كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي
وَالرَّابِعُ : أَنَّ خَبَرَنَا مُسْنَدٌ ، وَخَبَرَهُمْ يُوقَفُ مَرَّةً وَيُسْنَدُ أُخْرَى ، فَكَانَ خَبَرُنَا أَوْلَى . وَأَمَّا الِاسْتِعْمَالُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الَّذِي رَوَاهُ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " اسْتُؤْنِفَتِ الْفَرِيضَةُ " وَقَوْلُهُ " فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ " مِنْ قَوْلِ الرَّاوِي عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالِاسْتِئْنَافِ ابْتِدَاءَ الْفَرِيضَةِ فَلَا يَكُونُ لَهُ حُكْمٌ ، وَقَوْلُهُ " اسْتُؤْنِفَتِ الْفَرِيضَةُ " ، يُرِيدُ بِهِ اسْتِئْنَافَهَا عَلَى غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَرْتِيبِهَا ، وَهُوَ الَّذِي أَبَانَهُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ اسْتُؤْنِفَتِ الْفَرِيضَةُ فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ فَإِسْنَادٌ مِنْ غَيْرِ أَعْيَانِهَا كَأَنَّهُ مَلَكَ مِائَةً وَعِشْرِينَ ثُمَّ اسْتَأْنَفَتْ فِي حَوْلِهَا خَمْسًا أَوْ عَشْرًا مِنْ غَيْرِ بَنَاتِهَا ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ بِهَذَا الْحَوْلِ وَيُخْرِجَ مَنْ كُلِّ خَمْسٍ شَاةً ، وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ ذَكَرَهُ أَبُو حَامِدٍ ، وَفِيهِ نَظَرٌ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ فَلَا يَصِحُّ ، لِأَنَّا نَقُولُ إِنَّ الشَّاةَ قَدْ تُؤْخَذُ بَعْدَ الْمِائَةِ بَيْنَ السِّتِّينَ ، عَلَى أَنَّا عَارَضْنَاهُمْ بِمِثْلِهِ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّكُمْ لَا تَنْفَكُّونَ مِنْ مُخَالَفَةِ الْخَبَرِ وَأُصُولِ الزَّكَاةِ : فَالْجَوَابُ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ ثَلَاثَ بَنَاتِ لَبُونٍ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْكُلِّ ، أَعْنِي مِنَ الْمِائَةِ وَالْإِحْدَى وَالْعِشْرِينَ ، وَلَمْ يُخَالِفِ الْخَبَرَ لَكِنْ خَصَّصْنَاهُ ، وَمَذْهَبُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ ، أَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ ، وَالْوَاحِدَةُ الزَّائِدَةُ عَلَيْهَا لَا يَتَعَلَّقُ الْفَرْضُ عَلَيْهَا ، تَمَسُّكًا بِالْخَبَرِ ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مُخَالَفَةً لِلْأُصُولِ ، لِأَنَّا قَدْ وَجَدْنَا فِي الْأُصُولِ مَنْ يُغَيِّرُ فَرْضَ غَيْرِهِ ، وَلَا يُغَيِّرُ فَرْضَ نَفْسِهِ ، فَمِنْهُمُ الْأَخَوَانِ يُغَيِّرَانِ فَرْضَ الْأُمِّ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ ، وَلَا يُغَيِّرَانِ حَالَ نَفْسَيْهِمَا ، وَالْعَبْدُ إِذَا وَطِئَ حُرَّةً بِنِكَاحٍ حَصَّنَهَا وَجَعَلَ فَرْضَهَا الرَّجْمَ ، وَلَمْ يُغَيِّرْ فَرْضَ نَفْسِهِ فِي الْحَدِّ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا مَالِكٌ فَاسْتَدَلَّ لِصِحَّةِ مَذْهَبِهِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فَإِذَا زَادَتِ الْإِبِلُ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ " وَكَانَ الْمُعْتَبَرُ فِي الزِّيَادَةِ اجْتِمَاعَ الثَّلَاثِ حِقَاقٍ وَبَنَاتِ اللَّبُونِ ، وَذَلِكَ لَا يَجْتَمِعُ فِي أَقَلِّ مِنْ مِائَةٍ وَثَلَاثِينَ ، وَهَذَا خَطَأٌ بِدَلَالَةِ مَا رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " فَإِذَا زَادَتِ الْإِبِلُ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ وَاحِدَةً فَفِيهَا ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ " ، ثُمَّ يَبْطُلُ مَا ذَكَرَهُ مِنَ اجْتِمَاعِ الْحِقَاقِ وَبَنَاتِ اللَّبُونِ بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ فَفِيهَا ثَلَاثُ حِقَاقٍ لَا غَيْرَ ، وَبِمِائَةٍ وَسِتِّينَ فَفِيهَا أَرْبَعُ بَنَاتِ لَبُونٍ لَا غَيْرَ ، وَأَمَّا حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ فَلَا يَرْجِعُ إِلَى خَبَرٍ وَلَا أَثَرٍ وَلَا نَظَرٍ فَبَطَلَ قَوْلُهُ . وَأَمَّا ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فَلَهُ مَذْهَبٌ خَامِسٌ أَنَّ الْمُصَدِّقَ بِالْخِيَارِ فِيمَا زَادَ عَلَى الْمِائَةِ وَعِشْرِينَ بَيْنَ ثَلَاثِ بَنَاتِ لَبُونٍ ، كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَبَيْنَ حِقَّتَيْنِ وَشَاةٍ ، كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَهَذَا خَطَأٌ فَاحِشٌ لِأَنَّنَا قَدْ أَسْقَطْنَا مَا رَوَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَسْقَطَ أَبُو حَنِيفَةَ مَا رَوَيْنَاهُ ، وَأَسْقَطَ ابْنُ جَرِيرٍ الْخَبَرَيْنِ جَمِيعًا ،
لِأَنَّهُ إِنْ ثَبَتَ أَنَّ فَرْضَهُ بَنَاتُ اللَّبُونِ لَمْ يَجُزِ اعْتِبَارُ الشَّاةِ ، وَإِنْ ثَبَتَ أَنَّ فَرْضَهُ الشَّاةُ لَمْ يَجُزِ اعْتِبَارُ بَنَاتِ اللَّبُونِ ، فَاعْتِبَارُهُمَا إِسْقَاطُهُمَا .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْوَاحِدَةَ الزَّائِدَةَ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ بِغَيْرِ الْفَرْضِ مُوجِبَةٌ لِثَلَاثِ بَنَاتِ لَبُونٍ في نصاب الإبل ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الزَّائِدَةِ إِذَا كَانَتْ بَعْضَ وَاحِدَةٍ ، هَلْ تُغَيِّرُ الْفَرِيضَةَ أَمْ لَا ، فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ : يَتَغَيَّرُ بِهَا الْفَرْضُ فَيَجِبُ فِي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ وَسُدُسٍ ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ " فَإِذَا زَادَتِ الْإِبِلُ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ ، فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ " فَجَعَلَ تَغَيُّرَ الْفَرْضِ مُعْتَبَرًا بِالزِّيَادَةِ ، وَالزِّيَادَةُ لَا تَخْتَصُّ بِكَثِيرٍ دُونَ قَلِيلٍ ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَعَامَّةُ أَصْحَابِنَا وَهُوَ أَصَحُّ : أَنَّ الْفَرْضَ لَا يَتَغَيَّرُ إِلَّا بِتَغْيِيرٍ كَامِلٍ ، فَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ بَعْضَ تَغْيِيرٍ لَمْ يَتَغَيَّرِ الْفَرْضُ بِهَا ، وَوَجَبَ فِيهَا حِقَّتَانِ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ : " فَإِذَا زَادَتْ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ وَاحِدَةً فَفِيهَا ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ " ، وَلِأَنَّهُ وَقْصٌ مُحَدَّدٌ فِي الشَّرْعِ فَوَجَبَ إِذَا كَانَتِ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ أَقَلَّ مِنْ بَعِيرٍ كَامِلٍ أَنْ لَا يَتَغَيَّرَ الْفَرْضُ بِهَا كَسَائِرِ الْأَوْقَاصِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْفَرْضَ يَتَغَيَّرُ بِمَا زَادَ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ عَلَى اخْتِلَافِ هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ فِي اعْتِبَارِ كَثِيرِ الزِّيَادَةِ وَقَلِيلِهَا ، وَاعْتِبَارِ بَعِيرٍ كَامِلٍ يَزِيدُ عَلَيْهَا ، فَفِيهَا بَعْدَ وُجُوبِ الزِّيَادَةِ ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ إِلَى مِائَةٍ وَثَلَاثِينَ ، فَإِذَا اسْتَكْمَلَتْ مِائَةً وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا بِنْتَا لَبُونٍ وَحِقَّةٌ ، أَمَّا بِنْتَا لَبُونٍ فَفِي ثَمَانِينَ ، وَأَمَّا الْحِقَّةُ فَفِي خَمْسِينَ ، ثُمَّ ذَلِكَ فَرْضُهَا إِلَى مِائَةٍ وَأَرْبَعِينَ ، فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَأَرْبَعِينَ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ وَحِقَّتَانِ إِلَى مِائَةٍ وَخَمْسِينَ ، فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا ثَلَاثُ حِقَاقٍ إِلَى مِائَةٍ وَسِتِّينَ ، فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا أَرْبَعُ بَنَاتِ لَبُونٍ إِلَى مِائَةٍ وَسَبْعِينَ ، فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا حِقَّةٌ وَثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ إِلَى مِائَةٍ وَثَمَانِينَ ، فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا حِقَّتَانِ وَبِنْتَا لَبُونٍ إِلَى مِائَةٍ وَتِسْعِينَ ، فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا ثَلَاثُ حِقَاقٍ وَبِنْتُ لَبُونٍ إِلَى مِائَتَيْنِ ، فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا أَرْبَعُ حِقَاقٍ أَوْ خَمْسُ بَنَاتِ لَبُونٍ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ جَذَعَةً وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ جَذَعَةٌ وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ وَيُجْعَلُ مَعَهَا شَاتَيْنِ إِنِ اسْتَيْسَرَتَا عَلَيْهِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا ، فَإِذَا بَلَغَتْ عَلَيْهِ الْحِقَّةُ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ حِقَّةٌ وَعِنْدَهُ جَذَعَةٌ فَإِنَّهُ تُقْبَلُ مِنْهُ الْجَذَعَةُ وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ " ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) حَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ثَابِتٌ مِنْ جِهَةِ حَمَادِ بْنِ سَلَمَةَ وَغَيْرِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ هَذِهِ نُسْخَةُ كِتَابِ عُمَرَ فِي الصَّدَقَةِ الَّتِي كَانَ يَأْخُذُ عَلَيْهَا ، فَحُكِيَ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى قَوْلِهِ " فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ " ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَبِهَذَا كُلِّهِ نَأْخُذُ " .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ صَحِيحٌ . وَأَصْلُهُ أَنَّ مَنْ وَجَبَتِ الْفَرِيضَةُ فِي مَالِهِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ ، فَلَهُ الصُّعُودُ فِي السِّنِّ وَالْأَخْذِ أَوِ النُّزُولُ وَالرَّدِّ . وَقَالَ مَالِكٌ : " عَلَيْهِ أَنْ يَبْتَاعَ الْفَرْضَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ " ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ رِوَايَةُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : كَانَ فِي كِتَابِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ جَذَعَةً وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ أُخِذَتْ مِنْهُ ، وَيَجْعَلُ مَعَهَا إِنِ اسْتَيْسَرَ شَاتَيْنِ ، أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا ، وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ حِقَّةً وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُ جَذَعَةٌ أَخَذَهَا وَأَعْطَاهُ الْمُصَدِّقُ شَاتَيْنِ ، أَوْ أَعْطَاهُ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا ، وَذَكَرَ مِثْلَ هَذَا فِي كُلِّ فَرِيضَةٍ ، وَلِأَنَّ أَمْرَ الزَّكَاةِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُوَاسَاةِ وَالرِّفْقِ بِرَبِّ الْمَالِ وَالْمَسَاكِينِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْفَرْضُ مَوْجُودًا فِي مَالِهِ جَعَلَ لَهُ الصُّعُودَ وَالنُّزُولَ تَخْفِيفًا عَلَيْهِ وَرِفْقًا بِهِ ، إِذْ فِي تَكْلِيفِهِ ابْتِيَاعَ الْفَرْضِ مَشَقَّةٌ لَاحِقَةٌ ، فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الصُّعُودِ فِي السِّنِّ وَالْأَخْذِ وَالنُّزُولِ فِيهَا وَالرَّدِّ ، فَالْوَاجِبُ فِي كُلِّ سِنٍّ شَاتَانِ أَوْ عِشْرُونَ دِرْهَمًا وَبِهِ قَالَ كَافَّةُ الْفُقَهَاءِ إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ : أَنَّهُ أَوْجَبَ فِي كُلِّ سِنٍّ شَاتَيْنِ ، أَوْ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ خَلَفًا بِأَنَّ نِصَابَ الدَّرَاهِمِ لَمَّا كَانَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَنِصَابُ الْغَنَمِ أَرْبَعِينَ كَانَتْ قِيمَةُ كُلِّ شَاةٍ مِنْهَا خَمْسَةَ دَرَاهِمَ ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الشَّاتَانِ فِي مُقَابَلَةِ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ . وَهَذَا مَذْهَبٌ يَدْفَعُهُ نَصُّ الْحَدِيثِ الثَّابِتِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، عَلَى مَا رَوَيْنَاهُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فَكَانَ مُطْرَحًا ، وَلَيْسَ نُصُبُ الزَّكَوَاتِ بَعْضُهَا مُقَدَّرًا بِقِيمَةِ بَعْضٍ ؛ لِأَنَّ نِصَابَ الْبَقَرِ ثَلَاثُونَ وَالْغَنَمِ أَرْبَعُونَ ، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْبَقَرَةَ فِي الشَّرْعِ مُقَدَّرَةٌ فِي الضَّحَايَا بِسَبْعٍ مِنَ الْغَنَمِ ، وَنِصَابَ الْإِبِلِ خَمْسٌ ، وَهِيَ فِي الضَّحَايَا كَالْبَقَرِ ، فَعُلِمَ بِذَلِكَ فَسَادُ اعْتِبَارِهِ وَعُدُولِهِ عَنِ النَّصِّ لِسُوءِ اخْتِيَارِهِ .
فَصْلٌ : إِذَا تَمَهَّدَ وُجُوبُ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا فِي كُلِّ شَيْءٍ زَائِدٍ أَوْ نَاقِصٍ ، انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى شَرْحِ الْمَذْهَبِ وَالتَّفْرِيعِ عَلَيْهِ فَنَقُولُ : إِذَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْفَرِيضَةُ وَكَانَتْ فِي مَالِهِ مَوْجُودَةً الْمُصَدِّقِ ، فَلَيْسَ لَهُ الْعُدُولُ عَنْهَا إِلَى الصُّعُودِ فِي الْأَسَنِّ وَالْأَخْذِ ، وَلَا النُّزُولُ فِيهَا وَلَا الرَّدُّ ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرَطَ فِي جَوَازِ الْعُدُولِ عَنِ الْفَرِيضَةِ عَدَمَهَا فِي الْمَالِ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ جَذَعَةً وَلَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ أُخِذَتْ مِنْهُ " فَلَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ حِقَّةٌ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُ بِنْتُ لَبُونٍ أُخِذَتْ مِنْهُ ، وَأُخِذَ مَعَهَا شَاتَانِ أَوْ عِشْرُونَ دِرْهَمًا ، وَالْخِيَارُ إِلَيْهِ فِي دَفْعِ مَا اسْتَيْسَرَ عَلَيْهِ مِنَ الشَّاتَيْنِ أَوِ الْعِشْرِينَ دِرْهَمًا ، لِتَخْيِيرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ حِقَّةٌ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُ جَذَعَةٌ أُخِذَتْ مِنْهُ ، وَدَفَعَ إِلَيْهِ الْمُصَدِّقُ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا ، وَلَهُ الْخِيَارُ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ لِلْمَسَاكِينِ فِي دَفْعِ مَا كَانَ فَقْدُهُ أَقَلَّ ضَرَرًا عَلَيْهِمْ ، فَلَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِنْتُ مَخَاضٍ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ فَأَعْطَى ابْنَ لَبُونٍ لِيَقُومَ مَقَامَ بِنْتِ مَخَاضٍ ، وَأَعْطَى الْجُبْرَانَ كَانَ عَلَى وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ ابْنَ اللَّبُونِ فِي حُكْمِ بِنْتِ الْمَخَاضِ عِنْدَ عَدَمِهَا ، فَصَارَ كَمُعْطِي بِنْتَ مَخَاضٍ ، وَالْجُبْرَانِ بَدَلًا مِنْ بِنْتِ لَبُونٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ ابْنَ اللَّبُونِ أُقِيمَ مَقَامَهُ بِنْتُ مَخَاضٍ إِذَا كَانَتْ هِيَ الْفَرْضَ ، وَالْفَرْضُ هَاهُنَا بِنْتُ لَبُونٍ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤْخَذَ مَكَانَهَا ذَكَرٌ أَوْ جَبْرُهَا .
فَصْلٌ : فَلَوِ اخْتَلَفَ الْمُصَدِّقُ وَرَبُّ الْمَالِ فِي الصُّعُودِ فِي السِّنِّ وَالنُّزُولِ فِيهَا فَقَالَ الْمُصَدِّقُ : أَصْعَدُ إِلَى السِّنِّ الْأَعْلَى وَأُعْطِي شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا ، وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ : أَنْزِلُ إِلَى السِّنِّ الْأَدْنَى وَأُعْطِي شَاتَيْنِ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا فَفِيهِ وَجْهَانِ : ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِيهِمَا : أَنَّ الْخِيَارَ لِلْمُصَدِّقِ فَيَأْخُذُ الْأَعْلَى وَيُعْطِي شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا ، لِأَنَّهُ أَقْوَى يَدًا فِي أَخْذِ الْأَفْضَلِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِيُ : أَنَّ الْخِيَارَ لِرَبِّ الْمَالِ فَيُعْطِي الْأَدْنَى فِي السِّنِّ وَيُعْطِي شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا ، لِأَنَّهُ أَقْوَى تَصَرُّفًا فِي مَالِهِ ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اخْتِلَافُ الْمُصَدِّقِ وَرَبِّ الْمَالِ فِي أَخْذِ الْحِقَاقِ ، وَبَنَاتِ اللَّبُونِ مِنْ ثَمَانِينَ مِنَ الْإِبِلِ ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ وَأَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ ، فَلَوْ قَالَ الْمُصَدِّقُ : آخُذُ الْأَدْنَى وَآخُذُ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا ، وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ : أُعْطِي الْأَعْلَى وَآخُذُ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُصَدِّقُ وَاجِدًا لِمَا يُعْطِيهِ فَالْخِيَارُ لَهُ ، وَيَأْخُذُ الْأَدْنَى مَعَ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا ، وَلِرَبِّ الْمَالِ الْخِيَارُ فِي الشَّاتَيْنِ وَالْعِشْرِينَ دِرْهَمًا ، فَإِنْ كَانَ الْمُصَدِّقُ وَاجِدًا لِمَا يُعْطِيهِ إِنْ أَخَذَ الْأَعْلَى كَانَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ ، أَحَدُهُمَا : الْخِيَارُ لِلْمُصَدِّقِ ، وَالثَّانِي لِرَبِّ الْمَالِ .
فَصْلٌ : وَيَجُوزُ لَهُمَا النُّزُولُ مِنْ بِنْتِ لَبُونٍ إِلَى بِنْتِ مَخَاضٍ ، كَمَا جَازَ لَهُمَا النُّزُولُ مِنَ الْحِقَّةِ إِلَى بِنْتِ لَبُونٍ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُمَا النُّزُولُ مِنْ بِنْتِ مَخَاضٍ إِلَى سِنٍّ هُوَ أَدْنَى مِنْهَا ، وَلَكِنْ يَجُوزُ الصُّعُودُ مِنْ بِنْتِ مَخَاضٍ إِلَى بِنْتِ لَبُونٍ ، كَمَا يَجُوزُ الصُّعُودُ مِنْ بِنْتِ لَبُونٍ إِلَى حِقَّةٍ ، وَيَجُوزُ الصُّعُودُ مِنْ حِقَّةٍ إِلَى جَذَعَةٍ ، فَأَمَّا الصُّعُودُ مِنَ الْجَذَعَةِ إِلَى الثَّنِيَّةِ فَإِنْ دَفَعَهَا رَبُّ الْمَالِ مُتَطَوِّعًا بِفَضْلِهَا قُبِلَتْ مِنْهُ لَا يُخْتَلَفُ ، كَمَا يُقْبَلُ فِي الْغَنَمِ فَوْقَ الْجِذَاعِ وَالثَّنَايَا ، وَإِنْ دَفَعَهَا لِيَأْخُذَ فَضْلَ السِّنِّ الزَّائِدِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ جَوَازُهُ . وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ لِتَقَارُبِهِمَا فِي الْمَنْفَعَةِ وَالْفَضِيلَةِ .
فَصْلٌ : إِذَا كَانَتْ إِبِلُهُ إِحْدَى وَسِتِّينَ بِنْتَ مَخَاضٍ ، فَأَعْطَى وَاحِدَةً مِنْهَا وَهِيَ بِنْتُ مَخَاضٍ فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تُؤْخَذُ فَرْضًا ، وَلَا يُكَلَّفُ غَيْرَهَا جُبْرَانًا ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِجْحَافِ بِهِ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا لَا تُؤْخَذُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهَا فَرْضُ بَعْضِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ إِلَى أَنْ يُعْطِيَ جُبْرَانًا مِنَ الْجَذَعَةِ فَتُؤْخَذُ حِينَئِذٍ مَعَ الْجُبْرَانِ .
فَصْلٌ : إِذَا لَمْ تَكُنِ الْفَرِيضَةُ مَوْجُودَةً فِي مَالِهِ وَأَرَادَ أَنْ يَصْعَدَ سِنِينَ وَيَأْخُذَ أَرْبَعَ شِيَاهٍ أَوْ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا ، أَوْ أَرَادَ أَنْ يَنْزِلَ سِنِينَ وَيُعْطِيَ أَرْبَعَ شِيَاهٍ أَوْ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا ، أَوْ أَرَادَ أَنْ يَصْعَدَ بِثَلَاثَةِ أَسْنَانٍ أَوْ يَنْزِلَ بِثَلَاثَةِ أَسْنَانٍ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ السِّنُّ الَّذِي يَلِي الْفَرِيضَةَ غَيْرَ مَوْجُودٍ فِي مَالِهِ ، كَمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ جَذَعَةٌ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ جَذَعَةٌ وَلَا حِقَّةٌ وَكَانَتْ عِنْدَهُ بِنْتُ لَبُونٍ ، فَهَذَا لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْهُ وَيُؤْخَذُ مَعَهَا إِمَّا أَرْبَعُ شِيَاهٍ أَوْ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِنْتُ مَخَاضٍ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ بِنْتُ مَخَاضٍ وَلَا بِنْتُ لَبُونٍ فَكَانَ عِنْدَهُ حِقَّةٌ فَإِنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْهُ ، وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ أَرْبَعَ شِيَاهٍ ، أَوْ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا ، هَذَا مَا لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ الْمَذْهَبُ ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَّرَ جُبْرَانَ السِّنِّ الْوَاحِدِ بِشَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا تَنْبِيهًا عَلَى السِّنِينَ وَالثَّلَاثَةِ تَوَخِّيًا لِلرِّفْقِ وَطَلَبِ الْمُوَاسَاةِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَعَ وُجُودِ السِّنِّ الَّذِي يَلِي الْفَرِيضَةَ ، فَفِي جَوَازِ الِانْتِقَالِ إِلَى السِّنِّ الثَّانِي وَجْهَانِ . أَحَدُهُمَا : جَوَازُهُ اعْتِبَارًا بِالتَّنْبِيهِ عَلَى مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ لَا يَجُوزُ لِوُجُودِ مَا هُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْفَرِيضَةِ كَمَا لَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ عَنِ الْفَرِيضَةِ إِلَى غَيْرِهَا مَعَ وُجُودِهَا .
فَصْلٌ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْخِيَارَ فِي دَفْعِ الشَّاتَيْنِ أَوِ الْعِشْرِينَ دِرْهَمًا لِمُعْطِيهَا دُونَ آخِذِهَا ، فَإِنْ كَانَ الْمُعْطِي رَبَّ الْمَالِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ دَفْعِ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا ، وَإِنْ كَانَ الْمُصَدِّقَ كَانَ بِالْخِيَارِ عَلَى مَعْنَى النَّظَرِ لِلْمَسَاكِينِ ، لَيْسَ عَلَى دَفْعِ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا ، وَإِنْ كَانَ الْمُعْطِي رَبَّ الْمَالِ أَوِ الْمُصَدِّقَ ، فَإِنْ أَرَادَ دَفْعَ شَاةٍ وَعَشَرَةِ دَرَاهِمَ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيَّرَهُ بَيْنَ شَاتَيْنِ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْعَلَ لِنَفْسِهِ خِيَارًا ثَالِثًا ، وَكَمَا لَا يَجُوزُ لِلْمُكَفِّرِ أَنْ يُبَعِّضَ كَفَّارَةً ، فَيُخْرِجُ بَعْضَهَا كِسْوَةً ، وَبَعْضَهَا طَعَامًا ، لَكِنْ لَوِ انْتَقَلَ إِلَى سِنِينَ جَازَ أَنْ يُعْطِيَ شَاتَيْنِ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا ؛ لِأَنَّهُمَا فَرْضَانِ ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمُ نَفْسِهِ ، كَمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ فَكَفَّرَ عَنْ أَحَدِهِمَا بِالْكِسْوَةِ وَعَنِ الْأُخْرَى بِالْإِطْعَامِ " .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ إِلَّا بِالْحَوْلِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ .
الْأَمْوَالُ عَلَى ثَلَاثَةٍ أَضْرُبٍ : مَالٌ نَامٍ بِنَفْسِهِ ، وَمَالٌ مُرْصَدٌ لِلنَّمَاءِ ، وَمَالٌ غَيْرُ نَامٍ بِنَفْسِهِ ، فَأَمَّا النَّامِي بِنَفْسِهِ ، فَمِثْلُ الْمَوَاشِي وَالْمَعَادِنِ وَالزَّرْعِ وَالثِّمَارِ ، وَأَمَّا الْمُرْصَدُ لِلنَّمَاءِ وَالْمُعَدُّ لَهُ فَمِثْلُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَعُرُوضِ التِّجَارَاتِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْمَالَيْنِ : أَنَّ النَّمَاءَ فِيمَا هُوَ نَامٍ بِنَفْسِهِ تَابِعٌ لِلْمِلْكِ لَا لِلْعَمَلِ ، وَالنَّمَاءَ فِيمَا كَانَ مُرْصَدًا لِلنَّمَاءِ تَابِعٌ لِلْعَمَلِ وَالتَّقَلُّبِ لَا لِلْمِلْكِ ، أَلَا تَرَى : أَنَّهُ لَوْ غَصَبَ مَاشِيَةً فَنَتَجَتْ أَوْ نَخْلًا فَأَثْمَرَتْ حكم نتاجه كَانَ النِّتَاجُ وَالثَّمَرَةُ لِرَبِّ الْمَاشِيَةِ وَالنَّخْلِ دُونَ الْغَاصِبِ ، وَلَوْ غَصَبَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ فَنَمَتْ بِالتَّقَلُّبِ وَالتِّجَارَةِ كَانَ النَّمَاءُ الزَّايِدُ لِلْغَاصِبِ دُونَ رَبِّ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ ، وَأَمَّا الَّذِي لَيْسَ بِنَامٍ فِي نَفْسِهِ وَلَا مُرْصَدًا لِلنَّمَاءِ ، فَهُوَ كُلُّ مَالٍ كَانَ مُعَدًّا لِلْقِنْيَةِ ، كَالْعَبْدِ الْمُعَدِّ لِلْخِدْمَةِ ، وَالدَّابَّةِ الْمُعَدَّةِ لِلرُّكُوبِ ، وَالثَّوْبِ الْمُعَدِّ لِلُّبْسِ ، فَأَمَّا مَا لَا يُرْصَدُ لِلنَّمَاءِ ، وَلَا هُوَ نَامٍ فِي نَفْسِهِ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ إِجْمَاعًا ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فَرَسِهِ صَدَقَةٌ " فَنَصَّ عَلَيْهَا تَنْبِيهًا عَلَى مَا كَانَ فِي مَعْنَى حُكْمِهَا ، وَأَمَّا الْمَالُ النَّامِي بِنَفْسِهِ ، فَيَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ : قِسْمٌ يَتَكَامَلُ نَمَاؤُهُ بِوُجُودِهِ ، وَقِسْمٌ لَا يَتَكَامَلُ نَمَاؤُهُ إِلَّا بِمُضِيِّ مُدَّةٍ بَعْدَ وُجُودِهِ ، فَأَمَّا مَا يَتَكَامَلُ نَمَاؤُهُ بِوُجُودِهِ فَمِثْلُ الزَّرْعِ وَالثَّمَرَةِ ، فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَوْلُ إِجْمَاعًا ، وَعَلَيْهِ أَدَاءُ زَكَاتِهِ بَعْدَ حَصَادِ زَرْعِهِ وَدِيَاسِهِ ، وَجُدَادِ ثَمَرَتِهِ وَجَفَافِهَا ، وَالْتِزَامِ الْمُؤَنِ فِيهَا ، وَمَا لَا يَتَكَامَلُ نَمَاؤُهُ إِلَّا بِمُضِيِّ مُدَّةٍ بَعْدِ وُجُودِهِ ، فَمِثْلُ الْمَوَاشِي ، وَالْحُكْمُ فِيهَا وَفِيمَا أُرْصِدَ لِلنَّمَاءِ مِثْلُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَعُرُوضِ التِّجَارَاتِ وَاحِدٌ لَا زَكَاةَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ وَكَافَّةِ التَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ : إِذَا اسْتَفَادَ مَالًا بِهِبَةٍ أَوْ بِمِيرَاثٍ أَوْ بِالْعَطَاءِ هل تجب فيه زكاة لَزِمَتْهُ زَكَاتُهُ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ يُعْتَبَرُ . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : يُزَكِّي الْعَطَاءَ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ ، قَالَا ؛ لِأَنَّ نَمَاءَ ذَلِكَ مُتَكَامِلٌ بِوُجُودِهِ فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى حَوْلٍ كَالرِّكَازِ وَغَيْرِهِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا رِوَايَةُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَا زَكَاةَ عَلَى مَالٍ حَتَى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ " . وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَيْسَ فِي الْمَالِ الْمُسْتَفَادِ زَكَاةٌ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ " .
وَلِأَنَّ زَكَاةَ الْأَمْوَالِ وَجَبَتْ لِنَمَائِهَا فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ زَمَانُ النَّمَاءِ وَهُوَ الْحَوْلُ مُعْتَبَرًا فِيهَا ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ نِعْمَةً وَتَطْهِيرًا ، وَالْجِزْيَةَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ نِقْمَةً وَصَغَارًا ، فَلَمَّا لَمْ تَجِبِ الْجِزْيَةُ إِلَّا بِالْحَوْلِ لَمْ تَجِبِ الزَّكَاةُ إِلَّا بِالْحَوْلِ ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ النِّصَابَ وَالْحَوْلَ مُعْتَبَرٌ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فَهَلْ يَتَعَلَّقُ وُجُوبُ الزَّكَاةِ بِهِمَا أَوْ بِشَرْطٍ ثَالِثٍ يَنْضَمُّ إِلَيْهِمَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَالَهُ فِي الْإِمْلَاءِ : إِنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ بِهِمَا وَبِشَرْطٍ ثَالِثٍ ، وَهُوَ إِمْكَانُ الْأَدَاءِ ، فَيَكُونُ وُجُوبُهَا بِثَلَاثَةِ شَرَائِطَ : بِالنِّصَابِ وَالْحَوْلِ وَإِمْكَانِ الْأَدَاءِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : قَالَهُ فِي " الْأُمِّ " : إِنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ بِشَرْطَيْنِ لَا غَيْرَ : النِّصَابُ وَالْحَوْلُ ، فَأَمَّا إِمْكَانُ الْأَدَاءِ فَمِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ ، وَسَنُفَرِّعُ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ بِمَا يُوَضِّحُ عَنْهُمَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ شَيْءٌ وَلَا فِيمَا بَيْنَ الْفَرِيضَتَيْنِ شَيْءٌ ، وَإِنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِنْتُ مَخَاضٍ فَلَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ ، فَإِنْ جَاءَتْ بِابْنِ لَبُونٍ وَابْنَةِ مَخَاضٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ ابْنَ لَبُونٍ ذَكَرًا وَابْنَةُ مَخَاضٍ مَوْجُودَةٌ ، وَإِبَانَةَ أَنَّ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ أَنْ تَكُونَ الْإِبِلُ مِائَةً وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ ، فَيَكُونَ فِيهَا ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ وَلَيْسَ فِي زِيَادَتِهَا شَيْءٌ حَتَّى تَكْمُلَ مِائَةً وَثَلَاثِينَ فَإِذَا كَمُلَتْهَا فَفِيهَا حِقَّةٌ وَابْنَتَا لَبُونٍ ، وَلَيْسَ فِي زِيَادَتِهَا شَيْءٌ حَتَى تَكْمُلَ مِائَةً وَأَرْبَعِينَ فَإِذَا كَمُلَتْهَا فَفِيهَا حِقَّتَانِ وَابْنَةُ لَبُونٍ ، وَلَيْسَ فِي زِيَادَتِهَا شَيْءٌ حَتَّى تَكْمُلَ مِائَةً وَخَمْسِينَ ، فَإِذَا كَمُلَتْهَا فَفِيهَا ثَلَاثُ حِقَاقٍ ، وَلَا شَيْءَ فِي زِيَادَتِهَا حَتَى تَكْمُلَ مِائَةً وَسِتِّينَ فَإِذَا كَمُلَتْهَا فَفِيهَا أَرْبَعٌ بَنَاتُ لَبُونٍ ، وَلَيْسَ فِي زِيَادَتِهَا شَيْءٌ حَتَّى تَكْمُلَ مِائَةً وَسَبْعِينَ فَإِذَا كَمُلَتْهَا فَفِيهَا حِقَّةٌ وَثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ ، وَلَا شَيْءَ فِي زِيَادَتِهَا حَتَّى تَبْلُغَ مِائَةً وَثَمَانِينَ ، فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا حِقَّتَانِ وَابْنَةُ لَبُونٍ ، وَلَيْسَ فِي زِيَادَتِهَا شَيْءٌ حَتَى تَبْلُغَ مِائَةً وَسَبْعِينَ فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا ثَلَاثُ حِقَاقِ وَابْنَةُ لَبُونٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ نِصَابَ الْإِبِلِ خَمْسٌ وَلَا شَيْءَ فِيمَا دُونَهَا ، وَدَلَّلْنَا عَلَيْهِ ، فَإِذَا بَلَغَتْ كَالْإِبِلِ خَمْسًا فَفِيهَا شَاةٌ ، وَهِيَ فَرْضٌ إِلَى تِسْعٍ ، وَالْأَرْبَعَةُ الزَّائِدَةُ عَلَى الْخَمْسِ تُسَمَّى وَقْصًا ، وَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الشَّاةِ هَلْ تَجِبُ فِيهَا وَفِي الْخَمْسِ ، أَوْ تَجِبُ فِي الْخَمْسِ وَحْدَهَا وَالْوَقْصُ عَفْوٌ ؟ وَكَذَا كُلُّ وَقْصٍ بَيْنَ فَرْضَيْنِ ، فَفِيهِ لِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : قَالَهُ فِي الْإِمْلَاءِ وَالْبُوَيْطِيُّ ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : أَنَّ الشَّاةَ وَاجِبَةٌ فِي الْخَمْسِ وَهِيَ النِّصَابُ ، وَالْوَقْصُ الَّذِي عَلَيْهَا عَفْوٌ ، وَكَذَا فَرَائِضُ الزَّكَوَاتِ فِي الْمَوَاشِي
كُلُّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْأَوْقَاصِ وَالنُّصُبِ ، وَالْأَوْقَاصُ الزَّائِدَةُ عَلَيْهَا عَفْوٌ لَيْسَ لَهَا فِي الْوُجُوبِ مَدْخَلٌ . وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ : قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فِي خَمْسٍ شَاةٌ " وَفِيهِ دَلِيلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَوْجَبَ الشَّاةَ فِيهَا فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ غَيْرَ وَاجِبَةٍ فِي الزَّائِدِ عَلَيْهَا . وَالثَّانِي : أَنَّ الشَّاةَ فِي خَمْسٍ وَالْوَقْصَ الزَّائِدَ عَلَيْهَا دُونَ خَمْسٍ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي فَرَائِضِ الْغَنَمِ : " فِي مِائَتَيْنِ وَوَاحِدَةٍ ثَلَاثُ شِيَاهٍ ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ الْمِائَةِ شَيْءٌ " ، وَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ ، وَلِأَنَّهُ وَقْصٌ قَصَّرَ عَنِ النِّصَابِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَتَعَلَّقَ بِهِ الزَّكَاةُ كَالْأَرْبَعَةِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ تَعَلَّقَ بِهِ الْوُجُوبُ لَكَانَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الزِّيَادَةِ ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الزِّيَادَةِ لَمْ يَكُنْ تَعَلُّقٌ بِالْوُجُوبِ ، وَوَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي الْعَبَّاسِ ، رِوَايَةُ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الْإِبِلِ فَمَا دُونَهَا الْغَنَمُ فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ ، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ إِلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ " ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فِي أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الْإِبِلِ فَمَا دُونَهَا الْغَنَمُ فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ ، فَإِذَا وَجَبَتِ الْغَنَمُ فِي الْأَرْبَعَةِ وَالْعِشْرِينَ كُلِّهَا فَوَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ الْإِيجَابُ بِبَعْضِهَا . وَالثَّانِي : قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ إِلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ فَذَكَرَ النِّصَابَ وَالْوَقْصَ ، وَأَضَافَ الْفَرِيضَةَ الْوَاجِبَةَ إِلَيْهِمَا ، وَلِأَنَّهَا زِيَادَةٌ مِنْ جِنْسِ مَالِهِ الَّذِي يُجْزِي فِي حُكْمِ حَوْلِهِ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الزَّكَاةُ فِي جَمِيعِهِ كَالْخَامِسِ وَالْعَاشِرِ ، وَلِأَنَّ تَعَلُّقَ الْحُكْمِ بِمِقْدَارٍ مَعْلُومٍ لَا يَمْنَعُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ مِنْ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهِ ، وَبِالزِّيَادَةِ مَعَهَا أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُحْرِمَ لَوْ حَلَقَ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ وَجَبَ عَلَيْهِ دَمٌ ، وَلَوْ حَلَقَ جَمِيعَ رَأْسِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الدَّمُ ، وَلَوْ سَرَقَ رُبُعَ دِينَارٍ قُطِعَ ، وَلَوْ سَرَقَ أَلْفَ دِينَارٍ قُطِعَ ذَلِكَ الْقَطْعَ ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْقَطْعَ وَجَبَ فِي رُبُعِ دِينَارٍ دُونَ الزِّيَادَةِ لِعَدَمِ تَأْثِيرِهَا ، وَلِأَنَّ الدَّمَ وَجَبَ فِي ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ دُونَ مَا زَادَ عَلَيْهَا ، كَذَلِكَ الْوَقْصُ الزَّائِدُ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْوُجُوبُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الزِّيَادَةِ تَأْثِيرٌ .
فَصْلٌ الْقَوْلُ فِي إِمْكَانِ الْأَدَاءِ هَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي الْوُجُوبِ أَوِ الضَّمَانِ
فَصْلٌ : الْقَوْلُ فِي إِمْكَانِ الْأَدَاءِ هَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي الْوُجُوبِ أَوِ الضَّمَانِ ؟ فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ ، انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى التَّفْرِيعِ عَلَيْهِمَا وَعَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي إِمْكَانِ الْأَدَاءِ هَلْ هُوَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ أَوْ مِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ ؟ لِأَنَّهُمَا أَصْلَانِ مُتَّفِقَانِ ، وَفِي كُلِّ أَصْلٍ مِنْهُمَا قَوْلَانِ ، وَلَيْسَ لِهَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ تَأْثِيرٌ مَعَ بَقَاءِ الْمَالِ وَسَلَامَتِهِ ، وَإِنَّمَا تَأْثِيرُهُمَا مَعَ تَلَفِ الْمَالِ وَعَطَبِهِ ، وَلَيْسَ يَخْلُو حَالُ تَلَفِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْحَوْلِ أَوْ بَعْدَهُ ،
فَإِنْ كَانَ تَلَفُ الْمَالِ قَبْلَ الْحَوْلِ ، فَحُكْمُ التَّالِفِ مِنْهُ حُكْمُ مَا لَا يُوجَدُ ، فَإِنْ تَلِفَ جَمِيعُ الْمَالِ فَلَا زَكَاةَ ، وَإِنْ تَلِفَ بَعْضُهُ اعْتُبِرَ حُكْمُ بَاقِيهِ إِذَا حَالَ حَوْلُهُ ، فَإِنْ بَلَغَ نِصَابًا زَكَّاهُ ، وَإِنْ نَقَصَ عَنْ نِصَابٍ فَلَا زَكَاةَ ، فَهَذَا حُكْمُ التَّالِفِ قَبْلَ الْحَوْلِ . وَأَمَّا التَّالِفُ بَعْدَ الْحَوْلِ من مال الزكاة فَعَلَى ضَرْبَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنْ يَتْلَفَ بَعْدَ الْحَوْلِ وَبَعْدَ إِمْكَانِ الْأَدَاءِ ، فَهَذَا الزَّكَاةُ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ ، سَوَاءٌ تَلِفَ بَعْضُ الْمَالِ أَوْ جَمِيعُهُ ، سَوَاءٌ قِيلَ : إِنَّ الْإِمْكَانَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ أَوْ مِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ ، لِأَنَّهُ بِإِمْكَانِ الْأَدَاءِ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ إِخْرَاجُهَا وَحَرُمَ عَلَيْهِ إِمْسَاكُهَا ، وَصَارَ بَعْدَ الْأَمَانَةِ ضَامِنًا كَالْوَدِيعَةِ الَّتِي يَجِبُ رَدُّهَا فَيَضْمَنُهَا الْمُودَعُ بِحَبْسِهَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ إِخْرَاجَهَا عِنْدَهُ عَلَى التَّرَاخِي لَا عَلَى الْفَوْرِ ، فَيُخْرِجُهَا مَتَى شَاءَ . وَهَذَا غَلَطٌ ، بَلْ إِخْرَاجُهَا عَلَى الْفَوْرِ ؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَ إِخْرَاجُهُ وَأَمْكَنَ أَدَاؤُهُ لَمْ يَجُزْ تَأْخِيرُهُ ، كَالْوَدَائِعِ وَسَائِرِ الْأَمَانَاتِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ التَّلَفُ بَعْدَ الْحَوْلِ وَقَبْلَ إِمْكَانِ الْأَدَاءِ ، فَذَلِكَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : إِنْ تَلِفَ جَمِيعُ الْمَالِ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا لَا يَخْتَلِفُ ، سَوَاءٌ قِيلَ : إِنَّ الْإِمْكَانَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ أَوْ مِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ ، لِأَنَّا إِنْ قُلْنَا : إِنَّ إِمْكَانَ الْأَدَاءِ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ فَقَبْلَ الْإِمْكَانِ لَمْ تَجِبِ الزَّكَاةُ ، وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ الْإِمْكَانَ مِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ فَقَدْ وَجَبَتِ الزَّكَاةُ بِالْحَوْلِ غَيْرَ أَنَّهَا فِي يَدِهِ أَمَانَةٌ لِلْمَسَاكِينِ لَا يَضْمَنُهَا إِلَّا بِالْإِمْكَانِ ، وَإِذَا كَانَتْ فِي يَدِهِ أَمَانَةٌ لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُهَا بِالتَّلَفِ كَالْوَدِيعَةِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَتْلَفَ بَعْضُ الْمَالِ وَيَبْقَى بَعْضُهُ ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَتَّضِحُ تَبْيِينُ الْقَوْلَيْنِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَصْلَيْنِ ، وَسَنَذْكُرُ لِفُرُوعِهِمَا وَبَيَانِ تَأْثِيرِهِمَا فَصْلَيْنِ . أَحَدُهُمَا : فِي الْغَنَمِ . وَالثَّانِي : فِي الْإِبِلِ ، لِنَبْنِيَ عَلَيْهِمَا جَمِيعَ الْفُرُوعِ ، فَأَمَّا الْفَصْلُ فِي الْغَنَمِ فَهُوَ : أَنْ يَكُونَ مَعَهُ ثَمَانُونَ شَاةً يَحُولُ عَلَيْهَا الْحَوْلُ ثُمَّ تَتْلَفُ مِنْهَا أَرْبَعُونَ قَبْلَ إِمْكَانِ الْأَدَاءِ وَتَبْقَى الْأَرْبَعُونَ ، فَهَذَا تَرْتِيبٌ عَلَى الْأَصْلَيْنِ فِي إِمْكَانِ الْأَدَاءِ وَعَفْوِ الْأَوْقَاصِ ، وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ إِمْكَانَ الْأَدَاءِ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ فَعَلَيْهِ شَاةٌ كَامِلَةٌ لِوُجُودِ الْإِمْكَانِ وَهُوَ يَمْلِكُ أَرْبَعِينَ ، وَمَا تَلِفَ قَبْلَ الْإِمْكَانِ كَمَا لَمْ يَكُنْ ، وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ الْإِمْكَانَ مِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ ، وَأَنَّ الْوُجُوبَ بِالْحَوْلِ انْبَنَى ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي الْوَقْصِ هَلْ لَهُ مَدْخَلٌ فِي الْوُجُوبِ أَمْ لَا ؟ فَإِنْ قُلْنَا : لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْوُجُوبِ ، وَأَنَّ الشَّاةَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْأَرْبَعِينَ وَالزِّيَادَةَ عَلَيْهَا عَفْوٌ فَعَلَيْهِ شَاةٌ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْوُجُوبُ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ ، وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ الْوَقْصَ دَاخِلٌ فِي الْوُجُوبِ وَأَنَّ الشَّاةَ مَأْخُوذَةٌ
مِنَ الْكُلِّ فَعَلَيْهِ نِصْفُ شَاةٍ ؛ لِأَنَّ الشَّاةَ وَجَبَتْ فِي ثَمَانِينَ ، فَتَلِفَ نِصْفُهَا أَمَانَةً لِتَلَفِ نِصْفِ الْمَالِ ، وَوَجَبَ نِصْفُهَا لِبَقَاءِ نِصْفِ الْمَالِ ، فَحَصَلَ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : شَاةٌ . وَالثَّانِي : نِصْفُ شَاةٍ . وَلَوْ حَالَ الْحَوْلُ وَمَعَهُ ثَمَانُونَ فَتَلِفَ مِنْهَا قَبْلَ الْحَوْلِ سِتُّونَ وَبَقِيَ عِشْرُونَ ، فَيُخْرِجُ زَكَاتَهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : لَا زَكَاةَ فِيهَا إِذَا قُلْنَا إِنَّ الْإِمْكَانَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ فِيهَا نِصْفَ شَاةٍ إِذَا قِيلَ : إِنَّ الْإِمْكَانَ مِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ ، وَأَنَّ الشَّاةَ وَجَبَتْ فِي الْأَرْبَعِينَ وَالزِّيَادَةَ عَلَيْهَا عَفْوٌ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ فِيهَا رُبُعَ شَاةٍ إِذَا قِيلَ : إِنَّ الْإِمْكَانَ مِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ ، وَأَنَّ الشَّاةَ وَجَبَتْ فِي الثَّمَانِينَ لِبَقَاءِ رُبُعِهَا وَتَلَفِ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهَا ، فَهَذَا فَصْلٌ فِي الْغَنَمِ يُوَضِّحُ جَمِيعَ فُرُوعِهِ ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهُ وَبَدَأْنَا بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا مَوْضِعُهُ ، لِأَنَّهُ أَبْيَنُ وَالتَّفْرِيعُ عَلَيْهَا أَسْهَلُ . وَأَمَّا الْفَصْلُ فِي الْإِبِلِ فَيَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ : قَسْمٌ يَكُونُ فَرِيضَةَ الْغَنَمِ ، وَقِسْمٌ يَكُونُ فَرِيضَةَ الْإِبِلِ ، وَجَوَازُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَالٌّ عَلَى وُجُوبِ الْآخَرِ ، لَكِنْ فِي ذِكْرِهِمَا زِيَادَةُ بَيَانٍ . فَأَمَّا فَرِيضَةُ الْغَنَمِ ، فَكَرَجُلٍ كَانَ مَعَهُ تِسْعٌ مِنَ الْإِبِلِ حَالَ حَوْلُهَا ، ثُمَّ تَلِفَ مِنْهَا أَرْبَعٌ قَبْلَ إِمْكَانِ الْأَدَاءِ وَبَقِيَ خَمْسَةٌ ، فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ الْإِمْكَانَ شَرْطٌ فِي الْوُجُوبِ فَعَلَيْهِ شَاةٌ ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ حَدَثَ وَهُوَ يَمْلِكُ خَمْسًا ، وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ الْوُجُوبَ بِالْحَوْلِ وَالْإِمْكَانَ مِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ الشَّاةَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْخَمْسِ وَالزِّيَادَةَ عَلَيْهَا عَفْوٌ ، فَعَلَيْهِ شَاةٌ أَيْضًا ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الشَّاةَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ التِّسْعِ فَعَلَيْهِ خَمْسَةُ أَتْسَاعِ الْمَالِ ، فَحَصَلَ فِي قَدْرِ زَكَاتِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : شَاةٌ كَامِلَةٌ . وَالثَّانِي : خَمْسَةُ أَتْسَاعِ شَاةٍ ، فَلَوْ حَالَ حَوْلٌ عَلَى تِسْعٍ مِنَ الْإِبِلِ ثُمَّ تَلِفَ مِنْهَا قَبْلَ الْإِمْكَانِ خَمْسٌ وَبَقِيَ أَرْبَعٌ ، فَفِي زَكَاتِهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : لَا زَكَاةَ فِيهَا . إِذَا قِيلَ : إِنَّ الْإِمْكَانَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ . وَالثَّانِي : فِيهَا أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ شَاةٍ إِذَا قِيلَ : إِنَّ الْإِمْكَانَ مِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ ؛ لِأَنَّ الشَّاةَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْخَمْسِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ فِيهَا أَرْبَعَةَ أَتْسَاعِ شَاةٍ إِذَا قِيلَ : إِنَّ الشَّاةَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ التِّسْعِ .
وَأَمَّا الْإِبِلُ الَّتِي فَرِيضَتُهَا مِنْهَا : فَكَرَجُلٍ مَعَهُ خَمْسَةٌ وَثَلَاثُونَ مِنَ الْإِبِلِ حَالَ حَوْلُهَا ، ثُمَّ تَلِفَ مِنْهَا قَبْلَ الْإِمْكَانِ عَشَرَةٌ وَبَقِيَ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ ، فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ الْإِمْكَانَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ فَعَلَيْهِ بِنْتُ مَخَاضٍ ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ مِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ : فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ بِنْتَ مَخَاضٍ وَجَبَتْ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ ، وَالزِّيَادَةَ عَلَيْهَا عَفْوٌ ، فَعَلَيْهِ أَيْضًا بِنْتُ مَخَاضٍ ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهَا وَجَبَتْ فِي الْخَمْسِ وَالثَّلَاثِينَ فَعَلَيْهِ خَمْسَةُ أَسْبَاعِ بِنْتِ مَخَاضٍ ، لِبَقَاءِ خَمْسَةِ أَسْبَاعِ الْمَالِ ، وَفِي قَدْرِ زَكَاتِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : بِنْتُ مَخَاضٍ . وَالثَّانِي : خَمْسَةُ أَسْبَاعِ بِنْتِ مَخَاضٍ فَلَوْ حَالَ حَوْلُهُ عَلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ مِنَ الْإِبِلِ ، ثُمَّ تَلِفَ مِنْهَا قَبْلَ الْإِمْكَانِ خَمْسَةَ عَشَرَ وَبَقِيَ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ ، فَفِي قَدْرِ زَكَاتِهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَرْبَعُ شِيَاهٍ ، إِذَا قِيلَ : إِنَّ الْإِمْكَانَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ . وَالثَّانِي : أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ بِنْتِ مَخَاضٍ ، إِذَا قِيلَ : إِنَّ الْإِمْكَانَ مِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ وَأَنَّ بِنْتَ مَخَاضٍ وَجَبَتْ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ . وَالثَّالِثُ : أَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ بِنْتِ مَخَاضٍ ، إِذَا قِيلَ إِنَّهَا وَجَبَتْ فِي خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ لِبَقَاءِ أَرْبَعَةِ أَتْسَاعِ الْمَالِ وَعَلَى هَذَا ، وَقِيَاسُهُ يَكُونُ جَوَابُ مَا يَتَفَرَّعُ مِنَ الْمَسَائِلِ عَلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا شَيْءَ فِي زِيَادَتِهَا حَتَّى تَبْلُغَ مِائَتَيْنِ فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَإِنْ كَانَتْ أَرْبَعُ حِقَاقٍ مِنْهَا خَيْرًا مِنْ خَمْسِ بَنَاتِ لَبُونٍ أَخَذَهَا الْمُصَدِّقُ وَإِنْ كَانَتْ خَمْسُ بَنَاتِ لَبُونٍ خَيْرًا مِنْهَا أَخَذَهَا لَا يَحِلُّ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِبِلَ إِذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْنِ إِمَّا أَرْبَعُ حِقَاقٍ أَوْ خَمْسُ بَنَاتِ لَبُونٍ ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي الْمَالِ إِلَّا أَحَدُ الْفَرْضَيْنِ زكاة الإبل إذا بلغت مائتين أَخَذَهُ الْمُصَدِّقُ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَفْضَلَ مِنْهُ ، لَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَسَائِرُ أَصْحَابِهِ ، حِقَاقًا كَانَتْ أَوْ بَنَاتِ لَبُونٍ ، فَأَمَّا إِذَا اجْتَمَعَ الْفَرْضَانِ مَعًا فِي الْمَالِ : فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْفَرْضَ فِي أَحَدِهِمَا إِمَّا أَرْبَعُ حِقَاقٍ أَوْ خَمْسُ بَنَاتِ لَبُونٍ وَخَرَّجَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا قَوْلًا ثَانِيًا لِلشَّافِعِيِّ مِنْ كَلَامٍ ذَكَرَهُ فِي الْقَدِيمِ : إِنَّ الْمُصَدِّقَ يَأْخُذُ الْحِقَاقَ لَا غَيْرَ ، وَلَيْسَ تَخْرِيجُ هَذَا الْقَوْلِ صَحِيحًا ، بَلْ مَذْهَبُهُ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ لَمْ يَخْتَلِفْ فِي جَوَازِ أَخْذِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرْضَيْنِ مَعَ وُجُودِ الْآخَرِ ، لِتَعْلِيقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفَرْضَ بِهِمَا ، ثُمَّ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ عَلَى الْمُصَدِّقِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي أَخْذِ أَفْضَلِهِمَا ، فَإِنْ كَانَتِ الْحِقَاقُ أَفْضَلَ أَخَذَهَا ، وَإِنْ كَانَتْ بَنَاتُ لَبُونٍ أَفْضَلَ أَخَذَهَا وَلَيْسَ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَمْنَعَهُ .
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ : الْخِيَارُ إِلَى رَبِّ الْمَالِ فِي دَفْعِ الْحِقَاقِ إِنْ شَاءَ أَوْ بَنَاتِ اللَّبُونِ إِنْ شَاءَ ، كَمَا كَانَ لَهُ الْخِيَارُ فِيمَا بَيْنَ السِّنِينَ بَيْنَ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا ، وَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ إِذَا اشْتَمَلَ عَلَى صِنْفَيْنِ جَيِّدٍ وَرَدِيءٍ لَمْ يَجُزْ إِخْرَاجُ فَرْضِهِ مِنَ الرَّدِيءِ ، وَلَزِمَ إِخْرَاجُهُ مِنَ الْجَيِّدِ ، كَمَا لَوِ اجْتَمَعَ فِي مَالِهِ صِحَاحٌ وَمِرَاضٌ أَوْ صِغَارٌ وَكِبَارٌ ، فَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ فِي الْخِيَارِ عَلَى الدَّرَاهِمِ ، أَوِ الشَّاتَيْنِ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْعِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوِ الشَّاتَيْنِ مُتَعَلِّقَةٌ بِذِمَّةِ رَبِّ الْمَالِ دُونَ مَالِهِ ، وَمَنْ لَزِمَهُ فِي الذِّمَّةِ أَخْذُ حِقَّتَيْنِ كَانَ مُخَيَّرًا فِي دَفْعِ أَيِّهِمَا شَاءَ ، وَالْفَرْضُ فِي الْحِقَاقِ أَوْ بَنَاتِ اللَّبُونِ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَالِ لَا بِالذِّمَّةِ ، فَكَانَ الْخِيَارُ فِي الْأَخْذِ إِلَى مُسْتَحَقِّهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا جَازَ لِرَبِّ الْمَالِ الْعُدُولُ إِلَى الْعِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوِ الشَّاتَيْنِ إِلَى ابْتِيَاعِ الْفَرِيضَةِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الدَّرَاهِمِ أَوِ الشَّاتَيْنِ ، وَلَمَّا لَمْ يَجُزْ لِرَبِّ الْمَالِ الْعُدُولُ عَنْ هَذَيْنِ الْفَرْضَيْنِ إِلَى غَيْرِهِمَا لَمْ يَكُنْ مُخَيَّرًا فِيهِمَا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ أَخَذَ مِنْ رَبِّ الْمَالِ الصِّنْفَ الْأَدْنَى كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يُخْرِجَ الْفَضْلَ فَيُعْطِيَهُ أَهْلَ السُّهْمَانِ فَإِنْ وَجَدَ أَحَدَ الصِّنْفَيْنِ وَلَمْ يَجِدِ الْآخَرَ الَّذِي وَجَدَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ عَلَى الْمُصَدِّقِ أَنْ يَأْخُذَ أَفْضَلَ الْفَرْضَيْنِ مِنَ الْمَالِ إِذَا اجْتَمَعَا فِيهِ ، فَإِنْ أَخَذَ دُونَهُمَا أَوْ أَقَلَّهُمَا دَفَعَهُ لِلْمَسَاكِينِ فَلَهُ حَالَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَأْخُذَ عَنِ اجْتِهَادٍ . وَالثَّانِي : عَنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ ، فَإِنْ أَخْذَهُ عَنِ اجْتِهَادٍ فَقَدَ أَجْزَأَ رَبُّ الْمَالِ ، لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ ، وَهَلْ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ الْفَضْلِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إِخْرَاجُ الْفَضْلِ الَّذِي بَيْنَ السِّنِينَ ، لِأَنَّهُ أَعْطَى دُونَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ فَكَانَ كَمَنْ أَعْطَاهُ شَاةً وَعَلَيْهِ شَاتَانِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَيْسَ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ الْفَضْلِ وَقَدْ أَجْزَأَهُ مَا أَدَّاهُ ، لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ الْفَضْلِ بَعْدَ أَدَاءِ الْغَرَضِ لَاقْتَضَى أَنْ لَا يَقَعَ الْمُؤَدَّى مَوْقِعَ الْآخَرِ ، وَلَوْ لَمْ يَقَعْ مَوْقِعَ الْآخَرِ لَوَجَبَ رَدُّهُ ، فَلَمَّا لَمْ يَجِبْ رَدُّهُ دَلَّ عَلَى إِجْزَائِهِ ، وَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ انْفَصَلَ عَنْ هَذَا بِأَنْ قَالَ : إِنَّمَا لَمْ يَلْزَمْهُ رَدُّهُ لِأَنَّهُ بَعْضُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ ، وَالْمُصَدِّقُ إِذَا أَخَذَ بَعْضَ الْوَاجِبِ كَانَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالْبَاقِي وَلَمْ يَلْزَمْهُ رَدُّ مَا أَخَذَ . وَإِنْ كَانَ الْمُصَدِّقُ فِي الْأَصْلِ قَدْ أَخَذَ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ ، فَهَلْ يُجْزِي ذَلِكَ رَبَّ الْمَالِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : لَا يُجْزِئُهُ ، لِأَنَّهُ أَعْطَى غَيْرَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ ، فَكَانَ كَمَنْ دَفَعَ ابْنَ لَبُونٍ مَعَ وُجُودِ بِنْتِ مَخَاضٍ ، فَعَلَى هَذَا عَلَيْهِ دَفْعُ الْأَفْضَلِ ، وَلَهُ اسْتِرْجَاعُ مَا دَفَعَ ، فَإِنْ كَانَ بَاقِيًا أَخَذَهُ ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَهْلَكًا أَخَذَ قِيمَتَهُ مِنْ مَالِ مَنِ اسْتَهْلَكَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُجْزِئُهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ أَخْذَ الْأَفْضَلِ وَجَبَ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُبْطِلَ حُكْمًا ثَبَتَ بِالنَّصِّ ، فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُ إِخْرَاجُ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْفَضْلِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا أَحَدُهُمَا يَلْزَمُهُ إِخْرَاجُ الْفَضْلِ ، وَالثَّانِي لَا يَلْزَمُهُ .
فَصْلٌ : فَإِذَا أَرَادَ إِخْرَاجَ الْفَضْلِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفَرِيضَتَيْنِ الْمُصَدِّقِ ، لَمْ تَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَقْدِرَ عَلَى إِخْرَاجِهِ مِنَ الْحَيَوَانِ ، أَوْ لَا يَقْدِرُ ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى إِخْرَاجِهِ مِنَ الْحَيَوَانِ إِمَّا لِقِلَّةِ الْفَضْلِ ، أَوْ لِتَعَذُّرِ الْحَيَوَانِ ، أَجْزَأَهُ إِخْرَاجُهُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ ، لِأَنَّهُ مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْحَيَوَانِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُجْزِئُهُ غَيْرُ الْحَيَوَانِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى إِخْرَاجِ الْقِيَمِ فِي الزَّكَاةِ ، فَعَلَى هَذَا يَصْرِفُ الْفَضْلَ فِي شَاةٍ أَوْ بَعِيرٍ إِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ كَامِلًا ، وَلَا يَصْرِفُهُ فِي جُزْءٍ مِنْهُ عَلَى حَسَبِ الْفَضْلِ ، وَلَا يَجُوزُ صَرْفُ الْفَضْلِ فِي بَقَرَةٍ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ فَرَائِضِ الْإِبِلِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ إِخْرَاجُ الْفَضْلِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ إِنْ قَدَرَ عَلَى الْحَيَوَانِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَلَافِي نَقْصٍ وَلَيْسَ بِقِيَمٍ كَالشَّاتَيْنِ وَالْعِشْرِينَ دِرْهَمًا الْمَأْخُوذَةِ بَيْنَ السِّنِينَ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْدِلَ عَنِ الدَّرَاهِمِ أَوِ الدَّنَانِيرِ إِلَى الْعُرُوضِ وَالسِّلَعِ ، وَلَكِنْ لَوْ عَدَلَ إِلَى الْحَيَوَانِ أَجْزَأَهُ لَا يُخْتَلَفُ ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يُفَرِّقُ الْفَرِيضَةَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا نَقْلُ الْمُزَنِيِّ ، وَنَقْلُ الرَّبِيعِ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " : " وَلَا يُفَارِقُ الْفَرِيضَةَ " ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اخْتِلَافِ هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ نَقْلَ الرَّبِيعِ هُوَ الصَّحِيحُ ، وَنَقْلَ الْمُزَنِيِّ إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَخْطَأَ فِيهِ أَوْ حَذَفَ الْأَلِفَ مِنْهُ اسْتِخْفَافًا كَمَا حُذِفَتْ مِنْ صَالِحٍ وَعُثْمَانَ ، فَيَكُونَ مَعْنَى نَقْلِ الرَّبِيعِ " وَلَا يُفَارِقُ الْفَرِيضَةَ " أَيْ : إِذَا وَجَدَ السِّنَّ الْوَاجِبَ فِي الْمَالِ لَا يُفَارِقُهَا وَيَعْدِلُ إِلَى سِنٍّ أَعْلَى وَيُعْطِي أَوْ أَدْنَى وَيَأْخُذُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : مِنْ قَوْلِ أَصْحَابِنَا وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ النَّقْلَيْنِ صَحِيحَانِ ، وَمَعْنَاهُمَا مُخْتَلِفٌ ، فَمَعْنَى قَوْلِ الرَّبِيعِ مَا ذَكَرْنَا ، وَمَعْنَى نَقْلِ الْمُزَنِيِّ " وَلَا يُفَرِّقُ الْفَرِيضَةَ " إِذَا كَانَ مَعَهُ مِائَتَانِ مِنَ الْإِبِلِ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُفَرِّقَ فَرْضَهَا فَيَأْخُذَ بَعْضَهُ حِقَاقًا وَبَعْضَهُ بَنَاتِ لَبُونٍ ، بَلْ إِمَّا أَنْ
يَأْخُذَ أَرْبَعَ حِقَاقٍ ، أَوْ خَمْسَ بَنَاتِ لَبُونٍ ، فَتَكُونُ رِوَايَةُ الرَّبِيعِ مِنَ الْمُفَارَقَةِ ، وَرِوَايَةُ الْمُزَنِيِّ مِنَ التَّفْرِيقِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا كَانَ مَعَهُ مِائَتَانِ مِنَ الْإِبِلِ فِيهَا خَمْسُ بَنَاتِ لَبُونٍ وَثَلَاثُ حِقَاقٍ الْمُصَدِّقِ ، أُخِذَتْ مِنْهُ خَمْسُ بَنَاتِ لَبُونٍ ، فَإِنْ أَعْطَى ثَلَاثَ حِقَاقٍ وَبِنْتَ لَبُونٍ مَعَ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ مُفَارَقَةَ الْفَرْضِ إِلَى غَيْرِهِ مَعَ وُجُودِهِ ، وَلَوْ كَانَ فِي مَالِهِ أَرْبَعُ بَنَاتِ لَبُونٍ وَحِقَّةٌ وَاحِدَةٌ وَلَيْسَ فِي مَالِهِ غَيْرَ ذَلِكَ ، فَإِنْ أَعْطَى هَذِهِ الْأَرْبَعَ مَعَ الْحِقَّةِ وَأَخَذَ شَاتَيْنِ مَعَ عِشْرِينَ دِرْهَمًا جَازَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْدِلْ عَنِ الْفَرْضِ الْمَوْجُودِ فِي مَالِهِ ، وَإِنْ أَعْطَى حِقَّةً وَثَلَاثَ بَنَاتِ لَبُونٍ مَعَ سِتِّ شِيَاهٍ أَوْ سِتِّينَ دِرْهَمًا ، كَانَ عَلَى وَجْهَيْنِ ذَكَرْنَا تَوْجِيهَهُمَا . أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ . وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ . فَأَمَّا إِذَا كَانَ مَعَهُ أَرْبَعُمِائَةٍ مِنَ الْإِبِلِ ، فَإِنْ أَعْطَى ثَمَانِيَ حِقَاقٍ جَازَ ، وَإِنْ أَعْطَى عَشْرَ بَنَاتِ لَبُونٍ جَازَ ، وَإِنْ أَعْطَى أَرْبَعَ حِقَاقٍ أَوْ خَمْسَ بَنَاتِ لَبُونٍ جَازَ أَيْضًا عَلَى مَنْصُوصِ الشَّافِعِيِّ وَمَذْهَبِ عَامَّةِ أَصْحَابِهِ . وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ : لَا يَجُوزُ ذَلِكَ ، كَمَا لَا يَجُوزُ فِي الْمِائَتَيْنِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَفْرِيقَ الْفَرِيضَةِ ، وَهَذَا غَلَطٌ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ الْمِائَتَيْنِ نِصَابٌ فَرْضُهُ أَخْذُ نَسَقٍ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُفَرِّقَ كَالْكَفَّارَةِ الْوَاحِدَةِ الَّتِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُفَرِّقَ بَعْضَهَا كِسْوَةً وَبَعْضَهَا طَعَامًا ، وَالْأَرْبَعُمِائَةٍ نِصَابَانِ لَهَا فَرْضَانِ فَجَازَ تَفْرِيقُهُمَا كَالْكَفَّارَتَيْنِ إِذَا فَرَّقَهُمَا فَأَطْعَمَ عَنْ أَحَدَيْهِمَا وَكَسَا عَنِ الْأُخْرَى .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ كَانَ الْفَرْضَانِ مَعِيبَيْنِ بِمَرَضٍ أَوْ هُيَامٍ أَوْ جَرَبٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَسَائِرُ الْإِبِلِ صِحَاحٌ ، قِيلَ لَهُ إِنْ جِئْتَ بِالصِّحَاحِ وَإِلَّا أَخَذْنَا مِنْكَ السِّنَّ الَّتِي هِيَ أَعْلَى وَرَدَدْنَا أَوِ السِّنَّ الَّتِي هِيَ أَسْفَلُ وَأَخَذْنَا ، وَالْخِيَارُ فِي الشَّاتَيْنِ أَوِ الْعِشْرِينَ دِرْهَمًا إِلَى الَّذِي أَعْطَى ، وَلَا يَخْتَارُ السَّاعِي إِلَّا مَا هُوَ خَيْرٌ لِأَهْلِ السُّهْمَانِ وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَتْ أَعْلَى بِسِنِينَ أَوْ أَسْفَلَ فَالْخِيَارُ بَيْنَ أَرْبَعِ شِيَاهٍ أَوْ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا كَانَ مَعَهُ مِائَتَانِ مِنَ الْإِبِلِ صِحَاحًا ، وَكَانَ الْفَرْضَانِ حَقَّا فِيهِمَا مَعِيبَيْنِ بِمَرَضٍ أَوْ هُيَامٍ الْمُصَدِّقِ ، وَهُوَ دَاءٌ يَأْخُذُ الْإِبِلَ فِي أَجْوَافِهَا فَلَا تَزَالُ تَكْرَعُ الْمَاءَ عِطَاشًا حَتَّى تَمُوتَ . قَالَ الشَّاعِرُ : الْقَوْمُ هِيمٌ وَالْأَدَاوَى يُبَّسُ إِنْ تَرِدِ الْمَاءَ بِمَاءٍ أَكْيَسُ ، أَوْ جَرَبٌ وَهُوَ الدَّاءُ الْمَعْرُوفُ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُخْرِجَ الْفَرْضَ مَعِيبًا مَعَ صِحَّةِ مَالِهِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ ، [ الْبَقَرَةِ : ] ، وَرَوَى أَنَسُ بْنُ
مَالِكٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا كَتَبَ لَهُ إِلَى الْبَحْرِينِ ، كَانَ لَهُ فِي كِتَابِهِ : " لَا تَأْخُذْ هَرِمَةً وَلَا ذَاتَ عَيْبٍ " . وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ فِي كِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ : وَلَا تَأْخُذْ هَرِمَةً وَلَا ذَاتَ عَوَارٍ وَلِأَنَّ أَمْرَ الزَّكَوَاتِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُعَادَلَةِ بَيْنَ الْمَسَاكِينِ وَأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ وَالرِّفْقِ بِهِمَا ، فَلَمَّا لَمْ يَأْخُذْ مِنَ الْمَعِيبِ صَحِيحًا رِفْقًا بِرَبِّ الْمَالِ ، لَمْ يَأْخُذْ مِنَ الصَّحِيحِ مَعِيبًا رِفْقًا بِالْمَسَاكِينِ ، فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْمَعِيبِ فِيهَا ، قِيلَ لِرَبِّ الْمَالِ : أَنْتَ بِالْخِيَارِ أَنْ تَأْتِيَنَا بِفَرْضِهَا مِنْ غَيْرِهَا ، إِمَّا أَرْبَعُ حِقَاقٍ ، أَوْ خَمْسُ بَنَاتِ لَبُونٍ تُشْبِهُ مَالَكَ ، وَبَيْنَ أَنْ نَأْخُذَ مِنْكَ السِّنَّ الْأَعْلَى ، أَوْ تُعْطِيَ السِّنَّ الْأَدْنَى وَتَأْخُذَ ، فَإِنْ صَعِدَ إِلَى السِّنِّ الْأَعْلَى وَهُوَ الْجَذَاعُ ، صَعِدَ إِلَيْهَا مِنَ الْحِقَاقِ لَا مِنْ بَنَاتِ اللَّبُونِ ، لِأَنَّهُ إِذَا صَعِدَ مِنْ بَنَاتِ اللَّبُونِ صَعِدَ إِلَى الْحِقَّةِ وَهِيَ فَرْضُهُ ، وَإِنْ أَرَادَ النُّزُولَ نَزَلَ مِنْ بَنَاتِ اللَّبُونِ إِلَى بَنَاتِ الْمَخَاضِ ، وَلَا يَنْزِلُ مِنَ الْحِقَاقِ إِلَيْهَا لِمَا ذَكَرْنَا . فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ : فَإِنْ كَانَ الْفَرْضَانِ مَعِيبَيْنِ بِمَرَضٍ أَوْ هُيَامٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَسَائِرُ الْإِبِلِ صِحَاحٌ ، فَيَعْنِي وَبَاقِي الْإِبِلِ صِحَاحٌ ؛ لِأَنَّ لَفْظَةَ " سَائِرٍ " إِنَّمَا تُسْتَعْمَلُ فِي مَوْضِعِ كُلٍّ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ ، وَإِلَّا فَهِيَ مُسْتَعْمَلَةٌ فِيمَا بَقِيَ حَقِيقَةً ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِذَا أَكَلْتُمْ فَاسْأَرُوا " أَيْ فَبَقُّوا . وَقَالَ الْأَعْشَى : بَانَتْ وَقَدْ أَسَارَتْ فِي النَّفْسِ حَاجَتَهَا بَعْدَ ائْتِلَافٍ وَخَيْرُ الْقَوْلِ مَا نَفَعَا وَلِذَلِكَ يُقَالُ لِمَا بَقِيَ فِي الْإِنَاءِ سُؤْرٌ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يَأْخُذُ مَرِيضًا وَفِي الْإِبِلِ عَدَدٌ صَحِيحٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ كَمَا قَالَ : إِذَا كَانَتْ إِبِلُهُ صِحَاحًا وَمِرَاضًا الْمُصَدِّق { فما الحكم } لَمْ يَجُزْ أَنْ تُؤْخَذَ زَكَاتَهَا مِرَاضًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الدَّلِيلِ ، وَوَجَبَ أَنْ تُؤْخَذَ زَكَاتُهَا مِنَ الصِّحَاحِ اعْتِبَارًا بِقَدْرِ مَالِهِ . مِثَالُ ذَلِكَ : أَنْ يَكُونَ مَعَهُ ثَلَاثُونَ مِنَ الْإِبِلِ نِصْفُهَا صِحَاحٌ وَنِصْفُهَا مِرَاضٌ ، يَكُونُ فَرْضُهَا بِنْتَ مَخَاضٍ ، فَقَالَ : كَمْ تُسَاوِي بِنْتُ مَخَاضٍ مِنْ مِرَاضِهَا ، فَيُقَالُ : مِائَةُ دِرْهَمٍ ، لَقَالَ : كَمْ تُسَاوِي بِنْتُ مَخَاضٍ مِنْ صِحَاحِهَا ؟ فَيُقَالُ ثَلَاثُمِائَةِ دِرْهَمٍ ، فَيُؤْخَذُ نِصْفُ الْمِائَةِ وَهُوَ خَمْسُونَ وَنِصْفُ الثَّلَاثِمِائَةِ وَهُوَ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ فَتُضِيفُهُمَا فَيَكُونَانِ مِائَتَيْنِ ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ بِنْتُ مَخَاضٍ مِنَ الصِّحَاحِ ، وَثَمَنُهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ ، ثُمَّ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ فِيمَا زَادَ وَنَقَصَ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا مَعِيبَةً زكاة الأنعام لَمْ يُكَلِّفْهُ صَحِيحًا مِنْ غَيْرِهَا وَيَأْخُذُ جَبْرَ الْمَعِيبِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا كَانَ جَمِيعُ مَالِهِ مَعِيبًا لَمْ يُكَلَّفْ زَكَاتَهَا صَحِيحًا سَلِيمًا ، وَأُخِذَتْ زَكَاتُهَا مِنْهَا ، وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ : لَا تُؤْخَذُ إِلَّا الصَّحِيحَةُ عَنِ الْمِرَاضِ وَالْكَبِيرَةُ عَنِ الصِّغَارِ ، احْتِجَاجًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا تَأْخُذْ هَرِمَةً وَلَا ذَاتَ عَوَارٍ " وَهَذَا غَلَطٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ " يَسِّرْ وَلَا تُعَسِّرْ ، وَبَشِّرْ وَلَا تُنَفِّرْ ، فَإِنْ أَطَاعُوكَ بِالصَّدَقَةِ فَخُذْ مِنْهُمْ وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ " ، وَلِرِوَايَةِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْغَاضِرِيِّ أَنَّهُ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " ثَلَاثٌ مَنْ عَمِلَهَا طَعِمَ طَعْمَ الْإِيمَانِ : مَنْ عَبَدَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ ، وَأَخْرَجَ زَكَاةَ مَالِهِ طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ رَافِدَةً عَلَيْهِ كُلَّ عَامٍ وَلَمْ يُخْرِجِ الدَّرَنَةَ وَلَا الشُّرَطَ اللَّئِيمَةَ وَلَكِنْ أَخْرَجَ وَسَطَ الْمَالِ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَسْلُبْكُمْ خَيْرَهُ ، وَلَمْ يَأْمُرْكُمْ بِشَرِّهِ " ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا تُؤْخَذُ زَكَاتُهُ مِنْ جِنْسِهِ لَا يُكَلَّفُ إِخْرَاجَ زَكَاتِهِ مِنْ غَيْرِهِ ، كَالْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ ، لَا يُكَلَّفُ مِنَ التَّمْرِ الرَّدِيءِ إِخْرَاجَ الْجَيِّدِ ، فَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا تَأْخُذْ هَرِمَةً وَلَا ذَاتَ عَوَارٍ " فَالْمُرَادُ بِهِ الْمَالُ السَّلِيمُ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَا يُكَلَّفُ زَكَاتَهَا صِحَاحًا مِنْ غَيْرِ مَالِهِ ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ " يَأْخُذُ خَيْرَ الْمَعِيبِ " وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُرَادِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَجْرَى الْكَلَامَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَأَوْجَبَ أَخْذَ خَيْرِ الْمَعِيبِ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ وَهَذَا غَلَطٌ ، لِأَنَّهُ لَا يَطَّرِدُ عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : أَرَادَ بِذَلِكَ أَخْذَ خَيْرِ الْفَرْضَيْنِ وَهِيَ الْحِقَاقُ وَبَنَاتُ اللَّبُونِ وَلَمْ يُرِدْ خَيْرَ جَمِيعِ الْمَالِ وَهُوَ الصَّحِيحُ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : أَرَادَ بِخَيْرِ الْمَعِيبِ أَوْسَاطَهَا ، كَمَا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ : كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ، [ آلِ عِمْرَانَ : ] يَعْنِي : وَسَطًا ، لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى : وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ، [ الْبَقَرَةِ : ] ، وَمَنْ قَالَ بِهَذَا السَّهْمِ فِي اعْتِبَارِ الْأَوْسَطِ وَجْهَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَوْسَطُهَا عَيْبًا . مِثَالُ ذَلِكَ : أَنْ يَكُونَ بِبَعْضِهَا عَيْبٌ وَاحِدٌ ، وَبِبَعْضِهَا عَيْبَانِ ، وَبِبَعْضِهَا ثَلَاثَةُ عُيُوبٍ ، فَيَأْخُذَ مَا لَهُ عَيْبَانِ . وَالثَّانِي : أَوْسَطُهَا فِي الْقِيمَةِ . مِثَالُ ذَلِكَ : أَنْ تَكُونَ قِيمَةُ بَعْضِهَا مَعِيبًا خَمْسِينَ وَقِيمَةُ بَعْضِهَا مِائَةً ، وَقِيمَةُ بَعْضِهَا مَعِيبًا مِائَةً وَخَمْسِينَ ، فَيَأْخُذَ مِنْهَا مَا قِيمَتُهُ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ ، لِأَنَّهُ أَوْسَطُهَا قِيمَةً فَحَصَلَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ أَرْبَعَةُ مَذَاهِبَ أَصَحُّهَا وَأَوْلَاهَا مَا قَالَهُ ابْنُ خَيْرَانَ : أَنَّهُ يَأْخُذُ خَيْرَ الْفَرْضَيْنِ لَا غَيْرَ ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي " الْأُمِّ " فَقَالَ : " يَأْخُذُ خَيْرَ الْمَعِيبِ مِنَ السِّنِّ الَّتِي وَجَبَتْ عَلَيْهِ " . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : وَهُوَ أَظْهَرُهَا غَلَطًا ، وَأَضْعَفُهَا : يَأْخُذُ خَيْرَ الْمَالِ كُلِّهِ . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : يَأْخُذُ أَوْسَطَهَا عَيْبًا . وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ : يَأْخُذُ أَوْسَطَهَا قِيمَةً ، قَالَ الشَّافِعِيُّ نَصًّا فِي كِتَابِ الْأُمِّ : وَإِذَا كَانَ جَمِيعُ مَالِهِ مِرَاضًا وَالْفَرْضُ مِنْهَا مَوْجُودًا ، لَمْ يَحِلَّ لَهُ الْعُدُولُ عَنْهُ إِلَى الصُّعُودِ وَأَخْذِ الْجُبْرَانِ ، وَلَا إِلَى النُّزُولِ وَدَفْعِ الْجُبْرَانِ ؛ لِوُجُودِ السِّنِّ الْمَفْرُوضِ ، وَلَوْ كَانَ الْفَرْضُ مَعْدُومًا فِي مَالِهِ فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَنْزِلَ إِلَى سِنٍّ أَدْنَى وَيُعْطِيَ مَعَهَا شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا جُبْرَانًا لِلسِّنِّ النَّاقِصِ جَازَ ، لِأَنَّهُ إِذَا جَازَ قَبُولُهُ فِي الْجُبْرَانِ عَنْ سِنٍّ صَحِيحٍ جَازَ قَبُولُهُ عَنْ سِنٍّ مَرِيضٍ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَصْعَدَ إِلَى سِنٍّ أَعْلَى وَيَأْخُذَ الْجُبْرَانَ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ جُبْرَانٌ فِي سِنٍّ صَحِيحٍ ، فَلَمْ يَجُزْ لِلْمُصَدِّقِ أَنْ يَجْعَلَهُ جُبْرَانًا فِي سِنٍّ مَرِيضٍ ، فَإِنْ أَعْطَى الْأَعْلَى مُتَطَوِّعًا بِالزِّيَادَةِ جَازَ قَبُولُهُ ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ جَذَعَةٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ مَاخِضًا إِلَا أَنْ يَتَطَوَّعَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا كَانَ فَرْضُ إِبِلِهِ جَذَعَةً لَمْ يَجُزْ لِلسَّاعِي أَنْ يَأْخُذَ مَاخِضًا ، سَوَاءً كَانَتْ إِبِلُهُ حَوَامِلَ أَوْ حَوَائِلَ إِلَّا أَنْ يَتَطَوَّعَ بِهَا ، فَيَجُوزُ أَنْ تُؤْخَذَ مِنْهُ لِزِيَادَتِهَا ، وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ : لَا يَجُوزُ الْمَاخِضُ بِحَالٍ لِقَوْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِسَاعِيهِ : لَا تَأْخُذِ الرِّبَا وَلَا الْمَاخِضَ ، وَلَا فَحْلَ الْغَنَمِ . وَلِأَنَّ الْحَمْلَ نَقْصٌ فِي الْحَيَوَانِ ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ دَفَعَ الْغُرَّةَ حَامِلًا فِي دِيَةِ الْجَنِينِ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ ، وَلَوِ اشْتَرَى أَمَةً فَظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ كَانَ لِلْمُشْتَرِي رَدُّهَا بِهِ ، وَإِذَا كَانَ عَيْبًا يُوجِبُ الرَّدَّ لَمْ يَجُزْ قَبُولُهُ فِي الزَّكَاةِ ، وَهَذَا خَطَأٌ .
وَدَلِيلُنَا مَا رَوَى أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ قَالَ : بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصَدِّقًا ، فَأَتَيْتُ رَجُلًا فَجَمَعَ لِي مَالَهُ ، فَوَجَدَ قَدْ وَجَبَتْ فِيهِ بِنْتُ مَخَاضٍ ، فَقُلْتُ لَهُ : صَدَقَتُكَ بِنْتُ مَخَاضٍ ، فَقَالَ : إِنَّهُ لَا دَرَّ فِيهَا وَلَا نَسْلَ ، خُذْ هَذِهِ النَّاقَةَ السَّمِينَةَ الْكَوْمَاءَ فَفِيهَا دَرٌّ وَنَسْلٌ . فَقُلْتُ : لَمْ يَأْمُرْنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مِنْكَ قَرِيبٌ فَائْتِهِ وَاسْأَلْهُ . فَأَتَاهُ وَسَأَلَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " ذَاكَ الْوَاجِبُ ، فَإِنْ تَطَوَّعْتَ بَخَيْرٍ مِنْهُ آجَرَكَ اللَّهُ وَقَبِلْنَاهُ " فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ الْأَمْرَيْنِ ، وَأَنَّ قَبُولَهُ جَائِزٌ ، وَلِأَنَّ الْحَمْلَ فِي الْبَهَائِمِ زِيَادَةٌ ، أَلَا تَرَى أَنَّ دِيَاتِ الْإِبِلِ تَتَغَلَّظُ بِهِ وَتَتَخَفَّفُ بِعَدَمِهِ ، وَإِنْ كَانَ تَزَايُدًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَبُولُهُ جَائِزًا ، فَأَمَّا نَهْيُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْهَا فَمَعْنَاهُ : إِذَا لَمْ يَرْضَ مَالِكُهَا ، وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّهُ نَقْصٌ فِي الْحَيَوَانِ ، فَهُوَ نَقْصٌ فِي الْآدَمِيَّاتِ وَزِيَادَةٌ فِي الْبَهَائِمِ ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى فَرَّقْنَا بَيْنَ قَبُولِ الْمَاخِضِ فِي الزَّكَاةِ ، وَبَيْنَ قَبُولِ الْغُرَّةِ فِي الْحَامِلِ فِي دِيَةِ الْجَنِينِ ، فَإِذَا صَحَّ أَنَّ قَبُولَ الْمَاخِضِ إِذَا تَطَوَّعَ بِهَا جَائِزٌ ، فَلَيْسَ لِلسَّاعِي أَخْذُهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَطَوَّعَ رَبُّ الْمَالِ بِهَا ، وَلِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَعْدِلَ عَنْهَا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي مَالِهِ غَيْرُهَا إِلَى سِنٍّ أَعْلَى وَيَأْخُذَ ، أَوْ إِلَى سِنٍّ أَسْفَلَ وَيُعْطِيَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ طَرَقَهَا الْفَحْلُ لَمْ يَلْزَمْهُ دَفْعُهَا كَالْمَاخِضِ ، وَكَانَ لَهُ أَنْ يَعْدِلَ عَنْهَا إِلَى سِنٍّ غَيْرِهَا ، وَلَوْ دَفَعَ فِي الْغُرَّةِ أَمَةً مَوْطُوءَةً لَزِمَ قَبُولُهَا . فَإِنْ قِيلَ : لِمَ جَعَلْتُمْ طَرْقَ الْفَحْلِ لِلْجَذَعَةِ كَالْحَمْلِ ، وَلَمْ تَجْعَلُوا وَطْءَ الْأَمَةِ فِي الْغُرَّةِ كَالْحَمْلِ ؟ قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ ضِرَابَ الْبَهَائِمِ غَالِبُهُ الْعُلُوقُ ، فَكَانَ وَجُودَهُ كَوُجُودِ الْحَمْلِ ، وَلَيْسَ الْغَالِبُ مِنْ وَطْءِ الْآدَمِيَّاتِ الْعُلُوقَ فَلَمْ يَكُنْ وُجُودُهُ كَوُجُودِ الْحَمْلِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْحَمْلَ فِي الْغُرَّةِ نَقْصٌ يُمْكِنُ الْوَلِيُّ اسْتِدْرَاكَهُ بِرَدِّهِ إِذَا ظَهَرَ ، وَالْحَمْلَ فِي الْجَذَعَةِ زِيَادَةٌ لَا يُمْكِنُ رَبُّ الْمَالِ اسْتِدْرَاكَهَا إِذَا ظَهَرَتْ ، لِاقْتِسَامِ الْمَسَاكِينِ لَهَا ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ كَانَتْ إِبِلُهُ مَعِيبَةً وَفَرِيضَتُهَا شَاةً ، وَكَانَتْ أَكْثَرَ ثَمَنًا مِنْ بَعِيرٍ مِنْهَا فى زكاة الابل ، قِيلَ لَكَ الْخِيَارُ فِي أَنْ تُعْطِيَ بَعِيرًا مِنْهَا تَطَوُّعًا مَكَانَهَا ، أَوْ شَاةً مِنْ غَنَمِكَ تَجُوزُ أُضْحِيَّةً " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا : فِي رَجُلٍ مَعَهُ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ مِرَاضٌ أَوْ عِجَافٌ لَا تُسَاوِي جَمَاعَتُهَا ، أَوْ وَاحِدٌ مِنْهَا شَاةً ، فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِخْرَاجِ شَاةٍ ، أَوْ وَاحِدٍ مِنْهَا .
وَقَالَ مَالِكٌ وَدَاوُدُ : عَلَيْهِ إِخْرَاجُ شَاةٍ عَنْهَا ، وَلَا يُجْزِئُهُ إِخْرَاجُ وَاحِدٍ مِنْهَا ، تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فِي كُلِّ خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ شَاةٌ " قَالُوا : وَلِأَنَّ الْبَعِيرَ بَدَلٌ مِنَ الشَّاةِ ، وَالْإِبْدَالُ فِي الزَّكَوَاتِ لَا يَجُوزُ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " خُذِ الْبَعِيرَ مِنَ الْإِبِلِ ، وَالشَّاةَ مِنَ الْغَنَمِ " ، فَكَانَ نَصُّ الْخَبَرِ وَاعْتِبَارُ الْأُصُولِ يَقْتَضِيَانِ إِخْرَاجَ الْفَرْضَيْنِ مِنْ جِنْسِ الْمَالِ ، أُخِذَتِ الشَّاةُ مِنَ الْخَمْسِ عَلَى وَجْهِ التَّرْفِيهِ وَالرِّفْقِ ، فَإِذَا لَمْ يَخْتَرِ التَّرْفِيهَ بِإِخْرَاجِ الشَّاةِ ، وَأَرَادَ الرُّجُوعَ إِلَى حُكْمِ الْإِبِلِ ، كَانَ ذَلِكَ لَهُ ، وَلِأَنَّ كُلَّ فَرِيضَةٍ تُؤْخَذُ مِنْ جُمْلَةٍ جَازَ أَخْذُهَا مِنْ بَعْضِ تِلْكَ الْجُمْلَةِ ، كَأَخْذِ الْجَذَعَةِ بَدَلًا مِنْ بِنْتِ مَخَاضٍ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ " فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ عَلَى وَجْهِ التَّرْفِيهِ وَالرِّفْقِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّ ذَلِكَ بَدَلٌ وَالْبَدَلُ قِيمَةٌ ، فَغَلَطٌ لِأَنَّا لَسْنَا نَقُولُ أَنَّهُ بَدَلٌ وَإِنَّمَا نَقُولُ إِنَّهُ فَرْضٌ ثَانٍ ، وَلَهُ إِسْقَاطُهُ بِمَا هُوَ مِثْلُهُ ، فَيَكُونُ فِي الْخَمْسِ فَرْضَانِ ، أَعْلَى وَهُوَ بَعِيرٌ ، وَأَدْنَى وَهُوَ شَاةٌ ، فَإِذَا أَخْرَجَ بَعِيرًا فَقَدْ أَخْرَجَ أَعْلَى فَرْضِهِ ، سَوَاءٌ كَانَ الْبَعِيرُ أَوْسَطَهَا أَوْ أَدْوَنَهَا ، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَثُرَتْ عُيُوبُهُ فَهُوَ أَكْثَرُ مَنْفَعَةً مِنْ شَاةٍ ، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا الْبَعِيرِ الْمُخْرَجِ مِنَ الْخَمْسِ هَلْ جَمِيعُهُ وَاجِبٌ ؟ أَوْ خُمُسُهُ وَالْبَاقِي تَطَوُّعٌ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ جَمِيعَهُ وَاجِبٌ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتْ إِبِلُهُ عَشْرًا كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ شَاتَيْنِ أَوْ بَعِيرَيْنِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ خُمُسَهُ وَاجِبٌ وَبَاقِيهِ تَطَوُّعٌ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتْ إِبِلُهُ عَشْرًا كَانَ الْخِيَارُ بَيْنَ بَعِيرٍ وَاحِدٍ أَوْ شَاتَيْنِ ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ كَاخْتِلَافِهِمْ فِي التَّمَتُّعِ إِذَا أَخْرَجَ فِي هَدْيِ تَمَتُّعِهِ بَدَنَةً بَدَلًا مِنَ الشَّاةِ ، فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ أَنَّ جَمِيعَ الْبَدَنَةِ وَاجِبٌ ، وَالثَّانِي أَنَّ سُبُعَهَا وَاجِبٌ وَبَاقِيهَا تَطَوُّعٌ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ كَانَتْ غَنَمَةٌ مَعْزًا فَثَنِيَّةٌ أَوْ ضَأْنًا فَجَذَعَةٌ ، وَلَا أَنْظُرُ إِلَى الْأَغْلَبِ فِي الْبَلَدِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا قِيلَ : إِنَّ عَلَيْهِ شَاةً مِنْ شَاءِ بَلَدِهِ تَجُوزُ فِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الشَّاةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنَ الْخَمْسِ ، أَوْ بَيْنَ الشَّاتَيْنِ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ : أَحَدُهَا : فِي السِّنِّ . وَالثَّانِي : فِي الْجِنْسِ . وَالثَّالِثُ : فِي النَّوْعِ .
فَأَمَّا السِّنُّ الَّذِي لَا يَجُوزُ دُونَهُ فَهُوَ مَا تَجُوزُ أُضْحِيَتُهُ إِنْ كَانَتْ ضَأْنًا فَجَذَعَةٌ ، وَإِنْ كَانَتْ مِعْزَى فَثَنِيَّةٌ ، لِمَا رُوِيَ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ قَالَ أَتَانَا مُصَدِّقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : نُهِينَا عَنْ أَخْذِ الرَّاضِعِ ، وَأُمِرْنَا بِالْجَذَعِ مِنَ الضَّأْنِ وَالثَّنِيِّ مِنَ الْمَعِزِ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِسَاعِيهِ : وَخُذِ الْجَذَعَةَ وَالثَّنِيَّةَ . وَأَمَّا الْجِنْسُ فَالْمُرَاعَى فِيهِ غَنَمُ الْبَلَدِ لَا غَنَمُ الْمَالِكِ ، فَإِنْ كَانَ مَكِّيًّا فَمِنْ غَنَمِ مَكَّةَ ضَأْنًا أَوْ مِعْزَى ، فَإِنْ أَخْرَجَ غَيْرَ الْمَكِّيَّةِ لَمْ تُجْزِهِ ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ مِثْلَ الْمَكِّيَّةِ أَوْ فَوْقَهَا ، وَإِنْ كَانَ بَصْرِيًّا فَمِنْ غَنَمِ الْبَصْرَةِ ضَأْنًا أَوْ مِعْزَى ، فَإِنْ أَخْرَجَ مِنْ غَيْرِ الْبَصْرِيَّةِ لَمْ تُجْزِهِ ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ مِثْلَ الْبَصْرِيَّةِ أَوْ فَوْقَهَا ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مَا أُطْلِقَ ذِكْرُهُ مِنْ غَيْرِ وَصْفٍ فَوَصْفُهُ مَحْمُولٌ عَلَى غَالِبِ الْبُلْدَانِ كَأَثْمَانِ الْمَبِيعَاتِ . وَأَمَّا النَّوْعُ فَالْمُزَكِّي مُخَيَّرٌ فِيهِ بَيْنَ الضَّأْنِ وَالْمِعْزَى ، وَلَا اعْتِبَارَ بِغَالِبِ غَنَمِ الْبَلَدِ ، وَقَالَ مَالِكٌ : اعْتِبَارُ غَنَمِ الْبَلَدِ فى نوع الزكاة وَاجِبٌ فِي النَّوْعِ كَمَا كَانَ وَاجِبًا فِي الْجِنْسِ ، فَإِنْ كَانَ غَنَمُ الْبَلَدِ الضَّأْنَ لَمْ آخُذِ الْمَعِزَ ، وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ الْمَعِزَ لَمْ آخُذِ الضَّأْنَ ، وَهَذَا غَلَطٌ ؛ لِأَنَّ النَّوْعَ قَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِتَحْدِيدِ أَصْلِهِ وَالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ جَمِيعِهِ ، فَلَمْ يَحْتَجْ مَعَ وُرُودِ الشَّرْعِ بِهِ إِلَى اعْتِبَارِ غَالِبِ الْبَلَدِ ، وَكَانَ هَذَا الْخِلَافُ الْجِنْسَ الْمُطْلَقَ ذِكْرُهُ فِي الشَّرْعِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا كَانَتْ إِبِلُهُ كِرَامًا لَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ الصَّدَقَةَ دُونَهَا فى زكاة الابل كَمَا لَوْ كَانَتْ لِئَامًا لَمْ يَكُنْ لَنَا أَنْ نَأْخُذَ مِنْهَا كِرَامًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِنَّمَا أَرَادَ كِرَامَ الْجِنْسِ ، كَالْبُخْتِ النَّجَّارِيَّةِ وَالْعِرَابِ الْمَجِيدِيَّةِ ، فَالْوَاجِبُ أَنْ تُؤْخَذَ زَكَاتُهَا كِرَامًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ ، [ الْبَقَرَةِ : ] ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَالُهُ لِئَامًا لَمْ يُكَلَّفْ زَكَاتَهَا كِرَامًا ، كَذَلِكَ إِذَا كَانَ مَالُهُ كِرَامًا لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا لِئَامًا ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ كِرَامَ الْوَصْفِ فَكَانَتْ سِمَانًا لَمْ تُؤْخَذْ زَكَاتُهَا إِلَّا سِمَانًا ، فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ كِرَامَ السِّنِّ فَكَانَتْ جِذَاعًا وَثَنَايَا وَكَانَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ ، لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهَا إِلَّا بِنْتُ مَخَاضٍ مِنْ جِنْسِهَا ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا جَذَعَةٌ وَلَا ثَنِيَّةٌ ، وَلِأَنَّ زِيَادَةَ السِّنِّ تَجْرِي مَجْرَى زِيَادَةِ الْعَدَدِ ، فَلَوْ أُخِذَتِ الْجَذَعَةُ مِنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ إِذَا كَانَتْ جِذَاعًا لَبَطَلَ اعْتِبَارُ النُّصُبِ ، وَلَا يَسْتَوِي فَرْضُ قَلِيلِ الْإِبِلِ وَكَثِيرِهَا ، وَكَرَامَةُ الْجِنْسِ لَا تَجْرِي مَجْرَى زِيَادَةِ الْعَدَدِ ، وَلَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي زِيَادَةِ الْفَرْضِ ، فَلِذَلِكَ وَقَعَ بَيْنَهُمَا الْفَرْقُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا عَدَّ عَلَيْهِ السَّاعِي فَلَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ حَتَّى نَقَصَتْ نصاب الزكاة فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي الْإِمْكَانِ هَلْ هُوَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ ، أَوْ مِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ . فَأَحَدُ قَوْلَيْهِ هُوَ مَذْهَبُهُ فِي الْقَدِيمِ إِمْكَانُ الْأَدَاءِ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُهُ فِي الْجَدِيدِ أَنَّ إِمْكَانَ الْأَدَاءِ مِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ ، وَوَجْهُ قَوْلِهِ الْقَدِيمِ شَيْئَانِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْإِمْكَانَ مَعْنِيٌّ إِذَا تَلِفَ الْمَالُ قَبْلَ وُجُودِ سَقْطِ ضَمَانِ الزَّكَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ كَالْحَوْلِ . وَالثَّانِي : أَنَّ إِمْكَانَ الْأَدَاءِ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ لَا مِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ ، كَالصَّلَاةِ الَّتِي تَجِبُ بِدُخُولِ الْوَقْتِ وَإِمْكَانِ الْأَدَاءِ ، وَالْحَجِّ الَّذِي يَجِبُ بِالِاسْتِطَاعَةِ وَإِمْكَانِ الْأَدَاءِ ، وَكَذَلِكَ الزَّكَاةُ ، وَوَجْهُ قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ : إِنَّ الْإِمْكَانَ مِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا زَكَاةَ عَلَى مَالٍ حَتَى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ فَجَعَلَ الْحَوْلَ غَايَةً فِي الْوُجُوبِ ، وَالْحُكْمُ بَعْدَ الْغَايَةِ بِخِلَافِهِ قَبْلَهَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ لَوْ أَتْلَفَ مَالَهُ قَبْلَ الْحَوْلِ لَمْ يَضْمَنْ زَكَاتَهُ ، وَلَوْ أَتْلَفَهُ بَعْدَ الْحَوْلِ وَقَبْلَ الْإِمْكَانِ ضَمِنَ زَكَاتَهُ ، فَعُلِمَ أَنَّ الْإِمْكَانَ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْوُجُوبِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا صِفَةُ الْإِمْكَانِ إمكان الأداءفى زكاة الابل ، فَإِنْ كَانَ مَالًا بَاطِنًا كَالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ ، فَإِمْكَانُ الْأَدَاءِ بِأَحَدِ شَيْئَيْنِ : إِمَّا بِمُطَالَبَةِ الْإِمَامِ الْعَادِلِ ، أَوْ بِحُضُورِ أَهْلِ السُّهْمَانِ . وَإِنْ كَانَ مَالًا ظَاهِرًا كَالْمَوَاشِي وَالثِّمَارِ ، فَعَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ " أَنَّ إِمْكَانَ الْأَدَاءِ فِيهِ بِمُطَالَبَةِ الْإِمَامِ الْعَادِلِ لَا غَيْرَ " . وَالْقَوْلُ الثَّانِي فِي الْجَدِيدِ : أَنَّهُ كَالْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ ، يَكُونُ إِمْكَانُ أَدَائِهِ بِأَحَدِ شَيْئَيْنِ : إِمَّا بِمُطَالَبَةِ الْإِمَامِ ، أَوْ بِحُضُورِ أَهْلِ السُّهْمَانِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَإِنْ فَرَّطَ فِي دَفْعِهَا فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ إِخْرَاجَ الزَّكَاةِ بَعْدَ الْإِمْكَانِ عَلَى الْفَوْرِ ، فَمَتَى أَمْكَنَهُ إِخْرَاجُهَا فَلَمْ يُخْرِجْهَا حَتَّى هَلَكَ فى الزكاة فَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِخْرَاجُهَا عَلَى التَّرَاخِي فَإِنْ تَلِفَ الْمَالُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ تَلَفُهَا بِجِنَايَةٍ مِنْهُ ، أَوْ يَكُونَ السَّاعِي قَدْ طَالَبَ بِهَا فَمَنَعَهُ ، قَالَ : لِأَنَّ الزَّكَاةَ إِذَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَانَتْ فِي يَدِهِ أَمَانَةً كَالْوَدِيعَةِ ، وَالْوَدَائِعُ لَا يَضْمَنُهَا إِلَّا بِجِنَايَةٍ أَوْ بِمُطَالَبَةِ رَبِّهَا بِهَا ، فَيَمْنَعُهُ فَكَذَلِكَ فِي الزَّكَاةِ . قَالَ : وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ حَقٌّ لِلْمَسَاكِينِ فَهُمْ غَيْرُ مُعَيَّنِينَ وَلَهُ أَنْ يَحْبِسَهَا عَنْ قَوْمٍ وَيَصْرِفَهَا فِي آخَرِينَ ، وَإِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ مُسْتَحِقُّهَا لَمْ يَلْزَمْهُ الضَّمَانُ بِحَبْسِهَا ، وَهَذَا خَطَأٌ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ : هُوَ أَنَّهُ حَقٌّ يَتَعَلَّقُ وُجُوبُهُ بِوُجُودِ الْمَالِ ، فَإِذَا وَجَبَ لَمْ يَسْقُطْ وُجُوبُهُ بَعْدَ الْإِمْكَانِ بِتَلَفِ الْمَالِ ، كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ عَنْ عَبِيدِهِ إِذَا مَاتُوا ، وَكَالْحَجِّ إِذَا تَلِفَ مَالُهُ بَعْدَ إِمْكَانِ أَدَائِهِ ، وَلِأَنَّهَا زَكَاةٌ قَدَرَ عَلَى أَدَائِهَا بَعْدَ وُجُودِهَا ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ ضَمَانُهَا ، كَمَا لَوْ طَالَبَهُ السَّاعِي بِهَا ، وَلِأَنَّ تَعْيِينَ الْمُسْتَحِقِّينَ بِالْوَصْفِ يَجْرِي مَجْرَى تَعْيِينٍ لِلْمُسْتَحِقِّينَ بِالِاسْمِ ، فَإِذَا أَلْزَمَهُ الضَّمَانَ بِمَنْعِ مُسْتَحِقِّيهَا بِالِاسْمِ وَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ الضَّمَانُ بِمَنْعِ مُسْتَحِقِّيهَا بِالْوَصْفِ ، فَأَمَّا قَوْلُهُ : إِنَّهَا كَالْوَدِيعَةِ لَا يَضْمَنُ إِلَّا بِجِنَايَةٍ ، أَوْ مَنْعٍ بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ . فَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ : تَأْخِيرُهَا بَعْدَ إِمْكَانِ أَدَائِهَا جِنَايَةٌ مِنْهُ عَلَيْهَا ، عَلَى أَنَّ مِنَ الْوَدَائِعِ مَا يَجِبُ ضَمَانُهَا مِنْ غَيْرِ مُطَالَبَتِهِ ، وَهِيَ مَا لَمْ يَعْلَمْ رِضَا مَالِكِهَا بِإِمْسَاكِهَا ، كَالثَّوْبِ إِذَا طَارَ بِهِ الرِّيحُ إِلَى دَارِ رَجُلٍ عَلَيْهِ الضَّمَانُ إِذَا لَمْ يُبَادِرْ بِرَدِّهِ وَإِعْلَامِهِ ، وَكَمَوْتِ رَبِّ الْوَدِيعَةِ ، يُوجِبُ عَلَى الْمُودِعِ رَدَّهَا عَلَى الْوَارِثِ ، فَإِنْ لَمْ يَرُدَّهَا أَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا ضَمِنَهَا ، كَذَلِكَ الزَّكَاةُ لَيْسَ يُعْلَمُ رِضَا مُسْتَحِقِّهَا بِحَبْسِهَا ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ ضَمَانُهَا . وَأَمَّا قَوْلُهُ : إِنَّ مُسْتَحِقَّهَا غَيْرُ مُعَيَّنٍ وَلَهُ أَنْ يَحْبِسَهَا عَنْ قَوْمٍ وَيَصْرِفَهَا فِي آخَرِينَ فَغَيْرُ صَحِيحٍ ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يَصْرِفَهَا عَنْ قَوْمٍ إِلَى غَيْرِهِمْ إِذَا حَضَرَ جَمِيعُ الْمَسَاكِينِ ، فَأَمَّا إِذَا حَضَرَ بَعْضُهُمْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْبِسَهَا عَمَّنْ حَضَرَ لِيَدْفَعَهَا إِلَى مَنْ لَمْ يَحْضُرْ ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ ضَمِنَ . وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَا هَلَكَ أَوْ نَقَصَ فِي يَدَيِ السَّاعِي فَهُوَ أَمِينٌ . حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ : حَدَّثَنَا حَرْمِيُّ بْنُ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ ، عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ ، عَنْ أَنَسٍ مِثْلَهُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا أَخَذَ السَّاعِي زَكَاةَ الْأَمْوَالِ فَتَلِفَتْ فِي يَدِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ ، وَقَدْ بَرِئَتْ ذِمَمُهُمْ فِيهَا ؛ لِأَنَّ السَّاعِيَ وَكِيلٌ لِلْمَسَاكِينِ فِي قَبْضِ الزَّكَاةِ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي أَمْوَالِهِمْ ، وَالْوَكِيلُ إِذَا اسْتَوْفَى فِي حَقِّ مُوَكِّلِهِ بَرِئَ مَنْ كَانَ عَلَيْهِ الْحَقُّ ، سَوَاءٌ وَصَلَ ذَلِكَ إِلَى الْمُوَكِّلِ أَمْ لَا ، فَأَمَّا السَّاعِي فَإِنْ كَانَ لَمْ يُفَرِّطْ فِيمَا بِيَدِهِ وَإِنَّمَا حَبَسَهَا لِجَمْعِ الْفُقَرَاءِ أَوْ لِلْكَشْفِ عَنْ أَحْوَالِهِمْ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ فَرَّطَ أَوْ تَعَدَّى أَوْ حَبَسَهَا مَعَ وُجُودِ مُسْتَحِقِّيهَا لَزِمَهُ ضَمَانُهَا ، كَتَفْرِيطِ الْأُمَنَاءِ
فَإِنْ قِيلَ : فَالْوَكِيلُ إِذَا حَبَسَ مَالَ مُوَكِّلِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُطَالَبَ بِهِ لَمْ يَضْمَنْ ، فَهَلَّا كَانَ السَّاعِي كَذَلِكَ ؟ قُلْنَا : لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِمَالِهِ ، فَإِذَا أَمْسَكَ عَنِ الْمُطَالَبَةِ بِهِ اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى الرِّضَا بِتَرْكِهِ ، وَلَيْسَ لِلْمَسَاكِينِ مُطَالَبَةُ السَّاعِي بِمَا فِي يَدِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ إِمْسَاكُهُمْ دَلِيلًا عَلَى الرِّضَا بِتَرْكِهِ ، فَأَمَّا رَبُّ الْمَالِ إِذَا أَخْرَجَ زَكَاةَ مَالِهِ فَتَلِفَتْ مِنْ يَدِهِ بَعْدَ إِمْكَانِهِ وَقَبْلَ دَفْعِهِ لَمْ يُجْزِهِ ذَلِكَ وَلَزِمَهُ الضَّمَانُ ، لِأَنَّهُ فَائِتٌ عَنْ نَفْسِهِ وَالزَّكَاةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِذِمَّتِهِ .
بَابُ صَدَقَةِ الْبَقَرِ السَّائِمَةِ
بَابُ صَدَقَةِ الْبَقَرِ السَّائِمَةِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " أَخْبَرَنَا مَالِكٌ ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ ، عَنْ طَاوُسٍ ، أَنَّ مُعَاذًا أَخَذَ مِنْ ثَلَاثِينَ بَقَرَةً تَبِيعًا ، وَمِنْ أَرْبَعِينَ بَقَرَةً مُسِنَّةً ( قَالَ ) وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ مُعَاذًا أَنْ يَأْخُذَ مِنْ ثَلَاثِينَ تَبِيعًا وَمِنْ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةً نَصًّا ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَهَذَا مَا لَا أَعْلَمُ فِيهِ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لَقِيتُهُ خِلَافًا . وَرُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّ مُعَاذًا كَانَ يَأْخُذُ مِنْ ثَلَاثِينَ بَقَرَةً تَبِيعًا وَمِنْ أَرْبَعِينَ بَقَرَةً مُسِنَّةً ، وَأَنَّهُ أُتِيَ بِدُونِ ذَلِكَ فَأَبَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا وَقَالَ : لَمْ أَسْمَعْ فِيهِ شَيْئًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَى أَلْقَاهُ فَأَسْأَلَهُ . فَتُوُفِيِّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ مُعَاذٌ . وَأَنَّ مُعَاذًا أُتِيَ بِوَقْصِ الْبَقَرِ فَقَالَ : لَمْ يَأْمُرْنِي فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا زَكَاةُ الْبَقَرِ فَوَاجِبَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً وَقَالَ تَعَالَى : وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ ، وَرَوَى مَالِكُ بْنُ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : فِي الْإِبِلِ صَدَقَتُهَا ، وَفِي الْبَقَرِ صَدَقَتُهَا ، وَفِي الْغَنَمِ صَدَقَتُهَا ، وَفِي الْبَزِّ صَدَقَتُهَا ، بِالزَّايِ مُعْجَمَةٌ . فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِيهَا ، فَأَوَّلُ نِصَابِهَا زكاة البقر ثَلَاثُونَ وَفِيهَا تَبِيعٌ ، وَمَا دُونُ الثَّلَاثِينَ وَقْصٌ لَا زَكَاةَ فِيهِ ، وَهُوَ قَوْلُ الْعُلَمَاءِ ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ أَنَّهُ قَالَ : فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ ، إِلَى عِشْرِينَ فِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ ، ثُمَّ لَا شَيْءَ فِيهَا حَتَّى تَبْلُغَ ثَلَاثِينَ ، فَيَكُونَ فِيهَا تَبِيعٌ ، وَحُكِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ نُصُبَهَا كَالْإِبِلِ فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ ، وَفِي كُلِّ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ بَقَرَةٌ ، بَدَلًا مِنْ بِنْتِ مَخَاضٍ ، ثُمَّ لَا شَيْءَ فِيهَا حَتَّى تَبْلُغَ سِتًّا وَسَبْعِينَ فَيَكُونَ فِيهَا بَقَرَتَانِ بَدَلًا مِنْ بِنْتَيْ لَبُونٍ ، اسْتِدْلَالًا بِخَبَرٍ وَمَعْنًى .
فَأَمَّا الْخَبَرُ : فَرَوَى عَمْرُو بْنُ حَزْمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ صَدَقَاتِ الْإِبِلِ قَالَ فِي آخِرِهِ : وَكَذَلِكَ الْبَقَرُ . وَأَمَّا الْمَعْنَى : فَاشْتِرَاكُهَا فِي اسْمِ الْبَدَنَةِ وَالْأُضْحِيَةِ وَالْإِجْزَاءِ عَنْ سَبْعَةٍ تُسَاوِي حُكْمَهَا فِي نُصُبِ الزَّكَاةِ وَفَرَائِضِهَا . وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ : رِوَايَةُ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ الْفَرَائِضَ ، وَقَالَ فِي الْبَقَرِ فِي كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعٌ ، وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ ، وَرَوَى طَاوُسٌ الْيَمَانِيُّ أَنَّ مُعَاذًا كَانَ يَأْخُذُ مِنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ بَقَرَةً تَبِيعًا ، وَمِنْ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةً ، وَأُتِيَ بِدُونِ ذَلِكَ فَأَبَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا ، وَقَالَ : لَمْ أَسْمَعْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا حَتَّى أَلْقَاهُ وَأَسْأَلَهُ ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ مُعَاذٌ ، وَأَنَّ مُعَاذًا أُتِيَ بِوَقْصِ الْبَقَرِ فَقَالَ : لَمْ يَأْمُرْنِي فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ . قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " الْوَقْصُ مَا لَمْ يَبْلُغِ الْفَرِيضَةَ ( قَالَ ) وَبِهَذَا كُلِّهِ نَأْخُذُ . وَلَيْسَ فِيمَا بَيْنَ الْفَرِيضَتَيْنِ شَيْءٌ ، وَإِذَا وَجَبَتْ إِحْدَى السِّنَّيْنِ وَهُمَا فِي بَقَرَةٍ أَخَذَ الْأَفْضَلَ ، وَإِذَا وَجَدَ إِحْدَاهُمَا لَمْ يُكَلِّفْهُ الْأُخْرَى ، وَلَا يَأْخُذُ الْمَعِيبَ وَفِيهَا صِحَاحٌ كَمَا قُلْتُ فِي الْإِبِلِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَالشِّنَاقُ : مَا بَيْنَ الْفَرْضَيْنِ ، وَقَدْ يَتَجَوَّزُ بِالْوَقْصِ فَيُسْتَعْمَلُ مَا بَيْنَ الْفَرِيضَتَيْنِ أَيْضًا ، فَإِنْ قِيلَ : حَدِيثُ طَاوُسٍ عَنْ مُعَاذٍ مُرْسَلٌ ؛ لِأَنَّ طَاوُسًا وُلِدَ فِي زَمَانِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ لَهُ سَنَةً حِينَ مَاتَ مُعَاذٌ ، وَالشَّافِعِيُّ لَا يَقُولُ بِالْمَرَاسِيلِ ، فَكَيْفَ يَحْتَجُّ بِهَا ؟ قِيلَ : الْجَوَابُ عَنْهُ ، مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا فَطَرِيقُهُ السِّيرَةُ وَالْقَضِيَّةُ ، وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ مَشْهُورَةٌ فِي الْيَمَنِ خُصُوصًا وَفِي سَائِرِ النَّاسِ عُمُومًا ، وَطَاوُسٌ يَمَانِيٌّ ، فَكَانَ الْأَخْذُ بِهِ مِنْ طَرِيقِ اشْتِهَارِهِ لَا مِنْ طَرِيقِ إِرْسَالِهِ . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَمْنَعُ مِنَ الْأَخْذِ بِالْمَرَاسِيلِ إِذَا كَانَ هُنَاكَ مُسْنَدٌ يُعَارِضُهُ ، وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا لَا يُعَارِضُهُ مُسْنَدٌ فَالْأَخْذُ بِهِ وَاجِبٌ . وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ : أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَإِنْ أَرْسَلَهُ الشَّافِعِيُّ فَقَدْ أُسْنِدَ لَهُ غَيْرُهُ ، فَكَانَ الْأَخْذُ بِهِ مِنْ طَرِيقِ الْإِسْنَادِ .
رَوَى الْمَسْعُودِيُّ عَنِ الْحَكَمِ ، عَنْ طَاوُسٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ بَقَرَةً تَبِيعًا ، وَمِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةً ، فَقَالُوا لَهُ : فَالْأَوْقَاصُ ؟ فَقَالَ : لَمْ يَأْمُرْنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا بِشَيْءٍ حَتَّى أَلْقَاهُ فَأَسْأَلَهُ ، فَرَجَعَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ فَقَالَ : لَا شَيْءَ فِيهَا . فَأَمَّا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَقَوْلُهُ : " وَكَذَلِكَ الْبَقَرُ " فَمَعْنَاهُ إِنْ صَحَّ : وَكَذَلِكَ الْبَقَرُ فِي إِيجَابِ زَكَاتِهَا لَا فِي مَقَادِيرِ نُصُبِهَا ، فَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْإِبِلِ فِي اشْتِرَاكِهَا فِي الْإِجْزَاءِ عَنْ سَبْعَةٍ فِي الضَّحَايَا فَيُفَسَّرُ بِالْغَنَمِ ؛ لِأَنَّ السَّبْعَةَ عَنْ سَبْعَةٍ ، وَيَقْتَضِي عَلَى قِيَاسِ هَذِهِ الْعِبْرَةِ أَنْ يَكُونَ فِي خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ مِنْهَا شَاةٌ ، فَعُلِمَ بِالنَّصِّ فِي الْغَنَمِ فَسَادُ هَذَا الِاعْتِبَارِ وَبُطْلَانُ هَذَا الْجَمْعِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ فِي ثَلَاثِينَ مِنَ الْبَقَرِ تَبِيعٌ ، فَلَا شَيْءَ فِيمَا دُونَهُ . فَالتَّبِيعُ ذَكَرٌ وَهُوَ مَا لَهُ سَنَةٌ ، وَسُمِّيَ تَبِيعًا لِأَنَّهُ قَدْ قَوِيَ عَلَى اتِّبَاعِ أُمِّهِ ، فَإِنْ أَعْطَى تَبِيعَةً قُبِلَتْ مِنْهُ ، ثُمَّ لَا شَيْءَ فِي زِيَادَتِهَا حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ ، فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَهِيَ مُسِنَّةٌ ، وَهِيَ الَّتِي لَهَا سَنَةٌ كَامِلَةٌ وَقَدْ دَخَلَتْ فِي الثَّانِيَةِ ، فَإِنْ أَعْطَى مُسِنًّا ذَكَرًا نَظَرَ فِي بَقَرِهِ ، فَإِنْ كَانَتْ إِنَاثًا كُلَّهَا أَوْ ذُكُورًا كُلَّهَا ، فَفِي جَوَازِ قَبُولِ الْمُسِنِّ حكمه في زكاة البقر وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُقْبَلُ لِنَصِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمُسِنَّةِ . وَالثَّانِي : يُقْبَلُ ؛ لِأَنَّ فِي مُطَالَبَتِهِ بِمُسِنَّةٍ مِنْ غَيْرِ مَالِهِ إِضْرَارٌ بِهِ . ثُمَّ لَا شَيْءَ فِي زِيَادَتِهَا حَتَّى تَبْلُغَ سِتِّينَ ، فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا تَبِيعَانِ ، هَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ . وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ : أَحَدُهَا : كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ : لَا شَيْءَ فِي زِيَادَتِهَا حَتَّى تَبْلُغَ سِتِّينَ فَيَكُونَ فِيهَا تَبِيعَانِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ . وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْهُ : أَنَّهُ كُلَّمَا زَادَتْ عَلَى الْأَرْبَعِينَ وَاحِدَةً فَفِيهَا بِقِسْطِهَا مِنَ الْمُسِنَّةِ . وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ لَا شَيْءَ فِيهَا حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسِينَ فَيَكُونُ فِيهَا مُسِنَّةٌ وَرُبُعٌ ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتِّينَ فَفِيهَا تَبِيعَانِ تَعَلُّقًا بِأَنَّ بِنْتَ لَبُونٍ لَمَّا لَمْ تُعَدَّ فِي الْإِبِلِ إِلَّا بَعْدَ فَرْضِ الْحِقَّةِ وَالْجَذَعَةِ
اقْتَضَى أَنْ لَا يُعَدَّ التَّبِيعُ فِي الْبَقَرِ إِلَّا بَعْدَ فَرْضَيْنِ ، فَالْأَوَّلُ مُسِنَّةٌ ، وَالثَّانِي مُسِنَّةٌ وَرُبُعٌ ، قَالَ : وَلِأَنَّ الْوَقْصَ فِي الْبَقَرِ تِسْعٌ ، وَالْفَرْضُ يَتَعَيَّنُ بِالْعَاشِرِ فِيمَا قَبْلَ الْأَرْبَعِينَ وَبَعْدَ السِّتِّينَ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْخَمْسِينَ ، وَهَذَا خَطَأٌ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ : رِوَايَةُ سَلَمَةَ بْنِ أُسَامَةَ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ الْحَكَمِ ، عَنْ مُعَاذٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " فِي ثَلَاثِينَ تَبِيعٌ ، وَفِي أَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ إِلَى سِتِّينَ ، فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا تَبِيعَانِ ، ثُمَّ لَا شَيْءَ فِيهَا دُونَ ذَلِكَ " وَلِأَنَّهَا زِيَادَةٌ عَلَى نِصَابٍ فِي نَوْعٍ مِنَ الْحَيَوَانِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَغَيَّرَ فَرْضُهَا ابْتِدَاءً إِلَّا بِسِنٍّ كَامِلٍ كَالْإِبِلِ وَالْغَنَمِ ، وَلِأَنَّهَا زِيَادَةٌ لَا يَجِبُ بِهَا جُبْرَانٌ كَامِلٌ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَغَيَّرَ بِهَا الْفَرْضُ ، قِيَاسًا عَلَى مَا دُونُ الْخَمْسِينَ وَفَوْقَ الْأَرْبَعِينَ ، فَأَمَّا احْتِجَاجُهُ بِأَنَّ بِنْتَ اللَّبُونِ لَمَّا لَمْ تُعَدَّ إِلَّا بَعْدَ فَرْضَيْنِ فَكَذَلِكَ التَّبِيعُ فَيَبْطُلُ بِالشَّاةِ فِي أَوَّلِ فَرْضِ الْإِبِلِ ، وَبِنْتَيْ لَبُونٍ تَجِبُ فِي سِتَّةٍ وَسَبْعِينَ ، ثُمَّ يَجِبُ بَعْدَهَا حِقَّتَانِ فِي إِحْدَى وَتِسْعِينَ ، ثُمَّ بَعْدَهُ بَنَاتُ اللَّبُونِ فِي مِائَةٍ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا إِلَّا فَرْضٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْحِقَاقُ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ : إِنَّ أَوْقَاصَ الْبَقَرِ تِسْعٌ ، فَبَاطِلٌ بِالْوَقْصِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُسِنَّةَ : وَهِيَ الَّتِي اسْتَوَى قَرْنَاهَا فَرِيضَةُ الْأَرْبَعِينَ كيفية أدأ زكاة الأبقار على إختلاف مقدار المملوك منها إِلَى السِّتِّينَ فَإِذَا
بَلَغَتْ سِتِّينَ زكاة البقر فوق الأربعين فَفِيهَا تَبِيعَانِ إِلَى سَبْعِينَ ، فَإِذَا بَلَغَتْ سَبْعِينَ فَفِيهَا مُسِنَّةٌ وَتَبِيعٌ إِلَى ثَمَانِينَ ، فَإِذَا بَلَغَتْ ثَمَانِينَ فَفِيهَا مُسِنَّتَانِ إِلَى تِسْعِينَ ، فَإِذَا بَلَغَتْ تِسْعِينَ فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَتْبِعَةٍ إِلَى مِائَةٍ ، فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَةً فَفِيهَا مُسِنَّةٌ وَتَبِيعَانِ إِلَى مِائَةٍ وَعَشْرَةٍ ، فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَعَشْرَةً فَفِيهَا مُسِنَّتَانِ وَتَبِيعٌ إِلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ ، فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَعِشْرِينَ فَفِيهَا ثَلَاثُ مُسِنَّاتٍ أَوْ أَرْبَعَةُ أَتْبِعَةٍ ، يَجْتَمِعُ فِيهَا الْفَرْضَانِ جَمِيعًا كَالْمِائَتَيْنِ مِنَ الْإِبِلِ ، ثُمَّ كُلَّمَا زَادَتْ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ ، وَفِي كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعٌ ، فَإِنْ كَانَ فِي الْمَالِ أَحَدُ الْفَرْضَيْنِ أَخَذَهُ ، وَإِنِ اجْتَمَعَا كَانَ كَاجْتِمَاعِ الْفَرْضَيْنِ فِي الْإِبِلِ ، فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى فِي الْإِبِلِ سَوَاءٌ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مَالِهِ الْفَرْضَانِ وَلَا أَحَدُهُمَا كُلِّفَ أَنْ يَبْتَاعَ أَحَدَهُمَا ، أَوْ يَتَطَوَّعَ بِسِنٍّ هُوَ أَعْلَى مِنْهُمَا ، وَلَيْسَ لَهُ إِذَا صَعِدَ إِلَى السِّنِّ الْعَالِيَةِ أَنْ يُطَالَبَ بِشَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا جُبْرَانًا ، وَلَا لَهُ أَنْ يَنْزِلَ وَيُعْطِيَ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا جُبْرَانًا ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْإِبِلِ بَعْدَ التَّوْقِيفِ ، أَنَّ الْغَنَمَ لَمَّا وَجَبَتْ فِي ابْتِدَاءِ فَرْضِ الْإِبِلِ جَازَ أَنْ يَدْخُلَ جُبْرَانُهَا فِيمَا بَيْنَ أَسْنَانِهَا ، فَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ تَبِيعٌ فِي ثَلَاثِينَ فَأَعْطَاهُ مُسِنَّةً قُبِلَتْ ، لِأَنَّهَا تُقْبَلُ فِي أَكْثَرَ مِنْهَا ، وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ مُسِنَّةٌ فِي أَرْبَعِينَ فَأَعْطَاهُ تَبِيعَيْنَ قُبِلَا ، لِأَنَّهُمَا يُقْبَلَانِ فِي أَكْثَرَ مِنْهَا ، فَأَمَّا الْجَوَامِيسُ زكاتها فَفِيهَا الزَّكَاةُ قِيَاسًا عَلَى الْبَقَرِ مِنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ الْجَوَامِيسَ ضَأْنُ الْبَقَرِ ، فَلَوْ كَانَ مَالُهُ جَوَامِيسَ وَبَقَرًا عَوَانًا ضَمَّ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ ، وَأَخَذَ زَكَاةَ جَمِيعِهَا ، كَضَمِّ الضَّأْنِ إِلَى الْمَعِزِ . وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
بَابُ صَدَقَةِ الْغَنَمِ السَّائِمَةِ
بَابُ صَدَقَةِ الْغَنَمِ السَّائِمَةِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " ثَابِتٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ نصابها مَعْنَى مَا أَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ أَنْ لَيْسَ فِي الْغَنَمِ صَدَقَةٌ حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ ، فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا شَاةٌ ، وَلَا شَيْءَ فِي زِيَادَتِهَا حَتَّى تَبْلُغَ مِائَةً وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا شَاتَانِ ، وَلَيْسَ فِي زِيَادَتِهَا شَيْءٌ حَتَّى تَبْلُغَ مِائَتَيْنِ وَشَاةً فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ ، ثُمَّ لَا شَيْءَ فِي زِيَادَتِهَا حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعَمِائَةٍ فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ ، ثَمَّ فِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ ، وَمَا نَقَصَ عَنْ مِائَةٍ فَلَا شَيْءَ فِيهَا وَتُعَدُّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا زَكَاةُ الْغَنَمِ حكمها ودليل مشروعيتها فَوَاجِبَةٌ لِعُمُومِ كِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ، وَتِبْيَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، رَوَى مَالِكُ بْنُ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " فِي الْإِبِلِ صَدَقَتُهَا ، وَفِي الْبَقَرِ صَدَقَتُهَا ، وَفِي الْغَنَمِ صَدَقَتُهَا ، وَفِي الْبَزِّ صَدَقَتُهَا " بِالزَّايِ مُعْجَمَةٌ . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ زَكَاةٌ وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وُجُوبِ زَكَاتِهَا ، وَأَنَّ أَوَّلَ نِصَابِهَا أي زكاة الغنم أَرْبَعُونَ وَأَنْ لَا شَيْءَ فِيمَا دُونَهَا ، وَإِنَّ فِيهَا إِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ شَاةً وَاحِدَةً ، وَأَنْ لَا شَيْءَ فِي زِيَادَتِهَا إِلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ ، فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ فَفِيهَا شَاتَانِ ، ثُمَّ لَا شَيْءَ فِي زِيَادَتِهَا إِلَى مِائَتَيْنِ ، فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْ شَاةٍ وَشَاةٍ فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ ، ثُمَّ لَا شَيْءَ فِي زِيَادَتِهَا حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعَمِائَةٍ ، فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ ، وَكُلَّمَا زَادَتْ مِائَةً كَامِلَةً فَفِيهَا شَاةٌ ، وَلَا شَيْءَ فِيمَا دُونَ الْمِائَةِ مِنَ الزِّيَادَةِ ، وَهَذَا قَوْلُ الْفُقَهَاءِ وَبِهِ أَخَذَ الْخُلَفَاءُ ، وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ وَالنَّخَعِيِّ أَنَّهُمَا قَالَا : فِي مِائَتَيْ شَاةٍ وَشَاةٍ ثَلَاثُ شِيَاهٍ ، كَقَوْلِ الْجَمَاعَةِ ، فَإِذَا بَلَغَتْ ثَلَاثَمِائَةٍ فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ خِلَافًا لِلْكَافَّةِ ، وَاسْتِدْلَالًا بِحَدِيثٍ رُوِيَ فِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فَإِذَا زَادَتْ عَلَى الْمِائَتَيْنِ فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ ، إِلَى ثَلَاثِمِائَةٍ " ، قَالُوا : فَهَذَا حَدٌّ وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ تُوجِبُ تَغْيِيرَ الْحَدِّ ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فَإِذَا زَادَتْ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ ، فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ " ، وَهَذَا مَذْهَبٌ يَبْطُلُ بِإِجْمَاعِ مَنْ تَقَدَّمَهُ وَوِفَاقِ مَنْ تَعَقَّبَهُ ، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ الْعَمَلِ الْجَارِي ، وَالنَّصِّ الْمَرْوِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي أَرْبَعِينَ شَاةً : شَاةٌ إِلَى مِائَةٍ
وَعِشْرِينَ ، فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً فَفِيهَا شَاتَانِ إِلَى مِائَتَيْنِ ، فَإِذَا زَادَتْ فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ إِلَى ثَلَاثِمِائَةٍ ، فَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَفِي كُلِّ مِائَةِ شَاةٍ شَاةٌ ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ الْمِائَةِ شَيْءٌ . وَقَدْ مَضَى أَنَسٌ وَابْنُ حَزْمٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " فَإِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعَمِائَةٍ فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ " ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ كُلُّهَا تُوَضِّحُ مَعْنَى الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ وَتُفَسِّرُ إِجْمَالَهُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَتُعَدُّ عَلَيْهِمُ السَّخْلَةُ . قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِسَاعِيهِ : اعْتَدَّ عَلَيْهِمْ بِالسَّخْلَةِ يَرُوحُ بِهَا الرَّاعِي ، وَلَا تَأْخُذْهَا ، وَلَا تَأْخُذِ الْأَكُولَةَ ، وَلَا الرَّبِيَّ ، وَلَا الْمَاخِضَ ، وَلَا فَحْلَ الْغَنَمِ ، وَخُذِ الْجَذَعَةَ وَالثَّنِيَّةَ . وَذَلِكَ عَدْلٌ بَيْنَ غِذَاءِ الْمَالِ وَخِيَارِهِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَالرَّبِيُّ هِيَ الَّتِي يَتْبَعُهَا وَلَدُهَا ، وَالْمَاخِضُ الْحَامِلُ ، وَالْأَكُولَةُ السَّمِينَةُ تُعَذُّ لِلذَّبْحِ " قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَبَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمُعَاذٍ إِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ " قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَبِهَذَا نَأْخُذُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : فَزَكَاةُ السِّخَالِ وقته بِحَوْلِ أُمَّهَاتِهَا ، وَلَا يَسْتَقْبِلُ بِهَا الْحَوْلَ ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ . وَقَالَ دَاوُدُ : يَسْتَأْنِفُ حَوْلَهَا ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا زَكَاةَ عَلَى مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ " . وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ مَخْرَمَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِسَاعِيهِ : " عُدَّ عَلَيْهِمْ صِغَارَهَا وَكِبَارَهَا وَلَا تَأْخُذْ هَرِمَةً وَلَا ذَاتَ عَوَارٍ " . رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ أَبَاهُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا اسْتَعْمَلَ سُفْيَانَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيَّ عَلَى الطَّائِفِ وَمَخَالِيفِهَا ، فَعَدَّ عَلَيْهِمُ الْمَالَ عَدًّا وَصِغَارَهُ ، فَقَالُوا لَهُ : إِنْ كُنْتَ تُعَدُّ عَلَيْنَا عَدًّا الْمَالَ وَصِغَارَهُ فَخُذْ مِنْهُ ، فَلَقِيَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَكَّةَ ، وَقَالَ لَهُ : إِنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّا نَظْلِمُهُمْ ، نَعُدُّ عَلَيْهِمْ هَذَا الْمَالَ وَلَا نَأْخُذُ مِنْهُ ، فَقَالَ لَهُ عَمَرُ : اعْتَدَّ عَلَيْهِمْ بِالسَّخْلَةِ ، يَرُوحُ بِهَا الرَّاعِي وَلَا تَأْخُذْهَا ، وَلَا تَأْخُذِ الْأَكُولَةَ وَلَا الرَّبِيَّ وَلَا الْمَاخِضَ ، وَلَا فَحْلَ الْغَنَمِ ، وَخُذِ الْجَذَعَةَ وَالثَّنِيَّةَ . وَذَلِكَ عَدْلٌ بَيْنَ الْمَالِ وَخِيَارِهِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : " الْأَكُولَةُ : السَّمِينَةُ تُعَدُّ لِلذَّبْحِ ، وَالرَّبِيُّ الَّتِي يَتْبَعُهَا وَلَدُهَا ، وَالْمَاخِضُ : الْحَامِلُ
وَالْفَحْلُ : الذَّكَرُ الْمُعَدُّ لِلضِّرَابِ " . فَجَعَلَ مَا عَدَلَ عَنْهُ مِنْ عَدِّ الْمَالِ بِإِزَاءِ مَا تَرَكَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ خِيَارِهِ ، وَلِأَنَّ زَكَاةَ الْأَصْلِ وَجَبَتْ لِأَجْلِ النِّتَاجِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَجِبَ فِيهَا ، وَسَقَطَ فِي النِّتَاجِ ، وَالْخَبَرُ مَحْمُولٌ عَلَى الْأُمَّهَاتِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَمَّا لَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَا عَلِمْتُ مَعَ مَا وَصَفْتُ فِي أَنْ لَا يُؤْخَذَ أَقَلُّ مِنْ جَذَعَةٍ أَوْ ثَنِيَّةٍ إِذَا كَانَتْ فِي غَنَمِهِ أَوْ أَعْلَى مِنْهَا ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا أَرَادُوا مَا تَجُوزُ أُضْحِيَةً ، وَلَا يُؤْخَذُ أَعْلَى إِلَّا أَنْ يَطَّوَّعَ وَيَخْتَارُ السَّاعِي السِّنَّ الَّتِي وَجَبَتْ لَهُ إِذَا كَانَتِ الْغَنَمُ كُلُّهَا وَاحِدَةً ، فَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا فَوْقَ الثَّنِيَّةِ خَيَّرَ رَبَّهَا ، فَإِنْ جَاءَ بِثَنِيَّةٍ إِنْ كَانَتْ مَعِزًا أَوْ بِجَذَعَةٍ إِنْ كَانَتْ ضَأْنًا إِلَّا أَنْ يَطَّوَّعَ ، فَيُعْطِيَ مِنْهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِهَا نَقْصٌ لَا تَجُوزُ أُضْحِيَةً ، وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ قِيمَةً مِنَ السِّنِّ الَّتِي وَجَبَتْ عَلَيْهِ قُبِلَتْ مِنْهُ إِنْ جَازَتْ أُضْحِيَةً إِلَّا أَنْ تَكُونَ تَيْسًا فَلَا تُقْبَلُ بِحَالٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي فَرْضِ الْغَنَمِ ذُكُورٌ وَهَكَذَا الْبَقَرُ إِلَّا أَنْ يَجِبَ فِيهَا تَبِيعٌ وَالْبَقَرُ ثِيرَانٌ فَيُعْطِيَ ثَوْرًا فَيُقْبَلَ مِنْهُ إِذَا كَانَ خَيْرًا مِنْ تَبِيعٍ ، وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْإِبِلِ بِهَذَا الْمَعْنَى لَا نَأْخُذُ ذَكَرًا مَكَانَ أُنْثَى إِلَّا أَنْ تَكُونَ مَاشِيَتُهُ كُلُّهَا ذُكُورًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : السِّنُّ الْمُسْتَحَقَّةُ فِي زَكَاةِ الْغَنَمِ هِيَ الْجَذَعَةُ مِنَ الضَّأْنِ ، وَهِيَ الَّتِي لَهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَقَدْ دَخَلَتْ فِي السَّابِعِ ، وَالثَّنِيَّةُ مِنَ الْمَعِزِ وَهِيَ الَّتِي قَدِ اسْتَكْمَلَتْ سَنَةً وَدَخَلَتْ فِي الثَّانِيَةِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْمُسْتَحَقُّ الثَّنِيُّ مِنَ الضَّأْنِ وَالْمَعِزِ ، وَقَالَ مَالِكٌ : الْجَذَعُ مِنَ الضَّأْنِ وَالْمَعِزِ . وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ سُوَيْدُ بْنُ غَفَلَةَ قَالَ أَتَانَا مُصَدِّقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَالَ : " نُهِينَا عَنِ الرَّاضِعِ ، وَأُمِرْنَا أَنْ نَأْخُذَ الْجَذَعَةَ مِنَ الضَّأْنِ ، وَالثَّنِيَّةَ مِنَ الْمَعِزِ . وَلِأَنَّ كُلَّ سِنٍّ تَقَدَّرَتْ بِهَا الْأُضْحِيَةُ تَقَدَّرَتْ بِهَا زَكَاةُ الْغَنَمِ كَالثَّنِيَّةِ ، فَإِنْ أَعْطَى فَوْقَ الْجَذَعَةِ أَوِ الثَّنِيَّةِ قُبِلَتْ مِنْهُ ، إِلَّا أَنْ تَبْلُغَ حَدَّ الْهَرِمَةِ فَلَا تُقْبَلُ ، وَإِنْ أَعْطَى دُونَ الْجَذَعَةِ وَالثَّنِيَّةِ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ كُلُّهَا دُونَ الْجَذَعَةِ وَالثَّنِيَّةِ تُقْبَلُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ مَقْبُولَةٌ ، وَالنُّقْصَانَ مَرْدُودٌ ، ثُمَّ إِنَّ كَانَتْ غَنَمُهُ إِنَاثًا ، أَوْ فِيهَا إِنَاثٌ لَمْ تُؤْخَذِ إِلَّا الشَّاةُ ، وَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا ذُكُورًا أُخِذَ مِنْهَا الذَّكَرُ ، وَلَمْ يُكَلَّفْ زَكَاةَ مَالِهِ مِنْ غَيْرِهِ ، كَالْمَرِيضَةِ مِنَ الْمِرَاضِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَيَخْتَارُ السَّاعِي السِّنَّ الَّتِي وَجَبَتْ لَهُ إِذَا كَانَتِ الْغَنَمُ وَاحِدَةً ، إِذَا وَجَبَ فِي مَالِهِ جَذَعَةً مِنَ الضَّأْنِ ، إِنْ كَانَ مَالُهُ ضَأْنًا ، أَوْ ثَنِيَّةً مِنَ الْمَعِزِ إِنْ كَانَ مَالُهُ مِعْزَى ، كَانَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَهَا مِنْ خِيَارِ غَنَمِهِ ، وَلَيْسَ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ اخْتِيَارٍ إِذَا لَمْ يَتَجَاوَزِ الْجِذَاعَ وَالثَّنَايَا ، كَمَا كَانَ لَهُ الِاخْتِيَارُ فِي أَخْذِ الْحِقَاقِ وَبَنَاتِ اللَّبُونِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يُعْتَدُّ بِالسَّخْلَةِ عَلَى رَبِّ الْمَاشِيَةِ إِلَّا بِأَنْ يَكُونَ السَّخْلُ مِنْ غَنَمِهِ قَبْلَ الْحَوْلِ وَيَكُونَ أَصْلُ الْغَنَمِ أَرْبَعِينَ فَصَاعِدًا ، فَإِذَا لَمْ تَكُنِ الْغَنَمُ مِمَّا فِيهِ الصَّدَقَةُ فَلَا يَعْتَدُّ بِالسَّخْلِ حَتَّى تَتِمَّ بِالسَّخْلِ أَرْبَعِينَ ثُمَّ يَسْتَقْبِلَ بِهَا الْحَوْلَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : ذَكَرْنَا أَنَّ السِّخَالَ تُزَكَّى بِحُلُولِ أُمَّهَاتِهَا إِذَا جَمَعَتْ ثَلَاثَ شَرَائِطَ . أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ أُمَّهَاتُهَا أَرْبَعِينَ فَصَاعِدًا . وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ السِّخَالُ مِنْ نِتَاجِ غَنَمِهِ الَّتِي فِي مِلْكِهِ ، لَا مِنْ غَيْرِهَا . وَالثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ الْوِلَادَةُ قَبْلَ حُلُولِ حَوْلِهَا ، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الشَّرَائِطُ الثَّلَاثُ فِي السِّخَالِ ، وَجَبَ ضَمُّهَا إِلَى أُمَّهَاتِهَا .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الشَّرْطُ الْأَوَّلُ فِي اخْتِيَارِ النِّصَابِ ، فَقَدْ خَالَفَ فِيهِ مَالِكٌ ، فَقَدْ قَالَ : لَا اعْتِبَارَ بِكَوْنِ الْأُمَّهَاتِ نِصَابًا ، بَلْ تُضَمُّ السِّخَالُ وَإِنْ كَانَتِ الْأُمَّهَاتُ دُونَ النِّصَابِ ، وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّهُ نَمَاءُ مَالٍ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَالْمَوْجُودِ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ . أَصْلُ ذَلِكَ : إِذَا كَانَتِ الْأُمَّهَاتُ أَرْبَعِينَ . قَالَ : وَلِأَنَّ أُصُولَ الزَّكَوَاتِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ النَّمَاءَ الْحَادِثَ مِنَ الْمَالِ لَا يُعْتَبَرُ فِي إِيجَابِ زَكَاتِهِ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لِنِصَابٍ مُزَكًّى ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأُصُولَ تَشْهَدُ لَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : عُرُوضُ التِّجَارَاتِ ، إِذَا اشْتَرَى عُرْضًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، فَرَبِحَ فِيهِ مِائَةَ دِرْهَمٍ ، زَكَّى الْأَصْلَ وَالنَّمَاءَ ، لِأَنَّهُمَا نِصَابٌ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ النَّمَاءُ تَابِعًا لِلنِّصَابِ . وَالثَّانِي : إِنْ مَلَكَ مِائَةَ دِرْهَمٍ أَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا ، ثُمَّ وَجَدَ مِائَةَ دِرْهَمٍ رِكَازًا زَكَّاهُمَا ، لِأَنَّهُمَا نِصَابٌ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الرِّكَازُ وَالنَّمَاءُ تَبَعًا لِنِصَابٍ ، كَذَلِكَ هَاهُنَا . وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ : إِلَى أَنَّ كَوْنَ الْأُمَّهَاتِ نِصَابًا شَرْطٌ فِي وُجُوبِ ضَمِّ السِّخَالِ إلى الأمهات إِلَيْهَا ، فَإِنْ كَانَتِ الْأُمَّهَاتُ دُونَ النِّصَابِ ، لَمْ يَجِبْ ضَمُّهَا ، فَإِذَا كَمُلَتْ مَعَ السِّخَالِ نِصَابًا ، اسْتُؤْنِفَ لَهَا الْحَوْلُ مِنْ يَوْمِ كَمَالِهَا . وَالدَّلَالَةُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِلَّا زَكَاةً عَلَى مَالٍ حَتَى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ " وَهَذَا مَالٌ لَمْ يَحُلِ الْحَوْلُ عَلَى الْأُمَّهَاتِ مِنْهُ وَلَا السِّخَالِ ، فَاقْتَضَى أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِهِ وُجُوبُ الزَّكَاةِ ، وَلِأَنَّهَا زِيَادَةٌ كَمُلَ بِهَا نِصَابُ الْحَيَوَانِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَوْلُهَا مِنْ يَوْمِ كَمَالِهَا ، كَمَا لَوْ مَلَكَ السِّخَالَ مِنْ غَيْرِ نِتَاجِهَا مِنْ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ ، وَلِأَنَّ السِّخَالَ مِنَ الْأَمْوَالِ الَّتِي لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهَا إِلَّا
بِالْحَوْلِ ، إِلَّا أَنَّ حَوْلَهَا تَارَةً يَكُونُ بِنَفْسِهَا وَتَارَةً يَكُونُ بِغَيْرِهَا ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُتْبِعَ الْغَيْرَ فِي الْحَوْلِ ، وَلَا حَوْلَ لِلْغَيْرِ ، فَثَبَتَ أَنَّ حَوْلَهَا مُعْتَبَرٌ بِنَفْسِهَا . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى النِّصَابِ ، فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْحَوْلَ ثَابِتٌ لِلْأُمَّهَاتِ ، فَجَازَ أَنْ تَتْبَعَهَا السِّخَالُ فِي حَوْلِهَا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا دُونَ النِّصَابِ ، وَأَمَّا اسْتِشْهَادُهُمْ بِالْأُصُولِ فِي زَكَاةِ الْعُرُوضِ ، وَمَسْأَلَةِ الرِّكَازِ ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ ، أَنْ يُقَالَ : أَمَّا مَسْأَلَةُ عُرُضِ التِّجَارَةِ إِذَا اشْتَرَاهُ بِدُونِ النِّصَابِ ثُمَّ بَاعَهُ بِنِصَابٍ فهل فيها زكاة ؟ ، فَقَدْ كَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ يُسَوِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَ السِّخَالِ ، وَيَقُولُ : لَا زَكَاةَ فِيهِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِيَ الْعُرْضَ بِنِصَابٍ ، أَوْ تَكُونَ قِيمَتُهُ يَوْمَ الشِّرَاءِ نِصَابًا ، فَعَلَى هَذَا سَقَطَ السُّؤَالُ . وَقَالَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا : وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ زَكَاةَ الْعُرْضِ وبيان الفرق بينه وبين السخال وَاجِبَةٌ إِذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ عِنْدَ الْحَوْلِ نِصَابًا ، وَإِنْ كَانَ قَدِ اشْتَرَاهُ بِدُونِ النِّصَابِ ، فَعَلَى هَذَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السِّخَالِ أَنَّ اعْتِبَارَ تَقْوِيمِ الْعُرْضِ بِنِصَابٍ يَشُقُّ غَالِبًا ، وَلَا يَشُقُّ أَنْ يُعْتَبَرَ كَوْنُ الْأُمَّهَاتِ نِصَابٌ ، فَلِذَلِكَ سَقَطَ اعْتِبَارُ النِّصَابِ فِي الْأُمَّهَاتِ ، لِارْتِفَاعِ مَشَقَّتِهِ ، تَوْضِيحُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوِ اشْتَرَى عُرْضًا بِنِصَابٍ ، ثُمَّ نَقَصَتْ قِيمَتُهُ فِي تَضَاعِيفِ الْحَوْلِ عَنِ النِّصَابِ ، ثُمَّ عَادَتِ الْقِيمَةُ عِنْدَ الْحَوْلِ إِلَى النِّصَابِ ، لَزِمَتْهُ الزَّكَاةُ وَلَمْ يَسْقُطْ حُكْمُ مَا مَضَى مِنَ الْحَوْلِ بِنُقْصَانِ الْقِيمَةِ ، وَلَوْ مَلَكَ أَرْبَعِينَ شَاةً فَتَلِفَ مِنْهَا فِي تَضَاعِيفِ الْحَوْلِ شَاةٌ ، ثُمَّ مَلَكَ مَكَانَهَا شَاةً بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ اسْتُؤْنِفَ الْحَوْلُ ، وَبَطَلَ حُكْمُ مَا مَضَى مِنْهُ بِنُقْصَانِ الشَّاةِ ، فَقَدْ وَضَحَ بِمَا بَيَّنَاهُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْعُرْضِ وَالسِّخَالِ . وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الرِّكَازِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهَا ، فَكَانَ بَعْضُهُمْ يُوجِبُ الزَّكَاةَ فِي الْمِائَةِ الرِّكَازِ دُونَ غَيْرِهَا ؛ لِأَنَّ الرِّكَازَ مِمَّا يُعْتَبَرُ فِيهِ النِّصَابُ وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَوْلُ ، وَالْمِائَةُ الْأُخْرَى يُعْتَبَرُ فِيهَا النِّصَابُ وَالْحَوْلُ ، فَلِذَلِكَ وَجَبَتْ زَكَاةُ الرِّكَازِ لِوُجُودِ النِّصَابِ ، وَلَمْ تَجِبْ زَكَاةُ الْمِائَةِ الْأُخْرَى لِفَقْدِ الْحَوْلِ ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ السُّؤَالُ سَاقِطٌ ، وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا : بَلْ زَكَاتُهَا وَاجِبَةٌ ؛ لِأَنَّ النِّصَابَ فِيهَا مَوْجُودٌ ، وَالْحَوْلَ فِيمَا يُعْتَبَرُ فِيهِ مَوْجُودٌ ، فَوَجَبَ أَنْ تَلْزَمَ الزَّكَاةُ فِيهَا لِوُجُودِ شَرْطِ الْإِيجَابِ فِيهَا ، فَعَلَى هَذَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السِّخَالِ أَنَّ الرِّكَازَ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَوْلُ ، وَالسِّخَالُ يُعْتَبَرُ فِيهَا الْحَوْلُ ، إِمَّا بِنَفْسِهَا أَوْ تَبَعًا لِأُمَّهَاتِهَا ، فَافْتَرَقَ حُكْمُهُمَا فِي الزَّكَاةِ لِافْتِرَاقِ مَعْنَاهُمَا فِي الْوُجُوبِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ تَكُونَ السِّخَالُ مِنْ نِتَاجِ غَنَمِهِ ، فَقَدْ خَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ فِي اعْتِبَارِ هَذَا الشَّرْطِ فَقَالَا : كُلُّ مَا اسْتَفَادَ مِنْ جِنْسِ مَا ضَمَّهُ إِلَيْهِ فِي حَوْلِهِ ، وَأَخْرَجَ زَكَاتَهُ تَبَعًا لِمَالِهِ ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ نِتَاجِ مَالِهِ ، أَوْ مَلَكَهُ بِابْتِيَاعٍ أَوْ هِبَةٍ . وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا بَعْدُ ، لَكِنْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهَا ؛ لِأَنَّ هَذَا الْوَضْعَ أَلْيَقُ بِهَا ، فَأَمَّا مُخَالِفُنَا فَاسْتَدَلَّ
بِرِوَايَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " اعْلَمُوا شَهْرًا تُؤَدُّونَ فِيهِ زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ ، فَمَا حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ حَتَى يَجِيءَ رَأْسُ السَّنَةِ " ، فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ السَّنَةَ تُجْمَعُ لِزَكَاةِ الْمَالَيْنِ جَمِيعًا مِنَ الْأَصْلِ الْمُسْتَفَادِ ، وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ " فِي خَمْسٍ شَاةٌ ، ثُمَّ لَا شَيْءَ فِي زِيَادَتِهَا حَتَّى تَبْلُغَ عَشْرًا " ، فَاقْتَضَى الظَّاهِرُ أَنَّهَا مَتَى بَلَغَتْ عَشْرًا بِفَائِدَةٍ مِنْهَا أَوْ مِنْ غَيْرِهَا وَجَبَ تَغْيِيرُ الْفَرْضِ بِهَا ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَاعِيهِ " عُدَّ عَلَيْهِمْ صَغِيرَهَا وَكَبِيرَهَا " وَلَمْ يُفَرِّقْ ، وَلِأَنَّهَا زِيَادَةٌ مِنْ نَفْسِ مَالِهِ ، فَوَجَبَ إِذَا لَمْ يَزَلْ بَدَلُهُ أَنْ يَضُمَّهُ إِلَى حَوْلِ مَا عِنْدَهُ ، كَالنِّتَاجِ وَأَرْبَاحِ التِّجَارَاتِ ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ تَفْتَقِرُ إِلَى عَدَدٍ وَأَمَدٍ ، فَالْعَدَدُ النِّصَابُ ، وَالْأَمَدُ الْحَوْلُ ، فَلَمَّا لَمْ يُعْتَبَرْ فِي الْمُسْتَفَادِ النِّصَابُ لَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ الْحَوْلُ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَالٍ مُسْتَفَادٍ مِنْ غَيْرِ النِّتَاجِ يَجِبُ اسْتِئْنَافُ حَوْلِهِ وَلَا يَكُونُ تَابِعًا لِحَوْلِهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا زَكَاةَ عَلَى مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ " فَكَانَ عَامًّا وَرَوَى زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " لَيْسَ فِي الْمَالِ الْمُسْتَفَادِ زَكَاةٌ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ " وَهَذَا نَصٌّ ، وَقَدْ رَوَاهُ أَيْضًا جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، وَرَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلِأَنَّهُ أَصْلٌ فِي نَفْسِهِ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ حَوْلُهُ بِغَيْرِهِ . أَصْلُهُ : إِذَا كَانَتِ الْفَائِدَةُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ مَالِهِ ، وَلِأَنَّهَا فَائِدَةٌ غَيْرُ مُتَوَلَّدَةٍ مِمَّا عِنْدَهُ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهَا ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَوْلُهَا مُعْتَبَرًا بِنَفْسِهَا ، أَصْلُهُ مَا وَافَقَنَا عَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَنْ مَعَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ ، قَدْ أَخْرَجَ زَكَاتَهَا ، وَأَرْبَعُونَ مِنَ الْغَنَمِ مَنْ بَقِيَ شَهْرٌ مِنْ حَوْلِهَا ، فَاشْتَرَى بِالْمِائَتَيْنِ إِحْدَى وَثَمَانِينَ شَاةً . قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجِبُ أَنْ يُزَكِّيَهَا بِحَوْلِ الْأَرْبَعِينَ ، وَيَسْتَأْنِفُ لَهَا الْحَوْلَ مِنْ يَوْمِ مَلَكَهَا ، لِأَنَّهُ قَدْ زَكَّى أَصْلَهَا وَهُوَ الْمِائَتَانِ ، وَلَوْ لَمْ يُزَكِّ أَصْلَهَا ضَمَّهَا ، وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَيْهِ مُقْنِعَةٌ ، وَلِأَنَّ فِي ضَمِّ الْمَالِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ غَيْرِ النِّتَاجِ مَا يُؤَدِّي إِلَى مُخَالَفَةِ أَصُولِ الزَّكَوَاتِ ، لِأَنَّهَا تَجِبُ فِي الْحَوْلِ مَرَّةً ، وَذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى إِيجَابِهَا فِي الْحَوْلِ مِرَارًا . مِثَالٌ : فِيمَنْ مَعَهُ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ قَدْ بَقِيَ مِنْ حَوْلِهَا يَوْمٌ ، فَابْتَاعَ خَمْسًا مِنَ الْإِبِلِ فَزَكَّاهَا بَعْدَ يَوْمٍ ثُمَّ بَاعَهَا عَلَى رَجُلٍ مَعَهُ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ قَدْ بَقِيَ مِنْ حَوْلِهَا يَوْمٌ فَزَكَّاهَا الثَّانِي بَعْدَ يَوْمٍ ثُمَّ بَاعَهَا عَلَى ثَالِثٍ حَالُهُ كَذَلِكَ ، ثُمَّ عَلَى رَابِعٍ ، وَخَامِسٍ فَيُؤَدَّى زَكَاةُ الْخَمْسِ فِي السَّنَةِ الْوَاحِدَةِ مِرَارًا ، وَهَذَا مُنَافٍ لِأُصُولِ الزَّكَوَاتِ الْمُقَدَّرَةِ عَلَى إِيجَابِهَا فِي كُلِّ حَوْلٍ مَرَّةً . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " اعْلَمُوا شَهْرًا تُؤَدُّونَ فِيهِ زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ ، فَمَا حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ حَتَى يِجِيءَ رَأْسُ السَّنَةِ " فَلَا حُجَّةَ فِيهِ ، لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ رَأْسَ السَّنَةِ
الْمُسْتَفَادِ فِيهَا ، وَيَحْتَمِلُ رَأْسَ سَنَةِ الْأَصْلِ ، وَمَعَ هَذَا الِاحْتِمَالِ فَحَمْلُهُ عَلَى سَنَةِ الْمُسْتَفَادِ أَوْلَى ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا زَكَاةَ عَلَى مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ " وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " فِي خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ شَاةٌ ، ثُمَّ لَا شَيْءَ فِي زِيَادَتِهَا حَتَّى تَبْلُغَ عَشْرًا " فَهَذَا إِنَّمَا أَرَادَ بِهِ بَيَانَ الْمَقَادِيرِ دُونَ ضَمِّ الْمُسْتَفَادِ ، فَلَمْ يَجُزْ حَمْلُهُ عَلَى غَيْرِ الْمُرَادِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ لِسَاعِيهِ : عُدَّ عَلَيْهِمْ صَغِيرَهَا وَكَبِيرَهَا " أَرَادَ بِهِ بَيَانَ الْحُكْمِ فِي الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ ، فَلَمْ يَجُزْ حَمْلُهُ عَلَى غَيْرِهِ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى نِتَاجِ مَالِهِ ، فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهَا مُتَوَلَّدَةٌ مِمَّا عِنْدَهُ ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ لَمَّا لَمْ يُعْتَبَرْ فِي الْمُسْتَفَادِ النِّصَابُ لَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ الْحَوْلُ ، فَيَنْكَسِرُ عَنِ اتِّبَاعِ مَاشِيَتِهِ بِمَالٍ قَدْ زَكَّاهُ ، فَلَا يَجِبُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَضُمَّهُ إِلَى حَوْلِ مَاشِيَتِهِ ، وَيَسْتَأْنِفَ حَوْلَهُ مِنْ يَوْمِ مَلَكَهُ ، فَكَانَ الْحَوْلُ مُعْتَبَرًا وَإِنْ لَمْ يَكُنِ النِّصَابُ مُعْتَبَرًا ، عَلَى أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ النِّصَابِ وَالْحَوْلِ ، أَنَّ النِّصَابَ اعْتُبِرَ لِيَبْلُغَ الْمَالُ قَدْرًا يَتَّسِعُ لِلْمُوَاسَاةِ ، وَهَذَا حَاصِلٌ بِوُجُودِ مَا اسْتَفَادَهُ ، وَالْحَوْلُ اعْتُبِرَ لِيَتَكَامَلَ فِيهِ نَمَاءُ الْمَالِ ، وَهَذَا غَيْرُ حَاصِلٍ بِوُجُودِ مَا اسْتَفَادَهُ حَتَّى يَحُولَ حَوْلُهُ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّالِثُ فِي اعْتِبَارِ الْوِلَادَةِ قَبْلَ الْحَوْلِ ، فَلِأَنَّ السِّخَالَ تَابِعَةٌ لِأُمَّهَاتِهَا فِي الْإِيجَابِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهَا قَبْلَ الْإِيجَابِ ، فَإِنْ نَتَجَتْ قَبْلَ الْحَوْلِ بِيَوْمٍ أَوْ بَعْضِهِ زكاة الغنم ضُمَّتْ إِلَى أُمَّهَاتِهَا ، وَأَخْرَجَ زَكَاةَ جَمِيعِهَا ، وَإِنْ نَتَجَتْ بَعْدَ الْحَوْلِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْحَوْلِ وَقَبْلَ الْإِمْكَانِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْحَوْلِ وَبَعْدَ الْإِمْكَانِ ، فَإِنْ نَتَجَتْ بَعْدَ الْإِمْكَانِ ، لَمْ تُضَمَّ إِلَى الْأُمَّهَاتِ فِي الْحَوْلِ الْمَاضِي ، لِاسْتِقْرَارِ الْوُجُوبِ ، وَضُمَّتْ إِلَيْهَا فِي الْحَوْلِ الثَّانِي ، وَإِنْ نَتَجَتْ قَبْلَ الْإِمْكَانِ ، فَفِي إِيجَابِ ضَمِّهَا إِلَى الْأُمَّهَاتِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْإِمْكَانِ ، قِيلَ هُوَ شَرْطٌ فِي الْوُجُوبِ أَوْ فِي الضَّمَانِ ، فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ أَنَّ الْإِمْكَانَ شَرْطٌ فِي الْوُجُوبِ تُضَمُّ إِلَى الْأُمَّهَاتِ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، لِاسْتِقْرَارِ الْوُجُوبِ بَعْدَ وُجُودِهَا ، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ : إِنَّهُ شَرْطٌ فِي الضَّمَانِ دُونَ الْوُجُوبِ لَا تُضَمُّ إِلَى الْحَوْلِ الْمَاضِي ، لِاسْتِقْرَارِ الْوُجُوبِ قَبْلَ وُجُودِهَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ رَبِّ الْمَاشِيَةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا اخْتَلَفَ السَّاعِي وَرَبُّ الْمَالِ فِي الشَّرَائِطِ الثَّلَاثَةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي ضَمِّ السِّخَالِ ، فَادَّعَى السَّاعِي وُجُودَ جَمِيعِهَا وَإِيجَابَ ضَمِّهَا إِلَى أُمَّهَاتِهَا ، وَادَّعَى رَبُّ الْمَالِ عَدَمَ بَعْضِهَا وَسُقُوطَ ضَمِّ السِّخَالِ إِلَى أُمَّهَاتِهَا ، وَكَانَ السَّاعِي ادَّعَى أَنَّ السِّخَالَ مِنْ أَعْيَانِ مَالِهِ ، وَادَّعَى رَبُّ الْمَالِ أَنَّهَا مُسْتَفَادَةٌ مِنْ غَيْرِ مَالِهِ ، أَوِ ادَّعَى السَّاعِي أَنَّ الْأُمَّهَاتِ أَرْبَعُونَ ، وَادَّعَى رَبُّ الْمَالِ أَنَّهَا دُونَ
الْأَرْبَعِينَ ، أَوِ ادَّعَى السَّاعِي أَنَّ الْوِلَادَةَ قَبْلَ الْحَوْلِ ، وَادَّعَى رَبُّ الْمَالِ أَنَّهَا بَعْدَ الْحَوْلِ ، وَمَا ادَّعَيَاهُ مُمْكِنٌ فِي الظَّاهِرِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ مَعَ يَمِينِهِ ، لِأَنَّهُ أَمِينٌ يَرْجِعُ إِلَى ظَاهِرٍ ، وَلَا ظَاهِرَ مَعَ السَّاعِي ، وَهَذِهِ الْيَمِينُ هِيَ يَمِينُ اسْتِظْهَارٍ ، فَإِنْ نَكَلَ عَنْهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَوْضِعٍ ادَّعَى رَبُّ الْمَالِ مَا تَسْقُطُ بِهِ الزَّكَاةُ ، وَكَانَ الظَّاهِرُ مَعَهُ فَيَمِينُهُ اسْتِظْهَارٌ ، وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ مَعَ السَّاعِي كَدَعْوَى رَبِّ الْمَالِ بَيْعَ مَالِهِ فِي تَضَاعِيفِ الْحَوْلِ ، ثُمَّ ابْتِيَاعَهُ ، فَفِي الْيَمِينِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : اسْتِظْهَارٌ أَيْضًا . وَالثَّانِي : وَاجِبَةٌ ، وَفَائِدَةُ قَوْلِنَا " اسْتِظْهَارٌ " أَنَّهُ إِنْ نَكَلَ عَنْهَا لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُ الزَّكَاةُ ، وَفَائِدَةُ قَوْلِنَا " وَاجِبَةٌ " أَنَّهُ إِنْ نَكَلَ عَنْهَا أُخِذَتْ مِنْهُ الزَّكَاةُ جَبْرًا ، لَا بِنُكُولِهِ لَكِنْ بِالْأَمْرِ الْمُتَقَدِّمِ ، وَالظَّاهِرِ الْمَوْجُودِ ، وَلَمْ يَجُزْ لِلسَّاعِي أَنْ يَحْلِفَ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ ، وَلَا لِلْمَسَاكِينِ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُعَيَّنِينَ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ كَانَتْ لَهُ أَرْبَعُونَ فَأَمْكَنَهُ أَنْ يُصَدِّقَهَا فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى مَاتَتْ أَوْ بَعْضُهَا زكا الغنم فَعَلَيْهِ شَاةٌ وَلَوْ لَمْ يُمْكِنْهُ حَتَّى مَاتَتْ مِنْهَا شَاةٌ فَلَا زَكَاةَ فِي الْبَاقِي لِأَنَّهَا أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعِينَ شَاةً ، وَلَوْ أَخْرَجَهُ بَعْدَ حَوْلِهَا فَلَمْ يُمْكِنْهُ دَفْعُهَا إِلَى أَهْلِهَا أَوِ الْوَالِي حَتَّى هَلَكَتْ زكاة الغنم لَمْ تُجْزِ عَنْهُ ، فَإِنْ كَانَ فِيمَا بَقِيَ مَا تَجِبُ فِي مِثْلِهِ الزَّكَاةُ زَكَّى وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّقْسِيمِ ، وَقُلْنَا إِنَّهُ إِنْ تَلِفَ مَالُهُ بَعْدَ الْحَوْلِ وَبَعْدَ إِمْكَانِ الْأَدَاءِ فَالزَّكَاةُ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ ، سَوَاءٌ أَمْكَنَهُ أَدَاءُ زَكَاتِهَا إِلَى السَّاعِي ، أَوِ الْمَسَاكِينِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ أَمْكَنَ أَدَاؤُهَا إِلَى السَّاعِي ضَمِنَهَا ، وَإِنْ أَمْكَنَ أَدَاؤُهَا إِلَى الْمَسَاكِينِ لَمْ يَضْمَنْهَا ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ مَجِيءَ السَّاعِي شَرْطٌ فِي الْوُجُوبِ ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ ، وَإِنْ تَلِفَ مَالُهُ قَبْلَ إِمْكَانِ الْأَدَاءِ زكاة الغنم فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ أَمْكَنَهُ الْأَدَاءُ بَعْدَ الْحَوْلِ فَبَادَرَ بِإِخْرَاجِ زَكَاتِهِ فَتَلِفَ مِنْهُ قَبْلَ حُصُولِ ذَلِكَ فِي يَدِ السَّاعِي أَوِ الْمَسَاكِينِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ وَلَا جِنَايَةٍ فَلَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُهُ ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي بَاقِي مَالِهِ فَإِنْ كَانَ نِصَابًا زَكَّاهُ ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ فَفِي إِيجَابِ زَكَاتِهِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي إِمْكَانِ الْأَدَاءِ ، هَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي الْوُجُوبِ أَوْ فِي الضَّمَانِ ، فَإِنْ قِيلَ : هُوَ شَرْطٌ فِي الْوُجُوبِ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيمَا نَقَصَ عَنِ النِّصَابِ ، وَإِنْ قِيلَ : هُوَ شَرْطٌ فِي الضَّمَانِ فَعَلَيْهِ زَكَاتُهُ بِحِسَابِ الْبَاقِي وَقِسْطِهِ ، وَيَكُونُ التَّالِفُ مِنْ مَالِهِ وَمَالِ الْمَسَاكِينِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَكُلُّ فَائِدَةٍ مِنْ غَيْرِ نِتَاجِهَا فَهِيَ لِحَوْلِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَذَكَرْنَا أَنَّ الْمُسْتَفَادَ مِنْ غَيْرِ النِّتَاجِ يَسْتَأْنِفُ حَوْلَهُ ، وَلَا يَجِبُ ضَمُّهُ إِلَى حَوْلِ مَالِهِ ، وَدَلَّلْنَا عَلَيْهِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ مَعَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً قَدْ أَتَى
عَلَيْهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَمَلَكَ أَرْبَعِينَ شَاةً ثَانِيَةً ، ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَ هَذِهِ أَرْبَعِينَ شَاةً ثَالِثَةً ، فَصَارَ جَمِيعُهَا مِائَةً وَعِشْرِينَ شَاةً ، فَقَدْ حَكَى أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ فِيهَا وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ زَكَّى فِي السَّنَةِ الْأَوْلَى كُلَّ أَرْبَعِينَ بِحَوْلِهَا وَيُخْرِجُ عَنْهَا شَاةً كَامِلَةً ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ فِي الْعَامِ الْأَوَّلِ ثَلَاثُ شِيَاهٍ ، لِأَنَّهَا لَمَّا افْتَرَقَتْ فِي حُكْمِ الْحَوْلِ وَجَبَ أَنْ تَفْتَرِقَ فِي حُكْمِ الْخُلْطَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : إِنْ زَكَّى الْأَرْبَعِينَ الْأُولَى لِحَوْلِهَا فَيُخْرِجُ مِنْهَا شَاةً كَامِلَةً ، ثُمَّ زَكَّى الْأَرْبَعِينَ الثَّانِيَةَ لِحَوْلِهَا فَيُخْرِجُ مِنْهَا نِصْفَ شَاةٍ ، لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ ثَمَانِينَ ، هَذَا إِنْ كَانَ قَدْ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ مِنْ غَيْرِ الْأَرْبَعِينَ الْأُولَى ، وَقِيلَ : إِنَّ الزَّكَاةَ فِي الذِّمَّةِ وَإِنْ أَخْرَجَهَا مِنَ الْمَالِ ، وَقِيلَ : إِنَّ الزَّكَاةَ مِنَ الْعَيْنِ أَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ تِسْعَةٍ وَسَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ شَاةٍ ، ثُمَّ زَكَّى الْأَرْبَعِينَ الثَّالِثَةَ لِحَوْلِهَا فَيُخْرِجُ مِنْهَا ثَلَاثَ شِيَاهٍ ، لِأَنَّهَا أَرْبَعُونَ مِنْ جُمْلَةِ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ ، هَذَا إِنْ كَانَ قَدْ أَخْرَجَ زَكَاةَ الْمَالَيْنِ مِنْ غَيْرِهِمَا ، وَقِيلَ : إِنَّ الزَّكَاةَ فِي الذِّمَّةِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ مِنَ الْمَالَيْنِ ، أَوْ قِيلَ : إِنَّ الزَّكَاةَ مِنَ الْعَيْنِ فَعَلَيْهِ أَرْبَعُونَ جُزْءًا مِنْ مِائَةٍ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ جُزْءًا وَنِصْفَ جُزْءٍ مِنْ شَاةٍ ، فَهَذَانِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ . وَفِيهَا وَجْهٌ ثَالِثٌ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا : أَنَّ فِي الْأَرْبَعِينَ الْأُولَى شَاةً ، وَلَا شَيْءَ فِي الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ ، وَتَكُونُ تَبَعًا ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَبْلُغْ نِصَابًا ثَانِيًا ، فَإِنْ بَلَغَتْ نِصَابًا ثَانِيًا حَتَّى صَارَتْ مِائَةً وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ فَعَلَيْهِ شَاتَانِ . وَفِيهَا وَجْهٌ رَابِعٌ وَهُوَ ضَعِيفٌ : أَنَّهُ إِنْ خَلَطَ الْجَمِيعَ وَسَامَهَا فِي مَرْعًى وَاحِدٍ كَانَتْ تَبَعًا ، وَإِنْ فَرَّقَهَا فَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ حُكْمُ نَفْسِهَا . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ نَتَجَتْ أَرْبَعِينَ قَبْلَ الْحَوْلِ ثُمَّ مَاتَتِ الْأُمَّهَاتُ ثُمَّ جَاءَ الْمُصَدِّقُ وَهِيَ أَرْبَعُونَ جَدْيًا أَوْ بَهْمَةً أَوْ بَيْنَ جَدْيٍ وَبَهْمَةٍ فكيف تؤدى زكاتها أَوْ كَانَ هَذَا فِي إِبِلٍ فَجَاءَ الْمُصَدِّقُ وَهِيَ فِصَالٌ أَوْ فِي بَقَرٍ وَهِيَ عُجُولٌ أَخَذَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنْ هَذَا وَأَخَذَ مِنَ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ أُنْثَى وَمِنَ الْبَقَرِ ذَكَرًا ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ إِلَّا وَاحِدًا إِنْ كَانَتِ الْبَقَرُ ثَلَاثِينَ ، وَإِنْ كَانَتْ أَرْبَعِينَ فَأُنْثَى ، فَإِذَا كَانَتِ الْعُجُولُ إِنَاثًا وَوَجَبَ تَبِيعٌ قِيلَ : إِنْ شِئْتَ فَائْتِ بِذَكَرٍ مِثْلِ أَحَدِهَا ، وَإِنْ شِئْتَ أَعْطَيْتَ مِنْهَا أُنْثَى وَأَنْتَ مُتَطَوِّعٌ بِالْفَضْلِ . وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ فِي أَنَّهُ لَمْ يُبْطِلْ عَنِ الصِّغَارِ الصَّدَقَةَ لِأَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ الْأُمَّهَاتِ مَعَ الْأُمَّهَاتِ فَكَذَلِكَ إِذَا حَالَ عَلَيْهَا حَوْلُ الْأُمَّهَاتِ ، وَلَا نُكَلِّفُهُ كَبِيرَةً مِنْ قِبَلَ أَنَّهُ لَمَّا قِيلَ لِي : دَعِ الرَّبِيَّ وَالْمَاخِضَ وَذَاتَ الدَّرِّ وَفَحْلَ الْغَنَمِ وَخُذِ الْجَذَعَةَ وَالثَّنِيَّةَ عَقَلْتُ أَنَّهُ قِيلَ لِي : دَعْ خَيْرًا مِمَّا تَأْخُذُ إِذَا كَانَ عِنْدَهُ خَيْرٌ مِنْهُ وَدُونَهُ وَخُذِ الْعَدْلَ
بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ وَمَا يُشْبِهُ رُبُعَ عُشْرِ مَالِهِ ، فَإِذَا كَانَتْ عِنْدَهُ أَرْبَعُونَ تُسَوِّي عِشْرِينَ دِرْهَمًا وَكَلَّفْتُهُ شَاةً تُسَوِّي عِشْرِينَ دِرْهَمًا فَلَمْ آخُذْ عَدْلًا بَلْ أَخَذْتُ قِيمَةَ مَالِهِ كُلِّهِ فَلَا آخُذُ صَغِيرًا وَعِنْدَهُ كَبِيرٌ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا صَغِيرٌ أَخَذْتُ الصَّغِيرَ كَمَا أَخَذْتُ الْأَوْسَطَ مِنَ التَّمْرِ وَلَا آخُذُ الْجُعْرُورَ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ إِلَّا الْجُعْرُورُ أَخَذْتُ مِنْهُ الْجُعْرُورَ وَلَمْ نَنْقُصْ مِنْ عَدَدِ الْكَيْلِ وَلَكِنْ نَقَصْنَا مِنَ الْجَوْدَةِ لَمَّا لَمْ نَجِدِ الْجَيِّدَ ، كَذَلِكَ نَقَصْنَا مِنَ السِّنِّ إِذَا لَمْ نَجِدْهَا وَلَمْ نَنْقُصْ مِنَ الْعَدَدِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : فِي رَجُلٍ مَعَهُ نِصَابٌ مِنَ الْمَاشِيَةِ نَتَجَتْ نِصَابًا ، ثُمَّ مَاتَتِ الْأُمَّهَاتُ قَبْلَ الْحَوْلِ وَبَقِيَ النِّتَاجُ فَجَاءَ السَّاعِي فَوَجَدَهَا سِخَالًا ، إِنْ كَانَتِ الْأُمَّهَاتُ غَنَمًا ، أَوْ فِصَالًا إِنْ كَانَتِ الْأُمَّهَاتُ إِبِلًا ، أَوْ عُجُولًا إِنْ كَانَتِ الْأُمَّهَاتُ بَقَرًا ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَبْنِي حَوْلَ السِّخَالِ عَلَى حَوْلِ الْأُمَّهَاتِ ، وَيَأْخُذُ مِنْهَا الزَّكَاةَ وَلَا يُبْطِلُ حَوْلَهَا بِمَوْتِ أُمَّهَاتِهَا ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ . وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا : إِنْ بَقِيَ مِنَ الْأُمَّهَاتِ نِصَابٌ زُكِّيَتِ السِّخَالُ بِحَوْلِ النِّصَابِ الْبَاقِي مِنْ أُمَّهَاتِهَا ، وَإِنْ نَقَصَتْ عَنِ النِّصَابِ بَطَلَ حُكْمُ الْحَوْلِ الْمَارِّ ، وَلَمْ تَجِبْ فِي السِّخَالِ الزَّكَاةُ إِلَّا بَعْدَ اسْتِئْنَافِ حَوْلِهَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ بَقِيَ مِنَ الْأُمَّهَاتِ وَاحِدَةٌ زُكِّيَتِ السِّخَالُ بِحَوْلِ أُمَّهَاتِهَا ، وَإِنْ مَاتَتْ جَمِيعُ الْأُمَّهَاتِ بَطَلَ حُكْمُ حَوْلِهَا وَلَمْ يَسْتَأْنِفْ لِلسِّخَالِ الْحَوْلَ ، إِلَّا أَنْ تَصِيرَ ثَنَايَا ، فَإِذَا صَارَتْ ثَنَايَا اسْتُؤْنِفَ حَوْلُهَا حِينَئِذٍ ، اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَيْسَ فِي السِّخَالِ صَدَقَةٌ " ، وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " لَيْسَ فِي رَاضِعِ لَبَنٍ شَيْءٌ " قَالَ : وَلِأَنَّ الصِّغَارَ إِنَّمَا ثَبَتَ لَهَا حُكْمُ الْحَوْلِ تَبَعًا لِلْأُمَّهَاتِ ، فَإِذَا سَقَطَ حُكْمُ الْمَتْبُوعِ بِمَوْتِهِ سَقَطَ حُكْمُ التَّابِعِ ، قَالَ : وَلِأَنَّ الْفَرْضَ قَدْ يَتَغَيَّرُ بِالزِّيَادَةِ وَالْعَدَدِ ، وَبِالزِّيَادَةِ فِي السِّنِّ ، ثُمَّ كَانَ نُقْصَانُ الْعَدَدِ عَنِ النِّصَابِ يُوجِبُ إِسْقَاطَ الزَّكَاةِ ، وَتَغْيِيرَ الْفَرْضِ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ نُقْصَانُ السِّنِّ مُؤَثِّرًا فِي إِسْقَاطِ الزَّكَاةِ وَتَغْيِيرِ الْفَرْضِ ، وَتَحَرَّرَ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ مَا يَتَغَيَّرُ لَهُ الْفَرْضُ ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ لِنُقْصَانِهِ تَأْثِيرٌ فِي تَغْيِيرِ الْفَرْضِ كَالْعَدَدِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ : مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِسَاعِيهِ : " عُدَّ عَلَيْهِمْ صَغِيرَهَا وَكَبِيرَهَا " فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ ، وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ ، رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ فِي أَهْلِ الرِّدَّةِ : " وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا مِمَّا أَدَّوْا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ " وَبِإِجْمَاعِنَا وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعَنَاقَ لَا يُؤَدَّى فِي الزَّكَاةِ مِنْ مَالٍ فِيهِ كِبَارٌ ، فَثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ مُؤَدًّى مِنَ الصِّغَارِ ، ثُمَّ قَالَ هَذَا بِحَضْرَةِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ، فَكُلٌّ رَجَعَ إِلَى قَوْلِهِ فَثَبَتَ إِجْمَاعُهُمْ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ ثَبَتَ لَهَا حُكْمُ الْحَوْلِ لَمْ يَكُنْ مَوْتُ بَعْضِهَا مَعَ بَقَاءِ النِّصَابِ مُوجِبًا لِبُطْلَانِ الْحَوْلِ . أَصْلُهُ : مَوْتُ السِّخَالِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ وَلَدٍ حُكِمَ لَهُ بِحُكْمِ الْأُمِّ لَمْ يَبْطُلْ حُكْمُهُ بِمَوْتِ الْأُمِّ ، أَصْلُهُ وَلَدُ الْأُضْحِيَةِ ، وَوَلَدُ أُمِّ الْوَلَدِ ، فَأَمَّا حَدِيثُ الشَّعْبِيِّ فَرِوَايَةُ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ وَكَانَ مَنْسُوبًا إِلَى الْقَوْلِ بِالرَّجْعَةِ وَالتَّنَاسُخِ مَعَ مُظَاهَرَتِهِ بِسَبَبِ السَّلَفِ الصَّالِحِ ، ثُمَّ مَعَ هَذَا فَالْحَدِيثُ مُرْسَلٌ عَلَى أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنْ لَا زَكَاةَ فِيهَا قَبْلَ الْحَوْلِ فَرْقًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الثِّمَارِ الَّتِي لَا تَفْتَقِرُ إِلَى حَوْلٍ ، وَإِنْ كَانَا جَمِيعًا نَمَاءً . وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَيْسَ فِي رَاضِعِ لَبَنٍ شَيْءٌ " يَعْنِي إِذَا انْفَرَدَتْ عَنْ أُمَّهَاتِهَا بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّهَا تَبَعٌ ، فَيُقَالُ لَهُمْ : هِيَ تَبَعٌ فِي الِابْتِدَاءِ جَارِيَةٌ مَجْرَى الْأَصْلِ فِي الِانْتِهَاءِ ، ثُمَّ يَفْسُدُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِوَلَدِ الْأُضْحِيَةِ ، وَوَلَدِ أُمِّ الْوَلَدِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ بِفَضْلِ السِّنِّ عَلَى نُقْصَانِ الْعَدَدِ فَقَدْ رَضِينَا بِقِيَاسِهِمْ حَكَمًا عَلَيْنَا وَعَلَيْهِمْ ، وَذَلِكَ أَنَّ زِيَادَةَ السِّنِّ لَا تُؤَثِّرُ فِي زِيَادَةِ الْفَرْضِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ مَلَكَ أَرْبَعِينَ حِقَّةً كَمَا لَوْ مَلَكَ أَرْبَعِينَ جَذَعَةً فِي اسْتِوَاءِ فَرْضِهِمَا ، وَلَا يَكُونُ زِيَادَةٌ مِنَ الْجِذَاعِ مُوجِبًا لِزِيَادَةِ الْفَرْضِ فِيهَا ، فَلَمَّا لَمْ تَكُنْ لِزِيَادَةِ السِّنِّ فِي زِيَادَةِ الْفَرْضِ تَأْثِيرٌ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ لِنُقْصَانِ السِّنِّ تَأْثِيرٌ فِي إِسْقَاطِ الْفَرْضِ ، وَالْعَدَدُ بِخِلَافِ هَذَا ، إِنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مَوْتَ الْأُمَّهَاتِ لَا يُبْطِلُ حَقَّ السِّخَالِ ، فَزَكَاتُهَا بَعْدَ حَوْلِ أُمَّهَاتِهَا مَأْخُوذٌ مِنْهَا ، وَلَا يُكَلَّفُ إِخْرَاجَ الزَّكَاةِ مِنَ الْكِبَارِ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهَا كِبَارٌ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ . وَقَالَ مَالِكٌ : لَا آخُذُ الزَّكَاةَ إِلَّا كَبِيرًا ، وَلَا يَجُوزُ إِخْرَاجُ السِّخَالِ بِحَالٍ تَعَلُّقًا بِقَوْلِ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ قَالَ : أَتَانَا مُصَدِّقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : " نُهِينَا عَنْ رَاضِعِ لَبَنٍ ، وَإِنَّمَا حَقُّنَا فِي الْجَذَعَةِ وَالثَّنِيَّةِ " وَبِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِسَاعِيهِ : " اعْتَدَّ عَلَيْهِمْ بِالسَّخْلَةِ يَرُوحُ بِهَا الرَّاعِي وَلَا تَأْخُذْهَا " وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ مَا قَالَ كَرَامُ السِّنِّ وَفَوْقَ الْجِذَاعِ وَالثَّنَايَا لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهَا رِفْقًا بِرَبِّ
الْمَالِ ، فَوَجَبَ إِذَا كَانَ جَمِيعُ مَالِهِ لِئَامَ السِّنِّ وَدُونَ الْجِذَاعِ وَالثَّنَايَا أَنْ لَا يُؤْخَذَ مِنْهَا رِفْقًا بِالْمَسَاكِينِ . وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى : " خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً " ، [ التَّوْبَةِ : ] ، فَلَمْ يَجُزْ لِحَقِّ هَذَا الظَّاهِرِ أَنْ يُكَلَّفُوا الزَّكَاةَ مِنْ غَيْرِهَا ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ : " إِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ " . فَلَمَّا نَهَاهُ عَنْ أَخْذِ الْكَرِيمِ مِنَ الْمَالِ الَّذِي فِيهِ كِرَامٌ فَلَأَنْ لَا يَأْخُذَ الْكَرِيمَ مِنَ الْمَالِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ كِرَامٌ أَوْلَى ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ فَوَجَبَ أَنْ تُؤْخَذَ زَكَاتُهُ مِنْ عَيْنِهِ ، كَالتَّمْرِ الرَّدِيءِ ، فَإِنْ قِيلَ : إِنَّمَا لَمْ يَلْزَمْهُ إِخْرَاجُ الْجَيِّدِ مِنَ التَّمْرِ الرَّدِيءِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ جَيِّدًا لَزِمَهُ إِخْرَاجُ الْجَيِّدِ ، وَلَمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ الْمَوَاشِيَ لَوْ كَانَتْ كِرَامَ السِّنِّ لَمْ يَلْزَمْهُ إِخْرَاجُ الزَّكَاةِ لَئِيمًا . قِيلَ : هَذَا حُجَّتُنَا لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَخْذُ الرَّدِيءِ مِنَ الْمَالِ الَّذِي لَا يُؤْخَذُ مِنْ جَيِّدِهِ الدُّونُ ، فَلَأَنْ يَجُوزَ أَخْذُ الدُّونِ مِنَ الْمَالِ الَّذِي يَجُوزُ أَخْذُ الدُّونِ مِنْ جَيِّدِهِ أَوْلَى ، فَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " حَقُّنَا فِي الْجَذَعَةِ وَالثَّنِيَّةِ " فَمَحْمُولٌ عَلَى الْمَالِ الَّذِي فِيهِ جَذَعَةٌ أَوْ ثَنِيَّةٌ ، وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " اعْتَدَّ عَلَيْهِمْ بِالسَّخْلَةِ وَلَا تَأْخُذْهَا " فَقَدْ قَالَ " وَلَا تَأْخُذِ الْأَكُولَةَ " ثُمَّ قَالَ : وَذَلِكَ عَدْلٌ بَيْنَ عَدَا الْمَالِ وَخِيَارِهِ ، فَأَخْبَرَ أَنَّ الْفَرْضَ الْمَطْلُوبَ هُوَ وَسَطُ الْمَالِ ، وَلَيْسَ أَخْذُ الْكِبَارِ مِنَ الصِّغَارِ وَسَطًا ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَرْتَفِقُ بِرَبِّ الْمَالِ بِمَا لَا يَرْتَفِقُ الْمَسَاكِينُ بِمِثْلِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ مَاشِيَتُهُ حَوَامِلَ لَمْ يُكَلَّفِ الزَّكَاةَ مِنْهَا رِفْقًا بِهِ ، وَلَيْسَ يَرْتَفِقُ الْمَسَاكِينُ بِمِثْلِهِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ أَخْذِ السَّخْلَةِ مِنَ السِّخَالِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَجَاءَ الْمُصَدِّقُ وَهُوَ أَرْبَعُونَ جَدْيًا أَوْ بَهْمَةً ، أَوْ بَيْنَ جَدْيٍ وَبَهْمَةٍ أَوْ كَانَ هَذَا فِي إِبِلٍ ، فَجَاءَ الْمُصَدِّقُ وَهِيَ فِصَالٌ ، أَوْ فِي بَقَرٍ وَهِيَ عُجُولٌ ، أَخَذَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنْ هَذَا ، فَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَنَصُّهُ ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَصْحَابُهُ أَنَّ مَحَلَّ الْغَنَمِ يُؤْخَذُ مِنْهَا سَخْلَةٌ ، وَلَمْ يُكَلَّفْ عَنْهَا كَبِيرَةً ، فَلَوْ كَانَ مَالُهُ أَرْبَعِينَ سَخْلَةً مِنْ نِتَاجِ يَوْمِهَا وَحَالَ حَوْلُهَا أُخِذَتْ زَكَاتُهَا سَخْلَةً مِنْهَا ، وَلَوْ كَانَتْ مِائَةً وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ أُخِذَتْ زَكَاتُهَا سَخْلَتَانِ مِنْهَا ، فَأَمَّا الْإِبِلُ إِذَا كَانَتْ فِصَالًا وَالْبَقَرُ إِذَا كَانَتْ عُجُولًا ، فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ أَنَّهَا كَالْغَنَمِ ، فَيُؤْخَذُ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ فَصِيلًا فَصِيلٌ ، وَمِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ فَصِيلًا فَصِيلٌ ، وَمِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ فَصِيلًا فَصِيلٌ ، وَمِنْ أَحَدٍ وَسِتِّينَ فَصِيلًا فَصِيلٌ ، وَمِنْ سِتٍّ وَسَبْعِينَ فَصِيلًا فَصِيلَانِ ، وَيُؤْخَذُ مِنْ ثَلَاثِينَ عِجْلًا عِجْلٌ ، وَمِنْ أَرْبَعِينَ عِجْلًا عِجْلٌ ، وَمِنْ سِتِّينَ عِجْلًا عِجْلَانِ ، وَمِنْ سَبْعِينَ عِجْلًا عِجْلَانِ ، ثُمَّ هَكَذَا فِيمَا زَادَ وَنَقَصَ قِيَاسًا عَلَى الْغَنَمِ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : أَنَّ حُكْمَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الْغَنَمِ ، فَلَا يُؤْخَذُ مِنْ فُصْلَانِ الْإِبِلِ وَعُجُولِ الْبَقَرِ فَصِيلٌ وَلَا عِجْلٌ بِحَالٍ ، بَلْ يُؤْخَذُ مِنْهَا السِّنُّ الْوَاجِبُ لِقِيمَةِ مَالِهِ ، مِثَالُ ذَلِكَ : أَنْ يَكُونَ مَعَهُ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ بَعِيرًا ، فَالْوَاجِبُ فِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ فَيُقَالُ : لَوْ كَانَتْ كِبَارًا وَكَانَتْ قِيمَتُهَا مِائَةَ دِينَارٍ لَوَجَبَ فِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ قِيمَتُهَا خَمْسَةُ دَنَانِيرَ ، وَذَلِكَ نِصْفُ عُشْرِ الْمَالِ فَوَجَبَ إِذَا كَانَتْ فِصَالًا قِيمَتُهَا عِشْرُونَ دِينَارًا أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهَا بِنْتُ مَخَاضٍ قِيمَتُهَا دِينَارٌ ، لِتَكُونَ الزَّكَاةُ بِقَدْرِ نِصْفِ عُشْرِ الْمَالِ ، ثُمَّ كَذَلِكَ الْبَقَرُ ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْغَنَمِ وَبَيْنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ ، بِفَرْقَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ أَسْنَانَ فَرَائِضِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فَلَمْ يَجُزْ تَرْكُهُ لِمُخَالَفَةِ النَّصِّ ، وَأَسْنَانَ فَرَائِضِ الْغَنَمِ لَمْ يَرِدِ النَّصُّ بِهِ ، كَوُرُودِهِ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ ، فَجَازَ تَرْكُهُ عِنْدَ فَقْدِهِ . وَالْفَرْقُ الثَّانِي : وَهُوَ الْعُمْدَةُ : أَنَّ فَرَائِضَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ تَتَغَيَّرُ بِزِيَادَةِ السِّنِّ ، وَفَرَائِضَ الْغَنَمِ تَتَغَيَّرُ بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ صِغَارِ الْإِبِلِ صَغِيرٌ ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَسْوِيَةً بَيْنَ قَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ ، وَجَازَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ صِغَارِ الْغَنَمِ صَغِيرٌ ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَوِي فَرْضُ قَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ ، وَتَأَوَّلُوا قَوْلَ الشَّافِعِيِّ عَلَى مَا تَمَهَّدَ مِنْ أُصُولِهِ وَتَقَرَّرَ مِنْ مَذْهَبِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : وَهُوَ ضَعِيفٌ : أَنَّ مَا كَانَ مِنَ الْإِبِلِ يَتَغَيَّرُ فَرْضُهَا بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ لَا بِزِيَادَةِ السِّنِّ فَهِيَ كَالْغَنَمِ يُؤْخَذُ مِنْ صِغَارِهَا صَغِيرٌ كَالسِّتَّةِ وَالسَّبْعِينَ وَالْإِحْدَى وَالتِّسْعِينَ ، وَمَا كَانَ مِنْهَا يَتَغَيَّرُ فَرْضُهَا بِزِيَادَةِ السِّنِّ لَا بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهَا صَغِيرٌ ، كَالسِّتَّةِ وَالثَّلَاثِينَ وَالسِّتَّةِ وَالْأَرْبَعِينَ ، وَمِنْهَا مَذْهَبٌ لَا يَتَحَصَّلُ لِوُضُوحِ فَسَادِهِ مِنَ الِاعْتِبَارِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ كَانَتْ ضَأْنًا وَمَعِزًا كَانَتْ سَوَاءً أَوْ بَقَرًا وَجَوَامِيسَ وَعِرَابًا وَدَرْبَانِيَّةً وَإِبِلًا مُخْتَلِفَةً فَالْقِيَاسُ أَنْ نَأْخُذَ مِنْ كُلٍّ بَقَدْرِ حِصَّتِهِ ، فَإِنْ كَانَ إِبِلُهُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ عَشْرٌ مَهْرِيَّةٌ وَعَشْرٌ أَرْحَبِيَّةٌ وَخَمْسٌ عِيدِيَّةٌ فَمَنْ قَالَ يَأْخُذُ مِنْ كُلٍّ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ قَالَ يَأْخُذُ ابْنَةَ مَخَاضٍ بِقِيمَةِ خُمُسَيْ مَهْرِيَّةٍ وَخُمْسَيْ أَرْحَبِيَّةٍ وَخُمْسَ عِيدِيَّةٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا إِنْ كَانَتْ مَاشِيَتُهُ نَوْعًا وَاحِدًا لَا تَخْتَلِفُ وَلَا تَتَنَوَّعُ فَالْوَاجِبُ أَنْ تُؤْخَذَ زَكَاتُهُ مِنْهَا جَيِّدًا كَانَ أَوْ رَدِيئًا ، فَإِنْ أَعْطَى عَنِ الْجَيِّدِ رَدِيئًا لَمْ يُقْبَلْ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ ، [ الْبَقَرَةِ : ] وَإِنْ كَانَ مَالُهُ أَنْوَاعًا مُخْتَلِفَةً كَأَنْ كَانَتْ غَنَمًا بَعْضُهَا ضَأْنٌ ، وَبَعْضُهَا مِعْزَى ، أَوْ كَانَتْ إِبِلًا بَعْضُهَا مَهْرِيَّةٌ وَبَعْضُهَا أَرْحَبِيَّةٌ ، أَوْ كَانَتْ بَقَرًا بَعْضُهَا دَرْبَانِيَّةٌ وَبَعْضُهَا عِرَابٌ ، فَذَلِكَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَسْتَوِيَ النَّوْعَانِ فِي الْعَدَدِ .
وَالثَّانِي : أَنْ يَتَفَاضَلَ النَّوْعَانِ فِي الْعَدَدِ ، فَإِنِ اسْتَوَى النَّوْعَانِ فِي الْعَدَدِ ، فَكَانَ مَعَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً عِشْرُونَ مِنْهَا ضَأْنٌ ، وَعِشْرُونَ مِنْهَا مِعْزَى ، فَعَلَيْهِ إِخْرَاجُ شَاةٍ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ ، كَأَنَّا نَقُولُ : قِيمَةُ جَذَعَةٍ مِنَ الضَّأْنِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ ، وَقِيمَةُ ثَنِيَّةٍ مِنَ الْمِعْزَى عِشْرُونَ دِرْهَمًا فَتُؤْخَذُ نِصْفُ الْقِيمَتَيْنِ فَتَكُونُ خَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا ، إِمَّا جَذَعَةً مِنَ الضَّأْنِ أَوْ ثَنِيَّةً مِنَ الْمِعْزَى ، وَكَذَلِكَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ ، وَإِنْ تَفَاضَلَ النَّوْعَانِ فِي الْعَدَدِ فَكَانَ مَعَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً ، ثَلَاثُونَ مِنْهَا ضَأْنٌ وَعَشْرٌ مِعْزَى ، أَوْ كَانَتْ إِبِلًا أَوْ بَقَرًا مُخْتَلِفَةَ الْأَنْوَاعِ مُتَفَاضِلَةَ الْأَعْدَادِ ، فَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : تُؤْخَذُ زَكَاتُهَا مِنَ الْأَغْلَبِ وَالْأَكْثَرِ اعْتِبَارًا بِمَا تَمَهَّدَ مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ ، فَيَقْضِي عَلَى الْعَدْلِ بِغَالِبِ أَحْوَالِهِ وَإِنْ أَسَاءَ عَلَى الْغَالِبِ بِغَالِبِ فِسْقِهِ ، وَإِنْ أَحْسَنَ ، وَكَمَا تُؤْخَذُ الزَّكَاةُ مِنَ السَّائِمَةِ وَإِنْ عُلِفَتْ فِي الْحَوْلِ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ اعْتِبَارًا بِالْغَالِبِ ، وَلِأَنَّ فِي إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ مِنْ سَائِرِ أَنْوَاعِهَا مَشَقَّةً لَاحِقَةً بِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ يُخْرِجُ مِنْ مَوْضُوعِ الْمُوَاسَاةِ ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تُخْرَجُ الزَّكَاةُ مِنْ غَالِبِ مَالِهِ جَيِّدًا كَانَ الْغَالِبُ أَوْ رَدِيئًا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ : أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ بِحِسَابِهِ عَلَى اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ ، لِيَقَعَ الِاشْتِرَاكُ فِي النَّقْصِ وَالْكَمَالِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمَسَاكِينِ شَائِعٌ فِي الْجُمْلَةِ ، وَلَيْسَ أَحَدُ الْأَنْوَاعِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ ، وَلِأَنَّا إِذَا عَلَّقْنَا ذَلِكَ بِالْأَكْثَرِ لَمْ يُؤْمَنْ أَنْ يَكُونَ خِيَارُهُ فِي الْأَقَلِّ ، فَنَكُونُ قَدْ بَخَسْنَا الْمَسَاكِينَ حَقَّهُمْ وَأَبَحْنَا رَبَّ الْمَالِ إِعْطَاءَ خَبِيثِ مَالِهِ ، وَهَذَا خُرُوجٌ عَنِ النَّصِّ الْمَانِعِ مِنْ ذَلِكَ ، وَقِيَاسًا عَلَى مَا لَمْ يَخْتَلِفْ مَذْهَبُهُ فِيهِ مِنَ الْفِضَّةِ إِذَا وَجَبَتْ فَكَانَ بَعْضُهَا جَيِّدًا وَبَعْضُهَا رَدِيئًا لَزِمَ إِخْرَاجُ زَكَاتِهَا مِنْ سَائِرِ أَنْوَاعِهَا دُونَ غَالِبِهَا ، كَذَلِكَ فِي الْمَاشِيَةِ ، وَيَجُوزُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ جِنْسٌ قَدِ اخْتَلَفَتْ أَنْوَاعُهُ فَوَجَبَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ بِحِصَّتِهِ كَالْفِضَّةِ ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا اعْتِبَارَ بِالْغَالِبِ وَيُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ بِحِسَابِهِ وَقِسْطِهِ ، مِثَالُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ مِنَ الْإِبِلِ ، عَشَرَةٌ مِنْهَا مَهْرِيَةٌ ، وَعَشَرَةٌ أَرْحَبِيَّةٌ ، وَخَمْسَةٌ مُحْتَدِيَةٌ ، فَقَالَ : قِيمَةُ بِنْتِ مَخَاضٍ مَهْرِيَّةٍ ثَلَاثُونَ دِينَارًا فَيُؤْخَذُ خُمُسَاهَا ؛ لِأَنَّ خُمُسَيْ إِبِلِهِ مَهْرِيَّةٌ فَيَكُونُ اثْنَيْ عَشَرَ دِينَارًا ، وَيُقَالُ : قِيمَةُ بِنْتِ مَخَاضٍ أَرْحَبِيَّةٍ عِشْرُونَ دِينَارًا ، فَيُؤْخَذُ خُمُسَاهَا ؛ لِأَنَّ خُمْسَيْ إِبِلِهِ أَرْحَبِيَّةٌ فَيَكُونُ ثَمَانِيَةَ دَنَانِيرَ وَيُقَالُ : قِيمَةُ بِنْتِ مَخَاضٍ مُحْتَدِيَةٍ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ فَيُؤْخَذُ خُمُسُهَا ؛ لِأَنَّ خُمُسَ إِبِلِهِ مُحْتَدِيَةٌ فَيَكُونُ دِينَارَيْنِ ، ثُمَّ تُجْمَعُ الِاثْنَيْ عَشْرَ وَالثَّمَانِيَةَ وَالدِّينَارَيْنِ فَيَكُونُ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ ، فَيُؤْخَذُ مِنْ بِنْتِ مَخَاضٍ بِقِيمَةِ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ دِينَارًا ، إِمَّا مَهَرِّيَةً أَوْ أَرْحَبِيَّةً ، أَوْ مُحْتَدِيَةً ، ثُمَّ كَذَلِكَ فِي الْبَقَرِ وَفِيمَا زَادَ أَوْ نَقَصَ مِنَ الْإِبِلِ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ أَدَّى فِي أَحَدِ الْبَلَدَيْنِ عَنِ الْأَرْبَعِينَ شَاةً مُتَفَرِّقَةً كَرِهْتُ ذَلِكَ وَأَجْزَأَهُ ، وَعَلَى صَاحِبِ الْبَلَدِ الْآخَرِ أَنْ يُصَدِّقَهُ فَإِنِ اتَّهَمَهُ أَحْلَفَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الزَّكَاةُ إخراجها في بلد المال فَلَا يَجُوزُ إِخْرَاجُهَا إِلَّا فِي بَلَدِ الْمَالِ وَجِيرَانِهِ سَوَاءٌ كَانَ رَبُّ الْمَالِ مُقِيمًا أَوْ بَائِنًا عَنْهُ ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الزَّكَاةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ فَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ " فَإِنْ أَخْرَجَ زَكَاةَ مَالِهِ فِي غَيْرِ بَلَدِهِ وَجِيرَانِهِ ، كَانَ مُسِيئًا ، وَفِي الْآخَرِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يُجْزِئُهُ . وَالثَّانِي : لَا يُجْزِئُهُ وَسَنَذْكُرُ تَوْجِيهَ الْقَوْلَيْنِ فِي مَوْضِعِهِمَا مِنْ كِتَابِ قَسْمِ الصَّدَقَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ . فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فَصُورَةُ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فِي رَجُلٍ مَعَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً عِشْرُونَ مِنْهَا بِالْبَصْرَةِ وَعِشْرُونَ بِبَغْدَادَ ، فَعَلَيْهِ إِخْرَاجُ نِصْفِ شَاةٍ بِالْبَصْرَةِ عَنِ الْعِشْرِينَ الَّتِي بِهَا ، وَنِصْفِ شَاةٍ بِبَغْدَادَ عَنِ الْعِشْرِينَ الَّتِي بِهَا ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى إِخْرَاجِ نِصْفِ شَاةِ بِاقِيهَا لِلْفُقَرَاءِ أَوِ الْمَسَاكِينِ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ أَجْزَأَهُ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ فَأَخْرَجَ نِصْفَ شَاةِ بِاقِيهَا لَهُ أَوْ لِرَجُلٍ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ أَوْ فَعَلَ ذَلِكَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى مَا سِوَاهُ ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ وَلَا اعْتِبَارَ بِوَصْفِ مَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إِخْرَاجُهُ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : لَا يُجْزِيهِ حَتَّى يَكُونَ بَاقِي الشَّاةِ مِلْكًا لِأَهْلِ الصَّدَقَاتِ فَيَكْمُلُ لَهُمْ نَفْعُهَا ؛ لِأَنَّ فِي تَبْعِيضِ الشَّاةِ إِيقَاعَ ضَرَرِهِمْ ، وَإِدْخَالَ نَقْصٍ فِي حَقِّهِمْ ، وَهَذَا تَعَسُّفٌ يُؤَدِّي إِلَى تَكْلِيفِ مَا يَتَعَذَّرُ ، وَاعْتِبَارُ وَصْفِ مَا لَا يَلْزَمُ ، فَإِنْ عَدَلَ عَنْ جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا وَأَخْرَجَ شَاةً كَامِلَةً فِي أَحَدِ الْبَلَدَيْنِ عَنْ جَمِيعِ الْمَالَيْنِ فَقَدْ أَجْزَأَهُ نِصْفُهَا عَمَّا فِيهِ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي إِجْزَاءِ النِّصْفِ الْآخَرِ ، فَكَانَ ابْنُ الْوَكِيلِ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يُخَرِّجُونَ ذَلِكَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ فِي نَقْلِ الزَّكَاةِ مِنْ بَلَدِ الْمَالِ إِلَى غَيْرِهِ ، أَحَدُهُمَا يُجْزِئُهُ ، وَالثَّانِي لَا يُجْزِئُهُ ، وَكَانَ بَاقِي أَصْحَابِنَا يَقُولُونَ : يُجْزِئُهُ ذَلِكَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا : لِأَنَّ فِي تَبْعِيضِ الشَّاةِ مَشَقَّةً لَاحِقَةً ، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ وَالِي الْبَلَدَيْنِ وَاحِدًا أَوِ اثْنَيْنِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ طَالَبَهُ وَالِي الْبَلَدِ الْآخَرِ بِأَدَاءِ زَكَاتِهِ فَأَخْبَرَهُ بِأَدَائِهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ، فَإِنْ صَدَّقَهُ لَمْ يُحَلِّفْهُ ، وَإِنِ اتَّهَمَهُ أَحْلَفَهُ ، وَفِي هَذِهِ الْيَمِينِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : اسْتِظْهَارٌ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ نَكَلَ عَنْهَا لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُ الزَّكَاةُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا وَاجِبَةٌ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ نَكَلَ عَنْهَا أُخِذَتْ مِنْهُ الزَّكَاةُ لَا بِنُكُولِهِ وَلَكِنْ بِالظَّاهِرِ الْمُتَقَدِّمِ ، وَإِنَّ مَا ادَّعَاهُ مِنَ الْأَدَاءِ مُخَالِفٌ لَهُ . وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ : لَا يَجُوزُ أَنْ تُؤْخَذَ مِنْهُ الزَّكَاةُ بِنُكُولِهِ ، لَكِنْ يُحْبَسُ حَتَّى يَحْلِفَ ، أَوْ يُؤَدِّيَ ؛ لِأَنَّ فِي أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْهُ حُكْمًا عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ غَلَطٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ وَعَلَى نَفْسِهِ ، فَأَمَّا غَلَطُهُ عَلَى الشَّافِعِيِّ ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ خَالَفَ نَصَّ مَذْهَبِهِ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ جَهِلَ تَعْلِيلَ قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْهُ الظَّاهِرُ الْمُتَقَدِّمُ لَا النُّكُولُ الطَّارِئُ ، وَأَمَّا غَلَطُهُ عَلَى نَفْسِهِ فَإِنَّهُ أَوْجَبَ حَبْسَ رَبِّ الْمَالِ بِنُكُولِهِ ، وَالنُّكُولُ لَا يُوجِبُ الْحَبْسَ ، كَمَا لَا يُوجِبُ الْحُكْمَ بِالْحَقِّ فَكَانَ مَا ارْتَكَبَهُ مُسَاوِيًا لِمِثْلِ مَا أَذْكُرُهُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ قَالَ الْمُصَدِّقُ : هِيَ وَدِيعَةٌ أَوْ لَمْ يَحُلْ عَلَيْهَا الْحَوْلُ صَدَّقَهُ وَإِنِ اتَّهَمَهُ أَحْلَفَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَصْلُ هَذَا أَنْ لَا زَكَاةَ عَلَى مَنْ بِيَدِهِ مَالٌ إِلَّا بِأَوْصَافٍ وَرَدَ بِهَا الشَّرْعُ مِنْهَا الْمِلْكُ وَالسَّوْمُ وَالْحَوْلُ أوصاف موجبة لزكاة الأنعام ، فَإِذَا كَانَ بِيَدِ رَجُلٍ أَرْبَعُونَ مِنَ الْغَنَمِ فَطَالَبَهُ السَّاعِي بِزَكَاتِهَا ، فَذَكَرَ أَنَّهَا لَيْسَتْ لَهُ وَإِنَّهَا بِيَدِهِ وَدِيعَةٌ فَيَنْبَغِي لِلسَّاعِي أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْ مَالِكِهَا ، فَإِنْ أَخْبَرَ بِهِ وَوَقَعَ فِي نَفْسِ السَّاعِي صِدْقُ قَوْلِهِ لَمْ يُحَلِّفْهُ ، لِأَنَّهُ أَمِينٌ مُصَدَّقٌ ، وَإِنِ اتَّهَمَهُ وَارْتَابَ بِقَوْلِهِ أَحْلَفَهُ اسْتِظْهَارًا وَجْهًا وَاحِدًا ، لِأَنَّهُ أَمِينٌ قَدِ اسْتَنَدَ إِلَى ظَاهِرٍ ، فَإِنِ امْتَنَعَ مِنَ الْإِخْبَارِ بِمَالِكِهَا فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ قَوْلَهُ مَقْبُولٌ وَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ ، فَإِنْ صُدِّقَ لَمْ يُحَلَّفْ وَإِنِ اتُّهِمَ أُحْلِفَ اسْتِظْهَارًا كَمَا لَوْ أَخْبَرَ بِمَالِكِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ ضَعِيفٌ ، يُؤْخَذُ مِنْهُ الزَّكَاةُ إِذَا امْتَنَعَ مِنَ الْإِخْبَارِ بِمَالِكِهَا ؛ لِأَنَّ لِلْيَدِ ظَاهِرًا يَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ ، وَهَذَا غَلَطٌ ؛ لِأَنَّ الْيَدَ تَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ إِذَا اعْتُبِرَتْ بِدَعْوَى صَاحِبِ الْيَدِ ، فَأَمَّا مَعَ إِنْكَارِهِ فَلَا اعْتِبَارَ بِيَدِهِ ، وَلَوْ قَالَ صَاحِبُ الْيَدِ : هِيَ مِلْكِي لَكِنْ لَمْ يَحُلْ عَلَيْهَا الْحَوْلُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ، وَإِنْ صَدَّقَهُ السَّاعِي فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ ، وَإِنِ اتَّهَمَهُ أَحْلَفَهُ اسْتِظْهَارًا ، لِأَنَّهُ فِي إِنْكَارِ الْمِلْكِ وَالْحَوْلِ وَالسَّوْمِ يَرْجِعُ إِلَى ظَاهِرٍ يُعَاضِدُ قَوْلَهُ مِنْ غَيْرِ إِقْرَارٍ يُقَدَّمُ بِالْوُجُوبِ ، فَلِذَلِكَ كَانَتِ الْيَمِينُ فِيهِ اسْتِظْهَارًا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ شَهِدَ الْشَاهِدَانِ أَنَّ لَهُ هَذِهِ الْمِائَةَ بِعَيْنِهَا مِنْ رَأْسِ الْحَوْلِ فَقَالَ : قَدْ ثُمَّ بِعْتُهَا اشْتَرَيْتُهَا صَدَّقَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ مَعَهُ أَرْبَعُونَ مِنَ الْغَنَمِ طَالَبَهُ السَّاعِي بِزَكَاتِهَا ، فَذَكَرَ أَنَّ حَوْلَهَا لَمْ يَحُلْ فَقَبِلَ السَّاعِي قَوْلَهُ ، ثُمَّ إِنَّ شَاهِدَيْنِ شَهِدَا عَلَيْهِ أَنَّهَا كَانَتْ مَعَهُ مِنْ أَوَّلِ الْحَوْلِ إِلَى آخِرِهِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا أَقْبَلُ شَهَادَتَهُمَا حَتَّى يَقْطَعَا الشَّهَادَةَ عَلَيْهَا بِأَعْيَانِهَا بِأَنْ يَقُولَا : كَانَتْ هَذِهِ الْغَنَمُ وَيُشِيرَا إِلَيْهَا لِهَذَا الرَّجُلِ وَيُشِيرَا إِلَيْهِ مِنْ أَوَّلِ الْحَوْلِ إِلَى آخِرِهِ ، فَإِنْ زَادَا أَوْ تَمَّمَا الشَّهَادَةَ لَوْ قَالَا لَا نَعْلَمُ أَنَّهَا خَرَجَتْ عَنْ مِلْكِهِ كَانَ أَحْوَطَ ، فَإِنْ صَحَّتْ شَهَادَتُهُمَا فَعَلَى السَّاعِي أَنْ يَرْجِعَ
إِلَى رَبِّهَا فَيُطَالِبُهُ بِزَكَاتِهَا ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ الْعَادِلَةَ خَيْرٌ مِنَ الدَّعْوَى الْكَاذِبَةِ وَالْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ ، فَإِنْ قِيلَ : وَلِمَ أَجَزْتُمْ شَهَادَتَهُمَا وَقَدْ شَهِدَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسْتَشْهَدَا ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَرْنِي الَّذِي أَنَا فِيهِمْ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ ، الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثَمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ فِي النَّاسِ حَتَى يَشْهَدَ الشُّهُودُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُسْتَشْهَدُوا " . قِيلَ : إِنَّمَا اجْتُزِينَا بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ ؛ لِأَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى يَسْتَوِي فِيهِ الشَّاهِدُ وَالْمُطَالِبُ فَحَسُنَ أَنْ يَشْهَدَ فِيهِ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ ، وَكَذَلِكَ حُقُوقُ الْأَيْتَامِ وَالضُّعَفَاءِ وَمَنْ لَا نَاصِرَ لَهُ وَلَا مُعَاضِدَ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " خَيْرُ الشَّهَادَةِ مَا شَهِدَ بِهِ الشُّهُودُ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدُوا فِيهَا " ، فَكَانَ هَذَا الْحَدِيثُ مُوَافِقًا لِمَعْنَى مَا ذَكَرْنَا ، وَيُحْمَلُ ذَلِكَ الْحَدِيثُ عَلَى دَعَاوَى الْخُصُومِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ ، فَيَكُونُ الْحَدِيثَانِ مَعًا مُسْتَعْمَلَيْنِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَمَا تَقُولُونَ فِي الشَّاهِدَيْنِ إِنْ كَانَا فَقِيرَيْنِ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا أَمْ لَا ؟ قِيلَ : إِنْ كَانَا مِنْ جِيرَانِ الْمَالِكِ وَأَهْلِهِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا لِأَنَّهُمَا قَدْ يُتَّهَمَانِ أَنْ يَجُرَّا بِالشَّهَادَةِ نَفْعًا إِلَى أَنْفُسِهِمَا ، وَقَدْ وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْخَائِنِ وَلَا ذِي غَمْرٍ ، وَلَا شَهَادَةُ الْقَانِعِ لِأَهْلِ الْبَيْتِ " يَعْنِي بِذِي الْغَمْرِ الْعَدُوَّ ، وَالْقَانِعُ : السَّائِلُ لِأَهْلِ الْبَيْتِ الَّذِينَ كَانُوا يَتَعَاهَدُونَهُ بِالْبِرِّ وَالصَّدَقَةِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِيرَانِ الْمَالِكِ ، وَمِمَّنْ لَا تُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا تِلْكَ الزَّكَاةُ لِبُعْدِهِمَا ، فَفِي قَبُولِ شَهَادَتِهِمَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : تُقْبَلُ لِانْتِفَاءِ الرِّيبَةِ عَنْهُمَا . وَالثَّانِي : لَا تُقْبَلُ خَوْفًا مِنَ التُّهْمَةِ بِأَنْ تَئُولَ الصَّدَقَةُ إِلَيْهِمَا ، فَإِذَا قَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ الْعَادِلَةُ بِأَنَّهَا فِي يَدِهِ مِنْ أَوَّلِ الْحَوْلِ إِلَى آخِرِهِ زكاة الغنم ، طُولِبَ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ ، فَإِنْ أَكْذَبَ الْبَيِّنَةَ لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَى إِكْذَابِهِ ، وَأُخِذَتْ مِنْهُ الزَّكَاةُ جَبْرًا ، وَإِنْ أَصْدَقَ الْبَيِّنَةَ وَادَّعَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ بَاعَهَا فِي تَضَاعِيفِ الْحَوْلِ شِرَاءً ثُمَّ ابْتَاعَهَا زكاة الغنم فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ، لِأَنَّهُ أَمِينٌ وَمَا قَالَهُ مُحْتَمَلٌ . لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ هَذِهِ الدَّعْوَى تُوَافِقُ الظَّاهِرَ أَوْ تُخَالِفُهُ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا مُوَافِقَةٌ لِلظَّاهِرِ ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْيَمِينُ اسْتِظْهَارًا ، فَإِنْ نَكَلَ عَنْهَا لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُ الزَّكَاةُ . وَالثَّانِي : وَاجِبَةٌ فَإِنْ نَكَلَ عَنْهَا أُخِذَتْ مِنْهُ الزَّكَاةُ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ مَرَّتْ بِهِ سَنَةٌ وَهِيَ أَرْبَعُونَ فَنَتَجَتْ شَاةٌ فَحَالَتْ عَلَيْهَا سَنَةٌ ثَانِيَةٌ وَهِيَ إِحْدَى وَأَرْبَعُونَ فَنَتَجَتْ شَاةٌ فَحَالَتْ عَلَيْهَا سَنَةٌ ثَالِثَةٌ وَهِيَ اثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ فَعَلَيْهِ ثَلَاثُ شِيَاهٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَنَظَائِرِهَا وَمَا بُنِيَ عَلَيْهِ سَائِرُ فُرُوعِهَا ، اخْتِلَافُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي الزَّكَاةِ ، هَلْ تَجِبُ فِي الْعَيْنِ أَوْ فِي الذِّمَّةِ ، وَلَهُ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ أَنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِي ذِمَّةِ الْمَالِكِ لَا فِي عَيْنِ مَالِهِ . وَوَجْهُ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فِي خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ شَاةٌ وَلَيْسَتِ الشَّاةُ فِي عَيْنِ الْمَالِ ، فَدَلَّ عَلَى ثُبُوتِهَا فِي الذِّمَّةِ ، وَلِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ فِي الْمَالِ وَكَانَ الْمَسَاكِينُ فِيهَا شُرَكَاءُ لَمْ يَكُنْ لِرَبِّ الْمَالِ إِبْطَالُ شَرِكَتِهِمْ وَالِانْتِقَالُ مِنْ عَيْنِ الْمَالِ إِلَى غَيْرِهِ إِلَّا بِاخْتِيَارِهِمْ ، كَسَائِرِ الشُّرَكَاءِ فِي غَيْرِ الزَّكَاةِ ، فَلَمَّا كَانَ لَهُ الِانْتِقَالُ مِنْ عَيْنِ الْمَالِ وَإِخْرَاجِ الزَّكَاةِ مِنْ غَيْرِهِ ، دَلَّ عَلَى وُجُوبِهَا فِي ذِمَّتِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ الصَّحِيحُ وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ وَأَشَارَ إِلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ : إِنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِي عَيْنِ الْمَالِ لَا فِي الذِّمَّةِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ، [ الْمَعَارِجِ : ] ، فَاقْتَضَى كَلَامُهُ هَذَا اللَّفْظَ وَصَرِيحُهُ إِيجَابُ الزَّكَاةِ فِي عَيْنِ الْمَالِ دُونَ ذِمَّةِ رَبِّهِ . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ " فَأَوْجَبَ الشَّاةَ فِي عَيْنِهَا وَلَمْ يُوجِبْهَا فِي ذِمَّةِ رَبِّهَا ، وَلِأَنَّ كُلَّ حَقٍّ ثَابِتٍ فِي الذِّمَّةِ لَا يَبْطُلُ بِتَلَفِ الْمَالِ ، كَالدَّيْنِ وَالْفَرْضِ ، وَكُلَّ حَقٍّ تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ يَبْطُلُ بِتَلَفِ الْمَالِ كَالْوَدِيعَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَأَرْشِ الْجِنَايَةِ ، فَلَمَّا بَطَلَتِ الزَّكَاةُ بِتَلَفِ الْمَالِ بَعْدَ الْحَوْلِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ وَلَا تَقْصِيرٍ ، دَلَّ عَلَى وُجُوبِهَا فِي عَيْنِ الْمَالِ دُونَ ذِمَّةِ الْمَالِكِ .
فَصْلٌ : قَالَ فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الذِّمَّةِ أَوْ فِي الْعَيْنِ ، فَعَلَى الْقَوْلِ الْقَدِيمِ : إِنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِي الذِّمَّةِ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلِ الْعَيْنُ مُرْتَهَنَةٌ بالزكاة بِهَا أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْعَيْنِ فِي الْوُجُوبِ ، وَلَا تَكُونُ الْعَيْنُ مُرْتَهَنَةً بِهَا ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ لَوْ كَانَتْ مُرْتَهَنَةً بِهَا مَا جَازَ تَصَرُّفُهُ فِي الْعَيْنِ قَبْلَ أَدَاءِ زَكَاتِهَا ، كَمَا لَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فِي الرَّهْنِ قَبْلَ نِكَاحِهِ ، فَلَمَّا جَازَ تَصَرُّفُهُ فِيهَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا تَعَلُّقَ لِلْوُجُوبِ بِهَا ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ وَعَلَيْهِ فَرَّعَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الْعَيْنَ مُرْتَهَنَةٌ بِمَا وَجَبَ فِي الذِّمَّةِ ، كَالْعَبْدِ الْجَانِي رَقَبَتُهُ مُرْتَهَنَةٌ بِجِنَايَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ لِلسَّيِّدِ أَدَاءُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ رَقَبَتِهِ ، فَإِنْ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ مِنْ مَالِهِ ، وَإِلَّا أَخَذَ السَّاعِي ذَلِكَ مِنْ عَيْنِ الْمَالِ ، وَبِذَلِكَ جَرَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَسِيرَةُ خُلَفَائِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، فَأَمَّا عَلَى الْجَدِيدِ : أَنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِي الْعَيْنِ فَفِي كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهَا قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : وُجُوبُ اسْتِحْقَاقٍ وَمِلْكٍ فَيَكُونُ الْفَرْضُ الْوَاجِبُ مِلْكًا لِلْمَسَاكِينِ هُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ ، لَكِنْ سُومِحَ رَبُّ الْمَالِ بِأَنْ أُبِيحَ لَهُ إِعْطَاءُ الْبَدَلِ عَنْهُ مِنْ غَيْرِهِ ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ مَالُ الْغَنِيمَةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وُجُوبٌ مُرَاعًى لَا وُجُوبَ اسْتِحْقَاقٍ ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ تَعَلُّقُ الْجِنَايَةِ بِثَمَنِ الْعَبْدِ وَإِثْبَاتُ الْخِيَارِ لِمَالِكِهِ ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : فَإِذَا وَضَحَ مَا ذَكَرْنَا وَتَمَهَّدَ مَا قَرَّرْنَا وَكَانَ مَعَ رَجُلٍ أَرْبَعُونَ مِنَ الْغَنَمِ لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ ، فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِي الْعَيْنِ وُجُوبَ اسْتِحْقَاقٍ وَمِلْكٍ ، فَعَلَيْهِ شَاةٌ وَاحِدَةٌ لِلسَّنَةِ الْأُولَى وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِلسَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ ؛ لِنُقْصَانِهَا عَنِ النِّصَابِ . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ فِي الْعَيْنِ وُجُوبًا مُرَاعًى نَظَرْتَ فَإِنْ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ مِنْ عَيْنِ الْمَالِ فَعَلَيْهِ زَكَاةُ سَنَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَإِنْ أَخْرَجَ مِنْ غَيْرِهِ فَعَلَيْهِ زَكَاةُ السِّنِينَ الثَّلَاثِ ، وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِي الذِّمَّةِ ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا يَمْلِكُ غَيْرَ هَذِهِ الْغَنَمِ مِنْ عَرَضٍ أَوْ عَقَارٍ فَعَلَيْهِ ثَلَاثُ شِيَاهٍ لِلسِّنِينَ الثَّلَاثِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَمْلِكُ غَيْرَ هَذِهِ الْغَنَمِ فَفِي قَدْرِ مَا عَلَيْهِ مِنَ الزَّكَاةِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَنْ مَعَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَعَلَيْهِ مِثْلُهَا هَلْ عَلَيْهِ زَكَاتُهَا أَمْ لَا ؟ فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ : لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يُخْرِجُ ثَلَاثَ شِيَاهٍ لِلسِّنِينَ الثَّلَاثِ ، فَصَارَ فِيمَا يَلْزَمُهُ مِنْ زَكَاتِهَا أَرْبَعَةُ أَقَاوِيلَ . أَحَدُهَا : زَكَاةُ سَنَةٍ وَاحِدَةٍ . وَالثَّانِي : زَكَاةُ السِّنِينَ الثَّلَاثِ . وَالثَّالِثُ : إِنْ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ مِنْهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الثَّلَاثُ زَكَاةَ سَنَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَإِنْ أَخْرَجَهَا مِنْ غَيْرِهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاةُ السِّنِينَ الثَّلَاثِ . وَالرَّابِعُ : إِنْ كَانَ مُوسِرًا بِغَيْرِهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاةُ الثَّلَاثِ سِنِينَ ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا بِغَيْرِهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاةُ سَنَةٍ وَاحِدَةٍ ، فَلَوْ كَانَ مَعَهُ خَمْسُونَ شَاةً لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ فَعَلَيْهِ ثَلَاثُ شِيَاهٍ عَلَى الْقَوْلَيْنِ سَوَاءً قِيلَ : إِنَّ الزَّكَاةَ فِي الذِّمَّةِ ، أَوْ فِي الْعَيْنِ لِكَمَالِ النِّصَابِ بَعْدَ أَدَاءِ الزَّكَاةِ ، وَلَوْ كَانَ مَعَهُ أَرْبَعُونَ مِنَ الْغَنَمِ فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا حَتَّى حَالَ الْحَوْلُ الْأَوَّلُ فَنَتَجَتْ شَاةً ، ثُمَّ حَالَ الْحَوْلُ الثَّانِي فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا حَتَّى نَتَجَتْ شَاةً ، ثُمَّ حَالَ الْحَوْلُ الثَّالِثُ فَهَذَا عَلَيْهِ ثَلَاثُ شِيَاهٍ لِلسِّنِينَ الثَّلَاثِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا ؛ لِأَنَّ الشَّاةَ الْمُسْتَحَقَّةَ فِي كُلِّ عَامٍ قَدْ خَلَفَتْهَا شَاةٌ مِنَ النِّتَاجِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ ضَلَّتْ أَوْ غَصَبَهَا أَحْوَالًا فَوَجَدَهَا زَكَّاهَا لِأَحْوَالِهَا ، وَالْإِبِلُ الَّتِي فَرِيضَتُهَا مِنَ الْغَنَمِ فَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الشَّاةَ الَّتِي فِيهَا فِي رِقَابِهَا يُبَاعُ مِنْهَا بَعِيرٌ فَتُؤْخَذُ مِنْهُ إِنْ لَمْ يَأْتِ بِهَا ، وَهَذَا أَشْبَهُ الْقَوْلَيْنِ . وَالثَّانِي أَنَّ فِي خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ
حَالَ عَلَيْهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ ثَلَاثُ شِيَاهٍ فِي كُلِّ حَوْلٍ شَاةٌ . قَالَ الْمُزَنِيُّ : الْأَوَّلُ أَوْلَى بِهِ لِأَنَّهُ يَقُولُ فِي خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ لَا يُسَوِّي وَاحِدَهَا شَاةً لِعُيُوبِهَا إِنْ سَلَّمَ وَاحِدًا مِنْهَا فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَاةٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا كَانَ فِي مِلْكِهِ نِصَابٌ وَكَانَ مِنْ وَرِقٍ أَوْ مَاشِيَةٍ فَضَلَّ مِنْهُ أَوْ غُصِبَ ، أَوْ دَفَنَهُ فِي مَوْضِعٍ فَنَسِيَهُ ، أَوْ غَرِقَ فِي بَحْرٍ لَمْ يَجِدْهُ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ قَبْلَ عَوْدِهِ إِلَيْهِ ، فَإِنْ عَادَ الضَّالُّ ، وَاسْتَرْجَعَ الْمَغْصُوبَ ، وَوَجَدَ الْمَدْفُونَ ، وَوَصَلَ إِلَى الْغَرِيقِ بَعْدَ حَوْلٍ أَوْ أَحْوَالٍ هل تؤدى زكاته ، فَفِي إِيجَابِ زَكَاةِ مَا مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ : لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ وَوَجْهُ ذَلِكَ اثْنَانِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِي الْأَمْوَالِ النَّامِيَةِ كَالْمَوَاشِي وَالزَّرْعِ وَعُرُوضِ التِّجَارَاتِ ، دُونَ مَا لَيْسَ بِنَامٍ كَالدُّورِ وَالْعَقَارَاتِ ، فَلَمَّا كَانَ الْمَغْصُوبُ مَعْدُومَ النَّمَاءِ وَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ عَنْهُ الزَّكَاةُ . وَالثَّانِي : أَنَّ وَهَاءَ الْمِلْكِ وَنُقْصَانَ التَّصَرُّفِ يَمْنَعَانِ وُجُوبَ الزَّكَاةِ ، كَالْمُكَاتَبِ الَّذِي لَا تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ ، لِوَهَاءِ مِلْكِهِ وَنُقْصَانِ تَصَرُّفِهِ ، وَرَبُّ الضَّالَّةِ وَالْمَغْصُوبُ وَاهِي الْمِلْكِ نَاقِصُ التَّصَرُّفِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمَهُ الزَّكَاةُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ أَنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِيمَا مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ : لَا زَكَاةَ عَلَى مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ ، وَلِأَنَّ مِلْكَهُ فِيمَا ضَلَّ أَوْ غُصِبَ بَاقٍ ، عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ فَوَجَبَ أَنْ تَلْزَمَهُ الزَّكَاةُ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ ، وَلِأَنَّ جِنْسَ الْمَالِ إِذَا كَانَ نَامِيًا وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ ، وَإِنْ كَانَ النَّمَاءُ مَفْقُودًا ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ حَبَسَ مَالَهُ عَنْ طَلَبِ النَّمَاءِ حَتَّى عَدِمَ الدَّرَّ وَالنَّسْلَ وَأَرْبَاحَ التِّجَارَاتِ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ الزَّكَاةُ ، كَذَلِكَ فِيمَا ذَكَرْنَا ، وَهِيَ النُّكْتَةُ وَفِيهَا انْفِصَالٌ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ الْأَوَّلِ ، فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ الثَّانِي فَرَدُّهُ إِلَى الْمُكَاتَبِ غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى فِي سُقُوطِ الزَّكَاةِ مِنَ الْمُكَاتَبِ نُقْصَانُ مِلْكِهِ لَا نُقْصَانُ تَصَرُّفِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّبِيَّ نَاقِصُ التَّصَرُّفِ ، وَالزَّكَاةُ فِي مَالِهِ وَاجِبَةٌ ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ غَيْرُ تَامٍّ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : إِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ وَكَانَ الْمَالُ الْمَغْصُوبُ مَاشِيَةً أحوال الزكاة فيه فَلِهَذَا أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ . أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ مَعْلُوفَةً عِنْدَ مَالِكِهَا وَغَاصِبِهَا . وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ سَائِمَةً عِنْدَ مَالِكِهَا وَغَاصِبِهَا . وَالثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ مَعْلُوفَةً عِنْدَ مَالِكِهَا سَائِمَةً عِنْدَ غَاصِبِهَا . وَالرَّابِعُ : أَنْ تَكُونَ سَائِمَةً عِنْدَ مَالِكِهَا مَعْلُوفَةً عِنْدَ غَاصِبِهَا ، فَإِنْ كَانَتْ مَعْلُوفَةً عِنْدَ الْمَالِكِ وَالْغَاصِبِ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا قَوْلًا وَاحِدًا ، وَإِنْ كَانَتْ سَائِمَةً عِنْدَ الْمَالِكِ وَالْغَاصِبِ فَلَهَا حَالَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ تَرْجِعَ إِلَى الْمَالِكِ بِلَا دَرٍّ وَلَا نَسْلٍ ، فَهَذِهِ مَسْأَلَةُ الْقَوْلَيْنِ ، فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ ، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ بَدَرِّهَا وَنَسْلِهَا فَعِنْدَ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّ عَلَيْهِ زَكَاتَهَا قَوْلًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ الْقَدِيمِ فِي سُقُوطِ الزَّكَاةِ فَقْدُ النَّمَاءِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ وُجُودُ النَّمَاءِ مُوجِبًا لَهَا ، وَعِنْدَ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهَا عَلَى قَوْلَيْنِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ الْقَدِيمِ فِي سُقُوطِ الزَّكَاةِ وَهَاءُ الْمِلْكِ وَنُقْصَانُ التَّصَرُّفِ ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ وَإِنْ كَانَ النَّمَاءُ مَرْدُودًا وَهَذَا عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْعِلَّةِ ، وَإِنْ كَانَتْ مَعْلُوفَةً عِنْدَ الْمَالِكِ سَائِمَةً عِنْدَ الْغَاصِبِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيهَا ؛ لِأَنَّ السَّوْمَ إِنَّمَا يَكُونُ لَهُ حُكْمٌ إِذَا كَانَ مَقْصُودًا ، فَأَمَّا مَا لَمْ يَقْصِدْهُ الْمَالِكُ فَلَا حُكْمَ لَهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَاشِيَةَ لَوْ خَرَجَتْ مِنْ يَدِهِ وَرَعَتْ مِنْ غَيْرِ قَصْدِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ سَوْمًا يُوجِبُ الزَّكَاةَ ، كَذَلِكَ سَوْمُ الْغَاصِبِ . وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : يَكُونُ سَوْمُ الْغَاصِبِ كَسَوْمِ الْمَالِكِ فَتَكُونُ الزَّكَاةُ عَلَى قَوْلَيْنِ : قَالَ : لِأَنَّ مَنْ غَصَبَ حِنْطَةً فَزَرَعَهَا كَانَ عَلَى الْمَالِكِ زَكَاتُهَا كَذَلِكَ ، إِذَا غَصَبَ مَاشِيَةً فَسَامَهَا وَجَبَ أَنْ تَكُونَ عَلَى الْمَالِكِ زَكَاتُهَا ، وَهَذَا الْجَمْعُ غَيْرُ صَحِيحٍ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ السَّوْمِ وَالزِّرَاعَةِ أَنَّ السَّوْمَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ قَصْدٍ ؛ لِأَنَّ الْمَاشِيَةَ لَوْ رَعَتْ بِنَفْسِهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهَا حُكْمٌ ، وَالزِّرَاعَةُ لَا تَحْتَاجُ إِلَى قَصْدٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَقَلَ طَعَامًا لِيُحْرِزَهُ فَانْتَثَرَ بَعْضُهُ وَنَبَتَ وَبَلَغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ حَبًّا لَزِمَتْهُ زَكَاتُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ زِرَاعَتَهُ .
فَصْلٌ : فَلَوْ كَانَتْ سَائِمَةً عِنْدَ الْمَالِكِ مَعْلُوفَةً عِنْدَ الْغَاصِبِ ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنْ لَا زَكَاةَ فِيهَا قَوْلًا وَاحِدًا ، لِأَنَّهَا غَيْرُ سَائِمَةٍ ، وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَقُولُ : حُكْمُ سَوْمِهَا ثَابِتٌ وَإِنْ عَلَفَهَا الْغَاصِبُ ، فَتَكُونُ الزَّكَاةُ عَلَى قَوْلَيْنِ ، قَالَ : كَمَنْ غَصَبَ فِضَّةً فَصَاغَهَا حُلِيًّا ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُسْقِطًا لِزَكَاتِهَا عَنِ الْمَالِكِ ، وَلَوْ كَانَ الْمَالِكُ صَاغَهَا سَقَطَ عَنْهُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ زَكَاتُهَا ، كَذَلِكَ إِذَا غَصَبَ سَائِمَةً فَعَلَفَهَا لَمْ تَسْقُطْ عَنِ الْمَالِكِ زَكَاتُهَا ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَكُنْ صِيَاغَةُ الْمَالِكِ كَصِيَاغَةِ الْغَاصِبِ فِي سُقُوطِ الزَّكَاةِ كَذَلِكَ عَلْفُهُ لَا يَكُونُ كَـ " عَلْفِ الْمَالِكِ " فِي سُقُوطِ الزَّكَاةِ ، وَهَذَا الْجَمْعُ غَيْرُ صَحِيحٍ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ عَلْفَ الْغَاصِبِ كَـ " عَلْفِ الْمَالِكِ " لِأَنَّهُ طَائِعٌ فِيهِ وَإِنَّمَا هُوَ عَاصٍ لِغَصْبِهِ ، وَصِيَاغَةُ الْغَاصِبِ بِخِلَافِ صِيَاغَةِ الْمَالِكِ ، لِأَنَّهُ عَاصٍ فِي الصِّيَاغَةِ كَمَعْصِيَتِهِ فِي الْغَصْبِ ، وَصِيَاغَةُ الْحُلِيِّ الْمَحْظُورِ غَيْرُ مُسْقِطٍ لِلزَّكَاةِ ، فَلِذَلِكَ لَمْ تَكُنْ صِيَاغَةُ الْغَاصِبِ كَصِيَاغَةِ الْمَالِكِ ، وَكَانَ عَلْفُ الْغَاصِبِ كَعَلْفِ الْمَالِكِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا غُصِبَ الْمَالِكُ عَنْ طَلَبِهِ كَأَنْ أُسِرَ وَحُمِلَ إِلَى دَارِ الرُّومِ ، ثُمَّ أُطْلِقَ بَعْدَ حَوْلٍ أَوْ أَحْوَالٍ حكم الزكاة في ماله فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ عَلَيْهِ زَكَاةَ مَالِهِ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُخْرِجُ الزَّكَاةَ عَلَى قَوْلَيْنِ ، كَمَا لَوْ غُصِبَ عَنْهُ مَالُهُ ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ .
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّهُ لَوْ غُصِبَ عَنْهُ مَالُهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى التَّصَرُّفِ فِيهِ بِنَفْسِهِ وَلَا بِغَيْرِهِ ، وَإِذَا غُصِبَ عَنْ مَالِهِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى التَّصَرُّفِ فِيهِ بِنَفْسِهِ أَمْكَنَ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ مِنْ وَكِيلٍ أَوْ حَاكِمٍ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا وَكَانَ مَعَ رَجُلٍ أَرْبَعُونَ شَاةً فَضَلَّتْ مِنْهُ أَوْ غُصِبَتْ زكاتها فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ أَصْلًا إِذَا قِيلَ : إِنَّ زَكَاةَ الْمَغْصُوبِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ . وَالثَّانِي : عَلَيْهِ زَكَاةُ السِّنِينَ كُلِّهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ إِذَا قِيلَ : إِنَّ الْمَغْصُوبَ يُزَكَّى وَإِنَّهَا فِي الذِّمَّةِ وَهُوَ مُوسِرٌ بِهَا . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : عَلَيْهِ زَكَاةُ السَّنَةِ الْأُولَى إِذَا قِيلَ : إِنَّ الزَّكَاةَ فِي الْعَيْنِ ، فَلَوْ كَانَ مَعَهُ خَمْسُونَ شَاةً ضَلَّتْ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ . فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ . وَالثَّانِي : عَلَيْهِ زَكَاةُ السِّنِينَ كُلِّهَا لِوُجُودِ النِّصَابِ بَعْدَ أَدَاءِ الزَّكَاةِ مِنْهَا ، فَلَوْ كَانَ مَعَهُ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ ضَلَّتْ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الضَّالَّ أَوِ الْمَغْصُوبَ لَا زَكَاةَ فِيهِ فَلَا ، وَإِنْ قِيلَ فِيهِ الزَّكَاةُ ، فَعَلَيْهِ زَكَاةُ السِّنِينَ الثَّلَاثِ ثَلَاثُ شِيَاهٍ ، إِذَا قِيلَ : إِنَّ الزَّكَاةَ فِي الذِّمَّةِ ، وَإِنْ قِيلَ إِنَّهَا فِي الْعَيْنِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ ذَكَرَهُمَا الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ . أَحَدُهُمَا : شَاةٌ وَاحِدَةٌ لِلسَّنَةِ الْأُولَى لَا غَيْرَ عَلَى مَا مَضَى ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : ثَلَاثُ شِيَاهٍ لِلسِّنِينَ الثَّلَاثِ ؛ لِأَنَّ فَرْضَهَا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا فَلَمْ يَتَعَلَّقْ وُجُوبُهُ بِغَيْرِهَا ، ثُمَّ عَلَى قِيَاسِ هَذَا يَكُونُ جَمِيعُ فُرُوعِهِ .
فَصْلٌ : إِذَا كَانَ مَعَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً فَضَلَّتْ مِنْهَا شَاةٌ قَبْلَ الْحَوْلِ ثُمَّ عَادَتْ زكاتها ، فَعَلَى قَوْلِهِ الْقَدِيمِ حَيْثُ أَسْقَطَ زَكَاةَ الْمَالِ ، يَسْتَأْنِفُ الْحَوْلَ مِنْ يَوْمِ عَوْدِهَا ، وَعَلَى قَوْلِهِ الْجَدِيدِ حَيْثُ أَوْجَبَ زَكَاةَ الْمَالِ يَبْنِي عَلَى الْحَوْلِ الْمَاضِي ، وَيُزَكِّي عِنْدَ آخِرِهِ ، فَلَوْ كَانَ مَعَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً فَمَاتَ مِنْهَا فِي تَضَاعِيفِ حَوْلِهَا شَاةٌ ، فَإِنْ كَانَ مَوْتُ الشَّاةِ أَسْبَقَ مِنَ النِّتَاجِ اسْتَأْنَفَ بِهَا الْحَوْلَ مِنْ وَقْتِ مَا نَتَجَتْ ، وَإِنْ كَانَ النِّتَاجُ أَسْبَقَ مِنْ مَوْتِ الشَّاةِ بَنَى عَلَى الْمَاضِي مِنْ حَوْلِهَا ، وَإِنْ كَانَ مَوْتُ الشَّاةِ وَنِتَاجُ الْأُخْرَى فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ بَنَى عَلَى الْحَوْلِ وَزَكَّى ؛ لِأَنَّ النِّصَابَ لَمْ يُنْقَصْ فِي الْحَوْلِ كُلِّهِ .
فَصْلٌ : إِذَا كَانَ مَعَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً مَضَى مِنْ حَوْلِهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ ثُمَّ ضَلَّتْ أَوْ غُصِبَتْ وَرُدَّتْ إِلَيْهِ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ زكاتها ، فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ زَكَاةَ الْمَغْصُوبِ حكمها وَاجِبَةٌ فَالزَّكَاةُ فِيهَا وَاجِبَةٌ ، لِحُلُولِ حَوْلِهَا فِي
يَدِهِ وَيَدِ الْغَاصِبِ ، وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ زَكَاةَ الْمَغْصُوبِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ ، فَهِيَ تُبْنَى عَلَى السِّتَّةِ الْأَشْهُرِ الْمَاضِيَةِ قَبْلَ الْغَصْبِ أَوْ يَسْتَأْنِفُ الْحَوْلَ بَعْدَ رُجُوعِهَا مِنَ الْغَصْبِ عَلَى وَجْهَيْنِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوِ ارْتَدَّ فَحَالَ الْحَوْلُ عَلَى غَنَمِهِ أَوْقَفْتُهُ ، فَإِنْ تَابَ أَخَذْتُ صَدَقَتَهَا وَإِنْ قُتِلَ كَانَتْ فَيْئًا خُمُسُهَا لِأَهْلِ الْخُمُسِ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهَا لِأَهْلِ الْفَيْءِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا ارْتَدَّ رَبُّ الْمَالِ عَنِ الْإِسْلَامِ حكم الزكا في ماله فَلَهُ حَالَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْحَوْلِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ قَبْلَهُ . فَإِنْ كَانَتْ رِدَّتُهُ بَعْدَ الْحَوْلِ فَالزَّكَاةُ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ ، سَوَاءٌ مَاتَ أَوْ قُتِلَ ، وَسَوَاءٌ قِيلَ : إِنَّ إِمْكَانَ الْأَدَاءِ مِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ أَوْ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ ، وَإِنْ كَانَتْ رِدَّتُهُ قَبْلَ الْحَوْلِ ، ثُمَّ بَقِيَ مُرْتَدًّا حَتَّى حَالَ الْحَوْلُ فَفِيهِ قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ وَقَوْلٌ ثَالِثٌ مُخْتَلَفٌ فِي تَخْرِيجِهِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى مِلْكِهِ هَلْ يَكُونُ ثَابِتًا أَوْ مَوْقُوفًا ، أَوْ زَائِلًا ؟ فَأَحَدُ الْأَقَاوِيلِ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ : أَنَّ مِلْكَهُ مَوْقُوفٌ ، فَإِنْ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ أُخِذَتْ مِنْهُ الزَّكَاةُ ، وَإِنْ قُتِلَ مُرْتَدًّا أَوْ مَاتَ كَانَ مَالُهُ فَيْئًا لِأَهْلِ الْفَيْءِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ مِلْكَهُ ثَابِتٌ فَإِذَا حَالَ حَوْلُهُ أُخِذَتْ زَكَاتُهُ سَوَاءٌ تَابَ أَوْ قُتِلَ . فَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّالِثُ : وَهُوَ زَوَالُ مِلْكِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَخْرِيجِهِ ، لِاخْتِلَافِهِمْ فِي تَأْوِيلِ لَفْظَةٍ ذَكَرَهَا الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ التَّدْبِيرِ فَقَالَ : " لِأَنَّ مِلْكَهُ خَارِجٌ عَنْهُ " فَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ يَقُولُ : مَعْنَاهُ إِنَّهُ خَارِجٌ مِنْ تَصَرُّفِهِ ، وَيَمْتَنِعُ مِنْ تَخْرِيجِ قَوْلٍ ثَالِثٍ ، وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يَقُولُ : " إِنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ مِلْكِهِ " وَيُخَرِّجُ قَوْلًا ثَالِثًا : أَنَّ مِلْكَهُ زَائِلٌ فَعَلَى هَذَا لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ . وَقَدْ بَطَلَ حُكْمُ مَا مَضَى مِنَ الْحَوْلِ ، فَإِنْ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَتَابَ ، اسْتَأْنَفَ حَوْلًا . وَسَنَذْكُرُ تَوْجِيهَ الْأَقَاوِيلِ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ غَلَّ صَدَقَتَهُ عُذِّرَ إِنْ كَانَ الْإِمَامُ عَدْلًا ، إِلَّا أَنْ يَدَّعِيَ الْجَهَالَةَ وَلَا يُعَذَّرُ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْإِمَامُ عَدْلًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا كَتَمَ الرَّجُلُ مَالَهُ أَوْ بَعْضَهُ عَنِ السَّاعِي وَأَخْفَاهُ عَنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ زَكَاتَهُ ، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْإِمَامِ مِنْ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَادِلًا فِي الزَّكَاةِ ، أَوْ جَائِرًا فِيهَا ، فَإِنْ كَانَ جَائِرًا ، يَأْخُذُ فَوْقَ الْوَاجِبِ أَوْ يَأْخُذُ الْوَاجِبَ وَيَصْرِفُهُ فِي غَيْرِ مُسْتَحِقِّيهِ فَلَا تَعْزِيرَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ بِكَتْمِهِ وَإِنْ كَانَ عَادِلًا
فَلِرَبِّ الْمَالِ حَالَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَدَّعِيَ شُبْهَةً فَيَقُولَ : لَمْ أَعْلَمْ بِتَحْرِيمِ كَتْمِهَا وَهُوَ حَدِيثُ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ فَهَذَا مَعْذُورٌ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ قَدْرُ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَعْذِيرٍ . وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ لَهُ شُبْهَةٌ كَتَمَهَا وَمَنَعَ الْإِمَامَ مِنْهَا لِعِلْمِهِ بِوُجُوبِهَا فَيَكُونَ بِكَتْمِهَا عَاصِيًا آثِمًا ، وَيُعَزِّرُهُ الْإِمَامُ أَدَبًا وَزَجْرًا ، وَيَأْخُذُ مِنْهُ زَكَاتَهُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ . وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ : تُؤْخَذُ مِنْهُ الزَّكَاةُ وَشَطْرُ مَالِهِ تَعَلُّقًا بِرِوَايَةِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ غَلَّ صَدَقَتَهُ فَإِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ مَالِهِ عَزْمَةً مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا لَيْسَ لِآلِ مُحَمَّدٍ فِيهَا نَصِيبٌ " وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ " لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ " . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " لَا ثُنْيَا فِي الصَّدَقَةِ " أَيْ : لَا تُؤْخَذُ فِي السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ . فَأَمَّا تَعَلُّقُهُمْ بِالْحَدِيثِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : إِنْ صَحَّ إِسْنَادُهُ وَثَبَتَ نَقْلُهُ عَمِلَ عَلَيْهِ وَصِيرَ إِلَيْهِ ؛ لِأَنَّ رِوَايَةَ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ ضَعِيفَةٌ . وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ : بَلْ مَعْنَاهُ إِنْ صَحَّ ثُبُوتُ حُكْمِهِ وَأَنَّهُ غَيْرُ مَنْسُوخٍ وَلَمْ يَكُنْ أَصْلٌ يَدْفَعُهُ وَلَا إِجْمَاعٌ يُخَالِفُهُ عُمِلَ عَلَيْهِ ، وَأُصُولُ الشَّرْعِ تَدْفَعُهُ وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى تَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مَعَ صِحَّةِ إِسْنَادِهِ حُجَّةٌ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ ضَرَبَتْ غَنَمَهُ فُحُولُ الظِّبَاءِ ، لَمْ يَكُنْ حُكْمُ أَوْلَادِهَا كَحُكْمِ الْغَنَمِ ، كَمَا لَمْ يَكُنْ لِلْبَغْلِ فِي السُّهْمَانِ حُكْمُ الْخَيْلِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الظِّبَاءُ وَجَمِيعُ الصَّيْدِ الزكاة فيه فَلَا زَكَاةَ فِيهَا إِجْمَاعًا ، لِاسْتِوَاءِ الْأَغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ فِي تَمَلُّكِهَا ، وَالْقُدْرَةِ عَلَيْهَا وَأَمَّا الْمُتَوَلَّدُ مِنْ ظِبَاءٍ وَغَنَمٍ ، أَوْ مِنْ بَقَرِ وَحْشٍ وَأَهْلِيَّةٍ فَإِنْ كَانَتِ الْأُمَّهَاتُ ظِبَاءً ، وَالْفُحُولُ غَنَمًا فَلَا زَكَاةَ فِيهَا إِجْمَاعًا ، وَإِنْ كَانَتِ الْأُمَّهَاتُ غَنَمًا وَالْفُحُولُ ظِبَاءً فَلَا زَكَاةَ فِيهَا أَيْضًا ، عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ ، وَيَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمَ الظِّبَاءِ فِي الضَّحَايَا وَالْجَزَاءِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : حُكْمُهَا حُكْمُ الْغَنَمِ تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ ، وَتَجُوزُ فِيهَا الضَّحَايَا ، وَلَا يَجِبُ
فِي قَتْلِهَا الْجَزَاءُ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْوَلَدَ لَمَّا كَانَ تَابِعًا لِأُمِّهِ فِي الْمِلْكِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لِأُمِّهِ فِي الزَّكَاةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ وَلَدَ الْأَمَةِ مِلْكٌ لِسَيِّدِهَا ، وَلَوْ نَزَا فَحْلُ رَجُلٍ عَلَى شَاةٍ لِغَيْرِهِ كَانَ الْوَلَدُ لِصَاحِبِ الشَّاةِ دُونَ الْفَحْلِ . قَالَ : وَلِأَنَّهُ لَوْ ضَرَبَتْ فُحُولُ الْغَنَمِ الْمَعْلُوفَةِ إِنَاثَ الْغَنَمِ السَّائِمَةِ وَجَبَتِ الزَّكَاةُ فِي أَوْلَادِهَا تَبَعًا لِأُمَّهَاتِهَا ، وَلَمْ يَكُنْ سُقُوطُ الزَّكَاةِ فِي الْآبَاءِ بِمُسْقِطٍ لِلزَّكَاةِ فِي الْأَوْلَادِ ، كَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْفُحُولُ ظِبَاءً وَالْأُمَّهَاتُ غَنَمًا ، قَالُوا : " وَلِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ الْجَزَاءُ فِيمَا تَوَلَّدَ مِمَّا فِيهِ الْجَزَاءُ وَمَا لَا جَزَاءَ فِيهِ كَالسَّبُعِ الْمُتَوَلَّدِ مِنَ الذِّئْبِ وَالضَّبُعِ ، تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْجَزَاءِ ، اقْتَضَى أَنْ تَجِبَ الزَّكَاةُ فِيمَا تَوَلَّدَ مِمَّا فِيهِ الزَّكَاةُ وَمَا لَا زَكَاةَ فِيهِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الزَّكَاةِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ : هُوَ أَنَّهُ مُتَوَلَّدٌ مِنْ خَسِيسٍ لَيْسَ فِي أَحَدِهِمَا زَكَاةٌ بِحَالٍ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ فِيهِ زَكَاةٌ ، أَصْلُهُ إِذَا كَانَتِ الْأُمَّهَاتُ ظِبَاءً وَالْفُحُولُ غَنَمًا ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَى ذَلِكَ الْمُتَوَلَّدُ مِنَ السَّائِمَةِ وَالْمَعْلُوفَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَعْلُوفَ جِنْسٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ ، وَلِأَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ الْإِيجَابُ وَالْإِسْقَاطُ غَلَبَ حُكْمُ الْإِسْقَاطِ ، كَمَا لَوْ عَلَفَهَا بَعْضَ الْحَوْلِ وَسَامَهَا الْبَعْضَ ، وَلِأَنَّ الْخَيْلَ يُسْهَمُ لَهَا بِالْإِجْمَاعِ ، وَتَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَالْحَمِيرُ لَا يُسْهَمُ لَهَا وَلَا زَكَاةَ فِيهَا ، ثُمَّ الْبَغْلُ لَا يُسْهَمُ لَهُ وَلَا زَكَاةَ فِيهِ ، اعْتِبَارًا بِحُكْمِ أَبِيهِ فِي الْإِسْقَاطِ ، كَذَلِكَ فِيمَا تَوَلَّدَ مِنْ ظِبَاءٍ وَغَنَمٍ ، وَبِهَذَا يَسْقُطُ جَمِيعُ مَا اعْتَبَرُوهُ مِنْ لُحُوقِ الْوَلَدِ بِحُكْمِ أُمِّهِ ، ثُمَّ قَدْ يَتْبَعُ الْوَلَدُ أَبَاهُ أَيْضًا دُونَ أُمِّهِ فِي النَّسَبِ ، وَقَدْ يَجْمَعُهُ فِي الْإِسْلَامِ فَلَمْ يَكُنِ اتِّبَاعُ الْوَلَدِ لِأُمِّهِ فِي الْمِلْكِ دَالًّا عَلَى اتِّبَاعِهِ لَهَا فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهَا ، وَأَمَّا مَا تَوَلَّدَ بَيْنَ مَعْلُوفَةٍ وَسَائِمَةٍ فَلِأَنَّ الْمَعْلُوفَةَ مِنْ جِنْسٍ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ ، وَالظِّبَاءَ لَا زَكَاةَ فِي شَيْءٍ مِنْ جِنْسِهَا ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ لَمَّا غَلَبَ فِي الْجَزَاءِ الْإِثْبَاتُ دُونَ الْإِسْقَاطِ كَذَلِكَ فِي الزَّكَاةِ ، فَبَاطِلٌ بِالْبَغْلِ غَلَبَ فِيهِ الْإِسْقَاطُ دُونَ الْإِثْبَاتِ ، وَذَكَرَ فِي الدَّرْسِ جَوَابًا آخَرَ وَإِنْ أَلْحَقْنَاهُ بِالصَّيْدِ فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ لِقَتْلِهِ أَلْحَقْنَاهُ أَيْضًا فِي تَحْرِيمِ أَكْلِهِ فَوَقَفَ الدَّلِيلُ فِيهِ ثُمَّ لَا يَصِحُّ اعْتِبَارُ الزَّكَاةِ بِالْجَزَاءِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا مَعْنًى جَامِعٌ . وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .
بَابُ صَدَقَةِ الْخُلَطَاءِ
بَابُ صَدَقَةِ الْخُلَطَاءِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " جَاءَ الْحَدِيثُ أَلَّا يُجْمَعَ بَيْنَ مُفْتَرِقٍ وَلَا يُفَرَّقَ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . الْمِلْكَةُ مِنَ الْمَوَاشِي ضَرْبَانِ : الْأَوَّلُ ، خُلْطَةُ أَعْيَانٍ أنواع الخلطة . وَالثَّانِي : خُلْطَةُ أَوْصَافٍ أنواع الخلطة ، وَالْحُكْمُ فِيهِمَا سَوَاءٌ ، إِذَا كَانَتْ شَرَائِطُ الْخُلْطَةِ فِيهِمَا مَوْجُودَةً ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ هَلْ يُرَاعَى فِي زَكَاتِهَا الْمَالُ أَوِ الْمُلَّاكُ ، عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمُرَاعَى في الخلطة فِيهِ الْمَالُ دُونَ الْمُلَّاكِ ، فَإِذَا كَانَتْ أَرْبَعُونَ مِنَ الْغَنَمِ بَيْنَ خَلِيطَيْنِ أَوْ خُلَطَاءَ زَكَّوْا زَكَاةَ الْوَاحِدِ ، وَكَانَ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ شَاةٌ ، وَلَوْ كَانَتْ مِائَةً وَعِشْرِينَ شَاةً بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَنْفُسٍ كَانَ عَلَيْهِمْ شَاةٌ ، عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثُهَا ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَأَحْمَدُ ، وَإِسْحَاقُ . الْمَذْهَبُ الثَّانِي : قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ : أَنَّ الْمُرَاعَى الْمُلَّاكُ . وَأَنَّ الْخَلِيطَيْنِ يُزَكِّيَانِ زَكَاةَ الِاثْنَيْنِ ، فَإِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا أَرْبَعُونَ مِنَ الْغَنَمِ فَلَا زَكَاةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ مَالَهُ دُونَ النِّصَابِ وَلَوْ كَانَ ثَمَانُونَ شَاةً وَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَاةٌ ، وَلَوْ كَانَتْ مِائَةً وَعِشْرِينَ بَيْنَ ثَلَاثَةٍ وَجَبَ عَلَيْهِمْ ثَلَاثُ شِيَاهٍ ، وَلَيْسَ لِخَلْطِهِمْ تَأْثِيرٌ فِي الزَّكَاةِ . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : قَالَهُ مَالِكٌ : إِنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَلِيطَيْنِ نِصَابٌ زَكَّيَا زَكَاةَ الْوَاحِدِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ ، وَإِنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَقَلُّ مِنْ نِصَابٍ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الِانْفِرَادِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، كَانَ يَقُولُ فِي خَلِيطَيْنِ بَيْنَهُمَا أَرْبَعُونَ شَاةً لَا زَكَاةَ عَلَيْهِمَا ، وَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا ثَمَانُونَ كَانَ عَلَيْهِمَا شَاةٌ .
فَصْلٌ : وَاسْتَدَلَّ مَنْ نَصَرَ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ بِرِوَايَةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا وَلَّاهُ الْبَحْرَيْنِ كَتَبَ لَهُ كِتَابَ الصَّدَقَاتِ ، وَقَالَ فِيهِ : " إِذَا لَمْ تَبْلُغْ سَائِمَةُ الرَّجُلِ أَرْبَعِينَ فَلَا شَيْءَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْخُلْطَةَ لَا تَأْثِيرَ لَهَا ، وَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " لَا خِلَاطَ وَلَا وِرَاطَ " يُرِيدُ أَنَّ الْخُلْطَةَ فِي الْمَوَاشِي لَا تَأْثِيرَ لَهَا فِي الزَّكَوَاتِ ، وَلِأَنَّ مِلْكَ
كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَاقِصٌ عَنِ النِّصَابِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمَهُ زَكَاةٌ كَالْمُنْفَرِدِ ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ بِالْحَوْلِ وَالنِّصَابِ ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْخُلْطَةِ تَأْثِيرٌ فِي الْحَوْلِ وَوَجَبَ اعْتِبَارُ حَوْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى انْفِرَادِهِ ، وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي النِّصَابِ ، وَيُعْتَبَرُ نِصَابُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى انْفِرَادٍ ، وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُ أَحَدُ شَرْطَيِ الزَّكَاةِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَغَيَّرَ بِالْخُلْطَةِ كَالْحَوْلِ ، وَلِأَنَّ النِّصَابَ الَّذِي يُقْطَعُ فِيهِ السَّارِقُ مُقَدَّرٌ كَمَا أَنَّ النِّصَابَ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مُقَدَّرٌ ، فَلَمَّا كَانَ الشُّرَكَاءُ فِي سَرِقَةِ نِصَابٍ لَا قَطْعَ عَلَيْهِمْ حَتَّى تَبْلُغَ سَرِقَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصَابًا ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْخُلَطَاءُ فِي الْمَالِ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِمْ حَتَّى تَبْلُغَ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصَابًا ، وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُ حَقٌّ تَعَلَّقَ بِقَدْرٍ مِنَ الْمَالِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ حُكْمُ الِاشْتِرَاكِ وَالِانْفِرَادِ كَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ عُمُومُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فِي أَرْبَعِينَ شَاةٍ شَاةٌ ، وَفِي خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ شَاةٌ ، وَفِي ثَلَاثِينَ بَقَرَةٍ تَبِيعٌ " وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِمَالِكٍ أَوْ مُلَّاكٍ . وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ ، وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُفْتَرِقٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ ، وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ " وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : قَوْلُهُ " لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُفْتَرِقٍ ، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ " أَيْ : لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْأَمْلَاكِ الْمُتَفَرِّقَةِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونُوا ثَلَاثَةً لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَرْبَعُونَ مُفْرَدَةٌ ، فَلَا تُجْمَعُ لِيُؤْخَذَ مِنْهَا شَاةٌ ، وَتَكُونُ عَلَى تَفْرِيقِهَا لِيُؤْخَذَ مِنْهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ ، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ الْأَمْلَاكِ الْمُجْتَمِعَةِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونُوا ثَلَاثَةً بَيْنَهُمْ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ مُجْتَمِعَةٌ ، فَلَا تُفَرَّقُ لِيُؤْخَذَ مِنْهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ وَتَكُونُ عَلَى اجْتِمَاعِهَا لِيُؤْخَذَ مِنْهَا شَاةٌ ، فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ " لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ " عَلَى الْأَمْلَاكِ ، " وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ " عَلَى الْأَمْلَاكِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : أَحْمِلُ قَوْلَهُ " لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ " عَلَى الْأَمْلَاكِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ ، " وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ " عَلَى الْمِلْكِ الْوَاحِدِ لَا عَلَى الْأَمْلَاكِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لِرَجُلٍ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ شَاةً ، فَلَا تُفَرَّقُ لِيُؤْخَذَ مِنْهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ ، وَتَكُونُ عَلَى اجْتِمَاعِهَا فِي الْمَالِ لِيُؤْخَذَ مِنْهَا شَاةٌ ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ هَذَا مَعْلُومٌ بِقَوْلِهِ " فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ إِلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ " فَكَانَ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى اسْتِفَادَةِ حُكْمٍ آخَرَ أَوْلَى . وَالثَّانِي : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ تَفْرِيقٍ ، مَا نَهَى عَنْ جَمْعِهِ ، فَلَمَّا كَانَ نَهْيُ الْجَمْعِ فِي الْأَمْلَاكِ لَا فِي الْمِلْكِ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَهْيُ التَّفْرِيقِ فِي الْأَمْلَاكِ لَا فِي الْمِلْكِ ، فَصَحَّتْ هَذِهِ الدَّلَالَةُ مِنَ الْخَبَرِ .
وَالدَّلَالَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : " وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ وَالتَّرَاجُعُ يَكُونُ فِي خُلْطَةِ الْأَوْصَافِ دُونَ الْأَعْيَانِ ، يُؤَيِّدُ ذَلِكَ وَيُؤَكِّدُهُ ، رِوَايَةُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " وَالْخَلِيطَانِ مَا اجْتَمَعَا فِي الْحَوْضِ وَالسَّقْيِ وَالرَّعْيِ " وَرُوِيَ : " وَالْفُحُولِ " وَلِأَنَّهُ مِلْكٌ لَوِ انْفَرَدَ بِهِ أَحَدُهُمَا وَجَبَتْ زَكَاتُهُ ، فَجَازَ إِذَا اشْتَرَكَا فِيهِ أَنْ تَجِبَ زَكَاتُهُ لِوُجُودِ النِّصَابِ كَمَا أَنَّ كُلَّ مَالٍ سَقَطَتْ عَنْهُ الزَّكَاةُ لَا لِنُقْصَانِ النِّصَابِ لَمْ تَجِبْ فِيهِ الزَّكَاةُ بِوُجُودِ النِّصَابِ ، كَمَالِ الذِّمِّيِّ وَالْمُكَاتَبِ ، وَلِأَنَّ إِيجَابَ الزَّكَاةِ يَفْتَقِرُ إِلَى مَالِكٍ وَمَمْلُوكٍ ، فَلَمَّا وَجَبَتِ الزَّكَاةُ وَإِنِ افْتَرَقَ الْمِلْكُ اقْتَضَى أَنْ تَجِبَ الزَّكَاةُ وَإِنِ افْتَرَقَ الْمُلَّاكُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : " وَإِذَا لَمْ تَبْلُغْ سَائِمَةُ الرَّجُلِ أَرْبَعِينَ فَلَا شَيْءَ فِيهَا " فَهُوَ دَلِيلُنَا ؛ لِأَنَّهُ قَالَ : " الرَّجُلِ " فَأَدْخَلَ الْأَلِفَ وَاللَّامَ الدَّاخِلَةَ لِلْجِنْسِ أَوْ لِلْمَعْهُودِ ، فَلَمْ يَصِحَّ حَمْلُهَا عَلَى الْمَعْهُودِ لِفَقْدِهِ ، فَكَانَتْ مَحْمُولَةً عَلَى الْجِنْسِ ، كَأَنَّهُ قَالَ : وَإِذَا لَمْ تَبْلُغْ سَائِمَةَ الرِّجَالِ أَرْبَعِينَ فَلَا شَيْءَ فِيهَا ، وَأَمَّا قَوْلُهُ : " لَا خِلَاطَ وَلَا وِرَاطَ " فَهَذَا حَدِيثٌ ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي " غَرِيبِ الْحَدِيثِ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ لِوَائِلِ بْنِ حُجْرٍ الْحَضْرَمِيِّ ، وَلِقَوْمِهِ : " مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى الْأَقْيَالِ الْعَبَاهِلَةِ مِنْ أَهْلِ حَضْرَمَوْتَ بِإِقَامِ الصَّلَاةِ ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ، عَلَى الْبَيْعَةِ شَاةٌ وَالْيَتِيمَةُ لِصَاحِبِهَا ، وَفِي السُّيُوبِ الْخُمُسُ لَا خِلَاطَ وَلَا وِرَاطَ وَلَا شِنَاقَ ، وَلَا شِغَارَ فِي الْإِسْلَامِ " . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْحَدِيثِ : أَنَّ الْأَقْيَالَ : مُلُوكٌ بِالْيَمَنِ دُونَ الْمَلِكِ الْأَعْظَمِ ، وَالْعَبَاهِلَةِ : الَّذِينَ قَدْ أُقِرُّوا عَلَى مُلْكِهِمْ لَا يُزَالُونَ عَنْهُ ، وَالْبَيْعَةُ : أَرْبَعُونَ مِنَ الْغَنَمِ ، وَالْيَتِيمَةُ : الزَّائِدَةُ عَلَى الْأَرْبَعِينَ حَتَّى تَبْلُغَ الْفَرِيضَةُ الْأُخْرَى ، وَالسُّيُوبُ : الرِّكَازُ ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : وَلَا أَرَاهُ أُخِذَ إِلَّا مِنَ السَّيْبِ وَهُوَ الْعَطِيَّةُ ، وَالْخِلَاطُ : الشَّرِكَةُ فِي الْمَوَاشِي ، وَالْوِرَاطُ : الْخَدِيعَةُ وَالْغِشُّ ، وَالشَّنْقُ : مَا بَيْنَ الْفَرِيضَتَيْنِ ، وَالشَّغَارُ : عَقْدُ النِّكَاحِ الْخَالِي مِنَ الصَّدَاقِ ، فَهَذَا تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدٍ ، وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ " لَا خِلَاطَ " دَلَالَةٌ عَلَى مَا ذَكَرُوا ، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنْ نَفْسِ الْخُلْطَةِ ، وَلَيْسَ لِلزَّكَاةِ ذِكْرٌ ، وَالْخُلْطَةُ جَائِزَةٌ بِاتِّفَاقٍ ، وَإِنَّمَا أُرِيدَ بِهَا خُلْطَةُ الْجَاهِلِيَّةِ الْوَاقِعَةُ عَلَى صِفَاتٍ حَظَرَهَا الشَّرْعُ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُنْفَرِدِ فَالْمَعْنَى فِيهِ عَدَمُ النِّصَابِ ، وَأَمَّا جَمْعُهُمْ بَيْنَ الْحَوْلِ وَالنِّصَابِ ، فَالْمَعْنَى فِيهِ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّنَا نَعْتَبِرُ النِّصَابَ مِنْ حِينِ الْخُلْطَةِ لَا فِيمَا قَبْلُ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى السَّرِقَةِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ تُضَمَّ بَعْضُ سَرِقَاتِهِ إِلَى بَعْضٍ لَمْ تُضَمَّ سَرِقَةُ غَيْرِهِ إِلَى سَرِقَتِهِ ، وَلَمَّا ضُمَّ بَعْضُ مَالِهِ إِلَى بَعْضٍ ضُمَّ مَالُ غَيْرِهِ إِلَيْهِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا مَالِكٌ فَإِنَّهُ اسْتَدَلَّ بِأَنْ قَالَ : إِذَا كَانَا خَلِيطَيْنِ فِي أَرْبَعِينَ وَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِشْرُونَ هل تجب الزكاة فَهُوَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِالزَّكَاةِ كَالْمُكَاتَبِ وَالذِّمِّيِّ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ الْخُلْطَةُ مُوجِبَةً
لِلزَّكَاةِ ؛ لِأَنَّ مَالَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يَزِدْ ، وَهَذَا فَاسِدٌ ، وَعُمُومُ مَا اسْتَدْلَلْنَا بِهِ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ يُبْطِلُهُ ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ : لَيْسَ يَخْلُو حَالُكَ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَعْتَبِرَ الْمُلَّاكَ كَاعْتِبَارِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى فَسَادِهِ ، أَوْ تَعْتَبِرَ الْمِلْكَ كَاعْتِبَارِنَا فَلَا يَصِحُّ مَا ذَكَرْتَهُ ، فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِالزَّكَاةِ ، فَيُقَالُ لَهُ : إِنْ أَرَدْتَ مَعَ اجْتِمَاعِ الْمَالَيْنِ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ ، بَلْ هُمَا مُخَاطَبَانِ ، وَإِنْ أَرَدْتَ مَعَ انْفِرَادِهِمَا ، فَالْمَعْنَى فِيهِ عَدَمُ النِّصَابِ ، وَإِذَا اجْتَمَعَا كَانَ النِّصَابُ مَوْجُودًا .
فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَالَّذِي لَا أَشُكُّ فِيهِ أَنَّ الشَّرِيكَيْنِ مَا لَمْ يَقْسِمَا الْمَاشِيَةَ خَلِيطَانِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، لِأَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْخُلْطَةَ نَوْعَانِ ، خُلْطَةُ أَوْصَافٍ وَخُلْطَةُ أَعْيَانٍ ، فَخُلْطَةُ الْأَعْيَانِ الشَّرِكَةُ ، وَخُلْطَةُ الْأَوْصَافِ ، مَا تَعَيَّنَ مَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِصِفَةٍ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ تُسَمَّى خُلْطَةً لُغَةً أَوْ شَرْعًا ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : تُسَمَّى خُلْطَةً شَرْعًا لَا لُغَةً ؛ لِأَنَّ الْخُلْطَةَ فِي اللُّغَةِ مَا لَمْ يَتَمَيَّزْ ، وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ يُسَمَّى ذَلِكَ لُغَةً وَشَرْعًا ، وَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ بِمِثْلِهِ فِي قِصَّةِ دَاوُدَ ( إِنَّ هَذَا أَخِي " إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ، [ ص : ] ، فَسَمَّاهُمْ خُلَطَاءَ وَإِنْ كَانَتِ النَّعْجَةُ مُتَمَيِّزَةً عَنِ النِّعَاجِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَالَّذِي لَا أَشُكُّ فِيهِ أَنَّ الشَّرِيكَيْنِ مَا لَمْ يُقَسِّمَا الْمَاشِيَةَ خَلِيطَانِ ، يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ شَاكًّا فِي خُلْطَةِ الْأَوْصَافِ ، قِيلَ : إِنَّمَا قَالَ هَذَا ؛ لِأَنَّ خُلْطَةَ الْأَوْصَافِ قَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهَا ، ثُمَّ لَمْ يَشُكَّ فِي أَنَّ الشَّرِكَةَ خُلْطَةٌ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مَا لَمْ يَشُكَّ فِيهِ لَاحِقًا بِمَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَتَرَاجُعُهُمَا بِالسَّوِيَّةِ أَنْ يَكُونَا خَلِيطَيْنِ فِي الْإِبِلِ فِيهَا الْغَنَمُ فَتُوجَدُ الْإِبِلُ فِي يَدَيْ أَحَدِهِمَا فَيُؤْخَذُ مِنْهُ صَدَقَتُهَا فَيَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِالسَّوِيَّةِ . قَالَ : وَقَدْ يَكُونُ الْخَلِيطَانِ الرَّجُلَيْنِ يَتَخَالَطَانِ بِمَاشِيَتِهِمَا وَإِنْ عَرَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَاشِيَتَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا خُلْطَةُ الْأَوْصَافِ ، إِذَا أَخَذَ السَّاعِي الزَّكَاةَ مِنْ أَحَدِ الْمَالَيْنِ ، فَلِرَبِّهِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى شَرِيكِهِ بِحِصَّتِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَظْلِمْهُ السَّاعِي رَجَعَ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ حِصَّتِهِ مِمَّا أُخِذَ ، وَإِنْ ظَلَمَهُ رَجَعَ بِقِيمَةِ حِصَّتِهِ مِنَ الْوَاجِبِ وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِالزِّيَادَةِ الَّتِي ظُلِمَ بِهَا ، وَأَمَّا خُلْطَةُ الْأَعْيَانِ إن أخذ الساعي الزكاة من أحد المالين فيها ( كيفية التراجع ) : فَإِنْ كَانَتْ فَرِيضَتَهَا الْغَنَمُ ، فَالْجَوَابُ فِي التَّرَاجُعِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي خُلْطَةِ الْأَوْصَافِ ، وَإِنْ كَانَتْ مَاشِيَةً فَرِيضَتُهَا مِنْهَا فَلَا تَرَاجُعَ بَيْنَهُمَا ، سَوَاءٌ كَانَ عَدْلًا أَوْ حَيْفًا ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْهُمَا عَلَى قَدْرِ مَالَيْهِمَا ، وَلَكِنْ تَطَوَّعَ أَحَدُهُمَا فِي هَذَا بِأَنْ أَعْطَى زِيَادَةً عَلَى الْوَاجِبِ ، فَإِنْ كَانَ بِأَمْرِ شَرِيكِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ضَمِنَ حِصَّةَ شَرِيكِهِ مِنَ الزِّيَادَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يَكُونَانِ خَلِيطَيْنِ حَتَّى يُرِيحَا وَيَسْرَحَا وَيَحْلُبَا مَعًا وَيَسْقِيَا مَعًا ، وَيَكُونَ فُحُولَتُهُمَا مُخْتَلِطَةً ، فَإِذَا كَانَا هَكَذَا صَدَّقَا صَدَقَةَ الْوَاحِدِ بِكُلِّ حَالٍ ، وَلَا يَكُونَانِ خَلِيطَيْنِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِمَا الْحَوْلُ مِنْ يَوْمِ اخْتَلَطَا وَيَكُونَانِ مُسْلِمَيْنِ ، فَإِنْ تَفَرَّقَا فِي مَرَاحٍ أَوْ مَسْرَحٍ أَوْ سَقْيٍ أَوْ فَحْلٍ قَبْلَ أَنْ يَحُولَ الْحَوْلُ فَلَيْسَا خَلِيطَيْنِ ، وَيُصَدِّقَانِ صَدَقَةَ الِاثْنَيْنِ وَهَكَذَا إِذَا كَانَا شَرِيكَيْنِ . قَالَ : وَلَمَّا لَمْ أَعْلَمْ مُخَالِفًا إِذَا كَانَ ثَلَاثَةُ خُلَطَاءَ لَوْ كَانَتْ لَهُمْ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ شَاةً أُخِذَتْ مِنْهُمْ وَاحِدَةٌ ، وَصَدَّقُوا صَدَقَةَ الْوَاحِدِ فَنَقَصُوا الْمَسَاكِينَ شَاتَيْنِ مِنْ مَالِ الْخُلَطَاءِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ لَوْ تَفَرَّقَ مَالُهُمْ كَانَتْ فِيهِ ثَلَاثَةُ شِيَاهٍ ، لَمْ يَجُزْ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا : لَوْ كَانَتْ أَرْبَعُونَ شَاةً مِنْ ثَلَاثَةٍ كَانَتْ عَلَيْهِمْ شَاةٌ لِأَنَّهُمْ صَدَّقُوا الْخُلَطَاءَ صَدَقَةَ الْوَاحِدِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا خُلْطَةُ الْأَعْيَانِ فَزَكَاتُهَا مُعْتَبَرَةٌ بِخَمْسِ شَرَائِطَ ، وَهَذِهِ الْخَمْسُ مُعْتَبَرَةٌ فِي زَكَاةِ الْمُنْفَرِدِ ، شَرْطَانِ مِنْهَا فِي الْمَالِكِ ، وَثَلَاثَةٌ فِي الْمَاشِيَةِ . فَأَمَّا الشَّرْطَانِ فِي الْمَالِكِ : فَأَحَدُهُمَا : الْإِسْلَامُ ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ ، وَالثَّانِي الْحُرِّيَّةُ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ وَالْمُكَاتَبَ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِمَا . وَأَمَّا الثَّلَاثَةُ الَّتِي فِي الْمَاشِيَةِ : فَأَحَدُهَا : النِّصَابُ ، وَالثَّانِي : الْحَوْلُ ، وَالثَّالِثُ : السَّوْمُ ، فَهَذِهِ خَمْسَةُ شُرُوطٍ مُعْتَبَرَةٍ فِي زَكَاةِ الْمُنْفَرِدِ وَخُلْطَةِ الْأَعْيَانِ جَمِيعًا ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا خُلْطَةُ الْأَوْصَافِ المعتبر فيها من الشروط فَتُعْتَبَرُ فِيهَا الشُّرُوطُ الْخَمْسَةُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الِانْفِرَادِ وَخُلْطَةِ الْأَعْيَانِ ، ثُمَّ تَخْتَصُّ بِسِتِّ شَرَائِطَ أُخْرَى تُعْتَبَرُ فِي خُلْطَةِ الْأَوْصَافِ لَا غَيْرَ . أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ الْمَرَاحُ الَّذِي تَأْوِي إِلَيْهِ وَاحِدًا . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْمَسْرَحُ الَّذِي تَرْعَى فِيهِ وَاحِدًا . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ السَّقْيُ الَّذِي تَشْرَبُ فِيهِ مِنْ نَهْرٍ أَوْ بِئْرٍ أَوْ حَوْضٍ وَاحِدًا . وَالرَّابِعُ : أَنْ تَكُونَ الْفُحُولُ الَّتِي تَطْرُقُهَا وَاحِدَةً . وَالْخَامِسُ : نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ وَلَمْ يَرْوِهِ الرَّبِيعُ : أَنْ يَكُونَ حِلَابُهُمَا وَاحِدًا ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي نَقْلِ الْمُزَنِيِّ هَذَا الشَّرْطَ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ غَلَطٌ مِنَ الْمُزَنِيِّ فِي نَقْلِهِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ شَرْطًا مُعْتَبَرًا بِحَالٍ ؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ لَمْ يَرْوِهِ عَنِ الشَّافِعِيِّ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ نَقْلَهُ صَحِيحٌ ، وَقَدْ سَاعَدَهُ حَرْمَلَةُ ، فَرَوَى عَنِ الشَّافِعِيِّ مِثْلَهُ . فَعَلَى هَذَا فِي كَيْفِيَّةِ هَذَا الشَّرْطِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُ حِلَابِهِمَا وَاحِدًا . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْحَالِبُ وَاحِدًا . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ إِنَاءُ الْحَلْبِ وَاحِدًا ، وَلَا يَكُونُ اخْتِلَاطُ اللَّبَنَيْنِ رِبًا ، كَمَا يَخْلِطُ الْمُسَافِرُونَ أَزْوَادَهُمْ ، إِذَا اجْتَمَعُوا لِلْأَكْلِ وَلَا يَكُونُ رِبًا ، وَالتَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ وَهُوَ أَنَّ مَعْنَاهُ : أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُ الْحِلَابِ وَاحِدًا ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي " الْإِمْلَاءِ " فَقَالَ : وَأَنْ تَحْلِبَ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ فَإِنْ تَفَرَّقَا فِي مَكَانِ الْحِلَابِ قَبْلَ الْحَوْلِ زَكَّيَاهُ زَكَاةَ الِاثْنَيْنِ ، فَقَدْ أَفْصَحَ بِصَوَابِ هَذَا التَّأْوِيلِ ، وَصِحَّةِ نَقْلِ الْمُزَنِيِّ . وَالشَّرْطُ السَّادِسُ : مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَهُوَ نِيَّةُ الْخُلْطَةِ ، فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ : أَنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ لَا تَصِحُّ الْخُلْطَةُ إِلَّا بِهَا ؛ لِأَنَّ لِلْخُلْطَةِ تَأْثِيرًا فِي الزَّكَاةِ فَافْتَقَرَتْ إِلَى قَصْدٍ كَالسَّوْمِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ خَلَطَ الرُّعَاةُ الْمَوَاشِيَ بِغَيْرِ أَمْرِ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُ الْخُلْطَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ النِّيَّةَ بَعْضُهَا وَنَبَّهَ عَلَى بِاقِيهَا ، فَلَوِ انْخَرَمَ شَرْطٌ مِنْهَا بَطَلَ حُكْمُ الْخُلْطَةِ وَزَكَّيَاهُ زَكَاةً غَيْرَ مُعْتَبَرَةٍ فِي الْخُلْطَةِ لِأَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ اعْتِبَارُهَا فِي خُلْطَةِ الِاعْتِبَارِ سَقَطَ اعْتِبَارُهَا فِي خُلْطَةِ الْأَوْصَافِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ خَلَطَ الرُّعَاةُ الْمَوَاشِيَ بِغَيْرِ أَمْرِ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ عَلَى الشَّرَائِطِ الْمُعْتَبَرَةِ ثَبَتَ حُكْمُ الْخُلْطَةِ ، فَهَذِهِ سِتُّ شَرَائِطَ تَخْتَصُّ بِخُلْطَةِ الْأَوْصَافِ ، أَرْبَعَةٌ مِنْهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا ، وَهِيَ الْمَرَاحُ وَالْمَسْرَحُ وَالسَّقْيُ وَالْفُحُولُ ، وَشَرْطَانِ مُخْتَلِفٌ فِيهِمَا وَهُمَا الْحِلَابُ وَالنِّيَّةُ . وَأَصْلُ هَذِهِ الشَّرَائِطِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَالْخَلِيطَانِ مَا اخْتَلَطَا فِي الرَّعْيِ وَالسَّقْيِ وَالْفُحُولِ " فَنَصَّ عَلَى الِانْفِرَادِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ أَحَدُ الْخَلِيطَيْنِ عَبْدًا أَوْ مُكَاتَبًا أَوْ كَاتِبًا زَكَّى الْحُرُّ الْمُسْلِمُ زَكَاةَ الْمُنْفَرِدِ ، وَلَوِ افْتَرَقَا فِي مَرَاحٍ أَوْ مَسْرَحٍ أَوْ سَقْيٍ أَوْ فُحُولٍ زَكَّيَا زَكَاةَ الْمُنْفَرِدِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ " وَلَا يَكُونَانِ خَلِيطَيْنِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِمَا الْحَوْلُ مِنْ يَوْمِ اخْتَلَطَا " فَهِيَ مَسْأَلَةٌ تَأْتِي ، وَنَذْكُرُ مَا فِيهَا مِنَ الْخِلَافِ ، فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ : وَلَمَّا لَمْ أَعْلَمْ مُخَالِفًا إِذَا كَانُوا ثَلَاثَةَ خُلَطَاءَ لَوْ كَانَ لَهُمْ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ شَاةً أُخِذَتْ مِنْهُمْ شَاةٌ وَصَدَّقُوا صَدَقَةَ الْوَاحِدِ ، فَنَقَصُوا الْمَسَاكِينَ شَاتَيْنِ مِنْ مَالِ الْخُلَطَاءِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ لَمْ يُفَرَّقْ مَالُهُمْ ، كَانَتْ فِيهِ ثَلَاثُ شِيَاهٍ لَمْ يَجُزْ ، إِلَّا أَنْ يَقُولُوا : لَوْ كَانَتْ أَرْبَعِينَ شَاةً بَيْنَ ثَلَاثَةٍ كَانَتْ عَلَيْهِمْ شَاةٌ ، لِأَنَّهُمْ صَدَّقُوا الْخُلَطَاءَ صَدَقَةَ الْوَاحِدِ ، وَهَذَا أَرُدُّ بِهِ مَالِكًا حَيْثُ قَالَ : لَا حُكْمَ لِلْخُلْطَةِ حَتَّى يَمْلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصَابًا ، فَرَدَّ عَلَيْهِ بِأَنْ قَالَ : لَمَّا كَانَ ثَلَاثَةُ شُرَكَاءَ فِي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ يَلْزَمُهُمْ شَاةٌ وَاحِدَةٌ صَدَقَةَ الْوَاحِدِ رِفْقًا بِهِمْ ، وَلَوْ كَانُوا مُتَفَرِّقِينَ لَزِمَهُمْ ثَلَاثُ شِيَاهٍ ، وَجَبَ إِذَا كَانُوا ثَلَاثَةَ شُرَكَاءٍ فِي
أَرْبَعِينَ شَاةً أَنْ تَلْزَمَهُمْ شَاةٌ صَدَقَةَ الْوَاحِدِ رِفْقًا بِالْمَسَاكِينِ ، لِيَرْتَفِقَ الْمَسَاكِينُ فِي الْخُلْطَةِ بِمِثْلِ مَا ارْتَفَقَ بِهِ أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَبِهَذَا أَقُولُ فِي الْمَاشِيَةِ كُلِّهَا ، وَالزَّرْعِ وَالْحَائِطِ ، أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ حَائِطًا صَدَقَتُهُ مُجَزَّأَةٌ عَلَى مِائَةِ إِنْسَانٍ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا عَشْرَةُ أَوْسُقٍ ، أَمَا كَانَتْ فِيهِ صَدَقَةُ الْوَاحِدِ ، وَمَا قُلْتُ فِي الْخُلَطَاءِ مَعْنَى الْحَدِيثِ نَفْسِهِ ، ثَمَّ قَوْلُ عَطَاءٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ . وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ : سَأَلْتُ عَطَاءً عَنِ الِاثْنَيْنِ أَوِ النَّفَرِ يَكُونُ لَهُمْ أَرْبَعُونَ شَاةً فَقَالَ عَلَيْهِمْ شَاةٌ . الشَّافِعِيُّ الَّذِي شَكَّ قَالَ : وَمَعْنَى قَوْلِهِ " لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ " لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ ثَلَاثَةِ خُلَطَاءَ فِي عِشْرِينَ وَمِائَةِ شَاةٍ ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ شَاةٌ ؛ لِأَنَّهَا إِذَا فُرِّقَتْ كَانَ فِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُفْتَرِقٍ ، رَجُلٌ لَهُ مِائَةُ شَاةٍ وَشَاةٌ وَرَجُلٌ لَهُ مِائَةُ شَاةٍ ، فَإِذَا تُرِكَا مُفْتَرِقَيْنِ فَعَلَيْهِمَا شَاتَانِ وَإِذَا جُمِعَتَا فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ ، وَالْخَشْيَةُ خَشْيَةُ الرَّاعِي أَنْ تَقِلَّ الصَّدَقَةُ وَخَشْيَةُ رَبِّ الْمَالِ أَنْ تَكْثُرَ الصَّدَقَةُ ، فَأَمَرَ أَنْ يُقَرَّ كُلٌّ عَلَى حَالِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْخُلْطَةُ فِي الْمَوَاشِي فَلَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي جَوَازِهَا ، وَتَصِحُّ مِنْ وَجْهَيْنِ خُلْطَةُ وَصْفٍ ، وَخُلْطَةُ عَيْنٍ ، فَأَمَّا الْخُلْطَةُ فِيمَا عَدَا الْمَوَاشِي مِنَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ حكمها فَفِي صِحَّةِ الْخُلْطَةِ فِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ ، أَنَّ الْخُلْطَةَ فِيهَا لَا تَصِحُّ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ ، وَوَجْهُ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخَلِيطَانِ مَا اجْتَمَعَا فِي الرَّعْيِ وَالسَّقْيِ وَالْفُحُولِ فَلَمَّا جَعَلَ هَذَا شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْخُلْطَةِ ، وَهُوَ مَعْدُومٌ فِي غَيْرِ الْمَوَاشِي ، دَلَّ عَلَى أَنَّ الْخُلْطَةَ لَا تَصِحُّ فِي غَيْرِ الْمَوَاشِي ، وَلِأَنَّ الْخُلْطَةَ إِنَّمَا جَازَتْ فِي الْمَوَاشِي لِمَا يَعُودُ مِنْ رِفْقِهَا عَلَى الْمَسَاكِينِ تَارَةً وَعَلَى رَبِّ الْمَالِ أُخْرَى ، وَرِفْقُ الْخُلْطَةِ فِيمَا سِوَى الْمَوَاشِي عَائِدٌ عَلَى الْمَسَاكِينِ ، وَالِاسْتِدْرَارُ بِهَا عَائِدٌ عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ ؛ فَلِذَلِكَ صَحَّتِ الْخُلْطَةُ فِي الْمَوَاشِي لِارْتِفَاقِ الْفَرِيقَيْنِ بِهَا ، وَلَمْ تَصِحَّ فِيمَا عَدَا الْمَوَاشِي ؛ لِاخْتِصَاصِ الْمَسَاكِينِ بِالِارْتِفَاقِ بِهَا ، وَأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ بِالِاسْتِضْرَارِ بِهَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ : إِنَّ الْخُلْطَةَ تَصِحُّ فِي جَمِيعِ الْأَمْوَالِ الْمُزَكَّاةِ كَمَا تَصِحُّ فِي الْمَوَاشِي ، وَوَجْهُ ذَلِكَ عُمُومُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُفَرَّقٍ " وَلِأَنَّ الشُّرُوطَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي زَكَاةِ الْمَوَاشِي مُعْتَبَرَةٌ فِي زَكَاةِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْخُلْطَةُ الْجَائِزَةُ فِي الْمَوَاشِي ، جَائِزَةً فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ ، فَإِنْ قِيلَ : يَبْطُلُ بِالسَّوْمِ هُوَ مُعْتَبَرٌ فِي الْمَوَاشِي دُونَ غَيْرِهَا ، قِيلَ : قَدْ يُعْتَبَرُ مِثْلُهُ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ ، وَهُوَ أَنْ يَتَّخِذَهَا حُلِيًّا فَلَا تَجِبُ زَكَاتُهَا .
فَصْلٌ : فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْخُلْطَةَ فِي غَيْرِ الْمَوَاشِي لَا تَصِحُّ فَلَا زَكَاةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنَ الْخَلِيطَيْنِ حَتَّى يَكُونَ مِلْكُهُ نِصَابًا ، وَإِذَا قِيلَ : إِنَّ الْخُلْطَةَ فِي غَيْرِ الْمَوَاشِي جَائِزَةٌ كَهِيَ فِي الْمَاشِيَةِ صَحَّتْ فِيهَا خُلْطَةُ الْأَعْيَانِ في غير الأنعام وَهُوَ أَنْ يَكُونَا شَرِيكَيْنِ فِي أَرْضٍ ذَاتِ نَخْلٍ وَزَرْعٍ أَخْرَجَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا خَمْسَةَ أَوْسُقٍ ، أَوْ يَكُونَا شَرِيكَيْنِ فِي عِشْرِينَ دِينَارًا أَوْ مِائَةِ دِرْهَمٍ ، فَأَمَّا خُلْطَةُ الْأَوْصَافِ فَهَلْ تَصِحُّ فِيهَا أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ أَرْضُ أَحَدِهِمَا تُلَاصِقُ أَرْضَ الْآخَرِ ، وَيَكُونَ شُرْبُهُمَا وَاحِدًا وَالْقَيِّمُ بِهِمَا وَاحِدًا ، أَوْ يَكُونَ لِهَذَا مِائَةُ دِرْهَمٍ وَيَكُونَ لِهَذَا مِائَةُ دِرْهَمٍ فِي كِيسٍ ، وَيَكُونُ حَافِظُهُمَا وَاحِدًا وَحِرْزُهُمَا وَاحِدًا ، فَأَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ أَنَّ هَذِهِ الْخُلْطَةَ لَا تَصِحُّ لِأَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنَ الِاخْتِلَاطِ ، وَهَذِهِ مُجَاوَرَةٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ هَذِهِ الْخُلْطَةَ تَصِحُّ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْخُلْطَةِ ارْتِفَاقُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَلِيطَيْنِ بِصَاحِبِهِ ، وَقَدْ يَرْتَفِقَانِ فِي هَذِهِ الْخُلْطَةِ لِقِلَّةِ الْمَؤُونَةِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ : أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ حَائِطًا صَدَقَتُهُ مُجَزَّأَةٌ عَلَى مِائَةِ إِنْسَانٍ لَيْسَ فِيهَا إِلَّا عَشْرَةُ أَوْسُقٍ أَمَا كَانَتْ فِيهِ صَدَقَةُ الْوَاحِدِ ؛ وَهَذَا أَرَادَ بِهِ مَالِكًا حَيْثُ مَنَعَ مِنَ الْخُلْطَةِ فِي غَيْرِ الْمَوَاشِي ، وَقَالَ فِي وَقْفٍ عَلَى جَمَاعَةٍ هل فيه زكاة : أَخْرَجَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ أَنَّ عَلَيْهِمُ الزَّكَاةَ ، فَأَوْرَدَهُ الشَّافِعِيُّ ؛ إِفْسَادًا لِمَذْهَبِهِ وَكَسْرًا لِأَصْلِهِ ، فَإِنْ قِيلَ : هَذَا يَلْزَمُ مَالِكًا ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ عِنْدَهُ لَا يُمَلَّكُ ، قُلْنَا : الْوَقْفُ وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ غَيْرَ مَمْلُوكٍ فَالثَّمَرَةُ مَمْلُوكَةٌ ، فَكَانَ مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ قَدْحًا دَاخِلًا عَلَيْهِ ، وَلِلشَّافِعِيِّ فِي رَقَبَةِ الْوَقْفِ زكاتها وحكمه قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : مِلْكٌ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ غَيْرَ أَنَّ لَيْسَ لَهُ بَيْعُهُ كَأُمِّ الْوَلَدِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ بَلْ قَدْ زَالَ الْمِلْكُ عَنْهُ وَصَارَ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى كَالْعَبْدِ الْمُعْتَقِ ، وَعَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ الزَّكَاةُ فِي زَرْعِ الْوَقْفِ وَثَمَرَتِهِ حكمها وَاجِبَةٌ ، فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْخُلْطَةَ فِيهِ لَا تَصِحُّ فَلَا زَكَاةَ حَتَّى تَبْلُغَ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ ، وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْخُلْطَةَ فِيهِ تَصِحُّ عَلَى قَوْلِهِ الْجَدِيدِ ، فَفِيهِ الزَّكَاةُ إِذَا بَلَغَ جَمِيعُهُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ إِذَا كَانَ عَلَى قَوْمٍ مُعَيَّنِينَ ، فَإِنْ كَانَ عَامًّا عَلَى مَنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ مِنَ الْفُقَرَاءِ أَوِ الْمَسَاكِينِ ، أَوْ عَلَى مَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُمَلَّكَ مِنَ الْمَسَاجِدِ وَالْمَصَانِعِ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ عَلَى مِلْكٍ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ رَجُلًا وَقَفَ رِقَابَ أَرْبَعِينَ مِنَ الْغَنَمِ سَائِمَةً ، فَإِنْ قِيلَ : رَقَبَةُ الْوَقْفِ لَا تُمَلَّكُ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا ، وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ رَقَبَةَ الْوَقْفِ مَمْلُوكَةٌ فَفِي إِيجَابِ زَكَاتِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَاجِبَةٌ لِأَنَّهَا مِلْكٌ لِمَنْ تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَهُوَ أَصَحُّ ، لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مَمْلُوكَةً فَمِلْكُهَا غَيْرُ تَامٍّ كَالْمُكَاتَبِ ، أَلَا تَرَاهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى بَيْعِهَا وَرَهْنِهَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَمَعْنَى قَوْلِهِ لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمَعٍ تفريق المال أو جمعه خشة الصدقة ، وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ أَلَّا يُفَرِّقَ بَيْنَ ثَلَاثَةِ خُلَطَاءَ فِي عِشْرِينَ وَمِائَةِ شَاةٍ ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ شَاةٌ ، لِأَنَّهَا إِذَا فُرِّقَتْ كَانَ عَلَيْهِمْ ثَلَاثُ شِيَاهٍ " وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ " رَجُلٌ لَهُ مِائَةُ شَاةٍ وَشَاةٌ ، وَرَجُلٌ لَهُ مِائَةُ شَاةٍ ، فَإِذَا تُرِكَتَا مُتَفَرِّقَتَيْنِ فَفِيهَا شَاتَانِ وَإِذَا جُمِعَا فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ ، فَالْخَشْيَةُ خَشْيَةُ السَّاعِي أَنْ تَقِلَّ الصَّدَقَةُ ، وَخَشْيَةُ رَبِّ الْمَالِ أَنْ تَكْثُرَ الصَّدَقَةُ ، فَأَمَرَ أَنْ يُقَرَّ كُلٌّ عَلَى حَالِهِ ، ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ خَشْيَتَيْنِ : خَشْيَةُ قِلَّةِ الصَّدَقَةِ فِي تَفْرِيقِ مَا كَانَ مُجْتَمِعًا فِي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ ، وَهِيَ عَائِدَةٌ إِلَى السَّاعِي دُونَ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ ، وَخَشْيَةُ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ فِي مِائَتَيْ شَاةٍ وَشَاةٍ مُجْتَمِعَةٍ بَيْنَ خَلِيطَيْنِ يَجِبُ فِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ ، وَإِنْ فُرِّقَتْ وَجَبَ فِيهَا شَاتَانِ فَلَا يَنْبَغِي لَهُمَا أَنْ يُفَرِّقَاهَا خَشْيَةَ أَنْ تَكْثُرَ الصَّدَقَةُ ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُقَرَّ كُلُّ مَالٍ عَلَى حَالِهِ فِي الْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِمَا شَاةٌ وَعِدَّتُهُمَا سَوَاءٌ فَظَلَمَ السَّاعِي ، وَأَخَذَ مِنْ غَنَمِ أَحَدِهِمَا عَنْ غَنَمِهِ وَغَنَمِ الْآخَرِ شَاةَ رَبِيٍّ ، فَأَرَادَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ الشَّاةَ الرُّجُوعَ عَلَى خَلِيطِهِ بِنِصْفِ قِيمَةِ مَا أُخِذَ عَنْ غَنَمِهِمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ إِلَّا بِقِيمَةِ نِصْفِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ ، إِنْ كَانَتْ جَذَعَةً أَوْ ثَنِيَّةً لِأَنَّ الزِّيَادَةَ ظُلْمٌ ( قَالَ ) : وَلَوْ كَانَتْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَجُمْلَةُ الْخُلْطَةِ ضَرْبَانِ : خُلْطَةُ أَوْصَافٍ ، وَخُلْطَةُ أَعْيَانٍ ، فَأَمَّا خُلْطَةُ الْأَوْصَافِ مَعَ تَعْيِينِ الْمَالَيْنِ فَالْكَلَامُ فِيهَا فِي فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي كَيْفِيَّةِ الْأَخْذِ . وَالثَّانِي : فِي كَيْفِيَّةِ التَّرَاجُعِ ، فَأَمَّا كَيْفِيَّةُ أَخْذِ السَّاعِي الزَّكَاةَ مِنْ مَالِهِمَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمَالِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يُمْكِنَ أَخْذُ الزَّكَاةِ مِنَ الْمَالَيْنِ ، أَوْ لَا يُمْكِنُ أَخْذُهَا إِلَّا مِنْ أَحَدِ الْمَالَيْنِ ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَخْذُهَا إِلَّا مِنْ أَحَدِ الْمَالِينَ ، كَمِائَةٍ وَعِشْرِينَ شَاةً بَيْنَ خَلِيطَيْنِ ، فَلِلسَّاعِي أَنْ يَأْخُذَ الشَّاةَ الْوَاجِبَةَ عَلَيْهِمَا مِنْ أَيِّ الْمَالَيْنِ شَاءَ ؛ لِأَنَّ أَخْذَهَا مِنَ الْمَالَيْنِ مُتَعَذِّرٌ ، وَإِنْ أَمْكَنَ أَخْذُ الزَّكَاةِ مِنَ الْمَالَيْنِ ، كَمِائَتَيْنِ بَيْنَ خَلِيطَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةٌ فَعَلَيْهِمَا شَاتَانِ ، يَلْزَمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاةٌ ، أَوْ يَكُونُ بَيْنَهُمَا أَرْبَعُمِائَةٍ يَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَتَانِ ، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاتَانِ ، فَفِيهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : أَنَّ عَلَى السَّاعِي أَنْ يَأْخُذَ زَكَاةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ حِصَّتِهِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ زَكَاةَ جَمِيعِهَا مِنْ مَالِ أَحَدِهِمَا ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ بِهَا عَلَى خَلِيطِهِ ، لِأَنَّهُ مَظْلُومٌ بِهَا .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبَى هُرَيْرَةَ : أَنَّ لِلسَّاعِي أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْ مَالِهِمَا ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْ مَالِ أَحَدِهِمَا وَيَرْجِعَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ عَلَى خَلِيطِهِ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ " وَيَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ " فَهَذَا الْكَلَامُ فِي كَيْفِيَّةِ الْأَخْذِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْكَلَامُ فِي كَيْفِيَّةِ التَّرَاجُعِ بين الخلطاء إذا أخذ الساعي الزكاة من أحدهما في خلطة الأوصاف فَذَلِكَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ السَّاعِي قَدْ أَخَذَ قَدْرَ الْوَاجِبِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخَذَ زِيَادَةً عَلَى الْوَاجِبِ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَخَذَ الْوَاجِبَ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ أَيْضًا : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخَذَ غَيْرَ الْوَاجِبِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْدِلَ فِي الْقِيمَةِ ، فَلِلْمَأْخُوذِ مِنْهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى خَلِيطِهِ بِقِيمَةِ حِصَّتِهِ مِنَ الزَّكَاةِ ، كَأَنَّ بَيْنَهُمَا أَرْبَعُونَ شَاةً أَخَذَ السَّاعِي زَكَاتَهَا شَاةً مِنْ مَالِ أَحَدِهِمَا ، فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى شَرِيكِهِ بِقِيمَةِ نِصْفِهَا ، فَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْقِيمَةِ وَلَا بَيِّنَةَ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْخَلِيطِ الْغَارِمِ مَعَ يَمِينِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ السَّاعِي قَدْ أَخَذَ مِنْهُ قِيمَةَ الْوَاجِبِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ ، كَالْحَنَفِيِّ الَّذِي يَرَى أَخْذَ الْقِيَمِ فِي الزَّكَاةِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : إِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُجْزِئٍ وَلَيْسَ لِلْمَأْخُوذِ مِنْهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى خَلِيطِهِ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ أَخْذَ الْقِيَمِ فِي الزَّكَوَاتِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " أَنَّ ذَلِكَ مُجْزِئٌ ، وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى خَلِيطِهِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ مِنَ السَّاعِي يَسُوغُ فِي الِاجْتِهَادِ فَلَمْ يَجُزْ نَقْضُهُ ، هَذَا كُلُّهُ إِذَا أَخَذَ مِنْهُ قَدْرَ الْوَاجِبِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ ، فَأَمَّا إِذَا أَخَذَ مِنْهُ زِيَادَةً عَلَى الْوَاجِبِ فَذَلِكَ عَلَى ضَرْبَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنْ يَأْخُذَ الزِّيَادَةَ مُتَأَوِّلًا ، كَالْمَالِكِيِّ الَّذِي يَرَى أَخْذَ الْكِبَارِ مِنَ الصِّغَارِ ، فَهَذَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ حِصَّتِهِ مِمَّا أَخَذَ مَعَ الزِّيَادَةِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَأْخُذَ الزِّيَادَةَ غَيْرَ مُتَأَوِّلٍ ، كَأَخْذِ الرِّبَا وَالْمَاخِضِ وَالْأَكُولَةِ ، وَمَا أُجْمِعُ عَلَى أَنَّ دَفْعَهُ لَا يُلْزِمُ ، فَهَذَا يَرْجِعُ عَلَى خَلِيطِهِ بِقِيمَةِ الْوَاجِبِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ ، لِأَنَّهُ مَظْلُومٌ بِالزِّيَادَةِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى غَيْرِ مَنْ ظَلَمَهُ ، فَهَذَا الْكَلَامُ فِي خُلْطَةِ الْأَوْصَافِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا خُلْطَةُ الْأَعْيَانِ . فَلِزَكَاتِهَا حَالَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْمَالِ كَالْإِبِلِ الَّتِي فَرِيضَتُهَا الْغَنَمُ ، فَالْكَلَامُ فِي هَذَا كَالْكَلَامِ فِي خُلْطَةِ الْأَوْصَافِ ، سَوَاءٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْأَخْذِ وَالتَّرَاجُعِ .
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ تَكُونَ زَكَاتُهَا مِنْ جِنْسِهَا ، فَلَا تَرَاجُعَ بَيْنَهُمَا فِيمَا أَخَذَهُ السَّاعِي مِنْ مَاشَيْتِهِمَا سَوَاءٌ حَافَ أَوْ عَدَلَ ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْهُمَا يُقَسَّطُ عَلَى قَدْرِ مَالَيْهِمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ كَانَتْ لَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً فَأَقَامَتْ فِي يَدِهِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ بَاعَ نِصْفَهَا ، ثُمَّ حَالَ الْحَوْلُ عَلَيْهَا أَخَذَ مِنْ نَصِيبِ الْأَوَّلِ نِصْفَ شَاةٍ لِحَوْلِهِ الْأَوَّلِ ، فَإِذَا حَالَ حَوْلُهُ الثَّانِي أَخَذَ مِنْهُ نِصْفَ شَاةٍ لِحَوْلِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي رَجُلٍ مَعَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً سِتَّةَ أَشْهُرٍ بَاعَ نَصِفَهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مُشَاعًا فِي الْجُمْلَةِ غَيْرَ مُتَمَيِّزٍ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مُتَمَيِّزًا عَنِ الْبَاقِي غَيْرَ شَائِعٍ فِي الْجُمْلَةِ ، فَإِنْ كَانَ النِّصْفُ الْمَبِيعُ مُشَاعًا ، فَالْكَلَامُ فِيهِ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي زَكَاةِ الْبَائِعِ ، وَالثَّانِي : فِي زَكَاةِ الْمُشْتَرِي ، فَنَبْدَأُ أَوَّلًا بِزَكَاةِ الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّ حَوْلَهُ أَسْبَقُ فَنَقُولُ : قَدْ مَضَى مِنْ حَوْلِهِ قَبْلَ الْمَبِيعِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ ، فَإِذَا مَضَتْ سِتَّةُ أَشْهُرٍ أُخْرَى وَالْمَالُ عَلَى حَالِهِ مُشَاعٌ ، فَقَدْ تَمَّ حَوْلُ الْبَائِعِ وَلَزِمَهُ إِخْرَاجُ نِصْفِ شَاةٍ ، وَلَا يَكُونُ بَيْعُ النِّصْفِ مُبْطِلًا لِحَوْلِ الْبَاقِي ، هَذَا مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ وَقَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ كَأَبِي إِسْحَاقَ وَغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ لَمْ يَنْفَكَّ عَنِ النِّصَابِ فِي حَوْلِهِ كُلِّهِ ، لِأَنَّهُ فِي نِصْفِ الْحَوْلِ كَانَ خَلِيطًا لِنَفْسِهِ ، وَفِي النِّصْفِ الْآخَرِ كَانَ خَلِيطًا لِغَيْرِهِ ، فَكَانَ نَصِيبُهُ فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ شَائِعًا فِي نِصَابٍ ؛ فَلِذَلِكَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ ، وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنُ خَيْرَانَ يُخَرِّجَانِ قَوْلًا ثَانِيًا : أَنَّ الْبَيْعَ مُبْطِلٌ لِمَا مَضَى مِنْ حَوْلِهِ ، وَجَعَلَ ذَلِكَ مَبْنِيًّا عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْخُلْطَةِ ، هَلْ تُعْتَبَرُ فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ أَوْ فِي آخِرِهِ ، فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ ، تُعْتَبَرُ فِي آخِرِهِ ، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ تُعْتَبَرُ فِي جَمِيعِهِ ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَبْطَلَا مَا مَضَى مِنَ الْحَوْلِ وَأَوْجَبَا اسْتِئْنَافَهُ ؛ لِتَكُونَ الْخُلْطَةُ فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ ، وَهَذَا التَّخْرِيجُ غَلَطٌ مِنْ وَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا : مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّعْلِيلِ بِوُجُودِ الْخُلْطَةِ فِي الْحَوْلِ كُلِّهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ نَصَّ عَلَى جَوَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْجَدِيدِ ، حَيْثُ اعْتَبَرَ الْخُلْطَةَ فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ ، فَعَلِمَ أَنَّهَا لَا تُبْتَنَى عَلَيْهِ فَهَذَا الْكَلَامُ فِي زَكَاةِ الْبَائِعِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا زَكَاةُ الْمُشْتَرِي إِذَا مَضَى عَلَيْهِ حَوْلٌ كَامِلٌ مِنْ يَوْمِ الشِّرَاءِ فَيَنْظُرُ فِي حَالِ الْبَائِعِ ، فَإِنْ كَانَ أَدَّى زَكَاتَهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَالِ فَلَا زَكَاةَ عَلَى الْمُشْتَرِي لِنُقْصَانِ الْمَالِ عَنِ النِّصَابِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَدَّى زَكَاتَهُ مِنْ غَيْرِهِ فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِي الذِّمَّةِ فَعَلَى الْمُشْتَرِي
الزَّكَاةُ نِصْفُ شَاةٍ ؛ لِأَنَّ لَهُ عِشْرِينَ شَاةً مِنْ جُمْلَةِ أَرْبَعِينَ ، وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِي الْعَيْنِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ ، مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ هَلْ تَجِبُ فِي الْعَيْنِ وُجُوبًا مُرَاعًى أَوْ وُجُوبَ اسْتِحْقَاقٍ ؟ فَإِنْ قِيلَ إِنَّهَا تَجِبُ وُجُوبًا مُرَاعًى ، فَعَلَى الْمُشْتَرِي الزَّكَاةُ أَيْضًا ، وَإِنْ قِيلَ إِنَّهَا تَجِبُ فِي الْعَيْنِ وُجُوبَ اسْتِحْقَاقٍ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ ، فَإِنْ قِيلَ : لِمَ قُلْتُمْ إِنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمَسَاكِينِ جُزْءٌ مِنْ غَيْرِ الْمَالِ يَبْطُلُ بِحُكْمِ زَكَاتِهِ وَقَدْ صَارُوا خُلَطَاءَ بِهِ ؟ قُلْنَا : لِأَنَّ الْجُزْءَ الَّذِي اسْتَحَقُّوهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ إِيجَابُ الزَّكَاةِ ، لِأَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ لِقَوْمٍ غَيْرِ مُعَيَّنِينَ ، أَلَا تَرَى لَوِ اجْتَمَعَ بِيَدِ السَّاعِي أَرْبَعُونَ شَاةً سَائِمَةً فَلَمْ يُقَسِّمْهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ حَتَّى حَالَ حَوْلُهَا لَمْ تَجِبْ فِيهَا الزَّكَاةُ ، لِأَنَّهُ مَالٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ أَقْوَامٍ غَيْرِ مُعَيَّنِينَ ، فَهَذَا الْكَلَامُ فِي الْمَبِيعِ إِذَا كَانَ مُشَاعًا وَأَقْبَضَهُ الْبَائِعُ وَقْتَ الْعَقْدِ مَا لَمْ يَسْتَلِمْهُ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ ، فَأَمَّا إِنْ تَأَخَّرَ الْقَبْضُ عَنْ وَقْتِ الْعَقْدِ زَمَانًا كَالشَّهْرِ أَوْ نَحْوِهِ ثُمَّ حَصَلَ الْقَبْضُ بَعْدَ ذَلِكَ ، فَهَلْ يُحْتَسَبُ بِذَلِكَ الزَّمَانِ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ فِيهِ الْقَبْضُ مِنْ حَوْلِ الْمُشْتَرِي أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُحْتَسَبُ مِنْ حَوْلِهِ لِوُجُودِ مِلْكِهِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْجَوَابُ لِمَا مَضَى . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يُحْتَسَبُ بِهِ مِنْ حَوْلِهِ لِعَدَمِ تَصَرُّفِهِ وَأَنَّ الْمِلْكَ لَمْ يَتِمَّ إِلَّا بَعْدَ قَبْضِهِ فَعَلَى هَذَا يَسْتَأْنِفُ الْبَائِعُ الْحَوْلَ أَيْضًا مِنْ يَوْمِ الْقَبْضِ لِأَنَّهُ حَصَلَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ مُخَالِطًا لِمَنْ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا إِنْ كَانَ النِّصْفُ الْمَبِيعُ مُعَيَّنًا مُتَمَيِّزًا زكاة المبيع ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُعَلِّمَ عَلَيْهَا وَيُشِيرَ إِلَيْهَا ، وَيَقْبِضَهَا قَبْضَ مِثْلِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُفْرِدَهَا عَنِ الْجُمْلَةِ ، فَهَذَانِ يُزَكِّيَانِ عَلَى مَا مَضَى فِي بَيْعِ الْمُشَاعِ سَوَاءً . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَقْبِضَ الْمُشْتَرِي مَا ابْتَاعَهُ مُفْرَدًا وَيُخْرِجُهُ مِنَ الْمَرَاحِ ثُمَّ يَرُدُّهُ وَيَخْلِطُهُ ، فَهَذَانِ يَسْتَأْنِفَانِ الْحَوْلَ مِنْ وَقْتِ الْخُلْطَةِ ، وَقَدْ بَطَلَ حُكْمُ مَا مَضَى لِافْتِرَاقِهِمَا فِي الْمَرَاحِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَقْبِضَهَا مُفْرَدَةً مُتَمَيِّزَةً فِي الْمَرَاحِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْهُ ثُمَّ يَخْلِطَهَا ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : قَدْ بَطَلَ حُكْمُ مَا مَضَى وَيَسْتَأْنِفَانِ الْحَوْلَ لِافْتِرَاقِ الْمَالَيْنِ ، كَمَا لَوْ أَخْرَجَهَا مِنَ الْمَرَاحِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، فَإِنَّ مَا مَضَى لَا يَبْطُلُ ؛ لِأَنَّ الْمَرَاحَ يَجْمَعُهُمَا وَيَكُونُ الْحُكْمُ فِي زَكَاتِهِ كَالْحُكْمِ فِي زَكَاةِ الْمُشَاعِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ كَانَتْ لَهُ غَنَمٌ يَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ فَخَالَطَهُ رَجُلٌ بِغَنَمٍ تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ ، وَلَمْ يَكُونَا شَائِعًا زُكِّيَتْ مَاشِيَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حَوْلِهَا ، وَلَمْ يُزَكِّيَا زَكَاةَ الْخَلِيطَيْنِ فِي الْعَامِ الَّذِي اخْتَلَطَا فِيهِ ، فَإِذَا كَانَ قَابِلٌ وَهُمَا خَلِيطَانِ كَمَا هُمَا زَكَّيَا زَكَاةَ الْخَلِيطَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ حَالَ عَلَيْهِمَا الْحَوْلُ مِنْ يَوْمِ اخْتَلَطَا ، فَإِنْ كَانَتْ مَاشِيَتُهُمَا ثَمَانِينَ وَحَوْلُ أَحَدِهِمَا فِي الْمُحَرَّمِ وَحَوْلُ الْآخَرِ فِي صَفَرٍ زكاتها ، أُخِذَ مِنْهُمَا نِصْفُ شَاةٍ فِي الْمُحَرَّمِ وَنِصْفُ شَاةٍ فِي صَفَرٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي رَجُلَيْنِ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَرْبَعُونَ شَاةً خَلَطَاهَا الزكاة فيهما ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ حَوْلُهُمَا مُتَّفِقًا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ حَوْلُهُمَا مُخْتَلِفًا ، وَإِنْ كَانَ حَوْلُهُمَا مُتَّفِقًا فَذَلِكَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَتَخَالَطَا بَعْضَهُمَا مِنْ أَوَّلِ الْحَوْلِ إِلَى آخِرِهِ فَهَذَانِ يُزَكِّيَانِ زَكَاةَ الْخَلِيطَيْنِ لَا يَخْتَلِفُ . وَالثَّانِي : أَنْ يَتَخَالَطَا بَعْضَهُمَا بَعْدَ مُضِيِّ الْحَوْلِ ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ ، كَأَنْ مَضَى مِنْ حَوْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ ثُمَّ خَلَطَا غَنَمَيْهِمَا خُلْطَةَ أَوْصَافٍ مِنْ غَيْرِ تَبَايُعٍ فَصَارَتْ غَنَمُهُمَا ثَمَانِينَ شَاةً ، فَإِذَا مَضَتْ عَلَيْهِمَا بَعْدَ الْخُلْطَةِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَقَدْ تَمَّ حَوْلُهُمَا جَمِيعًا ، وَقَدْ كَانَا فِي نِصْفِهِ الْأَوَّلِ مُنْفَرِدَيْنِ وَفِي نِصْفِهِ الثَّانِي خَلِيطَيْنِ ، فَهَلْ يُزَكِّيَانِ فِي هَذَا الْعَامِ زَكَاةَ الْخُلْطَةِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ نَصُّهُ فِي الْقَدِيمِ يُزَكِّيَانِ زَكَاةَ الْخُلْطَةِ اعْتِبَارًا بِآخِرِ الْحَوْلِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ اعْتِبَارُ قَدْرِ الْوَاجِبِ عِنْدَ حُلُولِ الْحَوْلِ لَا بِأَوَّلِهِ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ اعْتِبَارُ الْخُلْطَةِ الَّتِي بِهَا يَتَغَيَّرُ قَدْرُ الْوَاجِبِ بِآخِرِ الْحَوْلِ لَا بِأَوَّلِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ الصَّحِيحُ وَعَلَيْهِ نَصَّ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهُمَا يُزَكِّيَانِ زَكَاةَ الِانْفِرَادِ اعْتِبَارًا بِجَمِيعِ الْحَوْلِ فِي صِحَّةِ الْخُلْطَةِ ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْخُلْطَةَ مَعْنًى يُغَيَّرُ بِهِ فَرْضُ الزَّكَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ بِهِ جَمِيعُ الْحَوْلِ كَالسَّوْمِ ، وَلِأَنَّهُمَا لَوْ كَانَا خَلِيطَيْنِ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ مُنْفَرِدِينَ فِي آخِرِهِ زَكَّيَا زَكَاةَ الِانْفِرَادِ لِوُجُودِ الْخُلْطَةِ فِي بَعْضِ الْحَوْلِ دُونَ جَمِيعِهِ ، فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَا مُنْفَرِدَيْنِ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ خَلِيطَيْنِ فِي آخِرِهِ يَجِبُ أَنْ يُزَكِّيَا زَكَاةَ الِانْفِرَادِ ؛ لِوُجُودِ الْخُلْطَةِ فِي بَعْضِ الْحَوْلِ دُونَ جَمِيعِهِ ، فَإِذَا حَالَ الْحَوْلُ الثَّانِي وَهُمَا عَلَى خُلْطَتِهِمَا زَكَّيَا زَكَاةَ الْخُلْطَةِ قَوْلًا وَاحِدًا لَا يُخْتَلَفُ لِوُجُودِهَا فِي الْحَوْلِ كُلِّهِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ حَوْلُهُمَا مُخْتَلِطًا ، كَأَنَّ حَوْلَ أَحَدِهِمَا فِي الْمُحَرَّمِ وَحَوْلَ الْآخَرِ فِي صَفَرٍ ، فَذَلِكَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَخْلِطَاهَا بَعْدَ أَنْ مَضَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُدَّةٌ مِنْ حَوْلِهِ ، كَأَنَّهُمَا خَلَطَاهَا فِي غُرَّةِ رَجَبٍ وَقَدْ مَضَى مِنْ حَوْلِ صَاحِبِ الْمُحَرَّمِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ ، وَمِنْ حَوْلِ صَاحِبِ صَفَرٍ خَمْسَةُ أَشْهُرٍ ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ كَالَّتِي قَبْلَهَا ، غَيْرَ أَنَّ حَوْلَهُمَا مُخْتَلِفٌ ، فَإِذَا تَمَّ حَوْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَهَلْ يُزَكِّي زَكَاةَ الْخُلْطَةِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : عَلَى الْقَدِيمِ يُزَكِّي زَكَاةَ الْخُلْطَةِ ، وَعَلَى الْجَدِيدِ يُزَكِّي زَكَاةَ الِانْفِرَادِ ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ : لَا تَصِحُّ خُلْطَتُهُمَا مَعَ اخْتِلَافِ حَوْلِهِمَا حَتَّى يَكُونَ حَوْلُهُمَا مُتَّفِقًا ، فَجَعَلَ اتِّفَاقَ الْحَوْلِ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْخُلْطَةِ ، وَهَذَا خَطَأٌ ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ اتِّفَاقُ حَوْلِهِمَا شَرْطًا فِي الْخُلْطَةِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ تَسَاوِي عُمَّالِهِمَا شَرْطًا فِي الْخُلْطَةِ أَيْضًا ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ مَا اعْتَبَرَهُ ، فَإِذَا قِيلَ إِنَّهُمَا يُزَكِّيَانِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ شَاةٍ ، وَعَلَى قَوْلِهِ الْجَدِيدِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاةٌ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَمْضِيَ لِأَحَدِهِمَا مُدَّةٌ مِنْ حَوْلِهِ دُونَ صَاحِبِهِ كَأَنَّ أَحَدَهُمَا مَلَكَ أَرْبَعِينَ شَاةً فِي غُرَّةِ الْمُحَرَّمِ ، وَمَلَكَ الْآخَرُ أَرْبَعِينَ شَاةً فِي غُرَّةِ صَفَرٍ ، وَخَلَطَهَا فِي الْحَالِ بِغَنَمِ صَاحِبِ الَّتِي قَدْ مَضَى مِنْ حَوْلِهَا شَهْرٌ ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَصَاحِبُ الْمُحَرَّمِ الَّذِي قَدْ مَضَى مِنْ حَوْلِهِ فِي الِانْفِرَادِ شَهْرٌ هَلْ يُزَّكِّي زَكَاةَ الْخُلْطَةِ أَوْ زَكَاةَ الِانْفِرَادِ ، عَلَى الْقَوْلَيْنِ ، عَلَى الْقَدِيمِ يُزَكِّي زَكَاةَ الْخُلْطَةِ نِصْفَ شَاةٍ ، وَأَمَّا عَلَى الْجَدِيدِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَصَحُّهُمَا يُزَكِّي زَكَاةَ الْخُلْطَةِ نِصْفَ شَاةٍ لِوُجُودِ الْخُلْطَةِ فِي الْحَوْلِ كُلِّهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُزَكِّي زَكَاةَ الِانْفِرَادِ شَاةً لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَرْتَفِقْ خَلِيطُهُ بِهِ لَمْ يَرْتَفِقْ هُوَ بِخَلِيطِهِ .
فَصْلٌ : رَجُلَانِ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَرْبَعُونَ شَاةً ، بَاعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ غَنَمِهِ مُشَاعًا بِنِصْفِ غَنَمِ صَاحِبِهِ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حَوْلِهِ ، وَخَلَطَا الْمَالَيْنِ فَصَارَ جَمِيعُهُ ثَمَانِينَ شَاةً بَيْنَهُمَا مِنْهَا أَرْبَعُونَ شَاةً قَدْ مَضَى مِنْ حَوْلِهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ ، وَهُمَا الَّتِي لَمْ تَدْخُلْ تَحْتَ الْمَبِيعِ وَأَرْبَعُونَ شَاةً لَمْ يَمْضِ مِنْ حَوْلِهَا شَيْءٌ وَهِيَ الْمَبِيعَةُ ؛ لِأَنَّ مَا مَضَى مِنْ حَوْلِهَا قَدْ بَطَلَ بِالْبَيْعِ ، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ ، وَتَخْرِيجِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّهُ إِذَا بَطَلَ حَوْلُ مَا بِيعَ بَطَلَ حَوْلُ غَيْرِ الْمَبِيعِ ، يَقُولُ يَسْتَأْنِفَانِ حَوْلَ الثَّمَانِينَ مِنْ وَقْتِ التَّبَايُعِ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَسَائِرِ أَصْحَابِنَا : إِنَّ بُطْلَانَ حَوْلِ مَا بِيعَ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ حَوْلِ غَيْرِ الْمَبِيعِ ، فَعَلَى هَذَا إِذَا تَمَّ حَوْلُ غَيْرِ الْمَبِيعِ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ بَعْدِ التَّبَايُعِ فَقَدْ كَانَا فِي نِصْفِهِ الْأَوَّلِ مُنْفَرِدَيْنِ وَفِي نِصْفِهِ الثَّانِي خَلِيطَيْنِ ، فَعَلَى قَوْلِهِ الْقَدِيمِ عَلَيْهِمَا نِصْفُ شَاةٍ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُبُعُهَا ، وَعَلَى الْجَدِيدِ عَلَيْهِمَا شَاةٌ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَصِفُهَا ؛ لِأَنَّ الْخُلْطَةَ لَمْ تُوجَدْ فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ ،
فَأَمَّا الْأَرْبَعُونَ الْمَبِيعَةُ إِذَا تَمَّ حَوْلُهَا ، فَعَلَى الْقَدِيمِ عَلَيْهِمَا نِصْفُ شَاةٍ ، عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُبُعُهَا ، وَعَلَى الْجَدِيدِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : عَلَيْهِمَا نِصْفُ شَاةٍ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُبُعُهَا ؛ لِوُجُودِ الْخُلْطَةِ فِي الْحَوْلِ كُلِّهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ عَلَيْهِمَا شَاةً عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهَا ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَرْتَفِقْ تِلْكَ الْأَرْبَعِينَ الْأُوَلَ بِهَذِهِ الْأَرْبَعِينَ لَمْ تَرْتَفِقْ هَذِهِ بِتِلْكَ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ كَانَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَرْبَعُونَ شَاةً وَلِأَحَدِهِمَا بِبَلَدٍ آخَرَ أَرْبَعُونَ شَاةً أَخَذَ الْمُصَدِّقُ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ شَاةً ، ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا عَنْ صَاحِبِ الْأَرْبَعِينَ الْغَائِبَةِ وَرُبُعُهَا عَنِ الَّذِي لَهُ عِشْرُونَ لِأَنِّي أَضُمُّ مَالَ كُلِّ رَجُلٍ إِلَى مَالِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي أَرْبَعِينَ شَاةً بَيْنَ رَجُلَيْنِ ، وَلِأَحَدِهِمَا بِبَلَدٍ آخَرَ أَرْبَعُونَ شَاةً مُفْرِدَةً ، فَفِي قَدْرِ الزَّكَاةِ لِأَصْحَابِنَا أَرْبَعَةُ مَذَاهِبَ . أَحَدُهَا : وَهُوَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِنَا أَنَّ عَلَيْهِمَا شَاةً ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا عَنْ صَاحِبِ السِّتِّينَ ، وَرُبُعُهَا عَنْ صَاحِبِ الْعِشْرِينَ ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الرَّجُلِ يَجِبُ ضَمُّ بَعْضِهِ إِلَى بَعْضٍ وَإِنِ افْتَرَقَ ، فَإِذَا ضُمَّتِ الْغَائِبَةُ إِلَى الْحَاضِرَةِ صَارَ كَأَنَّهُ خَلِيطٌ بِجَمِيعِهِ وَذَلِكَ سِتُّونَ شَاةً مِنْ جُمْلَةِ ثَمَانِينَ شَاةً ، وَهَذَا أَصَحُّ الْمَذَاهِبِ . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ عَلَى صَاحِبِ الْعِشْرِينَ نِصْفَ شَاةٍ ، لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ أَرْبَعِينَ وَعَلَى صَاحِبِ السِّتِّينَ شَاةً كَمَا لَوِ انْفَرَدَتْ ، قَالَ : لِأَنَّهُ لَوْ كَانَتِ الْخُلْطَةُ بِبَعْضِ الْمَالِ خُلْطَةٌ بِجَمِيعِهِ لَوَجَبَ إِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا ثَلَاثُونَ شَاةً ، وَلِأَحَدِهِمَا بِبَلَدٍ آخَرَ عَشْرٌ أَنْ تُضَمَّ إِلَى الثَّلَاثِينَ لِيَكْمُلَ النِّصَابُ وَتُؤْخَذَ مِنْهُ الزَّكَاةُ ، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنْ لَا زَكَاةَ فِي هَذَا الْمَالِ ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخُلْطَةَ بِبَعْضِ الْمَالِ لَا تَكُونُ خُلْطَةً بِجَمِيعِهِ ، وَأَنَّ مَا انْفَرَدَ مِنْ مَالِ الْخُلْطَةِ لَهُ حُكْمُ نَفْسِهِ . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : أَنَّ عَلَى صَاحِبِ الْعِشْرِينَ نِصْفَ شَاةٍ ، وَعَلَى صَاحِبِ السِّتِّينَ شَاةً إِلَّا نِصْفَ سُدُسِ شَاةٍ ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَرْتَفِقُ بِالْخُلْطَةِ فِيمَا هُوَ خَلِيطٌ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ ، يُزَكِّي عَنِ الْمُنْفَرِدِ زَكَاةَ الْمُنْفَرِدِ ، وَعَنِ الْمُخْتَلَطِ زَكَاةَ الْخُلْطَةِ ، فَيُقَالُ لَوْ كَانَ مُنْفَرِدًا بِجَمِيعِ مَالِهِ وَهُوَ سِتُّونَ لَكَانَ عَلَيْهِ شَاةٌ ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ فِي الْأَرْبَعِينَ ثُلُثَا شَاةٍ ، لِأَنَّهَا ثُلُثَا السِّتِّينَ ، وَلَوْ كَانَ خَلِيطًا بِجَمِيعِ مَالِهِ لَكَانَ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ شَاةٍ ، لِأَنَّهَا سِتُّونَ مِنْ جُمْلَةِ ثَمَانِينَ ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ فِي الْعِشْرِينَ الَّتِي هُوَ خَلِيطٌ بِهَا رُبُعُ شَاةٍ ، لِأَنَّهَا رُبُعُ الثَّمَانِينَ ثُمَّ يَجْمَعُ الثُّلُثَيْنِ الْوَاجِبَيْنِ فِي الْأَرْبَعِينَ إِلَى الرُّبُعِ الْوَاجِبِ فِي الْعِشْرِينَ ، فَيَكُونُ خَمْسَةُ أَسْدَاسٍ وَنِصْفٌ .
وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ : أَنَّ عَلَى صَاحِبِ الْعِشْرِينَ نِصْفَ شَاةٍ ، وَعَلَى صَاحِبِ السِّتِّينَ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ شَاةٍ ، لِيَرْتَفِقَ صَاحِبُ السِّتِّينَ بِضَمِّ مَالِهِ الْغَائِبِ إِلَى الْحَاضِرِ ، إِذْ لَا يَجُوزُ تَفْرِيقُهُ ، وَلَا يَرْتَفِقُ صَاحِبُ الْعِشْرِينَ إِلَّا بِمَالِ الْخُلْطَةِ دُونَ مَا انْفَرَدَ .
فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ سِتُّونَ شَاةً خَالَطَ بِكُلِّ عِشْرِينَ مِنْهَا رَجُلًا مَعَهُ عِشْرُونَ ما مقدار زكاتها ؟ فَصَارَ مُخَالِطًا لِثَلَاثَةِ أَنْفُسٍ ، وَجَمِيعُ مَالِهِ وَمَالِهِمْ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ عِشْرُونَ وَلِلْأَوَّلِ سِتُّونَ ، فَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي إِسْحَاقَ : عَلَى جَمَاعَتِهِمْ شَاةٌ ، نِصْفُهَا عَنْ صَاحِبِ السِّتِّينَ ؛ لِأَنَّ لَهَا نِصْفَ الْمَالِ ، وَنِصْفُهَا عَنِ الثَّلَاثَةِ الْخُلَطَاءِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ سُدُسُهَا ؛ لِأَنَّ لَهُمْ سِتِّينَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عِشْرُونَ ، وَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَيْهِمْ شَاتَانِ وَنِصْفٌ ، عَلَى الثَّلَاثَةِ مِنْهَا شَاةٌ وَنِصْفٌ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصْفُ شَاةٍ ؛ لِأَنَّ لَهُ عِشْرِينَ مِنْ جُمْلَةِ أَرْبَعِينَ ، وَعَلَى صَاحِبِ السِّتِّينَ شَاةٌ كَالْمُنْفَرِدِ بِسِتِّينَ ، وَعَلَى الْمَذْهَبِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ مَعًا عَلَيْهِمْ شَاتَانِ وَرُبُعٌ ، مِنْهَا عَلَى الثَّلَاثَةِ شَاةٌ وَنِصْفٌ ، عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصْفُ شَاةٍ ؛ لِأَنَّ لَهُ عِشْرِينَ مِنْ جُمْلَةِ أَرْبَعِينَ ، وَعَلَى صَاحِبِ السِّتِّينَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ شَاةٍ ، فَكَأَنَّهُ خَلِيطٌ بِهَا مَعَ عِشْرِينَ .
فَصْلٌ : وَلَوْ كَانَ مَعَهُ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ ، خَالَطَ بِكُلِّ بَعِيرٍ مِنْهَا رَجُلًا مَعَهُ أَرْبَعَةُ أَبْعِرَةٍ ما مقدار زكاتها ؟ فَصَارَ جَمِيعُ الْمَالِ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ بَعِيرًا بَيْنَ سِتَّةٍ لِأَحَدِهِمْ مِنْهَا خَمْسَةٌ ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْبَاقِينَ أَرْبَعَةٌ ، فَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي إِسْحَاقَ عَلَيْهِمْ بِنْتُ مَخَاضٍ ، عَلَى صَاحِبِ الْخَمْسَةِ خُمُسُهَا ، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْبَاقِينَ أَرْبَعَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ بِنْتِ مَخَاضٍ ، ثُمَّ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي عَلِيٍّ وَالْبَاقِينَ يَكُونُ عَلَى قِيَاسِ مَا مَضَى ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
بَابُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ
بَابُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَتَجِبُ الصَّدَقَةُ عَلَى كُلِّ مَالِكٍ تَامِّ الْمِلْكِ مِنَ الْأَحْرَارِ ، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا أَوْ مَعْتُوهًا أَوِ امْرَأَةً لَا فَرْقَ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ ، كَمَا تَجِبُ فِي مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا لَزِمَ مَالُهُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ جِنَايَةٌ أَوْ مِيرَاثٌ أَوْ نَفَقَةٌ عَلَى وَالِدٍ أَوْ وَلَدٍ زَمِنٍ مُحْتَاجٍ ، وَسَوَاءٌ ذَلِكَ فِي الْمَاشِيَةِ وَالزَّرْعِ وَزَكَاةِ الْفِطْرَةِ ، وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " ابْتَغُوا فِي أَمْوَالِ الْيَتِيمِ - أَوْ قَالَ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى - لَا تَأْكُلْهَا الزَّكَاةُ " ، وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ أَنَّ الزَّكَاةَ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : كُلُّ حُرٍّ مُسْلِمٍ فَالزَّكَاةُ فِي مَالِهِ وَاجِبَةٌ ، مُكَلَّفًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُكَلَّفٍ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : التَّكْلِيفُ مِنْ شَرْطِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ ، فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ ، إِلَّا زَكَاةَ الْفِطْرِ وَالْأَعْشَارِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ عَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَنْتَبِهَ " . وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ لَا تَلْزَمُ الْغَيْرَ عَلَى الْغَيْرِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمَ غَيْرَ مُكَلَّفٍ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ ، وَلِأَنَّ زَكَاةَ الْمُسْلِمِ تُقَابِلُ جِزْيَةَ الذِّمِّيِّ لِاعْتِبَارِ الْحَوْلِ فِيهَا ، غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الزَّكَاةَ تَطْهِيرًا وَنِعْمَةً وَالْجِزْيَةَ صَغَارًا وَنِقْمَةً ، فَلَمَّا لَمْ تَجِبِ الْجِزْيَةُ عَلَى غَيْرِ الْمُكَلَّفِ ، اقْتَضَى أَنْ لَا تَجِبَ الزَّكَاةُ عَلَى غَيْرِ الْمُكَلَّفِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ، [ التَّوْبَةِ : ] ، وَالْهَاءُ وَالْمِيمُ فِي أَمْوَالِهِمْ كِنَايَةٌ تَرْجِعُ إِلَى مَذْكُورٍ تَقَدَّمَ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ ، [ التَّوْبَةِ : ] ، قِيلَ : اتَّبَعُوهُمْ فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الذَّرَارِيِّ وَالْأَطْفَالِ .
وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ابْتَغُوا فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى كَيْلَا تَأْكُلَهَا الزَّكَاةُ " . وَرَوَى الْمُثَنَّى بْنُ الصَّبَّاحِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنْ وَلِيَ يَتِيمًا فَلْيَتَّجِرْ لَهُ وَلَا يَتْرُكْهُ حَتَّى تَأْكُلَهُ الصَّدَقَةُ " . رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " فِي مَالِ الْيَتِيمِ زَكَاةٌ " فَإِنْ قِيلَ : هَذَا خِطَابٌ ، وَالْخِطَابُ تَكْلِيفٌ ، وَلَا يَتَوَجَّهُ إِلَى غَيْرِ مُكَلَّفٍ ، قِيلَ الْخِطَابُ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : خِطَابُ مُوَاجَهَةٍ ، وَذَلِكَ لَا يَتَوَجَّهُ إِلَى غَيْرِ مَا كُلِّفَ ، وَخِطَابُ إِلْزَامٍ كَمَسْأَلَتِنَا وَذَلِكَ يَتَوَجَّهُ إِلَى غَيْرِ الْمُكَلَّفِ كَتَوَجُّهِهِ إِلَى الْمُكَلَّفِ ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ مَذْهَبُ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَلَيْسَ يُعْرَفُ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ ، وَلِأَنَّهُ مِنْ أَصْلِ الْفِطْرَةِ فَجَازَ أَنْ تَجِبَ الزَّكَاةُ فِي مَالِهِ كَالْبَالِغِ ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ ، لِأَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ ، وَلِأَنَّ كُلَّ زَكَاةٍ تَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ جَازَ أَنْ تَجِبَ فِي مَالِ غَيْرِ الْمُكَلَّفِ كَزَكَاةِ الْفِطْرِ ، وَلِأَنَّ الْحُقُوقَ ضَرْبَانِ : حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَحَقٌّ لِلْآدَمِيِّ ، وَحَقُّ الْآدَمِيِّ ضَرْبَانِ : أَفْعَالُ أَبْدَانٍ كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ ، وَحُقُوقُ أَمْوَالٍ كَالْمَهْرِ وَالنَّفَقَاتِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ ، فَمَا كَانَ مِنْ أَفْعَالِ الْأَبْدَانِ يَخْتَصُّ بِهِ الْمُكَلَّفُ مِنْ غَيْرِهِ ، وَمَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْأَمْوَالِ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُكَلَّفُ وَغَيْرُهُ ، كَذَلِكَ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى ضَرْبَانِ : أَفْعَالُ أَبْدَانٍ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ ، وَذَلِكَ يَخْتَصُّ بِهِ الْمُكَلَّفُ دُونَ غَيْرِهِ ، وَحُقُوقُ أَمْوَالٍ كَالزَّكَوَاتِ يَجِبُ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهَا الْمُكَلَّفُ وَغَيْرُهُ ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " رُفِعَ الْقَلَمُ " فَمَعْنَى رَفْعِ الْقَلَمِ عَنْ نَفْسِهِ ، لَا عَنْ مَالِهِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ فَلَا يَصِحُّ ، لِأَنَّهُمْ إِنْ قَالُوا : فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَى الصَّبِيِّ ، قُلْنَا : لَيْسَتْ وَاجِبَةً عَلَيْهِ وَإِنَّمَا هِيَ وَاجِبَةٌ فِي مَالِهِ ، وَإِنْ قَالُوا : فَوَجَبَ أَنْ لَا تَجِبَ فِي مَالِهِ ، لَمْ يُوجَدْ هَذَا الْوَصْفُ فِي الْأَصْلِ الْمَرْدُودِ إِلَيْهِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ ، عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ أَنَّهُمَا مِنْ أَفْعَالِ الْأَبْدَانِ وَالزَّكَوَاتِ مِنْ حُقُوقِ الْأَمْوَالِ ، وَحُكْمُهُمَا مُفْتَرِقٌ بِالِاسْتِدْلَالِ الْمُتَقَدِّمِ ، فَلَمْ يَصِحَّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ فَرَّقُوا بَيْنَ زَكَاةِ الْفِطْرِ وَبَيْنَ
الصَّلَاةِ ، وَبِمِثْلِهِ يُفَرَّقُ بَيْنَ زَكَوَاتِ الْأَمْوَالِ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ ، وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْجِزْيَةِ فَلَا يَصِحُّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْجِزْيَةِ أَضْيَقُ ، وَوُجُوبَ الزَّكَاةِ أَوْسَعُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تَجِبُ عَلَى الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ ، وَالزَّكَاةَ تَجِبُ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ، فَلَمْ يَصِحَّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
الْقَوْلُ فِي زَكَاةِ الْمُكَاتَبِ
الْقَوْلُ فِي زَكَاةِ الْمُكَاتَبِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَأَمَّا مَالُ الْمُكَاتَبِ فَخَارِجٌ مِنْ مِلْكِ مَوْلَاهُ إِلَّا بِالْعَجْزِ ، وَمُلْكُهُ غَيْرُ تَامٍّ عَلَيْهِ ، فَإِنْ عَتَقَ فَكَأَنَّهُ اسْتَفَادَ مِنْ سَاعَتِهِ ، وَإِنْ عَجَزَ فَكَأَنَّ مَوْلَاهُ اسْتَفَادَ مِنْ سَاعَتِهِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . لَا زَكَاةَ فِي مَالِ الْمُكَاتَبِ ، وَبِهِ قَالَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ ، وَحُكِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَأَبِي ثَوْرٍ أَنَّ الزَّكَاةَ فِي مَالِهِ ، اسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ الظَّوَاهِرِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، قَالُوا : وَلَيْسَ فِي الْمُكَاتَبِ أَكْثَرُ مِنْ نُقْصَانِ التَّصَرُّفِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ كَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ أَوْ فَلَسٍ ، وَهَذَا غَلَطٌ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ ؛ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْهُمْ قَالَ : " لَا زَكَاةَ فِي مَالِ الْمُكَاتَبِ " وَلَيْسَ لَهُ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ . وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ جَابِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلِأَنَّ الْمُكَاتَبَ نَاقِصُ الْمِلْكِ ، لِأَنَّهُ لَا يُورِثُ وَلَا يَرِثُ فَلَمْ تَلْزَمْهُ الزَّكَاةُ ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِهَا تَمَامُ الْمِلْكِ ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى فَرَّقْنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّفِيهِ وَالْمُفْلِسِ ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُمَا تَامٌّ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا يَرِثَانِ وَيُورَثَانِ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنْ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فَإِنْ عَجَزَ عَادَ الْمِلْكُ إِلَى سَيِّدِهِ وَيَسْتَأْنِفُ الْحَوْلَ مِنْ وَقْتِ عَوْدِهِ وَإِنْ عُتِقَ مَلَكَ مَالَ نَفْسِهِ ، وَاسْتَأْنَفَ الْحَوْلَ مِنْ يَوْمِ عِتْقِهِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْعَبْدُ إِذَا مَلَّكَهُ السَّيِّدُ مَالًا فَهَلْ يَمْلِكُهُ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : فَإِنْ قِيلَ لَا يَمْلِكُ وَهُوَ الصَّحِيحُ ، فَعَلَى السَّيِّدِ زَكَاتُهُ ، وَإِنْ قِيلَ يَمْلِكُ فَلَا زَكَاةَ عَلَى السَّيِّدِ ؛ لِخُرُوجِهِ مِنْ مِلْكِهِ ، وَلَا عَلَى الْعَبْدِ لِرِقِّهِ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : تَجِبُ زَكَاتُهُ عَلَى سَيِّدِهِ ؛ لِأَنَّ لَهُ انْتِزَاعَ الْمَالِ مِنْ يَدِهِ ، وَهَذَا غَلَطٌ ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ جَوَازُ الرُّجُوعِ فِيهِ بِمُوجِبِ بَقَائِهِ عَلَى الْمِلْكِ ؛ لِأَنَّ لِلْوَالِدِ أَنْ يَرْجِعَ فِيمَا وَهَبَ وَلَدُهُ لَهُ ، وَلَيْسَ بِبَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ وَلَا هُوَ مُخَاطَبٌ بِزَكَاتِهِ ، كَذَلِكَ السَّيِّدُ مَعَ عَبْدِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
بَابُ الْوَقْتِ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الصَّدَقَةُ وَأَيْنَ يَأْخُذُهَا الْمُصَدِّقُ
بَابُ الْوَقْتِ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الصَّدَقَةُ وَأَيْنَ يَأْخُذُهَا الْمُصَدِّقُ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَأُحِبُّ أَنْ يَبْعَثَ الْوَالِي الْمُصَدِّقَ فَيُوَافِي أَهْلَ الصَّدَقَةِ مَعَ حُلُولِ الْحَوْلِ فَيَأْخُذُ صَدَقَاتِهِمْ ، وَأُحِبُّ ذَلِكَ فِي الْمُحَرَّمِ وَكَذَا رَأَيْتُ السُّعَاةَ عِنْدَمَا كَانَ الْمُحَرَّمُ شِتَاءً أَوْ صَيْفًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . وَجُمْلَةُ الْأَمْوَالِ ضَرْبَانِ : ضَرْبٌ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَوْلُ كَالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَجِيءُ السَّاعِي لِأَخْذِ زَكَاتِهَا فِي وَقْتِ إِدْرَاكِهَا ، وَقَدْ يَخْتَلِفُ إِدْرَاكُ الثِّمَارِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ الزَّمَانِ ، فَلَمْ يُمْكِنْ تَعْيِينُ وَقْتِهِ ، وَضَرْبٌ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَوْلُ كَالْمَوَاشِي ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ وَقْتُ مَجِيءِ السَّاعِي مَعْرُوفًا ، لِيَتَأَهَّبَ أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ لِدَفْعِهَا ، وَيَتَأَهَّبَ الْفُقَرَاءُ لِأَخْذِهَا ، وَيَخْتَارَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي الْمُحَرَّمِ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " هَذَا شَهْرُ زَكَاتِكُمْ ، فَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيَقْضِهِ وَلْيَتْرُكْ بَقِيَّةَ مَالِهِ " وَلِأَنَّ الْعَمَلَ جَارٍ بِهِ ، وَلِأَنَّهُ رَأْسُ السَّنَةِ وَمِنْهُ التَّارِيخُ ، وَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يُؤَرِّخُونَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ لِوُقُوعِ الْهِجْرَةِ فِيهِ ، ثُمَّ رَأَوْا تَقْدِيمَهُ إِلَى الْمُحَرَّمِ لِأَنَّهُ أَوَّلُ السَّنَةِ ، فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْمُحَرَّمَ أَوَّلُ فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُنْفِذَ السُّعَاةَ وَالْجُبَاةَ قَبْلَ الْمُحَرَّمِ بِزَمَانٍ يُعْلَمُ أَنَّهُمْ يُوَافُونَ أَرْبَابَ الْأَمْوَالِ فِي أَوَّلِ الْمُحَرَّمِ ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَسْبِ قُرْبِ الْمَسَافَةِ وَبُعْدِهَا ، فَإِذَا وَصَلَ السَّاعِي فِي الْمُحَرَّمِ فَمَنْ حَالَ حَوْلُهُ مِنْ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ أَخَذَ مِنْهُ الزَّكَاةَ ، وَمَنْ لَمْ يَحُلْ حَوْلُهُ تَعَجَّلَ مِنْهُ الزَّكَاةَ إِنْ أَجَابَ رَبُّ الْمَالِ إِلَيْهَا ، وَإِنْ أَبِي أَنْ يُعَجِّلَهَا لَمْ يُجْبِرْهُ عَلَى تَعْجِيلِهَا ، وَكَانَ السَّاعِي بَيْنَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مَنْ يَأْخُذُ مِنْهُ عِنْدَ حُلُولِهَا ، وَبَيْنَ أَنْ لَا يَسْتَخْلِفَ لِيَأْخُذَهَا مِنْهُ فِي وَقْتِهَا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيَأْخُذُهَا عَلَى مِيَاهِ أَهْلِ الْمَاشِيَةِ وَعَلَى رَبِّ الْمَاشِيَةِ أَنْ يُورِدَهَا الْمَاءَ لِتُؤْخَذَ صَدَقَتُهَا عَلَيْهِ وَإِذَا جَرَتِ الْمَاشِيَةُ عَنِ الْمَاءِ فَعَلَى الْمُصَدِّقِ أَنْ
يَأْخُذَهَا فِي بُيُوتِ أَهْلِهَا وَأَفْنِيَتِهِمْ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَتْبَعَهَا رَاعِيَةً وَيُحْصُرَهَا إِلَى مَضِيقٍ تَخْرُجُ مِنْهُ وَاحِدَةً وَاحِدَةً فَيَعُدُّهَا كَذَلِكَ حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى عِدَّتِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فِي زَمَانِ الْأَخْذِ وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كَيْفِيَّةِ الْأَخْذِ ، وَفِي مَوْضِعِ الْأَخْذِ لقبض زكاة الماشية ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمَاشِيَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَجِدَهَا فِي بُيُوتِ أَهْلِهَا ، فَهُنَاكَ يَأْخُذُ زَكَاتَهَا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَجِدَهَا عَلَى مِيَاهِ أَهْلِهَا ، فَلَا يُكَلِّفُ رَبَّ الْمَالِ أَنْ يَسُوقَهَا إِلَى بَيْتِهِ ، وَيَأْخُذُ زَكَاتَهَا عَلَى مَاءِ شُرْبِهَا ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ لِحَارِثَةَ بْنِ قَطَنٍ وَمَنْ بِدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ مِنْ كَلْبٍ : إِنَّ لَنَا الضَّاحِيَةَ مِنَ الْبَعْلِ وَلَكُمُ الضَّاحِيَةُ مِنْهُ مِنَ النَّخْلِ ، لَا نَجْمَعُ سَارِحَتَكُمْ وَلَا نَعُدُّ فَارِدَتَكُمْ . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : فَالضَّاحِيَةُ هِيَ النَّخْلُ الظَّاهِرَةُ فِي الْبَرِّ ، وَالْبَعْلُ مَا يَشْرَبُ بِعُرُوقِهِ مِنْ غَيْرِ سَقْيٍ ، وَالضَّاحِيَةُ مَا تَضُمُّهَا أَمْصَارُهُمْ وَقُرَاهُمْ ، وَقَوْلُهُ : " لَا نَجْمَعُ سَارِحَتَكُمْ " أَيْ : لَا يَجْمَعُ الْمَوَاشِيَ السَّارِحَةَ إِلَى الصَّدَقَةِ ، وَقَوْلُهُ " لَا نَعُدُّ فَارِدَتَكُمْ " : لَا تُضَمُّ الشَّاةُ الْفَارِدَةُ إِلَى الشَّاةِ الْفَارِدَةِ لِيُحْتَسَبَ بِهَا فِي الصَّدَقَةِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَجِدَهَا رَاعِيَةً ، فَلَا يُكَلَّفُ السَّاعِي أَنْ يَتْبَعَهَا رَاعِيَةً لِمَا يَنَالُهُ مِنَ الْمَشَقَّةِ فِي اتِّبَاعِهَا ، وَلَا يُكَلَّفُ رَبُّ الْمَالِ أَنْ يَجْلِبَهَا إِلَى فِنَاءِ دَارِهِ لِمَا عَلَيْهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ فِي جَلْبِهَا ، بَلْ عَلَى رَبِّ الْمَالِ أَنْ يَجْمَعَهَا عَلَى الْمَاءِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَرْفَقُ بِهِمَا ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ " لَا جَلَبَ وَلَا جَنَبَ " يَعْنِي : أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ جَلْبُهَا إِلَى بُيُوتِهِمْ ، وَلِأَنَّهُمْ أَنْ يُجَانِبُوهَا فَيَتْبَعَهَا السَّاعِي فِي مَرَاعِيهِمْ ، وَقَالَ قَتَادَةُ : الْجَلَبُ وَالْجَنَبُ فِي الرِّهَانِ وَقَدْ كَانَ لِلسُّعَاةِ فِيهَا طَبْلٌ يَضْرِبُونَ بِهِ عِنْدَ مُخَيَّمِهِمْ ؛ لِيَعْلَمَ أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ فَيَتَأَهَّبُوا لِجَمْعِ مَوَاشِيهِمْ ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ جَرِيرٌ : أَتَانَا أَبُو الْخَطَّابِ يَضْرِبُ طَبْلَهُ فَرُدَّ وَلَمْ يَأْخُذْ عِقَالًا وَلَا نَقْدَا قِيلَ : إِنَّ الْعِقَالَ الْمَاشِيَةُ ، وَالنَّقْدَ الذَّهَبُ وَالْوَرِقُ ، وَقِيلَ بَلِ الْعِقَالُ الْقِيمَةُ ، وَالنَّقْدُ الْفَرِيضَةُ ، وَقِيلَ الْعِقَالُ صَدَقَةُ عَامَيْنِ ، وَالنَّقْدُ صَدَقَةُ عَامٍ ، وَأَنْشَدَ ثَعْلَبٌ : سَعَى عِقَالًا فَلَمْ يَتْرُكْ لَنَا سَبَدًا فَكَيْفَ لَوْ قَدْ سَعَى عَمْرٌو عِقَالَيْنِ ؟ لَا صَبَّحَ الْحَيُّ أَوْتَادًا وَلَمْ يَجِدُوا عِنْدَ التَّفَرُّقِ فِي الْهَيْجَا جَمَالَيْنِ
فَهَذَا الْكَلَامُ فِي مَوْضِعِ الْأَخْذِ . فَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الْأَخْذِ لأموال الصدقة : فَهُوَ : أَنْ يَبْدَأَ السَّاعِي بِأَسْبَقِ الْمَوَاشِي وَأَقْرَبِهَا إِلَيْهِ ، فَيَأْمُرَ بِضَمِّهَا إِلَى مَضِيقٍ مِنْ جِدَارٍ أَوْ حِظَارٍ أَوْ جَبَلٍ ، وَيَحْضُرُ الْكَاتِبُ فَيَكْتُبُ اسْمَ مَالِكِهَا ، وَيَقِفُ الْعَادُّ فِي أَضْيَقِ الْمَوَاضِعِ لِيَعُدَّهَا ، وَالْحَشَّارُ يَحْشُرُهَا لِيَعُدَّهَا الْعَادُّ بَعِيرًا بَعِيرًا ، وَيَكُونُ بِيَدِهِ عَوْدٌ يُشِيرُ بِهِ إِلَيْهَا وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالْعَدَدِ لِتُؤْمَنَ عَلَيْهِ الْخِيَانَةُ وَالْغَلَطُ ، حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى جَمِيعِ الْمَاشِيَةِ ، ثُمَّ يُثْبِتُهَا الْكَاتِبُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَهَذَا أَخْصَرُ الْعَدَدِ وَأَوْحَاهُ ، وَبِهِ جَرَتِ الْعَادَةُ ، فَإِنِ ادَّعَى رَبُّ الْمَالِ غَلَطًا عَلَى السَّاعِي ، أَوِ ادَّعَى السَّاعِي غَلَطًا عَلَى رَبِّ الْمَالِ أُعِيدَ الْعَدَدُ لِيَزُولَ الشَّكُّ .
فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ لِلسَّاعِي أَنْ يَسْتَعْمِلَ أَرْبَابَ الْأَمْوَالِ ، وَلَا أَنْ يُلْزِمَهُمْ جُعْلَ اتِّبَاعِهِ ؛ لِأَنَّهُ وَهُمْ وُكَلَاءُ أَهْلِ السُّهْمَانِ دُونَ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى أُجُورَهُمْ فِي الزَّكَاةِ ، وَفَرَضَ سَهْمًا لِلْعَامِلِينَ ، فَلَمْ يَجُزْ أَخْذُ أُجُورِهِمْ إِلَّا مِنَ الْمَالِ الَّذِي أَذِنَ اللَّهُ أَنْ يُصْرَفَ فِيهِمْ ، وَلَا يَجُوزَ لِلسَّاعِي أَنْ يَقْبَلَ مِنْ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ هَدِيَّةً ، لِأَنَّهُمْ يُهَادُونَهُ إِمَّا لِأَنْ يَتْرُكَ عَلَيْهِمْ حَقًّا ، أَوْ لِيَدْفَعَ عَنْهُمْ ظُلْمًا ، فَيَصِيرُ مُرْتَشِيًا عَلَى تَرْكِ حَقٍّ أَوْ دَفْعِ ظُلْمٍ ، وَذَلِكَ حَرَامٌ . وَقَدْ رَوَى أَبُو إِدْرِيسَ عَنْ ثَوْبَانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَعَنَ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِي وَالرَّائِشَ " . ذَكَرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي " غَرِيبِ الْحَدِيثِ " . فَالرَّاشِي دَافِعُ الرَّشْوَةِ ، وَالْمُرْتَشِي قَابِلُ الرَّشْوَةِ ، وَالرَّائِشُ الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَهُمَا ، وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُصَدِّقًا مِنَ الْأَزْدِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ اللتَّبِّيَةِ ، فَجَاءَ بِأَشْيَاءَ فَعَزَلَ بَعْضَهَا وَقَالَ : هَذَا لَكُمْ وَعَزَلَ بَعْضَهَا وَقَالَ : هَذَا أُهْدِيَ إِلَيَّ . فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَضَبًا شَدِيدًا وَرَقَى الْمِنْبَرَ وَقَالَ : " مَا بَالُ أَقْوَامٍ نُنْفِذُهُمْ إِلَى الصَّدَقَةِ فَيَقُولُونَ هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ إِلَيَّ . أَمَا كَانَ يَجْلِسُ فِي بَيْتِ أُمِّهِ ثَمَّ يَنْظُرُ هَلْ كَانَ يُهْدَى إِلَيْهِ شَيْءٌ أَمْ لَا ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَأْخُذُ مِنْهَا شَيْئًا إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عَاتِقِهِ ، إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَى رَأَيْتُ عَفْرَةَ إِبْطَيْهِ ثُمَّ قَالَ : اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ . وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " لَا تُخَالِطُ الصَّدَقَةُ مَالًا إِلَّا أَهْلَكَتْهُ " .