كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي
سِهَامَ مَنْ سِوَى الزَّوْجَةِ تَكُنْ أَحَدًا وَعِشْرِينَ سَهْمًا ، ثُمَّ أَعْطِ الزَّوْجَةَ الرُّبُعَ وَاقْسِمِ الْبَاقِيَ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَالِ عَلَى أَحَدٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا لَا تَنْقَسِمُ ، لَكِنْ تُوَافِقُ بِالْأَثْلَاثِ إِلَى سَبْعَةٍ فَاضْرِبْهَا فِي الْأَصْلِ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ تَكُنْ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ : لِلزَّوْجَةِ مِنْهَا الرُّبُعُ سَبْعَةُ أَسْهُمٍ ، وَالْبَاقِي وَهُوَ وَاحِدٌ وَعِشْرُونَ سَهْمًا لِبِنْتِ الْبِنْتِ مِنْهَا اثْنَا عَشَرَ وَلِبِنْتِ بِنْتِ الِابْنِ أَرْبَعَةٌ وَلِبِنْتِ الْعَمِّ خَمْسَةٌ . زَوْجٌ وَثَلَاثُ بَنَاتِ ثَلَاثَةِ إِخْوَةٍ مُتَفَرِّقِينَ الإرث ، فَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ بِالْإِخْرَاجِ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ ، وَالْبَاقِي عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ ، لِبِنْتِ الْأَخِ لِلْأُمِّ سُدُسُهُ سَهْمٌ ، وَبَاقِيهِ وَهُوَ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ لِبِنْتِ الْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ ، وَتَصِحُّ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا . وَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ بِالْإِدْخَالِ : لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِبِنْتِ الْأَخِ مِنَ الْأُمِّ سُدُسُ جَمِيعِ الْمَالِ ، وَالْبَاقِي لِبِنْتِ الْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ ، وَتَصِحُّ مِنْ سِتَّةِ أَسْهُمٍ . زَوْجٌ هُوَ ابْنُ خَالٍ ، وَبِنْتُ بِنْتِ عَمٍّ الإرث ، عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ بِالْإِخْرَاجِ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلَهُ سُدُسُ الْبَاقِي ، وَمَا بَقِيَ لِبِنْتِ بِنْتِ الْعَمِّ ، وَتَصِحُّ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ لِلزَّوْجِ سَبْعَةٌ وَلِبِنْتِ بِنْتِ الْعَمِّ خَمْسَةٌ ، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ بِالْإِدْخَالِ : لِلزَّوْجِ النِّصْفُ ، وَلَهُ سُدُسُ جَمِيعِ الْمَالِ ، وَمَا بَقِيَ لِبِنْتِ بِنْتِ الْعَمِّ ، وَتَصِحُّ مِنْ سِتَّةِ أَسْهُمٍ لِلزَّوْجِ أَرْبَعَةٌ ، وَلِبِنْتِ بِنْتِ الْعَمِّ سَهْمَانِ . زَوْجَةٌ هِيَ بِنْتُ عَمٍّ وَبِنْتُ أُخْتٍ الإرث ، عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ بِالْإِخْرَاجِ لِلزَّوْجَةِ الرُّبُعُ ، وَلِبِنْتِ الْأُخْتِ نِصْفُ مَا بَقِيَ ، وَالْبَاقِي لِلزَّوْجَةِ لِكَوْنِهَا بِنْتَ عَمٍّ ، وَتَصِحُّ مِنْ ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ لِلزَّوْجَةِ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ ، وَلِبِنْتِ الْأُخْتِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ ، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ بِالْإِدْخَالِ : لِلزَّوْجَةِ الرُّبُعُ وَلِبِنْتِ الْأُخْتِ نِصْفُ جَمِيعِ الْمَالِ ، وَالْبَاقِي لِلزَّوْجَةِ فَيَصِيرُ الْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ .
فَصْلٌ فِي تَوْرِيثِ مَنْ يُدْلِي بِقَرَابَتَيْنِ
فَصْلٌ فِي تَوْرِيثِ مَنْ يُدْلِي بِقَرَابَتَيْنِ ابْنُ بِنْتِ بِنْتٍ هُوَ ابْنُ ابْنِ بِنْتٍ أُخْرَى ، وَبِنْتُ بِنْتِ بِنْتٍ وَاحِدَةٍ الإرث عَلَى قَوْلِ أَهْلِ التَّنْزِيلِ : لِلِابْنِ النِّصْفُ بِقَرَابَةِ أَبِيهِ ، وَلَهُ الثُّلُثُ بِقَرَابَةِ أُمِّهِ ، وَلِلْبِنْتِ وَهِيَ أُخْتُهُ مِنْ أُمِّهِ السُّدُسُ ، وَتَكُونُ مِنْ سِتَّةٍ : لِلِابْنِ خَمْسَةٌ ، وَلِلْبِنْتِ سَهْمٌ : لِأَنَّهَا فِي التَّنْزِيلِ بِمَنْزِلَةِ بِنْتَيْنِ أَخَذَتَا الْمَالَ نِصْفَيْنِ ، ثُمَّ تَرَكَتْ إِحْدَاهُمَا ابْنًا ، فَصَارَ النِّصْفُ لَهُ ، وَأَمَّا الْأُخْرَى فَتَرَكَتْ بِنْتًا صَارَ النِّصْفُ إِلَيْهَا ، ثُمَّ تَرَكَتِ الْبِنْتُ ابْنًا وَبِنْتًا ، فَصَارَ النِّصْفُ بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ، فَصَارَ إِلَى الِابْنِ النِّصْفُ عَنْ جَدَّتِهِ أُمِّ أَبِيهِ وَالثُّلُثُ عَنْ جَدَّتِهِ أُمِّ أُمِّهِ ، وَصَارَ إِلَى جَدَّتِهِ السُّدُسُ عَنْ جَدَّتِهَا أُمِّ أُمِّهَا ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ : لِلذَّكَرِ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسٍ وَلِلْأُنْثَى خُمُسٌ : لِأَنَّهُ يَجْعَلُ مَنْ يُدْلِي بِقَرَابَتَيْنِ كَشَخْصَيْنِ . بِنْتَا أُخْتٍ لِأُمٍّ إِحْدَاهُمَا بِنْتُ أَخٍ لِأَبٍ ، وَبِنْتُ أُخْتٍ لِأُمٍّ وَأَبٍ ، هِيَ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ ، لِبِنْتِ الْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ النِّصْفُ سِتَّةٌ ، وَلِبِنْتِ الْأَخِ مِنَ الْأَبِ أَرْبَعَةٌ بِقَرَابَةِ أَبِيهَا ، وَسَهْمٌ بِقَرَابَةِ أُمِّهَا ، فَصَارَ لَهَا خَمْسَةً وَلِأُخْتِهَا سَهْمٌ : لِأَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ أُخْتٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأُخْتٍ لِأُمٍّ وَأَخٍ لِأَبٍ . بِنْتَا بِنْتِ أُخْتٍ لِأَبٍ ، وَإِحْدَاهُمَا هِيَ بِنْتُ ابْنِ أُخْتٍ لِأَبٍ ، وَالْأُخْرَى هِيَ بِنْتُ ابْنِ أَخٍ لِأُمٍّ ، هِيَ مِنْ عَشَرَةِ أَسْهُمٍ لِلَّتِي هِيَ بِنْتُ ابْنِ أُخْتٍ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ بِأُمِّهَا وَسَهْمَانِ بِأَبِيهَا ، وَلِأُخْتِهَا
كَذَلِكَ ، فَيَصِيرُ الْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ : لِأَنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ أُخْتٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأُخْتٍ لِأَبٍ ، وَأَخٍ لِأُمٍّ ، فَكَانَ الْمَالُ عَلَى خَمْسَةٍ : ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ مِنْهَا وَهِيَ سِهَامُ الْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ صَارَتْ إِلَى بِنْتَيْ بِنْتَيْهَا ، وَسَهْمُ الْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ صَارَ إِلَى بِنْتِ أَبِيهَا ، وَسَهْمُ الْأَخِ مِنَ الْأُمِّ صَارَ إِلَى بِنْتِ ابْنٍ . خَالَتَانِ مِنْ أُمِّ إِحْدَاهُمَا هِيَ عَمَّةٌ مِنْ أَبٍ ، وَعَمٌّ مِنْ أُمٍّ هُوَ خَالٌ مِنْ أَبٍ الإرث ، هِيَ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ : لِلْخَالَةِ الَّتِي هِيَ عَمَّةٌ مِنْ أَبٍ تِسْعَةُ أَسْهُمٍ بِأَنَّهَا عَمَّةٌ وَسَهْمٌ بِأَنَّهَا خَالَةٌ ، وَلِأُخْتِهَا سَهْمٌ ، وَلِلْعَمِّ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ بِأَنَّهُ عَمٌّ مِنْ أُمٍّ ، وَلَهُ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ بِأَنَّهُ خَالٌ مِنْ أَبٍ : لِأَنَّهُمْ يُنَزَّلُونَ بِمَنْزِلَةِ خَالَتَيْنِ مِنْ أُمٍّ ، وَخَالٌ مِنْ أَبٍ ، وَعَمَّةٌ مِنْ أَبٍ وَعَمٌّ مِنْ أُمٍّ ، فَكَانَ الثُّلُثُ بَيْنَ الْخَالَتَيْنِ مِنَ الْأُمِّ وَالْخَالُ مِنَ الْأَبِ عَلَى سِتَّةٍ ، وَالثُّلُثَانِ بَيْنَ الْعَمَّةِ مِنَ الْأَبِ وَالْعَمِّ مِنَ الْأُمِّ عَلَى أَرْبَعَةٍ فَصَحَّتْ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا لِبِنْتِ ابْنِ الْخَالِ مِنَ الْأَبِ الَّتِي هِيَ بِنْتُ عَمٍّ مِنْ أُمٍّ سِتَّةُ أَسْهُمٍ بِأُمِّهَا وَسَهْمٌ لِأَبِيهَا ، وَلِأُخْتِهَا الَّتِي هِيَ بِنْتُ خَالَةٍ مِنْ أَبٍ سَهْمٌ بِأَبِيهَا وَسَهْمٌ بِأُمِّهَا : لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ خَالٍ وَخَالَةٍ مِنْ أَبٍ وَعَمٍّ مِنْ أُمٍّ ، فَكَانَ الثُّلُثُ عَلَى ثَلَاثَةٍ وَصَحَّتْ مِنْ تِسْعَةٍ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .
فَصْلٌ فِي الرَّدِّ
فَصْلٌ فِي الرَّدِّ في الإرث وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ نُقْصَانِ الْفُرُوضِ عَنِ اسْتِيعَابِ الْمَالِ وَالْخِلَافُ فِيهِ كَالْخِلَافِ فِي ذَوِي الْأَرْحَامِ . فَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَمْنَعُ مِنَ الرَّدِّ مَعَ وُجُودِ بَيْتِ الْمَالِ ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمِنَ التَّابِعِينَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ وَالزُّهْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَدَاوُدُ وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَهْلُ الْعِرَاقِ إِلَى الرَّدِّ ، وَبِهِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الدَّلِيلِ عَلَى تَقْدِيمِ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ وَالرَّدِّ عَلَى أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ بَقِيَّةَ الْمَالِ إِذَا لَمْ تَكُنْ عَصَبَةً إِذَا كَانَ بَيْتُ الْمَالِ مَوْجُودًا ، فَأَمَّا إِذَا عُدِمَ بَيْتُ الْمَالِ فَالضَّرُورَةُ تَدْعُو إِلَى الرَّدِّ كَمَا دَعَتْ إِلَى تَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ . وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالرَّدِّ فِي كَيْفِيَّةِ الرَّدِّ ، فَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَرُدُّ عَلَى كُلِّ ذِي سَهْمٍ بِقَدْرِ سَهْمِهِ إِلَّا عَلَى الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ وَهُوَ الَّذِي يَعْمَلُ عَلَيْهِ وَيُفْتِي بِهِ . وَرُوِيَ عَنِ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرُدُّ عَلَى الْجَدِّ ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ . وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَرُدُّ عَلَى كُلِّ ذِي سَهْمٍ بِقَدْرِ سَهْمِهِ إِلَّا عَلَى الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ ، وَكَانَ لَا يَرُدُّ عَلَى أَرْبَعٍ مَعَ أَرْبَعٍ : عَلَى بِنْتِ الِابْنِ مَعَ بِنْتِ الصُّلْبِ ، وَعَلَى الْأُخْتِ لِلْأَبِ مَعَ الْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ ، وَعَلَى وَلَدِ الْأُمِّ مَعَ الْأُمِّ ، وَعَلَى الْجَدِّ مَعَ ذِي سَهْمٍ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ . وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ يَرُدُّ عَلَى كُلِّ ذِي سَهْمٍ بِقَدْرِ سَهْمِهِ إِلَّا عَلَى الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ وَالْجَدِّ .
مِنْ مَسَائِلِ الرَّدِّ : إِذَا تَرَكَ أُمًّا وَبِنْتًا ، فَلِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ ، وَالْبَاقِي رَدٌّ عَلَيْهِمَا فَيَصِيرُ الْمَالُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَرْبَعَةٍ . وَلَوْ تَرَكَ أُمًّا وَأُخْتًا ، كَانَ لِلْأُمِّ الثُّلُثُ وَلِلْأُخْتِ النِّصْفُ ، وَالْبَاقِي رَدٌّ عَلَيْهِنَّ فَيَصِيرُ الْمَالُ بَيْنَهُنَّ عَلَى خَمْسَةٍ . وَلَوْ تَرَكَ أُمًّا وَبِنْتَيْنِ ، كَانَ لِلْأُمِّ السُّدُسُ ، وَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ ، وَالْبَاقِي رَدٌّ عَلَيْهِنَّ ، فَيَصِيرُ الْمَالُ بَيْنَهُنَّ عَلَى خَمْسَةٍ . وَلَوْ تَرَكَ زَوْجَةً وَأُخْتًا لِأُمٍّ وَأُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ ، كَانَ لِلزَّوْجَةِ الرُّبُعُ وَلِلْأُخْتِ لِلْأُمِّ السُّدُسُ ، وَلِلْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ النِّصْفُ وَيَبْقَى نِصْفُ سُدُسٍ يُرَدُّ عَلَى الْأُخْتَيْنِ دُونَ الزَّوْجَةِ ، فَيَصِيرُ الْبَاقِي بَعْدَ رُبُعِ الزَّوْجَةِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَالِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ عَلَى أَرْبَعَةٍ ، وَتَصِحُّ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ سَهْمًا . وَلَوْ تَرَكَتْ زَوْجًا وَأُمًّا وَبِنْتًا كَانَ لِلزَّوْجِ الرُّبُعُ ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ ، وَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ ، وَالْبَاقِي رَدٌّ عَلَى الْأُمِّ وَالْبِنْتِ فَيَصِيرُ الْبَاقِي بَعْدَ رُبُعِ الزَّوْجِ بَيْنَ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ عَلَى أَرْبَعَةٍ ، وَتَصِحُّ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ كَالْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا . وَلَوْ تَرَكَ بِنْتًا وَبِنْتَ ابْنٍ ، كَانَ لِلْبِنْتِ النِّصْفُ ، وَلِبِنْتِ الِابْنِ السُّدُسُ ، وَالْبَاقِي رَدٌّ عَلَيْهَا عَلَى قَوْلِ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَيُقْسَمُ الْمَالُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ . وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ يُرَدُّ عَلَى الْبِنْتِ ، فَيَكُونُ لِبِنْتِ الِابْنِ السُّدُسُ ، وَالْبَاقِي لِلْبِنْتِ بِالْفَرْضِ وَالرَّدِّ ، وَتَصِحُّ مِنْ سِتَّةٍ ، وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي أُخْتٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأُخْتٍ لِأَبٍ أَوْ لِأُمٍّ . وَلَوْ تَرَكَ جَدًّا وَبِنْتًا وَبِنْتَ ابْنٍ ، فَعَلَى قَوْلِ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - : الْمَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى خَمْسَةٍ ، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِلْجَدَّةِ السُّدُسُ ، وَلِبِنْتِ الِابْنِ السُّدُسُ ، وَالْبَاقِي لِلْبِنْتِ بِالْفَرْضِ وَالرَّدِّ ، وَتَصِحُّ مِنْ سِتَّةٍ . وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ : لِلْجَدَّةِ السُّدُسُ ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْبِنْتِ وَبِنْتِ الِابْنِ عَلَى أَرْبَعَةٍ ، وَتَصِحُّ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ ، ثُمَّ عَلَى قِيَاسِ هَذَا يَكُونُ الرَّدُّ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ . آخَرُ كِتَابِ الْفَرَائِضِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا .
_____كِتَابُ الْوَصَايَا _____
بيان الأصل في الوصايا
كِتَابُ الْوَصَايَا إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّرَ لِخَلْقِهِ آجَالًا وَبَسَطَ لَهُمْ فِيهَا آمَالًا ، ثُمَّ أَخْفَى عَلَيْهِمْ حُلُولَ آجَالِهِمْ وَحَذَّرَهُمْ غُرُورَ آمَالِهِمْ ، فَحَقِيقٌ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ مُبَاهِيًا لِلْوَصِيَّةِ حَذِرًا مِنْ حُلُولِ الْمَنِيَّةِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [ الْبَقَرَةِ : 180 ] ، فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ [ الْبَقَرَةِ : 181 ] . إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : غَفُورٌ رَحِيمٌ [ الْبَقَرَةِ : 182 ] . أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : كُتِبَ عَلَيْكُمْ فَيَعْنِي : فُرِضَ عَلَيْكُمْ . وَقَوْلُهُ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ، يَعْنِي : أَسْبَابَ الْمَوْتِ . " إِنْ تَرَكَ خَيْرًا " يَعْنِي : مَالًا . قَالَ مُجَاهِدٌ : الْخَيْرُ فِي الْقُرْآنِ كُلِّهِ الْمَالُ : وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [ الْعَادِيَاتِ : 8 ] الْمَالُ فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي [ ص : 32 ] الْمَالُ . فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا [ النُّورِ : 33 ] الْمَالُ . وَقَالَ شُعَيْبٌ : إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ [ هُودٍ : 184 ] ، يَعْنِي : الْغِنَى . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : الْخَيْرُ كَلِمَةٌ تُعْرَفُ مَا أُرِيدَ بِهَا الْمُخَاطَبَةُ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ [ الْبَيِّنَةِ : 7 ] . فَقُلْنَا : إِنَّهُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ بِالْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ لَا بِالْمَالِ . وَقَالَ تَعَالَى : أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ فَقُلْنَا إِنَّ الْخَيْرَ الْمَنْفَعَةُ بِالْأَجْرِ وَقَالَ : إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ [ الْبَقَرَةِ : 180 ] . فَقُلْنَا : إِنَّهُ إِنْ تَرَكَ مَالًا : لِأَنَّ الْمَالَ هُوَ الْمَتْرُوكُ ، ثُمَّ قَالَ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ وَفِي الْأَقْرَبِينَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُمُ الْأَوْلَادُ الَّذِينَ لَا يَسْقُطُونَ فِي الْمِيرَاثِ ، دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأَقَارِبِ الَّذِينَ يَسْقُطُونَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُمُ الْوَرَثَةُ مِنَ الْأَقَارِبِ كُلِّهِمْ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُمْ كُلُّ الْأَقَارِبِ مِنْ وَارِثٍ وَغَيْرِ وَارِثٍ ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ . وَاخْتَلَفُوا فِي ثُبُوتِ حُكْمِهَا الوصية فَقَالَ بَعْضُهُمْ : كَانَ حُكْمُهَا ثَابِتًا فِي الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ حَقًّا وَاجِبًا ، وَفَرْضًا لَازِمًا ، فَلِمَا نَزَلَتْ آيَةُ الْمَوَارِيثِ نُسِخَ مِنْهَا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَكُلُّ
وَارِثٍ ، وَبَقِيَ فَرْضُ الْوَصِيَّةِ لِغَيْرِ الْوَرَثَةِ فِي الْأَقْرَبِينَ عَلَى حَالِهِ وَهُوَ قَوْلُ طَاوُسٍ وَقَتَادَةَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ . فَإِنْ وَصَّى بِثُلُثِهِ لِغَيْرِ قَرَابَتِهِ الوصية فَقَدِ اخْتَلَفُوا ، فَقَالَ طَاوُسٌ : يَرُدُّ الثُّلُثَ كُلَّهُ عَلَى قَرَابَتِهِ ، وَقَالَ قَتَادَةُ : يَرُدُّ ثُلُثَ الثُّلُثِ عَلَى قَرَابَتِهِ وَثُلُثَا الثُّلُثِ لِمَنْ أَوْصَى لَهُ بِهِ . وَقَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ : رَدَّ ثُلُثَا الثُّلُثِ عَلَى قَرَابَتِهِ وَثُلُثَ الثُّلُثِ لِمَنْ أَوْصَى بِهِ . وَاخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ الْمَالِ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ مِنْهُ عَلَى أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ ، وَتَأَوَّلُوا قَوْلَهُ تَعَالَى : إِنْ تَرَكَ خَيْرًا [ الْبَقَرَةِ : 183 ] أَلْفَ دِرْهَمٍ ، وَهَذَا قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . وَالثَّانِي : خَمْسُمِائَةٍ ، وَهَذَا قَوْلُ النَّخَعِيِّ . وَالثَّالِثُ : يَجِبُ فِي قَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ ، فَهَذَا قَوْلُ مَنْ جَعَلَ حُكْمَ الْآيَةِ ثَابِتًا . وَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ وَجُمْهُورُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ إِلَى أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِالْمَوَارِيثِ . وَاخْتَلَفُوا بِأَيَّةِ آيٍ نُسِخَتْ ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ : نُسِخَتْ بِآيَةِ الْوَصَايَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ [ النِّسَاءِ : 7 ] وَقَالَ آخَرُونَ : نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ [ الْأَنْفَالِ : 75 ] . وَسَنَذْكُرُ دَلِيلَ مَنْ أَثْبَتَهَا وَمَنْ نَسَخَهَا فِيمَا بَعْدُ . ثُمَّ قَالَ : فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ [ الْبَقَرَةِ : 182 ] وَأَصْلُ الْجَنَفِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ : الْجَوْرُ وَالْعُدُولُ عَنِ الْحَقِّ . وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ : هُمُ الْمَوْلَى وَقَدْ جَنَفُوا عَلَيْنَا وَإِنَّا مِنْ لِقَائِهِمُ لَزُورُ وَفِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى : جَنَفًا أَوْ إِثْمًا ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْجَنَفَ : الْمَيْلُ وَالْإِثْمُ : أَنْ يَأْثَمَ فِي إِثْرَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ ، وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ وَابْنِ دُرَيْدٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْجَنَفَ : الْخَطَأُ ، وَالْإِثْمَ : الْعَمْدُ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ الرَّجُلَ يُوصِي لِوَلَدِ بَنِيهِ وَهُوَ يَرُدُّ بَنِيهِ ، وَهَذَا قَوْلُ طَاوُسٍ . وَاخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى : فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ [ الْبَقَرَةِ : 182 ] عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ تَأْوِيلَهَا : فَمَنْ حَضَرَ مَرِيضًا وَهُوَ يُوصِي عِنْدَ إِشْرَافِهِ عَلَى الْمَوْتِ ، فَخَافَ أَنْ يُخْطِئَ فِي وَصِيَّتِهِ ، فَيَفْعَلَ مَا لَيْسَ لَهُ أَوْ يَعْمِدَ جَوْرًا فِيهَا فَيَأْمُرَ بِمَا لَيْسَ لَهُ ، فَلَا حَرَجَ
عَلَى مَنْ حَضَرَهُ ، فَسَمِعَ ذَلِكَ مِنْهُ أَنْ يُصْلِحَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَرَثَتِهِ ، بِأَنْ يَأْمُرَهُ بِالْعَدْلِ فِي وَصِيَّتِهِ ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ تَأْوِيلَهَا : فَمَنْ خَافَ مِنْ أَوْصِيَاءِ الْمَيِّتِ جَنَفًا فِي وَصِيَّتِهِ الَّتِي أَوْصَى بِهَا الْمَيِّتُ ، فَأَصْلَحَ بَيْنَ وَرَثَتِهِ وَبَيْنَ الْمُوصَى لَهُمْ فِيمَا أَوْصَى لَهُمْ بِهِ ، فَيَرُدُّ الْوَصِيَّةَ إِلَى الْعَدْلِ وَالْحَقِّ ، فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ، هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ تَأْوِيلَهَا : فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فِي عَطِيَّتِهِ لِوَرَثَتِهِ عِنْدَ حُضُورِ أَجَلِهِ ، فَأَعْطَى بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ ، فَلَا إِثْمَ عَلَى مَنْ أَصْلَحَ بَيْنَ الْوَرَثَةِ فِي ذَلِكَ ، وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ . وَالرَّابِعُ : أَنَّ تَأْوِيلَهَا : فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فِي وَصِيَّتِهِ لِمَنْ لَا يَرِثُهُ لَمْ يَرْجِعْ نَفْعُهُ عَلَى مَنْ يَرِثُهُ فَأَصْلَحَ بَيْنَ وَرَثَتِهِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ، وَهَذَا قَوْلُ طَاوُسٍ . وَقَالَ تَعَالَى : مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ [ النِّسَاءِ : 12 ] ، فَلَا ضِرَارَ فِي الْوَصِيَّةِ أَنْ يُوصِيَ بِأَكْثَرِ مِنَ الثُّلُثِ ، وَالْإِضْرَارُ فِي الدَّيْنِ أَنْ يَبِيعَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ وَيَشْتَرِيَ بِأَكْثَرَ مِنْهُ . وَقَدْ رَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : الْإِضْرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنَ الْكَبَائِرِ . وَقَالَ تَعَالَى : وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ [ الْبَقَرَةِ : 132 ] الْآيَةَ . وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : قَالَ : مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ ، إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ عِنْدَ رَأْسِهِ مَكْتُوبَةٌ . وَرَوَى شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ سَبْعِينَ سَنَةً ، ثُمَّ يُوصِي فَيَجْنَفُ فِي وَصِيَّتِهِ فَيُخْتَمُ لَهُ بِشَرِّ عَمَلِهِ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ سَبْعِينَ سَنَةً ، ثُمَّ يُوصِي فَيَعْدِلُ فِي وَصِيَّتِهِ ، فَيُخْتَمُ لَهُ بِخَيْرِ عَمَلِهِ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : أَعَجَزَ الْمُوصِي أَنْ يُوصِيَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ . وَرَوَى أَبُو قَتَادَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا دَخَلَ الْمَدِينَةَ سَأَلَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ فَقَالُوا :
هَلَكَ وَأَوْصَى لَكَ بِثُلُثِ مَالِهِ ، فَقَبِلَهُ وَرَدَّهُ عَلَى وَرَثَتِهِ . وَقِيلَ إِنَّهُ كَانَ أَوَّلَ مَنْ أَوْصَى بِالثُّلُثِ ، وَأَوَّلَ مَنْ وَصَّى بِأَنْ يُدْفَنَ إِلَى الْقِبْلَةِ ، ثُمَّ صَارَا جَمِيعًا سُنَّةً مَتْبُوعَةً . وَالْوَصِيَّةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ لَا يَجُوزُ ، وَقِسْمٌ يَجُوزُ وَلَا يَجِبُ ، وَقِسْمٌ مُخْتَلَفٌ فِي وُجُوبِهَا . فَأَمَّا الَّذِي لَا يَجُوزُ : فَالْوَصِيَّةُ لِلْوَارِثِ . وَرَوَى شُرَحْبِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ . وَأَمَّا الَّتِي تَجُوزُ وَلَا تَجِبُ فَالْوَصِيَّةُ لِلْأَجَانِبِ ، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ ، فَقَدْ أَوْصَى الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِثُلُثِ مَالِهِ فَقَبِلَهُ ، ثُمَّ رَدَّهُ عَلَى وَرَثَتِهِ . وَأَمَّا الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا : فَالْوَصِيَّةُ لِلْأَقَارِبِ . ذَهَبَ أَهْلُ الظَّاهِرِ مَعَ مَنْ قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ إِلَى وُجُوبِهَا لِلْأَقَارِبِ ، تَعَلُّقًا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى : الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [ الْبَقَرَةِ : 180 ] وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : مَنْ مَاتَ مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً . وَبِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ عِنْدَهُ مَكْتُوبَةٌ . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ لِلْأَقَارِبِ وَالْأَجَانِبِ ، مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - : أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُوصِ . وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ : مَرِضْتُ عَامَ الْفَتْحِ مَرَضًا أَشْرَفْتُ مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ ، فَأَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعُودُنِي ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ : إِنَّ لِي مَالًا كَثِيرًا ، وَلَيْسَ يَرِثُنِي إِلَّا ابْنِي ، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي ؟ قَالَ : لَا ، قُلْتُ : فَبِالشَّطْرِ . قَالَ : لَا ، قُلْتُ : فَالثُّلُثُ ؟ قَالَ : الثُّلُثُ . وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ ، إِنَّكَ إِنْ تَدَعْ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرًا مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ فَاقْتَصَرَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْوَصِيَّةِ عَلَى مَا جَعَلَهُ خَارِجًا مَخْرَجَ الْجَوَازِ لَا مَخْرَجَ الْإِيجَابِ ، ثُمَّ بَيْنَ أَنَّ غِنَى الْوَرَثَةِ بَعْدَهُ أَوْلَى مِنْ فَقْرِهِمْ .
وَرَوَى أَبُو زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : أَنْ تَتَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ حَرِيصٌ ، تَأْمَلُ الْغِنَى وَتَخْشَى الْفَقْرَ ، وَلَا تُمْهِلَ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ قُلْتَ لِفُلَانٍ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ فَلَمَّا جَعَلَ الصَّدَقَةَ فِي حَالِ الصِّحَّةِ أَفْضَلَ مِنْهَا عِنْدَ الْمَوْتِ ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِي حَالِ الصِّحَّةِ وَاجِبَةً فَأَوْلَى أَلَّا تَكُونَ عِنْدَ الْمَوْتِ وَاجِبَةً . وَرَوَى ابْنُ أَبِي ذُؤَيْبٍ عَنْ شُرَحْبِيلَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : لِأَنْ يَتَصَدَّقَ الْمَرْءُ فِي حَيَاتِهِ بِدِرْهَمٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمِائَةٍ عِنْدَ مَوْتِهِ ، وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَوْ وَجَبَتْ لَا جَبْرَ عَلَيْهَا ، وَلَأُخِذَتْ مِنْ مَالِهِ إِنِ امْتَنَعَ مِنْهَا كَالدُّيُونِ وَالزَّكَوَاتِ ، وَلِأَنَّ الْوَصَايَا عَطَايَا فَأَشْبَهَتِ الْهِبَاتِ . فَأَمَّا الْآيَةُ فَمَنْعُ الْوَالِدَيْنِ مِنَ الْوَصِيَّةِ مَعَ تَقْدِيمِ ذِكْرِهَا فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى نَسْخِهَا . وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : مَنْ مَاتَ مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً فَمَحْمُولٌ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ . وَأَمَّا عَلَى مَنْ كَانَتْ عَلَيْهِ دُيُونُ حُقُوقٍ لَا يُوصَلُ إِلَى أَرْبَابِهَا إِلَّا بِالْوَصِيَّةِ ، فَتَصِيرُ الْوَصِيَّةُ ذِكْرُهَا وَأَدَاؤُهَا وَاجِبَةً . وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ فَهَذَا خَارِجٌ مِنْهُ مَخْرَجَ الِاحْتِيَاطِ ، وَمَعْنَاهُ : مَا الْحَزْمُ لِامْرِئٍ . عَلَى أَنَّ نَافِعًا قَالَ لِابْنِ عُمَرَ بَعْدَ أَنْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ حِينَ حَضَرَهُ الْمَوْتُ : هَلَّا أَوْصَيْتَ ؟ قَالَ : أَمَّا مَالِي فَاللَّهُ أَعْلَمُ مَا كُنْتُ أَفْعَلُ فِيهِ فِي حَيَاتِي ، وَأَمَّا رِبَاعِي وَدُورِي فَمَا أُحِبُّ أَنْ يُشَارِكَ وَلَدِي فِيهَا أَحَدٌ . فَلَوْ عَلِمَ وُجُوبَ الْوَصِيَّةِ لَمَا رَوَاهُ وَلَمَا تَرَكَهَا .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا مِنْ جَوَازِ الْوَصِيَّةِ دُونَ وُجُوبِهَا فَالْوَصِيَّةُ تَشْتَمِلُ عَلَى أَرْبَعَةِ شُرُوطٍ وَهِيَ : مُوصٍ ، وَمُوصًى لَهُ ، وَمُوصًى بِهِ ، وَمُوصًى إِلَيْهِ . فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الْمُوصِي ، فَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ مُمَيِّزًا ، حُرًّا ، فَإِذَا اجْتَمَعَ فِيهِ هَذَانِ الشَّرْطَانِ صَحَّتْ وَصِيَّتُهُ فِي مَالِهِ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا . فَأَمَّا الْمَجْنُونُ وَصِيَّتِهِ : فَلَا تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُمَيِّزٍ ، وَأَمَّا الصَّبِيُّ وَصِيَّتِهِ فَإِنْ كَانَ طِفْلًا غَيْرَ مُمَيِّزٍ فَوَصَّيْتُهُ بَاطِلَةٌ ، وَإِنْ كَانَ مُرَاهِقًا فَفِي جَوَازِ وَصِيَّتِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا لَا يَجُوزُ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ لِارْتِفَاعِ الْقَلَمِ عَنْهُ كَالْمَجْنُونِ ، وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ عَقْدٌ فَأَشْبَهَتْ سَائِرَ الْعُقُودِ ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ : أَنَّ وَصِيَّتَهُ جَائِزَةٌ لِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَيْقِيِّ ، قَالَ :
سُئِلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ غُلَامٍ يَبْلُغُ مِنْ غَسَّانَ أَوْصَى لِبِنْتِ عَمِّهِ وَلَهُ عَشْرُ سِنِينَ ، وَلَهُ وَارِثٌ بِبَلَدٍ آخَرَ ، فَأَجَازَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَصِيَّتَهُ ، وَلِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ مُنِعَتْ عُقُودُهُ هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ أُمْضِيَتْ وَصِيَّتُهُ : لِأَنَّ الْحَظَّ لَهُ فِي مَنْعِ الْعُقُودِ : لِأَنَّهُ لَا يَتَعَجَّلُ بِهَا نَفْعًا وَلَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِدْارَكِهَا إِذَا بَلَغَ ، وَالْحَظُّ لَهُ فِي إِمْضَاءِ الْوَصِيَّةِ : لِأَنَّهُ إِنْ مَاتَ فَلَهُ ثَوَابُهَا وَذَلِكَ أَحْظَى لَهُ مِنْ تَرْكِهِ عَلَى وَرَثَتِهِ ، وَإِنْ عَاشَ وَبَلَغَ ، قَدَرَ عَلَى اسْتِدْارَكِهَا بِالرُّجُوعِ فِيهَا ، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَعْتَقَ فِي مَرَضِهِ أَوْ حَابَى أَوْ وَهَبَ فَفِي صِحَّةِ ذَلِكَ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ صَحِيحٌ مَمْضِيٌّ : لِأَنَّ ذَلِكَ وَصِيَّةٌ تُعْتَبَرُ فِي الثُّلُثِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ : لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ يَقْدِرُ عَلَى الرُّجُوعِ فِيهَا إِنْ صَحَّ ، وَالْعِتْقُ وَالْهِبَةُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الرُّجُوعِ فِيهِمَا إِنْ صَحَّ . فَأَمَّا وَصِيَّةُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ ، فَإِنْ قِيلَ بِجَوَازِ وَصِيَّةِ الصَّبِيِّ ، فَوَصِيَّةُ السَّفِيهِ أَجْوَزُ ، وَإِنْ قِيلَ بِبُطْلَانِ وَصِيَّةِ الصَّبِيِّ ، كَانَتْ وَصِيَّةُ السَّفِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ ، لِاخْتِلَافِهِمْ فِي تَعْلِيلِ وَصِيَّةِ الصَّبِيِّ ، فَإِنْ عَلَّلَ فِي إِبْطَالِ وَصِيَّتِهِ بِارْتِفَاعِ الْقَلَمِ عَنْهُ جَازَتْ وَصِيَّةُ السَّفِيهِ لِجَرَيَانِ الْقَلَمِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ عَلَّلَ فِي إِبْطَالِ وَصِيَّةِ الصَّبِيِّ بِإِبْطَالِ عُقُودِهِ ، بَطَلَتْ وَصِيَّةُ السَّفِيهِ لِبُطْلَانِ عُقُودِهِ . وَأَمَّا الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِالْفَلْسِ ، فَإِنْ رَدَّهَا الْغُرَمَاءُ بَطَلَتْ ، وَإِنْ أَمْضَوْهَا جَازَتْ ، فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ حَجْرَ الْفَلْسِ كَحَجْرِ الْمَرَضِ صَحَّتْ ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ كَحَجْرِ السَّفِيهِ كَانَتْ عَلَى وَجْهَيْنِ . وَأَمَّا الْعَبْدُ فَوَصِيَّتُهُ بَاطِلَةٌ ، وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ وَالْمُكَاتَبُ : لِأَنَّ السَّيِّدَ أَمْلَكُ مِنْهُمْ لِمَا فِي أَيْدِيهِمْ . فَأَمَّا الْكَافِرُ فَوَصِيَّتُهُ جَائِزَةٌ ، ذِمِّيًّا كَانَ أَوْ حَرْبِيًّا ، إِذَا وَصَّى بِمِثْلِ مَا وَصَّى بِهِ الْمُسْلِمُ . فَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي : فِي الْمُوصَى لَهُ . فَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِكُلِّ مَنْ جَازَ الْوَقْفُ عَلَيْهِ مِنْ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ ، وَعَاقِلٍ وَمَجْنُونٍ ، وَمَوْجُودٍ وَمَعْدُومٍ ، إِذَا لَمْ يَكُنْ وَارِثًا وَلَا قَاتِلًا . فَأَمَّا الْوَارِثُ فَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - : لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ وَلَوْ وَصَّى لِأَحَدِ وَرَثَتِهِ كَانَ فِي الْوَصِيَّةِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلَةٌ إِذْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى إِلَّا أَنْ يَسْتَأْنِفَهُ الْوَرَثَةُ الْبَاقُونَ هِبَتَهَا لَهُ بَعْدَ إِحَاطَةِ عِلْمِهِمْ بِمَا يُبْذَلُ مِنْهُمْ وَقَبُولٍ مِنْهُ ، وَقَبْضٍ تَلْتَزِمُ بِهِ الْهِبَةُ كَسَائِرِ الْهِبَاتِ ، فَتَكُونُ هِبَةً مَحْضَةً لَا تَجْرِي فِيهَا حُكْمُ الْوَصِيَّةِ ، وَهَذَا قَوْلُ الْمُزَنِيِّ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى إِجَازَةِ الْبَاقِينَ مِنَ الْوَرَثَةِ ، كَالْوَصِيَّةِ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ ، فَإِنْ أَجَازَهَا الْبَاقُونَ مِنَ الْوَرَثَةِ صَحَّتْ ، وَإِنْ رَدُّوهَا رَجَعَتْ مِيرَاثًا وَكَانَ الْمُوصَى لَهُ بِهِ كَأَحَدِهِمْ ، يَأْخُذُ فَرْضَهُ مِنْهَا ، وَإِنْ أَجَازَهَا بَعْضُهُمْ وَرَدَّهَا بَعْضُهُمْ صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ فِي حِصَّةِ مَنْ
أَجَازَهُ ، وَكَانَ الْمُوصَى لَهُ فِي الْبَاقِي مِنْهَا وَارِثًا مَعَ مَنْ رَدَّهُ ، ثُمَّ هَلْ تَكُونُ إِجَازَتُهُمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ ابْتِدَاءً عَطِيَّةً مِنْهُمْ ، أَوْ إِمْضَاءً ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَعَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ لَا تَفْتَقِرُ إِلَى بَذْلٍ وَقَبُولٍ ، بِخِلَافِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ لِلْقَاتِلِ فَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهَا جَائِزَةٌ وَإِنْ لَمْ يَرْثِ ، كَمَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِلْكَافِرِ وَإِنْ لَمْ يَرِثْ ، وَلِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ يُرَاعَى فِيهِ الْقَبُولُ ، فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ الْقَتْلُ كَالْبَيْعِ . وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَيْسَ لِلْقَاتِلِ وَصِيَّةٌ ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ يُمْلَكُ بِالْمَوْتِ ، فَاقْتَضَى أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ الْقَاتِلُ كَالْمِيرَاثِ ، عَلَى أَنَّ الْمِيرَاثَ أَقْوَى التَّمْلِيكَاتِ ، فَلَمَّا مَنَعَ مِنْهُ الْقَتْلُ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَمْنَعَ مِنَ الْوَصِيَّةِ . فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَانِ الْقَوْلَانِ ، فَلَا فَرْقَ أَنْ يُوصِيَ لَهُ بَعْدَ جَرْحِهِ إِيَّاهُ وَجِنَايَتِهِ عَلَيْهِ ، وَبَيْنَ أَنْ يُوصِيَ لَهُ قَبْلَ الْجِنَايَةِ ، ثُمَّ يَجْنِي عَلَيْهِ فَيَقْتُلُهُ فِي أَنَّ الْوَصِيَّةَ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَلَكِنْ لَوْ قَالَ الْمُوصِي وَلَيْسَ بِمَجْرُوحٍ : قَدْ وَصَّيْتُ بِثُلُثِ مَالِي لِمَنْ يَقْتُلُنِي . فَقَتَلَهُ رَجُلٌ ، لَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ قَوْلًا وَاحِدًا لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِأَنَّهَا وَصِيَّةُ عَقْدٍ عَلَى مَعْصِيَةٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ فِيهَا إِغْرَاءً بِقَتْلِهِ . فَإِنْ وَصَّى بِثُلُثِهِ لِقَاتِلِ زَيْدٍ ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَتْلِ لَمْ يَجُزْ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ قَتْلِهِ جَازَ ، وَكَانَ الْقَتْلُ تَعْرِيفًا . وَهَكَذَا لَوْ وَهَبَ فِي مَرَضِهِ لِقَاتِلِهِ هِبَةً أَوْ حَابَاهُ فِي بَيْعٍ ، أَوْ أَبْرَأَهُ مِنِ حَقٍّ ، فَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ : لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ لَهُ تُعْتَبَرُ مِنَ الثُّلُثِ . وَهَكَذَا لَوْ أَعْتَقَ فِي مَرَضِهِ عَبْدًا فَقَتَلَ الْعَبْدُ سَيِّدَهُ ، كَانَ لَهُ فِي عِتْقِهِ قَوْلَانِ : لِأَنَّ عِتْقَهُ وَصِيَّةٌ لَهُ . وَلَكِنْ لَوْ وَهَبَ هِبَةً فِي صِحَّتِهِ ، أَوْ أَبْرَأَ مِنْ حَقٍّ أَوْ حَابَى فِي بَيْعٍ أَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا ، ثُمَّ إِنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ قَتَلَ الْوَاهِبَ ، وَالْمُبَرَّأَ قَتْلَ الْمُشْتَرِي ، وَالْمُحَابَى قَتَلَ الْمُحَابِي ، وَالْعَبْدَ الْمُعْتَقَ قَتَلَ سَيِّدَهُ ، كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ نَافِذًا مَاضِيًا : لِأَنَّ فِعْلَهُ فِي الصِّحَّةِ يَمْنَعُ مِنْ إِجْرَائِهِ مَجْرَى الْوَصِيَّةِ . وَلَوْ جَرَحَ رَجُلٌ رَجُلًا ، ثُمَّ إِنِ الْمَجْرُوحُ وَصَّى لِلْجَارِحِ بِوَصِيَّةٍ ، ثُمَّ أَجْهَزَ عَلَى الْمُوصِي آخَرُ فَذَبَحَهُ جَازَتِ الْوَصِيَّةُ لِلْجَارِحِ الْأَوَّلِ : لِأَنَّ الذَّابِحَ الثَّانِي صَارَ قَاتِلًا ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الثَّانِي قَدْ ذَبَحَهُ ، وَلَكِنْ لَوْ جَرَحَهُ صَارَ الثَّانِي وَالْأَوَّلُ قَاتِلَيْنِ ، فَرَدَّ الْوَصِيَّةَ لِلْأَوَّلِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ . وَإِذَا قَتَلَ الْمُدَبَّرُ سَيِّدَهُ الوَصِيَّةِ ، فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ ، فَفِي بُطْلَانِ عِتْقِهِ قَوْلَانِ : لِأَنَّهُ يُعْتَقُ مِنَ الثُّلُثِ . وَلَوْ قَتَلَتْ أُمُّ الْوَلَدِ سَيِّدَهَا بَعْدَ عِتْقِهَا قَوْلًا وَاحِدًا لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ عِتْقَهَا مُسْتَحِقٌّ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ فِي اسْتِبْقَائِهَا عَلَى حَالِهَا إِضْرَارٌ بِالْوَرَثَةِ : لِأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى بَيْعِهَا وَخَالَفَ اسْتِيفَاءَ رِقِّ الْمُدَبَّرِ لِلْقُدْرَةِ عَلَى الْبَيْعَةِ . ثُمَّ يَنْظُرُ فِي أُمِّ الْوَلَدِ ، إِذَا كَانَ قَتْلُهَا عَمْدًا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَلَدُهَا بَاقِيًا قُتِلَتْ قَوَدًا ، وَإِنْ كَانَ بَاقِيًا سَقَطَ الْقَوَدُ عَنْهَا : لِأَنَّ وَلَدَهَا شَرِيكٌ لِلْوَرَثَةِ فِي الْقَوَدِ مِنْهَا ، وَهُوَ لَا يَسْتَحِقُّ الْقَوَدُ مِنْ أُمِّهِ فَسَقَطَ حَقُّهُ ، وَإِذَا سَقَطَ الْقَوَدُ عَنْهَا فِي حَقِّ بَعْضِ الْوَرَثَةِ ، سَقَطَ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ . وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا وَصَّى لِابْنِ قَاتِلِهِ أَوْ لِأَبِيهِ أَوْ لِزَوْجَتِهِ صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ : لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ غَيْرُ قَاتِلٍ . وَلَوْ أَوْصَى لِعَبْدِ الْقَاتِلِ لَمْ تَجُزْ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ : لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ لِلْقَاتِلِ . وَلَوْ أَقَرَّ رَجُلٌ لِقَاتِلِهِ دَيْنٌ كَانَ إِقْرَارُهُ نَافِذًا قَوْلًا وَاحِدًا : لِأَنَّ الدَّيْنَ لَازِمٌ وَهُوَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ فَخَالَفَ الْوَصَايَا . وَلَوْ كَانَ لِلْقَاتِلِ عَلَى الْمَقْتُولِ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ ، حَلَّ بِمَوْتِ الْمَقْتُولِ : لِأَنَّ الْأَجَلَ حَقٌّ لِمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَا يُورَثُ عَنْهُ ، وَلَيْسَ كَالْمَالِ الْمَوْرُوثِ ، إِذَا مَنَعَ الْقَاتِلُ مِنْهُ صَارَ إِلَى الْوَرَثَةِ . وَسَوَاءٌ كَانَ الْقَتْلُ فِي الْوَصِيَّةِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً ، كَمَا أَنَّ الْمِيرَاثَ يَمْنَعُ مِنْهُ قَتْلُ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ ، فَلَوْ أَجَازَ الْوَرَثَةُ لِلْقَاتِلِ وَقَدْ مَنَعَ مِنْهُمَا فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، كَانَ فِي إِمْضَائِهَا بِإِجَازَتِهِمْ وَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي إِمْضَائِهِمُ الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ . فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ مَرْدُودَةٌ وَلَا تَمْضِي بِإِجَازَتِهِمْ رُدَّتِ الْوَصِيَّةُ لِلْقَاتِلِ وَلَمْ تَمْضِ بِإِجَازَتِهِمْ . وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّهُ يَمْضِي الْوَصِيَّةُ لِلْوَارِثِ بِإِجَازَتِهِمْ ، أَمْضَتِ الْوَصِيَّةُ لِلْقَاتِلِ بِإِجَازَتِهِمْ . وَالْأَصَحُّ إِمْضَاءُ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ بِالْإِجَازَةِ ، وَرَدُّ الْوَصِيَّةِ لِلْقَاتِلِ مَعَ الْإِجَازَةِ : لِأَنَّ حَقَّ الرَّدِّ فِي الْوَصِيَّةِ إِنَّمَا هُوَ لِلْوَارِثِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْضِيلِ الْمُوصَى لَهُ عَلَيْهِمْ فَجَازَتِ الْوَصِيَّةُ لَهُ بِإِجَازَتِهِمْ ، وَحَقُّ الرَّدِّ فِي الْوَصِيَّةِ لِلْقَاتِلِ إِنَّمَا هُوَ لِلْمَقْتُولِ ، لِمَا فِيهِ مِنْ حَسْمِ الذَّرَائِعِ الْمَقْضِيَّةِ إِلَى قَتْلِ نَفْسِهِ ، فَلَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ بِإِجَازَتِهِمْ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ لِلْعَبْدِ ، فَإِنْ كَانَ لِعَبْدِ نَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ لِوَرَثَتِهِ . وَإِنْ كَانَتْ لَعَبْدِ غَيْرِهِ جَازَ وَكَانَتْ وَصِيَّةً لِسَيِّدِهِ ، وَهَلْ يَصِحُّ قَبُولُ الْعَبْدِ لَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ الوصية عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تَصِحُّ ، كَمَا يَصِحُّ أَنْ يَمْلِكَ وَالِاحْتِشَاشَ بِالِاصْطِيَادِ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ . وَالثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ : لَا تَصِحُّ لِأَنَّ السَّيِّدَ هُوَ الْمُمَلَّكُ . فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ : لَوْ قَبِلَهَا السَّيِّدُ دُونَ الْعَبْدِ لَمْ يَجُزْ . وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي : يَجُوزُ . فَأَمَّا إِذَا أَوْصَى لِمُدَبَّرِهِ
فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ إِذَا خَرَجَ الْمُدَبَّرُ مِنَ الثُّلُثِ : لِأَنَّهُ يَمْلِكُهَا دُونَ الْوَرَثَةِ ، لِعِتْقِهِ بِمَوْتِ السَّيِّدِ ، وَلَوْ خَرَجَ بَعْضُهُ مِنَ الثُّلُثِ دُونَ جَمِيعِهِ ، صَحَّ مِنَ الْوَصِيَّةِ بِقَدْرِ مَا عَتَقَ مِنْهُ ، وَبَطَلَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا رَقَّ مِنْهُ . وَلَوْ وَصَّى لِمُكَاتَبِهِ ، كَانَتِ الْوَصِيَّةُ جَائِزَةً : لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ يَمْلِكُ ، فَإِنْ عَتَقَ بِالْأَدَاءِ فَقَدِ اسْتَقَرَّ اسْتِحْقَاقُهُ لَهَا ، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَخَذَهَا قَبْلَ الْعِتْقِ وَإِلَّا أَخَذَهَا بَعْدَهُ . وَإِنَّ رَقَّ بِالْعَجْزِ نُظِرَ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَخَذَهَا فَهِيَ مَرْدُودَةٌ : لِأَنَّهُ صَارَ عَبْدًا مَوْرُوثًا ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَخَذَهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : تُرَدُّ اعْتِبَارًا بِالِانْتِهَاءِ فِي مَصِيرِهِ عَبْدًا مَوْرُوثًا . وَالثَّانِي : لَا تُرَدُّ اعْتِبَارًا بِالِابْتِدَاءِ فِي كَوْنِهِ مُكَاتَبًا مَالِكًا . فَأَمَّا الْوَصِيَّةُ لِأُمِّ وَلَدِهِ فَجَائِزَةٌ ، سَوَاءٌ كَانَ لَهَا وَلَدٌ وَارِثٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ : لِأَنَّ عِتْقَهَا بِالْمَوْتِ أَنْفَذُ مِنْ عِتْقِ الْمُدَبَّرِ ، وَلَا يَمْنَعُ مِيرَاثَ ابْنِهَا مِنْ إِمْضَاءِ الْوَصِيَّةِ : لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِأَبِي الْوَارِثِ وَابْنِهِ جَائِزَةٌ ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَوْصَى لِأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ لِلْكَافِرِ فَجَائِزَةٌ ، ذِمِّيًّا كَانَ أَوْ حَرْبِيًّا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْوَصِيَّةُ لِلْحَرْبِيِّ بَاطِلَةٌ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ لِلْمُسْلِمِينَ أَمْوَالَ الْمُشْرِكِينَ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَبِيعَ لِلْمُشْرِكِينَ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ . وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ شِرْكَ الذِّمِّيِّ ، لَمْ يَمْنَعْ شِرْكَ الْحَرْبِيِّ مِنَ الْوَصِيَّةِ كَالنِّكَاحِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا جَازَتِ الْهِبَةُ لِلْحَرْبِيِّ وَهُوَ أَمْضَى عَطِيَّةً مِنَ الْوَصِيَّةِ ، كَانَ أَوْلَى أَنْ تَجُوزَ لَهُ الْوَصِيَّةُ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُوصِي مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا . فَأَمَّا وَصِيَّةُ الْمُرْتَدِّ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ الْوَقْفِ : أَحَدُهَا : أَنْ يُوصِيَ لِمَنْ يَرْتَدُّ عَنِ الْإِسْلَامِ ، فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ لِعَقْدِهَا عَلَى مَعْصِيَةٍ . وَالثَّانِي : أَنْ يُوصِيَ بِهَا لِمُسْلِمٍ فَيَرْتَدُّ عَنِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ لَهُ ، الْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ : لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ صَادَفَتْ حَالَ الْإِسْلَامِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يُوصِيَ بِهَا لِمُرْتَدٍّ مُعَيَّنٍ ، فَفِي الْوَصِيَّةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهَا : بَاطِلَةٌ . وَالثَّانِي : جَائِزَةٌ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْوَصِيَّةُ لِلْمَيِّتِ : فَإِنْ ظَنَّهُ الْمُوصِي حَيًّا فَإِذَا هُوَ مَيِّتٌ ، فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ ، وَإِنْ عَلِمَهُ مَيِّتًا حِينَ الْوَصِيَّةِ فَقَدْ أَجَازَهَا مَالِكٌ وَجَعَلَهَا لِلْوَرَثَةِ : لِأَنَّ عِلْمَهُ بِمَوْتِهِ يَصْرِفُ قَصْدَهُ إِلَى وَرَثَتِهِ .
وَهَذَا فَاسِدٌ ، وَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ : لِأَنَّهُ لَوْ وَهَبَ لِلْمَيِّتِ مَعَ عِلْمِهِ بِمَوْتِهِ كَانَتِ الْهِبَةُ بَاطِلَةً ، فَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ أَوْلَى ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ لِمَسْجِدٍ أَوْ رِبَاطٍ أَوْ قَنْطَرَةٍ فَجَائِزَةٌ ، وَتُصْرَفُ فِي عِمَارَتِهِ : لِأَنَّهُ لَمَّا انْتَفَى الْمِلْكُ عَنْ هَذَا كُلِّهِ تَوَجَّهَتِ الْوَصِيَّةُ إِلَى مَصَالِحِهِمْ . وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ لِلْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ فَبَاطِلَةٌ : لِأَنَّهَا مَجْمَعُ مَعَاصِيهِمْ ، وَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ بِكُتُبِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ، لِتَبْدِيلِهَا وَتَغْيِيرِهَا ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُوصِي مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا ، وَأَجَازَهَا أَبُو حَنِيفَةَ مِنَ الْكَافِرِ دُونَ الْمُسْلِمِ ، كَمَا أَجَازَ وَصِيَّتَهُ بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ . وَهَذَا فَاسِدٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ [ الْمَائِدَةِ : 49 ] . وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ : فِي الْمُوصَى بِهِ . فَهُوَ كُلُّ مَا جَازَ الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ مَالٍ وَمَنْفَعَةٍ ، جَازَتِ الْوَصِيَّةُ بِهِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَالُ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا حَاضِرًا ، أَوْ غَائِبًا مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولًا مُشَاعًا أَوْ مُفْرَزًا . وَلَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِمَا لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ عَيْنٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ ، كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْكَلْبِ غَيْرِ الْمُعَلَّمِ . وَهُوَ مُقَدَّرٌ بِالثُّلُثِ ، وَلَيْسَ لِلْمُوصِي الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ : لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِسَعْدٍ : الثُّلُثُ ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ . وَأَوْلَى الْأَمْرَيْنِ بِهِ أَنْ يُعْتَبَرَ حَالُ وَرَثَتِهِ ، فَإِنْ كَانُوا فُقَرَاءَ ، كَانَ النُّقْصَانُ مِنَ الثُّلُثِ أَوْلَى مِنِ اسْتِيعَابِ الثُّلُثِ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ : " لَأَنْ أُوصِيَ بِالسُّدُسِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُوصِيَ بِالرُّبُعِ ، وَالرُّبُعُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الثُّلُثِ " . وَإِنْ كَانَ وَرَثَتُهُ أَغْنِيَاءَ وَكَانَ فِي مَالِهِ سِعَةٌ ، فَاسْتِيفَاءُ الثُّلُثِ أَوْلَى بِهِ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ : " الثُلُثُ وَسَطٌ ، لَا بَخْسٌ فِيهِ وَلَا شَطَطٌ " . وَلَوِ اسْتَوْعَبَ الثُّلُثَ مِنْ قَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ مَعَ فَقْرِ الْوَرَثَةِ ، وَغِنَاهُمْ ، وَصِغَرِهِمْ ، وَكِبَرِهِمْ ، كَانَتْ وَصِيَّةً مُمْضَاةً بِهِ . وَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى الثُّلُثِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْهَا فِي قَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ : لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنَعَ سَعْدًا مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ وَقَالَ : الثُلُثُ ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ . فَإِنْ وَصَّى بِأَكْثَرِ مِنَ الثُّلُثِ أَوْ بِجَمِيعِ مَالِهِ ، نُظِرَ :
فَإِنْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ ، كَانَتِ الْوَصِيَّةُ مَوْقُوفَةً عَلَى إِجَازَتِهِ وَرَدِّهِ ، فَإِنْ رَدَّهَا رَجَعَتِ الْوَصِيَّةُ إِلَى الثُّلُثِ ، وَإِنْ أَجَازَهَا صَحَّتْ ، ثُمَّ فِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ إِجَازَةَ الْوَرَثَةِ ابْتِدَاءً عَطِيَّةٌ مِنْهُمْ ، لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالْقَبْضِ ، وَلَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا مَا لَمْ يَقْبِضْ ، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَتْ كَالْهِبَةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : إِجَازَةُ الْوَرَثَةِ إِمْضَاءٌ لِفِعْلِ الْمُوصِي ، فَلَا تَفْتَقِرُ إِلَى قَبْضٍ ، وَتَتِمُّ بِإِجَازَةِ الْوَارِثِ ، وَقَبُولِ الْمُوصَى لَهُ ، لَيْسَ الرُّجُوعُ بَعْدَ الْإِجَازَةِ ، وَلَا تُبْطَلُ الْوَصِيَّةُ بِمَوْتِهِ بَعْدَ إِجَازَتِهِ وَقَبْلَ إِقْبَاضِهِ .
فَصْلٌ : وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ وَارِثٌ فَأَوْصَى بِجَمِيعِ مَالِهِ ، رُدَّتِ الْوَصِيَّةُ إِلَى الثُّلُثِ ، وَالْبَاقِي لِبَيْتِ الْمَالِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : وَصِيَّتُهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ نَافِذَةٌ فِي جَمِيعِ مَالِهِ : لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا مَنَعَ سَعْدًا مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ قَالَ : لِأَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ . فَجَعَلَ الْمَنْعَ مِنَ الزِّيَادَةِ حَقًّا لِلْوَرَثَةِ . فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ سَقَطَ الْمَنْعُ . وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ : " مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ وَضَعَ مَالَهُ حَيْثُ شَاءَ " . وَلِأَنَّ مَنْ جَازَتْ لَهُ الصَّدَقَةُ بِجَمِيعِ مَالِهِ ، جَازَتْ وَصِيَّتُهُ بِجَمِيعِ مَالِهِ . وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْطَاكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ ثُلُثَ أَمْوَالِكُمْ زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ ، وَلِأَنَّ الْأَنْصَارِيَّ أَعْتَقَ سِتَّةَ مَمْلُوكِينَ لَهُ لَا مَالَ لَهُ غَيْرَهُمْ ، فَجَزَّأَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ : فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ ، وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ لَوَقَفَ عَلَى إِجَازَتِهِ ، وَلِأَنَّ مَالَ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ يَصِيرُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ إِرْثًا : لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ تُخْلِفُ الْوَرَثَةَ فِي اسْتِحْقَاقِ مَالِهِ ، وَالثَّانِي أَنَّهُ يَعْقِلُ عَنْهُ كَوَرَثَتِهِ ، فَلَمَّا رُدَّتْ وَصِيَّتُهُ مَعَ الْوَارِثِ إِلَى الثُّلُثِ رُدَّتْ إِلَى الثُّلُثِ مَعَ بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهُ وَارِثٌ . وَقَدْ تَحَرَّرَ مِنْهُ قِيَاسَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ كُلَّ جِهَةٍ اسْتَحَقَّتِ التَّرِكَةَ بِالْوَفَاةِ ، مَنَعَتْ مِنَ الْوَصِيَّةِ بِجَمِيعِ الْمَالِ كَالْوَرَثَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَا مَنَعَ مِنَ الْوَصَايَا مَعَ الْوَرَثَةِ مَنَعَ مِنْهَا مَعَ بَيْتِ الْمَالِ ، كَالدُّيُونِ .
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لِأَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً فَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ تَعْلِيلًا لِرَدِّ الزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ تَعْلِيلًا لَجَازَتِ الزِّيَادَةُ عَلَى الثُّلُثِ مَعَ غِنَاهُمْ ، إِذَا لَمْ يَصِيرُوا عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ ، وَإِنَّمَا قَالَهُ صِلَةً فِي الْكَلَامِ وَتَنْبِيهًا عَلَى الْحَظِّ . وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ : " يَضَعُ مَالَهُ حَيْثُ يَشَاءُ " ، فَمَالُهُ الثُّلُثُ وَحْدَهُ ، وَلَهُ وَضْعُهُ حَيْثُ شَاءَ . وَأَمَّا الصَّدَقَةُ فَهِيَ كَالْوَصِيَّةِ ، إِنَّ كَانَتْ فِي الصِّحَّةِ أُمْضِيَتْ مَعَ وُجُودِ الْوَارِثِ وَعَدَمِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْمَرَضِ رُدَّتْ إِلَى الثُّلُثِ مَعَ وُجُودِ الْوَارِثِ وَعَدَمِهِ .
فَصْلٌ : وَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِثُلُثِ مَالِهِ ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ قَدْرُهُ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا : هَلْ يُرَاعَى ثُلُثُ مَالِهِ وَقْتَ الْوَصِيَّةِ أَوْ عِنْدَ الْوَفَاةِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَكْثَرُ الْبَغْدَادِيِّينَ : أَنَّهُ يُرَاعَى ثُلُثُهُ وَقْتَ الْوَصِيَّةِ ، وَلَا يُدْخَلُ فِيهِ مَا حَدَثَ بَعْدَهُ مِنْ زِيَادَةٍ : لِأَنَّهَا عَقْدٌ وَالْعُقُودُ لَا يُعْتَبَرُ بِهَا مَا بَعْدُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَكْثَرُ الْبَصْرِيِّينَ : أَنَّهُ يُرَاعَى ثُلُثُ مَالِهِ وَقْتَ الْمَوْتِ ، وَيَدْخُلُ فِيهِ مَا حَدَثَ قَبْلَهُ مِنْ زِيَادَةٍ : لِأَنَّ الْوَصَايَا تُمْلَكُ بِالْمَوْتِ فَاعْتُبِرَ بِهَا وَقْتَ مِلْكِهَا . فَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ : إِنْ وَصَّى بِثُلُثِ مَالِهِ وَلَا مَالَ لَهُ ، ثُمَّ أَفَادَ مَالًا قَبْلَ الْمَوْتِ ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ تَكُونُ الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةً اعْتِبَارًا بِحَالِ الْوَصِيَّةِ . وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي تَكُونُ الْوَصِيَّةُ صَحِيحَةً اعْتِبَارًا بِحَالِ الْمَوْتِ . وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَوْ وَصَّى بِعَبْدٍ مِنْ عَبِيدِهِ وَهَوَ لَا يَمْلِكُ عَبْدًا ، ثُمَّ مَلَكَ قَبْلَ الْمَوْتِ عَبْدًا صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ إِنِ اعْتَبَرَ بِهَا حَالَةَ الْمَوْتِ ، وَبَطَلَتْ إِنِ اعْتَبَرَ بِهَا حَالَ الْقَوْلِ . وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ : لَوْ وَصَّى بِثُلُثِ مَالِهِ وَلَهُ مَالٌ ، فَهَلَكَ مَالُهُ وَأَفَادَ غَيْرَهُ ، صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ فِي الْمَالِ الْمُسْتَفَادِ إِنِ اعْتَبَرَ بِهَا حَالَ الْمَوْتِ ، وَبَطَلَتْ إِنِ اعْتَبَرَ بِهَا حَالَ الْوَصِيَّةِ . وَأَمَّا الْفَصْلُ الرَّابِعُ : فِي الْمُوصَى إِلَيْهِ ، فَقَدْ أَفْرَدَ الشَّافِعِيُّ لِلْأَوْصِيَاءِ بَابًا اسْتَوْفَى فِيهِ أَحْكَامَهُمْ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِيمَا يُرْوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قَوْلِهِ : مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ : " يُحْتَمَلُ مَا الْحَزْمُ لِامْرِئٍ مُسْلِمٍ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ ، وَيُحْتَمَلُ مَا الْمَعْرُوفُ فِي الْأَخْلَاقِ إِلَّا هَذَا لَا مِنْ جِهَةِ الْفَرْضِ ( قَالَ ) ، فَإِذَا أَوْصَى الرَّجُلُ بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنِهِ وَلَا ابْنَ لَهُ غَيْرُهُ فَلَهُ النِّصْفُ ، فَإِنْ لَمْ يُجِزِ الِابْنُ فَلَهُ الثُّلُثُ " .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا كَانَ لِلْمُوصِي ابْنٌ وَاحِدٌ ، فَوَصَّى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنِهِ كَانَتْ وَصِيَّتُهُ بِالنِّصْفِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ ، فَإِنْ أَجَازَهَا الِابْنُ وَإِلَّا رُدَّتْ إِلَى الثُّلُثِ . وَقَالَ مَالِكٌ : وَهِيَ وَصِيَّةٌ بِجَمِيعِ الْمَالِ . وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ مِنَ الْهُذَلَيِّينَ وَدَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ نَصِيبَ ابْنِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ غَيْرُهُ ، أَخَذَ جَمِيعَ الْمَالِ فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ بِمِثْلِ نَصِيبِهِ وَصِيَّةً بِجَمِيعِ الْمَالِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَوْ أَوْصَى لَهُ بِمِثْلِ مَا كَانَ نَصِيبُ ابْنِهِ كَانَ وَصِيَّةً بِجَمِيعِ مَالِهِ إِجْمَاعًا ، وَجَبَ لَوْ أَوْصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنِهِ أَنْ يَكُونَ وَصِيَّةً بِجَمِيعِ الْمَالِ حِجَاجًا . وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ نَصِيبَ الِابْنِ أَصْلٌ ، وَالْوَصِيَّةُ بِمِثْلِهِ فَرْعٌ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْفَرْعُ رَافِعًا لِحُكْمِ الْأَصْلِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ جَعَلْنَا الْوَصِيَّةَ بِجَمِيعِ الْمَالِ لَخَرَجَ أَنْ يَكُونَ لِلِابْنِ نَصِيبٌ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلِابْنِ بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ الَّتِي هِيَ بِمِثْلِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِمِثْلِ نَصِيبِ الِابْنِ ، فَوَجَبَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ وَبَيْنَ ابْنِهِ ، فَإِذَا وَجَبَ ذَلِكَ كَانَا فِيهِ نِصْفَيْنِ وَفِي إِعْطَائِهِ الْكُلَّ إِبْطَالٌ لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ وَبَيْنَ الِابْنِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : إِنَّ نَصِيبَ الِابْنِ كُلُّ الْمَالِ ، فَهُوَ أَنَّ لَهُ الْكُلَّ مَعَ عَدَمِ الْوَصِيَّةِ ، وَأَمَّا مَعَ الْوَصِيَّةِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْكُلَّ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : وَصَّيْتُ لَكَ بِمِثْلِ مَا كَانَ نَصِيبُ ابْنِي ، فَيَكُونُ وَصِيَّةً بِالْكُلِّ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّهُ إِذَا قَالَ بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنِي ، فَقَدْ جَعَلَ لَهُ مَعَ الْوَصِيَّةِ نَصِيبًا ، فَكَذَلِكَ كَانَتْ وَصِيَّتُهُ بِالنِّصْفِ نَصِيبًا ، وَإِذَا قَالَ : بِمِثْلِ مَا كَانَ نَصِيبُ ابْنِي ، فَلَمْ يَجْعَلْ مَعَ الْوَصِيَّةِ نَصِيبًا ، فَكَذَلِكَ كَانَتْ بِالْكُلِّ .
فَصْلٌ : فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ : قَدْ وَصَّيْتُ لَهُ بِنَصِيبِ ابْنِي ، فَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ بَاطِلَةٌ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ : لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ بِمَا لَا يَمْلِكُ : لِأَنَّ نَصِيبَ الِابْنِ مِلْكُهُ لَا مِلْكَ أَبِيهِ . وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : الْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ . وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَيُجْرِي بِهَا مَجْرَى قَوْلِهِ بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنِي وَلَا ابْنَ لَهُ فَيَجْعَلُهَا وَصِيَّةً بِالنِّصْفِ وَعِنْدَ مَالِكٍ بِالْكُلِّ ، وَلَوْ أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنِهِ وَلَا ابْنَ لَهُ ، كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ . وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لَهُ ابْنٌ قَاتِلٌ أَوْ كَافِرٌ : لِأَنَّهُ لَا نَصِيبَ لَهُ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " ( وَلَوْ قَالَ ) بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ وَلَدِي ، فَلَهُ مَعَ الِاثْنَيْنِ الثُّلُثُ وَمَعَ الثَّلَاثَةِ الرُبُعُ حَتَى يَكُونَ كَأَحَدَهِمْ " .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا أَوْصَى وَلَهُ أَوْلَادٌ ذُكُورٌ لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ ، فَلِلْمُوصَى لَهُ مَعَ الِاثْنَيْنِ الثُّلُثُ : لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَابْنٍ ثَالِثٍ ، وَمَعَ الثَّلَاثَةِ الرُّبُعُ : لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَابْنٍ رَابِعٍ ، وَمَعَ الْأَرْبَعَةِ الْخُمُسُ : لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَابْنٍ خَامِسٍ ، وَمَعَ الْخَمْسَةِ السُّدُسُ وَيَصِيرُ كَابْنٍ سَادِسٍ . ثُمَّ كَذَلِكَ مَا زَادَ لِيَصِيرَ كَأَحَدِهِمْ ، وَلَا يُفَضَّلَ عَلَيْهِمْ . وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ يَكُونُ لَهُ مَعَ الِاثْنَيْنِ النِّصْفُ ، وَمَعَ الثَّلَاثَةِ الثُّلُثُ ، وَمَعَ الْأَرْبَعَةِ الرُّبُعُ . وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ فَسَادِهِ ، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ تَفْضِيلِ الْمُوصَى لَهُ عَلَى ابْنِهِ ، وَهُوَ إِنَّمَا أَوْصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ .
فَصْلٌ : فَلَوْ كَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ بَنِينَ ، فَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ ، وَلِآخَرَ بِمَا بَقِيَ مِنْ ثُلُثِهِ ، زِدْتَ عَلَى عَدَدِ الْفَرِيضَةِ مِثْلَ نِصْفِهَا ، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ لِيَصِحَّ لَكَ ثُلُثُهَا : لِأَنَّ كُلَّ عَدَدٍ زِدْتَ عَلَيْهِ مِثْلَ نِصْفِهِ خَرَجَ ثُلُثُهُ ، فَإِذَا زِدْتَ عَلَى الثَّلَاثَةِ مِثْلَ نِصْفِهَا ، صَارَتْ أَرْبَعًا وَنِصْفًا فَلْيَبْسُطْهَا مِنْ جِنْسِ الْكَسْرِ أَيْضًا فَلْيَخْرُجْ كَسْرُهَا تَكُنْ تُسْعَهُ ، الثُّلُثَانِ مِنْهَا سِتَّةٌ بَيْنَ الْبَنِينَ الثَّلَاثَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَهْمَانِ ، وَالثَّلَاثُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ ، لِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ بَنِيهِ سَهْمَانِ ، وَيَبْقَى سَهْمٌ يَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ بِبَاقِي الثُّلُثِ . وَلَوْ تَرَكَ أَرْبَعَةَ بَنِينَ وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ ، وَلِآخَرَ بِمَا بَقِيَ مِنْ ثُلُثِهِ ، رُدَّتْ عَلَى الْأَرْبَعَةِ مِثْلُ نِصْفِهَا ، تَكُنْ سِتَّةً ، الثُّلُثَانِ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ بَيْنَ الْبَنِينَ الْأَرْبَعَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَهْمٌ ، وَالثُّلُثُ سَهْمَانِ لِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ أَحَدِهِمْ سَهْمٌ ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِبَاقِي الثُّلُثِ سَهْمٌ .
فَصْلٌ : وَلَوْ تَرَكَ خَمْسَةَ بَنِينَ ، وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ ، وَلِآخَرَ بِمَا بَقِيَ مِنْ خُمُسِهِ ، زِدْتَ عَلَى الْخَمْسَةِ الَّتِي هِيَ عَدَدُ فَرِيضَةِ الْبَنِينَ مِثْلَ رُبُعِهَا ، لِيَصِحَّ خُمُسِهَا : لِأَنَّ كُلَّ عَدَدٍ زِدْتَ عَلَيْهِ مِثْلَ رُبْعِهِ كَانَتِ الزِّيَادَةُ خُمْسَ مَا اجْتَمَعَ مِنَ الْعَدَدَيْنِ . فَعَلَى هَذَا إِذَا زِدْتَ عَلَى الْخَمْسَةِ مِثْلَ رُبُعِهَا كَانَتْ سِتَّةً وَرُبُعًا ، فَابْسُطْهَا مِنْ جِنْسِ الْكَسْرِ أَرْبَاعِهَا تَكُنْ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ ، أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهَا عِشْرُونَ بَيْنَ الْبَنِينَ الْخَمْسَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ ، وَالْخُمُسُ خَمْسَةٌ مِنْهَا لِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ ، أَرْبَعَةٌ وَلِلْمُوصَى لَهُ بِبَاقِي الْخَمْسِ سَهْمٌ . وَلَوْ تَرَكَ سِتَّةَ بَنِينَ ، وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ ، وَلِآخَرَ بِمَا بَقِيَ مِنْ رُبُعِهِ ، رُدَّتْ عَلَى السِّتَّةِ مِثْلَ ثُلُثِهَا وَهُوَ اثْنَانِ ، تَكُنْ ثَمَانِيَةً ، ثُمَّ أَخَذْتَ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهَا وَهُوَ سِتَّةٌ فَجَعَلْتَهُ لِلْبَنِينَ السِّتَّةِ ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَهْمٌ ، وَرَبُعُهَا وَهُوَ سَهْمَانِ جَعَلْتَ مِنْهُ لِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ سَهْمًا ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِبَاقِي الرُّبُعِ سَهْمًا ، ثُمَّ عَلَى هَذَا .
فَصْلٌ : وَلَوْ تَرَكَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ ، وَأَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ ، وَلِآخَرَ بِرُبُعِ مَالِهِ وَأَجَازَ الْوَرَثَةُ ذَلِكَ فَخُذْ مَالًا لَهُ رُبُعٌ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ ، فَاعْزِلْ رُبُعَهُ وَهُوَ وَاحِدٌ ، ثُمَّ اقْسِمِ الثَّلَاثَةَ الْبَاقِيَةَ عَلَى أَرْبَعَةٍ تَكُنْ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعٍ ، فَابْسُطْهَا مِنْ جِنْسِ الْكَسْرِ أَرْبَاعًا تَكُنْ سِتَّةَ عَشَرَ ،
لِلْمُوصَى لَهُ بِالرُّبُعِ أَرْبَعَةٌ تَبْقَى اثْنَا عَشَرَ عَلَى أَرْبَعَةٍ لِكُلِّ ابْنٍ ثَلَاثَةٌ ، وَلِلْمُوصَى لَهُ ثَلَاثَةٌ ، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَوْ كَانَ وَلَدُهُ رِجَالًا وَنِسَاءً أَعْطَيْتُهُ نَصِيبَ امْرَأَةٍ ، وَلَوْ كَانَتْ لَهُ ابْنَةٌ وَابْنَةُ ابْنٍ أَعْطَيْتُهُ سُدُسًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا كَانَ وَلَدُ الْمُوصِي عَدَدًا مِنْ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ . فَإِنْ كَانَ وَلَدُهُ رِجَالًا وَنِسَاءً كَمَا لَوْ تَرَكَ ابْنَيْنِ وَبِنْتَيْنِ ، ثُمَّ وَصَّى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ ، فَإِنْ وَصَّى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ الِابْنِ كَانَ لَهُ الرُّبُعُ ، وَكَأَنَّهُ ابْنٌ ثَالِثٌ مَعَ بَنِينَ . فَإِنْ وَصَّى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ الْبِنْتِ كَانَ لَهُ السُّبُعُ ، وَكَأَنَّهُ بِنْتٌ ثَالِثَةٌ مَعَ ابْنَيْنِ ، وَإِنْ أَطْلَقَ لَهُ الْوَصِيَّةَ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنًا وَلَا بِنْتًا ، أَعْطَيْتُهُ مِثْلَ نَصِيبِ الْبِنْتِ : لِأَنَّهُ الْيَقِينُ وَلَا يُعْطَهُ مِثْلَ نَصِيبِ الزَّوْجَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ وَرَثَتِهِ نَصِيبًا : لِأَنَّهُ قَالَ : مِثْلَ نَصِيبِ إِحْدَى وَلَدِي . وَلَيْسَتِ الزَّوْجَةُ مِنْ وَلَدِهِ ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ : مِثْلَ نَصِيبِ إِحْدَى وَرَثَتِي . أَعْطَيْتُهُ مِثْلَ نَصِيبِ الزَّوْجَةِ ، إِذَا كَانَتْ أَقَلَّ وَرَثَتِهِ نَصِيبًا ، كَمَا لَوْ تَرَكَ زَوْجَةً وَابْنَيْنِ وَبِنْتًا ، أَصْلُهَا مِنْ ثَمَانِيَةٍ : لِلُزُوجَةِ مِنْهَا الثُّمُنُ سَهْمٌ وَاحِدٌ ، وَلِلْمُوصَى لَهُ مِثْلُهُ ، فَتَصِيرُ التَّرِكَةُ بَيْنَهُمْ عَلَى تِسْعَةِ أَسْهُمٍ ، لِلْمُوصَى لَهُ سَهْمٌ ، وَلِلزَّوْجَةِ ثُمُنُ الْبَاقِي سَهْمٌ ، وَمَا بَقِيَ بَيْنَ الِابْنِ وَالْبِنْتِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ، وَتَصِحُّ مِنْ تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ . وَلَوْ تَرَكَ بِنْتًا وَبِنْتَ ابْنٍ وَأَخًا ، وَوَصَّى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ ، كَانَ لَهُ مِثْلُ نَصِيبِ بِنْتِ الِابْنِ : لِأَنَّهُ الْأَقَلُّ وَهُوَ السُّدُسُ ، فَنِصْفُهُ إِلَى فَرِيضَةِ الْوَرَثَةِ وَهِيَ سِتَّةٌ ، تَصِيرُ سَبْعَةَ أَسْهُمٍ ، يُعْطَى لِلْمُوصَى لَهُ مِنْهَا سَهْمًا ، وَلِلْبِنْتِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ ، وَبِنْتُ الِابْنِ سَهْمًا ، وَلِلْأَخِ مَا بَقِيَ وَهُوَ سَهْمَانِ . فَلَوْ تَرَكَ ثَلَاثَ زَوْجَاتٍ ، وَابْنًا ، وَبِنْتًا ، وَوَصَّى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ ، فَفَرِيضَةُ الْوَرَثَةِ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا : لِلزَّوْجَاتِ مِنْهَا الثُّمُنُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ ، وَهُوَ الْأَقَلُّ ، فَيُجْعَلُ لِلْمُوصَى لَهُ مِثْلَ نَصِيبِ إِحْدَاهُنَّ ، وَهُوَ سَهْمٌ وَاحِدٌ ، فَضَمَّهُ إِلَى الْفَرِيضَةِ ، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ ، تَصِيرُ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ فَتُقْسِمُ التَّرِكَةَ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ وَبَيْنَ الْوَرَثَةِ ، عَلَى خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا ، لِلْمُوصَى لَهُ مِنْهَا سَهْمٌ وَاحِدٌ . فَلَوْ تَرَكَ بِنْتًا ، وَخَمْسَ بَنَاتِ ابْنٍ ، وَعَمًّا ، صَحَّتْ فَرِيضَةُ الْوَرَثَةِ مِنْ ثَلَاثِينَ سَهْمًا ، لِبَنَاتِ الِابْنِ مِنْهَا السُّدُسُ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ ، لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سَهْمٌ ، فَلَوْ وَصَّى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ ، أَعْطَيْتُهُ مِثْلَ نَصِيبِ وَاحِدَةٍ مِنْ بَنَاتِ الِابْنِ ، وَهُوَ سَهْمٌ : لِأَنَّهُ الْأَقَلُّ ، وَضَمَمْتُهُ إِلَى فَرِيضَةِ الْوَرَثَةِ وَهِيَ ثَلَاثُونَ تَصِيرُ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ سَهْمًا ، فَتُقْسَمُ التَّرِكَةُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ ، وَبَيْنَ الْوَرَثَةِ عَلَى أَحَدٍ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا ، مِنْهَا لِلْمُوصَى لَهُ سَهْمٌ ، لِيَدْخُلَ نَقْصُ الْعَوْلِ بِسَهْمِ الْوَصِيَّةِ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ ، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ .
فَصْلٌ : وَلَوْ تَرَكَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ ، وَوَصَّى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنٍ رَابِعٍ لَوْ كَانَ ، فَلِلْمُوصَى لَهُ الْخُمُسُ : لِأَنَّ لَهُ مَعَ الْأَرْبَعَةِ الْخُمُسُ ، وَتَكُونُ الْأَرْبَعَةُ أَخْمَاسٍ بَيْنَ الْبَنِينَ الثَّلَاثَةِ ، وَهِيَ غَيْرُ مُنْقَسِمَةٍ ، فَتَضْرِبُ ثَلَاثَةً فِي خَمْسَةٍ تَكُنْ خَمْسَةَ عَشَرَ . لِلْمُوصَى لَهُ بِالْخَمْسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ ، وَيَبْقَى اثْنَا عَشَرَ سَهْمًا بَيْنَ الْبَنِينَ الثَّلَاثَةِ لِكُلِّ ابْنٍ أَرْبَعَةٌ . وَلَوْ تَرَكَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ وَوَصَّى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنٍ خَامِسٍ لَوْ كَانَ ، وَبِنْتٍ لَوْ كَانَتْ ، كَانَ لِلْمُوصَى لَهُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ مِنْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ سَهْمًا ، وَذَلِكَ سَهْمُ ابْنٍ وَبِنْتٍ مِنْ جُمْلَةِ سِتَّةِ بَنِينَ وَبِنْتَيْنِ ، وَيَبْقَى أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا ، تُقْسَمُ بَيْنَ الْبَنِينِ الثَّلَاثِ عَلَى ثَلَاثَةٍ ، فَاضْرِبْ ثَلَاثَةً فِي أَرِبْعَةَ عَشَرَ تَكُنِ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ سَهْمًا ، لِلْمُوصَى لَهُ تِسْعَةُ أَسْهُمٍ ، وَيَبْقَى ثَلَاثَةً وَثَلَاثُونَ سَهْمًا ، لِكُلِّ ابْنٍ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا . فَصْلٌ آخَرُ : فَإِذَا تَرَكَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ ، وَلِآخَرَ بِثُلُثِ مَا يَبْقَى مِنْ ثُلُثِهِ . فَوَجْهُ عَمَلِهَا بِحِسَابِ الْبَابِ أَنْ تَأْخُذَ عَدَدَ الْبَنِينَ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ ، وَتُضَمُّ إِلَيْهِ نَصِيبُ أَحَدِهِمْ وَهُوَ وَاحِدٌ تَصِيرُ أَرْبَعَةً ، وَتَضْرِبُهُ فِي مَخْرَجِ الثُّلُثِ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ تَكُنِ اثْنَيْ عَشَرَ ، ثُمَّ تُلْقِي مِنْهُ الْمِثْلَ وَهُوَ وَاحِدٌ ، يَبْقَى أَحَدَ عَشَرَ وَهُوَ ثُلُثُ الْمَالِ ، ثُمَّ تَعْرِفُ قَدْرَ النَّصِيبِ بِأَنْ تَضْرِبَ مَخْرَجَ الثُّلُثِ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ ، تَكُنْ تِسْعَةً ، ثُمَّ تُلْقِي مِنْهَا الْمِثْلَ وَهُوَ وَاحِدٌ يَبْقَى ثَمَانِيَةً ، فَهُوَ نَصِيبٌ ، فَيَأْخُذُهُ الْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ ، وَيَبْقَى مِنَ الثُّلُثِ ثَلَاثَةٌ ، فَيُدْفَعُ ثُلُثُهَا وَهُوَ وَاحِدٌ إِلَى الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْبَاقِي مِنَ الثُّلُثِ ، وَيَبْقَى مِنَ الثُّلُثِ سَهْمَانِ ، تَضُمُّهَا إِلَى الثُّلُثَيْنِ وَهُوَ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ تَصِيرُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ تُقَسَّمُ بَيْنَ الْبَنِينَ الثَّلَاثَةِ ، فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ ثَمَانِيَةٌ مِثْلَمَا أَخَذَهُ الْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ ، وَتَصِحُّ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا . فَصْلٌ آخَرُ : فَإِذَا تَرَكَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ ، وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ إِلَّا ثُلُثَ مَا بَقِيَ مِنَ الثَّلَاثِ ، فَوَجْهُ عَمَلِهَا بِالْبَابِ أَنْ تَأْخُذَ عَدَدَ الْبَنِينَ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ ، وَتَضُمَّ إِلَيْهِ نَصِيبَ أَحَدِهِمْ تَكُنْ أَرْبَعَةً ، ثُمَّ اضْرِبْهَا فِي مَخْرَجِ الثُّلُثِ ثَلَاثَةً ، تَكُنِ اثْنَيْ عَشَرَ ، تَزِيدُ عَلَيْهَا وَاحِدًا ، كَمَا نَقَصَتْ مِنَ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ وَاحِدًا تَصِيرُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَهُوَ ثُلُثُ الْمَالِ ، ثُمَّ تَعْرِفُ قَدْرَ النَّصِيبِ بِأَنْ تَضْرِبَ مَخْرَجَ الثُّلُثِ فِي مِثْلِهِ تَكُنْ تِسْعَةً ، وَتَزِيدُ عَلَيْهَا وَاحِدًا ، كَمَا نَقَصَتْ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ وَاحِدًا تَكُنْ عَشَرَةً ، هُوَ النَّصِيبُ ، فَتَنْقُصُ مِنْهُ ثُلُثَ الثَّلَاثِ ، وَهُوَ وَاحِدٌ يَبْقَى تِسْعَةٌ ، وَهِيَ سِهَامُ الْمُوصَى لَهُ ، ثُمَّ تَضُمُّ الْبَاقِي مِنَ الثُّلُثِ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ ، إِلَى ثُلُثَيِ الْمَالِ ، وَهُوَ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ تَكُنْ ثَلَاثِينَ ، تُقَسَّمُ بَيْنَ الْبَنِينَ الثَّلَاثَةِ ، لِكُلِّ ابْنٍ عَشَرَةٌ ، وَتَصِحُّ مِنْ تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ .
فَصْلٌ فِي الضَّيْمِ
فَصْلٌ فِي الضَّيْمِ في الوصية وَإِذَا تَرَكَ خَمْسَةَ بَنِينَ وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ ، وَلِآخَرَ بِثُلُثِ مَا بَقِيَ مِنْ
ثُلُثِهِ ، وَأَوْصَى لِأَحَدِ بَنِيهِ أَلَّا يَدْخُلَ عَلَيْهِ ضَيْمٌ فِيمَا أَوْصَى بِهِ وَلَا نُقْصَانٌ ، وَأَنْ يُوَفِّرَ عَلَيْهِ نَصِيبَهُ وَهُوَ الْخُمُسُ ، فَذَلِكَ مَوْقُوفٌ عَلَى الْإِجَازَةِ مِنَ الْوَرَثَةِ وَإِنْ كَانَ خَارِجًا مِنَ الثُّلُثِ ؛ لِأَنَّ تَفْضِيلَ أَحَدِ الْوَرَثَةِ عَلَى الْبَاقِينَ وَصِيَّةٌ لِوَارِثٍ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَأَجَازَ الْوَصِيَّةَ الْوَرَثَةُ فَوَجْهُ عَمَلِهَا بِالْبَابِ أَنْ تَجْعَلَ الِابْنَ الَّذِي وُصِّيَ أَلَّا يَدْخُلَ عَلَيْهِ ضَيْمٌ ، كَالْمُوصَى لَهُ بِالْخُمُسِ ، فَتَصِيرُ الْمَسْأَلَةُ كَأَنَّهُ تَرَكَ أَرْبَعَةَ بَنِينَ ، وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ ، وَلِآخَرَ بِثُلُثِ مَا يَبْقَى مِنْ ثُلُثِهِ ، وَلِآخَرَ بِخُمُسِ مَالِهِ فَتَأْخُذُ عَدَدًا تَجْمَعُ مُخْرَجَ الْجَمِيعِ مِنَ الْوَصَايَا وَهُوَ الْخُمُسُ وَثُلُثُ الْبَاقِي ، وَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ ، مَضْرُوبُ خَمْسَةٍ فِي تِسْعَةٍ ، ثُمَّ اعْزِلْ نَصِيبَ الِابْنِ الَّذِي لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ ضَيْمٌ ، وَهُوَ سَهْمٌ مِنْ خَمْسَةٍ يَبْقَى أَرْبَعَةٌ ، فَاضْرِبْهَا فِي مُخْرَجِ الْوَصَايَا وَهُوَ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ تَكُنْ مِائَةً وَثَمَانِينَ ، ثُمَّ انْظُرْ سَهْمَ الْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ وَهُوَ وَاحِدٌ ، فَاضْرِبْهُ فِي مُخْرَجِ الْوَصَايَا تَكُنْ خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ ، وَانْقُصْ مِنْهُ ثُلُثَهُ وَهُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَى بِثُلُثِ مَا يَبْقَى بَعْدَهُ وَيَبْقَى ثَلَاثُونَ ، فَزِدْهَا عَلَى مِائَةٍ وَالثَّمَانِينَ تَكُنْ مِائَتَيْنِ وَعَشَرَةً ، وَهِيَ سِهَامُ جَمِيعِ الْمَالِ . فَإِذَا أَرَدْتَ مَعْرِفَةَ سِهَامِ النَّصِيبِ ، فَانْقُصْ مِنْ مُخْرَجِ الْوَصَايَا بِثُلُثِ ثُلُثِهِ وَهُوَ خَمْسَةٌ ، وَانْقُصْ مِنْهُ خُمُسَ جَمْعَيْهِ وَهُوَ تِسْعَةٌ ، يَبْقَى مِنْهُ بَعْدَ النُّقْصَانَيْنِ أَحَدٌ وَثَلَاثُونَ وَهُوَ نَصِيبُ كُلِّ ابْنٍ . فَإِذَا أَرَدْتَ الْقَسْمَ فَخُذْ ثُلُثَ الْمَالِ وَهُوَ سَبْعُونَ ، فَاعْطِ مِنْهُ الْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ ، يَبْقَى مِنَ الثُّلُثِ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ ، اعْطِ مِنْهَا الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْبَاقِي لَهُ مِنَ الثُّلُثِ ثُلُثَهَا وَهُوَ ثَلَاثَةَ عَشْرَةَ وَاضْمُمِ الْبَاقِيَ وَهُوَ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ إِلَى ثُلُثَيِ الْمَالِ ، وَهُوَ مِائَةٌ وَأَرْبَعُونَ تَصِيرُ مِائَةً وَسِتَّةً وَسِتِّينَ ، فَاعْطِ مِنْهَا الِابْنَ الَّذِي وُصِّيَ لَهُ بِأَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَيْهِ ضَيْمٌ ، خُمُسَ جَمِيعِ الْمَالِ الَّذِي هُوَ مِائَتَانِ وَعَشَرَةٌ يَكُنِ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَهُوَ سَهْمَيْنِ ، وَيَبْقَى مِائَةٌ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ تُقَسَّمُ بَيْنَ الْبَنِينَ الْأَرْبَعَةِ ، يَكُنْ لِكُلِّ ابْنٍ أَحَدٌ وَثَلَاثُونَ ، وَهُوَ مِثْلَمَا أَخَذَهُ الْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ ، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ .
فَصْلٌ فِي التَّكْمِلَةِ
فَصْلٌ فِي التَّكْمِلَةِ وَإِذَا تَرَكَ الرَّجُلُ زَوْجَةً ، وَابْنًا ، وَبِنْتًا ، وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِتَكْمِلَةِ الثُّلُثِ بِنَصِيبِ الزَّوْجَةِ . فَوَجْهُ عَمَلِهَا بِحِسَابِ الْبَابِ : أَنْ تُصَحِّحَ الْفَرِيضَةَ ، وَتُسْقِطَ مِنْهَا سَهْمَ ذَوِي التَّكْمِلَةِ ، ثُمَّ تَزِدْ عَلَى الْبَاقِي مِثْلَ نِصْفِهِ ، وَتُقَسِّمَ سِهَامَ الْفَرِيضَةِ بَيْنَ أَهْلِهَا ، فَمَا بَقِيَ بَعْدَهَا فَهُوَ لِلْمُوصَى لَهُ ، فَإِذَا صَحَّحْتَ فَرِيضَةَ الزَّوْجَةِ وَالِابْنِ وَالْبِنْتِ ، كَانَتْ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ ، فَإِذَا أَلْغَيْتَ مِنْهَا سِهَامَ الزَّوْجَةِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ ، كَانَ الْبَاقِي أَحَدًا وَعِشْرِينَ ، فَإِذَا زِدْتَ عَلَيْهَا مِثْلَ نِصْفِهَا لَمْ يَسْلَمْ فَأَضْعِفِ الْأَحَدَ وَالْعِشْرِينَ يَكُنِ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ ، فَزِدْ عَلَيْهَا مِثْلَ نِصْفِهَا وَهُوَ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ تَصِيرُ مِائَةً وَسِتِّينَ ، وَمِنْهَا تَصِحُّ سِهَامُ الْفَرِيضَةِ مَعَ الْوَصِيَّةِ لِلزَّوْجَةِ مِنْهَا سِتَّةٌ وَلِلِابْنِ ثَمَانِيَةٌ
وَعِشْرُونَ ، وَلِلْبِنْتِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِتَكْمِلَةِ الثُّلُثِ بِنَصِيبِ الزَّوْجَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ ، وَإِذَا ضَمَمْتَ إِلَيْهَا سِهَامَ الزَّوْجَةِ وَهِيَ سِتَّةٌ صَارَ أَحَدًا وَعِشْرِينَ ، وَذَلِكَ ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ . فَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِتَكْمِلَةِ الثُّلُثِ بِنَصِيبِ الْبِنْتِ أَسْقَطْتَهَا مِنْ سِهَامِ الْفَرِيضَةِ وَهِيَ سَبْعَةٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ ، يَكُنِ الْبَاقِي سَبْعَةَ عَشَرَ ، ثُمَّ زِدْتَ عَلَيْهَا مِثْلَ نِصْفِهَا ، وَذَلِكَ غَيْرُ سَلِيمٍ فَأَضْعِفْهُ ، لِيَسْلَمَ يَكُنْ أَرْبَعَةً وَثَلَاثِينَ ، وَنِصْفُهُ سَبْعَةَ عَشَرَ تَكُنْ إِحْدَى وَخَمْسِينَ ، وَمِنْهَا تَصِحُّ سِهَامُ الْفَرِيضَةِ مَعَ الْوَصِيَّةِ مِنْهَا لِلزَّوْجَةِ سِتَّةٌ ، وَلِلِابْنِ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ ، وَلِلْبِنْتِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِتَكْمِلَةِ الثُّلُثِ بِنَصِيبِ الْبِنْتِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ ؛ لِأَنَّكَ إِذَا ضَمَمْتَهَا إِلَى سِهَامِ الْبِنْتِ صَارَتْ سَبْعَةَ عَشَرَ ، وَذَلِكَ ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ . وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِتَكْمِلَةِ الثُّلُثِ بِنَصِيبِ الِابْنِ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةً ؛ لِأَنَّ سِهَامَ الِابْنِ أَكْثَرُ مِنَ الثُّلُثِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " ( وَلَوْ قَالَ ) مِثْلَ نَصِيبِ أَحَدِ وَرَثَتِي أَعْطَيْتُهُ مِثْلَ أَقَلِّهِمْ نَصِيبًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ الْوَصَايَا لَا يُسْتَحَقُّ فِيهَا إِلَّا الْيَقِينُ ، وَالْأَقَلُّ يَقِينٌ ، وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ شَكٌّ ، فَإِنْ كَانَ سَهْمُ الزَّوْجَةِ أَقَلَّ ، أَعْطَيْتُهُ مِثْلَ سِهَامِ الزَّوْجَةِ ، وَإِنْ كَانَ نَصِيبُ غَيْرِهَا أَقَلَّ مِنَ الْبَنَاتِ أَوْ بَنَاتِ الِابْنِ أَعْطَيْتُهُ مِثْلَهُ . وَاعْتِبَارُ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ سِهَامِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَرَثَةِ مِنْ أَصْلِ فَرِيضَتِهِمْ ، فَتَجْعَلُ لِلْمُوصَى لَهُ مِثْلَ سِهَامِ أَقَلِّهِمْ ، وَتَضُمُّهُ إِلَى أَصْلِ الْفَرِيضَةِ ، ثُمَّ تُقَسِّمُ الْمَالَ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ وَالْوَرَثَةِ ، عَلَى مَا اجْتَمَعَ مَعَكَ مِنَ الْعَدَدَيْنِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ . وَلَوْ وَصَّى بِمِثْلِ نَصِيبِ أَكْثَرِهِمْ نَصِيبًا ، اعْتَبَرْتَهُ ، وَزِدْتَهُ عَلَى سِهَامِ الْفَرِيضَةِ ، ثُمَّ قَسَّمْتَ مَا اجْتَمَعَ مِنَ الْعَدَدَيْنِ عَلَى مَا وَصَفْنَا . فَعَلَى هَذَا لَوِ اخْتَلَفَ الْوَرَثَةُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : أَرَادَ مِثْلَ أَقَلِّنَا نَصِيبًا ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : بَلْ أَرَادَ مِثْلَ أَكْثَرِنَا نَصِيبًا ، أَعْطَيْتُهُ مِنْ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ حِصَّتَهُ مِمَّا اعْتَرَفَ بِهِ . وَمِثَالُهُ : أَنْ يَكُونَ الْوَرَثَةُ ابْنَيْنِ وَبِنْتَيْنِ ، فَيَقُولُ الِابْنَانِ : وَصَّى لَكَ بِمِثْلِ نَصِيبِ ذَكَرٍ ، وَتَقُولُ الْبِنْتَانِ : وَصَّى لَكَ بِمِثْلِ نَصِيبِ أُنْثَى . فَوَجْهُ الْعَمَلِ أَنْ يُقَالَ : لَوْ أَرَادَ ذَكَرًا لَكَانَ الْمَالُ مَقْسُومًا عَلَى ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ فَرِيضَةِ ثَلَاثَةِ بَنِينَ ، وَبِنْتَيْنِ ، فَيَكُونُ لِكُلِّ ابْنٍ سَهْمَانِ وَلِكُلِّ بِنْتٍ سَهْمٌ ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ الذَّكَرِ سَهْمَانِ . وَإِنْ أَرَادَ أُنْثَى كَانَ الْمَالُ مَقْسُومًا عَلَى سَبْعَةِ أَسْهُمٍ فَرِيضَةِ ذَكَرَيْنِ وَثَلَاثِ بَنَاتٍ ، فَيَكُونُ لِكُلِّ ابْنٍ سَهْمَانِ ، وَلِكُلِّ بِنْتٍ سَهْمٌ ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ أُنْثَى سَهْمٌ . فَاضْرِبْ سَبْعَةً فِي ثَمَانِيَةٍ ، تَكُنْ سِتَّةً وَخَمْسِينَ ، لِلْبِنْتَيْنِ سُبْعَاهَا : سِتَّةَ عَشَرَ سَهْمًا ،
وَلِلْمُوَصَى لَهُ عَلَى أَنَّ لَهُ مِثْلَ نَصِيبِ أُنْثَى : السُّبُعُ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ ، وَعَلَى أَنَّ لَهُ مِثْلَ نَصِيبِ ذَكَرٍ الرُّبُعِ ، أَرْبَعَةَ عَشَرَ سَهْمًا ، فَيَكُونُ لَهُ اثْنَا عَشَرَ وَلِلِابْنَيْنِ لَوْ لَمْ يَعْتَرِفَا لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ ذَكَرٍ أَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ الْمَالِ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ سَهْمًا ، وَلَهُمَا عِنْدَ اعْتِرَافِهِمَا لَهُ بِنَصِيبِ ذَكَرٍ أَرْبَعَةُ أَثْمَانِ الْمَالِ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ سَهْمًا . فَيَرُدُّ الِابْنَانِ مَا بَيْنَ نَصِيبِهِمَا وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ عَلَى الْمُوصَى لَهُ لِيَأْخُذَهُ مَعَ مَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الْأَسْهُمِ الثَّمَانِيَةِ ، فَيَصِيرُ لَهُ اثْنَا عَشَرَ سَهْمًا ، وَلِلْبِنْتَيْنِ سِتَّةَ عَشَرَ سَهْمًا ، وَلِلِابْنَيْنِ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ سَهْمًا وَيَرْجِعُ بِالِاخْتِصَارِ إِلَى نِصْفِهَا . . . ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ .
فَصْلٌ : وَلَوْ تَرَكَ ابْنًا ، وَبِنْتًا ، وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ الِابْنِ ، وَلِآخَرَ بِمِثْلِ نَصِيبِ الْبِنْتِ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُوصِيَ بِمِثْلِ نَصِيبِ الْبِنْتِ قَبْلَ دُخُولِ الْوَصِيَّةِ عَلَيْهَا . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ بَعْدَ دُخُولِ الْوَصِيَّةِ عَلَيْهَا ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ الِابْنِ رُبُعُ الْمَالِ ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ الْبِنْتِ قَبْلَ دُخُولِ الْوَصِيَّةِ عَلَيْهَا خُمُسُ الْمَالِ ، فَتَصِيرُ الْوَصِيَّتَانِ بِخُمُسِ الْمَالِ وَرُبُعِهِ ، فَتُوقَفُ عَلَى إِجَازَتِهِمَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يُرِيدَ بِمِثْلِ نَصِيبِ الْبِنْتِ بَعْدَ دُخُولِ الْوَصِيَّةِ عَلَيْهَا ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ الِابْنِ خُمُسُ الْمَالِ وَلِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ الْبِنْتِ سُدُسُ الْمَالِ ، فَتَصِيرُ الْوَصِيَّتَانِ بِخُمُسِ الْمَالِ وَسُدُسِهِ ، فَتُوقَفُ عَلَى إِجَازَتِهِمَا . وَلَوِ ابْتَدَى فَوَصَّى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ الْبِنْتِ وَلِآخَرَ بِمِثْلِ نَصِيبِ الِابْنِ ، فَإِنْ أَرَادَ قَبْلَ دُخُولِ الْوَصِيَّةِ عَلَيْهِ كَانَ لَهُ خُمُسَا الْمَالِ ، وَإِنْ أَرَادَ بَعْدَ دُخُولِ الْوَصِيَّةِ ، كَانَ لَهُ ثُلُثُ الْمَالِ . . . ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسُ .
فَصْلٌ : وَلَوْ تَرَكَ بِنْتًا ، وَأُخْتًا ، وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ الْبِنْتِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي قَدْرِ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُوصَى لَهُ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَهُ الرُّبُعُ نِصْفُ حِصَّةِ الْبِنْتِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَحَقَّ مَعَ الِابْنِ الْوَاحِدِ إِذَا أَوْصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِهِ النِّصْفَ ؛ لِأَنَّهُ نِصْفُ نَصِيبِ الِابْنِ ، وَجَبَ أَنْ يَسْتَحِقَّ مَعَ الْبِنْتِ الْوَاحِدَةِ ( النِّصْفَ مِنَ النِّصْفِ ) ؛ لِأَنَّهُ نِصْفُ نَصِيبِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ أَصَحُّ ، لَهُ الثُّلُثُ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَعَ الْبِنْتِ الْوَاحِدَةِ ، كَبِنْتٍ ثَانِيَةٍ ، كَمَا يَصِيرُ مَعَ الِابْنِ الْوَاحِدِ كَابْنٍ ثَانٍ وَلِلْوَاحِدَةِ مِنَ الْبِنْتَيْنِ الثُّلُثُ . وَكَذَلِكَ لِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ الْبِنْتِ الْوَاحِدَةِ الثُّلُثُ . وَعَلَى هَذَا لَوْ أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ أُخْتٍ مَعَ عَمٍّ ، كَانَ فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ بِالْوَصِيَّةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : الرُّبُعُ . وَالثَّانِي : الثُّلُثُ .
وَهَكَذَا لَوْ لَمْ يَرِثْ مَعَ الْبِنْتِ وَالْأُخْتِ غَيْرُهَا ؛ لَأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لَوِ انْفَرَدَتِ النِّصْفَ ، وَالْبَاقِي لِبَيْتِ الْمَالِ . فَعَلَى هَذَا لَوْ وَصَّى بِمِثْلِ نَصِيبِ أَخٍ لِأُمٍّ ، فَلَهُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ نِصْفُ السُّدُسِ ، وَفِي الْآخَرِ السُّدُسُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " ( وَلَوْ قَالَ ) ضِعْفُ مَا يُصِيبُ أَحَدُ وَلَدَيَّ قول الموصي في الوصية أوصي ب أَعْطَيْتُهُ مِثْلَهُ مَرَّتَيْنِ ( وَإِنْ قَالَ ) ضِعْفَيْنِ ، فَإِنْ كَانَ نَصِيبُهُ مِائَةً أَعْطَيْتُهُ ثَلَاثَمِائَةٍ ، فَكُنْتُ قَدْ أَضْعَفْتُ الْمِائَةَ الَّتِي تُصِيبُهُ بِمَنْزِلَةِ مَرَّةٍ بَعْدَ مَرَّةٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ ضِعْفِ نَصِيبِ أَحَدِ أَوْلَادِهِ ، كَانَ الضِّعْفُ مِثْلَ أَحَدِ النَّصِيبَيْنِ . فَإِنْ كَانَ نَصِيبُ الِابْنِ مِائَةً كَانَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالضِّعْفِ مِائَتَيْنِ ، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ ، وَبِهِ قَالَ الْفَرَّاءُ وَأَكْثَرُ أَهْلِ اللُّغَةِ . وَقَالَ مَالِكٌ : الضِّعْفُ مِثْلٌ وَاحِدٌ ، فَسَوَّى بَيْنَ الْمِثْلِ وَالضِّعْفِ . وَبِهِ قَالَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ . فَلَمَّا أَرَادَ بِالضِّعْفَيْنِ مِثْلَيْنِ عُلِمَ أَنَّ الضِّعْفَ الْوَاحِدَ مِثْلٌ وَاحِدٌ . وَاسْتَدَلُّوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِضِعْفَيِ الْعَذَابِ مِثْلَيْهِ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَاقَبَ عَلَى السَّيِّئَةِ بِأَكْثَرَ مِمَّا يُجَازَى عَلَى الْحَسَنَةِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي نِسَاءِ النَّبِيِّ : وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ [ الْأَحْزَابِ 31 ] . فَعُلِمَ أَنَّ مَا جَعَلَهُ مِنْ ضِعْفِ الْعَذَابِ عَلَى السَّيِّئَةِ مَرَّتَيْنِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الضِّعْفَ وَالْمِثْلَ وَاحِدٌ . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الضِّعْفَ مِثْلَانِ هُوَ اخْتِلَافُ الْأَسْمَاءِ تُوجِبُ اخْتِلَافَ الْمُسَمَّى إِلَّا مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ ، وَلِأَنَّ الضِّعْفَ أَعَمُّ فِي اللُّغَةِ مِنَ الْمِثْلِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمِثْلِ . وَلِأَنَّ انْشِقَاقَ الضِّعْفِ مِنَ الْمُضَاعَفَةِ ، وَالتَّنْبِيهُ مِنْ قَوْلِهِمْ : أَضْعِفِ الثَّوْبَ إِذَا طَوَيْتَهُ بِطَاقَتَيْنِ وَنَرْجِسٍ مُضَاعَفٍ إِذَا كَانَ مَوْضِعُ كُلِّ طَاقَةٍ طَاقَتَيْنِ وَمَكَانُ كُلِّ وَرَقَةٍ وَرَقَتَيْنِ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الضِّعْفُ مِثْلَيْنِ . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَضْعَفَ الصَّدَقَةَ عَلَى نَصَارَى بَنِي تَغْلِبٍ ، أَيْ أَخَذَ مَكَانَ الصَّدَقَةِ صَدَقَتَيْنِ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ الشَّاعِرِ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ : وَأَضْعَفَ عَبْدُ اللَّهِ إِذْ كَانَ حَظُّهُ عَلَى حَظِّ لَهْفَانٍ مِنَ الْخَرْصِ فَاغِرُ
أَرَادَ بِهِ إِعْطَائَهُ مِثْلَيْ جَائِزَةِ اللَّهْفَانِ . فَأَمَّا الْآيَةُ : فَعَنْهَا جَوَابَانِ أَحَدُهُمَا مَا قَالَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ عَنِ الْأَثْرَمِ عَنْ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ : أَنَّهُ جَعَلَ عَذَابَهُنَّ إِذَا أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ ثَلَاثَةَ أَمَاثِلِ عَذَابِ غَيْرِهِنَّ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ . وَالثَّانِي : أَنَّ الضِّعْفَ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي مَوْضِعِ الْمِثْلِ مَجَازًا ، إِذَا صَرَفَهُ الدَّلِيلُ عَنْ حَقِيقَتِهِ ، وَلَيْسَتِ الْأَحْكَامُ مُعَلِّقَةً بِالْمَجَازِ ، وَإِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالْحَقَائِقِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا أَوْصَى لَهُ بِضِعْفَيْ نَصِيبِ ابْنِهِ للموصي ، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ : أَنَّ لَهُ مِثْلَيْ نَصِيبِهِ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الضِّعْفَ مِثْلًا فَجَعَلَ الضِّعْفَيْنِ مِثْلَيْنِ . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي ثَوْرٍ : أَنَّهُ لَهُ أَرْبَعَةُ أَمْثَالِ نَصِيبِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَحَقَّ بِالضِّعْفِ مِثْلَيْنِ ، اسْتَحَقَّ بِالضِّعْفَيْنِ أَرْبَعَةَ أَمْثَالٍ . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ : أَنَّ لَهُ بِالضِّعْفَيْنِ ثَلَاثَةَ أَمْثَالِ نَصِيبِهِ . فَإِنْ كَانَ نَصِيبُ الِابْنِ مِائَةً اسْتَحَقَّ بِالضِّعْفَيْنِ ثَلَاثَمِائَةٍ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَخَذَ بِالضِّعْفِ سَهْمَ الِابْنِ وَمِثْلَهُ حَتَّى اسْتَحَقَّ مِثْلَيْهِ وَجَبَ أَنْ يَأْخُذَ بِالضِّعْفَيْنِ بِسَهْمِ الِابْنِ وَمِثْلَيْهِ فَيَسْتَحِقُّ بِهِ ثَلَاثَةَ أَمْثَالِهِ . فَعَلَى هَذَا لَوْ أَوْصَى لَهُ ثَلَاثَةَ أَضْعَافِ نَصِيبِ ابْنِهِ اسْتَحَقَّ أَرْبَعَةَ أَمْثَالِهِ . وَبِأَرْبَعَةِ أَضْعَافِهِ : خَمْسَةَ أَمْثَالِهِ . وَكَذَلِكَ فِيمَا زَادَ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : ( وَلَوْ قَالَ ) لِفُلَانٍ نَصِيبٌ أَوْ حَظٌّ أَوْ قَلِيلٌ أَوْ كَثِيرٌ مِنْ مَالِي مَا عَرَفْتُ لِكَثِيرٍ حَدًّا ، وَوَجَدْتُ رُبُعَ دِينَارٍ قَلِيلًا تُقْطَعُ فِيهِ الْيَدُ وَمِائَتَيْ دِرْهَمٍ كَثِيرًا فِيهَا زَكَاةٌ ، وَكُلُّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ قَلِيلٍ وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ كَثِيرٍ ، وَقِيلَ لِلْوَرَثَةِ أَعْطُوهُ مَا شِئْتُمْ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ مَا قَالَ الْمَيِّتُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِنَصِيبٍ مِنْ مَالِهِ ، أَوْ حَظٍّ ، أَوْ قِسْطٍ ، أَوْ قَلِيلٍ ، أَوْ كَثِيرٍ وَلَمْ يَحُدَّ ذَلِكَ بِشَيْءٍ فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ ، وَيَرْجِعُ فِي بَيَانِهَا إِلَى الْوَرَثَةِ ، فَمَا بَيَّنُوهُ مِنْ شَيْءٍ كَانَ قَوْلُهُمْ فِيهِ مَقْبُولًا ، فَإِنِ ادَّعَى الْمُوصَى لَهُ أَكْثَرَ مِنْهُ أَحْلَفَهُمْ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا لَا تَخْتَصُّ فِي اللُّغَةِ وَلَا فِي الشَّرْعِ وَلَا فِي الْعُرْفِ بِمِقْدَارٍ مَعْلُومٍ ، وَلَا لِاسْتِعْمَالِهَا فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ حَدٌّ ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَكُونُ قَلِيلًا إِذَا أُضِيفَ إِلَى مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ ، وَيَكُونُ كَثِيرًا إِذَا أُضِيفَ إِلَى مَا هُوَ أَقَلُّ مِنْهُ . وَحُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَعِكْرِمَةَ : أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِمَا لَيْسَ بِمَعْلُومٍ مِنَ الْحَظِّ وَالنَّصِيبِ حكمها بَاطِلَةٌ لِلْجَهْلِ بِهَا .
وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّ الْجَهْلَ بِالْوَصَايَا لَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِهَا ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ قَدْرَهُ جَازَتِ الْوَصِيَّةُ مَعَ الْجَهْلِ بِهَا ، وَقَدْ أَوْصَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ لِثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ وَلَدِهِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا أَوْصَى لَهُ بِسَهْمٍ مِنْ مَالِهِ صاحب المال لواحد من غير الورثة ، فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ ، فَحُكِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ، وَإِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّ لَهُ سُدُسَ الْمَالِ . وَقَالَ شُرَيْحٌ : يُدْفَعُ لَهُ سَهْمٌ وَاحِدٌ مِنْ سِهَامِ الْفَرِيضَةِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُدْفَعُ إِلَيْهِ مِثْلُ نَصِيبِ أَقَلِّ الْوَرَثَةِ نَصِيبًا مَا لَمْ يُجَاوِزِ السُّدُسَ ، فَإِنْ جَاوَزَهُ أُعْطِيَ السُّدُسَ . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : يُعْطَى مِثْلَ نَصِيبِ أَقَلِّهِمْ نَصِيبًا مَا لَمْ يُجَاوِزِ الثُّلُثَ ، فَإِنْ جَاوَزَهُ أُعْطِيَ الثُّلُثَ . وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ : أَعْطَيْتُهُ سَهْمًا مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : السَّهْمُ اسْمٌ عَامٌّ لَا يَخْتَصُّ بِقَدْرٍ مَحْدُودٍ لِانْطِلَاقِهِ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ، كَالْحَظِّ وَالنَّصِيبِ ، فَيَرْجِعُ إِلَى بَيَانِ الْوَارِثِ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَضَ لِرَجُلٍ أَوْصَى لَهُ سَهْمًا سُدُسًا . قِيلَ : هِيَ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ ، يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْبَيِّنَةُ قَامَتْ بِالسُّدُسِ وَاعْتَرَفَ بِهِ الْوَرَثَةُ . وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى بَيَانِ الْوَرَثَةِ قُبِلَ مِنْهُمْ مَا بَيَّنُوهُ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ ، فَإِنْ نُوزِعُوا أُحْلِفُوا ، فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنُوا لَمْ يَخْلُ حَالُهُمْ مِنْ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُمْ بَيَانٌ أَوْ لَا يَكُونُ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ بَيَانٌ رَجَعَ إِلَى بَيَانِ الْمُوصَى لَهُ ، فَإِنْ نُوزِعَ أُحْلِفَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْمُوصَى لَهُ بَيَانٌ وَقَفَ الثُّلُثُ عَلَى مَا يَكُونُ مِنْ بَيَانِ أَحَدِهِمَا ، وَتَصَرَّفَ الْوَرَثَةُ فِي الثُّلُثَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُمْ بَيَانٌ فَأَبَوْا أَنْ يُبَيِّنُوهُ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَنْ أَقَرَّ بِمُجْمَلٍ وَامْتَنَعَ أَنْ يُبَيِّنَ : أَحَدُهُمَا : يُحْبَسُ الْوَارِثُ حَتَّى يُبَيِّنَ . وَالثَّانِي : يُرْجَعُ إِلَى بَيَانِ الْمُوصَى لَهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ وَلِآخَرَ بِنِصْفِهِ وَلِآخَرَ بِرُبُعِهِ فَلَمْ تُجِزِ الْوَرَثَةُ الحكم ، قُسِّمَ الثُّلُثُ عَلَى الْحِصَصِ ، وَإِنْ أَجَازُوا قُسِمَ الْمَالُ عَلَى ثَلَاثَةَ
عَشَرَ جُزْءًا : لِصَاحِبِ النِّصْفِ سِتَّةٌ ، وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ أَرْبَعَةٌ ، وَلِصَاحِبِ الرُّبُعِ ثَلَاثَةٌ ، حَتَّى يَكُونُوا سَوَاءً فِي الْعَوْلَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِنِصْفِ مَالِهِ ، وَلِآخَرَ بِثُلُثِهِ ، وَلِآخَرَ بِرُبُعِهِ ، فَقَدْ عَالَتِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى كُلِّ مَالِهِ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ وَرَثَتِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : إِمَّا أَنْ يُجِيزُوا جَمِيعًا ، أَوْ لَا يُجِيزُوا جَمِيعًا ، أَوْ يُجِيزَ بَعْضُهُمْ وَيَرُدَّ بَعْضُهُمْ ، فَإِنْ أَجَازُوا جَمِيعًا قُسِّمَ الْمَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ وَصَايَاهُمْ ، وَأَصْلُهَا مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ ، لِاجْتِمَاعِ الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ ، وَتَعُولُ بِسَهْمٍ ، وَتَصِحُّ مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ ، لِصَاحِبِ النِّصْفِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ ، وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ ، وَلِصَاحِبِ الرُّبُعِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ ، وَكَانَ النَّقْصُ بِسَهْمِ الْعَوْلِ دَاخِلًا عَلَى جَمِيعِهِمْ كَالْمَوَارِيثِ ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، لَمْ يُخَالِفْ أَبُو حَنِيفَةَ وَلَا غَيْرُهُ فِيهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : وَإِنْ رَدَّ الْوَرَثَةُ الْوَصَايَا بِكُلِّ الْمَالِ رَجَعَتْ إِلَى الثُّلُثِ ، وَكَانَ الثُّلُثُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ عَلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ سَهْمًا ، كَمَا اقْتَسَمُوا كُلَّ الْمَالِ مَعَ الْإِجَازَةِ . فَيَكُونُ لِصَاحِبِ النِّصْفِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ ، وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ ، وَلِصَاحِبِ الرُّبُعِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ . وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَأَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ ، وَأَحْمَدُ ، وَإِسْحَاقُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : أَرُدُّ مِنْ وَصِيَّةِ صَاحِبِ النِّصْفِ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ لِيَسْتَوِيَ فِي الْوَصِيَّةِ صَاحِبُ الثُّلُثِ وَصَاحِبُ النِّصْفِ ، وَيَكُونُ الثُّلُثُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمْ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا ؛ لِصَاحِبِ النِّصْفِ أَرْبَعَةٌ ، وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ أَرْبَعَةٌ ، وَلِصَاحِبِ الرُّبُعِ ثَلَاثَةٌ ، اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الزِّيَادَةَ عَلَى الثُّلُثِ ، لِاسْتِحْقَاقِ الْوَرَثَةِ لَهَا ، فَيَبْطُلُ حُكْمُهَا وَصَارَ كَمَنْ وَصَّى بِمَالِهِ وَمَالِ غَيْرِهِ ، تَمْضِي الْوَصِيَّةُ فِي مَالِهِ ، وَتُرَدُّ فِي مَالِ غَيْرِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الثُّلُثِ تَضَمَّنَتْ تَقْدِيرًا وَتَفْضِيلًا ، فَلَمَّا بَطَلَ التَّقْدِيرُ بَطَلَ التَّفْصِيلُ . وَتَحْرِيرُهُ : أَنَّهُ أَحَدُ مَقْصُودَيِ الزِّيَادَةِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ كَالتَّقْدِيرِ . وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهُ لَمَّا قَصَدَ تَفْضِيلَهُمْ فِي كُلِّ الْمَالِ ، قَصَدَ تَفْضِيلَهُمْ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ قِيَاسًا عَلَى الْغُرَمَاءِ ، وَلِأَنَّهُمْ تَفَاضَلُوا فِي الْوَصِيَّةِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَفَاضَلُوا فِي الْعَطِيَّةِ قِيَاسًا عَلَى صَاحِبِ الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ ، وَلِأَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ الْمَالَ عَلَى التَّفَاضُلِ عِنْدَ الْكَمَالِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَأْخُذُوهُ عَلَى التَّفَاضُلِ عِنْدَ الْعَجْزِ قِيَاسًا عَلَى صَاحِبِ الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ شَخْصَيْنِ جُعِلَ الْمَالُ بَيْنَهُمَا عَلَى التَّفَاضُلِ لَزِمَ عِنْدَ ضِيقِ الْمَالِ أَنْ يَتَقَاسَمَاهُ عَلَى التَّفَاضُلِ كَالْعَوْلِ فِي الْفَرَائِضِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِالنِّصْفِ وَالثُّلُثِ مَالًا وَالرَّدُّ مُقَدَّرٌ كَمَنْ أَوْصَى لِزَيْدٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ
هِيَ ثُلُثُ مَالِهِ ، وَلِعَمْرٍو بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ هِيَ نِصْفُ مَالِهِ ، لَتَفَاضَلَا مَعَ الْإِجَازَةِ وَالرَّدِّ ، فَوَجَبَ إِذَا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِالنِّصْفِ وَالثُّلُثِ مُطْلَقًا أَنْ يَتَفَاضَلَا مَعَ الْإِجَازَةِ وَالرَّدِّ . وَيَتَحَرَّرُ مِنْ هَذَا الِاعْتِلَالِ قِيَاسَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَا تَفَاضَلَا فِيهِ مَعَ الِتَقْدِيرِ يَتَفَاضَلَانِ فِيهِ مَعَ الْإِطْلَاقِ كَالْإِجَازَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَا تَفَاضَلَا فِيهِ مَعَ الْإِجَازَةِ تَفَاضَلَا فِيهِ مَعَ الرَّدِّ كَالْمُقَدَّرِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِمَا زَادَ لَا يَمْلِكُهَا فَصَارَتْ فِي حَقِّ غَيْرِهِ فَهُوَ أَنَّ الرَّدَّ وَإِنِ اسْتُحِقَّ فَلَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ فِي وَاحِدٍ دُونَ غَيْرِهِ ، وَسَوَاءٌ عَلَى الْوَرَثَةِ انْصِرَافُ الثُّلُثِ إِلَى أَهْلِ الْوَصَايَا عَلَى اسْتِوَاءٍ ، أَوْ تَفَاضُلٍ ، فَيَبْطُلُ حَقُّهُمْ فِيهِ ، وَيَرْجِعُ إِلَى قَصْدِ الْمُوصَى فِيهِ . وَقَوْلُهُمْ : إِنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الثُّلُثِ قَدْ تَضَمَّنَتْ تَقْدِيرًا وَتَفْضِيلًا ، فَيُقَالُ : لَيْسَ بُطْلَانُ أَحَدِهِمَا مُوجِبًا لِبُطْلَانِ الْآخَرِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ كُلَّ النِّصْفِ بَعْدَ الثُّلُثِ زِيَادَةً عَلَى الثُّلُثِ ؟ وَلَوْ لَزِمَ مَا قَالُوا لَبَطَلَتْ وَصِيَّةُ صَاحِبِ النِّصْفِ بِأَسْرِهَا ، فَلَمَّا لَمْ تَبْطُلْ بِالرَّدِّ إِلَى الثُّلُثِ لَمْ يَبْطُلْ حُكْمُ التَّفْضِيلِ بِالرَّدِّ إِلَى الثُّلُثِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا إِذَا أَجَازَ الْوَرَثَةُ الْوَصِيَّةَ لِبَعْضِهِمْ وَرَدُّوهَا لِبَعْضِهِمْ ، مِثْلَ أَنْ يُجِيزُوا صَاحِبَ الثُّلُثِ وَيَرُدُّوا صَاحِبَ النِّصْفِ وَالرُّبُعِ ، فَتُقَسَّمُ الْوَصَايَا مِنْ تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا ؛ لِأَنَّهَا أَقَلُّ مَا يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةٌ عَلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ ، فَيُعْطَى صَاحِبُ النِّصْفِ سِتَّةَ أَسْهُمٍ مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ مِنَ الثُّلُثِ ، فَيَكُونُ ثَلَاثَةً مِنْ تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ ، وَيُعْطَى صَاحِبُ الرُّبُعِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ مِنَ الثُّلُثِ فَتَكُونُ ثَلَاثَةً مِنْ تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ . وَأَمَّا صَاحِبُ الثُّلُثِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّكَ تُعْطِيهِ ثُلُثَ جَمِيعِ الْمَالِ مَعَ دُخُولِ الْعَوْلِ عَلَيْهِ ، كَالَّذِي كَانَ يَأْخُذُهُ لَوْ وَقَعَتِ الْإِجَازَةُ لِجَمِيعِهِمْ ، فَعَلَى هَذَا يَأْخُذُ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا مِنْ تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَأْخُذُ ثُلُثَ جَمِيعِ الْمَالِ كَامِلًا مِنْ غَيْرِ عَوْلٍ ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَخَذَ الثُّلُثَ عَائِلًا مَعَ عَدَمِ الْإِجَازَةِ لِجَمِيعِهِمْ ، لِضِيقِ الْمَالِ عَنْ سِهَامِهِمْ ، وَإِذَا أَجَازُوا ذَلِكَ لِبَعْضِهِمُ اتَّسَعَ الْمَالُ لِتَكْمُلَ أَسُهُمُ مَنْ أُجِيزَ لَهُ مِنْهُمْ . فَعَلَى هَذَا يَأْخُذُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ مِنْ تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ ، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ وَلَوْ أُجِيزَ لِصَاحِبِ النِّصْفِ وَحْدَهُ ، أَوْ لِصَاحِبِ الرُّبُعِ وَحْدَهُ أَوْ لَهُمَا أَوْ أَحَدِهِمَا مَعَ صَاحِبِ الثُّلُثِ .
فَصْلٌ : وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِجَمِيعِ مَالِهِ ، وَلِآخَرَ بِثُلُثِ مَالِهِ ، وَأَجَازَ الْوَرَثَةُ ذَلِكَ لَهُمَا ، كَانَ الْمَالُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ وَثُلُثٌ يَكُونُ أَرْبَعَةَ أَثْلَاثٍ ، فَيَكُونُ لِصَاحِبِ الْمَالِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ ، وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ سَهْمٌ . وَقَالَ دَاوُدُ : يَكُونُ لِصَاحِبِ الْمَالِ ثُلُثَا الْمَالِ ، وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ جَمِيعُ ثُلُثِ الْمَالِ .
قَالَ : لِأَنَّهُ لَمَّا أَوْصَى بِالثُّلُثِ بَعْدَ الْكُلِّ ، كَانَ رُجُوعًا عَنْ ثُلُثِ الْكُلِّ وَبَنَى ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ فِي إِبْطَالِ الْعَوْلِ . وَهَذَا أَصْلٌ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ فِيهِ . فَلَوْ رَدَّ الْوَرَثَةُ ذَلِكَ كَانَ الثُّلُثُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ : لِصَاحِبِ الْمَالِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ ، وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ سَهْمٌ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، إِبْطَالًا لِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ عِنْدَ الرَّدِّ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ . فَلَوْ أَجَازَ الْوَرَثَةُ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ ، وَرَدُّوا صَاحِبَ الْكُلِّ ، كَانَ لِصَاحِبِ الْكُلِّ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ مِنْ أَرْبَعَةٍ مِنَ الثُّلُثِ ، فَيَكُونُ لَهُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا . وَأَمَّا صَاحِبُ الثُّلُثِ ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَكْمُلُ لَهُ سَهْمُهُ مَعَ الْعَوْلِ ، فَعَلَى هَذَا يَأْخُذُ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا ، وَيَبْقَى مِنْهَا بَعْدَ الْوَصِيَّتَيْنِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ تَرْجِعُ عَلَى الْوَارِثِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَكُونُ لَهُ الثُّلُثُ مَعَ غَيْرِ عَوْلٍ ، فَعَلَى هَذَا يَأْخُذُ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ ، وَيَبْقَى بَعْدَ الْوَصِيَّتَيْنِ خَمْسَةٌ تَرْجِعُ عَلَى الْوَارِثِ . فَلَوْ أَجَازَ الْوَرَثَةُ لِصَاحِبِ الْكُلِّ وَرَدُّوا لِصَاحِبِ الثُّلُثِ ، أَخَذَ صَاحِبُ الثُّلُثِ سَهْمًا مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ ، فَإِنْ أُعِيلَ سَهْمُ صَاحِبِ الْكُلِّ مَعَ الْإِجَازَةِ لَهُ أَخَذَ تِسْعَةَ أَسْهُمٍ ، وَيَبْقَى بَعْدَ الْوَصِيَّتَيْنِ سَهْمَانِ لِلْوَارِثِ ، فَإِنْ أُكْمِلَ سَهْمُهُ مِنْ غَيْرِ عَوْلٍ ، أَخَذَ جَمِيعَ الْبَاقِي وَهُوَ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا وَهُوَ دُونُ الْكُلِّ بِسَهْمٍ زَاحَمَهُ فِيهِ صَاحِبُ الثُّلُثِ ، وَلَمْ يَبْقَ لِلْوَارِثِ شَيْءٌ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَوْ أَوْصَى بِغُلَامِهِ لِرَجُلٍ وَهُوَ يُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ وَبِدَارِهِ لِآخَرَ وَهِيَ تُسَاوِي أَلْفًا وَبِخَمْسِمِائَةٍ لِآخَرَ وَالثُّلُثُ أَلْفٌ ، دَخَلَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَوْلُ نِصْفٍ ، وَكَانَ لِلَّذِي لَهُ الْغُلَامُ نِصْفُهُ ، وَلِلَّذِي لَهُ الدَّارُ نِصْفُهَا ، وَلِلَّذِي لَهُ خَمْسُمِائَةٍ نِصْفُهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا ضَاقَ الثُّلُثُ عَنِ الْوَصَايَا فَلِلْوَرَثَةِ حَالَتَانِ : حَالَةٌ يُجِيزُونَ ، وَحَالَةٌ يَرُدُّونَ . فَإِنْ رَدُّوا قُسِّمَ الثُّلُثُ بَيْنَ أَهْلِ الْوَصَايَا بِالْحِصَصِ ، وَتَسْتَوِي فِيهِ الْوَصِيَّةُ بِالْمُعَيَّنِ وَالْمُقَدَّرِ . وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْمُعَيَّنِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ بِالْمُقَدَّرِ ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْقَدْرَ يَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ ، فَإِذَا ضَاقَ الثُّلُثُ فِيهَا زَالَ تَعَلُّقُهَا بِالذِّمَّةِ ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ
الْوَصَايَا فِي التَّرِكَةِ سَوَاءٌ ضَاقَ الثُّلُثُ عَنْهَا أَوِ اتَّسَعَ لَهَا ، فَاقْتَضَى أَنْ يَسْتَوِيَ الْمُعَيَّنُ وَالْمُقَدَّرُ مَعَ ضِيقِ الثُّلُثِ ، كَمَا يَسْتَوِيَانِ مَعَ اتِّسَاعِهِ ، وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْمُقَدَّرِ أَثَبَتُ مِنَ الْوَصِيَّةِ بِالْمُعَيَّنِ ، وَلِأَنَّ الْمُعَيَّنَ إِنْ تَلِفَ بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ بِهِ ، وَالْمُقَدَّرُ إِنْ تَلِفَ بَعْضُ الْمَالِ لَمْ تَبْطُلِ الْوَصِيَّةُ . فَإِذَا تَقَرَّرَ اسْتِوَاءُ الْمُعَيَّنِ وَالْمُقَدَّرِ مَعَ ضِيقِ الثُّلُثِ عَنْهُمَا ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَجْزُ الثُّلُثِ دَاخَلَا عَلَى أَهْلِ الْوَصَايَا بِالْحِصَصِ ، فَإِذَا أَوْصَى بِعَبْدِهِ لِرَجُلٍ وَقِيمَتُهُ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ ، وَبِدَارِهِ لِآخَرَ وَقِيمَتُهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ ، وَبِخَمْسِمِائَةٍ لِآخَرَ ، فَوَصَايَاهُ الثَّلَاثَةُ كُلُّهَا تَكُونُ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ ، فَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ أَلْفَيْنِ فَصَاعِدًا فَلَا عَجْزَ ، وَهِيَ مُمْضَاةٌ . وَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ أَلْفَ دِرْهَمٍ ، فَقَدْ عَجَزَ الثُّلُثُ عَنْ نِصْفِهَا ، فَوَجَبَ أَنْ يَدْخُلَ الْقَوْلُ عَلَى جَمِيعِهَا ، وَيَأْخُذَ كُلُّ مُوصًى لَهُ بِشَيْءٍ نِصْفَهُ ، فَيُعْطِي الْمُوصِي الْمُوصَى لَهُ بِالْعَبْدِ نَصْفَهُ وَذَلِكَ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا ، وَيُعْطَى الْمُوصَى لَهُ بِالدَّارِ نِصْفَهَا وَذَلِكَ خَمْسُمِائَةٍ ، وَيُعْطَى الْمُوصَى لَهُ بِالْخَمْسِمِائَةِ نِصْفَهَا وَذَلِكَ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا ، صَارَ جَمِيعُ ذَلِكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ . وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ تَسْقُطُ الْوَصِيَّةُ بِالْخَمْسِمِائَةِ الْمُقَدَّرَةِ ، وَيُجْعَلُ الثُّلُثُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ بِالْعَبْدِ وَالدَّارِ ، فَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثَيْ وَصِيَّتِهِ لِدُخُولِ الْعَجْزِ بِالثُّلُثِ عَلَيْهِمَا ، فَلَوْ كَانَ الثُّلُثُ فِي هَذِهِ الْوَصَايَا خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ فَهُوَ رُبُعُ الْوَصَايَا الثَّلَاثِ ، فَيُعْطَى كُلُّ وَاحِدٍ رُبُعَ مَا جُعِلَ لَهُ . وَلَوْ كَانَ الثُّلُثُ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ ، فَيُجْعَلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ وَصِيَّتِهِ ، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : وَإِنْ أَجَازَ الْوَرَثَةُ الْوَصَايَا كُلَّهَا مَعَ ضِيقِ الثُّلُثِ عَنْهَا ، وَدُخُولِ الْعَجْزِ بِالنِّصْفِ عَلَيْهَا ، فَفِي إِجَازَتِهِمْ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ إِجَازَتَهُمُ ابْتِدَاءُ عَطِيَّةٍ مِنْهُمْ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا بِالْمَنْعِ مَالِكِينَ لِمَا مَنَعُوهُ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونُوا بِالْإِجَازَةِ مُعْطِينَ لِمَا أَجَازُوهُ . فَعَلَى هَذَا قَدْ مَلَكَ أَهْلُ الْوَصَايَا نِصْفَهَا بِالْوَصِيَّةِ لِاحْتِمَالِ الثُّلُثِ لَهَا وَلَا يَفْتَقِرُ تَمْلِيكُهُمْ لَهَا إِلَى قَبْضٍ وَنِصْفُهَا بِالْعَطِيَّةِ ، لِعَجْزِ الثُّلُثِ عَنْهَا وَلَا يَتِمُّ مِلْكُهُمْ إِلَّا بِقَبْضٍ . الْقَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ أَصَحُّ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : أَنَّ إِجَازَةَ الْوَرَثَةِ تَنْفِيذٌ وَإِمْضَاءٌ لِفِعْلِ الْمَيِّتِ ، وَأَنَّ ذَلِكَ مَمْلُوكٌ بِالْوَصِيَّةِ دُونَ الْعَطِيَّةِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَا اسْتَحَقُّوهُ بِالْخِيَارِ فِي عُقُودِ الْمَيِّتِ لَا يَكُونُ الْوَرَثَةُ بِالْإِمْضَاءِ لَهَا عَاقِدِينَ كَالْمُشْتَرِي سِلْعَةً إِذَا وَجَدَ وَارِثُهُ بِهَا عَيْبًا فَأَمْضَى الشِّرَاءَ وَلَمْ يَفْسَخْهُ ، كَانَ تَنْفِيذًا وَلَمْ يَكُنْ عَقْدًا ، فَكَذَلِكَ خِيَارُهُ فِي إِجَازَةِ الْوَصِيَّةِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ لَهُمْ رَدَّ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فِي حُقُوقِ أَنْفُسِهِمْ ، فَإِذَا أَجَازُوهُ سَقَطَتْ حُقُوقُهُمْ مِنْهُ ، فَصَارَ الثُّلُثُ وَمَا زَادُوا عَلَيْهِ سَوَاءً فِي لُزُومِهِ لَهُمْ . فَإِذَا اسْتَوَى الْحُكْمُ فِي الْجَمِيعِ مَعَ اللُّزُومِ اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهُ وَصِيَّةً لَا عَطِيَّةً . فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُمْ نِصْفُ الْوَصَايَا بِالْوَصِيَّةِ مِنْ غَيْرِ إِجَازَةٍ لِاحْتِمَالِ الثُّلُثِ لَهَا ، وَنِصْفُهَا بِالْإِجَازَةِ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ يُعْتَبَرُ وَلَا رُجُوعَ يَسُوغُ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْعَطَايَا فِي الْمَرَضِ فَهِيَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْوَصَايَا إِذَا ضَاقَ الثُّلُثُ عَنْهَا ؛ لِأَنَّ تِلْكَ نَاجِزَةٌ ، وَهَذِهِ مَوْقُوفَةٌ ، فَلَوْ ضَاقَ الثُّلُثُ عَنْ عَطَايَا الْمَرَضِ قُدِّمَ الْأَسْبَقُ فَالْأَسْبَقُ ، وَلَوْ ضَاقَ الثُّلُثُ عَنِ الْوَصَايَا لَمْ يُقَدَّمِ الْأَسْبَقُ ؛ لِأَنَّ عَطَايَا الْمَرَضِ تُمَلَّكُ بِالْقَبْضِ الْمُتَرَتِّبِ ، فَثَبَتَ حُكْمُ الْمُتَقَدِّمِ . وَالْوَصَايَا كُلُّهَا تُمَلَّكُ بِالْمَوْتِ فَاسْتَوَى فِيهَا حُكْمُ الْمُتَقَدِّمِ وَالْمُتَأَخِّرِ إِلَّا إِنْ رَتَّبَهَا الْمُوصِي فَيَمْضِي عَلَى تَرْتِيبِهِ مَا لَمْ يَتَخَلَّلِ الْوَصَايَا عِتْقٌ ، فَإِنْ تَخَلَّلَهَا عِتْقٌ ، فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا فِي كَفَّارَةٍ أَوْ نَذْرٍ قُدِّمَ عَلَى وَصَايَا التَّطَوُّعِ ، وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْعِتْقَ مُقَدَّمٌ عَلَى جَمِيعِ الْوَصَايَا لِقُوَّتِهِ بِالسِّرَايَةِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ، وَمِنَ التَّابِعِينَ شُرَيْحٌ ، وَالْحَسَنُ ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْعِتْقَ وَالْوَصَايَا كُلَّهَا سَوَاءٌ فِي مُزَاحَمَةِ الثُّلُثِ ؛ لِأَنَّ جَمِيعَهَا تَطَوُّعٌ ، وَبِهِ قَالَ مِنَ التَّابِعِينَ ابْنُ سِيرِينَ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ أَبُو ثَوْرٍ .
فَصْلٌ : وَلَوْ أَوْصَى رَجُلٌ أَنْ يُشْتَرَى عَبْدُ زَيْدٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَأَنْ يُعْتَقَ عَلَيْهِ ، فَاشْتَرَاهُ الْمُوصَى بِخَمْسِمِائَةٍ وَأَعْتَقَهُ عَنْهُ وَالْبَائِعُ غَيْرُ عَالِمٍ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْخَمْسِمِائَةِ الْبَاقِيَةِ مِنَ الْأَلْفِ : فَحُكِيَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهَا تُدْفَعُ إِلَى الْبَائِعِ ، وَجَعَلَهَا وَصِيَّةً لَهُ ، فَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهَا تُدْفَعُ إِلَى الْوَرَثَةِ وَجَعَلَهَا تَرِكَةً . وَحُكِيَ عَنْ إِسْحَاقَ ابْنِ رَاهْوَيْهِ أَنَّهَا تُصْرَفُ فِي الْعِتْقِ ، وَجَعَلَهَا وَصِيَّةً لَهُ ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُنْظَرُ قِيمَةَ عَبْدِ زَيْدٍ الْمُوصَى لَهُ بِشِرَائِهِ وَعِتْقِهِ ، فَإِنْ كَانَ يُسَاوِي أَلْفًا فَلَيْسَ فِيهَا وَصِيَّةً فَيَعُودُ الْبَاقِي مِنْ ثَمَنِهِ إِلَى الْوَرَثَةِ ، وَإِنْ كَانَ يُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ عَادَ الْبَاقِي إِلَى زَيْدٍ الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ يُسَاوِي سَبْعَمِائَةٍ . فَالْوَصِيَّةُ مِنْهَا بِثَلَاثِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، فَتُدْفَعُ إِلَى الْبَائِعِ ، وَتُرَدُّ الْمِائَتَانِ عَلَى الْوَرَثَةِ مِيرَاثًا .
فَصْلٌ : وَإِذَا أَوْصَى بِعِتْقِ أَمَةٍ عَلَى أَنَّهَا لَا تَتَزَوَّجُ هل يبطل عتقها بالتزوج ، أُعْتِقَتْ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ ، فَإِنْ تَزَوَّجَتْ لَمْ يَبْطُلِ الْعِتْقُ وَلَا النِّكَاحُ ، وَوَجَبَ الرُّجُوعُ عَلَيْهَا بِقِيمَتِهَا وَلَا يَعُودُ مِيرَاثًا ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الشَّرْطِ مَنَعَ مِنْ إِمْضَاءِ الْوَصِيَّةِ ، وَنُفُوذَ الْعِتْقِ يَمْنَعُ مِنَ الرُّجُوعِ فِيهِ . فَلَوْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ لَمْ يُسْتَحَقَّ اسْتِرْجَاعُ الْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْوَصِيَّةِ قَدْ عُدِمَ بِتَزْوِيجِهَا . وَإِنْ طُلِّقَتْ فَإِنْ أَوْصَى لِأُمِّ وَلَدِهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَلَّا تَتَزَوَّجَ وَأُعْطِيَتِ الْأَلْفَ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ ، فَإِنْ تَزَوَّجَتِ اسْتُرْجِعَتِ الْأَلْفُ مِنْهَا ، بِخِلَافِ الْعِتْقِ ؛ لِأَنَّ اسْتِرْجَاعَ الْمَالِ مُمْكِنٌ ، وَاسْتِرْجَاعَ الْعِتْقِ غَيْرُ مُمْكِنٍ .
فَرْعٌ : وَإِذَا أَوْصَى بِعِتْقِ عَبْدٍ ، فَاشْتَرَى الْوَصِيُّ أَبَا نَفْسِهِ فَأَعْتَقَهُ عَنِ الْمُوصِي أَجْزَأَ ، سَوَاءٌ كَانَ الْعِتْقُ تَطَوُّعًا أَوْ وَاجِبًا . وَلَوِ اشْتَرَى أَبَا الْمُوصِي فَأَعْتَقَهُ ، فَإِنْ كَانَ عَنْ وَاجِبٍ لَمْ يُجْزِئْ ، وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا أَجْزَأَ .
فَصْلٌ : وَلَوْ أَوْصَى رَجُلٌ بِعَبْدِهِ لِرَجُلٍ ، وَقِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ ، وَبِسُدُسِ مَالِهِ لِآخَرَ ، وَمَالُهُ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ ، فَقَدْ حُكِيَ عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ فِيهَا قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْعَبْدَ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ بِالْعَبْدِ وَبَيْنَ الْمُوصَى لَهُ بِالسُّدُسِ عَلَى سَبْعَةِ أَسْهُمٍ ؛ لِأَنَّ السُّدُسَ إِذَا انْضَمَّ إِلَى الْكُلِّ صَارَ سَبْعَةً يَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ بِالْعَبْدِ سِتَّةَ أَسْبَاعِهِ ، وَيَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ بِالسُّدُسِ سَبْعَةً ، ثُمَّ يَعُودُ صَاحِبُ السُّدُسِ إِلَى الْأَرْبَعِمِائَةِ الْبَاقِيَةِ مِنَ الْمَالِ فَيَأْخُذُ سُدُسَهَا ، وَذَلِكَ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا وَثُلُثَا دِرْهَمٍ ، إِذَا ضُمَّتْ إِلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ ، وَهِيَ مِائَةُ دِرْهَمٍ صَارَ الْجَمِيعُ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَسِتَّةً وَسِتِّينَ دِرْهَمًا وَثُلُثَيْ دِرْهَمٍ ، وَهِيَ ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ خَمْسَةَ أَسْدَاسِ الْعَبْدِ يَخْتَصُّ بِهَا الْمُوصَى لَهُ بِالْعَبْدِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوصَ بِهِ لِغَيْرِهِ ، وَالسُّدُسُ الْبَاقِي يَكُونُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ بِالْعَبْدِ وَالْمُوصَى لَهُ بِالسُّدُسِ نِصْفَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ مُوصًى بِهِ لَهُمَا ، فَيَصِيرُ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا ، لِلْمُوصَى لَهُ بِالْعَبْدِ مِنْهَا أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالسُّدُسِ سَهْمٌ ، ثُمَّ يَعُودُ صَاحِبُ السُّدُسِ فَيَأْخُذُ سُدُسَ الْأَرْبَعِمِائَةِ الْبَاقِيَةِ ، وَذَلِكَ تَمَامُ ثُلُثِ جَمِيعِ الْمَالِ . وَلِكُلٍّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ وَجْهٌ ، وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ .
فَصْلٌ : وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ ، وَلِآخَرَ بِفَرَسٍ قِيمَتُهُ سِوَى الْفَرَسِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ ، فَالْوَصِيَّتَانِ تَزِيدُ عَلَى الثُّلُثِ بِمِثْلِ ثُلُثَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ ثَلَاثَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ وَالْوَصِيَّتَانِ بِفَرَسٍ قِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ ، وَبِثُلُثِ الْأَلْفَيْنِ وَهُوَ دِرْهَمٌ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا ، وَثُلُثَا دِرْهَمٍ . فَإِذَا أَسْقَطَتِ الزِّيَادَةُ عَلَى الثُّلُثِ عِنْدَ رَدِّ الْوَرَثَةِ ، سَقَطَ خُمُسَا الْوَصِيَّتَيْنِ ، وَرَجَعَتْ إِلَى ثَلَاثَةِ أَخْمَاسِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَلْفَ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهَا . ثُمَّ فِي قِسْمَةِ ذَلِكَ بَيْنَ صَاحِبِ الْفَرَسِ وَالثُّلُثِ قَوْلَانِ عَلَى مَا حَكَاهُ ابْنُ سُرَيْجٍ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ الْأَوْلَى مِنْهُمَا : أَنَّ ثَلَاثَةَ أَخْمَاسِ الْفَرَسِ مَقْسُومَةٌ بَيْنَ صَاحِبِ الثُّلُثِ وَصَاحِبِ الْفَرَسِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ : لِصَاحِبِ الْفَرَسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ ، وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ سَهْمٌ ، فَيَصِيرُ الْفَرَسُ مَقْسُومًا عَلَى عِشْرِينَ سَهْمًا ، مِنْهَا لِصَاحِبِ الْفَرَسِ تِسْعَةُ أَسْهُمٍ ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَعْشَارِهِ وَنِصْفُ عُشْرِهِ ، وَقِيمَةُ ذَلِكَ أَرْبَعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ ، وَذَلِكَ عُشْرُهُ وَنِصْفُ عُشْرِهِ ، وَقِيمَةُ ذَلِكَ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا ، ثُمَّ يَأْخُذُ صَاحِبُ الثُّلُثِ ثُلُثَ ثَلَاثَةِ أَخْمَاسِ الْأَلْفَيْنِ ، وَذَلِكَ أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ فَيَصِيرُ مَعَ صَاحِبِ الثُّلُثِ خَمْسُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا مِنَ الْفَرَسِ وَالْمَالِ .
وَمَعَ صَاحِبِ الْفَرَسِ أَرْبَعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا مِنَ الْفَرَسِ ، فَتَصِيرُ الْوَصِيَّتَانِ أَلْفَ دِرْهَمٍ هُوَ ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ . وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْأَشْبَهُ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ ثَلَاثَةَ أَخْمَاسِ الْفَرَسِ مَقْسُومٌ بَيْنَ صَاحِبِ الْفَرَسِ وَصَاحِبِ الثُّلُثِ عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ ، مِنْهَا خَمْسَةُ أَسْهُمٍ لِصَاحِبِ الْفَرَسِ ، وَسَهْمٌ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ ؛ لِأَنَّ ثُلُثَيْ ذَلِكَ يُسَلَّمُ لِصَاحِبِ الْفَرَسِ ، وَالثُّلُثَ مُوصًى بِهِ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ ، وَصَاحِبِ الْفَرَسِ ، فَصَارَ بَيْنَهُمَا ، فَيَصِيرُ الْفَرَسُ مَقْسُومًا عَلَى عَشَرَةِ أَسْهُمٍ مِنْهَا لِصَاحِبِ الْفَرَسِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَعْشَارِهِ ، وَقِيمَةُ ذَلِكَ أَرْبَعُمِائَةٍ ، وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ سَهْمَانِ وَهُمَا عَشَرَةٌ وَقِيمَةُ ذَلِكَ مِائَتَا دِرْهَمٍ ، ثُمَّ يَأْخُذُ صَاحِبُ الْفَرَسِ حَقَّهُ مِنْ أَلْفَيْنِ ، وَذَلِكَ أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ ، فَصَارَ مَعَ صَاحِبِ الْفَرَسِ الثُّلُثُ سِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ مِنَ الْفَرَسِ ، وَمَعَ صَاحِبِ الْفَرَسِ أَرْبَعُمِائَةٍ مِنَ الْفَرَسِ وَهُمَا جَمِيعًا أَلْفُ دِرْهَمٍ ثُلُثُ جَمِيعِ التَّرِكَةِ ، وَهَذَا قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " ( وَلَوْ ) أَوْصَى لِوَارِثٍ وَأَجْنَبِيٍّ فَلَمْ يُجِيزُوا فَلِلْأَجْنَبِيِّ النِّصْفُ وَيَسْقُطُ الْوَارِثُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَلِلْوَرَثَةِ أَنْ يَعْتَرِضُوا فِي الْوَصِيَّةِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ ؛ لِأَنَّهُ غَايَةُ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْمَيِّتُ مِنْ جُمْلَةِ مَالِهِ بِالْوَصِيَّةِ ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِسَعْدٍ : الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ ، فَإِنْ أَوْصَى بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ ، لَزِمَتِ الْوَصِيَّةُ فِي الثُّلُثِ وَكَانَتِ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ مَوْقُوفَةً عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ وَرَدِّهِمْ . وَالثَّانِي : فِي اعْتِرَاضِ الْوَرَثَةِ الْوَصِيَّةَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ ، فَلَا وَصِيَةَ لِوَارِثٍ . فَإِنْ أَوْصَى لِوَارِثٍ فَمَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ مُخَرَّجٌ مِنْ كَلَامٍ لَهُ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ أَنَّهَا بَاطِلَةٌ ، لَا تَصِحُّ وَإِنْ أَجَازَهَا الْوَرَثَةُ ؛ لِلنَّهْيِ عَنْهَا وَلِثُبُوتِ الْحُكْمِ بِنَسْخِهَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي جَمِيعِ كُتُبِهِ : أَنَّهَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ كَالزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ . وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ التَّفْرِيعُ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَوْصَى لِوَارِثٍ بِثُلُثِ مَالِهِ ، وَلِأَجْنَبِيٍّ بِثُلُثِ مَالِهِ ، فَقَدِ اسْتَحَقَّ الْوَرَثَةُ الْمَنْعَ فِي الْوَجْهَيْنِ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ لِوَارِثٍ وَغَيْرِ وَارِثٍ ، وَمِنَ الْوَصِيَّةِ لِوَارِثٍ ، وَإِنِ احْتَمَلَهَا الثُّلُثُ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ : فَلِلْوَرَثَةِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُجِيزُوا الْأَمْرَيْنِ : الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ ، وَالزِّيَادَةَ عَلَى الثُّلُثِ ، فَتَمْضِي الْوَصِيَّةُ لَهُمَا بِالثُّلُثَيْنِ .
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُجِيزُوا الزِّيَادَةَ عَلَى الثُّلُثِ ، وَيَمْنَعُوا الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ فَيَأْخُذُ الْأَجْنَبِيُّ الثُّلُثَ كَامِلًا ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَرِضُوا عَلَيْهِ فِي الزِّيَادَةِ ، وَكَمُلَتْ وَصِيَّتُهُ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَرُدُّوا الزِّيَادَةَ عَلَى الثُّلُثِ وَيُجِيزُوا الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ ، فَيَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَ الْأَجْنَبِيِّ وَالْوُرَّاثِ نِصْفَيْنِ ، وَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سُدُسًا ، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِيمَا رَجَعَتْ إِلَيْهِ الْوَصِيَّةُ . وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَرُدُّوا الزِّيَادَةَ عَلَى الثُّلُثِ ، وَيُمْضُوا الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ ، فَيَكُونُ لِلْأَجْنَبِيِّ السُّدُسُ ؛ لِأَنَّ مَا زَادَ مَرْدُودٌ فِي حَقِّهِمَا مَعًا ، فَصَارَ الثُّلُثُ لَهُمَا ، ثُمَّ مُنِعَ الْوَارِثُ مِنْهُ ، فَصَارَ سَهْمُهُ مِيرَاثًا وَأَخَذَ الْأَجْنَبِيُّ سَهْمَهُ مِنْهُ لَوْ كَانَ الْوَارِثُ لَهُ مُشَارِكًا . فَلَوْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِأَجْنَبِيٍّ وَوَارِثِينَ وَلَمْ يُجِيزُوا ، كَانَ لِلْأَجْنَبِيِّ ثُلُثُ الثُّلُثِ ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ ثَلَاثَةٍ أُشْرِكُوا فِي الثُّلُثِ ، وَلَوْ كَانَتْ لِأَجْنَبِيَّيْنِ وَوَارِثٍ كَانَ لَهُمَا ثُلُثُ الثُّلُثِ . وَالِاعْتِبَارُ بِكَوْنِهِ وَارِثًا عِنْدَ الْمَوْتِ لَا وَقْتَ الْوَصِيَّةِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ وَارِثًا ، ثُمَّ صَارَ عِنْدَ الْمَوْتِ غَيْرَ وَارِثٍ صَحَّتْ لَهُ الْوَصِيَّةُ ، وَلَوْ أَوْصَى لَهُ وَهُوَ غَيْرُ وَارِثٍ ، ثُمَّ صَارَ عِنْدَ الْمَوْتِ وَارِثًا رُدَّتِ الْوَصِيَّةُ . وَلَوْ أَوْصَى لِامْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ ، وَلَوْ أَوْصَى لِزَوْجَتِهِ ثُمَّ طَلَّقَهَا صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : وَلَا تَصِحُّ إِجَازَةُ الْوَرَثَةِ إِلَّا مِنْ بَالِغٍ عَاقِلٍ جَائِزِ الْأَمْرِ شروط إجازة الورثة . وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ صَغِيرٌ ، أَوْ مَجْنُونٌ ، أَوْ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ لَمْ تَصِحَّ مِنْهُ الْإِجَازَةُ ، وَلَا مِنَ الْحَاكِمِ عَلَيْهِ ، وَلَا مِنْ وَلِيِّهِ ؛ لِمَا فِي الْإِجَازَةِ عَلَيْهِ مِنْ تَضْيِيعِ حَقِّهِ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْوَلِيِّ الْمُجِيزِ مَا لَمْ يَقْبِضْ ، فَإِنْ أُقْبِضْ صَارَ ضَامِنًا لِمَا أَجَازَهُ مِنَ الزِّيَادَةِ .
فَصْلٌ : وَإِذَا أَجَازَ الْوَرَثَةُ الزِّيَادَةَ عَلَى الثُّلُثِ ثُمَّ قَالُوا : كُنَّا نَظُنُّ أَنَّ الزِّيَادَةَ يَسِيرَةً ، أَوْ كُنَّا نَظُنُّ مَالَهُ كَثِيرًا ، أَوْ كُنَّا لَا نَرَى عَلَيْهِ دَيْنًا ، الحكم كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُمْ مَعَ أَيْمَانِهِمْ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْإِجَازَةَ ابْتِدَاءُ عَطِيَّةٍ مِنْهُمْ ، بَطَلَتْ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ ؛ لِأَنَّهَا هِبَةٌ جَهِلُوا بَعْضَهَا ، فَبَطَلَتْ . وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهَا تَنْفِيذٌ وَإِمْضَاءٌ ، قِيلَ لَهُمْ قَدْ لَزِمَكُمْ مِنْ إِمْضَاءِ الزِّيَادَةِ الْقَدْرُ كُنْتُمْ تَظُنُّوهُ يَزِيدُ عَلَى الثُّلُثِ لِأَنَّكُمْ قَدْ عَلِمْتُمُوهُ ، وَبَطَلَتِ الزِّيَادَةُ فِيمَا جَهِلْتُمُوهُ .
فَإِنِ اخْتَلَفُوا مَعَ الْمُوصَى لَهُ فِي الْقَدْرِ الَّذِي عَلِمُوهُ كَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَهُمْ مَعَ أَيْمَانِهِمْ .
فَصْلٌ : وَإِذَا مَاتَ رَجُلٌ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ ، فَادَّعَى رَجُلٌ أَنَّ أَبَاهُمَا وَصَّى لَهُ بِثُلُثِ مَالِهِ ، فَصَدَّقَهُ أَحَدُهُمَا ، وَكَذَّبَهُ الْآخَرُ الحكم ، حَلَفَ الْمُكَذِّبُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي حِصَّتِهِ . وَفِيمَا يَلْزَمُ الْمُصَدِّقَ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَلْزَمُهُ ثُلُثُ حِصَّتِهِ ، وَهُوَ سُدُسُ جَمِيعِ الْمَالِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَلْزَمُهُ سُدُسُ جَمِيعِ الْمَالِ مِنْ حِصَّتِهِ . وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي إِقْرَارِ أَحَدِ الِابْنَيْنِ بِدَيْنٍ ، فَلَوْ صَدَّقَهُ أَحَدُهُمَا عَلَى جَمِيعِ الثُّلُثِ ، وَصَدَّقَهُ الْآخَرُ عَلَى السُّدُسِ . لَزِمَ الْمُصَدِّقَ عَلَى السُّدُسِ نِصْفُ السُّدُسِ ، وَفِيمَا يَلْزَمُ الْمُصَدِّقَ عَلَى الثُّلُثِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : نِصْفُ الثُّلُثِ وَهُوَ السُّدُسُ . وَالثَّانِي : ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الثُّلُثِ وَهُوَ الرُّبُعُ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِمَا فِي الْبَطْنِ وَبِمَا فِي الْبَطْنِ إِذَا كَانَ يَخْرُجُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ حكم ، فَإِنْ خَرَجُوا عَدَدًا ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا فَالْوَصِيَّةُ بَيْنَهُمْ سَوَاءٌ ، وَهُمْ لِمَنْ أُوصِيَ بِهِمْ لَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الْوَصِيَّةُ بِالْحَمْلِ . وَالثَّانِي : الْوَصِيَّةُ لِلْحَمْلِ . فَأَمَّا الْوَصِيَّةُ لِلْحَمْلِ حكمها فَجَائِزَةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَلَكَ بِالْإِرْثِ وَهُوَ أَضْيَقُ ، مَلَكَ بِالْوَصِيَّةِ الَّتِي هِيَ أَوْسَعُ . وَلَوْ أَقَرَّ لِلْحَمْلِ إِقْرَارًا مُطْلَقًا بَطَلَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ الْوَصِيَّةَ أَحْمَلُ لِلْجَهَالَةِ لَهُ مِنَ الْإِقْرَارِ . أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى لِمَنْ فِي هَذِهِ الدَّارِ صَحَّ ، وَلَوْ أَقَرَّ لَهُ لَمْ يَصِحَّ . فَإِذَا قَالَ : قَدْ أَوْصَيْتُ لِحَمْلِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ بِأَلْفٍ ، نُظِرَ حَالُهَا إِذَا وَلَدَتْ ، فَإِنْ وَضَعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ تَكَلَّمَ بِالْوَصِيَّةِ لَا مِنْ حِينِ الْمَوْتِ صَحَّتْ لَهُ الْوَصِيَّةُ ؛ لِعِلْمِنَا أَنَّ الْحَمْلَ كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْوَصِيَّةِ . وَإِنْ وَضَعَتْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ حِينِ الْوَصِيَّةِ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ لِحُدُوثِهِ بَعْدَهَا ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا وَقْتَ تَكَلُّمِهِ بِهَا . وَإِنْ وَضَعَتْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْوَصِيَّةِ وَلِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ ، فَإِنْ كَانَتْ
ذَاتَ زَوْجٍ أَوْ سَيِّدٍ يُمْكِنُ أَنْ يَطَأَهَا فَيَحْدُثَ ذَلِكَ مِنْهُ ، فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ لِإِمْكَانِ حُدُوثِهِ فَلَمْ يَسْتَحِقَّ بِالشَّكِّ . وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ ذَاتِ زَوْجٍ أَوْ سَيِّدٍ يَطَأُ ، فَالْوَصِيَّةُ صَحِيحَةٌ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ تَقَدُّمُهُ وَالْحَمْلُ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الظَّاهِرِ فِي اللُّحُوقِ ، فَكَذَلِكَ فِي الْوَصِيَّةِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا صَحَّتْ لَهُ الْوَصِيَّةُ فَسَوَاءٌ كَانَ الْحَمْلُ حُرًّا أَوْ مَمْلُوكًا ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْمَمْلُوكِ إذاكان حملا جَائِزَةٌ ، إِلَّا أَنَّهَا فِي الْمَمْلُوكِ لِسَيِّدِهِ ، وَفِي الْحُرِّ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ . ثُمَّ إِنْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى فَالْوَصِيَّةُ لَهُ . وَإِنْ وَضَعَتْ ذَكَرًا وَأُنْثَى كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ؛ لِأَنَّهَا هِبَةٌ لَا مِيرَاثَ ، إِلَّا أَنْ يُفَضِّلَ الْمُوصِي الذَّكَرَ عَلَى الْأُنْثَى ، لَوْ عَلَى هَذِهِ فَيُحْمَلُ عَلَى تَفْضِيلِهِ . فَلَوْ قَالَ : إِنْ وَلَدَتْ غُلَامًا فَلَهُ أَلْفٌ ، وَإِنْ وَلَدَتْ جَارِيَةً فَلَهَا مِائَةٌ ، فَوَلَدَتْ غُلَامًا الوصية للحمل ، اسْتَحَقَّ أَلْفًا ، وَإِنْ وَلَدَتْ جَارِيَةً اسْتَحَقَّ الْغُلَامُ أَلْفًا وَالْجَارِيَةُ مِائَةً . وَإِنْ وَلَدَتْ خُنْثَى دُفِعَ إِلَيْهِ مِائَةٌ ؛ لِأَنَّهَا يَقِينٌ ، وَوَقَفَ تَمَامُ الْأَلْفِ حَتَّى يَسْتَبِينَ . وَهَكَذَا لَوْ قَالَ : إِنْ كَانَ فِي بَطْنِكِ غُلَامٌ فَلَهُ أَلْفٌ ، وَإِنْ كَانَ فِي بَطْنِكِ جَارِيَةٌ فَلَهَا مِائَةٌ ، فَوَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً ، كَانَ لِلْغُلَامِ أَلْفٌ وَلِلْجَارِيَةِ مِائَةٌ . فَلَوْ وَلَدَتْ غُلَامَيْنِ أَوْ جَارِيَتَيْنِ ، صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ ، وَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ حَكَاهَا ابْنُ سُرَيْجٍ : أَحَدُهَا أَنَّ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَدْفَعُوا الْأَلْفَ إِلَى أَيِّ الْغُلَامَيْنِ شَاءُوا ، وَالْمِائَةَ إِلَى أَيِّ الْجَارِيَتَيْنِ شَاءُوا ؛ لِأَنَّهَا لِأَحَدِهِمَا فَلَمْ تُدْفَعْ إِلَى أَحَدِهِمَا ، وَرُجِعَ فِيهَا إِلَى بَيَانِ الْوَارِثِ ، كَمَا لَوْ أَوْصَى لَهُ بِأَحَدِ عَبْدَيْهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَشْتَرِكُ الْغُلَامَانِ فِي الْأَلْفِ ، وَالْجَارِيَتَانِ فِي الْمِائَةِ ؛ لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ لِغُلَامٍ وَجَارِيَةٍ ، وَلَيْسَ أَحَدُ الْغُلَامَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ فَشِرْكٌ بَيْنَهُمَا ، وَلَمْ يُرْجَعْ فِيهِ إِلَى خِيَارِ الْوُرَّاثِ ، بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ بِأَحَدِ الْعَبْدَيْنِ اللَّذَيْنِ يَمْلِكُهُمَا الْوُرَّاثُ ، فَجَائِزٌ أَنْ يُرْجَعَ إِلَى خِيَارِهِ فِيهِمَا . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْأَلْفَ مَوْقُوفَةٌ بَيْنَ الْغُلَامَيْنِ ، وَالْمِائَةَ مَوْقُوفَةٌ بَيْنَ الْجَارِيَتَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا عَلَيْهِمَا بَعْدَ الْبُلُوغِ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِوَاحِدٍ فَلَمْ يُشْرَكْ فِيهَا بَيْنَ اثْنَيْنِ ، وَلَيْسَ لِلْوَارِثِ فِيهَا خِيَارٌ ، فَلَزِمَ فِيهَا الْوَقْفُ .
فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ : إِنْ كَانَ الَّذِي فِي بَطْنِكِ غُلَامٌ فَلَهُ أَلْفٌ ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي فِي بَطْنِكِ جَارِيَةٌ فَلَهَا مِائَةٌ ، فَوَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً الحكم ، فَلَا شَيْءَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ إِنْ كَانَ فِي بَطْنِكِ غُلَامٌ فَلَهُ الْأَلْفُ ؛ لِأَنَّهُ إِذَا قَالَ إِنْ كَانَ الَّذِي فِي بَطْنِكِ غُلَامٌ فَقَدْ جَعَلَ كَوْنَ الْحَمْلِ غُلَامًا شَرْطًا فِي الْحَمْلِ وَالْوَصِيَّةِ مَعًا ، فَإِذَا كَانَ الْحَمْلُ غُلَامًا وَجَارِيَةً لَمْ يُوجَدِ الشَّرْطُ كَامِلًا فَلَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ .
وَإِذَا قَالَ إِنْ كَانَ فِي بَطْنِكِ غُلَامٌ ، فَلَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ شَرْطًا فِي الْحَمْلِ ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ شَرْطًا فِي الْوَصِيَّةِ فَصَحَّتِ الْوَصِيَّةُ . وَهَكَذَا لَوْ قَالَ : إِنْ كَانَ مَا فِي بَطْنِكِ غُلَامًا ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ إِنْ كَانَ الَّذِي فِي بَطْنِكِ ، فَإِنْ وَضَعَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً فَلَا وَصِيَّةَ . وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : إِنْ كَانَ حَمْلُكِ ذَكَرًا ، فَكَانَ ذَكَرًا وَأُنْثَى ، فَلَا وَصِيَّةَ ، فَلَوْ قَالَ إِنْ كَانَ الَّذِي فِي بَطْنِكِ غُلَامًا فَلَهُ أَلْفٌ ، فَلَوْ وَلَدَتْ غُلَامَيْنِ فَفِي الْوَصِيَّةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا بَاطِلٌ ، كَمَا لَوْ وَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ كُلُّ حَمْلِهَا غُلَامًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا جَائِزَةٌ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غُلَامٌ فَاشْتَرَكَا فِي الصِّفَةِ ، وَلَمْ تَضُرَّ الزِّيَادَةُ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عَلَى الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي حَكَاهَا ابْنُ سُرَيْجٍ مِنْ قَبْلُ أَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى بَيَانِ الْوَرَثَةِ فِي دَفْعِ الْأَلْفِ إِلَى أَحَدِهِمَا . وَالثَّانِي : يَشْتَرِكَانِ جَمِيعًا فِيهَا . وَالثَّالِثُ : تُوقَفُ الْأَلِفُ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَصْطَلِحَا عَلَيْهَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ قَدْ أَوْصَيْتُ لِحَمْلِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ مِنْ زَوْجِهَا ، فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ نَفَاهُ زَوْجُهَا بِاللِّعَانِ الحكم ، فَفِي الْوَصِيَّةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ : أَنَّ الْوَصِيَّةَ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّ لِعَانَهُ قَدْ نَفَى أَنْ يَكُونَ مِنْهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ، أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَهُ جَائِزَةٌ ؛ لِأَنَّ لِعَانَ الزَّوْجِ مِنْهُ ، إِنَّمَا اخْتَصَّ بِنَفْيِ النَّسَبِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ أَحْكَامِ الْأَوْلَادِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِهِ وَلَوْ قَذَفَهَا بِهِ قَاذِفُ حَدٍّ ؟ وَلَوْ عَادَ فَاعْتَرَفَ بِنَسَبِهِ لَحِقَ بِهِ ، وَلَكِنْ لَوْ وَضَعَتْ بَعْدَ أَنْ طَلَّقَهَا ذَلِكَ الزَّوْجُ ثَلَاثًا وَلَدًا لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ ، وَلِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْوَصِيَّةِ ، فَلَا وَصِيَّةَ لَهَا وَهُوَ لَيْسَ مِنْهُ ، وَبِخِلَافِ الْمُلَاعِنِ الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ مِنْهُ .
فَصْلٌ : وَإِذَا وَضَعَتِ الْمُوصَى بِحَمْلِهَا وَلَدًا مَيِّتًا حكم الوصية لحملهل الميت ، فَلَا وَصِيَّةَ لَهُ ، كَمَا لَا مِيرَاثَ لَهُ ، وَلَوْ وَضَعَتْهُ حَيًّا فَمَاتَ صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ ، وَكَانَتْ لِوَارِثِ الْحَمَلِ كَالْمِيرَاثِ . وَلَوْ ضَرَبَ ضَارِبٌ بَطْنَهَا فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا ، كَانَ فِيهِ عَلَى الضَّارِبِ غُرَّةٌ وَلَا وَصِيَّةَ لَهُ ، كَمَا لَا مِيرَاثَ لَهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ بِالْحَمْلِ حكمها فَجَائِزَةٌ ، كَجَوَازِهَا بِالْمَجْهُولِ . فَإِذَا أَوْصَى بِحَمْلِ جَارِيَتِهِ لِرَجُلٍ ، فَوَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْوَصِيَّةِ ، صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ بِهِ ، سَوَاءٌ وَضَعَتْهُ غُلَامًا أَوْ جَارِيَةً .
وَإِنْ وَلَدَتْ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ ، فَلَا وَصِيَّةَ بِهِ ، لِعَدَمِهِ حِينَ الْوَصِيَّةِ ، وَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا ظَنَّهُ حَمْلًا فَلَمْ يَكُنْ حَمْلًا . وَإِنْ وَلَدَتْ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَلِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ ، فَإِنْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ يُمْكِنُ أَنْ يَطَأَ فَالظَّاهِرُ حُدُوثُهُ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ ، فَلَا وَصِيَّةَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا زَوْجٌ ، فَالظَّاهِرُ تَقَدُّمُهُ فَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا إِذَا قَالَ قَدْ أَوْصَيْتُ بِمَنْ تَحْمِلُهُ جَارِيَتِي هَذِهِ ، فَفِي الْوَصِيَّةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلَةٌ ، وَالثَّانِي : جَائِزَةٌ ، مِنَ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي الْوَصِيَّةِ هَلْ يُرَاعَى بِهَا وَقْتُ الْوَصِيَّةِ أَمْ لَا ؟ وَلَكِنْ لَوْ أَوْصَى لِمَا تَحْمِلُهُ هَذِهِ الْمَرْأَةُ لَمْ يَجُزْ هَاهُنَا قَوْلًا وَاحِدًا ؛ لَأَنَّ الْمَالِكَ هَاهُنَا مَعْدُومٌ ، وَعَدَمُ الْمِلْكِ أَعْظَمُ فِي التَّمْلِيكِ مِنْ عَدَمِ الْمَمْلُوكِ ، فَإِذَا قِيلَ الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ ، فَلَا مَسْأَلَةَ ، وَإِذَا قِيلَ جَائِزَةٌ ، نُظِرَ : فَإِنْ وَضَعَتْهُ وَلَدًا لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَمْ تَصِحَّ فِيهِ الْوَصِيَّةُ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْوَصِيَّةِ ، وَإِنَّمَا أَوْصَى بِوَلَدٍ يَحْدُثُ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ . وَإِنْ وَضَعَتْ وَلَدًا لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ صَحَّتْ فِيهِ الْوَصِيَّةُ لِحُدُوثِهِ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ . فَإِنْ وَضَعَتْ وَلَدًا لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ، وَلِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ ، فَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ يَطَأُ فَالظَّاهِرُ حُدُوثُهُ فَصَحَّتْ فِيهِ الْوَصِيَّةُ . وَإِنْ لَمْ تَكُنْ ذَاتَ زَوْجٍ يَطَأُ فَالظَّاهِرُ تَقَدُّمُهُ فَلَمْ تَصِحَّ فِيهِ الْوَصِيَّةُ . فَأَمَّا إِذَا قَالَ قَدْ أَوْصَيْتُ لِمَنْ تَلِدُهُ جَارِيَتِي فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يُرَاعَى وُجُودُ الْحَمْلِ حَالَ الْوَصِيَّةِ إذا قال أوصيت لمن تلد جاريتي أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يُرَاعَى وُجُودُهُ حَالَ الْوَصِيَّةِ ، وَيَكُونُ كَقَوْلِهِ قَدْ أَوْصَيْتُ بِحَمْلِ جَارِيَتِي . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ لَا يُرَاعَى وُجُودُهُ ، وَفِي أَيِّ زَمَانٍ وَلَدَتْهُ صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ بِهِ .
فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ : إِنْ وَلَدَتْ هَذِهِ الْجَارِيَةُ ذَكَرًا فَهِيَ وَصِيَّةٌ لِزَيْدٍ ، وَإِنْ وَلَدَتْ أُنْثَى فَهِيَ وَصِيَّةٌ لِعَمْرٍو . جَازَ ، وَكَانَ عَلَى مَا قَالَ إِنْ وَلَدَتْ غُلَامًا ذَكَرًا كَانَ لِزَيْدٍ ، وَإِنْ وَلَدَتْ جَارِيَةً أُنْثَى كَانَتْ لِعَمْرٍو . وَإِنْ وَلَدَتْ ذَكَرًا وَأُنْثَى كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا جُعِلَ لَهُ . وَلَوْ وَلَدَتْ خُنْثَى مُشْكِلًا ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا حَقَّ فِيهِ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِذَكَرٍ فَيَسْتَحِقُّهُ زَيْدٌ ، وَلَا بِأُنْثَى فَيَسْتَحِقُّهَا عَمْرٌو ، وَيَكُونُ مَوْرُوثًا .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ مَوْقُوفٌ بَيْنَ زَيْدٍ وَعَمْرٍو حَتَّى يَصْطَلِحَا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى ، فَإِنْ أُشْكِلَ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَمْلِكَهُ الْوَرَثَةُ ، وَإِنَّمَا الْإِشْكَالُ مُؤَثِّرٌ فِي مُسْتَحِقِّ الْوَصِيَّةِ لَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ لِلْوَرَثَةِ .
فَصْلٌ : وَإِذَا أَوْصَى بِحَمْلِ أَمَتِهِ لِرَجُلٍ ، وَضَرَبَ بَطْنَهَا ضَارِبٌ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا ، صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ ، وَكَانَ لِلْمُوصَى لَهُ الدِّيَةُ . وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِحَمْلِ نَاقَتِهِ ، فَضُرِبَ بَطْنُهَا فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا ، فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ ، وَمَا نَقَصَهَا الضَّرْبُ لِلْوَرَثَةِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ مَا فِي جَنِينِ الْأَمَةِ بَدَلٌ مِنْهُ ، وَمَا فِي جَنِينِ الْبَهِيمَةِ لَا بَدَلَ لَهُ مِنْهَا . أَلَا تَرَى أَنَّ فِي جَنِينِ الْآدَمِيَّةِ دِيَتَهُ ، وَفِي جَنِينِ الْبَهِيمَةِ مَا نَقَصَ مِنْ ثَمَنِهَا .
فَصْلٌ : وَلَوْ أَوْصَى بِحَمْلِ جَارِيَةٍ لِحَمْلِ أُخْرَى ، فَلَا يَخْلُو حَمْلُهُمَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ الْحَمْلَانِ مَوْجُودَيْنِ حَالَ الْوَصِيَّةِ لِوِلَادَتِهِمَا ، لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ، فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ . فَمَنْ وَلَدَتْهُ الْمُوصَى بِحَمْلِهَا مِنْ غُلَامٍ ، أَوْ جَارِيَةٍ ، أَوْ هُمَا ، فَهُوَ لِمَنْ وَلَدَتْهُ الْمُوصَى لِحِمْلِهَا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى ، أَوْ هُمَا بِالسَّوِيَّةِ بَيْنَهُمَا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْحَمْلَانِ مَعْدُومَيْنِ عِنْدَ الْوَصِيَّةِ لِوِلَادَتِهِمَا لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ ، فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ بِمَعْدُومٍ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ الْحَمْلُ الْمُوصَى بِهِ مَوْجُودًا عِنْدَ الْوَصِيَّةِ لِوِلَادَتِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ، وَالْحَمْلُ الْمُوصَى لَهُ مَعْدُومًا عِنْدَ الْوَصِيَّةِ لِوِلَادَتِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ . فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ بِمَوْجُودٍ لِمَعْدُومٍ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ الْحَمْلُ الْمُوصَى مَعْدُومًا عِنْدَ الْوَصِيَّةِ لِوِلَادَتِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ ، وَالْحِمْلُ الْمُوصَى لَهُ مَوْجُودًا عِنْدَ الْوَصِيَّةِ لِوِلَادَتِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ بِمَعْدُومٍ لِمَوْجُودٍ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " ( وَلَوْ ) أَوْصَى بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ ، أَوْ بِغَلَّةِ دَارِهِ ، أَوْ بِثَمَرِ بُسْتَانِهِ وَالثُّلُثُ يَحْتَمِلُهُ جَازَ ذَلِكَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : الْوَصِيَّةُ بِمَنَافِعِ الْأَعْيَانِ حكمها جَائِزَةٌ ، كَالْوَصِيَّةِ بِالْأَعْيَانِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ عَقْدُ الْإِجَارَةِ عَلَيْهَا ، فَأَوْلَى أَنْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ بِهَا ، وَسَوَاءٌ قُيِّدَتِ الْوَصِيَّةُ بِمُدَّةٍ أَوْ جُعِلَتْ مُؤَبَّدَةً ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى :
إِنْ قُدِّرَتْ بِمُدَّةٍ تَصِحُّ فِيهَا الْإِجَارَةُ : صَحَّتْ ، وَإِنْ لَمْ تُقَدَّرْ بِمُدَّةٍ تَصِحُّ فِيهَا الْإِجَارَةُ بَطَلَتْ حَمْلًا لِلْوَصِيَّةِ عَلَى الْإِجَارَةِ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِهَا عَلَى التَّأْبِيدِ ، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ ؛ لِأَنَّ الْوَصَايَا تَجُوزُ مَعَ الْجَهَالَةِ كَمَا لَوْ أَوْصَى بِسَهْمٍ مِنْ مَالِهِ وَمَالُهُ مَجْهُولٌ ، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ فَإِنَّهَا لَا تَصِحُّ مَعَ الْجَهَالَةِ . فَإِذَا صَحَّ جَوَازُهَا مُقَدَّرَةً وَمُؤَبَّدَةً فَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ الْوَصِيَّةَ بِخِدْمَةِ الْعَبْدِ ، وَبِغَلَّةِ الدَّارِ وَبِثَمَرَةِ الْبُسْتَانِ ، فَأَمَّا الْوَصِيَّةُ بِخِدْمَةِ الْعَبْدِ فَلَهُ أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ وَلَهُ أَنْ يُؤَجِّرَهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجُوزُ لِمَنْ أَوْصَى لَهُ بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ أَنْ يَأْمُرَهُ اعْتِمَادًا عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ الْوَصِيَّةُ مِنَ الِاسْتِخْدَامِ دُونَ الْإِجَارَةِ . وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْخِدْمَةِ كَالْوَصِيَّةِ بِالرَّقَبَةِ ، فَلَمَّا كَانَ الْمُوصَى لَهُ بِالرَّقَبَةِ يَجُوزُ لَهُ الْمُعَارَضَةُ عَلَيْهَا ، لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَهَا بِالْوَصِيَّةِ ، كَانَ الْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ أَيْضًا يَجُوزُ لَهُ الْمُعَارَضَةُ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَهَا بِالْوَصِيَّةِ . فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالْوَصِيَّةُ بِخِدْمَتِهِ ضَرْبَانِ : إِمَّا مُقَدَّرَةٌ بِمُدَّةٍ أَوْ مُؤَبَّدَةٌ . فَإِنْ قُدِّرَتْ بِمُدَّةٍ كَأَنَّهُ قَالَ : قَدْ أَوْصَيْتُ لِزَيْدٍ بِخِدْمَةِ عَبْدِي سَنَةً ، فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ لَهُ بِخِدْمَةِ سَنَةٍ . وَالْمُعْتَبَرُ فِي الثُّلُثِ مَنْفَعَةُ السَّنَةِ دُونَ الرَّقَبَةِ ، وَفِي كَيْفِيَّةِ اعْتِبَارِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ : أَنَّهُ يُقَوَّمُ الْعَبْدُ كَامِلَ الْمَنْفَعَةِ فِي زَمَانِهِ كُلِّهِ ، فَإِذَا قِيلَ مِائَةُ دِينَارٍ ، قُوِّمَ وَهُوَ مَسْلُوبُ الْمَنْفَعَةِ سَنَةً ، فَإِذَا قِيلَ ثَمَانُونَ دِينَارًا فَالْوَصِيَّةُ بِعِشْرِينَ دِينَارًا وَهِيَ خَارِجَةٌ مِنَ الثُّلُثِ ، إِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمُوصِي دَيْنٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ الَّذِي أَرَاهُ مَذْهَبًا : أَنَّهُ يُقَوَّمُ خِدْمَةُ مِثْلِهِ سَنَةً ، فَتُعْتَبَرُ مِنَ الثُّلُثِ ، وَلَا تُقَوَّمُ الرَّقَبَةُ ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ الْمُمْتَلَكَةَ فِي الْعُقُودِ وَالْغُصُوبِ هِيَ الْمُقَوَّمَةُ دُونَ الْأَعْيَانِ . وَكَذَلِكَ فِي الْوَصَايَا . فَإِذَا عُلِمَ الْقَدْرُ الَّذِي تَقَوَّمَتْ بِهِ خِدْمَةُ السَّنَةِ إِمَّا مِنَ الْعَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ، أَوْ مِنَ الْمَنَافِعِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي نُظِرَ : فَإِنْ خَرَجَ جَمِيعُهُ مِنَ الثُّلُثِ ، صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ لَهُ بِخِدْمَةِ جَمِيعِ السَّنَةِ ، وَإِنْ خَرَجَ نِصْفَهُ مِنَ الثُّلُثِ ، رَجَعَتِ الْوَصِيَّةُ إِلَى نِصْفِهَا ، وَاسْتَخْدَمَهُ نِصْفَ السَّنَةِ ، وَإِنْ خَرَجَ ثُلُثُهُ مِنَ الثُّلُثِ رَجَعَتِ الْوَصِيَّةُ إِلَى ثُلُثِهَا ، وَاسْتَخْدَمَهُ ثُلُثَ السَّنَةِ . فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ عَلَى هَذِهِ الْعِبْرَةِ ، اسْتَحَقَّ اسْتِخْدَامَهُ جَمِيعَ السَّنَةِ ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ فِي التَّرِكَةِ مَالٌ غَيْرَ الْعَبْدِ ، أَمْ لَا ؟
فَإِنْ كَانَ فِي التَّرِكَةِ مَالٌ غَيْرَ الْعَبْدِ إِذَا أَمْكَنَ الْمُوصَى لَهُ مِنَ اسْتِخْدَامِهِ سَنَةً ، أَمْكَنَ الْوَرَثَةُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ أَنْ يَتَصَرَّفُوا فِي التَّرِكَةِ بِمَا يُقَابِلُ مِثْلَ الْعَبْدِ ، فَلِلْمُوصَى لَهُ أَنْ يَسْتَخْدِمَ جَمِيعَ الْعَبْدِ سَنَةً مُتَوَالِيَةً حَتَّى يَسْتَوْفِيَ جَمِيعَ وَصِيَّتِهِ ، وَالْوَرَثَةُ يُمْنَعُونَ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ حَتَّى تَمْضِيَ السَّنَةُ ، فَإِنْ بَاعُوهُ قَبْلَهَا كَانَ فِي بَيْعِهِ قَوْلَانِ كَالْعَبْدِ الْمُؤَاجَرِ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي التَّرِكَةِ مَالٌ غَيْرَ الْعَبْدِ وَلَا خَلَّفَ الْمُوصِي سِوَاهُ ، فَفِي كَيْفِيَّةِ اسْتِخْدَامِ الْمُوصَى لَهُ سَنَةً ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ حَكَاهَا ابْنُ سُرَيْجٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ سَنَةً مُتَوَالِيَةً ، وَيُمْنَعُ الْوَرَثَةُ مِنَ اسْتِخْدَامِهِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ حَتَّى يَسْتَكْمِلَ الْمُوصَى لَهُ سَنَةَ وَصِيَّتِهِ ، ثُمَّ حِينَئِذٍ يَخْلُصُ لِلْوَرَثَةِ بَعْدَ انْقِضَائِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَسْتَخْدِمَ ثُلُثَ الْعَبْدِ ثَلَاثَ سِنِينَ ، وَتَسْتَخْدِمَ الْوَرَثَةُ ثُلُثَيْهِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْمُوصَى لَهُ سَنَةَ وَصِيَّتِهِ مِنْ ثُلُثِ الْعَبْدِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ؛ لِئَلَّا يَخْتَصَّ الْمُوصَى لَهُ بِمَا لَمْ يَحْصُلْ لِلْوَرَثَةِ مِثْلَاهُ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ يَتَهَيَّأُ عَلَيْهِ الْمُوصَى لَهُ وَالْوَرَثَةُ ، فَيَسْتَخْدِمُهُ الْمُوصَى لَهُ يَوْمًا ، وَالْوَرَثَةُ يَوْمَيْنِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ سِنَةَ وَصِيَّتِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ . وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا إِلَى مِلْكِ الرَّقَبَةِ ، فَلَمْ يَلْزَمْ أَنْ يُقَابِلُوا الْمُوصَى لَهُ بِمِثْلَيِ الْمَنْفَعَةِ ، وَلِأَنَّ حَقَّ الْمُوصَى لَهُ فِي اسْتِخْدَامِ جَمِيعِ الْعَبْدِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ فِي ثُلُثِهِ ، وَلِأَنَّ حَقَّهُ مُتَّصِلٌ وَمُعَجَّلٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ مُؤَجَّلًا أَوْ مُفَرَّقًا .
فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِخِدْمَةِ الْعَبْدِ عَلَى التَّأْبِيدِ كَأَنْ قَالَ : قَدْ أَوْصَيْتُ لِزَيْدٍ بِخِدْمَةِ عَبْدِي أَبَدًا ، فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ إِذَا تَحَمَّلَهَا الثُّلُثُ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الَّذِي يُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ فِي الثُّلُثِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَالَهُ فِي اخْتِلَافِ الْعِرَاقِيِّينَ وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ تُقَوَّمُ جَمِيعُ الرَّقَبَةِ فِي الثُّلُثِ ، وَإِنِ اخْتَصَّتِ الْوَصِيَّةُ بِالْمَنْفَعَةِ ، كَمَا تُقَوَّمُ رَقَبَةُ الْوَقْفِ فِي الثُّلُثِ ، وَإِنْ مَلَكَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ الْمَنْفَعَةَ . فَعَلَى هَذَا هَلْ يَصِيرُ الْمُوصَى لَهُ مَالِكًا الرَّقَبَةَ ، وَإِنْ مُنِعَ مِنْ بِيعَهَا أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَمْلِكُهَا لِاخْتِصَاصِ الْوَصِيَّةِ بِمَنَافِعِهَا . وَالثَّانِي : يَمْلِكُهَا ، كَمَا يَمْلِكُ أُمَّ وَلَدِهِ ، وَإِنْ كَانَ مَمْنُوعًا مِنْ بَيْعِهَا لِتَقْوِيمِهَا عَلَيْهِ فِي الثُّلُثِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَرُوذِيِّ . وَهَذَا إِذَا قِيلَ إِنَّ الرَّقَبَةَ هِيَ الْمُقَوَّمَةُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُقَوَّمُ مَنَافِعُ الْعَبْدِ فِي الثُّلُثِ دُونِ رَقَبَتِهِ ؛ لِأَنَّ التَّقْوِيمَ إِنَّمَا يَخْتَصُّ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ الْوَصِيَّةُ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَجَاوَزَ بِالتَّقْوِيمِ إِلَى غَيْرِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَوْصَى بِالْمَنْفَعَةِ إِلَى رَجُلٍ
وَبِالرَّقَبَةِ لِغَيْرِهِ ، لَمْ يُقَوَّمْ فِي حَقِّ صَاحِبِ الْمَنْفَعَةِ إِلَّا الْمَنْفَعَةُ دُونَ الرَّقَبَةِ ، كَذَلِكَ إِذَا اسْتَبْقَى الرَّقَبَةَ عَلَى مِلْكِ الْوَرَثَةِ . وَاعْتِبَارُ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ : كَمْ قِيمَةُ الْعَبْدِ بِمَنَافِعِهِ ؟ فَإِذَا قِيلَ مِائَةُ دِينَارٍ . قِيلَ : وَكَمْ قِيمَتَهُ مَسْلُوبَ الْمَنَافِعِ ؟ فَإِذَا قِيلَ : عِشْرُونَ دِينَارًا . عُلِمَ أَنَّ قِيمَةَ مَنَافِعِهِ ثَمَانُونَ دِينَارًا ، فَتَكُونُ هِيَ الْقَدْرَ الْمُعْتَبَرَ مِنَ الثُّلُثِ . فَعَلَى هَذَا هَلْ يُحْتَسَبُ الْبَاقِي مِنْ قِيمَةِ الرَّقَبَةِ وَهُوَ عِشْرُونَ دِينَارًا عَلَى الْوَرَثَةِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا يُحْتَسُبُ بِهِ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ دَخَلَ فِي مِلْكِهِمْ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يُحْتَسَبُ بِهِ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ مَا زَالَتْ عَنْهُ الْمَنْفَعَةُ زَالَ عَنْهُ التَّقْوِيمُ . فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَخَرَجَ الْقَدْرُ الَّذِي اعْتَبَرْنَاهُ مِنَ الثُّلُثِ ، صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ بِجَمِيعِ الْمَنْفَعَةِ ، وَكَانَ لِلْمُوصَى لَهُ اسْتِخْدَامُهُ أَبَدًا مَا دَامَ حَيًّا ، وَأَخْذُ جَمِيعِ أَكْسَابِهِ الْمَأْلُوفَةِ . وَهَلْ يَمْلِكُ مَا كَانَ غَيْرَ مَأْلُوفٍ مِنْهَا كَاللُّقَطَةِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ أَصَحَّهُمَا يَمْلِكُهُ . وَفِي نَفَقَتِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ : أَنَّهَا عَلَى الْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ تَخْتَصُّ بِالْكَسْبِ . وَالثَّانِي : وَقَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّهَا عَلَى الْوَرَثَةِ لِوُجُوبِهَا بِحَقِّ الْمِلْكِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : حَكَاهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ : تَجِبُ فِي بَيْتِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ مَالِكِي الرَّقَبَةِ وَالْمَنْفَعَةِ . وَلَمْ يَكْمُلْ فِيهِ اسْتِحْقَاقُ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ ، فَعَدَلَ بِهَا إِلَى بَيْتِ الْمَالِ ، فَإِذَا مَاتَ الْمُوصَى لَهُ ، فَهَلْ تَنْتَقِلُ الْمَنْفَعَةُ إِلَى وَارِثِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ فِي إِفْصَاحِهِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَنْفَعَةَ تَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ لِتَقَوُّمِهَا عَلَى الْأَبَدِ فِي حَقِّهِ . فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْمَنْفَعَةُ مُقَدَّرَةً بِحَيَاةِ الْعَبْدِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : قَدِ انْقَطَعَتِ الْوَصِيَّةُ بِمَوْتِ الْمُوصَى لَهُ ؛ لِأَنَّهُ وَصِيٌّ لَهُ فِي عَيْنِهِ بِالْخِدْمَةِ لَا لِغَيْرِهِ . فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْمَنْفَعَةُ مُقَدَّرَةً بِحَيَاةِ الْمُوصَى لَهُ ، ثُمَّ تَعُودُ بَعْدَ مَوْتِهِ إِلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي .
فَصْلٌ : وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مَا قُوِّمَتْ بِهِ الْمَنَافِعُ كُلُّهَا مِنَ الثُّلُثِ وَخَرَجَ بَعْضُهَا مِنْهُ كَانَ لِلْمُوصَى لَهُ مِنْهَا قَدْرُ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ ، مِثْلَ أَنْ تَكُونَ قِيمَةُ الْمَنَافِعِ عَلَى مَا بَيَّنَاهُ : ثَمَانُونَ
دِينَارًا ، وَقَدِ احْتَمَلَ الثُّلُثُ مِنْهَا أَرْبَعِينَ دِينَارًا ، اسْتَحَقَّ مِنْ مَنَافِعِهِ النِّصْفَ ، لِاحْتِمَالِ الثُّلُثِ لِلنِّصْفِ . وَإِنِ احْتَمَلَ الثُّلُثُ مِنْهَا عِشْرِينَ دِينَارًا ، اسْتَحَقَّ مِنْ مَنَافِعِهِ الرُّبُعَ لِاحْتِمَالِ الثُّلُثِ لِلرُّبُعِ . فَعَلَى هَذَا إِذَا كَانَ هَذَا الَّذِي احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ نِصْفَ الْخِدْمَةِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَسْتَخْدِمُ الْمُوصَى لَهُ نِصْفَ الْعَبْدِ بِأَخْذِ النِّصْفِ مِنْ كَسْبِهِ وَتَسْتَخْدِمُ الْوَرَثَةُ النِّصْفَ الْآخَرَ بِأَخْذِ النِّصْفِ الْآخَرِ مِنْ كَسْبِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَتَهَانَا عَلَيْهِ الْوَرَثَةُ ، وَالْمُوصَى لَهُ يَوْمًا وَيَوْمًا أَوْ أُسْبُوعًا وَأُسْبُوعًا . فَأَمَّا النَّفَقَةُ : فَإِنْ قِيلَ بِوُجُوبِهَا عَلَى مَالِكِ الرَّقَبَةِ كَانَتْ عَلَى الْوَرَثَةِ . وَإِنْ قِيلَ بِوُجُوبِهَا عَلَى مَالِكِ الْمَنْفَعَةِ ، كَانَتْ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ وَالْوَرَثَةِ نِصْفَيْنِ لِاشْتِرَاكِهِمَا بِالتَّسْوِيَةِ فِي مَنْفَعَتِهِ ، وَلَوْ تَفَاضَلَا فِيهَا لَفُضِّلَ بَيْنَهُمَا بِقَدْرِهَا . فَأَمَّا زَكَاةُ الْفِطْرِ فَلَا تَجِبْ عَلَى الْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ بِحَالٍ ، سَوَاءٌ مَلَكَ جَمِيعَهَا ، أَوْ بَعْضَهَا وَفِي وُجُوبِهَا عَلَى الْوَرَثَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : تَجِبُ عَلَيْهِمْ لِتَعَلُّقِهَا بِالرَّقَبَةِ . وَالثَّانِي : تَسْقُطُ وَلَا تَجِبُ ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُمْ لَمْ يَكْمُلْ ، وَصَارَتْ كَزَكَاةِ الْمُكَاتَبِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا بَيْعُ هَذَا الْعَبْدِ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ حكم . فَإِنْ أَرَادَ الْمُوصَى لَهُ بِخِدْمَتِهِ لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ بَيْعُهُ لَمْ يَجُزْ ، سَوَاءٌ مَلَكَ جَمِيعَ الْمَنْفَعَةِ أَوْ بَعْضَهَا ، وَسَوَاءٌ قِيلَ إِنَّهُ مَالِكٌ أَوْ غَيْرُ مَالِكٍ . وَإِنْ أَرَادَ وَرَثَةُ الْمُوصِي بَيْعَهُ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : يَجُوزُ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ . وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ لِعَدَمِ الْمَنْفَعَةِ . وَالثَّالِثُ : يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنَ الْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ ، وَلَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ يَنْتَفِعُ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا عِتْقُهُ فَإِنْ أَعْتَقَهُ الْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ ، لَمْ يَجُزْ لِاخْتِصَاصِ حَقِّهِ بِالْمَنْفَعَةِ ، سَوَاءٌ قُوِّمَتِ الرَّقَبَةُ فِي حَقِّهِ أَمْ لَا ؛ لِأَنَّ تَقْوِيمَهَا عَلَيْهِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ لِاسْتِحْقَاقِهِ كُلَّ الْمَنْفَعَةِ لَا غَيْرَ ، وَإِنْ أَعْتَقَهُ وَرَثَةُ الْمُوصِي ، فَفِي نُفُوذِ عِتْقِهِمْ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا ذَكَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْقَطَّانِ : أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُمْ ، وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجْعَلُ الرَّقَبَةَ دَاخِلَةً فِي مِلْكِ الْمُوصَى لَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ الْأَصَحُّ : أَنَّ عِتْقَهُمْ نَافِذٌ وَإِنْ لَمْ يَمْلِكُوا الِانْتِفَاعَ وَالْبَيْعَ كَالْمُكَاتَبِ .
فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْوَصِيَّةُ بِالْمَنْفَعَةِ عَلَى حَالِهَا لِلْمُوصَى لَهُ بِهَا ، وَلَيْسَ لِلْمُعْتَقِ أَنْ يَرْجِعَ بِبَدَلِ مَنَافِعِهِ عَلَى الْوَرَثَةِ الْمُعْتِقِينَ ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ إِذَا أَجَّرَهُ سَيِّدُهُ ، ثُمَّ أَعْتَقَهُ فِي مُدَّةِ إِجَارَتِهِ ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى سَيِّدِهِ بِبَدَلِ مَنَافِعِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُعْتِقَ فِي الْإِجَارَةِ هُوَ وَاحِدٌ ، وَفِي الْوَصِيَّةِ اثْنَيْنِ .
فَصْلٌ : وَإِذَا جَنَى الْعَبْدُ الْمُوصَى بِمَنَافِعِهِ جِنَايَةً الحكم ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ جِنَايَةُ عَمْدٍ تُوجِبُ الْقَوَدَ ، فَإِذَا اقْتُصَّ مِنْهُ وَكَانَتْ فِي النَّفْسِ بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ فِي بَاقِيهِ . وَإِنْ كَانَتْ فِي طَرَفٍ أَوْ جُرْحِ بَطْنٍ فِيهَا ، فَإِنْ كَانَ بَاقِي الْمَنَافِعِ بَعْدَ الْقِصَاصِ كَالْأُنْثَى وَالذَّكَرِ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِحَالِهَا . وَإِنْ ذَهَبَتْ مَنَافِعُهُ بَعْدَهَا كَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ ، بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ بِمَنَافِعِهِ لِفَوَاتِهَا بِالْقِصَاصِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : جِنَايَةُ خَطَأٍ تُوجِبُ الْأَرْشَ ، فَإِذَا وَجَبَ أَرْشُهَا ، فَإِنْ فَدَاهُ مَالِكُ الرَّقَبَةِ ، كَانَ الْمُوصَى لَهُ عَلَى حَقِّهِ مِنَ الْمَنْفَعَةِ ، وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِالْأَرْشِ ، وَإِنْ فَدَاهُ مَالِكُ الْمَنْفَعَةِ ، كَانَ الْوَرَثَةُ عَلَى حُقُوقِهِمْ مِنْ مِلْكِ الرَّقَبَةِ ، وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِمْ بِالْأَرْشِ . وَإِنْ لَمْ يَفْدِهِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا ، لَمْ يُجْبَرْ أَحَدُهُمَا عَلَيْهَا ، وَبِيعَ مِنْهُ بِقَدْرِ جِنَايَتِهِ ، بِخِلَافِ أُمِّ الْوَلَدِ الَّتِي يُؤْخَذُ أَرْشُ جِنَايَتِهَا مِنْ سَيِّدِهَا ؛ لِأَنَّ سَيِّدَهَا هُوَ الْمَانِعُ مِنْ بَيْعِهَا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَالِكُ الرَّقَبَةِ ، وَلَا مَالِكُ الْمَنْفَعَةِ . وَإِذَا كَانَ هَذَا كَذَلِكَ نُظِرَ فِي الْأَرْشِ ، فَإِنْ كَانَ بِمِثْلِ قِيمَةِ الْعَبْدِ كُلِّهِ بِيعَ فِي جِنَايَتِهِ ، وَقَدْ بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ . وَإِنْ كَانَ بِمِثْلِ النِّصْفِ مِنْ قِيمَتِهِ ، بِيعَ نِصْفُهُ ، وَمَالَكَ مُشْتَرِيهِ نِصْفَ رَقَبَتِهِ وَنِصْفَ مَنَافِعِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ بِالِابْتِيَاعِ نِصْفًا تَامًّا . فَأَمَّا النِّصْفُ الْآخَرُ فَهُوَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ حُكْمِ الْوَصِيَّةِ ، فَيُنْظَرُ فِيهِ . فَإِنْ كَانَ الْمُوصَى لَهُ مَالِكًا لِكُلِّ مَنَافِعِهِ صَارَ بَعْدَ الْبَيْعِ مَالِكًا لِنِصْفِهَا وَصَارَ الْمُشْتَرِي وَالْمُوصَى لَهُ شَرِيكَيْنِ فِي مَنَافِعِهِ . وَإِنْ كَانَ الْمُوصَى لَهُ قَدْ مَلَكَ نِصْفَ الْمَنَافِعِ لِعَجْزِ الثُّلُثِ عَنْ جَمِيعِهَا ، صَارَتْ مَنَافِعُ النِّصْفِ الْبَاقِي بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ وَبَيْنَ الْوَرَثَةِ نِصْفَيْنِ لِخُرُوجِ النِّصْفِ الْمَبِيعِ مِنَ الْحَقَّيْنِ ، فَتَنْقَسِمُ الْمَنَافِعُ بَيْنَهُمْ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْجِنَايَةُ عَلَى الْعَبْدِ الْمُوصَى بِمَنَافِعِهِ حالاتها فَلَهَا حَالَتَانِ : حَالَةٌ تُوجِبُ الْقَوَدَ ، وَحَالَةٌ تُوجِبُ الْأَرْشَ .
فَإِنْ وَجَبَ الْقَوَدُ ، فَالْخِيَارُ فِيهِ لِلْوَرَثَةِ ، دُونَ الْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ . وَإِنِ اقْتَصَّ كَانَ لَهُ ، وَإِنْ عَفَا عَنِ الْقِصَاصِ إِلَى الْمَالِ كَانَ لَهُ ، وَإِنْ عَفَا عَنِ الْقِصَاصِ وَالْمَالِ ، صَحَّ عَفْوُهُ عَنِ الْقِصَاصِ ، وَفِي صِحَّةِ عَفْوِهِ عَنِ الْمَالِ وَجْهَانِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ مِنْ مُسْتَحِقِّ الْمَالِ . وَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ تُوجِبُ الْأَرْشَ : لَمْ يَخْلُ حَالُ الْعَبْدِ بَعْدَ الْجِنَايَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَاقِي الْمَنَافِعِ أَوْ تَالِفَهَا ، فَإِنْ كَانَتْ مَنَافِعُهُ بَاقِيَةً لِاخْتِصَاصِ الْجِنَايَةِ بِمَا لَا يُؤَثِّرُ فِي مَنَافِعِهِ ، كَجَدْعِ أَنِفِهِ ، وَجَبَ ذِكْرُهُ ، فَهُوَ مِلْكٌ لِلْوَرَثَةِ دُونَ الْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ بِكَمَالِهَا لَمْ تُؤَثِّرِ الْجِنَايَةُ فِيهَا ، وَإِنَّمَا أَثَّرَتْ فِي رَقَبَتِهِ الَّتِي لَا حَقَّ لَهُ فِيهَا . وَإِنْ كَانَتِ الْمَنَافِعُ تَالِفَةً كَحُدُوثِ الْجِنَايَةِ عَلَى نَفْسِهِ ، فَفِي مُسْتَحِقِّ جِنَايَتِهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا أَنَّهَا لِمَالِكِ الْمَنْفَعَةِ لِأَنَّهَا مِنْ مَنَافِعِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا لِلْوَرَثَةِ لِأَنَّهَا بَدَلٌ مِنَ الرَّقَبَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهَا مُقَسَّطَةٌ بَيْنَ مَالِكِ الْمَنْفَعَةِ وَمَالِكِ الرَّقَبَةِ عَلَى قَدْرِ الْقِيمَتَيْنِ ، كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ فِي تَقْوِيمِ الْمَنْفَعَةِ . وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنَّهُ يُشْتَرَى بِقِيمَتِهِ عَبْدٌ مِثْلُهُ يَكُونُ مَكَانَهُ وَعَلَى حُكْمِهِ ، فَتَكُونُ رَقَبَتُهُ لِلْوَرَثَةِ وَمَنَافِعُهُ لِلْمُوصَى لَهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ الْمُوصَى بِمَنَافِعِهِ أَمَةً جَازَ أَنْ تُزَوَّجَ لِاكْتِسَابِ الْمَهْرِ وَيُمَلَّكُ الْوَلَدُ ، وَفِي مُسْتَحِقِّ تَزْوِيجِهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهُمَا : مَالِكُ الْمَنْفَعَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ لَهُ . وَالثَّانِي : مَالِكُ الرَّقَبَةِ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ . وَالثَّالِثُ : لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْ مَالِكِ الْمَنْفَعَةِ وَالرَّقَبَةِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِتَزْوِيجِهَا ، حَتَّى يَجْتَمِعَا عَلَيْهِ مَعًا ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهَا حَقًّا ، فَإِذَا تَزَوَّجَتْ كَانَ مَهْرُهَا لِمَالِكِ الْمَنْفَعَةِ ، وَلِأَنَّهُ مِنْ كَسْبِهَا الْمَأْلُوفِ ، فَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ لِلْمُوصَى لَهُ بِمَنَافِعِهَا ؛ لِأَنَّهُ مِنْ كَسْبِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لِلْوَرَثَةِ لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَعْهُودٌ مِنْ كَسْبِهَا ، وَأَنَّهُ تَابِعٌ لِرَقَبَتِهَا . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ يَكُونُ فِي حُكْمِ الْأُمِّ ، رَقَبَتُهُ لِلْوَرَثَةِ ، وَمَنَافِعُهُ لِلْمُوصَى لَهُ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْوَلَدِ حُكْمُ أُمِّهِ . فَإِنْ أَرَادَ الْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ وَطْءَ الْأَمَةِ حكمها ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا وَإِنْ وَطْأَهَا حُدَّ
الْمُسْتَأْجِرُ فِي وَطْئِهَا ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَنَاوَلَتِ الْخِدْمَةَ ، وَلَيْسَ الْوَطْءُ خِدْمَةً ، وَالْوَصِيَّةُ تَنَاوَلَتِ الْمَنْفَعَةَ ، وَالْوَطْءُ مَنْفَعَةٌ ، وَإِنَّمَا مُنِعَ لِأَجْلِ الرَّقَبَةِ ، ثُمَّ لَا مَهْرَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ مَهْرَهَا لَوْ وَجَبَ لَصَارَ إِلَيْهِ . فَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ كَانَ حُرًّا لَاحِقًا بِهِ لِمَكَانِ الشُّبْهَةِ . وَفِي قِيمَتِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ . . وَالثَّانِي : قِيمَتُهُ لِلْوَرَثَةِ ، إِذَا قِيلَ إِنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ لَهُمْ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ يُشْتَرَى بِقِيمَةِ الْوَلَدِ مَنْ يَكُونُ كَالْأُمِّ مِلْكًا ، لِلْوَرَثَةِ رَقَبَتُهُ ، وَلِلْمُوصَى لَهُ مَنْفَعَتُهُ ، وَلَا تَكُونُ أُمُّ وَلَدِ الْمُوصَى لَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا . فَإِنْ مَلَكَهَا فِي ثَانِي حَالٍ ، فَفِي كَوْنِهَا لَهُ أُمَّ وَلَدٍ بِذَلِكَ الْوَلَدِ قَوْلَانِ : فَأَمَّا إِنْ وَطِئَهَا مَالِكُ الرَّقَبَةِ وَهُوَ الْوَارِثُ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ ، لِمَكَانِ الشُّبْهَةِ فِي مِلْكِهِ لِلرَّقَبَةِ ، وَعَلَيْهِ مَهْرُهَا لِلْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ ، وَيَكُونُ وَلَدُهُ مِنْهَا حُرًّا يَلْحَقُ بِهِ . وَفِي قِيمَتِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : لَا قِيمَةَ عَلَيْهِ إِذَا قِيلَ إِنَّهَا لَهُ . وَالثَّانِي : عَلَيْهِ قِيمَتُهَا لِلْمُوصَى لَهُ إِذَا قِيلَ إِنَّهَا لَهُ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَشْتَرِيَ بِالْقِيمَةِ مَنْ يَكُونُ مَكَانَهُ وَفِي حُكْمِ الْأُمِّ . وَهَلْ تَصِيرُ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ كَمَا لَوْ أَعْتَقَهَا .
فَصْلٌ : وَإِذَا أَوْصَى بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ لِرَجُلٍ وَبِرَقَبَتِهِ لِآخَرَ حكم ، صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ لَهُمَا بِمَا سُمِّيَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَكَانَ تَقْوِيمُ الرَّقَبَةِ فِي حَقِّهِمَا ، وَتَسْقُطُ الْقِيمَةُ فِي وَصِيَّتِهِمَا ، بِأَنْ تُجْعَلَ قِيمَةُ الرَّقَبَةَ مَسْلُوبَةَ الْمَنَافِعِ ، هُوَ الْقَدْرُ الْمُوصَى بِهِ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ ، وَمَا زَادَ عَلَيْهَا إِلَى اسْتِكْمَالِ قِيمَتِهِ بِمَنَافِعِهِ ، هُوَ الْقَدْرُ الْمُوصَى بِهِ لِصَاحِبِ الْمَنْفَعَةِ ، وَهَذَا مَا لَمْ يَخْتَلِفْ أَصْحَابُنَا فِيهِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا أَوْصَى لَهُ بِغَلَّةِ دَارِهِ ، فَكَالْوَصِيَّةِ بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ ، إِنْ كَانَتْ مُقَدَّرَةً بِمُدَّةٍ قُوِّمَتِ الْمَنْفَعَةُ فِي الثُّلُثِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ ، فَإِذَا خَرَجَتْ مِنَ الثُّلُثِ ، اخْتَصَّ بِغَلَّةِ تِلْكَ الْمُدَّةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي حَكَاهَا ابْنُ سُرَيْجٍ . وَإِنْ كَانَتْ مُؤَبَّدَةً فَفِيمَا تُقَوَّمُ بِهِ فِي الثُّلُثِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : جَمِيعُ الرَّقَبَةِ .
وَالثَّانِي : الْمَنْفَعَةُ ، وَذَلِكَ مَا بَيْنَ قِيمَتِهَا كَامِلَةَ الْمَنْفَعَةِ وَمَسْلُوبَةَ الْمَنْفَعَةِ . فَإِنِ احْتَاجَتِ الدَّارُ إِلَى نَفَقَةٍ مِنْ مَرَمَّةٍ ، لَمْ يَلْزَمْ ذَلِكَ وَاحِدًا مِنْهَا ، إِلَّا أَنْ يَتَطَوَّعَ بِهِ أَحَدُهُمَا . فَإِنِ انْهَدَمَتِ الدَّارُ ، فَقَدْ سَقَطَ حَقُّ الْمُوصَى لَهُ بِالْغَلَّةِ . فَإِنْ بَنَاهَا الْوَارِثُ ، جَازَ وَلَمْ يُمْنَعْ ، ثُمَّ نُظِرَ ، فَإِنْ بَنَاهَا بِغَيْرِ تِلْكَ الْآلَةِ ، فَلَا حَقَّ لِلْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ فِي تَمْلِيكِهَا ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ تِلْكَ الدَّارِ . وَإِنْ بَنَاهَا بِتِلْكَ الْآلَةِ ، فَفِي اسْتِحْقَاقِهِ لِغَلَّتِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَسْتَحِقُّهَا الْمُوصَى لَهُ لِمَكَانِ الْآلَةِ . وَالثَّانِي : لَا حَقَّ لَهُ فِيهِمَا وَتَكُونُ الدَّارُ لِلْوَارِثِ لِمَكَانِ الْعَمَلِ وَانْقِطَاعِ الْوَصِيَّةِ بِالْهَدْمِ . وَلَوْ أَرَادَ الْمُوصَى لَهُ بَعْدَ هَدْمِهَا أَنْ يَبْنِيَهَا ، فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ تِلْكَ الْآلَةِ لَمْ تَكُنْ لَهُ . وَإِنْ كَانَتْ بِتِلْكَ الْآلَةِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ : إِنْ قِيلَ أَنَّهُ يَمْلِكُ رَقَبَتَهَا كَانَ لَهُ بِنَاؤُهَا . وَإِنْ قِيلَ لَا يَمْلِكُهَا فَلَيْسَ لَهُ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا أَوْصَى لَهُ بِثَمَرَةِ بُسْتَانِهِ الحكم فَذَلِكَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ الثَّمَرَةُ مَوْجُودَةً فَالْوَصِيَّةُ بِهَا صَحِيحَةٌ وَتُعْتَبَرُ قِيمَةُ الثَّمَرَةِ عِنْدَ مَوْتِ الْمُوصِي ، لَا حِينَ الْوَصِيَّةِ . فَإِنْ خَرَجَتْ مِنَ الثُّلُثِ فَهِيَ لِلْمُوصَى لَهُ . وَإِنْ خَرَجَ بَعْضُهَا كَانَ لَهُ مِنْهَا قَدْرُ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ ، وَكَانَ الْوَرَثَةُ شُرَكَاءَ فِيهَا بِمَا لَمْ يَحْتَمِلْهُ الثُّلُثُ مِنْهَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يُوصِيَ بِثَمَرَةٍ لَمْ تُخْلَقْ أَبَدًا ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُوصِيَ بِثَمَرَتِهِ عَلَى الْأَبَدِ ، فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ وَفِيمَا يُقَوَّمُ فِي الثُّلُثِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا جَمِيعُ الْبُسْتَانِ . وَالثَّانِي : أَنْ يُقَوَّمَ كَامِلَ الْمَنْفَعَةِ ، ثُمَّ يُقَوَّمَ مَسْلُوبَ الْمَنْفَعَةِ ، ثُمَّ يُعْتَبَرُ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ مِنَ الثُّلُثِ ، فَإِنِ احْتَمَلَهُ نُفِّذَتِ الْوَصِيَّةُ بِجَمِيعِ الثَّمَرَةِ أَبَدًا مَا بَقِيَ الْبُسْتَانُ ، وَإِنِ احْتَمَلَ بَعْضَهُ كَانَ لِلْمُوصَى لَهُ قَدْرُ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ يُشَارِكُ فِيهِ الْوَرَثَةُ ، مِثْلَ أَنْ يَحْتَمِلَ النِّصْفَ ، فَيَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ النِّصْفُ مِنْ ثَمَرَةِ كُلِّ عَامٍ ، وَلِلْوَرَثَةِ النِّصْفُ الْبَاقِي . وَإِذَا احْتَمَلَ الثُّلُثُ جَمِيعَ الْقِيمَةِ ، وَصَارَتِ الثَّمَرَةُ كُلُّهَا لِلْمُوصَى لَهُ ، فَإِنِ احْتَاجَتْ إِلَى سَقْيٍ ، فَلَا يَجِبُ عَلَى الْوَرَثَةِ السَّقْيُ ، بِخِلَافِ بَائِعِ الثَّمَرَةِ ، حَيْثُ وَجَبَ عَلَيْهِ سَقْيُهَا لِلْمُشْتَرِي
إِذَا احْتَاجَتْ إِلَى السَّقْيِ ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ مَا تَضَمَّنَهُ الْعَقْدُ كَامِلًا ، وَالسَّقْيُ مِنْ كَمَالِهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ ؛ لِأَنَّ الثَّمَرَةَ تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِ الْمُوصِي ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُوصَى لَهُ سَقْيُهَا ، لِأَنَّهَا بِخِلَافِ نَفَقَةِ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ نَفَقَةَ الْعَبْدِ مُسْتَحَقَّةٌ لِحُرْمَةِ نَفْسِهِ ، بِخِلَافِ الثَّمَرَةِ ، وَكَذَلِكَ لَوِ احْتَاجَتِ النَّخْلُ إِلَى سَقْيٍ لَمْ يَلْزَمْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا . وَأَيُّهُمَا تَطَوَّعَ بِهِ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى صَاحِبِهِ ، فَإِنْ مَاتَ النَّخْلُ أَوِ اسْتُقْطِعَ ، فَأَجْذَاعُهُ لِلْوَرَثَةِ دُونَ الْمُوصَى لَهُ ، وَلَيْسَ لِلْمُوصَى لَهُ أَنْ يَغْرِسَ مَكَانَهُ ، وَلَا إِنْ غَرَسَ الْوَرَثَةُ مَكَانَهُ نَخِيلًا ، وَكَانَ لِلْمُوصَى فِيهِ حَقٌّ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي النَّخْلِ الْمُوصَى لَهُ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يُوصِيَ بِثَمَرٍ لَهُ مُدَّةٌ مُقَدَّرَةٌ ، كَأَنْ أَوْصَى لَهُ بِثَمَرَةِ عَشْرِ سِنِينَ ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ ذَهَبَ إِلَى بُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ مَعَ التَّقْدِيرِ بِالْمُدَّةِ ، بِخِلَافِ الْمَنْفَعَةِ ؛ لِأَنَّ تَقْوِيمَ الْمَنْفَعَةِ الْمُقَدَّرَةِ مُمْكِنٌ وَتَقْوِيمَ الثِّمَارِ الْمُقَدَّرَةِ بِالْمُدَّةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ . وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى جَوَازِهَا كَالْمَنْفَعَةِ ، وَفِيمَا يُقَوَّمُ فِي الثُّلُثِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يُقَوَّمُ الْبُسْتَانُ كَامِلَ الْمَنْفَعَةِ ، وَيُقَوَّمُ مَسْلُوبَ الْمَنْفَعَةِ ، ثُمَّ يُعْتَبَرُ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ فِي الثُّلُثِ ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يُنْظَرَ أَوْسَطُ مَا يُثْمِرُهُ النَّخْلُ غَالِبًا فِي كُلِّ عَامٍ ، ثُمَّ يُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْغَالِبِ مِنْ قِيمَةِ الثَّمَرَةِ فِي أَوَّلِ عَامٍ ، وَلَا اعْتِبَارَ بِمَا حَدَثَ بَعْدَهُ مِنْ زِيَادَةٍ وَنَقْصٍ ، فَإِنْ خَرَجَ جَمِيعُهُ مِنَ الثُّلُثِ ، فَقَدِ اسْتَحَقَّ جَمِيعَ الثَّمَرَةِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ ، وَإِنْ خَرَجَ نَصْفُهُ فَلَهُ النِّصْفُ مِنْ ثَمَرَةِ كُلِّ عَامٍ ، إِلَى انْقِضَاءِ تِلْكَ الْمُدَّةِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَكْمِلَ هَذِهِ كُلَّ عَامٍ فِي نِصْفِ تِلْكَ الْمُدَّةِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَخْتَلِفُ ثَمَرَةُ كُلِّ عَامٍ فِي الْمَقَادِيرِ وَالْأَثْمَانِ ، فَخَالَفَ مَنَافِعُ الْعَبْدِ وَالدَّارِ . وَمِثْلُ الْوَصِيَّةِ بِثَمَرَةِ الْبُسْتَانِ : أَنْ تَكُونَ لَهُ مَاشِيَةٌ فَيُوصِي لِرَجُلٍ بِرَسْلِهَا وَنَسْلِهَا . وَتَجِبُ نَفَقَةُ الْمَاشِيَةِ كَوُجُوبِ نَفَقَةِ الْعَبْدِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَوْ كَانَ أَكْثَرَ مِنَ الثُلُثِ فَأَجَازَ الْوَرَثَةُ فِي حَيَاتِهِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يُجِيزُوهُ بَعْدَ مَوْتِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا أَوْصَى بِأَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِهِ ، وَسَأَلَ وَارِثَهُ إِجَازَةَ وَصِيَّتِهِ ، فَأَجَازَهَا فِي حَيَاتِهِ ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِجَازَةُ ، وَكَانَ مُخَيَّرًا بَعْدَ الْمَوْتِ بَيْنَ الْإِجَازَةِ وَالرَّدِّ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ .
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَعَطَاءٌ وَالزُّهْرِيُّ : قَدْ لَزِمَتْهُمُ الْإِجَازَةُ ، سَوَاءً أَجَازُوا فِي الصِّحَّةِ ، أَوْ فِي الْمَرَضِ . وَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى : إِنْ أَجَازُوهُ فِي الصِّحَّةِ لَمْ يَلْزَمْهُمْ ، وَإِنْ أَجَازُوهُ فِي الْمَرَضِ لَزِمَهُمْ . اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ التَّرِكَةَ بَيْنَ الْمُوصِي وَالْوَرَثَةِ ، فَإِذَا اجْتَمَعُوا فِيهَا عَلَى عَطِيَّةٍ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ فِيهَا اعْتِرَاضٌ ، كَالْمُفْلِسِ مَعَ غُرَمَائِهِ ، وَالْمُرْتَهِنِ مَعَ رَاهِنِهِ . وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْإِجَازَةَ إِنَّمَا تَصِحُّ مِمَّنْ يَمْلِكُ مَا أَجَازَ ، وَهُوَ قَبْلَ الْمَوْتِ لَا يَمْلِكُهُ ، فَلَمْ تَصِحَّ مِنْهُ إِجَازَتُهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَمْلِكُ الْإِجَازَةَ مَنْ يَمْلِكُ الرَّدَّ ، فَلَمَّا لَمْ يَمْلِكِ الرَّدَّ فِي حَالِ الْحَيَاةِ لَمْ يَمْلِكِ الْإِجَازَةَ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ الْإِجَازَةَ إِنَّمَا تَصِحُّ مِنْ وَارِثٍ ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ هَذَا الْمُجِيزُ غَيْرَ وَارِثٍ ، فَلَمْ تَصِحَّ مِنْهُ الْإِجَازَةُ . وَالرَّابِعُ : أَنَّ إِجَازَتَهُ قَبْلَ الْإِرْثِ كَعَفْوِهِ عَنِ الشُّفْعَةِ قَبْلَ الْبَيْعِ ، وَعَنِ الْعَيْبِ قَبْلَ الشِّرَاءِ ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا حُكْمَ لَهُ . وَكَذَلِكَ الْإِجَازَةُ قَبْلَ الْمَوْتِ ، وَبِذَلِكَ الْمَعْنَى فَارَقَ الْغُرَمَاءَ مَعَ الْمُفْلِسِ ، وَالْمُرْتَهِنَ مَعَ الرَّاهِنِ لِاسْتِحْقَاقِهِمْ لِذَلِكَ فِي الْحَالِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ إِجَازَةَ الْوَرَثَةِ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ غَيْرُ لَازِمَةٍ ، فَالْأَوْلَى لَهُمْ إِمْضَاءُ مَا أَجَازُوهُ ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ صِدْقًا فِي قَوْلٍ ، وَوَفَاءً بِوَعْدٍ وَبُعْدًا مِنْ عُذْرٍ وَطَاعَةً لِلْمَيِّتِ وَبِرًّا لِلْحَيِّ . وَكَذَلِكَ لَوْ أَجَازُوا وَصِيَّتَهُ لِبَعْضِ وَرَثَتِهِ فِي حَيَاتِهِ ، وَسَوَاءٌ شَهِدَ عَلَيْهِمْ بِالْإِجَازَةِ أَوْ لَمْ يَشْهَدْ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَوْ قَالَ أَعْطُوهُ رَأْسًا مِنْ رَقِيقِي أُعْطِيَ مَا شَاءَ الْوَارِثُ مَعِيبًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَعِيبِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَالْكَلَامُ فِيهَا يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُوصِيَ بِرَأْسٍ مِنْ رَقِيقِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يُوصِيَ بِرَأْسٍ مِنْ مَالِهِ . فَأَمَّا إِذَا أَوْصَى بِرَأْسٍ مِنْ رَقِيقِهِ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ لَهُ عِنْدَ الْوَصِيَّةِ رَقِيقٌ يُخَلِّفُهُمْ فِي تَرِكَتِهِ ، فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ .
فَإِنْ خَلَّفَ رَأْسًا وَاحِدًا فَهُوَ لِلْمُوصَى لَهُ ، وَإِنْ خَلَّفَ جَمَاعَةً فَالْخِيَارُ إِلَى الْوَرَثَةِ فِي دَفْعِ أَيِّهِمْ شَاءُوا مِنْ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ ، وَصَحِيحٍ أَوْ مَرِيضٍ ، ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى ، مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ رَأْسٍ مِنْ رَقِيقٍ . فَأَمَّا الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ الرَّبِيعِ : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِخُرُوجِهِ عَنِ الْعُرْفِ ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ أَمَةً لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطِيَ عَبْدًا وَلَا خُنْثَى . وَلَوْ قَالَ عَبْدًا ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطِيَ أَمَةً وَلَا خُنْثَى . وَلَوْ كَانَ فِي كَلَامِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى مُرَادِهِ ، حُمِلَتِ الْوَصِيَّةُ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مُرَادُهُ ، كَقَوْلِهِ : " أَعْطُوهُ رَأْسًا يَسْتَمْتِعُ بِهَا " ، فَلَا يُعْطَى إِلَّا امْرَأَةً ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْمَقْصُودَةُ بِالْمَنْفَعَةِ . وَلَوْ قَالَ : " رَأْسًا يَخْدِمُهُ " ، لَمْ يُعْطَ إِلَّا صَحِيحًا ؛ لِأَنَّ الزَّمِنَ لَا خِدْمَةَ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ الصَّغِيرُ . وَلَوْ أَرَادَ الْوَرَثَةُ أَنْ يَشْتَرُوا لَهُ رَأْسًا لَا مِنْ رَقِيقِهِ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ الْوَصِيَّةِ فِي رَقِيقِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَلَّا يَكُونَ لَهُ عِنْدَ الْوَصِيَّةِ بِرَأْسٍ مِنْ رَقِيقِهِ رَقِيقٌ ، وَلَا يَمْلِكُ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ رَقِيقًا فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّهُ أَحَالَهَا إِلَى رَقِيقٍ مَعْدُومٍ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَلَّا يَكُونَ لَهُ عِنْدَ الْوَصِيَّةِ بِرَأْسٍ مِنْ رَقِيقِهِ رَقِيقٌ ، وَيَمْلِكُ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ وَقَبْلَ الْمَوْتِ رَقِيقًا ، فَفِي صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ وَجْهَانِ كَمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ وَلَا مَالَ لَهُ : أَحَدُهُمَا : جَائِزَةٌ . وَالثَّانِي : بَاطِلَةٌ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا إِنْ أَوْصَى بِرَأْسٍ مِنْ رَقِيقٍ مِنْ مَالِهِ ، فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ ، سَوَاءٌ خَلَّفَ رَقِيقًا أَمْ لَا ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ وَصِيَّتَهُ بِالرَّقِيقِ فِي الْمَالِ وَالْمَالُ مَوْجُودٌ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَقِيقٌ ، كَانَ الْوَرَثَةُ بِالْخِيَارِ فِي شِرَاءِ مَا شَاءُوا مِنَ الرَّقِيقِ . وَإِنْ كَانَ لَهُ رَقِيقٌ فَالْوَرَثَةُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُعْطُوهُ رَأْسًا مِنْهُمْ وَبَيْنَ أَنْ يَشْتَرُوا لَهُ .
فَصْلٌ : وَلَوْ أَوْصَى بِعَبْدِهِ النُّوبِيِّ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَّا عَبْدٌ زِنْجِيٌّ ، لَمْ يُعْطَ إِلَّا النَّوْبِيُّ ، وَلَوْ كَانَ لَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعَبِيدِ النُّوبِ أَعْطَوْهُ أَيَّ النُّوبِيِّ شَاءُوا . وَلَوْ قَالَ : أَعْطُوهُ عَبْدِي سَالِمًا الْحَبَشِيَّ ، فَاجْتَمَعَ الِاسْمُ وَالْجِنْسُ فِي عَبْدٍ ، فَكَانَ لَهُ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ يُسَمَّى سَالِمًا ، صَحَّتِ فِيهِ ، وَلَوْ كَانَ لَهُ عَبْدٌ يُسَمَّى سَالِمًا ، وَلَيْسَ بِحَبَشِيٍّ ، وَعَبْدٌ حَبَشِيٌّ وَلَيْسَ بِسَالِمٍ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّ الصِّفَتَيْنِ اللَّتَيْنِ عَلَّقَ بِهِمَا وَصِيَّةً مِنَ الِاسْمِ وَالْجِنْسِ لَمْ يَجْتَمِعَا .
فَصْلٌ : فَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ أَوْصَى لِزَيْدٍ بِعَبْدِهِ سَالِمٍ الْحَبَشِيِّ ، وَكَانَ لَهُ عَبْدَانِ حَبَشِيَّانِ اسْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَالِمٌ الحكم ، فَإِنْ عَيَّنَا الْمُوصَى بِهِ مِنْهُمَا صَحَّتْ شَهَادَتُهُمَا فِي الْوَصِيَّةِ لِمَنْ عَيَّنَاهُ ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنِ الشَّاهِدَانِ أَحَدَهُمَا ، فَفِي شَهَادَتِهِمَا قَوْلَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلَةٌ ، لِلْجَهْلِ بِهَا وَالشَّهَادَةُ الْمَجْهُولَةُ مَرْدُودَةٌ ، وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْوَارِثِ فِي إِنْكَارِ الْوَصِيَّةِ وَإِثْبَاتِهَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الشَّهَادَةَ جَائِزَةٌ ؛ لِأَنَّهَا تَضَمَّنَتْ وَصِيَّةً لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا الْجَهَالَةُ بِهَا ، ثُمَّ فِيهَا وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْعَبْدَيْنِ مَوْقُوفَيْنِ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ وَالْوَارِثِ حَتَّى يَصْطَلِحُوا عَلَى الْمُوصَى لَهُ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا أَشْكَلَا بِالشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ ، لَا بِاعْتِرَافِهِمْ ، فَلَمْ يُرْجَعْ إِلَى بَيَانِهِمْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى بَيَانِ الْوَرَثَةِ فِي أَيِّ الْعَبْدَيْنِ شَاءُوا ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْوَصِيَّةِ بِالشَّهَادَةِ كَوُجُوبِهَا بِاعْتِرَافِهِمْ ، فَوَجَبَ أَنْ يُرْجَعَ فِي الْحَالَيْنِ إِلَى بَيَانِهِمْ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَوْ هَلَكَتْ إِلَّا رَأْسًا كَانَ لَهُ إِذَا حَمَلَهُ الثُّلُثُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا إِذَا أَوْصَى بِرَأْسٍ مِنْ مَالِهِ فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ لَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ رَقِيقِهِ إِذَا كَانَ مَالُهُ بَاقِيًا . فَأَمَّا إِذَا أَوْصَى بِرَأْسٍ مِنْ رَقِيقِهِ ، فَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ إِذَا لَمْ يَمُتْ مِنْهُمْ أَحَدٌ . وَأَمَّا إِذَا حَدَثَ فِيهِمْ مَوْتٌ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَهْلِكَ جَمِيعُهُمْ . وَالثَّانِي : بَعْضُهُمْ . فَإِنْ هَلَكُوا جَمِيعُهُمْ ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ هَلَاكًا غَيْرَ مَضْمُونٍ كَالْمَوْتِ ، فَالْوَصِيَّةُ قَدْ بَطَلَتْ ، إِلَّا أَنَّهُ إِنْ كَانَ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي ، فَلَا وَصِيَّةَ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ فَقَدْ هَلَكَ ذَلِكَ مِنْ مَالِ الْمُوصَى لَهُ وَالْوَرَثَةِ جَمِيعًا .
وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ هَلَاكُهُمْ مَضْمُونًا كَالْقَتْلِ الَّذِي يُوجِبُ ضَمَانَ قِيمَتِهِمْ عَلَى قَاتِلِهِمْ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ قَتْلُهُمْ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي فَالْوَصِيَّةُ صَحِيحَةٌ ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ قَائِمَةٌ مَقَامَهُمْ ، ثُمَّ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يُعْطُوهُ قِيمَةَ أَيِّهِمْ شَاءُوا ، كَمَا كَانَ لَهُمْ مَعَ بَقَائِهِمْ أَنْ يُعْطُوا أَيَّهُمْ شَاءُوا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ قَتْلُهُمْ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي ، فَفِي الْوَصِيَّةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : جَائِزَةٌ ؛ لِأَنَّ الْقَيِّمَةَ بَدَلٌ مِنْهُمْ ، فَصَارَ كَوُجُودِهِمْ ، فَعَلَى هَذَا يُعْطُونَهُ قِيمَةَ أَيِّهِمْ شَاءُوا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّ انْتِقَالَهُمْ إِلَى الْقِيمَةِ فِي الْقَتْلِ كَانْتِقَالِهِمْ إِلَى الثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ ، فَلَمَّا كَانَ بَيْعُهُمْ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي مُوجِبًا لِبُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ كَذَلِكَ قَتْلُهُمْ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي مُوجِبًا لِبُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ . وَمَنْ قَالَ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالْقَتْلِ بِأَنَّ الْبَيْعَ كَانَ بِاخْتِيَارِ الْمُوصِي ، فَكَانَ رُجُوعًا ، وَالْقَتْلُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَلَمْ يَكُنْ رُجُوعًا .
فَصْلٌ : وَإِنْ هَلَكَ بَعْضُهُمْ وَبَقِيَ بَعْضُهُمْ العبيد الموصى بهم ، كَأَنَّهُمْ هَلَكُوا جَمِيعًا إِلَّا وَاحِدًا مِنْهُمْ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ مِنْهُمْ بِالْمَوْتِ دُونَ الْقَتْلِ ، فَالْوَصِيَّةُ قَدْ بَقِيَتْ فِي الْعَبِيدِ الْبَاقِي ، وَلَا خِيَارَ لِلْوَرَثَةِ فِي الْعُدُولِ بِهَا إِلَى غَيْرِهِ ، لِتَعْيِينِهَا فِي رَقِيقِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ هَلَاكُهُمْ بِالْقَتْلِ الْمَضْمُونِ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ قَتْلُهُمْ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي ، فَالْوَصِيَّةُ بَقِيَتْ فِي الْعَبْدِ الْبَاقِي ، وَلَيْسَ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَعْدِلُوا بِهَا إِلَى قِيمَةِ أَحَدِ الْمَقْتُولِينَ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الْجِنْسِ لِلْمُوصَى بِهِ يَمْنَعُ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى غَيْرِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ قَتْلُهُمْ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْوَصِيَّةَ مُتَعَيِّنَةٌ فِي الْعَبْدِ الْبَاقِي فَلَيْسَ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَعْدِلُوا بِهَا إِلَى قِيمَةِ أَحَدِ الْمَقْتُولِينَ ، كَمَا لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الْقَتْلُ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ لِلْوَرَثَةِ الْخِيَارَ فِي أَنْ يُعْطُوهُ الْعَبْدَ الْبَاقِي ، أَوْ يَعْدِلُوا بِهِ إِلَى قِيمَةِ أَحَدِ الْمَقْتُولِينَ ، كَمَا لَهُمُ الْخِيَارُ لَوْ قُتِلُوا جَمِيعًا فِي أَنْ يُعْطُوهُ قِيمَةَ أَيِّهِمْ شَاءُوا .
فَصْلٌ : فَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ ثَلَاثَةُ عَبِيدٍ فَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِهِمْ ، اسْتَحَقَّ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ الثُّلُثَ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَحَدُهُمْ كَامِلًا إِلَّا أَنْ تُرَاضِيهِ الْوَرَثَةُ عَلَيْهِ سِلْمًا .
فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ لِوَرَثَتِهِ : اسْتَخْدِمُوا عَبْدِي سَنَةً بَعْدَ مَوْتِي ، ثُمَّ هُوَ بَعْدَ السَّنَةِ وَصِيَّةٌ لِفُلَانٍ جَازَ وَلَمْ تُقَوَّمْ خِدْمَةُ السَّنَةِ عَلَى الْوَرَثَةِ فِي حَقِّهِمْ لِأَنَّهُمْ قَبْلَ السَّنَةِ اسْتَخْدَمُوا
مِلْكَهُمْ ، وَلَيْسَ كَالْمُوصَى لَهُ بِخِدْمَةِ سَنَةٍ اسْتَخْدَمَ بِالْوَصِيَّةِ غَيْرَ مِلْكِهِ ، حَيْثُ قُوِّمَتْ خِدْمَةُ السَّنَةِ فِي حَقِّهِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَخْدَمَ بِالْوَصِيَّةِ غَيْرَ مِلْكِهِ . وَلَوْ قَالَ : اسْتَخْدِمُوا عَبْدِي سَنَةً ، ثُمَّ اعْتِقُوهُ عَنِّي ، كَانَ لَهُمُ اسْتِخْدَامُهُ ثُمَّ عِتْقُهُ بَعْدَ الْخِدْمَةِ ، وَيُقَوَّمُ الْعَبْدُ فِي سَنَةِ الْوَصِيَّةِ فِي الْعِتْقِ ، بَعْدَ خِدْمَةِ السَّنَةِ مِنْ مَوْتِ الْمُوصِي ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ نَعْتَبِرَ قِيمَتَهُ فِي الْحَالِ الَّتِي لَا يُقَلَّدُ بِالْوَصِيَّةِ ، وَلَا يُحَرَّرُ بِالْعِتْقِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " ( وَلَوْ ) أَوْصَى لَهُ بِشَاةٍ مِنْ مَالِهِ قِيلَ لِلْوَرَثَةِ أَعْطُوهُ ، أَوِ اشْتَرُوهَا لَهُ صَغِيرَةً كَانَتْ ، أَوْ كَبِيرَةً ضَائِنَةً أَوْ مَاعِزَةً " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . إِذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِشَاةٍ مِنْ مَالِهِ فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ ، تَرَكَ غَنَمًا أَوْ لَمْ يَتْرُكْ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهَا فِي مَالِهِ . وَيُعْطِيهِ الْوَرَثَةُ مَا شَاءُوا مِنْ ضَأْنٍ أَوْ مَعْزٍ ، صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ ، سَمِينٍ أَوْ هَزِيلٍ . وَفِي اسْتِحْقَاقِ الْأُنْثَى وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهُ لَا يُعْطَى إِلَّا أُنْثَى ؛ لِأَنَّ الْهَاءَ مَوْضُوعَةٌ لِلتَّأْنِيثِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ الْوَرَثَةَ بِالْخِيَارِ فِي إِعْطَائِهِ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى ؛ لِأَنَّ الْهَاءَ مِنْ أَصْلِ الْكَلِمَةِ فِي اسْمِ الْجِنْسِ ، فَاسْتَوَى فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ : شَاةٌ مِنْ غَنَمِي ، وَكَانَتْ غَنَمُهُ كُلُّهَا إِنَاثًا لَمْ يُعْطَ إِلَّا أُنْثَى . وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ كُلُّهَا ذُكُورًا ، لَمْ يُعْطَ إِلَّا ذَكَرًا مِنْهَا ، وَلَوْ لَمْ يُخَلِّفْ غَنَمًا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةً . وَكَذَلِكَ لَوْ دَلَّ كَلَامُهُ عَلَى الْمُرَادِ مِنْهَا ، حُمِلَ عَلَيْهِ مِثْلَ قَوْلِهِ : شَاةٌ يَنْتَفِعُ بِدَرِّهَا وَنَسْلِهَا ، لَمْ يُعْطَ إِلَّا كَبِيرَ أُنْثَى ، لِتَكُونَ ذَاتَ دَرٍّ وَنَسْلٍ ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ مِنَ الضَّأْنِ أَوْ مِنَ الْمَعْزِ ، فَإِنْ قَالَ : شَاةٌ يَنْتَفِعُ بِصُوفِهَا ، لَمْ يُعْطَ إِلَّا مِنَ الضَّأْنِ . وَلَا يَجُوزُ إِذَا أَوْصَى بِشَاةٍ مِنْ مَالِهِ أَنْ يُعْطَى غَزَالًا أَوْ ظَبْيًا ، وَإِنِ انْطَلَقَ اسْمُ الشَّاةِ عَلَيْهِمَا مَجَازًا . وَلَكِنْ لَوْ قَالَ : شَاةٌ مِنْ شِيَاهِيِّ ، وَلَمْ يَكُنْ فِي مَالِهِ إِلَّا ظَبْيٌ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الشَّاةِ يَتَنَاوَلُ الْغَنَمَ ، وَلَيْسَ فِي تَرِكَتِهِ فَبَطَلَتْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ تَصِحُّ لِأَنَّهُ لَمَّا أَضَافَ ذَلِكَ إِلَى شِيَاهِهِ ، وَلَيْسَ فِي مَالِهِ إِلَّا مَا
يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ مَجَازُ الِاسْمِ ، دُونَ الْحَقِيقَةِ حُمِلَ عَلَيْهِ ، وَانْصَرَفَتْ وَصِيَّتُهُ إِلَى الظَّبْيِ الْمَوْجُودِ فِي تَرِكَتِهِ حَتَّى لَا تَبْطُلَ وَصِيَّتُهُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : ( وَلَوْ قَالَ ) بَعِيرًا أَوْ ثَوْرًا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يُعْطُوهُ نَاقَةً وَلَا بَقَرَةً في الوصية ، وَلَوْ قَالَ عَشْرَ أَيْنُقٍ أَوْ عَشْرَ بَقَرَاتٍ ، لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يُعْطُوهُ ذَكَرًا ، ( وَلَوْ قَالَ ) عَشَرَةَ أَجَمَالٍ أَوْ أَثْوَارٍ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يُعْطُوهُ أُنْثَى ، ( فَإِنْ قَالَ ) عَشَرَةٌ مِنْ إِبِلِي ؛ أَعْطُوهُ مَا شَاءُوا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا إِذَا أَوْصَى لَهُ بِثَوْرٍ لَمْ يُعْطَ إِلَّا ذَكَرًا ؛ لِأَنَّ الثَّوْرَ اسْمٌ لِلذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ . وَلَوْ قَالَ بَقَرَةً ، لَمْ يُعْطَ إِلَّا أُنْثَى ؛ لِأَنَّ الْهَاءَ مَوْضُوعَةٌ لِلتَّأْنِيثِ ، وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُخْرِجُ فِي الْبَقَرَةِ وَجْهًا آخَرَ : أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى كَالشَّاةِ ؛ لِأَنَّ الْهَاءَ مِنْ أَصْلِ اسْمِ الْجِنْسِ . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْدِلَ فِي الْوَصِيَّةِ بِالثَّوْرِ وَالْبَقَرَةِ إِلَى الْجَوَامِيسِ ، بِخِلَافِ الشَّاةِ الَّتِي يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا اسْمُ الضَّأْنِ وَالْمَعْزِ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي كَلَامِهِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ، أَوْ يَقُولُ بَقَرَةً مِنْ بَقَرِي ، وَلَيْسَ لَهُ إِلَّا الْجَوَامِيسُ وَإِنْ كَانَ اسْمُ الْبَقَرِ يَتَنَاوَلُهَا مَجَازًا ؛ لِأَنَّ إِضَافَةَ الْوَصِيَّةِ إِلَى التَّرِكَةِ قَدْ صَرَفَ الِاسْمَ عَنْ حَقِيقَتِهِ إِلَى مَجَازِهِ . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْدِلَ بِهِ إِلَى بَقَرِ الْوَحْشِ ، فَإِنْ أَضَافَ الْوَصِيَّةَ إِلَى بَقَرِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَّا بَقْرُ الْوَحْشِ ، فَعَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ فِي الظَّبْيِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا أَوْصَى بِبَعِيرٍ . فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يُعْطَى إِلَّا ذَكَرًا ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْبَعِيرِ بِالذُّكُورِ أَخَصُّ . وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : هُوَ اسْمٌ لِلْجِنْسِ فَيُعْطَى مَا شَاءَ الْوَارِثُ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى . فَأَمَّا إِذَا أَوْصَى لَهُ بِجَمَلٍ ، لَمْ يُعْطَ إِلَّا ذَكَرًا لِاخْتِصَاصِ هَذَا الِاسْمِ بِالذُّكُورِ . وَلَوْ أَوْصَى بِعَشَرَةٍ مِنْ إِبِلِهِ أَعْطَاهُ الْوَارِثُ مَا شَاءَ مِنْ ذُكُورٍ وَإِنَاثٍ ، وَسَوَاءٌ أَثَبَتَ التَّاءَ فِي الْعَدَدِ أَوْ أَسْقَطَهَا . وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : إِنْ أَثْبَتَ التَّاءَ فِي الْعَدَدِ فَقَالَ : عَشَرَةٌ مِنْ إِبِلِي . لَمْ يُعْطَ إِلَّا مِنَ الذُّكُورِ ؛ لِأَنَّ عَدَدَهَا بِإِثْبَاتِ التَّاءِ . وَإِنْ أَسْقَطَ التَّاءَ فِي الْعَدَدِ فَقَالَ : عَشْرٌ مِنْ إِبِلِي ، لَمْ يُعْطَ إِلَّا مِنَ الْإِنَاثِ ؛ لِأَنَّ عَدَدَهَا بِإِسْقَاطِ التَّاءِ . أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ : عَشْرُ نِسْوَةٍ ، وَعَشَرَةُ رِجَالٍ ، وَهَذِهِ الْأَوْجُهُ لَهُ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْإِبِلِ إِذَا كَانَ يَتَنَاوَلُ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ تَنَاوُلًا وَاحِدًا صَارَ الْعَدَدُ فِيهَا مَحْمُولًا عَلَى الْقَدْرِ دُونَ النَّوْعِ .
وَأَمَّا إِذَا قَالَ : أَعْطُوهُ مَطِيَّةً أَوْ رَاحِلَةً . فَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ ، فَيُعْطِيهِ الْوُرَّاثُ مِنْهُمَا مَا شَاءَ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " فَإِنْ قَالَ أَعْطُوهُ دَابَّةً مِنْ مَالِي الموصي فَمِنَ الْخَيْلِ أَوِ الْبِغَالِ أَوِ الْحَمِيرِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى ، صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا ، أَعْجَفَ أَوْ سَمِينًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، أَمَّا اسْمُ الدَّوَابِّ فَيَنْطَلِقُ عَلَى كُلِّ مَا دَبَّ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ حَيَوَانٍ اشْتِقَاقًا مِنْ دَبِيبِهِ عَلَيْهَا ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [ هُودٍ : 6 ] غَيْرَ أَنَّهُ فِي الْعُرْفِ مُخْتَصٌّ بِبَعْضِهَا ، فَإِنْ قَالَ : أَعْطُوهُ دَابَّةً مِنْ دَوَابِّي ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : يُعْطَى مِنَ الْخَيْلِ ، أَوِ الْبِغَالِ ، أَوِ الْحَمِيرِ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا : فَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ يَحْمِلُ ذَلِكَ عَلَى عُرْفِ النَّاسِ بِمِصْرَ ، حَيْثُ قَالَ ذَلِكَ فِيهِمْ ، وَذَكَرَهُ لَهُمُ اعْتِبَارًا بِعُرْفِهِمْ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الدَّوَابِّ فِي عُرْفِهِمْ مُنْطَلَقٌ عَلَى الْأَجْنَاسِ الثَّلَاثَةِ مِنَ الْخَيْلِ ، وَالْبِغَالِ ، وَالْحَمِيرِ . فَأَمَّا بِالْعِرَاقِ وَالْحِجَازِ ، فَلَا يَنْطَلِقُ إِلَّا عَلَى الْخَيْلِ وَلَا يَتَنَاوَلُ غَيْرَهَا إِلَّا مَجَازًا بِعُرْفٍ بِقَرِينَتِهِ . فَإِنْ كَانَ هَذَا الْمُوصِي بِمِصْرَ ، خُيِّرَ وَرَثَتُهُ بَيْنَ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ ، وَإِنْ كَانَ بِالْعِرَاقِ لَمْ يُعْطُوهُ إِلَّا مِنَ الْخَيْلِ . وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : بَلِ الْجَوَابُ مَحْمُولٌ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي كُلِّ الْبِلَادِ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الدَّوَابِّ يَنْطَلِقُ عَلَى هَذِهِ الْأَجْنَاسِ الثَّلَاثَةِ مِنَ الْخَيْلِ ، وَالْبِغَالِ ، وَالْحَمِيرِ . فَإِنْ شَذَّ بَعْضُ الْبِلَادِ بِتَخْصِيصِ بَعْضِهَا بِالِاسْمِ لَمْ يُعْتَبَرْ بِهِ حُكْمُ الْعُرْفِ الْعَامِّ . فَلَوْ قَرَنَ ذَلِكَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى التَّخْصِيصِ ، حُمِلَ عَلَى قَرِينَتِهِ ، كَقَوْلِهِ : أَعْطُوهُ دَابَّةً يُقَاتِلُ عَلَيْهَا ، فَلَا يُعْطَ إِلَّا مِنَ الْخَيْلِ عَتِيقًا ، أَوْ هَجِينًا ، ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى ، وَلَا يُعْطَ صَغِيرًا وَلَا قَمِحًا لَا يُطِيقُ الرُّكُوبَ . وَلَوْ قَالَ دَابَّةٌ يُحْمَلُ عَلَيْهَا ، أُعْطِيَ مِنَ الْبِغَالِ أَوِ الْحَمِيرِ دُونَ الْخَيْلِ . وَلَوْ قَالَ دَابَّةٌ يَنْتَفِعُ بِنِتَاجِهَا ، أُعْطِيَ مِنَ الْخَيْلِ ، أَوِ الْحَمِيرِ دُونَ الْبِغَالِ ؛ لِأَنَّهَا لَا نِتَاجَ لَهَا . وَلَوْ قَالَ دَابَّةٌ يَنْتَفِعُ بِدَرِّهَا وَظَهْرِهَا ، لَمْ يُعْطَ إِلَّا مِنَ الْخَيْلِ ، لِأَنَّ لَبَنَهَا مِنْ لَبَنِ غَيْرِهَا مِنَ الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ مَحْظُورٌ . وَلَوْ قَالَ : دَابَّةٌ مِنْ دَوَابِّي ، وَلَمْ يَكُنْ فِي مَالِهِ إِلَّا أَحَدُ الْأَجْنَاسِ لَمْ يُعْطَ غَيْرَهُ ، وَلَوْ كَانَ فِي مَالِهِ جِنْسَانِ أَعْطَاهُ الْوَارِثُ أَحَدَهُمَا ، وَلَمْ يُعْطِهِ الثَّالِثَ الَّذِي لَيْسَ فِي مَالِهِ .
وَلَوْ قَالَ : دَابَّةٌ مِنْ مَالِي وَإِنَّ فِي مَالِهِ أَحَدَ الْأَجْنَاسِ ، كَانَ الْوَارِثُ بِالْخِيَارِ ، فِي إِعْطَائِهِ ذَلِكَ الْجِنْسَ ، أَوِ الْعُدُولِ عَنْهُ إِلَى أَحَدِ الْجِنْسَيْنِ الْآخَرَيْنِ شِرَاءً مِنْ غَيْرِ مَالِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَوْ قَالَ أَعْطُوهُ كَلْبًا مِنْ كِلَابِي ، أَعْطَاهُ الْوَارِثُ أَيُّهَا شَاءَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : الْوَصِيَّةُ بِالْكَلْبِ الْمُنْتَفَعِ بِهِ حكمها جَائِزَةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ إِحْرَازُهُ فِي يَدِ صَاحِبِهِ ، وَحَرُمَ انْتِزَاعُهُ مِنْ يَدِ صَاحِبِهِ ، جَازَ أَنْ يَكُونَ وَصِيَّةً وَمِيرَاثًا . فَإِذَا أَوْصَى بِكَلْبٍ وَلَا كِلَابَ لَهُ حكم الوصية فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُشْتَرَى ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يُسْتَوْهَبَ . وَإِنْ كَانَ لَهُ كِلَابٌ فَضَرْبَانِ : مُنْتَفَعٌ بِهَا ، وَغَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهَا . فَإِنْ كَانَتْ كِلَابٌ كُلُّهَا غَيْرَ مُنْتَفَعٍ بِهَا فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ ، لِحَظْرِ اقْتِنَائِهِ وَتَحْرِيمِ إِمْسَاكِهِ . وَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا مُنْتَفَعًا بِهَا ، فَكَانَ لَهُ كَلْبُ حَرْثٍ وَمَاشِيَةٌ وَكَلْبُ صَيْدٍ نُظِرَ . فَإِنْ كَانَ الْمُوصَى لَهُ صَاحِبَ حَرْثٍ ، وَمَاشِيَةٍ ، وَصَيْدٍ ، فَالْوَارِثُ بِالْخِيَارِ فِي إِعْطَائِهِ أَيَّ كَلْبٍ شَاءَ مِنْ حَرْثٍ ، أَوْ مَاشِيَةٍ أَوْ صَيْدٍ . وَإِنْ كَانَ الْمُوصَى لَهُ لَيْسَ بِصَاحِبِ حَرْثٍ ، وَلَا مَاشِيَةٍ ، وَلَا صَيْدٍ ، فَفِي الْوَصِيَّةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ ، اعْتِبَارًا بِالْمُوصَى لَهُ ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ . وَالثَّانِي : الْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ ، اعْتِبَارًا بِالْكَلْبِ ، وَأَنَّهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ ، وَأَنَّ الْمُوصَى لَهُ رُبَّمَا أَعْطَاهُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ . وَإِنْ كَانَ الْمُوصَى لَهُ مِمَّنْ يَنْتَفِعُ بِأَحَدِهَا بِأَنْ كَانَ صَاحِبَ حَرْثٍ لَا غَيْرَ ، أَوْ صَاحِبَ صَيْدٍ لَا غَيْرَ ، فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ وَفِيهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَلْزَمُ الْوُرَّاثَ أَنْ يُعْطِيَهُ الْكَلْبَ الَّذِي يَخْتَصُّ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ ، اعْتِبَارًا بِالْمُوصَى لَهُ . وَالثَّانِي : أَنَّ لِلْوَارِثِ الْخِيَارُ فِي إِعْطَائِهِ أَيَّ الْكِلَابِ شَاءَ ، اعْتِبَارًا بِالْمُوصَى بِهِ . فَأَمَّا الْوَصِيَّةُ بِالْجَرْوِ الصَّغِيرِ الْمُعَدِّ لِلتَّعْلِيمِ ، فَفِي جَوَازِهَا وَجْهَانِ مِنَ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي اقْتِنَائِهِ : أَحَدُهُمَا : اقْتِنَائُهُ غَيْرُ جَائِزٍ ، وَالْوَصِيَّةُ بِهِ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ فِي الْحَالِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ اقْتِنَائَهُ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ سَيَنْتَفِعُ بِهِ فِي ثَانِي حَالٍ ، وَلِأَنَّ تَعْلِيمَهُ مَنْفَعَةٌ فِي الْحَالِ .
فَصْلٌ : وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ ثَلَاثَةُ كِلَابٍ ، وَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا سِوَاهَا ، فَأَوْصَى بِجَمِيعِهَا لِرَجُلٍ ، فَإِنْ أَجَازَهَا الْوَرَثَةُ فَلَهُ ، وَإِلَّا رُدَّتْ إِلَى ثُلُثِهَا ، ثُمَّ فِي كَيْفِيَّةِ رُجُوعِهَا إِلَى الثُّلُثِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ مِنْ كُلِّ كَلْبٍ ثُلُثَهُ ، فَيَحْصُلُ لَهُ ثُلُثُ الثَّلَاثَةِ ، وَلَا يَسْتَحِقُّ وَاحِدًا بِكَمَالِهِ إِلَّا عَنْ مُرَاضَاتِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ قَدِ اسْتَحَقَّ بِالْوَصِيَّةِ أَحَدَهَا ، بِخِلَافِ الْأَمْوَالِ ؛ لِأَنَّ الْأَمْوَالَ مُقَوَّمَةٌ لَا تَخْتَلِفُ أَثْمَانُهَا وَلَيْسَتْ كَالْكِلَابِ الَّتِي تُقَوَّمُ ، فَاسْتَوَى حُكْمُ جَمِيعِهَا ، فَعَلَى هَذَا فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : أَنَّهُ يَأْخُذُ أَحَدَهَا بِالْقُرْعَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يُعْطُوهُ أَيَّهَا شَاءُوا .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنْ كَانَ لَهُ كَلْبٌ وَاحِدٌ ، وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ ، أَوْصَى بِهِ لِرَجُلٍ ، فَهُوَ كَمَنْ أَوْصَى بِجَمِيعِ مَالِهِ . فَإِنْ أَجَازَهُ الْوَارِثُ ، وَإِلَّا كَانَ لِلْمُوصَى لَهُ ثُلُثُهُ ، وَلِلْوَرَثَةِ ثُلُثَاهُ ، وَيَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى الْمُهَايَأَةِ . وَإِنْ مَلَكَ مَالًا فَأَوْصَى بِهَذَا الْكَلْبِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ كَلْبٌ سِوَاهُ ، فَفِي الْوَصِيَّةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ الْوَصِيَّةَ جَائِزَةٌ ، وَالْكَلْبُ كُلُّهُ لِلْمُوصَى لَهُ بِهِ ؛ لِأَنَّ قَلِيلَ الْمَالِ خَيْرٌ مِنَ الْكَلْبِ الَّذِي لَيْسَ بِمَالٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ : أَنَّ لِلْمُوصَى لَهُ ثُلُثُ الْكَلْبِ إِذَا مَنَعَ الْوَرَثَةُ مِنْ جَمِيعِهِ وَإِنْ كَثُرَ مَالُ التَّرِكَةِ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُشْتَرَى ، فَيُسَاوِيهِ الْوَرَثَةُ فِيمَا صَارَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمَالِ ، فَاخْتَصَّ الْكَلْبُ بِحُكْمِهِ وَصَارَ كَأَنَّهُ جَمِيعُ التَّرِكَةِ . فَلَوْ تَرَكَ ثَلَاثَةَ كِلَابٍ وَمَالًا ، أَوْصَى بِجَمِيعِ كِلَابِهِ الثَّلَاثَةِ ، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : الْوَصِيَّةُ بِجَمِيعِ الْكِلَابِ الثَّلَاثَةِ مُمْضَاةٌ وَإِنْ قَلَّ مَالُ التَّرِكَةِ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ : تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ فِي أَحَدِهَا إِذَا مَنَعَ الْوَرَثَةُ مِنْ جَمِيعِهَا .
فَصْلٌ : وَالْوَصِيَّةُ بِالْمَيْتَةِ جَائِزَةٌ . لِأَنَّ قَدْ يَدْبَغُ جِلْدَهَا ، وَيُطْعِمُ بُزَاتَهُ لَحْمًا . وَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ بِالرَّوْثِ وَالزِّبْلِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْتَفِعُ بِهِ فِي نَخْلِهِ وَزَرْعِهِ . فَأَمَّا الْوَصِيَّةُ بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فَبَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهِمَا مُحَرَّمٌ . وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِجَرَّةٍ فِيهَا خَمْرٌ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : أُرِيقَ الْخَمْرُ وَدُفِعَتْ إِلَيْهِ الْجَرَّةُ ؛ لِأَنَّ الْجَرَّةَ مُبَاحَةٌ ، وَالْخَمْرَ حَرَامٌ .
فَأَمَّا الْوَصِيَّةُ بِالْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ وَحَشَرَاتِ الْأَرْضِ وَالسِّبَاعِ وَالذُّبَابِ حكم الوصية فَبَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ فِي جَمِيعِهَا . فَأَمَّا الْوَصِيَّةُ بِالْفِيلِ ، فَإِنْ كَانَ مُنْتَفَعًا بِهِ فَجَائِزٌ ، لِجَوَازِ أَنْ يَبِيعَهُ ، وَيُقَوَّمَ فِي التَّرِكَةِ ، وَيُعْتَبَرَ مِنَ الثُّلُثِ . وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُنْتَفَعٍ بِهِ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ . فَأَمَّا الْفَهْدُ ، وَالنَّمِرُ ، وَالشَّاهِينُ ، وَالصَّقْرُ حكم الوصية ، فَالْوَصِيَّةُ بِذَلِكَ كُلِّهِ جَائِزَةٌ ؛ لِأَنَّهَا جَوَارِحٌ يُنْتَفَعُ بِصَيْدِهَا وَتُقَوَّمُ فِي التَّرِكَةِ لِجَوَازِ بَيْعِهَا ، وَتُعْتَبَرُ فِي الثُّلُثِ . وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ بِمَا تَصِيدُهُ كِلَابُهُ حكم الوصية فَبَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّ الصَّيْدَ لِمَنْ صَادَهُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " أَعْطُوهُ طَبْلًا مِنْ طُبُولِي وَلَهُ طَبْلَانِ لِلْحَرْبِ وَاللَّهْوِ أَعْطَاهُ أَيَّهُمَا شَاءَ ، فَإِنْ لَمْ يَصْلُحِ الَّذِي لِلَّهْوِ إِلَّا الضَّرْبُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يُعْطُوهُ إِلَّا الَّذِي لِلْحَرْبِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِمَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ حكم الوصية بَاطِلَةٌ . وَالْوَصِيَّةُ بِمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ أنواعها عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ ، وَمَنْفَعَةٌ مَحْظُورَةٌ ، وَمَنْفَعَةٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ . فَإِنْ كَانَتِ الْمَنْفَعَةُ مُبَاحَةً ، جَازَ بَيْعُ ذَلِكَ ، وَالْوَصِيَّةُ بِهِ . وَإِنْ كَانَتِ الْمَنْفَعَةُ مَحْظُورَةً ، لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ ، وَلَا الْوَصِيَّةُ بِهِ . وَإِنْ كَانَتْ مُشْتَرَكَةً ، جَازَ بَيْعُهُ وَالْوَصِيَّةُ بِهِ لِأَجْلِ الْإِبَاحَةِ . وَنُهِيَ عَنِ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْحَظْرِ . فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَأَوْصَى لَهُ بِطَبْلٍ حكم الوصية مِنْ طُبُولِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَّا طُبُولُ الْحَرْبِ ، فَالْوَصِيَّةُ بِهِ جَائِزَةٌ ؛ لِأَنَّ طَبْلَ الْحَرْبِ مُبَاحٌ ، ثُمَّ يُنْظَرُ ، فَإِنْ كَانَ اسْمُ الطَّبْلِ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ جِلْدٍ ، دُفِعَ إِلَيْهِ الطَّبْلُ بِغَيْرِ الْجِلْدِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ إِلَّا بِالْجِلْدِ دُفِعَ إِلَيْهِ مَعَ جِلْدِهِ . وَإِنْ كَانَتْ طُبُولُهُ كُلُّهَا طُبُولَ اللَّهْوِ ، فَإِنْ كَانَتْ لَا تَصْلُحُ إِلَّا لِلَّهْوِ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّ طُبُولَ اللَّهْوِ مَحْظُورَةٌ ، وَإِنْ كَانَتْ تَصْلُحُ لِغَيْرِ اللَّهْوِ فِي غَيْرِ الْمَنَافِعِ الْمُبَاحَةِ جَازَتِ الْوَصِيَّةُ بِهَا . وَإِنْ كَانَتْ طُبُولُهُ نَوْعَيْنِ : طُبُولَ حَرْبٍ ، وَطُبُولَ اللَّهْوِ ، فَإِنْ كَانَتْ طُبُولُ اللَّهْوِ لَا تَصْلُحُ لِغَيْرِ اللَّهْوِ ، لَمْ يُعْطَ إِلَّا طَبْلَ الْحَرْبِ ،
وَإِنْ كَانَتْ طُبُولُ اللَّهْوِ تَصْلُحُ لِغَيْرِهِ مِنَ الْمُبَاحَاتِ ، كَانَ الْوَارِثُ بِالْخِيَارِ فِي إِعْطَائِهِ مَا شَاءَ مِنْ طَبْلِ لَهْوٍ أَوْ حَرْبٍ ، لِانْطِلَاقِ الِاسْمِ عَلَيْهَا ، إِلَّا أَنْ يَدُلَّ كَلَامُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا ، فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ أَعْطُوهُ طَبْلًا لِلْجِهَادِ أَوِ الْإِرْهَابِ ، فَلَا يُعْطَى إِلَّا طَبْلَ الْحَرْبِ . وَإِنْ قَالَ طَبْلًا لِلْفَرَحِ وَالسُّرُورِ ، لَمْ يُعْطَ إِلَّا طَبْلَ اللَّهْوِ . فَأَمَّا الْوَصِيَّةُ بِالدُّفِّ الْعَرَبِيِّ حكم الوصية فَجَائِزَةٌ لِوُرُودِ الشَّرْعِ بِإِبَاحَةِ الضَّرْبِ بِهِ فِي الْمَنَاكِحِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَوْ قَالَ أَعْطُوهُ عُودًا مِنْ عِيدَانِي وَلَهُ عِيدَانٌ يُضْرَبُ بِهَا وَعِيدَانُ قِسِيٍّ وَعِصِيٍّ ، فَالْعُودُ الَّذِي يُوَاجَهُ بِهِ الْمُتَكَلِّمُ هُوَ الَّذِي يُضْرَبُ بِهِ ، فَإِنْ صَلُحَ لِغَيْرِ الضَّرْبِ جَازَ بِلَا وَتَرٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . إِذَا قَالَ أَعْطُوهُ عُودًا مِنْ عِيدَانِي ، فَمُطْلَقُ هَذَا الِاسْمِ يَتَنَاوَلُ عِيدَانَ الضَّرْبِ وَاللَّهْوِ وَعِيدَانَ الْقِسِيِّ وَالْعِصِيِّ ، فَإِنْ كَانَ عَوْدُ الضَّرْبِ لَا يَصْلُحُ لِغَيْرِ الضَّرْبِ وَاللَّهْوِ ، فَالْوَصِيَّةُ بِهِ بَاطِلَةٌ ، وَإِنْ كَانَ يَصْلُحُ لِغَيْرِ اللَّهْوِ فَالْوَصِيَّةُ بِهِ جَائِزَةٌ ، وَيُعْطَى بِغَيْرِ وَتَرٍ ، لِانْطِلَاقِ الِاسْمِ عَلَيْهِ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ وَتَرٌ يُنْظَرُ ، فَإِنْ كَانَ لَا يَصْلُحُ لِغَيْرِ اللَّهْوِ إِلَّا بَعْدَ تَفْصِيلِهِ وَتَخْلِيعِهِ فُصِّلَ وَخُلِّعَ ، ثُمَّ دُفِعَ إِلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ يَصْلُحُ لِغَيْرِ اللَّهْوِ لَمْ يُفَصَّلْ ، وَدُفِعَ إِلَيْهِ غَيْرَ مُفَصَّلٍ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَهَكَذَا الْمَزَامِيرُ حكم الوصية بها " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : يَعْنِي أَنَّهُ إِنْ كَانَ لَا يَصْلُحُ إِلَّا لِلَّهْوِ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ ، وَإِنْ كَانَ يَصْلُحُ لِغَيْرِ اللَّهْوِ فَالْوَصِيَّةُ بِهِ جَائِزَةٌ . ثُمَّ الْكَلَامُ فِي التَّفْضِيلِ عَلَى مَا مَضَى . فَأَمَّا الشَّبَّابَةُ الَّتِي يُنْفَخُ فِيهَا مَعَ طَبْلِ الْحَرْبِ وَفِي الْأَسْفَارِ حكم الوصية بها فَالْوَصِيَّةُ بِهَا جَائِزَةٌ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " ( وَلَوْ قَالَ ) عُودًا مِنَ الْقِسِيِّ لَمْ يُعْطَ قَوْسَ نَدَّافٍ وَلَا جُلَاهِقَ وَأُعْطِيَ مَعْمُولَةً أَيْ قَوْسَ نَبْلٍ ، أَوْ نُشَابٍ ، أَوْ حُسْبَانٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِقَوْسٍ مِنَ الْقِسِيِّ ، فَمُطْلَقُ الْقَوْسِ يَتَنَاوَلُ قَوْسَ السِّهَامِ الْعَرَبِيَّةِ دُونَ قَوْسِ النَّدَّافِ . وَالْجُلَاهِقُ الَّذِي يُرْمَى عَنْهَا الْبُنْدُقُ ، فَلَا يُعْطَى إِلَّا قَوْسَ السِّهَامِ الْعَرَبِيَّةِ ، سَوَاءٌ أَعْطَاهُ قَوْسَ نُشَابٍ وَهِيَ الْفَارِسِيَّةُ ، أَوْ قَوْسَ نَبْلٍ وَهِيَ الْعَرَبِيَّةُ ، أَوْ قَوْسَ حُسْبَانٍ .
وَالْخِيَارُ فِيهَا إِلَى الْوَارِثِ لِاشْتِرَاكِ الِاسْمِ فِي جَمِيعِهَا ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَدْفَعَ الْوَتَرَ مَعَهُ ؛ لِأَنَّهُ يُسَمَّى قَوْسًا بِغَيْرِ وَتَرٍ . وَهَكَذَا لَوْ أَوْصَى لَهُ بِدَابَّةٍ لَمْ يُعْطَ سَرْجَهَا ، أَوْ عَبْدٍ لَمْ يُعْطَ كُسْوَتَهُ . فَأَمَّا إِنْ قَالَ : أَعْطُوهُ قَوْسًا مِنْ قِسِيِّ ، وَلَهُ قَوْسُ نَدَّافٍ وَقَوْسُ جُلَاهِقٍ الحكم ، أُعْطِيَ قَوْسَ الْجُلَاهِقِ الَّتِي يُرْمَى عَنْهَا ؛ لِأَنَّهَا أَخَصُّ بِالِاسْمِ . فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَّا قَوْسُ نَدَّافٍ دُفِعَ إِلَيْهِ . وَلَوِ اقْتَرَنَ بِكَلَامِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى مُرَادِهِ عُمِلَ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُهُ مِنَ الْقِسِيِّ الثَّلَاثِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَتُجْعَلُ وَصِيَّتُهُ فِي الرِّقَابِ فِي الْمُكَاتَبِينَ وَلَا يُبْتَدَأُ مِنْهُ عِتْقٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . إِذَا أَوْصَى بِثُلُثِهِ فِي الرِّقَابِ ، صُرِفَ فِي الْمُكَاتَبِينَ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ . وَقَالَ مَالِكٌ : يُشْتَرَى بِهِ رِقَابٌ يُعْتَقُونَ . وَأَصْلُ هَذَا اخْتِلَافُهُمْ فِي سَهْمِ الرِّقَابِ فِي الزَّكَاةِ ، هَلْ يَنْصَرِفُ فِي الْعِتْقِ أَوْ فِي الْمُكَاتَبِينَ . فَمَالِكٌ يَقُولُ : يَصْرِفُهُ فِي الْعِتْقِ . وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَصْرِفَانِهِ فِي الْمُكَاتَبِينَ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ [ التَّوْبَةِ : 6 ] . فَأَثْبَتَ ذَلِكَ لَهُمْ بِلَامِ الْمِلْكِ ، وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ فَيُصْرَفُ إِلَيْهِ ، وَالْمَكَاتَبُ يَمْلِكُ ، فَوَجَبَ صَرْفُهُ إِلَيْهِ ، وَلِأَنَّهُ مَصْرُوفٌ فِي ذَوِي الْحَاجَاتِ ، وَلِأَنَّ مَالَ الزَّكَاةِ مَصْرُوفٌ لِغَيْرِ نَفْعٍ عَاجِلٍ يَعُودُ إِلَى رَبِّهِ ، فَلَوْ صُرِفَ فِي الْعِتْقِ لَعَادَ إِلَيْهِ الْوَلَاءُ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ سَهْمَ الرِّقَابِ فِي الزَّكَاةِ يُصْرَفُ إِلَى الْمُكَاتَبِينَ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ سِهَامُ الرِّقَابِ فِي الْوَصِيَّةِ مَصْرُوفًا فِي الْمُكَاتَبِينَ ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ مَحْمُولَةٌ عَلَى عُرْفِ الشَّرْعِ الْمُعْتَبَرِ فِيهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَا يَجُوزُ فِي أَقَلِّ مِنْ ثَلَاثِ رِقَابٍ ، فَإِنْ نَقَصَ ضَمِنَ حِصَّةَ مَنْ تَرَكَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ أَقَلُّ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُتَصَرَّفَ سَهْمُ الرِّقَابِ فِي أَقَلِّ مِنْ ثَلَاثٍ رقاب . وَإِنْ زَادَ عَلَى الثَّلَاثَةِ كَانَ حَسَنًا ، وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى الثَّلَاثَةِ مَعَ وُجُودِ الزِّيَادَةِ أَجْزَأَ .
وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يُسَوَّى بَيْنَهُمْ فِي الْعَطَاءِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ مَالُ الْوَصِيَّةِ مِنْ جِنْسِ كِتَابَتِهِمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ . وَالْأَوْلَى أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى سَيِّدِ الْمُكَاتَبِ بِإِذْنِهِ ، فَإِنْ دَفْعَهُ إِلَى الْمُكَاتَبِ دُونَ سَيِّدِهِ أَجْزَأَ . وَلَوْ أَبْرَأَهُ السَّيِّدُ بَعْدَ أَخْذِهِ وَقَبْلَ اسْتِهْلَاكِهِ ، لَمْ يُسْتَرْجَعْ مِنْهُ فِي الْوَصِيَّةِ ، وَاسْتُرْجِعَ مِنْهُ فِي الزَّكَاةِ ؛ لِأَنَّ الْوَصَايَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إِلَى الْأَغْنِيَاءِ ، بِخِلَافِ الزَّكَاةِ . فَلَوْ لَمْ يَجِدْ مِنَ الْمُكَاتَبِينَ ثَلَاثَةً ، دَفَعَ إِلَى مَنْ وَجَدَ مِنْهُمْ ، وَلَوْ وَاحِدًا ، وَلَوْ وَجَدَ ثَلَاثَةً لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَقَلَّ مِنْهُمْ . فَإِنْ دَفَعَهُ إِلَى اثْنَيْنِ مَعَ وُجُودِ الثَّالِثِ ، ضَمِنَ حِصَّتَهُ وَفِيهَا وَجْهَانِ حَكَاهُمَا أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ : أَحَدُهُمَا : يَضْمَنُ الثُّلُثَ ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ ؛ لِأَنَّ التَّفْضِيلَ جَائِزٌ مَعَ الِاجْتِهَادِ ، فَإِذَا عَدَلَ عَنْ الِاجْتِهَادِ ، لَزِمَ التَّسْوِيَةُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَضْمَنُ قَدْرَ مَا كَانَ يُؤَدِّيهِ اجْتِهَادُهُ إِلَيْهِ لَوِ اجْتَهَدَ ؛ لِأَنَّهُ الْقَدْرُ الَّذِي تَعَدَّى فِيهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ ثَلَاثَ رِقَابٍ وَبَلَغَ أَقَلَّ رَقَبَتَيْنِ يَجِدْهُمَا ثَمَنًا وَفَضْلَ فَضْلٍ جَعَلَ الرَّقَبَتَيْنِ أَكْثَرُ ثَمَنًا حَتَّى يَعْتِقَ رَقَبَتَيْنِ وَلَا يَفْضُلُ شَيْئًا لَا يَبْلُغُ قِيمَةَ رَقَبَةٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ أَغْفَلَ الْمُزَنِيُّ صُورَتَهَا ، وَنَقْلَ جَوَابِهَا ، وَقَدْ ذَكَرَهَا الشَّافِعِيُّ نَصًّا فِي الْأُمِّ . وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ قَالَ أَعْتِقُوا بِثُلُثِي رِقَابًا ، أَوْ قَالَ حَرِّرُوا بِثُلُثِي رِقَابًا . فَهَذَا يُشْتَرَى بِثُلُثِهِ رِقَابٌ يُعْتَقُونَ عَنْهُ وَلَا يُصْرَفُ فِي الْمُكَاتَبِينَ ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الْعِتْقِ وَالتَّحَرُّرِ صَرَفَهُ عَنْهُمْ . وَأَقَلُّ مَا يُشْتَرَى بِهِ ثَلَاثُ رِقَابٍ إِذَا أَمْكَنُوا ، اعْتِبَارًا بِأَقَلِّ الْجَمْعِ ، فَإِنِ اتَّسَعَ لِلزِّيَادَةِ عَلَى الثَّلَاثِ ، اشْتُرِيَ بِهِ مَا بَلَغُوا ، وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى الثَّلَاثِ مَعَ إِمْكَانِ الزِّيَادَةِ ، بِخِلَافِ صَرْفِهِ فِي الْمُكَاتَبِينَ حَيْثُ جَازَ الِاخْتِصَارُ عَلَى الثَّلَاثَةِ مَعَ إِمْكَانِ الزِّيَادَةِ ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى الْوَاحِدُ مِنَ الْمُكَاتَبِينَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا ، وَلَا يَجُوزُ فِي عِتْقِ الرَّقَبَةِ أَنْ يَزِيدَ عَلَى ثَمَنِهَا وَلَا يُنْقِصَ مِنْهُ . فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ مَالُ الْوَصِيَّةِ ثَمَنَ ثَلَاثِ رِقَابٍ ، صَرَفَهُ فِي رَقَبَتَيْنِ ، فَإِنْ فَضَلَ مِنَ الرَّقَبَتَيْنِ فَضْلَةٌ ، فَإِنْ كَانَتِ الْفَضْلَةُ لَا يَقْدِرُ بِهَا عَلَى بَعْضِ ثَالِثَةٍ زَادَهَا فِي ثَمَنِ الرَّقَبَتَيْنِ ، لِيَكُونَ أَكْثَرَهُمَا ثَمَنًا ، فَتَكُونُ أَكْثَرَ ثَوَابًا . وَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ بِالْفَضْلَةِ عَلَى بَعْضِ ثَالِثَةٍ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ، حَكَاهُمَا أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَشْتَرِي بِالْفَضْلَةِ بَعْضَ ثَالِثَةٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ إِلَى الثَّلَاثِ الْكَامِلَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهَا تُزَادُ فِي ثَمَنِ الرَّقَبَتَيْنِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ الرِّقَابِ فَقَالَ : أَكْثَرُهَا ثَمَنًا ، وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا . وَلِأَنَّ فِي تَبْعِيضِ الرَّقَبَةِ فِي الْعِتْقِ إِدْخَالَ ضَرَرٍ عَلَى الرَّقَبَةِ ، وَعَلَى مَالِكِ الرَّقَبَةِ فِيهَا ، فَكَانَ رَفْعُ الضَّرَرِ أَوْلَى . وَأَمَّا إِنِ اتَّسَعَ الثُّلُثُ لِأَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ رِقَابٍ ، فَاسْتِكْثَارُ الْعَدَدِ مِعِ اسْتِرْخَاصِ الثَّمَنِ أَوْلَى مِنْ إِقْلَالِ الْعَدَدِ مَعَ اسْتِكْثَارِ الثَّمَنِ وَجْهًا وَاحِدًا ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً ، أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ ، حَتَّى الذَّكَرَ بِالذَّكَرِ ، وَالْفَرْجَ بِالْفَرْجِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَيُجْزِئُ صَغِيرُهَا وَكَبِيرُهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذْ أَوْصَى أَنْ يُصْرَفَ ثُلُثُ مَالِهِ فِي عِتْقِ الرِّقَابِ الحكم ، جَازَ أَنْ يُعْتَقَ عَنْهُ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ ، وَفِي إِعْتَاقِ الْخَنَاثَى وَجْهَانِ . وَجَازَ أَنْ يُعْتَقَ عَنْهُ الصِّغَارُ وَالْكِبَارُ لِانْطِلَاقِ الِاسْمِ عَلَى جَمِيعِهِمْ . وَفِي جَوَازِ عِتْقِ مَنْ لَا يُجْزِئُ فِي الْكَفَّارَةِ مِنَ الْكِبَارِ وَالزَّمْنَى وَجْهَانِ تَخَرَّجَا مِنَ اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ فِي نَذْرِ الْهَدْيِ ، هَلْ يَلْزَمُ فِيهِ مَا يَجُوزُ فِي الْأَضَاحِي ؟ أَحَدُهُمَا : يَلْزَمُ ، فَعَلَى هَذَا لَا يُجْزِئُهُ إِلَّا عِتْقُ مَنْ هِيَ سَلِيمَةٌ مِنَ الْعُيُوبِ الْمُضِرَّةِ . وَالثَّانِي : لَا يَلْزَمُ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَهْدِيَ كُلَّ مَالٍ ، فَعَلَى هَذَا يُجْزِئُهُ عِتْقُ الْكَافِرَةِ وَالْمُؤْمِنَةِ .
فَصْلٌ : وَإِذَا أَوْصَى أَنْ يُعْتَقَ بِثُلُثِ مَالِهِ رِقَابٌ ، أَوِ اشْتَرَى بِثُلُثِ مَالِهِ رِقَابًا وَأُعْتِقُوا ، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يَسْتَوْعِبُ التَّرِكَةَ الحكم ، نُظِرَ فِي الرِّقَابِ ، فَإِنْ كَانُوا قَدِ اشْتُرُوا بِعَيْنِ الثُّلُثِ ، بَطَلَ الشِّرَاءُ لِاسْتِحْقَاقِ الثَّمَنِ فِي الدَّيْنِ وَرُدَّ الْعِتْقُ لِعَدَمِ الْمِلْكِ ، وَإِنْ كَانُوا قَدِ اشْتُرُوا فِي ذِمَّةِ الْوَارِثِ لَا بِعَيْنِ الْمَالِ مِنَ الثُّلُثِ ، نَفَذَ عِتْقُهُمْ عَلَى الْوَارِثِ ، لِثُبُوتِ الشِّرَاءِ فِي ذِمَّتِهِ وَلَزِمَهُ صَرْفُ الثُّلُثِ فِي الدَّيْنِ .
فَصْلٌ : وَإِذَا أَوْصَى بِعِتْقِ عَبْدٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، فَكَانَ الثُّلُثُ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ ، اشْتَرَى بِهَا عَبْدًا وَأُعْتِقَ عَنْهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَقَ عَنْهُ بِأَقَلَّ مِنَ الْأَلْفِ وَيَكُونُ عَجْزُ الثُّلُثِ عَنْهَا مُبْطِلًا
لِلْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْأَلْفَ صِفَةً فِي الْعِتْقِ فَلَمْ يَصِحَّ الْعِتْقُ مَعَ الْعَجْزِ لِعَدَمِ الصِّفَةِ ، وَصَارَ كَقَوْلِهِ : أَعْتِقُوا عَبْدِي الْأَسْوَدَ ، فَإِذَا عُدِمَ الْأَسْوَدُ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْتَقَ غَيْرُهُ . وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَلِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ إِذَا عَجَزَ الثُّلُثُ عَنْهَا لَمْ يَسْقُطْ حُكْمُ مَا احْتَمَلَهُ مِنْهَا ، قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْوَصَايَا وَلِأَنَّ الْعِتْقَ إِذَا ضَاقَ الثُّلُثُ عَنِ احْتِمَالِ جَمِيعِهِ ، رُدَّ إِلَى مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ مِنْ أَجْزَائِهِ ، كَالْوَصِيَّةِ بِعِتْقِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ لِلْأَلْفِ صِفَةً ، فَتَكُونُ شَرْطًا وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا قَدْرًا وَجَعَلَهَا فِي الْعِتْقِ حَدًّا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " ( وَلَوْ أَوْصَى ) أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ وَلَمْ يَكُنْ حَجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ ، فَإِنْ بَلَغَ ثُلُثُهُ حَجَّةً مِنْ بَلَدِهِ أُحِجَّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ بَلَغَ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - : وَالَّذِي يُشْبِهُ قَوْلَهُ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ لِأَنَّهُ فِي قَوْلِهِ دَيْنٌ عَلَيْهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ لِلْمَيِّتِ فِي الْحَجِّ عَنْهُ حَالَتَيْنِ : حَالَةٌ يُوصِي بِهِ ، وَحَالَةٌ لَا يُوصِي بِهِ . فَإِنْ لَمْ يُوصَ بِهِ ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ حَجٌّ وَاجِبٌ ، أَوْ لَا حَجَّ عَلَيْهِ . فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَجٌّ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَطَوَّعَ عَنْهُ بِالْحَجِّ ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ ، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُوصِيَ بِهَا ، فَوَاجِبٌ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ بِأَقَلِّ مَا يُوجَدُ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ ، وَكَذَلِكَ يُخْرِجُ عَنْهُ مِنْ رَأْسِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ زَكَاةٍ وَكَفَّارَاتٍ وَإِنْ لَمْ يُوصِ بِهَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَصِحُّ الْحَجُّ عَنْهُ وَلَا الزَّكَاةُ إِلَّا بِوَصِيَّةٍ مِنْهُ . وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْحَجِّ ، وَلِأَنَّ مَا تَعَلَّقَ وُجُوبُهُ بِالْمَالِ ، لَزِمَ أَدَاؤُهُ عَنْهُ ، وَإِذَا لَزِمَ أَدَاؤُهُ عَنْهُ ، فَمِنْ رَأْسِ الْمَالِ كَالدُّيُونِ . وَيُخْرِجُ مِنْهُ أُجْرَةَ الْمِثْلِ مِنَ الْمِيقَاتِ ، لَا مِنْ بَلَدِهِ وَإِنْ كَانَتِ اسْتِطَاعَتُهُ مِنْ بَلَدِهِ شَرْطًا فِي وُجُوبٍ ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ حَيًّا لَزِمَ أَدَاؤُهُ بِنَفْسِهِ فَصَارَتْ بَعْضُ الْمَسَافَةِ مُعْتَبَرَةً فِي اسْتِطَاعَتِهِ ، فَإِذَا مَاتَ ، لَمْ يَتَعَيَّنْ فِي النَّائِبِ عَنْهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَلَدِهِ ، وَإِنَّمَا لَزِمَ أَنْ يُؤْتِيَ بِالْحَجِّ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ ؛ فَلِذَلِكَ اعْتَبَرَ أُجْرَةَ الْمِثْلِ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ .
فَصْلٌ : وَإِنْ أَوْصَى أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ :
إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ حَجٌّ أَوْ لَيْسَ عَلَيْهِ حَجٌّ ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ حَجٌّ ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَجْعَلَ الْحَجَّ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَذْكُرَ قَدْرَ مَا يُحَجُّ بِهِ عَنْهُ . وَالثَّانِي : أَلَّا يَذْكُرَ ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ قَدْرَ مَا يُحَجُّ بِهِ عَنْهُ أُخْرِجَ عَنْهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ قَدْرُ أُجْرَةِ الْمِثْلِ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ وَلَا يُسْتَفَادُ بِوَصِيَّتِهِ إِلَّا لِلْإِذْكَارِ وَالتَّأْكِيدِ ، وَإِنْ ذَكَرَ قَدْرَ مَا يُحَجُّ بِهِ عَنْهُ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ قَدْرَ أُجْرَةِ الْمِثْلِ فِي الْمِيقَاتِ فَيُخْرَجُ ذَلِكَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ وَلَا يُسْتَفَادُ بِوَصِيَّتِهِ وَإِنْ وُجِدَ مَنْ يَحُجُّ بِهِ ، وَإِلَّا تُمِّمَ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلَ وَكَانَ جَمِيعُهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ مِنَ الْمِيقَاتِ ، فَتَكُونُ الزِّيَادَةُ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ وَصِيَّةً فِي الثُّلُثِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُدْفَعَ إِلَى وَارِثٍ وَإِنْ تَرَاجَعَ عَيْنُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ ، فَهَذَا حُكْمُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ إِذَا جُعِلَ الْحَجُّ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ .
فَصْلٌ : وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يُوصِيَ بِالْحَجِّ مِنْ ثُلُثِهِ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَجْعَلَ كُلَّ الثُّلُثِ مَصْرُوفًا إِلَى الْحَجَّةِ الْوَاجِبَةِ ، فَهَذَا يُحَجُّ عَنْهُ بِالثُّلُثِ مِنْ بَلَدِهِ إِنْ أَمْكَنَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُدْفَعَ إِلَى وَارِثٍ إِنْ زَادَ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ وَيَجُوزُ أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِ إِنْ لَمْ يَزِدْ . فَإِنْ عَجَزَ الثُّلُثُ عَنِ الْحَجِّ مِنْ بَلَدِهِ ، أُحِجَّ بِهِ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ أَمْكَنَ مِنْ طَرِيقِهِ ، فَإِنْ عَجَزَ إِلَّا مِنْ مِيقَاتِ الْبَلَدِ أُحِجَّ بِهِ عَنْهُ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ . فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الْحَجِّ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ وَجَبَ إِتْمَامُ أُجْرَةِ الْمِثْلِ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ ، فَصَارَ فِيهَا دَوْرٌ ؛ لِأَنَّ مَا يُتَمَّمُ بِهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ يَقْتَضِي نُقْصَانَ ثُلُثِ الْمَالِ . مِثَالُهُ : أَنْ يَكُونَ مَالُهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَأُجْرَةُ الْمِثْلِ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا ، فَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ قَدْرَ الثُّلُثِ وَقَدْرَ مَا يَتِمُّ بِهِ الثُّلُثُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ أَسْقَطْتَ مِنَ الْمَالِ قَدْرَ أُجْرَةِ الْمِثْلِ وَذَلِكَ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا يَكُونُ الْبَاقِي سِتِّينَ دِرْهَمًا ، ثُمَّ زِدْتَ عَلَيْهِ مِثْلَ نِصْفِهِ فَيَصِيرُ تِسْعِينَ دِرْهَمًا ، فَهُوَ الْمَالُ الْبَاقِي بَعْدَمَا أَخَذَ تَمَامَ الثُّلُثِ ، فَإِذَا أَخَذْتَ ثُلُثَهُ ، كَانَ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا وَضَمَمْتَ إِلَيْهِ الْعَشَرَةَ الْبَاقِيَةَ مِنَ الْمِائَةِ صَارَتْ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا ، هِيَ قَدْرُ أُجْرَةِ الْمِثْلِ ، فَمِنْهَا ثَلَاثُونَ دِرْهَمًا هِيَ ثُلُثُ الْمَالِ وَعَشَرَةُ دَرَاهِمَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَعَرْضِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَلَّا يَجْعَلَ كُلَّ الثُّلُثِ مَصْرُوفًا إِلَى الْحَجِّ ، بَلْ يَقُولُ أَحِجُّوا عَنِّي مِنْ ثُلُثِي رَجُلًا ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ يَذْكُرَ قَدْرًا كَأَنَّهُ قَالَ : أَحِجُّوا عَنِّي رَجُلًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، فَلَا يُزَادُ عَلَيْهَا إِنْ وُجِدَ وَيُسْتَأْجَرُ مَنْ يَحُجُّ بِهَا مِنْ حَيْثُ أَمْكَنُ مِنْ بَلَدِهِ ، أَوْ مِنْ مِيقَاتِهِ . وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مَنْ يَحُجُّ بِهَا مِنْ مِيقَاتِهِ وَجَبَ إِتْمَامُهَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ ، لَا مِنْ ثُلُثِهِ ؛ لِأَنَّهُ الْقَدْرُ الَّذِي جَعَلَهُ فِي الثُّلُثِ هُوَ الْمِائَةُ ، لَا مَا زَادَ عَلَيْهَا وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَلَّا يَذْكُرَ الْقَدْرَ فَيَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِهِ قَدْرُ أُجْرَةِ الْمِثْلِ ، ثُمَّ فِيهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ : أُجْرَةُ الْمِثْلِ مِنْ بَلَدِ الْمُوصِي ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ فِي الثُّلُثِ تَقْتَضِي الْكَمَالَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أُجْرَةُ مِثْلِ الْمِيقَاتِ ، كَمَا لَوْ جَعَلَهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَمَا يُزَادُ عَلَيْهِ تَطَوُّعٌ لَا يَخْرُجُ إِلَّا بِالنَّصِّ ، فَإِنْ عَجَزَ الثُّلُثُ عَنْ جَمِيعِ الْأُجْرَةِ تُمِّمَ جَمِيعًا مِثْلَ أُجْرَةِ الْمِيقَاتِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ . فَلَوْ كَانَ فِي الثُّلُثِ مَعَ الْحَجِّ عَطَايَا وَوَصَايَا ، فَفِي تَقْدِيمِ الْحَجِّ عَلَى الْوَصَايَا وَجْهَانِ حَكَاهُمَا أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ : أَحَدُهُمَا : يُقَدَّمُ الْحَجُّ عَلَى جَمِيعِ الْوَصَايَا فِي الثُّلُثِ ؛ لِأَنَّهُ مَصْرُوفٌ فِي فَرْضٍ ، ثُمَّ يُصْرَفُ مَا فَضَلَ بَعْدَ الْحَجِّ فِي أَهْلِ الْوَصَايَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَسْقُطُ الثُّلُثُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْوَصَايَا بِالْحِصَصِ ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ وَإِنْ وَجَبَ فَحَمْلُهُ فِي الثُّلُثِ ، فَسَاوَى فِي الثُّلُثِ أَهْلَ الْوَصَايَا ، ثُمَّ تَمَّمَ أُجْرَةَ الْمِثْلِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ . وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ : لَوْ كَانَتْ عَلَيْهِ دُيُونٌ وَاجِبَةٌ وَأَوْصَى بِقَضَائِهَا مِنْ ثُلُثِهِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُقَدَّمُونَ عَلَى أَهْلِ الْوَصَايَا . وَالثَّانِي : يُحَاصُّونَهُمْ ، ثُمَّ يَسْتَكْمِلُونَ الْوَصَايَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ . فَهَذَا حُكْمُ الْقِسْمِ الثَّانِي ، إِذَا جَعَلَهُ مِنْ ثُلُثِهِ .
فَصْلٌ : وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يُطْلِقَ الْوَصِيَّةَ بِالْحَجِّ ، فَلَا يَجْعَلُهُ فِي الثُّلُثِ وَلَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ . فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْمَنَاسِكِ فِي كِتَابِهِ الْجَدِيدِ : أَنَّهُ يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ . وَقَالَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنَ الْوَصَايَا بِالْحَجِّ عَنْهُ مِنْ ثُلُثِهِ . فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا : فَكَانَ أَبُو الطِّيبِ بْنُ سَلَمَةَ وَأَبُو حَفْصِ بْنُ الْوَكِيلِ يُخَرِّجَانِ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ ، كَمَا لَوْ لَمْ يُوصَ بِهِ ، لِوُجُوبِهِ كَالدُّيُونِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَكُونُ مِنَ الثُّلُثِ ، لِيُسْتَفَادَ بِالْوَصِيَّةِ ، مَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَفَادًا بِغَيْرِهَا . وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ :
لَيْسَ هَذَا عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ ، بَلِ الْحُكْمُ عَلَى حَالَيْنِ ، فَالَّذِي جَعَلَهُ فِي الثُّلُثِ هُوَ أُجْرَةٌ مِثْلَ السَّيْرِ مِنْ بَلَدِهِ إِلَى الْمِيقَاتِ ، وَالَّذِي جَعَلَهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ هُوَ أُجْرَةُ الْمِثْلِ مِنَ الْمِيقَاتِ . وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ : وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : إِنَّهُ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ قَوْلًا وَاحِدًا . وَالَّذِي قَالَهُ هَاهُنَا أَنَّهُ يَكُونُ فِي الثُّلُثِ إِذَا صَرَّحَ بِأَنَّهُ فِي الثُّلُثِ تَوْفِيرًا عَلَى وَرَثَتِهِ ، أَلَا تَرَاهُ قَالَ : فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ تُمِّمَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ ، فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّهُ يَكُونُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ : أُحِجَّ عَنْهُ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ ، وَإِنْ قُلْنَا : يَكُونُ مِنَ الثُّلُثِ ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مِنْ بَلَدِهِ ، وَالثَّانِي : مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ . وَالَّذِي قَالَهُ هَاهُنَا إِذَا كَانَ الْحَجُّ وَاجِبًا ، وَسَوَاءٌ كَانَ حَجَّ الْإِسْلَامِ أَوْ نَذْرًا أَوْ قَضَاءً . وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ حَجَّةِ النَّذْرِ وَغَيْرِهَا ، فَجَعَلَ حَجَّةَ النَّذْرِ فِي الثُّلُثِ ؛ لِأَنَّهُ تَطَوُّعٌ بِإِيجَابِهَا عَلَى نَفْسِهِ وَسَوَّى الْأَكْثَرُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْوَاجِبَاتِ .
فَصْلٌ : وَلَوْ كَانَ مَا أَوْصَى بِهِ عَنْهُ عَنِ الْحَجِّ تَطَوُّعًا ، فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْوَصِيَّةَ بَاطِلَةٌ . وَالثَّانِي : جَائِزَةٌ . فَإِذَا قِيلَ بِبُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ ، كَانَ الْحَجُّ عَنِ الْأَجِيرِ ، لَا عَنِ الْمُسْتَأْجَرِ عَنْهُ وَفِي اسْتِحْقَاقِهِ لِلْأَجْرِ قَوْلَانِ . فَإِذَا قِيلَ بِجَوَازِ الْوَصِيَّةِ ، نُظِرَ مَخْرَجُ كَلَامِهِ فِيهَا ، فَلَهُ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَقُولَ أَحِجُّوا عَنِّي بِمِائَةِ دِرْهَمٍ مِنَ الثُّلُثِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَقُولَ أَحِجُّوا عَنِّي بِمَا اتَّسَعَ لَهُ الْحَجُّ مِنَ الثُّلُثِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَقُولَ : أَحِجُّوا عَنِّي بِالثُّلُثِ . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَقُولَ أَحِجُّوا عَنِّي . فَأَمَّا الْحَالُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : أَحِجُّوا عَنِّي بِمِائَةِ دِرْهَمٍ مِنَ الثُّلُثِ ، فَلَا يُزَادُ عَلَيْهَا وَلَا يُنْقَصُ ، مَعَ احْتِمَالِ الثُّلُثِ لَهَا . ثُمَّ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُسَمِّيَ مَنْ يَحُجُّ بِهَا ، أَوْ لَا يُسَمِّيهِ ، فَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِ دُفِعَتْ إِلَى مَنْ يَحُجُّ بِهَا وَاحِدًا مِنْ أَفْضَلِ مَا يُوجَدُ ، ثُمَّ لَا تَخْلُو الْمِائَةُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ بِقَدْرِ أُجْرَةِ الْمِثْلِ ، إِمَّا مِنْ بَلَدِهِ ، أَوْ مِنَ الْمِيقَاتِ ، فَتُدْفَعُ إِلَى وَارِثٍ ، أَوْ غَيْرِ وَارِثٍ ، لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ فِي الثُّلُثِ وَصِيَّةٌ ، فَهِيَ فِي مُقَابِلِهِ عَمَلٌ ، فَلَمْ تَصِرْ لَهُ وَصِيَّةٌ
وَصَارَتْ كَالْمُوصِي يَشْتَرِي عَبْدًا يُعْتَقُ عَنْهُ ، جَازَ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنَ الْوَارِثِ وَإِنْ كَانَ ثَمَنُهُ فِي الثُّلُثِ ؛ لِأَنَّهُ فِي مُقَابِلِهِ بَدَلٌ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ بِقَدْرِ أُجْرَةِ الْمِثْلِ ، فَتُدْفَعُ إِلَى أَجْنَبِيٍّ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُدْفَعَ إِلَى وَارِثٍ ؛ لِأَنَّ فِيهَا وَصِيَّةً بِالزِّيَادَةِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ ، فَإِنْ وُجِدَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ أَحَجَجْنَاهُ وَارِثًا كَانَ أَوْ غَيْرَ وَارِثٍ ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مَنْ يَحُجُّ بِهَا ، بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ بِالْحَجِّ وَعَادَتْ مِيرَاثًا وَلَمْ يَزِدْ فِي الثُّلُثِ عَلَى أَهْلِ الْوَصَايَا ، كَمَنْ أَوْصَى بِمَالٍ لِرَجُلٍ ، فَرَدَّ الْوَصِيَّةَ ، عَادَتْ إِلَى الْوَرَثَةِ دُونَ أَهْلِ الْوَصَايَا . وَإِنْ سَمَّى مَنْ يَحُجُّ بِهَا بِمِائَةٍ لَمْ يُعْدَلْ بِهَا عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ ، مَعَ إِمْكَانِ دَفْعِهَا إِلَيْهِ ، ثُمَّ لَا تَخْلُو حَالُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ بِقَدْرِ أُجْرَةِ الْمِثْلِ فَتُدْفَعُ إِلَى الْمُسَمَّى لَهَا وَارِثًا كَانَ أَوْ غَيْرَ وَارِثٍ . فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْهَا الْمُسَمَّى بِهَا ، دُفِعَتْ حِينَئِذٍ إِلَى غَيْرِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ ، فَلَا يَخْلُو الْمُسَمَّى لَهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ وَارِثًا أَوْ غَيْرَ وَارِثٍ . فَإِنْ كَانَ وَارِثًا فَالزِّيَادَةُ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ وَصِيَّةٌ يُمْنَعُ مِنْهَا الْوُرَّاثُ . فَإِنْ وَصَّى بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ مِنْهَا ، دُفِعَتْ إِلَيْهِ دُونَ غَيْرٍ وَرُدَّتِ الزِّيَادَةُ عَلَى الْوَرَثَةِ . وَإِنْ لَمْ يَرْضَ إِلَّا بِالْمِائَةِ كُلِّهَا ، مُنِعَ مِنْهَا وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُدْفَعَ إِلَيْهِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْوَصِيَّةِ لَهَا وَعُدِلَ إِلَى غَيْرِهِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ دُونَ الْمِائَةِ ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ وَصِيَّةٌ بِمُسَمَّى وَيَعُودُ الْبَاقِي مِيرَاثًا . وَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّى غَيْرَ وَارِثٍ دُفِعَتْ إِلَيْهِ الْمِائَةُ إِنْ قَبِلَهَا وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْهَا عُدِلَ إِلَى غَيْرِهِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ وَعَادَتِ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا مِيرَاثًا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ الْمِائَةُ أَقَلَّ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ ، فَإِنْ قَنَعَ الْمُسَمَّى بِهَا ، دُفِعَتْ إِلَيْهِ وَارِثًا كَانَ أَوْ غَيْرَ وَارِثٍ . وَإِنْ لَمْ يَقْنَعْ بِهَا وَوُجِدَ غَيْرُهُ مِمَّا يَقْنَعُ بِهَا ، دُفِعَتْ إِلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا وَصِيَّةٌ لِلْمُسَمَّى فَتَبْطُلُ بِالْعُدُولِ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مَنْ يَحُجُّ عَادَتْ مِيرَاثًا وَلَمْ يُرْجَعْ إِلَى الثُّلُثِ . فَأَمَّا إِنْ عَجَزَ الثُّلُثُ عَنِ احْتِمَالِ الْمِائَةِ كُلِّهَا ، أُخْرِجَ مِنْهَا قَدْرُ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ فَيَصِيرُ هُوَ الْقَدْرُ الْمُوصَى بِهِ ، فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْحَالُ الثَّانِيَةُ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ أَحِجُّوا عَنِّي بِثُلُثِي ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصْرَفَ الثُّلُثُ إِلَّا فِي حِجَّةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنِ اتَّسَعَ لِغَيْرِهَا ؛ لِأَنَّهُ عَيَّنَ عَلَيْهَا فَتَصِيرُ كَالْوَصِيَّةِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، فِي أَنْ يُسَمَّى مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ ، أَوْ يُسَمِّيهِ فَتَكُونُ عَلَى مَا مَضَى مِنَ التَّقْسِيمِ وَالْجَوَابِ . فَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ بِالثُّلُثِ مِنْ بَلَدِهِ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْتَصِرَ بِالْحَجِّ عَنْهُ مِنْ مِيقَاتِهِ وَإِنْ
قَصُرَ عَنْهُ الثُّلُثُ ، فَمِنْ حَيْثُ أَمْكَنَ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى الْمِيقَاتِ ، فَإِنْ قَصُرَ عَنِ الْمِيقَاتِ وَلَمْ يُوجَدْ مَنْ يَحُجُّ بِهِ بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ وَعَادَتْ مِيرَاثًا .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْحَالُ الثَّالِثَةُ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : أَحِجُّوا عَنِّي بِثُلُثِي حَجًّا فَيُصْرَفُ الثُّلُثُ فِيمَا اتَّسَعَ مِنَ الْحَجِّ وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى حَجَّةٍ وَاحِدَةٍ ، مَعَ اتِّسَاعِهِ لِأَكْثَرَ مِنْهَا . وَلَا يُزَادُ أَحَدٌ عَلَى أُجْرَةِ مِثْلِهِ مِنْ بَلَدِ الْمُوصِي ، لَا مِنْ مِيقَاتِهِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ تَطَوُّعٌ ، فَاعْتُبِرَ فِيهِ أَكْمَلُ الْأَحْوَالِ . فَإِنِ اتَّسَعَ الثُّلُثُ لِثَلَاثِ حِجَجٍ ، فَاقْتَصَرَ فِي صَرْفِهِ عَلَى حَجَّتَيْنِ ضَمِنَ الْمُوصِي الْحَجَّةَ الثَّالِثَةَ فِي مَالِهِ . فَلَوِ اتَّسَعَ الثُّلُثُ لِحَجَّتَيْنِ وَفَضَلَتْ فَضْلَةٌ ، لَمْ تَتَّسِعْ لِحَجَّةٍ ثَالِثَةٍ مِنْ بَلَدِهِ ، نُظِرَ فِيهَا . فَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَحُجَّ بِهَا عَنْهُ مِنْ مِيقَاتِهِ صُرِفَتْ فِي حَجَّةٍ مِنَ الْمِيقَاتِ ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُصْرَفَ مِنَ الْمِيقَاتِ وَإِلَّا رُدَّتْ عَلَى الْوَرَثَةِ مِيرَاثًا وَلَمْ يَزِدْ عَلَى الْحَجَّتَيْنِ ، بِخِلَافِ الْفَاضِلِ عَنْ ثَمَنِ الرَّقَبَتَيْنِ ؛ لِأَنَّ أَثْمَانَ الرِّقَابِ تَخْتَلِفُ ، فَرُدَّتِ الْفَضْلَةُ فِي أَثْمَانِهَا لِوُفُورِ الْأَجْرِ بِتَوَافُرِ أَثْمَانِهَا وَأُجُورُ الْحَجِّ غَيْرُ مُخْتَلِفَةٍ . فَلَوْ أَمْكَنَ صَرْفُ الْفَضْلَةِ فِي عُمْرَةٍ لَمْ تُصْرَفْ فِيهَا ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ فِي الْحَجِّ لَا فِي الْعُمْرَةِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْحَالُ الرَّابِعَةُ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : أَحِجُّوا عَنِّي ، وَلَا يَذْكُرُ بِكُمْ ، فَيُحَجُّ عَنْهُ حَجَّةً وَاحِدَةً ، بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ مِنْ بَلَدِهِ لَا مِنْ مِيقَاتِهِ ، إِنِ احْتَمَلَ الثُّلُثُ ذَلِكَ . وَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلْ ، فَمِنْ حَيْثُ احْتَمَلَ الثُّلُثُ ذَلِكَ مِنَ الْمِيقَاتِ . وَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلْ حَجَّةً مِنَ الْمِيقَاتِ ، بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ وَعَادَتْ مِيرَاثًا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَوْ قَالَ أَحِجُّوا عَنِّي رَجُلًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَأَعْطُوا مَا بَقِيَ مِنْ ثُلُثِي فُلَانًا ، وَأَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ فَلِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ نِصْفُ الثُّلُثِ لِلْحَاجِّ ، وَالْمُوصَى لَهُ بِمَا بَقِيَ مِنَ الثُّلُثِ نِصْفُ الثُّلُثِ وَيَحُجُّ عَنْهُ رَجُلٌ بِمِائَةٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ قَالَ فِي وَصِيَّتِهِ : أَحِجُّوا عَنِّي رَجُلًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَأَعْطُوا مَا بَقِيَ مِنْ ثُلُثِي فُلَانًا ، وَأَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِرَجُلٍ ثَالِثٍ . الحكم فَهَذَا رَجُلٌ قَدْ أَوْصَى بِثُلُثَيْ مَالِهِ ، فَإِنْ أَجَازَ الْوَرَثَةُ ذَلِكَ دُفِعَ إِلَى الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ ثُلُثِ الْمَالِ كَامِلًا وَلَا يُشَارِكُهُ فِيهِ أَحَدٌ وَدُفِعَ الثُّلُثُ الْآخَرُ مِائَةُ دِرْهَمٍ إِلَى الْمُوصَى لَهُ بِالْحَجِّ ، بِالثُّلُثِ وَلَا يُشَارِكُهُ فِيهِ أَحَدٌ . فَإِنْ بَقِيَتْ مِنَ الثُّلُثِ بَعْدَ ذَلِكَ رَقَبَةٌ ، دُفِعَتْ إِلَى الْمُوصَى لَهُ بِمَا بَقِيَ مِنَ الثُّلُثِ ، وَسَوَاءٌ قَلَّتِ النَّفَقَةُ أَوْ كَثُرَتْ .
فَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الثُّلُثِ بَعْدَ الْمِائَةِ شَيْءٌ ، فَلَا شَيْءَ إِلَى الْمُوصَى لَهُ بِمَا بَقِيَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ . فَهَذَا حُكْمُ الْوَصِيَّةِ إِذَا أَجَازَهَا الْوَرَثَةُ . فَأَمَّا إِذَا لَمْ يُجِزْهَا ، رُدَّتِ الْوَصَايَا كُلُّهَا إِلَى الثُّلُثِ ، ثُمَّ نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَمَا دُونَ ، فَلَا شَيْءَ لِلْمُوصَى لَهُ بِمَا بَقِيَ مِنَ الثُّلُثِ ، وَانْقَسَمَ الثُّلُثُ الْمُوصَى لَهُ بِالْمِائَةِ بِالْحَجِّ وَالْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ نِصْفَيْنِ يَتَعَادَلَانِ فِيهِ ، كَمَا يَتَعَادَلُ أَهْلُ الْوَصَايَا إِذَا ضَاقَ الثُّلُثُ عَنْهَا . فَإِنْ لَمْ يَجِدْ بِمَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ مِنَ الْمِائَةِ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ ، عَادَتْ مِيرَاثًا وَلَمْ تَعُدْ عَلَى الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ وَلَا عَلَى الْمُوصَى لَهُ بِمَا بَقِيَ مِنَ الثُّلُثِ . وَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ دِرْهَمٍ ، فَإِنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالْمِائَةِ فِي الْحَجِّ وَالْمُوصَى لَهُ بِمَا بَقِيَ مِنَ الثُّلُثِ ، يُعَادِلَانِ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ وَإِحْدَى الْوَصِيَّتَيْنِ تُعَادِلُ الْأُخْرَى ، فَيُقَسَّمُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، أَوْ أَعْطَى الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ نِصْفَهُ ، وَهُوَ السُّدُسُ وَدَخَلَ عَلَيْهِ مِنْ نَقْصِ الْعَوْلِ نِصْفُ وَصِيَّتِهِ ؛ لِأَنَّ وَصِيَّتَهُ رَجَعَتْ إِلَى نِصْفِهَا . وَأَمَّا النِّصْفُ الْآخَرُ مِنَ الثُّلُثِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ ، يُقَدَّمُ فِيهِ الْمُوصَى لَهُ بِالْمِائَةِ فِي الْحَجِّ عَلَى الْمُوصَى لَهُ بِمَا بَقِيَ مِنَ الثُّلُثِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مِائَتَهُ ، ثُمَّ يَأْخُذُ الْآخَرُ بَقِيَّتَهُ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِمَا بَقِيَ بَعْدَ الْمِائَةِ ، لَا تُسْتَحَقُّ قَبْلَ كَمَالِ الْمِائَةِ لِاسْتِحَالَتِهَا فَعَادَ صَاحِبُ الثُّلُثِ بِهِ تَوْفِيرًا عَلَى صَاحِبِ الْمِائَةِ ، بِمَا يُعَادُ الْجَدُّ بِالْإِخْوَةِ مِنَ الْأَبِ تَوْفِيرًا عَلَى الْأَخِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ . فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ نِصْفُ الثُّلُثِ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَمَا دُونَ ، أَخَذَهُ الْمُوصَى لَهُ بِالْمِائَةِ وَلَا شَيْءَ لِلْمُوصَى لَهُ بِمَا بَقِيَ . وَإِنْ كَانَ نِصْفُ الثُّلُثِ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ دِرْهَمٍ ، أَخَذَ مِنْهُ الْمُوصَى لَهُ بِالْمِائَةِ ، مِائَةَ دِرْهَمٍ كَامِلَةً وَأَخَذَ الْمُوصَى لَهُ بِمَا بَقِيَ الْفَاضِلَ عَلَى الْمِائَةِ بَالِغًا مَا بَلَغَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ : أَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالْمِائَةِ وَالْحَجِّ وَالْمُوصَى لَهُ بِمَا بَقِيَ مِنَ الثُّلُثِ يَتَعَادَلَانِ فِيهِ . وَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ ، فَهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِيهِ لَوْ كَمُلَ وَإِذَا عَادَ الثُّلُثُ الَّذِي جُعِلَ لَهُمَا إِلَى نِصْفِهِ وَهُوَ مِائَةُ دِرْهَمٍ جُعِلَتِ الْمِائَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، لِيَكُونَا فِيهِ مُتَسَاوِيَيْنِ . وَلَوْ كَانَ الثُّلُثَ مِائَةً وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا ، فَلِلْمُوصَى لَهُ بِالْمِائَةِ مِثْلَمَا لِلْمُوصَى لَهُ بِمَا بَقِيَ ، فَيَكُونُ نِصْفُ الثُّلُثِ وَخَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ دِرْهَمًا بَيْنَهُمَا عَلَى ثَلَاثَةٍ ، لِلْمُوصَى لَهُ بِالْمِائَةِ نِصْفُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ الثُّلُثِ وَهُوَ خَمْسُونَ دِرْهَمًا ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِمَا بَقِيَ نِصْفُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ الثُّلُثِ وَهُوَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا .
وَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ ثَلَاثَمِائَةٍ ، كَانَ لِلْمُوصَى لَهُ بِمَا بَقِيَ ثُلُثَيْ مَا لِلْمُوصَى لَهُ بِالْمِائَةِ ، فَيَكُونُ نِصْفُ الثُّلُثِ وَهُوَ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا وَلِلْمُوصَى لَهُ بِمَا بَقِيَ وَهُوَ مِائَةُ دِرْهَمٍ . وَلَوْ كَانَ الثُّلُثُ أَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ ، كَانَ لِلْمُوصَى لَهُ بِمَا بَقِيَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ ، فَيَكُونُ نِصْفُ الثُّلُثِ وَهُوَ مِائَتَا دِرْهَمٍ ، بَيْنَهُمَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ . فَلِلْمُوصَى لَهُ بِالْمِائَةِ رُبُعُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ وَهُوَ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِمَا بَقِيَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ ، وَهُوَ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ ، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ . هَذَا فِيمَا زَادَ أَوْ نَقُصَ ، وَهَذَا أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَوْصَى بِالْمِائَةِ لِصَاحِبِ الْمَالِ مِنْ كُلِّ الثُّلُثِ ، لَا مِنْ بَعْضِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذَ نِصْفَ الثُّلُثِ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنْ جَمِيعِهِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا ابْتَدَأَ بِالْوَصِيَّةِ بِثُلُثِ مَالِهِ لِرَجُلٍ ، ثُمَّ أَوْصَى بِأَنْ يَحُجَّ عَنْهُ رَجُلٌ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، ثُمَّ أَوْصَى بِالْبَاقِي مِنْ ثُلُثِهِ لِآخَرَ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْمُوصَى لَهُ بِالْبَاقِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : أَنَّهَا بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّ تَقَدُّمَ الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ ، يَمْنَعُ أَنْ يَبْقَى شَيْءٌ مِنَ الثُّلُثِ . فَعَلَى هَذَا إِنْ أَجَازَ الْوَصِيَّةَ الْوَرَثَةُ بِالثُّلُثِ وَبِالْمِائَةِ إِمْضَاءً ، وَإِنْ لَمْ يُجِيزُوهَا ، رُدَّا إِلَى الثُّلُثِ وَتَعَادَلَ فِيهِ صَاحِبُ الثُّلُثِ وَالْمُوصَى لَهُ بِالْمِائَةِ ، ثُمَّ يُنْظَرُ قَدْرَ الثُّلُثِ ، فَإِنْ كَانَ مِائَةَ دِرْهَمٍ ، فَقَدْ تَسَاوَتْ وَصِيَّتُهُمَا ، فَيَقْتَسِمَانِ الثُّلُثَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ ، كَانَ الثُّلُثُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمَا عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ ، لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالْمِائَةِ سَهْمٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ الْجَوَابَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِذَا قَدَّمَ الْوَصِيَّةَ بِالثُّلُثِ ، كَالْجَوَابِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأَوْلَى ، إِذَا أَخَّرَ الْوَصِيَّةَ بِالثُّلُثِ ؛ لِأَنَّهُ إِذَا أَوْصَى بِالْمِائَةِ بَعْدَ الثُّلُثِ ، عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُرَدَّ ذَلِكَ الثُّلُثُ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ الْأُولَى قَدِ اسْتَوْعَبَتْهُ وَلَوْلَا ذَلِكَ ، لَبَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ بِالْمِائَةِ وَإِنَّمَا أَرَادَ ثُلُثًا ثَانِيًا . فَإِذَا أَوْصَى بَعْدَ الْمِائَةِ بِمَا بَقِيَ مِنَ الثُّلُثِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ مَا بَقِيَ مِنَ الثُّلُثِ الثَّانِي وَصَارَ مُوصًا بِثُلُثَيْ مَالِهِ ، فَإِذَا امْتَنَعَ الْوَرَثَةُ مِنْ إِجَازَتِهِ ، رُدَّ الثُّلُثَانِ إِلَى الثُّلُثِ فَجُعِلَ نِصْفُ الثُّلُثِ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ وَكَانَ النِّصْفُ الْآخَرُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ بِالْمِائَةِ وَبَيْنَ الْمُوصَى لَهُ بِالْبَاقِي عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ .
فَصْلٌ : وَإِذَا أَوْصَى بِعَبْدِهِ لِرَجُلٍ وَأَوْصَى بِبَاقِي الثُّلُثِ لِآخَرَ قُوِّمَ الْعَبْدُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ الثُّلُثَ فَصَاعِدًا فَالْوَصِيَّةُ بِالْبَاقِي مِنَ الثُّلُثِ بَاطِلَةٌ .
وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنَ الثُّلُثِ ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَالثُّلُثُ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ فَالْوَصِيَّةُ بِالْبَاقِي مِنَ الثُّلُثِ جَائِزَةٌ وَقَدْرُهَا خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ . فَلَوْ نَقَصَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ بَعْدَ ذَلِكَ عَنِ الْأَلْفِ ، مِثْلَ أَنْ يَصِيرَ أَعْوَرَ فَيُسَاوِي بَعْدَ عَوَرِهِ سَبْعَمِائَةٍ ، فَلَا يُزَادُ الْمُوصَى لَهُ بِالْبَاقِي عَلَى الْخَمْسِمِائَةِ الَّتِي كَانَتْ قِيمَةَ الثُّلُثِ بَعْدَ قِيمَةِ الْعَبْدِ سَلِيمًا عِنْدَ الْمَوْتِ وَلَا يُحْتَسَبُ لِلْعَبْدِ فِي الثُّلُثِ إِذَا كَانَ عَوَرُهُ بَعْدَ قَبْضِ الْمُوصَى لَهُ إِلَّا سَبْعُمِائَةٍ وَيَكُونُ نَقْصُهُ بِالْعَوَرِ ، كَالشَّيْءِ التَّالِفِ مِنَ التَّرِكَةِ . وَعَلَى هَذَا لَوْ زَادَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ عَلَى الْأَلْفِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَقَبْلَ قَبْضِ الْمُوصَى لَهُ حَتَّى صَارَ يُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ وَمِائَتَيْ دِرْهَمٍ ، لَمْ يُنْقُصِ الْمُوصَى لَهُ بِالْبَاقِي عَنِ الْخَمْسِمِائَةِ الَّتِي كَانَتْ بَقِيَّةَ الثُّلُثِ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي . فَلَوْ مَاتَ الْعَبْدُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَقَبْلَ قَبْضِ الْمُوصَى لَهُ لَمْ تَبْطُلِ الْوَصِيَّةُ بِبَاقِي الثُّلُثِ وَقُوِّمَ الْعَبْدُ حَيًّا عِنْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَلَوْ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي ، بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ بِهِ . فَأَمَّا الْوَصِيَّةُ بِالْبَاقِي مِنَ الثُّلُثِ بَعْدَ مَوْتِ الْعَبْدِ فَيُنْظَرُ : فَإِنْ جَوَّزَ أَنْ يَنْتَهِيَ قِيمَةُ الْعَبْدِ إِنْ كَانَ حَيًّا إِلَى اسْتِغْرَاقِ الثُّلُثِ ، صَارَ الْوَصِيَّةُ بِالْبَاقِي مِنَ الثُّلُثِ بَاطِلَةً ، لِتَرَدُّدِهَا بَيْنَ الثُّبُوتِ وَالْإِسْقَاطِ . وَإِنْ عُلِمَ قَطْعًا أَنَّ قِيمَتَهُ لَا تَجُوزُ أَنْ تَسْتَغْرِقَ الثُّلُثَ ، كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِالْبَاقِي مِنَ الثُّلُثِ جَائِزَةً وَرُجِعَ فِيهَا إِلَى قَوْلِ الْوَارِثِ مَعَ يَمِينِهِ أَنْ تُوَزَّعَ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَوْ أَوْصَى بِأَمَةٍ لِزَوْجِهَا وَهُوَ حُرٌّ فَلَمْ يَعْلَمْ حَتَّى وَضَعَتْ لَهُ بَعْدَ مَوْتِ سَيِّدِهَا أَوْلَادًا ، فَإِنْ قَبِلَ عُتِقُوا وَلَمْ تَكُنْ أُمُّهُمْ أُمَّ وَلَدٍ حَتَّى تَلِدَ مِنْهُ بَعْدَ قَبُولِهِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرَ لِأَنَّ الْوَطْءَ قَبْلَ الْقَبُولِ وَطْءُ نِكَاحٍ وَوَطْءُ الْقَبُولِ وَطْءُ مِلْكٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَ مُقَدِّمَاتٍ لَا يَصِحُّ جَوَابُهَا إِلَّا بِتَقْرِيرِ مُقَدَّمَاتِهَا . أَحَدُهَا : الْحَمْلُ هَلْ يَكُونُ لَهُ حُكْمٌ يَخْتَصُّ بِهِ ، أَوْ يَكُونُ تَبَعًا لَا يَخْتَصُّ بِحُكْمٍ ؟ وَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ لَهُ حُكْمًا مَخْصُوصًا وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا ، وَأَنَّ الْحَامِلَ إِذَا بِيعَتْ يُقَسَّطُ الثَّمَنُ عَلَيْهَا وَعَلَى الْحَمْلِ الْمُسْتَجَدِّ فِي بَطْنِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ أَنْ يُعْتَقَ الْحَمْلُ ، فَلَا يَسْرِي إِلَى أُمٍّ وَيُوصَى بِهِ لِغَيْرِ مَالِكِ الْأُمِّ ، دَلَّتْ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِالْحُكْمِ وَتَمْيِيزِهِ عَنِ الْأُمِّ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْحَمْلَ يَكُونُ تَبَعًا لَا يَخْتَصُّ بِحُكْمٍ وَلَا يَكُونُ مَعْلُومًا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا سَرَى عِتْقُ الْأُمِّ إِلَيْهِ صَارَ تَبَعًا لَهَا كَأَعْصَابِهَا ، وَلَمَّا جَازَ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا أَوْ مَعْدُومًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا فَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ . وَالْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ : وَهِيَ أَقَلُّ مُدَّةِ الْحَمْلِ وَهِيَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْيَا وَلَدٌ وُضِعَ
لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ الْمَعْهُودِ ، ثُمَّ بِالنَّصِّ الْوَارِدِ . قَالَ تَعَالَى : وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا [ الْأَحْقَافِ : 15 ] . فَلَمَّا كَانَ الْفِصَالُ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ، دَلَّ عَلَى أَنَّ السِّتَّةَ الْأَشْهُرَ الْبَاقِيَةَ هِيَ أَقَلُّ مُدَّةِ الْحَمْلِ . فَإِنْ وَلَدَتْ زَوْجَةُ رَجُلٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ عَقْدِ نِكَاحِهَا ، وَوَلَدَتْ أَمَةٌ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَطْءِ سَيِّدِهَا ، كَانَ الْوَلَدُ مُنْتَفِيًا عَنْهُ وَغَيْرَ لَاحِقٍ بِهِ . وَالْمُقَدِّمَةُ الثَّالِثَةُ : مِلْكُ الْوَصِيَّةِ مَتَى يَحْصُلُ لِلْمُوصَى لَهُ وَيَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ ؟ وَفِيهِ قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَمْلِكُ الْوَصِيَّةَ بِالْقَبُولِ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا قَبْلَ الْقَبُولِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ ، عَلَى هَذَا الْقَوْلِ ، هَلْ تَكُونُ بَاقِيَةً عَلَى مِلْكِ الْمُوصِي ، أَوْ دَاخِلَةً فِي مِلْكِ الْوَرَثَةِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ وَأَكْثَرِ الْبَصْرِيِّينَ : أَنَّ مِلْكَ الْوَصِيَّةِ مُنْتَقِلٌ عَنِ الْمَيِّتِ إِلَى وَرَثَتِهِ ، ثُمَّ بِالْقَبُولِ يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمُوصَى لَهُ لِزَوَالِ مِلْكِ الْمُوصِي بِالْمَوْتِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ - وَأَكْثَرِ الْبَغْدَادِيِّينَ : أَنَّ الْوَصِيَّةَ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِ الْمُوصِي بَعْدَ مَوْتِهِ حَتَّى يَقْبَلَهَا الْمُوصَى لَهُ فَتَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ بِقَبُولِهِ وَتَنْتَقِلُ إِلَيْهِ عَنِ الْمُوصِي ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تُمَلَّكُ عَنْهُ كَالْمِيرَاثِ . وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تُمَلَّكُ بِالْقَبُولِ هُوَ أَنَّهَا عَطِيَّةٌ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَقَدَّمَ الْمِلْكُ عَلَى قَبُولِهَا كَالْهِبَاتِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَهَذَا قَوْلٌ يَنْكَسِرُ " ا هـ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ أَصَحُّهُمَا أَنَّ الْقَبُولَ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الْمِلْكِ بِالْمَوْتِ ، فَيَكُونُ الْمِلْكُ مَوْقُوفًا ، فَإِنْ قُبِلَ حُمِلَ عَلَى تَقَدُّمِ مِلْكِهِ ، وَإِنْ لَمْ يُقْبَلْ دَلَّ عَلَى عَدَمِ مِلْكِهِ . وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ أَنَّهُ لَمَّا امْتَنَعَ أَنْ يَبْقَى لِلْمَيِّتِ مِلْكٌ ، وَأَنَّ الْوَارِثَ لَا يَمْلِكُ الْإِرْثَ ، اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْمِلْكُ مَوْقُوفًا عَلَى قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ وَرَدِّهِ وَحَقُّهُ فِي الْقَبُولِ بَاقٍ ، مَا لَمْ يَعْلَمْ ، فَإِنْ عَلِمَ ، فَإِنْ كَانَ عِنْدَ إِنْفَاذِ الْوَصَايَا وَقِسْمَةِ التَّرِكَةِ فَقَبُولُهُ عَلَى الْفَوْرِ فَاقْبَلْ ، وَإِلَّا بَطَلَ حَقُّهُ فِي الْوَصِيَّةِ ، فَأَمَّا بَعْدَ عِلْمِهِ وَقَبْلَ إِنْفَاذِ الْوَصَايَا وَقِسْمَةِ التَّرِكَةِ ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَقَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ : أَنَّ الْقَبُولَ فِيهِ عَلَى التَّرَاخِي لَا عَلَى الْفَوْرِ ، فَيَكُونُ مُمْتَدًّا مَا لَمْ يُصَرِّحْ بِالرَّدِّ ، حَتَّى تُنَفَّذَ الْوَصَايَا وَتُقَسَّمَ التَّرِكَةُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُعْتَبَرِ الْقَبُولُ مَعَ الْوَصِيَّةِ ، اعْتُبِرَ عِنْدَ إِنْفَاذِ الْوَصِيَّةِ .
وَحَكَى أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ كَجٍّ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْقَبُولَ بَعْدَ عِلْمِهِ عَلَى الْفَوْرِ ؛ لِأَنَّهَا عَطِيَّةٌ كَالْهِبَاتِ . وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنِ الشَّافِعِيِّ قَوْلًا ثَالِثًا : أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمُوصَى لَهُ بِغَيْرِ قَبُولٍ وَلَا اخْتِيَارِ الْمِيرَاثِ . فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَخْرِيجِهِ قَوْلًا ثَالِثًا لِلشَّافِعِيِّ ، فَخَرَّجَهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا قَوْلًا ثَالِثًا تَعْلِيلًا بِالْمِيرَاثِ . وَامْتَنَعَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَكْثَرُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْ تَخْرِيجِهِ قَوْلًا ثَالِثًا وَتَأَوَّلُوا رِوَايَةَ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ بِأَحَدِ تَأْوِيلَيْنِ : إِمَّا حِكَايَةٌ عَنْ مَذْهَبِ غَيْرِهِ ، وَإِمَّا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ بِالْقَبُولِ يُعْلَمُ دُخُولُهَا بِالْمَوْتِ فِي مِلْكِهِ . وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ بِأَنَّ الْمِيرَاثَ عَطِيَّةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَمْ يُرَاعَى فِيهَا الْقَبُولُ ، وَالْوَصِيَّةَ عَطِيَّةٌ مِنْ آدَمِيٍّ فَرُوعِيَ فِيهَا الْقَبُولُ . فَهَذِهِ مُقَدِّمَاتُ الْمَسْأَلَةِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَتِ الْمُقَدِّمَاتُ ، فَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ أَمَةَ رَجُلٍ ، ثُمَّ أَوْصَى السَّيِّدُ بِهَا لِلزَّوْجِ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الزَّوْجِ مِنْ أَنْ يَقْبَلَ الْوَصِيَّةَ بِهَا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي أَوْ يَرُدَّ ، فَإِنْ رَدَّ الْوَصِيَّةَ وَلَمْ يَقْبَلْهَا ، فَالنِّكَاحُ بِحَالِهِ وَالْأَمَةُ مِلْكُ وَرَثَةِ الْمُوصِي وَأَوْلَادُهَا مَوْقُوفُونَ لَهُمْ ، فَإِنْ قَبِلَ الْوَصِيَّةَ ، فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَنْ تَأْتِيَ بِوَلَدٍ أَوْ لَا تَأْتِيَ ، فَإِنْ لَمْ تَأْتِ بِوَلَدٍ فَالنِّكَاحُ قَدْ بَطَلَ بِالْمِلْكِ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ وَالْمِلْكَ تَتَنَافَى أَحْكَامُهُمَا فَلَمْ يَجْتَمِعَا ، أَوْ غَلَبَ حُكْمُ الْمِلْكِ لِأَنَّهُ أَقْوَى . فَإِنْ قِيلَ بِالْقَبُولِ قَدْ مَلَكَ ، انْفَسَخَ نِكَاحُهَا حِينَ الْقَبُولِ وَكَانَ الْوَطْءُ قَبْلَهُ وَطْئًا فِي نِكَاحٍ وَبَعْدَهُ وَطْئًا فِي مِلْكٍ وَلَا اسْتِبْرَاءَ عَلَيْهِ بِحُدُوثِ الْمِلْكِ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَزَلْ فِرَاشًا لَهُ . فَإِنْ قِيلَ : الْقَبُولُ يُبْنَى عَنِ مِلْكٍ سَابِقٍ مِنْ حِينِ الْمَوْتِ ، انْفَسَخَ نِكَاحُهَا حِينَ الْمَوْتِ وَكَانَ وَطْئُهُ قَبْلَ الْمَوْتِ وَطْءَ نِكَاحٍ وَبَعْدَ الْمَوْتِ وَطْئًا فِي مِلْكٍ ، فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ قَالَ الشَّافِعِيُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لِأَنَّ الْوَطْءَ قَبْلَ الْقَبُولِ وَطْءَ نِكَاحٍ وَبَعْدَ الْقَبُولِ وَطْءَ مِلْكٍ وَهُوَ قَبْلَ الْقَبُولِ وَبَعْدَهُ وَطْءُ مِلْكٍ وَإِذَا كَانَ بَعْدَ الْمَوْتِ ؟ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ غَلَطٌ مِنَ الْمُزَنِيِّ فِي النَّقْلِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَنْقُولٌ مِنَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ بِالْقَبُولِ يَمْلِكُ .
وَالثَّالِثُ : أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ الْوَطْءَ قَبْلَ زَمَانِ الْقَبُولِ وَطْءُ نِكَاحٍ ، يَعْنِي : قَبْلَ الْمَوْتِ .
فَصْلٌ : وَإِنْ أَتَتْ بِوَلَدٍ أمة أوصى بها سيدها لزوجها فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَضَعَهُ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي . وَالثَّانِي : أَنْ تَضَعَهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَقَبْلَ قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ . وَالثَّالِثُ : أَنْ تَضَعَهُ بَعْدَ قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا عِنْدَ الْوَصِيَّةِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ حَادِثًا بَعْدَهَا . فَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ الْوَصِيَّةِ ، مِثْلَ أَنْ تَضَعَهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْوَصِيَّةِ ، فَفِيهِ قَوْلَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْحَمْلِ هَلْ لَهُ حُكْمٌ أَمْ لَا ؟ فَإِنْ قِيلَ : لَا حُكْمَ لَهُ فَالْوَلَدُ مَمْلُوكٌ لِلْمُوصِي وَمُنْتَقِلٌ عَنْهُ إِلَى وَرَثَتِهِ ، وَإِنْ قِيلَ لِلْحَمْلِ حُكْمٌ فَهُوَ لِلْمُوصَى لَهُ وَكَأَنَّ الْمُوصِيَ وَصَّى لَهُ بِالْأُمِّ وَالْوَلَدِ ثُمَّ قَدْ أُعْتِقَ الْوَلَدُ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ وَصَارَ لَهُ وَلَاؤُهُ . وَلَا تَصِيرُ أُمُّهُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ ؛ لِأَنَّهَا وَلَدَتْهُ مِنْ نِكَاحٍ ، وَيُعْتَبَرُ فِي الثُّلُثِ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأُمِّ وَالْوَلَدِ يَوْمَ مَوْتِ الْمُوصِي . وَإِنْ كَانَ حَادِثًا بَعْدَ الْوَصِيَّةِ ، مِثْلَ أَنْ تَضَعَهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ حِينِ الْوَصِيَّةِ فَهُوَ مَمْلُوكٌ لِلْمُوصِي قُولَا وَاحِدًا وَمُنْتَقِلٌ عَنْهُ إِلَى وَرَثَتِهِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَقَبْلَ قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ حمل أمة أوصى بها سيدها لزوجها ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا عِنْدَ الْوَصِيَّةِ . وَالثَّانِي : " يَكُونُ حَادِثًا بَعْدَ الْوَصِيَّةِ وَقَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ حَادِثًا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَقَبْلَ قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ . فَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ الْوَصِيَّةِ فَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْوَصِيَّةِ . فَفِيهِ قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْحَمْلِ هَلْ لَهُ حُكْمٌ أَمْ لَا ؟ فَإِنْ قُلْنَا : لِلْحَمْلِ حُكْمٌ فَالْوَصِيَّةُ بِهِمَا مَعًا وَفِيمَا تُقَوَّمُ عَلَيْهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ : أَحَدُهُمَا : تُقَوَّمُ عَلَيْهِ الْأَمَةُ حَامِلًا ، يَوْمَ مَوْتِ الْمُوصِي ، فَإِنْ خَرَجَتْ قِيمَتُهَا كُلُّهَا مِنَ الثُّلُثِ : صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ بِهَا وَبِوَلَدِهَا . وَإِنْ خَرَجَ نِصْفُهَا مِنَ الثُّلُثِ ، كَانَ لَهُ نِصْفُهَا وَنِصْفُ وَلَدِهَا .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ تُقَوَّمُ الْأُمُّ يَوْمَ مَوْتِ الْمُوصِي وَيُقَوَّمُ الْوَلَدُ يَوْمَ وُلِدَ وَيُعْتَبَرُ قِيمَتُهُمَا جَمِيعًا مِنَ الثُّلُثِ ، فَإِنِ احْتَمَلَهُمَا الثُّلُثُ صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ بِهِمَا وَإِنْ عَجَزَ الثُّلُثُ عَنْهُمَا ، أُمْضِيَ لَهُ مِنَ الْوَصِيَّةِ بِهِمَا قَدْرَ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ مِنْهُمَا مِنْ غَيْرِ تَفْضِيلٍ . ثُمَّ إِذَا صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ لَهُمَا ، لِاحْتِمَالِ الثُّلُثِ لَهُمَا ، فَقَدْ عُتِقَ عَلَيْهِ الْوَلَدُ بِالْمِلْكِ وَلَهُ وَلَاؤُهُ لِحُدُوثِ عِتْقِهِ بَعْدَ رِقِّهِ ، فَلَمْ تَصِرِ الْأُمُّ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ ؛ لِأَنَّهَا عَلِقَتْ بِهِ فِي نِكَاحٍ ، فَهَذَا إِذَا قُلْنَا : إِنَّ لِلْحَمْلِ حُكْمًا . وَإِذَا قُلْنَا : إِنَّ الْحَمْلَ لَا حُكْمَ لَهُ ، فَفِيهِ قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي قَبُولِ الْوَصِيَّةِ هَلْ يَقَعُ بِهِ التَّمْلِيكُ أَوْ يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ الْمِلْكِ بِالْمَوْتِ ؟ فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْقَبُولَ هُوَ الْمِلْكُ ، فَالْوَلَدُ مَمْلُوكٌ وَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَمْلُوكٌ لِلْمُوصِي وَمَضْمُومٌ إِلَى تَرِكَتِهِ ، ثُمَّ مُنْتَقِلٌ عَنْهُ إِلَى وَرَثَتِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ حَادِثٌ عَلَى مِلْكِ الْوَرَثَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَثْبُتَ عَلَيْهِ لِلْمُوصِي مِلْكٌ . وَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْقَبُولَ يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ الْمِلْكِ بِالْمَوْتِ كَانَ الْوَلَدُ لِلْمُوصَى لَهُ وَقَدْ عُتِقَ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ وَلَهُ وَلَاؤُهُ وَلَا تَكُونُ أُمُّهُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ وَفِيمَا يَقُومُ فِي الثُّلُثِ وَجْهَانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا . وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ حَادِثًا بَعْدَ الْوَصِيَّةِ وَقَبْلَ الْمَوْتِ حمل أمة أوصى بها سيدها لزوجها ، فَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْوَصِيَّةِ وَلِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْمَوْتِ ، فَفِي الْوَلَدِ قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْقَبُولِ . فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ الْقَبُولَ هُوَ الْمُمَلِّكُ ، فَالْوَلَدُ لِلْوَرَثَةِ ، فَإِنْ جُعِلَ لِلْحَمْلِ حُكْمٌ ، فَقَدْ ثَبَتَ عَلَيْهِ مِلْكُ الْمُوصِي ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى وَرَثَتِهِ وَإِنْ لَمْ يُجْعَلْ لِلْحَمْلِ حُكْمٌ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ لِلْمُوصِي وَتَنْتَقِلُ عَنْهُ إِلَى الْوَرَثَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَكُونُ لِلْوَرَثَةِ وَلَمْ يَثْبُتْ عَلَى مِلْكِ الْمُوصِي ، وَلَا يُحْتَسَبْ عَلَيْهِمْ مِنْ تَرِكَتِهِ . وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ الْقَبُولَ يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ الْمِلْكِ بِالْمَوْتِ ، فَالْوَلَدُ لِلْمُوصَى لَهُ وَقَدْ عُتِقَ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ وَلَهُ وَلَاؤُهُ وَلَا تَصِيرُ الْأُمُّ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ وَفِيمَا يُقَوَّمُ فِي الثُّلُثِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : تُقَوَّمُ الْأُمُّ حَامِلًا عِنْدَ الْمَوْتِ لَا غَيْرَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : تُقَوَّمُ الْأُمُّ عِنْدَ الْمَوْتِ وَيُقَوَّمُ الْوَلَدُ عِنْدَ الْوَضْعِ وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُمَا جَمِيعًا مِنَ الثُّلُثِ . وَإِنْ كَانَ حَادِثًا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَقَبْلَ قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ ، فَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ مَوْتِ الْمُوصِي حمل أمة أوصى بها سيدها لزوجها .
فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْقَبُولَ هُوَ الْمُمَلِّكُ ، فَالْوَلَدُ مَمْلُوكٌ لِوَرَثَةِ الْمُوصِي لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ لِلْمُوصَى لَهُ مِلْكٌ وَجْهًا وَاحِدًا . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْقَبُولَ يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ الْمِلْكِ بِالْمَوْتِ ، فَالْوَلَدُ حُرٌّ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ رِقٌّ وَلَا وَلَاءَ عَلَيْهِ وَقَدْ صَارَتِ الْأُمُّ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ ؛ لِأَنَّهَا عَلِقَتْ بِهِ فِي مِلْكِ الْمُوصَى لَهُ وَلَا يُقَوَّمُ الْوَلَدُ عَلَيْهِ فِي الثُّلُثِ وَجْهًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ رِقٌّ ، وَإِنَّمَا تُقَوَّمُ الْأُمُّ عِنْدَ الْمَوْتِ وَقَدْ كَانَتْ عِنْدَهُ حَائِلًا .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ بَعْدَ قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ حمل أمة أوصى بها سيدها لزوجها ، فَهَذَا عَلَى أَرْبَعَةٍ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا عِنْدَ الْوَصِيَّةِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ حَادِثًا بَعْدَ الْوَصِيَّةِ وَقَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ حَادِثًا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَقَبْلَ الْقَبُولِ . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ حَادِثًا بَعْدَ الْقَبُولِ . فَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ الْوَصِيَّةِ ، مِثْلَ أَنْ تَضَعَهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْوَصِيَّةِ بِالْوَلَدِ لِلْمُوصَى لَهُ حمل أمة أوصى بها سيدها لزوجها عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا ، سَوَاءٌ قِيلَ إِنَّ لِلْحَمْلِ حُكْمًا ، أَوْ قِيلَ إِنَّهُ يَكُونُ تَبَعًا ؛ لِأَنَّهُ إِنْ قِيلَ إِنَّ لَهُ حُكْمًا فَهُوَ مَعَ الْأُمِّ مُوصًى بِهِمَا . وَإِنْ قِيلَ : يَكُونُ تَبَعًا ، فَحُكْمُهُ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الْوِلَادَةِ وَهُوَ مَوْلُودٌ فِي مِلْكِ الْمُوصَى لَهُ ، وَإِذَا كَانَ لَهُ فَقَدْ عُتِقَ عَلَيْهِ بَعْدَ رِقِّهِ ، فَلَهُ وَلَاؤُهُ ، فَلَا تَكُونُ أُمُّهُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ . وَإِنْ كَانَ حَادِثًا بَعْدَ الْوَصِيَّةِ وَقَبْلَ الْمَوْتِ فَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْوَصِيَّةِ وَلِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْمَوْتِ حمل أمة أوصى بها سيدها لزوجها ، فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَمْلُوكٌ لِلْمُوصَى وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَقُولُ إِنَّ لِلْحَمْلِ حُكْمًا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : إِنَّهُ لِلْمُوصَى لَهُ ، إِذَا قِيلَ إِنَّ الْحَمْلَ تَبَعٌ . فَعَلَى هَذَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ بَعْدَ رِقِّهِ وَيَكُونُ لَهُ عَلَيْهِ الْوَلَاءُ وَلَا تَصِيرُ أُمُّهُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ . وَإِنْ كَانَ حَادِثًا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَقَبْلَ الْقَبُولِ فَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ ، لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْمَوْتِ وَلِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْقَبُولِ حمل أمة أوصى بها سيدها لزوجها ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ حُرٌّ مِنْ حِينِ الْعُلُوقِ ، لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ حُكْمُ رِقٍّ وَأَنَّ " أُمَّهُ " بِهِ أُمُّ وَلَدٍ . وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَجْعَلُهُ بِالْقَبُولِ مَالِكًا ، وَيَجْعَلُ الْحَمْلَ تَبَعًا مِنْ حِينِ الْمَوْتِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ حُرٌّ بَعْدَ رِقِّهِ ، وَعَلَيْهِ الْوَلَاءُ لِأَبِيهِ وَلَا تَكُونُ أُمُّهُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ ، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَجْعَلُهُ بِالْقَبُولِ مَالِكًا وَيَجْعَلُ الْحَمْلَ تَبَعًا . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ مَمْلُوكٌ لِوَرَثَةِ الْمُوصِي دُونَ الْمُوصَى لَهُ ، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَجْعَلُهُ بِالْقَبُولِ مَالِكًا وَيَجْعَلُ لِلْحَمْلِ حُكْمًا .
وَهَكَذَا : لَوْ وَلَدَتْ أَوْلَادًا وَكَانَ بَيْنَ أَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ أَقَلُّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ أمة أوصى بها سيدها لزوجها فَحُكْمُهُمْ حُكْمُ الْوَلَدِ الْوَاحِدِ ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ حَمْلٍ وَاحِدٍ . وَلَوْ كَانَ بَيْنَ بَعْضِهِمْ وَبَعْضِهِمْ سِتَّةُ أَشْهُرٍ لَاخْتَلَفَ حُكْمُهُمْ لِاخْتِلَافِ حَمْلِهِمْ ، وَإِنْ كَانَ حَادِثًا بَعْدَ الْقَبُولِ فَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ حِينِ قَبُولِهِ ، فَهَذَا حُرُّ الْأَصْلِ ، لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ رِقٌّ وَلَا وَلَاءَ عَلَيْهِ لِلْأَبِ ، وَتَصِيرُ الْأُمُّ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ ؛ لِأَنَّهَا عَلِقَتْ بِهِ فِي مِلْكٍ لَا فِي نِكَاحٍ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقْبَلَ أَوْ يَرُدَّ قَامَ وَرَثَتُهُ مَقَامَهُ ، فَإِنْ قَبِلُوا فَإِنَمَا مِلْكُوا أَمَةً لِأَبِيهِمْ وَأَوْلَادُ أَبِيهِمُ الَّذِينَ وَلَدَتْ بَعْدَ مَوْتِ سَيِّدِهَا أَحْرَارٌ وَأُمُّهُمْ مَمْلُوكَةٌ ، وَإِنْ رَدُّوا كَانُوا مَمَالِيكَ وَكَرِهْتُ مَا فَعَلُوا ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : لَوْ مَاتَ أَبُوهُمْ قَبْلَ الْمِلْكِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَمْلِكُوا عَنْهُ مَا لَمْ يَمْلِكْ ، وَمِنْ قَوْلِهِ أَهَلَّ شَوَّالٌ ، ثُمَّ قَبْلُ كَانَتِ الزَّكَاةُ عَلَيْهِ وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ مُتَقَدِّمٌ ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا كَانَ عَلَيْهِ زَكَاةُ مَا لَا يَمْلِكُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : هَذَا صَحِيحٌ ، وَجُمْلَتُهُ : أَنَّ مَوْتَ الْمُوصِي لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ فِي حَيَاةِ الْمُوصَى لَهُ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ ، فَإِنْ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي ، فَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَهُ قَدْ بَطَلَتْ وَلَيْسَ لِوَارِثِهِ قَبُولُهَا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي . وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصَرِيِّ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تَبْطُلُ بِمَوْتِهِ وَلِوَرَثَتِهِ قَبُولُهَا . وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَنَّ الْوَصِيَّةَ فِي غَيْرِ حَيَاةِ الْمُوصِي غَيْرَ لَازِمَةٍ ، وَمَا لَيْسَ بِلَازِمٍ مِنَ الْعُقُودِ يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَهُ لَا لِوَرَثَتِهِ ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ الْوَصِيَّةَ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي . وَإِنْ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي ، لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمُوصَى لَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ قَدْ رَدَّ الْوَصِيَّةَ قَبْلَ مَوْتِهِ الموصي له فَقَدْ بَطَلَتْ بِرَدِّهِ ، وَلَيْسَ لِوَارِثِهِ قَبُولُهَا بَعْدَ مَوْتِهِ إِجْمَاعًا . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ قَدْ قَبِلَهَا قَبْلَ مَوْتِهِ وَبَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي فَقَدْ مَلَكَهَا ، أَوِ انْتَقَلَتْ بِمَوْتِهِ إِلَى وَارِثِهِ . وَسَوَاءٌ قَبَضَهَا الْمُوصَى لَهُ فِي حَيَاتِهِ أَمْ لَا ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي تَمَلُّكِ الْوَصِيَّةِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَمُوتَ قَبْلَ قَبُولِهِ وَرَدِّهِ . فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ : يَقُومُ وَارِثُهُ مَقَامَهُ فِي الْقَبُولِ وَالرَّدِّ وَلَا تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ بِمَوْتِهِ قَبْلَ الْقَبُولِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِذَا مَاتَ قَبْلَ الْقَبُولِ ، بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ لَهُ كَالْهِبَةِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ مَا اسْتَحَقَّهُ فِي التَّرِكَةِ لَمْ يَسْقُطْ بِالْمَوْتِ كَالدَّيْنِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ سَبَبٍ اسْتُحِقَّ بِهِ تَمَلُّكُ عَيْنٍ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ مَالِكِهَا لَمْ يَبْطُلْ بِمَوْتِهِ ، قَبْلَ تَمَلُّكِهَا كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ . وَفَارَقَتِ الْوَصِيَّةُ الْهِبَةَ مِنْ حَيْثُ أَنَّ الْهِبَةَ قَبْلَ الْقَبْضِ غَيْرُ لَازِمَةٍ ، فَجَازَ أَنْ تَبْطُلَ بِالْمَوْتِ وَالْوَصِيَّةُ قَبْلَ الْقَبُولِ لَازِمَةٌ ، فَلَمْ تَبْطُلْ بِالْمَوْتِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمُوصَى لَهُ قَبْلَ الرَّدِّ وَالْقَبُولِ ، فَوَرَثَتُهُ يَقُومُونَ مَقَامَهُ فِي الْقَبُولِ وَالرَّدِّ وَلَهُمْ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : حَالٌ يَقْبَلُ جَمِيعُهُمُ الْوَصِيَّةَ ، وَحَالٌ يَرُدُّ جَمِيعُهُمُ الْوَصِيَّةَ ، وَحَالٌ يَقْبَلُهَا بَعْضُهُمْ وَيَرُدُّهَا بَعْضُهُمْ . فَإِنْ قَبِلُوهَا جَمِيعًا ، فَعَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَجْعَلُ الْقَبُولَ دَالًّا عَلَى تَقَدُّمِ الْمِلْكِ ، فَالْمَالِكُ لِلْوَصِيَّةِ بِقَبُولِ الْوَرَثَةِ ، هُوَ الْمُوصَى لَهُ لَا الْوَرَثَةُ . فَعَلَى هَذَا يَكُونُ أَوْلَادُ الْأَمَةِ أَحْرَارًا ؛ لِأَنَّ الْأَبَ لَا يَمْلِكُ وَلَدَهُ وَيَجْعَلُهَا لَهُ أُمَّ وَلَدٍ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تَصِيرُ بِالْوِلَادَةِ أُمَّ وَلَدٍ . فَأَمَّا الْقَوْلُ الَّذِي يَجْعَلُ الْقَبُولَ مِلْكًا ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا ، هَلْ تَدْخُلُ الْوَصِيَّةُ فِي مِلْكِ الْمُوصَى لَهُ بِقَبُولِ وَرَثَتِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ : أَنَّ الْوَصِيَّةَ يَمْلِكُهَا الْوَرَثَةُ دُونَ الْمُوصَى لَهُ ، لِحُدُوثِ الْمِلْكِ بِقَبُولِهِمْ . فَعَلَى هَذَا لَا يُعْتَقُ الْأَوْلَادُ الَّذِينَ وَلَدَتْهُمْ بَعْدَ الْقَبُولِ وَلَا تَصِيرُ الْأَمَةُ بِهِمْ أُمَّ وَلَدٍ ؛ لِأَنَّ الْأَخَ يَمْلِكُ أَخَاهُ . وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ مَالًا لَمْ يُقْضَ مِنْهَا دُيُونُ الْمُوصَى لَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْبَصْرِيِّينَ وَحَكَاهُ أَبُو الْقَاسِمَ بْنُ كَجٍّ عَنْ شُيُوخِهِ : أَنَّ الْوَصِيَّةَ يَمْلِكُهَا الْمُوصَى لَهُ بِقَبُولِ وَرَثَتِهِ وَإِنْ كَانَ الْقَبُولُ مُمَلِّكًا ؛ لِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَدْخُلْ فِي مِلْكِهِ لَبَطَلَتْ ؛ لَأَنَّ الْوَرَثَةَ غَيْرُ مُوصًى لَهُمْ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَمْلِكَ الْوَصِيَّةَ مَنْ لَمْ يُوصَ لَهُ . فَعَلَى هَذَا قَدْ أُعْتِقَ الْأَوْلَادُ الَّذِينَ وَلَدَتْهُمْ بَعْدَ الْقَبُولِ وَصَارَتْ مِمَّنْ يَجِبُ أَنْ تَصِيرَ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ . وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ مَالًا ، قُضِيَ مِنْهَا دُيُونُ الْمُوصَى لَهُ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ حُرِّيَّةُ الْأَوْلَادِ عَلَى مَا وَصَفْنَا ، لَمْ يَخْلُ حَالُ الْوَرَثَةِ الْقَابِلِينَ لِلْوَصِيَّةِ ورثة زوج الأمة الموصي بها سيدها لزوجها أَنْ يُسْقَطُوا بِالْأَوْلَادِ أَوْ لَا يُسْقَطُوا .
فَإِنْ لَمْ يُسْقَطُوا بِالْأَوْلَادِ ، كَالْإِخْوَةِ وَالْأَعْمَامِ ، عُتِقَ هُوَ وَالْأَوْلَادُ وَلَمْ يَرِثُوا ؛ لِأَنَّ تَوْرِيثَهُمْ مُخْرِجٌ لِقَابِلِ الْوَصِيَّةِ مِنَ الْمِيرَاثِ وَخُرُوجُهُمْ مِنَ الْمِيرَاثِ يُبْطِلُ قَبُولَهُمْ لِلْوَصِيَّةِ وَبُطْلَانُ الْوَصِيَّةِ مُوجِبٌ لِرِقِّ الْأَوْلَادِ وَسُقُوطِ مِيرَاثِهِمْ ، فَلَمَّا أَفْضَى تَوْرِيثُهُمْ إِلَى رِقِّهِمْ وَسُقُوطِ مِيرَاثِهِمْ مُنِعُوا الْمِيرَاثَ ، لِيَرْتَفِعَ رِقُّهُمْ وَتَثْبُتُ حُرِّيَّتُهُمْ ، كَمَا قُلْنَا فِي الْأَخِ إِذَا أَقَرَّ بِابْنٍ أَنَّ نَسَبَ الِابْنِ يَثْبُتُ وَلَا يَرِثُ .
فَصْلٌ : وَلَوْ رَدَّ الْوَرَثَةُ بِأَجْمَعِهِمْ ورثة زوج الأمة الموصي بها سيدها لزوجها بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ بِرَدِّهِمْ لَهَا وَكَانَ الْأَوْلَادُ عَبِيدًا لِلْوَرَثَةِ وَكَذَلِكَ أَمُّهُمْ . قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : وَكَرِهْتُ ذَلِكَ لَهُمْ لِمَا فِيهِ مِنَ اسْتِرْقَاقِ أَوْلَادِهِمْ وَأَنَّهُمْ قَدْ خَالَفُوا ظَاهِرَ فِعْلِهِ لَوْ كَانَ حَيًّا . فَأَمَّا إِذَا قَبِلَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ الْوَصِيَّةَ وَرَدَّهَا بَعْضُهُمْ ، كَانَتْ حِصَّةُ مَنْ رَدَّ مَوْقُوفَةً لِوَرَثَةِ الْمُوصِي وَحِصَّةُ مَنْ قَبِلَ أَحْرَارًا إِنْ قِيلَ إِنَّهُمْ قَدْ دَخَلُوا فِي مِلْكِ الْمُوصَى لَهُ . وَيُقَوَّمُ مَا بَقِيَ مِنْ رِقِّ الْأَوْلَادِ فِي حِصَّةِ الْقَابِلِ مِنْ تَرِكَتِهِ ، إِنْ كَانَ مُوسِرًا بِذَلِكَ وَيَصِيرُ جَمِيعُ الْأَوْلَادِ أَحْرَارًا يَرِثُونَ إِنْ لَمْ يَحْجُبُوا الْقَابِلَ الْمُوصَى لَهُ ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَلَا تَقْوِيمَ فِي تَرِكَتِهِ وَلَا يَرِثُ هَؤُلَاءِ الْأَوْلَادُ ؛ لِأَنَّ حُرِّيَّتَهُمْ لَمْ تَكْمُلْ وَلَا تَقْوِيمَ عَلَى الْقَابِلِ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ كَانَ عَلَى غَيْرِهِ . وَإِنْ قِيلَ إِنَّهُمْ لَمْ يَدْخُلُوا فِي مِلْكِ الْمُوصَى لَهُ لَمْ يُعْتَقْ شَيْءٌ مِنْ حِصَّةِ الْقَابِلِ مِنَ الْوَرَثَةِ إِذَا كَانَ مِمَّنْ يُجَوِّزُ أَنْ يَتَمَلَّكَ أَوْلَادُ الْمُوصَى لَهُ .
فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ الْمُوصَى لَهُ بِزَوْجَتِهِ مَرِيضًا فَقَبِلَ الْوَصِيَّةَ فِي مَرَضِهِ الْمَخُوفِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي أَوْلَادِهِ مِنْهَا إِذَا أُعْتِقُوا بِقَبُولِهِ ، هَلْ يَرِثُونَهُ إِذَا مَاتَ مِنْ مَرَضِهِ ذَلِكَ ؟ فَالَّذِي عَلَيْهِ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مِنْهُمْ : أَنَّهُمْ لَا يَرِثُونَ ؛ لِأَنَّ عِتْقَهُمْ فِي مَرَضِهِ بِقَبُولِهِ وَصِيَّةٌ لَهُمْ ، وَلَوْ وَرِثُوا مُنِعُوا الْوَصِيَّةَ ، وَإِذَا مُنِعُوهَا عَادُوا رَقِيقًا لَا يَرِثُونَ ؛ فَلِذَلِكَ عُتِقُوا وَلَمْ يَرِثُوا ، كَمَا لَوِ اشْتَرَاهُمْ فِي مَرَضِهِ . وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ : يَرِثُونَ ، بِخِلَافِ مَنِ اشْتَرَاهُ مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّ مَنِ اشْتَرَاهُ قَدْ خَرَجَ ثَمَنُهُ مِنْ مَالِهِ ، فَصَارَ إِخْرَاجُ الثَّمَنِ وَصِيَّةً مِنْ ثُلُثِهِ ؛ فَلِذَلِكَ لَمْ يَرِثُوا وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا قَبِلَ الْوَصِيَّةَ بِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُخْرِجْ أَثْمَانَهُمْ مِنْ مَالِهِ فَيَصِيرُوا مِنْ ثُلُثِهِ ؛ فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ قَبُولُهُمْ وَصِيَّةً ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ وَصِيَّةً لَمْ يُمْنَعُوا الْمِيرَاثَ . وَلَوْ كَانَ قَالَهُ عِنْدَ الْوَصِيَّةِ مَرِيضًا ، فَلَمْ يَقْبَلْهَا حَتَّى مَاتَ ، ثُمَّ قَبِلَهَا وَرَثَتُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ : كَانَ مِيرَاثُ الْأَوْلَادِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ؛ لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ لَهُ فِي حَالٍ لَوْ قَبِلَهَا كَانَ مِيرَاثُ الْأَوْلَادِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، فَكَذَلِكَ إِذَا قَبِلَهَا وَرَثَتُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ . وَلَوْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ لَهُ فِي صِحَّتِهِ فَلَمْ يَقْبَلْهَا حَتَّى مَاتَ لَمْ يَسْقُطْ مِيرَاثُ هَؤُلَاءِ الْأَوْلَادِ بِقَبُولِ وَرَثَتِهِ .
فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ : فَإِنَّهُ نَصَّ مَا اخْتَارَهُ مِنْ أَنَّ الْقَبُولَ يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ الْمِلْكِ بِالْمَوْتِ وَهُوَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَوْ أَوْصَى بِجَارِيَةٍ وَمَاتَ ، ثُمَّ وَهَبَ لِلْجَارِيَةِ مِائَةَ دِينَارٍ وَهِيَ تُسَاوِي مِائَةَ دِينَارٍ ، وَهِيَ ثُلُثُ مَالِ الْمَيِّتِ وَوَلَدَتْ ثُمَّ قَبِلَ الْوَصِيَّةَ فَالْجَارِيَةُ لَهُ وَلَا يَجُوزُ فِيمَا وَهَبَ لَهَا وَوَلَدَهَا إِلَّا وَاحِدٌ مِنْ قَوْلَيْنِ : الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ وَلَدُهَا وَمَا وَهَبَ لَهَا مِنْ مِلْكِ الْمُوصَى لَهُ وَإِنْ رَدَّهَا فَإِنَّمَا أَخْرَجَهَا مِنْ مِلْكِهِ إِلَى الْمَيِّتِ وَلَهُ وَلَدُهَا وَمَا وَهَبَ لَهَا ؛ لِأَنَّهُ حَدَثَ فِي مِلْكِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَمْلِكُهُ حَادِثًا بِقَبُولِ الْوَصِيَّةِ وَهَذَا قَوْلٌ مُنْكَرٌ لَا نَقُولُ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْقَبُولَ إِنَّمَا هُوَ عَلَى مِلْكٍ مُتَقَدِّمٍ وَلَيْسَ بِمِلْكٍ حَادِثٍ . وَقَدْ قِيلَ تَكُونُ لَهُ الْجَارِيَةُ وَثُلُثُ وَلَدِهَا وَثُلُثُ مَا وُهِبَ لَهَا . قَالَ الْمُزَنِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : هَذَا قَوْلُ بَعْضِ الْكُوفِيِّينَ . قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَكُونُ لَهُ الْجَارِيَةُ وَثُلُثُ وَلَدِهَا . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : يَكُونُ لَهُ ثُلُثَا الْجَارِيَةِ وَثُلُثَا وَلَدِهَا . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) وَأَحَبُّ إِلَيَّ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهَا وَوَلَدَهَا عَلَى قَبُولِ مِلْكٍ مُتَقَدِّمٍ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) وَقَدْ قَطَعَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي إِذِ الْمِلْكُ مُتَقَدِّمٌ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَقَامَ الْوَارِثُ فِي الْقَبُولِ مَقَامَ أَبِيهِ ، فَالْجَارِيَةُ لَهُ بِمِلْكٍ مُتَقَدِّمٍ وَوَلُدُهَا وَمَا وُهِبَ لَهَا مِلْكٌ حَادِثٌ بِسَبَبٍ مُتَقَدِّمٍ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : وَيَنْبَغِي فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَنْ تَكُونَ امْرَأَتُهُ أُمَّ وَلَدٍ وَكَيْفَ يَكُونُ أَوْلَادُهَا بِقَبُولِ الْوَارِثِ أَحْرَارًا عَلَى أَبِيهِمْ وَلَا تَكُونُ أُمُّهُمْ أُمَّ وَلَدٍ لِأَبِيهِمْ ؟ وَهُوَ يُجِيزُ أَنْ يَمْلِكَ الْأَخُ أَخَاهُ ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لَوْ كَانَ مِلْكًا حَادِثًا لِوَلَدِ الْمَيِّتِ لَكَانُوا لَهُ مَمَالِيكَ ، وَقَدْ قَطَعَ بِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي قُلْتُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ فَتَفَهَّمْهُ كَذَلِكَ نَجِدُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا وُهِبَ لِلْجَارِيَةِ الْمُوصَى بِهَا مَالٌ وَوَلَدَتْ أَوْلَادًا مِنْ رِقٍّ لَمْ يَخْلُ حَالُ أَوْلَادِهَا وَمَا وُهِبَ لَهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي ، فَهُوَ مِلْكُهُ صَائِرٌ إِلَى وَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَمَحْسُوبٌ فِي ثُلُثَيِ التَّرِكَةِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ حَادِثًا بَعْدَ قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ . فَذَلِكَ مِلْكٌ لَهُ ، لِحُدُوثِهِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ مِلْكِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ حَادِثًا بَعْدَ الْمَوْتِ وَقَبْلَ الْقَبُولِ ، فَيَكُونُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي الْقَبُولِ ، فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْقَبُولَ هُوَ الْمُمَلِّكُ فَذَلِكَ مِلْكُ الْوَرَثَةِ دُونَ الْمُوصَى لَهُ ، وَهَلْ يُحْتَسَبُ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ ثُلُثَيِ التَّرِكَةِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ فِي الْمُوصَى بِهِ قَبْلَ الْقَبُولِ ، هَلْ يَكُونُ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِ الْمَيِّتِ أَوْ مُتَنَقِّلًا إِلَى وَرَثَتِهِ ؟ فَإِنْ جَعَلْنَاهُ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِ الْمَيِّتِ كَانَ مَا حَدَثَ مِنَ الْهِبَةِ وَالْأَوْلَادِ مَحْسُوبًا عَلَى الْوَرَثَةِ ،