كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي
أَحَدُهَا : مُوسِرٌ يَسْتَعْمِلُ أَعْمَالَ الْمُوسِرِينَ ، فَلَا تَلْزَمُهُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ نَفْسِهِ وَعَبْدِهِ . . وَالثَّانِي : مُعْسِرٌ يَسْتَعْمِلُ أَعْمَالَ الْمُعْسِرِينَ ؛ فَهَذَا يَلْزَمُهُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ نَفْسِهِ وَبَيْنَ عَبْدِهِ . وَالثَّالِثُ : هُوَ مُوسِرٌ يَسْتَعْمِلُ أَفْعَالَ الْمُعْسِرِينَ فَيَلْزَمُهُ مُسَاوَاةُ عَبْدِهِ . وَالرَّابِعُ : مُعْسِرٌ يَسْتَعْمِلُ أَفْعَالَ الْمُوسِرِينَ فَيُمْنَعُ مِنْ مُسَاوَاةِ عَبْدِهِ لِتَرَفُّهِهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ .
الْقَوْلُ فِي كِسْوَةِ الْجَوَارِي
[ الْقَوْلُ فِي كِسْوَةِ الْجَوَارِي ] . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَالْجَوَارِي إِذَا كَانَتْ لَهُنَّ فَرَاهَةٌ وَجَمَالٌ فَالْمَعْرُوفُ أَنَّهُنَّ يُكْسَيْنَ أَحْسَنَ مِنْ كِسْوَةِ اللَّاتِي دُونَهُنَّ ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الْمَمْلُوكِينَ : أَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ وَاكْسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : هَذَا كَلَامٌ مُجْمَلٌ ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْجَوَابِ ؛ فَيَسْأَلُ السَائِلُ عَنْ مَمَالِيكِهِ وَإِنَّمَا يَأْكُلُ تَمْرًا أَوْ شَعِيرًا وَيَلْبَسُ صُوفًا ، فَقَالَ أَطْعِمُوهُمْ مِمَا تَأْكُلُونَ وَاكْسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ ، وَالسَّائِلُونَ عَرَبٌ وَلَبُوسُ عَامَّتِهِمْ وَطَعَامُهُمْ خَشِنٌ وَمَعَاشُهُمْ وَمَعَاشُ رَقِيقِهِمْ مُتَقَارِبٌ ، فَأَمَّا مَنْ خَالَفَ مَعَاشَ السَّلَفِ فَأَكَلَ رَقِيقَ الطَّعَامِ وَلَبِسَ جَيِّدَ الثِّيَابِ فَلَوْ آسَى رَقِيقَهُ كَانَ أَحْسَنَ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَهُ مَا قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَقَتُهُ وَكِسْوَتُهُ بِالْمَعْرُوفِ ، فَأَمَّا مَنْ لَبِسَ الْوَشْيَ وَالْمَرْوِيَّ وَالْخَزَّ وَأَكَلَ النَّقِيَّ وَأَلْوَانَ لُحُومِ الدَّجَاجِ ، فَهَذَا لَيْسَ بِالْمَعْرُوفِ لِلْمَمَالِيكِ ، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا كَفَى أَحَدَكُمْ خَادِمُهُ طَعَامَهُ حَرَّهُ وَدُخَانَهُ فَلْيَدْعُهُ فَلْيُجْلِسْهُ مَعَهُ ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُرَوِّغْ لَهُ لُقْمَةً فَيُنَاوَلْهُ إِيَّاهَا أَوْ كَلِمَةً هَذَا مَعْنَاهَا ، فَلَمَّا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَلْيُرَوِّغْ لَهُ لُقْمَةً كَانَ هَذَا عِنْدَنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ عَلَى وَجْهَيْنِ : أُولَاهُمَا : بِمَعْنَاهُ أَنَّ إِجْلَاسَهُ مَعَهُ أَفْضَلُ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ ؛ إِذْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَّا فَلْيُرَوِّغْ لَهُ لُقْمَةً لِأَنَّ إِجْلَاسَهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمْ يَجْعَلْ لَهُ أَنْ يُرَوِّغَ لَهُ لُقْمَةً دُونَ أَنْ يُجْلِسَهُ مَعَهُ أَوْ يَكُونَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُنَاوِلَهُ أَوْ يُجْلِسَهُ وَقَدْ يَكُونُ أَمْرَ اخْتِيَارٍ غَيْرَ الْحَتْمِ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ بَيَانِ طَعَامِ الْمَمْلُوكِ وَطَعَامِ سَيِّدِهِ ، وَالْمَمْلُوكُ الَّذِي يَلِي طَعَامَ الرَّجُلِ مُخَالِفٌ عِنْدِي لِلْمَمْلُوكِ الَّذِي لَا يَلِي طَعَامَهُ ، يَنْبَغِي أَنْ يُنَاوِلَهُ مِمَّا يَقْرُبَ إِلَيْهِ وَلَوْ لُقْمَةً ، فَإِنَّ الْمَعْرُوفَ أَنْ لَا يَكُونَ يَرَى طَعَامًا قَدْ وَلِيَ الْعَمَلَ فِيهِ ثُمَّ لَا يَنَالَ مِنْهُ شَيْئًا يَرُدُّ بِهِ شَهْوَتُهُ ، وَأَقَلُّ مَا يَرُدُّ بِهِ شَهْوَتَهُ لُقْمَةٌ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمَمَالِيكِ لَمْ يَلِهِ وَلَمْ يَرَهُ وَالسُّنَّةُ خَصَّتْ هَذَا مِنَ الْمَمَالِيكِ دُونَ غَيْرِهِ ، وَفِي الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا يُوَافِقُ بَعْضَ مَعْنَى
هَذَا ؛ قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ، وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَلَمْ يَقُلْ يُرْزَقُ مِثْلُهُمْ مِمَّنْ لَمْ يَحْضُرْ ، وَقِيلَ ذَلِكَ فِي الْمَوَارِيثِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْغَنَائِمِ وَهَذَا أَوْسَعُ وَأَحَبُّ إِلَيَّ ، وَيُعْطَوْنَ مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ الْمُعْطِي بِلَا تَوْقِيتٍ وَلَا يُحْرَمُونَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَصْلُ هَذَا اعْتِبَارُ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ ؛ فَجِوَارِي الْخِدْمَةِ مُبْتَذَلَاتٌ ، فَالْعُرْفُ فِي كِسْوَتِهِنَّ أَنْ تَكُونَ أَدْوَنَ ، وَجِوَارِي التَّسَرِّي مَصُونَاتٌ لِلِاسْتِمْتَاعِ ، وَالْعُرْفُ فِي كِسْوَتِهِنَّ أَنْ تَكُونَ أَرْفَعَ ، فَكَذَلِكَ الْعَبِيدُ ؛ كِسْوَةُ مَنْ هُوَ بَيْنَ الدَّوَابِّ أَدْوَنُ مِنْ كِسْوَةِ مَنْ قَامَ بِتَمْيِيزِ الْأَمْوَالِ ، وَكِسْوَاتُ الْجَوَارِي أَعَمُّ مِنْ كِسْوَاتِ الْعَبِيدِ لِمَا يَلْزَمُهُمْ مِنْ فَضْلِ السَّتْرِ لِئَلَّا تَمْتَدَّ إِلَيْهِنَّ الْأَبْصَارُ ، فَتَتَحَرَّكَ بِهَا الشَّهَوَاتُ .
الْقَوْلُ فِيمَا يَجِبُ عَلَى الْمَمْلُوكِ مِنَ الْعَمَلِ
[ الْقَوْلُ فِيمَا يَجِبُ عَلَى الْمَمْلُوكِ مِنَ الْعَمَلِ ] . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَعْنَى لَا يُكَلَّفُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا يُطِيقُ يَعْنِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ إِلَّا مَا يُطِيقُ الدَّوَامَ عَلَيْهِ لَا مَا يُطِيقُ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ ثَمَّ يَعْجِزُ ، وَجُمْلَةُ ذَلِكَ مَا لَا يَضُرُّ بِبَدَنِهِ الضَّرَرَ الْبَيِّنَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى مَا لِلْمَمْلُوكِ عَلَى سَيِّدِهِ مِنَ الْقُوتِ وَالْكِسْوَةِ ، فَأَمَّا مَا لِلسَّيِّدِ عَلَى مَمْلُوكِهِ مِنَ الْعَمَلِ وَالْخِدْمَةِ فَيَفْتَرِقُ فِيهِ حَالُ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ : لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْعُرْفِ نَوْعًا مِنَ الْخِدْمَةِ وَصِنْفًا مِنَ الْعَمَلِ ، لِاخْتِلَافِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِيهِمَا ، فَيُكَلَّفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْهُودَ خِدْمَتِهِ وَمَأْلُوفَ عَمَلِهِ ، فَإِنِ اشْتَرَكَ الْفَرِيقَانِ فِي عَمَلٍ اسْتَعْمَلَ فِيهِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْقُلَ عَبْدَهُ وَأَمَتَهُ مِنْ صِنَاعَةٍ قَدِ اخْتَصَّ بِهَا إِلَى تَعَلُّمِ غَيْرِهَا مِنْ صَنَائِعِ مِثْلِهِ ، فَأَمَّا قَدْرُ الْعَمَلِ فَمُعْتَبَرٌ بِمَا يُطِيقُ الدَّوَامَ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يُؤَثِّرُ فِي إِنْهَاكِ بَدَنٍ وَإِضْعَافِ قُوَّةٍ ، فَأَمَّا مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً وَلَا يُطِيقُ الدَّوَامَ عَلَيْهِ أَوْ كَانَ يُؤَثِّرُ فِي إِنْهَاكِ بَدَنِهِ وَإِضْعَافِ قُوَّتِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُكَلِّفَهُ إِيَّاهُ فِي طَوِيلِ الزَّمَانِ وَلَا فِي قَصِيرِهِ : لِأَنَّهُ نَوْعٌ خَرَجَ مِنْ مُسْتَحِقِّ عَمَلِهِ ، فَإِنْ رَضِيَ بِهِ الْعَبْدُ فِي مُدَّةِ طَاقَتِهِ جَازَ ، وَإِنْ كَثُرَ مُنِعَ مِنَ الْإِضْرَارِ بِنَفْسِهِ . .
الْقَوْلُ فِي نَفَقَةِ الْمَمْلُوكِ إِذَا عَمِيَ أَوْ زَمِنَ
[ الْقَوْلُ فِي نَفَقَةِ الْمَمْلُوكِ إِذَا عَمِيَ أَوْ زَمِنَ ] . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ عَمِيَ أَوْ زَمِنَ أَنْفَقَ عَلَيْهِ مَوْلَاهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، لِوُجُوبِ النَّفَقَةِ بِالْمِلْكِ دُونَ الْعَمَلِ فَاسْتَوَى فِيهَا الصَّحِيحُ وَالزَّمِنُ ، كَمَا يَسْتَوِي فِيهَا الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ الْأَعْمَى وَالزَّمِنُ فِيمَا يَصِحُّ مِنَ الْعُمْيَانِ وَالزَّمْنَى .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرْضِعَ الْأَمَةَ غَيْرَ وَلَدِهَا فَيَمْنَعَ مِنْهَا وَلَدَهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهَا فَضْلٌ عَنْ رِيِّهِ أَوْ يَكُونَ وَلَدُهَا يَغْتَذِي بِالطَّعَامِ فَيُقِيمَ بَدَنَهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : لَا يَخْلُو وَلَدُ الْأَمَةِ نفقته ورضاعته مِنْ أَنْ يَكُونَ حُرًّا أَوْ مَمْلُوكًا ؛ فَإِنْ كَانَ حُرًّا فَنَفَقَتُهُ وَرَضَاعُهُ عَلَى أَبِيهِ دُونَ سَيِّدِ أُمِّهِ ، وَلِسَيِّدِهَا أَنْ يَسْتَرْضِعَ لَبَنَهَا مَنْ أَرَادَ ، وَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ لِسَيِّدِ أُمِّهِ أَوْ غَيْرِهِ ؛ فَإِنْ كَانَ مِلْكًا لِغَيْرِ سَيِّدِهَا فَنَفَقَتُهُ وَرَضَاعَتُهُ عَلَى سَيِّدِهِ ، وَإِنْ كَانَ لِسَيِّدِهَا فَنَفَقَتُهُ وَرَضَاعَتُهُ عَلَى سَيِّدِهَا وَأُمُّهُ أَحَقُّ بِرَضَاعِهِ مِنْ غَيْرِهَا لِفَضْلِ حُنُوِّهَا وَاسْتِمْرَاءِ لَبَنِهَا وَإِدْرَارِهِ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهَا ، وَلَا يَخْلُو لَبَنُهَا مَعَهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ بِقَدْرِ رِيِّهِ وَوَفْقَ كِفَايَتِهِ ؛ فَعَلَى السَّيِّدِ أَنْ يُخَلِّيَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ رَضَاعِ وَلَدِهَا ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرْضِعَهَا غَيْرَهُ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا [ الْبَقَرَةِ : ] . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ لَبَنُهَا قَاصِرًا عَنْ رِيِّهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُمَكِّنَهَا مِنْ رَضَاعِهِ وَيُتَمِّمَ لَهُ مِنْ غَيْرِهَا بِقِيمَةِ رِيِّهِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ لَبَنُهَا أَكْثَرَ مِنْ رِيِّهِ ؛ فَعَلَيْهِ أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنَ ارْتِضَاعِ رِيِّهِ ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَرْضِعَ فَاضِلَ لَبَنِهَا مَنْ شَاءَ بِأَجْرٍ أَوْ بِغَيْرِ أَجْرٍ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيُنْفِقُ عَلَى وَلَدِ أُمِّ وَلَدِهِ نفقة المملوك مِنْ غَيْرِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا وَلَدُهُ مِنْهَا فَهُوَ حُرٌّ وَعَلَيْهِ نَفَقَتُهُ وَكِسْوَتُهُ كَسَائِرِ وَلَدِهِ ، وَأَمَّا وَلَدُهَا مِنْ غَيْرِهِ فَهُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ وَتَبَعٌ لِأُمِّهِ يُمْنَعُ مَنْ بِيعِهِ وَيُعْتَقُ عَلَيْهِ بِمَوْتِهِ مَعَ أُمِّهِ فَعَلَيْهِ نَفَقَتُهُمَا ، وَإِنْ حَرُمَ عَلَيْهِ بِيعَهُمَا لِجَرَيَانِ أَحْكَامِ الرِّقِّ عَلَيْهِمَا ، وَيَمْلِكُ أَكْسَابَهُمَا وَيَسْتَخْدِمُهُمَا لِلْأُمِّ دُونَ الْوَلَدِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيَمْنَعُهُ الْإِمَامُ أَنْ يَجْعَلْ عَلَى أَمَتِهِ خَرَاجًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي عَمَلٍ وَاجِبٍ وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ إِذَا لَمْ يُطِقِ الْكَسْبَ ؛ قَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي خُطْبَتِهِ : " لَا تُكَلِّفُوا الصَّغِيرَ الْكَسْبَ فَيَسْرِقَ وَلَا الْأَمَةَ غَيْرَ ذَاتِ الصَّنْعَةِ فَتَكْسِبَ بِفَرْجِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَضْعُ الْخَرَاجِ عَلَى الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ هُوَ أَنْ يُخْلِفَ السَّيِّدُ بَيْنَ عَبْدِهِ وَكَسْبِهِ عَلَى أَنْ يَدْفَعَ إِلَى سَيِّدِهِ كُلَّ يَوْمٍ قَدْرًا مَعْلُومًا ، وَيَكُونَ لَهُ فَاضِلُ كَسْبِهِ بِنَفَقَةٍ عَلَى نَفْسِهِ وَيَصْنَعَ بِهِ مَا شَاءَ ، وَلَا اعْتِرَاضَ لِلسَّيِّدِ عَلَيْهِ ؛ فَهَذَا جَائِزٌ ، وَقَدْ سَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَوَالِيَ أَبِي طِيبَةَ حِينَ حَجَّمَهُ وَقَدْ ضَرَبُوا عَلَيْهِ خَرَاجًا أَنْ يُخَفِّفُوا عَنْهُ خَرَاجَهُ ؛ دَلَّ عَلَى جَوَازِهِ وَهُوَ مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ دُونَ اللَّازِمَةِ ، وَجَوَازُهُ مُعْتَبَرٌ بِشَرْطَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَتَرَاضَيَا بِهِ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ لَا يَصِحُّ مِنَ الْإِجْبَارِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مُكْتَسِبًا لِقَدْرِ خَرَاجِهِ فَمَا زَادَ ، فَإِنْ قَصَرَ كَسْبُهُ عَنْ خَرَاجِهِ لَمْ يَصِحَّ ؛ لِقَوْلِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي خُطْبَتِهِ : " لَا تُكَلِّفِ الصَّغِيرَ الْكَسْبَ فَيَسْرِقَ وَلَا الْأَمَةَ غَيْرَ ذَاتِ الصَّنْعَةِ فَتَكْتَسِبَ بِفَرْجِهَا " ، وَيَسْتَوْفِي مِنْهُ السَّيِّدُ خَرَاجَهُ . فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ جَازَ أَنْ يُنْظِرَ بِهِ وَجَازَ لَهُ وَلِلْعَبْدِ أَنْ يَفْسَخَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقْدَ الْمُخَارَجَةِ بِسَبَبٍ أَوْ غَيْرِ سَبَبٍ ، فَإِنْ فَسَخَهُ أَحَدُهُمَا وَفِي يَدِ الْعَبْدِ فَاضِلٌ مِنْ كَسْبِهِ كَانَ مِلْكًا لِسَيِّدِهِ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوْ كَانَتْ لِرَجُلٍ دَابَّةٌ فِي الْمِصْرِ أَوْ شَاةٌ أَوْ بَعِيرٌ عَلَفَهُ بِمَا يُقِيمُهُ ، فَإِنِ امْتَنَعَ أَخَذَهُ السُلْطَانُ بِعَلَفِهِ أَوْ بَيْعِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : نَفَقَاتُ الْبَهَائِمِ الْمَمْلُوكَةِ وَاجِبَةٌ عَلَى أَرْبَابِهَا ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّقُوا اللَّهَ فِيمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ . ، وَنَهَى عَنْ تَعْذِيبِ الْبَهَائِمِ وَعَنْ قَتْلِهَا إِلَّا لِمَأْكَلِهِ ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : أُطْلِعْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي فِي النَّارِ فَرَأَيْتُ امْرَأَةً تُعَذَّبَ فَسَأَلْتُ عَنْهَا فَقِيلَ إِنَّهَا رَبَطَتْ هِرَّةً فَلَمْ تُطْعِمْهَا وَلَمْ تَسْقِهَا وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ حَتَّى مَاتَتْ فَعَذَّبَهَا اللَّهُ تَعَالَى ، وَاطَّلَعَتْ عَلَى الْجَنَّةِ فَرَأَيْتُ امْرَأَةً مُوَمِسَةً - يَعْنِي : زَانِيَةً - فَسَأَلْتُ عَنْهَا فَقِيلَ : إِنَّهَا مَرَّتْ بِكَلْبٍ عَلَى بِئْرٍ يَلْهَثُ مِنَ الْعَطَشِ فَأَرْسَلَتْ إِزَارَهَا فَبَلَّتْهُ وَعَصَرَتْهُ فِي حَلْقِهِ حَتَّى رُوِيَ فَغَفَرَ اللَّهُ لَهَا ، فَدَلَّ كِلَا الْأَمْرَيْنِ عَلَى حِرَاسَةِ نُفُوقِ الْبَهَائِمِ بِإِطْعَامِهَا حَتَّى تَشْبَعَ وَبِسَقْيِهَا حَتَّى تُرَوَى سَوَاءٌ كَانَتْ مَأْكُولَةً أَوْ غَيْرَ مَأْكُولَةٍ فَإِنْ قَصَّرَ فِيهَا حَتَّى هَلَكَتْ أَوْ نُهِكَتْ أَثِمَ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ كَانَ بِبَادِيَةٍ غَنَمٌ أَوْ إِبِلٌ أَوْ بَقَرٌ أَخَذَتْ عَلَى الْمَرْعَى خَلَّاهَا وَالرَّعْيَ ، فَإِنْ أَجْدَبَتِ الْأَرْضُ عَلَفَهَا أَوْ ذَبَحَهَا أَوْ بَاعَهَا وَلَا يَحْبِسَهَا فَتَمُوتَ هَزَلًا إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ مُتَعَلِّقٌ وَأُجْبِرَ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهَا مُتَعَلِّقٌ لِأَنَّهَا عَلَى مَا فِي الْأَرْضِ تُتَّخَذُ وَلَيْسَتْ كَالدَّوَابِّ الَّتِي لَا تَرْعَى وَالْأَرْضُ مُخْصِبَةٌ إِلَّا رَعْيًا ضَعِيفًا وَلَا تَقُومُ لِلْجَدْبِ قِيَامَ الرَّوَاعِي " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : عُلُوفَةُ الْبَهَائِمِ مُعْتَبَرَةٌ بِعُرْفِهَا ، وَلَهَا فِي الْعُرْفِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ مَعْلُوفَةً لَا تَرْعَى ؛ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْلِفَهَا حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى أَوَّلِ شِبَعِهَا ، وَلَا يَلْزَمُهُ الِانْتِهَاءُ إِلَى غَايَتِهِ ، وَيَسْقِيَهَا حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى رِيِّهَا دُونَ غَايَتِهِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُعَدِّلَ بِهَا إِلَى الرَّعْيِ إِذَا لَمْ تَأْلَفْهُ ، فَإِنِ امْتَنَعَ مِنْ عَلْفِهَا أَوْ قَصَّرَ عَنْ كِفَايَتِهَا رُوعِيَ حَالُهَا ، فَإِنْ
كَانَتْ مَأْكُولَةً خُيِّرَ مَالِكُهَا بَيْنَ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ : بَيْنَ عَلْفِهَا أَوْ ذَبْحِهَا أَوْ بَيْعِهَا . فَإِنِ امْتَنَعَ بَاعَ السُّلْطَانُ مِنْهَا بِقَدْرِ عَلَفِهَا ، فَإِنْ تَعَذَّرَ بَيْعُ بَعْضِهَا بَاعَ عَلَيْهِ جَمِيعَهَا ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَأْكُولَةٍ ، خُيِّرَ بَيْنَ عَلْفِهَا أَوْ بَيْعِهَا وَحَرُمَ عَلَيْهِ ذَبْحُهَا لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَبْحِ الْحَيَوَانِ إِلَّا لِمَأْكِلِهِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ تَكُونَ رَاعِيَةً لَا تَعْتَلِفُ ؛ فَعَلَيْهِ إِرْسَالُهَا فِي الْمَرْعَى حَتَّى تَشْبَعَ مِنَ الْكَلَأِ ، وَتَرْتَوِيَ مِنَ الْمَاءِ وَعَلَيْهِ فِي تَسْرِيحِهَا لِلْمَرْعَى حَقَّانِ : أَحَدُهُمَا أَنْ تَكُونَ أَرْضُ الْمَرْعَى ذَاتَ مَاءٍ مَشْرُوبٍ . وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ غَيْرَ مُشْبِعَةٍ حَتَّى لَا تَفْتَرِشَ ، ثُمَّ لَهُ بَعْدَ الشِّبَعِ وَالرَّعْيِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ عَوَامِلَهَا ، فَإِنْ جَدَبَتِ الْأَرْضُ وَلَمْ يَبْقَ فِيهَا مُتَعَلِّقٌ تَرْعَى نَقَلَهَا إِلَى أَرْضٍ خِصْبَةٍ إِنْ وَجَدَهَا ، فَإِنْ لَمْ يَجِدِ ارْتَادَ لَهَا مَا يُمْسِكُ رَمَقَهَا ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فُعِلَ مَا قَدَّمْنَاهُ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ تَكُونَ جَامِعَةً بَيْنَ الْعُلُوفَةِ وَالرَّعْيِ ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكْتَفِيَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَكُونَ مُخَيَّرًا فِيهِمَا ، فَإِنِ امْتَنَعَ فَعَلَى مَا مَضَى . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا تَكْتَفِيَ إِلَّا بِهِمَا ؛ فَعَلَيْهِ لَهَا الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَلَا يَقْتَصِرَ بِهَا عَلَى أَحَدِهِمَا ، فَإِنِ امْتَنَعَ فَعَلَى مَا مَضَى .
الْقَوْلُ فِي حَلْبِ أُمَّهَاتِ النَّسْلِ
[ الْقَوْلُ فِي حَلْبِ أُمَّهَاتِ النَّسْلِ ] . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا تُحْلَبُ أُمَّهَاتُ النَّسْلِ إِلَّا فَضْلًا عَمَّا يُقِيمُ أَوْلَادَهُنَّ ، لَا يَحْلِبُهُنَّ فَيَمُتْنَ هَزَلًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَلَدُ الْبَهِيمَةِ فِي ارْتِوَائِهِ مِنْ لَبَنِهَا إِذَا كَانَ رَضِيعًا كَوَلَدِ الْأَمَةِ فِي تَمْكِينِهِ مِنْ رِيِّهِ ؛ لِحُرْمَةِ نَفْسِهِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْلِبَ مِنْ لَبَنِهَا إِذَا كَانَ رَضِيعًا إِلَّا مَا فَضَلَ عَنْ رِيِّهِ حَتَّى يَسْتَغْنِيَ عَنْهُ بِرَعْيٍ أَوْ عُلُوفَةٍ أَوْ ذَبْحِهِ إِذَا كَانَ مَأْكُولًا ، فَإِنْ عَدَلَ بِهِ إِلَى لَبَنٍ غَيْرِ أُمِّهِ جَازَ إِنِ اشْتَرَاهُ ، وَإِنْ أَبَاهُ وَلَمْ يَقْبَلْهُ كَانَ أَحَقَّ بِلَبَنِ أُمِّهِ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ أَجْمَعِينَ .
_____كِتَابُ الْقَتْلِ _____
بَابُ تَحْرِيمِ الْقَتْلِ وَمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ وَمَنْ لَا يَجِبُ
بيان الْأَصْلُ فِي ابْتِدَاءِ الْقَتْلِ وَتَحْرِيمِهِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابُ الْقَتْلِ بَابُ تَحْرِيمِ الْقَتْلِ وَمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ وَمَنْ لَا يَجِبُ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ الْآيَةَ ، وَقَالَ تَعَالَى : وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ، وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - : لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ : كُفْرٌ بَعْدَ إِيمَانٍ أَوْ زِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ أَوْ قَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : الْأَصْلُ فِي ابْتِدَاءِ الْقَتْلِ وَتَحْرِيمِهِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ اسْمُهُ عَلَى رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قِصَّةِ ابْنَيْ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هَابِيلَ ، وَقَابِيلَ ، حَتَّى بَلَّغَ الْأُمَّةَ وَأَنْذَرَهَا فَقَالَ : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ [ الْمَائِدَةِ : 27 ] يَعْنِي بِالصِّدْقِ ، وَيُرِيدُ بِابْنَيْ آدَمَ قَابِيلَ الْقَاتِلَ ، وَهَابِيلَ الْمَقْتُولَ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ [ الْمَائِدَةِ : 27 ] وَسَبَبُ قُرْبَانِهِمَا أَنَّ آدَمَ أَقَرَّ أَنْ يُزَوِّجَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ وَلَدِهِ بِتَوْأَمَةِ أَخِيهِ ، فَلَمَّا هَمَّ هَابِيلُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِتَوْأَمَةِ قَابِيلَ مَنَعَهُ مِنْهَا ، وَقَالَ : أَنَا أَحَقُّ بِهَا مِنْكَ . وَفِي سَبَبِ هَذَا الْقَوْلِ مِنْهُ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لِأَنَّ قَابِيلَ وَتَوْأَمَتَهُ كَانَا مِنْ وِلَادَةِ الْجَنَّةِ : وَهَابِيلَ وَتَوْأَمَتَهُ كَانَا مِنْ وِلَادَةِ الْأَرْضِ . وَالثَّانِي : لِأَنَّ تَوْأَمَةَ قَابِيلَ كَانَتْ أَحْسَنَ مِنْ تَوْأَمَةِ هَابِيلَ فَاخْتَصَمَا إِلَى آدَمَ فَأَمَرَهُمَا أَنْ يُقَرِّبَا قُرْبَانًا ، وَكَانَ هَابِيلُ رَاعِيًا فَقَرَّبَ هَابِيلُ سَمِينَةً مِنْ خِيَارِ مَالِهِ ، وَكَانَ قَابِيلُ حَرَّاثًا ، فَقَرَّبَ حِزْمَةَ زَرْعٍ ، فَنَزَلَتْ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ فَرَفَعَتْ قُرْبَانَ هَابِيلَ ، وَتَرَكَتْ قُرْبَانَ قَابِيلَ ، وَكَانَ ذَلِكَ عَلَامَةَ الْقَبُولِ فَازْدَادَ حَسَدُ قَابِيلَ لِهَابِيلَ ، فَقَالَ : لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ : إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ [ الْمَائِدَةِ : 27 ، 28 ] فَلَمْ يَمْنَعْ عَنْ نَفْسِهِ : لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي الْمَنْعِ مِنْهَا وَهُوَ مَأْذُونٌ فِيهِ الْآنَ ، وَفِي وُجُوبِهِ لِلْفُقَهَاءِ قَوْلَانِ . فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ [ الْمَائِدَةِ : 30 ] فِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : شَجَّعَتْ قَالَهُ مُجَاهِدٌ . وَالثَّانِي : زَيَّنَتْ قَالَهُ قَتَادَةُ . فَقَتَلَهُ [ الْمَائِدَةِ : 30 ] قِيلَ : بِحَجَرٍ شَرَخَ بِهِ رَأْسَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ
[ الْمَائِدَةِ : 30 ] لِأَنَّهُ خَسِرَ أَخَاهُ وَدِينَهُ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ [ الْمَائِدَةِ : 31 ] لِأَنَّهُ تَرَكَ أَخَاهُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَلَمْ يَدْفِنْهُ ؟ لِأَنَّهُ لَمْ يَرَ قَبْلَهُ مَقْتُولًا وَلَا مَيِّتًا ، وَفِي بَحْثِ الْغُرَابِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : بَحَثَ الْأَرْضَ عَلَى مَا يَدْفِنُهُ فِيهَا لِقُوَّتِهِ فَتَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى دَفْنِ أَخِيهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ بَحَثَ عَلَى غُرَابٍ مَيِّتٍ حَتَّى دَفَنَهُ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي [ الْمَائِدَةِ : 31 ] فَدَفَنَهُ حِينَئِذٍ وَوَارَاهُ فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ، فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : مِنَ النَّادِمِينَ عَلَى قَتْلِ أَخِيهِ . وَالثَّانِي : مِنَ النَّادِمِينَ عَلَى أَنْ تَرَكَ مُوَارَاةَ سَوْأَةِ أَخِيهِ ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى بَعْدَ مَا أَنْهَاهُ مِنْ حَالِ ابْنَيْ آدَمَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [ الْمَائِدَةِ : 32 ] أَنْ خَلَّصَهَا مِنْ قَتْلٍ وَهَلَكَةٍ وَسَمَّاهُ إِحْيَاءً لِمَا فِيهِ مِنْ بَقَاءِ الْحَيَاةِ ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُحْيِي ، وَفِي تَسْمِيَتِهِ بِقَتْلِ النَّاسِ جَمِيعًا وَإِحْيَاءِ النَّاسِ جَمِيعًا تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : فَكَأَنَّمَا قَتَلَ جَمِيعَ النَّاسِ عِنْدَ الْمَقْتُولِ ، وَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ عِنْدَ الْمُسْتَنْقَذِ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ دَمَ الْقَاتِلِ كَمَا لَوْ قَتَلَهُمْ جَمِيعًا ، وَعَلَيْهِمْ شُكْرَ الْمُحْيِي كَمَا لَوْ أَحْيَاهُمْ جَمِيعًا ، وَهَذَا أَصْلٌ فِي تَحْرِيمِ الْقَتْلِ . وَقَدْ رَوَى مَعْمَرٌ عَنِ الْحَسَنِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ ابْنَيْ آدَمَ ضُرِبَا مَثَلًا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ فَخُذُوا مِنْ خَيْرِهِمَا وَدَعُوا شَرَّهُمَا . وَقَالَ : وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا [ النِّسَاءِ : 92 ] الْآيَةَ وَهَذَا أَغْلَظُ وَعِيدٍ يَجِبُ فِي أَغْلَظِ تَحْرِيمٍ حَتَّى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لِأَجْلِ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الوَعِيدِ : إِنَّ تَوْبَةَ الْقَاتِلِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ ، وَتَعَلُّقًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : مَا نَازَلْتُ رَبِّي فِي شَيْءٍ كَمَا نَازَلْتُهُ فِي تَوْبَةِ قَاتِلِ الْعَمْدِ فَأَبَى عَلَيَّ وَذَهَبَ مَنْ سِوَاهُ إِلَى قَبُولِ تَوْبَتِهِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [ الْفُرْقَانِ : 68 ] إِلَى قَوْلِهِ : إِلَّا مَنْ تَابَ فَاسْتَثْنَاهُ مِنَ الوَعِيدِ ، فَدَلَّ عَلَى قَبُولِ تَوْبَتِهِ . فَإِنْ قِيلَ : هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ قَبْلَ الْآيَةِ الْأُولَى بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَنْسَخَ مَا بَعْدَهَا .
قِيلَ : لَيْسَ فِيهَا نَسْخٌ ، وَإِنَّمَا فِيهَا إِثْبَاتُ شَرْطٍ ، وَالشَّرْطُ مَعْمُولٌ عَلَيْهِ تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ ، فَأَمَّا الْخَبَرُ الْمَحْمُولُ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الزَّجْرِ لِئَلَّا يُسَارِعَ النَّاسُ عَلَى الْقَتْلِ تَعْوِيلًا عَلَى التَّوْبَةِ مِنْهُ ، وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : بَابُ التَّوْبَةِ مَفْتُوحٌ مَا يَقْتَضِي حَمْلَهُ عَلَى هَذَا مَعَ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ [ الشُّورَى : 25 ] وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَنْزَعِ التَّوْبَةَ عَنْ أُمَّتِي إِلَّا عِنْدَ الْحَشْرَجَةِ يَعْنِي وَقْتَ الْمُعَايَنَةِ . وَأَمَّا تَحْرِيمُ الْقَتْلِ بِالسُّنَّةِ فَرَوَى أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلٍ عَنْ عُثْمَانَ ، وَرَوَى مَسْرُوقٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَرَوَى عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ عَنْ عَائِشَةَ ، كُلُّهُمْ يَتَّفِقُونَ مَعَ اخْتِلَافِ الْأَلْفَاظِ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ : كُفْرٌ بَعْدَ إِيمَانٍ أَوْ زِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ أَوْ قَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ . وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِقَتِيلٍ فَقَالَ : مَنْ لِهَذَا ؟ فَلَمْ يُذْكَرْ لَهُ أَحَدٌ فَغَضِبَ ، ثُمَّ قَالَ : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ تَمَالَأَ عَلَيْهِ أَهْلُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَأَكَبَّهُمُ اللَّهُ فِي النَّارِ . وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : زَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ قَتْلِ مُؤْمِنٍ . وَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ : سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيُّ الْكَبَائِرِ أَعْظَمُ ؟ قَالَ : أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ قُلْتُ : ثُمَّ أَيْ ؟ قَالَ : أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَكَ قُلْتُ : ثُمَّ أَيْ ؟ قَالَ : أَنْ تَزْنِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ وَلَوْ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ لَقِيَ اللَّهَ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ .
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ : أَلَا إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا اللَّهُمَّ اشْهَدْ
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ تَحْرِيمُ الْقَتْلِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَعَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ وَشَوَاهِدِ الْعُقُولِ فَالْقِصَاصُ فِيهِ وَاجِبٌ القصاص في القتل لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ [ الْبَقَرَةِ : 178 ] يَعْنِي أَنَّ الْعَفْوَ عَنِ الْقَوَدِ يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الدِّيَةِ ، يُطَالِبُ بِهَا الْوَلِيُّ بِمَعْرُوفٍ ، وَيُؤَدِّيهَا الْقَاتِلُ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ، ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ، يَعْنِي : التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ ، تَخْفِيفٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ : لِأَنَّ قَوْمَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوْجَبَ عَلَيْهِمُ الْقِصَاصَ دُونَ الدِّيَةِ ، وَقَوْمَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوْجَبَ عَلَيْهِمِ الدِّيَةَ دُونَ الْقِصَاصِ ، وَخُيِّرَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ ، فَكَانَ تَخْفِيفًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَرَحْمَةً وَقَالَ : وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [ الْبَقَرَةِ : 179 ] لِأَنَّ الْقِصَاصَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي اسْتِيفَائِهِ حَيَاةٌ فَوُجُوبُهُ سَبَبٌ لِلْحَيَاةِ : لِأَنَّ الْقَاتِلَ إِذَا عَلِمَ بِوُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ كَفَّ عَنِ الْقَتْلِ ، وَلَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ فَصَارَ حَيَاةً لَهُمَا ، وَهَذَا مِنْ أَوْجَهِ كَلَامٍ وَأَوْضَحِ مَعْنًى . وَقِيلَ : إِنَّهُ فِي التَّوْرَاةِ : يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَقْتُلُوا تُقْتَلُوا ، وَبَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ فَرْقٌ إِذَا سُبِرَ ، وَتَعَاطَتِ الْعَرَبُ مِثْلَ ذَلِكَ ، فَقَالُوا : الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ ، وَكَانَ لَفْظُ الْقِرَآنُ أَفْصَحَ ، وَمَعْنَاهُ أَوْضَحَ وَكَلَامُهُ أَوْجَزَ ، وَقَالَ : وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا [ الْإِسْرَاءِ : 33 ] فِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ الْقِصَاصُ ، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ الْخِيَارُ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ ، أَوِ الْعَفْوِ عَنْهُمَا ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ . فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ فِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَقْتُلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ ، وَهُوَ قَوْلُ طَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ . وَالثَّانِي : يُمَثِّلُ بِهِ إِذَا اقْتَصَّ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَتَأَوَّلَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَدَاوُدُ تَأْوِيلًا ثَالِثًا : أَنْ يَقْتُلَ الْجَمَاعَةَ بِالْوَاحِدِ . ( إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ) فِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْوَلِيَّ كَانَ مَنْصُورًا بِتَمْكِينِهِ مِنَ القِصَاصِ وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمَقْتُولَ كَانَ مَنْصُورًا بِقَتْلِ قَاتِلِهِ ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ ، وَقَالَ : وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ إِلَى قَوْلِهِ : فَهُوَ كَفَّارَةٌ .
[ الْمَائِدَةِ : 45 ] لَهُ فِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ لِلْمَجْرُوحِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ . وَالثَّانِي : فَهُوَ كَفَّارَةٌ لِلْجَارِحِ : لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ أَخْذِ الْحَقِّ مِنْهُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَذَا إِخْبَارٌ عَنْ شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا ، وَهِيَ غَيْرُ لَازِمَةٍ لَنَا . قِيلَ : فِي لُزُومِهَا لَنَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَلْزَمُنَا مَا لَمْ يَرِدْ نَسْخٌ . وَالثَّانِي : لَا يَلْزَمُنَا إِلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ ، وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ بِوُجُوبِ ذَلِكَ عَلَيْنَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَدْ قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ [ الْمَائِدَةِ : 45 ] بِالرَّفْعِ وَهَذَا خَارِجٌ عَنِ الْخَبَرِ إِلَى الْأَمْرِ . وَالثَّانِي : مَا رَوَى حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ : كَسَرَتِ الرُّبَيِّعُ بِنْتُ مُعَوِّذٍ وَهِيَ عَمَّةُ أَنَسٍ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ ، فَطَلَبَ الْقَوْمُ الْقِصَاصَ فَأَتَوْا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَ بِالْقِصَاصِ فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ ، عَمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ : لَا وَاللَّهِ لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ فَرَضِيَ وَقَبِلُوا الْأَرْشَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّ قَسَمَهُ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ . فَمَوْضِعُ الدَّلِيلِ مِنْ أَنَّهُ أَخْبَرَ بِأَنَّ كِتَابَ اللَّهِ مُوجِبٌ لِلْقِصَاصِ فِي السِّنِّ وَلَمْ يَذْكُرْهُ إِلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَدَلَّ عَلَى لُزُومِهَا لَنَا ، وَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ مِنَ السُّنَّةِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : ثَمَّ أَنْتُمْ يَا خُزَاعَةُ قَدْ قَتَلْتُمْ هَذَا الْقَتِيلَ مِنْ هُذَيْلٍ ، وَأَنَا وَاللَّهِ عَاقِلُهُ ، فَمَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ إِنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا ، وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الْعَقْلَ وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَهُوَ بِهِ بِسَوَاءٍ يَعْنِي سَوَاءً . فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْقِصَاصِ ، وَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِالتَّكَافُؤِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ تَعَلَّقَ بِالْقَتْلِ حَقَّانِ : أَحَدُهُمَا : لِلَّهِ . وَالثَّانِي : لِلْمَقْتُولِ . فَأَمَّا حَقُّ اللَّهِ فَشَيْئَانِ الْكَفَّارَةُ وَالْمَأْثَمُ .
فَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَلَا تَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ كفارة القتل ، وَأَمَّا الْمَأْثَمُ فَيَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ . وَالتَّوْبَةُ مُعْتَبَرَةٌ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : النَّدَمُ عَلَى قَتْلِهِ ، وَتَرْكُ الْعَزْمِ عَلَى مِثْلِهِ ، وَتَسْلِيمُ نَفْسِهِ إِلَى وَلِيِّ الْمَقْتُولِ : لِيَقْتَصَّ مِنْهُ أَوْ يَعْفُوَ عَنْهُ . وَأَمَّا حَقُّ الْمَقْتُولِ فَأَحَدُ أَمْرَيْنِ يَرْجِعُ فِيهَا إِلَى خِيَارِ وَلِيِّهِ فِي الْقِصَاصِ أَوِ الدِّيَةِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ . وَرُوِيَ أَنْ مِقْيَسَ بْنَ صُبَابَةَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُطَالِبُهِ بِدَمِ أَخِيهِ وَقَدْ قَتَلَهُ بَعْضُ الْأَنْصَارِ ، فَحَكَمَ لَهُ بِالدِّيَةِ ، فَأَخَذَهَا ثُمَّ عَدَا عَلَى قَاتِلِ أَخِيهِ وَعَادَ إِلَى مَكَّةَ مُرْتَدًّا . وَأَنْشَأَ يَقُولُ : شَفَى النَفْسَ أَنْ قَدْ بَاتَ بِالْقَاعِ مُسْنِدًا تُضَرِّجُ ثَوْبَيْهِ دِمَاءُ الْأَخَادِعِ ثَأَرْثُ بِهِ قَهْرًا وَحَمَّلْتُ عَقْلَهُ سَرَاةَ بَنِي النَّجَّارِ أَرْبَابَ فَارِعِ حَلَلْتُ بِهِ وِتْرِي وَأَدْرَكْتُ ثُؤْرَتِي وَكُنْتُ عَنِ الْإِسْلَامِ أَوَّلَ رَاجِعِ فَقَتَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ صَبْرًا . وَهُوَ أَحَدُ السِّتَّةِ الَّذِينَ أَمَرَ بِقَتْلِهِمْ ، وَإِنْ تَعَلَّقُوا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ .
مَسْأَلَةٌ الْمُكَافَأَةُ مُعْتَبَرَةٌ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى تَفْصِيلِ أَقْسَامِهَا
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَإِذَا تَكَافَأَ الدَّمَانِ مِنَ الأَحْرَارِ الْمُسْلِمِينَ أَوِ الْعَبِيدِ الْمُسْلِمِينَ أَوِ الْأَحْرَارِ مِنَ المُعَاهَدِينَ أَوِ الْعَبِيدِ مِنْهُمْ قُتِلَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مُكَافِئُ دَمِهِ مِنْهُمُ الذَّكَرُ قُتِلَ بِالذَّكَرِ وَبِالْأُنْثَى ، وَالْأُنْثَى إِذَا قَتَلَتْ بِالْأُنْثَى وَبِالذَّكَرِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَالْمُكَافَأَةُ مُعْتَبَرَةٌ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى تَفْصِيلِ أَقْسَامِهَا ، وَهِيَ مُنْقَسِمَةٌ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : مُكَافَأَةٌ فِي الْأَجْنَاسِ ، وَمُكَافَأَةٌ فِي الْأَنْسَابِ ، وَمُكَافَأَةٌ فِي الْأَحْكَامِ . فَأَمَّا مُكَافَأَةُ الْأَجْنَاسِ : فَهُوَ الذُّكُورُ بِالذُّكُورِ وَالْإِنَاثُ بِالْإِنَاثِ : فَهُوَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ بِأَسْرِهِمْ ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَيَجُوزُ أَنْ يُقْتَلَ الذَّكَرُ بِالذَّكَرِ وَبِالْأُنْثَى ، وَتُقْتَلَ الْأُنْثَى بِالْأُنْثَى وَبِالذَّكَرِ . وَحَكَى الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ : لَا يُقْتَلُ الذَّكَرُ بِالْأُنْثَى إِلَّا أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهَا نِصْفُ الدِّيَةِ ثُمَّ يُقْتَلُ بِهَا .
وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى [ الْبَقَرَةِ : 178 ] فَلَمَّا لَمْ يَتَكَافَأِ الْأَحْرَارُ وَالْعَبِيدُ لَمْ يَتَكَافَأِ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ : وَلِأَنَّ تَفَاضُلَ الدِّيَاتِ تَمْنَعُ مِنَ التَّمَاثُلِ فِي الْقِصَاصِ كَمَا يَمْنَعُ تَفَاضُلَ الْقِيَمِ فِي الْمُتْلَفَاتِ مِنَ التَّسَاوِي فِي الْغُرْمِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [ الْمَائِدَةِ : 45 ] فَعَمَّ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ . وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ كِتَابًا إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ فِيهِ الْفَرَائِضُ ، وَالسُّنَنُ ، وَأَنْفَذَهُ مَعَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ ، وَكَانَ فِيهِ يُقْتَلُ الذَّكَرُ بِالْأُنْثَى وَهَذَا نَصٌّ . وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ يَهُودِيًّا مَرَّ بِجَارِيَةٍ عَلَيْهَا حُلِيٌّ لَهَا ، فَأَخَذَ حُلِيَّهَا ، وَأَلْقَاهَا فِي بِئْرٍ فَأُخْرِجَتْ وَبِهَا رَمَقٌ ، فَقِيلَ : مَنْ قَتَلَكِ ؟ قَالَتْ : فُلَانٌ الْيَهُودِيُّ ، فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاعْتَرَفَ فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ . وَلِأَنَّ الْأَحْكَامَ ضَرْبَانِ : ضَرْبٌ تَعَلَّقَ بِحُرْمَةٍ كَالْحُدُودِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ ، وَضَرْبٌ تَعَلَّقَ بِالْمَالِ كَالْمِيرَاثِ : فَتَكُونُ الْمَرْأَةُ فِيهِ عَلَى النِّصْفِ مِنَ الرَّجُلِ وَالْقَوَدُ مُتَعَلِّقٌ بِالْحُرْمَةِ فَاسْتَوَتْ فِيهِ الْمَرْأَةُ وَالرَّجُلُ . وَالدِّيَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَالِ فَكَانَتِ الْمَرْأَةُ فِيهِ عَلَى النِّصْفِ مِنَ الرَّجُلِ . وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ إِنْ وَجَبَ فَبَذْلُ الْمَالِ مَعَهُ لَا يَجِبُ وَإِنْ لَمْ يَجِبِ الْقِصَاصُ فَبَذْلُ الْمَالِ لَا يَجِبُ . فَأَمَّا قَوْلُهُ : وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَلَيْسَ يَمْنَعُ قَتْلُ الْأُنْثَى بِالْأُنْثَى مِنْ قَتْلِ الذَّكَرِ بِالْأُنْثَى : لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُعَلَّقَ بِعَيْنٍ لَا يَقْتَضِي نَفْيَهُ عَمَّا عَدَاهَا . وَأَمَّا اخْتِلَافُ الدِّيَاتِ فَلَا يَمْنَعُ مِنَ التَّمَاثُلِ فِي الْقِصَاصِ كَتَفَاضُلِ الدِّيَاتِ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ وَهُمْ مُتَسَاوُونَ فِي الْقِصَاصِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا التَّكَافُؤُ بِالْأَنْسَابِ في القصاص فَغَيْرُ مُعْتَبَرٍ بِالْإِجْمَاعِ فَيُقْتَلُ الشَّرِيفُ بِالدَّنِيءِ ، وَالدَّنِيءُ بِالشَّرِيفِ ، وَالْعَرَبِيُّ بِالْعَجَمِيِّ ، وَالْعَجَمِيُّ بِالْعَرَبِيِّ . رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ائْتُونِي بِأَعْمَالِكُمْ وَلَا تَأْتُونِي بِأَنْسَابِكُمْ .
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ : مَنْ لَهُ عَلَيَّ مَظْلَمَةٌ أَوْ لَهُ قِبَلِي حَقٌّ فَلْيَقُمْ لِيَأْخُذَ حَقَّهُ فَقَامَ لَهُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ عُكَّاشَةُ ، فَقَالَ : لِي عَلَيْكَ مَظْلَمَةٌ ضَرْبَتَانِ بِالسَّوْطِ عَلَى بَطْنِي يَوْمَ كَذَا ، فَكَشَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَطْنِهِ وَقَالَ : قُمْ فَاقْتَصَّ ، فَبَكَى الرَّجُلُ ، وَقَالَ : عَفَا اللَّهُ عَنْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِأَنَّ الشَّرِيفَ كَانَ إِذَا أَتَى الْحَدَّ لَمْ يُحَدَّ وَحُدَّ الدَّنِيءُ . وَأَمَّا تَكَافُؤُ الْأَحْكَامِ فَكَالْأَحْرَارِ مَعَ الْعَبِيدِ ، وَالْمُسْلِمِينَ مَعَ الْمُعَاهِدِينَ ، فَهُوَ عِنْدَنَا مُعْتَبَرٌ ، وَإِنْ خُولِفْنَا فِيهِ وَسَنَذْكُرُهُ فِيمَا يَلِيهِ . وَأَصْلُ التَّكَافُؤِ فِي الْحُرِّيَّةِ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ . وَإِنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ بِالْمُسْتَأْمَنِ وَهُوَ فِي التَّحْرِيمِ مِثْلُ الْمُعَاهَدِ . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : فَإِذَا لَمْ يُقْتَلْ بِأَحَدِ الْكَافِرَيْنِ الْمُحَرَّمَيْنِ لَمْ يُقْتَلْ بِالْآخَرِ . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : قَالَ قَائِلٌ : عَنَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ حَرْبِيٍّ فَهَلْ مِنْ بَيَانٍ فِي مِثْلِ هَذَا يَثْبُتُ ؟ قُلْتُ : نَعَمْ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَرِثُ الْمُؤْمِنُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُؤْمِنَ فَهَلْ تَزْعُمُ أَنَّهُ أَرَادَ أَهْلَ الْحَرْبِ لِأَنَّ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ حَلَالٌ ؟ قَالَ : لَا وَلَكِنَّهَا عَلَى جَمِيعِ الْكَافِرِينَ لِأَنَّ اسْمَ الْكُفْرِ يَلْزَمُهُمْ . قُلْنَا : وَكَذَلِكَ لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ لِأَنَّ اسْمَ الْكُفْرِ يَلْزَمُهُمْ فَمَا الْفَرْقُ ؟ قَالَ قَائِلٌ : رَوَيْنَا حَدِيثَ ابْنِ الْبَيْلَمَانِيِّ قُلْنَا مُنْقَطِعٌ وَخَطَأٌ إِنَّمَا رُوِيَ فِيمَا بَلَغَنَا أَنَّ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ قَتَلَ كَافِرًا كَانَ لَهُ عَهْدٌ إِلَى مُدَّةٍ ، وَكَانَ الْمَقْتُولُ رَسُولًا فَقَتَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِ فَلَوْ كَانَ ثَابِتًا كُنْتُ قَدْ خَالَفْتُهُ ، وَكَانَ مَنْسُوخًا لِأَنَّهُ قُتِلَ قَبْلَ الْفَتْحِ بِزَمَانٍ ، وَخُطْبَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ عَامَ الْفَتْحِ ، وَهُوَ خَطَأٌ لِأَنَّ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ عَاشَ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنْتَ تَأْخُذُ الْعِلْمَ مِمَّنْ بَعُدَ لَيْسَ لَكَ بِهِ مَعْرِفَةُ أَصْحَابِنَا .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا تَكَافُؤُ الْأَحْكَامِ بِالْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ فَمُعْتَبَرٌ عِنْدَنَا فَيُقْتَصُّ مِنَ الأَدْنَى بِالْأَعْلَى وَلَا يُقْتَصُّ مِنَ الأَعْلَى بِالْأَدْنَى ، وَهُوَ أَنْ يُقْتَلَ الْكَافِرُ بِالْمُسْلِمِ ، وَلَا يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالْكَافِرِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْكَافِرُ ذِمِّيًّا ، أَوْ مُعَاهِدًا ، أَوْ حَرْبِيًّا ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ ، وَلَا يُقْتَلُ بِالْمُعَاهِدِ وَالْحَرْبِيِّ . وَقَالَ الشَّعْبِيُّ : يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالْكِتَابِيِّ ، وَلَا يُقْتَلُ بِالْمَجُوسِيِّ . وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [ الْمَائِدَةِ : 45 ] وَبِقَوْلِهِ : وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [ الْبَقَرَةِ : 179 ] وَرِوَايَةِ ابْنِ الْبَيْلَمَانِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَتَلَ مُسْلِمًا بِكَافِرٍ وَقَالَ : أَنَا أَحَقُّ مَنْ وَفَّى بِذِمَّتِهِ . وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ قَتَلَ مُشْرِكًا ، فَقَتَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ كَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَسْأَلُهُ عَنْ مُسْلِمٍ قَتَلَ نَصْرَانِيًّا فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ أَنْ يَقْتَادَ مِنْهُ . وَمِنَ الْقِيَاسِ : أَنَّ كُلَّ مَنْ قُتِلَ بِهِ الْكَافِرُ جَازَ أَنْ يُقْتَلَ بِالْكَافِرِ كَالْكَافِرِ . وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ قُتِلَ بِأَهْلِ مِلَّتِهِ جَازَ أَنْ يُقْتَلَ بِغَيْرِ أَهْلِ مِلَّتِهِ كَقَتْلِ الْيَهُودِيِّ بِالنَّصْرَانِيِّ . وَلِأَنَّ الْمُسْلِمَ قَدْ سَاوَى الذِّمِّيَّ فِي حَقْنِ دَمِهِمَا عَلَى التَّأْبِيدِ : فَوَجَبَ أَنْ يَجْرِيَ الْقِصَاصُ بَيْنَهُمَا كَالْمُسْلِمِينَ . وَلِأَنَّ حُرْمَةَ نَفْسِ الذِّمِّيِّ أَغْلَظُ مِنْ حُرْمَةِ مَالِهِ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ يَدَ الْمُسْلِمِ تُقْطَعُ بِسَرِقَةِ مَالِهِ ، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يُقْتَصَّ مِنْ يَدِهِ بِيَدِهِ ، وَلِأَنَّ كَافِرًا لَوْ قَتَلَ كَافِرًا ثُمَّ أَسْلَمَ الْقَاتِلُ لَمْ يَمْنَعْ إِسْلَامُهُ مِنَ الاسْتِيفَاءِ لِلْقَوَدِ ، كَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الْقَوَدِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لِلْكَافِرِ قَتْلُ الْمُسْلِمِ دَفْعًا عَنْ نَفْسِهِ كَانَ قَتْلُهُ قَوَدًا بِنَفْسِهِ : لِأَنَّهُمَا فِي الْحَالَيْنِ قَتْلُ مُسْلِمٍ بِكَافِرٍ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ : لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ [ الْحَشْرِ : 20 ] فَكَانَ نَفْيُ التَّسَاوِي بَيْنَهُمَا يَمْنَعُ مِنْ تَسَاوِي نُفُوسِهِمَا ، وَتَكَافُؤِ دِمَائِهِمَا ، فَإِنْ قِيلَ : لَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يُقْطَعَ عَلَى هَذَا الْمُسْلِمِ بِالْجَنَّةِ لِجَوَازِ كُفْرِهِ ، وَلَا عَلَى الْكَافِرِ بِالنَّارِ لِجَوَازِ إِسْلَامِهِ . قِيلَ : الْحُكْمُ وَارِدٌ فِي عُمُومِ الْجِنْسَيْنِ دُونَ أَعْيَانِ الْأَشْخَاصِ ، وَقَدْ قَطَعَ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ بِالْجَنَّةِ وَأَهْلِ الْكُفْرِ بِالنَّارِ وَقَالَ تَعَالَى : وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا
[ النِّسَاءِ : 141 ] وَهَذَا وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الْخَبَرِ فَالْمُرَادُ بِهِ النَّهْيُ : لِأَنَّ الْخَبَرَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِخِلَافِ مُخْبِرِهِ ، وَقَدْ نَرَى لِلْكَافِرِ سَبِيلًا عَلَى الْمُسْلِمِ بِالتَّسَلُّطِ وَالْيَدِ ، وَنَفْيُ السَّبِيلِ عَنْهُ يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ . فَإِنْ قِيلَ : وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنْ لَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهِ فِي الْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ ، فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْعُمُومِ اعْتِبَارًا بِعُمُومِ اللَّفْظِ . وَالثَّانِي : أَنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهِ بِالْحُجَّةِ الدَّالَّةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَلَمْ يَجُزْ حَمْلُهَا عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ بِغَيْرِهَا . وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ السُّنَّةِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَسْأَلَةِ مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَعِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ . وَرَوَى مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ ، وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ . وَرَوَى قَتَادَةُ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ قَيْسٍ قَالَ : انْطَلَقْتُ أَنَا وَالْأَشْتَرُ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَقُلْنَا لَهُ : هَلْ عَهِدَ إِلَيْكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا لَمْ يَعْهَدْهُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً ؟ فَقَالَ : لَا إِلَّا مَا فِي هَذَا الْكِتَابِ وَأَخْرَجَ كِتَابًا مِنْ قِرَابِ سَيْفِهِ فَإِذَا فِيهِ الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ أَلَا لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ ، وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ . وَرَوَى حَمَّادٌ عَنْ جَابِرٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ : أَخْرَجَ أَبِي سَيْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا فِيهِ : الْعَقْلُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ عَامَّةً وَلَا يُتْرَكُ مُفْرَجٌ فِي الْإِسْلَامِ ، وَلَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ . وَالْمُفْرَجُ الَّذِي لَا يَكُونُ لَهُ قَبِيلَةٌ يَنْضَمُّ إِلَيْهَا فَأَمَرَ أَنْ يُضَمَّ إِلَى قَبِيلَةٍ يُضَافُ إِلَيْهَا حَتَّى لَا يَكُونَ مُفْرَدًا . فَدَلَّتْ هَذِهِ النُّصُوصُ كُلُّهَا عَلَى أَنْ لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ . فَإِنْ قَالُوا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ أَيْ بِكَافِرٍ حَرْبِيٍّ : لِأَنَّهُ قَالَ : وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ وَذُو الْعَهْدِ يُقْتَلُ بِالْمُعَاهَدِ ، وَلَا يُقْتَلُ بِالْحَرْبِيِّ : لِيَكُونَ حُكْمُ الْعَطْفِ مُوَافِقًا لِحُكْمِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فَعَنْهُ جَوَابَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ قَوْلَهُ : لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ يَقْتَضِي عُمُومَ الْكُفَّارِ مِنَ المُعَاهَدِينَ وَأَهْلِ الْحَرْبِ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى عُمُومِهِ وَلَمْ يَجُزْ تَخْصِيصُهُ بِإِضْمَارٍ وَتَأْوِيلٍ ، وَقَوْلُهُ : وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ أَيْ : لَا يُقْتَلُ ذُو الْعَهْدِ لِأَجْلِ عَهْدِهِ ، وَأَنَّ الْعَهْدَ مِنْ قِبَلِهِ حَقْنًا لِدِمَاءِ ذَوِي الْعُهُودِ . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُ لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ مَحْمُولٌ عَلَى الْعُمُومِ فِي كُلِّ كَافِرٍ مِنْ مُعَاهَدٍ وَحَرْبِيٍّ . وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ مَحْمُولٌ عَلَى الْخُصُوصِ فِي أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ بِالْحَرْبِيِّ ، وَإِنْ قُتِلَ بِالْمُعَاهَدِ لِأَنَّهُ لَيْسَ تَخْصِيصُ أَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ مُوجِبًا لِتَخْصِيصِ الْآخَرِ . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَوْ كُنْتُ قَاتِلًا مُسْلِمًا بِكَافِرٍ لَقَتَلْتُ خِرَاشًا بِالْهُذَلِيِّ وَلَوْ جَازَ قَتْلُهُ بِبَعْضِ الْكُفَّارِ دُونَ بَعْضٍ قَتَلَهُ وَلَمْ يُطْلِقْهُ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَمَّا لَمْ يُقْتَلْ بِالْمُسْتَأْمَنِ ، لَمْ يُقْتَلْ بِالذِّمِّيِّ . وَلِلْجَمْعِ بَيْنَهُمَا ثَلَاثُ عِلَلٍ : إِحْدَاهُنَّ : أَنَّهُ مَنْقُوضٌ بِالْكُفْرِ : فَوَجَبَ إِذَا قَتَلَهُ مُسْلِمٌ أَنْ لَا يُقَادَ بِهِ كَالْمُسْتَأْمَنِ . وَالْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ : أَنَّ مَنْ لَمْ يَمْنَعْ دِينُهُ مِنَ اسْتِرْقَاقِهِ لَمْ يُقْتَلْ بِهِ مَنْ مَنَعَ دِينُهُ مِنَ اسْتِرْقَاقِهِ كَالْمُسْتَأْمَنِ . فَإِنْ قِيلَ : هَذَا مُنْتَقَضٌ بِالْكَافِرِ إِذَا قَتَلَ كَافِرًا ثُمَّ أَسْلَمَ الْقَاتِلُ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ فِي شَرْطِ الْعِلَّةِ إِذَا قَتَلَهُ مُسْلِمٌ ، وَهَذَا قَتَلَهُ وَهُوَ كَافِرٌ ، فَلَمْ تَنْتَقِضْ بِهِ الْعِلَّةُ . وَالثَّانِي : أَنَّ التَّعْلِيلَ لِلْجِنْسِ فَلَا تَنْتَقِضُ إِلَّا بِمِثْلِهِ . فَإِنْ قِيلَ : الْمُسْتَأْمَنُ نَاقِصُ الْحُرْمَةِ ؟ لِأَنَّ دَمَهُ مَحْقُونٌ إِلَى مُدَّةٍ بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ فَإِنَّهُ تَامُّ الْحُرْمَةِ ، مَحْقُونُ الدَّمِ عَلَى التَّأْبِيدِ ، فَأَشْبَهَ الْمُسْلِمَ ، فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اخْتِلَافَ الْحُرْمَتَيْنِ فِي الْمُدَّةِ لَا يَمْنَعُ مِنْ تَسَاوِيهِمَا فِي الْحُكْمِ مَعَ بَقَاءِ الْمُدَّةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ تَحْرِيمَ الْأَجْنَبِيَّةِ مُؤَقَّتٌ ، وَتَحْرِيمَ ذَاتِ الْمَحْرَمِ مُؤَبَّدٌ ، وَقَدِ اسْتَوَيَا فِي وُجُوبِ الْحَدِّ فِي الزِّنَا كَذَلِكَ هَاهُنَا . وَالثَّانِي : أَنَّ لِلنَّفْسِ بَدَلَيْنِ الْقَوَدَ وَالدِّيَةَ ، فَلَمَّا لَمْ يَمْنَعِ اخْتِلَافُهُمَا فِي الْحُرْمَةِ مِنْ تَسَاوِيهِمَا فِي الدِّيَةِ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ تَسَاوِيهِمَا فِي الْقَوَدِ : وَلِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ يَجِبُ بِهَتْكِ حُرْمَةِ
الْعِرْضِ ، وَالْقَوَدُ يَجِبُ بِهَتْكِ حُرْمَةِ النَّفْسِ ، فَلَمَّا سَقَطَ عَنِ الْمُسْلِمِ حَدُّ قَذْفِهِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ الْقَوَدُ فِي نَفْسِهِ : لِأَنَّ أَخْذَ النَّفْسِ أَغْلَظُ مِنِ اسْتِيفَاءِ الْحَدِّ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [ الْمَائِدَةِ : 45 ] فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَانُوا أَكْفَاءَ فَلَمْ يَجُزْ حُكْمُهُمْ عَلَى غَيْرِ الْأَكْفَاءِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ عُمُومٌ خُصَّ بِدَلِيلٍ . فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [ الْبَقَرَةِ : 179 ] فَهُوَ قِصَاصٌ لَهُمْ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُفْعَلَ قِصَاصًا عَلَيْهِمْ . وَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْبَيْلَمَانِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَتَلَ مُسْلِمًا بِكَافِرٍ فَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ لَا يُثْبِتُهُ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ ، ثُمَّ مُرْسَلٌ : لِأَنَّ ابْنَ الْبَيْلَمَانِيِّ لَيْسَ بِصَحَابِيٍّ ، وَالْمَرَاسِيلُ عِنْدَنَا لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ ، وَلَوْ سُلِّمَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ لَمَا كَانَ فِيهِ دَلِيلٌ : لِأَنَّهَا قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ لَا تَجْرِي عَلَى الْعُمُومِ . وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ أَسْلَمَ بَعْدَ قَتْلِهِ فَقَتَلَهُ بِهِ ، وَإِذَا احْتُمِلَ هَذَا وَجَبَ التَّوَقُّفُ عَنِ الِاحْتِجَاجِ . وَأَمَّا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ فَقَدْ أَجَابَ الشَّافِعِيُّ عَنْهُ بِثَلَاثَةِ أَجْوِبَةٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ طَرِيقَهُ ضَعِيفٌ وَرُوَاتَهُ مَجْهُولُونَ . وَالثَّانِي : أَنَّ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ عَاشَ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَمَاتَ فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ : فَاسْتَحَالَ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ . وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَأَنْتَ تَأْخُذُ الْعِلْمَ ، مِمَّنْ بَعُدَ ، لَيْسَ لَكَ بِهِ مَعْرِفَةُ أَصْحَابِنَا ، يَعْنِي أَهْلَ الْحَرَمَيْنِ : لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ بَيْنَهُمْ فَكَانُوا بِأَقْوَالِهِ وَأَصْحَابِهِ أَعْرَفَ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ فِي رِوَايَتِهِمْ أَنَّهُ قَتَلَهُ رَسُولٌ مُسْتَأْمَنٌ ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُقْتَلُ بِالْمُسْتَأْمَنِ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهِ دَلِيلٌ . وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ أَنْكَرَ عَلَيْهِ . وَرَوَى لَهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ وَأَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ لَهُ : لَا تَقْتُلْ أَخَاكَ بِعَبْدِكَ . فَرَجَعَ عَنْهُ ، وَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى أَنْ لَا تَقْتُلَهُ بِهِ ، فَصَارَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ حُقِنَ دَمُهُ بِدِينِهِ وَأَنَّ دِينَهُ يَمْنَعُ مِنَ اسْتِرْقَاقِهِ فَخَالَفَ الْكَافِرَ .
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى قَتْلِ الْيَهُودِيِّ بِالنَّصْرَانِيِّ فَلَا يَصِحُّ ، لِأَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ عِنْدَنَا مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ ، وَإِنْ تَنَوَّعَ ، فَلِذَلِكَ جَرَى الْقَوَدُ بَيْنَهُمَا ، وَمِلَّةُ الْإِسْلَامِ مُخَالِفَةٌ لَهُمَا وَمُفَضَّلَةٌ عَلَيْهِمَا . وَقَوْلُهُمْ : إِنَّ حُرْمَةَ النَّفْسِ أَغْلَظُ مِنْ حُرْمَةِ الْمَالِ ، وَالْمُسْلِمُ يُقْطَعُ فِي مَالِ الْكَافِرِ فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يُقْتَلَ بِنَفْسِ الْكَافِرِ . فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقَطْعَ فِي السَّرِقَةِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ فَجَازَ أَنْ يُسْتَحَقَّ فِي مَالِ الْكَافِرِ كَمَا يُسْتَحَقُّ فِي مَالِ الْمُسْلِمِ ، وَالْقَوَدُ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ لِجَوَازِ الْعَفْوِ عَنْهُ فَلَمْ يَسْتَحِقَّهُ كَافِرٌ عَلَى مُسْلِمٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا جَازَ قَطْعُ الْمُسْلِمِ بِسَرِقَةِ مَالِ الْمُسْتَأْمَنِ ، وَلَمْ يُقْتَلْ بِهِ ، جَازَ أَنْ يُقْطَعَ فِي مَالِ الذِّمِّيِّ ، وَإِنْ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ . وَقِيَاسُهُمْ عَلَى الْكَافِرِ فَالْمَعْنَى فِيهِ تَسَاوِيهِمَا فِي الدِّينِ . وَقَوْلُهُمْ : إِنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ لَوْ أَسْلَمَ بَعْدَ قَتْلِهِ فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ مُسْلِمًا قَبْلَ قَتْلِهِ لَا وَجْهَ لَهُ لَأَنَّ الْقَوَدَ حَدٌّ ، وَالْحُدُودُ تُعْتَبَرُ بِحَالِ الْوُجُوبِ ، وَلَا تُعْتَبَرُ بِمَا بَعْدَهُ : لِأَنَّ مَجْنُونًا لَوْ قَتَلَ ثُمَّ عَقَلَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقَوَدُ ، وَلَوْ كَانَ عَاقِلًا وَقْتَ الْقَتْلِ ثُمَّ جُنَّ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ ، وَقَدْ ذَهَبَ الْأَوْزَاعِيُّ إِلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ بِهِ الْكَافِرُ إِذَا أَسْلَمَ تَمَسُّكًا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ وَإِنْ خَالَفْنَاهُ فِيهِ بِالْمَعْنَى الَّذِي قَدَّمْنَاهُ . وَقَوْلُهُمْ : لَمَّا جَازَ أَنْ يَقْتُلَهُ دَفْعًا ، جَازَ أَنْ يَقْتُلَهُ قَوَدًا ، فَيُفَسَّرُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ يَجُوزُ لَهُ قَتْلُ الْمُسْلِمِ دَفْعًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْتَلَ بِهِ قَوَدًا . وَالثَّانِي : بِالْمَالِ يَجُوزُ أَنْ يُقْتَلَ الْمُسْلِمُ بِدَفْعِهِ عَنْهُ وَلَا يُقْتَلُ مَا بِدَفْعِهِ عَلَيْهِ . وَفِيمَا تَتَجَافَاهُ النُّفُوسُ مِنْ قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ مَا يَمْنَعُ مِنَ القَوْلِ بِهِ ، وَالْعَمَلِ عَلَيْهِ . حَكَى يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا السَّاجِيُّ عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْحَاقَ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ رُفِعَ إِلَى أَبِي يُوسُفَ الْقَاضِي مُسْلِمٌ قَتَلَ كَافِرًا فَحَكَمَ عَلَيْهِ بِالْقَوَدِ ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ بِرُقْعَةٍ أَلْقَاهَا إِلَيْهِ مِنْ شَاعِرٍ بَغْدَادِيٍّ يُكَنَّى أَبَا الْمُضَرِّجِي فِيهَا مَكْتُوبٌ : يَا قَاتِلَ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ جُرْتَ وَمَا الْعَادِلُ كَالْجَائِرِ يَا مَنْ بِبَغْدَادَ وَأَطْرَافِهَا مِنْ فُقَهَاءِ النَّاسِ أَوْ شَاعِرِ جَارَ عَلَى الدِّينِ أَبُو يُوسُفَ إِذْ يَقْتُلُ الْمُسْلِمَ بِالْكَافِرِ فَاسْتَرْجِعُوا وَابْكُوا عَلَى دِينِكُمْ وَاصْطَبِرُوا فَالْأَجْرُ لِلصَّابِرِ
فَأَخَذَ أَبُو يُوسُفَ الرُّقْعَةَ ، وَدَخَلَ عَلَى الرَّشِيدِ ، فَأَخْبَرَهُ بِالْحَالِ ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ الرُّقْعَةَ ، فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ : تَدَارَكْ هَذَا الْأَمْرَ بِحِيلَةٍ لِئَلَّا يَكُونَ مِنْهُ فِتْنَةٌ . فَخَرَجَ أَبُو يُوسُفَ وَطَالَبَ أَوْلِيَاءَ الْمَقْتُولِ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى صِحَّةِ الذِّمَّةِ ، وَأَدَاءِ الْجِزْيَةِ فَلَمْ يَأْتُوا بِهَا فَأَسْقَطَ الْقَوَدَ وَحَكَمَ بِالدِّيَةِ ، وَهَذَا إِذَا كَانَ مُفْضِيًا إِلَى اسْتِنْكَارِ النُّفُوسِ وَانْتِشَارِ الْفِتَنِ كَانَ الْعُدُولُ عَنْهُ أَحَقَّ وَأَصْوَبَ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُقْتَلُ بِالْكَافِرِ فَحَالُهُمَا تَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا لَا يُقْتَلُ بِهِ ، وَتَجِبُ عَلَيْهِ دِيَةُ كَافِرٍ ، وَهُوَ أَنْ يَبْتَدِئَ الْمُسْلِمُ بِقَتْلِ الْكَافِرِ ، تَوْجِيهًا فَلَا يَجِبُ الْقَوَدُ لِإِسْلَامِ الْقَاتِلِ ، وَتَجِبُ بِهِ دِيَةُ كَافِرٍ لِكُفْرِ الْمَقْتُولِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا لَا يَجِبُ فِيهِ الْقَوَدُ ، وَتَجِبُ فِيهِ دِيَةُ مُسْلِمٍ ، وَهُوَ أَنْ يَجْرَحَ الْمُسْلِمُ كَافِرًا ، ثُمَّ يُسْلِمُ الْمَجْرُوحُ ، وَيَمُوتُ مُسْلِمًا ، فَلَا قَوَدَ عَلَى الْمُسْلِمِ : لِأَنَّ الْمَقْتُولَ وَقْتَ الْجُرْحِ كَانَ كَافِرًا ، وَفِيهِ دِيَةُ مُسْلِمٍ : لِأَنَّهُ مَاتَ مِنَ الجُرْحِ مُسْلِمًا : لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْقَوَدِ بِحَالِ الِابْتِدَاءِ ، وَفِي الدِّيَةِ بِحَالِ الِانْتِهَاءِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا يُقْتَلُ بِهِ الْمُسْلِمُ وَلَا يَجِبُ فِيهِ إِلَّا دِّيَةُ كَافِرٍ ، وَذَلِكَ فِي حَالَتَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَقْتُلَ كَافِرٌ كَافِرًا ثُمَّ يُسْلِمَ ؛ فَيُقْتَلُ الْقَاتِلُ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا ، اعْتِبَارًا بِحَالِ الْقَتْلِ ، وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ إِلَّا دِيَةُ كَافِرٍ : لِأَنَّ الْمَقْتُولَ مَاتَ كَافِرًا . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَطْلُبَ الْمُسْلِمُ نَفْسَ الْكَافِرِ فَيَجُوزُ لِلْكَافِرِ أَنْ يَقْتُلَ طَالِبَ نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا ، فَلَوْ قَتَلَهُ الْمُسْلِمُ الطَّالِبُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إِلَّا دِيَةُ كَافِرٍ ، وَلَوْ قَتَلَ الْمُسْلِمَ لَمْ يَجِبْ لَهُ دِيَةٌ لِأَنَّ نَفْسَ الْمَطْلُوبِ مَضْمُونَةٌ ، وَنَفْسَ الطَّالِبِ هَدَرٌ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : مَا اخْتَلَفَ الْقَوْلُ فِيهِ ، وَهُوَ أَنْ يَقْتُلَ مُسْلِمٌ كَافِرًا فِي الْحِرَابَةِ فَفِي قَتْلِهِ بِهِ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ بِهِ لِعُمُومِ النَّهْيِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي مَوْضِعٍ وَقَالَ : هَذَا مِمَّا أَسْتَخِيرُ اللَّهَ فِيهِ أَنْ يُقْتَلَ بِهِ : لِأَنَّ فِي قَتْلِ الْحِرَابَةِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى يَجِبُ أَنْ يُسْتَوْفَى وَلَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ فَاسْتَوَى فِيهِ قَتْلُ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ ، وَهُوَ فِي غَيْرِ الْحِرَابَةِ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ فَسَقَطَ فِي حَقِّ الْكَافِرِ ، وَلَوْ قَتَلَ مُرْتَدٌّ كَافِرًا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقَوَدُ ، وَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى الْكُفْرِ لِمَا ثَبَتَ لَهُ مِنْ حُرْمَةِ الْإِسْلَامِ ، وَمَا أُجْرِيَ عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِهِ .
مَسْأَلَةٌ لَا يُقْتَلُ حُرٌّ بِعَبْدٍ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : قَالَ وَلَا يُقْتَلُ حُرٌّ بِعَبْدٍ .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : لَا يُقْتَلُ الْحُرُّ بِعَبْدِهِ وَبِعَبْدِ غَيْرِهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُقْتَلُ الْحُرُّ بِعَبْدِ غَيْرِهِ ، وَلَا يُقْتَلُ بِعَبْدِ نَفْسِهِ اسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [ الْمَائِدَةِ : 45 ] وَرِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - : أَنَّهُ قَالَ : " الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَؤُ دِمَاؤُهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ " فَاعْتَبَرَ الْمُكَافَأَةَ بِالْإِسْلَامِ وَقَدِ اسْتَوَى الْحُرُّ وَالْعَبْدُ فِيهِ فَوَجَبَ أَنْ يَتَكَافَأَ دَمُهُمَا وَيَجْرِيَ الْقَوَدُ بَيْنَهُمَا ، وَمِنَ الِاعْتِبَارِ أَنَّ كُلَّ مَنْ قُتِلَ بِالْحُرِّ قُتِلَ بِهِ الْحُرُّ كَالْحُرِّ ، وَلِأَنَّ الرِّقَّ مُؤَثِّرٌ فِي ثُبُوتِ الْحَجْرِ ، وَمَا ثَبَتَ بِهِ الْحَجْرُ يَمْنَعُ مِنِ اسْتِحْقَاقِ الْقَوَدِ عَلَى مَنِ ارْتَفَعَ عَنْهُ الْحَجْرُ كَالْجُنُونِ وَالصِّغَرِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُقْتَلَ بِهِ الْحُرُّ دَفْعًا جَازَ أَنْ يُقْتَلَ بِهِ قَوَدًا . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ [ الْبَقَرَةِ : 178 ] فَاقْتَضَى هَذَا الظَّاهِرُ أَنْ لَا يُقْتَلَ حُرٌّ بِعَبْدٍ . وَرَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا يُقْتَلُ حُرٌّ بِعَبْدٍ . وَرَوَاهُ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ ، وَهَذَا نَصٌّ لَا يَسُوغُ خِلَافُهُ . وَرَوَى إِسْرَائِيلُ عَنْ جَابِرٍ عَنْ عَامِرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ قَالَ : " مِنَ السُّنَّةِ أَلَّا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ ، وَمِنَ السُّنَّةِ أَلَّا يُقْتَلَ حُرٌّ بِعَبْدٍ " يَعْنِي : سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَهَذَا يَقُومُ مَقَامَ الرِّوَايَةِ عَنْهُ ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ ، فَصَارَ مَعَ السُّنَّةِ إِجْمَاعًا ، وَمِنَ الِاعْتِبَارِ أَنَّ حُرْمَةَ النَّفْسِ أَغْلَظُ مِنْ حُرْمَةِ الْأَطْرَافِ ، فَلَمَّا لَمْ يَجِبِ الْقَوَدُ بَيْنَهُمَا فِي الْأَطْرَافِ ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَجْرِيَ بَيْنَهُمَا فِي النَّفْسِ . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّ كُلَّ شَخْصَيْنِ امْتَنَعَ الْقَوَدُ بَيْنَهُمَا فِي الْأَطْرَافِ امْتَنَعَ فِي النَّفْسِ كَالْوَالِدِ مَعَ وَلَدِهِ طَرْدًا ، وَكَالْحَرْبِيِّ عَكْسًا ، وَلِأَنَّ كُلَّ قَوَدٍ سَقَطَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ الْمُسْتَأْمَنِ سَقَطَ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ كَالْأَطْرَافِ . فَإِنْ قِيلَ : الْأَطْرَافُ تُعْتَبَرُ فِيهَا الْمُمَاثَلَةُ لِأَنَّهُ لَا تُؤْخَذُ السَّلِيمَةُ بِالشَّلَّاءِ الْمَرِيضَةِ ، وَلَا تُؤْخَذُ الْأَيْدِي بِيَدٍ وَاحِدَةٍ ، وَالْمُمَاثَلَةُ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي النُّفُوسِ لِقَتْلِ الصَّحِيحِ بِالْمَرِيضِ ، وَالْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ ، فَكَذَلِكَ جَرَى الْقَوَدُ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ فِي النَّفْسِ ، وَسَقَطَ فِي الْأَطْرَافِ . قِيلَ : هُمَا عِنْدَنَا سَوَاءٌ ، وَالْمُمَاثَلَةُ الْمُعْتَبَرَةُ فِيهِمَا وَاحِدَةٌ : لِأَنَّنَا نَقْطَعُ الْأَيْدِي بِيَدٍ
وَاحِدَةٍ : وَإِنْ خَالَفْتُمُونَا فِيهِ ، وَنَقْتُلُ الصَّحِيحَ بِالْمَرِيضِ كَمَا نَقْطَعُ الْيَدَ الصَّحِيحَةَ بِالْعَلِيلَةِ ، وَلَا نَقْطَعُهَا بِالْيَدِ الشَّلَّاءِ كَمَا لَا يُقْتَلُ الْحَيُّ بِالْمَيِّتِ ، لِأَنَّ الشَّلَّاءَ مَيِّتَةٌ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ فَرَّقْتُمْ بَيْنَ قَطْعِ الشَّلَّاءِ فِي وُجُوبِ الْأَرْشِ فِيهِمَا ، وَبَيْنَ اسْتِهْلَاكِ الْمَيِّتِ فِي سُقُوطِ الْأَرْشِ فِيهِ . قِيلَ : لِأَنَّ الشَّلَّاءَ مُتَّصِلَةٌ بِحَيٍّ ، وَفِيهَا جَمَالٌ ، فَجَازَ أَنْ يَجِبَ الْأَرْشُ بِقَطْعِهَا مَعَ مَوْتِهَا : كَمَا يَجِبُ فِي الشَّعْرِ مَعَ كَوْنِهِ عِنْدَكُمْ مَيِّتًا ، وَلِأَنَّ الرِّقَّ حَادِثٌ عَنِ الْكُفْرِ فَلَمَّا سَقَطَ بِهِ الْقَوَدُ عَنِ الْمُسْلِمِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا حَدَثَ فِيهِ مِنَ الرِّقِّ بِمَثَابَتِهِ فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ عَنِ الْحُرِّ وَلِأَنَّ النَّقْصَ بِالرِّقِّ يَمْنَعُ مِنِ اسْتِحْقَاقِ الْقَوَدِ عَلَى الْحُرِّ كَالسَّيِّدِ مَعَ عَبْدِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ بِقَذْفِهِ فَأَوْلَى أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ الْقَوَدُ بِقَتْلِهِ لِأَنَّ حُرْمَةَ النَّفْسِ أَغْلَظُ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَهُوَ أَنَّهَا تَضَمَّنَتْ نَفْسًا وَأَطْرَافًا فَلَمَّا خَرَجَ الْعَبِيدُ مِنْ حُكْمِ الْأَطْرَافِ خَرَجُوا مِنْ حُكْمِ النُّفُوسِ . وَأَمَّا الْخَبَرُ فَقَدْ قَالَ فِيهِ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ يُرِيدُ بِهِ الْعَبِيدَ ، وَمَنْ كَانَ أَدْنَاهُمْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤْخَذَ بِالْأَعْلَى . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْحُرِّ ، فَالْمَعْنَى فِيهِ جَرَيَانُ الْقَوَدِ فِي الْأَطْرَافِ فَجَرَى فِي النُّفُوسِ وَلَا يَجْرِي فِي الْأَطْرَافِ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ ، فَلَمْ يَجْرِ فِي النُّفُوسِ ، وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عَنْ تَعْلِيلِهِمْ بِتَأْثِيرِ الْحَجْرِ كَالْجُنُونِ وَالصِّغَرِ ، وَقَدْ مَضَى الْجَوَابُ عَنْ جَمْعِهِمْ بَيْنَ قَتْلِ الدَّفْعِ وَقَتْلِ الْقَوَدِ ، وَلَيْسَ لِمَا تَنَاكَرَتْهُ الْعَامَّةُ ، وَنَفَرَتْ مِنْهُ الْخَاصَّةُ مَسَاغٌ فِي اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ . حُكِيَ أَنَّ بَعْضَ فُقَهَاءِ خُرَاسَانَ سُئِلَ فِي مَجْلِسِ أَمِيرِهَا عَنْ قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ فَمَنَعَ مِنْهُ وَطُولِبَ بِالدَّلِيلِ عَلَيْهِ . فَقَالَ : أُقَدِّمُ قَبْلَ الدَّلِيلِ حِكَايَةً إِنِ احْتَجْتُ بَعْدَهَا إِلَى دَلِيلٍ فَعَلْتُ ، ثُمَّ قَالَ : كُنْتُ أَيَّامَ تَفَقُّهِي بِبَغْدَادَ نَائِمًا ذَاتَ لَيْلَةٍ عَلَى شَاطِئِ دِجْلَةَ فَسَمِعْتُ مَلَّاحًا يَتَرَنَّمُ وَهُوَ يَقُولُ : خُذُوا بِدَمِي هَذَا الْغُلَامَ فَإِنَّهُ رَمَانِي بِسَهْمَيْ مُقْلَتَيْهِ عَلَى عَمْدِ وَلَا تَقْتُلُوهُ إِنَّنِي أَنَا عَبْدُهُ وَلَمْ أَرَ حُرًّا قَطُّ يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ وَمَا انْتَشَرَ فِي الْعَامَّةِ تَنَاكُرُهُ حَتَّى نَظَمُوهُ شِعْرًا وَجَعَلُوهُ فِي الْأَمْثَالِ شَاهِدًا ، كَانَ مِنِ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ خَارِجًا . فَقَالَ الْأَمِيرُ : حَسْبُكَ فَقَدْ أَغْنَيْتَ عَنْ دَلِيلٍ .
فَصْلٌ : وَاسْتَدَلَّ النَّخَعِيُّ وَدَاوُدُ عَلَى قَتْلِ السَّيِّدِ بِعَبْدِهِ بِمَا رَوَاهُ قَتَادَةُ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ ، وَمَنْ جَدَعَ عَبْدَهُ جَدَعْنَاهُ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى وَمَنْ خَصَا عَبْدَهُ خَصَيْنَاهُ . وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِمَا رِوَايَةُ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَجُلًا قَتَلَ عَبْدَهُ فَجَلَدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَقُدْهُ بِهِ ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً ، وَهَذَا نَصٌّ وَمَا أَمَرَ بِهِ مِنْ جَلْدِهِ وَنَفْيِهِ تَعْزِيرٌ . فَأَمَّا الْخَبَرُ الْمُسْتَدَلُّ بِهِ فَضَعِيفٌ : لِأَنَّ الْحَسَنَ لَمْ يَرْوِ عَنْ سَمُرَةَ إِلَّا ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ لَيْسَ هَذَا مِنْهَا . وَقَدْ رَوَى قَتَادَةُ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : لَا يُقْتَلُ حُرٌّ بِعَبْدٍ . وَلَوْ صَحَّ لَحُمِلَ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إِمَّا عَلَى طَرِيقِ التَّغْلِيظِ وَالزَّجْرِ لِئَلَّا يَتَسَرَّعَ النَّاسُ إِلَى قَتْلِ عَبِيدِهِمْ ، وَإِمَّا عَلَى مَنْ كَانَ عَبْدُهُ فَأَعْتَقَهُ فَإِنَّهُ يُقَادُ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قَبْلِ عِتْقِهِ لَا يُقَادُ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْحُرَّ لَا يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ فَكَذَلِكَ لَا يُقْتَلُ بِكُلِّ مَنْ جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الرِّقِّ مِنَ المُدَبَّرِ وَالْمُكَاتِبِ ، وَأُمِّ الْوَلَدِ ، وَمَنْ رَقَّ بَعْضُهُ ، وَإِنْ قَلَّ ، فَلَوْ قَتَلَ حُرٌّ كَافِرٌ عَبْدًا مُسْلِمًا لَمْ يُقْتَلْ بِهِ لِحُرِّيَّتِهِ ، وَلَوْ قَتَلَهُ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ لَمْ يُقْتَلْ بِهِ لِإِسْلَامِهِ ، فَيَسْقُطُ الْقَوَدُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِصَاحِبِهِ ، وَإِذَا قَتَلَ عَبْدٌ نِصْفُهُ حُرٌّ عَبْدًا نِصْفُهُ حُرٌّ قُتِلَ بِهِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ ، وَلَوْ كَانَ نِصْفُ الْقَاتِلِ حُرًّا وَثُلُثُ الْمَقْتُولِ حُرًّا لَمْ يُقْتَلْ لِفَضْلِ حُرِّيَّةِ الْقَاتِلِ ، وَإِنْ كَانَ ثُلُثُ الْقَاتِلِ حُرًّا وَنِصْفُ الْمَقْتُولِ حُرًّا قُتِلَ بِهِ لِفَضْلِ حُرِّيَّةِ الْمَقْتُولِ عَلَى الْقَاتِلِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقْتَلَ النَّاقِصُ بِالْكَامِلِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْتَلَ الْكَامِلُ بِالنَّاقِصِ ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُقْتَلَ الْعَبْدُ بِالْحُرِّ ، وَلَا يَجُوزَ أَنْ يُقْتَلَ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ . وَلَوْ قَتَلَ حُرٌّ عَبْدًا فِي الْحِرَابَةِ قتل الحر بالعبد كَانَ فِي وُجُوبِ قَتْلِهِ بِهِ قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى فِي قَتْلِ الذِّمِّيِّ فِي الْحِرَابَةِ ، وَلَوْ جَرَحَ عَبْدٌ حُرٌّ عَبْدًا فَأُعْتِقَ الْمَجْرُوحُ وَمَاتَ حُرًّا قتل الحر بالعبد فَلَا قَوَدَ عَلَى الْقَاتِلِ ، وَعَلَيْهِ دِيَةُ حُرٍّ ، وَلَوْ جَرَحَ عَبْدٌ عَبْدًا فَأُعْتِقَ الْجَارِحُ وَمَاتَ قتل الحر بالعبد قُتِلَ بِهِ .
مَسْأَلَةٌ إِذَا قُتِلَ الْعَبْدُ بِجِنَايَةٍ أَوْ مَاتَ فِي يَدِهَا مِنْهُ فَفِيهِ قِيمَةُ مَا بَلَغَتْ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَفِيهِ قِيمَتُهُ وَإِنْ بَلَغَتْ دِيَاتٍ الجناية على العبد . قَالَ الْمُزَنِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَفِي إِجْمَاعِهِمْ أَنَّ يَدَهُ لَا تُقْطَعُ بِيَدِ الْعَبْدِ قَضَاءٌ عَلَى أَنَّ الْحُرَّ لَا يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ فَإِذَا مَنَعَ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْ يَدِهِ وَهِيَ أَقَلُّ لِفَضْلِ الْحُرِيَّةِ عَلَى الْعُبُودِيَّةِ كَانَتِ النَّفْسُ أَعْظَمَ وَهِيَ أَنْ تُقْتَصَّ بِنَفْسِ الْعَبْدِ أَبْعَدُ .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا قُتِلَ الْعَبْدُ بِجِنَايَةٍ أَوْ مَاتَ فِي يَدِهَا مِنْهُ فَفِيهِ قِيمَةُ مَا بَلَغَتْ ، وَإِنْ زَادَتْ عَلَى دِيَةِ الْحُرِّ ضِعَافًا ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْحِجَازِ ، وَبِهِ قَالَ مِنَ العِرَاقِيِّينَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ : يُضْمَنُ فِي الْيَدِ جَمِيعَ قِيمَتِهِ مَا بَلَغَتْ ، وَيُضْمَنُ فِي الْجِنَايَةِ بِقِيمَتِهِ إِلَّا أَنْ تَبْلُغَ دِيَةَ حُرٍّ أَوْ تَزِيدَ عَلَيْهَا فَتُنْقَصُ عَنْ دِيَةِ الْحُرِّ عَشْرَ دَرَاهِمَ حَتَّى لَا يُسَاوِيَهُ فِي دِيَتِهِ . وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً قَدْ زَادَتْ قِيمَتُهَا عَلَى نِصْفِ الدِّيَةِ نَقَصَتْ عَنْهَا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ . وَقِيلَ : خَمْسَةَ دَرَاهِمَ : لِئَلَّا تُسَاوِيَ دِيَةَ الْحُرِّ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ آدَمِيٌّ مَضْمُونٌ بِالْجِنَايَةِ فَلَمْ يُضْمَنْ بِأَكْثَرَ مِنْ دِيَةِ حُرٍّ كَالْحُرِّ ، وَلِأَنَّهُ يُضْمَنُ بِالْجِنَايَةِ ضَمَانَ النُّفُوسِ لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِيهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُضْمَنَ بِمُقَدَّرٍ كَالْأَطْرَافِ ، وَلِأَنَّ نَقْصَهُ بِالرِّقِّ يَمْنَعُ مِنْ كَمَالِ بَدَلِهِ كَالنَّاقِصِ الْقِيمَةِ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ : لَا أُوجِبُ فِي الْمَمْلُوكِ مِمَّا أُوجِبُ فِي الْمَالِكِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [ الْبَقَرَةِ : 194 ] وَالْمِثْلُ فِي الشَّرْعِ مِثْلَانِ : مِثْلٌ يَفِي الصُّورَةَ ، وَمِثْلٌ فِي الْقِيمَةِ فَإِذَا لَمْ يُعْتَبَرِ الْمِثْلُ فِي الصُّورَةِ اعْتُبِرَ فِي الْقِيمَةِ مَا بَلَغَتْ ، وَلِأَنَّ حُرْمَةَ الْآدَمِيِّ أَغْلَظُ مِنْ حُرْمَةِ الْبَهِيمَةِ ، ثُمَّ كَانَتِ الْبَهِيمَةُ مَضْمُونَةً بِجَمِيعِ قِيمَتِهَا فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يُضْمَنَ الْعَبْدُ بِجَمِيعِ قِيمَتِهِ . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا بِأَحَدِ مَعْنَيَيْنِ : أَنْ تَقُولَ فِي أَحَدِهِمَا : إِنَّهُ مَمْلُوكٌ مَضْمُونٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا تُقَدَّرَ قِيمَتُهُ كَالْبَهِيمَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَا لَمْ يَتَقَدَّرْ أَقَلُّ قِيمَتِهِ لَمْ تَتَقَدَّرْ أَكْثَرُهَا كَالْبَهِيمَةِ ، وَلِأَنَّ ضَمَانَ الْعَبْدِ بِالْجِنَايَةِ أَغْلَظُ مِنْ ضَمَانِهِ بِالْيَدِ ، ثُمَّ كَانَ فِي الْيَدِ مَضْمُونًا بِجَمِيعِ قِيمَتِهِ فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يُضَمَّنَ فِي الْجِنَايَةِ بِجَمِيعِ قِيمَتِهِ . وَيَتَحَرَّرُ مِنْهُ قِيَاسَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ الضَّمَانِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ بِهِ قِيمَةَ الْمَضْمُونِ كَالضَّمَانِ بِالْيَدِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَا ضُمِنَتْ قِيمَتُهُ بِالْيَدِ ضُمِنَتْ قِيمَتُهُ بِالْجِنَايَةِ كَالنَّاقِصِ الْقِيمَةِ ، وَلِأَنَّ الْعَبْدَ مُتَرَدِّدُ الْحَالِ بَيْنَ أَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الْحُرُّ لِأَنَّهُ آدَمِيٌّ مُكَلَّفٌ يَجِبُ فِي قَتْلِهِ الْقَوَدُ وَالْكَفَّارَةُ .
وَالثَّانِي : الْبَهِيمَةُ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ يُبَاعُ وَيُوهَبُ وَيُورَثُ وَهُوَ فِي الْقِيمَةِ مُلْحَقٌ بِأَحَدِ أَصْلَيْنِ . فَلَمَّا أُلْحِقَ بِالْبَهِيمَةِ فِي ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : إِذَا قَلَّتْ قِيمَتُهُ . وَالثَّانِيَةُ : إِذَا ضُمِّنَ بِالْيَدِ . وَالثَّالِثَةُ : إِذَا ضَمِنَهُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ بِالْعِتْقِ . - وَجَبَ أَنْ يُلْحَقَ بِالْبَهِيمَةِ فِي الْحَالِ الرَّابِعَةِ وَهُوَ إِذَا أَرَادَتْ قِيمَتُهُ فِي ضَمَانِهِ بِالْجِنَايَةِ : لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُلْحَقَ بِالْبَهِيمَةِ فِي أَقَلِّهَا ، وَيُلْحَقَ بِالْحُرِّ فِي أَكْثَرِهَا ، وَلِأَنَّهُمْ لَا يُلْحِقُونَهُ بِالْحُرِّ فِي أَكْثَرِهَا حَتَّى يُنْقِصُوا مِنْ قِيمَتِهِ عَشَرَةً ، فَلَمْ يَسْلَمْ لَهُمْ أَحَدُ الْأَصْلَيْنِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْحُرِّ ، فَهُمْ لَا يُسَاوُونَهُ بِالْحُرِّ لِمَا يَعْتَبِرُونَهُ مِنْ نُقْصَانِ قِيمَتِهِ عَنْ دِيَةِ الْحُرِّ . فَهَذَا جَوَابٌ . وَجَوَابٌ ثَانٍ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُلْحَقْ بِالْحُرِّ فِي ضَمَانِهِ بِالْيَدِ لَمْ يُلْحَقْ فِي ضَمَانِهِ بِالْجِنَايَةِ ، وَلَمَّا امْتَنَعَ أَنْ يُلْحَقَ بِهِ إِذَا نَقَصَتْ قِيمَتُهُ امْتَنَعَ أَنْ يُلْحَقَ بِهِ إِذَا زَادَتْ . وَقِيَاسُهُمْ عَلَى ضَمَانِ أَطْرَافِهِ فَأَطْرَافُهُ مُعْتَبَرَةٌ بِقِيمَتِهِ ، وَقِيمَتُهُ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ ، فَلَمْ تَتَقَدَّرْ بِهَا أَطْرَافُهُ ، وَقَوْلُهُمْ : إِنَّهُ نَاقِصٌ بِالرِّقِّ فَلَمْ يُسَاوِ الْحُرَّ فِي دِيَتِهِ فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ جَعَلُوهُ كَامِلًا فِي الْقِصَاصِ وَنَاقِصًا فِي الدِّيَةِ وَهَذَا تَنَاقُضٌ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ نَقْصُهُ فِي ضَمَانِهِ بِالْيَدِ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى دِيَةِ الْحُرِّ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ فِي ضَمَانِهِ بِالْجِنَايَةِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعَبْدَ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ ، وَإِنْ زَادَتْ عَلَى الدِّيَةِ ، لَمْ يَخْلُ الضَّمَانُ أَنْ يَكُونَ نَفْسَهُ أَوْ لِمَا دُونَهَا ، فَإِنْ ضُمِنَتْ نَفْسُهُ اسْتَوَى ضَمَانُهَا بِالْيَدِ إِذَا غُصِبَ وَبِالْجِنَايَةِ إِذَا قُتِلَ ، فَتَجِبُ فِيهِ جَمِيعُ قِيمَتِهِ مَا بَلَغَتْ لَكِنْ يُعْتَبَرُ فِي الْجِنَايَةِ قِيمَتُهُ وَقْتَ الْقَتْلِ ، وَتُعْتَبَرُ فِي الْيَدِ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مَا كَانَتْ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ إِلَى وَقْتِ التَّلَفِ . فَأَمَّا مَا دُونَ نَفْسِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ جُرْحًا لَا يَتَقَدَّرُ فِيهِ مِنَ الحُرِّ دِيَةٌ ، فَتَجِبُ فِيهِ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ فِي ضَمَانِهِ بِالْيَدِ وَالْجِنَايَةِ جَمِيعًا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ طَرَفًا يَتَقَدَّرُ فِيهِ مِنَ الحُرِّ دِيَةٌ كَالْيَدِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا مِنَ الحُرِّ نِصْفُ الدِّيَةِ .
فَلَا يَخْلُو ضَمَانُهَا فِي الْعَبْدِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تُضْمَنَ بِالْجِنَايَةِ فَتُضْمَنَ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ كَالْحُرِّ فِي ضَمَانِهَا بِنِصْفِ دِيَتِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ تُضْمَنَ بِالْيَدِ فَتُضْمَنَ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ سَوَاءٌ زَادَ عَلَى نِصْفِ الْقِيمَةِ أَوْ نَقَصَ كَالْبَهِيمَةِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ تُضْمَنَ بِالْيَدِ وَالْجِنَايَةِ فَيَضْمَنُهَا بِأَكْثَرِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ : أَوْ مَا نَقَصَ مِنْهَا لِأَنَّهُ لَمَّا جَمَعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ أَغْلَظُهُمَا لِوُجُودِ مُوجِبِهِ .
مَسْأَلَةٌ لَا يُقْتَلُ وَالِدٌ بِوَلَدٍ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : وَلَا يُقْتَلُ وَالِدٌ بِوَلَدٍ لِأَنَّهُ إِجْمَاعٌ وَلَا جَدٌّ مِنْ قِبَلِ أُمٍّ وَلَا أَبٍ بِوَلَدِ وَلَدٍ وَإِنْ بَعُدَ لِأَنَّهُ وَالِدٌ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : هَذَا يُؤَكِّدُ مِيرَاثَ الْجَدِّ لِأَنَّ الْأَخَ يُقْتَلُ بِأَخِيهِ ، وَلَا يُقْتَلُ الْجَدُّ بِابْنِ ابْنِهِ ، وَيَمْلِكُ الْأَخُ أَخَاهُ فِي قَوْلِهِ ، وَلَا يَمْلِكُ جَدَّهُ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجَدَّ كَالْأَبِ فِي حَجْبِ الْإِخْوَةِ وَلَيْسَ كَالْأَخِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَلَا يُقْتَلُ وَالِدٌ وَلَا وَالِدَةٌ وَلَا جَدٌّ وَلَا جَدَّةٌ بِوَلَدٍ وَلَا بِوَلَدِ وَلَدٍ وَإِنْ سَفُلَ ، سَوَاءٌ قَتَلَهُ ذَبْحًا أَوْ حَذْفًا وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ ذَبَحَهُ غِيلَةً قُتِلَ بِهِ وَإِنْ حَذَفَهُ بِسَيْفٍ فَقَتَلَهُ لَمْ يُقْتَلْ بِهِ ، اسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَلِأَنَّ تَسَاوِيَهُمَا فِي الْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ يُوجِبُ تَسَاوِيَهُمَا فِي الْقَوَدِ كَالْأَجَانِبِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا قُتِلَ الْوَلَدُ بِالْوَالِدِ جَازَ قَتْلُ الْوَالِدِ بِالْوَلَدِ . وَدَلِيلُنَا مَا رَوَى قَتَادَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْمَسَاجِدِ ، وَلَا يُقَادُ بِالْوَلَدِ الْوَالِدُ . وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ أَوْلَدَ جَارِيَةً فَأَصَابَ مِنْهَا ابْنًا ، وَكَانَ يَسْتَخْدِمُهَا ، فَلَمَّا شَبَّ الْغُلَامُ قَالَ : إِلَى مَتَى تَسْتَأْمِي أُمِّي - أَيْ : تَسْتَخْدِمُهَا خِدْمَةَ الْإِمَاءِ - فَغَضِبَ فَحَذَفَهُ بِسَيْفٍ أَصَابَ رِجْلَهُ فَقَطَعَهَا ، وَمَاتَ فَانْطَلَقَ فِي رَهْطٍ إِلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ : يَا عَدُوَّ نَفْسِهِ أَنْتَ الَّذِي قَتَلْتَ ابْنَكَ لَوْلَا أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : لَا يُقَادُ الْأَبُ مِنَ ابْنِهِ لَقَتَلْتُكَ هَلُمَّ دِيَتَهُ ، قَالَ : فَأَتَاهُ بِعِشْرِينَ وَمِائَةِ بَعِيرٍ قَالَ فَخَيَّرَ مِنْهَا مِائَةً فَدَفَعَهَا إِلَى وَرَثَتِهِ ، وَتَرَكَ أَبَاهُ فَإِنْ قِيلَ : إِنَّمَا أَسْقَطَ عَنْهُ الْقَوَدَ لِلْحَذْفِ وَدُخُولِ الشُّبْهَةِ فِيهِ بِمَا جُعِلَ لَهُ مِنْ تَأْدِيبِهِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَفْقُودٌ فِي ذَبْحِهِ غِيلَةً .
قِيلَ : هَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَنَّهُ لَيْسَ فِي عُرْفِ التَّأْدِيبِ حَذْفُهُ بِالسَّيْفِ فَلَمْ يَجُزْ حَمْلُهُ عَلَيْهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ جَازَ لِمَا اسْتَحَقَّهُ مِنْ تَأْدِيبِهِ أَنْ لَا يُقَالَ لِحَذْفِهِ يَسْقُطُ بِهِ الْقَوَدُ عَنْ كُلِّ مُسْتَحِقٍّ لِلتَّأْدِيبِ مِنْ وَالٍ وَحَاكِمٍ ، وَهُمْ يُقَادُونَ بِهِ مَعَ اسْتِحْقَاقِهِمْ لِلتَّأْدِيبِ فَكَذَلِكَ الْأَبُ ، وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو سُقُوطُ الْقَوَدِ عَنِ الْأَبِ فِي الْحَذْفِ أَنْ يَكُونَ لِشُبْهَةٍ فِي الْفِعْلِ ، أَوْ فِي الْفَاعِلِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ لِشُبْهَةٍ فِي الْفِعْلِ : لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ شُبْهَةً فِيهِ مَعَ غَيْرِ الْوَلَدِ فَثَبَتَ أَنَّهُ لِشُبْهَةٍ فِي الْفَاعِلِ وَهُوَ الْأُبُوَّةُ فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ الْقَوَدُ مَعَ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِ ، وَلِأَنَّ الْوَلَدَ بَعْضُ أَبِيهِ ، وَلَا قَوَدَ عَلَى الْإِنْسَانِ فِيمَا جَنَاهُ عَلَى نَفْسِهِ كَذَلِكَ لَا قَوَدَ عَلَيْهِ فِي وَلَدِهِ لِأَنَّهُ بَعْضُ نَفْسِهِ . وَاسْتِدْلَالُهُ بِالظَّوَاهِرِ مَخْصُوصٌ وَقِيَاسُهُ عَلَى الْأَجَانِبِ مَمْنُوعٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ البَعْضِيَّةِ وَاعْتِبَارُهُ بِقَتْلِ الْوَلَدِ بِالْوَالِدِ فَاسِدٌ لِتَسْوِيَتِهِ فِي الْوَلَدِ بَيْنَ الذَّبْحِ وَالْحَذْفِ ، وَفَرْقِهِ فِي الْأَبِ بَيْنَ الذَّبْحِ وَالْحَذْفِ ، وَأَنَّهُ يُحَدُّ الْوَلَدُ بِقَذْفِ الْوَالِدِ ، وَلَا يُحَدُّ الْوَالِدُ بِقَذْفِ الْوَلَدِ ، وَهَذَا انْفِصَالٌ وَدَلِيلٌ . فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِيمَا خَالَفَ فِيهِ مَالِكٌ : لِأَنَّهُ إِجْمَاعٌ ؟ وَكَيْفَ يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ مَعَ خِلَافِ مِثْلِهِ ؟ فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الصَّحَابَةَ لِأَنَّهُ قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَلَمْ يُخَالِفْ أَحَدُهُمْ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ قَتْلُهُ حَذْفًا إِجْمَاعٌ لَا يُعْرَفُ فِيهِ خِلَافٌ فَكَانَ الذَّبْحُ بِمَثَابَتِهِ . فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ لَمَّا رَأَى الشَّافِعِيَّ يَقُولُ : إِنَّ الْجَدَّ كَالْأَبِ فِي أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ بِوَلَدِ وَلَدِهِ قَالَ : يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْجَدُّ كَالْأَبِ فِي حَجْبِ الْإِخْوَةِ عَنِ الْمِيرَاثِ . قِيلَ : إِنَّمَا قَالَ : إِنَّ الْجَدَّ كَالْأَبِ لِأَجْلِ الْوِلَادَةِ وَلَا يَقْتَضِي أَنْ يُحْجَبَ بِهِ الْإِخْوَةُ ، كَمَا تَجْعَلُ الْأُمَّ وَأَبَاهَا كَالْأَبِ فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ ، وَلَا تَجْعَلُهَا كَالْأَبِ فِي حَجْبِ الْإِخْوَةِ . فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنْ لَا قَوَدَ عَلَى الْأَبَوَيْنِ وَمَنْ عَلَا مِنَ الأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ مَنْ وَرِثَ مِنْهُمْ أَوْ لَمْ يَرِثْ فَسَوَاءٌ كَانَ الْوَالِدُ الْقَاتِلُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا ، وَيُعَزَّرُ لِإِقْدَامِهِ عَلَى مَعْصِيَةٍ ، وَعَلَيْهِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ فِي مَالِهِ ، وَلَا مِيرَاثَ لَهُ مِنْهُ : لِأَنَّ الْقَاتِلَ لَا يَرِثُ .
فَصْلٌ : وَإِذَا تَنَازَعَ رَجُلَانِ فِي أُبُوَّةِ وَلَدٍ ثُمَّ قَتَلَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَقِيطًا قَدِ ادَّعَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَدًا أَوْ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي
افْتِرَاشِ أَمَةٍ بِشُبْهَةٍ فَإِنْ كَانَ لَقِيطًا وَادَّعَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَدًا فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّهُ يَلْحَقُ بِهِمَا . وَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهُ يُعْرَضُ عَلَى الْقَافَةِ ، وَيُلْحَقُ بِمَنْ أَلْحَقُوهُ بِهِ مِنْهُمَا ، فَإِنْ عُدِمَتِ الْقَافَةُ ، وَأَشْكَلَ عَلَيْهِمْ وُقِفَ إِلَى زَمَانِ الِانْتِسَابِ لِيَنْتَسِبَ إِلَى أَحَدِهِمَا بِطَبْعِهِ ، وَلِلْكَلَامِ مَعَهُ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلِلْمُدَّعِي أُبُوَّتَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَا مُقِيمَيْنِ عَلَى ادِّعَائِهِ وَالتَّنَازُعِ فِيهِ ، فَإِنْ قَتَلَاهُ فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِمَا : لِجَرَيَانِ حُكْمِ الْأُبُوَّةِ عَلَيْهِمَا ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ فِي أَحَدِهِمَا : لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَبَاهُ وَإِنْ قَتَلَهُ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْبَيَانِ فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ لَحِقَ بِالْقَاتِلِ أَوْ بِالْآخَرِ : لِثُبُوتِ الشُّبْهَةِ فِيهِ عِنْدَ قَتْلِهِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُسَلِّمَهُ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ قَبْلَ الْقَتْلِ فَيَلْحَقُ بِمَنْ سُلِّمَ إِلَيْهِ ، وَيَصِيرُ ابْنًا لَهُ دُونَ الْآخَرِ ، فَإِنْ قَتَلَهُ مَنْ أُلْحِقَ بِهِ فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ أَبٌ لَهُ . وَإِنْ قَتَلَهُ مَنْ نُفِيَ عَنْهُ أُقِيدَ بِهِ : لِأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ مِنْهُ ، وَإِنْ قَتَلَاهُ مَعًا فَلَا قَوَدَ عَلَى الْأَبِ ، وَيُقَادُ مِنَ الآخَرِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَرْجِعَا جَمِيعًا عَنِ ادِّعَائِهِ فَلَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُمَا ، وَإِنْ قُبِلَ رُجُوعُ أَحَدِهِمَا : لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِدَعْوَاهُمَا مُسْتَحِقًّا لِأُبُوَّةِ أَحَدِهِمَا فَإِذَا سَلَّمَهُ أَحَدُهُمَا صَارَا مُتَّفِقَيْنِ عَلَى إِثْبَاتِ أُبُوَّتِهِ فَقُبِلَ مِنْهُمَا ، وَإِذَا رَجَعَا عَنْهَا صَارَا مُتَّفِقَيْنِ عَلَى إِسْقَاطِ أُبُوَّتِهِ فَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُمَا . فَإِنْ قَتَلَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا لَمْ يُقْتَلْ بِهِ لِبَقَاءِ حُكْمِ الْأُبُوَّةِ بَيْنَهُمَا . وَإِنْ تَنَازَعَا لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْفِرَاشِ ، أَوْ تَنَاكَرَاهُ مَعَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْفِرَاشِ ، فَالْحُكْمُ فِيهِمَا سَوَاءٌ ، وَكَذَلِكَ لَوْ سَلَّمَهُ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ بِخِلَافِهِمَا فِي دَعْوَى اللَّقِيطِ : لَأَنَّ حُكْمَ الْأُبُوَّةِ فِي اللَّقِيطِ يَثْبُتُ بِالدَّعْوَى : فَجَازَ تَسْلِيمُهُ لِأَحَدِهِمَا . وَفِي وَلَدِ الْمَوْطُوءَةِ ثَبَتَ حُكْمُ الْأُبُوَّةِ بِالِاشْتِرَاكِ فِي الْفِرَاشِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ التَّسْلِيمُ وَالْإِنْكَارُ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلِبَيَانِ نَسَبِهِ فِي لُحُوقِهِ بِأَحَدِهِمَا حَالَتَانِ : أَحَدُهُمَا : بِالْوِلَادَةِ ، وَهُوَ أَنْ تَلِدَهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَطْءِ أَحَدِهِمَا ، وَلِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ وَطْءِ الْآخَرِ : فَيَكُونُ لَاحِقًا بِمَنْ وَلَدَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ وَطْئِهِ ، وَهَذَا بَيَانٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْ زَمَانِ الْوِلَادَةِ فَلَا يَكُونُ الْقَتْلُ إِلَّا بَعْدَ اسْتِقْرَارِ نَسَبِهِ ؟ فَإِنْ قَتَلَهُ مَنْ لَحِقَ بِهِ فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ قَتَلَهُ مَنِ انْتَفَى عَنْهُ أُقِيدَ بِهِ ، وَإِنِ اشْتَرَكَا فِي قَتْلِهِ قُتِلَ بِهِ غَيْرُ أَبِيهِ ، وَسَقَطَ الْقَوَدُ عَنْ أَبِيهِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ لَا يُبَيَّنَ نَسَبُهُ بِالْوِلَادَةِ ، لِوِلَادَتِهِ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَطْئِهِمَا مَعًا
فَيُوقَفُ نَسَبُهُ عَلَى الْبَيَانِ ، بِالْقَافَةِ أَوِ الِانْتِسَابِ ، فَإِنْ قُتِلَ بَعْدَ الْبَيَانِ أُقِيدَ بِهِ غَيْرُ أَبِيهِ ، وَإِنْ قُتِلَ قَبْلَ الْبَيَانِ فَلَا قَوَدَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، سَوَاءٌ بَانَ مِنْ بَعْدُ أَنَّهُ أَبٌ أَوْ غَيْرُ أَبٍ : لِثُبُوتِ الشُّبْهَةِ حَالَ الْقَتْلِ .
فَصْلٌ : وَإِذَا قَتَلَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ وَتَرَكَتْ وَلَدًا فما حكم القود منه فَلَهُ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَكُونَ مِنَ القَاتِلِ . وَالثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِهِ . فَإِنْ كَانَ مِنَ القَاتِلِ سَقَطَ الْقَوَدُ عَنْهُ : لِأَنَّ وَارِثَهَا ابْنُ قَاتِلِهَا ، وَإِذَا لَمْ يَثْبُتِ لِلِابْنِ عَلَى أَبِيهِ قَوَدٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ بِإِرْثِهِ عَنْ غَيْرِهِ ، وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ قَدْ قَذَفَهَا قَبْلَ الْقَتْلِ سَقَطَ عَنْهُ حَدُّ الْقَذْفِ إِذَا وَرِثَهَا ابْنُهُ : لِأَنَّ الِابْنَ لَمَّا لَمْ يَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي قَذْفِ نَفْسِهِ : فَكَذَلِكَ لَا يَسْتَحِقُّهُ بِإِرْثِهِ عَنْ غَيْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ وَلَدُ الْمَقْتُولَةِ مِنْ غَيْرِ الْقَاتِلِ ثَبَتَ لَهُ عَلَى الْقَاتِلِ الْقَوَدُ وَحَدُّ الْقَذْفِ : لِأَنَّهُ لَا نَسَبَ لَهُ بَيْنَهُمَا وَلَا بَعْضِيَّةَ . وَلَوْ تَرَكَتِ الْمَقْتُولَةُ وَلَدَيْنِ أَحَدُهُمَا مِنَ القَاتِلِ وَالْآخَرُ مِنْ غَيْرِهِ ، وَرِثَهَا الْوَلَدَانِ مَعًا ، وَسَقَطَ عَنِ الزَّوْجِ الْقَوَدُ ، وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ حَدُّ الْقَذْفِ ، لِأَنَّ الْقَوَدَ فِي حَقِّ ابْنِهِ قَدْ سَقَطَ فَسَقَطَ فِي حَقِّ الْآخَرِ مِنْهُمَا ، كَمَا لَوْ عَفَا أَحَدُ الْوَلِيَّيْنِ عَنِ الْقَاتِلِ سَقَطَ الْقَوَدُ فِي حَقِّ الْآخَرِ وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ الْوَلِيَّيْنِ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ . وَحَدُّ الْقَذْفِ بِخِلَافِهِ لِأَنَّ عَفْوَ أَحَدِ الْوَارِثِينَ عَنْهُ لَا يُوجِبُ سُقُوطَ حَقِّ الْآخَرِ مِنْهُ ، وَيَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ فَافْتَرَقَا فِيهِ وَيَتَّصِلُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ فَرُوعٌ قَدَّمْنَاهَا فِي كِتَابِ الْفَرَائِضِ .
مَسْأَلَةٌ يُقْتَلُ الْعَبْدُ وَالْكَافِرُ بِالْحُرِّ الْمُسْلِمِ وَالْوَلَدُ بِالْوَالِدِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَيُقْتَلُ الْعَبْدُ وَالْكَافِرُ بِالْحُرِّ الْمُسْلِمِ وَالْوَلَدُ بِالْوَالِدِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَإِذَا مَضَى الْكَلَامُ فِي الْإِيقَادِ مِنَ الأَكْمَلِ بِالْأَنْقَصِ فَلَا يَمْنَعُ أَنْ يُقَادَ مِنَ الأَنْقَصِ بِالْأَكْمَلِ فَيَجُوزُ أَنْ يُقْتَلَ الْكَافِرُ بِالْمُسْلِمِ ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقْتَلَ الْمُسْلِمُ بِالْكَافِرِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقْتَلَ الْعَبْدُ بِالْحُرِّ ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقْتَلَ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقْتَلَ الْوَلَدُ بِالْوَالِدِ ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقْتَلَ الْوَالِدُ بِالْوَلَدِ : لِأَنَّ أَخْذَ الْأَنْقَصِ بِالْأَكْمَلِ اقْتِصَارٌ عَلَى بَعْضِ الْحَقِّ ، وَأَخْذَ الْأَكْمَلِ بِالْأَنْقَصِ اسْتِفْضَالٌ عَلَى الْحَقِّ فَيَجُوزُ الِاقْتِصَارُ فِيهِ ، وَمَنَعَ مِنَ الاسْتِفْضَالِ عَلَيْهِ : فَلَوْ بَذَلَ الْأَكْمَلُ نَفْسَهُ بِالْأَنْقَصِ فَبَذَلَ الْحُرُّ نَفْسَهُ بِقَتْلِ الْعَبْدِ ، وَبَذَلَ الْمُسْلِمُ نَفْسَهُ بِقَتْلِ الْكَافِرِ ، وَبَذَلَ الْوَالِدُ نَفْسَهُ بِقَتْلِ الْوَلَدِ : لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَادَ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ : لِأَنَّ الْقَوَدَ إِذْ لَمْ يَجِبْ لَمْ يُسْتَبَحْ بِالْبَذْلِ : كَمَا لَوْ بَذَلَ نَفْسَهُ أَنْ يُقْتَلَ بِغَيْرِ قَوَدٍ لِقَوْلِ اللَّهِ : وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [ النِّسَاءِ : 29 ] .
مَسْأَلَةٌ مَنْ جَرَى عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ جَرَى عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الْجِرَاحِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَمَنْ جَرَى عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ جَرَى عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الْجِرَاحِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ كُلُّ شَخْصَيْنِ جَرَى بَيْنَهُمَا الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ جَرَى الْقِصَاصُ بَيْنَهُمَا فِي الْأَطْرَافِ وَالْجِرَاحِ ، سَوَاءٌ اتَّفَقَا فِي الدِّيَةِ كَالْحُرَّيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ أَوِ اخْتَلَفَا فِي الدِّيَةِ ، كَالرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَالْعَبِيدِ إِذَا تَفَاضَلَتْ فِيهِمْ ، وَإِنْ لَمْ يَجُزِ الْقِصَاصُ بَيْنَهُمَا فِي النَّفْسِ لَمْ يَجُزْ فِي الْأَطْرَافِ كَالْمُسْلِمِ مَعَ الْكَافِرِ وَالْعَبْدِ مَعَ الْحُرِّ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنِ اخْتَلَفَتْ دِيَاتُهُمَا جَرَى الْقِصَاصُ بَيْنَهُمَا فِي النَّفْسِ دُونَ الْأَطْرَافِ كَالرَّجُلِ مَعَ الْمَرْأَةِ بِقَتْلِهِ بِهَا ، وَلَا يُقْطَعُ يَدُهُ بِيَدِهَا ، وَالْعَبِيدُ إِذَا تَفَاضَلَتْ قِيَمُهُمْ ، وَقَلَّ أَنْ تَكُونَ مُتَّفِقَةً . فَيُوجِبُ الْقَوَدَ بَيْنَهُمْ فِي النُّفُوسِ ، وَيُسْقِطُهُ فِي الْأَطْرَافِ ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ التَّسَاوِيَ مُعْتَبَرٌ فِي الْأَطْرَافِ دُونَ النُّفُوسِ : لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تُؤْخَذَ الْيَدُ السَّلِيمَةُ بِالشَّلَّاءِ ، وَتُؤْخَذُ النَّفْسُ السَّلِيمَةُ بِالنَّفْسِ السَّقِيمَةِ ، فَلَمْ يَمْنَعْ تَفَاضُلُ الدِّيَاتِ مِنَ القَوَدِ فِي النُّفُوسِ ، وَمَنَعَ مِنَ القَوَدِ فِي الْأَطْرَافِ ، وَلِأَنَّ أَطْرَافَ الرَّجُلِ أَعَمُّ نَفْعًا مِنْ أَطْرَافِ الْمَرْأَةِ لِاخْتِصَاصِهَا بِالتَّصَرُّفِ فِي الْأَعْمَالِ وَالِاكْتِسَابِ ، فَلَمْ تُكَافِئْهَا أَطْرَافُ الْمَرْأَةِ فَسَقَطَ الْقَوَدُ فِيهَا . وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ إِلَى قَوْلِهِ : وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ [ الْمَائِدَةِ : 45 ] فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ . وَلِأَنَّ كُلَّ شَخْصَيْنِ جَرَى الْقِصَاصُ بَيْنَهُمَا فِي النَّفْسِ جَرَى فِي الْأَطْرَافِ كَالرَّجُلَيْنِ . وَلِأَنَّ كُلَّ قِصَاصٍ جَرَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ وَالْمَرْأَتَيْنِ جَازَ أَنْ يَجْرِيَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ كَالنُّفُوسِ ، وَكُلَّ قِصَاصٍ جَرَى بَيْنَ الْحُرَّيْنِ جَرَى بَيْنَ الْعَبْدَيْنِ كَالنُّفُوسِ ، وَقَدْ مَضَى الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِاعْتِبَارِ التَّكَافُؤِ فِي الْأَطْرَافِ دُونَ النَّفْسِ بِأَنَّهُ مُعْتَبَرٌ فِي الْأَمْرَيْنِ ، وَفِي الشَّلَلِ حُكْمٌ نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنَ اخْتِصَاصِ أَطْرَافِ الرَّجُلِ بِالْمَنَافِعِ فَيَفْسُدُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ مِنْ أَخْذِ يَدِ الْكَاتِبِ وَالصَّانِعِ وَالْمُحَارِبِ بِيَدِ مَنْ لَيْسَ بِكَاتِبٍ وَلَا صَانِعٍ وَلَا مُحَارِبٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ فِي يَدِ الْمَرْأَةِ مَنَافِعَ لَيْسَتْ فِي يَدِ الرَّجُلِ فَتَقَابَلَا . وَالثَّالِثُ : أَنَّ أَطْرَافَ الْعَبِيدِ تُمَاثِلُ فِي الْمَنَافِعِ ، وَلَا يَجْرِي فِيهَا قَوَدٌ ، فَبَطَلَ هَذَا الِاعْتِبَارُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .
مَسْأَلَةٌ إِذَا اشْتَرَكَ الْجَمَاعَةُ فِي قَتْلِ وَاحِدٍ قُتِلُوا بِهِ جَمِيعًا
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَيُقْتَلُ بِالْوَاحِدِ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَتَلَ خَمْسَةً
أَوْ سَبْعَةً بِرَجُلٍ قَتَلُوهُ غِيلَةً وَقَالَ : لَوْ تَمَالَأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ جَمِيعًا . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ كَمَا قَالَ إِذَا اشْتَرَكَ الْجَمَاعَةُ فِي قَتْلِ وَاحِدٍ قُتِلُوا بِهِ جَمِيعًا إِذَا كَانُوا لَهُ أَكْفَاءَ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ : عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ . وَمِنَ التَّابِعِينَ : سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ، وَعَطَاءٌ . وَمِنَ الْفُقَهَاءِ : مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ : لِلْوَلِيِّ أَنْ يَقْتُلَ بِهِ مِنَ الجَمَاعَةِ وَاحِدًا يَرْجِعُ فِيهِ إِلَى خِيَارِهِ ، وَيَأْخُذَ مِنَ البَاقِينَ قِسْطَهُمْ مِنَ الدِّيَةِ ، وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَفِي التَّابِعِينَ : قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ ، وَالزُّهْرِيِّ . وَقَالَ آخَرُونَ : لَا قَوَدَ عَلَى وَاحِدٍ مِنَ الجَمَاعَةِ بِحَالٍ ، وَتُؤْخَذُ مِنْهُمُ الدِّيَةُ بِالسَّوِيَّةِ ، وَبِهِ قَالَ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ ، اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [ الْمَائِدَةِ : 45 ] وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ [ الْبَقَرَةِ : 178 ] فَاقْتَضَى هَذَا الظَّاهِرُ أَنْ لَا تُقْتَلَ بِالنَّفْسِ أَكْثَرُ مِنْ نَفْسٍ ، وَلَا بِالْحُرِّ أَكْثَرُ مِنْ حُرٍّ ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ [ الْإِسْرَاءِ : 33 ] وَمِنَ السَّرَفِ قَتْلُ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ . وَرَوَى جُوَيْبِرٌ عَنِ الضَّحَّاكِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : لَا يُقْتَلُ اثْنَانِ بِوَاحِدٍ وَهَذَا نَصٌّ وَلِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يُكَافِئُ الْجَمَاعَةَ لَا يُقْتَلُ بِالْجَمَاعَةِ إِذَا قَتَلَهُمْ ، وَيُقْتَلُ بِأَحَدِهِمْ ، وَيُؤْخَذُ مِنْ مَالِهِ دِيَاتُ الْبَاقِينَ : كَذَلِكَ إِذَا قَتَلَهُ جَمَاعَةٌ لَمْ يُقْتَلُوا بِهِ ، وَلِأَنَّ زِيَادَةَ الْوَصْفِ إِذَا مَنَعَتْ مِنَ القَوَدِ حَتَّى لَمْ يُقْتَلْ حُرٌّ بِعَبْدٍ ، وَلَا مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ ، كَانَ زِيَادَةُ الْعَدَدِ أَوْلَى أَنْ تَمْنَعَ مِنَ القَوَدِ ، فَلَا يُقْتَلُ جَمَاعَةٌ بِوَاحِدٍ ، وَلِأَنَّ لِلنَّفْسِ بَدَلَيْنِ قَوَدٌ وَدِيَةٌ ، فَلَمَّا لَمْ يَجِبْ عَلَى الِاثْنَيْنِ بِقَتْلِ الْوَاحِدِ دِيَتَانِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمَا قَوَدَانِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [ الْبَقَرَةِ : 179 ] وَسَبَبُ الْحَيَاةِ أَنَّهُ إِذَا عَلِمَ الْقَاتِلُ بِوُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ إِذَا قَتَلَ كَفَّ عَنِ الْقَتْلِ ، فَحَيِيَ الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ ، فَلَوْ لَمْ يُقْتَصَّ مِنَ الجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ ، لَمَا كَانَ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ، وَلَكَانَ الْقَاتِلُ إِذَا هَمَّ بِالْقَتْلِ شَارَكَ غَيْرَهُ فَسَقَطَ الْقِصَاصُ عَنْهُمَا وَصَارَ رَافِعًا لِحُكْمِ النَّصِّ . وَرَوَى أَبُو شُرَيْحٍ الْكَعْبِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ثُمَّ أَنْتُمْ يَا خُزَاعَةُ قَدْ قَتَلْتُمْ هَذَا الْقَتِيلَ مِنْ هُذَيْلٍ ، وَأَنَا وَاللَّهِ عَاقِلُهُ ، فَمَنْ قَتَلَ بَعْدَهُ قَتِيلًا فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ : إِنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا ، وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الْعَقْلَ .
وَهَذَا الْخَبَرُ وَارِدٌ فِي قَتْلِ الْجَمَاعَةِ لِوَاحِدٍ لِأَنَّهُ قَالَ : ثُمَّ أَنْتُمْ يَا خُزَاعَةُ قَدْ قَتَلْتُمْ هَذَا الْقَتِيلَ مِنْ هُذَيْلٍ ثُمَّ قَالَ : فَمَنْ قَتَلَ بَعْدَهُ قَتِيلًا وَ " مَنْ " يَنْطَلِقُ عَلَى الْجَمَاعَةِ كَانْطِلَاقِهِ عَلَى الْوَاحِدِ ثُمَّ قَالَ : فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ إِنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا ، وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الْعَقْلَ فَدَلَّ عَلَى قَتْلِ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ : لِأَنَّ الْحُكْمَ إِذَا وَرَدَ عَلَى سَبَبٍ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ خَارِجًا مِنْ ذَلِكَ الْحُكْمِ . وَرَوَى ابْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَتَلَ خَمْسَةً أَوْ سَبْعَةً بِرَجُلٍ قَتَلُوهُ غِيلَةً وَقَالَ : لَوْ تَمَالَأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ جَمِيعًا بِهِ . وَالْقَتْلُ عَلَى أَنْوَاعٍ : غِيلَةٌ ، وَفَتْكٌ ، وَغَدْرٌ ، وَصَبْرٌ . فَالْغِيلَةُ : الْحِيلَةُ وَهُوَ أَنْ يَحْتَالُوا لَهُ بِالتَّمَكُّنِ مِنَ الاسْتِخْفَاءِ حَتَّى يَقْتُلُوهُ . وَالْفَتْكُ : أَنْ يَكُونَ آمِنًا فَيُرَاقَبَ حَتَّى يُقْتَلَ . وَالْغَدْرُ : أَنْ يُقْتَلَ بَعْدَ أَمَانَةٍ . وَالصَّبْرُ : قَتْلُ الْأَسِيرِ مُحَاصَرَةً . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ قَتَلَ ثَلَاثَةً قَتَلُوا وَاحِدًا وَكَتَبَ إِلَى أَهْلِ النَّهْرَوَانِ حِينَ قَتَلُوا عَامِلَهُ خَبَّابَ بْنَ الْأَرَتِّ : سَلِّمُوا إِلَيَّ قَاتِلَهُ قَالُوا : كُلُّنَا قَتَلَهُ قَالَ : فَاسْتَسْلِمُوا إِذَنْ أَقُدُّ مِنْكُمْ ، وَسَارَ إِلَيْهِمْ فَقَتَلَ أَكْثَرَهُمْ . وَقَتَلَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ سَبْعَةً بِوَاحِدٍ . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إِذَا قَتَلَ جَمَاعَةٌ وَاحِدًا قُتِلُوا بِهِ وَلَوْ كَانُوا مِائَةً . وَهَذَا قَوْلُ أَرْبَعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فِيهِمْ إِمَامَانِ عَمِلَا بِمَا قَالَا بِهِ فَلَمْ يُقَابِلْهُمْ قَوْلُ مُعَاذٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَصَارَ رَبِيعَةُ وَدَاوُدُ خَارِجَيْنِ مِنْ قَوْلِ الْفَرِيقَيْنِ بِإِحْدَاثِ قَوْلٍ ثَالِثٍ خَالَفَ فِيهِ الْفَرِيقَيْنِ فَصَارَا مُخَالِفَيْنِ لِلْإِجْمَاعِ ، لِأَنَّ مَنْ أَحْدَثَ قَوْلًا ثَالِثًا بَعْدَ قَوْلَيْنِ أَحْدَثَ قَوْلًا ثَانِيًا بَعْدَ أَوَّلٍ ، وَلِأَنَّ قَتْلَ النَّفْسِ أَغْلَظُ مِنْ هَتْكِ الْعِرْضِ بِالْقَذْفِ فَلَمَّا حَدَّ الْجَمَاعَةَ بِقَتْلِ الْوَاحِدِ ، كَانَ أَوْلَى أَنْ يُقْتَلُوا بِقَتْلِ الْوَاحِدِ . وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الجَمَاعَةِ يَنْطَلِقُ اسْمُ الْقَتْلِ عَلَيْهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ كَالْوَاحِدِ ، وَلِأَنَّ مَا وَجَبَ فِي قَتْلِ الْوَاحِدِ لَمْ يَسْقُطْ فِي قَتْلِ الْجَمَاعَةِ كَالدِّيَةِ . فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [ الْمَائِدَةِ : 45 ] وَقَوْلُهُ : الْحُرُّ بِالْحُرِّ [ البقرة : 178 ] فَمُسْتَعْمَلٌ فِي الْجِنْسِ لِأَنَّ النَّفْسَ تَنْطَلِقُ عَلَى النُّفُوسِ ، وَالْحُرَّ يَنْطَلِقُ عَلَى الْأَحْرَارِ .
وَقَوْلُهُ : فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ [ الْإِسْرَاءِ : 33 ] يُرِيدُ أَنْ لَا يَقْتُلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا [ الْإِسْرَاءِ : 33 ] يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ سُلْطَانُهُ فِي الْجَمَاعَةِ كَسُلْطَانِهِ فِي الْوَاحِدِ فَصَارَتِ الْآيَةُ دَلِيلَنَا . وَأَمَّا حَدِيثُ الضَّحَّاكِ فَمُرْسَلٌ مَنْكُورٌ وَإِنْ صَحَّ كَانَ مَحْمُولًا عَلَى الْمُمْسِكِ وَالْقَاتِلِ ، فَيُقْتَلُ بِهِ الْقَاتِلُ دُونَ الْمُمْسِكِ . وَقَوْلُهُمْ إِنَّ دَمَ الْوَاحِدِ لَا يُكَافِئُ دَمَ الْجَمَاعَةِ - غَيْرُ صَحِيحٍ : لِأَنَّ حُرْمَةَ الْوَاحِدِ كَحُرْمَةِ الْجَمَاعَةِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا [ الْمَائِدَةِ : 32 ] فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَوَدُ فِيهِمَا وَاحِدًا ، وَلَيْسَ يُوجِبُ قَتْلُ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ ، أَنْ يُقْتَلَ الْوَاحِدُ بِالْجَمَاعَةِ ، وَإِنْ قَالَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْقَوَدِ حَقْنُ الدِّمَاءِ ، وَأَنْ لَا تُهْدَرَ فَقَتْلُ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ لِئَلَّا تُهْدَرَ دِمَاؤُهُمْ . وَقَوْلُهُمْ : لَمَّا مَنَعَ زِيَادَةَ الْوَصْفِ مِنَ القَوَدِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَمْنَعَ مِنْ زِيَادَةِ الْعَدَدِ ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ زِيَادَةَ الْوَصْفِ مَنَعَتْ مِنْ وُجُودِ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْوَاحِدِ فَلَمْ تَمْنَعْ فِي الْجَمَاعَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ زِيَادَةَ الْوَصْفِ فِي الْقَاذِفِ تَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ ، وَزِيَادَةَ الْعَدَدِ لَا يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ ، وَقَوْلُهُمْ : لَمَّا لَمْ تُسْتَحَقَّ بِقَتْلِهِ دِيَتَانِ لَمْ تُسْتَحَقَّ بِهِ قَوَدَانِ ، فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الدِّيَةَ تَتَبَعَّضُ فَلَمْ يَجِبْ أَكْثَرُ مِنْهَا ، وَالْقَوَدُ لَا يَتَبَعَّضُ فَعَمَّ حُكْمُهُ كَسَرِقَةِ الْجَمَاعَةِ لَمَّا أَوْجَبَتْ غُرْمًا يَتَبَعَّضُ ، وَقَطْعًا لَا يَتَبَعَّضُ اشْتَرَكُوا فِي غُرْمٍ وَاحِدٍ وَقَطْعِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْقَوَدَ مَوْضُوعٌ لِلزَّجْرِ وَالرَّدْعِ فَلَزِمَ فِي الْجَمَاعَةِ كَلُزُومِهِ فِي الْوَاحِدِ ، وَالدِّيَةُ بَدَلٌ مِنَ النَّفْسِ فَلَمْ يَلْزَمْ فِيهَا إِلَّا بَدَلٌ وَاحِدٌ ، فَإِذَا ثَبَتَ قَتْلُ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ كَانَ الْوَلِيُّ فِيهِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : إِمَّا أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ جَمِيعِهِمْ أَوْ يَعْفُوَ عَنْ جَمِيعِهِمْ إِلَى الدِّيَةِ فَتَسْقُطُ الدِّيَةُ الْوَاحِدَةُ بَيْنَهُمْ عَلَى أَعْدَادِهِمْ ، أَوْ يَعْفُوَ عَنْ بَعْضِهِمْ ، وَيَقْتَصَّ مِنْ بَعْضِهِمْ ، وَيَأْخُذَ مِمَّنْ عَفَا عَنْهُ مِنَ الدِّيَةِ بِقِسْطِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَلَوْ جَرَحَهُ أَحَدُهُمَا مِائَةَ جُرْحٍ وَالْآخَرُ جُرْحًا وَاحِدًا فَمَاتَ كَانُوا فِي الْقَوَدِ سَوَاءً . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ اشْتِرَاكَ الْجَمَاعَةِ فِي قَتْلِ الْوَاحِدِ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُوجَبًا مِثْلَ أَنْ يَذْبَحَهُ أَحَدُهُمَا وَيَبْقُرَ الْآخَرُ بَطْنَهُ وَيَقْطَعَ حَشْوَتَهُ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ يَفْعَلَا ذَلِكَ مَعًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَكُونَا جَمِيعًا قَاتِلَيْنِ ، وَيَجِبُ الْقَوَدُ عَلَيْهِمَا ، وَتُؤْخَذُ الدِّيَةُ مِنْهُمَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَتَقَدَّمَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ فَيَوْجَئَهُ ثُمَّ يَتْلُوهُ الْآخَرُ مَعَ بَقَاءِ النَّفَسِ وَوُجُودِ الْحَرَكَةِ فَيَوْجَئَهُ حَتَّى يَطْفَا وَيَبْرُدَ ، فَالْأَوَّلُ مِنْهُمَا هُوَ الْقَاتِلُ ، وَعَلَيْهِ الْقَوَدُ وَجَمِيعُ الدِّيَةِ ، دُونَ الثَّانِي ، لِأَنَّ فَوَاتَ الْحَيَاةِ مَنْسُوبٌ إِلَى فِعْلِ الْأَوَّلِ ، وَلَا يَجْرِي عَلَى مَا بَقِيَ مِنَ النَّفَسِ وَالْحَرَكَةِ حُكْمُ الْحَيَاةِ ، وَلَوْ مَاتَ لَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مَيِّتٌ لَمْ يَرِثْهُ ، وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِمَالٍ لَمْ يَمْلِكْهُ ، وَلَوِ انْقَلَبَ عَلَى طِفْلٍ فَقَتَلَهُ لَمْ يَضْمَنْهُ ، وَيُعَزَّرُ الثَّانِي أَدَبًا وَزَجْرًا .
فَصْلٌ : وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَارِحًا أَوْ قَاطِعًا غَيْرَ مُوجٍ فَيَكُونُ جَمِيعُهُمْ قَتَلَهُ قتل الجماعة للواحد سَوَاءٌ اجْتَمَعُوا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ أَوْ تَفَرَّقُوا ، وَسَوَاءٌ اتَّفَقُوا فِي عَدَدِ الْجُرْحِ أَوِ اخْتَلَفُوا حَتَّى لَوْ جَرَحَهُ أَحَدُهُمْ جِرَاحَةً وَاحِدَةً ، وَجَرَحَهُ الْآخَرُ مِائَةَ جِرَاحَةٍ ، كَانُوا فِي قَتْلِهِ سَوَاءً وَعَلَيْهِمُ الْقَوَدُ وَالدِّيَةُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ ، لَا عَلَى عَدَدِ الْجِرَاحِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَمُوتَ مِنَ الجُرْحِ الْوَاحِدِ ، وَيَحْيَا مِنْ مِائَةِ جُرْحٍ ، إِمَّا لِاخْتِلَافِ الْمَوَاضِعِ الْقَاتِلَةِ ، وَإِمَّا لِاخْتِلَافِ مَوْرِ الْحَدِيدِ فِي دُخُولِهِ فِي جَسَدِهِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُشَاهَدٍ . فَلِهَذَيْنِ لَمْ تُقَسَّطِ الدِّيَةُ عَلَى عَدَدِ الْجِرَاحِ ، وَتَقَسَّطَتْ عَلَى عَدَدِ الْجُنَاةِ - الْجِنَايَةُ . فَإِنْ قِيلَ : أَفَلَيْسَ الْجَلَّادُ لَوْ حَدَّ الْقَاذِفَ أَحَدًا وَثَمَانِينَ سَوْطًا فَمَاتَ فما الحكم كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الدِّيَةِ جُزْءٌ مِنْ إِحْدَى وَثَمَانِينَ جُزْءًا فَهَلَّا كَانَ الْجُنَاةُ فِي أَعْدَادِ الْجِرَاحِ كَذَلِكَ ؟ قِيلَ : فِي الْجَلَّادِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ لِفَوَاتِ النَّفْسِ مِنْ وَجْهَيْنِ : مُبَاحٌ ، وَمَحْظُورٌ ، وَلَا اعْتِبَارَ بِعَدَدِ الْجَلْدِ وَتَسَاوِي حُكْمِ الْجُنَاةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ تَتَقَسَّطُ الدِّيَةُ عَلَى عَدَدِ الْجَلْدِ وَلَا تَتَقَسَّطُ عَلَى أَعْدَادِ الْجِرَاحِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ مَحَلَّ الْجَلْدِ مُشَاهَدٌ يُعْلَمُ بِهِ التَّسَاوِي فَتَقَسَّطَتِ الدِّيَةُ عَلَى عَدَدِهِ وَمَوْرُ الْجِرَاحِ غَيْرُ مُشَاهَدٍ لَا يُعْلَمُ بِهِ التَّسَاوِي فَلَمْ تَتَقَسَّطِ الدِّيَةُ فِيهِ عَلَى عَدَدِهِ .
فَصْلٌ : وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا جَارِحًا ، وَالْآخَرُ مُوجٍ قتل الجماعة للواحد فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَتَقَدَّمَ الْجَارِحُ عَلَى الْمُوجِي فَيُؤْخَذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحُكْمِ جِنَايَتِهِ ، فَيَكُونُ الْأَوَّلُ جَارِحًا فَيُقْتَصَّ مِنْهُ فِي الْجِرَاحِ ، إِنْ كَانَ مِثْلُهُ قِصَاصًا أَوْ يُؤْخَذُ مِنْهُ دِيَتُهُ ، إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ قِصَاصٌ ، وَيَكُونُ الثَّانِي قَاتِلًا يُقْتَصُّ مِنْهُ فِي النَّفْسِ ، أَوْ تُؤْخَذُ مِنْهُ جَمِيعُ
الدِّيَةِ ، وَكَذَلِكَ لَوِ اجْتَمَعَا مَعًا لَمْ يَسْقُطْ حُكْمُ الْجُرْحِ لَأَنَّ التَّوْجِيَةَ لَمْ تَتَقَدَّمْهُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَتَقَدَّمَ الْمُوجِئُ عَلَى الْجَارِحِ فَيَسْقُطُ حُكْمُ الْجُرْحِ بَعْدَ التَّوْجِيَةِ وَيُؤْخَذُ الْمُوجِئُ بِالْقَوَدِ أَوْ جَمِيعِ الدِّيَةِ .
فَصْلٌ : وَلَوْ جَرَحَهُ أَحَدُهُمَا مُوضِحَةً ، وَجَرَحَهُ الْآخَرُ جَائِفَةً ، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ انْدِمَالِهِمَا قتل الجماعة للواحد كَانَا قَاتِلَيْنِ ، وَالدِّيَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَبْرَأَ مِنَ الجَائِفَةِ ، وَيَمُوتَ مِنَ المُوضِحَةِ وَالْوَلِيُّ فِي صَاحِبِ الْمُوضِحَةِ بَيْنَ خِيَارَيْنِ بَيْنَ أَنْ يَبْدَأَ بِقَتْلِهِ أَوْ يُوضِحَهُ ثُمَّ يَقْتُلَهُ وَفِي صَاحِبِ الْجَائِفَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فِيهِ بَيْنَ قَتْلِهِ ابْتِدَاءً ، وَبَيْنَ أَنْ يَقْتَصَّ مِنَ الجَائِفَةِ ثُمَّ يَقْتُلَهُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إِجَافَتُهُ : لِأَنَّ الْجَائِفَةَ لَا قِصَاصَ فِيهَا ، وَيُعْتَدُّ لَهُ بِالْقَتْلِ ، فَلَوِ انْدَمَلَتِ الْمُوضِحَةُ ، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ انْدِمَالِ الْجَائِفَةِ ، صَارَ الَّذِي أَوْضَحَهُ جَارِحًا ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْهُ فِي الْمُوضِحَةِ أَوْ تُؤْخَذَ دِيَتُهَا ، وَصَارَ الَّذِي أَجَافَهُ قَاتِلًا عَلَيْهِ الْقَوَدُ أَوِ الدِّيَةُ ، وَهَلْ لَهُ إِجَافَتُهُ قَبْلَ قَتْلِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَلَوِ انْدَمَلَتِ الْجَائِفَةُ ، وَمَاتَ قَبْلَ انْدِمَالِ الْمُوضِحَةِ كَانَ فِي انْدِمَالِ الْمُوضِحَةِ فِي الْجَائِفَةِ دِيَتُهَا دُونَ الْقَوَدِ ، وَصَارَ الْمُوضِحُ قَاتِلًا وَالْوَلِيُّ مَعَهُ بَيْنَ خِيَارَيْنِ إِمَّا أَنْ يَبْدَأَ بِقَتْلِهِ أَوْ يَقْتَصَّ مِنَ المُوضِحَةِ ثُمَّ يَقْتُلُهُ . فَلَوِ ادَّعَى صَاحِبُ الْجَائِفَةِ أَنَّ جِرَاحَتَهُ انْدَمَلَتْ وَمَاتَ مِنَ المُوضِحَةِ فَصَدَّقَهُ الْوَلِيُّ وَكَذَّبَهُ صَاحِبُ الْمُوضِحَةِ ، نَظَرَ فِي حَالِ الْوَلِيِّ فَإِنْ أَرَادَ الْقَوَدَ قَبْلَ قَوْلِ الْوَلِيِّ فِي تَصْدِيقِهِ لِصَاحِبِ الْجَائِفَةِ ، وَكَانَ لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ مَنْ صَاحِبِ الْمُوضِحَةِ وَحْدَهُ ، وَيَأْخُذَ مَنْ صَاحِبِ الْجَائِفَةِ أَرْشَ جَائِفَتِهِ : لِأَنَّ لَهُ لَوْ لَمْ تَنْدَمِلِ الْجَائِفَةُ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ صَاحِبِ الْمُوضِحَةِ وَحْدَهُ ، وَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ قَدْ عَفَا عَنِ الْقَوَدِ ، وَأَرَادَ الدِّيَةَ لَمْ يَقْبَلْ تَصْدِيقَهُ لِصَاحِبِ الْجَائِفَةِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَجُرُّ بِهَا إِلَى نَفْسِهِ نَفْعًا فِي أَخْذِ أَرْشِ الْجَائِفَةِ بَعْدَ انْدِمَالِهَا مَعَ دِيَةِ النَّفْسِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يُدْخِلُ عَلَى صَاحِبِ الْمُوضِحَةِ ضَرَرًا لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ مُلْتَزِمًا مَا لَوْ لَمْ تَنْدَمِلِ الْجَائِفَةُ نِصْفَ الدِّيَةِ فَأَلْزَمَهُ جَمِيعًا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ حَلَفَ صَاحِبُ الْمُوضِحَةِ بِاللَّهِ لَقَدْ مَاتَ الْمَجْرُوحُ قَبْلَ انْدِمَالِ الْجَائِفَةِ وَلَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا نِصْفُ الدِّيَةِ فَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ رُدَّتْ عَلَى الْوَلِيِّ : لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ دُونَ صَاحِبِ الْجَائِفَةِ وَقَضَى لَهُ بِجَمِيعِ الدِّيَةِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَيُجْرَحُونَ بِالْجُرْحِ الْوَاحِدِ إِذَا كَانَ جُرْحُهُمْ إِيَّاهُ مَعًا لَا يَتَجَزَّأُ .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا اشْتَرَكَ الْجَمَاعَةُ فِي جُرْحٍ أَوْ قَطْعِ طَرَفٍ اقْتُصَّ مِنْ جَمِيعِهِمْ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ : لَا قِصَاصَ عَلَيْهِمْ إِذَا اشْتَرَكُوا فِي الْأَطْرَافِ ، وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِمُ الْقِصَاصُ إِذَا اشْتَرَكُوا فِي النَّفْسِ اسْتِدْلَالًا بِمَا قُدِّمَ ذِكْرُهُ مِنْ أَنَّ التَّسَاوِيَ مُعْتَبَرٌ فِي الْأَطْرَافِ دُونَ النَّفْسِ : لِأَنَّ الْيَدَ السَّلِيمَةَ لَا تُؤْخَذُ بِالشَّلَّاءِ ، وَتُقْتَلُ النَّفْسُ السَّلِيمَةُ بِالنَّفْسِ السَّقِيمَةِ وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلَيْنِ شَهِدَا عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، عَلَى رَجُلٍ بِالسَّرِقَةِ فَقَطَعَ يَدَهُ ثُمَّ عَادَا ، وَمَعَهُمَا آخَرُ ، فَقَالَا : أَخْطَأْنَا فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْأَوَّلِ وَهَذَا هُوَ السَّارِقُ فَرَدَّ شَهَادَتَهُمَا ، وَلَمْ يَقْطَعِ الثَّانِي وَقَالَ : لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَقَطَعْتُكُمَا . فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ قَطْعِ الْيَدَيْنِ بِالْيَدِ الْوَاحِدَةِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ جِنَايَةٍ لَوِ انْفَرَدَ بِهَا الْوَاحِدُ أُقِيدَ ، وَجَبَ إِذَا اشْتَرَكَ فِيهَا الْجَمَاعَةُ أَنْ يُقَادُوا ، كَالْجِنَايَةِ عَلَى النُّفُوسِ ، وَلِأَنَّهُ قَوَدٌ يُسْتَحَقُّ فِي النَّفْسِ فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَحَقَّ فِي الطَّرَفِ كَالْوَاحِدِ ، وَلِأَنَّ حُرْمَةَ النَّفْسِ أَغْلَظُ مِنْ حُرْمَةِ الطَّرَفِ فَلَمَّا أُقِيدَتِ النُّفُوسُ بِنَفْسٍ ، فَأَوْلَى أَنْ تُقَادَ الْأَطْرَافُ بِطَرَفٍ ، وَقَدْ أَجَبْنَا عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ التَّسَاوِيَ مُعْتَبَرٌ فِي الْأَطْرَافِ دُونَ النُّفُوسِ بِأَنَّهُمَا سَوَاءٌ عِنْدَنَا فِي اعْتِبَارِ التَّسَاوِي فِيهِمَا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ . فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ قَطْعُ الْأَطْرَافِ بِطَرَفٍ فَاعْتِبَارُ الِاشْتِرَاكِ فِيهِ أَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى أَخْذِ السَّيْفِ بِأَيْدِيهِمْ كُلِّهِمْ ، وَيَعْتَمِدُوا جَمِيعًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ عَلَى قَطْعِ الْيَدِ فَحِينَئِذٍ يَصِيرُوا شُرَكَاءَ فِي قَطْعِهَا ، فَتُقْطَعُ أَيْدِيَهُمْ بِهَا . فَأَمَّا إِذَا انْفَرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِقَطْعِ مَوْضِعٍ مِنْهَا حَتَّى بَانَتْ ، إِمَّا فِي مَوْضِعٍ مِنْهَا أَوْ فِي مَوَاضِعَ ، أَوْ يُقْطَعُ أَحَدُهُمَا مِنْ بَاطِنِ الْيَدِ وَالْآخَرُ مِنْ ظَاهِرِهَا حَتَّى يَلْتَقِيَ الْقَطْعَانِ فَتَبِينُ الْيَدُ وَتَسْقُطُ فَلَيْسَ هَذَا اشْتِرَاكًا فِي الْفِعْلِ الْوَاحِدِ فَلَمْ يَجِبْ عَلَى الْوَاحِدِ مِنْهُمْ قَوَدٌ ، وَأُخِذَ بِأَرْشِ جِنَايَتِهِ . فَأَمَّا اشْتِرَاكُهُمْ فِي جُرْحِ مُوضِحَةٍ أي الجماعة فَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى سَيْفٍ وَاحِدٍ أَوْضَحُوهُ بِهِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْقِصَاصُ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْمُوضِحَةِ ، وَإِنْ عَفَا عَنِ الْقِصَاصِ كَانَ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ دِيَةُ مُوضِحَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَإِنْ تَفَرَّدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِأَنْ أَوْضَحَ مِنْهَا مَوْضِعًا حَتَّى اتَّسَعَ اقْتُصَّ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِثْلُ مَا أَوْضَحَ ، لِأَنَّ الْقِصَاصَ يَجِبُ فِي صَغِيرِ الْمُوضِحَةِ كَمَا يَجِبُ فِي كَبِيرِهَا فَإِنْ عَفَا عَنِ الْقِصَاصِ كَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ دِيَةُ مُوضِحَةٍ لِأَنَّ دِيَةَ الْمُوضِحَةِ إِذَا صَغُرَتْ كَدِيَتِهَا إِذَا كَبُرَتْ .
مَسْأَلَةٌ الْقِصَاصِ مُعْتَبَرٌ بِالْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَا يُقْتَصُّ إِلَّا مِنْ بَالِغٍ وَهُوَ مَنِ احْتَلَمَ مِنَ الذُّكُورِ أَوْ حَاضَ مِنَ النِّسَاءِ أَوْ بَلَغَ أَيُّهُمَا كَانَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وُجُوبُ الْقِصَاصِ مُعْتَبَرٌ بِالْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ الْمُعْتَبَرَيْنِ فِي التَّكْلِيفِ فَإِنْ كَانَ الْجَانِي صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي نَفْسٍ وَلَا طَرَفٍ لِرِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ : عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَنْتَبِهَ فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ قَطَعَ أُنْمُلَةَ صَبِيٍّ . قِيلَ : لَيْسَ بِثَابِتٍ ، وَلَوْ صَحَّ لَاحْتَمَلَ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ قَطْعُهَا لِأَكَلَةٍ وَقَعَتْ فِيهَا لِتَسْلَمَ مِنْ سَرَايَتِهَا ، وَلَمْ يَقْطَعْهَا قَوَدًا . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ غُلَامًا صَغِيرًا فِي الْمَنْظَرِ وَإِنْ بَلَغَ ، وَلِأَنَّ عَدَمَ التَّكْلِيفِ يَمْنَعُ مِنَ الوَعِيدِ وَالزَّجْرِ : فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ قَوَدٌ كَمَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ حَدٌّ ، وَلِأَنَّ حُقُوقَ الْأَبْدَانِ تَسْقُطُ بِالْجُنُونِ وَالصِّغَرِ كَالْعِبَادَاتِ . فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنْ لَا قَوَدَ عَلَيْهِمَا إِذَا جَنَيَا لَمْ يُؤْخَذَا بِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ ، وَوَجَبَ الْقَوَدُ عَلَى الْبَالِغِ الْعَاقِلِ إِذَا قَتَلَهُمَا : لِأَنَّ التَّكْلِيفَ مُعْتَبَرٌ فِي الْقَاتِلِ دُونَ الْمَقْتُولِ ، فَلَوِ ادَّعَى الْقَاتِلُ أَنَّهُ قَتَلَ وَهُوَ صَغِيرٌ ، وَادَّعَى الْوَلِيُّ أَنَّهُ قَتَلَ وَكَانَ بَالِغًا ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاتِلِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْأَصْلَ الصِّغَرُ حَتَّى يُعْلَمَ الْبُلُوغُ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْأَصْلَ سُقُوطُ الْقَوَدِ حَتَّى يُعْلَمَ اسْتِحْقَاقُهُ ، وَلَوِ ادَّعَى الْقَاتِلُ أَنَّهُ قَتَلَ وَهُوَ مَجْنُونٌ وَادَّعَى الْوَلِيُّ أَنَّهُ قَتَلَ وَكَانَ عَاقِلًا : فَإِنْ عُلِمَ بِجُنُونِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ لِلْأَمْرَيْنِ ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ جُنُونُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَلِيِّ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّ الْأَصْلَ السَّلَامَةُ ؟ فَإِذَا سَقَطَ الْقَوَدُ عَنْهُمَا فِي الْعَمْدِ لَزِمَتْهُمَا الدِّيَةُ لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ الْأَمْوَالِ الَّتِي تَجِبُ عَلَى غَيْرِ الْمُكَلَّفِ كَوُجُوبِهَا عَلَى الْمُكَلَّفِ ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي حُقُوقِ الْأَبْدَانِ ، وَفِي الدِّيَةِ اللَّازِمَةِ لَهُمَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا تَكُونُ فِي أَمْوَالِهِمَا . وَالثَّانِي : عَلَى عَوَاقِلِهِمَا بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي عَمْدِهِمَا هَلْ يَكُونُ خَطَأً أَوْ عَمْدًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ صِفَةِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ وَجِرَاحِ الْعَمْدِ
بَابُ صِفَةِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ وَجِرَاحِ الْعَمْدِ الَّتِي فِيهَا قِصَاصٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَإِذَا عَمَدَ رَجُلٌ بِسَيْفٍ أَوْ خِنْجَرٍ أَوْ سِنَانِ رُمْحٍ أَوْ مَا يُشَقُّ بِحَدِّهِ إِذَا ضُرِبَ أَوْ رُمِيَ بِهِ الْجِلْدُ وَاللَّحْمُ دُونَ الْمَقْتَلِ فَجَرَحَهُ جُرْحًا كَبِيرًا أَوْ صَغِيرًا فَمَاتَ مِنْهُ فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ آلَةَ الْقَتْلِ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الْمُثَقَّلُ وَيَأْتِي . وَالثَّانِي : الْمُحَدَّدُ وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا شَقَّ بِحَدِّهِ . وَالثَّانِي : مَا نَفَذَ بِدَفْنِهِ . فَأَمَّا مَا شَقَّ بِحَدِّهِ فَقَطَعَ الْجِلْدَ وَمَارَ فِي اللَّحْمِ كَالسَّيْفِ وَالسِّكِّينِ ، وَالسِّنَانِ وَالْحَرْبَةِ ، وَهَذَا يَجْمَعُ نُفُوذًا وَقَطْعًا فَالْقَوَدُ فِيهِ وَاجِبٌ بِاتِّفَاقٍ ، سَوَاءٌ كَانَ بِحَدِيدٍ أَوْ بِمَا يَقُومُ مَقَامَ الْحَدِيدِ مِنْ مُحَدَّدِ الْخَشَبِ وَالزُّجَاجِ وَالْقَصَبِ . وَأَمَّا مَا نَفَذَ بِدَفْنِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا كَبُرَ وَبَعُدَ غَوْرُ نُفُوذِهِ كَالسَّهْمِ وَالْمِسَلَّةِ ، إِذَا وَصَلَا إِلَى الْجَسَدِ فَنَفَذَ فِيهِ وَجَبَ فِيهَا الْقَوَدُ بَعْدَ نُفُوذِهَا ، سَوَاءٌ خَرَجَ مِنْهَا دَمٌ أَوْ لَمْ يَخْرُجْ : لِأَنَّ خُرُوجَ الدَّمِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ كَمَا لَمْ يُعْتَبَرْ فِي اسْتِحْقَاقِ الدِّيَةِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا صَغُرَ مِنْهُ كَالْإِبْرَةِ ، فَإِنْ كَانَتْ فِي مَقْتَلٍ كَالنَّحْرِ وَالصَّدْرِ وَالْخَاصِرَةِ وَالْعَيْنِ فَفِيهِمَا الْقَوَدُ ، وَإِنْ كَانَتْ فِي غَيْرِ مَقْتَلٍ كَالْأَلْيَةِ وَالْفَخْذِ نُظِرَ حَالُهَا ، فَإِنِ اشْتَدَّ أَلَمُهَا وَلَمْ يَزَلِ الْمَجْرُوحُ بِهَا زَمَنًا مِنْهَا حَتَّى مَاتَ فَفِيهَا الْقَوَدُ ، وَإِنْ لَمْ تُؤْلِمْ نُظِرَ فِي الْمَوْتِ فَإِنْ تَأَخَّرَ زَمَانُهُ بَعْدَ الْجُرْحِ بِهَا ، فَلَا قَوَدَ فِيهَا ، وَلَا دِيَةَ لِعَدَمِ تَأْثِيرِهَا فِي الْحَالِ ، وَإِنْ مَاتَ مَعَهَا فِي الْحَالِ فَفِي وُجُوبِ الْقَوَدِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبَى إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ : أَنَّ الْقَوَدَ فِيهَا وَاجِبٌ لِأَنَّ لَهَا سَرَايَةً
وَمَوْرًا ، وَلِأَنَّ فِي الْبَدَنِ مَقَاتِلُ خَافِيَةٌ فِي عُرُوقٍ ضَارِبَةٍ ، قَالَ : وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ جُرْحًا كَبِيرًا أَوْ صَغِيرًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ : أَنَّهُ لَا قَوَدَ فِيهَا لِأَنَّ مِثْلَهَا لَا يَقْتُلُ غَالِبًا ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا فَرَّقَ فِي الْمُثَقَّلِ بَيْنَ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ ، وَجَبَ الْفَرْقُ فِي الْمُحَدَّدِ بَيْنَ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ ، فَعَلَى هَذَا فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ عِنْدَ سُقُوطِ الْقَوَدِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : تَجِبُ الدِّيَةُ مُغَلَّظَةً لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ احْتِمَالَيْ قَتْلٍ وَسَلَامَةٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا دِيَةَ فِيهِ : لِأَنَّ أَقَلَّ مَا يَنْفُذُ مِنَ المُحَدَّدِ كَأَقَلِّ مَا يُضْرَبُ بِهِ مِنَ الثِّقَلِ ؟ فَلَمَّا لَمْ تَجِبِ الدِّيَةُ فِي أَقَلِّ الْمُثَقَّلِ لَمْ تَجِبْ فِي أَقَلِّ الْمُحَدَّدِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَإِنْ شَدَخَهُ بِحَجَرٍ أَوْ تَابَعَ عَلَيْهِ الْخَنْقَ أَوْ وَالَى عَلَيْهِ بِالسَّوْطِ حَتَّى يَمُوتَ أَوْ طَيَّنَ عَلَيْهِ بَيْتًا بِغَيْرِ طَعَامٍ ، وَلَا شَرَابٍ ، مُدَّةً الْأَغْلَبُ أَنَّهُ يَمُوتُ مِنْ مِثْلِهِ أَوْ ضَرَبَهُ بِسَوْطٍ فِي شِدَّةِ بَرْدٍ أَوْ حَرٍّ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا الْأَغْلَبُ أَنَّهُ يَمُوتُ مِنْهُ فَمَاتَ فما الحكم فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْقَتْلُ بِالْمُثَقَّلِ وَمَا يَقْتُلُ مِثْلُهُ فِي الْأَغْلَبِ مِنَ الخَنْقِ وَالْحَرْقِ وَالتَّغْرِيقِ ، وَمَا أَشْبَهَ ، فَفِيهِ الْقَوَدُ عَلَى مَا سَنَصِفُهُ . وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى ، وَأَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا قَوَدَ فِي الْمُثَقَّلِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَدِيدًا كَالْعَمُودِ ، وَلَا قَوَدَ فِي غَيْرِ الْمُثَقَّلِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِالنَّارِ ، اسْتِدْلَالًا بِظَاهِرِ مَا رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنِ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : لَا قَوَدَ إِلَّا بِالسَّيْفِ . وَرَوَى عَاصِمُ بْنُ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ : " لَا قَوَدَ إِلَّا بِحَدِيدَةٍ " . وَرَوَى جَابِرٌ عَنْ أَبِي عَازِبٍ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : كُلُّ شَيْءٍ خَطَأٌ إِلَّا السَّيْفَ وَفِي كُلِّ خَطَأٍ أَرْشٌ .
وَرَوَى الْقَاسِمُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ عَلَى دَرَجِ الْكَعْبَةِ يَوْمَ الْفَتْحِ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَ وَعْدَهُ ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ ، أَلَا إِنَّ فِي قَتِيلِ الْعَمْدِ الْخَطَأِ بِالسَّوْطِ أَوِ الْعَصَا مِائَةً مِنَ الإِبِلِ مُغَلَّظَةً ، مِنْهَا أَرْبَعُونَ خَلِفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا . وَرَوَى إِبْرَاهِيمُ عَنْ عُبَيْدٍ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ : ضَرَبَتِ امْرَأَةٌ ضَرَّتَهَا بِعَمُودِ فُسْطَاطٍ وَهِيَ حُبْلَى فَقَتَلَتْهَا فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِدِيَتِهَا عَلَى عَصَبَتِهَاٍ . وَهَذِهِ كُلُّهَا نُصُوصٌ فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ بِالْمُثَقَّلِ . وَمِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى : أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَقَعِ الْفَرْقُ فِي الْمُحَدَّدِ بَيْنَ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ ، اقْتَضَى أَنْ لَا يَقَعَ الْفَرْقُ فِي الْمُثَقَّلِ بَيْنَ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا [ الْإِسْرَاءِ : 33 ] وَهَذَا قُتِلَ مَظْلُومًا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِوَلِيِّهِ الْقَوَدُ . وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ جَدِّهِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ جَارِيَةً كَانَ عَلَيْهَا أَوْضَاحٌ فَرَضَخَ رَأْسَهَا يَهُودِيٌّ بِحَجَرٍ ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِهَا رَمَقٌ فَقَالَ لَهَا : مَنْ قَتَلَكِ ؟ وَذَكَرَ لَهَا جَمَاعَةً وَهِيَ تُشِيرُ بِرَأْسِهَا إِلَى أَنْ ذَكَرَ الْيَهُودِيَّ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا نَعَمْ فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُتِلَ بَيْنَ حَجَرَيْنِ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّمَا قَتَلَهُ لِنَقْضِ عَهْدِهِ لَا لِقَتْلِهِ فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ حُكْمٌ وَرَدَ عَلَى سَبَبٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَيْهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا قَتَلَهُ بِمِثْلِ مَا قَتَلَ مِنَ الحَجَرِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُمَاثَلَةُ قَوَدٍ لَا لِنَقْضِ عَهْدِهِ . وَحَكَى السَّاجِيُّ عَنْ بِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ قَالَ : قُلْتُ لِأَبِي حَنِيفَةَ : يَجِبُ الْقَوَدُ عَلَى مَنْ قَتَلَ بِالْمُثَقَّلِ : قَالَ لَوْ رَمَاهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقَوَدُ . قُلْتُ : قَدْ رَوَى شُعْبَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ جَدِّهِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ : أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَّ رَأْسَ جَارِيَةٍ بِحَجَرٍ فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُتِلَ بَيْنَ حَجَرَيْنِ فَقَالَ : هَذَا بِهَذَا . وَبِمِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ لَا تُدْفَعُ أَخْبَارُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ حَمَلِ بْنِ مَالِكِ بْنِ نَابِغَةَ الْكِلَابِيِّ قَالَ : كُنْتُ بَيْنَ جَارِيَتَيْنِ لِي يَعْنِي زَوْجَتَيْنِ فَضَرَبَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِمِسْطَحٍ ، وَالْمِسْطَحُ عَمُودُ الْخَيْمَةِ ، فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِي جَوْفِهَا ، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْجَنِينِ بِغُرَّةِ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ ، وَأَنْ يُقْتَلَ مَكَانَهَا . وَلَا يُعَارِضُ حَدِيثَ الْمُغِيرَةِ : لِأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ مِنَ المَرْأَتَيْنِ ، وَحَمَلُ بْنُ مَالِكٍ زَوْجُ الضَّرَّتَيْنِ ، فَكَانَ بِحَالِهِمَا أَعْرَفَ . وَمِنَ الْمَعْنَى : أَنَّ الْمُثَقَّلَ أَحَدُ نَوْعَيْ مَا يُقْصَدُ بِهِ الْقَتْلُ فِي الْغَالِبِ فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَحَقَّ فِيهِ الْقَوَدُ كَالْمُحَدَّدِ ، وَلِأَنَّ مَا وَجَبَ الْقَوَدُ فِي مُحَدَّدِهِ وَجَبَ فِي مُثَقَّلِهِ كَالْحَدِيدِ ، وَلِأَنَّ الْقَوَدَ مَوْضُوعٌ لِحِرَاسَةِ النُّفُوسِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [ الْبَقَرَةِ : 179 ] فَلَوْ سَقَطَ بِالْمُثَقَّلِ لَمَا انْحَرَسَتِ النُّفُوسُ ، وَلَسَارَعَ كُلُّ مَنْ يُرِيدُ الْقَتْلَ إِلَى الْمُثَقَّلِ ثِقَةً بِسُقُوطِ الْقَوَدِ . وَمَا أَدَّى إِلَى إِبْطَالِ مَعْنَى النَّصِّ كَانَ مُطَّرَحًا . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : لَا قَوَدَ إِلَّا بِالسَّيْفِ فَظَاهِرُهُ حَالَ اسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالسَّيْفِ ، وَنَحْنُ نَذْكُرُهُ مِنْ بَعْدُ ، وَقَوْلُهُ : كُلُّ شَيْءٍ خَطَأٍ إِلَّا السَّيْفَ فَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي مُسْنَدِهِ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ خَطَأٍ إِلَّا السَّيْفَ وَهَذَا أَوْلَى لِزِيَادَتِهِ ، وَلَوْ لَمْ تُنْقَلِ الزِّيَادَةُ لَكَانَ الْخَبَرُ مَحْمُولًا عَلَيْهِ بِأَدِلَّتِنَا ، وَقَوْلُهُ أَلَا إِنَّ فِي قَتِيلِ الْخَطَأِ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا مِائَةً مِنَ الإِبِلِ فَلَا دَلِيلَ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ جَعَلَ فِي عَمْدِ الْخَطَأِ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا الدِّيَةَ ، وَلَمْ يَجْعَلِ السَّوْطَ وَالْعَصَا عَمْدًا خَطَأً . وَالثَّانِي : مَا قَدَّمْنَاهُ أَنَّ فِي السَّوْطِ وَالْعَصَا عَمْدًا خَطَأً ، وَلَيْسَ بِمَانِعٍ أَنْ يَكُونَ عَمْدًا مَحْضًا ، لِأَنَّهُ قَدْ يَتَنَوَّعُ ، وَالسَّيْفُ لَا يَتَنَوَّعُ ، وَقَدْ دَفَعْنَا حَدِيثَ الْمُغِيرَةِ بِرِوَايَةِ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ . وَاسْتِدْلَالُهُمْ بِالْجَمْعِ بَيْنَ صَغِيرِ الْمُثَقَّلِ وَكَبِيرِهِ فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ كَمَا جَمَعَ بَيْنَ صَغِيرِ الْمُحَدَّدِ وَكَبِيرِهِ فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ صَغِيرُ الْمُحَدَّدِ وَكَبِيرُهُ يَقْتُلُ غَالِبًا فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا ، وَصَغِيرُ الْمُثَقَّلِ لَا يَقْتُلُ غَالِبًا وَيَقْتُلُ كَبِيرُهُ فِي الْغَالِبِ فَافْتَرَقَا .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ فِي الْقَتْلِ بِالْمُثَقَّلِ قَوَدًا فَالْمُثَقَّلُ يَنْقَسِمُ ثَمَانِيَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : قَتْلُ مِثْلِهِ فِي الْأَغْلَبِ كَالصَّخْرَةِ الثَّقِيلَةِ وَالْخَشَبَةِ الْكَبِيرَةِ القتل بالمثقل ، وَيَقْتُلُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ وَقَعَتْ عَلَيْهِ مِنَ الجَسَدِ وَعَلَى مَنْ وَقَعَتْ عَلَيْهِ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ ، فَالْقَوَدُ وَاجِبٌ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا لَا يَقْتُلُ مِثْلُهُ فِي الْغَالِبِ كَالْحَصَاةِ القتل بالمثقل مِثْلُ النَّوَاةِ وَالْخَشَبَةِ مِثْلُ الْقَلَمِ
لَا يَقْتُلُ فِي أَيِّ مَوْقِعٍ وَقَعَتْ عَلَيْهِ مِنَ الجَسَدِ ، وَلَا عَلَى مَنْ وَقَعَتْ عَلَيْهِ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ فَلَا قَوَدَ فِيهِ وَلَا دِيَةَ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا يَجُوزُ أَنْ يَقْتُلَ مِثْلُهُ ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَقْتُلَ مِثْلُهُ ، وَهُوَ مَا تَوَسَّطَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ القتل بالمثقل فَلَا قَوَدَ ، وَفِيهِ الدِّيَةُ مُغْلَّظَةٌ ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : أَلَا إِنَّ فِي قَتِيلِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا مِائَةً مِنَ الإِبِلِ مُغَلَّظَةً مِنْهَا أَرْبَعُونَ خَلِفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : مَا يَقْتُلُ إِذَا رُدِّدَ ، وَلَا يَقْتُلُ إِذَا أُفْرِدَ كَالسَّوْطِ وَالْعَصَا القتل بالمثقل فَإِنْ رَدَّدَهُ وَجَبَ فِيهِ الْقَوَدُ ، وَإِنْ لَمْ يُرَدِّدْهُ وَجَبَ فِيهِ الدِّيَةُ دُونَ الْقَوَدِ . وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ : مَا يَقْتُلُ الصَّغِيرَ وَالْمَرِيضَ وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَقْتُلَ الْكَبِيرَ وَالصَّحِيحَ القتل بالمثقل ، فَيُرَاعَى الْمَقْتُولُ بِهِ فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا أَوْ مَرِيضًا وَجَبَ فِيهِ الْقَوَدُ ، وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا صَحِيحًا فَفِيهِ الدِّيَةُ دُونَ الْقَوَدِ . وَالْقِسْمُ السَّادِسُ : مَا يَقْتُلُ إِذَا وَقَعَ فِي الْمَوَاضِعِ الْقَاتِلَةِ وَلَا يَقْتُلُ إِذَا وَقَعَ فِي غَيْرِهَا فَيُرَاعَى مَوْضِعُ وُقُوعِهَا القتل بالمثقل ، فَإِنْ كَانَ فِي مَقْتَلٍ ، وَجَبَ فِيهِ الْقَوَدُ ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ مَقْتَلٍ وَجَبَتْ فِيهِ الدِّيَةُ دُونَ الْقَوَدِ . وَالْقِسْمُ السَّابِعُ : مَا يَقْتُلُ بِقُوَّةِ الضَّارِبِ وَلَا يَقْتُلُ مَعَ ضَعْفِهِ ، فَيُرَاعَى حَالُ الضَّارِبِ القتل بالمثقل ، فَإِنْ كَانَ قَوِيًّا وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ . وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا وَجَبَ عَلَيْهِ الدِّيَةُ دُونَ الْقَوَدِ . وَالْقِسْمُ الثَّامِنُ : مَا يَقْتُلُ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ ، وَلَا يَقْتُلُ مَعَ سُكُونِهِمَا ، فَيُرَاعَى وَقْتُ الضَّرْبِ القتل بالمثقل ، فَإِنْ كَانَ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَجَبَ فِيهِ الْقَوَدُ ، وَإِنْ كَانَ مَعَ سُكُونِهِمَا وَجَبَ فِيهِ الدِّيَةُ دُونَ الْقَوَدِ . وَجُمْلَتُهُ أَنْ يُرَاعَى حَالُ الضَّارِبِ وَالْمَضْرُوبِ ، وَمَا وَقَعَ بِهِ الضَّرْبُ لِيُفْصَلَ لَكَ بِهَا أَحْكَامُ هَذِهِ الْأَقْسَامِ . فَصْلٌ ثَانٍ : وَأَمَّا الْخَنْقُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : بِآلَةٍ وَهُوَ أَنْ يَرْبِطَ حَلْقَهُ بِحَبْلٍ حَتَّى يَخْتَنِقَ فَيَمْنَعَ النَّفَسَ الجناية على النفس فَفِيهِ الْقَوَدُ : لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ أَوْجَى مِنَ السَّيْفِ ، وَسَوَاءٌ عَلَّقَهُ بِحَبْلٍ أَوْ أَرْسَلَهُ فَإِنْ عَفَا عَنْهُ صَحَّ الْعَفْوُ ، وَسَقَطَ الْقَوَدُ ، وَسَوَاءٌ تَكَرَّرَ مِنْهُ الْخَنْقُ أَوْ لَمْ يَتَكَرَّرْ . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : إِنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ الْخَنْقُ لَمْ يَصِحَّ الْعَفْوُ عَنْهُ ، وَتَحَتَّمَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ كَالْمُحَارِبِ : لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ سَاعِيًا فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَوِ انْحَتَمَ قَتْلُ مَنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ الْخَنْقُ لَانْحَتَمَ قَتْلُ مَنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ الْقَتْلُ بِالسَّيْفِ وَهُوَ غَيْرُ مُنْحَتِمٍ ، وَإِنَّ تَكَرَّرَ ، وَكَذَلِكَ الْخَنْقُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ صَارَ فِي انْحِتَامِ قَتْلِهِ كَالْمُحَارِبِ لَمَا اعْتُبِرَ تَكْرَارٌ مِنْهُ كَمَا لَمْ يُعْتَبَرْ فِي الْمُحَارِبِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَخْنُقَهُ بِغَيْرِ آلَةٍ الجناية على النفس مِثْلَ أَنْ يُمْسِكَ حَلْقَهُ بِيَدِهِ حَتَّى يَمْنَعَ نَفَسَهُ وَلَا يَرْفَعُهَا عَنْهُ حَتَّى يَمُوتَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَقْدِرَ الْمَخْنُوقُ عَلَى خَلَاصِ نَفْسِهِ لِفَضْلِ قُوَّتِهِ عَلَى قُوَّةِ الْخَانِقِ فَهَذَا هُوَ قَاتِلُ نَفْسِهِ ، وَلَا قَوَدَ لَهُ وَفِي وُجُوبِ الدِّيَةِ قَوْلَانِ مِمَّنْ أَمَرَ غَيْرَهُ بِقَتْلِهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَمَنْ أُرِيدَتْ نَفْسُهُ فَلَمْ يَدْفَعْ عَنْهَا حَتَّى قُتِلَ لَمْ يَسْقُطْ عَنْ قَاتِلِهِ الْقَوَدُ فَهَلَّا كَانَ حَالُ هَذَا الْمَخْنُوقِ كَذَلِكَ . قُلْنَا : لِأَنَّ سَبَبَ الْقَتْلِ فِي الْمَخْنُوقِ مَوْجُودٌ ، فَكَانَ تَرْكُهُ إِبْرَاءً وَسَبَبُهُ فِي الطَّالِبِ غَيْرُ مَوْجُودٍ ، فَلَمْ يَكُنْ فِي الْإِمْسَاكِ قَبْلَ حُدُوثِ السَّبَبِ إِبْرَاءٌ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى خَلَاصِ نَفْسِهِ لِفَضْلِ الْخَانِقِ عَلَى قُوَّتِهِ فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ فَلَوْ رَفَعَ الْخَانِقُ يَدَهُ ، أَوْ حَلَّ خِنَاقَهُ ، وَفِي الْمَخْنُوقِ حَيَاةٌ ثُمَّ مَاتَ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ نَفَسُهُ ضَعِيفًا كَالْأَنِينِ وَالشَّهِيقِ فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ ، وَيَكُونُ بَقَاءُ هَذَا النَّفَسِ كَبَقَاءِ حَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ نَفَسُهُ قَوِيًّا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَقْرُبَ مَوْتُهُ مِنْ حَلِّ خِنَاقِهِ فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ لِدُنُوِّهِ مِنْ سَبَبِ الْقَتْلِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَتَأَخَّرَ مَوْتُهُ عَنْ حَلِّ خِنَاقِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ ضَمِينًا مَرِيضًا مِنْ وَقْتِ خِنَاقِهِ إِلَى حِينِ مَوْتِهِ فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ ، لِأَنَّ اسْتِدَامَةَ مَرَضِهِ دَلِيلٌ عَلَى سِرَايَةِ خِنَاقِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ بَعْدَ خِنَاقِهِ عَلَى مَعْهُودِ صِحَّتِهِ ثُمَّ يَمُوتُ ، فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ وَلَا دِيَةَ ، كَمَا لَوْ جُرِحَ فَانْدَمَلَ جُرْحُهُ ، ثُمَّ مَاتَ . وَهَكَذَا لَوْ وَضَعَ عَلَى نَفَسِهِ ثَوْبًا أَوْ وِسَادَةً ، وَجَلَسَ عَلَيْهَا ، وَلَمْ يُرْسِلْهُ حَتَّى مَاتَ ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ إِذَا لَمْ يُمْكِنْ دَفْعُهُ فَإِنْ أَرْسَلَهُ وَنَفَسُهُ بَاقٍ فَهُوَ كَالْمَخْنُوقِ بَعْدَ حَلِّ خِنَاقِهِ . فَإِنْ لَطَمَهُ فَمَاتَ مِنْ لَطْمَتِهِ الجناية على النفس هَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ :
أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ مِثْلُهَا قَاتِلًا فِي الْغَالِبِ لِقُوَّةِ اللَّاطِمِ وَضَعْفِ الْمَلْطُومِ ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَقْتُلَ مِثْلُهَا فِي الْغَالِبِ لِضَعْفِ اللَّاطِمِ ، وَقُوَّةِ الْمَلْطُومِ ، فَلَا قَوَدَ فِيهِ وَلَا دِيَةَ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَقْتُلَ مِثْلُهَا ، وَلَا يَقْتُلَ لِقُوَّةِ اللَّاطِمِ وَقُوَّةِ الْمَلْطُومِ ، فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ وَفِيهِ الدِّيَةُ . فَصْلٌ ثَالِثٌ : وَأَمَّا إِذَا طَيَّنَ عَلَيْهِ بَيْتًا حَبَسَهُ فِيهِ حَتَّى مَاتَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ ، وَلَا يَمْنَعَهُ مِنْهُمَا ، فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ وَلَا دِيَةَ ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَحْبُوسُ كَبِيرًا أَوْ صَغِيرًا ، مَا لَمْ يَكُنْ طِفْلًا لَا يَهْتَدِي بِنَفْسِهِ إِلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَيَلْزَمُهُ فِيهِ الْقَوَدُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُضْمَنُ الصَّغِيرُ وَإِنْ كَانَ يَهْتَدِي إِلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ إِذَا اقْتَرَنَ مَوْتُهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِهَتِهِ كَنَهْشَةِ حَيَّةٍ ، وَلَدْغَةِ عَقْرَبٍ لَمْ يَضْمَنْهُ وَهَذَا فَاسِدٌ : لِأَنَّ الْحُرَّ لَا يُضْمَنُ بِالْيَدِ وَلَوْ ضُمِنَ بِهَا كَالْمَمْلُوكِ لَلَزِمَ ضَمَانُهُ فِي مَوْتِهِ بِسَبَبٍ وَغَيْرِ سَبَبٍ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَمْنَعَهُ فِي حَبْسِهِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَطُولَ مُدَّةُ حَبْسِهِ حَتَّى لَا يَعِيشَ فِي مِثْلِهَا حَيٌّ بِغَيْرِ طَعَامٍ وَلَا شَرَابٍ ، وَلَيْسَ لِأَقَلِّهِ حَدٌّ ، وَإِنْ حَدَّهُ الطِّبُّ بِاثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ سَاعَةً مُتَّصِلَةَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَاصَلَ الصِّيَامَ سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ أَفْطَرَ عَلَى سَمْنٍ وَلَبَنٍ وَصَبِرٍ ، وَذَهَبَ فِي السَّمْنِ إِلَى أَنَّهُ يَفْتُقُ الْأَمْعَاءَ وَيُلَيِّنُهَا ، وَفِي اللَّبَنِ إِلَى أَنَّهُ أَلْطَفُ غِذَاءٍ ، وَفِي الصَّبِرِ إِلَى أَنَّهُ يَشُدُّ الْأَعْضَاءَ ، فَإِذَا مَاتَ مَعَ طُولِ الْمُدَّةِ ، وَجَبَ فِيهِ الْقَوَدُ : لِأَنَّهُ قَتْلُ عَمْدٍ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ تَقْصُرَ مُدَّةُ حَبْسِهِ عَنْ مَوْتِ مِثْلِهِ بِغَيْرِ طَعَامٍ وَلَا شَرَابٍ كَالْيَوْمِ الْوَاحِدِ وَمَا دُونَهُ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَوْجَبَ إِمْسَاكَهُ فِي الصَّوْمِ ، وَلَوْ كَانَ قَاتِلًا مَا أَوْجَبَهُ : فَهَذَا لَا قَوَدَ فِيهِ وَلَا دِيَةَ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ مُدَّةً يَجُوزُ أَنْ يَمُوتَ فِي مِثْلِهَا وَيَعِيشَ فَلَا قَوَدَ ، وَفِيهِ الدِّيَةُ لِأَنَّهُ عَمْدٌ كَالْخَطَأِ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ فِي مُدَّةٍ يَمُوتُ فِي مِثْلِهَا الصَّغِيرُ وَالْمَرِيضُ ، وَلَا يَمُوتُ فِي مِثْلِهَا الْكَبِيرُ الصَّحِيحُ فَيُرَاعَى حَالُ الْمَحْبُوسِ ، فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا أَوْ مَرِيضًا وَجَبَ فِيهِ الْقَوَدُ ، وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا صَحِيحًا لَمْ يَجِبْ وَهَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ مَنَعَهُ الطَّعَامَ دُونَ الشَّرَابِ ، أَوْ
مَنَعَهُ الشَّرَابَ دُونَ الطَّعَامِ : لِأَنَّ النُّفُوسَ لَا تَحْيَا إِلَّا بِهِمَا إِلَّا أَنَّ الصَّبْرَ عَنِ الطَّعَامِ إِذَا وَجَدَ شَرَابًا أَمَدُّ زَمَانًا مِنَ الصَّبْرِ عَنِ الشَّرَابِ إِذَا وَجَدَ الطَّعَامَ . رُوِيَ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا أَرَادَ الْإِسْلَامَ اخْتَفَى مِنَ المُشْرِكِينَ تَحْتَ أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ بِضْعَةَ عَشْرَةَ يَوْمًا ، فَكَانَ يَخْرُجُ فِي اللَّيْلِ مِنْ بَيْنِ الْأَسْتَارِ فَيَشْرَبُ مَاءَ زَمْزَمَ ، قَالَ : فَسَمِنْتُ حَتَّى تَكَسَّرَتْ عُكَنُ بَطْنِي ، فَأَخْبَرْتُ بِذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : إِنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ وَشِفَاءُ سُقْمٍ فَبَانَ أَنَّ الْمَاءَ يُمْسِكُ الرَّمَقَ فَيُرَاعَى حُكْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِذَا انْفَرَدَ بِالْعُرْفِ الْمَعْهُودِ فِي الْأَغْلَبِ . فَصْلٌ رَابِعٌ : إِذَا أَلْقَاهُ فِي نَارٍ مُؤَجَّجَةٍ أَوْ أَلْقَى عَلَيْهِ نَارًا أَجَّجَهَا الجناية على النفس فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْهَا حَتَّى يَمُوتَ فِيهَا ، وَذَلِكَ لِإِحْدَى خَمْسَةِ أَحْوَالٍ : إِمَّا أَنْ يُلْقِيَهُ فِي حُفْرَةٍ قَدْ أَجَّجَهَا . وَإِمَّا أَنْ يَرْبِطَهُ فَلَا يَقْدِرُ مَعَ الرِّبَاطِ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْهَا . وَإِمَّا أَنْ يَطُولَ مَدَى النَّارِ فَلَا يَنْتَهِي إِلَى الْخُرُوجِ مِنْهَا . وَإِمَّا أَنْ يَقِفَ فِي طَرَفِهَا فَيَمْنَعَهُ مِنَ الخُرُوجِ . وَإِمَّا أَنْ تُثَبِّطَ بَدَنَهُ فَيَعْجَزُ عَنِ النُّهُوضِ فِيهَا ، فَهَذَا قَاتِلٌ عَمْدًا ، وَهُوَ أَشَدُّ الْقَتْلِ عَذَابًا ، وَلِذَلِكَ عَذَّبَ اللَّهُ تَعَالَى بِالنَّارِ مَنْ عَصَاهُ ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تُعَذِّبُوا عِبَادَ اللَّهِ بِعَذَابِ اللَّهِ فِعْلَيْهِ الْقَوَدُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْهَا فَهَذَانَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا يَخْرُجَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْخُرُوجِ حَتَّى يَمُوتَ فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ ، وَفِي الدِّيَةِ قَوْلَانِ فَمَنْ أَذِنَ لِغَيْرِهِ فِي قَتْلِهِ ، أَحَدُهُمَا عَلَيْهِ الدِّيَةُ كَمَا لَوْ قَدَرَ عَلَى مُدَاوَاةِ جُرْحِهِ فَامْتَنَعَ مِنَ الدَّوَاءِ حَتَّى مَاتَ وَجَبَتِ الدِّيَةُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا دِيَةَ ، وَعَلَيْهِ أَرْشُ مَا لَفَحَتْهُ النَّارُ عِنْدَ إِلْقَائِهِ فِيهَا : لِأَنَّ التَّلَفَ بِاسْتِدَامَةِ النَّارِ ، وَالَّتِي يُنْسَبُ اسْتِدَامَتُهَا فِيهِ دُونَ مُلْقِيهِ ، وَخَالَفَ تَرْكَهُ لِدَوَاءِ الْجُرْحِ ، لِأَنَّهُ لَمْ يُنْسَبْ إِلَى زِيَادَةٍ عَلَيْهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا حَيًّا ثُمَّ يَمُوتَ بَعْدَ الْخُرُوجِ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ تَثْبِيطَ بَدَنِهِ بَاقِيًا فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ كَالْجُرْحِ إِذَا مَاتَ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَنْدَمِلَ .
وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَبْرَأَ مِنَ التَّثْبِيطِ فَلَا قَوَدَ فِيهِ كَالْجُرْحِ إِذَا مَاتَ بَعْدَ انْدِمَالِهِ وَعَلَيْهِ أَرْشُ مَا لَفَحَتْهُ النَّارُ وَتَثْبِيطُ جَسَدِهِ . فَصْلٌ خَامِسٌ : إِذَا أَلْقَاهُ فِي الْمَاءِ فَغَرِقَ الجناية على النفس فِيهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُلْقِيَهُ فِي لُجَّةِ بَحْرٍ يَبْعُدُ سَاحِلُهُ ، فَهَذَا قَاتِلُ عَمْدٍ وَعَلَيْهِ الْقَوَدُ ، سَوَاءٌ كَانَ يُحْسِنُ الْعَوْمَ أَوْ لَا يُحْسِنُ لِأَنَّهُ بِالْعَوْمِ لَا يَصِلُ إِلَى السَّاحِلِ مَعَ بُعْدِهِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : الْبَحْرُ نَارٌ فِي نَارٍ فَشَبَّهَهُ بِالنَّارِ لِإِتْلَافِهِ . وَأَغْزَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ جَيْشًا فِي الْبَحْرِ ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ ، فَلَمَّا عَادَ سَأَلَهُ عَنْ أَحْوَالِهِمْ فَقَالَ : دُودٌ عَلَى عُودٍ ، بَيْنَ غَرَقٍ أَوْ فَرَقٍ فَآلَا عَلَى نَفْسِهِ أَنْ لَا يُغْزِيَ فِي الْبَحْرِ أَحَدًا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يُلْقِيَهُ فِي نَهْرٍ أَوْ بَحْرٍ يَقْرُبُ مِنَ السَّاحِلِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَرْبِطَهُ أَوْ يُثْقِلَهُ حَتَّى لَا يَقْدِرَ عَلَى الْخَلَاصِ مِنَ المَاءِ غَرِيقٌ فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ أَيْضًا ، كَالْمُلْقَى فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا غَيْرَ مَرْبُوطٍ وَلَا مُثْقَلٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا يُحْسِنَ الْعَوْمَ فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْخَلَاصِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يُحْسِنَ الْعَوْمَ فَلَا يَعُومُ فَلَا قَوَدَ فِيهِ ، لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى خَلَاصِ نَفْسِهِ ، فَصَارَ مُتْلِفًا لَهَا . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ فَخَرَّجَهَا بَعْضُهُمْ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْمُلْقَى فِي النَّارِ إِذَا قَدَرَ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْهَا ، وَمَنَعَ الْبَاقُونَ مِنْ وُجُوبِهَا ، قَوْلًا وَاحِدًا ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْمَاءِ وَالنَّارِ بِأَنَّ الْإِلْقَاءَ فِي النَّارِ جِنَايَةٌ مُتْلِفَةٌ لَا يُقْدِمُ النَّاسُ عَلَيْهَا مُخْتَارِينَ وَلَيْسَ الْإِلْقَاءُ فِي الْمَاءِ لِمَنْ يُحْسِنُ الْعَوْمَ جِنَايَةً عَلَيْهِ : لِأَنَّ النَّاسَ قَدْ يَعُومُونَ فِيهِ مُخْتَارِينَ لِتَبَرُّدٍ أَوْ تَنَظُّفٍ ، فَلَا يُنْسَبُونَ إِلَى تَغْرِيرٍ . فَلَوْ أَلْقَاهُ فِي الْمَاءِ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ حكمه فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْإِلْقَاءُ فِي ذَلِكَ الْمَاءِ غَيْرَ مُوجِبٍ لِلْقَوَدِ عَلَى مَا فَصَّلْنَا فَلَا قَوَدَ فِيهِ إِذَا الْتَقَمَهُ الْحُوتُ : لِأَنَّهُ تَلِفَ مِنْ غَيْرِهِ عَلَيْهِ ، وَعَلَيْهِ الدِّيَةُ لِأَنَّهُ سَبَبٌ مِنْ جِهَتِهِ أَفْضَى إِلَى تَلَفِهِ .
وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْإِلْقَاءُ فِي ذَلِكَ الْمَاءِ مُوجِبًا لِلْقَوَدِ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ قَبْلَ التَّلَفِ ، فَفِي وُجُوبِ الْقَوَدِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ ظَاهِرُ مَنْصُوصِ الشَّافِعِيِّ : عَلَيْهِ الْقَوَدُ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَلْتَقِمْهُ الْحُوتُ لَوَجَبَ فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْتِقَامِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : حَكَاهُ الرَّبِيعُ أَنَّهُ لَا قَوَدَ عَلَيْهِ لِأَنَّ مُبَاشَرَةَ تَلَفِهِ حَصَلَتْ بِغَيْرِ فِعْلِهِ وَتَلْزَمُهُ الدِّيَةُ . وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ حَمَلَ الْقَوْلَيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ فَالْقَوْلُ الَّذِي أَوْجَبَ فِيهِ الْقَوَدَ مَحْمُولٌ عَلَى نِيلِ مِصْرَ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَيْهِ التَّمَاسِيحُ فَلَا يَسْلَمُ مِنْهَا أَحَدٌ ، وَالْقَوْلُ الَّذِي أَسْقَطَ فِيهِ الْقَوَدَ مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ البِحَارِ وَالْأَنْهَارِ الَّتِي تَخْلُو غَالِبًا مِنْ مِثْلِهِ .
فَصْلٌ : إِذَا أَرْسَلَ عَلَيْهِ سَبُعًا فَافْتَرَسَهُ الجناية على النفس فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى الْخَلَاصِ مِنْهُ لِقُصُورِ خُطْوَتِهِ عَنْ وَثْبَةِ السَّبُعِ ، فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ لِأَنَّهُ بِمَثَابَةِ مَنْ أَرْسَلَ سَهْمًا قَاتِلًا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الْخَلَاصِ مِنْهُ ، إِمَّا بِسُرْعَةِ الْعَدْوِ وَإِمَّا بِالدُّخُولِ إِلَى بَيْتٍ ، أَوْ بِالصُّعُودِ إِلَى شَجَرَةٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مَضْعُوفَ الْقَلْبِ ، إِمَّا بِصِغَرٍ أَوْ بَلَهٍ يُدْهِشُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ عَنْ تَوَقِّيهِ ، فَالْقَوَدُ فِيهِ وَاجِبٌ ، لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنِ الْخَلَاصِ ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ ثَابِتَ النَّفَسِ قَوِيَّ الْقَلْبِ يَقْدِرُ عَلَى الْخَلَاصِ ، فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى افْتَرَسَهُ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَقِفَ السَّبُعُ بِقَدْرِ إِرْسَالِهِ زَمَانًا ، ثُمَّ يَسْتَرْسِلُ فَلَا قَوَدَ وَلَا دِيَةَ ، لِأَنَّ حُكْمَ إِرْسَالِهِ قَدِ انْقَطَعَ بِوُقُوفِهِ فَصَارَ هُوَ الْمُسْتَرْسِلَ بِنَفْسِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَسْتَرْسِلَ عَلَيْهِ مَعَ إِرْسَالِهِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ ، فَلَا قَوَدَ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْخَلَاصِ وَفِي وُجُوبِ الدِّيَةِ وَجْهَانِ تَخْرِيجًا مِنَ القَوْلَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجِبُ : لِأَنَّ قُدْرَتَهُ عَلَى الْخَلَاصِ تَقْطَعُ حُكْمَ الْإِرْسَالِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : تَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ لِاتِّصَالِ التَّلَفِ بِالْإِرْسَالِ . فَأَمَّا إِذَا كَتَفَهُ وَأَلْقَاهُ فِي أَرْضٍ مُسْبِعَةٍ ، فَافْتَرَسَهُ السَّبُعُ فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ وَلَا دِيَةَ ، وَيَكُونُ كَالْمُمْسِكِ وَالذَّابِحِ ، لَا يَجِبُ عَلَى الْمُمْسِكِ قَوَدٌ كَذَلِكَ هَاهُنَا ، وَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ بِإِرْسَالِ السَّبُعِ عَلَيْهِ فَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِتَوْجِيهِ السَّبُعِ لَهُ ، فَأَمَّا إِنْ جَرَحَهُ السَّبُعُ فَمَاتَ مِنْ جِرَاحَتِهِ لَمْ يَخْلُ جِرَاحَتُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ يَقْتُلَ مِثْلُهَا فِي الْغَالِبِ فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ . وَالثَّانِي : أَنْ لَا يَقْتُلَ مِثْلُهَا فِي الْغَالِبِ فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ وَلَا دِيَةَ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَقْتُلَ مِثْلُهَا وَلَا يَقْتُلَ ، فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ دُونَ الْقَوَدِ . فَأَمَّا إِذَا أَلْقَى عَلَيْهِ حَيَّةً فَنَهَشَتْهُ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُلْقِيَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ السَّبُعِ لَا يَضُرُّ أَوِ الْحَيَّةُ تَهْرُبُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يُلْقِيَهَا عَلَى جَسَدِهِ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ نَهْشُهَا مُوجِبًا مِثْلَ حَيَّاتِ الطَّائِفِ ، وَأَفَاعِي مَكَّةَ ، وَثَعَابِينِ مِصْرَ وَعَقَارِبِ نَصِيبِينَ فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ غَيْرَ مُوجِبَةٍ قَدْ يَسْلَمُ النَّاسُ مِنْهَا كَحَيَّاتِ الدُّودِ وَالْمَاءِ ، فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : عَلَيْهِ الْقَوَدُ اعْتِبَارًا لِجِنْسِ الْقَاتِلِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا قَوَدَ ، عَلَيْهِ الدِّيَةُ ، لِإِمْكَانِ السَّلَامَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ : وَلَوْ قَطَعَ مَرِيئَهَ وَحُلْقُومَهُ أَوْ قَطَعَ حَشْوَتَهُ فَأَبَانَهَا مِنْ جَوْفِهِ أَوْ صَيَّرَهُ فِي حَالِ الْمَذْبُوحِ ثُمَّ ضَرَبَ عُنُقَهُ آخَرُ فَالْأَوَّلُ قَاتِلٌ دُونَ الْآخَرِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا كَانَتْ جِنَايَةُ الْأَوَّلِ قَدْ أَتَتْ عَلَى النَّفَسِ بِقَطْعِ حُلْقُومِهِ أَوْ مَرِيئِهِ أَوْ قَطْعِ حَشَوْتِهِ ، فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَيِّتِ ، لِانْتِقَاضِ بِنْيَتِهِ الَّتِي تَحْفَظُ حَيَاتَهُ ، وَلَا حُكْمَ لِمَا بَقِيَ مِنَ الحَيَاةِ : لِأَنَّهَا تَجْرِي مَجْرَى حَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ الَّتِي لَا يُنْسَبُ مَعَهَا إِلَى الْحَيَاةِ وَتَجْرِي مَجْرَى الِاخْتِلَاجِ ، وَإِنْ كَانَتْ أَقْوَى فَلَوْ جَاءَ آخَرُ بَعْدَ أَنْ صَيَّرَهُ الْأَوَّلُ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ فَضَرَبَ عُنُقَهُ كَانَ الْأَوَّلُ قَاتِلًا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ أَوِ الدِّيَةُ وَالثَّانِي عَابِثًا فَجَرَى مَجْرَى ضَرْبِ عُنُقِ مَيِّتٍ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَوَدٌ وَلَا دِيَةٌ ، لَكِنْ يُعَزَّرُ أَدَبًا لِانْتِهَاكِهِ الْحُرْمَةَ الَّتِي يَجِبُ حِفْظُهَا فِي الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ وَسَوَاءٌ كَانَ مَعَ جِنَايَةِ الْأَوَّلِ يَتَكَلَّمُ لِأَنَّ كَلَامَهُ مَعَ انْتِهَائِهِ إِلَى هَذِهِ الْحَالِ يَجْرِي مَجْرَى الْهَذَيَانِ الَّذِي لَا يَصْدُرُ مِنْ عَقْلٍ صَحِيحٍ ، وَلَا قَلْبٍ ثَابِتٍ . حَكَى ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا قُطِعَ وَسْطُهُ نِصْفَيْنِ فَتَكَلَّمَ وَاسْتَسْقَى مَاءٍ فَسُقِيَ ، وَقَالَ : هَكَذَا يُفْعَلُ بِالْجِيرَانِ ، وَهَذَا إِنْ صَحَّ فَهُوَ كَلَامٌ تَصَوَّرَ فِي النَّفَسِ قَبْلَ قَطْعِهِ فَنَطَقَ بِهِ اللِّسَانُ بَعْدَهُ فَلَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ حُكْمٌ ، وَلَوْ وَصَّى لَمْ تَمْضِ وَصِيَّتُهُ ، وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ إِسْلَامٌ وَلَا كُفْرٌ .
وَهَكَذَا لَوِ افْتَرَسَهُ سَبُعٌ فَقَطَعَ حَشَوْتَهُ أَوْ قَطَعَ مَرِيئَهُ أَوْ حُلْقُومَهُ ، ثُمَّ ضَرَبَ إِنْسَانٌ عُنُقَهُ فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ السَّبُعَ قَدْ أَتَى عَلَى حَيَاتِهِ ، وَالْبَاقِي مِنْهَا غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ ، فَلَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ حُكْمٌ . وَمِثَالُهُ فِي مَأْكُولَةِ السَّبُعِ إِذَا قَطَعَ حَشَوْتَهَا ثُمَّ ذُبِحَتْ لَمْ تُؤْكَلْ : لِأَنَّ الْبَاقِيَ مِنْ حَيَاتِهَا غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ فَلَمْ يَجُزْ عَلَيْهَا حُكْمُ الزَّكَاةِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَوْ أَجَافَهُ أَوْ خَرَقَ أَمْعَاءَهُ مَا لَمْ يَقْطَعْ حَشْوَتَهُ فَيُبِينُهَا مِنْهُ ثُمَّ ضَرَبَ آخَرُ عُنُقَهُ فَالْأَوَّلُ جَارِحٌ وَالْآخَرُ قَاتِلٌ ، قَدْ جُرِحَ مَعِيُّ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مَوْضِعَيْنِ وَعَاشَ ثَلَاثًا ، فَلَوْ قَتَلَهُ أَحَدٌ فِي تِلْكَ الْحَالِ كَانَ قَاتِلًا وَبَرِئَ الَّذِي جَرَحَهُ مِنَ القَتْلِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا كَانَتْ جِرَاحَةُ الْأَوَّلِ لَمْ تَأْتِ عَلَى النَّفَسِ وَلَا نَقَضَتْ بِنْيَةَ الْجَسَدِ ، وَكَانَتِ الْحَيَاةُ مَعَهَا مُسْتَقِرَّةً ، ثُمَّ ضَرَبَ عُنُقَهُ آخَرُ وَذَبَحَهُ أَوْ قَطَعَ حَشْوَتَهُ فَالثَّانِي هُوَ الْقَاتِلُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ أَوِ الدِّيَةُ كَامِلَةً ، وَالْأَوَّلُ جَارِحٌ يُؤْخَذُ بِحُكْمِ جِرَاحِهِ : فَإِنْ كَانَتْ مِمَّا فِيهِ الْقَوَدُ كَقَطْعِ يَدٍ وَرِجْلٍ أَوْ شَجَّةٍ مُوضِحَةٍ اقْتُصَّ مِنْهُ أَوْ أُخِذَتْ مِنْهُ الدِّيَةُ ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا قَوَدَ فِيهِ أُخِذَ مِنْهُ دِيَتُهَا ، وَلَا تَدْخُلُ فِي دِيَةِ النَّفْسِ لِاخْتِلَافِ الْجَانِبَيْنِ ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ جِرَاحَةُ الْأَوَّلِ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يَعِيشَ مِنْهَا ، أَوْ لَا يَعِيشَ : لِأَنَّهُ بَاقِي الْحَيَاةِ . وَإِنْ قَطَعَ بِمَوْتِهِ مِنْهَا فَجَرَى مَجْرَى الْمَرِيضِ الْمُدْنِفِ الْمَقْطُوعِ بِمَوْتِهِ إِذَا قُتِلَ وَجَبَ الْقَوَدُ عَلَى قَاتِلِهِ : لِأَنَّهُ الْمُبَاشِرُ لِنَقْصِ بِنْيَتِهِ وَإِفَاتَةِ حَيَاتِهِ ، وَقَدْ جُرِحَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ أَمْعَائِهِ فَسَقَاهُ الطَّبِيبُ لَبَنًا فَخَرَجَ مِنْ جُرْحِهِ أَبْيَضَ ، فَقَالَ لَهُ الطَّبِيبُ : أَنْتَ مَيِّتٌ فَاعْهَدْ بِمَا شِئْتَ ، فَعَهِدَ بِالشُّورَى ، وَوَصَّى بِوَصَايَا ، وَعَاشَ ثَلَاثًا ثُمَّ مَاتَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَأَمْضَى الْمُسْلِمُونَ عُهُودَهُ ، وَنَفَّذُوا وَصَايَاهُ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَلَوْ قَتَلَهُ أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الْحَالِ كَانَ قَاتِلًا وَبَرِئَ الَّذِي جَرَحَهُ مِنَ القَتْلِ . وَهَكَذَا لَوِ افْتَرَسَ السَّبُعُ رَجُلًا فَجَرَحَهُ جُرْحًا يَعِيشُ مِنْهُ أَوْ لَا يَعِيشُ لَكِنَّهُ بَاقِيَ الْحَشْوَةِ وَالْحُلْقُومِ فَضَرَبَ عُنُقَهُ رَجُلٌ ، أَوْ ذَبَحَهُ أَوْ قَطَعَ حَشْوَتَهُ الجناية على النفس وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ : لِأَنَّهُ هُوَ النَّاقِضُ لِبِنْيَتِهِ ، وَالْمُفَوِّتُ لِحَيَاتِهِ ، وَلَوْ تَقَدَّمَتْ جِنَايَةُ الرَّجُلِ عَلَيْهِ فَجَرَحَهُ جُرْحًا يَعِيشُ مِنْهُ ثُمَّ أَكَلَهُ السَّبُعُ ، فَلَا قَوَدَ عَلَى الْجَارِحِ : لِأَنَّ نَقْضَ الْبِنْيَةِ وَفَوَاتَ الْحَيَاةِ كَانَ مِنْ غَيْرِهِ ، وَيُؤْخَذُ الْجَارِحُ بِالْقِصَاصِ مِنْ جُرْحِهِ إِنْ كَانَ فِي مِثْلِهِ قِصَاصٌ ، أَوْ دِيَةُ جُرْحِهِ ، إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ قِصَاصٌ .
وَمِثَالُ ذَلِكَ : فِي فَرِيسَةِ السَّبُعِ أَنْ يَجْرَحَ بَهِيمَةً لَا تَعِيشُ مِنْ جِرَاحَتِهِ لَكِنَّهَا بَاقِيَةُ الْحُلْقُومِ وَالْحَشْوَةِ فَتُذَكَّى ، حَلَّ أَكْلُهَا لِوُرُودِهَا عَلَى حَيَاةٍ مُسْتَقِرَّةٍ وَإِنْ لَمْ تَدُمْ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَوْ جَرَحَهُ جِرَاحَاتٍ فَلَمْ يَمُتْ حَتَّى عَادَ إِلَيْهِ فَذَبَحَهُ صَارَ وَالْجِرَاحَ نَفْسًا . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا ابْتَدَأَ الْجَانِي فَجَرَحَهُ جِرَاحَاتٍ لَمْ يَمُتْ مِنْهَا ، وَكَانَتْ عَلَى حَالِهَا لَمْ تَنْدَمِلْ حَتَّى عَادَ إِلَيْهِ فَذَبَحَهُ أَوْ ضَرَبَ عُنُقَهُ فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ فِي الْجِرَاحِ وَفِي النَّفْسِ وَيُدْخِلُ دِيَةَ الْجِرَاحِ فِي دِيَةِ النَّفْسِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْهَا . وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ وَذَكَرَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ أَنَّ دِيَةَ الْجِرَاحِ لَا تَدْخُلُ فِي دِيَةِ النَّفْسِ كَمَا لَمْ يَدْخُلْ قَوَدُ الْجِرَاحِ فِي قَوَدِ النَّفْسِ ، فَيُؤْخَذُ بِدِيَةِ الْجِرَاحِ وَبِدِيَةِ النَّفْسِ كَمَا أُقِيدَ بِالْجِرَاحِ وَأُقِيدَ بِالنَّفْسِ ، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ جِنَايَةَ الْوَاحِدِ إِذَا لَمْ تَسْتَقِرَّ بُنِيَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ ، وَدَخَلَ الْأَقَلُّ فِي الْأَكْثَرِ ، فَإِذَا صَارَتْ بَعْدَ الْجِرَاحِ نَفْسًا كَانَ مَأْخُوذًا بِدِيَةِ النَّفْسِ ، وَدَخَلَ دِيَةُ الْجِرَاحِ فِيهَا ، لِأَنَّ دِيَةَ الْجِرَاحِ لَا تَسْتَقِرُّ إِلَّا بَعْدَ انْتِهَاءِ سِرَايَتِهَا ، وَهِيَ قَبْلَ الِانْدِمَالِ غَيْرُ مُنْتَهِيَةٍ فَلِذَلِكَ سَقَطَ أَرْشُهَا ، وَصَارَ دَاخِلًا فِي دِيَةِ مَا انْتَهَتْ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّمَا يُعْتَبَرُ الِانْدِمَالُ فِيهَا لِانْقِطَاعِ سِرَايَتِهَا ، وَالتَّوْجِيَةُ بَعْدَهَا قَطْعٌ لِسِرَايَتِهَا ، فَصَارَتْ كَالِانْدِمَالِ . قِيلَ : التَّوْجِيَةُ عَلَيْهِ سِرَايَةُ الْجِرَاحِ ، وَلَمْ تَقْطَعْهَا وَالِانْدِمَالُ قَطَعَ سِرَايَتَهَا فَافْتَرَقَا . فَأَمَّا قَوَدُ الْجِرَاحِ فَيَجُوزُ أَنْ يُسْتَوْفَى مَعَ قَوَدِ النَّفْسِ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي حُكْمِ اسْتِيفَائِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيِّ أَنَّهُ يُسْتَوْفَى بِهِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ لِيُقَابَلَ الْقَاتِلُ بِمِثْلِ فِعْلِهِ ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ قَوَدًا فِي الْجِرَاحِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْقَوَدُ فِي الْجِرَاحِ دَاخِلًا فِي قَوَدِ النَّفْسِ ، كَمَا دَخَلَتْ دِيَةُ الْجِرَاحِ فِي دِيَةِ النَّفْسِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ يَكُونُ قَوَدًا فِي الْجِرَاحِ يُسْتَوْفَى لِأَجْلِهَا ، لَا لِأَجْلِ النَّفْسِ لِتَمَيُّزِهَا ، فَعَلَى هَذَا لَا يَدْخُلُ قَوَدُ الْجِرَاحِ فِي قَوَدِ النَّفْسِ ، وَإِنْ دَخَلَتْ دِيَةُ الْجِرَاحِ فِي دِيَةِ النَّفْسِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ حُكْمَ الْقَوَدِ أَعَمُّ مِنْ حُكْمِ الدِّيَةِ ، لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ يُقَادُونَ بِالْوَاحِدِ ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ إِلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ ، فَجَازَ لِأَجْلِ ذَلِكَ أَنْ تَدْخُلَ دِيَةُ الْجِرَاحِ فِي دِيَةِ النَّفْسِ ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ قَوَدُ الْجِرَاحِ فِي قَوَدِ النَّفْسِ . فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْجِرَاحُ مِنْ رَجُلٍ وَالتَّوْجِيَةُ مِنْ آخَرَ أُخِذَ الْجَارِحُ بِحُكْمِ جِرَاحَتِهِ فِي
الْقَوَدِ وَالدِّيَةِ ، وَأُخِذَ الْمُوجِي بِحُكْمِ الْقَتْلِ فِي الْقَوَدِ وَالدِّيَةِ ، وَلَمْ تَدْخُلْ دِيَةُ الْجِرَاحِ فِي دِيَةِ النَّفْسِ ، كَمَا لَمْ يَدْخُلْ قَوَدُ الْجِرَاحِ فِي قَوَدِ النَّفْسِ بِخِلَافِ الْوَاحِدِ ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا تَفَرُّدُ الْوَاحِدِ وَتَمَيُّزُ الِاثْنَيْنِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَوْ بَرِأَتِ الْجِرَاحَاتُ ثُمَّ عَادَ فَقَتَلَهُ فما الحكم كَانَ عَلَيْهِ مَا عَلَى الْجَارِحِ مُنْفَرِدًا وَمَا عَلَى الْقَاتِلِ مُنْفَرِدًا . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ : لِأَنَّ الْجِرَاحَاتِ إِذَا انْدَمَلَتْ وَبَرِأَتِ اسْتَقَرَّ حُكْمُهَا فِي الْقَوَدِ وَالدِّيَةِ ، فَإِذَا طَرَأَ بَعْدَهَا الْقَتْلُ لَمْ يَسْقُطْ حُكْمُ مَا اسْتَقَرَّ مِنْ قَوَدٍ وَعَقْلٍ ، لِأَنَّ الْحُقُوقَ الْمُسْتَقِرَّةَ لَا تَسْقُطُ بِحُقُوقٍ مُسْتَجَدَّةٍ كَالدُّيُونِ وَالْحُدُودِ ، فَيَسْتَوْفِي قَوَدَ الْجِرَاحِ وَدِيَتَهَا وَقَوَدَ النَّفْسِ وَدِيَتَهَا ، وَلَا يَدْخُلُ دِيَةُ الْجِرَاحِ فِي دِيَةِ النَّفْسِ ، كَمَا لَمْ يَدْخُلْ قَوَدُ الْجِرَاحِ فِي قَوَدِ النَّفْسِ ، وَسَوَاءٌ كَانَا مِنْ وَاحِدٍ أَوِ اثْنَيْنِ بِخِلَافِ مَا لَمْ يَنْدَمِلْ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ التَّعْلِيلِ بِالِاسْتِقْرَارِ ، فَلَوِ انْدَمَلَ بَعْضُ الْجِرَاحِ وَبَقِيَ بَعْضُهَا حَتَّى طَرَأَتِ التَّوْجِيَةُ سِوَى فِيمَا انْدَمَلَ بَيْنَ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ ، وَفَرَّقَ فِيمَا لَمْ يَنْدَمِلْ بَيْنَ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَوْ تَدَاوَى الْمَجْرُوحُ بِسُمٍّ فَمَاتَ أَوْ خَاطَ الْجُرْحَ فِي لَحْمِ حَيٍّ فَمَاتَ فما الحكم فَعَلَى الْجَانِي نِصْفُ الدِّيَةِ لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ فِعْلَيْنِ وَإِنْ كَانَتِ الْخِيَاطَةُ فِي لَحْمٍ مَيِّتٍ فَالدِّيَةُ عَلَى الْجَانِي . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي التَّدَاوِي بِسُمٍّ . وَالثَّانِي : فِي خِيَاطَةِ الْجِرَاحِ . فَأَمَّا التَّدَاوِي بِالسُّمِّ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا كَانَ قَاتِلًا مُوجِبًا فِي الْحَالِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا كَانَ قَاتِلًا يَتَأَخَّرُ قَتْلُهُ عَنِ التَّوْجِئَةِ فِي الْحَالِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا كَانَ قَاتِلًا فِي الْأَغْلَبِ ، وَإِنْ جَازَ أَلَّا يُقْتَلَ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : مَا كَانَ غَيْرَ قَاتِلٍ فِي الْأَغْلَبِ ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يُقْتَلَ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ الْقَاتِلُ الْمُوجِي فِي الْحَالِ ما فيه القصاص ، فَهَذَا هُوَ قَاتِلُ نَفْسِهِ بِالتَّوْجِيَةِ بَعْدَ جُرْحِهِ بِالْجِنَايَةِ ، فَيَسْقُطُ عَنِ الْجَارِحِ حُكْمُ النَّفْسِ فِي الْقَوَدِ وَالدِّيَةِ ، وَيَلْزَمُهُ حُكْمُ الْجُرْحِ فِي الْقَوَدِ وَالدِّيَةِ ، فَالْجَارِحُ إِذَا تَعَقَّبَهُ قَاتِلٌ مُوجٍ وَسَوَاءٌ تَدَاوَى بِهِ الْمَجْرُوحُ عَالِمًا بِحَالِهِ أَوْ جَاهِلًا شُرْبَهُ ، أَوْ طِلَاءَهُ عَلَى ظَاهِرِ جَسَدِهِ إِذَا كَانَ مُوجِيًا فِي الْحَالَيْنِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ الْقَاتِلُ الَّذِي لَا يُوجِي فِي الْحَالِ وَيَقْتُلُ فِي ثَانِي حَالٍ سقوط القصاص فَهَذَا مِمَّا يَجُوزُ أَنْ تَتَقَدَّمَ فِيهِ سِرَايَةُ الْجُرْحِ عَلَى سِرَايَةِ السُّمِّ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَ سِرَايَةُ السُّمِّ عَلَى سِرَايَةِ الْجُرْحِ ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَغْلَبَ مِنَ الآخَرِ ، فَاسْتَوَيَا وَصَارَ الْقَتْلُ مَنْسُوبًا إِلَيْهِمَا ، فَيُعْتَبَرُ حَالُ التَّدَاوِي بِالسُّمِّ ، فَلَا يَخْلُو مُسْتَعْمِلُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِحَالِهِ أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِحَالِهِ فَاسْتِعْمَالُهُ عَمْدٌ شِبْهُ الْخَطَأِ ، لِأَنَّهُ عَامِدٌ فِي الْفِعْلِ خَاطِئٌ فِي النَّفْسِ ، فَيَسْقُطُ الْقَوَدُ عَنِ الْجَارِحِ : لِأَنَّهُ قَدْ شَارَكَ فِي النَّفْسِ خَاطِئًا ، وَلَا قَوَدَ عَلَى الْعَامِدِ إِذَا شَارَكَهُ الْخَاطِئُ . وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُدَاوِي هُوَ الْمَجْرُوحُ أَوْ غَيْرُهُ ، وَإِنْ عُلِمَ بِأَنَّهُ سُمٌّ قَاتِلٌ ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْمُدَاوِي بِهِ طَبِيبَ غَيْرِ الْمَجْرُوحِ فَيَجِبُ عَلَيْهِمَا الْقَوَدُ ، فَإِنْ عَفَا عَنْهُ إِلَى الدِّيَةِ كَانَتْ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ : لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ جِنَايَتِهِمَا بِفِعْلٍ تَعَمَّدَاهُ فَصَارَا كَالْجَارِحَيْنِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْمَجْرُوحُ : هُوَ الْمُدَاوِي لِنَفْسِهِ فَفِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَى الْجَارِحِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يُقَادُ مِنْهُ فِي النَّفْسِ لِمُشَارَكَتِهِ فِيهَا لِلْعَامِدِ ، وَلَا يَكُونُ سُقُوطُهُ عَنِ الشَّرِيكِ مُوجِبًا لِسُقُوطِهِ عَنْهُ كَشَرِيكِ الْأَبِ فِي قَتْلِ الِابْنِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا قَوَدَ عَلَيْهِ فِي النَّفْسِ ، وَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ ، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ : لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ أَحَدَ الْقَاتِلَيْنِ ، فَإِنْ أَرَادَ الْوَلِيُّ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ مِنَ الجُرْحِ دُونَ النَّفْسِ نَظَرَ فِي الْجُرْحِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ قِصَاصٌ إِذَا انْفَرَدَ كَالْجَائِفَةِ فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ لِانْفِرَادِ حُكْمِهِ بِسُقُوطِ الْقَوَدِ فِي النَّفْسِ . وَإِنْ كَانَ الْجُرْحُ مِمَّا يُوجِبُ الْقِصَاصَ إِذَا انْفَرَدَ كَالْمُوضِحَةِ أَوْ كَقَطْعِ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ حكمه فَفِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ مِنْهُ مَعَ سُقُوطِهِ فِي النَّفْسِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ : لَا يَجِبُ ، وَتَسْقُطُ بِسُقُوطِهِ فِي النَّفْسِ : لِأَنَّهُ إِذَا انْفَرَدَ عَنْهَا رُوعِيَ فِيهِ الِانْدِمَالُ ، وَلَمْ يَنْدَمِلْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ لِأَنَّهُ قَدِ انْتَهَتْ غَايَتُهُ بِالْمَوْتِ فَصَارَ كَالْمُنْدَمِلِ فَعَلَى هَذَا لَا يَخْلُو حَالُ الْجُرْحِ الْمُسْتَحَقِّ فِيهِ الْقِصَاصُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ دِيَةُ مِثْلِهِ نِصْفَ دِيَةِ النَّفْسِ كَإِحْدَى الْيَدَيْنِ أَوِ الرِّجْلَيْنِ ، فَقَدِ اسْتَوْفَى الْوَلِيُّ بِالِاقْتِصَاصِ مِنْهُ جَمِيعَ حَقِّهِ : لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ نِصْفَ دِيَةِ النَّفْسِ ، وَقَدِ اسْتَوْفَاهُ بِقَطْعِ إِحْدَى الْيَدَيْنِ .
وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ دِيَتُهُ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ دِيَةِ النَّفْسِ كَالْإِصْبَعِ فِيهَا عُشْرُ دِيَةِ النَّفْسِ ، فَإِذَا اقْتَصَّ مِنْهَا اسْتَوْفَى بِهَا خُمُسَ حَقِّهِ مِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ ، فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالْبَاقِي مِنْهَا ، وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ النِّصْفِ لِيَسْتَكْمِلَ بِهَا جَمِيعَ النِّصْفِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ دِيَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ يَقْتَصُّ مِنْهُ ، وَإِنَّ زَادَ عَلَى دِيَةِ النَّفْسِ لِانْفِرَادِهِ بِالْحَاكِمِ عَنْ سُقُوطِ الْقَوَدِ فِي النَّفْسِ كَمَا لَوِ انْفَرَدَ بِالِانْدِمَالِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ عِنْدِي أَشْبَهُ ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصَّ بِنِصْفِ الدِّيَةِ مِنَ الأَعْضَاءِ إِلَّا مَا قَابَلَهَا : لِأَنَّهَا تُؤْخَذُ بَدَلًا مِنْهَا ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا أَمْكَنَ تَبْعِيضُهُ ، وَأَنْ تُسْتَوْفَى مِنْهُ بِقَدْرِ حَقِّهِ كَالْيَدَيْنِ إِذَا قَطَعَهُمَا فَفِيهِمَا الدِّيَةُ ، وَيُمْكِنُ أَنْ تُؤْخَذَ إِحْدَاهُمَا ، وَفِيهِمَا نِصْفُ الدِّيَةِ فَهَاهُنَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ فِي إِحْدَى الْيَدَيْنِ ، وَيَسْقُطُ فِي الْأُخْرَى : لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَوْفَى بِهَا نِصْفَ الدِّيَةِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَزِيدَ عَلَيْهَا فَوْقَ حَقِّهِ ، وَيَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ الِاقْتِصَاصِ مِنَ اليُمْنَى أَوِ الْيُسْرَى ، وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا لَمْ يُمْكِنْ تَبْعِيضُهُ كَجَدْعِ الْأَنْفِ ، وَقَطْعِ الذَّكَرِ ، فَيَسْقُطُ الْقَوَدُ فِيهِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ مِنَ الدِّيَةِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنْ أَقْسَامِ السُّمِّ : وَهُوَ الْقَاتِلُ فِي الْأَغْلَبِ ما فيه القصاص ، وَإِنْ جَازَ أَنْ لَا يَقْتُلَ فَهَذَا قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَمُوتَ مِنَ الجُرْحِ دُونَ السُّمِّ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَمُوتَ مِنَ السُّمِّ دُونَ الْجُرْحِ ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَغْلَبَ مِنَ الآخَرِ فَجَرَى السُّمُّ مَجْرَى الْجُرْحِ الْآخَرِ ، وَالْحُكْمُ فِي مُسْتَعْمِلِهِ عَلَى مَا مَضَى : لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ هَلْ يَكُونُ فِي حُكْمِ الْعَمْدِ الْمَحْضِ أَوْ خَطَأِ الْعَمْدِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ فِي حُكْمِ خَطَأِ الْعَمْدِ : لِأَنَّ الْمَقْصُودَ دِيَةُ التَّدَاوِي فَصَارَ خَطَأً فِي الْقَصْدِ ، عَمْدًا فِي الْقَتْلِ ، يَسْقُطُ الْقَوَدُ عَنِ الْجَارِحِ فِي النَّفْسِ ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ مَعَ الْكَفَّارَةِ ، لِأَنَّ جُرْحَهُ صَارَ قَتْلًا وَيَكُونُ حُكْمُ شَرِيكِ عَمْدِ الْخَطَأِ كَشَرِيكِ الْخَطَأِ فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ ، فَإِنْ أَرَادَ الْوَلِيُّ الْقِصَاصَ فِي الْجُرْحِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَجْهًا وَاحِدًا : لِأَنَّ شَرِيكَ الْخَطَأِ فِي الْجُرْحِ كَشَرِيكِهِ فِي النَّفْسِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ السُّمَّ يَكُونُ فِي حُكْمِ الْعَمْدِ الْمَحْضِ ، فَعَلَى هَذَا فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَى الْجَارِحِ قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى يُقَادُ مِنْ نَفْسِهِ فِي أَحَدِهِمَا لِخُرُوجِهَا بِعَمْدٍ مَحْضٍ ، وَلَا يُقَادُ مِنْهَا فِي الْآخَرِ لِسُقُوطِهِ فِي حُكْمِ السُّمِّ إِذَا كَانَ الْمُتَدَاوِي بِهِ هُوَ الْمَجْرُوحُ ، فَإِنْ أَرَادَ الْوَلِيُّ الْقَوَدَ فِي الْجُرْحِ كَانَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الوَجْهَيْنِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ مِنْ أَقْسَامِ السُّمِّ : وَهُوَ أَنْ لَا يَقْتُلَ فِي الْأَغْلَبِ ما فيه القصاص ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَقْتُلَ فَهَذَا خَطَأٌ مَحْضٌ ، اشْتَرَكَ فِيهِ عَمْدٌ مَحْضٌ ، فَيَسْقُطُ الْقَوَدُ عَنِ الْجَارِحِ فِي النَّفْسِ وَالْجُرْحِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ ، حَالَّةً مُغَلَّظَةً فِي مَالِهِ : لِأَنَّهَا دِيَةُ عَمْدٍ مَحْضٍ ، وَلَا يُعْتَبَرُ حُكْمُهَا بِمُشَارَكَةِ الْخَطَأِ الْمَحْضِ ، وَتَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ : لِأَنَّ جُرْحَهُ صَارَ قَتْلًا . فَإِنْ جُهِلَ حَالُ السُّمِّ وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْ أَيِّ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ هُوَ - أُجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ أَخَفِّهَا ، وَهُوَ هَذَا الْقِسْمُ الرَّابِعُ : لِأَنَّهَا عَلَى يَقِينٍ مِنْهُ ، وَفِي شَكٍّ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي مِنْ فَصْلَيِ الْمَسْأَلَةِ : وَهُوَ أَنْ يَخِيطَ الْمَجْرُوحُ جُرْحَهُ فَيَمُوتَ حكمه فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُخَاطَ فِي لَحْمٍ مَيِّتٍ فَلَا تَأْثِيرَ لِهَذِهِ الْخِيَاطَةِ : لِأَنَّهَا فِي اللَّحْمِ الْمَيِّتِ لَا تُؤْلِمُ ، وَلَا تَسْرِي ، فَيَصِيرُ الْجَارِحُ مُنْفَرِدًا بِقَتْلِهِ بِسِرَايَةِ جُرْحِهِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ ، فَإِنْ عَفَا عَنْهُ فَجَمِيعُ الدِّيَةِ مُغَلَّظَةٌ حَالَّةٌ فِي مَالِهِ ، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَخِيطَ فِي لَحْمٍ حَيٍّ حكمه فَالْخِيَاطَةُ جُرْحٌ ، وَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا : أَنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْعَمْدِ الْمَحْضِ وَعِنْدِي أَنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ عَمْدِ الْخَطَأِ : لِأَنَّهُ قَصَدَ بِهِ حِفْظَ الْحَيَاةِ فَأَفْضَى بِهِ إِلَى التَّلَفِ ، فَصَارَ عَمْدًا فِي الْفِعْلِ ، خَطَأً فِي الْقَصْدِ . فَإِنْ قِيلَ : فَبِهَذَا فَالْجَارِحُ قَدْ صَارَ قَاتِلًا شَرِيكًا لِعَمْدِ الْخَطَأِ ، فَسَقَطَ عَنْهُ الْقَوَدُ ، وَتَجِبُ عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ حَالَّةً مُغَلَّظَةً مَعَ الْكَفَّارَةِ ، وَإِنْ قِيلَ بِمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ الْخِيَاطَةَ عَمْدٌ مَحْضٌ رُوعِيَ مَنْ تَوَلَّى الْخِيَاطَةَ أَوْ إِبْرَتَهَا فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ الْمَجْرُوحُ تَوَلَّاهَا أَوْ أَمَرَ بِهَا . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ أَبُو الْمَجْرُوحِ تَوَلَّاهَا . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ تَوَلَّاهَا أَوْ أَمَرَ بِهَا . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ أَجْنَبِيٌّ تَوَلَّاهَا أَوْ أَمَرَ بِهَا . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ أَنْ يَتَوَلَّاهَا الْمَجْرُوحُ ، فَفِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَى الْجَارِحِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : عَلَيْهِ الْقَوَدُ فِي النَّفْسِ ، إِذَا اعْتُبِرَ فِي الْقَوَدِ خُرُوجُ النَّفْسِ عَنْ عَمْدٍ مَحْضٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا قَوَدَ عَلَيْهِ إِذَا اعْتُبِرَ فِيهِ خُرُوجُ النَّفْسِ عَنْ عَمْدٍ مَضْمُونٍ : لِأَنَّ عَمْدَ الْمَجْرُوحِ غَيْرُ مَضْمُونٍ ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ لَوْ تَوَلَّاهَا مَنْ أَمَرَهُ الْجَارِحُ بِهَا ، وَلَا يَكُونُ
الْمَأْمُورُ ضَامِنًا : لِأَنَّهُ فَعَلَهُ عَنْ أَمْرِ مَنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي نَفْسِهِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَبُو الْمَجْرُوحِ تَوَلَّاهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْمَجْرُوحُ غَيْرَ مُوَلَّى عَلَيْهِ لِبُلُوغِهِ وَعَقْلِهِ فَيَكُونُ الْأَبُ ضَامِنًا لِنِصْفِ الدِّيَةِ ، وَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ لَا قَوَدَ لِلِابْنِ عَلَى أَبِيهِ ، وَعَلَى الْجَارِحِ الْقَوَدُ فِي النَّفْسِ قَوْلًا وَاحِدًا : لِأَنَّهُ شَارَكَ فِي عَمْدٍ مَضْمُونٍ ، فَإِنْ عَفَا عَنِ الْقَوَدِ فَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ : لِأَنَّهُ أَحَدُ الْقَاتِلِينَ ، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّ جُرْحَهُ صَارَ نَفْسًا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْمَجْرُوحُ مُوَلًّى عَلَيْهِ بِصِغَرٍ أَوْ جُنُونٍ . فَفِي ضَمَانِ الْأَبِ لَهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَضْمَنُهَا تَغْلِيبًا لِحُسْنِ النَّظَرِ بِمَقْصُودِ وِلَايَتِهِ ، فَعَلَى هَذَا فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَى الْجَارِحِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : عَلَيْهِ الْقَوَدُ ، إِذَا رُوعِيَ مُشَارَكَتُهُ فِي عَمْدٍ غَيْرِ مَضْمُونٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْأَبَ ضَامِنٌ لَهَا تَغْلِيبًا لِلْفِعْلِ الْمَضْمُونِ ، فَعَلَى هَذَا يَجِبُ عَلَى الْجَارِحِ الْقَوَدُ فِي النَّفْسِ قَوْلًا وَاحِدًا : لِأَنَّهُ شَارَكَ فِي عَمْدٍ مَضْمُونٍ ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَوَلَّاهَا مَنْ أَمَرَهُ الْأَبُ : لَأَنَّ لِلْأَبِ فِي النَّظَرِ عَلَى وَلَدِهِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يَتَوَلَّاهَا الْإِمَامُ ، أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ مِنْ خُلَفَائِهِ ، أَوْ مَنْ يَأْمُرُهُ الْإِمَامُ بِهَا : لِأَنَّ أَمْرَ الْإِمَامِ مُطَاعٌ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْمَجْرُوحُ غَيْرَ مُوَلًّى عَلَيْهِ لِبُلُوغِهِ وَعَقْلِهِ فَعَلَى الْإِمَامِ الْقَوَدُ : لِإِقْدَامِهِ عَلَى مَا لَا نَظَرَ لَهُ فِيهِ ، فَإِنْ عَفَا عَنْهُ كَانَ عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ حَالَّةً فِي مَالِهِ ، وَالْكَفَّارَةُ ، وَعَلَى الْجَارِحِ الْقَوَدُ فِي النَّفْسِ : لِأَنَّهُمَا قَاتِلَا عَمْدٍ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْمَجْرُوحُ مُوَلًّى عَلَيْهِ بِصِغَرٍ أَوْ جُنُونٍ فَفِي وُجُوبِ الْقَوَدِ قَوْلَانِ ذَكَرَهُمَا الشَّافِعِيُّ فِي قَطْعِ السَّلْعَةِ : أَحَدُهُمَا : عَلَيْهِ وَعَلَى الْجَارِحِ الْقَوَدُ : فَإِنْ عَفَا عَنْهُمَا كَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ حَالَّةً فِي مَالِهِ وَالْكَفَّارَةُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا قَوَدَ عَلَى الْإِمَامِ لِشُبْهَةِ وِلَايَتِهِ وَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ ، وَأَيْنَ تَكُونُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي مَالِهِ مَعَ الْكَفَّارَةِ . وَالثَّانِي : فِي بَيْتِ الْمَالِ ، وَالْكَفَّارَةُ فِي مَالِهِ لَوْ عَزَّرَ فَتَلِفَ الْمُعَزَّرُ ، فَأَمَّا الْجَارِحُ فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ قَوْلًا وَاحِدًا : لِأَنَّهُ شَارَكَ فِي عَمْدٍ مَضْمُونٍ .
فَأَمَّا الْمَأْمُورُ بِهَا مِنْ قِبَلِ الْإِمَامِ فَمَنْسُوبُ الْفِعْلِ إِلَى الْإِمَامِ لِمَا يَجِبُ عَلَى الْمَأْمُورِ مِنَ الْتِزَامِ طَاعَتِهِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ : وَهُوَ أَنْ يَتَوَلَّاهَا أَجْنَبِيٌّ أَوْ مَنْ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ مِنْ أَقَارِبِهِ فَهُمَا سَوَاءٌ ، وَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ . إِمَّا أَنْ يَتَوَلَّاهَا بِنَفْسِهِ أَوْ يَأْمُرَ بِهَا غَيْرَهُ ، فَإِنْ تَوَلَّاهَا بِنَفْسِهِ كَانَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ وَعَلَى الْجَارِحِ مَعًا لِأَنَّهُمَا قَاتِلَا عَمْدٍ وَالدِّيَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، وَإِنْ أَمَرَ بِهَا غَيْرَهُ وَجَبَ الْقَوَدُ عَلَى الْمَأْمُورِ : لِأَنَّهُ لَا شُبْهَةَ لَهُ فِي طَاعَةِ الْأَمْرِ ، وَعُزِّرَ الْآمِرُ لِمُعَاوَنَتِهِ عَلَى مَا أَفْضَى إِلَى الْقَتْلِ ، وَوَجَبَ الْقَوَدُ عَلَى الْجَارِحِ ، فَإِنْ عَفَا عَنْهُمَا ، كَانَتِ الدِّيَةُ سُنَّةً وَبَيْنَ الْمَأْمُورِ نِصْفَيْنِ ، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفَّارَةٌ .
فَصْلٌ : وَإِذَا اخْتَلَفَ الْجَارِحُ وَالْوَلِيُّ فِي الْخِيَاطَةِ فَقَالَ الْوَلِيُّ : كَانَتْ فِي لَحْمٍ مَيِّتٍ فَعَلَيْكَ الْقَوَدُ أَوْ جَمِيعُ الدِّيَةِ ، وَقَالَ الْجَارِحُ : بَلْ كَانَتْ فِي لَحْمٍ حَيٍّ ، فَلَيْسَ عَلَيَّ إِلَّا نِصْفُ الدِّيَةِ ، وَعَدِمَا الْبَيِّنَةَ - فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْجَارِحِ مَعَ يَمِينِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا نِصْفُ الدِّيَةِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّنَا عَلَى يَقِينٍ فِي وُجُوبِ النِّصْفِ ، وَفِي شَكٍّ مِنَ الزِّيَادَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْأَصْلَ حَيَاةُ اللَّحْمِ حَتَّى يَطْرَأَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ فَصَارَ الظَّاهِرُ مَعَ الْجَارِحِ دُونَ الْوَلِيِّ ، وَلَوِ اخْتَلَفَا فِي الدَّوَاءِ ، فَقَالَ الْجَارِحُ : كَانَ سُمًّا مُوجِيًا وَلَيْسَ عَلَيَّ إِلَّا دِيَةُ الْجُرْحِ ، وَلَا قَوَدَ فِي النَّفْسِ ، وَقَالَ الْوَلِيُّ : بَلْ كَانَ دَوَاءً غَيْرَ قَاتِلٍ ، وَأَنْتَ الْقَاتِلُ فَعَلَيْكَ الْقَوَدُ ، أَوْ دِيَةُ النَّفْسِ ، فَالْقَوْلُ مَعَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ قَوْلُ الْوَلِيِّ دُونَ الْجَارِحِ ، وَعَلَى الْجَارِحِ الْقَوَدُ فِي النَّفْسِ أَوْ جَمِيعُ الدِّيَةِ لِأَمْرَيْنِ اقْتَضَيَا عَكْسَ مَا اخْتَلَفَا فِيهِ مِنَ الخِيَاطَةِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّنَا عَلَى يَقِينٍ مِنْ جِنَايَةِ الْجَارِحِ وَفِي شَكٍّ مِنْ غَيْرِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّ الظَّاهِرَ فِي التَّدَاوِي أَنَّهُ بِالنَّافِعِ دُونَ الْقَاتِلِ ، فَصَارَ الظَّاهِرُ هُوَ الْمُغَلَّبُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَوْ قُطِعَ يَدُ نَصْرَانِيٍّ فَأَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ حكمه لَمْ يَكُنْ قَوَدٌ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ كَانَتْ وَهُوَ مِمَّنْ لَا قَوَدَ فِيهِ وَعَلَيْهِ دِيَةُ مُسْلِمٍ وَلَا يُشْبِهُ الْمُرْتَدَّ لِأَنَّ قَطْعَهُ مُبَاحٌ كَالْحَدِّ ، وَالنَّصْرَانِيُّ يَدُهُ مَمْنُوعَةٌ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا قَطَعَ مُسْلِمٌ يَدَ نَصْرَانِيٍّ فَأَسْلَمَ ثُمَّ سَرَى الْقَطْعُ إِلَى نَفْسِهِ فَمَاتَ لَمْ يَجِبْ فِيهِ الْقَوَدُ وَوَجَبَ فِيهِ دِيَةُ مُسْلِمٍ ، اعْتِبَارًا فِي الْقَوَدِ بِحَالِ الْجِنَايَةِ وَفِي الدِّيَةِ بِاسْتِقْرَارِ السِّرَايَةِ ، وَإِنَّمَا اعْتُبِرَ فِي الْقَوَدِ بِحَالَةِ الْجِنَايَةِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ النَّصْرَانِيُّ لَوْ قَطَعَ يَدَ نَصْرَانِيٍّ ، ثُمَّ أَسْلَمَ الْقَاطِعُ وَمَاتَ
الْمَقْطُوعُ ، لَمْ يَسْقُطِ الْقَوَدُ عَنِ الْقَاطِعِ بِإِسْلَامِهِ اعْتِبَارًا بِوُجُوبِهِ حَالَ الْجِنَايَةِ ، وَوَجَبَ إِذَا انْعَكَسَ فِي الْمُسْلِمِ إِذَا قَطَعَ يَدَ نَصْرَانِيٍّ ثُمَّ أَسْلَمَ الْمَقْطُوعُ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَى الْقَاطِعِ الْقَوَدُ ، اعْتِبَارًا بِسُقُوطِهِ عَنْهُ حَالَ الْجِنَايَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا صَحَّ فِي هَذِهِ الْجِنَايَةِ إِسْقَاطٌ بِالْكُفْرِ عِنْدَ الْجِنَايَةِ ، وَإِيجَابٌ بِالْإِسْلَامِ عِنْدَ السِّرَايَةِ ، وَجَبَ أَنْ يُغَلَّبَ حُكْمُ الْإِسْقَاطِ عَلَى حُكْمِ الْإِيجَابِ ، لِأَنَّهُ يَصِحُّ فِيهِ إِسْقَاطُ مَا وَجَبَ ، وَلَا يَصِحُّ فِيهِ إِيجَابُ مَا سَقَطَ ، وَاعْتَبَرْنَا فِي الدِّيَةِ اسْتِقْرَارَهَا بَعْدَ السِّرَايَةِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا اعْتَبَرْنَا اسْتِقْرَارَ السِّرَايَةِ فِيمَا زَادَ فِي الْمُوضِحَةِ إِذَا صَارَتْ نَفْسًا فِي إِيجَابِ الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ بَعْدَ أَنْ وَجَبَ نِصْفُ عُشْرِهَا ، وَفِيمَا نَقَصَ بِقَطْعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ إِذَا سَرَتْ إِلَى النَّفْسِ فِي إِيجَابِ دِيَةٍ وَاحِدَةٍ بَعْدَ وُجُوبِ دِيَتَيْنِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِمَثَابَتِهِمَا مَا حَدَثَ مِنْ زِيَادَةِ الدِّيَةِ بِالْإِسْلَامِ . وَالثَّانِي : أَنَّ حُدُوثَ الزِّيَادَةِ فِي الْمَضْمُونِ مُلْتَزَمَةٌ كَزِيَادَةِ الْمَغْصُوبِ ، فَلَمَّا ذَكَرْنَا مِنْ هَذَيْنِ وَقَعَ الْفَرْقُ فِي اعْتِبَارِ الْقَوَدِ بِحَالِ الْجِنَايَةِ وَاعْتِبَارِ الدِّيَةِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِهَا بِالسِّرَايَةِ ، وَهَكَذَا لَوْ جَرَحَ الْحُرُّ عَبْدًا فَأُعْتِقَ ثُمَّ مَاتَ حكمه لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقَوَدُ : لِأَنَّهُ جَرَحَهُ وَهُوَ عَبْدٌ ، وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ دِيَةُ حُرٍّ لِاسْتِقْرَارِهَا فِيهِ وَهُوَ حُرٌّ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا جَرَحَ الْمُسْلِمُ مُرْتَدًّا فَأَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ حكمه لَمْ يَجِبْ فِيهِ قَوَدٌ وَلَا دِيَةٌ ، فَشَابَهَ النَّصْرَانِيَّ إِذَا أَسْلَمَ فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ اعْتِبَارًا بِحَالِ الْجِنَايَةِ ، وَخَالَفَهُ فِي الدِّيَةِ فِي تَرْكِ الِاعْتِبَارِ بِهَا عِنْدَ اسْتِقْرَارِهَا بِالسِّرَايَةِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ نَفْسَ النَّصْرَانِيِّ مَضْمُونَةٌ بِحَقْنِ دَمِهِ ، فَضُمِّنَ مَا حَدَثَ بِالْإِسْلَامِ مِنْ زِيَادَةِ دِيَتِهِ ، وَنَفْسُ الْمُرْتَدِّ هَدَرٌ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ ، فَصَارَ مَا حَدَثَ مِنْ سِرَايَتِهَا فِي الْإِسْلَامِ هَدَرًا غَيْرَ مَضْمُونٍ كَالسَّارِقِ إِذَا سَرَى إِلَى نَفْسِهِ الْقَطْعُ لَمْ يُضَمَّنْ ، لِأَنَّ قَطْعَهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ وَكَالْحَرْبِيِّ إِذَا قُطِعَتْ يَدُهُ فَأَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ لَمْ يُضَمَّنْ بِقَوَدٍ ، وَلَا دِيَةٍ : لِأَنَّهُ عِنْدَ الْجِنَايَةِ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِقَوَدٍ وَلَا دِيَةٍ . فَأَمَّا إِذَا جُرِحَ مُقِرٌّ بِالزِّنَا وَهُوَ مُحْصَنٌ فَرَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ ثُمَّ مَاتَ حكمه فَفِي ضَمَانِ نَفْسِهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَحَدُهُمَا : لَا يُضْمَنُ بِقَوَدٍ وَلَا دِيَةٍ لِإِبَاحَةِ نَفْسِهِ وَقْتَ الْجِنَايَةِ كَالْمُرْتَدِّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُضْمَنُ دِيَتُهُ وَإِنْ جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِبَاحَةِ وَقْتَ الْجِنَايَةِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُرْتَدِّ أَنَّ الْمُرْتَدَّ مُبَاحُ الدَّمِ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ مِنْ رِدَّتِهِ ، وَالزَّانِي مَحْظُورُ النَّفْسِ إِلَّا أَنْ يُقِيمَ عَلَى إِقْرَارِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَوْ أَرْسَلَ سَهْمًا فَلَمْ يَقَعْ عَلَى نَصْرَانِيٍّ حَتَّى أَسْلَمَ أَوْ عَلَى عَبْدٍ فَلَمْ يَقَعْ حَتَّى أُعْتِقَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ قِصَاصٌ لِأَنَّ تَخْلِيَةَ السَهْمِ كَانَتْ وَلَا قِصَاصَ وَفِيهِ دِيَةُ حُرٍّ مُسْلِمٍ وَالْكَفَّارَةُ وَكَذَلِكَ الْمُرْتَدُّ يُسْلِمُ قَبْلَ وُقُوعِ السَهْمِ لِتَحَوُّلِ الْحَالِ قَبْلَ وُقُوعِ الرَّمْيَةِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : جَمَعَ الشَّافِعِيُّ فِي إِرْسَالِ السَّهْمِ بَيْنَ ثَلَاثِ مَسَائِلَ ، وَضَمَّ إِلَيْهَا أَصْحَابُنَا رَابِعَةً تَظْهَرُ بِاسْتِمْرَارِ الْقِيَاسِ : فَإِحْدَاهُمَا : مُسْلِمٌ أَرْسَلَ سَهْمَهُ عَلَى نَصْرَانِيٍّ ، فَأَسْلَمَ ثَمَّ وَصَلَ السَّهْمُ إِلَيْهِ فَمَاتَ . وَالثَّانِيَةُ : فِي حُرٍّ أَرْسَلَ سَهْمَهُ عَلَى عَبْدٍ فَأُعْتِقَ ، ثُمَّ وَصَلَ السَّهْمُ إِلَيْهِ فَمَاتَ ، فَلَا قَوَدَ فِيهَا عَلَى الْمُسْلِمِ وَالْحُرِّ اعْتِبَارًا بِإِرْسَالِ السَّهْمِ : لِأَنَّ الْمُسْلِمَ أَرْسَلَهُ عَلَى نَصْرَانِيٍّ ، وَالْحُرُّ أَرْسَلَهُ عَلَى عَبْدٍ ، وَعَلَيْهِمَا دِيَةُ مُسْلِمٍ ، وَدِيَةُ حُرٍّ ، اعْتِبَارًا بِوُصُولِ السَّهْمِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِذَا أُعْتِقَ الْعَبْدُ بَعْدَ إِرْسَالِ السَّهْمِ ، وَقَبْلَ الْإِصَابَةِ حكمه فَفِيهِ قِيمَتُهُ لِسَيِّدِهِ اعْتِبَارًا بِإِرْسَالِ السَّهْمِ دُونَ الْإِصَابَةِ ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَدِيَتُهُ وَدِيَةُ الْمُسْلِمِ عِنْدَهُ سَوَاءٌ ، وَهَذَا فَاسِدٌ : لِأَنَّ النَّصْرَانِيَّ لَمْ يَصِلِ السَّهْمُ إِلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ إِسْلَامِهِ ، وَالْعَبْدَ لَمْ يَصِلِ السَّهْمُ إِلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ عِتْقِهِ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَوَدَ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الْجِنَايَةِ وَقْتَ الْإِرْسَالِ ، وَالدِّيَةُ مُعْتَبَرَةٌ بِحَالِ الِاسْتِقْرَارِ وَهُوَ الْإِصَابَةُ . فَأَمَّا مَا ظَهَرَ فِيهِ اشْتِبَاهُ الْقِيَاسِ فَمَسْأَلَتَانِ اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا فِي إِحْدَاهُمَا ، وَظَهَرَ الْخِلَافُ فِي الْأُخْرَى . فَأَمَّا الَّتِي اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَيْهَا مَعَ ظُهُورِ الِاشْتِبَاهِ فِيهَا : فَهِيَ فِي مُسْلِمٍ أَرْسَلَ سَهْمَهُ عَلَى مُرْتَدٍّ فَأَسْلَمَ ثُمَّ وَصَلَ السَّهْمُ إِلَيْهِ فَمَاتَ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا قَوَدَ عَلَيْهِ : اعْتِبَارًا بِإِرْسَالِ السَّهْمِ وَعَلَيْهِ الدِّيَةُ اعْتِبَارًا بِإِصَابَةِ السَّهْمِ وَهَذَا مُشْتَبَهٌ : لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْجِنَايَةِ إِنْ كَانَ عِنْدَ إِرْسَالِ السَّهْمِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَجِبَ فِيهِ الدِّيَةُ لِأَنَّهُ كَانَ عِنْدَ إِرْسَالِهِ مُرْتَدًّا ، وَإِنْ كَانَ ابْتِدَاؤُهَا عِنْدَ الْإِصَابَةِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ فِيهِ الْقَوَدُ ، لِأَنَّهُ كَانَ عِنْدَ إِصَابَتِهِ مُسْلِمًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ ابْتِدَاؤُهَا فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ عِنْدَ الْإِرْسَالِ ، وَفِي وُجُوبِ الدِّيَةِ عِنْدَ الْإِصَابَةِ لِتَنَافِيهِمَا ، وَهَذَا الِاشْتِبَاهُ وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا ، وَكَادَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنْ يُخَرِّجَهُ وَجْهًا ثَانِيًا : أَنَّهُ لَا قَوَدَ وَلَا دِيَةَ اعْتِبَارًا بِحَالِ الْإِرْسَالِ كَمَا اعْتُبِرَ فِي النَّصْرَانِيِّ وَالْعَبْدِ حَالَ الْإِرْسَالِ ، وَيُحْمَلُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ : وَكَذَلِكَ الْمُرْتَدُّ ، يَعْنِي : فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ وَالدِّيَةِ مَعًا ، وَهَذَا الِاحْتِمَالُ وَإِنْ كَانَ لَوْ قَالَهُ قَائِلٌ مَذْهَبًا ، فَلَمْ يُصَرِّحْ بِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا أَحَدٌ : لَأَنَّ الدِّيَةَ تُضْمَنُ ضَمَانَ الْأَمْوَالِ فَرُوعِيَ فِيهَا وَقْتُ الْمُبَاشَرَةِ ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْإِصَابَةِ وَالْقَوَدَ يُضْمَنُ ضَمَانَ الْحُدُودِ ، فَرُوعِيَ فِيهِ وَقْتُ الْفِعْلِ ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْإِرْسَالِ ، فَلِذَلِكَ سَقَطَ الْقَوَدُ فِي الْمُرْتَدِّ اعْتِبَارًا بِوَقْتِ الْإِرْسَالِ ، وَوَجَبَ فِيهِ الدِّيَةُ اعْتِبَارًا بِوَقْتِ الْإِصَابَةِ .
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ مَسْأَلَتَيِ الِاشْتِبَاهِ فَهِيَ الَّتِي ضَمَّهَا أَصْحَابُنَا إِلَى الثَّلَاثِ الْمَنْصُوصَاتِ ، وَظَهَرَ فِيهَا مِنْ بَعْضِهِمْ خِلَافٌ . وَهِيَ فِي مُسْلِمٍ أَرْسَلَ سَهْمَهُ عَلَى حَرْبِيٍّ فَأَسْلَمَ ثُمَّ وَصَلَ السَّهْمُ إِلَيْهِ فَمَاتَ ، فَقَدْ جَمَعَ أَصْحَابُنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُرْتَدِّ ، فَأَسْقَطُوا فِيهِ الْقَوَدَ اعْتِبَارًا بِوَقْتِ الْإِرْسَالِ ، وَأَوْجَبُوا فِيهِ دِيَةَ مُسْلِمٍ اعْتِبَارًا بِوَقْتِ الْإِصَابَةِ . وَفَرَّقَ أَبُو جَعْفَرٍ التِّرْمِذِيُّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُرْتَدِّ ، فَأَسْقَطَ فِي الْحَرْبِيِّ الْقَوَدَ وَالدِّيَةَ مَعًا ، وَأَوْجَبَ فِي الْمُرْتَدِّ الدِّيَةَ ، وَأَسْقَطَ الْقَوَدَ فَصَارَ جَامِعًا بَيْنَهُمَا فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ ، وَمُفَرِّقًا بَيْنَهُمَا فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ احْتِجَاجًا بِأَنَّ قَتْلَ الْحَرْبِيِّ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ فِي حَقِّ الْإِمَامِ وَغَيْرِهِ ، وَقَتْلَ الْمُرْتَدِّ مَنْهِيٌّ عَنْهُ إِلَّا فِي حَقِّ الْإِمَامِ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ فَاسِدٌ : لِأَنَّ اخْتِلَافَهُمَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ تَسَاوِيهِمَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ تَسَاوِيهِمَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَوْ جَرَحَهُ مُسْلِمًا فَارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ حكمه فَالدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ وَلَا قَوَدَ لِلْحَالِ الْحَادِثَةِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي مُسْلِمٍ جَرَحَ مُسْلِمًا ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ مُسْلِمًا ، فَلَا يَخْلُو زَمَانُ رِدَّتِهِ مِنْ أَنْ تَسْرِيَ فِيهِ الْجِنَايَةُ أَوْ لَا تَسْرِي . فَإِنْ كَانَ زَمَانًا لَا تَسْرِي فِيهِ الْجِنَايَةُ فِي مِثْلِهِ لِقُرْبِهِ وَقِصَرِهِ ، فَالدِّيَةُ تَامَّةٌ : لِأَنَّ النَّفْسَ تَلِفَتْ مِنْ جِنَايَةٍ وَسِرَايَةٍ ، وَهُوَ مَضْمُونُ النَّفْسِ فِي حَالِ الْجِنَايَةِ وَحَالِ السِّرَايَةِ ، فَوَجَبَ أَنْ تَكْمُلَ فِيهِ الدِّيَةُ ، وَلَا يُؤَثِّرَ فِيهَا زَمَانُ الرِّدَّةِ إِذْ لَيْسَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي السِّرَايَةِ . فَأَمَّا الْقَوَدُ فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجِبُ فِيهِ الْقَوَدُ : لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ تُؤَثِّرِ الرِّدَّةُ فِي الدِّيَةِ لَمْ تُؤَثِّرْ فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَسْقُطُ الْقَوَدُ فِي النَّفْسِ : لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِالرِّدَّةِ فِي حَالٍ لَوْ مَاتَ عَلَيْهَا سَقَطَ الْقَوَدُ ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّهُ بِالِانْتِقَالِ عَنْهَا كَالْمَبْتُوتَةِ إِذَا ارْتَدَّتْ ثُمَّ أَسْلَمَتْ قَبْلَ مَوْتِ زَوْجِهَا لَمْ تَرِثْهُ : لِأَنَّهُ لَوْ مَاتَ فِي رِدَّتِهَا لَمْ تَرِثْهُ وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ فِي الْأَحْوَالِ : لِأَنَّهُ قَدْ ضَمِنَ دِيَةَ النَّفْسِ كَامِلًا فَصَارَ قَاتِلًا ، وَإِنْ كَانَتِ الرِّدَّةُ فِي زَمَانٍ تَسْرِي الْجِنَايَةُ فِي مِثْلِهِ لِطُولِهِ ، فَلَا قَوَدَ فِيهِ : لِأَنَّ مُسْتَحَقَّ ضَمَانِ النَّفْسِ فِي حَالِ الْجِنَايَةِ وَالسِّرَايَةِ وَبَعْضِ السِّرَايَةِ الْمُقَابِلِ لِزَمَانِ الرِّدَّةِ غَيْرُ مَضْمُونٍ ، فَصَارَ الضَّمَانُ مُخْتَصًّا بِالْجِنَايَةِ وَبَعْضِ السِّرَايَةِ ، وَسَاقِطًا عَنْ بَعْضِ السِّرَايَةِ ، فَسَقَطَ فِي الْحَالَيْنِ ، لِأَنَّ الْقَوَدَ لَا يَتَبَعَّضُ وَجَرَى مَجْرَى عَفْوِ أَحَدِ الْوَلِيَّيْنِ عَنِ الْقَوَدِ ، يُوجِبُ سُقُوطَهُ فِي حَقِّهِمَا : لِأَنَّ الْقَوَدَ لَا يَصِحُّ فِيهِ
التَّبْعِيضُ فَإِذَا سَقَطَ الْقَوَدُ فَفِي قَدْرِ مَا تَسْتَحِقُّهُ مِنَ الدِّيَةِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : جَمِيعُ الدِّيَةِ لِاعْتِبَارِهَا بِحَالِ الْجِنَايَةِ وَاسْتِقْرَارِ السِّرَايَةِ ، وَهُوَ فِيهِمَا مُسْلِمٌ مَضْمُونُ الدِّيَةِ ، فَعَلَى هَذَا عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ : لِأَنَّهُ قَاتِلٌ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ ، لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ جِنَايَةٍ وَسِرَايَةٍ ، بَعْضُهَا مَضْمُونٌ وَبَعْضُهَا غَيْرُ مَضْمُونٍ ، فَصَارَ كَمَجْرُوحٍ جَرَحَ نَفْسَهُ ثُمَّ مَاتَ كَانَ عَلَى جَارِحِهِ نِصْفُ الدِّيَةِ ، وَعَلَى هَذَا يَجِبُ الْكَفَّارَةُ : لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ فِي حُكْمِ أَحَدِ الْقَاتِلَيْنِ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : عَلَيْهِ أَرْشُ الْجُرْحِ ، وَيَسْقُطُ ضَمَانُ السِّرَايَةِ : لِأَنَّ سِرَايَةَ الْإِسْلَامِ حَادِثَةٌ عَنْ سِرَايَةِ الرِّدَّةِ ، فَصَارَتْ تَبَعًا لَهَا فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ ، فَعَلَى هَذَا لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ جَارِحٌ وَلَيْسَ بِقَاتِلٍ . فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَمَا اسْتَحَقَّ فِيهِ مِنْ قَوَدٍ وِدِيَةٍ فَهُوَ لِوَارِثِهِ : لِأَنَّهُ مَاتَ مُسْلِمًا فَوَرِثَهُ .
فَصْلٌ : وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ تَنْعَكِسَ الرِّدَّةُ فَتَكُونَ فِي الْجَانِي دُونَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ، وَهُوَ أَنْ يَجْرَحَ مُسْلِمًا خَطَأً ثُمَّ يَرْتَدَّ الْجَارِحُ وَيَرْجِعَ إِلَى الْإِسْلَامِ ، وَيَمُوتَ الْمَجْرُوحُ ، فَعَلَى الْجَارِحِ جَمِيعُ الدِّيَةِ دُونَ الْقَوَدِ : لِأَنَّهُ قَتَلَ مُسْلِمًا خَطَأً ، وَمَا تَحْمِلُهُ عَاقِلَتُهُ الْمُسْلِمُونَ لَهَا مُعْتَبَرٌ بِزَمَانِ رِدَّتِهِ ، فَإِنْ كَانَ يَسِيرًا لَا تَسْرِي الْجِنَايَةُ فِي مِثْلِهِ تَحَمَّلَتِ الْعَاقِلَةُ عَنْهُ جَمِيعَ الدِّيَةِ كَمَا لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الرِّدَّةُ فِي الْمَجْرُوحِ تَحَمَّلَ الْجَارِحُ جَمِيعَ الدِّيَةِ . وَإِنْ كَانَ زَمَانُ رِدَّتِهِ كَثِيرًا تَسْرِي الْجِنَايَةُ فِي مِثْلِهِ ، فَفِيمَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ عَنْهُ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : أَنْ تَحْمِلَ عَلَيْهِ عَاقِلَتُهُ جَمِيعَ الدِّيَةِ ، إِذَا قِيلَ إِنَّهُ يُضْمَنُ فِي رِدَّةِ الْمَجْرُوحِ جَمِيعُ الدِّيَةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَتَحَمَّلُ عَنْهُ عَاقِلَتُهُ نِصْفَ الدِّيَةِ وَيَتَحَمَّلُ الْجَانِي نِصْفَهَا الْمُقَابِلَ لِزَمَانِ رِدَّتِهِ إِذَا قِيلَ إِنَّهُ يُضْمَنُ فِي رِدَّةِ الْمَجْرُوحِ نِصْفُ الدِّيَةِ : لِأَنَّ عُصْبَتَهُ الْمُسْلِمِينَ يَعْقِلُونَ عَنْهُ فِي إِسْلَامِهِ ، وَلَا يَعْقِلُونَ عَنْهُ فِي رِدَّتِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّهُمْ يَعْقِلُونَ عَنْهُ أَرْشَ الْجُرْحِ ، وَيَتَحَمَّلُ هُوَ مَا بَقِيَ مِنْ دِيَةِ النَّفْسِ ، إِذَا قِيلَ إِنَّ رِدَّةَ الْمَجْرُوحِ تُوجِبُ أَرْشَ جُرْحِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَوْ مَاتَ مُرْتَدًّا كَانَ لِوَلِيِّهِ الْمُسْلِمِ أَنْ يَقْتَصَّ بِالْجُرْحِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) الْقِيَاسُ عِنْدِي عَلَى أَصْلِ قَوْلِهِ أَنْ لَا وِلَايَةَ لِمُسْلِمٍ عَلَى مُرْتَدٍّ كَمَا لَا وِرَاثَةَ لَهُ مِنْهُ وَكَمَا أَنَّ مَالَهُ لِلْمُسْلِمِينَ فَكَذَلِكَ الْوَلِيُّ فِي الْقِصَاصِ مِنْ جُرْحِهِ وَلِيُّ الْمُسْلِمِينَ .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا : فِي مُسْلِمٍ جَرَحَ مُسْلِمًا ثُمَّ ارْتَدَّ الْمَجْرُوحُ وَمَاتَ عَلَى رِدَّتِهِ ، فَلَا يَجِبُ فِي النَّفْسِ قَوَدٌ ، وَلَا دِيَةٌ ، لِأَنَّ تَلَفَهَا كَانَ بِجِنَايَةٍ فِي الْإِسْلَامِ ، وَسِرَايَةٍ فِي الرِّدَّةِ ، وَالرِّدَّةُ يَسْقُطُ حُكْمُ مَا حَدَثَ فِيهَا مِنَ السِّرَايَةِ فَسَقَطَ بِهَا مَا زَادَ عَلَى الْجِنَايَةِ ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْجِنَايَةُ ، وَلَيْسَتْ عَلَى النَّفْسِ فَسَقَطَ حُكْمُ النَّفْسِ . فَأَمَّا الْجِنَايَةُ الْوَاقِعَةُ فِي الْإِسْلَامِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ جُرْحٍ أَوْ طَرَفٍ ، فَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ هَاهُنَا وَفِي كِتَابِ " الْأُمِّ " أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ بِالْقِصَاصِ وَالْأَرْشِ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا لِحُدُوثِهَا فِي الْإِسْلَامِ الْمُوجِبِ لِضَمَانِهَا ، وَتَكُونُ الرِّدَّةُ مُخْتَصَّةً بِسُقُوطِ مَا حَدَثَ مِنَ السِّرَايَةِ فِيهَا . وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ : يَسْقُطُ الْقِصَاصُ وَيَجِبُ الْأَرْشُ . لِأَنَّ الْجُرْحَ إِذَا صَارَ نَفْسًا دَخَلَ فِي حُكْمِهَا ، وَصَارَ تَبَعًا لَهَا . فَإِذَا سَقَطَ الْقَوَدُ فِي النَّفْسِ الْمَتْبُوعَةِ سَقَطَ فِي الْجُرْحِ التَّابِعِ . وَحَكَى أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا وَجْهًا ثَالِثًا : أَنَّهُ يَسْقُطُ حُكْمُ الْجِنَايَةِ فِي الْقِصَاصِ وَالْأَرْشِ جَمِيعًا ، لِأَنَّهَا لَمَّا صَارَتْ نَفْسًا دَخَلَتْ فِي حُكْمِهَا ، وَقَدْ سَقَطَ حُكْمُ النَّفْسِ فَسَقَطَ حُكْمُ مَا دُونَهَا . وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ فَاسِدٌ ، وَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ أَصَحُّ : لِأَنَّ الْجِنَايَةَ أَصْلٌ ، وَالسِّرَايَةَ فَرْعٌ ، فَلَمْ يَسْقُطْ حُكْمُ الْأَصْلِ بِسُقُوطِ فَرْعِهِ ، وَإِنْ سَقَطَ حُكْمُ الْفَرْعِ بِسُقُوطِ أَصْلِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ جَنَى عَلَيْهِ فِي الرِّدَّةِ وَسَرَتْ فِي الْإِسْلَامِ سَقَطَ حُكْمُ السِّرَايَةِ لِسُقُوطِ حُكْمِ الْجِنَايَةِ ، وَكَذَلِكَ إِذَا جَنَى عَلَيْهِ فِي الْإِسْلَامِ وَسَرَتْ فِي الرِّدَّةِ ثَبَتَ حُكْمُ الْجِنَايَةِ ، وَإِنْ سَقَطَ حُكْمُ السِّرَايَةِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْجِنَايَةَ مَضْمُونَةٌ بِالْأَمْرَيْنِ ، وَإِنْ سَقَطَ حُكْمُ السِّرَايَةِ فِي الْأَمْرَيْنِ حكم الجناية ، لَمْ يَخْلُ حَالُ الْجِنَايَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ . إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي مِثْلِهَا قِصَاصٌ أَوْ لَا يَكُونَ . فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مِثْلِهَا قِصَاصٌ كَالْجَائِفَةِ وَجَبَ أَرْشُهَا ، وَكَانَ لِبَيْتِ الْمَالِ دُونَ الْوَرَثَةِ : لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يُورَثُ ، وَلَمْ يَجُزِ الْعَفْوُ عَنِ الْأَرْشِ : لِأَنَّهُ لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ . وَإِنْ كَانَ فِي مِثْلِهَا قِصَاصٌ كَقَطْعِ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ وَجَبَ فِيهِ الْقِصَاصُ . وَفِي مُسْتَحِقِّ اسْتِيفَائِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ ، وَابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا : أَنَّهُ لِلْإِمَامِ : لِأَنَّ الْقِصَاصَ مَوْرُوثٌ كَالْمَالِ ، وَمَالُ الْمُرْتَدِّ لِبَيْتِ الْمَالِ دُونَ وَرَثَتِهِ ، فَتَوَلَّى الْإِمَامُ كَمَا
يَتَوَلَّى أَخْذَ أَرْشِهِ وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ : كَانَ لِوَلِيِّهِ الْمُسْلِمِ أَنْ يَقْتَصَّ بِالْجُرْحِ - إِشَارَةً إِلَى الْإِمَامِ : لِأَنَّهُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ مُسْتَحِقَّ الْقِصَاصِ وَمُسْتَوْفِيَهُ أَوْلِيَاؤُهُ الْمُسْلِمُونَ ، وَإِنْ لَمْ يَرِثُوهُ ، لِأَنَّ الْقِصَاصَ مَوْضُوعٌ لِلتَّشَفِّي وَدَفْعِ الِاسْتِطَالَةِ فَاخْتَصَّ بِهِ الْأَوْلِيَاءُ دُونَ غَيْرِهِمْ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَقْتَصُّوا أَوْ يَعْفُوا عَنِ الْقِصَاصِ إِلَى الْأَرْشِ ، وَلَا يَصِحُّ عَفْوُهُمْ عَنِ الْأَمْرَيْنِ : لِأَنَّهُمْ مَلَكُوا الْقِصَاصَ وَلَمْ يَمْلِكُوا الْأَرْشَ فَصَحَّ عَفْوُهُمْ عَمَّا مَلَكُوهُ مِنَ القِصَاصِ وَلَمْ يَصِحَّ عَفْوُهُمْ عَمَّا لَمْ يَمْلِكُوهُ مِنَ الأَرْشِ : فَإِنْ سَقَطَ الْقِصَاصُ بِعَفْوِهِمْ أَوْ بِعَفْوِ الْإِمَامِ إِنْ كَانَ هُوَ الْمُسْتَوْفِيَ لَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ تَعَيَّنَ اسْتِحْقَاقُ الْأَرْشِ ، وَلَمْ يَصِحَّ عَفْوُ الْإِمَامِ عَنْهُ كَمَا لَا يَصِحُّ عَفْوُ الْأَوْلِيَاءِ : لِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْأَرْشِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ مِنْ دِيَةِ النَّفْسِ كَقَطْعِ إِحْدَى الْيَدَيْنِ ، فِيهَا نِصْفُ الدِّيَةِ فَيُوجِبُهَا وَيَسْقُطُ مَا زَادَ عَلَيْهَا بِالسِّرَايَةِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مِثْلَ دِيَةِ النَّفْسِ كَقَطْعِ الْيَدَيْنِ ، فِيهِمَا كَمَالُ الدِّيَةِ فَيُوجِبُ الدِّيَةَ الْكَامِلَةَ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلسِّرَايَةِ تَأْثِيرٌ فِي الزِّيَادَةِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ دِيَةِ النَّفْسِ كَقَطْعِ الْيَدَيْنِ ، وَجَدْعِ الْأَنْفِ ، وَمِنْ حُكْمِ ذَلِكَ فِي الْمُسْلِمِ أَنَّهَا إِذَا انْدَمَلَتْ وَجَبَ فِيهَا دِيَتَانِ ، وَإِنْ سَرَتْ إِلَى النَّفْسِ وَجَبَ فِيهَا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ : لِأَنَّهَا صَارَتْ نَفْسًا فَلَمْ تَزِدْ عَلَى دِيَةِ النَّفْسِ ، فَأَمَّا إِذَا سَرَتْ إِلَى النَّفْسِ فِي حَالِ الرِّدَّةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ يَغْلِبُ حُكْمُ السِّرَايَةِ فِي الدِّيَةِ عَلَى حُكْمِ الْجِنَايَةِ ، فَلَا يَجَبُ فِيهَا أَكْثَرُ مِنْ دِيَةٍ : لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ نَفْسًا فَتَصِيرُ الْجِنَايَةُ مَضْمُونَةً بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ أَرْشِهَا أَوْ دِيَةِ النَّفْسِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ أَنَّهَا تُضْمَنُ بِمَا بَلَغَ مِنْ أَرْشِهَا وَإِنْ زَادَ عَلَى دِيَةِ النَّفْسِ أَضْعَافًا لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ سُقُوطَ الْقَوَدِ فِي النَّفْسِ يُجْرِي عَلَى الْجُرْحِ حُكْمَ الِانْدِمَالِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ حُكْمُ السِّرَايَةِ إِذَا نَقَصَ أَرْشُ الْجُرْحِ عَنْ دِيَةِ النَّفْسِ سَقَطَ حُكْمُ السِّرَايَةِ إِذَا زَادَ الْأَرْشُ عَلَى دِيَةِ النَّفْسِ ، وَتَصِيرُ الْجِنَايَةُ مَضْمُونَةً بِمَبْلَغِ أَرْشِهَا فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ ، وَرَدَّ أَصْحَابُنَا عَلَيْهِ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ بِأَنَّ حُرْمَةَ نَفْسِهِ لَوِ اسْتَدَامَ الْإِسْلَامَ أَغْلَظَ مِنْ حُرْمَتِهَا إِذَا ارْتَدَّ ، فَلَا يَجِبُ فِيهِ مَعَ اسْتِدَامَةِ إِسْلَامِهِ أَكْثَرُ مِنَ الدِّيَةِ فَلِأَنْ لَا يَجِبَ فِيهَا مَعَ الرِّدَّةِ أَكْثَرُ مِنَ الدِّيَةِ أَوْلَى وَأَشْبَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَلَوْ فَقَأَ عَيْنَيْ عَبْدٍ قِيمَتُهُ مِائَتَانِ مِنَ الإِبِلِ فَأُعْتِقَ فَمَاتَ قيمة الدية لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِلَّا دِيَةٌ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ تَنْقُصُ بِمَوْتِهِ حُرًّا وَكَانَتِ الدِّيَةُ لِسَيِّدِهِ دُونَ وَرَثَتِهِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : الْقِيَاسُ عِنْدِي أَنَّ السَّيِّدَ قَدْ مَلَكَ قِيمَةَ الْعَبْدِ وَهُوَ عَبْدٌ فَلَا يَنْقُصُ مَا وَجَبَ لَهُ بِالْعَتْقِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ كُلَّ مَا وَجَبَ فِي الْحُرِّ مِنْهُ دِيَةٌ وَجَبَ فِي الْعَبْدِ مِنْهُ قِيمَةٌ ، وَمَا وَجَبَ فِي الْحُرِّ مِنْهُ نِصْفُ الدِّيَةِ كَانَ فِي الْعَبْدِ مِنْهُ نِصْفُ الْقِيمَةِ : وَمَا وَجَبَ فِي الْحُرِّ مِنْهُ حُكُومَةٌ كَانَ فِي الْعَبْدِ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ ، وَيَجْتَمِعُ فِي الْعَبْدِ قِيَمٌ كَمَا تَجْتَمِعُ فِي الْحُرِّيَّاتِ ، فَإِنْ سَرَتِ الْجِنَايَةُ إِلَى النَّفْسِ لَمْ يَجِبْ فِيهَا أَكْثَرُ مِنْ قِيمَةٍ فِي الْعَبْدِ ، وَدِيَةٍ فِي الْحُرِّ . فَإِذَا اسْتَقَرَّ هَذَا الْأَصْلُ فَصُورَةُ مَسْأَلَتِنَا : فِي حُرٍّ فَقَأَ عَيْنَيْ عَبْدٍ قِيمَتُهُ دِيَتَانِ قَدَّرَهُمَا الشَّافِعِيُّ بِمِائَتَيْنِ مِنَ الإِبِلِ ، وَإِنْ لَمْ يُقَوَّمِ الْعَبْدُ بِالْإِبِلِ ، وَذَلِكَ بِقَدْرِهِمَا بِأَلْفَيْ دِينَارٍ لِأَنَّهُ أَشْبَهُ بِالْقِيَمِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَبْقَى الْعَبْدُ عَلَى رِقِّهِ حَتَّى تَسْتَقِرَّ الْجِنَايَةُ ، إِمَّا بِالِانْدِمَالِ أَوْ بِالسِّرَايَةِ فَيَجِبُ عَلَى الْجَانِي إِنِ انْدَمَلَتْ أَلْفَا دِينَارٍ ، وَإِنْ سَرَتْ إِلَى النَّفْسِ فَمَاتَ أَلْفَا دِينَارٍ أَيْضًا ، وَيَسْتَوِي حُكْمُ الْجِنَايَةِ فِي الِانْدِمَالِ أَوِ السِّرَايَةِ ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِمَا قِيمَةٌ كَامِلَةٌ ، وَلَوْ فَقَأَ إِحْدَى عَيْنَيْهِ وَجَبَ فِيهَا نِصْفُ قِيمَتِهِ إِنِ انْدَمَلَتْ ، وَهُوَ أَلْفُ دِينَارٍ ، وَإِنْ سَرَتْ إِلَى نَفْسِهِ وَجَبَ فِيهَا جَمِيعُ قِيمَتِهِ وَهُوَ أَلْفَا دِينَارٍ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يُعْتِقَهُ السَّيِّدُ بَعْدَ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَسْتَقِرَّ الْجِنَايَةُ بِالِانْدِمَالِ فَيَجِبُ فِيهَا الْقِيمَةُ الْكَامِلَةُ أَلْفَا دِينَارٍ ، سَوَاءٌ كَانَ الْعِتْقُ قَبْلَ الِانْدِمَالِ أَوْ بَعْدَهُ لِأَنَّ مَا انْدَمَلَ وَلَمْ يَسْرِ - اعْتُبِرَ فِيهِ وَقْتُ الْجِنَايَةِ وَكَانَ الِانْدِمَالُ مُعْتَبَرًا فِي الِاسْتِقْرَارِ دُونَ الْوُجُوبِ ، كَمَا لَوْ فَقَأَ عَيْنَيْ نَصْرَانِيٍّ فَأَسْلَمَ ثُمَّ انْدَمَلَتْ عَيْنَاهُ وَجَبَ فِيهِمَا دِيَةُ نَصْرَانِيٍّ ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَ الِانْدِمَالِ مُسْلِمًا . كَذَلِكَ الْعَبْدُ إِذَا انْدَمَلَتْ عَيْنَاهُ بَعْدَ عِتْقِهِ وَجَبَ فِيهِمَا قِيمَتُهُ عَبْدًا ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَ الِانْدِمَالِ حُرًّا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَسْرِيَ الْجِنَايَةُ إِلَى نَفْسِهِ وَقَدْ أَعْتَقَهُ السَّيِّدُ قَبْلَ مَوْتِهِ فَيَجِبُ فِيهَا دِيَةُ حُرٍّ ، وَذَلِكَ أَلْفُ دِينَارٍ ، لِأَنَّهَا إِذَا سَرَتْ إِلَى النَّفْسِ اعْتُبِرَ بِهَا وَقْتُ السِّرَايَةِ دُونَ الْجِنَايَةِ ، لِدُخُولِ الْأَطْرَافِ فِي النَّفْسِ ، هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ . وَقَالَ الْمُزَنِيُّ : يَجِبُ فِيهَا أَلْفَا دِينَارٍ اعْتِبَارًا بِوَقْتِ الْجِنَايَةِ اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ السَّيِّدَ قَدْ مَلَكَ بِالْجِنَايَةِ أَلْفَيْ دِينَارٍ هِيَ قِيمَةُ عَبْدِهِ ، وَالْعِتْقُ الَّذِي هُوَ قُرْبَةٌ إِنْ لَمْ يَزِدْهُ خَيْرًا لَمْ يَزِدْهُ شَرًّا .
وَالثَّانِي : أَنَّ الِانْدِمَالَ غَايَةٌ كَالسِّرَايَةِ ، ثُمَّ كَانَ الِانْدِمَالُ بَعْدَ الْعِتْقِ يَقْتَضِي نَقْصَ قِيمَتِهِ ، كَذَلِكَ السِّرَايَةُ ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا اخْتَلَفَ الِانْدِمَالُ وَالسِّرَايَةُ فِي نُقْصَانِ الْقِيمَةِ ، وَجَبَ أَنْ يَخْتَلِفَا فِي زِيَادَةِ الْقِيمَةِ ، قِيمَتِهِ عَبْدًا ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قِيمَتُهُ مِائَةَ دِينَارٍ ثُمَّ انْدَمَلَتْ بَعْدَ عِتْقِهِ وَجَبَ فِيهَا مِائَةُ دِينَارٍ وَلَوْ سَرَتْ إِلَى نَفْسِهِ وَجَبَ فِيهَا أَلْفُ دِينَارٍ دِيَتُهُ حُرًّا ، كَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ أَلْفَا دِينَارٍ وَجَبَ فِيهَا إِذَا انْدَمَلَتْ أَلْفَانِ ، وَإِذَا سَرَتْ إِلَى النَّفْسِ أَلْفٌ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا اخْتَلَفَ الِانْدِمَالُ وَالسِّرَايَةُ فِي دِيَاتِ الْأَطْرَافِ حَتَّى لَوْ قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ ، وَجَبَ فِي الِانْدِمَالِ دِيَتَانِ ، وَفِي السِّرَايَةِ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَجَبَ أَنْ يَخْتَلِفَا فِي قَدْرِ الدِّيَةِ فَيَجِبُ إِذَا انْدَمَلَتْ أَلْفَا دِينَارٍ ، وَإِذَا سَرَتْ أَلْفٌ وَاحِدٌ ، وَهَذَا دَلِيلٌ وَانْفِصَالٌ ، وَالْخَيْرُ الْمُسْتَزَادُ بِالْعِتْقِ هُوَ الثَّوَابُ ، وَنُقْصَانُ الْقِيمَةِ فِيهِ لَيْسَ بِشَرٍّ ، وَإِنَّمَا هُوَ الْإِبْرَاءُ وَالْمَعُونَةُ فَصَارَ خَيْرًا أَيْضًا .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْوَاجِبَ فِيهَا بَعْدَ السِّرَايَةِ أَلْفُ دِينَارٍ ، وَإِنْ وَجَبَ بِالِانْدِمَالِ أَلْفَانِ فَهَذِهِ الْأَلِفُ مِلْكٌ لِلسَّيِّدِ الْمُعْتِقِ دُونَ وَرَثَةِ الْعَبْدِ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا كَانَتْ لِوَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ دُونَ النَّصَارَى ، لِأَنَّهُ مَاتَ مُسْلِمًا . قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ النَّصْرَانِيَّ كَانَ مَالِكًا لِلْأَرْشِ فِي الْجِنَايَةِ قَبْلَ إِسْلَامِهِ ، فَوُرِثَتْ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ مُسْلِمًا ، وَالْجِنَايَةُ عَلَى الْعَبْدِ كَانَتْ مِلْكًا لِسَيِّدِهِ ، فَلَمْ تُورَثْ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ حُرًّا . فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا جَعَلْتُمُوهَا بَيْنَ السَّيِّدِ وَالْوَرَثَةِ نِصْفَيْنِ لِأَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ بِجِنَايَةٍ فِي مِلْكِ السَّيِّدِ وَوَرَثَتِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ فِي مِلْكِ الْمُعْتِقِ ، فَيَكُونُ مَا قَابَلَ زَمَانَ الرِّقِّ مِلْكًا لِلسَّيِّدِ وَمَا قَابَلَ زَمَانَ الْعِتْقِ لِلْوَارِثِ كَمَا لَوْ كَسَبَ مَالًا فِي الْعِتْقِ وَمَالًا فِي الرِّقِّ كَانَ مَا كَسَبَهُ فِي الرِّقِّ لِسَيِّدِهِ ، وَمَا كَسَبَهُ فِي الْعِتْقِ لِوَارِثِهِ . قِيلَ : السِّرَايَةُ أَثَّرَتْ نُقْصَانًا فِي حَقِّ السَّيِّدِ . فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُشَارِكَهُ الْوَارِثُ وَلَوْ أَثَّرَتْ زِيَادَةً كَانَتْ لِلْوَارِثِ ، مِثْلَ أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهُ مِائَةَ دِينَارٍ ، وَقْتَ الْجِنَايَةِ ، ثُمَّ يَسْرِي بَعْدَ الْعِتْقِ إِلَى نَفْسِهِ فَيَجِبُ فِيهَا أَلْفُ دِينَارٍ دِيَتُهُ حُرًّا فَيَكُونُ لِلسَّيِّدِ مِنْهَا مِائَةُ دِينَارٍ هِيَ قِيمَتُهُ عَبْدًا وَالْبَاقِي وَهُوَ تِسْعُمِائَةِ دِينَارٍ لِوَرَثَتِهِ لِحُدُوثِهَا بَعْدَ عِتْقِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَوْ قُطِعَ يَدُ عَبْدٍ وَأُعْتِقَ ثَمَّ مَاتَ حكمه فَلَا قَوَدَ إِذَا كَانَ الْجَانِي حُرًّا مُسْلِمًا أَوْ نَصْرَانِيًّا حُرًّا أَوْ مُسْتَأْمَنًا حُرًّا وَعَلَى الْحُرِّ الدِّيَةُ كَامِلَةً فِي مَالِهِ ، لِلسَّيِّدِ مِنْهَا نِصْفُ قِيمَتِهِ يَوْمَ قَطْعِهِ وَالْبَاقِي لِوَرَثَتِهِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْقِصَاصِ حَالُ الْجِنَايَةِ ، وَالْمُعْتَبَرَ فِي
الدِّيَةِ حَالُ الِاسْتِقْرَارِ ، إِمَّا بِالِانْدِمَالِ أَوْ بِالسِّرَايَةِ إِلَى النَّفْسِ : لِأَنَّ الْمَقْطُوعَ كَانَ وَقْتَ الْجِنَايَةِ عَبْدًا ، وَعَلَى الْقَاطِعِ دِيَةُ حُرٍّ : لِأَنَّ الْمَقْطُوعَ مَاتَ حُرًّا ، وَلِلسَّيِّدِ مِنْهَا أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ عَبْدًا : لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ لَهُ وَقْتَ الْجِنَايَةِ أَكْثَرُ مِنْهَا ، أَوْ جَمِيعُ دِيَتِهِ حُرًّا : لِأَنَّ السِّرَايَةَ لَمْ تَسْتَقِرَّ فِي أَكْثَرَ مِنْهَا . وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : لِلسَّيِّدِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ عَبْدًا أَوْ نِصْفِ دِيَتِهِ حُرًّا . وَهَذَا زَلَلٌ مِنْ أَبِي عَلِيٍّ : لِأَنَّ الْجِنَايَةَ مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ ، وَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ . إِمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ بِهَا وَقْتُ الْجِنَايَةِ فَنِصْفُ الْقِيمَةِ قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ ، أَوْ يُعْتَبَرَ بِهَا وَقْتُ الْمَوْتِ فَجَمِيعُ الدِّيَةِ قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ أَوْ يُعْتَبَرَ بِهَا أَكْثَرُ الْأَمْرَيْنِ فَلَا يَجُوزُ ، وَهُوَ مَرْدُودٌ بِالِاتِّفَاقِ ، أَوْ يُعْتَبَرَ بِهَا أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ وَهُوَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْأَقَلُّ مَا وَجَبَ فِي الِابْتِدَاءِ ، وَهُوَ نِصْفُ الْقِيمَةِ أَوْ بِمَا اسْتَقَرَّ فِي الِانْتِهَاءِ ، وَهُوَ جَمِيعُ الدِّيَةِ . فَأَمَّا أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ أَوْ نِصْفِ الدِّيَةِ فَلَا يُعْتَبَرُ إِلَّا فِي جِنَايَةِ الِاثْنَيْنِ ، وَهُوَ أَنْ يَقْطَعَ حُرٌّ يَدَهُ قَبْلَ الْعِتْقِ وَيَقْطَعَ آخَرُ يَدَهُ الْأُخْرَى بَعْدَ الْعِتْقِ ، ثُمَّ يَمُوتَ فَتَكُونُ عَلَيْهِمَا دِيَةُ حُرٍّ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، وَلِلسَّيِّدِ مِنْهَا أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ ، أَوْ نِصْفِ دِيَتِهِ : لِأَنَّهُمَا جِنَايَتَانِ ، أَحَدُهُمَا فِي الرِّقِّ يَخْتَصُّ بِهَا السَّيِّدُ ، وَالْأُخْرَى فِي الْحُرِّيَّةِ ، يَخْتَصُّ بِهَا الْوَرَثَةُ . فَأَمَّا الْجَانِي الْوَاحِدُ فَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ إِلَّا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ ، أَوْ جَمِيعِ دِيَتِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ نِصْفُ قِيمَتِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ نِصْفُ قِيمَتِهِ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ دِيَتِهِ أَوْ مِثْلَهَا فَمَا دُونَ ، فَيَسْتَحِقُّ السَّيِّدُ نِصْفَ قِيمَتِهِ عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ ، وَيَكُونُ مَا بَقِيَ مِنْ دِيَتِهِ لِوَرَثَتِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ نِصْفُ قِيمَتِهِ يَزِيدُ عَلَى نِصْفِ دِيَتِهِ ، وَلَا تَزِيدُ عَلَى جَمِيعِهَا فَيَسْتَحِقُّ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ نِصْفَ قِيمَتِهِ لِأَنَّهُ أَقَلُّ مِنْ جَمِيعِ دِيَتِهِ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَسْتَحِقُّ نِصْفَ دِيَتِهِ : لِأَنَّهُ أَقَلُّ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ نِصْفُ قِيمَتِهِ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ دِيَتِهِ ، فَيَسْتَحِقُّ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ جَمِيعَ دِيَتِهِ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، يَسْتَحِقُّ نِصْفَ دِيَتِهِ . فَصْلٌ : وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَقْطَعَ حُرٌّ إِحْدَى يَدَيْ عَبْدٍ فَيُعْتَقُ ، ثُمَّ يَعُودُ الْحُرُّ الْجَانِي فَتُقْطَعُ إِحْدَى رِجْلَيْهِ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْقَطْعَيْنِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَنْدَمِلَا . وَالثَّانِي : أَنْ يَسْرِيَا إِلَى النَّفْسِ .
وَالثَّالِثُ : أَنْ يَنْدَمِلَ الْأَوَّلُ ، وَيَسْرِيَ الثَّانِي إِلَى النَّفْسِ . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَنْدَمِلَ الثَّانِي وَيَسْرِيَ الْأَوَّلُ إِلَى النَّفْسِ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ أَنْ يَنْدَمِلَ الْقَطْعَانِ فَالْأَوَّلُ مِنْهُمَا لَا قَوَدَ فِيهِ : لِأَنَّهَا جِنَايَةُ حُرٍّ عَلَى عَبْدٍ ، وَفِيهِ نِصْفُ قِيمَتِهِ قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ تَكُونُ لِسَيِّدِهِ ، وَإِنْ زَادَ عَلَى دِيَتِهِ حُرًّا : لِأَنَّ انْدِمَالَهَا يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ مَا وَجَبَ بِهَا وَقْتَ الْجِنَايَةِ . وَأَمَّا الْقَطْعُ الثَّانِي : فَفِيهِ الْقَوَدُ : لِأَنَّهَا جِنَايَةُ حُرٍّ عَلَى حُرٍّ ، فَإِنْ عَفَا عَنْهُ فَفِيهِ نِصْفُ دِيَتِهِ حُرًّا تَكُونُ لَهُ دُونَ سَيِّدِهِ فَيَصِيرُ الْجَانِي فِي هَذَا الْقِسْمِ ضَامِنًا بِالْقَطْعِ الْأَوَّلِ نِصْفَ الْقِيمَةِ دُونَ الْقِصَاصِ ، وَبِالْقَطْعِ الثَّانِي الْقِصَاصَ ، أَوْ نِصْفَ الدِّيَةِ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يَسْرِيَ الْقَطْعَانِ إِلَى نَفْسِهِ فَيَمُوتُ فِيهَا فَلَا قَوَدَ عَلَى الْجَانِي فِي النَّفْسِ لِخُرُوجِهَا بِسِرَايَةِ قَطْعَيْنِ ، لَا قِصَاصَ فِي سِرَايَةِ أَحَدِهِمَا فَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ فِي سِرَايَةِ الْآخَرِ ، كَمَا لَوْ عَفَا أَحَدُ الْوَلِيَّيْنِ سَقَطَ الْقِصَاصُ فِي حَقِّهَا ، وَعَلَى الْجَانِي دِيَةُ حُرٍّ : لِاسْتِقْرَارِهَا بَعْدَ السِّرَايَةِ فِي حُرٍّ ، فَإِنْ أَرَادَ الْمَوْلَى أَنْ يَقْتَصَّ مِنَ القَطْعِ الثَّانِي فِي الْحُرِّيَّةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ لَا قِصَاصَ لَهُ فِيهِ لِدُخُولِهِ بِالسِّرَايَةِ فِي نَفْسٍ لَا يُسْتَحَقُّ فِيهَا قَوَدٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ يُسْتَحَقُّ فِيهِ الْقِصَاصُ وَإِنْ سَقَطَ الْقَوَدُ فِي النَّفْسِ لِتَمْيِيزِهَا فِي الْقَطْعِ ، وَإِنِ اشْتَرَكَا فِي النَّفْسِ . فَإِنْ قِيلَ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ يَسْقُطُ الْقِصَاصُ فِي الطَّرَفِ لِسُقُوطِهِ فِي النَّفْسِ وَجَبَ الدِّيَةُ ، وَكَانَ لِلسَّيِّدِ مِنْهُمَا أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ ، أَوْ نِصْفِ دِيَتِهِ وَجْهًا وَاحِدًا ، بِخِلَافِهِ لَوْ تَفَرَّدَ بِالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ قَبْلَ عِتْقِهِ : لَأَنَّ نِصْفَ الْجِنَايَةِ هَاهُنَا فِي حَالِ الرِّقِّ وَنِصْفَهَا بَعْدَ الْعِتْقِ ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ إِلَّا أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ أَوْ نِصْفِ الدِّيَةِ ، وَيَكُونُ الْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ وَلَعَلَّ ابْنَ أَبِي هُرَيْرَةَ خَالَفَ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ حَمْلًا عَلَى هَذِهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَاضِحٌ . وَإِنْ قِيلَ بِالْوَجْهِ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ الْقِصَاصُ فِي الطَّرَفِ الثَّانِي ، وَإِنْ سَقَطَ فِي النَّفْسِ فَهُوَ مُسْتَحَقٌّ لِلْوَارِثِ دُونَ السَّيِّدِ ، فَإِنِ اقْتَصَّ مِنْهُ فَقَدِ اسْتَوْفَى بِهِ نِصْفَ الدِّيَةِ ، وَإِنْ كَانَ مَا أَخَذَهُ السَّيِّدُ مِنْ أَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ هُوَ نِصْفُ الدِّيَةِ ، فَقَدِ اسْتَوْفَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ السَّيِّدِ وَالْوَارِثِ حَقَّهُ ، وَإِنْ كَانَ السَّيِّدُ قَدْ أَخَذَ نِصْفَ الْقِيمَةِ : لِأَنَّهُ أَقَلُّ مِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ كَانَ زَائِدًا عَلَيْهِ مَنْ نِصْفِ الدِّيَةِ رَاجِعًا عَلَى الْوَارِثِ : لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ حَدَثَتْ بِالْحُرِّيَّةِ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يَنْدَمِلَ الْقَطْعُ الْأَوَّلُ ، وَيَسْرِيَ الثَّانِي إِلَى النَّفْسِ ،
فَعَلَى الْجَانِي فِي الْقَطْعِ الْأَوَّلِ نِصْفُ الْقِيمَةِ قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ لِانْدِمَالِهَا فِي عَبْدٍ وَلَا قِصَاصَ فِيهَا : لِأَنَّهَا جِنَايَةُ حُرٍّ عَلَى عَبْدٍ . وَعَلَيْهِ فِي الْقَطْعِ الثَّانِي الْقَوَدُ فِي الْمَسْحِ لِسِرَايَتِهِ إِلَيْهَا ، وَأَنَّهَا مِنْ حُرٍّ إِلَى حُرٍّ ، فَإِنْ عَفَا عَنْهُ فَعَلَيْهِ جَمِيعُ الدِّيَةِ لِاسْتِقْرَارِهَا فِي نَفْسِ حُرٍّ ، فَيَصِيرُ بِالْقَطْعَيْنِ مُلْتَزِمًا لِنِصْفِ الْقِيمَةِ وَجَمِيعِ الدِّيَةِ ، يَخْتَصُّ السَّيِّدُ بِنِصْفِ الدِّيَةِ وَالْوَرَثَةُ بِجَمِيعِ الدِّيَةِ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ : وَهُوَ أَنْ يَنْدَمِلَ الْقَطْعُ الثَّانِي ، وَيَسْرِيَ الْقَطْعُ الْأَوَّلُ فِي النَّفْسِ ، فَفِي الْقَطْعِ الثَّانِي نِصْفُ الدِّيَةِ وَفِيهِ الْقِصَاصُ وَجْهًا وَاحِدًا ، لِاسْتِقْرَارِهَا مِنْ حُرٍّ عَلَى حُرٍّ . فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ صَارَ نَفْسًا فَلَا قِصَاصَ فِيهِ : لِأَنَّهَا جِنَايَةُ حُرٍّ عَلَى عَبْدٍ ، وَفِيهِ دِيَةُ حُرٍّ لِاسْتِقْرَارِهَا فِي حُرٍّ ، يَكُونُ لِلسَّيِّدِ مِنْهَا الْأَقَلُّ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ أَوْ نِصْفِ دِيَتِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَوْ قَطَعَ ثَانٍ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ رِجْلَهُ وَثَالِثٌ بَعْدَهُمَا يَدَهُ فَمَاتَ حكمه فَعَلَيْهِمْ دِيَةُ حُرٍّ وَفِيمَا لِلسَّيِّدِ مِنَ الدِّيَةِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ لَهُ الْأَقَلَّ مِنْ ثُلُثِ الدِّيَةِ وَنِصْفَ قِيمَتِهِ عَبْدًا وَلَا يُجْعَلُ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ عَبْدًا وَلَوْ كَانَ لَا يَبْلُغُ إِلَّا بَعِيرًا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ جِنَايَةٌ غَيْرُهَا وَلَا يُجَاوَزُ بِهِ ثُلُثُ دِيَةِ حُرٍّ وَلَوْ كَانَ نِصْفُ قِيمَتِهِ مِائَةَ بَعِيرٍ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ تَنْقُصُ بِالْمَوْتِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّ لِسَيِّدِهِ الْأَقَلَّ مِنْ ثُلُثِ قِيمَتِهِ عَبْدًا أَوْ ثُلُثِ دِيَتِهِ حُرًّا لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ جِنَايَةٍ ثَالِثَةٍ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَدْ قَطَعَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُ لَوْ جَرَحَهُ مَا الْحُكُومَةُ فِيهِ بَعِيرٌ وَلَزِمَهُ بِالْحُرِّيَّةِ وَمَنْ شَرَكَهُ عَشْرٌ مِنَ الإِبِلِ لَمْ يَأْخُذِ السَّيِّدُ إِلَّا الْبَعِيرَ الَذِي وَجَبَ بِالْجُرْحِ وَهُوَ عَبْدُهُ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : فَهَذَا أَقْيَسُ بِقَوْلِهِ وَأَوْلَى عِنْدِي بِأَصْلِهِ وَإِنْ لَمْ يَزِدْهُ عَلَى بَعِيرٍ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِالْجُرْحِ وَهُوَ عَبْدُهُ فَفِي الْقِيَاسِ أَنْ لَا يُنْقِصَهُ وَإِنْ جَاوَزَ عَقْلَ حُرٍّ لِأَنَّهُ وَجَبَ لَهُ بِالْجُرْحِ وَهُوَ عَبْدٌ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي عَدَدٍ مِنَ الأَحْرَارِ جَنَوْا عَلَى مُعْتَقٍ بَعْضُهُمْ فِي الرِّقِّ ، وَبَعْضُهُمْ بَعْدَ الْعِتْقِ حكمهم فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَا اثْنَيْنِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونُوا أَكْثَرَ مِنِ اثْنَيْنِ . فَإِنْ كَانَ الْجَانِي عَلَيْهِ اثْنَيْنِ فَقَطَعَ أَحَدُهُمَا فِي حَالِ الرِّقِّ إِحْدَى يَدَيْهِ ، وَقَطَعَ الْآخَرُ بَعْدَ الْعِتْقِ إِحْدَى رِجْلَيْهِ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْقَطْعَيْنِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَنْدَمِلَا فَيَكُونُ الْأَوَّلُ قَاطِعًا فِي الرِّقِّ فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ ، وَعَلَيْهِ نِصْفُ الْقِيمَةِ ، قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ تَكُونُ لِسَيِّدِهِ ، لِأَنَّهَا جِنَايَةُ حُرٍّ عَلَى عَبْدٍ ، وَالْقَاطِعُ الثَّانِي عَلَيْهِ
الْقَوَدُ فَإِنْ عَفَا عَنْهُ فَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ تَكُونُ لِلْمُعْتَقِ : لِأَنَّهَا جِنَايَةُ حُرٍّ عَلَى حُرٍّ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَنْدَمِلَ الْقَطْعُ الْأَوَّلُ ، وَيَسْرِي الثَّانِي إِلَى النَّفْسِ ، فَيَكُونُ عَلَى الْأَوَّلِ نِصْفُ الْقِيمَةِ لِسَيِّدِهِ دُونَ الْقِصَاصِ ، وَعَلَى الثَّانِي الْقَوَدُ فِي النَّفْسِ أَوِ الدِّيَةُ لِوَرَثَتِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَنْدَمِلَ الْقَطْعُ الثَّانِي ، وَيَسْرِيَ الْأَوَّلُ إِلَى النَّفْسِ ، فَيَكُونُ فِي الْقَطْعِ الثَّانِي الْقَوَدُ ، لِأَنَّهُ مِنْ حُرٍّ عَلَى حُرٍّ ، فَإِنْ عَفَا عَنْهُ فَفِيهِ نِصْفُ الدِّيَةِ لِوَرَثَةِ الْمُعْتَقِ لِاسْتِحْقَاقِهِمَا بَعْدَ الْعِتْقِ . وَأَمَّا الْقَطْعُ الْأَوَّلُ فَقَدْ صَارَ نَفْسًا وَجَبَتْ فِيهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً لِاسْتِقْرَارِهَا فِي حُرٍّ ، وَلِلسَّيِّدِ مِنْهَا أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنَ القِيمَةِ أَوِ الدِّيَةِ ، كَمَا لَوْ تَفَرَّدَ الْأَوَّلُ بِقَطْعِهِ دُونَ الثَّانِي ، وَلَهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ جَمِيعِ قِيمَتِهِ أَوْ نِصْفِ دِيَتِهِ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنَّ يَسْرِيَ الْقَطْعَانِ إِلَى نَفْسِهِ فَيَمُوتَ ، فَالْكَلَامُ فِي فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي الْقِصَاصِ . وَالثَّانِي : فِي الدِّيَةِ . فَأَمَّا الْقِصَاصُ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْأَوَّلِ الْقَاطِعِ فِي الرِّقِّ قِصَاصٌ فِي الْيَدِ ، وَلَا قَوَدٌ فِي النَّفْسِ ، لِأَنَّهُ قَاطِعٌ فِي الرِّقِّ فَتَبِعَهُ حُكْمُ السِّرَايَةِ بَعْدَ الْعِتْقِ ، لِأَنَّهَا لَمَّا لَمْ تُضْمَنْ جِنَايَتُهُ بِالْقِصَاصِ لَمْ تُضْمَنْ سِرَايَتُهُ بِالْقَوَدِ . كَمَا أَنَّ مَا لَمْ تُضْمَنْ جِنَايَتُهُ بِالْأَرْشِ لَمْ تُضْمَنْ سِرَايَتُهُ بِالدِّيَةِ . وَأَمَّا الْقَاطِعُ الثَّانِي بَعْدَ الْعِتْقِ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الرِّجْلِ وَالْقَوَدُ فِي النَّفْسِ ، لِأَنَّهَا جِنَايَةُ حُرٍّ عَلَى حُرٍّ فِي حَالِ الْقَطَعِ وَالسِّرَايَةِ . وَقَالَ أَبُو الطَّيِّبِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ : عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الرِّجْلِ وَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ فِي النَّفْسِ ، لِأَنَّ النَّفْسَ تَلِفَتْ بِسِرَايَةِ جُرْحَيْنِ مُمْتَزِجَيْنِ فَأَوْجَبَ سُقُوطُ الْقَوَدِ فِي أَحَدِهِمَا سُقُوطَهُ فِي الْآخَرِ كَاشْتِرَاكِ الْعَامِدِ وَالْخَاطِئِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ بِاشْتِرَاكِ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ فِي قَتْلِ عَبْدٍ ، وَالْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ فِي قَتْلِ الْكَافِرِ ، لَا يَكُونُ سُقُوطُ الْقَوَدِ عَنِ الْحُرِّ وَالْمُسْلِمِ مُوجِبًا لِسُقُوطِهِ عَنِ الْعَبْدِ وَالْكَافِرِ ، لِأَنَّهُمَا تَسَاوَيَا فِي الْفَضْلِ ، وَاخْتَلَفَا فِي الْكَفَّارَةِ كَذَلِكَ فِي سِرَايَةِ الْقَطْعِ ، وَخَالَفَ اشْتِرَاكَ الْعَامِدِ وَالْخَاطِئِ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْفَضْلِ . وَأَمَّا الدِّيَةُ فَعَلَيْهِمَا دِيَةُ حُرٍّ لِاسْتِقْرَارِ جِنَايَتِهَا فِي حُرٍّ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهَا ، وَلَا يَتَحَمَّلُ الْقَاطِعُ فِي الرِّقِّ أَقَلَّ مِمَّا يَتَحَمَّلُهُ الْقَاطِعُ بَعْدَ الْعِتْقِ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ مَا يَتَحَمَّلَانِهِ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي رِقِّهِ وَحُرِّيَّتِهِ : كَمَا لَوْ قَطَعَا
عَبْدًا فِي الْحَالَتَيْنِ كَانَ عَلَى الْأَوَّلِ نِصْفُ قِيمَتِهِ سَلِيمًا ، وَعَلَى الثَّانِي نِصْفُ قِيمَتِهِ مَقْطُوعًا . قُلْنَا : لِأَنَّ قِيمَةَ الْعَبْدِ تَخْتَلِفُ بِالسَّلَامَةِ وَالنُّقْصَانِ ، وَدِيَةَ الْحُرِّ لَا تَخْتَلِفُ بِالسَّلَامَةِ وَالنُّقْصَانِ ، فَلِذَلِكَ تَسَاوَيَا فِي دِيَةِ الْحُرِّ وَتَفَاضَلَا فِي قِيمَةِ الْعَبْدِ . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الدِّيَةَ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ فَهِيَ بَيْنَ السَّيِّدِ وَالْوَرَثَةِ ، لِحُدُوثِ الْجِنَايَةِ فِي رِقٍّ وَحُرِّيَّةٍ ، وَلِلسَّيِّدِ مِنْهَا أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ أَوْ نِصْفِ الدِّيَةِ ، فَإِنْ كَانَ نِصْفُ الدِّيَةِ أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ اسْتَوْفَى مِنَ القَاطِعِينَ الدِّيَةَ إِبِلًا وَأَعْطَى السَّيِّدَ نِصْفَهَا إِبِلًا ، وَلِلْوَرَثَةِ نِصْفَهَا إِبِلًا . وَهَلْ يَخْتَصُّ السَّيِّدُ بِالنِّصْفِ الَّذِي عَلَى الْقَاطِعِ الْأَوَّلِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مُحْتَمَلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَخْتَصُّ بِهِ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْجِنَايَةِ فِي مِلْكِهِ ، فَيَكُونُ النِّصْفُ الَّذِي عَلَى الْقَاطِعِ الْأَوَّلِ لِلسَّيِّدِ ، وَالنِّصْفُ الَّذِي عَلَى الْقَاطِعِ الثَّانِي لِلْوَرَثَةِ ، وَلَا يَقَعُ اشْتِرَاكٌ بَيْنَ السَّيِّدِ وَالْوَرَثَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُمَا مُشْتَرِكَانِ فِيهِمَا عَلَى الْقَاطِعَيْنِ ، وَلَا يَخْتَصُّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِمَا عَلَى أَحَدِهِمَا : لِأَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي قَتْلِ نَفْسٍ مُشْتَرَكَةٍ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْدَلَ بِالسَّيِّدِ عَنْ نِصْفِ الدِّيَةِ مِنَ الإِبِلِ إِلَى نِصْفِ الْقِيمَةِ إِلَّا عَنْ مُرَاضَاةٍ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الإِبِلِ مُسْتَحَقَّةً فِي قِيَمِ الْعَبِيدِ ، لِأَنَّهُ صَارَ مَعْدُولًا بِهِ عَنِ الْقِيمَةِ إِلَى الدِّيَةِ ، وَجَبَ أَنْ يَعْدِلَهُ بِهِ عَنْ جِنْسِ الْقِيمَةِ إِلَى جِنْسِ الدِّيَةِ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ نِصْفُ الْقِيمَةِ وَجَبَ أَنْ يَأْخُذَ السَّيِّدُ مِنْ إِبِلِ الدِّيَةِ نِصْفَ قِيمَةِ عَبْدِهِ وَرِقًا أَوْ ذَهَبًا ، فَإِنْ عَدَلَ إِلَى الْإِبِلِ لَمْ يَجُزْ إِلَّا عَنْ مُرَاضَاةٍ : لِأَنَّ حَقَّهُ مِنْ غَيْرِهَا . فَإِنْ قِيلَ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنَّ حَقَّهُ مُخْتَصٌّ بِالْجَانِي الْأَوَّلِ رَجَعَ عَلَيْهِ بِنِصْفِ قِيمَةِ عَبْدِهِ ، وَقَوَّمَ بِهَا مِنَ الإِبِلِ مَا قَابَلَهَا ، وَدَفَعَ مَا بَقِيَ مِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ مَعَ جَمِيعِ النِّصْفِ الْآخَرِ إِلَى الْوَرَثَةِ ، وَإِنْ قِيلَ بِالْوَجْهِ الثَّانِي أَنَّ السَّيِّدَ وَالْوَرَثَةَ مُشْتَرِكَانِ فِيمَا عَلَى الْقَاطِعَيْنِ أُخِذَتْ مِنْهُمَا الدِّيَةُ إِبِلًا ، وَكَانَ السَّيِّدُ شَرِيكًا فِيهَا لِلْوَارِثِ بِنِصْفِ قِيمَةِ عَبْدِهِ ، وَالْوَارِثُ بِالْخِيَارِ فِي أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ نِصْفَ الْقِيمَةِ مِنْ مَالِهِ ، وَيَأْخُذَ جَمِيعَ الدِّيَةِ ، وَبَيْنَ أَنْ يَبِيعَ مِنْهَا بِقَدْرِ نِصْفِ الْقِيمَةِ وَيَأْخُذَ الْبَاقِيَ ، فَإِنْ أَرَادَ الْوَارِثُ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى السَّيِّدِ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ إِبِلًا لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا عَنْ مُرَاضَاةٍ ، لِأَنَّ حَقَّهُ فِي غَيْرِهَا ، فَهَذَا حُكْمُ الْجِنَايَةِ إِذَا كَانَتْ مِنِ اثْنَيْنِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا إِذَا كَانَ عَدَدُ الْجُنَاةِ أَكْثَرَ مِنِ اثْنَيْنِ كَالثَّلَاثَةِ فَصَاعِدًا حكم جنايتهم ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ الْجُنَاةُ فِي الرِّقِّ أَقَلَّ مِنَ الجُنَاةِ بَعْدَ الْعِتْقِ .
وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْجُنَاةُ فِي الرِّقِّ أَكْثَرَ مِنَ الجُنَاةِ بَعْدَ الْعِتْقِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَتَسَاوَى عَدَدُهُمْ فِي الرِّقِّ ، وَبَعْدَ الْعِتْقِ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ إِذَا كَانُوا فِي الرِّقِّ أَقَلَّ ، فَهُوَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ . وَصُورَتُهَا : أَنْ يَقْطَعَ حُرٌّ يَدَهُ فِي حَالِ الرِّقِّ ، ثُمَّ يُعْتَقَ ، فَيَقْطَعَ ثَانٍ يَدَهُ الْأُخْرَى ، وَيَقْطَعَ ثَالِثٌ إِحْدَى رِجْلَيْهِ ، وَتَسْرِي الْجِنَايَاتُ الثَّلَاثُ إِلَى نَفْسِهِ فَيَمُوتُ ، فَالْجَانِي فِي حَالِ الرِّقِّ لَا قَوَدَ عَلَيْهِ فِي نَفْسٍ وَلَا طَرَفٍ : لِأَنَّهُ جِنَايَةُ حُرٍّ عَلَى عَبْدٍ . وَأَمَّا الْجَانِيَانِ بَعْدَ الْعِتْقِ فَعَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ فِي الطَّرَفِ ، وَالْقَوَدُ فِي النَّفْسِ ، لِأَنَّهَا جِنَايَةُ حُرٍّ عَلَى حُرٍّ . وَعِنْدَ أَبِي الطَّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْ طَرَفِهِ ، وَلَا يُقَادُ مِنْ نَفْسِهِ . وَقَدْ رَدَدْنَا عَلَيْهِ . فَأَمَّا الدِّيَةُ فَعَلَى الثَّلَاثَةِ دِيَةُ حُرٍّ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ ، مُشْتَرِكٌ فِي الْتِزَامِهَا الْجَانِي فِي الرِّقِّ ، وَالْجَانِيَانِ بَعْدَ الْعِتْقِ . وَهُمَا لِلسَّيِّدِ مِنْهُمَا قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ : أَحَدُهُمَا : لَهُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ عَبْدًا أَوْ ثُلُثِ دِيَتِهِ لِحُرٍّ : لِأَنَّ الْجِنَايَةَ فِي مِلْكِهِ بِقَطْعِ يَدِهِ أَوْجَبَتْ نِصْفَ قِيمَتِهِ ، فَإِنْ حَدَثَ لَهُ بِالسِّرَايَةِ زِيَادَةٌ لَمْ يَمْلِكْهَا لِزَوَالِ مِلْكِهِ عِنْدَ وُجُوبِهَا ، وَإِنْ حَدَثَ نُقْصَانٌ عَادَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ جَنَى عَلَيْهِ جِنَايَاتٍ تُوجِبُ قِيَمًا ثُمَّ سَرَتْ إِلَى نَفْسِهِ وَجَبَ قِيمَةٌ وَاِحِدَةٌ ، وَعَادَ الْبَعْضُ عَلَيْهِ كَذَلِكَ هَاهُنَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لِلسَّيِّدِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ ثُلُثِ قِيمَتِهِ عَبْدًا ، أَوْ ثُلُثِ دِيَتِهِ حُرًّا : لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْجِنَايَاتِ إِذَا صَارَتْ نَفْسًا سَقَطَ اعْتِبَارُ أُرُوشِهَا ، كَمَا لَوْ جَرَحَهُ أَحَدُهُمَا مُوضِحَةً ، وَالْآخَرُ جَائِفَةً وَمَاتَ كَانَا فِي دِيَتِهِ سَوَاءً . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا اعْتُبِرَ أَعْدَادُ الْجُنَاةِ فِيمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ حكمه ، وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ أَعْدَادُهُمْ فِيمَنْ يَسْتَحِقُّ لِلدِّيَةِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا ، وَجَنَى عَلَيْهِ رَابِعٌ بَعْدَ الْعِتْقِ وَجَبَتِ الدِّيَةُ عَلَى أَرْبَعَةٍ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ . وَفِيمَا لِلسَّيِّدِ مِنْهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَهُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ عَبْدًا أَوْ رُبْعِ دِيَتِهِ حُرًّا ، اعْتِبَارًا بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ . وَالثَّانِي : لَهُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رُبْعِ قِيمَتِهِ عَبْدًا ، أَوْ رُبُعِ دِيَتِهِ حُرًّا اعْتِبَارًا ، وَلَوْ كَانَ
مَعَ الرَّابِعِ خَامِسٌ لَكَانَ لَهُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ عَبْدًا ، أَوْ خُمُسِ دِيَتِهِ حُرًّا ، اعْتِبَارًا بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ . وَلَهُ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ خُمُسِ قِيمَتِهِ عَبْدًا ، أَوْ خُمُسِ دِيَتِهِ حُرًّا : اعْتِبَارًا بِأَعْدَادِ الْجُنَاةِ . وَلَوْ كَانَ الْجَانِي الْأَوَّلُ قَطَعَ فِي الرِّقِّ إِحْدَى أَصَابِعِهِ ، ثُمَّ أُعْتِقَ ، فَقَطَعَ ثَانٍ بَعْدَ الْعِتْقِ يَدَهُ ، وَقَطَعَ ثَالِثٌ رِجْلَهُ ، ثُمَّ مَاتَ . فَفِيمَا لِلسَّيِّدِ مِنَ الدِّيَةِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَهُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ عُشْرِ قِيمَتِهِ عَبْدًا ، أَوْ ثُلُثِ دِيَتِهِ حُرًّا : اعْتِبَارًا بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ ، لِأَنَّ فِي الْإِصْبَعِ عُشْرَ الْقِيمَةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَهُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ ثُلُثِ قِيمَتِهِ عَبْدًا ، أَوْ ثُلُثِ دِيَتِهِ حُرًّا ، اعْتِبَارًا بِأَعْدَادِ الْجُنَاةِ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْجُنَاةُ فِي الرِّقِّ أَكْثَرَ مِنْهُمْ بَعْدَ الْعِتْقِ ، فَصُورَتُهُ أَنْ يَقْطَعَ حُرٌّ إِحْدَى يَدَيْهِ فِي الرِّقِّ ، ثُمَّ يَقْطَعُ ثَانٍ إِحْدَى رِجْلَيْهِ ، ثُمَّ يُعْتَقُ فَيَقْطَعُ ثَالِثٌ يَدَهُ الْأُخْرَى ، ثُمَّ تَسْرِي إِلَى نَفْسِهِ فَيَمُوتُ ، فَعَلَى الثَّلَاثَةِ الدِّيَةُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ . وَفِيمَا لِلسَّيِّدِ مِنْهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ جَمِيعِ قِيمَتِهِ عَبْدًا ، أَوْ ثُلُثَيْ دِيَتِهِ حُرًّا ، اعْتِبَارًا بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ لِأَنَّ فِي إِحْدَى الْيَدَيْنِ وَإِحْدَى الرِّجْلَيْنِ قِيمَتَهُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَهُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ ثُلْثَيْ قِيمَتِهِ عَبْدًا أَوْ ثُلُثَيْ دِيَتِهِ حُرًّا ، اعْتِبَارًا بِأَعْدَادِ الْجُنَاةِ : لِأَنَّ فِي الرِّقِّ مِنَ الثَّلَاثَةِ اثْنَيْنِ ، وَبَعْدَ الْعِتْقِ وَاحِدًا . وَلَوْ جَنَى عَلَيْهِ فِي الرِّقِّ ثَلَاثَةٌ : قَطَعَ أَحَدُهُمْ إِحْدَى يَدَيْهِ ، وَقَطَعَ الْآخَرُ يَدَهُ الْأُخْرَى ، وَقَطَعَ الثَّالِثُ إِحْدَى رِجْلَيْهِ ، ثُمَّ أُعْتِقَ فَقَطَعَ رَابِعٌ بَعْدَ الْعِتْقِ رِجْلَهُ الْأُخْرَى ، وَمَاتَ . فَفِيمَا لِلسَّيِّدِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَهُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ جَمِيعِ قِيمَتِهِ عَبْدًا ، أَوْ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ دِيَتِهِ حُرًّا اعْتِبَارًا بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ وَجَبَ لِجِنَايَاتِ الرِّقِّ قِيمَةٌ وَنِصْفٌ ، فَهَلَّا أَوْجَبْتُمُوهَا لَهُ إِذَا اعْتَبَرْتُمْ أَرْشَ الْجِنَايَةِ . قُلْنَا : لِأَنَّهَا إِذَا صَارَتْ نَفْسًا بَطَلَ اعْتِبَارُ مَا زَادَ عَلَى الْقِيمَةِ فَلِذَلِكَ سَقَطَ حُكْمُهُمَا .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَهُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ قِيمَتِهِ عَبْدًا ، أَوْ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ دِيَتِهِ حُرًّا ، اعْتِبَارًا بِأَعْدَادِ الْجُنَاةِ . وَلَوْ قَطَعَ الْأَوَّلُ فِي الرِّقِّ إِحْدَى أَصَابِعِهِ ، وَقَطَعَ ثَانٍ إِصْبَعًا ثَانِيَةً ، ثُمَّ أُعْتِقَ ، فَقَطَعَ ثَالِثٌ إِصْبَعًا ثَالِثَةً ، ثُمَّ مَاتَ ، وَجَبَتْ عَلَيْهِمُ الدِّيَةُ . وَفِيمَا لِلسَّيِّدِ مِنْهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَهُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ خُمْسِ قِيمَتِهِ عَبْدًا ، أَوْ ثُلْثَيْ دِيَتِهِ حُرًّا اعْتِبَارًا بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَهُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ ثُلْثَيِ الْقِيمَةِ ، أَوْ ثُلْثَيِ الدِّيَةِ اعْتِبَارًا بِأَعْدَادِ الْجُنَاةِ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يَسْتَوِيَ أَعْدَادُ الْجُنَاةِ فِي الرِّقِّ وَبَعْدَ الْعِتْقِ . وَصُورَتُهُ : أَنْ يَقْطَعَ إِحْدَى يَدَيْهِ فِي الرِّقِّ ، وَيَقْطَعَ ثَانٍ يَدَهُ الْأُخْرَى ثُمَّ يُعْتَقُ ، فَيَقْطَعَ ثَالِثٌ إِحْدَى رِجْلَيْهِ ، وَيَقْطَعَ رَابِعٌ رِجْلَهُ الْأُخْرَى ، ثُمَّ يَمُوتُ ، فَعَلَيْهِمُ الدِّيَةُ ، وَفِيمَا لِلسَّيِّدِ مِنْهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَهُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ جَمِيعِ قِيمَتِهِ عَبْدًا ، أَوْ نِصْفِ دِيَتِهِ حُرًّا اعْتِبَارًا بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ ، لِأَنَّ فِي الْيَدَيْنِ الْقِيمَةَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَهُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ عَبْدًا ، أَوْ نِصْفِ دِيَتِهِ حُرًّا ، اعْتِبَارًا بِأَعْدَادِ الْجُنَاةِ ، لِأَنَّ فِي الرِّقِّ مِنْهُمُ اثْنَيْنِ ، وَفِي الْحُرِّيَّةِ اثْنَيْنِ . وَلَوْ قَطَعَ الْأَوَّلُ فِي الرِّقِّ إِحْدَى أَصَابِعِهِ ، وَقَطَعَ الثَّانِي إِحْدَى رِجْلَيْهِ ، ثُمَّ أُعْتِقَ ، فَقَطَعَ الثَّالِثُ رِجْلَهُ الْأُخْرَى ، وَقَطَعَ الرَّابِعُ يَدَهُ الْأُخْرَى وَمَاتَ ، فَفِيمَا لِلسَّيِّدِ مِنْهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَهُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَخْمَاسِ قِيمَتِهِ عَبْدًا ، أَوْ نِصْفِ دِيَتِهِ حُرًّا ، اعْتِبَارًا بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ ، لِأَنَّ فِي الْإِصْبَعِ عُشْرَ الْقِيمَةِ ، وَفِي الْيَدِ نِصْفَهَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَهُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ عَبْدًا ، أَوْ نِصْفِ دِيَتِهِ حُرًّا ، اعْتِبَارًا بِأَعْدَادِ الْجُنَاةِ ، لِأَنَّ فِي الرِّقِّ مِنْهُمُ اثْنَيْنِ وَفِي الْحُرِّيَّةِ اثْنَيْنِ . وَلَوْ قَطَعَ الْأَوَّلُ فِي الرِّقِّ إِحْدَى أَصَابِعِهِ ، وَقَطَعَ الثَّانِي إِحْدَى رِجْلَيْهِ ، ثُمَّ أُعْتِقَ فَقَطَعَ الثَّالِثُ رِجْلَهُ الْأُخْرَى ، وَقَطَعَ الرَّابِعُ يَدَهُ الْأُخْرَى ، وَمَاتَ فَفِيمَا لِلسَّيِّدِ مِنْهَا قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَخْمَاسِ قِيمَتِهِ عَبْدًا ، أَوْ نِصْفِ دِيَتِهِ حُرًّا ، اعْتِبَارًا بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ ، لِأَنَّ فِي الْإِصْبَعِ عُشْرَ الْقِيمَةِ وَفِي الرِّجْلِ نِصْفَهَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَهُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ عَبْدًا ، أَوْ نِصْفِ دِيَتِهِ حُرًّا ، اعْتِبَارًا بِأَعْدَادِ الْجُنَاةِ ، لِأَنَّ فِي الرِّقِّ مِنْهُمُ اثْنَيْنِ وَفِي الْحُرِّيَّةِ اثْنَيْنِ ، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ .
فَصْلٌ : وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ فَرْعٌ يُحْمَلُ عَلَيْهِ نَظَائِرُهُ . وَصُورَتُهُ : فِي حُرٍّ قَطَعَ إِحْدَى يَدَيْ عَبْدٍ ، ثُمَّ أُعْتِقَ : فَقَطَعَ ثَانٍ يَدَهُ الْأُخْرَى ، ثُمَّ ذُبِحَ الْمَقْطُوعُ فَمَاتَ تَوْجِئَةً بِالذَّبْحِ . فَلَا يَخْلُو حَالُ الذَّابِحِ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَاطِعَ الْأَوَّلَ فَقَدْ صَارَ بِالذَّبْحِ قَاطِعًا لِسِرَايَةِ الْقَاطِعِ الثَّانِي سَوَاءٌ انْدَمَلَ قَطْعُهُ ، أَوْ لَمْ يَنْدَمِلْ ، فَيَجِبُ عَلَى الثَّانِي لِلْوَارِثِ دُونَ السَّيِّدِ الْقِصَاصُ فِي الْيَدِ ، أَوْ نِصْفُ الدِّيَةِ ، لِأَنَّهُ قَطَعَهُ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ . وَأَمَّا الْأُولَى فَقَدْ قَطَعَ ثُمَّ ذَبَحَ فَيُعْتَبَرُ الْقَطْعُ ، فَإِنْ كَانَ قَدِ انْدَمَلَ قَبْلَ الذَّبْحِ اسْتَقَرَّ حُكْمُهُ وَوَجَبَ فِيهِ لِلسَّيِّدِ نِصْفُ الْقِيمَةِ دُونَ الْقَوَدِ ، لِأَنَّهَا جِنَايَةُ حُرٍّ عَلَى عَبْدٍ ، وَوَجَبَ عَلَى الْقَاطِعِ بِذَبْحِهِ الْقَوَدُ فِي النَّفْسِ لِلْوَارِثِ ، فَإِنْ عَفَا فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ : لِأَنَّهَا جِنَايَةُ حُرٍّ عَلَى حُرٍّ ، وَإِنْ لَمْ يَنْدَمِلْ قَطْعُهُ حَتَّى ذَبَحَهُ سَقَطَ الْقِصَاصُ فِي الْقَطْعِ ، لِأَنَّهُ حُرٌّ جَنَى عَلَى عَبْدٍ ، وَدَخَلَ أَرْشُهُ فِي دِيَةِ النَّفْسِ ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ مَعَ دِيَةِ النَّفْسِ أَرْشُ قَطْعٍ لَمْ يَنْدَمِلْ ، وَعَلَيْهِ الْقَوَدُ فِي النَّفْسِ ، لِأَنَّهَا جِنَايَةُ حُرٍّ عَلَى حُرٍّ ، يَسْتَحِقُّهُ الْوَارِثُ دُونَ السَّيِّدِ لِحُدُوثِ سَبَبِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ ، فَإِنِ اقْتَصَّ الْوَارِثُ سَقَطَ حَقُّ السَّيِّدِ مِنْ أَرْشِ الْقَطْعِ ، لِأَنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ قِصَاصٌ وَأَرْشٌ . فَإِنْ عَفَا الْوَارِثُ عَنِ الْقَوَدِ كَانَ لَهُ دِيَةُ حُرٍّ ، لِلسَّيِّدِ مِنْهَا أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ عَبْدًا ، أَوْ نِصْفِ دِيَتِهِ حُرًّا قَوْلًا وَاحِدًا ، اعْتِبَارًا بِأَرْشِ الْيَدِ وَلَوْ كَانَ الْقَطْعُ لِإِصْبَعٍ مِنَ اليَدِ ، كَانَ لَهُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ عُشْرِ قِيمَتِهِ عَبْدًا ، أَوْ عُشْرِ دِيَتِهِ حُرًّا ، اعْتِبَارًا بِأَرْشِ الْإِصْبَعِ . وَإِنْ كَانَ الذَّابِحُ هُوَ الْقَاطِعَ الثَّانِي فَقَدِ اسْتَقَرَّ قَطْعُ الْأَوَّلِ الْقَاطِعِ فِي الرِّقِّ سَوَاءٌ انْدَمَلَ أَوْ لَمْ يَنْدَمِلْ ، لِأَنَّ حُدُوثَ الذَّبْحِ بَعْدَهُ قَاطِعٌ لِسِرَايَتِهِ فَاسْتَقَرَّ حُكْمُهُ ، وَوَجَبَ فِيهِ نِصْفُ قِيمَتِهِ ، قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ ، وَلَا قَوَدَ لِأَنَّهُ قَطْعُ حُرٍّ لِعَبْدٍ ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الْقَطْعِ الثَّانِي بَعْدَ الْعِتْقِ ، فَإِنْ كَانَ قَدِ انْدَمَلَ قَبْلَ الذَّبْحِ اسْتَقَرَّ حُكْمُهُ فِي حَقِّ الْوَارِثِ مَعَ حُكْمِ الذَّبْحِ ، وَكَانَ لِلْوَارِثِ الْخِيَارُ فِي الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ . بَيْنَ الْقِصَاصِ فِي الْيَدِ ، وَالْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ ، فَيَسْتَوِي بِهِمَا حَقَّيِ الْقَطْعِ وَالذَّبْحِ ، لِأَنَّهُمَا مِنْ حُرٍّ عَلَى حُرٍّ ، وَبَيْنَ أَنْ يَقْتَصَّ مِنَ اليَدِ ، وَيَأْخُذَ دِيَةَ النَّفْسِ ، وَبَيْنَ أَنْ يَقْتَصَّ
مِنَ النَّفْسِ وَيَأْخُذَ نِصْفَ الدِّيَةِ فِي الْيَدِ ، وَبَيْنَ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهَا فَيَأْخُذَ نِصْفَ الدِّيَةِ فِي الْيَدِ ، وَدِيَةً كَامِلَةً فِي النَّفْسِ ، فَيَحْصُلُ لَهُ بِانْدِمَالِ الْيَدِ دِيَةٌ وَنِصْفٌ . وَلَوْ لَمْ تَنْدَمِلِ الْيَدُ فَالْوَارِثُ بِالْخِيَارِ فِي الْقِصَاصِ بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : أَنْ يَقْتَصَّ مِنَ اليَدِ وَالنَّفْسِ ، فَيَسْتَوْفِيَ بِهِمَا حَقَّيِ الْقَطْعِ وَالذَّبْحِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَقْتَصَّ مِنَ اليَدِ ، وَيَعْفُوَ عَنِ الْقَوَدِ فِي النَّفْسِ فَيُحْكَمُ لَهُ بِدِيَةِ النَّفْسِ ، وَعِنْدِي أَنَّهُ سَهْوٌ إِلَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَقْتَصَّ مِنَ النَّفْسِ ، وَيَعْفُوَ عَنِ الْقِصَاصِ فِي الْعَبْدِ ، فَيَسْقُطُ أَرْشُ الْيَدِ ، لِاخْتِصَاصِهَا قَبْلَ الِانْدِمَالِ بِالْقِصَاصِ دُونَ الْأَرْشِ . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقِصَاصِ فِي الْيَدِ وَالنَّفْسِ فَيُحْكَمُ لَهُ بِدِيَةِ النَّفْسِ ، وَيَسْقُطُ أَرْشُ الْيَدِ لِدُخُولِهِ فِي دِيَةِ النَّفْسِ . وَإِنْ كَانَ الذَّابِحُ أَجْنَبِيًّا حكم الدية اسْتَقَرَّ حُكْمُ الْقَطْعَيْنِ وَصَارَا وَإِنْ لَمْ يَنْدَمِلَا كَالْمُنْدَمِلَيْنِ لِمَا تَعَقَّبَهُمَا مِنَ التَّوْجِئَةِ الْقَاطِعَةِ لِسِرَايَتِهَا ، وَكَانَ عَلَى الْقَاطِعِ الْأَوَّلِ لِلسَّيِّدِ نِصْفُ قِيمَتِهِ عَبْدًا دُونَ الْقَوَدِ : لِأَنَّهَا جِنَايَةُ حُرٍّ عَلَى عَبْدٍ ، وَعَلَى الْقَاطِعِ الثَّانِي لِلْوَارِثِ الْقِصَاصُ فِي الْيَدِ : فَإِنْ عَفَا عَنْهُ فَنِصْفُ الدِّيَةِ : لِأَنَّهَا جِنَايَةٌ عَلَى حُرٍّ وَعَلَى الذَّابِحِ الْقَوَدُ فِي النَّفْسِ ، فَإِنْ عَفَا الْوَارِثُ عَنْهُ فَلَهُ دِيَةُ النَّفْسِ كَامِلَةً ، لِأَنَّهَا جِنَايَةُ حُرٍّ عَلَى حُرٍّ ، وَلَا تَنْقُصُ بِالْمَأْخُوذِ مَنْ أَرْشِ الْيَدَيْنِ لِمَا جَرَى عَلَيْهِمَا مِنْ حُكْمِ الِانْدِمَالِ .
فَصْلٌ : وَيَتَفَرَّعُ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ أَنْ يَكُونَ عَبْدٌ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَيَقْطَعُ حُرٌّ إِحْدَى يَدَيْهِ ، ثَمَّ يُعْتِقُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ حِصَّتَهُ وَهُوَ مُعْسِرٌ ، وَيَأْتِي آخَرُ فَيَقْطَعُ يَدَهُ الْأُخْرَى ، ثُمَّ يَمُوتُ ، وَنِصْفُهُ حُرٌّ ، وَنِصْفُهُ مَمْلُوكٌ ، فَلَا قَوَدَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، لِبَقَاءِ الرِّقِّ فِي نِصْفِهِ ، وَالْمُسْتَحَقُّ مِنْهُ نِصْفُ قِيمَتِهِ عَبْدًا مَا بَلَغَتْ ، وَنِصْفُ دِيَتِهِ حُرًّا لِاسْتِقْرَارِهَا فِيهِ بَعْدَ عِتْقِ نِصْفِهِ وَرِقِّ نِصْفِهِ ، وَيَتَحَمَّلُ الْقَاطِعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ فَيَكُونُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُبْعُ الْقِيمَةِ وَرُبْعُ الدِّيَةِ ، وَلَا يُفَضَّلُ وَاحِدٌ عَلَى الْآخَرِ ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ جِنَايَتُهُمَا فِي الرِّقِّ وَالْعِتْقِ ، لِاسْتِقْرَارِهَا فِيمَنْ رَقَّ نِصْفُهُ وَعُتِقَ نِصْفُهُ ، وَيَكُونُ لِلْمُسْتَرِقِّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ نِصْفُ قِيمَتِهِ . فَأَمَّا نِصْفُ الدِّيَةِ فَيَشْتَرِكُ فِيهَا الْمُعَتِقُ وَالْوَارِثُ إِذَا جَعَلْنَا مَنْ عُتِقَ بَعْضُهُ مَوْرُوثًا فَيَأْخُذُ مِنْهَا الْمُعَتِقُ أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رُبْعِ قِيمَتِهِ عَبْدًا ، أَوْ رُبْعِ دِيَتِهِ حُرًّا ، لِأَنَّ إِحْدَى الْجِنَايَتَيْنِ كَانَتْ فِي مِلْكِهِ وَالْأُخْرَى بَعْدَ عِتْقِهِ . وَيَعُودُ عَلَى الْوَارِثِ رُبْعُ الدِّيَةِ ، وَمَا فَضَلَ مِنْ رُبْعِ الْقِيمَةِ ، إِنْ كَانَ .
فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا ، فَعَادَ الْقَاطِعُ الْأَوَّلُ فَقَطَعَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ وَمَاتَ ، فَقَدْ مَاتَ مِنْ جِنَايَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا بَعْدَ الْعِتْقِ ، وَالْأُخْرَى نِصْفُهَا فِي الرِّقِّ وَنِصْفُهَا بَعْدَ الْعِتْقِ ، فَيَكُونُ عَلَيْهِمَا نِصْفُ الْقِيمَةِ وَنِصْفُ الدِّيَةِ ، لِاسْتِقْرَارِهَا فِيمَنْ نِصْفُهُ حُرٌّ وَنِصْفُهُ مَمْلُوكٌ ، وَهُمَا فِي تَحَمُّلِهَا بِالسَّوِيَّةِ ، لِأَنَّ أَفْعَالَ الْجَانِي يُبْنَى بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ ، إِذَا صَارَتْ نَفْسًا . وَلَا يَتَقَسَّطُ الْأَرْشُ عَلَى أَعْدَادِ الْجُرْحِ ، كَمَا لَوْ جَرَحَهُ أَحَدُهُمَا جُرْحًا ، وَالْآخَرُ عُشْرًا . وَيَكُونُ لِمَالِكِ رِقِّهِ نِصْفُ قِيمَتِهِ مَا بَلَغَتْ . فَأَمَّا نِصْفُ الدِّيَةِ فَيَكُونُ مِنْهَا لِمُعْتِقِهِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رُبْعِ قِيمَتِهِ ، أَوْ ثُمْنِ دِيَتِهِ ، لِاسْتِقْرَارِ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْجِنَايَةِ فِي نِصْفٍ بَعْدَ عِتْقِهِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ يُحْكَمُ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ إِذَا فَقَأَ عَيْنَيْهِ فِي الرِّقِّ ، وَقِيمَتُهُ أَلْفَا دِينَارٍ ، ثُمَّ أُعْتِقَ - كَانَتْ عَلَيْهِ الْأَلِفَانِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ . وَالثَّانِي : هِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ إِذَا جَنَى وَاحِدٌ عَلَيْهِ فِي الرِّقِّ ، وَاثْنَانِ بَعْدَ الْعِتْقِ ، أَنَّهُ يُخْتَارُ مِنَ القَوْلَيْنِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ أَرْشُ الْجِنَايَةِ فِي الرِّقِّ ، وَلَا يُعْتَبَرُ بِأَعْدَادِ الْجُنَاةِ تَمَسُّكًا بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ ذَكَرَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ ، لِأَنَّ ذِكْرَ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَوْضِعَيْنِ ، وَذِكْرَ الْآخَرِ فِي مَوْضِعٍ لَا يَقْتَضِي إِثْبَاتَ مَا تَكَرَّرَ وَنَفَيَ الْآخَرِ . وَالثَّانِي : أَنْ قَالَ : لَمَّا كَانَ الزَّائِدُ بِالْحُرِّيَّةِ لَا يَعُودُ عَلَى السَّيِّدِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ النَّاقِصُ بِالْحُرِّيَّةِ لَا يَعُودُ عَلَيْهِ ، وَهَذَا خَطَأٌ ، لِأَنَّ الزَّائِدَ بِالْحُرِّيَّةِ حَادِثٌ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ فَلَمْ يَسْتَحِقَّهُ ، وَالنَّاقِصَ بِالْحُرِّيَّةِ مِنْ فِعْلِهِ فَعَادَ عَلَيْهِ نَقْصُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَعَلَى الْمُتَغَلِّبِ بِاللُّصُوصِيَّةِ وَالْمَأْمُورِ الْقَوَدُ إِذَا كَانَ قَاهِرًا لِلْمَأْمُورِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مِنْ أَمْرِ غَيْرِهِ بِقَتْلِ نَفْسٍ ظُلْمًا بِغَيْرِ حَقٍّ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ إِمَامًا مُلْتَزَمَ الطَّاعَةِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مُتَغَلِّبًا نَافِذَ الْأَمْرِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يُسَاوِيَ الْمَأْمُورَ ، وَلَا يَعْلُوَ عَلَيْهِ بِطَاعَةٍ وَلَا قُدْرَةٍ .
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْآمِرُ بِالْقَتْلِ إِمَامًا مُلْتَزَمَ الطَّاعَةِ حكمه . فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمَأْمُورِ فِي قَتْلِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَجْهَلَ حَالَ الْمَقْتُولِ وَلَا يَعْلَمَ أَنَّهُ مَظْلُومٌ ، وَيَعْتَقِدَ أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَقْتُلُ إِلَّا بِحَقٍّ فَلَا قَوَدَ عَلَى الْمَأْمُورِ ، وَلَا دِيَةَ ، وَلَا كَفَّارَةَ ، لِأَنَّ طَاعَةَ الْإِمَامِ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [ النِّسَاءِ : 59 ] وَعَلَى الْإِمَامِ الْقَوَدُ ، لِأَنَّ أَمْرَهُ إِذَا كَانَ مُلْتَزَمَ الطَّاعَةِ يَقُومُ مَقَامَ فِعْلِهِ لِنُفُوذِهِ ، وَحُدُوثِ الْفِعْلِ عَنْهُ ، وَجَرَى الْمَأْمُورُ مَعَهُ جَرْيَ الْآلَةِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَهَكَذَا قَتْلُ الْأَئِمَّةِ وَيُسْتَحَبُّ لِلْمَأْمُورِ أَنْ يُكَفِّرَ لِمَا تَوَلَّاهُ مِنَ المُبَاشَرَةِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ عَالِمًا بِأَنَّهُ مَظْلُومٌ ، يُقْتَلُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلِهَذَا الْمَأْمُورِ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَقْتُلَهُ مُخْتَارًا . وَالثَّانِي : مُكْرَهًا . فَإِنْ قَتَلَهُ مُخْتَارًا غَيْرَ مُكْرَهٍ فَهُوَ الْقَاتِلُ دُونَ الْإِمَامِ ، لِأَنَّ طَاعَةَ الْإِمَامِ لَا تَلْزَمُ فِي الْمَعَاصِي قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ . وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : أَطِيعُونِي مَا أَطَعْتُ اللَّهَ فَإِذَا عَصَيْتُ اللَّهَ فَلَا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ ، وَيَكُونُ الْإِمَامُ بِأَمْرِهِ آثِمًا ، وَيَتَمَكَّنُ الْمَأْمُورُ مِنَ القَتْلِ عَاصِيًا ، وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهُ قَوَدٌ وَلَا دِيَةَ وَلَا كَفَّارَةَ . وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَقَوْلِ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ . وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ إِلَى وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَى الْإِمَامِ بِمُجَرَّدِ أَمْرِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ إِكْرَاهٌ لِلُزُومِ طَاعَتِهِ ، وَنُفُوذِ أَمْرِهِ ، وَجَعَلَ الْقَوَدَ وَاجِبًا عَلَى الْآمِرِ وَالْمَأْمُورِ مَعًا ، وَلِهَذَا الْقَوْلِ وَجْهٌ فِي اعْتِبَارِ الْمَصْلَحَةِ ، وَحَسْمِ عُدْوَانِ الْأَئِمَّةِ ، وَإِنْ كَانَ فِي الْقِيَاسِ ضَعِيفًا . وَإِنْ كَانَ الْمَأْمُورُ مُكْرَهًا عَلَى الْقَتْلِ حكمه بِأَنْ قَالَ لَهُ الْإِمَامُ : إِنْ لَمْ تَقْتُلْهُ قَتَلْتُكَ ، فَالْقَوَدُ عَلَى الْإِمَامِ الْآمِرِ وَاجِبٌ . وَفِي وُجُوبِهِ عَلَى الْمَأْمُورِ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : وَاجِبٌ كَالْإِمَامِ يُقَادُ مِنْهُمَا جَمِيعًا ، فَإِنْ عَفَا عَنْهُمَا اشْتَرَكَا فِي الدِّيَةِ ، وَكَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفَّارَةٌ . وَبِهِ قَالَ زُفَرُ بْنُ الْهُذَيْلِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا قَوَدَ عَلَى الْمَأْمُورِ وَالْمُكْرَهِ ، وَيَخْتَصُّ الْقَوَدُ بِالْإِمَامِ الْمُكْرِهِ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَعْلِيلِ هَذَا الْقَوْلِ فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ عَنِ الْمَأْمُورِ قول العلماء فيه فَذَهَبَ الْبَغْدَادِيُّونَ بِأَسْرِهِمْ إِلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِيهِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ شُبْهَةٌ تُدْرَأُ بِهَا الْحُدُودُ . فَعَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ يَجِبُ عَلَيْهِ إِذَا سَقَطَ الْقَوَدُ عَنْهُ نِصْفُ الدِّيَةِ ، لِأَنَّهُ أَحَدُ الْقَاتِلِينَ ، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ . وَذَهَبَ الْبَصْرِيُّونَ مِنْهُمْ : إِلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِيهِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ إِلْجَاءٌ وَضَرُورَةٌ تَنْقُلُ حُكْمَ الْفِعْلِ عَنِ الْمُبَاشِرِ إِلَى الْآمِرِ كَالْحَاكِمِ إِذَا أَلْجَأَهُ شُهُودُ الزُّورِ إِلَى الْقَتْلِ . فَعَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ تَسْقُطُ عَنْهُ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ كَمَا تَسْقُطُ عَنْهُ الْقَوَدُ ، وَتَكُونُ الدِّيَةُ كُلُّهَا عَلَى الْإِمَامِ الْمُكْرِهِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا قَوَدَ عَلَى الْإِمَامِ الْآمِرِ ، وَلَا عَلَى الْمَأْمُورِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ أَمْرَ الْإِمَامِ سَبَبٌ وَمُبَاشَرَةُ الْمَأْمُورِ إِلْجَاءٌ ، فَسَقَطَ حُكْمُ السَّبَبِ بِحُدُوثِ الْمُبَاشَرَةِ ، وَسَقَطَ حُكْمُ الْمُبَاشَرَةِ بِوُجُودِ الْإِلْجَاءِ ، فَسَقَطَ الْقَوَدُ عَنْهُمَا . وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا [ الْإِسْرَاءِ : 33 ] فَلَوْ سَقَطَ الْقَوَدُ عَنْهُمَا مَعَ وُجُودِ الظُّلْمِ فِي الْقَتْلِ لَبَطَلَ سُلْطَانُهُ ، وَلَمَّا انْزَجَرَ عَنِ الْقَتْلِ ظَالِمٌ ، وَلِأَنَّ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ يَمْنَعُ مِنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ . وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَلَّى رَجُلًا الْيَمَنَ ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْهَا مَقْطُوعُ الْيَدِ . فَقَالَ : إِنَّ خَلِيفَتَكَ ظَلَمَنِي فَقَطَعَنِي . فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : لَوْ عَلِمْتُ أَنَّهُ ظَلَمَكَ لَقَطَعْتُهُ . فَدَلَّ عَلَى مُؤَاخَذَةِ الْوَالِي بِظُلْمِهِ فِيمَا أَمَرَ بِهِ . وَقَدْ أَنْفَذَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ رَسُولًا إِلَى امْرَأَةٍ أَرْهَبَهَا فَأَجْهَضَتْ مَا فِي بَطْنِهَا فَزَعًا فَالْتَزَمَ عُمَرُ دِيَتَهُ . وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلَيْنِ شَهِدَا عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى رَجُلٍ بِالسَّرِقَةِ فَقَطَعَهُ بِشَهَادَتِهِمَا ، ثُمَّ عَادَا ، وَقَالَا : غَلِطْنَا ، وَالسَّارِقُ هُوَ هَذَا فَرَدَّ شَهَادَتَهُمَا ، وَلَمْ يَقْطَعِ الثَّانِي ، وَقَالَ : لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَقَطَعْتُكُمَا . فَجَعَلَ الْجَهْلَ لَهُمَا بِالشَّهَادَةِ مُوجِبًا لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إِلَيْهِمَا وَأَخْذِهِمَا بِمُوجِبِهَا ، وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ مَنْ عَاصَرَهُ فَصَارَ مَعَ مَا تَقَدَّمَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ إِجْمَاعًا ، وَلِأَنَّ الْقَتْلَ
قَدْ يَكُونُ بِالْمُبَاشَرَةِ تَارَةً ، وَبِالسَّبَبِ أُخْرَى ، فَلَمَّا وَجَبَ الْقَوَدُ بِالْمُبَاشَرَةِ جَازَ أَنْ يَجِبَ بِالسَّبَبِ ، لِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ الْقَتْلِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَقَدْ وَافَقَ فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَى الْإِمَامِ الْآمِرِ رَدًّا عَلَى أَبِي يُوسُفَ ، وَأَسْقَطَ الْقَوَدَ عَنِ الْمَأْمُورِ الْمُكْرَهِ ، وَسَلَبَهُ حُكْمَ الْمُبَاشَرَةِ ، فَلَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ دِيَةً وَلَا كَفَّارَةً ، وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ . وَمُوجِبُ تَعْلِيلِ الْبَصْرِيِّينَ فِي سُقُوطِ الدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ ، وَمُخَالِفٌ لِتَعْلِيلِ الْبَغْدَادِيِّينَ فِي وُجُوبِ نِصْفِ الدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ مَعَ سُقُوطِ الْقَوَدِ ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْقَوْلِ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ ، لِأَنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِمَامِ الْآمِرِ فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ وَالدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَسْلُبُهُ بِالْإِكْرَاهِ جَمِيعَ أَحْكَامِ الْإِمَامِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ وَلِأَنَّهُ قَتَلَهُ لِإِحْيَاءِ نَفْسِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ الْقَوَدُ كَالْمَقْتُولِ دَفْعًا عَنْ نَفْسِهِ ، وَلِأَنَّ مَا أَوْجَبَ الْقَتْلَ بِفِعْلِ الْمُخْتَارِ سَقَطَ فِيهِ الْقَتْلُ بِفِعْلِ الْمُكْرَهِ كَالزِّنَا ، وَلِأَنَّ الْإِكْرَاهَ قَدْ نَقَلَ حُكْمَ الْمُبَاشَرَةِ إِلَى الْآمِرِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَزُولَ حُكْمُهَا عَنِ الْمَأْمُورِ ، لِأَنَّ الْفِعْلَ وَاحِدٌ ، وَيَصِيرُ الْمَأْمُورُ فِيهِ كَالْآلَةِ أَوْ كَالسَّبُعِ الْمُرْسَلِ وَالْكَلْبِ الشَّلَّاءِ ، وَلِأَنَّ الْإِكْرَاهَ يَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ : إِكْرَاهُ حُكْمٍ ، وَإِكْرَاهُ قَهْرٍ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ إِكْرَاهَ الْحُكْمِ وَهُوَ إِلْجَاءُ الْحَاكِمِ إِلَى الْقَتْلِ بِشَهَادَةِ الزُّورِ يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الْقَتْلِ عَلَيْهِ مَعَ أَمْنِهِ عَلَى نَفْسِهِ ، فَكَانَ إِكْرَاهُ الْقَهْرِ أَوْلَى أَنْ يَمْنَعَ مِنْ وُجُوبِ الْقَوَدِ مَعَ خَوْفِهِ عَلَى نَفْسِهِ ، وَلِأَنَّ الْإِكْرَاهَ يَكُونُ تَارَةً عَلَى الْقَوْلِ بِأَنْ يَتَلَفَّظَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ ، وَتَارَةً عَلَى الْقَتْلِ بِأَنْ يُؤْمَرَ بِالْقَتْلِ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ حُكْمَ الْكُفْرِ يَزُولُ بِالْإِكْرَاهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْقَتْلِ يَزُولُ بِالْإِكْرَاهِ . وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا [ الْإِسْرَاءِ : 33 ] وَلِأَنَّهُ عَمْدٌ ، قَتَلَهُ ظُلْمًا لِإِحْيَاءِ نَفْسِهِ ، فَلَمْ يَمْنَعْ إِحْيَاؤُهُ لَهَا مِنْ قَتْلِهِ قَوَدًا ، قِيَاسًا عَلَى الْمُفْطِرِ إِذَا أَكَلَ مِنَ الجُوعِ مَحْظُورَ النَّفْسِ ، ثُمَّ هَذَا أَوْلَى بِالْقَتْلِ مِنَ المُضْطَرِّ ، لِأَنَّ الْمُضْطَرَّ عَلَى يَقِينٍ مِنَ التَّلَفِ إِنْ لَمْ يَأْكُلْ ، وَلَيْسَ الْمَأْمُورُ عَلَى يَقِينٍ مِنَ القَتْلِ إِنْ لَمْ يَقْتُلْ ، وَعَلَى أَنَّ الْأُصُولَ تَشْهَدُ لِصِحَّةِ هَذَا التَّعْلِيلِ ، أَلَّا تَرَى أَنَّ رُكَّابَ السَّفِينَةِ إِذَا خَافُوا الْغَرَقَ مِنْ ثِقَلِهَا فَأَلْقَوْا بَعْضَهُمْ فِي الْبَحْرِ لِيَسْلَمَ بَاقِيهِمْ لَزِمَهُمُ الْقَوَدُ ، وَلَوْ صَادَفَهُمْ سَبُعٌ خَافُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوْا عَلَيْهِ أَحَدَهُمْ لِيَتَشَاغَلَ بِهِ عَنْهُمْ وَجَبَ عَلَيْهِمُ الْقَوَدُ ، كَذَلِكَ الْمُكْرَهُ الْمُفْتَدِي نَفْسَهُ بِغَيْرِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَا عُذْرَ لَهُ فِي إِحْيَاءِ نَفْسِهِ بِقَتْلِ غَيْرِهِ : لِأَنَّ حُرْمَةَ غَيْرِهِ مِثْلُ حُرْمَةِ نَفْسِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ إِحْيَاءُ نَفْسِهِ بِالْغَيْرِ أَوْلَى مِنْ إِحْيَاءِ الْغَيْرِ بِنَفْسِهِ فَاسْتَوَيَا ، وَصَارَ وُجُودُ الْعُذْرِ كَعَدَمِهِ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَجِبَ الْقَوَدُ بَيْنَهُمَا كَوُجُوبِهِ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُكْرَهًا .
فَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَحْمُولٌ عَلَى مَا اخْتَصَّ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ ، وَقِيَاسُهُمْ عَلَى قَتْلِهِ دَفْعًا عَنْ نَفْسِهِ مُنْتَقِضٌ بِأَكْلِهِ مِنَ الجُوعِ . ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْمَدْفُوعِ أَنَّهُ قَدْ أَبَاحَ نَفْسَهُ بِالطَّلَبِ فَصَارَ مَقْتُولًا بِحَقٍّ ، وَهَذَا مَقْتُولٌ بِظُلْمٍ ، فَافْتَرَقَا . وَقِيَاسُهُمْ عَلَى الْإِكْرَاهِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِحَّةِ الْإِكْرَاهِ عَلَيْهِ ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى اسْتِحَالَتِهِ لِأَنَّ إِيلَاجَ الذَّكَرِ لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ انْتِشَارِهِ ، وَانْتِشَارُ الذَّكَرِ ، وَإِنْزَالُ مَائِهِ لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ قُوَّةِ الشَّهْوَةِ الْمُنَافِيَةِ لِلْإِكْرَاهِ فَاسْتَحَالَ فِيهِ الْإِكْرَاهُ . وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنْهُمْ إِلَى صِحَّةِ الْإِكْرَاهِ فِيهِ لِأَنَّ انْتِشَارَ الذَّكَرِ قَدْ يَكُونُ مِنَ الطَّبْعِ الْمُحَرِّكِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِ عَنْ نَفْسِهِ ، وَهُوَ مُؤَاخَذٌ بِفِعْلِ نَفْسِهِ لَا بِمَا رَكَّبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي طَبْعِهِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمَعْنَى فِي سُقُوطِ الْحَدِّ بِالْإِكْرَاهِ اخْتِصَاصَهُ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَالْقَتْلُ بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ ، فَافْتَرَقَا وَقَوْلُهُمْ : إِنَّ الْإِكْرَاهَ قَدْ نَقَلَ حُكْمَ الْمُبَاشَرَةِ عَنِ الْمَأْمُورِ إِلَى الْآمِرِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ، بَلْ تَعَدَّى عَنِ الْمَأْمُورِ إِلَى الْآمِرِ ، وَالْفِعْلُ إِذَا تَعَدَّى حُكْمُهُ إِلَى غَيْرِ الْفَاعِلِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يُؤَاخَذَ بِهِ الْفَاعِلُ ، لِأَنَّ تَعَدِّيِهِ لِفَضْلِ قُوَّتِهِ . وَجَمْعُهُمْ بَيْنَ الْمُكْرَهِ وَالْحَاكِمِ إِلْجَاءٌ غَيْرُ صَحِيحٍ ، لِأَنَّ مَنْ قَتَلَهُ الْحَاكِمُ بِالشَّهَادَةِ قَدْ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ لَا يَسُوغُ لَهُ تَرْكُهُ فَلَمْ يُؤَاخَذْ بِالْقَوَدِ ، وَمَنْ قَتَلَهُ الْمُكْرَهُ مَظْلُومٌ ، وَالْقَاتِلُ فِيهِ مَأْثُومٌ فَوَجَبَ الْقَوَدُ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُمَا لَمَّا افْتَرَقَا فِي جَوَازِ الْقَتْلِ افْتَرَقَا فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حُكْمِ إِكْرَاهِ الْإِمَامِ فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيمَنِ اسْتَخْلَفَهُ الْإِمَامُ وَوَلَّاهُ إِذَا أَكْرَهَ رَجُلًا عَلَى الْقَتْلِ كَانَ الْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِي إِكْرَاهِ الْإِمَامِ فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَى الْآمِرِ ، وَفِي وُجُوبِهِ عَلَى الْمَأْمُورِ قَوْلَانِ ، لِأَنَّ طَاعَةَ مَنِ اسْتَخْلَفَهُ الْإِمَامُ تَلْزَمُ كَلُزُومِ طَاعَةِ الْإِمَامِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : مَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي ، وَمَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ، وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْقَتْلِ بِمَاذَا يَكُونُ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَكُونُ بِكُلِّ مَا كَرِهَتْهُ النَّفْسُ وَشَقَّ عَلَيْهَا مِنْ قَتْلٍ ، أَوْ ضَرْبٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ أَخْذِ مَالٍ ، كَالْإِكْرَاهِ فِي الطَّلَاقِ وَالْبَيْعِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَكُونُ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْقَتْلِ إِلَّا بِالْقَتْلِ ، أَوْ بِمَا أَفْضَى إِلَيْهِ مِنْ قَطْعٍ أَوْ جُرْحٍ ، وَلَا يَكُونُ الضَّرْبُ وَالْحَبْسُ ، وَأَخْذُ الْمَالِ فِيهِ إِكْرَاهًا ، لِأَنَّ حُرْمَةَ النُّفُوسِ أَغْلَظُ مِنْ حُرْمَةِ الْأَمْوَالِ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْقَتْلِ أَغْلَظَ مِنَ الإِكْرَاهِ فِيمَا عَدَاهُ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي إِكْرَاهِ الْإِمَامِ عَلَى قَتْلِ الظُّلْمِ هَلْ يَخْرُجُ بِهِ مِنْ إِمَامَتِهِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : حَكَاهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ . وَكَذَلِكَ فِي ارْتِكَابِهِ لِلْكَبَائِرِ الَّذِي يَفْسُقُ بِهَا . أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ : أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ الإِمَامَةِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [ الْبَقَرَةِ : 124 ] . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ بِهَا مِنَ الإِمَامَةِ حَتَّى يُخْرِجَهُ مِنْهَا أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ ، لِانْعِقَادِهَا بِهِمْ ، وَعَلَيْهِمْ أَنْ يَسْتَتِيبُوهُ فَإِنْ تَابَ إِلَّا خَلَعُوهُ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْآمِرُ بِالْقَتْلِ مُتَغَلِّبًا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مُتَغَلِّبًا بِتَأْوِيلٍ كَمَنْ نَدَبَ نَفْسَهُ لِإِمَامَةِ أَهْلِ الْبَغْيِ ، إِذَا أَمَرَ بِقَتْلِ رَجُلٍ ظُلْمًا حكمه فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمَأْمُورِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَرَى رَأْيَهُ ، وَيَعْتَقِدُ طَاعَتَهُ ، أَوْ يَكُونُ مُخَالِفًا لَهُ ، فَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا لِرَأْيِهِ مُعْتَقِدًا الطَّاعَةَ فَحُكْمُ الْمَأْمُورِ مَعَهُ كَحُكْمِهِ مَعَ إِمَامِ أَهْلِ الْعَدْلِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الآمِرِ إِكْرَاهٌ وَجَبَ الْقَوَدُ عَلَى الْمَأْمُورِ دُونَ الْآمِرِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْهُ إِكْرَاهٌ وَجَبَ الْقَوَدُ عَلَى الْآمِرِ وَفِي وُجُوبِهِ عَلَى الْمَأْمُورِ قَوْلَانِ . وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُخَالِفُهُ فِي رَأْيِهِ ، وَلَا يَعْتَقِدُ طَاعَتَهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَغْلِبَ فِيهِ حَالُ الْمَأْمُورِ لِمَا يَعْتَقِدُهُ مِنْ مُخَالَفَةِ الْآمِرِ ، وَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُهُ مَعَ الْآمِرِ إِذَا كَانَ مُتَغَلِّبًا بِاللُّصُوصِيَّةِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَغْلِبَ فِيهِ حَالُ الْآمِرِ ، وَيَجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ مَعَ الْآمِرِ إِذَا كَانَ إِمَامًا لِأَهْلِ الْعَدْلِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْبَاغِي مَعَ إِمَامِ أَهْلِ الْعَدْلِ فِي حُكْمِ أَهْلِ الْعَدْلِ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَهْلُ الْعَدْلِ مَعَ إِمَامِ أَهْلِ الْبَغْيِ فِي حُكْمِ أَهْلِ الْبَغْيِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَمْضَى أَحْكَامَ قَضَائِهِمْ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ وَأَهْلِ الْبَغْيِ ، وَجَوَازَ أَخْذِ الزَّكَاةِ وَجِبَايَةِ الْخَرَاجِ مِنْهُمَا فَاسْتَوَيَا فِي الْحُكْمِ ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْمُعْتَقَدِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مُتَغَلِّبًا بِاللُّصُوصِيَّةِ إِذَا أَمَرَ بِقَتْلِ رَجُلٍ .
فَالْفَرْقُ بَيْنَ أَمْرِهِ وَأَمْرِ الْإِمَامِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهَا ، وَرَابِعٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ . فَأَمَّا الثَّلَاثَةُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا . فَأَحَدُهَا : أَنَّ طَاعَةَ الْإِمَامِ وَاجِبَةٌ إِلَّا فِيمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ ظُلْمٌ ، وَطَاعَةُ هَذَا الْمُتَغَلِّبِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ إِلَّا فِيمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ حَقٌّ . وَالثَّانِي : أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ أَمْرِ الْإِمَامِ بِالْقَتْلِ أَنَّهُ يَحِقُّ إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ ظَلَمَ ، وَالظَّاهِرُ مِنْ أَمْرِ الْمُتَغَلِّبِ بِالْقَتْلِ أَنَّهُ يَظْلِمُ إِلَّا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ حَقٌّ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ اجْتِهَادَ الْإِمَامِ فِيمَنْ يَسْتَبِيحُ قَتْلَهُ مِنْ مُسْلِمٍ بِكَافِرٍ ، وَحُرٍّ بِعَبْدٍ نَافِذٍ ، وَاجْتِهَادُ هَذَا الْمُتَغَلِّبِ فِيهِ غَيْرُ نَافِذٍ . فَإِذَا افْتَرَقَا مِنْ هَذِهِ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ اعْتُبِرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْآمِرِ إِنْ كَانَ إِمَامًا أَوْ مُتَغَلِّبًا فَأَجْرَى عَلَيْهِ حُكْمَهُ عَلَى اخْتِلَافِ أَحْكَامِهِمَا فِي الْجِهَتَيْنِ . وَأَمَّا الرَّابِعُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ فَهُوَ الْإِكْرَاهُ ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي حُكْمِ الْإِكْرَاهِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ فِيهِ أَوْ يَخْتَلِفَانِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ فِي الْإِكْرَاهِ ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْآمِرِ مِنْ غَيْرِ إِكْرَاهٍ ، فَعَلَى هَذَا إِذَا أَمَرَ الْمُتَغَلِّبُ رَجُلًا بِالْقَتْلِ مِنْ غَيْرِ إِكْرَاهٍ وَجَبَ عَلَى الْمَأْمُورِ الْقَوَدُ ، سَوَاءٌ عَلِمَ بِظُلْمِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ أَمْرِهِ بِالْقَتْلِ أَنَّهُ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَلَا قَوَدَ عَلَى الْآمِرِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُطَاعٍ فِي الظَّاهِرِ ، مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ حَقٌّ ، فَصَارَ الْمَأْمُورُ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالْقَتْلِ ، وَالْآمِرُ مُشِيرٌ بِهِ ، وَإِنْ أَكْرَهَهُ الْآمِرُ الْمُتَغَلِّبُ عَلَى الْقَتْلِ وَجَبَ عَلَى الْآمِرِ الْقَوَدُ ، وَفِي وُجُوبِهِ عَلَى الْمَأْمُورِ قَوْلَانِ ، لِاسْتِوَاءِ الْإِمَامِ وَالْمُتَغَلِّبِ فِي الْإِكْرَاهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ فِي حُكْمِ الْإِكْرَاهِ كَمَا اخْتَلَفَا فِي حُكْمِ الِاخْتِيَارِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ فِي طَاعَةِ الْإِمَامِ شُبْهَةً لَيْسَتْ فِي طَاعَةِ الْمُتَغَلِّبِ . وَالثَّانِي : أَنَّ أَمْرَ الْإِمَامِ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ ، لَا يُقْدَرُ عَلَى الْخَلَاصِ مِنْهُ ، وَأَمْرُ الْمُتَغَلِّبِ خَاصٌّ فِي بَعْضِهَا يُقْدَرُ عَلَى الْخَلَاصِ مِنْهُ إِذَا انْتَقَلَ إِلَى غَيْرِهَا . فَعَلَى هَذَا إِذَا أَكْرَهَ الْمُتَغَلِّبُ رَجُلًا عَلَى الْقَتْلِ وَجَبَ الْقَوَدُ عَلَى الْآمِرِ وَالْمَأْمُورِ جَمِيعًا ، وَإِنْ كَانَ فِي مُكْرَهِ الْإِمَامِ قَوْلَانِ : لِمَا ذُكِرَ مِنَ الفَرْقَيْنِ ، وَإِنْ كَانَا ضَعِيفَيْنِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ الْآمِرُ بِالْقَتْلِ مُسَاوِيًا لِلْمَأْمُورِ لَا يَفْضُلُ عَلَيْهِ بِقُدْرَةٍ وَلَا يَدٍ ، حكمه فَالْإِكْرَاهُ مِنْ مِثْلِهِ مَعْدُومٌ ، وَالْمَأْمُورُ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالْقَتْلِ دُونَ الْآمِرِ ، وَالْآمِرُ أَضْعَفُ حَالًا مِنَ المُمْسِكِ ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَوَدٌ وَلَا دِيَةٌ وَلَا كَفَّارَةٌ ، لَكِنْ يَكُونُ