كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي
فَإِذَا حَضَرَ جَدَّدَ الطَّالِبُ الدَّعْوَى ، وَوَصَفَهَا ، وَسَأَلَ الْقَاضِي الْخَصْمَ الْمَطْلُوبَ عَنْهَا . فَإِنِ اعْتَرَفَ بِهَا ، وَأَقَرَّ لَمْ يَحْتَجِ الطَّالِبُ إِلَى إِيصَالِ الْكِتَابِ ، وَحُكِمَ لَهُ بِإِقْرَارِ الْمَطْلُوبِ . وَإِنْ أَنْكَرَ عَرَّفَهُ الطَّالِبُ أَنَّ حَقَّهُ عَلَيْهِ قَدْ ثَبَتَ عِنْدَ الْقَاضِي فُلَانٍ وَهَذَا كِتَابُهُ إِلَيْكَ بِثُبُوتِهِ عِنْدَهُ ، وَكَانَ الطَّالِبُ هُوَ الْمُبَاشِرُ لِتَسْلِيمِ الْكِتَابِ مِنْ يَدِهِ إِلَى الْقَاضِي وَيَذْكُرُ لَهُ حُضُورَ شُهُودِهِ . فَإِذَا وَقَفَ الْقَاضِي عَلَى عُنْوَانِهِ وَخَتْمِهِ ، سَأَلَ الشَّاهِدَيْنِ عَنْهُ قَبْلَ فَضِّهِ سُؤَالَ اسْتِخْبَارٍ لَا سُؤَالَ شَهَادَةٍ . فَإِذَا أَخْبَرَاهُ أَنَّهُ كِتَابُ الْقَاضِي إِلَيْهِ فَضَّهُ وَقَرَأَهُ . وَالْأَوْلَى أَنْ يَفُضَّهُ وَيَقْرَأَهُ بِمَحْضَرٍ مِنَ الْخَصْمِ الْمَطْلُوبِ فَإِنْ قَرَأَهُ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْهُ جَازَ . وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ جَوَازِ فَضِّهِ وَقِرَاءَتِهِ قَبْلَ حُضُورِ الْخَصْمِ الْمَطْلُوبِ . وَهَذَا عِنْدَنَا عُدُولٌ عَنِ الْأَوْلَى ، وَلَيْسَ بِعُدُولٍ عَنِ الْوَاجِبِ ، لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْقِرَاءَةِ حُكْمٌ وَلَا إِلْزَامٌ وَيَبْنِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَصْلِهِ فِي الْمَنْعِ مِنَ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ . فَإِذَا قَرَأَهُ الْقَاضِي سَأَلَ الشَّاهِدَيْنِ عَمَّا فِيهِ سُؤَالَ اسْتِشْهَادٍ لَا سُؤَالَ اسْتِخْبَارٍ ، لِأَنَّ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ يَجِبُ الْحُكْمُ بِمَا فِي الْكِتَابِ . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا إِلَّا عِنْدَ حُضُورِ الْخَصْمِ الْمَطْلُوبِ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَيْهِ بِحَقٍّ وَجَبَ عَلَيْهِ . وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ اسْتِخْبَارٌ كَانَا فِيهِ مُخَيَّرَيْنِ ، وَالثَّانِي اسْتِشْهَادٌ كَانَا فِيهِ شَاهِدَيْنِ . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَصْمُ غَائِبًا عِنْدَ الِاسْتِخْبَارِ وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا عِنْدَ الِاسْتِشْهَادِ . فَلَوِ اقْتَصَرَ الْقَاضِي عَلَى الِاسْتِشْهَادِ دُونَ الِاسْتِخْبَارِ جَازَ ، وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى الِاسْتِخْبَارِ دُونَ الِاسْتِشْهَادِ لَمْ يَجُزْ لِاخْتِصَاصِ الْحُكْمِ بِالشَّهَادَةِ دُونَ الْخَبَرِ . وَالْأَوْلَى بِالْقَاضِي أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا ، عَلَى مَا وَصَفْنَا لِيَكُونَ الِاسْتِخْبَارُ لِاسْتِبَاحَةِ قِرَاءَتِهِ وَالِاسْتِشْهَادُ لِوُجُوبِ الْحُكْمِ بِهِ .
شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي تَحَمُّلِ كُتُبُ الْقُضَاةِ . وَلَا يُقْبَلُ فِي تَحَمُّلِ كُتُبِ الْقُضَاةِ وَأَدَائِهَا شَهَادَةُ النِّسَاءِ ، وَإِنْ تَضَمَّنَتْ مِنَ الْحُقُوقِ مَا تُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ النِّسَاءِ . وَجَوَّزَ بَعْضُ الْعِرَاقِيِّينَ قَبُولَ شَهَادَتِهِنَّ فِيهَا إِذَا تَضَمَّنَتْ مَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَتُهُنَّ مِنَ الْأَمْوَالِ . وَهَذَا زَلَلٌ ، مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا شَهَادَةٌ بِحُكْمٍ وَلَيْسَتْ بِمَالٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا مُجْرَاةٌ مَجْرَى الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ الَّتِي لَا يُقْبَلْنَ فِيهَا ، فَلَمْ يُقْبَلْنَ فِيمَا أُجْرِيَ مَجْرَاهَا . تَنْفِيذُ حُكْمِ الْكِتَابِ . فَإِذَا تَمَّتِ الشَّهَادَةُ عِنْدَ الْقَاضِي بِصِحَّةِ الْكِتَابِ وَقَبِلَهُ بِالشَّاهِدَيْنِ ، وَقَّعَ بِخَطِّهِ فِيهِ بِالْقَبُولِ وَحَكَمَ بِهِ عَلَى الْخَصْمِ الْمَطْلُوبِ . فَإِنْ كَانَ الْكِتَابُ بِمِلْكِ عَيْنٍ قَائِمَةٍ ، مِنْ أَرْضٍ أَوْ دَارٍ ، جَازَ أَنْ يُعِيدَ الْكِتَابَ إِلَى الطَّالِبِ الْمُسْتَحِقِّ لَهَا لِيَكُونَ حُجَّةً بَاقِيَةً فِي يَدِهِ . فَإِنْ سَأَلَهُ الطَّالِبُ الْإِشْهَادَ عَلَى نَفْسِهِ فِيهِ بِقَبُولِهِ ، وَالْحُكْمَ بِمَضْمُونِهِ ، لَزِمَهُ الْإِشْهَادُ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ . وَإِنْ كَانَ الْكِتَابُ بِدَيْنٍ فِي الذِّمَّةِ فَاسْتَوْفَاهُ الْقَاضِي لِطَالِبِهِ وَمُسْتَحِقِّهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعِيدَ الْكِتَابَ إِلَى الطَّالِبِ : لِأَنَّهُ قَدْ سَقَطَ حَقُّهُ فِيهِ بِاسْتِيفَاءٍ لَهُ .
خَتْمُ كِتَابِ الْقَاضِي وَالْحُكْمُ إِذَا انْكَسَرَ الْخَتْمُ
خَتْمُ كِتَابِ الْقَاضِي وَالْحُكْمُ إِذَا انْكَسَرَ الْخَتْمُ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِنِ انْكَسَرَ خَاتَمُهُ أَوِ انْمَحَى كِتَابُهُ شَهِدُوا بِعِلْمِهِمْ عَلَيْهِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَالْمَقْصُودُ بِالْكِتَابِ : حِفْظُ مَا فِيهِ مِنْ نِسْيَانٍ أَوْ خَطَأٍ ، وَالْمَقْصُودُ بِالْخَتْمِ : الِاحْتِيَاطُ وَالتَّكْرُمَةُ . وَقَدْ قِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ : إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ [ النَّمْلِ : ] . أَيْ : مَخْتُومٌ . وَالْمَعْمُولُ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ مَا يَشْهَدُ بِهِ شَاهِدَاهُ . فَإِنِ انْكَسَرَ الْخَتْمُ أَوِ امَّحَى الْكِتَابُ جَازَ لِلشَّاهِدَيْنِ أَنْ يَشْهَدَا بِمَا فِيهِ إِذَا حَفِظَاهُ .
وَكَذَلِكَ لَوْ ضَاعَ الْكِتَابُ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ صِحَّةِ شَهَادَتِهِمَا بِمَضْمُونِهِ . وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ صِحَّةِ شَهَادَتِهِمَا إِنْ ضَاعَ أَوِ امَّحَى لِتَحَمُّلِهِمَا لِلشَّهَادَةِ عَلَى الْكِتَابِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْهَدَا بِغَيْرِ كِتَابٍ . وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّهُمَا تَحَمَّلَا الشَّهَادَةَ بِالْحُكْمِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ فَلَمْ يَمْنَعْ تَلِفُهُ مِنْ صِحَّةِ تَحَمُّلِهِمَا وَجَوَازِ أَدَائِهِمَا . وَلِأَنَّهُمَا لَوْ شَهِدَا مِنْ حِفْظِهِمَا بِحَقٍّ فِي كِتَابٍ وَثِيقَةٍ قَدْ ضَاعَ ؛ جَازَ وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ صِحَّةِ الشَّهَادَةِ كَذَلِكَ إِنْ ضَاعَ كِتَابُ الْقَاضِي . فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْكِتَابُ بَاقِيًا فَأَرَادَ الشَّاهِدَانِ أَنْ يَشْهَدَا بِمَا فِيهِ وَلَا يُوَصِّلَاهُ . حَرُمَ إِمْسَاكُهُ عَلَيْهِمَا وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ صِحَّةِ شَهَادَتِهِمَا ، لِأَنَّ الْكِتَابَ أَمَانَةٌ مُؤَدَّاةٌ فِي أَيْدِيهِمَا . فَإِنِ امَّحَى مَا فِي الْكِتَابِ لَمْ يَلْزَمْهُمَا إِيصَالُهُ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ بَعْدَ امْتِحَائِهِ كِتَابًا . وَلَوِ امَّحَى بَعْضَهُ لَزِمَهُ إِيصَالُهُ إِنْ بَقِيَ أَكْثَرُهُ وَلَمْ يَلْزَمْهُمَا إِيصَالُهُ إِنْ ذَهَبَ أَكْثَرُهُ .
تَغَيَّرَ حَالُ الْقَاضِي الْكَاتِبِ بِالْمَوْتِ أَوِ الْعَزْلِ وَغَيْرِهِمَا
تَغَيَّرَ حَالُ الْقَاضِي الْكَاتِبِ بِالْمَوْتِ أَوِ الْعَزْلِ وَغَيْرِهِمَا . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِنْ مَاتَ الْكَاتِبُ أَوْ عُزِلَ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ قَبُولَهُ ، وَنَقْبَلُهُ كَمَا نَقْبَلُ حُكْمَهُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا كَتَبَ قَاضٍ إِلَى قَاضٍ كِتَابًا وَأَشْهَدَ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ شُهُودًا ثُمَّ تَغَيَّرَ حَالُ الْقَاضِي الْكَاتِبِ بِمَا يَمْنَعُهُ مِنَ الْحُكْمِ فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِأَحَدِ أَرْبَعَةِ أُمُورٍ : بِمَوْتٍ أَوْ عَزْلٍ أَوْ جُنُونٍ أَوْ فِسْقٍ . تَغَيُّرُ حَالِهِ بِالْمَوْتِ أَوِ الْعَزْلِ . فَإِنْ تَغَيَّرَتْ حَالُهُ بِمَوْتٍ أَوْ عَزْلٍ فَالْحُكْمُ فِيهَا سَوَاءٌ . وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ كِتَابِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ : أَنَّ حُكْمَ كِتَابِهِ ثَابِتٌ وَقَبُولَهُ وَاجِبٌ ، سَوَاءٌ تَغَيَّرَتْ حَالُهُ قَبْلَ خُرُوجِ الْكِتَابِ عَنْ يَدِهِ أَوْ بَعْدَهُ . وَالثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبٌ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ حُكْمَ كِتَابِهِ قَدْ سَقَطَ بِتَغْيِيرِ حَالِهِ وَلَمْ يَجُزْ قَبُولُهُ سَوَاءٌ تَغَيَّرَتْ قَبْلَ خُرُوجِ الْكِتَابِ عَنْ يَدِهِ أَوْ بَعْدَهُ . وَالثَّالِثُ : وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ إِنْ تَغَيَّرَتْ حَالُهُ قَبْلَ خُرُوجِ الْكِتَابِ عَنْ يَدِهِ سَقَطَ حُكْمُهُ ، وَإِنْ تَغَيَّرَتْ بَعْدَ خُرُوجِهِ عَنْ يَدِهِ ثَبَتَ حُكْمُهُ . وَدَلِيلُهُمَا عَلَى سُقُوطِ حُكْمِهِ أَنَّهُمَا جَعَلَا كِتَابَ الْقَاضِي فَرْعًا لِمَنْ شَهِدَ عِنْدَهُ ، إِذَا تَغَيَّرَتْ حَالُ الْفَرْعِ مَنَعَ مِنْ ثُبُوتِ حُكْمِ الْأَصْلِ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ إِذَا تَغَيَّرَتْ فِيهَا
حَالُ شُهُودِ الْفَرْعِ امْتَنَعَ أَنْ يَثْبُتَ بِهِمْ حُكْمُ شُهُودِ الْأَصْلِ . وَدَلِيلُنَا أَنَّ الْقَاضِيَ وَإِنْ كَانَ فَرْعًا لِمَنْ شَهِدَ عِنْدَهُ فَهُوَ أَصْلٌ لِمَنْ أَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ ، وَتَغَيُّرُ حَالِ الْأَصْلِ لَا يَمْنَعُ مِنْ ثُبُوتِ الْحُكْمِ بِالْفَرْعِ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ ، لَا يَمْنَعُ تَغَيُّرُ حَالِ شُهُودِ الْأَصْلِ مِنْ ثُبُوتِ حُكْمِهِمْ شُهُودَ الْفَرْعِ . فَصَارَ عِلَّةُ الِاخْتِلَافِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ أَجْرَى عَلَيْهِ حُكْمَ الْفَرْعِ اعْتِبَارًا بِمَنْ شَهِدَ عِنْدَهُ . وَالشَّافِعِيُّ أَجْرَى عَلَيْهِ حُكْمَ الْأَصْلِ اعْتِبَارًا بِمَنْ أَشْهَدَهُ عَلَى نَفْسِهِ . وَاعْتِبَارُهُ بِالْأَصْلِ أَوْلَى مِنِ اعْتِبَارِهِ بِالْفَرْعِ : لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ فَرْعًا لِأَصْلٍ ، وَأَصْلًا لِفَرْعٍ ، كَانَ اعْتِبَارُ حُكْمِ الْحَالِ أَوْلَى مِنِ اعْتِبَارِ حُكْمٍ قَدْ زَالَ .
فَصْلٌ : تَغَيُّرُ حَالِهِ بِالْفِسْقِ أَوِ الْجُنُونِ . وَإِنْ تَغَيَّرَتْ حَالُ الْكَاتِبِ بِفِسْقٍ أَوْ جُنُونٍ تغير حال القاضي فَالْحُكْمُ فِيهِمَا وَاحِدٌ . فَلَيْسَ يَخْلُو حَالُ الْكِتَابِ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِحُكْمٍ أَوْ شَهَادَةٍ . فَإِنْ كَانَ الْكِتَابُ بِحُكْمٍ قَدْ أَمْضَاهُ فِي حَالِ سَلَامَتِهِ ، وَجَبَ قَبُولُ كِتَابِهِ بَعْدَ تَغَيُّرِ حَالِهِ : لِأَنَّ مَا نَفَذَ مِنَ الْأَحْكَامِ فِي حَالِ الْجَوَازِ لَمْ يَتَعَقَّبْهُ فَسَادٌ . وَإِنْ كَانَ الْكِتَابُ بِشَهَادَةٍ قَدْ ثَبَتَتْ عِنْدَهُ ، نُظِرَ ، فَإِنْ تَغَيَّرَتْ حَالُهُ بَعْدَ قَبُولِ كِتَابِهِ ثَبَتَ حُكْمُهُ ، وَإِنْ تَغَيَّرَتْ قَبْلَ قَبُولِهِ ، سَقَطَ حُكْمُهُ ، كَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ إِذَا فَسَقَ فِيهَا شُهُودُ الْأَصْلِ بَعْدَ قَبُولِ شُهُودِ الْفَرْعِ صَحَّتِ الشَّهَادَةُ ، وَلَوْ فَسَقُوا قَبْلَ قَبُولِ شُهُودِ الْفَرْعِ سَقَطَتِ الشَّهَادَةُ .
فَصْلٌ : تَغَيُّرُ حَالِ الْقَاضِي الْمُكَاتِبِ . فَأَمَّا إِذَا تَغَيَّرَتْ حَالُ الْقَاضِي الْمُكَاتِبِ بِمَوْتٍ أَوْ عَزْلٍ أَوْ جُنُونٍ أَوْ فِسْقٍ سَقَطَ أَنْ يَكُونَ قَابِلًا وَحَاكِمًا بِهِ . فَإِنْ تَقَلَّدَ مَكَانَهُ غَيْرُهُ مِنَ الْقُضَاةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا : هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَقُومَ فِي قَبُولِ الْكِتَابِ مَقَامَ الْأَوَّلِ الْمَعْزُولِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ قَبُولُ كِتَابٍ إِلَى غَيْرِهِ كَالشَّهَادَةِ عِنْدَ الْمَعْزُولِ ، وَلَا يَحْكُمُ بِهَا الْمَوْلَى بَعْدَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَغْدَادِيِّينَ يَجُوزُ لَهُ قَبُولُ كِتَابِهِ إِلَى الْمَعْزُولِ ؛ لِأَنَّ الْمَعْمُولَ مِنَ الْكِتَابِ بِمَا يُؤَدِّيهِ شُهُودُهُ مِنْ حُكْمِ الْأَوَّلِ بِمَضْمُونِهِ ، فَكَانَ ثُبُوتُ الشَّهَادَةِ بِهِ عِنْدَ الثَّانِي كَثُبُوتِهَا بِهِ عِنْدَ الْأَوَّلِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِيهِ . وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ قَاضِيًا بِالْكُوفَةِ كَتَبَ إِلَى إِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَهُوَ قَاضِي الْبَصْرَةِ كُتَبًا بِحُكْمٍ فَوَصَلَ بَعْدَ عَزْلِ إِيَاسٍ وَوُلَايَةِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فَقَبِلَهُ الْحَسَنُ وَحَكَمَ بِهِ .
فَصْلٌ : فِي حُكْمِ مَنِ اسْتَخْلَفَهُ الْقَاضِي بَعْدَ حُكْمِ الْمُسْتَخْلَفِ . وَلَوْ كَانَ أَحَدُ الْقَاضِيَيْنِ مِنْ قِبَلِ الْآخَرِ ، فَتَغَيَّرَتْ حَالُ الْمُوَلِّي بِمَوْتٍ ، أَوْ عَزْلٍ ، انْعَزَلَ الْمُوَلَّى ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ قَبُولُ كِتَابِ الْمُوَلِّي . وَلَوْ كَانَ الْقَاضِي وَالِيًا مِنْ قِبَلِ الْخَلِيفَةِ ، فَمَاتَ الْخَلِيفَةُ أَوْ خُلِعَ ، لَمْ يَنْعَزِلْ بِهِ الْقَاضِي وَجَازَ لَهُ قَبُولُ كِتَابِهِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ الْخَلِيفَةَ يَسْتَنِيبُ الْقُضَاةَ فِي حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يَنْعَزِلُوا بِمَوْتِهِ ، وَتَغَيُّرِ حَالِهِ ، وَالْقَاضِي يَسْتَنِيبُ خَلِيفَتَهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، فَانْعَزَلَ بِمَوْتِهِ وَتَغَيَّرَ حَالُهُ . فَعَلَى هَذَا الْفَرْقِ يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَعْزِلَ خَلِيفَتَهُ بِغَيْرِ مُوجِبٍ ، وَلَا يَجُوزَ لِلْخَلِيفَةِ أَنْ يَعْزِلَ الْقَاضِيَ بِغَيْرِ مُوجِبٍ . وَسَوَّى بَعْضُ أَصْحَابِنَا بَيْنَ مَوْتِ الْخَلِيفَةِ وَالْقَاضِي فِي انْعِزَالِ مَنْ وَلَّيَاهُ . وَسَوَّى آخَرُونَ مِنْهُمْ فِي بَقَاءِ وُلَايَةِ مَنْ وَلَّيَاهُ . وَالَّذِي عَلَيْهِ قَوْلُ جُمْهُورِهِمْ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا .
فَصْلٌ : كِتَابُ الْقَاضِي وَهُوَ فِي غَيْرِ مَحَلِّ وِلَايَتِهِ . وَإِذَا سَافَرَ الْقَاضِي عَنْ بَلَدِ وِلَايَتِهِ ، وَكَتَبَ كِتَابًا بِحُكْمٍ إِلَى قَاضٍ آخَرَ لَمْ يَكُنْ لِلْمُكَاتِبِ أَنْ يَقْبَلَ كِتَابَ الْكَاتِبِ ؛ لِأَنَّ كِتَابَهُ حُكْمٌ ، وَحُكْمُهُ لَا يُنَفَّذُ فِي غَيْرِ عَمَلِهِ . وَلَوْ كَتَبَهُ الْكَاتِبُ وَهُوَ فِي عَمَلِهِ فَوَصَلَ إِلَى الْمُكَاتِبِ وَهُوَ فِي غَيْرِ عَمَلِهِ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْبَلَهُ ؛ لِأَنَّ قَبُولَهُ حُكْمٌ ، وَحُكْمُهُ فِي غَيْرِ عَمَلِهِ لَا يُنَفَّذُ . وَلَوْ أَنَّ قَاضِيَيْنِ اجْتَمَعَا فِي غَيْرِ عَمَلِهِمَا ، مِثْلَ قَاضِي الْبَصْرَةِ وَقَاضِي الْكُوفَةِ إِذَا اجْتَمَعَا بِبَغْدَادَ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يُؤَدِّيَ إِلَى الْآخَرِ مَا حَكَمَ بِهِ ، وَلَا أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ مَا حَكَمَ بِهِ ، لِأَنَّ الْأَدَاءَ وَالْقَبُولَ حُكْمٌ لَا يَصِحُّ مِنْهُمَا فِي غَيْرِ عَمَلِهِمَا . وَلَوْ أَنَّهُمَا اجْتَمَعَا فِي بَلَدِ أَحَدِهِمَا مِثْلَ قَاضِي الْبَصْرَةِ وَقَاضِي الْكُوفَةِ إِذَا اجْتَمَعَا فِي الْبَصْرَةِ ، فَأَدَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى الْآخَرِ مَا حَكَمَ بِهِ ، لَمْ يَجُزْ لِقَاضِي الْبَصْرَةِ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ قَاضِي الْكُوفَةِ . لِأَنَّهُ أَدَّاهُ فِي غَيْرِ عَمَلِهِ ، وَأَدَاؤُهُ حُكْمٌ وَلَيْسَ بِشَهَادَةٍ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ قَوْلَهُ وَحْدَهُ مَقْبُولٌ ، وَالشَّهَادَةُ لَا تُقْبَلُ إِلَّا مِنِ اثْنَيْنِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يُخْبِرُ بِفِعْلِ نَفْسِهِ ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الشَّاهِدِ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ . فَأَمَّا مَا أَدَّاهُ قَاضِي الْبَصْرَةِ إِلَى قَاضِي الْكُوفَةِ فَأَدَاؤُهُ مَقْبُولٌ ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّيهِ فِي غَيْرِ عَمَلِهِ .
وَيَصِيرُ قَاضِي الْكُوفَةِ بِسَمَاعِهِ مِنْهُ عَالِمًا بِهِ ، وَلَيْسَ بِحَاكِمٍ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ فِي غَيْرِ عَمَلِهِ . فَإِذَا صَارَ إِلَى عَمَلِهِ فَفِي جَوَازِ حُكْمِهِ بِهِ قَوْلَانِ ، كَالْقَاضِي فِي جَوَازِ حُكْمِهِ بِعَمَلِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
إِغْفَالُ عُنْوَانِ الْكِتَابِ
إِغْفَالُ عُنْوَانِ الْكِتَابِ كتاب القاضي . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ تَرَكَ أَنْ يَكْتُبَ اسْمَهُ فِي الْعُنْوَانِ وَقَطَعَ الشُّهُودُ بِأَنَّهُ كِتَابُهُ قَبْلَهُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا قَالَهُ رَدًّا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ : لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْبَلَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُعَنْوَنًا فِي دَاخِلِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ عُنْوَانٌ ، أَوْ كَانَ عُنْوَانُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْبَلَهُ مَعَ وِفَاقِهِ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ إِلَّا بِالشَّهَادَةِ . وَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ : لَيْسَ الْعُنْوَانُ شَرْطًا فِي قَبُولِهِ ، وَلَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ عُنْوَانِهِ مِنْ دَاخِلِهِ وَخَارِجِهِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقْبَلَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعَنْوَنًا ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِهِ مُتَعَلِّقٌ بِمَا يُؤَدِّيهِ الشُّهُودُ مِنْ مَضْمُونِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ لِعُنْوَانٍ وَلَا لِفَقْدِهِ تَأْثِيرٌ فِي الْحُكْمِ بِمَا شَهِدَ شُهُودُهُ . وَعُنْوَانُ الْكِتَابِ فِي دَاخِلِهِ عُرْفٌ قَدِيمٌ ، وَعَلَى ظَاهِرِهِ عُرْفٌ مُسْتَحْدَثٌ . وَالْعُرْفُ الْمَعْمُولُ بِهِ أَوْلَى مِنَ الْعُرْفِ الْمَتْرُوكِ . وَلَيْسَ يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا فِي عَصْرِنَا إِلَّا فِي كُتُبِ الْخُلَفَاءِ خَاصَّةً . ثُمَّ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَقْبَلُ مُعَنْوَنًا بِالِاسْمِ وَحْدَهُ ، أَوِ الْكُنْيَةِ ، حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَ اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَجَدِّهِ ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْكَاتِبِ وَالْمُكَاتِبِ ، فَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ دُونَ جَدِّهِ لَمْ يَجُزْ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْأَبِ مَشْهُورًا لَا يَشْرَكُهُ غَيْرُهُ فِيهِ ، أَوْ تَكُونَ الْكُنْيَةُ مَشْهُورَةً لَا يَشْرَكُهُ غَيْرُهُ فِيهَا . وَهَذَا الْقَوْلُ مَدْفُوعٌ بِمَا قَدَّمْنَاهُ . وَالْعُرْفُ فِي عَصْرِنَا مُسْتَعْمَلٌ بِاسْتِيفَاءِ النَّسَبِ فِي الْعُنْوَانِ مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى وَبِالِاقْتِصَارِ فِيهِ مِنَ الْأَعْلَى إِلَى الْأَدْنَى . هَلْ يُبْدَأُ فِي الْعُنْوَانِ بِاسْمِ الْكَاتِبِ أَوْ بِاسْمِ الْمُكَاتِبِ . فَأَمَّا مَا يُبْدَأُ بِهِ فِي الْعُنْوَانِ مِنِ اسْمِ الْكَاتِبِ وَالْمُكَاتِبِ ، فَقَدْ جَاءَتِ الْأَخْبَارُ بِاسْتِعْمَالِ الْأَمْرَيْنِ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ . فَرُوِيَ أَنَّ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيَّ كَانَ يَبْدَأُ بِاسْمِهِ فِي مُكَاتَبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَيَكْتُبُ : مِنَ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ إِلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَكَانَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ يَكْتُبُ إِلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مِنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ ، وَيَكْتُبُ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ . فَمَنْ بَدَأَ بِاسْمِهِ فَهُوَ عَلَى الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْكَاتِبِ إِلَى الْمُكَاتِبِ ، وَمَنْ قَدَّمَ اسْمَ الْكَاتِبِ فَلِتَعْظِيمِهِ . وَعُرْفُ النَّاسِ فِي عَصْرِنَا فِي كُتُبِ الْمُلُوكِ فَمَنْ دُونَهُمْ : أَنْ يُقَدَّمَ فِي كُتُبِهِمُ اسْمُ الْمُكَاتِبِ عَلَى اسْمِ الْكَاتِبِ ، إِلَّا الْخُلَفَاءَ خَاصَّةً فَإِنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ فِي كُتُبِهِمْ أَسْمَاءَهُمْ عَلَى اسْمِ الْمُكَاتِبِ . فَأَيُّ الْأَمْرَيْنِ عَمِلَ عَلَيْهِ فِي كُتُبِ الْقُضَاةِ فَفِيهِ سَلَفٌ مَتْبُوعٌ . وَقَدْ صَارَ تَقْدِيمُ اسْمِ الْكَاتِبِ فِي عَصْرِنَا مُسْتَنْكَرًا فَكَانَ الْعَمَلُ بِمَا لَا يَتَنَاكَرُهُ النَّاسُ أَوْلَى ، وَإِنْ جَازَ خِلَافُهُ . وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كِتَابُ الْقَاضِي مَقْصُورًا فِي الدُّعَاءِ عَلَى مَا يَأْلَفُهُ أَهْلُ الْعَصْرِ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِي عُرْفِهِمْ ، وَيَعْدِلُ عَمَّا تَقَدَّمَهَا مِنَ اللَّفْظِ الْمَتْرُوكِ ، وَيَقْتَصِرُ فِي كِتَابِهِ عَلَى الْحُكْمِ وَحْدَهُ ، وَلَا يُقْرِنُهُ بِخَبَرٍ وَلَا اسْتِخْبَارٍ . وَلِكُتُبِهِمْ شُرُوطٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهَا .
الدَّعْوَى عَلَى الْمَجْهُولِ وَالْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ
الدَّعْوَى عَلَى الْمَجْهُولِ ، وَالْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ أَنْكَرَ الْمَكْتُوبُ عَلَيْهِ لَمْ يَأْخُذْهُ بِهِ حَتَى تَقُومَ بَيِّنَةٌ بِأَنَّهُ هُوَ فَإِذَا رَفَعَ فِي نَسَبِهِ فَقَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ بِهَذَا الِاسْمِ وَالنَّسَبِ وَالْقَبِيلَةِ وَالصِّنَاعَةِ أُخِذَ بِذَلِكَ الْحَقِّ وَإِنْ وَافَقَ الِاسْمَ وَالْقَبِيلَةَ وَالنَّسَبَ وَالصِّنَاعَةَ فَأَنْكَرَ الْمَكْتُوبُ عَلَيْهِ لَمْ يَقْضِ عَلَيْهِ حَتَّى يُبَانَ بِشَيْءٍ لَا يُوَافِقُهُ فِيهِ غَيْرُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الْحُكْمَ إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ عَلَى مَعْرُوفٍ ، يَتَمَيَّزُ عَنْ غَيْرِهِ ، إِمَّا بِعَيْنِهِ ، وَإِمَّا بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ بِمَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ تَمْنَعُ مِنْ تَحْقِيقِ الْإِلْزَامِ . فَأَمَّا الْمَعْرُوفُ بِعَيْنِهِ دُونَ اسْمِهِ وَنَسَبِهِ ، فَلَا يُمْكِنُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ إِلَّا مَعَ حُضُورِهِ وَلَا تَكُونُ الْجَهَالَةُ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ مَانِعَةً مِنْ نُفُوذِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ . وَأَمَّا الْمَعْرُوفُ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ ، فَهُوَ الَّذِي يَتَوَجَّهُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ فِي حُضُورِهِ وَغَيْبَتِهِ . فَإِذَا ثَبَتَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْقَاضِي حَقٌّ وَهُوَ حَاضِرٌ ، اسْتَوْفَاهُ مِنْهُ لِمُسْتَحِقِّهِ وَلَمْ يَكْتُبْ بِهِ إِلَى غَيْرِهِ . فَإِنْ غَابَ قَبْلَ دَفْعِ الْحَقِّ الَّذِي حَكَمَ بِهِ عَلَيْهِ ، اسْتَحَقَّ الطَّالِبُ أَنْ يَتَنَجَّزَ كِتَابَهُ
بِالْحُكْمِ إِلَى قَاضِي الْبَلَدِ الَّذِي صَارَ إِلَيْهِ الْمَطْلُوبُ لِيَسْتَوْفِيَ الْمُكَاتِبُ مِنْهُ حَقَّ الطَّالِبِ . وَإِنْ ثَبَتَ الْحَقُّ عَلَى الْمَطْلُوبِ وَهُوَ غَائِبٌ جَازَ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْمَعَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ مَعَ غَيْبَتِهِ بِاتِّفَاقٍ ، مَنْ جَوَّزَ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ وَمَنْ لَمْ يُجَوِّزْهُ لِأَنَّ سَمَاعَ الْبَيِّنَةِ إِثْبَاتُ حَقٍّ يُفْضِي إِلَى الْحُكْمِ ، وَلَيْسَ بِحُكْمٍ ، فَصَارَ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي جَوَازِهَا مَعَ غَيْبَةِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ . فَإِنْ حَضَرَ لَمْ يَلْزَمْ إِعَادَةُ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ بِمَشْهَدِهِ . وَأَوْجَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِعَادَتَهَا إِذَا حَضَرَ . فَإِذَا كَتَبَ الْقَاضِي بِثُبُوتِ ذَلِكَ عِنْدَهُ كَانَ الْمُكَاتِبُ هُوَ الْحَاكِمُ بِهِ وَالْكِتَابُ بَيِّنَةٌ بِثُبُوتِهِ . وَإِنْ أَرَادَ الْقَاضِي بَعْدَ ثُبُوتِ الْحَقِّ عِنْدَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ عَلَى الْغَائِبِ جَازَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَعِنْدَ مَنْ يَرَى الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ ، وَلَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ مَنْ لَا يَرَى الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ، وَأَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ الْقَاضِي بِثُبُوتِهِ ، وَنُفُوذِ حُكْمِهِ ، فَلِجَوَازِ مُكَاتَبَةِ الْقَاضِي بِهِ إِذَا كَانَ الْحَقُّ فِي الذِّمَّةِ وَثُبُوتِهِ بِالْبَيِّنَةِ شَرْطَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَثْبُتَ عِنْدَهُ عَدَالَةُ الشُّهُودِ ، فَإِنْ لَمْ تَثْبُتْ عَدَالَتُهُمْ لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ . وَالشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ يَحْلِفَ الطَّالِبُ قَبْلَ حُكْمِهِ لَهُ أَنَّهُ مَا قَبَضَ الْحَقَّ وَلَا شَيْئًا مِنْهُ . وَكَذَلِكَ كُلُّ حُكْمٍ أَرَادَ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ عَلَى مَنْ لَا يُجِيبُ عَنْ نَفْسِهِ مِنْ صَغِيرٍ أَوْ مَجْنُونٍ أَوْ مَيِّتٍ أَوْ غَائِبٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَمْضِيَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ إِحْلَافِ الطَّالِبِ بِاللَّهِ مَا قَبَضَ الْحَقَّ ، وَلَا شَيْئًا مِنْهُ وَلَا أَبْرَأَهُ مِنْهُ ، وَلَا مِنْ شَيْءٍ مِنْهُ ، وَلَا يَرَى إِلَيْهِ مِنْهُ ، وَلَا مِنْ شَيْءٍ مِنْهُ ، وَإِنَّ حَقَّهُ لَثَابِتٌ عَلَيْهِ . وَأَقَلُّ مَا يَجْزِيهِ أَنْ يُحْلِفَهُ أَنَّ حَقَّهُ هَذَا لَثَابِتٌ عَلَيْهِ . فَيَجُوزُ مَعَ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى الْقَاضِي بِحُكْمِهِ عَلَى الْغَائِبِ . وَيَلْزَمُ الْقَاضِي فِيمَا يَكْتُبُ بِهِ مِنَ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ شَرْطَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَرْفَعَ فِي اسْمِهِ وَنَسَبِهِ ، وَذِكْرِ قَبِيلَتِهِ وَصِنَاعَتِهِ ، بِمَا يَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَذْكُرَ فِيهِ إِنْ كَانَ بِثُبُوتِ الْحَقِّ عِنْدَهُ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّ الشُّهُودَ عَلَيْهِ قَدْ عَرَفُوهُ بِعَيْنِهِ وَاسْمِهِ وَنَسَبِهِ . وَهُوَ فِي تَسْمِيَةِ الشُّهُودِ فِي كِتَابِهِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ : إِنْ شَاءَ سَمَّاهُمْ وَهُوَ أَوْلَى عِنْدَنَا
وَأَحْوَطُ لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يُسَمِّهِمْ ، وَهُوَ أَوْلَى عِنْدَ أَهْلِ الْكُوفَةِ ، وَأَحْوَطُ لِلْمَحْكُومِ لَهُ . فَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِمْ ، قَالَ : شَهِدَ بِهِ عِنْدِي رَجُلَانِ حُرَّانِ عَرَفْتُهُمَا بِمَا يَجُوزُ بِهِ قَبُولُ شَهَادَتِهِمَا . وَإِنْ سَمَّاهُمْ قَالَ : شَهِدَ بِهِ عِنْدِي فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدِي عَدَالَتُهُمَا . فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ ثُبُوتَ عَدَالَتِهِمَا عِنْدَهُ وَذَكَرَ الْحُكْمَ بِشَهَادَتِهِمَا ، فَهَلْ يَكُونُ تَنْفِيذُهُ لِلْحُكْمِ بِشَهَادَتَهِمَا تَعْدِيلًا مِنْهُ لَهُمَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا . وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ عَلَى الْغَائِبِ بِإِقْرَارِهِ ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ : أَنَّهُ أَقَرَّ عِنْدِي طَوْعًا فِي صِحَّةٍ مِنْهُ وَجَوَازِ أَمْرٍ ، لِأَنَّ إِقْرَارَ الْمُكْرَهِ وَمَنْ لَا يَجُوزُ أَمْرُهُ مِنَ الصَّغِيرِ وَالسَّفِيهِ غَيْرُ لَازِمٍ . فَإِنِ اقْتَصَرَ فِي كِتَابِهِ عَلَى الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ ، وَلَمْ يَقُلْ طَوْعًا فِي صِحَّةٍ مِنْهُ وَإِجْوَازِ أَمْرٍ ، فَهَلْ يَقُومُ حُكْمُهُ عَلَيْهِ مَقَامَ ذِكْرِهِ لِذَلِكَ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ كَالْحُكْمِ بِالشَّهَادَةِ هَلْ يَقُومُ مَقَامَ ذِكْرِهِ لِلْعَدَالَةِ . وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ عَلَى الْغَائِبِ بِنُكُولِهِ وَيَمِينِ الطَّالِبِ ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي مَشْرُوحًا فِي كِتَابِهِ . فَيَصِيرُ الْحَقُّ ثَابِتًا عَلَى الْغَائِبِ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهُمَا : بِإِقْرَارِهِ ، وَهُوَ أَقْوَى . وَالثَّانِي : بِنُكُولِهِ وَيَمِينِ الطَّالِبِ ، هُوَ أَضْعَفُ . وَالثَّالِثُ : بِالشَّهَادَةِ عَلَى إِقْرَارِهِ ، وَهُوَ أَوْسَطُ . فَإِنْ ذَكَرَ الْقَاضِي فِي كِتَابِهِ مَا حَكَمَ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ فَهُوَ الصَّحِيحُ النَّافِي لِلتُّهْمَةِ . وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ فِي كِتَابِهِ مَا حَكَمَ بِهِ مِنْهَا وَقَالَ : ثَبَتَ عَلَيْهِ عِنْدِي بِمَا تَثْبُتُ بِمِثْلِهِ الْحُقُوقُ ، فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ تَثْبُتُ بِهِ الْحُقُوقُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ ؛ لِاخْتِلَافِ أَحْكَامِهِمَا : لِأَنَّهُ فِي الْإِقْرَارِ لَا تُسْمَعُ مِنْهُ الْبَيِّنَةُ فِي الْأَعْيَانِ وَتُسْمَعُ مِنْهُ الْبَيِّنَةُ فِي النُّكُولِ ، وَتَتَعَارَضُ بِهِ الْبَيِّنَةُ فِي الشَّهَادَةِ ، فَتَرَجَّحَ بِوُجُودِ الْيَدِ عِنْدَنَا ، وَتَرَجَّحَ بِعَدَمِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ . فَإِذَا اخْتَلَفَ الْحُكْمُ بِالْحَقِّ فِي جَنَبَةِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ لَمْ يَجُزْ لِلْقَاضِي إِغْفَالُ ذِكْرِهَا لِمَا فِيهِ مِنْ إِسْقَاطِ حُجَّةِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ .
وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَكْتُبَ بَعْدَ إِنْفَاذِ حُكْمِهِ أَنَّهُ قَدْ جَعَلَ كُلَّ ذِي حَقٍّ وَحُجَّةٍ عَلَى مَا كَانَ لَهُ مِنْ حَقٍّ وَحُجَّةٍ فَهَذَا مَا تَقْتَضِيهِ شُرُوطُ كِتَابِ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي فِي الْحُكْمِ عَلَى الْغَائِبِ .
فَصْلٌ : فِيمَا يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي بَعْدَ وُصُولِ الْكِتَابِ إِلَيْهِ . فَإِذَا وَصَلَ كِتَابُ الْقَاضِي عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ وَوَصَفْنَاهُ مِنْ شُرُوطِهِ وَأَحْكَامِهِ وَجَبَ عَلَى الْقَاضِي الْمُكَاتِبِ إِحْضَارُ الْخَصْمِ الْمَطْلُوبِ وَمَسْأَلَتُهُ عَمَّا تَضَمَّنَهُ كِتَابُ الْقَاضِي مِنَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ . وَلَهُ فِي الْجَوَابِ عَنْهُ سِتَّةُ أَحْوَالٍ : إِحْدَاهَا : أَنْ يُقِرَّ بِوُجُوبِ الْحَقِّ عَلَيْهِ لِطَالِبِهِ فَيَحْكُمُ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ ، دُونَ الْكِتَابِ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ أَقْوَى مِنَ الْكِتَابِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُقِرَّ بِوُجُوبِ الْحَقِّ عَلَيْهِ لِطَالِبِهِ ، وَيَدَّعِي أَنَّهُ قَدْ قَضَاهُ ، فَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً بِالْقَضَاءِ سُمِعَتْ مِنْهُ وَبَرِئَ بِهَا ، وَإِنْ عَدِمَهَا وَسَأَلَ إِحْلَافَ الطَّالِبِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ الْكَاتِبَ قَدْ أَحْلَفَهُ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يُقِرَّ بِوُجُوبِ الْحَقِّ لِغَيْرِ هَذَا الطَّالِبِ ، فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ عَيْنًا قَائِمَةً ، بَطَلَ إِقْرَارُهُ بِهَا لِغَيْرِ هَذَا الطَّالِبِ ، وَكَانَ الطَّالِبُ الْمَحْكُومُ لَهُ بِهَا أَحَقَّ ، وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ فِي الذِّمَّةِ صَارَ مَأْخُوذًا بِإِقْرَارِهِ لِغَيْرِ الطَّالِبِ ، وَمَأْخُوذًا بِالْكِتَابِ لِحَقِّ هَذَا الطَّالِبِ . وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يُنْكِرَ وُجُوبَ الْحَقِّ عَلَيْهِ ، وَيُقِرَّ بِأَنَّهُ الْمُسَمَّى فِي الْكِتَابِ فَيُؤْخَذُ بِالْحَقِّ وَإِنْ أَنْكَرَهُ ، لِثُبُوتِهِ عَلَيْهِ بِكِتَابِ الْقَاضِي - وَكِتَابُ الْقَاضِي أَوْكَدُ مِنَ الشَّهَادَةِ : لِأَنَّهُ عَنْ شَهَادَةٍ اقْتَرَنَ بِهَا حُكْمٌ ، وَكُتُبُ الْقُضَاةِ حُجَّةٌ عَلَى الْمُنْكِرِينَ دُونَ الْمُقِرِّينَ . وَالْحَالُ الْخَامِسَةُ : أَنْ يُنْكِرَ الْحَقَّ ، وَيُنْكِرَ أَنْ يَكُونَ الْمُسَمَّى فِي الْكِتَابِ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُنْكِرَ الِاسْمَ الْمَذْكُورَ ، وَيَدَّعِيَ غَيْرَهُ مِنَ الْأَسْمَاءِ فَلَهُ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَعْرِفَ بِمَا ادَّعَاهُ مِنَ الْأَسْمَاءِ ، فَلَا يَلْزَمُهُ الْحُكْمُ حَتَّى تَقُومَ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ فِي عَيْنِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَعْرِفَ بِالْأَسْمَاءِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ فَيَحْكُمُ عَلَيْهِ وَلَا يَقْبَلُ مَا ادَّعَاهُ مِنَ الِاسْمِ .
وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ مَجْهُولَ الْحَالِ فَلَا يَحْكُمُ عَلَيْهِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ عَلَيْهِ بِالِاسْمِ الْمَذْكُورِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَعْتَرِفَ بِالِاسْمِ ، وَيَذْكُرَ أَنَّهُ اسْمٌ لِغَيْرِهِ قَدْ شَارَكَهُ فِيهِ ، وَغَيْرُهُ هُوَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُعْلَمَ اشْتِرَاكُ جَمَاعَةٍ فِي الِاسْمِ الْمَذْكُورِ ، وَأَقَلُّهُمْ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيهِ وَاحِدٌ ، فَلَا يَحْكُمُ عَلَيْهِ بِالْكِتَابِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ هُوَ الْمُسَمَّى فِيهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَعْرِفَ مَنْ يُشَارِكُهُ فِي ذَلِكَ الِاسْمِ وَالنَّسَبِ فَيُؤْخَذُ بِالْحَقِّ : لِأَنَّهُ الْمُسَمَّى فِي الظَّاهِرِ ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ مَا ادَّعَاهُ مِنَ الْمُشَارَكَةِ فِي الِاسْمِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ لِغَيْرِهِ . فَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً بِأَنَّ غَيْرَهُ يُسَمَّى بِمِثْلِ اسْمِهِ وَنَسَبِهِ ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُقِيمَهَا بِاسْمٍ حَيٍّ مَوْجُودٍ قَدْ شَارَكَهُ فِي اسْمِهِ وَنَسَبِهِ ، فَتُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ ، وَلَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْحَقِّ حَتَّى يَشْهَدَ الشُّهُودُ عَلَيْهِ فِي عَيْنِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ بَاسِمٍ مَيِّتٍ قَدْ شَارَكَهُ فِي اسْمِهِ وَنَسَبِهِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمَيِّتِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَاصَرَ الْحَيَّ أَوْ لَمْ يُعَاصِرْهُ . فَإِنْ لَمْ يُعَاصِرْهُ ، لَمْ يَكُنْ لِهَذِهِ الْمُشَارَكَةِ فِي الِاسْمِ تَأْثِيرٌ وَكَانَ الْحَيُّ مَأْخُوذًا بِالْحَقِّ ، وَمُعَيَّنًا فِيهِ بِالِاسْمِ . وَإِنْ كَانَ قَدْ عَاصَرَهُ الْمَيِّتُ لَمْ يَخْلُ مَوْتُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْحُكْمِ أَوْ بَعْدَهُ . فَإِنْ كَانَ مَوْتُهُ بَعْدَ الْحُكْمِ مَنَعَتْ هَذِهِ الْمُشَارَكَةُ مِنْ تَعَيُّنِ الْحُكْمِ عَلَى الْحَيِّ لِمُشَارَكَةِ الْمَيِّتِ فِي الِاسْمِ ، فَصَارَ كَمَا لَوْ شَارَكَ فِيهِ حَيًّا حَتَّى يَشْهَدَ الشُّهُودُ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ . وَإِنْ كَانَ مَوْتُهُ قَبْلَ الْحُكْمِ فَفِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِنِيُّ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ حُكْمُ الِاشْتِرَاكِ وَيَمْنَعُ مِنَ الْحُكْمِ بِالْحَقِّ عَلَى الْحَيِّ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ قَدْ ثَبَتَ عَلَى الْمَيِّتِ كَثُبُوتِهِ عَلَى الْحَيِّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِهِ حُكْمُ الِاشْتِرَاكِ وَيُؤْخَذُ الْحَيُّ بِالْحَقِّ : لِأَنَّ مُطْلَقَ الْأَحْكَامِ مُتَوَجِّهَةٌ فِي الظَّاهِرِ إِلَى الْأَحْيَاءِ دُونَ الْأَمْوَاتِ . وَالْحَالُ السَّادِسَةُ : أَنْ لَا يُنْكِرَ الْحَقَّ ، وَيَعْتَرِفَ بِالِاسْمِ ، وَيَدَّعِيَ جَرْحَ الشُّهُودِ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَيْهِ بِالْحَقِّ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي سَمَاعِ بَيِّنَتِهِ عَلَى جَرْحِهِمْ . فَحَكَى الشَّافِعِيُّ فِي اخْتِلَافِ الْعِرَاقِيِّينَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ بِجَرْحِهِمْ وَيُؤْخَذُ بِالْحَقِّ : لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ مَا حَدَثَ بَعْدَهُ مِنْ تَوْبَةِ مَنْ تَقَدَّمَ جَرْحُهُ .
وَحُكِيَ فِيهِ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّ بَيِّنَتَهُ تُسْمَعُ بِجَرْحِهِمْ وَفِسْقِهِمْ ، فَإِنْ أَقَامَهَا سَقَطَتْ شَهَادَتُهُمْ وَبَطَلَ الْحُكْمُ لِثُبُوتِ جَرْحِهِمْ ، فَلَمْ يُؤْخَذْ بِالْحَقِّ . ثُمَّ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ مَذْهَبَهُ ؛ وَهُوَ أَنْ يَنْظُرَ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ جَرْحِهِمْ : فَإِنْ كَانَ مِمَّا تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ مَعَ الْعَدَالَةِ بِأَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُمْ أَعْدَاؤُهُ ، أَوْ لَهُمْ فِيمَا شَهِدُوا بِهِ شِرْكٌ ، أَوْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمَشْهُودِ لَهُ وِلَادَةٌ تَمْنَعُ مِنَ الشَّهَادَةِ . فَهَذَا مَانِعٌ مِنْ قَبْلِ شَهَادَتِهِمْ ، وَلَيْسَ بِجَرْحٍ فِي عَدَالَتِهِمْ ، فَتُسْمَعُ مِنْهُ الْبَيِّنَةُ بِذَلِكَ وَيَبْطُلُ بِهَذَا الْحُكْمُ عَلَيْهِ . وَإِنْ جَرَّحَهُمْ بِالْفِسْقِ ، وَمَا تَسْقُطُ بِهِ الْعَدَالَةُ ، فَلَا تَخْلُو بَيِّنَةُ الْجَرْحِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : إِحْدَاهَا : أَنْ تَشْهَدَ بِفِسْقِ الشُّهُودِ فِي وَقْتِ شَهَادَتِهِمْ فَتُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ بِهَذَا الْجَرْحِ ؛ لِأَنَّ بَيِّنَةَ الْجَرْحِ أَوْلَى مِنْ بَيِّنَةِ التَّعْدِيلِ ، وَتَسْقُطُ شَهَادَتُهُمْ بِهَذَا الْجَرْحِ وَيَبْطُلُ بِهِ الْحُكْمُ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَشْهَدُوا بِفِسْقِ الشُّهُودِ بَعْدَ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمْ ، فَلَا تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ بِهَذَا الْجَرْحِ ؛ لِأَنَّ حُدُوثَ الْفِسْقِ بَعْدَ تَقَدُّمِ الْعَدَالَةِ لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْحُكْمِ بِالشَّهَادَةِ ، وَيُؤْخَذُ بِالْحَقِّ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَشْهَدُوا بِفِسْقِ الشُّهُودِ قَبْلَ سَمَاعِ شَهَادَتِهِمْ ، فَيُعْتَبَرُ مَا بَيْنَ زَمَانِ الْجَرْحِ وَالشَّهَادَةِ . فَإِنْ كَانَ قَرِيبًا لَا يَتَكَامَلُ صَلَاحُ الْحَالِ فِي مِثْلِهِ ، سُمِعَتْ بَيِّنَةُ الْجَرْحِ ، وَحُكِمَ بِسُقُوطِ شَهَادَتِهِمْ : إِنْ تَطَاوَلَ مَا بَيْنَ زَمَانِ الْجَرْحِ وَالشَّهَادَةِ لَمْ تُسْمَعْ بَيِّنَةُ الْجَرْحِ ، وَحُكِمَ بِشَهَادَتِهِمْ ؛ لِأَنَّ الْحَالَ يَصْلُحُ مَعَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ ، وَيَرْتَفِعُ الْفِسْقُ بِمَا حَدَثَ بَعْدَهُ مِنَ الْعَدَالَةِ . فَإِنْ سَأَلَ مُدَّعِي الْجَرْحِ إِنْظَارَهُ بِإِحْضَارِ الْبَيِّنَةِ حَتَّى يَلْتَمِسَهَا أُنْظِرَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، فَإِنْ أَحْضَرَهَا ، وَإِلَّا أُخِذَ بِالْحَقِّ وَأَمْضَى عَلَيْهِ الْحُكْمَ . فَإِنْ سَأَلَ إِحْلَافَ الْمَحْكُومِ لَهُ عَلَى عَدَالَةِ شُهُودِهِ ، لَمْ تَلْزَمْهُ الْيَمِينُ : لِأَنَّ تَعْدِيلَ الشُّهُودِ إِلَى الْحَاكِمِ دُونَ الْمَحْكُومِ لَهُ ، وَلَا مَدْخَلَ لِلْيَمِينِ فِيهِ . وَلَوْ سَأَلَ إِحْلَافَهُ عَلَى أَنْ لَا وِلَادَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ ، وَلَا شَرِكَةَ ، وَجَبَ إِحْلَافُهُ عَلَى ذَلِكَ ، لِاخْتِصَاصِهِ بِالْمَحْكُومِ لَهُ دُونَ الْحَاكِمِ . وَلَوْ سَأَلَ إِحْلَافَهُ عَلَى أَنْ لَا عَدَاوَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ ، فَهَذَا مِمَّا يَخْفَى عَلَيْهِ فَلَمْ يَلْزَمْ إِحْلَافُهُ عَلَيْهِ . فَإِنْ سَأَلَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ مِنْهُ الْإِشْهَادَ لَهُ بِقَبْضِ الْحَقِّ مِنْهُ ، وَجَبَ
عَلَى الْقَابِضِ الْمُطَالِبِ الْإِشْهَادُ عَلَى نَفْسِهِ ، وَهَلْ يَجِبُ إِشْهَادُ الْقَاضِي عَلَى نَفْسِهِ بِبَرَاءَتِهِ مِنْهُ بِقَبْضِ مُسْتَحِقِّهِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ : يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي الْإِشْهَادُ كَمَا يَجِبُ عَلَى الْقَابِضِ ، لِمَا ظَهَرَ مِنْ ثُبُوتِ الْحَقِّ عِنْدَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِشْهَادُ وَيَجِبُ الْإِشْهَادُ عَلَى الْقَابِضِ وَحْدَهُ لِاخْتِصَاصِ إِسْجَالِ الْأَحْكَامِ بِإِثْبَاتِ الْحُقُوقِ دُونَ إِسْقَاطِهَا .
فَصْلٌ : [ الْقَوْلُ فِي مَا يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي الْمُطَالِبِ بِتَسْمِيَةِ الشُّهُودِ ] . وَإِذَا لَمْ يَذْكُرِ الْقَاضِي الْكَاتِبُ أَسْمَاءَ الشُّهُودِ فِي كِتَابِهِ ، فَسَأَلَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ الْقَاضِيَ الْمَكْتُوبَ إِلَيْهِ أَنْ يُكَاتِبَ الْقَاضِيَ الْكَاتِبَ يَسْأَلُهُ عَنْ أَسْمَاءِ شُهُودِهِ لَمْ يَلْزَمْ إِجَابَتُهُ ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكْتُبَ بِهِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ اعْتِرَاضًا عَلَى الْقَاضِي الْكَاتِبِ فِي أَحْكَامِهِ وَشُهُودِهِ ، وَلَوْ أَنَّ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ سَأَلَ الْمَحْكُومَ لَهُ أَنْ يَذْكُرَ أَسْمَاءَ شُهُودِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ تَسْمِيَتُهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْهُمْ . وَلَوْ خَرَجَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ إِلَى الْقَاضِي الْحَاكِمِ وَسَأَلَهُ عَنْ تَسْمِيةِ شُهُودِهِ ، نُظِرَ ، فَإِنْ كَانُوا مِمَّنِ اسْتَقَرَّتْ عِنْدَهُ عَدَالَتُهُمْ وَهُمْ مِمَّنْ لَا تُعَادُ الْمَسْأَلَةُ لِقَدِيمِ شَهَادَتِهِمْ لَمْ يَلْزَمْ تَسْمِيَتُهُمْ لَهُ . وَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ لَمْ يَشْهَدُوا عِنْدَهُ بِغَيْرِهَا وَهُمْ مِمَّنْ تُعَادُ الْمَسْأَلَةُ عَنْهُمْ وَجَبَ عَلَيْهِ تَسْمِيَتُهُمْ لَهُ بَعْدَ سُؤَالِهِ . فَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً بِجَرْحِهِمْ كَانَ سَمَاعُهَا عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ . فَإِنْ أَقَامَهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ بِشَهَادَتِهِمْ ، نُقِضَ حُكْمُهُ بِهِمْ ، وَكُتِبَ بِنَقْضِهِ إِلَى قَاضِيهِ ، لِيُسْقِطَ عَنْهُ الْحَقَّ الَّذِي كَاتَبَهُ بِهِ . وَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ بِجَرْحِهِمْ عِنْدَ قَاضِيهِ الَّذِي كُوتِبَ بِوُجُوبِ الْحَقِّ عَلَيْهِ لَمْ يَسْمَعْهَا ، لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُمْ شُهُودُ الْحُكْمِ إِلَّا مِنْ قَوْلِ الْخَصْمِ . فَإِنْ كَتَبَ إِلَيْهِ الْقَاضِي بِأَسْمَائِهِمْ جَازَ أَنْ يَسْمَعَ الْبَيِّنَةَ بِجَرْحِهِمْ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ ، وَيَحْكُمُ بِإِسْقَاطِ الْحَقِّ عَنْهُ . فَإِنْ سَأَلَهُ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ أَنْ يَكْتُبَ بِجَرْحِهِمْ إِلَى الْقَاضِي الَّذِي حَكَمَ بِشَهَادَتِهِمْ ، لَزِمَهُ مُكَاتَبَتُهُ بِهِ ؛ لِيُسْقِطَ بِهِ الْحَقَّ عَنِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ بِهِ ، حَتَّى لَا يَأْخُذَهُ بِهِ عِنْدَ التَّنَازُعِ إِلَيْهِ .
فَصْلٌ : وَلَوْ لَمْ يَذْكُرِ الْقَاضِي فِي كِتَابٍ سَبَبَ حُكْمِهِ ، وَقَالَ : ثَبَتَ عِنْدِي بِمَا تَثْبُتُ بِمِثْلِهِ الْحُقُوقُ وَسَأَلَهُ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ عَنِ السَّبَبِ الَّذِي حَكَمَ بِهِ ، نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ حَكَمَ
عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَذْكُرَهُ لَهُ : لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِ بِالْبَيِّنَةِ . وَإِنْ كَانَ قَدْ حَكَمَ عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ وَيَمِينِ الطَّالِبِ ، لَزِمَهُ أَنْ يَذْكُرَهُ لَهُ ، لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِ بِالْبَيِّنَةِ . وَإِنْ كَانَ قَدْ حَكَمَ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ فَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ بِحَقٍّ فِي الذِّمَّةِ لَمْ يَلْزَمْهُ ذِكْرُهَا : لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهَا بِمِثْلِهَا ، وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ بِعَيْنٍ قَائِمَةٍ لَزِمَهُ أَنْ يَذْكُرَهَا : لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى مُقَابَلَتِهَا بِمِثْلِهَا فَتَرْجَحُ بَيِّنَتُهُ بِالْيَدِ ، فَيَكُونُ وُجُوبُ الْبَيَانِ مُعْتَبَرًا بِهَذِهِ الْأَقْسَامِ .
فَصْلٌ : سُؤَالُ الطَّالِبِ الْحُكْمَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ . وَإِذَا سَأَلَ الطَّالِبُ أَنْ يَحْكُمَ لَهُ الْقَاضِي بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ فَإِنْ كَانَ حَنَفِيًّا لَا يَرَى الْقَضَاءَ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ لَمْ يَحْكُمْ لَهُ ، وَلَمْ يَسْمَعْ شَاهِدَهُ . وَإِنْ كَانَ شَافِعِيًّا ، يَرَى الْقَضَاءَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ ، فَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ عَلَى حَاضِرٍ جَازَ أَنْ يَحْكُمَ لَهُ عَلَيْهِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ . وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ عَلَى غَائِبٍ وَيُرِيدُ الطَّالِبُ أَنْ يَتَنَجَّزَ بِهِ كِتَابَهُ إِلَى قَاضِي بَلَدِ الْمَطْلُوبِ ، فَفِي جَوَازِ الْحُكْمِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ على الغائب ، فِيمَا يَكْتُبُ بِهِ إِلَى غَيْرِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ قَوْلٌ مَشْرُوعٌ وَمَذْهَبٌ مَشْهُورٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ أَنْ يَكْتُبَ بِهِ : لِأَنَّ الْمُخَالِفَ فِيهِ مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ ، يَرَى نَقْضَ الْحُكْمِ بِهِ وَهُوَ مِنْ سَرَفِهِمْ . فَلَمْ يَكُنْ لَهُ تَعْرِيضُ حُكْمِهِ لِلنَّقْضِ وَالْأَوْلَى مِنْ إِطْلَاقِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنْ يَعْتَبِرَ رَأْيَ الْقَاضِي الْكَاتِبِ بِهِ . فَإِنْ كَانَ يَرَى الْقَضَاءَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ كَتَبَ بِهِ إِلَيْهِ وَإِنْ كَانَ لَا يَرَاهُ لَمْ يَكْتُبْ بِهِ . فَإِنْ أَرَادَ الْقَاضِي فِي حُكْمِهِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ أَنْ لَا يَذْكُرَهُ فِي كِتَابِهِ ، وَيُطْلِقَ الْحُكْمَ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِثُبُوتِ الْحَقِّ عِنْدَهُ جَازَ : لِأَنَّهُ يَحْكُمُ بِاجْتِهَادِ نَفْسِهِ وَلَا يَحْكُمُ بِاجْتِهَادِ غَيْرِهِ .
فَصْلٌ فِي مُكَاتَبَةِ الْقَاضِي لِلْأَمِيرِ
فَصْلٌ : فِي مُكَاتَبَةِ الْقَاضِي لِلْأَمِيرِ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَكِتَابُ الْقَاضِي إِلَى الْخَلِيفَةِ وَالْخَلِيفَةِ إِلَى الْقَاضِي وَالْقَاضِي إِلَى الْأَمِيرِ وَالْأَمِيرِ إِلَى الْقَاضِي سَوَاءٌ لَا يُقْبَلُ إِلَّا كَمَا وَصَفْتُ مِنْ كِتَابِ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ وَجَمِيعُ هَذِهِ الْكُتُبِ إِذَا تَعَلَّقَتْ بِأَحْكَامٍ وَحُقُوقٍ لَمْ تَثْبُتْ إِلَّا بِالشَّهَادَةِ فِي التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ .
وَخَالَفَنَا بَعْضُ مَنْ وَافَقَنَا فِي كُتُبِ الْقُضَاةِ : أَنَّ كُتُبَ الْخُلَفَاءِ وَالْأُمَرَاءِ إِلَى الْقُضَاةِ وَمِنَ الْقُضَاةِ إِلَى الْأُمَرَاءِ تُقْبَلُ بِغَيْرِ الشَّهَادَةِ فِي التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : هُوَ فَرْقُ مَا بَيْنَهُمَا فِي الْعُرْفِ الْمُسْتَمِرِّ . وَالثَّانِي : صِيَانَةُ السُّلْطَانِ فَمَا يُبَاشِرُ غَيْرُهُ وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَنْفُذْ كُتُبُ الْقُضَاةِ فِي الْأَحْكَامِ إِلَّا بِالشَّهَادَةِ مَعَ ظُهُورِهِمْ كَانَ ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْخُلَفَاءِ وَالْأُمَرَاءِ مَعَ احْتِجَابِهِمْ أَوْلَى . وَالثَّانِي : أَنَّ الْقُضَاةَ فَرُوعُ الْخُلَفَاءِ ، وَحُكْمُ الْأُصُولِ إِذَا لَمْ يَكُنْ أَقْوَى مِنْ حُكْمِ الْفُرُوعِ لَمْ يَكُنْ أَضْعَفَ . فَأَمَّا كُتُبُهُمْ فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي ، وَالْكُتُبُ إِلَيْهِمْ فِي الْأَعْمَالِ وَالْأَمْوَالِ فَمَقْبُولَةٌ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ فِي أَمْثَالِهَا ، مَخْتُومَةٌ مَعَ الرُّسُلِ الثِّقَاةِ لِأَنَّهَا تَكْثُرُ وَالتَّزْوِيرُ فِيهَا يَظْهَرُ وَالْهَيْئَةُ فِيهَا تَمْنَعُ وَالِاسْتِدْرَاكُ فِيهَا مُمْكِنٌ فَمِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ خَالَفَتْ كُتُبُ الْقُضَاةِ فِي أَحْكَامِ الرَّعَايَا .
فَصْلٌ : كُتُبُ قَاضِي أَهْلِ الْبَغْيِ . وَإِذَا كَتَبَ قَاضِي أَهْلِ الْبَغْيِ إِلَى قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ كِتَابًا فِي حُكْمٍ بِحَقٍّ ، نُظِرَ : كَأَنْ كَانَ مِمَّنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِأَنَّهُ يَشْهَدُ لِمُوَافَقَةٍ بِقَوْلِهِ كَالْخَطَّابِيَّةِ لَمْ يُقْبَلْ كِتَابُهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْكُمُ لِمُوَافَقَةٍ بِقَوْلِهِ . وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ تُقْبَلُ شَهَادَتَهُ ، فَفِي قَبُولِ كِتَابِهِ بِالْحُكْمِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ " قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ " أَنَّهُ يَجُوزُ لِقَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ أَنْ يَقْبَلَ كِتَابَ قَاضِي أَهْلِ الْبَغْيِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ أَحْكَامُهُمْ مُمْضَاةٌ لَا يُرَدُّ مِنْهَا إِلَّا مَا يُرَدُّ مِنْ حُكْمِ قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ ، وَجَبَ أَنْ تَكُونَ أَحْكَامُ كُتُبِهِمْ كَذَلِكَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ لَيْسَ لِقَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ أَنْ يَقْبَلَ كِتَابَ قَاضِي أَهْلِ الْبَغْيِ . وَقَدْ قَالَ فِي هَذَا الْكِتَابِ : وَيُقْبَلُ كُلُّ كِتَابٍ لِقَاضٍ عَدْلٍ ، فَكَانَ دَلِيلُ هَذَا الْقَوْلِ أَنْ لَا يُقْبَلَ كِتَابُ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ . وَإِنَّمَا لَمْ يَقْبَلْ كِتَابَهُ وَإِنْ لَمْ نَنْقُضْ حُكْمَهُ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يُنْقَضُ إِلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِفَسَادِهِ ، وَالْكِتَابُ لَا يُقْبَلُ إِلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِصِحَّتِهِ . فَافْتَرَقَا .
فَصْلٌ : فِي مَنْ تُقْبَلُ كُتُبُهُ مِنَ الْقُضَاةِ . وَيُقْبَلُ كِتَابُ قَاضِي الرُّسْتَاقِ وَالْقَرْيَةِ كَمَا يُقْبَلُ كِتَابُ قَاضِي الْمِصْرِ . وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ قَبُولِ كِتَابِ قَاضِي الرُّسْتَاقِ وَالْقَرْيَةِ وَجَعَلَ قَبُولَ الْكُتُبِ مَوْقُوفًا عَلَى قُضَاةِ الْأَمْصَارِ دُونَ الْقُرَى ، لِأَنَّ قُضَاةَ الْأَمْصَارِ أَحْفَظُ لِنِظَامِ الْأَحْكَامِ مِنْ قُضَاةِ الرَّسَاتِيقِ وَالْقُرَى . وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ لِأَنَّ لِقَبُولِ كُتُبِ الْقُضَاةِ شُرُوطٌ إِنْ وُجِدَتْ فِي كُتُبِ قُضَاةِ الْقُرَى قُبِلَتْ ، وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ فِي كُتُبِ قُضَاةِ الْأَمْصَارِ رُدَّتْ . وَإِذَا كَانَتِ الْقَرْيَةُ قَرِيبَةً مِنَ الْمِصْرِ وَلَمْ يَشُقَّ عَلَى أَهْلِهَا التَّحَاكُمُ إِلَى قَاضِي الْمِصْرِ كَانَ هُوَ الْقَاضِي بَيْنَهُمْ . وَجَرَوْا مِنْهُ مَجْرَى أَهْلِ الْمِصْرِ فَلَمْ يَجُزْ لِقَاضِي الْمِصْرِ أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُمْ كِتَابَ قَاضٍ إِنْ كَانَ لَهُمْ فِي حُكْمٍ لَازِمٍ مَنْ شَهِدُوا بِحُكْمٍ عِنْدَ قَاضِيهِمْ وَيَقْدِرُ عَلَى الشَّهَادَةِ بِهِ عِنْدَ قَاضِي الْمِصْرِ . وَإِذَا اتَّسَعَ الْمِصْرُ وَكَانَ ذَا جَانِبَيْنِ كَبَغْدَادَ وَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ جَانِبَيْهِ قَاضٍ مُنْفَرِدٍ بِرِيَاسَتِهِ لَمْ يُقْبَلْ كِتَابُ قَاضِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ إِلَى قَاضِي الْجَانِبِ الْآخَرِ فِي ثُبُوتِ الشَّهَادَةِ . وَقُبِلَ فِي ثُبُوتِ الْإِقْرَارِ إِنْ رَجَعَ الْمُقِرُّ ، وَلَمْ يُقْبَلْ إِنْ لَمْ يَرْجِعْ ؛ لِأَنَّ مَا أَمْكَنَ الْحُكْمُ فِيهِ بِالْأَصْلِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْكَمَ فِيهِ بِالْفَرْعِ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ يُحْكَمُ فِيهَا بِشُهُودِ الْفَرْعِ مَعَ تَعَذُّرِ شُهُودِ الْأَصْلِ وَلَا يُحْكَمُ بِهَا مَعَ إِمْكَانِهِمْ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
بَابُ الْقَسَّامِ
مَسْأَلَةٌ يُعْطَى أَجْرُ الْقَسَّامِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ
بَابُ الْقَسَّامِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْطَى أَجْرُ الْقَسَّامِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهُمْ حُكَّامٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَالْأَصْلُ فِي الْحُكْمِ بِالْقِسْمَةِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ " [ النِّسَاءِ : ] . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَرْضَ فِي قِسْمَةِ الْأَمْوَالِ بِمَلِكٍ مُقَرَّبٍ وَلَا بِنَبِيٍّ مُرْسَلٍ حَتَّى تَوَلَّى قِسْمَتَهَا بِنَفْسِهِ " . وَقَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَنِيمَةَ بَدْرٍ بِشِعْبٍ مِنْ شِعَابِ الصَّفْرَاءِ ، وَقَسَّمَ غَنَائِمَ خَيْبَرَ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا ، وَقَسَّمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ بِأَوْطَاسٍ ، وَقِيلَ : بِالْجِعْرَانَةِ . وَاخْتَصَمَ إِلَيْهِ رَجُلَانِ فِي مَوَارِيثَ تَقَادَمَتْ وَتَدَارَسَتْ فَقَالَ : " اذْهَبَا فَاقْتَسِمَاهَا وَاسْتَهِمَا وَتَحَالَّا " ، وَقَدْ كَانَ لِلْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَسَّامٌ وَكَانَ قَاسِمُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى يُعْطِيهِ رِزْقَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ . وَلِأَنَّ بِالنَّاسِ إِلَى قِسْمَةِ الْمُشْتَرَكِ حَاجَةً فَلَمْ يَجِدُوا بُدًّا مِنْ قَاسِمٍ يُنْصِفُهُمْ فِي الْحُقُوقِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : الْقُسَّامُ حُكَّامٌ ، وَإِنَّمَا كَانُوا حُكَّامًا لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ قَدْ يُوقِعُونَ الْقِسْمَةَ جَبْرًا كَمَا يُجْبَرُ الْحُكَّامُ فِي الْأَحْكَامِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُمْ يَسْتَوْفُونَ الْحُقُوقَ لِأَهْلِهَا كَاسْتِيفَاءِ الْحُكَّامِ . وَلَئِنْ كَانُوا حُكَّامًا لِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فَإِنَّهُمْ يُخَالِفُونَ حُكَّامَ الْأَحْكَامِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ حُكْمَ الْقَسَّامِ مُخْتَصٌّ بِالتَّحَرِّي فِي تَمْيِيزِ الْحُقُوقِ وَإِقْرَارِهَا ، وَحُكْمَ الْحُكَّامِ مُخْتَصٌّ بِالِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الدِّينِ وَإِلْزَامِهَا . وَالثَّانِي : اسْتِعْدَاءُ الْخُصُومِ يَكُونُ إِلَى الْحُكَّامِ دُونَ الْقَسَّامِ ؛ لِأَنَّ لِلْحُكَّامِ وِلَايَةً يَسْتَحِقُّونَ بِهَا إِجَابَةَ الْمُسْتَعْدِي وَلَيْسَ لِلْقَسَّامِ وِلَايَةٌ وَلَا عَدْوَى . وَإِنَّمَا يَقْسِمُونَ بِأَمْرِ الْحُكَّامِ لَهُمْ أَوْ لِتَرَاضِي الشُّرَكَاءِ بِهِمْ فَصَارُوا فِي الْقِسْمَةِ أَعْوَانَ الْحُكَّامِ ، فَلَزِمَ الْحَاكِمَ أَنْ يَخْتَارَ لِنَظَرِهِ مِنَ الْقُسَّامِ مَنْ تَكَامَلَتْ فِيهِ شُرُوطُ الْقِسْمَةِ للقسام ، وَهِيَ ثَلَاثَةٌ : أَحَدُهَا : الْعَدَالَةُ : لِأَنَّهُ حَاكِمٌ مُؤْتَمَنٌ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا وَلَا فَاسِقَا . وَالثَّانِي : قِلَّةُ الطَّمَعِ وَنَزَاهَةُ النَّفْسِ حَتَّى لَا يَرْتَشِيَ فِيمَا يَلِي وَيَحُوزَ . وَالثَّالِثُ : عِلْمُهُ بِالْحِسَابِ وَالْمِسَاحَةِ : لِأَنَّهُ مَنْدُوبٌ لَهُمَا وَعَامِلٌ بِهِمَا ، وَاعْتِبَارُ هَذَيْنِ فِي الْقَاسِمِ كَاعْتِبَارِ الْعِلْمِ فِي الْحَاكِمِ فَإِذَا عُرِفَ تَكَامُلُ هَذِهِ الشُّرُوطِ الثَّلَاثَةِ فِيهِ عُيِّنَ عَلَى اخْتِيَارِهِ وَنَدْبِهِ لِلْقِسْمَةِ فِي عَمَلِهِ .
تَعَدُّدُ الْقُسَّامِ . فَإِنِ اكْتَفَى عَمَلُهُ بِقَاسِمٍ وَاحِدٍ . وَإِلَّا اخْتَارَ مِمَّنْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْعَمَلُ ، مِنْ ثَانٍ ، وَثَالِثٍ لِيُغْنِيَ الْمُقْتَسِمِينَ عَنِ اخْتِيَارِ الْقَسَّامِ فَقَدْ يَضْعُفُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ عَنِ الِاجْتِهَادِ فِي اخْتِيَارِهِمْ . أُجْرَةُ الْقَاسِمِ . وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ أُجُورُ هَؤُلَاءِ الْقُسَّامِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ : لِأَنَّ عَلِيًّا رَزَقَهُمْ مِنْهُ ، وَلِأَنَّهُمْ مَنْدُوبُونَ لِلْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ ، فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ أُجُورُهُمْ مِنْ أَمْوَالِ الْمَصَالِحِ . فَإِنْ كَثُرَتِ الْقِسْمَةُ وَاتَّصَلَتْ فُرِضَتْ أَرْزَاقُهُمْ مُشَاهَرَةً فِي بَيْتِ الْمَالِ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ وَإِنْ قَلَّتْ أُعْطُوا مِنْهُ أُجْرَةَ كُلِّ قِسْمَةٍ . فَإِنْ عَدَلَ الْمُقَسَّمُونَ عَنْهُمْ إِلَى قِسْمَةِ مَنْ تَرَاضَوْا بِهِ مِنْ غَيْرِهِمْ جَازَ ، وَلَمْ يُعْتَرَضْ عَلَيْهِمْ ، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَنِ ارْتَضَوْهُ عَبْدًا ، أَوْ فَاسِقًا ، وَكَانَتْ أُجْرَتُهُ فِي أَمْوَالِهِمْ وَلَمْ تَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ .
مَسْأَلَةٌ إذا لَمْ يُعْطُوَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ لَمْ يُعْطُوَا خُلِّيَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ طَلَبَ الْقَسْمَ وَاسْتَأْجَرَهُمْ طَالِبُ الْقَسْمِ بِمَا شَاءَ قَلَّ أَوْ كَثُرَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا أَعْوَزَتْ أُجُورُ الْقَسَّامِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ، إِمَّا لِعَدَمِهِ فِيهِ ، وَإِمَّا لِحَاجَةِ الْمُقَاتِلَةِ إِلَيْهِ كَانَتْ أُجُورُهُمْ عَلَى الْمُتَقَاسِمِينَ إِنْ لَمْ يَجِدُوا مُتَبَرِّعًا . وَلَا تَمْنَعُ نِيَابَتُهُمْ عَنِ الْقُضَاةِ أَنْ يَعْتَاضُوا عَلَى الْقِسْمَةِ بِخِلَافِ الْقُضَاةِ الْمَمْنُوعِينَ مِنَ الِاعْتِيَاضِ عَلَى الْأَحْكَامِ مِنَ الْخُصُومِ لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إِنَّ فِي الْقَضَاءِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى يَمْنَعُ بِهِ الْقَاضِي مِنَ الِاعْتِيَاضِ ، وَالْقِسْمَةُ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الْمَحْضَةِ فَجَازَ لِلْقَاسِمِ الِاعْتِيَاضُ عَنْهَا . وَالثَّانِي : أَنَّ لِلْقَاسِمِ عَمَلًا يُبَاشِرُ بِنَفْسِهِ فَصَارَ كَصُنَّاعِ الْأَعْمَالِ فِي جَوَازِ الِاعْتِيَاضِ عَنْهَا ، وَخَالَفَ الْقُضَاةَ الْمُقْتَصِرِينَ عَلَى الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الَّتِي لَا يَصِحُّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهَا . وَإِنَّمَا يَأْخُذُ الْقَاضِي رِزْقَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِانْقِطَاعِهِ إِلَى الْحُكْمِ وَلَيْسَ بِأَخْذِهِ أُجْرَةً عَلَى الْحُكْمِ كَمَا نَقُولُهُ فِي أَرْزَاقِ الْأَئِمَّةِ وَالْمُؤَذِّنِينَ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ أَخْذَ الْأُجْرَةِ عَلَى الْقِسْمَةِ جَائِزٌ ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَخْذُهَا عَنِ الْحُكْمِ فَالْكَلَامُ عَنْهَا يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : عَدَدُ الْقُسَّامِ . وَالثَّانِي : حُكْمُ الْأُجْرَةِ . فَأَمَّا عَدَدُ الْقُسَّامِ فَلِلْقِسْمَةِ حَالَتَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَتَرَاضَى بِهَا الْمُقْتَسِمُونَ . وَالثَّانِيَةُ : أَنْ يَأْمُرَ بِهَا الْحُكَّامُ .
فَإِنْ تَرَاضَوْا بِهَا حَمَلُوا فِي الْعَدَدِ عَلَى مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ مِنْ وَاحِدٍ أَوِ اثْنَيْنِ كَمَا حَمَلُوا فِيهِ عَلَى اخْتِيَارِهِمْ لِلْقَاسِمِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُخْتَارًا وَلَا يَقْبَلُ الْحَاكِمُ قَوْلَ هَذَا الْقَاسِمِ : لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَائِبٍ عَنْهُ وَلَا يَسْمَعُ شَهَادَتَهُ : لِأَنَّهُ شَاهِدٌ عَلَى فِعْلِهِ . وَإِنْ أَمَرَ الْحَاكِمُ بِالْقِسْمَةِ وَخَرَجَتْ عَنْ حُكْمِ الِاخْتِيَارِ فَفِي الْقِسْمَةِ تَعْدِيلٌ وَحُكْمٌ ، وَالتَّعْدِيلُ مُعْتَبَرٌ بِاثْنَيْنِ كَالتَّقْوِيمِ ، وَلَا يُعَوَّلُ فِي التَّقْوِيمِ إِلَّا عَلَى قَوْلِ مُقَوِّمَيْنِ ، وَالْحُكْمُ فِيهِ قَوْلٌ وَاحِدٌ كَالْحَاكِمِ . فَيُنْظَرُ فِي الْقِسْمَةِ : فَإِنْ كَانَ فِيهَا تَعْدِيلٌ وَتَقْوِيمٌ لَمْ يُجْزِئْ فِيهَا أَقَلُّ مِنْ قَاسِمَيْنِ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا تَعْدِيلٌ وَلَا تَقْوِيمٌ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي مَوْضِعِ أَمْرِ الْحَاكِمِ : الشُّرَكَاءُ إِنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى قَاسِمَيْنِ ، فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ قَاسِمٌ وَاحِدٌ . وَقَالَ فِي غَيْرِهِ إِنَّ الْقَاسِمَ حَاكِمٌ فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يُجْزِئُ قَاسِمٌ وَاحِدٌ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا كَمَا اخْتَلَفُوا فِي الْخَرْصِ فَخَرَّجَهُ أَكْثَرُهُمْ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يُجْزِئُ قَاسِمٌ وَاحِدٌ ، كَمَا يُجْزِئُ كَيَّالٌ وَاحِدٌ ، وَوَزَّانٌ وَاحِدٌ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يُجْزِئُ أَقَلُّ مِنْ قَاسِمَيْنِ ، كَمَا لَا يُجْزِئُ أَقَلُّ مِنْ مُقَوِّمَيْنِ ، وَكَمَا لَا يُجْزِئُ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ أَقَلُّ مِنْ مُجْتَهِدَيْنِ وَلَا يَمْتَنِعُ إِذَا كَانَ الْقَاسِمُ كَالْحَاكِمِ أَنْ يَجْمَعَ فِيهِ بَيْنَ اثْنَيْنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا . وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا : لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ : وَهُوَ إِنْ كَانَ فِي الشُّرَكَاءِ طِفْلٌ ، أَوْ غَائِبٌ ، لَا يُجِيبُ عَنْ نَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ أَقَلُّ مِنْ قَاسِمَيْنِ ، وَإِنْ كَانُوا حُضُورًا يُجِيبُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَجْزَأَ قَاسِمٌ وَاحِدٌ ، وَيَقْبَلُ الْحَاكِمُ قَوْلَ الْقَاسِمِ هَاهُنَا ، لِاسْتِنَابَتِهِ لَهُ كَمَا يَقْبَلُ قَوْلَ خُلَفَائِهِ فَإِنْ جَازَتْ بِقَاسِمٍ وَاحِدٍ قِيلَ فِيهَا قَوْلُ الْوَاحِدِ ، وَإِنْ لَمْ تَجُزْ إِلَّا بِقَاسِمَيْنِ لَمْ يَقْبَلْ قَوْلَ الْوَاحِدِ وَقَبِلَ قَوْلَ الِاثْنَيْنِ .
فَصْلٌ : أُجْرَةُ الْقَسَّامِ . وَأَمَّا أُجْرَةُ الْقَسَّامِ فَلِلْمُقْتَسِمِينِ فِيهَا أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ : إِحْدَاهَا : أَنْ يَتَّفِقُوا فِيهَا عَلَى أُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ ، فَلَيْسَ لَهُ غَيْرُهَا وَلَا عَلَيْهِمْ أَكْثَرُ مِنْهَا . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى التَّطَوُّعِ بِالْقِسْمَةِ فَلَا أُجْرَةَ لِلْقَاسِمِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى أُجْرَةٍ مَجْهُولَةٍ ، أَوْ أُجْرَةٍ فَاسِدَةٍ ، فَتَكُونُ لِلْقَاسِمِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ . وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ لَا يَجْرِيَ لِلْأُجْرَةِ ذِكْرٌ ، فَلَا يَكُونُ مِنَ الْمُقْتَسِمَيْنِ بَذْلٌ ، وَلَا مِنَ الْقَاسِمِ طَلَبٌ ، فَيَنْظُرُ فِي الْقِسْمَةِ ، فَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ قَدْ أَمَرَ بِهَا ، وَجَبَ لِلْقَاسِمِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ .
وَإِنْ كَانَ الْمُقْتَسِمُونَ قَدْ دُعُوا إِلَيْهَا ، فَفِي وُجُوبِ الْأُجْرَةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لَا أُجْرَةَ لَهُ : لِأَنَّهُ بِذَلِكَ عَمِلَهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الْمُزَنِيِّ ، لَهُ الْأُجْرَةُ : لِأَنَّهُمُ اسْتَهْلَكُوا عَمَلَهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنْ يَعْتَبِرَ حَالَ الْقَاسِمِ ، فَإِنْ جَرَتْ عَادَتُهُ بِأَخْذِ الْأُجْرَةِ اسْتَحَقَّهَا وَإِنْ لَمْ تَجْرِ عَادَتُهُ بِأَخْذِهَا لَمْ يَسْتَحِقَّهَا ، لِأَنَّ الْعُرْفَ فِي حَقِّهِمَا كَالشَّرْطِ . فَإِذَا وَجَبَتِ الْأُجْرَةُ ، وَكَانَ الْقَاسِمُ وَاحِدًا أَخَذَهَا ، إِنْ كَانَا اثْنَيْنِ فَلَهُمَا فِي الْأُجْرَةِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَسْتَحِقَّا أُجْرَةَ الْمِثْلِ فَيَجِبُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أُجْرَةُ مِثْلِهِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أُجْرَةٌ مُسَمَّاةٌ ، فَيَخْتَصُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأُجْرَتِهِ ، قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ ، سَوَاءٌ تَسَاوَيَا فِيهَا أَوْ تَفَاضَلَا . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يُسَمِّيَ لَهُمَا أُجْرَةً وَاحِدَةً ، فَلَيْسَ عَلَى الْمُقْتَسِمَيْنِ غَيْرُهَا . وَفِي اقْتِسَامِهِمَا بِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَقْتَسِمَانِهَا نِصْفَيْنِ اعْتِبَارًا بِالْعَدَدِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَقْتَسِمَانِهَا عَلَى قَدْرِ أُجُورِ أَمْثَالِهِمَا اعْتِبَارًا بِالْعَمَلِ .
هَلْ أُجْرَةُ الْقَسَّامِ عَلَى عَدَدٍ الرُّؤُوسِ أَوْ عَلَى عَدَدِ الْأَسْهُمِ
هَلْ أُجْرَةُ الْقَسَّامِ عَلَى عَدَدٍ الرُّؤُوسِ أَوْ عَلَى عَدَدِ الْأَسْهُمِ ؟ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِنْ سَمَّوْا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ فِي نَصِيبِهِ شَيْئًا مَعْلُومًا فَجَائِزٌ وَإِنْ سَمَّوْهُ . عَلَى الْكُلِّ فَعَلَى قَدْرِ الْأَنْصِبَاءِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ كَمَا قَالَ : إِذَا اسْتَأْجَرَ الْمُقْتَسِمُونَ الْقَاسِمَ بِأُجْرَةٍ مُسَمَّاةٍ فَلَهُمْ فِيهَا حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي حَقِّهِ خَاصَّةً دُونَ شُرَكَائِهِ ، فَهَذَا جَائِزٌ وَيَخْتَصُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي حَقِّهِ بِالْتِزَامِ مَا سَمَّى ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَتَسَاوَوْا فِيهِ أَوْ يَتَفَاضَلُوا . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى اسْتِئْجَارِهِ بِأُجْرَةٍ وَاحِدَةٍ فَهَذَا جَائِزٌ وَهُوَ أَوْلَى ، لِتَنْتَفِيَ التُّهْمَةُ عَنْهُمْ فِي التَّفْضِيلِ وَالْمُمَايَلَةِ وَتَكُونُ الْأُجْرَةُ مُقَسَّطَةً بَيْنَهُمْ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ عَلَى قَدْرِ الْأَنْصِبَاءِ وَالسِّهَامِ وَلَا يُقَسِّطُ عَلَى أَعْدَادِ الرُّؤُوسِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُقَسِّطُ عَلَى أَعْدَادِ رُؤُوسِهِمْ يَسْتَوِي فِيهَا مَنْ قَلَّ نَصِيبُهُ وَكَثُرَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : الْقِيَاسُ تَقْسِيطُهَا عَلَى الرُّؤُوسِ وَالِاسْتِحْسَانِ تَقْسِيطُهَا عَلَى السِّهَامِ . وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَسَّطَهَا عَلَى الْعَدَدِ ، بِأَنَّ عَمَلَ الْقَاسِمِ فِي قَلِيلِ السَّهْمِ أَكْثَرُ مِنْ عَمَلِهِ فِي كَثِيرِهِ : لِأَنَّ الْأَرْضَ إِذَا كَانَتْ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ قَسَّمَهَا نِصْفَيْنِ وَإِذَا كَانَ لِأَحَدِهِمَا سُدُسُهَا ، وَلِلْآخَرِ بَاقِيهَا قَسَّمَهَا أَسْدَاسًا فَكَانَ فِي حَقِّ الْقَلِيلِ أَكْثَرُ عَمَلًا ، فَاقْتَضَى إِذَا لَمْ يَزِدْ أَنْ لَا يَنْقُصَ . وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ مُؤَنَ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ يَجِبُ تَقْسِيطُهَا عَلَى قَدْرِ الْمِلْكِ دُونَ الْمُلَّاكِ كَنَفَقَاتِ الْبَهَائِمِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ يَقِلُّ سَهْمُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ حَتَّى يَكُونَ سَهْمًا مِنْ مِائَةِ سَهْمٍ : فَلَوِ الْتَزَمَ نِصْفَ الْأُجْرَةِ لَجَازَ أَنْ تَسْتَوْعِبَ قِيمَةَ مِلْكِهِ فَتُؤَدِّي إِجَازَةُ مِلْكِهِ بِالْقِسْمَةِ إِلَى إِزَالَةِ مِلْكِهِ بِهَا ، وَهَذَا مَدْفُوعٌ فِي الْمَعْقُولِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ ثَمَنُ الْمِلْكِ لَوْ بِيعَ مُقَسَّطًا بَيْنَهُمْ عَلَى السِّهَامِ ، اقْتَضَى أَنْ تَتَقَسَّطَ أُجْرَةُ قَسْمِهِ عَلَى السِّهَامِ . وَاسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ عَمَلَ الْقَاسِمِ فِي قَلِيلِ السَّهْمِ أَكْثَرُ ، فَفَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَوْ كَانَ أَكْثَرُ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ خَطَأٌ : لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِصَاحِبِ السُّدُسِ سَهْمٌ وَلِصَاحِبِ الْبَاقِي خَمْسَةُ أَسْهُمٍ ، وَعَمَلُهُ فِي الْخَمْسَةِ أَسْهُمٍ أَكْثَرُ مِنْ عَمَلِهِ فِي السَّهْمِ الْوَاحِدِ : لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يَذْرَعَ الْجَمِيعَ فَيَعْرِفَ مِسَاحَتَهُ . وَقَوْلُهُمْ أَنَّ كَثْرَةَ الْعَمَلِ لِقِلَّةِ سَهْمِ الْآخَرِ خَطَأٌ بَلْ هُوَ لِكَثْرَةِ سَهْمِ شَرِيكِهِ فَبَطَلَ الِاسْتِدْلَالُ .
فَصْلٌ : [ حُكْمُ الْقِسْمَةِ إِذَا كَانَ بَيْنَ الْمُقْتَسِمِينَ صَغِيرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ] . فَإِنْ كَانَ فِي الشُّرَكَاءِ الْمُقْتَسِمِينَ مَوْلًى عَلَيْهِ بِجُنُونٍ أَوْ صِغَرٍ أجرة القسمة فَإِنْ كَانَ يَنْتَفِعُ بِقِسْمَةِ سَهْمِهِ أُلْزِمَ مِنْ أُجْرَةِ الْقِسْمَةِ بِقِسْطِهِ . وَإِنْ كَانَ يَسْتَضِرُّ بِهَا وَلَا يَنْتَفِعُ بِقِسْمَتِهَا وَلَمْ يُمْكِنِ الْمَنْعُ مِنْهَا لِانْتِفَاعِ بَاقِي الشُّرَكَاءِ بِهَا ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : فِي نَفْسِي مِنْ أَنْ أَحْمِلَ عَلَيْهِ شَيْئًا وَهُوَ مِمَّنْ لَا رِضَى لَهُ شَيْءٌ . فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا : هَلْ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى الْقِسْمَةِ أَوِ الْأُجْرَةِ ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : إِنَّمَا أَشَارَ بِهِ إِلَى أَصْلِ الْقِسْمَةِ فَخَرَّجُوا الْقِسْمَةَ لِاحْتِمَالِ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : يَمْنَعُ مِنْهَا . وَالثَّانِي : يُجِيبُ إِلَيْهَا . وَقَالَ آخَرُونَ : إِنَّمَا أَشَارَ بِهِ إِلَى أُجْرَةِ الْقِسْمَةِ ، فَأَمَّا الْقِسْمَةُ فَلَيْسَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنْهَا فِي حَقِّ الصَّغِيرِ ، وَهُوَ يُجْبِرُ عَلَيْهَا فِي حَقِّ الْكَبِيرِ : لِأَنَّ الصَّغِيرَ لَا يَمْنَعُ مِنَ الْحُقُوقِ ، وَجَعَلُوا احْتِمَالَ هَذَا الْكَلَامِ مَحْمُولًا عَلَى الْأُجْرَةِ وَخَرَجُوا فِي إِلْزَامِهِ أُجْرَةَ الْقِسْمَةِ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَلْزَمُهُ الْحَاكِمُ قِسْطَهُ مِنْهَا مَعَ عَدَمِ حَظِّهِ فِيهَا كَمَا يَلْزَمُهُ مَا لَا حَظَّ لَهُ فِيهِ مِنْ مَؤُونَةٍ وَكُلْفَةٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْحَاكِمَ يَقُولُ لِشُرَكَاءِ الصَّغِيرِ إِنْ أَرَدْتُمُ الْقِسْمَةَ الْتَزَمْتُمْ قِسْطَهُ مِنَ الْأُجْرَةِ ، وَلَمْ يُوجِبْ فِي مَالِهِ مَا لَا حَظَّ لَهُ فِيهِ .
أَنْوَاعُ الْأَمْوَالِ الْمُشْتَرَكَةِ
[ أَنْوَاعُ الْأَمْوَالِ الْمُشْتَرَكَةِ ] . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِذَا تَدَاعَوْا إِلَى الْقَسْمِ وَأَبَى شُرَكَاؤُهُمْ فَإِنْ كَانَ يَنْتَفِعُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِمَا يَصِيرُ لَهُ مَقْسُومًا أَجْبَرْتُهُمْ عَلَى الْقَسْمِ فَإِنْ لَمْ يَنْتَفِعِ الْبَاقُونَ بِمَا يَصِيرُ إِلَيْهِمْ فَأَقُولُ لِمَنْ كَرِهَ إِنْ شِئْتُمْ جَمَعْتُمْ حَقَّكُمْ فَكَانَتْ مُشَاعَةً بَيْنَكُمْ لِيَنْتَفِعُوا بِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الْأَمْوَالَ الْمُشْتَرَكَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا تَدْخُلُهُ قِسْمَةُ الْإِجْبَارِ ، وَهُوَ مِنَ الدُّورِ وَالْأَرْضِينَ مَا تَتَسَاوَى قِيمُ كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْهُ ، وَفِي مَعْنَاهُ مَا تَتَسَاوَى أَجْزَاؤُهُ مِنَ الْحُبُوبِ وَالْأَدْهَانِ ، فَهَذَا يُقَسَّمُ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ إِجْبَارًا إِذَا امْتَنَعَ بَعْضُهُمْ وَاخْتِيَارًا إِذَا رَضِيَ جَمِيعَهُمْ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا تَدْخُلُهُ قِسْمَةُ الِاخْتِيَارِ وَلَا تَدْخُلُهُ قِسْمَةُ الْإِجْبَارِ ، وَهُوَ مَا تَخْتَلِفُ قِيَمُ كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْهُ مِنَ الدُّورِ وَالْأَرْضِينَ وَكَالْحَمَّامِ وَالسَّفِينَةِ وَالسَّيْفِ وَالثَّوْبِ لِنُقْصَانِهِمَا بِالْقِسْمَةِ ، فَهَذَا يُقَسَّمُ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ اخْتِيَارًا إِذَا رَضِيَ جَمِيعُهُمْ ، وَلَا يُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ إِجْبَارًا إِذَا امْتَنَعَ بَعْضُهُمْ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا لَا تَدْخُلُهُ قِسْمَةُ الْإِجْبَارِ وَلَا تَدْخُلُهُ قِسْمَةُ الِاخْتِيَارِ ، وَهُوَ كُلُّ مَا يُتْلَفُ بِالْقِسْمَةِ ، كَالْجَوْهَرَةِ وَاللُّؤْلُؤَةِ وَالْعَبْدِ وَالدَّابَّةِ ، فَهَذَا يُمْنَعُ الشُّرَكَاءُ فِيهِ مِنْ قَسْمِهِ ، وَإِنْ رَضُوا بِهَا : لِأَنَّهُ إِتْلَافُ مِلْكٍ فِي غَيْرِ نَفْعٍ فَكَانَ سَفَهًا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْحَجْرَ .
فَصْلٌ : [ امْتِنَاعُ بَعْضِ الشُّرَكَاءِ مِنَ الْقِسْمَةِ فِي مَا تَدْخُلُهُ قِسْمَةُ الْإِجْبَارِ ] . فَأَمَّا مَا تَدْخُلُهُ قِسْمَةُ الْإِجْبَارِ فِي الدُّورِ وَالْأَرْضِينَ إِذَا دَعَا بَعْضُ الشُّرَكَاءِ إِلَى الْقِسْمَةِ وَامْتَنَعَ بَعْضُهُمْ مِنْهَا فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ لَا يَسْتَضِرَّ بِالْقِسْمَةِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ ، وَيَنْتَفِعُ بِمَا حَازَهُ مَقْسُومًا ، كَانْتِفَاعِهِ بِهِ
مُشْتَرِكًا ، فَيُجَابُ طَالِبُ الْقِسْمَةِ إِلَيْهَا ، وَيُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ عَلَيْهَا لِأَمْرَيْنِ القسمه : أَحَدُهُمَا : لِيَتَصَرَّفَ عَلَى اخْتِبَارِهِ . وَالثَّانِي : لِيَأْمَنَ اخْتِلَاطَ الْأَيْدِي وَسَوَاءَ الْمُشَارَكَةِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَسْتَضِرَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالْقِسْمَةِ ، وَكَثْرَةِ السِّهَامِ ، وَذَهَابِ مَنَافِعِهَا بِافْتِرَاقِ الْجَزَاءِ وَحُصُولِ مَنَافِعِهَا بِاجْتِمَاعِهَا ، فَتَصِيرُ كَقِسْمَةِ مَا لَا يَدْخُلُهُ الْإِجْبَارُ مِنَ الْبِئْرِ وَالْحَمَّامِ وَالرَّحَى وَالسَّيْفِ ، فَلَا تُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا جَبْرًا لِدُخُولِ الضَّرَرِ عَلَى جَمِيعِهِمْ . وَيَكُونُ الْقَوْلُ فِي الْقِسْمَةِ قَوْلُ الْمُمْتَنِعِ مِنْهَا وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ . وَقَالَ مَالِكٌ : الْقَوْلُ فِيهَا قَوْلُ طَالِبِ الْقِسْمَةِ ، وَيُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ عَلَيْهَا مَعَ دُخُولِ الضِّرَارِ عَلَى الطَّالِبِ وَالْمَطْلُوبِ ؛ لِيَنْفَرِدَ بِمِلْكِهِ وَيَدِهِ وَدَلِيلُنَا : مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ وَمَنْ ضَارَّ أَضَرَّ اللَّهُ وَمَنْ شَاقَّ شَقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ " وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ " نَهَى عَنْ قِيلٍ وَقَالَ وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةِ الْمَالِ " وَلِأَنَّ مَا عَمَّ الضَّرَرُ بِقَسْمِهِ سَقَطَ عَنْهُ الْإِجْبَارُ عَلَى الْقِسْمَةِ كَالْجَوْهَرَةِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَسْتَضِرَّ بِالْقِسْمَةِ بَعْضُ الشُّرَكَاءِ دُونَ بَعْضٍ . فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْإِجْبَارِ عَلَيْهَا عَلَى مَذَاهِبَ . فَقَالَ مَالِكٌ : يُجْبَرُ عَلَيْهَا مَنِ امْتَنَعَ مِنْهَا . وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ : لَا يُجْبَرُ . وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : يُبَاعُ وَيُقَسَّمُ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا . وَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ إِنْ كَانَ طَالِبُ الْقِسْمَةِ مُنْتَفِعًا أُجْبِرَ عَلَيْهَا الْمُمْتَنِعَ وَإِنِ اسْتَضَرَّ ؛ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْعِلَّتَيْنِ : إِحْدَاهَا : كَمَالُ تَصَرُّفِهِ عَلَى اخْتِيَارِهِ وَالثَّانِي : انْفِرَادُ يَدِهِ مِنْ سُوءِ الْمُشَارَكَةِ . فَأَمَّا إِنْ كَانَ طَالِبُ الْقِسْمَةِ هُوَ الْمُسْتَضِرُّ بِهَا ، وَالْمَطْلُوبُ هُوَ الْمُنْتَفِعُ بِهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي إِجَابَةِ الطَّالِبِ إِلَيْهَا ، وَإِجْبَارِ الْمَطْلُوبِ عَلَيْهَا القسمه ، عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُجْبَرُ عَلَى الْقِسْمَةِ لِانْتِفَاءِ الضَّرَرِ عَنِ الْمَطْلُوبِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا لِدُخُولِ الضَّرَرِ عَلَى طَالِبِهَا . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا يُعْتَبَرُ بِهِ دُخُولٌ عَلَى وَجْهَيْنِ الضرر فى القسمه :
أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهُ نُقْصَانُ الْمَنْفَعَةِ وَلَا اعْتِبَارَ بِنُقْصَانِ الْقِيمَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُعْتَبَرُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ نُقْصَانِ الْمَنْفَعَةِ ، أَوْ نُقْصَانِ الْقِيمَةِ . وَهُوَ أَشْبَهُ ؛ لِأَنَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَرَرًا .
فَصْلٌ : [ فِي كَيْفِيَّةِ التَّقْسِيمِ ] . فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يُقَسَّمَ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ جَبْرًا فَكَانَتِ الْأَرْضُ بَيْنَ سِتَّةٍ قَدْ تَسَاوَتْ سِهَامُهُمْ فِيهَا ، وَطَلَبَ الْقِسْمَةَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ ، وَامْتَنَعَ الْبَاقُونَ مِنْهَا ، قُسِّمَتْ أَسْدَاسًا وَأُفْرِدَ لِطَالِبِ الْقِسْمَةِ سُدُسُهَا ، وَكَانَ خَمْسَةُ أَسْدَاسِهَا مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْبَاقِينَ . فَإِنْ طَلَبَهَا اثْنَانِ لِيَحُوزَا سَهْمَيْهِمَا مُجْتَمِعَيْنِ قسمة الارض بين شركاء قُسِّمَتْ أَثْلَاثًا وَأُفْرِدَ لِطَالِبِي الْقِسْمَةِ ثُلُثُهَا مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا ، كَانَ الثُّلُثَانِ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْبَاقِينَ . وَإِنْ طَلَبَهَا ثَلَاثَةٌ لِيَحُوزُوا سِهَامَهُمْ مُجْتَمِعِينَ قسمة الارض بين شركاء قُسِّمَتْ نِصْفَيْنِ وَأُفْرِدَ أَحَدُ النِّصْفَيْنِ لِلثَّلَاثَةِ الطَّالِبِينَ لِلْقِسْمَةِ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ لِلثَّلَاثَةِ الْمُمْتَنِعِينَ مِنْهَا . ثُمَّ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ فِيمَا زَادَ وَنَقَصَ وَاجْتَمَعَ وَافْتَرَقَ .
كَيْفِيَّةُ الْقِسْمَةِ
[ كَيْفِيَّةُ الْقِسْمَةِ ] . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَيَنْبَغِي لِلْقَاسِمِ أَنْ يُحْصِيَ أَهْلَ الْقَسْمِ وَمَبْلَغَ حُقُوقِهِمْ ، فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَهُ سُدُسٌ وَثُلُثٌ وَنِصْفٌ قَسَّمَهُ عَلَى أَقَلِّ السُّهْمَانِ وَهُوَ السُّدُسُ فِيهَا ، فَيَجْعَلُ لِصَاحِبِ السُّدُسِ سَهْمًا وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ سَهْمَيْنِ وَلِصَاحِبِ النِّصْفِ ثَلَاثَةً ثُمَّ يُقَسِّمُ الدَّارَ عَلَى سِتَّةِ أَجْزَاءٍ ثَمَّ يَكْتُبُ أَسْمَاءَ أَهْلِ السُّهْمَانِ فِي رِقَاعٍ قَرَاطِيسَ صِغَارٍ ثُمَّ يُدْرِجُهَا فِي بُنْدُقِ طِينٍ يَدُورُ وَإِذَا اسْتَوَتْ أَلْقَاهَا فِي حِجْرِ مَنْ لَمْ يَحْضُرِ الْبَنْدَقَةَ وَلَا الْكِتَابَ ثُمَّ سَمَّى السُّهْمَانَ أَوَّلًا وَثَانِيًا وَثَالِثًا ، ثُمَّ قَالَ : أَخْرِجْ عَلَى الْأَوَّلِ بُنْدُقَةً وَاحِدَةً فَإِذَا أَخْرَجَهَا فَضَّهَا فَإِذَا خَرَجَ اسْمُ صَاحِبِهَا جَعَلَ لَهُ السَّهْمَ الْأَوَّلَ ، فَإِنْ كَانَ صَاحِبَ السُّدُسِ فَهُوَ لَهُ وَلَا شَيْءَ لَهُمْ غَيْرَهُ ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبَ الثُّلُثِ فَهُوَ لَهُ وَالسَّهْمُ الَّذِي يَلِيهِ ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبَ النِّصْفِ فَهُوَ لَهُ وَالسَّهْمَانِ اللَّذَانِ يَلِيَانِهِ ثُمَ قِيلَ لَهُ أَخْرِجُ بُنْدُقَةً عَلَى السَّهْمِ الَّذِي يَلِي مَا خَرَجَ فَإِذَا خَرَجَ فِيهَا اسْمُ رَجُلٍ فَهُوَ لَهُ كَمَا وَصَفْتُ حَتَّى تَنْفَدَ السُّهْمَانُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا الَّذِي وَصَفَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْقِسْمَةِ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : عَمَلُ الْقِسْمَةِ . وَالثَّانِي : صِفَةُ الْقُرْعَةِ .
عَمَلُ الْقِسْمَةِ . فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلِ : فِي عَمَلِهَا فَهُوَ أَنْ يَعْرِفَ الْقَاسِمُ قَدْرَ سِهَامِ الشُّرَكَاءِ . فَإِنْ تَسَاوَتْ قَسَّمَ الْأَرْضَ عَلَى عَدَدِهِمْ . وَإِنْ تَفَاضَلَتْ قَسَّمَهَا عَلَى أَقَلِّ السِّهَامِ لِاشْتِمَالِ الْأَكْثَرِ عَلَى الْأَقَلِّ . فَإِذَا قَسَّمَهَا عَلَى عَدَدِهِمْ لِتَسَاوِي سِهَامِهِمْ كَثَلَاثَةِ شُرَكَاءَ فِي أَرْضٍ مُتَسَاوِيَةِ الْأَجْزَاءِ هِيَ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ أَثْلَاثًا فَيُقَسِّمُهَا ثَلَاثَةَ سِهَامٍ مُعْتَدِلَةٍ بِالْمِسَاحَةِ . فَإِنْ كَانَتْ ثَلَاثِينَ جَرِيبًا جَعَلَ كُلَّ سَهْمٍ مِنْهَا عَشَرَةَ أَجْرِبَةٍ ثُمَّ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ فِيهَا . وَهُوَ فِي الْقُرْعَةِ بِالْخِيَارِ وَبَيْنَ أَنْ يَكْتُبَ الْأَسْمَاءَ وَيُخْرِجَ عَلَى السِّهَامِ وَبَيْنَ أَنْ يَكْتُبَ السِّهَامَ وَيُخْرِجَ عَلَى الْأَسْمَاءِ . فَإِنْ كَتَبَ الْأَسْمَاءَ وَأَخْرَجَ عَلَى السِّهَامِ كَتَبَ أَسْمَاءَ الشُّرَكَاءِ الثَّلَاثَةِ فِي رِقَاعٍ ثَلَاثٍ ، فِي أَحَدِهَا زَيْدٌ ، وَفِي الْأُخْرَى عَمْرٌو ، وَفِي الثَّالِثَةِ بَكْرٌ ، ثُمَّ قَالَ : اخْرُجْ عَلَى السَّهْمِ الْأَوَّلِ ، فَإِنْ خَرَجَ اسْمُ زَيْدٍ أَخَذَ السَّهْمَ الْأَوَّلَ ، ثُمَّ قَالَ اخْرُجْ عَلَى السَّهْمِ الثَّانِي ، فَإِنْ خَرَجَ اسْمُ عَمْرٍو أَخَذَ السَّهْمَ الثَّانِيَ وَصَارَ السَّهْمُ الثَّالِثُ لِبَكْرٍ . وَإِنْ كَتَبَ السِّهَامَ وَأَخْرَجَ عَلَى الْأَسْمَاءِ ، كَتَبَ فِي أَحَدِ الرِّقَاعِ السَّهْمَ الْأَوَّلَ ، وَفِي أُخْرَى السَّهْمَ الثَّانِيَ ، وَفِي أُخْرَى السَّهْمَ الثَّالِثَ ، ثُمَّ قَالَا اخْرُجْ لِزَيْدٍ ، فَإِنْ خَرَجَ لَهُ السَّهْمُ الْأَوَّلُ ، ثُمَّ قَالَ اخْرُجْ لِعَمْرٍو فَإِنْ خَرَجَ لَهُ السَّهْمُ الثَّالِثُ أَخَذَهُ ، وَصَارَ السَّهْمُ الثَّانِي لِبَكْرٍ . ثُمَّ عَلَى هَذَا الْمِثَالِ فِيمَا قَلَّ مِنَ الْعَدَدِ أَوْ كَثُرَ . فَأَمَّا إِنِ اخْتَلَفَتْ سِهَامُ الشُّرَكَاءِ ، كَثَلَاثَةِ شُرَكَاءَ فِي أَرْضٍ مُتَسَاوِيَةِ الْأَجْزَاءِ لِأَحَدِهِمْ سُدُسُهَا وَلِآخَرَ ثُلُثُهَا كيفية القسمه ، وَلِآخَرَ نِصْفُهَا ، فَهَذِهِ يُقَسِّمُهَا عَلَى أَقَلِّ السِّهَامِ ، وَهُوَ السُّدُسُ ، فَيَجْعَلُ كُلَّ سَهْمٍ مِنَ الْأَرْضِ الَّتِي مِسَاحَتُهَا ثَلَاثُونَ جَرِيبًا خَمْسَةَ أَجْرِبَةٍ هِيَ سُدُسُهَا . ثُمَّ يَقْرَعُ بَيْنَهُمْ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ . وَهُوَ أَنْ يَكْتُبَ الْأَسْمَاءَ وَيُخْرِجَ عَلَى السِّهَامِ فَيَقُولُ اخْرُجْ عَلَى السَّهْمِ الْأَوَّلِ . فَإِنْ خَرَجَ اسْمُ صَاحِبِ السُّدُسِ أَخَذَهُ وَحْدَهُ ، وَقَالَ اخْرُجْ عَلَى السَّهْمِ الثَّانِي فَإِنْ خَرَجَ اسْمُ صَاحِبِ الثُّلُثِ أَخَذَهُ وَالسَّهْمُ الَّذِي يَلِيهِ ، وَهُوَ الثَّالِثُ ، لِأَنَّ لَهُ سَهْمَيْنِ وَمِلْكُهُ يُجْمَعُ فِي الْقِسْمَةِ وَلَا يُفَرَّقُ ، وَبَقِيَتِ السِّهَامُ الثَّلَاثَةُ لِصَاحِبِ النِّصْفِ ، وَهُوَ الرَّابِعُ ، وَالْخَامِسُ ، وَالسَّادِسُ . وَلَوْ خَرَجَ عَلَى السَّهْمِ الْأَوَّلِ صَاحِبُ النِّصْفِ أَخَذَهُ ، وَاللَّذَيْنِ يَلِيَانِهِ وَهُمَا الثَّانِي وَالثَّالِثُ ، لِمَا يَلْزَمُ مِنْ جَمْعِ مِلْكِهِ فِي الْقِسْمَةِ ، ثُمَّ قَالَ اخْرُجْ عَلَى
السَّهْمِ الرَّابِعِ ، فَإِنْ خَرَجَ اسْمُ صَاحِبِ الثَّالِثِ أَخَذَهُ وَالسَّهْمَ الَّذِي يَلِيهِ ، وَهُوَ الْخَامِسُ ، وَبَقِيَ السَّهْمُ السَّادِسُ لِصَاحِبِ السُّدُسِ . ثُمَّ عَلَى هَذَا الْمِثَالِ فِيمَا قَلَّ مِنَ السِّهَامِ وَكَثُرَ .
فَصْلٌ : [ صِفَةُ الْقُرْعَةِ ] . فَصْلٌ : وَأَمَّا صِفَةُ الْقُرْعَةِ فى القسمه : فَهُوَ أَنْ تُؤْخَذَ رِقَاعٌ مُتَسَاوِيَةُ الْأَجْزَاءِ ، وَيُكْتَبَ فِيهَا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْأَسْمَاءِ ، إِنْ أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ عَلَى السِّهَامِ أَوْ مِنَ السِّهَامِ إِنْ أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ عَلَى الْأَسْمَاءِ ، ثُمَّ يَجْعَلُهَا فِي بَنَادِقَ مِنْ طِينٍ مُتَسَاوِيَةِ الْوَزْنِ وَلَيْسَ عَلَى مِثَالٍ وَاحِدٍ ، حَتَّى لَا تَتَمَيَّزَ وَاحِدَةٌ مِنْهَا عَلَى غَيْرِهَا بِأَثَرٍ وَتُجَفَّفُ وَيُسْتَدْعَى لَهَا مَنْ لَمْ يَحْضُرْ عَمَلَهَا ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِحَالِهَا ، وَلَوْ كَانَ صَغِيرًا أَوْ عَبْدًا لَا يَفْطَنُ لِحِيلَةٍ كَانَ أَوْلَى ، وَتُوضَعُ فِي حِجْرِهِ ، وَتُغَطَّى ثُمَّ يُؤْمَرُ بِإِخْرَاجِ مَا أَمَرَ بِإِخْرَاجِهِ مِنِ اسْمٍ أَوْ سَهْمٍ . فَهَذَا أَحْوَطُ مَا يَكُونُ مِنَ الْقُرْعَةِ ، وَأَبْعَدُهَا عَنِ التُّهْمَةِ . وَالْأَصْلُ فِي الْقُرْعَةِ : قَوْلُهُ تَعَالَى : وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [ آلِ عِمْرَانَ : ] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي يُونُسَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ [ الصَّافَّاتِ : ] : فَإِنْ لَمْ يَحْتَطْ فِي الْقُرْعَةِ بِمَا وَصَفْنَاهُ ، وَاقْتَصَرَ عَلَى أَنْ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ بِحَصًى أَوْ أَقْلَامٍ جَازَ . قَدْ حَكَى الْوَاقِدِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " قَسَّمَ غَنَائِمَ بَنِي قُرَيْظَةَ عَلَى خَمْسَةِ أَجْزَاءٍ وَكَتَبَ عَلَى إِحْدَاهَا " اللَّهُ " وَكَانَتِ السُّهْمَانُ يَوْمَئِذٍ نَوًى " . وَلَمَّا صَالَحَ بَنِي ابْنِ أَبِي الْحَقِيقِ بِخَيْبَرَ عَلَى الْكَتِيبَةِ وَالنَّطَاةِ جَزَّأَهُمَا خَمْسَةَ أَجْزَاءٍ ، فَكَانَتِ الْكَتِيبَةُ جُزْءًا فَجَعَلَ خَمْسَ بَعَرَاتٍ لِلسِّهَامِ الْخَمْسَةِ وَأَعْلَمَ أَحَدَهَا بِمَا جَعَلَهُ لِلَّهِ وَقَالَ اللَّهُمَّ اجْعَلْ سَهْمَكَ فِي الْكَتِيبَةِ فَخَرَجَ سَهْمُ اللَّهِ عَلَى الْكَتِيبَةِ . لَكِنْ مَا حَضَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْقُرْعَةِ يَكُونُ أَخَفَّ حَالًا : لِأَنَّهُ مِنَ الْحَيْفِ أَبْعَدَ وَلِلتُّهْمَةِ أَنْفَى . وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الِاحْتِيَاطُ فِيمَا تَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ التُّهْمَةُ ، كَذَلِكَ حُكْمُهَا بَعْدَهُ إِنْ كَانَتْ عِنْدَ حَاكِمٍ تَنْتَفِي عَنْهُ التُّهْمَةُ كَانَ حُكْمُهَا أَخَفَّ . وَإِنْ كَانَتْ بِحَيْثُ تَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ التُّهْمَةُ كَانَ حُكْمُهَا أَغْلَظَ .
فَصْلٌ : [ لُزُومُ الْقِسْمَةِ ] . فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْقَاسِمِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ نَدَبَهُ الْحَاكِمُ
لِلْقِسْمَةِ أَوْ قَدْ تَرَاضَى بِهِ الشُّرَكَاءُ فِيهَا . فَإِنْ نَدْبَهُ الْحَاكِمُ لَهَا تَمَّتِ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمْ بِالْقُرْعَةِ ، وَاسْتَقَرَّ مِلْكُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى مَا خَرَجَ لَهُ بِهَا ، وَلَا خِيَارَ لَهُ : لِأَنَّ قِسْمَتَهُ بِأَمْرِ الْحَاكِمِ حُكْمٌ مِنْهُ بِهَا ، فَنَفَّذَ وَلَمْ يَقِفْ عَلَى خِيَارِهِمْ . وَإِنْ تَرَاضَى بِهِ الشُّرَكَاءُ فِيهَا فَفِيمَا تَلْزَمُهُ الْقِسْمَةُ بِهِ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْخَصْمَيْنِ وَإِذَا تَرَاضَيَا بِحُكْمِ مَنْ لَا وِلَايَةَ لَهُ ، فَفِي نُفُوذِ حُكْمِهِ عَلَيْهَا قَوْلَانِ القاسم اذا رضيه الشركاء : فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ حُكْمَهُ لَازِمٌ لَهُمَا ، وَنَافِذٌ عَلَيْهِمَا كَالْحَاكِمِ ثَبَتَتِ الْقِسْمَةُ بِالْقُرْعَةِ كَمَا لَوْ أَمَرَ بِهَا الْحَاكِمُ . وَإِنْ قِيلَ : لَا يَلْزَمُهُمَا حُكْمُهُ إِلَّا بِالْتِزَامِهِمَا لَهُ بَعْدَ الْحُكْمِ لَمْ تَتِمَّ الْقِسْمَةُ بِالْقُرْعَةِ إِلَّا أَنْ يَتَرَاضَوْا بِهَا بَعْدَ الْقُرْعَةِ .
مَسْأَلَةٌ قِسْمَةُ مَا اخْتَلَفَتْ أَجْزَاؤُهُ مِنَ الْأَرْضِ وَقِسْمَةُ التَّعْدِيلِ وَالرَّدِّ
[ قِسْمَةُ مَا اخْتَلَفَتْ أَجْزَاؤُهُ مِنَ الْأَرْضِ وَقِسْمَةُ التَّعْدِيلِ وَالرَّدِّ ] . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِذَا كَانَ فِي الْقَسْمِ رَدٌّ لَمْ يَجُزْ حَتَّى يَعْلَمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَوْضِعَ سَهْمِهِ وَمَا يَلْزَمُهُ وَيَسْقُطُ عَنْهُ وَإِذَا عَلِمَهُ كَمَا يَعْلَمُ الْبُيُوعَ الَّتِي تَجُوزُ أَجْزَأَتْهُ لَا بِالْقُرْعَةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الْأَرْضَ الْمُشْتَرَكَةَ وقسمة التعديل ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ مُتَسَاوِيَةَ الْأَجْزَاءِ ، وَهِيَ الَّتِي تَدْخُلُهَا قِسْمَةُ الْإِجْبَارِ ، وَقَدْ مَضَى حُكْمُهَا ، وَذَكَرْنَا كَيْفَ تُقَسَّمُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ مُخْتَلِفَةَ الْأَجْزَاءِ ، فَيَكُونَ بَعْضُهَا عَامِرًا ، وَبَعْضُهَا خَرَابًا ، أَوْ بَعْضُهَا قَوِيًّا ، وَبَعْضُهَا ضَعِيفًا ، أَوْ يَكُونَ فِي بَعْضِهَا شَجَرٌ وَبِنَاءٌ ، وَلَيْسَ فِي الْبَاقِي شَجَرٌ وَلَا بِنَاءٌ أَوْ يَكُونَ فِي بَعْضِهَا شَجَرٌ بِلَا بِنَاءٍ وَفِي الْبَاقِي بِنَاءٌ بِلَا شَجَرٍ أَوْ يَكُونَ عَلَى بَعْضِهَا مَسِيلُ مَاءٍ ، أَوْ طَرِيقٌ " سَابِلٍ " وَلَيْسَ عَلَى الْبَاقِي طَرِيقٌ وَلَا مَسِيلٌ ، إِلَى مَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى مِنِ اخْتِلَافِ أَجْزَائِهَا بِهِ . فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُمْكِنَ تَسَاوِي الشَّرِيكَيْنِ بِالْقِسْمَةِ فِي جَيِّدِهِ وَرَدِيئِهِ الارض المشتركه ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الْجَيِّدُ فِي مُقَدَّمِهَا وَالرَّدِيءُ فِي مُؤَخَّرِهَا ، وَإِذَا قُسِّمَتْ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ صَارَ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ الْجَيِّدِ وَالرَّدِيءِ مِثْلَ مَا صَارَ لِصَاحِبِهِ مِنَ الْجَيِّدِ وَالرَّدِيءِ ، فَهَذِهِ تَدْخُلُهَا قِسْمَةُ الْإِجْبَارِ ، وَتَصِيرُ فِي الْقِسْمَةِ كَالْمُتَسَاوِيَةِ الْأَجْزَاءِ .
وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يُمْكِنَ تَسَاوِيهِمَا فِي الْجَيِّدِ وَالرَّدِيءِ الارض المشتركه ؛ لِأَنَّ الْعِمَارَةَ فِي أَحَدِ النِّصْفَيْنِ دُونَ الْآخَرِ ، أَوْ لِأَنَّ الشَّجَرَ وَالْبِنَاءَ فِي أَحَدِ النِّصْفَيْنِ دُونَ الْآخَرِ ، فَقِسْمَةُ مِثْلِ هَذَا قَدْ تَكُونُ عَلَى أَحَدِ أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تُقَسَّمَ قِسْمَةَ تَعْدِيلٍ بِالْقِيمَةِ عَلَى زِيَادَةِ الذَّرْعِ : مِثَالُهُ : أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ ثَلَاثِينَ جَرِيبًا بَيْنَ شَرِيكَيْنِ نِصْفَيْنِ وَتَكُونُ عَشَرَةُ أَجْرِبَةٍ مِنْ جَيِّدِهَا بِقَيِّمَةِ عِشْرِينَ جَرِيبًا مِنْ رَدِيئِهَا ، فَيُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا عَلَى فَضْلِ الذَّرْعِ فَيُجْعَلُ أَحَدُ السَّهْمَيْنِ عَشَرَةَ أَجْرِبَةٍ ، لِفَضْلِ جَوْدَتِهِ ، وَالسَّهْمُ الْآخَرُ عِشْرِينَ جَرِيبًا ، لِنَقْصِ رَدَاءَتِهِ . فَفِي دُخُولِ الْإِجْبَارِ فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ قَوْلَانِ قسمة التعديل : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا إِجْبَارَ فِيهَا لِتَعَذُّرِ التَّسَاوِي فِي الذَّرْعِ وَتَكُونُ مَوْقُوفَةً عَلَى التَّرَاضِي . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَاخْتَارَهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِنِيُّ : أَنَّهُ تَدَخُلُهَا قِسْمَةُ الْإِجْبَارِ لِوُجُودِ التَّسَاوِي فِي التَّعْدِيلِ . فَعَلَى هَذَا فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ الْقَاسِمُ مِنْ أُجْرَتِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا عَلَى الشَّرِيكَيْنِ نِصْفَيْنِ ، لِتَسَاوِيهِمَا فِي أَصْلِ الْمِلْكِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ عَلَى صَاحِبِ الْعَشَرَةِ الْأَجْرِبَةِ ثُلُثَهَا ، وَعَلَى صَاحِبِ الْعِشْرِينَ ثُلُثَيْهَا لِتَفَاضُلِهِمَا فِي الْمَأْخُوذِ بِالْقِسْمَةِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تُقَسَّمَ قِسْمَةَ رَدٍّ مَعَ التَّسَاوِي فِي الذَّرْعِ ، مِثَالُهُ : أَنْ يَكُونَ الشَّجَرُ وَالْبِنَاءُ فِي جَانِبٍ مِنَ الْأَرْضِ ، فَيَقْسِمُ الْأَرْضَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ بِالسَّوِيَّةِ ، وَيَجْعَلُ الشَّجَرَ وَالْبِنَاءَ قِيمَةً ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ ، وَجَبَ عَلَى مَنْ صَارَ لَهُ جَانِبُ الشَّجَرِ وَالْبِنَاءِ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ يَدْفَعُهَا إِلَى صَاحِبِهِ . فَهَذِهِ الْقِسْمَةُ ، قِسْمَةُ مُرَاضَاةٍ لَا يَدْخُلُهَا الْإِجْبَارُ : لِأَنَّ دَخْلَ الرَّدِّ بِالْعِوَضِ يَجْعَلُهَا بَيْعًا مَحْضًا ، وَلَيْسَ فِي الْبَيْعِ إِجْبَارٌ . وَلَهُمَا فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ قسمة التراضي : أَحَدُهَا : أَنْ يَتَرَاضَيَا بِهَذِهِ الْقِسْمَةِ وَيَتَّفِقَا عَلَى مَنْ يَأْخُذُ الْأَعْلَى وَيَرُدُّ ، وَمَنْ يَأْخُذُ الْأَدْنَى وَيَسْتَرِدُّ ، فَقَدْ تَمَّتِ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمَا بِالْمُرَاضَاةِ بَعْدَ تَلَفُّظِهِمَا بِالتَّرَاضِي : لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِاللَّفْظِ وَيَكُونُ تَلَفُّظُهُمَا بِالرِّضَى جَارِيًّا مَجْرَى الْبَدَلِ وَالْقَبُولِ ، وَلَهُمَا خِيَارُ الْمَجْلِسِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا وَإِنْ شَرَطَا فِي حَالِ الرِّضَا خِيَارَ ثَلَاثٍ كَانَ لَهُمَا . وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ كَانَ الرَّدُّ فِيهَا قَلِيلًا صَحَّتْ ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا بَطَلَتْ .
وَهِيَ عِنْدَنَا مَعَ قَلِيلِ الرَّدِّ وَكَثِيرِهِ جَائِزَةٌ : لِأَنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ بِالتَّرَاضِي وَجَارِيَةٌ مَجْرَى الْبَيْعِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَتَنَازَعَا فِي طَلَبِ الْأَعْلَى وَيَتَزَايَدَانِ أَوْ يَتَنَازَعَا فِي طَلَبِ الْأَدْنَى وَيَتَنَاقَصَانِ ، ثُمَّ يَسْتَقِرُّ الْأَمْرُ بَيْنَهُمَا بَعْدَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ عَلَى مَنْ يَأْخُذُ الْأَعْلَى وَيَرُدُّ ، وَمَنْ يَأْخُذُ الْأَدْنَى وَيَسْتَرِدُّ ، فَتَتِمُّ هَذِهِ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمَا بِالْمُرَاضَاةِ ، وَيَبْطُلُ بِهَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَقْوِيمِ الْقَاسِمِ ، بِمَا اسْتَقَرَّ بَيْنَهُمَا مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا أَوِ النُّقْصَانِ فِيهَا ثُمَّ الْخِيَارُ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَتَنَازَعَا فِي طَلَبِ الْأَعْلَى ، فَيَطْلُبُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ ، أَوْ يَتَنَازَعَا فِي أَخْذِ الْأَدْنَى ، فَيَطْلُبُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ غَيْرِ نُقْصَانٍ ، وَلَا يَتَرَاضَيَا فِيهِ بِالْقُرْعَةِ ، فَلَا إِجْبَارَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَيُقْطَعُ النِّزَاعُ بَيْنَهُمَا وَتَصِيرُ الْأَرْضُ بَاقِيَةً بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرِكَةِ كَالشَّيْءِ الَّذِي لَا يَدْخُلُهُ الْقَسْمُ . وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَتَنَازَعَا وَيَتَرَاضَيَا بِالْقُرْعَةِ . فَفِي جَوَازِ الْإِقْرَاعِ بَيْنَهُمَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ : لِأَنَّهُ بَيْعٌ وَلَيْسَ فِي الْبَيْعِ إِقْرَاعٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ الْإِقْرَاعُ بَيْنَهُمَا تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْقِسْمَةِ وَاعْتِبَارًا بِالْمُرَاضَاةِ . فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ الْقَاسِمُ مِنْ قِبَلِ الْحَاكِمِ ، فَلَا خِيَارَ لَهُمَا بَعْدَ الْقُرْعَةِ ، وَإِنْ كَانَ الْقَاسِمُ مِنْ قِبَلِهِمَا ثَبَتَ لَهُمَا بَعْدَ الْقُرْعَةِ خِيَارٌ . وَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ كَخِيَارِ الْعَيْبِ مُعْتَبَرٌ بِالْفَوْرِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ خِيَارُ مَجْلِسٍ يُعْتَبَرُ بِالِافْتِرَاقِ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : مِنْ ضُرُوبِ الْقِسْمَةِ أَنْ تُقَسَّمَ الْأَرْضُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ بِالسَّوِيَّةِ ، وَيَكُونُ مَا فِيهَا مِنَ الشَّجَرِ وَالْبِنَاءِ عَلَى الشَّرِكَةِ . فَإِنْ تَنَازَعَا فِي هَذَا ، وَلَمْ يَتَّفِقَا عَلَيْهِ ، لَمْ يَقَعْ فِيهِ إِجْبَارٌ وَإِنْ تَرَاضَيَا بِهِ وَاتَّفَقَا عَلَيْهِ ، دَخَلَ فِي الْأَرْضِ قِسْمَةُ الْإِجْبَارِ مَا كَانَا مُقِيمَيْنِ عَلَى هَذَا الِاتِّفَاقِ ، وَقُسِّمَتْ بَيْنَهُمَا جَبْرًا بِالْقُرْعَةِ . وَإِنْ رَجَعَ أَحَدُهُمَا عَنِ الِاتِّفَاقِ زَالَتْ قِسْمَةُ الْإِجْبَارِ وَكَانَتْ مَوْقُوفَةً عَلَى التَّرَاضِي . الضَّرْبُ الرَّابِعُ : أَنْ يُقَسَّمَ بَيَاضُ الْأَرْضِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ وَيَكُونُ مَا فِيهِ الشَّجَرُ وَالْبِنَاءُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرِكَةِ . فَفِي حُكْمِ هَذِهِ الْأَرْضِ إِذَا تَمَيَّزَ بِنَاؤُهَا وَشَجَرُهَا عَنْ بَيَاضِهَا وَجْهَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ أَرْضٍ وَاحِدَةٍ لِاتِّصَالِهَا ، فَعَلَى هَذَا لَا تَدْخُلُهَا قِسْمَةُ الْإِجْبَارِ فِي بَيَاضِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُهَا فِي شَجَرِهَا وَنَبَاتِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ حُكْمَ شَجَرِهَا وَبِنَائِهَا مُتَمَيِّزٌ عَنْ حُكْمِ بَيَاضِهَا ، فَصَارَتَا بِاخْتِلَافِ الصِّفَتَيْنِ كَالْأَرْضَيْنِ الْمُفْتَرِقَتَيْنِ ، فَتَدْخُلُهَا قِسْمَةُ الْإِجْبَارِ فِي الْبَيَاضِ ، كَمَا لَوِ انْفَرَدَ وَلَا تَدْخُلُهَا قِسْمَةُ الْإِجْبَارِ فِي الشَّجَرَةِ وَالْبِنَاءِ كَمَا لَوِ انْفَرَدَ .
فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَتِ الْأَرْضُ مِمَّا تَصِحُّ فِيهَا قِسْمَةُ التَّعْدِيلُ وَقِسْمَةُ الرَّدِّ ، فَدَعَا أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ إِلَى قِسْمَةِ التَّعْدِيلِ وَدَعَا الْآخَرُ إِلَى قِسْمَةِ الرَّدِّ في قسمة التعديل والرد ، فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ قِسْمَةَ التَّعْدِيلِ يَدْخُلُهَا الْإِجْبَارُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ دَعَا إِلَيْهَا ، وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّهُ لَا يَدْخُلُهَا الْإِجْبَارُ لَمْ يَتَرَجَّحْ قَوْلٌ وَاحِدٌ مِنْهُمَا وَوَقَفَتْ عَلَى مُرَاضَاتِهِمَا بِإِحْدَاهُمَا مِنْ قِسْمَةِ التَّعْدِيلِ أَوْ قِسْمَةِ الرَّدِّ . وَهَكَذَا قِسْمَةُ الدَّارِ الْمُشْتَرَكَةِ تَكُونُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الضُّرُوبِ الْأَرْبَعَةِ . فَإِذَا قُسِّمَتْ عَلَى إِجْبَارٍ أَوْ تَرَاضٍ وَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ السَّهْمَيْنِ طَرِيقٌ مُفْرَدٌ يَخْتَصُّ بِهِ انْقَسَمَتِ الْقَيِّمَةُ عَلَيْهِ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا طَرِيقٌ إِلَّا أَنْ يُحَازَ مِنَ الْمِلْكِ مَا يَكُونُ طَرِيقًا لَهُمَا وَجَبَ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْمِلْكِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ مَا يَكُونُ طَرِيقًا لَهُمَا مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا ثُمَّ يُقَسَّمُ بَعْدَهُ مَا عَدَاهُ . وَقَدْ رَوَى قَتَادَةُ ، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ كَعْبٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : " قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا تَنَازَعَ النَّاسُ فِي طُرُقِهِمْ جُعِلَتْ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ " . وَهَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى عُرْفِ الْمَدِينَةِ فَإِنَّ الْبِلَادَ تَخْتَلِفُ طُرُقُهَا بِحَسَبِ اخْتِلَافِهَا فِيمَا يَدْخُلُ إِلَيْهَا وَيَخْرُجُ مِنْهَا فَقَدْ يَكْفِي فِي بَعْضِ الْبِلَادِ مَا هُوَ أَقَلُّ مِنْ هَذَا ، وَقَدْ لَا يَكْفِي فِي بَعْضِهَا إِلَّا مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا . وَهَذَا فِي الطُّرُقِ الْعَامَّةِ . فَأَمَّا فِي هَذَا الِاسْتِطْرَاقِ الْخَاصِّ بَيْنَ هَذَيْنِ الشَّرِيكَيْنِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ إِذَا تَنَازَعَا فِي قَدْرِهِ . فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَكُونُ سَعَتُهُ بِقَدْرِ مَا تَدْخُلُهُ الْحُمُولَةُ ، وَلَا يَضِيقُ بِهَا . وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَكُونُ مُعْتَبَرًا بِمَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَيْهِ فِي الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ ، وَمَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِحَمْلِ مِثْلِهِ إِلَيْهَا ، وَلَا يُعْتَبَرُ بِسَعَةِ الْبَابِ . لِأَنَّهُمَا قَدْ يَخْتَلِفَانِ فِي سَعَةِ الْبَابِ ، كَمَا اخْتَلَفَا فِي سَعَةِ الطَّرِيقِ . وَلِأَنَّ طَرِيقَ الْبَابِ فِي الْعُرْفِ أَوْسَعُ مِنَ الْبَابِ .
مَسْأَلَةٌ قِسْمَةُ الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ
قِسْمَةُ الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ لِأَحَدِهِمَا سُفْلًا وَلِلْآخَرِ عُلُوًّا إِلَّا أَنْ يَكُونَ سُفْلُهُ وَعُلُوُّهُ لِوَاحِدٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا كَانَتْ دَارٌ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ وَطَلَبَ أَحَدُهُمَا أَنْ يُقَسَّمَ بَيْنَهُمَا ، عَلَى أَنْ يَجْعَلَ السُّفْلَ لِأَحَدِهِمَا وَالْعُلُوَّ لِلْآخَرِ قسمة العلو والسفل لَمْ يَقَعْ فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ إِجْبَارٌ : لِأَنَّهُمَا شَرِيكَانِ فِي السُّفْلِ وَالْعُلُوِّ ، وَمَنْ مَلَكَ السُّفْلَ مَلَكَ مَا تَحْتَهُ مِنَ الْأَرْضِ وَمَا فَوْقَهُ مِنَ الْهَوَاءِ ، بِدَلِيلِ أَنَّ لَهُ أَنْ يَحْفِرَ فِي الْأَرْضِ مَا شَاءَ وَيَبْنِيَ فِي الْهَوَاءِ مَا شَاءَ ، وَهَذِهِ الْقِسْمَةُ تَمْنَعُ صَاحِبَ السُّفْلِ مِنْ حَقِّهِ فِي الْهَوَاءِ ، وَتَمْنَعُ صَاحِبَ الْعُلُوِّ مِنْ حَقِّهِ فِي الْأَرْضِ ، فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ فِي هَذَا قِسْمَةُ إِجْبَارٍ . فَإِنْ تَرَاضَى الشَّرِيكَانِ بِهَذِهِ الْقِسْمَةِ ، جَازَتْ بِالتَّرَاضِي . وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ وَكَانَتْ هَذِهِ الْقِسْمَةُ بَيْعًا . فَلَوْ دَعَا أَحَدُهُمَا إِلَى قِسْمَةِ السُّفْلِ عَلَى انْفِرَادِهِ وَقِسْمَةِ الْعُلُوِّ عَلَى انْفِرَادِهِ قسمة العلو والسفل لَمْ يَقَعْ فِيهِ إِجْبَارٌ ، وَقُسِّمَ الْعُلُوُّ مَعَ السُّفْلِ : لِأَنَّهُ تَبَعٌ لَهُ ، وَقَدْ يَجُوزُ إِذَا أَفْرَدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْقِسْمَةِ أَنْ يَحْصُلَ عُلُوُّ السُّفْلِ الَّذِي لِأَحَدِهِمَا لِغَيْرِهِ وَسُفْلُ الْعُلُوِّ الَّذِي لِأَحَدِهِمَا لِغَيْرِهِ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ إِفْرَادُ قِسْمَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَبْرًا إِلَّا أَنْ يَتَرَاضَيَا عَلَيْهِ فَيَجُوزُ بِتَرَاضِيهِمَا .
قِسْمَةُ الدُّورِ فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ دَارَانِ مَحُوزَتَانِ فَطَلَبَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْقِسْمَةَ عَلَى أَنْ تَكُونَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الدَّارَيْنِ لِأَحَدِهِمَا بِالْقُرْعَةِ لَمْ يَقَعْ فِيهِ إِجْبَارٌ ؛ لِأَنَّ كُلَّ دَارٍ مِنْهُمَا مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا ، فَوَجَبَ أَنْ يُقَسَّمَ كُلُّ وَاحِدَةٍ بَيْنَهُمَا . فَإِنْ تَرَاضَيَا بِهَذَا لَمْ تَكُنْ قِسْمَةً وَكَانَتْ بَيْعًا مَحْضًا يَبِيعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقَّهُ مِنْ إِحْدَى الدَّارَيْنِ بِحَقِّ شَرِيكِهِ مِنَ الدَّارِ الْأُخْرَى . فَيُكْتَبُ فِيهِ كِتَابُ ابْتِيَاعٍ وَلَا يُكْتَبُ فِيهِ كِتَابُ قِسْمَةٍ ، وَيَكُونُ بَيْعَ مُنَاقَلَةٍ .
قِسْمَةُ الْأَرْضِ الْمَزْرُوعَةِ فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ أَرْضٌ مَزْرُوعَةٌ فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا الْقِسْمَةَ قسمة الأرض المزروعة ، فَلَهُ ثَلَاثُ أَحْوَالٍ : إِحْدَاهَا : أَنْ يَطْلُبَ قِسْمَةَ الْأَرْضِ لِيَكُونَ فِيهَا الزَّرْعُ بَاقِيًا عَلَى الشَّرِكَةِ ، فَيَصِحُّ الْإِجْبَارُ فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ عَلَى الْأَرْضِ وَحْدَهَا وَلَا يَمْنَعُ مِنْهَا مَا فِي الْأَرْضِ مِنَ الزَّرْعِ ،
بِخِلَافِ الْبِنَاءِ وَالشَّجَرِ : لِأَنَّ الزَّرْعَ مُسْتَوْدَعٌ فِيهَا إِلَى مُدَّةِ تَكَامُلِهِ ، وَالْبِنَاءَ وَالشَّجَرَ مُسْتَدَامٌ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَطْلُبَ قِسْمَةَ الزَّرْعِ وَحْدَهُ فَلَا إِجْبَارَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الزَّرْعَ لَا يُمْكِنُ تَعْدِيلُهُ بَيْنَهُمَا ، سَوَاءٌ كَانَ ظَاهِرًا أَوْ بَاطِنًا . فَإِنْ تَرَاضَيَا وَكَانَ الزَّرْعُ مِمَّا لَا يَدْخُلُهُ الرِّبَا ؛ لِأَنَّهُ بَقْلٌ أَوْ قُطْنٌ أَوْ كَتَّانٌ ، جَازَ اقْتِسَامُهُمَا بِهِ عَنْ مُرَاضَاتِهِمَا . وَإِنْ كَانَ مِمَّا فِيهِ الرِّبَا كَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ جَازَ إِنْ كَانَ فَيْصَلًا وَلَمْ يَجُزْ إِنْ كَانَ بَذْرَا أَوْ سُنْبُلًا مُشْتَدًّا لِدُخُولِ الرِّبَا فِيهِ لِجَوَازِ التَّفَاضُلِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَطْلُبَ قِسْمَةَ الْأَرْضِ بِمَا فِيهَا مِنَ الزَّرْعِ ، فَيُنْظَرُ : فَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ فَصِيلًا صَحَّ فِيهَا قِسْمَةُ الِاخْتِيَارِ عَلَى انْفِرَادِهِ ، وَتَدْخُلُهُ قِسْمَةُ الْإِجْبَارِ ، وَكَانَ الزَّرْعُ تَبَعًا لِلْأَرْضِ ، كَالْبِنَاءِ وَالشَّجَرِ لَا تَدْخُلُهُ قِسْمَةُ الْإِجْبَارِ عَلَى انْفِرَادِهِ ، وَتَدْخُلُهُ قِسْمَةُ الْإِجْبَارِ إِنْ كَانَ مَعَ الْأَرْضِ تَبَعًا . وَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ بَذْرًا أَوْ حَبًّا مُشْتَدًّا يَدْخُلُهُ الرِّبَا ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْقِسْمَةَ بَيْعٌ ، لَمْ يَدْخُلْهُ الْإِجْبَارُ وَلَا قِسْمَةُ التَّرَاضِي خَوْفَ الرِّبَا ، وَإِنْ قِيلَ الْقِسْمَةُ إِفْرَازُ حَقٍّ وَتَمْيِيزُ نَصِيبٍ صَحَّ فِيهِ قِسْمَةُ الْإِجْبَارِ وَقِسْمَةُ التَّرَاضِي : لِأَنَّ الزَّرْعَ تَبَعٌ لِلْأَرْضِ .
إِذَا ادَّعَى أَحَدُ الْمُقَسِّمِينَ غَلَطًا فِي الْقِسْمَةِ
[ إِذَا ادَّعَى أَحَدُ الْمُقَسِّمِينَ غَلَطًا فِي الْقِسْمَةِ ] . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِذَا ادَعَى بَعْضُهُمْ غَلَطًا كُلِّفَ الْبَيِّنَةَ فَإِنْ جَاءَ بِهَا رَدَّ الْقَسْمَ عَنْهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا اقْتَسَمَ الشُّرَكَاءُ دَارًا أَوْ أَرْضًا وَحَازَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَهْمَهُ بِالْقِسْمَةِ ثُمَّ ادَّعَى أَحَدُهُمْ غَلَطًا جَرَى عَلَيْهِ فِي الْقِسْمَةِ ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ قَدْرَ الْغَلَطِ بِالذَّرْعِ إِنْ كَانَتْ قِسْمَةُ إِجْبَارٍ أَوْ تَعْدِيلٍ أَوْ بِالْوَزْنِ إِنْ كَانَتْ قِسْمَةَ رَدٍّ لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى الْمَجْهُولَةَ مَرْدُودَةٌ . فَإِنْ ذَكَرَ قَدْرَ الْغَلَطِ ، سُمِعَتْ دَعْوَاهُ ، وَأُحْضِرَ شُرَكَاؤُهُ . فَإِنْ صَدَّقُوهُ عَلَى الْغَلَطِ ، نَقَضَ الْقِسْمَةَ وَاسْتَأْنَفَهَا عَلَى الصِّحَّةِ وَإِنْ أَكْذَبُوهُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمْ : لِأَنَّهُ عَلَى ظَاهِرِ الصِّحَّةِ . وَلَهُ أَحْلَافُهُمْ ، لِجَوَازِ مَا ادَّعَاهُ مِنَ الْغَلَطِ . فَإِنْ حَلَفُوا جَمِيعًا أُمْضِيَتِ الْقِسْمَةُ ، وَإِنْ نَكَلُوا جَمِيعًا رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَيْهِ ، وَنُقِضَتِ الْقِسْمَةُ إِنْ حَلَفَ .
وَإِنْ حَلَفَ بَعْضُهُمْ وَنَكَلَ بَعْضُهُمْ ، رُدَّتْ عَلَيْهِ يَمِينُ النَّاكِلِ ، وَبَطَلَتِ الْقِسْمَةُ فِي حَقِّهِ إِذَا حَلَفَ . وَأُمْضِيَتْ فِي حَقِّ مَنْ حَلَفَ . فَإِنْ أَرَادَ مُدَّعِي الْغَلَطِ عِنْدَ تَكْذِيبِهِ أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ بِالْغَلَطِ ، نُظِرَ : فَإِنْ كَانَتْ قِسْمَةُ مُرَاضَاةٍ اتَّفَقَ عَلَيْهَا الشُّرَكَاءُ ، لَمْ تُسْمَعْ بَيِّنَتُهُ بِالْغَلَطِ : لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ رَضِيَ بِأَقَلِّ مِنْ حَقِّهِ . وَإِنْ كَانَتْ قِسْمَةً تَفَرَّدَ الْقَاسِمُ بِهَا مِنْ إِجْبَارٍ أَوْ مُرَاضَاةٍ بِاقْتِرَاعٍ سُمِعَتْ بَيِّنَتُهُ بِالْغَلَطِ ، وَحُكِمَ بِإِبْطَالِ الْقِسْمَةِ وَاسْتُؤْنِفَتْ عَلَى الصِّحَّةِ .
تَنَازُعُ الشَّرِيكَيْنِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ بِلَا بَيِّنَةٍ
[ تَنَازُعُ الشَّرِيكَيْنِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ بِلَا بَيِّنَةٍ ] . فَصْلٌ : وَإِذَا تَنَازَعَ الشَّرِيكَانِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ فِي بَيْتٍ مِنْ دَارٍ اقْتَسَمَاهَا ، فَادَّعَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي سَهْمِهِ ، وَعَدِمَا الْبَيِّنَةَ تَحَالَفَا عَلَيْهِ ، وَنُقِضَتِ الْقِسْمَةُ بَعْدَ أَيْمَانِهِمَا . وَقَالَ مَالِكٌ : يَكُونُ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ صَاحِبِ الْيَدِ مَعَ يَمِينِهِ . وَبَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ فِي اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ أَنَّ الْقَوْلَ فِيهِ قَوْلُ صَاحِبِ الْيَدِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ . وَلَوْ وَجَدَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ عَيْبًا فِي سَهْمِهِ ، كَانَ لَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْقِسْمَةِ بِهِ ، كَمَا يَكُونُ لَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
اسْتِحْقَاقُ الْمَقْسُومِ
[ اسْتِحْقَاقُ الْمَقْسُومِ ] . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِذَا اسْتَحَقَّ بَعْضَ الْمَقْسُومِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهُمَا : فِي أَرْضٍ أَوْ دَارٍ اقْتَسَمَهَا شَرِيكَانِ فِيهَا ، ثُمَّ اسْتَحَقَّ بَعْضَهَا بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ ، فَلِلْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا فِي الْمَقْسُومِ ، فَإِنْ كَانَ وَاقِعًا فِي أَحَدِ السَّهْمَيْنِ ، بَطَلَتْ بِهِ الْقِسْمَةُ ؛ لِأَنَّ لِمَنِ اسْتَحَقَّ ذَلِكَ فِي سَهْمِهِ أَنْ يَرْجِعَ فِي سَهْمِ شَرِيكِهِ بِحِصَّتِهِ مِنْ مِثْلِهِ ، فَلَمْ تُفِدِ الْقِسْمَةُ مَا قُصِدَ بِهَا مِنَ الْإِحَازَةِ ، فَلِذَلِكَ بَطَلَتْ . وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ وَاقِعًا فِي السَّهْمَيْنِ مَعًا ، نُظِرَ ؛ فَإِنْ تَفَاضَلَ الْمُسْتَحَقُّ فِي السَّهْمَيْنِ بَطَلَتِ الْقِسْمَةُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنِ اسْتِحْقَاقِ الرَّاجِعِ . وَإِنْ تَسَاوَى الْمُسْتَحَقُّ فِي السَّهْمَيْنِ مَعًا لَمْ تَبْطُلْ بِهِ الْقِسْمَةُ ، وَأُمْضِيَتْ عَلَى حَالِهَا : لِأَنَّهُ لَا تَرَاجُعَ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ فِيهِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَحَقُّ مُشَاعًا فِي الْجَمِيعِ كَاسْتِحْقَاقِ ثُلُثِهَا مُشَاعًا ، فَالْقِسْمَةُ بَاطِلَةٌ فِي الثُّلُثِ الْمُسْتَحَقِّ .
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي بُطْلَانِ الْقِسْمَةِ فِيمَا عَدَاهُ : فَخَرَّجَهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ ، مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فِي الْبَيْعِ . وَذَهَبَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ ، وَجُمْهُورُ أَصْحَابِنَا ، إِلَى بُطْلَانِ الْقِسْمَةِ فِي الْجَمِيعِ قُولًا وَاحِدًا ، سَوَاءٌ قِيلَ : إِنَّ الْقِسْمَةَ بَيْعٌ أَوْ إِفْرَازُ حَقٍّ . لِأَنَّ الْقَدْرَ الْمُسْتَحَقَّ لِشَرِيكٍ ثَالِثٍ لَمْ يُقَاسِمْهُمَا ، فَصَارَ كَأَرْضٍ بَيْنَ ثَلَاثَةٍ غَابَ أَحَدُهُمْ ، فَاقْتَسَمَهَا الْحَاضِرَانِ عَلَى أَنْ تَكُونَ حِصَّةُ الْغَائِبِ مُشَاعَةً فِي سَهْمِ كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَتِ الْقِسْمَةُ بَاطِلَةً فِي الْجَمِيعِ ، كَذَلِكَ فِي السَّهْمِ الْمُسْتَحَقِّ . وَإِنَّمَا بَطَلَتْ فِي الْجَمِيعِ : لِأَنَّ السَّهْمَ الْمُسْتَحَقَّ وَسَهْمَ الْغَائِبِ كَانَ مُشَاعًا فِي مِلْكٍ وَاحِدٍ يَقْدِرُ عَلَى إِحَازَتِهِ مُجْتَمِعًا بِالْقِسْمَةِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ فِي مِلْكَيْنِ لَا يَقْدِرُ عَلَى جَمْعِهِ بِالْقِسْمَةِ .
ظُهُورُ دَيْنٍ عَلَى الْمَيِّتِ
[ ظُهُورُ دَيْنٍ عَلَى الْمَيِّتِ ] . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " أَوْ لَحِقَ الْمَيِّتَ دَيْنٌ فَبِيعَ بَعْضُهَا انْتَقَضَ الْقَسْمُ وَيُقَالُ لَهُمْ فِي الدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ إِنْ تَطَوَّعْتُمْ أَنْ تُعْطُوا أَهْلَ الدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ أَنَفَذْنَا الْقَسْمَ بَيْنَكُمْ وَإِلَّا الْقَضَاءُ عَلَيْكُمْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُوُرَتُهَا : فِي أَرْضٍ أَوْ دَارٍ اقْتَسَمَهَا وَارِثَانِ ، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ ، ثَبَتَ بِإِقْرَارٍ أَوْ بَيِّنَةٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي بَيْعِ الْوَرَثَةِ لِمِلْكٍ مِنَ التَّرِكَةِ فِي حُقُوقِ أَنْفُسِهِمْ قَبْلَ قَضَاءِ الدَّيْنِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ : لِأَنَّ التَّرِكَةَ مُرْتَهَنَةٌ بِالدَّيْنِ فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا كَالرَّهْنِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يَتَعَيَّنُ اسْتِحْقَاقُهُ مِنَ التَّرِكَةِ لِجَوَازِ قَضَائِهِ مِنْ غَيْرِهَا . وَخَالَفَ الرَّهْنَ لِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِالرَّهْنِ عَنِ اخْتِيَارٍ ، وَتَعَلُّقِهِ بِالتَّرِكَةِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ . وَفِي بَيْعِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ عَنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ ، قَوْلَانِ كَبَيْعِ الْعَبْدِ الْجَانِي وَالْمَالِ إِذَا وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ ، كُلُّ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ ، لِوُجُوبِهِ عَنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ ، وَبَطَلَ فِي الرَّهْنِ لِوُجُوبِهِ عَنِ اخْتِيَارٍ . وَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ هَذَا الْأَصْلِ فِي بَيْعِ التَّرِكَةِ كَانَتِ الْقِسْمَةُ بِنَاءً عَلَيْهِ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّهَا إِفْرَازُ حَقٍّ وَتَمْيِيزُ نَصِيبٍ صَحَّتِ الْقِسْمَةُ . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّهَا بَيْعٌ فَفِي بُطْلَانِهَا قَوْلَانِ كَالْبَيْعِ .
فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْقِسْمَةَ بَاطِلَةٌ قُضِيَ الدَّيْنُ ثُمَّ اسْتُؤْنِفَتِ الْقِسْمَةُ بَعْدَ قَضَائِهِ . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْقِسْمَةَ جَائِزَةٌ قِيلَ لِلْوَرَثَةِ : إِنْ قَضَيْتُمُ الدَّيْنَ أُمْضِيَتِ الْقِسْمَةُ . وَإِنْ لَمْ يَقْضُوا وَلَمْ يُوجَدْ مِنَ التَّرِكَةِ غَيْرُ الْمَقْسُومِ ، نُقِضَتِ الْقِسْمَةُ وَبِيعَ مِنْهُ بِقَدْرِ الدَّيْنِ ثُمَّ اسْتُؤْنِفَتِ الْقِسْمَةُ فِيمَا بَقِيَ . وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُبَاعَ مِنْ حِصَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَدْرِ حَقِّهِ لِاسْتِيفَاءِ الْقِسْمَةِ : لِأَنَّ فِيهِ تَفْرِيقًا لِصَفْقَةِ الْمَبِيعِ وَتَفْرِيقَ عَيْنِهِ . ظُهُورُ وَصِيَّةٍ أَوْصَى بِهَا الْمَيِّتُ
فَصْلٌ : وَلَوْ ظَهَرَ بَعْدَ هَذِهِ الْقِسْمَةِ وَصِيَّةٌ أَوْصَى بِهَا الْمَيِّتُ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ بِسَهْمٍ مُعَيَّنٍ فِي الْأَرْضِ الْمَقْسُومَةِ فَيَكُونُ حُكْمُهَا فِي الْقِسْمَةِ كَحُكْمِ مَا اسْتَحَقَّ مِنَ السَّهْمِ الْمُعَيَّنِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ بِسَهْمٍ شَائِعٍ فِي الْأَرْضِ الْمَقْسُومَةِ فَيَكُونُ حُكْمُهَا فِي الْقِسْمَةِ كَحُكْمِ الْمُسْتَحِقِّ لِسَهْمٍ شَائِعٍ فِي الْأَرْضِ الْمَقْسُومَةِ . الْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ بِمَالٍ مُطْلَقٍ فِي التَّرِكَةِ فَيَكُونُ حُكْمُهَا فِي الْقِسْمَةِ كَحُكْمِ الدَّيْنِ الْمُسْتَحَقِّ فِي التَّرِكَةِ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ بِمُعَيَّنٍ فِي التَّرِكَةِ غَيْرَ الدَّارِ الْمَقْسُومَةِ ، فَالْقِسْمَةُ مَاضِيَةٌ لِتَوَجُّهِ الْوَصِيَّةِ إِلَى غَيْرِهَا .
قِسْمَةُ الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ
[ قِسْمَةُ الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ ] . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا يُقْسَمُ صِنْفٌ مِنَ الْمَالِ مَعَ غَيْرِهِ وَلَا عِنَبٌ مَعَ نَخْلٍ وَلَا يَصِحُّ بَعْلٌ مَضْمُومٌ إِلَى عَيْنٍ وَلَا عَيْنٌ مَضْمُومَةٌ إِلَى بَعْلٍ وَلَا بَعْلٌ إِلَى نَخْلٍ يُشْرَبُ بِنَهْرٍ مَأْمُونِ الِانْقِطَاعِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ عَلَى مَا قَالَ ، إِذَا كَانَ الْمَالُ الْمُشْتَرَكُ مِنْ مِيرَاثٍ أَوْ خُلْطَةٍ أَجْنَاسًا مُخْتَلِفَةً ، فَهُوَ ضَرْبَانِ : مَنْقُولٌ ، وَغَيْرُ مَنْقُولٍ . فَأَمَّا الْمَنْقُولُ : فَكَالْحَيَوَانِ وَالْأَمْتِعَةِ وَالْعُرُوضِ فَإِذَا اخْتَلَفَتْ أَجْنَاسُهَا فَكَانَ بَعْضُ الْمَالِ حَيَوَانًا مُخْتَلِفَ الْأَجْنَاسِ كَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ ، وَبَعْضُهُ مَتَاعًا مُخْتَلِفَ الْأَجْنَاسِ كَالْعِطْرِ بَعْضُهُ مِسْكٌ وَبَعْضُهُ عَنْبَرٌ وَبَعْضُهُ كَافُورٌ . كَالْحُبُوبِ بَعْضُهُ حِنْطَةٌ وَبَعْضُهُ شَعِيرٌ وَبَعْضُهُ أُرْزٌ ، وَجَبَ أَنْ يُقْسَمَ كُلُّ جِنْسٍ بَيْنَهُمْ عَلَى انْفِرَادِهِ .
فَإِنْ دَعَا أَحَدُهُمْ إِلَى ضَمِّ الْأَجْنَاسِ وَأَنْ يَجْعَلَ كُلَّ جِنْسٍ مِنْهَا سَهْمًا مُعَدَّلًا ، لِيَأْخُذَ أَحَدُهُمُ الْحِنْطَةَ ، وَالْآخَرُ الشَّعِيرَ ، وَالْآخَرُ الْإِبِلَ ، وَالْآخَرُ الْغَنَمَ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقَعَ فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ إِجْبَارٌ ، إِلَّا عَنْ مُرَاضَاةٍ ، لِأَنَّهُمْ شُرَكَاءُ فِي كُلِّ جِنْسٍ . فَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْبَرَ عَلَى إِزَالَةِ مِلْكِهِ عَنْهُ بِغَيْرِهِ ، كَالْبَيْعِ الَّذِي لَا يَدْخُلُهُ إِجْبَارٌ . فَإِنْ تَرَاضَوْا عَلَى ذَلِكَ جَازَ كَالْمُرَاضَاةِ عَلَى الْبَيْعِ . فَلَوْ كَانَتِ الشَّرِكَةُ فِي جِنْسٍ وَاحِدٍ كيفية قسمتها وَهُوَ أَنْوَاعٌ فَهُوَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَخْتَلِفَ مَنَافِعُهَا بِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا كَالْغَنَمِ الَّتِي بَعْضُهَا ضَأْنٌ وَبَعْضُهَا مِعْزًى ، فَيَكُونُ اخْتِلَافُ أَنْوَاعِهَا كَاخْتِلَافِ أَجْنَاسِهَا فَيُقْسَمُ كُلُّ نَوْعٍ عَلَى انْفِرَادِهِ كَالْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا لَا تَخْتَلِفُ مَنَافِعُ أَنْوَاعِهِ كَالْحِنْطَةِ الَّتِي بَعْضُهَا عِرَاقِيَّةٌ وَبَعْضُهَا شَامِيَّةٌ فَهُوَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَخْتَلِفَ قِيمَةُ أَنْوَاعِهِ ، فَيَصِيرُ كُلُّ نَوْعٍ كَالْجِنْسِ بِقَسْمٍ عَلَى انْفِرَادِهِ ، كَالْأَجْنَاسِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَتَمَاثَلَ قِيمَةُ أَنْوَاعِهِ ، وَلَا تَتَفَاضَلَ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَغْلِبُ حُكْمُ الْجِنْسِ لِتَمَاثُلِهِ ، فَيَجُوزُ أَنْ يَقَعَ الْإِجْبَارُ فِي إِفْرَادِ كُلِّ وَاحِدٍ بِنَوْعٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَغْلِبُ حُكْمُ النَّوْعِ لِامْتِيَازِهِ ، فَيُقْسَمُ كُلُّ نَوْعٍ عَلَى انْفِرَادِهِ وَهَذَا أَشْبَهُ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا غَيْرُ الْمَنْقُولِ فَضَرْبَانِ القسمة : عَقَارٌ وَضِيَاعٌ . فَأَمَّا الْعَقَارُ الْمَسْكُونُ القسمة فَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا لَا تَدْخُلُهُ قِسْمَةُ الْإِجْبَارِ إِذَا تَمَيَّزَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ دَارَانِ ، فَيَدْعُو أَحَدُهُمَا إِلَى أَنْ يَجْعَلَ كُلَّ دَارٍ لِأَحَدِهِمَا فَلَا إِجْبَارَ فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ سَوَاءٌ تَمَاثَلَتْ أَثْمَانُهَا أَوْ تَفَاضَلَتِ ، اتَّصَلَتْ وَتَبَاعَدَتْ ، وَالْإِجْبَارُ أَنْ تُقْسَمَ كُلُّ دَارٍ بَيْنَهُمَا . فَإِنْ تَرَاضَى الشَّرِيكَانِ عَلَى أَنْ تَكُونَ إِحْدَى الدَّارَيْنِ لِأَحَدِهِمَا وَالْأُخْرَى لِلْآخَرِ . جَازَ وَكَانَتْ هَذِهِ الْقِسْمَةُ مُنَاقَلَةً تَقِفُ عَلَى الِاخْتِيَارِ دُونَ الْإِجْبَارِ وَهِيَ كَالْبَيْعِ الْمَحْضِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا تَدْخُلُهُ قِسْمَةُ الْإِجْبَارِ مَعَ تَمْيِيزِهِ ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ قَرْيَةٌ ذَاتُ مَسَاكِنَ ، بَيْنَ شَرِيكَيْنِ " . فَيَدْعُو أَحَدُهُمَا إِلَى أَنْ يَقْسِمَ جَمِيعَ الْقَرْيَةِ ، وَيَدْعُو الْآخَرُ إِلَى أَنْ يُقَسِّمَ كُلَّ مَسْكَنٍ مِنْهَا ، فَقِسْمَةُ الْإِجْبَارِ وَاقِعَةٌ عَلَى جَمِيعِ الْقَرْيَةِ ، فَيُقَسَّمُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا
نِصْفُهَا ، بِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ مَسَاكِنِهِ : لِأَنَّ الْقَرْيَةَ حَاوِيَةٌ لِمَسَاكِنِهَا كَالدَّارِ الْجَامِعَةِ لِبُيُوتِهَا ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ الْإِجْبَارُ فِي قِسْمَةِ الدَّارِ عَلَى بَيْتٍ مِنْهَا ، كَذَلِكَ الْقَرْيَةُ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا اخْتُلِفَ فِيهِ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ بَيْنَهُمَا عَضَائِدُ مُتَّصِلَةٌ ، أَوْ دَكَاكِينُ مُتَضَايِقَةٌ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا طَرِيقٌ القسمة فَفِي قِسْمَةِ كُلِّ عِضَادَةٍ وَكُلِّ دُكَّانٍ تَضْيِيقٌ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ كَالدُّورِ الْمُخْتَلِفَةِ فَلَا تَقَعُ قِسْمَةُ الْإِجْبَارِ فِيهَا إِلَّا فِي كُلِّ عِضَادَةٍ وَكُلِّ دُكَّانٍ ، لِانْفِرَادِ كُلِّ وَاحِدٍ بِطَرِيقِهِ وَسُكْنَاهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا تَكُونُ كَالْقَرْيَةِ ، تَقَعُ قِسْمَةُ الْإِجْبَارِ فِي جَمِيعِهَا نِصْفَيْنِ ، وَلَا يُفْرَدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْقِسْمَةِ إِلَّا عَنْ مُرَاضَاةٍ وَاخْتِيَارٍ ، وَتَصِيرُ كَالدَّارِ ذَاتِ الْبُيُوتِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الضِّيَاعُ الْمَزْرُوعَةُ وَالْمَغْرُوسَةُ قسمة فَتَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَتَّصِلَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ ، وَتَتَمَاثَلَ فِي الثَّمَنِ وَالْمَنْفَعَةِ وَالْمُؤْنَةِ ، فَيَضُمُّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ ، وَتَقَعُ قِسْمَةُ الْإِجْبَارِ عَلَى جَمِيعِهَا كَالضَّيْعَةِ الْوَاحِدَةِ ، كَضِيَاعِ الْقَرْيَةِ الَّتِي يَتَّصِلُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ وَلَا يَتَمَيَّزُ شَيْءٌ مِنْهَا ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَسْمَاؤُهَا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَفْتَرِقَ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ وَلَا يَتَّصِلَ ، فَقِسْمَةُ الْإِجْبَارِ وَاقِعَةٌ عَلَى كُلِّ ضَيْعَةٍ مِنْهَا ، وَلَا يُضَمُّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ : لِأَنَّ لِكُلِّ ضَيْعَةٍ إِذَا انْفَرَدَتْ حُكْمُهَا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : تَتَّصِلُ الضِّيَاعُ وَتَخْتَلِفُ إِمَّا فِي مَنْفَعَةٍ ، فَيَكُونُ بَعْضُهَا شَجَرًا وَبَعْضُهَا مُزْدَرَعًا أَوْ يَكُونُ بَعْضُهَا كَرْمًا وَبَعْضُهَا نَخْلًا ، أَوْ تَخْتَلِفُ فِي مُؤْنَةٍ فَيَكُونُ بَعْضُهَا يَشْرَبُ سَيْحًا مِنْ نَهَرٍ أَوْ عَيْنٍ وَبَعْضُهَا يَشْرَبُ بِنَضْحٍ أَوْ غَرْبٍ أَوْ تَخْتَلِفُ فِي الثَّمَنِ لِنَفَاسَةِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ . فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قِسْمَةِ الْإِجْبَارِ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ مِنْهَا إِنَّ قِسْمَةَ الْإِجْبَارِ وَاقِعَةٌ عَلَى كُلِّ ضَيْعَةٍ مِنْهَا ، وَلَا يُضَمُّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ فِي الْقِسْمَةِ . وَقَالَ مَالِكٌ : إِذَا اتَّصَلَتْ جُمِعَتْ فِي قِسْمَةِ الْإِجْبَارِ مَعَ اخْتِلَافِهَا . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : إِنْ تَجَانَسَتْ جُمِعَتْ ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ لَمْ تُجْمَعْ . وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ أَثْمَانَهَا مُتَبَايِنَةٌ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَنَافِعَهَا مُخْتَلِفَةٌ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَتُقْسَمُ الْأَرَضُونَ وَالثِّيَابُ وَالطَّعَامُ وَكُلُّ مَا احْتَمَلَ الْقَسْمَ " .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْقِسْمَةِ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَمْتَنِعَ بِهَا مِنْ سَوَاءِ الْمُشَارَكَةِ . وَالثَّانِي : كَمَالُ التَّصَرُّفِ الَّذِي يَمْتَنِعُ بِاخْتِلَافِ الْأَيْدِي ، فَصَارَ الْمَقْصُودُ بِهَا دَفْعُ الضَّرَرِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَدْخُلَهَا إِجْبَارٌ بِدُخُولِ الضَّرَرِ ، وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ قِسْمَةِ الضِّرَارِ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ . وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَمْوَالَ الْمُشْتَرَكَةَ القسمة تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ ؛ قِسْمٌ تَدْخُلُهُ قِسْمَةُ الْإِجْبَارِ ، وَقِسْمٌ تَدْخُلُهُ قِسْمَةُ الِاخْتِيَارِ ، وَقِسْمٌ يَنْتَفِي عَنْهُ الْقَسْمُ جَبْرًا أَوِ اخْتِيَارًا . فَمِمَّا يَدْخُلُهُ الْقَسْمُ الضِّيَاعُ وَالْعَقَارُ ، فَمَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَعْدِيلٌ وَلَا رَدٌّ دَخَلَهُ قِسْمَةُ الْإِجْبَارِ ، وَلَا يَمْنَعُ مَا فِيهِ مِنَ الْبِنَاءِ وَالشَّجَرِ مِنْ قِسْمَةٍ جَبْرًا إِذَا تَمَاثَلَ وَتَقَارَبَ ، فَإِنَّ تَحْقِيقَ الْمُمَاثَلَةِ فِيهِ مُتَعَذِّرٌ فَلَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَكُونَ تَبَعًا لِمَا يَتَحَقَّقُ تَمَاثُلُهُ مِنَ الْأَرْضِ . وَأَمَّا مَا فِيهِ رَدٌّ ، فَلَا تَدْخُلُهُ قِسْمَةُ الْإِجْبَارِ ، وَيَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى قِسْمَةِ الِاخْتِيَارِ . وَأَمَّا مَا فِيهِ تَعْدِيلٌ ، فَفِي دُخُولِ قِسْمَةُ الْإِجْبَارِ فِيهِ قَوْلَانِ مَضَيَا . فَأَمَّا قِسْمَةُ مَا كَانَ مِنْهُ وَقْفًا مُحَرَّمًا ، فَإِنْ لَمْ يَخْتَلِطْ بِمِلْكٍ لَمْ تَجُزْ قِسْمَتُهُ : لِأَنَّ حُقُوقَ أَهْلِهِ مَقْصُورَةٌ عَلَى مَنَافِعِهِ وَإِنِ اخْتَلَطَ بِمِلْكٍ ، فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْقِسْمَةَ إِفْرَازُ حَقٍّ ، جَازَ قَسْمُهُ جَبْرًا . وَإِنْ قِيلَ : إِنِ الْقِسْمَةَ بَيْعٌ فَفِي جَوَازِ قَسْمِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا تَجُوزُ جَبْرًا ، وَلَا اخْتِيَارًا ، تَغْلِيبًا لِلْوَقْفِ . وَالثَّانِي : تَجُوزُ جَبْرًا وَاخْتِيَارًا ، تَغْلِيبًا لِلْمِلْكِ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الْبَنَّاءُ وَالشَّجَرُ دُونَ أَرْضِهِ فَلَا يَجُوزُ إِجْبَارًا وَيَجُوزُ اخْتِيَارًا .
قِسْمُ الْحَيَوَانِ . فَصْلٌ : وَأَمَّا قِسْمُ الْحَيَوَانِ القسمه كَالْعَبِيدِ ، وَالْمَوَاشِي ، فَإِنْ كَانَ رَأْسًا وَاحِدًا ، لَمْ تَدْخُلْهُ الْقِسْمَةُ إِجْبَارًا وَلَا اخْتِيَارًا . وَإِنْ كَانَ عَدَدًا ، فَإِنْ تَفَاضَلُوا لَمْ يُقَسِّمُوا إِجْبَارًا ، وَقَسَّمُوا اخْتِيَارًا . وَإِنْ تَمَاثَلُوا فَفِي قَسْمِهَا إِجْبَارًا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ ، يُقَسَّمُ إِجْبَارًا لِتَمَاثُلِهَا .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانِ أَنَّهَا لَا تُقَسَّمُ إِجْبَارًا وَتُقَسَّمُ اخْتِيَارًا لِأَنَّهَا مَضْمُونَةٌ بِالْقِيمَةِ دُونَ الْمِثْلِ . وَأَصْلُ ذَلِكَ ، حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ : أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ سِتَّةَ مَمْلُوكِينَ ، لَا مَالَ لَهُ غَيْرَهُمْ ، فَجَزَّأَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً ، فَجَعَلَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ دَلِيلًا عَلَى قِسْمَةِ الْإِجْبَارِ ، وَحَمَلَهُ ابْنُ خَيْرَانَ عَلَى جَوَازِهِ فِي الْعِتْقِ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْحُرِّيَّةِ . وَقَدْ أَجَازَ الشَّافِعِيُّ قِسْمَةَ الْكِلَابِ مَعَ الْغَنَمِ كَمَا أَجَازَ الْوَصِيَّةَ بِهَا . فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ أَجَازَ قَسْمَهَا إِجْبَارًا وَجْهًا وَاحِدًا لِلنَّصِّ عَلَيْهِ وَأَنَّهَا لِخُرُوجِهَا عَنِ الْقِيمَةِ تَجْرِي مَجْرَى ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ . وَمِنْهُمْ مَنْ خَرَّجَ إِجَازَةَ قَسْمِهَا عَلَى الْوَجْهَيْنِ وَجَعَلَ هَذَا النَّصَّ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ أَصَحُّهُمَا . وَعَلَى قِيَاسِ الْحَيَوَانِ يَكُونُ قَسْمُ الْآلَاتِ مِنَ الْخَشَبِ ، كَالْأَوَانِي ، وَالْأَبْوَابِ ، وَالْأَسَاطِينِ القسمه ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ وَتَفَاضَلَتْ قُسِّمَتِ اخْتِيَارًا وَلَمْ تُقَسَّمْ إِجْبَارًا ، وَإِنْ تَمَاثَلَتْ فَفِي قِسْمِهَا إِجْبَارًا وَجْهَانِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْحَيَوَانِ . وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَسْمُ الثِّيَابِ إِنِ اخْتَلَفَتْ وَتَفَاضَلَتْ قُسِّمَتِ اخْتِيَارًا وَلَمْ تُقَسَّمْ إِجْبَارًا ، وَإِنْ تَمَاثَلَتْ فَفِي قَسْمِهَا إِجْبَارًا وَجْهَانِ . فَأَمَّا قَسْمُ الثَّوْبِ الْوَاحِدِ فَإِنِ اخْتَلَفَ لِاخْتِلَافِ نُقُوشِهِ وَأَلْوَانِهِ قُسِّمَ اخْتِيَارًا وَلَمْ يُقَسَّمْ إِجْبَارًا . وَإِنْ تَمَاثَلَ وَلَمْ يَخْتَلِفْ ، نُظِرَ ، فَإِنْ نَقَصَتْ قِيمَتُهُ بِقَسْمِهِ لَمْ يُقَسَّمْ إِجْبَارًا ، وَقُسِّمَ اخْتِيَارًا وَإِنْ لَمْ تَنْقُصْ قِيمَتُهُ ، فَفِي قَسْمِهِ إِجْبَارًا وَجْهَانِ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَلْ تَكُونُ قِسْمَةُ الْإِجْبَارِ فِي الْحَمَّامَيْنِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى قِيَاسِ مَا ذَكَرْتُمُوهُ فِي قِسْمَةِ الْحَيَوَانِ وَالثِّيَابِ ؟ قِيلَ : قَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُخَرِّجُ إِجْبَارَ قَسْمِهَا بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى وَجْهَيْنِ ، كَالْحَيَوَانِ ، وَالثِّيَابِ ، وَيُفَرِّقُ بَيْنَ قَسْمِ الدَّارَيْنِ ، حَيْثُ لَمْ يَقَعْ فِي إِفْرَادِهَا إِجْبَارٌ ، وَوَقَعَ فِي قَسْمِ الْحَمَّامَيْنِ إِجْبَارٌ ، إِنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الدَّارَيْنِ يُمْكِنُ أَنْ تُقَسَّمَ إِجْبَارًا ، فَلَمْ يَقَعْ فِي إِفْرَادِهِمَا إِجْبَارٌ ، وَالْحَمَّامُ الْوَاحِدُ لَا يَقَعُ فِي قَسْمِهِ إِجْبَارٌ ، فَجَازَ أَنْ يَقَعَ فِي إِفْرَادِهِمَا بِالْقِسْمَةِ إِذَا اجْتَمَعَا إِجْبَارٌ . وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ : لَا يَقَعُ فِي قَسْمِ الْحَمَّامَيْنِ إِجْبَارٌ ، كَمَا لَمْ يَقَعْ فِي
قَسْمِ الْوَاحِدِ إِجْبَارٌ وَفَرَّقَ بَيْنَ الْحَمَّامَيْنِ وَالْحَيَوَانِ ، إِنَّ بِنَاءَ الْحَمَّامِ مَنَعَ مِنْ قَسْمِ أَرْضِهِ ، وَالْحَيَوَانُ أَهْلٌ فِي نَفْسِهِ .
قَسْمُ الطَّعَامِ وَغَيْرِهِ فَصْلٌ : وَأَمَّا قَسْمُ الطَّعَامِ : فَكُلُّ مَطْعُومٍ طَعَامٌ ، وَفِي الْمَطْعُومِ رِبًا ، وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ ، كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ فَيَجُوزُ قَسْمُهُ إِجْبَارًا وَاخْتِيَارًا . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْقِسْمَةَ إِفْرَازُ حَقٍّ جَازَ قَسْمُهُ كَيْلًا أَوْ وَزْنًا ، وَجَازَ أَنْ يَفْتَرِقَا فِيهِ قَبْلَ التَّقَابُضِ . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْقِسْمَةَ بَيْعٌ ، وَجَبَ قَسْمُهُ كَيْلًا ، وَلَمْ يَجُزْ قَسْمُهُ وَزْنًا : لِأَنَّ أَصْلَهُ الْكَيْلُ ، وَوَجَبَ إِنْ تَقَابَضَا قَبْلَ الِافْتِرَاقِ . وَتَدْخُلُ الْقُرْعَةُ فِي قَسْمِهِ إِجْبَارًا ، وَلَا تَدْخُلُ فِي قَسْمِهِ اخْتِيَارًا . وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ ، كَرُطَبٍ ، وَالْعِنَبِ ، وَالْفَوَاكِهِ الرَّطْبَةِ ، فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْقِسْمَةَ إِفْرَازُ حَقٍّ ؛ جَازَ قَسْمُهُ إِجْبَارًا وَاخْتِيَارًا بِكَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ . وَفِي جَوَازِ قَسْمِهِ بِالْخَرْصِ فِي نَخْلِهِ وَشَجَرِهِ ، قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : جَوَازُهُ . وَالثَّانِي : بُطْلَانُهُ . وَأَصَحُّ مِنْ إِطْلَاقِ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ أَنْ يَمْنَعَ مِنْهُ بِالْخَرْصِ فِي قِسْمَةِ الْإِجْبَارِ ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا التَّحْقِيقُ الْمَعْدُومُ فِي الْخَرْصِ ، وَيُجَازُ بِالْخَرْصِ فِي قِسْمَةِ الِاخْتِيَارِ لِأَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى التَّرَاضِي ، هَذَا إِذَا قِيلَ إِنَّ الْقِسْمَةَ إِفْرَازُ حَقٍّ . فَأَمَّا إِنْ قِيلَ إِنِ الْقِسْمَةَ بَيْعٌ ، لَمْ تَجُزْ قِسْمَةُ الثِّمَارِ الرَّطْبَةِ كَمَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا ، فَلَا يَدْخُلُهَا قَسْمُ الْإِجْبَارِ وَلَا قَسْمُ الِاخْتِيَارِ . وَأَمَّا قَسْمُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ ، فَيَجُوزُ إِجْبَارًا وَاخْتِيَارًا . وَهَلْ يُعْتَبَرُ فِي قَسْمِهَا تَقَابُضُهُمَا قَبْلَ الِافْتِرَاقِ قسمة الدراهم والدنانير عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُعْتَبَرُ إِنْ قِيلَ : إِنَّ الْقِسْمَةَ إِفْرَازُ حَقٍّ . وَالثَّانِي : يُعْتَبَرُ إِذَا قِيلَ إِنَّهَا بَيْعٌ .
فَأَمَّا قِسْمَةُ الْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَصْنُوعٍ جَازَ قَسْمُهُ إِجْبَارًا وَاخْتِيَارًا وَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ التَّقَابُضُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ . وَإِنْ كَانَ مَصْنُوعًا ، أَوَانِي أَوْ سُيُوفًا فَإِنِ اخْتَلَفَتْ وَتَفَاضَلَتْ ، قُسِّمَتِ اخْتِيَارًا وَلَمْ تُقَسَّمْ إِجْبَارًا . وَإِنْ تَشَابَهَتْ وَتَمَاثَلَتْ ، فَفِي قَسْمِهَا إِجْبَارًا وَجْهَانِ كَالْحَيَوَانِ وَالثِّيَابِ . وَأَمَّا قِسْمَةُ الدَّيْنِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ عَلَى غَرِيمٍ وَاحِدٍ أَوْ عَلَى غُرَمَاءَ . فَإِنْ كَانَ عَلَى غَرِيمٍ وَاحِدٍ ، فَقِسْمَتُهُ فَسْخُ الشَّرِكَةِ فِيهِ . فَإِذَا فُسِخَتِ انْقَسَمَ الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْغَرِيمِ وَصَارَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشُّرَكَاءِ قَدْرُ حَقِّهِ مِنْهُ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِاقْتِضَائِهِ وَقَبْضِهِ . وَلَوْ كَانَتِ الشَّرِكَةُ بَاقِيَةً عَلَى حَالِهَا لَمْ تُفْسَخْ لَمْ يَجُزْ لِأَحَدِ الشُّرَكَاءِ فِيهِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِاقْتِضَائِهِ وَقَبْضِهِ مِنْهُ ، وَكَانَ مَا قَبَضَهُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمْ أَنْ قَبَضَهُ عَنْ غَيْرِ إِذْنِهِمْ . وَإِنْ أَذِنُوا لَهُ فِي قَبْضِ حَقِّهِ مِنْهُ جَازَ ، وَكَانَ إِذْنُهُ لَهُ فِي قَبْضِ حَقِّهِ فَسْخًا لِشَرِكَتِهِ . وَلَا وَجْهَ لِمَنْ خَرَّجَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ ، كَالْمُكَاتِبِ إِذَا أَدَّى إِلَى أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ مَالَ كِتَابَتِهِ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ ، أَنَّهُ عَلَى قَوْلَيْنِ ، لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ، بِثُبُوتِ الْحَجْرِ عَلَى الْمُكَاتِبِ ، وَعَدَمِهِ فِي الْغَرِيمِ . وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى جَمَاعَةِ غُرَمَاءَ ، فَيَخْتَصُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ بِمَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْغُرَمَاءِ ، لَمْ يَجُزْ قَسْمُ ذَلِكَ إِجْبَارًا ، لِأَنَّ الْغُرَمَاءَ قَدْ يَتَفَاضَلُونَ فِي الذِّمَمِ وَالْيَسَارِ . وَفِي جَوَازِ قَسْمِهِ اخْتِيَارًا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ ، إِذَا قِيلَ إِنَّ الْقِسْمَةَ إِفْرَازُ حَقٍّ . وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ إِذَا قِيلَ إِنَّ الْقِسْمَةَ بَيْعٌ . وَوَجْهُ صِحَّتِهَا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ ، أَنْ يُحِيلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِأَصْحَابِهِ بِحَقِّهِ عَلَى الْغَرِيمِ الَّذِي لَمْ يَخْتَرْهُ ، وَيُحِيلُوهُ بِحُقُوقِهِمْ عَلَى الْغَرِيمِ الَّذِي اخْتَارَهُ ، فَيَتَعَيَّنُ ذَلِكَ بِالْحَوَالَةِ دُونَ الْقِسْمَةِ .
إِبْرَازُ أَصْلِ الْحَقِّ قَبْلَ الْقِسْمَةِ
[ إِبْرَازُ أَصْلِ الْحَقِّ قَبْلَ الْقِسْمَةِ ] . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَإِذَا طَلَبُوا أَنْ يُقَسِّمَ دَارًا فِي أَيْدِيِهِمْ
إبراز أصل الحق قبل القسمة
قُلْتُ ثَبَتُوا عَلَى أُصُولِ حُقُوقِكُمْ لِأَنِّي لَوْ قَسَّمْتُهَا بِقَوْلِكُمْ ثُمَّ رُفِعَتْ إِلَى حَاكِمٍ كَانَ شَبِيهًا أَنْيَجْعَلَهَا لَكُمْ وَلَعَلَّهَا لِغَيْرِكُمْ وَقَدْ قِيلَ يُقَسِّمُ وَيَشْهَدُ أَنَّهُ قَسَّمَهَا عَلَى إِقْرَارِهِمْ وَلَا يُعْجِبُنِي لِمَا وَصَفْتُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا كَانَتْ دَارٌ وَهِيَ يَدَيْ رَجُلَيْنِ ، تَرَافَعَا فِيهَا إِلَى الْحَاكِمِ لِيُقَسِّمَهَا بَيْنَهُمَا فَلَهُمَا فِيهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُنَازِعَهُمَا فِيهَا غَيْرُهُمَا ، فَلَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ إِذَا حَكَمَ بِهَا لَهُمَا بِأَيْدِيهِمَا أَنْ يُقَسِّمَهَا بَيْنَهُمَا ، مَعَ ظُهُورِ الْمُنَازِعِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ بِهَا لَهُمَا وَهَذَا مِمَّا لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ قَوْلُهُ ، لِأَنَّ قِسْمَةَ الْحَاكِمِ إِثْبَاتٌ لِمِلْكِهَا ، وَالْيَدُ تُوجِبُ إِثْبَاتَ التَّصَرُّفِ ، وَلَا تُوجِبُ إِثْبَاتَ الْمِلْكِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَتَنَازَعَاهَا وَهِيَ فِي أَيْدِيهِمَا ، وَيَدَّعِيَهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِلْكًا ، فَيَجْعَلُهَا الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا بِأَيْدِيهِمَا وَإِيمَانِهِمَا ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَسِّمَهَا بَيْنَهُمَا إِنْ سَأَلَاهُ قَسْمَهَا : لِأَنَّ فِي تَنَازُعِهِمَا إِقْرَارًا بِسُقُوطِ الْقِسْمَةِ ، فَإِنْ تَقَاسَمَاهَا بِأَنْفُسِهِمَا لَمْ يَمْنَعْهُمَا . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ لَا يَكُونَ لَهُمَا فِيهَا مُنَازِعٌ ، وَهُمَا مُعْتَرِفَانِ بِالشَّرِكَةِ ، وَيَتَنَازَعَانِ فِي الْقِسْمَةِ ، فَإِذَا سَأَلَا الْحَاكِمَ قَسْمَهَا بَيْنَهُمَا ، كَلَّفَهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى مِلْكِهِمَا لَهَا ، فَإِنْ أَقَامَاهَا قَسَّمَهَا بَيْنَهُمَا إِجْبَارًا أَوِ اخْتِيَارًا ، وَهُوَ غَايَةُ مَا يَسْتَظْهِرُ بِهِ الْحَاكِمُ فِي إِثْبَاتِ الْأَمْلَاكِ . وَهَكَذَا لَوْ ظَهَرَ لَهُمَا مُنَازِعٌ فَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى مِلْكِهِمَا لَهَا ، حَكَمَ لَهُمَا ، بِالْمِلْكِ ، وَأَوْقَعَ بَيْنَهُمَا الْقِسْمَةَ وَبَطَلَ قَوْلُ الْمُنَازِعِ بِالْبَيِّنَةِ ، لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَبْطُلُ بِالنِّزَاعِ . وَإِنْ عَدِمَا الْبَيِّنَةَ ، وَتَفَرَّدَا بِالْيَدِ ، وَعَدِمَ الْمُنَازِعُ وَسَأَلَاهُ الْقِسْمَةَ ، فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِيهَا عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَسِّمَهُمَا بَيْنَهُمَا مَعَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ وَيَقُولُ لَهُمَا : إِنْ شِئْتُمَا فَاقْتَسِمَاهَا بَيْنَكُمَا ، بِاخْتِيَارِكُمَا ، وَلَا أَحْكُمُ بِقَسْمِهَا بَيْنَكُمَا لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ لِغَيْرِكُمَا ، فَتَجْعَلَا حُكْمِي بِالْقِسْمَةِ حُجَّةً لَكُمَا فِي الْمِلْكِ ، وَدَفْعِ مَنْ لَعَلَّهُ أَحَقُّ مِنْكُمَا بِهِ . فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ بِابْتِيَاعِهِمَا الدَّارَ ، لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةً بِالْمِلْكِ ، لِأَنَّ يَدَ الْبَائِعِ فِيهَا كَأَيْدِيهِمَا . وَهَكَذَا لَوْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا صَارَتْ إِلَيْهِمَا عَنْ أَبِيهِمَا مِيرَاثًا لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةً بِالْمِلْكِ ؛ لَأَنَّ يَدَ الْأَبِ فِيهَا كَأَيْدِيهِمَا . وَسَوَاءٌ كَانَ هَذَا الْمِلْكُ مِمَّا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ ، كَالْعَرُوضِ وَالسِّلَعِ ، أَوْ مِمَّا لَا يُنْقَلُ وَلَا يُحَوَّلُ كَالضِّيَاعِ وَالْعَقَارِ ، ثُمَّ حَكَى الشَّافِعِيُّ بَعْدَ ذِكْرِهِ لِمَذْهَبِهِ قَوْلًا لِغَيْرِهِ : أَنَّ الْحَاكِمَ يُقَسِّمُهَا بَيْنَهُمَا وَيَذْكُرُ
فِي الْقِسْمَةِ أَنَّهُ قَسَّمَهَا بَيْنَهُمَا بِإِقْرَارِهِمَا ، لِيَسْتَظْهِرَ بِذَلِكَ مِمَّا يَخَافُهُ مِنْ ظُهُورِ مُنَازِعٍ فِيهَا ، وَسَوَاءٌ كَانَ هَذَا مِمَّا يُنْقَلُ أَوْ لَا يُنْقَلُ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ . فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَخْرِيجِ هَذَا الْمَذْهَبِ قَوْلًا ثَانِيًا لِلشَّافِعِيِّ . فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى إِبْطَالِ تَخْرِيجِهِ قَوْلًا ثَانِيًا ، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ صَرَّحَ بِإِبْطَالِهِ فَقَالَ : " وَلَا يُعْجِبُنِي ذَلِكَ لِمَا وَصَفْنَا " فَلَمْ يَجُزْ مَعَ هَذَا الرَّدِّ أَنْ يَجْعَلَ قَوْلًا لَهُ . وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ مِنْهُمْ إِلَى تَخْرِيجِهِ قَوْلًا ثَانِيًا ، لِأَنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ تَرْجِيحٌ لِلْأَوَّلِ وَلَيْسَ بِإِبْطَالٍ لِلثَّانِي ، فَيَكُونُ لَهُ فِي قَسْمِهَا بَيْنَهُمَا مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُقَسِّمُهَا وَهُوَ الْأَظْهَرُ تَعْلِيلًا بِمَا قَدَّمْنَاهُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يُقَسِّمُهَا وَيَسْتَظْهِرُ بِمَا وَصَفْنَاهُ . فَإِذَا قَسَّمَهَا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ اسْتَظْهَرَ بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُنَادِيَ هَلْ مِنْ مُنَازِعٍ ؟ لِيَسْتَدِلَّ بِعَدَمِهِ عَلَى ظَاهِرِ الْمِلْكِ . وَالثَّانِي : أَنْ يُحْلِفَهُمَا أَنْ لَا حَقَّ فِيهَا لِغَيْرِهِمَا . وَفِي هَذِهِ الْيَمِينِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا اسْتِظْهَارٌ فَإِنْ قَسَّمَهَا مِنْ غَيْرِ إِحْلَافِهِمَا جَازَ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا وَاجِبَةٌ . فَإِنْ قَسَّمَهَا مِنْ غَيْرِ إِحْلَافِهِمَا لَمْ يَجُزْ . فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ ، فَإِنَّهُ خَالَفَ بِتَفْصِيلِهِ مُطْلَقَ الْقَوْلَيْنِ ، فَقَالَ : فِيمَا يُنْقَلُ مِنَ الْعَرُوضِ وَالسِّلَعِ أَنَّهُ يُقَسِّمُهُ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ ، وَفِيمَا لَا يُنْقَلُ مِنَ الضِّيَاعِ وَالْعَقَارِ إِنِ ادَّعَيَاهُ مِيرَاثًا لَمْ يُقَسَّمْ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ بِالْمِيرَاثِ ، وَإِنِ ادَّعَيَاهُ بِابْتِيَاعٍ أَوْ غَيْرِهِ قَسَّمَهُ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ تَشْهَدُ بِالِابْتِيَاعِ . وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَيْسَ الْبَيِّنَةُ بِالْمِيرَاثِ وَالِابْتِيَاعِ بَيِّنَةٌ بِالْمِلْكِ ، وَإِنَّمَا هِيَ بَيِّنَةٌ بِسَبَبِ دُخُولِ الْيَدِ ، فَلَمْ يَكُنْ لِهَذَا الْفَرْقِ وَجْهٌ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
بَابُ مَا عَلَى الْقَاضِي فِي الْخُصُومِ وَالشُّهُودِ
آدَابُ الْقُضَاةِ
بَابُ مَا عَلَى الْقَاضِي فِي الْخُصُومِ وَالشُّهُودِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُنْصِفَ الْخَصْمَيْنِ فِي الْمَدْخَلِ عَلَيْهِ لِلْحُكْمِ وَالِاسْتِمَاعِ وَالْإِنْصَاتِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى تَنْفُذَ حُجَّتُهُ وَلَا يَنْهَرُهُمَا . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الْقُضَاةَ زُعَمَاءُ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَاتِ ، نُدِبُوا لِأَنْ يَتَنَاصَفَ بِهِمُ النَّاسُ ، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يَكُونُوا أَنْصَفَ النَّاسِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : يَادَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ الْآيَةَ [ ص : ] . وَقَالَ تَعَالَى : وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ [ الْقَصَصِ : ] . وَرَوَى عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنِ ابْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ بَيْنَ النَّاسِ بِالْمُسْلِمِينَ فَلْيَعْدِلْ بَيْنَهُمْ فِي لَحْظِهِ وَإِشَارَتِهِ وَمَقْعَدِهِ ، وَلَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ عَلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ ، مَا لَا يَرْفَعُ عَلَى الْآخَرِ " وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ ، فِي عَهْدِهِ عَلَى قَضَاءِ الْبَصْرَةِ : " آسِ بَيْنَ النَّاسِ ، فِي وَجْهِكَ ، وَمَجْلِسِكَ ، وَعَدْلِكَ ، حَتَّى لَا يَطْمَعَ شَرِيفٌ فِي حَيْفِكَ ، وَلَا يَيْأَسَ ضَعِيفٌ مِنْ عَدْلِكَ . آدَابُ الْقُضَاةِ . وَلِلْقُضَاةِ آدَابٌ تَزِيدُ بِهَا هَيْبَتُهُمْ ، وَتَقْوَى بِهَا رَهْبَتُهُمْ ، وَالْهَيْبَةُ وَالرَّهْبَةُ فِي الْقُضَاةِ مِنْ قَوَاعِدِ نَظَرِهِمْ لِتَقُودَ الْخُصُومَ إِلَى التَّنَاصُفِ وَتَكُفَّهُمْ عَنِ التَّجَاحُدِ . وَآدَابُهُمْ بَعْدَ مَا قَدَّمْنَا مِنَ الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي صِحَّةِ وِلَايَاتِهِمْ ، تَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهُمَا : آدَابُهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ آداب القضاة : وَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الْقَاضِي ، فَإِنْ كَانَ مَوْسُومًا بِالزُّهْدِ وَالتَّوَاضُعِ وَالْخُشُوعِ ، كَانَ أَبْلَغَ فِي هَيْبَتِهِ ، وَأَزْيَدَ فِي رَهْبَتِهِ . وَإِنْ كَانَ مُمَازِجًا لِأَبْنَاءِ الدُّنْيَا ، تَمَيَّزَ عَنْهُمْ بِمَا يَزِيدُ فِي هَيْبَتِهِ ، مِنْ لِبَاسٍ لَا يُشَارِكُهُ غَيْرُهُ فِيهِ ، وَمَجْلِسٍ لَا يُسَاوِيهِ غَيْرُهُ فِيهِ وَسَمْتٍ يَزِيدُ عَلَى غَيْرِهِ فِيهِ . مَلْبَسُ الْقُضَاةِ . فَأَمَّا اللِّبَاسُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَخْتَصَّ بِأَنْظَفِهَا مَلْبَسًا القاضى ، وَيَخُصَّ يَوْمَ نَظَرِهِ بِأَفْخَرِ لِبَاسِهِ
جِنْسًا ، وَيَسْتَكْمِلَ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ بِلُبْسِهِ ، مِنَ الْعِمَامَةِ وَالطَّيْلَسَانِ وَأَنْ يَتَمَيَّزَ بِمَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْقُضَاةِ ، مِنَ الْقَلَانِسِ وَالْعَمَائِمِ السُّودِ ، وَالطَّيَالِسَةِ السُّودِ ، فَقَدِ اعْتَمَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ دُخُولِ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ ، بِعِمَامَةٍ سَوْدَاءَ تَمَيَّزَ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ ، وَيَكُونُ نَظِيفَ الْجَسَدِ ، يَأْخُذُ شَعْرَهُ وَتَقْلِيمَ ظُفُرِهِ ، وَإِزَالَةَ الرَّائِحَةِ الْمَكْرُوهَةِ مِنْ بَدَنِهِ ، وَيَسْتَعْمِلُ مِنَ الطِّيبِ مَا يُخْفِي لَوْنَهُ ، وَتَظْهَرُ رَائِحَتُهُ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي يَوْمٍ يَنْظُرُ فِيهِ بَيْنَ النِّسَاءِ ، فَلَا يَسْتَعْمِلُ مِنَ الطِّيبِ مَا نَمَّ . مَجْلِسُ الْقَاضِي : وَأَمَّا مَجْلِسُهُ فِي الْحُكْمِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فَسِيحًا لَا يَضِيقُ بِالْخُصُومِ وَلَا يَسْرَعُ فِيهِ الْمَلَلُ وَيَفْتَرِشُ بِسَاطًا ، لَا يُزْرِي ، وَلَا يُطْغِي ، وَيَخْتَصُّ فِيهِ بِمَقْعَدٍ وَوِسَادَةٍ ، لَا يُشَارِكُهُ غَيْرُهُ فِيهِمَا . وَلْيَكُنْ جُلُوسُهُ فِي صَدْرِ مَجْلِسِهِ ، لِيَعْرِفَهُ الدَّاخِلُ عَلَيْهِ بِبَدِيهَةِ النَّظَرِ ، وَلَوْ كَانَ مُسْتَقْبِلًا فِيهِ الْقِبْلَةَ كَانَ أَفْضَلَ . وَيَفْتَتِحُ مَجْلِسَهُ بِرَكْعَتَيْنِ ، يَدْعُو بَعْدَهُمَا بِالتَّوْفِيقِ وَالتَّسْدِيدِ ، ثُمَّ يَطْمَئِنُ فِي جُلُوسِهِ مُتَرَبِّعًا مُسْتَنِدًا أَوْ غَيْرَ مُسْتَنِدٍ . سَمْتُ الْقَاضِي . وَأَمَّا سَمْتُهُ : فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ غَاضَّ الطَّرْفِ ، كَثِيرَ الصَّمْتِ ، قَلِيلَ الْكَلَامِ ، يَقْتَصِرُ مِنْ كَلَامِهِ عَلَى سُؤَالٍ أَوْ جَوَابٍ ، وَلَا يَرْفَعُ بِكَلَامِهِ صَوْتًا ، إِلَّا لِزَجْرٍ وَتَأْدِيبٍ ، وَلِيُقَلِّلَ الْحَرَكَةَ وَالْإِشَارَةَ ، وَلَيَقِفْ مِنْ أَعْوَانِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ مَنْ يَسْتَدْعِي الْخُصُومَ إِلَيْهِ ، وَيُرَتِّبُ مَقَاعِدَ النَّاسِ فِي مَجْلِسِهِ ، وَيَكُونُ مَهِيبًا مَأْمُونًا لَيَنْصَانَ بِهِ مَجْلِسُهُ ، وَتَكْمُلَ بِهِ هَيْبَتُهُ يَوْمَ جُلُوسِهِ لِلْحُكْمِ . وَيَجْعَلُ يَوْمَ جُلُوسِهِ لِلْحُكْمِ الْعَامِّ مَعْرُوفَ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ ، وَأَوَّلُ النَّهَارِ أَوْلَى بِهِ مِنْ آخِرِهِ . وَالِاعْتِدَالُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ يَوْمَانِ إِنْ أَقْنَعَا ، وَلَا يَخْلُ يَوْمٌ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ . فَإِنْ وَرَدَتْ فِيمَا عَدَاهُ أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ لَمْ يُؤَخِّرْهَا ، إِنْ ضَرَّتْ وَكَانَ فِيهَا بَيْنَ إِنْ يَسْتَخْلِفَ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ فِي النَّظَرِ ، وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرَ فِيهَا بِنَفْسِهِ ، بَعْدَ أَنْ يَسْتَكْمِلَ الرَّاحَةَ وَالدَّعَةَ لِئَلَّا يُسْرِعَ إِلَيْهِ مَلَلٌ وَلَا ضَجَرٌ .
فَصْلٌ : وَالْقِسْمُ الثَّانِي آدَابُ الْقُضَاةِ مَعَ الشُّهُودِ : فَمِنْ آدَابِهِمْ مَعَهُمْ ، إِذَا تَمَيَّزُوا وَارْتَسَمُوا بِالشَّهَادَةِ ، أَنْ يَكُونَ مَقْعَدُهُمْ فِي مَجْلِسِهِ مُتَمَيِّزًا عَنْ غَيْرِهِمْ بِالصِّيَانَةِ ، وَلَا يُسَاوِيهِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فِي مَقْعَدِهِ ، وَلَا فِيمَا تَخَصَّصَ بِهِ مِنْ سَوَادِهِ ، وَقَلَنْسُوَتِهِ ، لِيَتَمَيَّزَ لِلْخُصُومِ الْقَاضِي مِنْ شُهُودِهِ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يَخْتَصَّ الشُّهُودُ فِي مَلَابِسِهِمْ بِمَا يَتَمَيَّزُونَ بِهِ عَنْ غَيْرِهِمْ لِيَتَمَيَّزُوا لِمَنْ يُشْهِدُهُمْ وَيَسْتَشْهِدُهُمْ ، كَمَا تَمَيَّزَ الْقَاضِي عَنْهُمْ . وَيُسَلِّمُوا عَلَى الْقَاضِي بِلَفْظِ الرِّيَاسَةِ عَلَيْهِمْ الشهود ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِمُ الْقَاضِي مُجِيبًا أَوْ مُبْتَدِئًا عَلَى تَمَاثُلٍ وَتَفَاضُلٍ . وَيُقَدِّمُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْمَجْلِسِ وَالْخِطَابِ ، بِحَسْبَ مَا يَتَمَيَّزُونَ بِهِ مِنْ عِلْمٍ أَوْ فَضْلٍ ، بِخِلَافِ الْخُصُومِ ، الَّذِي تَلْزَمُهُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ جَمِيعِهِمْ ، وَإِنْ تَفَاضَلُوا . فَإِنْ حَضَرُوهُ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ ، جَلَسُوا فِي مَقَاعِدِهِمُ الْمَعْرُوفَةِ فِي مَجْلِسِهِ ، وَرَتَّبَهُمْ فِيهِ عَلَى اخْتِيَارِهِ ، وَقَطَعَ تَنَافُسَهُمْ فِيهِ ، فَإِنَّ التَّنَافُسَ مُوهِنٌ لِلْعَدَالَةِ . فَإِنْ تَنَافَسُوا فِي التَّقَدُّمِ فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ كَانَ قَدْحًا فِي عَدَالَتِهِمْ كَالتَّمَانُعِ فِي أَدَائِهَا . وَإِنْ تَنَافَسُوا فِي التَّقَدُّمِ فِي الْجُلُوسِ لَمْ يَقْدَحْ فِي عَدَالَتِهِمْ ، مَا لَمْ يَتَنَابَذُوا . وَيَجُوزُ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ أَنْ يُحَادِثَهُمُ الْقَاضِي وَيُحَادِثُوهُ ، وَيُؤَانِسَهُمْ وَيُؤَانِسُوهُ بِمَا لَا تَنْخَرِقُ بِهِ الْحِشْمَةُ ، وَلَا تَزُولُ مَعَهُ الصِّيَانَةُ . فَأَمَّا حُضُورُهُمْ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ فَعَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ مِنَ التَّحَفُّظِ وَالِانْقِبَاضِ فِيهِ أَكْثَرُ مِمَّا عَلَيْهِمْ فِي غَيْرِهِ . فَإِنْ أَحَبَّ الْقَاضِي أَنْ يُفْرِدَهُمْ عَنْ مَجْلِسِهِ ، فِي مَوْضِعٍ مُعْتَزِلٍ لِيَسْتَدْعُوا مِنْهُ لِإِقَامَةِ الشَّهَادَةِ آداب الشهود كَانَ أَوْلَى ، وَكَانُوا مِنْهُ بِمَنْظَرٍ وَمَسْمَعٍ وَخُصَّ مِنْهُمْ شَاهِدَيْنِ بِمَجْلِسِهِ لِيَشْهَدَا مَا يَجْرِي مِنَ الدَّعَاوَى وَالْأَحْكَامِ . وَإِنْ أَحْضَرَهُمْ جَمِيعًا فِي مَجْلِسِهِ جَازَ ، وَكَانَتْ مَيْمَنَةُ مَجْلِسِهِ أَوْلَى بِهِمْ مِنْ مَيْسَرَتِهِ ، فَإِنِ افْتَرَقُوا فِي الْمَيْمَنَةِ وَالْمَيْسَرَةِ جَازَ وَإِنْ كَانَ اجْتِمَاعُهُمْ أَوْلَى . وَيَكُونُ جُلُوسُ الْكَاتِبِ موضعه من القاضى فِي مَجْلِسِهِ بِحَيْثُ يُوَاجِهُ الْقَاضِي وَيُشَاهِدُ الْخُصُومَ وَيَجْمَعُ بَيْنَ سَمَاعِ كَلَامِهِ وَكَلَامِهِمْ ، وَجُلُوسُهُ فِي الْمَيْسَرَةِ أَوْلَى بِهِ مِنَ الْمَيْمَنَةِ ، لِأَنَّ حَاجَةَ الْقَاضِي فِي الْإِقْبَالِ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْهَا مَعَ الشُّهُودِ ، وَإِقْبَالُهُ عَلَى مَيْسَرَتِهِ أَسْهَلُ عَلَيْهِ مِنْ إِقْبَالِهِ عَلَى مَيْمَنَتِهِ . وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَكُفَّ عَنْ مُحَادَثَةِ الشُّهُودِ ادب القاضى ، وَيَكُفُّوا عَنْ مُحَادَثَتِهِ ، وَيَكُونُ كَلَامُ الْقَاضِي لَهُمْ مَقْصُورًا عَلَى الْإِذْنِ فِي الشَّهَادَةِ ، وَكَلَامُهُمْ لَهُ مَقْصُورًا عَلَى أَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَيَغُضُّوا عَنْهُ أَبْصَارَهُمْ . وَلَا يُلَقِّنُهُمْ شَهَادَةً ، وَلَا يَتَعَنَّتُهُمْ فِيهَا ، وَلَا يَسْأَلُهُمْ عَنْ سَبَبِ تَحَمُّلِهَا . فَإِنْ أَخْبَرُوهُ بِسَبَبِ التَّحَمُّلِ كَانَ أَوْلَى إِنْ تَعَلَّقَ بِهِ فَضْلُ بَيَانٍ وَزِيَادَةُ اسْتِظْهَارًا
وَكَانَ تَرْكُهُ أَوْلَى إِنْ لَمْ يَفِدْ ، وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَسْتَدْعِيَهُمْ لِلشَّهَادَةِ ، وَلَا يَنْبَغِيَ لَهُمْ أَنْ يَبْدَأُوا بِهَا إِلَّا بَعْدَ اسْتِدْعَائِهِمْ لَهَا . وَالَّذِي يَجِبُ فِيهِ أَنْ يَسْتَأْذِنَ الْمَشْهُودُ لَهُ الْقَاضِيَ فِي إِحْضَارِ شُهُودِهِ . فَإِذَا أَذِنَ لَهُ أَحْضَرَهُمْ ، وَقَالَ لَهُمُ الْقَاضِي بِمَ تَشْهَدُونَ ؟ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِفْهَامِ ، وَلَمْ يَقُلْ لَهُمُ اشْهَدُوا ، فَيَكُونُ أَمْرًا . وَيَكُونُ الْقَاضِي فِيهِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ لِلشَّاهِدَيْنِ فَيَتَقَدَّمُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا بِالشَّهَادَةِ ، وَلَا يَحْتَاجُ الثَّانِي إِلَى إِذْنٍ بَعْدَ الْأَوَّلِ ، وَبَيْنَ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ لِأَحَدِهِمَا فَيَبْدَأُ بِالشَّهَادَةِ ، وَلَا يَكُونُ لِلْآخَرِ أَنْ يَشْهَدَ إِلَّا بَعْدَ إِذْنٍ آخَرَ . وَلَوْ بَدَأَ الْأَوَّلُ فَاسْتَوْفَى الشَّهَادَةَ ، وَقَالَ الثَّانِي : أَشْهَدُ بِمِثْلِ مَا شَهِدَ بِهِ ، لَمْ تَصِحَّ شَهَادَتُهُ ، حَتَّى يَسْتَوْفِيَهَا لَفْظًا كَالْأَوَّلِ ، لِأَنَّهُ مَوْضِعُ أَدَاءٍ وَلَيْسَ مَوْضِعَ حِكَايَةٍ .
فَصْلٌ : وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ آدَابُ الْقُضَاةِ مَعَ الْخُصُومِ أَنْ يَبْدَأَ بِالنَّظَرِ بَيْنَ مَنْ سَبَقَ مِنَ الْخُصُومِ ، وَلَا يُقَدِّمُ مَسْبُوقًا إِلَّا بِاخْتِيَارِ السَّابِقِ ، وَيَجْمَعُ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي دُخُولِهِمَا عَلَيْهِ ، وَلَا يَسْتَدْعِي أَحَدَهُمَا قَبْلَ صَاحِبِهِ ، فَتَظْهَرُ بِهِ مُمَايَلَةُ الْمُتَقَدِّمِ ، وَتَضْعُفُ فِيهِ نَفْسُ الْمُتَأَخِّرِ ، بَلْ يُسَوِّي فِي الْمَدْخَلِ بَيْنَ الشَّرِيفِ وَالْمَشْرُوفِ ، وَالْحُرِّ وَالْعَبْدِ ، وَالْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ . فَإِذَا دَخَلَا عَلَيْهِ سَوَّى بَيْنَهُمَا ، فِي لَحْظِهِ وَلَفْظِهِ إِنْ أَقْبَلَ كَانَ إِقْبَالُهُ عَلَيْهِمَا ، وَإِنْ أَعْرَضَ كَانَ إِعْرَاضُهُ عَنْهُمَا ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْبِلَ عَلَى أَحَدِهِمَا ، وَيُعْرِضَ عَلَى الْآخَرِ ، وَإِنْ تَكَلَّمَ كَانَ كَلَامُهُ لَهُمَا ، وَإِنْ أَمْسَكَ كَانَ إِمْسَاكُهُ عَنْهُمَا ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُكَلِّمَ أَحَدَهُمَا وَيُمْسِكَ عَنِ الْآخَرِ ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الدِّينِ وَالْحُرِّيَّةِ لِئَلَّا يَصِيرَ مُمَايَلًا لِأَحَدِهِمَا . وَلَا يَسْمَعُ الدَّعْوَى مِنْهُمَا وَهُمَا قَائِمَانِ ، حَتَّى يَجْلِسَا بَيْنَ يَدَيْهِ ، تِجَاهَ وَجْهِهِ ، رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ قَالَ : " قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَجْلِسَ الْخَصْمَانِ بَيْنَ يَدَيِ الْقَاضِي " وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَجْلِسُ الْخُصُومِ عِنْدَ الْقَاضِي أَبْعَدَ مِنْ مَجَالِسِ غَيْرِهِمْ ، لِيَتَمَيَّزَ بِهِ الْخُصُومُ مِنْ غَيْرِهِمْ . وَيُسَوِّي فِي الْمَجْلِسِ بَيْنَ الشَّرِيفِ وَالْمَشْرُوفِ ، وَبَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ ، كَمَا سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الدُّخُولِ .
وَفِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ فِي الْمَجْلِسِ آداب القاضي وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُسَوِّي بَيْنَهُمَا فِيهِ ، كَمَا سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الْمَدْخَلِ وَالْكَلَامِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُقَدِّمُ الْمُسْلِمَ فِي الْجُلُوسِ عَلَى الْكَافِرِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اخْتَصَمَ مَعَ يَهُودِيٍّ وَجَدَ مَعَهُ دِرْعًا ضَاعَتْ مِنْهُ يَوْمَ الْجَمَلِ إِلَى شُرَيْحٍ ، فَلَمَّا دَخَلَا عَلَيْهِ ، قَامَ شُرَيْحٌ عَنْ مَجْلِسِهِ ، حَتَّى جَلَسَ فِيهِ عَلِيٌّ وَجَلَسَ شُرَيْحٌ وَالْيَهُودِيُّ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ عَلِيٌّ : لَوْلَا أَنَّ خَصْمِي ذِمِّيٌّ لَجَلَسْتُ مَعَهُ بَيْنَ يَدَيْكَ لَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " لَا تُسَاوُوهُمْ فِي الْمَجَالِسِ " . وَلَوْلَا ضَعْفٌ فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ لَقُدِّمَ الْمُسْلِمُ عَلَى الذِّمِّيِّ وَجْهًا وَاحِدًا ، وَلِكِلَا الْوَجْهَيْنِ مَعَ ضَعْفِهِ وَجْهٌ . فَإِنِ اخْتَلَفَ جُلُوسُ الْخَصْمَيْنِ بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَتَقَدَّمَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ آداب القاضي ، كَانَ الْقَاضِي بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُؤَخِّرَ الْمُتَقَدِّمَ ، أَوْ يُقَدِّمَ الْمُتَأَخِّرَ . وَالْأَوْلَى أَنْ يَنْظُرَ : فَإِنْ كَانَ الْمُتَقَدِّمُ قَدْ جَلَسَ فِي مَجْلِسِ الْخُصُومِ ، وَتَأَخَّرَ عَنْهُ الْآخَرُ ، قَدَّمَهُ إِلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ الْمُتَأَخِّرُ قَدْ جَلَسَ فِي مَجْلِسِ الْخُصُومِ ، وَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ الْآخَرُ أَخَّرَهُ إِلَيْهِ ، حَتَّى يُسَاوَيَا فِيهِ . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ تَقَاضَيَا إِلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فِي مُحَاكَمَةٍ بَيْنَهُمَا ، فَقَصَدَاهُ فِي دَارِهِ فَقَالَ زَيْدٌ لِعُمَرَ : لَوْ أَرْسَلْتَ إِلَيَّ لَجِئْتُكَ ، فَقَالَ عُمَرُ : فِي بَيْتِهِ يُؤْتَى الْحَكَمُ فَأَخَذَ زَيْدٌ وِسَادَتَهُ لِيَجْلِسَ عَلَيْهَا عُمَرُ فَقَالَ عُمَرُ : هَذَا أَوَّلُ جَوْرِكَ ، سَوِّ بَيْنَنَا فِي الْمَجْلِسِ فَجَلَسَا بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَنَظَرَ بَيْنَهُمَا فَتَوَجَّهَتِ الْيَمِينُ عَلَى عُمَرَ فَقَالَ زَيْدٌ لِأُبَيٍّ : لَوْ عَفَوْتَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْيَمِينِ ؟ فَقَالَ عُمَرُ : مَا يَدْرِي زَيْدٌ مَا الْقَضَاءُ ، وَمَا عَلَى عُمَرَ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّ هَذِهِ أَرْضٌ وَهَذِهِ سَمَاءٌ . وَمِنْ عَادَةِ جُلُوسِ الْخُصُومِ عند القاضي ، أَنْ يَجْلِسُوا فِي التَّحَاكُمِ بُرُوكًا عَلَى الرُّكَبِ ؛ لِأَنَّهُ عَادَةُ الْعَرَبِ فِي التَّنَازُعِ ، وَعُرْفُ الْحُكَّامِ فِي الْأَحْكَامِ . فَإِنْ كَانَ التَّخَاصُمُ بَيْنَ النِّسَاءِ ، جَلَسْنَ مُتَرَبِّعَاتٍ ، بِخِلَافِ الرِّجَالِ ، لِأَنَّهُ أَسْتَرُ لَهُنَّ . وَإِنْ كَانَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ ، بَرَكَ الرَّجُلُ وَتَرَبَّعَتِ الْمَرْأَةُ ، لِأَنَّهُ عُرْفٌ لِجِنْسِهَا فَلَمْ يَصِرْ تَفْضِيلًا لَهَا .
وَالْأَوْلَى بِالْقَاضِي أَنْ لَا يُشْرِكَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي مَجْلِسِ النَّظَرِ ، وَيَجْعَلَ لِلنِّسَاءِ وَقْتًا ، وَلِلرِّجَالِ وَقْتًا . وَلَا يَحْضُرُ تَخَاصُمَ النِّسَاءِ مِنَ الرِّجَالِ مَنْ يَسْتَغْنِي عَنْ حُضُورِهِ . وَقَدِ اخْتِيرَ لِلْحَاكِمِ عِنْدَ تَحَاكُمِ النِّسَاءِ أَنْ يَكُونَ الْوَاقِفُ بَيْنَ يَدَيْهِ لِتَرْتِيبِ الْخُصُومِ خَصِيًّا . وَإِنْ كَانَ التَّحَاكُمُ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ ، فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَنْظُرَ بَيْنَهُمَا عِنْدَ تَحَاكُمِ الرِّجَالِ ، لِأَجْلِ الْمَرْأَةِ ، وَلَا يَنْظُرُ بَيْنَهُمَا ، عِنْدَ تَحَاكُمِ النِّسَاءِ لِأَجْلِ الرَّجُلِ ، وَيَجْعَلُ لَهُمَا وَقْتًا غَيْرَ هَذَيْنِ . وَإِذَا جَلَسَ الْخَصْمَانِ تَقَارَبَا آداب القاضي إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا رَجُلًا وَالْآخَرُ امْرَأَةً لَيْسَتْ بِذَاتِ مَحْرَمٍ فَيَتَبَاعَدَا وَلَا يَتَلَاصَقَا ، وَأَبْعَدُ مَا يَكُونُ مِنْ بَيْنِ الْخَصْمَيْنِ أَنْ يَسْمَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَلَامَ صَاحِبِهِ . وَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَ الْخَصْمَيْنِ مِنْ غَيْرِ ضَجَرٍ ، وَلَا انْتِهَارٍ ، لِأَنَّ ضَجَرَهُ عَلَيْهِمَا مُسْقِطٌ لِمَا عَلَيْهِ مِنْ حَقِّهِمَا ، وَانْتِهَارَهُ لَهُمَا مُضْعِفٌ لِنُفُوسِهِمَا ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْهُمَا لَغَطٌ فَيَنْتَهِرُهُمَا ، أَوْ يَنْتَهِرُ اللَّاغِطَ مِنْهُمَا . فَإِنْ أَمْسَكَا عَنِ الْكَلَامِ بَعْدَ جُلُوسِهِمَا ، قَالَ الْقَاضِي : يَتَكَلَّمُ مَنْ شَاءَ مِنْكُمَا ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَقُولَهُ الْقَائِمُ بَيْنَ يَدَيْهِ : لِأَنَّهُ أَحْفَظُ لِحِشْمَتِهِ . فَإِنْ تَنَازَعَا فِي الْكَلَامِ كَفَّهُمَا عَنِ التَّنَازُعِ ، حَتَّى يَتَّفِقَا عَلَى الْمُبْتَدِئِ مِنْهُمَا . فَإِنْ أَقَامَا عَلَى التَّنَازُعِ وَيَبْتَدِئُ بِالْكَلَامِ مِنْ قَرْعٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَصْرِفُهُمَا حَتَّى يَتَّفِقَا عَلَى الْمُبْتَدِئِ .
لَا يَتَعَنَّتُ الْقَاضِي شَاهِدًا
لَا يَتَعَنَّتُ الْقَاضِي شَاهِدًا . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يَتَعَنَّتُ شَاهِدًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَعَنَتُ الشَّاهِدِ قَدْ يَكُونُ مِنَ الْقَاضِي مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : إِظْهَارُ التَّنَكُّرِ عَلَيْهِ ، وَالِاسْتِرَابَةِ بِهِ ، وَهُوَ طَاهِرُ السَّتْرِ ، مَوْفُورُ الْعَقْلِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَسْأَلَهُ مِنْ أَيْنَ عَلِمْتَ مَا شَهِدْتَ وَكَيْفَ تَحَمَّلْتَ وَلَعَلَّكَ سَهَوْتَ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَتَتَبَّعَهُ فِي أَلْفَاظِهِ ، وَيُعَارِضَهُ إِلَى مَا جَرَى مَجْرَى مَا ذَكَرْنَا ، لِأَنَّ عَنَتَ الشَّاهِدِ قَدْحٌ فِيهِ ، وَمَيْلٌ عَلَى الْمَشْهُودِ لَهُ ، وَمُفْضٍ إِلَى تَرْكِ الشَّهَادَةِ عِنْدَهُ .
وَهَكَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَضْجَرَ عَلَى الشَّاهِدِ وَلَا يَنْتَهِرَهُ : لِأَنَّ الضَّجَرَ وَالِانْتِهَارَ عَنَتٌ .
لَا يُلَقِّنُ الْقَاضِي أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ حُجَّةً
[ لَا يُلَقِّنُ الْقَاضِي أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ حُجَّةً ] . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُلَقِّنَ وَاحِدًا مِنْهُمَا حُجَّةً " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : يَعْنِي مِنَ الْخَصْمَيْنِ ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِالتَّلْقِينِ مُمَايِلًا لَهُ وَبَاعِثًا عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِمَا لَعَلَّهُ لَيْسَ لَهُ . فَأَمَّا إِنْ قَصَّرَ الْمُدَّعِي فِي الدَّعْوَى وَلَمْ يَسْتَوْفِهَا ، سَأَلَهُ عَمَّا قَصَّرَ فِيهِ لِتَتَحَقَّقَ بِهِ الدَّعْوَى . فَإِنْ لَقَّنَهُ تَحْقِيقَ الدَّعْوَى آداب القاضي ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ ، فَجَوَّزَهُ بَعْضُهُمْ ؛ لِأَنَّهُ تَوْفِيقٌ لِتَحْقِيقِ الدَّعْوَى ، وَلَيْسَ بِتَلْقِينٍ لِلْحُجَّةِ . وَمَنَعَ مِنْهُ آخَرُونَ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُعِينًا لَهُ عَلَى خَصْمِهِ . وَقَالَ لَهُ : إِنْ حَقَّقْتَ دَعْوَاكَ سَمِعْتُهَا ، وَإِلَّا صَرَفْتُكَ حَتَّى يَتَحَقَّقَ لَكَ . فَإِنْ قَالَ لَهُ اسْتَعِنْ بِمَنْ يَنُوبُ عَنْكَ فَإِنْ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ فِي الِاحْتِجَاجِ عَنْهُ لَمْ يَجُزْ ، وَإِنْ أَشَارَ بِهِ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ فِي تَحْقِيقِ الدَّعْوَى جَازَ وَلَا يُعَيِّنُ لَهُ عَلَى مَنْ يَسْتَعِينُ بِهِ .
لَا يُلَقِّنُ الْقَاضِي أَحَدَ الشَّاهِدَيْنِ شَهَادَةً
[ لَا يُلَقِّنُ الْقَاضِي أَحَدَ الشَّاهِدَيْنِ شَهَادَةً ] . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا شَاهِدًا شَهَادَةً " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : يَعْنِي أَنَّهُ لَا يُلَقِّنُ الشَّاهِدَ مَا يَشْهَدُ بِهِ ، لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَصِيرُ بِتَلْقِينِهِ مَائِلًا مَعَ الْمَشْهُودِ لَهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ رُبَّمَا لَقَّنَهُ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ . فَإِنْ لَقَّنَهُ صِفَةَ لَفْظِ الْأَدَاءِ ، وَلَمْ يُلَقِّنْهُ مَا يَشْهَدُ بِهِ فِي الْأَدَاءِ القاضى لأحد الشاهدين ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ ، كَمَا اخْتَلَفُوا فِي تَلْقِينِ الْخَصْمِ تَحْقِيقِ الدَّعْوَى ، فَجَوَّزَهُ بَعْضُهُمْ ، لِأَنَّهُ تَوْقِيفٌ ، وَلَيْسَ بِتَلْقِينٍ ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ . وَمَنَعَ مِنْهُ آخَرُونَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمُمَايَلَةِ ، وَيَقُولُ لَهُ : إِنْ بَيَّنْتَ مَا تَصِحُّ بِهِ شَهَادَتُكَ سَمِعْتُهَا . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْعَثَ الشَّاهِدَ عَلَى الشَّهَادَةِ إِذَا تَوَقَّفَ عَنْهَا وَلَا يَبْعَثُهُ عَلَى التَّوَقُّفِ عَنْهَا إِذَا بَادَرَ إِلَيْهَا إِلَّا فِي الْحُدُودِ الَّتِي تُدْرَأُ بِالشُّبَهَاتِ ، فَيَجُوزُ أَنْ يَعْرِضَ لَهُ بِالتَّوَقُّفِ عَنْهَا ، كَمَا فَعَلَهُ عُمَرُ فِي الشُّهُودِ عَلَى الْمُغَيَّرَةِ بِالزِّنَا حَتَّى تَوَقَّفَ زِيَادٌ فَدَرَأَ بِهِ الْحَدَّ عَنِ الْمُغَيَّرَةِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا بَأْسَ إِذَا جَلَسَ أَنْ يَقُولَ تَكَلَّمَا أَوْ يَسْكُتَ حَتَّى يَبْتَدِئَ أَحَدُهُمَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَالْأَوْلَى فِي أَدَبِ الْخَصْمَيْنِ إِذَا جَلَسَا لِلتَّحَاكُمِ أَنْ يَسْتَأْذِنَا الْقَاضِيَ فِي الْكَلَامِ لِيَتَكَلَّمَا بَعْدَ إِذْنِهِ . فَإِنْ بُدِئَ بِالْكَلَامِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِ ، جَازَ ، وَإِنْ خَالَفَ فِيهِ أَدَّبَهُ . فَإِنْ سَكَتَ الْخَصْمَانِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ وَاحِدٌ مِنْهَا بَعْدَ جُلُوسِهِمَا فَإِنْ كَانَ السُّكُوتُ لِلتَّأَهُّبِ لِلْكَلَامِ أَمْسَكَ عَنْهُمَا ، حَتَّى يَتَحَرَّرَ لِلْمُتَكَلِّمِ مَا يَذْكُرُهُ . وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ سُكُوتُهُمَا لِهَيْبَةٍ حَضَرَتْهُمَا عَنِ الْكَلَامِ تَوَقَّفَ حَتَّى تَسْكُنَ نُفُوسُهُمَا فَيَتَكَلَّمَانِ . وَإِنْ أَمْسَكَا لِغَيْرِ سَبَبٍ ، لَمْ يَتْرُكْهُمَا عَلَى تَطَاوُلِ الْإِمْسَاكِ ، فَيَنْقَطِعُ بِهِمَا عَنْ غَيْرِهِمَا مِنَ الْخُصُومِ وَقَالَ لَهُمْ : مَا خَطْبُكُمَا ؟ وَهُوَ أَحَدُ الْأَلْفَاظِ فِي اسْتِدْعَاءِ كَلَامِهِمَا : لِأَنَّهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مَحْكِيٌّ مِنْ نَبِيِّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنْ عَدَلَ عَنْهُ ، وَقَالَ : تَكَلَّمَا ، أَوْ يَتَكَلَّمُ الْمُدَّعِي مِنْكُمْ ، أَوْ يَتَكَلَّمُ أَحَدُكُمَا ، جَازَ . وَالْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ الْعَوْنُ الْقَائِمُ عَلَى رَأْسِهِ ، أَوْ بَيْنَ يَدَيْهِ . فَإِنْ تَنَازَعَا فِي الِابْتِدَاءِ بِالْكَلَامِ ، وَلَمْ يَسْبِقْ بِهِ أَحَدُهُمَا الخصمين ، فَقَدْ ذَكَرْنَا فِيهِ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا ، وَيُقَدَّمُ مَنْ قُرِعَ مِنْهُمَا . وَالثَّانِي : يَصْرِفُهُمَا ، حَتَّى يَتَّفِقَا عَلَى ابْتِدَاءِ أَحَدِهِمَا .
مَنْ يَبْدَأُ بِالْكَلَامِ مِنَ الْخَصْمَيْنِ
مَنْ يَبْدَأُ بِالْكَلَامِ مِنَ الْخَصْمَيْنِ أمام القاضي . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَيَنْبَغِي أَنْ يَبْتَدِئَ الطَّالِبُ فَإِذَا أَنْفَذَ حُجَّتَهُ تَكَلَّمَ الْمَطْلُوبُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا إِنِ اتَّفَقَا عَلَى الطَّالِبِ مِنْهُمَا وَالْمَطْلُوبِ ، فَالْمُبْتَدِئُ بِالْكَلَامِ مِنْهُمَا هُوَ الطَّالِبُ قَبْلَ الْمَطْلُوبِ احد الخصمين أمام القاضي : لِأَنَّ كَلَامَ الطَّالِبِ سُؤَالٌ ، وَكَلَامَ الْمَطْلُوبِ جَوَابٌ . فَإِنْ تَنَازَعَا فِي الطَّالِبِ وَالْمَطْلُوبِ مِنْهُمَا الخصمين فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا : أَنَا طَالِبٌ وَأَنْتَ مَطْلُوبٌ ، نُظِرَ : فَإِنْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا فَهُوَ الطَّالِبُ ، وَصَاحِبُهُ هُوَ الْمَطْلُوبُ وَإِنْ قَالَا مَعًا ، وَلَمْ يَسْبِقْ بِهِ أَحَدُهُمَا ، فَفِيهِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الْإِقْرَاعُ بَيْنَهُمَا . وَالثَّانِي : صَرْفُهُمَا حَتَّى يَتَّفِقَا عَلَى الطَّالِبِ مِنْهُمَا .
فَإِذَا صَارَ أَحَدُهُمَا طَالِبًا وَالْآخَرُ مَطْلُوبًا ، بَدَأَ الطَّالِبُ بِدَعْوَاهُ فَإِنْ عَارَضَهُ الْمَطْلُوبُ فِي الْكَلَامِ ، قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الدَّعْوَى ، مَنَعَهُ الْقَاضِي مِنْ مُعَارَضَتِهِ ، حَتَّى يَسْتَوْفِيَهَا . فَلَوْ أَنَّ الطَّالِبَ كَتَبَ دَعْوَاهُ فِي رُقْعَةٍ ثُمَّ دَفَعَهَا إِلَى الْقَاضِي وَقَالَ قَدْ أَثْبَتُّ دَعْوَايَ فِي هَذِهِ الرُّقْعَةِ ، وَأَنَا مُطَالَبٌ لَهُ بِمَا فِيهَا ، فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ ، عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْقَاضِي هَذَا مِنْهُ حَتَّى يَذْكُرَهُ نُطْقًا بِلِسَانِهِ ، أَوْ يُوَكِّلَ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ ، وَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ ؛ لِأَنَّ الطَّلَبَ يَكُونُ بِاللِّسَانِ ، دُونَ الْخَطِّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْقَاضِيَ وَإِنْ لَمْ يُجِبْ عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَقْرَأَهَا عَلَى الطَّالِبِ وَيَقُولَ لَهُ : أَهَكَذَا تَقُولُ أَوْ تَدَّعِي ؟ فَإِذَا قَالَ : نَعَمْ ، سَأَلَ الْمَطْلُوبَ عَنِ الْجَوَابِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْأَلَهُ قَبْلَ قِرَاءَتِهَا عَلَى الطَّالِبِ وَاعْتِرَافِهِ بِمَا تَضَمَّنَهَا . فَإِنْ فَعَلَ الْمَطْلُوبُ فِي جَوَابِ الدَّعْوَى مِثْلَ ذَلِكَ وَكَتَبَ جَوَابَهُ فِي رُقْعَةٍ وَدَفْعَهَا إِلَى الْحَاكِمِ ، فَقَالَ : هَذَا جَوَابِي عَنِ الدَّعْوَى ، كَانَا فِي الْقَبُولِ وَالِامْتِنَاعِ عَلَى سَوَاءٍ إِنْ جَوَّزْنَاهُ فِي الطَّالِبِ . فَإِنْ قَدَّمَ الْمَطْلُوبُ الْإِقْرَارَ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الدَّعْوَى ، لَزِمَهُ الْإِقْرَارُ ، وَسَقَطَ جَوَابُهُ عَنِ الدَّعْوَى إِذَا وَافَقَتْ إِقْرَارَهُ . وَإِنْ قَدَّمَ الْإِنْكَارَ لَمْ يُقْنِعْ فِي الْجَوَابِ وَطُولِبَ بِهِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الدَّعْوَى : لِأَنَّ الْإِقْرَارَ الْتِزَامٌ ، جَازَ تَقْدِيمُهُ ، وَالْإِنْكَارُ إِسْقَاطٌ فَلَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهُ ، فَإِنْ أَنْكَرَ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الدَّعْوَى ، فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيمَا يَخْتَارُ أَنْ يَقُولَهُ الْقَاضِي لِلطَّالِبِ . فَاخْتَارَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنْ يَقُولَ لَهُ الْقَاضِي : قَدْ أَنْكَرَكَ مَا ادَّعَيْتَهُ عَلَيْهِ فَمَاذَا تُرِيدُ ؟ وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمُ : الِاخْتِيَارُ أَنْ يَقُولَ قَدْ أَنْكَرَكَ مَا ادَّعَيْتَ ، فَهَلْ مِنْ بَيِّنَةٍ ؟ وَهُوَ الْأَشْبَهُ . لِرِوَايَةِ وَائِلِ بْنِ حَجَرٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ حَضْرَمَوْتَ حَاكَمَ رَجُلًا مِنْ كِنْدَةَ ، إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَرْضٍ فَقَالَ لِلْحَضْرَمِيِّ : أَلَكَ بَيِّنَةٌ ؟ قَالَ : لَا . فَقَالَ : فَيَمِينُهُ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ فَاجِرٌ ، لَيْسَ يُبَالِي مَا حَلَفَ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ يَتَوَرَّعُ مِنْ شَيْءٍ ، فَقَالَ : لَيْسَ لَكَ إِلَّا ذَاكَ .
لَا يُضِيفُ الْقَاضِي الْخَصْمَ دُونَ صَاحِبِهِ
[ لَا يُضِيفُ الْقَاضِي الْخَصْمَ دُونَ صَاحِبِهِ ] مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُضِيفَ الْخَصْمَ دُونَ خَصْمِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا أَمْسَى الْخَصْمَانِ عِنْدَ الْقَاضِي ، أَوْ كَانَا غَرِيبَيْنِ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُضِيفَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ ، لِمَا فِيهِ مِنْ ظُهُورِ الْمُمَايَلَةِ ، رُوِيَ أَنَّ
رَجُلًا نَزَلَ بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ : أَلَكَ خَصْمٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : تَحَوَّلَ عَنَّا فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " لَا تُضِيفُوا أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ إِلَّا وَمَعَهُ خَصْمُهُ فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُضِيفَ أَحَدَهُمَا ، وَقِيلَ لَهُ : إِمَّا تُضِيفُهُمَا مَعًا أَوْ تَصْرِفُهُمَا مَعًا . وَتَأَوَّلَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا قَوْلَ الشَّافِعِيِّ : " وَلَا يُضِيفُ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ دُونَ صَاحِبِهِ " أَيْ : لَا يُقَدِّمُهُ عَلَيْهِ فِي مَجْلِسِهِ ، فَيُضِيفُهُ إِلَى نَفْسِهِ بِتَقْدِيمِهِ ، وَهَذَا تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ لِخُرُوجِهِ عَنْ حَقِيقَةِ اللَّفْظِ إِلَى مَجَازِهِ .
مَنْعُ الْوُلَاةِ وَالْقُضَاةِ مِنْ قَبُولِ الْهَدَايَا
مَنْعُ الْوُلَاةِ وَالْقُضَاةِ مِنْ قَبُولِ الْهَدَايَا . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا يَقْبَلَ مِنْهُ هَدِيَّةً وَإِنْ كَانَ يُهْدِي إِلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ حَتَّى تَنْفُذَ خُصُومَتُهُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : يَنْبَغِي لِكُلِّ ذِي وِلَايَةٍ أَنْ يَتَنَزَّهَ عَنْ قَبُولِ هَدَايَا أَهْلِ عَمَلِهِ . رَوَى الْمُغِيرَةُ بْنُ شُبَيْلٍ ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ ، قَالَ : بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا سِرْتُ ، أَرْسَلَ فِي أَثَرِي ، فَقَالَ : " أَتَدْرِي لِمَ بَعَثْتُ إِلَيْكَ : لَا تُصِيبَنَّ شَيْئًا بِغَيْرِ عِلْمِي فَإِنَّهُ غُلُولٌ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . لِهَذَا دَعَوْتُكَ فَامْضِ لِعَمَلِكَ " . وَرَوَى إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ عُمَيْرٍ الْكِنْدِيِّ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ ، وَهُوَ يَقُولُ : " وَمَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا فَمَا فَوْقَهُ فَهُوَ غُلُولٌ يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " هَدَايَا الْأُمَرَاءِ غُلُولٌ " . وَرَوَى الشَّافِعِيُّ ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ ، قَالَ : اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا مِنْ بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ لَهُ ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ هَذَا لَكُمْ ، وَهَذَا أُهْدِيَ لِي فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَقَالَ : " مَا بَالُ الْعَامِلِ نَبْعَثُهُ عَلَى بَعْضِ أَعْمَالِنَا فَيَقُولُ : هَذَا لَكُمْ ، وَهَذَا أُهْدِيَ لِي : أَلَا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ فَيَنْظُرُ يُهْدَى إِلَيْهِ أَمْ لَا ؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْهَا شَيْئًا إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ أَوْ شَاةً تَيْعَرُ ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَةَ إِبْطَيْهِ ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ " . فَدَلَّتْ هَذِهِ الْإِخْبَارُ عَلَى مَنْعِ الْوُلَاةِ مِنْ قَبُولِ الْهَدَايَا . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَبِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْهَدَايَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ مُلُوكِ الْأَقْطَارِ ، وَقَالَ : " لَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ لَقَبِلْتُ وَلَوْ دُعِيتُ إِلَى كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ " . قِيلَ عَنْهُ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ مَيَّزَهُ عَنِ الْخَلْقِ فَقَالَ : " النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَفِي بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ فَصَارَ فِي اخْتِصَاصِهِ كَالْأَبِ فَبَايَنَ مَنْ عَدَاهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ يُكَافِئُ عَلَى الْهَدَايَا وَكَانَ أَكْثَرَ مَنْ يُهَادِيهِ طَالِبًا لِفَضْلِ الْجَزَاءِ ، وَلِذَلِكَ لَمَّا أَهْدَى إِلَيْهِ الْأَعْرَابِيُّ نَاقَةً ، لَمْ يَزَلْ يُكَافِئُهُ حَتَّى رَضِيَ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ بَعِيدٌ مِنَ الْمَيْلِ مُنَزَّهٌ عَنِ الظِّنَّةِ طَاهِرُ الْعِصْمَةِ ، فَامْتَنَعَ أَنْ يُقَاسَ بِغَيْرِهِ .
فَصْلٌ : حُكْمُ الْهَدِيَّةِ بِصُورَةٍ عَامَّةٍ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْمُهَادَاةُ فِيمَنْ عَدَا الْوُلَاةِ مُسْتَحَبَّةٌ فِي الْبَذْلِ وَمُبَاحَةٌ فِي الْقَبُولِ ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " تَهَادُوا تَحَابُّوا " حُكْمُ مُهَادَاةِ الْوُلَاةِ . وَأَمَّا مُهَادَاةُ الْوُلَاةِ فَهُمْ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ : وُلَاةُ سَلْطَنَةٍ ، وَوُلَاةُ عِمَالَةٍ ، وَوُلَاةُ أَحْكَامٍ . فَأَمَّا الصِّنْفُ الْأَوَّلُ : وَهُمْ وُلَاةُ السَّلْطَنَةِ ، فَكَالْإِمَامِ الْأَعْظَمِ وَمَنْ قَامَ مَقَامَهُ ، فَكُلُّ النَّاسِ تَحْتَ وِلَايَتِهِ وَمِنْ جُمْلَةِ رَعِيَّتِهِ . وَلَا تَخْلُو مُهَادَاتُهُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ . هَدَايَا أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ إِلَى وُلَاةِ السَّلْطَنَةِ . فَإِنْ هَادَاهُ أَهْلُ الْحَرْبِ ، جَازَ لَهُ قَبُولُ هَدَايَاهُمْ ، كَمَا يَجُوزُ لَهُ اسْتِبَاحَةُ أَمْوَالِهِمْ . وَيَنْظُرُ فِي سَبَبِ الْهَدِيَّةِ ؛ فَإِنْ كَانَتْ لِأَجْلِ سُلْطَانِهِ فَسُلْطَانُهُ بِالْمُسْلِمِينَ فَصَارَتِ الْهَدِيَّةُ لَهُمْ دُونَهُ فَكَانَ بَيْتُ مَالِهِمْ بِهَا أَحَقَّ . وَإِنْ هَادَاهُ أَهْلُ الْحَرْبِ لِمَا لَا يَخْتَصُّ بِسُلْطَانِهِ مِنْ مَوَدَّةٍ سَلَفَتْ جَازَ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا . وَإِنْ هَادُوهُ لِحَاجَةٍ عَرَضَتْ فَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى قَضَائِهَا إِلَّا بِالسَّلْطَنَةِ كَانَ بَيْتُ الْمَالِ أَحَقَّ بِهَا مِنْهُ . وَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَيْهَا بِغَيْرِ السَّلْطَنَةِ كَانَ أَحَقَّ بِهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ . فَيَكُونُ حُكْمُ هَدَايَاهُمْ مُنْقَسِمًا عَلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ .
هَدَايَا أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ إِلَى وُلَاةِ السَّلْطَنَةِ . وَأَمَّا هَدَايَا دَارُ الْإِسْلَامِ فَتُقَسَّمُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُهْدِيَ إِلَيْهِ مَنْ يَسْتَعِينُ بِهِ إِمَّا عَلَى حَقٍّ يَسْتَوْفِيهِ ، وَإِمَّا عَلَى ظُلْمٍ يَدْفَعُهُ عَنْهُ ، وَإِمَّا عَلَى بَاطِلٍ يُعِينُهُ عَلَيْهِ ، فَهَذِهِ هِيَ الرِّشْوَةُ الْمُحَرَّمَةُ . رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لُعِنَ الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي وَالرَّائِشُ " فَالرَّاشِي : بَاذِلُ الرِّشْوَةِ ، وَالْمُرْتَشِي : قَابِلُ الرِّشْوَةِ ، وَالرَّائِشُ : الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَهُمَا . وَلِأَنَّ الْهَدِيَّةَ إِنْ كَانَتْ عَلَى حَقٍّ يَقُومُ بِهِ فَهُوَ مِنْ لَوَازِمِ نَظَرِهِ وَلَا يَجُوزُ لِمَنْ لَزِمَهُ الْقِيَامُ بِحَقٍّ أَنْ يَسْتَعْجِلَ عَلَيْهِ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَعْجِلَ عَلَى صَلَاتِهِ وَصِيَامِهِ . وَإِنْ كَانَ عَلَى بَاطِلٍ يُعِينُ عَلَيْهِ ، كَانَ الِاسْتِعْجَالُ أَعْظَمُ تَحْرِيمًا ، وَأَغْلَظُ مَأْثَمًا . فَأَمَّا بَاذِلُ الرِّشْوَةِ فَإِنْ كَانَتْ لِاسْتِخْلَاصِ حَقٍّ أَوْ لِدَفْعِ ظُلْمٍ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ بَذْلُهَا ، كَمَا لَا يَحْرُمُ افْتِدَاءُ الْأَسِيرِ بِهَا . وَإِنْ كَانَتْ لِبَاطِلٍ يُعَانُ عَلَيْهِ الرشوة يَحْرُمُ عَلَيْهِ بَذْلُهَا كَمَا حَرُمَ عَلَى الْمَبْذُولِ لَهُ أَخْذُهَا ، وَوَجَبَ رَدُّ الرِّشْوَةِ عَلَى بَاذِلِهَا وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُوضَعَ فِي بَيْتِ الْمَالِ الرشوة . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يُهْدِيَ إِلَيْهِ مَنْ كَانَ يُهَادِيهِ قَبْلَ الْوِلَايَةِ مِنْ ذِي نَسَبٍ أَوْ مَوَدَّةٍ فَهَذِهِ هَدِيَّةٌ ، وَلَيْسَتْ بِرِشْوَةٍ . وَهِيَ ثَلَاثَةُ ضُرُوبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ بِقَدْرِ مَا كَانَتْ قَبْلَ الْوِلَايَةِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ عَرَضَتْ ، فَيَجُوزُ لَهُ قَبُولُهَا لِانْتِفَاءِ الظِّنَّةِ عَنْهَا ، وَلِلْعُرْفِ الْجَارِي فِي التَّوَاصُلِ بِهَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَقْتَرِنَ بِحَاجَةٍ عَرَضَتْ لَهُ فَيَمْتَنِعُ مِنْ قَبُولِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَقْبَلَهَا بَعْدَ الْحَاجَةِ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ كَانَ يُهْدِي إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لَبَنًا فَيَقْبَلُهُ ، حَتَّى اقْتَرَضَ زَيْدٌ مَالًا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ، وَأَهْدَى اللَّبَنَ ، فَرَدَّهُ عُمَرُ ، فَقَالَ زَيْدٌ : لِمَ رَدَدْتَهُ ؟ فَقَالَ : لِأَنَّكَ اقْتَرَضْتَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مَالًا ، فَقَالَ زَيْدٌ : لَا حَاجَةَ لِي فِي مَالٍ يَقْطَعُ الْوَصْلَةَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ ، فَرَدَّ الْمَالَ وَأَهْدَى اللَّبَنَ فَقَبِلَهُ مِنْهُ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ يَزِيدَ فِي هَدِيَّتِهِ عَلَى قَدْرِ الْعَادَةِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ ، فَيُنْظَرُ : فَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ مِنْ جِنْسِ الْهَدِيَّةِ جَازَ قَبُولُهَا لِدُخُولِهَا فِي الْمَأْلُوفِ وَإِنْ كَانَتِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْهَدِيَّةِ مَنَعَ مِنْ قَبُولِهَا لِخُرُوجِهَا عَنِ الْمَأْلُوفِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يُهْدِيَ إِلَيْهِ مَنْ لَمْ يَكُنْ يُهَادِيهِ قَبْلَ الْوِلَايَةِ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُهْدِيَ إِلَيْهِ مَنْ يَخْطُبُ مِنْهُ الْوِلَايَةَ عَلَى عَمَلٍ يُقَلِّدُهُ ، فَهَذِهِ رِشْوَةٌ تَخْرُجُ مِنْ حُكْمِ الْهَدَايَا ، يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَخْذُهَا ، سَوَاءٌ كَانَ خَاطِبُ الْوِلَايَةِ مُسْتَحِقًّا لَهَا ، أَوْ غَيْرَ مُسْتَحِقٍّ وَعَلَيْهِ رَدُّهَا ، وَيَحْرُمُ عَلَى بَاذِلِهَا إِنْ كَانَ غَيْرَ مُسْتَحِقٍّ لِلْوِلَايَةِ وَإِنْ كَانَ مُسْتَحِقًّا
لَهَا فَإِنْ كَانَ مُسْتَغْنِيًا عَنِ الْوِلَايَةِ حَرُمَ عَلَيْهِ بَذْلُهَا وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ بَذْلُهَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يُهْدِيَ إِلَيْهِ مَنْ يَشْكُرُهُ عَلَى جَمِيلٍ كَانَ مِنْهُ ، فَهَذَا خَارِجٌ مِنَ الرِّشَا ، وَمُلْحَقٌ بِالْهَدَايَا : لِأَنَّ الرِّشْوَةَ مَا تَقَدَّمَتْ ، وَالْهَدِيَّةَ مَا تَأَخَّرَتْ ، وَعَلَيْهِ رَدُّهَا وَلَا يَجُوزُ لَهُ قَبُولُهَا : لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُكْتَسِبًا بِمُجَامَلَتِهِ وَمُعْتَاضًا عَلَى جَاهِهِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ مَا فَعَلَهُ مِنَ الْجَمِيلِ وَاجِبًا أَوْ تَبَرُّعًا ، وَلَا يَحْرُمُ بَذْلُهَا عَلَى الْمُهْدِي . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ يُهْدِيَ إِلَيْهِ مَنْ يَبْتَدِئُهُ بِالْهَدِيَّةِ لِغَيْرِ مُجَازَاةٍ عَلَى فِعْلٍ سَالِفٍ وَلَا طَلَبًا لِفِعْلٍ مُسْتَأْنَفٍ ، فَهَذِهِ هَدِيَّةٌ بَعَثَ عَلَيْهَا جَاهُ السَّلْطَنَةِ ، فَإِنْ كَافَأَ عَلَيْهَا جَازَ لَهُ قَبُولُهَا وَإِنْ لَمْ يُكَافِئْ عَلَيْهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَقْبَلُهَا لِبَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ جَاهَ السَّلْطَنَةِ لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَرُدُّهَا وَلَا يَقْبَلُهَا لِأَنَّهُ الْمَخْصُوصُ بِهَا ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَأْثِرَ دُونَ الْمُسْلِمِينَ بِشَيْءٍ وَصَلَ إِلَيْهِ بِجَاهِ الْمُسْلِمِينَ .
فَصْلٌ : [ مُهَادَاةُ وُلَاةِ الْعِمَالَةِ ] . وَأَمَّا الصِّنْفُ الثَّانِي وَهُمْ وُلَاةُ الْعِمَالَةِ كَعُمَّالِ الْخَرَاجِ وَالصَّدَقَاتِ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُهْدِي مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ عَمَلِهِ ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ . فَإِنْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ عَمَلِهِ . كَانَتِ الْمُهَادَاةُ بَيْنَهُمَا كَالْمُهَادَاةِ بَيْنَ غَيْرِ الْوُلَاةِ وَالرَّعَايَا . وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ عَمَلِهِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ الْهَدِيَّةُ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ مِنَ الْمُهْدِي ، فَهَذِهِ رِشْوَةٌ لِتَقَدُّمِهَا ، فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ قَبُولُهَا ؛ لِأَنَّهَا تُهْمَةٌ تَعْطِفُهُ عَنِ الْوَاجِبِ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ مَوْقُوفًا وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ مُسْنَدًا " اللِّطْفَةُ عَطْفَةٌ " وَسَوَاءٌ كَانَ الْعَامِلُ مُرْتَزِقًا أَوْ غَيْرَ مُرْتَزِقٍ . فَإِنْ أَضَافَ الْعَامِلُ ، وَلَمْ يُهَادِهِ ، نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ الْعَامِلُ مُسْتَوْطِنًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَدْخُلَ فِي ضِيَافَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ مُجْتَازًا جَازَ أَنْ يَدْخُلَ فِي ضِيَافَتِهِ ، بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ مِنْهُ ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَدْخُلَ فِيهَا قَبْلَ اسْتِيفَائِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يُهْدَى إِلَيْهِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ مِنْهُ ، عَلَى جَمِيلٍ قَدَّمَهُ إِلَيْهِ ، فَيُنْظَرُ ، فَإِنْ كَانَ الْجَمِيلُ مِمَّا يَجِبُ عَلَى الْعَامِلِ أَنْ يَفْعَلَهُ بِحَقِّ عَمَلِهِ ، وَجَبَ رَدُّ الْهَدِيَّةِ وَحَرُمَ قَبُولُهَا . وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ ، لَمْ يَكُنْ لِلْعَامِلِ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا مَا لَمْ يُعَجِّلِ الْمُكَافَأَةَ عَلَيْهَا
وَفِيهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : تُعَادُ إِلَى مَالِكِهَا لِخُرُوجِهَا عَنِ الْمَقْصُودِ بِهَا . وَالثَّانِي : تَكُونُ لِبَيْتِ الْمَالِ : لِأَنَّهَا مَبْذُولَةٌ عَلَى فِعْلِ نَائِبٍ عَنْهُمْ ، وَفِي مِثْلِهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " هَدَايَا الْأُمَرَاءِ غُلُولٌ " وَالْغُلُولُ مَا عَدَلَ بِهِ عَنْ مُسْتَحِقِّهِ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ يُهْدِيَ إِلَيْهِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ مِنْهُ ، عَلَى غَيْرِ سَبَبٍ أَسْلَفَهُ . فَإِنْ عَجَّلَ الْمُكَافَأَةَ عَلَيْهَا بِمِثْلِ قِيمَتِهَا جَازَ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا ؛ لِأَنَّهُ بِالْمُكَافَأَةِ مُعَاوِضٌ فَجَرَى فِي إِبَاحَةِ التَّمَلُّكِ مَجْرَى الِابْتِيَاعِ الَّذِي لَا يَمْنَعُ الْوُلَاةَ مِنْهُ . وَإِنْ لَمْ يُكَافِئْ عَلَيْهَا فَقَدْ خَرَجَتْ عَنِ الرِّشْوَةِ وَالْجَزَاءِ فَلَمْ يَجِبْ رَدُّهَا وَيُعَرَّضُ بِهَا لِلتُّهْمَةِ وَسُوءِ الْقَالَةِ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهَا تُقَرُّ عَلَى الْعَامِلِ وَلَا تُسْتَرْجَعُ مِنْهُ : لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَرَّ ابْنَ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الْهَدِيَّةِ وَلَمْ يَسْتَرْجِعْهَا مِنْهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا تُسْتَرْجَعُ مِنْهُ لِبَيْتِ الْمَالِ : لِأَنَّهُ أَخَذَهَا بِجَاهِ الْعَمَلِ ، وَنَضُمُّ إِلَى الْمَالِ الَّذِي اسْتُعْمِلَ فِيهِ لِوُصُولِهَا بِسَبَبِهِ ، فَإِنْ رَأَى الْإِمَامُ فِي اجْتِهَادِهِ أَنْ يُعْطِيَهُ إِيَّاهَا جَازَ إِذَا كَانَ مِثْلُهُ يَجُوزُ أَنْ يَبْدَأَ بِمِثْلِهَا وَإِنْ رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يُشَاطِرَهُ عَلَيْهَا جَازَ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي ابْنِيهِ حِينَ أَخَذَا مَالَ الْفَيْءِ قَرْضًا وَاتَّجَرَا فَرَبِحَا فَأَخَذَ مِنْهُمَا نِصْفَ رِبْحِهِ كَالْقِرَاضِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْعَامِلُ مُرْتَزِقًا قَدْرَ كِفَايَتِهِ أُخِذَتْ مِنْهُ الْهَدِيَّةُ لِبَيْتِ الْمَالِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُرْتَزِقٍ أُقِرَّتْ عَلَيْهِ ، لِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَرَزَقْنَاهُ رِزْقًا فَمَا أَخَذَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ غُلُولٌ " . وَلَوْ كَانَ مُرْتَزِقًا ، وَلَمْ يَكْتَفِ بِرِزْقِهِ عَمَّا تَدْعُوهُ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ فَقَدْ رَوَى الْأَوْزَاعِيُّ ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ يَزِيدَ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " مَنْ كَانَ لَنَا عَامِلًا فَلْيَكْتَسِبْ زَوْجَةً ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ خَادِمٌ فَلْيَكْتَسِبْ خَادِمًا ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَسْكَنٌ فَلْيَكْتَسِبْ مَسْكَنًا فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الْغُلُولَ الْمُسْتَرْجَعَ مِنْهُمَا تَجَاوَزَ قَدْرَ حَاجَتِهِ .
فَصْلٌ : مُهَادَاةُ قُضَاةِ الْأَحْكَامِ . وَأَمَّا الصِّنْفُ الثَّالِثُ وَهُمْ قُضَاةُ الْأَحْكَامِ ، فَالْهَدَايَا فِي حَقِّهِمْ أَغْلَظُ مَأْثَمًا ، وَأَشَدُّ تَحْرِيمًا ، لِأَنَّهُمْ مَنْدُوبُونَ لِحِفْظِ الْحُقُوقِ عَلَى أَهْلِهَا دُونَ أَخْذِهَا ، يَأْمُرُونَ فِيهَا بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ فِيهَا عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " لَعَنَ اللَّهُ الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي فِي الْحُكْمِ " فَخَصَّ الْحُكْمَ بِالذِّكْرِ لِاخْتِصَاصِهِ بِالتَّغْلِيظِ . وَيَنْقَسِمُ حَالُ الْقَاضِي فِي الْهَدِيَّةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ الْهَدِيَّةُ فِي عَمَلِهِ ، مِنْ أَهْلِ عَمَلِهِ ، فَلِلْمُهْدِي ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : إِحْدَاهَا : أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَمْ يُهَادِهِ قَبْلَ الْوِلَايَةِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْبَلَ هَدِيَّتَهُ ، سَوَاءٌ كَانَ لَهُ فِي حَالِ الْهَدِيَّةِ مُحَاكَمَةٌ ، أَوْ لَمْ يَكُنْ : لِأَنَّهُ مُعَرَّضٌ لِأَنْ يُحَاكَمَ أَوْ يُحَاكِمَ ، وَهِيَ مِنَ الْمُتَحَاكِمِينَ رِشْوَةٌ مُحَرَّمَةٌ ، وَمِنْ غَيْرِهِمْ هَدِيَّةٌ مَحْظُورَةٌ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُهَادِيهِ قَبْلَ الْوِلَايَةِ لَرَحِمٍ أَوْ مَوَدَّةٍ وَلَهُ فِي الْحَالِ مُحَاكَمَةٌ ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ قَبُولُ هَدِيَّتِهِ : لِأَنَّ قَبُولَهَا مُمَايَلَةٌ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُهَادِيهِ قَبْلَ الْوِلَايَةِ وَلَيْسَ لَهُ مُحَاكَمَةً فَيَنْظُرُ : فَإِنْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ هَدَايَاهُ الْمُتَقَدِّمَةِ : لِأَنَّهُ كَانَ يُهَادِيهِ بِالطَّعَامِ فَصَارَ يُهَادِيهِ بِالثِّيَابِ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْبَلَهَا : لِأَنَّهُ الزِّيَادَةُ هَدِيَّةٌ بِالْوِلَايَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ مَا يُهَادِيهِ قَبْلَ الْوِلَايَةِ الهدية الىالقاضى فَفِي جَوَازِ قَبُولِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ أَنْ يَقْبَلَهَا لِخُرُوجِهَا عَنْ سَبَبِ الْوِلَايَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْبَلَهَا لِجَوَازِ أَنْ تَحْدُثَ لَهُ مُحَاكَمَةٌ يُنْسَبُ بِهَا إِلَى الْمُمَايَلَةِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ الْهَدِيَّةُ فِي عَمَلِهِ ، مِنْ غَيْرِ أَهْلِ عَمَلِهِ الهدية الىالقاضى فَلِمُهْدِيهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : إِحْدَاهَا : أَنْ يَكُونَ قَدْ دَخَلَ بِهَا إِلَى عَمَلِهِ ، فَقَدْ صَارَ بِالدُّخُولِ بِهَا مِنْ أَهْلِ عَمَلِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْبَلَهَا ، سَوَاءٌ كَانَتْ لَهُ مُحَاكَمَةٌ أَوْ لَمْ تَكُنْ لِجَوَازِ أَنْ تَحْدُثَ لَهُ مُحَاكَمَةٌ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ لَا يَدْخُلَ بِهَا الْمُهْدِي وَيُرْسِلُهَا وَلَهُ مُحَاكَمَةٌ وَهُوَ فِيهَا طَالِبٌ أَوْ مَطْلُوبٌ فَهِيَ رِشْوَةٌ مُحَرَّمَةٌ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يُرْسِلَهَا وَلَا يَدْخُلَ بِهَا ، وَلَيْسَ لَهُ مُحَاكَمَةٌ ، فَفِي جَوَازِ قَبُولِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ لِمَا يَلْزَمُهُ مِنَ النَّزَاهَةِ . وَالثَّانِي : يَجُوزُ لِوَضْعِ الْهَدِيَّةِ عَلَى الْإِبَاحَةِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ الْهَدِيَّةُ فِي غَيْرِ عَمَلِهِ وَمِنْ غَيْرِ أَهْلِ عَمَلِهِ لِسَفَرِهِ عَنْ
عَمَلِهِ الهديه الىالقاضى ، فَنَزَاهَتُهُ عَنْهَا أَوْلَى بِهِ مِنْ قَبُولِهَا لِيَحْفَظَ صِيَانَتَهُ فَإِنْ قَبِلَهَا جَازَ وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْهَا . فَأَمَّا نُزُولُهُ ضَيْفًا عَلَى غَيْرِهِ ، فَإِنْ كَانَ فِي عَمَلِهِ لَمْ يَجُزْ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ عَمَلِهِ جَازَ . وَلَا يُكْرَهُ إِنْ كَانَ عَابِرَ سَبِيلٍ ، وَيُكْرَهُ إِنْ كَانَ مُقِيمًا . حُكْمُ مُهَادَاةِ الْقُضَاةِ . فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ مُهَادَاةِ الْقَاضِي ، فَإِنْ أُبِيحَتْ لَهُ جَازَ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا ، وَلَمْ يَجِبْ رَدُّهَا وَإِنْ حُظِرَتْ وَمُنِعَ مِنْهَا ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّفْصِيلِ ، انْقَسَمَتْ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ رِشْوَةً لِتَقَدُّمِهَا عَلَى الْمُحَاكَمَةِ ، فَيَجِبُ رَدُّهَا عَلَى بَاذِلِهَا . فَإِنْ رَدَّهَا قَبْلَ الْحُكْمِ نَفَذَ حُكْمُهُ . وَإِنْ رَدَّهَا بَعْدَ الْحُكْمِ ، نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ حُكْمُهُ عَلَى الْبَاذِلِ نَفَذَ وَإِنْ كَانَ لِلْبَاذِلِ فَفِي نُفُوذِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُنَفِّذُ إِذَا وَافَقَ الْحَقَّ كَمَا يُنَفِّذُ لِلصَّدِيقِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يُنَفِّذُ ، كَمَا لَا يُنَفِّذُ لِوَالِدٍ وَلَا لِوَلَدٍ لِلتُّهْمَةِ بِالْمُمَايَلَةِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ الْهَدِيَّةُ جَزَاءً لِتَأَخُّرِهَا عَنِ الْحُكْمِ ، فَيَجِبُ رَدُّهَا عَلَى مُهْدِيهَا ، وَالْحُكْمُ مَعَهَا نَافِذٌ ، سَوَاءٌ كَانَ الْحُكْمُ لِلْمُهْدِي أَوْ عَلَيْهِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ تَخْرُجَ الْهَدِيَّةُ عَنِ الرِّشْوَةِ وَالْجَزَاءِ ، لِابْتِدَاءِ الْمُهْدِي بِهَا تَبَرُّعًا ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا الْقَاضِي لِحَظْرِهَا عَلَيْهِ ، وَفِيهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهَا : تُرَدُّ عَلَى مُهْدِيهَا لِفَسَادِ الْهَدِيَّةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : تُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ ، لِبَذْلِهَا طَوْعًا لِنَائِبِ الْمُسْلِمِينَ .
فَصْلٌ : الْهَدِيَّةُ عَلَى الشَّفَاعَةِ . رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ ، عَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي أُمَامَةَ " عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " مَنْ شَفَعَ لِأَحَدٍ شَفَاعَةً فَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً عَلَيْهَا فَقَبِلَهَا فَقَدْ أَتَى بَابًا عَظِيمًا مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا " . وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا فَسَيَظْهَرُ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى مَا يُوجِبُهُ حُكْمُ الْأُصُولِ . وَمُهَادَاةُ الشَّافِعِ مُعْتَبَرَةٌ بِشَفَاعَتِهِ ، وَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ :
أَحَدُهَا : أَنْ يَشْفَعَ فِي مَحْظُورٍ ، مِنْ إِسْقَاطِ حَقٍّ ، أَوْ مَعُونَةٍ عَلَى ظُلْمٍ ، فَهُوَ فِي الشَّفَاعَةِ ظَالِمٌ وَبِقَبُولِ الْهَدِيَّةِ عَلَيْهَا آثِمٌ ، تَحِلُّ لَهُ الشَّفَاعَةُ ، وَلَا تَحِلُّ لَهُ الْهَدِيَّةُ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَشْفَعَ فِي حَقٍّ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِهِ ، فَالشَّفَاعَةُ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَيْهِ وَالْهَدِيَّةُ عَلَيْهِ مَحْظُورَةٌ : لِأَنَّ لَوَازِمَ الْحُقُوقِ لَا يُسْتَعْجَلُ عَلَيْهَا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَشْفَعَ فِي مُبَاحٍ لَا يَلْزَمُهُ ، فَهُوَ بِالشَّفَاعَةِ مُحْسِنٌ لِمَا فِيهَا مِنَ التَّعَاوُنِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " اشْفَعُوا إِلَيَّ ، وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مَا يَشَاءُ " . وَلِلْهَدِيَّةِ عَلَى هَذِهِ الشَّفَاعَةِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : إِحْدَاهَا : أَنْ يَشْتَرِطَهَا الشَّافِعُ فَقَبُولُهَا مَحْظُورٌ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ يَسْتَعْجِلُ عَلَى حَسَنٍ قَدْ كَانَ مِنْهُ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَقُولَ الْمُهْدِي هَذِهِ الْهَدِيَّةُ جَزَاءٌ عَلَى شَفَاعَتِكَ فَقَبُولُهَا مَحْظُورٌ عَلَيْهِ ، كَمَا لَوْ شَرَطَهَا : لِأَنَّهَا لَمَّا جُعَلِتْ جَزَاءً صَارَتْ كَالشَّرْطِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يُمْسِكَ الشَّافِعُ عَنِ اشْتِرَاطِهَا وَيُمْسِكُ الْمُهْدِي عَنِ الْجَزَاءِ بِهَا فَإِنْ كَانَ مُهَادِيًا قَبْلَ الشَّفَاعَةِ ، لَمْ يُمْنَعِ الشَّافِعُ مِنْ قَبُولِهَا وَلَمْ يُكْرَهْ لَهُ الْقَبُولُ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُهَادٍ قَبْلَ الشَّفَاعَةِ كُرِهَ لَهُ الْقَبُولُ ، وَإِنْ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ فَإِنْ كَافَأَ عَلَيْهَا لَمْ يُكْرَهْ لَهُ الْقَبُولُ .
تَقْدِيمُ النَّظَرِ بَيْنَ الْمُسَافِرِينَ
تَقْدِيمُ النَّظَرِ بَيْنَ الْمُسَافِرِينَ وقت الخصومه امام القاضى . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِذَا حَضَرَ مُسَافِرُونَ وَمُقِيمُونَ فَإِنْ كَانَ الْمُسَافِرُونَ قَلِيلًا فَلَا بَأْسَ أَنْ يَبْدَأَ بِهِمْ وَأَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ يَوْمًا بِقَدْرِ مَا لَا يَضُرُّ بِأَهْلِ الْبَلَدِ فَإِنْ كَثُرُوا حَتَّى سَاوَوْا أَهْلَ الْبَلَدِ آسَاهُمْ بِهِمْ وَلِكُلٍّ حَقٌّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ عَلَى الْقَاضِي فِي النَّظَرِ بَيْنَ الْخُصُومِ أَنْ يُقَدِّمَ السَّابِقَ عَلَى الْمَسْبُوقِ ، فَإِنْ حَضَرَهُ مُسَافِرُونَ وَمُقِيمُونَ ، فَفِي تَأْخِيرِ الْمُسَافِرِينَ إِذَا كَانُوا مَسْبُوقِينَ إِضْرَارٌ بِهِمْ لِتَأَخُّرِهِمْ عَنِ الْعَوْدِ إِلَى أَوْطَانِهِمْ ، فَإِنْ قَلُّوا وَلَمْ يَكْثُرُوا قَدَّمَهُمُ الْقَاضِي عَلَى الْمُقِيمِينَ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يُعْتَبَرُ فِي تَقْدِيمِهِمُ اسْتِطَابَةُ نُفُوسِ الْمُقِيمِينَ تقديم المسافرين وقت الخصومه ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا تُعْتَبَرُ ، وَيَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يُقَدِّمَهُمْ وَإِنْ كَرِهَ الْمُقِيمُونَ ؛ لِدُخُولِ الضَّرَرِ عَلَى الْمُسَافِرِينَ دُونَ الْمُقِيمِينَ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : تُعْتَبَرُ اسْتِطَابَةُ نُفُوسِ الْمُقِيمِينَ فَإِنْ طَابَتْ نُفُوسُهُمْ بِتَقْدِيمِ الْمُسَافِرِينَ قَدَّمَهُمْ ، وَإِنِ امْتَنَعُوا لَمْ يُجْبِرْهُمْ ، لِاسْتِحْقَاقِ التَّقْدِيمِ بِالسَّبْقِ . وَإِنْ كَثُرَ الْمُسَافِرُونَ حَتَّى سَاوَوْا أَهْلَ الْمِصْرَ حكم تقديمهم وقت الخصومه كَأَيَّامِ الْمَوَاسِمِ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَكَانَ فِي تَقْدِيمِهِمْ إِضْرَارٌ بِالْمُقِيمِينَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْفَعَ الضَّرَرَ عَنِ الْمُسَافِرِينَ بِإِدْخَالِهِ عَلَى الْمُقِيمِينَ ، وَنُظِرَ : فَإِنْ كَانَ الْيَوْمُ الْوَاحِدُ لِلنَّظَرِ بَيْنَ الْمُقِيمِينَ وَالْمُسَافِرِينَ جَعَلَ لِلْمُقِيمِينَ فِيهِ وَقْتًا وَلِلْمُسَافِرِينَ فِيهِ وَقَتًا ، فَإِنِ اسْتَوَى الْفَرِيقَانِ سَوَّى بَيْنِ الْوَقْتَيْنِ ، وَإِنْ تَفَاضَلَ الْفَرِيقَانِ فَاضَلَ فِيهِمَا بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ . وَإِنْ كَانَ الْيَوْمُ الْوَاحِدُ لَا يَتَّسِعُ لِلنَّظَرِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ ، جَعَلَ لِلْمُسَافِرِينَ يَوْمًا وَلِلْمُقِيمِينَ يَوْمًا امام القاضى إِنِ اسْتَوَى الْفَرِيقَانِ ، وَإِنْ تَفَاضَلُوا فَاضَلَ بَيْنَهُمْ فِي الْأَيَّامِ ، وَخَصَّ الْمُسَافِرِينَ بِالْمَجْلِسِ الْأَوَّلِ إِنْ لَمْ يَضُرَّ الْمُقِيمِينَ ، إِمَّا إِجْبَارًا عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَإِمَّا بِاسْتِطَابَةِ نُفُوسِ الْمُقِيمِينَ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي ، وَإِنِ اسْتَضَرَّ بِهِ الْمُقِيمُونَ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ فِي الْمَجْلِسِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ سَبْقٌ يُعْتَبَرُ . فَعَدَلَ فِيهِ إِلَى الْقُرْعَةِ ، وَاسْتَقَرَّ بِهَا تَرْتِيبُ الْمَجَالِسِ فِيمَا بَعْدُ لِيَكُونَ مَجْلِسُ الْمُسَافِرِينَ مَعْرُوفًا وَمَجْلِسُ الْمُقِيمِينَ مَعْرُوفًا ، حَتَّى يَقْصِدَ كُلُّ فَرِيقٍ فِي يَوْمِهِ الْمَعْرُوفِ . فَإِذَا اتَّسَعَ مَجْلِسُ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ فِي أَنْ يَنْظُرَ فِي يَقِينِهِ لِلْفَرِيقِ الْآخَرِ جَازَ ، لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَوْفَى أَهْلُهُ حَقَّهُمْ فِيهِ فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ حَقٌّ فِي بَاقِيهِ .
تَقْدِيمُ النَّظَرِ بَيْنَ السَّابِقِينَ
تَقْدِيمُ النَّظَرِ بَيْنَ السَّابِقِينَ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا يُقَدِّمُ رَجُلًا جَاءَ قَبْلَهُ رَجُلٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ السَّبْقَ مُعْتَبَرٌ فِي تَقْدِيمِ النَّظَرِ بَيْنَ الْخُصُومِ ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مِنًى مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ " وَكَمَا يُرَاعِي السَّبْقُ فِي مَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ وَفِي وُرُودِ الْمِيَاهِ وَفِي أَخْذِ الْمَعَادِنِ . فَإِذَا اجْتَمَعَ الْخُصُومُ نَدَبَ الْقَاضِي لَهُمْ مَنْ يَكْتُبُ الْأَسْبَقَ فَالْأَسْبَقَ لِيَنْظُرَ بَيْنَهُمْ عَلَى الْوَلَاءِ اعْتِبَارًا بِالسَّبْقِ . فَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي السَّبْقِ ، أَوْ جَاءُوا مَعًا ، أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ الخصوم امام القاضى ، إِنْ أَمْكَنَتِ الْقُرْعَةُ لِقِلَّةِ عَدَدِهِمْ وَرُتَبِهِمْ عَلَى مَا خَرَجَتْ بِهِ الْقُرْعَةُ . وَإِنْ تَعَذَّرَتِ الْقُرْعَةُ لِكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ أَثْبَتَ اسْمَ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فِي رُقْعَةٍ مُفْرَدَةٍ ، وَطَوَاهَا الْقَاضِي بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَلَوْ غَطَّاهَا كَانَ أَوْلَى ، وَرَتَّبَهُمْ عَلَى مَا تَخْرُجُ بِهِ رِقَاعُهُمْ . فَإِذَا وَجَبَ تَقْدِيمُ أَحَدِهِمْ ، إِمَّا بِالسَّبْقِ ، وَإِمَّا بِالْقُرْعَةِ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَدِّمَ عَلَيْهِ
غَيْرَهُ ، فَيَصِيرُ بِتَقْدِيمِهِ جَائِرًا ، يَفْعَلُ كَذَلِكَ فِي خَصْمٍ بَعْدَ خَصْمٍ ، حَتَّى يَسْتَنْفِدَ جَمِيعَ الْخُصُومِ . فَإِنْ قَدَّمَ مَسْبُوقًا عَلَى سَابِقٍ بِطِيبِ نَفْسِ السَّابِقِ الخصوم امام القاضى جَازَ ، وَإِنْ قَدَّمَهُ بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسِهِ ظَلَمَهُ ، وَكَانَ حُكْمُهُ لِلْمَسْبُوقِ نَافِذًا ، لِأَنَّهُ ظَلَمَ فِي السَّبْقِ وَلَمْ يَظْلِمْ فِي الْحُكْمِ . فَإِنْ كَانَ الْمَسْبُوقُ مَرِيضًا يَسْتَضِرُّ بِالصَّبْرِ فَقَدْ عَذَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي حُقُوقِهِ بِالرُّخَصِ فَإِنْ عَذَرَهُ الْآدَمِيُّونَ بِهِ فِي تَقْدِيمِهِ عَلَيْهِمْ كَانَ أَوْلَى بِهِمْ ، فَإِنْ شَاحُّوهُ قَدَّمَهُ الْقَاضِي إِنْ كَانَ مَطْلُوبًا ، وَلَمْ يُقَدِّمْهُ إِنْ كَانَ طَالِبًا ، لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ مُجْبَرٌ وَالطَّالِبَ مُخَيَّرٌ . فَإِنْ كَثُرَ الْخُصُومُ وَلَمْ يَتَّسِعْ مَجْلِسُ يَوْمِهِ لِلنَّظَرِ بَيْنَ جَمِيعِهِمْ الخصوم امام القاضى ، وَاحْتَاجُوا لِكَثْرَةِ الْعَدَدِ إِلَى ثَلَاثَةِ مَجَالِسٍ كَانَ فِيهِمْ بَيْنَ خِيَارَيْنِ : أُولَاهُمَا : أَنْ يُجَزِّئَ رِقَاعُهُمْ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ وَيَجْعَلَ كُلَّ جُزْءٍ فِي إِضْبَارَةٍ يَعْرِفُ أَسْمَاءَ مَنْ فِيهَا وَيَقْرَعُ بَيْنَ الْأَضَابِيرِ الثَّلَاثِ ، فَإِذَا خَرَجَتِ الْقُرْعَةُ الْأُولَى لِأَحَدِهَا أَثْبَتَ عَلَيْهَا الْمَجْلِسَ الْأَوَّلَ ، وَإِذَا خَرَجَتِ الثَّانِيَةُ لِأُخْرَى أَثْبَتَ عَلَيْهَا الْمَجْلِسَ الثَّانِي ، وَيَثْبُتُ عَلَى الْأَخِيرَةِ الْمَجْلِسُ الثَّالِثُ . وَقَدَّمَ لِمَجْلِسِ يَوْمِهِ أَهْلَ الْإِضْبَارَةِ الْأُولَى ، وَأَعْلَمَ أَهْلَ الْإِضْبَارَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ لَهُمُ الْمَجْلِسَ الثَّانِيَ ، وَأَعْلَمَ أَهْلَ الْإِضْبَارَةِ الثَّالِثَةِ أَنَّ لَهُمُ الْمَجْلِسَ الثَّالِثَ ، حَتَّى يَنْصَرِفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِأَشْغَالِهِ لِيَأْتِيَهُ فِي يَوْمِهِ مِنْ غَيْرِ تَرْدَادٍ فَهَذَا أَوْلَى الْأَمْرَيْنِ . وَالْخِيَارُ الثَّانِي : أَنْ يَسْتَوْقِفَهُمْ فِي يَوْمِهِ ، وَيَنْظُرَ فِيهِ بَيْنَ مَنِ اتَّسَعَ لَهُ مَجْلِسُهُ ، فَيُنَادِي بِحُضُورِ مَنْ خَرَجَتْ لَهُ قُرْعَتُهُ وَيَنْظُرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمِهِ ، ثُمَّ يُنَادِي بِحُضُورِ مَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ الثَّانِيَةُ وَمَنْ بَعْدَهَا ، حَتَّى يَسْتَوْعِبَ جَمِيعَ مَجْلِسِهِ بِالنَّظَرِ بَيْنَ مَنْ خَرَجَتْ رِقَاعُهُمْ فِيهِ فَإِذَا انْقَضَى الْمَجْلِسُ قَالَ لِمَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ عُودُوا فِي الْمَجْلِسِ الثَّانِي ، فَإِذَا عَادُوا فِيهِ قَدَّمَهُمْ عَلَى مَنِ اسْتَأْنَفَ الْحُضُورَ فِي الْمَجْلِسِ الثَّانِي ، وَنَظَرَ بَيْنَهُمْ وَقَدَّمَ مِنْهُمْ بِالرِّقَاعِ مَنْ تَقَدَّمَتْ رُقْعَتُهُ ، فَإِذَا اسْتَوْعَبَ مَجْلِسُهُ الثَّانِي وَقَدْ بَقِيَتْ مِنْهُمْ بَقِيَّةٌ ، وَعَدَهُمُ الْمَجْلِسَ الثَّالِثَ ، وَوَعَدَ مَنِ اسْتَأْنَفَ حُضُورَ الْمَجْلِسِ الثَّانِي إِلَى الْمَجْلِسِ الثَّالِثِ ، فَإِذَا جَلَسَ فِي الْمَجْلِسِ الثَّالِثِ قَدَّمَ أَهْلَ الْمَجْلِسِ الْأَوَّلِ عَلَى أَهْلِ الْمَجْلِسِ الثَّانِي ثُمَّ يَفْعَلُ عَلَى هَذَا الْمِثَالِ أَبَدًا . وَيَنْبَغِي لَهُ إِذَا كَثُرَ الْخُصُومُ أَنْ يَزِيدَ فِي عَدَدِ مَجَالِسِهِ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ حَتَّى لَا يَتَمَادَى فِي أَمْرِ الْخُصُومِ لِتَكُونَ مَجَالِسُهُ كَافِيَةً لِجَمِيعِ الْخُصُومِ .
فَصْلٌ : صِفَةُ الرِّقَاعِ . فَأَمَّا صِفَةُ الرِّقَاعِ الَّتِي تُثْبَتُ فِيهَا أَسْمَاءُ الْخُصُومِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الَّذِي يَتَوَلَّى
إِثْبَاتَ أَسْمَائِهِمْ فِيهَا أَمِينًا فَطِنًا ، وَيُثْبِتُ فِي كُلِّ رِقْعَةٍ اسْمَ الطَّالِبِ ، وَاسْمَ أَبِيهِ ، وَجَدِّهِ وَقَبِيلَتِهِ ، وَصِنَاعَتِهِ . وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : يُثْبِتُ مَعَهُ فِي الرُّقْعَةِ اسْمَ الْمَطْلُوبِ . وَلَا مَعْنَى عِنْدِي لِإِثْبَاتِ اسْمِهِ : لِأَنَّ الْحَقَّ فِي الْإِثْبَاتِ لِلطَّالِبِ دُونَ الْمَطْلُوبِ . وَلَوْ ثَبَتَ مَعَهُ اسْمُ الْمَطْلُوبِ فَقَالَ الطَّالِبُ أُرِيدُ أَنْ أُحَاكِمَ غَيْرَهُ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ لَمْ يَمْنَعْ ، فَلَمْ يَكُنْ لِإِثْبَاتِهِ مَعَهُ وَجْهٌ . فَإِذَا أُرِيدَ إِحْضَارُهُ عِنْدَ خُرُوجِ رُقْعَتِهِ نُودِيَ بِاسْمِهِ وَحْدَهُ دُونَ اسْمِ أَبِيهِ وَجَدِّهِ فَإِذَا حَضَرَ سَأَلَهُ الْقَاضِي عَنِ اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَجَدِّهِ فَإِذَا وَافَقَ مَا فِي الرُّقْعَةِ نَظَرَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمِهِ وَإِنْ خَالَفَ مَا فِي الرُّقْعَةِ قَالَ لَهُ الْقَاضِي لَيْسَتْ هَذِهِ رُقْعَتُكَ فَانْصَرِفْ حَتَّى يَحْضُرَ صَاحِبُهَا . وَنُودِيَ ثَانِيَةً حَتَّى يَحْضُرَ مَنْ هُوَ صَاحِبُهَا ثُمَّ عَلَى هَذَا ، فَلَوْ نُودِيَ صَاحِبُ رُقْعَةٍ فَلَمْ يَحْضُرْ ، كَرَّرَ النِّدَاءَ ثَلَاثًا ، فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ أُخْرِجَتْ رُقْعَةُ غَيْرِهِ وَنُودِيَ صَاحِبُهَا . فَإِذَا حَضَرَ صَاحِبُ الرُّقْعَةِ الْأُولَى ، وَقَدْ حَضَرَ صَاحِبُ الرُّقْعَةِ الثَّانِيَةِ فَإِنْ كَانَ حُضُورُهُ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي النَّظَرِ بَيْنَ الثَّانِي وَخَصْمِهِ قَدَّمَ الْأُولَى عَلَيْهِ ، وَإِنْ شَرَعَ فِي النَّظَرِ لَمْ يَقْطَعِ النَّظَرَ ، وَاسْتَوْفَاهُ ثُمَّ نَظَرَ لِلْأَوْلَى بَعْدَهُ ثُمَّ عَلَى هَذَا الْمِثَالِ . وَلَوْ أَنَّ الْقَاضِيَ اسْتَنَابَ فِي إِخْرَاجِ هَذِهِ الرِّقَاعِ وَفِي الْإِقْرَاعِ مَنْ يَثِقُ بِعَقْلِهِ وَفِطْنَتِهِ مِنْ أُمَنَائِهِ وَثِقَاتِهِ لِيَتَوَفَّرَ بِهِ عَلَى نَظَرِهِ جَازَ وَكَانَ أَبْلَغَ فِي صِيَانَتِهِ .
لَا يَسْمَعُ مِنَ الْخَصْمِ إِلَّا دَعْوَى وَاحِدَةً فِي الْمَجْلِسِ
لَا يَسْمَعُ مِنَ الْخَصْمِ إِلَّا دَعْوَى وَاحِدَةً فِي الْمَجْلِسِ القاضي . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا يَسْمَعُ بَيِّنَةً فِي مَجْلِسٍ إِلَا فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ ، فَإِذَا فَرَغَ أَقَامَهُ وَدَعَا الَّذِي بَعْدَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا نَظَرَ بَيْنَ السَّابِقِ وَبَيْنَ خَصْمِهِ فِي دَعْوَى ، بَتَّ الْحُكْمَ فِيهَا ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ دَعْوَى ثَانِيَةً فَإِنْ كَانَتْ عَلَى غَيْرِ الْخَصْمِ الْأَوَّلِ لَمْ يَسْمَعْهَا إِلَّا فِي مَجْلِسٍ ثَانٍ ، لِأَنَّ سَبْقَهُ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ مُسْتَحَقٌّ لِحُكْمٍ وَاحِدٍ . وَلَوْ جَازَ أَنْ يَسْتَحِقَّ بِهِ مُحَاكَمَةً جَمَاعَةً لَاسْتَوْعَبَ جَمِيعَ الْمَجْلِسِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، وَأَضَرَّ بِغَيْرِهِ . وَإِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى الثَّانِيَةُ عَلَى الْخَصْمِ الْأَوَّلِ سماع الدعوي ، فَفِي جَوَازِ سَمَاعِهَا مِنْهُ بِسَبْقِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَسْمَعُهَا لِأَنَّهَا مَعَ خَصْمٍ وَاحِدٍ . وَالثَّانِي : لَا يَسْمَعُهَا ؛ لِأَنَّهَا فِي مُحَاكَمَةٍ أُخْرَى . وَلَوْ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَعْدَ انِبْرِامِ الْحُكْمِ مَعَهُ اسْتَأْنَفَ دَعْوَى عَلَى الْمُدَّعِي ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ اسْمُهُ ثَابِتًا فِي رُقْعَةِ الْمُدَّعِي لَمْ يَسْمَعْهَا .
وَإِنْ كَانَ اسْمُهُ ثَابِتًا فِي رُقْعَةِ الْمُدَّعِي فَفِيهِ وَجْهَانِ سماع دعوى السابق من الخصوم : أَحَدُهُمْ : يَسْمَعُ دَعْوَاهُ بِهَذَا السَّبْقِ . وَهُوَ قَوْلُ مَنْ يَرَى إِثْبَاتَ اسْمِهِ فِي رُقْعَةِ الْمُدَّعِي . وَالثَّانِي : لَا يَسْمَعُهَا إِلَّا فِي مَجْلِسٍ آخَرَ . وَهُوَ الَّذِي أَرَاهُ صَوَابًا ، لِأَنَّ اسْمَه لَمْ يَثْبُتْ فِيهَا لِحَقِّهِ وَإِنَّمَا ثَبَتَ لِحَقِّ غَيْرِهِ . فَإِنْ كَانَ هَذَا الْمُدَّعِي مُحَاكَمًا فِي آخِرِ الْمَجْلِسِ الَّذِي لَمْ يَبْقَ فِيهِ سَبْقٌ لِغَيْرِهِ جَازَ أَنْ تُسْمَعَ مِنْهُ دَعْوَاهُ عَلَى وَاحِدٍ وَعَلَى جَمَاعَةٍ ، وَجَازَ أَنْ تُسْمَعَ دَعْوَى الْخَصْمِ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ ، مَا كَانَ فِي الْمَجْلِسِ بَقِيَّةٌ . فَإِنْ كَانَ هَذَا الْمُدَّعِي سَابِقًا فَادَّعَى عَلَى اثْنَيْنِ مَعًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ حكم سماع الدعوى ، فَإِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى مُخْتَلِفَةً لَمْ تُسْمَعْ مِنْهُ إِلَّا عَلَى وَاحِدٍ ، وَإِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى وَاحِدَةً كَادِّعَائِهِ ابْتِيَاعَ دَارٍ مِنْهُمَا ، أَوْ بَيْعَ دَارٍ عَلَيْهِمَا ، جَازَ أَنْ تُسْمَعَ دَعْوَاهُ عَلَيْهِمَا : لِأَنَّهَا مُحَاكَمَةٌ وَاحِدَةٌ بَيْنَ طَالِبٍ وَمَطْلُوبَيْنِ . وَلَوِ اجْتَمَعَ اثْنَانِ فِي الدَّعْوَى عَلَى وَاحِدٍ حكم سماع الدعوى ، فَإِنِ اخْتَلَفَتْ دَعْوَاهُمَا لَمْ تُسْمَعْ إِلَّا مِنْ أَحَدِهِمَا وَإِنْ لَمْ تَخْتَلِفْ دَعْوَاهُمَا لِادِّعَائِهِمْ مِيرَاثًا بَيْنَهُمَا أَوِ ادِّعَائِهِمَا عَلَيْهِ ابْتِيَاعَ دَارٍ لَهُمَا جَازَ أَنْ تُسْمَعَ دَعْوَاهُمَا عَلَيْهِ : لِأَنَّهَا مُحَاكَمَةٌ وَاحِدَةٌ بَيْنَ طَالِبَيْنِ وَمَطْلُوبٍ .
رِزْقُ الْقُضَاةِ
رِزْقُ الْقُضَاةِ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَجْعَلَ مَعَ رِزْقِ الْقَاضِي شَيْئًا لِقَرَاطِيسِهِ وَلَا يُكَلِّفُهُ الطَّالِبَ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلَ قَالَ لِلطَّالِبِ إِنْ شِئْتَ بِصَحِيفَةٍ فِيهَا شَهَادَةُ شَاهِدَيْكَ وَكِتَابُ خُصُومَتِكَ وَلَا أُكْرِهُكَ وَلَا أَقْبَلُ أَنْ يَشْهَدَ لَكَ شَاهِدٌ بِلَا كِتَابٍ وَأَنْسَى شَهَادَتَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي رِزْقِ الْقَاضِي . وَالْقَضَاءُ مِمَّا يَجُوزُ أَخْذُ الرِّزْقِ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لِلْعَامِلِينَ عَلَى الصَّدَقَاتِ سَهْمًا فِيهَا وَقَدِ اسْتَقْضَى عُمَرُ شُرَيْحًا ، وَجَعَلَ لَهُ فِي كُلِّ شَهْرٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ رِزْقًا فَلَمَّا أَفْضَتِ الْخِلَافَةُ إِلَى عَلِيٍّ جَعَلَ رِزْقَهُ فِي كُلِّ شَهْرٍ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ . وَأَخَذَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ عَلَى الْقَضَاءِ رِزْقًا ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا ارْتَزَقَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ عَلَى الْخِلَافَةِ لِانْقِطَاعِهِمْ بِهَا عَنِ الْمَكَاسِبِ ، كَانَ الْقُضَاةُ بِمَثَابَتِهِمْ . وَيَكُونُ هَذَا الرِّزْقُ جُعَالَةً وَلَا يَكُونُ أُجْرَةً رزق القاضى من بيت المال ، لِأَنَّ الْأُجْرَةَ مُسْتَحَقَّةٌ بِعَقْدٍ لَازِمٍ وَالْجُعَالَةُ مُسْتَحَقَّةٌ بِعَقْدٍ جَائِزٍ . وَالْقَضَاءُ فِي الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ دُونَ اللَّازِمَةِ ، فَلِذَلِكَ كَانَ الرِّزْقُ فِيهِ جُعَالَةً وَلَمْ يَكُنْ أُجْرَةً .
وَإِذَا جَازَ ارْتِزَاقُ الْقُضَاةِ بِمَا وَصَفْنَا ، فَمَتَى وَجَدَ الْإِمَامُ مُتَطَوِّعًا بِالْقَضَاءِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطِيَ عَلَى الْقَضَاءِ رِزْقًا وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مُتَطَوِّعًا بِهِ جَازَ أَنْ يُعْطِيَ الرِّزْقَ عَلَيْهِ . وَالْأَوْلَى بِالْقَاضِي إِذَا اسْتَغْنَى عَنِ الرِّزْقِ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِعَمَلِهِ لِلَّهِ تَعَالَى الْتِمَاسَّ ثَوَابِهِ ، وَإِنِ اسْتَبَاحَ أَخْذَهُ مَعَ الْحَاجَةِ وَالْغِنَى . وَرِزْقُهُ مُقَدَّرٌ بِالْكِفَايَةِ مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا تَقْتِيرٍ القاضى . وَكَذَلِكَ أَرْزَاقُ أَعْوَانِهِ مِنْ كَاتِبٍ ، وَحَاجِبٍ ، وَنَائِبٍ ، وَقَاسِمٍ ، وَسَجَّانٍ حَتَّى لَا يَسْتَجْعِلَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ خَصْمًا . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَيَجْعَلُ مَعَ رِزْقِ الْقَاضِي شَيْئًا لِقَرَاطِيسِهِ ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ إِثْبَاتِ الْحُجَجِ وَالْمُحَاكَمَاتِ ، وَكُتُبِ الْمُحَاضِرِ وَالسِّجِلَّاتِ ، وَهِيَ مِنْ عُمُومِ الْمَصَالِحِ فَكَانَ سَهْمُ الْمَصَالِحِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ أَحَقَّ بِتَحَمُّلِهَا . فَإِنْ تَعَذَّرَتْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ، قَالَ الْقَاضِي لِلْمَحْكُومِ لَهُ : إِنْ شِئْتَ فَأْتِ بِقِرْطَاسٍ تَكْتُبُ فِيهِ شَهَادَةَ شَاهِدَيْكَ وَخُصُومَتَكَ ، وَهُوَ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ : لِأَنَّهُ يَبْدَأُ بِكُتُبِ الْخُصُومَةِ ثُمَّ بِالشَّهَادَةِ ثُمَّ بِالْحُكْمِ . وَلَا يُكْرَهُ عَلَى الْقَرَاطِيسِ ؛ لِأَنَّهُ لِوَثِيقَةٍ هُوَ مُخَيَّرٌ فِي التَّوَثُّقِ بِهَا وَقِيلَ : لَكَ الْخِيَارُ فِي إِحْضَارِ قِرْطَاسٍ تَكْتُبُ فِيهِ حُجَّتَكَ . فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ : اكْتُبْ فِيهِ شَهَادَةَ شَاهِدَيْكَ وَكِتَابَ خُصُومَتَكَ ، ثُمَّ قَالَ وَلَا أَقْبَلُ أَنْ يَشْهَدَ لَكَ شَاهِدٌ بِلَا كِتَابٍ ، فَأَنْسَى شَهَادَتَهُ . فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إِنَّهُ يَكْتُبُ فِيهِ مَا حَكَمَ لَهُ بِالشَّهَادَةِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكْتُبَ فِيهِ الشَّهَادَةَ قَبْلَ إِنْكَارِ الْخَصْمِ لِيَحْكُمَ بِهَا فَمَنْ ذَهَبَ إِلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ مَنَعَ مِنْ سَمَاعِ الشَّهَادَةِ قَبْلَ إِنْكَارِ الْخَصْمِ وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى التَّأْوِيلِ الثَّانِي جَوَّزَ سَمَاعَ الشَّهَادَةِ قَبْلَ إِنْكَارِ الْخَصْمِ .
[ الْقَوْلُ فِي عَجْزِ بَيْتِ الْمَالِ عَنْ رَاتِبِ الْقَاضِي ] . فَصْلٌ : وَإِذَا تَعَذَّرَ رِزْقُ الْقَاضِي مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَأَرَادَ أَنْ يَرْتَزِقَ مِنَ الْخُصُومِ فَإِنْ لَمْ يَقْطَعْهُ النَّظَرُ عَنِ اكْتِسَابِ الْمَادَّةِ إِمَّا لِغِنَائِهِ بِمَا يَسْتَجِدُّهُ وَإِمَّا لِقِلَّةِ الْمُحَاكَمَاتِ الَّتِي لَا تَمْنَعُهُ مِنَ الِاكْتِسَابِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْتَزِقَ مِنَ الْخُصُومِ . وَإِنْ كَانَ يَقْطَعُهُ النَّظَرُ عَنِ اكْتِسَابِ الْمَادَّةِ مَعَ صِدْقِ الْحَاجَةِ جَازَ لَهُ الِارْتِزَاقُ مِنْهُمْ عَلَى ثَمَانِيَةِ شُرُوطٍ رزق القاضى من الخصوم :
أَحَدُهَا : أَنْ يَعْلَمَ بِهِ الْخَصْمَانِ قَبْلَ التَّحَاكُمِ إِلَيْهِ ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ إِلَّا بَعْدَ الْحُكْمِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْتَزِقْهُمَا . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ رِزْقُهُ عَلَى الطَّالِبِ وَالْمَطْلُوبِ وَلَا يَأْخُذُ مِنْ أَحَدِهِمَا فَيَصِيرُ بِهِ مَتْهُومًا . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ عَنْ إِذَنِ الْإِمَامِ لِتَوَجُّهِ الْحَقِّ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ الْإِمَامُ لَمْ يَجُزْ . وَالرَّابِعُ : أَنْ لَا يَجِدَ الْإِمَامُ مُتَطَوِّعًا ، فَإِنْ وَجَدَ مُتَطَوِّعًا لَمْ يَجُزْ . وَالْخَامِسُ : أَنْ يَعْجَزَ الْإِمَامُ عَنْ دَفْعِ رِزْقِهِ فَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ . وَالسَّادِسُ : أَنْ يَكُونَ مَا يَرْتَزِقُهُ مِنَ الْخُصُومِ غَيْرَ مُؤَثِّرٍ عَلَيْهِمْ ، وَلَا مُضِرٍّ بِهِمْ ، فَإِنْ أَضَرَّ بِهِمْ أَوْ أَثَّرَ عَلَيْهِمْ لَمْ يَجُزْ . وَالسَّابِعُ : أَنْ يَسْتَزِيدَ عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهِ فَإِنْ زَادَ عَلَيْهَا لَمْ يَجُزْ . وَالثَّامِنُ : أَنْ يَكُونَ قَدْرَ الْمَأْخُوذِ مَشْهُورًا يَتَسَاوَى فِيهِ جَمِيعُ الْخُصُومِ ، وَإِنْ تَفَاضَلُوا فِي الْمُطَالَبَاتِ : لِأَنَّهُ يَأْخُذُ . عَلَى زَمَانِ النَّظَرِ فَلَمْ تُعْتَبَرْ مَقَادِيرُ الْحُقُوقِ . فَإِنْ فَاضَلَ بَيْنَهُمْ فِيهِ لَمْ يَجُزْ إِلَّا أَنْ يَتَفَاضَلُوا فِي الزَّمَانِ فَيَجُزْ . وَفِي مِثْلِ هَذَا مَعَرَّةٌ تَدْخُلُ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ . وَلَئِنْ جَازَتْ فِيهِ الضَّرُورَاتُ فَوَاجِبٌ عَلَى الْإِمَامِ وَكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ تُزَالَ مَعَ الْإِمْكَانِ إِمَّا بِأَنْ يَتَطَوَّعَ مِنْهُمْ بِالْقَضَاءِ مَنْ يَكُونُ مِنْ أَهْلِهِ ؟ وَإِمَّا أَنْ يُقَامَ لِهَذَا بِكِفَايَتِهِ : لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ وِلَايَةُ الْقَضَاءِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ ، كَانَ رِزْقُ الْقَاضِي بِمَثَابَةِ وِلَايَتِهِ . فَإِنِ اجْتَمَعَ أَهْلُ الْبَلَدِ ، مَعَ إِعْوَازِ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى أَنْ يَجْعَلُوا لِلْقَاضِي مِنْ أَمْوَالِهِمْ رِزْقًا دَارًا جَازَ ، وَكَانَ أَوْلَى مِنْ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ أَعْيَانِ الْخُصُومِ .
فَصْلٌ : مَا يَكْتُبُهُ الْقَاضِي مِنْ مُحَاكَمَةِ الْخَصْمَيْنِ . وَالْفَصْلُ الثَّانِي : فِيمَا يَكْتُبُهُ الْقَاضِي مِنْ مُحَاكَمَةِ الْخَصْمَيْنِ ، وَلَهُمَا حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَسْأَلَاهُ الْكِتَابَةَ . وَالثَّانِي : أَنْ لَا يَسْأَلَاهُ . فَإِنْ لَمْ يَسْأَلَاهُ إِيَّاهَا كَانَ الْقَاضِي مَنْدُوبًا إِلَى إِثْبَاتِ مُحَاكَمَتِهَا فِي دِيوَانِهِ ، مَشْرُوحَةً بِمَا انْفَصَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ إِلْزَامٍ أَوْ إِسْقَاطٍ احْتِيَاطًا لِلْمُتَحَاكِمَيْنِ . وَوُجُوبُ ذَلِكَ عَلَيْهِ مُعْتَبَرٌ بِالْحُكْمِ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا قَدِ اسْتَوْفَى وَقَبَضَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إِثْبَاتُهُ وَكَانَ بِإِثْبَاتِهِ مُسْتَظْهِرًا . وَإِنْ كَانَ فِيمَا لَمْ يَقْبِضْ وَلَمْ يَسْتَوْفِ ، فَإِنْ كَانَتِ الْحَالُ لِاشْتِهَارِهَا لَا يَنْسَى مِثْلَهَا
لَمْ يَجِبْ إِثْبَاتُهَا إِلَّا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِظْهَارِ ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَنْسَى مِثْلَهَا وَوَجَبَ عَلَيْهِ إِثْبَاتُهَا لِيَتَذَكَّرَ بِخَطِّهِ مَا حَكَمَ وَأَلْزَمَ بِأَنَّهُ كَفِيلٌ لِيَحْفَظَ الْحُقُوقَ عَلَى أَهْلِهَا فَالْتَزَمَ بِذَلِكَ مَا يَؤُولُ إِلَى حِفْظِهَا . وَإِنْ سَأَلَهُ الْخَصْمُ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ مَا حَكَمَ بِهِ لِيَكُونَ حُجَّةً بِيَدٍ . فَالَّذِي يَكْتُبُهُ الْقَاضِي كِتَابَانِ : أَحَدُهُمَا : مَحْضَرٌ . وَالثَّانِي : سِجِلٌّ . وَالْمَحْضَرُ : حِكَايَةُ الْحَالِ ، وَالسِّجِلِّ : حِكَايَةُ الْمَحْضَرِ ، مَعَ زِيَادَةِ إِنْفَاذِ الْحُكْمِ بِهِ . وَالَّذِي يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْمَحْضَرُ مِنْ حِكَايَةِ الْحَالِ يَتَضَمَّنُ أَرْبَعَةَ فُصُولٍ : أَحَدُهَا : صِفَةُ الدَّعْوَى ، بَعْدَ تَسْمِيَةِ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ . وَالثَّانِي : مَا يَعْقُبُهَا مِنْ جَوَابِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنَ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ . وَالثَّالِثُ : حِكَايَةُ شَهَادَةِ الشُّهُودِ عَلَى وَجْهِهَا فَإِنْ حَكَى شَهَادَةَ أَحَدِهِمَا وَإِنَّ الْآخَرَ شَهِدَ بِمِثْلِ شَهَادَتِهِ جَازَ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَهُ الشَّاهِدُ فِي أَدَائِهِ وَنَكَّرَهُ فِي الْمَحْضَرِ لَمَنَعْنَا مِنْهُ فِي الْأَدَاءِ . وَالرَّابِعُ : ذِكْرُ التَّارِيخِ فِي يَوْمِ الْحُكْمِ مِنْ شَهْرِهِ وَسَنَتِهِ ، وَلَوْ ضَمَّ إِلَيْهِ ذِكْرَ مَا أَدَّاهُ الشُّهُودُ مِنْ تَارِيخِ التَّحَمُّلِ كَانَ حَسَنًا ، وَإِنْ تَرَكَهُ قُضَاةُ زَمَانِنَا . وَأَمَّا السِّجِلُّ فَيَتَضَمَّنُ سِتَّةَ فُصُولٍ : أَحَدُهَا : تَصْدِيرُهُ بِحِكَايَةِ إِشْهَادِ الْقَاضِي بِجَمِيعِ مَا فِيهِ . وَالثَّانِي : حِكَايَةُ مَا تَضَمَّنَهُ الْمَحْضَرُ مِنَ الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ . وَالثَّالِثُ : حِكَايَةُ إِمْهَالِ الْقَاضِي الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ لِيَأْتِيَ بِحُجَّةٍ يَدْفَعُ بِهَا مَا شَهِدَ عَلَيْهِ ، فَعَجَزَ عَنْهَا وَلَمْ يَأْتِ بِهَا . وَالرَّابِعُ : إِمْضَاءُ الْحُكْمِ لِلْمَشْهُودِ لَهُ وَإِلْزَامُهُ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ بَعْدَ مَسْأَلَةِ الْحَاكِمِ . وَالْخَامِسُ : إِشْهَادُ الْقَاضِي عَلَى نَفْسِهِ بِمَا حَكَمَ بِهِ وَأَمْضَاهُ مِنْ ذَلِكَ . وَالسَّادِسُ : تَارِيخُ يَوْمِ الْحُكْمِ وَالتَّنْفِيذِ . فَإِذَا اسْتَكْمَلَ السِّجِلَّ بِهَذِهِ الْفُصُولِ السِّتَّةِ ، بِالْأَلْفَاظِ الْمَعْهُودَةِ فِيهِ ، جَعَلَهُ عَلَى نُسْخَتَيْنِ عَلَّمَ الْقَاضِي فِيهِمَا بِعَلَامَتِهِ الْمَأْلُوفَةِ بِخَطِّهِ لِيَتَذَكَّرَ بِهَا حُكْمَهُ إِذَا عَرَضَ عَلَيْهِ وَأَشْهَدَ فِيهِمَا عَلَى نَفْسِهِ ، وَسَلَّمَ إِحْدَاهُمَا لِلْمَحْكُومِ لَهُ وَوَضَعَ الْأُخْرَى فِي دِيوَانِهِ حُجَّةً يُقَابِلُ بِهَا سِجِلَّ الْخَصْمِ إِنْ أَحْضَرَهُ مِنْ بَعْدُ ، وَلَا يَحْتَاجُ مَعَ نُسْخَةِ السِّجِلِّ الْمَوْضُوعَةِ فِي دِيوَانِهِ إِلَى إِثْبَاتِ مَا حَكَمَ بِهِ فِي دِيوَانِهِ وَأَغْنَاهُ السِّجِلُّ عَنْ إِثْبَاتِهِ وَلَوِ اسْتَظْهَرَ بِإِثْبَاتِ اسْمِ السِّجِلِّ فِيهِ كَانَ أَحْوَطَ .
فَأَمَّا تَسْمِيَةُ الشُّهُودِ الَّذِينَ حَكَمَ بِشَهَادَتِهِمْ فِي الْمَحْضَرِ وَالسِّجِلِّ فَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ النَّاسِ فِي الْأَوْلَى مِنْهُ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى جَوَازِ الْأَمْرَيْنِ . فَرَأَى أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِرَاقِ أَنَّ تَرْكَ تَسْمِيَتِهِمْ أَوْلَى وَهُوَ أَحْوَطُ لِلْمَشْهُودِ لَهُ . وَاخْتَارَهُ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا . وَرَأَى أَكْثَرُ أَهْلِ الْحِجَازِ أَنَّ تَسْمِيَتَهُمْ فِيهِ أَوْلَى ، وَهُوَ أَحْوَطُ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ مِمَّا لَعَلَّهُ يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ جَرْحِهِمْ ، وَاخْتَارَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ مِنْ أَصْحَابِنَا . وَلَوْ أَنَّ الْقَاضِيَ عَدَلَ عَنْ كُتُبِ السِّجِلِّ إِلَى أَنْ زَادَ فِي الْمَحْضَرِ إِنْفَاذَ حُكْمِهِ وَإِمْضَائِهِ بَعْدَ إِمْهَالِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِمَا يَدْفَعُ بِهِ الشَّهَادَةَ ، فَلَمْ يَأْتِ بِهَا وَعَلِمَ فِيهِ وَأَشْهَدَ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ جَازَ .
الْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ
الْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِنْ قَبِلَ الشَّهَادَةَ مِنْ غَيْرِ مَحْضَرِ خَصْمٍ فَلَا بَأْسَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَمَّا سَمَاعُ الدَّعْوَى عَلَى الْغَائِبِ فَإِنْ لَمْ تَقْتَرِنْ بِهَا بَيِّنَةٌ لَمْ تُسْمَعْ ؛ لِأَنَّ سَمَاعَهَا غَيْرُ مُفِيدٍ وَإِنِ اقْتَرَنَ بِهَا بَيِّنَةٌ سُمِعَتْ وَسُمِعَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهَا ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي جَوَازِ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَةِ عَلَى الْغَائِبِ . وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْغَائِبِ . فَهُوَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ يَرَى الْقَضَاءَ عَلَى الْغَالِبِ سَمَاعُ حُكْمٍ . وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ لَا يَرَى الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ سَمَاعُ تَحَمُّلٍ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ . فَأَمَّا الْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ بَعْدَ سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ فَلَا تَخْلُو غَيْبَتُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ غَائِبًا عَنِ الْحُكْمِ حَاضِرًا فِي مَجْلِسِهِ فَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ حُضُورِهِ وَإِمْضَاءِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بَعْدَ إِعْلَامِهِ ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَإِنِ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهُ . فَهُوَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ يَرَى الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ ارْتِفَاعُ الضَّرُورَةِ . وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ لَا يَرَى الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ مَا عَسَاهُ يَدْفَعُ بِهِ الْحُجَّةَ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ غَائِبًا عَنْ بَلَدِ الْحُكْمِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ مَعَ غَيْبَتِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ يَجُوزُ الْقَضَاءُ عَلَيْهِ مَعَ غَيْبَتِهِ فِي عُمُومِ الْأَحْكَامِ ، فِيمَا يُنْقَلُ وَلَا يُنْقَلُ ، سَوَاءٌ تَعَلَّقَتْ بِحَاضِرٍ أَوْ لَمْ تَتَعَلَّقْ بِحَاضِرٍ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى
الْمَيِّتِ وَعَلَى مَنْ لَا يُجِيبُ عَنْ نَفْسِهِ مِنَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ ، وَمِنْ شَرْطِ التَّنْفِيذِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْحُكْمِ أَنْ يَسْتَحْلِفَ الْمَحْكُومَ لَهُ عَلَى بَقَاءِ حَقِّهِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ . وَالثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ لَا يَجُوزُ فِيمَا يُنْقَلُ وَمَا لَا يُنْقَلُ ، إِلَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِحَاضِرٍ فَيَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ تَبَعًا لِلْحَاضِرِ لِقَوْلِهِ : غَصَبَنِي هَذَا وَفُلَانٌ الْغَائِبُ عَبْدًا أَوِ ابْتَاعَا مِنِّي دَارًا . وَالثَّالِثُ : وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ : يَجُوزُ الْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ فِيمَا يَنْقُلُ ، وَلَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ عَلَيْهِ فِيمَا لَا يَنْقُلُ مِنَ الْعَقَارِ ، فَهَذِهِ مَذَاهِبُ الْفُقَهَاءِ فِي الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ عَنِ الْبَلَدِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ غَائِبًا عَنْ مَجْلِسِ الْحُكْمِ وَحَاضِرًا فِي بَلَدِهِ حكم القضاء على الغائب ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَجْرِي مَجْرَى الْغَائِبِ عَنِ الْبَلَدِ فِي جَوَازِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ . أَوْ يَكُونُ كَالْحَاضِرِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ فِي الْمَنْعِ مِنَ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ . عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ عَلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ حُضُورِهِ لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ كَالْحَاضِرِ فِي الْمَجْلِسِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ شُبْرُمَةَ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ يَجُوزُ الْقَضَاءُ عَلَيْهِ كَالْغَائِبِ عَنِ الْبَلَدِ ، قَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ : أَحْكُمُ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ وَرَاءَ جِدَارٍ ، فَهَذِهِ أَحْوَالُ الْغَائِبِ وَاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي الْقَضَاءِ عَلَيْهِ .
فِي الْمَنْعِ مِنَ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ . فَصْلٌ : وَاسْتَدَلَّ مَنْ مَنَعَ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ [ النُّورِ : ] . فَدَلَّ هَذَا الذَّمُّ عَلَى وُجُوبِ الْحُضُورِ لِلْحُكْمِ وَلَوْ نَفَّذَ الْحُكْمَ مَعَ الْغَيْبَةِ لَمْ يَجِبِ الْحُضُورُ وَلَمْ يُسْتَحَقَّ الذَّمُّ . وَبِمَا رَوَاهُ سِمَاكٌ ، عَنْ حَنَشِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ الصَّنْعَانِيِّ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ : وَلَّانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَمَنَ وَقَالَ لِي : " يَا عَلِيُّ : إِنَّ النَّاسَ سَيَتَقَاضُونَ إِلَيْكَ ، فَإِنْ أَتَاكَ الْخَصْمَانِ فَلَا تَقْضِيَنَّ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ حَتَّى تَسْمَعَ مِنَ الْآخَرِ كَمَا سَمِعْتَ مِنَ الْأَوَّلِ ، فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يَتَبَيَّنَ لَكَ الْقَضَاءُ وَتَعْلَمَ لِمَنِ الْحَقُّ " قَالَ عَلِيٌّ : فَمَا شَكَكْتُ فِي قَضَاءٍ بَعْدُ . قَالُوا فَهَذَا نَصٌّ فِي الْمَنْعِ مِنَ الْحُكْمِ إِلَّا بَعْدَ سَمَاعِ قَوْلِ الْخَصْمِ ، فَمَنَعَ هَذَا مِنَ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ شَرْعًا . ثُمَّ مَنَعَ مِنْهُ عُرْفًا قَوْلُ الشَّاعِرِ .
حَضَرُوا وَغِبْنَا عَنْهُمُ فَتَحَكَّمُوا فِينَا وَلَيْسَ كَغَائِبٍ مَنْ يَشْهَدُ قَالُوا : وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ عَلَى غَيْرِ مَأْيُوسٍ مِنْ إِقْرَارِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْكُمَ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ قَبْلَ إِنْكَارِهِ كَالْحَاضِرِ . قَالُوا : وَلِأَنَّ فَصْلَ الْحُكْمِ قَدْ يَكُونُ بِبَيِّنَةِ الْمُدَّعِي تَارَةً ، وَبِيَمِينِ الْمُنْكِرِ أُخْرَى ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ فَصْلُ الْحُكْمِ بِيَمِينِ الْمُنْكِرِ مَعَ غَيْبَةِ الْمُدَّعِي ، لَمْ يَجُزْ فَصْلُهُ بِبَيِّنَةِ الْمُدَّعِي مَعَ غَيْبَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا : أَنَّهَا حُجَّةُ أَحَدِ الْمُتَدَاعِيَيْنِ فَلَمْ يَجُزِ الْحُكْمُ بِهَا مَعَ غَيْبَةِ الْآخَرِ كَالْيَمِينِ . قَالُوا : وَلِأَنَّ الْحُكْمَ يَكُونُ لِلْغَائِبِ تَارَةً وَعَلَيْهِ أُخْرَى ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزِ الْحُكْمُ لِلْغَائِبِ كَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يَجُوزَ الْحُكْمُ عَلَى الْغَائِبِ . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّ مَنْ لَمْ يَجُزِ الْحُكْمُ لَهُ لَمْ يَجُزِ الْحُكْمُ عَلَيْهِ كَالْحَاضِرِ . وَدَلِيلُنَا : قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : يَادَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ [ ص : ] وَمَا شَهِدْتَهُ بِهِ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْغَائِبِ حَقٌّ ، فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِهِ . وَرَوَى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ قَالَ : " كَانَ إِذَا حَضَرَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَصْمَانِ فَتَوَاعَدَ مَوْعِدًا فَوَفَّى أَحَدَهُمَا وَلَمْ يَفِ الْآخَرِ قَضَى لِلَّذِي وَفَّى عَلَى الَّذِي لَمْ يَفِ " وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَقْضِي لَهُ بِدَعْوَاهُ فَثَبَتَ أَنَّهُ قَضَى لَهُ بِالْبَيِّنَةِ . وَرُوِيَ أَنَّ هِنْدَ بِنْتَ عُتْبَةَ زَوْجَةَ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ لَا يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي إِلَّا مَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ سِرًّا فَهَلْ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ مِنْ حَرَجٍ ، فَقَالَ لَهَا : " خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ " وَهَذَا قَضَاءٌ مِنْهُ عَلَى غَائِبٍ ؛ لِأَنَّ أَبَا سُفْيَانَ لَمْ يَحْضُرْ " . فَإِنْ قِيلَ : فَهَذَا مِنْهُ فُتْيَا وَلَيْسَ بِحُكْمٍ ، قِيلَ : بَلْ هُوَ حُكْمٌ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ لَهَا : " خُذِي " وَلَوْ كَانَ فُتْيَا ، لَقَالَ : يَجُوزُ أَنْ تَأْخُذِي . فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ حَكَمَ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ . قِيلَ : قَدْ عَلِمَ أَنَّهَا زَوْجَةُ أَبِي سُفْيَانَ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى بَيِّنَةٍ . فَإِنْ قِيلَ : فَهُوَ حُكْمٌ بِمَجْهُولٍ ، لِأَنَّهُ قَالَ خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ وَقِيلَ : لِأَنَّ الْوَاجِبَ لَهَا وَلِوَلَدِهَا مُعْتَبَرٌ بِالْكِفَايَةِ ، وَالْحُكْمُ بِالْوَاجِبِ غَيْرُ مَجْهُولٍ . وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ إِجْمَاعٌ : رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ : أَلَا إِنَّ أُسَيْفِعَ أُسَيْفِعَ جُهَيْنَةَ قَدْ رَضِيَ مِنْ دِينِهِ وَأَمَانَتِهِ أَنْ يُقَالَ قَدْ سَبَقَ الْحَاجُّ فَأَدَانَ مُعْرِضًا ، فَأَصْبَحَ قَدْ دِينَ بِهِ فَمَنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيَحْضُرْ غَدًا لِنَقْسِمَ مَالَهُ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ ، وَلَيْسَ لَهُ مَعَ انْتِشَارِ قَوْلِهِ فِي النَّاسِ مُخَالِفٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا .
وَمِنَ الْقِيَاسِ أَنَّ مَنْ جَازَ سَمَاعُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ جَازَ الْحُكْمُ بِهَا عَلَيْهِ كَالْحَاضِرِ ، وَلِأَنَّ مَا تَأَخَّرَ عَنْ سُؤَالِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذَا كَانَ حَاضِرًا يُقَدَّمُ عَلَى سُؤَالِهِ إِذَا كَانَ غَائِبًا كَسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ . فَإِنْ قِيلَ : سَمَاعُ الْبَيِّنَةِ تَحَمُّلٌ ، فَجَازَ مَعَ الْغَيْبَةِ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ . قِيلَ : التَّحَمُّلُ لَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الدَّعْوَى ، كَمَا لَا تُعْتَبَرُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ ، وَسَمَاعُ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْغَائِبِ يُعْتَبَرُ فِيهَا تَقَدُّمُ الدَّعْوَى ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لِلْحُكْمِ دُونَ التَّحَمُّلِ . وَلِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَدْ وَافَقَ فِي الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ فِي مَسَائِلَ هِيَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ فِيمَا عَدَاهَا : فَمِنْهَا أَنَّ رَجُلًا لَوْ حَضَرَ فَادَّعَى أَنَّهُ وَكِيلٌ لِفُلَانٍ الْغَائِبِ فِي قَبْضِ دُيُونِهِ وَأَنْكَرَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَكَالَتَهُ ، فَأَقَامَ الْوَكِيلُ الْبَيِّنَةَ بِالْوِكَالَةِ حَكَمَ بِهَا عَلَى الْغَائِبِ وَجَعَلَ لِلْوَكِيلِ قَبْضَ الدَّيْنِ مِنَ الْحَاضِرِ . وَمِنْهَا أَنَّ شَفِيعًا لَوِ ادَّعَى عَلَى حَاضِرٍ ابْتِيَاعَ دَارٍ مِنْ غَائِبٍ يَسْتَحِقُّ شُفْعَتَهَا فَأَنْكَرَ الْحَاضِرُ الشِّرَاءَ ، فَأَقَامَ الشَّفِيعُ الْبَيِّنَةَ بِالِابْتِيَاعِ ؛ حُكِمَ عَلَى الْغَائِبِ بِالْبَيْعِ وَعَلَى الْحَاضِرِ بِالشِّرَاءِ وَأَوْجَبَ الشُّفْعَةَ لِلشَّفِيعِ . وَمِنْهَا أَنَّ امْرَأَةً لَوِ ادَّعَتْ أَنَّهَا زَوْجَةُ فُلَانٍ الْغَائِبِ وَأَنَّ هَذَا وَلَدُهُ مِنْهَا وَأَقَامَتِ الْبَيِّنَةَ وَسَأَلَتْ أَنْ يُحْكَمَ لَهَا عَلَيْهِ بِنَفَقَتِهَا وَنَفَقَةِ وَلَدِهَا فِي مَالِهِ الْحَاضِرِ ؛ جَازَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَهُوَ غَائِبٌ . وَمِنْهَا أَنَّ حَاضِرًا لَوِ ادَّعَى أَنَّهُ بَاعَ عَبْدَهُ هَذَا عَلَى فُلَانٍ الْغَائِبِ وَقَدْ مَنَعَهُ ثَمَنَهُ وَأَقَامَ بِذَلِكَ بَيِّنَةً ؛ حَكَمَ عَلَى الْغَائِبِ بِالشِّرَاءِ وَبَاعَ عَلَيْهِ الْعَبْدَ وَقَضَاهُ حَقَّهُ مَنْ ثَمَنِهِ . وَمِنْهَا أَنَّ عَبْدًا لَوْ قُطِعَتْ يَدُهُ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّ مَوْلَاهُ الْغَائِبَ أَعْتَقَهُ لِيَقْتَصَّ مِنْهُ يَدَهُ قَضَى عَلَى الْغَائِبِ بِعِتْقِهِ ، وَحَكَمَ لَهُ بِالْقِصَاصِ مِنْ يَدِهِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَشْبَاهِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ ، فَكَذَلِكَ فِيمَا عَدَاهَا . فَإِنْ قِيلَ : إِنْ هَذَا يَتَعَلَّقُ بِحَاضِرٍ ، قِيلَ : فَالْحُكْمُ عَلَى الْغَائِبِ وَإِنْ تَعَلَّقَ بِحَاضِرٍ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْغَيْبَةَ لَا تَمْنَعُ مِنْ نُفُوذِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ لِثُبُوتِهِ بِالْبَيِّنَةِ . وَلِأَنَّ فِي الِامْتِنَاعِ مِنَ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ إِضَاعَةً لِلْحُقُوقِ الَّتِي نُدِبَ الْحُكَّامُ لِحِفْظِهَا ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ كُلُّ مَانِعٍ مِنْهَا أَنْ يَغِيبَ ، فَيُبْطِلُهَا مُتَوَارِيًا أَوْ مُتَبَاعِدًا ، وَالشَّرْعُ يَمْنَعُ مِنْ هَذَا لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " إِنَّ اللَّهَ لَا يَمْنَعُ ذَا حَقٍّ حَقَّهُ " . وَلِأَنَّ الْغَائِبَ لَوْ حَضَرَ لَكَانَ بَيْنَ إِقْرَارٍ وَإِنْكَارٍ فَإِنْ أَقَرَّ فَالْبَيِّنَةُ مُوَافَقَةٌ ، وَإِنْ أَنْكَرَ فَالْبَيِّنَةُ حُجَّةٌ فَلَمْ يَكُنْ فِي الْغَيْبَةِ مَانِعٌ مِنَ الْحُكْمِ بِالْبَيِّنَةِ فِي حَالَتَيْ إِقْرَارِهِ وَإِنْكَارِهِ .
فَإِنْ قِيلَ إِذَا اجْتَمَعَ الْإِقْرَارُ وَالْبَيِّنَةُ تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالْإِقْرَارِ دُونَ الْبَيِّنَةِ . قِيلَ : هُوَ كَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْإِقْرَارُ مُمْكِنًا وَبِخِلَافِهِ إِذَا كَانَ مُعْتَذِرًا . فَإِنْ قِيلَ لَوْ كَانَ حَاضِرًا لَقَدَرَ عَلَى دَفْعِ الْبَيِّنَةِ بِالْجَرْحِ ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ مَعَ الْغَيْبَةِ . قِيلَ : يُمْكِنُهُ بَعْدَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ بِالْجَرْحِ فَيُسْقِطُهَا وَيَنْتَقِضُ بِهَا مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْحُكْمِ ، فَلَمْ يَمْنَعْهُ نُفُوذُ الْحُكْمِ مِنِ اسْتِدْرَاكِهِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ : فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا فِي الْحَاضِرِ ؛ لِأَنَّ الدُّعَاءَ يَكُونُ لِلْحَاضِرِ دُونَ الْغَائِبِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ ذَمَّهُ بِالْإِعْرَاضِ ، وَذَمُّهُ أَحَقُّ بِوُجُوبِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ مِنْ إِسْقَاطِهِ عَنْهُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَالَ : إِذَا أَتَاكَ الْخَصْمَانِ فَكَانَ وَارِدًا فِي الْحَاضِرِينَ . وَالثَّانِي : أَنَّ اشْتِرَاطَ ذَلِكَ فِي الْحَاضِرِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِهِ فِي الْغَائِبِ لِعَدَمِ الشَّرْطِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْحَاضِرِ : فَهُوَ أَنَّ سُؤَالَهُ مُمْكِنٌ ، وَسُؤَالُ الْغَائِبِ مُتَعَذِّرٌ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى يَمِينِ الْمُنْكِرِ ، فَهُوَ وُجُودُ الدَّعْوَى فِي الْبَيِّنَةِ فَجَازَ الْحُكْمُ بِهَا ، وَعَدَمُ الدَّعْوَى فِي يَمِينِ الْمُنْكِرِ فَلَمْ يَجُزِ الْحُكْمُ بِهَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْحُكْمِ لِلْغَائِبِ ، فَهُوَ أَنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ تَأْخِيرَهُ وَلَيْسَ لِمَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ تَأْخِيرُهُ .
فَصْلٌ : الْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ مَخْصُوصٌ بِبَعْضِ الْحُقُوقِ . فَإِذَا ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا جَوَازُ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ فَهُوَ مَخْصُوصٌ بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ . فَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي تُدْرَأُ بِالشُّبَهَاتِ فَلَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ بِهَا عَلَى غَائِبٍ كَحَدِّ الزِّنَا وَحَدِّ الْخَمْرِ لِاتِّسَاعِ حُكْمِهَا بِالْمُهْلَةِ . فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَجْمَعُ فِيهِ بَيْنَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقِّ الْآدَمِيِّ كَالسَّرِقَةِ قُضِيَ عَلَى الْغَائِبِ بِالْغُرْمِ وَلَمْ يُقْضَ عَلَيْهِ بِالْقَطْعِ إِلَّا بَعْدَ حُضُورِهِ . مَا عَلَى الْقَاضِي فِي الِاسْتِعْدَاءِ إِلَيْهِ . فَإِذَا صَحَّتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَجَبَ أَنْ نَصِفَ مَا عَلَى الْقَاضِي فِي الِاسْتِعْدَاءِ إِلَيْهِ وَالتَّحَاكُمِ عِنْدَهُ . فَإِذَا تَشَاجَرَ خَصْمَانِ فِي حَقٍّ وَدَعَا أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ إِلَى الْحُضُورِ مَعَهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ
وَجَبَ عَلَيْهِ إِجَابَتُهُ وَالْحُضُورُ لِمُحَاكَمَتِهِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا . فَإِنِ امْتَنَعَ وَحَضَرَ الطَّالِبُ مُسْتَعْدِيًا إِلَى الْقَاضِي عَلَى خَصْمِهِ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْخَصْمِ مِنْ أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا فِي بَلَدِ الْقَاضِي أَوْ غَائِبًا عَنْهُ . الْخَصْمُ الْحَاضِرُ فِي بَلَدِ الْقَاضِي . فَإِنْ كَانَ حَاضِرًا فِي بَلَدِهِ : وَجَبَ عَلَى الْقَاضِي إِعْدَاءُ الْمُسْتَعْدِي وَإِحْضَارُ خَصْمِهِ لِمُحَاكَمَتِهِ قَبْلَ سَمَاعِ الدَّعْوَى وَتَحْرِيرِهَا ، سَوَاءٌ عَرَفَ أَنَّ بَيْنَهُمَا مُعَامَلَةً أَوْ لَمْ يَعْرِفْ . وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْضِرَهُ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَانَةِ إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ بَيْنَهُمَا مُعَامَلَةً أَوْ خُلْطَةً فَيُحْضِرُهُ . وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْهَا لَمْ يَحْضُرِ احْتِجَاجًا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " لَا يُعْدِي الْحَاكِمُ عَلَى خَصْمٍ إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ بَيْنَهُمْ مُعَامَلَةً " وَلَا مُخَالِفَ لَهُ . وَلِأَنَّ فِيهِ اسْتِبْدَالُ أَهْلِ الصِّيَانَةِ بِمَا لَا يُعْلَمُ اسْتِحْقَاقُهُ ، فَوَجَبَ حِفْظُ صِيَانَتِهِمْ إِلَّا بِمُوجِبٍ . وَدَلِيلُنَا وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مَا رَوَاهُ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ ، عَنِ الْهِرْمَاسِ بْنِ حَبِيبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ اسْتَعْدَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَجُلٍ فِي حَقِّ لَهُ فَقَالَ لَهُ : الْزَمْهُ . وَلَمْ يَسْتَعْلِمْ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُعَامَلَةِ فَدَلَّ عَلَى عُمُومِ الْإِعْدَاءِ فِي الْجَمِيعِ . وَلِأَنَّ الْحُقُوقَ قَدْ تَثْبُتُ تَارَةً عَنْ مُعَامَلَةٍ وَتَارَةً عَنْ غَيْرِ مُعَامَلَةٍ كَالْغُصُوبِ وَالْجِنَايَاتِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَجْعَلَ الْمُعَامَلَةَ شَرْطًا فِي الْإِعْدَاءِ . وَلِأَنَّ الْحُقُوقَ لَا يَجُوزُ أَنْ تُضَاعَ لِحِفْظِ الصِّيَانَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْحُضُورِ لِلْمُحَاكَمَةِ اسْتِبْدَالٌ لِلصِّيَانَةِ . وَقَدْ قَاضَى عُمَرُ أُبَيًّا إِلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَقَاضَى عَلِيٌّ يَهُودِيًّا إِلَى شُرَيْحٍ . وَالْخَبَرُ الْمَرْوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ غَيْرُ ثَابِتٍ وَلَوْ ثَبَتَ لَكَانَ الْقِيَاسُ أَقْوَى وَالْعَمَلُ بِهِ أَوْلَى . وَعَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْقَاضِي فِي أَهْلِ الصِّيَانَةِ أَنْ يُفْرِدَهُمْ عَنْ مَجْلِسِ الْعَامَّةِ وَيَنْظُرَ بَيْنَهُمْ فِي مَنْزِلِهِ ، بِحَيْثُ يَحْفَظُ بِهِ صِيَانَتَهُمْ .
فَصْلٌ : [ اسْتِدْعَاءُ الْخَصْمِ ] . وَإِذَا وَجَبَ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يُعْدِيَ كُلَّ مُسْتَعْدٍ إِلَيْهِ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ كَذِبَهُ كَانَ الْقَاضِي فِي إِعْدَائِهِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُنْفِذَ مَعَهُ عَوْنًا مِنْ أُمَنَائِهِ يُحْضِرُهُ إِلَيْهِ وَبَيْنَ أَنْ يَخْتِمَ لَهُ فِي طِينٍ بِخَاتَمِهِ الْمَعْرُوفِ يَكُونُ عَلَامَةَ اسْتِدْعَائِهِ ، وَبَيْنَ أَنْ يَجْمَعَ لَهُ بَيْنَ الْعَوْنِ وَالْخَتْمِ بِحَسْبِ مَا يُؤَدِّيهِ الِاجْتِهَادُ إِلَيْهِ مِنْ قُوَّةِ الْخَصْمِ وَضَعْفِهِ .
فَإِنْ أَخْبَرَ الْقَاضِي بِامْتِنَاعِ الْخَصْمِ مِنَ الْحُضُورِ بَعْدَ اسْتِدْعَائِهِ فَإِنْ أَخْبَرَهُ الْعَوْنَ الَّذِي قَدِ ائْتَمَنَهُ ، قَبْلَ قَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَإِنْ أَخْبَرَهُ بِهِ الْمُسْتَعْدِي لَمْ يَقْبَلْ قَوْلَهُ إِلَّا بِشَاهِدَيْ عَدْلٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَقْبَلُ قَوْلَهُ بِقَوْلِ شَاهِدَيْنِ وَإِنْ لَمْ تُعْرَفْ عَدَالَتُهُمَا . وَالْعَدَالَةُ عِنْدَنَا شَرْطٌ فِي كُلِّ شَهَادَةٍ . فَإِذَا ثَبَتَ عِنْدَ الْقَاضِي امْتِنَاعُهُ مِنَ الْحُضُورِ كَانَ مُخَيَّرًا فِيهِ بِحَسْبِ اجْتِهَادِهِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ . إِمَّا أَنْ يُحْضِرَهُ جَبْرًا بِأَهْلِ الْقُوَّةِ مِنْ أَعْوَانِهِ . وَإِمَّا أَنْ يُنْهِيَ أَمْرَهُ إِلَى ذِي سُلْطَانٍ يَحْضُرُهُ جَبْرًا ، بَعْدَ أَنْ لَا يَهْتِكَ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى حُرَمِهِ سِتْرًا . وَإِمَّا بِمَا اخْتَارَهُ أَبُو يُوسُفَ ، أَنْ يُنَادِيَ عَلَى بَابِهِ ، بِمَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ فِي الِامْتِنَاعِ وَبِمَا يُمْضِيهِ عَلَيْهِ مِنَ الْحُكْمِ . فَإِذَا تَعَذَّرَ حُضُورُهُ مَعَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا سَأَلَ الْقَاضِي هَذَا الْمُدَّعِيَ : أَلَكَ بَيِّنَةٌ ؟ فَإِذَا كَانَ لَهُ بَيِّنَةٌ أَذِنَ لَهُ فِي إِحْضَارِهَا وَأَمَرَهُ بِتَحْرِيرِ الدَّعْوَةِ وَسَمِعَ بِبَيِّنَتِهِ بَعْدَ تَحْرِيرِهَا ، وَحَكَمَ عَلَيْهِ بَعْدَ النِّدَاءِ عَلَى بَابِهِ ، بِإِنْفَاذِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ وَيَجْرِي مَجْرَى الْغَائِبِ فِي الْحُكْمِ عَلَيْهِ . وَلَا يَلْزَمُ الْقَاضِي فِي حَقِّ هَذَا الْمُتَوَارِي أَنْ يَحْلِفَ الْمُدَّعِي أَنَّهُ مَا قَبَضَ هَذَا الْحَقَّ وَلَا شَيْئًا مِنْهُ ، كَمَا يُحْلِفُهُ لِلْغَائِبِ ؛ لِأَنَّ هَذَا قَادِرٌ بِحُضُورِهِ عَلَى الْمُطَالَبَةِ بِذَلِكَ لَوْ أَرَادَ بِخِلَافِ الْغَائِبِ فَافْتَرَقَا فِيهِ . فَإِنْ قَالَ الْمُدَّعِي لَيْسَتْ لِي بَيِّنَةٌ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا : هَلْ يَكُونُ هَذَا الِامْتِنَاعُ مِنَ الْحُضُورِ كَالنُّكُولِ فِي رَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يُجْعَلُ نُكُولًا ، لِأَنَّ النُّكُولَ بَعْدَ سَمَاعِ الدَّعْوَى ، وَسُؤَالِهِ عَنِ الْجَوَابِ ، فَيَصِيرَانِ شَرْطَيْنِ فِي النُّكُولِ ، وَهُمَا مَفْقُودَانِ مَعَ عَدَمِ الْحُضُورِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَشْبَهُ أَنْ يُجْعَلَ كَالنُّكُولِ بَعْدَ النِّدَاءِ عَلَى بَابِهِ بِمَبْلَغِ الدَّعْوَى وَإِعْلَامِهِ بِأَنَّهُ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ لِوُجُودِ شَرْطَيِ النُّكُولِ فِي هَذَا النِّدَاءِ ، فَعَلَى هَذَا يَسْمَعُ الْقَاضِي الدَّعْوَى مُحَرَّرَةً ، ثُمَّ يُعِيدُ النِّدَاءَ عَلَى بَابِهِ ثَانِيَةً بِأَنَّهُ يَحْكُمُ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ .
فَإِذَا امْتَنَعَ مِنَ الْحُضُورِ بَعْدَ النِّدَاءِ الثَّانِي ، حَكَمَ بِنُكُولِهِ ، وَرَدَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعِي ، وَحَكَمَ لَهُ بِالدَّعْوَى إِذَا حَلَفَ . اسْتِدْعَاءُ الْخَصْمِ إِنْ كَانَ امْرَأَةً . فَإِنْ كَانَ الْخَصْمُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ امْرَأَةً لَمْ يَخْلُ حَالُهَا ، مِنْ أَنْ تَكُونَ بَرْزَةً أَوْ خَفِرَةً . فَإِنْ كَانَتْ بَرْزَةً ، وَالْبَرْزَةُ الَّتِي تَتَظَاهَرُ بِالْخُرُوجِ فِي مَآرِبِهَا غَيْرَ مُسْتَخْفِيَةٍ فَتَصِيرُ بِهَذَا الْبُرُوزِ كَالرَّجُلِ فِي وُجُوبِ الْحُضُورِ لِلْحُكْمِ . وَإِنْ كَانَتْ خَفِرَةً ، وَالْخَفِرَةُ هِيَ الَّتِي لَا تَتَظَاهَرُ بِالْخُرُوجِ فِي أَرَبٍ وَإِنْ خَرَجَتِ اسْتَخْفَتْ وَلَمْ تُعْرَفْ ، فَلَا يَلْزَمُهَا الْحُضُورُ مَعَ هَذَا الْخَفَرِ ، وَعَلَى الْقَاضِي إِذَا اسْتَعْدَاهُ الْخَصْمُ عَلَيْهَا أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ خَصْمِهَا فِي مَنْزِلِهَا ، إِمَّا بِنَفْسِهِ ، أَوْ بِنَائِبٍ عَنْهُ . فَإِنِ اخْتَلَفَتْ وَخَصْمُهَا فِي الْبُرُوزِ وَالْخَفَرِ ، نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ الْأَغْلَبُ مِنْ حَالِ نِسَائِهِمُ الْخَفَرُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا ، وَإِنْ كَانَ قَوْمُهَا الْأَغْلَبُ مِنْ حَالِ نِسَائِهِمُ الْبُرُوزُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْخَصْمِ مَعَ يَمِينِهِ .
فَصْلٌ : الْخَصْمُ الْغَائِبُ عَنْ بَلَدِ الْقَاضِي . وَإِنْ كَانَ الْخَصْمُ الْمَطْلُوبُ غَائِبًا عَنْ بَلَدِ الْقَاضِي : لَمْ يَخُلُ أَنْ يَكُونَ فِي عَمَلِهِ ، أَوْ فِي غَيْرِ عَمَلِهِ . فَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ عَمَلِهِ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ إِحْضَارُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ . وَجَازَ لَهُ أَنْ يَسْمَعَ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ ، لِيُكَاتِبَ بِهِ قَاضِيَ الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْمَطْلُوبُ . وَلَهُ فِي مُكَاتَبَتِهِ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يُكَاتِبَهُ بِسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ ، لِيَتَوَلَّى الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ الْحُكْمَ بِهَا عَلَى الْمَطْلُوبِ ، فَهَذَا جَائِزٌ عِنْدَ مَنْ يَرَى الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ وَعِنْدَ مَنْ لَا يَرَاهُ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَحْكُمَ بِالْبَيِّنَةِ بَعْدَ سَمَاعِهَا وَيُكَاتِبَ الْقَاضِيَ بِحُكْمِهِ ، فَهَذَا جَائِزٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ مَنْ يَرَى الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ لَا يَرَى الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ . وَعَلَيْهِ فِي هَذَا الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ أَنْ لَا يَحْكُمَ لَهُ بَعْدَ سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ إِلَّا بَعْدَ إِحْلَافِهِ بِاللَّهِ إِنْ كَانَ الْحَقُّ فِي ذِمَّةٍ : أَنَّهُ مَا قَبَضَهُ ، وَلَا شَيْئًا مِنْهُ وَلَا بَرِئَ إِلَيْهِ مِنْهُ وَلَا مِنْ شَيْءٍ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ فِي عَيْنٍ قَائِمَةٍ أَحْلَفَهُ أَنَّ مِلْكَهُ عَلَيْهَا بَاقٍ مَا زَالَ عَنْهَا وَلَا عَنْ شَيْءٍ مِنْهَا .
وَإِنَّمَا أَحْلَفَهُ قَبْلَ الْحُكْمِ : لِأَنَّ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ حَاضِرًا لَجَازَ أَنْ يَدَّعِيَ ذَلِكَ ، فَيَسْتَحِقُّ الْيَمِينَ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ إِمْضَاءُ الْحُكْمِ مَعَ هَذَا الِاحْتِمَالِ ، إِلَّا بَعْدَ الِاحْتِيَاطِ فِيهِ . وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَهُوَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْكَرَابِيسِيُّ إِلَى أَنَّ الْقَاضِيَ يُطَالِبُ الْمَحْكُومَ لَهُ بِكَفِيلٍ ، لِجَوَازِ أَنْ يَتَجَدَّدَ مَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الْحُكْمِ فَيُؤْخَذُ بِهِ الْكَفِيلُ . وَذَهَبَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مُطَالَبَتَهُ بِالْكَفِيلِ لَا تَجِبُ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا كَفَالَةٌ بِغَيْرٍ مُسْتَحِقٍّ . وَالثَّانِي : أَنَّ قَضَاءَهُ عَلَى الْغَائِبِ كَقَضَائِهِ عَلَى الْمَيِّتِ وَالصَّبِيِّ ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ أَخْذُ الْكَفَالَةِ فِي الْقَضَاءِ عَلَيْهِمَا ، كَذَلِكَ لَا تَلْزَمُ فِي الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ . وَيَشْتَرِطُ الْقَاضِي فِي حُكْمِهِ عَلَى الْغَائِبِ أَنَّهُ قَدْ جَعَلَهُ عَلَى حَقٍّ وَحُجَّةٍ إِنْ كَانَتْ لَهُ لِئَلَّا يَقْتَضِيَ إِطْلَاقُ حُكْمِهِ عَلَيْهِ إِبْطَالَ حُجَجِهِ وَتَصَرُّفِهِ . وَإِنْ كَانَ الْخَصْمُ الْمَطْلُوبُ غَائِبًا فِي إِعْمَالِ هَذَا الْقَاضِي : لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهِ نَائِبٌ مُرَتِّبٌ لِلْأَحْكَامِ عُمُومًا أَوْ خُصُوصًا . فَإِنْ كَانَ لَهُ نَائِبٌ فِي بَلَدِ الْغَائِبِ لَمْ يَلْزَمْهُ إِحْضَارُهُ ، وَكَانَ بِالْخِيَارِ فِي الْأَصْلَحِ لِلْخَصْمِ مِنْ إِنْفَاذِهِ إِلَى خَلِيفَتِهِ لِمُحَاكَمَةِ خَصْمِهِ ، أَوْ سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ وَمُكَاتَبَةِ خَلِيفَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَلَدِ الْغَائِبِ خَلِيفَةٌ الذي طلبه القاضي للحضور فَقَدْ قَالَ أَبُو يُوسُفَ : إِنْ كَانَ عَلَى مَسَافَةٍ يَرْجِعُ مِنْهَا إِلَى وَطَنِهِ قَبْلَ مَنَامِ النَّاسِ أَحْضَرَهُ وَإِنْ بَعُدَ عَنْهَا لَمْ يُحْضِرْهُ . وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُحْضَرُ إِنْ كَانَ عَلَى مَسَافَةٍ لَا تُقْصَرُ بِهَا الصَّلَاةُ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا إِنْ كَانَ عَلَى مَسَافَةٍ تُقْصَرُ فِيهَا الصَّلَاةُ . فَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّهُ يُحْضِرُهُ لِلْمُحَاكَمَةِ لِئَلَّا يَتَمَانَعَ النَّاسُ فِي الْحُقُوقِ بِالتَّبَاعُدِ . وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ إِحْضَارُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ مَسَافَةُ الْقَصْرِ شَرْطًا فِي انْتِقَالِ وِلَايَةِ الْغَائِبِ فِي النِّكَاحِ إِلَى الْحَاكِمِ ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى اعْتِبَارٍ فِي إِحْضَارِ الْخَصْمِ ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ ، لِلتَّعْلِيلِ الْمُتَقَدَّمِ . وَإِذَا لَزِمَ إِحْضَارُ الْغَائِبِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ لَمْ يَجُزْ لِلْقَاضِي أَنْ يُحْضِرَهُ إِلَّا بَعْدَ تَحْرِيرِ الدَّعْوَى وَصِحَّةِ سَمَاعِهَا : لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَدَّعِيَ مَا لَا تَصِحُّ فِيهِ الدَّعْوَى . حُكِيَ أَنَّ رَجُلَيْنِ تَقَدَّمَا إِلَى قَاضٍ ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا : إِنَّ أَخَا هَذَا قَتَلَ أَخِي ، فَقَالَ الْقَاضِي لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَا تَقُولُ ؟ فَقَالَ : إِنَّ غَيْرَ هَذَا قَتَلَهُ غَيْرِي فَمَاذَا عَلَيَّ .
وَهَذَا جَوَابٌ صَحِيحٌ عَنْ فَسَادِ هَذِهِ الدَّعْوَى ، وَكَانَ مِنْ صِحَّتِهَا أَنْ يَقُولَ : إِنَّ أَخَاهُ قَتَلَ أَخِي ، وَأَنَا وَارِثُهُ ، وَهَذَا مِنْ عَاقِلَتِهِ ، لِتَتَوَجَّهَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِهَذِهِ الدَّعْوَى . وَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْضِرَ الْغَائِبَ إِلَّا بَعْدَ تَحْرِيرِ الدَّعْوَى بِمَا يَصِحُّ سَمَاعُهَا وَالْحُكْمُ فِيهَا بِبَيِّنَةٍ أَوْ يَمِينٍ . وَلَوْ كَانَتِ الدَّعْوَى عَلَى حَاضِرٍ فِي الْبَلَدِ ، جَازَ لِلْقَاضِي إِحْضَارُهُ قَبْلَ تَحْرِيرِ الدَّعْوَى ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ فِي إِحْضَارِ الْغَائِبِ مَشَقَّةً ، فَلَمْ يَلْزَمْ إِلَّا بَعْدَ تَحْرِيرِ الدَّعْوَى وَلَيْسَ فِي إِحْضَارِ مَنْ فِي الْبَلَدِ مَشَقَّةٌ ، فَجَازَ إِحْضَارُهُ قَبْلَ تَحْرِيرِ الدَّعْوَى .
فَصْلٌ : سَيْرُ الدَّعْوَى حِينَ حُضُورِ الْخَصْمَيْنِ فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا ، مِنْ وَاجِبِ إِعْدَاءِ الْمُسْتَعْدِي ، وَحَضَرَ الْخَصْمَانِ مَجْلِسَ الْحُكْمِ ، فَفَصْلُ الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا يَشْتَمِلُ عَلَى سِتَّةِ فُصُولٍ : أَحَدُهَا : ابْتِدَاءُ الْمُدَّعِي بِتَحْرِيرِ الدَّعْوَى ، لِتَنْتَفِيَ عَنْهَا الْجَهَالَةُ ، إِلَّا فِيمَا يَصِحُّ تَمْلِيكُهُ مَعَ الْجَهَالَةِ كَالْوَصَايَا فَيَجُوزُ أَنْ يَدَّعِيَهَا مَجْهُولَةً ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا مَجْهُولَةً وَلَا تَصِحُّ الدَّعْوَى فِيمَا عَدَاهَا إِلَّا مَعْلُومَةً . فَإِنْ قِيلَ : لَوْ أَقَرَّ بِمَجْهُولٍ جَازَ فَهَلَّا جَازَ أَنْ يَدَّعِيَ مَجْهُولًا . قِيلَ : لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ قَدْ تَعَلَّقَ بِالْإِقْرَارِ حَقٌّ لِغَيْرِهِ فَلَزِمَ بِالْمَجْهُولِ خِيفَةَ إِنْكَارِهِ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِالدَّعْوَى حَقٌّ لِغَيْرِهِ . مَنْعُ الْجَهَالَةِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالدَّعْوَى عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ مِمَّا لَا يُنْقَلُ مِنْ دَارٍ وَعَقَارٍ الدعوى فَالْعِلْمُ بِهَا يَكُونُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : ذِكْرُ بَلَدِهَا ، وَذِكْرُ مَكَانِهَا ، وَذِكْرُ حُدُودِهَا الْأَرْبَعَةِ . فَإِنْ ذَكَرَ ثَلَاثَةَ حُدُودٍ مِنْهَا ، لَمْ يُقْنِعْ وَأَجَازَهُ أَبُو حَنِيفَةَ . وَإِنِ اشْتَهَرَتِ الدَّارُ بِاسْمٍ فِي الْبَلَدِ لَا يُشَارِكُهَا غَيْرُهَا فِيهِ ، مَيَّزَهَا بِذِكْرِ الِاسْمِ ، لِأَنَّهُ زِيَادَةُ عِلْمٍ . وَلَفْظُ الدَّعْوَى فِي مِثْلِهَا ، أَنْ يَقُولَ : لِي فِي يَدِهِ ، وَلَا يَقُولُ : لِي عَلَيْهِ ، وَلَا عِنْدَهُ . ثُمَّ يَصِلُ هَذِهِ الدَّعْوَى ، بِأَنْ يَقُولَ : وَقَدْ غَلَبَنِي عَلَيْهَا بِغَيْرِ حَقٍّ ، أَوْ قَدْ بَاعَهَا عَلَيَّ وَلَمْ يُسَلِّمْهَا ، وَلَا يَلْزَمْ مَعَهُ الْبَيْعُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَخْتَلِفَا فِيهِ ، فَتَنْتَقِلُ الدَّعْوَى إِلَى الْبَيْعِ فَتُوصَفُ .
فَإِنْ كَانَتِ الدَّارُ فِي يَدِ الْمُدَّعِي ، لَمْ تَصِحَّ الدَّعْوَى إِلَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ لَهُ بِهَا حَقٌّ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ أُجْرَةِ سُكْنَاهَا ، أَوْ قِيمَةِ مُسْتَهْلَكٍ مِنْهَا . فَإِنْ قَالَ وَقَدْ نَازَعَنِي فِيهَا لَمْ تَصِحَّ ، لِأَنَّ الْمُنَازَعَةَ دَعْوَى تَكُونُ مِنْ غَيْرِهِ لَا مِنْهُ . وَإِنْ قَالَ قَدْ عَارَضَنِي فِيهَا بِغَيْرِ حَقٍّ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِحَّةِ هَذِهِ الدَّعْوَى . فَقَالَ أَبُو حَامِدٍ تَصِحُّ هَذِهِ الدَّعْوَى ، وَيَسْأَلُ الْخَصْمُ عَنْهَا ؛ لِأَنَّ فِي الْمُعَارَضَةِ رَفْعُ يَدِ مُسْتَحِقِّهِ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا تَصِحُّ هَذِهِ الدَّعْوَى ، حَتَّى يَصِفَ الْمُعَارَضَةَ بِمَا تَصِحُّ بِهِ الدَّعْوَى . الضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى فِيمَا يُنْقَلُ ، فَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ فِي الذِّمَّةِ . فَقَدْ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ : ثَمَنٌ ، وَأُجْرَةٌ ، وَقَرْضٌ ، وَقِيمَةُ مُتْلَفٍ ، وَعَقْلُ سَلَمٍ . وَلَفْظُ الدَّعْوَى فِيهِ أَنْ يَقُولَ : لِي عَلَيْهِ ، وَلَا يَقُولُ لِي بِيَدِهِ . فَإِنْ قَالَ : " لِي عِنْدَهُ " جَازَ عِنْدَنَا ، وَلَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ . وَإِنَّمَا جَوَّزْنَاهُ لِأَنَّ " عِنْدَ " قَدْ تُسْتَعْمَلُ فِي مَوْضِعِ " عَلَى " اتِّسَاعًا . وَهُوَ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَذْكُرَ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ مِنْ أَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْخَمْسَةِ أَوْ لَا يَذْكُرَهُ ، بَعْدَ أَنْ يَصِفَ مَا يَدَّعِيهِ فِي الذِّمَّةِ ، بِمَا يَنْفِي عَنْهُ الْجَهَالَةَ . فَإِنْ كَانَ مِنْ سَلَمٍ اسْتَوْفَى أَوْصَافَ السَّلَمِ كُلَّهَا . وَإِنْ كَانَ مِنْ ثَمَنِ ، أَوْ أُجْرَةٍ ، أَوْ قِيمَةِ مُتْلَفٍ ، صَارَ مَعْلُومًا بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ : ذِكْرُ قَدْرِهِ ، وَذِكْرُ جِنْسِهِ ، وَذِكْرُ نَوْعِهِ ، وَذِكْرُ صِفَتِهِ . فَالْقَدْرُ : أَنْ يَقُولَهُ : أَلْفٌ أَوْ مِائَةٌ . وَالْجِنْسُ : أَنْ يَقُولَ : دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ . وَالنَّوْعُ : أَنْ يَقُولَ فِي الدَّرَاهِمِ : بِيضٌ أَوْ سُودٌ ، وَفِي الدَّنَانِيرِ مَشْرِقِيَّةٌ أَوْ مَغْرِبِيَّةٌ ، وَإِنْ نُسِبَتْ إِلَى طَابَعٍ ذَكَرَ الطَّابِعَ ، لَا سِيَّمَا إِذَا اخْتَلَفَتْ بِهِ الْقِيمَةُ . وَالصِّفَةُ : أَنْ يَقُولَ : عُتُقٌ أَوْ جُدُدٌ ، صِحَاحٌ أَوْ كُسُورٌ ، فَإِنْ لَمْ يَخْتَلِفْ عُتُقُهَا وَجُدُدُهَا ، وَلَا صِحَاحُهَا وَكُسُورُهَا ، لَمْ يَلْزَمْهُ ذِكْرُ هَذِهِ الصِّفَةِ .
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُطْلِقَ ذِكْرَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فِي الدَّعْوَى إطلاق ، وَإِنْ جَازَ إِطْلَاقًا فِي الْأَثْمَانِ ، لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إِنَّ زَمَانَ الْعَقْدِ يُقَيِّدُ صِفَةَ الْأَثْمَانِ بِالْغَالِبِ مِنَ النُّقُودِ ، وَلَا يَتَقَيَّدُ ذَلِكَ بِزَمَانِ الدَّعْوَى لِتَقَدُّمِهَا عَلَيْهِ . وَالثَّانِي : لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ فِي الدَّعْوَى مَشْرُوطًا مِنْ غَيْرِ الْغَالِبِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى قَائِمَةً فَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ حَاضِرَةً فَتَصِحُّ الدَّعْوَى لَهَا بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهَا ، مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الصِّفَةِ . وَلَفْظُ الدَّعْوَى : أَنْ يَقُولَ : لِي فِي يَدِهِ هَذَا الْعَبْدُ ، أَوْ هَذِهِ الدَّابَّةُ . فَإِنْ قَالَ : لِي عِنْدَهُ ، جَازَ . وَإِنْ قَالَ : لِي عَلَيْهِ ، جَازَ عِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا وَلَمْ يَجُزْ عِنْدَ بَعْضِهِمْ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ غَائِبَةً فَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ في الدعوى : أَحَدُهُمَا : أَنْ تُضْبَطَ بِالصِّفَةِ ، كَالْحُبُوبِ ، وَالْأَدْهَانِ ، مِمَّا لَهُ مِثْلٌ فَيَصِفُهَا ، وَلَا تَحْتَاجُ إِلَى ذِكْرِ قِيمَتِهَا ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ لَا تُسْتَحَقُّ فِي ذِي الْمِثْلِ . وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُضْبَطُ بِالصِّفَةِ وَلَيْسَ بِذِي مِثْلٍ ، كَالثِّيَابِ وَالْحَيَوَانِ ، لَزِمَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ جَمِيعَ أَوْصَافِهِ ، وَيَسْتَظْهِرَ بِذِكْرِ قِيمَتِهِ ، لِجَوَازِ أَنْ يَسْتَحِقَّهَا مَعَ التَّلَفِ ، فَإِنْ أَغْفَلَ الْقِيمَةَ جَازَ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُسْتَحَقَّةٍ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ مِمَّا لَا تُضْبَطُ بِالصِّفَةِ كَاللُّؤْلُؤِ ، وَالْجَوْهَرِ ، فَعَلَيْهِ فِي الدَّعْوَى ذِكْرُ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ ، وَإِنْ كَانَ مُخْتَلِفَ الْأَلْوَانِ ذَكَرَ اللَّوْنَ ، ثُمَّ حَرَّرَ الدَّعْوَى وَنَفَى الْجَهَالَةَ بِذِكْرِ الْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا إِلَّا بِهَا . فَهَذَا شَرْحُ مَا تَصِيرُ الدَّعْوَى بِهِ مَعْلُومَةً يَصِحُّ سَمَاعُهَا وَالسُّؤَالُ عَنْهَا فَإِنْ قَصَّرَ فِيهَا الْمُدَّعِي لِلْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَهُ عَمَّا قَصَّرَ فِيهِ وَلَا يَبْتَدِئُهُ بِالتَّعْلِيمِ . فَإِنْ عَلَّمَهُ تَحْرِيرَ الدَّعْوَى فَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ أَصْحَابِنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ . وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْلِمَهُ احْتِجَاجًا وَلَا يُلَقِّنَهُ إِقْرَارًا وَإِنْكَارًا ، فَهَذَا حُكْمُ الدَّعْوَى .
فَصْلٌ : وَالْفَصْلُ الثَّانِي فِي سُؤَالِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ . وَالْأَوْلَى فِيهِ أَنْ يَسْأَلَ الْمُدَّعِي الْقَاضِيَ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ دَعْوَاهُ مُطَالَبَةَ خَصْمِهِ بِمَا ادَّعَاهُ عَلَيْهِ .
فَلِلْقَاضِي حِينَئِذٍ أَنْ يَسْأَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَيَقُولُ : قَدْ سَمِعْتَ مَا ادَّعَاهُ عَلَيْكَ فَمَا تَقُولُ فِيهِ ؟ فَإِنْ أَجَابَ بِإِقْرَارٍ أَوْ إِنْكَارٍ كَانَ جَوَابًا مُقْنِعًا . وَلَوْ قَدَّمَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ جَوَابَ الدَّعْوَى قَبْلَ سُؤَالِهِ عَنْهَا ، فَإِنْ كَانَ جَوَابُهُ إِقْرَارًا أَخَذَ بِهِ ، وَصَارَ الْقَاضِي فِيهِ حَاكِمًا بِعِلْمِهِ . فَإِنْ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ أَمْسَكَ عَنْ سُؤَالِهِ لِاعْتِرَافِهِ بِالْمُرَادِ مِنْهُ . وَإِنْ مَنَعَ مِنَ الْحُكْمِ بِعِلْمِهِ صَارَ شَاهِدًا فِيهِ ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يُقِرَّ بَعْدَ سُؤَالِهِ ، وَيَكُونُ وُجُوبُ سُؤَالِهِ بَاقِيًا . وَإِنْ كَانَ جَوَابُهُ إِنْكَارًا لَمْ يُقْنِعْ وَسُئِلَ عَنِ الْجَوَابِ ، حَتَّى يَكُونَ إِنْكَارُهُ بَعْدَ السُّؤَالِ ، فَيَصِحُّ مِنْهُ الْجَوَابُ ؛ لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ عَلَى السُّؤَالِ لَا يَكُونُ جَوَابًا . فَإِنْ بَدَأَ الْقَاضِي بِسُؤَالِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُطَالِبَهُ الْمُدِيرُ بِسُؤَالِهِ ، فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ سُؤَالُهُ لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْمُدَّعِي ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ الْقَاضِي وَيَكُونُ السُّؤَالُ لَغْوًا يُعْتَدُّ فِيهِ بِإِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَا يُعْتَدُّ فِيهِ بِإِنْكَارِهِ كَمَا لَوِ ابْتَدَأَ بِالْجَوَابِ قَبْلَ السُّؤَالِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ هَذَا السُّؤَالُ وَيَصِحُّ مَا يَعْقُبُهُ مِنَ الْجَوَابِ : لِأَنَّ شَاهِدَ الْحَالَةِ يَدُلُّ عَلَى إِرَادَةِ الْمُدَّعِي لِسُؤَالِهِ ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ سُؤَالِهِ . وَلَوْ أَنَّ الْمُدَّعِيَ تَفَرَّدَ بِسُؤَالِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَمْ يَلْزَمِ الْجَوَابُ عَنْهُ ، حَتَّى يَكُونَ الْقَاضِي هُوَ السَّائِلُ لَهُ ، فَيَلْزَمُهُ الْجَوَابُ لِأَنَّ حَقَّ الْمُدَّعِي مُخْتَصٌّ بِالْمُطَالَبَةِ دُونَ السُّؤَالِ . فَإِنْ أَجَابَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ سُؤَالِهِ بِإِقْرَارٍ أَوْ إِنْكَارٍ ، فَهَلْ يَقُومُ سُؤَالُهُ مَقَامَ سُؤَالِ الْقَاضِي أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَقُومُ مَقَامَ سُؤَالِهِ ، إِذَا قِيلَ : إِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَسْأَلُهُ إِلَّا بَعْدَ مُطَالَبَةِ الْمُدَّعِي بِالسُّؤَالِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ حُكْمُ جَوَابِهِ لِلْمُدَّعِي كَحُكْمِ جَوَابِهِ لِلْقَاضِي فِي الْحُكْمِ بِإِقْرَارِهِ وَإِنْكَارِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَقُومُ سُؤَالُ الْمُدَّعِي مَقَامَ سُؤَالِ الْقَاضِي ، إِذَا قِيلَ إِنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَبْدَأَ بِسُؤَالِهِ قَبْلَ مُطَالَبَةِ الْمُدَّعِي بِهِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ جَوَابُهُ كَمَا لَوِ ابْتَدَأَ بِهِ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ مِنْ إِلْغَاءِ إِنْكَارِهِ ، وَيَصِيرُ فِي إِقْرَارِهِ كَالْحَاكِمِ فِيهِ بِعِلْمِهِ . فَصَارَ جَوَابُهُ مَعَ هَذَا التَّفْصِيلِ فِي السُّؤَالِ ، مُنْقَسِمًا أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَسْأَلَ الْقَاضِي بَعْدَ سُؤَالِ الْمُدَّعِي .
الثَّانِي : أَنْ يَسْأَلَ الْقَاضِي قَبْلَ سُؤَالِ الْمُدَّعِي . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَبْتَدِئَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْجَوَابِ قَبْلَ السُّؤَالِ . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَسْأَلَهُ الْمُدَّعِي فَيُجِيبُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ .
فَصْلٌ : وَالْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي جَوَابِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أحوا ل . وَلَيْسَ تَخْلُو حَالُهُ بَعْدَ سُؤَالِهِ عَنِ الدَّعْوَى مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُقِرَّ . وَالثَّانِي : أَنْ يُنْكِرَ . وَالثَّالِثُ : أَنْ لَا يُقِرَّ وَلَا يُنْكِرَ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : إِذَا أَقَرَّ : فَقَدْ ثَبَتَ الْحَقُّ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ . وَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ بِهِ وَيُلْزِمَهُ أَدَاؤُهُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَسْأَلَهُ الْمُدَّعِي أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ لِغَيْرِ طَالِبٍ فَيَقُولُ الْقَاضِي لِلْمُدَّعِي قَدْ أَقَرَّ لَكَ بِمَا ادَّعَيْتَ فَمَاذَا تُرِيدُ ؟ وَلَا يَقُولُ لَهُ : قَدْ سَمِعْتُ إِقْرَارَهُ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : " قَدْ أَقَرَّ " حُكْمٌ بِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ ، وَلَيْسَ قَوْلُهُ قَدْ سَمِعْتَ الْإِقْرَارَ حُكْمًا بِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ . فَإِنْ لَمْ يُطَالِبْهُ الْمُدَّعِي بِالْحُكْمِ أَمْسَكَ عَنْهُ ، وَصَرَفَهُمَا . وَكَانَ لِلْمُدَّعِي أَنْ يَتَنَجَّزَ مِنَ الْقَاضِي مَحْضَرًا بِثُبُوتِ الْحُقُوقِ دُونَ الْحُكْمِ بِهِ . وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مُلَازَمَةُ الْمُقِرِّ قَبْلَ الْحُكْمِ . وَإِنْ سَأَلَهُ الْحُكْمَ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ ، حَكَمَ بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أَلْفَاظٍ : إِمَّا أَنْ يَقُولَ : قَدْ حَكَمْتُ عَلَيْكَ بِإِقْرَارِكَ ، وَإِمَّا أَنْ يَقُولَ : قَدْ أَلْزَمْتُكَ مَا أَقْرَرْتُ بِهِ ، وَإِمَّا أَنْ يَقُولَ : اخْرُجْ إِلَيْهِ مِنْ حَقِّهِ فِي إِقْرَارِكَ . وَلِلْمُدَّعِي أَنْ يَتَنَجَّزَ مِنَ الْقَاضِي مَحْضَرًا ، بِثُبُوتِ الْحَقِّ ، وَبِإِنْفَاذِ حُكْمِهِ بِهِ . وَلَهُ مُلَازَمَةُ الْمُقِرِّ حَتَّى يَخْرُجَ إِلَيْهِ مِنْ حَقِّهِ . وَلَيْسَ لَهُ مُطَالَبَتُهُ بِكَفِيلٍ ، إِلَّا أَنْ يَتَّفِقَا عَلَيْهِ عَنْ تَرَاضٍ . وَلَا يُسْقِطُ حَقُّهُ مِنْ مُلَازَمَتِهِ بِإِقَامَةِ الْكَفِيلِ ، سَوَاءٌ كَفَلَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِمَا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ وَثِيقَةٌ ، فَلَمْ تَمْنَعْ مِنَ الْمُلَازَمَةِ كَمَا لَمْ تَمْنَعْ مِنَ الْمُطَالَبَةِ . فَإِنِ اتَّفَقَا عَنِ الْكَفَالَةِ عَلَى تَخْلِيَةِ سَبِيلِهِ ، لَمْ يَلْزَمْ هَذَا الِاتِّفَاقُ ، وَكَانَ لَهُ أَنْ يَعُودَ إِلَى مُلَازَمَتِهِ بَعْدَ تَخْلِيَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُ ، إِلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ .
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يُنْكِرَ الدَّعْوَى ، فَيَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَقُولَ لِلْمُدَّعِي : قَدْ أَنْكَرَكَ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ لَهُ قَدْ سَمِعْتَ إِنْكَارَهُ ، بِخِلَافِهِ فِي الْإِقْرَارِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ لِتَرَدُّدِ الْإِقْرَارِ بَيْنَ صِحَّةٍ وَفَسَادٍ ، وَعَدَمِهِ فِي الْإِنْكَارِ . وَيَكُونُ الْقَاضِي فِي إِخْبَارِهِ بِالْإِنْكَارِ بَيْنَ خِيَارَيْنِ . إِمَّا أَنْ يَقُولَ لَهُ : قَدْ أَنْكَرَكَ فَهَلْ لَكَ بَيِّنَةٌ ؟ وَإِمَّا أَنْ يَقُولَ لَهُ : قَدْ أَنْكَرَكَ فَمَا عِنْدَكَ فِيهِ ؟ الْأَوَّلُ أَوْلَى مَعَ مَنْ جَهِلَ ، وَالثَّانِي أَوْلَى مَعَ مَنْ عَلِمَ . وَيَكُونُ الْحُكْمُ فِي إِنْكَارِ الدَّعْوَى مَوْقُوفًا عَلَى بَيِّنَةِ الْمُدَّعِي فِي إِثْبَاتِ الْحَقِّ بِهَا ، وَعَلَى يَمِينِ الْمُنْكِرِ عِنْدَ عَدَمِهَا لِإِسْقَاطِ الْمُطَالَبَةِ بِهَا . وَلِلْمُدَّعِي الْخِيَارُ فِي إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ : لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِهِ ، فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَى إِقَامَتِهَا . وَلِلْمُنْكَرِ الْخِيَارُ فِي الْيَمِينِ : لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِهِ ، فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَى الْحَلِفِ بِهَا وَالْحُكْمِ فِيهَا ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ . فَلَوْ أَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَقَالَ : مَا لَكَ عَلَيَّ شَيْءٌ ، فَقَالَ لَهُ الْمُدَّعِي : نَعَمْ . كَانَ تَصْدِيقًا لَهُ عَلَى الْإِنْكَارِ وَبَطَلَتْ بِهِ دَعْوَاهُ . وَلَوْ قَالَ : بَلَى . كَانَ تَكْذِيبًا لَهُ عَلَى الْإِنْكَارِ ، وَلَمْ تَبْطُلْ بِهِ دَعْوَاهُ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ نَعَمْ جَوَابُ الْإِيجَابِ ، وَبَلَى جَوَابُ النَّفْيِ . وَهَذَا حُكْمُهُ فِيمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْعَرَبِيَّةِ . وَفِي اعْتِبَارِهِ فِيمَنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهَا وَجْهَانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ لَا يُقِرَّ بِالدَّعْوَى وَلَا يُنْكِرَهَا ، فَلَهُ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَكُونَ غَيْرَ نَاطِقٍ لِخَرَسٍ أَوْ صَمَمٍ . فَإِنْ كَانَ مَفْهُومَ الْإِشَارَةِ صَارَ بِهَا كَالنَّاطِقِ ، فَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ النَّاطِقِ . وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَفْهُومِ الْإِشَارَةِ صَارَ كَالْغَائِبِ فَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْغَائِبِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ نَاطِقًا فَامْتِنَاعُهُ مِنَ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ قَدْ يَكُونُ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إِمَّا بِأَنْ يَقُولَ : لَا أُقِرُّ وَلَا أُنْكِرُ ، وَإِمَّا بِأَنْ يَسْكُتَ فَلَا يُجِيبَ بِشَيْءٍ فَيَجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ النَّاكِلِ .
وَلَا يُحْبَسُ عَلَى الْجَوَابِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : احْبِسْهُ حَتَّى يُجِيبَ بِإِقْرَارٍ أَوْ إِنْكَارٍ ، وَبَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ فِي الْحُكْمِ بِالنُّكُولِ ، وَنَحْنُ لَا نَحْكُمُ بِهِ ، فَلَا نَحْبِسُهُ عَلَيْهِ وَسَنَذْكُرُ حُكْمَ النُّكُولِ .
فَصْلٌ : وَالْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ : وَالْبَيِّنَةُ تُسْمَعُ عَلَى الْمُنْكِرِ دُونَ الْمُقِرِّ . لِأَنَّ الْإِقْرَارَ أَصْلٌ هُوَ أَقْوَى ، وَالْبَيِّنَةَ فَرْعٌ هُوَ أَضْعَفُ ، وَلَمْ يَجُزْ تَرْكُ الْأَقْوَى بِالْأَضْعَفِ . شُرُوطُ سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ . وَلِسَمَاعِهَا أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ مُوَافِقَةً لِلدَّعْوَى من شروط سماع البينة . فَإِنْ خَالَفَتْهَا فِي الْجِنْسِ لَمْ تُسْمَعْ . وَإِنْ خَالَفَتْهَا فِي الْقَدْرِ إِلَى نُقْصَانِ حُكْمٍ فِي الْقَدْرِ بِالْبَيِّنَةِ دُونَ الدَّعْوَى . وَإِنْ خَالَفَتْهَا إِلَى زِيَادَةِ حُكِمَ فِي الْقَدْرِ بِالدَّعْوَى دُونَ الْبَيِّنَةِ مَا لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُدَّعِي تَكْذِيبٌ لِلْبَيِّنَةِ فِي الزِّيَادَةِ ، فَإِنْ أَكْذَبَهَا فِيهِ رُدَّتْ وَلَمْ يَحْكُمْ بِهَا . وَالشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ يَتَّفِقَ شَاهِدَا الْبَيِّنَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ من شروط سماع البينة . فَإِنِ اخْتَلَفَ الشَّاهِدَانِ فِي الْجِنْسِ رُدَّتْ . وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْقَدْرِ تَمَّتْ فِي الْأَقَلِّ دُونَ الْأَكْثَرِ . وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ : أَنْ تُسْمَعَ بَعْدَ الدَّعْوَى وَالْإِنْكَارِ من شروط سماع البينة . فَإِنْ سُمِعَتْ قَبْلَ الدَّعْوَى لَمْ تَجُزْ . وَإِنْ سُمِعَتْ بَعْدَ الدَّعْوَى وَقَبْلَ الْإِنْكَارِ ، فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ سَمَاعُهَا لِوُجُودِهَا بَعْدَ الطَّلَبِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ سَمَاعُهَا حَتَّى تُؤَدَّى بَعْدَ الْإِنْكَارِ لِتَقَدُّمِهَا عَلَى زَمَانِهَا . وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ الْأَدَاءُ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ دُونَ الْخَبَرِ من شروط سماع البينة ، فَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّهُ أَقَرَّ عِنْدِي وَأَشْهَدَنِي عَلَى نَفْسِهِ أَنَّ عَلَيْهِ لِفُلَانٍ كَذَا ، وَإِنْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى إِقْرَارٍ . فَإِنْ قَالَ أَشْهَدُ أَنَّهُ أَقَرَّ عِنْدِي وَلَمْ يَقُلْ وَأَشْهَدَنِي عَلَى نَفْسِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَجْعَلِ الِاسْتِرْعَاءَ شَرْطًا فِي تَحَمُّلِ الْإِقْرَارِ صَحَّ هَذَا الْأَدَاءُ . وَإِنْ جَعَلَ الِاسْتِرْعَاءَ شَرْطًا فِي تَحَمُّلِهِ لَمْ يَصِحَّ .
وَإِنْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى غَيْرِ إِقْرَارٍ كَالثَّمَنِ فِي بَيْعٍ حَضَرَهُ أَوْ صَدَاقٍ فِي نِكَاحٍ شَهِدَهُ أَوْ قَرْضٍ شَاهَدَهُ ، فَفِي لُزُومِ ذِكْرِهِ لِلسَّبَبِ فِي أَدَائِهِ وَجْهَانِ ، كَقَوْلِهِ فِي أَدَاءِ الْإِقْرَارِ وَأَشْهَدَنِي بِنَاءً عَلَى اعْتِبَارِ الِاسْتِرْعَاءِ فِي التَّحَمُّلِ . فَأَمَّا إِنْ شَهِدَ بِلَفْظِ الْخَبَرِ فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ كَذَا ، أَوْ أَعْلَمُ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ كَذَا ، أَوْ أَقَرَّ عِنْدِي أَنَّ عَلَيْهِ كَذَا لَمْ تَصِحَّ هَذِهِ الشَّهَادَةُ ، وَلَمْ يَجُزِ الْحُكْمُ بِهَا ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ حِكَايَةُ حَالٍ مُضَافَةٍ إِلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا الْإِلْزَامُ إِلَّا بِالشَّهَادَةِ الْمُضَافَةِ إِلَى الشَّاهِدِ . فَإِذَا تَقَرَّرَ اعْتِبَارُ هَذِهِ الشُّرُوطِ الْأَرْبَعَةِ فِي صِحَّةِ الشَّهَادَةِ لَمْ يَكُنْ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْمَعَهَا إِلَّا بِمَسْأَلَةِ الْمُدَّعِي ؛ لِأَنَّ سَمَاعَهَا حَقٌّ لَهُ . وَالْأَوْلَى أَنْ يَسْمَعَهَا عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي عَيْنِهِ وَبِمَشْهَدِهِ . فَإِذَا سَمِعَهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِهَا ، إِلَّا أَنْ يَسْأَلَهُ الْمَشْهُودُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ لَهُ بِبَيِّنَتِهِ . فَإِذَا سَأَلَهُ الْحُكْمَ فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَحْكُمَ إِلَّا بَعْدَ إِعْلَامِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَحْكُمُ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ ، لِيَذْكُرَ مَا لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُرَدُّ بِهَا الشَّهَادَةُ ، أَوْ يُقِرُّ فَيَكُونُ الْإِقْرَارُ أَقْوَى مِنَ الشَّهَادَةِ . فَإِنْ حَكَمَ بِهَا قَبْلَ إِعْلَامِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بالبينة جَازَ . وَإِنْ حَكَمَ بِهَا قَبْلَ مَسْأَلَةِ الْمَشْهُودِ لَهُ ، فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي جَوَازِ سُؤَالِ الْقَاضِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُطَالِبَهُ الْمُدَّعِي بِسُؤَالِهِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ حُكْمُهُ ، لِأَنَّهُ حُكْمٌ لِغَيْرِ طَالِبٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ حُكْمُهُ ؛ لِأَنَّ شَوَاهِدَ الْحَالِ تَدُلُّ عَلَى الطَّلَبِ . فَإِنْ قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَبْلَ الشَّهَادَةِ : مَا يَشْهَدُ بِهِ هَذَانِ الشَّاهِدَانِ عَلَيَّ فَهُوَ حَقٌّ لَمْ يَكُنْ إِقْرَارًا مِنْهُ بِمَا يَشْهَدَانِ بِهِ لِتَقَدُّمِهِ عَلَى الشَّهَادَةِ . وَلَوْ قَالَ بَعْدَ الشَّهَادَةِ : مَا شَهِدَا بِهِ عَلَيَّ حَقٌّ كَانَ إِقْرَارًا . وَلَوْ قَالَ مَا شَهِدَا بِهِ عَلَيَّ صِدْقٌ لَمْ يَكُنْ إِقْرَارًا . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْحَقَّ : مَا لَزِمَ ، فَلَمْ يَتَوَجَّهْ إِلَيْهِ احْتِمَالٌ ، وَالصِّدْقَ : قَدْ يَكُونُ فِيمَا قَضَاهُ ، فَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ الِاحْتِمَالُ . وَإِذَا حَكَمَ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ لَمْ يَلْزَمْ إِحْلَافُ الْمُدَّعِي مَعَ بَيِّنَتِهِ ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : لَا أَحْكُمُ لَهُ بِالْبَيِّنَةِ حَتَّى يُحْلِفَهُ مَعَهَا ، كَمَا لَا أَحْكُمُ لَهُ عَلَى غَائِبٍ إِلَّا بَعْدَ يَمِينِهِ . وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ فِي إِحْلَافِهِ مَعَ بَيِّنَتِهِ قَدْحًا فِيهَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يُحْلِفُ فِي الْغَائِبِ ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَضَاهُ ، وَالْحَاضِرُ لَوْ قَضَاهُ لَذَكَرَهُ . فَلَوْ أَخَّرَ الْمُدَّعِي إِحْضَارَ بَيِّنَتِهِ ، وَأَرَادَ مُلَازَمَةَ خَصْمِهِ عَلَى إِحْضَارِهِ ، سَأَلَهُ الْقَاضِي عَنْهَا ، فَإِنْ كَانَتْ غَائِبَةً لَمْ يَكُنْ لَهُ مُلَازَمَةُ الْخَصْمِ ، وَقِيلَ : لَهُ لَكَ الْخِيَارُ فِي تَأْخِيرِهِ إِلَى حُضُورِ بَيِّنَتِكَ ، أَوْ تُحْلِفُهُ فَتَسْقُطُ الدَّعْوَى ، فَإِنْ حَضَرَتْ بَيِّنَتُكَ لَمْ تَمْنَعِ الْيَمِينُ مِنْ سَمَاعِهَا . وَإِنْ كَانَتِ الْبَيِّنَةُ حَاضِرَةً فِي الْبَلَدِ ، فَأَرَادَ مُلَازَمَتَهُ عَلَى حُضُورِهَا كَانَ لَهُ أَنْ يُلَازِمَهُ مَا كَانَ مَجْلِسُ الْحُكْمِ فِي يَوْمِهِ بَاقِيًا . فَإِذَا انْقَضَى الْمَجْلِسُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مُلَازَمَتُهُ مَا لَمْ تَشْهَدْ أَحْوَالُهُ بِوُجُودِ الْبَيِّنَةِ . فَإِنْ شَهِدَتْ أَحْوَالُهُ بِوُجُودِ الْبَيِّنَةِ جَازَ أَنْ يُلَازِمَهُ إِلَى غَايَةٍ أَكْثَرُهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ لَا يَتَجَاوَزُهَا . وَلَا يَلْزَمُهُ إِقَامَةُ كَفِيلٍ بِنَفْسِهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَهُ أَنْ يُلَازِمَهُ أَبَدًا مَا كَانَ حُضُورُهَا مُمْكِنًا أَوْ يُعْطِيهِ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ لِرِوَايَةِ الْهِرْمَاسِ بْنِ حَبِيبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ اسْتَعْدَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَجُلٍ فِي حَقٍّ لَهُ ، فَقَالَ لَهُ : الْزَمْهُ . وَدَلِيلُهُ مَا رَوَاهُ سِمَاكٌ ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ ، عَنْ أَبِيهِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ حَضْرَمَوْتَ وَرَجُلًا مِنْ كِنْدَةَ أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ الْحَضْرَمِيُّ : هَذَا غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ وَرِثْتُهَا مِنْ أَبِي ، وَقَالَ الْكِنْدِيُّ : أَرْضِي وَفِي يَدِي أَزْرَعُهَا حَقٌّ لَهُ فِيهَا ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْحَضْرَمِيِّ : " شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ " فَقَالَ : إِنَّهُ فَاجِرٌ لَا يَتَوَرَّعُ مِنْ شَيْءٍ فَقَالَ : " لَيْسَ لَكَ إِلَّا ذَلِكَ " فَنَفَى اسْتِحْقَاقَ الْمُلَازَمَةِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ أَنَّهُ إِذْنٌ فِي الْمُلَازَمَةِ عَلَى حَقٍّ ، وَالْحَقُّ مَا ثَبَتَ وَجُوبُهُ .
فَصْلٌ : وَالْفَصْلُ الْخَامِسُ : فِي إِحْلَافِ الْمُنْكِرِ .
وَإِحْلَافُهُ حَقٌّ لِلْمُدَّعِي المنكر ، فَلَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يُحْلِفَهُ إِلَّا بَعْدَ مُطَالَبَةِ الْمُدَّعِي بِإِحْلَافِهِ . فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي عَالِمًا بِاسْتِحْقَاقِ الْيَمِينِ عِنْدَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ ، وَإِلَّا أَعْلَمَهُ الْقَاضِي أَنَّهُ قَدْ وَجَبَ لَهُ الْيَمِينُ عَلَيْهِ ، لِيَرَى رَأْيَهُ فِي إِحْلَافِهِ أَوْ تَرْكِهِ . وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ إِلَى خِيَارِهِ فَلَهُ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَتْرُكَ إِحْلَافَهُ ، فَلَا يُسْقِطُ حَقَّهُ مِنَ الْيَمِينِ مَتَى أَرَادَ إِحْلَافَهُ بِالدَّعْوَى الْمُتَقَدِّمَةِ . وَلَوْ قَالَ قَدْ عَفَوْتُ عَنِ الْيَمِينِ وَقَدْ أَبْرَأْتُهُ مِنْهَا الدعوي ، سَقَطَ حَقُّهُ مِنْهَا فِي هَذِهِ الدَّعْوَى وَلَمْ تَسْقُطِ الدَّعْوَى ، فَإِنْ أَرَادَ إِحْلَافَهُ مِنْ بَعْدُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْلِفَهُ بِالدَّعْوَى الْمُتَقَدِّمَةِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الدَّعْوَى فَيُحْلِفَهُ بِالدَّعْوَى الْمُسْتَأْنَفَةِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُسْأَلَ إِحْلَافَهُ ، فَهَذَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُمْسِكَ عَنْ ذِكْرٍ بَيِّنَتِهِ عِنْدَ سُؤَالِهِ إِحْلَافَ خَصْمِهِ ، فَلَا يَذْكُرُ أَنَّ لَهُ بَيِّنَةً وَلَا أَنْ لَيْسَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ ، فَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يُلْزِمَهُ ذِكْرَ الْبَيِّنَةِ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَحْلِفَ لَهُ خَصْمُهُ . فَإِنْ أَحْضَرَ الْمُدَّعِي بَعْدَ إِحْلَافِ خَصْمِهِ بَيِّنَةً سَمِعَهَا ، وَحَكَمَ عَلَيْهِ بِهَا ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ . وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى ، وَمَالِكٌ ، وَأَبُو عُبَيْدٍ ، وَإِسْحَاقُ ، وَدَاوُدُ : لَا يَسْمَعُهَا لِانْفِصَالِ الْحُكْمِ بِالْيَمِينِ ، وَلِأَنَّ سُقُوطَ الدَّعْوَى بِهَا مُوجِبٌ لِسُقُوطِ الْحَقِّ . وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ : لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ الْعَادِلَةَ أَوْلَى مِنَ الْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ . وَلِأَنَّ فِي الْبَيِّنَةِ إِثْبَاتًا ، وَفِي الْيَمِينِ نَفْيًا ، وَالْإِثْبَاتُ أَوْلَى مِنَ النَّفْيِ . وَلِأَنَّ الْيَمِينَ تَكُونُ مَعَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ ، فَإِذَا وَجَدَ الْبَيِّنَةَ سَقَطَ حُكْمُ الْيَمِينِ . وَلَيْسَ سُقُوطُ الدَّعْوَى مُوجِبًا لِسُقُوطِ الْحَقِّ : لِأَنَّ الْحُقُوقَ لَا تَسْقُطُ إِلَّا بِقَبْضٍ أَوْ إِبْرَاءٍ وَلَيْسَتِ الْيَمِينُ بِقَبْضِ وَلَا إِبْرَاءٍ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَذْكُرَ الْمُدَّعِي أَنَّ لَهُ بَيِّنَةً غَائِبَةً ، وَيَسْأَلَ إِحْلَافَ خَصْمِهِ ، فَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يُحْلِفَهُ لِأَنَّ الْغَائِبَةَ كَالْمَعْدُومَةِ ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تُقَدَّمَ وَلَا تُقَدَّمَ : وَلِأَنَّ الْحُكْمَ إِذَا وَجَبَ تَعْجِيلُهُ لَمْ يَجُزْ تَأْخِيرُهُ . فَإِنْ أَحْلَفَهُ وَحَضَرَتِ الْبَيِّنَةُ جَازَ أَنْ يَسْمَعَهَا وَيَحْكُمَ بِهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ يَذْكُرَ أَنَّهُ لَهُ بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ ، وَيَسْأَلَ إِحْلَافَهُ مَعَ حُضُورِ بَيِّنَتِهِ إحلاف خصمه ، فَفِي جَوَازِ إِحْلَافِهِ وَجْهَانِ :
أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَ لَهُ إِحْلَافُهُ ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُدَّعِي إِثْبَاتُ الْحَقِّ دُونَ إِسْقَاطِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ ، وَالْأَظْهَرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لَهُ إِحْلَافُهُ لِجَوَازِ أَنْ يَتَوَرَّعَ عَنِ الْيَمِينِ فَيَعْتَرِفَ ، وَالْإِقْرَارُ أَقْوَى مِنَ الْبَيِّنَةِ . فَإِنْ أَحْلَفَهُ وَأَرَادَ إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ سُمِعَتْ . وَلَوْ أَقَامَهَا قَبْلَ إِحْلَافِهِ وَأَرَادَ إِحْلَافَهُ بَعْدَ إِقَامَتِهَا لَمْ يَجُزْ لِعَدَمِ تَأْثِيرِهَا . فَلَوْ قَالَ الْمُدَّعِي : إِنْ حَلَفَ فَهُوَ بَرِيءٌ ، فَحَلَفَ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنْ سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ ؛ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ لَا تَقَعُ بِالصِّفَاتِ . وَالضَّرْبُ الرَّابِعُ : أَنْ يَذْكُرَ أَنْ لَا بَيِّنَةَ لَهُ حَاضِرَةً وَلَا غَائِبَةً ، وَيَسْأَلُ إِحْلَافَهُ إحلاف الخصم ، فَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يُحْلِفَهُ . فَإِنْ أَحْلَفَهُ ثُمَّ أَحْضَرَ بَعْدَ يَمِينِهِ بَيِّنَةً ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي سَمَاعِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ لَا يَسْمَعُهَا مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَكْذَبَهَا بِإِنْكَارِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ : أَنَّهُ يَسْمَعُهَا مِنْهُ ، لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَهُ بَيِّنَةٌ ثُمَّ يَعْلَمُ ، وَلَوْ عَلِمَ لَكَانَ ذَلِكَ كَذِبًا مِنْهُ ، وَلَمْ يَكُنْ تَكْذِيبًا لِلْبَيِّنَةِ . فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا ، وَوَجَبَ إِحْلَافُ الْمُنْكِرِ ، فَلَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يُحْلِفَهُ قَبْلَ مَسْأَلَةِ الْمُدَّعِي . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَعْرِضَ عَلَيْهِ الْيَمِينَ قَبْلَ مَسْأَلَةِ الْمُدَّعِي ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ : لَا يَجُوزُ كَمَا لَمْ يَجُزْ لَهُ إِحْلَافُهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ يَجُوزُ أَنْ يَعْرِضَهَا وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْلِفَهُ بِهَا لِيَعْلَمَ إِقْدَامَهُ عَلَيْهَا ، فَيَغُطُّهُ أَوْ يُوقِفُهُ عَنْهَا فَيُحَذِّرُهُ فَإِنِ اسْتَمْهَلَ الْمُنْكِرُ فِي الْيَمِينِ ، فَإِنْ كَانَ اسْتِمْهَالُهُ لِيُرَاجِعَ النَّظَرَ فِي حِسَابِهِ أَمْهَلَهُ بِحَسْبِ مَا يُمْكِنُهُ مُرَاجَعَةُ الْحِسَابِ ، وَإِنِ اسْتَهْمَلَهُ لِغَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يُمْهِلْهُ وَلَمْ يَحْبِسْهُ عَلَى الْيَمِينِ ، وَكَانَ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ حُكْمِ النُّكُولِ . فَلَوْ سَأَلَ الْمُنْكِرُ إِحْلَافَ الْمُدَّعِي عَلَى مَا ادَّعَاهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِحْلَافُهُ : لِأَنَّ الْيَمِينَ حَقٌّ عَلَيْهِ وَلَيْسَتْ حَقًّا عَلَى الْمُدَّعِي ، وَقِيلَ : إِنَّمَا يَحْلِفُ الْمُدَّعِي بَعْدَ نُكُولِكَ إِنِ اخْتَارَ . وَلَوْ سَأَلَ الْمُدَّعِي تَأْخِيرَ إِحْلَافِ الْمُنْكِرِ ، لِيَغْلُظَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ بِإِحْلَافِهِ بَعْدَ الْعَصْرِ