كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي
حَصَاةً بَعْدَ حَصَاةٍ فَبَطَلَ بِهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَعَطَاءٍ ، فَإِنْ قِيلَ الرَّمْيُ كَالْحَدِّ فِي اعْتِبَارِ الْعَدَدِ ، ثُمَّ لَوْ ضُرِبَ بِمِائَةِ سَوْطٍ دَفْعَةً وَاحِدَةً كَانَ كَضَرْبِهِ مِائَةَ سَوْطٍ ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ رَمْيُهُ بِالسَّبْعِ فِي دَفْعَةٍ وَاحِدَةٍ ، كَرَمْيِهِ سَبْعَ حَصَيَاتٍ قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْحَدَّ عِبَادَةٌ وَجَبَتْ عَلَى الْمَحْدُودِ . قَدْ وَصَلَ إِلَى بَدَنِهِ ضَرْبُ مِائَةٍ ، فَكَانَ وَصُولُ مِائَةِ سَوْطٍ دَفْعَةً وَاحِدَةً كَوُصُولِ السَّوْطِ الْوَاحِدِ مِائَةَ دَفْعَةٍ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَصَلَ إِلَى بَدَنِهِ ضَرْبُ مِائَةٍ ، وَالرَّمْيُ عِبَادَةٌ عَلَى الرَّامِي ، وَلَيْسَ رَمْيُهُ بِالسَّبْعِ دَفْعَةً وَاحِدَةً كَرَمْيِهِ بِسَبْعِ دَفْعَاتٍ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ سَبْعُ رَمْيَاتٍ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ أَعْدَادَ الرَّمْيِ مَقْصُودٌ ، وَأَنَّ تَرْتِيبَ الْجَمَرَاتِ وَاجِبٌ ، فَرَمَى فِي الْجَمْرَةِ الْأُولَى بِالسَّبْعِ دَفْعَةً وَاحِدَةً ، وَرَمَى فِي الثَّانِيَةِ ، وَالثَّالِثَةِ حَصَاةً بَعْدَ حَصَاةٍ ، كَانَ رَمْيُهُ بِالسَّبْعِ فِي الْجَمْرَةِ الْأُولَى كَرَمْيِهِ بِحَصَاةٍ وَاحِدَةٍ ، فَيُكْمِلُ رَمْيَ الْأُولَى بِسِتِّ حَصَيَاتٍ ؛ لِيُكْمِلَ سَبْعًا ، وَيَسْتَأْنِفَ رَمْيَ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ لِيَكُونَ مُرَتَّبًا ، وَلَوْ رَمَى فِي الْأُولَى سَبْعَ مَرَّاتٍ ، وَرَمَى فِي الثَّانِيَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ اعْتَدَّ بِرَمْيِ الْجَمْرَةِ الْأُولَى وَبِحَصَاةٍ مِنَ الثَّانِيَةِ وَكَمَّلَهَا سَبْعًا بِسِتِّ رَمْيَاتٍ ، وَاسْتَأْنَفَ رَمْيَ الثَّالِثَةِ ، وَلَوْ رَمَى فِي الْأُولَى سَبْعَ مَرَّاتٍ ، وَفِي الثَّانِيَةِ سَبْعَ مَرَّاتٍ ، وَفِي الثَّالِثَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ ، اعْتَدَّ بِالْأُولَى وَالثَّانِيَةِ وَحَصَاةٍ مِنَ الثَّالِثَةِ وَكَمَّلَهَا سَبْعًا بِسِتِّ رَمْيَاتٍ ، فَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ رَمَى فِي أَحَدِ الْجَمَرَاتِ بِالسَّبْعِ دَفْعَةً وَلَيْسَ يُعَرِّفُهَا حَسَبَهَا الْأُولَى تَغْلِيظًا وَكَمَّلَ رَمْيَهَا وَاسْتَأْنَفَ الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ وَعَادَ فَرَمَى حَصَاةً مِنْ تِلْكَ الْجَمْرَةِ لِيُكْمِلَ سَبْعًا وَاسْتَأْنَفَ مَا يَلِيهَا .
مَسْأَلَةٌ إِنْ نَسِيَ مِنَ الْيَوْمِ الْأُوَلِ شَيْئًا مِنَ الرَّمْيِ رَمَاهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَمَا نَسِيَهُ فِي الثَّانِي رَمَاهُ فِي الثَالِثِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ نَسِيَ مِنَ الْيَوْمِ الْأُوَلِ شَيْئًا مِنَ الرَّمْيِ رَمَاهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي ، وَمَا نَسِيَهُ فِي الثَّانِي رَمَاهُ فِي الثَالِثِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَا تَرَكَهُ مِنْ رَمْيِ أَيَّامِ مِنًى حكمه ثُمَّ ذَكَرَهُ مِنْ بَعْدُ ، لَمْ يَخْلُ حَالُهُ فِيهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَنْقَضِيَ أَيَّامُ مِنًى أَوْ لَا تَنْقَضِيَ ، فَإِنِ انْقَضَتْ أَيَّامُ مِنًى لَمْ يَقْضِ رَمْيَ مَا تَرَكَهُ لَا يَخْتَلِفُ ، وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ سَوَاءٌ تَرَكَهُ عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا ؛ لِأَنَّ الْمَنَاسِكَ الْمُؤَقَّتَةَ لَا تُقْضَى بَعْدَ فَوَاتِ أَوْقَاتِهَا كَتَرْكِ الْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ ، وحكم من تركه وَلَيَالِي مِنًى لَا تُقْضَى بَعْدَ فَوَاتِهَا وَإِنْ لَمْ يَنْقَضِ أَيَّامُ مِنًى كَأَنَّهُ تَرَكَ الْيَوْمَ الْأَوَّلَ وَالثَّانِيَ وَهُوَ بَعْدُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَهَلْ يَقْضِي فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مَا تَرَكَ مِنْ رَمْيِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي : عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ ، وَأَحَدُ قَوْلَيْهِ فِي الْإِمْلَاءِ : إِنَّهُ يَقْضِي فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مَا تَرَكَ مِنْ رَمْيِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي وَتَكُونُ أَيَّامُ مِنًى كُلُّهَا زَمَانًا لِلرَّمْيِ لَا يَفُوتُ الرَّمْيُ فِيهَا إِلَّا بِخُرُوجِ جَمِيعِهَا ؛ لِأَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ لِرُعَاةِ الْإِبِلِ وَأَهَّلِ سِقَايَةِ الْعَبَّاسِ أَنْ يَدَعُوا رَمْيَ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ ، وَيَقْضُوهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي ، فَعُلِمَ أَنَّ حُكْمَ جَمِيعِهَا وَاحِدٌ وَأَنَّهَا زَمَانٌ لِلرَّمْيِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ
جَمِيعُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَقْتًا لِنَحْرِ الْأَضَاحِيِّ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهَا وَقْتًا لِرَمْيِ الْجِمَارِ وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْهِ فِي الْإِمْلَاءِ لَا يُقْضَى ، وَيَكُونُ لِكُلِّ يَوْمٍ حُكْمُ نَفْسِهِ بِفَوَاتِ الرَّمْيِ فِيهِ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْهُ . وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الرَّمْيَ فِي أَيَّامِ مِنًى مُؤَقَّتٌ فَلَوْ كَانَ جَمِيعُهَا وَقْتًا لِرَمْيِ الْأَيَّامِ كُلِّهَا ، لَجَازَ لَهُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ أَنْ يَرْمِيَ عَنْ جَمِيعِ الْأَيَّامِ ؛ لِأَنَّهُ وَقْتٌ لَهَا وَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْيَوْمُ الْأَوَّلُ وَقْتًا لِرَمْيِ جَمِيعِهَا إِجْمَاعًا ، لَمْ يَكُنِ الْيَوْمُ الْأَخِيرُ وَقْتًا لِرَمْيِ جَمِيعِهَا حُجَّاجًا ، وَلَيْسَ تَرْكُ ذَلِكَ عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا ، فَأَمَّا يَوْمُ النَّحْرِ إِذَا تَرَكَ الرَّمْيَ فِيهِ حَتَّى دَخَلَتْ أَيَّامُ مِنًى ، فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ لِكُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ مِنًى حُكْمُ نَفْسِهِ ، وَأَنَّ مَا تَرَكَ مِنَ الرَّمْيِ فِيهِ لَا يَقْضِيهِ فِي غَدِهِ كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ أَوْلَى أَنْ يَخْتَصَّ بِحُكْمِ نَفْسِهِ وَلَا يَقْضِيَ مَا تَرَكَ مِنْ رَمْيِهِ فِي غَدِهِ ، وَيَكُونُ وَقْتُهُ مُحَدَّدًا بِغُرُوبِ الشَّمْسِ فِيهِ ، وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ أَيَّامَ مِنًى كُلَّهَا زَمَانُ الرَّمْيِ ، وَأَنَّ مَا تُرِكَ مِنَ الرَّمْيِ مِنْهَا قَضَاهُ فِيمَا بَقِيَ مِنْهَا ، وَكَانَ فِي رَمْيِ يَوْمِ النَّحْرِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَقْضِي فِي أَيَّامِ مِنًى وَيَكُونُ حُكْمُ الْأَيَّامِ الْأَرْبَعَةِ وَاحِدًا ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الرَّمْيِ وَاحِدٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : إِنْ رَمَى يَوْمَ النَّحْرِ لَا يَقْضِي فِي أَيَّامِ مِنًى ، وَإِنِ اسْتَوَى حُكْمُ أَيَّامِ مِنًى ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الرَّمْيِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الرَّمْيِ فِي أَيَّامِ مِنًى فِي عَدَدِهِ وَوَقْتِهِ وَحُكْمِهِ ، وَرَمِيُ أَيَّامِ مِنًى مُتَّفِقٌ فِي عَدَدِهِ وَحُكْمِهِ وَوَقْتِهِ ، فَإِذَا قُلْنَا : إِنَّهُ يَقْضِي مَا تَرَكَ مِنَ الرَّمْيِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَلَهُ ذَلِكَ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، وَيُرَتَّبُ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا بَأْسَ إِذَا رَمَى الرُّعَاةُ الْجَمْرَةَ يَوْمَ النَّحْرِ أَنْ يَصْدُرُوا وَيَدَعُوا الْمَبِيتَ بِمِنًى فِي لَيْلَتِهِمْ ، وَيَدَعُوا الرَّمْيَ مِنَ الْغَدِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ ، ثُمَّ يَأْتُوا مِنْ بَعْدِ الْغِدِ ، وَهُوَ يَوْمُ النَّفْرِ الْأَوَّلِ فَيَرْمُوا لِلْيَوْمِ الْمَاضِي ، ثُمَّ يَعُودُوا فَيَسْتَأْنِفُوا يَوْمَهُمْ ذَلِكَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : يَجُوزُ لِرُعَاةِ الْإِبِلِ ، وَأَهَّلِ سِقَايَةِ الْعَبَّاسِ إِذَا رَجَمُوا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ أَنْ يَدَعُوا الْمَبِيتَ بِمِنًى لَيَالِيَ مِنًى ، وَيَتْرُكُوا رَمْيَ الْغَدِ وَهُوَ الْحَادِيَ عَشَرَ ، ثُمَّ يَقْضُوهُ فِي الثَّانِيَ عَشَرَ ، فَإِنْ لَمْ يَقْضُوهُ فِي الثَّانِيَ عَشَرَ عَادُوا فِي الثَّالِثَ عَشَرَ وَهُوَ آخِرُ الْأَيَّامِ ، فَيَرْمُوا فِيهِ عَنْ جَمِيعِ الْأَيَّامِ وَهَذَا مَخْصُوصٌ فِي الرُّعَاةِ وَأَهْلِ السِّقَايَةِ ، فَأَمَّا الرُّعَاةُ فَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ لَهُمْ رِوَايَةُ عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْخَصَ لِلرُّعَاةِ أَنْ يَتَعَاقَبُوا فَيَرْمُوا يَوْمَ النَحْرِ ، ثُمَّ يَدَعُوا يَوْمًا وَلَيْلَةً ، ثُمَّ يَرْمُوا مَنِ الْغَدِ . وَقَوْلُهُ : يَتَعَاقَبُوا أَيْ يَرْمُوا يَوْمًا وَيَدَعُوا يَوْمًا ؛ وَلِأَنَّ عَلَى الرُّعَاةِ رَعْيَ الْإِبِلِ وَحِفْظَهَا لِتَشَاغُلِ النَّاسِ بِنُسُكِهِمْ عَنْهَا ، وَلَا يُمْكِنْهُمُ الْجَمْعُ بَيْنَ رَعْيِهَا وَبَيْنَ الرَّمْيِ وَالْمَبِيتِ بِمِنًى فَيَجُوزُ لَهُمْ تَرْكُهُ لِأَجْلِ الْعُذْرِ .
وَأَمَّا أَهْلُ السِّقَايَةِ فَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ لَهُمْ رِوَايَةُ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ لِلْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ ؛ وَلِأَنَّ أَهْلَ السِّقَايَةِ مُتَشَاغِلُونَ بِإِصْلَاحِ الشَّرَابِ وَإِسْقَاءِ الْمَاءِ لِيَرْتَوِيَ النَّاسُ مِنْهُ ، وَيَرْتَقِفُوا بِهِ ، فَكَانَتِ الْحَاجَةُ دَاعِيَةً إِلَى تَأْخِيرِهِمْ فَرَخَّصَ ذَلِكَ لَهُمْ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا غَيْرُ الرُّعَاةِ وَأَهْلُ السِّقَايَةِ مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ كَالْمَرِيضِ الَّذِي تَلْحَقُهُ الْمَشَقَّةُ الْغَالِبَةُ فِي الْمَبِيتِ بِمِنًى ، وَالْمُقِيمُ بِمَكَّةَ عَلَى حِفْظِ مَالِهِ خَوْفًا عَلَيْهِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْذَارِ فَفِيهِمْ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ مَنْصُوصٌ لِلشَّافِعِيِّ فِي مُخْتَصَرِ الْحَجِّ أَنَّهُمْ كَالرُّعَاةِ ، وَأَهْلُ السِّقَايَةِ يَجُوزُ لَهُمْ تَرْكُ الْمَبِيتِ بِمِنًى ، وَتَأْخِيرُ الرَّمْيِ ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِمْ لِاسْتِوَائِهِمْ وَأَهْلِ السِّقَايَةِ فِي التَّأْخِيرِ بِالْعُذْرِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا : إِنَّ الرُّعَاةَ وَأَهْلَ السِّقَايَةِ مَخْصُوصُونَ بِذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ لِتَخْصِيصِهِمْ بِالرُّخْصَةِ وَمَا يَعُودُ بِتَأْخِيرِهِمْ مِنَ الرِّفْقِ وَالْمَعُونَةِ فَبَايَنُوا غَيْرَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لِلرُّعَاةِ وَأَهِلِ السِّقَايَةِ أَنْ يَصْدُرُوا يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ الرَّمْيِ وَيَدَعُوا الْمَبِيتَ بِمِنًى ، فَإِنْ لَمْ يَصْدُرُوا مِنْهَا نَهَارًا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَجَبَ عَلَى الرُّعَاةِ الْمَبِيتُ بِهَا ، وَكَانَ لِأَهْلِ السِّقَايَةِ أَنْ يَصْدُرُوا وَيَدَعُوا الْمَبِيتَ بِهَا : لِأَنَّ عُذْرَ الرُّعَاةِ رَعْيُ الْإِبِلِ ، وَالرَّعْيُ يَكُونُ نَهَارًا وَلَا يَكُونُ لَيْلًا ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُمْ تَرْكُ الْمَبِيتِ بِهَا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ لِزَوَالِ عُذْرِهِمْ ، وَأَهْلُ السِّقَايَةِ عُذْرُهُمْ إِصْلَاحُ الشَّرَابِ وَاسْتِقَاءُ الْمَاءِ وَذَلِكَ يَكُونُ لَيْلًا وَنَهَارًا ، فَجَازَ لَهُمْ تَرْكُ الْمَبِيتِ بِهَا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ لِوُجُودِ عُذْرِهِمْ .
مَسْأَلَةٌ يَخْطُبُ الْإِمَامُ بَعْدَ الظُّهْرِ يَوْمَ الثَّالِثِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ وَهُوَ النَّفْرُ الْأَوَّلُ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيَخْطُبُ الْإِمَامُ بَعْدَ الظُّهْرِ يَوْمَ الثَّالِثِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ ، وَهُوَ النَّفْرُ الْأَوَّلُ فَيُوَدِّعُ الْحَاجَّ وَيُعْلِمُهُمْ أَنَّ مَنْ أَرَادَ التَّعْجِيلَ فَذَلِكَ لَهُ ، وَيَأْمُرُهُمْ أَنْ يَخْتِمُوا حَجَّهُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَطَاعَتِهِ وَاتِّبَاعِ أَمْرِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ خُطَبَ الْحَجِّ أَرْبَعٌ ، فَالْخُطْبَةُ الْأُولَى فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ بِمَكَّةَ ، وَالْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ فِي الْيَوْمِ التَّاسِعِ بَعْدَ الزَّوَالِ وَقَبْلَ صَلَاةِ الظُّهْرِ بِعَرَفَةَ ، وَالْخُطْبَةُ الثَّالِثَةُ فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ بِمِنًى ، وَالْخُطْبَةُ الرَّابِعَةُ وَهِيَ هَذِهِ الْخُطْبَةُ يَخْطُبُهَا فِي الْيَوْمِ الثَّانِيَ عَشَرَ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ بِمِنًى ، وَهُوَ يَوْمُ النَّفْرِ الْأَوَّلِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَيْسَتْ هَذِهِ الْخُطْبَةُ سُّنَّةً وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ خَطَبَ يَوْمَ النَّفْرِ الْأَوَّلِ بَعْدَ الظُّهْرِ بِمِنًى فَإِذَا خَطَبَ عَلَيْهِمْ أَعْلَمَهُمْ أَنَّ يَوْمَهُمْ هَذَا يَوْمُ النَّفْرِ الْأَوَّلِ فَمَنْ نَفَرَ مِنْهُ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ سَقَطَ عَنْهُ رَمْيُ الْغَدِ وَمَنْ أَقَامَ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ لَزِمَهُ رَمْيُ الْغَدِ وَالْمَبِيتُ بِمِنًى
وَيَأْمُرُهُمْ أَنْ يَخْتِمُوا حَجَّتَهُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَطَاعَتِهِ ، وَأَنْ يَكُونُوا بَعْدَ الْحَجِّ خَيْرًا مِنْهُ قَبْلَهُ ، فَقَدْ رَوَى أَبُو حَاتِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ فَرَجَعَ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ " . وَرَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةَ ، قَالَ : قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا بِرُّ الْحَجِّ قَالَ : طِيبُ الْكَلَامِ وَإِطْعَامُ الطَّعَامِ " . وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " مِنْ عَلَامَةِ الْحَجِّ الْمَبْرُورِ أَنْ يَكُونَ الْمَرْءُ بَعْدَ حَجِّهِ خَيْرًا مِنْهُ قَبْلَهُ " ، فَإِنْ أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يَنْفِرَ فِي النَّفْرِ الْأَوَّلِ وَعَجَّلَ الْخُطْبَةَ قَبْلَ الزَّوَالِ لِيَتَعَجَّلَ النَّفْرَ جَازَ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَنْفِرَ فِي النَّفْرِ الثَّانِي خَطَبَ وَأَقَامَ ، وَقَدْ تُسَمَّى هَذِهِ الْخُطْبَةُ خُطْبَةَ الْوَدَاعِ ؛ لِأَنَّهَا آخِرُ الْخُطَبِ ، وَأَنَّهُ رُبَّمَا نَفَرَ بَعْدَهَا فِي النَّفْرِ الْأَوَّلِ فَكَانَ مُوَدِّعًا بِهَا وَلَوْ تَرَكَهَا فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ .
مَسْأَلَةٌ مَنْ لَمْ يَتَعَجَّلْ حَتَّى يُمْسِيَ رَمَى مَنِ الْغَدِ فَإِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ انْقَضَتْ أَيَّامُ مِنًى
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : فَمَنْ لَمْ يَتَعَجَّلْ حَتَّى يُمْسِيَ رَمَى مَنِ الْغَدِ فَإِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ انْقَضَتْ أَيَّامُ مِنًى " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَبِيتَ بِمِنًى فِي لَيَالِي التَّشْرِيقِ سُنَّةٌ ، وَالرَّمْيُ فِي الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ نُسُكٌ ، وَالنَّفْرُ مِنْ مِنًى نَفْرَانِ ، فَالنَّفْرُ الْأَوَّلُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِيَ عَشَرَ ، وَالنَّفْرُ الثَّانِي فِي الْيَوْمِ الثَّالِثَ عَشَرَ ، فَإِنْ نَفَرَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ كَانَ جَائِزًا وَسَقَطَ عَنْهُ الْمَبِيتُ بِمِنًى فِي لَيْلَتِهِ ، وَسَقَطَ عَنْهُ رَمْيُ الْجِمَارِ مِنْ غَدِهِ . وَأَصْلُ ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ ، وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ [ الْبَقَرَةِ : ] ، يَعْنِي : أَيَّامَ مِنًى فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ [ الْبَقَرَةِ : ] . وَرَوَى بُكَيْرُ بْنُ عَطَاءٍ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمَرَ الدِّيلِيِّ قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : الْحَجُّ عَرَفَاتٌ ، فَمَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ ، أَيَّامُ مِنًى ثَلَاثَةٌ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ، وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ . . فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ التَّعْجِيلِ فِي النَّفْرِ الْأَوَّلِ فَالْمُقَامُ إِلَى النَّفْرِ الثَّانِي أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتَعَجَّلْ وَأَقَامَ إِلَى النَّفْرِ الثَّانِي فَكَانَ الِاقْتِدَاءُ بِفِعْلِهِ أَوْلَى ؛ وَلِأَنَّ التَّعْجِيلَ رُخْصَةٌ ، وَالْمُقَامَ كَمَالٌ ؛ وَلِأَنَّ التَّعْجِيلَ قَدْ تَرَفَّهَ بِتَرْكِ بَعْضِ الْأَعْمَالِ وَالْمُقِيمُ لَمْ يَتْرُكْهُ . فَأَمَّا الْإِمَامُ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَعَجَّلَ بَلْ يُقِيمُ إِلَى النَّفْرِ الْأَخِيرِ لِيُقِيمَ النَّاسُ مَعَهُ وَيَقْتَدُوا بِهِ ، فَإِنْ تَعَجَّلَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ : لِأَنَّهَا فِي الْإِبَاحَةِ كَغَيْرِهِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا وَقْتُ النَّفْرِ الْأَوَّلِ في الحج فَمِنْ بَعْدِ رَمْيِهِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي إِلَى قَبْلِ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْهُ ، وَالْأَوْلَى إِذَا رَمَى بَعْدَ الزَّوَالِ أَنْ يَنْفِرَ قَبْلَ صَلَاةِ الظُّهْرِ فَهِيَ السُّنَّةُ ، وَيَرْمِي رَاكِبًا لِأَنَّهُ يَصِلُ رَمْيَهُ
بِالنَّفْرِ كَمَا يَرْمِي رَاكِبًا يَوْمَ النَّحْرِ ؛ لِأَنَّهُ يَصِلُ رَمْيَهُ بِالْإِفَاضَةِ بِالطَّوَافِ وَيَرْمِي فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ نَازِلًا ؛ لِأَنَّهُ مُقِيمٌ بِمِنًى وَكَيْفَ رَمَى أَجْزَأَهُ ، وَأَيُّ وَقْتٍ نَفَرَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ أَجْزَأَهُ ، وَسَقَطَ عَنْهُ رَمْيُ الْغَدِ ، وَيَكُونُ قَدْ رَمَى تِسْعَةً وَأَرْبَعِينَ حَصَاةً ، سَبْعَةً فِي جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ فِي الْجَمَرَاتِ الثَّلَاثِ يَوْمَ الْحَادِيَ عَشَرَ ، وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ فِي الْجَمَرَاتِ الثَّلَاثِ يَوْمَ الثَّانِيَ عَشَرَ ، وَذَلِكَ أَقَلُّ مَا يَرْمِيهِ الْحَاجُّ فَإِنْ كَانَ مَعَهُ حَصَى الْجِمَارِ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ ، فَإِنْ شَاءَ أَلْقَاهُ ، وَإِنْ شَاءَ دَفَنَهُ ، فَلَيْسَ فِي دَفْنِهِ نُسُكٌ وَلَا فِي إِلْقَائِهِ كَرَاهَةٌ ، فَإِنْ لَمْ يَتَعَجَّلِ النَّفْرَ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ لَزِمَهُ الْمَبِيتُ بِمِنًى ، وَالرَّمْيُ مِنَ الْغَدِ فِي الْجَمَرَاتِ الثَّلَاثِ بِإِحْدَى وَعِشْرِينَ - حَصَاةً لِيُكْمِلَ رَمْيَهُ سَبْعِينَ حَصَاةً ، وَذَلِكَ أَكْثَرُ مَا يَرْمِيهِ الْحَاجُّ ، وَحُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ : أَنَّ لَهُ أَنْ يَتَعَجَّلَ النَّفْرَ مَا لَمْ يَطْلُعِ الْفَجْرُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لِأَنَّ اللَّيْلَ يَتْبَعُ مَا قَبْلَهُ فِي الْحَجِّ كَلَيْلَةِ عَرَفَةَ ، وَلَا يَتْبَعُ مَا بَعْدَهَا مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ التَّعْجِيلَ يَتَعَلَّقُ بِالْيَوْمِ ، وَخُرُوجُ الْيَوْمِ مُعْتَبَرٌ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ مُعْتَبَرًا بِغُرُوبِ الشَّمْسِ . وَالثَّانِي : أَنَّ النَّفْرَ نَفْرَانِ ، فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ مَا بَعْدَ النَّفْرِ الثَّانِي مِنَ اللَّيْلِ لَيْسَ بِتَابِعٍ لَهُ ثَبَتَ أَنَّ مَا بَعْدَ النَّفْرِ الْأَوَّلِ مِنَ اللَّيْلِ لَيْسَ يُتَابِعُ لَهُ ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ لَيْلَةِ عَرَفَةَ فَلَيْسَتْ تَبَعًا وَإِنَّمَا هِيَ وَيَوْمُ عَرَفَةَ فِيهِ سَوَاءٌ فِي الْحُكْمِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ وَقْتَ التَّعْجِيلِ مَا لَمْ تَغْرُبِ الشَّمْسُ فَلَوْ رَكِبَ بِمِنًى ، وَسَارَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ ، فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ حُدُودِ مِنًى حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ لَزِمَهُ الْمَبِيتُ بِهَا وَالرَّمْيُ فِي الْغَدِ ؛ لِأَنَّ النَّفْرَ مِنْهَا لَا يَسْتَقِرُّ إِلَّا بِمُفَارَقَتِهَا ، فَلَوْ فَارَقَهَا قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ ، ثُمَّ عَادَ إِلَيْهَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَقَدِ اسْتَقَرَّ حُكْمُ النَّفْرِ وَسَقَطَ عَنْهُ رَمْيُ الْغَدِ سَوَاءٌ عَادَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا لِحَاجَةٍ أَوْ لِغَيْرِ حَاجَةٍ ، فَلَوْ فَارَقَهَا مُتَعَجِّلًا لِلنَّفْرِ مِنْهَا ثُمَّ تَيَقَّنَ أَنَّهُ تَرَكَ رَمْيَ يَوْمِهِ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ فَلَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَذْكُرَ ذَلِكَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ ، وَيُدْرِكَ رَمْيَ الْجِمَارِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَيَلْزَمُهُ الْعَوْدُ إِلَى مِنًى وَرَمْيُ مَا تَرَكَ مِنَ الْحَصَى ؛ لِوُجُوبِ الرَّمْيِ وَبَقَاءِ الْوَقْتِ ، ثُمَّ يَنْفِرُ مِنْهَا إِنْ لَمْ تَغْرُبِ الشَّمْسُ وَهُوَ بِهَا فَإِنْ غَرَبَتْ وَهُوَ بِهَا لَزِمَهُ الْمَبِيتُ بِهَا وَالرَّمْيُ مِنَ الْغَدِ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَذْكُرَهُ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنَ الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْعَوْدُ إِلَى مِنًى لِفَوَاتِ وَقْتِهِ وَقَدِ اسْتَقَرَّتِ الْفِدْيَةُ فِي ذِمَّتِهِ . وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَذْكُرَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْهُ فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ لِكُلِّ يَوْمٍ حُكْمَ نَفْسِهِ لَزِمَهُ الْفِدْيَةُ وَلَمْ يُعِدِ الرَّمْيَ لِخُرُوجِ وَقْتِهِ ، وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ أَيَّامَ مِنًى كُلَّهَا زَمَانٌ لِلرَّمْيِ ، وَأَنَّ حُكْمَ الْجَمِيعِ وَاحِدٌ لَزِمَهُ الْعَوْدُ إِلَى مِنًى لِرَمْيِ مَا تَرَكَ لِبَقَاءِ وَقْتِهِ فَإِنْ لَمْ يَعُدْ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا نُزُولُ الْمُحَصَّبِ بَعْدَ النَّفْرِ مِنْ مِنًى فَلَيْسَ بِنُسُكٍ وَلَا سُنَّةٍ وَإِنَّمَا هُوَ مَنْزِلُ
اسْتِرَاحَةٍ . وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَحْصِبُونَ وَيَقُولُونَ : إِنَّ التَّحَصُّبَ سُنَّةٌ ، وَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ الْمُحَصَّبَ بَعْدَ الزَّوَالِ ، إِذَا فَرَغَ مِنْ رَمْيِ الْجِمَارِ فَيُقِيمُ هُنَاكَ حَتَّى يُصَلِّيَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَعِشَاءَ الْآخِرِ ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ مِنَ الْمُحَصَّبِ إِلَى مَكَّةَ أَوْ حَيْثُ شَاءَ ، اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ قَتَادَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ ، وَرَقَدَ رَقْدَةً بِالْمُحَصَّبِ ، ثُمَّ رَكِبَ إِلَى الْبَيْتِ فَطَافَ بِهِ سَبْعًا ، وَبِرِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ ، عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : التَّحْصِيبُ سُنَّةٌ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِسُنَّةٍ لِرِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : مَا الْإِنَاخَةُ بِالْمُحَصَّبِ سُنَّةً ، إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَظَرَ عَائِشَةَ حَتَّى تَأْتِيَ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ اخْتِصَاصُهُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَجُّهُ مَعَهُ أَعْرَفُ بِبَاطِنِ حَالِهِ مِنْ غَيْرِهِ ، وَرَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَنَا ضَرَبْتُ قُبَّةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَأْمُرْنِي بِالْمُحَصَّبِ ، فَجَاءَ فَنَزَلَ وَكَانَ أَبُو رَافِعٍ عَلَى ثِقْلِهِ ، فَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَلَيْسَ بِثَابِتٍ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَيْسَ فِيهِ سُنَّةٌ ثَابِتَةٌ فَيَحُضُّ عَلَيْهِ وَيَأْمُرُ بِهِ ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْهُ لِمَا حَكَيْنَا عَنِ السَّلَفِ وَالْمُحَصَّبُ وَهُوَ خَيْفُ بَنِي كِنَانَةَ وَحْدَهُ مِنَ الْحَجُونِ ذَهَابًا ، وَهُوَ مَا بَيْنَ الْجَبَلِ الَّذِي عِنْدَ الْمَقْبَرَةِ إِلَى الْجَبَلِ الَّذِي يُقَابِلُهُ مُصْعِدًا فِي الشِّقِّ الْأَيْسَرِ ، وَلَيْسَتِ الْمَقْبَرَةُ مِنَ الْمُحَصَّبِ إِلَى حَائِطٍ حَرَمًا إِلَى الْجَبَلِ الَّذِي يَلْتَوِي عَلَى شِعْبِ الْجُودِ ، وَسُمِّيَ الْمُحَصَّبَ ؛ لِأَنَّ حَصَى جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ تَسِيلُ إِلَيْهِ ، وَقِيلَ : سُمِّيَ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ كُثْرِ الْحَصَاءِ وَالْحَصْبَاءِ .
فَصْلٌ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ فِي الْحَجِّ بِعَرَفَةَ وَمِنًى جَائِزٌ
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ فِي الْحَجِّ بِعَرَفَةَ وَمِنًى فَجَائِزٌ مُبَاحٌ وَرُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانَتْ عُكَاظُ وَمِجَنَّةُ وَذُو الْمَجَازِ أَسْوَاقَنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ كَأَنَّهُمْ كَرِهُوا أَنْ يَتَّجِرُوا فِي الْحَجِّ فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [ الْبَقَرَةِ : ] ، فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ . وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ ، وَابْنَ الزُّبَيْرِ كَانَا يَقْرَآنِ كَذَلِكَ ، فَأَمَّا الْخُرُوجُ إِلَى الْحَجِّ بِلَا زَادٍ وَإِظْهَارُ التَّوَكُّلِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَى مَسْأَلَةِ النَّاسِ فَمَكْرُوهٌ فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : كَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ يَحُجُّونَ وَلَا يَتَزَوَّدُونَ ، وَيَقُولُونَ نَحْنُ الْمُتَوَكِّلُونَ إِلَى مَكَّةَ فَيَسْأَلُونَ النَاسَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [ الْبَقَرَةِ : ] .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ تَدَارَكَ عَلَيْهِ رَمْيَانِ فِي أَيَّامِ مِنًى ابْتَدَأَ الْأَوَّلَ حَتَى يُكْمِلَ ، ثُمَّ عَادَ فَابْتَدَأَ الْآخَرَ ، وَلَمْ يُجْزِهِ أَنْ يَرْمِيَ بِأَرْبَعَ عَشَرَةَ حَصَاةً فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ " .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا تَدَارَكَ عَلَيْهِ رَمْيُ يَوْمَيْنِ كَالرُّعَاةِ وَأَهْلِ السِّقَايَةِ إِذَا تَرَكُوا رَمْيَ الْحَادِيَ عَشَرَ وَأَرَادُوا الرَّمْيَ فِي الثَّانِيَ عَشَرَ ، وَكَمَنَ تَرَكَ الرَّمْيَ عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا فِي الْحَادِيَ عَشَرَ وَجَوَّزْنَا لَهُ الْقَضَاءَ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي الثَّانِيَ عَشَرَ أَوْ تَدَارَكَ عَلَيْهِ رَمْيُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، وَذَلِكَ أَنْ يَتْرُكَ رَمْيَ الْحَادِيَ عَشَرَ وَالثَّانِيَ عَشَرَ وَيُرِيدُ الْقَضَاءَ فِي الثَّالِثَ عَشَرَ ، فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُرَتِّبَ فَيَبْدَأَ بِرَمْيِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ ثُمَّ يَرْمِي الْيَوْمَ الثَّانِيَ ، ثُمَّ يَرْمِي الْيَوْمَ الثَّالِثَ ؛ لِيَكُونَ مُرَتَّبًا كَرَمْيِهِ فِي أَيَّامِهِ وَفِي هَذَا التَّرْتِيبِ بين أيام الرمي لمن عليه قضاء قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ وَالْأُمِّ : إِنَّهُ وَاجِبٌ . وَالثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْإِمْلَاءِ : إِنَّهُ مُسْتَحَبٌّ ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ : وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ إِذَا رَمَى عَنِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي هَلْ يَكُونُ أَدَاءً أَوْ قَضَاءً فَأَحَدُ قَوْلَيْهِ يَكُونُ أَدَاءً ، فَعَلَى هَذَا التَّرْتِيبُ وَاجِبٌ كَصَلَاتَيِ الْجَمْعِ ؛ لَمَّا كَانَتَا إِذَا وَجَبَ التَّرْتِيبُ ، وَالثَّانِي : فِيهِمَا يَكُونُ قَضَاءً فَعَلَى هَذَا التَّرْتِيبُ مُسْتَحَبٌّ وَغَيْرُ وَاجِبٍ كَالصَّلَوَاتِ الْفَوَائِتِ لَمَّا كَانَتْ قَضَاءً لَمْ يَجِبِ التَّرْتِيبُ فِيهَا ، فَإِذَا قُلْنَا : إِنَّ التَّرْتِيبَ غَيْرُ وَاجِبٍ وَهُوَ أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي ؛ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ إِنَّمَا يَجِبُ فِي أَحَدِ مَوْضِعَيْنِ إِمَّا بَيْنَ أَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةٍ كَالْجِمَارِ الثَّلَاثِ وَكَالْأَعْضَاءِ فِي الطَّهَارَةِ وَرَمْيُ الْيَوْمَيْنِ غَيْرُ مُخْتَلِفٍ : لِأَنَّ رَمْيَ الْأَوَّلِ كَرَمْيِ الْيَوْمِ الثَّانِي ، وَيَكُونُ وَاجِبًا فِيمَا يَجِبُ تَعْيِينُ النِّيَّةِ فِيهِ فَيَصِيرُ كَالْمُخْتَلِفِ بِاخْتِلَافِ النِّيَّةِ فِيهِ وَتَعْيِينُ النِّيَّةِ فِي رَمْيِ الْجِمَارِ غَيْرُ وَاجِبٍ ، لِأَنَّ أَفْعَالَ الْحَجِّ لَا يَفْتَقِرُ كُلُّ فِعْلٍ مِنْهَا إِلَى نِيَّةٍ ، بَلْ إِذَا وَجَبَ الْفِعْلُ عَلَى الصِّفَةِ الْوَاجِبَةِ أَجْزَأَهُ عَنِ الْفَرْضِ فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِذَا ابْتَدَأَهُ فَرَمَى عَنِ الْيَوْمِ الثَّانِي ثُمَّ عَنِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ أَجْزَأَهُ عَنْهُمَا جَمِيعًا ، وَإِذَا قُلْنَا : إِنَّ التَّرْتِيبَ وَاجِبٌ فَخَالَفَ فَرَمَى عَنِ الْيَوْمِ الثَّانِي ، ثُمَّ عَنِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ لَمْ يُجْزِهِ الرَّمْيُ عَنِ الْيَوْمِ الثَّانِي لِمُخَالَفَةِ التَّرْتِيبِ ، وَهَلْ يُجْزِئُهُ عَنِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ لَا يُجْزِئُهُ ؛ لِأَنَّهُ وَضَعَ قَصْدَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ رَمْيَ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ يُجْزِئُهُ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ وَلَا أَعْرِفُ لِلْأَوَّلِ وَجْهًا ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ فِيهِ صَحِيحٌ وَلَيْسَ وُجُودُ مَا قَبْلَهُ مِنَ الرَّمْيِ الَّذِي لَا يُعْتَدُّ بِهِ قَادِحًا فِي صِحَّتِهِ ، كَمَا لَوْ رَمَى عَابِثًا ؛ وَلِأَنَّ تَرْتِيبَ الْأَيَّامِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَاجِبٌ كَمَا أَنَّ تَرْتِيبَ الْجَمَرَاتِ وَاجِبٌ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ نَكَسَ رَمْيَ الْجِمَارِ اعْتَدَّ لَهُ بِالْجَمْرَةِ الْأُولَى ، وَكَذَلِكَ إِذَا نَكَسَ رَمْيَ الْأَيَّامِ وَجَبَ أَنْ يُعْتَدَّ لَهُ بِالْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا رَمَى فِي الْجَمْرَةِ الْأُولَى بِأَرْبَعَ عَشْرَةَ حَصَاةً فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَرْمِيَ بِهَا عَنْ يَوْمٍ وَاحِدٍ لِجَمْرَتَيْنِ كَأَنَّهُ رَمَى فِيهَا بِسَبْعٍ ، ثُمَّ رَمَى فِيهَا بِسَبْعٍ عَنِ الْجَمْرَةِ الْوُسْطَى مِنْ رَمْيِ يَوْمِهِ ، فَهَذَا يُجْزِئُهُ فِي ذَلِكَ السَّبْعُ عَنِ الْجَمْرَةِ الْأُولَى ، وَلَا يُجْزِئُهُ السَّبْعُ عَنِ الْجَمْرَةِ الْوُسْطَى لِرَمْيِهَا فِي غَيْرِ مَحَلِّهَا .
وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَرْمِيَ بِهِ لِجَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ عَنْ يَوْمَيْنِ كَأَنَّهُ رَمَى فِيهَا بِسَبْعٍ عَنْ أَمْسِهِ ، ثُمَّ بِسَبْعٍ عَنْ يَوْمِهِ فَهَذَا يُجْزِئُهُ السَّبْعُ الَّتِي رَمَاهَا عَنْ أَمْسِهِ ، وَهَلْ يُجْزِئُهُ السَّبْعُ الَّتِي رَمَاهَا عَنْ يَوْمِهِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي وُجُوبِ التَّرْتِيبِ ؟ وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ تَرْتِيبَ رَمْيِ الْيَوْمَيْنِ وَاجِبٌ لَمْ يُجْزِهِ عَنِ الْيَوْمِ الثَّانِي ، وَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ أَجْزَأَهُ عَنِ الْيَوْمِ الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَجْزَأَهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَقْدِيمُ هَذِهِ الْجَمْرَةِ عَلَى جِمَارِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ كُلِّهَا كَانَ تَقْدِيمُهَا عَلَى بَعْضِ جِمَارِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ أَوْلَى .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " إِنْ أَخَّرَ ذَلِكَ حَتَى تَنْقَضِيَ أَيَّامُ الرَّمْيِ وَتَرَكَ حَصَاةً ، فَعَلَيْهِ مُدُّ طَعَامٍ بِمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمِسْكِينَيْنِ ، فَإِنْ كَانَتْ حَصَاتَانِ فَمُدَّانِ لِمِسْكِينَيْنِ ، وَإِنْ كَانَتْ ثَلَاثَ حَصَيَاتٍ فَدَمٌ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا مَا تَرَكَهُ مِنْ رَمْيِ الْجِمَارِ حَتَّى خَرَجَتْ أَيَّامُ مِنًى ، وَخُرُوجُهَا بِغُرُوبِ الشَّمْسِ مِنَ الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَإِنَّهُ لَا يَقْضِيهِ لَا يَخْتَلِفُ ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَيْهِ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي تَرَكَهُ حَصَاةً وَاحِدَةً ، وَهُوَ أَنْ يَتْرُكَ ذَلِكَ مِنَ الْجَمْرَةِ الْأَخِيرَةِ فِي الْيَوْمِ الْأَخِيرِ فَفِيمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْفِدْيَةِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ كَالشَّعْرَةِ الْوَاحِدَةِ إِذَا حَلَقَهَا الْمُحْرِمُ : أَحَدُهَا : وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَيْهِ مُدٌّ وَاحِدٌ . وَالثَّانِي : عَلَيْهِ دِرْهَمٌ . وَالثَّالِثُ : وَحَكَاهُ الْحُمَيْدِيُّ عَلَيْهِ ثُلْثُ شَاةٍ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَوْجِيهَ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ فِي حَلْقِ الشَّعْرَةِ الْوَاحِدَةِ ، فَإِنْ تَرَكَ حَصَاتَيْنِ فَأَحَدُ الْأَقَاوِيلِ عَلَيْهِ مُدَّانِ . وَالثَّانِي عَلَيْهِ دِرْهَمَانِ . وَالثَّالِثُ عَلَيْهِ ثُلُثُ شَاةٍ ، وَإِنْ تَرَكَ ثَلَاثَ حَصَيَاتٍ فَأَكْثَرَ فَعَلَيْهِ دَمٌ ، كَمَا لَوْ حَلَقَ ثَلَاثَ شَعْرَاتٍ فَصَاعِدًا ، وَكَذَا لَوْ تَرَكَ رَمْيَ الْيَوْمِ كُلِّهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ ، كَمَا لَوْ حَلَقَ شَعْرَ رَأْسِهِ كُلَّهُ ، فَأَمَّا إِذَا تَرَكَ رَمْيَ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ عَلَيْهِ دَمًا وَاحِدًا ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ الَّذِي يَقُولُ : إِنَّ أَيَّامَ مِنًى كَالْيَوْمِ الْوَاحِدِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : إِنَّ عَلَيْهِ ثَلَاثَ دِمَاءٍ وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَقُولُ : إِنَّ لِكُلِّ يَوْمٍ حُكْمَ نَفْسِهِ ، فَلَوْ تَرَكَ رَمْيَ يَوْمِ النَّحْرِ ، وَأَيَّامِ مِنًى الثَّلَاثَةِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : أَنَّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ دِمَاءٍ إِذَا قِيلَ إِنَّ لِكُلِّ يَوْمٍ حُكْمَ نَفْسِهِ . وَالثَّانِي : عَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ إِذَا قِيلَ : إِنَّ يَوْمَ النَّحْرِ وَأَيَّامَ مِنًى كَالْيَوْمِ الْوَاحِدِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ عَلَيْهِ دَمَيْنِ إِذَا قِيلَ : إِنَّ يَوْمَ النَّحْرِ لَهُ حُكْمُ نَفْسِهِ ، وَأَيَّامُ مِنًى كَالْيَوْمِ الْوَاحِدِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمَرِيضُ الْعَاجِزُ عَنِ الرَّمْيِ في الحج فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ : وَاجِبٌ لِمَنْ لَمْ
يُمْكِنْهُ الرَّمْيُ بِنَفْسِهِ لِمُرْضٍ بِهِ أَنْ يُنَاوِلَ الْحَصَى لِمَنْ يَرْمِي عَنْهُ ؛ لِيَكُونَ لَهُ فِعْلُ الرَّمْيِ ، فَإِنْ لَمْ يُنَاوِلْهُ حَتَّى رَمَى عَنْهُ أَجْزَأَهُ ، وَإِنَّمَا أَجْزَأَهُ أَنْ يَرْمِيَ عَنْهُ غَيْرُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَتِ النِّيَابَةُ عَنْهُ فِي أَصْلِ الْحَجِّ فَجَوَازُهَا فِي أَبْعَاضِهِ أَوْلَى ، فَإِنْ رَمَى عَنْهُ ثُمَّ صَحَّ مِنْ مَرَضِهِ بَعْدَ أَيَّامِ مِنًى أَجْزَأَهُ الرَّمْيُ ، وَإِنْ صَحَّ فِي أَيَّامِ مِنًى وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَرْمِيَ مَا بَقِيَ مِنَ الرَّمْيِ وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُعِيدَ مَا رُمِيَ عَنْهُ ؛ لِيَكُونَ مُبَاشِرًا لَهُ فِي وَقْتِهِ وَلَا يَجِبَ عَلَيْهِ لِسُقُوطِ الرَّمْيِ عَنْهُ بِفِعْلِ غَيْرِهِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُغْمَى عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ فِي الرَّمْيِ عَنْهُ قَبْلَ إِغْمَائِهِ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُرْمَى عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ حَيٌّ ، وَالنِّيَابَةُ فِي أَفْعَالِ الْحَجِّ عَنِ الْحَيِّ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِإِذْنِهِ ، فَإِنْ أَذِنَ فِي إِغْمَائِهِ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ أَذِنَ قَبْلَ إِغْمَائِهِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ حِينَ أَذِنَ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُطِيقًا لِلرَّمْيِ أَوْ عَاجِزًا عَنْهُ ، فَإِنْ كَانَ حِينَئِذٍ مُطِيقًا لِلرَّمْيِ لَمْ يُجْزِ الرَّمْيُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الْمُطِيقَ لَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ عَنْهُ فَلَمْ يَصِحَّ الْإِذْنُ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ حِينَئِذٍ عَاجِزًا عَنِ الرَّمْيِ بِهُجُومِ الْمَرَضِ قَبْلَ تَمَكُّنِ الْإِغْمَاءِ أَجْزَأَ الرَّمْيُ عَنْهُ لِفِعْلِهِ عَنْ إِذْنِ مَنْ يَصِحُّ الْإِذْنُ مِنْهُ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمَحْبُوسُ بِحَقٍّ أَوْ غَيْرِ حَقٍّ ، إِذَا أَذِنَ فِي الرَّمْيِ عَنْهُ في الحج أَجْزَأَهُ ، إِذَا رُمِيَ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنِ الرَّمْيِ كَالْمَرِيضِ ، فَإِنْ قِيلَ : هَلَّا مَنَعْتُمْ مِنَ الرَّمْيِ عَنِ الْمَحْبُوسِ كَمَا مَنَعْتُمْ مِنَ الْحَجِّ عَنِ الْمَرِيضِ الْمَرْجُوِّ [ بُرْؤُهُ ] ؟ ، قِيلَ لِأَنَّ لِلرَّمْيِ وَقْتًا يَفُوتُ بِتَأْخِيرِهِ ، وَلَيْسَ لِلْحَجِّ وَقْتٌ يَفُوتُ بِتَأْخِيرِهِ .
فَصْلٌ : وَيُخْتَارُ أَنْ يَرْمِيَ عَنِ الْمَرِيضِ وَالْعَاجِزِ مَنْ قَدْ رَمَى عَنْ نَفْسِهِ في الحج كَمَا يَحُجُّ عَنِ الْعَاجِزِينَ مَنْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ ، فَإِنْ رَمَى عَنْهُ مَنْ لَمْ يَرْمِ عَنْ نَفْسِهِ ، فَإِنْ رَمَى عَنِ الْمَرِيضِ أَوَّلًا ثُمَّ عَنْ نَفْسِهِ أَجْزَأَهُ رَمْيُهُ عَنْ نَفْسِهِ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي أَيِّ الرَّمْيَيْنِ أَجْزَأَهُ عَنْ نَفْسِهِ هَلْ هُوَ الرَّمْيُ الْأَوَّلُ الَّذِي رَمَاهُ عَنِ الْمَرِيضِ ، أَوْ هُوَ الرَّمْيُ الثَّانِي الَّذِي رَمَاهُ عَنْ نَفْسِهِ ، فَأَحَدُ مَذْهَبَيْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ الرَّمْيُ الثَّانِي لِوُجُودِ الْقَصْدِ فِيهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ الرَّمْيُ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ عَلَيْهِ نُسُكٌ فَفَعَلَهُ عَنْ غَيْرِهِ وَقَعَ عَنْ نَفْسِهِ كَالطَّوَافِ ، فَأَمَّا رَمْيُهُ عَنِ الْمَرِيضِ فَهَلْ يُجْزِئُ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُجْزِي عَنِ الْمَرِيضِ ؛ لِأَنَّنَا إِنْ جَعَلْنَا الرَّمْيَ الْأَوَّلَ عَنِ النَّائِبِ ، فَالثَّانِي لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الْمَرِيضَ ، وَإِنْ جَعَلْنَا الثَّانِيَ عَنِ النَّائِبِ فَقَدْ وُجِدَ الْأَوَّلُ قَبْلَ رَمْيِهِ عَنْ نَفْسِهِ ، فَلَمْ يُجْزِهِ عَنِ الْمَرِيضِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ رَمْيَهُ عَنِ الْمَرِيضِ يُجْزِئُ ؛ وَلِأَنَّ حُكْمَ الرَّمْيِ أَخَفُّ مِنْ سَائِرِ أَرْكَانِ الْحَجِّ فَجَازَ أَنْ يَفْعَلَهُ عَنِ الْمَرِيضِ قَبْلَ فِعْلِهِ عَنْ نَفْسِهِ .
مَسْأَلَةٌ الْمَبِيتُ بِمِنًى فِي لَيَالِي مِنًى سُنَّةٌ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَإِنْ تَرَكَ الْمَبِيتَ لَيْلَةً مِنْ لَيَالِي مِنًى فَعَلَيْهِ مُدٌّ ، وَإِنْ تَرَكَ لَيْلَتَيْنِ فَعَلَيْهِ مُدَّانِ ، وَإِنْ تَرَكَ ثَلَاثَ لَيَالٍ فَدَمٌ ، وَالَدَمُ شَاةٌ يَذْبَحُهَا لِمَسَاكِينِ الْحَرَمِ وَلَا
رُخْصَةَ فِي تَرْكِ الْمَبِيتِ بِمِنًى إِلَّا لِرَعَاءِ الِإِبِلِ وَأَهْلِ سِقَايَةِ الْعَبَّاسِ دُونَ غَيْرِهِمْ ، وَلَا رُخْصَةَ فِيهَا إِلَّا لِمَنْ وَلِيَ الْقِيَامَ عَلَيْهَا مِنْهُمْ ، وَسَوَاءٌ مَنِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْهَا مِنْهُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَخَصَ لِأَهْلِ السِّقَايَةِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ أَنْ يَبِيتُوا بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْمَبِيتُ بِمِنًى فِي لَيَالِي مِنًى فَسُنَّةٌ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاتَ بِهَا وَأَرْخَصَ لِلرُّعَاةِ ، وَأَهْلِ السِّقَايَةِ فِي التَأَخُّرِ عَنْهَا ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يُرَخِّصْ لَهُ فِي التَّأْخِيرِ مَحْظُورٌ عَلَيْهِ التَّأْخِيرُ عَنْهَا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْمَبِيتِ بِمِنًى إِلَّا لِمَنْ أَرْخَصَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَرْكِ الْمَبِيتِ بِهَا وَهُمَا طَائِفَتَانِ : أَحَدُهُمَا : رُعَاةُ الْإِبِلِ ، وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ أَهْلُ سِقَايَةِ الْعَبَّاسِ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ السِّقَايَاتِ ، وَسَوَاءٌ مَنْ وَلِيَ الْقِيَامَ عَلَيْهَا مِنْهُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ . وَقَالَ مَالِكٌ : الرُّخْصَةُ لِمَنْ وَلِيَ عَلَيْهَا مِنْ بَنِي الْعَبَّاسِ دُونَ غَيْرِهِمْ ، وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ الرُّخْصَةَ إِنَّمَا كَانَتْ لِاشْتِغَالِهِمْ بِإِصْلَاحِ الشَّرَابِ ، وَإِسْقَاءِ الْمَاءِ مَعُونَةً لِلْحَاجِّ ، وَإِرْفَاقِهِمْ لَهُ فَكَانَ غَيْرُهُمْ مِمَّنْ وَلِيَ ذَلِكَ فِي مَعْنَاهُمْ ، فَأَمَّا أَصْحَابُ الْأَعْذَارِ مِنْ غَيْرِ هَؤُلَاءِ الطَّائِفَتَيْنِ كَالْخَائِفِ وَالْمَرِيضِ وَالْمُقِيمِ عَلَى حِفْظِ مَالِهِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَكُلُّ مَنْ جَازَ لَهُ تَرْكُ الْمَبِيتِ بِمِنًى مِمَّنْ ذَكَرْنَا جَازَ لَهُ تَرْكُ الرَّمْيِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مِنْ أَيَّامِ مِنًى ، فَإِذَا كَانَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي أَتَى مِنًى عَنْ أَمْسِهِ ، ثُمَّ عَنْ يَوْمِهِ وَأَفَاضَ مِنْهَا فِي يَوْمِهِ مَعَ النَّفْرِ الْأَوَّلِ . فَأَمَّا غَيْرُ مَنْ ذَكَرْنَا مَنْ أَهْلِ الْأَعْذَارِ فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ تَرْكُ الْمَبِيتِ بِهَا فِي اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ ، إِنْ أَفَاضُوا مِنَ النَّفْرِ الْأَوَّلِ ، فَأَمَّا مَنْ تَرَكَ الْمَبِيتَ فِي اللَّيْلَةِ الْأُولَى وَلَا فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ ، وَيَجُوزُ تَرْكُ الْمَبِيتِ بِهَا فِي اللَّيْلَةِ الْأُولَى ، وَبَاتَ فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُفِيضَ فِي النَّفْرِ الْأَوَّلِ ، وَلَزِمَهُ أَنْ يَبِيتَ فِي اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ ؛ لِأَنَّ مَنْ بَاتَ فِي اللَّيْلَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ جَازَ أَنْ يُفِيضَ فِي النَّفْرِ الْأَوَّلِ وَيَدَعَ الْمَبِيتَ فِي اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِأَكْثَرِ النُّسُكِ وَمُعْظَمِهِ فَرَخَّصَ لَهُ فِي تَرْكِ الْأَقَلِّ ، وَمَنْ بَاتَ فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ دُونَ الْأُولَى فَقَدْ أَتَى بِأَقَلِّ النُّسُكِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ فِي تَرْكِ الْأَكْثَرِ ، وَإِذَا بَاتَ أَكْثَرَ لَيْلِهِ بِمِنًى أَجْزَاهُ أَنْ يَخْرُجَ أَوَّلَ لَيْلِهِ أَوْ آخِرَهُ عَنْ مِنًى . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَوْ شَغَلَهُ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ حَتَّى يَكُونَ لَيْلُهُ أَوْ أَكْثَرُهُ بِمَكَّةَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِدْيَةٌ مِنْ قَبْلُ إِنْ كَانَ لَازِمًا لَهُ مِنْ عَمَلِ الْحَجِّ ، وَإِنَّهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ، وَإِنَّهُ لَوْ كَانَ عَمَلُهُ تَطَوُّعًا اقْتِدَاءً ، قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ : وَاسْتُحِبَّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَنْزِلَ بِمِنًى فِي الْخَيْفِ الْأَيْمَنِ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ مَنْزِلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَصْلٌ الْفِدْيَةُ فِي تَرْكِ الْمَبِيتِ
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْفِدْيَةُ فِي تَرْكِ الْمَبِيتِ بمني في الحج فَإِنْ تَرَكَ لَيْلَةً ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَنْصُوصُهُ أَنَّ عَلَيْهِ مُدًّا مِنْ طَعَامٍ ، وَفِيهَا قَوْلٌ ثَانٍ أَنَّ عَلَيْهِ دِرْهَمًا ، وَفِيهَا قَوْلٌ ثَالِثٌ : أَنَّ عَلَيْهِ ثُلُثَ شَاةٍ ، كَمَا قُلْنَا فِي الشَّعْرَةِ وَالْحَصَاةِ ، فَإِنْ تَرَكَ لَيْلَتَيْنِ فَعَلَيْهِ مُدَّانِ .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي : دِرْهَمَانِ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : ثُلُثُ شَاةٍ فَإِنْ تَرَكَ ثَلَاثَ لَيَالٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي تَرْكِ الْمَبِيتِ ؛ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ مَبِيتٌ مَشْرُوعٌ بِمِنًى فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِهِ دَمٌ قِيَاسًا عَلَى لَيْلَةِ عَرَفَةَ . وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهُ نُسُكٌ مَشْرُوعٌ بَعْدَ التَّحَلُّلِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا يَتَعَلَّقُ بِتَرْكِهِ الدَّمُ قِيَاسًا عَلَى الرَّمْيِ ، فَأَمَّا لَيْلَةُ عَرَفَةَ فَلَيْسَتْ نُسُكًا ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْفِدْيَةَ مَا ذَكَرْنَا فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ هَلْ ذَلِكَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ وَاجِبٌ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : نَصَّ عَلَيْهِ فِي " الْأُمِّ " " وَالْإِمْلَاءِ " أَنَّهُ اسْتِحْبَابٌ وَهَذَا أَحَدُ الدِّمَاءِ الْأَرْبَعَةِ ، فَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ ذَلِكَ .
مَسْأَلَةٌ يَفْعَلُ الصَّبِيُّ فِي كُلِّ أَمْرِهِ مَا يَفْعَلُ الْكَبِيرُ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيَفْعَلُ الصَّبِيُّ فِي كُلِّ أَمْرِهِ مَا يَفْعَلُ الْكَبِيرُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا إِحْرَامُ الصَّبِيِّ فَصَحِيحٌ ، فَإِنْ كَانَ مُرَاهِقًا صَحَّ إِحْرَامُهُ بِنَفْسِهِ ، وَإِنْ كَانَ طِفْلًا أَحْرَمَ عَنْهُ وَلِيُّهُ ، وَكَانَ إِحْرَامُهُ لِلصَّبِيِّ شَرْعِيًّا ، وَإِنْ فَعَلَ الصَّبِيُّ مَا يُوجِبُ الْفِدْيَةَ لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِحْرَامُ الصَّبِيِّ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ فِيمَا يَفْعَلُهُ مِنَ الْمَحْظُورَاتِ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ ، عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ " وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يُلْزَمِ الْحَجَّ بِقَوْلِهِ لَمْ يُلْزَمْهُ بِفِعْلِهِ كَالْمَجْنُونِ ؛ وَلِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنِ الْبَدَنِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَنُوبَ الْكَبِيرُ فِيهَا عَنِ الصَّغِيرِ كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ . وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِامْرَأَةٍ وَهِيَ فِي مَحْفَلَتِهَا فَقِيلَ لَهَا : هَذَا رَسُولُ اللَّهِ ، فَأَخَذَتْ بَعَضُدِ صَبِيٍّ كَانَ مَعَهَا وَقَالَتْ : أَلِهَذَا حَجٌّ ؟ قَالَ : " نَعَمْ ، وَلَكِ أَجْرٌ " . وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " أَيُّمَا صَبِيٍّ حَجَّ ثُمَّ بَلَغَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ " فَإِذَا ثَبَتَ لِلصَّبِيِّ حَجٌّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَجًّا شَرْعِيًّا ، وَرَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : " حَجَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ وَمَعَنَا النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ فَلَبَّيْنَا عَنِ الصِّبْيَانِ وَرَمَيْنَا عَنْهُمْ " وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ مُنِعَ مِمَّا يُمْنَعُ مِنْهُ الْمُحْرِمُ كَانَ مُحْرِمًا ، كَالْبَالِغِ إِذَا أَحْرَمَ عَاقِلًا ثُمَّ جُنَّ ؛ وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَجِبُ ابْتِدَاءً بِالشَّرْعِ عِنْدَ وُجُودِ مَالٍ فَوَجَبَ أَنْ يَنُوبَ الْوَلِيُّ فِيهَا عَنِ الصَّغِيرِ كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ ، فَأَمَّا تَعَلُّقُهُمْ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ .
فَالْجَوَابُ : أَنَّ الْقَلَمَ عَنْهُ مَرْفُوعٌ ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ ؛ وَإِنَّمَا يَصِحُّ مِنْهُ ، فَكَانَ الْقَلَمُ لَهُ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمَجْنُونِ بِعِلَّةٍ أَنَّهُ مِمَّنْ لَا يَلْزَمُهُ الْحَجُّ بِقَوْلِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمُهُ بِفِعْلِهِ بِمُوجِبِ هَذِهِ الْعِلَّةِ ، وَأَنَّ الْحَجَّ لَا يَلْزَمُهُ بِفِعْلِهِ كَمَا لَا يَلْزَمُهُ بِقَوْلِهِ ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْمَجْنُونِ أَنَّ إِفَاقَتَهُ مَرْجُوَّةٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْرِمَ عَنْهُ وَلِيُّهُ لِجَوَازِ أَنْ يُفِيقَ فَيُحْرِمَ بِنَفْسِهِ ، وَبُلُوغُ الطِّفْلِ غَيْرُ مَرْجُوٍّ إِلَّا فِي وَقْتِهِ ، فَجَازَ أَنْ يُحْرِمَ عَنْهُ وَلِيُّهُ إِذَا لَيْسَ يُرْجَى أَنْ يَبْلُغَ فِي هَذَا الْوَقْتِ فَيُحْرِمَ بِنَفْسِهِ ، هَذَا مَعَ مَا يَفْتَرِقَانِ فِيهِ مِنَ الْأَحْكَامِ فَيَجُوزُ إِذْنُ الصَّبِيِّ فِي دُخُولِ الدَّارِ وَقَبُولُ الْهَدِيَّةِ مِنْهُ إِذَا كَانَ رَسُولًا فِيهَا ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ مِنَ الْمَجْنُونِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ بِعِلَّةِ أَنَّهَا عِبَادَةٌ عَنِ الْبَدَنِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَنُوبَ الْكَبِيرُ فِيهَا عَنِ الصَّغِيرِ ، فَالْمَعْنَى فِي الصَّلَاةِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ فِيهَا النِّيَابَةُ بِحَالٍ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُحْرِمَ بِالصَّلَاةِ عَنِ الطِّفْلِ ، وَلَمَّا كَانَ الْحَجُّ مِمَّا يَصِحُّ فِيهِ النِّيَابَةُ جَازَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ عَنِ الطِّفْلِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الصَّبِيَّ يَصِحُّ مِنْهُ الْحَجُّ ، وَيَكُونُ حَجًّا شَرْعِيًّا ، فَلَا يَصِحُّ حَجُّهُ إِلَّا بِإِذْنِ وَلِيِّهِ ، فَإِنْ كَانَ الصَّبِيُّ مُرَاهِقًا مُطِيقًا أَذِنَ لَهُ فِي الْإِحْرَامِ ، وَإِنْ كَانَ طِفْلًا لَا يُمَيِّزُ أَحْرَمَ عَنْهُ ، فَإِنْ أَحْرَمَ الصَّبِيُّ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ فَفِي إِحْرَامِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ذَكَرَهُ فِي " الزِّيَادَاتِ " أَنَّ إِحْرَامَهُ مُنْعَقِدٌ ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ كَمَا يَنْعَقِدُ إِحْرَامُهُ بِالصَّلَاةِ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا وَهُوَ الصَّحِيحُ : أَنَّ إِحْرَامَهُ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ يَتَضَمَّنُ إِنْفَاقَ الْمَالِ وَالتَّصَرُّفَ فِيهِ فَيَجْرِي مَجْرَى تَصَرُّفِهِ فِي مَالِهِ الَّذِي لَا يَصِحُّ إِلَّا بِإِذْنِ وَلِيِّهِ ، وَمَجْرَى سَائِرِ عُقُودِهِ الَّتِي لَا تَصِحُّ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ ، وَخَالَفَ الْإِحْرَامَ بِالصَّلَاةِ الَّتِي لَا تَتَضَمَّنُ اتِّفَاقًا فَجَازَ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ إِحْرَامَهُ لَا يَصِحُّ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ فَالْأَوْلِيَاءُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : ذَوُو الْأَنْسَابِ . وَالثَّانِي : أُمَنَاءُ الْحُكَّامِ . وَالثَّالِثُ : أَوْصِيَاءُ الْأَبَاءِ ، فَأَمَّا ذَوُو الْأَنْسَابِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَنْ يَصِحُّ إِذْنُهُ . وَالثَّانِي : مَنْ لَا يَصِحُّ إِذْنُهُ . وَالثَّالِثُ : مَنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِحَّةِ إِذْنِهِ ، فَأَمَّا مَنْ يَصِحُّ إِذْنُهُ فَهُمُ الْآبَاءُ وَالْأَجْدَادُ مِنْ قِبَلِ الْآبَاءِ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ الْوِلَايَةَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ ، وَأَمَّا مَنْ لَا يَصِحُّ إِذْنُهُ فَهُمْ مَنْ لَا وِلَادَةَ فِيهِ
وَلَا تَعْصِيبَ كَالْإِخْوَةِ لِلْأُمِّ ، وَالْأَعْمَامِ لِلْأُمِّ وَالْعَمَّاتِ مِنَ الْأَبِّ وَالْأُمِّ ، وَالْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ وَالْأُمِّ ، فَلَا يَصِحُّ إِذْنُهُمْ لَهُ فِي الْإِحْرَامِ وَإِنْ كَانَ لَهُمْ وِلَايَةٌ فِي الْحَضَانَةِ لَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِيهِ ، وَأَمَّا مَنِ اخْتَلَفَ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي صِحَّةِ إِذْنِهِ فَهُمْ مَنْ عَدَا هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ ، وَلِأَصْحَابِنَا فِيهِمْ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي مَعْنَى إِذْنِ الْأَبِّ وَالْجَدِّ ، فَأَحَدُ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثِ أَنَّ الْمَعْنَى فِي إِذْنِ الْأَبِ وَالْجَدِّ اسْتِحْقَاقُ الْوِلَايَةِ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَصِحُّ إِذْنُ الْجَدِّ مِنَ الْأُمِّ ، وَلَا يَصِحُّ إِذْنُ الْأَخِ وَالْعَمِّ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ الْوِلَايَةَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ صَاحِبُ كِتَابِ " الْإِفْصَاحِ " فَأَمَّا الْأُمُّ وَالْجَدُّ فَعَلَى الصَّحِيحِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لَا وِلَايَةَ لَهَا عَلَيْهِ بِنَفْسِهَا ، فَعَلَى هَذَا لَا يَصِحُّ إِذْنُهَا وَعَلَى قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ تَلِي عَلَيْهِ بِنَفْسِهَا ، فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ إِذْنُهَا لَهُ وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ " أَنَّ امْرَأَةً أَخَذَتْ بِعَضُدِ صَبِيٍّ كَانَ مَعَهَا ، وَقَالَتْ : أَلِهَذَا حَجٌّ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ وَلَكِ أَجْرٌ " وَمَعْلُومٌ مِنْ قَوْلِهِ وَلَكِ أَجْرٌ أَنَّ ذَلِكَ لِإِذْنِهَا لَهُ ، وَبِإِنَابَتِهَا عَنْهُ ، وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : أَنَّ الْمَعْنَى فِي إِذْنِ الْأَبِ وَالْجَدِّ مَا فِيهِ مِنَ الْوِلَادَةِ وَالْعُصْبَةِ ، فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ إِذْنُ سَائِرِ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَجَمِيعِ الْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ مِنْ قِبَلِ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ ؛ لِوُجُودِ الْوِلَادَةِ فِيهِمْ ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ طَافَ بَعَبْدِ اللَّهِ بِنِ الزُّبَيْرِ عَلَى يَدِهِ مَلْفُوفًا فِي خِرْقَةٍ ، وَكَانَ ابْنَ ابْنَتِهِ أَسْمَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، فَأَمَّا سَائِرُ الْعَصَبَاتِ مِنَ الْإِخْوَةِ وَبَنِيهِمْ ، وَالْأَعْمَامِ وَبَنِيهِمْ فَلَا يَصِحُّ إِذْنُهُمْ لِعَدَمِ الْوِلَادَةِ فِيهِمْ ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْمَعْنَى فِي إِذْنِ الْأَبِّ وَالْجَدِّ وُجُودَ التَّعْصِيبِ فِيهِمَا ، فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ إِذْنُ سَائِرِ الْعَصَبَاتِ مِنَ الْإِخْوَةِ ، وَبَنِيهِمْ وَالْأَعْمَامِ وَبَنِيهِمْ ، وَلَا يَصِحُّ إِذْنُ الْأُمِّ وَالْجَدِّ لِلْأُمِّ ؛ لِعَدَمِ التَّعْصِيبِ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا الْبَغْدَادِيِّينَ ، وَهَذَا الْكَلَامُ فِي ذَوِي الْأَنْسَابِ ، فَأَمَّا أُمَنَاءُ الْحُكَّامِ فَلَا يَصِحُّ إِذْنُهُمْ لَهُ ، وَهُوَ إِجْمَاعُ عُلَمَاءِ أَصْحَابِنَا ؛ لِأَنَّ وِلَايَتَهُمْ تَخْتَصُّ بِمَالِهِ دُونَ بَدَنِهِ ، فَكَانُوا فِيمَا سِوَى الْمَالِ كَالْأَجَانِبِ ، فَلَمْ يَصِحَّ إِذْنُهُمْ ، فَأَمَّا أَوْصِيَاءُ الْآبَاءِ فَفِيهِمْ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا : أَحَدُهُمَا : يَصِحُّ إِذْنُهُمْ كَالْآبَاءِ لِنِيَابَتِهِمْ عَنْهُمْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ ، أَنَّ إِذْنَهُمْ لَا يَصِحُّ كَأُمَنَاءِ الْحُكَّامِ ؛ لِأَنَّ وِلَايَتَهُمْ لَيْسَتْ بِنُفُوسِهِمْ ؛ وَلِأَنَّهَا تَخْتَصُّ بِأَمْوَالِهِمْ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَا عَجَزَ عَنْهُ الصَّبِيُّ مِنَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ ، حُمِلَ وَفُعِلَ ذَلِكَ بِهِ ، وَجُعِلَ الْحَصَى فِي يَدِهِ لِيَرْمِيَ ، فَإِنْ عَجَزَ رُمِيَ عَنْهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الصَّبِيَّ لَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُرَاهِقًا مُمَيِّزًا يَقْدِرُ عَلَى أَفْعَالِ الْحَجِّ ، أَوْ يَكُونَ طِفْلًا يَعْجَزُ عَنْ ذَلِكَ ، فَإِنْ كَانَ مُمَيِّزًا مُرَاهِقًا أَذِنَ
لَهُ وَلِيُّهُ فِي ذَلِكَ فَإِنْ أَذِنَ لَهُ فَعَلَ الْحَجَّ بِنَفْسِهِ كَغَيْرِهِ مِنَ الْبَالِغِينَ ، وَإِنْ كَانَ طِفْلًا لَا يُمَيِّزُ فَأَفْعَالُ الْحَجِّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : ضَرْبٌ يَصِحُّ مِنَ الطِّفْلِ مِنْ غَيْرِ نِيَابَةٍ ، وَلَا مَعُونَةٍ لَهُ ، وَذَلِكَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ وَالْمَبِيتُ بِمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى ، وَضَرْبٌ لَا يَصِحُّ مِنْهُ إِلَّا بِنِيَابَةِ الْوَلِيِّ عَنْهُ وَذَلِكَ الْإِحْرَامُ ، وَضَرْبٌ يَصِحُّ مِنْهُ لَكِنْ بِمَعُونَةِ الْوَلِيِّ لَهُ وَذَلِكَ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ وَرَمْيُ الْجِمَارِ ، وَسَنَذْكُرُهَا فِعْلًا فِعْلًا وَنُوَضِّحُ حُكْمَ كُلِّ فِعْلٍ مِنْهَا . أَمَّا الْإِحْرَامُ فَوَلِيُّهُ يَنُوبُ عَنْهُ فِيهِ فَيُحْرِمُ عَنْهُ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ مُحْرِمًا أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَصِحُّ إِحْرَامُ الْوَلِيِّ عَنْهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَلَالًا ، فَإِنْ كَانَ مُحْرِمًا لَمْ يَصِحَّ إِحْرَامُهُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ فِي نُسُكٍ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَفْعَلَهُ عَنْ غَيْرِهِ ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَصِحُّ إِحْرَامُ الْوَلِيِّ عَنْهُ ، وَإِنْ كَانَ مُحْرِمًا : لِأَنَّ الْوَلِيَّ لَا يَتَحَمَّلُ الْإِحْرَامَ عَنْهُ ، فَيَصِيرُ بِهِ مُحْرِمًا حَتَّى يُمْنَعَ مِنْ فِعْلِهِ عَنْهُ إِذَا كَانَ مُحْرِمًا ، وَإِنَّمَا يَعْقِدُ الْإِحْرَامَ عَنِ الصَّبِيِّ فَيَصِيرُ الصَّبِيُّ مُحْرِمًا فَجَازَ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ الْوَلِيُّ ، وَإِنْ كَانَ مُحْرِمًا ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْبَغْدَادِيِّينَ وَعَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ يَخْتَلِفُ كَيْفِيَّةُ إِحْرَامِهِ عَنْهُ فَعَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ يَقُولُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ أَحْرَمْتُ عَنِ ابْنِي ، وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُوَاجِهٍ لِلصَّبِيِّ بِالْإِحْرَامِ وَلَا مُشَاهِدٍ لَهُ ، إِذَا كَانَ الصَّبِيُّ حَاضِرًا فِي الْمِيقَاتِ ، وَعَلَى مَذْهَبِ الْبَغْدَادِيِّينَ يَقُولُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ : اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ أَحْرَمْتُ بِبُنَيَّ وَعَلَى هَذَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُوَاجِهٍ لِلصَّبِيِّ بِالْإِحْرَامِ ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ صَارَ الصَّبِيُّ مُحْرِمًا دُونَ الْوَلِيِّ فَيُلِيهِ ثَوْبَيْنِ ، وَيَأْخُذُهُ بِاجْتِيَابٍ مِنْهُ مَا مَنَعَ الْمُحْرِمُ ، وَأَمَّا الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ وَالْمَبِيتُ بِمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى ، فَعَلَى وَلِيِّهِ أَنْ يُحْضِرَهُ لِيَشْهَدَهَا بِنَفْسِهِ ، وَأَمَّا الرَّمْيُ فَإِنْ أَمْكَنَ وَضْعُ الْحَصَاةِ فِي كَفِّهِ وَرَمْيُهَا فِي الْجَمْرَةِ مِنْ يَدِهِ فَعَلَ ، وَإِنْ عَجَزَ الصَّبِيُّ عَنْ ذَلِكَ أَحْضَرَ الْجِمَارَ ، وَرَمَى الْوَلِيُّ عَنْهُ ، وَأَمَّا الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ فَعَلَى وَلِيِّهِ أَنْ يَحْمِلَهُ فَيَطُوفَ بِهِ وَيَسْعَى ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَوَضَّأَ لِلطَّوَافِ بِهِ وَيُوَضِّئَهُ ، فَإِنْ كَانَا غَيْرَ مُتَوَضِّئَيْنِ أثناء الطواف لَمْ يُجْزِهِ الطَّوَافُ ، وَإِنْ كَانَ الصَّبِيُّ مُتَوَضِّئًا وَالْوَلِيُّ مُحْدِثًا لَمِ يُجْزِهِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ بِمَعُونَةِ الْوَلِيِّ يَصِحُّ ، وَالطَّوَافُ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِطَهَارَةٍ ، وَإِنْ كَانَ مُتَوَضِّئًا وَالصَّبِيُّ مُحْدِثًا فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُجْزِئُ ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ بِالصَّبِيِّ أَخَصُّ مِنْهُ بِالْوَلِيِّ فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ مُحْدِثًا فَأَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ الصَّبِيُّ مُحْدِثًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُجْزِئُ ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُمَيِّزًا بِفِعْلِ الطَّهَارَةِ لَا يَصِحُّ مِنْهُ ، فَجَازَ أَنْ تَكُونَ طَهَارَةُ الْوَلِيِّ نَائِبَةً عَنْهُ كَمَا أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ الْإِحْرَامُ صَحَّ إِحْرَامُ الْوَلِيِّ عَنْهُ ، ثُمَّ عَلَى وَلِيِّهِ أَنْ يُصَلِّيَ عَنْهُ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ : لِأَنَّ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ : لِجَوَازِ النِّيَابَةِ تَبَعًا لِأَرْكَانِ الْحَجِّ ، فَإِنْ أَرْكَبَهُ الْوَلِيُّ دَابَّةً فَكَانَتِ الدَّابَّةُ تَطُوفُ بِهِ لَمْ يَجُزْ حَتَّى يَكُونَ الْوَلِيُّ مَعَهُ سَائِقًا أَوْ
قَائِدًا : لِأَنَّ الصَّبِيَّ غَيْرُ مُمَيِّزٍ وَلَا قَاصِدٍ ، وَالدَّابَّةُ لَا تَصِحُّ مِنْهَا عِبَادَةٌ ، ثُمَّ هَلْ عَلَى وَلِيِّهِ أَنْ يَرْمُلَ عَنْهُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَضَيَا .
فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ عَلَى الْوَلِيِّ طَوَافٌ طَافَ عَنْ نَفْسِهِ أَوَّلًا ، ثُمَّ طَافَ عَنِ الصَّبِيِّ ، فَإِنْ طَافَ بِالصَّبِيِّ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ عَنْ نَفْسِهِ ، لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهُمْ : أَنْ يَنْوِيَ الطَّوَافَ عَنْ نَفْسِهِ دُونَ الصَّبِيِّ ، فَهَذَا الطَّوَافُ يَكُونُ عَنْ نَفْسِهِ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَطُوفَ بِالصَّبِيِّ لَا يَخْتَلِفُ : لِأَنَّهُ قَدْ صَادَقَ نِيَّتُهُ مَا أُمِرَ بِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَنْوِيَ الطَّوَافَ عَنِ الصَّبِيِّ دُونَ نَفْسِهِ ، فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ عَنِ الْوَلِيِّ الْحَامِلِ دُونَ الصَّبِيِّ الْمَحْمُولِ ، قَالَهُ فِي الْإِمْلَاءِ ؛ لِأَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ مُتَطَوِّعًا عَنْ نَفْسِهِ أَوْ عَنْ غَيْرِهِ ، انْصَرَفَ إِلَى وَاجِبِهِ كَالْحَجِّ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ عَنِ الصَّبِيِّ الْمَحْمُولِ دُونَ الصَّبِيِّ الْحَامِلِ ، قَالَهُ فِي الْمُخْتَصَرِ الْكَبِيرِ " وَحَكَاهُ أَبُو حَامِدٍ فِي " جَامِعِهِ " : لِأَنَّ الْحَامِلَ كَالْآلَةِ لِلْمَحْمُولِ ، فَكَانَ ذَلِكَ وَاقِعًا عَنِ الْمَحْمُولِ دُونَ الْحَامِلِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَنْوِيَ الطَّوَافَ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنِ الصَّبِيِّ الْمَحْمُولِ ، فَيُجْزِئُهُ عَنْ طَوَافِهِ ، وَهَلْ يُجْزِئُ عَنِ الصَّبِيِّ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ تَخْرِيجًا مِنَ الْقَوْلَيْنِ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ فَيَنْصَرِفُ ذَلِكَ إِلَى طَوَافِ نَفْسِهِ لَا يَخْتَلِفُ : لِوُجُودِهِ عَلَى الصِّفَةِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ وَعَدَمِ الْقَصْدِ الْمُخَالِفِ لَهُ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا مَؤُوْنَةُ حَجِّهِ وَمَؤُوْنَةُ سَفَرِهِ فَالْقَدْرُ الَّذِي كَانَ يَحْتَاجُ إِلَى إِبْقَائِهِ فِي حَضَرِهِ مِنْ قُوتِهِ وَكُسْوَتِهِ ، فَهُوَ فِي مَالِ الصَّبِيِّ دُونَ الْوَلِيِّ ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى نَفَقَةِ حَضَرِهِ مِنْ آلَةِ سَفَرِهِ ، وَأَجْرِ مَرْكَبِهِ ، وَجَمِيعُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي سَفَرِهِ مِمَّا كَانَ مُسْتَعِينًا عَنْهُ فِي حَضَرِهِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي مَالِ الصَّبِيِّ أَيْضًا : لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ مَصْلَحَتِهِ ، كَأُجْرَةِ مُعَلِّمِهِ وَمَؤُونَةِ تَأْدِيبِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ : أَنَّ ذَلِكَ فِي مَالِ الْوَلِيِّ دُونَ الصَّبِيِّ : لِأَنَّ الْوَلِيَّ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَصْرِفَ مَالَ الصَّبِيِّ : إِلَّا فِيمَا كَانَ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ ، وَهُوَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى فِعْلِ الْحَجِّ فِي صِغَرِهِ : لِأَنَّ نَفْسَهُ تَبْعَثُ عَلَى فِعْلِهِ فِي كِبَرِهِ ، وَلَيْسَ كَالتَّعْلِيمِ الَّذِي إِنْ فَاتَهُ فِي صِغَرِهِ لَمْ يُدْرِكْهُ فِي كِبَرِهِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا حُكْمٌ مَا فَعَلَهُ الصَّبِيُّ فِي حَجِّهِ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ الْمُوجِبَةِ لِلْفِدْيَةِ ، فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهُمْ : مَا اسْتَوَى حُكْمُ عَمْدِهِ وَسَهْوِهِ ، وَذَلِكَ الْحَلْقُ وَالتَّقْلِيمُ ، وَقَتْلُ الصَّيْدِ فَإِذَا فَعَلَهُ الصَّبِيُّ فَالْفِدْيَةُ فِيهِ وَاجِبَةٌ ، وَأَيْنَ تَجِبُ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : فِي مَالِ الصَّبِيِّ : لِأَنَّهُ مَالٌ وَجَبَ بِجِنَايَتِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ فِي مَالِهِ ، كَمَا لَوِ اسْتَهْلَكَ مَالَ غَيْرِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْفِدْيَةَ وَاجِبَةٌ فِي مَالِ الْوَلِيِّ ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي " الْإِمْلَاءِ " لِأَنَّ الْوَلِيَّ هُوَ الَّذِي أَلْزَمَهُ الْحَجَّ بِأَنَّهُ لَهُ ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ جِهَتِهِ وَمَنْسُوبًا إِلَى فِعْلِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا اخْتَلَفَ حُكْمُ عَمْدِهِ وَسَهْوِهِ ، وَذَلِكَ الطِّيبُ وَاللِّبَاسُ ، فَإِنْ فَعَلَ الصَّبِيُّ ذَلِكَ نَاسِيًا فَلَا فِدْيَةَ فِيهِ كَالْبَالِغِ ، وَإِنْ فَعَلَهُ عَامِدًا فَعَلَى قَوْلَيْنِ ، مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي عَمْدِ الصَّبِيِّ ، هَلْ يَجْرِي مَجْرَى الْخَطَأِ أَوْ يَجْرِي مَجْرَى الْعَمْدِ مِنَ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْخَطَأِ ، فَعَلَى هَذَا لَا فِدْيَةَ فِيهِ كَالْبَالِغِ النَّاسِي . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : إِنَّهُ عَمْدٌ صَحِيحٌ ، فَعَلَى هَذَا الْفِدْيَةُ وَاجِبَةٌ كَالْبَالِغِ الْعَامِدِ ، وَأَيْنَ تَجِبُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ : وَلَكِنْ لَوْ طَيَّبَهُ الْوَلِيُّ كَانَتِ الْفِدْيَةُ فِي مَالِهِ دُونَ مَالِ الصَّبِيِّ وَجْهًا وَاحِدًا . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : مَا اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي عَمْدِهِ وَسَهْوِهِ ، وَهُوَ الْوَطْءُ إِنْ فَعَلَهُ الْبَالِغُ عَامِدًا أَفْسَدَ حَجَّهُ وَلَزِمَهُ الْكَفَّارَةُ ، وَإِنْ فَعَلَهُ نَاسِيًا فَعَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : كَالْعَمْدِ فِي إِفْسَادِ الْحَجِّ وَلُزُومِ الْكَفَّارَةِ . وَالثَّانِي : لَا حُكْمَ لَهُ ، فَعَلَى هَذَا وَطْءُ الصَّبِيِّ نَاسِيًا كَوَطْءِ الْبَالِغِ عَلَى قَوْلَيْنِ : فَأَمَّا وَطْءُ الصَّبِيِّ عَامِدًا ، فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ عَمْدَهُ عَمْدٌ صَحِيحٌ ، فَقَدْ أَفْسَدَ حَجَّهُ وَلَزِمَهُ إِتْمَامُهُ ، وَوَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ وَأَيْنَ تَجِبُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي مَالِ الصَّبِيِّ . وَالثَّانِي : فِي مَالِ الْوَلِيِّ ، وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ عَمْدَهُ يَجْرِي مَجْرَى الْخَطَأِ كَالْبَالِغِ النَّاسِي . هَلْ يَفْسَدُ حَجُّهُ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : فَإِذَا حَكَمْنَا بِفَسَادِ حَجِّهِ فَهَلْ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَنْصُوصَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ : لِأَنَّ إِيجَابَ الْقَضَاءِ تَكْلِيفٌ ، وَالصَّبِيُّ غَيْرُ مُكَلَّفٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : عَلَيْهِ الْقَضَاءُ : لِأَنَّ مَنْ لَزِمَهُ الْكَفَّارَةُ بِوَطْئِهِ ، لَزِمَهُ الْقَضَاءُ بِوَطْئِهِ كَالْبَالِغِ . فَعَلَى هَذَا إِذَا قِيلَ إِنَّ الْقَضَاءَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ ، فَهَلْ يُجْزِئُهُ أَنْ يَقْضِيَهُ قَبْلَ بُلُوغِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْضِيَهُ حَتَّى يَبْلُغَ : لِأَنَّ الْقَضَاءَ فَرْضٌ وَغَيْرُ الْبَالِغِ لَا يَصِحُّ مِنْهُ أَدَاءُ الْفَرْضِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمَنْصُوصُهُ : أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقْضِيَهُ قَبْلَ بُلُوغِهِ :
لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِذِمَّتِهِ فَرْضُ الْقَضَاءِ قَبْلَ بُلُوغِهِ ، وَلَمْ يَكُنِ الصِّغَرُ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِهِ جَازَ أَنْ يَصِحَّ مِنْهُ فِعْلُ الْقَضَاءِ قَبْلَ بُلُوغِهِ ، وَلَا يَكُونُ الصِّغَرُ مَانِعًا مِنْ جَوَازِهِ .
مَسْأَلَةٌ إِذَا فَرَغَ الْحَاجُّ مِنْ رَمْيِهِ وَأَكْمَلَ جَمِيعَ حَجِّهِ فَإِنْ كَانَ مَكِّيًّا أَوْ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ مَكَّةَ فَأَرَادَ الْمُقَامَ بِمَكَّةَ ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ طَوَافُ الْوَدَاعِ على من يكون
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَيْسَ عَلَى الْحَاجِّ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الرَّمْيِ أَيَّامَ مِنًى إِلَّا وَدَاعَ الْبَيْتِ ، فَيُوَدِّعُ الْبَيْتَ ، ثُمْ يَنْصَرِفُ إِلَى بَلَدِهِ ، وَالْوَدَاعُ الطَوَافُ بِالْبَيْتِ وَيَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَهُ ، فَإِنْ لَمْ يَطُفْ وَانْصَرَفَ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِمَسَاكِينِ الْحَرَمِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا فَرَغَ الْحَاجُّ مِنْ رَمْيِهِ وَأَكْمَلَ جَمِيعَ حَجِّهِ ، فَإِنْ كَانَ مَكِّيًّا ، أَوْ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ مَكَّةَ ، فَأَرَادَ الْمُقَامَ بِمَكَّةَ ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ طَوَافُ الْوَدَاعِ : لِأَنَّهُ غَيْرُ مُفَارِقٍ وَلَا مُوَدَّعٍ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمَذْهَبُ ، فَأَمَّا إِذَا أَرَادَ الرُّجُوعَ إِلَى بَلَدِهِ فَمِنَ السُّنَّةِ الْمَنْدُوبَةِ أَنْ يُوَدِّعَ الْبَيْتَ ، لِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانَ النَّاسُ فِي الْمَوْسِمِ يَنْصَرِفُونَ فِي كُلِّ وَجْهٍ بَلَا وَدَاعٍ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَلَا حَتَّى يَكُونَ آخِرَ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ " وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مِنْ سُنَّةِ الْقَادِمِ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ تَحِيَّةً وَتَسْلِيمًا ، اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مِنْ سُنَّةِ الْخَارِجِ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ تَحِيَّةً وَتَوْدِيعًا ، وَإِذَا كَانَ هَذَا ثَانِيًا فَمِنْ سُنَّةِ الْعَائِدِ إِلَى بَلَدِهِ بَعْدَ فَرَاغِ حَجِّهِ أَنْ يُوَدِّعَ الْبَيْتَ بِالطَّوَافِ ، سَوَاءٌ كَانَ بِمَكَّةَ أَوْ بِمِنًى : لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنَعَ مِنَ النَّفْرِ إِلَّا بَعْدَ وَدَاعِ الْبَيْتِ وَنَفْرِ الْحَجِيجِ مِنْ مِنًى ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ حَالَ مَنْ هُوَ بِمَكَّةَ وَمِنًى سَوَاءٌ فِي وَدَاعِ الْبَيْتِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ مَسْنُونَاتِ الْحَجِّ ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ جَمِيعِ أَشْغَالِهِ بِمَكَّةَ ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ إِلَّا الْمَسِيرُ إِلَى بَلَدِهِ ، طَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فِي مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا وَدَّعَ الْبَيْتَ قَامَ بَيْنَ الْبَابِ وَالْحَجَرِ وَمَدَّ يَدَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْبَابِ ، وَالْيُسْرَى إِلَى الْحَجَرِ ، وَقَالَ : اللَّهُمَّ أَنَا عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ حَمَلَتْنِي دَابَّتُكَ وَسَيَّرَتْنِي فِي بَلَدِكَ حَتَى أَقْدَمَتْنِي حَرَمَكَ وَأَمْنَكَ ، وَقَدْ رَجَوْتُ بِحُسْنِ ظَنِّي فِيكَ أَنْ تَكُونَ قَدْ غَفَرْتَ لِي ، فَإِنْ كُنْتَ قَدْ غَفَرْتَ فَازْدَدْ عَنِّي رِضًا وَقَدِّمْنِي إِلَيْكَ زُلْفًا ، وَإِنْ كُنْتَ لَمْ تَغْفِرْ لِي فَمِنَ الْآنَ فَاغْفِرْ لِي قَبْلَ أَنْ تَنْأَى عَنْ بَيْتِكَ دَارِي ، فَهَذَا أَوَانُ انْصِرَافِي إِنْ أَذِنْتَ لِي غَيْرَ رَاغِبٍ عَنْكَ ، وَلَا عَنْ بَيْتِكَ وَلَا مُسْتَبْدِلٍ بِكَ وَلَا بِبَيْتِكَ ، وَاحْفَظْنِي عَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي ، وَمِنْ أَمَامِي وَمِنْ خَلْفِي حَتَّى تُقْدِمَنِي ، فَإِذَا أَقْدَمْتَنِي فَلَا يَحِلُّ لِي مِنِّي ، وَاكْفِنِي مُؤْنَتِي وَمُؤْنَةَ عِيَالِي أَوْ مُؤْنَةَ خَلْقِكَ أَجْمَعِينَ ، فَأَنْتَ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنِّي " . وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ وَيَنْصَرِفَ غَيْرَ مُعَرِّجٍ عَلَى شَيِءٍ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ مَكَّةَ ، فَإِنْ أَقَامَ بَعْدَ وَدَاعِهِ مُتَشَاغِلًا بِأَمْرِهِ أَعَادَ الْوَدَاعَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَمَلًا يَسِيرًا ، كَتَوْدِيعِ صَدِيقٍ أَوْ جَمْعِ رَجُلٍ فَلَا يُعِيدُ الْوَدَاعَ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْإِمْلَاءِ : وَإِنْ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ بَعْدَ وَدَاعِهِ هل يعيد طواف الوداع مرة أخرى صَلَّاهَا ، وَلَمْ يُعِدِ الْوَدَاعَ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَلْزَمُهُ إِعَادَةُ الْوَدَاعِ إِذَا طَالَ مُقَامُهُ بَعْدَ طَوَافِ الْوَدَاعِ . وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهُ طَوَافٌ لِلصَّدْرِ وَالْوَدَاعِ ، فَوَجَبَ إِذَا وُجِدَ قَبْلَ زَمَانِهِ وَزَالَ عَنْهُ اسْمُ مُوجِبِهِ أَنْ لَا يُجْزِئَهُ : لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ طَوَافَ صَدْرٍ وَلَا وَدَاعٍ ؛ لِوُجُودِهِ قَبْلَ الصَّدْرِ وَالْوَدَاعِ .
فَصْلٌ : فَإِنْ لَمْ يُوَدِّعِ الْبَيْتَ بِالطَّوَافِ حَتَّى عَادَ إِلَى بَلَدِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَفِيهِ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ : إِنَّهُ وَاجِبٌ : لِأَنَّ طَوَافَ الْوَدَاعِ نُسُكٌ ، وَلِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَمَنْ تَرَكَ نُسُكًا فَعَلَيْهِ دَمٌ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْإِمْلَاءِ : هُوَ اسْتِحْبَابٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ : لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ نُسُكًا وَاجِبًا لَا يَسْتَوِي فِيهِ حَالُ الْمَعْذُورِ وَغَيْرِ الْمَعْذُورِ وَالْمُقِيمِ بِمَكَّةَ وَغَيْرِ الْمُقِيمِ بِمَكَّةَ ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ نُسُكًا لِلْمُقِيمِ ، وَالْحَائِضُ يَلْزَمُهُمَا بِتَرْكِهِ دَمٌ ، لَمْ يَكُنْ نُسُكًا لِغَيْرِ الْمُقِيمِ وَالْحَائِضِ ، وَلَمْ يَلْزَمْ بِتَرْكِهِ دَمٌ ، فَلَوْ نَفَرَ قَبْلَ طَوَافِ الْوَدَاعِ ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ مَكَّةَ نَظَرَ ، فَإِنْ ذَكَرَهُ عَلَى مَسَافَةٍ لَا يَقْصُرُ فِي مِثْلِهَا الصَّلَاةَ وَذَلِكَ دُونَ - الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ ، رَجَعَ وَطَافَ طَوَافَ الْوَدَاعِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حُكْمِ الْمُقِيمِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخِطَابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّهُ رَدَّ رَجُلًا لَمْ يُوَدِّعِ الْبَيْتَ مِنْ مَرٍّ ، وَإِنْ ذَكَرَهُ عَلَى مَسَافَةٍ تُقْصَرُ فِي مِثْلِهَا الصَّلَاةُ وَذَلِكَ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ فَظَنَّ لَمْ يَعُدْ : لِاسْتِقْرَارِ فِرَاقِهِ وَكَانَ عَلَيْهِ الدَّمُ وَاجِبًا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، وَاسْتِحْبَابًا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي ، فَلَوْ عَادَ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الدَّمُ لِاسْتِقْرَارِهِ عَلَيْهِ ، وَكَانَ مُبْتَدَأً لِلدُّخُولِ حَرُمَ إِذَا دَخَلَ وَيُوَدِّعُ إِذَا خَرَجَ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَطَوَافُ الْوَدَاعِ لَا رَمَلَ فِيهِ وَلَا اضْطِبَاعَ ؛ لِأَنَّهُ طَوَافٌ لَا يُحْتَاجُ بَعْدَهُ إِلَى شَيْءٍ ، وَإِذَا خَرَجَ مُوَدِّعًا وَلَّى ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ ، وَلَمْ يُرْجِعِ الْقَوْلَ كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ عَوَامِّ الْمُتَنَسِّكِينَ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ سُّنَّةٌ مَرْوِيَّةٌ وَلَا أَثَرٌ مَحْكِيٌّ ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ مَكَّةَ مَا رَوَاهُ نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَفَلَ مِنْ جَيْشٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ فَأَرْفَأَ عَلَى ثَنِيَّةٍ أَوَ فَدْفَدٍ قَالَ : آمِنُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ سَاجِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ ، صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا دُخُولُ الْبَيْتِ في الحج فَقَدْ رَوَى عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ دَخَلَ الْبَيْتَ دَخَلَ فِي حَسَنَةٍ وَخَرَجَ مِنْ سَيِّئَةٍ وَخَرَجَ مَغْفُورًا لَهُ " فَكَانَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَرْغِيبٌ فِي دُخُولِهِ وَحَثٌّ عَلَيْهِ ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَتْ : خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِنْدِي وَهُوَ قَرِيرُ الْعَيْنِ طَيِّبُ النَفْسِ ، ثُمَ رَجَعَ إِلَيَّ وَهُوَ حَزِينٌ ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، خَرَجْتَ مِنْ عِنْدِي وَأَنْتَ كَذَا وَكَذَا . فَقَالَ : " إِنِّي دَخَلْتُ الْكَعْبَةَ ، وَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ فَعَلْتُ ، إِنِّي أَخَافُ أَنْ أَكُونَ قَدْ أَتْعَبْتُ أُمَّتِي مِنْ بَعْدِي ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ دُخُولَهُ غَيْرُ مَنْدُوبٍ إِلَيْهِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَدْخُلَهَا إِلَّا تَائِبٌ مُنِيبٌ قَدْ أَقْلَعَ عَنْ مَعَاصِيهِ وَأَخْلَصَ طَاعَتَهُ ، فَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْطٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ : مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَاسٍ مِنْ قُرَيْشٍ جُلُوسٍ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِمْ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ ثُمَ قَالَ : اعْلَمُوا أَنَّهَا مَسْئُولَةٌ عَمَّا يُفْعَلُ فِيهَا ، وَإِنَّ سَاكِنَهَا لَا يَسْفِكُ دَمًا وَلَا يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ .
مَسْأَلَةٌ لَيْسَ عَلَى الْحَائِضِ وَدَاعٌ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَيْسَ عَلَى الْحَائِضِ وَدَاعٌ ، لِأَنَّ وَرَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْخَصَ لَهَا أَنْ تَنْفِرَ بِلَا وَدَاعٍ " .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ بَعْدَ فَرَاغِهَا مِنَ الْحَجِّ ، فَلَهَا أَنْ تَنْفِرَ بِلَا وَدَاعِ الْبَيْتِ : لِرِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : مَا أَرَى صَفِيَّةَ إِلَّا حَابِسَتَنَا ، فَقَالَ رَسْوْلُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَلِمَا ، فَقُلْتُ لَهُ : إِنَّهَا حَاضَتْ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَلَيْسَ أَنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ ، فَقُلْتُ : بَلَى ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : فَلَا حَبْسَ عَلَيْكِ . وَرُوِيَ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ نَحَّى ابْنَ عَبَّاسٍ ، فَقَالَ : أَنْتَ تُفْتِي أَنَّ الْحَائِضَ تَنْفِرُ بِلَا وَدَاعٍ ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ : اسْأَلْ أَمَّ سُلَيْمٍ وَصَاحِبَاتِهَا ، فَسَأَلَهَا فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْخَصَ لِلْحَائِضِ أَنْ تَنْفِرَ بِلَا وَدَاعٍ ، فَرَجَعَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ يَبْتَسِمُ ، وَقَالَ : الْقَوْلُ مَا قُلْتَ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْحَائِضَ التي لا تودع هل عليها كفارة لَا تَنْفِرُ بِلَا وَدَاعٍ فَلَا دَمَ عَلَيْهَا لِتَرْكِهِ : لِأَنَّهَا غَيْرُ مَأْمُورَةٍ ، فَإِنْ طَهُرَتْ بَعْدَ أَنْ نَفَرَتْ نُظِرَ إِنْ طَهُرَتْ فِي بُيُوتِ مَكَّةَ لَزِمَهَا أَنْ تَرْجِعَ فَتُوَدِّعَ الْبَيْتَ بِالطَّوَافِ بَعْدَ أَنْ تَغْتَسِلَ : لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الْمُقِيمِ : لِوُجُوبِ إِتْمَامِ الصَّلَاةِ عَلَيْهَا ، وَإِنْ طَهُرَتْ بَعْدَ مُجَاوَزَةِ بُيُوتِ مَكَّةَ فَلَيْسَ عَلَيْهَا الرُّجُوعُ ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْحَرَمِ ؛ لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الْمُسَافِرِ لِجَوَازِ قَصْرِ الصَّلَاةِ لَهَا .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا حَاضَتْ قَبْلَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ ، فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَنْفِرَ حَتَّى تَطُوفَ بَعْدَ الطُّهْرِ : لِحَدِيثِ صَفِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، وَلَيْسَ عَلَى الْجِمَالِ انْتِظَارُهَا حَتَّى تَطْهُرَ بِأَنْ تَنْفِرَ مَعَ النَّاسِ ، وَلَهَا أَنْ تَرْكَبَ فِي مَوْضِعِ غَيْرِهَا . وَقَالَ مَالِكٌ : عَلَى الْجِمَالِ أَنْ يُحْتَبَسَ لَهَا مُدَّةَ أَكْثَرِ الْحَيْضِ ، وَفَضْلَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ : أَجِيرَانِ وَلَيْسَ بِأَجِيرَيْنِ ، امْرَأَةٌ صَحِبَتْ قَوْمًا فِي الْحَجِّ فَحَاضَتْ ، فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَنْفِرُوا حَتَّى تَطْهُرَ وَتَطُوفَ بِالْبَيْتِ ، أَوْ تَأْذَنَ لَهُمْ ، وَالرَّجُلُ إِذَا شَيَّعَ الْجِنَازَةَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ حَتَّى يَدْفِنَ أَوْ يَأْذَنَ لَهُ وَلِيُّهَا . وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ رِوَايَةُ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا ضَرَرَ وَلَا إِضْرَارَ ، مِنْ ضَارَّ أَضَرَّ اللَّهُ بِهِ ، وَمَنْ شَاقَّ شَقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ . وَفِي احْتِبَاسِ الْجِمَالِ إِضْرَارٌ بِهِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ حَبَسَهَا مَرَضٌ لَمْ يَلْزَمْهُ انْتِظَارُ بُرْئِهَا ، فَكَذَلِكَ إِذَا حَبَسَهَا حَيْضٌ ، لَمْ يَلْزَمْهُ انْتِظَارُ طُهْرِهَا ، فَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَدْ أَنْكَرَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ، وَقَالَ : لَيْسَ لَهُمْ عَلَيْنَا أَمْرُهُ ، فَهَذَا آخِرُ مَا أُمِرَ بِفِعْلِهِ مِنْ مَنَاسِكِهِ فِي حَجِّهِ وَعُمْرَتِهِ .
فَصْلٌ زِيَارَةُ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَأْمُورٌ بِهَا وَمَنْدُوبٌ إِلَيْهَا
فَصْلٌ : فَأَمَّا زِيَارَةُ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَأْمُورٌ بِهَا وَمَنْدُوبٌ إِلَيْهَا ، رَوَى عُبَيْدُ اللَّهِ ، عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ زَارَ قَبْرِي وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِي ، وَحُكِيَ عَنِ الْعُتْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ : كُنْتُ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَى أَعْرَابِيٌّ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَجَدْتُ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا [ النِّسَاءِ : ] ، وَقَدْ جِئْتُكَ تَائِبًا مِنْ ذَنْبِي مُسْتَشْفِعًا بِكَ إِلَى رَبِّي وَأَنْشَأَ يَقُولُ : يَا خَيْرَ مَنْ دُفِنَتْ بِالْقَاعِ أَعْظُمُهُ فَطَابَ مِنْ طِيبِهِنَّ الْقَاعُ وَالْأَكَمُ
نَفْسِي الْفِدَاءُ لِقَبْرٍ أَنْتَ سَاكِنُهُ فِيهِ الْعَفَافُ وَفِيهِ الْجُودُ وَالْكَرَمُ قَالَ الْعُتْبِيُّ : فَغَفَوْتُ غَفْوَةً فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : يَا عُتْبِيُّ الْحَقِ الْأَعْرَابِيَّ ، وَأَخْبِرْهُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ غَفَرَ لَهُ .
مَسْأَلَةٌ الْمُحْرِمُ فَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنَ الْوَطْءِ فِي إِحْرَامِهِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا أَصَابَ الْمُحْرِمُ امْرَأَتَهُ الْمُحْرِمَةَ ، فَغَيَّبَ الْحَشَفَةَ مَا بَيْنَ أَنْ يُحْرِمَ إِلَى أَنْ يَرْمِيَ الْجَمْرَةَ فَقَدْ أَفْسَدَ حَجَّهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، الْمُحْرِمُ فَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنَ الْوَطْءِ فِي إِحْرَامِهِ سَوَاءٌ كَانَ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا أَوْ قَارِنًا : لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [ الْبَقَرَةِ : ] ، وَالرَّفَثُ الْجِمَاعُ ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى : أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ [ الْبَقَرَةِ : ] ، وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ لَمَّا مَنَعَ مِنْ دَوَاعِي الْوَطْءِ كَالنِّكَاحِ وَالطِّيبِ ، كَانَ بِمَنْعِ الْوَطْءِ أَوْلَى . فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَالْمُحْرِمُ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ قِرَانٍ مَمْنُوعٌ مِنَ الْوَطْءِ فِي قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ ، مِنْ آدَمِيٍّ أَوْ بَهِيمَةٍ ، فَأَمَّا الْمُحْرِمُ بِالْحَجِّ إِذَا وَطِئَ فِي إِحْرَامِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : عَامِدٌ وَنَاسِي ، فَأَمَّا النَّاسِي فَسَيَأْتِي . وَأَمَّا الْعَامِدُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي الْفَرْجِ . وَالثَّانِي : دُونَ الْفَرْجِ ، فَإِنْ كَانَ دُونَ الْفَرْجِ فَسَيَأْتِي ، وَإِنْ كَانَ فِي الْفَرْجِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ : أَنْ يَطَأَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَإِذَا وَطِئَ تَعَلَّقَ بِوَطْئِهِ أَرْبَعَةُ أَحْكَامٍ : أَحَدُهَا : فَسَادُ الْحَجِّ . وَالثَّانِي : وُجُوبُ الْإِتْمَامِ . وَالثَّالِثُ : وُجُوبُ الْقَضَاءِ . وَالرَّابِعُ : وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ . فَأَمَّا الْحُكْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ فَسَادُ الْحَجِّ فَهُوَ إِجْمَاعٌ لَيْسَ يُعْرَفُ فِيهِ خِلَافٌ ، أَنَّهُ إِذَا وَطِئَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَقَدْ أَفْسَدَ حَجَّهَ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا تَقَدَّمَ مِنْ نَهْيِهِ عَنْهُ وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ . وَالثَّانِي : أَنَّ أُصُولَ الشَّرْعِ مُقَدَّرَةٌ ، وَأَنَّ الْعِبَادَةَ إِذَا حُرِّمَ فِيهَا الْوَطْءُ وَغَيْرُهُ ، اخْتُصَّ الْوَطْءُ بِتَغْلِيظِ حُكْمٍ بَانَ بِهِ مَا حَرُمَ مَعَهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّوْمَ لَمَّا حَرَّمَ الْوَطْءَ وَغَيْرَهُ وَاسْتَوَى حُكْمُ
الْجَمِيعِ فِي إِفْسَادِ الصَّوْمِ اخْتَصَّ الْوَطْءُ بِإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ ، وَلَمَّا كَانَ الْوَطْءُ وَغَيْرُهُ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ سَوَاءٌ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ ، وَجَبَ أَنْ يُخْتَصَّ الْوَطْءُ بِإِفْسَادِ الْحَجِّ ، فَيَكُونَ تَغْلِيظُ الْوَطْءِ فِي الصَّوْمِ اخْتِصَاصَهُ بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ ، وَتَغْلِيظُهُ فِي الْحَجِّ اخْتِصَاصَهُ بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّانِي وَهُوَ وُجُوبُ الْإِتْمَامِ للحج الفاسد : فَعَلَيْهِ بَعْدَ إِفْسَادِ حَجِّهِ أَنْ يُتَمِّمَهُ وَيَمْضِيَ فِي فَاسِدِهِ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ . وَقَالَ رَبِيعَةُ وَدَاوُدُ : قَدْ خَرَجَ مِنْهُ بِالْفَسَادِ وَلَا يَلْزَمُهُ إِتْمَامُهُ ، وَقَدْ حُكِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَطَاءٍ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كُلُّ عَمَلٍ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ . وَالْحَجُّ الْفَاسِدُ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَرْدُودًا ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ بِالْفَسَادِ مِنَ الْإِحْرَامِ مِنْ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ خَارِجًا بِالْفَسَادِ مِنَ الْإِحْرَامِ . وَدَلِيلُنَا إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ ، وَعَلِيٍّ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ ، وَأَبِي مُوسَى أَنَّهُمْ قَالُوا : إِذَا أَفْسَدَ حَجَّهُ مَضَى فِي فَاسِدِهِ ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ ؛ وَلِأَنَّهُ سَبَبُ قَضَاءِ الْحَجِّ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَخْرُجَ بِهِ عَنِ الْحَجِّ كَالْفَوَاتِ ، فَأَمَّا قَوْلُهُ : كُلُّ عَمَلٍ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ . فَالَّذِي لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُ صَاحِبِ الشَّرْعِ هُوَ الْوَطْءُ ، وَهُوَ مَرْدُودٌ ، فَأَمَّا الْحَجُّ فَعَلَيْهِ صَاحِبُ الشَّرْعِ ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْحَجِّ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهَا بِالْفَوَاتِ ، فَكَذَلِكَ خَرَجَ مِنْهَا بِالْفَسَادِ ، وَالْحَجُّ لَمَّا لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ بِالْفَوَاتِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ بِالْفَسَادِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ وُجُوبُ الْقَضَاءِ وَلَيْسَ يُعْرَفُ فِيهِ خِلَافٌ ، أَنَّ مَنْ أَفْسَدَ حَجَّهُ بِوَطْءٍ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ . وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَفْسَدَ حَجَّهُ فَسَأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ : يَقْضِي مِنْ قَابِلٍ ، ثُمَّ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ : يَمْضِي مِنْ قَابِلٍ ثُمَّ سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ مِثْلَ مَا قَالَا ، فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ : سَأَلْتُ عُمَرَ وَابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَا مِثْلَ مَا قُلْتَ ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : أَتُرَانِي أُخَالِفُ صَاحِبِي ، وَلَيْسَ يُعْرَفُ لِهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ ؛ وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ يُوجِبُ إِتْمَامَهُ ، وَالْفَسَادُ يَمْنَعُ مِنْ إِجْزَائِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْحَجُّ فَرْضًا لَمْ يَسْقُطْ مِنَ الذِّمَّةِ ، وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا فَقَدْ صَارَ بِدُخُولِهِ فِيهِ فَرْضًا فَتَعَلَّقَ بِالذِّمَّةِ ، وَإِذَا تَعَلَّقَ فَرْضُ الْحَجِّ بِذِمَّتِهِ وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ بِإِفْسَادِهِ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْحُكْمُ الرَّابِعُ ، وَهُوَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ قدرها : فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ فِي قَدْرِهَا بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى وُجُوبِهَا ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الْكَفَّارَةَ بَدَنَةٌ . وَقَالَ الْحَسَنُ : الْكَفَّارَةُ عِتْقُ رَقَبَةٍ كَالْوَطْءِ فِي الصَّوْمِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْكَفَّارَةُ شَاةٌ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ السَّبَبَ الْوَاحِدَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَجِبَ لَهُ التَّغْلِيظُ مِنْ وَجْهَيْنِ ، فَلَمَّا لَزِمَهُ الْقَضَاءُ تَغْلِيظًا ، وَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ الْبَدَنَةُ تَغْلِيظًا ، وَلَزِمَهُ الشَّاةُ اعْتِبَارًا
بِمَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ ؛ وَلِأَنَّ قَضَاءَ الْحَجِّ يَجِبُ بِشَيْئَيْنِ فَوَاتٌ وَفَسَادٌ ، فَلَمَّا وَجَبَ بِفَوَاتِ الْقَضَاءِ وَالتَّكْفِيرِ بِشَاةٍ ، وَجَبَ أَنْ يَجِبَ بِالْفَسَادِ الْقَضَاءُ وَالتَّكْفِيرُ بِشَاةٍ . وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُ أَحَدُ سَبَبَيْ مَا يَجِبُ بِهِ الْقَضَاءُ فَوَجَبَ أَنْ يُوجِبَ التَّكْفِيرَ بِشَاةٍ كَالْفَوَاتِ . وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي مُوسَى أَنَّ عَلَى الْوَاطِئِ فِي الْحَجِّ بَدَنَةً ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا قَبْلَ عَرَفَةَ وَبَعْدَ عَرَفَةَ ، وَلَيْسَ يُعْرَفُ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا ، وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ قَبْلَ الْوُقُوفِ أَقْوَى مِنْهُ بَعْدَ الْوُقُوفِ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الْوَطْءَ يُوجِبُ الْبَدَنَةَ بَعْدَ الْوُقُوفِ اتِّفَاقًا ، فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ يُوجِبُ الْبَدَنَةَ قَبْلَ الْوُقُوفِ حُجَّاجًا . وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُ وَطْءُ عَمْدٍ صَادَفَ إِحْرَامًا لَمْ يَتَحَلَّلْ شَيْئًا مِنْهُ ، فَوَجَبَ أَنْ تَجِبَ فِيهِ بَدَنَةٌ كَالْوَطْءِ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ سَبَبٍ يُوْجِبُ الْفِدْيَةَ قَبْلَ الْوُقُوفِ وَبَعْدَهُ ، فَالْفِدْيَةُ الْوَاجِبَةُ قَبْلَ الْوُقُوفِ كَالْفِدْيَةِ الْوَاجِبَةِ بَعْدَهُ قِيَاسًا عَلَى جَزَاءِ الصَّيْدِ وَفِدْيَةِ الْأَذَى ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ يُوْجِبُ الْوَطْءُ فِيهَا الْكَفَّارَةَ مَعَ الْقَضَاءِ ، فَتِلْكَ الْكَفَّارَةُ هِيَ الْعُلْيَا كَالْوَطْءِ فِي رَمَضَانَ ، فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ السَّبَبَ الْوَاحِدَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَجِبَ بِهِ التَّغْلِيظُ مِنْ وَجْهَيْنِ فَبَاطِلٌ بِالْوَطْءِ فِي الصَّوْمِ ، عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَغْلِيظٌ ، وَقَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى إِيجَابِهَا مَعَ الْقَضَاءِ ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي قَدْرِهَا ، وَأَمَّا جَمْعُهُ بَيْنَ الْفَسَادِ وَالْفَوَاتِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ : لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ إِنَّمَا تُغَلَّظُ لِغِلَظِ الْفِعْلِ وَعِظَمِ الْإِثْمِ ، وَالْفَسَادُ بِالْوَطْءِ مَعْصِيَةٌ بِعِظَمِ إِثْمِهَا ، وَقَدْ لَا يَكُونُ الْفَوَاتُ مَعْصِيَةً يَأْثَمُ بِهَا ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْكَفَّارَةِ مَعَ افْتِرَاقِهِمَا فِي الْمَعْصِيَةِ فَهَذَا حُكْمُ الْقَسَمِ الْأَوَّلِ فِي الْوَطْءِ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَكَذَا حُكْمُهُ لَوْ كَانَ فِي عَرَفَةَ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَطَأَ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَقَبْلَ الْإِحْلَالِ الْأَوَّلِ ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ كَالْوَطْءِ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فِي وُجُوبِ الْأَحْكَامِ الْأَرْبَعَةِ ، وَهِيَ فَسَادُ الْحَجِّ : وَوُجُوبُ الْإِتْمَامِ ، وَلُزُومُ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ ، وَهِيَ بَدَنَةٌ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَفْسُدُ حَجُّهُ وَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ ، فَوَافَقَ فِي الْبَدَنَةِ بَعْدَ الْوُقُوفِ ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا فِيهَا قَبْلَ الْوُقُوفِ ، وَخَالَفَ فِي فَسَادِ الْحَجِّ بَعْدَ الْوُقُوفِ ، وَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا فِيهِ قَبْلَ الْوُقُوفِ ، اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْحَجُّ عَرَفَةُ فَمَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ فَعَلَّقَ إِدْرَاكَ الْحَجِّ بِعَرَفَةَ ، فَوَجَبَ أَنْ يَنْتَفِيَ وُرُودُ الْفَسَادِ بَعْدَ عَرَفَةَ : لِأَنَّ الْفَسَادَ يَمْنَعُ مِنْ إِدْرَاكِ الْحَجِّ ؛ وَلِأَنَّهُ حَجٌّ لَا يَطْرَأُ عَلَيْهِ الْفَوَاتُ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَطْرَأُ عَلَيْهِ الْفَسَادُ كَالْوَطْءِ بَعْدَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ ؛ وَلِأَنَّ قَضَاءُ الْحَجِّ يَجِبُ بِالْفَوَاتِ كَمَا يَجِبُ بِالْفَسَادِ ، ثُمَّ تَقَرَّرَ أَنَّ الْفَوَاتَ يَسْقُطُ بِالْوُقُوفِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْفَسَادُ يَسْقُطُ بِالْوُقُوفِ . وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُ أَحَدُ سَبَبَيْ مَا يَجِبُ بِهِ الْقَضَاءُ ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ بِالْوُقُوفِ كَالْفَوَاتِ ؛ وَلِأَنَّهُ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ هُوَ مَمْنُوعٌ مِنَ الْوَطْءِ لِأَجْلِ بَقَاءِ الرَّمْيِ يَقَعُ بِهِ التَّحَلُّلُ
الْأَوَّلُ ، فَلَمَّا كَانَ تَرْكُ الرَّمْيِ لَا يُفْسِدُ الْحَجَّ ، فَالْوَطْءُ الَّذِي مُنِعَ مِنْهُ لِأَجْلِ الرَّمْيِ أَوْلَى أَنْ لَا يُفْسِدَ الْحَجَّ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [ الْبَقَرَةِ : ] ، فَنَهَى عَنِ الْجِمَاعِ فِيهِ ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ؛ وَلِأَنَّهُ وَطْءُ عَمْدٍ صَادَفَ إِحْرَامًا لَمْ يَتَحَلَّلْ شَيْءٌ مِنْهُ ، فَوَجَبَ أَنْ يُفْسِدَهُ كَالْوَطْءِ قَبْلَ الْوُقُوفِ ؛ وَلِأَنَّهُ عِبَادَةٌ تَجْمَعُ تَحْرِيمًا وَتَحْلِيلًا ، فَجَازَ أَنْ يَطْرَأَ الْفَسَادُ عَلَيْهَا إِلَى أَنْ يَقَعَ الْإِحْلَالُ مِنْهَا كَالصَّلَاةِ ، فَإِنْ قِيلَ الْمَعْنَى فِي الصَّلَاةِ وُرُودُ الْفَسَادِ عَلَيْهَا مَعَ بَقَاءِ شَيْءٍ مِنْ إِحْرَامِهَا ، وَالْحَجُّ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ الْفَسَادُ بَعْدَ الْإِحْلَالِ الْأَوَّلِ ، وَإِنْ كَانَ بَاقِيًا فِي إِحْرَامِهِ ، قِيلَ : هُمَا فِي الْمَعْنَى سَوَاءٌ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَرِدُ عَلَيْهِ الْفَسَادُ قَبْلَ الْخُرُوجِ مِنْهُ وَبِالْإِحْلَالِ الْأَوَّلِ يَكُونُ خَارِجًا مِنَ الْحَجِّ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ نَصًّا فِي الْقَدِيمِ ، وَإِذَا تَحَلَّلَ التَّحَلُّلَ الْأَوَّلَ ، فَقَدْ أَكْمَلَ الْحَجَّ وَخَرَجَ مِنَ الْإِحْرَامِ ، فَهُوَ يَطُوفُ وَيَسْعَى فِي غَيْرِ الْإِحْرَامِ ، فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ مَنَعْتُمُوهُ الْوَطْءَ إِذَا كَانَ خَارِجًا مِنَ الْإِحْرَامِ ، قِيلَ : لِبَقَاءِ حُكْمِهِ كَالْحَائِضِ الَّتِي تُمْنَعُ مِنَ الْوَطْءِ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْحَيْضِ وَقَبْلَ الْغُسْلِ لِبَقَاءِ حُكْمِهِ ؛ وَلِأَنَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ يُسْتَفَادُ الْأَمْنُ مِنْ فَوَاتِ الْحَجِّ ، وَالْأَمْنُ مِنْ جَوَازِ الْعِبَادَةِ لَا يَمْنَعُ مِنْ وُرُودِ الْفَسَادِ عَلَيْهَا كَالْعُمْرَةِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِي إِفْسَادِ الْحَجِّ حُكْمُ مَا قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ ، وَمَا بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ ، وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُ مُحْرِمٌ بِعِبَادَةٍ أُمِنَ فَوَاتُهَا ، فَجَازَ أَنْ يُفْسِدَهَا الْوَطْءُ مَا لَمْ يَتَحَلَّلْ مِنْهَا كَالْعُمْرَةِ ، فَإِنْ قِيلَ : الْمَعْنَى فِي الْعُمْرَةِ أَنَّهُ لَا يَخْشَى فَوَاتَهَا بِحَالٍ ؛ فَلِذَلِكَ جَازَ وُرُودُ الْفَسَادِ عَلَيْهَا قَبْلَ الْإِحْلَالِ ، وَلَمَّا كَانَ الْحَجُّ مِمَّا يُخْشَى فَوَاتُهُ فِي حَالٍ جَازَ أَنْ لَا يَرِدَ عَلَيْهِ الْفَسَادُ قَبْلَ الْإِحْلَالِ ، قِيلَ : هَذَا فَاسِدٌ بِالظُّهْرِ وَالْجُمُعَةِ قَدِ اسْتَوَيَا فِي وُرُودِ الْفَسَادِ عَلَيْهِمَا ، وَإِنْ كَانَتِ الْجُمُعَةُ فَخَافَ فَوَاتَهَا وَالظُّهْرُ يَأْمَنُ فَوَاتَهَا ؛ وَلِأَنَّهُ فَعَلَ حُرْمَةَ الْإِحْرَامِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُ قَبْلِ الْوُقُوفِ وَبَعْدِهِ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْحَجُّ عَرَفَةُ فَمَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ فَهُوَ اسْتِعْمَالٌ ظَاهِرُهُ مُتَعَذَّرٌ ؛ لِأَنَّ بِإِدْرَاكِ عَرَفَةَ لَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْحَجِّ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِرُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ يَأْمَنُ بِهِ فَوَاتَ الْحَجِّ ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ وُرُودِ الْفَسَادِ اسْتِشْهَادًا بِمَا ذَكَرْنَاهُ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْوَطْءِ بَعْدَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ ، فَالْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّهُ قَدْ تَحَلَّلَ مِنْ إِحْرَامِهِ بِمَا اسْتَبَاحَ مِنْ مَحْظُورَاتِهِ ؛ فَلِذَلِكَ لَحِقَهُ الْفَسَادُ بِوَطْئِهِ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْفَوَاتِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ : لِأَنَّ الْفَوَاتَ أَخَفُّ حَالًا مِنَ الْفَسَادِ : لِأَنَّ الْفَوَاتَ يَسْقُطُ بِإِدْرَاكِ بَعْضِ الشَّيْءِ ، وَالْفَسَادُ لَا يَسْقُطُ بِإِدْرَاكِ بَعْضِ الشَّيْءِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْجُمُعَةِ فَقَدْ أَمِنَ فَوَاتَهَا وَلَا يَأْمَنُ فَسَادَهَا ، فَكَذَلِكَ جَازَ أَنْ يَأْمَنَ بِالْوُقُوفِ فَوَاتَ الْحَجِّ وَلَا يَأْمَنَ فَسَادَهُ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّ تَرْكَ الرَّمْيِ لَمَّا لَمْ يُفْسِدِ الْحَجَّ : فَالْوَطْءُ الَّذِي مُنِعَ مِنْهُ لِأَجْلِ الرَّمْيِ أَوْلَى
أَنْ لَا يُفْسِدَ الْحَجَّ ، قِيلَ : لَيْسَ تَحْرِيمُ الْوَطْءِ لِأَجْلِ بَقَاءِ الرَّمْيِ ، وَإِنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ بَقَاءِ الْإِحْرَامِ ، وَبَقَاءُ الْإِحْرَامِ يُؤْذِنُ بِفَسَادِ الْعِبَادَةِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَطَأَ بَعْدَ إِحْلَالِهِ الْأَوَّلِ وَقَبْلَ الثَّانِي : فَحَجُّهُ صَحِيحٌ مُجْزِئٌ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ . وَقَالَ مَالِكٌ : قَدْ فَسَدَ بِوَطْئِهِ مَا بَقِيَ مِنْ حَجِّهِ ، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ عُمْرَةٍ مِنَ التَّنْعِيمِ ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ مِنْ حَجِّهِ طَوَافٌ وَسَعْيٌ وَحِلَاقٌ وَذَلِكَ جَمْرَةٌ ، فَلِذَلِكَ لَزِمَهُ قَضَاءُ عُمْرَةٍ . وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : إِذَا وَطِئَ بَعْدَ التَحَلُّلِ ، وَرُوِيَ بَعْدَ الرَّمْيِ فَحَجُّهُ تَامٌّ وَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ ، وَلَيْسَ يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ ؛ وَلِأَنَّهُ فِعْلٌ لَمْ يَفْسَدْ بِهِ الْإِحْرَامُ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ بِهِ تَجْدِيدُ إِحْرَامٍ ، كَالِاسْتِمْتَاعِ دُونَ الْفَرْجِ وَسَائِرِ الْمُحْرِمَاتِ ؛ وَلِأَنَّ الْأُصُولَ مَوْضُوعَةٌ عَلَى أَنَّ مَا أَفْسَدَ بَعْضَ الْعِبَادَةِ أَفْسَدَ جَمِيعَهَا ، وَمَا لَمْ يُفْسِدْ جَمِيعَهَا لَمْ يُفْسِدْ شَيْئًا مِنْهَا ، اسْتِشْهَادًا بِالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ ، فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْوَطْءُ غَيْرَ مُفْسِدٍ لِمَا مَضَى ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُفْسِدٍ لِمَا بَقِيَ ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْوَطْءُ بَعْدَ الْإِحْلَالِ الْأَوَّلِ مُفْسِدًا لِبَاقِي الْحَجِّ دُونَ مَاضِيهِ ؛ لَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْوَطْءُ بَعْدَ الْوُقُوفِ مُفْسِدًا لِبَاقِي الْحَجِّ دُونَ مَاضِيهِ ، فَلَمَّا كَانَ هَذَا فَاسِدًا بَعْدَ الْوُقُوفِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فَاسِدًا بَعْدَ الْإِحْلَالِ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ حَجَّهُ صَحِيحٌ ، وَأَنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ فَالْكَفَّارَةُ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ ، وَفِيهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : بَدَنَةٌ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلِاخْتِصَاصِ الْوَطْءِ الْمَحْظُورِ بِمَا فِي مَا سِوَاهُ فِي التَّكْفِيرِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : عَلَيْهِ شَاةٌ : لِأَنَّهُ وَطْءٌ لَا يُفْسِدُ الْإِحْرَامَ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُوجِبَ الْفِدْيَةَ كَالْوَطْءِ دُونَ الْفَرْجِ ، وَأَمَّا مَا يَقَعُ بِهِ الْإِحْلَالُ الْأَوَّلُ وَالْإِحْلَالُ الثَّانِي فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ فَلَمْ يُحْتَجْ إِلَى إِعَادَتِهِ ، فَأَمَّا إِذَا وَطِئَ بَعْدَ إِحْلَالِهِ الثَّانِي فَحَجُّهُ مُجْزِئٌ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ إِجْمَاعًا .
فَصْلٌ الْوَاطِئُ نَاسِيًا فِيهِ قَوْلَانِ
فَصْلٌ : فَأَمَا الْوَاطِئُ نَاسِيًا في الحج فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ كَالْوَاطِئِ عَامِدًا ، فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى مِنْ إِفْسَادِ الْحَجِّ وَوُجُوبِ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ ، وَوَجْهُهُ : أَنَّهُ سَبَبٌ يَجِبُ بِهِ الْقَضَاءُ ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ كَالْفَوَاتِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ الصَّحِيحُ : لَا حُكْمَ لَهُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ : لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : عُفِيَ عَنْ أَمَتِي الْخَطَأُ وَالنَسْيَانُ ؛ وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ يَجِبُ فِي عَمْدِهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ ، فَوَجَبَ أَنْ يَفْتَرِقَ حُكْمُ عَمْدِهِ وَسَهْوِهِ كَالْوَطْءِ فِي الصَّوْمِ ؛ وَلِأَنَّهُ اسْتِمْتَاعُ نَاسٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ تَأْثِيرٌ كَالطِّيبِ ، وَخَالَفَ الْفَوَاتَ ؛ لِأَنَّهُ تَرْكٌ فَاسْتَوَى حُكْمُ عَمْدِهِ وَسَهْوِهِ .
مَسْأَلَةٌ سَوَاءٌ وَطِئَ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ لِأَنَّهُ فَسَادٌ وَاحِدٌ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَسَوَاءٌ وَطِئَ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ فَسَادٌ وَاحِدٌ " .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى حُكْمُهُ فِي الْحَجِّ ، فَإِذَا أَفْسَدَ حَجَّهُ وَهُوَ يُحْرِمُ بِوَطْءٍ مُنِعَ أَنْ يَطَأَ ثَانِيًا ؛ لِأَنَّ حَجَّهَ وَإِنْ فَسَدَ مَحْرَمَةُ الْإِحْرَامِ بَاقِيَةٌ لِوُجُوبِ الْإِتْمَامِ عَلَيْهِ ، فَإِنْ وَطِئَ ثَانِيَةً بعد فساد حجه بالوطء الأول فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا قَضَاءٌ وَاحِدٌ : لِأَنَّ فَسَادَ الْإِحْرَامِ إِنَّمَا كَانَ بِالْوَطْءِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي ، فَأَمَّا وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ بِالْوَطْءِ الثَّانِي فَلَا يَخْلُو حَالُهُ فِيهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَطْؤُهُ الثَّانِي بَعْدَ التَّكْفِيرِ عَنْ وَطْئِهِ الْأَوَّلِ فَعَلَيْهِ لِلْوَطْءِ الثَّانِي كَفَّارَةٌ لَا يَخْتَلِفُ ؛ لِأَنَّ كُلَّمَا فَعَلَهُ وَابْتَدَأَ وَجَبَتْ فِيهِ ، فَإِذَا فَعَلَهُ ثَانِيَةً وَجَبَتْ بِهِ الْفِدْيَةُ كَالطِّيبِ وَاللِّبَاسِ وَقَتْلِ الصَّيْدِ ، وَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ بَدَنَةٌ ؛ لِأَنَّ كُلَّ فِعْلٍ تَتَكَرَّرُ الْفِدْيَةُ بِفِعْلِهِ ، فَفِدْيَةُ الْفِعْلِ الثَّانِي مِثْلُ فِدْيَةِ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ كَالطِّيبِ وَاللِّبَاسِ وَقَتْلِ الصَّيْدِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ : عَلَيْهِ شَاةٌ ؛ لِأَنَّهُ اسْتِمْتَاعٌ لَمْ يُفْسِدِ الْحَجَّ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُوجِبَ الْفِدْيَةَ كَالْوَطْءِ دُونَ الْفَرْجِ ؛ وَلِأَنَّ حُرْمَةَ الْإِحْرَامِ بَعْدَ الْوَطْءِ الْأَوَّلِ أَخْفَضُ مِنْ حُرْمَةِ قَبْلِهِ ؛ لِوُرُودِ الْفَسَادِ عَلَيْهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْوَطْءُ الثَّانِي أَخْفَضَ مِنَ الْوَطْءِ الْأَوَّلِ لِضَعْفِهِ مِنْ تَأْثِيرِ الْوَطْءِ الْأَوَّلِ .
فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الْوَطْءُ الثَّانِي قَبْلَ تَكْفِيرِهِ عَنِ الْوَطْءِ الْأَوَّلِ فَفِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِالْوَطْءِ الثَّانِي هل تجب أم لا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ بِالْوَطْءِ الثَّانِي ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَاخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ : لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ تَجْرِي مَجْرَى الْحَدِّ ، وَالْحُدُودُ إِذَا تَرَادَفَتْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ تَدَاخَلَتْ ؛ وَلِأَنَّ الْوَطْءَ فِي الْحَجِّ كَالْوَطْءِ فِي الصَّوْمِ فِي إِيجَابِ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ ، ثُمَّ كَانَ الْوَطْءُ الثَّانِي فِي الصَّوْمِ الْفَاسِدِ لَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ ، فَكَذَلِكَ الْوَطْءُ الثَّانِي فِي الْحَجِّ الْفَاسِدِ : لَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ ، وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ : لِأَنَّهُ وَطْءُ عُمَدٍ صَادَفَ إِحْرَامًا لَمْ يَتَحَلَّلْ شَيْءٌ مِنْهُ ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ الْكَفَّارَةُ كَالْوَطْءِ الْأَوَّلِ ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ وَجَبَتْ بِالْوَطْءِ فِيهَا الْكَفَّارَةُ لَوْ كَفَّرَ عَمَّا قَبْلَهُ وَجَبَ فِيهِ الْكَفَّارَةُ ، وَإِنْ لَمْ يُكَفِّرْ عَمَّا قَبْلَهُ كَالصَّوْمِ إِذَا وَطِئَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مِنْهُ ، فَلَمْ يُكَفِّرْ عَنْهُ حَتَّى وَطِئَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي لَزِمَتْهُ كَفَارَّةٌ ثَانِيَةٌ ، كَذَلِكَ الْحَجُّ ، فَأَمَّا الْحُدُودُ فَإِنَّمَا تَدَاخَلَتْ : لِأَنَّهَا عُقُوبَاتٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقٌّ لِآدَمِيٍّ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْكَفَّارَاتُ ، لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْآدَمِيِّ بِهَا ، وَأَمَّا صَوْمُ الْيَوْمِ الْوَاحِدِ فَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ بِالْوَطْءِ الثَّانِي فِيهِ كَفَّارَةٌ الوطء الثاني في الحج لِخُرُوجِهِ مِنْهُ بِالْفَسَادِ ، وَالْحَجُّ لَا يَخْرُجُ مِنْهُ بِالْفَسَادِ ، فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فِيهِ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ فَفِي الْكَفَّارَةِ قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى : أَحَدُهُمَا : " بَدَنَةٌ " عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ كَالْوَطْءِ الْأَوَّلِ . وَالثَّانِي : شَاةٌ عَلَى قَوْلِهِ الْجَدِيدِ كَالِاسْتِمْتَاعِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَعَلَيْهِ الْهَدْيُ بَدَنَةٌ ، وَيَحُجُّ مِنْ قَابِلٍ بِامْرَأَتِهِ ، وَيُجْزِئُ عَنْهُمَا هَدْيٌ وَاحِدٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَطْءَ ، مُفْسِدٌ لِلْحَجِّ مُوجِبٌ لِلْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ ، وَإِذَا كَانَ لِذَلِكَ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ ، فَالْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي إِيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِمَا . وَالْفَصْلُ الثَّانِي فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَنْهُمَا ، وَالْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا ، فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهَا ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْوَاطِئِ وَالْمَوْطُوءَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : إِمَّا أَنْ يَكُونَا مُحْرِمَيْنِ مَعًا ، أَوْ يَكُونَ الْوَاطِئُ مُحْرِمًا دُونَ الْمَوْطُوءَةِ ، أَوْ تَكُونَ الْمَوْطُوءَةُ مُحْرِمَةً دُونَ الْوَاطِئِ : فَإِنْ كَانَا مُحْرِمَيْنِ مَعًا فَقَدْ أَفْسَدَا حَجَّهُمَا ، وَوَجَبَ الْقَضَاءُ عَلَيْهِمَا ، وَهَلْ ذَلِكَ عَلَى الْفَوْرِ فِي عَامِهِمُ الْمُقْبِلِ أَوْ عَلَى التَّرَاخِي أي قضاء الحج : عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ وُجُوبَ الْقَضَاءِ عَلَيْهِمَا عَلَى التَّرَاخِي لَا عَلَى الْفَوْرِ فَمَتَى شَاءَا كَانَ لَهُمَا أَنْ يَقْضِيَا فِي عَامٍ وَاحِدٍ وَعَامَيْنِ : لِأَنَّ الْقَضَاءَ لَيْسَ بِأَوْكَدَ مِنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ، فَلَمَّا كَانَتْ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ عَلَى التَّرَاخِي ، فَالْقَضَاءُ أَوْلَى ؛ أَنْ يَكُونَ عَلَى التَّرَاخِي ؛ وَلِأَنَّ مِنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي يَضِيقُ وَقْتُهَا وَيَجِبُ فِعْلُهَا عَلَى الْفَوْرِ إِذَا فَاتَتْ ، كَانَ قَضَاؤُهَا عَلَى التَّرَاخِي كَالصَّوْمِ ؟ فَالْحَجُّ الَّذِي نَجْعَلُهُ عَلَى التَّرَاخِي دُونَ الْفَوْرِ بِالْقَضَاءِ أَوَلَى أَنْ يَكُونَ عَلَى التَّرَاخِي دُونَ الْفَوْرِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ عَلَيْهِمَا الْقَضَاءَ عَلَى الْفَوْرِ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ وَهُوَ مَنْصُوصُ الْمَذْهَبِ : لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالدُّخُولِ فِيهِ فَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ ، فَقَضَاؤُهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ فِي حُكْمِ الْأَدَاءِ ، ثُمَّ كَانَ الْحَجُّ الَّذِي قَدْ ضَاقَ وَقْتُهُ مُطِيقًا فَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمَوْطُوءَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : إِمَّا أَنْ تَكُونَ أَجْنَبِيَّةً وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ أَوْ سِفَاحٍ ، أَوْ أَمَةً وُطِئَتْ بِمِلْكِ الْيَمِينِ ، أَوْ تَكُونَ زَوْجَةً وُطِئَتْ بِعَقْدِ النِّكَاحِ ، فَإِنْ كَانَتْ أَجْنَبِيَّةً وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ أَوْ سِفَاحٍ ، فَمَؤُوْنَةُ الْحَجِّ فِي الْقَضَاءِ وَاجِبَةٌ فِي مَالِهَا دُونَ مَالِ الْوَاطِئِ : لِأَنَّ وَطْءَ الْأَجْنَبِيَّةِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِتَحَمُّلِ الْمَؤُونَةِ كَالنَّفَقَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً وُطِئَتْ بِمِلْكِ يَمِينٍ فَمَؤُونَةُ الْقَضَاءِ وَاجِبَةٌ عَلَى السَّيِّدِ الْوَاطِئِ دُونَ الْأُمَّةِ الْمَوْطُوءَةِ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ مَا كَسَبَتْ ، وَإِنْ كَانَتْ زَوْجَةً وُطِئَتْ بِعَقْدِ نِكَاحٍ فَفِي مَؤُونَةِ حَجِّهَا فِي الْقَضَاءِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : فِي مَالِ الزَّوْجَةِ الْمَوْطُوءَةِ ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ مِنْ عِبَادَاتِ الْأَبْدَانِ وَمَا لَزِمَ الزَّوْجَةَ مِنْ عِبَادَاتِ الْأَبْدَانِ فَالنَّفَقَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهَا فِي مَالِ الزَّوْجَةِ لَا يَتَحَمَّلُهُ الزَّوْجُ عَنْهَا كَحَجَّةِ الْإِسْلَامِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ : أَنَّ مَؤُونَةَ الْقَضَاءِ فِي مَالِ الزَّوْجِ لِلْوَاطِئِ : لِأَنَّ الْقَضَاءَ إِنَّمَا وَجَبَ بِالْوَطْءِ ، وَحُقُوقُ الْأَمْوَالِ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْوَطْءِ يَخْتَصُّ بِتَحَمُّلِهَا الزَّوْجُ ، كَالْمَهْرِ وَالْكَفَّارَةِ ، وَإِنْ كَانَ الْوَاطِئُ مُحْرِمًا دُونَ الْمَوْطُوءَةِ فَعَلَى الْوَاطِئِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ دُونَ الْمَوْطُوءَةِ ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَوْطُوءَةُ مُحْرِمَةً دُونَ الْوَاطِئِ فَعَلَى الْمَوْطُوءَةِ الْقَضَاءُ دُونَ الْوَاطِئِ ، وَالْكَلَامُ فِي تَحَمُّلِ مَؤُونَةِ الْقَضَاءِ عَلَى مَا مَضَى .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَنْهُمَا : فَإِنَّهُ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ الْوَاطِئُ مُحْرِمًا دُونَ الْمَوْطُوءَةِ فَفِيهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ عَلَى الْوَاطِئِ دُونَ الْمَوْطُوءَةِ ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَوْطُوءَةُ مُحْرِمَةً دُونَ الْوَاطِئِ ، فَالْوَاجِبُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَإِنْ كَانَ الْوَاطِئُ مِمَّنْ لَا يَتَحَمَّلُ عَنِ الْمَوْطُوءَةِ شَيْئًا لِكَوْنِهِ أَجْنَبِيًّا ، فَالْكَفَّارَةُ وَاجِبَةٌ فِي مَالِ الْمَوْطُوءَةِ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَتَحَمَّلُ عَنْهَا لِكَوْنِهِ زَوْجًا أَوْ سَيِّدًا فَعَلَيْهِ تَحَمُّلُ ذَلِكَ عَنْهَا : لِأَنَّهُ مِنْ مُوجِبَاتِ الْوَطْءِ عَلَى مَا مَضَى مِنْ كَفَّارَةِ الْوَاطِئِ فِي الصَّوْمِ ، وَإِنْ كَانَ الْوَاطِئُ وَالْمَوْطُوءَةُ مُحْرِمِينَ فَهَلْ تَجِبُ كَفَارَّةٌ وَاحِدَةٌ أَوْ كَفَّارَتَانِ كفارة الوطء في الحج عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : كَفَّارَتَانِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ . وَالثَّانِي : كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَوْجِيهَ الْقَوْلَيْنِ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ ، فَإِذَا قُلْنَا بِقَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ : إِنَّ عَلَيْهِمَا كَفَّارَتَيْنِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَا أَجْنَبِيَّيْنِ فَعَلَى الْوَاطِئِ كَفَّارَةٌ ، وَعَلَى الْمَوْطُوءَةِ كَفَّارَةٌ ، وَلَا يَتَحَمَّلُ الْوَاطِئُ عَنِ الْمَوْطُوءَةِ الْكَفَّارَةَ ؛ لِكَوْنِهِ أَجْنَبِيًّا ، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا أَجْنَبِيَّيَنِ فَعَلَى الْوَاطِئِ أَنْ يَتَحَمَّلَ الْكَفَّارَتَيْنِ عَنْهُ وَعَنِ الْمَوْطُوءَةِ ، فَإِذَا قُلْنَا بِقَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ : إِنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَةً وَاحِدَةً فَعَلَى هَذَا هَلْ وَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْوَاطِئِ وَحْدَهُ أَمْ عَلَيْهِمَا ؟ ثُمَّ تَحَمُّلُ الْوَاطِئِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَجَبَتْ عَلَى الْوَاطِئِ وَحْدَهُ فَعَلَى هَذَا لَا شَيْءَ عَلَى الْمَوْطُوءَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ زَوْجَتَهُ أَمْ أَجْنَبِيَّةً . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِمَا : فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَتِ الْمَوْطُوءَةُ زَوْجَتَهُ فَعَلَى الْوَاطِئِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ عَنْهُ وَعَنْهَا ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَوْطُوءَةُ أَجْنَبِيَّةً لَمْ يَتَحَمَّلِ الْوَاطِئُ عَنْهَا . وَوَجَبَتْ عَلَى الْوَاطِئِ كَفَّارَةٌ كَامِلَةٌ ، وَعَلَى الْمَوْطُوءَةِ كَفَّارَةٌ كَامِلَةٌ : لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا يَجُوزُ تَبْعِيضُهَا ، وَالْوَاطِئُ مِمَّنْ لَا يَتَحَمَّلُ عَنْهَا ، فَلِذَلِكَ وَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفَّارَةٌ كَامِلَةٌ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا : فَهُوَ أَنَّهُمَا إِذَا أَحْرَمَا بِالْقَضَاءِ وَبَلَغَا الْمَوْضِعَ الَّذِي وَطِئَهَا فِيهِ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي سَائِرِ كُتُبِهِ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ وَالْإِمْلَاءِ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا أَعْرِفُ لِلِافْتِرَاقِ مَعْنًى : لِأَنَّهُ لَوْ وَطِئَهَا فِي الصَّوْمِ ، ثُمَّ دَخَلَ فِي الْقَضَاءِ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا ، وَلَمْ يُمْنَعَا مِنَ الِاجْتِمَاعِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي وَطِئَهَا فِيهِ ، كَذَلِكَ فِي قَضَاءِ الْحَجِّ . وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهُ قَوْلُ ثَلَاثَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَلَيْسَ يُعْرَفُ لَهُمْ فَيَ الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا : وَلِأَنَّهُ بِفِرَاقِهِمَا يَأْمَنُ عَلَيْهَا الشَّهْوَةَ فِي وَطْئِهَا ؛ وَلِيَكُونَ زَجْرًا لَهُ وَتَنَدُّمًا فِيمَا فَعَلَهُ ، فَأَمَّا الصَّوْمُ فَمُخَالِفٌ لِلْحَجِّ : لِأَنَّ قَضَاءَ الْحَجِّ كَأَصْلِهِ فِي إِفْسَادِهِ بِالْوَطْءِ وَوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِيهِ ، وَقَضَاءُ الصَّوْمِ أَخَفُّ مِنْ أَصْلِهِ : لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ فِي إِفْسَادِهِ
بِالْوَطْءِ لَا تَجِبُ فِيهِ فَافْتَرَقَا : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِفِرَاقِهَا إِذَا بَلَغَا الْمَوْضِعَ الَّذِي وَطِئَهَا فِيهِ ، وَاعْتِزَالُهُمَا فِي السَّيْرِ وَالنُّزُولِ ، فَهَلْ ذَلِكَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ التفريق بينهما إذا بلغا الموضع الذي وطئها فيه ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَاجِبٌ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْإِجْمَاعِ فِيهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : اجْتِنَابُ الْوَطْءِ مُسْتَحَبٌّ ، وَهُوَ أَصَحُّ : لِأَنَّ الْوَاجِبَ اجْتِنَابُ الْوَطْءِ وَالِافْتِرَاقُ احْتِيَاطٌ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَا تَلَذَّذَ مِنْهَا دُونَ الْجِمَاعِ فَشَاةٌ تُجْزِئُهُ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمُفْسِدُ بَدَنَةً فَبَقْرَةً ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَسَبْعًا مِنَ الْغَنَمِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ وَطْءُ الْمُحْرِمِ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : فِي الْفَرْجِ ، وَالْآخِرِ دُونَ الْفَرْجِ ، فَإِنْ كَانَ دُونَ الْفَرْجِ الوطء في غيره لَمْ يَفْسَدِ الْحَجُّ ، سَوَاءٌ أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ ، وَعَلَيْهِ " شَاةٌ " أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَبَّلَ أَوْ لَمَسَ بِشَهْوَةٍ فَعَلَيْهِ " شَاةٌ " وَحَجُّهُ مُجْزِئٌ . وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ أَنْزَلَ فَسَدَ حَجُّهُ كَالْوَطْءِ فِي الْفَرْجِ ، وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ لَمْ يَفْسَدْ ، اسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى : فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [ الْبَقَرَةِ : ] ، فَكَانَ الرَّفَثُ يَتَنَاوَلُ الْجِمَاعَ فَيَ الْفَرْجِ وَغَيْرِهِ ، ثُمَّ كَانَ الْوَطْءُ فِي الْفَرْجِ مُفْسِدًا لِلْحَجِّ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْوَطْءُ دُونَ الْفَرْجِ مُفْسِدًا لِلْحَجِّ ؛ وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يُفْسِدُهَا الْوَطْءُ فِي الْفَرْجِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُبْطِلَهَا الْإِنْزَالُ عَنِ الْمُبَاشَرَةِ دُونَ الْفَرْجِ كَالصَّوْمِ . وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا قَالَا : إِذَا قَبَّلَ الْمُحْرِمُ امْرَأَتَهُ فَعَلَيْهِ شَاةٌ ، وَلَمْ يُفَرِّقَا بَيْنَ وُجُودِ الْإِنْزَالِ وَعَدَمِهِ ، وَلَيْسَ يُعْرَفُ لَهُمَا مُخَالِفٌ : وَلِأَنَّهُمَا مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ الْحَجُّ بِشَيْءٍ مِنْ جِنْسِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَفْسَدَ الْحَجُّ بِهِ كَالْمُبَاشِرَةِ بِغَيْرِ إِنْزَالٍ : وَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوَى حُكْمُ الْوَطْءِ فِي الْفَرْجِ بَيْنَ الْإِنْزَالِ وَعَدَمِهِ فِي أَنَّهُ غَيْرُ مُفْسِدٍ لِلْحَجِّ ؛ وَلِأَنَّ الْوَطْءَ فِي الْفَرْجِ أَغْلَظُ حُكْمًا مِنَ الْوَطْءِ دُونَ الْفَرْجِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُهُمَا فِي إِفْسَادِ الْحَجِّ مَعَ اخْتِلَافِهِمَا وَتَبَايُنِهِمَا . فَأَمَّا الْآيَةُ فَتَقْتَضِي حَظْرَ الْجِمَاعِ ، وَإِطْلَاقُ الْجِمَاعِ يَتَنَاوَلُ الْوَطْءَ فِي الْفَرْجِ دُونَ غَيْرِهِ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الصَّوْمِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ : لِأَنَّ الصَّوْمَ أَضْعَفُ حَالًا مِنَ الْحَجِّ : لِأَنَّهُ يَبْطُلُ بِالْوَطْءِ وَغَيْرِ الْوَطْءِ مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ ، فَجَازَ أَنْ يَبْطُلَ بِالْوَطْءِ دُونَ الْفَرْجِ ، وَالْحَجُّ لَا يَبْطُلُ بِغَيْرِ الْوَطْءِ فَجَازَ أَنْ لَا يَبْطُلُ بِالْوَطْءِ دُونَ الْفَرْجِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْوَطْءُ فِي الْفَرْجِ أنواعه فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ فِي الْقُبُلِ ، فَأَمَّا الْوَاطِئُ فِيهِ مُفْسِدٌ لِلْحَجِّ إِجْمَاعًا .
وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِ الْقُبُلِ وَهُوَ أَنْ يَطَأَ فِي الْمَوْضِعِ الْمَكْرُوهِ مِنَ الْمَرْأَةِ أَوْ يَتَلَوَّطَ ، أَوْ يَأْتِيَ بَهِيمَةً فَحُكْمُ ذَلِكَ عِنْدَنَا حُكْمُ الْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ فِي إِفْسَادِ الْحَجِّ وَوُجُوبِ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ عَلَى مَا مَضَى . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ : إِنَّهَا لَا تُفْسِدُ الْحَجَّ ، وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ إِفْسَادُ الْحَجِّ بِالْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ فِي اللِّوَاطِ بِقَوْلِنَا ، وَفِي إِتْيَانِ الْبَهِيمَةِ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ جِمَاعٌ لَا يَثْبُتُ بِهِ الْإِحْصَانُ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَفْسُدَ بِهِ الْحَجُّ كَالْوَطْءِ دُونَ الْفَرْجِ . وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى : فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [ الْبَقَرَةِ : ] ؛ وَلِأَنَّهُ جِمَاعٌ يُوجِبُ الْغُسْلَ فَجَازَ أَنْ يُفْسِدَ الْحَجَّ كَالْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ ؛ وَلِأَنَّ الْوَطْءَ فِي الدُّبُرِ أَغْلَظُ مِنَ الْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ لِتَحْرِيمِهِ عَلَى التَّأْبِيدِ ، فَلَمَّا كَانَ أَخَفُّهُمَا مُفْسِدًا لِلْحَجِّ فَأَغْلَظُهُمَا أَنْ يَكُونَ مُفْسِدًا لِلْحَجِّ أَوْلَى ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْوَطْءِ دُونَ الْفَرْجِ بِعِلَّةِ أَنَّهُ وَطْءٌ لَا يَثْبُتُ بِهِ الْإِحْصَانُ فَفَاسِدٌ بِوَطْءِ الْإِمَاءِ ، يَفْسُدُ بِهِ الْحَجُّ وَلَا يَقَعُ بِهِ الْإِحْصَانُ ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْوَطْءِ فِي الْفَرْجِ وُجُوبُ الْغُسْلِ فِيهِ ، وَالْوَطْءُ دُونَ الْفَرْجِ لَا يَتَعَلَّقُ بِوُجُوبِ الْغُسْلِ بِهِ ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِنْزَالِ إِنِ اقْتَرَنَ بِهِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا قَبَّلَ الْمُحْرِمُ زَوْجَتَهُ عِنْدَ قُدُومِهِ مِنْ سَفَرِهِ ، فَإِنْ قَصَدَ بِالْقُبْلَةِ تَحِيَّةَ الْقَادِمِ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ قَصَدَ بِهَا الشَّهْوَةَ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَصْدٌ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَنْصَرِفُ ذَلِكَ إِلَى قُبْلَةِ التَّحِيَّةِ أَوْ إِلَى قُبْلَةِ الشَّهْوَةِ ، عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَنْصَرِفُ إِلَى قُبْلَةِ التَّحِيَّةِ اعْتِبَارًا بِظَاهِرِ الْحَالِ ، فَعَلَى هَذَا لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَنْصَرِفُ إِلَى قُبْلَةِ الشَّهْوَةِ اعْتِبَارًا بِمَوْضُوعِ الْقُبْلَةِ ، فَعَلَى هَذَا عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ لَمْ يَجِدْ قُوِّمَتِ الْبَدَنَةُ دَارَهِمَ بِمَكَّةَ ، وَالدَرَاهِمُ طَعَامًا فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَامَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ كَفَّارَةَ الْوَاطِئِ فِي إِحْرَامِهِ الْمُفْسِدِ لَهُ بِوَطْئِهِ " بَدَنَةٌ " وَدَلِيلُنَا عَلَيْهِ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ ثَابِتًا ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمُفْسِدُ بَدَنَةً " " فَبَقَرَةٌ " فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَسَبْعٌ مِنَ الْغَنَمِ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ قَوَّمَ " الْبَدَنَةَ " دَرَاهِمَ بِمَكَّةَ وَالدَّرَاهِمَ طَعَامًا ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَامَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا ، فَجَعَلَ لِلْبَدَنَةِ أَرْبَعَةَ أَبِدَالٍ للكفارة التي تجب على الواطء مُرَتَّبَةٍ ، فَبَدَأَ بِالْبَدَنَةِ وَجَعَلَ الْبَقَرَةَ بَدَلًا مِنَ الْبَدَنَةِ ، وَجَعَلَ السَّبْعَ مِنَ الْغَنَمِ بَدَلًا مِنَ الْبَقَرَةِ ، وَجَعَلَ الطَّعَامَ بَدَلًا مِنَ الْغَنَمِ ، وَجَعَلَ الصِّيَامَ بَدَلًا مِنَ الْإِطْعَامِ ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ أَصْحَابِهِ أَنَّ الْبَدَنَةَ وَالْبَقَرَةَ وَالْغَنَمَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْإِطْعَامِ وَالصِّيَامِ فِي التَّرْتِيبِ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْبَدَنَةِ وَالْبَقَرَةِ وَالْغَنَمِ هَلْ هِيَ عَلَى التَّرْتِيبِ أَوْ عَلَى التَّخْيِيرِ كفارة الوطء في الحج عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ مَنْصُوصٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهَا عَلَى التَّرْتِيبِ ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ فَيَبْدَأُ بِبَدَنَةٍ تَجُوزُ أُضْحِيَّةً ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبَقَرَةٌ تَجُوزُ أُضْحِيَّةً ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَسَبْعٌ مِنَ الْغَنَمِ تَجُوزُ
أُضْحِيَةً ، وَلَا تُجْزِئُهُ الْبَقَرَةُ إِلَّا عِنْدَ عَدَمِ الْبَدَنَةِ ، وَلَا تُجْزِئُهُ الْغَنَمُ إِلَّا عِنْدَ عَدَمِ الْبَقَرَةِ ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ كَفَّارَةُ الْوَطْءِ كَأَغْلَظِ كَفَّارَاتِ الْحَجِّ تَقْدِيرًا ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَأَغْلَظِهَا تَرْتِيبًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا عَلَى التَّخْيِيرِ وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، فَإِنْ أَخْرَجَ الْبَقَرَةَ مَعَ وُجُودِ الْبَدَنَةِ أَوْ أَخْرَجَ الْغَنَمَ مَعَ وُجُودِ الْبَقَرَةِ أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّ الْبَدَنَةَ فِي الْحَجِّ لَا تَجِبُ إِلَّا فِي قَتْلِ النَّعَامَةِ وَالْإِفْسَادِ ، فَلَمَّا وَجَبَتِ الْبَدَنَةُ فِي جَزَاءِ النَّعَامَةِ عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ اقْتَضَى أَنْ تَجِبَ فِي إِفْسَادِ الْحَجِّ عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ .
فَصْلٌ : فَإِنْ عَدِمَ الثَّلَاثَةَ عَدَلَ حِينَئِذٍ إِلَى الْإِطْعَامِ وَالصِّيَامِ بَقِيَّةِ أَحَدِ الثَّلَاثَةِ عَلَى وَجْهِ التَّعْدِيلِ ، فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ الثَّلَاثَةَ وَجَبَتْ عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ قَوَّمَ أَيَّ الثَّلَاثَةِ شَاءَ ، وَإِنْ قُلْنَا وَجَبَتْ وُجُوبَ تَرْتِيبٍ ، وَهُوَ أَصَحُّ ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُقَوِّمُ الْبَدَنَةَ . وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ : يُقَوِّمُ السَّبْعَ مِنَ الْغَنَمِ ؛ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ الْوَاجِبَاتِ الْمَذْكُورَةِ ، وَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ تَقْوِيْمِ الْبَدَنَةِ أَصَحُّ : لِأَنَّ الْغَنَمَ فَرْعٌ لِلْبَدَنَةِ عِنْدَ وُجُودِهِمَا ، فَإِذَا عَدِمَهَا كَانَ اعْتِبَارُ الْأَصْلِ أَوْلَى مِنَ اعْتِبَارِ الْفَرْعِ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يُقَوِّمُ الْبَدَنَةَ ، فَإِنَّهُ يُقَوِّمُ ذَلِكَ بِمَكَّةَ أَوْ بِمِنًى فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَنْحَرُهَا فِيهِ : لِوُجُودِهَا دُونَ الْمَوْضِعِ الَّذِي وَجَبَتْ فِيهِ بِوَطْئِهِ ، وَلَا يُرَاعِي بِقِيمَتِهَا حَالَ الرُّخْصِ وَالسِّعَةِ ، وَلَا حَالَ الْغَلَاءِ وَالْقَحْطِ بَلْ يُرَاعِي غَالِبَ الْأَسْعَارِ فِي أَعَمِّ الْأَحْوَالِ فَيُقَوِّمُهَا فِيهِ بِالدَّرَاهِمِ ، وَيَصْرِفُ الدَّرَاهِمَ فِي طَعَامٍ ، وَلَا يَتَصَدَّقُ بِالدَّرَاهِمِ ، فَإِنْ تَصَدَّقَ بِالدَّرَاهِمِ لَمْ تُجْزِئْهُ ؛ لِأَنَّ إِخْرَاجَ الدَّرَاهِمِ فِي الْكَفَّارَتِ إِنَّمَا تَكُونُ قِيَمًا ، وَإِخْرَاجُ الْقِيَمِ فِي الْكَفَّارَاتِ لَا تُجْزِئُ ، فَإِذَا صَرَفَ الدَّرَاهِمَ فِي الطَّعَامِ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى فُقَرَاءِ الْحَرَمِ وَفِيمَا يُعْطِي كُلَّ فَقِيرٍ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ ، فَإِنْ أَعْطَاهُ أَقَلَّ مِنْ " مُدٍّ " أَوْ أَكْثَرَ مِنْ " مُدٍّ " أَجْزَأَهُ ، كَاللَّحْمِ الَّذِي لَا يَتَقَدَّرُ بِشَيْءٍ ، وَيُجْزِئُ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَتَقَدَّرُ " بِمُدٍّ " فَإِنْ أَعْطَى فَقِيرًا أَكْثَرَ مِنْ " مُدٍّ " لَمْ يُحْتَسَبْ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْمُدِّ ، وَإِنْ أَعْطَاهُ أَقَلَّ مِنْ " مُدٍّ " لَمْ يُحْتَسَبْ بِشَيْءٍ مِنْهُ ، إِلَّا أَنْ يُعْطِيَهُ تَمَامَ الْمُدِّ اعْتِبَارًا بِكَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْوَطْءِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ، فَإِنْ عَدَلَ عَنِ الْإِطْعَامِ إِلَى الصِّيَامِ صَامَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا ، فَإِنْ كَانَ فِي الْأَمْدَادِ كَسْرٌ صَامَ مَكَانَهُ يَوْمًا كَامِلًا : لِأَنَّ الْيَوْمَ لَا يَتَبَعَّضُ ثُمَّ هَلْ يَنْتَقِلُ عَنِ الْإِطْعَامِ إِلَى الصِّيَامِ عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ أَوِ التَّرْتِيبِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَنْتَقِلُ عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ فَإِنْ صَامَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْإِطْعَامِ أَجْزَأَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَنْتَقِلُ عَلَى وَجْهِ التَّرْتِيبِ عِنْدَ عَدَمِ الْإِطْعَامِ ، فَإِنْ صَامَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْإِطْعَامِ لَمْ يُجْزِئْهُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " هَكَذَا كُلُّ وَاجِبٍ عَلَيْهِ يَعْسُرُ بِهِ مَا لَمْ يَأْتِ فِيهِ نَصُّ خَبَرٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : الدِّمَاءُ الْوَاجِبَةُ فِي الْحَجِّ ضَرْبَانِ ، ضَرْبٌ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ ، وَضَرْبٌ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ ، فَأَمَّا الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَرْبَعَةُ دِمَاءٍ : دَمُ التَّمَتُّعِ ، وَدَمُ جَزَاءِ الصَّيْدِ ، وَدَمُ كَفَّارَةِ الْأَذَى ، وَدَمُ الْإِحْصَارِ . فَهَذِهِ الدِّمَاءُ الْأَرْبَعَةُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا وَهِيَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا نَصَّ عَلَيْهِ بَدَلَهُ . وَالثَّانِي : مَا لَمْ يَنُصَّ عَلَى بَدَلِهِ ، فَأَمَّا الْمَنْصُوصُ عَلَى بَدَلِهِ فَثَلَاثَةُ دِمَاءٍ : دَمُ التَّمَتُّعِ ، دَمُ جَزَاءِ الصَّيْدِ ، وَدَمُ كَفَّارَةِ الْأَذَى ، وَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا جَعَلَ بَدَلَهُ تَرْتِيبًا وَتَقْدِيرًا مِنْ غَيْرِ تَعْدِيلٍ وَلَا تَخْيِيرٍ ، وَذَلِكَ دَمُ التَّمَتُّعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [ الْبَقَرَةِ : ] ، فَجَعَلَ الْبَدَلَ فِيهِ مُقَدَّرًا بِعَشَرَةِ أَيَّامٍ مِنْ غَيْرِ تَعْدِيلٍ مُرَتَّبًا عِنْدَ عَدَمِ الدَّمِ مِنْ غَيْرِ تَخْيِيرٍ . وَالثَّانِي : مَا جَعَلَ بَدَلَهُ تَعْدِيلًا مَعَ التَّخْيِيرِ ، وَهُوَ جَزَاءُ الصَّيْدِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا [ الْمَائِدَةِ : ] ، فَخَيَّرَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ الْمِثْلِ مِنَ النَّعَمِ أَوِ الْإِطْعَامِ بِالتَّعْدِيلِ ، فَيُقَوِّمُ الْمِثْلَ دَرَاهِمَ ، وَيَصْرِفُ الدَّرَاهِمَ فِي طَعَامٍ يَتَصَدَّقُ بِهِ ، أَوْ يَصُومُ عَنْ كُلِّ " مُدٍّ " يَوْمًا فَجَعَلَ الْبَدَلَ فِيهِ تَعْدِيلًا وَتَخْيِيرًا مِنْ غَيْرِ تَرْتِيبٍ . وَالثَّالِثُ : مَا جَعَلَ بَدَلَهُ تَخْيِيرًا وَتَقْدِيرًا مِنْ غَيْرِ تَعْدِيلٍ وَلَا تَرْتِيبٍ ، وَهُوَ كَفَّارَةُ الْأَذَى فِي حَلْقِ الشَّعْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [ الْبَقَرَةِ : ] فَخَيَّرَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنُصَّ عَلَى مِقْدَارِهَا ، فَبَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِقْدَارَ فِيهَا ، فَقَالَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ : أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ ؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : " احْلِقْ وَانْسُكْ شَاةً أَوْ صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَطْعِمْ ثَلَاثَةَ آصُعٍ سِتَّةَ مَسَاكِينَ " فَجَعَلَهُ مُخَيَّرًا بَيْنَ شَاةٍ أَوْ صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَوْ إِطْعَامِ سِتَّةِ مَسَاكِينَ ، مِنْ غَيْرِ تَرْتِيبٍ وَلَا تَعْدِيلٍ ، فَهَذَا حُكْمُ الدِّمَاءِ الثَّلَاثَةِ الْمَنْصُوصِ عَلَى أَبْدَالِهَا ، وَأَمَّا الدَّمُ الَّذِي لَمْ يَنُصَّ عَلَى بَدَلِهِ فَهُوَ دَمُ الْإِحْصَارِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [ الْبَقَرَةِ : ] ، فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ بِإِحْصَارِ الْعَدُوِّ هَدْيًا وَهُوَ " شَاةٌ " وَلَمْ يَنُصَّ عَلَى بَدَلِهِ ، فَاخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ هَلْ لَهُ بَدَلٌ عِنْدَ عَدَمِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا بَدَلَ لَهُ وَيَكُونُ فِي ذِمَّتِهِ إِلَى أَنْ يَجِدَهُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَهُ بَدَلٌ وَبَدَلُهُ الصِّيَامُ وَفِي قَدْرِهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : صِيَامُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ كَالتَّمَتُّعِ .
وَالثَّانِي : صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ كَفِدْيَةِ الْأَذَى . وَالثَّالِثُ : صِيَامُ التَّعْدِيلِ فَيُقَوِّمُ الشَّاةَ دَرَاهِمَ وَالدَّرَاهِمَ طَعَامًا ، وَيَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا كَجَزَاءِ الصَّيْدِ ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي تَوْجِيهِ ذَلِكَ وَحُكْمِ إِحْلَالِهِ قَبْلَ الْفِدْيَةِ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، فَهَذَا حُكْمُ الدِّمَاءِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الدِّمَاءُ الَّتِي لَمْ يَنُصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا وَجَبَ لِتَرْكِ نُسُكٍ . وَالثَّانِي : مَا وَجَبَ لِأَجْلِ التَّرْفِيهِ . وَالثَّالِثُ : مَا وَجَبَ لِأَجْلِ الْإِتْلَافِ ، فَأَمَّا مَا وَجَبَ لِتَرْكِ نُسُكٍ فَثَمَانِيَةُ دِمَاءٍ : دَمُ الْقِرَانِ ، وَدَمُ الْفَوَاتِ ، وَدَمُ مُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ ، وَدَمُ الدَّافِعِ مِنْ عَرَفَةَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ ، وَدَمُ تَارِكِ الْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ ، وَدَمُ تَارِكِ رَمْيِ الْجِمَارِ ، وَدَمُ تَارِكِ الْمَبِيتِ بِمِنًى ، وَدَمُ الصَّادِرِ مِنْ مَكَّةَ بِلَا وَدَاعٍ ، فَهَذِهِ ثَمَانِيَةُ دِمَاءٍ تَجِبُ لِتَرْكِ نُسُكٍ مَأْمُورٍ بِهِ ، فَكَانَ حُكْمُهَا حُكْمَ دَمِ التَّمَتُّعِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي الْبَدَلِ وَالتَّرْتِيبِ : لِأَنَّهُ دَمُ التَّمَتُّعِ وَجَبَ لِلتَّرْفِيهِ لِتَرْكِ أَحَدِ الْمِيقَاتَيْنِ ، فَكَانَ مِثْلَهُ كُلُّ دَمٍ وَجَبَ فِي مَتْرُوكٍ ، فَعَلَى هَذَا لَا يُجْزِئُهُ فِي هَذَا الثَّمَانِيَةِ إِلَّا دَمٌ مَا كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ صَامَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ . أَمَّا مَا وَجَبَ لِأَجْلِ التَّرْفِيهِ فَخَمْسَةُ دِمَاءٍ : دَمُ تَقْلِيمِ الظُّفْرِ ، وَدَمُ تَرْجِيلِ الشَّعْرِ ، وَدَمُ الطِّيبِ ، وَدَمُ اللِّبَاسِ ، وَدَمُ تَغْطِيَةٍ يُعَلِّقُ بِهِ الْإِحْرَامَ مِنْ رَأْسِ الرَّجُلِ وَوَجْهِ الْمَرْأَةِ ، فَهَذِهِ خَمْسَةُ دِمَاءٍ تَجِبُ لِأَجْلِ التَّرْفِيهِ ، فَكَانَ حُكْمُهَا حُكْمَ فِدْيَةِ الْأَذَى فِي حَلْقِ الشَّعْرِ فِي الْبَدَلِ ، وَالتَّخْيِيرِ لِاشْتِرَاكِ جَمِيعِهَا فِي التَّرْفِيهِ ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ : إِنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي لَفْظِ الْآيَةِ فَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ ، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا فَتَطَيَّبَ أَوْ لَبِسَ أَوْ أَخَذَ ظُفْرَهُ لِأَجْلِ مَرَضِهِ ، أَوْ كَانَ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَحَلَقَهُ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِي هَذِهِ الْخَمْسَةِ مُخَيَّرًا بَيْنَ دَمِ شَاةٍ ، أَوْ صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، أَوْ إِطْعَامِ ثَلَاثَةِ آصُعٍ سِتَّةَ مَسَاكِينَ ، إِمَّا بِنَصِّ الْآيَةِ أَوْ قِيَاسًا عَلَى الْمَنْصُوصِ فِي الْآيَةِ : لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ فِي الْإِمْلَاءِ : إِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي لَفْظِ الْآيَةِ ، وَأَمَّا مَا وَجَبَ لِأَجْلِ الْإِتْلَافِ فَدَمُ قَطْعِ الشَّجَرَةِ مِنَ الْحَرَمِ ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ جَزَاءِ الصَّيْدِ فِي التَّعْدِيلِ وَالتَّخْيِيرِ ؛ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْإِتْلَافِ ، فَيَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ الدَّمِ أَوْ قِيمَةِ الدَّمِ طَعَامًا ، أَوْ عَدْلِ الطَّعَامِ صِيَامًا فَأَمَّا دَمُ الْوَطْءِ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : دَمٌ لِفَسَادٍ وَقَدْ مَضَى حُكْمُهُ . وَالثَّانِي : دَمُ اسْتِمْتَاعٍ وَهُوَ دَمَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا وَجَبَ بِالْوَطْءِ دُونَ الْفَرْجِ . وَالثَّانِي : مَا وَجَبَ بِالْوَطْءِ فِي الْفَرْجِ بَعْدَ الْإِحْلَالِ الْأَوَّلِ فَأَمَّا مَا وَجَبَ بِالْوَطْءِ دُونَ الْفَرْجِ فَشَاةٌ وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَجْرِي ذَلِكَ مَجْرَى التَّرْفِيهِ أَوْ مَجْرَى الْإِتْلَافِ عَلَى وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى التَّرْفِيهِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ كَفِدْيَةِ الْأَذِيَّةِ مُخَيَّرًا بَيْنَ دَمِ شَاةٍ أَوْ صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَوْ إِطْعَامِ ثَلَاثَةِ آصُعٍ سِتَّةَ مَسَاكِينَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْإِتْلَافِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ كَجَزَاءِ الصَّيْدِ فِي التَّعْدِيلِ وَالتَّخْيِيرِ ، فَيَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ الشَّاةِ أَوْ قِيمَةِ الشَّاةِ طَعَامًا ، أَوْ عَدْلِ الطَّعَامِ صِيَامًا ، فَأَمَّا مَا وَجَبَ بِالْوَطْءِ فِي الْفَرْجِ بَعْدَ الْإِحْلَالِ الْأَوَّلِ فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّهُ بَدَنَةٌ كَانَ حُكْمُهَا حُكْمَ الْبَدَنَةِ فِي الْإِفْسَادِ ، وَإِنْ قُلْنَا : شَاةٌ كَانَ حُكْمُهَا حُكْمَ الشَّاةِ فِي الِاسْتِمْتَاعِ فَهَذَا حُكْمٌ غَيْرُ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَهُوَ أَصَحُّ مَا قِيلَ فِيهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا تَقْدِيمُ هَذِهِ الدِّمَاءِ قَبْلَ وُجُوبِهَا فَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا وَجَبَ فِي الْإِحْرَامِ . وَالثَّانِي : مَا وَجَبَ فِي غَيْرِ الْإِحْرَامِ ، فَأَمَّا مَا وَجَبَ فِي غَيْرِ الْإِحْرَامِ فَدَمَانِ : أَحَدُهُمَا : جَزَاءُ صَيْدِ الْحَرَمِ . الثَّانِي : جَزَاءُ شَجَرِ الْحَرَمِ وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ هَذَيْنِ الدَّمَيْنِ قَبْلَ وُجُوبِهَا : لِأَنَّهُ لَيْسَ لِوُجُوبِهَا سَبَبٌ مُتَقَدِّمٌ ، وَأَمَّا مَا وَجَبَ فِي الْإِحْرَامِ فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ : لِأَنَّ سَبَبَ وُجُودِهِ غَيْرُ مَوْجُودٍ ، فَأَمَّا بَعْدَ الْإِحْرَامِ فَمَا وَجَبَ مِنْهَا بِتَرْكِ نُسُكٍ كَدَمِ الْفَوَاتِ ، وَدَمِ مُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ ، وَدَمِ الدَّافِعِ مِنْ عَرَفَةَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ ، وَدَمِ تَرْكِ الْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ ، وَدَمِ رَمْيِ الْجِمَارِ ، وَدَمِ تَارِكِ الْمَبِيتِ بِمِنًى ، وَدَمِ الصَّادِرِ مِنْ مَكَّةَ بِلَا وَدَاعٍ ، فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ قَبْلَ وُجُوبِهِ ؛ لِأَنَّ النُّسُكَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ وُجُوبُ الدَّمِ بِهِ مَأْمُورٌ بِفِعْلِهِ بَعْدَ تَقْدِيمِ الدَّمِ ، كَمَا كَانَ مَأْمُورًا بِفِعْلِهِ قَبْلَ تَقْدِيمِ الدَّمِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الدَّمُ الَّذِي لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ لِعَدَمِ وُجُوبِهِ بَدَلًا مِنَ النُّسُكِ الْمَأْمُورِ بِهِ مَعَ إِمْكَانِ فِعْلِهِ ، وَأَمَّا مَا وَجَبَ لِغَيْرِ نُسُكٍ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا لَا يَجُوزُ اسْتِبَاحَةُ مُوجِبِهِ بِحَالٍ ، وَذَلِكَ الْوَطْءُ فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ قَبْلَ وُجُوبِهِ . وَالثَّانِي : مَا يَجُوزُ اسْتِبَاحَةُ مُوجِبِهِ بِحَالٍ ، وَهُوَ دَمُ الطِّيبِ وَاللِّبَاسِ ، وَحَلْقِ الشَّعْرِ وَتَقْلِيمِ الظُّفْرِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ فَفِي جَوَازِ تَقْدِيمِهِ قَبْلَ وُجُوبِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ فِي الْأُمِّ وَالْإِمْلَاءِ أَنَّ ذَلِكَ يُجْزِئُ : لِأَنَّهُ حَقٌّ فِي مَالٍ يَتَعَلَّقُ وُجُوبُهُ بِشَيْئَيْنِ ، وَهَمَا الْإِحْرَامُ وَالْفِعْلُ ، فَإِذَا وُجِدَ أَحَدُ سَبَبَيْهِ جَازَ إِخْرَاجُهُ قَبْلَ وُجُودِ السَّبَبِ الْآخَرِ كَالزَّكَاةِ وَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ وَإِنْ كَانَ أَحَدَ سَبَبَيْ وُجُوبِهِ فَلَيْسَ يُرَادُ لِوُجُوبِ الدَّمِ بِهِ ، وَإِنَّمَا يُرَادُ لِغَيْرِهِ ، وَهُوَ إِذَا نَسَكَهُ فَلَمْ يَكُنْ وُجُودُهُ مُبِيحًا لِتَقْدِيمِ الدَّمِ قَبْلَ وُجُوبِهِ ، كَمَا أَنَّ الْإِسْلَامَ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ ، ثُمَّ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ الزَّكَاةِ مَعَ وُجُودِ الْإِسْلَامِ
وَقَبْلَ وُجُودِ النِّصَابِ : لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَيْسَ يُرَادُ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ ، وَجَازَ تَقْدِيمُ الزَّكَاةِ بَعْدَ وُجُودِ النِّصَابِ ، لِأَنَّهُ يُرَادُ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ . مَسْأَلَةٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَا يَكُونُ الطَّعَامُ وَالْهَدْيُ إِلَّا بِمَكَّةَ أَوْ مِنًى ، وَالصَوْمُ حَيْثُ شَاءَ ؛ لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ لِأَهْلِ الْحَرَمِ فِي الصَّوْمِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْفِدْيَةَ الْوَاجِبَةَ فِي الْحَجِّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : إِمَّا أَنْ يَكُونَ هَدْيًا . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ طَعَامًا . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ صِيَامًا ، فَأَمَّا الْهَدَايَا مكان ذبحها وتوزيعها مِنْ سَائِرِ الدِّمَاءِ الْوَاجِبَةِ فِي الْحَجِّ فَعَلَيْهِ إِيصَالُهَا إِلَى الْحَرَمِ وَنَحْرُهَا فِيهِ وَتَفْرِيقُهُ لَحْمَهَا عَلَى مَسَاكِينِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ [ الْحَجِّ : ] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ [ الْمَائِدَةِ : ] ، وَإِذَا كَانَ هَكَذَا لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ إِمَّا أَنْ يَنْحَرَهَا فِي الْحَرَمِ وَيُفَرِّقَهَا فِي الْحَرَمِ ، أَوْ يَنْحَرَهَا فِي الْحِلِّ وَيُفَرِّقَهَا فِي الْحِلِّ ، أَوْ يَنْحَرَهَا فِي الْحِلِّ وَيُفَرِّقَهَا فِي الْحَرَمِ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : وَهُوَ أَنْ يَنْحَرَهَا مِنَ الْحِلِّ وَيُفَرِّقَ لَحْمَهَا مِنَ الْحَرَمِ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ أَنْ يَنْحَرَهَا فِي الْحَرَمِ وَيُفَرِّقَ لَحْمَهَا طَرِيًّا فِي الْحَرَمِ ، فَهُوَ الْوَاجِبُ الْمُجْزِئُ إِجْمَاعًا ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْحَرَهَا مِنَ الْحَرَمِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَتَحَلَّلُ فِيهِ ، فَإِنْ كَانَ مُعْتَمِرًا فَعِنْدَ الْمَرْوَةِ ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ تُحَلُّلِهِ ، وَإِنْ كَانَ حَاجًّا فَبِمِنًى : لِأَنَّهُ مَوْضِعُ تَحَلُّلِهِ ، وَأَيْنَ نَحَرَ مِنْهُ فِجَاجِ مَكَّةَ وَسَائِرِ الْحَرَمِ أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ جَمِيعِهِ وَاحِدَةٌ ، وَقَدْ رَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وَمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ ، وَفِجَاجُ مَكَّةَ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وَمَنْحَرٌ . وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُخُصَّ بِهَا مَنْ كَانَ قَاطِنًا فِي الْحَرَمِ دُونَ مَا كَانَ طَارِئًا إِلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْقَاطِنَ فِيهِ أَوْكَدُ حُرْمَةً مِنَ الطَّارِئِ إِلَيْهِ ، فَإِنْ فَرَّقَهَا عَلَى الطَّارِئِينَ إِلَيْهِ دُونَ الْقَاطِنِينَ أَجْزَأَهُ : لِأَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا مِنْ أَهْلِ الْحَرَمِ بِدُخُولِهِمْ إِلَيْهِ ، وَلَيْسَ لِمَا يُعْطِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَدْرٌ مَعْلُومٌ وَلَا عَدَدُ مَنْ يُعْطِيهِ مَعْلُومٌ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ مَسَاكِينَ مَا كَانَ يَقْدِرُ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ أَقَلُّ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يَنْحَرَهَا فِي الْحِلِّ وَيُفَرِّقَهَا فِي الْحِلِّ ، فَهَذَا غَيْرُ مُجْزِئٍ إِجْمَاعًا ، إِلَّا دَمَ الْإِحْصَارِ مكان ذبحه وتوزيعه فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ نَحْرُهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أُحْصِرَ فِيهِ : لِأَنَّهُ مَوْضِعُ تَحَلُّلِهِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ ، فَأَمَّا غَيْرُ دَمِ الْإِحْصَارِ مِنْ سَائِرِ الدِّمَاءِ الْوَاجِبَةِ فَلَا تُجْزِئُ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَبْلُغْ مَحِلَّهَا ، وَلَا فُرِّقَتْ فِي مُسْتَحِقِّيهَا .
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يَنْحَرَهَا فِي الْحَرَمِ وَيُفَرِّقَ لَحْمَهَا فِي الْحِلِّ ، فَلَا يُجْزِئُهُ عِنْدَنَا سَوَاءٌ فَرَّقَهُ فِي الْحِلِّ عَلَى فُقَرَاءِ الْحَرَمِ أَوْ فُقَرَاءِ الْحِلِّ ، وَعَلَيْهِ إِعَادَةُ الْهَدْيِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُجْزِئُهُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ [ الْمَائِدَةِ : ] فَكَانَ الظَّاهِرُ يَقْتَضِي إِبْلَاغَ الْكَعْبَةِ فَيُجْزِئُ ، وَهَذَا هَدْيٌ قَدْ بَلَغَ الْكَعْبَةَ ، فَوَجَبَ بِحَقِّ الظَّاهِرِ أَنْ يُجْزِئَ وَلِأَنَّهُ جُبْرَانٌ لِنُسُكِهِ ، فَجَازَ الْإِتْيَانُ بِهِ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ كَالصَّوْمِ ؛ وَلِأَنَّهُ مَوْضِعٌ يَجُوزُ فِيهِ صَوْمُهُ عَنْ نُسُكِهِ ، فَجَازَ فِيهِ تَفْرِيقُ هَدْيِهِ كَالْحَرَمِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ [ الْمَائِدَةِ : ] ، وَالْمُرَادُ بِالْكَعْبَةِ الْحَرَمُ ، فَلَمَّا حَضَّ اللَّهُ تَعَالَى بِإِيصَالِ الْهَدْيِ إِلَيْهِ ، لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِالتَّفْرِقَةِ دُونَ الْإِرَاقَةِ ، أَوْ بِالْإِرَاقَةِ دُونَ التَّفْرِقَةِ ، أَوْ بِالْإِرَاقَةِ وَالتَّفْرِقَةِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِالتَّفْرِقَةِ دُونَ الْإِرَاقَةِ : لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ لَحْمًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِالْإِرَاقَةِ دُونَ التَّفْرِقَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ إِلَّا تَنْجِيسَ الْحَرَمِ ، وَتَنْجِيسُ الْحَرَمِ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ ، بَلْ صِيَانَةُ الْحَرَمِ عَنِ الْإِنْجَاسِ قُرْبَةٌ ، فَثَبَتَ أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالْإِرَاقَةِ وَالتَّفْرِقَةِ : لِمَا فِي نَفْعِ مَسَاكِينِ الْحَرَمِ مِنْ عِظَمِ الْقُرْبَةِ ؛ وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحَرَ هَدْيَهُ فِي الْحَرَمِ وَفَرَّقَ لَحْمَهُ عَلَى مَسَاكِينِهِ ، وَقَالَ : خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ ؛ وَلِأَنَّ إِرَاقَةَ الْهَدْيِ وَتَفْرِيقَهُ مَقْصُودٌ ثَانٍ مَعًا ، أَمَّا الْإِرَاقَةُ فَهِيَ مَقْصُودَةٌ : لِأَنَّهُ لَوِ اشْتَرَى فِي الْحَرَمِ لَحْمًا وَفَرَّقَهُ لَمْ يُجْزِئْهُ ، وَأَمَّا التَّفْرِقَةُ فَهِيَ مَقْصُودَةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَحَرَ هَدْيَهُ ثُمَّ اسْتَهْلَكَهُ لَمْ يُجْزِهِ ، وَإِذَا كَانَتِ الْإِرَاقَةُ وَالتَّفْرِقَةُ مَقْصُودَتَيْنِ ، ثُمَّ لَمْ تَجُزِ الْإِرَاقَةُ إِلَّا فِي الْحَرَمِ ، وَجَبَ أَنْ لَا تَجُزِ التَّفْرِقَةُ إِلَّا فِي الْحَرَمِ . وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا : أَنَّهُ أَحَدُ مَقْصُودَيِ الْهَدْيِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُجْزِئَ إِلَّا فِي الْحَرَمِ كَالْإِرَاقَةِ : وَلِأَنَّ الْأُصُولَ فِي الْحَجِّ مَوْضُوعَةٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ نُسُكٍ اخْتَصَّ شَيْءٌ مِنْهُ بِالْحَرَمِ ، اخْتَصَّ جَمِيعُهُ بِالْحَرَمِ كَالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَالرَّمْيِ ، وَكُلُّ نُسُكٍ لَمْ يَخْتَصَّ شَيْءٌ مِنْهُ بِالْحَرَمِ ، لَمْ يَخْتَصَّ جَمِيعُهُ بِالْحَرَمِ كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ ، فَلَمَّا كَانَ شَيْءٌ مِنَ الْهَدْيِ مُخْتَصًّا بِالْحَرَمِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهُ مُخْتَصًّا بِالْحَرَمِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الصَّوْمِ ، فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ شَيْءٌ مِنْ أَسْبَابِهِ بِالْحَرَمِ ، فَلِذَلِكَ جَازَ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ ، وَلَمَّا اخْتَصَّ شَيْءٌ مِنَ الْهَدْيِ بِالْحَرَمِ اخْتَصَّ جَمِيعُهُ بِالْحَرَمِ . أَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْحَرَمِ فَالْمَعْنَى فِي الْحَرَمِ أَنَّ الْإِرَاقَةَ فِيهِ تُجْزِئُ فَجَازَتِ التَّفْرِقَةُ فِيهِ ، وَالْحِلُّ لَمَّا لَمْ يَجُزِ الْإِرَاقَةُ فِيهِ ، لَمْ تَجُزِ التَّفْرِقَةُ فِيهِ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ : وَهُوَ أَنْ يَنْحَرَهَا فِي الْحِلِّ وَيُفَرِّقَ لَحْمَهَا فِي الْحَرَمِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ . وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُجْزِئُ التَّفْرِقَةُ فِي أَهْلِ الْحَرَمِ ، وَهَذَا خَطَأٌ خَالَفَ بِهِ نَصَّ الْمَذْهَبِ وَمُقْتَضَى الْحِجَاجِ : لِرِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
فِجَاجُ مَكَّةَ كُلُّهَا طُرُقٌ وَمَنْحَرٌ . فَخَصَّ النَّحْرَ بِمَوْضِعٍ مَخْصُوصٍ ، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهِ ؛ وَلِأَنَّهُ أَحَدُ مَقْصُودَيِ الْهَدْيِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُجْزِئَ إِلَّا فِي الْحَرَمِ كَالتَّفْرِقَةِ ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ حُصُولِ التَّفْرِقَةِ فِي أَهْلِ الْحَرَمِ فَفَاسِدٌ بِمَنِ اشْتَرَى لِحَمًا وَفَرَّقَهُ فِي أَهْلِ الْحَرَمِ ، فَعَلِمَ أَنَّ الْإِرَاقَةَ مَقْصُودَةٌ مَعَ التَّفْرِقَةِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الطَّعَامُ فَالْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِي الْهَدْيِ ، لَا يُجْزِئُهُ إِلَّا فِي الْحَرَمِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُجْزِئُ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ ، وَالْكَلَامُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ وَاحِدٌ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالطَّعَامُ الْوَاجِبُ فِي الْفِدْيَةِ مكان توزيعه عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مَنْصُوصًا عَلَى قَدْرِهِ وَعَدَدِ مُسْتَحِقِّيهِ ، وَذَلِكَ فِدْيَةُ الْأَذَى ، وَهُوَ إِطْعَامُ ثَلَاثَةِ آصُعٍ سِتَّةَ مَسَاكِينَ ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدَّانِ ، وَهُوَ أَعْلَى الْإِطْعَامِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي الْكَفَّارَاتِ ، وَقَدْ سَمَّاهَا الشَّافِعِيُّ فِي الْإِمْلَاءِ فِدْيَةَ تَعَبُّدٍ : لِأَنَّ الشَّرْعَ قَدْ تُعُبِّدَ بِقِدْرِ الطَّعَامِ وَأَعْدَادِ الْمَسَاكِينِ ، فَإِذَا دَفَعَ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ آصُعٍ إِلَى سِتَّةِ مَسَاكِينَ لَمْ يُجْزِهِ : لِنُقْصَانِ الْقَدْرِ ، وَإِنْ دَفَعَ ثَلَاثَةَ آصُعٍ إِلَى أَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ مَسَاكِينَ لَمْ يُجْزِهِ ، لِنُقْصَانِ الْعَدَدِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَكُونَ مَنْصُوصًا عَلَى قَدْرِهِ ، وَلَا عَلَى عَدَدِ مُسْتَحِقِّيهِ ، وَذَلِكَ جَزَاءُ الصَّيْدِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْكَفَّارَاتِ التَّعْدِيلُ ، وَقَدْ سَمَّاهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْإِمْلَاءِ فِدْيَةَ بَدَلٍ ، كَالْأَثْمَانِ تَنْخَفِضُ وَتَرْتَفِعُ : لِأَنَّهُ لَا يَتَقَدَّرُ الطَّعَامُ فِيهَا إِلَّا بِتَقْوِيمِ الْهَدْيِ وَصَرْفِ ثَمَنِهِ فِي الطَّعَامِ ، فَرُبَّمَا كَثُرَ الطَّعَامُ إِمَّا لِكَثْرَةِ قِيمَةِ الْهَدْيِ ، أَوْ لِقِلَّةِ ثَمَنِ الطَّعَامِ ، وَرُبَّمَا قَلَّ الطَّعَامُ إِمَّا لِقِلَّةِ قِيمَةِ الْهَدْيِ ، أَوْ لِكَثْرَةِ ثَمَنِ الطَّعَامِ ، ثُمَّ يَتَقَدَّرُ حِينَئِذٍ بِذَلِكَ فَيَصِيرُ كَالْمُقَدَّرِ شَرْعًا ، فَأَمَّا أَعْدَادُ مُسْتَحِقِّيهِ فَهَلْ مَخْصُوصٌ بِعَدَدٍ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ فِيمَا يُدْفَعُ إِلَى كُلِّ مِسْكِينٍ . فَأَمَّا الْوَجْهَانِ : أَنَّهُ يُدْفَعُ إِلَى كُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ ، لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ وَلَا النُّقْصَانُ مِنْهُ ، فَعَلَى هَذَا يَنْحَصِرُ عَدَدُهُمْ بِعَدَدِ الْأَمْدَادِ : فَإِنْ كَانَتِ الْأَمْدَادُ عَشَرَةً ، وَجَبَ دَفْعُهَا إِلَى عَشَرَةِ مَسَاكِينَ ، لَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِمْ وَلَا النُّقْصَانُ مِنْهُمْ ، وَصَارُوا كَالْعَدَدِ الْمُقَدَّرِ شَرْعًا : فَلَوْ كَانَ فَوْقَ الْأَمْدَادِ كَسْرٌ ، وَجَبَ دَفْعُ الْكَسْرِ إِلَى مِسْكِينٍ آخَرَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ كُلَّ مَا يُدْفَعُ إِلَى كُلِّ مِسْكِينٍ غَيْرُ مُقَدَّرٍ كَلَحْمِ الْهَدْيِ ، فَعَلَى هَذَا عَدَدُ الْمَسَاكِينِ غَيْرُ مَحْصُورٍ ، وَلَكِنْ إِنْ كَانَ ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَمْدَادٍ فَصَاعِدًا لَمْ يَجُزْ دَفْعُهَا إِلَى أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ مَسَاكِينَ : لِأَنَّهُمْ أَقَلُّ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُدَّيْنِ لَمْ يَجُزْ دَفْعُهَا إِلَى أَقَلَّ مِنْ مِسْكِينٍ ، وَيَجُوزُ دَفْعُهَا إِلَى مِسْكِينَيْنِ : لِأَنَّ أَقَلَّ مَا يُوَاسَى بِهِ كُلُّ مِسْكِينٍ مَدٌّ ، فَإِنْ دَفَعَ ذَلِكَ إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاكِينَ أَجْزَأَ ؟ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُدًّا وَاحِدًا جَازَ أَنْ يَصْرِفَهُ إِلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ ، فَإِنْ صَرَفَهُ إِلَى مِسْكِينَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةِ مَسَاكِينَ أَجْزَأَهُ ، وَيُسْتَحَبُّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ لَا يَنْقُصَ الْمِسْكِينَ الْوَاحِدَ عَنْ مُدٍّ : لِأَنَّهُ أَقَلُّ مَا يُوَاسَى بِهِ ، وَلَا يَزِيدُهُ عَلَى مُدَّيْنِ : لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَا يُوَاسَى بِهِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الصِّيَامُ مكان آداءه فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا كَانَ مُعَيَّنَ الْمَكَانِ ، وَذَلِكَ صَوْمُ التَّمَتُّعِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [ الْبَقَرَةِ : ] ، فَيَصُومُهَا عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ حُكْمِهِ فِي تَفْرِيقِهِ وَتَتَابُعِهِ . الضَّرْبُ الثَّانِي : مَا كَانَ غَيْرَ مُعَيَّنِ الْمَكَانِ ، وَهُوَ مَا سِوَى صَوْمِ التَّمَتُّعِ ، فَهَذَا يُجْزِئُ فِي الْحَرَمِ وَغَيْرِ الْحَرَمِ ، وَإِنْ كَانَ فِي الْحَرَمِ أَوْلَى لِشَرَفِ الْمَكَانِ ، وَقُرْبِ الزَّمَانِ ، وَإِنَّمَا أَجْزَأَهُ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ ، وَإِنْ لَمْ يُجْزِهِ الْهَدْيُ إِلَّا فِي الْحَرَمِ : لِأَنَّ الصَّوْمَ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لِأَهْلِ الْحَرَمِ ، فَجَازَ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ ، وَالْهَدْيُ نَفْعٌ لِأَهْلِ الْحَرَمِ ، فَلَمْ يَجُزْ إِلَّا فِي الْحَرَمِ ، ثُمَّ هُوَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا كَانَ مُقَدَّرًا بِالشَّرْعِ وَهُوَ صَوْمُ كَفَّارَةِ التَّعَبُّدِ ، فَلَا يَنْخَفِضُ وَلَا يَرْتَفِعُ . وَالثَّانِي : مَا كَانَ غَيْرَ مُقَدَّرٍ بِالشَّرْعِ ، وَهُوَ صَوْمُ كَفَّارَةِ الْبَدَلِ ، فَرُبَّمَا انْخَفَضَ وَرُبَّمَا ارْتَفَعَ ، ثُمَّ هَلْ تَجِبُ مُتَابَعَتُهُ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَمَنْ وَطِئَ أَهْلَهُ بَعْدَ رَمْيِ الْجِمَارِ فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ ، وَيُتِمُّ حَجَّهُ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) قَرَأْتُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ ، قُلْتُ إِنْ لَمْ تَكُنِ الْبَدَنَةُ إِجْمَاعًا أَوْ أَصْلًا فَالْقِيَاسُ شَاةٌ ؛ لِأَنَّهَا هَدْيٌ عِنْدِي " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ ، وَذَكَرْنَا أَنَّ الْوَاطِئَ فِي الْحَجِّ بَعْدَ الْإِحْلَالِ الْأَوَّلِ غَيْرُ مُفْسِدٍ لِلْحَجِّ ، وَأَنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ الواجبة على الواطئ في الحج بعد الإحلال الأول ، وَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : " بَدَنَةٌ " . وَالثَّانِي : " شَاةٌ " وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ ، وَذَكَرْنَا كَيْفِيَّةَ الْإِحْلَالِ الْأَوَّلِ ، وَأَنْ يَكُونَ بِرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ إِنْ قِيلَ إِنَّ الْحَلْقَ لَيْسَ بِنُسُكٍ ، وَاسْتَوْفَيْنَا جَمِيعَ ذَلِكَ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى إِعَادَةٍ .
مَسْأَلَةٌ مَنْ أَفْسَدَ الْعُمْرَةَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ مِنَ الْمِيقَاتِ الَّذِي ابْتَدَأَهَا مِنْهُ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَنْ أَفْسَدَ الْعُمْرَةَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ مِنَ الْمِيقَاتِ الَّذِي ابْتَدَأَهَا مِنْهُ ، فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَائِشَةَ أَنْ تَقْضِيَ الْعُمْرَةَ مِنَ التَنْعِيمِ ، فَلَيْسَ كَمَا قَالَ إِنَّمَا كَانَتْ قَارِنًا ، وَكَانَ عُمْرَتُهَا شَيْئًا اسْتَحْسَنَتْهُ ، فَأَمَرَهَا النَبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا لَا أَنَّ عُمْرَتَهَا كَانَتْ قَضَاءً ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا طَوَافُكِ يَكْفِيكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنَ الْوَطْءِ ، سَوَاءٌ كَانَ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا أَوْ قَارِنًا وَمَضَى الْكَلَامُ فِي الْحَجِّ ، فَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَإِنْ وَطِئَ فِيهَا بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِهَا وَقَبْلَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ ، أَوْ بَعْدَ الطَّوَافِ وَقَبْلَ السَّعْيِ ، أَوْ قَبْلَ كَمَالِ جَمِيعِ السَّعْيِ ، فَقَدْ أَفْسَدَ عُمْرَتَهُ ، وَإِنْ وَطِئَ بَعْدَ السَّعْيِ وَقَبْلَ الْحِلَاقِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْحَلْقِ ، فَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ نُسُكٌ يُتَحَلَّلُ بِهِ أَفَسَدَ عُمْرَتَهُ ، وَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ إِبَاحَةٌ بَعْدَ حَظْرٍ لَمْ يُفْسِدْ ، فَإِنْ أَفَسَدَ عُمْرَتَهُ كفارته لَزِمَهُ
الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ ، وَهِيَ بَدَنَةٌ كَالْوَطْءِ فِي الْحَجِّ سَوَاءٌ ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ . وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّ الْعُمْرَةَ كَالْحَجِّ فِيمَا يَحِلُّ فِيهِ وَيَحْرُمُ ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ كَالْحَجِّ فِي فَسَادِهِ بِالْوَطْءِ وَوُجُوبِ الْبَدَنَةِ . وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهَا عِبَادَةٌ تَفْتَقِرُ إِلَى الطَّوَافِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْوَطْءُ فِيهَا مُوجِبًا لِلْقَضَاءِ وَالْبَدَنَةِ كَالْحَجِّ ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَمْضِيَ فِي فَاسِدِهَا ثُمَّ يَقْضِيَهَا مِنْ حَيْثُ أَحْرَمَ بِهَا ، وَكَذَا الْحَجُّ إِذَا أَفْسَدَهُ يَقْضِيهِ مِنْ حَيْثُ أَحْرَمَ بِهِ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَحْرَمَ بِهِ مِنْ بَلَدِهِ لَزِمَهُ أَنْ يُحْرِمَ بِالْقَضَاءِ مِنْ بَلَدِهِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَحْرَمَ بِهِ مِنْ مِيقَاتِهِ أَحْرَمَ بِالْقَضَاءِ مِنْ مِيقَاتِهِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ ، وَبِالْحَجِّ مِنَ الْحَرَمِ ، أَحْرَمَ فِي الْقَضَاءِ كَذَلِكَ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : عَلَيْهِ قَضَاءُ الْحَجِّ مِنْ مِيقَاتِهِ وَالْعُمْرَةِ مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ ، وَإِنْ أَحْرَمَ بِهِمَا مِنْ بَلَدِهِ تَعَلُّقًا بِمَا رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَحْرَمَتْ بِالْعُمْرَةِ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ ثُمَّ رَفَضَتْهَا وَخَرَجَتْ مِنْهَا ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَاهَا أَنْ يُعْمِرَهَا مِنَ التَّنْعِيمِ ، وَرَفَضُ الْعُمْرَةِ كَالْإِفْسَادِ . وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ الْقَضَاءَ إِنَّمَا هُوَ الْإِتْيَانُ بِفِعْلِ مَا لَزِمَ ، فَلَمَّا لَزِمَهُ فِي الْأَدَاءِ الْإِحْرَامُ مِنْ بَلَدِهِ بِالدُّخُولِ فِيهِ ، وَجَبَ أَنْ لَا يُلْزِمَهُ الْقَضَاءُ الْإِحْرَامَ مِنْ بَلَدِهِ بِالْإِفْسَادِ لَهُ ، لِيَصِيرَ قَاضِيًا لِمَا كَانَ لَهُ مُؤَدِّيًا ، فَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَلَمْ تَرْفُضْ عُمْرَتَهَا ، وَلَمْ تَخْرُجْ مِنْهَا ، بَلْ كَانَتْ قَارِنَةً : لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : طَوَافُكِ بِالْبَيْتِ وَسَعْيُكِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ يُجْزِيكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكَ وَإِنَّمَا قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ كُلُّ نِسَائِكَ يَنْصَرِفْنَ بِنُسُكَيْنِ ، وَأَنَا بِنُسُكٍ وَاحِدٍ ، يَعْنِي : بِنُسُكَيْنِ مُنْفَرِدَيْنِ ، وَأَنَا قَدْ ضَمَمْتُهَا فِي الْقِرَانِ ، حِينَ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَاهَا أَنْ يُحْرِمَ بِهَا مِنَ التَّنْعِيمِ ، فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لَهَا : ارْفُضِي عُمْرَتَكِ وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ وَقِيلَ إِنَّمَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ : ارْفُضِي عُمْرَتَكِ وَقَوْلِهِ : وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ ، أَيِ أَدْخِلِي الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ حَتَّى صَارَتْ قَارِنَةً .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ فِي الْقَضَاءِ مِنْ بَلَدِهِ الَّذِي كَانَ قَدْ أَحْرَمَ مِنْهُ فِي الْأَدَاءِ ، فَلَمْ يُحْرِمْ مِنْهُ وَأَحْرَمَ مِنَ الْمِيقَاتِ ، فَإِنْ عَادَ إِلَى بَلَدِهِ مُحْرِمًا قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ فِي نُسُكِهِ أَجْزَأَهُ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ إِلَى بَلَدِهِ مُحْرِمًا ، وَمَضَى فِي الْقَضَاءِ كَانَ كَالْمُجَاوِزِ لِمِيقَاتِهِ فَيُجْزِئُهُ وَيَكُونُ عَلَيْهِ دَمٌ لِمُجَاوَزَتِهِ : فَلَوْ كَانَ قَدْ أَحْرَمَ فِي الْأَدَاءِ مِنَ الْبَصْرَةِ ، وَأَحْرَمَ فِي الْقَضَاءِ مِنْ مِصْرَ ، وَالْمَسَافَةُ مِنْهَا إِلَى الْحَرَمِ وَاحِدَةٌ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُجْزِئُهُ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ مَسَافَةَ الْإِحْرَامِ فِي الْقَضَاءِ كَمَسَافَةِ الْإِحْرَامِ فِي الْأَدَاءِ ، وَيَكُونُ اخْتِلَافُ الْجِهَتَيْنِ كَاخْتِلَافِ الطَّرِيقَيْنِ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ عَلَيْهِ دَمًا : لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْقَضَاءِ أَنْ يَكُونَ مُمَاثِلًا لِلْأَدَاءِ ، وَالْإِحْرَامُ مِنْ مِصْرَ وَإِنْ كَانَ مُسَاوِيًا لِمَسَافَةِ الْإِحْرَامِ مِنَ الْبَصْرَةِ ، فَهُوَ غَيْرُ الْإِحْرَامِ مِنَ الْبَصْرَةِ فَلَمْ يَقُمْ مَقَامَ الْإِحْرَامِ مِنَ الْبَصْرَةِ فِي إِسْقَاطِ الدَّمِ .
فَصْلٌ : فَلَوْ كَانَ فِي الْأَدَاءِ قَدْ مَرَّ بِمِيقَاتِ بَلَدِهِ مُرِيدَ الْحَجِّ فَلَمْ يُحْرِمْ مِنْهُ وَأَحْرَمَ بَعْدَهُ وَلَمْ يَعُدْ إِلَيْهِ ، ثُمَّ أَفْسَدَ حَجَّهُ ، فَعَلَيْهِ دَمٌ لِمُجَاوَزَتِهِ مِيقَاتَهُ ، وَبَدَنَةٌ لِوَطْئِهِ وَالْقَضَاءُ فِي الْقَابِلِ مِنْ مِيقَاتِهِ دُونَ الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ قَدْ أَحْرَمَ مِنْهُ ، فَإِنْ أَحْرَمَ فِي الْقَضَاءِ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ قَدْ أَحْرَمَ مِنْهُ فِي الْأَدَاءِ فَلَهُ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَكُونَ قَدْ مَرَّ بِمِيقَاتِهِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ لِوُرُودِهِ مِنْ بَلَدِهِ فَيَلْزَمُهُ دَمٌ : لِأَنَّ مَنْ مَرَّ مِيقَاتَهُ مُرِيدًا لِنُسُكٍ فَعَلَيْهِ الْإِحْرَامُ مِنْهُ ، فَإِذَا جَاوَزَهُ غَيْرَ مُحْرِمٍ لَزِمَهُ الدَّمُ بِمُجَاوَزَتِهِ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ لَا يَكُونُ قَدْ مَرَّ بِمِيقَاتِهِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُقِيمًا بِالْحَرَمِ فَخَرَجَ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ قَدْ أَحْرَمَ مِنْهُ فِي الْأَدَاءِ فَأَحْرَمَ مِنْهُ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ مِنَ الْحَرَمِ ، فَيُجْزِئُهُ إِحْرَامُهُ مِنْهُ ، وَلَا دَمَ عَلَيْهِ إِلَّا الْإِحْرَامُ مِنَ الْمِيقَاتِ إِنَّمَا يَلْزَمُ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ ، إِمَّا بِالْحُصُولِ فِيهِ أَوْ قَضَاءِ الْإِحْرَامِ كَانَ مِنْهُ ، وَهُمَا مَعْدُومَانِ هَا هُنَا . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ مِنَ الْحِلِّ ، فَفِي وُجُوبِ الدَّمِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا دَمَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُمَاثِلًا لِلْأَدَاءِ وَقَدْ فَعَلَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : عَلَيْهِ دَمٌ ؛ لِأَنَّ لَهُ أَحَدَ مِيقَاتَيْنِ إِمَّا الْحَرَمُ أَوْ مِيقَاتُ بَلَدِهِ وَلَمْ يُحْرِمْ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ دَمٌ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقَارِنُ إِذَا أَفْسَدَ قِرَانَهُ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ لِوَطْئِهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : عَلَيْهِ لِوَطْئِهِ كَفَّارَتَانِ ، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الْقَارِنَ يَطُوفُ طَوَافَيْنِ ، وَيَفْتَدِي فِي قَتْلِ الصَّيْدِ بِجَزَاءَيْنِ ، وَنَحْنُ نُبَيِّنُ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِنَا أَنَّ الْقَارِنَ يَطُوفُ طَوَافًا وَاحِدًا ، وَيُفْتَدَى فِي قَتْلِ الصَّيْدِ وَاحِدٌ بِجَزَاءٍ وَاحِدٍ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَةً وَاحِدَةً لِوَطْئِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِقِرَانِهِ ، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ ، فَإِنْ قَضَى قَارِنًا أَجْزَأَهُ وَعَلَيْهِ دَمٌ لِقِرَانِهِ وَالْقَضَاءِ ، وَإِنْ قَضَى حَجًّا مُفْرَدًا وَعُمْرَةً مُفْرَدَةً . قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُ ، قَالَ أَصْحَابُنَا يَعْنِي : لَمْ يَكُنْ لَهُ إِسْقَاطُ الدَّمِ عَنْ نَفْسِهِ ، بِالْإِفْرَادِ وَعَلَيْهِ دَمُ الْقِرَانِ وَإِنْ قَضَى مُفْرِدًا ، وَلَمْ يَرِدْ أَنَّ فَرْضَ الْقِرَانِ لَا يَسْقُطُ بِالْإِفْرَادِ ، وَإِنَّمَا دَمُ الْقِرَانِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِالْإِفْرَادِ ، فَلَوْ أَحَلَّ الْقَارِنُ إِحْلَالَهُ الْأَوَّلَ بِالرَّمْيِ وَالْحَلْقِ ، وَلَمْ يَطُفْ وَلَمْ يَسْعَ حَتَّى وَطِئَ ، لَمْ يَفْسَدْ قِرَانُهُ ، فَإِنْ كَانَ الْوَاطِئُ فِي الْعُمْرَةِ الْمُفْرَدَةِ قَبْلَ الطَّوَافِ فَسَدَتْ عُمْرَتُهُ ،
وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ : لِأَنَّ الْقَارِنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ يَصِيرُ كَأَنَّ إِحْرَامَهُ بِالْحَجِّ دُونَ الْعُمْرَةِ فَلَمَّا كَانَ الْمُحْرِمُ بِالْحَجِّ لَا يَفْسُدُ حَجُّهُ بِالْوَطْءِ قَبْلَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ كَذَلِكَ الْقَارِنُ .
فَصْلٌ : إِذَا أَحْرَمَ الرَّجُلُ بِحَجَّةِ التَّطَوُّعِ وَأَفْسَدَهَا بِالْوَطْءِ لَزِمَهُ الْمُضِيُّ فِي فَسَادِهَا وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ ، فَإِنْ حَصَرَهُ الْعَدُوُّ فِيهَا جَازَ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْهَا : لِأَنَّ لُزُومَ الْمُضِيِّ فِي الْفَسَادِ لَيْسَ بِأَوْكَدَ مِنْ لُزُومِ الْمُضِيِّ فِي الصَّحِيحِ ، ثُمَّ لَوْ حَصَرَهُ الْعَدُوُّ فِي الْحَجِّ الصَّحِيحِ جَازَ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْهُ كَذَلِكَ الْفَاسِدُ ، فَإِنْ تَحَلَّلَ فَعَلَيْهِ بِالْقَضَاءِ لَا بِالْإِحْصَارِ وَلَكِنْ بِالْفَسَادِ : لِأَنْ لَيْسَ تَحَلُّلُهُ بِالْإِحْصَارِ مِنَ الْحَجِّ الْفَاسِدِ بِأَكْثَرَ مِنْ إِتْمَامِ الْحَجِّ الْفَاسِدِ ، ثُمَّ لَوْ أَتَمَّ الْحَجَّ الْفَاسِدَ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ ، فَكَذَلِكَ إِذَا تَحَلَّلَ مِنْهُ بِالْإِحْصَارِ ، فَإِذَا تَحَلَّلَ بِالْإِحْصَارِ ثُمَّ انْكَشَفَ الْعَدُوُّ وَكَانَ وَقْتُ الْحَجِّ فِي عَامِهِ ذَلِكَ مُمْكِنًا ، جَازَ أَنْ يُحْرِمَ فَإِنَّهُ بِالْقَضَاءِ ، فَيَسْتَفِيدُ بِالْإِحْصَارِ فِي هَذَا الْعَامِ جَوَازَ الْقَضَاءِ فِيهِ .
فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ عَنِ الزَّعْفَرَانِيِّ : وَإِذَا كَانَ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ فَأَحْرَمَ بِهَا ثُمَّ أَفْسَدَهَا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ ، فَإِنْ أَحْرَمَ بِالْقَضَاءِ ثُمَّ أَفْسَدَهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ حَجَّةٍ وَاحِدَةٍ ، وَلَوْ أَفْسَدَهَا مِائَةَ مَرَّةٍ : لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ وَاحِدٌ فَلَمْ يَلْزَمْ فِي الْقَضَاءِ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ .
فَصْلٌ : إِذَا أَوْلَجَ الْمُحْرِمُ ذَكَرَهُ فِي فَرْجِ خُنْثًى مُشْكِلٍ لَمْ يَفْسَدْ إِحْرَامُهُ ، سَوَاءٌ أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ : لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخُنْثَى رَجُلًا ، فَيَكُونُ الْفَرْجُ مِنْهُ عُضْوًا زَائِدًا ، وَالْمُحْرِمُ إِذَا أَوْلَجَ فِي غَيْرِ فَرْجٍ لَمْ يَفْسُدْ إِحْرَامُهُ ، كَالْمُسْتَمْتِعِ بِمَا دُونَ الْفَرْجِ ، ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ أَنْزَلَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَفْتَدِيَ بِشَاةٍ لِاسْتِمْتَاعِهِ بِالْإِنْزَالِ ، كَالْمُحْرِمِ إِذَا اسْتَمْنَى بِكَفِّهِ ، وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ وَلَا غُسْلَ : لِأَنَّ الْمُحْرِمَ إِذَا بَاشَرَ رَجُلًا لَمْ يَفْتَدِ ، وَإِذَا أَوْلَجَ فِي غَيْرِ فَرْجٍ لَمْ يَغْتَسِلْ .
فَصْلٌ : إِذَا بَاشَرَ الْمُحْرِمُ زَوْجَتَهُ فَلَزِمَتْهُ شَاةٌ ، ثُمَّ وَطِئَهَا فِي الْفَرْجِ فَلَزِمَتْهُ الْبَدَنَةُ ، فَهَلْ تَسْقُطُ الشَّاةُ الْوَاجِبَةُ عَلَيْهِ فِي الْمُبَاشَرَةِ بِمَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ فِي الْوَطْءِ مِنَ الْبَدَنَةِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي الْمُحْدِثِ إِذَا أَجْنَبَ هَلْ يَسْقُطُ حُكْمُ حَدَثِهِ لِحُدُوثِ الْجَنَابَةِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَسْقُطُ حُكْمُ حَدَثِهِ بِالْجَنَابَةِ ، لِطُرُوءِ مَا هُوَ أَغْلَظُ مِنْ جِنْسِهَا ، كَالزَّانِي بِكْرًا لَا يُجْلَدُ حَتَّى يَزْنِيَ ثَيِّبًا ، فَيَكُونُ الرَّجْمُ مُسْقِطًا لِلْجَلْدِ ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْبَدَنَةُ مُسْقِطَةً لِلدَمِ الْوَاجِبِ بِالْمُبَاشِرَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَسْقُطُ حُكْمُ حَدَثِهِ بِالْجَنَابَةِ ، لِاسْتِقْرَارِ حُكْمِهِ قَبْلَ حُدُوثِ الْجَنَابَةِ ، فَعَلَى هَذَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْبَدَنَةُ بِالْوَطْءِ الْحَادِثِ وَالدَّمُ بِالْمُبَاشَرَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ .
فَصْلٌ : إِذَا لَفَّ الْمُحْرِمُ ذَكَرَهُ فِي خِرْقَةٍ ، ثُمَّ أَوْلَجَهُ فِي فَرْجٍ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي إِفْسَادِ الْحَجِّ بِهِ وَوُجُوبِ الْغُسْلِ مِنْهُ عَلَى وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : يُفْسِدُ الْحَجَّ وَيُوجِبُ الْغُسْلَ ؟ لِوُلُوجِ ذَكَرِهِ فِي الْفَرْجِ كَالْمُبَاشِرِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يُفْسِدُ الْحَجَّ وَلَا يُوجِبُ الْغُسْلَ : لِأَنَّهُ ذَكَرَهُ لَمْ يُمَاسِّ الْفَرْجَ ، فَكَانَ الْفَرْجُ كَغَيْرِ الْمُوْلَجِ ، وَكَانَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ يُفَرِّقُ فَيَقُولُ : إِنْ كَانَتِ الْخِرْقَةُ كَثِيفَةً لَمْ يَفْسُدْ بِهِ الْحَجُّ ، وَلَمْ يَجِبْ بِهِ الْغُسْلُ ، وَإِنْ كَانَتْ رَقِيقَةً فَسَدَ بِهِ الْحَجُّ ، وَوَجَبَ بِهِ الْغُسْلُ ، لِحُصُولِ اللَّذَّةِ بِهَذِهِ وَعَدَمِهَا بِتِلْكَ .
مَسْأَلَةٌ الأحكام المتعلقة بالقران
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ قَبْلَ اْلَفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ ، وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ قَبْلَ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ ( قَالَ ) وَمَنْ فَاتَهُ ذَلِكَ فَاتَهُ الْحَجُّ فَآمُرُهُ أَنْ يَحِلَّ بِطَوَافٍ وَسَعْيٍ وَحِلَاقٍ ( قَالَ ) وَإِنْ حَلَّ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ فَلَيْسَ حَجُّهُ صَارَ عُمْرَةً ، وَكَيْفَ يَصِيرُ عُمْرَةً وَقَدِ ابْتَدَأَهُ حَجًّا ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) إِذَا كَانَ عَمَلُهُ عِنْدَهُ عَمَلَ حَجٍّ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ إِلَى عُمْرَةٍ ، فَقِيَاسُ قَوْلِهِ أَنْ يَأْتِيَ بِبَاقِي الْحَجِّ وَهُوَ الْمَبِيتُ بِمِنًى وَالرَّمْيُ بِهَا مَعَ الطَوَافِ وَالسَّعْيِ ، وَتَأَوَّلَ قَوْلَ عُمَرَ : افْعَلْ مَا يَفْعُلُ الْمُعْتَمِرُ ، إِنَمَا أَرَادَ أَنَّ الطَّوَافَ وَالسَّعْيَ مِنْ عَمَلِ الْحَجِّ لَا أَنَّهَا عُمْرَةٌ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى وُجُوبِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ ، وَذَكَرْنَا تَحْدِيدَ زَمَانِهِ الوقوف بعرفة ، وَأَنَّهُ مِنْ زَوَالِ الشَّمْسِ الْيَوْمَ التَّاسِعَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ ، فَمَنْ أَدْرَكَ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ فِي هَذَا الزَّمَانِ سَاعَةً مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ ، وَمَنْ فَاتَهُ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ فِيهِ فِي هَذَا الزَّمَانِ ، فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ ، وَتَعَلَّقَ بِالْقِرَانِ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ : أَحَدُهَا : إِتْمَامُ الْأَرْكَانِ . وَالثَّانِي : وُجُوبُ الْقَضَاءِ . وَالثَّالِثُ : وُجُوبُ الْفِدْيَةِ ، فَأَمَّا الْحُكْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ إِتْمَامُ الْأَرْكَانِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ لِيَتَحَلَّلَ بِهِ مِنْ إِحْرَامِهِ ، وَذَلِكَ طَوَافٌ وَسَعْيٌ وَحِلَاقٌ ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَصِيرَ حَجُّهُ عُمْرَةً ، وَسَقَطَ عَنْهُ الرَّمْيُ وَالْمَبِيتُ بِمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى . وَقَالَ الْمُزَنِيُّ ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِبَاقِي الْأَرْكَانِ وَالتَّوَابِعِ ، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الرَّمْيُ وَالْمَبِيتُ بِمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى . وَقَالَ الْمُزَنِيُّ : فَهُوَ الْقِيَاسُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، وَقَالَ مَالِكٌ فِي إِحْدَى رِوَايَاتِهِ يَكُونُ بَاقِيًا عَلَى إِحْرَامِهِ حَتَّى يَقِفَ بِعَرَفَةَ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ ، وَيُتِمَّ حَجَّهُ . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَنْقَلِبُ حَجُّهُ فَيَصِيرُ عُمْرَةً ، فَإِذَا تَحَلَّلَ مِنْ إِحْرَامِهِ بِعَمَلِ الْعُمْرَةِ أَجْزَأَتْهُ عَنْ عُمْرَةِ الْإِسْلَامِ ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ ، وَاسْتَدَلَّ الْمُزَنِيُّ بِأَنْ قَالَ : الْعَجْزُ عَنْ بَعْضِ الْأَرْكَانِ لَا يُوجِبُ سُقُوطَ غَيْرِهِ مِنَ السُّنَنِ وَالْهَيْئَاتِ ، كَالْعَاجِزِ عَنْ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ ، وَاسْتَدَلَّ بِأَنْ
قَالَ : فَوَاتُ بَعْضِ الْأَرْكَانِ لَا يُبِيحُ التَّحَلُّلَ قَبْلَ كَمَالِ جَمِيعِ الْأَرْكَانِ ، كَالْعَائِدِ إِلَى بَلَدِهِ قَبْلَ الطَّوَافِ لَا يَسْتَبِيحُ الْإِحْلَالَ مِنْ إِحْرَامِهِ قَبْلَ الطَّوَافِ وَكَذَا تَارِكُ الْوُقُوفِ لَا يَسْتَبِيحُ التَّحَلُّلَ مِنْ إِحْرَامِهِ قَبْلَ الْوُقُوفِ ، وَاسْتَدَلَّ أَبُو يُوسُفَ بِأَنْ قَالَ : الْإِحْرَامُ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِنُسُكٍ مِنَ الْمَنَاسِكِ لِيَخَلُصَ مِنَ الْإِشْخَاصِ ، ثُمَّ يُثْبِتُ جَوَازَ انْتِقَالِ الْإِحْرَامِ مِنْ شَخْصٍ إِلَى شَخْصٍ غَيْرِهِ ، وَهُوَ أَنْ يُحْرِمَ الْمُعَافَى عَنْ غَيْرِهِ ، ثُمَّ يُفْسِدُ إِحْرَامَهُ بِالْوَطْءِ ، فَيَنْتَقِلُ عَنْ غَيْرِهِ وَيَصِيرُ عَنْ نَفْسِهِ ، كَذَلِكَ يَجُوزُ انْتِقَالُ الْإِحْرَامِ مَنْ نَسُكٍ إِلَى نُسُكٍ غَيْرِهِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَمِيعِهِمْ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ ، وَهُوَ مَا رَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ خَرَجَ حَاجًّا حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْبَادِيَةِ مِنْ طَرِيقِ مَكَّةَ أَضَلَّ رَوَاحِلَهُ ، ثُمَّ إِنَّهُ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَوْمَ النَّحْرِ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ ، فَقَالَ : اصْنَعْ كَمَا يَصْنَعُ الْمُعْتَمِرُ ، ثُمَّ قَدْ حَلَلْتَ ، فَإِذَا أَدْرَكْتَ الْحَجَّ مَنْ قَابِلٍ فَاحْجُجْ وَأَهْدِ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ . وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِهَبَّارِ بْنِ الْأَسْوَدِ مِثْلَهُ ، وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ فَلْيَطُفْ وَيَسْعَ ، وَلِيَحْلِقْ ، وَلِيَحُجَّ مِنْ قَابِلٍ ، وَلْيُهْدِ فِي حَجِّهِ . وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، وَلَيْسَ لِهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا ، فَبَطَلَ بِهِ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ فِي إِيجَابِ الرَّمْيِ وَالْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى : لِأَنَّهُمْ لَمْ يُوجِبُوهُ ، وَبَطَلَ بِهِ قَوْلُ مَالِكٍ حِينَ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْبَقَاءَ عَلَى إِحْرَامِهِ ؛ لِأَنَّهُمْ أُمِرُوا بِالتَّحَلُّلِ وَأَوْجَبُوهُ ، وَبَطَلَ بِهِ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ : لِأَنَّ عُمَرَ قَالَ اصْنَعْ مَا يَصْنَعُ الْمُعْتَمِرُ ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : فَلْيَطُفْ وَيَسْعَ وَيَحْلِقْ ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ فِعْلِ الْمُعْتَمِرِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمُعْتَمِرٍ : لِأَنَّ مِثْلَ الْعُمْرَةِ غَيْرُ الْعُمْرَةِ ، ثُمَّ يَدُلُّ عَلَى الْمُزَنِيِّ أَنَّ الرَّمْيَ وَالْمَبِيتَ مِنْ تَوَابِعِ الْوُقُوفِ ، بِدَلِيلِ سُقُوطِهِ فِي الْعُمْرَةِ : لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا وُقُوفٌ وَمَنْ فَاتَهُ الْوُقُوفُ سَقَطَ عَنْهُ ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ حُكْمُ تَوَابِعِهِ . وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُ نُسُكٌ عَرِيَ عَنِ الْوُقُوفِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ فِيهِ الرَّمْيُ وَالْمَبِيتُ كَالْعُمْرَةِ ، ثُمَّ يَدُلُّ عَلَى مَالِكٍ أَنَّ الْوُقُوفَ مُعْظَمُ الْحَجِّ : لِأَنَّ إِدْرَاكَ الْحَجِّ مُتَعَلِّقٌ بِإِدْرَاكِهِ ، وَفَوَاتَ الْحَجِّ مُقْرَنٌ بِفَوَاتِهِ ، فَلَوْ كَانَ بِفَوَاتِ الْوُقُوفِ بَاقِيًا عَلَى إِحْرَامِهِ ، لَمْ يَكُنْ مَوْصُوفًا بِفَوَاتِ الْحَجِّ ، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى فَوَاتِ الْحَجِّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَتَحَلَّلُ مِنْ إِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ ، ثُمَّ يَدُلُّ عَلَى أَبِي يُوسُفَ أَنَّ النُّسُكَ نُسُكَانِ ، حَجٌّ وَعُمْرَةٌ ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزِ انْتِقَالُ الْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ بِحَالٍ ، لَمْ يَجُزِ انْتِقَالُ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ بِحَالٍ . وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنْ نَقُولَ : لِأَنَّهُ إِحْرَامٌ انْعَقَدَ بِنُسُكٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَنْتَقِلُ إِلَى غَيْرِهِ كَالْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ ، فَأَمَّا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُزَنِيُّ مِنَ الصَّلَاةِ ، فَأَمَّا مَا لَمْ يَكُنْ عَجْزُهُ عَنْ بَعْضِ أَرْكَانِهَا مُسْقِطًا لِشَيْءٍ مِنْ سُنَنِهَا وَهَيْئَاتِهَا ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَقِلُ عَمَّا عَجَزَ عَنْهُ إِلَى بَدَلٍ يَقُومُ مَقَامَهُ ، كَانَ مَا عَجَزَ
عَنْهُ تَبَعًا لِبَدَلِهِ فَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْوُقُوفُ فِي الْحَجِّ : لِأَنَّهُ لَا بَدَلَ لَهُ ، فَسَقَطَ عَنْهُ تَوَابِعُهُ بِفَوَاتِهِ ، فَأَمَّا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مَالِكٌ مِنِ اسْتِدَامَةِ إِحْرَامِهِ مَعَ بَقَاءِ الطَّوَافِ فَكَذَلِكَ مَعَ الْوُقُوفِ ، فَإِنَّمَا كَانَ مُسْتَدِيمًا لِإِحْرَامِهِ مَعَ بَقَاءِ الطَّوَافِ ؛ لِأَنَّهُ مُدْرِكٌ لِلْحَجِّ بِمَكَّةَ ، فَعَلَ الطَّوَافَ مَتَى شَاءَ وَلَيْسَ ، كَذَلِكَ حَالُ الْوُقُوفِ لِفَوَاتِ الْحَجِّ بِهِ ، وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهِ إِلَّا فِي وَقْتِهِ فَافْتَرَقَا ، وَأَمَّا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ أَبُو يُوسُفَ مِنْ أَنَّهُ لَمَّا جَازَ انْتِقَالُ الْإِحْرَامِ مِنْ شَهْرٍ إِلَى شَهْرٍ ، جَازَ انْتِقَالُهُ مَنْ نُسُكٍ إِلَى نُسُكٍ ، قِيلَ إِنَّمَا جَازَ انْتِقَالُهُ مَنْ شَخْصٍ إِلَى شَخْصٍ : لِأَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنِ الْإِحْرَامَ لِشَخْصٍ صَحَّ ، فَجَازَ أَنْ يَنْتَقِلَ فِي الْحُكْمِ مَنْ شَهْرٍ إِلَى شَهْرٍ ، وَالْإِحْرَامُ لَا بِهِ فِي تَعْيِينِهِ بِنُسُكٍ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْتَقِلَ بَعْدَ التَّعْيِينِ مَنْ نُسُكٍ إِلَى نُسُكٍ ، فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ نَقَلْتُمُ الْإِحْرَامَ مَنْ نُسُكٍ إِلَى نُسُكٍ ، وَهُوَ فِيمَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِهِ ، قُلْتُمْ إِنَّ إِحْرَامَهُ بِالْحَجِّ قَدْ صَارَ عُمْرَةً ؛ لِوُقُوعِهِ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ ، قِيلَ : إِنَّمَا مَنَعْنَا مِنِ انْتِقَالِ الْإِحْرَامِ الْمُنْعَقِدِ بِنُسُكٍ إِلَى نُسُكٍ آخَرَ ، وَالْمُحْرِمُ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِهِ ، انْعَقَدَ إِحْرَامُهُ بِعُمْرَةٍ إِلَّا أَنَّهُ انْتَقَلَ بَعْدَ إِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ إِلَى عُمْرَةٍ ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَطُوفَ وَيَسْعَى وَيَحْلِقَ ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ نَحَرَهُ قَبْلَ حِلَاقِهِ ، فَإِنْ تَرَكَ الْحِلَاقَ فَهَلْ يَتَحَلَّلُ بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ أَمْ لَا ، عَلَى قَوْلَيْنِ : إِنْ قِيلَ إِنَّ الْحَلْقَ نُسُكٌ كَانَ عَلَى إِحْرَامِهِ حَتَّى يَحْلِقَ وَيُقَصِّرَ ، وَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ إِبَاحَةٌ بَعْدَ حَظْرٍ فَقَدْ حَلَّ مِنْ إِحْرَامِهِ بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ قَدْ طَافَ وَسَعَى قَبْلَ فَوَاتِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ أَجْزَأَهُ السَّعْيُ ، وَلَزِمَهُ إِعَادَةُ الطَّوَافِ بَعْدَ الْفَوَاتِ : لِأَنَّ تَحَلُّلَهُ بَعْدَ الْفَوَاتِ لَا يَقَعُ إِلَّا بِهِ ، فَأَمَّا السَّعْيُ فَمُجْزِئٌ ، وَإِنَّمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ : هَا هُنَا طَوَافٌ وَسَعْيٌ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ سَعَى قَبْلَ الْفَوَاتِ ، وَقَدْ بَيَّنَ الشَّافِعِيُّ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْإِمْلَاءِ ، فَلَوْ أَرَادَ اسْتِدَامَةَ إِحْرَامِهِ إِلَى الْعَامِ الثَّانِي لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِهِ ، وَالْبَقَاءُ عَلَى الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِهِ كَابْتِدَاءِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِهِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّانِي وَهُوَ وُجُوبُ الْقَضَاءِ : فَهُوَ عِنْدَنَا وَاجِبٌ . وَقَالَ مَالِكٌ فِي أَحَدِ رِوَايَاتِهِ : الْقَضَاءُ غَيْرُ وَاجِبٍ ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ . وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ ، وَأَمْرِهِمْ بِالْقَضَاءِ ؛ وَلِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ إِجْزَاءِ الْحَجِّ شَيْئَانِ : فَوَاتٌ وَفَسَادٌ ، فَلَمَّا كَانَ الْفَسَادُ مُوجِبًا لِلْقَضَاءِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْفَوَاتُ مُوجِبًا لِلْقَضَاءِ ، وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُ أَحَدُ مَا يَعُمُّ الْإِجْزَاءَ فَوَجَبَ أَنْ يُوجِبَ الْقَضَاءَ كَالْفَسَادِ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقَضَاءَ عَلَيْهِ وَاجِبٌ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْحَجِّ لَا غَيْرَ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : عَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ حِجَّةً وَعُمْرَةً ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ أَمَرُوا بِقَضَاءِ الْحَجِّ وَلَمْ يَأْمُرُوا بِقَضَاءِ الْعُمْرَةِ ؛ وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ إِنَّمَا يَجِبُ فِيمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ إِحْرَامُ الْأَدَاءِ ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْأَدَاءِ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ دُونَ الْعُمْرَةِ وَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ قَضَاءُ الْحَجِّ دُونَ الْعُمْرَةِ ، اسْتِشْهَادًا بِسَائِرِ الْأُصُولِ ؛ وَلِأَنَّ حُكْمَ الْفَسَادِ أَغْلَظُ مِنْ حُكْمِ الْفَوَاتِ ، فَإِذَا لَمْ
يَلْزَمْهُ بِالْفَسَادِ إِلَّا قَضَاءُ مَا أَفْسَدَ مِنَ الْحَجِّ ، وَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ بِالْفَوَاتِ إِلَّا قَضَاءَ مَا فَاتَ مِنَ الْحَجِّ ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ قَضَاءَ الْحَجِّ وَحْدَهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ فِي عَامِهِ الْمُقْبِلِ ، أَمْ عَلَى التَّرَاخِي ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : عَلَى التَّرَاخِي دُونَ الْفَوْرِ كَأَصْلِ الْحَجِّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : عَلَى الْفَوْرِ فِي عَامِهِ الْمُقْبِلِ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ : لِأَنَّهُمْ قَالُوا : وَلِيَحُجَّ مِنْ قَابِلٍ ، فَلَوْ فَاتَهُ الْوُقُوفُ فِي الْقَضَاءِ كَانَ كَفَوَاتِهِ فِي الْأَوَّلِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ فَهِيَ عِنْدنَا وَاجِبَةٌ وَهِيَ " شَاةٌ " . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَقَوْلُهُمْ لِيُهْدِ مَا اسْتَيْسَرَ عَلَيْهِ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ ، فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعَ : لِأَنَّهُ سَبَبٌ يُوجِبُ الْقَضَاءَ ، فَوَجَبَ أَنْ يُوجِبَ الْكَفَّارَةَ كَالْفَسَادِ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْكَفَّارَةَ وَاجِبَةٌ فَفِي زَمَانِ وُجُوبِهَا وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا وَجَبَتْ بِالْفَوَاتِ فِي عَامِ الْفَوَاتِ وَهُوَ الصَّحِيحُ كَالْبَدَنَةِ فِي الْوَطْءِ ، فَعَلَى هَذَا الْأَوْلَى أَنْ يَأْتِيَ بِهَا فِي عَامِ الْقَضَاءِ ، فَإِنْ أَخْرَجَهَا فِي عَامِ الْفَوَاتِ أَجْزَأَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا تَجِبُ بِالْفَوَاتِ فِي عَامِ الْقَضَاءِ ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الصَّحَابَةِ فَعَلَى هَذَا إِنْ أَخْرَجَهَا فِي عَامِ الْفَوَاتِ فَفِي الْإِجْزَاءِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يُجْزِئُهُ لِوُجُودِ سَبَبِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يُجْزِئُهُ لِأَنَّهَا تَبَعٌ لِلْقَضَاءِ ، فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الْقَضَاءُ فِي عَامِ الْفَوَاتِ لَمْ تَصِحَّ الْكَفَّارَةُ فِيهِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَإِنَّهَا لَا تَفُوتُ أَبَدًا : لِأَنَّهَا تَخْتَصُّ بِزَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ ، فَإِذَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ كَانَ بَاقِيًا عَلَى إِحْرَامِهِ مَا لَمْ يُحْصَرْ حَتَّى يُكْمِلَهَا بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَالْحِلَاقِ ، فَأَمَّا الْقِرَانُ فَإِنَّهُ يَفُوتُ كَفَوَاتِ الْحَجِّ ، فَإِذَا أَحْرَمَ الرَّجُلُ قَارِنًا فَفَاتَهُ الْوُقُوفُ طَافَ وَسَعَى وَقَدْ حَلَّ وَعَلَيْهِ دَمَانِ ، دَمٌ لِلْقِرَانِ وَدَمٌ لِلْفَوَاتِ ، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْحَجِّ ، فَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَعَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ ، وَقَدْ أَجْزَأَتْهُ عَنْ عُمْرَةِ الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَفُوتُ كَفَوَاتِ الْحَجِّ فَلَمْ يَلْزَمْهُ قَضَاؤُهَا بِالْفَوَاتِ كَالْحَجِّ ، وَقَدْ أَكْمَلَ أَفْعَالَهَا بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَالْحَلْقِ فَسَقَطَ عَنْهُ الْفَرْضُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ الصَّحِيحُ : أَنَّ عَلَيْهِ قَضَاءَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَرَنَ بَيْنَهُمَا كَانَتِ الْعُمْرَةُ تَبَعًا ، فَلَمَّا أَوْجَبَتِ الْفَوَاتَ قَضَى الْحَجَّ الْمَتْبُوعَ كَانَ إِيجَابُ قَضَاءِ الْعُمْرَةِ التَّابِعَةِ أَوْلَى ، فَعَلَى هَذَا إِنْ قَرَنَ فِي الْقَضَاءِ أَجْزَأَهُ الْقِرَانُ عَنْهُمَا ، وَإِنْ أَفْرَدَهُمَا أَجْزَأَهُ ذَلِكَ عَنْهُمَا
وَعَلَيْهِ ثَلَاثَةُ دِمَاءٍ ، دَمٌ لِقِرَانِهِ فِي الْأَدَاءِ ، وَدَمٌ لِلْفَوَاتِ ، وَدَمٌ لِقِرَانِهِ فِي الْقَضَاءِ سَوَاءٌ قَضَاهُ قَارِنًا أَوْ مُفْرِدًا .
مَسْأَلَةٌ لَا يَدْخُلُ مَكَةَ إِلَّا بِإِحْرَامٍ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يَدْخُلُ مَكَةَ إِلَّا بِإِحْرَامٍ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ لِمُبَايَنَتِهَا جَمِيعَ الْبُلْدَانِ ، إِلَّا أَنَّ مَنْ أَصَابَنَا مِنْ رُخَصٍ لِلْحَطَّابِينَ وَمَنْ يَدْخُلْهُ لِمَنَافِعِ أَهْلِهِ أَوْ كَسْبِ نَفْسِهِ ، - ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : وَلَعَلَّ حَطَّابِيهِمْ عَبِيدٌ وَمَنْ دَخَلَهَا بِغَيْرِ إِحْرَامٍ - فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ لَيْسَ يَخْلُو حَالُ الدَّاخِلِ إِلَى مَكَّةَ لِغَيْرِ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ مِنْ ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَدْخُلَهَا مُقَاتِلًا أي مكة إِمَّا قِتَالًا وَاجِبًا أَوْ مُبَاحًا مِنْ غَيْرِ قِتَالِ مَعْصِيَةٍ ، كَأَهْلِ الْبَغْيِ إِذَا لَجَئُوا إِلَيْهَا فَأَرَادَ الْإِمَامُ قِتَالَهُمْ ، فَيَجُوزُ لِمَنْ دَخَلَهَا عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ مُقَاتِلًا أَنْ يَدْخُلَهَا حَلَالًّا بِغَيْرِ إِحْرَامٍ ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَةَ عَامَ الْفَتْحِ سَنَةَ ثَمَانٍ حَلَالًا وَعَلَى رَأْسِهِ مِغْفَرٌ ، وَقَالَ : أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً ، وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي دَخَلْتُهَا وَعَلَى رَأْسِي مِغْفَرٌ ، قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ : الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ " وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي " إِلَّا لِمَنْ كَانَ فِي مِثْلِ حَالِي ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ إِذَا ثَبَتَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَبَتَ لِغَيْرِهِ أُمَّتِهِ إِلَّا أَنْ تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى تَخْصِيصِهِ ؛ وَلِأَنَّ فِي تَكْلِيفِ الْمُحَارِبِ الْإِحْرَامَ لِدُخُولِهَا مَعَ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ حَالِ الْقِتَالِ مَشَقَّةً غَالِبَةً ، إِذْ لَا يَأْمَنُ رَجْعَةَ عَدُوِّهِ وَهُوَ بِإِحْرَامِهِ ، قَدْ تَجَرَّدَ فَلَا يُمْكِنُهُ الدَّفْعُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَبَاحَ لِأَجْلِ ذَلِكَ تَرْكَ الْإِحْرَامِ وَالدُّخُولَ إِلَيْهَا حَلَالًا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَدْخُلَهَا لِمَنَافِعِ أَهْلِهَا أَوْ كَسْبِ نَفْسِهِ ، كَالَّذِينِ يُكْثِرُونَ الدُّخُولَ إِلَيْهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ كَالْحَطَّابِينَ وَالسَّاقِينَ وَالْجَلَّابِينَ وَأَصْحَابِ الْمَبَرَّةِ ، فَيَجُوزُ لِهَؤُلَاءِ دُخُولُ مَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ ؛ لِأَنَّهُ كَالْإِجْمَاعِ لِإِقْرَارِ السَّلَفِ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ ؛ وَلِأَنَّ فِي أَمْرِهِمْ بِالْإِحْرَامِ مَعَ كَثْرَةِ دُخُولِهِمُ انْقِطَاعًا عَنْ مَكَاسِبِهِمْ ، وَمَشَقَّةً غَالِبَةً فِي تَجْدِيدِ الْإِحْرَامِ مَعَ تَرَادُفِ دُخُولِهِمْ ، فَعُذِرُوا بِتَرْكِ الْإِحْرَامِ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْإِمْلَاءِ : أُرَخِّصُ لِلْحَطَّابِينَ أَنْ يَدْخُلُوا بِغَيْرِ إِحْرَامٍ إِذَا دَخَلُوا فِي السَّنَةِ مَرَّةً بِإِحْرَامٍ فَكَانَ أَمْرُهُمْ أَنْ يُحْرِمُوا فِي السَّنَةِ مَرَّةً ؛ لِأَنَّهُ لَا مَشَقَّةَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْهُ عَلَى الْإِيجَابِ ، وَإِنَّمَا قَالَهُ اسْتِحْبَابًا وَفِي مَعْنَى الْحَطَّابِينَ مَنْ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ مُسَافِرًا ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ نَسِيَ شَيْئًا فَرَجَعَ لِأَخْذِهِ ، جَازَ أَنْ يَرْجِعَ مُحِلًّا ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْإِمْلَاءِ . وَالضَّرِبُ الثَّالِثُ : أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ لِغَيْرِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ ، إِمَّا مُتَوَطِّنًا أَوْ قَادِمًا إِلَى وَطَنٍ أَوْ تَاجِرًا أَوْ زَائِرًا فَهَلْ يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ لِدُخُولِهَا بِنُسُكٍ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَالَهُ فِي الْإِمْلَاءِ أَنَّهُ اسْتِحْبَابٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ حِينَ قَالَ : أَحَجَّتُنَا هَذِهِ لِعَامِنَا أَمْ لِلْأَبَدِ ؟ فَقَالَ : لَا بَلْ لِلْأَبَدِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا
سِوَى حَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَعُمْرَتِهِ لَا يَلْزَمُ بِالشَّرْعِ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ دَخَلَهَا حَلَالًا بِغَيْرِ إِحْرَامٍ ؛ وَلِأَنَّهُ مِمَّنْ أُسْقِطَ فَرْضُ نُسُكِهِ ، فَجَازَ أَنْ يَدْخُلَهَا حَلَالًا كَالْحَطَّابِينَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ الصَّحِيحُ قَالَهُ فَيَ الْأُمِّ وَمُخْتَصَرِ الْحَجِّ ، أَنَّ الْإِحْرَامَ لِدُخُولِهَا وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ [ الْمَائِدَةِ : ] ، يَعْنِي : قَاصِدِينَ ، فَمَنَعَ مِنَ الْعُدُولِ عَنْ قَصْدِ الْبَيْتِ لِمَنْ دَخَلَ الْحَرَمَ ، وَحَظَرَ تَحْلِيلَ ذَلِكَ بِتَرْكِهِ ، وَقَالَ تَعَالَى : وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا [ الْبَقَرَةِ : ] . وَالْمَثَابَةُ وَالرُّجُوعُ إِلَيْهِ بِالنُّسُكِ قَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ : مُثَابٌ لِأَفْنَاءِ الْقَبَائِلِ كُلِّهَا تَخُبُّ إِلَيْهِ الْيَعْمُلَاتُ الذَوَامِلُ وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ أَبِي إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ فَلَا يَدْخُلْهَا أَحَدٌ إِلَّا مُحْرِمًا وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ دَخَلَهَا حَلَالًا : أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً ، وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي " فَدَلَّ عَلَى اخْتِصَاصِهِ عَنْ غَيْرِهِ فِي الْإِحْلَالِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ نَذَرَ دُخُولَ مَكَّةَ أَوِ الْمَشْيَ إِلَى الْبَيْتِ لَزِمَهُ الْإِحْرَامُ لِدُخُولِهَا بِأَحَدِ النُّسُكَيْنِ ، فَلَوْ جَازَ دُخُولُهَا بِغَيْرِ إِحْرَامٍ لِأَحَدِ النُّسُكَيْنِ لَمْ يَلْزَمْهُ إِذَا نَذَرَ دُخُولَهَا أَنْ يُحْرِمَ بِأَحَدِ النُّسُكَيْنِ ، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى ذَلِكَ فِي النُّذُرِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِهِ فِي الدُّخُولِ ؛ وَلِأَنَّ مَكَّةَ لَمَّا اخْتُصَّتْ بِالنُّسُكَيْنِ وَالْقِبْلَةِ تَشْرِيفًا لَهَا ، وَحُرِّمَ قَتْلُ صَيْدِهَا ، وَقَطْعُ شَجَرِهَا لِعِظَمِ حُرْمَتِهَا ، اخْتُصَّتْ بِالْإِحْرَامِ لِدُخُولِهَا مُبَايَنَةً لِغَيْرِهَا ، وَعَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ يَسْتَوِي حُكْمُ الْقَادِمِ إِلَيْهَا مِنْ دُونِ الْمَوَاقِيتِ أَوْ مِنْ وَرَائِهَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ قَدِمَ مِنْ دُونِ الْمَوَاقِيتِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِحْرَامُ ، وَإِنْ قَدِمَ مِنْ وَرَائِهَا لَزِمَهُ ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ : لِأَنَّ الْإِحْرَامَ تَحِيَّةٌ لِتَعْظِيمِ الْبُقْعَةِ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُ الْقَادِمِ مِنْ دُونِ الْمِيقَاتِ وَوَرَائِهَا فِي وُجُوبِهَا وَاسْتِحْبَابِهَا .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِحْرَامَ لِدُخُولِهَا وَاجِبٌ ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ عِنْدَ دُخُولِهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَدْخُلَ فِي شُهُورِ الْحَجِّ أَوْ فِي غَيْرِ شُهُورِ الْحَجِّ ، فَإِنْ دَخَلَ فِي شُهُورِ الْحَجِّ فهل يجب عليه الإحرام عند دخول مكة كَانَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَدْخُلَهَا مُحْرِمًا بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ ، فَإِنْ أَحْرَمَ لِدُخُولِهَا إِحْرَامًا مَوْقُوفًا ، كَانَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَصْرِفَهُ إِلَى حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ ، وَإِنْ دَخَلَ فِي غَيْرِ شُهُورِ الْحَجِّ فهل يجب عليه الإحرام لدخول مكة صَرَفَ إِحْرَامَهُ إِلَى عُمْرَةٍ ، وَلَمْ يَجُزْ صَرْفُ إِحْرَامِهِ إِلَى الْحَجِّ ؛ لِأَنَّ غَيْرَ شُهُورِ الْحَجِّ لَا يَصِحُّ الْإِحْرَامُ فِيهِ بِالْحَجِّ ، وَإِنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ كَانَ عُمْرَةً ، وَتَحَلَّلَ بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَالْحِلَاقِ ، فَلَا أَحْرَمَ لِدُخُولِهَا فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ إِحْرَامًا مَوْقُوفًا وَدَخَلَهَا مُحْرِمًا ، وَلَمْ يَصْرِفْ إِحْرَامَهُ إِلَى الْعُمْرَةِ حَتَّى دَخَلَتْ شُهُورُ الْحِجِّ فَأَرَادَ أَنْ يَصْرِفَ إِحْرَامَهُ إِلَى الْحَجِّ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ مِنْ غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ لَا يَقَعُ مَوْقُوفًا : لِأَنَّ اتِّفَاقَ الْإِحْرَامِ إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا جَازَ أَنْ يَتَرَدَّدَ بَيْنَ أَنْ يُصْرَفَ إِلَى حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ ، وَإِحْرَامُهُ فِي غَيْرِ أَشْهَرَ
الْحَجِّ لَا يَنْصَرِفُ إِلَى الْحَجِّ ، وَإِنَّمَا يَنْصَرِفُ إِلَى عُمْرَةٍ وَلَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ لَمْ يَكُنْ حَجًّا وَكَانَ عُمْرَةً ، فَكَذَا إِذَا أَحْرَمَ مَوْقُوفًا لَمْ يَكُنْ مَوْقُوفًا وَكَانَ عُمْرَةً . فَصْلٌ : فَإِنْ دَخَلَ مَكَّةَ غَيْرَ مُحْرِمٍ بِنُسُكٍ فَقَدْ أَسَاءَ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ ، وَعَصَى عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : عَلَيْهِ الْقَضَاءُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَكِّيًّا فَلَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ : لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْإِحْرَامُ بِأَحَدِ النُّسُكَيْنِ وَاجِبًا صَارَ أَحَدُ النُّسُكَيْنِ بِدُخُولِ مَكَّةَ وَاجِبًا ، وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ نُسُكٌ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ فَلَمْ يَأْتِ بِهِ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ ، كَحَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَالنَّذْرِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ أَنَّهُ دَخَلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ نُسُكٍ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ قَضَاءُ نُسُكٍ كَالْمَكِّيِّ ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَكِّيًّا لَمْ يَلْزَمْهُ الْقَضَاءُ فَوَجَبَ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَكِّيٍّ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ الْقَضَاءُ كَالْحَطَّابِينَ وَالسَّقَّايِينَ ؛ وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ غَيْرُ مُمْكِنٍ ؛ لِأَنَّهُ إِذَا أَرَادَ الدُّخُولَ ثَانِيَةً لِلْقَضَاءِ تَعَلَّقَ الْإِحْرَامُ بِالدُّخُولِ الثَّانِي كَتَعَلُّقِهِ بِالدُّخُولِ الْأَوَّلِ ، فَلَمْ يَخْلُصْ لَهُ حَالَةٌ يَصِحُّ فِيهَا الْقَضَاءُ إِلَّا وَمُتَعَلِّقٌ بِهَا فِعْلُ الْإِحْرَامِ فَامْتَنَعَ الْقَضَاءُ ، فَأَمَّا اعْتِبَارُهُمْ ذَلِكَ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ لَا تُقْضَى ؛ لِأَنَّهُ فِي أَيِّ الزَّمَانِ فَعَلَهَا كَانَ مُؤَدِّيًا وَلَمْ يَكُنْ قَاضِيًا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ وَإِنْ وَجَبَ الْقَضَاءُ بِالْفَسَادِ وَالْفَوَاتِ ، قَضَاؤُهُ مُمْكِنٌ : لِأَنَّ زَمَانَ الْقَضَاءِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ ، وَقَضَاءُ الدُّخُولِ يَتَعَلَّقُ بِهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِابْتِدَاءِ الدُّخُولِ فَلَمْ يَصِحَّ الْقَضَاءُ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنْ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ : لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ إِنَّمَا تَجِبُ جُبْرَانًا لِنَقْصٍ دَخَلَ عَلَى نُسُكٍ ، فَإِذَا لَمْ يَأْتِ بِالنُّسُكِ لَمْ يَلْزَمْهُ جُبْرَانُ مَا عُدِمَ أَصْلُهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
بَابُ مَنْ لَمْ يُدْرِكْ عَرَفَةَ
بَابُ مَنْ لَمْ يُدْرِكْ عَرَفَةَ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " أَخْبَرَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : " وَمَنْ لَمْ يُدْرِكْ عَرَفَةَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ ، فَلْيَأْتِ الْبَيْتَ وَلْيَطُفْ بِهِ ، وَلْيَسْعَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، ثُمَّ لِيَحْلِقْ أَوْ يُقَصِّرْ إِنْ شَاءَ ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَنْحَرْهُ قَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ ، وَيَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ ، فَإِذَا أَدْرَكَ الْحَجَّ قَابِلًا فَلْيَحْجُجْ وَلْيُهْدِ ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ وَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ " اصْنَعْ مَا يَصْنَعُ الْمُعْتَمِرُ ، ثُمَ قَدْ حَلَلْتَ فَإِذَا أَدْرَكْتَ الْحَجَّ قَابِلًا فَاحْجُجْ وَأَهْدِ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ، وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَيْضًا لِهَبَّارِ بْنِ الْأَسْوَدِ مِثْلَ مَعْنَى ذَلِكَ وَزَادَ " فَإِنْ لَمْ تَجِدْ هَدْيًا فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتَ " ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) فَبِهَذَا كُلِّهِ نَأْخُذُ ( قَالَ ) وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ دَلَالَةٌ أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ أَبُو أَيُّوْبَ عَمَلَ الْمُعْتَمِرِ لَا أَنَّ إِحْرَامَهُ صَارَ عُمْرَةً " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَذَكَرْنَا حُكْمَ فَوَاتِ الْحَجِّ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ ، وَذَكَرْنَا الْخِلَافَ فِيهِ وَاسْتَوْفَيْنَا الْحِجَاجَ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يُحْتَجْ إِلَى إِعَادَتِهِ ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ الشَّافِعِيُّ تَحْدِيدَ الْمَذْهَبِ وَأَفْرَدَ هَذَا الْبَابَ بِذِكْرِ الْحِجَاجِ ، وَقَدْ مَضَيَا مَعًا وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .
بَابُ الصَّبِيِّ إِذَا بَلَغَ وَالْعَبْدِ إِذَا عُتِقَ وَالذِّمِّيِّ إِذَا أَسْلَمَ وَقَدْ أَحْرَمُوا
بَابُ الصَّبِيِّ إِذَا بَلَغَ ، وَالْعَبْدِ إِذَا عُتِقَ ، وَالذِّمِّيِّ إِذَا أَسْلَمَ وَقَدْ أَحْرَمُوا مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ الَلَّهُ عَنْهُ : وَإِذَا بَلَغَ غُلَامٌ أَوْ أُعْتِقَ عَبْدٌ أَوْ أَسْلَمَ ذِمِّيٌّ ، وَقَدْ أَحْرَمُوا ، ثُمَّ وَافَوْا عَرَفَةَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ ، فَقَدْ أَدْرَكُوا الْحَجَّ وَعَلَيْهِمْ دَمٌ ، قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : إِنَّهُ لَا يَبِينُ لَهُ أَنَّ الْغُلَامَ وَالْعَبْدَ عَلَيْهِمَا فِي ذَلِكَ دَمٌ ، وَأَوْجَبَهُ عَلَى الْكَافِرِ ؛ لِأَنَّ إِحْرَامَهُ قَبْلَ عَرَفَةَ وَهُوَ كَافِرٌ لَيْسَ بِإِحْرَامٍ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) فَإِذَا لَمْ يَبِنْ عِنْدَهُ أَنَّ عَلَى الْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ دَمًا وَهُمَا مُسْلِمَانِ ، فَالْكَافِرُ أَحَقُّ أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهِ دَمٌ ؛ لِأَنَّ إِحْرَامَهُ مَعَ الْكُفْرِ لَيْسَ بَإِحْرَامٍ وَالْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ ، وَإِنَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ مَعَ الْإِسْلَامِ بِعَرَفَاتٍ ، فَكَأَنَّهَا مَنْزِلُهُ أَوْ كَرَجُلٍ صَارَ إِلَى عَرَفَةَ وَلَا يُرِيدُ حَجًّا ثُمَّ أَحْرَمَ ، أَوْ كَمَنْ جَاوَزَ الْمِيْقَاتَ لَا يُرِيدُ حَجًّا ، ثُمَّ أَحْرَمَ فَلَا دَمَ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ نَقُولُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى صَبِيٍّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ بَلَغَ ، وَعَبْدٍ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ أُعْتِقَ ، وَكَافِرٍ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ أَسْلَمَ فَبَدَأَ بِالْكَلَامِ فِي الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ لِبِدَايَةِ الشَّافِعِيِّ بِهِمَا وَاشْتِرَاكِ حُكْمِهِمَا ، قَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْحَجَّ يَصِحُّ مِنَ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ وَذَكَرْنَا خِلَافَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الصَّبِيِّ . وَدَلِيلُنَا عَلَيْهِ فَإِذَا ثَبَتَ صِحَّةُ حَجِّهِمَا فَبَلَغَ الصَّبِيُّ وَأُعْتِقَ الْعَبْدُ بَعْدَ حَجِّهِمَا لَمْ تُجْزِهِمَا عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ، وَكَانَ فَرْضُ الْحَجِّ إِنْ وَجَبَ عَلَيْهِمَا بَاقِيًا فِي ذِمَّتِهِمَا ؛ لِرَاوِيَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَوْ حَجَّ الصَّبِيُّ عَشْرَ حِجَجٍ كَانَ عَلَيْهِ حَجَّةٌ بَعْدَ أَنْ يَكْبُرَ ، وَلَوْ حَجَّ الْعَبْدُ عَشْرَ حِجَجٍ ، كَانَ عَلَيْهِ حَجَّةٌ بَعْدَ أَنْ يُعْتَقَ " فَأَمَّا إِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ وَأُعْتِقَ الْعَبْدُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ وَقَبْلَ الْإِحْلَالِ فَلِذَلِكَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْبُلُوغُ وَالْعِتْقُ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ أَوْ فِي عَرَفَةَ فَهُمَا سَوَاءٌ ، وَالْحُكْمُ فِيهِمَا وَاحِدٌ فَيُجْزِئُهَا عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَيُسْقِطُ ذَلِكَ فَرْضَ الْحَجِّ عَنْهُمَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُجْزِئُهُمَا عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ، وَيَكُونُ حَجُّ الصَّبِيِّ بَاطِلًا إِلَّا أَنْ يَسْتَأْنِفَ الْإِحْرَامَ بَعْدَ الْبُلُوغِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ حَجَّ الصَّبِيِّ لَا يَصِحُّ ، وَيَكُونُ حَجُّ الْعَبْدِ
تَطَوُّعًا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ فَرْضُ الْحَجِّ يَصِحُّ مِنْهُ التَّطَوُّعُ بِالْحَجِّ ، وَنَحْنُ نَبْنِي ذَلِكَ عَلَى أَصْلِنَا فِي أَنَّ الصَّبِيَّ يَصِحُّ مِنْهُ الْحَجُّ ، وَأَنَّ مَنْ عَلَيْهِ فَرْضُ الْحَجِّ لَا يَصِحُّ مِنْهُ التَّطَوُّعُ بِالْحَجِّ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ ، ثُمَّ مِنَ الْحِجَاجِ فِي غَيْرِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ قَالَ : كَيْفَ يُجْزِئُ الصَّبِيَّ وَالْعَبْدَ عَنْ فَرْضِهِمَا حَجٌّ ابْتِدَاءً تَطَوُّعًا وَلَيْسَ مِثْلُ مَنْ يُحْرِمُ بِالتَّطَوُّعِ وَعَلَيْهِ فَرْضٌ ؛ لِأَنَّ إِحْرَامَ مَنْ أَحْرَمَ بِالتَّطَوُّعِ وَعَلَيْهِ فَرْضٌ لَمْ يُعْقَدْ عَلَى تَطَوُّعٍ ، وَإِنَّمَا انْعَقَدَ عَلَى فَرْضٍ ، وَإِحْرَامُ هَذَيْنِ انْعَقَدَ عَلَى تَطَوُّعٍ فَلَا يَنْقَلِبُ إِلَى فَرْضٍ . وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمَرَ الدِّيلِيِّ قَالَ : أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَةَ وَأَتَاهُ نَاسٌ مِنْ أَرْضِ نَجْدٍ ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ الْحَجُّ ؟ قَالَ : الْحَجُّ عَرَفَةُ فَمَنْ جَاءَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ لَيْلَةِ جَمْعٍ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ . فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ وَلِأَنَّهُ وُقُوفُ مُكَلَّفٍ تَعَقَّبَ إِحْرَامًا صَادَفَ حُرِّيَّةً وَإِسْلَامًا ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ بِهِ الْفَرْضُ قِيَاسًا عَلَى مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ فَابْتَدَأَ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : إِنَّ إِحْرَامَ هَذَيْنِ قَدِ انْعَقَدَ تَطَوُّعًا فَلَمْ يَصِرْ فَرْضًا ، وَخَالَفَ مَنْ أَحْرَمَ بِالتَّطَوُّعِ وَعَلَيْهِ الْفَرْضُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْعَقِدْ بِالتَّطَوُّعِ ، وَإِنَّمَا انْعَقَدَ بِالْفَرْضِ أَنْ يُقَالَ لَهُ : لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا بِهِ لِمَا امْتَنَعَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْحِجَاجِ أَنْ يَبْتَدِئَ بِالتَّطَوُّعِ وَعَلَيْهِ الْفَرْضُ ، وَقَدْ يَتَحَرَّرُ ذَلِكَ قِيَاسًا فَنَقُولُ : كُلُّ مَنْ لَزِمَهُ فَرْضُ الْحَجِّ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ التَّطَوُّعُ بِالْحَجِّ كَالْمُبْتَدِئِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ يُجْزِئُهُمَا عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ فَهَلْ عَلَيْهِمَا دَمٌ أَمْ لَا أي العبد الذي أعتق والصبي الذي بلغ قبل انتهاء يوم عرفة ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : عَلَيْهِمَا دَمٌ ؛ لِأَنَّ إِحْرَامَ الْفَرْضِ إِنَّمَا اعْتَدَّا بِهِ مِنَ الْوَقْتِ الَّذِي صَارَ فِيهِ مِنْ أَهْلِ الْفَرْضِ ، وَمَا مَضَى مِنْ إِحْرَامِهِمَا الْمُتَقَدِّمِ لَيْسَ بِفَرْضٍ ، فَكَانَ وَجُودُهُ كَعَدَمِهِ ، وَصَارَ كَمَنْ مَرَّ بِمِيقَاتِ بَلَدِهِ مُرِيدًا لِلْحَجِّ فَأَحْرَمَ بَعْدَهُ فَلَزِمَهُمَا لِأَجْلِ ذَلِكَ دَمٌ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا دَمَ عَلَيْهِمَا لِإِتْيَانِهِمَا بِالْإِحْرَامِ الصَّحِيحِ مِنَ الْمِيقَاتِ عَلَى حَسَبِ قُدْرَتِهِمَا ، كَمَا لَوْ تَقَدَّمَ بُلُوغُهُمَا وَحُرِّيَّتُهُمَا .
فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الْبُلُوغُ وَالْحَرِيَّةُ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ زَمَانُ الْوُقُوفِ فَائِتًا . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا ، فَإِنْ كَانَ زَمَانُ الْوُقُوفِ فَائِتًا لِوُجُودِ الْبُلُوغِ وَالْحُرِّيَّةِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ ، فَيَكُونُ حَجُّهُمَا تَطَوُّعًا وَلَا يُجْزِئُهُمَا عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ؛ لِوُجُودِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ إِدْرَاكُ الْحَجِّ ، وَهُوَ الْوُقُوفُ قَبْلَ وُجُوبِ الْحَجِّ ، فَإِنْ أَمْكَنَهُمَا الْحَجُّ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ ، وَوُجِدَتْ شَرَائِطُ الْوُجُوبِ لَزِمَهُمَا فَرْضُ الْحَجِّ ، وَإِنْ عَدِمَا شَرَائِطَ الْوُجُوبِ لَمْ يَلْزَمْهُمَا فَرْضُ الْحَجِّ وَلَا دَمَ عَلَيْهِمَا فِي هَذَا الْحَجِّ لَا يَخْتَلِفُ ؛ لِأَنَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُمَا ، فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ لَوْ أَحْرَمَ الصَّبِيُّ بِصَلَاةِ وَقْتِهِ ، ثُمَّ بَلَغَ قَبْلَ السَّلَامِ مِنْهَا أَجْزَأَتْهُ عَنْ فَرْضِهِ ، وَإِنْ كَانَ مَا بَقِيَ مِنْهَا أَقَلَّهَا فَهَلَّا
كَانَ بُلُوغُ الصَّبِيِّ فِي الْحَجِّ يُسْقِطُ عَنْهُ الْفَرْضَ ، وَإِنْ كَانَ مَا بَقِيَ بَعْدَ الْبُلُوغِ أَقَلَّ ؟ قِيلَ : لِأَنَّ الصَّبِيَّ لَوْ بَلَغَ بَعْدَ فِعْلِ الصَّلَاةِ سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُهَا ، فَكَذَلِكَ إِذَا بَلَغَ فِي الصَّلَاةِ وَقَدْ بَقِيَ مِنْهَا أَقَلُّهَا ، وَالصَّبِيُّ لَوْ بَلَغَ بَعْدَ فِعْلِ الْحَجِّ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ فَرْضُ الْحَجِّ فَاعْتَبَرَ أَنْ يَفْعَلَ بَعْدَ الْبُلُوغِ مَا يَقَعُ بِهِ إِدْرَاكُ الْحَجِّ ، وَإِنْ كَانَ زَمَانُ الْوُقُوفِ بَاقِيًا ؛ لِوُجُودِ الْبُلُوغِ وَالْحُرِّيَّةِ لَيْلَةَ النَّحْرِ ، فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَرْجِعَا بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالْحُرِّيَّةِ إِلَى عَرَفَةَ أَوْ لَا يَرْجِعَا فَإِنْ رَجِعَا إِلَى عَرَفَةَ فَوَقَفَا بِهَا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ أَجْزَأَهُمَا ذَلِكَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ، وَسَقَطَ عَنْهُمَا فَرْضُ الْحَجِّ ، وَهَلْ عَلَيْهِمَا دَمٌ أَمْ لَا أي الصبي الذي بلغ والعبد الذي أعتق بعد الوقوف بعرفة وقد أحرما ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : وَإِنْ لَمْ يَرْجِعَا إِلَى عَرَفَةَ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ حَجَّهُمَا يَكُونُ تُطَوُّعًا وَلَا يُجْزِئْهُمَا عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ؛ لِوُجُودِ الْوُقُوفِ قَبْلَ الْبُلُوغِ وَالْحُرِّيَّةِ فِي زَمَانٍ يَكْمُلُ فِيهِ إِدْرَاكُ الْحَجِّ . وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ : قَدْ سَقَطَ عَنْهُمَا فَرْضُ الْحَجِّ لِوُجُودِ الْبُلُوغِ وَالْحُرِّيَّةِ فِي زَمَانِ الْوُقُوفِ ، كَمَا يَسْقُطُ عَنْهُمَا بِوُجُودِهِ قَبْلَ الْوُقُوفِ ؛ لِأَنَّ الْوُقُوفَ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالْحُرِّيَّةِ يُمْكِنُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْبُلُوغَ وَالْحُرِّيَّةَ بَعْدَ الْإِحْرَامِ كَالْبُلُوغِ وَالْحُرِّيَّةِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْإِحْرَامِ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالْحَرِيَّةِ مُمْكِنٌ ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ : لِأَنَّ إِدْرَاكَ الْحَجِّ وَفَوَاتَهُ يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِ الْوُقُوفِ دُونَ زَمَانِ الْوُقُوفِ : لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَقِفْ بِعَرَفَةَ بَعْدَ إِدْرَاكِ الزَّمَانِ كَانَ كَمَنْ لَمْ يَقِفْ لِفَوَاتِ الزَّمَانِ ، وَإِذَا كَانَ لِذَلِكَ كَانَ وُجُودُ الْبُلُوغِ وَالْحُرِّيَّةِ بَعْدَ الْوُقُوفِ فِي زَمَانِ الْوُقُوفِ كَوُجُودِهِ بَعْدَ الْوُقُوفِ وَبَعْدَ زَمَانِ الْوُقُوفِ ، فَأَمَّا الْإِحْرَامُ فَإِنَّمَا يُعَدُّ مِنْ فَرْضِهِ عَنْ حِينِ الْبُلُوغِ وَالْحُرِّيَّةِ دُونَ مَا تَقَدَّمَ قَبْلَ الْبُلُوغِ وَالْحُرِّيَّةِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ بَلَغَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ ، وَكَانَ قَدْ سَعَى فِي بُلُوغِهِ مَعَ طَوَافِ الْقُدُومِ فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ عَلَيْهِ إِعَادَةُ السَّعْيِ بِعَرَفَةَ لِيَكُونَ السَّعْيُ مَوْجُودًا بَعْدَ بُلُوغِهِ ، وَلَا يُجْزِئُهُ سَعْيُهُ قَبْلَ بُلُوغِهِ ، فَإِنْ لَمْ يُعِدِ السَّعْيَ كَانَ تُحَلُّلُهُ صَحِيحًا ، وَكَانَ فَرْضُ الْحَجِّ عَلَيْهِ بَاقِيًا ، وَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ : لَا يَلْزَمُهُ إِعَادَةُ السَّعْيِ ، وَيُجْزِئُهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ لِقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ ، كَمَا لَا يَلْزَمُهُ إِعَادَةُ الْوُقُوفِ وَيُجْزِئُهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ لِقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْكَافِرُ إِذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ، ثُمَّ أَسْلَمَ فَإِحْرَامُهُ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ فِيمَا فَعَلَهُ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْحَجِّ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَصِحَّ إِحْرَامُهُ بِالْحَجِّ : لِأَنَّ الْحَجَّ مِنْ عِبَادَاتِ الْأَبْدَانِ ، وَعِبَادَاتُ الْأَبْدَانِ لَا تَصِحُّ مِنَ الْكَافِرِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ ، إِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ إِسْلَامِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي زَمَانِ الْوُقُوفِ أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ الْوُقُوفِ ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ زَمَانِ الْوُقُوفِ لَمْ يَلْزَمْهُ فَرْضُ الْحَجِّ فِي عَامِهِ ؛ لِفَوَاتِ وَقْتِهِ قَبْلَ إِسْلَامِهِ ، وَلَزِمَهُ فَرْضُ الْعُمْرَةِ لِلْقُدْرَةِ عَلَى فَصْلِهَا وَلَهُ أَنْ يُؤَخِّرَهَا : لِأَنَّ فَرْضَهَا عَلَى التَّرَاخِي وَالتَّوْسِعَةِ ، فَإِنْ أَتَى بِالْعُمْرَةِ فِي وَقْتِهِ فَلَا دَمَ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ حِينَ مَرَّ بِالْمِيقَاتِ لَمْ يَكُنْ مُرِيدًا لِلْعُمْرَةِ وَإِنْ كَانَ إِسْلَامُهُ قَبْلَ زَمَانِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ ، وَفِي زَمَانِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ ، وَيُمْكِنُهُ إِدْرَاكُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ فَرْضُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فِي عَامِهِ ، وَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَأْتِيَ بِالْحَجِّ فِي عَامِهِ فَيَنْوِيَ الْإِحْرَامَ بِهِ فِي وَقْتِهِ وَيَقِفُ بِعَرَفَةَ ، وَبَيْنَ أَنْ يُؤَخِّرَهُ
عَنْ عَامِهِ إِلَى عَامٍ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ فَرْضَ الْحَجِّ عِنْدَنَا عَلَى التَّرَاخِي وَالتَّوْسِعَةِ ، فَإِنْ أَخَّرَهُ عَنْ عَامِهِ فَلَا دَمَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مَرَّ بِمِيقَاتِهِ مُرِيدًا بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ عِلْمِهِ ، لَمْ يَلْزَمْهُ دَمٌ ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ مَنْ أَرَادَ الْإِحْرَامَ بِهِ فِي عَامِهِ ، فَهَذَا إِذَا أَرَادَ تَأْخِيرَ الْحَجِّ ، وَإِنْ أَرَادَ فِعْلَ الْحَجِّ فِي عَامِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ إِحْرَامًا بِالْحَجِّ جَدِيدًا : لِأَنَّ إِحْرَامَهُ الْأَوَّلَ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ ، فَإِذَا اسْتَأْنَفَ الْإِحْرَامَ نَظَرَ فَإِنْ عَادَ إِلَى مِيقَاتِهِ قَبْلَ عَرَفَةَ فَلَا دَمَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ إِلَى مِيقَاتِهِ قَبْلَ عَرَفَةَ أَجْزَأَهُ حَجُّهُ وَعَلَيْهِ دَمٌ لِمُجَاوَزَةِ مِيقَاتِهِ قَوْلًا وَاحِدًا : لِأَنَّهُ قَدْ مَرَّ بِمِيقَاتِ بَلَدِهِ مُرِيدًا لِلْحَجِّ فِي عَامِهِ ، فَلَمْ يُحْرِمْ مِنْهُ إِحْرَامًا صَحِيحًا ، وَهَذَا بِخِلَافِ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ؛ لِأَنَّ إِحْرَامَهُمَا صَحِيحٌ . وَقَالَ الْمُزَنِيُّ : لَا دَمَ عَلَيْهِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ اسْتِدْلَالًا بِشَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الدَّمَ وَجَبَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ لَا قَبْلَهُ . وَالثَّانِي : أَنَهٍ قَالَ : إِذَا كَانَ الْإِحْرَامُ مِنَ الْمِيقَاتِ لَا يَصِحُّ مِنْهُ فَهُوَ كَمَنْ مَرَّ بِهِ غَيْرَ مُرِيدٍ لِلْحَجِّ ، فَلَا يَلْزَمُهُ دَمٌ قَبْلَ هَذَا مُرِيدٌ لِلْحَجِّ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ غَيْرُ مُرِيدٍ وَفِعْلُ الْإِحْرَامِ يَصِحُّ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ عَلَى الْإِسْلَامِ فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يُقَالَ : الْإِحْرَامُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُرْتَدُّ إِذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فِي حَالِ رِدَّتِهِ ، فَإِحْرَامُهُ بَاطِلٌ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ : لِأَنَّ الرِّدَّةَ تَنَافِي الْعِبَادَاتِ ، فَلَمْ يَنْعَقِدِ الْإِحْرَامُ مَعَهَا كَالْكُفْرِ ، فَأَمَّا إِذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَهُوَ مُسْلِمٌ ، ثُمَّ ارْتَدَّ فِي أَثْنَاءِ إِحْرَامِهِ فَفِي بُطْلَانِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : قَدْ بَطَلَ حَجُّهُ بِحُدُوثِ الرِّدَّةِ فِيهِ كَمَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ حَجَّهُ لَا يَبْطُلُ لِحُدُوثِ الرِّدَّةِ فِيهِ ، فَإِنْ أَسْلَمَ بَنَى عَلَى حَجِّهِ وَأَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ لَمَّا لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ بِالْفَسَادِ لَمْ يَخْرُجْ فِيهِ بِالرِّدَّةِ ، فَأَمَّا إِذَا أَتَمَّ الْمُسْلِمُ حَجَّهُ ثُمَّ ارْتَدَّ لَمْ يَبْطُلْ حَجُّهُ الْمَاضِي ، وَلَمْ يَبْطُلْ عَمَلُهُ الْمُتَقَدِّمُ إِلَّا أَنْ يَمُوتَ عَلَى الرِّدَّةِ ، فَإِنْ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ لَمْ يَلْزَمْهُ قَضَاءُ الْحَجِّ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : قَدْ بَطَلَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَجِّهِ بِحُدُوثِ الرِّدَّةِ بَعْدَهُ : لِأَنَّ الرِّدَّةَ قَدْ أَحْبَطَتْ عَمَلَهُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [ الزُّمَرِ : ] ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [ الْمَائِدَةِ : ] ، فَأُحْبِطَ عَمَلُهُ فِي هَذَيْنِ الْآيَتَيْنِ بِنَفْسِ الْكُفْرِ حَوْلَ الْمَوْتِ عَلَيْهِ ، وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ ، فَكَانَ ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي سُقُوطَ جَمِيعِ عَمَلِهِ ؛ وَلِأَنَّهُ أَحْدَثُ إِسْلَامًا ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الْحَجَّ كَالْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ ؛ وَلِأَنَّهُ إِذَا مَاتَ مُرْتَدًّا فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ إِجْمَاعًا ، وَلَا يَخْلُو أَنْ يَحْبَطَ عَمَلُهُ بِالشِّرْكِ أَوْ بِالْمَوْتِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْبَطَ عَمَلُهُ بِالْمَوْتِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ يَمُوتُ وَلَا يَحْبَطُ عَمَلُهُ فَثَبَتَ أَنَّهُ قَدْ أُحْبِطَ عَمَلُهُ بِالرِّدَّةِ .
وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ [ الْبَقَرَةِ : ] وَهَذَا الْمُرْتَدُّ إِذَا أَسْلَمَ بَعْدَ رِدَّتِهِ فَقَدِ انْتَهَى بِمَوْعِظَةٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَا سَلَفَ مِنْ عَمَلِهِ وَقَالَ تَعَالَى : وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ [ الْبَقَرَةِ : ] وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنْ حَبْطَ الْعَمَلِ لَا يَكُونُ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ حَتَّى يَقْتَرِنَ بِالْمَوْتِ ، وَفِيهَا انْفِصَالٌ عَنِ الِاثْنَيْنِ ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَزِمَهُ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ لَمْ تَلْزَمْهُ حَجَّةٌ أُخْرَى بِأَصْلِ الشَّرْعِ كَالْمُسْلِمِ غَيْرِ الْمُرْتَدِّ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الِاثْنَيْنِ فَقَدْ مَضَى وَأَنَّهُمَا مَحْمُولَتَانِ عَلَى مَنْ مَاتَ مُرْتَدًّا . وَأَمَّا قَوْلُهُ : الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ فَلَا دَلِيلَ فِيهِ لِأَنَّا قَدْ أَجْمَعْنَا أَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ عَمَلَهُ يَحْبَطُ بِالرِّدَّةِ ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِالرِّدَّةِ وَبِالْمَوْتِ ، وَمَا أَحَدٌ مِنَّا يَقُولُ : إِنَّ عَمَلَهُ يَحْبَطُ بِالْإِسْلَامِ فَسَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ مَتْرُوكٌ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ فَالْمَعْنَى فِي الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ : أَنَّهُ لَمْ يُسْقِطْ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ عَنْ نَفْسِهِ فَلِذَلِكَ لَزِمَهُ فِعْلُهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُرْتَدُّ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ عَمَلَهُ إِمَّا أَنْ يَحْبَطَ بِالْمَوْتِ أَوْ بِالرِّدَّةِ . قُلْنَا : لَا بَلْ عَمَلُهُ يَحْبَطُ بِهِمَا فَأَمَّا بِأَحَدِهِمَا فَلَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ إِذَا أَحْرَمَ الْعَبْدُ بِالْحَجِّ ثُمَّ وَطِئَ فِيهِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ كَالْحُرِّ قَدْ فَسَدَ حَجُّهُ وَلَزِمَهُ إِتْمَامُهُ وَقَضَاؤُهُ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَوْ أَفْسَدَ الْعَبْدُ حَجَّهُ قَبْلَ عَرَفَةَ ثُمَّ أُعْتِقَ ، وَالْمُرَاهِقُ بِوَطْءٍ قَبْلَ عَرَفَةَ ، ثُمَّ احْتَلَمَ أَثِمَا ، وَلَمْ تَجْزِئْ عَنْهُمَا مِنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ امْرَأَةً رَفَعَتْ إِلَيْهِ مِنْ مَحَفَّتِهَا صَبِيًّا فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِهَذَا حَجٌّ قَالَ : " نَعَمْ وَلَكِ أَجْرٌ " ( قَالَ ) : وَإِذَا جَعَلَ لَهُ حَجًّا فَالْحَاجُّ إِذَا جَامَعَ أَفْسَدَ حَجَّهُ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : وَكَذَلِكَ فِي مَعْنَاهُ عِنْدِي يُعِيدُ وَيُهْدِي " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا أَحْرَمَ الْعَبْدُ بِالْحَجِّ ثُمَّ وَطِئَ فِيهِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ كَالْحُرِّ قَدْ فَسَدَ حَجُّهُ ، وَلَزِمَهُ إِتْمَامُهُ وَقَضَاؤُهُ ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ تَخْرِيجًا مِنْ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي الصَّبِيِّ : لِأَنَّ الْعَبْدَ مِمَّنْ لَا يَلْزَمُهُ فَرْضُ الْحَجِّ ، وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ الْعَبْدَ مِمَّنْ يِلْزَمُهُ الْحَجُّ بِالدُّخُولِ فِيهِ ، وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهُ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقَضَاءَ عَلَيْهِ وَاجِبٌ فَهَلْ يَقْضِي فِي حَالِ رِقِّهِ أَوْ بَعْدَ عِتْقِهِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : بَعْدَ عِتْقِهِ فَإِنْ قَضَاهُ فِي حَالِ رِقِّهِ لَمْ يُجْزِهِ ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ فَرَضٌ ، وَالْعَبْدُ مِمَّنْ لَا يَصِحُّ مِنْهُ فَرْضُ الْحَجِّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ يَجُوزُ أَنْ يَقْضِيَهُ فِي حَالِ رِقِّهِ : لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنِ الرِّقُّ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ مَانِعًا مِنْ إِسْقَاطِ فَرْضِ الْقَضَاءِ عَنْهُ فَعَلَى هَذَا إِنَّ
كَانَ قَدْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ الَّذِي أَفْسَدَهُ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُحْرِمَ بِحَجَّةِ الْقَضَاءِ إِلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ إِنَّمَا لَزِمَهُ بِاخْتِيَارِهِ ، وَالسَّيِّدُ مَنَعَ عَبْدَهُ مِمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ بِاخْتِيَارِهِ كَمَا يَمْنَعُهُ مِنْ صَلَاةِ النَّذْرِ وَصِيَامِ النَّذْرِ ، فَإِنْ مَنَعَهُ مِنَ الْقَضَاءِ مُدَّةَ رِقِّهِ كَانَ لَهُ إِذَا أَعْتَقَهُ ، فَأَمَّا الْقَضَاءُ فَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ قَضَاءً حِينَئِذٍ ، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ قَدْ أَحْرَمَ بِالْحَجَّةِ الَّتِي أَفْسَدَهَا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ ، فَهَلْ لِلسَّيِّدِ مَنْعُهُ مِنَ الْقَضَاءِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَيْسَ لَهُ مَنْعُهُ ؛ لِأَنَّ إِذْنَهُ بِالْحَجِّ إِذْنٌ بِهِ وَبِمُوجَبِهِ ، وَالْقَضَاءُ مِنْ مُوجَبِهِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَهُ مَنْعُهُ مِنْهُ وَلَيْسَ لَهُ الْقَضَاءُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ الْأَوَّلَ إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْحَجَّ الْأَوَّلَ وَمُوجِبُهُ الَّذِي لَا يُعَرَّى مِنْهُ ، فَأَمَّا الْقَصْدُ فَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُعَرَّى مِنْهُ ، فَعَلَى هَذَا لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ الْقَضَاءِ مُدَّةَ رِقِّهِ ، وَإِنْ مَكَّنَهُ مِنَ الْقَضَاءِ فِي رِقِّهِ فَقَضَاهُ ، سَقَطَ عَنْهُ الْقَضَاءُ وَلَمْ يُجْزِهِ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ، وَإِنْ مَنَعَهُ مِنَ الْقَضَاءِ حَتَّى أَعْتَقَ فَقَدْ لَزِمَهُ حَجَّتَانِ : الْقَضَاءُ وَحَجَّةُ الْإِسْلَامِ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُقَدِّمَ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ عَلَى الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَدِّمَ عَلَيْهَا غَيْرَهَا ، فَإِنْ قَدَّمَ الْقَضَاءَ عَلَى حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ، انْصَرَفَ إِحْرَامُهُ إِلَى حَجَّةِ الْإِسْلَامِ دُونَ الْقَضَاءِ ، وَلَزِمَهُ أَنْ يُحْرِمَ فِيمَا بَعْدُ لِحَجَّةِ الْقَضَاءِ هَذَا إِنْ كَانَ الْعَبْدُ عَلَى رِقِّهِ إِلَى أَنْ أُحِلَّ مِنْ حَجَّةِ الْفَسَادِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا أُعْتَقَ فِي حَجَّةِ الْفَسَادِ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ ، فَإِنَّهُ يَنْظُرُ فَإِنْ كَانَ الْحَجُّ الَّذِي أَفْسَدَهُ لَوْ عَرِيَ عَنِ الْفَسَادِ أَجْزَأَهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ، وَهُوَ أَنْ يُعْتَقَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَقَضَاؤُهُ يُجْزِئُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي أَفْسَدَهُ لَوْ عَرِيَ عَنِ الْفَسَادِ لَمْ يُجْزِهِ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ، وَهُوَ أَنْ يُعْتَقَ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَقَضَاؤُهُ لَا يُجْزِئُهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ، وَكَذَا الْكَلَامُ فِي الْمُكَاتَبِ وَالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وَمَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ ، فَأَمَّا الصَّبِيُّ إِذَا وَطِئَ فِي حَجِّهِ فَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَهُ مِنْ قَبْلُ مَا يُغْنِي عَنِ الْإِعَادَةِ ، فَإِنْ بَلَغَ فِي حَجِّهِ الَّذِي أَفْسَدَهُ ، كَانَ لِعِتْقِ الْعَبْدِ فِي حَجِّهِ الَّذِي أَفْسَدَهُ ، فَإِنْ كَانَ بُلُوغُهُ قَبْلَ عَرَفَةَ أَجْزَأَهُ الْقَضَاءُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّ حَجَّهُ لَوْ عَرِيَ عَنِ الْفَسَادِ أَجْزَأَهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ، وَإِنْ كَانَ بُلُوغُهُ بَعْدَ عَرَفَةَ لَمْ يُجْزِهِ الْقَضَاءُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ : لِأَنَّ حَجَّهُ لَوْ عَرِيَ عَنِ الْفَسَادِ لَمْ يُجْزِئْهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ .
مَسْأَلَةٌ لَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يُحْرِمَ بِحَجَّةٍ وَلَا عُمْرَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا أَحْرَمَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ أَحْبَبْتُ أَنْ يَدَعَهُ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَهُ حَبْسُهُ ، وَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا تُقَوُّمُ الشَّاةُ دَرَاهِمَ ، وَالدَرَاهِمُ طَعَامًا ، ثُمَّ يَصُومُ عَنْ كُلٍ مُدٍّ يَوْمًا ثُمَّ يَحِلُّ ، وَالْآخَرُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ حَتَى يُعْتَقَ فَيَكُونُ عَلَيْهِ شَاةٌ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) أَوْلَى بِقَوْلِهِ وَأَشْبَهُ عِنْدِي بِمَذْهَبِهِ أَنْ يَحِلَّ وَلَا يَظْلِمَ مَوْلَاهُ بِغَيْبَتِهِ وَمَنْعِ خِدْمَتِهِ ، فَإِذَا أُعْتِقَ أَهْرَاقَ دَمًا فِي مَعْنَاهُ " .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ لَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يُحْرِمَ بِحَجَّةٍ وَلَا عُمْرَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مَمْلُوكُ التَّصَرُّفِ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ تَفْوِيتُ ذَلِكَ بِالْإِحْرَامِ ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ فِي الْإِحْرَامِ جَازَ لَهُ أَنْ يُحْرِمَ وَلَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُحْرِمَ ؛ لِأَنَّهُ تَطَوُّعٌ لَا يَرْتَفِقُ السَّيِّدُ بِهِ ، فَلَمْ يُجْبِرِ الْعَبْدَ عَلَيْهِ ، وَغَلَطَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فَقَالَ : لِلسَّيِّدِ أَنْ يُجْبِرَ عَبْدَهُ عَلَى الْإِحْرَامِ ، وَعَلَى الْعَبْدِ امْتِثَالُ أَمْرِهِ فِيهِ ؛ لِأَنَّ فَوَاتَ حَجِّهِ عَائِدٌ إِلَيْهِ ، فَجَازِ إِجْبَارُهُ عَلَيْهِ ، كَمَا يَجِبُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي يَعُودُ عَلَيْهِ نَفْعُهَا وَهَذَا غَلَطٌ ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ لَا تَصِحُّ إِلَّا بِاعْتِقَادٍ ، فَإِذَا لَمْ تَجِبْ بِالشَّرْعِ ، لَمْ تَجِبْ بِإِجْبَارِ السَّيِّدِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ الَّذِي لَا يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ إِجْبَارُ عَبْدِهِ عَلَى التَّطَوُّعِ بِهِمَا الحج والعمرة ، وَإِنَّ عَادَ إِلَيْهِ فَوَاتُهُمَا ، فَإِنْ أَحْرَمَ بِإِذْنِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ تَمْكِينُهُ مِنْهُ ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ بِالْعُمْرَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ ؛ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ عَمَلًا ، وَإِنْ أَذِنَ لَهُ بِالْحَجِّ جَازَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ ؛ لِأَنَّهَا بَعْضُ أَعْمَالِ الْحَجِّ ، فَإِذَا أَحَلَّ مِنَ الْعُمْرَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ إِلَّا بِإِذْنٍ مُسْتَأْنَفٍ ، فَأَمَّا إِذَا أَحْرَمَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ ، فَإِحْرَامُهُ صَحِيحٌ وَلِلسَّيِّدِ الْخِيَارُ بَيْنَ مَنْعِهِ أَوْ تَرْكِهِ . وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ : إِحْرَامُهُ بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ بَاطِلٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كُلُّ عَمَلٍ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ لَيْسَ لِلْعَبْدِ فِعْلُهُ إِلَّا بِإِذْنِ السَّيِّدِ فَهُوَ بَاطِلٌ إِذَا عَقَدَهُ بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ : وَلِأَنَّ الْعَبْدَ مَمْنُوعٌ مِنَ الْإِحْرَامِ إِلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ ، كَمَا أَنَّ الصَّبِيَّ مَمْنُوعٌ مِنَ الْإِحْرَامِ إِلَّا بِإِذْنِ وَلِيِّهِ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ إِحْرَامَ الصَّبِيِّ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ بَاطِلٌ لَا يَقِفُ عَلَى إِجَازَتِهِ ، فَكَذَلِكَ إِحْرَامُ الْعَبْدِ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ بَاطِلٌ لَا يَقِفُ عَلَى إِجَازَتِهِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [ الْبَقَرَةِ : ] فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي الْحُرِّ وَالْعَبْدِ ؛ وَلِأَنَّ عِبَادَاتِ الْأَبْدَانِ لَا يَفْتَقِرُ انْعِقَادُهَا إِلَى إِذْنِ السَّيِّدِ فَإِنِ اسْتَحَقَّ الْمَنْعَ مِنْهَا كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ إِذَا دَخَلَ فِيهِ الْعَبْدُ تُطَوِّعَا بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ كَانَ مُنْعَقِدًا ، وَإِنْ كَانَ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَمْنَعَهُ ، كَذَلِكَ الْحَجُّ بَلْ حَالُهُ أَوْكَدُ ؛ وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ اعْتِقَادٌ بِالْقَلْبِ وَاعْتِقَادُ الْقَلْبِ لَا يَقِفُ عَلَى إِجَازَةِ سَيِّدِهِ كَالْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ فَكَذَلِكَ الْإِحْرَامُ . فَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَتْرُوكُ الدَّلَالَةِ . وَأَمَّا الْبَيْعُ وَالنِّكَاحُ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْحَجِّ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَقَعُ مَوْقُوفًا فَجَازَ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ ، وَالْإِحْرَامُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا فَجَازَ أَنْ يَصِحَّ إِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ . وَالثَّانِي : أَنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ ، فَجَازَ أَنْ يَبْطُلَ بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ فِعْلَ عَبْدِهِ ، وَالْإِحْرَامُ اعْتِقَادٌ فَجَازَ أَنْ يَنْعَقِدَ بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ اعْتِقَادَ عَبْدِهِ ، وَأَمَّا الصَّبِيُّ فَفِي إِحْرَامِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا :
أَحَدُهُمَا : يَصِحُّ ، فَعَلَى هَذَا بَطَلَ الِاعْتِرَاضُ بِهِ . وَالثَّانِي : لَا يَصِحُّ ، فَعَلَى هَذَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَبْدِ أَنَّ الْإِحْرَامَ اعْتِقَادٌ وَالْعَبْدُ مِنْ أَهْلِ الِاعْتِقَادِ فَصَحَّ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ ، وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الِاعْتِقَادِ فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ مُحْرِمًا إِلَّا بِاعْتِقَادِ وَلِيِّهِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ إِحْرَامَهُ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ العبد مُنْعَقِدٌ فَلِلسَّيِّدِ الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنْ إِتْمَامِ حَجِّهِ وَهُوَ أَوْلَى بِهِ لِمَا يَعُودُ عَلَيْهِ مِنْ ثَوَابِ فِعْلِهِ ، وَبَيْنَ أَنْ يَمْنَعَهُ لِمَا وَجَبَ لَهُ مِنَ اسْتِحْقَاقِ تَصَرُّفِهِ ، فَإِنْ مَنَعَهُ صَارَ الْعَبْدُ كَالْمُحْصَرِ يَجِبُ عَلَيْهِ مَا يَجِبُ عَلَى الْمَحْصَرِ وَيَتَحَلَّلُ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يُمَلِّكَهُ السَّيِّدُ هَدْيًا أَوْ لَا يُمَلِّكَهُ ، فَإِنْ مَلَّكَهُ السَّيِّدُ هَدْيًا فَهَلْ يُجْزِئُهُ أَنْ يُكَفِّرَ بِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُجْزِئُهُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ : إِنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عَلَى إِحْرَامِهِ وَلَا يُحِلُّ مِنْهُ حَتَّى يُهْدِيَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يُجْزِئُهُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ : إِنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ كَمَا لَوْ لَمْ يُمَلِّكْهُ السَّيِّدُ ، وَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ هَلْ لِدَمِ الْإِحْصَارِ بَدَلٌ يَرْجِعُ إِلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا بَدَلَ لَهُ وَيَكُونُ الدَّمُ فِي ذِمَّتِهِ ، وَهَلْ يَتَحَلَّلُ مِنْ إِحْرَامِهِ قَبْلَ إِرَاقَتِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَهُ بَدَلٌ ؛ وَهُوَ الصَّوْمُ وَفِي قَدْرِهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ كَفِدْيَةِ الْأَذَى . وَالثَّانِي : صِيَامُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ : مِثْلُ فِدْيَةِ التَّمَتُّعِ . وَالثَّالِثُ : تُقَوَّمُ الشَّاةُ دَرَاهِمَ وَالدَّرَاهِمُ طَعَامًا وَيَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا كَجَزَاءِ الصَّيْدِ ، وَعَلَى هَذَا هَلْ يَتَحَلَّلُ مِنْ إِحْرَامِهِ قَبْلَ صِيَامِهِ أَمْ لَا العبد ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا قُلْنَا فِي الْحُرِّ سَوَاءٌ ، وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يَقُولُ : يَجُوزُ أَنْ يَتَحَلَّلَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَى الدَّمِ وَقَبْلَ الصَّوْمِ قَوْلًا وَاحِدًا بِخِلَافِ الْحُرِّ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أُمِرَ بِالتَّحَلُّلِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ سَيِّدِهِ وَفِي الْبَقَاءِ عَلَى إِحْرَامِهِ أَعْظَمُ إِضْرَارًا بِهِ .
فَصْلٌ : إِذَا أَذِنَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ فِي الْإِحْرَامِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ ثُمَّ رَجَعَ سَيِّدُهُ عَنْ إِذْنِهِ فَإِنْ رَجَعَ قَبْلَ إِحْرَامِهِ لَمْ يَكُنْ لِلْعَبْدِ الْإِحْرَامُ بَعْدَ رُجُوعِ سَيِّدِهِ ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ الْإِحْرَامَ غَيْرَ مُلْزَمٍ لِشَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ حَجِّهِ وَلِلسَّيِّدِ أَنْ يَمْنَعَ عَبْدَهُ مِنْ فِعْلِ مَا لَمْ يُلْزِمْهُ ، وَإِنْ رَجَعَ بَعْدَ إِحْرَامِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَهُ الرُّجُوعُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ كَمَا لَهُ الرُّجُوعُ قَبْلَهُ وَيُجْبِرُهُ عَلَى الْإِحْلَالِ ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ بِإِحْرَامِهِ عَنْ إِذْنِ سَيِّدِهِ قَدْ لَزِمَهُ إِتْمَامُ حَجِّهِ وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ مَنْعُ
عَبْدِهِ مِنْ فِعْلِ مَا يُعَيَّنُ عَلَيْهِ مِنَ الْوَاجِبَاتِ كَالصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ : وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ لَازِمٌ عَقْدُهُ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ فَسْخُهُ عَلَيْهِ كَالنِّكَاحِ ، فَلَوْ رَجَعَ السَّيِّدُ عَنْ إِذْنِهِ قَبْلَ إِحْرَامِ الْعَبْدِ فَلَمْ يُعْلِمِ الْعَبْدَ بِرُجُوعِهِ حَتَّى أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَإِحْرَامُهُ مُنْعَقِدٌ ، وَهَلْ لِلسَّيِّدِ مَنْعُهُ مِنْهُ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مُخَرَّجَيْنِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْوَكِيلِ إِذَا تْصَرَفَ فِي قِصَاصٍ أَوْ غَيْرِهِ بَعْدَ عَزْلِ مُوَكِّلِهِ وَقَبْلَ عِلْمِهِ هَلْ يَكُونُ تَصَرُّفًا بَاطِلًا وَعَمَلًا مَضْمُونًا أَمْ لَا ؟ فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ وَكَالَتَهُ تَبْطُلُ بِرُجُوعِ الْمُوَكِّلِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْهُ الْوَكِيلُ وَيَكُونُ تَصَرُّفُهُ بَاطِلًا وَعَمَلُهُ مَضْمُونًا ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ إِحْرَامُ الْعَبْدِ بَعْدَ رُجُوعِ سَيِّدِهِ وَقَبْلَ عِلْمِهِ كَإِحْرَامِهِ بَعْدَ عِلْمِهِ فَيَكُونُ لِلسَّيِّدِ مَنْعُهُ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَبْطُلُ إِلَّا بِرُجُوعِ الْمُوَكِّلِ وَعِلْمِ الْوَكِيلِ وَيَكُونُ تَصَرُّفُهُ قَبْلَ عِلْمِهِ مَاضِيًا وَعَمَلُهُ غَيْرَ مَضْمُونٍ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ إِحْرَامُ الْعَبْدِ بَعْدَ رُجُوعِ سَيِّدِهِ وَقَبْلَ عِلْمِهِ كَإِحْرَامِهِ قَبْلَ رُجُوعِهِ فَلَا يَكُونُ لِلسَّيِّدِ مَنْعُهُ .
فَصْلٌ : إِذَا أَحْرَمَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ : ثُمَّ إِنِ السَّيِّدُ أَذِنَ لَهُ فِي إِتْمَامِ حَجِّهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ إِتْمَامِهِ ، وَيَكُونُ كَالْمُحْرِمِ بِإِذْنٍ . فَلَوْ أَذِنَ لَهُ فِي الْإِحْرَامِ بِحَجَّةٍ مُفْرَدَةٍ فَقَرَنَ العبد فِي إِحْرَامِهِ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ كَانَ قِرَانًا صَحِيحًا وَلَمْ يَكُنْ لِلسَّيِّدِ مَنْعُهُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ أَعْمَالَ الْقَارِنِ كَأَعْمَالِ الْمُفْرِدِ وَلَوْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ فِي ذِي الْحِجَّةِ فَأَحْرَمَ قَبْلَهُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ العبد كَانَ لِلسَّيِّدِ مَنْعُهُ ؛ لِأَنَّهُ شَغَلَ نَفْسَهُ عَنْ تَصَرُّفِ سَيِّدِهِ فِي زَمَانٍ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِيهِ .
فَصْلٌ : إِذَا أَحْرَمَ الْعَبْدُ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ ثُمَّ بَاعَهُ السَّيِّدُ كَانَ بَيْعُهُ جَائِزًا بِخِلَافِ بَيْعِ الْمُؤَاجَرِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ : لِأَنَّ الْعَبْدَ الْمُؤَاجَرَ مَمْلُوكُ الْمَنْفَعَةِ وَعَلَيْهِ لِلْمُسْتَأْجِرِ يَدٌ حَائِلَةٌ فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَالْعَبْدُ الْمُحْرِمُ غَيْرُ مَمْلُوكِ الْمَنْفَعَةِ وَلَا عَلَيْهِ يَدٌ حَائِلَةٌ فَجَازَ بَيْعُهُ قَوْلًا وَاحِدًا وَإِذَا كَانَ ثَابِتًا لَمْ يَخْلُ حَالُ الْعَبْدِ فِي إِحْرَامِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ ، فَإِنْ كَانَ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمُشْتَرِي مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِإِحْرَامِهِ قَبْلَ الشِّرَاءِ أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ ، فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِإِحْرَامِهِ فَلَا خِيَارَ لَهُ كَمَا لَوِ اشْتَرَى عَبْدًا مَعِيبًا وَهُوَ عَالِمٌ بِعَيْبِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ بِإِحْرَامِهِ فَلَهُ الْخِيَارُ فِي إِمْضَاءِ الْبَيْعِ أَوْ فَسْخِهِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِإِحْرَامِهِ حَتَّى أَحَلَّ مِنْهُ فَفِي خِيَارِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا خِيَارَ لَهُ اعْتِبَارًا بِالْحَالِ . وَالثَّانِي : لَهُ الْخِيَارُ اعْتِبَارًا بِمَا وَجَبَ ، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ قَدْ أَحْرَمَ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ فَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي فِي فَسْخِ الْبَيْعِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ ، يَمْنَعُ الْعَبْدُ مِنْ إِحْرَامِهِ ثُمَّ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُمَكِّنَهُ أَوْ يَمْنَعَهُ ، وَإِنَّمَا كَانَ بِالْخِيَارِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِحْرَامُهُ فِي مِلْكِهِ ؛ لِأَنَّ إِحْرَامَ الْعَبْدِ لَمَّا كَانَ عَنْ غَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ كَانَ إِحْرَامُهُ غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ فَكَانَ لِمَالِكِ رِقِّهِ مَنْعُهُ مِنْهُ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ مَنْفَعَتِهِ وَإِبْطَالِ تَصَرُّفِهِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ مَكَّنَهُ الْبَائِعُ وَمَنْعَهُ الْمُشْتَرِي كَانَ مَنْعُ الْمُشْتَرِي أَوْلَى مِنْ تَمْكِينِ الْبَائِعِ لِوُجُودِ الْمَنْعِ مِنْ مَالِكٍ وَوُجُوبِ التَّمْكِينِ مِنْ غَيْرِ مَالِكٍ .
مَسْأَلَةٌ جُمْلَةُ الدِّمَاءِ الْوَاجِبَةِ عَنِ الْعَبْدِ فِي إِحْرَامِهِ ضَرْبَانِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَتَمَتَّعَ فَأَعْطَاهُ دَمًا لِتَمَتُّعِهِ لَمْ يُجْزِ عَنْهُ إِلَّا الصَّوْمُ مَا كَانَ مَمْلُوكًا ، وَيُجْزِي أَنْ يُعْطِيَ عَنْهُ مَيْتًا كَمَا يُعْطِي عَنْ مَيِّتٍ قَضَاءً ؛ لِأَنَّ النَبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ سَعْدًا أَنْ يَتَصَدَّقَ عَنْ أُمِّهِ بَعْدَ مَوْتِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَجُمْلَةُ الدِّمَاءِ الْوَاجِبَةِ عَنِ الْعَبْدِ فِي إِحْرَامِهِ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَجِبَ بِفِعْلِ الْعَبْدِ عَنْ غَيْرِ أَمْرِ السَّيِّدِ ، فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ مُعْسِرًا لَمْ يُمَلِّكْهُ السَّيِّدُ مَا يُكَفِّرُ بِهِ فَكَفَّارَتُهُ الصِّيَامُ وَإِنْ مَلَكَّهُ السَّيِّدُ مَا يُكَفِّرُ بِهِ فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ أَنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ وَيُكَفِّرُ بِالدَّمِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَصُومَ لِقُدْرَتِهِ وَمِلْكِهِ ، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ فَلَا يُجْزِئُهُ أَنْ يُكَفِّرَ بِالدَّمِ : لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ وَعَلَيْهِ أَنْ يُكَفِّرَ بِالصَّوْمِ ؛ لِأَنَّهُ فَرْضٌ فَعَلَى هَذَا لَوْ لَمْ يُكَفِّرْ بِالصَّوْمِ حَتَّى أُعْتِقَ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ عِتْقِهِ مُوسِرًا فَعَلَى قَوْلَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْكَفَّارَةِ هَلْ يُرَاعَى بِهَا حَالُ الْوُجُوبِ أَوْ حَالُ الْأَدَاءِ ؟ عَلَى الْقَوْلَيْنِ أَنَّ الْمُرَاعَى بِهَا حَالُ الْأَدَاءِ كَالصَّلَاةِ فَعَلَى هَذَا لَا يُجْزِئُهُ الصَّوْمُ وَعَلَيْهِ أَنْ يُكَفِّرَ بِالدَّمِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْمُرَاعَى بِهَا حَالُ الْوُجُوبِ كَالْحُدُودِ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُكَفِّرَ بِالدَّمِ وَيُجْزِئُهُ أَنْ يُكَفِّرَ بِالصَّوْمِ فَإِنْ عَدَلَ إِلَى الدَّمِ عَنِ الصَّوْمِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُجْزِئُهُ : لِأَنَّ الدَّمَ أَغْلَظُ حَالًا مِنَ الصَّوْمِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يُجْزِئُهُ إِلَّا الصَّوْمُ ؛ لِأَنَّهُ فِي حَالِ رِقِّهِ لَمْ يَكُنْ يُجْزِئُهُ إِلَّا الصَّوْمُ وَكَذَلِكَ بَعْدَ عِتْقِهِ لَا يُجْزِئُهُ إِلَّا الصَّوْمُ . وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يَجِبَ بِفِعْلِ الْعَبْدِ عَنْ أَمْرِ السَّيِّدِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا لَا يُسْتَبَاحُ فِعْلُهُ وَإِنْ أَمَرَهُ السَّيِّدُ بِهِ كَالْوَطْءِ وَقَتْلِ الصَّيْدِ فَهَذَا يَكُونُ حُكْمُهُ كَحُكْمِ مَا فَعَلَهُ مِنْ غَيْرِ أَمْرِ السَّيِّدِ ؛ لِأَنَّ أَمْرَ السَّيِّدِ لَا يُبِيحُ مَا كَانَ مَحْظُورًا فَكَانَ وُجُودُ أَمْرِهِ كَعِدْمِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا يُسْتَبَاحُ فِعْلُهُ بِأَمْرِ السَّيِّدِ كَالتَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ ، فَإِذَا تَمَتَّعَ وَقَرَنَ عَنْ أَمْرِهِ فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ - إِنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ - يَكُونُ كَمَا لَوْ فَعَلَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَكَفَّرَ بِالصَّوْمِ وَلَا يُجْزِئُهُ الدَّمُ وَلَا يَلْزَمُ السَّيِّدَ إِخْرَاجُ الدَّمِ عَنْهُ وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ - إِنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ فَيُجْزِئُهُ الدَّمُ وَفِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ قَوْلَانِ نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي الْقَدِيمِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى السَّيِّدِ بِأَمْرِهِ ، فَعَلَى هَذَا عَلَى السَّيِّدِ إِخْرَاجُ الدَّمِ عَنْهُ وَلَا يَلْزَمُهُ اسْتِئْذَانُ الْعَبْدِ فِيهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الْعَبْدِ دُونَ السَّيِّدِ : لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِفِعْلِ الْعَبْدِ دُونَ فِعْلِ السَّيِّدِ فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ يُمَلِّكْهُ السَّيِّدُ كَفَّرَ بِالصَّوْمِ كَالْمُعْسِرِ وَإِنْ مَلَّكَهُ السَّيِّدُ كَفَّرَ بِالدَّمِ كَالْمُوسِرِ
فَلَوْ أَخْرَجَ السَّيِّدُ عَنْهُ الدَّمَ لَمْ يُجْزِهِ إِلَّا بِأَمْرِهِ وَإِنْ أَخْرَجَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّ مَا يَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ لَا يَصِحُّ فِعْلُهُ عَنِ الْحَيِّ إِلَّا بِأَمْرِهِ .
فَصْلٌ : فَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْ نَفْسِهِ بِالصَّوْمِ وَقَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْهُ سَيِّدُهُ بِالدَّمِ ، فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الْكَفَّارَةَ وَجَبَتْ عَلَى السَّيِّدِ فِيمَا أَمَرَهُ بِفِعْلِهِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَعَلَى السَّيِّدِ إِخْرَاجُهَا ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهَا وَجَبَتْ عَلَى الْعَبْدِ فِيمَا لَمْ يَأْمُرْهُ السَّيِّدُ أَوْ فِيمَا أَمَرَهُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لَمْ يَلْزَمِ السَّيِّدَ إِخْرَاجُهَا ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ فَإِنْ تَطَوَّعَ السَّيِّدُ بِإِخْرَاجِهَا عَنْهُ أَجْزَأَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا سَوَاءٌ قِيلَ : إِنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ أَمْ لَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ لِلْعَبْدِ وَإِنَّمَا هُوَ إِسْقَاطُ فَرْضٍ لَزِمَهُ بِدَفْعِهِ إِلَى الْمَسَاكِينِ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ سَعْدًا أَنْ يَتَصَدَّقَ عَنْ أُمِّهِ ، فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا جَوَّزْتُمْ تَكْفِيرَ السَّيِّدِ عَنْ عَبْدِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ لَهُ وَإِنَّمَا هُوَ إِسْقَاطُ فَرْضٍ لَزِمَهُ بِدَفْعِهِ إِلَى الْمَسَاكِينِ - فَهَلَّا جَوَّزْتُمْ تَكْفِيرَ السَّيِّدِ عَنْهُ فِي حَيَاتِهِ : لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَمْلِيكٌ لَهُ وَإِنَّمَا هُوَ إِسْقَاطُ فَرْضٍ لَزِمَهُ بِدَفْعِهِ إِلَى الْمَسَاكِينِ . قِيلَ : إِنَّمَا أَجْزَأَهُ تَكْفِيرُهُ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَلَمْ يُجْزِهِ فِي حَيَاتِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَفْتَقِرُ إِلَى إِذْنِهِ فِي الْحَيَاةِ وَهُوَ مِمَّنْ لَا يَصْلُحُ مِنْهُ التَّكْفِيرُ بِالدَّمِ فَلَمْ يَصِحَّ مِنْهُ إِذْنُهُ فِيهِ وَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى إِذْنِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَصَحَّ التَّكْفِيرُ عَنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
باب هل له أن يحرم بحجتين أو عمرتين أو ما يتعلق بذلك
باب هل له أن يحرم بحجتين أو عمرتين أو ما يتعلق بذلك مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " مَنْ أَهَلَّ بِحَجَّتَيْنِ أَوْ عُمْرَتَيْنِ مَعًا أَوْ بِحَجٍّ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهِ حَجًّا آخَرَ أَوْ بِعُمْرَتَيْنِ مَعًا أَوْ بِعُمْرَةٍ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهَا أُخْرَى فَهُوَ حَجٌّ وَاحِدٌ وَعُمْرَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَا فِدْيَةٌ ، ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ يَحُجُّ حَجَّتَيْنِ أَوْ حَجَّةً فَإِذَا أَجْمَعُوا أَنَّهُ لَا يَعْمَلُ عَمَلَ حَجَّتَيْنِ فِي حَالٍ وَلَا عُمْرَتَيْنِ وَلَا صَوْمَيْنِ فِي حَالٍ لَا عَلَى أَنَّهُ لَا مَعْنَى إِلَّا لِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فَبَطُلَتِ الْأُخْرَى . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا - كَمَا قَالَ - الْإِحْرَامُ بِحَجَّتَيْنِ لَا يَنْعَقِدُ وَكَذَلِكَ بِحَجَّتَيْنِ فَإِذَا أَحْرَمَ بِحَجَّتَيْنِ أَوْ بِحَجَّةٍ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهَا أُخْرَى كَانَ حَجًّا وَاحِدًا وَلَمْ يَلْزَمْهُ قَضَاءُ الْأُخْرَى ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَحْرَمَ بِعُمْرَتَيْنِ أَوْ بِعُمْرَةٍ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهَا أُخْرَى كَانَتْ عُمْرَةً وَاحِدَةً وَلَمْ يَلْزَمْهُ قَضَاءُ الْأُخْرَى . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِذَا أَحْرَمَ بِحَجَّتَيْنِ أَوْ عُمْرَتَيْنِ انْعَقَدَ إِحْرَامُهُ بِهِمَا جَمِيعًا إِذَا تَوَجَّهَ فِي السَّيْرِ رَفَضَ إِحْدَاهُمَا وَقَضَاهَا مِنْ قَابِلٍ وَعَلَيْهِ دَمٌ ؛ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [ الْبَقَرَةِ : ] ، فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ إِتْمَامَ جِنْسِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ، وَلِأَنَّهُ إِحْرَامٌ تَضَمَّنَ نُسُكَيْنِ فَجَازَ أَنْ يَنْعَقِدَ بِهِمَا جَمِيعًا كَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ طَرْدًا وَكَالصَّلَاتَيْنِ عَكْسًا ، وَلِأَنَّ الْحَجَّ يَلْزَمُ بِالدُّخُولِ فِيهِ كَمَا يَلْزَمُ بِالنَّذْرِ لَهُ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ حَجَّتَيْنِ لَزِمَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِمَا فَكَذَلِكَ إِذَا أَحْرَمَ بِهِمَا لَزِمَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِمَا . وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنِ الْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ أَنَّهُ قَالَ : أَحَجَّتُنَا هَذِهِ لِعَامِنَا أَمْ لِلْأَبَدِ ؟ فَقَالَ بَلْ لِلْأَبَدِ ، فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ وَلَمْ يَقُلْ إِلَّا أَنْ يُحْرِمَ بِحَجَّتَيْنِ ، وَلِأَنَّهُمَا عِبَادَتَانِ لَا يُمْكِنُهُ الْمُضِيُّ فِي شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِهَا فَوَجَبَ أَنْ لَا يَنْعَقِدَ إِحْرَامُهُ بِهِمَا كَالصَّلَاتَيْنِ ، فَإِنْ قِيلَ الْمَعْنَى فِي الصَّلَاتَيْنِ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَنْعَقِدْ إِحْرَامُهُ بِإِحْدَاهُمَا لَمْ يَنْعَقِدْ بِهِمَا وَلَمَّا انْعَقَدَ إِحْرَامُهُ بِإِحْدَى الْحَجَّتَيْنِ انْعَقَدَ بِهِمَا - قِيلَ الْمَعْنَى فِي الصَّلَاةِ مُخَالِفٌ لِلْمَعْنَى فِي الْحَجِّ ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَ النِّيَّةِ فِي الصَّلَاةِ وَاجِبٌ فَإِذَا أَحْرَمَ بِصَلَاتَيْنِ لَمْ تَنْعَقِدْ إِحْدَاهُمَا لِأَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْهَا بِنِيَّتِهِ ، وَتَعْيِينُ النِّيَّةِ فِي الْحَجِّ غَيْرُ وَاجِبٍ ، فَإِذَا أَحْرَمَ بِهِمَا انْعَقَدَ إِحْرَامُهُ بِإِحْدَاهُمَا : لِأَنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى تَعْيِينِهَا بِنِيَّتِهِ وَلِأَنَّهُمَا عِبَادَتَانِ لَا يَصِحُّ الْمُضِيُّ فِيهِمَا فَلَا يَصِحُّ الْإِحْرَامُ بِهِمَا كَالصَّلَاتَيْنِ ، وَلِأَنَّهُمَا عِبَادَتَانِ مَنَعَ الْوَقْتُ مِنَ اسْتَدَامَتِهِمَا فَوَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ مِنَ ابْتِدَائِهِمَا كَالصَّوْمَيْنِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ : وَلِأَنَّ
الْإِحْرَامَ بِالنُّسُكِ يُوجِبُ انْعِقَادَ النُّسُكِ وَالْمُضِيَّ فِيهِ فَلَمَّا كَانَ الْإِحْرَامُ بِالْحَجَّتَيْنِ لَا يُوجِبُ الْمُضِيَّ فِيهَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِحْرَامُ فِيهِمَا يُوجِبُ انْعِقَادَهُمَا . وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا : أَنَّهُ أَحَدُ مُوجِبَيِ الْإِحْرَامِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَشْتَمِلَ عَلَى حَجَّتَيْنِ كَالْمُضِيِّ فِيهِمَا ، وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ رُكْنٌ كَالطَّوَافِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الطَّوَافَ لَا يَصِحُّ عَنْ حَجَّتَيْنِ . وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ أَنَّهُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ عَنْ حَجَّتَيْنِ كَالطَّوَافِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِعُمُومِ الْآيَةِ فَهُوَ أَنَّهَا تُوجِبُ إِتْمَامَ مَا انْعَقَدَ ، وَحَقِيقَةُ الْإِتْمَامِ الْبِنَاءُ عَلَى مَا مَضَى ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَمْنَعُ مِنْهُ فَلَمْ يَكُنْ فِيهَا دَلَالَةٌ ؛ لِأَنَّ خِلَافَنَا فِي انْعِقَادِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِتْمَامُهُ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى النُّسُكَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْمُضِيُّ فِيهِمَا فَلِذَلِكَ انْعَقَدَ إِحْرَامُهُ بِهِمَا وَلَمَّا كَانَ النُّسُكَانِ الْمُتَّفِقَانِ لَمْ يُمْكِنِ الْمُضِيُّ فِيهِمَا لَمْ يَصِحَّ إِحْرَامُهُ بِهِمَا ، وَأَمَّا جَمْعُهُ بَيْنَ الْإِحْرَامِ وَالنَّذْرِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ : لِأَنَّ النَّذْرَ أَعَمُّ لَهُ وَمَا يَتَعَلَّقُ مِنَ الْفِعْلِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ صَلَاتَيْنِ لَزِمَ الْإِتْيَانُ بِهِمَا ، وَلَوْ أَحْرَمَ بِصَلَاتَيْنِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِتْيَانُ بِهِمَا ؟ فَكَذَلِكَ الْحَجُّ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
بَابُ الْإِجَارَةِ عَلَى الْحَجِّ وَالْوَصِيَّةِ
بَابُ الْإِجَارَةِ عَلَى الْحَجِّ وَالْوَصِيَّةِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الرَّجُلُ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مَرْكَبٍ لِضَعْفِهِ أَوْ كِبَرِهِ إِلَّا بِأَنْ يَقُولَ يُحْرِمُ عَنْهُ مِنْ مَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ النِّيَابَةَ فِي الْحَجِّ جَائِزَةٌ وَالِاسْتِئْجَارَ عَلَى الْحَجِّ جَائِزٌ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِي الْحَجِّ وَالِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ فَإِنِ اسْتَأْجَرَ رَجُلٌ رَجُلًا لِيَحُجَّ عَنْهُ أَوْ عَنْ مَيِّتٍ وَقَعَتِ الْحَجَّةُ لِلْحَاجِّ وَكَانَ لِلْمَحْجُوجِ عَنْهُ ثَوَابٌ يَعْقُبُهُ ؛ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْحَجَّ مِنْ عِبَادَاتِ الْأَبْدَانِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَصِحَّ النِّيَابَةُ فِيهِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ فِعْلُهَا بِالدُّخُولِ فِيهَا فَوَجَبَ أَنْ لَا تَصِحَّ الْإِجَارَةُ عَلَيْهَا وَلَا النِّيَابَةُ فِيهَا كَالْجِهَادِ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ رِوَايَةُ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ فَقَالَ أَحَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ ؟ قَالَ : لَا ، قَالَ : حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ ، فَأَذِنَ لَهُ فِي الْحَجِّ عَنْ شُبْرُمَةَ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْحَجُّ وَاقِعًا عَنْهُ وَالْفَرْضُ سَاقِطًا بِهِ ، وَرُوِيَ عَنِ الْخَثْعَمِيَّةِ أَنَّهَا قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ فِي الْحَجِّ عَلَى عِبَادِهِ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَمْسِكَ عَلَى رَاحِلَتِهِ فَهَلْ تَرَى أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ ، قَالَتْ : يَنْفَعُهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ أَيَنْفَعُهُ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ . قَالَ : فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى ، فَجَعَلَ قَضَاءَ الْحَجِّ عَنْهُ مُسْقِطًا لِفَرْضِهِ كَمَا أَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ عَنْهُ مُسْقِطًا لِدَيْنِهِ ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي رَزِينٍ حُجَّ عَنْ أَبِيكَ وَاعْتَمِرْ وَلِأَنَّ كُلَّ عَمَلٍ جَازَ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِهِ الْغَيْرُ عَنِ الْغَيْرِ جَازَ أَنْ تَصِحَّ فِيهِ النِّيَابَةُ وَيَصِحَّ ، وَعَلَيْهِ عَقْدُ الْإِجَارَةِ كَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَكَتْبِ الْمَصَاحِفِ ، فَإِنْ قَالُوا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِهِ الْغَيْرُ ، قُلْنَا : يَعْنِي أَنَّهُ يُضِيفُ الْفِعْلَ إِلَيْهِ فَيَقُولُ : لَبَّيْكَ عَنْ فُلَانٍ لِيَحْصُلَ لَهُ ثَوَابُ النَّفَقَةِ ، وَلِأَنَّهُ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ يَجِبُ بِوُجُودِ الْمَالِ فَوَجَبَ أَنْ تَصِحَّ فِيهِ النِّيَابَةُ كَالزَّكَاةِ . فَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ ، فَالْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّ الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ لَا يَتَعَلَّقُ وُجُوبُهُمَا بِالْمَالِ فَلِذَلِكَ لَمْ تَصِحَّ فِيهِمَا النِّيَابَةُ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْحَجُّ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْجِهَادِ فَالْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ فَلِذَلِكَ لَمْ تَصِحَّ النِّيَابَةُ فِيهِ لِاسْتِوَاءِ النَّائِبِ وَالْمَنَابِ عَنْهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْحَجُّ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى الْحَجِّ فَعَقْدُ الْإِجَارَةِ فِيهِ لَازِمٌ كَسَائِرِ عُقُودِ الْإِجَارَاتِ ، وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : مُعَيَّنٍ ، وَفِي الذِّمَّةِ . فَأَمَّا الْمُعَيَّنُ فَقَوْلُهُ قَدِ اسْتَأْجَرْتُكَ لِلْحَجِّ عَنِّي بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَيَكُونُ عَقْدُ الْإِجَارَةِ عَلَيْهِ فِي عَيْنِهِ فَإِذَا حَجَّ غَيْرُهُ لَمْ يَجُزْ وَإِنْ مَاتَ بَطُلَتِ الْإِجَارَةُ كَمَنِ اسْتَأْجَرَ بَعِيرًا بِعَيْنِهِ لِيَرْكَبَهُ فِي سَفَرِهِ لَمْ يَجُزْ لِمُؤَجِّرِهِ أَنْ يُبَدِّلَهُ بِغَيْرِهِ ، وَيَبْطُلُ عَقْدُ الْإِجَارَةِ بِمَوْتِهِ . وَأَمَّا الَّذِي فِي الذِّمَّةِ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ : قَدِ اسْتَأْجَرْتُكَ لِتَحْصِيلِ حَجَّةٍ لِي بِمِائَةِ دِرْهَمٍ أَوْ يَقُولَ : قَدِ اسْتَأْجَرْتُ مِنْكَ تَحْصِيلَ حَجَّةٍ لِي بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَيَكُونَ عَقْدُ الْإِجَارَةِ فِي ذِمَّتِهِ ، فَإِذَا حَجَّ غَيْرُهُ جَازَ وَإِنْ مَاتَ لَمْ تَبْطُلِ الْإِجَارَةُ كَمَنِ اسْتَأْجَرَ ظَهْرَ بَعِيرٍ فِي الذِّمَّةِ فَلِمُؤَجِّرِهِ أَنْ يُرْكِبَهُ أَيَّ بَعِيرٍ شَاءَ وَإِنْ مَاتَ الْبَعِيرُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُبْدِلَهُ بِغَيْرِهِ وَلَا تَبْطُلُ الْإِجَارَةُ بِمَوْتِهِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ عَلَى الْحَجِّ يَصِحُّ عَلَى هَذَيْنِ الضَّرْبَيْنِ كَغَيْرِهِ مِنْ عُقُودِ الْإِجَارَاتِ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى بَيَانِ حُكْمِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، فَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ مُعَيَّنًا فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَعْقِدَاهُ مُعَجَّلًا . وَالثَّانِي : أَنْ يَعْقِدَاهُ مُؤَجَّلًا . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَعْقِدَاهُ مُطْلَقًا ؛ فَإِنْ عَقَدَاهُ مُعَجَّلًا وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : قَدِ اسْتَأْجَرْتُكَ لِتَحُجَّ عَنِّي فِي هَذِهِ السَنَةِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مَسِيرُ النَّاسِ مُمْكِنًا وَوَقْتُ مَسِيرِهِمْ مُتَأَتِّيًا ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ الْبِلَادِ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ ، فَإِذَا كَانَ وَقْتُ مَسِيرِ النَّاسِ صَحَّ الْعَقْدُ سَوَاءٌ كَانَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ أَوْ غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ ؛ لِأَنَّ مَنْ بِأَقْصَى بِلَادِ خُرَاسَانَ وَبِلَادِ التُّرْكِ لَا يُدْرِكُ الْحَجَّ إِذَا ابْتَدَأَ بِالسَّيْرِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ حَتَّى يُقَدِّمَ السَّيْرَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَإِذَا صَحَّ الْعَقْدُ وَأَخَّرَ الْمَسِيرَ يَوْمًا أَوْ أَيَّامًا جَازَ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَسِيرُ النَّاسِ غَيْرَ مُمْكِنٍ وَوَقْتُ خُرُوجِهِمْ غَيْرَ مُتَأَتٍّ ؛ وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ لِأَحَدِ وَجْهَيْنِ : إِمَّا لِقُرْبِ الزَّمَانِ وَضِيقِهِ عَنْ إِدْرَاكِ الْحَجِّ فِيهِ ؛ كَالْعِرَاقِيِّ الَّذِي اسْتُؤْجِرَ فِي عَشْرِ النَّحْرِ ، وَإِمَّا لِسَعَةِ الزَّمَانِ وَبُعْدِهِ عَنْ خُرُوجِ النَّاسِ فِيهِ ؛ كَالْعِرَاقِيِّ إِذَا اسْتُؤْجِرَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَعَقْدُ الْإِجَارَةِ بَاطِلٌ : لِأَنَّ مَا اقْتَضَاهُ الْعَقْدُ مِنْ تَعْجِيلِ الْحَجِّ مُمْتَنِعٌ وَإِنْ عَقَدَاهُ مُؤَجَّلًا ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : قَدِ اسْتَأْجَرْتُكَ لِتَحُجَّ عَنِّي فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ ؛ فَعَقْدُ الْإِجَارَةِ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الْعُقُودَ عَلَى الْأَعْيَانِ بِشَرْطِ تَأْخِيرِ التَّسْلِيمِ بَاطِلٌ ، وَإِنْ عَقَدَاهُ مُطْلَقًا ؛ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : قَدِ اسْتَأْجَرْتُكَ لِتَحُجَّ عَنِّي وَلَا يُقَيِّدَاهُ بِزَمَانٍ فَإِطْلَاقُهُ يَقْتَضِي التَّعْجِيلَ ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ لَا يَلْزَمُ إِلَّا بِشَرْطٍ فَيَكُونَ كَمَا لَوْ شَرَطَا التَّعْجِيلَ فِي اعْتِبَارِ الْوَقْتِ عَلَى مَا مَضَى .
فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ فِي الذِّمَّةِ ، فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ أَيْضًا : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَعْقِدَاهُ مُعَجَّلًا . وَالثَّانِي : أَنْ يَعْقِدَاهُ مُؤَجَّلًا . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَعْقِدَاهُ مُطْلَقًا ؛ فَإِنْ عَقَدَاهُ مُعَجَّلًا ؛ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : قَدِ اسْتَأْجَرْتُ مِنْكَ تَحْصِيلَ حَجَّةٍ لِي فِي هَذَا الْعَامِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، اعْتَبَرْتَ الْوَقْتَ ؛ فَإِنْ كَانَ الْمَسِيرُ فِيهِ مُمْكِنًا أَوْ كَانَ قَبْلَ وَقْتِ الْمَسِيرِ فَالْعَقْدُ فِيهِ جَائِزٌ ، وَإِنَّمَا جَازَ الْعَقْدُ فِي الذِّمَّةِ قَبْلَ وَقْتِ الْمَسِيرِ وَلَمْ يَجُزِ الْعَقْدُ الْمُعَيَّنُ قَبْلَ وَقْتِ الْمَسِيرِ ؛ لِأَنَّ تَأْخِيرَ مَا فِي الذِّمَّةِ جَائِزٌ وَتَأْخِيرَ الْمُعَيَّنِ غَيْرُ جَائِزٍ وَإِنْ كَانَ الْمَسِيرُ غَيْرَ مُمْكِنٍ لِضِيقِ الْوَقْتِ مِنَ الْحَجِّ فَالْإِجَارَةُ فِيهِ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى عَمَلٍ غَيْرِ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ عِنْدَ مَحِلِّهِ وَإِنْ عَقَدَاهُ مُؤَجَّلًا ؛ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : قَدِ اسْتَأْجَرْتُ مِنْكَ تَحْصِيلَ حَجَّةٍ لِي فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَالْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ ؛ لِأَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ يَصِحُّ تَأْجِيلُهُ كَالْمُسْلِمِ ، وَإِنْ عَقَدَاهُ مُطْلَقًا ؛ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : قَدِ اسْتَأْجَرْتُ مِنْكَ تَحْصِيلَ حَجَّةٍ لِي وَلَا يُقَيِّدُ ذَلِكَ بِزَمَانٍ فَإِطْلَاقُهُ يَقْتَضِي تَعْجِيلَهُ فَيَكُونُ كَمَا لَوْ عَقَدَاهُ مُعَجَّلًا عَلَى مَا مَضَى .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى الْحَجِّ مُعَيَّنًا وَفِي الذِّمَّةِ فَعَقْدُ الْإِجَارَةِ فِيهِ يَحْتَاجُ إِلَى تَعْيِينِ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : تَعْيِينُ النُّسُكِ . وَالثَّانِي : تَعْيِينُ وَقْتِ النُّسُكِ . وَالثَّالِثُ : تَعْيِينُ مِيقَاتِ النُّسُكِ . وَالرَّابِعُ : تَعْيِينُ مَنْ يُؤَدِّي عَنْهُ النُّسُكَ . فَأَمَّا تَعْيِينُ النُّسُكِ فَهُوَ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ فَافْتُقِرَ إِلَى ذِكْرِهِ لِيُكُونَ الْعَمَلُ مَعْلُومًا فِي الْعَقْدِ أَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ قِرَانٍ أَوْ تَمَتُّعٍ ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ بَطَلَ الْعَقْدُ لِلْجَهَالَةِ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ . وَأَمَّا تَعْيِينُ وَقْتِ النُّسُكِ فَهُوَ الْأَجَلُ فَإِنْ ذَكَرَهُ انْصَرَفَ الْعَقْدُ عَنِ الْحُلُولِ إِلَى التَّأْجِيلِ فَيَكُونُ حُكْمُهُ عَلَى مَا مَضَى . وَأَمَّا تَعْيِينُ مِيقَاتِ النُّسُكِ فَلِتَنْتَفِيَ عَنِ الْعَقْدِ الْجَهَالَةُ وَيَصِيرَ الْعَمَلُ مَعْلُومًا ، فَإِنْ ذَكَرَ مَوْضِعَ الْإِحْرَامِ وَعَيَّنَهُ صَحَّ الْعَقْدُ وَإِنْ أَغْفَلَهُ وَلَمْ يُعَيِّنْهُ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا وَفِي " الْأُمِّ " الْإِجَارَةُ بَاطِلَةٌ ، وَقَالَ فِي " الْإِمْلَاءِ " الْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى مَذْهَبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَكْثَرِ الْبَصْرِيِّينَ : إِنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْإِجَارَةَ بَاطِلَةٌ ، لِأَنَّ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ قَدْ يَجُوزُ مِنَ الْمِيقَاتِ وَقَبْلَ الْمِيقَاتِ وَأَغْرَاضُ النَّاسِ فِيهِ مُخْتَلِفَةٌ وَالْعَمَلُ فِيهِ مُخْتَلِفٌ ، وَإِذَا اخْتَلَفَ الْعَمَلُ وَلَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا كَانَتِ الْإِجَارَةُ عَلَيْهِ بَاطِلَةً .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي : إِنَّ الْإِجَارَةَ جَائِزَةٌ ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ الْإِحْرَامِ مُقَدَّرٌ بِالشَّرْعِ فَلَمْ يُحْتَجْ إِلَى تَقْدِيرِهِ بِالْعَقْدِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ سَائِرَ أَرْكَانِ الْحَجِّ سِوَى الْإِحْرَامِ لَمَّا تَقَدَّرَتْ بِالشَّرْعِ اسْتُغْنِيَ عَنْ تَقْدِيرِهَا بِالْعَقْدِ ؟ فَكَذَا الْإِحْرَامُ . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : أَنَّ الْمَسْأَلَةَ لَيْسَتْ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَإِنَّمَا هِيَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ وَمَنْ قَالَ بِهَذَا اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ ذَلِكَ . عَلَى مَذْهَبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي أَوْجَبَ تَعْيِينَ الْإِحْرَامِ فِيهِ وَأَبْطَلَ الْإِجَارَةَ بِتَرْكِهِ إِذَا كَانَ الْمَحْجُوجُ عَنْهُ حَيًّا ؛ لِأَنَّ لِلْحَيِّ غَرَضًا فِي الْإِحْرَامِ فَافْتُقِرَ إِلَى تَعْيِينِهِ ، وَالْمَوْضِعَ الَّذِي أَجَازَ فِيهِ الْإِجَارَةَ إِذَا كَانَ الْمَحْجُوجُ عَنْهُ مَيِّتًا لِفَقْدِ غَرَضِهِ . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ أَنَّ اخْتِلَافَ الْحَالَيْنِ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ ، وَأَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي أَبْطَلَ الْإِجَارَةَ فِيهِ إِذَا كَانَ لِبَلَدِهِ طَرِيقَانِ وَمِيقَاتَانِ مُخْتَلِفَانِ ، وَالْمَوْضِعَ الَّذِي أَجَازَ الْإِجَارَةَ فِيهِ إِذَا كَانَ لِبَلَدٍ طَرِيقٌ وَاحِدٌ وَمِيقَاتٌ وَاحِدٌ فَإِنْ قُلْنَا بِجَوَازِ الْإِجَارَةِ فَالْحَجُّ وَاقِعٌ عَنِ الْمَحْجُوجِ وَإِنْ قُلْنَا بِفَسَادِهِ فَوَاقِعٌ عَنْهُ أَيْضًا لِوُقُوعِهِ عَنْ إِذْنِهِ ، وَإِنْ فَسَدَ الْعَقْدُ فِي الْعِوَضِ ، لَكِنْ يَكُونُ لِلْأَجِيرِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى ؛ لِأَنَّ فَسَادَ الْعَقْدِ يَمْنَعُ مِنَ اسْتِحْقَاقِ الْمُسَمَّى ، وَأَمَّا تَعْيِينُ مَنْ يُؤَدِّي عَنِ النُّسُكِ فَهُوَ شَرْطٌ فِي إِجْزَاءِ الْحَجِّ دُونَ صِحَّةِ الْعَقْدِ ، فَإِنْ ذَكَرَهُ فِي الْعَقْدِ لَمْ يُفْتَقَرْ إِلَى ذِكْرِهِ فِيمَا بَعْدُ ، فَلَوْ أَمَرَهُ الْمُسْتَأْجِرُ أَنْ يَنْقُلَ الْحَجَّ عَنْ مَنْ أَمَرَهُ بِالْحَجِّ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ لَزِمَ الْأَجِيرَ ذَلِكَ مَا لَمْ يُحْرِمْ عَنْهُ بِالْحَجِّ : لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ زِيَادَةُ عَمَلٍ عَلَيْهِ وَلَا تَفْوِيتُ غَرَضٍ لَهُ ، وَإِنْ أَحْرَمَ عَنْهُ لَمْ يَلْزَمْهُ ، بَلْ لَمْ يَجُزْ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ قَدْ تَعَيَّنَ عَنِ الْأَوَّلِ بِدُخُولِ الْأَخِيرِ فِيهِ نَاوِيًا عَنْهُ وَالْحَجُّ إِذَا تَعَيَّنَ عَنْ شَخْصٍ لَمْ يَجُزْ نَقْلُهُ إِلَى غَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ يُذْكَرِ الْمَحْجُوجُ عَنْهُ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ : لِأَنَّ الْعَمَلَ مَعْلُومٌ وَلَيْسَ لِلْأَجِيرِ أَنْ يُحْرِمَ إِلَّا بَعْدَ تَعْيِينِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ لِيَصْرِفَ الْإِحْرَامَ إِلَيْهِ فَلَوْ أَحْرَمَ الْأَجِيرُ قَبْلَ تَعْيِينِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ إِحْرَامًا مَوْقُوفًا لِيَصْرِفَهُ إِلَى الْمَحْجُوجِ عَنْهُ إِذَا تَعَيَّنَ فَهَذِهِ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَجْعَلَ شَيْئًا مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ قَبْلَ تَعْيِينِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ ؛ فَهَذَا غَيْرُ مُجْزِئٍ وَيَكُونُ الْحَجُّ وَاقِعًا عَنِ الْأَجِيرِ : لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْحَجُّ مَوْقُوفًا عَلَى تَعْيِينِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ بَعْدَ فِعْلِ شَيْءٍ مِنْ أَرْكَانِهِ لَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى تَعْيِينِهِ بَعْدَ فِعْلِ جَمِيعِ أَرْكَانِهِ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ فَكَذَلِكَ إِذَا فَعَلَ شَيْئًا مِنْ أَرْكَانِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَتَعَيَّنَ لَهُ الْمَحْجُوجُ عَنْهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ الْمَوْقُوفِ وَقَبْلَ فِعْلِ شَيْءٍ مِنَ الْأَرْكَانِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ : لِأَنَّ الْإِحْرَامَ رُكْنٌ فَلَمْ يَجُزْ فِعْلُهُ قَبْلَ تَعْيِينِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ كَسَائِرِ الْأَرْكَانِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْحَجُّ وَاقِعًا عَنِ الْأَجِيرِ وَلَا أُجْرَةَ لَهُ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْإِحْرَامُ مَوْقُوفًا عَلَى تَعْيِينِ النُّسُكِ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى تَعْيِينِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْحَجُّ وَاقِعًا عَنِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ إِذَا عَيَّنَهُ وَلِلْأَجِيرِ جَمِيعُ الْأُجْرَةِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ وَقَّتَ لَهُ وَقْتًا فَأَحْرَمَ قَبْلَهُ الأجير في الحج فَقَدْ زَادَهُ وَإِنْ تَجَاوَزَهُ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ الأجير في الحج فَرَجَعَ مُحْرِمًا أَجْزَأَهُ وَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ فَعَلَيْهِ دَمٌ مِنْ مَالِهِ وَيَرُدُّ مِنَ الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ مَا تَرَكَ وَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ شَيْءٍ يَفْعَلُهُ فَمِنْ مَالِهِ دُونَ مَالِ الْمُسْتَأْجِرِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَ الْإِجَارَةِ عَلَى الْحَجِّ وَمَا يُحْتَاجُ إِلَى تَعْيِينِهِ فِي الْعَقْدِ فَإِذَا تَضَمَّنَ الْعَقْدُ تَعْيِينَ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا فَخَالَفَ الْأَجِيرُ فِيهَا فَخِلَافُهُ إِنْ تَعَيَّنَ لَهُ مِيقَاتًا فَيُحْرِمُ مِنْ غَيْرِهِ ، أَوْ تَعَيَّنَ لَهُ نُسُكًا فَيُحْرِمُ بِغَيْرِهِ ، أَوْ تَعَيَّنَ لَهُ عَامًا فَيُحْرِمُ بِغَيْرِهِ أَوْ تَعَيَّنَ لَهُ شَخْصًا فَيُحْرِمُ عَنْ غَيْرِهِ فَيَبْدَأُ بِالْمِيقَاتِ ، وَإِنْ كَانَ تَقْدِيمُ غَيْرِهِ أَلْيَقَ ؛ لِأَنَّهُ مُتَصَوِّرُ الْمَسْأَلَةِ فَإِذَا عُيِّنَ لَهُ مَوْضِعُ الْإِحْرَامِ الإجارة في الحج لَمْ يَخْلُ حَالُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ مِيقَاتِ الْبَلَدِ ، أَوْ قَبْلَ مِيقَاتِ الْبَلَدِ ، أَوْ بَعْدَ مِيقَاتِ الْبَلَدِ ، فَإِنْ كَانَ مِنْ مِيقَاتِ الْبَلَدِ فَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي لَا تَجُوزُ مُجَاوَزَتُهُ وَلَا يَلْزَمُهُ تَقَدُّمُهُ ، وَعَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يُحْرِمَ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ مِيقَاتِ الْبَلَدِ فَقَدْ لَزِمَ الْأَجِيرَ الْإِحْرَامُ مِنْهُ بِالْعَقْدِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَائِزًا بِالشَّرْعِ وَالْإِجَارَةُ صَحِيحَةٌ : لِأَنَّ الْعَمَلَ مَعْلُومٌ وَإِنْ أَحْرَمَ الْأَجِيرُ مِنْ مِيقَاتِ الْبَلَدِ كَانَ حَسَنًا وَبِالزِّيَادَةِ مُتَطَوِّعًا وَقَدْ سَقَطَ بِهَا عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ دَمًا وَإِنْ أَحْرَمَ بَعْدَ الْمِيقَاتِ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَمَرَهُ فَقَدْ فَعَلَ مَا لَزِمَهُ بِالْعَقْدِ دُونَ الشَّرْعِ وَعَلَى الْمُسْتَأْجِرِ دَمٌ لِمُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ دُونَ الْأَجِيرِ ؛ لِأَنَّ الْأَجِيرَ قَدْ فَعَلَ مَا لَزِمَهُ بِالْعَقْدِ وَالْمُسْتَأْجِرُ تَارِكٌ لِمَا لَزِمَهُ بِالشَّرْعِ فَلِذَلِكَ وَجَبَ الدَّمُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ دُونَ الْأَجِيرِ . فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَحْكَامِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْأَجِيرِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُحْرِمَ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ الأجير في الحج فَقَدْ أَدَّى مَا وَجَبَ عَلَيْهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يُحْرِمَ قَبْلَهُ فَقَدْ أَدَّى الْوَاجِبَ وَتَطَوَّعَ بِالزِّيَادَةِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يُحْرِمَ بَعْدَهُ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَعُودَ مُحْرِمًا إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي أُمِرَ بِالْإِحْرَامِ مِنْهُ فَهَذِهِ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ وَالْكَلَامُ فِيهَا يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وُجُوبُ الدَّمِ بِالْمُجَاوَزَةِ . وَالثَّانِي : رَدُّ مَا قَابَلَ ذَلِكَ مِنَ الْأُجْرَةِ . فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي وُجُوبِ الدَّمِ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى تَعْيِينِ الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ : أَحَدُهَا : أَنْ يَأْمُرَهُ بِالْإِحْرَامِ قَبْلَ الْمِيقَاتِ فَيُحْرِمَ بَعْدَهُ الأجير في الحج ؛ كَأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْإِحْرَامِ مِنَ الْبَصْرَةِ فَلَمْ يُحْرِمْ مِنْهَا وَأَحْرَمَ بَعْدَهَا إِمَّا مِنْ مِيقَاتِ الْبَصْرَةِ أَوْ قَبْلَ مِيقَاتِ الْبَصْرَةِ أَوْ بَعْدَ مِيقَاتِ الْبَصْرَةِ
فَكُلُّهُ سَوَاءٌ وَالْحَجُّ مُجْزِئٌ وَعَلَى الْأَجِيرِ دَمٌ لِتَرْكِهِ الْإِحْرَامَ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي أُمِرَ بِالْإِحْرَامِ مِنْهُ ، فَإِذَا قِيلَ إِنَّمَا يَجِبُ الدَّمُ فِيمَنْ جَاوَزَ مِيقَاتَ الشَّرْعِ فَأَمَّا إِذَا لَمْ يُجَاوِزْ مِيقَاتَ الشَّرْعِ وَإِنَّمَا جَاوَزَ الْعَقْدُ الْمُسْتَحَقُّ مِيقَاتًا بِالْإِجَارَةِ فَلَا يُوجِبُ دَمًا ، قِيلَ : الدَّمُ قَدْ يَجِبُ لِمُجَاوَزَةِ مِيقَاتِ الشَّرْعِ وَغَيْرِهِ إِذَا كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ الْإِحْرَامَ مِنَ الْبَصْرَةِ . فَأَحْرَمَ بَعْدَهَا لَزِمَهُ دَمٌ لِمُجَاوَزَتِهَا : لِأَنَّهُ قَدْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ الْإِحْرَامَ مِنْهَا ؟ كَذَلِكَ الْأَجِيرُ قَدْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ الْإِحْرَامَ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي أُمِرَ بِالْإِحْرَامِ مِنْهُ فَإِذَا جَاوَزَهُ غَيْرَ مُحْرِمٍ لَزِمَهُ دَمٌ . وَالثَّانِي : أَنْ يَأْمُرَهُ بِالْإِحْرَامِ مِنَ الْمِيقَاتِ فَيُحْرِمَ بَعْدَهُ الأجير في الحج فَالْحَجُّ مُجْزِئٌ وَعَلَى الْأَجِيرِ دَمٌ وَهَذَا أَوْلَى بِالْإِيجَابِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ اللَّازِمَ بِالشَّرْعِ وَالْعَقْدِ مَعًا . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَأْمُرَهُ بِالْإِحْرَامِ بَعْدَ الْمِيقَاتِ فَيُحْرِمَ بَعْدَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ؛ كَأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْإِحْرَامِ بَعْدَ الْمِيقَاتِ بِفَرْسَخٍ فَأَحْرَمَ بَعْدَ الْمِيقَاتِ بِفَرْسَخَيْنِ فَالْوَاجِبُ فِي ذَلِكَ دَمَانِ : دَمٌ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ لِمُجَاوَزَةِ مِيقَاتِ الشَّرْعِ ، وَدَمٌ عَلَى الْأَجِيرِ لِمُجَاوَزَةِ مِيقَاتِ الْعَقْدِ ، فَهَذَا الْكَلَامُ فِي وُجُوبِ الدَّمِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي فِي رَدِّ مَا قَابَلَ قَدْرَ الْمُجَاوَزَةِ مِنَ الْأُجْرَةِ ؛ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا عَلَيْهِ دَمٌ وَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ مِنَ الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ مَا تَرَكَ ، وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ : عَلَيْهِ دَمٌ وَلَمْ يَذْكُرْ رَدَّ شَيْءٍ مِنَ الْأُجْرَةِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ بَعْضُهُمْ يُخَرِّجُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ : أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ لَا يَرُدُّ شَيْئًا مِنَ الْأُجْرَةِ : لِأَنَّ مَا أَخَلَّ بِهِ مِنَ الْإِحْرَامِ قَدْ جَبَرَهُ بِدَمٍ ، وَكَانَ الدَّمُ بَدَلًا مِنْهُ فَلَمْ يَلْزَمْهُ بَدَلٌ ثَانٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ : أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ مِنَ الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ مَا تَرَكَ ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ إِذَا كَانَتْ فِي مُقَابَلَةِ عَمَلٍ مَعْلُومٍ لَمْ يَسْتَحِقَّ جَمِيعَهَا إِلَّا بِجَمِيعِ الْعَمَلِ ، فَإِذَا تُرِكَ بَعْضُ الْعَمَلِ سَقَطَ مِنَ الْأُجْرَةِ مَا قَابَلَهُ كَسَائِرِ الْإِجَارَاتِ ، فَأَمَّا الدَّمُ فَإِنَّمَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِيهِ حَقٌّ فَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنْ حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ . وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ الْأُجْرَةَ بِقَدْرِ مَا تَرَكَ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَلَيْسَ تَرْكُ ذِكْرِهِ فِي الْقَدِيمِ قَوْلًا ثَانِيًا ، فَإِنْ قِيلَ لَوْ تَطَيَّبَ الْأَجِيرُ فِي إِحْرَامِهِ أَوْ حَلَقَ وَكَانَ قَدْ أَدْخَلَ فِي إِحْرَامِهِ نَقْصًا وَعَلَيْهِ أَنْ يَجْبُرَهُ بِدَمٍ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ مِنَ الْأُجْرَةِ شَيْئًا فَهَلَّا كَانَ تَارِكُ الْإِحْرَامِ إِذَا جَبَرَهُ بِدَمٍ لَمْ يَرُدَّ مِنَ الْأُجْرَةِ شَيْئًا ؟ قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الطِّيبَ وَالْحَلْقَ نَقْصٌ فِي ثَوَابِ الْحَجِّ دُونَ عَمَلِهِ وَقَدْ لَزِمَهُ الدَّمُ فَكَانَ جُبْرَانًا لِنَقْصِهِ وَلَمْ يَرُدَّ مِنَ الْأُجْرَةِ شَيْئًا لِكَمَالِ عَمَلِهِ وَنَقْصُ الْإِحْرَامِ نَقْصٌ فِي ثَوَابِ الْحَجِّ وَعَمَلِهِ فَلَزِمَهُ الدَّمُ جُبْرَانًا لِنَقْصِ الثَّوَابِ وَلَزِمَهُ أَنْ يَرُدَّ مِنَ الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ مَا تَرَكَ جُبْرَانًا لِنَقْصِ الْعَمَلِ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ مِنَ الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ مَا تَرَكَ فَفِي اعْتِبَارِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ : إِنَّهُ يُعْتَبَرُ بِقِسْطِ الْأُجْرَةِ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ دُونَ الْبَلَدِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ لِتَكُونَ الْأُجْرَةُ مُقَسَّطَةً عَلَى أَفْعَالِ الْحَجِّ دُونَ السَّفَرِ الْمُوَصِّلِ إِلَيْهَا .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي : عَلَيْهِ فِي " الْإِمْلَاءِ " إِنَّهُ يُعْتَبَرُ بِقِسْطِ الْأُجْرَةِ مِنْ بَلَدِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ وَعَلَّلَ بِأَنْ قَالَ : لِأَنَّهُ اسْتُؤْجِرَ عَلَى عَمَلٍ وَسَفَرٍ فَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عَلَى التَّمَامِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا مَا تَرَكَهُ الْأَجِيرُ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ سِوَى الْإِحْرَامِ فَضَرْبَانِ : رُكْنٌ ، وَنُسُكٌ ، فَإِنْ كَانَ رُكْنًا كَالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَلَّلُ مِنَ الْحَجِّ إِلَّا بِفِعْلِهِ وَلَهُ جَمِيعُ الْأُجْرَةِ : لِأَنَّهُ لَيْسَ يَتْرُكُ شَيْئًا مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ ، وَإِنْ كَانَ نُسُكًا فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ تَرْكُهُ مُوجِبَ الدَّمِ كَالرَّمْيِ فَهَذَا مَتَى تَرَكَهُ الْأَجِيرُ فَعَلَيْهِ دَمٌ ، وَهَلْ يَرُدُّ مِنَ الْأُجْرَةِ بِقِسْطِ ذَلِكَ أَمْ لَا ؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِيمِنْ أَحْرَمَ بَعْدَ الْمِيقَاتِ ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يَرُدُّ مِنَ الْأُجْرَةِ بِقِسْطِ ذَلِكَ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ تَرْكُهُ غَيْرَ مُوجِبٍ لِدَمٍ كَطَوَافِ الْقُدُومِ ؛ فَهَذَا مَتَى تَرَكَهُ الْأَجِيرُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ مِنَ الْأُجْرَةِ بِقِسْطِهِ قَوْلًا وَاحِدًا لَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ عُمِلَ فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٍ لَمْ يَأْتِ بِهِ وَلَا بِبَدَلِهِ فَعَلَى هَذَا لَوْ تَرَكَ الْمَبِيتَ بِمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى وَطَوَافَ الْوَدَاعِ ، فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ عَلَيْهِ دَمًا فَهَلْ يَرُدُّ بِقِسْطِهِ مِنَ الْأُجْرَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا ، وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّهُ لَا دَمَ عَلَيْهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ بِقِسْطِ ذَلِكَ مِنَ الْأُجْرَةِ قَوْلًا وَاحِدًا .
فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : فِي " الْأُمِّ " وَلَوِ اسْتَأْجَرَهُ عَلَى أَنْ يُحْرِمَ عَنْهُ مِنَ الْيَمَنِ فَاعْتَمَرَ عَنْ نَفْسِهِ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى مِيقَاتِ الْبَلَدِ الَّذِي اسْتُؤْجِرَ عَلَيْهِ فَأَهَلَّ بِالْحَجِّ عَنِ الْذِي اسْتَأْجَرَهُ لَمْ يُجْزِهِ إِلَّا أَنْ يَخْرُجَ إِلَى مِيقَاتِ الْمُسْتَأْجِرِ الَّذِي شَرَطَ أَنْ يُهِلَّ مِنْهُ وَهَذَا مُطَّرِدٌ عَلَى مَا قَرَّرْنَا ، فَإِنْ خَرَجَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْعُمْرَةِ فَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ مِنَ الْيَمَنِ فَقَدِ اسْتَحَقَّ جَمِيعَ الْأُجْرَةِ وَأَجْزَأَ الْحَجُّ عَنِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ : لِأَنَّهُ قَدْ عَمِلَ جَمِيعَ مَا اسْتُؤْجِرَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ إِلَى الْيَمَنِ وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ فَقَدَ أَجْزَأَ ذَلِكَ الْمَحْجُوجَ عَنْهُ وَعَلَى الْأَجِيرِ دَمٌ لِتَرْكِهِ الْإِحْرَامَ مِنَ الْيَمَنِ ، وَهَلْ يَرُدُّ مِنَ الْأُجْرَةِ بِقِسْطِ ذَلِكَ أَمْ لَا ؟ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يَرُدُّ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ عَلَى قَوْلَيْنِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ لَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ وَاعْتِبَارُ الرُّجُوعِ مُسْقِطٌ ذَلِكَ ، وَالْأُجْرَةُ الْمُسَمَّاةُ أَنْ يُقَالَ : بِكَمْ يُوجَدُ مَنْ يَحُجُّ وَيُحْرِمُ مِنَ الْيَمَنِ ؟ فَإِذَا قِيلَ بِعِشْرِينَ دِينَارًا قِيلَ فَبِكَمْ يُوجَدُ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ وَيُحْرِمُ مِنْ مَكَّةَ ؟ فَإِذَا قِيلَ بِخَمْسَةَ عَشَرَ دِينَارًا فَقَدْ عَلِمَ أَنَّ بَيْنَهُمَا الرُّبُعَ ؛ لِأَنَّ الْخَمْسَةَ مِنَ الْعِشْرِينَ رُبُعُهَا فَيَرْجِعُ مَا اسْتَأْجَرَ عَلَى الْأَجِيرِ بِرُبُعِ الْأُجْرَةِ الْمُسَمَّاةِ .
فَصْلٌ : فَلَوِ اسْتَأْجَرَهُ لِيُحْرِمَ مِنْ مِيقَاتٍ بِعَيْنِهِ فَأَحْرَمَ مِنْ مِيقَاتِ غَيْرِهِ نَظَرَ : فَإِنْ كَانَ الْمِيقَاتُ الَّذِي أَحْرَمَ مِنْهُ أَبْعَدَ مِنَ الْمِيقَاتِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ أَوْ مِثْلَهُ فَلَهُ الْأُجْرَةُ الْمُسَمَّاةُ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ لِوُجُودِ الْعَمَلِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ الْمِيقَاتُ الَّذِي أَحْرَمَ مِنْهُ أَقْرَبَ مِنَ الْمِيقَاتِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ نَظَرَ فِيهِ : فَإِنْ كَانَ قَدْ مَرَّ بِالْمِيقَاتِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ فَلَمْ يُحْرِمْ مِنْهُ وَأَحْرَمَ مِنَ الْمِيقَاتِ الْآخَرِ فَعَلَيْهِ دَمٌ : لِأَنَّهُ قَدْ لَزِمَهُ الْإِحْرَامُ مِنَ الْمِيقَاتِ الْأَوَّلِ لِحُصُولِهِ فِيهِ شَرْعًا وَعَقْدًا ، وَهَلْ يَرُدُّ مِنَ الْأُجْرَةِ بِقِسْطِ مَا بَيْنَ الْمِيقَاتَيْنِ ؟ عَلَى اخْتِلَافٍ أَصْحَابُنَا ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يَرُدُّ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ