كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي
بِالسِّهَامِ ، وَإِنْ كَانُوا دُونَهَا رَضَخْنَاهُمْ بِالْأَحْجَارِ ، وَإِنْ كَانُوا أَقْرَبَ مِنْ ذَلِكَ طَعَنَّاهُمْ بِالرِّمَاحِ ، وَإِنْ كَانُوا أَقْرَبَ إِلَيْنَا ضَرَبْنَاهُمْ بِالسُّيُوفِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَذَا هُوَ الْحَرْبُ . وَأَمَّا حَدُّهُ الثَّالِثُ عَلَى التَّقْرِيبِ ، فَهُوَ ثَلَاثُمِائَةِ ذِرَاعٍ : لِأَنَّ فِي الرُّمَاةِ مَنْ يُصِيبُ وَالْإِصَابَةُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا مُتَعَذِّرَةٌ . وَحُكِيَ أَنَّهُ لَمْ يُرَ أَحَدٌ كَانَ يَرْمِي عَلَى أَرْبَعِ مِائَةِ ذِرَاعٍ ، وَيُصِيبُ إِلَّا عَقَبَةَ بْنَ عَامِرٍ الْجُهَنِيُّ ، وَهَذَا شَاذٌّ فِي النَّادِرِ إِنْ صَحَّ ، فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ ، وَلَا يَصِحُّ الْعَقْدُ عَلَيْهِ ، فَإِنْ عُقِدَ النِّضَالُ عَلَى أَكْثَرَ مِنَ الْمَسَافَةِ الْمُعْتَادَةِ ، وَهِيَ مِائَتَا ذِرَاعٍ صَحَّ الْعَقْدُ إِذَا كَانَ مِثْلُ الرَّامِيَيْنِ يُصِيبُ فِيهِمَا ، وَإِنْ كَانَ مِثْلُهُمَا لَا يُصِيبُ مِنْهَا لَمْ يَصِحَّ وَإِنْ عُقِدَ عَلَى أَكْثَرَ مِنَ الْمَسَافَةِ النَّادِرَةِ وَهِيَ ثَلَاثُمِائَةِ ذِرَاعٍ ، وَكَانَ مِثْلُهُمَا لَا يُصِيبُ مِنْهَا ، لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ ، وَإِنْ كَانَ مِثْلُهُمَا قَدْ يُصِيبُ مِنْهَا ، فَفِي صِحَّةِ الْعَقْدِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَصِحُّ لِإِمْكَانِ إِصَابَتِهِمَا مِنْهَا كَالْمَسَافَةِ الْمُعْتَادَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ بَاطِلٌ : لِأَنَّ النَّادِرَ غَرَرٌ ، وَالْغَرَرُ فِي الْعُقُودِ مَرْدُودٌ بِالنَّهْيِ عَنْهُ ، وَحُكْمُهُ مَا بَيْنَ الْمُعْتَادِ وَالنَّادِرِ ، فَيَلْحَقُ بِأَقْرَبِهِمَا إِلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ عَلَى الْمِائَتَيْنِ ، أَقَلَّ مِنْ خَمْسِينَ ، فَهُوَ مِنَ الْمُعْتَادِ ، وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِينَ فَهُوَ فِي النَّادِرِ . وَأَمَّا عَقْدُهُ عَلَى مَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِمِائَةِ ، فَإِذَا كَثُرَتِ الزِّيَادَةُ بَطَلَ الْعَقْدُ عَلَى مَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِمِائَةِ ، فَإِنْ كَثُرَتِ الزِّيَادَةُ بَطَلَ الْعَقْدُ بِهَا ، وَإِنْ قَلَّتِ الزِّيَادَةُ كَانَتْ حُكْمَ الثَّلَاثِمِائَةِ فِي الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ : لِأَنَّ إِغْفَالَ ذِكْرِهِ فِي الْعَقْدِ يُبْطِلُهُ ، فَصَارَ مِنْ لَوَازِمِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ ، وَهُوَ : هَلِ الْإِصَابَةُ مِنَ الْقَرْعِ إِلَى الْخَسْقِ ، هَلْ يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى فَسْخِ الْعَقْدِ ، وَاسْتِئْنَافِ غَيْرِهِ ، أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَصِحُّ بِغَيْرِ فَسْخٍ ، إِلْحَاقًا بِمَحَلِّ الْغَرَضِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَصِحُّ إِلَّا بَعْدَ الْفَسْخِ إِلْحَاقًا بِمَحَلِّ الْإِصَابَةِ مِنَ الْغَرَضِ ، فَإِنِ اعْتُبِرَ فِيهِ الْفَسْخُ ، اسْتَأْنَفَا الرَّمْيَ ، وَإِنْ لَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ الْفَسْخُ بَنَيَا عَلَى الرَّمْيِ الْمُتَقَدِّمِ ، وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ : " وَمَنْ أَجَازَ هَذَا إِجَازَةً فِي الرُّقْعَةِ " أَيْ مَنْ أَجَازَ الزِّيَادَةَ فِي الْمَسَافَةِ ، فَأَوْلَى أَنْ يُجِيزَ تَغْيِيرَ الْغَرَضِ : لِأَنَّ حُكْمَ الْمَسَافَةِ أَغْلَظُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا بَأْسَ أَنْ يَشْتَرِطَا أَنْ يَرْمِيَا أَرْشَاقًا مَعْلُومَةً كُلَّ يَوْمٍ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ ، فَلَا يَفْتَرِقَا حَتَّى يَفْرَغَا مِنْهَا إِلَّا مِنْ عُذْرِ مَرَضٍ أَوْ عَاصِفٍ مِنَ الرِّيحِ المتناضلان " .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : لَا يَخْلُو حَالُ الرَّمْيِ مِنْ حَالَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مَعْقُودًا عَلَى رِشْقٍ وَاحِدٍ يُمْكِنُ رَمْيُ جَمِيعِهِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ ، فَهَذَا يَجِبُ أَنْ يُوَالَى رَمْيُ جَمِيعِهِ ، وَلَا يُفَرَّقَ ، وَلَهُمَا فِيهِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَعْقِدَاهُ مُعَجَّلًا ، فَيَلْزَمُ رَمْيَ جَمِيعِهِ فِي يَوْمِ عَقْدِهِ ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا تَأْخِيرُهُ ، إِلَّا مِنْ عُذْرٍ يَمْنَعُ مِنَ الرَّمْيِ مِنْ مَرَضٍ بِالرَّامِي أَوْ مَطَرٍ أَوْ رِيحٍ يُفْسِدُ آلَةَ الرَّمْيِ ، فَإِنْ أَخَّرَاهُ عَنْ يَوْمِهِمْ عَنْ تَرَاضٍ ، فَهُوَ إِنْظَارٌ لَا يَفْسَدُ بِهِ الْعَقْدُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا . وَالثَّانِي : أَنْ يَعْقِدَاهُ مُؤَجَّلًا فِي يَوْمٍ مُسَمًّى جَعَلَاهُ وَقْتًا لِلرَّمْيِ ، فَفِي الْعَقْدِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ : لِأَنَّهُ عُقِدَ عَلَى عَيْنِ شَرْطٍ فِيهِ تَأْخِيرُ الْقَبْضِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : صَحِيحٌ : لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِأَنَّ الْعَمَلَ فِيهِ مَضْمُونٌ فِي الذِّمَّةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ عَقْدَهُ أَوْسَعُ حُكْمًا مِمَّا عَدَاهُ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْأَصْلُ هُوَ الْمُسْتَحَقَّ فِيهِ الرَّمْيُ ، لَا يُقَدَّمُ قَبْلَهُ ، وَلَا يُؤَخَّرُ بَعْدَهُ ، فَإِنْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا تَقْدِيمَهُ أَوْ تَأْخِيرَهُ ، وَامْتَنَعَ مِنْهُ صَاحِبُهُ ، كَانَ مَحْمُولًا عَلَى الْقَوْلَيْنِ ، وَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى تَقْدِيمِهِ أَوْ تَأْخِيرِهِ مِنْ غَيْرِ فَسْخٍ جَازَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا ، وَلَوْ بَدَّرَ أَحَدُهُمَا ، فَرَمَى قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ لَمْ يُحْتَسَبْ لَهُ بِصَوَابِهِ ، وَلَمْ يُحْتَسَبْ عَلَيْهِ بِخَطَئِهِ : لِأَنَّهُ رَمْيٌ لِمَ يَقْتَضِهِ الْعَقْدُ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَعْقِدَاهُ مُطْلَقًا لَا يَشْتَرِطَا فِيهِ حُلُولًا ، وَلَا تَأْجِيلًا ، فَيَقْتَضِي إِطْلَاقُهُ الْحُلُولَ : لِأَنَّ الْأَجَلَ فِي الْعَقْدِ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِشَرْطِهِ .
فَصْلٌ : وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ مِنَ الْأَصْلِ : أَنْ يَكُونَ النِّضَالُ مَعْقُودًا عَلَى أَرْشَاقٍ كَثِيرَةٍ لَا يُمْكِنُ رَمْيُ جَمِيعِهَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ لِعَقْدِهِ عَلَى مِائَةِ رِشْقٍ ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَشْتَرِطَا فِيهِ مَا يُمْكِنُ ، وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَا فِي كُلِّ يَوْمٍ رَمْيَ أَرْشَاقٍ مَعْلُومَةٍ يَتَّسِعُ الْيَوْمُ لِرَمْيِهَا مِنْ غَيْرِ إِرْهَاقٍ ، فَهَذَا جَائِزٌ ، وَيَخْتَصُّ كُلُّ يَوْمٍ بِرَمْيِ مَا سُمِّيَ فِيهِ ، وَلَا يَلْزَمُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ ، وَلَا النُّقْصَانُ مِنْهُ ، وَلَيْسَ هَذَا بِتَأْجِيلٍ يَخْرُجُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ ، وَإِنَّمَا هُوَ تَقْدِيرُ الرَّمْيِ فِي زَمَانِهِ ، فَصَحَّ وَجْهًا وَاحِدًا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَشْتَرِطَا مَا يَمْتَنِعُ ، وَهُوَ رَمْيُ جَمِيعِ الْأَرْشَاقِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ ، وَهُوَ يَضِيقُ عَنْ جَمِيعِهَا فَهَذَا بَاطِلٌ ، لِامْتِنَاعِهِ ، وَيَكُونُ الْعَقْدُ بِهِ بَاطِلًا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ مُطْلَقًا لَا يَشْتَرِطَا فِيهِ تَقْدِيرَ الرَّمْيِ ، فَيَلْزَمُ فِيهِ أَنْ يَرْمِيَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مَا اتَّسَعَ لَهُ بِحَسْبِ طُولِ النَّهَارِ وَقِصَرِهِ ، وَلَا يَلْزَمُ الرَّمْيُ فِي اللَّيْلِ
لِخُرُوجِهِ عَنْ مَعْهُودِ الْعَمَلِ إِلَى الِاسْتِرَاحَةِ ، وَلَا يَلْزَمُ الِارْتِفَاقُ فِي رَمْيِ النَّهَارِ وَيَكُونُ ابْتِدَاؤُهُ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَانْتِهَاؤُهُ قَبْلَ غُرُوبِهَا ، وَيُمْسِكَانِ عَنْهُ فِي أَوْقَاتِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَأَوْقَاتِ الِاسْتِرَاحَةِ الْمَعْهُودَةِ . وَعَادَةُ الرُّمَاةِ تَخْتَلِفُ فِي مُوَاصَلَةِ الرَّمْيِ : لِأَنَّ فِيهِمْ مَنْ تَكْثُرُ إِصَابَتُهُ إِذَا وَاصَلَ لِقُوَّةِ بَدَنِهِ ، وَشِدَّةِ سَاعَدِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَقِلُّ إِصَابَتُهُ إِذَا وَاصَلَ لِضَعْفِ بَدَنِهِ ، وَشِدَّةِ سَاعَدِهِ ، فَإِذَا عَدَلَ بِهِمَا عَنِ الْمُوَاصَلَةِ وَالْفُتُورِ إِلَى حَالٍ مُعْتَدِلَةٍ اعْتَدَلَ رَمْيُهُمَا وَتَكَافَأَ ، فَإِنْ عَرَضَ مَا يَمْنَعُ مِنَ الرَّمْيِ إِمَّا فِي الزَّمَانِ مِنْ مَطَرٍ أَوْ رِيحٍ ، أَوْ فِي أَبْدَانِهِمَا مِنْ مَرَضٍ أَوْ عِلَّةٍ أُخِّرَ الرَّمْيُ فِيهِ إِلَى زَوَالِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَمَنِ اعْتَلَّتْ أَدَاتُهُ أُبْدِلَ مَكَانَ قَوْسِهِ وَنَبْلِهِ وَوَتَرِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا قَوْلُهُ : " اعْتَلَّتْ أَدَاتُهُ " فَهِيَ كَلِمَةٌ مُسْتَعَارَةٌ يَسْتَعْمِلُهَا الرُّمَاةُ عِنْدَ فَسَادِ آلَتِهِمْ ، مَأْخُوذٌ مِنْ عِلَّةِ الْمَرِيضِ ، فَإِذَا انْكَسَرَ قَوْسُهُ ، أَوْ لَانَ وَانْقَطَعَ وَتَرُهُ ، أَوِ اسْتَرْخَى وَانْدَقَّ سَهْمُهُ أَوِ اعْوَجَّ ، كَانَ لَهُ أَنْ يُبَدِّلَهُ بِغَيْرِهِ صَحِيحًا : لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حُكْمِ الْآلَةِ أَنَّهَا تَبَعٌ لَا تَتَعَيَّنُ فِي الْعَقْدِ ، وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ فِيهِ الرَّامِيَانِ فَلَمْ يَجُزْ إِبْدَالُ الرَّامِي بِغَيْرِهِ إِذَا اعْتَلَّ ، وَجَازِ إِبْدَالُ الْآلَةِ بِغَيْرِهَا إِذَا اعْتَلَّتْ ، وَإِنْ أَرَادَ إِبْدَالَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَعْتَلَّ جَازَ لَكِنْ يَجُوزُ تَأْخِيرُ الرَّمْيِ لِإِبْدَالِهَا إِذَا اعْتَلَّتْ ، وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ لِإِبْدَالِهَا إِذَا لَمْ تَعْتَلَّ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ طَوَّلَ أَحَدُهُمَا بَالْإِرْسَالِ الْتِمَاسَ أَنْ تَبْرُدَ يَدُ الرَّامِي أَوْ يَنْسَى حُسْنَ صَنِيعِهِ فِي السَّهْمِ الَّذِي رَمَاهُ فَأَصَابَ أَوْ أَخْطَأَ ، فَلْيُسْتَعْتَبْ مِنْ طَرِيقِ الْخَطَأِ ، فَقَالَ : لَمْ أَنْوِ هَذَا ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُ ، وَقِيلَ لَهُ : ارْمِ كَمَا يَرْمِي النَّاسُ لَا مُعَجِّلًا عَنِ التَّثَبُّتِ فِي مَقَامِكَ وَنَزْعِكَ وَإِرْسَالِكَ وَلَا مُبَطِّئًا لِإِدْخَالِ الضَّرَرِ بِالْحَبْسِ عَلَى صَاحِبِكَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الرَّامِيَانِ عَلَى اقْتِصَادٍ فِي التَّثَبُّتِ مِنْ غَيْرِ إِبْطَاءٍ ، وَلَا إِعْجَالٍ فَإِنْ طَوَّلَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ أَنْ تَقَدَّمَ رَمْيُ صَاحِبِهِ عَلَى الِاقْتِصَادِ لِيَبْرُدَ يَدُ صَاحِبِهِ فِي السَّهْمِ الَّذِي رَمَى بِهِ ، فَنَسِيَ صَنِيعَهُ إِنْ أَصَابَ ، فَلَا يُسَنُّ بِصَوَابِهِ ، أَوْ أَخْطَأَ فَلَا يَزُولُ عَنْ سُنَّتِهِ فِي خَطَئِهِ ، فَإِنْ أَمْسَكَ صَاحِبُهُ عَنِ الِاسْتِعْتَابِ تُرِكَ هَذَا الْمُتَبَاطِئُ عَلَى حَالِهِ ، وَإِنِ اسْتَعْتَبَ وَشَكَا قِيلَ لِلْمُتَبَاطِئِ : لَيْسَ لَكَ أَنْ تَضُرَّ بِصَاحِبِكَ فِي الْإِبْطَاءِ كَمَا لَيْسَ لِصَاحِبِكَ أَنْ يَضُرَّ بِكَ فِي الْإِعْجَالِ ، وَاعْدِلْ إِلَى الْقَصْدِ فِي تَثَبُّتِكَ غَيْرَ مُتَبَاطِئٍ وَلَا مُعَجَّلٍ ، فَإِنْ قَالَ : هَذِهِ عَادَتِي لَا أَقْدِرُ عَلَى فِرَاقِهَا ، نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَعْرُوفًا مِنْهُ ، قِيلَ لِصَاحِبِهِ : لَا سَبِيلَ إِلَى هَذَا مِنْ تَكْلِيفِهِ غَيْرَ عَادَتِهِ ، وَهُوَ عَيْبٌ أَنْتَ لِأَجْلِهِ بِالْخِيَارِ ، بَيْنَ مُنَاضَلَتِهِ أَوْ فَسْخِهِ ، وَإِنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِخِلَافِ مَا ادَّعَاهُ لَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُ ، وَأُخِذَ بِالِاعْتِدَالِ فِي قَصْدِهِ جَبْرًا مَا أَقَامَ عَلَى عَقْدِهِ .
وَفِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ : وَيُسْتَعْتَبُ مِنْ طَرِيقِ الْخَطَأِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا مَعْنَاهُ أَنَّ إِطَالَةَ إِرْسَالِهِ خَطَأٌ مِنْهُ ، فَيُعَاتَبُ عَلَيْهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ خَطَأَ صَاحَبِهِ فَهُوَ لِإِطَالَةِ إِرْسَالِهِ ، فَيُعَاتَبُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ خَطَؤُهُ مَحْسُوبًا عَلَيْهِ ، كَمَا أَنَّ صَوَابَهُ مَحْسُوبًا لَهُ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ كَانَ الرَّامِي يُطِيلُ الْكَلَامَ وَالْحَبْسَ في الرمي ، قِيلَ لَهُ : لَا تُطِلْ وَلَا تَعْجَلْ عَمَّا يُفْهَمُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْمُرْمِي ، فَهُوَ الْمُؤْتَمَنُ بَيْنَ الْمُتَنَاضِلَيْنِ وَيُسَمَّى الْمُشِيرَ وَالْمُوَطِّنَ ، لَا يُشِيرُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَقْصُودِهِ ، وَيُخْرِجُ سَهْمَهُ ، وَيُوَطِّنُ مَوْقِفَهُ ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ سَهْمَهُ بَعْدَ رَمْيِهِ ، وَيُخْبِرُ بِصَوَابِهِ أَوْ خَطَئِهِ ، وَعَلَى هَذَا أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَ الْمُتَنَاضِلَيْنِ ، وَلَا يَمِيلَ إِلَى أَحَدِهِمَا ، فَيَجُورَ ، وَلَا يَمْدَحَ أَحَدَهُمَا وَيَذُمَّ الْآخَرَ ، وَلْيَكُنْ إِمَّا مَادِحًا لَهُمَا أَوْ سَاكِتًا عَنْهُمَا ، وَلِيُعَجِّلْ رَدَّ سَهْمِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِ ، وَلَا يَحْبِسْهُ عَنْهُ ، فَيَنْسَى حُسْنَ صَنِيعِهِ ، فَإِنْ خَالَفَ بِالْمَيْلِ عَلَى أَحَدِهِمَا ، مُنِعَ لِإِضْرَارِهِ بِهِ ، وَإِنْ سَاوَى بَيْنَهُمَا فِي إِكْثَارِ الْكَلَامِ ، وَإِطَالَتِهِ ، وَحَبْسِ السَّهْمِ فِي إِعَادَتِهِ صَارَ مُضِرًّا بِهِمَا ، وَتَوَجَّهَ الْمَنْعُ إِلَيْهِ فِي حَقِّهِمَا بَعْدَ أَنْ كَانَ فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا ، وَأُمِرَ بِإِقْلَالِ الْكَلَامِ ، وَتَعْجِيلِ السِّهَامِ : لِأَنَّ كَثْرَةَ كَلَامِهِ مُدْهِشٌ ، وَحَبْسَهُ لِلسِّهَامِ يُنْسِي حُسْنَ صَنِيعِهَا ، فَإِنْ كَفَّ وَإِلَّا اسْتُبْدِلَ بِهِ غَيْرُهُ مِمَّنْ يَتَرَاضَيَانِهِ بِهِ الْمُتَنَاضِلَانِ ، فَإِنِ اخْتَلَفَا ، اخْتَارَ الْحَاكِمُ لَهُمَا مُؤْتَمَنًا ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ الْكَلَامُ مِنْ أَحَدِ الْمُتَنَاضِلَيْنِ مَدْحًا لِنَفْسِهِ بِالْإِصَابَةِ ، وَذَمًّا لِصَاحِبِهِ بِالْخَطَأِ كُفَّ وَمُنِعَ ، فَإِنْ أَقَامَ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يُقْلِعْ عَنْهُ عُزِّرَ ، وَلَمْ يُسْتَبْدَلْ بِهِ لِتَعْيِينِهِ فِي الْعَقْدِ الَّذِي لَا يَقُومُ غَيْرُهُ فِيهِ مَقَامَهُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلِلْمُبْدِئِ أَنْ يَقِفَ فِي أَيِّ مَقَامٍ شَاءَ ثَمَّ لِلْآخَرِ مِنَ الْغَرَضِ الْآخَرِ أَيِّ مَقَامٍ شَاءَ من المتناضلين " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : يُرِيدُ بِالْمُبْدِئِ الَّذِي قَدِ اسْتَحَقَّ أَنْ يَبْتَدِئَ بِالرَّمْيِ ، إِمَّا بِالشَّرْطِ أَوْ بِقُرْعَةٍ ، فَإِذَا كَانَ الرَّمْيُ بَيْنَ هَدَفَيْنِ ، وَهُوَ الْمَسْنُونُ وَالْأَوْلَى بِالْمَعْهُودِ أَنْ يَرْمِيَ الْمُتَنَاضِلَانِ مِنْ أَحَدِ الْهَدَفَيْنِ إِلَى الْآخَرِ ، رِشْقًا بِحَسْبِ مَا اسْتَقَرَّ بَيْنَهُمَا ، مِنْ خَمْسٍ خَمْسٍ أَوْ عَشْرٍ عَشْرٍ ، ثُمَّ يَمْضِيَا إِلَى الْهَدَفِ فَيَجْمَعَا سِهَامَهَا وَيَرْمِيَا مِنْهُ إِلَى الْهَدَفِ الثَّانِي رِشْقًا ثَالِثًا كَذَلِكَ أَبَدًا حَتَّى يَسْتَكْمِلَا رَمْيَ جَمِيعِ أَرْشَاقِهِمَا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ، فَلِلْمُبْتَدِئِ بِالرَّمْيِ أَنْ يَبْتَدِئَ مِنْ أَيِّ الْهَدَفَيْنِ شَاءَ ، وَيَقِفَ مِنْهُ أَيَّ مَوْقِفٍ شَاءَ : لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَحَقَّ الِابْتِدَاءَ بِالرَّمْيِ اسْتَحَقَّ الْخِيَارَ فِي مَوْقِفِ الرَّمْيِ ، فَيَقِفُ حَيْثُ شَاءَ مِنَ الْهَدَفِ عَنْ يَمِينِهِ أَوْ يَسَارِهِ أَوْ وَسَطِهِ ، فَإِذَا صَارَ إِلَى الْهَدَفِ الثَّانِي ، صَارَ الْخِيَارُ فِي الْمَوْقِفِ
إِلَى الرَّامِي الثَّانِي ، فَيَقِفُ فِيهِ حَيْثُ شَاءَ مِنْ يَمِينٍ أَوْ يَسَارٍ أَوْ وَسَطٍ ، كَمَا كَانَ الْخِيَارُ فِي الْهَدَفِ الْأَوَّلِ إِلَى الرَّامِي الْأَوَّلِ : لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا مُسْتَحَقَّةٌ ، فَلَمَّا كَانَ الْخِيَارُ فِي الْهَدَفِ الْأَوَّلِ لِلْأَوَّلِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الْهَدَفِ الثَّانِي لِلثَّانِي ، فَإِذَا عَادَ إِلَى الْهَدَفِ الثَّانِي الْأَوَّلُ عَادَ الْخِيَارُ لِلْأَوَّلِ ، فَإِذَا عَادَ إِلَى الْهَدَفِ الثَّانِي صَارَ الْخِيَارُ لِلثَّانِي ، وَلَا يُجْمَعُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا الْخِيَارُ فِي الْهَدَفَيْنِ ، لِمَا يَنْفَرِدُ بِهِ مِنَ التَّفْضِيلِ عَلَى صَاحِبِهِ ، فَإِنْ شَرَطَاهُ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ : بَطَلَ الْعَقْدُ بِالتَّفْضِيلِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ ، فَإِنْ شَرَطَا أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا الْخِيَارُ فِي الْهَدَفَيْنِ عَلَى أَنْ يَكُونَ لِصَاحِبِهِ الْخِيَارُ بَعْدَهُ فِي الْهَدَفَيْنِ جَازَ : لِأَنَّهُمَا قَدْ تَسَاوَيَا فِيهِ .
فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ النِّضَالُ بَيْنَ ثَلَاثَةٍ ، وَقَفَ الْمُبْتَدِئُ بِالرَّمْيِ فِي الْهَدَفِ الَّذِي شَاءَ ، وَوَقَفَ مِنْهُ حَيْثُ شَاءَ ثُمَّ نُظِرَ فِي الثَّانِي وَالثَّالِثِ ، فَإِنِ اسْتَقَرَّ الْمُبْتَدِئُ مِنْهُمَا بِالرَّمْيِ بِشَرْطٍ أَوْ قَرَعَهُ ، وَإِلَّا أُقْرِعُ بَيْنَهُمَا وَوَقَفَ الرَّامِي الثَّانِي مِنَ الْهَدَفِ حَيْثُ شَاءَ ، فَإِذَا عَادَ إِلَى الْهَدَفِ الْأَوَّلِ وَقَفَ الرَّامِي الثَّالِثُ مِنْهُ حَيْثُ شَاءَ لِيَتَسَاوَى الثَّلَاثَةُ فِي اخْتِيَارِ الْمَوْقِفِ فِي هَدَفٍ بَعْدَ هَدَفٍ لِرَمْيِ رِشْقٍ سَوَاءٌ كَانَ حُكْمُ الثَّالِثِ مَعَ الثَّانِي كَحُكْمِ الثَّانِي مَعَ الْأَوَّلِ . فَإِذَا تَرَتَّبُوا عَلَى هَذَا الِاخْتِيَارِ فِي ثَلَاثَةِ أَرْشَاقٍ صَارُوا فِي الرِّشْقِ الرَّابِعِ إِلَى حُكْمِ الرِّشْقِ الْأَوَّلِ فِي عَوْدِ الْخِيَارِ إِلَى الْأَوَّلِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ أَحَدُ الْمُتَنَاضِلَيْنِ : نَسْتَقْبِلُ الشَّمْسَ فِي رَمْيِنَا . وَقَالَ الْآخَرُ : نَسْتَدْبِرُهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ دَعَا إِلَى اسْتِدْبَارِهَا : لِأَنَّ شُعَاعَ الشَّمْسِ إِذَا اسْتَقْبَلَ الرَّامِي ، اخْتَلَّ عَلَيْهِ رَمْيُهُ فَإِنْ شَرَطَا فِي الْعَقْدِ اسْتِقْبَالَهَا حُمِلَا عَلَيْهِ بِالشَّرْطِ ، كَمَا أَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ يَقْتَضِي الرَّمْيَ بِالنَّهَارِ ، فَإِنْ شَرَطَا فِيهِ الرَّمْيَ لَيْلًا حُمِلَا عَلَيْهِ ، إِمَّا فِي ضَوْءِ الْقَمَرِ أَوْ مَشَاعِلِ النَّارِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِذَا اقْتَسَمُوا ثَلَاثَةً وَثَلَاثَةً في الرمي فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْتَرِعُوا وَلْيَقْسِمُوا قَسْمًا مَعْرُوفًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : النِّضَالُ ضَرْبَانِ : أَفْرَادٌ وَأَحْزَابٌ ، وَقَدْ مَضَى نِضَالُ الْأَفْرَادِ ، فَأَمَّا نِضَالُ الْأَحْزَابِ ، فَهُوَ أَنْ يُنَاضِلَ حِزْبَانِ يَدْخُلُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَمَاعَةٌ ، يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِمْ أَحَدُهُمْ ، فَيَعْقِدُ النِّضَالَ عَلَى جَمِيعِهِمْ ، فَهَذَا يَصِحُّ عَلَى شُرُوطِهِ ، وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعَلَيْهِ جَمَاعَةُ أَصْحَابِهِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَجُمْهُورُهُمْ . وَحُكِيَ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَأْخُذُ بِفِعْلِ غَيْرِهِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّهُمْ إِذَا اشْتَرَكُوا صَارَ فِعْلُ جَمِيعِهِمْ وَاحِدًا فَاشْتَرَكُوا فِي مُوجِبِهِ
لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي فِعْلِهِ مَعَ وُرُودِ السُّنَّةِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ بِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِقَوْمٍ يَرْمُونَ ، فَقَالَ : ارْمُوا ، وَأَنَا مَعَ بَنِي الْأَذْرَعِ ، فَأَمْسَكَ الْقَوْمُ قِسِيَّهُمْ ، وَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ كُنْتَ مَعَهُ غَلَبَ ، فَقَالَ : ارْمُوا ، فَأَنَا مَعَكُمْ كُلِّكُمْ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا حِزْبَيْنِ مُشْتَرِكَيْنِ ؛ وَلِأَنَّ مَقْصُودَ النِّضَالِ التَّحْرِيضُ عَلَى الِاسْتِعْدَادِ لِلْحَرْبِ ، وَهُوَ فِي الْأَحْزَابِ أَشَدُّ تَحْرِيضًا وَأَكْثَرُ اجْتِهَادًا ، فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُهُ فِي الْحِزْبَيْنِ ، كَجَوَازِهِ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ ، فَلِصِحَّتِهِ خَمْسَةُ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَتَسَاوَى عَدَدُ الْحِزْبَيْنِ ، وَلَا يُفَضَّلَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ شروط نضال الجماعة ، فَيَكُونُوا ثَلَاثَةً وَثَلَاثَةً أَوْ خَمْسَةً وَخَمْسَةً أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ ، فَإِنْ فُضِّلَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِرَجُلٍ بَطَلَ الْعَقْدُ ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ مَعْرِفَةُ أَحَذَقِ الْحِزْبَيْنِ ، فَإِذَا تَفَاضَلُوا تَغَالَبُوا بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ لَا بِحِذْقِ الرَّمْيِ . وَالشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ عَلَيْهِمْ بِإِذْنِهِمْ شروط نضال الجماعة ، فَإِنْ لَمْ يَأْذَنُوا فِيهِ لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْإِجَارَةِ وَالْجِعَالَةِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَصِحُّ إِلَّا بِإِذْنٍ وَاخْتِيَارٍ فَإِنْ عَقَدَ عَلَيْهِمْ مَنْ لَمْ يَسْتَأْذِنْهُمْ بَطَلَ . وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ : أَنْ يُعَيِّنُوا عَلَى مُتَوَلِّي الْعَقْدِ مِنْهُمْ شروط نضال الجماعة ، فَيَكُونُ فِيهِ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِمْ ، وَنَائِبًا عَنْهُمْ ، فَإِنْ لَمْ يُعَيِّنُوا عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ ، فَلَمْ يَصِحَّ إِلَّا بِالتَّعْيِينِ وَيُخْتَارُ أَنْ يَكُونَ زَعِيمُ كُلِّ حِزْبٍ أَحْذَقَهُمْ وَأَطْوَعَهُمْ ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الزَّعِيمِ فِي الْعُرْفِ أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا فِي الصِّنَاعَةِ مُطَاعًا فِي الْجَمَاعَةِ ، فَإِنْ تَقَدَّمُوهُ فِي الرَّمْيِ وَأَطَاعُوهُ فِي الِاتِّبَاعِ جَازَ ، وَإِنْ تَقَدَّمَهُمْ فِي الرَّمْيِ ، وَلَمْ يُطِيعُوهُ فِي الِاتِّبَاعِ لَمْ يَجُزْ ، فَإِنَّ غَيْرَ الْمُطَاعِ لَا تَنْفُذُ أَوَامِرُهُ . وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ زَعِيمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْحِزْبَيْنِ غَيْرَ زَعِيمِ الْحِزْبِ الْآخَرِ شروط نضال الجماعة لِتَصِحَّ نِيَابَتُهُ عَنْهُمْ فِي الْعَقْدِ عَلَيْهِمْ مَعَ الْحِزْبِ الْآخَرِ ، فَإِنْ كَانَ زَعِيمُ الْحِزْبَيْنِ وَاحِدًا لَمْ يَصِحَّ كَمَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْوَكِيلُ فِي الْعَقْدِ بَائِعًا مُشْتَرِيًا . وَالشَّرْطُ الْخَامِسُ : وَهُوَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ : أَنْ يَتَعَيَّنَ رُمَاةُ كُلِّ حِزْبٍ مِنْهَا ، قَبْلَ الْعَقْدِ شروط نضال الجماعة ، بِاتِّفَاقٍ وَمُرَاضَاةٍ ، فَإِنْ عَقَدَهُ الزَّعِيمَانِ عَلَيْهِمْ لِيَقْتَرِعُوا عَلَى مَنْ يَكُونُ فِي كُلِّ حِزْبٍ لَمْ يَصِحَّ . مِثَالُهُ : أَنْ يَكُونَ الْحِزْبَانِ ثَلَاثَةً وَثَلَاثَةً ، فَيَقُولَ الزَّعِيمَانِ : نَقْتَرِعُ عَلَيْهِمْ ، فَمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتِي عَلَيْهِ كَانَ مَعِي ، وَمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ عَلَيْهِ كَانَ مَعَكَ ، فَهَذَا لَا يَصِحُّ ، لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ أَصْلٌ فِي عَقْدٍ ، فَلَمْ يَصِحَّ عَقْدُهُ عَلَى الْقُرْعَةِ ، كَابْتِيَاعِ أَحَدِ الْعَيْنَيْنِ بِالْقُرْعَةِ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ رُبَّمَا أَخْرَجَتِ الْقُرْعَةُ حَذَاقَتَهُمْ ، لِأَحَدِ الْحِزْبَيْنِ ، وَضُعَفَاءَهُمْ لِلْحِزْبِ الْآخَرِ ، فَخَرَجَ عَنْ مَقْصُودِ التَّحْرِيضِ فِي التَّنَاضُلِ ، فَإِنْ عَدَلُوا بَيْنَ الْحِزْبَيْنِ فِي الْحَذْقِ وَالضَّعْفِ قَبْلَ الْعَقْدِ عَلَى أَنْ يَقْتَرِعَ الزَّعِيمَانِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْحِزْبَيْنِ بَعْدَ الْعَقْدِ لَمْ يُصَرِّحِ التَّعْلِيلُ الْأَوَّلُ مِنْ كَوْنِهِمْ فِي الْعَقْدِ أَصْلًا دُونَ التَّعْلِيلِ الثَّانِي مِنَ اجْتِمَاعِ الْحُذَّاقِ فِي أَحَدِ الْحِزْبَيْنِ ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ رَفَعُوهُ بِالتَّعْلِيلِ ، فَإِذَا ثَبَتَ تَعْيِينُهُمْ قَبْلَ الْعَقْدِ بِغَيْرِ قُرْعَةٍ تَعَيَّنُوا فِيهِ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِمْ إِذَا حَضَرُوا ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفُوا . وَإِمَّا بِأَسْمَائِهِمْ إِذَا عُرِفُوا ، فَإِنْ تَنَازَعُوا عِنْدَ الِاخْتِيَارِ قَبْلَ الْعَقْدِ ، فَعَدَلُوا إِلَى الْقُرْعَةِ فِي الْمُتَقَدِّمِ بِالِاخْتِيَارِ جَازَ ؛ لِأَنَّهَا قُرْعَةٌ فِي الِاخْتِيَارِ ، وَلَيْسَتْ بِقُرْعَةٍ فِي الْعَقْدِ ، فَإِذَا قَرَعَ أَحَدُ الزَّعِيمَيْنِ اخْتَارَ مِنَ السِّتَّةِ وَاحِدًا ، ثُمَّ اخْتَارَ الزَّعِيمُ الثَّانِي وَاحِدًا ، ثُمَّ دُعِيَ الزَّعِيمُ الْأَوَّلُ فَاخْتَارَ ثَانِيًا ، وَاخْتَارَ الزَّعِيمُ الثَّانِي ثَانِيًا ، ثُمَّ عَادَ الْأَوَّلُ ، فَاخْتَارَ ثَالِثًا ، وَأَخَذَ الْآخَرُ الثَّالِثَ الْبَاقِيَ ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْتَارَ الْأَوَّلُ الثَّلَاثَةَ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْتَارُ إِلَّا الْأَحْذَقَ ، فَيَجْتَمِعُ الْحُذَّاقُ فِي حِزْبٍ ، وَالضُّعَفَاءُ فِي حِزْبٍ ، فَيُعْدَمُ مَقْصُودُ التَّنَاضُلِ مِنَ التَّحْرِيضِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَكَامَلَتِ الشُّرُوطُ الْخَمْسَةُ فِي عَقْدِ النِّضَالِ بَيْنَ الْحِزْبَيْنِ ، لَمْ يَخْلُ حَالُهُمْ فِي مَالِ السَّبَقِ في النضال بين حزبين مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُخْرِجَهَا أَحَدُ الْحِزْبَيْنِ دُونَ الْآخَرِ ، فَهَذَا يَصِحُّ ، سَوَاءٌ انْفَرَدَ زَعِيمُ الْحِزْبِ بِإِخْرَاجِهِ أَوِ اشْتَرَكُوا فِيهِ ، وَيَكُونُ الْحِزْبُ الْمُخْرِحُ لِلسَّبَقِ مُعْطِيًا إِنْ كَانَ مَنْضُولًا ، وَغَيْرَ آخِذٍ إِنْ كَانَ نَاضِلًا ، وَيَكُونُ الْحِزْبُ الْآخَرُ آخِذًا إِنْ كَانَ نَاضِلًا وَغَيْرَ مَعْطٍ إِذَا كَانَ مَنْضُولًا ، وَهَذَا يُغْنِي عَنِ الْمُحَلِّلِ ؛ لِأَنَّهُ مُحَلِّلٌ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْحِزْبَانِ مُخْرِجَيْنِ ، وَيَخْتَصُّ بِإِخْرَاجِ الْمَالِ زَعِيمُ الْحِزْبَيْنِ ، فَهَذَا يَصِحُّ ، وَيُغْنِي عَنْ مُحَلِّلٍ ؛ لِأَنَّ مَدْخَلَ الْمُحَلِّلِ لِيَأْخُذَ وَلَا يُعْطِيَ ، وَرِجَالُ كُلِّ حِزْبٍ يَأْخُذُونَ ، وَلَا يُعْطُونَ ، فَإِذَا نَضَلَ أَحَدُ الْحِزْبَيْنِ أَخَذَ زَعِيمُهُمْ مَالَ نَفْسِهِ ، وَقَسَّمَ مَالَ الْحِزْبِ الْمَنْضُولِ بَيْنَ أَصْحَابٍ ، فَإِنْ كَانَ الزَّعِيمُ رَامِيًا مَعَهُمْ شَارَكَهُمْ فِي مَالِ السَّبَقِ ، وَإِنْ لَمْ يَرْمِ مَعَهُمْ ، فَلَا حَقَّ لَهُ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَمَلَّكَ مَالَ النِّضَالِ مَنْ لَمْ يُنَاضِلْ ، وَصَارَ مَعَهُمْ كَالْأَمِينِ وَالشَّاهِدِ ، فَإِنْ رَضَخُوا لَهُ بِشَيْءٍ مِنْهُ عَنْ طِيبِ أَنْفُسِهِمْ جَازَ ، وَكَانَ تَطَوُّعًا ، فَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَأْخُذَ مَعَهُمْ بَطَلَ الشَّرْطُ وَلَمْ يَبْطُلْ بِهِ الْعَقْدُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْحَابِهِ عَقْدٌ يَبْطُلُ بِفَسَادِ شَرْطِهِ ، وَإِنَّمَا الْعَقْدُ بَيْنَ الْحِزْبَيْنِ ، وَلَيْسَ لِهَذَا الشَّرْطِ تَأْثِيرٌ فِيهِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يُخْرِجَا الْمَالَ وَيَشْتَرِكَ أَهْلُ كُلِّ حِزْبٍ فِي إِخْرَاجِهِ ، فَهَذَا لَا يَصِحُّ حَتَّى يَدْخُلَ بَيْنَ الْحِزْبَيْنِ حِزْبٌ ثَالِثٌ يَكُونُ مُحَلِّلًا يُكَافِئُ كُلَّ حِزْبٍ فِي الْعَدَدِ
وَالرَّمْيِ ، يَأْخُذُ وَلَا يُعْطِي كَمَا يُعْتَبَرُ فِي إِخْرَاجِ الْمُتَنَاضِلَيْنِ الْمَالُ أَوْ يَدْخُلُ بَيْنَهُمَا مُحَلِّلٌ ثَالِثٌ يَأْخُذُ وَلَا يُعْطِي .
فَصْلٌ : فَإِذَا انْعَقَدَ النِّضَالُ بَيْنَ الْحِزْبَيْنِ عَلَى مَا وَصَفْنَاهُ اشْتَمَلَ الْكَلَامُ بَعْدَ تَمَامِهِ بِإِبْطَالِ الْمُسَمَّى فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ : أَحَدُهَا : فِي حُكْمِ الْمَالِ الْمُخْرَجِ فِي كُلِّ حِزْبٍ ، وَلَهُمْ فِيهِ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ لَا يُسَمُّوا قِسْطَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ جَمَاعَتِهِمْ ، فَيَشْتَرِكُوا فِي الْتِزَامِهِ بِالسَّوِيَّةِ عَلَى أَعْدَادِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَفَاضُلٍ فِيهِ ، لِاسْتِوَائِهِمْ فِي الْتِزَامِهِ ، فَإِنْ كَانَ زَعِيمُهُمْ رَامِيًا مَعَهُمْ دَخَلَ فِي الْتِزَامِهِ كَأَحَدِهِمْ ، كَمَا يَدْخُلُ فِي الْأَخْذِ مَعَهُمْ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَامِيًا لَمْ يَلْتَزِمْ مَعَهُمْ كَمَا لَا يَأْخُذُ مَعَهُمْ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُسَمُّوا قِسْطَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي الْتِزَامِ مَالِ السَّبَقِ ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَنْ يَتَسَاوَى فِي التَّسْمِيَةِ ، فَيَصِحَّ ؛ لِأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِحُكْمِ الْإِطْلَاقِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَتَفَاضَلُوا فِيهِ ، فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ لِتُسَاوِيهِمْ فِي الْعَقْدِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَسَاوَوْا فِي الِالْتِزَامِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ عَنِ اتِّفَاقٍ لَمْ يَتَضَمَّنْهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ عَقْدٌ ، فَاعْتُبِرَ فِيهِ التَّرَاضِي ، فَإِنْ شَرَطُوا أَنْ يَكُونَ الْمَالُ بَيْنَهُمْ مُقَسَّطًا عَلَى صَوَابِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَخَطَئِهِ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ عَلَى شَرْطٍ مُسْتَقْبَلٍ مَجْهُولٍ غَيْرِ مَعْلُومٍ ، فَبَطَلَ ، وَلَا يُؤَثِّرُ بُطْلَانُهُ فِي الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيمَا بَيْنَهُمْ عَقْدٌ ، وَكَانُوا مُتَسَاوِينَ فِيهِ .
فَصْلٌ : وَالْفَصْلُ الثَّانِي : فِي حُكْمِ نِضَالِهِمَا ، وَفِيمَا يُحْتَسَبُ بِهِ مِنَ الصَّوَابِ وَالْخَطَأِ وَالْمُعْتَبِرُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ عَدَدُ الرِّشْقِ ثَلَاثِينَ أَوْ سِتِّينَ أَوْ تِسْعِينَ أَوْ عَدَدًا يَكُونُ لَهُ ثُلُثٌ صَحِيحٌ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَدَدُ الرِّشْقِ خَمْسِينَ وَلَا سَبْعِينَ وَلَا مِائَةً ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ثُلُثٌ صَحِيحٌ . وَإِنْ كَانَ عَدَدُ الْحِزْبِ أَرْبَعَةً ، كَانَ عَدَدُ الرِّشْقِ أَرْبَعِينَ أَوْ مَا لَهُ رُبْعٌ صَحِيحٌ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَدَدُ الرِّشْقِ مَا لَيْسَ لَهُ رُبْعٌ صَحِيحٌ ، وَهَكَذَا إِنْ كَانَ عَدَدُ الْحِزْبِ خَمْسَةً وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَدَدُ الرِّشْقِ مَا لَهُ خُمْسٌ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَنْقَسِمْ عَدَدُ الرِّشْقِ عَلَى عَدَدِ الْحِزْبِ إِلَّا بِكَسْرٍ يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ لَمْ يَصِحَّ الْتِزَامُهُمْ لَهُ ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاكَهُمْ فِي رَمْيِ السَّهْمِ لَا يَصِحُّ . فَأَمَّا عَدَدُ الْإِصَابَةِ الْمَشْرُوطَةِ ، فَيَجُوزُ أَنْ لَا تَنْقَسِمَ عَلَى عَدَدِهِمْ ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ فِيهَا بِإِصَابَتِهِمْ لَا بِاشْتِرَاكِهِمْ ، فَإِذَا اسْتَقَرَّ هَذَا بَيْنَهُمُ احْتُسِبَ لِزَعِيمِ كُلِّ حِزْبٍ بِإِصَابَاتِ كُلِّ
وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ، وَاحْتُسِبَ عَلَيْهِ لِخَطَأِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، سَوَاءٌ تَسَاوَى رِجَالُ الْحِزْبِ فِي الْإِصَابَةِ ، وَهُوَ نَادِرٌ أَوْ تَفَاضَلُوا فِيهَا ، وَهُوَ الْغَالِبُ ، فَإِذَا جُمِعَتِ الْإِصَابَتَانِ ، وَالْمَشْرُوطُ فِيهَا إِصَابَةُ خَمْسِينَ مِنْ مِائَةٍ لَمْ يَخْلُ مَجْمُوعُ الْإِصَابَتَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ الْمَجْمُوعُ مِنْ إِصَابَةِ كُلِّ حِزْبٍ خَمْسِينَ ، فَصَاعِدًا ، فَلَيْسَ فِيهِمَا مَنْضُولٌ ، وَإِنْ تَفَاضَلَا فِي النُّقْصَانِ مِنَ الْخَمْسِينَ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعُ إِصَابَةِ أَحَدِهِمَا خَمْسِينَ فَصَاعِدًا ، وَمَجْمُوعُ إِصَابَةِ الْآخَرِ أَقَلُّ مِنْ خَمْسِينَ ، فَمُسْتَكْمِلُ الْخَمْسِينَ هُوَ النَّاضِلُ ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ فِي الْإِصَابَةِ مُقِلًّا بِالْقَصْرِ عَنِ الْخَمْسِينَ فَهُوَ الْمَنْضُولُ ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا فِي الْإِصَابَةِ مُكْثِرًا ، فَيَصِيرُ مُقَلِّلُ الْإِصَابَةِ آخِذًا ، وَمُكْثِرُهَا مُعْطِيًا ؛ لِأَنَّ حِزْبَ الْمُقَلِّلِ نَاضِلٌ ، وَحِزْبَ الْمُكْثِرِ مَنْضُولٌ .
فَصْلٌ : وَالْفَصْلُ الثَّالِثُ : فِي حُكْمِ الْمَالِ إِذَا اسْتَحَقَّهُ الْحِزْبُ النَّاضِلُ ، فَيُقَسَّمُ بَيْنَ جَمِيعِهِمْ ، فِي قِسْمَتِهِ بَيْنَهُمْ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَقْسُومٌ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ مَعَ تَفَاضُلِهِمْ فِي الْإِصَابَةِ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي الْعَقْدِ الَّذِي أَوْجَبَ تَسَاوِيَهُمْ فِيهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ إِصَابَاتِهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ بِالْإِصَابَةِ قَدِ اسْتَحَقُّوهُ فَلَا يُكَافِئُ مُقِلُّ الْإِصَابَةِ مُكْثِرَهَا ، وَخَالَفَ الْتِزَامُ الْمَنْضُولِينَ ، حَيْثُ تَسَاوَوْا فِيهِ مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْخَطَأِ ؛ لِأَنَّ الِالْتِزَامَ قَبْلَ الرَّمْيِ ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ بِالْخَطَأِ ، وَالِاسْتِحْقَاقُ مِنْ بَعْدِ الرَّمْيِ ، فَصَارَ مُعْتَبَرًا بِالصَّوَابِ . فَعَلَى هَذَا لَوْ أَخْطَأَ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ الْحِزْبِ النَّاضِلِ فِي جَمِيعِ سِهَامِهِ ، فَفِي خُرُوجِهِ مِنَ الِاسْتِحْقَاقِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَسْتَحِقُّ مَعَهُمْ ، وَإِنْ لَمْ يُصِبْ إِذَا قِيلَ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ مَقْسُومٌ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ ، لَا عَلَى قَدْرِ الْإِصَابَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُخْزِيهِ بِالْخَطَأِ مِنَ الِاسْتِحْقَاقِ ، وَيُقْسَمُ بَيْنَ مَنْ عَدَاهُ إِذَا قِيلَ بِالْوَجْهِ الثَّانِي أَنَّهُ مَقْسُومٌ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ الْإِصَابَةِ ، وَيُقَابِلُ هَذَا أَنْ يَكُونَ فِي الْحِزْبِ الْمَنْضُولِ مَنْ أَصَابَ بِجَمِيعِ سِهَامِهِ ، فَفِي خُرُوجِهِ مِنَ الْتِزَامِ الْمَالِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَخْرُجُ مِنَ الْتِزَامِهِ إِذَا قِيلَ بِخُرُوجِ الْمُخْطِئِ مِنَ اسْتِحْقَاقِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَخْرُجُ مِنَ الِالْتِزَامِ ، وَيَكُونُ فِيهِ أُسْوَةَ مَنْ أَخْطَأَ إِذَا قِيلَ بِدُخُولِ الْمُخْطِئِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ ، وَأَنَّهُ فِيهِ أُسْوَةُ مَنْ أَصَابَ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ أَخْتَارُ عَلَى أَنْ أَسْبِقَ " .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا اجْتَمَعَ رُمَاةُ الْحِزْبَيْنِ ، وَلَمْ يَتَمَيَّزُوا فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْجِهَتَيْنِ ، فَقَالَ أَحَدُ الزَّعِيمَيْنِ : أَنَا أُخْرِجُ مَالَ السَّبَقِ عَلَى أَنْ أَخْتَارَ لِحِزْبِي مَنْ أَشَاءُ أَوْ تَكُونَ أَنْتَ الْمُخْرِجَ عَلَى أَنْ تَخْتَارَ لِحِزْبِكَ مَنْ تَشَاءُ ، لَمْ يَجُزْ ، وَكَانَ هَذَا الشَّرْطُ فَاسِدًا ؛ لِأَنَّ كِلَا الْأَمْرَيْنِ مِنْ إِخْرَاجِ الْمَالِ وَتَعْيِينِ الْحِزْبِ لَا يَصِحُّ إِلَّا عَنْ مُرَاضَاةٍ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مَشْرُوطًا بِالْآخَرِ لِخُرُوجِهِ عَنِ الِاخْتِيَارِ إِلَى الِالْتِزَامِ ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ : إِنْ كَانَ فُلَانٌ مَعِي فَمَالُ السَّبَقِ عَلَيْكَ ، وَإِنْ كَانَ مَعَكَ فَمَالُ السَّبَقِ عَلَيَّ ، لَمْ يَصِحَّ لِمَا ذَكَرْنَاهُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا عَلَى أَنْ أَسْبِقَ وَلَا عَلَى أَنْ يَقْتَرِعَا ، فَأَيُّهُمَا خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ سَبَقَهُ صَاحِبُهُ : لِأَنَّ هَذَا مُخَاطَرَةٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَفِيهَا تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَقْتَرِعَ الزَّعِيمَانِ عَلَى أَنَّ أَيَّهُمَا قَرَعَ كَانَ الْمَقْرُوعُ مُخْرِجَ السَّبَقِ لَمْ يَجُزْ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْقَارِعُ مُخْرِجَ السَّبَقِ لَمْ يَجُزْ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُرَاضَاةٍ لَا مَدْخَلَ لِلْقُرْعَةِ فِي عَرْضِهِ السبق . وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي : أَنْ يَتَنَاضَلَ الزَّعِيمَانِ سَهْمًا وَاحِدًا ، فَإِنْ أَصَابَهُ أَحَدُهُمَا ، وَأَخْطَأَهُ الْآخَرُ كَانَ الْمُخْطِئُ مُلْتَزِمَ الْمَالِ فِي عَقْدِ النِّضَالِ الْمُسْتَقْبَلِ ، فَهَذَا أَيْضًا لَا يَجُوزُ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : لِأَنَّ هَذَا مُخَاطَرَةٌ . وَهَكَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ أَحَدُ الزَّعِيمَيْنِ : أَنَا أَرْمِي بِسَهْمِي هَذَا ، فَإِنْ أَصَبْتُ بِهِ ، كَانَ مَالُ السَّبَقِ عَلَيْكَ ، وَإِنْ أَخْطَأْتُ بِهِ كَانَ مَالُ السَّبَقِ عَلَيَّ ؛ لِأَنَّهَا مُخَاطَرَةٌ ، وَجَارِيَةٌ مَجْرَى الْمُقَارَعَةِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِذَا حَضَرَ الْغَرِيبُ أَهْلَ الْغَرَضِ فَقَسَّمُوهُ ، فَقَالَ مَنْ مَعَهُ : كُنَّا نَرَاهُ رَامِيًا أَوْ مَنْ يَرْمِي عَلَيْهِ كُنَّا نَرَاهُ غَيْرَ رَامٍ ، وَهُوَ مِنَ الرُّمَاةِ ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ عَرَفُوهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا اجْتَمَعَ الزَّعِيمَانِ لِلْعَقْدِ ، وَهُوَ غَرِيبٌ لَمْ يَعْرِفُوهُ ، فَأَخَذَهُ أَحَدُ الزَّعِيمَيْنِ فِي حِزْبِهِ ، وَدَخَلَ فِي عَقْدِهِ ، وَشَرَعُوا فِي الرَّمْيِ ، فَلَهُ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ لَا يُحْسِنَ الرَّمْيَ ، وَلَا يَكُونَ مِنْ أَهْلِهِ ، فَالْعَقْدُ فِي حَقِّهِ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ ، فِي عَمَلٍ مَعْدُومٍ مِنْهُ ، فَصَارَ كَمَنِ اسْتُؤْجِرَ لِلْكِتَابَةِ ، وَلَيْسَ بِكَاتِبٍ ، وَلِلصِّنَاعَةِ ، وَلَيْسَ بِصَانِعٍ ، يَكُونُ الْعَقْدُ عَلَيْهِ بَاطِلًا ، كَذَلِكَ مَنْ دَخَلَ فِي عَقْدِ الرَّمْيِ ،
وَلَيْسَ بِرَامٍ ، وَإِذَا بَطَلَ فِي حَقِّهِ ، فَقَدْ قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ ، يَبْطُلُ الْعَقْدُ فِي وَاحِدٍ مِنَ الْحِزْبِ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَتِهِ وَفِي بُطْلَانِهِ فِيمَنْ بَقِيَ مِنَ الْحِزْبَيْنِ قَوْلَانِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ ، وَهَذَا وَهْمٌ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ مَنْ فِي مُقَابَلَتِهِ مِنَ الْحَزْبِ الْآخَرِ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ ، وَلَيْسَ لِزَعِيمِهِمْ تَعْيِينُهُ فِي أَحَدِهِمْ ؛ لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ فِي حُكْمِ الْعَقْدِ سَوَاءٌ ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمْ فِي إِبْطَالِ الْعَقْدِ فِي حَقِّهِ بِأَوْلَى مِنْ إِثْبَاتِهِ فِيهِ ، وَلَيْسَ لِدُخُولِهِ الْقُرْعَةَ فِيهِ تَأْثِيرٌ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَدْخُلُ فِي إِثْبَاتِ عَقْدٍ وَلَا إِبْطَالِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ فِي حُقُوقِ الْجَمَاعَةِ بَاطِلًا . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الرَّمْيِ ، فَلَهُ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لَهُمْ فِيهِ ، فَلَا مَقَالَ لِلْحِزْبَيْنِ فِيهِ ، وَيَكُونُ صَوَابُهُ لِحِزْبِهِ ، وَخَطَؤُهُ عَلَى حِزْبِهِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ أَرَمَى مِنْهُمْ ، فَيَقُولَ الْحِزْبُ الَّذِي عَلَيْهِ : كُنَّا نَظُنُّهُ مِثْلَنَا ، وَقَدْ بَانَ أَنَّهُ أَرَمَى مِنَّا ، فَاسْتَبْدِلُوا بِهِ غَيْرَهُ مِمَّنْ يُسَاوِينَا ، فَلَيْسَ ذَلِكَ لَهُمْ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ دَخَلَ فِي عَقْدِهِمْ ، فَصَارَ كَأَحَدِهِمْ ، فِي لُزُومِهِ وَجَوَازِهِ ، وَلَا يَجُوزُ إِفْرَادُهُ مِنْهُمْ بِفَسْخٍ وَلَا خِيَارٍ ، وَيَكُونُ صَوَابُهُ وَخَطَؤُهُ لِحِزْبِهِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ دُونَهُمْ فِي الرَّمْيِ ، فَيَقُولَ مَنْ مَعَهُ : كُنَّا نَظُنُّهُ رَامِيًا مِثْلَنَا ، وَقَدْ بَانَ تَقْصِيرُهُ ، فَنَسْتَبْدِلُ بِهِ غَيْرَهُ ، مُكَافِئًا لَنَا ، فَلَيْسَ ذَلِكَ لَهُمْ ، إِلَّا أَنْ يَفْسَخُوهُ فِي حَقِّهِ دُونَهُمْ ، لِمَا عَلَّلْنَا ، وَيَكُونُ صَوَابُهُ وَخَطَؤُهُ لِحِزْبِهِ ، وَهُوَ كَمَنْ عَرَفُوهُ ، وَعَيْبُهُ عَلَيْهِمْ حِينَ لَمْ يَخْتَبِرُوهُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِذَا قَالَ لِصَاحِبِهِ اطَّرِحْ فَضْلَكَ عَلَى أَنِّي أُعْطِيكَ بِهِ شَيْئًا لَمْ يَجُزْ إِلَّا بِأَنْ يَتَفَاسَخَا ، ثُمَّ يَسْتَأْنِفَا سَبَقًا جَدِيدًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا زَادَتْ إِصَابَةُ أَحَدِ الْمُتَنَاضِلَيْنِ عَلَى إِصَابَةِ الْآخَرِ قَبْلَ الْغَلَبَةِ ، فَقَالَ مَنْ قَلَّتْ إِصَابَتُهُ لِصَاحِبِهِ : أَسْقِطْ عَنِّي فَضْلَ إِصَابَتِكَ ، وَلَكَ عَلِيَّ دِينَارٌ ، لِيَسْتَكْمِلَ بَقِيَّةَ الرَّمْيِ بَعْدَ التَّسَاوِي لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ مَالَ السَّبَقِ مُسْتَحَقٌّ بِكَثْرَةِ الْإِصَابَةِ ، فَإِذَا نَضَلَ بَعْدَ إِسْقَاطِ الْفَضْلِ لَمْ يَصِرْ نَاضِلًا بِكَثْرَةِ الْإِصَابَةِ ، فَبَطَلَ ، وَإِنْ تَفَاسَخَا الْعَقْدَ بَعْدَ ظُهُورِ الْفَضْلِ أَوِ اسْتَأْنَفَاهُ عَلَى اتِّفَاقٍ جَازَ وَإِلَّا كَانَا عَلَى إِصَابَتِهِمَا فِي التَّفَاضُلِ حَتَّى يَفْلُجَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِاسْتِكْمَالِ الْإِصَابَةِ وَتَقْصِيرِ الْآخَرِ ، فَيَكُونُ نَاضِلًا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَوْ شَرَطُوا أَنْ يَكُونَ فُلَانٌ مُقَدَّمًا وَفُلَانٌ مَعَهُ وَفُلَانٌ ثَانٍ كَانَ السَّبَقُ مَفْسُوخًا وَلِكُلِّ حِزْبٍ أَنْ يُقَدِّمُوا مَنْ شَاءُوا وَيُقَدِّمَ الْآخَرُونَ كَذَلِكَ .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : نَبْدَأُ قَبْلَ ذِكْرِ الْمَسْأَلَةِ بِحَكَمِ نِضَالِ الْحِزْبَيْنِ ، فَإِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْحِزْبَيْنِ ثَلَاثَةً ، وَاسْتَقَرَّتِ الْبِدَايَةُ بِالرَّمْيِ لِأَحَدِ الْحِزْبَيْنِ إِمَّا بِشَرْطٍ أَوْ قُرْعَةٍ ، فَلَهُمَا فِي الْعَقْدِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَشْتَرِطَا فِيهِ إِذَا رَمَى وَاحِدٌ مِنْ هَذَا الْحِزْبِ رَمَى وَاحِدٌ مِنَ الْحِزْبِ الْآخَرِ ، ثُمَّ إِذَا رَمَى الثَّانِي مِنَ الْحِزْبِ الْأَوَّلِ رَمَى ثَانٍ مِنَ الْحِزْبِ الْآخَرِ . وَإِذَا رَمَى ثَالِثٌ مِنَ الْحِزْبِ الْأَوَّلِ رَمَى الثَّالِثُ مِنَ الْحِزْبِ الْآخَرِ ، فَهَذَا صَحِيحٌ ، وَهُوَ الْأَوْلَى لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى التَّكَافُؤِ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَشْتَرِطَا فِيهِ أَنْ يَتَقَدَّمَ رُمَاةُ الْحِزْبِ الْأَوَّلِ ، فَيَرْمُوا جَمِيعًا ثُمَّ يَتْلُوهُمْ رُمَاةُ الْحِزْبِ الْآخَرِ ، فَيَرْمُوا جَمِيعًا ، فَهَذَا لَا يَجُوزُ ، وَإِنْ تَفَاضَلُوا فِيهِ لِأَجْلِ الشَّرْطِ . وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يُطْلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ ، فَالْوَاجِبُ إِذَا رَمَى وَاحِدٌ مِنَ الْحِزْبِ الْأَوَّلِ أَنْ يَرْمِيَ بَعْدَهُ وَاحِدٌ مِنَ الْحِزْبِ الْآخَرِ ، وَإِذَا رَمَى ثَانٍ مِنَ الْحِزْبِ الْأَوَّلِ رَمَى بَعْدَهُ ثَانٍ مِنَ الْحِزْبِ الْآخَرِ ، لِيَتَقَابَلَ رُمَاةُ الْحِزْبَيْنِ ، وَلَا يَتَقَدَّمُ الْجَمِيعُ عَلَى الْجَمِيعِ ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ يُوجِبُ التَّسَاوِيَ ، وَإِنِ اسْتَقَرَّ فِيهِ التَّقَدُّمُ ؛ لِأَنَّ التَّقَدُّمَ ضَرُورَةٌ ، وَلَيْسَ الِاجْتِمَاعُ ضَرُورَةً ، وَكَذَلِكَ إِذَا أَغْفَلَ ذِكْرَ التَّقَدُّمِ أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ ، وَإِذَا أَغْفَلَ ذِكْرَ التَّرْتِيبِ فِي وَاحِدٍ بَعْدَ وَاحِدٍ لَمْ يُقْرَعْ بَيْنَهُمْ ، ثُمَّ لِزَعِيمِ كُلِّ حِزْبٍ أَنْ يُقَدِّمَ مَنْ شَاءَ مِنْ أَوَّلٍ وَثَانٍ وَثَالِثٍ ، فَإِنْ أَطَاعَهُ أَصْحَابُهُ عَلَى تَرْتِيبِهِ حَمَلُوا عَلَيْهِ ، وَلَهُ أَنْ يُعِيدَ تَرْتِيبَهُمْ فِي الرِّشْقِ الْأَوَّلِ أَنْ يُرَتِّبَهُمْ فِي الرِّشْقِ الثَّانِي مِثْلَ تَرْتِيبِهِمْ فِي الْأَوَّلِ ، وَعَلَى خِلَافِ الْأَوَّلِ يَحْتَسِبُ مَا يَرَاهُ ، وَإِنْ خَالَفُوا زَعِيمَهُمْ فِي التَّرْتِيبِ وَالتَّقْدِيمِ نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ مُخْرِجُ الْمَالِ هُوَ الزَّعِيمَ كَانَ الْقَوْلُ فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّرْتِيبِ قَوْلَهُ دُونَهُمْ ، وَإِنْ كَانُوا هُمُ الْمُخْرِجِينَ لِلْمَالِ كَانُوا بِتَرْتِيبِهِمْ فِي التَّقَدُّمِ أَحَقَّ مِنْهُ ، فَإِنِ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ حُمِلُوا عَلَى اتِّفَاقِهِمْ ، وَإِنْ تَنَازَعُوا فِيهِ أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا ، فَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَشْتَرِطَا فِي الْعَقْدِ عَلَى كُلِّ زَعِيمٍ أَنْ يُقَدِّمَ مِنْ أَصْحَابِهِ فُلَانًا ، ثُمَّ فُلَانًا ، فَهَذَا شَرْطٌ بَاطِلٌ ، وَفِي فَسَادِ الْعَقْدِ بِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : لَا يَفْسَدُ بِهِ الْعَقْدُ ؛ لِأَنَّ سُقُوطَهُ لَا يَعُودُ بِضَرَرٍ عَلَى مُشْتَرِطِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ يَفْسَدُ بِهِ الْعَقْدُ ؛ لِأَنَّ تَرْتِيبَهُمْ فِي التَّقَدُّمِ إِلَى زَعِيمِهِمْ إِنْ أَخْرَجَ الْمَالَ أَوْ إِلَيْهِمْ إِنْ أَخْرَجُوهُ ، فَإِذَا نَافَاهُ الشَّرْطُ أَبْطَلَهُ ؛ لِأَنَّهُ مَنَعَ مِنْ حَقٍّ لَهُمْ ، وَأَوْقَعَ حَجْرًا عَلَيْهِ ، وَهَكَذَا لَوْ شَرَطَ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مُرَاسَلَةُ الْحِزْبَيْنِ فِي الرَّمْيِ مُعَيَّنَةً ، فَيُرَامِي هَذَا بِعَيْنِهِ لِهَذَا بِعَيْنِهِ ، وَكَذَلِكَ مِنَ الْجَمَاعَةِ فَهَذَا بَاطِلٌ يَفْسَدُ بِهِ الْعَقْدُ
وَجْهًا وَاحِدًا لِعِلَّتَيْنِ إِحْدَاهُمَا : مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمُقَابَلَةَ حَقٌّ لَهُمْ ، كَالتَّرْتِيبِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُمْنَعُوا مِنْ حَقٍّ بِالْحَجْرِ عَلَيْهِمْ . وَالثَّانِيَةُ : أَنَّهُ عَقْدٌ وَاحِدٌ يُجْبَرُ خَطَأُ أَحَدِهِمْ بِإِصَابَةِ غَيْرِهِ ، وَإِذَا عَيَّنُوا وَاحِدًا صَارَتْ عُقُودًا تَقْتَضِي أَنْ لَا يُجْبَرَ خَطَأُ وَاحِدٍ بِعِصَابَةِ غَيْرِهِ ، فَبَطَلَ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِذَا كَانَ الْبَدْأَةُ لِأَحَدِ الْمُتَنَاضِلَيْنِ فَبَدَأَ الْمُبْدَأُ عَلَيْهِ فَأَصَابَ أَوْ أَخْطَأَ ذَلِكَ السَّهْمُ عَلَيْهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا اسْتَحَقَّ أَحَدُ الْمُتَنَاضِلَيْنِ أَنْ يَبْتَدِئَ بِالرَّمْيِ ، إِمَّا بِشَرْطٍ أَوْ قُرْعَةٍ ، فَبَدَأَ صَاحِبَهُ بِالرَّمْيِ ، وَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ كَانَ رَمْيُهُ مَرْدُودًا عَلَيْهِ لَا يُحْتَسَبُ لَهُ بِصَوَابِهِ ، وَلَا يُحْتَسَبُ عَلَيْهِ بِخَطَئِهِ لِخُرُوجِ رَمْيِهِ عَنْ حُكْمِ عَقْدِهِ ، فَصَارَ رَمْيًا فِي غَيْرِ عَقْدٍ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُبْتَدِئُ أَنْ يَرْمِيَ رِشْقَهُ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ ، فَرَمَى عَشَرَةَ أَسْهُمٍ لَمْ يُحْتَسَبْ بِمَا زَادَ عَلَى الْخَمْسَةِ فِي صَوَابٍ وَلَا خَطَأٍ لِخُرُوجِهِ عَنْ حُكْمِ الْعَقْدِ ، وَأَعَادَ رَمْيَهَا فِي نَوْبَتِهِ ، وَاحْتُسِبَ فِيهَا بِمَا زَادَ مِنْ صَوَابِهِ أَوْ خَطَئِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَالصَّلَاةُ جَائِزَةٌ فِي الْمَضْرَبَةِ وَالْأَصَابِعِ إِذَا كَانَ جِلْدُهُمَا ذَكِيًّا مِمَّا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ أَوْ مَدْبُوغًا مِنْ جِلْدِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مَا عَدَا كَلْبًا أَوْ خِنْزِيرًا ، فَإِنَّ ذَلَكَ لَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ غَيْرَ أَنِّي أَكْرَهُهُ لِمَعْنًى وَاحِدٍ ، وَإِنِّي آمُرُهُ أَنْ يُفْضِيَ بِبُطُونِ كَفَّيْهِ إِلَى الْأَرْضِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْمَضْرَبَةُ ، فَجِلْدٌ يَلْبَسُهُ الرَّامِي فِي يَدِهِ الْيُسْرَى يَقِي إِبْهَامَهُ إِذَا جَرَى السَّهْمُ عَلَيْهِ بِرِيشِهِ ، يُقَالُ : مُضَّرَبَةٌ بِضَمِّ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الضَّادِ ، وَيُقَالُ : مَضْرَبَةٌ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَسْكِينِ الضَّادِ ، وَهُوَ أَفْصَحُ . وَأَمَّا الْأَصَابِعُ فَجِلْدٌ يَلْبَسُهُ الرَّامِي فِي إِبْهَامِهِ وَسَبَّابَتِهِ مِنْ يَدِهِ الْيُمْنَى لِمَدِّ الْوَتَرِ وَتَفْوِيقِ السَّهْمِ ، فَإِنْ كَانَا مِنْ جِلْدٍ نَجِسٍ مِنْ كَلْبٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ مَيْتَةٍ أَوْ مِنْ غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ إِذَا لَمْ يُدْبَغْ ، لَمْ تَجُزِ الصَّلَاةُ فِيهِمَا لِنَجَاسَتِهِمَا ، وَإِنْ كَانَا طَاهِرَيْنِ مِنْ ذَكِيٍّ مَأْكُولٍ أَوْ مِنْ مَيْتَةٍ أَوْ مَا لَا يُؤْكَلُ إِذَا دُبِغَا ، فَطَهَارَتُهُمَا لَا تَمْنَعُ مِنَ اسْتِحْقَاقِ الصَّلَاةِ إِذَا لَمْ تُسْقِطْ مِنْ فُرُوضِهَا شَيْئًا ، وَيُمْنَعُ مِنْ لُبْسِ مَا أَسْقَطَ شَيْئًا مِنْ فُرُوضِهِمَا ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَلْبَسَ الْأَصَابِعَ فِي الصَّلَاةِ ، وَفِي جَوَازِ لُبْسِ الْمَضْرَبَةِ قَوْلَانِ ؛ لِأَنَّ بُطُونَ الْأَصَابِعِ لَا يَلْزَمُ مُبَاشَرَةُ الْأَرْضِ بِهَا فِي السُّجُودِ وَفِي لُزُومِ مُبَاشَرَتِهِ الْأَرْضَ بِبَاطِنِ كَفِّهِ فِي السُّجُودِ قَوْلَانِ : إِذَا قِيلَ بِوُجُوبِ السُّجُودِ عَلَى الْيَدَيْنِ فَكَانَتِ الْأَصَابِعُ غَيْرَ مَانِعَةٍ مِنْ فَرْضٍ ، وَفِي مَنْعِ الْمَضْرَبَةِ مِنَ الْعِوَضِ قَوْلَانِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا بَأْسَ أَنْ يُصَلِّيَ مُتَنَكِّبَ الْقَوْسِ وَالْقَرْنِ إِلَّا أَنْ يَتَحَرَّكَا عَلَيْهِ حَرَكَةً تَشْغَلُهُ فَأَكْرَهُهُ وَتُجْزِئُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : الصَّلَاةُ فِي السِّلَاحِ جَائِزَةٌ ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ ، [ النِّسَاءِ : 152 ] . وَرَوَى سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ قَالَ : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ : أُصَلِّي ، وَعَلَيَّ الْقَوْسُ وَالْقَرْنُ ، فَقَالَ : اطْرَحِ الْقَرْنَ وَصَلِّ بِالْقَوْسِ . وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : الْقَوْسُ عَلَى الْمُصَلِّي كَالرِّدَاءِ . فَأَبَاحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّلَاةَ بِالْقَوْسِ ، وَنَهَى عَنِ الْقَرْنِ ، وَهُوَ الْجُعْبَةُ الَّتِي تَجْمَعُ السِّهَامَ ، فَإِنْ كَانَتْ بِغِطَاءٍ ، فَهِيَ جَعْبَةٌ ، وَإِنْ كَانَتْ مَكْشُوفَةً فَهِيَ قَرْنٌ ، وَفِي نَهْيِهِ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهِمَا تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ نَهْيُ تَحْرِيمٍ إِذَا كَانَ رِيشُ السِّهَامِ نَجِسًا ؛ لِأَنَّهُ فِي الْأَغْلَبِ يُتَّخَذُ مِنْ رِيشِ النَّسْرِ ، وَهُوَ غَيْرُ مَأْكُولٍ ، وَلَوْ كَانَ الرِّيشُ طَاهِرًا لَمْ يَتَوَجَّهْ إِلَيْهِ نَهْيٌ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ نَهْيُ كَرَاهَةٍ إِذَا كَانَ طَاهِرًا ؛ لِأَنَّهُ يَتَخَشْخَشُهُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ بِاصْطِكَاكِ السِّهَامِ ، فَيَقْطَعُهُ عَنِ الْخُشُوعِ فِي الصَّلَاةِ ، فَإِنْ لَمْ يَتَخَشْخَشْ لَمْ يَتَوَجَّهْ إِلَيْهِ نَهْيٌ ، فَصَارَ لِحَمْلِهِ فِي صِلَاتِهِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مُحَرَّمًا وَهُوَ إِذَا كَانَ نَجِسًا . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَكْرُوهًا ، وَهُوَ إِذَا كَانَ طَاهِرًا يَقْطَعُ عَنِ الْخُشُوعِ فِيهَا . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا ، وَهُوَ مَا خَلَا مِنْ هَذَيْنِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
_____كِتَابُ الْأَيْمَانِ _____
بيان الأصل في الأيمان
كِتَابُ الْأَيْمَانِ مُخْتَصَرُ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ وَمَا دَخَلَ فِيهِمَا مِنَ الْجَامِعِ مِنْ كِتَابِ الصِّيَامِ وَمِنَ الْإِمْلَاءِ ، وَمِنْ مَسَائِلَ شَتَّى سَمِعْتُهَا لَفْظًا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْيَمِينُ في اللغة وسبب التسمية فَهِيَ الْقَسَمُ ، سُمِّيَ يَمِينًا ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا تَحَالَفُوا ضَرَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَمِينَهُ عَلَى يَمِينِ صَاحِبِهِ . وَالْأَصْلُ فِي الْأَيْمَانِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [ الْبَقَرَةِ : 224 ] . أَمَّا الْعُرْضَةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ، فَفِيهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا الْقُوَّةُ ، وَالشِّدَّةُ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكْثُرَ ذِكْرُ الشَّيْءِ حَتَّى يَصِيرَ عُرْضَةً لَهُ ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ : فَلَا تَجْعَلَنِّي عُرْضَةً لِلَّوَائِمِ وَأَمَّا الْعُرْضَةُ فِي الْأَيْمَانِ ، فَفِيهَا تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَحْلِفَ بِهَا فِي كُلِّ حَقٍّ وَبَاطِلٍ ، فَيَبْتَذِلَ اسْمَهُ ، وَيَجْعَلَهُ عُرْضَةً . وَالثَّانِي : أَنْ يَجْعَلَ يَمِينَهُ عِلَّةً يَتَعَلَّلُ بِهَا فِي بِرِّهِ ، وَفِيهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَحْلِفَ : لَا يَفْعَلُ الْخَيْرَ ، فَيَمْتَنِعَ مِنْهُ لِأَجْلِ يَمِينِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَحْلِفَ : لَيَفْعَلَنَّ الْخَيْرَ ، فَيَفْعَلَهُ لِبِرِّهِ فِي يَمِينِهِ لَا لِلرَّغْبَةٍ فِي ثَوَابِهِ . وَفِي قَوْلِهِ : أَنْ تَبَرُّوا تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَبَرُّوا فِي أَيْمَانِكُمْ . وَالثَّانِي : أَنْ تَبَرُّوا أَرْحَامَكُمْ . وَفِي قَوْلِهِ : وَتَتَّقُوا تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَتَّقُوا الْمَعَاصِيَ . وَالثَّانِي : أَنْ تَتَّقُوا الْخُبْثَ وَاللَّهُ سَمِيعٌ لِأَيْمَانِكُمْ عَلِيمٌ بِافْتِقَارِكُمْ .
وَقَالَ تَعَالَى : لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ [ الْبَقَرَةِ : 225 ] . وَاللَّغْوُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ هُوَ مَا كَانَ قَبِيحًا مَذْمُومًا ، وَخَطَأً مَذْمُومًا مَهْجُورًا ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ [ الْقِصَصِ : 55 ] . وَفِي لَغْوِ الْأَيْمَانِ سَبْعَةُ تَأْوِيلَاتٍ ، وَقَدْ أَفْرَدَ الشَّافِعِيُّ لِذَلِكَ بَابًا يُذْكَرُ فِيهِ ، وَفِي تَرْكِ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُؤَاخَذُ فِيهِ بِالْكَفَّارَةِ . وَالثَّانِي : لَا يُؤَاخَذُ فِيهِ بِالْإِثْمِ . وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ، تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا قَصَدْتُمْ مِنَ الْأَيْمَانِ . وَالثَّانِي : مَا اعْتَمَدْتُمْ مِنَ الْكَذِبِ ، وَاللَّهُ غَفُورٌ ، لِعِبَادِهِ فِيمَا لَغَوْا مِنْ أَيْمَانِهِمْ حَلِيمٌ فِي تَرْكِ مُعَاجَلَتِهِمْ بِالْعُقُوبَةِ عَلَى مَعَاصِيهِمْ . وَقَالَ تَعَالَى : لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ [ الْمَائِدَةِ : 89 ] . وَعَقْدُهَا هُوَ لَفَظٌ بِاللِّسَانِ ، وَقَصْدٌ بِالْقَلْبِ ؛ لِأَنَّ مَا لَمْ يَقْصِدْهُ مِنْ أَيْمَانِهِ هُوَ لَغْوٌ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ . وَفِي تَشْدِيدِ قَوْلِهِ : عَقَّدْتُمُ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : تَغْلِيظُ الْمَأْثَمِ بِتَكْرَارِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّ تِكْرَارَهَا فِي الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ وَاحِدًا لَمْ يَلْزَمْ فِيهِ إِلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ [ الْمَائِدَةِ : 89 ] . فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا كَفَّارَةُ مَا عَقَدُوهُ مِنَ الْأَيْمَانِ ، قَالَهُ الْحَسَنُ ، وَقَتَادَةُ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا كَفَّارَةُ الْحِنْثِ بَعْدَ عَقْدِ الْأَيْمَانِ ، وَلَعَلَّهُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَالْأَصَحُّ عِنْدِي مِنْ إِطْلَاقِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنْ يُعْتَبَرَ حَالُ الْيَمِينِ فِي عَقْدِهَا وَحَلِّهَا ، فَإِنَّهَا لَا تَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ عَقْدُهَا طَاعَةً ، وَحَلُّهَا مَعْصِيَةً . كَقَوْلِهِ : وَاللَّهِ لَا قَتَلْتُ نَفْسًا خَيِّرَةً ، وَلَا شَرِبْتُ خَمْرًا . فَإِذَا حَلَفَ بِقَتْلِ النَّفْسِ ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ ، فَكَانَتِ الْكَفَّارَةُ لِتَكْفِيرِ مَأْثَمِ الْحِنْثِ دُونَ عَقْدِ الْيَمِينِ .
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ عَقْدُهَا مَعْصِيَةً ، وَحَلُّهَا طَاعَةً . كَقَوْلِهِ : " وَاللَّهِ لَا صَلَّيْتُ وَلَا صُمْتُ " . فَإِذَا حَنِثَ بِالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ كَانَتِ الْكَفَّارَةُ لِتَكْفِيرِ مَأْثَمِ الْيَمِينِ فِي دُونِ الْحِنْثِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ عَقْدُهَا مُبَاحًا ، وَحَلُّهَا مُبَاحًا . كَقَوْلِهِ : " وَاللَّهِ لَا لَبِسْتُ هَذَا الثَّوْبَ ، وَلَا دَخَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ " . فَالْكَفَّارَةُ تَتَعَلَّقُ بِهِمَا ، وَهِيَ بِالْحِنْثِ أَحَقُّ ، لِاسْتِقْرَارِ وُجُوبِهَا بِهِ . وَقَالَ تَعَالَى : وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ ، وَفِيهِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهُمَا : احْفَظُوهَا أَنْ يَحْلِفُوا . وَالثَّانِي : احْفَظُوهَا أَنْ تَحْنَثُوا . وَالثَّالِثُ : احْفَظُوهَا لِتُكَفِّرُوا . وَالسُّنَّةُ مَا رَوَاهُ أَبُو أُمَامَةَ الْحَارِثِيُّ ، وَهُوَ إِيَاسُ بْنُ ثَعْلَبَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : مَنِ اقْتَطَعَ بِيَمِينِهِ مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ ، وَأَوْجَبَ لَهُ النَّارَ . قِيلَ : وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا . قَالَ : وَإِنْ كَانَ سِوَاكًا مِنْ أَرَاكٍ وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ، وَيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ : الْيَمِينُ حِنْثٌ أَوْ مَنْدَمَةٌ . وَقَدْ حَلَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ الْفَتْحِ ، فَقَالَ : وَاللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا ، وَاللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا ، وَاللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا . وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ : إِنْ شَاءَ اللَّهُ . وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَحْلِفَ قَالَ : لَا وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : لَا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ . فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا ، فَعَقْدُ الْيَمِينِ مَوْضُوعَةٌ لِتَحْقِيقِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مَاضِيًا ، أَوْ لِالْتِزَامِهِ إِنْ كَانَ مُسْتَقْبَلًا .
مَسْأَلَةٌ مَنْ حَلَفَ بِاللَّهِ أَوْ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ فَحَنِثَ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " مَنْ حَلَفَ بِاللَّهِ أَوْ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ فَحَنِثَ ، فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ " .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الْأَيْمَانَ مَعْقُودَةٌ بِمَنْ عَظُمَتْ حُرْمَتُهُ ، وَلَزِمَتْ طَاعَتُهُ وَإِطْلَاقُ هَذَا مُخْتَصٌّ بِاللَّهِ تَعَالَى ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْيَمِينُ مُخْتَصَّةً بِاللَّهِ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ ، وَلَهُ أَسْمَاءٌ وَصَفَاتٌ . فَأَمَّا أَسْمَاؤُهُ فَأَخَصُّهَا بِهِ قَوْلُنَا : اللَّهُ ؛ لِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يَتَّسِمْ بِهِ ، وَقَدْ قِيلَ : إِنَّهُ اسْمُهُ الْأَعْظَمُ ، وَهَذَا أَحَدُ التَّأْوِيلَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [ مَرْيَمَ : 65 ] . أَيْ : مَنْ يَتَسَمَّى بِاسْمِهِ الَّذِي هُوَ : اللَّهُ ؟ . وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي فِيهِ : هَلْ تَعْلَمُ لَهُ شَبِيهًا ؟ . وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا الِاسْمِ ، هَلْ هُوَ عَلَمٌ لِذَاتِهِ ، أَوِ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ صِفَاتِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ اسْمُ عَلَمٍ لِذَاتِهِ غَيْرُ مُشْتَقٍّ مِنْ صِفَاتِهِ ؛ لِأَنَّ أَسْمَاءَ الصِّفَاتِ تَكُونُ تَابِعَةً لِأَسْمَاءِ الذَّاتِ ، فَلَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنَ اخْتِصَاصِهِ بِاسْمِ ذَاتٍ يَكُونُ عَلَمًا ، لِتَكُونَ أَسْمَاءُ الصِّفَاتِ تَبَعًا ، وَهَذَا قَوْلُ الْخَلِيلِ وَالْفَضْلِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ " أَلِهَ " صَارَ بِنَاءُ اشْتِقَاقِهِ عِنْدَ حَذْفِ هَمْزِهِ ، وَتَفْخِيمِ لَفْظِهِ : اللَّهَ ، فَالْحَالِفُ بِهَذَا الِاسْمِ حَالِفٌ بِيَمِينٍ مُنْعَقِدَةٍ لَا يَرْجِعُ فِيهَا إِلَى إِرَادَةِ الْحَالِفِ بِهِ ، وَسَوَاءٌ قِيلَ : إِنَّهُ اسْمُ عَلَمٍ لِذَاتِهِ ، أَوْ مُشْتَقٌّ مِنْ صِفَاتِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْطَلِقُ عَلَى غَيْرِهِ . وَفِي مَعْنَى الْحَلِفِ بِهَذَا الِاسْمِ أَنْ تَقُولَ : وَالَّذِي خَلَقَنِي ، أَوْ وَالَّذِي صَوَّرَنِي ، فَتَنْعَقِدَ بِهِ يَمِينُهُ ؛ لِأَنَّ الَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ هُوَ اللَّهُ ، فَصَارَ كَقَوْلِهِ : وَاللَّهِ ، وَلَا يَكُونُ هَذِهِ يَمِينًا بَاسْمٍ مُكَنًّى ؛ لِأَنَّهُ صَرِيحٌ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ . وَهَكَذَا لَوْ قَالَ : وَالَّذِي أُصَلِّي لَهُ ، أَوْ أَصُومُ لَهُ ، أَوْ أُزَكِّي لَهُ ، أَوْ أَحُجُّ لَهُ ، انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ كَقَوْلِهِ : وَاللَّهِ ؛ لِأَنَّ صَلَاتَهُ وَصِيَامَهُ وَزَكَاتَهُ وَحَجَّهُ لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا غَيْرُ هَذَا الِاسْمِ الْعَلَمِ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى ، فَيَنْقَسِمُ ثَمَانِيَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهُمَا : مَا يَجْرِي فِي اخْتِصَاصِهِ بِهِ مَجْرَى الْعَلَمِ مِنْ أَسْمَائِهِ ، وَهُوَ : الرَّحْمَنُ ، فَيَكُونُ الْحَالِفُ بِهِ كَالْحَالِفِ بِاللَّهِ اسم الله الرحمن لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَيْسَ يَتَسَمَّى بِهِ غَيْرُهُ مِنْ خَلْقِهِ ، وَلَئِنْ طَغَى مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ ، فَتَسَمَّى : رَحْمَانَ الْيَمَامَةِ ، فَهِيَ تَسْمِيَةُ إِضَافَةٍ لَمْ يُطْلِقْهَا لِنَفْسِهِ ، فَصَارَ كَمَنْ لَمْ يَتَسَمَّ بِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ إِلَى هَذَا الِاسْمِ مَا اخْتَصَّ بِهِ مِنْ قُدْرَتِهِ ، وَتَفَرَّدَ بِهِ مِنْ خَلْقِهِ ، فَقَالَ : الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ، فَأَجْرَاهُ مَجْرَى الْعَلَمِ مِنْ أَسْمَائِهِ الَّذِي هُوَ .
وَاخْتَلَفَ فِيهِ أَهْلُ اللُّغَةِ هَلْ هُوَ اسْمُ عَلَمٍ أَوْ صِفَةٍ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ اسْمُ عَلَمٍ عَلَى غَيْرِ مُشْتَقٍّ مِنْ صِفَةٍ ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ أَهْلِ الْمِلَلِ قَدْ سَمَّوْهُ بِهِ ، وَلَمْ يَخْتَصَّ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ اسْمٌ عَرَبِيٌّ مُشْتَقٌّ مِنْ صِفَتِهِ بِالرَّحْمَةِ . وَاخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الرَّحْمَةِ الْمُشْتَقِّ مِنْهَا الرَّحْمَنُ هَلْ هِيَ رَحْمَةٌ تَفَرَّدَ بِهَا ، أَوْ تُوجَدُ فِي الْعِبَادِ مِثْلُهَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا رَحْمَةٌ تُوجَدُ فِي الْعِبَادِ مِثْلُهَا ، وَاخْتِصَاصُهُ مِنْهَا بِاشْتِقَاقِ لَفْظِ الْمُبَالِغَةِ فِي الرَّحْمَةِ ، وَمُشَارَكَتِهِ لِخَلْقِهِ فِي الرَّحِيمِ ، فَلِذَلِكَ كَانَ الرَّحْمَنُ مُخْتَصًّا بِهِ ، وَالرَّحِيمُ مُشْتَرِكًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ رَحْمَةٍ فُرِدَ اللَّهُ بِهَا دُونَ خَلْقِهِ ، وَفِي هَذِهِ الرَّحْمَةِ الَّتِي تَفَرَّدَ بِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا رَحْمَتُهُ لِأَهْلِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ، فَيَكُونُ مُشْتَقًّا مِنْ رَحْمَةٍ هِيَ صِفَةٌ لَذَّاتِهِ ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِهَذِهِ الصِّفَةِ قَبْلَ خَلْقِهِمْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا صِفَةٌ لِلرَّحْمَةِ ، فَيَكُونُ مُشْتَقًّا مِنْ رَحْمَةٍ هِيَ صِفَةٌ لِفِعْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِهَذِهِ الصِّفَةِ بَعْدَ خَلْقِ الرَّحْمَةِ . وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ تَكُونُ الْيَمِينُ بِهَذَا الِاسْمِ مُنْعَقِدَةٌ فِي أَهْلِ الْمِلَلِ وَغَيْرِهِمْ ، كَانْعِقَادِهَا بِاللَّهِ ، سَوَاءٌ قِيلَ اشْتِقَاقُهُ مِنْ صِفَةِ ذَاتِهِ ، أَوْ صِفَةِ فِعْلِهِ ؛ لِأَنَّهَا يَمِينٌ بِالِاسْمِ دُونَ الصِّفَةِ .
فَصْلٌ : وَالْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ أَسْمَائِهِ مَا اخْتَصَّ بِاسْمِ الْمَعْبُودِ دُونَ الْعَبْدِ ، وَهُوَ الْإِلَهُ ، أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ اسْمُ اشْتِقَاقٍ ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا اشْتُقَّ مِنْهُ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْوَلَهِ ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَ يِأْلَهُونَ إِلَيْهِ أَيْ : يَدْعُونَ إِلَيْهِ فِي أُمُورِهِمْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْأُلُوهِيَّةِ وَهِيَ الْعِبَادَةُ مِنْ قَوْلِهِ : فُلَانٌ يَتَأَلَّهُ أَيْ : يَتَعَبَّدُ . وَاخْتُلِفَ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ هَلِ اشْتُقَّ اسْمُ الْإِلَهِ مِنْ فِعْلِ الْوَلَهِ وَالْعِبَادَةِ أَوْ مِنَ اسْتِحْقَاقِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ اشْتُقَّ مِنْ فِعْلِهَا ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مُشْتَقًّا مِنْ صِفَاتِ أَفْعَالِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ اسْتِحْقَاقِهَا ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مُشْتَقًّا مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ .
وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ يَكُونُ الْحَالِفُ بِالْإِلَهِ مُنْعَقِدَ الْيَمِينِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ أَهْلِ الْمِلَلِ لَيْسَ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْمِلَلِ مِنْ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ ، انْعَقَدَ بِهِ الْيَمِينُ فِي الظَّاهِرِ ، وَكَانَ فِي الْبَاطِنِ مَوْقُوفًا عَلَى إِرَادَتِهِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ هَذَا الِاسْمَ مُشْتَرِكًا بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ أَصْنَامِهِمُ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا .
فَصْلٌ : وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنْ أَسْمَائِهِ مَا اخْتَصَّ إِطْلَاقُهُ بِاللَّهِ تَعَالَى ، وَكَانَ فِي الْإِضَافَةِ مُشْتَرِكًا ، وَهُوَ الرَّبُّ ، اسْمٌ مَأْخُوذٌ مِنْ صِفَةٍ ، اخْتُلِفَ فِيهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْمَالِكِ ، كَمَا يُقَالُ : رَبُّ الدَّارِ أَيْ مَالِكُهَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ السَّيِّدِ ؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ يُسَمَّى رَبًّا . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا [ يُوسُفَ : 36 ] . يَعْنِي : سَيِّدَهُ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ الرَّبُّ الْمُدَبِّرُ ، وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ [ الْمَائِدَةِ : 144 ] . وَهُمُ الْعُلَمَاءُ سُمُّوا رَبَّانِيِّينَ ، لِقِيَامِهِمْ بِتَدْبِيرِ النَّاسِ بِعِلْمِهِمْ ، وَقِيلَ : رَبَّةُ الْبَيْتِ ؛ لِأَنَّهَا تُدَبِّرُهُ . وَالرَّابِعُ : أَنَّ الرَّبَّ مُشْتَقٌّ مِنَ التَّرْبِيَةِ ، وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ [ النِّسَاءِ : 23 ] . فَسُمِّيَ وَلَدُ الزَّوْجَةِ رَبِيبَةً ، لِتَرْبِيَةِ الزَّوْجِ لَهَا ، فَعَلَى هَذَا إِنْ قِيلَ : إِنَّ صِفَةَ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ رَبٌّ ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ أَوْ سَيِّدٌ ، فَذَلِكَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ . وَإِنْ قِيلَ : لِأَنَّهُ مُدَبِّرٌ لِخَلْقِهِ أَوْ مُرَبِّيهِمْ ، فَذَلِكَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ فِعْلِهِ ، وَصِفَاتُ ذَاتِهِ قَدِيمَةٌ ، وَصِفَاتُ فِعْلِهِ مُحْدَثَةٌ ، وَهُمَا فِي اشْتِقَاقِ الِاسْمِ مِنْهُ عَلَى السَّوَاءِ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ حَالِفًا بِالِاسْمِ دُونَ الصِّفَةِ ، وَإِنْ كَانَتِ الْيَمِينُ بِالصِّفَتَيْنِ مُخْتَلِفَةً ، تَنْعَقِدُ بِصِفَةِ الذَّاتِ لِقَدَمِهَا ، وَلَا تَنْعَقِدُ بِصِفَةِ الْفِعْلِ لِحُدُوثِهَا . فَإِذَا تَقَرَّرَ اشْتِقَاقُهُ انْقَسَمَتِ الْيَمِينُ بِهِ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا يَكُونُ بِهِ حَالِفًا فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ ، وَهُوَ أَنْ يَصِفَهُ بِمَا لَا يَسْتَحِقُّهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : رَبُّ الْعَالَمِينَ ، أَوْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِينَ ، فَهَذَا حَالِفٌ بِهِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ ؛ لِأَنَّهُ وَصَفَهُ بِمَا اخْتَصَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ دُونَ غَيْرِهِ فَإِنْ قَالَ : أَرَدْتُ غَيْرَ اللَّهِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا يَكُونُ بِهِ حَالِفًا فِي الظَّاهِرِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ حَالِفٍ بِهِ فِي الْبَاطِنِ ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : وَالرَّبِّ ، فَيُدْخِلُ عَلَيْهِ الْأَلِفَ وَاللَّامَ ، وَلَا يُعَرِّفُهُ بِصِفَةٍ ، فَيَكُونُ حَالِفًا بِهِ فِي الظَّاهِرِ ، فَإِنْ قَالَ : أَرَدْتُ بِهِ رَبَّ الدَّارِ ، دِينَ فِي الْبَاطِنِ ، وَلَمْ يَكُنْ بِهِ حَالِفًا لِاحْتِمَالِهِ ، وَكَانَ حَالِفًا بِهِ فِي الظَّاهِرِ لِإِطْلَاقِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا لَا يَكُونُ بِهِ حَالِفًا فِي الظَّاهِرِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالِفًا بِهِ فِي
الْبَاطِنِ ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : وَرَبِّ هَذِهِ الدَّارِ ، فَلَا يَكُونُ حَالِفًا فِي الظَّاهِرِ ؛ لِأَنَّهُ فِي الْعُرْفِ إِشَارَةٌ إِلَى مَالِكِهَا ، فَإِنْ قَالَ : أَرَدْتُ بِهِ خَالِقَهَا ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى ، كَانَ حَالِفًا . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : مَا اعْتُبِرَ فِيهِ عُرْفُ الْحَالِفِ ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : وَرَبِّي ، فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ يُسَمُّونَ السَّيِّدَ فِي عُرْفِهِمْ رَبًّا ، لَمْ يَكُنْ حَالِفًا فِي الظَّاهِرِ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ اللَّهَ تَعَالَى ، فَيَصِيرُ بِهِ حَالِفًا ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ لَا يُسَمُّونَ الرَّبَّ فِي عُرْفِهِمْ إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى كَانَ حَالِفًا فِي الظَّاهِرِ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى ، فَلَا يَكُونُ حَالِفًا فِي الْبَاطِنِ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ فِي الْحَالَيْنِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا [ يُوسُفَ : 136 ] . يَعْنِي سَيِّدَهُ . وَحُكِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ : إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ [ الصَّافَّاتِ : 99 ] . يَعْنِي اللَّهَ تَعَالَى ، فَكَانَ الرَّبُّ فِي إِبْرَاهِيمَ وَيُوسُفَ مُخْتَلِفًا فِي الْمُرَادَ بِهِ لِاخْتِلَافِهِمْ فِي الْعُرْفِ .
فَصْلٌ : وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى : مَا كَانَ إِطْلَاقُهُ مُخْتَصًّا بِاللَّهِ تَعَالَى فِي الظَّاهِرِ ، وَاخْتَلَفَ فِي جَوَازِ الْعُدُولِ بِهِ عَنِ الْبَاطِنِ عَلَى وَجْهَيْنِ ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَسْمَاءٍ : الْقُدُّوسُ ، وَالْخَالِقُ ، وَالْبَارِئُ . فَأَمَّا الْقُدُوسُ : فَهُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى مُخْتَصٌّ بِهِ فِي الْعُرْفِ ، وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ الْمُبَارَكُ ، قَالَهُ قَتَادَةُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ الطَّاهِرُ ، قَالَهُ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ الْمُنَزَّهُ مِنَ الْقَبَائِحِ . وَالرَّابِعُ : أَنَّهُ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ تَقْدِيسِ الْمَلَائِكَةِ ، فَإِذَا حَلَفَ بِالْقُدُّوسِ كَانَ كَالْحَالِفِ بِاللَّهِ تَعَالَى فِي الظَّاهِرِ ، فَإِنْ عَدَلَ بِهِ عَنِ الْبَاطِنِ إِلَى غَيْرِهِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ ، وَلَا يَصِيرُ بِهِ حَالِفًا فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ ، إِذَا قِيلَ : إِنَّ مَعْنَاهُ الْمُبَارَكُ أَوِ الطَّاهِرُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ ، وَيَكُونُ حَالِفًا ، وَيَكُونُ ظَاهِرًا فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ إِذَا قِيلَ : إِنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ تَقْدِيسِ الْمَلَائِكَةِ ، وَإِنَّهُ الْمُنَزَّهُ مِنْ جَمِيعِ الْقَبَائِحِ . وَأَمَّا الْخَالِقُ : فَمِنْ أَسْمَائِهِ ، وَفِي مَعْنَاهُ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ الْمُحْدِثُ لِلْأَشْيَاءِ عَلَى إِرَادَتِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ الْمُقَدِّرُ لَهَا بِحِكْمَتِهِ ، فَإِذَا حَلَفَ بِالْخَالِقِ كَانَ حَالِفًا فِي الظَّاهِرِ ، فَإِنْ عَدَلَ بِهِ فِي الْبَاطِنِ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ :
أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ ، وَلَا يَصِيرُ بِهِ حَالِفًا فِي الْبَاطِنِ ، إِذَا قِيلَ : إِنَّ مَعْنَاهُ الْمُقَدِّرُ لِلْأَشْيَاءِ بِحِكْمَتِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ ، وَيَصِيرُ بِهِ حَالِفًا إِذَا قِيلَ : إِنَّ مَعْنَاهُ الْمُحْدِثُ لِلْأَشْيَاءِ عَلَى إِرَادَتِهِ . وَأَمَّا الْبَارِئُ : فَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى ، وَفِي مَعْنَاهُ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ الْمُنْشِئُ لِلْخَلْقِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ الْمُمَيِّزُ لِلْخَلْقِ ، فَإِذَا حَلَفَ بِالْبَارِئِ كَانَ حَالِفًا فِي الظَّاهِرِ ، فَإِنْ عَدَلَ بِهِ فِي الْبَاطِنِ إِلَى غَيْرِهِ ، فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ ، وَلَا يَصِيرُ بِهِ حَالِفًا إِذَا قِيلَ : إِنَّ مَعْنَاهُ الْمُمَيَّزُ لِلْخَلْقِ . وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ ، وَيَصِيرُ بِهِ حَالِفًا ، إِذْ قِيلَ : إِنَّ مَعْنَاهُ الْمُنْشِئُ لِلْخَلْقِ .
فَصْلٌ : وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ مِنْ أَسْمَائِهِ مَا كَانَ إِطْلَاقُهُ مُخْتَصًّا بِاللَّهِ تَعَالَى فِي الظَّاهِرِ ، وَجَازَ أَنْ يَعْدِلَ بِهِ إِلَى غَيْرِهِ فِي الْبَاطِنِ وَجْهًا وَاحِدًا : أَحَدُهُمَا : الْمُهَيْمِنُ . وَالثَّانِي : الْقَيُّومُ . فَأَمَّا الْمُهَيْمِنُ فَهُوَ مِنْ أَسْمَائِهِ فِي الْعُرْفِ ، وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ الشَّاهِدُ ، قَالَهُ قَتَادَةُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ الْأَمِينُ ، قَالَهُ الضَّحَاكُ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ الْمُصَدِّقُ ، قَالَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ . وَالرَّابِعُ : أَنَّهُ الْحَافِظُ . فَإِذَا حَلَفَ بِالْمُهَيْمِنِ كَانَ حَالِفًا بِاللَّهِ تَعَالَى فِي الظَّاهِرِ ، فَإِنْ عَدَلَ بِهِ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْبَاطِنِ جَازَ ، وَلَمْ يَكُنْ حَالِفًا . رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ : إِنِّي دَاعٍ فَهَيْمِنُوا ، أَيْ : قُولُوا آمِينَ حِفْظًا لِلدُّعَاءِ ، فَسُمِّيَ الْقَائِلُ آمِينَ مُهَيْمِنًا ، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ فِي أَبَى بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَلَا إِنَّ خَيْرَ النَّاسِ بَعْدَ نَبِيِّهِ مُهَيْمِنُهُ التَّالِيهِ فِي الْعُرْفِ وَالنُّكْرِ يَعْنِي الْحَافِظَ لِلنَّاسِ بَعْدَهُ .
وَأَمَّا الْقَيُّومُ : فَمِنْ أَسْمَائِهِ ، وَاخْتُلَفَ فِي مَعْنَاهُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ الْقَائِمُ بِتَدْبِيرِ خَلْقِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ الْقَائِمُ بِالْوُجُودِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ الْقَائِمُ بِالْأُمُورِ . وَالرَّابِعُ : أَنَّهُ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الِاسْتِقَامَةِ . فَإِذَا حَلَفَ بِالْقَيُّومِ كَانَ حَالِفًا بِاللَّهِ فِي الظَّاهِرِ ، فَإِنْ عَدَلَ بِهِ إِلَى غَيْرِهِ فِي الْبَاطِنِ جَازَ ، وَلَمْ يَكُنْ حَالِفًا ؛ لِأَنَّ مَعَانِيَهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَعْمَلَةً فِي غَيْرِهِ .
فَصْلٌ : وَالْقِسْمُ السَّادِسُ مِنْ أَسْمَائِهِ مَا كَانَ إِطْلَاقُهُ مُخْتَصًّا بِغَيْرِهِ فِي الظَّاهِرِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَسْمَائِهِ فِي الْبَاطِنِ ، وَهُوَ : الْمُؤْمِنُ ، وَالْعَالِمُ ، وَالْكَرِيمُ ، وَالسَّمِيعُ ، وَالْبَصِيرُ . فَهَذِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَقَدْ صَارَتْ فِي الْعُرْفِ مُسْتَعْمَلَةً فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ . فَإِذَا حَلَفَ بِأَحَدِهَا لَمْ يَكُنْ حَالِفًا بِاللَّهِ تَعَالَى فِي الظَّاهِرِ ، إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهَا اللَّهَ تَعَالَى فِي الْبَاطِنِ ، فَيَصِيرُ بِهَا حَالِفًا ، وَلَوْ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهَا فِي اللَّهِ تَعَالَى ، وَقَلَّ اسْتِعْمَالُهَا فِي الْمَخْلُوقِينَ ، صَارَ حَالِفًا بِهَا فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ .
فَصْلٌ : وَالْقِسْمُ السَّابِعُ مِنْ أَسْمَائِهِ مَا كَانَ إِطْلَاقُهُ فِي الظَّاهِرِ مُشْتَرِكًا بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ خَلْقِهِ عَلَى سَوَاءٍ كَالرَّحِيمِ ، وَالْعَظِيمِ ، وَالْعَزِيزِ ، وَالْقَادِرِ ، وَالنَّاصِرِ ، وَالْمَلِكِ ، فَيَرْجِعُ فِيهَا إِلَى إِرَادَةِ الْحَالِفِ بِهَا ، فَإِنْ أَرَادَ بِهَا أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ حَالِفًا بِهَا ، وَإِنْ أَرَادَ بِهَا أَسْمَاءَ الْمَخْلُوقِينَ لَمْ يَكُنْ حَالِفًا بِهَا ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ إِرَادَةٌ ، فَفِيهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ حَالِفًا بِهَا تَغْلِيبًا لِأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ الْأَيْمَانُ فِي الْغَالِبِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَكُونُ حَالِفًا : لِأَنَّهَا مَعَ تَسَاوِي الِاحْتِمَالِ فِيهِ تَصِيرُ كِنَايَةً لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مَعَ فَقْدِ الْإِرَادَةِ حُكْمٌ ، فَلَوْ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهَا فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ ، وَقَلَّتْ فِي الْمَخْلُوقِينَ صَارَ حَالِفًا بِهَا فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ كَالْقِسْمِ الْخَامِسِ ، وَلَوْ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهَا فِي الْمَخْلُوقِينَ ، وَقُلَّ اسْتِعْمَالُهَا فِي اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ حَالِفًا بِهَا فِي الظَّاهِرِ ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ حَالِفًا بِهَا فِي الْبَاطِنِ كَالْقِسْمِ السَّادِسِ .
فَصْلٌ : وَالْقِسْمُ الثَّامِنُ مِنْ أَسْمَائِهِ : الْجَبَّارُ ، وَالْمُتَكَبِّرُ ، فَإِنْ خَرَجَ مَخْرَجَ الْمَدْحِ وَالتَّعْظِيمِ كَانَ مُخْتَصًّا بِاللَّهِ تَعَالَى ، وَإِنْ خَرَجَ مَخْرَجَ الذَّمِّ ، كَانَ مُخْتَصًّا بِالْمَخْلُوقِينَ ، وَهُوَ اسْمَانِ الْجَبَّارُ وَالْمُتَكَبِّرُ ؛ لِأَنَّهُمَا فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى مَدْحٌ ، وَفِي صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ ذَمٌّ ، فَيَصِيرُ بِهِمَا حَالِفًا إِنْ خَرَجَا مَخْرَجَ الْمَدْحِ ، لِاخْتِصَاصِ اللَّهِ تَعَالَى
بِالْمَدْحِ بِهَا ، وَلَا يَصِيرُ بِهِمَا حَالِفًا إِنْ خَرَجَا مَخْرَجَ الذَّمِّ لِانْتِفَائِهِ فِي صِفَاتِهِ . فَهَذِهِ ثَمَانِيَةُ أَقْسَامٍ تُعْتَبَرُ بِهَا أَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى ، إِذَا حَلَفَ بِهَا فَيُحْمَلُ جَمِيعُ مَا جَاءَ بِهِ الْأَثَرُ مِنْ أَسْمَائِهِ عَلَيْهَا ، فَإِنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْ أَحَدِهَا .
فَصْلٌ : فَأَمَّا صِفَاتُ اللَّهِ تَعَالَى وانْعِقَادِ الْيَمِينِ بِهَا فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : صِفَاتُ ذَاتِهِ . وَالثَّانِي : صِفَاتُ أَفْعَالِهِ . فَأَمَّا صِفَاتُ ذَاتِهِ فَقَدِيمَةٌ لِقَدَمِ ذَاتِهِ ، وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ : وَقُدْرَةِ اللَّهِ ، وَعَظَمَةِ اللَّهِ ، وَجَلَالِ اللَّهِ ، وَعِزَّةِ اللَّهِ ، وَكِبْرِيَاءِ اللَّهِ ، وَعِلْمِ اللَّهِ ؛ لِأَنَّهُ نَزَلَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَاتِ ذَا قُدْرَةٍ ، وَعَظَمَةٍ ، وَجَلَالٍ ، وَعَزَّةٍ ، وَكِبْرِيَاءٍ ، وَعِلْمٍ ، فَجَرَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ اللَّازِمَةُ لِذَاتِهِ مَجْرَى الْمَوْصُوفِ ، فَجَرَى عَلَيْهَا حُكْمُ أَسْمَائِهِ فِي انْعِقَادِ الْيَمِينِ بِهَا فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِيهَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِذَا حَلَفَ بِعِلْمِ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا ، وَأَجْرَاهَا مَجْرَى مَعْلُومِهِ ، وَلَوْ حَلَفَ بِمَعْلُومِ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا ، كَذَلِكَ إِذَا حَلَفَ بِعِلْمِهِ . وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ ، فَانْعَقَدَتْ بِهِ الْيَمِينُ كَالْقُدْرَةِ وَالْعَظَمَةِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْمَعْلُومِ أَنَّ الْمَعْلُومَ مُنْفَصِلٌ عَنْ ذَاتِهِ ، وَالْعِلْمَ مُتَّصِلٌ بِهَا ، وَأَمَّا صِفَاتُ أَفْعَالِهِ فَهِيَ مُحْدَثَةٌ غَيْرُ لَازِمَةٍ كَقَوْلِهِ : وَخَلْقِ اللَّهِ ، وَرِزْقِ اللَّهِ ، فَلَا يَكُونُ حَالِفًا بِهَا لِخُلُوِّهَا مِنْهُ قَبْلَ حُدُوثِهَا ، وَالْيَمِينُ بِالْمُحْدَثَاتِ مِنْ صِفَاتِ الله غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ كَذَلِكَ مَا كَانَ مُحْدَثًا مِنْ صِفَاتِ أَفْعَالِهِ . فَأَمَّا أَمَانَةُ اللَّهِ فَهِيَ كَصِفَاتِ أَفْعَالِهِ لَا يَنْعَقِدُ بِهَا يَمِينٌ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ الْيَمِينَ ، وَأَجْرَاهَا أَبُو حَنِيفَةَ مَجْرَى صِفَاتِ ذَاتِهِ ، فَعَقَدَ بِهَا الْيَمِينَ ، وَأَوْجَبَ فِيهَا الْكَفَّارَةَ . وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ أَمَانَةَ اللَّهِ فُرُوضُهُ الَّتِي أَمَرَ بِهَا عَبِيدَهُ ، وَأَوْجَبَ عَلَيْهِمْ فِعْلَهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [ الْأَحْزَابِ : 72 ] . وَقَدْ كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ اصْفَرَّ مَرَّةً ، وَاحْمَرَّ مَرَّةً ، وَقَالَ أَتَتْنِي الْأَمَانَةُ الَّتِي عُرِضَتْ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ ، فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا ، وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا ، وَحَمَلْتُهَا أَنَا ، فَلَا أَدْرِي أُسِيءُ فِيهَا أَوْ أُحْسِنُ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّ أَمَانَةَ اللَّهِ مُحْدَثَةٌ ، فَلَمْ يَلْزَمْ بِهَا الْكَفَّارَةُ . فَإِنْ قِيلَ : مَعْنَى أَمَانَةِ اللَّهِ أَنَّهُ ذُو أَمَانَةٍ ، وَذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ . قِيلَ : يُحْتَمَلُ أَنَّهُ يُرِيدُ بِأَمَانَةِ اللَّهِ أَنَّهُ ذُو أَمَانَةٍ ، فَيَكُونُ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ
يُرِيدَ بِهَا فُرُوضَ اللَّهِ ، فَتَكُونُ مِنْ صِفَاتِ أَفْعَالِهِ ، فَلَمْ تَنْعَقِدْ بِهِ الْيَمِينُ مَعَ احْتِمَالِ الْأَمْرَيْنِ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهَا الْيَمِينَ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَهِيَ يَمِينٌ مَكْرُوهَةٌ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَمَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَهِيَ يَمِينٌ مَكْرُوهَةٌ وَأَخْشَى أَنْ تَكُونَ مَعْصِيَةً : لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعَ عُمَرَ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : أَلَا إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ ، فَقَالَ عُمَرُ : وَاللَّهِ مَا حَلَفْتُ بِهَا بَعْدُ ذَاكِرًا وَلَا آثِرًا . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ كَمَا قَالَ ، الْيَمِينُ بِغَيْرِ اللَّهِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا مَكْرُوهَةٌ ، سَوَاءٌ حَلَفَ بِمُعَظَّمٍ كَالْمَلَائِكَةِ ، وَالْأَنْبِيَاءِ ، أَوْ بِغَيْرِ مُعَظَّمٍ ، لِرِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ عَنْ مَالِكٍ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَدْرَكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَهُوَ يَسِيرُ فِي رَكْبٍ ، وَحَلَفَ بِأَبِيهِ ، فَقَالَ : إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ بِأَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ ، مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ . وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ سَالِمٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : سَمِعَ نَبِيُّ اللَّهِ عُمَرَ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ ، فَقَالَ : إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ . قَالَ عُمَرُ : فَوَاللَّهِ مَا حَلَفْتُ بِهَا ذَاكِرًا وَلَا آثِرًا ، وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَعْنِي : عَامِدًا ، وَلَا نَاسِيًا . وَالثَّانِي : مُعْتَقِدًا لِنَفْسِي ، وَلَا حَاكِيًا عَنْ غَيْرِي . وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ تأويل ذلك ، وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : فَقَدْ أَشْرَكَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي التَّعْظِيمِ ، وَإِنْ لَمْ يَصِرْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الْكَافِرِينَ . وَالثَّانِي : فَقَدْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ ، فَصَارَ كَافِرًا بِهِ إِنِ اعْتَقَدَ لُزُومَ يَمِينِهِ بِغَيْرِ اللَّهِ كَاعْتِقَادِ لُزُومِهَا بِاللَّهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ ، فَقَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ : " وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ دَخَلَ الْجَنَّةَ " ، وَقَالَ لِأَبِي الْعُشَرَاءِ الدَّارِمِيِّ : وَأَبِيكَ لَوْ طَعَنْتَ فِي فَخِذِهِ لَأَجْزَأَكَ فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مَخْرَجَ الْيَمِينِ ، وَإِنَّمَا كَانَتْ كَلِمَةً تَخِفُّ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ فِي مَبَادِئِ الْكَلَامِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ النَّهْيِ . وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ : وَأَخْشَى أَنْ يَكُونَ مَعْصِيَةً .
هِيَ فِي اسْتِحْقَاقِ الْوَعِيدِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَكْرُوهٍ يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ الْوَعِيدُ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْيَمِينَ بِغَيْرِ اللَّهِ مَكْرُوهَةٌ ، فَهِيَ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ ، وَلَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهَا ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ إِنْ حَنِثَ فِيهَا ، وَهُوَ كَالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ ، وَهَكَذَا إِذَا حَلَفَ بِمَا يَحُظُرُهُ الشَّرْعُ كَقَوْلِهِ : إِنْ فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا فَأَنَا بَرِيءٌ مِنَ اللَّهِ ، أَوْ كَافِرٌ بِهِ ، أَوْ خَارِجٌ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ ، أَوْ فَأَنَا يَهُودِيٌّ ، أَوْ وَثَنِيٌّ لَمْ تَنْعَقِدْ يَمِينُهُ ، وَلَمْ يَلْزَمْ بِالْحِنْثِ فِيهَا كَفَّارَةٌ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَصَاحِبَاهُ ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ ، وَأَحْمَدُ ، وَإِسْحَاقُ : تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ وَتَلْزَمُ الْكَفَّارَةُ إِنْ حَنِثَ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ [ الْمَائِدَةِ : 89 ] ، فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ . وَرُبَّمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ ، وَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا ، فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ، وَلِيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ وَلَمْ يُفَرِّقْ . وَبِمَا رَوَى ثَابِتُ بْنُ الضَّحَّاكِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ غَيْرِ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ كَاذِبًا ، فَهُوَ كَمَا قَالَ ، فَإِنْ كَانَ صَادِقًا لَمْ يَرْجِعْ إِلَى الْإِسْلَامِ سَالِمًا فَجَعَلَهَا يَمِينًا ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا [ النَّحْلِ : 91 ] . فَدَلَّ عَلَى لُزُومِهَا ؛ وَلِأَنَّ لُزُومَ الْيَمِينِ بِاللَّهِ لِتَوْكِيدِ حُرْمَتِهَا وَحَظْرِ مُخَالَفَتِهَا ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِيمَا عَقَدَهُ مِنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ تَعَالَى ، وَالْبَرَاءَةِ مِنْهُ ، وَمِنَ الْإِسْلَامِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي اللُّزُومِ وَفِي الْكَفَّارَةِ ؛ وَلِأَنَّ الْبَرَاءَةَ مِنَ اللَّهِ أَغْلَظُ مَأْثَمًا ، وَأَشَدُّ حَظْرًا مِنَ الْحَلِفِ بِاللَّهِ ، فَلَمَّا انْعَقَدَتِ الْيَمِينُ ، وَلَزِمَ التَّكْفِيرُ فِي أَحَقِّ الْمَأْثَمَيْنِ كَانَ لُزُومُهَا فِي أَغْلَظِهِمَا أَوْلَى . وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ، [ 11 الْأَنْعَامِ : 109 ] ، . فَجَعَلَهَا غَايَةَ الْأَيْمَانِ وَأَغْلَظَهَا ، فَلَمْ تَتَغَلَّظِ الْيَمِينُ بِغَيْرِ اللَّهِ . وَرَوَى مُحَمَّدُ ابْنُ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ وَلَا بِأُمَّهَاتِكُمْ وَلَا بِالْأَنْدَادِ ، وَلَا تَحْلِفُوا إِلَّا بِاللَّهِ ، وَلَا تَحْلِفُوا بِاللَّهِ ، إِلَّا وَأَنْتُمْ صَادِقُونَ . وَهَذَا نَصٌّ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَكَفَّارَتُهُ أَنْ يَقُولَ : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ . وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ : " فَقَدْ أَشْرَكَ " ، فَدَلَّ عَلَى سُقُوطِ الْكَفَّارَةِ فِي الْيَمِينِ بِغَيْرِ اللَّهِ : وَلِأَنَّهُ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ : فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمَهُ كَفَّارَةٌ : كَمَا لَوْ قَالَ : إِنْ فَعَلْتُ كَذَا فَأَنَا زَانٍ أَوْ شَارِبُ خَمْرٍ أَوْ قَاتِلُ نَفْسٍ ؛ وَلِأَنَّهُ حَلَفَ بِمَخْلُوقٍ يُحْدَثُ لِأَنَّ اعْتِقَادَ الْكُفْرِ وَبَرَاءَتَهُ مِنَ الْإِسْلَامِ
مُحْدَثٌ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمَهُ كَفَّارَةٌ كَمَا لَوْ حَلَفَ بِالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ ؛ وَلِأَنَّهُ مَنَعَ نَفْسَهُ مِنْ فِعْلٍ بِأَمْرٍ مَحْظُورٍ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ يَمِينًا تُوجِبُ التَّكْفِيرَ ، كَمَا لَوْ قَالَ : إِنْ كَلَّمْتُ زَيْدًا فَأَنَا فَاسِقٌ ، أَوْ فَعَلَيَّ قَتْلُ نَفْسِي أَوْ وَلَدِي . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ عُمُومِ الْآيَةِ وَالْخَبَرِ فَهُوَ أَنَّ إِطْلَاقَهَا مَحْمُولٌ عَلَى الْيَمِينِ بِاللَّهِ ؛ لِأَنَّهَا الْيَمِينُ الْمَعْهُودَةُ ، فِي عُرْفِ الشَّرْعِ وَالِاسْتِعْمَالِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ مَعَ ضَعْفِهِ فَهُوَ أَنَّهُ يَكُونُ دَلِيلًا لَنَا أَشْبَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَيْنَا : لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَصِرْ بِالْحِنْثِ خَارِجًا مِنَ الْإِسْلَامِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الزَّجْرِ كَمَا قَالَ : " مَنْ قَتَلَ عَبْدًا قَتَلْنَاهُ " . جَعْلَ الْوَعِيدَ يُوجِبُ يَمِينَهُ دُونَ الْكَفَّارَةِ وَلَوْ وَجَبَتْ لَأَبَانَهَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ " تَوْكِيدُ حُرْمَتِهَا ، وَحَظْرُ مُخَالَفَتِهَا " ، فَهُوَ أَنَّهُ لَا حُرْمَةَ لِهَذِهِ الْيَمِينِ لِحَظْرِهَا وَتَحْرِيمِهَا ؛ وَلِأَنَّ الْحَظْرَ إِنَّمَا تَوَجَّهَ إِلَى التَّلَفُّظِ بِهَا ، فَلَمْ يَبْقَ لِلْحَظْرِ وَالتَّحْرِيمِ حُرْمَةٌ مِنَ الِالْتِزَامِ وَالتَّكْفِيرِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِتَغْلِيظِ الْبَرَاءَةِ مِنَ اللَّهِ ، فَهُوَ أَنَّ الْبَرَاءَةَ مِنَ اللَّهِ كُفْرٌ ، وَلَا يَجِبُ بِالْكُفْرِ تَكْفِيرٌ كَالْمُرْتَدِّ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ تكره الْأَيْمَانَ عَلَى كُلِّ حَالٍ إِلَّا فِيمَا كَانَ لِلَهِ عَزَّ وَجَلَّ طَاعَةً
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَأَكْرَهُ الْأَيْمَانَ عَلَى كُلِّ حَالٍ إِلَّا فِيمَا كَانَ لِلَهِ عَزَّ وَجَلَّ طَاعَةً ، وَمَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا ، فَالِاخْتِيَارُ أَنْ يَأْتِيَ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ، وَيُكَفِّرَ لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الْأَيْمَانَ بِاللَّهِ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا كَانَ عَلَى مَاضٍ وَالْكَلَامُ فِيهِ يَأْتِي . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا كَانَ عَلَى فِعْلٍ مُسْتَقْبَلٍ ، وَهُوَ عَلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا كَانَ عَقْدُهَا ، وَالْمَقَامُ عَلَيْهَا طَاعَةً ، وَحَلُّهَا وَالْحِنْثُ فِيهَا مَعْصِيَةً ، وَهُوَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى فِعْلِ الْوَاجِبَاتِ ثم يحنث فيها كَقَوْلِهِ : وَاللَّهِ لِأُصَلِّيَنَّ فَرْضِي ، وَلَأُزَكِّيَنَّ مَالِي ، وَلَأَصُومُ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ ، وَلَأَحُجَّنَّ الْبَيْتَ الْحَرَامَ فَعَقْدُهَا وَالْمَقَامُ عَلَيْهَا طَاعَةٌ ؛ لِأَنَّهَا تَأْكِيدٌ لِفِعْلِ مَا فَرَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ ، وَحَلُّهَا وَالْحِنْثُ فِيهَا بِأَنْ لَا يُصَلِّيَ وَلَا يُزَكِّيَ ، وَلَا يَصُومَ ، وَلَا يَحُجَّ مَعْصِيَةٌ ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْمَفْرُوضَ ، وَهَكَذَا لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَفْعَلَ مَحْظُورًا مُحَرَّمًا ثم فعل هذا المحظور كَقَوْلِهِ : وَاللَّهِ لَا زَنَيْتُ وَلَا سَرَقْتُ وَلَا قَتَلْتُ وَلَا شَرِبْتُ خَمْرًا وَلَا قَذَفْتُ مُحْصَنَةً ، كَانَ عَقْدُهَا بِاجْتِنَابِ هَذِهِ الْمَعَاصِي طَاعَةً ، وَحَثُّهَا بِارْتِكَابِ هَذِهِ الْمَعَاصِي مَعْصِيَةً .
وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا كَانَ عَقْدُهَا وَالْمَقَامُ عَلَيْهَا مَعْصِيَةً ، وَحَلُّهَا وَالْحِنْثُ فِيهَا طَاعَةً ، وَهُوَ قَوْلُهُ : وَاللَّهِ لَا صَلَّيْتُ وَلَا زَكَّيْتُ وَلَا صُمْتُ وَلَا حَجَجْتُ ، فَعَقْدُهَا وَالْمَقَامُ عَلَيْهَا بِأَنْ لَا يُصَلِّيَ وَلَا يُزَكِّيَ مَعْصِيَةٌ : لِأَنَّهُ تَرَكَ فِيهَا مَفْرُوضًا عَلَيْهِ ، وَحَلُّهَا وَالْحِنْثُ فِيهَا بِأَنْ يُصَلِّيَ وَيُزَكِّيَ طَاعَةٌ : لِأَنَّهُ فَعَلَ مَفْرُوضًا عَلَيْهِ . وَهَكَذَا لَوْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ الْمَحْظُورَاتِ حَلُّهَا وَالْحِنْثُ فِيهَا فَقَالَ : وَاللَّهِ لَأَزْنِيَنَّ وَلَأَشْرَبَنَّ خَمْرًا وَلَأَسْرِقَنَّ وَلَأَقْتُلَنَّ كَانَ عَقْدُهَا وَالْمَقَامُ عَلَيْهَا بِالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَعْصِيَةً ، وَحَلُّهَا وَالْحِنْثُ فِيهَا طَاعَةً بِأَنْ لَا يَزْنِيَ وَلَا يَشْرَبَ . وَالْقَسَمُ الثَّالِثُ : مَا كَانَ عَقْدُهَا وَالْمَقَامُ عَلَيْهَا مُسْتَحَبًّا ، وَحَلُّهَا وَالْحِنْثُ فِيهَا مَكْرُوهًا وَهُوَ قَوْلُهُ : وَاللَّهِ لَأُصَلِّيَنَّ النَّوَافِلَ وَلَأَتَطَوَّعَنَّ بِالصَّدَقَةِ ، وَلَأَصُومَنَّ الْأَيَّامَ الْبِيضَ ، وَلَأُنْفِقَنَّ عَلَى الْأَقَارِبِ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْخَيْرَاتِ ، فَعَقْدُهَا وَالْمَقَامُ عَلَيْهَا بِفِعْلِ ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ ، وَحَلُّهَا وَالْحِنْثُ فِيهَا بِتَرْكِ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : مَا كَانَ عَقْدُهَا وَالْمَقَامُ عَلَيْهَا مَكْرُوهًا وَحَلُّهَا وَالْحِنْثُ فِيهَا مُسْتَحَبًّا ، وَهُوَ عَكْسُ مَا قَدَّمْنَاهُ فَيَقُولُ : وَاللَّهِ لَا صَلَّيْتُ نَافِلَةً ، وَلَا تَطَوَّعْتُ بِصَدَقَةٍ وَلَا صِيَامٍ ، وَلَا أَنْفَقْتُ عَلَى ذِي قَرَابَةٍ ، وَلَا عُدْتُ مَرِيضًا ، وَلَا شَيَّعْتُ جِنَازَةً ، فَعَقْدُهَا وَالْمَقَامُ عَلَيْهَا مَكْرُوهٌ ، وَحِلُّهَا وَالْحِنْثُ فِيهَا بِفِعْلِ ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ ، قَدْ حَلَفَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ لَا يَبَرَّ مِسْطَحًا ، وَكَانَ ابْنَ خَالَتِهِ لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي الْإِفْكِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ : وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى [ النُّورِ : 22 ] ، إِلَى قَوْلِهِ : أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [ النُّورِ : 22 ] ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : بَلَى يَا رَبِّ ، فَبَرَّهُ وَكَفَّرَ . وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ : أَنْ يَحْلِفَ عَلَى مَا فِعْلُهُ مُبَاحٌ وَتَرْكُهُ مُبَاحٌ ثم يحنث في ذلك الحلف ، كَقَوْلِهِ : وَاللَّهِ لَا دَخَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ وَلَا لَبِسْتُ هَذَا الثَّوْبَ ، وَلَا أَكَلْتُ هَذَا الطَّعَامَ ، فَعَقْدُهَا لَيْسَ بِمُسْتَحَبٍّ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ هُوَ مُبَاحٌ أَوْ مَكْرُوهٌ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ عَقْدَهَا مُبَاحٌ ، وَحَلَّهَا مُبَاحٌ : لِانْعِقَادِهَا عَلَى مَا فِعْلُهُ مُبَاحٌ ، وَتَرْكُهُ مُبَاحٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ هَاهُنَا ، أَنَّ عَقْدَهَا مَكْرُوهٌ ، وَحِلَّهَا مَكْرُوهٌ : لِأَنَّهُ قَالَ : وَأَكْرَهُ الْأَيْمَانَ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، فَيَكُونُ عَقْدُهَا مَكْرُوهًا : لِأَنَّهُ رُبَّمَا عَجَزَ عَنِ الْوَفَاءِ بِهَا ، وَحَلُّهَا مَكْرُوهًا : لِأَنَّهُ جَعَلَ اللَّهَ عُرْضَةً بِيَمِينِهِ وَقَدْ نَهَاهُ عَنْهُ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا ، وَحَلَفَ عَلَى أَحَدِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ فِيهَا أَنْ يَبَرَّ أَوْ يَحْنَثَ ، فَإِنْ بَرَّ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ، سَوَاءٌ كَانَ بِرُّهُ فِيهَا طَاعَةً أَوْ مَعْصِيَةً ، ذَهَبَ بَعْضٌ إِلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ بِعَقْدِ الْيَمِينِ وَإِنْ لَمْ يَحْنَثْ فِيهَا ، وَهُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ وَالْحَسَنِ
وَقَتَادَةَ تَعَلُّقًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ [ الْمَائِدَةِ : 89 ] ، فَعَلَّقَ الْكَفَّارَةَ بِالْيَمِينِ دُونَ الْحِنْثِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : وَاللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا فَغَزَاهُمْ وَلَمْ يُكَفِّرْ وَقَوْلُهُ : ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ [ الْمَائِدَةِ : 89 ] ، يَعْنِي : وَحَنِثْتُمْ ، كَمَا قَالَ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [ الْبَقَرَةِ : 184 ] ، أَيْ : فَأَفْطَرْتُمْ ، فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ، فَحَذَفَ ذَلِكَ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ وَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ عَلَيْهِ ، سَوَاءٌ كَانَ حِنْثُهُ طَاعَةً أَوْ مَعْصِيَةً . وَذَهَبَ الشَّعْبِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ إِلَى أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِي حِنْثِ الطَّاعَةِ ، وَإِنَّمَا تَجِبُ فِي حِنْثِ الْمَعْصِيَةِ : لِأَنَّ فِعْلَ الطَّاعَةِ مَأْمُورٌ بِهِ ، وَغَيْرُ آثِمٍ فِيهِ ، فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَكْفِيرٍ كَالْقَتْلِ ، إِنْ أَثِمَ بِهِ كَفَّرَ ، وَإِنْ لَمْ يَأْثَمْ بِهِ لَمْ يُكَفِّرْ ، وَهَذَا خَطَأٌ : لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا ، فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ، وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يُكَفِّرَ فِي فِعْلِ الطَّاعَةِ كَالْمُحْرِمِ إِذَا اضْطُرَّ إِلَى أَكْلِ الصَّيْدِ كَانَ مُطِيعًا فِي قَتْلِهِ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُكَفِّرَ بِالْجَزَاءِ ، وَكَالْقَاتِلِ الْخَطَأِ لَيْسَ يَأْثَمُ ، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فِي حِنْثِ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ ، فَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْكَفَّارَةَ وَجَبَتْ فِي الْحِنْثِ وَحْدَهُ لِتَعَلُّقِهَا بِحَلِّ مَا عَقَدَهُ ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ [ التَّحْرِيمِ : 2 ] ، وَقَالَ لِيَحُضَّ أَصْحَابَنَا : إِنَّهَا تَجِبُ بِالْيَمِينِ وَالْحِنْثِ كَالزَّكَاةِ تَجِبُ بِالنِّصَابِ وَالْحَوْلِ : لِأَنَّ الْحِنْثَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِعَقْدِ الْيَمِينِ . وَالْأَصَحُّ عِنْدِي مِنْ إِطْلَاقِ هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ أَنْ يُعْتَبَرَ حَالُ الْيَمِينِ ، فَإِنْ كَانَ عَقَدُهَا طَاعَةً وَحَلُّهَا مَعْصِيَةً وَجَبَتْ بِالْيَمِينِ وَالْحِنْثِ : لِأَنَّ التَّكْفِيرَ بِالْمَعْصِيَةِ أَخَصُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَمَنْ قَالَ : وَاللَّهِ لَقَدْ كَانَ كَذَا وَلَمْ يَكُنْ أَثِمَ وَكَفَّرَ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ حَلَفَ لَا يَنْفَعُ رَجُلًا ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَنْفَعَهُ ، وَبِقَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي الظِّهَارِ : وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا ثُمَّ جَعَلَ فِيهِ الْكَفَّارَةَ وَبِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ ، فَقَدْ أَمَرَهُ بِالْحِنْثِ عَامِدًا وَبِالتَّكْفِيرِ ، وَدَلَّ إِجْمَاعُهُمْ أَنَّ مَنْ حَلَفَ فِي الْإِحْرَامِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً أَوْ قَتَلَ صَيْدًا عَمْدًا أَوْ أَخْطَأَ فِي الْكَفَّارَةِ سَوَاءٌ ، عَلَى أَنَّ الْحَلِفَ بِاللَّهِ وَقَتْلَ الْمُؤْمِنِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً فِي الْكَفَّارَةِ سَوَاءٌ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى الْيَمِينُ عَلَى الْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ ، فَأَمَّا الْيَمِينُ عَلَى الْفِعْلِ الْمَاضِي فَضَرْبَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ عَلَى إِثْبَاتٍ كَقَوْلِهِ : وَاللَّهِ لَقَدْ فَعَلْتُ كَذَا . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ عَلَى نَفْيٍ كَقَوْلِهِ : وَاللَّهِ مَا فَعَلْتُ كَذَا ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ فِيهَا صَادِقًا أَوْ كَاذِبًا ، فَإِنْ كَانَ صَادِقًا قَدْ فَعَلَ مَا أَثْبَتَ وَتَرَكَ مَا نَفَى فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ : لِأَنَّهَا يَمِينُ بِرِّهِ ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا : لِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ مَا أَثْبَتَهُ وَفَعَلَ مَا نَفَاهُ ، فَقَالَ : وَاللَّهِ لَقَدْ أَكَلْتُ ، وَلَمْ يَأْكُلْ ، أَوْ قَالَ : وَاللَّهِ مَا أَكَلْتُ وَقَدْ أَكَلَ ، فَهُوَ فِي هَذِهِ الْيَمِينِ عَاصٍ آثِمٌ ، وَتُسَمَّى الْيَمِينَ الْغَمُوسَ : لِأَنَّهَا تَغْمِسُ الْحَالِفَ بِهَا فِي الْمَعَاصِي ، وَقِيلَ : فِي النَّارِ . وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ هَلْ يَجِبُ بِهَا الْكَفَّارَةُ أَمْ لَا ؟ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ : أَنَّ الْكَفَّارَةَ فِيهَا وَاجِبَةٌ ، وَوُجُوبُهَا مُقْتَرِنٌ بِعَقْدِهَا ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ ، وَالْحَكَمِ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا تَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ ، وَأَحْمَدُ ، وَإِسْحَاقُ : اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ [ الْمَائِدَةِ : 89 ] ، وَمِنْهُ دَلِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ هِيَ اللَّغْوُ ، وَالْعَفْوُ عَنْهَا مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْكَفَّارَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُ : وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ [ الْمَائِدَةِ : 89 ] ، وَعَقْدُ الْيَمِينِ مَا الْتَزَمَ فِعْلًا مُسْتَقْبَلًا يَتَرَدَّدُ بَيْنَ حِنْثٍ وَبِرٍّ ، فَخَرَجَتِ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ مِنَ الْأَيْمَانِ الْمَعْقُودَةِ ، فَلَمْ يَلْزَمْ بِهَا كَفَّارَةٌ ، ثُمَّ خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ : وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ يَعْنِي فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، مِنَ الْحِنْثِ . وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : مَنْ حَلَفَ يَمِينًا فَاجِرَةً لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ ، لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : الْيَمِينُ الْغَمُوسُ تَدَعُ الدِّيَارَ بَلَاقِعَ مِنْ أَهْلِهَا فَأَخْبَرَ بِحُكْمِهَا وَلَمْ يُوجِبِ الْكَفَّارَةَ فِيهَا . وَالْقِيَاسُ أَنَّهَا يَمِينٌ عَلَى مَاضٍ فَلَمْ تَجِبْ بِهَا كَفَّارَةٌ كَاللَّغْوِ . وَلِأَنَّهَا يَمِينٌ مَحْظُورَةٌ ، فَلَمْ تَجِبْ بِهَا كَفَّارَةٌ كَالْيَمِينِ بِالْمَخْلُوقَاتِ . قَالُوا : وَلِأَنَّ اقْتِرَانَ الْيَمِينِ بِالْحِنْثِ يَمْنَعُ مِنِ انْعِقَادِهَا : لِأَنَّ حُدُوثَهُ فِيهَا يَدْفَعُ عَقْدَهَا كَالرَّضَاعِ لَمَّا رَفَعَ النِّكَاحَ إِذَا طَرَأَ مَنْعَ انْعِقَادَهُ إِذَا تَقَدَّمَ . وَدَلِيلُنَا : قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ [ الْمَائِدَةِ : 89 ] ، بَعْدَ صِفَةِ الْكَفَّارَةِ ، فَاقْتَضَى الظَّاهِرُ لُزُومَهَا فِي كُلِّ يَمِينٍ وَقَالَ تَعَالَى : لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [ الْبَقَرَةِ : 225 ] ، وَلَغْوُ الْيَمِينِ المراد به مَا سَبَقَ بِهِ لِسَانُ الْحَالِفِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَلَا نِيَّةٍ ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ مَقْصُودَةٌ ، فَكَانَ بِهَا مُؤَاخَذًا وَمُؤَاخَذَتُهُ بِهَا تُوجِبُ تَكْفِيرَهَا ، فَإِنْ مَنَعُوا مِنْ تَسْمِيَةِ الْغَمُوسِ يَمِينًا بَطَلَ مَنْعُهُمْ
بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ [ التَّوْبَةِ : 74 ] وَقَالَ تَعَالَى : وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ ، [ التَّوْبَةِ : 56 ] . وَمِنَ الْقِيَاسِ : أَنَّهَا يَمِينٌ بِاللَّهِ تَعَالَى قَصَدَهَا مُخْتَارًا : فَوَجَبَ إِذَا خَالَفَهَا بِفِعْلِهِ أَنْ تَلْزَمَهُ الْكَفَّارَةُ كَالْمُسْتَقْبَلِ وَلِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ الْيَمِينِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَنْقَسِمَ إِلَى بِرٍّ وَحِنْثٍ كَالْمُسْتَقْبَلِ : وَلِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ فِي غَيْرِ الْيَمِينِ كَذِبًا كَانَ فِي الْيَمِينِ حِنْثًا كَالْمُسْتَقْبَلِ : وَلِأَنَّهَا يَمِينٌ تَتَعَلَّقُ بِالْحِنْثِ الْمُسْتَقْبَلِ ، فَوَجَبَ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِالْحِنْثِ الْمَاضِي كَالْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ : لِأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لَقَدْ دَخَلَ الدَّارَ ، وَلَمْ يَدْخُلْهَا لَزِمَهُ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ . وَكَمَا لَوْ حَلَفَ لَيَدْخُلْهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، فَلَمْ يَدْخُلْهَا وَهَذَا وِفَاقًا كَذَلِكَ فِي الْيَمِينِ بِاللَّهِ : وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ فِي الْأَيْمَانِ أَعَمُّ فِي الْمَأْثَمِ : لِأَنَّهَا قَدْ تَجِبُ فِيمَا يَأْثَمُ بِهِ وَلَا يَأْثَمُ ، فَلَمَّا لَحِقَهُ الْمَأْثَمُ فِي الْغَمُوسِ كَانَ بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ أَوْلَى . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ [ الْبَقَرَةِ : 225 ] ، فَهُوَ أَنَّ لَغْوَ الْيَمِينِ مَا لَمْ يُقْصَدْ مِنْهَا عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ ، فَأَمَّا الْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ فَخَارِجٌ عَنْ حُكْمِ اللَّغْوِ وَهُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مِنْ أَيْمَانِهِ وَهُوَ مِنْ كَسْبِ قَلْبِ الْمَأْخُوذِ بِإِثْمِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ، [ الْبَقَرَةِ : 225 ] ، وَلَئِنْ كَانَتِ الْيَمِينُ الْمُسْتَقْبَلَةُ تَتَرَدَّدُ بَيْنَ بِرٍّ وَحِنْثٍ ، فَالْغَمُوسُ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ صِدْقٍ وَكَذِبٍ ، فَصَارَتْ ذَاتَ حَالَيْنِ كَالْمُسْتَقْبَلَةِ ، وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْحَالَتَانِ . أَلَا تَرَاهُ لَوْ حَلَفَ لَيَصْعَدَنَّ السَّمَاءَ وَلَيَشْرَبَنَّ مَاءَ الْبَحْرِ حَنِثَ لِوَقْتِهِ . وَإِنْ لَمْ يَتَرَدَّدْ يَمِينُهُ بَيْنَ حِنْثٍ وَبِرٍّ ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لِيَقْتُلَنَّ زَيْدًا ، وَكَانَ زَيْدٌ قَدْ مَاتَ حَنِثَ ، وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ ، وَإِنْ لَمْ يَتَرَدَّدْ يَمِينُهُ بَيْنَ بِرٍّ وَحِنْثٍ وَكَذِبٍ ؛ لِأَنَّهَا مَقْصُودَةٌ كَذَلِكَ يَمِينُ الْغَمُوسِ فِي الْمَاضِي . فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ [ الْمَائِدَةِ : 89 ] ، فَحِفْظُهَا قَبْلَ الْيَمِينِ أَنْ لَا يَحْلِفَ وَبَعْدَ الْيَمِينِ أَنْ لَا يَحْنَثَ ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : قَلِيَلُ الْأَلَايَا حَافِظٌ لِعَهْدِهِ وَإِنْ بَدَرَتْ مِنْهُ الْأَلِيَّةُ بَرَّتِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرَيْنِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْإِمْسَاكَ عَنِ الْكَفَّارَةِ فِيهَا اكْتِفَاءٌ بِمَا وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ وُجُوبِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا حُكْمُ الْآخِرَةِ ، وَالْكَفَّارَةُ مِنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا .
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى لَغْوِ الْيَمِينِ فَهُوَ أَنَّ لَغْوَ الْيَمِينِ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ فَخَرَجَ عَنِ الْيَمِينِ الْمَقْصُودَةِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْيَمِينِ بِالْمَخْلُوقَاتِ فَهُوَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ فِي جِنْسِهَا كَفَّارَةٌ فَخَالَفَتِ الْأَيْمَانَ بِاللَّهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى النِّكَاحِ ، فَهُوَ أَنَّهُ مُنْتَقَضٌ بِيَمِينِهِ أَنْ يَصْعَدَ السَّمَاءَ ثُمَّ الْمَعْنَى فِي النِّكَاحِ أَنَّ مَقْصُودَهُ الِاسْتِمْتَاعُ وَالِاسْتِبَاحَةُ ، فَإِذَا امْتَنَعَ فِي النِّكَاحِ بَطَلَ وَمَقْصُودُ الْيَمِينِ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فِي الْحِنْثِ وَسُقُوطُهَا فِي الْبِرِّ ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَالْمَاضِي .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ عَلَى الْمَاضِي فِي إِثْبَاتِ مَا لَمْ يَكُنْ ، أَوْ نَفْيِ مَا قَدْ كَانَ ، فَهِيَ يَمِينٌ مَحْلُولَةٌ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ : لِأَنَّ عَقْدَهَا إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا يُنْتَظَرُ بَعْدَهَا مِنْ بِرٍّ أَوْ حِنْثٍ ، وَهَذِهِ الْيَمِينُ قَدِ اقْتَرَنَ بِهَا الْحِنْثُ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ لَفْظِهَا ، فَلِذَلِكَ لَمْ تَنْعَقِدْ ، وَوَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ بِاسْتِيفَاءِ الْيَمِينِ .
فَصْلٌ : يَمِينُ الْكَافِرِ مُنْعَقِدَةٌ يَتَعَلَّقُ بِهَا الْحِنْثُ ، وَتَجِبُ بِهَا الْكَفَّارَةُ كَالْمُسْلِمِ سَوَاءٌ حَنِثَ فِي حَالِ كُفْرِهِ أَوْ بَعْدَ إِسْلَامِهِ ، لَكِنَّهُ إِنْ كَفَّرَ فِي حَالِ كُفْرِهِ كَفَّرَ بِالْمَالِ مِنْ إِطْعَامٍ أَوْ كِسْوَةٍ أَوْ عِتْقٍ ، وَلَمْ يُكَفِّرْ بِالصِّيَامِ فَإِنْ أَسْلَمَ قَبْلَ التَّكْفِيرِ جَازَ أَنْ يُكَفِّرَ بِالصِّيَامِ كَالْمُسْلِمِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَمِينُ الْكَافِرِ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ إِذَا حَنِثَ ، اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ : وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَصِحُّ مِنْهُ : لِافْتِقَارِهَا إِلَى النِّيَّةِ بِدَلِيلِ أَنَّهَا عِبَادَةٌ تَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ ، فَلَمْ تَصِحَّ مِنَ الْكَافِرِ كَالصِّيَامِ وَالْقِيَامِ . وَلِأَنَّ الْإِطْعَامَ وَالْكِسْوَةَ حَدٌّ مُوجِبُهُ التَّكْفِيرُ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ مِنَ الْكَافِرِ كَالصِّيَامِ . وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ التَّكْفِيرُ بِالصِّيَامِ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ . وَإِذَا ثَبَتَ بِهَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ أَنَّ التَّكْفِيرَ لَا يَصِحُّ مِنْهُ وَجَبَ أَنْ لَا تَنْعَقِدَ يَمِينُهُ وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ فِيهَا كَفَّارَةٌ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مُوجِبَ الْيَمِينِ الْكَفَّارَةُ ، فَإِذَا لَمْ تَصِحَّ مِنْهُ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ كَالزَّكَاةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَنْ لَمْ يَصِحَّ تَكْفِيرُهُ لَمْ تَنْعَقِدْ يَمِينُهُ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ . وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى : لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ
[ الْمَائِدَةِ : 89 ] ، الْآيَةَ فَاقْتَضَى ظَاهِرُ الْعُمُومِ اسْتِوَاءَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ فِي وُجُوبِهِ . وَمِنَ الْقِيَاسِ : أَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّتْ يَمِينُهُ فِي الدَّعَاوَى انْعَقَدَتْ مِنْ غَيْرِ الدَّعَاوَى كَالْمُسْلِمِ : وَلِأَنَّ كُلَّ يَمِينٍ صَحَّتْ مِنَ الْمُسْلِمِ صَحَّتْ مِنَ الْكَافِرِ كَالْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ : وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّتْ يَمِينُهُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ صَحَّتْ يَمِينُهُ بِاللَّهِ كَالْمُسْلِمِ : وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّتْ يَمِينُهُ بِاللَّهِ فِي الْإِيلَاءِ صَحَّتْ يَمِينُهُ بِاللَّهِ فِي غَيْرِ الْإِيلَاءِ كَالْمُسْلِمِ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّمَا صَحَّتْ يَمِينُهُ فِي الْإِيلَاءِ وَبِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ : لِأَنَّهُ يَصِحُّ مِنْهُ مُوجِبُهُ مِنَ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ ، وَلَمْ يَصِحَّ مِنْهُ مُوجِبُ الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى فِي التَّكْفِيرِ ، فَلَمْ تَصِحَّ مِنْهُ الْيَمِينُ بِاللَّهِ تَعَالَى . قِيلَ : مُوجِبُ الْيَمِينِ هُوَ الْوَفَاءُ بِهَا ، وَالْكَفَّارَةُ حُكْمٌ تَعَلَّقَ بِالْحِنْثِ ، فَلَمْ يَمْنَعْ مِنَ انْعِقَادِ الْيَمِينِ ، وَإِنْ أَفْضَتْ إِلَى التَّكْفِيرِ الَّذِي لَا يَصِحُّ مِنْهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَافِرَ لَوْ دَخَلَ الْحَرَمَ فَقَتَلَ فِيهِ صَيْدًا ضَمِنَهُ بِالْجَزَاءِ ، وَإِنِ افْتَقَرَ إِخْرَاجُ الْجَزَاءِ إِلَى نِيَّةٍ لَمْ يَصِحَّ مِنَ الْكَافِرِ ، وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْجَزَاءُ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْخَبَرَ يَقْتَضِي إِسْقَاطَ مَا وَجَبَ ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَجِبْ مَا يَسْقُطُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى سُقُوطِ الْمَأْثَمِ دُونَ الْمَغْرَمِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ التَّكْفِيرَ بِالْمَالِ لَا يَصِحُّ مِنْهُ كَالصِّيَامِ ، فَهُوَ أَنَّ الصِّيَامَ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ فَلَمْ تَصِحَّ مِنَ الْكَافِرِ كَالصَّلَاةِ ، وَالْمَالُ حَقٌّ يَنْصَرِفُ إِلَى الْآدَمِيِّينَ ، فَصَحَّ مِنَ الْكَافِرِ ، وَإِنِ اسْتُحِقَّتْ فِيهِ النِّيَّةُ كَجَزَاءِ الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ ، وَلَا يَمْنَعُ إِذَا لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ أَحَدُ أَنْوَاعِ التَّكْفِيرِ أَنْ تَجِبَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَائِضَ لَا يَصِحُّ مِنْهَا التَّكْفِيرُ بِالصِّيَامِ ، وَيَصِحُّ مِنْهَا التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ ، وَالْعَبْدُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ ، وَيَصِحُّ مِنْهُ التَّكْفِيرُ بِالصِّيَامِ ، وَالْمَجْنُونُ إِنَّمَا لَا يَصِحُّ مِنْهُ التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ وَالصِّيَامِ : لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ ، وَالْكَافِرُ مُكَلَّفٌ ، فَلِذَلِكَ انْعَقَدَتْ يَمِينُ الْكَافِرِ ، وَإِنْ لَمْ يُعْقَدْ يَمِينُ الْمَجْنُونِ . وَأَمَّا الزَّكَاةُ : فَلِأَنَّهَا فُرِضَتْ عَلَى الْمُسْلِمِ طُهْرَةً ، فَخَرَجَ مِنْهَا الْكَافِرُ ، وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ عُقُوبَةً .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ قَالَ أَقْسَمْتُ بِاللَّهِ توجيه قول المقسم ، فَإِنْ كَانَ يَعْنِي حَلَفْتُ قَدِيمًا ، فَلَيْسَتْ بِيَمِينٍ حَادِثَةٍ ، وَإِنْ أَرَادَ بِهَا يَمِينًا ، فَهِيَ يَمِينٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَوْلُهُ : " أَقْسَمْتُ بِاللَّهِ " يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ أَنْ يَكُونَ يَمِينًا فِي الْحَالِ أَوْ
يَكُونَ إِخْبَارًا عَنْ يَمِينٍ مَاضِيَةٍ . وَإِذَا احْتَمَلَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ أَحَدُهَا : أَنْ يُرِيدَ يَمِينًا فِي الْحَالِ فَتَكُونَ يَمِينًا مُنْعَقِدَةً ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ [ الْأَنْعَامِ : 109 ] . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَقُولَهُ مُطْلَقًا لَمْ تَقْتَرِنْ بِهِ إِرَادَةٌ ، فَتَكُونُ يَمِينًا : لِأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَنَ بِإِطْلَاقِهَا عُرْفَانِ ، عُرْفُ شَرْعٍ وَعُرْفُ اسْتِعْمَالٍ . فَعُرْفُ الشَّرْعِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْآيَةِ وَعُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ قَوْلُهُمْ فِي أَيْمَانِهِمْ : أَقْسَمْتُ بِاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِطْلَاقُهُ مَحْمُولًا عَلَى الْعُرْفَيْنِ مِنَ انْعِقَادِ الْيَمِينِ وَلُزُومِ الْكَفَّارَةِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يُرِيدَ بِهِ يَمِينًا حَلَفَ بِهَا مُنْعَقِدَةً ، فَإِنْ عُلِمَ تَقَدُّمُ يَمِينِهِ كَانَ الْعِلْمُ بِهَا مُوَافِقًا لِإِرَادَتِهِ ، فَلَا تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ فِي الْحَالِ ، وَإِنْ لَمْ تُعْلَمْ لَهُ يَمِينٌ مُتَقَدِّمَةٌ ، فَقَدْ قَالَ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ : لَا تَكُونُ يَمِينًا ، لِاحْتِمَالِ مَا قَالَ فِي كِتَابِ الْإِيلَاءِ : تَكُونُ يَمِينًا مُنْعَقِدَةً اعْتِبَارًا بِعُرْفِ الشَّرْعِ وَالِاسْتِعْمَالِ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الْجَمْعُ بَيْنَ الْجَوَابَيْنِ وَتَخْرِيجُهُ فِي الْيَمِينِ وَالْإِيلَاءِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تَنْعَقِدُ فِي الْأَيْمَانِ وَالْإِيلَاءِ . وَالثَّانِي : لَا تَنْعَقِدُ فِي الْأَيْمَانِ وَالْإِيلَاءِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : حَمْلُ الْجَوَابِ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ فَيَلْزَمُ فِي الْإِيلَاءِ وَلَا يَلْزَمُ فِي الْأَيْمَانِ : لِأَنَّ فِي الْإِيلَاءِ حَقًّا لِآدَمِيِّينَ ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِإِرَادَتِهِ ، وَهُوَ فِي الْأَيْمَانِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَحْضَةِ ، فَجَازَ أَنْ يَدِينَ فِيهِ عَلَى إِرَادَتِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ قَالَ أُقْسِمُ بِاللَّهِ " فَلَيْسَ بِيَمِينٍ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . إِذَا لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَاقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ : أُقْسِمُ لَا فَعَلْتُ كَذَا ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْعِقَادِهِ يَمِينًا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا لَا تَكُونُ يَمِينًا سَوَاءٌ أَرَادَ الْيَمِينَ أَوْ لَمْ يُرِدْهَا . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ : تَكُونُ يَمِينًا أَرَادَ الْيَمِينَ أَوْ لَمْ يُرُدْهَا . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : مَا قَالَهُ مَالِكٌ : إِنْ أَرَادَ الْيَمِينَ كَانَتْ يَمِينًا ، وَإِنْ لَمْ يُرِدِ الْيَمِينَ لَمْ تَكُنْ يَمِينًا ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ : أَحْلِفُ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : أَشْهَدُ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا كَانَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي جَمِيعِهِ أَنَّهَا لَا تَكُونُ يَمِينًا حَتَّى يُقْرِنَهُ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَيَقُولَ : أُقْسِمُ بِاللَّهِ أَوْ أَشْهَدُ بِاللَّهِ وَاسْتَدَلَّ مَنْ جَعَلَهُ يَمِينًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ [ الْقَلَمُ : 17 ] . فَدَلَّ عَلَى
أَنَّ " أَقْسَمْتُ " يَمِينًا مُنْعَقِدَةً ، وَقَالَ تَعَالَى : إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [ الْمُنَافِقُونَ : 1 ] ، ثُمَّ قَالَ : اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً [ الْمُنَافِقُونَ : 2 ] . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ " أَشْهَدَ " يَمِينٌ لَازِمَةٌ . وَرَوَى رَاشِدُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَ : أَهَدَتْ لَنَا امْرَأَةٌ طَبَقًا فِيهِ تَمْرٌ ، فَأَكَلَتْ مِنْهُ عَائِشَةُ ، وَأَبْقَتْ فِيهِ تُمَيْرَاتٍ ، فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ : أَقْسَمْتُ عَلَيْكِ إِلَّا أَكَلْتِيهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بِرِّيهَا ، فَإِنَّ الْإِثْمَ عَلَى الْمُحْنِثِ فَجَعْلَهَا يَمِينًا ذَاتَ بِرٍّ وَحِنْثٍ . وَرُوِيَ عَنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ أَنَّهُ أَتَى بِأَبِيهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُبَايِعَهُ فَامْتَنَعَ عَلَيْهِ ، وَقَالَ : لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ . فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ : الْآنَ بَرَرْتَ قَسَمِي ، فَسَمَّاهُ قَسَمًا ؛ وَلِأَنَّ عُرْفَ الْقَسَمِ فِي الشَّرْعِ وَالِاسْتِعْمَالِ يَكُونُ بِاللَّهِ تَعَالَى دُونَ غَيْرِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِطْلَاقُهُ مَحْمُولًا عَلَى الْعُرْفَيْنِ فِيهِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ [ النُّورِ : 6 ] . وَاللِّعَانُ يَمِينٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُطْلَقَ الشَّهَادَةِ لَا يَكُونُ يَمِينًا حَتَّى تَقْتَرِنَ بِذِكْرِ اللَّهِ . وَمِنَ الْقِيَاسِ أَنَّهُ لَفْظٌ عَرِيَ عَنِ اسْمٍ وَصْفَتِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَنْعَقِدَ بِهِ يَمِينٌ تُوجِبُ الْكَفَّارَةَ . أَصْلُهُ إِذَا قَالَ : أُولِي لِأَفْعَلَنَّ هَذَا ؛ لِأَنَّ الْأَلْيَةَ وَالْقَسَمَ وَاحِدٌ ، وَقِيَاسًا عَلَيْهِ إِذَا حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ ؛ وَلِأَنَّ الْيَمِينَ الْمُكَفَّرَةَ إِذَا كَانَتْ بِلَفْظٍ مُعَظَّمٍ لَهُ حُرْمَةٌ ، فَإِذَا تَجَرَّدَ الْقَسَمُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ سَقَطَتْ حُرْمَتُهُ ، فَسَقَطَتْ كَفَّارَتُهُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ [ الْقَلَمِ : 17 ] . فَهُوَ أَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنِ الْقَسَمِ ، وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى صِفَةِ الْقَسَمِ ، كَمَا لَوْ قِيلَ : حَلَفَ فَلَانٌ ، لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَا حَلَفَ بِهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرَيْنِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا ذَكَرْنَاهُ . وَالثَّانِي : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَذَفَ ذِكْرَ اللَّهِ مِنْهُ اقْتِصَارًا عَلَى الْعُرْفِ فِيهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ إِطْلَاقَهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْعُرْفَيْنِ فِيهِ ، فَهُوَ أَنَّ الْعُرْفَ مِنَ الْقَسَمِ أَنَّهُ يَمِينٌ لَكِنْ قَدْ يَكُونُ بِاللَّهِ تَارَةً وَبِغَيْرِ اللَّهِ أُخْرَى ، كَمَا لَوْ قَالَ : حَلَفْتُ
يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِاللَّهِ ، وَيَجُوزَ أَنْ يُرِيدَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ ، وَبِمَا لَا تَنْعَقِدُ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُضَافَ الْقَسَمُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى دُونَ غَيْرِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِنْ قَالَ أُقْسِمُ بِاللَّهِ فَإِنْ أَرَادَ بِهَا يَمِينًا فَهِيَ يَمِينٌ ، وَإِنْ أَرَادَ بِهَا مَوْعِدًا فَلَيْسَتْ بِيَمِينٍ ، كَقَوْلِهِ : سَأَحْلِفُ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : وَفِي الْإِمْلَاءِ هِيَ يَمِينٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا قَوْلُهُ : " أُقْسِمُ بِاللَّهِ انعقاد اليمين في هذه الحالة " أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُرِيدَ بِهَا يَمِينًا فِي الْحَالِ . وَالثَّانِي : أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ سَيُقْسِمُ يَمِينًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَصَارَ احْتِمَالُهُمَا لِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ كَاحْتِمَالِ قَوْلِهِ : أَقْسَمْتُ بِاللَّهِ ، لِأَمْرَيْنِ ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي صِفَةِ الِاحْتِمَالِ ؛ لِأَنَّ الِاحْتِمَالَ فِي أَقْسَمْتُ لِيَمِينٍ مَاضِيَةٍ وَفِي قَوْلِهِ : " أُقْسِمُ " لِيَمِينٍ مُسْتَقْبَلَةٍ ، فَيَكُونُ الْحُكْمُ مُعْتَبَرًا بِأَحْوَالِهِ الثَّلَاثَةِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُرِيدَ بِهَا عَقْدَ يَمِينٍ فِي الْحَالِ ، فَتَنْعَقِدَ يَمِينُهُ . وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ مُطْلَقَةً ، فَيَعْقِدَ يَمِينَهُ اعْتِبَارًا فِي الْإِطْلَاقِ بِعُرْفِ الشَّرْعِ وَالِاسْتِعْمَالِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا [ الْمَائِدَةِ : 107 ] . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يُرِيدَ بِهَا مَوْعِدًا فِي يَمِينٍ مُسْتَقْبَلَةٍ ، فَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَيْمَانِ أَنَّهَا لَا تَكُونُ يَمِينًا حَمَلًا عَلَى إِرَادَتِهِ فِي الْمَوْعِدِ ، وَالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي الْإِيلَاءِ أَنَّهَا تَكُونُ يَمِينًا فِي الْحَالِ ، فَخَرَّجَهُ أَصْحَابُنَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : حَمْلُ ذَلِكَ فِي الْيَمِينِ وَالْإِيلَاءِ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَالثَّانِي : حَمْلُ الْجَوَابِ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِمَا قَدَّمْنَاهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " إِنْ قَالَ لَعَمْرُ اللَّهِ انعقاد اليمين في هذه الحالة فَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِهَا يَمِينًا فَلَيْسَتْ بِيَمِينٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : لَا يَخْلُو حَالُهُ إِذَا قَالَ : لَعَمْرُ اللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالِ : أَحَدُهَا : أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْيَمِينَ ، فَتَكُونُ يَمِينَا مُكَفَّرَةً ؛ لِأَنَّ لِلنَّاسِ فِي مَعْنَاهُ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : مَعْنَاهُ عِلْمُ اللَّهِ ، قَالَهُ قَتَادَةُ . وَالثَّانِي : بَقَاءُ اللَّهِ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّالِثُ : وَحَقِّ اللَّهِ وَأَيُّ هَذِهِ الْمَعَانِي كَانَ ، فَهُوَ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ .
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ لَا يُرِيدَ يَمِينًا فَلَا تَكُونُ يَمِينًا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَكُونُ يَمِينًا وَإِنْ لَمْ يُرِدْهَا : لِأَنَّهُ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ . وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ لَفْظَهُ قَدْ صَارَ فِي الْعُرْفِ مُسْتَعْمَلًا فِي غَيْرِ الْأَيْمَانِ مِثْلُ قَوْلِهِمْ : لَعَمْرِي لَقَدْ كَانَ كَذَا ، وَمِنْ قَوْلِ الشَّاعِرِ : لَعَمْرُكَ مَا يَدْرِي امْرُؤٌ كَيْفَ يَتَّقِي نَوَائِبَ هَذَا الدَّهْرِ أَمْ كَيْفَ يَحْذَرُ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى الْعُرْفِ بِالْإِرَادَةِ ، فَلَا تَكُونُ يَمِينًا لِخُرُوجِهِ عَنْ حُكْمِ الصِّفَاتِ الْمَحْضَةِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يُطْلِقَهُ ، وَلَا تَكُونُ لَهُ فِيهِ إِرَادَةٌ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : تَكُونُ يَمِينًا لِمَا اقْتَرَنَ بِهِ مِنْ عُرْفِ الشَّرْعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [ الْحِجْرِ : 72 ] . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ لَا تَكُونَ يَمِينًا لِأَنَّ عُرْفَ الِاسْتِعْمَالِ فِيهِ مُشْتَرَكٌ ، وَعُرْفَ الشَّرْعِ فِيهِ مُحْتَمَلٌ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ قَسَمٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِرَسُولِهِ ، وَأَقْسَامُ اللَّهِ تَعَالَى مُخَالِفَةٌ لِأَقْسَامِ عِبَادِهِ ، لِجَوَازِ قَسَمِهِ بِالْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُقْسِمَ بِهَا الْمَخْلُوقُونَ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا قَوْلُهُ : وَايْمُ اللَّهِ ، وَأَيْمَنُ اللَّهِ انعقاد اليمين في هذه الحالة ، فَإِنْ أَرَادَ بِهِ يَمِينًا كَانَ يَمِينًا لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ فِي أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ : وَايْمُ اللَّهِ إِنَهُ لَخَلِيقٌ بِالْإِمَارَةِ وَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِهِ يَمِينًا ، أَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُ إِرَادَةٌ لَمْ تَكُنْ يَمِينًا ؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ فِي قَوْلِهِمْ : لَعَمْرُ اللَّهِ ، أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا مِنْ قَوْلِهِمْ : وَأَيْمُ اللَّهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هُمَا سَوَاءٌ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا يَمِينٌ مَعَ وُجُودِ الْإِرَادَةِ وَعَدَمِهَا . وَأَمَّا قَوْلُهُ : لَاهَا اللَّهِ فَإِنْ أَرَادَ بِهِ يَمِينًا ، فَهُوَ يَمِينٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ بِمَشْهَدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَتِيلِ أَبِي قَتَادَةَ حِينَ أَخَذَ سَلَبَهُ غَيْرُهُ : " لَاهَا اللَّهِ إِذَنْ تَعْمِدُ إِلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللَّهِ يُعْطِيكَ سَلْبَهُ ، فَكَانَتْ يَمِينًا مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يُرِدِ الْيَمِينَ ، أَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُ إِرَادَةٌ ، فَلَيْسَ بِيَمِينٍ لِعَدَمِ عُرْفِ الشَّرْعِ وَالِاسْتِعْمَالِ فِيهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَوْ قَالَ وَحَقِّ اللَّهِ أَوْ وَعَظَمَتِهِ أَوْ وَجَلَالِ اللَّهِ أَوْ وَقُدْرَةِ اللَّهِ ، فَذَلِكَ كُلُّ يَمِينٍ نَوَى بِهَا يَمِينًا ، أَوْ لَا نِيَّةَ لَهُ ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْ يَمِينًا ، فَلَيْسَتْ بِيَمِينٍ : لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَقُولَ : وَحَقُّ اللَّهِ وَاجِبٌ وَقُدْرَةُ اللَّهِ مَاضِيَةٌ ، لَا أَنَّهُ يَمِينٌ .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا إِذَا حَلَفَ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ بِ " وَحَقِّ اللَّهِ " ، وَ " عَظَمَةِ اللَّهِ " ، وَ " جَلَالِ اللَّهِ " ، وَ " قُدْرَةِ اللَّهِ " . فَأَمَّا وَعَظَمَةِ اللَّهِ وَجَلَالِ اللَّهِ فَهُوَ يَمِينٌ فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ ، سَوَاءٌ أَرَادَ بِهِ الْيَمِينَ أَوْ لَمْ يُرِدْ : لِأَنَّهَا مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ الْمَحْضَةِ ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهَا عُرْفُ شَرْعٍ وَلَا اسْتِعْمَالٍ ، وَإِنْ كَانَ عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ فِيهَا مَوْجُودًا ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْعِرْفَانُ فِيمَا كَانَ مِنَ الصِّفَاتِ مُحْتَمَلًا ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيمَا زَالَ عَنْهُ الِاحْتِمَالُ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : وَحَقِّ اللَّهِ ، وَقُدْرَةِ اللَّهِ ، فَتَكُونُ يَمِينًا فِي حَالَتَيْنِ مِنْ ثَلَاثٍ إِذَا أَرَادَ الْيَمِينَ وَإِذَا أَطْلَقَ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِذَا قَالَ : وَحَقِّ اللَّهِ ، لَا تَكُونُ يَمِينًا فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا سَوَاءٌ أَرَادَ بِهِ الْيَمِينَ أَوْ لَمْ يُرِدْ ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى فُرُوضُهُ وَعِبَادَاتُهُ ، لِرِوَايَةِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ : فَقَالَ : أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَتَعْبُدُوهُ وَتُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَتُؤْتُوا الزَّكَاةَ . وَدَلِيلُنَا شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا يَمِينٌ مُعْتَادَةٌ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ أُضِيفَتْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ يَمِينًا كَصِفَاتِ ذَاتِهِ مِنَ الْعَظَمَةِ وَالْعِزَّةِ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا يَمِينٌ مُسْتَحَقَّةٌ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ ، فَجَرَى عَلَيْهَا حُكْمُ صِفَاتِ الذَّوَاتِ . وَأَمَّا الْخَبَرُ فَلَا دَلِيلَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ بَيَّنَ بَعْضَ حُقُوقِهِ ، وَقَدْ تَحْتَمِلُ الْعِبَادَاتِ ، وَتَحْتَمِلُ صِفَاتِ الذَّاتِ ، فَجَازَ أَنْ تُعْتَبَرَ فِيهِ الْإِرَادَةُ بِحَمْلِهِ عَلَى أَحَدِهِمَا . وَأَمَّا إِذَا أَرَادَ غَيْرَ الْيَمِينِ ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : " يَعْمَلُ عَلَى إِرَادَتِهِ " فَلَا تَكُونُ يَمِينًا ، لِمَا عَلَّلَ بِهِ مِنْ جَوَازِ أَنْ يُرِيدَ . وَحُقُّ اللَّهِ وَاجِبٌ ، وَقُدْرَةُ اللَّهِ مَاضِيَةٌ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَا تَكُونُ يَمِينًا عَلَى مَا أَجَابَ بِهِ الشَّافِعِيُّ ، وَعَلَّلَ بِهِ . الْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ، أَنَّهُ لَا تَكُونُ يَمِينًا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَتَكُونُ يَمِينًا فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ لَا تَكُونُ يَمِينًا بِالْإِرَادَةِ إِذَا عَزَاهُ إِلَى أَمْرٍ مُحْتَمَلٍ ، وَتَكُونُ يَمِينًا إِذَا لَمْ يَعْزُهُ إِلَى أَمْرٍ مُحْتَمَلٍ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ بِاللَّهِ أَوْ تَاللَّهِ يمين نوى ذلك المقسم أو لم ينو ، انعقاد اليمين في هذه الحالة فَهِيَ يَمِينٌ نَوَى أَوْ لَمْ يَنْوِ " . وَقَالَ فِي الْإِمْلَاءِ : " تَاللَّهِ يَمِينٌ " وَقَالَ فِي الْقَسَامَةِ لَيْسَتْ بِيَمِينٍ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : وَقَدْ حَكَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَمِينَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ حُرُوفَ الْقَسَمِ انعقاد اليمين بكل منها ثَلَاثَةٌ : الْوَاوُ وَهِيَ أَصْلُهَا ، ثُمَّ الْيَاءُ ، ثُمَّ التَّاءُ ، فَأَمَّا الْوَاوُ فَقَوْلُهُ : وَاللَّهِ ، وَهُوَ الْحَرْفُ الصَّرِيحُ فِي الْقَسَمِ ، فَإِذَا قَالَ : وَاللَّهِ ، كَانَ حَالِفًا ، لَا يُرْجَعُ إِلَى إِرَادَتِهِ فِي ظَاهِرٍ وَلَا بَاطِنٍ ، وَلَا يَلْزَمُهُ حُكْمُ الْيَمِينِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ ، وَأَمَّا الْبَاءُ الْمُعْجَمَةُ مِنْ تَحْتُ ، فَقَوْلُهُ : بِاللَّهِ ، وَفِيهَا بَعْضُ الِاحْتِمَالِ ؛ لِأَنَّهُ مَعَ غَالِبِ الْأَحْوَالِ فِي الْقَسَمِ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ : بِاللَّهِ أَسْتَعِينُ وَبِاللَّهِ أَتَّقِي ، وَبِاللَّهِ أَوَمِنُ ، فَإِنْ أَرَادَ بِهِ الْقَسَمَ ، أَوْ قَالَ مُطْلَقًا كَانَ يَمِينًا فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْقَسَمَ ، وَأَرَادَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ احْتِمَالِهِ دِينَ فِي الْبَاطِنِ حَمْلًا عَلَى مَا نَوَاهُ ، وَلَمْ تَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ ، وَكَانَ حَالِفًا فِي الظَّاهِرِ ، اعْتِبَارًا بِالْغَالِبِ مِنْ حَالِ الظَّاهِرِ ، وَلَزِمَهُ حُكْمُ الْيَمِينِ كَمَا لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ ، وَأَرَادَ مِنْ وِثَاقٍ دَيْنٍ فِي الْبَاطِنِ وَكَانَ طَلَاقًا فِي الظَّاهِرِ . وَأَمَّا التَّاءُ الْمُعْجَمَةُ مِنْ فَوْقُ ، فَقَوْلُهُ : تَاللَّهِ ، فَمَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ فِي الْأَيْمَانِ وَالْإِيلَاءِ أَنَّهَا يَمِينٌ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ قَدْ وَرَدَ بِهَا ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ [ الْأَنْبِيَاءِ : 57 ] قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا [ يُوسُفَ : 91 ] . وَنَقْلَ الْمُزَنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَسَامَةِ : تَاللَّهِ لَيْسَتْ بِيَمِينٍ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَخْرِيجِ مَا نَقَلَهُ فِي الْقَسَامَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ ، وَقَدْ وَهِمَ فِيهِ ، وَإِنَّمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ : " بِاللَّهِ " لَيْسَتْ بِيَمِينٍ ، بِالْبَاءِ مُعْجَمَةٍ مِنْ تَحْتُ ، وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِي تَعْلِيلِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا ، فَقَالَ : لِأَنَّهُ دُعَاءٌ ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ تَاللَّهِ يَمِينًا قَوْلًا وَاحِدًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ نَقْلَ الْمُزَنِيِّ صَحِيحٌ ، لِضَبْطِهِ فِي نَقْلِهِ ، فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا مَعَ صِحَّةِ النَّقْلِ فِي كَيْفِيَّةِ تَخْرِيجِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ تَخْرِيجُ قَوْلٍ ثَانٍ ، فَيَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ لِاخْتِلَافِ النَّقْلِ فِيهِ . أَحَدُهُمَا : وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يَكُونَ يَمِينًا فِي الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ تُعْتَبَرَ فِيهِ إِرَادَةٌ : لِأَنَّ عُرْفَ الشَّرْعِ بِهَا وَارِدٌ : وَلِأَنَّ التَّاءَ فِي الْقَسَمِ بَدَلٌ مِنَ الْوَاوِ ، فَقَامَتْ مَقَامَهَا فِي الْحُكْمِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهَا لَيْسَتْ بِيَمِينٍ فِي الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا إِلَّا أَنْ يُرِيدَهَا يَمِينًا ، فَتَصِيرُ بِالْإِرَادَةِ يَمِينًا لِخُرُوجِهَا عَنْ عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ وَالْتِبَاسِهَا عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ ، وَالْأَيْمَانُ مُخْتَصَّةٌ بِمَا كَانَ فِي الْعُرْفِ مُسْتَعْمَلًا ، وَعِنْدَ عَامَّةِ النَّاسِ مُشْتَهِرًا ، فَهَذَا وَجْهٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : أَنَّهَا تَكُونُ يَمِينًا فِي خَوَاصِّ النَّاسِ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ أَنَّ التَّاءَ مِنْ حُرُوفِ الْقَسَمِ وَلَا تَكُونُ فِي الْعَامَّةِ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ
ذَلِكَ إِلَّا بِالْإِرَادَةِ وَالنِّيَّةِ ، كَمَا أَنَّ الْعَرِبِيَّ إِذَا حَلَفَ بِالْأَعْجَمِيَّةِ تَكُونُ يَمِينًا إِذْ عَرَفَهَا ، وَلَا تَكُونُ يَمِينًا إِنْ لَمْ يَعْرِفْهَا ، وَكَذَا الْأَعْجَمِيُّ إِذَا حَلَفَ بِالْعَرَبِيَّةِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهَا تَكُونُ يَمِينًا فِي التَّغْلِيظِ عَلَيْهِ ، وَلَا تَكُونُ يَمِينًا فِي التَّخْفِيفِ عَنْهُ ، فَلَا يَجْعَلُهَا يَمِينًا فِي الْقَسَامَةِ : لِأَنَّهُ يُثْبِتُ بِهَا لِنَفْسِهِ حَقًّا ، وَيَجْعَلُهَا يَمِينًا فِي الْإِيلَاءِ : لِأَنَّهُ يُثْبِتُ بِهَا عَلَى نَفْسِهِ حَقًّا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : فَإِنْ قَالَ اللَّهُ لَأَفْعَلَنَّ ، فَهَذَا ابْتِدَاءُ كَلَامٍ لَا يَمِينٌ إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهَا . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا حَذَفَ مِنَ اسْمِ اللَّهِ حَرْفَ الْقَسَمِ ، فَقَالَ : اللَّهُ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا انعقاد اليمين في هذه الحالة ، لَمْ يَكُنْ يَمِينًا ؛ لِأَنَّهُ يَحْذِفُ حُرُوفَ الْقَسَمِ الْمَوْضُوعَةَ لِلْيَمِينِ يَصِيرُ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ ، وَاسْتِفْتَاحَ خِطَابٍ يَخْرُجُ عَنْ عُرْفِ الْأَيْمَانِ فِي الِاسْتِعْمَالِ وَالشَّرْعِ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ وَرَدَ بِهِ عُرْفُ الشَّرْعِ ، فَقَدْ أَحْلَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُكَانَةَ بْنَ عَبْدِ يَزِيدَ حِينَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْبَتَّةَ ، وَذَكَرَ أَنَّهُ أَرَادَ وَاحِدَةً فَقَالَ : اللَّهِ إِنَّكَ أَرَدْتَ وَاحِدَةً ؟ فَقَالَ : اللَّهِ إِنِّي أَرَدْتُ وَاحِدَةً ، وَأَحْلَفَ ابْنَ مَسْعُودٍ حِينَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَتَلَ أَبَا جَهْلٍ ، فَقَالَ : اللَّهِ إِنَّكَ قَتَلْتَهُ ، فَقَالَ : إِنِّي قَتَلْتُهُ . فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَصَدَ الْيَمِينَ ، بِإِحْلَافِهِمَا وَالنِّيَّةُ عِنْدَنَا فِي الْأَيْمَانِ نِيَّةُ الْمُسْتَحْلِفِ دُونَ الْحَالِفِ ، وَلَوْ كَانَ الْحَالِفُ نَوَى الْيَمِينَ ، وَأَرَادَهَا مَعَ حَذْفِ حَرْفِ الْقَسَمِ كَانَتْ يَمِينًا لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ إِحْلَافِ رُكَانَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ ، فَتَصِيرُ غَيْرَ يَمِينٍ فِي حَالَتَيْنِ إِذَا لَمْ يُرِدْ وَإِذَا أَطْلَقَ ، وَيَمِينًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ إِذَا أَرَادَ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ قَالَ : أَشْهَدُ بِاللَّهِ انعقاد اليمين في هذه الحالة فَإِنْ نَوَى الْيَمِينَ فَهِيَ يَمِينٌ ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ يَمِينًا فَلَيْسَتْ بِيَمِينٍ : لِأَنَّهَا تَحْتَمِلُ أَشْهَدُ بِأَمْرِ اللَّهِ ، وَلَوْ قَالَ : أَشْهَدُ يَنْوِيهِ يَمِينًا لَمْ يَكُنْ يَمِينًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ كَمَا قَالَ : وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إِذَا قَالَ : أَشْهَدُ بِاللَّهِ ، أَوْ قَالَ : أَشْهَدُ أَنَّهَا يَمِينٌ لِمَا اقْتَرَنَ بِهَا مِنْ عُرْفِ الشَّرْعِ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ [ النُّورِ : 6 ] وَقَالَ : إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [ الْمُنَافِقُونَ : 1 ] ، وَإِذَا اقْتَرَنَ بِهَا أَحَدُ الْعُرْفَيْنِ صَارَتْ يَمِينًا ، وَلَا تَكُونُ الشَّهَادَةُ بِاللَّهِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَمِينًا قَاطِعَةً ، لِعِلَّتَيْنِ : إِحْدَاهُمَا : مَا عَلَّلَ بِهِ الشَّافِعِيُّ أَنَّهَا تَحْتَمِلُ أَشْهَدُ بِأَمْرِ اللَّهِ عَلَى وَجْهِ الشَّهَادَةِ بِالْأَيْمَانِ بِاللَّهِ ، فَخَرَجَتْ عَنْ حُكْمِ مَا لَا يَحْتَمِلُ .
وَالثَّانِيَةُ : مَا عَلَّلَ بِهِ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ أَنَّهَا مَا كَانَتْ جَارِيَةً فِي عُرْفِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ ، وَالشَّهَادَةُ بِمَا لَا تَعْرِفُهَا الْعَامَّةُ فِي الْأَيْمَانِ ، فَزَالَ عَنْهَا حُكْمُ الْيَمِينِ . فَأَمَّا اسْتِدْلَالُ أَبِي حَنِيفَةَ بِعُرْفِ الشَّرْعِ ، فَقَدْ قَابَلَهُ فِي حَمْلِهِ عَلَى شَهَادَةِ الْأَيْمَانِ بِاللَّهِ عُرْفٌ شَرْعِيٌّ ، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدُ الْعُرْفَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ ، فَتَعَارَضَا ، وَرَجَعَ إِلَى إِرَادَتِهِ ، وَلَا يَخْلُو حَالُهُ فِي قَوْلِهِ : أَشْهَدُ بِاللَّهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُرِيدَ بِهَا غَيْرَ يَمِينٍ ، فَلَا تَكُونُ يَمِينًا ، وَهُوَ الَّذِي خَالَفَ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُرِيدَ بِهَا الْيَمِينَ ، فَتَكُونُ يَمِينًا بِوِفَاقِ أَبِي حَنِيفَةَ ، لِمَا وَافَقَهَا مِنْ أَحَدِ الْعُرْفَيْنِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يُطْلِقَ وَلَا تَكُونُ لَهُ فِيهَا نِيَّةٌ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا الْإِطْلَاقِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ إِطْلَاقَهَا يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ يَمِينًا لِمُوَافَقَةِ الْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ ، وَيَكُونُ جَوَابُ الشَّافِعِيِّ فِي أَنَّهَا لَيْسَتْ بِيَمِينٍ مَحْمُولًا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهَا الْيَمِينَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ إِطْلَاقَهَا يَمْنَعُ مِنْ أَنْ تَكُونَ يَمِينًا لِمُخَالَفَةِ عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ ، وَيَكُونُ جَوَابُ الشَّافِعِيِّ فِي أَنَّهَا لَيْسَتْ بِيَمِينٍ مَحْمُولًا عَلَى هَذَا الْإِطْلَاقِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ أَعْزِمُ بِاللَّهِ وَلَا نِيَّةَ لَهُ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا : لِأَنَّ مَعْنَاهَا أَعْزِمُ بِقُدْرَةِ اللَّهِ أَوْ بِعَوْنِ اللَّهِ عَلَى كَذَا وَإِنْ أَرَادَ يَمِينًا فَهِيَ يَمِينٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : لِأَنَّ قَوْلَهُ : أَعْزِمُ بِاللَّهِ انعقاد اليمين في هذه الحالة يَحْتَمِلُ الِاسْتِعَانَةَ بُقُولِهِ ، وَمَعُونَتِهِ عَلَى مَقَاصِدِهِ تَسْلِيمًا لِأَمْرِهِ ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ ، وَإِنِ احْتَمَلَ أَنْ يُرِيدَ عَزْمًا عَلَى الْيَمِينِ بِإِضْمَارِ الْقَسَمِ ، وَلِتَرَدُّدِهَا بَيْنَ احْتِمَالَيْنِ ، أَظْهَرُهُمَا أَنْ تَكُونَ غَيْرَ يَمِينٍ ، وَأَضْعَفُهُمَا أَنْ تَكُونَ يَمِينًا ، لَمْ يَجْعَلْهَا يَمِينًا إِذَا نَوَى غَيْرَ الْيَمِينِ ، وَلَا إِذَا أَطْلَقَهَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْتَرِنْ بِإِطْلَاقِهَا عُرْفُ الشَّرْعِ وَلَا عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ ، وَجَعَلْنَاهَا يَمِينًا إِذَا نَوَاهَا لِمَا يَحْتَمِلُهَا مِنْ حُكْمِ الْيَمِينِ فَتَصِيرُ يَمِينًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَغَيْرَ يَمِينٍ فِي حَالَتَيْنِ وَجْهًا وَاحِدًا ، بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ حَيْثُ احْتَمَلَتْ فِي الْإِطْلَاقِ ، وَلِمَا اقْتَرَنَ بِهَا مِنْ عُرْفِ الشَّرْعِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ : أَسْأَلُكَ بِاللَّهِ أَوْ أَعْزِمُ عَلَيْكَ بِاللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ انعقاد اليمين في هذه الحالة ، فَإِنْ أَرَادَ الْمُسْتَحْلِفُ بِهَا يَمِينًا فَهِيَ يَمِينٌ ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِهَا شَيْئًا فَلَيْسَتْ بِيَمِينٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا قَوْلُهُ لِغَيْرِهِ : أَسْأَلُكُ بِاللَّهِ ، أَوْ أُقْسِمُ عَلَيْكَ بِاللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ كَذَا . فَلَهُ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ :
أَحَدُهَا : أَنْ يُرِيدَ يَمِينًا لِنَفْسِهِ عَلَى فِعْلِ صَاحِبِهِ ، فَتَكُونُ يَمِينًا لَهُ مُعَلَّقَةٌ بِفِعْلِ غَيْرِهِ ، فَإِنْ فَعَلَ مَا قَالَ بَرَّ الْحَالِفُ ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ حَنِثَ الْحَالِفُ ، وَوَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْحَالِفِ دُونَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ ، وَأَوْجَبَهَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَلَى الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ دُونَ الْحَالِفِ ، احْتِجَاجًا بِرِوَايَةِ عِكْرِمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : مَنْ حَلَفَ عَلَى أَحَدٍ بِيَمِينٍ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ سَيَبَرُّهُ فَلَمْ يَفْعَلْ ، فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِي لَمْ يَبَرَّهُ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ [ الْمَائِدَةِ : 189 ] ، فَجَعَلَ الْكَفَّارَةَ عَلَى الْحَالِفِ دُونَ الْمُحْنِثِ ، وَقَدْ جَاءَتِ السُّنَّةُ بِمَا يُوَافِقُ هَذَا . رَوَى رَاشِدُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : أَهَدَتْ لَنَا امْرَأَةٌ طَبَقًا فِيهِ تَمْرٌ ، فَأَكَلَتْ مِنْهُ عَائِشَةُ ، وَأَبْقَتْ تُمَيْرَاتٍ ، فَقَالَتْ لَهَا الْمَرْأَةُ : أَقْسَمْتُ عَلَيْكِ إِلَّا أَكَلْتِيهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بِرِّيَهَا : فَإِنَّ الْإِثْمَ عَلَى الْمُحْنِثِ ، فَجُعِلَ الْبِرَّ وَالْحِنْثَ عَلَى الْحَالِفِ وَالْإِثْمَ عَلَى الْمُحْنِثِ ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِيمَا احْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ .
فَصْلٌ : وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ أَنْ يُرِيدَ الْحَالِفُ بِيَمِينِهِ يَمِينًا يَعْقِدُهَا عَلَى الْمُسْتَحْلِفِ انعقاد اليمين في هذه الحالة يُلْزِمُهُ بِرَّهَا وَحِنْثَهَا ، فَلَا يَكُونُ يَمِينًا لِلْحَالِفِ : لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْهَا ، وَلَا تَكُونُ يَمِينًا لِلْمُسْتَحْلِفِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْلِفْ بِهَا ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَنْعَقِدْ يَمِينُ الْمُكْرَهِ مَعَ حَلِفِهِ كَانَتْ يَمِينُ مَنْ لَمْ يَحْلِفْ أَوْلَى أَنْ لَا تَنْعَقِدَ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يُرِيدَ بِهَا السُّؤَالَ وَالطَّلَبَ ، وَلَا يَقْصِدَ بِهَا يَمِينًا لِنَفْسِهِ وَلَا لِصَاحِبِهِ ، فَلَا تَكُونُ يَمِينًا بِحَالٍ . وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يُطْلِقَهَا ، وَلَا تَكُونُ لَهُ نِيَّةٌ فِيهَا بِيَمِينٍ وَلَا غَيْرِهِ ، فَلَا تَكُونُ يَمِينًا ، لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهَا عُرْفُ شَرْعٍ وَلَا عُرْفُ اسْتِعْمَالٍ ، فَخَرَجَتْ عَنْ حُكْمِ الْأَيْمَانِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ انعقاد اليمين في هذه الحالة ، فَلَيْسَتْ بِيَمِينٍ إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ يَمِينًا : لِأَنَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ عَهْدًا أَنْ يُؤَدِّيَ فَرَائِضَهُ ، وَكَذَلِكَ مِيثَاقُ اللَّهِ بِذَلِكَ وَأَمَانَتُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ : إِذَا قَالَ : عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ أَوْ قَالَ : عَلَيَّ مِيثَاقُ اللَّهِ أَوْ جَمْعَ بَيْنِهِمَا ، فَقَالَ : عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ ، كَانَا مِنْ صَرِيحِ الْأَيْمَانِ ، فَيَكُونُ يَمِينًا فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ لِمَا فِيهَا مِنْ زِيَادَةِ التَّغْلِيظِ عَلَى الْأَيْمَانِ بِالْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ ، وَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لَا تَكُونُ يَمِينًا إِذَا لَمْ يَنْوِهَا ؛ لِأَنَّ عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ
يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَا أَوْجَبَهُ مِنْ فُرُوضٍ أَنْ تُؤَدَّى إِلَيْهِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ مَا أَخَذَهُ اللَّهُ مِنَ الذُّرِّيَّةِ فِي ظُهُورِ الْآبَاءِ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى [ الْأَعْرَافِ : 172 ] ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهَا الْيَمِينَ ، فَلَمَّا كَانَ هُنَا يَحْتَمِلُ وُجُوهًا وَجَبَ أَنْ يُرْجَعَ فِيهِ إِلَى نِيَّتِهِ وَإِرَادَتِهِ ، فَإِنْ أَرَادَ يَمِينًا كَانَتْ يَمِينًا ، وَإِنْ أَرَادَ غَيْرَ الْيَمِينِ لَمْ تَكُنْ يَمِينًا ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ إِرَادَةٌ وَأَطْلَقَ ، فَفِي إِطْلَاقِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ إِطْلَاقَهُ يُخْرِجُهُ عَنِ الْيَمِينِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ عُرْفُ شَرْعٍ ، وَتَكُونُ غَيْرَ يَمِينٍ فِي حَالَتَيْنِ ، وَيَمِينًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ إِطْلَاقَهُ يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ يَمِينًا : لِأَنَّ عُرْفَ الِاسْتِعْمَالِ فِي الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ قَدْ صَارَ جَارِيًا وَمَحْمُولًا بَيْنَهُمْ عَلَى زِيَادَةِ التَّغْلِيظِ ، كَمَا يَزِيدُ فِي تَغْلِيظِ الْأَيْمَانِ بِاللَّهِ الطَّالِبِ الْغَالِبِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ، فَتَكُونُ يَمِينًا فِي حَالَتَيْنِ ، وَغَيْرَ يَمِينٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَإِذَا صَارَ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ يَمِينًا ، وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا وَحَنِثَ لَزِمَتْهُ كَفَارَّةٌ وَاحِدَةٌ . وَقَالَ مَالِكٌ : تَلْزَمُهُ كَفَّارَتَانِ لِوُجُوبِهَا بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، فَتَضَاعَفَتْ بِاجْتِمَاعِهِمَا ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّهَا يَمِينٌ وَاحِدَةٌ زَادَهَا تَغْلِيظًا ، فَلَمْ تَجِبْ بِهَا إِلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ كَقَوْلِهِ : وَاللَّهِ الطَّالِبِ الْغَالِبِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
بَابُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْأَيْمَانِ
مَسْأَلَةٌ الِاسْتِثْنَاءُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ يَمْنَعُ مِنَ انْعِقَادِهَا
بَابُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْأَيْمَانِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَمَنْ حَلَفَ بِأَيِّ يَمِينٍ كَانَتْ ثُمَّ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَوْصُولًا بِكَلَامِهِ فَقَدِ اسْتَثْنَى " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، الِاسْتِثْنَاءُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ يَمْنَعُ مِنَ انْعِقَادِهَا ، وَتَسْقُطُ حُكْمُهَا فِي الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْيَمِينُ بِاللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ . وَقَالَ مَالِكٌ : يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْيَمِينِ بِاللَّهِ ، وَلَا يَصِحُّ فِي الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَالنُّذُورِ ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ ، وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ رِوَايَةُ أَيُّوبَ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ : إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَقَدِ اسْتَثْنَاهُ . وَرَوَى طَاوُسٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ : إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ ، فَكَانَ ذَلِكَ عَلَى عُمُومِهِ فِي كُلِّ يَمِينٍ ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ تَعْلِيقُ جَمِيعِ الْأَيْمَانِ مِنْ عِتْقٍ ، وَطَلَاقٍ ، وَغَيْرِهِ بِالشُّرُوطِ وَالصِّفَاتِ ، كَانَ تَعْلِيقُهَا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى ، وَمَشِيئَةُ اللَّهِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ فِيهَا ، فَلَمْ تَنْعَقِدْ ، كَمَا لَوْ قَالَ : وَاللَّهِ لَا دَخَلْتُ الدَّارَ إِنْ شَاءَ زَيْدٌ انعقاد اليمين في هذه الحالة ، أَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ عَمْرٌو انعقاد اليمين في هذه الحالة ، أَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ : أَنْتَ حُرٌّ إِنْ شَاءَ بَكْرٌ انعقاد اليمين في هذه الحالة ، وَلَمْ تُعْلَمْ مَشِيئَتُهُمْ حَتَّى مَاتُوا سَقَطَتْ أَحْكَامُ هَذِهِ كُلُّهَا لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِهَا . فَإِنْ قِيلَ : فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَشَاءُ الْعِتْقَ . قِيلَ : قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَشَاءَهُ فِي الْحَالِ ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَشَاءَهُ ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَشَاءَ الطَّلَاقَ : لِأَنَّهُ قَدْ أَبَاحَهُ ، وَالْمُبَاحُ دَاخِلٌ فِي مَشِيئَتِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَالْوَصْلُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ نَسَقًا ، وَإِنْ كَانَتْ بَيْنَهُ سَكْتَةٌ كَسَكْتَةِ الرَّجُلِ لِلتَّذَكُّرِ أَوِ الْعِيِّ أَوِ التَّنَفُّسِ أَوِ انْقِطَاعِ الصَّوْتِ فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ ، وَالْقَطْعُ أَنْ يَأْخُذَ فِي كَلَامٍ لَيْسَ مِنَ الْيَمِينِ مِنْ أَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ يَسْكُتَ السُّكُوتَ الَّذِي يُبَيِّنُ أَنَّهُ قَطَعَ " .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْأَيْمَانِ كُلِّهَا مَانِعٌ مِنَ انْعِقَادِهَا ، وَهُوَ جَائِزٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ ، وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ عَلَى وُجُوبِ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، احْتِجَاجًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ، [ الْكَهْفِ : 23 ، 24 ] . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَثْنَى فِي يَمِينِهِ تَارَةً ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ فِيهَا أُخْرَى ، فَقَالَ : وَاللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَآلَى مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ . وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَحْلِفُ بِهَذِهِ الْيَمِينِ ، لَا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ . رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا اجْتَهَدَ فِي الْيَمِينِ قَالَ : وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي الْقَاسِمِ بِيَدِهِ . وَلِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ سَبَبٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى حَلِّ الْيَمِينِ ، فَلَمْ يَجِبْ كَالْحِنْثِ . فَأَمَّا الْآيَةُ فَوَارِدَةٌ عَلَى طَرِيقِ الْإِرْشَادِ وَالتَّأْدِيبِ ، أَنْ لَا يَعْزِمَ عَلَى أَمْرٍ إِلَّا أَنْ يُقْرِنَهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْأَيْمَانِ ، وَغَيْرِهَا لِيَكُونَ بِاللَّهِ مُسْتَعِينًا وَإِلَيْهِ مُفَوِّضًا .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الِاسْتِثْنَاءِ في الأيمان دون وجوبه دُونَ وُجُوبِهِ ، فَلَا تَأْثِيرَ لِاسْتِثْنَائِهِ إِلَّا أَنْ يَقُولَهُ مَوْصُولًا بِكَلَامِهِ ، فَإِنِ انْقَطَعَ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ حُكْمٌ ، وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ، وَعَطَاءٍ أَنَّهُ إِنِ اسْتَثْنَى فِي مَجْلِسِ يَمِينِهِ صَحَّ ، وَإِنِ اسْتَثْنَى بَعْدَ فَرَاغِهِ لَمْ يَصِحَّ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَصِحُّ أَبَدًا فِي طَوِيلِ الزَّمَانِ وَقَصِيرِهِ . وَالثَّانِيَةُ : أَنَّهُ يَصِحُّ إِلَى حِينٍ ، وَالْحِينُ عِنْدَهُ سَنَةٌ ، وَلَا يَصِحُّ بَعْدَهَا احْتِجَاجًا بِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [ الْكَهْفِ : 124 ] أَيْ : اذْكُرِ الِاسْتِثْنَاءَ إِذَا نَسِيتَهُ فَعَمَّمَ الْأَمْرَ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ . وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : وَاللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا ، وَاللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا ، وَاللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا ، وَسَكَتَ ثُمَّ قَالَ : إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِثْنَاءِ مُتَّصِلًا أَوْ مُنْفَصِلًا . وَالدَّلِيلُ عَلَى بُطْلَانِ الِاسْتِثْنَاءِ بَعْدَ انْقِطَاعِهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ فَجَعَلَ الِاسْتِثْنَاءَ عَلَى الْفَوْرِ دُونَ التَّرَاخِي ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ حَلَفَ فَقَالَ : إِنْ شَاءَ اللَّهِ فَقَدِ اسْتَثْنَى ، فَذَكَرَ الِاسْتِثْنَاءَ بِحَرْفِ الْفَاءِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّعْقِيبِ وَالْفَوْرِ .
وَلِأَنَّ عُرْفَ النَّاسِ فِي الْكَلَامِ الْمُنْفَصِلِ أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لِلْكَلَامِ الْمُتَّصِلِ : أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ : أَنْتَ حُرٌّ وَسَكَتَ ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ زَمَانٍ : إِنْ دَخَلْتَ الدَّارَ انعقاد العتق في هذه الحالة ، عَتَقَ بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ ، وَلَمْ يَكُنْ مَا ذَكَرَهُ مِنْ دُخُولِ الدَّارِ شَرْطًا ، وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَسَكَتَ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ وَقْتٍ : إِلَّا خَمْسَةً ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ اسْتِثْنَاءً وَلَزِمَتْهُ الْعَشَرَةُ : لِاسْتِقْرَارِ حُكْمِ الْكَلَامِ بِالسُّكُوتِ عَلَيْهِ ، كَذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى . وَلِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ بَعْدَ طَوِيلِ الزَّمَانِ فِي الْأَيْمَانِ لَسَقَطَتْ كَفَّارَاتُ الْأَيْمَانِ بِاسْتِثْنَائِهِ قَبْلَ الْحِنْثِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [ الْكَهْفِ : 24 ] ، فَقَدْ قَالَ عِكْرِمَةُ مَعْنَاهُ : وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا غَضِبْتَ لِيَزُولَ عَنْكَ الْغَضَبُ عِنْدَ ذِكْرِهِ ، وَأَمَّا الْخَبَرُ فَقَدْ ذَكَرَ السَّاجِيُّ أَنَّهُ مُرْسَلٌ ، رَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَوْ صَحَّ جَازَ أَلَّا يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى سُكُوتِهِ لِانْقِطَاعِ النَّفَسِ ، أَوْ قَالَهُ بَعْدَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ اسْتِعَانَةً بِمَشِيئَةِ اللَّهِ عَلَى مَقَاصِدِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَجْعَلْهُ اسْتِثْنَاءً فِي يَمِينِهِ : لِأَنَّهُ قَدْ وَفَّى بِهَا فِي غَزْوِ قُرَيْشٍ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ اعْتِبَارُ الِاسْتِثْنَاءِ بِالِاتِّصَالِ فِي الْأَيْمَانِ دُونَ الِانْفِصَالِ . فَالْمُتَّصِلُ مَا وَصَفَهُ الشَّافِعِيُّ أَنْ يَصِلَهُ بِيَمِينِهِ عَلَى نَسَقٍ ، فَإِنْ سَكَتَ لِنَحْنَحَةٍ وَانْقِطَاعِ نَفَسٍ أَوْ عَجْزٍ أَوْ تَذَكُّرِ كَلَامٍ لَمْ يَكُنْ قَطْعًا ، وَكَانَ كَالْمُتَّصِلِ لِأَنَّ الْكَلَامَ لَا يَمْتَدُّ ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَتَخَلَّلَهُ سَكْتَةُ الِاسْتِرَاحَةِ ، فَأَمَّا إِنْ سَكَتَ بِغَيْرِ هَذَا ، أَوْ تَكَلَّمَ بَيْنَ الْيَمِينِ وَالِاسْتِثْنَاءِ بِمَا خَرَجَ عَنْهُ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ وَكَلَامٍ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْيَمِينِ وَالِاسْتِثْنَاءِ بَطَلَ حُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ ؛ لِأَنَّ اسْتِقْرَارَ الْيَمِينِ بِالْخُرُوجِ عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا .
فَصْلٌ : ثُمَّ لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ فِيهَا مَعَ الِاتِّصَالِ إِلَّا بِالْكَلَامِ ، فَإِنْ نَوَاهُ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ لَمَّا يَنْعَقِدْ بِالنِّيَّةِ لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ فِيهَا بِالنِّيَّةِ ، وَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ نُطْقًا كَمَا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْيَمِينُ نُطْقًا . فَإِنْ قِيلَ : أَفَلَيْسَ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ : أَنْتَ حُرٌّ وَنَوَى بِقَلْبِهِ إِنْ دَخَلَ الدَّارَ كَانَ شَرْطًا فِي عِتْقِهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَا يَعْتِقُ عَلَيْهِ إِلَّا بِدُخُولِ الدَّارِ ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ نُطْقًا ، فَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ كَانَ هَكَذَا . قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ رَافِعٌ كَالنَّسْخِ ، وَلَا يَكُونُ النَّسْخُ إِلَّا بِالْكَلَامِ كَذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءُ ، وَالشَّرْطُ تَخْصِيصُ بَعْضِهِ ، وَتَخْصِيصُ الْعُمُومِ يَجُوزُ بِالْقِيَاسِ مِنْ غَيْرِ كَلَامٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مُبْطِلٌ لِظَاهِرِ الْكَلَامِ ، فَلَمْ يَبْطُلْ إِلَّا بِمِثْلِهِ مِنْ كَلَامٍ ظَاهِرٍ ، وَالشَّرْطُ ثَبَتَ فَحَمْلُ الْكَلَامِ الْمُحْتَمَلِ عَلَى مُقْتَضَى الشَّرْطِ ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى الْكَلَامِ فَافْتَرَقَا .
ثُمَّ لَا حُكْمَ لِتَلَفُّظِهِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى حِينَ يَقُولُهُ نَاوِيًا بِهِ الِاسْتِثْنَاءَ ، فَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ وَسِيقَ فِي لِسَانِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ أَوْ جَرَى بِهِ عَادَتُهُ أَنْ يَذْكُرَ مَشِيئَةَ اللَّهِ تَعَالَى فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِ لَمْ يَكُنِ اسْتِثْنَاءً . أَلَا تَرَى أَنَّ عَقْدَ الْيَمِينِ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِالنِّيَّةِ وَالْقَصْدِ ، وَيَكُونُ اللَّغْوُ فِيهَا عَفْوًا ، كَذَلِكَ اسْتِثْنَاؤُهَا ، وَإِذَا ثَبَتَ اعْتِبَارُ النِّيَّةِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ نُظِرَ ، فَإِنْ قَصَدَ الِاسْتِثْنَاءَ عِنْدَ التَّلَفُّظِ بِيَمِينِهِ صَحَّ إِذَا تَكَلَّمَ بِهِ بَعْدَ يَمِينِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ مَعَ ابْتِدَاءِ الْيَمِينِ وَقَصَدَهُ مَعَ التَّلَفُّظِ بِالِاسْتِثْنَاءِ ، فَفِي صِحَّتِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَصِحُّ لِوُجُودِ الْقَصْدِ فِيهِ عِنْدَ ذِكْرِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَصِحُّ لِإِطْلَاقِ الْيَمِينِ عِنْدَ ذِكْرِهِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَ الِاسْتِثْنَاءُ إذا تقدم على اليمين دون انقطاع ، انعقاده في هذه الحالة عَلَى الْيَمِينِ فَيَقُولَ : إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَاللَّهِ لَا كَلَّمْتُ زَيْدًا ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ وَسَطًا ، فَيَقُولَ : وَاللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، لَا كَلَّمْتُ زَيْدًا ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا مُتَّصِلًا بِكَلَامِهِ الَّذِي يُعْتَبَرُ حُكْمُ أَوَّلِهِ بِآخِرِهِ ، وَحُكْمُ آخِرِهِ بِأَوَّلِهِ ، وَسَوَاءٌ قَالَ فِي اسْتِثْنَائِهِ : إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، أَوْ أَرَادَ اللَّهُ ، أَوْ إِنْ أَحَبَّ اللَّهُ ، وَإِنِ اخْتَارَ اللَّهُ ، كُلُّ ذَلِكَ اسْتِثْنَاءٌ . وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : بِمَشِيئَةِ اللَّهِ أَوْ بِإِرَادَةِ اللَّهِ أَوْ بِاخْتِيَارِ اللَّهِ ، فَكُلُّهُ اسْتِثْنَاءٌ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
مَسْأَلَةٌ لَوْ قَالَ فِي يَمِينِهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا لِوَقْتٍ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ فُلَانٌ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " لَوْ قَالَ فِي يَمِينِهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا لِوَقْتٍ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ فُلَانٌ انعقاد اليمين في هذه الحالة ، فَإِنْ شَاءَ فُلَانٌ لَمْ يَحْنَثْ ، وَإِنْ مَاتَ أَوْ غِيبَ عَنَّا حَتَّى مَضَى الْوَقْتُ حَنِثَ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) قَالَ بِخَلَافِهِ فِي بَابِ جَامِعِ الْأَيْمَانِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَالَ الْمُزَنِيُّ : وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَقُولَ الْحَالِفُ : وَاللَّهِ لَأَدْخُلَنَّ هَذِهِ الدَّارَ الْيَوْمَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ زَيْدٌ ، فَعَيَّنَ وَقْتَ دُخُولِهِ فِي يَوْمِهِ ، فَلَا يَبَرُّ بِالدُّخُولِ فِي غَيْرِهِ ، وَجَعَلَ مَشِيئَةَ زَيْدٍ اسْتِثْنَاءً لِيَمِينِهِ ، فَتَعَلَّقَ بِمَشِيئَةِ زَيْدٍ أَمْرَانِ : أَحَدُهُمَا : صِفَةُ مَشِيئَتِهِ الْمَشْرُوطَةِ . وَالثَّانِي : حُكْمُهَا فِي الشَّرْطِ ، فَأَمَّا صِفَةُ مَشِيئَتِهِ فَهُوَ أَنْ يَشَاءَ أَنْ لَا يَدْخُلَ الْحَالِفُ الدَّارَ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ ضِدُّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ : لِأَنَّ مِنْ حُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ إِذَا عَادَ إِلَى إِثْبَاتٍ أَنْ يَكُونَ نَفْيًا ، وَإِذَا عَادَ إِلَى نَفْيٍ أَنْ يَكُونَ إِثْبَاتًا ، فَإِنْ قَالَ الْحَالِفُ : أَرَدْتُ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ زَيْدٌ دُخُولِي ، فَلَمَّا الْتَزَمَ الدُّخُولَ حُمِلَتِ الْمَشِيئَةُ عَلَى إِرَادَتِهِ ، لِاحْتِمَالِهَا ، وَإِنْ خَالَفَتْ حُكْمَ الِاسْتِثْنَاءِ ، وَأَمَّا حُكْمُ مَشِيئَةِ زَيْدٍ فَهُوَ مَعَ الْيَمِينِ بَعْدَ انْعِقَادِهَا ، فَتَكُونُ مَشِيئَةُ زَيْدٍ رَافِعَةً لِعَقْدِ يَمِينِ الْحَالِفِ : لِأَنَّهُ جَعَلَهَا اسْتِثْنَاءً ، وَلَمْ يَجْعَلْهَا شَرْطًا ، وَالِاسْتِثْنَاءُ يَنْفِي الْإِثْبَاتَ
وَيُثْبِتُ النَّفْيَ وَالْيَمِينٌ ثَابِتَةٌ ، فَكَانَ اسْتِثْنَاؤُهَا نَفْيًا ، فَلَوْ قَالَ : أَرَدْتُ أَنْ تَكُونَ مَشِيئَةُ زَيْدٍ شَرْطًا فِي إِثْبَاتِ الْيَمِينِ لَمْ يُعْمَلْ عَلَى إِرَادَتِهِ ؛ لِأَنَّهَا تُحِيلُ حَقِيقَةَ لَفْظِهِ بِمَا لَا يَحْتَمِلُهُ : لِأَنَّ قَوْلَهُ : إِلَّا أَنْ يَشَاءَ زَيْدٌ ضِدُّ قَوْلِهِ : إِنْ شَاءَ زَيْدٌ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعَلَّقَ عَلَى اللَّفْظِ حُكْمُ هَذِهِ ، وَخَالَفَ صِفَةَ الْمَشِيئَةِ إِذَا أَرَادَ خِلَافَ إِطْلَاقِهَا لِاحْتِمَالِهِ ، فَإِذَا تَقَرَّرَتْ صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ ، وَحُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ فِيهَا بِمَشِيئَةِ زَيْدٍ الرَّافِعِ لِعَقْدِ الْيَمِينِ - فَلَا يَخْلُو حَالُ الْحَالِفِ مِنْ أَنْ يُوجَدَ فِيهِ الْبِرُّ أَوْ لَا يُوجَدَ ، فَإِنْ كَانَ الْبِرُّ مِنْهُ مَوْجُودًا بِدُخُولِ الدَّارِ فِي يَوْمِهِ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ وُجِدَتْ مَشِيئَةُ زَيْدٍ أَوْ لَمْ تُوجَدْ ، لَكِنْ يَكُونُ دُخُولُهُ بَعْدَ مَشِيئَةِ زَيْدٍ دُخُولًا بَعْدَ ارْتِفَاعِ الْيَمِينِ ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ بِرٌّ وَلَا حِنْثٌ ، وَدُخُولُهُ مَعَ عَدَمِ الْمَشِيئَةِ دُخُولًا يُوجِبُ الْبِرَّ فِي يَمِينِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلِ الْحَالِفُ الدَّارَ فِي يَوْمِهِ فَقَدَ عَدِمَ الْفِعْلَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْبِرُّ ، فَتُرَاعَى حِينَئِذٍ مَشِيئَةُ زَيْدٍ ، هَلِ ارْتَفَعَتِ الْيَمِينُ بِمَشِيئَتِهِ ، أَوْ كَانَتْ عَلَى انْعِقَادِهَا لِعَدَمِ مَشِيئَتِهِ ، وَلَا يَخْلُو حَالُ زَيْدٍ فِيهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ شَاءَ ، فَالْيَمِينُ قَدِ ارْتَفَعَتْ بِمَشِيئَتِهِ ، فَلَمْ يَحْنَثِ الْحَالِفُ بِتَرْكِ الدُّخُولِ ، لِارْتِفَاعِ الْيَمِينِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ زَيْدًا لَمْ يَشَأْ فَالْيَمِينُ مُنْعَقِدَةٌ لِعَدَمِ الشَّرْطِ فِي رَفْعِهَا ، وَالدُّخُولُ شَرْطٌ فِي الْبِرِّ فَيَكُونُ الْحَالِفُ حَانِثًا ، بِتَرْكِ الدُّخُولِ لِإِخْلَالِهِ بِشَرْطِ الْبِرِّ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ تَخْفَى مَشِيئَةُ زَيْدٍ ، فَلَمْ يَعْلَمْ هَلْ شَاءَ أَوْ لَمْ يَشَأْ ، فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَنَّ الْحَالِفَ يَحْنَثُ بِشَرْطِ الدُّخُولِ ، فَجَعَلَ الشَّكَّ فِي الْمَشِيئَةِ مُوجِبًا لِسُقُوطِهَا ، وَحَلَّ الْيَمِينُ عَلَى انْعِقَادِهَا فَأَوْقَعَ الْحِنْثَ فِيهَا ، وَنَقَلَ الرَّبِيعُ فِي كِتَابِ الْأُمِّ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي مَسْأَلَةٍ أُخْرَى ضِدَّ هَذَا الْجَوَابِ مَعَ وُجُوبِ اشْتِرَاكِهِمَا فِيهِ ، وَهُوَ إِذَا قَالَ حَالِفٌ : وَاللَّهِ لَا دَخَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ فِي يَوْمِي هَذَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ زَيْدٌ فَدَخَلَهَا فِي يَوْمِهِ ، وَلَمْ يَعْلَمْ مَشِيئَةَ زَيْدٍ لَمْ يَحْنَثْ ، وَهُمَا فِي حُكْمِ الْمَشِيئَةِ سَوَاءٌ ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الصُّورَةِ ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مَعْقُودَةٌ عَلَى دُخُولِ الدَّارِ ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ مَعْقُودَةٌ عَلَى تَرْكِ دُخُولِهَا ، وَمَشِيئَةُ زَيْدٍ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ جَمِيعًا رَافِعَةٌ لِعَقْدِ الْيَمِينِ ، وَقَدْ جَعَلَ الشَّكَّ فِي مَشِيئَةِ زَيْدٍ رَافِعًا لِلْيَمِينِ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ ، وَلَمْ يَجْعَلِ الشَّكَّ فِيهَا رَافِعًا لِلْيَمِينِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى . وَلَوْلَا أَنَّ الرَّبِيعَ عَلَّلَ جَوَابَ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ زَيْدٌ قَدْ شَاءَ فَلَا يَحْنَثُ بِالشَّكِّ ، فَجَازَ أَنْ يُنْسَبَ الرَّبِيعُ إِلَى الْوَهْمِ ، أَوْ يُنْسَبَ الْكَاتِبُ إِلَى الْغَلَطِ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اخْتِلَافِ هَذَيْنِ الْجَوَابَيْنِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى اسْتِوَاءِ الْبِرِّ وَالْحِنْثِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ . عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ خَرَّجُوا جَوَابَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى وَحَمَلُوهُمَا عَلَى قَوْلَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : يَحْنَثُ بِالشَّكِّ فِي مَشِيئَةِ زَيْدٍ إِثْبَاتًا لِعَقْدِ الْيَمِينِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ : لِأَنَّ الشَّكَّ فِي صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ في اليمين هل ينعقد بها اليمين أم لا يُوجِبُ سُقُوطَ حُكْمِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يَحْنَثُ بِالشَّكِّ فِي مَشِيئَةِ زَيْدٍ إِثْبَاتًا لِصِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ ؛ لِأَنَّ الشَّكَّ فِي كَفَّارَةِ الْحِنْثِ تُوجِبُ سُقُوطَهَا اسْتِصْحَابًا لِبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ ، فَهَذَا أَحَدُ وَجْهَيْ أَصْحَابِنَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَقَدْ حَكَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ ، وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ لَيْسَ اخْتِلَافُ الْجَوَابَيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ ، فَحَنَّثَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى إِذَا فَاتَ أَنْ يَسْتَدْرِكَ مَشِيئَةَ زَيْدٍ بِمَوْتِهِ وَلَمْ يَحْنَثْ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ إِذَا أَمْكَنَ اسْتِدْرَاكُهَا بِغَيْبَتِهِ حَيًّا ، وَالتَّوَصُّلُ إِلَى الْعِلْمِ بِهَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ لَمَّا نَقَلَ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ أَنَّهُ يَحْنَثُ بِالشَّكِّ بِالْمَشِيئَةِ قَالَ : قَدْ قَالَ خِلَافَهُ فِي بَابِ جَامِعِ الْأَيْمَانِ ، وَالَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْمُزَنِيُّ فِي بَابِ جَامِعِ الْأَيْمَانِ : لَيْسَتِ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي حَكَاهَا الرَّبِيعُ فِي كِتَابِ الْأُمِّ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ إِذَا حَلَفَ لَيَضْرِبْ عَبْدَهُ مِائَةً ، فَضَرَبَهُ بِضِغْثٍ بِجَمْعِ مِائَةِ شِمْرَاخٍ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِأَيُّوبَ حِينَ حَلَفَ لَيَضْرِبِ امْرَأَتَهُ مِائَةً : وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ ، فَإِذَا ضَرَبَ عَبْدَهُ بِمِائَةِ شِمْرَاخٍ مَجْمُوعَةٍ ، فَإِنْ أَحَاطَ عِلْمُهُ بِوُصُولِ جَمِيعِهَا إِلَى بَدَنِهِ بَرَّ ، وَإِنْ أَحَاطَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ جَمِيعُهَا إِلَى بَدَنِهِ حَنِثَ ، وَإِنْ شَكَّ فِي وُصُولِ جَمِيعِهَا إِلَى بَدَنِهِ لَمْ يَحْنَثْ وَلَمْ نَجْعَلْهُ بِالشَّكِّ فِي وُصُولِ الضَّرْبِ حَانِثًا ، فَبَعَث إِلَى الْمُزَنِيِّ الْجَوَابَ فِي مَسْأَلَةِ الضَّرْبِ عَلَى مَا حَكَيْتُ ، وَفِي مَسْأَلَةِ الْمَشِيئَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَقَدْ يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَ الشَّكِّ فِيهَا ، فَلَا يَحْنَثُ بِالشَّكِّ فِي وُصُولِ الضَّرْبِ وَيَحْنَثُ بِالشَّكِّ فِي وُجُودِ الْمَشِيئَةِ ، وَإِنْ كَانَ الْفَرْقُ ضَعِيفًا ، هُوَ أَنَّ الْفِعْلَ فِي وُصُولِ الضَّرْبِ قَدْ وُجِدَ فَغَلَبَ حُكْمُ الظَّاهِرِ فِي وُصُولِهِ : وَلَيْسَ لِوُجُودِ الْمَشِيئَةِ فِعْلٌ يَعْمَلُ عَلَى ظَاهِرِهِ ، فَغَلَبَ حُكْمُ سُقُوطِهَا . وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
مَسْأَلَةٌ لَوْ قَالَ فِي يَمِينِهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا إِنْ شَاءَ فُلَانٌ فَفَعَلَ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَلَوْ قَالَ فِي يَمِينِهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا إِنْ شَاءَ فُلَانٌ فَفَعَلَ ، وَلَمْ يَعْرِفْ شَاءَ أَوْ لَمْ يَشَأْ يَحْنَثْ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا أَنْ يَقُولَ الْحَالِفُ : وَاللَّهِ لَأَدْخُلَنَّ الدَّارَ فِي يَوْمِي هَذَا إِنْ شَاءَ زَيْدٌ ، فَمَشِيئَةُ زَيْدٍ هُنَا شَرْطٌ فِي انْعِقَادِ الْيَمِينِ وَلَيَسَ بِشَرْطٍ فِي اسْتِثْنَائِهَا وَرَفْعِهَا ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْمَشِيئَةُ مُوَافِقَةً لِعَقْدِ الْيَمِينِ فَيَشَاءُ أَنْ لَا يَدْخُلَهَا ، بِخِلَافِ الْمَشِيئَةِ ، وَفِي الِاسْتِثْنَاءِ الَّذِي يَتَضَمَّنُ ضِدَّ مَا انْعَقَدَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ أَنْ
يَعْلَمَ مَشِيئَةَ زَيْدٍ أَوْ لَا يَعْلَمَ ، فَإِنْ عَلِمْنَا حَالَ مَشِيئَةٍ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا أَنْ تَكُونَ مُوَافِقَةً لِعَقْدِ الْيَمِينِ أَوْ مُخَالَفَةً ، فَإِنْ كَانَتْ مُوَافَقَةً لِعَقْدِ الْيَمِينِ ، وَهُوَ أَنْ يَشَاءَ زَيْدٌ أَنْ لَا يَدْخُلَ الْحَالِفُ الدَّارَ ، وَالْيَمِينُ مُنْعَقِدَةٌ لِوُجُودِ الشَّرْطِ فِي انْعِقَادِهَا ، فَلَا يَبَرُّ فِي يَمِينِهِ إِلَّا بِتَرْكِ دُخُولِهَا فِي يَوْمِهِ ، فَإِنْ دَخَلَهَا فِيهِ حَنِثَ ، وَإِنْ كَانَتْ مَشِيئَةُ زَيْدٍ مُخَالِفَةً لِعَقْدِ الْيَمِينِ : لِأَنَّ زَيْدًا قَدْ شَاءَ دُخُولَ الْحَالِفِ إِلَيْهَا ، وَقَدْ حَلَفَ أَنْ لَا يَدْخُلَهَا ، فَالْيَمِينُ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ انْعِقَادِهَا فِي الْمَشِيئَةِ مَفْقُودٌ ، فَإِنْ قَالَ الْحَالِفُ : أَرَدْتُ بِمَشِيئَةِ زَيْدٍ أَنْ يَشَاءَ دُخُولِي فَلَا أَدْخُلُهَا بِيَمِينٍ ، حُمِلَ عَلَى إِرَادَتِهِ فِي انْعِقَادِهَا لِاحْتِمَالِهِ ، وَإِنْ خَالَفَ الظَّاهِرَ ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يُعْلَمْ هَلْ يَشَاءُ زَيْدٌ أَوْ لَمْ يَشَأْ لَمْ تَنْعَقِدِ الْيَمِينُ وَلَمْ يَقَعْ فِيهَا حِنْثٌ ؛ لِأَنَّ الشَّكَّ فِي وُجُودِ شَرْطِهَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ انْعِقَادِهَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ لَغْوِ الْيَمِينِ
بَابُ لَغْوِ الْيَمِينِ مِنْ هَذَا وَمِنَ اخْتِلَافِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَخْبَرْنَا مَالِكٌ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : لَغْوُ الْيَمِينِ قَوْلُ الْإِنْسَانِ لَا وَاللَّهِ وَبَلَى وَاللَّهِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَالْعَفْوُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ الْكَلَامُ غَيْرُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، وَجِمَاعُ اللَّغْوِ هُوَ الْخَطَأُ ، وَاللَّغْوُ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ . وَذَلِكَ إِذَا كَانَ عَلَى اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ وَالْعَجَلَةِ وَعَقْدُ الْيَمِينِ أَنْ يُثْبِتَهَا عَلَى الشَّيْءِ بِعَيْنِهِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَصْلُ هَذَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ [ الْبَقَرَةِ : 225 ] ، يُرِيدُ بِتَرْكِ الْمُؤَاخَذَةِ بِاللَّغْوِ فِي الْأَيْمَانِ ارْتِفَاعَ الْمَأْثَمِ وَسُقُوطَ الْكَفَّارَةِ . وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي لَغْوِ الْيَمِينِ الَّذِي يَسْقُطُ بِهِ الْمَأْثَمُ وَالتَّكْفِيرُ عَلَى مَذَاهِبَ شَتَّى أَحَدُهَا : مَا قَالَهُ مَالِكٌ : إِنَّ لَغْوَ الْيَمِينِ هُوَ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى الْمَاضِي كَاذِبًا فَلَا يُؤَاخَذُ بِالْكَفَّارَةِ وَإِنْ كَانَ آثِمًا وَهِيَ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ : بِأَنَّ لَغْوَ الْيَمِينِ بِأَنْ يَحْلِفَ عَلَى مَاضٍ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ صَادِقٌ ، فَيَبِينُ كَاذِبًا فَلَا يُؤَاخَذُ بِمَأْثَمٍ وَلَا كَفَّارَةٍ . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : مَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ : أَنَّ لَغْوَ الْيَمِينِ أَنْ يَحْلِفَ نَاسِيًا عَلَى مَاضٍ أَوْ مُسْتَقْبَلٍ ، فَلَا يُؤَاخَذُ بِمَأْثَمٍ وَلَا كَفَّارَةٍ . وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ : مَا قَالَ الشَّعْبِيُّ وَمَسْرُوقٌ : هُوَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى مَعْصِيَةٍ فَيَتْرُكَهَا فَيَصِيرُ لَاغِيًا يَمِينَهُ ، لَا يُؤَاخَذُ بِمَأْثَمٍ وَلَا كَفَّارَةٍ . وَالْمَذْهَبُ الْخَامِسُ : مَا قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَنَّ لَغْوَ الْيَمِينِ هُوَ أَنْ يُحَرِّمَ عَلَى نَفْسِهِ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ ، لَا يُؤَاخَذُ فِيهِ بِمَأْثَمٍ وَلَا كَفَّارَةٍ . وَالْمَذْهَبُ السَّادِسُ : مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ : أَنَّ لَغْوَ الْيَمِينِ مَا يَسْبِقُ بِهِ لِسَانَهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَلَا عَقْدٍ كَقَوْلِهِ : لَا وَاللَّهِ ، بَلَى وَاللَّهِ ، فَلَا يُؤَاخَذُ فِيهِ بِمَأْثَمٍ وَلَا كَفَّارَةٍ ، وَهُوَ قَوْلُ
ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ وَعَطَاءٍ وَأَكْثَرِ التَّابِعِينَ ، اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [ الْبَقَرَةِ : 225 ] ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا لَمْ يَقْصِدْهُ بِقَلْبِهِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِهِ وَقَالَ : وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ [ الْمَائِدَةِ : 89 ] ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا لَمْ يَعْقِدْهُ بِعَزْمِهِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِهِ ، وَلِمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ عَائِشَةَ فِي صَدْرِ الْبَابِ ، وَقَدْ رَوَاهُ حَسَّانُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ عَطَاءٍ ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي لَغْوِ الْيَمِينِ : هُوَ كَلَامُ الْعَرَبِ ، لَا وَاللَّهِ ، وَبَلَى وَاللَّهِ . وَرَوَى طَاوُسٌ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يَمِينَ فِي غَضَبٍ فَأَسْقَطَ الْيَمِينَ فِي الْغَضَبِ لِسَبْقِ اللِّسَانِ بِهَا وَعَدَمِ الْقَصْدِ لَهَا : وَلِأَنَّ لَغْوَ الْكَلَامِ عِنْدَ الْعَرَبِ مَا تَجَرَّدَ عَنْ غَرَضٍ ، وَعَرِيَ عَنْ قَصْدٍ ، وَكَانَ مِنَ الْبَوَادِرِ وَالْمُلْغَاةِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ [ الْقِصَصِ : 55 ] ، فَكَانَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ تَقْتَضِيهِ اللُّغَةُ فِيهِ مَعَ مَا قَارَنَهُ مِنْ مَحَايِلِ الشَّرْعِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ لَغْوِ الْيَمِينِ لَمْ تَخْلُ الْيَمِينُ مِنْ أَنْ تَكُونَ بِاللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِغَيْرِهِ ، فَإِنْ كَانَتْ بِاللَّهِ تَعَالَى سَبَقَ بِهَا لِسَانُهُ وَجَرَتْ بِهَا عَادَتُهُ ، فَقَالَ : لَا وَاللَّهِ ، أَوْ قَالَ : بَلَى وَاللَّهِ غَيْرَ قَاصِدٍ لِعَقْدِ يَمِينٍ فَلَا مَأْثَمَ عَلَيْهِ وَلَا حِنْثَ ، وَلَوْ نَزَّهَ لِسَانَهُ مِنْهَا كَانَ أَوْلَى ، لِئَلَّا يَجْعَلَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى عُرْضَةً لِيَمِينِهِ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ [ الْبَقَرَةِ : 224 ] ، فَأَمَّا إِنْ قَالَ : لَا وَاللَّهِ ، بَلَى وَاللَّهِ ، فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا ، كَانَ الْأَوَّلُ لَغْوًا : لِأَنَّهَا غَيْرُ مَقْصُودَةٍ وَكَانَتِ الثَّانِيَةُ مُنْعَقِدَةً ؛ لِأَنَّهَا اسْتِدْرَاكٌ فَصَارَتْ مَقْصُودَةً ، فَإِنْ كَانَتِ الْيَمِينُ بِغَيْرِ اللَّهِ مِنْ طَلَاقٍ وَعَتَاقٍ سَبَقَ بِهَا لِسَانُهُ لَغْوًا مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ ، وَلَا عَقْدٍ دِينِ فِيهَا فَلَمْ يُؤَاخَذْ بِهَا فِي الْبَاطِنِ ، وَكَانَ مُؤَاخَذًا بِهَا فِي الظَّاهِرِ ، بِخِلَافِ الْيَمِينِ بِاللَّهِ فِي أَنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ بِلَغْوِهَا فِي الظَّاهِرِ وَلَا فِي الْبَاطِنِ : لِأَنَّ كَفَّارَةَ الْحِنْثِ بِاللَّهِ مِنْ حُقُوقِهِ الْمَحْضَةِ ، فَاسْتَوَى فِيهَا حُكْمُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ ، وَالْحِنْثُ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْحُقُوقِ الْمُشْتَرِكَةِ بَيْنَ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ ، فَلَمْ يُؤَاخَذْ بِهَا فِي الْبَاطِنِ لِاخْتِصَاصِهِ بِحُقُوقِ اللَّهِ ، وَكَانَ مُؤَاخَذًا بِهَا فِي الظَّاهِرِ لِاخْتِصَاصِهِ بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ وَبَعْدَهُ
بَابُ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ وَبَعْدَهُ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَمَنْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ وَأَرَادَ أَنْ يَحْنَثَ فَأَحَبُّ إِلَيَّ لَوْ لَمْ يُكَفِّرْ حَتَّى يَحْنَثَ ، فَإِنْ كَفَّرَ قَبْلَ الْحِنْثِ بِغَيْرِ الصِّيَامِ أَجْزَأَهُ ، وَإِنْ صَامَ لَمْ يُجْزِهِ : لَأَنَا نَزْعُمُ أَنَّ لِلَّهِ عَلَى الْعِبَادِ حَقًّا فِي أَمْوَالِهِمْ ، وَتَسَلَّفَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْعَبَّاسِ صَدَقَةَ عَامٍ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ ، وَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدَّمُوا صَدَقَةَ الْفِطْرِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ الْفِطْرُ ، فَجَعَلْنَا الْحُقُوقَ فِي الْأَمْوَالِ قِيَاسًا عَلَى هَذَا ، فَأَمَّا الْأَعْمَالُ الَّتِي عَلَى الْأَبْدَانِ فَلَا تُجْزِئُ إِلَّا بَعْدَ مَوَاقِيتِهَا كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ تَجِبُ عَلَى مَاضٍ وَمُسْتَقْبَلٍ ، فَأَمَّا الْيَمِينُ عَلَى مَاضٍ كفارتها ، فَالْكَفَّارَةُ فِيهِ وَاجِبَةٌ بِعَقْدِ الْيَمِينِ وَحْدَهُ إِذَا كَانَتْ كَذِبًا ، وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْكَفَّارَةِ فِيهَا قَبْلَ وُجُوبِهَا : سَوَاءٌ كَفَّرَ بِإِطْعَامٍ أَوْ صِيَامٍ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَجِبُ إِلَّا بِسَبَبٍ وَاحِدٍ ، وَهُوَ عَقْدُ الْيَمِينِ ، وَأَمَّا الْيَمِينُ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ كفارتها فَالْكَفَّارَةُ فِيهَا وَاجِبَةٌ بِعَقْدِ الْيَمِينِ وَالْحِنْثِ ، فَتَعَلَّقَ وُجُوبُهَا بِسَبَبَيْنِ عَقَدٍ وَحِنْثٍ ، وَلَهُ فِي التَّكْفِيرِ بِهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُكَفِّرَ قَبْلَ الْيَمِينِ وَالْحِنْثِ فَلَا تُجْزِئُهُ ، سَوَاءٌ كَفَّرَ بِمَالٍ أَوْ صِيَامٍ لِفَقْدِ كُلٍّ وَاحِدٍ مِنَ السَّبَبَيْنِ كَمَا لَا يُجْزِئُهُ إِذَا عَجَّلَ زَكَاةَ مَالِهِ قَبْلَ مِلْكِ النِّصَابِ وَالْحَوْلِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُكَفِّرَ بَعْدَ الْيَمِينِ فَلَا يَحْنَثُ فَيُجْزِئُهُ ، سَوَاءٌ كَفَّرَ بِمَالٍ أَوْ صِيَامٍ ، وَقَدْ أَخْرَجَهَا بَعْدَ وُجُوبِهَا ، فَصَارَ كَإِخْرَاجِ الزَّكَاةِ بَعْدَ حَوْلِهَا . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يُكَفِّرَ بَعْدَ الْيَمِينِ ، وَقَبْلَ الْحِنْثِ فَيَكُونُ كَتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ بَعْدَ مِلْكِ النِّصَابِ وَقَبْلَ الْحَوْلِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعْجِيلِهَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ يَجُوزُ تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ قَبْلَ الْحَوْلِ ، وَلَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ ، لَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ قَبْلَ الْحَوْلِ ، وَيَجُوزُ تَعْجِيلُ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَجُوزُ تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ قَبْلَ الْحَوْلِ ،
وَيَجُوزُ تَعْجِيلُ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ إِذَا كَانَتْ بِمَالٍ مِنْ كِسْوَةٍ أَوْ إِطْعَامٍ أَوْ عِتْقٍ ، فَلَا يَجُوزُ تَعْجِيلُهَا إِذَا كَانَتْ بِصِيَامٍ . وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : يَجُوزُ تَعْجِيلُهَا قَبْلَ الْحِنْثِ بِمَالٍ أَوْ صِيَامٍ . فَأَمَّا مَالِكٌ فَهُوَ مُوَافِقٌ فِي تَعْجِيلِ الْكَفَّارَةِ مُخَالِفٌ فِي تَعْجِيلِ الزَّكَاةِ ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي مَوْضِعِهِ . وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي تَعْجِيلِ الزَّكَاةِ ، وَيَتَعَيَّنُ الْكَلَامُ مَعَهُ هَاهُنَا فِي تَعْجِيلِ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ . وَلَهُ فِي الِاسْتِدْلَالِ طَرِيقَانِ : أَحَدُهُمَا : الْمَنْعُ مِنْ تَعْجِيلِ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ بِالْحِنْثِ وَحْدَهُ دُونَ الْيَمِينِ ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ تَعْجِيلِهَا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ، ثُمَّ لِيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ فَكَانَ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ دَلِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : قَوْلُهُ : " فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا " فَقَدَّمَ فِعْلَ الْحِنْثِ عَلَى الْكَفَّارَةِ بِحَرْفِ الْفَاءِ الْمُوجِبِ لِلتَّعْقِيبِ . وَالثَّانِي : قَوْلُهُ : " ثُمَّ لِيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ " وَثُمَّ مَوْضِعٌ لِلتَّعْقِيبِ وَالتَّرَاخِي . وَمِنَ الْقِيَاسِ أَنْ يُكَفِّرَ قَبْلَ الْحِنْثِ فَلَمْ يُحَرَّمْ كَالصِّيَامِ . وَلِأَنَّ كُلَّ حَالٍ لَا يَجُوزُ التَّكْفِيرُ فِيهَا بِالصِّيَامِ لَمْ يَجُزِ التَّكْفِيرُ فِيهَا بِالْمَالِ قِيَاسًا عَلَى مَا قَبْلَ الْيَمِينِ ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِالْحِنْثِ وَحْدَهُ دُونَ الْيَمِينِ بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْحِنْثَ ضِدُّ الْيَمِينِ ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ تَمْنَعُ مِنَ الْحِنْثِ ، وَالضِّدَّانِ لَا يَشْتَرِكَانِ فِي مَعْنَى الْوُجُوبِ لِتَنَافِيهِمَا . وَالثَّانِي : أَنَّ الْحِنْثَ لَوْ كَانَ أَحَدَ السَّبَبَيْنِ فِي الْوُجُوبِ لَمَا رُوعِيَ بَعْدَ عَقْدِ الْيَمِينِ إِحْدَاثُ فِعْلٍ مِنْ جِهَةٍ ، كَمَا لَا يُرَاعَى فِي الْحَوْلِ بَعْدَ النِّصَابِ إِحْدَاثُ فِعْلٍ مِنْ جِهَتِهِ ، وَلَمَّا رُوعِيَ فِي الْكَفَّارَةِ حُدُوثُ فِعْلِ الْحِنْثِ مِنْ جِهَتِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْحِنْثِ هُوَ الْمُوجِبُ لِلْكَفَّارَةِ كَمَا نَقُولُ : إِنَّ الظِّهَارَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا بَعْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ لِمَا كَانَ بِفِعْلٍ حَادِثٍ مِنْهُ ، كَانَ الظِّهَارُ هُوَ الْمُوجِبَ لِلْكَفَّارَةِ ، دُونَ النِّكَاحِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ تَعْجِيلِ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ ، وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ . وَرَوَى قَتَادَةُ عَنِ الْحَسَنِ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا
عَبْدَ الرَّحْمَنِ إِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا ، فَكَفِّرْ ثُمَّ ائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ فَجَوَّزَ فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ تَعْجِيلَ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رُوِيَ فِيهَا وَفِي الْخَبَرِ الْمُتَقَدِّمِ تَأْخِيرُ الْكَفَّارَةِ عَنِ الْحِنْثِ فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ تَقْدِيمَ الْكَفَّارَةِ أَشْهَرُ مِنْ تَقْدِيمِ الْحِنْثِ . وَالثَّانِي : أَنَّنَا نَسْتَعْمِلُ الرِّوَايَتَيْنِ مَعًا ، فَنَحْمِلُ تَقْدِيمَ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْجَوَازِ وَتَأْخِيرَهَا عَلَى الْوُجُوبِ ، وَنَسْتَعْمِلُهَا عَلَى وَجْهٍ ثَانٍ أَنْ يُحْمَلَ تَقْدِيمُهَا عَلَى التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ ، وَتَأْخِيرُهَا عَلَى التَّكْفِيرِ بِالصِّيَامِ . فَتَكُونُ بِاسْتِعْمَالِ الْخَيْرَيْنِ أَسْعَدَ مِمَّنِ اسْتَعْمَلَ أَحَدَهُمَا وَأَسْقَطَ الْآخَرَ . وَمِنَ الْقِيَاسِ مَا يُوَافِقُ عَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَوْ جَرَحَ إِنْسَانًا وَعَجَّلَ كَفَّارَةَ قَتْلِهِ بَعْدَ جُرْحِهِ وَقَبْلَ مَوْتِهِ أَجْزَاهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَرَحَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا لَوْ قَدَّمَ جَزَاءَهُ بَعْدَ جُرْحِهِ وَقَبْلَ مَوْتِهِ أَجْزَاهُ ، فَجَعَلَ هَذَا مَعَهُ أَصْلًا لِلْقِيَاسِ فَنَقُولُ : يُكَفِّرُ لِتَعَلُّقِ وُجُوبِهِ بِسَبَبَيْنِ فَجَازَ تَقْدِيمُهُ بَعْدَ وُجُودِ أَحَدِهِمَا قِيَاسًا عَلَى كَفَّارَةِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ ؛ وَلِأَنَّهُ يُكَفِّرُ بِمَالٍ بَعْدَ عَقْدِ الْيَمِينِ فَوَجَبَ أَنْ يُجْزِئَهُ قِيَاسًا عَلَى مَا بَعْدَ الْحِنْثِ . وَلِأَنَّهُ حَقُّ مَالٍ يَجِبُ بِسَبَبَيْنِ يَخْتَصَّانِ بِهِ فَجَازَ تَقْدِيمُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا قِيَاسًا عَلَى تَعْجِيلِ الزَّكَاةِ ، فَإِنْ مَنَعُوا مِنْ وُجُوبِهَا بِسَبَبَيْنِ دَلَّلْنَا عَلَى وُجُوبِهَا بِالْحِنْثِ وَالْيَمِينِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ [ الْمَائِدَةِ : 89 ] وَبِقَوْلِهِ : ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ [ الْمَائِدَةِ : 89 ] فَجَعَلَهَا تَكْفِيرًا لِلْيَمِينِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ شَرْطِ الْوُجُوبِ ؛ وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ حُكْمٌ مُتَعَلِّقٌ بِالْحِنْثِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْيَمِينِ ، كَمَا لَوْ قَالَ : إِنْ دَخَلْتُ الدَّارَ فَعَبْدِي حُرٌّ كَانَ عِتْقُهُ مُتَعَلِّقًا بِيَمِينِهِ بِدُخُولِ الدَّارِ ، وَإِنْ مَنَعَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ تَعْلِيقِ عِتْقِهِ بِيَمِينِهِ وَبِدُخُولِ الدَّارِ ، وَارْتَكَبُوا أَنَّ عِتْقَهُ مُخْتَصٌّ بِدُخُولِ الدَّارِ وَحْدَهُ مَنَعُوا مِنِ ارْتِكَابِ هَذِهِ الدَّعْوَى بِمَا لَا يَدْفَعُونَهُ مِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذَا الْعَبْدِ إِذَا ادَّعَى الْعِتْقَ بِالْيَمِينِ وَالْحِنْثِ ، فَأَنْكَرَهُ السَّيِّدُ ، فَأَقَامَ الْعَبْدُ عَلَيْهِ شَاهِدَيْنِ بِالْيَمِينِ وَشَاهِدَيْنِ بِالْحِنْثِ وَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِعِتْقِهِ ، ثُمَّ رَجَعَ شَاهِدَا الْيَمِينِ وَشَاهِدَا الْحِنْثِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَجِبُ قِيمَتُهُ عَلَى شَاهِدَيِ الْيَمِينِ خَاصَّةً نِصْفَيْنِ وَعِنْدَنَا تَجِبُ عَلَى شَاهِدَيِ الْيَمِينِ وَشَاهِدَيِ الْحِنْثِ أَرْبَاعًا ، فَقَدْ جَعَلَ عِتْقَهُ بِالْيَمِينِ أَحَقَّ مِنَ الْحِنْثِ ، فَكَانَتِ الْأَيْمَانُ بِاللَّهِ أَوْلَى . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ فَقَدْ مَضَى . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْقِيَاسِ عَلَى تَعْجِيلِ الصِّيَامِ ، فَهُوَ أَنَّ الصِّيَامَ مِنْ حُقُوقِ الْأَبْدَانِ
فَلَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهُ قَبْلَ وُجُوبِهِ كَمَا لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ الصَّلَاةِ وَصِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ عَلَى وُجُوبِهِمَا ، وَالْمَالُ مِمَّا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ قَبْلَ وُجُوبِهِ لِتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ ، وَمِثْلُهُ مَا يَقُولُهُ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ : إِنَّ تَقْدِيمَ مَا تَعَلَّقَ بِالْمَالِ مِنَ الدِّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ قَبْلَ مَحَلِّهَا جَائِزٌ ، وَتَقْدِيمَ مَا تَعَلَّقَ بِالْأَبْدَانِ مِنَ الْقَصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ قَبْلَ وُجُوبِهَا غَيْرُ جَائِزٍ ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي جَمْعِهِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فِي الْجَوَازِ . وَعِبْرٌ آخَرُ ، وَهُوَ أَنَّ الصِّيَامَ فِي الْكَفَّارَةِ يَجُوزُ بَعْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْمَالِ فِي وَقْتِ الِاسْتِحْقَاقِ ، فَلِاعْتِبَارِهِ عِنْدَ الْحِنْثِ لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهُ قَبْلَ الْحِنْثِ ، فَخَالَفَ الْمَالُ فِي هَذَا الْمَعْنَى . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى تَعْجِيلِهَا قَبْلَ الْيَمِينِ فَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ أَحَدُ سَبَبَيِ الْوُجُوبِ ، فَامْتَنَعَ التَّقْدِيمُ كَمَا امْتَنَعَ تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ قَبْلَ مِلْكِ النِّصَابِ ، وَجَازَ بَعْدَ الْيَمِينِ لِوُجُودِ أَحَدِ السَّبَبَيْنِ كَمَا جَازَ تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ بَعْدَ مِلْكِ النِّصَابِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الْحِنْثَ ضِدُّ الْيَمِينِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِكَا فِي الْوُجُوبِ ، فَهُوَ أَنَّ الْيَمِينَ عَقْدٌ وَالْحِنْثَ حَلٌّ ، وَالْحَلُّ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ عَقْدٍ فَلَمْ يَتَضَادَّا ، وَإِنِ اخْتَلَفَا كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ : " لَا إِلَهَ " كُفْرٌ ، وَقَوْلُهُ : " إِلَّا اللَّهُ " إِيمَانٌ ، فَإِذَا اجْتَمَعَا كَانَ الْإِيمَانُ بِهِمَا مُنْعَقِدًا وَلَمْ يَتَنَافَيَا بِالْمُضَادَّةِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ تَعَلُّقَ الْكَفَّارَةِ بِإِحْدَاثِ فِعْلٍ يَمْنَعُ مِنْ تَعَلُّقِهَا بِمَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْيَمِينِ ، كَالظِّهَارِ يَمْنَعُ مِنْ وُجُودِ الْكَفَّارَةِ فِيهِ بِالنِّكَاحِ وَهُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْحِنْثَ فِي الْأَيْمَانِ مَا لَا يَتَعَلَّقُ لَهُ بِإِحْدَاثِ فِعْلٍ ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : وَاللَّهِ لَأَدْخُلَنَّ الدَّارَ فِي يَوْمِي هَذَا ، فَيَنْقَضِي الْيَوْمُ قَبْلَ دُخُولِهَا حَنِثَ بِغَيْرِ فِعْلِهِ ، وَقَدْ مَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ تَعْجِيلِ الْكَفَّارَةِ فِيهِ ، فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ إِحْدَاثُ الْفِعْلِ عَلَيْهِ فِي اخْتِصَاصِهِ بِالْوُجُوبِ ، فَكَانَ يَلْزَمُ أَبَا حَنِيفَةَ إِنْ أَرَادَ صِحَّةَ تَعْلِيلِهِ أَنْ يُجِيزَ تَقْدِيمَ الْكَفَّارَةِ فِي اخْتِصَاصِهِ بِالْوُجُوبِ فِيمَا لَمْ يَكُنِ الْحِنْثُ بِفِعْلِهِ ، وَيَمْتَنِعُ مِنْهُمَا فِيمَا كَانَ الْحِنْثُ بِفِعْلِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمَقْصُودَ بِعَقْدِ النِّكَاحِ غَيْرُ الظِّهَارِ فَلَمْ يَكُنْ سَبَبًا فِي وُجُوبِ التَّكْفِيرِ فِيهِ ، وَإِنَّمَا تَجِبُ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ بِالظِّهَارِ وَالْعَوْدِ ، وَيَجُوزُ تَعْجِيلُهَا قَبْلَ الظِّهَارِ وَقَبْلَ الْعَوْدِ ، وَعَقْدُ الْيَمِينِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ مِنْ بِرٍّ وَحِنْثٍ فَصَارَ لِوُقُوفِهِ بَيْنَهُمَا سَبَبًا فِي وُجُوبِ التَّكْفِيرِ عَلَى أَنَّ أَبَا عَلِيِّ بْنَ أَبِي هُرَيْرَةَ يَقُولُ : إِنَّ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ تَجِبُ بِثَلَاثَةِ أَسْبَابٍ بِعَقْدِ النِّكَاحِ ، وَبِلَفْظِ الظِّهَارِ ، وَبِالْعَوْدِ ، فَلَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهَا بَعْدَ النِّكَاحِ وَقَبْلَ الظِّهَارِ لِوُجُودِ سَبَبٍ وَاحِدٍ وَبَقَاءِ سَبَبَيْنِ . وَعَلَّلَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بِأَنَّ الظِّهَارَ مُحَرَّمٌ ، فَلَمْ يَجُزْ تَعْجِيلُ الْكَفَّارَةِ فِيهِ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى اسْتِبَاحَةِ مَحْظُورٍ عَلَيْهِ ، وَالْحِنْثُ غَيْرُ مُحَرَّمٍ ، فَجَاءَ مِنْ هَذَا التَّعْلِيلِ أَنْ يُعْتَبَرَ حَالُ الْحِنْثِ فِي الْأَيْمَانِ ، فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا كَمَنْ حَلَفَ : لَا صَلَّيْتُ فَرْضًا أَوْ مُسْتَحَبًّا كَمَنْ حَلَفَ :
لَا صَلَّيْتُ نَفْلًا ، أَوْ مُبَاحًا كَمَنْ حَلَفَ : لَا أَكَلْتُ لَحْمًا ، جَازَ تَعْجِيلُ الْكَفَّارَةِ فِيهَا قَبْلَ الْحِنْثِ ، وَإِنْ كَانَ الْحِنْثُ مَحْظُورًا كَمَنْ حَلَفَ بِاللَّهِ لَا شَرِبْتُ خَمْرًا ، وَلَا قَتَلْتُ نَفْسًا لَمْ يَجُزْ تَعْجِيلُ الْكَفَّارَةِ فِيهَا قَبْلَ الْحِنْثِ ، فَصَارَ تَعْجِيلُهَا فِيمَا لَمْ يَكُنْ مَحْظُورًا جَائِزًا وَجْهًا وَاحِدًا ، وَجَوَازُ تَعْجِيلِهَا فِيمَا كَانَ حِنْثُهُ مَحْظُورًا عَلَى وَجْهَيْنِ . فَأَمَّا تَعْجِيلُ جَزَاءِ الصَّيْدِ قَبْلَ إِحْرَامِهِ ، وَقَبْلَ قَتْلِهِ وَجَرْحِهِ بالنسبة للمحرم ، فَلَا يَجُوزُ وَجْهًا وَاحِدًا وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي تَعْلِيلِهِ ، فَعِنْدَ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ عِلَّةَ الْمَنْعِ أَنَّ الْجَزَاءَ مُتَعَلِّقٌ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : بِالْإِحْرَامِ وَالْجِرَاحِ وَالْمَوْتِ ، فَلَمْ يَجُزْ تَعْجِيلُهُ بِفَقْدِ أَحَدِهَا وَبَقَاءِ أَكْثَرِهَا ، وَعِنْدَ مَنْ رَاعَى الْحَظْرَ وَالْإِبَاحَةَ عَلَّلَ بِأَنَّ تَقْدِيمَ الْجَزَاءِ مُوجِبٌ لِاسْتِبَاحَةِ مَحْظُورٍ ، فَلَمْ يَجُزْ فَإِنْ حَلَّ لَهُ قَتْلُ الصَّيْدِ لِضَرُورَةٍ إِلَيْهِ ، قَالَ صَاحِبُ هَذَا التَّعْلِيلِ ، وَحَكَاهُ عَنْهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ : يَجُوزُ لَهُ تَعْجِيلُ جَزَائِهِ بَعْدَ إِحْرَامِهِ وَقَبْلَ قَتْلِهِ ، وَعِنْدَ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا أَنَّ عِلَّةَ الْمَنْعِ أَنَّ الْإِحْرَامَ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِقَتْلِ الصَّيْدِ ، فَلَمْ يَكُنْ مُسَبِّبًا لِوُجُوبِ الْجَزَاءِ ، فَأَمَّا تَعْجِيلُ الْجَزَاءِ بَعْدَ الْجِرَاحِ وَقَبْلَ الْمَوْتِ ، فَجَائِزٌ بِاتِّفَاقِهِمْ وَإِنْ وَهِمَ فِيهِ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ فَخَرَّجَهُ عَلَى وَجْهَيْنِ : لِأَنَّهُ لَيْسَ يَسْتَبِيحُ بِالْجَزَاءِ بَعْدَ الْجَزَاءِ مَحْظُورًا ؛ لِأَنَّ مَوْتَ الصَّيْدِ حَادِثٌ عَنِ الْجُرْحِ الْمُتَقَدِّمِ قَبْلَ تَكْفِيرِهِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ مَنْ حَلَفَ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا
بَابُ مَنْ حَلَفَ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ تَزَوَّجْتُ عَلَيْكِ ، فَطَلَّقْهَا وَاحِدَةً تَمْلِكُ الرَّجْعَةَ ، ثُمَّ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا فِي الْعِدَّةِ طُلِّقَتْ بِالْحِنْثِ ، وَإِنْ كَانَتْ بَائِنًا لَمْ يَحْنَثْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا قَالَ : إِنْ تَزَوَّجَتْ عَلَيْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا لَمْ يَخْلُ تَزْوِيجُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا ، وَهِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى نِكَاحِهِ ، فَقَدْ طُلِّقَتْ سَوَاءٌ قَرُبَ زَمَانُ تَزْوِيجِهِ أَوْ بَعُدَ : لِأَنَّهُ قَدْ جَعَلَهُ شَرْطًا فِي وُقُوعِ الْحِنْثِ ، فَاسْتَوَى حُكْمُهُ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا مَنْ يُكَافِئُهَا فِي نَسَبِهَا وَجِمَالِهَا ، أَوْ تَقَدَّمَ عَنْهَا فِي النَّسَبِ وَالْجَمَالِ ، وَوَافَقَنَا مَالِكٌ عَلَى هَذَا ، وَإِنْ خَالَفَنَا إِذَا حَلَفَ ، لِيَتَزَوَّجْنَ عَلَيْهَا ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُ وَإِنْ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا بِعَقْدٍ فَاسِدٍ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ فَسَادَ الْعَقْدِ يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الشَّرْطِ ، وَسَوَاءٌ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ وَيَجِيءُ عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّهُ يَحْنَثُ إِنْ دَخَلَ بِهَا ، وَلَا يَحْنَثُ إِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا ، عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ : إِذَا نَكَحَ الْوَلِيَّانِ وَدَخَلَ الثَّانِي صَحَّ عَقْدُهُ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا وَقَدْ طَلَّقَهَا طَلَاقًا رَجْعِيًّا ، فَلَا يَخْلُو حَالُهَا فِيهِ مِنْ أَنْ تَكُونَ بَاقِيَةً فِي الْعِدَّةِ أَوْ خَارِجَةً عَنْهَا ، فَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً فِي عِدَّتِهَا طُلِّقَتْ بِالْحِنْثِ أُخْرَى : لِأَنَّهَا لَمَّا طُلِّقَتْ فِي الْعِدَّةِ إِذَا بَاشَرَهَا بِالطَّلَاقِ طُلِّقَتْ بِالْحِنْثِ فِي الطَّلَاقِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ بِعِتْقِ عَبْدِهِ إِنْ بَاعَهُ ، فَبَاعَهُ عَتَقَ عَلَيْهِ بَعْدَ بَيْعِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ بَاشَرَ عِتْقَهُ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ عَتَقَ ، كَذَلِكَ إِذَا حَلَفَ بِعِتْقِهِ عَتَقَ ، وَإِنْ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا لَمْ يَلْحَقْهَا بِالْحِنْثِ طَلَاقٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهَا بِالْمُبَاشِرَةِ طَلَاقٌ ، فَلَوْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ثُمَّ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا وَقَبْلَ اسْتِئْنَافِ نِكَاحِهَا لَمْ تُطَلَّقْ إِذَا تَزَوَّجَ عَلَيْهَا بَعْدَ اسْتِئْنَافِ نِكَاحِهَا لِسُقُوطِ الشَّرْطِ بِالتَّزْوِيجِ الْأَوَّلِ ، وَإِنْ لَمْ يَتَزَوَّجْ عَلَيْهَا إِلَّا بَعْدَ اسْتِئْنَافِ الْعَقْدِ الْبَاقِي عَلَيْهَا ، فَفِي حِنْثِهِ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يُطَلِّقُ لِوُجُودِ عَقْدِ الْيَمِينِ ، وَشَرْطِ الْحِنْثِ فِي نِكَاحِهَا .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يُطَلِّقُ بِالْحِنْثِ لِاخْتِصَاصِ يَمِينِهِ بِنِكَاحٍ مَضَى فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَقَعَ الْحِنْثُ بِهَا فِي نِكَاحٍ مُسْتَقْبَلٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا طَلَاقَ قَبْلَ نِكَاحٍ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا فِي النِّكَاحِ ، وَهِيَ فِي عِدَّةٍ مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ ، فَلَا يَحْنَثُ بِطَلَاقِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَقَعِ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ لَوْ بَاشَرَهَا بِالطَّلَاقِ ، كَذَلِكَ لَمْ تُطَلَّقْ إِذَا حَنِثَ بِالطَّلَاقِ ، فَإِنْ تَزَوَّجَهَا مِنْ بَعْدِ نِكَاحٍ مُسْتَجَدٍّ ، وَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا بَعْدَ أَنْ كَانَ قَدْ تَزَوَّجَ لَمْ يَحْنَثْ ، وَلَوْ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ تَزَوَّجَ ، فَإِنْ قِيلَ فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ : لَا يَحْنَثُ ، فَفِي هَذَا أَوْلَى أَنْ لَا يَحْنَثَ ، وَإِنْ قِيلَ فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ : إِنَّهُ يَحْنَثُ ، فَفِي هَذَا الطَّلَاقِ الْبَائِنِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَحْنَثُ . وَالثَّانِي : لَا يَحْنَثُ ، وَقَدْ مَضَى مِثْلُ هَذَا فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ مَشْرُوحًا مُعَلَّلًا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِنْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِنْ لَمْ أَتَزَوَّجْ عَلَيْكِ وَلَمْ يُوَقِّتْ قول الزوج لزوجته ، فَهُوَ عَلَى الْأَبَدِ لَا يَحْنَثُ حَتَى يَمُوتَ أَوْ تَمُوتَ هِيَ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا ، وَإِنْ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا مَنْ يُشْبِهُهَا أَوْ لَا يُشْبِهُهَا خَرَجَ مِنَ الْحِنْثِ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا ، وَإِنْ مَاتَتْ لَمْ يَرِثْهَا ، وَإِنْ مَاتَ وَرِثَتْهُ فِي قَوْلِ مَنْ يُوَرِّثُ الْمَبْتُوتَةَ إِذَا وَقَعَ الطَّلَاقُ فِي الْمَرَضِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) قَدْ قَطَعَ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّهَا لَا تَرِثُ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) وَهُوَ بِالْحَقِّ أَوْلَى : لِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَرَّثَهَا مِنْهُ بِالْمَعْنَى الَّذِي وَرَّثَهُ بِهِ مِنْهَا ، فَلَمَا ارْتَفَعَ ذَلِكَ الْمَعْنَى ، فَلَمْ يَرِثْهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ تَرِثَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ كَمَا قَالَ ، وَالْحِنْثُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يُخَالِفُ الْحِنْثَ فِي الَّتِي تَقَدِّمَهَا ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ تَزْوِيجَهُ عَلَيْهَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى شَرْطًا فِي وُقُوعِ الْحِنْثِ ، وَجَعَلَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ شَرْطًا فِي الْبِرِّ ، وَإِذَا قَالَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : إِنْ لَمْ أَتَزَوَّجْ عَلَيْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَإِنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي لَا يَحْنَثُ إِلَّا أَنْ يَفُوتَهُ التَّزْوِيجُ عَلَيْهَا بِمَوْتِهِ أَوْ مَوْتِهَا ، فَلَوْ قَالَ : إِذَا لَمْ أَتَزَوَّجْ عَلَيْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ كَانَ عَلَى الْفَوْرِ يَحْنَثُ إِنْ أَخَّرَ التَّزْوِيجَ عَلَيْهَا ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ إِنْ وَإِذَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ، حَيْثُ جَعَلْنَا إِنْ عَلَى التَّرَاخِي وَإِذَا عَلَى الْفَوْرِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : بِأَنَّ " إِنْ " مَوْضُوعَةٌ لِلْفِعْلِ ، فَاعْتُبِرَ فِيهِ فَوَاتُ الْفِعْلِ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا ، فَصَارَ كَقَوْلِهِ : إِنْ فَاتَنِي التَّزْوِيجُ عَلَيْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، وَ " إِذَا " مَوْضُوعَةٌ لِلزَّمَانِ ، فَاعْتُبِرَ فِيهَا إِمْكَانُ الزَّمَانِ ، فَصَارَ كَقَوْلِهِ : إِذَا مَضَى زَمَانُ التَّزْوِيجِ عَلَيْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، وَهُوَ فَرْقُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا .
وَالْفَرْقُ الثَّانِي : ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ " إِنْ " مَوْضُوعَةٌ لِلشَّكِّ فِيمَا قَدْ يَكُونُ ، فَلَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهَا إِلَّا بَعْدَ زَوَالِ الشَّكِّ بِالْفَوَاتِ فَصَارَتْ عَلَى التَّرَاخِي ، وَإِذَا مَوْضُوعَةٌ لِلْيَقِينِ فَاعْتُبِرَ فِيهَا التَّعْجِيلُ فَصَارَتْ عَلَى الْفَوْرِ . فَهَذَانِ الْفَرْقَانِ بَيْنَ " إِنْ " وَ " إِذَا " كَانَا عَلَى نَفْيِ فِعْلٍ ، فَقَالَ : إِنْ لَمْ أَتَزَوَّجْ ، وَإِذَا لَمْ أَتَزَوَّجْ . وَأَمَّا إِذَا كَانَا شَرْطًا فِي إِثْبَاتِ فِعْلٍ ، فَقَالَ : إِنْ تَزَوَّجْتُ عَلَيْكِ ، وَإِذَا تَزَوَّجْتُ عَلَيْكِ ، فَهُمَا سَوَاءٌ ، فِي أَنَّ الْفِعْلَ مَتَى وُجِدَ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ عَلَى التَّرَاخِي ، تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ ، وَاسْتَوَى فِيهِ " إِنْ " وَ " إِذَا " لِأَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِالْفِعْلِ كَانَ وُجُودُهُ هُوَ الشَّرْطَ الْمُعْتَبَرَ ، فَاسْتَوَى فِيهِ الْفَوْرُ وَالتَّرَاخِي ، فَأَمَّا إِذَا جُعِلَا شَرْطًا فِي مُعَاوَضَةِ الْخُلْعِ ، فَقَالَ : إِنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ ، أَوْ قَالَ : إِذَا أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَهُمَا سَوَاءٌ فِي اعْتِبَارِ الْعَطِيَّةِ عَلَى الْفَوْرِ ، وَيَسْتَوِي حُكْمُ : " إِنْ " وَ " إِذَا " : لِأَنَّهُ يَغْلِبُ فِيهِ حِكَمُ الْمُعَاوَضَةِ الَّتِي يُعْتَبَرُ الْفَوْرُ فِيهَا ، وَذَلِكَ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ افْتِرَاقُ الْحَرْفَيْنِ ، وَلَوْ قَالَ : مَتَّى أَعْطَيْتِنِيِ أَلْفًا ، فَأَنْتِ طَالِقٌ ، كَانَ عَلَى التَّرَاخِي بِخِلَافِ إِنْ وَإِذَا ؛ لِأَنَّ لَفْظَةَ " مَتَى " صَرِيحَةٌ فِي اعْتِبَارِ الْفِعْلِ ، فَاسْتَوَى فِيهِ حُكْمُ الْفَوْرِ وَالتَّرَاخِي .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَرَّ مَا وَصَفْنَا ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ فِي يَمِينِهِ هَذِهِ مِنْ بِرٍّ أَوْ حَنِثٍ : فَإِنْ بَرَّ فِي يَمِينِهِ بِأَنْ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا عَلَى الْفَوْرِ فِي قَوْلِهِ : إِذَا لَمْ أَتَزَوَّجْ عَلَيْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، أَوْ عَلَى التَّرَاخِي فِي قَوْلِهِ : إِنْ لَمْ أَتَزَوَّجْ عَلَيْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ . كَانَ بِرُّهُ مُعْتَبَرًا بِوُجُودِ عَقْدِ نِكَاحٍ صَحِيحٍ عَلَى مُكَافِئَةٍ لَهَا فِي النَّسَبِ وَالْجَمَالِ ، أَوْ غَيْرِ مُكَافِئَةٍ ، وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَبَرُّ حَتَّى يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا مَنْ يُكَافِئُهَا فِي نَسَبِهَا وَجِمَالِهَا ، فَإِنْ تَزَوَّجَ دُونَهَا فِي النَّسَبِ وَالْجَمَالِ لَمْ يَبَرَّ : لِأَنَّ قَصْدَهُ بِيَمِينِهِ إِدْخَالُ الْغَيْظِ عَلَيْهَا ، وَغَيْظُهَا يَخْتَصُّ بِمَنْ يُكَافِئُهَا ، فَأَمَّا مَنْ لَا يُكَافِئُهَا فَهُوَ نَقْصٌ يَدْخُلُ عَلَيْهِ دُونَهَا ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ حُكْمَ الْأَيْمَانِ مُعْتَبَرٌ بِصَرِيحِ الْأَلْفَاظِ دُونَ الْمَقَاصِدِ وَالْأَغْرَاضِ ، وَالِاسْمُ مَوْجُودٌ فِي الْحَالَيْنِ فَاسْتَوَى حُكْمُهُمَا فِي الْبِرِّ ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوَى حُكْمُهُمَا فِي الْحِنْثِ إِذَا قَالَ : إِنْ تَزَوَّجْتُ عَلَيْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، أَنَّهُ مَتَى تَزَوَّجَ عَلَيْهَا مُكَافِئَةً أَوْ غَيْرَ مُكَافِئَةٍ حَنِثَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُهُمَا فِي الْبِرِّ إِذَا قَالَ : إِنْ لَمْ أَتَزَوَّجْ عَلَيْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، أَنَّهُ مَتَى تَزَوَّجَ عَلَيْهَا مُكَافِئَةً أَوْ غَيْرَ مُكَافِئَةٍ أَنْ يَبَرَّ ، وَمَا اعْتُبِرَ مِنْ إِدْخَالِ الْغَيْظِ عَلَيْهَا ، وَلَوْ قُلِبَ عَلَيْهِ بِأَنَّ إِدْخَالَ الْغَيْظِ عَلَيْهَا بِنِكَاحِ غَيْرِ الْمُكَافِئَةِ أَكْثَرُ لَكَانَ أَشْبَهَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِدْخَالُ الْغَيْظِ عَلَيْهَا مُعْتَبَرًا وَمَتَى وُجِدَ الْعَقْدُ اسْتَقَرَّ الْبِرُّ ، وَلَمْ يَكُنِ الدُّخُولُ فِيهِ شَرْطًا فِي الْبِرِّ ، وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَبَرُّ بِالْعَقْدِ حَتَّى يَقْتَرِنَ بِهِ الدُّخُولُ : لِأَنَّ مَقْصُودَ الْعَقْدِ فِي إِدْخَالِ الْغَيْظِ عَلَيْهَا وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُعْتَبَرِ الدُّخُولُ فِيهِ إِذَا عُلِّقَ بِالْحِنْثِ كَذَلِكَ لَا يُعْتَبَرُ إِذَا عُلِّقَ بِالْبِرِّ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ زِيَادَةٌ لَمْ تُذْكَرْ ، فَكَانَ مُلْغًى كَالْحَبَلِ .
فَصْلٌ : وَإِنْ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ لَمْ يَخْلُ حِنْثُهُ أَنْ يَكُونَ بِالثَّلَاثِ أَوْ دُونِهَا ، فَإِنْ كَانَ بِمَا دُونَ الثَّلَاثِ تَوَارَثَا فِي الْعِدَّةِ ، وَلَمْ يَتَوَارَثَا فِيمَا بَعْدَهَا ، وَإِنْ كَانَ حِنْثُهُ بِالثَّلَاثِ لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا بِالْفَوْرِ أَوِ التَّرَاخِي ، فَإِنْ كَانَ مُعْتَبَرًا بِالْفَوْرِ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ : إِذَا لَمْ أَتَزَوَّجْ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا قول الزوج الحانث لزوجته ، لَمْ يَتَوَارَثَا فِيهِ إِذَا كَانَ عَقْدُ الْيَمِينِ فِي الصِّحَّةِ ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَبَرًا بِالتَّرَاخِي ؛ لِأَنَّهُ قَالَ : إِنْ لَمْ أَتَزَوَّجْ عَلَيْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا ، فَلَا حِنْثَ مَا لَمْ يَمُتْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا ، فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا وَقَعَ الْحِنْثُ قَبْلَ الْمَوْتِ بِزَمَانٍ يَضِيقُ عَنْ عَقْدِ النِّكَاحِ ، فَيَحْنَثُ بِفَوَاتِ الْعَقْدِ لِقُصُورِ زَمَانِهِ قَبْلَ الْمَوْتِ ، وَتَصِيرُ كَالْمَبْتُوتَةِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ ، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْمَيِّتَةَ لَمْ يَرِثْهَا لِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِاخْتِيَارِهِ ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمَيِّتَ فَفِي مِيرَاثِهَا مِنْهُ قَوْلَانِ مِنْ مِيرَاثِ الْمَبْتُوتَةِ فِي الْمَرَضِ : لِأَنَّهُ بِالِامْتِنَاعِ مِنَ التَّزْوِيجِ عَلَيْهَا كَالْمُوقِعِ طَلَاقَهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ الْإِطْعَامِ فِي الْكَفَّارَةِ فِي الْبُلْدَانِ كُلِّهَا وَمَنْ لَهُ أَنْ يُطْعِمَ وَغَيْرُهُ
مَا يُجْزِئُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينُ
بَابُ الْإِطْعَامِ فِي الْكَفَّارَةِ فِي الْبُلْدَانِ كُلِّهَا وَمَنْ لَهُ أَنْ يُطْعِمَ وَغَيْرُهُ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَيُجْزِئُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينُ مُدٌّ بِمُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا قُلْنَا يُجْزِئُ هَذَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتِيَ بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ ، فَدَفَعَهُ إِلَى رَجُلٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يُطْعِمَهُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ، وَالْعَرَقُ فِيمَا يُقَدَّرُ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا ، وَذَلِكَ سِتُّونَ مُدًا ، فِلِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ فِي كُلِّ بِلَادٍ سَوَاءٌ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الْكَفَّارَاتِ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ وَجَبَ عَلَى التَّرْتِيبِ فِي جَمِيعِهِ . وَقِسْمٌ وَجَبَ عَلَى التَّخْيِيرِ فِي بَعْضِهِ وَالتَّرْتِيبِ فِي بَعْضِهِ ، فَأَمَّا مَا كَانَ بِوُجُوبِهِ عَلَى التَّرْتِيبِ فِي جَمِيعِهِ ، فَكَفَّارَةُ الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ وَالْوَطْءِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ، يَبْدَأُ بِالْعِتْقِ فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ فَالصِّيَامُ ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ فَالْإِطْعَامُ ، وَأَمَّا مَا كَانَ وُجُوبُهُ عَلَى التَّخْيِيرِ فَكَفَّارَةُ الْأَذَى ، وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ دَمِ شَاةٍ أَوْ إِطْعَامِ سِتَّةِ مَسَاكِينَ أَوْ صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، وَجَزَاءُ الصَّيْدِ هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ مِثْلِهِ مِنَ النَّعَمِ أَوْ قِيمَةِ الْمِثْلِ طَعَامًا أَوْ عَدْلِ ذَلِكَ صِيَامًا ، وَأَمَّا مَا كَانَ وُجُوبُهُ عَلَى التَّخْيِيرِ فِي بَعْضِهِ ، وَالتَّرْتِيبِ فِي بَعْضِهِ فَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ [ الْمَائِدَةِ : 89 ] الْآيَةَ ، فَجَعَلَهُ مُخَيَّرًا بَيْنَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ ، ثُمَّ قَالَ : فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، فَجَعَلَ الصِّيَامَ مُرَتَّبًا عَلَى الْعَجْزِ بَعْدَ الْمَالِ ، فَبَدَأَ الشَّافِعِيُّ بِالْإِطْعَامِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَدَأَ بِهِ لِقَوْلِهِ : فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ [ الْمَائِدَةِ : 89 ] ، فَنَصَّ عَلَى عَدَدِ الْمَسَاكِينِ أَنَّهُمْ عَشَرَةٌ ، فَلَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى أَقَلَّ مِنْهُمْ لِمُخَالَفَةِ النَّصِّ ، وَقَالَ فِي طَعَامِ كُلِّ مِسْكِينٍ احْتِمَالًا لَا يُقَدِّرُهُ بِحَدٍّ فَقَالَ : مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قَدْرِ مَا يُطْعِمُ كُلَّ مِسْكِينٍ في الكفارة مِنْهُمْ عَلَى مَذَاهِبَ شَتَّى . أَحَدُهَا : مَا حَكَاهُ الْحَارِثُ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، وَقَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : إِنَّهُ غَدَاءٌ وَعَشَاءٌ لِكُلِّ مِسْكِينٍ . وَالثَّانِي : مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَنْ يَعْتَبِرُ الْمُكَفِّرُ فِي عِيَالِهِ ، فَإِنْ كَانَ يُشْبِعُهُمْ أَشْبَعَ الْمَسَاكِينَ ، وَإِنْ كَانَ لَا يُشْبِعُهُمْ فَيُقَدِّرُ ذَلِكَ فِي طَعَامِ الْمَسَاكِينِ .
وَالثَّالِثُ : مَا قَالَهُ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْبَصْرَةِ أَنَّهُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ غَدَاءٍ وَعَشَاءٍ . وَالرَّابِعُ : مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ ، أَنَّهُ إِنْ كَفَّرَ بِالْحِنْطَةِ أَعْطَى كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ ، وَإِنْ كَفَّرَ بِالتَّمْرِ أَوِ الشَّعِيرِ أَعْطَى كُلَّ مِسْكِينٍ صَاعًا ، وَعَنْهُ فِي الزَّبِيبِ رِوَايَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : صَاعٌ كَالتَّمْرِ . وَالثَّانِيَةُ : نِصْفُ صَاعٍ كَالْبُرِّ . وَالْخَامِسُ : مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ يُعْطِي كُلَّ مُسْلِمٍ مُدًّا وَاحِدًا مِنْ أَيِّ صِنْفٍ أَخْرَجَ مِنَ الْحُبُوبِ ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَمِنَ التَّابِعَيْنِ عَطَاءٌ وَقَتَادَةُ ، وَهَكَذَا كُلُّ كَفَّارَةٍ أَمْسَكَ عَنْ تَقْدِيرِ الْإِطْعَامِ فِيهَا ، مِثْلُ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ إِذَا قِيلَ : إِنَّ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ إِطْعَامًا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ يُقَدَّرُ إِطْعَامُ كُلِّ مِسْكِينٍ بِمُدٍّ وَاحِدٍ فِي أَيِّ بَلَدٍ كَفَّرَ ، وَمِنْ أَيِّ جِنْسٍ أَخْرَجَ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ ، وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالدَّلِيلُ . فَأَمَّا الْكِتَابُ ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى : مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ [ الْمَائِدَةِ : 89 ] فَكَانَ الْأَوْسَطُ مَحْمُولًا عَلَى الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ ، فَأَوْسَطُ الْقَدْرِ فِيمَا يَأْكُلُهُ كُلُّ إِنْسَانٍ رِطْلَانِ مِنْ خُبْزٍ ، وَالْمُدُّ رِطْلٌ وَثُلُثٌ مِنْ حَبٍّ إِذَا أَخْبَزَ كَانَ رِطْلَانِ مِنْ خُبْزٍ هُوَ أَوْسَطَ الْكَفَّارَةِ . وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَعْرَابِيِّ الْوَاطِئِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ أَنْ يُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا فَقَالَ : لَا أَجِدُ ، فَأُتِيَ بِفَرَقٍ مِنْ تَمْرٍ ، فَقَالَ : أَطْعِمْهُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ، وَالْفَرَقُ : خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا يَكُونُ سِتِّينَ مُدًّا ، فَجَعَلَ لِكُلِّ مِسْكِينَ مُدًّا ، وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ فَهُوَ أَنَّ إِطْلَاقَ الْإِطْعَامِ لَوْ لَمْ يُقَدَّرْ بِالنَّصِّ لَكَانَ مُعْتَبَرًا بِالْعُرْفِ ، وَعُرْفُ مَنِ اعْتَدَلَ أَكْلُهُ مِنَ النَّاسِ ، وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُسْرِفِينَ وَلَا مِنَ الْمُقَتِّرِينَ أَنْ يَكْتَفِيَ بِالْمُدِّ فِي أَكْلِهِ ، وَلَيْسَ يَنْتَهِي إِلَى صَاعٍ ، هُوَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ ، وَمَا خَرَجَ عَنِ الْفَرَقِ لَمْ يُعْتَبَرْ إِلَّا بِنَصٍّ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَدَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْإِطْعَامَ فِي فِدْيَةِ الْأَذَى بِمُدَّيْنِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ ، فَلِمَا لَا جَعَلْتُمُوهُ أَصْلًا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَقَدَّرْتُمُوهُ بِمُدَّيْنِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ ، قِيلَ : لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا قُدِّرَ فِي كَفَّارَةِ الْوَاطِئِ بِمُدٍّ ، وَفِي كَفَّارَةِ الْأَذَى بِمُدَّيْنِ ، وَتَرَدَّدَتْ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ بَيْنَ أَصْلَيْنِ وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ الْأَقَلُّ لِأَنَّهُ تَعْيِنٌ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا خُفِّفَتْ فِدْيَةُ الْأَذَى بِالتَّخْيِيرِ بَيْنَ الصِّيَامِ وَالْإِطْعَامِ تَغَلَّظَتْ بِمِقْدَارِ الطَّعَامِ ، وَلَمَّا غُلِّظَتْ كَفَّارَةُ الْأَيْمَانِ بِتَرْتِيبِ الْإِطْعَامِ عَلَى الصِّيَامِ تَخَفَّفَتْ بِمِقْدَارِ الْإِطْعَامِ تَعْدِيلًا بَيْنَهُمَا فِي أَنْ تَتَغَلَّظَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ وَجْهٍ ، وَتَتَخَفَّفُ مِنْ وَجْهٍ .
لَا يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ فِي الْكَفَّارَةِ قِيمَةَ الطَّعَامِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا أَرَى أَنْ يُجْزِئَ دَرَاهِمَ وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الْأَمْدَادِ " .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : لَا يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ فِي الْكَفَّارَةِ قِيمَةَ الطَّعَامِ ، كَمَا لَا يَحِقُّ أَنْ يُخْرِجَ فِي الزَّكَاةِ قِيمَتَهَا ، وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ إِخْرَاجَ الْقِيمَةِ فِي الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ حكمها ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ . فَأَمَّا مَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا : وَلَا يُجْزِئُ طَعَامٌ ، فَلَمْ يُرِدْ بِهِ طَعَامَ الْبُرِّ فِي إِطْعَامِ الْمَسَاكِينِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلَ الْأَغْلَبَ فِيمَا يُسْتَحَقُّ ، وَلَهُ أَحَدُ تَأْوِيلَيْنِ ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى أَنْ لَا يُخْرِجَ الطَّعَامَ فِي قِيمَةِ الْكِسْوَةِ ، كَمَا لَا يُخْرِجُ الْكِسْوَةَ فِي قِيمَةِ الطَّعَامِ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى الطَّعَامِ الْمَطْبُوخِ مِنَ الْخُبْزِ : لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ إِخْرَاجُ الْحَبِّ مِنَ الْبُرِّ وَجَمِيعُ الْحُبُوبِ دُونَ الْخُبْزِ في الزكاة ، وَإِنْ كُنْتُ أُفْتِي بِإِخْرَاجِ الْخُبْزِ فِي الْكَفَّارَةِ اعْتِبَارًا بِالْأَرْفَقِ الْأَنْفَعِ فِي الْغَالِبِ ، وَأَنْ يُعْطَى كُلُّ مِسْكِينٍ رِطْلَيْنِ مِنَ الْخُبْزِ ، وَحَكَى ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ - أَحْسَبُهُ أَرَادَ الْأَنْمَاطِيَّ - أَنَّهُ جَوَّزَ إِخْرَاجَ الدَّقِيقِ فِي الْكَفَّارَةِ وَزَكَاةِ الْفِطْرِ حكم اعْتِبَارًا بِالْأَرْفَقِ .
مَسْأَلَةٌ مَا اقْتَاتَ أَهْلُ الْبُلْدَانِ مِنْ شَيْءٍ أَجْزَأَهُمْ مِنْهُ مُدٌّ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَا اقْتَاتَ أَهْلُ الْبُلْدَانِ مِنْ شَيْءٍ أَجْزَأَهُمْ مِنْهُ مُدٌّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَهُوَ مَقْصُورٌ عَلَى الْحُبُوبِ الْمُقْتَاةِ ، فَكَمَا جَازَ إِخْرَاجُهُ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ جَازَ إِخْرَاجُهُ فِي الْكَفَّارَاتِ ، ثُمَّ فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ جَمِيعِ الْأَقْوَاتِ ، فَمِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ أَطْعَمَ . الْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُخْرَجُ مِنَ الْغَالِبِ مِنَ الْأَقْوَاتِ في الزكاة والكفارات وَفِي اعْتِبَارِ الْغَالِبِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : مِنْ غَالَبِ قُوتِ بَلَدِهِ . وَالثَّانِي : مِنْ غَالَبِ قُوتِهِ فِي نَفْسِهِ ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ [ الْمَائِدَةِ : 89 ] وَإِنْ عَدَلَ عَنْ غَالِبِ الْقُوتِ إِلَى غَيْرِهِ حكم لَمْ يَخْلُ مَا عَدَلَ إِلَيْهِ عَنِ الْأَغْلَبِ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَدْوَنَ مِنْهُ أَوْ أَعْلَى ، فَإِنْ كَانَ دُونَ مِنْهُ لَمْ نُجِزْهُ ، وَإِنْ كَانَ أَرْفَعَ مِنْهُ كَإِخْرَاجِ الْبُرِّ إِذَا كَانَ أَغْلَبُ قُوتِهِ شَعِيرًا ، فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ - يَجُوزُ لِفَضْلِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِالْعُدُولِ إِلَيْهِ كَالْقِيمَةِ .
مَسْأَلَةٌ يُجْزِئُ أَهْلَ الْبَادِيَةِ مُدُّ أَقِطٍ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَيُجْزِئُ أَهْلَ الْبَادِيَةِ مُدُّ أَقِطٍ في الكفارة ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ أَجَازَ الْأَقِطَ هَاهُنَا ، وَلَمْ يُجْزِهِ فِي الْفِطْرَةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا إِذَا اقْتَاتَ أَهْلُ الْبَادِيَةِ غَيْرَ الْأَقِطِ ، لَمْ يَكُنْ لَهُمْ إِخْرَاجُ الْأَقِطِ فِي
الْكَفَّارَةِ وَلَا فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ قُوتٌ غَيْرُ الْأَقِطِ ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ : كُنَّا نُخْرِجُ إِذْ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَاعًا مِنْ أَقِطٍ فَإِنْ صَحَّ هَذَا أَنَّهُ كَانَ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَوْ بِعِلْمِهِ وَإِقْرَارِهِ عَلَيْهِ جَازَ إِخْرَاجُ الْأَقِطِ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ وَالْكَفَّارَاتِ حكم ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ أَنَّهُ كَانَ بِأَمْرِهِ أَوْ بِعِلْمِهِ ، فَفِي جَوَازِ إِخْرَاجِهِ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ وَالْكَفَّارَاتِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ عَلَى مَا نُصَّ عَلَيْهِ هَاهُنَا فِي الْكَفَّارَاتِ لِأَنَّهُ قُوتٌ مُدَّخَرٌ تَحْتَ الزَّكَاةِ فِي أَصْلِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ عَلَى مَا نُصَّ عَلَيْهِ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ ، فَلَمْ يَجُزْ إِخْرَاجُهُ فِي الْكَفَّارَةِ وَالزَّكَاةِ ، وَقَدْ جَعَلَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِ الصَّحَابِيِّ إِذَا لَمْ يُعَضِّدْهُ قِيَاسٌ ، هَلْ يُؤْخَذُ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ أَوْ يُعْدَلُ إِلَى الْقِيَاسِ ، فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ يُؤْخَذُ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ إِخْرَاجُ الْأَقِطِ فِي الْكَفَّارَةِ ، وَزَكَاةِ الْفِطْرِ ، أَخْذًا بِقَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ يُعْدَلُ عَنْهُ إِلَى الْقِيَاسِ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ إِخْرَاجُ الْأَقِطِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِأَهْلِ بِلَادٍ قُوتٌ مِنْ طَعَامٍ سِوَى اللَّحْمِ أَدَّوْا مُدًّا مِمَّا يُقْتَاتُ أَقْرَبُ الْبُلْدَانِ إِلَيْهِمْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا اقْتَاتَ قَوْمٌ مَا لَا يُزَكَّى مِنَ الْأَقْوَاتِ ، مِثْلُ أَنْ يَقْتَاتُوا اللَّحْمَ كَالتُّرْكِ ، أَوِ اللَّبَنِ كَالْأَعْرَابِ ، أَوِ السَّمَكِ كَسُكَّانِ الْبِحَارِ ، فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ إِخْرَاجَ الْأَقِطِ لَا يُجْزِئُ لَمْ يَجُزْ إِخْرَاجُ غَيْرِهِ مِنَ اللَّحْمِ أَوِ اللَّبَنِ أَوِ السَّمَكِ ، وَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ يُجْزِئُ فَفِيهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُجْزِئُ ؛ لِأَنَّهَا أَقْوَاتٌ كَالْأَقِطِ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا لَا تُجْزِئُ بِخِلَافِ الْأَقِطِ ، لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وُجُودُ الْأَثَرِ فِي الْأَقِطِ ، وَعَدَمُهُ فِي سِوَاهُ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْأَقِطَ يَبْقَى وَيُدَّخَرُ ، وَلَيْسَ يَبْقَى مَا سِوَاهُ وَيُدَّخَرُ وَلَا يُكَالُ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَإِذَا لَمْ يُجْزِهِمْ إِخْرَاجُ ذَلِكَ عَدَلُوا فِي كَفَّارَاتِهِمْ وَزَكَاةِ فِطْرِهِمْ إِلَى أَقْوَاتِ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبِلَادِ ، وَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُونَ مُخَيَّرِينَ بَيْنَ جَمِيعِهَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَعْدِلُونَ إِلَى الْأَغْلَبِ مِنْ قُوتِ أَقْرَبِ الْبِلَادِ بِهِمْ فَيُخْرِجُونَهُ ، فَإِنْ
عَدَلُوا عَنْهُ إِلَى مَا هُوَ أَدْنَى لَمْ يُجْزِهِمْ ، وَإِنْ عَدَلُوا عَنْهُ إِلَى مَا هُوَ أَعْلَى كَانَ عَلَى مَا ذَكَرَنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ يُعْطِي الرَّجُلُ الْكَفَّارَةَ وَالزَّكَاةَ مَنْ لَا تَلْزَمُهُ النَّفَقَةُ عَلَيْهِ مِنْ قَرَابَتِهِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَيُعْطِي الرَّجُلُ الْكَفَّارَةَ وَالزَّكَاةَ مَنْ لَا تَلْزَمُهُ النَّفَقَةُ عَلَيْهِ مِنْ قَرَابَتِهِ حكم ، وَهُمْ مَنْ عَدَا الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ وَالزَّوْجَةِ إِذَا كَانُوا أَقِلَ حَاجَةٍ ، فَهُمْ أَحَقُّ بِهَا مِنْ غَيْرِهِمْ ، وَإِنْ كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ تَطَوُّعًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ كَمَا قَالَ . كُلُّ مَنْ يَلْزَمُهُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ بِنَسَبٍ كَالْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ ، أَوْ بِسَبَبٍ كَالزَّوْجَاتِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِمْ مِنْ كَفَّارَتِهِ ، وَلَا مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ ، وَمَنْ لَا يَلْزَمُهُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِمْ ، جَازَ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مِنْ كَفَّارَتِهِ وَزَكَاتِهِ ، إِذَا كَانُوا فَقُرَاءَ فَهَذَا أَصْلٌ مُعْتَبَرٌ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا كَالْأَغْنِيَاءِ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا تَصِيرُ كَالْعَائِدَةِ إِلَيْهِ لِمَا يُسْقِطُ مِنْ نَفَقَتِهِمْ عَنْهُ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَتَى كَانَ الْوَلَدُ صَغِيرًا فَقِيرًا لَمْ يَجُزْ دَفْعُ كَفَّارَتِهِ إِلَيْهِ لِوُجُوبِ نَفَقَتِهِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا نَاقِصًا بِزَمَانَةٍ أَوْ جُنُونٍ لَمْ يَجُزْ دَفْعُهَا إِلَيْهِ ، لِوُجُوبِ نَفَقَتِهِ عَلَيْهِ كَالصَّغِيرِ ، وَإِنْ كَانَ كَامِلَ الصِّحَّةِ وَالْعَقْلِ لَمْ تَجِبْ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ فَجَازَ دَفْعُ كَفَّارَتِهِ إِلَيْهِ ، وَفِيهِ مِنَ الْخِلَافِ مَا سَنَذْكُرُهُ ، وَكَذَلِكَ أَوْلَادُ أَوْلَادِهِمْ وَإِنْ سَفِلُوا ، وَأَمَّا الْوَالِدُ فَإِنْ تَعَطَّلَ عَنِ الِاكْتِسَابِ بِزَمَانَةٍ أَوْ جُنُونٍ حكم النفقة عليه وَجَبَتْ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَجُزْ دَفْعُ كَفَّارَتِهِ إِلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاكْتِسَابِ بِالصِّحَّةِ وَالْعَقْلِ لَكِنَّهُ فَقِيرٌ النفقة على الوالد ، فَفِي وُجُوبِ نَفَقَتِهِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الْقَدِيمُ يَجِبُ اعْتِبَارًا بِوُجُودِ الْفَقْرِ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ دَفْعُ كَفَارِتٍ إِلَيْهِ . وَالثَّانِي : وَهُوَ الْجَدِيدُ لَا تَجِبُ اعْتِبَارًا بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْكَسْبِ ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ دَفْعُ كَفَّارَتِهِ إِلَيْهِ . فَإِنْ قِيلَ : بِأَنَّ الْوَالِدَ لَا تَجِبُ نَفَقَتُهُ إِلَّا بِالْفَقْرِ وَالزَّمَانَةِ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ فَالْوَلَدُ أَوْلَى ، وَإِنْ قِيلَ : إِنَّهَا تَجِبُ بِالْفَقْرِ وَحْدَهُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ فَفِي الْوَلَدِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ كَالْوَالِدِ تَجِبُ نَفَقَتُهُ بِالْفَقْرِ وَحْدَهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا تَجِبُ بِالْفَقْرِ وَعَدَمِ الِاكْتِسَابِ ، بِخِلَافِ الْوَالِدِ ، لِتَأْكِيدِ نَفَقَةِ الْوَالِدِ كَمَا تَتَأَكَّدُ بِوُجُوبِ إِعْقَافِ الْوَلَدِ دُونَ الْوَلَدِ ، وَهَكَذَا الْأُمُّ كَالْأَبِ وَالْأَجْدَادُ كَالْأَبِ ، وَالْجَدَّاتُ كَالْأُمِّ ، وَأَمَّا مَنْ عَدَاهُمْ مِنَ الْمُنَاسَبِينَ كَالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَالْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ ، فَلَا تَجِبُ نَفَقَاتُهُمْ بِحَالٍ ، وَيَجُوزُ دَفْعُ كَفَّارَتِهِ وَزِكَّاتِهِ إِلَيْهِمْ ، وَهُمْ أَحَقُّ بِهَا
مِنْ غَيْرِهِمْ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : خَيْرُ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي رَحِمٍ كَاشِحٍ وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَدَقَةَ امْرِئٍ وَذُو رَحِمٍ مُحْتَاجٌ ، وَسَوَاءٌ كَانَ يَتَطَوَّعُ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ أَمْ لَا . وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ : إِنْ تَطَوَّعَ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ لَمْ يُجْزِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَتَطَوَّعْ أَجْزَاهُ وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ لِلْمُتَطَوِّعِ أَنْ يَمْتَنِعَ ، وَفِي دَفْعِ ذَلِكَ إِلَيْهِمُ امْتِنَاعٌ بِهَا مِنَ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ ، وَأَمَّا الزَّوْجَاتُ فَلَا يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يَدْفَعَ كَفَّارَتَهُ إِلَى زَوْجَتِهِ لِوُجُوبِ نَفَقَتِهَا عَلَيْهِ : فَصَارَتْ غَنِيَّةً بِهِ ، وَأَمَّا الزَّوْجَةُ فَيَجُوزُ أَنْ تَدْفَعَ كَفَّارَتَهَا إِلَى زَوْجِهَا حكم وَكَذَلِكَ زَكَاتَهَا وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ دَفْعِهَا إِلَيْهِ ؛ لِأَنَّ نَفَقَتَهُ عَلَيْهَا فَصَارَ عَائِدًا إِلَيْهَا ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا تَجِبُ عَلَيْهَا نَفَقَتُهُ ، فَصَارَ بَاقِيًا عَلَى فَقْرِهِ فَجَرَى عَلَى حُكْمِ الْإِيجَابِ ، وَإِنْفَاقُهُ عَلَيْهَا لَا يَمْنَعُ مِنْ دَفْعِهَا إِلَيْهِ كَمَا لَوْ دَفَعَهَا إِلَى أَجْنَبِيٍّ وَأَطْعَمَهُ إِيَّاهَا أَوْ وَهَبَهَا لَهُ ، وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُسْتَوْفَاةً مِنْ قَبْلُ .
مَسْأَلَةٌ لَا يُجْزِئُهُ إِلَّا أَنْ يُعْطِيَ حُرًّا مُسْلِمًا مُحْتَاجًا
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا يُجْزِئُهُ إِلَّا أَنْ يُعْطِيَ حُرًّا مُسْلِمًا مُحْتَاجًا " . في الزكاة والكفارة قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ مَصْرِفَ الْكَفَّارَةِ فِيمَنْ يَجُوزُ أَنْ يُصَرِفَ إِلَيْهِ سَهْمُ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ مِنِ الزَّكَاةِ ، وَهُوَ مَنْ جَمَعَ مِنَ الْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ ثَلَاثَةَ أَوْصَافٍ : الْحُرِّيَّةَ ، وَالْإِسْلَامَ ، وَأَنْ لَا يَكُونَ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى ، فَأَمَّا الْعَبْدُ فَلَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إِلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا وَلِأَنَّهُ غَنِيٌّ بِسَيِّدِهِ ، وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ ، وَالْمُعَتَقُ بَعْضُهُ : لِأَنَّ سَيِّدَ رِقِّهِ يَأْخُذُ مِنْهَا قَدْرَ حَقِّهِ وَهُوَ غَنِيٌّ ، وَكَذَلِكَ الْمَكَاتَبُ ، وَلَا يَجُوزُ صَرْفُ الْكَفَّارَةِ إِلَيْهِ ، وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صَرْفَهَا إِلَيْهِ كَالزَّكَاةِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الزَّكَاةِ أَوْسَعُ من كحم الكفارة لِمَا يَجُوزُ مِنْ صَرْفِهَا إِلَى الْأَغْنِيَاءِ مِنَ الْمُجَاهِدِينَ ، وَأَحَدِ صِنْفَيِ الْغَارِمِينَ ، وَالْكَفَّارَةُ أَضْيَقُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ صَرْفُهَا إِلَى غَنِيٍّ بِحَالٍ : وَلِأَنَّ الْمُكَاتَبَ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الرِّقِّ . وَأَمَّا الْكَافِرُ فَلَا يَجُوزُ دَفْعُ الْكَفَّارَةِ إِلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ الزَّكَاةُ سَوَاءٌ كَانَ ذِمِّيًّا أَوْ حَرْبِيًّا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجُوزُ أَنْ تُصْرَفَ إِلَيْهِ زَكَاةُ الْمَالِ وَيَجُوزُ أَنْ تُصْرَفَ إِلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَزَكَاةُ الْفِطْرِ ، إِنْ كَانَ ذِمِّيًّا أَوْ مُعَاهِدًا : وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ دَفْعُهَا إِلَيْهِ إِنْ كَانَ حَرْبِيًّا . وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهُ مَنْ لَا يَجُوزُ دَفْعُ زَكَاةِ الْمَالِ إِلَيْهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِ الْكَفَّارَةُ ، وَزَكَاةُ الْفِطْرِ ، كَالْحَرْبِيِّ وَلِأَنَّهُ حَقٌّ يُخْرَجُ لِلطُّهْرَةِ ، فَلَمْ يَجُزْ صَرْفُهُ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ كَزَكَاةِ الْمَالِ ، وَأَمَّا ذَوُو قُرْبَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صرف الزكاة والكفارة عليهم - فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُصْرَفَ إِلَيْهِمُ الزِّكْوَاتُ وَلَا الْكَفَّارَاتُ ، وَإِنْ جَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَا قَدَّمْنَاهُ ، وَاسْتَوْفَيْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ عُلِمَ أَنَّهُ أَعْطَى غَيْرَهُمْ فَعَلَيْهِ عِنْدِي أَنْ يُعِيدَ " .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا أَخْطَأَ فِي دَفْعِ الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ حكم اعْتُبِرَ حَالُ الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَ عَبْدًا ظَنَّهُ حُرًّا أَوْ كَافِرًا ظَنَّهُ مُسْلِمًا أَوْ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى ظَنَّهُ مِنْ غَيْرِ ذَوِي الْقُرْبَى لَمْ يُجْزِهِ مَا دَفَعَ ، وَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ حُقُوقَ الْأَمْوَالِ إِذَا لَمْ تَقَعْ مَوْقِعَ الْإِجْزَاءِ مَعَ الْعَمْدِ لَمْ تَقَعْ مَوْقِعَ الْإِجْزَاءِ الْخَطَأِ ، كَرَدِّ الْوَدَائِعِ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّ لِأَسْبَابِ الْمَنْعِ مِنَ الرِّقِّ وَالْكُفْرِ وَالنَّسَبِ عَلَامَاتٍ يَسْتَدِلُّ بِهَا وَأَمَارَاتٍ لَا تَخْفَى مَعَهَا ، فَكَانَ الْخَطَأُ مِنْ تَقْصِيرٍ فِي الِاجْتِهَادِ ، وَإِنْ بَانَ أَنَّهُ دَفَعَهَا إِلَى غَنِيٍّ يَظُنُّهُ فَقِيرًا فَفِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يُعِيدُ وَلَا يُجْزِئُهُ لِلتَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْخَطَأَ فِي حُقُوقِ الْأَمْوَالِ كَالْعَمْدِ وَالْقَوَدِ . وَالثَّانِي : يُجْزِئُهُ وَلَا يُعِيدُ لِعَدَمِ التَّعْلِيلِ الثَّانِي فِي فَقْدِ الْأَمَارَةِ الدَّالَّةِ عَلَى غِنَاهُ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ وَالرِّقُّ وَالْكُفْرُ لَا يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُمَا ، فَكَانَ بِخَطَئِهِ فِي الْغَنِيِّ مَعْذُورًا وَفِي الْعَبْدِ وَالْكَافِرِ مُقَصِّرًا . وَإِنْ دَفْعَ كَفَّارَتَهُ وَزَكَاتَهُ إِلَى السُّلْطَانِ وَأَخْطَأَ السُّلْطَانُ فِي دَفْعِهَا إِلَى غَيْرِ مُسْتَحِقِّهَا حكم ئُظِرَ ، فَإِنْ بَانَ أَنَّهُ دَفَعَهَا إِلَى غَنِيٍّ أَجْزَأَ لِخَفَاءِ حَالِهِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ بَانَ أَنَّهُ دَفَعَهَا إِلَى عَبْدٍ أَوْ كَافِرٍ أَوْ ذِي قُرْبَى ، فَفِي وُجُوبِ ضَمَانِهَا عَلَيْهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَضْمَنُهَا وَيُعِيدُهَا ، كَمَا يَلْزَمُ رَبُّ الْمَالِ أَنْ يُعِيدَهَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يَضْمَنُهَا وَتَقَعُ مَوْقِعَ الْإِجْزَاءِ بِخِلَافِ رَبِّ الْمَالِ لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ مُبَاشَرَةَ السُّلْطَانِ لِعُمُومِ الْأُمُورِ يَقْطَعُ عَنِ التَّفَرُّدِ بِالِاجْتِهَادِ فِيهَا ، وَلَا يَقْطَعُ رَبُّ الْمَالِ عَنِ التَّوَفُّرِ فِي الِاجْتِهَادِ .
مَسْأَلَةٌ لَا يُطْعِمُ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا يُطْعِمُ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ في الكفارة وَاحْتَجَّ عَلَى مَنْ قَالَ : إِنْ أَطْعَمَ مِسْكِينًا وَاحِدًا مِائَةً وَعِشْرِينَ مُدًّا فِي سِتِّينَ يَوْمًا أَجْزَأَهُ ، وَإِنْ كَانَ فِي أَقَلَّ مِنْ سِتِّينَ لَمْ يُجْزِهِ ، فَقَالَ أَرَاكَ جَعَلْتَ وَاحِدًا سِتِّينَ مِسْكِينًا ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ : وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدَ الْيَوْمَ شَاهِدٌ بِحَقٍّ ، ثُمَّ عَادَ مِنَ الْغَدِ فَشَهِدَ بِهِ ، فَقَدْ شَهِدَ بِهَا مَرَّتَيْنِ ، فَهُوَ كَشَاهِدَيْنِ ، فَإِنْ قَالَ : لَا يَجُوزُ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ذَكَرَ الْعَدَدَ ، قِيلَ وَكَذَلِكَ ذَكَرَ اللَّهُ لِلْمَسَاكِينِ الْعَدَدَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ كَمَا قَالَ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ نَصَّ عَلَى عَدَدِهِمْ فِي الْكَفَّارَةِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَحِقَّهَا عَشَرَةُ مَسَاكِينَ ، وَإِنْ دَفْعَ إِلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ مُدَّيْنِ أَجَزَأَهُ أَحَدُهُمَا ،
وَلَمْ يُجْزِهِ الْآخَرُ سَوَاءٌ دَفَعَهُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي يَوْمَيْنِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " إِذَا دَفَعَ لَهُ حَقَّ مِسْكِينٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ لَمْ يُجْزِهِ ، وَإِنْدَفَعَ إِلَيْهِ فِي يَوْمَيْنِ أَجْزَأَهُ حَتَّى قَالَ : لَوْ دَفَعَ إِلَى مِسْكِينٍ حَقَّ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ أَجْزَأَهُ وَقَامَ مَقَامَ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ ، فَاعْتَبَرَ عَدَدَ الْإِطْعَامَ ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ عَدَدَ الْمَسَاكِينِ " . وَالشَّافِعِيُّ يَعْتَبِرُهُمَا مَعًا ، وَيَمْنَعُ أَنْ يَأْخُذَ مِسْكِينٌ وَاحِدٌ مِنْ كَفَّارَةِ وَاحِدَةٍ مَرَّتَيْنِ لِيَسْتَوْفِيَ الْعَدَدَ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ كَمَا يَسْتَوْفِيهِ فِي الْوَصَايَا لَوْ أَوْصَى بِإِطْعَامِ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ : فَكَانَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْكَفَّارَاتِ أَوْلَى ، وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي كِتَابِ الظِّهَارِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَلَوْ أَطْعَمَ تِسْعَةً وَكَسَا وَاحِدًا في الكفارة لَمْ يُجْزِهِ حَتَّى يُطْعِمَ عَشَرَةً ، كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَوْ كِسْوَتُهُمْ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُكَفِّرِ عَنْ يَمِينِهِ الْخِيَارَ فِي التَّكْفِيرِ بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ الطَّعَامِ أَوِ الْكِسْوَةِ أَوِ الْعِتْقِ ، فَبِأَيِّهَا كَفَّرَ أَجَزْأَهُ ، إِذَا اسْتَوْفَاهُ وَلَمْ يُفَرِّقْ ، فَإِنْ أَطْعَمَ خَمْسَةً وَكَسَا خَمْسَةً في الكفارة لَمْ يُجْزِهِ ، وَكَانَ مُخَيَّرًا إِنْ شَاءَ تَمَّمَ إِطْعَامَ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ ، وَكَانَ مُتَطَوِّعًا بِالْكِسْوَةِ ، وَإِنْ شَاءَ تَمَّمَ كِسْوَةَ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ ، وَكَانَ مُتَطَوِّعًا بِالْإِطْعَامِ ، وَقَالَ مَالِكٌ : يُجْزِئُهُ أَنْ يُطْعِمَ خَمْسَةً وَيَكْسُوَ خَمْسَةً ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَجْزَأَهُ إِطْعَامُهُمْ وَأَجْزَأَتْهُ كِسْوَتُهُمْ أَجْزَأَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ إِطْعَامِهِمْ وَكَسَوْتِهِمْ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ أَطْعَمَ خَمْسَةً وَكَسَا خَمْسَةً ، وَجَعَلَ كِسْوَةَ الْخَمْسَةِ بِقِيمَةِ إِطْعَامِ الْخَمْسَةِ لَمْ يَجُزْ ، وَإِنْ جَعْلَ إِطْعَامَ الْخَمْسَةِ بِقِيمَةِ كِسْوَةِ الْخَمْسَةِ أَجْزَأَهُ ، فَأَجَازَ إِخْرَاجَ قِيمَةِ الْكِسْوَةِ طَعَامًا حكمها ، وَلَمْ يُجِزْ إِخْرَاجَ قِيمَةِ الطَّعَامِ كِسْوَةً حكمها ، فَلَمْ يَسْتَمِرَّ فِي جَوَازِ الْقِيمَةِ عَلَى أَصْلِهِ ، وَلَا فِي الْمَنْعِ مِنْهَا عَلَى أَصْلِنَا ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَيَّرَ الْمُكَفِّرَ بَيْنَ ثَلَاثَةٍ ، مِنْ طَعَامٍ أَوْ كِسْوَةٍ أَوْ عِتْقٍ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ خِيَارًا رَابِعًا فِي التَّبْعِيضِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا امْتَنَعَ فِي الْكَفَّارَةِ تَبْعِيضُ الْعِتْقِ وَالصِّيَامِ امْتَنَعَ فِيهَا تَبْعِيضُ الْكِسْوَةِ وَالْإِطْعَامِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ كَانَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ ثَلَاثَةِ أَيْمَانٍ مُخْتَلِفَةٍ فَأَعْتَقَ وَأَطْعَمَ وَكَسَا يَنْوِي الْكَفَّارَةَ ، وَلَا يَنْوِي عَنْ أَيِّهَا الْعِتْقُ وَلَا الْإِطْعَامُ وَلَا الْكِسْوَةُ أَجْزَأَهُ ، وَأَيُّهَا شَاءَ أَنْ يَكُونَ عِتْقًا أَوْ طَعَامًا أَوْ كِسْوَةً كَانَ ، وَإِنْ لَمْ يَشَأْ ، فَالنِّيَّةُ الْأُولَى تُجْزِئُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ كَمَا قَالَ ، إِذَا كَانَتْ عَلَيْهِ ثَلَاثُ كَفَّارَاتٍ عَنْ ثَلَاثِ أَيْمَانٍ مُخْتَلِفَةٍ كَانَ فِي التَّكْفِيرِ عَنْهَا بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْهَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ ، فَيُطْعِمَ عَنْ جَمِيعِهَا وَيَكْسُوَ عَنْ جَمِيعِهَا ، أَوْ يَعْتِقَ عَنْ جَمِيعِهَا ، وَبَيْنَ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْهَا مِنْ أَجْنَاسٍ مُخْتَلِفَةٍ فَيُطْعِمَ عَنْ أَحَدِهَا ، وَيَكْسُوَ عَنْ أَحَدِهَا وَيُعْتِقَ عَنْ أَحَدِهَا ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ كَفَّارَةٍ حُكْمَ
نَفْسِهَا ، وَسَوَاءٌ عَيَّنَهَا أَوْ أَطْلَقَهَا : لِأَنَّ عَلَيْهِ النِّيَّةَ فِي الْكَفَّارَةِ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُعَيِّنَ عَنْ أَيِّ كَفَّارَةٍ كَالْوُضُوءِ يَلْزَمُهُ أَنْ يَنْوِيَ أَنَّهُ عَنِ الْحَدَثِ ، وَلَا يَلْزَمَهُ عَنْ أَيِّ حَدَثٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَلْزَمُهُ تَعْيِينُ النِّيَّةِ عَنْ أَيِّ كَفَّارَةٍ ، كَمَا يَلْزَمُهُ تَعْيِينُ النِّيَّةِ لِلصَّلَاةِ مِنْ ظُهْرٍ أَوْ عَصْرٍ ، فَيُقَالُ لَهُ : لَمَّا لَمْ يَلْزَمْهُ فِي قَضَاءِ الصَّلَوَاتِ الْفَوَائِتِ أَنْ يُعَيِّنَ عَنْ أَيِّ يَوْمٍ لَمْ يَلْزَمْهُ فِي الْكَفَّارَاتِ أَنْ يُعَيِّنَ عَنْ أَيْ حِنْثٍ ، فَلَا يَكُونُ فِي إِثْبَاتِهِ التَّعْيِينُ فِي الْأَدَاءِ بِأَوْلَى مِنْ نَفْيِهِ لِلتَّعْيِينِ فِي الْقَضَاءِ ، فَاسْتَوَيَا ثُمَّ تَرَجَّحَ مَا ذَكَرْنَا بِاتِّفَاقِنَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ نَسِيَ صَلَاةً لَمْ يَعْرِفْهَا بِعَيْنِهَا وأراد قضائها لَمْ يُجْزِهِ فِي قَضَائِهَا أَنْ يَنْوِيَ قَضَاءَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ ، لِعَدَمِ التَّعْيِينِ ، وَلَوْ كَانَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ لَا يَعْرِفُ مُوجِبَهَا أَجْزَأَهُ أَنْ يَنْوِيَ بِالتَّكْفِيرِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ ، فَعُلِمَ أَنَّ تَعْيِينَ النِّيَّةِ فِي الصَّلَاةِ وَاجِبٌ ، وَتَعْيِينَهَا فِي الْكَفَّارَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ . فَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ فِي تَعْيِينِ النِّيَّةِ فِي الصَّلَاةِ دُونَ الطَّهَارَةِ مَعَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي وُجُوبِ النِّيَّةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا حَكَاهُ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيُّ عَنِ الْمُزَنِيِّ قَالَ : قُلْتُ لِلْمُزَنِيِّ : لِمَ افْتَقَرَتِ الصَّلَاةُ إِلَى تَعْيِينِ النِّيَّةِ ، وَلَمْ تَفْتَقِرِ الطَّهَارَةُ إِلَى تَعْيِينِ النِّيَّةِ ، فَقَالَ : لِأَنَّ الصَّلَاةَ تُرَادُ لِنَفْسِهَا ، وَالطَّهَارَةَ تُرَادُ لِغَيْرِهَا ، وَهَذَا صَحِيحٌ . وَهَكَذَا الْكَفَّارَةُ تُرَادُ لِغَيْرِهَا ، وَهُوَ تَكْفِيرُ الْحِنْثِ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ فِيهَا تَعْيِينُ النِّيَّةِ . وَالْفَرْقُ الثَّانِي : قَالَهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ الطَّهَارَةَ بِسَبَبٍ مُتَقَدِّمٍ ، وَهُوَ مَا سَبَقَ مِنَ الْحَدَثِ ، فَلَمْ يَلْزَمْ تَعْيِينُ النِّيَّةِ لَهُ ، وَالصَّلَاةُ لِأَمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ ، فَجَازَ أَنْ يَلْزَمَ تَعْيِينُ النِّيَّةِ فِيهَا ، وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَهَكَذَا الْكَفَّارَةُ بِسَبَبٍ مُتَقَدِّمٍ ، وَهُوَ مَا سَبَقَ مِنَ الْيَمِينِ ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ تَعْيِينُ النِّيَّةِ فِيهَا . فَإِنْ قِيلَ : النِّيَّةُ فِي الْكَفَّارَةِ أَغْلَظُ مِنْهَا فِي الطَّهَارَةِ : لِأَنَّهُ لَوْ نَوَى بِطَهَارَتِهِ أَنَّهَا عَنْ نَوْمٍ ، فَكَانَتْ عَنْ بَوْلٍ أَجْزَأَهُ ، وَلَوْ نَوَى بِعِتْقِهِ فِي الْكَفَّارَةِ أَنَّهُ عَنْ ظِهَارٍ فَكَانَ عَنْ قَتْلٍ لَمْ يُجْزِهِ ، فَجَازَ أَنْ تَتَغَلَّظَ الْكَفَّارَةُ بِتَعْيِينِ النِّيَّةِ ، وَإِنْ لَمْ تَتَغَلَّظْ بِهَا الطَّهَارَةُ . قِيلَ : إِنَّمَا أَجْزَأَتْهُ الطَّهَارَةُ وَلَمْ تُجْزِهِ الْكَفَّارَةُ ، بِمَعْنًى آخَرَ ، وَهُوَ أَنَّ الطَّهَارَةَ تَرْفَعُ جَمِيعَ الْأَحْدَاثِ لِأَنَّهَا تَتَدَاخَلُ ، فَكَذَلِكَ أَجْزَأَتْ فِي مُخَالَفَةِ التَّعْيِينِ ، وَالْعِتْقُ لَا يُسْقِطُ جَمِيعَ الْكَفَّارَاتِ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَدَاخَلُ ، فَلِذَلِكَ لَمْ تَجُزْ فِي مُخَالَفَةِ التَّعْيِينِ .
مَسْأَلَةٌ لَا يُجْزِئُ كَفَّارَةٌ حَتَّى يُقَدِّمَ النِّيَّةَ قَبْلَهَا أَوْ مَعَهَا
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا يُجْزِئُ كَفَّارَةٌ حَتَّى يُقَدِّمَ النِّيَّةَ قَبْلَهَا أَوْ مَعَهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا النِّيَّةُ فِي دَفْعِ الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ فَوَاجِبَةٌ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فِي الزَّكَاةِ ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الْمَالِ يَتَنَوَّعُ فَرْضًا وَتَطَوُّعًا ، فَافْتَقَرَ الْفَرْضُ إِلَى تَمْيِيزِهِ بِالنِّيَّةِ ، وَلَهُ فِي النِّيَّةِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ ، تُجْزِئُهُ فِي إِحْدَاهَا وَلَا تُجْزِئُهُ فِي الْآخَرِ ، وَمُخْتَلَفٌ فِي إِجْزَائِهِ فِي الْأَمْرِ .
الثَّالِثُ ، فَأَمَّا مَا تُجْزِئُهُ ، فَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ عِنْدَ دَفْعِهَا فَيُجْزِئُ ؛ لِأَنَّ أَغْلَظَ أَحْوَالِ النِّيَّةِ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْفِعْلِ ، وَأَمَّا مَا لَا يُجْزِئُ فَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ قَبْلَ عَزْلِهَا مِنْ مَالِهِ ؛ لِأَنَّهَا تَجَرَّدَتْ عَنِ الْفِعْلِ ، فَكَانَتْ قَصْدًا وَلَمْ تَكُنْ نِيَّةً ، وَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ ، فَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ عِنْدَ عَزْلِهَا مِنْ مَالِهِ وَقَبْلَ دَفْعِهَا ، فَفِي إِجْزَائِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : تُجْزِئُ وَإِنْ لَمْ تُجْزِئْ مِثْلُهُ فِي الصَّلَاةِ ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ حَتَّى يُقَدِّمَ النِّيَّةَ قَبْلَهَا وَمَعَهَا ؛ لِأَنَّ الِاسْتِنَابَةَ فِي دَفْعِهَا يَصِحُّ ، وَلَا يُمْكِنُ الْمُسْتَنِيبُ أَنْ يَنْوِيَ مَعَ الدَّفْعِ ، فَأَجْزَأَتْهُ النِّيَّةُ مَعَ الْعَزْلِ ، وَخَالَفَتِ الصَّلَاةَ الَّتِي لَا تَجُوزُ الِاسْتِنَابَةُ فِيهَا ، فَلَزِمَ أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مُقَارِنَةً لِأَوَّلِهَا ، وَجَرَتِ الضَّرُورَةُ مَجْرَى الصِّيَامِ الَّذِي تُجْزِئُ النِّيَّةُ فِيهِ قَبْلَ دُخُولِهِ لِلضَّرُورَةِ عِنْدَ تَعَذُّرِهَا مَعَ دُخُولِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يُجْزِئُهُ لِبَقَائِهَا مَعَ الْقَوَدِ عَلَى مُلْكِهِ فَأَشْبَهَ النِّيَّةَ قَبْلَ عَزْلِهِ ، وَتَأَوَّلَ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْوَجْهِ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ حَتَّى يُقَدِّمَ النِّيَّةَ قَبْلَهَا ، أَوْ مَعَهَا بِتَأْوِيلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَنْوِيَ قَبْلَهَا إِذَا اسْتَصْحَبَ النِّيَّةَ إِلَى دَفْعِهَا . وَالثَّانِي : قَبْلَهَا فِي الصِّيَامِ وَمَعَهَا فِي الْكِسْوَةِ .
مَسْأَلَةٌ لَوْ كَفَّرَ عَنْهُ رَجُلٌ بِأَمْرِهِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ كَفَّرَ عَنْهُ رَجُلٌ بِأَمْرِهِ أَجْزَأَهُ ، وَهَذِهِ كَهِبَتِهِ إِيَّاهَا مِنْ مَالِهِ ، وَدَفْعِهِ إِيَّاهَا بِأَمْرِهِ كَقَبْضِ وَكِيلِهِ لِهِبَتِهِ لَوْ وَهَبَهَا لَهُ ، وَكَذَلِكَ إِنْ قَالَ : أَعْتِقْ عَنِّي فَوَلَاؤُهُ لِلْمُعْتِقَ عَنْهُ : لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَهُ قَبْلَ الْعِتْقِ ، وَكَانَ عِتْقُهُ مِثْلَ الْقَبْضِ كَمَا لَوِ اشْتَرَاهُ فَلَمْ يَقْبِضْهُ حَتَّى أَعْتَقَهُ كَانَ الْعِتْقُ كَالْقَبْضِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ كَمَا قَالَ : إِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ فَكَفَّرَ عَنْهُ رَجُلٌ بِأَمْرِهِ حكم من ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مَالُ التَّكْفِيرِ لِلْآمِرِ ، فَيَكُونَ الْمَأْمُورُ هَاهُنَا وَكِيلًا لِلْآمِرِ فِي إِخْرَاجِ الْكَفَّارَةِ ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَى جَوَازِهِ لِجَوَازِ النِّيَابَةِ فِي التَّكْفِيرِ ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهَا الْمَالُ ، وَالْعَمَلُ تَبِعٌ ، فَأُجْرِيَتْ مَجْرَى حُقُوقِ الْأَمْوَالِ ، وَتَكُونُ النِّيَّةُ فِي إِخْرَاجِهَا مُسْتَحِقَّةً ، لِمَا تَضَمَّنَهَا مِنَ الْعِبَادَةِ ، وَلِلْآمِرِ وَالْمَأْمُورِ فِيهَا أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَنْوِيَ الْآمِرُ عِنْدَ أَمْرِهِ وَيَنْوِيَ الْمَأْمُورُ عِنْدَ دَفْعِهِ ، فَهَذَا أَكْمَلُ أَمْوَالِ الْجَوَازِ . وَالثَّانِي : أَنْ لَا يَنْوِيَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا ، فَلَا يُجْزِئُ الْمُخْرِجُ عِتْقًا كَانَ أَوْ إِطْعَامًا لِعَدَمِ الشَّرْطِ الْمُسْتَحَقِّ فِي الْإِجْزَاءِ ، وَلَا يَضْمَنُهُ الْمَأْمُورُ وَيَكُونُ مُتَطَوِّعًا فِي الْأَمْرِ .
وَالثَّالِثُ : أَنْ يَنْوِيَ الْمَأْمُورُ عِنْدَ دَفْعِهِ ، وَلَا يَنْوِيَ الْآمِرُ عِنْدَ أَمْرِهِ ، فَهُنَا يُجْزِئُ ؛ لِأَنَّ اقْتِرَانَ النِّيَّةِ بِالدَّفْعِ أَصَحُّ . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَنْوِيَ الْآمِرُ عِنْدَ أَمْرِهِ ، وَلَا يَنْوِيَ الْمَأْمُورُ عِنْدَ دَفْعِهِ ، فَفِي إِجْزَائِهِ وَجْهَانِ عَلَى مَا مَضَى مِنْ وُجُوبِ اعْتِبَارِهِ النِّيَّةَ عِنْدَ الْعَزْلِ وَالدَّفْعِ ، فَإِنْ أَمَرَهُ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْهُ بِنَوْعٍ فَعَدَلَ إِلَى غَيْرِهِ كَانَ الْمَأْمُورُ ضَامِنًا لِمَا كَفَّرَ بِهِ ، سَوَاءٌ عَدَلَ عَنِ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى ، كَعُدُولِهِ عَنِ الْإِطْعَامِ إِلَى الْعِتْقِ ، أَوْ عَدَلَ عَنِ الْأَعْلَى إِلَى الْأَدْنَى ، كَعُدُولِهِ عَنِ الْعِتْقِ إِلَى الْإِطْعَامِ ؛ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ مَقْصُورُ التَّصَرُّفِ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ الْأَمْرُ ، وَإِنْ أَطْلَقَ الْآمِرُ الْإِذْنَ لِلْمَأْمُورِ فِي التَّكْفِيرِ وَلَمْ يُعَيِّنْ لَهُ عَلَى جِنْسِ مَا يُكَفِّرُ بِهِ حكم لَمْ تَخْلُ الْكَفَّارَةُ مِنْ أَنْ تَكُونَ كَفَّارَةَ تَرْتِيبٍ كَالْقَتْلِ وَالظِّهَارِ ، فَإِطْلَاقُ إِذْنِ الْآمِرِ يُوجِبُ حَمْلَهُ عَلَى اعْتِبَارِ حَالِهِ ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِتْقِ أَوَجَبَ إِطْلَاقَ إِذْنِهِ أَنْ يَعْتِقَ عَنْهُ ، وَإِنْ أَطْعَمَ ضَمِنَ وَلَمْ يُجْزِهِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْإِطْعَامِ أَوَجَبَ إِطْلَاقُ إِذْنِهِ أَنْ يُطْعِمَ عَنْهُ ، وَإِنْ أَعَتَقَ لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ ، وَلَمْ يَضْمَنْ بِخِلَافِ الْمَالِ الَّذِي قَدْ مَلَكَهُ الْمُعْطَى ، فَضِمْنَهُ الْمُعْطِي ، وَإِنْ كَانَتْ كَفَّارَةً لَحِنْثٍ مِثْلِ كَفَّارَةِ الْأَيْمَانِ ، فَإِنْ كَفَّرَ الْمَأْمُورُ بِأَقَلِّ الْأَجْنَاسِ ثَمَنًا ، فَكَفَّرَ بِالْإِطْعَامِ دُونَ الْعِتْقِ أَجْزَأَ ، سَوَاءٌ كَانَ مَوْجُودًا فِي مَالِهِ أَوْ غَيْرَ مَوْجُودٍ ، وَإِنْ كَفَّرَ بِأَكْثَرِ الْأَجْنَاسِ ثَمَنًا فَكَفَّرَ بِالْعِتْقِ دُونَ الْإِطْعَامِ ، فَلَا يَخْلُو مَالُ الْآمِرِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُوجَدَ فِي مِلْكِهِ الْأَدْنَى مِنَ الْإِطْعَامِ ، وَلَا يُوجَدَ فِيهِ الْأَعْلَى مِنَ الْعِتْقِ ، فَيَصِيرَ الْمَأْمُورُ بَعْدَ عُدُولِهِ إِلَى الْعِتْقِ مِنْ غَيْرِ مِلْكِهِ خَارِجًا مِنْ حُكْمِ الْأَذَى ، فَلَا يُجْزِئُ الْعِتْقُ ، وَيَكُونُ عَنِ الْمَأْمُورِ دُونَ الْآمِرِ ، وَالْكَفَّارَةُ بَاقِيَةٌ فِي ذِمَّةِ الْآمِرِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُوجَدَ فِي مِلْكِهِ الْأَعْلَى مِنَ الْعِتْقِ ، وَلَا يُوجَدُ فِيهِ الْأَدْنَى مِنَ الطَّعَامِ ، فَهَذَا الْعِتْقُ يُجْزِئُ عَنِ الْآمِرِ ، وَلَهُ وَلَاؤُهُ : لِأَنَّ إِطْلَاقَ إِذْنِهِ مُتَوَجِّهٌ إِلَى مِلْكِهِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ لَا يُوجَدَ فِي مِلْكِهِ الْأَدْنَى مِنِ الْإِطْعَامِ ، وَلَا الْأَعْلَى مِنَ الْعِتْقِ ، فَلَيْسَ لَهُ التَّكْفِيرُ عَنْهُ بِالْأَعْلَى مِنَ الْعِتْقِ ، لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ فَضْلَ الْقِيمَةِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يُدْخِلُ وَلَاءَ الْمُعْتِقِ فِي مِلْكِ الْآمِرِ بِغَيْرِ إِذْنٍ . وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يُوجَدَ فِي مِلْكِهِ الْأَدْنَى مِنَ الطَّعَامِ وَالْأَعْلَى مِنَ الْعِتْقِ ، فَهَلْ يَكُونُ إِطْلَاقُ الْإِذْنِ يُوجِبُ تَخْيِيرَ الْمَأْمُورِ ، كَمَا كَانَ مُوجِبًا لِخِيَارِ الْآمِرِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مُوجِبٌ لِخِيَارِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَقَامَهُ بِالْإِذْنِ فِيهِ مَقَامَ نَفْسِهِ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَبْطُلُ الْعِتْقُ وَيُجْزِئُ عَنِ الْمُكَفِّرِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ التَّخْيِيرَ يَسْقُطُ فِي حَقِّ الْمَأْمُورِ ، وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا فِي حَقِّ الْآمِرِ ،
لِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي مِلْكِهِ دُونَ الْمَأْمُورِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عِتْقُهُ بَاطِلًا ، وَالْعَبْدُ عَلَى رِقِّهِ وَالْكَفَّارَةُ بَاقِيَةً فِي ذِمَّةِ الْآمِرِ .
فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَالُ التَّكْفِيرِ مِلْكًا لِلْمَأْمُورِ إذا أمره إنسان بأن يكفر عنه ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِجْزَائِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، أَنَّهُ يُجْزِئُ سَوَاءٌ كَانَ بِجُعْلٍ أَوْ بِغَيْرِ جُعْلٍ . وَالثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ ، لَا يُجْزِئُ سَوَاءٌ كَانَ بِجُعْلٍ أَوْ بِغَيْرِ جُعْلٍ . وَالثَّالِثُ : وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُجْزِئُ إِنْ كَانَ بِجُعْلٍ ، وَلَا يُجْزِئُ إِنْ كَانَ بِغَيْرِ جُعْلٍ . وَدَلِيلُنَا وَإِنْ كَانَ قَدْ مَضَى فِي كِتَابِ الظِّهَارِ مُسْتَوْفًى ، أَنَّهُ إِنْ كَانَ بِجُعْلٍ جَرَى مَجْرَى الْبِيَاعَاتِ ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ جُعْلٍ جَرَى مَجْرَى الْهِبَاتِ ، وَالْإِخْرَاجُ فِيهَا قَبْضٌ يَلْزَمُ بِهِ الْهِبَةُ ، وَيَسْتَقِرُّ بِهِ الْبَيْعُ ، فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ يَصِحُّ مِلْكُ الْأَمْرِ لَهُ ، حَتَّى يُجْزِئَهُ فِي كَفَّارَتِهِ ؟ قِيلَ : قَدْ حَكَى فِيهِ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجْهَيْنِ خَرَّجَهُمَا مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي دِيَةِ النَّفْسِ ، هَلْ يَمْلِكُهَا الْمَقْتُولُ فِي آخِرِ أَجْزَاءِ حَيَّاتِهِ ، أَوْ يَمْلِكُهَا الْوَرَثَةُ فِي أَوَّلِ أَجْزَاءِ مَوْتِهِ ، وَيَجْرِي عَلَيْهَا فِي قَضَاءِ دُيُونِهِ ، وَإِنْفَاذِ وَصَايَاهُ ، حُكْمُ مِلْكِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ كَذَلِكَ هَاهُنَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَصِيرُ بِإِخْرَاجِهَا مَالِكًا لَهَا قَبْلَ إِخْرَاجِهَا ، فَإِنْ كَانَ عِتْقًا بَانَ بِالْعِتْقِ أَنَّهُ كَانَ مِلْكًا لَهُ قَبْلَ الْعِتْقِ ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِيمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : لِأَنَّهُ مَلَكَهُ قَبْلَ الْعِتْقِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ ، وَإِنَّمَا يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْمِلْكِ ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ الْعِتْقِ لَا يَمْلِكُ ، وَبَعْدَ الْعِتْقِ لَا يَصِحُّ أَنْ يَمْلِكَ ، فَصَارَ حُكْمُ الْمِلْكِ جَارِيًا عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ كَمَا نَقُولُ فِي حَافِرِ الْبِئْرِ إِذَا تَلِفَ فِيهَا حَيَوَانٌ بَعْدَ مَوْتِهِ كَانَ فِي حُكْمِ الْجَانِي عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَانِيًا ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ مَوْتِهِ لَمْ يَجْنِ ، وَبَعْدَ مَوْتِهِ لَا يَصِحُّ مِنْهُ الْفِعْلُ ، فَجَرَى عَلَيْهِ حُكْمُهُ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ، وَيَكُونُ وَلَاءُ الْمُعْتِقِ لِلْآمِرِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ مَعًا ، وَمِثْلُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فِي التَّكْفِيرِ إِذَا قَالَ : أَلْقِ مَتَاعَكَ فِي الْبَحْرِ وَعَلَيَّ قِيمَتُهُ ، هَلْ يَصِيرُ مَالِكًا لَهُ قَبْلَ إِلْقَائِهِ أَمْ لَا عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّنَا نَعْلَمُ قَبْلَ إِلْقَائِهِ أَنَّهُ قَدْ كَانَ مَالِكًا لَهُ قَبْلَ إِلْقَائِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مَالِكًا لَهُ ، وَإِنَّمَا يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْمِلْكِ ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ الْإِلْقَاءِ لَمْ يَمْلِكْ ، وَبَعْدَ الْإِلْقَاءِ لَا يَصِحُّ أَنْ يَمْلِكَ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا كَفَّرَ عَنْ رَجُلٍ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَأَطْعَمَ أَوْ أَعْتَقَ حكم لَمْ يُجْزِهِ ، وَكَانَ هُوَ الْمُعْتِقَ لِعَبْدٍ فَوَلَاؤُهُ لَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ مَنْ كَفَّرَ عَنْ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُكَفِّرًا عَنْ حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ ، فَإِنْ كَفَّرَ عَنْ حَيٍّ لَمْ يَجُزِ الْكَفَّارَةُ عَنِ الْحَيِّ : لِأَنَّ النِّيَّةَ فِيهَا مُسْتَحَقَّةٌ ، وَعَدَمُ الْإِذْنِ مَانِعٌ مِنْ صِحَّةِ النِّيَّةِ ، فَكَانَ مَا أَخْرَجَهُ النَّائِبُ وَاقِعًا عَنْ نَفْسِهِ ، فَإِنْ كَانَ إِطْعَامًا كَانَ صَدَقَةً ، وَإِنْ كَانَ عِتْقًا كَانَ تَطَوُّعًا مِنْهُ وَلَهُ وَلَاؤُهُ ، وَإِنْ نَوَاهُ عَنْ غَيْرِهِ كَمَنْ حَجَّ عَنْ حَيٍّ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ، كَانَ الْحَجُّ وَاقِعًا عَنِ الْحَاجِّ دُونَ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ . وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَلَاءِ مَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَنْ غَيْرِهِ ، فَجَعَلَهُ أَبُو حَنِيفَةَ لِلْمُعْتِقِ بِكُلِّ حَالٍ ، وَجَعَلَ مَالِكٌ لِلْمُعْتَقِ عَنْهُ بِكُلِّ حَالٍ ، وَجَعَلَهُ الشَّافِعِيُّ لِلْمُعْتِقِ إِنْ أَعْتَقَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ، وَلِلْمُعْتَقِ عَنْهُ إِنْ أَعْتَقَ بِأَمْرِهِ ، وَإِنْ كَفَّرَ عَنْ مَيِّتٍ ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ بِوَصِيَّةٍ أَوْ بِغَيْرِ وَصِيَّةٍ ، فَإِنْ كَانَ بِوَصِيَّةٍ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ أَمْرًا ، فَيَصِيِرُ كَالْمُكَفِّرِ بِأَمْرٍ ، فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى ، وَإِنْ كَفَّرَ عَنْهُ بِغَيْرِ وَصِيَّةٍ مِنْهُ ، فَلَا يَخْلُو الْمُكَفِّرُ عَنْهُ مِنْ أَنْ يَمُوتَ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا ، فَإِنْ مَاتَ مُوسِرًا ، فَوُجُوبُ الْكَفَّارَةِ بَاقٍ فِي تَرِكَتِهِ ، فَإِنْ كَفَّرَ عَنْهُ مِنْهَا غَيْرَ وَارِثٍ وَلَا ذِي وِلَايَةٍ كَانَ ضَامِنًا مُتَعَدِّيًا ، وَلَمْ يَسْقُطْ بِهِ الْكَفَّارَةُ ، وَإِنْ كَفَّرَ عَنْهُ مِنْهَا وَارِثٌ ، فَإِنْ كَانَ التَّكْفِيرُ طَعَامًا أَجْزَأَ ، وَصَارَ كَقَضَاءِ الدِّيُونِ الْوَاجِبَةِ عَنْهُ ، وَإِنْ كَانَ التَّكْفِيرُ عِتْقًا فَضَرْبَانِ حكم التكفير إذا كان عتقا : أَحَدُهُمَا : عِتْقٌ لَا تَخْيِيرَ فِيهِ كَالْعِتْقِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ ، فَيُجْزِئُ ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرٍ وَلَا وَصِيَّةٍ ؛ لِأَنَّهُ عِتْقٌ مُسْتَحَقٌّ ، فَإِذَا فَاتَ مَنْ ضَمِنَهُ بِالْمَوْتِ وَجَبَ عَلَى مَنْ قَامَ مَقَامَهُ فِي مَالِهِ كَالْحَجِّ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ فِي حَيَاتِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ ، وَيَجِبُ عَلَى وَارِثِهِ الْحَجُّ عَنْهُ فِيمَا وَجَبَ بَعْدَ مَوْتِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ عِتْقًا فِيهِ تَخْيِيرٌ ، كَالْعِتْقِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ فِيهِ يَمْنَعُ مِنْ تَعْيِينِ وُجُوبِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ إِذَا نَابَ عَنْ وَاجِبٍ صَارَ وَاجِبًا وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ بِنَاءٌ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي مَا وَجَبَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَسَائِرِ كَفَّارَاتِ التَّخْيِيرِ هَلْ وَجَبَ بِالنَّصِّ أَحَدُهَا ، أَوْ وَجَبَ بِهِ جَمِيعُهَا ، وَلَهُ إِسْقَاطُ الْوُجُوبِ بِأَحَدِهِمَا ، فَأَحَدُ وَجْهَيْ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْوَاجِبَ بِالنَّصِّ أَحَدُهَا عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَصِحُّ الْعِتْقُ .
وَالثَّانِي : أَنَّ جَمِيعَهَا وَاجِبٌ بِالنَّصِّ ، وَلَهُ إِسْقَاطُ جَمِيعِهَا بِفِعْلِ أَحَدِهَا ، فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ الْعِتْقُ . وَإِنْ مَاتَ الْمُكَفَّرُ عَنْهُ مُعْسِرًا ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ التَّكْفِيرُ بَعْدَ مَوْتِهِ مُعْتَبَرًا بِالْوَاجِبِ أَوْ بِالتَّطَوُّعِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ مُعْتَبَرًا بِالْوَاجِبِ ، فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَكُونُ مُعْتَبَرًا بِالتَّطَوُّعِ ، فَيَكُونُ عَلَى مَا يَأْتِي .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْتَقَ عَنْ أَبَوَيْهِ بَعْدَ الْمَوْتِ حكم إِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِوَصِيَّةٍ مِنْهُمَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا التَّطَوُّعُ بِذَلِكَ عَنْ وَصِيَّةِ الْمَيِّتِ العتق أو الصدقة فَجَائِزٌ ، سَوَاءٌ كَانَ عِتْقًا أَوْ صَدَقَةً وَيَكُونُ الْوَلَاءُ لِلْمَيِّتِ ، يَنْتَقِلُ عَنْهُ إِلَى الذُّكُورِ مِنْ عَصَبَتِهِ ، وَأَمَّا التَّطَوُّعُ بِهِ عَنِ الْمَيِّتِ مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ العتق أو الصدقة ، فَإِنْ كَانَ صَدَقَةً جَازَ مِنْ وَارِثٍ وَغَيْرِ وَارِثٍ : لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَمَرَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ " أَنْ يَتَصَدَّقَ عَنْ أُمِّهِ بَعْدَ مَوْتِهَا " . وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي افْتُلِتَتْ ، وَأَظُنُّ لَوْ تَكَلَّمَتْ لَتَصَدَّقَتْ ، فَهَلْ لَهَا مِنْ أَجْرٍ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ . وَأَمَّا الْعِتْقُ فَإِنْ تَطَوَّعَ بِهِ غَيْرُ وَارِثٍ حكم لَمْ يَجُزْ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ أَنَّ الصَّدَقَةَ بِرٌّ مَحْضٌ لَا يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِ الثَّوَابِ ، وَالْعِتْقَ تَكَسُّبُ وَلَاءٍ يَجْرِي مَجْرَى النَّسَبِ ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ إِلْحَاقُ نَفْسِهِ بِغَيْرِهِ ، كَذَلِكَ الْوَلَاءُ وَإِنْ كَانَ الْمُعْتِقُ وَارِثًا ، فَإِنْ تَطَوَّعَ بِهِ بَعْضُ الْوَرَثَةِ لَمْ يَجُزْ كَالْأَجْنَبِيِّ ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْوَرَثَةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُلْحِقَ بِالْمَيِّتِ نَسَبًا ، وَإِنْ تَطَوَّعَ جَمِيعُ الْوَرَثَةِ فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ كَمَا لَوْ تَطَوَّعَ بِهِ بَعْضُهُمْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ كَمَا يَصِحُّ لُحُوقُ النَّسَبِ بِالْمَيِّتِ إِذَا أَقَرَّ بِهِ جَمِيعُ الْوَرَثَةِ ، وَلَا يَصِحُّ إِذَا أَقَرَّ بِهِ بَعْضُهُمْ .
مَسْأَلَةٌ الصِّيَامُ عَنِ الْحَيِّ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ صَامَ رَجُلٌ عَنْ رَجُلٍ بِأَمْرِهِ حكم لَمْ يُجْزِهِ : لِأَنَّ الْأَبْدَانَ تُعُبِّدَتْ بِعَمَلٍ فَلَا يُجْزِئُ أَنْ يَعْمَلَهُ غَيْرُهَا إِلَّا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلْخَبَرِ الَّذِي جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَبِأَنَّ فِيهِمَا نَفَقَةً ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِنَمَا فَرَضَهُمَا عَلَى مَنْ وَجَدَ السَّبِيلَ إِلَيْهِمَا وَالسَّبِيلُ بِالْمَالِ " .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الصِّيَامُ عَنِ الْحَيِّ ، فَلَا يَجُوزُ إِجْمَاعًا بِأَمْرٍ أَوْ غَيْرِ أَمْرٍ ، عَنْ قَادِرٍ أَوْ عَاجِزٍ ، لِلظَّاهِرِ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [ النَّجْمِ : 39 ] ؛ وَلِأَنَّ مَا تَمَحَّضَ مِنْ عِبَادَاتِ الْأَبْدَانِ لَا تَصِحُّ فِيهَا النِّيَابَةُ ، كَالصَّلَاةِ ، وَخَالَفَ الْحَجُّ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَلَّقَ وُجُوبُهُ بِالْمَالِ لَمْ يَتَمَحَّضْ عَلَى الْأَبْدَانِ ، فَصَحَّتْ فِيهِ النِّيَابَةُ كَالزَّكَاةِ . فَأَمَّا الصِّيَامُ عَنِ الْمَيِّتِ حكم ، فَقَدْ وَقَفَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ عَلَى صِحَّةِ الْخَبَرِ الْمَرْوِيِّ فِيهِ أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ صَوْمِ نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهَا ، فَمَاتَتْ قَبْلَ صِيَامِهِ ، فَأَجَازَ لَهَا أَنْ تَصُومَ عَنْهَا . وَقَدْ حَكَى أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيِّ أَنَّ الْخَبَرَ قَدْ صَحَّ ، فَصَارَ مَذْهَبُهُ فِي الْقَدِيمِ جَوَازَ الصِّيَامِ عَنِ الْمَيِّتِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ ، وَقَدْ رَوَى عُرْوَةُ ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ : وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يَدْخُلُ فِي جُبْرَانِهَا الْمَالُ ، فَصَحَّتْ فِيهَا النِّيَابَةُ ، كَالْحَجِّ طَرْدًا وَالصَّلَاةِ عَكْسًا ، وَدُخُولُ الْمَالِ فِي جُبْرَانِهَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : جُبْرَانُ الصِّيَامِ فِي الْوَطْءِ بِالْكَفَّارَةِ . وَالثَّانِي : عَجْزُ الشَّيْخِ الْهَرِمِ عَنِ الصِّيَامِ ، وَانْتِقَالُهُ إِلَى إِخْرَاجِ مُدٍّ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ ، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ : إِنَّ النِّيَابَةَ فِي الصِّيَامِ حكم لَا تَجُوزُ بِحَالٍ عَنْ حَيٍّ وَلَا مَيِّتٍ ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ : لِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ أَطْعَمَ عَنْهُ وَلِيُّهُ وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ عَلَى الْبَدَنِ لَا يَتَعَلَّقُ وُجُوبُهَا بِالْمَالِ ، فَلَا تَصِحُّ فِيهَا النِّيَابَةُ كَالصَّلَاةِ طَرْدًا ، وَالْحَجِّ عَكْسًا ، فَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَعْلُولٌ ، وَإِنْ صَحَّ كَانَ مُحْتَمِلًا أَنْ يُرِيدَ بِالصِّيَامِ عَنِ الْمَيِّتِ الصَّدَقَةَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ بِمُدٍّ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الصَّلَاةُ عَنِ الْمَيِّتِ حكم ، فَقَدْ حُكِيَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ جَوَازُهُ ، وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ تَفَرَّدَا بِهِ عَنِ الْجَمَاعَةِ اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا جَازَتِ النِّيَابَةُ فِي رَكْعَتِي الطَّوَافِ إِجْمَاعًا جَازَتْ فِي غَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ قِيَاسًا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا صَحَّتِ النِّيَابَةُ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مَعَ الْعَجْزِ دُونَ الْقُدْرَةِ ، وَصَحَّتْ فِي الزَّكَاةِ مَعَ الْعَجْزِ وَالْقُدْرَةِ لَمْ تَخْرُجِ النِّيَابَةُ فِي الصَّلَاةِ عَنْ أَحَدِهِمَا ، وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَسَائِرُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ النِّيَابَةَ فِي الصَّلَاةِ حكم لَا تَصِحُّ بِحَالٍ مَعَ قُدْرَةٍ وَلَا عَجْزٍ : لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ حَجٍّ بِقَضَاءٍ ، أَوْ دَيْنٍ يُؤَدَّى ، أَوْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ
وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ كَالْإِيمَانِ : لِأَنَّهَا قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ ، ثُمَّ لَمْ تَجُزِ النِّيَابَةُ فِي الْإِيمَانِ حكم إِجْمَاعًا ، فَلَمْ تَجُزْ فِي الصَّلَاةِ حِجَاجًا ، أَمَّا رَكْعَتَا الطَّوَافِ : فَلِأَنَّهَا تَبَعٌ لِمَا تَصِحُّ فِيهِ النِّيَابَةُ فَخُصَّتْ بِالْجَوَازِ : لِاخْتِصَاصِهَا بِالْمَعْنَى ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْحَجِّ فَقَدْ تَقَدَّمَ اخْتِصَاصُهُ بِالنِّيَابَةِ لِاخْتِصَاصِ وُجُوبِهِ بِالْمَالِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَمَنِ اشْتَرَى مِمَّا أَطْعَمَ أَوْ كَسَا اشترى مما كفر به أَجَزْتُهُ ، وَلَوْ تَنَزَّهَ عَنْ ذَلِكَ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، يُكْرَهُ إِنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ عَنْ وَاجِبٍ أَوْ تَطَوُّعٍ أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنَ الْمُعْطِي ؛ لِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ فَرَسًا تَصَدَّقَ بِهِ فَيَ سَبِيلِ اللَّهِ يُقَالُ لَهُ : الْوَرْدُ ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ وَلَوْ أَعْطَيْتَهَا بِفَقِيرٍ ، وَدَعْهَا حَتَّى تَكُونَ هِيَ وَنِتَاجُهَا لَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؛ وَلِأَنَّ مِنْ عُرْفِ الْمُعَطَى أَنْ يَسْمَحَ فِي بَيْعِهَا عَلَى الْمُعْطِي ، فَصَارَ بِالِابْتِيَاعِ كَالرَّاجِعِ فِي بَعْضِ عَطِيَّتِهِ ، فَإِنِ ابْتَاعَهَا صَحَّ الِابْتِيَاعُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ ، وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَصِحُّ الِابْتِيَاعُ وَتُعَادُ ، إِلَى الْبَائِعِ احْتِجَاجًا بِمَا مَضَى ، وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إِلَّا لِخَمْسَةٍ ذَكَرَ مِنْهَا رَجُلًا رَآهَا تُبَاعُ فَاشْتَرَاهَا فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَمْلِكَهَا مِيرَاثًا جَازَ أَنْ يَمْلِكَهَا ابْتِيَاعًا كَغَيْرِهِ مِنَ الرِّجَالِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَبْتَاعَهَا غَيْرُهُ مِنَ الرِّجَالِ جَازَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُبْتَاعَ كَغَيْرِهَا مِنَ الْأَمْوَالِ ، وَمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ مَحْمُولٌ عَلَى التَّنْزِيهِ دُونَ التَّحْرِيمِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَمَنْ كَانَ لَهُ مَسْكَنٌ لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ هُوَ وَأَهْلُهُ وَخَادِمٌ أُعْطِيَ مِنَ الْكَفَّارَةِ وَالزَّكَاةِ ، وَإِنْ كَانَ فِي مَسْكَنِهِ فَضْلٌ عَنْ خَادِمِهِ وَأَهْلِهِ ، الْفَضْلُ الَّذِي يَكُونُ بِهِ غَنِيًّا لَمْ يُعْطَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا كَانَ لَهُ مَسْكَنٌ لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ ، وَخَادِمٌ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْهُ جَازَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ ، وَجَازَ أَنْ يُكَفِّرَ بِالصِّيَامِ دُونَ الْمَالِ وَلَوْ كَانَ مُفْلِسًا بِيعَ ذَلِكَ فِي دَيْنِهِ ، وَإِنْ لَمْ يُبَعْ فِي كَفَّارَتِهِ ؛ لِأَنَّ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ مُشَاحَّةً ، وَفِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى مُسَامَحَةً ، فَإِنْ كَانَ فِي ثَمَنِ مَسْكَنِهِ أَوْ فِي ثَمَنِ خَادِمِهِ فَضْلٌ يَكُونُ بِهِ غَنِيًّا حُرِّمَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَالْكَفَّارَةُ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمَا فَضْلٌ لِلتَّكْفِيرِ بِالْمَالِ لَمْ يُجْزِهِ التَّكْفِيرُ بِالصِّيَامِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِذَا حَنِثَ مُوسِرًا ثُمَّ أَعْسَرَ حكم ، لَمْ أَرَ الصَّوْمَ يُجْزِئُ عَنْهُ وَآمُرُهُ احْتِيَاطًا أَنْ يَصُومَ ، فَإِذَا أَيْسَرَ كَفَّرَ ، وَإِنَّمَا أُنْظِرُ فِي هَذَا إِلَى الْوَقْتِ الَّذِي يَحْنَثُ فِيهِ وَلَوْ حَنِثَ مُعْسِرًا فَأَيْسَرَ أَحْبَبْتُ لَهُ أَنْ يُكَفِّرَ وَلَا يَصُومَ ، وَإِنْ صَامَ أَجْزَأَ عَنْهُ : لِأَنَّ حُكْمَهُ حِينَ حَنِثَ حُكْمُ الصَّيَامِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) وَقَدْ قَالَ فِي الظِّهَارِ : إِنَّ حُكْمَهُ حِينَ يُكَفِّرُ ، وَقَدْ قَالَ فِي
جَمَاعَةِ الْعُلَمَاءِ : إِنْ تَظَاهَرَ فَلَمَّ يَجِدْ رَقَبَةً أَوْ أَحْدَثَ ، فَلَمْ يَجِدْ مَاءً فَلَمْ يَصُمْ ، وَلَمْ يَدْخُلْ فِي الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ حَتَّى وَجَدَ الرَّقَبَةَ وَالْمَاءَ إِنَّ فَرْضَهُ الْعِتْقُ وَالْوُضُوءُ ، وَقَوْلُهُ فِي جَمَاعَةِ الْعُلَمَاءِ أَوْلَى بِهِ مِنَ انْفِرَادِهِ عَنْهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ فَفَرْضُ الْمُوسِرِ أَنْ يُكَفِّرَ بِالْمَالِ ، وَفَرْضُ الْمُعْسِرِ أَنْ يُكَفِّرَ بِالصِّيَامِ ، وَقَدْ يَخْتَلِفُ الْيَسَارُ وَالْإِعْسَارُ ، فَيَكُونُ عِنْدَ الْوُجُوبِ مُوسِرًا ، وَعِنْدَ التَّكْفِيرِ مُعْسِرًا ، وَقَدْ يَكُونُ عِنْدَ الْوُجُوبِ مُعْسِرًا ، وَعِنْدَ التَّكْفِيرِ مُوسِرًا ، فَاخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ هَلْ يُعْتَبَرُ بِالْكَفَّارَةِ حَالَ الْوُجُوبِ أَوْ يُعْتَبَرُ بِهَا حَالَ الْأَدَاءِ عَلَى قَوْلَيْنِ مَنْصُوصَيْنِ وَثَالِثٍ مُخَرَّجٍ . أَحَدُهَا : أَنَّ الْمُعْتَبَرَ بِهَا حَالُ الْوُجُوبِ ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ كِتَابِ الْأَيْمَانِ ، فَإِذَا حَنِثَ وَهُوَ مُوسِرٌ ، فَلَمْ يُكَفِّرْ بِالْمَالِ حَتَّى أَعْسَرَ ، فَفَرْضُهُ التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ دُونَ الصِّيَامِ ، وَتَكُونُ الْكَفَّارَةُ بَاقِيَةً فِي ذِمَّتِهِ حَتَّى يُوسِرَ فَيُكَفِّرَ ، وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُعَجِّلَ بِالتَّكْفِيرِ بِالصِّيَامِ اسْتِظْهَارًا حَذَرًا مِنْ فَوَاتِ التَّكْفِيرِ بِالْمَوْتِ حكم ، لِاسْتِدَامَةِ الْإِعْسَارِ وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ فَرْضُ التَّكْفِيرِ بِالصِّيَامِ ، وَلَوْ كَانَ مُعْسِرًا عِنْدَ الْحِنْثِ فَفَرْضُهُ التَّكْفِيرُ بِالصِّيَامِ ، فَإِنْ عَدَلَ عَنْهُ إِلَى التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ أَجْزَاهُ : لِأَنَّهُ عَدَلَ عَنِ الْأَخَفِّ إِلَى الْأَغْلَظِ ، وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ فِي اعْتِبَارِ الْكَفَّارَةِ بِحَالِ الْوُجُوبِ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : إِلْحَاقُهَا بِالْحُدُودِ ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الْحُدُودَ كَفَّارَاتٌ وَالْحُدُودُ مُعْتَبَرَةٌ بِحَالِ الْوُجُوبِ دُونَ الْفِعْلِ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا زَنَا ، فَلَمْ يُحَدَّ حَتَّى أُعْتِقَ حُدَّ حَدَّ الْعَبِيدِ ، وَالْبِكْرَ إِذَا زَنَا فَلَمْ يُحَدَّ حَتَّى أَحَصَنَ حُدَّ حَدَّ الْأَبْكَارِ ، وَكَذَلِكَ الْكَفَّارَاتُ . وَالثَّانِي : أَنَّ التَّكْفِيرَ لِذَنْبٍ مُتَقَدِّمٍ ، فَاعْتَبَرَ بِحَالِ الْوُجُوبِ لِقُرْبِهِ مِنْ سَبَبِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْمُعْتَبَرَ بِالْكَفَّارَةِ حَالُ الْأَدَاءِ دُونَ الْوُجُوبِ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الظِّهَارِ ، فَإِذَا حَنِثَ وَهُوَ مُوسِرٌ ، فَلَمْ يُكَفِّرْ حَتَّى أَعْسَرَ ، كَانَ فَرْضُهُ التَّكْفِيرَ بِالصِّيَامِ ، وَلَوْ حَنِثَ وَهُوَ مُعْسِرٌ فَلَمْ يُكَفِّرْ حَتَّى أَيْسَرَ كَانَ فَرْضُهُ التَّكْفِيرَ بِالْمَالِ ، وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ فِي اعْتِبَارِ الْكَفَّارَةِ بِحَالِ الْأَدَاءِ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : إِلْحَاقُهَا بِالطَّهَارَةِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا ذَاتُ بَدَلٍ فَلَمَّا اعْتُبِرَتِ الطَّهَارَةُ بِحَالِ الْأَدَاءِ فَكَذَلِكَ الْكَفَّارَةُ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا مُوَاسَاةٌ فَاعْتُبِرَتْ بِأَقْرَبِ الْأَحْوَالِ مِنْ مُوَاسَاتِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : وَهُوَ مُخَرَّجٌ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ بِالْكَفَّارَةِ أَغْلَظُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ حَالِ الْوُجُوبِ أَوْ حَالِ الْأَدَاءِ : لِأَنَّهَا تَكْفِيرٌ عَنْ ذَنْبٍ ، فَكَانَتْ بِالتَّغْلِيظِ أَخَصَّ ، وَقَدِ اسْتَوْفَيْنَا هَذِهِ