبٌ وَالْقَتْلَ مُبَاشَرَةٌ . وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ : فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ، فَعَلَّقَ الْجَزَاءَ بِالْقَتْلِ ، فَاقْتَضَى أَلَّا يَجِبَ الْجَزَاءُ بِعَدَمِ الْقَتْلِ ، وَلِأَنَّهَا نَفْسٌ مَضْمُونَةٌ بِالْجِنَايَةِ فَوَجَبَ أَلَّا تُضْمَنَ بِالدَّلَالَةِ كَالْآدَمِيِّ ، وَلِأَنَّهُ صَيْدٌ تَوَالَى عَنْهُ جِنَايَةٌ وَدَلَالَةٌ ، فَوَجَبَ أَنْ يُضْمَنَ بِالْجِنَايَةِ وَلَا يُضْمَنَ بِالدَّلَالَةِ كَصَيْدِ الْمُحْرِمِ : وَلِأَنَّ الصَّيْدَ قَدْ يَجْتَمِعُ فِيهِ حَقَّانِ : حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْجَزَاءُ ، وَحَقُّ الْآدَمِيِّ وَهُوَ الْقِيمَةُ إِذَا كَانَ مَمْلُوكًا ، فَلَمَّا لَمْ يَجِبْ حَقُّ الْآدَمِيِّ بِالدَّلَالَةِ فَكَذَلِكَ لَا يَجِبُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى بِالدَّلَالَةِ : وَلِأَنَّ الصَّيْدَ لَا يُضْمَنُ إِلَّا بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : إِمَّا بِالْيَدِ أَوْ بِالْمُبَاشَرَةِ أَوْ بِالتَّسَبُّبِ ، فَالْيَدُ أَنْ يَأْخُذَ صَيْدًا فَيَمُوتَ فِي يَدِهِ فَيَضْمَنَ ، وَالْمُبَاشَرَةُ أَنْ يُبَاشِرَ قَتْلَهُ فَيَضْمَنَهُ ، وَالتَّسَبُّبُ أَنْ يَحْفِرَ بِئْرًا فَيَقَعَ فِيهَا الصَّيْدُ فَيَضْمَنَ . وَالدَّلَالَةُ لَيْسَتْ يَدًا وَلَا مُبَاشَرَةً وَلَا سَبَبًا : لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ سَبَبًا يَجِبُ بِهَا الضَّمَانُ ، لَوَجَبَ إِذَا انْفَرَدَتْ أَنْ تَكُونَ سَبَبًا يَجِبُ الضَّمَانُ ، فَوَجَبَ أَلَّا يَتَعَلَّقَ بِالدَّلَالَةِ ضَمَانٌ ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : الدَّالُّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ فَهُوَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذَا الْحَدِيثِ الْخَبَرُ وَالْإِرْشَادُ إِلَيْهِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ ، وَلَوِ اعْتَمَدَ عَلَى ظَاهِرِ لَفْظِهِ لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ جَعَلَ الدَّالَّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ ، وَلَيْسَتِ الدَّلَالَةُ عَلَى الصَّيْدِ خَيْرًا ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ كَفَاعِلِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا شَبَّهَ الدَّالَّ بِالْفَاعِلِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِفَاعِلٍ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ عَلَى الدَّالِّ ضَمَانٌ : لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ فِعْلٌ يُوجِبُ الضَّمَانَ ، وَيُجْمَعُ بَيْنَ الدَّالِّ وَالْقَاتِلِ فِي الْإِثْمِ ، لِأَنَّ الْإِثْمَ قَدْ يَجِبُ بِالْفِعْلِ وَغَيْرِ الْفِعْلِ ، وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ ، لِأَنَّهُمْ سَأَلُوهُ
عَنْ أَكْلِهِ لَا عَنْ جَزَائِهِ ، فَجَعَلَ الْإِشَارَةَ كَالضَّرْبِ فِي تَحْرِيمِ أَكْلِهِ دُونَ جَزَائِهِ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَجْعَلُ الْإِشَارَةَ كَالضَّرْبِ فِي جَزَائِهِ دُونَ أَكْلِهِ ، فَلَمْ يَصِحَّ اسْتِدْلَالُهُ بِهِ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الشَّبَكَةِ وَالْأُحْبُولَةِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ قَدْ يُوجِبُ ضَمَانَ الصَّيْدِ إِذَا انْفَرَدَ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الدَّلَالَةُ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْقَتْلِ فَالْمَعْنَى فِيهِ حُصُولُ الْإِتْلَافِ بِهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الدَّلَالَةُ ، وَمَا ذَكَرُوا مِنْ أَنَّ الدَّلَالَةَ سَبَبٌ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهَا غَيْرُ سَبَبٍ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا أَمْسَكَ رَجُلٌ صَيْدًا فَقَتَلَهُ رَجُلٌ آخَرُ صيد الحرم فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُمْسِكِ وَالْقَاتِلِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَا حَلَالَيْنِ : فَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِمَا لِإِبَاحَةِ ذَلِكَ لَهُمَا . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ الْمُمْسِكُ مُحْرِمًا وَالْقَاتِلُ حَلَالًا صيد الحرم : فَجَزَاؤُهُ وَاجِبٌ عَلَى الْمُمْسِكِ دُونَ الْقَاتِلِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ضَمِنَهُ بِالْيَدِ بِخِلَافِ مَنْ أَمْسَكَ جَزَاءً حَتَّى قَتَلَ : لِأَنَّ الْجَزَاءَ لَا يُضْمَنُ بِالْيَدِ . وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ الْمُمْسِكُ حَلَالًا وَالْقَاتِلُ مُحْرِمًا صيد الحرم ، فَعَلَى الْقَاتِلِ الْجَزَاءُ دُونَ الْمُمْسِكِ ، لِأَنَّهُ قَدْ ضَمِنَهُ بِالْجِنَايَةِ . وَالْحَالَةُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَكُونَ الْمُمْسِكُ وَالْقَاتِلُ مُحْرِمَيْنِ مَعًا صيد الحرم : فَفِي الْجَزَاءِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّ الْمُمْسِكَ ضَامِنٌ بِالْيَدِ وَالْقَاتِلَ ضَامِنٌ بِالْجِنَايَةِ : فَيَكُونُ نِصْفُ الْجَزَاءِ عَلَى الْمُمْسِكِ بِحَقِّ يَدِهِ ، وَنِصْفُهُ عَلَى الْقَاتِلِ بِحَقِّ جِنَايَتِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ كُلُّهُ وَاجِبًا عَلَى الْقَاتِلِ دُونَ الْمُمْسِكِ : لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ سَبَبٌ ، وَالْقَتْلَ مُبَاشَرَةٌ ، وَإِذَا اجْتَمَعَ السَّبَبُ وَالْمُبَاشَرَةُ ، سَقَطَ حُكْمُ السَّبَبِ بِالْمُبَاشَرَةِ ، وَلَوْ أَنَّ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ أَمْسَكَهُ رَجُلٌ وَقَتَلَهُ آخَرُ كَانَ جَزَاؤُهُ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ .
فَصْلٌ : وَلَوْ نَفَّرَ رَجُلٌ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ حَتَّى إِذَا خَرَجَ إِلَى الْحِلِّ فَصَادَهُ آخَرُ فَقَتَلَهُ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ قَاتِلِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُحْرِمًا أَوْ حَلَالًا ، فَإِنْ كَانَ مُحْرِمًا فَالْجَزَاءُ عَلَى الْقَاتِلِ دُونَ الْمُنَفِّرِ ، وَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ حَلَالًا فَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ ، فَأَمَّا الْمُنَفِّرُ فَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا : إِنْ كَانَ حِينَ نَفَّرَهُ أَلْجَأَهُ إِلَى الْحِلِّ ، وَمَنَعَهُ مِنَ الْحَرَمِ ، فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ : لِأَنَّ الصَّيْدَ مُلْجَأٌ ، وَالتَّنْفِيرُ سَبَبٌ ، وَإِنْ كَانَ حِينِ نَفَّرَهُ لَمْ يُلْجِئْهُ إِلَى الْخُرُوجِ إِلَى الْحِلِّ ، وَلَا مَنَعَهُ مِنَ الْعَوْدِ إِلَى الْحَرَمِ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُنَفِّرِ : لِأَنَّ الصَّيْدَ غَيْرُ مُلْجَأٍ ، وَفِعْلُ الْمُبَاشَرَةِ أَقْوَى ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الصَّيْدُ لِمَنْ صَادَهُ لَا لِمَنْ أَثَارَهُ " .
فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْإِمْلَاءِ : وَإِذَا حَبَسَ الْحَلَالُ فِي الْحِلِّ طَائِرًا لَهُ فَرْخٌ فِي الْحَرَمِ فَمَاتَ الطَّائِرُ فِي الْحِلِّ وَالْفَرْخُ فِي الْحَرَمِ ، فَعَلَيْهِ جَزَاءُ الْفَرْخِ دُونَ الطَّائِرِ : لِأَنَّ الطَّائِرَ مَاتَ فِي الْحِلِّ فَلَمْ يَضْمَنْهُ ، وَالْفَرْخَ مَاتَ فِي الْحَرَمِ بِسَبَبٍ مِنْهُ فَضَمِنَهُ ، كَمَا لَوْ رَمَى مِنَ
الْحِلِّ إِلَى الْحَرَمِ سَهْمًا فَقَتَلَ صَيْدًا ضَمِنَهُ ، فَلَوْ كَانَ الْحَلَالُ فِي الْحَرَمِ فَحَبَسَ فِي الْحَرَمِ طَائِرًا لَهُ فَرْخٌ فِي الْحِلِّ فَمَاتَ الطَّائِرُ وَالْفَرْخُ ، فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُمَا جَمِيعًا ، أَمَّا الطَّائِرُ فَلِأَنَّهُ قَاتِلٌ لَهُ فِي الْحَرَمِ ، وَأَمَّا الْفَرْخُ فَلِأَنَّهُ مَاتَ بِسَبَبِ صَيْدٍ مِنْ جِهَتِهِ فِي الْحَرَمِ ، كَمَا لَوْ رَمَى سَهْمًا مِنَ الْحَرَمِ فَقَتَلَ صَيْدًا فِي الْحِلِّ كَانَ عَلَيْهِ جَزَاؤُهُ .
فَصْلٌ : يُكْرَهُ لِلْمُحْرِمِ حَمْلُ الْبَازِيِّ وَكُلِّ صَائِدٍ مِنْ كَلْبٍ وَفَهْدٍ ، فَإِنْ حَمَلَهُ فَأَرْسَلَهُ عَلَى صَيْدٍ فَقَتَلَهُ المحرم : فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ ، وَإِنْ جَرَحَهُ وَلَمْ يَقْتُلْهُ حمل البازي للمحرم ضَمِنَ جُرْحَهُ : لِأَنَّهُ كَالْآلَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَقْتُلْهُ وَلَمْ يَجْرَحْهُ حمل البازي للمحرم فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَإِنِ اسْتَرْسَلَ الْكَلْبُ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُرْسِلَهُ فَقَتَلَ صَيْدًا المحرم فَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ فَرَّطَ أَمْ لَمْ يُفَرِّطْ : لِأَنَّ لِلْكَلْبِ اخْتِيَارًا يَتَصَرَّفُ بِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَأْكُلُ مَا قَتَلَهُ بِإِرْسَالِهِ ، وَلَا يَأْكُلُ مَا قَتَلَهُ بِاسْتِرْسَالِهِ ؟ فَإِنْ قِيلَ : لَوْ أَرْسَلَ كَلْبَهُ عَلَى آدَمِيٍّ وَأَشْلَاهُ عَلَيْهِ وَقَتَلَهُ لَمْ يَضْمَنْهُ ، فَهَلَّا قُلْتُمْ : إِنَّهُ إِذَا أَرْسَلَهُ عَلَى صَيْدٍ فَقَتَلَهُ لَمْ يَضْمَنْهُ أَيْضًا ؟ قِيلَ : لِأَنَّ الْكَلْبَ مُعَلَّمٌ لِاصْطِيَادِ الصَّيْدِ ، فَإِذَا صَادَ صَيْدًا بِإِرْسَالِهِ كَانَ كَمَا لَوْ صَادَهُ بِنَفْسِهِ : فَلَزِمَهُ ضَمَانُهُ ، وَالْكَلْبُ لَا يُعَلَّمُ قَتْلَ الْآدَمِيِّ ، فَإِذَا أَشْلَاهُ عَلَى آدَمِيٍّ فَقَتَلَهُ لَمْ يَكُنِ الْقَتْلُ مَنْسُوبًا إِلَيْهِ وَكَانَ مَنْسُوبًا إِلَى اخْتِيَارِ الْكَلْبِ فَلَمْ يَضْمَنْهُ ، وَمِثَالُهُ فِي الصَّيْدِ : أَنْ يُرْسِلَ كَلْبًا غَيْرَ مُعَلَّمٍ عَلَى صَيْدٍ فَيَقْتُلُهُ فَلَا يَضْمَنُهُ الْمُرْسِلُ : لِأَنَّ غَيْرَ الْمُعَلَّمِ لَا يُنْسَبُ فِعْلُهُ إِلَى مُرْسِلِهِ ، وَإِنَّمَا يُنْسَبُ إِلَى اخْتِيَارِ الْكَلْبِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ مَا صَادَهُ . وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا كَمَا لَا يُؤْكَلُ مَا صَادَهُ وَإِنْ كَانَ مُسْتَرْسَلًا ؟
فَصْلٌ : إِذَا رَمَى صَيْدًا بِسَهْمٍ أَوْ طَعَنَهُ بِرُمْحٍ أَوْ ضَرَبَهُ بِآلَةٍ أَوْ نَصَبَ لَهُ حِبَالَةً أَوِ أَلْقَى لَهُ شَرَكًا فَأَصَابَهُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا كُلِّهِ كَانَ ضَامِنًا لَهُ وَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ : لِأَنَّهُ مَقْتُولٌ بِفِعْلِهِ ، فَلَوْ رَمَى صَيْدًا بِسَهْمٍ فَنَفَذَ السَّهْمُ فِي الصَّيْدِ وَأَصَابَ ثَانِيًا صيد الحرم فَقَتَلَهُ ضَمِنَهُمَا جَمِيعًا ، وَكَانَ عَلَيْهِ جَزَاؤُهُمَا مَعًا ، وَكَذَا لَوْ رَمَى صَيْدًا بِحَجَرٍ فَأَصَابَهُ بِهِ ثُمَّ انْكَسَرَ الْحَجَرُ قِطَعًا فَأَصَابَتْ كُلُّ قِطْعَةٍ مِنْهَا صَيْدًا صيد الحرم ، كَانَ عَلَيْهِ ضَمَانُ ذَلِكَ كُلِّهِ ، لِأَنَّهُ حَادِثٌ مِنْ فِعْلِهِ ، وَلَوْ رَمَى صَيْدًا بِسَهْمٍ فَسَقَطَ الصَّيْدُ عَلَى صَيْدٍ آخَرَ فَقَتَلَهُ فَمَاتَا جَمِيعًا صيد الحرم فَإِنَّهُ يُنْظُرُ فِي حَالِ الصَّيْدِ الْمَرْمِيِّ فَإِنْ تَحَامَلَ فَمَشَى بَعْدَ الْإِصَابَةِ قَلِيلًا ثُمَّ سَقَطَ عَلَى صَيْدٍ آخَرَ فَقَتَلَهُ فَعَلَيْهِ جَزَاءُ الصَّيْدِ الَّذِي رَمَاهُ دُونَ الْآخَرِ : لِأَنَّ سُقُوطَ الصَّيْدِ بَعْدَ تَحَامُلِهِ مِنْ فِعْلِهِ ، وَإِنْ كَانَ الصَّيْدُ الَّذِي رَمَاهُ لَمْ يَتَحَامَلْ مَاشِيًا بَلْ سَقَطَ بِالسَّهْمِ وَحَدَهُ فِي الْحَالِ عَلَى صَيْدٍ آخَرَ فَقَتَلَهُ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُمَا مَعًا : لِأَنَّ سُقُوطَ الصَّيْدِ الَّذِي رَمَاهُ بِفِعْلِهِ ، فَكَانَ ضَامِنًا لِمَا أَتْلَفَهُ الصَّيْدُ بِسُقُوطِهِ ، كَمَا لَوْ أَلْقَى جِدَارًا عَلَى صَيْدٍ فَقَتَلَهُ صيد الحرم كَانَ عَلَيْهِ جَزَاؤُهُ .
فَصْلٌ : إِذَا حَفِرَ الْمُحْرِمُ بِئْرًا فَوَقَعَ فِيهَا صَيْدٌ فَمَاتَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مُتَعَدِّيًا بِحَفْرِهَا وَذَلِكَ أَنْ يَحْفِرَهَا فِي مِلْكِ غَيْرِهِ أَوْ يَحْفِرَهَا فِي جَادَّةِ السَّابِلَةِ فَهُوَ ضَامِنٌ وَالْجَزَاءُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ .
وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُتَعَدٍّ بِحَفْرِهَا وَذَلِكَ أَنْ يَحْفِرَهَا فِي مِلْكِهِ أَوْ فِي صَحْرَاءَ وَاسِعَةٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَحْفِرَهَا لِأَجْلِ الصَّيْدِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا وَقَعَ فِيهَا مِنَ الصَّيْدِ ، كَمَا لَوْ طَرَحَ شَبَكَةً أَوْ نَصَبَ حِبَالَةً . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَحْفِرَهَا لِلشُّرْبِ لَا لِلصَّيْدِ ، فَفِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : عَلَيْهِ الْجَزَاءُ ، لِأَنَّ مَوْتَ الصَّيْدِ كَانَ بِسَبَبٍ مِنْهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَاصِدًا لَهُ كَالْخَاطِئِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَلَا جَزَاءَ ، كَمَا لَوْ صَعِدَ صَيْدٌ إِلَى سَطْحِهِ وَتَرَدَّى إِلَى دَارِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ ، فَكَذَلِكَ إِذَا دَخَلَ إِلَى دَارِهِ وَتَرَدَّى فِي بِئْرِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ .
فَصْلٌ : إِذَا كَانَ الْمُحْرِمُ رَاكِبًا فَأَتْلَفَ بِرُكُوبِهِ صَيْدًا بِرِجْلِهِ أَوْ بِيَدِهِ أَوْ بِرَأْسِهِ أَوْ بِذَنَبِهِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ : لِأَنَّ أَفْعَالَ مَرْكُوبِهِ مَنْسُوبَةٌ إِلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ سَاقَ الْمُحْرِمُ مَرْكُوبَهُ أَوْ قَادَهُ فَأَتْلَفَ الْمَرْكُوبُ شَيْئًا ضِمْنَهُ السَّائِقُ أَوِ الْقَائِدُ ، وَلَكِنْ لَوْ سَارَ الْمَرْكُوبُ وَحْدَهُ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ رَاكِبٌ وَلَا مَعَهُ سَائِقٌ وَلَا لَهُ قَائِدٌ فَأَتْلَفَ صَيْدًا صيد الحرم كَانَ غَيْرَ مَضْمُونٍ : لِأَنَّ أَفْعَالَهُ إِذَا انْفَرَدَ مَنْسُوبَةٌ إِلَى اخْتِيَارِهِ .
مَسْأَلَةٌ مَنْ قَطَعَ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ شَيْئًا جَزَاهُ مُحْرِمًا كَانَ أَوْ حَلَالًا
مَسْأَلَةٌ : ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَنْ قَطَعَ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ شَيْئًا جَزَاهُ مُحْرِمًا كَانَ أَوْ حَلَالًا . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، شَجَرُ الْحَرَمِ وَنَبَاتُهُ حَرَامٌ لَا يَجُوزُ قَطْعُهُ وَلَا إِتْلَافُهُ لِحَلَالٍ وَلَا مُحْرِمٍ : لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ [ التِّينِ : ] ، وَقَالَ سُبْحَانَهُ : إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا [ النَّمْلِ : ] ، وَرَوَى طَاوُسٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ " إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ، فَهُوَ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَلَمْ يَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي ، وَلَمْ يَحِلَّ لِي إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ، ثُمَّ هِيَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، لَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا ، وَلَا يُعَضَّدُ شَوْكُهُ ، وَلَا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهُ إِلَّا لِمُعَرِّفٍ ، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهُ ، قَالَ الْعَبَّاسُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا الْإِذْخِرَ ؛ فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَلِبُيُوتِهِمْ فَقَالَ : إِلَّا الْإِذْخِرَ ، وَلَا هِجْرَةَ وَلَكِنَّهُ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا " . فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَجَمِيعُ مَا نَبَتَ فِي الْحَرَمِ ضَرْبَانِ : شَجَرٌ وَنَبَاتٌ : فَأَمَّا الشَّجَرُ فَعَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مِمَّا أَنْبَتَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمَوَاتِ كَالْأَرَاكِ وَالسَّلَمِ ، فَقَطْعُهُ حَرَامٌ عَلَى الْمُحْرِمِ وَالْحَلَالِ ، وَهُوَ مَضْمُونٌ بِالْجَزَاءِ ، وَقَالَ مَالِكٌ وَدَاوُدُ : قَطْعُهُ حَرَامٌ وَلَكِنْ لَا جَزَاءَ فِيهِ : تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ، فَلَمَّا أَوْجَبَ الْجَزَاءَ فِي الصَّيْدِ ، وَالشَّجَرُ لَيْسَ بِصَيْدٍ ، وَجَعَلَ الْجَزَاءَ مِثْلَهُ مِنَ النَّعَمِ ، وَالشَّجَرُ لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ مِنَ النَّعَمِ : دَلَّ عَلَى أَنَّ الْجَزَاءَ لَا يَجِبُ فِي الشَّجَرِ : وَلِأَنَّ قَطْعَ الشَّجَرِ لَوْ كَانَ مَضْمُونًا فِي الْحَرَمِ لَكَانَ مَضْمُونًا فِي الْحِلِّ عَلَى الْمُحْرِمِ كَالصَّيْدِ ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا عَلَى الْمُحْرِمِ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا فِي الْحَرَمِ ، وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ سُفْيَانُ عَنْ دَاوُدَ بْنِ شَابُورَ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : فِي الدَّوْحَةِ إِذَا قُطِعَتْ مِنْ أَصْلِهَا بَقَرَةٌ ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ ، لَكِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ الشَّافِعِيُّ ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُمَا قَالَا فِي الشَّجَرَةِ بَقَرَةٌ ، وَلَيْسَ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ : وَلِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَا مُنِعَ مِنْ إِتْلَافِهِ لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ الْجَزَاءُ كَالصَّيْدِ ، فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْآيَةِ فَلَا حُجَّةَ فِيهَا : لِأَنَّهَا تُوجِبُ الْجَزَاءَ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ وَلَا تَمَنَعُ مِنْ وُجُوبِهِ فِي غَيْرِ قَتْلِ الصَّيْدِ ، وَأَمَّا شَجَرُ الْحِلِّ فَإِنَّمَا كَانَ غَيْرَ مَضْمُونٍ عَلَى الْمُحْرِمِ : لِأَنَّهُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْ إِتْلَافِهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ شَجَرُ الْحَرَمِ .
فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الشَّجَرُ مِمَّا غَرَسَهُ الْآدَمِيُّونَ فِي أَمْلَاكِهِمْ شجر الحرم ، كَالنَّخْلِ وَالْكَرْمِ وَالرُّمَّانِ وَالْأُتْرُجِّ ، فَقَطْعُ هَذَا مُبَاحٌ ، كَالنَّعَمِ الَّتِي يَجُوزُ ذَبْحُهَا فِي الْحَرَمِ ، فَإِنْ قَطَعَهُ مَالِكُهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ قَطَعَهُ غَيْرُ مَالِكِهِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِمَالِكِهِ وَلَا جَزَاءَ فِيهِ كَمَنْ ذَبَحَ شَاةَ غَيْرِهِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا وَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ فِيهَا .
فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ الشَّجَرُ مِمَّا أَنْبَتَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَمْلَاكِ دُونَ الْمَوَاتِ شجر الحرم ، فَقَطْعُهُ حَرَامٌ ، وَهُوَ مَضْمُونٌ بِالْجَزَاءِ فَإِنْ قَطَعَهُ مَالِكُهُ كَانَ عَلَيْهِ جَزَاؤُهُ ، فَإِنْ قَطَعَهُ غَيْرُ مَالِكِهِ كَانَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِمَالِكِهِ ، وَجَزَاؤُهُ لِلْفُقَرَاءِ كَمَنْ قَتَلَ صَيْدًا مَمْلُوكًا ، كَانَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ وَجَزَاؤُهُ ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُزَاحِمٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرٍ كَانَ يَقْطَعُ الدَّوْحَةَ مِنْ دَارِهِ بِالشَّعْبِ وَيَغْرَمُ عَنْ كُلِّ دَوْحَةٍ بَقْرَةً .
فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ مَا غَرَسَهُ الْآدَمِيُّونَ فِي الْمَوَاتِ دُونَ الْأَمْلَاكِ شجر الحرم ، فَفِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا جَزَاءَ فِيهِ : لِأَنَّ مَا كَانَ مِنْ غَرْسِ الْآدَمِيِّينَ فَهُوَ كَالْحَيَوَانِ الْأَهْلِيِّ ، وَالْحَيَوَانُ الْأَهْلِيُّ لَا جَزَاءَ فِيهِ بِحَالٍ : فَكَذَلِكَ غَرْسُ الْآدَمِيِّينَ لَا جَزَاءَ فِيهِ بِحَالٍ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى : أَنَّ فِيهِ الْجَزَاءَ : لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا : وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ لِلْحَرَمِ لَا لِلشَّجَرِ ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا أَنْبَتَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْحَرَمِ وَبَيْنَ مَا نَقَلَهُ الْآدَمِيُّونَ مِنَ الْحِلِّ إِلَى الْحَرَمِ ، أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّ حَلَالًا صَادَ مِنَ الْحِلِّ صَيْدًا وَأَطْلَقَهُ فِي الْحَرَمِ كَانَ كَصَيْدِ الْحَرَمِ : لِحُرْمَةِ الْمَكَانِ ؟ فَكَذَلِكَ الشَّجَرُ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا قَلَعَ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ وَغَرَسَهُ فِي الْحِلِّ فَإِنْ مَاتَ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ وَإِنْ نَبَتَ وَجَبَ عَلَيْهِ نَقْلُهُ إِلَى الْحَرَمِ وَغَرْسُهُ فِيهِ ، فَإِنْ نَقْلَهُ وَغَرْسَهُ وَنَبَتَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ مَاتَ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ ، فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ لَوْ أَخَذَ صَيْدًا مِنَ الْحَرَمِ وَأَطْلَقَهُ فِي الْحِلِّ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ رَدُّهُ إِلَى الْحَرَمِ ، فَهَلَّا كَانَ الشَّجَرُ كَذَلِكَ : قِيلَ : لِأَنَّ الصَّيْدَ يَقْدِرُ عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى الْحَرَمِ بِنَفْسِهِ فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ رَدُّهُ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الشَّجَرُ ، فَلَوْ قَطَعَ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ ، وَغَرَسَهُ فِي الْحَرَمِ ، فَإِنْ مَاتَ وَلَمْ يَنْبُتْ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ ، وَإِنْ نَبْتَ فَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ نَقْلُهُ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ ، لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمَكَانِ الَّذِي جُعِلَ فِيهِ كَحُرْمَةِ الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ ، فَلَوْ قَطَعَ مِنَ الْحَرَمِ شَجَرًا مَيِّتًا فَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ ، سَوَاءٌ اسْتَهْلَكَهُ أَوْ تَرَكَهُ : لِأَنَّ الْجَزَاءَ يَجِبُ فِي إِتْلَافِ مَا كَانَ نَامِيًا ، وَالشَّجَرُ الْمَيِّتُ لَيْسَ بِنَامٍ ، فَلَا جَزَاءَ فِيهِ كَالصَّيْدِ الْمَيِّتِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا النَّبَاتُ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا زَرَعَهُ الْآدَمِيُّونَ ، كَالْبُقُولِ وَالْحُبُوبِ وَسَائِرِ الْخَضْرَاوَاتِ نبات الحرم ، فَحُكْمُهُ فِي الْحَرَمِ كَحُكْمِهِ فِي الْحِلِّ ، مُبَاحٌ لِمَالِكِهِ وَمَحْظُورٌ عَلَى غَيْرِ مَالِكِهِ ، وَلَا جَزَاءَ فِي جَزِّهِ وَلَا قَطْعِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا يَنْبُتُ فِي الْمَوَاتِ مِنْ غَيْرِ زِرَاعَةِ آدَمِيٍّ نبات الحرم ، فَهَذَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : مَا كَانَ إِذْخِرَ ، فَيَجُوزُ أَخْذُهُ وَجَزُّهُ وَقَلْعُهُ : لِقَوْلِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ : الْإِذْخِرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّهُ لِسَقْفِهِمْ وَلِقَيْنِهِمْ فَقَالَ : إِلَّا الْإِذْخِرَ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا كَانَ دَوَاءً كَالسَّنَاءِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ ، فَأَخْذُهُ جَائِزٌ وَلَا شَيْءَ فِيهِ : لِأَنَّهُ لَمَّا أَبَاحَ أَخْذَ الْإِذْخِرِ لِمَنْفَعَتِهِ فَكَذَلِكَ الدَّوَاءُ لِحُصُولِ الِانْتِفَاعِ بِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : مَا كَانَ شَوْكًا ، كَالْعَوْسَجِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ ، فَقَلْعُهُ مُبَاحٌ وَلَا شَيْءَ فِي إِتْلَافِهِ : لِأَنَّهُ مُؤْذٍ فَشَابَهَ الْبَهَائِمَ الْمُؤْذِيَةَ الَّتِي لَا جَزَاءَ فِي قَتْلِهَا كَالسِّبَاعِ وَغَيْرِهَا . وَالضَّرْبُ الرَّابِعُ : مَا كَانَ حَثِيثًا ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْلَعَ وَلَا أَنْ يُقْطَعَ : لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَلَا يُخْتَلَى خَلَاؤُهَا ، لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ تَرْعَاهُ الْبَهَائِمُ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تُمْنَعُ الْبَهَائِمُ مِنْ رَعْيِهِ : لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) رَأَى أَعْرَابِيًّا يَعْلِفُ رَاحِلَتَهُ فَمَنَعَهُ ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ : لِمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : وَلَا يُخْتَلَى خَلَاؤُهَا إِلَّا لِعَلْفِ دَوَابٍّ ، وَلِأَنَّ فِي امْتِنَاعِ أَهْلِ الْحَرَمِ مِنْ رَعْيِهِ إِضْرَارٌ بِمَوَاشِيهِمْ ، وَضِيقٌ عَلَيْهِمْ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ
فَأَمَّا نَهْيُ عُمَرَ لِلْأَعْرَابِيِّ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَهَاهُ أَنْ يَخْبِطَ وَرَقَ الشَّجَرِ ، فَأَمَّا رَعْيُ الْحَشِيشِ فَلَا ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ رَعْيَ الْبَهَائِمِ جَائِزٌ ، وَأَنَّ قَلْعَهُ وَقَطْعَهُ لَا يَجُوزُ ، فَإِنْ قَلَعَهُ نَظَرَ فِيهِ ، فَإِنْ كَانَ قَدِ اسْتَخْلَفَ الْحَشِيشُ بَعْدَ الْقَطْعِ وَعَادَ فَقَدْ أَسَاءَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَخْلِفْ وَلَمْ يَعُدْ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَنْهُ بِشَيْءٍ ، فَأَمَّا مَا جَفَّ مِنْهُ وَمَاتَ فَيَجُوزُ أَخْذُهُ وَقَلْعُهُ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا أَخْذُ وَرَقِ الشَّجَرِ نبات الحرم فَإِنْ كَانَ جَافًّا جَازَ أَخْذُهُ ، وَإِنْ كَانَ رَطْبًا لَمْ يَجُزْ أَخْذُهُ : لِأَنَّ فِيهِ إِضْرَارًا بِالشَّجَرِ ، كَمَا لَا يَجُوزُ نَتْفُ شَعْرِ الصَّيْدِ للمحرم : لِمَا فِيهِ مِنْ إِضْرَارٍ بِالصَّيْدِ ، فَإِنْ فَعَلَ وَلَمْ يَمُتِ الشَّجَرُ فَقَدْ أَسَاءَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ يَسْتَخْلِفُ مَعَ بَقَاءِ الشَّجَرِ ، وَكَذَلِكَ إِنْ أَخَذَ مِسْوَاكًا مِنْ أَرَاكٍ أَوْ عُودًا صَغِيرًا مِنْ شَجَرَةٍ ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ يَسْتَخْلِفُ ، فَأَمَّا إِنْ قَطَعَ غُصْنًا مِنْ أَغْصَانِ شَجَرَةٍ فَإِنْ عَادَ الْغُصْنُ وَاسْتَخْلَفَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَخْلِفْ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ ، فَأَمَّا أَخْذُ وَرَقِ الشَّجَرِ وَثِمَارِهِ فَجَائِزٌ ، وَكَذَلِكَ أَكْلُ ثِمَارِ الْأَرَاكِ مِنَ الْحَرَمِ وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ أَهْلُ الْحِجَازِ : الْكَبَاثَ ، فَجَائِزٌ لَا بَأْسَ بِهِ ، قَدْ رُوِيَ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّا نَجْنِي الْكَبَاثَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كُلُوا الْأَسْوَدَ مِنْهُ فَإِنَهُ أَيْطَبُ ، يَعْنِي : أَطْيَبَ ، فَقَدَّمَ الْيَاءَ عَلَى الطَّاءِ عَلَى لُغَةِ الْيَمَنِ ، كَمَا يُقَالُ : طَبِيخٌ وَبَطِيخٌ ، فَقِيلَ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَوَقَدْ رَعَيْتَ ؟ فَقَالَ : مَا مِنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا مَنْ قَدْ رَعَى لِأَهْلِهِ .
مَسْأَلَةٌ فِي الشَّجَرَةِ الصَّغِيرَةِ شَاةٌ وَفِي الْكَبِيرَةِ بَقَرَةٌ
مَسْأَلَةٌ : ( قَالَ الشافِعِيُّ ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَفِي الشَّجَرَةِ الصَّغِيرَةِ شَاةٌ وَفِي الْكَبِيرَةِ بَقَرَةٌ وَذَكَرُوا هَذَا عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَعَطَاءٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَجُمْلَةُ مَا يَجِبُ ضَمَانُهُ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ وَنَبَاتِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ شَجَرَةً كَبِيرَةً . وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ شَجَرَةً صَغِيرَةً . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ غُصْنًا مِنْ شَجَرَةٍ . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ نَبَاتًا . فَأَمَّا الشَّجَرَةُ الْكَبِيرَةُ فَفِيهَا بَقَرَةٌ أَوْ بَدَنَةٌ قطع شجر الحرم : كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ مُجَاهِدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " فِي الدَوْحَةِ إِذَا قُطِعَتْ مِنْ أَصْلِهَا بَقَرَةٌ " ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ ، وَلَيْسَ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ ، وَلِأَنَّ الشَّجَرَةَ الْكَبِيرَةَ أَعْظَمُ نَبَاتِ الْحَرَمِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ جَزَاؤُهَا مِنْ أَعْظَمِ النَّعَمَ ، وَأَمَّا الشَّجَرَةُ الصَّغِيرَةُ - وَحَدُّ الشَّجَرَةِ أَنْ يَقُومَ لَهَا سَاقٌ ، أَوْ يُكْسَرَ لَهَا أَغْصَانٌ - فَفِيهَا شَاةٌ ، وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَلَيْسَ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ ، وَلِأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ مِنْ صِغَارِ الشَّجَرِ ، وَجَبَ فِيهَا صِغَارُ النَّعَمِ ، وَذَلِكَ الْغَنَمُ ، وَأَمَّا
الْأَغْصَانُ الَّتِي لَمْ تَسْتَخْلِفْ بَعْدَ الْقَطْعِ ، فَالْوَاجِبُ فِيهَا بِقَدْرِ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهَا ، فَتُقَوَّمُ الشَّجَرَةُ قَبْلَ الْقَطْعِ ، فَإِذَا قِيلَ : عَشَرَةُ دَرَاهِمَ ، قُوِّمَتْ بَعْدَ قَطْعِ الْغُصْنِ مِنْهَا ، فَإِذَا قِيلَ : بِتِسْعَةِ دَرَاهِمَ ، كَانَ النَّقْصُ مِنْهَا دِرْهَمًا وَهُوَ الْعُشْرُ ، فَيَكُونُ ضَامِنًا لِذَلِكَ ، وَفِي كَيْفِيَّةِ ضَمَانِهِ شجر الحرم وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَضْمَنُ الْعُشْرَ بِمَا يَجِبُ فِي تِلْكَ الشَّجَرَةِ : فَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً ضَمِنَ عُشْرَ بَقَرَةٍ أَوْ بَدَنَةٍ وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً ضَمِنَ عُشْرَ شَاةٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَضْمَنَ الدَّرَاهِمَ النَّاقِصَةَ مِنْ قِيمَةِ الشَّجَرَةِ بِالْقَطْعِ ، ثُمَّ هُوَ بِالْخِيَارِ : إِنْ شَاءَ تَصَدَّقَ بِذَلِكَ الدِّرْهَمِ ، وَإِنْ شَاءَ اشْتَرَى بِهِ طَعَامًا تَصَدَّقَ بِهِ ، وَأَمَّا النَّبَاتُ الَّذِي لَمْ يَسْتَخْلِفُ بَعْدَ قَطْعِهِ ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَنْهُ بِشَيْءٍ مِنْ دَرَاهِمَ أَوْ طَعَامٍ يُعْلَمُ أَنَّهُ قَدِ اسْتَوْعَبَ جَمِيعَ قِيمَتِهِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا حِجَارَةُ الْحَرَمِ فَيُمْنَعُ مِنْ إِخْرَاجِهَا مِنَ الْحَرَمِ ، وَكَذَلِكَ التُّرَابُ وَالْمَدَرُ : لِمَا لَهُ مِنَ الْحُرْمَةِ الْمُبَايِنَةِ لِغَيْرِهِ ، وَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ : قَدِمْتُ مَعَ جَدَّتِي مَكَّةَ فَأَتَتْهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ شَيْبَةَ ، فَأَكْرَمَتْهَا وَفَعَلَتْ بِهَا ، فَقَالَتْ صَفِيَّةُ : مَا أَدْرِي مَا أُكَافِئُهَا بِهِ ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهَا بِقِطْعَةٍ مِنَ الرُّكْنِ فَخَرَجَتْ بِهَا فَنَزَلْنَا أَوَّلَ مَنْزِلٍ فَذَكَرَ مِنْ مَرَضِهِمْ وَعِلَّتِهِمْ جَمِيعًا ، قَالَ : فَقَالَتْ لِي - وَكُنْتُ مَنْ أُمَثِّلُهُمْ - : انْطَلِقْ بِهَذِهِ الْقِطْعَةِ إِلَى صَفِيَّةَ فَرُدَّهَا وَقُلْ لَهَا : إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ فِي حَرَمِهِ شَيْئًا فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ ، قَالَ عَبْدُ الْأَعْلَى : فَقَالُوا لِي : فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ تَحَيَّنَّا دُخُولَكَ الْحَرَمَ فَكَأَنَّمَا نَشَطْنَا مِنْ عِقَالٍ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَالْبِرَامُ يَنْفَكُّ مِنَ الْحَرَمِ ، فَيُقَالُ لَهُ : هَذَا خَطَأٌ : لَيْسَ الْبِرَامُ مِنَ الْحَرَمِ بَلْ يُحْمَلُ إِلَى مَكَّةَ مِنَ الْحِلِّ مِنْ مَسِيرَةِ يَوْمَيْنِ وَأَكْثَرَ ، فَإِنْ أَخْرَجَ مِنْ حِجَارَةِ الْحَرَمِ أَوْ مِنْ تُرَابِهِ شَيْئًا فَعَلَيْهِ رَدُّهُ إِلَى مَوْضِعِهِ وَإِعَادَتُهُ إِلَى الْحَرَمِ ، فَأَمَّا مَاءُ الْحَرَمِ فَلَا بَأْسَ بِإِخْرَاجِهِ إِلَى الْحِلِّ : لِمَا بِالنَّاسِ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ فِي خُرُوجِهِمْ : وَلِذَلِكَ لَا بَأْسَ بِإِخْرَاجِ مَاءِ زَمْزَمَ ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَهْدَى مِنْ سُهِيلِ بْنِ عُمْرٍو مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ فَأَهْدَى إِلَيْهِ مَزَادَتَيْنِ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ عَلَى بَعِيرٍ وَطَرَحَ عَلَيْهِ كِسَاءً .
مَسْأَلَةٌ سَوَاءٌ مَا قُتِلَ فِي الْحَرَمِ أَوْ فِي الْإِحْرَامِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَسَوَاءٌ مَا قُتِلَ فِي الْحَرَمِ أَوْ فِي الْإِحْرَامِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : فَهُوَ مَضْمُونٌ بِالْجَزَاءِ ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ ، وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ : صَيْدُ الْحَرَمِ حَرَامٌ إِلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْجَزَاءِ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [ الْمَائِدَةِ : ] ، فَأَوْجَبَ الْجَزَاءَ عَلَى الْحُرُمِ ، وَالْحُرُمُ جَمْعُ حَرَامٍ ، وَالْحَرَامُ هُوَ مَنْ عَقَدَ الْإِحْرَامَ ، فَأَمَّا مَنْ أَوَى إِلَى الْحَرَمِ فَلَا يُقَالُ لَهُ حَرَامٌ ، وَإِنَّمَا يُقَالُ لَهُ مُحْرِمٌ ، قَالَ : وَلِأَنَّ الْحَرَمَ لَوْ كَانَ مَانِعًا مِنْ قَتْلِ الصَّيْدِ
مُوجِبًا لِلْجَزَاءِ فِيهِ لَكَانَ مَانِعًا مِنْ قَتْلِ مَا أُدْخِلَ مِنَ الصَّيْدِ إِلَيْهِ مُوجِبًا لِلْجَزَاءِ فِيهِ ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْحَرَمُ مَانِعًا مِنْ قَتْلِ مَا أُدْخِلَ إِلَيْهِ لَمْ يَكُنْ مَانِعًا مَنْ قَتْلِ مَا دَخَلَ فِيهِ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : الضَّبُعُ صَيْدٌ ، وَفِيهِ إِذَا أَصَابَهُ الْمُحْرِمُ كَبْشٌ ، فَأَوْجَبَ عَلَى الْمُحْرِمِ جَزَاءَ مَا قَتَلَ ، وَمَنْ دَخَلَ الْحَرَمَ يُسَمَّى مُحْرِمًا ، كَمَا يُقَالُ : قَدْ أَنْجَدَ إِذَا دَخَلَ نَجَدًا ، وَأَتْهَمَ إِذَا دَخَلَ تِهَامَةَ ، وَأَحْرَمَ إِذَا دَخَلَ الْحَرَمَ ، قَالَ الرَّاعِي : قَتَلُوا ابْنَ عَفَّانَ الْخَلِيفَةَ مُحْرِمًا وَدَعَا فَلَمْ أَرَ مِثْلَهُ مَقْتُولًا وَإِنَّمَا سَمَّاهُ مُحْرِمًا : لِأَنَّهُ كَانَ بِالْمَدِينَةِ ، وَهِيَ حَرَمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، كَمَا يُقَالُ لِمَنْ أَحَلَّ الْقِتَالَ فِي الْحَرَمِ مُحِلٌّ ، وَإِنْ لَمْ يُحَلَّلْ مِنْ إِحْرَامِهِ ، وَقِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ : الْمُحِلُّ : لِإِحْلَالِهِ الْقِتَالَ فِيهِ ، قَالَ الشَّاعِرُ فِي رَمْلَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ : أَلَا مَنْ لِقَلْبٍ مُعَنًّى عُزِلْ بِذِكْرِ الْمُحِلَّةِ أُخْتِ الْمُحِلْ وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ أَوْجَبُوا فِي حَمَامِ مَكَّةَ شَاةً ، وِإِنَّمَا أَوْجَبُوهَا عَلَى الْمُحِلِّ إِذْ لَوْ كَانَ عَلَى الْمُحْرِمِ لَمَا اخْتَصَّ بِحَمَامِ مَكَّةَ دُونَ غَيْرِهَا : لَأَنَّ رَسُولَ اللَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ تَمِيمَ بْنَ أَسَدٍ الْخُزَاعِيَّ عَامَ الْفَتْحِ يُجَدِّدُ أَنْصَابَ الْحَرَمِ فَعَلِمَ أَنَّهُ إِنَّمَا أَمَرَ بِذَلِكَ لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَ صَيْدِهِ وَصَيْدِ غَيْرِهِ وَشَجَرِهِ وَشَجَرِ غَيْرِهِ : وَلِأَنَّ حُرْمَةَ الْحَرَمِ قَدْ تَكُونُ أَوْكَدَ مِنْ حُرْمَةِ الْإِحْرَامِ ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ إِنَّمَا يُرَادُ لِدُخُولِ الْحَرَمِ ، فَلَمَّا وَجَبَ جَزَاءُ الصَّيْدِ بِحُرْمَةِ الْإِحْرَامِ كَانَ وُجُوبُهُ بِحُرْمَةِ الْحَرَمِ أَوْلَى ، فَأَمَّا الْآيَةُ فَلَا تَنْفِي وُجُوبَ الْجَزَاءِ عَلَى غَيْرِ الْمُحْرِمِ ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهَا دَلَالَةٌ ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّ الْمُحْرِمَ لَمَّا لَمْ يُمْنَعْ مِنْ قَتْلِ مَا أَدْخَلَ إِلَيْهِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ قَتْلِ مَا دَخَلَ فِيهِ ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ : لِأَنَّ مَا أَدْخَلَ إِلَيْهِ قَدْ سَبَقَتْ حُرْمَةُ الْمِلْكِ حُرْمَةَ الْحَرَمِ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ قَتْلِهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا دَخَلَ فِيهِ : لِأَنَّ حُرْمَةَ الْحَرَمِ قَدِ اسْتَقَرَّتْ لَهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَدْخَلَ صَيْدًا الْحَرَمَ وَأَطْلَقَهُ حَرُمَ قَتْلُهُ : لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَقَرَّتْ لَهُ حُرْمَةُ الْحَرَمِ بِزَوَالِ الْيَدِ عَنْهُ ؟
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ صَيْدَ الْمُحْرِمِ مَضْمُونٌ بِالْجَزَاءِ فَحُكْمُ الْجَزَاءِ فِيهِ كَحُكْمِ الْجَزَاءِ فِي صَيْدِ الْمُحْرِمِ يَكُونُ فِيهِ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْمِثْلِ مِنَ النَّعَمِ أَوِ الْإِطْعَامِ أَوِ الصِّيَامِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : ضَمَانُهُ ضَمَانُ الْأَمْوَالِ فَلَا يَدْخُلُهُ الصَّوْمُ بِحَالٍ ، وَيَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْمِثْلِ وَالْإِطْعَامِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ ضَمَانَهُ إِنَّمَا وَجَبَ عَلَى الْقَاتِلِ لَا لِمَعْنًى فِي الْقَاتِلِ وَلَا لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ : كَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الَّتِي يَجِبُ ضَمَانُهَا لِمَعْنًى فِي مَالِكِهَا دُونَ مُتْلِفِهَا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ فِي ضَمَانِهِ ، لِأَنَّ ضَمَانَهُ إِنَّمَا وَجَبَ لِمَعْنًى فِي الْمُحْرِمِ ، وَالدَّلِيلُ هُوَ أَنَّهُ صَيْدٌ مَضْمُونٌ فَجَازَ أَنْ يَدْخُلَ
الصَّيْدُ فِي ضَمَانِهِ ، كَصَيْدِ الْحِلِّ عَلَى الْمُحْرِمِ : وَلِأَنَّ ضَمَانَ صَيْدِ الْمُحْرِمِ مُفَارِقٌ لِضَمَانِ أَمْوَالِ الْآدَمِيِّينَ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ أَمْوَالَ الْآدَمِيِّينَ تُضْمَنَ بِقِيمَتِهَا أَوْ بِالْمِثْلِ مِنْ جِنْسِهَا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ صَيْدُ الْمُحْرِمِ . وَالثَّانِي : أَنَّ أَمْوَالَ الْآدَمِيِّينَ مَضْمُونَةٌ بِبَدَلٍ مُعَيَّنٍ لَيْسَ فِيهِ تَخْيِيرٌ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ صَيْدُ الْحَرَمِ ، وَإِذَا فَارَقَتْ أَمْوَالُ الْآدَمِيِّينَ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ كَانَتْ مُلْحَقَةً بِضَمَانِ الصَّيْدِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا صَيْدُ الْحِلِّ إِذَا أُدْخِلَ الْحَرَمَ بَعْدَ صَيْدِهِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ صَيْدِ الْحِلِّ دُونَ الْحَرَمِ ، فَيَجُوزُ إِمْسَاكُهُ وَذَبْحُهُ ، وَلَا جَزَاءَ فِي قَتْلِهِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : قَدْ صَارَ حُكْمُهُ بِدُخُولِ الْحَرَمِ حُكْمَ الصَّيْدِ الْحُرُمِ ، فَلَا يَجُوزُ إِمْسَاكُهُ وَلَا ذَبْحُهُ ، وَالْجَزَاءُ وَاجِبٌ عَلَى قَاتِلِهِ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [ آلِ عِمْرَانَ : ] ، فَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى أَمَانَ الدَّاخِلِ إِلَيْهِ كَأَمَانِ الْقَاطِنِ فِيهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُهُمَا ، وَبِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا : وَلِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مَانِعًا مِنَ الْاصْطِيَادِ كَانَ مَانِعًا مِنْ قَتْلِ الصَّيْدِ كَالْإِحْرَامِ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ : أَنَّ صَيْدَ الْحَرَمِ حَرَامٌ كَمَا أَنَّ صَيْدَ الْمَدِينَةِ حَرَامٌ ، فَلَمَّا جَازَ إِدْخَالُ الصَّيْدِ إِلَى حَرَمِ الْمَدِينَةِ وَإِمْسَاكُهُ فِيهِ ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ فَأَقَرَّهُ عَلَى إِمْسَاكِ الصَّيْدِ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ حَرَّمَ صَيْدَ الْمَدِينَةِ فَكَذَلِكَ يَجُوزُ إِدْخَالُ الصَّيْدِ إِلَى الْحَرَمِ ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ قَتْلُ صَيْدِ الْحَرَمِ . وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا : أَنَّهُ مَوْضِعٌ حَرُمَ قَتْلُ صَيْدِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْرُمَ فِيهِ قَتْلُ مَا صِيدَ فِي غَيْرِهِ كَالْمَدِينَةِ : وَلِأَنَّ صَيْدَ الْحَرَمِ لَوْ صِيدَ وَأُخْرِجَ إِلَى الْحِلِّ لَمْ يَزَلْ عَنْهُ حُكْمُ الْحَرَمِ ، وَكَانَ عَلَى حَالِهِ الْأُولَى فِي تَحْرِيمِ قَتْلِهِ ، وَجَبَ إِذَا صَادَ مِنَ الْحِلِّ صَيْدًا أَوْ أَدْخَلَهُ الْحَرَمَ أَنْ لَا يَزُولَ عَنْهُ حُكْمُ الْحِلِّ وَيَكُونَ عَلَى حَالِهِ الْأُولَى فِي إِبَاحَةِ قَتْلِهِ . وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا : أَنَّهُ صَيْدٌ أُوجِبَ إِمْسَاكُهُ حُكْمًا فَوَجَبَ أَلَّا يُنْتَقَلَ عَنْ حُكْمِهِ بِانْتِقَالِهِ عَنْ مَوْضِعِهِ قِيَاسًا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ صَيْدِ الْحَرَمِ إِذَا أُخْرِجَ إِلَى الْحِلِّ : وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَظَرَ صَيْدَ الْحَرَمِ عَلَى أَهْلِ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ ، وَأَبَاحَ صَيْدَ الْحِلِّ لِأَهْلِ الْحِلِّ وَالْحُرُمِ ، فَلَوْ مَنَعَ مِنْ أَنْ يُذْبَحَ صَيْدُ الْحِلِّ فِي الْحَرَمِ ، لِأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى ذَبْحِهِ فِي الْحَرَمِ ، لَأَدَّى إِلَى حَظْرِ صَيْدِ الْحِلِّ عَلَى أَهْلِ الْحَرَمِ ، وَإِنْ ذَبَحُوهُ فِي الْحِلِّ رَاحَ وَأَنْتَنَ عِنْدَ إِدْخَالِهِ الْحَرَمَ فَجَازَ لَهُمْ ذَبْحُ
الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ لَيْسَتَبِيحُوا مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُمْ ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَمْ تَكُنْ لُحُومُ الصَّيْدِ تُبَاعُ بِمَكَّةَ إِلَّا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [ آلِ عِمْرَانَ : ] ، فَمِنْ " وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ لَفْظَةَ " مَنْ " لَا تَتَنَاوَلُ مَا لَا يَعْقِلُ . وَالثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : وَمَنْ دَخَلَهُ وَالصَّيْدُ لَمْ يَدْخُلْهُ وَإِنَّمَا أُدْخِلَ إِلَيْهِ ، فَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا لَا يَتَنَاوَلُ مَا أُدْخِلَ إِلَيْهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ صَيْدِهَا ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْإِحْرَامِ فَمَعْنَاهُمَا يَخْتَلِفُ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ قَتْلَ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ ، وَحَرَّمَ قَتْلَ صَيْدِ الْحَرَمِ ، وَمَا أُدْخِلَ الْحَرَمَ مَصِيدًا لَمْ يَكُنْ مِنْ صَيْدِ الْحَرَمِ ، فَجَازَ قَتْلُهُ ، وَمَا صِيدَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ ثُمَّ أُحْرِمَ فَهُوَ قَتْلُ صَيْدٍ مِنْ مُحْرِمٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يُحَرَّمَ قَتْلَهُ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا صَيْدُ الْحِلِّ إِذَا صَادَهُ مُحِلٌّ ثُمَّ أَحْرَمَ فَهَلْ يَزُولُ مَلِكُهُ عَنِ الصَّيْدِ بِإِحْرَامِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مِلْكَهُ لَا يَزُولُ عَنْهُ ، وَلَا يَضْمَنُهُ إِلَّا بِالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ ، وَبِهِ قَالَ فِي " الْإِمْلَاءِ " ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ عِبَادَةٌ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُزِيلَ الْمِلْكَ كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ ، وَلِأَنَّهُ مِلْكٌ لِمُحِلٍّ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَزُولَ مِلْكُهُ عَنْهُ بِالْإِحْرَامِ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ مِلْكَهُ قَدْ زَالَ عَنْهُ بِإِحْرَامِهِ ، وَإِنْ تَلِفَ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ ، وَوَجْهُهُ : أَنَّهُ صَيْدٌ يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ بِقَتْلِهِ ، فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ فِي مِلْكِهِ قِيَاسًا عَلَى ابْتِدَاءِ صَيْدِهِ فِي إِحْرَامِهِ : وَلِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ لَا يُرَادُ لِلْبَقَاءِ ، فَإِذَا مَنَعَ الْإِحْرَامَ مِنَ ابْتِدَائِهِ مَنَعَ مِنَ اسْتَدَامَتْهُ ، كَاللِّبَاسِ طَرْدًا وَالنِّكَاحَ عَكْسًا ، فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فَإِذَا قُلْنَا بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَأَنَّ مِلْكَهُ لَا يَزُولُ عَنْهُ بِإِحْرَامِهِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ سَائِرِ أَمْوَالِهِ إِلَّا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَبْحُهُ ، فَإِنْ ذَبَحَهُ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَفِعْلُهُ جَائِزٌ فِيهِ ، فَيَجُوزُ أَنْ يَبِيعَهُ وَيَهَبَهُ ، وَلَا يَلْزَمُهُ تَخْلِيَتُهُ ، وَإِنْ قَتَلَهُ غَيْرُهُ كَانَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ ، وَإِنْ أَرْسَلَهُ كَانَ أَحَقَّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ ، وَإِذَا حَلَّ مِنْ إِحْرَامِهِ جَازَ أَنْ يَذْبَحَهُ وَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ مَاتَ إِحْلَالُهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْقَوْلِ الثَّانِي : أَنَّ مِلْكَهُ قَدْ زَالَ عَنْهُ بِإِحْرَامِهِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا صَادَهُ مِنْ إِحْرَامِهِ ، فَلَا يَكُونُ مَالِكًا لَهُ وَعَلَيْهِ تَخْلِيَتُهُ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهُ وَلَا هِبَتُهُ ، فَإِنْ وَهَبَهُ لِغَيْرِهِ كَانَ ضَامِنًا لَهُ حَتَّى يُرْسِلَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ ، وَإِنْ أَرْسَلَهُ مِنْ يَدِهِ فَهُوَ وَغَيْرُهُ فِيهِ سَوَاءٌ ، وَإِنِ اغْتَصَبَهُ غَيْرُهُ مِنْ يَدِهِ فَأَرْسَلَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَى مُرْسِلِهِ ، وَإِنْ مَاتَ فِي يَدِهِ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ ، وَإِنْ قَتَلَهُ غَيْرُهُ نُظِرَ فِي الْقَاتِلِ فَإِنْ كَانَ مُحِلًّا فَالْجَزَاءُ عَلَى الْمُحْرِمِ : لِأَنَّهُ ضَمِنَهُ بِالْيَدِ ، وَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ مُحْرِمًا فَعَلَى وَجْهَيْنِ كَمَا قُلْنَا فِي الْمُمْسِكِ وَالْقَاتِلِ إِذَا كَانَا مُحْرِمَيْنِ صيد الحرم : أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ : أَنَّ الْجَزَاءَ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ : لِأَنَّ الْمُمْسِكَ ضَامِنٌ بِيَدِهِ ، وَالْقَاتِلَ ضَامِنٌ بِفِعْلِهِ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْجَزَاءَ كُلَّهُ عَلَى الْقَاتِلِ : لِأَنَّهُ مُبَاشِرٌ ، فَأَمَّا إِنْ حَلَّ مِنْ إِحْرَامِهِ وَالصَّيْدُ فِي يَدِهِ ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ عَلَيْهِ إِرْسَالُهُ ، فَإِنْ قَتَلَهُ بَعْدَ إِحْلَالِهِ فَمَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ : أَنَّ عَلَيْهِ الْجَزَاءَ : لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ ضَامِنًا لَهُ بِالْيَدِ . وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا : أَنَّهُ لَا جَزَاءَ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ مُحِلٌّ قَاتِلٌ لِصَيْدٍ فِي الْحِلِّ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُرْسِلَهُ لَوْ لَمْ يَقْتُلْهُ ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ ، لَأَنَّ الْجَزَاءَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ بِفِعْلِهِ ، وَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِيَدِهِ .
فَصْلٌ : إِذَا وَهَبَ الْمُحِلُّ صَيْدًا لِمُحْرِمٍ أَوْ بَاعَهُ عَلَى مُحْرِمٍ لَمْ يَجُزْ وَكَانَ الصَّيْدُ بَاقِيًا عَلَى مَلِكِ الْمُحِلِّ : لِأَنَّ الْمُحْرِمَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَتَمَلَّكَ فِي إِحْرَامِهِ صَيْدًا ، فَإِنْ لَمْ يَجْعَلِ الْمُحْرِمُ عَلَى الصَّيْدِ يَدًا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، فَإِنْ صَارَتْ يَدُهُ عَلَيْهِ بِأَنْ قَبَضَهُ بِالْهِبَةِ أَوْ بِالْبَيْعِ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ بِالْجَزَاءِ لِلْفُقَرَاءِ وَبِالْقِيمَةِ لِلْمَالِكِ إِنْ كَانَ مَقْبُوضًا عَنْ بَيْعٍ : لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ عَنْ بَيْعٍ فَاسِدٍ مَضْمُونٌ ، وَإِنْ كَانَ مَقْبُوضًا عَنْ هِبَةٍ فَفِي ضَمَانِ قِيمَتِهِ لِمَالِكِهِ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْهِبَةِ : هَلْ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِمَا الْمُكَافَأَةَ أَمْ لَا ؟ : أَحَدُهُمَا : عَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَتِهِ إِذَا قِيلَ إِنَّ الْمُكَافَأَةَ مُسْتَحَقَّةٌ . وَالثَّانِي : لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إِذَا قِيلَ إِنَّ الْمُكَافَأَةَ غَيْرُ مُسْتَحَقَّةٍ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ ضَامِنٌ لَهُ بِالْجَزَاءِ لِلْفُقَرَاءِ وَبِالْقِيمَةِ لِلْمَالِكِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَمُوتَ فِي يَدِهِ بِسَبَبٍ أَوْ غَيْرِ سَبَبٍ فَقَدِ اسْتَقَرَّ الضَّمَانُ فَيَلْزَمُهُ ضَمَانُ الْجَزَاءِ لِلْفُقَرَاءِ ، أَوْ ضَمَانُ الْقِيمَةِ لِلْمَالِكِ عَلَى مَا وَصَفْنَا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى مَالِكِهِ فَيَسْقُطَ عَنْهُ ضَمَانُ قِيمَتِهِ لِلْمَالِكِ وَيَبْقَى عَلَيْهِ ضَمَانُ الْجَزَاءِ لِلْفُقَرَاءِ : لِأَنَّ الصَّيْدَ إِذَا ضُمِنَ بِالْجَزَاءِ لَمْ يَسْقُطْ ضَمَانُهُ إِلَّا بِإِرْسَالٍ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يُرْسِلَهُ فَيَسْقُطَ عَنْهُ ضَمَانُ الْجَزَاءِ وَيَبْقَى عَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَتِهِ لِلْمَالِكِ عَلَى مَا وَصَفْنَا . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا فِي يَدِهِ حَتَّى يَحِلَّ مِنْ إِحْرَامِهِ ، فَضَمَانُ قِيمَتِهِ لِلْمَالِكِ بَاقٍ عَلَيْهِ ، فَأَمَّا ضَمَانُ الْجَزَاءِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ بَاقٍ عَلَيْهِ . وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ : أَنَّهُ قَدْ سَقَطَ ضَمَانُ الْجَزَاءِ عَنْهُ .
فَصْلٌ : إِذَا مَلَكَ الْمُحِلُّ صَيْدًا ثُمَّ مَاتَ وَوَارِثُهُ مُحْرِمٌ فَلَا حَقَّ لِغَيْرِ الْوَارِثِ فِي الصَّيْدِ ، وَلَكِنْ هَلْ يَمْلِكُهُ الْوَارِثُ فِي حَالِ إِحْرَامِهِ أَوْ بَعْدَ إِحْلَالِهِ الصيد ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَكُونُ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِ الْمَيِّتِ وَلَا يَنْتَقِلُ إِلَى مِلْكِ الْوَارِثِ إِلَّا بَعْدَ إِحْلَالِهِ : لِأَنَّ الْمُحْرِمَ لَا يَصِحُّ مِنْهُ أَنْ يَبْتَدِئَ مَلِكُ صَيْدٍ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَنْتَقِلُ إِلَى مِلْكِ الْوَارِثِ فِي الْحَالِ ، وَإِنْ كَانَ مُحْرِمًا : لِأَنَّ الْمِيرَاثَ يُمْلَكُ بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ ، فَبَايَنَ سَائِرَ التَّمْلِيكَاتِ .
فَصْلٌ : إِذَا بَاعَ الْمُحِلُّ صَيْدًا عَلَى مُحِلٍّ ثُمَّ أَحْرَمَ الْبَائِعُ وَأَفْلَسَ الْمُشْتَرِي قَبْلَ دَفْعِ الثَّمَنِ لَمْ يَكُنِ لِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِعَيْنِ مَالِهِ وَهُوَ الصَّيْدُ مَا دَامَ مُحْرِمًا : لِأَنَّ الرُّجُوعَ بِهِ أَبْدَى تَمَلُّكَهُ لِلصَّيْدِ بِاخْتِيَارِهِ ، فَإِنْ أَحَلَّ مِنْ إِحْرَامِهِ جَازَ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ .
فَصْلٌ : إِذَا اسْتَعَارَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا مِنْ مُحِلٍّ فَتَلِفَ الصَّيْدُ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيالإحصار في الحج رِ الْمُحْرِمِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ الْجَزَاءِ لِلْمَسَاكِينِ وَالْقِيمَةِ لِلْمَالِكِ ، أَمَّا الْجَزَاءُ فَلِأَنَّهُ صَيْدٌ تَلِفَ فِي يَدِ مُحْرِمٍ ، وَأَمَّا الْقِيمَةُ فَلِأَنَّهَا عَارِيَةٌ تَلِفَتْ فِي يَدِ مُسْتَعِيرٍ ، فَأَمَّا إِذَا اسْتَعَارَ الْمُحِلُّ صَيْدًا مِنْ مُحْرِمٍ فَتَلِفَ الصَّيْدُ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ الْمُحِلِّ فَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْمُحْرِمِ : هَلْ يَزُولُ مِلْكُهُ عَنِ الصَّيْدِ أَمْ لَا : فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ مِلْكَهُ قَدْ زَالَ عَنِ الصَّيْدِ فَعَلَى الْمُحْرِمِ الْمُعِيرِ الْجَزَاءُ وَلَا قِيمَةَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ الْمُحِلِّ ، وَإِنَّمَا لَزِمَ الْمُعِيرَ الْجَزَاءُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ ضَامِنًا لَهُ بِالْيَدِ وَلَمْ يَلْزَمِ الْمُسْتَعِيرَ بِالْقِيمَةِ : لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ خَرَجَ مِنْ مِلْكِ الْغَيْرِ ، وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ مِلْكَهُ لَمْ يَزَلْ عَنِ الصَّيْدِ فَلَا جَزَاءَ عَلَى الْمُحْرِمِ وَالْمُعِيرِ : لِأَنَّهُ لَا يَضْمَنُهُ إِلَّا بِالْجِنَايَةِ ، وَعَلَى الْمُسْتَعِيرِ الْمُحِلِّ الْقِيمَةُ : لِأَنَّهَا عَارِيَةٌ مَمْلُوكَةٌ ، وَالْعَارِيَةُ مَضْمُونَةٌ .
مَسْأَلَةٌ كُلُّ مَا وَجَبَ بِالْإِحْرَامِ مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ أَوْ كَفَارَّةِ أَذَى أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ سَائِرِ الدِّمَاءِ فَهُوَ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالْقِرَانِ سَوَاءٌ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " مُفْرِدًا كَانَ أَوْ قَارِنًا فَجَزَاءٌ وَاحِدٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : كُلُّ مَا وَجَبَ بِالْإِحْرَامِ مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ أَوْ كَفَارَّةِ أَذَى أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ سَائِرِ الدِّمَاءِ فَهُوَ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالْقِرَانِ سَوَاءٌ ، فَإِنْ قَتَلَ الْقَارِنُ صَيْدًا فَعَلَيْهِ جَزَاءٌ وَاحِدٌ وَإِنْ حَلَقَ أَوْ تَطَيَّبَ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : مَحْظُورَاتُ الْإِحْرَامِ تَتَضَاعَفُ عَلَى الْقَارِنِ ، فَإِذَا قَتَلَ الْقَارِنُ صَيْدًا فَعَلَيْهِ جَزَاءَانِ ، وَإِنْ حَلَقَ أَوْ تَطَيَّبَ فَعَلَيْهِ دَمَانِ ؛ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ قَالَ : لِأَنَّهُ أَدْخَلَ نَقْضًا عَلَى نُسُكَيْنِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَفْتَدِيَ بِجَزَاءَيْنِ وَكَفَارَّتَيْنِ كَمَا لَوْ كَانَ النُّسُكَانِ مُفْرَدَيْنَ ، قَالَ : وَلِأَنَّ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ تُوجِبُ الْكَفَّارَةَ ، وَقَدْ تُوجِبُ الْقَضَاءَ ، فَلَمَّا كَانَ مَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ وَهُوَ الْوَطْءُ إِذَا أَوْدَعَهُ فِي الْقِرَانِ مُخَالِفًا لِمَا أَوْقَعَهُ فِي الْإِفْرَادِ وَلَزِمَهُ كَفَّارَتَانِ . وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا : أَنَّهُ أَحَدُ مُوَجِبِي فِعْلِهِ الْمَحْظُورِ فِي إِحْرَامِهِ ، فَوَجَبَ أَنَّ مُوجَبَ الْقِرَانِ أَغْلَظُ مِمَّا أَوْجَبَهُ فِي الْإِفْرَادِ كَالْقَضَاءِ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ : قَوْلُهُ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [ الْمَائِدَةِ : ] ، وَاسْمُ الْإِحْرَامِ يَقَعُ عَلَى الْقَارِنِ وَالْمُفْرَدِ ثُمَّ عَلَّقَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ جَزَاءً وَاحِدًا فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهِ سِوَاهُ : وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فِي الضَّبُعِ إِذَا أَصَابَهُ الْمُحْرِمُ كَبْشًا ، فَعَمَّ بِالْحُكْمِ كُلَّ مُحْرِمٍ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مُفْرِدٍ أَوْ قَارَنٍ ، وَلِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَهُوَ أَنَّهُمْ أَوْجَبُوا عَلَى الْمُحْرِمِ فِي النَّعَامَةِ بِدِنَةً ، وَفِي حِمَارِ الْوَحْشِ بَقَرَةً ، وَفِي الضَّبُعِ كَبْشًا ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا
بَيْنَ مُفْرِدٍ أَوْ قَارِنٍ : وَلِأَنَّهُمَا حُرْمَتَانِ يَجِبُ بِهَتْكِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى الْإِفْرَادِ جَزَاءٌ وَاحِدٌ ، فَوَجَبَ إِذَا جَمَعَهُمَا أَنْ يَجِبَ بِهَتْكِهِمَا جَزَاءٌ وَاحِدٌ ، كَالْمُحْرِمِ إِذَا قَتَلَ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ : وَلِأَنَّهُ صَيْدٌ وَاحِدٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ بِقَتْلِهِ إِلَّا جَزَاءٌ وَاحِدٌ ، كَالْمُفْرَدِ ؛ لِأَنَّهُ نَقْصٌ يَجِبُ عَلَى الْمُفْرِدِ بِهِ دَمٌ وَاحِدٌ ، فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ عَلَى الْقَارِنِ بِهِ دَمٌ وَاحِدٌ كَتَرْكِ الْمِيقَاتِ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى قَتْلِ الصَّيْدِ فِي نُسُكَيْنِ مُفْرَدَيْنِ فَالْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ جَزَاءَانِ : لِأَنَّهُ قَتَلَ الصَّيْدَيْنِ ؟ فَلِذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْهِ جَزَاءَانِ ، وَلَوْ قَتَلَهُمَا فِي نُسُكٍ وَاحِدٍ لَوَجَبَ عَلَيْهِ جَزَاءَانِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْقَارِنُ : لِأَنَّهُ قَتَلَ صَيْدًا وَاحِدًا فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ جَزَاءٌ وَاحِدٌ كَالْمُفْرِدِ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْقَضَاءِ فَمُنْتَقِضٌ بِتَرْكِ الْمِيقَاتِ ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْقَضَاءِ : أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ بِالْأَدَاءِ ، فَلَمَّا كَانَ مُؤَدِّيًا لِنُسُكَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا لِنُسُكَيْنِ ، وَالْجَزَاءُ مُعْتَبَرٌ بِالصَّيْدِ ، فَلَمَّا كَانَ الصَّيْدُ وَاحِدًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ وَاحِدًا .
مَسْأَلَةٌ اشْتَرَكُوا فِي قَتْلِ صَيْدٍ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ إِلَّا جَزَاءٌ وَاحِدٌ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوِ اشْتَرَكُوا فِي قَتْلِ صَيْدٍ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ إِلَّا جَزَاءٌ وَاحِدٌ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ مُحْرِمُونَ فِي قَتْلِ صَيْدٍ فَعَلَى جَمَاعَتِهِمْ جَزَاءٌ وَاحِدٌ ، وَلَوْ كَانُوا مِائَةً ، . وَهُوَ قَوْلُ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ : عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَزَاءٌ كَامِلٌ ، ثُمَّ نَاقَضَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ فَقَالَ : إِذَا اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ فِي قَتْلِ صَيْدِ الْمُحْرِمِ فَعَلَى جَمِيعِهِمْ جَزَاءٌ وَاحِدٌ ، وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : هَلْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَزَاءٌ كَامِلٌ أَمْ لَا ؟ . وَالثَّانِي : هَلِ الْجَزَاءُ يَجْرِي مَجْرَى الْكَفَّارَاتِ أَوْ ضَمَانِ الْأَمْوَالِ ، وَاسْتَدَلُّوا أَنَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَزَاءً كَامِلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [ الْمَائِدَةِ : ] ، فَعَلَّقَ الْجَزَاءَ عَلَى شَرْطِ الْقَتْلِ بِلَفْظَةِ " مَنْ " ، وَلَفْظَةُ ( مَنْ ) إِذَا عُلِّقَ عَلَيْهَا الْجَزَاءُ اسْتَوَى حَالُ الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ فِي اسْتِحْقَاقِ ذَلِكَ الْجَزَاءِ كَقَوْلِهِ : مَنْ دَخَلَ دَارِي فَلَهُ دِرْهَمٌ ، فَلَوْ دَخَلَهَا وَاحِدٌ اسْتَحَقَّ دِرْهَمًا وَلَوْ دَخَلَهَا مِائَةٌ اسْتَحَقَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ دِرْهَمًا كَذَلِكَ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ : وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ هَتَكَ حُرْمَةَ إِحْرَامِهِ بِالْقَتْلِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ جَزَاءٌ كَامِلٌ ، كَمَا لَوْ تَفَرَّدَ بِالْقَتْلِ ، وَلِأَنَّهَا كَفَّارَةٌ يَدْخُلُهَا الصَّوْمُ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَنْتَقِضَ قِيَاسًا عَلَى كَفَّارَةِ الْقَتْلِ ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى أَنَّ الْجَزَاءَ يَجْرِي مَجْرَى الْكَفَّارَاتِ دُونَ ضَمَانِ الْأَمْوَالِ بِأَنَّ مَنْ قَتَلَ صَيْدًا لِنَفْسِهِ لَزِمَهُ الْجَزَاءُ ، وَلَوْ كَانَ يَجْرِي مَجْرَى ضَمَانِ الْأَمْوَالِ سَقَطَ عَنْهُ الْجَزَاءُ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ : أَلَا تَرَى أَنَّ الدِّيَةَ لَمَّا كَانَتْ جَارِيَةً مَجْرَى ضَمَانِ الْأَمْوَالِ سَقَطَتْ عَنِ السَّيِّدِ فِي قَتْلِ عَبْدِهِ ، وَلَمَّا كَانَتِ الْكَفَّارَاتُ مُخَالَفَةً لَهَا لَمْ تَسْقُطِ الْكَفَّارَاتُ عَنِ السَّيِّدِ بِقَتْلِ عَبْدِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ قَتَلَ صَيْدًا مَمْلُوكًا المحرم لَزِمَهُ الْجَزَاءُ وَالْقِيمَةُ ، فَلَوْ كَانَ الْجَزَاءُ كَالْقِيمَةِ لَمْ يَجْتَمِعَا ، وَلِأَنَّ الْجَزَاءَ يَدْخُلُ فِيهِ
الصَّوْمُ ، وَضَمَانُ الْأَمْوَالِ لَا يَدْخُلُ فِيهِ الصَّوْمُ : وَلِأَنَّ مَا سِوَى الْجَزَاءِ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ كَفَارَّةٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ الَّذِي هُوَ أَيْضًا مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ كَفَّارَةٌ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ جَزَاءً وَاحِدًا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [ الْمَائِدَةِ : ] ، وَمِنْهَا دَلِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ عَلَّقَ الْجَزَاءَ بِلَفْظِ ( مَنْ ) عَلَى شَرْطِ الْقَتْلِ ، وَالشَّرْطُ إِذَا عُلِّقَ عِلْمُهُ بِلَفْظِ ( مَنْ ) إِنْ كَانَ مَوْجُودًا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْجَمَاعَةِ اسْتَحَقَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَزَاءً كَامِلًا كَقَوْلِهِ : مَنْ دَخَلَ دَارِي فَلَهُ دِرْهَمٌ ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ دِرْهَمٌ : لِأَنَّ الدُّخُولَ مَوْجُودٌ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، وَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ مَوْجُودًا مِنْ جَمَاعَتِهِمْ فَالْجَزَاءُ مُسْتَحَقٌّ مِنْ جَمَاعَتِهِمْ دُونَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، كَقَوْلِهِ : مَنْ جَاءَ بِعَبْدِيَ الْآبِقِ فَلَهُ دِرْهَمٌ ، وَمَنْ شَالَ الْحَجَرَ فَلَهُ دِرْهَمٌ ، فَإِذَا اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ فِي شَيْلِ الْحَجْرِ وَالْمَجِيءِ بِالْآبِقِ فَالدِّرْهَمُ مُسْتَحَقٌّ بَيْنَ جَمَاعَتِهِمْ ، وَلَا يَسْتَحِقُّهُ كُلُّ وَاحِدٍ فِي شَيْلِ الْحَجْرِ وَالْمَجِيءِ بِالْآبِقِ وُجِدَ مِنْ جَمَاعَتِهِمْ دُونَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَذَلِكَ الْقَتْلُ لَمَّا كَانَ مَوْجُودًا مِنْ جَمَاعَتِهِمْ دُونَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ مُسْتَحَقًّا بَيْنَ جَمَاعَتِهِمْ دُونَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، وَفِي هَذَا اسْتِدْلَالٌ وَانْفِصَالٌ . وَالدَّلِيلُ الثَّانِي مِنَ الْآيَةِ : قَوْلُهُ تَعَالَى : فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [ الْمَائِدَةِ : ] ، فَأَوْجَبَ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ جَزَاءً وَهُوَ مِثْلُ الْمَقْتُولِ ، وَمِثْلُ الْوَاحِدِ وَاحِدٌ ، سَوَاءٌ كَانَ الْقَتْلُ مِنْ قَاتَلٍ وَاحِدٍ أَوْ مِنْ جَمَاعَةٍ ، كَمَا أَنَّ مِثْلَ الْعَشْرَةِ عَشْرَةٌ ، سَوَاءٌ كَانَ الْقَتْلُ مِنْ وَاحِدٍ أَوْ مِنْ جَمَاعَةٍ ، وَمِنَ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ : حَدِيثُ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الضَّبُعُ صَيْدٌ يُؤْكَلُ وَفِيهِ كَبْشٌ إِذَا أَصَابَهُ الْمُحْرِمُ فَذَكَرَ الْمُحْرِمَ بِالْأَلْفِ وَاللَّامِ الْمُسْتَوْعِبَةِ لِلْجِنْسِ : ثُمَّ جَعَلَ جَمِيعَ مُوجِبِهِ الْكَبْشَ : وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - رُوِيَ ذَلِكَ عَنْهُمْ فِي قَضِيَّتَيْنِ مُنْتَشِرَتَيْنِ : إِحْدَاهُمَا : مَا رُوِيَ أَنَّ مَوَالِيَ لِابْنِ الزُبَيْرِ أَحْرَمُوا فَمَرَّتْ بِهِمْ ضَبُعٌ فَحَذَفُوهَا بِعِصِيِّهِمْ فَأَصَابُوهَا فَوَقَعَ فِي أَنْفُسِهِمْ ، فَأَتَوُا ابْنَ عُمَرَ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ ، فَقَالَ : إِنِّي لَمُعَرِّتٌ بِكَمْ : عَلَيْكُمْ كَبْشٌ ، فَقَالُوا : عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا ؟ فَقَالَ : بَلَ عَلَيْكُمْ جَمِيعًا ، يَعْنِي بِقَوْلِهِ : إِنِّي لَمُعَرِّتٌ أَيْ : لَمُشَدِّدٌ عَلَيْكُمْ . وَالثَّانِيَةُ : مَا رُوِيَ أَنَّ مُحْرِمَيْنِ وَطِئَا صَيْدًا بِفَرَسِهِمَا فَقَتَلَاهُ فَسَأَلَا عُمَرَ عَنْهُ فَقَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ : مَا تَقُولُ فِيهِ ؟ قَالَ : عَلَيْهِمَا شَاةٌ ، فَقَضَى عُمَرُ عَلَيْهِمَا بِالشَّاةِ ، فَكَانَ ذَلِكَ مَذْهَبَ عُمَرَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ وَابْنِ عُمَرَ فِي قَضِيَّتَيْنِ مُنْتَشِرَتَيْنِ ، وَلَيْسَ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ ، وَمِنْ طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ أَنْ نَقُولَ : لِأَنَّهُ صَيْدٌ وَاحِدٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ بِقَتْلِهِ إِلَّا جَزَاءٌ وَاحِدٌ كَالْقَاتِلِ الْوَاحِدِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ صَيْدٍ لَوِ انْفَرَدَ بِقَتْلِهِ كَانَ فِيهِ جَزَاءٌ وَاحِدٌ فَإِذَا اشْتَرَكَ فِيهِ جَمَاعَةٌ كَانَ فِيهِ جَزَاءٌ وَاحِدٌ كَالْمُحِلَّيْنِ إِذَا اشْتَرَكُوا فِي قَتْلِ صَيْدٍ فِي الْمُحْرِمِ وَلِأَنَّ الصَّيْدَ قَدْ يُضْمَنُ بِالْجَزَاءِ وَيُضْمَنُ
بِالْقِيمَةِ ، فَلَمَّا اسْتَوَى فِي ضَمَانِ الْقِيمَةِ حَالُ الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِي ضَمَانِ الْجَزَاءِ حَالُ الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ . وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا : أَنَّهُ صَيْدٌ مَضْمُونٌ بِالْجِنَايَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِي جِنَايَةِ الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ كَالْقِيمَةِ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْجَزَاءَ يَجْرِي مَجْرَى ضَمَانِ الْأَمْوَالِ دُونَ الْكَفَّارَاتِ : أَنَّ الْجَزَاءَ قَدْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ صَغِيرِ الصَّيْدِ وَكَبِيرِهِ ، كَمَا يَخْتَلِفُ ضَمَانُ قِيمَتِهِ بِاخْتِلَافِ صِغَرِهِ وَكِبَرِهِ ، وَلَوْ كَانَ كَفَّارَةً لَاسْتَوَى حُكْمُهُمَا فِي صِغَارِ الصَّيْدِ وَكِبَارِهِ كَمَا أَنَّ كَفَّارَةَ النُّفُوسِ تَسْتَوِي فِي كِبَارِ الْآدَمِيِّينَ وَصِغَارِهِمْ : وَلِأَنَّ الْجَزَاءَ لَوْ جَرَى مَجْرَى الْكَفَّارَةِ لَمَا كَانَ مَضْمُونًا بِالْيَدِ وَلَكَانَ لَا يُضْمَنُ إِلَّا بِالْجِنَايَةِ مِثْلَ كَفَّارَاتِ النُّفُوسِ ، فَلَمَّا كَانَ مَضْمُونًا بِالْيَدِ وَالْجِنَايَةِ ثَبَتَ أَنَّ ضَمَانَهُ ضَمَانُ الْأَمْوَالِ ؟ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ الْمَغْصُوبَ إِذَا مَاتَ فِي يَدِ غَاصِبِهِ مِنْ غَيْرِ جِنَايَةٍ فَضَمِنَهُ بِالْيَدِ وَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَتِهِ وَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ قَتْلِهِ : وَلِأَنَّ الْجَزَاءَ قَدْ يَجِبُ فِي الْجُمْلَةِ وَالْأَبْعَاضِ ، وَالْكَفَّارَةَ تَجِبُ فِي الْجُمْلَةِ وَلَا تُجِبُ فِي الْأَبْعَاضِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ضَمَانَهُ ضَمَانُ الْأَمْوَالِ ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَقَدْ مَضَى . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْمُنْفَرِدِ فَقَدْ عَارَضَهُ قِيَاسًا عَلَى الْمُنْفَرِدِ ، ثُمَّ نَذْكُرُ أَوْصَافَ عِلَّتِهِمْ وَنُعَلِّقُ عَلَيْهَا ضِدَّ حُكْمِهِمْ فَنَقُولُ : لِأَنَّهُ هَتَكَ حُرْمَةَ إِحْرَامِهِ بِالْقَتْلِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ قَدْرُ مَا أَتْلَفَ كَالْمُنْفَرِدِ ، عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي الْمُنْفَرِدِ أَنَّهُ انْفَرَدَ بِقَتْلِ صَيْدٍ كَامِلٍ : فَلِذَلِكَ لَزِمَهُ جَزَاءٌ كَامِلٌ ، وَالْجَمَاعَةُ إِذَا اشْتَرَكُوا فِي قَتْلِ صَيْدٍ صيد الحرم لَمْ يَنْفَرِدْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِقَتْلِ صَيْدٍ كَامِلٍ : فَلِذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ جَزَاءٌ كَامِلٌ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى كَفَّارَةِ الْقَتْلِ : فَقَدْ حَكَى أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ : أَنَّ عَلَى الْجَمَاعَةِ إِذَا اشْتَرَكُوا فِي قَتْلِ نَفْسٍ كَفَّارَةً وَاحِدَةً ، فَإِنْ صَحَّ هَذَا بَطَلَ الْقِيَاسُ ، وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ : أَنَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ كَفَّارَةً ، فَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي كَفَّارَةِ النُّفُوسِ أَنَّهَا لَا تَزِيدُ بِالصِّغَرِ وَالْكِبْرِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْجَزَاءُ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : لَوْ كَانَ الْجَزَاءُ يَجْرِي مَجْرَى ضَمَانِ الْأَمْوَالِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ فِي إِتْلَافِ مِلْكِهِ ، قُلْنَا : إِنَّمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ مَعَ إِتْلَافِ مِلْكِهِ إِذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقٌّ لِغَيْرِهِ ، فَأَمَّا إِذَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ لِغَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ بِإِتْلَافِ مِلْكِهِ ، كَالْعَبْدِ الْمَرْهُونِ ، وَالصَّيْدُ قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ لِغَيْرِهِ وَهُمُ الْمَسَاكِينُ فَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الضَّمَانُ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّ الْجَزَاءَ لَوْ كَانَ كَالْقِيمَةِ لَمْ يَجْتَمِعَا ، فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ : لِأَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ إِذَا تَمَاثَلَا ، فَأَمَّا إِذَا اخْتَلَفَا فَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَمَاثَلَا ، كَالْجَمْعِ بَيْنَ زَكَاةِ الْفِطْرِ فِي الرَّقِيقِ وَبَيْنَ زَكَاةِ الْقِيمَةِ ، وَكَمَا يَجْمَعُ بَيْنَ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : لَوْ كَانَ كَالضَّمَانِ فِي الْأَمْوَالِ لَمْ يَجُزْ فِيهِ الصَّوْمُ : قُلْنَا : إِنَّمَا جَازَ فِيهِ الصَّوْمُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَقٍّ آدَمِيٍّ مَحْضٍ ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقُّ الْآدَمِيِّ ، فَجَازَ دُخُولُ الصَّوْمِ فِيهِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ .
وَأَمَّا جَمْعُهُمْ بَيْنَ الْجَزَاءِ وَبَيْنَ سَائِرِ الدِّمَاءِ فَالْمَعْنَى فِي سَائِرِ الدِّمَاءِ : لِأَنَّهَا لَا تَخْتَلِفُ صِغَرًا وَكِبَرًا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْجَزَاءُ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْمُشْتَرِكِينَ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ عَلَيْهِمْ جَزَاءٌ وَاحِدٌ ، فَإِنِ اشْتَرَكَ مُحِلٌّ وَمُحْرِمٌ فِي قَتْلِ صَيْدٍ فِي الْحِلِّ فَعَلَى الْمُحْرِمِ نِصْفُ الْجَزَاءِ ، وَيُهْدَرُ نِصْفُ الْجَزَاءِ : لِأَنَّ الْمُحِلَّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْجَزَاءِ ، قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ نَصًّا ، وَكَذَلِكَ لَوِ اشْتَرَكَ مُحْرِمٌ وَحَلَالَانِ فِي قَتْلِ صَيْدٍ فِي الْحِلِّ : كَانَ عَلَى الْمُحْرِمِ ثُلْثُ الْجَزَاءِ وَسَقَطَ الثُّلْثَانِ ، وَلَوِ اشْتَرَكَ مُحْرِمَانِ وَحَلَالٌ في قتل صيد في الحل كَانَ عَلَى الْمُحْرِمَيْنِ ثُلْثَا الْجَزَاءِ وَسَقَطَ الثُّلُثُ ، فَلَوْ جَرَحَ مُحِلٌّ صَيْدًا فِي الْحِلِّ ، ثُمَّ تَحَامَلَ الصَّيْدُ مَجْرُوحًا فَدَخَلَ الْحَرَمَ فَعَادَ الْمُحِلُّ فَجَرَحَهُ ثَانِيَةً فِي الْحَرَمِ ، ثُمَّ مَاتَ الصَّيْدُ : كَانَ عَلَيْهِ نِصْفُ الْجَزَاءِ ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ جِرَاحَتَيْنِ : إِحْدَاهُمَا : غَيْرُ مَضْمُونَةٍ ، كَمَنْ جَرَحَ مُرْتَدًّا فَأَسْلَمَ الْمُرْتَدُّ ، فَعَادَ الْجَارِحُ فَجَرَحَهُ بَعْدَ إِسْلَامِهِ أُخْرَى فَمَاتَ : كَانَ ضَامِنًا لِنِصْفِ دِيَتِهِ ، وَلَوْ أَنَّ مُحِلًّا جَرَحَ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ ثُمَّ تَحَامَلَ الصَّيْدُ فَخَرَجَ إِلَى الْحِلِّ ، فَعَادَ الْجَارِحُ فَجَرَحَهُ جِرَاحَةً ثَانِيَةً فِي الْحِلِّ فَمَاتَ الصَّيْدُ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَجْرَحَهُ الْجِرَاحَةَ الثَّانِيَةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ عَلَيْهِ يَدٌ فَيَلْزَمُهُ نِصْفُ الْجَزَاءِ ، لِأَنَّهُ مَوَّتَهُ مِنْ جُرْحَيْنِ : أَحَدُهُمَا مُبَاحٌ وَالْآخَرُ مَضْمُونٌ ، فَصَارَ كَمَنْ جَرَحَ مُرْتَدًّا فَأَسْلَمَ ، ثُمَّ جَرَحَهُ ثَانِيَةً بَعْدَ إِسْلَامِهِ ؟ ضَمِنَ نِصْفَ دِيَتِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يُثْبَتَ لَهُ عَلَيْهِ يَدٌ عِنْدَ الْجِرَاحَةِ الثَّانِيَةِ : فَيَكُونَ ضَامِنًا لِجَمِيعِ الْجَزَاءِ لِعُدْوَانِ يَدِهِ الْمُوجِبَةِ لِضَمَانِهِ .
فَصْلٌ : إِذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا بَعْضُهُ فِي الْحِلِّ وَبَعْضُهُ فِي الْحَرَمِ ، فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : لَا جَزَاءَ فِيهِ : لِأَنَّ حُرْمَةَ الْحَرَمِ لَمْ تَكْمُلْ لَهُ . وَالثَّانِي : إِنْ كَانَ أَكْثَرُ الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ فَفِيهِ الْجَزَاءُ ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُهُ فِي الْحِلِّ : فَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ فِيهِ ؛ اعْتِبَارًا بِالْأَغْلَبِ مِنْهُ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : إِنْ كَانَ الصَّيْدُ خَارِجًا مِنَ الْحَرَمِ إِلَى الْحِلِّ : فَفِيهِ الْجَزَاءُ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْحَرَمِ ثَابِتَةٌ لَهُ مَا لَمْ تُفَارِقْهُ ، فَإِنَّهُ كَانَ دَاخِلًا مِنَ الْحِلِّ إِلَى الْحَرَمِ : فَلَا جَزَاءَ فِيهِ ، لِأَنَّ حُكْمَ الْحِلِّ جَارٍ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُفَارِقْهُ .
فَصْلٌ : إِذَا رَمَى الْمُحِلُّ سَهْمًا مِنَ الْحِلِّ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحَرَمِ فَقَتَلَهُ : فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ ، لِأَنَّهُ قَاتِلُ الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ ، وَلَوْ رَمَى الْمُحِلُّ سَهْمًا مِنَ الْحَرَمِ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحِلِّ وَبَيْنَ الْحِلَّيْنِ حَرَمٌ فَاعْتَرَضَ السَّهْمُ الْحَرَمَ وَخَرَجَ مِنْهُ إِلَى الْحِلِّ وَقَتَلَ الصَّيْدَ ، فَقَدْ عَلَّقَ الشَّافِعِيُّ الْقَوْلَ فِيهِ فَخَرَّجَهُ أَصْحَابُنَا عَلَى قَوْلَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : لَا جَزَاءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ الرَّمْيِ مِنْ حِلٍّ وَانْتِهَاؤُهُ إِلَى حِلٍّ ، وَحُكْمُ الصَّيْدِ مُعْتَبَرٌ بِأَحَدِهِمَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : عَلَيْهِ الْجَزَاءُ : لِأَنَّ السَّهْمَ أَصَابَ الصَّيْدَ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الْحَرَمِ ، فَصَارَ كَمَا لَوِ ابْتَدَأَ رَمْيَهُ مِنَ الْحَرَمِ ، وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ فِي الْكَلْبِ إِذَا أَرْسَلَهُ الْمُحِلُّ مِنَ الْحِلِّ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحَرَمِ فَقَتَلَهُ : فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ ، وَلَوْ أَرْسَلَهُ مِنَ الْحَرَمِ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحِلِّ الكلب المعلم : فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ ، وَلَوْ أَرْسَلَهُ مِنَ الْحِلِّ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحِلِّ وَبَيْنَ الْحِلَّيْنِ حَرَمٌ الكلب المعلم : فَالْجَزَاءُ عَلَى قَوْلَيْنِ .
فَصْلٌ : إِذَا رَمَى الْمُحِلُّ سَهْمًا مِنَ الْحِلِّ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحِلِّ فَجَازَ السَّهْمُ إِلَى الْحَرَمِ فَقَتَلَ صَيْدًا : فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ ، لِأَنَّهُ قَتَلَ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ بِفِعْلِهِ ، وَلَوْ أَرْسَلَ الْمُحِلُّ كَلْبًا مِنَ الْحِلِّ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحِلِّ فَعَدَلَ الْكَلْبُ عَنْ ذَلِكَ الصَّيْدِ إِلَى صَيْدٍ آخَرَ فِي الْحَرَمِ فَقَتَلَهُ : فَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ السَّهْمِ الْجَائِزِ ، لِأَنَّ لِلْكَلْبِ اخْتِيَارًا ، فَكَانَ عُدُولُهُ مَنْسُوبًا إِلَى اخْتِيَارِهِ ، وَلَيْسَ لِلسَّهْمِ اخْتِيَارٌ ، وَلَوْ أَرْسَلَ كَلْبًا مِنَ الْحِلِّ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحِلِّ فَعَدَا الصَّيْدُ إِلَى الْحَرَمِ فَعَدَا الْكَلْبُ خَلْفَهُ إِلَى الْحَرَمِ فَقَتَلَهُ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا جَزَاءَ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَرْسَلَهُ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحِلِّ ، قَالَ أَصْحَابُنَا : إِنَّمَا أَرَادَ الشَّافِعِيُّ بِذَلِكَ إِذَا كَانَ مُرْسِلُهُ قَدْ زَجَرَهُ عِنْدَ اتِّبَاعِ الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ فَلَمْ يَنْزَجِرْ فَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ : لِأَنَّ قَتْلَ الصَّيْدِ مَنْسُوبٌ إِلَى اخْتِيَارِ الْكَلْبِ إِذَا كَانَ مَزْجُورًا ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَزْجُرْهُ مُرْسِلُهُ وَلَا مَنَعَهُ مِنْهُ اتِّبَاعُهُ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ : لِأَنَّ الْكَلْبَ الْمُعَلَّمَ إِذَا أُرْسِلَ عَلَى صَيْدٍ تَبِعَهُ أَيْنَ تَوَجَّهَ .
فَصْلٌ : إِذَا كَانَتْ شَجَرَةٌ أَصْلُهَا فِي الْحَرَمِ وَفَرْعُهَا فِي الْحِلِّ وَعَلَى فَرْعِهَا صَيْدٌ فَقَتَلَهُ مُحِلٌّ فَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ ؛ اعْتِبَارًا بِمَكَانِهِ مِنَ الْحِلِّ ، وَلَوْ قَطَعَ فَرْعَ الشَّجَرَةِ أَوْ أَصْلَهَا كَانَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ ؛ اعْتِبَارًا بِمَكَانِهِ مِنَ الْحَرَمِ ، وَلَوْ كَانَ أَصْلُ الشَّجَرَةِ فِي الْحِلِّ وَفَرْعُهَا فِي الْحَرَمِ وَعَلَى فَرْعِهَا صَيْدٌ فَقَتَلَهُ مُحِلٌّ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ ؛ اعْتِبَارًا بِمَكَانِهِ مِنَ الْحَرَمِ ، وَلَوْ قَطَعَ الْفَرْعَ أَوْ أَصْلَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ الْجَزَاءُ ؛ اعْتِبَارًا بِمَكَانِهِ مِنَ الْحِلِّ .
مَسْأَلَةٌ مَا قُتِلَ مِنَ الصَّيْدِ لِإِنْسَانٍ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ لِلْمَسَاكِينِ وَقِيمَتُهُ لِصَاحِبِهِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَا قُتِلَ مِنَ الصَّيْدِ لِإِنْسَانٍ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ لِلْمَسَاكِينِ وَقِيمَتُهُ لِصَاحِبِهِ وَلَوْ جَازَ إِذَا تَحَوَّلَ حَالُ الصَّيْدِ مِنَ الْتَوَحُّشِ إِلَى الِاسْتِئْنَاسِ أَنْ يَصِيرَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْأَنِيسِ جَازَ أَنْ يُضَحِّيَ بِهِ وَيُجْزِيَ بِهِ مَا قَتَلَ مِنَ الصَّيْدِ وَإِذَا تَوَحَّشَ الْإِنْسِيُّ مِنَ الْبَقَرِ وَالْإِبِلِ أَنْ يَكُونَ صَيْدًا يُجْزِيهِ الْمُحْرِمُ وَلَا يُضَحِّي بِهِ وَلَكِنْ كُلٌّ عَلَى أَصْلِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا مَمْلُوكًا فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ لِلْمَسَاكِينِ وَقِيمَتُهُ لِمَالِكِهِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَعَامَّةُ الْفُقَهَاءِ ، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ وَمَالِكٌ : عَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِمَالِكِهِ وَلَا
جَزَاءَ فِيهِ بِحَالٍ ، وَجَعَلَا مِلْكَهُ وَاسْتِئْنَاسَهُ مُخْرِجًا لَهُ مِنْ حُكْمِ الصَّيْدِ الْوَحْشِيِّ إِلَى حُكْمِ الْحَيَوَانِ الْإِنْسِيِّ اسْتِدْلَالًا بِشَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ قَالُوا : لِأَنَّهُ حَيَوَانٌ مَمْلُوكٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ فِي قَتْلِهِ الْجَزَاءُ ، كَالنَّعَمِ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ . وَالثَّانِي : أَنْ قَالُوا : الْجَزَاءُ بَدَلٌ وَالْقِيمَةُ بَدَلٌ ، وَلَا يُجْمَعُ بَدَلَانِ فِي مُتْلَفٍ وَاحِدٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ ، فَلَمَّا وَجَبَتِ الْقِيمَةُ سَقَطَ الْجَزَاءُ ، وَدَلِيلُنَا : قَوْلُهُ تَعَالَى : لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [ الْمَائِدَةِ : ] ، فَأَوْجَبَ الْجَزَاءَ فِي جِنْسِ الصَّيْدِ : لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ تَدْخُلَانِ لِلْجِنْسِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعْهُودًا يَعُمُّ الْمَمْلُوكَ وَغَيْرَ الْمَمْلُوكِ ، وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ مُنِعَ مِنْ قَتْلِهِ لِحُرْمَةِ الْإِحْرَامِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ بِقَتْلِهِ ، كَالصَّيْدِ الَّذِي لَمْ يُمْلَكْ ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ يَجِبُ فِي قَتْلِ حَيَوَانٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ فِي قَتْلِ حَيَوَانٍ مَمْلُوكٍ كَالرَّقَبَةِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ خَرَجَ بِالِاسْتِئْنَاسِ عَنْ حُكْمِ الصَّيْدِ إِلَى حُكْمِ الْإِنْسِيِّ حَتَّى لَا يَجِبَ فِي قَتْلِهِ الْجَزَاءُ لَوَجَبَ أَنْ يَصِيرَ كَالْإِنْسِ فِي جَوَازِ الْأُضْحِيَةِ بِهِ ، وَلَوَجَبَ إِذَا تَوَحَّشَ الْإِنْسِيُّ مِنَ النَّعَمِ أَنْ يَصِيرَ فِي حُكْمِ الصَّيْدِ ، فَيَجِبَ فِي قَتْلِهِ الْجَزَاءُ ، وَلَا تَجُوزُ الْأُضْحِيَةُ بِهِ ، فَلَمَّا كَانَ الْإِنْسِيُّ إِذَا تَوَحَّشَ عَلَى حُكْمِ أَصْلِهِ ، وَالْوَحْشُ إِذَا تَأَنَّسَ أَنْ لَا تَجُوزَ الْأُضْحِيَةُ بِهِ عَلَى حُكْمِ أَصْلِهِ : وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي إِيجَابِ الْجَزَاءِ عَلَى حُكْمِ أَصْلِهِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى النَّعَمِ فَالْمَعْنَى فِي النَّعَمِ : أَنَّ الْجَزَاءَ لَمَّا لَمْ يَجِبْ فِيمَا تَوَحَّشَ مِنْهُ لَمْ يَجِبْ فِي غَيْرِهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الصَّيْدُ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّ بَدَلَيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي مُبْدَلٍ وَاحِدٍ ، فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ : إِنَّمَا لَا يَجْتَمِعَانِ فِي مُبْدَلٍ وَاحِدٍ إِذَا اتَّفَقَا ، فَأَمَّا مَعَ اخْتِلَافِهِمَا ، فَيَجُوزُ اتِّفَاقُهُمَا كَمَا تَجْتَمِعُ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ فِي قَتْلِ الْآدَمِيِّ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَلَيْهِ الْجَزَاءَ وَالْقِيمَةَ ، فَالْجَزَاءُ لِلْمَسَاكِينِ كَامِلٌ ، فَأَمَّا الْقِيمَةُ فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ مَا قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ مِنَ الصَّيْدِ مَيْتَةٌ ، فَعَلَيْهِ جَمِيعُ قِيمَتِهِ ، وَالْمَالِكُ أَحَقُّ بِجِلْدِهِ ، وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ مَا قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ مَأْكُولٌ ، فَعَلَيْهِ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ بِالذَّبْحِ ، فَيُقَوَّمُ حَيًّا ، فَإِذَا قِيلَ : بِعَشَرَةٍ قُوِّمَ مَذْبُوحًا ، فَإِذَا قِيلَ بِثَمَانِيَةٍ كَانَ النَّاقِصُ مِنْ قِيمَتِهِ بِالذَّبْحِ دِرْهَمَيْنِ ، فَيَكُونُ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ دِرْهَمَيْنِ لَا غَيْرَ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا قَتَلَ رَجُلٌ صَيْدًا مَمْلُوكًا فِي الْحَرَمِ فَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ مُحِلًّا فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِمَالِكِهِ ، وَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ لَمْ تَثْبُتْ لَهُ حُرْمَةُ الْحَرَمِ ، لِأَنَّهُ قَدْ أُدْخِلَ فِي الْحِلِّ ، وَلَا حُرْمَةُ الْإِحْرَامِ : لِأَنَّ الْقَاتِلَ مُحِلٌّ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَجِبْ فِيهِ الْجَزَاءُ وَوَجَبَتْ فِيهِ الْقِيمَةُ ، فَإِنْ ذَبَحَهُ فَهُوَ مَأْكُولٌ ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ مُحْرِمًا فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ : لِحُرْمَةِ الْإِحْرَامِ ، وَعَلَيْهِ الْقِيمَةُ عَلَى مَا مَضَى .
فَصْلٌ : إِذَا قَتَلَ الْمُحِلُّ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ فَهَلْ يُؤْكَلُ أَمْ لَا ؟ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ : فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْمُحْرِمِ إِذَا قَتَلَ صَيْدًا . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَا يُؤْكَلُ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَا قُتِلَ فِي الْحَرَمِ وَبَيْنَ مَا قُتِلَ فِي الْإِحْرَامِ : أَنَّ الْمُحْرِمَ قَدْ يَسْتَبِيحُ قَتْلَ الصَّيْدِ بَعْدَ إِحْلَالِهِ ، وَالْحَرَمُ لَا يُسْتَبَاحُ قَتْلُ صَيْدِهِ بِحَالٍ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ مُحْرِمًا قَتَلَ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا : هَلْ يُغَلَّبُ حُكْمُ الْحَرَمِ أَوْ حُكْمُ الْإِحْرَامِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَا أَصَابَ مِنَ الْصَيْدِ فِدَاهُ إِلَى أَنْ يَخْرُجَ مِنَ إِحْرَامِهِ ، وَخُرُوجُهُ مِنَ الْعُمْرَةِ بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَالْحِلَاقِ ، وَخُرُوجُهُ مِنَ الْحَجِّ خُرُوجَانِ : الْأَوَّلُ الرَّمْيُ وَالْحِلَاقُ وَهَكَذَا لَوْ طَافَ بَعْدَ عَرَفَةَ وَحَلَقَ وَإِنْ لَمْ يَرْمِ فَقَدْ خَرَجَ مِنَ الْإِحْرَامِ فَإِنْ أَصَابَ بَعْدَ ذَلِكَ صَيْدًا فِي الْحِلِّ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيمَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ مِنْ قَتْلِ الصَّيْدِ وَمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْجَزَاءِ فِيهِ ، وَأَنَّهُ بَعْدَ إِحْلَالِهِ يَسْتَبِيحُ مِنْ قَتْلِ الصَّيْدِ مَا كَانَ مَحْظُورًا عَلَيْهِ فِي إِحْرَامِهِ ، وَإِذَا كَانَ هَذَا مُقَرَّرًا فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُحْرِمِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ إِحْرَامُهُ بِحَجٍّ أَوْ بِعُمْرَةٍ ، فَإِنْ كَانَ إِحْرَامُهُ بِعُمْرَةٍ فَلَهُ إِحْلَالٌ وَاحِدٌ قَدْ ذَكَرْنَاهُ وَهُوَ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ وَالْحِلَاقُ ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ حَلَّ مِنْ إِحْرَامِهِ ، وَإِنْ طَافَ وَسَعَى وَلَمْ يَحْلِقْ فَهَلْ يَتَحَلَّلُ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَدْ حَلَّ إِذَا قِيلَ : إِنَّ الْحَلْقَ إِبَاحَةٌ بَعْدَ حَظْرٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : إِنَّهُ بَاقٍ عَلَى إِحْرَامِهِ يَلْزَمُهُ جَزَاءُ الصَّيْدِ بِقَتْلِهِ إِذَا قِيلَ : إِنَّ الْحَلْقَ نُسُكٌ يَتَحَلَّلُ بِهِ . وَأَمَّا الْحَجُّ فَلَهُ إِحْلَالَانِ فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْحَلْقَ إِبَاحَةٌ بَعْدَ حَظْرٍ كَانَ إِحْلَالُهُ الْأَوَّلُ بِوَاحِدٍ مِنْ شَيْئَيْنِ : إِمَّا الرَّمْيُ أَوِ الطَّوَافُ ، وَإِحْلَالُهُ الثَّانِي بِهِمَا جَمِيعًا ، وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْحَلْقَ نُسُكٌ يَتَحَلَّلُ بِهِ كَانَ إِحْلَالُهُ الْأَوَّلُ بِشَيْئَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةٍ : إِمَّا الرَّمْيُ وَالْحَلْقُ ، أَوِ الرَّمْيُ وَالطَّوَافُ ، أَوِ الْحِلَاقُ وَالطَّوَافُ . وَإِحْلَالُهُ الثَّانِي بِالثَّلَاثَةِ كُلِّهَا ، فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَإِنْ حَلَّ مِنْ حَجِّهِ الْإِحْلَالَ الثَّانِي حَلَّ لَهُ قَتْلُ الصَّيْدِ ، وَإِنْ حَلَّ إِحْلَالَهُ الْأَوَّلَ دُونَ الثَّانِي فَهَلْ يَحِلُّ لَهُ قَتْلُ الصَّيْدِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا : أَحَدُهُمَا : قَدْ حَلَّ وَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ . وَالثَّانِي : هُوَ حَرَامٌ عَلَيْهِ ، وَإِنْ قَتَلَهُ كَانَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ .
فَصْلٌ : قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ ، فَأَمَّا صَيْدُ الْمَدِينَةِ حال الإحرام فَهُوَ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ حَرَامٌ كَصَيْدِ الْحَرَمِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : صَيْدُ الْمَدِينَةِ حَلَالٌ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ صَيْدَ الْمَدِينَةِ مِمَّا تَعُمُّ
بِهِ الْبَلْوَى ، وَمَا عَمَّ بِهِ الْبَلْوَى يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بَيَانُهُ مُنْتَشِرًا وَفِي النَّاسِ مُسْتَفِيضًا ، وَلَيْسَ فِيهِ اسْتِفَاضَةٌ ، فَلَمْ يَصِحَّ تَحْرِيمُهُ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ : مَا رَوَى أَسْعَدُ بْنُ سَوَّارٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ عَبْدَ اللَّهِ وَخَلِيلَهُ ، وَإِنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ ، وَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَةَ ، وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ ، فَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَقْطَعَ شَجَرَهَا إِلَّا لِعَلَفِ بَعِيرِهِ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ حَرَّمَ الْمَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ ، ثُمَّ كَانَ صَيْدُ مَكَّةَ حَرَامًا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ صَيْدُ الْمَدِينَةِ حَرَامًا . وَرَوَى عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنِّي لَأُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لَابَتَيِ الْمَدِينَةِ أَنْ لَا يُقْطَعَ عِضَاهُهَا وَلَا يُقْتَلَ صَيْدُهَا ، وَقَالَ : الْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ لَا يَخْرُجْ عَنْهَا أَحَدٌ رَغْبَةً عَنْهَا إِلَّا أَبْدَلَ اللَّهُ فِيهَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ ، وَلَا يَثْبُتُ أَحَدٌ عَلَى لَأْوَائِهَا وَجَهْدِهَا إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا أَوْ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَهَذَا نَصٌّ ظَاهِرٌ فِي تَحْرِيمِ الصَّيْدِ . وَرَوَى يَزِيدُ التَّيْمِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِنَّ الْمَدِينَةَ حَرَامٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ وَهُمَا جَبَلَانِ بِالْمَدِينَةِ . وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : " حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بَيْنَ لَابَتَيِ الْمَدِينَةِ " قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : فَلَوْ وَجَدْتُ الضِّبَاءَ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا مَا زَعَرْتُهَا وَجُعِلَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ اثْنَا عَشَرَ مِيلًا ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ الْمُسْتَفِيضَةُ عَلَى تَحْرِيمِ صَيْدِ الْمَدِينَةِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ صَيْدَ الْمَدِينَةِ حَرَامٌ فَهَلْ يُضْمَنُ بِالْجَزَاءِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ : إِنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْجَزَاءِ ، وَجَزَاؤُهُ سَلَبُ قَاتِلِهِ : لِمَا رَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ رَأَى رَجُلًا يَصِيدُ بِالْمَدِينَةِ فَسَلَبَهُ ، فَجَاءَهُ مَوَالِيهِ وَسَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ مَا أَخَذَ ، فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَصِيدُ بِالْمَدِينَةِ فَاسْلُبُوهُ ، فَلَا أَرُدُّ طُعْمَةً أَطْعَمَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ إِنْ شِئْتُمْ أَنْ أُعْطِيَهُ ثَمَنَهُ فَعَلْتُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ مِنَ الْإِمْلَاءِ : لَا جَزَاءَ عَلَيْهِ : لِأَنَّ مَا لَا يُضْمَنُ بِالْمِثْلِ مِنَ النَّعَمِ لَمْ يُضْمَنْ بِالْجَزَاءِ وَالسَّلَبِ ، كَالصَّيْدِ الَّذِي لَا يُؤْكَلُ : وَلِأَنَّ كُلَّ صَيْدٍ لَمْ يَكُنْ جَزَاؤُهُ مَصْرُوفًا إِلَى أَهْلِ الْحَرَمِ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا بِالْجَزَاءِ كَصَيْدِ سَائِرِ الْبُلْدَانِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَانِ الْقَوْلَانِ . فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ ، فَقَدْ أَثِمَ قَاتِلُهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ . وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّهُ مَضْمُونٌ ، فَالْوَاجِبُ فِيهِ أَنْ يُؤْخَذَ سَلَبُ قَاتِلِهِ لِحَدِيثِ سَعْدٍ . وَالسَّلَبُ : مَا اسْتَحَقَّهُ الْمُسْلِمُ بِقَتْلِ الْكَافِرِ وَهُوَ ثِيَابُهُ وَسِلَاحُهُ وَدَابَّتُهُ وَآلَتُهُ وَشَبَكَتُهُ ، فَأَمَّا حِلْيَتُهُ وَزِينَتُهُ كَالْخَاتَمِ وَالطَّوْقِ وَالسِّوَارِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ ، وَيُتْرَكُ عَلَى الْقَاتِلِ مَا يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ من السلب ، فَإِذَا أُخِذَ مِنَ الْقَاتِلِ سَلَبُهُ من يملكه ؟ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَكُونُ مِلْكًا لِمَنْ سَلَبَهُ وَأَخَذَهُ : لِأَنَّ سَعْدًا أَخَذَ سَلَبَ قَاتِلِ الصَّيْدِ ، وَقَالَ : لَا أَرُدُّ طُعْمَةً أَطْعَمْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَصْرُوفًا فِي فُقَرَاءِ الْمَدِينَةِ : لِأَنَّ كُلَّ بَلَدٍ كَانَ صَيْدُهُ مَضْمُونًا بِالْجَزَاءِ ، كَانَ جَزَاؤُهُ مَصْرُوفًا إِلَى أَهْلِهِ كَالْحَرَمِ .
فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَأَكْرَهُ فِي الْإِسْلَامِ صَيْدَ وَجٍّ مِنَ الطَّائِفِ : لِأَنَّهُ يُرْوَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَهُ فَنَصَّ عَلَى كَرَاهَتِهِ ، وَلَعَلَّهَا كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ : لِرِوَايَةِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ قَالَ : لَمَّا تَوَجَّهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الطَائِفِ فَبَلَغَ وَجًّا ، قَالَ : صَيْدُ وَجٍّ وَعِضَاهُهُ حَرَامٌ مُحَرَّمٌ ، فَأَمَّا ضَمَانُهُ فَلَمْ يُحْكَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِيهِ شَيْءٌ وَلَا نَصَّ أَصْحَابُنَا عَلَيْهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ جَزَاءِ الطَّائِرِ
أصناف الطائر
بَابُ جَزَاءِ الطَّائِرِ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : " وَالطَّائِرُ صِنْفَانِ : حَمَامٌ وَغَيْرُ حَمَامٍ ، فَمَا كَانَ مِنْهَا حَمَامًا فَفِيهِ شَاةٌ اتِّبَاعًا لِعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَنَافِعِ بْنِ عَبْدِ الْحَرْثِ وَابْنِ عُمَرَ وَعَاصِمِ بِنِ عُمَرَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّيْدَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : دَوَابُّ وَطَائِرٌ ، فَأَمَّا الدَّوَابُّ فَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهَا ، وَأَمَّا الطَّائِرُ فَضَرْبَانِ : مَأْكُولٌ وَغَيْرُ مَأْكُولٍ . فَأَمَّا غَيْرُ الْمَأْكُولِ : فَيَأْتِي . وَأَمَّا الْمَأْكُولُ : فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : حَمَامٌ ، وَدُونَ الْحَمَامِ ، وَفَوْقَ الْحَمَامِ . فَأَمَّا الْحَمَامُ فَهُوَ عِنْدُ الْعَرَبِ مَعْرُوفٌ ، كَـ " الْقَمَارِيِّ " وَالدَّبَاسِيِّ ، وَالْفَوَاخِتِ وَالْوَرَاشِينَ ، وَكَذَلِكَ الْيَمَامُ كَالْحَمَامِ ، وَالْحَمَامُ عِنْدَ الْعَرَبِ : مَا كَانَ مُطَوَّقًا وَالْيَمَامُ : مَا لَمْ يَكُنْ مُطَوَّقًا ، وَكِلَاهُمَا فِي الْحُكْمِ وَالْمَعْنَى سَوَاءٌ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَعَامَّةُ الْحَمَامِ مَا وَصَفْتُ مَا عَبَّ فِي الْمَاءِ عَبًّا مِنَ الطَّيْرِ فَهُوَ حَمَامٌ ، وَمَا شُرْبُهُ قَطْرَةٌ قَطْرَةٌ كَشُرْبِ الدَّجَاجِ فَلَيْسَ بِحَمَامٍ . وَجُمْلَتُهُ : أَنَّ كُلَّ مَا عَبَّ وَهَدَرَ وَزَقَّ فَرْخَهُ فَهُوَ حَمَامٌ ، وَالْيَمَامُ مِثْلُهُ . وَالْعَبُّ هُوَ : أَنْ يَشْرَبَ الْمَاءَ دَفْعَةً وَاحِدَةً . وَالْهَدْرُ هُوَ : أَنْ يُوَاصِلَ صَوْتَهُ . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْحَمَامَ صيد الحمام في الإحرام أو الحرم هُوَ مَا وَصَفْتُ ، فَإِذَا أَصَابَهُ فِي الْحَرَمِ أَوِ الْإِحْرَامِ ، فَفِيهِ شَاةٌ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : فِي الْحَمَامِ قِيمَتُهُ . وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَهُوَ : مَا رُوِيَ عَنْ نَافِعِ بْنِ عَبْدِ الْحَرْثِ قَالَ : قَدِمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَكَّةَ فَدَخَلَ دَارَ النَّدْوَةِ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ ، وَأَرَادَ أَنْ يَسْتَقْرِبَ مِنْهَا الرَّوَاحَ إِلَى الَمَسْجِدِ ، فَأَلْقَى رِدَاءَهُ عَلَى وَاقِفٍ فِي الْبَيْتِ ، فَوَقَعَ عَلَيْهِ طَيْرٌ مِنْ هَذَا الْحَمَامِ ، فَأَطَارَهُ فَانْتَهَزَتْهُ حَيَّةٌ فَقَتَلَتْهُ ، فَلَمَّا صَلَّى الْجُمُعَةَ دَخَلْتُ عَلَيْهِ أَنَا وَعُثْمَانُ فَقَالَ : احْكُمَا عَلَيَّ فِي شَيْءٍ صَنَعْتُهُ الْيَوْمَ ، إِنِّي دَخَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ ، وَأَرَدْتُ أَنْ أَسْتَقْرِبَ مِنْهَا
الرَّوَاحَ إِلَى الْمَسْجِدِ ، فَأَلْقَيْتُ رِدَائِيَ عَلَى هَذَا الْوَاقِفِ ، فَوَقَعَ عَلَيْهِ طَيْرٌ مِنْ هَذَا الْحَمَامِ ، فَخَشِيتُ أَنْ يُلَطِّخَهُ بِسَلْحِهِ فَأَطَرْتُهُ عَنْهُ ، فَوَقَعَ عَلَى هَذَا الْوَاقِفِ الْآخَرِ ، فَانْتَهَزَتْهُ حَيَّةٌ فَقَتَلَتْهُ ، فَوَجَدْتُ فِي نَفْسِي أَنِّي أَطَرْتُهُ مِنْ مَنْزِلَةٍ كَانَ مِنْهَا آمِنًا إِلَى مَوْقِفَةٍ كَانَ فِيهَا حَتْفُهُ " ، فَقُلْتُ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ كَيْفَ تَرَى فِي عَنْزِ ثَنِيَّةِ عَفْرَاءَ تَحْكُمُ بِهَا عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ؟ فَقَالَ : إِنِّي أَرَى ذَلِكَ ، فَأَمَرَ بِهَا عُمَرَ . وَرَوَى عَطَاءٌ أَنَّ ابْنًا لِعُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُمَيْدٍ قَتَلَ حَمَامَةً ، فَقِيلَ ذَلِكَ لِابْنِ عَبَّاسٍ ، فَقَالَ : يَذْبَحُ شَاةً يَتَصَدَّقُ بِهَا . وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ : أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ فَقَالَ : أَغْلَقْتُ بَابًا عَلَى حَمَامَةٍ وَفَرْخَتِهَا فِي الْمَوْسِمِ ، فَرَجَعْتُ وَقَدْ مُتْنَ ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : عَلَيْكَ بِثَلَاثِ شِيَاهٍ ، فَكَانَ هَذَا مَذْهَبَ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَنَافِعِ بْنِ عَبْدِ الْحَرْثِ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمْ مِمَّا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ ، وَلَيْسَ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الشَّاةِ الْوَاجِبَةِ فِي الْحَمَامِ هَلْ وَجَبَتْ تَوْقِيفًا أَوْ مِنْ جِهَةِ الْمُمَاثَلَةِ وَالشَّبَهِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهَا وَجَبَتِ اتِّبَاعًا لِلْأَثَرِ وَتَوْقِيفًا عَنِ الصَّحَابَةِ لَا قِيَاسًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا وَجَبَتْ مِنْ حَيْثُ الشَّبَهِ وَالْمُمَاثِلَةِ : لِأَنَّ فِيهَا أُنْسًا وَإِلْفًا ، وَأَنَّهُمَا يَعُبَّانِ فِي الْمَاءِ عَبًّا .
فَصْلٌ : وَأَمَّا دُونَ الْحَمَامِ قتله في الحرم فَهُوَ : كَالْعُصْفُورِ ، وَالصَّقْرِ ، وَالْقُبَّرَةِ ، وَالضُّوَعِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : هُوَ طَائِرٌ دُونَ الْحَمَامِ ، فَهَذَا كُلُّهُ وَأَشْبَاهُهُ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ ، وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ : غَيْرُ مَضْمُونٍ ، وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ عُمَرَ وَابْنَ عَبَّاسٍ أَوْجَبَا فِي الْجَرَادَةِ الْجَزَاءَ . وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَدْ مَضَى فِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ مِنَ الصَّيْدِ : هَلْ هُوَ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ أَمْ لَا ؟ وَحَكَى الشَّافِعِيُّ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ قَالَ : وَالْكُعَيْتُ عُصْفُورٌ ، فَفِيهِ قِيمَتُهُ ، فَأَمَّا الْوَطْوَاطُ فَهُوَ فَوْقَ الْعُصْفُورِ وَدُونَ الْهُدْهُدِ ، فَفِيهِ إِنْ كَانَ مَأْكُولًا قِيمَتُهُ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا مَا كَانَ فَوْقَ الْحَمَامِ قتله في الحرم فَهُوَ كَالْفَتَّاحِ وَالْقَطَاةِ وَالْكُرْكِيِّ وَالْحُبَارَى ، فَهَذَا وَأَشْبَاهُهُ فَوْقَ الْحَمَامِ ، وَفِيهِ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ : إِنَّ فِيهِ شَاةً ؛ لِأَنَّهَا إِذَا وَجَبَتْ فِي الْحَمَامِ الَّذِي هُوَ أَصْغَرُ مِنْهَا فَأَوْلَى أَنْ يَجِبَ فِيهَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ : إِنَّ فِيهِ قِيمَتَهُ : لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ أَكْبَرَ مِنَ الْحَمَامِ ، وَأَكْثَرَ لَحْمًا مِنْهُ ، فَالْحَمَامُ أَشْرَفُ مِنْهُ وَأَكْثَرُ ثَمَنًا ؟ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِلْفِ وَالْهَدِيرِ وَالصَّوْتِ الْمُسْتَحْسَنِ وَالتَّذْكِيرِ وَالتَّشْوِيقِ إِلَيْهِ ، حَتَّى ذَكَرَتِ الْعَرَبُ ذَلِكَ فِي أَشْعَارِهَا ، فَقَالَ شَاعِرٌ مِنْهُمْ : أَحِنُّ إِذَا حَمَامَةُ بَطْنِ وَجٍّ تَغَنَّتْ فَوْقَ مَرْقَبَةٍ حَنِينًا وَقَالَ آخَرُ : وَقَفْتُ عَلَى الرَّسْمِ الْمُحِيلِ فَهَاجَنِي بُكَاءُ حَمَامَاتٍ عَلَى الرَّسْمِ وُقَّعُ قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَالْعَرَبُ تَقُولُ : الْحَمَامُ نَاسُ الطَّائِرِ ، أَيْ : يَعْقِلُ عَقْلَ النَّاسِ ، فَلَمَّا اخْتُصَّ الْحَمَامُ بِهَذَا وَمَايَزَ مَا سِوَاهُ وَجَبَ أَنْ يَخْتَصَّ فِي الْجَزَاءِ بِوُجُوبِ الشَّاةِ مُبَايَنَةً لِمَا سِوَاهُ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : وَكَذَلِكَ الدَّجَاجُ الْحَبَشِيُّ فِيهِ الْجَزَاءُ قتله في الحرم : لِأَنَّهُ وَإِنْ تَأَنَّسَ فَهُوَ وَحْشُ الْأَصْلِ ، كَالْغَزَالِ الَّذِي قَدْ يَتَأَنَّسُ ، وَإِنْ كَانَ وَحْشِيًّا . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَطَائِرُ الْمَاءِ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ قتله في الحرم ، وَهُوَ مَضْمُونٌ بِالْجَزَاءِ : لِأَنَّهُ وَإِنْ رَعَى فِي الْمَاءِ فَالْبَرُّ مَأْوَاهُ ، وَفِيهِ يُفْرِخُ ، فَأَمَّا الْإِوَزُّ فَمَا نَهَضَ مِنْهُ طَائِرًا بِجَنَاحِهِ فَهُوَ صَيْدٌ قتله في الحرم يُضْمَنُ بِالْجَزَاءِ ، وَمَا لَمْ يَنْهَضْ مِنْهُ طَائِرًا بِجَنَاحِهِ فَلَيْسَ بِصَيْدٍ ، كَالْبَطِّ ، وَلَا جَزَاءَ فِيهِ ، كَمَا لَا جَزَاءَ فِي الدَّجَاجِ ، فَأَمَّا الْحَمَامُ الْأَهْلِيُّ الَّذِي يُسَمَّى الدَّاعِي قتله في الحرم ، وَهُوَ مَا يَكُونُ فِي الْمَنَازِلِ مُسْتَأْنَسًا ، فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْحَمَامِ : لِانْطِلَاقِ الِاسْمِ عَلَيْهِ ، فَفِيهِ الْجَزَاءُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : لَا جَزَاءَ فِيهِ : لِأَنَّهُ لَيْسَ بِصَيْدٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ أَنِيسٌ كَالدَّجَاجِ ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ قِيمَةَ ذَلِكَ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، أَوْ قِيمَةَ مَا كَانَ دُونَ الْحَمَامِ قَوْلًا وَاحِدًا ، فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ وَقْتَ قَتْلِهِ ، ثُمَّ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ عَلَيْهِ قِيمَتَهُ وَقْتَ قَتْلِهِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَصَابَهُ فِيهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ عَلَيْهِ قِيمَتَهُ وَقْتَ قَتْلِهِ فِي مَكَّةَ : لِأَنَّهَا مَحِلُّ الْهَدْيِ دُونَ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَصَابَهُ فِيهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَهَذَا إِذَا أُصِيبَ بِمَكَّةَ أَوْ أَصَابَهُ الْمُحْرِمُ قَالَ عَطَاءٌ فِي الْقُمْرِيِّ وَالدُّبْسِيِّ شَاةٌ ( قَالَ ) وَكُلُّ مَا عَبَّ وَهَدَرَ فَهُوَ حَمَامٌ وَفِيهِ شَاةٌ وَمَا سِوَاهُ مِنَ الطَّيْرِ فِفِيهِ قِيمَتُهُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي أُصِيبَ فِيهِ " .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : هَذَا صَحِيحٌ ، كَانَ مَضْمُونًا مِنَ الطَّائِرِ فِي الْحَرَمِ فَهُوَ مَضْمُونٌ فِي الْحِلِّ إِذَا قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ ، وَالضَّمَانُ فِي الْحَالَيْنِ سَوَاءٌ ، فَإِنْ أَصَابَ الْمُحْرِمُ فِي الْحِلِّ حَمَامَةً فَعَلَيْهِ شَاةٌ ، وَإِنْ أَصَابَ دُونَ الْحَمَامِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ ، وَإِنْ أَصَابَ فَوْقَ الْحَمَامِ في الحرم فَعَلَى قَوْلَيْنِ : وَقَالَ مَالِكٌ : حَمَامُ الْحَرَمِ مَضْمُونٌ بِشَاةٍ ، وَحَمَامُ الْحِلِّ مَضْمُونٌ عَلَى الْمُحْرِمِ بِقِيمَتِهِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ : مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : فِي حَمَامِ الْحِلِّ شَاةٌ ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُ : وَلِأَنَّ مَا كَانَ مَضْمُونًا فِي الْحَرَمِ بِالْجَزَاءِ فَهُوَ مَضْمُونٌ فِي الْحِلِّ عَلَى الْمُحْرِمِ بِمِثْلِ ذَلِكَ الْجَزَاءِ ، كَالصَّيْدِ مِنَ الدَّوَابِّ ، وَلِأَنَّهَا حَمَامَةٌ مَضْمُونَةٌ بِالْجَزَاءِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ فِيهَا شَاةً كَحَمَامَةِ مَكَّةَ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَقَالَ عُمَرُ لِكَعْبٍ فِي جَرَادَتَيْنِ مَا جَعَلْتَ فِي نَفْسِكَ ؟ قَالَ دِرْهَمَيْنِ ، قَالَ بَخٍ دِرْهَمَانِ خَيْرٌ مِنْ مِائَةِ جَرَادَةٍ افْعَلْ مَا جَعَلْتَ فِي نَفْسِكَ ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي جَرَادَةٍ تَمْرَةٌ ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي جَرَادَةٍ تَصَدَّقْ بِقَبْضَةِ طَعَامٍ وَلْيَأْخُذَنَّ بِقَبْضَةِ جَرَادَاتٍ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمَا رَأَيَا فِي ذَلِكَ الْقِيمَةَ فَأَمَرَا بِالِاحْتِيَاطِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، الْجَرَادُ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ حَرَامٌ عَلَى الْمُحْرِمِ ، وَهُوَ مَضْمُونٌ بِالْجَزَاءِ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ : هُوَ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ مِنْ بِئْرِ جَوْثٍ ، وَلَا جَزَاءَ فِيهِ ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ ، وَمِنَ التَّابِعَيْنِ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ . وَمِنَ الْفُقَهَاءِ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ الظَّاهِرِيُّ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ أَبِي الْمُهَزَّمِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةُ قَالَ : كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ فَلَقِينَا رِجْلًا مِنْ جَرَادٍ فَجَعَلْنَا نَقْتُلُهُمْ بِسِيَاطِنَا وَعِصِيِّنَا فَأُسْقِطَ فِي أَيْدِينَا ، وَقُلْنَا : مَا صَنَعْنَا وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ ، فَسَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : لَا بَأْسَ ، صَيْدُ الْبَحْرِ فَلَمَّا جَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ عُلِمَ أَنَّهُ لَا جَزَاءَ فِيهِ ، كَمَا لَا جَزَاءَ فِي صَيْدِ الْبَحْرِ : وَلِأَنَّ الْجَرَادَ كَصَيْدِ الْبَحْرِ فِي أَنَّهُ مَأْكُولٌ مَيِّتًا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَصَيْدِ الْبَحْرِ فِي أَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْجَزَاءِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمْ : رِوَايَةُ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِنَّ مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ سَأَلَتْ رَبَّهَا أَنْ يُطْعِمَهَا لَحْمًا لَا دَمَ فِيهِ ، فَأَطْعَمَهَا الْجَرَادَ ، فَقَالَتِ : اللَّهُمَّ أَعِشْهُ بِغَيْرِ رَضَاعٍ ، وَتَابِعْ بَيْتَهُ بِغَيْرِ شِيَاعٍ .