كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي
أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ جَارِيَةً سَلَمًا مِنْ جَارِيَةٍ حكمه لِعِلَّتَيْنِ : الْأُولَى : أَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجَارِيَةُ الَّتِي هِيَ الثَّمَنُ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ عَلَى صِفَةِ الْجَارِيَةِ الَّتِي هِيَ الْمُثَمَّنُ فَيَدْفَعُهَا إِلَيْهِ فَيَصِيرُ الثَّمَنُ وَالْمُثَمَّنُ وَاحِدًا وَهَذِهِ الْعِلَّةُ فَاسِدَةٌ ، يُسْلَمُ الْبَعِيرُ فِي الْبَعِيرِ . وَالْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ : أَنَّهُ قَدْ يَقْبِضُ الْجَارِيَةَ عَلَى صِفَةِ الْمُسَلَّمِ فِيهَا فَيَرُدُّهَا وَيَصِيرُ مُسْتَمْتِعًا بِهَا بِغَيْرٍ بَدَلٍ ، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ فَاسِدَةٌ بِالْمَنْعِ إِذَا رَدَّ بِالْعَيْبِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ جَارِيَةً سَلَمًا فِي جَارِيَةٍ ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ سَلَمًا فِي عَبْدٍ ، وَالْفَرَسُ سَلَمًا فِي فَرَسٍ ، فَعَلَى هَذَا إِذَا كَانَ الْعَبْدُ الَّذِي هُوَ الثَّمَنُ عَلَى مِثْلِ صِفَةِ الْعَبْدِ الَّذِي هُوَ الْمُثَمَّنُ ، أَوْ كَانَتِ الْجَارِيَةُ الَّتِي هِيَ الثَّمَنُ مِثْلَ الْجَارِيَةِ الَّتِي هِيَ الْمُثَمَّنُ ، فَدَفَعَهَا الْمُسَلَّمُ إِلَيْهِ كَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ . فَهَلْ يَلْزَمُ الْمُسَلِّمُ قَبُولَهَا أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَلْزَمُهُ قَبُولُهَا : لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مَالِكًا لِلثَّمَنِ كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِ . فَيَلْزَمُهُ قَبُولُهَا إِذَا دَفَعَهَا إِلَيْهِ كَمَا يَلْزَمُهُ قَبُولُ غَيْرِهَا مِنْ أَمْلَاكِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ لَمْ يَذْكُرَا فِي السَّلَمِ أَجَلًا ، فَذَكَرَاهُ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا حكمه جَازَ ، وَلَوْ أَوْجَبَاهُ بَعْدَ التَّفَرُّقِ لَمْ يَجُزْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ مُتَعَاقِدَيِ السَّلَمِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَعْقِدَاهُ مُؤَجَّلًا . وَالثَّانِي : أَنْ يَعْقِدَاهُ حَالًا . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَعْقِدَاهُ مُطْلَقًا . فَإِنْ عَقَدَاهُ حَالًا كَانَ عَلَى حُلُولِهِ . وَإِنْ عَقَدَاهُ مُطْلَقًا لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمُسَلَّمِ فِيهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا فِي الْحَالِ أَوْ مَعْدُومًا ، فَإِنْ كَانَ مَعْدُومًا بَطَلَ السَّلَمُ ؟ لِأَنَّ الْحُلُولَ لَا يَصِحُّ فِيهِ وَالْأَجَلُ لَا يَتَقَدَّرُ بِإِطْلَاقِهِ ، وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا فَفِي عَقْدِ السَّلَمِ وَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ وَجْهَيْ أَصْحَابِنَا فِي السَّلَمِ هَلْ هُوَ الْأَصْلُ فِيهِ الْحُلُولُ أَوِ التَّأْجِيلُ ؟ أَحَدُهُمَا : أَنَّ السَّلَمَ بَاطِلٌ إِذَا قِيلَ الْأَصْلُ فِيهِ التَّأْجِيلُ : لِأَنَّ إِطْلَاقَهُ يُوجِبُ رَدُّهُ إِلَى أَصْلِهِ ، وَرَدُّهُ إِلَى الْأَصْلِ فِي الْأَجَلِ إِذَا لَمْ يَتَقَدَّرْ بِالشَّرْطِ بَاطِلٌ . وَالثَّانِي : أَنَّ السَّلَمَ جَائِزٌ وَيَكُونُ حَالًا إِذَا قِيلَ الْأَصْلُ فِيهِ الْحُلُولُ : لِأَنَّ إِطْلَاقَهُ يَقْتَضِيهِ . فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْحُلُولِ وَالتَّأْجِيلِ فِيهِ بِعَقْدٍ ثَبَتَ فِيهِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ ، وَلَا يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الشَّرْطِ ، وَقَدْ عَلَّلْنَا ذَلِكَ فِي بَابِ الْخِيَارِ فِيمَا لَمْ يَفْتَرِقَا ، وَالْعَقْدُ غَيْرُ مُنْبَرِمٍ فَإِذَا
افْتَرَقَا عَلَيْهِ فَقَدْ لَزِمَ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ عَقَدَاهُ حَالًا ثُمَّ أَجَّلَاهُ قَبْلَ افْتِرَاقِهِمَا لو عقدا السلم ثَبَتَ مُؤَجَّلًا عَلَى مَا افْتَرَقَا عَلَيْهِ ، كَذَا لَوْ زَادَا فِي الْأَجَلِ أَوْ نَقَّصَا مِنْهُ أَوْ زَادَا فِي الثَّمَنِ أَوْ نَقَّصَا مِنْهُ ، ثَبَتَ الْعَقْدُ عَلَى مَا افْتَرَقَا عَلَيْهِ مِنْ زِيَادَةٍ وَنُقْصَانٍ ، فَأَمَّا إِذَا عَقَدَاهُ عَلَى صِفَةٍ وَافْتَرَقَا عَلَيْهَا ثُمَّ أَجَّلَا مَا كَانَ مُعَجَّلًا أَوْ عَجَّلَا مَا كَانَ مُؤَجَّلًا أَوْ زَادَا فِي الْأَجَلِ أَوْ نَقَّصَا عَنْهُ ، لَمْ يَلْزَمْ مَا أَخَذَاهُ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ ، وَكَانَ الْعَقْدُ لَازِمًا عَلَى مَا افْتَرَقَا عَلَيْهِ : لِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يَلْحَقُهُ التَّغْيِيرُ بَعْدَ التَّفَرُّقِ . وَخَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ فِيهِ ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ عَقَدَاهُ حَالًا وَافْتَرَقَا ثُمَّ جَعَلَاهُ مُؤَجَّلًا ، لَمْ يَلْزَمْ فِيهِ الْأَجَلُ وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُسَلِّمِ أَنْ لَوْ وَفَى بِالْوَعْدِ ، وَصَبَرَ بِهِ إِلَى الْأَجَلِ ، وَكَذَا لَوْ عَقَدَاهُ مُؤَجَّلًا ثُمَّ جَعَلَاهُ حَالًا بَعْدَ التَّفَرُّقِ لَمْ يَلْزَمْ فِيهِ الْحُلُولُ ، وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُسَلَّمِ إِلَيْهِ أَنْ لَوْ وَفَى بِالْوَعْدِ ، وَعَجَّلَ ذَلِكَ قَبْلَ الْأَجَلِ ، وَلَوِ اخْتَلَفَا بَعْدَ التَّفَرُّقِ فِي الْحُلُولِ وَالتَّأْجِيلِ ، وَلَوِ اخْتَلَفَا فِيهِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ فَلَا عَقْدَ بَيْنِهِمَا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يَجُوزُ فِي السَّلَفِ حَتَى يَدْفَعَ الثَّمَنَ قَبْلَ أَنْ يُفَارِقَهُ وَيَكُونَ مَا سُلِّفَ فِيهِ مَوْصُوفًا ، من شروط السلف وَإِنْ كَانَ مَا سُلِّفَ فِيهِ بِصِفَةٍ مَعْلُومَةٍ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهَا وَأَجَلٍ مَعْلُومٍ جَازَ ، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ فَلَمْ يَجْعَلْ لِأَهْلِ الِإِسْلَامِ عِلَمًا إِلَّا بِهَا ، فَلَا يَجُوزُ إِلَى الْحَصَادِ وَالْعَطَاءِ : لِتَأْخِيرِ ذَلِكَ وَتَقْدِيمِهِ ، وَلَا إِلَى فَصْحِ النَّصَارَى ، وَقَدْ يَكُونُ عَامًا فِي شَهْرٍ وَعَامًا فِي غَيْرِهِ عَلَى حِسَابِ يَنْسِئُونَ فِيهِ أَيَّامًا ، فَلَوْ أَجَزْنَاهُ كُنَا قَدْ عَمِلْنَا فِي دِينِنَا بِشَهَادَةِ النَّصَارَى ، وَهَذَا غَيْرُ حَلَالٍ لِلْمُسْلِمِينَ ، وَلَوْ كَانَ أَجَلُهُ إِلَى يَوْمِ كَذَا فَحَتَّى يَطْلُعَ فَجْرُ ذَلِكَ الْيَوْمِ . ( قَالَ ) وَإِنْ كَانَ مَا سُلِّفَ فِيهِ مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ سُمِّيَا مِكْيَالًا مَعْرُوفًا عِنْدَ الْعَامَّةِ ، وَيَكُونُ الْمُسَلَّفُ فِيهِ مَأْمُونًا فِي مَحَلِّهِ ، فَإِنْ كَانَ تَمْرًا ، قَالَ : صَيحَانِيٌّ أَوْ بَرَدِيُّ أَوْ كَذَا ، وَإِنْ كَانَ حِنْطَةً ، قَالَ : شَامِيَّةٌ ، أَوْ مِيسَانِيَّةٌ ، أَوْ كَذَا ، وَإِنْ كَانَ يَخْلِفُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ بِالْحَدَارَةِ وَالرِّقَّةِ وَصْفَا مَا يَضْبِطَانِهِ بِهِ ، وَقَالَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ جَيِّدًا وَأَجَلًا مَعْلُومًا ، أَوْ قَالَ حَالًا وَعَتِيقًا مِنَ الطَّعَامِ ، أَوْ جَدِيدًا ، وَأَنْ يَصِفَ ذَلِكَ بِحَصَادِ عَامِ كَذَا مُسَمَّى أَصَحُّ ، وَيَكُونُ الْمَوْضِعُ مَعْرُوفًا ، وَلَا يُسْتَغْنَى فِي الْعَسَلِ مِنْ أَنْ يَصِفَهُ بِبَيَاضٍ أَوْ صُفْرَةٍ أَوْ خُضْرَةٍ لِأَنَّهُ يَتَبَايَنُ فِي ذَلِكَ وَلَوِ اشْتَرَطَا أَجْوَدَ الطَّعَامِ أَوْ أَرْدَأَهُ لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّهُ لَا يُوقَفْ عَلَيْهِ ، وَلَوْ كَانَ مَا أَسْلَفَ فِيهِ رَقِيقًا قَالَ : عَبْدًا نُوبِيًّا خُمَاسِيًّا أَوْ سُدَاسِيًّا أَوْ مُحْتَلِمًا ، وَوَصَفَ سِنَّهُ وَأَسْوَدُ هُوَ أَوْ وَضِيءٌ أَبْيَضُ أَوْ أَصْفَرُ أَوْ أَسْحَمُ ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَتْ جَارِيَةً وَصَفَهَا ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ مَعَهَا وَلَدَهَا ، وَلَا أَنَّهَا حُبْلَى ، وَإِنْ كَانَ فِي بَعِيرٍ قَالَ : مِنْ نَعَمْ بَنِي فُلَانٍ ، مِنْ ثَنِيٍّ غَيْرِ مُودَنٍ ، نَقِيٌّ مِنَ الْعُيُوبِ ، سَبِطُ الْخَلْقِ أَحْمَرُ مُجَفَّرُ الْجَنْبَيْنِ ، رِبَاعٌ أَوْ قَالَ : بَازِلٌ ، وَهَكَذَا الدَّوَابُّ يَصِفُهَا بِنِتَاجِهَا وَجِنْسِهَا وَأَلْوَانِهَا وَأَسْنَانِهَا .
وَيَصِفُ الثِّيَابَ بِالْجِنْسِ من شروط السلم مِنْ كَتَّانٍ أَوْ قُطْنٍ أَوْ وَشْيٍ إِسْكَنْدَرَانِيٍّ أَوْ يَمَانِيٍّ ، وَنَسْجِ بَلَدِهِ وَذَرْعِهِ مِنْ عَرْضٍ وَطُولٍ ، أَوْ صَفَافَةٍ أَوْ دِقَةٍ أَوْ جَوْدَةٍ ، وَهَكَذَا النُّحَاسُ يَصِفُهُ أَبْيَضُ أَوْ شِبْهٌ أَوْ أَحْمَرُ ، وَيَصِفُ الْحَدِيدَ ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى ، وَبِجِنْسٍ إِنْ كَانَ لَهُ فِي نَحْوِ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ فِي لَحْمٍ قَالَ : لَحْمُ مَاعِزٍ ذَكَرٍ ، خَصِيٍّ أَوْ غَيْرِ خَصِيٍّ ، أَوْ لَحْمَ مَاعِزَةٍ ثَنِيَّةٍ أَوْ ثَنِيٍّ ، أَوْ جِذْعِ رَضِيعٍ أَوْ فَطِيمٍ وَسَمِينٍ ، أَوْ مُنَقَّى مِنْ فَخِذٍ أَوْ يَدٍ ، وَيُشْتَرَطُ الْوَزْنُ فِي نَحْوِ ذَلِكَ . وَيَقُولُ فِي لَحْمِ الْبَعِيرِ خَاصَّةً بَعِيرُ رَاعٍ مِنْ قِبَلِ اخْتِلَافِ لَحْمِ الرَّاعِي وَلَحْمِ الْمَعْلُوفِ ، وَأَكْرَهُ اشْتِرَاطَ الْأَعْجَفِ ، وَالْمَشْوِيِّ ، وَالْمَطْبُوخِ ، وَيَجُوزُ السَّلَمُ فِي لُحُومِ الصَّيْدِ إِذَا كَانَتْ بِبَلَدٍ لَا تَخْتَلِفُ ، وَيَقُولُ فِي السَّمْنِ : سَمْنُ مَاعِزٍ ، أَوْ ضَأْنٍ أَوْ بَقَرٍ ، وَإِنْ كَانَ مِنْهَا شَيْءٌ يَخْتَلِفُ بِبَلَدٍ سَمَّاهُ ، وَيَصِفُ الْلَبَنَ كَالسَّمْنِ ، فَإِنْ كَانَ لَبَنُ إِبِلٍ قَالَ لَبَنُ عُودٍ ، أَوْ أَوَارِكٍ ، أَوْ حِمْضِيَّةٍ ، وَيَقُولُ رَاعِيَةٌ أَوْ مَعْلُوفَةٌ ، لِاخْتِلَافِ أَلْبَانِهَا فِي الثَّمَنِ وَالصِّحَّةِ ، وَيَقُولُ حَلِيبُ يَوْمِهِ وَلَا يُسَلَّفُ فِي اللَّبَنِ الْمَخِيضِ : لِأَنَّ فِيهِ مَاءً وَهَكَذَا كُلُّ مُخْتَلِطٍ بِغَيْرِهِ لَا يُعْرَفُ أَوْ مُصْلَحٍ بِغَيْرِهِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) يَدْخُلُ فِي هَذَا الطِّيبُ الْغَالِيَةُ وَالْأَدْهَانُ الْمُرَبِّيَةُ وَنَحْوُهَا . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَلَا خَيْرَ فِي أَنْ يُسَمَّى لَبَنًا حَامِضًا : لِأَنَّ زِيَادَةَ حُمُوضَتِهِ زِيَادَةُ نَقْصٍ ، وَيُوصَفُ الْلَبَأُ كَاللَّبَنِ ، إِلَّا أَنَّهُ مَوْزُونٌ . وَيَقُولُ فِي الصُّوفِ صُوفُ ضَأْنِ بَلَدِ كَذَا : لِاخْتِلَافِهِ فِي الْبُلْدَانِ ، وَيُسَمَّى لَوْنًا لِاخْتِلَافِ أَلْوَانِهَا ، وَيَقُولُ جَيِّدًا نَقِيًّا وَمَغْسُولًا لِمَا يَعْلُقُ بِهِ فَيَثْقُلُ فَيُسَمَّى قِصَارًا أَوْ طِوَالًا بِوَزْنٍ ، وَإِنِ اخْتَلَفَ صُوفُ فُحُولِهَا مِنْ غَيْرِهَا وَصْفَا مَا يَخْتَلِفُ ، وَكَذَلِكَ الْوَبَرُ وَالشَّعْرُ ، وَيَقُولُ فِي الْكُرْسُفِ كُرْسُفُ بَلَدِ كَذَا ، وَيَقُولُ جَيِّدًا أَبْيَضَ نَقِيًّا أَوْ أَسْمَرَ ، وَإِنِ اخْتَلَفَ قَدِيمُهُ وَجَدِيدُهُ سَمَّاهُ ، وَإِنْ كَانَ يَكُونُ نَدِيًّا سَمَّاهُ جَافًّا بِوَزْنٍ . ( قَالَ إِبْرَاهِيمُ ) وَحَدَّثَنَا الرَّبِيعُ ، قَالَ : سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ ، يَقُولُ : وَلَا يَجُوزُ السَّلَفُ فِيهَا حَتَّى يُسَمَّى أَخْضَرَ أَوْ أَبْيَضَ أَوْ رَبِيرِيًّا أَوْ سَبِيلَانِيًّا ، وَبِأَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ عِرْقٌ وَلَا كُلًى . وَيَقُولُ فِي الْحَطَبِ سُمْرٌ أَوْ سَلَمٌ أَوْ حِمْضٌ أَوْ أَرَاكٌ أَوْ عَرْعَرٌ . وَيَقُولُ فِي عِيدَانِ الْقِسِيِّ عُودٌ شَوْحَطَةٌ جَدْلٌ مُسْتَوِي الْبِنْيَةِ . ( قَالَ ) وَلَا بَأْسَ أَنْ يُسَلِّفَ فِي الشَّيْءِ كَيْلًا ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ وَزْنًا ، وُيُسَلِّفُ فِي لَحْمِ الطَّيْرِ بِصِفَةٍ وَوَزْنٍ غَيْرَ أَنَّهُ لَا سِنَّ لَهُ يَعْنِي يُعْرَفُ فَيُوصَفُ بِصَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ وَمَا احْتَمَلَ أَنْ يُبَاعَ مُبَعَّضًا وُصِفَ مَوْضِعُهُ ، وَكَذَلِكَ الْحِيتَانُ وَمَا ضُبِطَتْ صِفَتُهُ مِنْ خَشَبِ سَاجٍ أَوْ عِيدَانِ قِسِيٍّ مِنْ طُولٍ أَوْ عَرْضٍ جَازَ فِيهِ السَّلَمُ ، وَمَا لَمْ يَكُنْ لَمْ يَجُزْ وَكَذَلِكَ حِجَارَةُ الْأَرْحَاءِ وَالْبُنْيَانِ وَالْآنِيَةِ . ( قَالَ ) وَيَجُوزُ السَّلَفُ فِيمَا لَا يَنْقَطِعُ مِنَ الْعِطْرِ حكمه فِي أَيْدِي النَّاسِ بِوَزْنٍ وَصِفَةٍ كَغَيْرِهِ ، وَالْعَنْبَرُ مِنْهُ الْأَشْهَبُ وَالْأَخْضَرُ وَالْأَبْيَضُ ، وَلَا يَجُوزُ حَتَّى يُسَمَّى وَإِنْ سَمَّاهُ قِطْعَةً أَوْ قِطَعًا صِحَاحًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ مُفَتَّتًا وَمَتَاعُ الصَّيَادِلَةِ كَمَتَاعِ الْعَطَّارِينَ وَلَا خَيْرَ فِي شِرَاءِ شَيْءٍ
خَالَطَهُ لُحُومُ الْحَيَّاتِ مِنَ الدِّرْيَاقِ : لِأَنَّ الْحَيَّاتِ مُحَرَّمَاتٌ ، وَلَا مَا خَالَطَهُ لَبَنُ الْتِرْيَاقِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنْ غَيْرِ الْآدَمِيِّينَ ، وَلَوْ أَقَالَهُ بَعْضُ السَّلَمِ وَقَبَضَ بَعْضًا فَجَائِزٌ ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ذَلِكَ الْمَعْرُوفُ وَأَجَازَهُ عَطَاءٌ . ( قَالَ ) وَإِذَا أَقَالَهُ فَبَطَلَ عَنْهُ الطَّعَامُ وَصَارَ عَلَيْهِ ذَهَبًا تَبَايَعَا بَعْدُ بِالذَّهَبِ مَا شَاءَا ، وَتَقَابَضَا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا مِنْ عَرْضٍ وَغَيْرِهِ . وَلَا يَجُوزُ فِي السَّلَفِ الشَّرِكَةُ وَلَا التَّوْلِيَةُ : لِأَنَّهُمَا بَيْعٌ ، وَالْإِقَالَةُ فَسْخُ بَيْعٍ ، وَلَوْ عُجِّلَ لَهُ قَبْلَ مَحَلِّهِ أَدْنَى مِنْ حَقِّهِ أَجَزْتُهُ ، وَلَا أَجْعَلُ لِلتُهْمَةِ مَوْضِعًا .
بَابُ مَا لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ
بَابُ مَا لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ لتعذر تقديره قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي النَّبْلِ : لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَرْعِ ثَخَانَتِهَا لِرِقَّتِهَا وَلَا وَصْفَ مَا فِيهَا مِنْ رِيشٍ وَعَقِبٍ وَغَيْرِهِ ، وَلَا فِي اللُّؤْلُؤِ وَلَا فِي الزَّبَرْجَدِ وَلَا الْيَاقُوتِ مِنْ قِبَلِ أَنِّي لَوْ قُلْتُ : لُؤْلُؤَةٌ مُدَحْرَجَةٌ صَافِيَةٌ صَحِيحَةٌ مُسْتَطِيلَةٌ وَزْنُهَا كَذَا ، فَقَدْ تَكُونُ الثَّقِيلَةُ الْوَزْنِ وَزْنَ شَيْءٍ وَهِيَ صَغِيرَةٌ ، وَأُخْرَى أَخَفَّ مِنْهَا وَهِيَ كَبِيرَةٌ مُتَفَاوِتَتَيْنِ فِي الثَّمَنِ ، وَلَا أَضْبَطَ أَنْ أَصِفَهَا بِالْعِظَمِ . وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي جَوْزٍ وَلَا رَانِجٍ وَلَا قِثَّاءَ وَلَا بِطِّيخٍ وَلَا رُمَّانٍ وَلَا سَفَرْجَلٍ عَدَدًا لِتَبَايُنِهَا ، إِلَّا أَنْ يُضْبَطَ بِكَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ فَيُوصَفَ بِمَا يَجُوزُ ( قَالَ ) وَأَرَى النَّاسَ تَرَكُوا وَزْنَ الرُّؤُوسِ لِمَا فِيهَا مِنَ الصُّوفِ وَأَطْرَافِ الْمَشَافِرِ وَالْمَنَاخِرِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ : لِأَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ ، فَلَوْ تَحَامَلَ رَجُلٌ فَأَجَازَ السَّلَفَ فِيهِ لَمْ يَجُزْ إِلَّا مَوْزُونًا ( قَالَ ) وَلَا يَجُوزُ السَّلَفُ فِي جُلُودِ الْغَنَمِ وَلَا جُلُودِ غَيْرِهَا وَلَا إِهَابٍ مِنْ رَقٍّ : لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ فِيهِ الذَرْعُ لِاخْتِلَافِ خِلْقَتِهِ ، وَلَا السَّلَفُ فِي خُفَّيْنِ وَلَا نَعْلَيْنِ ، وَلَا السَّلَفُ فِي الْبُقُولِ حِزَمًا حَتَى يُسَمَّى وَزْنًا وَجِنْسًا ، وَصَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا ، وَأَجَلًا مَعْلُومًا .
بَابُ التَّسْعِيرِ
لَا يَصِحُّ السَّلَمُ إِلَّا بَعْدَ تَسْلِيمِ جَمِيعِ الثَّمَنِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ فَإِنِ افْتَرَقَا قَبْلَ قَبْضِهِ بَطَلَ السَّلَمُ
بَابُ التَّسْعِيرِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " أَخْبَرَنَا الدَّرَاوَرْدِيُّ ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ صَالِحٍ التَّمَّارِ ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ عُمَرَ ، أَنَّهُ مَرَّ بِحَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ بِسُوقِ الْمُصَلَّى وَبَيْنَ يَدَيْهِ غِرَارَتَانِ فِيهِمَا زَبِيبٌ ، فَسَأَلَهُ عَنْ سِعْرِهِمَا فَسَعَّرَ لَهُ مُدَّيْنِ بِدِرْهَمٍ ، فَقَالَ عُمَرُ : لَقَدْ حُدِّثْتُ بِعِيرٍ مُقْبِلَةٍ مِنَ الطَّائِفِ تَحْمِلُ زَبِيبًا ، وَهُمْ يَعْتَبِرُونَ سِعْرَكَ ، فَإِمَّا أَنْ تَرْفَعَ فِي السِّعْرِ ، وَإِمَّا أَنْ تُدْخِلَ زَبِيبَكَ الْبَيْتَ فَتَبِيعَهُ كَيْفَ شِئْتَ ، فَلَمَّا رَجَعَ عُمَرُ حَاسَبَ نَفْسَهُ ، ثُمَّ أَتَى حَاطِبًا فِي دَارِهِ فَقَالَ لَهُ : إِنَّ الَّذِي قُلْتُ لَكَ لَيْسَ بِعَزِيمَةٍ مِنِّي وَلَا قَضَاءً ، إِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ أَرَدْتُ بِهِ الْخَيْرَ لِأَهْلِ الْبَلَدِ ، فَحَيْثُ شِئْتَ فَبِعْ وَكَيْفَ شِئْتَ فَبِعْ . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَهَذَا الْحَدِيثُ مُسْتَقْصَى لَيْسَ بِخِلَافٍ لِمَا رَوَى مَالِكٌ وَلَكِنَّهُ رَوَى بَعْضَ الْحَدِيثِ ، أَوْ رَوَاهُ مَنْ رَوَى عَنْهُ ، وَهَذَا أَتَى بِأَوَّلِ الْحَدِيثِ وَآخِرِهِ ، وَبِهِ أَقُولُ : لِأَنَّ النَّاسَ مُسَلَّطُونَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ ، لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَهَا وَلَا شَيْئًا مِنْهَا بِغَيْرِ طِيبِ أَنْفُسِهِمْ ، إِلَّا فِي الْمَوَاضِعِ الَتِي تَلْزَمُهُمْ وَهَذَا لَيْسَ مِنْهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . وَلَا يَصِحُّ السَّلَمُ إِلَّا بَعْدَ تَسْلِيمِ جَمِيعِ الثَّمَنِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ فَإِنِ افْتَرَقَا قَبْلَ قَبْضِهِ بَطَلَ السَّلَمُ . وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ تَقَابَضَا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ بِزَمَانٍ قَرِيبٍ حكم السلم إِلَى مُدَّةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ صَحَّ السَّلَمُ . وَإِنْ لَمْ يَتَقَابَضَا حَتَّى مَضَتِ الثَّلَاثُ بَطَلَ . وَهَذَا خَطَأٌ : لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ أَسْلَفَ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ " فَأَمَرَ بِسَلَفِ الْمَالِ فِيهِ ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي التَّعْجِيلُ ، وَلِأَنَّ السَّلَمَ مُشْتَقٌّ مِنْ إِسْلَامِ الْمَالِ وَهُوَ تَعْجِيلُهُ ، فَلَوْ جَازَ تَأْخِيرُهُ عَنِ الْمَجْلِسِ لَسُلِبَ مَعْنَى الِاسْمِ ، وَلِأَنَّ فِي السَّلَمِ غَرَرًا ، فَلَوْ جَازَ فِيهِ تَأْخِيرُ الثَّمَنِ لَازْدَادَ فِيهِ الْغَرَرُ ، وَزِيَادَةُ الْغَرَرِ فِي الْعَقْدِ تُبْطِلُهُ ، وَلِأَنَّ الثَّمَنَ إِذَا تَأَخَّرَ مَعَ تَأْخِيرِ الْمُثَمَّنِ صَارَ دَيْنًا بِدَيْنٍ ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ تَعْجِيلَ الثَّمَنِ فِي السَّلَمِ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهِ تَعْجِيلُ نِصْفِ الثَّمَنِ وَبَقِيَ
النِّصْفُ ثُمَّ افْتَرَقَا ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا الْعَقْدِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ : إِنَّ الْعَقْدَ يَكُونُ بَاطِلًا فِي الْكُلِّ : لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهِ تَسْلِيمَ جَمِيعِ ثَمَنِهِ ، فَإِذَا لَمْ يُسَلَّمْ جَمِيعُ الثَّمَنِ عَدِمَ الشَّرْطَ ، فَبَطَلَ كُلُّهُ . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ : إِنَّ السَّلَمَ فِيمَا تَقَابَضَاهُ جَائِزٌ ، وَفِيمَا بَقِيَ بَاطِلٌ : لِأَنَّهُمَا لَوْ تَقَابَضَا الْجَمِيعَ لَصَحَّ ، وَلَوْ لَمْ يَتَقَابَضَاهُ لَبَطَلَ ، فَوَجَبَ إِذَا تَقَابَضَا الْبَعْضَ وَبَقِيَ الْبَعْضُ أَنْ يَصِحَّ فِيهَا فِيمَا قَبَضَ ، وَيَبْطُلَ فِيمَا لَمْ يَقْبِضْ ، قَالُوا : وَلَا خِيَارَ فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ : لِأَنَّ افْتِرَاقَهُمَا عَلَى الْبَعْضِ رِضًا مِنْهُمَا بِالتَّفْرِيقِ . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْمُسَلِّمَ فِيمَا لَمْ يَتَقَابَضَاهُ بَاطِلٌ ، وَفِيمَا تَقَابَضَاهُ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ ، وَلِلْمُسَلَّمِ إِلَيْهِ الْخِيَارُ دُونَ الْمُسَلِّمِ فِي أَنْ يُمْضِيَ الْعَقْدَ فِي الْبَعْضِ أَوْ يَفْسَخَ . فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا تَقَابَضَا الثَّمَنَ ثُمَّ بَانَ بَعْدَ التَّفَرُّقِ أَنَّهُ رَدِيءٌ مَعِيبٌ ، فَإِنَّ عَيْبَهُ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ ، فَإِنْ كَانَ مَعِيبًا : قِيلَ : لِلْمُسَلَّمِ إِلَيْهِ أَنْتَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ تَسْمَحَ بِعَيْبِهِ أَوْ تَفْسَخَ الْعَقْدَ بِهِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَبَدًا لِتَعْيِينِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الثَّمَنُ مُعَيَّنًا ، وَكَانَ مَوْصُوفًا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُهُ ، فَهَلْ لَهُ إِبْدَالُهُ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . فِيمَنْ صَارَتْ دَرَاهِمَ غَيْرَ مَعِيبَةٍ فَبَانَتْ بَعْدَ التَّفَرُّقِ مَعِيبَةً رَدِيئَةً ، فَهَلْ لَهُ الْبَدَلُ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ كَذَلِكَ . مَسْأَلَتُنَا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ ؛ لَهُ الْبَدَلُ وَلَا خِيَارَ ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا بَدَلَ لَهُ وَيَكُونُ لَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يَسْمَحَ بِعَيْبِهِ أَوْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ بِهِ .
الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي صِحَّةِ السَّلَمِ
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَالشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي صِحَّةِ السَّلَمِ تُعْتَبَرُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا كَانَتْ مُعْتَبَرَةً فِي الْمُثَمَّنِ ، وَسَنَذْكُرُهَا مِنْ بَعْدُ إِذَا تَقَدَّمَ شَرْحُهَا . وَالثَّانِي : مَا كَانَتْ مُعْتَبَرَةً فِي الثَّمَنِ ، وَهِيَ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ مُتَّفَقٌ عَلَى بَعْضِهَا وَمُخْتَلَفٌ فِي بَعْضِهَا . أَحَدُهَا : تَسْلِيمُ جَمِيعِ الثَّمَنِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ ، في السَّلَم فَلَوْ أَخَلَّ بِهِ بَطَلَ السَّلَمُ . وَالثَّانِي : إِلَى آخِرِ الْبَابِ ، وَلَيْسَ يُعْرَفُ خِلَافُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ وَلَا لِغَيْرِهِ أَنْ يُسَعِّرَ عَلَى النَّاسِ غَيْرَ الْأَقْوَاتِ ، حكم تسعيرها فَلَا يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يُسَعِّرَهَا مَعَ السِّعَةِ وَالرُّخْصِ . وَأَمَّا عِنْدَ الْغَلَاءِ وَزِيَادَةِ الْأَسْعَارِ ، فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ : إِنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُسَعِّرَهَا عَلَيْهِمْ بِسِعْرٍ ، وَلَا يَجُوزَ لَهُمُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ ، فَإِنْ خَالَفُوهُ أَدَّبَهُمْ إِلَّا أَنْ يَمْتَنِعُوا مِنْ بَيْعِ أَمْتِعَتِهِمْ ، فَلَا يُجْبِرُهُمْ عَلَى بَيْعِهَا ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْإِمَامَ وَغَيْرَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سَوَاءٌ فِي أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُمْ تَسْعِيرُ الْأَقْوَاتِ عَلَى أَرْبَابِهَا ، وَهُمْ مُسَلَّطُونَ عَلَى بَيْعِ أَمْوَالِهِمْ مَا أَحَبُّوا . وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَجَازَ التَّسْعِيرَ بِرِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ، عَنْ مَعْمَرِ بْنِ أَبِي مَعْمَرٍ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " الْجَالِبُ مَرْزُوقٌ ، وَالْمُحْتَكِرُ مَمْحُوقٌ " فَلَمَّا زَجَرَ عَنِ الِاحْتِكَارِ كَانَ لِلْإِمَامِ الزَّجْرُ عَلَيْهِ وَالنَّهْيُ عَنْهُ . وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ مَرَّ بِحَاطِبٍ إِلَى أَنْ قَالَ لَهُ : إِمَّا أَنْ تَرْفَعَ فِي السِّعْرِ ، وَإِمَّا أَنْ تُدْخِلَ زَبِيبَكَ الْبَيْتَ فَتَبِيعَهُ كَيْفَ شِئْتَ . وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ سَعَّرَ عَلَى قَوْمٍ طَعَامًا فَخَالَفُوهُ فَحَرَّقَهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْغَدِ . قَالَ : وَقَدْ قِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [ الْحَجِّ : ] لِأَنَّ الْإِلْحَادَ فِيهِ هُوَ احْتِكَارُ الطَّعَامِ فِيهِ ، وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَا تَحْتَكِرُوا الطَّعَامَ بِمَكَّةَ ، فَإِنَّ ذَلِكَ إِلْحَادٌ . قَالَ : وَلِأَنَّ الْإِمَامَ مَنْدُوبٌ إِلَى فِعْلِ الْمَصَالِحِ ، فَإِذَا رَأَى فِي التَّسْعِيرِ مَصْلَحَةٌ عِنْدَ تَزَايُدِ الْأَسْعَارِ ، جَازَ أَنْ يَفْعَلَهُ . وَالدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِ الْأَسْعَارِ قَوْلُهُ تَعَالَى : اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ [ الشُّورَى : ] وَفِي التَّسْعِيرِ عَلَيْهِ إِيقَاعُ حَجْرٍ عَلَيْهِ ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ " . وَرَوَى الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّ رَجُلًا جَاءَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، سَعِّرْ . فَقَالَ : بَلْ أَدْعُو . ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، سَعِّرْ . فَقَالَ : " بَلِ اللَّهُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ عِنْدِي مَظْلَمَةٌ " . وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ ، عَنْ ثَابِتٍ ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ النَّاسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ غَلَا السِّعْرُ فَسَعِّرْ لَنَا . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ ، الْبَاسِطُ ، الرَّازِقُ ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ تَعَالَى وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يُطَالِبُنِي بِمَظْلَمَةٍ فِي دَمٍ ، وَلَا مَالٍ " . وَلِأَنَّ النَّاسَ مُسَلَّطُونَ عَلَى أَمْلَاكِهِمْ ، وَالتَّسْعِيرُ عَلَيْهِمْ إِيقَاعُ حَجْرٍ فِي أَمْوَالِهِمْ ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ فِيمَنْ جَازَ أَمْرُهُ ، وَنَفَذَ تَصَرُّفُهُ ، وَلِأَنَّ الْإِمَامَ مَنْدُوبٌ إِلَى النَّظَرِ فِي مَصَالِحِ الْكَافَّةِ ، وَلَيْسَ
نَظَرُهُ فِي مَصْلَحَةِ الْمُشْتَرِي بِأَوْلَى مِنْ نَظَرِهِ فِي مَصْلَحَةِ الْبَائِعِ لِوُفُورِ الثَّمَنِ ، وَإِذَا تَقَابَلَ الْأَمْرَانِ وَجَبَ تَفْرِيقُ الْفَرِيقَيْنِ فِي الِاجْتِهَادِ لِأَنْفُسِهِمْ ، فَيَجْتَهِدُ الْمُشْتَرِي فِي الِاسْتِرْخَاصِ ، وَيَجْتَهِدُ الْبَائِعُ فِي وُفُورِ الرِّبْحِ . فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " الْجَالِبُ مَرْزُوقٌ وَالْمُحْتَكِرُ مَمْحُوقٌ " فَهَذَا يَكُونُ فِي الِاحْتِكَارِ ، وَالتَّسْعِيرُ غَيْرُ ذَلِكَ : لِأَنَّ الْمُسَعِّرَ هُوَ الَّذِي يَأْتِي إِلَى الَّذِي يَبِيعُ مَتَاعَهُ فَيُسَعِّرُهُ عَلَيْهِ ، وَيُقَدِّرُ لَهُ الثَّمَنَ فِيهِ ، لِأَنْ لَا يَزِيدَ عَلَيْهِ ، وَالْمُحْتَكِرُ الْمُمْتَنِعُ مِنْ بَيْعِهِ عَلَى أَنَّ طَرِيقَ هَذَا الْحَدِيثِ الْإِرْشَادُ ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ، وَهُوَ رَاوِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ يَحْتَكِرُ الزَّيْتَ ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ ، فَقَالَ : كَانَ مَعْمَرُ يَحْتَكِرُ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِحَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَدْ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ تَامًّا ، وَهُوَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَاسَبَ نَفْسَهُ ، ثُمَّ عَادَ إِلَى حَاطِبٍ ، فَقَالَ : إِنَّ الَّذِي قُلْتُ لَيْسَ بِعَزِيمَةٍ مِنِّي ، وَلَا قَضَاءَ ، وَإِنَمَا هُوَ شَيْءٌ أَرَدْتُ بِهِ الْخَيْرَ لِأَهْلِ الْبَلَدِ . الْحَدِيثُ . فَكَانَ هَذَا مِنْ أَدَلِّ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ التَّسْعِيرَ لَا يَجُوزُ . وَأَمَّا الْخَبَرُ الْمَرْوِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِمَا فِيهِ مِنْ تَحْرِيقِ أَمْوَالِهِمْ ، وَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ تَحْرِيقُهَا عَلَيْهِمْ . وَإِنَّمَا الْمَرْوِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ مَرَّ بِسُوقِ التَّمَّارِينَ بِالْبَصْرَةِ ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ بَعْضَ بَاعَاتِهِمْ ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ فِيهِ مَصْلَحَةَ النَّاسِ فِي رُخْصِ أَسْعَارِهِمْ عَلَيْهِ ، فَهَذَا غَلَطٌ بَلْ فِيهِ فَسَادٌ ، وَغَلَاءُ الْأَسْعَارِ ، لِأَنَّ الْجَالِبَ إِذَا سَمِعَ بِالتَّسْعِيرِ امْتَنَعَ مِنَ الْجَلَبِ فَزَادَ السِّعْرُ ، وَقَلَّ الْجَلَبُ وَالْقُوتُ ، وَإِذَا سَمِعَ بِالْغَلَاءِ وَتَمْكِينِ النَّاسِ مِنْ بَيْعِ أَمْوَالِهِمْ كَيْفَ احْتَوَوا جَلَبَ ذَلِكَ طَلَبًا لِلْفَضْلِ فِيهِ ، وَإِذَا حَصَلَ الْجَلَبُ اتَّسَعَتِ الْأَقْوَاتُ وَرَخُصَتِ الْأَسْعَارُ . فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّسْعِيرُ فِي الْأَقْوَاتِ عَلَى النَّاسِ ، فَخَالَفَ وَسَعَّرَهَا عَلَيْهِمْ فَبَاعَ النَّاسُ أَمْتِعَتَهُمْ بِمَا سَعَّرَهَا عَلَيْهِمْ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُكْرِهَهُمْ عَلَى بَيْعِهَا ، وَلَا يُمَكِّنَهُمْ مِنْ تَرْكِهَا ، فَهَذَا بَيْعٌ بَاطِلٌ ، وَعَلَى مُشْتَرِي ذَلِكَ بِالْإِكْرَاهِ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى مَا بَاعَهُ ، وَيَسْتَرْجِعَ مَا دَفَعَهُ مِنْ ثَمَنِهِ ، فَإِنَّ الْبَيْعَ مَعَ الْإِكْرَاهِ لَا يَصِحُّ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : بَيْعُ الْمُكْرَهِ بِالسُّلْطَانِ حكمه بَاطِلٌ ، وَإِنْ أَكْرَهَهُ غَيْرُ السُّلْطَانِ ، فَبَيْعُهُ جَائِزٌ : لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ مِنْ غَيْرِ السُّلْطَانِ قَادِرٌ ، وَدَفْعُهُ مُمْكِنٌ . وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ بَلْ بَيْعُ الْمُكْرَهِ بَاطِلٌ لِرِوَايَةِ صَالِحٍ ، وَعَامِرٍ ، عَنْ شَيْخٍ مِنْ تَمِيمٍ ، قَالَ : خَطَبَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ ، وَقَالَ : سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ عَضُوضٌ يَعَضُّ الْمُوسِرُ عَلَى مَا فِي يَدِهِ ، وَلَمْ يُؤْمَرْ بِذَلِكَ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [ الْبَقَرَةِ : ] وَتَبَايَعَ الْمُضْطَرُّونَ . وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْمُضْطَرِّ ، وَبَيْعِ الْغَرَرِ ، وَبَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهَا ، وَالْمُكْرَهُ مُضْطَرٌّ .
وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ ، وَالنِّسْيَانُ ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ " ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ مُكْرَهٌ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا كَالْمُكْرَهِ بِالسُّلْطَانِ ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ لَوْ أَكْرَهَهُ السُّلْطَانُ عَلَيْهِ لَمْ يَصِحَّ ، فَوَجَبَ إِذَا أَكْرَهَهُ غَيْرُ السُّلْطَانِ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَصِحَّ كَالنِّكَاحِ : وَلِأَنَّ مَا أَكْرَهَهُ السُّلْطَانُ عَلَيْهِ أَوْلَى بِالْإِمْضَاءِ مِمَّا أَكْرَهَهُ عَلَيْهِ غَيْرُ السُّلْطَانِ ، لِمَا لِلسُّلْطَانِ مِنْ حَقِّ الطَّاعَةِ ، فَلَمَّا أُبْطِلَ مَا أَكْرَهَهُ السُّلْطَانُ عَلَيْهِ كَانَ بُطْلَانُ مَا أَكْرَهَهُ غَيْرُ السُّلْطَانِ عَلَيْهِ أَوْلَى . فَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يُسَعِّرَ السُّلْطَانُ فَيَبِيعَ النَّاسُ أَمْتِعَتَهُمْ مُخْتَارِينَ مِنْ غَيْرِ إِكْرَاهٍ ، لَكِنَّهُمْ كَارِهِينَ لِلسِّعْرِ ، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ غَيْرَ أَنَّنَا نَكْرَهُ الِابْتِيَاعَ مِنْهُمْ ، إِلَّا إِذَا عُلِمَ طِيِبُ نُفُوسِهِمْ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ إِذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ الْإِكْرَاهُ جَائِزًا بِكُلِّ حَالٍ . فَصْلٌ : وَأَمَّا الِاحْتِكَارُ وَالتَّرَبُّصُ بِالْأَمْتِعَةِ ، حكمه فَلَا يُكَرَهُ فِي غَيْرِ الْأَقْوَاتِ ، وَأَمَّا الْأَقْوَاتُ فَلَا يُكْرَهُ احْتِكَارُهَا ، مَعَ سِعَةِ الْأَقْوَاتِ وَرُخْصِ الْأَسْعَارِ : لِأَنَّ احْتِكَارَهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا . وَأَمَّا احْتِكَارُهَا مَعَ الضِّيقِ ، وَالْغَلَاءِ وَشِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا فَمَكْرُوهٌ مُحَرَّمٌ ، وَالنَّهْيُ الَّذِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْآيَةِ ، وَنَصُّ الْخَبَرِ مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا الْحَالِ ، وَلَوِ اشْتَرَاهَا فِي حَالِ الْغَلَاءِ وَالضِّيقِ طَالِبًا لِرِبْحِهَا لَمْ يَكُنِ احْتِكَارًا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ الزِّيَادَةِ فِي السَّلَفِ وَضَبْطِ مَا يُكَالُ وَمَا يُوزَنُ
بَابُ الزِّيَادَةِ فِي السَّلَفِ وَضَبْطِ مَا يُكَالُ وَمَا يُوزَنُ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَأَصْلُ مَا يَلْزَمُ الْمُسَلِّفَ قَبُولُ مَا سَلَّفَ فِيهِ أَنَّهُ يَأْتِيهِ بِهِ مِنْ جِنْسِهِ ، فَإِنْ كَانَ زَائِدًا يَصْلُحُ لِمَا يَصْلُحُ لَهُ مَا سَلَّفَ فِيهِ أُجْبِرَ عَلَى قَبْضِهِ ، وَكَانَتِ الزِّيَادَةُ تَطَوُّعًا فَإِنِ اخْتَلَفَ فِي شَيْءٍ مِنْ مَنْفَعَةٍ أَوْ ثَمَنٍ كَانَ لَهُ أَنْ لَا يَقْبَلَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ مِنْ تَمْرٍ أَوْ غَيْرِهِ فَدَفَعَ إِلَيْهِ مَا قَدْ أَسْلَفَ فِيهِ ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ عَلَى مِثْلِ صِفَاتِهِ الَّتِي شَرَطَهَا ، فَيَلْزَمُهُ قَبُولُهَا ، وَلَيْسَ لَهُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ نَاقِصًا عَنْ صِفَتِهِ ؛ مِثْلَ : أَنْ يُسَلِّفَ إِلَيْهِ فِي تَمْرٍ جَيِّدٍ حَدِيثٍ ، فَيُعْطَى تَمْرًا عَتِيقًا أَوْ رَدِيئًا فَلَا يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ لِنَقْصِهِ عَنْ حَقِّهِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ زَائِدًا ، فَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ فِي الْقَدْرِ ، فَإِنْ أُعْطِيَ مَكَانَ صَاعٍ صَاعَيْنِ لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُ الزِّيَادَةِ : لِأَنَّهَا هِبَةٌ لَا يُجْبَرُ عَلَى تَمَلُّكِهَا ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ ذَلِكَ قَدْرَ حَقِّهِ ، وَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ فِي الصِّفَةِ مِثْلَ أَنْ يُسَلِّمَ فِي تَمْرٍ عَتِيقٍ فَيُعْطَى تَمْرًا حَدِيثًا ، أَوْ فِي رَدِيءٍ فَيُعْطَى جَيِّدًا ، فَعَلَيْهِ قَبُولُ ذَلِكَ بِزِيَادَتِهِ لِاتِّصَالِهَا بِحَقِّهِ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ زَائِدًا مِنْ وَجْهٍ وَنَاقِصًا مِنْ وَجْهٍ ، مِثْلَ أَنْ يُسَلِّمَ فِي تَمْرٍ عَتِيقٍ جَيِّدٍ فَيُعْطَى تَمْرًا حَدِيثًا رَدِيئًا ، فَكَوْنُهُ حَدِيثًا زِيَادَةً ، وَكَوْنُهُ رَدِيئًا نَقْصًا ، فَلَا يَلْزَمُهُ قَبُولُ ذَلِكَ لِأَجْلِ النَّقْصِ ، سَوَاءً كَانَ النَّقْصُ مَجْبُورًا بِالزِّيَادَةِ أَمْ لَا : لِأَنَّ النَّقْصَ مُسْتَحَقٌّ وَالزِّيَادَةَ تَطَوُّعٌ ، وَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِمِثْلِ صِفَتِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَيْسَ لَهُ إِلَّا أَقَلَّ مَا تَقَعُ عَلَيْهِ الصِّفَةُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ عَلَى أَوْصَافٍ ، فَلَيْسَ لَهُ إِلَّا أَقَلَّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ هَذِهِ الْأَوْصَافِ ، فَإِذَا كَانَ قَدْ أَسْلَمَ فِي تَمْرٍ جَيِّدٍ ، فَإِنْ جَاءَهُ بِتَمْرٍ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْجَيِّدِ لَزِمَهُ قَبُولُهُ ، وَلَيْسَ لَهُ مُطَالَبَتُهُ بِمَا هُوَ أَجْوَدُ مِنْهُ .
وَقَالَ مَالِكٌ : لَهُ أَوْسَطُ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ تِلْكَ الْأَوْصَافُ ، فَإِذَا كَانَ التَّمْرُ وَسَطَ الْجَيِّدِ لَزِمَهُ قَبُولُهُ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَوَّلِهِ مَنْزِلَةً لَمْ يَلْزَمْهُ : لِأَنَّ أَوْسَطَ الْأُمُورِ أَعْدَلُهَا . وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْحُكْمَ إِذَا عَلِقَ بِاسْمٍ ، كَانَ ذَلِكَ الْحُكْمُ مُعَلَّقًا بِأَقَلِّ ذَلِكَ الِاسْمِ كَالْأَثْمَانِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْجَوْدَةَ صِفَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا اعْتَبَرَ الْأَوْسَطَ فَقَدْ ضَمَّ إِلَيْهَا صِفَةً ثَانِيَةً ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَضُمَّ إِلَى صِفَاتِ السَّلَمِ صِفَةً غَيْرَ مَشْرُوطَةٍ ، فَصَحَّ مَا ذَكَرْنَا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ كَانَتْ حِنْطَةً فَعَلَيْهِ أَنْ يُوَفِّيَهُ إِيَّاهَا نَقِيَّةً مِنَ التِّبْنِ وَالْقَصَلِ وَالْمَدَرِ وَالزُّوَانِ وَالشَّعِيرِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا أَسْلَمَ فِي جِنْسٍ مَوْصُوفٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَهُ مُخْتَلِطًا بِغَيْرِهِ ، سَوَاءً اخْتَلَطَ بِمَالِهِ قِيمَةً أَوْ بِمَا لَا قِيمَةَ لَهُ ، فَعَلَى هَذَا إِذَا كَانَ السَّلَمُ فِي حِنْطَةٍ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَأْخُذَ فِيهَا تِبْنًا وَلَا نَصْلًا وَلَا مَدَرًا وَلَا زُوَانًا ، حَتَّى تَكُونَ نَقِيَّةً مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَكَذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَأْخُذَهَا وَقَدِ اخْتَلَطَتْ بِشَعِيرٍ بَلْ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لَهُ ، سَوَاءً كَانَ قَدْ أَسْلَمَ فِي الْحِنْطَةِ كَيْلًا أَوْ وَزْنًا : لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنَ التِّبْنِ وَالزُّوَانِ وَالْقَصَلِ مُؤَثِّرٌ فِي الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ ، قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا . فَأَمَّا إِنْ كَانَ فِي الْحِنْطَةِ تُرَابٌ : فَإِنْ كَانَ التُّرَابُ كَثِيرًا لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَأْخُذَهَا إِلَّا نَقِيَّةً لِمَا ذَكَرْنَا ، وَإِنْ كَانَ التُّرَابُ يَسِيرًا ، فَإِنْ كَانَ السَّلَمُ فِي الْحِنْطَةِ وَزْنًا لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَأْخُذَهَا مَعَ يَسِيرِ التُّرَابِ لِتَأْثِيرِهِ فِي الْمِيزَانِ ، وَإِنْ كَانَ السَّلَمُ فِيهَا كَيْلًا لَزِمَهُ أَخْذُهَا مَعَ التُّرَابِ الْيَسِيرِ : لِأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْمِكْيَالِ لِحُصُولِهِ فِي الْخَلَلِ الَّذِي بَيْنَ حَبَّاتِ الْحِنْطَةِ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِإِخْرَاجِهِ مَؤُونَةٌ ، فَلَا يَلْزَمُهُ أَخْذُهُ ، وَكَذَا التَّمْرُ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَأْخُذَ فِيهِ الْحَشَفَ ، فَأَمَّا أَقْمَاعُ التَّمْرِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْبَلَ مِنْهَا الْمُلْتَصِقَ بِالتَّمْرِ وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَأْخُذَهُ إِذَا أُخْرِجَ مِنْهُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَأَمَّا مَا كَانَ ظَاهِرًا فَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِثْلَ قِشْرِ الْأُرْزِ ، أَوْ قِشْرِ الْحِنْطَةِ ، أَوْ قِشْرِ الْعَلَسِ " . قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْحُبُوبَ ذَاتَ الْكِمَامِ حكم السلم فيها كَالْحِنْطَةِ ، وَالْعَلَسِ ، وَالْأُرْزِ ، وَالْعَدَسِ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا إِلَّا خَارِجَةً مِنْ كِمَامِهَا : لِأَنَّهَا فِي الْكِمَامِ مَجْهُولَةُ الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ ، وَمَا جُهِلَ قَدْرُهُ وَصِفَتُهُ لَمْ يَصِحَّ السَّلَمُ فِيهِ ، فَإِذَا أَسْلَمَ فِيهَا عَلَى الْوَجْهِ الْجَائِزِ ، فَأَعْطَى ذَلِكَ فِي كِمَامِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَقْبَلَهُ فِيهِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ بَلْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْبَلَهُ : لِأَنَّ الْقَبْضَ فِيهِ لَا يَقَعُ مَوْقِعَهُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ التَّمْرَ إِلَّا جَافًّا حكم السلم فيه " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . وَلِأَنَّهُ قَبْلَ جَفَافِهِ لَا يَكُونُ تَمْرًا ، فَمَتَى كَانَ رَطْبًا لَمْ يَجْمُدْ
بَعْدُ ، أَوْ قَدْ جَمَدَ ظَاهِرُهُ ، دُونَ بَاطِنِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ أَخْذُهُ ، فَإِذَا جَمَدَ الرُّطَبُ ، وَصَارَ فِي أَوَّلِ أَحْوَالِ الْجَفَافِ ، لَزِمَهُ قَبُولُهُ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِمَا هُوَ أَجَفُّ مِنْهُ وَأَيْبَسُ ، فَلَوْ أَعْطَاهُ تَمْرًا قَدْ تَنَاهَى جَفَافُهُ وَيُبْسُهُ حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِيهِ نَدَاوَةٌ لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ : لِأَنَّ ذَلِكَ نَقْصٌ ، وَبَقَاءُ النَّدَاوَةِ فِي التَّمْرِ أَحْفَظُ لَهُ وَأَوْفَرُ لَدَيْهِ ، وَأَمْنَعُ مِنْ فَسَادِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ كَانَ لَحْمَ طَائِرٍ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ فِي الْوَزْنِ الرَّأْسَ وَالرِّجْلَيْنِ مِنْ دُونِ الْفَخْذَيْنِ : لِأَنَّهُ لَا لَحْمَ عَلَيْهَا ، وَإِنْ كَانَ لَحْمَ حِيتَانٍ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ فِي الْوَزْنِ ، وَالرَّأْسِ ، وَلَا الذَّنَبِ مِنْ حَيْثُ لَا يَكُونُ عَلَيْهِ لَحْمٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ إِذَا أَسْلَمَ فِي لَحْمِ الطَّيْرِ وَالْحِيتَانِ حكمه لَمْ يَلْزَمْهُ أَخْذُ الرَّأْسِ فِيهِ ، وَلَا مَا دُونَ الْفَخْذَيْنِ مِنَ الطَّيْرِ ، وَالذَّنَبِ مِنَ الْحِيتَانِ : لِأَنَّ ذَلِكَ لَا لَحْمَ عَلَيْهِ ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ : مَا كَانَ مِنَ الطَّيْرِ صَغِيرًا لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يُبَاعَ مُبَعَّضًا لَزِمَ فِيهِ أَخْذُ الرَّأْسِ وَالرِّجْلَيْنِ ، وَكَذَا مَا صَغُرَ مِنَ الْحِيتَانِ لَزِمَ فِيهِ أَخْذُ الرَّأْسِ وَالذَّنَبِ : لِأَنَّهُ يُؤْكَلُ مَعَهُ وَيُطْبَخُ مَعَهُ إِلَّا أَنْ يُشْتَرَطَ قَطْعُ ذَلِكَ . كَالْعَظْمِ ، وَلِهَذَا وَجْهٌ . وَالْأَوَّلُ : هُوَ الْمَذْهَبُ فِي أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ صِغَارِ ذَلِكَ وَكِبَارِهِ لِتَمْيِيزِ الرَّأْسِ وَالرِّجْلَيْنِ عَنِ اللَّحْمِ وَلَيْسَ كَالسَّلَمِ ، الَّذِي هُوَ تَدَاخُلٌ فِي اللَّحْمِ وَاللَّحْمُ مُتَرَاكِبٌ عَلَيْهِ ، وَأَمَّا أَخْذُ الْجِلْدِ مَعَ اللَّحْمِ فَإِنْ كَانَ لَحْمُ إِبِلٍ أَوْ بَقَرٍ أَوْ غَنَمٍ لَمْ يَلْزَمْهُ أَخْذُ الْجِلْدِ مَعَهُ ، وَإِنْ كَانَ لَحْمَ طَيْرٍ أَوْ حُوتٍ لَزِمَهُ أَخْذُ الْجِلْدِ مَعَ اللَّحْمِ : لِأَنَّهُ مَأْكُولٌ مَعَهُ ، وَلَا يَكَادُ يُفْصَلُ عَنْهُ ، وَكَانَ أَوْلَى أَنْ يَلْزَمَهُ قَبُولُهُ مِنَ الْعَظْمِ الَّذِي قَدْ يُفْصَلُ عَنْهُ ، وَلَا يُؤْكَلُ مَعَهُ ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ السَّلَمُ فِي لُحُومِ الْحِدَاءِ الصِّغَارِ لَزِمَ قَبُولُ الْجِلْدِ فِيهَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْعُرْفِ الْمُعْتَادِ فِي أَكْلِهِ مَعَهَا ، وَأَنَّهُ لَا يَتَمَيَّزُ فِي الْغَالِبِ عَنْهَا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ أَعْطَاهُ مَكَانَ كَيْلٍ وَزْنًا ، أَوْ مَكَانَ وَزْنٍ كَيْلًا ، أَوْ مَكَانَ جِنْسٍ غَيْرَهُ ، حكم السلم فيه لَمْ يَجُزْ بِحَالٍ : لِأَنَّهُ بَيْعُ السَّلَمِ قَبْلَ أَنْ تُسْتَوْفَى " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنْ يُسْلِمَ فِي مُقَدَّرٍ فَيَقْبِضُ بِغَيْرِهِ ، وَالثَّانِي : أَنْ يُسْلِمَ فِي جِنْسٍ فَيَأْخُذَ غَيْرَهُ . فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ : فَهُوَ أَنْ يُسْلِمَ فِي الشَّيْءِ كَيْلًا فَيَقْبِضَهُ بِالْوَزْنِ ، أَوْ يُسْلِمَ فِيهِ مَوْزُونًا فَيَقْبِضَهُ بِالْكَيْلِ ، فَلَا يَصِحُّ هَذَا لَا مِنْ جِهَةِ الرِّبَا ، وَلَا مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْقَبْضَ لَمْ يَقَعْ مَوْقِعَهُ : لِأَنَّ قَبْضَ الْمَكِيلِ يَتِمُّ بِالْكَيْلِ ، وَقَبْضَ الْمَوْزُونِ يَكُونُ بِالْوَزْنِ ، وَلَا يَكُونُ قَبْضُ الْمَكِيلِ بِالْوَزْنِ ، وَلَا قَبْضُ الْمَوْزُونِ بِالْكَيْلِ ، لِأَنَّ الْمُقَدَّرَ بِالْوَزْنِ ، إِذَا كِيلَ إِنَّمَا زَادَ عَلَى الْوَزْنِ أَوْ نَقَصَ مِنْهُ ، وَكَذَا الْمُقَدَّرُ بِالْكَيْلِ إِذَا وَزَنَهُ زَادَ عَلَى الْكَيْلِ ، أَوْ نَقَصَ مِنْهُ فَيُؤَدِّي إِلَى الْجَهَالَةِ فِي اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَتِمَّ الْقَبْضُ بِهِ .
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ، وَقَبَضَ الْمُسَلِّمُ مَكَانَ كَيْلٍ وَزْنًا أَوْ مَكَانَ وَزْنٍ كَيْلًا ، لَمْ يَتِمَّ الْقَبْضُ بِهِ ، وَلَمْ يَجُزْ لِلْمُسَلِّمِ بَيْعُ ذَلِكَ ، حَتَّى يَكْتَالَ مِنْهُ الْمَكِيلُ ، وَيَزِنَ مِنْهُ الْمَوْزُونُ ، لَكِنَّهُ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ : لِأَنَّ قَبْضَهُ عَنْ عَقْدٍ مُعَاوَضَةً ، فَإِنْ تَلِفَ فِي يَدِهِ كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ ، وَالْقَوْلُ فِي قَدْرِهِ بَعْدَ التَّلَفِ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ، وَلَا يَحْتَسِبُ بِذَلِكَ عَلَيْهِ مِنْ سَلَمِهِ : لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِالتَّلَفِ مَضْمُونًا فِي ذِمَّتِهِ ، فَلَوْ جَعَلَ قَصَاصًا لَكَانَ بَيْعُ دَيْنٍ بِدَيْنٍ ، فَعَلَيْهِ غُرْمُ مَا تَلِفَ عَنْ يَدِهِ وَلَهُ الْمُطَالَبَةُ ، بِمَا أَسْلَمَ عَلَى مِثْلِ صِفَتَهِ . وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ مَكَانَ جِنْسِ غَيْرِهِ ، فَهُوَ أَنْ يُسَلِّمَ فِي حِنْطَةٍ فَيَأْخُذُ بَدَلَهَا شَعِيرًا ، أَوْ فِي تَمْرٍ فَيَأْخُذُ بَدَلَهُ زَبِيبًا ، أَوْ فِي غَنَمٍ فَيَأْخُذُ بَدَلَهَا بَقَرًا ، فَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ : لِأَنَّهُ إِذَا عَدَلَ عَنِ الْجِنْسِ إِلَى غَيْرِهِ صَارَ مُعَاوِضًا عَلَيْهِ ، وَبَائِعًا لِلسَّلَمِ قَبْلَ قَبْضِهِ ، فَأَمَّا إِذَا أَسْلَمَ فِي نَوْعٍ مِنْ جِنْسٍ فَيَأْخُذُ بَدَلَهُ نَوْعًا آخَرَ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ ، مِثْلَ أَنْ يُسْلِمَ فِي تَمْرٍ بَرْنِيٍّ فَيَأْخُذَ مَكَانَهُ تَمْرًا مُعْقِلًا ، أَوْ يُسْلِمَ فِي غَنَمٍ ضَأْنٍ فَيَأْخُذَ بَدَلَهَا مِعْزًى ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ، لَا يَجُوزُ : لِأَنَّ النَّوْعَ مُخَالِفٌ كَالْجِنْسِ ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْدِلَ عَنِ الْجِنْسِ إِلَى غَيْرِهِ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْدِلَ عَنِ النَّوْعِ إِلَى غَيْرِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ : لِأَنَّ الْجِنْسَ يَجْمَعُهُمَا وَإِنْ تَنَوَّعَا ، وَهَذَا أَصَحُّ : لِأَنَّ النَّوْعَيْنِ إِذَا جَمَعَهُمَا الْجِنْسُ ، وَجَبَ ضَمُّهُمَا فِي الزَّكَاةِ ، وَجَرَى عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهَا حُكْمُ الْآخَرِ ، وَخَالَفَ الْجِنْسَيْنِ ، وَلِأَنَّهُ لَوِ اشْتَرَى جِنْسًا فَبَانَ غَيْرُهُ بَطَلَ الْبَيْعُ ، مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِيَ ثَوْبَ قُطْنٍ ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ ثَوْبُ كَتَّانٍ ، فَيَكُونُ الْبَيْعُ بَاطِلًا ، فَإِذَا اشْتَرَى ثَوْبًا عَلَى أَنَّهُ مَرْوِيٌّ فَبَانَ أَنَّهُ هَرَوِيٌّ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ : لِأَنَّ الْجِنْسَ وَاحِدٌ وَإِنْ تَنَوَّعَا ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ إِنْ كَانَ الَّذِي أَعْطَاهُ خَيْرًا مِنَ النَّوْعِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أُجْبِرَ الْمُسَلِّمُ عَلَى قَبُولِهِ ، وَإِنْ كَانَ دُونَهُ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَرْضَى بِهِ ، فَيَجُوزُ أَنْ يَقْبَلَهُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَأَصْلُ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ بِالْحِجَازِ ، فَكُلُّ مَا وُزِنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَصْلُهُ الْوَزْنُ ، وَمَا كِيلَ فَأَصْلُهُ الْكَيْلُ ، وَمَا أَحْدَثَ النَّاسُ رُدَّ إِلَى الْأَصْلِ ، وَلَوْ جَاءَهُ بِحَقِّهِ قَبْلَ مَحَلِّهِ فَإِنْ كَانَ نُحَاسًا أَوْ تِبْرًا أَوْ عَرَضًا غَيْرَ مَأْكُولٍ وَلَا مَشْرُوبٍ وَلَا ذِي رُوحٍ أَجْبَرْتَهُ عَلَى أَخْذِهِ ، وَإِنْ كَانَ مَأْكُولًا أَوْ مَشْرُوبًا ، فَقَدْ يُرِيدُ أَكْلَهُ وَشُرْبَهُ جَدِيدًا ، وَإِنْ كَانَ حَيَوَانًا فَلَا غِنَى بِهِ عَنِ الْعَلَفِ أَوِ الرَّعْيِ فَلَا نُجْبِرْهُ عَلَى أَخْذِهِ قَبْلَ مَحَلِّهِ : لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ فِيهِ مُؤْنَةٌ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى وَقْتِهِ فَعَلَى هَذَا هَذَا الْبَابُ كُلُّهُ وَقِيَاسُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ بَابِ الرِّبَا ، وَلَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْبَابِ غَيْرَ أَنَّ الْمُزَنِيَّ
قَصَدَ بِذِكْرِهَا أَنْ يُخْبِرَ أَنَّ مَا كَانَ أَصْلُهُ الْكَيْلَ ؛ جَازَ السَّلَمُ فِيهِ وَزْنًا ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ إِلَّا وَزْنًا ، وَالْفَرْقُ إِذَا دَخَلَهُ الرِّبَا إِلَّا كَيَّلًا أَوْ مَا أَصْلُهُ الْوَزْنُ جَازَ السَّلَمُ فِيهِ كَيْلًا ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ إِلَّا وَزْنًا ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الرِّبَا وَالسَّلَمِ أَنَّ الْمَقْصُودَ فِي السَّلَمِ مَعْرِفَةُ الْمِقْدَارِ ، وَقَدْ يَصِيرُ الْمِقْدَارُ مَعْلُومًا بِكَيْلِ الْمَوْزُونِ وَمِنْ وَزْنِ الْمَكِيلِ . وَأَصْلُ الرِّبَا الْمُمَاثَلَةُ ، وَفِي التَّخْيِيرِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ بَيْنَ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ لَا حُصُولُ التَّفَاضُلِ : لِأَنَّهُمَا قَدْ يَتَمَاثَلَانِ فِي الْكَيْلِ وَيَتَفَاضَلَانِ فِي الْوَزْنِ ، أَوْ يَتَمَاثَلَانِ فِي الْوَزْنِ وَيَتَفَاضَلَانِ فِي الْكَيْلِ ، فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنِ اعْتِبَارِ أَصْلٍ فِيهِ تَكُونُ الْمُمَاثَلَةُ لَهُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَلَوْ جَاءَهُ بِحَقِّهِ قَبْلَ مَحَلِّهِ ، في السلم حكمه فَإِنْ كَانَ نُحَاسًا أَوْ تِبْرًا أَوْ عَرَضًا غَيْرَ مَأْكُولٍ ، وَلَا مَشْرُوبٍ ، وَلَا ذِي رُوحٍ أَجْبَرْتَهُ عَلَى أَخْذِهِ ، وَإِنْ كَانَ مَأْكُولًا أَوْ مَشْرُوبًا فَقَدْ يُرِيدُ أَكْلَهُ ، وَشُرْبَهُ جَدِيدًا ، وَإِنْ كَانَ حَيَوَانًا فَلَا غِنَى بِهِ عَنِ الْعَلْفِ ، أَوِ الرَّعْيِ ، فَلَا يُجْبِرُهُ عَلَى أَخْذِهِ قَبْلَ مَحَلِّهِ : لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ فِيهِ مُؤْنَةٌ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى وَقْتِهِ ، فَعَلَى هَذَا الْبَابِ وَقِيَاسِهِ ، وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ مَوْصُوفٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْرُوفٍ فَجَاءَهُ بِالسَّلَمِ عَلَى صِفَتِهِ قَبْلَ حُلُولِ أَجَلِهِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَيَوَانًا أَوْ غَيْرَ حَيَوَانٍ ، فَإِنْ كَانَ حَيَوَانًا لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ قَبْلَ أَجَلِهِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : ضَمَانُ نَفْسِهِ ، وَالثَّانِي : مَؤُونَةُ ضِرْسِهِ . وَإِنْ كَانَ غَيْرَ حَيَوَانٍ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ طَعَامًا رَطْبًا ، إِنْ تُرِكَ إِلَى حُلُولِ الْأَجَلِ فَسَدَ أَوْ عَتَقَ ، فَلَا يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ أَيْضًا : لِمَا فِي تَرْكِهِ إِلَى حُلُولِ الْأَجَلِ مِنْ نُقْصَانِ الْقِيمَةِ ، وَحُدُوثِ التَّغْيِيرِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَلَّا يَكُونَ طَعَامًا رَطْبًا ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مَتَاعًا كَافِيًا لِإِحْرَازِهِ وَمَؤُونَتِهِ ، وَلِإِحْرَازِهَا وَحِفْظِهَا قَدْرُ مَؤُونَتِهِ ، فَلَا يَلْزَمُهُ قَبُولُ ذَلِكَ أَيْضًا : لِأَنَّ الْتِزَامَ مَؤُونَتِهِ إِلَى حُلُولِ أَجَلِهِ يَضُرُّ بِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَيْسَ لِإِحْرَازِهِ مَؤُونَةٌ ، وَلَا يَحْدُثُ بِتَرْكِهِ نَقْصٌ كَالْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ وَالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ لَهُ سُوقٌ مُنْتَظَرَةً وَزِيَادَةُ سِعْرٍ مُتَوَقَّعَةً ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ ذَلِكَ قَصْدٌ صَحِيحٌ وَعُذْرٌ فِي تَأْخِيرِ قَبْضِهِ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُهُ تَعْجِيلُ أَخْذِهِ قَبْلَ حُلُولِ أَجَلِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَا يَخْتَصُّ بِالسَّلَمِ ، وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ بِالْمُسَلِّمِ ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عُذْرًا فِي تَأْخِيرِ الْقَبْضِ بَلْ يُجْبَرُ عَلَى تَعْجِيلِهِ .
وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَلَّا يَكُونَ هُنَاكَ عُذْرٌ فِي تَأْخِيرِهِ مِنِ انْتِظَارِ سُوقٍ ، وَلَا غَيْرِهِ ، فَهَذَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَعَجَّلَ قَبْضَ سَلَمِهِ ، فَلَيْسَ لَهُ تَأْخِيرُهُ إِلَى حُلُولِ الْأَجَلِ : لِأَنَّ الْأَجَلَ حَقٌّ لِلْمُسَلَّمِ إِلَيْهِ ، فَإِذَا أَسْقَطَهُ بِالتَّعْجِيلِ أُجْبِرَ الْمُسَلِّمَ مَعَ ارْتِفَاعِ الْأَعْذَارِ ، وَزَوَالِ الْمَوَانِعِ عَلَى الْقَبْضِ لِوُصُولِهِ إِلَى حَقِّهِ عَلَى صِفَتِهِ وَكَمَالِهِ ، فَإِنْ أَقَامَ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ قَبْضِهِ قَبَضَهُ الْقَاضِي عَنْهُ ، لِيَقَعَ بَرَاءَةُ الْمُسَلَّمِ إِلَيْهِ مِنْهُ ، ثُمَّ يَضَعُهُ فِي النَّائِبِ لِلْمُسَلِّمِ حَتَّى يَخْتَارَ أَخْذَهُ مَتَى شَاءَ .
_____كِتَابُ الرَّهْنِ _____
بيان الأصل في الرهن
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابُ الرَّهْنِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " أَذِنَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِالرَّهْنِ فِي الدَّيْنِ وَالدَّيْنُ حَقٌّ فَكَذَلِكَ كُلُّ حَقٍّ لَزِمَ فِي حِينِ الرَّهْنِ وَمَا تَقَدَّمَ الرَّهْنَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ الرَّهْنُ أَحَدُ الْوَثَائِقِ فِي الْحُقُوقِ . وَالْأَصْلُ فِيهِ دليل الرهن قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [ الْبَقَرَةِ : 283 ] وَقُرِئَ " فَرُهُنٌ مَقْبُوضَةٌ " وَفِي اخْتِلَافِ الْقِرَاءَتَيْنِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ قَوْلَهُمْ : فَرِهَانٌ جَمْعٌ ، وَرُهُنٌ جَمْعُ الْجَمْعِ . وَالثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُ : فَرِهَانٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي السَّبْقِ وَالنِّضَالِ ، وَقَوْلُهُ : فَرُهُنٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَأَمَّا الرَّهِينَةُ ، فَلَيْسَتْ مِنْ هَذَيْنِ ، وَإِنَّمَا هِيَ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي ارْتِهَانِ النُّفُوسِ . قَالَ الْفَرَزْدَقُ : وَمِنَّا الَذِي أَعْطَى يَدَيْهِ رَهِينَةً لِغَارَيْ مَعَدٍّ يَوْمَ ضَرْبِ الْجَمَاجِمِ ثُمَّ مِنَ السُّنَّةِ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنْ أَبِي ذِئْبٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ ، الرَّهْنُ مِنْ رَاهِنِهِ ، الَذِي رَهَنَهُ لَهُ غُنْمُهُ غَيْرُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ . وَفِي قَوْلِهِ : لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ تأويله تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ الدَّيْنُ بِتَلَفِهِ . وَالثَّانِي : وَهُوَ أَشْبَهُ : أَنَّهُ لَا يُمَلَّكُ بِالدَّيْنِ عِنْدَ مَحَلِّهِ . قَالَ زُهَيْرٌ :
وَفَارَقَتْكَ بِدَيْنٍ لَا فَكَاكَ لَهُ يَوْمَ الْوَدَاعِ فَأَمْسَى الدَّيْنُ قَدْ غَلِقَا وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الرَّهْنُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُ وَيَقْرَبُ النَّفَقَةُ . وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : رَهَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِرْعَهُ عِنْدَ أَبِي الشَّحْمِ الْيَهُودِيِّ وَاخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ فَكَاكِهِ ؟ أي الرهن فَقَالَ قَوْمٌ : افْتَكَّهُ قَبْلَ مَوْتِهِ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى وَهَذِهِ صِفَةٌ تَنْتَفِي عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ آخَرُونَ وَهُوَ الصَّحِيحُ : أَنَّهُ مَاتَ قَبْلَ فَكَاكِهِ لِرِوَايَةِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : تُوُفَّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ بِثَلَاثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ : نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى مَحْمُولًا عَلَى مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً . فَصْلٌ : وَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الرَّهْنِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَهُوَ إِذَا تَمَّ مِنَ الْعُقُودِ اللَّازِمَةِ مِنْ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ دُونَ الْآخَرِ فَيَكُونُ لَازِمًا مِنْ جِهَةِ الرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ فَإِنْ رَامَ الرَّاهِنُ فَسْخَهُ قَبْلَ فَكَاكِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ، وَلَوْ طَلَبَ الْمُرْتَهِنُ ذَلِكَ كَانَ لَهُ ، لِأَنَّهُ وَثِيقَةٌ لِلْمُرْتَهِنِ عَلَى الرَّاهِنِ وَأَصْلُ الرَّهْنِ فِي اللُّغَةِ : هُوَ الِاحْتِبَاسُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [ الْمُدَّثِّرِ : 38 ] أَيْ مُحْتَبَسَةٌ . وَقَالَ الْأَعْشَى : فَهَلْ يَمْنَعَنِّي ارْتِيَادِي الْبِلَا دَ مِنْ حَذَرِ الْمَوْتِ أَنْ يَأْتِيَنْ عَلَيَّ رَقِيبٌ لَهُ حَافِظٌ فَقُلْ فِي امْرِئٍ غَلِقٍ مُرْتَهِنْ فَإِذَا تَمَهَّدَ مَا ذَكَرْنَا فَالرَّهْنُ عِنْدَنَا يَجُوزُ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ ، وَعِنْدَ وُجُودِ الْكَاتِبِ وَعَدَمِهِ ، وَبِهِ قَالَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَدَاوُدُ : لَا يَجُوزُ فِي الْحَضَرِ وَلَا مَعَ وُجُودِ
الْكَاتِبِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [ الْبَقَرَةِ : 283 ] فَأَبَاحَهُ بِوُجُودِ شَرْطَيْنِ : السَّفَرِ وَعَدَمِ الْكَاتِبِ . وَدَلِيلُنَا : رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : نَزَلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَيْفٌ فَقَالَ لِي : يَا أَبَا رَافِعٍ اذْهَبْ إِلَى فُلَانٍ الْيَهُودِيِّ فَقُلْ لَهُ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : بِعْنِي إِلَى رَجَبٍ فَأَتَيْتُهُ ، فَقَالَ : وَاللَّهِ لَا أَبِيعُهُ إِلَا بِرَهْنٍ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ ، فَقَالَ : اذْهَبْ بِدِرْعِي الْجَدِيدِ إِلَيْهِ فَرَهَنَهُ بِطَعَامٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى . فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ الرَّهْنِ فِي الْحَضَرِ ، لِأَنَّ هَذَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ ، وَلِأَنَّهَا وَثِيقَةٌ تَجُوزُ سَفَرًا فَجَازَتْ حَضَرًا كَالضَّمِينِ : وَلِأَنَّ كُلَّ حَالٍ جَازَ فِيهَا الضَّمِينُ جَازَ فِيهَا الرَّهْنُ كَالسَّفَرِ فَأَمَّا الْآيَةُ فَإِنَّمَا ذُكِرَ فِيهَا السَّفَرُ لِتَعَذُّرِ الشَّهَادَةِ فِيهِ غَالِبًا لَا أَنَّهُ شَرْطٌ فِيهِ . فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الرَّهْنِ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ ، فَالْحُقُوقُ ضَرْبَانِ : ضَرْبٌ يَجِبُ فِي مَالٍ ، وَضَرْبٌ يَجِبُ فِي غَيْرِ مَالٍ . فَأَمَّا الْحُقُوقُ الَّتِي لَا تَجِبُ فِي الْأَمْوَالِ الرهن فيها : فَكَالْقِصَاصِ ، وَحَدِّ الْقَذْفِ ، وَفِي مَعْنَاهُ الْمُطَالَبَةُ بِالشُّفْعَةِ وَالرَّدُّ بِالْعَيْبِ ، فَهَذَا وَمَا شَاكَلَهُ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ فِيهِ وَإِنْ جَازَتِ الشَّهَادَةُ فِيهِ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ أَخْذُ الرَّهْنِ فِيهِ : لِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ فِي مَالٍ يُسْتَوْفَى الْحَقُّ مِنْهُ عِنْدَ تَعَذُّرِهِ ، وَمَا لَيْسَ بِمَالٍ قَدْ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ مِنْهُ ، فَلَمْ يَجُزْ أَخْذُ الرَّهْنِ فِيهِ . وَأَمَّا الْحُقُوقُ الْوَاجِبَةُ فِي الْأَمْوَالِ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ أَعْيَانًا قَائِمَةً . وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ فِي الذِّمَّةِ . فَأَمَّا الْأَعْيَانُ الْقَائِمَةُ الرهن فيها فَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ بِهَا سَوَاءٌ كَانَتْ مَضْمُونَةً كَالْمَغْصُوبِ أَوْ غَيْرَ مَضْمُونَةٍ كَالْوَدَائِعِ وَقَالَ مَالِكٌ : كُلُّ عَيْنٍ مَضْمُونَةٍ بِالتَّلَفِ يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ عَلَيْهَا قَبْلَ التَّلَفِ قَالَ : لِأَنَّهُ مَالٌ مَضْمُونٌ فَجَازَ أَخْذُ الرَّهْنِ فِيهِ قِيَاسًا عَلَى مَا فِي الذِّمَمِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا جَازَ أَنْ يَكُونَ وَثِيقَةً لِمَا فِي الذِّمَّةِ جَازَ أَنْ يَكُونَ وَثِيقَةً لِلْعَيْنِ الْمَضْمُونَةِ كَالشَّهَادَةِ . وَدَلِيلُنَا هُوَ : أَنَّهَا عَيْنٌ بَاقِيَةٌ فَلَمْ يَجُزْ أَخْذُ الرَّهْنِ بِهَا كَالْعَيْنِ إِذَا لَمْ تَكُنْ مَضْمُونَةً . وَهَذَا لِأَنَّ كُلَّ عَيْنٍ لَمْ يَجُزْ أَخْذُ الرَّهْنِ فِيهَا إِذَا كَانَتْ أَمَانَةً لَمْ يَجُزْ أَخْذُ الرَّهْنِ فِيهَا إِذَا كَانَتْ مَضْمُونَةً . أَصْلُهُ : مَا فِي يَدِ الْبَائِعِ مِنَ الْعَيْنِ الْمَبِيعَةِ . وَلِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ لِاسْتِيفَاءِ الْحَقِّ مِنْهُ ، وَالْعَيْنُ الْمَضْمُونَةُ مَعَ بَقَائِهَا لَا يَجُوزُ أَخْذُ بَدَلِهَا ،
وَلَا الْعُدُولُ إِلَى قِيمَتِهَا دُونَ أَنْ تُرَدَّ الْعَيْنُ ، وَالْعَيْنُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهَا مِنَ الرَّهْنِ ، وَكُلُّ رَهْنٍ لَمْ يُمْلَكِ اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ مِنْهُ كَانَ رَهْنًا بَاطِلًا كَالْوَقْفِ . فَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى مَا فِي الذِّمَّةِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنَ الرَّهْنِ ، فَجَازَ فِيهِ الرَّهْنُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْعَيْنُ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الشَّهَادَةِ فَالْمَعْنَى فِي الشَّهَادَةِ أَنَّهَا لَمَّا جَازَتْ عَلَى عَيْنٍ غَيْرِ مَضْمُونَةٍ جَازَتْ عَلَى عَيْنٍ مَضْمُونَةٍ وَلَمَّا لَمْ يَجُزِ الرَّهْنُ فِي عَيْنٍ غَيْرِ مَضْمُونَةٍ لَمْ يَجُزْ فِي عَيْنٍ مَضْمُونَةٍ وَكَذَلِكَ الرَّهْنُ فِي كَفَالَاتِ النُّفُوسِ لَا يَجُوزُ . فَصْلٌ : [ أَقْسَامُ الْأَمْوَالِ بِاعْتِبَارِ مَا لَزِمَ لِلذِّمَّةِ وَمَا لَا يَلْزَمُ وَمَا يَئُولُ إِلَى اللُّزُومِ ] . وَأَمَّا الْأَمْوَالُ الَّتِي فِي الذِّمَّةِ فَعَلَى ثَلَاثَةٍ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : مَا كَانَ لَازِمًا لِلذِّمَّةِ ثَابِتًا فِيهَا من أقسام الأموال فهل يجوز أخذ الرهن فيها ؟ كَالْأَثْمَانِ وَالدُّيُونِ وَالْمُهُورِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ وَالسَّلَمِ فَهَذَا كُلُّهُ وَمَا شَاكَلَهُ ، يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ حَالًا أَوْ مُؤَجَّلًا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا لَمْ يَكُنْ لَازِمًا مِنَ الذِّمَّةِ فِي الْحَالِ وَلَا تُفْضِي إِلَى اللُّزُومِ فِي ثَانِي حَالٍ من أقسام الأموال مِثْلُ مَالِ الْكِتَابَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ فِيهِ الرَّهْنُ بِحَالٍ : لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالرَّهْنِ اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ مِنْهُ عِنْدَ تَعَذُّرِ اسْتِيفَائِهِ مِنَ الذِّمَّةِ ، وَمَالُ الْكِتَابَةِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَذَّرِ اسْتِيفَاؤُهُ مِنَ الذِّمَّةِ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : مَا لَمْ يَكُنْ لَازِمًا لِلذِّمَّةِ فِي الْحَالِ لَكِنَّهُ يُفْضِي إِلَى اللُّزُومِ فِي ثَانِي حَالٍ الرهن فيه كَمَالِ الْجَعَالَةِ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ لُزُومِهِ بِحُصُولِ الْعَمَلِ جَازَ أَخْذُ الرَّهْنِ فِيهِ ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ ثَابِتًا فِي الذِّمَّةِ كَالدُّيُونِ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ لُزُومِهِ لِعَدَمِ حُصُولِ الْعَمَلِ فَفِي جَوَازِ أَخْذِ الرَّهْنِ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ فِيهِ ، لِأَنَّهُ قَدْ يُفْضِي إِلَى اللُّزُومِ ، فَجَازَ أَخْذُ الرَّهْنِ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَازِمًا فِي الْحَالِ ، كَالثَّمَنِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ لَيْسَ بِلَازِمٍ ، وَأَخْذُ الرَّهْنِ فِيهِ جَائِزٌ لِأَنَّهُ قَدْ يُفْضِي إِلَى اللُّزُومِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ : أَنَّ أَخْذَ الرَّهْنِ فِيهِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ يُفْضِي إِلَى اللُّزُومِ بِحُصُولِ الْعَمَلِ فَمَا فِي مُقَابَلَةِ هَذَا الْجُعْلِ مِنَ الْعَمَلِ لَا يُفْضِي إِلَى اللُّزُومِ ، لِأَنَّ الْمَبْذُولَ لَهُ الْجُعْلُ بِالْخِيَارِ أَبَدًا إِنْ شَاءَ عَمِلَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَعْمَلْ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الثَّمَنُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ ، لِأَنَّ الْعِوَضَ وَالْمُعَوَّضَ قَدْ يُفْضِيَانِ إِلَى اللُّزُومِ بِمَا افْتَرَقَا . فَصْلٌ : وَأَمَّا أَخْذُ الرَّهْنِ فِي عِوَضِ السَّبْقِ وَالنِّضَالِ ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ لُزُومِهِ بِوُجُودِ السَّبْقِ ، وَحُصُولِ النِّضَالِ جَازَ أَخْذُ الرَّهْنِ فِيهِ كَالدَّيْنِ . وَإِنْ كَانَ قَبْلَ وُجُودِ السَّبْقِ وَالنِّضَالِ ، فَهُوَ مَبْنِيٌّ
عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي عَقْدِ السَّبْقِ وَالنِّضَالِ هَلْ يَجْرِي مَجْرَى الْإِجَارَةِ ، أَوْ مَجْرَى الْجَعَالَةِ ؟ فَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْإِجَارَةِ جَازَ أَخْذُ الرَّهْنِ فِيهِ . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْجَعَالَةِ فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ عِنْدَنَا عَقْدُ الرَّهْنِ وبما يتم لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْقَبْضِ ، وَكَذَلِكَ الْهِبَةُ . وَقَالَ مَالِكٌ : الرَّهْنُ يَتِمُّ بِالْعَقْدِ وَيُجْبَرُ عَلَى الْقَبْضِ ، وَكَذَلِكَ الْهِبَةُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [ الْمَائِدَةِ : 1 ] وَلِأَنَّهُ عَقْدُ وَثِيقَةٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ كَالضَّمَانِ . وَلِأَنَّ الثَّمَنَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِهِ إِذَا شُرِطَ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُلْزَمَ بِنَفْسِ الشَّرْطِ فِي الْبَيْعِ كَالْأَجَلِ ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ لَازِمٌ بَعْدَ الْقَبْضِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَازِمًا قَبْلَ الْقَبْضِ كَالْبَيْعِ ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ يَصِحُّ مُؤَجَّلًا ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ لَازِمًا كَالْإِجَارَةِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [ الْبَقَرَةِ : 283 ] وَالدَّلَالَةُ فِيهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ وَصَفَ الرَّهْنَ بِالْقَبْضِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِي صِحَّتِهِ كَوَصْفِ الرَّقَبَةِ بِالْإِيمَانِ وَالِاعْتِكَافِ بِالْمَسْجِدِ ، وَالشَّهَادَةِ بِالْعَدَالَةِ ، ثُمَّ كَانَتْ هَذِهِ الْأَوْصَافُ شُرُوطًا ، فَكَذَا الْقَبْضُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ ذَكَرَ غَيْرَ الرَّهْنِ مِنَ الْعُقُودِ وَلَمْ يَصِفْهَا بِالْقَبْضِ ، وَذَكَرَ الرَّهْنَ وَوَصَفَهُ بِالْقَبْضِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ وَصْفُ الرَّهْنِ بِالْقَبْضِ إِمَّا لِاخْتِصَاصِهِ بِهِ ، أَوْ لِيَكُونَ تَنْبِيهًا عَلَى غَيْرِهِ ، وَأَيُّهُمَا كَانَ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى لُزُومِهِ فِيهِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ ذِكْرَ الْقَبْضِ يُوجِبُ فَائِدَةً شَرْعِيَّةً لَا تُسْتَفَادُ بِحَذْفِ ذِكْرِهِ وَلَا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِهِ إِنْ لَمْ يُجْعَلِ الْقَبْضُ شَرْطًا فِي صِحَّتِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ مَاتَ الرَّاهِنُ قَبْلَ الْإِقْبَاضِ لَمْ يُجْبَرْ وَارِثُهُ عَلَى الْإِقْبَاضِ ، فَلَوْ كَانَ لَازِمًا بِالْقَوْلِ كَالْبَيْعِ لَاسْتَحَقَّ عَلَى وَارِثِهِ الْإِقْبَاضُ كَالْبَيْعِ ، فَلَمَّا لَمْ يَسْتَحِقَّ عَلَى وَارِثِهِ الْإِقْبَاضُ لَمْ يَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ الْإِقْبَاضُ كَالْجَعَالَةِ . وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ قَدْ يَتَحَرَّرُ مِنَ اعْتِلَالِهِ قِيَاسَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ رَهْنٌ غَيْرُ مَقْبُوضٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَ تَسْلِيمُهُ كَالْوَارِثِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ عَقْدٌ لَا يَلْزَمُ وَارِثَ الْعَاقِدِ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَ الْعَاقِدَ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ أَصْلُهُ عَقْدُ الْجَعَالَةِ ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ إِرْفَاقٍ مِنْ شَرْطِهِ الْقَبُولُ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَرْطِ لُزُومِهِ الْقَبْضُ كَالْقَرْضِ .
وَقَوْلُنَا : شَرْطُهُ الْقَبُولُ احْتِرَازًا مِنَ الْوَقْفِ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِعُمُومِ الْآيَةِ فَمَخْصُوصٌ بِمَا ذَكَرْنَا وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الضَّمَانِ فَالْمَعْنَى فِي الضَّمَانِ أَنَّهُ لَمَّا تَمَّ بِالضَّامِنِ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ تَمَّ بِالْقَوْلِ وَحْدَهُ وَلَمَّا لَمْ يَتِمَّ الرَّهْنُ بِالرَّاهِنِ وَحْدَهُ حَتَّى يَقْتَرِنَ بِهِ الْقَوْلُ جَازَ أَنْ لَا يَلْزَمَ بِالْقَوْلِ وَحْدَهُ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْأَجَلِ فَالْمَعْنَى فِي الْأَجَلِ أَنَّهُ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ الْعَقْدِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَنْفَرِدُ بِنَفْسِهِ وَلَا يُحْكَمُ لَهُ إِنْ شُرِطَ بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ وَانْبِرَامِهِ وَلَزِمَ الْوَفَاءُ بِهِ كَسَائِرِ صِفَاتِ الْعَقْدِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الرَّهْنُ : لِأَنَّهُ لَيْسَ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْبَيْعِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَنْفَرِدُ عَنِ الْعَقْدِ فَيَثْبُتُ حُكْمُهُ بِنَفْسِهِ بَعْدَ تَمَامِ ثُبُوتِهِ لَوْ شُرِطَ فِي الْعَقْدِ وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْبَيْعِ فَالْمَعْنَى فِي الْبَيْعِ : أَنَّهُ لَمَّا لَزِمَ الْوَرَثَةَ لَزِمَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَالرَّهْنُ لَمَّا لَمْ يَلْزَمِ الْوَرَثَةَ لَمْ يَلْزَمِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْإِجَارَةِ فَالْمَعْنَى فِيهِ كَالْمَعْنَى فِي الْبَيْعِ .
مَسْأَلَةٌ وَلَا مَعْنَى لِلرَّهْنِ حَتَّى يَكُونَ مَقْبُوضًا مِنْ جَائِزِ الْأَمْرِ حِينَ رُهِنَ وَحِينَ أُقْبِضَ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَلَا مَعْنَى لِلرَّهْنِ حَتَّى يَكُونَ مَقْبُوضًا مِنْ جَائِزِ الْأَمْرِ حِينَ رُهِنَ وَحِينَ أُقْبِضَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الرَّهْنَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْعَقْدِ وَالْقَبْضِ . فَأَمَّا الْعَقْدُ فَهُوَ بَدَلٌ مِنَ الرَّاهِنِ وَقَبُولُهُ مِنَ الْمُرْتَهِنِ عَلَى الْفَوْرِ مِنْ غَيْرِ تَرَاخٍ وَلَا بُعْدٍ ، وَأَمَّا الْقَبْضُ فَهُوَ تَسْلِيمٌ مِنَ الرَّاهِنِ أَوْ وَكِيلِهِ إِلَى الْمُرْتَهِنِ أَوْ وَكِيلِهِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ جَائِزًا فِي الْأَمْرِ عِنْدَ الْعَقْدِ وَالْقَبْضِ في الرهن : أهلية التصرف فيهما وَجَوَازُ أَمْرِهِمَا أَنْ يَجُوزَ تَصَرُّفُهُمَا فِي أَمْوَالِهِمَا بِبُلُوغِهِمَا وَعَقْلِهِمَا وَارْتِفَاعِ الْحَجْرِ عَنْهُمَا ، فَإِذَا كَانَا كَذَلِكَ عِنْدَ الْعَقْدِ وَعِنْدَ الْقَبْضِ فَقَدْ تَمَّ الرَّهْنُ وَصَارَ لَازِمًا لِلرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ . وَإِنْ كَانَا أَوْ أَحَدُهُمَا غَيْرَ جَائِزَيِ الْأَمْرِ عِنْدَ الْعَقْدِ لِصِغَرٍ أَوْ جُنُونٍ أَوْ حَجْرِ حَاكِمٍ ، ثُمَّ جَازَ أَمْرُهُمَا عِنْدَ الْقَبْضِ لَمْ يَجُزْ ، وَكَانَ الْقَبْضُ فَاسِدًا لِفَسَادِ الْعَقْدِ ، وَأَخَذَ قَابِضُ الرَّهْنِ بِرَدِّهِ ، وَلَهُمَا اسْتِئْنَافُ عَقْدِهِ ، وَتَجْدِيدُ قَبْضِهِ . فَلَوْ كَانَا جَائِزَيِ الْأَمْرِ عِنْدَ الْعَقْدِ ، ثُمَّ طَرَأَ الْحَجْرُ عَلَيْهِمَا أَوْ عَلَى أَحَدِهِمَا بِجُنُونٍ أَوْ سَفَهٍ فَتَقَابَضَاهُ كَذَلِكَ فَالْقَبْضُ فَاسِدٌ ، لِأَنَّهُ قَبْضٌ لَا يَجُوزُ إِقْبَاضُهُ ، أَوْ إِلَى مَنْ لَا يَجُوزُ قَبْضُهُ وَلَكِنَّ الْعَقْدَ عَلَى حَالِهِ صَحِيحٌ ، حَتَّى يَتَعَقَّبَهُ قَبْضٌ صَحِيحٌ فَيَلْزَمُ حِينَئِذٍ . فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا كَانَا رَشِيدَيْنِ عِنْدَ الْعَقْدِ وَعِنْدَ الْقَبْضِ ، لَكِنْ تَخَلَّلَ بَيْنَ الْعَقْدِ وَبَيْنَ الْقَبْضِ عَدَمُ رُشْدِهِمَا وَهُوَ أَنْ يَكُونَا عَاقِلَيْنِ ، فَيَعْقِدَا الرَّهْنَ ، ثُمَّ يُجَنُّ أَحَدُهُمَا ، ثُمَّ يَفِيقُ فَيَقْبِضُهُ بَعْدَ الْإِفَاقَةِ ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ : جَوَازُ الرَّهْنِ وَتَمَامُهُ لِوُجُودِ الرُّشْدِ فِي الْعَقْدِ وَالْقَبْضِ ، فَلَمْ يَكُنْ مَا تَخَلَّلَهُمَا مِنَ الْجُنُونِ قَادِحًا فِي صِحَّتِهِ . وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : يَبْطُلُ الْعَقْدُ بِجُنُونِ أَحَدِهِمَا قَبْلَ الْقَبْضِ . قَالَ : لِأَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ
قَبْلَ الْقَبْضِ مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ دُونَ اللَّازِمَةِ ، وَالْعُقُودُ الْجَائِزَةُ تَبْطُلُ بِالْجُنُونِ وَالْمَوْتِ ، كَالْوِكَالَاتِ وَالشِّرْكِ وَالْجَعَالَاتِ وَهَذَا غَلَطٌ : لِأَنَّ الْعُقُودَ الْجَائِزَةَ الَّتِي تَبْطُلُ بِالْجُنُونِ وَالْمَوْتِ مَا لَا يُفْضِي إِلَى اللُّزُومِ ، وَعَقْدُ الرَّهْنِ يُفْضِي إِلَى اللُّزُومِ ، فَلَا يَبْطُلُ بِالْجُنُونِ وَالْمَوْتِ كَالْبَيْعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ . فَصْلٌ : وَإِذَا تَعَاقَدَا الرَّهْنَ وَهُمَا رَشِيدَانِ ثُمَّ جُنَّ الْمُرْتَهِنُ أو الراهن من يتولى إقباض الرهن فَلِوَلِيِّهِ أَنْ يَقْبِضَ الرَّهْنَ مِنَ الرَّاهِنِ ، فَإِذَا قَبَضَهُ فَقَدْ تَمَّ الرَّهْنُ ، وَقَامَ مَقَامَ قَبْضِ الْمُرْتَهِنِ لَهُ وَهُوَ رَشِيدٌ وَعَلَى قَوْلِ مَنْ أَبْطَلَ الْعَقْدَ مِنْ أَصْحَابِنَا بِجُنُونِ أَحَدِهِمَا يُمْنَعُ مِنْ قَبْضِ وَلِيِّ الْمُرْتَهِنِ ، إِلَّا أَنْ يَسْتَأْنِفَ الرَّهْنَ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ . وَلَوْ كَانَ الْمَجْنُونُ مِنْهُمَا هُوَ الرَّاهِنَ فَأَرَادَ وَلِيُّهُ أَنْ يَتَوَلَّى إِقْبَاضَ الرَّهْنِ لِلْمُرْتَهِنِ فَعَلَى قَوْلِ مَنْ أَبْطَلَ الرَّهْنَ بِجُنُونِ أَحَدِهِمَا لَا يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ تَسْلِيمُهُ إِلَى الْمُرْتَهِنِ ، فَإِنْ فَعَلَ ضَمِنَ . فَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، فَيُعْتَبَرُ حَالُ الرَّهْنِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي تَسْلِيمِهِ حَظٌّ لِلرَّاهِنِ لَمْ يَكُنْ لِوَلِيِّهِ أَنْ يُسَلِّمَهُ : لِأَنَّ الرَّهْنَ وَإِنْ كَانَ لَا يَبْطُلُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ بِجُنُونِ أَحَدِهِمَا ، فَتَسْلِيمُهُ وَإِنْ صَحَّ الْعَقْدُ غَيْرُ لَازِمٍ ، وَالْوَلِيُّ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ مَالِهِ مَا لَيْسَ بِلَازِمٍ لَهُ . وَإِنْ كَانَ فِي تَسْلِيمِ الرَّهْنِ حَظٌّ لِلرَّاهِنِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ فِيهِ فَضْلٌ وَإِنْ لَمْ يُسَلَّمِ الرَّهْنُ فَسَخَهُ الْبَائِعُ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ تَسْلِيمُهُ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ لِمَا قَدَّمْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : جَائِزٌ لِمَا يَعُودُ عَلَى الْمَوْلَى عَلَيْهِ مِنَ الْفَضْلِ بِتَسْلِيمِ الرَّهْنِ . فَصْلٌ : فَأَمَّا صِفَةُ الْقَبْضِ فِي الرَّهْنِ ، فَهُوَ مُجَامِعٌ لِلْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ مِنْ وَجْهٍ وَمُخَالِفٌ لَهُ مِنْ وَجْهٍ ، فَالْمَوْضِعُ الَّذِي يُجَامِعُهُ فِيهِ هُوَ قَبْلَ قَبْضِهِ الثَّمَنَ ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي يُخَالِفُهُ فِيهِ هُوَ بَعْدَ قَبْضِ الثَّمَنِ ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقَبْضَ فِي الرَّهْنِ لَا يَصِحُّ حَتَّى يَكُونَ بِإِقْبَاضٍ مِنَ الرَّاهِنِ أَوْ وَكِيلِهِ فِيهِ إِلَى الْمُرْتَهِنِ أَوْ وَكِيلِهِ فِيهِ . فَأَمَّا صِفَةُ الْإِقْبَاضِ مِنْ جِهَةِ الرَّاهِنِ ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ بِحَالِ الرَّهْنِ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَحْتَاجُ إِلَى كَيْلٍ وَلَا وَزْنٍ ، فَإِقْبَاضُ الرَّاهِنِ لَهُ : أَنْ يَأْذَنَ لِلْمُرْتَهِنِ فِي قَبْضِهِ وَيُسَلِّطَهُ عَلَيْهِ . وَقَبْضُ الْمُرْتَهِنِ لَهُ أَنْ يَنْقُلَهُ إِنْ كَانَ مَنْقُولًا ، أَوْ يَتَصَرَّفَ فِي رَقَبَتِهِ دُونَ مَنْفَعَتِهِ إِنْ كَانَ غَيْرَ مَنْقُولٍ . وَتَصَرُّفُهُ فِي رَقَبَتِهِ : أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُ يَدَ مَالِكِهِ ، فَيَتِمُّ الْقَبْضُ هَاهُنَا بِإِذْنِ الرَّاهِنِ وَقَبْضِ الْمُرْتَهِنِ .
وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَى كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ فَهُوَ كَأَنْ يَرْهَنَهُ قَفِيزًا مِنْ صَبْرَةٍ فَلَا يَتِمُّ إِقْبَاضُ الرَّاهِنِ لَهُ بِمُجَرَّدِ الْإِذْنِ لِلْمُرْتَهِنِ حَتَّى يَتَوَلَّى كَيْلَهُ لَهُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِوَكِيلِهِ وَيَتَوَلَّى الْمُرْتَهِنُ اكْتِيَالَهُ مِنْهُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِوَكِيلِهِ فَيَتِمُّ الْقَبْضُ بِفِعْلِهِمَا جَمِيعًا . فَلَوْ قَبَضَهُ الْمُرْتَهِنُ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَوَلَّى كَيْلَهُ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ ، أَوْ بِوَكِيلِهِ ، لَمْ يَصِحَّ الْقَبْضُ ، وَلَمْ يَتِمَّ الرَّهْنُ . وَكَذَا كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ الرَّاهِنُ : قَدْ وَكَلْتُكَ فِي قَبْضِهِ لِنَفْسِكَ لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَابِضًا مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ . وَكَذَلِكَ لَوْ وَكَّلَ الرَّاهِنُ رَجُلًا أَنْ يَقْبِضَ عَنْهُ ، وَوَكَّلَهُ الْمُرْتَهِنُ أَنْ يَقْبِضَ لَهُ صَارَ ذَلِكَ الْوَكِيلُ نَائِبًا عَنِ الرَّاهِنِ فِي الْإِقْبَاضِ عَنْهُ ، وَنَائِبًا عَنِ الْمُرْتَهِنِ فِي الْقَبْضِ لَهُ لَمْ يَجُزْ ، وَكَانَ هَذَا قَبْضًا فَاسِدًا لَا يَتِمُّ بِهِ الرَّهْنُ ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ قَابِضًا مِنْ نَفْسِهِ ، وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ . فَأَمَّا الْقَبْضُ فِي الْبَيْعِ فَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا ، فَلَا بُدَّ مِنْ إِقْبَاضِ الْبَائِعِ بِنَفْسِهِ ، أَوْ بِوَكِيلِهِ أَوْ قَبْضِ الْمُشْتَرِي بِنَفْسِهِ أَوْ بِوَكِيلِهِ كَمَا قُلْنَا فِي الرَّهْنِ ، سَوَاءٌ قَبَضَ الْبَائِعُ الثَّمَنَ أَمْ لَا . فَإِنْ تَسَلَّطَ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ فَقَبَضَهُ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ إِقْبَاضِ الْبَائِعِ ، لَمْ يَصِحَّ الْقَبْضُ لَكِنْ يَصِيرُ فِي ضَمَانِهِ وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ غَيْرَ مَكِيلٍ وَلَا مَوْزُونٍ فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ لَمْ يَقْبِضِ الثَّمَنَ لَمْ يَصِحَّ قَبْضُ الْمُشْتَرِي لَهُ إِلَّا بِإِذْنِ الْبَائِعِ ، كَمَا قُلْنَا فِي الرَّهْنِ ، فَإِنْ قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الْبَائِعِ ، كَانَ قَبْضًا فَاسِدًا ، وَكَانَ لِلْبَائِعِ انْتِزَاعُهُ مِنْ يَدِهِ ، لِأَنَّ لِلْبَائِعِ أَنْ يَحْبِسَهُ عَلَى ثَمَنِهِ . وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ قَدْ قَبَضَ الثَّمَنَ ، فَالْقَبْضُ فِيهِ يَصِحُّ بِقَبْضِ الْمُشْتَرِي لَهُ سَوَاءٌ أَذِنَ الْبَائِعُ لَهُ فِي قَبْضِهِ أَمْ لَا ، لِأَنَّهُ بِقَبْضِ ثَمَنِهِ قَدْ لَزِمَهُ رَفْعُ يَدِهِ ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ حَقٌّ فِي مَنْعِهِ ، فَلَمْ تَفْتَقِرْ صِحَّةُ الْقَبْضِ إِلَى إِذْنِهِ . فَصْلٌ : أَمَّا مَا يُفْسِدُ الرَّهْنَ بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ فَأُمُورٌ : مِنْهَا : أَنْ يَبِيعَهُ الرَّاهِنُ بَعْدَ رَهْنِهِ وَقَبْلَ قَبْضِهِ فَيَبْطُلُ عَقْدُ الرَّهْنِ . وَمِنْهَا : أَنْ يَقِفَهُ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ، أَوْ عَلَى قَوْمٍ مُعَيَّنِينَ . وَمِنْهَا : أَنْ يَجْعَلَهُ صَدَاقًا لِزَوْجَتِهِ . وَمِنْهَا : أَنْ يُقِرَّ بِهِ لِرَجُلٍ . وَمِنْهَا : أَنْ يَكُونَ عَبْدًا فَيُعْتِقُهُ أَوْ يُكَاتِبُهُ ، فَيَبْطُلُ الرَّهْنُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا لِزَوَالِ مِلْكِهِ فِيمَا سِوَى الْمُكَاتَبِ وَعَدَمِ تَصَرُّفِهِ فِي الْمُكَاتَبِ فَإِنْ كَانَ عَبْدًا فَدَبَّرَهُ فَهَلْ يَبْطُلُ عَقْدُ الرَّهْنِ أَمْ لَا ؟ مَا يُفْسِدُ الرَّهْنَ بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ عَلَى قَوْلَيْنِ .
أَحَدُهُمَا : يَبْطُلُ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِهِ ، وَجَوَازِ تَصَرُّفِهِ ، فَالتَّدْبِيرُ تَصَرُّفٌ يُخَالِفُهُ عَقْدُ الرَّهْنِ فَأَبْطَلَهُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الرَّهْنَ لَا يَبْطُلُ ، لِاسْتِوَاءِ تَصَرُّفِهِ فِيهِ قَبْلَ التَّدْبِيرِ وَبَعْدَهُ ، فَلَوْ وَهَبَهُ وَأَقْبَضَهُ أَوْ رَهَنَهُ مِنْ غَيْرِهِ وَأَقْبَضَهُ بَطَلَ رَهْنُ الْأَوَّلِ بِزَوَالِ مِلْكِهِ بِالْهِبَةِ وَانْعِدَامِ تَصَرُّفِهِ بِالرَّهْنِ ، وَلَكِنْ لَوْ وَهَبَهُ وَلَمْ يَقْبِضْهُ أَوْ رَهَنَهُ وَلَمْ يَقْبِضْهُ ، كَانَ فِي بُطْلَانِ الرَّهْنِ قَوْلَانِ كَالتَّدْبِيرِ . وَأَمَّا إِذَا آجَرَهُ فَلَا يَبْطُلُ عَقْدُ الرَّهْنِ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُؤَاجِرَهُ بَعْدَ الْقَبْضِ ، لَمْ يَبْطُلْ بِإِجَارَتِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَلَوْ كَانَتْ أَمَةً فَزَوَّجَهَا أي الراهن لَمْ يَبْطُلْ عَقْدُ الرَّهْنِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَبْطُلِ الرَّهْنُ بِتَزْوِيجِهَا بَعْدَ الْقَبْضِ ؛ لَمْ يَبْطُلْ بِتَزْوِيجِهَا قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَلَوْ وَطِئَهَا الرَّاهِنُ فَإِنْ حَبِلَتْ مِنْ وَطْئِهِ بَطَلَ الرَّهْنُ ، وَإِنْ لَمْ تَحْبَلْ لَمْ يَبْطُلِ الرَّهْنُ . فَإِنْ قِيلَ : لَوْ وَطِئَهَا الْبَائِعُ فِي مُدَّةِ خِيَارِهِ كَانَ وَطْؤُهُ فَسْخًا لِلْبَيْعِ فَهَلَّا كَانَ وَطْءُ الرَّاهِنِ قَبْلَ الْقَبْضِ مُبْطِلًا لِلرَّهْنِ ؟ قِيلَ : لِأَنَّ وَطْءَ الْبَائِعِ يُنَافِي الْبَيْعَ ، فَكَانَ فَسْخًا وَلَيْسَ وَطْءُ الرَّاهِنِ يُنَافِي الرَّهْنَ وَإِنَّمَا يَمْنَعُ مِنْهُ بِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ فَإِذَا أَذِنَ لَهُ جَازَ . وَقَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يَلْزَمْ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ وَلَيْسَ الْوَطْءُ مُنَافِيًا لَهُ فَلَمْ يَكُنْ فَسْخًا .
مَسْأَلَةٌ مَا جَازَ بَيْعُهُ جَازَ رَهْنُهُ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَا جَازَ بَيْعُهُ جَازَ رَهْنُهُ وَقَبْضُهُ مِنْ مُشَاعٍ وَغَيْرِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : شَرْحُ الْمَذْهَبِ فِيهَا . وَالثَّانِي : ذِكْرُ الْخِلَافِ الْمُتَعَلِّقَ بِهَا . فَأَمَّا شَرْحُ الْمَذْهَبِ فَقَوْلُهُ : وَمَا جَازَ بَيْعُهُ جَازَ رَهْنُهُ . فَهَذِهِ هِيَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ . وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَرْوِي ذَلِكَ : وَمَنْ جَازَ بَيْعُهُ جَازَ رَهْنُهُ ، فَيَجْعَلُ ذَلِكَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ : وَلَا مَعْنَى لِلرَّهْنِ حَتَّى يَكُونَ مَقْبُوضًا مِنْ جَائِزِ الْأَمْرِ حِينَ رُهِنَ ، وَحِينَ أُقْبِضَ . وَمَنْ جَازَ بَيْعُهُ جَازَ رَهْنُهُ ، فَيَجْعَلُ الْجَائِزَ الْأَمْرِ فِي الرَّهْنِ مَنْ جَازَ بَيْعُهُ ، وَمَنْ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ لَمْ يَجُزْ رَهْنُهُ مِثْلُ الْمَجْنُونِ وَالصَّغِيرِ ، وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ فَيَكُونُ هَذَا مُسْتَمِرًّا . وَعَلَى الْقِيَاسِ مُطَّرِدًا ، فَيَكُونُ كُلُّ مَنْ جَازَ بَيْعُهُ جَازَ رَهْنُهُ ، وَكُلُّ مَنْ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ لَمْ يَجُزْ رَهْنُهُ . قَالُوا : وَمَعْنَى قَوْلِهِ : مِنْ مُشَاعٍ وَغَيْرِهِ يَعْنِي فِي مُشَاعٍ وَغَيْرِهِ .
وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى أَصَحُّ ، وَهِيَ الْمَشْهُورَةُ عَنْهُ . وَمَا جَازَ بَيْعُهُ جَازَ رَهْنُهُ يَعْنِي : أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ كَانَ بَيْعُهُ جَائِزًا كَانَ رَهْنُهُ جَائِزًا وَكُلُّ شَيْءٍ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ لَمْ يَجُزْ رَهْنُهُ مِنَ الْأَجْنَاشِ أَوِ الْأَنْجَاشِ وَأُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ يَجُوزُ بَيْعُ مَا لَا يَجُوزُ رَهْنُهُ كَالْمُدَبَّرِ وَالْمُعْتَقِ نِصْفُهُ وَالطَّعَامِ الرَّطْبِ الْمَرْهُونِ إِلَى أَجَلٍ يَفْسَدُ فِيهِ . وَقَدْ يَجُوزُ رَهْنُ مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَالْأَمَةِ دُونَ وَلَدِهَا الصَّغِيرِ وَالثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ الْقَطْعِ فَلِأَصْحَابِنَا فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَصَدَ بِذَلِكَ مَا أَفْصَحَ بِهِ فِي آخِرِ كَلَامِهِ مِنْ رَهْنِ الْمُشَاعِ رَدًّا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ أَجَازَ بَيْعَ الْمُشَاعِ وَمَنَعَ مِنْ رَهْنِهِ فَقَالَ : وَمَا جَازَ بَيْعُهُ جَازَ رَهْنُهُ مِنْ مُشَاعٍ وَغَيْرِهِ ، فَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ فَلَا . الْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ غَالِبَ الْأَشْيَاءِ أَنَّ مَا جَازَ بَيْعُهُ جَازَ رَهْنُهُ وَمَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ لَمْ يَجُزْ رَهْنُهُ ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْهَا مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا يَجُوزُ رَهْنُهُ ، وَمَا يَجُوزُ رَهْنُهُ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ ، لَكِنَّ الْغَالِبَ بِخِلَافِهِ ، فَجَعَلَ قَائِلُ هَذَا الْجَوَابِ جُمْلَةَ الْأَشْيَاءِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ من حيث البيع والرهن : ضَرْبٌ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَرَهْنُهُ كَالْأَمْلَاكِ الْمُطْلَقَةِ . وَضَرْبٌ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا رَهْنُهُ كَالْأَوْقَافِ وَأُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ . وَضَرْبٌ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا يَجُوزُ رَهْنُهُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ كَالْمُدَبَّرِ وَالْمُعْتَقِ نِصْفُهُ . وَضَرْبٌ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَيَجُوزُ رَهْنُهُ ، كَالْأَمَةِ دُونَ وَلَدِهَا ، وَالثَّمَرَةِ مُطْلَقًا دُونَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا . وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا : أَنَّ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ مَحْمُولٌ عَلَى صِفَتِهِ ، وَكُلُّ مَا جَازَ بَيْعُهُ جَازَ رَهْنُهُ قِيَاسًا مُطَّرِدًا ، وَاعْتِبَارًا صَحِيحًا ، وَمَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ لَمْ يَجُزْ رَهْنُهُ . وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ جَوَازِ رَهْنِ مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَالْأَمَةِ ذَاتِ الْوَلَدِ ، وَالثَّمَرَةِ مُطْلَقًا قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا فَغَلَطٌ : لِأَنَّ بَيْعَ ذَلِكَ يَجُوزُ ، فَتُبَاعُ الْأَمَةُ مَعَ وَلَدِهَا ، وَالثَّمَرَةُ بِشَرْطِ قَطْعِهَا فَصَارَ بَيْعُ ذَلِكَ جَائِزًا ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ صِفَاتُهُ وَأَحْوَالُهُ . وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ جَوَازِ بَيْعِ مَا لَا يَجُوزُ رَهْنُهُ كَالْمُدَبَّرِ وَالْمُعْتَقِ نِصْفُهُ ، فَفِي جَوَازِ رَهْنِ الْمُدَبَّرِ وَالْمُعْتَقِ نِصْفُهُ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ ، فَعَلَى هَذَا قَدِ اسْتَمَرَّ الْجَوَابُ ، وَسَقَطَ السُّؤَالُ . وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَرْهَنَهُ الْمُشْتَرِي وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْهَنَهُ الْبَائِعُ فَصَارَ رَهْنُهُ جَائِزًا وَإِنْ كَانَ فِي أَحْوَالِ مُرْتَهَنِهِ مُخْتَلِفًا فَهَذَا جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي شَرْحِ الْمَذْهَبِ وَتَفْسِيرِ كَلَامِهِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْخِلَافُ الْمُتَعَلِّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَهُوَ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : هَلِ اسْتِدَامَةُ قَبْضِ الرَّهْنِ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهِ أَمْ لَا ؟ وَالثَّانِي : هَلْ رَهْنُ الْمُشَاعِ جَائِزٌ أَمْ لَا ؟ فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي اسْتِدَامَةِ الْقَبْضِ فَتَقْدِيمُ الْكَلَامِ فِيهِ أَوْلَى لِأَنَّهُ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَصْلٌ يُنْشِئُ بُطْلَانَ رَهْنِ الْمُشَاعِ عَلَيْهِ ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ : أَنَّ اسْتِدَامَةَ قَبْضِ الرَّهْنِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي صِحَّةِ الرَّهْنِ ، فَإِنْ خَرَجَ الرَّهْنُ مِنْ يَدِ الْمُرْتَهِنِ بِاسْتِحْقَاقٍ كَالْإِجَارَةِ ، أَوْ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ كَالْإِعَارَةِ أَوِ الْغَصْبِ لَمْ يَبْطُلِ الرَّهْنُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : اسْتِدَامَةُ قَبْضِ الرَّهْنِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الرَّهْنِ ، فَإِنْ خَرَجَ مِنْ يَدِ الْمُرْتَهِنِ بِاسْتِحْقَاقٍ كَالْإِجَارَةِ أُبْطِلَ الرَّهْنُ ، وَإِنْ خَرَجَ مِنْ يَدِهِ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ كَالْغَصْبِ وَالْإِعَارَةِ لَمْ يَبْطُلِ الرَّهْنُ ، لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى انْتِزَاعِهِ إِذَا خَرَجَ بِاسْتِحْقَاقٍ أَوْ يَقْدِرُ عَلَى انْتِزَاعِهِ إِذَا خَرَجَ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ . وَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ اسْتِدَامَةَ الْقَبْضِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الرَّهْنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [ الْبَقَرَةِ : 283 ] فَجَعَلَهُ بِالْقَبْضِ وَثِيقَةً لِلْمُرْتَهِنِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ زَوَالَ الْقَبْضِ يُزِيلُ وَثِيقَةَ الْمُرْتَهِنِ . وَلِأَنَّهُ مُحْتَبِسٌ بِحَقِّ الِاسْتِيفَاءِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ زَوَالُ الْيَدِ عَنْهُ مُزِيلًا لِحَقِّ الِاسْتِيفَاءِ مِنْهُ أَصْلُهُ : الْمَبِيعُ الْمُحْتَبِسُ فِي يَدِ بَائِعِهِ لِاسْتِيفَاءِ ثَمَنِهِ . وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِعَقْدِ الرَّهْنِ حُصُولُ الِاحْتِبَاسِ وَالْقَبْضِ كَمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْبَيْعِ حُصُولُ الْمِلْكِ وَالْيَدِ ثُمَّ كَانَتِ اسْتِدَامَةُ الْمِلْكِ فِي الْبَيْعِ مِنْ مُوجِبِهِ وَمُقْتَضَاهُ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ اسْتِدَامَةُ الْقَبْضِ فِي الرَّهْنِ مِنْ مُوجِبِهِ وَمُقْتَضَاهُ . وَلِأَنَّ الرَّهْنَ قَبْلَ الْقَبْضِ غَيْرُ لَازِمٍ ، فَإِنْ قُبِضَ صَارَ لَازِمًا ، فَلَمَّا كَانَ لُزُومُهُ بِالْقَبْضِ ، وَجَبَ أَنْ يَزُولَ لُزُومُهُ بِزَوَالِ الْقَبْضِ . وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الرَّهْنُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا ، وَلَبَنُ الدَّرِ يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا ، وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُ وَيَشْرَبُ النَفَقَةُ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّهْنَ مَرْكُوبًا وَمَحْلُوبًا وَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِلرَّاهِنِ أَوْ لِلْمُرْتَهِنِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ نَجْعَلَ ذَلِكَ لِلْمُرْتَهِنِ لِأَمْرَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : إِجْمَاعُهُمْ عَلَى أَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ جَعَلَ عَلَى الرَّاكِبِ وَالشَّارِبِ نَفَقَةَ الرَّهْنِ ، وَالنَّفَقَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى الرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ ، فَثَبَتَ بِهَذَيْنِ جَوَازُ ذَلِكَ لِلرَّاهِنِ ، فَصَارَ مُسْتَحِقًّا لِإِزَالَةِ يَدِ الْمُرْتَهِنِ عَنْهُ ، ثُمَّ لَمْ يَزُلْ حُكْمُ الرَّهْنِ عَنْهُ فَثَبَتَ أَنَّ اسْتِدَامَةَ قَبْضِهِ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي صِحَّتِهِ ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ مِنْ شَرْطِ لُزُومِهِ الْقَبْضُ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهِ اسْتِدَامَةُ الْقَبْضِ كَالْهِبَةِ وَالصَّرْفِ ، وَلِأَنَّ الْقَبْضَ فِي الرَّهْنِ أَوْسَعُ مِنَ الْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ ، لِجَوَازِ اشْتِرَاطِ الرَّهْنِ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ ، فَلَمَّا لَمْ تَكُنِ اسْتِدَامَةُ الْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ مَعَ قُوَّتِهِ شَرْطًا فِي صِحَّتِهِ : فَلَأَنْ لَا تَكُونُ اسْتِدَامَةُ الْقَبْضِ فِي الرَّهْنِ مَعَ ضَعْفِهِ شَرْطًا فِي صِحَّتِهِ أَوْلَى ، وَلِأَنَّ مَنْ جَعَلَ اسْتِدَامَةَ الْقَبْضِ فِيهِ شَرْطًا فَلَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ اسْتِدَامَةُ قَبْضِهِ مُشَاهَدَةً أَوْ حُكْمًا ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ فِي صِحَّةِ اسْتِدَامَةِ قَبْضِهِ مُشَاهَدَةً ، لِجَوَازِ خُرُوجِهِ مِنْ يَدِهِ بِعَارِيَةٍ أَوْ عَلَى يَدِ عَدْلٍ ، فَثَبَتَ أَنَّ الشَّرْطَ فِي صِحَّةِ اسْتِدَامَةِ قَبْضِهِ حُكْمًا ، وَهَذَا شَرْطٌ مُعْتَبَرٌ عِنْدَنَا ، لِأَنَّهُ وَإِنْ خَرَجَ مِنْ يَدِهِ بِاسْتِحْقَاقٍ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَقْبُوضِ لَهُ ، لِأَنَّهُ لَا يُخْرَجُ عَنْ سُلْطَانِ الْمُرْتَهِنِ وَلَا يُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [ الْبَقَرَةِ : 283 ] فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ ، لِأَنَّهُ جَعَلَ الرَّهْنَ وَثِيقَةً بِحُصُولِ الْقَبْضِ ، فَإِذَا حَصَلَ الْقَبْضُ مَرَّةً فَقَدِ اسْتَقَرَّ الْقَبْضُ وَحَصَلَ الرَّهْنُ وَثِيقَةً أَبَدًا . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمَبِيعِ فِي يَدِ بَائِعِهِ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ ، لِأَنَّ الْمَبِيعَ الْمَحْبُوسَ بِحَقِّ الْيَدِ لَا الْعَقْدِ ، فَإِذَا زَالَتِ الْيَدُ زَالَ حُكْمُ الِاحْتِبَاسِ وَالرَّهْنُ مَحْبُوسٌ بِحَقِّ الْعَقْدِ وَالْقَبْضِ ، فَإِذَا زَالَ اسْتِصْحَابُهُ لَمْ يَبْطُلِ الْعَقْدُ الْمُقْتَرِنُ بِهِ كَقَبْضِ الْهِبَاتِ وَالصَّرْفِ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّ الْمَقْصُودَ بِعَقْدِ الرَّهْنِ حُصُولُ الِاحْتِبَاسِ وَالْقَبْضُ كَالْمِلْكِ فِي الْبَيْعِ ، فَحُجَّةٌ تُعْكَسُ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَكُنِ اسْتِدَامَةُ الْمِلْكِ فِي الْبَيْعِ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ ، بَلْ لَوْ شَرَطَ أَلَّا يُزِيلَ الْمُشْتَرِي مِلْكَهُ عَنِ الْمَبِيعِ بَطَلَ الْعَقْدُ وَجَبَ أَلَّا تَكُونَ اسْتِدَامَةُ الْقَبْضِ فِي الرَّهْنِ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّ لُزُومَهُ لَمَّا كَانَ بِالْقَبْضِ وَجَبَ أَنْ يَزُولَ لُزُومُهُ بِزَوَالِ الْقَبْضِ ، فَبَاطِلٌ بِالْعَارِيَةِ فَإِنَّهُ قَدْ زَالَ بِهَا الْقَبْضُ وَلَمْ يَزُلْ بِهَا لُزُومُ الرَّهْنِ عَلَى قَوْلِنَا إِنَّ لُزُومَهُ كَانَ بِالْقَبْضِ لَا بِاسْتِدَامَةِ الْقَبْضِ ، وَخُرُوجُهُ مِنْ يَدِهِ يُزِيلُ اسْتِدَامَةَ الْقَبْضِ وَلَا يُزِيلُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْقَبْضِ فَلَمْ يَزُلْ مَا بِهِ لَزِمَ عَلَى أَنَّ حُكْمَ قَبْضِهِ مُسْتَدَامٌ . فَصْلٌ : فَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي فِي رَهْنِ الْمُشَاعِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ : جَوَازُ رَهْنِ الْمُشَاعِ مِنَ الشَّرِيكِ ، وَغَيْرِ الشَّرِيكِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : رَهْنُ الْمُشَاعِ يَصِحُّ مِنَ الشَّرِيكِ ، وَلَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ الشَّرِيكِ . قَالَ : لِأَنَّ رَهْنَهُ مِنْ غَيْرِ الشَّرِيكِ يُوجِبُ مُهَايَأَةً بَيْنَ الْمُرْتَهِنِ وَالشَّرِيكِ ، وَالْمُهَايَأَةُ تُوجِبُ انْتِزَاعَ الرَّهْنِ مِنْ يَدِ الْمُرْتَهِنِ بِاسْتِحْقَاقٍ قَارَنَ الْعَقْدَ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَانِعًا مِنْ صِحَّةِ الرَّهْنِ ، أَصْلُهُ ، إِذَا رَهَنَ شَيْئًا مَغْصُوبًا . قَالَ : وَلِأَنَّ الْمُهَايَأَةَ تُوجِبُ تَسْلِيمَهُ إِلَى الْمُرْتَهِنِ يَوْمًا وَانْتِزَاعَهُ مِنْ يَدِهِ يَوْمًا ، وَلَوْ شَرَطَ هَذَا فِي عَقْدِ الرَّهْنِ كَانَ بَاطِلًا ، فَكَذَا إِذَا اسْتَحَقَّ هَذَا بِعَقْدِ الرَّهْنِ كَانَ بَاطِلًا . وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّ كُلَّ مَا جَازَ بَيْعُهُ جَازَ رَهْنُهُ كَالْمُجَوَّزِ فَإِنْ قِيلَ : فَالْخِلَافُ فِي صِحَّةِ قَبْضِهِ لَا فِي صِحَّةِ عَقْدِهِ ، قُلْنَا : كُلُّ مَا صَحَّ أَنْ يَكُونَ مَقْبُوضًا فِي الْبَيْعِ صَحَّ أَنْ يَكُونَ مَقْبُوضًا فِي الرَّهْنِ كَالْمَحُوزِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ رَهَنَ شَيْئًا مَحُوزًا عِنْدَ رَجُلَيْنِ جَازَ الرَّهْنُ وَإِنْ كَانَ نِصْفُهُ مُشَاعًا رَهْنًا عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الرَّجُلَيْنِ فَكَذَا إِذَا كَانَ النِّصْفُ مِنْهُ مُشَاعًا رَهْنًا وَالنِّصْفُ الْآخَرُ مُطْلَقًا . وَتَحْرِيرُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسًا : أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ جَازَ لَهُ أَنْ يُرْهَنَ جَمِيعُهُ عِنْدَ شَخْصٍ جَازَ لَهُ أَنْ يُرْهَنَ بَعْضُهُ مُشَاعًا عِنْدَ ذَلِكَ الشَّخْصِ . أَصْلُهُ : إِذَا رَهَنَ الْمَحُوزَ عِنْدَ رَجُلَيْنِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى رَهْنِ الْمَغْصُوبِ بِعِلَّةِ أَنَّ الْمُهَايَأَةَ وَاجِبَةٌ ، وَهِيَ تُوجِبُ انْتِزَاعًا مِنَ الْيَدِ . قُلْنَا : الْمُهَايَأَةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عِنْدَنَا لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَنْفَعَةَ الشَّيْءِ بَيْنَ الْمَالِكَيْنَ ، فَلَمْ يُلْزَمْ أَحَدُهُمَا أَنْ يُعَارِضَ عَلَى مَنْفَعَةِ مِلْكِهِ بِمَا يَعْتَاضُهُ مِنْ مَنْفَعَةِ مِلْكِ صَاحِبِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ فِي الْمُهَايَأَةِ تَعْجِيلًا لِحَقٍّ مُؤَجَّلٍ وَتَأْجِيلًا لِحَقٍّ مُعَجَّلٍ ، وَتَعْجِيلُ مَا كَانَ مُؤَجَّلًا ، وَتَأْجِيلُ مَا كَانَ مُعَجَّلًا غَيْرُ وَاجِبٍ ، وَلَوْ وَجَبَتِ الْمُهَايَأَةُ لَكَانَ الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَغْصُوبَ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ مِنْ ثَمَنِهِ فَلَمْ يَجُزْ رَهْنُهُ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُشَاعُ بَعْدَ الْمُهَايَأَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْقَبْضَ فِي الْمَغْصُوبِ لَمْ يَصِحَّ فَيَلْزَمُ بِهِ الرَّهْنُ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُشَاعُ بَعْدَ الْمُهَايَأَةِ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ يَوْمًا رَهْنًا ، وَيَوْمًا غَيْرَ رَهْنٍ ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ ، لِأَنَّهُ
رَهْنٌ فِي جَمِيعِ الْأَيَّامِ ، وَقَبْضُهُ حُكْمٌ مُسْتَدَامٌ ، وَخُرُوجُهُ فِي يَوْمِ الْمُهَايَأَةِ عَنْ يَدِهِ لَا يُزِيلُ حُكْمَ قَبْضِهِ عَنْهُ ، وَإِنْ حَصَلَ فِي يَدِ غَيْرِهِ ، فَصَارَ كَمَنْ رَهَنَ شَيْئًا عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ فِي يَدِ مُرْتَهِنِهِ يَوْمًا وَعَلَى يَدِ عَدْلٍ يَوْمًا لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنْ صِحَّةِ الرَّهْنِ وَكَانَ هَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ : أُرْهِنُكَ يَوْمًا وَأَسْتَرْجِعُهُ مِنْكَ يَوْمًا .
مَسْأَلَةٌ لَوْ مَاتَ الْمُرْتَهِنُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلِلرَّاهِنِ تَسْلِيمُ الرَّهْنِ إِلَى وَارِثِهِ وَمَنْعُهُ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَلَوْ مَاتَ الْمُرْتَهِنُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلِلرَّاهِنِ تَسْلِيمُ الرَّهْنِ إِلَى وَارِثِهِ وَمَنْعُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : مَوْتُ الرَّاهِنِ أَوِ الْمُرْتَهِنِ بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ إِذَا مَاتَ الرَّاهِنُ أَوِ الْمُرْتَهِنُ بَعْدَ عَقْدِ الرَّهْنِ ، وَقَبْلَ قَبْضِهِ : فَظَاهِرُ نَصِّهِ هَاهُنَا أَنَّ الرَّهْنَ لَا يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْمُرْتَهِنِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَظَاهِرُ نَصِّهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : أَنَّ الرَّهْنَ يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الرَّاهِنِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَفَسَخَ الرَّهْنَ بِمَوْتِ الرَّاهِنِ ، وَلَمْ يَفْسَخْهُ بِمَوْتِ الْمُرْتَهِنِ . فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا : فَكَانَ بَعْضُهُمْ يَنْقُلُ جَوَابَهُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَوْضِعَيْنِ إِلَى الْآخَرِ فَيَخْرُجُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَنْفَسِخُ الرَّهْنُ بِمَوْتِ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ جَمِيعًا ، لِأَنَّ الرَّهْنَ قَبْلَ الْقَبْضِ مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ ، وَالْعُقُودُ الْجَائِزَةُ تَنْفَسِخُ بِالْمَوْتِ كَالشَّرِكَةِ وَالْوَكَالَاتِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الرَّاهِنِ ، وَلَا بِمَوْتِ الْمُرْتَهِنِ ، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ فَهُوَ يُفْضِي إِلَى اللُّزُومِ ، وَمَا أَفْضَى إِلَى اللُّزُومِ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا لَا يَنْفَسِخُ بِالْمَوْتِ كَالْبَيْعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ ، وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ . وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا : لَيْسَتِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ بَلِ الْكَلَامُ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَهُوَ أَنْ يَنْفَسِخَ الرَّهْنُ بِمَوْتِ الرَّاهِنِ ، وَلَا يَنْفَسِخَ بِمَوْتِ الْمُرْتَهِنِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ الْمُرْتَهِنَ هُوَ صَاحِبُ الدَّيْنِ ، وَمَنْ لَهُ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ فَمَاتَ لَمْ يَحِلَّ بِمَوْتِهِ وَكَانَ دَيْنُ الْمُرْتَهِنِ مُؤَجَّلًا بَعْدَ مَوْتِهِ كَمَا كَانَ مُؤَجَّلًا قَبْلَ مَوْتِهِ وَكَانَ الرَّاهِنُ الْمَعْقُودُ فِيهِ قَبْلَ مَوْتِهِ بَاقِيًا عَلَى حَالِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَنْفَسِخْ بِمَوْتِهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الرَّاهِنُ : لِأَنَّ الدَّيْنَ عَلَيْهِ ، فَإِنْ مَاتَ حَلَّ الدَّيْنُ بِمَوْتِهِ ، فَاسْتَحَقَّ مُطَالَبَةَ الْوَرَثَةِ بِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ لِبَقَاءِ الرَّهْنِ مَعْنًى ، كَذَلِكَ الْفَسْخُ . فَصْلٌ : فَإِذَا قُلْنَا : إِنَّ الرَّهْنَ قَدِ انْفَسَخَ بِمَوْتِ الرَّاهِنِ أَوِ الْمُرْتَهِنِ فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَشْرُوطٍ فَيَ بَيْعٍ فَلَا مَقَالَ .
وَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ كَانَ الْبَائِعُ الْمُرْتَهِنُ أَوْ وَارِثُهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِلَا رَهْنٍ وَبَيْنَ فَسْخِهِ . فَإِنْ أَحَبَّ وَرَثَةُ الرَّاهِنِ إِقْبَاضَ الرَّهْنِ لِلْمُرْتَهِنِ ، فَهُوَ مُسْتَأْنِفٌ لِعَقْدِهِ لِفَسْخِ الْعَقْدِ الْمُتَقَدِّمِ وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ رَهْنَهُ لِجَوَازِ أَمْرِهِ وَكَمَالِ تَصَرُّفِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ وَأَرْبَابِ الْوَصَايَا جَازَ أَنْ يَسْتَأْنِفَهُ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ وَقَبْضٍ ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَلَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ الْبَائِعِ لِحُصُولِ مَا شَرَطَهُ مِنَ الرَّهْنِ . وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ لَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ وَإِنْ أَجَابَ الْوَرَثَةُ إِلَى إِقْبَاضِهِ ، لِأَنَّ فَسْخَ الرَّهْنِ قَدْ أَوْجَبَ لَهُ خِيَارًا فِي الْبَيْعِ ، فَلَمْ يُسْقِطْهُ مَا حَدَثَ مِنْ تَطَوُّعِ الْوَارِثِ بِالرَّهْنِ ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْوَارِثُ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ أَمْرُهُ ، أَوْ تَعَلَّقَ بِالرَّهْنِ دُيُونٌ أَوْ وَصَايَا لَمْ يَجُزْ لِلْوَارِثِ وَلَا لِوَلِيِّهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ عَقْدَ الرَّهْنِ فِيهِ وَإِقْبَاضَهُ ، وَيَكُونُ الْمُرْتَهِنُ الْبَائِعُ بِالْخِيَارِ . فَصْلٌ : وَإِذَا قِيلَ : إِنَّ الرَّهْنَ لَا يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الرَّاهِنِ ، وَلَا بِمَوْتِ الْمُرْتَهِنِ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ هُوَ الرَّاهِنُ ، أَوِ الْمُرْتَهِنُ ، أَوْ هُمَا جَمِيعًا . فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ هُوَ الرَّاهِنُ ، حال الرهن فَلَا يَخْلُو حَالُ الرَّهْنِ مِنْ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ دُيُونٌ أَوْ وَصَايَا أَوْ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ . فَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ دُيُونٌ أَوْ وَصَايَا لَمْ يَجُزْ لِوَرَثَةِ الرَّاهِنِ أَنْ يُقْبِضُوا الرَّهْنَ لِلْمُرْتَهِنِ مَا لَمْ تُوفَّ حُقُوقُ أَرْبَابِ الدَّيْنِ وَأَهْلِ الْوَصَايَا ، وَيَكُونُ الْمُرْتَهِنُ الْبَائِعُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِلَا رَهْنٍ ، وَبَيْنَ فَسْخِهِ إِنْ كَانَ الرَّهْنُ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ . وَإِنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالرَّهْنِ دُيُونٌ وَلَا وَصَايَا ، حالة وفاة الراهن فَلَا يَخْلُو حَالُ الْوَارِثِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَجُوزُ أَمْرُهُ لِبُلُوغِهِ وَرُشْدِهِ ، أَوْ يَكُونُ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ أَمْرُهُ إِمَّا لِصِغَرِهِ وَإِمَّا لِعَدَمِ رُشْدِهِ . فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَجُوزُ أَمْرُهُ ، فَهُوَ بِالْخِيَارِ ، إِنْ شَاءَ أَقْبَضَ الْمُرْتَهِنَ الرَّهْنَ ، وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُ ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الَّذِي تَوَلَّى الْعَقْدَ مُخَيَّرًا فَوَارِثُهُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مُخَيَّرًا . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِقْبَاضِ الرَّهْنِ وَبَيْنَ مَنْعِهِ ، فَإِنْ مَنَعَهُ فَالْمُرْتَهِنُ بِالْخِيَارِ إِنْ كَانَ الرَّهْنُ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِلَا رَهْنٍ وَبَيْنَ فَسْخِهِ . فَإِنْ أَقْبَضَهُ الرَّهْنَ فَذَلِكَ لَهُ بِالْعَقْدِ الْمُتَقَدِّمِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ لَهُ عَقْدًا جَدِيدًا لِصِحَّةِ الْعَقْدِ الْمُتَقَدِّمِ وَسَوَاءٌ كَانَ لِلْوَارِثِ الرَّاهِنِ حَظٌّ فِي إِقْبَاضِهِ أَمْ لَا لِجَوَازِ تَصَرُّفِهِ فِي مَالِهِ كَيْفَ شَاءَ .
فَإِذَا قَبَضَ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ ، فَلَا خِيَارَ لَهُ فِي الْبَيْعِ لَا يُخْتَلَفُ ، لِأَنَّ مَا شَرَطَهُ فِي الْبَيْعِ مِنَ الرَّهْنِ قَدْ صَارَ إِلَيْهِ بِالْعَقْدِ الْمُتَقَدِّمِ . وَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ أَمْرُهُ لِصِغَرِهِ ، أَوْ لِعَدَمِ رُشْدِهِ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ حَظٌّ فِي إِقْبَاضِ الرَّهْنِ ، أَوْ لَا حَظَّ لَهُ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَظٌّ فِي إِقْبَاضِ الرَّهْنِ لَمْ يَكُنْ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَتَوَلَّى إِقْبَاضَ الرَّهْنِ عَنْهُ ، وَلَا أَنْ يُسَلِّمَهُ إِلَى الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّ إِقْبَاضَ الرَّهْنِ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَفْعَلَ فِي مَالِ مَنْ يَلِي عَلَيْهِ مَا كَانَ غَيْرَ وَاجِبٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَظٌّ لَهُ . فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ الرَّهْنُ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ فَالْمُرْتَهِنُ الْبَائِعُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِلَا رَهْنٍ وَبَيْنَ فَسْخِهِ . وَإِنْ كَانَ لِلْوَارِثِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ حَظٌّ فِي إِقْبَاضِ الرَّهْنِ لِأَنَّهُ مَشْرُوطٌ فِي بَيْعٍ فِيهِ فَضْلٌ ، فَهَلْ يَجُوزُ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَقْبِضَهُ عَنْهُ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا . أَحَدُهُمَا : لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُتَطَوِّعًا فِي مَالِ الْوَارِثِ بِإِقْبَاضِ مَا لَا يَلْزَمُ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُرْتَهِنُ الْبَائِعُ بِالْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ أَصَحُّ : يَجُوزُ أَنْ يَقْبِضَ الرَّهْنَ عَنِ الْوَارِثِ لِمَا لَهُ فِيهِ مِنَ الْحَظِّ ، فَعَلَى هَذَا إِذَا قَبَضَ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ فَلَا خِيَارَ لَهُ فِي الْبَيْعِ . فَهَذَا الْكَلَامُ فِي مَوْتِ الرَّاهِنِ . فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ هُوَ الْمُرْتَهِنَ فَالرَّاهِنُ بِالْخِيَارِ فِي تَسْلِيمِ الرَّهْنِ إِلَى وَرَثَةِ الْمُرْتَهِنِ وَإِقْبَاضِهِمْ إِيَّاهُ ، أَوْ مَنْعِهِمْ ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَهُ الْخِيَارُ مَعَ الْمُرْتَهِنِ فِي حَيَاتِهِ ، فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ الْخِيَارُ مَعَ وَارِثِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ . فَإِنْ أَقْبَضَهُمُ الرَّهْنَ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَجْدِيدِ عَقْدٍ ، وَأَقْبَضَهُمْ إِيَّاهُ بِالْعَقْدِ الْمُتَقَدِّمِ ، لِأَنَّهُ عَلَى حَالِهِ فِي الصِّحَّةِ ، فَإِذَا قَبَضُوا الرَّهْنَ فَلَا خِيَارَ لَهُمْ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ بِحُصُولِ الرَّهْنِ لِلْمُرْتَهِنِ فِي حَيَاتِهِ . وَإِنْ مَنَعَهُمُ الرَّهْنَ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ فَلَا خِيَارَ لَهُمْ ، وَالدَّيْنُ بِلَا رَهْنٍ ، وَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ فَلَا يَخْلُو حَالُهُمْ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونُوا مِمَّنْ يَجُوزُ أَمْرُهُمْ ، أَوْ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ أَمْرُهُمْ ، فَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ يَجُوزُ أَمْرُهُمْ لِبُلُوغِهِمْ وَرُشْدِهِمْ فَهُمْ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِلَا رَهْنٍ ، أَوْ فَسْخِهِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْحَظُّ لَهُمْ فِي إِمْضَائِهِ أَوْ فَسْخِهِ لِأَنَّ الْفَسْخَ حَقٌّ لَهُمْ فَلَمْ يُجْبَرُوا عَلَيْهِ مَعَ جَوَازِ تَصَرُّفِهِمْ .
وَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ لَا يَجُوزُ أَمْرُهُمْ لِصِغَرِهِمْ ، وَعَدَمِ رُشْدِهِمْ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ حَظٌّ فِي إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِلَا رَهْنٍ ، فَوَاجِبٌ عَلَى وَلِيِّهِمْ أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ ، لِأَنَّ فِي إِمْضَائِهِ بِلَا رَهْنٍ تَغْرِيرٌ بِثَمَنِهِ وَإِنْ كَانَ لَهُمْ فِي إِمْضَائِهِ حَظٌّ لِوُفُورِ الثَّمَنِ ، فَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ الْمُشْتَرِي مُعْسِرًا أَوْ كَانَ غَيْرَ أَمِينٍ فَعَلَى وَلِيِّهِ أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ أَيْضًا ، وَإِنْ كَانَ أَمِينًا مُوسِرًا فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُفْسَخُ أَيْضًا لِجَوَازِ أَنْ يَتَغَيَّرَ حَالُهُ . وَالثَّانِي : لَا يُفْسَخُ لِمَا فِيهِ مِنْ وُفُورِ الْحَظِّ وَأَنَّ الْعَقْدَ تَمَّ بِغَيْرِهِ . وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مُخْرَجَانِ مِنَ الْوَجْهَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ فِي وَلِيِّ وَرَثَةِ الرَّاهِنِ هَلْ يَجُوزُ لَهُ إِقْبَاضُ الرَّهْنِ إِذَا كَانَ فِي إِقْبَاضِهِ حَظٌّ لَهُمْ أَمْ لَا ؟ فَهَذَا الْكَلَامُ فِي مَوْتِ الْمُرْتَهِنِ . فَأَمَّا إِنْ مَاتَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ جَمِيعًا ، قبل قَبْضِ الرَّهْن فَإِنَّ الْحُكْمَ فِي وَرَثَةِ الرَّاهِنِ عَلَى مَا مَضَى ، وَفِي وَرَثَةِ الْمُرْتَهِنِ عَلَى مَا مَضَى . فَأَمَّا إِنْ مَاتَ الرَّاهِنُ أَوِ الْمُرْتَهِنُ بَعْدَ قَبْضِ الرَّهْنِ ، فَالرَّهْنُ عَلَى حَالِهِ لَا يَنْفَسِخُ ، لِأَنَّهُ بَعْدَ الْقَبْضِ قَدْ لَزِمَ ، وَالْعَقْدُ اللَّازِمُ لَا يَنْفَسِخُ بِالْمَوْتِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ قَالَ أُرْهِنُكَ دَارِي عَلَى أَنْ تُدَايِنَنِي فَدَايَنَهُ هل يكون رهنا ؟ لَمْ يَكُنْ رَهْنًا حَتَّى يَعْقِدَا الرَّهْنَ مَعَ الْحَقِّ أَوْ بَعْدَهُ ( قَالَ ) حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ عَنِ الشَافِعِيِّ قَالَ لَا يَجُوزُ إِلَّا مَعَهُ أَوْ بَعْدَهُ فَأَمَّا قَبْلَهُ فَلَا رَهْنَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَالثَّانِي أَنْ يَعْقِدَ مَعَ ثُبُوتِ الدَّيْنِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَعْقِدَ قَبْلَ ثُبُوتِ الدَّيْنِ . فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ : الْحَالُ الْأُولَى : وَهُوَ أَنْ يُعْقَدَ بَعْدَ ثُبُوتِ الدَّيْنِ فَهُوَ أَنْ يَسْتَقِرَّ الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ رَجُلٍ مِنْ بَيْعٍ أَوْ قَرْضٍ أَوْ أَرْشِ جِنَايَةٍ ، أَوْ ضَمَانِ صَدَاقٍ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحُقُوقِ ، فَيَصِيرُ الدَّيْنُ ثَابِتًا فِي ذِمَّةِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ رَهْنٍ ، ثُمَّ إِنَّ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنَ يَدْفَعُ إِلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ رَهْنًا بِهِ ، فَهَذَا يَكُونُ مُتَطَوِّعًا بِالرَّهْنِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُعْطِهِ بِذَلِكَ رَهْنًا لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ مُطَالَبَتُهُ بِرَهْنٍ ، فَإِذَا رَهَنَهُ بِالدَّيْنِ شَيْئًا وَأَقْبَضَهُ فَقَدْ لَزِمَ الرَّهْنُ وَلَيْسَ لَهُ اسْتِرْجَاعُهُ إِلَّا بَعْدَ فَكَاكِهِ . وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي : الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : وَهُوَ أَنْ يُعْقَدَ الرَّهْنُ مَعَ ثُبُوتِ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيمٍ وَلَا تَأْخِيرٍ ، وَهَذَا
يَكُونُ فِي مَوْضِعَيْنِ : إِمَّا فِي الْبَيْعِ ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : بِعْتُكَ عَبْدِي هَذَا بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي دَارَكَ رَهْنًا ، أَوْ فِي الْقَرْضِ ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : قَدْ أَقْرَضْتُكَ هَذِهِ الْأَلْفَ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي عَبْدَكَ رَهْنًا ، فَيَصِيرُ الرَّهْنُ مَعْقُودًا مَعَ ثُبُوتِ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمٍ عَلَيْهِ وَلَا تَأَخُّرٍ عَنْهُ ، فَهَذَا أَيْضًا رَهْنٌ جَائِزٌ ، لِأَنَّ كُلَّ وَثِيقَةٍ صَحَّتْ بَعْدَ ثُبُوتِ الدَّيْنِ صَحَّتْ مَعَ ثُبُوتِ الدَّيْنِ كَالشَّهَادَةِ . فَإِذَا ثَبَتَ انْعِقَادُ الرَّهْنِ ، فَالرَّاهِنُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِقْبَاضِ الرَّهْنِ ، وَبَيْنَ مَنْعِهِ ، فَإِنْ أَقْبَضَ الرَّهْنَ ، فَلَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ الْبَائِعِ ، وَإِنْ مَنَعَ إِقْبَاضَهُ كَانَ الْمُرْتَهِنُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِلَا رَهْنٍ ، وَبَيْنَ فَسْخِهِ ، وَلَا يُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى إِقْبَاضِهِ وَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى إِقْبَاضِهِ إِذَا كَانَ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ ، وَلَا يَكُونُ مُخَيَّرًا فِيهِ لِأَنَّهُ بِالشَّرْطِ قَدْ صَارَ صِفَةً لِعَقْدٍ لَازِمٍ ، فَوَجَبَ أَنْ تَجْرِيَ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْعَقْدِ فِي اللُّزُومِ كَالْخِيَارِ وَالْأَجَلِ . وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّهَا وَثِيقَةٌ لَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا بَعْدَ ثُبُوتِ الدَّيْنِ ، فَوَجَبَ أَلَّا يُجْبَرَ عَلَيْهَا مَعَ ثُبُوتِ الدَّيْنِ كَالشَّهَادَةِ وَالضَّمَانِ . وَلِأَنَّ كُلَّ دَيْنٍ لَا يُجْبَرُ فِيهِ عَلَى إِقَامَةِ ضَمِينٍ لَمْ يُجْبَرْ فِيهِ عَلَى إِقْبَاضِ رَهْنٍ . أَصْلُهُ : الدَّيْنُ الْمُسْتَقِرُّ بِغَيْرِ ضَمِينٍ وَلَا رَهْنٍ . فَأَمَّا قَوْلُهُ : إِنَّ الرَّهْنَ قَدْ صَارَ بِالشَّرْطِ صِفَةً لِلْبَيْعِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَ كَالْخِيَارِ وَالْأَجَلِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ ، لِأَنَّ الْخِيَارَ وَالْأَجَلَ لَا يَصِحُّ انْفِرَادُهُمَا عَنِ الْعَقْدِ أَنْ يَصِيرَا صِفَةً لِلْعَقْدِ ، وَالرَّهْنُ عَقْدٌ عَلَى حَالِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَنْفَرِدَ بِحُكْمِهِ ، وَلَا يَصِيرُ صِفَةً لِغَيْرِهِ . فَصْلٌ : الضَّرْبُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يُعْقَدَ الرَّهْنُ قَبْلَ ثُبُوتِ الدَّيْنِ ، فَهُوَ أَنْ يَقُولَ : قَدْ رَهَنْتُكَ دَارِي عَلَى أَنْ تُدَايِنَنِي ، أَوْ تُبَايِعَنِي ، أَوْ عَلَى مَا يَحْصُلُ لَكَ عَلَيَّ ، فَهَذَا رَهْنٌ بَاطِلٌ لِتَقَدُّمِهِ عَلَى الدَّيْنِ ، وَكَذَلِكَ فِي الضَّمَانِ إِذَا ضَمِنَ لَهُ مَالًا قَبْلَ ثُبُوتِهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَقَدُّمُ الرَّهْنِ وَالضَّمَانِ عَلَى ثُبُوتِ الدَّيْنِ جَائِزٌ لِجَوَازِهِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [ الْبَقَرَةِ : 283 ] . فَجَعَلَ لُزُومَ الرَّهْنِ بِالْقَبْضِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْتَرِطَ فِيهِ تَقَدُّمَ الْحَقِّ ، فَدَلَّ عَلَى اسْتِوَاءِ حُكْمِهِ قَبْلَ وَبَعْدَ . وَلَوْ كَانَ تَقَدُّمُ الْحَقِّ شَرْطًا فِي صِحَّتِهِ لَقَيَّدَ الرَّهْنَ بِهِ ، كَمَا قَيَّدَهُ بِالْقَبْضِ . قَالَ : وَلِأَنَّ الرَّهْنَ عَيْنٌ هِيَ وَثِيقَةٌ لِلْبَائِعِ فِي الْحَقِّ ، فَلَمْ يَمْتَنِعْ تَقَدُّمُهَا عَلَى الْحَقِّ كَالْبَائِعِ
يَحْبِسُ الْمَبِيعَ فِي يَدِهِ لِاسْتِيفَاءِ ثَمَنِهِ ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَدِيمَ الْيَدِ قَبْلَ حَقِّهِ ، كَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَحْبِسَ الْبَائِعُ رَهْنًا فِي يَدِهِ قَبْلَ ثُبُوتِ الْحَقِّ . قَالَ : وَلِأَنَّ حُكْمَ عَقْدِ الرَّهْنِ وَالضَّمَانِ سَوَاءٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَكُمْ بَعْدَ الْحَقِّ وَقَبْلَهُ ثُمَّ قَدْ أَجْمَعْنَا وَإِيَّاكُمْ عَلَى جَوَازِ الضَّمَانِ قَبْلَ ثُبُوتِ الْحَقِّ هل يجوز ؟ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ ، فَكَذَلِكَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ ، فَإِذَا جَازَ الضَّمَانُ فِي مَوْضِعٍ جَازَ الرَّهْنُ مَعَهُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ ، لِأَنَّكُمْ قَدْ سَوَّيْتُمْ بَيْنَهُمَا بَعْدَ الْحَقِّ فِي الْجَوَازِ ، وَقَبْلَ الْحَقِّ فِي الْمَنْعِ . وَأَحَدُ الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا الضَّمَانُ قَبْلَ ثُبُوتِ الْحَقِّ أَنْ يَقُولَ : أَلْقِ مَتَاعَكَ فِي الْبَحْرِ وَعَلَيَّ ضَمَانُهُ ، أَوْ أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي وَعَلَيَّ قِيمَتُهُ ، فَإِذَا أَلْقَى مَتَاعَهُ ، أَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ ، لَزِمَهُ ضَمَانُ قِيمَتِهِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ ضَمَانِهِ . وَالثَّانِي : ضَمَانُ الدَّرْكِ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ ، فَإِذَا اسْتَحَقَّ لَزِمَ الضَّامِنَ غُرْمُ ثَمَنِهِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ ضَمَانِهِ . وَالثَّالِثُ : ضَمَانُ نَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ إِذَا ضَمِنَهَا عَنِ الزَّوْجِ أَجْنَبِيٌّ لَزِمَهُ ضَمَانُهَا ، وَإِنْ كَانَ ضَمَانُهُ قَبْلَ وُجُوبِهَا . وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهَا وَثِيقَةٌ يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَوْثَقَ بِهَا مَعَ الْحَقِّ ، فَلَمْ تَصِحَّ قَبْلَ ثُبُوتِ الْحَقِّ كَالشَّهَادَةِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ حَالٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَوْثَقَ فِيهَا بِالشَّهَادَةِ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْتَوْثَقَ فِيهَا بِالرَّهْنِ وَالضَّمَانِ . أَصْلُهُ : إِذَا قَالَ : قَدْ ضَمِنْتُ لَكَ مَا تُدَايِنُ بِهِ النَّاسَ كُلَّهُمْ ، أَوْ قَدْ رَهَنْتُكَ هَذَا عَلَى مَا تُدَايِنُ بِهِ النَّاسَ كُلَّهُمْ ؟ وَلِأَنَّ الِارْتِهَانَ هُوَ احْتِبَاسٌ بِالْحَقِّ وَوَثِيقَةٌ فِيهِ فَلَمْ يَجُزْ تَقَدُّمُ الِاحْتِبَاسِ عَلَى غَيْرِ حَقٍّ يَقَعُ بِهِ الِاحْتِبَاسُ . وَلِأَنَّ هَذَا عَقْدُ رَهْنٍ بِصِفَةٍ ، وَالْعُقُودِ لَا يَجُوزُ أَنْ تُعَلَّقَ بِالصِّفَاتِ ، كَقَوْلِهِ : إِذَا قَدِمَ زَيْدٌ فَقَدْ رَهَنْتُكَ عَبْدِي ، وَلِأَنَّ مَا يُدَايِنُهُ فِي ثَانِي حَالٍ مَجْهُولُ الْقَدْرِ ، وَالرَّهْنُ فِي الْمَجْهُولِ لَا يَصِحُّ ، فَأَمَّا الْآيَةُ فَحُجَّةٌ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ : إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ [ الْبَقَرَةِ : 283 ] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [ الْبَقَرَةِ : 283 ] فَكَانَ الدَّيْنُ الْمَذْكُورُ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الرَّهْنِ ، كَالْقَبْضِ الْمَذْكُورِ ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ حَبْسِ الْمَبِيعِ بِيَدٍ مُتَقَدِّمَةٍ فَغَلَطٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ يَحْبِسُ الْمَبِيعَ بِيَدِهِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، وَإِنَّمَا يَحْبِسُهُ بِعَقْدِ
الْبَيْعِ الْحَادِثِ ، وَأَمَّا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ صِحَّةِ ضَمَانِ مَا لَمْ يَجِبْ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مَا نَحْكِيهِ مِنْ مَذْهَبِنَا شَرْحًا وَانْفِصَالًا : أَمَّا تَقَدُّمُ الضَّمَانِ بِقَوْلِهِ : أَلْقِ مَتَاعَكَ فِي الْبَحْرِ وَعَلَيَّ قِيمَتُهُ ، فَلَيْسَ هَذَا بِضَمَانٍ ، وَإِنَّمَا اسْتِدْعَاءُ الْإِتْلَافِ بِعِوَضٍ يَجْرِي الْحُكْمُ فِيهِ مَجْرَى الْمُعَاوَضَاتِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الضَّمَانَ إِنَّمَا يَلْزَمُ بِاللَّفْظِ ، وَالضَّمَانُ هَاهُنَا يَلْزَمُ بِالْإِتْلَافِ ، لَا بِاللَّفْظِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الضَّمَانَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِثَلَاثَةِ أَنْفُسٍ : ضَامِنٌ ، وَمَضْمُونٌ عَنْهُ ، وَمَضْمُونٌ لَهُ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ هَاهُنَا فَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ . فَصْلٌ : وَأَمَّا ضَمَانُ دَرْكِ الْمَبِيعِ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِهِ ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ جَوَازُهُ . وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ : ضَمَانُ الدَّرْكِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ ضَمَانُ مَالٍ قَبْلَ وُجُوبِهِ ، وَهَذَا غَلَطٌ ، بَلْ ضَمَانُهُ جَائِزٌ وَلَا يَكُونُ ضَامِنَ مَالٍ قَبْلَ وُجُوبِهِ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مُسْتَحَقًّا أَوْ مِلْكًا ، فَإِنْ كَانَ مِلْكًا فَالضَّمَانُ لَمْ يَجِبْ ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَحَقًّا فَقَدِ اسْتَحَقَّ ثَمَنُهُ بِالْقَبْضِ فَيَكُونُ مِنْ ضَمَانِ مَا قَدْ وَجَبَ . فَإِنْ قِيلَ : إِذَا جَازَ ضَمَانُ الدَّرْكِ فَهَلْ لَا جَازَ أَخْذُ الرَّهْنِ فِيهِ ؟ قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ ضَمَانَ الدَّرْكِ وَاجِبٌ عَلَى الْبَائِعِ ، فَجَازَ أَنْ يَضْمَنَهُ عَنْهُ أَجْنَبِيٌّ ، وَدَفْعُ الرَّهْنِ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الْبَائِعِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْهَنَ عَنْهُ أَجْنَبِيٌّ . وَالثَّانِي : أَنَّ فِي أَخْذِ الرَّهْنِ إِضْرَارًا بِرَاهِنِهِ ، إِذْ لَيْسَ يَعْلَمُ وَقْتَ اسْتِحْقَاقِهِ ، وَلَيْسَ فِي الضَّمَانِ إِضْرَارٌ بِضَامِنِهِ فَجَازَ الضَّمَانُ لِزَوَالِ الضَّرَرِ فِيهِ ، وَلَمْ يَجُزِ الرَّهْنُ لِحُصُولِ الضَّرَرِ فِيهِ . فَصْلٌ : وَأَمَّا ضَمَانُ نَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ فَفِي جَوَازِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ ضَمَانُهَا وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ : مَتَى تَجِبُ نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ ؟ فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ تَجِبُ بِالْعَقْدِ وَالتَّمْكِينِ ، فَعَلَى هَذَا ضَمَانُهَا بَاطِلٌ لِأَنَّهُ ضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ . وَالثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ : تَجِبُ بِالْعَقْدِ جُمْلَةً ، وَيُسْتَحَقُّ قَبْضُهَا بِالتَّمْكِينِ فَعَلَى هَذَا ضَمَانُهَا جَائِزٌ ، لِأَنَّهُ ضَمَانُ مَا وَجَبَ ، وَفِي جَوَازِ أَخْذِ الرَّهْنِ بِهَا أي بنفقة الزوجة وحكمه وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ الضَّمَانُ . وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ كَالدَّرْكِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيَجُوزُ ارْتِهَانُ الْحَاكِمِ وَوَلِيِّ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لَهُ وَرَهْنُهُمَا عَلَيْهِ فِي النَّظَرِ لَهُ وَذَلِكَ أَنْ يَبِيعَا وَيَفْضُلَا وَيَرْتَهِنَا فَأَمَّا أَنْ يُسْلِفَا وَيَرْتَهِنَا فَهُمَا ضَامِنَانِ لِأَنَّهُ لَا فَضْلَ لَهُ فِي السَّلَفِ يَعْنِي الْقَرْضَ ، وَمَنْ قُلْتُ لَا يَجُوزُ ارْتِهَانُهُ إِلَّا فِيمَا يَفْضُلُ مِنْ وَلِيٍّ لِيَتِيمٍ أَوْ أَبٍ لِابْنٍ طِفْلٍ أَوْ مُكَاتَبٍ أَوْ عَبْدٍ مَأْذُونٍ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْهَنَ شَيْئًا لِأَنَّ الرَّهْنَ أَمَانَةٌ وَالدَّيْنَ لَازِمٌ ( قَالَ ) فَالرَّهْنُ نَقْصٌ عَلَيْهِمْ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْهَنُوا إِلَّا حَيْثُ يَجُوزُ أَنْ يُودِعُوا أَمْوَالَهُمْ مِنَ الضَرُورَةِ بِالْخَوْفِ إِلَى تَحْوِيلِ أَمْوَالِهِمْ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيمَنْ يَرْهَنُ وَيَرْتَهِنُ لِنَفْسِهِ ، فَأَمَّا الْمَوْلَى عَلَيْهِ لِصِغَرٍ أَوْ سَفَهٍ أَوْ جُنُونٍ التَّصَرُّفُ فِي مَالِهِ بِرَهْنٍ أو ارتهان فَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي مَالِهِ بِرَهْنٍ وَلَا ارْتِهَانٍ . وَيَتَوَلَّى ذَلِكَ وَلِيُّهُ مِنْ أَبِيهِ أَوْ وَصِيٌّ لِلْوَرَثَةِ أَوْ أَمِينٌ حَاكِمٌ ، فَإِذَا أَرَادَ الْوَلِيُّ ذَلِكَ فَالْحُكْمُ فِيهِ مُشْتَمِلٌ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي الِارْتِهَانِ لَهُ فِي ذِمَّتِهِ . وَالثَّانِي : فِي الرَّهْنِ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ . فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الِارْتِهَانُ لَهُ فِي دَيْنٍ ثَبَتَ لَهُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ لِصِغَرٍ أَوْ سَفَهٍ أَوْ جُنُونٍ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَرْتَهِنَ لَهُ فِي دَيْنٍ مُتَقَدِّمٍ قَدِ اسْتَقَرَّ فِي ذِمَّةِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ رَهْنٍ فَيَأْخُذُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ رَهْنًا ، فَهَذَا جَائِزٌ : لِأَنَّ أَخْذَ الرَّهْنِ فِي دَيْنٍ قَدِ اسْتَقَرَّ بِلَا رَهْنٍ زِيَادَةٌ وَثِيقَةٌ وَفَضْلٌ نُظِرَ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَرْتَهِنَ لَهُ فِي دَيْنٍ مُسْتَحْدَثٍ بِعَقْدٍ وَذَلِكَ فِي شَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي شَيْءٍ يَبِيعُهُ مِنْ مَالِهِ . وَالثَّانِي : فِي شَيْءٍ يُقْرِضُهُ مِنْ مَالِهِ . فَأَمَّا الْبَيْعُ إِذَا كَانَ لِغِبْطَةٍ أَوْ حَاجَةٍ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ بِنَقْدٍ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ بِنَسَاءٍ . فَإِنْ كَانَ بِنَقْدٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِ رَهْنًا لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ الْمَبِيعَ مِنْ يَدِهِ إِلَّا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ ثَمَنِهِ ، فَلَا مَعْنَى لِأَخْذِ الرَّهْنِ عَلَيْهِ : لِأَنَّ ارْتِهَانَ الْمَبِيعِ عَلَى ثَمَنِهِ أَوْلَى مِنْ تَسْلِيمِهِ وَأَخْذِ رَهْنٍ بِثَمَنِهِ .
وَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ بِنَسَاءٍ فَصِحَّةُ الْبَيْعِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى خَمْسَةِ شُرُوطٍ التصرف في مال الْمولى عَلَيْهِ لِصِغَرٍ أَوْ سَفَهٍ أَوْ جُنُونٍ : فَالشَّرْطُ الْأَوَّلُ : أَنْ يَكُونَ فِي الثَّمَنِ فَضْلٌ ، وَهُوَ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ ثَمَنُ السِّلْعَةِ الْمَبِيعَةِ نَقْدًا بِمِائَةٍ فَيَبِيعُهَا نَسِيئَةً بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ ، فَيَكُونُ حَظُّ الْمَوْلَى عَلَيْهِ فِي النَّسِيئَةِ مَا حَصَلَ لَهُ مِنْ فَضْلِ الرِّبْحِ ، وَأَمَّا أَنْ يَبِيعَهُ نَسِيئَةً بِالثَّمَنِ الَّذِي يُسَاوِي نَقْدًا وَهُوَ مِائَةُ دِرْهَمٍ ، فَلَا يَجُوزُ ، لِأَنَّهُ لَا حَظَّ فِي تَأْجِيلِ حَقٍّ يُقْدَرُ عَلَى تَعْجِيلِهِ . الشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي ثِقَةً مُوسِرًا فَيَجْتَمِعُ فِيهِ الْوَصْفَانِ : الثِّقَةُ وَالْيَسَارُ ، فَإِنْ لَمْ يَجْتَمِعَا فِيهِ لَمْ يَجُزْ ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَالْمَالُ تَائِهٌ ، وَإِنْ كَانَ خَائِنًا فَالْجُحُودُ مَخُوفٌ . وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ الْأَجَلُ مُقْتَصِدًا غَيْرَ بَعِيدٍ وَلَا مُتَطَاوِلٍ : لِأَنَّ فِي بُعْدِ الْأَجَلِ وَتَطَاوُلِ الْمُدَّةِ تَغْرِيرًا بِالدَّيْنِ ، وَإِضَاعَةً لِلْحَقِّ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَحْدِيدِ الْأَجَلِ الَّذِي لَا يَجُوزُ لَهُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ ، فَحَدَّهُ بَعْضُهُمْ بِالسَّنَةِ وَقَالَ : إِنْ كَانَ الْأَجَلُ زَائِدًا عَلَى السَّنَةِ لَمْ يَجُزْ ، وَامْتَنَعَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا مِنْ تَحْدِيدِهِ بِالسَّنَةِ ، وَاعْتَبَرُوا فِيهِ عُرْفَ النَّاسِ وَشَاهِدَ الْحَالِ : لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ السِّلَعِ ، وَتَبَايُنِ الْعَادَاتِ فِيهَا ، فَيَجُوزُ مَا لَمْ يَخْرُجْ عَنِ تَعَارُفِ النَّاسِ فِي آجَالِ تِلْكَ السِّلْعَةِ ، وَمَنَعُوا مِنْهُ مَا خَرَجَ عَنْ تَعَارُفِ النَّاسِ مِنْ آجَالِ تِلْكَ السِّلْعَةِ . وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ : أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ رَهْنًا لِيَكُونَ وَثِيقَةً فِي الْحَقِّ ، فَلَا يُخْرِجُ مِنْ يَدِهِ لِلْمَوْلَى عَلَيْهِ مَالًا إِلَّا أَنْ يَأْخُذَ لَهُ عَلَيْهِ مَالًا . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا يَأْخُذُ بِهِ رَهْنًا مِنَ الثَّمَنِ : فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ : يَأْخُذُ الرَّهْنَ بِالْفَاضِلِ عَلَى ثَمَنِ النَّقْدِ ، وَيَتَعَجَّلُ قَبْضَ ثَمَنِ السِّلْعَةِ نَقْدًا كَأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ تُسَاوِي نَقْدًا مِائَةً نَقْدًا وَنَسَاءً مِائَةً وَخَمْسِينَ ، فَعَجَّلَ قَبْضَ الْمِائَةِ وَأَجَّلَ قَبْضَ الْخَمْسِينَ وَأَخَذَ مِنْهُ رَهْنًا بِهَا ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَجِّلَ جَمِيعَ الثَّمَنِ وَيَأْخُذَ مِنْهُ رَهْنًا بِهِ : لِأَنَّ فِيهِ تَغْرِيرًا بِمَالِهِ . وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَسَائِرُ أَصْحَابِنَا : يَأْخُذُ مِنْهُ رَهْنًا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَيَكُونُ جَمِيعُهُ مُؤَجَّلًا لِأَنَّ الْوَلِيَّ لَوْ مُنِعَ مِنْ هَذَا حَتَّى يَقْبِضَ قِيمَةَ السِّلْعَةِ نَقْدًا وَيُؤَجِّلَ الْبَاقِيَ وَيَأْخُذَ بِهِ رَهْنًا لَكَانَ ذَلِكَ مُتَعَذَّرًا بَلْ لَا أَحْسَبُهُ فِي الْغَالِبِ مُمْكِنًا ، وَلَا أَظُنُّ عَاقِلًا يَفْعَلُهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُضْطَرًّا . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ رَهْنًا فَيَحْتَاجُ أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ يُقَيَّمُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَيَزِيدُ عَلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَ يَعْجِزُ عَنْ جَمِيعِ الثَّمَنِ لَمْ يَجُزْ . وَالشَّرْطُ الْخَامِسُ : أَنْ يَشْهَدَ عَلَى الْمُشْتَرِي لِتَكُونَ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ بِذَلِكَ خَوْفًا أَنْ يَصِيرَ إِلَى
حَالَةٍ يَحْتَاجُ فِيهَا إِلَى إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي الِاحْتِيَاطِ ، وَأَوْكَدُ فِي التَّوَثُّقِ . فَهَذِهِ خَمْسَةُ شُرُوطٍ عَلَى الْمَوْلَى أَنْ يَفْعَلَهَا فِي مَالِ الْوَلِيِّ عَلَيْهِ لِيَصِحَّ الْبَيْعُ وَالرَّهْنُ ، فَإِنْ أَخَلَّ بِشَرْطٍ مِنْهَا نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا مِنَ الشُّرُوطِ الْأَرْبَعَةِ دُونَ الشَّهَادَةِ بَطَلَ الْبَيْعُ وَالرَّهْنُ ، وَإِنْ أَخَلَّ بِالشَّهَادَةِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَبْطُلُ الْبَيْعُ وَالرَّهْنُ ، كَالشُّرُوطِ الْأَرْبَعَةِ . وَالثَّانِي : لَا يَبْطُلُ ، وَتَكُونُ الشَّهَادَةُ تَأْكِيدًا ، لِأَنَّهَا تُرَادُ لِلِاسْتِيثَاقِ ، وَالرَّهْنُ أَقْوَى اسْتِيثَاقًا مِنْهَا ، وَلَمْ يَفْتَقِرِ الْوَلِيُّ إِلَيْهَا ، فَهَذَا الْحُكْمُ فِي بَيْعِ مَالِهِ وَأَخْذِ رَهْنٍ بِهِ . فَصْلٌ : وَأَمَّا قَرْضُ مَالِهِ وَأَخْذُ رَهْنٍ بِهِ ، الْمَوْلَى عَلَيْهِ لِصِغَرٍ أَوْ سَفَهٍ أَوْ جُنُونٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الزَّمَانُ آمِنًا ، وَالسُّلْطَانُ عَادِلًا لَا يُخَافُ عَلَى الْمَالِ التَّلَفُ ، وَلَا يُخْشَى عَلَيْهِ الْهَلَاكُ ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقْرِضَهُ : لِأَنَّ فِي إِقْرَاضِهِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ عَدَمُ حَظٍّ وَقِلَّةُ نَظَرٍ ، فَإِنْ أَقْرَضَهُ كَانَ ضَامِنًا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الزَّمَانُ مَخُوفًا وَالسُّلْطَانُ جَائِرًا يُخَافُ عَلَى الْمَالِ التَّلَفُ ، وَيُخْشَى عَلَيْهِ الْهَلَاكُ فَفِي جَوَازِ قَرْضِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ : لِأَنَّ تَرْكَ الْمَالِ وَإِنْ كَانَ مَخُوفًا فَالْقَرْضُ مَخُوفٌ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَعَجَّلَ أَحَدَ الْخَوْفَيْنِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ وَهُوَ الصَّحِيحُ : لِأَنَّ قَرْضَهُ أَقَلُّ غَرَرًا وَتَرْكَهُ أَكْثَرُ خَوْفًا ، فَعَلَى هَذَا يُعْتَبَرُ فِي صِحَّةِ هَذَا الْقَرْضِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ : فَالشَّرْطُ الْأَوَّلُ : أَنْ يُقْرِضَهُ لِرَجُلٍ ثِقَةٍ مَلِيءٍ بِحَيْثُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يُودِعَهُ مَالَ الْمَوْلَى إِلَيْهِ كَانَ أَهْلًا لِذَلِكَ ، فَإِنْ أَقْرَضَهُ غَيْرَ ثِقَةٍ ، أَوْ كَانَ ثِقَةً غَيْرَ مَلِيءٍ لَمْ يَجُزْ لِمَا فِيهِ مِنْ تَغْرِيرِ الْمَالِ . وَالشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ رَهْنًا بِذَلِكَ لِيَكُونَ وَثِيقَةً بِالدَّيْنِ الَّذِي حَصَلَ عَلَيْهِ ، وَيَكُونُ فِي الرَّهْنِ وَفَاءً بِالْمَالِ ، فَإِنْ لَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ رَهْنًا أَوْ أَخَذَ مِنْهُ رَهْنًا لَيْسَ فِيهِ وَفَاءٌ لَمْ يَجُزْ . وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : يَجُوزُ أَلَّا يَأْخُذَ عَلَى الْقَرْضِ رَهْنًا بِخِلَافِ الْبَيْعِ : لِأَنَّ الْقَرْضَ إِنَّمَا يَجُوزُ عِنْدَ الْخَوْفِ عَلَى الْمَالِ ، فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَخْرُجَ الْمَالُ مِنْ يَدِهِ خَوْفًا عَلَيْهِ ، جَازَ أَلَّا يَأْخُذَ رَهْنًا تَخَوُّفًا عَلَيْهِ ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ ، لِأَنَّ الْمَالَ إِنْ تَلِفَ كَانَ مِنْ ضَمَانِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ ، فَجَازَ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ يَدِهِ ، وَلَيْسَ الرَّهْنُ إِنْ تَلِفَ مِنْ ضَمَانِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ يَدِهِ . وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ : أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي الِاسْتِيثَاقِ مِنْهُ ، فَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ ، فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ .
فَهَذَا الْكَلَامُ فِي الِارْتِهَانِ لَهُ فِي دَيْنِهِ . فَصْلٌ : فَأَمَّا الرَّهْنُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ فِيمَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ الْمَوْلَى عَلَيْهِ لِصِغَرٍ أَوْ سَفَهٍ أَوْ جُنُونٍ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ فِي دَيْنٍ مُتَقَدِّمٍ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ فِي دَيْنٍ مُسْتَحْدَثٍ . فَأَمَّا إِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُتَقَدِّمًا فَقَدِ اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ بِغَيْرِ رَهْنٍ ، فَلَا يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَسْتَأْنِفَ إِعْطَاءَ رَهْنٍ مِنْ مَالِهِ فِي ذَلِكَ الدَّيْنِ ، لِأَنَّهُ يَتَطَوَّعُ فِي مَالِهِ ، بِإِخْرَاجِ مَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ . وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُسْتَحْدَثًا عَنْ عَقْدٍ فَشَيْئَانِ : ابْتِيَاعٌ وَاقْتِرَاضٌ . فَأَمَّا الِابْتِيَاعُ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا إِلَى شِرَاءِ مَا ابْتَاعَهُ لَهُ كَانَ بَاطِلًا ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطِيَ عَلَيْهِ رَهْنًا ، وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى شِرَاءِ مَا ابْتَاعَهُ لَهُ أَوْ كَانَ فِيهِ حَظٌّ لَهُ ، فَإِنْ كَانَ وَاجِدًا لِثَمَنِهِ ابْتَاعَهُ نَقْدًا وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْتَاعَهُ نَسَاءً لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ فِي ابْتِيَاعِهِ بِالنَّقْدِ تَوْفِيرًا عَلَيْهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ رُبَّمَا تَلِفَ الْمَالُ وَكَانَ الثَّمَنُ بَاقِيًا عَلَيْهِ ، فَإِذَا ابْتَاعَهُ بِالنَّقْدِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطِيَ بِالثَّمَنِ رَهْنًا لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَرْهَنَ مَعَ الثَّمَنِ خَوْفًا مِنْ تَلَفِ الْمَالِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الرَّهْنَ أَمَانَةٌ ، فَلَمْ يُؤْمَنْ تَلَفُ الرَّهْنِ مِنْ مَالِهِ ، وَيَبْقَى عَلَيْهِ الثَّمَنُ . فَهَذَا حُكْمُ مَا ابْتَاعَهُ لَهُ بِالنَّقْدِ وَذَلِكَ يَجُوزُ فِي مَوْضِعَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ كَدَارٍ يَسْكُنُهَا ، أَوْ جَارِيَةٍ يَسْتَخْدِمُهَا أَوْ ثَوْبٍ يَلْبَسُهُ أَوْ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهِ حَظٌّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ ، كَالْأَمْتِعَةِ لِلتِّجَارَةِ ، وَالْعَقَارَاتِ الْمُسْتَصْلَحَةِ . وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ عَادِمًا لِلثَّمَنِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْتَاعَ لَهُ شَيْئًا بِالنَّسِيئَةِ إِلَّا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا إِلَى مَا لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ مِنْ مَأْكُولٍ ، أَوْ لِبَاسٍ ، أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ مِمَّا لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْهُ . فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ أَنْ يَبْتَاعَ بِالنَّسِيئَةِ إِذَا لَمْ يَجِدْ فِي مَالِهِ مَا يَبْتَاعُهُ لَهُ بِالنَّقْدِ ، فَإِنْ وُجِدَ مَنْ يَبْتَاعُ مِنْهُ بِالنَّسَاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْطِيَهُ بِذَلِكَ رَهْنًا فَعَلَ ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطِيَهُ رَهْنًا بِهِ ، فَإِنْ أَعْطَاهُ رَهْنًا بِهِ كَانَ ضَامِنًا لَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يَبِيعُهُ بِالنَّسَاءِ إِلَّا أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ رَهْنًا جَازَ حِينَئِذٍ أَنْ يُعْطِيَهُ رَهْنًا بِقَدْرِ الدَّيْنِ فَمَا دُونَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهُ أَزْيَدَ قِيمَةً مِنْ قَدْرِ الدَّيْنِ .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ الَّذِي يُعْطِيهِ مِمَّا يَقِلُّ الْخَوْفُ عَلَيْهِ ، كَالْأَرَضِينَ وَالْعَقَارَاتِ دُونَ الْعُرُوضِ وَالسِّلَعِ ، فَإِذَا أَعْطَاهُ بِذَلِكَ رَهْنًا اعْتُبِرَتْ حَالُ الْبَائِعِ الْمُرْتَهِنِ ، فَإِنْ كَانَ ثِقَةً أَمِينًا جَازَ أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ مَوْضُوعًا فِي يَدِهِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ أَمِينٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُوضَعَ الرَّهْنُ عَلَى يَدَيْهِ ، خَوْفًا أَنْ يَدَّعِيَ هَلَاكَهُ وَيُطَالِبَ بِدَيْنِهِ ، وَوَضَعَ الرَّهْنَ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ ثِقَةٍ . فَصْلٌ : وَأَمَّا الِاقْتِرَاضُ لَهُ المولى عليه لصغر أوجنون أو سفه فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ حَاجَةٌ إِلَيْهِ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْتَرِضَ لَهُ فَإِنْ فَعَلَ كَانَ ضَمَانُ الْقَرْضِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى الْقَرْضِ إِمَّا لِلْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ ، أَوْ لِلْإِنْفَاقِ عَلَى مَالِهِ فِي عِمَارَةِ مَا خَرِبَ مِنْ ضِيَاعِهِ وَمَرْمَاةِ مَا اسْتَهْدَمَ مِنْ عَقَارِهِ وَلَيْسَ يَنْقُصُّ شَيْءٌ مِنْ مَالِهِ ، جَازَ حِينَئِذٍ أَنْ يَقْتَرِضَ لَهُ حَسَبَ حَاجَتِهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ . فَإِنْ أَمْكَنَ أَلَّا يُعْطِيَ عَلَى ذَلِكَ رَهْنًا ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِإِعْطَاءِ رَهْنٍ ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ الِاقْتِرَاضُ لَهُ إِلَّا بِرَهْنٍ جَازَ أَنْ يُعْطِيَ مِنْ مَالِهِ رَهْنًا لَا يَزِيدُ عَلَى قَدْرِ الْقَرْضِ ، وَيُوضَعُ عَلَى يَدَيِ الْمُقْرِضِ إِنْ كَانَ عَدْلًا أَوْ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ إِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُقْرِضُ عَدْلًا ، فَإِنْ وَضَعَهُ عَلَى يَدِ الْمُقْرِضِ وَلَيْسَ بِعَدْلٍ كَانَ الْوَلِيُّ ضَامِنًا لَهُ . فَصْلٌ : وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فِي رَهْنِهِ وَارْتِهَانِهِ ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَرْهَنَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ وَلِيِّ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْهَنَ شَيْئًا مِنْ مَالِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ ، لَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ ، فَيَكُونُ الْحُكْمُ فِيهِ عَلَى مَا مَضَى سَوَاءٌ . فَأَمَّا إِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْتَهِنَ شَيْئًا مِنْ مَالِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ عَلَى دَيْنٍ لَهُ فَإِنْ كَانَ دَيْنًا قَدِ اسْتَقَرَّ فِي ذِمَّةِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ رَهْنٍ جَازَ : لِأَنَّ فِي أَخْذِ رَهْنٍ عَلَيْهِ ، زِيَادَةٌ وَثِيقَةٌ فِيهِ . وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَرْتَهِنَ فِي دَيْنٍ مُسْتَحْدَثٍ ، فَإِنْ كَانَ قَرْضًا كَانَ وَلِيُّ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ عَلَى مَا مَضَى ، وَإِنْ كَانَ بَيْعًا فَإِنْ كَانَ نَقْدًا لَمْ يَجُزْ وَكَانَ الْمَبِيعُ نَفْسُهُ رَهْنًا ، وَإِنْ كَانَ نَسَاءً فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ بِالنَّسَاءِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ كَوَلِيِّ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ فِي أَخْذِ الرَّهْنِ فِيهِ . وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ رَهْنًا عَلَيْهِ لِفَسَادِ الْبَيْعِ . فَصْلٌ : وَأَمَّا الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْهَنَ شَيْئًا مِمَّا فِي يَدِهِ إِلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ . فَأَمَّا إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ رَهْنًا عَلَى ثَمَنٍ مَبِيعٍ ، فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ نَقْدًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ يَدِهِ وَيَأْخُذَ رَهْنًا بِهِ . وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ نَسَاءً لَمْ يَخْلُ حَالُ إِذْنِ السَّيِّدِ لَهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ :
أَحَدُهَا : أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي بَيْعِ النَّقْدِ لَا غَيْرَ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ بِالنَّسَاءِ ، وَإِنْ بَاعَ نَسَاءً كَانَ بَاطِلًا سَوَاءٌ أَخَذَ عَلَيْهِ رَهْنًا أَمْ لَا . وَالثَّانِي : أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الْبَيْعِ نَسَاءً ، فَيَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى الثَّمَنِ رَهْنًا سَوَاءٌ أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ فِي أَخْذِهِ أَمْ لَا مَا لَمْ يَنْهَهُ عَنْهُ ، وَلِأَنَّ أَخْذَ الرَّهْنِ فِيهِ زِيَادَةُ احْتِيَاطٍ لِلسَّيِّدِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَأْذَنَ لَهُ إِذْنًا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْتَرِطَ فِيهِ النَّقْدَ ، وَلَا يَأْذَنَ لَهُ فِيهِ بِالنَّسَاءِ . فَهَذَا الْإِطْلَاقُ يَقْتَضِي بَيْعَ النَّقْدِ ، لِأَنَّ إِطْلَاقَ الْإِذْنِ يَقْتَضِي تَعْجِيلَ الْعِوَضِ فَعَلَى هَذَا : إِنْ بَاعَ بِالنَّسَاءِ لَمْ يَجُزْ وَكَانَ بَاطِلًا ، سَوَاءٌ أَخَذَ عَلَيْهِ رَهْنًا أَمْ لَا . وَإِذَا أَخَذَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ رَهْنًا فِيمَا بَاعَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا فَقَالَ الْعَبْدُ : قَدْ فَسَخْتُ الرَّهْنَ لَمْ يَنْفَسِخْ ، وَلِأَنَّهُ وَثِيقَةٌ لِسَيِّدِهِ ، فَلَمْ يَنْفَسِخْ بِقَوْلِهِ ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ السَّيِّدُ : قَدْ فَسَخْتُهُ ، انْفَسَخَ لِأَنَّهُ وَثِيقَةٌ لَهُ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى الْعَبْدِ دُيُونٌ فَلَا يَنْفَسِخُ الرَّهْنُ بِفَسْخِ السَّيِّدِ لِأَنَّ دُيُونَ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا فِي يَدِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ لِلسَّيِّدِ أَنْ يُبْطِلَ حُقُوقَ أَرْبَابِ الدُّيُونِ مِنَ الرَّهْنِ ، وَالِاسْتِيثَاقِ بِهِ . فَأَمَّا الْمُكَاتَبُ إِذَا أَخَذَ رَهْنًا عَلَى ما باعه فهل للسيد فسخه الْوَجْهِ الْجَائِزِ ، فَقَالَ السَّيِّدُ : قَدْ فَسَخْتُهُ ، لَمْ يَنْفَسِخْ ، لِأَنَّ تَصَرُّفَ السَّيِّدِ فِي مَالِ الْمُكَاتَبِ غَيْرُ نَافِذٍ ، وَحَالُهُ مَعَهُ كَحَالِهِ مَعَ الْأَجَانِبِ فِي الْمُعَامَلَاتِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَرْتَهِنَ مِنْ سَيِّدِهِ ، وَيَرْهَنَ عِنْدَ سَيِّدِهِ ؟ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ كَانَ لِابْنِهِ الطِّفْلِ عَلَيْهِ حَقٌّ جَازَ أَنْ يَرْتَهِنَ لَهُ شَيْئًا مِنْ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الْقَبْضِ لَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا كَانَ وَلِيُّ الطِّفْلِ أَبًا أَوْ جَدًّا ، فهل يرتهن له ؟ فَهُوَ يَسْتَحِقُّ الْوِلَايَةَ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ لِفَضْلِ حُنُوِّهِ وَكَثْرَةِ نَفَقَتِهِ ، وَانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ عَنْهُ فِي تَصَرُّفِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَفَ حَالَهُ مَعَ وَلَدِهِ فَقَالَ : الْوَلَدُ مَجْبَنَةٌ مَحْزَنَةٌ مَجْهَلَةٌ فَوَصَفَهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِمَا جُبِلَ عَلَيْهِ مِنْ مَحَبَّتِهِ .
فَإِذَا كَانَ الْوَلِيُّ أَبًا أَوْ جَدًّا ، جَازَ أَنْ يَفْعَلَ فِي مَالِ ابْنِهِ مَعَ نَفْسِهِ مَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَهُ فِي مَالِ ابْنِهِ مَعَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَجَانِبِ . فَيَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ مِنْ مَالِ ابْنِهِ عَلَى نَفْسِهِ مَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَهُ مِنْ مَالِ ابْنِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَجَانِبِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ مَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ لِابْنِهِ مِنَ الْأَجَانِبِ ، وَيَجُوزَ أَنْ يُقْرِضَ لِابْنِهِ وَيَقْتَرِضَ مِنْهُ مَا يَجُوزُ أَنْ يَقْتَرِضَهُ وَيُقْرِضَهُ مِنَ الْأَجَانِبِ ، وَيَجُوزَ أَنْ يَرْتَهِنَ مِنَ ابْنِهِ أَوْ يَرْهَنَ مِنْهُ مَا يَجُوزُ أَنْ يَرْهَنَهُ وَيَرْتَهِنَهُ مِنَ الْأَجَانِبِ ، وَلَوْ حَصَلَ لِابْنِهِ عَلَيْهِ دَيْنٌ بِلَا رَهْنٍ ، جَازَ أَنْ يَأْخُذَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ رَهْنًا بِهِ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ لَهُ مِنَ الْأَجْنَبِيِّ لَوْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَيْهِ رَهْنًا بِهِ . وَلَوْ حَصَلَ لَهُ عَلَى ابْنِهِ دَيْنٌ بِلَا رَهْنٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِهِ رَهْنًا بِهِ كَمَا لَوْ كَانَ الدَّيْنُ لِأَجْنَبِيٍّ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطِيَهُ رَهْنًا بِهِ . فَيَسْتَوِي تَصَرُّفُهُ فِي مَالِ ابْنِهِ مَعَ نَفْسِهِ كَمَا يَسْتَوِي تَصَرُّفُهُ فِي مَالِ ابْنِهِ مَعَ الْأَجَانِبِ ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ اخْتِصَاصِهِ بِفَضْلِ الْحُنُوِّ وَكَثْرَةِ الشَّفَقَةِ وَانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ . وَأَمَّا الْأُمُّ : فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا : هَلْ تَسْتَحِقُّ الْوِلَايَةَ بِنَفْسِهَا كَالْأَبِ ؟ الأم فَقَالَ بَعْضُهُمْ : تَسْتَحِقُّ الْوِلَايَةَ بِنَفْسِهَا عِنْدَ فَقْدِ الْأَبِ كَالْأَبِ لِمُشَارَكَتِهِ فِي حُنُوِّهِ وَشَفَقَتِهِ ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ أَمُّ الْأُمِّ الَّتِي هِيَ الْجَدَّةُ تَسْتَحِقُّ الْوِلَايَةَ بِنَفْسِهَا عِنْدَ عَدَمِ الْأُمِّ كَالْأُمِّ . وَأَمَّا أَبُو الْأُمِّ هَلْ يستحق الْوِلَايَةَ بنفسه كالأَب فَهَلْ يَكُونُ لَهُ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ وِلَايَةٌ بِنَفْسِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَلِي بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَحَقَّتِ الْأُمُّ الْوِلَايَةَ بِنَفْسِهَا وَكَانَ لِابْنِهَا وِلَايَةٌ عَلَيْهَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِيمَا اسْتَحَقَّتْهُ مِنَ الْوِلَايَةِ مُشَارِكًا لَهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا وِلَايَةَ لَهُ وَإِنْ وَلِيَتْ بِنْتُهُ كَمَا لَا حَضَانَةَ لَهُ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا ضَعُفَ مِنَ الْإِرْثِ ، كَانَ عَنِ الْوِلَايَةِ أَضْعَفَ . وَقَالَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا : لَا وِلَايَةَ لِأُمٍّ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهَا وَإِنْ شَارَكَتِ الْأَبَ فِي حُنُوِّهِ وَشَفَقَتِهِ ، فَلِلْأَبِ اخْتِصَاصٌ بِفَضْلِ النَّظَرِ ، وَصِحَّةِ التَّدْبِيرِ ، وَجَوْدَةِ الرَّأْيِ ، وَتَنْمِيَةِ الْمَالِ الَّذِي هُوَ مَقْصُودُ الْوِلَايَةِ ، فَبَايَنَ بِهِ الْأُمَّ لِضَعْفِ النِّسَاءِ عَنْ هَذِهِ الرُّتْبَةِ ، وَقِلَّةِ وُجُودِ هَذَا الْمَعْنَى فِيهِنَّ غَالِبًا ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلْأُمِّ وِلَايَةٌ بِنَفْسِهَا وَلَا لِأَحَدٍ أَدْلَى بِهَا . فَصْلٌ : فَإِذَا أَرَادَ الْأَبُ أَنْ يَبْتَاعَ لِنَفْسِهِ مِنْ مَالِ ابْنِهِ ، أَوْ يَرْتَهِنَ مِنْهُ ، أَوْ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ عَلَى ابْنِهِ أَوْ يَرْهَنَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ ، فَفِي كَيْفِيَّةِ الْعَقْدِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَعْقِدُ ذَلِكَ لَفْظًا بِبَذْلٍ وَقَبُولٍ فَيَقُولُ إِنْ كَانَ هُوَ الْمُشْتَرِيَ مِنَ ابْنِهِ : قَدْ بِعْتُ
كَذَا وَكَذَا مِنْ مَالِ ابْنِي عَلَى نَفْسِي بِكَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا ، وَقَبِلْتُ ذَلِكَ لِنَفْسِي . وَإِنْ كَانَ هُوَ الْبَائِعَ عَلَى ابْنِهِ قَالَ : قَدْ بِعْتُ دَارِي الَّتِي بِمَوْضِعِ كَذَا عَلَى ابْنِي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَقَبِلْتُ ذَلِكَ لِابْنِي فَيَصِحُّ الْعَقْدُ وَيَتِمُّ . ثُمَّ إِنْ كَانَ بَيْعًا فَلَهُ خِيَارُ الْمَجْلِسِ ، مَا لَمْ يُفَارِقْ مَوْضِعَهُ الَّذِي عَقَدَ فِيهِ ، فَإِذَا فَارَقَهُ قَامَ مَقَامَ افْتِرَاقِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِأَبْدَانِهِمَا فِي انْبِرَامِ الْبَيْعِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَعْقِدُ بِنِيَّتِهِ دُونَ لَفْظِهِ ، فَيَنْوِي أَنَّهُ قَدْ بَاعَ عَلَى ابْنِهِ كَذَا وَكَذَا وَيَنْوِي أَنَّهُ قَبِلَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِذَلِكَ وَبِقَوْلِهِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَكُونُ مُخَاطِبًا لِنَفْسِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَقْتَصِرَ فِي ذَلِكَ عَلَى نِيَّتِهِ . وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا وَلَا يَكُونُ مُخَاطِبًا لِنَفْسِهِ ، لِأَنَّا نُحَصِّلُ أَحَدَ اللَّفْظَيْنِ عَنْ نَفْسِهِ ، وَالْآخَرَ عَنِ ابْنِهِ ، فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ مُخَاطِبٌ لِابْنِهِ .
مَسْأَلَةٌ إِنِ اقْتَضَى الرَّهْنَ لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِهِ إِخْرَاجُهُ مِنَ الرَّهْنِ حَتَّى يَبْرَأَ مَمَّا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " وَإِنِ اقْتَضَى الرَّهْنَ لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِهِ إِخْرَاجُهُ مِنَ الرَّهْنِ حَتَّى يَبْرَأَ مَمَّا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ يَلْزَمُ بِالْقَبْضِ ، فَإِذَا قَبَضَ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ صَارَ لَازِمًا مِنْ جِهَةِ الرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ ، لِأَنَّهُ وَثِيقَةٌ عَلَى الرَّاهِنِ ، فَكَانَ لَازِمًا مِنْ جِهَتِهِ لِيَصِحَّ الِاسْتِيثَاقُ بِهِ إِذَا أَرَادَ فَسْخَهُ قَبْلَ قَضَاءِ الْحَقِّ لَمْ يَكُنْ لَهُ ، لِأَنَّهُ وَثِيقَةٌ لِلْمُرْتَهِنِ . فَإِذَا صَحَّ هَذَا وَتَمَّ الرَّهْنُ بِالْقَبْضِ فَقَضَى الرَّاهِنُ بَعْضَ الْحَقِّ كَانَ جَمِيعُ الرَّهْنِ بِحَالِهِ رَهْنًا فِي يَدِ مُرْتَهِنِهِ بِمَا بَقِيَ مِنْ حَقِّهِ . وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ : لِأَنَّ جَمِيعَ الرَّهْنِ وَثِيقَةٌ بِجَمِيعِ الْحَقِّ وَبِكُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْرُجَ شَيْءٌ مِنَ الرَّهْنِ مَعَ بَقَاءِ شَيْءٍ مِنَ الْحَقِّ ، أَلَا تَرَى أَنَّ ذِمَّةَ الضَّامِنِ مَعْقُولَةٌ بِالْحَقِّ وَبِكُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ ، فَلَمْ تَبْرَأْ ذِمَّةُ الضَّامِنِ مَعَ بَقَاءِ شَيْءٍ مِنَ الْحَقِّ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ تَلِفَ بَعْضُ الرَّهْنِ كَانَ جَمِيعُ الرَّهْنِ رَهْنًا بِمَا بَقِيَ مِنْهُ كَذَلِكَ إِذَا قَبَضَ بَعْضَ الْحَقِّ كَانَ جَمِيعُ الرَّهْنِ رَهْنًا بِمَا بَقِيَ مِنْهُ . فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ : قَدْ رَهَنْتُكَ عَبْدِي هَذَا بِأَلْفٍ عَلَى أَنَّنِي كُلَّمَا قَضَيْتُكَ مِنْهَا مِائَةً خَرَجَ عَشَرَةٌ مِنَ الرَّهْنِ ، كَانَ الرَّهْنُ فَاسِدًا لِاشْتِرَاطِهِ مَا يُنَافِيهِ فَلَوْ طَالَبَهُ الْمُرْتَهِنُ بِحَقِّهِ ، وَسَأَلَ فَكَاكَ الرَّهْنِ مِنْ يَدِهِ ، فَقَالَ الرَّاهِنُ : لَا أَدْفَعُ الْحَقَّ إِلَّا بَعْدَ اسْتِرْجَاعِ الرَّهْنِ ، وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ : لَا أَرُدُّ الرَّهْنَ إِلَّا بَعْدَ قَبْضِ الْحَقِّ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَفْعُ الْحَقِّ إِلَّا بَعْدَ إِحْضَارِ الرَّهْنِ ، فَإِذَا حَضَرَ لَمْ يَلْزَمِ الْمُرْتَهِنَ دَفْعُهُ إِلَّا بَعْدَ قَبْضِ الْحَقِّ .
فَصْلٌ : إِذَا قَالَ : قَدْ رَهَنْتُكَ عَبْدِي هَذَا بِالْأَلْفِ الَّتِي لَكَ عَلَيَّ إِلَى سَنَةٍ ، عَلَى أَنَّنِي إِنْ قَضَيْتُكَ الْأَلْفَ مَعَ السَّنَةِ فَالرَّهْنُ لِي ، وَإِنْ لَمْ أَقْضِكَ مَعَ السَّنَةِ فَالرَّهْنُ لَكَ قَدْ بِعْتُهُ عَلَيْكَ بِالْأَلْفِ فَهَذَا رَهْنٌ بَاطِلٌ وَبَيْعٌ بَاطِلٌ . أَمَّا الرَّهْنُ فَلِأَنَّهُ شَرَطَ فِيهِ مَا يُنَافِيهِ إِذْ لَيْسَ مِنْ حُكْمِ الرَّهْنِ أَنْ يُمْلَكَ بِالْحَقِّ عِنْدَ تَأَخُّرِ قَضَائِهِ ، وَأَمَّا الْبَيْعُ فَلِأَنَّهُ مُعَلَّقٌ بِصِفَةٍ ، وَعَقْدُ الْبَيْعِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَلَّقَ بِالصِّفَاتِ . فَإِذَا ثَبَتَ بُطْلَانُ الرَّهْنِ وَالْبَيْعِ وَكَانَ الْمُرْتَهِنُ قَدْ قَبَضَ هَذَا الرَّهْنَ فَهُوَ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ فِي السَّنَةِ ، فَإِذَا انْقَضَّتِ السَّنَةُ صَارَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا كَانَ غَيْرَ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ فِي السَّنَةِ ، وَمَضْمُونًا عَلَيْهِ بَعْدَ السَّنَةِ ، لِأَنَّهُ فِي السَّنَةِ مَقْبُوضٌ عَنْ رَهْنٍ فَاسِدٍ وَالرَّهْنُ الْفَاسِدُ غَيْرُ مَضْمُونٍ ، لِأَنَّ الرَّهْنَ الصَّحِيحَ غَيْرُ مَضْمُونٍ ، وَهُوَ بَعْدَ السَّنَةِ مَضْمُونٌ عَنْ بَيْعٍ فَاسِدٍ ، وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ مَضْمُونٌ ، لِأَنَّ الْبَيْعَ الصَّحِيحَ مَضْمُونٌ . فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ : قَدْ رَهَنْتُكَ عَبْدِي هَذَا بِأَلْفٍ إِلَى سَنَةٍ ، فَإِنْ قَضَيْتُكَ الْأَلْفَ مَعَ السَّنَةِ فَالْعَبْدُ لِي ، وَإِنْ لَمْ أَقْضِكَ فَالْعَبْدُ لَكَ ، وَقَدْ بِعْتُهُ عَلَيْكَ ، كَانَ الرَّهْنُ جَائِزًا ، وَالْبَيْعُ بَاطِلًا ، بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ : عَلَى أَنَّنِي إِنْ لَمْ أَقْضِكَ فَقَدْ بِعْتُهُ عَلَيْكَ فَيُخْرِجُهُ مَخْرَجَ الشَّرْطِ ، وَإِنَّمَا قَالَ : فَإِنْ لَمْ أَقْضِكَ فَقَدْ بِعْتُهُ عَلَيْكَ ، فَأَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْخَبَرِ ، فَلَمْ يَقْدَحْ فِي صِحَّةِ الرَّهْنِ . وَبَطَلَ الْبَيْعُ كَمَا بَطَلَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لِتَعَلُّقِهِ بِالصِّفَةِ كَتَعَلُّقِهِ بِهَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى ثُمَّ هُوَ قَبْلَ السَّنَةِ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى الْمُرْتَهِنِ ، لِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ عَنْ رَهْنٍ صَحِيحٍ ، وَبَعْدَ السَّنَةِ مَضْمُونٌ عَلَى الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ عَنْ بَيْعٍ فَاسِدٍ . فَصْلٌ : فَلَوْ كَانَ الْمَرْهُونُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ جَمِيعًا أَرْضًا ، فَغَرَسَهَا الْمُرْتَهِنُ ، نُظِرَ فِي غِرَاسِهِ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ غَرَسَهُ قَبْلَ تَقَضِّي السَّنَةِ كَانَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِقَلَصِهِ وَلَا يُغَرَّمُ أَرْشَ نَقْصِهِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ غَرَسَهُ بَعْدَ تَقَضِّي السَّنَةِ لَمْ يَكُنْ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِقَلْعِهِ ، إِلَّا أَنْ يُغَرَّمَ أَرْشَ نَقْصِهِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّهُ قَبْلَ السَّنَةِ غَيْرُ مَأْذُونٍ لَهُ فِي الْغَرْسِ ، لِأَنَّهُ رَهْنٌ بِيَدِهِ ، وَلَا يَجُوزُ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيمَا بِيَدِهِ ، فَصَارَ مُتَعَدِّيًا ، فَلِذَلِكَ أَخَذَ بِقَلْعِهِ ، وَبَعْدَ السَّنَةِ مَأْذُونٌ لَهُ فِي الْغَرْسِ لِأَنَّهُ مَبِيعٌ عَلَيْهِ ، وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيمَا ابْتَاعَهُ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُؤْخَذْ بِقَلْعِهِ . فَصْلٌ : إِذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ امْرَأَةً بِإِذْنِ سَيِّدِهِ عَلَى صَدَاقِ أَلْفٍ ، ثُمَّ إِنَّ السَّيِّدَ ضَمِنَ لَهَا الْأَلْفَ عَنْ عَبْدِهِ وَأَعْطَاهَا الْعَبْدُ نَفْسَهُ رَهْنًا بِالْأَلْفِ هل يكون الرهن صحيحا ؟ لَمْ يَجُزْ ، وَكَانَ رَهْنُهُ بِهَا فَاسِدًا : لِأَنَّ أَصْلَ الدَّيْنِ مَضْمُونٌ عَلَى الْعَبْدِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ رَهْنًا فِي الدَّيْنِ ، لِأَنَّ الْوَثِيقَةَ غَيْرُ الْمَوْثُوقِ فِيهِ .
وَنَظِيرُهُ مِنَ الضَّمَانِ : أَنْ يَضْمَنَ زَيْدٌ عَنْ عَمْرٍو أَلْفًا ثُمَّ يَعُودُ عَمْرٌو لِيَضْمَنَهَا عَنْ زَيْدٍ ، فَيَكُونُ ضَمَانُ زَيْدٍ بَاطِلًا . فَأَمَّا إِذَا حَصَلَ لِزَوْجَةِ الْعَبْدِ عَلَى سَيِّدِهِ مَالٌ عَنْ مُعَامَلَةٍ فَأَعْطَاهَا زَوْجَهَا رَهْنًا بِمَالِهَا عَلَيْهِ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا ، وَالنِّكَاحُ بِحَالِهِ : لِأَنَّ ارْتِهَانَهَا لَهُ اسْتِيثَاقٌ بِهِ فِي الْحَقِّ فَلَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ النِّكَاحِ .
مَسْأَلَةٌ لَوْ أَكْرَى الرَّهْنَ مِنْ صَاحِبِهِ أَوْ أَعَارَهُ إِيَّاهُ لَمْ يَنْفَسِخِ الرَّهْنُ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ أَكْرَى الرَّهْنَ مِنْ صَاحِبِهِ أَوْ أَعَارَهُ إِيَّاهُ لَمْ يَنْفَسِخِ الرَّهْنُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ خُرُوجَ الرَّهْنِ مِنْ يَدِ الْمُرْتَهِنِ إِلَى يَدِ الرَّاهِنِ لَا يُبْطِلُ الرَّهْنَ : لِأَنَّ اسْتِدَامَةَ قَبْضِهِ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي صِحَّتِهِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ وَإِيَّاهُ قَصَدَ الشَّافِعِيُّ . وَلَوْ أَكْرَى الرَّهْنَ مِنْ صَاحِبِهِ أَوْ أَعَارَهُ لَمْ يَنْفَسِخِ الرَّهْنُ ، فَإِنْ قِيلَ : فَعَلَى مَذْهَبِكُمْ أَنَّ مَنَافِعَ الرَّهْنِ وَنَمَاءَهُ لِلرَّاهِنِ فَكَيْفَ يَصِحُّ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الرَّهْنَ أَوْ يَسْتَعِيرَهُ مِنَ الْمُرْتَهِنِ ؟ فَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَجْوِبَةٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ عَوْدَ الرَّهْنِ إِلَى يَدِ الرَّاهِنِ لَا يَفْسَخُ الرَّهْنَ رَدًّا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ جَعَلَ عَوْدَهُ إِلَى يَدِهِ فَاسِخًا لِلرَّهْنِ ، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ ، لِأَنَّهَا لَفْظُ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ فَأَوْرَدَهُ عَلَى جِهَتِهِ تَبَرُّكًا بِهِ ، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ صِحَّةَ إِجَارَاتِهِ ، وَإِعَارَتِهِ . وَالْجَوَابُ الثَّانِي أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ إِضْمَارًا يَصِحُّ عَوْدُ الْجَوَابِ إِلَيْهِ ، وَهُوَ أَنَّهَا مُصَوَّرَةٌ فِي رَهْنٍ فَقَدْ كَانَ الْمُرْتَهِنُ اسْتَأْجَرَهُ مِنَ الرَّاهِنِ قَبْلَ الرَّهْنِ أَوْ بَعْدَهُ ، فَكَانَ فِي يَدِهِ بِعَقْدَيْنِ : أَحَدُهُمَا : عَقْدُ الْإِجَارَةِ عَلَى مَنْفَعَتِهِ . وَالثَّانِي : عَقْدُ الرَّهْنِ عَلَى رَقَبَتِهِ . فَيَكُونُ الْمُرْتَهِنُ لِأَجْلِ الْإِجَارَةِ مَـالِكًا لِمَنَافِعِهِ ، فَإِنِ اسْتَأْجَرَهُ الرَّاهِنُ مِنْهُ أَوِ اسْتَعَارَهُ فَالْإِجَارَةُ صَحِيحَةٌ ، وَالْعَارِيَةُ جَائِزَةٌ ، وَعَقْدُ الرَّهْنِ بِحَالِهِ لَا يَنْفَسِخُ . وَقَدْ يَصِحُّ مَثَلٌ فِي الْوَصَايَا فِي رَجُلٍ وَصَّى بِرَقَبَةِ عَبْدِهِ لِرَجُلٍ وَمَنْفَعَتِهِ لِآخَرَ أَوْ صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ لَهُمَا بِمَوْتِهِ وَقَبُولِهِمَا ، ثُمَّ إِنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالرَّقَبَةِ رَهَنَ رَقَبَةَ الْعَبْدِ عِنْدَ الْمُوصِي لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ ، فَصَارَتِ الْمَنْفَعَةُ بِالْوَصِيَّةِ وَالرَّقَبَةِ فِي يَدِهِ بِالرَّهْنِ ، فَلَوْ عَادَ الرَّاهِنُ فَاسْتَأْجَرَ الْعَبْدَ الْمَرْهُونَةُ رَقَبَتُهُ أَوِ اسْتَعَارَهُ لَمْ يَنْفَسِخِ الرَّهْنُ . وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْهَاءَ فِي قَوْلِهِ : وَلَوْ أَكْرَى الرَّهْنَ مِنْ صَاحِبِهِ ، كِنَايَةٌ تَعُودُ إِلَى الْمُرْتَهِنِ دَيْنَ الرَّاهِنِ ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إِلَى الْمُرْتَهِنِ لِأَجْلِ رَهْنِهِ ، كَمَا يُضَافُ إِلَى
الرَّاهِنِ لِأَجْلِ مِلْكِهِ ، فَإِذَا اسْتَأْجَرَ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ أَوِ اسْتَعَارَهُ أينفسخ الرهن ؟ لَمْ يَنْفَسِخِ الرَّهْنُ بِمَا حَدَثَ مِنَ الْعَقْدِ فَكَانَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ بِالرَّهْنِ السَّابِقِ ، وَعَقْدِ الْإِجَارَةِ الْحَادِثَةِ . وَالْجَوَابُ الرَّابِعُ : إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ مِنَ الشَّافِعِيِّ خَارِجٌ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي الْقَدِيمِ ، لِأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الْقَدِيمِ : إِنَّ الرَّاهِنَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِالرَّهْنِ بِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهُ مِنْ غَيْرِهِ فَقَالَ : وَلَوْ أَكْرَى الرَّهْنَ مَنْ صَاحِبِهِ أَوْ أَعَارَهُ إِيَّاهُ لَمْ يَنْفَسِخِ الرَّهْنُ ، يُرِيدُ أَنَّ الرَّاهِنَ وَإِنِ انْتَفَعَ بِالرَّهْنِ بِنَفْسِهِ وَفَعَلَ مَا لَيْسَ لَهُ لَمْ يَنْفَسِخِ الرَّهْنُ ، فَأَمَّا مَذْهَبُهُ فِي الْجَدِيدِ فَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ بِنَفْسِهِ وَيُؤَاجِرَهُ مِنْ غَيْرِهِ . وَهَذَا الْجَوَابُ ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ رَهَنَهُ وَدِيعَةً لَهُ فِي يَدِهِ وَأَذِنَ لَهُ بِقَبْضِهِ فَجَاءَتْ عَلَيْهِ مُدَّةٌ يُمْكِنُهُ أَنْ يُقْبِضَهُ فِيهَا فَهُوَ قَبْضٌ لِأَنَّ قَبْضَهُ وَدِيعَةً غَيْرُ قَبْضِهِ رَهْنًا ( قَالَ ) وَلَوْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ وَالْوَدِيعَةُ فِي بَيْتِهِ لَمْ يَكُنْ قَبْضًا حَتَّى يَصِيرَ إِلَى مَنْزِلِهِ وَهِيَ فِيهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ أَوْدَعَ رَجُلًا وَدِيعَةً ، ثُمَّ إِنَّ رَبَّ الْوَدِيعَةِ رَهَنَهَا عِنْدَ الْمُودَعِ بِحَقٍّ ثَبَتَ لَهُ عَلَيْهِ . فَإِنْ كَانَا جَاهِلَيْنِ بِالْوَدِيعَةِ أَوْ أَحَدُهُمَا فَالرَّهْنُ بَاطِلٌ ، لِأَنَّ رَهْنَ الْمَجْهُولِ حكمه لَا يَصِحُّ ، وَإِنْ كَانَا عَالِمَيْنِ بِهَا وَقَدْ شَاهَدَاهَا جَازَ رَهْنُهَا ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَرْتَهِنَ مَا لَيْسَ فِي يَدِهِ كَانَ ارْتِهَانُ مَا بِيَدِهِ أَوْلَى وَإِذَا كَانَ ارْتِهَانُهَا جَائِزًا ، فَلَا بُدَّ مِنْ عَقْدٍ وَقَبْضٍ . فَأَمَّا الْعَقْدُ فَبَذْلٌ مِنَ الرَّاهِنِ وَقَبُولٌ مِنَ الْمُرْتَهِنِ كَسَائِرِ عُقُودِ الرَّهْنِ ، وَأَمَّا الْقَبْضُ فَيَخْتَلِفُ عَلَى اخْتِلَافِ حَالِ الْوَدِيعَةِ ، في الرهن لِأَنَّ لَهَا حَالَتَيْنِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَتَيَقَّنَ الْمُودِعُ الْمُرْتَهِنُ كَوْنَهَا فِي يَدِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَشُكَّ فِي كَوْنِهَا بِيَدِهِ . فَإِنْ تَيَقَّنَ كَوْنَهَا بِيَدِهِ فَقَبْضُهَا : أَنْ يَمُرَّ عَلَيْهَا بَعْدَ الرَّهْنِ زَمَانُ الْقَبْضِ ، وَهَلْ يَحْتَاجُ إِلَى إِذْنِ الرَّاهِنِ فِي الْقَبْضِ أَمْ لَا ؟ قَالَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَفِي كِتَابِ الْأُمِّ : مِنْ تَمَامِ الْقَبْضِ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الْقَبْضِ ، وَقَالَ فِي كِتَابِ الْهِبَاتِ : إِذَا وَهَبَ لَهُ وَدِيعَةً فِي يَدِهِ وَقَبِلَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ فَاتَتْ عَلَيْهِ مُدَّةُ الْقَبْضِ فَقَدْ تَمَّ قَبْضُهَا ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ هُنَاكَ الْإِذْنَ فِي الْقَبْضِ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا : فَكَانَ بَعْضُهُمْ يَنْقُلُ جَوَابَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى وَيُخْرِجُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْإِذْنِ فِي الْقَبْضِ فِي الْهِبَةِ وَالرَّهْنِ جَمِيعًا ، لِأَنَّهُمَا لَا يَلْزَمَانِ إِلَّا بِالْقَبْضِ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ إِذْنِهِ فِي الْقَبْضِ ، لِأَنَّ يَدَ الْمُودِعِ يَدُ مَالِكِهَا ، وَفِي ارْتِهَانِهَا أَوْ هِبَتِهَا
إِزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ عَنْهَا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَكَانَتْ فِي الْحُكْمِ فِي يَدِ الْمَالِكِ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ إِذْنٍ فِي الْقَبْضِ كَمَا لَمْ يَزَلْ فِي يَدِ الْمَالِكِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْقَبْضُ بِشَيْئَيْنِ في الرهن : أَحَدُهُمَا : الْإِذْنُ فِي الْقَبْضِ . وَالثَّانِي : مُضِيُّ زَمَانِ الْقَبْضِ ، وَيَكُونُ أَوَّلُ زَمَانِ الْقَبْضِ مِنْ بَعْدِ الْإِذْنِ فِي الْقَبْضِ ، فَلَوْ أَذِنَ لَهُ فِي الْقَبْضِ بَعْدَ الْعَقْدِ بِمُدَّةٍ يُرَاعَى زَمَانُ الْقَبْضِ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ ، وَلَمْ يَكُنْ مَا مَضَى مِنَ الزَّمَانِ بَعْدَ الْعَقْدِ مُعْتَدًّا بِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْإِذْنِ فِي الْقَبْضِ لَا فِي الْهِبَةِ وَلَا فِي الرَّهْنِ جَمِيعًا ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ الْإِذْنَ فِي الرَّهْنِ تَأْكِيدًا ، وَإِنَّمَا لَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى الْإِذْنِ فِي الْقَبْضِ ، لِأَنَّ الْقَبْضَ قَدْ يَخْتَلِفُ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَقْبُوضَاتِ ، في الرهن فَقَبْضُ مَا يُنْقَلُ : أَنْ يَنْقُلَهُ لِلْقَابِضِ ، وَقَبْضُ مَا لَا يُنْقَلُ : أَنْ يُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَابِضِ ، كَذَلِكَ قَبْضُ مَا فِي الْيَدِ أَنَّ يَمُرَّ عَلَيْهِ زَمَانُ الْقَبْضِ فِي يَدِ الْقَابِضِ ، فَعَلَى هَذَا يَتِمُّ الْقَبْضُ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ ، وَهُوَ مُضِيُّ زَمَانِ الْقَبْضِ ، وَأَوَّلُ زَمَانِ الْقَبْضِ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ ، وَلَا اعْتِبَارَ بِالْإِذْنِ بِخِلَافِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ . وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا : لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَإِنَّمَا الْجَوَابُ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ فَيَحْتَاجُ رَهْنُ الْوَدِيعَةِ إِلَى إِذْنٍ فِي قَبْضِهَا ، وَلَا تَحْتَاجُ هِبَةُ الْوَدِيعَةِ إِلَى إِذْنٍ فِي قَبْضِهَا ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الرَّهْنِ وَالْهِبَةِ أَنَّ الرَّهْنَ لَا يَنْقُلُ الْمِلْكَ فَضَعُفَ عَنْ أَنْ يَتِمَّ إِلَّا بِالْإِذْنِ فِي الْقَبْضِ ، وَالْهِبَةَ تَنْقُلُ الْمِلْكَ فَقَوِيَتْ عَنْ أَنْ يَفْتَقِرَ تَمَامُهَا إِلَى الْإِذْنِ فِي الْقَبْضِ . فَعَلَى هَذَا يَتِمُّ الْقَبْضُ فِي الْهِبَةِ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ : وَهُوَ مُضِيُّ زَمَانِ الْقَبْضِ ، وَيَتِمُّ فِي الرَّهْنِ القبض بِشَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الْإِذْنُ فِي الْقَبْضِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَمْضِيَ بَعْدَ الْإِذْنِ زَمَانُ الْقَبْضِ ، فَهَذَا الْحُكْمُ فِي الْوَدِيعَةِ إِذَا تَيَقَّنَ كَوْنَهَا بِيَدِهِ . فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنْ شَكَّ فِي كَوْنِ الْوَدِيعَةِ فِي يَدِهِ كيفية قبض المودع المرتهن الوديعة وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ تَكُونَ الْوَدِيعَةُ عَبْدًا أَوْ حَيَوَانًا يَدْخُلُ وَيَخْرُجُ ، أَوْ يَكُونَ غَيْرَ حَيَوَانٍ فِي مَوْضِعٍ قَدْ حَدَثَ فِيهِ خَوْفٌ يَجُوزُ أَنْ يَتْلَفَ فِيهِ ، فَمِنْ تَمَامِ الْقَبْضِ فِي هَذَا أَنْ يَمْضِيَ الْمُودِعُ الْمُرْتَهِنُ بَعْدَ عَقْدِ الرَّهْنِ إِلَى مَوْضِعِ الْوَدِيعَةِ فَيُشَاهِدَهَا بَاقِيَةً فِيهِ ، وَهَلْ يُحْتَاجُ إِلَى مُضِيِّ الرَّاهِنِ مَعَهُ إِلَى مَوْضِعِهَا أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ إِلَى مُضِيِّ الرَّاهِنِ مَعَهُ إِلَى مَوْضِعِهَا ، وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَى مُضِيِّ
الْمُرْتَهِنِ وَحْدَهُ لِيَعْلَمَ بَقَاءَهَا فَتَكُونُ عَلَى حَالِهَا فِي حُكْمِ أَصْلِهَا ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مُضِيٌّ لِلْمُرْتَهِنِ وَحْدَهُ شَرْطًا فِي الْقَبْضِ دُونَ الْعَقْدِ ، فَإِنْ تَقَدَّمَ عَلَى مُضِيِّ الْمُرْتَهِنِ جَازَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا بُدَّ مِنْ مُضِيِّ الرَّاهِنِ مَعَهُ لِأَنَّهُ كَاسْتِئْنَافِ عَقْدِهِ فَعَلَى هَذَا لَوْ مَضَى أَحَدُهُمَا لِمُشَاهَدَتِهَا لَمْ يَصِحَّ . وَلَوْ مَضَيَا جَمِيعًا أَوْ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُمَا مِنْ نَائِبٍ أَوْ وَكِيلٍ فَشَاهَدَاهَا بَاقِيَةً فَيَكُونُ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ فَيَسْتَأْنِفَا عَقْدَ الرَّهْنِ ، وَلَا يَصِحُّ مِنْهُمَا مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْعَقْدِ ، وَهَلْ يَفْتَقِرُ إِلَى الْإِذْنِ فِي قَبْضِهَا أَمْ لَا ؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ اخْتِلَافِ الْمَذْهَبَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْإِذْنِ ، فَعَلَى هَذَا يَتِمُّ الْقَبْضُ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ ، وَهُوَ مُشَاهَدَةُ الْوَدِيعَةِ ، فَلَوْ مَرَّ عَلَيْهَا زَمَانُ الْقَبْضِ قَبْلَ مُشَاهَدَتِهَا لَمْ يَصِحَّ الْقَبْضُ . وَالثَّانِي : لَا بُدَّ مِنَ الْإِذْنِ فِي الْقَبْضِ بَعْدَ الْمُشَاهَدَةِ ، فَعَلَى هَذَا يَتِمُّ الْقَبْضُ بِشَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الْإِذْنُ فِي الْقَبْضِ . وَالثَّانِي : الْمُضِيُّ إِلَى مَوْضِعِ الْوَدِيعَةِ لِمُشَاهَدَتِهَا بَاقِيَةً فِيهِ ، فَإِنْ قُلْنَا : لَا بُدَّ مِنْ مُضِيِّ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِذْنُ الرَّاهِنِ فِي قَبْضِهَا بَعْدَ الْمُضِيِّ لِمُشَاهَدَتِهَا ، فَإِنْ أَذِنَ قَبْلَ مُشَاهَدَتِهَا لَمْ يَقَعِ الْإِذْنُ مَوْقِعَهُ ، فَاحْتَاجَ إِلَى إِذْنٍ بَعْدَ مُشَاهَدَتِهَا لِيَتِمَّ بِهِ الْقَبْضُ ، فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ مُضِيَّ الْمُرْتَهِنِ وَحْدَهُ لِمُشَاهَدَتِهَا جَائِزٌ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِذْنُ الرَّاهِنِ فِي قَبْضِهَا قَبْلَ الْمُضِيِّ لِمُشَاهَدَتِهَا ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ بَعْدَ مُشَاهَدَتِهَا لَمْ يَتِمَّ الْقَبْضُ حَتَّى يَمْضِيَ بَعْدَ الْإِذْنِ زَمَانُ الْقَبْضِ ، فَيَتِمُّ حِينَئِذٍ الْقَبْضُ فَيَكُونُ تَقَدُّمُ الْإِذْنِ وَتَأَخُّرُهُ عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي حُضُورِ الرَّاهِنِ مَعَ الْمُرْتَهِنِ وَعَلَيْهِمَا يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ .
مَسْأَلَةٌ لَا يَكُونُ الْقَبْضُ إِلَّا مَا حَضَرَهُ الْمُرْتَهِنُ أَوْ وَكِيلُهُ لَا حَائِلَ دُونَهُ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يَكُونُ الْقَبْضُ إِلَّا مَا حَضَرَهُ الْمُرْتَهِنُ أَوْ وَكِيلُهُ لَا حَائِلَ دُونَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ قَبْضَ الرَّهْنِ شَرْطٌ فِي لُزُومِهِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ الْقَبْضُ إِلَّا بِحُضُورِ الْمُرْتَهِنِ أَوْ وَكِيلِهِ ، لِأَنَّ الْقَبْضَ لَهُ ، فَإِنْ وَكَّلَ الرَّاهِنَ فِي قَبْضِهِ لَهُ لَمْ يَجُزْ ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ قَابِضًا مِنْ نَفْسِهِ ، وَلَوْ وَكَّلَ الْمُرْتَهِنُ عَبْدَ الرَّاهِنِ فِي قَبْضِ الرَّهْنِ لَهُ لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّ يَدَ الْعَبْدِ يَدُ سَيِّدِهِ ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ تَوْكِيلُ الرَّاهِنِ فِي قَبْضِهِ لَمْ يَجُزْ تَوْكِيلُ عَبْدِهِ ، وَلَوْ وَكَّلَ ابْنَ الرَّاهِنِ أَوْ أَبَاهُ في قبض الرهن جَازَ ، لِأَنَّ يَدَ الِابْنِ وَالْأَبِ لَيْسَتْ يَدًا لَهُ .
وَأَمَّا حُضُورُ الرَّاهِنِ فَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ مَا يَفْتَقِرُ إِلَى حُضُورِهِ وَمَا يَفْتَقِرُ إِلَى إِذْنِهِ دُونَ حُضُورِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَالْإِقْرَارُ بِقَبْضِ الرَّهْنِ جَائِزٌ إِلَّا فِيمَا لَا يُمْكِنُ فِي مِثْلِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا أَقَرَّ الرَّاهِنُ بِتَسْلِيمِ الرَّهْنِ وَأَقَرَّ الْمُرْتَهِنُ بِقَبْضِهِ فَقَدْ لَزِمَ الرَّهْنُ بِإِقْرَارِهِمَا ، كَمَا يَلْزَمُ بِمُشَاهَدَةِ قَبْضِهِمَا ، لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْحُكْمِ بِهِمَا . وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَلِلرَّهْنِ الْمُقَرِّ بِقَبْضِهِ حَالَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ حَاضِرًا . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ غَائِبًا . فَإِنْ كَانَ حَاضِرًا صَحَّ إِقْرَارُهُمَا بِقَبْضِهِ سَوَاءٌ أَطْلَقَا الْإِقْرَارَ بِقَبْضِهِ أَوْ قَيَّدَاهُ بِزَمَانٍ : لِأَنَّ الْحَاضِرَ يُمْكِنُ قَبْضُهُ فِي طَوِيلِ الزَّمَانِ وَقَصِيرِهِ . وَإِنْ كَانَ غَائِبًا لَمْ يَخْلُ حَالُ الْإِقْرَارِ بِقَبْضِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا أَوْ مُقَيَّدًا ، فَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا كَانَ الْإِقْرَارُ بِقَبْضِهِ لَازِمًا ، وَهُوَ أَنْ يُقِرَّا وَهُمَا بِالْبَصْرَةِ بِقَبْضِ دَارٍ مَرْهُونَةٍ بِالْكُوفَةِ وَلَا يَذْكُرَانِ زَمَانَ الْقَبْضِ ، فَهَذَا إِقْرَارٌ صَحِيحٌ : لِأَنَّ إِطْلَاقَ إِقْرَارِهِمَا بِالْقَبْضِ يَقْتَضِي وُقُوعَهُ فِي زَمَانٍ مُمْكِنٍ فَلِذَلِكَ لَزِمَ . وَإِنْ كَانَ الْإِقْرَارُ مُقَيَّدًا بِزَمَانٍ لَمْ يَخْلُ حَالُ الزَّمَانِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْقَبْضُ فِيهِ مُمْكِنًا أَوْ غَيْرَ مُمْكِنٍ . فَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا فَصُورَتُهُ أَنْ يُقِرَّا بِالْبَصْرَةِ بِقَبْضِ دَارٍ بِالْكُوفَةِ مُنْذُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ وَأَكْثَرَ فَهَذَا إِقْرَارٌ صَحِيحٌ : لِأَنَّ الْقَبْضَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ مُمْكِنٌ . وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُمْكِنٍ فَصُورَتُهُ أَنْ يُقِرَّا بِالْبَصْرَةِ بِقَبْضِ دَارٍ بِالْكُوفَةِ مُنْذُ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ فَهَذَا إِقْرَارٌ بَاطِلٌ لِاسْتِحَالَةِ الْقَبْضِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ : وَالْإِقْرَارُ بِالْقَبْضِ لِلرَّهْنِ جَائِزٌ إِلَّا فِيمَا لَا يُمْكِنُ فِي مِثْلِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ أَرَادَ الرَّاهِنُ أَنْ يُحَلِّفَ الْمُرْتَهِنَ أَنَّهُ قَبَضَ مَا كَانَ أَقَرَّ لَهُ بِقَبْضِهِ أَحْلَفْتَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا : أَنْ يُقِرَّ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ بِقَبْضِ الرَّهْنِ ، فَيَصِيرُ مَقْبُوضًا بِإِقْرَارِهِمَا ثُمَّ يَرْجِعُ الرَّاهِنُ فِي إِقْرَارِهِ وَيَدَّعِي أَنَّهُ كَانَ قَدْ أَقَرَّ بِتَعْلِيمِ الرَّهْنِ عَلَى جَهَالَةٍ ، فَإِنْ
صَدَّقَهُ الْمُرْتَهِنُ أَنَّ الْقَبْضَ لَمْ يَحْصُلْ فَلَا قَبْضَ وَالرَّهْنُ غَيْرُ لَازِمٍ وَالرَّاهِنُ فِيمَا بَعْدُ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَقْبَضَ الرَّهْنَ وَإِنْ شَاءَ مَنَعَ . وَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُ الْمُرْتَهِنُ فِي رُجُوعِهِ وَادَّعَى حُصُولَ الْقَبْضِ الَّذِي حَصَلَ بِإِقْرَارِهِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ فِي حُصُولِ الْقَبْضِ ، وَلَا يُقْبَلُ رُجُوعُ الرَّاهِنِ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِقْرَارِ ، لِأَنَّهُ قَدْ حَكَمَ بِهِ عَلَيْهِ . فَإِنْ سَأَلَ الرَّاهِنُ يَمِينَ الْمُرْتَهِنِ بِاللَّهِ أَنَّهُ قَبَضَ الرَّهْنَ صورة ذلك فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الرَّاهِنُ الَّذِي أَقَرَّ بِقَبْضِهِ غَائِبًا عَنْهُمَا ، فَلَا بُدَّ مِنْ إِحْلَافِ الْمُرْتَهِنِ بِاللَّهِ أَنَّهُ قَدْ كَانَ قَبَضَ الرَّهْنَ ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ غَائِبًا فَإِقْرَارُ الرَّاهِنِ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْغَالِبِ عَلَى قَوْلِ وَكِيلِهِ أَنَّهُ سَلَّمَ الرَّهْنَ ، ثُمَّ يَعْلَمُ كَذِبَ الْوَكِيلِ ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ سَلَّمَ الرَّهْنَ فَيَكُونُ لِمَا ادَّعَاهُ ثَانِيَةً مِنْ عَدَمِ الْقَبْضِ السَّابِقِ بِإِقْرَارِهِ وَجْهٌ مُمْكِنٌ ، فَلِذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَحْلِفَ لَهُ الْمُرْتَهِنُ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ حَلَفَ الْمُرْتَهِنُ حُكِمَ لَهُ بِالْقَبْضِ وَتَمَامِ الرَّهْنِ ، وَإِنْ نَكَلَ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الرَّاهِنِ ، فَإِنْ حَلَفَ حُكِمَ لَهُ بِمَا ادَّعَاهُ مِنْ عَدَمِ الْقَبْضِ ، وَكَانَ الرَّهْنُ غَيْرَ تَامٍّ ، وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ إِنْ شَاءَهُ ، وَإِنْ نَكَلَ سَقَطَتْ دَعْوَاهُ ، وَحُكِمَ بِتَمَامِ الرَّهْنِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ الْمُقَرُّ بِقَبْضِهِ حَاضِرًا قَبْلَ حَلِفِ الْمُتَّهَمِ ، عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ : أَنْ يَجِبَ إِحْلَافُ الْمُرْتَهِنِ ، لِأَنَّ إِقْرَارَ الرَّاهِنِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي الْحَاضِرِ عَنْ قَوْلِ وَكِيلِهِ ، كَمَا يَحْتَمِلُ فِي الْغَائِبِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُ الْيَمِينِ مِنْهُمَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ : لَا يَحْلِفُ الْمُرْتَهِنُ وَإِنْ حَلَفَ فِي الْغَائِبِ : لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ أَمْرِ الْحَاضِرِ أَنَّهُ تَوَلَّى تَسْلِيمَهُ بِنَفْسِهِ فَلَمْ يَجِبْ بِرُجُوعِهِ يَمِينٌ عَلَى الْمُرْتَهِنِ مَعَ تَقَدُّمِ إِقْرَارِهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْغَائِبُ . وَهَكَذَا لَوْ كَانَ الْإِقْرَارُ بِمَالٍ ، أَوْ قَبْضِ ثَمَنٍ فِي مَبِيعٍ ، ثُمَّ عَادَ الْمُقِرُّ فَقَالَ : كَانَ إِقْرَارِي بِالْمَالِ قَبْلَ ثُبُوتِهِ ، وَإِقْرَارِي بِقَبْضِ الثَّمَنِ قَبْلَ قَبْضِهِ ، وَسَأَلَ يَمِينَ الْمُقَرِّ لَهُ كَانَ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فِي إِحْلَافِ الْمُرْتَهِنِ فِي الرَّهْنِ الْحَاضِرِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَحْلِفَ الْمُقَرُّ لَهُ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ . وَالثَّانِي : لَا يَحْلِفُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ . فَصْلٌ : إِذَا أَنْكَرَ الرَّاهِنُ تَسْلِيمَ الرَّهْنِ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى إِقْرَارِهِ بِتَسْلِيمِ الرَّهْنِ حُكِمَ عَلَيْهِ بِالتَّسْلِيمِ وَتَمَّ الرَّهْنُ ، فَإِنْ سَأَلَ إِحْلَافَ الْمُرْتَهِنِ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَجِبْ إِحْلَافُهُ سَوَاءٌ كَانَ الرَّهْنُ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا .
فَإِنْ قِيلَ : مَا الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُقِرًّا بِتَقَدُّمِ التَّسْلِيمِ ، فَيَسْأَلُ إِحْلَافَ الْمُرْتَهِنِ فَيُحَلِّفُونَهُ ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُنْكِرًا فَتَقُومُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ بِإِقْرَارِهِ ، ثُمَّ يَسْأَلُ إِحْلَافَ الْمُرْتَهِنِ فَلَا يُحَلِّفُونَهُ ؟ قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ فِي إِحْلَافِ الْمُرْتَهِنِ مَعَ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ لَهُ جَرْحًا لِلشُّهُودِ ، وَتَعْلِيلًا لِشَهَادَتِهِمْ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْإِقْرَارِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَعَ الْإِنْكَارِ لَيْسَ بِمُسْتَأْنِفٍ لِدَعْوَى ، وَإِنَّمَا يُنْكِرُ شَيْئًا قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَجِبْ مَعَ الْبَيِّنَةِ يَمِينٌ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْإِقْرَارِ ، لِأَنَّهُ مُعْتَرِفٌ بِتَقَدُّمِ الْإِقْرَارِ وَهُوَ مُسْتَأْنِفٌ لِدَعْوَى ، فَجَازَ أَنْ يُحَلَّفَ الْمُرْتَهِنُ عَنْهَا .
فيما يصير به الرهن مقبوضا فَصْلٌ : إِذَا أَقَرَّ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ بِقَبْضِ الرَّهْنِ ثُمَّ عَادَ الْمُرْتَهِنُ يُنْكِرُ الْقَبْضَ وَيَدَّعِي أَنَّ إِقْرَارَهُ الْمُتَقَدِّمَ كَانَ عَلَى جَهَالَةٍ كَمَا ادَّعَى الرَّاهِنُ مِنْ قَبْلُ لَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُ الْمُرْتَهِنِ ، فَإِنْ سَأَلَ إِحْلَافَ الرَّاهِنِ كَانَ عَلَى مَا مَضَى مِنْ رُجُوعِ الرَّاهِنِ وَسُؤَالِهِ يَمِينَ الْمُرْتَهِنِ ، لِاسْتِوَائِهِمَا فِي تَمَامِ الْقَبْضِ بِإِقْرَارِهِمَا . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَالْقَبْضُ فِي الْعَبْدِ وَالثَّوْبِ وَمَا يَحُولُ أَنْ يَأْخُذَهُ مُرْتَهِنُهُ مِنْ يَدَيْ رَاهِنِهِ وَقَبْضُ مَا لَا يَحُولُ مِنْ أَرْضٍ وَدَارٍ أَنْ يُسَلَّمَ لَا حَائِلَ دُونَهُ وَكَذَلِكَ الشِّقْصُ ، وَشِقْصُ السَّيْفِ أَنْ يَحُولَ حَتَّى يَضَعَهُ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ أَوْ يَدَيِ الشَّرِيكِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي الْقَبْضِ أَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي حُكْمِ الْقَابِضِ وَالْمُقْبِضِ وَقَدْ مَضَى . وَالثَّانِي : فِيمَا يَصِيرُ بِهِ الرَّهْنُ مَقْبُوضًا وَهُوَ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ صَارَ بِهِ الْمَبِيعُ مَقْبُوضًا لِلْمُشْتَرِي صَارَ بِهِ الرَّهْنُ مَقْبُوضًا لِلْمُرْتَهِنِ ، وَقَدْ مَضَى ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ ، وَجُمْلَتُهُ : أَنَّ الرَّهْنَ ضَرْبَانِ : مَحُوزٌ وَمُشَاعٌ . فَأَمَّا الْمَحُوزُ فَضَرْبَانِ : مَنْقُولٌ وَغَيْرُ مَنْقُولٍ ، فَغَيْرُ الْمَنْقُولِ : الدُّورُ وَالْعَقَارُ وَالْأَرَضُونَ ، وَقَبْضُ ذَلِكَ يَكُونُ بِرَفْعِ يَدِ الرَّاهِنِ عَنْهَا ، وَالتَّخْلِيَةِ بَيْنَ الْمُرْتَهِنِ وَبَيْنَهَا ، وَالْمَنْقُولُ ضَرْبَانِ : ضَرْبٌ يَحْتَاجُ إِلَى كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ فَقَبْضُهُ بِشَيْئَيْنِ : الْكَيْلُ وَالتَّحْوِيلُ إِنْ كَانَ مَكِيلًا . وَالْوَزْنُ وَالتَّحْوِيلُ إِنْ كَانَ مَوْزُونًا .
وَضَرْبٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى كَيْلٍ وَلَا وَزْنٍ ، فَقَبْضُهُ بِنَقْلِهِ عَنْ مَوْضِعِهِ إِلَى غَيْرِهِ ، سَوَاءٌ أَخْرَجَهُ بِالنَّقْلِ عَنْ مِلْكِ بَائِعِهِ أَمْ لَا ؟ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ ، وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الدَّارَكِيُّ لَا يَكُونُ قَبْضًا حَتَّى يُخْرِجَهُ عَنْ مِلْكِ بَائِعِهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : حَتَّى يَحُوزَهُ التُّجَّارُ إِلَى رِحَالِهِمْ . فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُشَاعُ الرهن فيه فَضَرْبَانِ : مَنْقُولٌ وَغَيْرُ مَنْقُولٍ . فَغَيْرُ الْمَنْقُولِ كَأَرْضٍ أَوْ دَارٍ مِنْهُ سِهَامًا مِنْهَا مُشَاعًا ، فَصِحَّةُ الْقَبْضِ فِي هَذَا مُفْتَقِرٌ إِلَى حُضُورِ الشَّرِيكِ ، لِأَنَّ مِنْ صِحَّتِهِ أَلَّا يَكُونَ هُنَاكَ مُنَازِعٌ وَلِلشَّرِيكِ يَدٌ فَكَانَ حُضُورُهُ فِي الْقَبْضِ شَرْطًا فِي صِحَّتِهِ ، فَإِذَا حَضَرَ الشَّرِيكُ وَالرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ ، وَرَفَعَ الرَّاهِنُ يَدَهُ عَنْ حِصَّتِهِ لِلْمُرْتَهِنِ ، وَصَارَتْ فِي قَبْضِ الْمُرْتَهِنِ فَإِنْ تَرَاضَيَا الشَّرِيكُ وَالْمُرْتَهِنُ أَنْ تَكُونَ الدَّارُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ جَازَ ، وَإِنْ تَرَاضَيَا أَنْ تَكُونَ فِي يَدِ الشَّرِيكِ جَازَ ، وَإِنْ تَرَاضَيَا أَنْ تَكُونَ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ جَازَ . وَأَمَّا الْمَنْقُولُ كَسَهْمٍ مِنْ ثَوْبٍ أَوْ سَيْفٍ أَوْ جَوْهَرَةٍ أَوْ عَبْدٍ ، فَقَبْضُ ذَلِكَ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ إِلَى حُضُورِ الشَّرِيكِ ، لِأَنَّ قَبْضَهُ بِالنَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ ، فَإِنْ أَذِنَ الشَّرِيكُ لِلْمُرْتَهِنِ فِي نَقْلِ جَمِيعِهِ صَحَّ ، وَإِنْ أَذِنَ الْمُرْتَهِنُ لِلشَّرِيكِ فِي قَبْضِ جَمِيعِهِ لَهُ بِالتَّحْوِيلِ جَازَ ، وَإِنْ أَذِنَا لِعَدْلٍ فِي قَبْضِهِ لَهُمَا جَازَ .
مَسْأَلَةٌ : " قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ كَانَ فِي يَدَيِ الْمُرْتَهِنِ بِغَصْبٍ لِلرَّاهِنِ فَرَهَنَهُ إِيَّاهُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ مِنْهُ وَأَذِنَ لَهُ فِي قَبْضِهِ فَقَبَضَهُ كَانَ رَهْنًا وَكَانَ مَضْمُونًا عَلَى الْغَاصِبِ بِالْغَصْبِ حَتَّى يَدْفَعَهُ إِلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَوْ يُبَرِّئَهُ مِنْ ضَمَانِ الْغَصْبِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) قُلْتُ أَنَا : يُشْبِهُ أَصْلُ قَوْلِهِ إِذَا جَعَلَ قَبْضَ الْغَصْبِ فِي الرَّهْنِ جَائِزًا كَمَا جَعَلَ قَبْضَهُ فِي الْبَيْعِ جَائِزًا أَنْ لَا يَجْعَلَ الْغَاصِبَ فِي الرَّهْنِ ضَامِنًا إِذِ الرَّهْنُ عِنْدَهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ لَوْ غَصَبَ رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ شَيْئًا كَعَبْدٍ أَوْ ثَوْبٍ ثُمَّ إِنَّ الْغَاصِبَ حَصَلَ لَهُ عَلَى الْمَالِكِ مَالٌ فَرَهَنَهُ الْمَالِكُ الشَّيْءَ الْمَغْصُوبَ ، فَالرَّهْنُ جَائِزٌ وَيَصِيرُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ بِعَقْدِ الرَّهْنِ بَعْدَ أَنْ كَانَ فِي يَدِهِ بِغَصْبٍ . وَإِنَّمَا جَازَ رَهْنُهُ ، لِأَنَّ لِلْغَاصِبِ الْمُرْتَهِنِ عَلَيْهِ يَدًا وَمَنْ عَقَدَ عَلَى شَيْءٍ فِي يَدِهِ كَانَ بِالْجَوَازِ أَوْلَى مِنْ عَقْدِهِ عَلَى مَا لَيْسَ بِيَدِهِ . فَإِذَا صَحَّ عَقْدُ الرَّهْنِ عَلَيْهِ كَانَ تَمَامُهُ بِشَرْطَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مُضِيُّ زَمَانِ الْقَبْضِ كَمَا قُلْنَا فِي الْوَدِيعَةِ إِذَا كَانَ بَقَاؤُهَا مَعْلُومًا . وَالثَّانِي : الْإِذْنُ فِي قَبْضِهِ قَوْلًا وَاحِدًا بِخِلَافِ الْوَدِيعَةِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِأَنَّ الْمُودِعَ قَابِضٌ مُتَسَلِّمٌ فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى إِذْنٍ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، وَالْغَاصِبُ لَيْسَ بِقَابِضٍ ، فَافْتَقَرَ إِلَى إِذْنٍ . فَإِذَا تَمَّ الرَّهْنُ وَلَزِمَ كَانَ ضَمَانُ الْغَصْبِ بَاقِيًا لَا يَزُولُ عَنْهُ بِالرَّهْنِ الْحَادِثِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالْمُزَنِيُّ : قَدْ زَالَ ضَمَانُ الْغَصْبِ بِالرَّهْنِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ لَا يَقْتَضِي زَمَانَ الْغَصْبِ ، كَمَا أَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ لَا يَقْتَضِي ضَمَانَ الْغَصْبِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ بَاعَهُ عَلَيْهِ سَقَطَ ضَمَانُ الْغَصْبِ ، لِأَنَّ الْعَقْدَ يُنَافِيهِ فَوَجَبَ إِذَا رَهَنَهُ إِيَّاهُ أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ ضَمَانُ الْغَصْبِ لِأَنَّ الْعَقْدَ يُنَافِيهِ . وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُ عَقْدٌ لَا يَقْتَضِي ضَمَانَ الْغَصْبِ لَوَجَبَ إِذَا وَرَدَ عَلَى ضَمَانِ الْغَصْبِ أَنْ يُسْقِطَهُ كَالْبَيْعِ . قَالُوا : وَلِأَنَّ ابْتِدَاءَ الرَّهْنِ يُنَافِي الضَّمَانَ بِدَلَالَةِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ : رَهَنْتُكَ هَذَا الشَّيْءَ عَلَى أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا عَلَيْكَ لَمْ يَصِرْ مَضْمُونًا ، وَإِذَا تَنَافَيَا بِابْتِدَاءٍ لَمْ يَجْتَمِعَا وَكَانَ أَحَدُهُمَا رَافِعًا لِلْآخَرِ ، فَلَمَّا ثَبَتَ عَقْدُ الرَّهْنِ اتِّفَاقًا انْتَفَى الضَّمَانُ حِجَاجًا . قَالُوا : وَلِأَنَّ لِلْغَصْبِ حُكْمَيْنِ من جهة الضمان : الضَّمَانُ بِابْتِدَائِهِ ، وَالْإِثْمُ بِاحْتِبَاسِهِ ، فَلَمَّا كَانَ عَقْدُ الرَّهْنِ رَافِعًا لِلْإِثْمِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ رَافِعًا لِلضَّمَانِ . وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا : أَنَّهُ أَحَدُ مُوجِبَيِ الْغَصْبِ فَوَجَبَ أَنْ يَزُولَ بِعَقْدِ الرَّهْنِ كَالْإِثْمِ ؟ وَلِأَنَّ الرَّهْنَ أَمَانَةٌ كَمَا أَنَّ الْوَدِيعَةَ أَمَانَةٌ ، فَلَمَّا صَارَ مَقْبُوضًا رَهْنًا وَجَبَ أَنْ يَنْتَقِلَ عَنْ كَوْنِهِ كَمَا لَوْ صَارَ مَقْبُوضًا وَدِيعَةً ، فَانْتَقَلَ عَنْ كَوْنِهِ مَقْبُوضًا غَصْبًا ، وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا : أَنَّهُ عَقْدُ أَمَانَةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ رَافِعًا لِضَمَانِ الْغَصْبِ كَالْوَدِيعَةِ . وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّ الْمَغْصُوبَ مَضْمُونٌ عَلَى غَاصِبِهِ ، وَعَقْدُ الرَّهْنِ لَا يُنَافِي ضَمَانُ الْغَصْبِ بِدَلَالَةِ أَنَّهُ لَوْ تَعَدَّى عَلَيْهِ بَعْدَ الرَّهْنِ ضَمِنَهُ ضَمَانَ الْغَصْبِ فَلَمَّا لَمْ يَمْنَعِ الرَّهْنُ ضَمَانَ الْغَصْبِ فِي الِانْتِهَاءِ لَمْ يَمْنَعْ ضَمَانَ الْغَصْبِ فِي الِابْتِدَاءِ ، وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا : أَنَّهُ عَقْدُ رَهْنٍ فَوَجَبَ أَلَّا يَمْنَعَ ضَمَانَ الْغَصْبِ كَالِانْتِهَاءِ : وَلِأَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَصِيرُ مَضْمُونًا بِالْغَصْبِ كَمَا يَصِيرُ مَضْمُونًا بِالْجِنَايَةِ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ لَا يَنْفِي ضَمَانَ الْجِنَايَةِ فَوَجَبَ أَلَّا يَنْفِيَ ضَمَانَ الْغَصْبِ ، وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا : أَنَّهُ ضَمَانٌ تَعَلَّقَ بِعَيْنٍ ، فَوَجَبَ أَلَّا يَسْقُطَ بِالرَّهْنِ كَضَمَانِ الْجِنَايَةِ : وَلِأَنَّ الْعَبْدَ الْمَغْصُوبَ قَدْ يَصِيرُ مَرْهُونًا بِجِنَايَتِهِ ، كَمَا يَصِيرُ مَرْهُونًا بِعَقْدِ سَيِّدِهِ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ جَنَى عَلَى الْغَاصِبِ جِنَايَةً وَجَبَ أَرْشُهَا فِي رَقَبَتِهِ وَلَمْ يَسْقُطْ ضَمَانُ الْغَصْبِ ، وَإِنْ صَارَ مَرْهُونًا بِجِنَايَتِهِ فَوَجَبَ إِذَا رَهَنَهُ بِحَقٍّ فَصَارَ وَثِيقَةً فِي رَقَبَتِهِ أَلَّا يَسْقُطَ ضَمَانُ الْغَصْبِ وَإِنْ صَارَ مَرْهُونًا فِي يَدِهِ ، وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا : أَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْغَصْبِ فَوَجَبَ أَلَّا يَسْقُطَ وُجُوبَ ضَمَانِهِ بِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَاصِبِ بِرَقَبَتِهِ كَالْجِنَايَةِ ، وَلِأَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ لَوْ سَقَطَ بِارْتِهَانِ الْغَاصِبِ لَسَقَطَ بِارْتِهَانِ غَيْرِ الْغَاصِبِ ، فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ غَيْرَ الْغَاصِبِ إِذَا ارْتَهَنَهُ لَمْ يَسْقُطْ عَنِ الْغَاصِبِ ضَمَانُهُ وَجَبَ إِذَا ارْتَهَنَهُ الْغَاصِبُ أَلَّا يَسْقُطَ ضَمَانُهُ عَنْهُ ، وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا : أَنَّهَا عَيْنٌ مَضْمُونَةٌ بِالْغَصْبِ فَوَجَبَ أَلَّا يَسْقُطَ ضَمَانُهَا بِعَقْدِ الرَّهْنِ ، أَصْلُهُ : إِذَا رَهَنَهُ عِنْدَ أَجْنَبِيٍّ .
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْبَيْعِ فَالْمَعْنَى فِي الْبَيْعِ أَنَّهُ يُزِيلُ مِلْكَ الْمَالِكِ ، وَإِذَا زَالَ مِلْكُهُ زَالَتْ أَحْكَامُ مِلْكِهِ ، وَالضَّمَانُ مِنْ أَحْكَامِ مِلْكِهِ ، فَسَقَطَ وَانْتَقَلَ الْمِلْكُ إِلَى الْمُشْتَرِي ، وَمِلْكُ الْإِنْسَانِ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الرَّهْنُ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْقُلِ الْمِلْكَ فَلَمْ يَزُلِ الضَّمَانُ ، عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ لَمَّا كَانَ مُنَافِيًا لِلضَّمَانِ فِي اسْتِدَامَتِهِ كَانَ مُنَافِيًا لِلضَّمَانِ فِي ابْتِدَائِهِ ، وَلَمَّا كَانَ الرَّهْنُ غَيْرَ مُنَافٍ لِلضَّمَانِ فِي اسْتِدَامَتِهِ كَانَ غَيْرَ مُنَافٍ لِلضَّمَانِ فِي ابْتِدَائِهِ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ ابْتِدَاءَ الرَّهْنِ مُنَافٍ لِلضَّمَانِ مِنْ نَاحِيَةِ الرَّهْنِ مُنَافٍ لِلضَّمَانِ فَغَلَطٌ ، لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الرَّهْنِ إِنَّمَا كَانَ مُنَافِيًا لِلضَّمَانِ مِنْ نَاحِيَةِ الرَّهْنِ ، وَكَذَلِكَ فِي اسْتِدَامَتِهِ مُنَافٍ لِلضَّمَانِ مِنْ نَاحِيَةِ الرَّهْنِ فَأَمَّا الضَّمَانُ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الرَّهْنِ فَلَا يُنَافِيهِ فِي ابْتِدَائِهِ كَمَا لَا يُنَافِيهِ فِي اسْتِدَامَتِهِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ بِسُقُوطِ الضَّمَانِ عَلَى سُقُوطِ الْإِثْمِ ، فَالْمَعْنَى فِي الْإِثْمِ : أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ بِاحْتِبَاسِهِ عَلَى وَجْهِ الْعُدْوَانِ ، وَبِالرَّهْنِ زَالَ احْتِبَاسُهُ بِالْعُدْوَانِ وَصَارَ مُحْتَبِسًا بِحَقٍّ فَلِذَلِكَ زَالَ الْإِثْمُ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الضَّمَانُ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِابْتِدَاءِ الْغَصْبِ عَلَى أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنِ الرَّهْنُ رَافِعًا لِلْإِثْمِ الْمُسْتَحَقِّ بِاحْتِبَاسِهِ قَبْلَ الرَّهْنِ وَلَمَّا كَانَ رَافِعًا لِلْإِثْمِ فِيمَا بَعْدُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ رَافِعٍ لِلضَّمَانِ الْمُسْتَحَقِّ قَبْلَ الرَّهْنِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْوَدِيعَةِ فَلِأَصْحَابِنَا فِي الْوَدِيعَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ لَا يَسْقُطُ بِالْوَدِيعَةِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ يَدَ الْإِنْسَانِ لَا تُبَرِّئُهُ مِنْ حُقُوقِ الْأَجَانِبِ ، كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ طَعَامٌ فَوَكَّلَهُ فِي اكْتِيَالِهِ مِنْ نَفْسِهِ وَتَرْكِهِ فِي يَدِهِ فَفَعَلَ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الضَّمَانُ ، فَعَلَى هَذَا قَدِ اسْتَوَى حُكْمُ الرَّهْنِ وَالْوَدِيعَةِ فَسَقَطَ السُّؤَالُ . وَالثَّانِي : وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ يَسْقُطُ بِالْوَدِيعَةِ وَلَا يَسْقُطُ بِالرَّهْنِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ يَدَ الْمُودِعِ يَدُ الْمَالِكِ فَصَارَ بِالْوَدِيعَةِ كَالْعَائِدِ إِلَى يَدِ مَالِكِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُرْتَهِنُ ، لِأَنَّ يَدَهُ لِنَفْسِهِ دُونَ مَالِكِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْوَدِيعَةَ وَالضَّمَانَ يَتَنَافَيَانِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إِذَا تَعَدَّى فِي الْوَدِيعَةِ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُودِعًا وَإِذَا تَنَافَيَا وَصَحَّتِ الْوَدِيعَةُ سَقَطَ الضَّمَانُ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الرَّهْنُ لِأَنَّ الرَّهْنَ وَالضَّمَانَ لَا يَتَنَافَيَانِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَعَدَّى فِي الرَّهْنِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُرْتَهِنًا فَلَمْ يَسْقُطِ الضَّمَانُ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ لَا يَسْقُطُ بِالرَّهْنِ فَهُوَ بَاقٍ بِحَالِهِ لَا يَسْقُطُ إِلَّا بِوَاحِدٍ مِنْ ثَلَاثَةٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُبَرِّئَهُ الْمَالِكُ بِلَفْظٍ صَرِيحٍ فَيَقُولُ : قَدْ أَبْرَأْتُكَ مِنَ الضَّمَانِ فَيَبْرَأُ حِينَئِذٍ . وَالثَّانِي : أَنْ يَعُودَ الشَّيْءُ إِلَى يَدِ الْمَالِكِ أَوْ وَكِيلِهِ إِمَّا قَبْلَ الرَّهْنِ أَوْ بَعْدَهُ فَيَسْقُطُ الضَّمَانُ حِينَئِذٍ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَتَّفِقَا بَعْدَ الرَّهْنِ أَنْ يَضَعَاهُ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ اخْتَارَهُ الرَّاهِنُ فَيَسْقُطُ الضَّمَانُ حِينَئِذٍ فَأَمَّا إِنْ أَوْدَعَهُ إِيَّاهُ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ سُقُوطَ الضَّمَانِ عَلَى وَجْهَيْنِ : فَأَمَّا إِنْ آجَرَهُ إِيَّاهُ ، فَإِنْ قِيلَ : بِالْوَدِيعَةِ يَبْرَأُ مِنَ الضَّمَانِ فَبِالْإِجَارَةِ أَوْلَى أَنْ يَبْرَأَ مِنَ الضَّمَانِ ، وَإِنْ قِيلَ : بِالْوَدِيعَةِ لَا يَبْرَأُ مِنَ الضَّمَانِ فَفِي الْإِجَارَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَبْرَأُ بِهَا مِنَ الضَّمَانِ لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ كَالْوَدِيعَةِ . وَالثَّانِي : يَبْرَأُ مِنَ الضَّمَانِ ، لِأَنَّ الْإِجَارَاتِ صِنْفٌ مِنَ الْبُيُوعِ يَسْتَحِقُّ فِيهَا عِوَضًا . فَأَمَّا إِنْ جَعَلَهُ مُضَارَبَةً فِي يَدِهِ فَفِي سُقُوطِ الضَّمَانِ عَنْهُ وَجْهَانِ كَالْوَدِيعَةِ وَفِيهَا وَجْهٌ ثَالِثٌ هُوَ عِنْدِي صَحِيحٌ أَنَّهُ مَا لَمْ يَتَصَرَّفْ فِي الْمَالِ بِحَقِّ الْمُضَارَبَةِ فَالضَّمَانُ بَاقٍ عَلَيْهِ ، وَإِنْ تَصَرَّفَ فِيهِ بِابْتِيَاعِ شَيْءٍ نُظِرَ ، فَإِنِ ابْتَاعَ فِي ذِمَّتِهِ وَنَقَدَ الْمَالَ لَمْ يَسْقُطِ الضَّمَانُ ، وَإِنِ ابْتَاعَ بِعَيْنِ الْمَالِ سَقَطَ الضَّمَانُ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّهُ إِذَا اشْتَرَى بِعَيْنِ الْمَالِ صَارَ دَافِعًا لِلْمَالِ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ عَنْ إِذْنِ الْمَالِ فَبَرِئَ مِنْ ضَمَانِهِ ، وَإِذَا اشْتَرَى فِي ذِمَّتِهِ صَارَ قَاضِيًا لِدَيْنٍ تَعَلَّقَ بِذِمَّتِهِ فَلَمْ يَبْرَأْ مِنْ ضَمَانِهِ . فَصْلٌ : إِذَا ابْتَاعَ الرَّجُلُ شَيْئًا بَيْعًا فَاسِدًا وَقَبَضَهُ هل يضمنه ضمان غصب كَانَ ضَامِنًا لَهُ ضَمَانَ غَصْبٍ فَإِنْ رَهَنَهُ إِيَّاهُ لَمْ يَسْقُطْ ضَمَانُهُ وَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمَغْصُوبِ فِيمَا مَضَى مِنَ التَّفْرِيعِ . إِذَا اسْتَعَارَ الرَّجُلُ عَارِيَةً فَقَدْ ضَمِنَهَا ، فَإِنِ ارْتَهَنَهَا فَهَلْ تَبْطُلُ الْعَارِيَةُ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا تَبْطُلُ بِحُدُوثِ الرَّهْنِ ، وَلَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا كَمَا كَانَ مُنْتَفِعًا بِهَا قَبْلَ الرَّهْنِ فَعَلَى هَذَا ضَمَانُهَا بَاقٍ عَلَيْهِ . وَالثَّانِي : قَدْ بَطَلَتِ الْعَارِيَةُ بِالرَّهْنِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا ، فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ ضَمَانُهَا ، بِخِلَافِ الْغَصْبِ ، لِأَنَّ الرَّهْنَ هَاهُنَا قَدْ رَفَعَ الْعَارِيَةَ فَارْتَفَعَ حُكْمُهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْغَصْبُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ رَهَنَهُ دَارَيْنِ فَقَبَضَ إِحْدَاهُمَا وَلَمْ يَقْبِضِ
الْأُخْرَى كَانَتِ الْمَقْبُوضَةُ رَهْنًا دُونَ الْأُخْرَى بِجَمِيعِ الْحَقِّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا رَهَنَهُ دَارَيْنِ بِأَلْفٍ فَإِنْ أَقْبَضَهُ إِيَّاهُمَا كَانَتَا رَهْنًا مَعًا وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا رَهْنًا بِجَمِيعِ الْأَلْفِ ، وَلَوْ أَقْبَضَهُ إِحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى كَانَتِ الْمَقْبُوضَةُ رَهْنًا بِجَمِيعِ الْأَلْفِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إِنْ أَقْبَضَهُ الدَّارَيْنِ كَانَتَا رَهْنًا بِجَمِيعِ الْأَلْفِ ، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا رَهْنٌ بِحِصَّتِهَا مِنَ الْأَلْفِ ، وَإِنْ أَقْبَضَهُ إِحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى كَانَتِ الْمَقْبُوضَةُ رَهْنًا بِحِصَّتِهَا مِنَ الْأَلْفِ ، وَلَا تَكُونُ رَهْنًا بِجَمِيعِ الْأَلْفِ اسْتِدْلَالًا بِشَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الرَّهْنَ عُقِدَ عَلَى عَيْنٍ فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٍ كَالْبَيْعِ ، فَلَمَّا كَانَ لَوْ بَاعَهُ دَارَيْنِ بِأَلْفٍ كَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَبِيعَةً بِحِصَّتِهِمَا مِنَ الْأَلْفِ ، وَلَا تَكُونُ مَبِيعَةً بِجَمِيعِ الْأَلْفِ فَكَذَلِكَ الرَّهْنُ . وَالثَّانِي : أَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ كَالضَّمَانِ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ رَجُلَيْنِ لَوْ ضَمِنَا أَلْفًا عَنْ رَجُلٍ كَانَتْ بَيْنَهُمَا ، وَلَا تَكُونُ الْأَلْفُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، كَذَلِكَ الرَّهْنُ إِذَا رَهَنَهُ دَارَيْنِ بِأَلْفٍ كَانَتِ الْأَلْفُ مُقَسَّطَةً عَلَيْهِمَا وَلَا تَكُونُ جَمِيعُ الْأَلْفِ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا . وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ جَمِيعُ الرَّهْنِ مُحْتَبَسًا بِجَمِيعِ الدَّيْنِ وَبِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ حَتَّى لَوْ رَهَنَهُ عَلَى أَلْفٍ فَقَضَاهُ أَلْفًا إِلَّا دِرْهَمًا كَانَ جَمِيعُ الرَّهْنِ مُحْتَبَسًا بِالدِّرْهَمِ الْبَاقِي ، دَلَّ عَلَى أَنَّ الرَّهْنَ كُلَّهُ وَكُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ رَهْنٌ فِي الْحَقِّ كُلِّهِ وَفِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ . فَإِنْ قِيلَ : هَذَا فَاسِدٌ بِالْمَبِيعِ يَتَقَسَّطُ الثَّمَنُ عَلَى أَجْزَائِهِ ، وَلَوْ قَبَضَ الْبَائِعُ بَعْضَ ثَمَنِهِ كَانَ لَهُ حَبْسُ جَمِيعِهِ بِالْبَاقِي ؟ قُلْنَا : عَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ عَلَى الْبَائِعِ أَنْ يُسَلِّمَ مِنَ الْمَبِيعِ بِقِسْطِ مَا قَبَضَ وَيَحْتَبِسُ مِنْهُ بِقِسْطِ مَا بَقِيَ حَتَّى لَوْ بَاعَ كُرَّيْنِ مِنْ طَعَامٍ بِأَلْفٍ وَقَبَضَ مِنْهَا نَصِفَهَا لَزِمَهُ تَسْلِيمُ أَحَدِ الْكُرَّيْنِ ، وَكَانَ لَهُ احْتِبَاسُ الْكُرِّ الْبَاقِي فَعَلَى هَذَا سَقَطَ السُّؤَالُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُ شَيْءٍ مِنَ الْمَبِيعِ إِلَّا بَعْدَ قَبْضِ جَمِيعِ الثَّمَنِ ، ثُمَّ هَذَا السُّؤَالُ لَا يَلْزَمُ : لِأَنَّ فِي الْمَبِيعِ حَقَّيْنِ : حَقَّ اسْتِحْقَاقٍ ، وَهَذَا مُتَقَسِّطٌ وَحَقُّ اسْتِيثَاقٍ وَهَذَا غَيْرُ مُتَقَسِّطٍ كَالرَّهْنِ ، وَهُوَ إِنَّمَا يَحْتَبِسُهُ بِحَقِّ الِاسْتِيثَاقِ لَا بِحَقِّ الِاسْتِحْقَاقِ فَصَارَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ كَالرَّهْنِ . وَالدَّلَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ فِي الْحَقِّ كَالشَّهَادَةِ وَالضَّمَانِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الشَّهَادَةَ وَذِمَّةَ
الضَّامِنِ وَثِيقَةٌ فِي الْحَقِّ كُلِّهِ وَفِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ وَثِيقَةً فِي الْحَقِّ كُلِّهِ وَفِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ مِنَ الْمَبِيعِ ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ الثَّمَنَ فِي الْمَبِيعِ عِوَضٌ عَنْهُ وَالْعِوَضُ عَنْ جَمِيعِ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ عِوَضًا عَنْ بَعْضِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الرَّهْنُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعِوَضٍ وَإِنَّمَا هُوَ وَثِيقَةٌ ، وَالْوَثِيقَةُ فِي الشَّيْءِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ وَثِيقَةً فِي بَعْضِهِ . وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الضَّامِنَيْنِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ ، لِأَنَّ الضَّامِنَيْنِ هُمَا كَالْعَاقِدَيْنِ فَلِذَلِكَ تَبَعَّضَ ، وَكَذَلِكَ الرَّهْنُ إِذَا كَانَ فِي عَقْدَيْنِ كَانَ مُتَبَعِّضًا كَالضَّامِنَيْنِ . وَأَمَّا الْعَقْدُ الْوَاحِدُ فَهُوَ كَالضَّامِنِ الْوَاحِدِ . فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمَقْبُوضَةَ مِنَ الدَّارَيْنِ تَكُونُ رَهْنًا بِجَمِيعِ الْحَقِّ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ فَلَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ ، وَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ فَالْمُرْتَهِنُ الْبَائِعُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُقِيمَ عَلَى الْمَبِيعِ بِارْتِهَانِ إِحْدَى الدَّارَيْنِ وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ ، لِأَنَّهُ شَرَطَ ارْتِهَانَ دَارَيْنِ فَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ إِلَّا ارْتِهَانُ إِحْدَاهُمَا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ أَصَابَهَا هَدْمٌ بَعْدَ الْقَبْضِ كَانَتْ رَهْنًا بِحَالِهَا وَمَا سَقَطَ مِنْ خَشَبِهَا أَوْ طُوبِهَا يَعْنِي الْآجُرَّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . إِذَا رَهَنَ دَارًا فَانْهَدَمَتْ هل يبطل الرهن ؟ لَمْ يَبْطُلِ الرَّهْنُ ، سَوَاءٌ انْهَدَمَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ ، لِبَقَاءِ مَا يَجُوزُ أَنْ يُبْتَدَأَ بِالْعَقْدِ عَلَيْهِ . فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ لَوِ اسْتَأْجَرَ دَارًا فَانْهَدَمَتْ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ ؟ فَهَلَّا كَانَ إِذَا ارْتَهَنَ دَارًا فَانْهَدَمَتْ بَطَلَ الرَّهْنُ ؟ قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ عَلَى الْمَنَافِعِ ، وَبِانْهِدَامِ الدَّارِ تَبْطُلُ الْمَنَافِعُ فَبَطَلَتِ الْإِجَارَةُ . وَعَقْدُ الرَّهْنِ عَلَى عَيْنِ الدَّارِ وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ خَشَبٍ وَطُوبٍ ، وَبِانْهِدَامِ الدَّارِ لَا تَذْهَبُ الْعَيْنُ فَلَمْ يَبْطُلِ الرَّهْنُ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوِ اسْتَأْجَرَ دَارًا مَهْدُومَةً لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا لَمْ تَصِحَّ الْإِجَارَةُ وَلَوِ ارْتَهَنَ دَارًا مَهْدُومَةً لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا صَحَّ الرَّهْنُ . فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ انْهِدَامَ الدَّارِ الْمَرْهُونَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ أو بعد القبض لَا يُبْطِلُ الرَّهْنَ ، فَلَا يَخْلُو انْهِدَامُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ :
إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ ، كَانَ الْمُرْتَهِنُ بِالْخِيَارِ إِنْ كَانَ الرَّهْنُ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ وَبَيْنَ فَسْخِهِ لِمَا طَرَأَ عَلَيْهِ مِنَ النَّقْصِ قَبْلَ قَبْضِهِ . وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَبْضِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَلَا خِيَارَ لَهُ : لِأَنَّ الْعَيْبَ الْحَادِثَ بَعْدَ الْقَبْضِ لَيْسَ بِأَكْثَرَ مِنْ تَلَفِ الرَّهْنِ بَعْدَ الْقَبْضِ وَلَوْ تَلِفَ بَعْدَ الْقَبْضِ لَمْ يَكُنْ لَهُ خِيَارٌ ، فَأَوْلَى أَلَّا يَكُونَ لَهُ بِالْعَيْبِ خِيَارٌ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ خِيَارٌ فَمَا بَقِيَ مِنَ الدَّارِ مَا سَقَطَ مِنْ خَشَبٍ وَطُوبٍ رُهِنَ بِحَالِهِ يُبَاعُ عِنْدَ حُلُولِ الْحَقِّ وَيُسْتَوْفَى مِنْهُ إِنْ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ مِنَ الرَّهْنِ .
مَسْأَلَةٌ لَوْ رَهَنَهُ جَارِيَةً قَدْ وَطِئَهَا قَبْلَ الْقَبْضِ فَظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ أَقَرَّ بِهِ فَهِيَ خَارِجَةٌ مِنَ الرَّهْنِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ رَهَنَهُ جَارِيَةً قَدْ وَطِئَهَا قَبْلَ الْقَبْضِ فَظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ أَقَرَّ بِهِ فَهِيَ خَارِجَةٌ مِنَ الرَّهْنِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ رَهَنَ جَارِيَةً فَظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الرَّاهِنِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَدَّعِيَهُ أَنَّهُ وَلَدُهُ أَوْ لَا يَدَّعِيهِ ، فَإِنِ ادَّعَاهُ وَلَدًا مِنْ وَطْءٍ كَانَ قَبْلَ الرَّهْنِ ، فَالْوَلَدُ لَاحِقٌ بِهِ بِدَعْوَاهُ سَوَاءٌ صَدَّقَ الْمُرْتَهِنُ أَوْ كَذَّبَ : لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَا حَقَّ لَهُ فِي الْوَلَدِ . وَأَمَّا الْأُمُّ فَتَرْجِعُ إِلَى تَصْدِيقِ الْمُرْتَهِنِ وَتَكْذِيبِهِ فِيهَا لِمَا ثَبَتَ لَهُ مِنَ الْحَقِّ فِي رَقَبَتِهَا بَعْدَ الرَّهْنِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ عَلَى ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبَهُ ، فَإِنْ صَدَّقَهُ عَلَى ذَلِكَ صَارَتِ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لِلرَّاهِنِ ، وَخَرَجَتْ مِنَ الرَّهْنِ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى كَوْنِهَا أُمَّ وَلَدٍ وَقْتَ الْعَقْدِ ، وَإِنْ كَذَّبَهُ الْمُرْتَهِنُ فَلِلرَّاهِنِ حَالَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَكُونَ قَدْ أَقَرَّ بِوَطْئِهَا قَبْلَ إِقْبَاضِهَا لِلْمُرْتَهِنِ وَيُعْلَمُ ذَلِكَ إِمَّا بِبَيِّنَةٍ أَوْ تَصْدِيقٍ مِنَ الْمُرْتَهِنِ فَيُحْكَمُ بِقَوْلِهِ وَتَخْرُجُ الْجَارِيَةُ مِنَ الرَّهْنِ وَتَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لِلرَّاهِنِ إِذَا جَاءَتْ بِهِ لِزَمَانٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَنْ وَطْءٍ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ لِأَرْبَعِ سِنِينَ فَمَا دُونَ فَأَمَّا إِنْ وَضَعَتْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ فَقَوْلُ الرَّاهِنِ غَيْرُ مَقْبُولٍ لِعِلْمِنَا بِكَذِبِهِ إِذِ الْحَمْلُ لَا يَكُونُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْجَارِيَةُ رَهْنًا لَا تَخْرُجُ مِنَ الرَّهْنِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَلَّا يَكُونَ قَدْ أَقَرَّ بِوَطْئِهَا وَلَا حُفِظَ ذَلِكَ عَلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ وَضْعِهَا ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَضَعَهُ أَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ الْقَبْضِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ ، وَتَخْرُجُ
الْجَارِيَةُ مِنَ الرَّهْنِ وَتَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَقَلُّ الْحَمْلِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ عُلِمَ تَقَدُّمُ الْعُلُوقِ عَلَى الْقَبْضِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ تَضَعَهُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ الْقَبْضِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ ، وَالْجَارِيَةُ عَلَى حَالِهَا لَا تَخْرُجُ مِنَ الرَّهْنِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَكْثَرُ الْحَمْلِ أَرْبَعَ سِنِينَ عُلِمَ حُدُوثُ الْعُلُوقِ بَعْدَ الْقَبْضِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ تَضَعَهُ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَدُونَ أَرْبَعِ سِنِينَ فَعَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاهِنِ وَتَخْرُجُ مِنَ الرَّهْنِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ وَيَصِيرُ الرَّاهِنُ كَالْوَاطِئِ بَعْدَ إِقْبَاضِ الرَّهْنِ . وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي الرَّاهِنِ إِذَا ادَّعَى بَعْدَ إِقْبَاضِ الرَّهْنِ أَنَّ عَبْدَهُ الْمَرْهُونَ جَنَى قَبْلَ الرَّهْنِ أَوْ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ قَبْلَ الرَّهْنِ وَأَنْكَرَ الْمُرْتَهِنُ فَعَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاهِنِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ . كَذَلِكَ مَسْأَلَتُنَا . فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ فَمَعَ يَمِينِهِ لَا يَخْتَلِفُ ، فَإِنْ نَكَلَ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الرَّاهِنِ ، فَإِذَا حَلَفَ خَرَجَتْ مِنَ الرَّهْنِ ، وَإِنْ نَكَلَ كَانَتْ رَهْنًا بِحَالِهَا ، فَإِنْ بَدَأَتِ الْجَارِيَةُ الْيَمِينَ فَعَلَى قَوْلَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي غُرَمَاءِ الْمُفْلِسِ إِذَا أَجَابُوا إِلَى الْيَمِينِ عِنْدَ نُكُولِ الْمُفْلِسِ فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ بِيَمِينِهِ إِنْ حَلَفَ . وَإِذَا قُلْنَا إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاهِنِ ، نَفَى الْيَمِينَ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الرَّاهِنِ إِذَا اعْتَرَفَ بِجِنَايَةِ عَبْدِهِ قَبْلَ رَهْنِهِ ، أَوْ أَقَرَّ بِعِتْقِهِ ، وَقِيلَ إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاهِنِ هَلْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : كَذَلِكَ هَاهُنَا وَإِذَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ هَلْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَمِينَ عَلَيْهِ . وَالثَّانِي : عَلَيْهِ الْيَمِينُ . فَإِنْ حَلَفَ خَرَجَتْ مِنَ الرَّهْنِ ، وَإِنْ نَكَلَ رُدَّتْ عَلَى الْمُرْتَهِنِ فَهَذَا حُكْمُ الْوَلَدِ إِذَا ادَّعَاهُ الرَّاهِنُ . فَصْلٌ : فَأَمَّا حُكْمُ الْوَلَدِ إِذَا لَمْ يَدَّعِيهِ الرَّاهِنُ وَلَدًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَلَّا يَكُونَ مِنْهُ إِقْرَارٌ بِوَطْئِهَا وَلَيْسَ يَدَّعِي وَلَدَهَا ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْوَلَدُ مَمْلُوكًا لَا يَلْحَقُ بِهِ ، وَالْجَارِيَةُ فِي الرَّهْنِ إِلَّا أَنَّ الْوَلَدَ لَا يَدْخُلُ فِي الرَّهْنِ ، لِأَنَّ نَمَاءَ الرَّهْنِ عِنْدَنَا خَارِجٌ مِنَ الرَّهْنِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ قَدْ أَقَرَّ بِوَطْئِهَا قَبْلَ الْقَبْضِ ، فَالْوَلَدُ لَاحِقٌ بِهِ ، وَهُوَ حُرٌّ إِذَا وَضَعَتْهُ لِزَمَانٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ مَا لَمْ يَدَّعِ اسْتِبْرَاءَهَا فَإِنِ ادَّعَى اسْتِبْرَاءَهَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ وَكَانَ الْوَلَدُ مَمْلُوكًا لَا يَلْحَقُ بِهِ إِلَّا أَنْ تَضَعَهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الِاسْتِبْرَاءِ فَيَلْحَقُ بِهِ . فَأَمَّا خُرُوجُ الْأُمِّ مِنَ الرَّهْنِ فَقَدْ قَالَ أَبُو الْفَيَّاضِ فِي شَرْحِهِ : لَا تَخْرُجُ مِنَ الرَّهْنِ لَا يَخْتَلِفُ الْقَوْلُ فِيهِ ، قَالَ : لِأَنَّ الْوَلَدَ لَحِقَ بِهِ لِأَجْلِ الْفِرَاشِ لَا بِالِاعْتِرَافِ ، وَهَذَا الْقَوْلُ عِنْدِي غَيْرُ صَحِيحٍ ، لِأَنَّ خُرْجَهَا مِنَ الرَّهْنِ إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ ، وَهِيَ تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ بِالْفِرَاشِ فَوَجَبَ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ الرَّهْنِ إِذَا لَحِقَ وَلَدُهَا بِالِاعْتِرَافِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنْ وَضَعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ خَرَجَتْ مِنَ الرَّاهِنِ ، فَإِنْ وَضَعَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا فَعَلَى قَوْلَيْنِ . فَلَوْ قَالَتِ الْجَارِيَةُ : هَذَا الْوَلَدُ مِنْ زِنًا وَلَيْسَ مِنَ الرَّاهِنِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ فِرَاشًا بِالْوَطْءِ السَّابِقِ . فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حُكْمِ الْجَارِيَةِ إِذَا وَضَعَتْهُ فِي خُرُوجِهَا مِنَ الرَّهْنِ أَوْ بَقَائِهَا فِيهِ مَعَ لُحُوقِ وَلَدِهَا بِالرَّاهِنِ ، انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى حُكْمِهَا إِنْ خَرَجَتْ مِنَ الرَّهْنِ وَإِلَى حُكْمِهَا إِنْ بَقِيَتْ فِي الرَّهْنِ ، فَأَمَّا حُكْمُهَا إِنْ خَرَجَتْ مِنَ الرَّهْنِ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي وَصَفْنَا . فَخُرُوجُهَا إِنَّمَا يَكُونُ بِعُلُوقٍ قَبْلَ الرَّهْنِ صَارَتْ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ فَبَطَلَ الرَّهْنُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الرَّهْنُ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ فَقَدْ بَطَلَ الرَّهْنُ وَلَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ ، وَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْوَطْءِ الَّذِي كَانَ بِهِ الْإِحْبَالُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ عَقْدِ الرَّهْنِ أَوْ بَعْدَ عَقْدِ الرَّهْنِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ . فَإِنْ كَانَ الْوَطْءُ بَعْدَ عَقْدِ الرَّهْنِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ للأمة المرهونة : البيع في هذه الحالة فَالْبَيْعُ جَائِزٌ لَا يُخْتَلَفُ وَالرَّهْنُ بَاطِلٌ . وَإِنَّمَا كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا : لِأَنَّ بُطْلَانَ الرَّهْنِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ كَانَ بَعْدَ الْعَقْدِ فَصَارَ بُطْلَانُهُ كَبُطْلَانِ الرَّهْنِ التَّالِفِ بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُبْطِلٍ لِلْبَيْعِ فَكَذَلِكَ هَذَا ، وَإِذَا لَمْ يَبْطُلِ الْبَيْعُ فَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ بِعَقْدِ الرَّهْنِ الَّذِي شَرَطَهُ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِلَا رَهْنٍ وَبَيْنَ فَسْخِهِ . وَإِنْ كَانَ الْوَطْءُ قَبْلَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ للأمة المرهونة : البيع في هذه الحالة فَقَدْ بَانَ أَنَّهَا كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ حَالَ الْعَقْدِ ، فَلَمْ يَجُزْ رَهْنُهَا وَلَا الْعَقْدُ عَلَيْهَا ، وَصَارَ الثَّمَنُ مَعْقُودًا بِشَرْطِ رَهْنٍ بَاطِلٍ فَكَانَ الْبَيْعُ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ لِبُطْلَانِ الرَّهْنِ الْمُقْتَرِنِ بِهِ فِي الْعَقْدِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : جَائِزٌ لِاسْتِقْلَالِ الْبَيْعِ بِحُكْمِهِ وَصِحَّةِ تَمَيُّزِهِ عَنْ غَيْرِهِ ، وَلَكِنْ يَكُونُ الْبَائِعُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِلَا رَهْنٍ وَبَيْنَ فَسْخِهِ ، فَهَذَا حُكْمُ الْجَارِيَةِ إِذَا خَرَجَتْ مِنَ الرَّهْنِ ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ بُطْلَانِ الْبَيْعِ وَخِيَارِ الْمُرْتَهِنِ ، فَأَمَّا حُكْمُهُمَا إِذَا بَقِيَتْ فِي الرَّهْنِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا إِذَا أَمْكَنَ اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ مِنَ الرَّاهِنِ ، فَإِذَا اسْتَوْفَى الْحَقُّ فِيهِ خَرَجَتْ مِنَ الرَّهْنِ ، ثُمَّ هِيَ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ لَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهَا وَلَا رَهْنُهَا وَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ مِنْهُ بِيعَتْ لِمَا قَدْ تَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهَا مِنْ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ ، فَإِنْ عَادَ الرَّاهِنُ فَمَلِكَهَا بِابْتِيَاعٍ أَوْ هِبَةٍ فَقَدْ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ بَيْعُهَا وَرَهْنُهَا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوِ اغْتَصَبَهَا بَعْدَ الْقَبْضِ فَوَطِئَهَا فَهِيَ بِحَالِهَا ، فَإِنِ افْتَضَّهَا فَعَلَيْهِ مَا نَقَصَهَا يَكُونُ رَهْنًا مَعَهَا أَوْ قِصَاصًا مِنَ الْحَقِّ ، فَإِنْ أَحْبَلَهَا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهَا لَمْ تُبَعْ مَا كَانَتْ حَامِلًا فَإِذَا وَلَدَتْ بِيعَتْ دُونَ وَلَدِهَا وَعَلَيْهِ مَا نَقَصَتْهَا الْوِلَادَةُ ، وَإِنْ مَاتَتْ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا تَكُونُ رَهْنًا أَوْ قِصَاصًا مِنَ الْحَقِّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . أَمَّا إِذَا أَرَادَ الرَّاهِنُ أَنْ يَطَأَ الْجَارِيَةَ الْمَرْهُونَةَ ، قَبْلَ الْقَبْضِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يُمْنَعْ مِنَ الْوَطْءِ : لِأَنَّ رَهْنَهَا قَبْلَ الْقَبْضِ غَيْرُ لَازِمٍ ، فَإِنْ وَطِئَهَا وَلَمْ تَحْبَلْ لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ الْمُتَقَدِّمِ ، فَإِنْ أَقْبَضَهَا بِذَلِكَ الْعَقْدِ صَحَّ الرَّهْنُ وَلَزِمَ . وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَطَأَ بَعْدَ الْقَبْضِ فَلِلْجَارِيَةِ الْمَرْهُونَةِ حَالَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ تَكُونَ مِنْ ذَوَاتِ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ اللَّاتِي يُخَافُ مِنْ وَطْئِهِنَّ الْحَبَلُ ، فَلَا يَجُوزُ لِلرَّاهِنِ وَطْؤُهَا وَإِنْ كَانَ أَحَقَّ بِمَنَافِعِهَا : لِأَنَّ وَطْأَهَا ذَرِيعَةٌ إِلَى إِحْبَالِهَا وَإِحْبَالُهَا مُبْطِلٌ لِرَهْنِهَا وَمَا أَدَّى إِلَى بُطْلَانِ الرَّهْنِ كَانَ مَمْنُوعًا مِنْهُ . فَإِنْ قِيلَ : فَيَجُوزُ أَنْ يَطَأَهَا دُونَ الْفَرْجِ ، إِذْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ إِحْبَالٌ لَهَا قِيلَ : لَا يَجُوزُ ، لِأَنَّ وَطْأَهَا دُونَ الْفَرْجِ دَاعٍ إِلَى وَطْئِهَا فِي الْفَرْجِ ، وَمَا كَانَ دَاعِيًا أَمْرًا مَمْنُوعًا مِنْهُ كَانَ فِي نَفْسِهِ مَمْنُوعًا مِنْهُ كَإِمْسَاكِ الْخَمْرِ فَمَا كَانَ دَاعِيًا إِلَى تَنَاوُلِهَا كَانَ مَمْنُوعًا مِنْهُ كَمَا كَانَ مَمْنُوعًا مِنْ تَنَاوُلِهَا . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ لَا تَحْبَلُ إِمَّا لِصِغَرٍ أَوْ إِيَاسٍ فَفِي جَوَازِ وَطْءِ الرَّاهِنِ لَهَا وَجْهَانِ :
أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : يَجُوزُ لَهُ وَطْؤُهَا : لِأَنَّ حَبَلَهَا الْمُفْضِيَ إِلَى إِبْطَالِ رَهْنِهَا مَأْمُونٌ ، فَصَارَ الْوَطْءُ كَالِاسْتِخْدَامِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا : لَا يَجُوزُ وَطْؤُهَا ، لِأَنَّ الْإِيَاسَ مَظْنُونٌ وَحَبَلُ الْمُرَاهِقَةِ غَيْرُ مَأْمُونٍ ، فَصَارَ كَالشَّرَابِ لَمَّا كَانَ مَا يُسْكَرُ مِنْهُ غَيْرَ مَحْدُودٍ ، وَيَخْتَلِفُ عَلَى حَسَبِ قُوَّةِ الْأَشْرِبَةِ وَاخْتِلَافِ النَّاسِ مُنِعَ مِنْ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ . فَصْلٌ : وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ وَطْئِهَا عَلَى مَا وَصَفْنَا ، فَوَطْؤُهَا عَلَى ضَرْبَيْنِ الْجَارِيَةَ الْمَرْهُونَةَ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَطَأَ دُونَ الْفَرْجِ فَلَا حُكْمَ لَهُ ، وَهِيَ بِحَالِهَا رَهْنٌ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَطَأَ فِي الْفَرْجِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا تَعْزِيرَ ، لِأَنَّهَا مِلْكُهُ ثُمَّ هُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُحْبِلَهَا . وَالثَّانِي : أَلَّا يُحْبِلَهَا . فَإِنْ لَمْ يُحْبِلْهَا فَلَهَا حَالَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ بِكْرًا . وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ ثَيِّبًا . فَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا فَلَا شَيْءَ عَلَى الرَّاهِنِ الْوَاطِئِ مِنْ مَهْرٍ وَلَا غَيْرِهِ : لِأَنَّ الْمَهْرَ مِنْ كَسْبِهَا وَكَسْبُهَا لِلرَّاهِنِ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الرَّهْنِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَجْنَبِيًّا لَوْ وَطِئَهَا فَلَزِمَهُ الْمَهْرُ كَانَ مِلْكًا لِلرَّاهِنِ غَيْرَ دَاخِلٍ فِي الرَّهْنِ ، فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْوَاطِئُ هُوَ الرَّاهِنَ لَمْ تَلْزَمْهُ غَرَامَةُ الْمَهْرِ فِي الرَّهْنِ . وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا فَعَلَيْهِ أَرْشُ بَكَارَتِهَا وَمَا نَقَصَهَا الِافْتِضَاضُ بِوَطْئِهِ إِيَّاهَا لِيَكُونَ رَهْنًا مَعَهَا أَوْ قِصَاصًا مِنَ الْحَقِّ وَإِنَّمَا لَزِمَهُ أَرْشُ بَكَارَتِهَا وَلَمْ يَلْزَمْهُ مَهْرُهَا : لِأَنَّ أَرْشَ الْبَكَارَةِ بَدَلٌ مِنْ إِتْلَافِ عُضْوٍ مِنْهَا وَذَلِكَ دَاخِلٌ فِي الرَّهْنِ غَيْرُ خَارِجٍ مِنْهُ كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَهَا ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَجْنَبِيًّا لَوْ أَزَالَ بَكَارَتَهَا فَلَزِمَهُ أَرْشُهَا كَانَ الْأَرْشُ دَاخِلًا فِي الرَّهْنِ ، فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ مُزِيلَ الْبَكَارَةِ هُوَ الرَّاهِنَ لَزِمَهُ غَرَامَةُ الْأَرْشِ فِي الرَّهْنِ ، فَهَذَا حُكْمُ وَطْئِهِ إِذَا لَمْ تَحْبَلْ . فَأَمَّا إِذَا أَحْبَلَهَا بِوَطْئِهِ فَالْكَلَامُ فِي الْمَهْرِ وَأَرْشِ الْبَكَارَةِ عَلَى مَا مَضَى مِنْ وُجُوبِ الْأَرْشِ وَسُقُوطِ الْمَهْرِ ، ثُمَّ هِيَ قَبْلَ وَضْعِ حَمْلِهَا رَهْنٌ بِحَالِهَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْحَمْلُ غَلَطًا أَوْ رِيحًا ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا فِي الرَّهْنِ قَبْلَ وَضْعِهَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْحَمْلُ صَحِيحًا . فَإِذَا وَضَعَتْ حَمْلَهَا فَالْوَلَدُ حُرٌّ لَاحِقٌ بِالرَّاهِنِ لِأَنَّهُ مِنْ أَمَتِهِ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ غُرْمُ قِيمَتِهِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَمْلُوكًا لَكَانَ غَيْرَ دَاخِلٍ فِي الرَّهْنِ .
فَأَمَّا الْأُمُّ فَهِيَ لَهُ أُمُّ وَلَدٍ ، إذا وطئها المرتهن ووضعت ولدا هَلْ تَخْرُجُ مِنَ الرَّهْنِ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ تَخْرُجُ مِنَ الرَّهْنِ أَمْ لَا ؟ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي كِتَابِ الرَّهْنِ الصَّغِيرِ الْمَنْسُوبِ إِلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ : إِنْ كَانَ مُعْسِرًا لَمْ تَخْرُجْ مِنَ الرَّهْنِ فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا فَعَلَى قَوْلَيْنِ ، وَقَالَ فِي كِتَابِ الرَّهْنِ الْكَبِيرِ الْمَنْسُوبِ إِلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ : أَنَّهُ إِنْ كَانَ مُوسِرًا خَرَجَتْ مِنَ الرَّهْنِ وَطُولِبَ بِقِيمَتِهَا ، وَتَكُونُ رَهْنًا أَوْ قِصَاصًا مِنَ الْحَقِّ ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَعَلَى قَوْلَيْنِ . فَحَصَلَ فِي خُرُوجِهَا مِنَ الرَّهْنِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : أَنَّهَا تَخْرُجُ مِنَ الرَّهْنِ فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهَا لَا تَخْرُجُ مِنَ الرَّهْنِ فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : تَخْرُجُ مِنَ الرَّهْنِ فِي الْيَسَارِ وَلَا تَخْرُجُ مِنْهُ فِي الْإِعْسَارِ . وَإِذَا قُلْنَا : تَخْرُجُ مِنَ الرَّهْنِ فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ فَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَوَجْهُهُ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : هُوَ أَنَّ الرَّهْنَ مُحْتَبِسٌ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ بِدَيْنِهِ كَمَا أَنَّ الْمَبِيعَ مُحْتَبِسٌ فِي يَدِ الْبَائِعِ بِثَمَنِهِ ، فَلَمَّا كَانَ حَبْسُ الْجَارِيَةِ فِي يَدِ الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ لَا يَمْنَعُ مِنْ أَنْ تَصِيرَ بِوَطْءِ الْمُشْتَرِي أُمَّ وَلَدٍ يَحْرُمُ بَيْعُهَا ، كَذَلِكَ حَبْسُ الْجَارِيَةِ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ بِدَيْنِهِ لَا يَمْنَعُ مِنْ أَنْ تَصِيرَ بِوَطْءِ الرَّاهِنِ أُمَّ وَلَدٍ يَحْرُمُ بَيْعُهَا . وَالثَّانِي : هُوَ أَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ وَالذِّمَّةِ ، وَحُكْمُ الْإِحْبَالِ مُتَعَلِّقٌ بِالْعَيْنِ دُونَ الذِّمَّةِ ، وَالْحَقَّانِ إِذَا تَرَادَفَا وَكَانَ أَحَدُهُمَا مُتَعَلِّقًا بِالْعَيْنِ وَالذِّمَّةِ ، وَالْآخَرُ مُتَعَلِّقًا بِالْعَيْنِ دُونَ الذِّمَّةِ ، كَانَ مَا تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ دُونَ الذِّمَّةِ مُتَقَدِّمًا عَلَى مَا تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ وَالذِّمَّةِ ، كَالْجِنَايَةِ إِذَا حَدَثَتْ مِنَ الرَّهْنِ كَانَتِ الْجِنَايَةُ مُتَقَدِّمَةً لِتَعَلُّقِهَا بِالدَّيْنِ . وَالثَّالِثُ : هُوَ حُكْمُ الْإِحْبَالِ أَقْوَى مِنَ الرَّهْنِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ حُكْمَ الْإِحْبَالِ يَقَعُ فِي الْمِلْكِ وَيَسْرِي إِلَى غَيْرِ الْمِلْكِ ، وَالرَّهْنُ لَا يَصِحُّ إِلَّا فِي مِلْكٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ حُكْمَ الْإِحْبَالِ يَسْتَوِي فِيهِ الرَّشِيدُ وَغَيْرُ الرَّشِيدِ ، وَالرَّهْنُ لَا يَصِحُّ إِلَّا مِنْ رَشِيدٍ ، فَإِذَا كَانَ الْإِحْبَالُ أَقْوَى مِنَ الرَّهْنِ فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وَزِيَادَةً غَلَبَ حُكْمُ الْإِحْبَالِ عَلَى الرَّهْنِ . . فَهَذَا تَوْجِيهُ هَذَا الْقَوْلِ . وَإِذَا قُلْنَا : إِنَّهَا لَا تَخْرُجُ مِنَ الرَّهْنِ فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ وَهُوَ قَوْلُ دَاوُدَ فَوَجْهُهُ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ :
أَحَدُهَا : هُوَ أَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَةِ الْجَارِيَةِ الْمَرْهُونَةِ كَمَا أَنَّ حَقَّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَةِ الْجَانِيَةِ ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْإِحْبَالُ مَانِعًا مِنْ بَيْعِهَا فِي الْجِنَايَةِ لَمْ يَكُنِ الْإِحْبَالُ مَانِعًا مِنْ بَيْعِهَا فِي الرَّهْنِ . وَالثَّانِي : هُوَ أَنَّ نُفُوذَ الْإِحْبَالِ مُبْطِلٌ لِوَثِيقَةِ الْمُرْتَهِنِ مِنَ الرَّهْنِ كَمَا أَنَّ الْبَيْعَ مُبْطِلٌ لِوَثِيقَةِ الْمُرْتَهِنِ مِنَ الرَّهْنِ ، فَلَمَّا كَانَ بَيْعُ الرَّاهِنِ غَيْرَ صَحِيحٍ لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْطَالِ وَثِيقَةِ الْمُرْتَهِنِ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِحْبَالُ الرَّاهِنِ غَيْرَ نَافِذٍ لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْطَالِ وَثِيقَةِ الْمُرْتَهِنِ . وَالثَّالِثُ : هُوَ أَنَّ إِثْبَاتَ الرَّهْنِ أَوْلَى مِنْ نُفُوذِ الْإِحْبَالِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الرَّهْنَ أَسْبَقُ مِنَ الْإِحْبَالِ فَكَانَ أَوْلَى . وَالثَّانِي : أَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ تَمَّ بِاخْتِيَارِهِمَا ، وَالْإِحْبَالُ حَادِثٌ بِاخْتِيَارِ أَحَدِهِمَا فَكَانَ مَا تَمَّ بِاخْتِيَارِهِمَا أَوْلَى ، وَإِذَا كَانَ إِثْبَاتُ الرَّهْنِ أَوْلَى مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَمْ يَكُنْ لِلْإِحْبَالِ تَأْثِيرٌ فِيهِ فَهَذَا تَوْجِيهُ هَذَا الْقَوْلِ . وَإِذَا قُلْنَا : إِنَّهَا تَخْرُجُ مِنَ الرَّهْنِ فِي الْيَسَارِ وَلَا تَخْرُجُ مِنْهُ فِي الْإِعْسَارِ فَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَوَجْهُهُ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : هُوَ أَنَّ الرَّاهِنَ مَمْنُوعٌ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الرَّهْنِ كَمَا أَنَّ الشَّرِيكَ مَمْنُوعٌ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي حِصَّةِ الشَّرِيكِ ، فَلَمَّا كَانَ إِحْبَالُ الشَّرِيكِ نَافِذًا فِي حِصَّةِ شَرِيكِهِ فِي الْيَسَارِ دُونَ الْإِعْسَارِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِحْبَالُ الرَّاهِنِ نَافِذًا فِي الرَّهْنِ فِي الْيَسَارِ دُونَ الْإِعْسَارِ . وَالثَّانِي : هُوَ أَنَّ الْحَقَّيْنِ إِذَا أَمْكَنَ اسْتِيفَاؤُهُمَا لَمْ يَجُزْ إِسْقَاطُ أَحَدِهِمَا وَفِي الْيَسَارِ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُمَا وَفِي الْإِعْسَارِ لَا يُمْكِنُ تَقَدُّمُ الرَّهْنِ ، لِأَنَّهُ أَسْبَقُهُمَا . وَالثَّالِثُ : هُوَ أَنَّ الْإِحْبَالَ تَصَرُّفٌ فِي عَيْنٍ تَعَلَّقَ بِهَا اسْتِيفَاءُ حَقِّ الْغَيْرِ مِنْهَا ، فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ الْيَسَارُ فِي إِمْضَاءِ تَصَرُّفِهِ ، وَالْإِعْسَارُ فِي رَدِّ تَصَرُّفِهِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ التَّصَرُّفَ مُوجِبٌ لِلْغُرْمِ وَالْمُوسِرُ قَادِرٌ عَلَى الْغُرْمِ دُونَ الْمُعْسِرِ . وَالثَّانِي : أَنَّ رَدَّ التَّصَرُّفِ حَجْرٌ ، وَالْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِحَقِّ الدَّيْنِ هُوَ الْمُعْسِرُ دُونَ الْمُوسِرِ فَهَذَا تَوْجِيهُ هَذَا الْقَوْلِ . فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْأَقَاوِيلِ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى إِبَانَةِ حُكْمِ الْجَارِيَةِ إِذَا قُلْنَا بِخُرُوجِهَا مِنَ الرَّهْنِ ، وَإِلَى حُكْمِهَا إِذَا قُلْنَا بِبَقَائِهَا فِي الرَّهْنِ . فَأَمَّا إِذَا قُلْنَا : إِنَّهَا قَدْ خَرَجَتْ مِنَ الرَّهْنِ فَقَدْ صَارَتْ لِلرَّاهِنِ أُمَّ وَلَدٍ بِنَفْسِ الْعُلُوقِ لَا
يَخْتَلِفُ ، وَلَيْسَ كَمَا غَلِطَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْبَغْدَادِيِّينَ ، فَخَرَّجَ ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ بِنَفْسِ الْعُلُوقِ . وَالثَّانِي : بِدَفْعِ الْقِيمَةِ . وَالثَّالِثُ : مَوْقُوفٌ اعْتِبَارًا بِوَطْءِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ . وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ قَائِلِهِ ، لِأَنَّ وَطْءَ الرَّاهِنِ صَادَفَ مِلْكًا ، وَإِنَّمَا يَدْفَعُ الْقِيمَةَ لَا غُرْمًا لِلْمُتْلَفِ وَلَكِنْ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِيثَاقِ لِلْمُرْتَهِنِ فَصَارَتْ بِنَفْسِ الْعُلُوقِ أُمَّ وَلَدٍ . وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَصِيرَ بِدَفْعِ الْقِيمَةِ أُمَّ وَلَدٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَضَى الدَّيْنَ وَلَمْ يَدْفَعِ الْقِيمَةَ كَانَتْ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ حِصَّةُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ بِنَفْسِ الْعُلُوقِ فَعَلَيْهِ دَفْعُ قِيمَتِهَا إِلَى الْمُرْتَهِنِ إِنْ كَانَ مُوسِرًا بِهَا ، سَوَاءٌ جَعَلْنَا الْيَسَارَ شَرْطًا فِي خُرُوجِهَا مِنَ الرَّهْنِ أَمْ لَا ، لِأَنَّهُ لَمَّا غَرِمَ أَرْشَ نَقْصِهَا بِجِنَايَتِهِ مَعَ بَقَائِهَا فِي الرَّهْنِ ، فَأَوْلَى أَنْ يُغَرَّمَ جَمِيعَ قِيمَتِهَا بِخُرُوجِهَا مِنَ الرَّهْنِ ، فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا بِهَا فِي الْحَالِ ثُمَّ أَيْسَرَ فِيمَا بَعْدُ غَرِمَ قِيمَتَهَا إِذَا أَيْسَرَ ، وَاعْتِبَارُ الْقِيمَةِ وَقْتَ الْعُلُوقِ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمَذْهَبُ ، لِأَنَّهُ بِالْعُلُوقِ قَدِ اسْتُهْلِكَ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ، فَالرَّاهِنُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَجْعَلَ الْقِيمَةَ رَهْنًا مَكَانَهَا أَوْ تَكُونَ قِصَاصًا مِنَ الْحَقِّ فَإِنْ جَعَلَهَا رَهْنًا ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ جَمِيعَ قِيمَتِهَا وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنَ الْحَقِّ لِأَنَّهُ يَصِيرُ رَهْنًا بَدَلًا عَنِ الْجَارِيَةِ الْمَرْهُونَةِ . وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهَا قِصَاصًا مِنَ الْحَقِّ فَعَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهَا أَوْ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا أَكْثَرَ مِنَ الْحَقِّ فَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ إِلَّا حَقُّهُ ، وَالزِّيَادَةُ لِلرَّاهِنِ ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا أَقَلَّ مِنَ الْحَقِّ فَقَدْ عَجَّلَ بَعْضَ مَا عَلَيْهِ ، وَمَنْ عَجَّلَ بَعْضَ مَا عَلَيْهِ لَمْ يَلْزَمْهُ تَعْجِيلُ بَاقِيهِ فَهَذَا حُكْمُهَا إِذَا خَرَجَتْ مِنَ الرَّهْنِ . فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْأَقَاوِيلِ فَأَمَّا إِذَا قُلْنَا : إِنَّهَا لَا تَخْرُجُ مِنَ الرَّهْنِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُبَاعَ قَبْلَ وَضْعِهَا ، لِأَنَّهَا حَامِلٌ بِحُرٍّ فَإِذَا وَضَعَتْ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ الجارية المرهونة : إِمَّا أَنْ تَمُوتَ بِالْوَضْعِ ، أَوْ لَا تَمُوتَ لَكِنْ تَنْقُصُ قِيمَتُهَا ، أَوْ لَا تَمُوتُ وَلَا تَنْقُصُ قِيمَتُهَا بِالْوَضْعِ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ تَمُوتَ بِالْوَضْعِ ، فَعَلَيْهِ غُرْمُ قِيمَتِهَا لِأَنَّ مَوْتَهَا بِسَبَبٍ مِنْهُ كَمَا لَوْ قَتَلَهَا فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ لَوِ اسْتَكْرَهَ أَمَةً عَلَى الْوَطْءِ فَأَحْبَلَهَا فَمَاتَتْ مِنَ الْوِلَادَةِ لَمْ يَكُنْ يَلْزَمُهُ قِيمَتُهَا فَهَلَّا كَانَتِ الْجَارِيَةُ الْمَرْهُونَةُ إِذَا مَاتَتْ مِنْ وَضْعِهَا بِإِحْبَالِهِ لَا يَلْزَمُهُ قِيمَتُهَا ؟
قُلْنَا : لِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ عَلَيْهِ قِيمَتَهَا إِنْ كَانَتْ أَمَةً وَدِيَتَهَا إِنْ كَانَتْ حُرَّةً ، فَعَلَى هَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَرْهُونَةِ وَغَيْرِهَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْحُرَّةِ وَلَا فِي الْأَمَةِ مِنْ دِيَةٍ وَلَا قِيمَةٍ ، فَعَلَى هَذَا الْفَرْقُ بَيْنَ الرَّاهِنِ حَيْثُ غَرِمَ الْقِيمَةَ وَبَيْنَ غَيْرِهِ : أَنَّ الرَّاهِنَ يَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ الَّذِي هُوَ سَبَبُ مَوْتِهَا ، وَذَلِكَ مِنْ جِهَتِهِ فَلَزِمَهُ غُرْمُ قِيمَتِهَا وَالْمُكْرَهُ عَلَى الزِّنَا لَا يَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ ، فَلَمْ يَكُنْ سَبَبَ مَوْتِهَا مِنْ جِهَتِهِ ، فَلَمْ يَلْزَمْ غُرْمُ قِيمَتِهَا فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَلَيْهِ غُرْمَ قِيمَتِهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اعْتِبَارِ وَقْتِ الْقِيمَةِ في الْجَارِيَةِ إِذَا قُلْنَا بِخُرُوجِهَا مِنَ الرَّهْنِ إذا وطئها المرتهن ووضعت ولدا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : وَقْتَ الْعُلُوقِ : لِأَنَّ بِالْوَطْءِ كَانَ التَّعَدِّي . وَالثَّانِي : وَقْتَ الْمَوْتِ : لِأَنَّ بِهِ اسْتَقَرَّ التَّلَفُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ . وَالثَّالِثُ : أَكْثَرُ مَا كَانَتْ قِيمَةً مِنْ وَقْتِ الْوَطْءِ إِلَى وَقْتِ الْمَوْتِ كَالْغَصْبِ . فَإِذَا غَرِمَ الْقِيمَةَ كَانَ بِالْخِيَارَيْنِ أَنْ تَكُونَ رَهْنًا مَكَانَهَا سَوَاءً كَانَتْ أَكْثَرَ مِنَ الْحَقِّ أَوْ أَقَلَّ ، وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ قِصَاصًا إِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنَ الْحَقِّ أَوْ مِثْلَهُ وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنَ الْحَقِّ لَمْ يَلْزَمْهُ دَفْعُ الزِّيَادَةِ عَلَى الْحَقِّ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ أَلَّا تَمُوتَ لَكِنْ تَنْقُصُ قِيمَتُهَا بِالْوَضْعِ : فَعَلَيْهِ غُرْمُ مَا نَقَصَتْهَا الْوِلَادَةُ يَكُونُ رَهْنًا مَعَهَا أَوْ قِصَاصًا مِنَ الْحَقِّ فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ رَهْنًا مَعَهَا كَانَ كَذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ فِيهَا وَفَاءٌ بِالْحَقِّ أَمْ لَا . وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ قِصَاصًا مِنَ الْحَقِّ كَانَ قِصَاصًا ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ وَفَاءٌ لِلدَّيْنِ خَرَجَتِ الْجَارِيَةُ مِنَ الرَّهْنِ وَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ وَفَاءٌ لِلدَّيْنِ وَبَقِيَ مِنْهُ شَيْءٌ وَإِنْ قَلَّ كَانَتِ الْجَارِيَةُ بِحَالِهَا رَهْنًا . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ عَلَى حَالِهَا لَمْ تَمُتْ وَلَمْ تَنْقُصْ بِالْوَضْعِ : فَلَا شَيْءَ عَلَى الرَّاهِنِ ، ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ الْحَقِّ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَالًّا ، أَوْ مُؤَجَّلًا : فَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا لَمْ يَجُزْ أَنْ تُبَاعَ قَبْلَ الْأَجَلِ ، وَإِنْ كَانَ حَالًّا لَمْ يَجُزْ أَنْ تُبَاعَ قَبْلَ اسْتِغْنَاءِ الْوَلَدِ عَنِ ارْتِضَاعِ اللِّبَأِ فَإِذَا ارْتَفَعَ اللِّبَأُ وَوُجِدَتْ مُرْضِعَةٌ تُرْضِعُهُ تَمَامَ الرَّضَاعِ جَازَ حِينَئِذٍ أَنْ تُبَاعَ فِي الدَّيْنِ وَيُفَرَّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْوَلَدِ فِي الْبَيْعِ ، فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ لَوْ كَانَ الْوَلَدُ مَمْلُوكًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْوَلَدِ فِي الْبَيْعِ حَتَّى يَسْتَكْمِلَ سَبْعًا ، فَهَلَّا قُلْتُمْ كَذَلِكَ فِي الْوَلَدِ إِذَا كَانَ حُرًّا ؟ قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْوَلَدَ إِذَا كَانَ مَمْلُوكًا أَمْكَنَ أَنْ تُبَاعَ مَعَهُ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُبَاعَ دُونَهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَعَ الْحُرِّ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْوَلَدَ إِذَا كَانَ مَمْلُوكًا فَحَضَانَتُهُ لِلْأُمِّ فَإِذَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا سَقَطَتِ الْحَضَانَةُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْحُرُّ : لِأَنَّ حَضَانَتَهُ لِلْأَبِ ، فَلَمْ يَكُنْ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا إِسْقَاطٌ لِلْحَضَانَةِ . فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ بَيْعِهَا وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ وَلَدِهَا لَمْ يَخْلُ حَالُ الدَّيْنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ الْجَارِيَةِ إِذَا قُلْنَا بِخُرُوجِهَا مِنَ الرَّهْنِ إذا وطئها المرتهن ووضعت ولدا : إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِثْلَ قِيمَتِهَا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ ، أَوْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ قِيَمَتِهَا ، أَوْ يَكُونَ أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهَا ، فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مِثْلَ قِيمَتِهَا وَتَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْ رَاهِنِهَا بِيعَتْ وَصُرِفَ ثَمَنُهَا فِي الدَّيْنِ وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ الدَّيْنُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا بِيعَتْ وَصُرِفَ ثَمَنُهَا فِي الدَّيْنِ وَكَانَ بَاقِي الدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ الرَّاهِنِ بِغَيْرِ رَهْنٍ ، فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهَا مِثْلَ أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهَا أَلْفًا وَالدَّيْنُ خَمْسَمِائَةٍ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُبَاعَ مِنْهَا بِقَدْرِ الدَّيْنِ وَهُوَ النِّصْفُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَيْهِ . قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ إِلَّا أَنْ لَا يُشْتَرَى النِّصْفُ بِحَالٍ فَتُبَاعُ جَمِيعُهَا وَيَصِيرُ الدَّيْنُ كَأَنَّهُ مُحِيطٌ بِقِيمَتِهَا ثُمَّ يَقْضِي مِنْهُ الدَّيْنَ ، وَيَرُدُّ الْبَاقِيَ عَلَى الرَّاهِنِ . فَأَمَّا إِذَا أَمْكَنَ بَيْعُ الْبَعْضِ مِنْهَا بِقَدْرِ الدَّيْنِ ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يُبَاعَ ذَلِكَ الْقَدْرُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ ، فَلَوْ كَانَ لَهُ غُرَمَاءُ يَسْتَحِقُّونَ بَقِيَّةَ ثَمَنِهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُبَاعَ الْبَاقِي مِنْهَا : لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ إِنَّمَا بِيعَ فِي دَيْنِ الْمُرْتَهِنِ لِلرَّهْنِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَاقِي غُرَمَائِهِ ، فَإِذَا بِيعَ مِنْهَا بِقَدْرِ دَيْنِ الْمُرْتَهِنِ وَهُوَ النِّصْفُ كَانَ النِّصْفُ الْبَاقِي أُمَّ وَلَدٍ لَا يَجُوزُ لِلرَّاهِنِ بَيْعُهُ وَكَانَ هُوَ وَشَرِيكُهُ الْمُشْتَرِي مَمْنُوعَيْنِ مِنَ الْوَطْءِ ، فَإِنْ مَاتَ الرَّاهِنُ عُتِقَتْ حِصَّتُهُ وَلَا تُقَوَّمُ عَلَيْهِ حِصَّةُ شَرِيكِهِ ، لِأَنَّ التَّقْوِيمَ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يَجِبُ ، وَتَكُونُ حِصَّةُ شَرِيكِهِ بَاقِيَةً عَلَى الرِّقِّ ، وَإِنَّمَا يُعْتَقُ عَلَى الرَّهْنِ قَدْرَ حِصَّتِهِ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : وَتُعْتَقُ بِمَوْتِهِ فِي قَوْلِ مَنْ يُعْتِقُهَا فَتَوَهَّمَ الْمُزَنِيُّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ تَوَقَّفَ فِي عِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ فَقَالَ : قَدْ قَطَعَ الشَّافِعِيُّ بِعِتْقِهَا فِي كِتَابِ عِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ . فَيُقَالُ لِلْمُزَنِيِّ : الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْتَ ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لَمْ يَخْتَلِفْ فِي عِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ بِالْمَوْتِ ، وَأَنَّ بَيْعَهَا لَا يَجُوزُ فِي الْحَيَاةِ وَإِنَّمَا قَالَ : وَتُعْتَقُ بِمَوْتِهِ فِي قَوْلِ مَنْ يُعْتِقُهَا يَعْنِي مِنَ الصَّحَابَةِ : لِأَنَّ فِيهِمْ مَنْ يُخَالِفُ ، فَقَالَ : يَجُوزُ بَيْعُهَا وَلَا تُعْتَقُ بِالْمَوْتِ وَبِهِ قَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَتُعْتَقُ بِالْمَوْتِ .
وَبِهِ قَالَ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ لِيُعْلَمَ أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافًا وَلَيْسَ إِجْمَاعًا كَمَا يَقُولُ مَالِكٌ : إِنَّهَا إِجْمَاعٌ ، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ : أَنَّ مَنْ خَالَفَ مِنَ الصَّحَابَةِ خَارِجَ الْمَدِينَةِ لَمْ يَكُنْ خِلَافًا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَا يَكُونُ إِحْبَالُهُ لَهَا أَكْبَرَ مِنْ عِتْقِهَا وَلَا مَالَ لَهُ فَأُبْطِلُ الْعِتْقَ وَتُبَاعُ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) يَعْنِي إِذَا كَانَ مُعْسِرًا ، ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) فَإِنْ كَانَتْ تُسَاوِي أَلْفًا وَالْحَقُّ مِائَةٌ بِيعَ مِنْهَا بِقَدْرِ الْمَائَةِ وَالْبَاقِي لِسَيِّدِهَا وَلَا تُوطَأُ وَتُعْتَقُ بِمَوْتِهِ فِي قَوْلِ مَنْ يُعْتِقُهَا ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) قُلْتُ أَنَا : قَدْ قَطَعَ بِعِتْقِهَا فِي كِتَابِ عِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ ( قَالَ ) وَفِي الْأُمِّ أَنَّهُ إِذَا أَعْتَقَهَا فَهِيَ حُرَّةٌ وَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَالْحُكْمُ فِي عِتْقِ الرَّهْنِ كَالْحُكْمِ فِي إِحْبَالِهِ ، فَإِذَا أَعْتَقَ الرَّاهِنُ الْجَارِيَةَ الْمَرْهُونَةَ بَعْدَ الْقَبْضِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمُرْتَهِنِ كَانَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ كَمَا قُلْنَا فِي إِحْبَالِهِ : أَحَدُهَا : أَنَّ عِتْقَهُ نَافِذٌ فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَوَجْهُهُ مَعَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا عِتْقَ قَبْلَ مِلْكٍ فَدَلِيلُهُ نُفُوذُ الْعِتْقِ بَعْدَ وُجُودِ الْمِلْكِ . وَالثَّانِي : هُوَ أَنَّ فِي إِبْطَالِ الْعِتْقِ إِبْطَالَ حَقٍّ لَا يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ ، وَلَيْسَ فِي إِبْطَالِ الرَّهْنِ إِبْطَالُ الْحَقِّ لِأَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ يَقُومُ مَقَامَهُ ، فَكَانَ تَنْفِيَةُ الْعِتْقِ أَوْلَى حِرَاسَةً لِلْحَقَّيْنِ وَإِثْبَاتًا لِلْأَمْرَيْنِ : وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْعِتْقَ بَاطِلٌ فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ وَيَجُوزُ بَيْعُهَا وَبِهِ قَالَ دَاوُدُ ، وَوَجْهُهُ مَعَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ مُتَعَلِّقٌ بِذِمَّةِ الرَّاهِنِ وَرَقَبَةِ الرَّهْنِ فَلَمَّا لَمْ يَمْلِكِ الرَّاهِنُ أَنْ يَنْقُلَ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ مِنْ ذِمَّتِهِ إِلَى ذِمَّةِ غَيْرِهِ بِالْحِوَالَةِ إِلَّا بِاخْتِيَارِ الْمُرْتَهِنِ لَمْ يَمْلِكْ أَنْ يَنْقُلَ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ مِنْ رَقَبَةِ الرَّهْنِ إِلَى قِيمَتِهِ إِلَّا بِاخْتِيَارِ الْمُرْتَهِنِ . وَالثَّانِي : هُوَ أَنَّ تَعَلُّقَ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِرَقَبَةِ الرَّهْنِ أَقْوَى مِنْ تَعَلُّقِ حَقِّ غُرَمَاءِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ بِمَا فِي يَدِهِ : لِأَنَّ ذَلِكَ عَنْ عَقْدٍ وَهَذَا عَنْ غَيْرِ عَقْدٍ فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ سَيِّدَ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ لَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا فِي يَدِ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ لَهُ كَانَ عِتْقُهُ بَاطِلًا لِتَعَلُّقِ حُقُوقِ الْغُرَمَاءِ بِهِ كَانَ عِتْقُ الرَّاهِنِ عَبْدَهُ الْمَرْهُونَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْعِتْقَ نَافِذٌ فِي الْيَسَارِ بَاطِلٌ فِي الْإِعْسَارِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَوَجْهُهُ مَا مَضَى مِنْ تَوْجِيهِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ ، فَإِنْ قُلْنَا يَبْطُلُ فِي الْإِعْسَارِ فَوَجْهُهُ مَا مَضَى فِي الْقَوْلِ الثَّانِي .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْأَقَاوِيلِ ، فَإِنْ قُلْنَا بِبُطْلَانِ عِتْقِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَالرَّهْنُ عَلَى حَالِهِ وَكَأَنَّ لَفْظَ الْعِتْقِ لَمْ يُوجَدْ . وَإِنْ قُلْنَا بِنُفُوذِ عِتْقِهِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ إِنْ كَانَ مُوسِرًا ، وَاعْتِبَارُ الْقِيمَةِ مِنْ وَقْتِ تَلَفُّظِهِ بِالْعِتْقِ ، وَهُوَ حُرٌّ بِاللَّفْظِ دُونَ دَفْعِ الْقِيمَةِ قَوْلًا وَاحِدًا كَمَا قُلْنَا فِي الْإِحْبَالِ : لِأَنَّ عِتْقَهُ صَادَفَ مِلْكَهُ فَإِذَا غَرِمَ الْقِيمَةَ كَانَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ رَهْنًا مَكَانَهَا أَوْ قِصَاصًا مِنَ الْحَقِّ عَلَى مَا مَضَى ، وَإِنْ كَانَ فِي حَالِ عِتْقِهِ مُعْسِرًا ثُمَّ أَيْسَرَ فِيمَا بَعْدُ أُخِذَتْ مِنْهُ الْقِيمَةُ بَعْدَ يَسَارِهِ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مُسْتَهْلِكًا لِلرَّهْنِ وَمَنْ لَزِمَهُ غُرْمُ مَا اسْتَهْلَكَ وَأَعْسَرَ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ إِذَا أَيْسَرَ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوِ بِيعَتْ أُمُّ الْوَلَدِ بِمَا وَصَفْتُ ثُمَّ مَلَكَهَا سَيِّدُهَا فَهِيَ أُمُّ وَلَدِهِ بِذَلِكَ الْوَلَدِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) قُلْتُ أَنَا : أَشْبَهُ بِقَوْلِهِ أَنْ لَا تَصِيرَ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ إِنَّ الْعَقْدَ إِذَا لَمْ يَجُزْ فِي وَقْتِهِ لَمْ يَجُزْ بَعْدَهُ حَتَى يُبْتَدَأَ بِمَا يَجُوزُ ، وَقَدْ قَالَ لَا يَكُونُ إِحْبَالُهُ لَهَا أَكْبَرَ مِنْ عِتْقِهَا ( قَالَ ) وَلَوْ أَعْتَقَهَا أَبْطَلْتُ عِتْقَهَا ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) قُلْتُ أَنَا : فَهِيَ فِي مَعْنَى مَنْ أَعْتَقَهَا مَنْ لَا يَجُوزُ عِتْقُهُ فِيهَا فَهِيَ رَقِيقٌ بِحَالِهَا فَكَيْفَ تُعْتَقُ أَوْ تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ بِحَادِثٍ مِنْ شِرَاءٍ وَهِيَ فِي مَعْنَى مَنْ أَعْتَقَهَا مَحْجُورٌ ثُمَّ أُطْلِقَ عَنْهُ الْحَجْرُ فَهُوَ لَا يَجْعَلُهَا حُرَّةً عَلَيْهِ أَبَدًا بِهَذَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا أَوْلَدَ الرَّاهِنُ أَمَتَهُ الْمَرْهُونَةَ ثُمَّ بِيعَتْ عَلَيْهِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَوْ بِيعَ مِنْهَا بِقَدْرِ الدَّيْنِ ثُمَّ مَلَكَهَا أَوْ مَلَكَ مَا بَاعَ مِنْهَا صَارَتْ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ بِذَلِكَ الْإِحْبَالِ وَحَرُمَ عَلَيْهِ بَيْعُهَا سَوَاءٌ مَلَكَهَا بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ مِيرَاثٍ ، لِأَنَّهَا قَدْ كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ بِحَمْلِهَا بِحُرِّ مِنْهُ ، وَإِنَّمَا بِيعَتْ بِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ ، فَإِذَا زَالَ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ وَعَادَتْ إِلَى مِلْكِهِ عَادَتْ إِلَى حُكْمِهَا الَّذِي كَانَتْ عَلَيْهِ فِي مِلْكِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِعِتْقِهَا وَهِيَ مَرْهُونَةٌ فَلَمْ يَحْكُمْ بِنُفُوذِ إِقْرَارِهِ وَبِيعَتْ عَلَيْهِ فِي الرَّهْنِ ثُمَّ مَلَكَهَا عُتِقَتْ عَلَيْهِ بِالْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ : لِأَنَّ عِتْقَهَا قَدْ كَانَ مَحْكُومًا بِهِ وَإِنَّمَا بِيعَتْ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِ بِرَقَبَتِهَا قَبْلَ الْإِقْرَارِ فَإِذَا زَالَ حَقُّهُ وَعَادَتْ إِلَى مِلْكِهِ نَفَذَ عِتْقُهُ ، كَذَلِكَ أُمُّ الْوَلَدِ . وَقَالَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيُّ : إِذَا مَلَكَ أُمَّ وَلَدِهِ بَعْدَ أَنْ بِيعَتْ عَلَيْهِ لَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ إِلَّا بِإِحْبَالٍ مُسْتَحْدَثٍ بَعْدَ الْمِلْكِ الثَّانِي اسْتِدْلَالًا بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : إِنْ قَالَ : الْعَقْدُ إِذَا لَمْ يَجُزْ فِي وَقْتِهِ لَمْ يَجُزْ بَعْدَهُ حَتَّى يُبْتَدَأَ بِمَا يَجُوزُ . وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْإِحْبَالَ لَيْسَ بِعَقْدٍ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَقَعَ مَوْقُوفًا ، أَلَا تَرَى أَنَّ إِحْبَالَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ كَإِحْبَالِ غَيْرِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ فِي أَنَّهَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ، وَلَوْ كَانَ عَقْدًا مَا صَحَّ مِنَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ كَمَا لَا
تَصِحُّ مِنْهُ سَائِرُ عُقُودِهِ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَقْدًا لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى أُمِّ وَلَدٍ لَهُ فِي الْحَالِ وَإِنَّمَا تُبَاعُ بِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ . وَالثَّانِي : إِنْ قَالَ : لَا يَكُونُ إِحْبَالُهُ لَهَا أَكْثَرَ مِنْ عِتْقِهَا وَلَوْ أَعْتَقَهَا أَبْطَلْتُ عِتْقَهَا فَإِنْ مَلَكَهَا لَمْ تُعْتَقْ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ إِنْ أَحْبَلَهَا فَبِيعَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ مَلَكَهَا لَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ . وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنْ يُقَالَ : مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ سَوَّى بَيْنِ الْإِحْبَالِ وَالْعِتْقِ فِي النُّفُوذِ بَعْدَ الْمِلْكِ كَمَا سَوَّى الْمُزَنِيُّ بَيْنَهُمَا فِي الْإِبْطَالِ بَعْدَ الْمِلْكِ ، فَقَالَ : إِذَا أَعْتَقَ أَمَتَهُ الْمَرْهُونَةَ فَبِيعَتْ عَلَيْهِ فِي الرَّهْنِ ثُمَّ مَلَكَهَا عُتِقَتْ عَلَيْهِ ، كَمَا لَوْ أَحْبَلَهَا فَبِيعَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ مَلَكَهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ، فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ السُّؤَالُ . وَقَالَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهُ إِذَا أَعْتَقَهَا فَبِيعَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ مَلَكَهَا لَمْ تُعْتَقْ عَلَيْهِ ، وَلَوْ أَحْبَلَهَا فَبِيعَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ مَلَكَهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْعِتْقَ قَوْلٌ فَإِذَا أُبْطِلَ فِي الْحَالِ لَمْ يَبْقَ لَهُ حُكْمٌ فِي الثَّانِي ، وَالْإِحْبَالُ فِعْلٌ إِنْ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي الْحَالِ جَازَ أَنْ يُؤَثِّرَ فِي الثَّانِي أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوِ اسْتَوْلَدَ أَمَةَ غَيْرِهِ بِشُبْهَةِ مِلْكٍ لَمْ تَكُنْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ فِي الْحَالِ فَإِنْ مَلَكَهَا صَارَتْ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ فِي الثَّانِي عَلَى مَذْهَبِ الْمُزَنِيِّ وَأَحَدِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ وَلَوْ أَعْتَقَ أَمَةَ غَيْرِهِ ثُمَّ مَلَكَهَا وَمِنْ بَعْدُ لَمْ تُعْتَقْ عَلَيْهِ ، فَبَانَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا . وَالثَّالِثُ : إِنْ قَالَ : كَيْفَ تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ بِحَادِثٍ مِنْ شِرَاءٍ وَهِيَ فِي مَعْنَى مَنْ أَعْتَقَهَا مَحْجُورًا عَلَيْهِ ثُمَّ أَطْلَقَ عَنْهُ الْحَجْرَ فَهُوَ لَا يَجْعَلُهَا حُرَّةً عَلَيْهِ إِنْ مَلَكَهَا فَكَذَلِكَ الْإِحْبَالُ إِذَا لَمْ تَصِرْ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ فِي الْحَالِ لَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ إِذَا مَلَكَهَا . وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنْ يُقَالَ : اعْتِبَارُ إِحْبَالِ الرَّاهِنِ بِعِتْقِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ ، لِأَنَّ الرَّاهِنَ وَإِنْ كَانَ فِي الرَّهْنِ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ ، الْحُكْمُ فِي إِحْبَالِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ وَعِتْقِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَ أَمَتَهُ لَمْ تُعْتَقْ عَلَيْهِ وَلَوْ أَحْبَلَهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ اعْتِبَارُ إِحْبَالِ الرَّاهِنِ بِإِحْبَالِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ وَعِتْقُ الرَّاهِنِ بِعِتْقِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ وَهُمَا سَوَاءٌ فِي الْحُكْمِ لِأَنَّ إِحْبَالَهُمَا يَنْفُذُ وَعِتْقَهُمَا لَا يَنْفُذُ . فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ : وَلَا يَكُونُ إِحْبَالُهُ لَهَا أَكْثَرَ مِنْ عِتْقِهَا . فَلَمْ يُرِدْ بِهِ أَنَّ الْإِحْبَالَ أَضْعَفُ حَالًا مِنَ الْعِتْقِ ، بَلِ الْإِحْبَالُ أَوْلَى وَأَقْوَى مِنَ الْعِتْقِ لِنُفُوذِهِ مِنَ الْمَجْنُونِ وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ وَالْمُفْلِسِ وَالْمَرِيضِ الَّذِي قَدْ أَحَاطَتْ دُيُونُهُ بِتَرِكَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُمْ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ مَعْنًى ذَهَبَ عَلَى الْمُزَنِيِّ وَهُوَ أَنَّ الْعِتْقَ نَافِذٌ فِي الْحَالِ وَالْإِحْبَالَ سَبَبٌ لِلْعِتْقِ عتق الأمة المرهونة فِي ثَانِي حَالٍ ، قَالَ فَلَمَّا لَمْ يَخْرُجْ مِنَ الرَّهْنِ بِالْعِتْقِ الَّذِي يَنْفُذُ فِي الْحَالِ فَأَوْلَى أَلَّا يَخْرُجَ مِنْهُ بِالْإِحْبَالِ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ لِلْعِتْقِ فِي ثَانِي حَالٍ .
مَسْأَلَةٌ لَوْ أَحْبَلَهَا أَوْ أَعْتَقَهَا بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ خَرَجَتْ مِنَ الرَّهْنِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ أَحْبَلَهَا أَوْ أَعْتَقَهَا بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ خَرَجَتْ مِنَ الرَّهْنِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . إِذَا أَذِنَ الْمُرْتَهِنُ لِلرَّاهِنِ فِي عِتْقِ الْجَارِيَةِ الْمَرْهُونَةِ أَوْ إِحْبَالِهَا فَأَعْتَقَهَا أَوْ أَحْبَلَهَا نَفَذَ عِتْقُهُ وَإِحْبَالُهُ ، وَخَرَجَتْ مِنَ الرَّهْنِ فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ وَلَا قِيمَةَ عَلَيْهِ . وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْعِتْقَ وَالْإِحْبَالَ فَسْخٌ إِذْ لَا يَصِحُّ رَهْنُ الْحُرِّ وَأُمِّ الْوَلَدِ . وَلَوْ أَذِنَ الْمُرْتَهِنُ لِلرَّاهِنِ فِي فَسْخِ الرَّهْنِ فَفَسَخَهُ صَحَّ الْفَسْخُ ، فَكَذَلِكَ إِذَا أَذِنَ لَهُ فِي الْعِتْقِ وَالْإِحْبَالِ فَأَعْتَقَ أَوْ أَحْبَلَ وَقَعَ الْفَسْخُ . وَالثَّانِي : أَنَّ الرَّهْنَ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالرِّقِّ وَالْعِتْقِ وَالْإِحْبَالُ إِتْلَافٌ لِلرِّقِّ ، وَإِذَا أَذِنَ الْمُرْتَهِنُ لِلرَّاهِنِ فِي إِتْلَافِ الرَّهْنِ فَأَتْلَفَهُ بَطَلَ الرَّهْنُ كَذَلِكَ إِذَا أَذِنَ لَهُ فِي الْعِتْقِ وَالْإِحْبَالِ فَفَعَلَ بَطَلَ الرَّهْنُ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ الرَّهْنَ يَشْتَمِلُ عَلَى حَقَّيْنِ : حَقِّ مِلْكٍ لِلرَّاهِنِ هُوَ أَقْوَاهُمَا وَحَقِّ اسْتِيثَاقٍ لِلْمُرْتَهِنِ هُوَ أَضْعَفُهُمَا ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الرَّاهِنَ لَوْ أَذِنَ لِلْمُرْتَهِنِ فِي الْبَيْعِ فَبَاعَهُ زَالَ حَقُّ مِلْكِهِ ، فَكَذَلِكَ الْمُرْتَهِنُ إِذَا أَذِنَ لِلرَّاهِنِ فِي الْعِتْقِ أَوِ الْإِحْبَالِ فَفَعَلَ زَالَ حَقُّ اسْتِيثَاقِهِ . فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الرَّهْنَ يَنْفَسِخُ بِذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُ الرَّاهِنِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَفْعَلَ مَا أَذِنَ لَهُ الْمُرْتَهِنُ مِنَ الْعِتْقِ أَوِ الْإِحْبَالِ أَوْ لَا يَفْعَلُ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ كَانَ الرَّهْنُ عَلَى حَالِهِ لَا يَنْفَسِخُ بِمُجَرَّدِ الْإِذْنِ ، لِأَنَّ الْإِذْنَ لَيْسَ بِفَسْخٍ وَإِنَّمَا يَصِحُّ بِهِ الْفَسْخُ . وَإِنْ فَعَلَ مَا أَذِنَ لَهُ فَإِنْ كَانَ عِتْقًا نَفَذَ فِي الْحَالِ ، وَإِنْ كَانَ وَطْأً وَلَمْ يَحْدُثْ عَنْهُ إِحْبَالٌ فَالرَّهْنُ بِحَالِهِ لِأَنَّ الْوَطْءَ إِذَا عُرِّيَ عَنِ الْإِحْبَالِ فِي الْأَمَةِ جَرَى مَجْرَى الْخِدْمَةِ وَإِنْ حَدَثَ عَنْهُ إِحْبَالٌ خَرَجَتْ مِنَ الرَّهْنِ وَلَا قِيمَةَ عَلَيْهِ . فَلَوْ أُذِنَ لَهُ فِي وَطْئِهَا دُونَ إِحْبَالِهَا فَوَطِئَهَا وَأَحْبَلَهَا خَرَجَتْ مِنَ الرَّهْنِ : لِأَنَّ الِاحْتِرَازَ مِنَ الْإِحْبَالِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَصَارَ مَأْذُونًا فِيهِ . فَصْلٌ : فَلَوْ رَجَعَ الْمُرْتَهِنُ فِي إِذْنِهِ للراهن بالتصرف في الرهن فَإِنْ كَانَ رُجُوعُهُ بَعْدَ الْعِتْقِ أَوِ الْإِحْبَالِ لَمْ يَكُنْ لِرُجُوعِهِ تَأْثِيرٌ لِوُجُودِهِ بَعْدَ فَسْخِ الرَّهْنِ ، وَإِنْ كَانَ رُجُوعُهُ قَبْلَ الْعِتْقِ وَالْإِحْبَالِ لَمْ يَكُنْ لِلرَّاهِنِ أَنْ يُعْتِقَ وَلَا أَنْ يَطَأَ ، فَإِنْ أَعْتَقَ بَعْدَ رُجُوعِهِ أَوْ وَطِئَ فَأَحْبَلَ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِرُجُوعِهِ ، فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ مَنْ أَحْبَلَ أَوْ أَعْتَقَ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمُرْتَهِنِ فَيَكُونُ غَيْرَ نَافِذٍ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، وَعَلَيْهِ غُرْمُ الْقِيمَةِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ غَيْرَ عَالِمٍ بِرُجُوعِهِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ مُخَرَّجَيْنِ مِنَ الْوَكِيلِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي الْبَيْعِ إِذَا رَجَعَ مُوَكِّلُهُ عَنِ الْإِذْنِ ثُمَّ بَاعَ الْوَكِيلُ قَبْلَ الْعِلْمِ . أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ حُكْمُ إِذْنِهِ بَاقِيًا حَتَّى يَعْلَمَ بِالرُّجُوعِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عِتْقُهُ وَإِحْبَالُهُ نَافِذًا وَلَا قِيمَةَ عَلَيْهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ حُكْمَ الْإِذْنِ قَدْ زَالَ بِالرُّجُوعِ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ كَمَنْ أَحْبَلَ وَأَعْتَقَ بِغَيْرِ إِذْنٍ ، فَيَكُونُ بَاطِلًا فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَجَائِزًا فِي الْقَوْلِ الثَّانِي وَعَلَيْهِ الْقِيمَةُ . فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابٍ الرَّهْنِ الْكَبِيرِ مِنْ " الْأُمِّ " : وَلَوْ أَذِنَ لَهُ الْمُرْتَهِنُ فِي ضَرْبِهَا فَضَرَبَهَا فَمَاتَتْ الجارية المرهونة لَمْ يَكُنْ عَلَى الرَّاهِنِ غُرْمُ قِيمَتِهَا : لِأَنَّ إِطْلَاقَ إِذْنِ الْمُرْتَهِنِ فِي ضَرْبِهَا يَتَنَاوَلُ قَلِيلَ الضَّرْبِ وَكَثِيرَهُ ، فَصَارَ مَا فَعَلَهُ الرَّاهِنُ مِنَ الضَّرْبِ الْمُؤَدِّي إِلَى تَلَفِهَا عَنْ إِذْنِ الْمُرْتَهِنِ فَكَانَ إِسْقَاطًا لِلْحَقِّ مِنْ رَقَبَتِهَا وَجَرَى مَجْرَى الْفَسْخِ بِعِتْقِهَا أَوْ إِحْبَالِهَا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَوِ اخْتَلَفَا فَقَالَ الرَّاهِنُ أَعْتَقْتُهَا بِإِذْنِكَ وَأَنْكَرَ الْمُرْتَهِنُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَهِيَ رَهْنٌ ، وَهَذَا إِذَا كَانَ الرَّاهِنُ مُعْسِرًا فَأَمَّا إِذَا كَانَ مُوسِرًا أُخِذَ مِنْهُ قِيمَةُ الْجَارِيَةِ وَالْعِتْقُ وَالْوَلَاءُ لَهُ تَكُونُ مَكَانَهَا أَوْ قِصَاصًا . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا اخْتَلَفَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ بَعْدَ عِتْقِ الرَّاهِنِ أَوْ إِحْبَالِهِ فَقَالَ الرَّاهِنُ : فَعَلْتُ ذَلِكَ بِإِذْنِكَ فَفِعْلِي نَافِذٌ وَالرَّهْنُ مُنْفَسِخٌ ، وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ : بَلْ فَعَلْتَ ذَلِكَ بِغَيْرِ إِذْنِي ، فَفِعْلُكَ مَرْدُودٌ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، وَمَضْمُونٌ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي ، فَإِنْ كَانَ لِلرَّاهِنِ بَيِّنَةٌ نَفَذَ عِتْقُهُ ، وَإِحْبَالُهُ ، وَفِي الْبَيِّنَةِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : شَاهِدَانِ عَدْلَانِ لَا غَيْرَ ، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَقُولُ : إِنَّ عِتْقَ الرَّاهِنِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمُرْتَهِنِ بَاطِلٌ لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ تُثْبِتُ الْعِتْقَ وَالْعِتْقُ لَا يُقْبَلُ فِيهِ إِلَّا شَاهِدَانِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْبَيِّنَةَ شَاهِدَانِ أَوْ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ أَوْ شَاهِدٌ وَيَمِينٌ وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَقُولُ : إِنَّ عِتْقَ الرَّاهِنِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمُرْتَهِنِ نَافِذٌ فَإِنَّهُ لِلْقِيمَةِ ضَامِنٌ : لِأَنَّ هَذَا حَلِفٌ فِي ضَمَانِ مَالٍ ، وَالْأَمْوَالُ يُحْكَمُ فِيهَا بِشَاهِدَيْنِ ، وَشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ ، وَشَاهِدٍ وَيَمِينٍ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلرَّاهِنِ بَيِّنَةٌ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ بِاللَّهِ أَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ ، لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الرَّاهِنَ يَدَّعِي إِذْنَ الْمُرْتَهِنَ وَالْمُرْتَهِنَ مُنْكِرٌ ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ .
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ ، أُحْلِفَ فَإِنْ حَلَفَ صَارَ الرَّاهِنُ كَمَنْ أَعْتَقَ أَوْ أَحْبَلَ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمُرْتَهِنِ فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى . فَإِنْ نَكَلَ الْمُرْتَهِنُ عَنِ الْيَمِينِ رُدَّتْ عَلَى الرَّاهِنِ فَإِنْ حَلَفَ صَارَ كَمَنْ أَعْتَقَ أَوْ أَحْبَلَ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ فَيَكُونُ نَافِذًا وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، فَإِنْ نَكَلَ الرَّاهِنُ فَهَلْ تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْجَارِيَةِ الْمَرْهُونَةِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا تُرَدُّ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ لَا يَحْلِفُ أَحَدٌ عَنْ غَيْرِهِ ، فَعَلَى هَذَا إِذَا امْتَنَعَ الرَّاهِنُ مِنَ الْيَمِينِ بَعْدَ نُكُولِ الْمُرْتَهِنِ كَانَ الرَّاهِنُ كَمَنْ أَعْتَقَ أَوْ أَحْبَلَ بِغَيْرِ إِذْنٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْيَمِينَ تُرَدُّ عَلَى الْجَارِيَةِ : لِأَنَّ حَقَّ الْحُرِّيَّةِ ثَابِتٌ لَهَا فَجَازَ أَنْ تَحْلِفَ فِي حَقِّهَا ، فَعَلَى هَذَا إِذَا حَلَفَتْ صَارَ الرَّاهِنُ كَمَنْ أَعْتَقَ أَوْ أَحْبَلَ بِإِذْنٍ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ نَافِذًا وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ أَقَرَّ الْمُرْتَهِنُ أَنَّهُ أَذِنَ لَهُ بِوَطْئِهَا وَزَعَمَ أَنَّ هَذَا الْوَلَدَ مِنْ زَوْجٍ لَهَا وَادَّعَاهُ الرَّاهِنُ فَهُوَ ابْنُهُ وَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ وَلَا يُصَدَّقُ الْمُرْتَهِنُ ، وَفِي الْأَصْلِ وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) أَصْلُ قَوْلِ الشَافِعِيِّ أَنَّهُ إِنْ أَعْتَقَهَا أَوْ أَحْبَلَهَا وَهِيَ رَهْنٌ فَسَوَاءٌ فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا أُخِذَتْ مِنْهُ الْقِيمَةُ وَكَانَتْ رَهْنًا مَكَانَهَا أَوْ قِصَاصًا ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا لَمْ يَكُنْ لَهُ إِبْطَالُ الرَّهْنِ بِالْعِتْقِ وَلَا بِالْإِحْبَالِ وَبِيعَتْ فِي الرَّهْنِ فَلَمَّا جَعَلَهَا الشَّافِعِيُّ أُمَّ وَلَدٍ لِأَنَّهُ أَحَبَلَهَا بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ وَلَمْ تُبَعْ كَأَنَّهُ أَحْبَلَهَا وَلَيْسَتْ رَهْنًا فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ مُوسِرًا لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ قِيمَةٌ لِأَنَّهُ أَحْبَلَهَا بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ فَلَا تُبَاعُ كَأَنَّهُ أَحْبَلَهَا وَلَيْسَتْ بِرَهْنٍ فَتَفَهَّمْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا : أَنْ يُقِرَّ الْمُرْتَهِنُ لِلرَّاهِنِ بِالْإِذْنِ فِي وَطْئِهَا عَلَى وَجْهٍ يَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ لَوْ لَمْ يُنْكِرْهُ وَتَخْرُجْ أُمُّهُ مِنَ الرَّهْنِ وَذَلِكَ بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَعْتَرِفَ الْمُرْتَهِنُ أَنَّهُ قَدْ أَذِنَ لَهُ فِي وَطْئِهَا . وَالثَّانِي : أَنْ يَعْتَرِفَ الْمُرْتَهِنُ أَنَّهُ وَطِئَهَا . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَعْتَرِفَ أَنَّهَا وَضَعَتْهُ وَأَنَّهُ مِنْهَا لَمْ تَلْتَقِطْهُ . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَعْتَرِفَ أَنَّ بَيْنَ وَطْئِهِ وَوَضْعِهَا مُدَّةً يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ وَهِيَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا . فَإِذَا اعْتَرَفَ الْمُرْتَهِنُ لِلرَّاهِنِ بِهَذِهِ الْأَرْبَعَةِ ثُمَّ قَالَ : وَهَذَا الْوَلَدُ لَيْسَ مِنْكَ ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ زَوْجٍ كَانَ لَهَا ، أَوْ مِنْ زِنًا ، وَقَالَ الرَّاهِنُ : بَلْ هُوَ مِنِّي وَالْجَارِيَةُ أُمُّ وَلَدِي خَارِجَةٌ مِنَ الرَّهْنِ ،
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ : لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ فِرَاشًا وَالْأَمَةُ إِذَا صَارَتْ فِرَاشًا لَحِقَ بِهِ وَلَدُهَا إِذَا كَانَ لُحُوقُهُ بِهِ مُمْكِنًا ، وَلَا يَمِينَ عَلَى الرَّاهِنِ لِأَنَّهُ لَوْ نَفَاهُ لَمْ يَنْتَفِ ، وَإِذَا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي نَفْيِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ يَمِينٌ فِي ادِّعَائِهِ . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاهِنِ بِلَا يَمِينٍ فَالْوَلَدُ حُرٌّ لَاحِقٌ بِهِ وَالْجَارِيَةُ قَدْ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَقَدْ خَرَجَتْ مِنَ الرَّهْنِ وَلَا قِيمَةَ عَلَيْهِ فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ . فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا أَنْكَرَ الْمُرْتَهِنُ أَحَدَ الشُّرُوطِ الْأَرْبَعَةِ ، فَإِنْ كَانَ إِنْكَارُهُ لِلشَّرْطِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْإِذْنُ فَيَقُولُ الرَّاهِنُ لِلْمُرْتَهِنِ : أَذِنْتَ لِي فِي وَطْئِهَا وَيَقُولُ الْمُرْتَهِنُ : لَمْ آذَنْ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ وَالْوَلَدُ لَاحِقٌ بِالرَّاهِنِ بِإِقْرَارِهِ . وَإِنْ كَانَ إِنْكَارُهُ لِلشَّرْطِ الثَّانِي وَهُوَ الْوَطْءُ ، فَيَقُولُ الرَّاهِنُ : وَطِئْتُهَا بِإِذْنِكَ وَيَقُولُ الْمُرْتَهِنُ : لَمْ تُطَأْ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ذَكَرَهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ : لِأَنَّ الْوَطْأَ فِعْلُهُ وَإِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُقِرَّ بِالْوَطْءِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يُقِرَّ بِالْإِذْنِ ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ ، وَالْوَلَدُ لَاحِقٌ بِالرَّاهِنِ بِإِقْرَارِهِ . وَإِنْ كَانَ إِنْكَارُهُ لِلشَّرْطِ الثَّالِثِ وَهُوَ الْوَضْعُ ، فَيَقُولُ الْمُرْتَهِنُ : قَدْ أَذِنْتُ لَكَ فِي وَطْئِهَا فَوَطِئَهَا وَلَكِنْ كَانَ إِنْكَارُهُ الْوَلَدَ أَنَّهَا لَمْ تَضَعْهُ وَلَكِنِ الْتَقَطَتْهُ ، وَيَقُولُ الرَّاهِنُ بَلْ وَضَعَتْهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ ، وَالْوَلَدُ لَاحِقٌ بِالرَّاهِنِ بِإِقْرَارِهِ بإذنه للمرتهن بوطيء الأمة المرهونة . وَإِنْ كَانَ إِنْكَارُهُ لِلشَّرْطِ الرَّابِعِ وَهُوَ الْمُدَّةُ ، فَيَقُولُ الْمُرْتَهِنُ : وَضَعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ الْإِذْنِ ، فَالْجَارِيَةُ رَهْنٌ ، وَيَقُولُ الرَّاهِنُ : وَضَعَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرَ . فَهَذَا الِاخْتِلَافُ فِي زَمَانِ الْوَطْءِ فَيَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ كَمَا لَوِ اخْتَلَفَا فِي الْوَطْءِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ ، وَالْوَلَدُ لَاحِقٌ بِالرَّاهِنِ لِإِقْرَارِهِ . فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ نَقَلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ بَعْدَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ قَالَ : إِذَا كَانَ الرَّاهِنُ مُعْسِرًا فَأَمَّا إِذَا كَانَ مُوسِرًا فَتُؤْخَذُ قِيمَةُ الْجَارِيَةِ وَيَكُونُ رَهْنًا مَكَانَهَا أَوْ قِصَاصًا . ثُمَّ إِنَّ الْمُزَنِيَّ اعْتَرَضَ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا فَقَالَ : كَيْفَ نُلْزِمُهُ قِيمَتَهَا إِذَا كَانَ مُوسِرًا وَهُوَ إِنَّمَا أَحْبَلَهَا بِإِذْنٍ فَوَجَبَ أَلَّا تَلْزَمُهُ قِيمَةٌ فِي الْيَسَارِ وَلَا فِي الْإِعْسَارِ .
فَيُقَالُ لِلْمُزَنِيِّ : الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْتَهُ وَلَا تَلْزَمُ الرَّاهِنَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قِيمَتُهَا إِذَا جَعَلْنَا الْقَوْلَ قَوْلَهُ سَوَاءٌ كَانَ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا ، لِأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ ، وَلَكِنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ ذَلِكَ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبِلَهَا إِذَا اخْتَلَفَا فِي الْإِذْنِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُرْتَهِنِ ، وَيَلْزَمُ الرَّاهِنَ قِيمَتُهَا إِذَا كَانَ مُوسِرًا فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَنَقَلْتَهُ أَنْتَ أَيُّهَا الْمُزَنِيُّ مِنَ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى إِلَى الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ صَحِيحًا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ وَطِئَهَا الْمُرْتَهِنُ حُدَّ وَوَلَدُهُ مِنْهَا رَقِيقٌ لَا يَلْحَقُهُ وَلَا مَهْرَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَكْرَهَهَا فَعَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا وَلَا أَقْبَلُ مِنْهُ دَعْوَاهُ الْجَهَالَةَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَسْلَمَ حَدِيثًا أَوْ بِبَادِيَةٍ نَائِيَةٍ وَمَا أَشْبَهَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي وَطْءِ الرَّاهِنِ بِإِذْنٍ وَبِغَيْرِ إِذْنٍ ، فَأَمَّا وَطْءُ الْمُرْتَهِنِ فَلَا يَخْلُو فِيهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَعْلَمَ تَحْرِيمَ ذَلِكَ أَوْ لَا يَعْلَمَ . فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَعْلَمُ تَحْرِيمَ ذَلِكَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِتَحْرِيمِ الزِّنَا وَأَنَّ وَطْأَ الْمَرْهُونَةِ زِنًا ، كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الزَّانِي وَيَتَعَلَّقُ بِوَطْئِهِ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ : أَحَدُهَا : وُجُوبُ الْحَدِّ . وَالثَّانِي : انْتِفَاءُ النَّسَبِ . وَالثَّالِثُ : سُقُوطُ الْمَهْرِ إِنْ طَاوَعَتْ ، وَوُجُوبُهُ إِنْ أُكْرِهَتْ . فَأَمَّا الْحَدُّ فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ ، وَأَمَّا هِيَ إِنْ طَاوَعَتْهُ وَجَبَ عَلَيْهَا الْحَدُّ أَيْضًا ، وَإِنْ أَكْرَهَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ دُونَهَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا حَدَّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُبُهَاتِ وَعَقْدُ الرَّهْنِ شُبْهَةٌ ، فَوَجَبَ أَنْ يَدْرَأَ بِهَا الْحَدَّ قَالَ : وَلِأَنَّ لِلْمُرْتَهِنِ فِي الرَّهْنِ حَقَّ الِاسْتِيفَاءِ كَمَا أَنَّ لِلسَّيِّدِ فِي الْمُكَاتَبَةِ حَقَّ الِاسْتِيفَاءِ فَلَمَّا لَمْ يَجِبِ الْحَدُّ عَلَى السَّيِّدِ فِي وَطْءِ الْمُكَاتَبَةِ وَجَبَ أَلَّا يَجِبَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ فِي وَطْءِ الْمَرْهُونَةِ حَدٌّ إذا لم يأذن الراهن له . وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ : أَنَّهُ عَقَدَ عَلَى جَارِيَةٍ أَوْجَبَ اسْتِيفَاءَ الْحَقِّ مِنْهَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ بِوَطْئِهَا كَالْمُكَاتَبَةِ . وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّ تَعَلُّقَ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِالرَّهْنِ كَتَعَلُّقِ حُقُوقِ الْغُرَمَاءِ بِمَالِ الْمُفْلِسِ وَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ هَذَا مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الْوَاطِئِ لَمْ يَكُنِ الرَّهْنُ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الْوَاطِئِ .
وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ أَنْ نَقُولَ : لِأَنَّهَا وَثِيقَةٌ لِلْحَقِّ الْمُتَعَلِّقِ بِهَا ، فَوَجَبَ أَلَّا يُمْنَعَ مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ بِوَطْئِهَا ، أَصْلُهُ مَا ذَكَرْنَا . وَلِأَنَّ تَعَلُّقَ حَقِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِرَقَبَةِ الْأَمَةِ الْجَانِيَةِ أَقْوَى مِنْ تَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِالْأَمَةِ الْمَرْهُونَةِ : لِأَنَّ حَقَّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إِذَا طَرَأَ عَلَى حَقِّ الْمُرْتَهِنِ قُدِّمَ بِهِ فَدَلَّ عَلَى قُوَّتِهِ ، وَإِذَا كَانَ حَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَقْوَى وَلَمْ يُمْنَعْ مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ بِوَطْئِهِ فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ مَعَ ضَعْفِهِ غَيْرَ مَانِعٍ مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ بِوَطْئِهِ . فَأَمَّا قَوْلُهُ بِأَنَّ الرَّهْنَ شُبْهَةٌ فَغَلَطٌ ، لِأَنَّ الشُّبْهَةَ الْمُسْقِطَةَ لِلْحَدِّ إِمَّا أَنْ تَكُونَ شُبْهَةَ عَقْدٍ كَالنِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ أَوْ شُبْهَةَ مِلْكٍ كَالْأَمَةِ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ ، أَوْ شُبْهَةٍ فِي الْفِعْلِ كَمَنْ وَجَدَ عَلَى فِرَاشِهِ امْرَأَةً فَظَنَّهَا زَوْجَتَهُ أَوْ يَكُونُ جَاهِلًا بِالتَّحْرِيمِ ، وَلَيْسَ الرَّهْنُ وَاحِدًا مِنْ هَذِهِ فَلَمْ تَكُنْ شُبْهَةً فِي إِسْقَاطِ الْحَدِّ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُكَاتَبَةِ : فَالْمُكَاتَبَةُ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِهِ مِنْ وَجْهٍ وَإِنْ كَانَتْ خَارِجَةً عَنْ مِلْكِهِ عَلَى وَجْهٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهَا عُتِقَتْ وَلَوْ عَجَزَتْ عَادَتْ إِلَى مِلْكِهِ كَمَا كَانَتْ ، فَسَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ لِبَقَاءِ مِلْكِهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمَرْهُونَةُ . وَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّانِي وَهُوَ انْتِفَاءُ النَّسَبِ فَيَكُونُ الْوَلَدُ مَمْلُوكًا لِلرَّاهِنِ غَيْرَ لَاحِقٍ بِالْمُرْتَهِنِ ، لِأَنَّ الزِّنَا يَمْنَعُ مِنْ لُحُوقِ النَّسَبِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ . وَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّالِثُ فَهُوَ وُجُوبُ الْمَهْرِ فَيُنْظَرُ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَكْرَهَهَا عَلَى الْوَطْءِ فَعَلَيْهِ الْمَهْرُ الأمة المرهونة . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا مَهْرَ عَلَيْهِ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ مَعَهُ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ وَإِنْ طَاوَعَتْهُ عَلَى الْوَطْءِ . فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لَا مَهْرَ عَلَيْهِ . وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ : عَلَيْهِ الْمَهْرُ وَلَا يَسْقُطُ بِمُطَاوَعَتِهَا لِأَنَّهُ حَقٌّ لِلسَّيِّدِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِبَذْلِهَا وَإِبَاحَتِهَا كَمَا لَوْ أَذِنَتْ فِي قَطْعِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهَا لَمْ يَسْقُطِ الْأَرْشُ عَنِ الْجَانِي عَلَيْهَا . وَهَذَا غَلَطٌ " لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ مَهْرِ الْبَغِيِّ " وَهَذِهِ بِمُطَاوَعَتِهَا بَغِيٌّ فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ مَهْرُهَا .
وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ وَجَبَ بِهِ الْحَدُّ عَلَى الْمَوْطُوءَةِ فَوَجَبَ أَلَّا يَجِبَ بِهِ الْمَهْرُ كَالْحُرَّةِ ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ إِذْنِهَا فِي قَطْعِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهَا فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْقَطْعَ إِتْلَافٌ فَلَمْ يَسْقُطْ غُرْمُهُ بِإِذْنِ مَنْ لَا يَمْلِكُهُ ، وَهَذَا الْوَطْءُ زِنًا وَالزِّنَا غِرٌّ مُوجِبٌ لِلْمَهْرِ سَوَاءٌ كَانَ مِمَّنْ يَمْلِكُ ذَلِكَ الْمَهْرَ أَوْ لَا يَمْلِكُهُ . فَهَذَا الْكَلَامُ فِي الْمُرْتَهِنِ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ . فَأَمَّا إِذَا كَانَ جَاهِلًا بِتَحْرِيمِ الزِّنَا ، أَوْ عَالِمًا بِتَحْرِيمِ الزِّنَا جَاهِلًا بِأَنَّ وَطْءَ الْمَرْهُونَةِ زِنًا لِأَنَّهُ أَسْلَمَ قَرِيبًا أَوْ كَانَ بِبَادِيَةٍ نَائِيَةٍ أَوْ كَانَ بِبَعْضِ جَزَائِرِ الْبَحْرِ النَّائِيَةِ عَنْ أَقَالِيمِ الْمُسْلِمِينَ ، أَوْ نَشَأَ فِي بِلَادِ الشِّرْكِ لِسَبَبٍ اعْتَرَضَهُ فَهَذَا لَيْسَ بِزَانٍ ، وَيَتَعَلَّقُ بِوَطْئِهِ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ : أَحَدُهَا : سُقُوطُ الْحَدِّ عَنْهُ لِأَنَّ جَهْلَهُ بِتَحْرِيمِهِ شُبْهَةٌ فِي دَرْءِ الْحَدِّ عَنْهُ وَهُوَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ : كُنَّا بِالشَّامِ فَتَذَاكَرْنَا حَدِيثَ الزِّنَا فَقَالَ رَجُلٌ : زَنَيْتُ فَأَنْكَرْنَا عَلَيْهِ ، فَقَالَ : أَحْرَامٌ الزِّنَا ؟ فَكَتَبْنَا إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ : إِنْ كَانَ جَاهِلًا فَانْهَوْهُ فَإِنْ عَادَ فَارْجُمُوهُ . وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ أَعْتَقَ أَمَةً وَزَوَّجَهَا مِنْ رَاعٍ فَزَنَتْ فَحَمَلَهَا إِلَى عُمَرَ فَقَالَ لَهَا : زَنَيْتِ يَا لَكْعَا ، فَقَالَتْ : نَعَمْ مَرْعُونَيْنِ بِدِرْهَمَيْنِ ، فَقَالَ : لِعَلِيٍّ مَا تَقُولُ فِيهَا ؟ فَقَالَ : قَدِ اعْتَرَفَتْ عَلَيْهَا الْحَدُّ ، فَقَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ : مَا تَقُولُ فِيهَا ؟ فَقَالَ : كَمَا قَالَ أَخِي عَلِيٌّ ، فَقَالَ لِعُثْمَانَ : مَا تَقُولُ فِيهَا ؟ فَقَالَ : أَرَاهَا تَسْتَهِلُّ كَأَنَّهَا لَمْ تَعْلَمْ وَإِنَّمَا الْحَدُّ عَلَى مَنْ عَلِمَ فَدَرَأَ عَنْهَا الْحَدَّ ، وَقَوْلُهُ : أَرَاهَا تَسْتَهِلُّ كَأَنَّهَا لَمْ تَعْلَمْ يَعْنِي تَعْتَرِفُ بِهِ اعْتِرَافَ مَنْ لَا يَعْلَمُ . فَأَمَّا إِذَا كَانَ عَالِمًا بِتَحْرِيمِ الزِّنَا جَاهِلًا بِوُجُوبِ الْحَدِّ فِيهِ حُدَّ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ عَنْهُ . فَأَمَّا الْمَوْطُوءَةُ فَإِنْ كَانَتْ مِثْلَهُ جَاهِلَةً بِتَحْرِيمِهِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَتْ عَالِمَةً فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا إِنْ كَانَتْ مُكْرَهَةً وَعَلَيْهَا الْحَدُّ إِنْ كَانَتْ مُطَاوِعَةً . وَالْحُكْمُ الثَّانِي : لُحُوقُ النَّسَبِ ولد المرهونة الموطوءة : لِأَنَّهُ عَنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ ، وَيَكُونُ حُرًّا ، وَعَلَى الْمُرْتَهِنِ الْوَاطِئِ قِيمَتُهُ يَوْمَ سَقَطَ حَيًّا لِلرَّاهِنِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَلْحَقْ بِالْمُرْتَهِنِ لَكَانَ مِلْكًا لِلرَّاهِنِ ، وَمَنْ حَصَلَتْ مِنْهُ الْحُرِّيَّةُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ كَانَ عَلَيْهِ الْقِيمَةُ كَالشَّرِيكَيْنِ إِذَا أَعْتَقَ أَحَدَهُمَا وَكَانَ مُوسِرًا . وَالْحُكْمُ الثَّالِثُ : الْمَهْرُ مهر الأمة المرهونة الموطوءة : وَهُوَ عَلَى مَا مَضَى مِنَ اعْتِبَارِ حَالِ الْمَوْطُوءَةِ ، فَإِنْ كَانَتْ
جَاهِلَةً بِالتَّحْرِيمِ فَعَلَيْهِ الْمَهْرُ ، وَإِنْ كَانَتْ عَالِمَةً ، فَإِنْ أَكْرَهَهَا فَعَلَيْهِ الْمَهْرُ ، وَإِنْ طَاوَعَتْهُ فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ عَلَيْهِ الْمَهْرُ . وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَحْكَامَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْوَطْءِ عَلَى ثَلَاثَةٍ أَضْرُبٍ : ضَرْبٌ يُعْتَبَرُ بِالْوَاطِئِ ، وَضَرْبٌ يُعْتَبَرُ بِالْمَوْطُوءَةِ وَضَرْبٌ يُعْتَبَرُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا . فَالَّذِي يُعْتَبَرُ بِالْوَاطِئِ : هُوَ النَّسَبُ وَالْعِدَّةُ ، فَإِنْ كَانَ لَهُ شُبْهَةٌ لَحِقَ بِهِ النَّسَبُ وَوَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ شُبْهَةٌ انْتَفَى عَنْهُ النَّسَبُ وَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ . وَالَّذِي يُعْتَبَرُ بِالْمَوْطُوءَةِ : وُجُوبُ الْمَهْرِ ، فَإِنْ كَانَ لَهَا شُبْهَةٌ وَجَبَ لَهَا الْمَهْرُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ شُبْهَةً سَقَطَ الْمَهْرُ . وَالَّذِي يَعْتَبِرُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا : الْحَدُّ ، فَإِنْ كَانَ لَهُمَا شُبْهَةٌ سَقَطَ عَنْهُمَا الْحَدُّ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا شُبْهَةٌ وَجَبَ عَلَيْهِمَا ، وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا شُبْهَةٌ دُونَ الْآخَرِ سَقَطَ عَمَّنْ لَهُ الشُّبْهَةُ دُونَ الْآخَرِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ كَانَ رَبُّهَا أَذِنَ لَهُ فِي وَطْئِهَا وَكَانَ يَجْهَلُ دُرِئَ عَنْهُ الْحَدُّ وَلَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ وَكَانَ حُرًّا وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ سَقَطَ ، وَفِي الْمَهْرِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ عَلَيْهِ الْغُرْمَ ، وَالْآخَرُ لَا غُرْمَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَبَاحَهَا لَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي وَطْءِ الْمُرْتَهِنِ بِغَيْرِ إِذْنِ الرَّاهِنِ ، فَأَمَّا إِذَا وَطِئَ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ فَالْإِذْنُ غَيْرُ مُبِيحٍ لَهُ الْوَطْءَ : لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يُسْتَبَاحُ إِلَّا بِمِلْكٍ أَوْ نِكَاحٍ . فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَعَلَى الرَّاهِنِ الْآذِنِ التَّعْزِيرُ لِإِقْدَامِهِ عَلَى إِبَاحَةِ الْمُحَرَّمَاتِ ، وَأَمَّا الْمُرْتَهِنُ الْوَاطِئُ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ ، أَوْ جَاهِلًا بِهِ . وَشُبْهَتُهُ فِي الْجَهَالَةِ بِتَحْرِيمِهِ مَعَ إِذْنِ الرَّاهِنِ أَقْوَى مِنْ شُبْهَتِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ ، فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ فَعَلَى مَا مَضَى مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ ، وَانْتِفَاءِ النَّسَبِ وَاسْتِرْقَاقِ الْوَلَدِ . وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا بِالتَّحْرِيمِ سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ ، وَلَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ ، وَكَانَ حُرًّا . وَأَمَّا الْمَهْرُ فَإِذَا قُلْنَا : أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى إِذَا وَطِئَ بِغَيْرِ إِذْنِ الرَّاهِنِ فَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَوْلَى أَلَّا يَجِبَ وَهُوَ أَنْ تُطَاوِعَهُ الْجَارِيَةُ عَالِمَةً بِالتَّحْرِيمِ ، فَلَا مَهْرَ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الْمَوْطُوءَةِ .
فَإِذَا قُلْنَا : إِنَّ الْمَهْرَ يَجِبُ إِذَا وَطِئَ بِغَيْرِ إِذْنِ الرَّاهِنِ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ جَاهِلَةً بِالتَّحْرِيمِ ، أَوْ مُكْرَهَةً مَعَ عِلْمِهَا بِالتَّحْرِيمِ فَفِي وُجُوبِهِ عَلَيْهَا إِذَا وَطِئَ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا مَهْرَ عَلَيْهِ : لِأَنَّ الْوَطْءَ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقَّانِ : أَحَدُهُمَا : لِلَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْحَدُّ . وَالثَّانِي : لِلْآدَمِيِّ وَهُوَ الْمَهْرُ . كَمَا أَنَّ الْقَتْلَ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقَّانِ : أَحَدُهُمَا : لِلَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْكَفَّارَةُ . وَالثَّانِي : لِلْآدَمِيِّ وَهُوَ الدِّيَةُ . ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي قَتْلِهَا سَقَطَ عَنْهُ حَقُّهُ مِنْ قِيمَتِهَا دُونَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْكَفَّارَةِ ، فَكَذَلِكَ إِذَا أُذِنَ لَهُ فِي وَطْئِهَا سَقَطَ عَنْهُ حَقُّهُ مِنْ مَهْرِهَا دُونَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْحَدِّ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : عَلَيْهِ الْمَهْرُ : لِأَنَّ هَذَا الْوَطْأَ مُوجِبٌ لِلْمَهْرِ . كَمَا أَنَّ الْوَطْأَ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ مُوجِبٌ لِلْمَهْرِ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ وَطِئَ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ بِإِذْنِ الْمَوْطُوءَةِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْمَهْرُ ، كَذَلِكَ إِذَا وَطِئَ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْمَهْرُ . وَأَمَّا قِيمَةُ الْوَلَدِ ، إِذَا لَحِقَ بِهِ وَصَارَ حُرًّا ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ فِي وُجُوبِ قِيمَتِهِ قَوْلَانِ كَالْمَهْرِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ . وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : عَلَيْهِ قِيمَةُ الْوَلَدِ قَوْلًا وَاحِدًا وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِهِمْ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْوَلَدِ وَالْمَهْرِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْوَطْأَ مَأْذُونٌ فِيهِ فَسَقَطَ غُرْمُ بَدَلِهِ ، وَالْإِيلَاءُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ فَلَمْ يَسْقُطْ غُرْمُ بَدَلِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْوَطْأَ اسْتِهْلَاكٌ غَيْرُ مَوْجُودٍ فَجَازَ أَنْ يَسْقُطَ غُرْمُهُ عَنْهُ ، وَالْوَلَدُ اكْتِسَابٌ مَوْجُودٌ فَوَجَبَ عَلَيْهِ غُرْمُهُ . فَأَمَّا غُرْمُ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهَا بِالْوِلَادَةِ فَإِنْ لَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ فَعَلَيْهِ غُرْمُهُ لَا يَخْتَلِفُ وَإِنْ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ الْوَلَدُ فَفِي وُجُوبِ غُرْمِهِ قَوْلَانِ وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ . أَحَدُهُمَا : عَلَيْهِ غُرْمُهُ : لِأَنَّهُ بِسَبَبٍ مِنْهُ . وَالثَّانِي : لَيْسَ عَلَيْهِ غُرْمُهُ لِعَدَمِ لُحُوقِ الْوَلَدِ بِهِ .
وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَنْ زَنَا بِأَمَةٍ فَأَحْبَلَهَا وَمَاتَتْ فِي وِلَادَتِهَا هَلْ يَلْزَمُهُ غُرْمُ قِيمَتِهَا أَمْ لَا ؟
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَتَى مَلَكَهَا كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) قُلْتُ أَنَا : قَدْ مَضَى فِي مِثْلِ هَذَا جَوَابِي لَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ أَبَدًا ( قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ ) وَهِمَ الْمُزَنِيُّ فِي هَذَا فِي كِتَابِ الرَّبِيعِ وَمَتَى مَلَكَهَا لَمْ تَكُنْ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدِ اسْتَوْفَيْنَا حُكْمَ وَطْءِ الْمُرْتَهِنِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَدِّ وَلُحُوقِ الْوَلَدِ وَوُجُوبِ الْمَهْرِ وَقِيمَةِ الْوَلَدِ . فَأَمَّا كَوْنُ الْجَارِيَةِ الْمَوْطُوءَةِ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ مَا لَمْ يَمْلِكْهَا فَلَيْسَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَهِيَ رَهْنٌ عَلَى مِلْكِ رَاهِنِهَا . فَإِذَا حَلَّ الْحَقُّ فَلَا يَخْلُو حَالُهَا عِنْدَ حُلُولِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَكُونَ حَامِلًا بَعْدُ لَمْ تَضَعْ ، أَوْ قَدْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا . فَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ حَامِلًا بِحُرٍّ يَلْحَقُ بِالْمُرْتَهِنِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الشُّبْهَةِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا قَبْلَ وَضْعِهَا : لِأَنَّ الْحَمْلَ إِذَا كَانَ حُرًّا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ ، وَلَا يَصْلُحُ إِقْرَارُهُ وَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يُطَالِبَ الرَّاهِنَ بِحَقِّهِ وَإِنْ حَلَّ قَبْلَ وَضْعِ الْحَمْلِ : لِأَنَّ تَأْخِيرَ بَيْعِ الرَّهْنِ مَنْ قِبَلِهِ لَا مِنْ قِبَلِ الرَّاهِنِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ حَامِلًا بِمَمْلُوكٍ ، فَإِنْ أَجَابَ الرَّاهِنُ إِلَى بَيْعِهَا حَامِلًا جَازَ ، لِأَنَّ حَمْلَهَا بِمَمْلُوكٍ يَجُوزُ بَيْعُهُ مَعَهَا ، فَإِنِ امْتَنَعَ الرَّاهِنُ مِنْ بَيْعِهَا حَامِلًا حَتَّى تَضَعَ وَطَلَبَ الْمُرْتَهِنُ أَنْ تُبَاعَ حَامِلًا : لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ حَلَّ فَهَلْ يُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى بَيْعِهَا حَامِلًا أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْحَمْلِ ، هَلْ هُوَ تَبَعٌ ، أَوْ يَأْخُذُ قِسْطًا مِنَ الثَّمَنِ . أَحَدُهُمَا : يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهَا حَامِلًا إِذَا قِيلَ إِنَّ الْحَمْلَ يَكُونُ تَبَعًا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهَا تُتْرَكُ حَتَّى تَضَعَ ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهَا حَامِلًا إِذَا قِيلَ إِنَّ الْحَمْلَ يَأْخُذُ قِسْطًا مِنَ الثَّمَنِ ، فَهَذَا حُكْمُ بَيْعِهَا إِذَا حَلَّ الْحَقُّ وَهِيَ حَامِلٌ . فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا حَلَّ الْحَقُّ بَعْدَ وَضْعِهَا ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْوَلَدِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ حُرًّا يَلْحَقُ بِالْمُرْتَهِنِ ، أَوْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لَا يَلْحَقُ بِهِ .