كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي
فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُهُمَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ . فَصُورَتُهُ : أَنْ يَشْهَدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَذَفَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قَذَفَهَا بِالْفَارِسِيَّةِ ، فَهَذَا اخْتِلَافٌ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ مِنَ الْقَذْفِ ، وَلِأَنَّ قَذْفَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ غَيْرُ قَذْفِهَا بِالْفَارِسِيَّةِ ، وَلَمْ يَشْهَدْ بِأَحَدِهِمَا شَاهِدَانِ ، فَلَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ وَاحِدٌ مِنَ الْقَذْفَيْنِ ، وَهَكَذَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَذَفَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قَذَفَهَا يَوْمَ السَّبْتِ ، أَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَذَفَهَا بِزَيْدٍ ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قَذَفَهَا بِعَمْرٍو ، أَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَذَفَهَا ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِقَذْفِهَا ، أَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَالَ لَهَا : زَنَيْتِ ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قَالَ لَهَا : يَا زَانِيَةُ ، فَهَذَا كُلُّهُ شَهَادَةٌ بِقَذْفَيْنِ لَمْ يَجْتَمِعَا عَلَى أَحَدِهِمَا فَلَمْ يَجِبْ بِشَهَادَتِهِمَا حَدٌّ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : أَجْمَعُ بَيْنَ شَهَادَتِهِمَا عَلَى قَذْفِهِ وَأُوجِبُ عَلَيْهِ الْحَدَّ ، وَحَكَى مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ ، عَنْ أَبِي يُوسُفَ ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ : أَضُمُّ الشَّهَادَةَ إِلَى الشَّهَادَةِ فِي الْعُقُودِ وَالْأَقْوَالِ ، وَلَا أَضُمُّ الشَّهَادَةَ فِي الْأَفْعَالِ إِذَا شَهِدَ عَلَيْهِ بِبَيْعِ دَارِهِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ ، وَشَهِدَ الْآخَرُ عَلَيْهِ بِبَيْعِهَا فِي يَوْمِ السَّبْتِ ، حُكِمَ عَلَيْهِ بِالْبَيْعِ ، وَإِذَا شَهِدَ عَلَيْهِ أَحَدُهُمَا بِقَذْفِهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَشَهِدَ الْآخَرُ عَلَيْهِ بِقَذْفِهَا فِي يَوْمِ السَّبْتِ ، حُكِمَ عَلَيْهِ بِالْقَذْفِ ، وَلَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ أَحَدُهُمَا بِالْقَتْلِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ ، وَشَهِدَ الْآخَرُ عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ فِي يَوْمِ السَّبْتِ لَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ . وَلَا يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ تُضَمَّ الشَّهَادَةُ إِلَى الشَّهَادَةِ فِي الْعُقُودِ وَالْأَقْوَالِ ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ تُضَمَّ فِي الْأَفْعَالِ ، لِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا مَفْقُودٌ ، وَلِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ فِي الْجَمِيعِ مُخْتَلِفٌ . فَصْلٌ : وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُهُمَا فِي الْإِخْبَارِ عَنْهُ ، فَصُورَتُهُ أَنْ يَشْهَدَ أَحَدُهُمَا عَلَى إِقْرَارِهِ بِالْعَرَبِيَّةِ أَنَّهُ قَذَفَهَا ، وَيَشْهَدُ الْآخَرُ عَلَى إِقْرَارِهِ بِالْفَارِسِيَّةِ أَنَّهُ قَذَفَهَا فَهَذَا قَذْفٌ وَاحِدٌ ، قَدِ اخْتُلِفَ فِي الْإِخْبَارِ عَنْهُ فَكَمُلَتْ بِهِ الشَّهَادَةُ وَوَجَبَ بِهِ الْحَدُّ ، وَهَكَذَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى إِقْرَارِهِ بِقَذْفِهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَشَهِدَ الْآخَرُ عَلَى إِقْرَارِهِ فِي يَوْمِ السَّبْتِ بِقَذْفِهَا ؛ لِأَنَّهُ فِي كِلَا الْيَوْمَيْنِ مُقِرٌّ بِقَذْفٍ وَاحِدٍ ، فَكَمُلَتْ فِيهِ الشَّهَادَةُ ، وَيَجِبُ فِيهِ الْحَدُّ ، وَلَكِنْ لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى إِقْرَارِهِ فِي يَوْمِ السَّبْتِ أَنَّهُ قَذَفَهَا فِيهِ ، وَشَهِدَ الْآخَرُ عَلَى إِقْرَارِهِ فِي يَوْمِ الْأَحَدِ أَنَّهُ قَذَفَهَا فِيهِ فَهُمَا قَذْفَانِ لَمْ تَكْتَمِلِ الشَّهَادَةُ فِي أَحَدِهِمَا فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَيُقْبَلُ كِتَابُ الْقَاضِي بِقَذْفِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ كَمَا قَالَ ، يُقْبَلُ فِي الْقَذْفِ وَالْقِصَاصِ كِتَابُ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي ، وَتَجُوزُ فِيهِمَا الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ في القذف ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الَّتِي يَجِبُ النَّظَرُ وَالِاسْتِظْهَارُ لِحِفْظِهَا ، وَفِي جَوَازِهَا فِي حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ فِيهِمَا كِتَابُ قَاضٍ إِلَى قَاضٍ وَالشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ ، قِيَاسًا عَلَى حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا تَجُوزُ فِيهِ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ ، وَلَا يُقْبَلُ فِيهَا كِتَابُ قَاضٍ إِلَى قَاضٍ ، لِأَنَّ حُدُودَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ ، ثُمَّ لِفَرْقٍ ثَانٍ بَيْنَهُمَا ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ أَتَى مَا يُوجِبُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ حَدًّا فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتُرَهُ ، وَمَنْ لَزِمَهُ حَقُّ الْآدَمِيِّينَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُظْهِرَهُ ، فَلِذَلِكَ وَجَبَ الِاسْتِظْهَارُ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ دُونَ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَتُقْبَلُ الْوَكَالَةُ فِي تَثْبِيتِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْحُدُودِ ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ الْحَدَّ أَوْ يَأْخُذَ اللِّعَانَ أُحْضِرَ الْمَأْخُوذُ لَهُ الْحَدَّ وَاللِّعَانَ ، وَأَمَّا حُدُودُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَتُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْوَكَالَةُ فِي تَثْبِيتِ الْحَدِّ وَالْقَصَاصِ ، فَجَائِزَةٌ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَا صَحَّ أَنْ يُبَاشِرَ تَثْبِيتَهُ ، صَحَّ أَنْ يُوَكِّلَ فِيهِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ رُبَّمَا عَجَزَ مُسْتَحِقُّهَا عَنْ تَثْبِيتِ الْحُجَّةِ فِيهَا وَتَجَوَّزَ عَنْهَا ، فَجَازَ التَّوْكِيلُ فِي الْحَالَيْنِ كَمَا يَجُوزُ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ ، فَإِذَا صَحَّتِ الْوَكَالَةُ فِي تَثْبِيتِ الْحَدِّ وَالْقَصَاصِ لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُمَا مَا لَمْ يُوَكَّلْ فِي الِاسْتِيفَاءِ ، لِأَنَّ فِعْلَ الْوَكِيلِ مَقْصُورٌ عَلَى مَا أُذِنَ لَهُ فِيهِ فَلَمْ يَتَجَاوَزْ بِالتَّثْبِيتِ الِاسْتِيفَاءَ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ ، فَإِنْ وَكَّلَهُ فِي الِاسْتِيفَاءِ فَظَاهِرُ مَا قَالَهُ هَاهُنَا وَفِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ، وَظَاهِرُ مَا قَالَهُ فِي الْجِنَايَاتِ جَوَازُهُ . فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِي اسْتِيفَاءِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ إِلَّا بِمَشْهَدٍ مِنَ الْوَكِيلِ ، فَإِنْ غَابَ لَمْ يَجُزْ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الدِّمَاءَ وَالْأَعْرَاضَ لَا تُسْتَبَاحُ إِلَّا بِيَقِينٍ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعْفُوَ الْمُوَكِّلُ إِذَا غَابَ وَلَا يَعْلَمُ الْوَكِيلُ .
وَالثَّانِي : أَنَّ مُسْتَحِقَّ ذَلِكَ مَنْدُوبٌ إِلَى الْعَفْوِ ، وَقَدْ يُرْجَى بِحُضُورِهِ أَنْ يَرِقَّ قَلْبُهُ فَيَعْفُوَ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَغِيبَ عَنْهُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِي اسْتِيفَائِهِ مَعَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ فِي جَوَازِ التَّوْكِيلِ ، فَهَذَا أَحَدُ وَجْهَيْ أَصْحَابِنَا وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِهِمْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ ، إِنَّمَا هُوَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ ، فَالْمَوْضِعُ الَّذِي جَوَّزَهُ فِيهِ إِذَا اسْتَأْنَفَ التَّوْكِيلَ فِي اسْتِيفَائِهِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ . وَالْمَوْضِعُ الَّذِي مَنَعَ مِنْ جَوَازِهِ فِيهِ إِذَا جَمَعَ فِي التَّوْكِيلِ بَيْنَ تَثْبِيتِهِ وَاسْتِيفَائِهِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا ظُهُورُ الْقُدْرَةِ لِيَعْفُوَ عَنْ قَدْرِهِ ، فَلَمْ يَجُزِ الِاسْتِيفَاءُ إِلَّا بِحُضُورِهِ ، وَإِذَا وَكَّلَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ فَقَدْ عُرِفَتْ قُدْرَتُهُ وَلَيْسَ مِنْ عَفْوِهِ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ قَصْدٌ غَيْرُ الِاسْتِيفَاءِ فَصَحَّ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ وَكَيْلُهُ ، وَقَدْ لَوَّحَ بِهَذَا الْفَرْقِ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ ، فَأَمَّا اللِّعَانُ فَلَا يَصِحُّ فِيهِ التَّوْكِيلُ وَالِاسْتِنَابَةُ ؛ لِأَنَّهُ يَمِينٌ أَوْ شَهَادَةٌ ، وَالنِّيَابَةُ لَا تَصِحُّ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَأَمَّا حَدُّ الزِّنَا فَيَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِي تَثْبِيتِهِ وَاسْتِيفَائِهِ ؛ لِأَنَّ عَفْوَهُ عَنْهُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ لَا يَصِحُّ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا أُنَيْسُ ، اغْدُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .
بَابُ الْوَقْتِ فِي نَفْيِ الْوَلَدِ وَمَنْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ وَنَفْيِ وَلَدِ الْأَمَةِ مِنْ كِتَابَيْ لِعَانٍ قَدِيمٍ وَجَدِيدٍ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَإِذَا عَلِمَ الزَّوْجُ بِالْوَلَدِ فَأَمْكَنَهُ الْحَاكِمُ أَوْ مَنْ يَلْقَاهُ لَهُ إِمْكَانًا بَيِّنًا فَتَرَكَ اللِّعَانَ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ كَمَا يَكُونُ بَيْعُ الشِّقْصِ فِيهِ الشُّفْعَةُ ، وَإِنْ تَرَكَ الشَّفِيعُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ لَمْ تَكُنِ الشُّفْعَةُ لَهُ ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يَعْلَمَ بِالْوَلَدِ فَيَكُونُ لَهُ نَفْيُهُ حَتَى يُقِرَّ بِهِ جَازَ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ شَيْخًا وَهُوَ مُخْتَلِفٌ مَعَهُ اخْتِلَافَ الْوَلَدِ ، وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ : يَكُونَ لَهُ نَفْيُهُ ثَلَاثًا وَإِنْ كَانَ حَاضِرًا كَانَ مَذْهَبًا ، وَقَدْ مَنَعَ اللَّهُ مَنْ قَضَى بِعَذَابِهِ ثَلَاثًا ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لِلْمُهَاجِرِ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ فِي مُقَامِ ثَلَاثٍ بِمَكَةَ وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ : إِنْ لَمْ يَشْهَدْ مَنْ حَضَرَهُ بِذَلِكَ فِي يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَفْيُهُ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : لَوْ جَازَ فِي يَوْمَيْنِ جَازَ فِي ثَلَاثَةٍ وَأَرْبَعَةٍ فِي مَعْنَى ثَلَاثَةٍ ، وَقَدْ قَالَ لِمَنْ جَعَلَ لَهُ نَفْيَهُ فِي تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَأَبَاهُ فِي أَرْبَعِينَ : مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الصُّمَّتَيْنِ ؟ فَقَوْلُهُ فِي أَوَّلِ الثَّانِيَةِ أَشْبَهُ عِنْدِي بِمَعْنَاهُ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْمُدَّةِ الَّتِي يَجُوزُ نَفْيُ الْوَلَدِ فِيهَا ، وَحُكِيَ عَنْ شُرَيْحٍ وَالشَّعْبِيِّ أَنَّهُمَا جَوَّزَا لَهُ نَفْيَهُ مَا لَمْ يُقِرَّ بِهِ وَإِنْ صَارَ شَيْخًا فَجَعَلَ الْإِقْرَارَ بِهِ شَرْطًا فِي لُحُوقِ نَسَبِهِ . وَفِي هَذَا إِبْطَالٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ لِأَنَّهُمَا يَجْعَلَانِ الْوَلَدَ لِلْإِقْرَارِ دُونَ الْفِرَاشِ . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ بِنَفْيِهِ إِلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَهِيَ مُدَّةُ أَقَلِّ الْحَمْلِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِنَفْيِهِ إِلَى أَرْبَعِينَ يَوْمًا هِيَ أَكْثَرُ مُدَّةِ النِّفَاسِ عِنْدَهُ وَفِيهِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَهُ نَفْيُهُ إِلَى مُدَّةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بَعْدَ عِلْمِهِ ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّهُ لَا يَسْتَغْنِي عَنِ الِارْتِيَاءِ وَالتَّفْكِيرِ ، وَلِقَاءِ حَاكِمٍ وَفَقِيهٍ حَتَّى لَا يَسْتَلْحِقَ وَلَدًا لَيْسَ مِنْهُ ، وَلَا يَنْفِيَ وَلَدًا هُوَ مِنْهُ ، فَأُجِّلَ قَلِيلَ الزَّمَانِ الْمُعْتَبَرِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْخِيَارِ ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ نَفْيَهُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ مُعْتَبَرٌ بِالْإِمْكَانِ عَلَى الْفَوْرِ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ ، لِأَنَّ كُلَّ مَا لَزِمَ بِالسُّكُوتِ ، فَمُدَّةُ لُزُومِهِ مُعْتَبَرَةٌ بِالْإِمْكَانِ بَعْدَ عِلْمِهِ كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ خِيَارٍ تَعَلَّقَ بِالنِّكَاحِ كَانَ مُعْتَبَرًا بِالْفَوْرِ كَالْخِيَارِ بِالْعُيُوبِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَأَيُّ مُدَّةٍ ؟ قُلْتُ لَهُ : نَفْيُهُ فِيهَا فَأَشْهَدَ عَلَى نَفْيِهِ وَهُوَ مَشْغُولٌ بِمَا يَخَافُ فَوْتَهُ أَوْ بِمَرَضٍ لَمْ يَنْقَطِعْ نَفْيُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ : إِذَا قِيلَ : إِنَّ نَفْيَهُ عَلَى الْفَوْرِ نفي الولد ، أَوْ قِيلَ : إِنَّهُ مُؤَجَّلٌ فِي نَفْيِهِ ثَلَاثًا فَمَضَتْ صَارَ الْخِيَارُ عِنْدَ انْقِضَائِهَا عَلَى الْفَوْرِ ، وَالْحُكْمُ فِي الْحَالَيْنِ حِينَئِذٍ وَاحِدٌ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْفَوْرُ فِي نَفْيِهِ مُعْتَبَرٌ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ . الشَّرْطُ الْأَوَّلُ : الْعِلْمُ بِوِلَادَتِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ حَتَّى تَطَاوَلَ بِهِ الزَّمَانُ كَانَ عَلَى نَفْيِهِ ، فَإِنْ نُوزِعَ فِي الْعِلْمِ ، لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ غَائِبًا أَوْ حَاضِرًا ، فَإِنْ كَانَ غَائِبًا قُبِلَ قَوْلُهُ : إِنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ ، وَإِنْ كَانَ حَاضِرًا لَمْ يَخْلُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهَا فِي دَارٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي دَارَيْنِ ، فَإِنْ كَانَا فِي دَارٍ صَغِيرَةٍ لَا يَخْفَى وِلَادَتُهَا عَلَى مَنْ فِيهَا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ : إِنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ ، وَإِنْ كَانَ فِي دَارٍ تَلَتْهَا نُظِرَ ، فَإِنْ شَاعَ خَبَرُ وِلَادَتِهَا فِي الْجِيرَانِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ : إِنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ لِاسْتِحَالَتِهِ ، وَإِنْ لَمْ يُشَعِ الْخَبَرُ فِي جِيرَانِهِ قُبِلَ قَوْلُهُ فِي عَدَمِ الْعِلْمِ لِإِمْكَانِهِ . وَالشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ عُذْرٌ قَاطِعٌ عَنْ نَفْيِهِ ، وَالْأَعْذَارُ الْقَاطِعَةُ : أَنْ يَكُونَ مَحْبُوسًا ، أَوْ مَرِيضًا ، أَوْ مُقِيمًا عَلَى مَرِيضٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَرْكِهِ ، أَوْ مُقِيمًا عَلَى حِفْظِ مَالٍ يَخَافُ مِنْ تَلَفِهِ ، أَوْ مُسْتَتِرًا مِنْ ذِي سَطْوَةٍ يَخَافُ ظُلْمَهُ أَوْ طَالِبًا لِضَالَّةٍ يَخَافُ مَوْتَهَا أَوْ مُقِيمًا عَلَى إِطْفَاءِ حَرِيقٍ ، أَوِ اسْتِنْقَاذِ غَرِيقٍ ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْذَارِ الَّتِي يَجُوزُ مَعَهَا تَرْكُ الْجُمُعَةِ . فَلَا يَلْزَمُهُ الْحُضُورُ مَعَهَا ، ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ قَدَرَ مَعَهَا عَلَى مُرَاسَلَةِ الْحَاكِمِ بِحَالِهِ فَعَلَ ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْإِشْهَادِ عَلَى نَفْسِهِ فَعَلَ ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِمَا أَوْ عَلَى أَحَدِهِمَا فَلَمْ يَفْعَلْ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْهُمَا لَزِمَهُ الْوَلَدُ ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يَلْزَمْهُ ، وَكَانَ لَهُ نَفْيُهُ . وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ : الْإِمْكَانُ مِنْ غَيْرِ إِرْهَاقٍ يَخْرُجُ عَنِ الْعُرْفِ ، فَإِنْ كَانَ لَيْلًا فَحَتَّى يُصْبِحَ . وَإِنْ كَانَ فِي وَقْتِ صَلَاةٍ فَحَتَّى يُصَلِّيَ ، وَإِنَّ حَضَرَ طَعَامٌ فَحَتَّى يَأْكُلَ ، وَإِنْ كَانَ يَلْبَسُ ثِيَابًا بِذْلَةً لَا يَلْقَى الْحَاكِمَ بِهَا فَحَتَّى يَلْبَسَ ثِيَابَ مِثْلِهِ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَرْكَبُ فَحَتَّى يُسْرِجَ مَرْكُوبَهُ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ بَارِزٌ فَحَتَّى يُحْرِزَ مَالَهُ ، فَهَذَا كُلُّهُ وَمَا شَاكَلَهُ مُعْتَبَرٌ فِي
مُكْنَتِهِ ، وَلَا يَمْتَنِعُ مِنْ نَفْيِهِ ، فَإِذَا تَكَامَلَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ فَقَدْ تَعَيَّنَ الْفَوْرُ وَلَزِمَ تَعْجِيلُ النَّفْيِ ، فَإِنْ لَمْ يُبَادِرْ إِلَيْهِ لَزِمَهُ الْوَلَدُ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نَفْيُهُ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ كَانَ غَائِبًا فَبَلَغَهُ فَأَقَامَ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ نَفْيُهُ إِلَّا بِأَنْ يُشْهِدَ عَلَى نَفْيِهِ ثُمَّ يَقْدُمَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا عَرَفَ وِلَادَتَهُ وَكَانَ غَائِبًا الوقت في نفي الولد فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الْمَسِيرِ ، فَيُؤْخَذُ بِهِ إِنْ أَرَادَ نَفْيًا مُتَأَنِّيًا مِنْ غَيْرِ إِرْهَاقٍ لِتَلَمُّسِ صُحْبَةٍ ، أَوْ يُعِدُّ مَرْكَبًا كَمَا لَمْ يَرْهَقْ فِي الْحَضَرِ بِالْخُرُوجِ عَنِ الْعُرْفِ ، فَإِنْ لَمْ يَأْخُذْ فِي الْمَسِيرِ عِنْدَ إِمْكَانِهِ لَزِمَهُ الْوَلَدُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى الْمَسِيرِ إِمَّا بِشُغْلٍ لَهُ أَوْ بِعُذْرٍ فِي الطَّرِيقِ أَوْ لِعَدَمِ صُحْبَةٍ ، لَمْ يَلْزَمِ الْمَسِيرُ وَلَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُ بِالتَّوَقُّفِ . ثُمَّ نُظِرَ فَإِنْ قَدَرَ عَلَى إِيفَادِ رَسُولٍ فَعَلَ لِيَكُونَ مُخَيَّرًا بِإِنْكَارِ الْوَلَدِ وَلَا يُفُوتَهُ حَقُّهُ فِي نَفْيِهِ ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْإِشْهَادِ وَفَعَلَ ، [ فَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِمَا فَلَمْ يَفْعَلْهُمَا ، أَوْ فَعَلَ أَحَدَهُمَا لَزِمَهُ الْوَلَدُ ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِمَا أَوْ قَدَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا فَفَعَلَ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْهُمَا ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْوَلَدُ وَكَانَ فِي حَقِّهِ مِنْ نَفْيِهِ مَا كَانَ عَلَى حَالِهِ إِلَّا أَنْ يَقْدِرَ عَلَى مَا يَفْعَلُهُ مِنْ مَسِيرٍ أَوْ رَسُولٍ أَوْ شَهَادَةٍ ، فَيُؤْخَذُ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ لِيَكُونَ حَقُّهُ فِي نَفْيِهِ بَاقِيًا ] .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ قَالَ : لَمْ أُصَدِّقْ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا أَنْ يُخْبَرَ بِوِلَادَتِهِ ، فَيُمْسِكُ عَنْ نَفْيِهِ ، وَيَقُولُ : لَمْ أُصَدِّقِ الْمُخْبِرَ فِي خَبَرِهِ ، فَيُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ الْخَبَرُ عَنْ طَرِيقِ الْآحَادِ كَالْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ قُبِلَ قَوْلُهُ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُخْبِرُ عَدْلًا أَوْ فَاسِقًا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُسْتَرَابُ بِالْعَدْلِ ، وَيُسْتَوْثَقُ بِالْفَاسِقِ ، وَإِنْ كَانَ الْخَبَرُ مُتَوَاتِرًا مُسْتَفِيضًا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي تَكْذِيبِ الْخَبَرِ لِوُقُوعِ الْعِلْمِ بِهِ ، وَإِذَا قَبِلْنَا قَوْلَهُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ مَعَ يَمِينِهِ ، فَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ فَفِي الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ فِي إِبْطَالِ دَعْوَاهُ وَيَلْحَقُهُ الْوَلَدُ بِالْفِرَاشِ دُونَ النُّكُولِ الزوج إذا نكل عن اليمين بأن ولد زوجته ليس ولده ، وَلَا تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْأُمِّ وَلَا عَلَى الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُرَاعَى فِيهِ تَصْدِيقُهَا ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ تَكْذِيبُهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْيَمِينَ تُرَدُّ عَلَى الْأُمِّ ، فَإِنْ حَلَفَتْ لَزِمَهُ الْوَلَدُ ، وَإِنْ نَكَلَتْ وَقَفَتْ عَلَى بُلُوغِ الْوَلَدِ ، فَإِنْ حَلَفَ ثَبَتَ نَسَبُهُ ، وَإِنْ نَكَلَ انْتَفَى عَنْهُ ؛ لِأَنَّ لُحُوقَ النَّسَبِ لِلْوَلَدِ ، وَفِيهِ مِنْ حُقُوقِ الْأُمِّ نَفْيُ الْمَعَرَّةِ عَنْهَا فَوَجَبَ رَدُّ الْيَمِينِ عَلَيْهَا ، فَعَلَى هَذَا إِنْ وَقَفَتْ عَلَى
بُلُوغِ الْوَلَدِ لَمْ يُؤْخَذِ الزَّوْجُ بِنَفَقَتِهِ ، لِأَنَّ نَسَبَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ غَيْرُ لَاحِقٍ إِلَّا بِيَمِينِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ كَانَ حَاضِرًا فَقَالَ : لَمْ أَعْلَمْ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ إِنْكَارَ الْعِلْمِ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَقُولَ : لَمْ أَعْلَمْ بِوِلَادَتِهِ ، مَعَ كَوْنِهِ حَاضِرًا فِي الْبَلَدِ ، فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ إِنْ كَانَ مَعَهَا فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ وَالدَّارُ صَغِيرَةٌ لَا يَخْفَى طَلْقُهَا وَوِلَادَتُهَا عَلَى مَنْ فِيهَا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ نفي النسب من جانب الرجال ، وَإِنْ كَانَ فِي دَارٍ أُخْرَى وَقَدْ شَاعَ الْخَبَرُ فِي الْجِيرَانِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ ، وَإِنْ لَمْ يُشَعِ الْخَبَرُ قُبِلَ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَعْتَرِفَ بِوِلَادَتِهَا ، وَيَقُولَ : لَمْ أَعْلَمْ أَنَّ لِي نَفْيَهُ أَوْ يَقُولَ : عَلِمْتُ ذَاكَ وَلَمْ أَعْلَمْ أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِثْلُ ذَلِكَ لِمُخَالَطَةِ الْفُقَهَاءِ ، وَإِشْرَافِهِ عَلَى الْأَحْكَامِ ، فَقَوْلُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ ؛ لِأَنَّهُ يُخَالِفُ ظَاهِرَ حَالِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَخْفَى عَلَيْهِ مِثْلُ ذَلِكَ وَيَجْهَلُهُ ، لِقُرْبِ إِسْلَامِهِ أَوْ مَجِيئِهِ مِنْ بَادِيَةٍ نَائِيَةٍ ، فَقَوْلُهُ مَقْبُولٌ ؛ لِأَنَّهُ يُوَافِقُ ظَاهِرَ حَالِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ أَمْرُهُ فِيهِ مُحْتَمَلًا ؛ لِأَنَّهُ مُتَقَدِّمُ الْإِسْلَامِ فِي حَضَرٍ لَكِنَّهُ مِمَّنْ يَخْفَى عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْأَسْوَاقِ وَأَرْبَابِ الصَّنَائِعِ الَّذِينَ لَا يُخَالِطُونَ الْفُقَهَاءَ ، وَلَا يَعْرِفُونَ الْأَحْكَامَ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُقْبَلُ قَوْلُهُ ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْعِلْمِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ ثُبُوتُ النَّسَبِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ رَآهَا حُبْلَى فَلَمَّا وَلَدَتْ نَفَاهُ ، فَإِنْ قَالَ : لَمْ أَدْرِ لَعَلَّهُ لَيْسَ بِحَمْلٍ لَاعَنَ ، وَإِنْ قَالَ : قُلْتُ : لَعَلَّهُ يَمُوتُ فَأَسْتُرَ عَلَيَّ وَعَلَيْهَا لَزِمَهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نَفْيُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّهُ إِذَا ظَنَّ رِيحًا أَوْ غِلَظًا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ اعْتِرَافٌ بِمَا يَقْتَضِي لُحُوقَ النَّسَبِ سَوَاءٌ جُعِلَ لِلْحَمْلِ حُكْمٌ أَوْ لَمْ يُجْعَلْ ، وَإِنْ تَحَقَّقَهُ حَمْلًا صَحِيحًا وَرَجَا مَوْتَهُ أَوْ مَوْتَ الْأُمِّ فَسَتَرَ عَلَيْهَا وَعَلَى نَفْسِهِ ، فَقَدْ صَارَ مُعْتَرِفًا بِهِ مُمْتَنِعًا مِنْ نَفْيِهِ فَلَزِمَهُ الْوَلَدُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نَفْيُهُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْحَامِلُ مَبْتُوتَةً ، فَفِي جَوَازِ نَفْيِهِ بَعْدَ وِلَادَتِهِ وَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي نَفْيِ حَمْلِ الْمَبْتُوتَةِ . فَإِنْ قِيلَ : يَلْتَعِنُ لِنَفْيِهِ قَبْلَ الْوِلَادَةِ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ وَلَزِمَهُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ ، وَإِنْ قِيلَ : لَا يَلْتَعِنُ مِنْ حَمْلِ الْمَبْتُوتَةِ إِلَّا بَعْدَ وِلَادَتِهَا جَازَ لَهُ نَفْيُهُ بَعْدَ وِلَادَتِهَا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ هُنِّئَ بِهِ فَرَدَّ خَيْرًا وَلَمْ يُقِرَّ بِهِ إذا هنئ بولده . . فهل يعد ذلك إقرارا بنسبته إليه ؟ لَمْ يَكُنْ هَذَا إِقْرَارًا ؛ لِأَنَّهُ يُكَافِئُ الدُّعَاءَ بِالدُّعَاءِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَالتَّهْنِئَةُ بِهِ أَنْ يُقَالَ لَهُ : جَعَلَهُ اللَّهُ لَكَ خَلَفًا صَالَحَا وَأَرَاكَ فِيهِ السُّرُورَ ، فَإِذَا أَجَابَ عَنْ هَذِهِ التَّهْنِئَةِ لَمْ يَخْلُ جَوَابُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَدُلَّ عَلَى إِقْرَارِهِ ، كَقَوْلِهِ : أَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَكَ وَرَزَقَكَ اللَّهُ مِثْلَهُ ، أَوْ يَقْتَصِرُ عَلَى قَوْلِ : آمِينَ ، فَيَكُونُ بِهَذَا الْجَوَابِ وَأَمْثَالِهِ مُقِرًّا بِهِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الرِّضَا وَالِاعْتِرَافِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَدُلَّ عَلَى إِنْكَارِهِ كَقَوْلِهِ : أَعُوذُ بِاللَّهِ ، أَوْ يَكْفِي اللَّهُ ، فَيَكُونُ بِهَذَا الْجَوَابِ وَأَمْثَالِهِ مُنْكِرًا لَهُ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ دُعَاءً لَا يَتَضَمَّنُ اعْتِرَافًا وَلَا إِنْكَارًا ، كَقَوْلِهِ : أَحْسَنَ اللَّهُ جَزَاكَ وَبَارَكَ اللَّهُ فِيكَ ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ : لَا يَكُونُ ذَلِكَ إِقْرَارًا وَلَهُ نَفْيُهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْإِجَابَةُ بِالدُّعَاءِ رِضًا ، وَالرِّضَا إِقْرَارٌ بِمَنْعِهِ مِنَ النَّفْيِ ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ ، لِأَنَّ مُقَابَلَةَ الدُّعَاءِ بِالدُّعَاءِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ فِي التَّحِيَّةِ . قَالَ سُبْحَانَهُ : ( وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ) [ النِّسَاءِ : ] . فَصَارَ ظَاهِرُ جَوَابِ التَّحِيَّةِ دُونَ الرِّضَا وَالِاعْتِرَافِ ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَأَمَّا وَلَدُ الْأَمَةِ لمن ينسب فَإِنَّ سَعْدًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، ابْنُ أَخِي عُتْبَةَ قَدْ كَانَ عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ ، وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ : أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلَلْعَاهِرِ الْحَجَرُ فَأَعْلَمَ أَنَّ الْأَمَةَ تَكُونُ فِرَاشًا مَعَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَا تَأْتِينِي وَلِيدَةٌ تَعْتَرِفُ لِسَيِّدِهَا أَنَّهُ أَلَمَّ بِهَا إِلَّا أَلْحَقْتُ بِهِ وَلَدَهَا ، فَأَرْسِلُوهُنَّ بَعْدُ أَوْ أَمْسِكُوهُنَّ وَإِنَمَا أَنْكَرَ عُمَرُ حَمْلَ جَارِيَةٍ لَهُ فَسَأَلَهَا فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِهِ ، وَأَنْكَرَ زَيْدٌ حَمْلَ جَارِيَةٍ لَهُ ، وَهَذَا إِنْ حَمَلَتْ وَكَانَ عَلَى إِحَاطَةٍ مِنْ أَنَّهَا مَنْ تَحْمِلُ مِنْهُ ، فَوَاسَعَ لَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي امْرَأَتِهِ الْحُرَّةِ أَوِ الْأَمَةِ أَنْ يَنْفِيَ وَلَدَهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ الْأَمَةُ لَا تَصِيرُ فِرَاشًا حَتَّى يُعْلَمَ الْوَطْءُ ، فَتَصِيرَ فِرَاشًا بِالْوَطْءِ ، وَالْحُرَّةُ تَصِيرُ فِرَاشًا إِذَا أَمْكَنَ الْوَطْءُ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَيْهِ هُوَ أَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَمْلِكَ مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْكِحَ مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا امْتَنَعَ أَنْ تَصِيرَ الْأَمَةُ بِالْمِلْكِ فِرَاشًا ، وَلَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ تَصِيرَ الْحُرَّةُ بِالْعَقْدِ فِرَاشًا ، فَإِذَا ثَبَتَ
هَذَا وَوَطِئَ الْأَمَةَ صَارَتْ حِينَئِذٍ فِرَاشًا ، فَأَيُّ وَلَدٍ وَضَعَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ وَطْئِهِ لَحِقَ بِهِ مَا لَمْ يَسْتَبْرِئْهَا ، وَلَا يُرَاعَى فِيهِ إِقْرَارُهُ لَهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : الْأَمَةُ لَا تَصِيرُ فِرَاشًا بِالْوَطْءِ ، وَلَا يَلْحَقُ بِهِ وَلَدُهَا حَتَّى يُقِرَّ بِهِ ، فَيَصِيرَ بِإِقْرَارِهِ وَلَدًا ، فَإِنْ وَضَعَتْ بَعْدَهُ وَلَدًا صَارَتْ بِالْأُولَى فِرَاشًا وَلَحِقَ بِهِ الثَّانِي ، وَمَنْ بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ إِقْرَارٍ . اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ وَلَدَ الْأَمَةِ مُخَالِفٌ لِوَلَدِ الْحُرَّةِ فِي الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُقِرَّ بِوَطْئِهَا لَمْ يَلْحَقْهُ وَلَحِقَهُ وَلَدُ الْحُرَّةِ ، وَلَوِ اسْتَبْرَأَهَا لَمْ يَلْحَقْهُ وَلَحِقَهُ وَلَدُ الْحُرَّةِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِقْرَارُ بِهِ مُعْتَبَرًا وَإِنْ لَمْ يُعْتَبَرْ فِي وَلَدِ الْحُرَّةِ لِفِرْقِ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الضَّعْفِ وَالْقُوَّةِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَحِقَ بِهِ وَلَدُ الْأَمَةِ مِنْ غَيْرِ إِقْرَارٍ لَمَا انْتَفَى عَنْهُ إِلَّا بِلِعَانِهِ ، وَفِي نَفْيِهِ عَنْهُ بِغَيْرِ لِعَانٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ إِلَّا بِالْإِقْرَارِ بِهِ ، وَلِأَنَّهَا لَوْ صَارَتْ فِرَاشًا بِالْوَطْءِ كَالْحُرَّةِ لَاعْتُبِرَ فِي رَفْعِهِ الطَّلَاقُ وَالْعِدَّةُ ، وَلَمْ يَرْتَفِعْ بِالِاسْتِبْرَاءِ مَعَ بَقَاءِ الِاسْتِبَاحَةِ ، كَمَا لَا يَرْتَفِعُ بِالِاسْتِبْرَاءِ فِرَاشُ الْحُرَّةِ .
فَصْلٌ : وَدَلِيلُنَا السُّنَّةُ ، وَالْإِجْمَاعُ ، وَالْعِبْرَةُ . فَأَمَّا السُّنَّةُ : فَرَوَى الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ عُرْوَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ : أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَاصٍّ ، وَعَبْدَ بْنَ زَمْعَةَ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ابْنِ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ فَقَالَ سَعْدٌ : إِنَّ أَخِي عُتْبَةَ عَهِدَ إِلَيَّ أَنَّهُ كَانَ أَلَمَّ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، وَأَنْ أَطْلُبَهُ إِنْ دَخَلَتْ مَكَّةَ . فَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ : أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَدِلَّةٍ : أَحَدُهَا : قَوْلُ عَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ أَخِي وَابْنِ وَلِيدَةِ أَبِي وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ فَجَعَلَهَا فِرَاشًا لِأَبِيهِ ، وَجَعَلَ وَلَدَهَا أَخًا لَهُ بِالْفِرَاشِ ، فَإِنَّ إِقْرَارَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ عَلَى هَذَا دَلِيلٌ عَلَى ثُبُوتِهِ وَصِحَّتِهِ . وَالثَّانِي : جَوَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا حَكَمَ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ : " هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ " فَجَعَلَهَا فِرَاشًا وَحَكَمَ بِهِ لِعَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ أَخًا وَجَعَلَ الْفِرَاشَ مُثْبِتًا لِنَسَبِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ لَمَّا صَارَتِ الْحُرَّةُ فِرَاشًا بِهَذَا الْخَبَرِ وَهُوَ فِي الْأَمَةِ دُونَهَا فَلِأَنْ تَصِيرَ بِهِ الْأَمَةُ فِرَاشًا أَوْلَى ، لِأَنَّ نَقْلَ السَّبَبِ مَعَ الْحُكْمِ يَمْنَعُ مِنْ خُرُوجِ الْحُكْمِ عَنْ ذَلِكَ السَّبَبِ إِجْمَاعًا ، إِنَّمَا الْخِلَافُ هَلْ يَكُونُ مَقْصُورًا عَلَيْهِ أَوْ مُتَجَاوِزًا لَهُ ؟ .
اعْتَرَضُوا عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الْخَبَرِ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ حَكَمَ بِهِ لِعَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ عَبْدًا لَا وَلَدًا لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَوْلُهُ لِعَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ : هُوَ لَكَ ، فَهَذِهِ الْإِضَافَةُ تَقْتَضِي الْمِلْكَ دُونَ النَّسَبِ . وَالثَّانِي : مَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ : " هُوَ لَكَ عَبْدٌ " . وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ التَّنَازُعَ كَانَ فِي نَسَبِهِ دُونَ رِقِّهِ ، فَكَانَ الْحُكْمُ مَصْرُوفًا إِلَى مَا تَنَازَعَا فِيهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ عَلَّلَ بِالْفِرَاشِ ، وَالْفِرَاشُ عِلَّةٌ فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ دُونَ الرِّقِّ . وَالثَّالِثُ : أَنَّنَا رُوِّينَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ أَخًا " وَمَا رَوَوْهُ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " هُوَ لَكَ عَبْدٌ " مَحْمُولٌ عَلَى النِّدَاءِ ، كَأَنَّهُ قَالَ : يَا عَبْدُ فَحَذَفَ حَرْفَ النِّدَاءِ إِيجَازًا كَمَا قَالَ تَعَالَى : ( يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا ) [ يُوسُفَ : ] . يَعْنِي يَا يُوسُفُ . وَالِاعْتِرَاضُ الثَّانِي : أَنْ قَالُوا : دَعْوَى النَّسَبِ تَصِحُّ مِنْ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ ، وَدَعْوَى الْمِلْكِ تَصِحُّ مِنْ بَعْضِهِمْ . وَقَدْ كَانَ لِزِمْعَةَ ابْنٌ هُوَ عَبْدٌ الْمُدَّعِي ، وَبِنْتٌ هِيَ سَوْدَةُ زَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ تَدَّعِ ، فَدَلَّ عَلَى قُصُورِ الدَّعْوَى عَلَى الْمِلْكِ دُونَ النَّسَبِ . وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَدْ صَرَّحَ فِي الدَّعْوَى بِالنَّسَبِ دُونَ الْمِلْكِ . فَقَالَ : أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى غَيْرِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ تَفَرُّدَهُ بِالدَّعْوَى مَعَ إِمْسَاكِ سَوْدَةَ مُحْتَمِلٌ لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا لِاسْتِنَابَتِهَا لَهُ لِأَنَّهُ أُلْحِقَ بِحُجَّتِهِ ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ كَانَ وَارِثَ أَبِيهِ دُونَهَا ؛ لِأَنَّ زِمْعَةَ مَاتَ كَافِرًا وَقَدْ أَسْلَمَتْ سَوْدَةُ قَبْلَهُ وَأَسْلَمَ عَبْدٌ بَعْدَهُ ، فَوَرِثَهُ عَبْدٌ دُونَهَا ، فَلِذَلِكَ تَفَرَّدَ بِالدَّعْوَى . الِاعْتِرَاضُ الثَّالِثُ : أَنْ قَالُوا : قَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَوْدَةَ أَنْ تَحْتَجِبَ مِنْهُ ، وَلَوْ كَانَ أَخًا لَهَا لَمَا حَجَبَهَا عَنْهُ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ نَفَى نَسَبَهُ وَلَمْ يُلْحِقْهُ . وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَدْ حَكَمَ لِعَبْدٍ بِمَا ادَّعَاهُ مِنْ نَسَبِهِ ، وَالْحُكْمُ بِالدَّعْوَى مَحْمُولٌ عَلَى إِثْبَاتِهَا دُونَ إِبْطَالِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ نَفَاهُ لَأَجْرَى عَلَيْهِ حُكْمَ الرِّقِّ ، وَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ . وَأَمْرُهُ سَوْدَةَ بِالِاحْتِجَابِ عَنْهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إِمَّا لِأَنْ يُبَيِّنَ بِذَلِكَ أَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَحْجُبَ زَوْجَتَهُ عَنْ أَقَارِبِهَا ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ مِنْهُ ابْتِدَاءً لِبَيَانِ الْحُكْمِ ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ رَأَى فِيهِ شَبَهًا قَوِيًّا مِنْ عُتْبَةَ ، وَقَدْ نَفَاهُ الشَّرْعُ عَنْهُ بِالْفِرَاشِ الثَّابِتِ لِغَيْرِهِ فَفَعَلَ ذَلِكَ إِمَّا بِطْرِيقِ الِاسْتِظْهَارِ ، وَإِمَّا لِأَنْ تَرَى سَوْدَةُ مَا فِيهِ مِنَ الشَّبَهِ بِعُتْبَةَ ، فَتَرْتَابَ فِي نَسَبِهِ .
وَالِاعْتِرَاضُ الرَّابِعُ : أَنْ قَالُوا : قَدْ أَضْمَرْتُمْ فِي ثُبُوتِ نَسَبِهِ الْإِقْرَارَ بِالْوَطْءِ وَلَيْسَ بِمَذْكُورٍ ، وَنَحْنُ شَرَطْنَا الْإِقْرَارَ بِنَسَبِهِ وَهُوَ مَذْكُورٌ ، فَصَارَ بِأَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى ثُبُوتِ نَسَبِهِ بِالْإِقْرَارِ الْمَذْكُورِ أَوْلَى مِنَ الْوَطْءِ الَّذِي لَيْسَ بِمَذْكُورٍ . وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ عَبْدًا ادَّعَى أُخُوَّتَهُ ؛ لِأَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِيهِ ، فَصَارَ الْفِرَاشُ مُوجِبًا لِثُبُوتِ النَّسَبِ دُونَ الْإِقْرَارِ ، وَالْفِرَاشُ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الْوَطْءِ ، فَصَارَ ثُبُوتُ الْفِرَاشِ إِقْرَارًا بِالْوَطْءِ . وَالثَّانِي : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ سَبَبَ لُحُوقِ نَسَبِهِ الْفِرَاشَ دُونَ الْإِقْرَارِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى غَيْرِ السَّبَبِ الَّذِي وَقَعَ بِهِ التَّعْلِيلُ . وَالِاعْتِرَاضُ الْخَامِسُ : أَنْ قَالُوا : إِنَّمَا أَثْبَتَ نَسَبَ الْوَلَدِ ، لِأَنَّ أُمَّهُ كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ تَصِيرُ فِرَاشًا بِالْوَلَدِ الْأَوَّلِ وَلَا يُرَاعَى إِقْرَارُهُ بِالْوَلَدِ الثَّانِي . وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ إِطْلَاقَ حُكْمِهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ لِزَمْعَةَ وَلَدٌ غَيْرُ عَبْدٍ وَسَوْدَةَ ، وَلَوْ كَانَ لَعُرِفَ فَبَطَلَ هَذَا التَّأْوِيلُ . وَأَمَّا الدَّلِيلُ مِنْ طَرِيقِ الْإِجْمَاعِ : فَهُوَ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنْ مَالِكٍ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ ، عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ قَالَ : مَا بَالُ رِجَالٍ يَطَئُونَ وَلَائِدَهُمْ ، ثُمَّ يُرْسِلُونَهُنَّ ، لَا تَأْتِينِي وَلِيدَةٌ يَعْتَرِفُ سَيِّدُهَا أَنَّهُ قَدْ أَلَمَّ بِهَا إِلَّا أَلْحَقْتُ بِهِ وَلَدَهَا ، فَأَرْسِلُوهُنَّ بَعْدُ أَوْ أَمْسِكُوهُنَّ . فَنَادَى بِهِ فِي النَّاسِ فَلَمْ يُنْكِرْهُ - مَعَ انْتِشَارِهِ فِيهِمْ - أَحَدٌ ؟ فَصَارَ إِجْمَاعًا ، فَإِنْ قِيلَ : خَالَفَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ؛ لِأَنَّهُ نَفَى حَمْلَ جَارِيَةٍ لَهُ ، قِيلَ : إِنَّمَا نَفَاهُ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ : كُنْتُ أَعْزِلُ عَنْهَا ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُجْمَعٌ مَعَهُمْ إِذْ لَوْ لَمْ يَعْزِلْ كَانَ لَاحِقًا بِهِ ، وَأَمَّا الدَّلِيلُ مِنْ طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ : فَهُوَ أَنَّهُ وَطْءٌ ثَبَتَ بِهِ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ لُحُوقُ النَّسَبِ كَوَطْءِ الْحُرَّةِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا يَثْبُتُ بِوَطْءِ الْحُرَّةِ ثَبَتَ بِوَطْءِ الْأَمَةِ كَتَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ ، وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْوَطْءِ إِقْرَارٌ بِالسَّبَبِ ، وَالْإِقْرَارُ بِالسَّبَبِ إِقْرَارٌ بِالْمُسَبَّبِ : كَالْمُقِرِّ بِالشِّرَاءِ يَكُونُ مُقِرًّا بِالْتِزَامِ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ سَبَبٌ بِالْمُسَبَّبِ لِاسْتِبَاحَةِ الْوَطْءِ ، فَإِذَا أُلْحِقَ بِالسَّبَبِ وَهُوَ الْعَقْدُ فَأَوْلَى أَنْ يَلْحَقَ بِالْمُسَبَّبِ مِنَ الْوَطْءِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَحِقَ بِوَطْءِ الشُّبْهَةِ وَهُوَ حَلَالٌ فِي الظَّاهِرِ حَرَامٌ فِي الْبَاطِنِ ، كَانَ أَوْلَى أَنْ يَلْحَقَ بِوَطْءِ الْأَمَةِ الَّذِي هُوَ حَلَالٌ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ ؛ وَلِأَنَّهُمْ قَدْ أَلْحَقُوا بِهِ وَلَدَ الْحُرَّةِ مَعَ عَدَمِ الْوَطْءِ وَنَفَوْا عَنْهُ وَلَدَ الْأَمَةِ مَعَ وُجُودِ الْوَطْءِ . وَفِيهِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ وَهَذَا عَكْسُ الْمَعْقُولِ وَقَلْبٌ لِلسُّنَّةِ
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِفَرْقِ مَا بَيْنَ وَلَدِ الْأَمَةِ وَالْحُرَّةِ مِنَ الضَّعْفِ وَالْقُوَّةِ ، فَهُوَ أَنَّ هَذَا الْفَرْقَ يَقْتَضِي اخْتِلَافَهُمَا فِي سَبَبِ اللُّحُوقِ ، وَقَدِ اخْتَلَفَا فِيهِ لِأَنَّ وَلَدَ الْحُرَّةِ يَلْحَقُ بِالْعَقْدِ مَعَ إِمْكَانِ الْوَطْءِ ، وَوَلَدُ الْأَمَةِ لَا يَلْحَقُ إِلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ الْوَطْءِ فَأَغْنَى هَذَا الْفَرْقُ عَنِ افْتِرَاقِهِمَا فِي الْإِقْرَارِ بِهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّهُ لَوْ لَحِقَ بِهِ مِنْ غَيْرِ إِقْرَارٍ لَمْ يَنْتَفِ عَنْهُ إِلَّا بِاللِّعَانِ ، فَهُوَ أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ قَدْ رَوَى عَنِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَاعَنَ مِنْ وَلَدِ الْأَمَةِ ، وَقَالَ : أَلَا تَعْجَبُونَ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ : إِنَّ الرَّجُلَ يُلَاعِنُ مِنَ الْأَمَةِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ ، وَلَهُ عِنْدِي وَجْهٌ إِنْ لَمْ يَدْفَعْهُ نَصٌّ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَخْرِيجِهِ قَوْلًا ثَانِيًا لِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ خَرَّجَهُ قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ أَنَّ وَلَدَ الْأَمَةِ لَا يَنْتَفِي إِلَّا بِاللِّعَانِ كَوَلَدِ الْحُرَّةِ ، فَعَلَى هَذَا قَدِ اسْتَوَيَا وَسَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ ، وَهَلْ يَسْتَغْنِي بِإِنْكَارِهِ عَنِ الْقَذْفِ فِي لِعَانِهِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُغْنِيهِ إِنْكَارُهُ عَنِ الْقَذْفِ وَيَكُونُ لِعَانُهُ أَنْ يَقُولَ : أَشْهَدُ بِاللَّهِ أَنَّ هَذَا الْوَلَدَ لَيْسَ مِنِّي ، وَلَا تَحْتَاجُ الْأَمَةُ بَعْدَهُ إِلَى أَنْ تَلْتَعِنَ ؛ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ عَلَيْهَا الزِّنَا ، وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا بِلِعَانِهِ حَدٌّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يُغْنِيهِ إِنْكَارُهُ عَنِ الْقَذْفِ ، فَيَلْتَعِنُ كَمَا يَلْتَعِنُ مِنَ الْحُرَّةِ ، وَعَلَيْهَا الْحَدُّ بِلِعَانِهِ إِلَّا أَنْ تَلْتَعِنَ ، فَهَذَا إِذَا قِيلَ بِتَخْرِيجِهِ قَوْلًا ثَانِيًا ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ أَنْكَرَهُ وَامْتَنَعَ مِنْ تَخْرِيجِهِ قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ وَتَأْوِيلُهُ : أَنْ يَلْتَعِنَ مِنَ الْأَمَةِ إِذَا كَانَتْ زَوْجَةً . فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ وَلَدِ الْأَمَةِ وَوَلَدِ الْحُرَّةِ فِي اللِّعَانِ أَنَّ وَلَدَ الْأَمَةِ لَمَّا انْتَفَى بِالِاسْتِبْرَاءِ لَمْ يُحْتَجْ إِلَى نَفْيِهِ بِاللِّعَانِ ، وَوَلَدَ الْحُرَّةِ لَمَّا لَمْ يَنْتَفِ بِالِاسْتِبْرَاءِ احْتَاجَ إِلَى نَفْيِهِ بِاللِّعَانِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّهَا لَوْ صَارَتْ بِالْوَطْءِ فِرَاشًا كَالْحُرَّةِ لَارْتَفَعَ بِالطَّلَاقِ زَوَالُ الْمِلْكِ ، وَلَمْ يَرْتَفِعْ بِالِاسْتِبْرَاءِ كَمَا لَا يَرْتَفِعُ بِالِاسْتِبْرَاءِ فِرَاشُ الْحُرَّةِ ، فَهُوَ أَنَّهُمَا مُسْتَوِيَانِ فِي أَنَّ فِرَاشَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يَرْتَفِعُ بِارْتِفَاعِ مَا ثَبَتَ بِهِ فِرَاشُهَا ، فَإِنَّ فِرَاشَ الْحُرَّةِ ثَبَتَ بِالْعَقْدِ فَارْتَفَعَ بِارْتِفَاعِ الْعَقْدِ ، وَفِرَاشَ الْأَمَةِ ثَبَتَ بِالْوَطْءِ فَارْتَفَعَ بِارْتِفَاعِ الْوَطْءِ وَلَمْ يُحْتَجْ إِلَى رَفْعِهِ بِالطَّلَاقِ ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي النِّكَاحِ وَلَمْ يُحْتَجْ فِيهِ إِلَى زَوَالِ الْمِلْكِ ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الْمِلْكِ لَا يَمْنَعُ مِنْ عُدُومِ الْفِرَاشِ فِي الِابْتِدَاءِ ، وَكَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ بَقَاءُ الْمِلْكِ فِي ارْتِفَاعِ الْفِرَاشِ فِي الِانْتِهَاءِ وَبِعَكْسِهَا تَكُونُ الْحُرَّةُ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ، فَالِاسْتِبْرَاءُ وَاجِبٌ فِي ارْتِفَاعِ فِرَاشِ الْأَمَةِ وَنَفْيِ وَلَدِهَا عَنِ السَّيِّدِ ، وَحَكَى ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِيهِ وَجْهًا عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا : أَنَّهُ اسْتِظْهَارٌ مُسْتَحَبٌّ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ ، وَيَكْفِي فِي نَفْيِ الْوَلَدِ أَنْ يَدَّعِيَ الِاسْتِبْرَاءَ ، وَهَذَا وَجْهٌ لَا يَتَحَصَّلُ ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَتْ دَعْوَى الِاسْتِبْرَاءِ شَرْطًا
فِي نَفْيِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا فِي دَعْوَاهُ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الِاسْتِبْرَاءُ شَرْطًا وَاجِبًا فِي رَفْعِ الْفِرَاشِ وَنَفْيِ الْوَلَدِ ، فَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ، فَهُوَ لَاحِقٌ بِهِ لِلْعَامِ بِتَقَدُّمِهِ عَلَى اسْتِبْرَائِهِ سَوَاءٌ اسْتَبْرَأَهَا بِالْأَقْرَاءِ أَوْ بِالْوِلَادَةِ ، وَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ وَقْتِ اسْتِبْرَائِهَا نُظِرَ فِي الِاسْتِبْرَاءِ ، فَإِنْ كَانَ بِوَلَدٍ وَضَعَتْهُ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ الثَّانِي بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ بَيْنَ الْوَلَدَيْنِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا كَانَا مِنْ حَمْلَيْنِ فَصَارَ الثَّانِي حَادِثًا مِنْ وَطْءٍ بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ يَقِينًا فَلِذَلِكَ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ قَدِ اسْتَبْرَأَهَا بِالْأَقْرَاءِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَلْحَقُ بِهِ . وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ : إِنْ وَضَعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ لَحِقَ بِهِ كَالْحُرَّةِ وَالْمُطَلَّقَةِ يَلْحَقُ بِهِ وَلَدُهَا بَعْدَ الْعِدَّةِ إِذَا وَضَعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ عِنْدِي ، وَإِنْ كَانَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ عَلَى خِلَافِهِ فِي وَلَدِ الْأَمَةِ ، وَقَالَ : إِنَّهَا إِذَا وَضَعَتْهُ بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا لَمْ يَلْحَقْ بِهِ بِخِلَافِ وَلَدِ الْحُرَّةِ ، وَفَرَّقَ أَصْحَابُنَا بَيْنَهُمَا بِأَنَّ وَلَدَ الْحُرَّةِ يَلْحَقُهُ بِالْإِمْكَانِ ، وَالْإِمْكَانُ مَوْجُودٌ فِيمَا دُونَ أَرْبَعِ سِنِينَ فَلِذَلِكَ لَحِقَ بِهِ ، وَوَلَدُ الْأَمَةِ يَلْحَقُ بِالْعِلْمِ بِالْوَطْءِ ، وَالْعِلْمُ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِيمَا زَادَ عَلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَلِذَلِكَ لَمْ يَلْحَقُ بِهِ ، وَفِي هَذَا الْفَرْقِ وَهَاءٌ إِذَا اسْتَبْرَأَ ، فَعَلَى هَذَا لَوِ ادَّعَى السَّيِّدُ الِاسْتِبْرَاءَ لِنَفْيِ الْوَلَدِ وَأَنْكَرَتْهُ الْأَمَةُ ، فَفِي وُجُوبِ إِحْلَافِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَمِينَ عَلَيْهِ ، وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي حَكَاهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ نَفْيَهُ مُعْتَبَرٌ بِدَعْوَى الِاسْتِبْرَاءِ لَا بِفِعْلِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ : أَنَّ الْيَمِينَ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ إِذَا قِيلَ إِنَّ نَفْيَهُ مُعْتَبَرٌ بِفِعْلِ الِاسْتِبْرَاءِ لَا بِدَعْوَاهُ ، فَعَلَى هَذَا فِي كَيْفِيَّةِ يَمِينِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَحْلِفُ بِاللَّهِ لَقَدِ اسْتَبْرَأَهَا قَبْلَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وِلَادَتِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَحْلِفُ بِاللَّهِ لَقَدْ وَلَدَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ اسْتِبْرَائِهِ ، فَإِنْ حَلَفَ انْتَفَى عَنْهُ ، وَإِنْ نَكَلَ فَعَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ لَاحِقًا بِهِ لَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْيَمِينَ تُرَدُّ عَلَى الْأَمَةِ ، فَإِنْ حَلَفَتْ لَحِقَ بِهِ وَكَانَتْ صِفَةُ يَمِينِهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ فِي يَمِينِ السَّيِّدِ ، وَإِنْ نَكَلَتْ عَنِ الْيَمِينِ كَانَتْ مَوْقُوفَةً عَلَى بُلُوغِ الْوَلَدِ ، فَيَحْلِفُ بِاللَّهِ أَنَّهُ وَلَدُهُ وَجْهًا وَاحِدًا ، فَإِنْ حَلَفَ لَحِقَ بِهِ ، وَإِذَا نَكَلَ انْتَفَى عَنْهُ وَقَدْ مَضَى فِي هَذَا الِاتِّصَالِ مِنْ شَرْحِ الْمَذْهَبِ مَا لَمْ نَجِدْ بُدًّا مِنْهُ ، فَلِذَلِكَ أَطْنَبْتُ وَإِنْ كُنْتُ لِلْإِطَالَةِ كَارِهًا وَبِتَوْفِيقِ اللَّهِ مُسْتَعِينًا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ : كُنْتُ أَعْزِلُ عَنْهَا ( أي الأمة ) فهل يلحق به الولد ؟ أَلْحَقَتِ الْوَلَدَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَدَّعِيَ
اسْتِبْرَاءً بَعْدَ الْوَطْءِ فَيَكُونُ دَلِيلًا لَهُ ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ : لَوْ وَلَدَتْ جَارِيَةٌ يَطَؤُهَا فَلَيْسَ هُوَ وَلَدَهُ إِلَّا أَنْ يُقِرَّ بِهِ ، فَإِنْ أَقَرَّ بِوَاحِدٍ ثُمَّ جَاءَتْ بَعْدَهُ بِآخَرَ فَلَهُ نَفْيُهُ ؛ لِأَنَّ إِقْرَارَهُ بِالْأَوَّلِ لَيْسَ بِإِقْرَارٍ بِالثَّانِي ، وَلَهُ عِنْدَهُ أَنْ يُقِرَّ بِوَاحِدٍ وَيَنْفِيَ ثَانِيًا وَبِثَالِثٍ وَيَنْفِيَ رَابِعًا ، ثُمَّ قَالُوا : لَوْ أَقَرَّ بِوَاحِدٍ ثُمَّ جَاءَتْ بَعْدَهُ بِوَلَدٍ فَلَمْ يَنْفِهِ حَتَّى مَاتَ فَهُوَ ابْنُهُ وَلَمْ يَدَعْهُ قَطُّ ، ثَمَّ قَالُوا : لَوْ أَنَّ قَاضِيًا زَوَّجَ امْرَأَةً رَجُلًا فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَفَارَقَهَا سَاعَةَ مَلَكَ عُقْدَةَ نِكَاحِهَا ثَلَاثًا ثَمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ لَزِمَ الزَّوْجَ ، قَالُوا : هَذَا فِرَاشٌ ، قِيلَ : وَهَلْ كَانَ فِرَاشًا قَطُّ يُمْكِنُ فِيهِ الْجِمَاعُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْعَزْلُ فَضَرْبَانِ : عَزْلٌ عَنِ الْإِنْزَالِ ، وَعَزْلٌ عَنِ الْإِيلَاجِ وَكِلَاهُمَا مُبَاحٌ فِي الْأَمَةِ وَالزَّوْجَةِ ، وَلَكِنْ يَلْزَمُ اسْتِطَابَةُ نَفْسِ الزَّوْجَةِ عَنْهُ ، وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِطَابَةُ نَفْسِ الْأَمَةِ ، لِأَنَّ لِلْحُرَّةِ حَقًّا فِي الْوَلَدِ دُونَ الْأَمَةِ : فَأَمَّا الْعَزْلُ عَنِ الْإِنْزَالِ فَهُوَ أَنْ يُولِجَ فِي الْفَرْجِ ، فَإِذَا أَحَسَّ بِالْإِنْزَالِ أَقْلَعَ فَأَنْزَلَ خَارِجَ الْفَرْجِ ، وَهَذَا الْعَزْلُ لَا يَمْنَعُ مِنْ لُحُوقِ الْوَلَدِ ، رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، نُصِيبُ السَّبَايَا وَنُحِبُّ الْأَثْمَانَ ، أَفَنَعْزِلُ عَنْهُنَّ ؟ فَقَالَ : إِنَّ اللَّهَ إِذَا قَضَى خَلْقَ نَسَمَةٍ خَلَقَهَا وَلِأَنَّهُ قَدْ يَسْبِقُ مِنْ إِنْزَالِهِ مَا لَا يُحِسُّ بِهِ فَتَعَلَّقَ مِنْهُ ، وَرُبَّمَا اسْتَدْخَلَ الْفَرْجُ مِنَ الْمَنِيِّ الْخَارِجِ مَا يَكُونُ مِنْهُ الْعُلُوقُ . فَأَمَّا الْعَزْلُ عَنِ الْإِيلَاجِ : فَهُوَ أَنْ يَطَأَ دُونَ الْفَرْجِ وَيُنْزِلَ فَفِي لُحُوقِ وَلَدِ الْأَمَةِ مِنْهُ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَلْحَقُهُ لِخُرُوجِ الْمَنِيِّ عَنِ الْفَرْجِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَلْحَقُهُ لِجَوَازِ أَنْ يَسْتَدْخِلَهُ الْفَرْجُ بِحَرَارَتِهِ ، وَهَكَذَا وَلَدُ الْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ إثبات نسبه يَلْحَقُ بِهِ فِي الْعَزْلِ عَنِ الْإِنْزَالِ ، وَفِي لُحُوقِهِ بِهِ فِي الْعَزْلِ عَنِ الْإِيلَاجِ وَجْهَانِ : فَأَمَّا وَلَدُ الزَّوْجِ فَيَلْحَقُ بِهِ فِي الْحَالَيْنِ لِثُبُوتِ الْفِرَاشِ بِالْعَقْدِ وَالْإِمْكَانِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " إِذَا أَحَاطَ الْعِلْمُ أَنَّ الْوَلَدَ لَيْسَ مِنَ الزَّوْجِ ، فَالْوَلَدُ مَنْفِيٌ عَنْهُ بِلَا لِعَانٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَلَدُ الْحُرَّةِ يَلْحَقُ الزَّوْجَ بِشَرْطَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الْعَقْدُ .
وَالثَّانِي : الْإِمْكَانُ ، وَالْإِمْكَانُ يَكُونُ بِاجْتِمَاعِ شَرْطَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إِمْكَانُ الْوَطْءِ . وَالثَّانِي : إِمْكَانُ الْعُلُوقِ ، فَأَمَّا إِمْكَانُ الْوَطْءِ ، فَهُوَ أَنْ يَكُونَ اجْتِمَاعُهُمَا عَلَيْهِ مُجَوَّزًا ، سَوَاءٌ عُلِمَ أَوْ لَمْ يُعْلَمْ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ اجْتِمَاعُهُمَا وَأَحَاطَ الْعِلْمُ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا وَطْءٌ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ الْوَلَدُ ، وَأَمَّا إِمْكَانُ الْعُلُوقِ فَيَكُونُ بِاجْتِمَاعِ شَرْطَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ مِمَّنْ يُولَدُ لِمَثَلِهِ ، فَإِنْ كَانَ طِفْلًا لَمْ يَلْحَقْ بِهِ الْوَلَدُ . وَالثَّانِي : أَنْ تَضَعَهُ بَعْدَ الْعَقْدِ لِمُدَّةٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا فِيهَا بَعْدَ الْعَقْدِ وَهِيَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا ، فَإِنْ وَضَعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ لِلْعِلْمِ بِتَقَدُّمِهِ عَلَى الْعَقْدِ ، فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ لُحُوقِهِ بِالْعَقْدِ وَالْإِمْكَانِ لَمْ يَلْحَقْهُ إِذَا اسْتَحَالَ الْإِمْكَانُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِمْكَانُ الْوَطْءِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ مَعَ الْعَقْدِ إِمْكَانُ الْعُلُوقِ ، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ صَغِيرًا أَوْ وَلَدَتْ بَعْدَ الْعَقْدِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَلْحَقْهُ ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ كَبِيرًا وَالْوِلَادَةُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ لَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ وَإِنَّ عُلِمَ أَنَّهُمَا لَمْ يَجْتَمِعَا ، حَتَّى قَالَ فِي ثَلَاثَةِ مَسَائِلَ حَكَاهَا الشَّافِعِيُّ عَنْهُ فِي الْقَدِيمِ : مَا يَدْفَعُهُ الْمَعْقُولُ مِنْهَا فِيمَنْ تَزَوَّجَ فِي مَجْلِسِ الْحَاكِمِ وَطَلَّقَ فِيهِ لِوَقْتِهِ ثُمَّ وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ ، أَنَّ الْوَلَدَ لَاحِقٌ بِهِ وَيَجِيءُ عَلَى أَصْلِهِ مَا هُوَ أَضْيَقُ مِنْ هَذَا وَأَشْنَعُ ، وَهُوَ إِذَا قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ : إِذَا تَزَوَّجْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا ، فَإِذَا تَزَوَّجَهَا طُلِّقَتْ عَقِبَ نِكَاحِهَا ، فَإِنْ وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ لَحِقَ بِهِ وَلَدُهَا ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ فِيمَنْ تَزَوَّجَ بِكْرًا وَغَابَ عَنْهَا قَبْلَ الْإِصَابَةِ ثُمَّ بَلَغَهَا خَبَرُ مَوْتِهِ فَاعْتَدَّتْ وَتَزَوَّجَتْ وَدَخَلَ بِهَا الثَّانِي سِنِينَ وَجَاءَتْ مِنْهُ بِأَوْلَادٍ ثُمَّ قَدِمَ الْأَوَّلُ لَحِقَ بِهِ جَمِيعُ أَوْلَادِهَا دُونَ الثَّانِي ، وَالْأَوَّلُ مُنْكِرٌ لَمْ يَطَأْ ، وَالثَّانِي مُقِرٌّ قَدْ وَطِئَ . وَمِنْهَا قَوْلُهُ فِي رَجُلٍ بِالْمَشْرِقِ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِالْمَغْرِبِ ، ثُمَّ وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ عَقْدِهِ أَنَّ الْوَلَدَ لَاحِقٌ بِهِ وَإِنْ كَانَ لَوْ أَرَادَ الْمَسِيرَ إِلَيْهَا لَمْ يَصِلْ إِلَّا فِي سِنِينَ ، وَاسْتَدَلَّ لِصِحَّةِ ذَلِكَ مَعَ اسْتِحَالَتِهِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ " قَالَ : وَالْفِرَاشُ هُوَ الزَّوْجُ ، وَقَالَ ذَلِكَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ ، وَأَبُو عُمَرَ الزَّاهِدُ وَأَنْشَدَ قَوْلَ الشَّاعِرِ : بَاتَتْ تُعَانِقُنِي وَبَاتَ فِرَاشُهَا خَلْفَ الْعَبَاءَةِ بِالدِّمَاءِ غَرِيقًا يَعْنِي بِقَوْلِهِ : بَاتَ فِرَاشُهَا ؛ أَيْ زَوْجُهَا ، قَالَ : فَجَعَلَ الْوَلَدَ لِلزَّوْجِ مِنْ غَيْرِ إِمْكَانِ الْوَطْءِ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ لَهُ عَلَى عُمُومِ الْأَحْوَالِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّ إِمْكَانَ الْفِعْلِ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْفِعْلِ ؛ لِأَنَّ إِمْكَانَ الزِّنَا لَا يَقُومُ مَقَامَ الزِّنَا ، وَإِمْكَانَ الْقَتْلِ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْقَتْلِ ، كَذَلِكَ
إِمْكَانُ الْوَطْءِ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْوَطْءِ فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا اعْتِبَارُ الْعَقْدِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ مُعْتَبَرًا بِهِ . قَالُوا : وَلِأَنَّ فَرْجَ الزَّوْجَةِ مَحَلٌّ لِمَاءِ الزَّوْجِ وَمُسْتَحَقًّا لَهُ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَحَقَّ بِمَا يَنْبُتُ فِيهِ كَالْأَرْضِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ مَالِكُهَا مَا ثَبَتَ فِيهَا ، قَالُوا : وَلِأَنَّهُ يَمْلِكُ مَاءَ زَوْجَتِهِ كَمَا يَمْلِكُ مَاءَ أَمَتِهِ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ مَاءَ الْأَمَةِ لَوِ انْعَقَدَ وَلَدًا كَانَ لِلسَّيِّدِ ، فَوَجَبَ إِذَا انْعَقَدَ مَاءُ الزَّوْجَةِ وَلَدًا أَنْ يَكُونَ لِلزَّوْجِ . وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّ كُلَّ مَا اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ لَاحِقًا بِهِ كَزَوْجَةِ الصَّغِيرِ ، وَكَالْمَوْلُودِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ، فَإِنْ قِيلَ : فَالصَّغِيرُ مِنَ الْأَزْوَاجِ لَا يُسَمَّى فِرَاشًا وَالْمَوْلُودُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ حَادِثٌ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ ، فَلِذَلِكَ انْتَفَى الْوَلَدُ عَنْهُمَا وَخَالَفَهُمَا مَا عَدَاهُمَا ، قِيلَ : أَمَّا الصَّغِيرُ فَإِنْ كَانَ الْفِرَاشُ اسْمًا لِلزَّوْجِ فَهُوَ زَوْجٌ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِرَاشًا وَإِنِ امْتَنَعَ مِنْ تَسْمِيَتِهِ فِرَاشًا لِاسْتِحَالَتِهِ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ مِنْهُ ، فَمِثْلُ اسْتِحَالَتِهِ مَوْجُودٌ فِي وَلَدِ الْمَغْرِبِيَّةِ مِنَ الْمَشْرِقِيِّ ، وَأَمَّا الْمَوْلُودُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ، فَإِنِ انْتَفَى عَنْهُ لِاسْتِحَالَةِ وُجُودِ مَائِهِ فِي مِلْكِهِ فَكَذَلِكَ وَلَدُ الْمَغْرِبِيَّةَ ، وَإِنْ كَانَ لِوُجُودِ الْمَاءِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ بَطَلَ طَرْدُهُ بِالصَّبِيِّ لِوُجُودِ الْمَاءِ فِي مِلْكِهِ وَلَا يَلْحَقُ بِهِ ، وَبِطَلَ عَكْسُهُ بِالْوَطْءِ لِشُبْهَةٍ أَوْ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ يَلْحَقُ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ . وَإِذَا بَطَلَ طَرْدُهُ وَعَكْسُهُ لَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِاسْتِحَالَةِ وَجُودِهِ مِنْ مَائِهِ ، كَذَلِكَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْمُسْتَحِيلَةِ ، وَلِأَنَّ اسْتِحَالَةَ الِاسْتِلْحَاقِ يَمْنَعُ مِنْ ثُبُوتِ النَّسَبِ كَالشَّابِّ إِذَا ادَّعَى شَيْخًا وَلَدًا وَلِأَنَّهُ لَمَّا انْتَفَى عَنْهُ وَلَدُ الْمُلَاعَنَةِ تَغْلِيبًا لِصِدْقِهِ ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا فَلِأَنْ يَنْتَفِيَ عَنْهُ الْوَلَدُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ مَعَ اسْتِحَالَةِ كَذِبِهِ وَالْقَطْعِ بِصِدْقِهِ أَوْلَى . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : إِنَّ الْفِرَاشَ اسْمٌ لِلزَّوْجِ ، فَهُوَ أَنَّ الْفِرَاشَ بِالزَّوْجَةِ أَخَصُّ ، لِأَنَّ الْفِرَاشَ مُشْتَقٌّ مِنَ الِافْتِرَاشِ ، فَكَانَتِ الزَّوْجَةُ أَشْبَهَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مِنَ الزَّوْجِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ عَبْدَ بْنَ زَمْعَةَ قَالَ : أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ . فَأُقِرَّ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ ، وَمَا قَالَ الشَّاعِرُ فَإِنَّهُ مَجَازٌ وَاتِّسَاعٌ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : إِنَّ إِمْكَانَ الْفِعْلِ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْفِعْلِ ، فَهُوَ أَنَّ إِمْكَانَ الْفِعْلِ وَإِنْ لَمِ يَقُمْ مَقَامَ الْفِعْلِ فَهُوَ مُعْتَبَرٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ ؛ لِأَنَّنَا اعْتَبَرْنَا إِمْكَانَ الْوَطْءِ ، وَاعْتَبَرُوا زَوْجًا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ الْوَطْءُ ، فَكَانَ اعْتِبَارُنَا أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَعَمُّ مِنَ اعْتِبَارِهِمْ . وَالثَّانِي : أَنَّ لُحُوقَ الْوَلَدِ فِي اعْتِبَارِنَا مُمْكِنٌ وَفِي اعْتِبَارِهِمْ مُسْتَحِيلٌ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : إِنَّ فَرْجَ الْمَرْأَةِ مِلْكٌ لِلزَّوْجِ كَالْأَرْضِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَيْسَ بِمِلْكٍ لَهُ ، وَإِنَّمَا يَسْتَبِيحُ الِاسْتِمْتَاعَ بِهِ ، لِأَنَّهَا لَوْ وَطِئَتْ بِشُبْهَةٍ كَانَ الْمَهْرُ لَهَا دُونَهُ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَالِكَ الْأَرْضِ لَا يَمْلِكُ مَا زَرَعَهُ غَيْرُهُ فِيهَا فَكَذَلِكَ حُكْمُ الْفُرُوجِ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : إِنَّهُ لَمَّا مَلَكَ مَا انْعَقَدَ مِنْ مَاءِ أَمَتِهِ مَلَكَ مَا انْعَقَدَ مِنْ مَاءِ زَوْجَتِهِ ، فَهُوَ أَنَّهُمْ إِنِ انْقَادُوا إِلَى هَذَا الِاسْتِدْلَالِ كَانَ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ لَا فِي مِلْكِ الرَّقَبَةِ ، وَوَلَدُ الْأَمَةِ لَا يَلْحَقُ بِهِ فَكَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ وَلَدَ الْحُرَّةِ ، وَإِنَّمَا يُمَلَكُ وَلَدُ الْأَمَةِ اسْتِرْقَاقًا يَنْتَفِي عَنْ وَلَدِ الْحُرَّةِ ، فَافْتَرَقَا فِي مِلْكِ الْوَلَدِ ، وَاتَّفَقَا فِي نَفْيِ النَّسَبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ . آخَرُ كِتَابِ اللِّعَانِ .
_____كِتَابُ الْعِدَدِ _____
عِدَّةُ الْمَدْخُولِ بِهَا
كِتَابُ الْعِدَدِ عِدَّةُ الْمَدْخُولِ بِهَا مِنَ الْجَامِعِ مِنْ كِتَابِ الْعِدَدِ وَمِنْ كِتَابِ الرَّجْعَةِ وَالرِّسَالَةِ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : الْعِدَّةُ تعريفها ومشروعيتها بِالْكَسْرِ مَصْدَرُ الْإِحْصَاءِ لِلْعَدَدِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ [ الطَّلَاقِ : ] وَالْعُدَّةُ : بِالضَّمِّ الشَّيْءُ الْمُسْتَعَدُّ لِشَيْءٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً [ التَّوْبَةِ : ] وَالْعَدُّ بِالْفَتْحِ الْجُمْلَةُ الْمَعْدُودَةُ ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : إِنْ شَاءَ مَوَالِيكَ عَدَدْتُ لَهُمْ ثَمَنَكَ عَدَّةً وَاحِدَةً . وَعِدَّةُ النِّسَاءِ تَرَبُّصُهُنَّ عَنِ الْأَزْوَاجِ بَعْدَ فُرْقَةِ أَزْوَاجِهِنَّ . وَرَوَى أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ : أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلْ مِنَ الْعِدَدِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [ الْبَقَرَةِ : ] فَارْتَابَ نَاسٌ بِالْمَدِينَةِ فِي عِدَّةِ الصِّغَارِ وَالْمُؤَيَّسَاتِ وَذَوَاتِ الْحَمْلِ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [ الطَّلَاقِ : ] فَزَالَتِ الِاسْتِرَابَةُ عَنْهُمْ وَعَلِمُوا كُلَّ الْعِدَدِ ، وَنَزَلَتْ عِدَّةُ الْوَفَاةِ مُخَالِفَةً لِعِدَّةِ الطَّلَاقِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ) [ الْبَقَرَةِ : ] فَصَارَتِ الْعِدَدُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ وُضِعَتْ تَعَبُّدًا وَاسْتِبْرَاءً : أَحَدُهَا : وَهُوَ أَقْوَاهُمَا : الْحَمْلُ وَالِاسْتِبْرَاءُ فِيهِ أَقْوَى مِنَ التَّعَبُّدِ . وَالثَّانِي : وَهُوَ أَوْسَطُهَا : الْأَقْرَاءُ وَيُسْتَوْفَى فِيهِ التَّعَبُّدُ وَالِاسْتِبْرَاءُ . وَالثَّالِثُ : وَهُوَ أَضْعَفُهُمَا : الشُّهُورُ فَإِنْ كَانَتْ بِمَدْخُولٍ بِهَا مِمَّنْ يَجُوزُ حَبَلُهَا كَانَتْ تَعَبُّدًا وَاسْتِبْرَاءً ، وَإِنْ كَانَتْ فِي غَيْرِ مَدْخُولٍ بِهَا مِنْ وَفَاةٍ كَانَتْ تَعَبُّدًا مَحْضًا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ قَالَ : وَالْأَقْرَاءُ عِنْدَهُ الْأَطْهَارُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِدَلَالَتَيْنِ بِمَوْلَاهُمَا : الْكِتَابُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ وَالْأُخْرَى اللِّسَانُ ( قَالَ ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ لَمَّا طَلَّقَ ابْنُ عُمَرَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ : يَرْتَجِعُهَا ، فَإِذَا طَهُرَتْ فَلْيُطَلِّقْ أَوْ لِيُمْسِكْ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَ لِقُبُلِ عِدَّتِهِنَّ أَوْ فِي قُبُلِ عِدَتِهِنَّ الشَّافِعِيُّ شَكَّ ، فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ الْعِدَّةَ الْأَطْهَارُ
دُونَ الْحَيْضِ وَقَرَأَ " فَطَلِّقُوهُنَّ لِقُبُلِ عِدَّتِهِنَّ " وَهُوَ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَاهِرًا ؛ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ تَسْتَقْبِلُ عِدَّتَهَا ، وَلَوْ طُلِّقَتْ حَائِضًا لَمْ تَكُنْ مُسْتَقْبِلَةً عِدَّتَهَا إِلَّا مِنْ بَعْدِ الْحَيْضِ ، وَالْقُرْءُ اسْمٌ وُضِعَ لِمَعْنًى ، فَلَمَّا كَانَ الْحَيْضُ دَمًا يُرْخِيهِ الرَّحِمُ فَيَخْرُجُ ، وَالطُّهْرُ دَمًا يُحْتَبَسُ فَلَا يَخْرُجُ ، كَانَ مَعْرُوفًا مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ أَنَّ الْقُرْءَ الْحَبْسُ ، تَقُولُ الْعَرَبُ : هُوَ يَقْرِي الْمَاءَ فِي حَوْضِهِ وَفِي سِقَائِهِ ، وَتَقُولُ : هُوَ يُقْرِي الطَّعَامَ فِي شِدْقِهِ ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : " هَلْ تَدْرُونَ مَا الْأَقْرَاءُ ؟ الْأَقْرَاءُ : الْأَطْهَارُ " وَقَالَتْ : " إِذَا طَعَنَتِ الْمُطَلَّقَةُ فِي الدَّمِ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ وَالنِّسَاءُ بِهَذَا أَعْلَمُ " وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَابْنُ عُمَرَ : إِذَا دَخَلَتْ فِي الدَّمِ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ وَبَرِئَ مِنْهَا وَلَا تَرِثُهُ وَلَا يَرِثُهَا ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : وَالْأَقْرَاءُ وَالْأَطْهَارُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُطَلِّقِهَا طَاهِرًا إِلَّا وَقَدْ مَضَى بَعْضُ الطُّهْرِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ وَكَانَ شَوَّالٌ وَذُو الْقِعْدَةِ كَامِلَيْنِ وَبَعْضُ ذِي الْحِجَّةِ ، كَذَلِكَ الْأَقْرَاءُ طُهْرَانِ كَامِلَانِ وَبَعْضُ طُهْرٍ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اخْتَلَفَ أَهْلُ اللُّغَةِ فِيمَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْقُرْءِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : يَنْطَلِقُ عَلَى الْحَيْضِ حَقِيقَةً ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الطُّهْرِ مَجَازًا ؛ لِأَنَّهُ لَا تُسَمَّى الْمَرْأَةُ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ إِلَّا إِذَا حَاضَتْ وَاسْتِشْهَادًا بِقَوْلِ الرَّاجِزِ : يَا رُبَّ ذِي ضِغْنٍ عَلَيَّ فَارِضِ لَهُ قُرُوءٌ كَقُرُوءِ الْحَائِضِ يَعْنِي أَنَّ نُفُوذَ حِقْدِهِ كَنُفُوذِ دَمِ الْحَيْضِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ اسْمٌ يَنْطَلِقُ عَلَى الطُّهْرِ حَقِيقَةً ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْحَيْضِ مَجَازًا ، لِمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ أَنَّ الْقُرْءَ الْجَشْمُ وَاسْتِشْهَادًا بِقَوْلِ الشَّاعِرِ : أَفِي كُلِّ عَامٍ أَنْتَ جَاشِمُ غَزْوَةٍ تَشُدُّ لِأَقْصَاهَا غَرِيمَ عَزَائِكَا مُوَرَّثَةٍ مَالَا وَفِي الْحَيِّ رَفْعَةٌ لِمَا ضَاعَ فِيهَا مِنْ قُرُوءِ نِسَائِكَا وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِهِمْ أَنَّهُ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ يَنْطَلِقُ عَلَى الطُّهْرِ حَقِيقَةً وَعَلَى الْحَيْضِ حَقِيقَةً ؛ كَالْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ الَّتِي تَقَعُ عَلَى مُتَضَادَّيْنِ مُتَعَاقِبَيْنِ كَالصَّرِيمِ : اسْمُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، وَالنَّاهِلِ : اسْمٌ لِلْعَطْشَانِ وَالرَّيَّانِ ، وَالْمَسْحُورِ : اسْمٌ لِلْفَارِغِ وَالْمَلْآنِ ، وَالْحُورِ : اسْمٌ لِجَمِيعِ الْأَلْوَانِ ، وَالشَّفَقِ اسْمٌ لِلْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ ، وَالدُّلُوكِ : اسْمٌ لِلزَّوَالِ وَالْغُرُوبِ .
وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ : إِنَّهُ اسْمٌ يَنْطَلِقُ عَلَى الِانْتِقَالِ مِنْ مُعْتَادٍ إِلَى مُعْتَادٍ فَيَتَنَاوَلُ الِانْتِقَالَ مِنَ الْحَيْضِ إِلَى الطُّهْرِ ، وَالِانْتِقَالَ مِنَ الطُّهْرِ إِلَى الْحَيْضِ ، كَمَا يُقَالُ : أَقْرَأَ النَّجْمُ إِذَا طَلَعَ ، وَأَقْرَأَ إِذَا غَابَ قَالَ الشَّاعِرُ : إِذَا مَا الثُّرَيَّا وَقَدْ أَقْرَأَتْ أَحَسَّ السِّمَا كَانَ مِنْهَا أُفُولَا وَيُقَالُ : قَرَأَتْ إِذَا انْتَقَلَتْ مِنْ شَمَالٍ إِلَى جَنُوبٍ أَوْ مِنْ جَنُوبٍ إِلَى شَمَالٍ ، قَالَ الشَّاعِرُ : كَرِهْتُ الْعَقْرَ عَقْرَ بَنِي شَلِيلِ إِذَا هَبَّتْ لِقَارِئِهَا الرِّيَاحُ وَأَمَّا الْفُقَهَاءُ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ أَقْرَاءَ الْعِدَّةِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْحَيْضِ أَوِ الطُّهْرِ ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهَا ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْمُرَادُ بِالْأَقْرَاءِ الْحَيْضُ دُونَ الطُّهْرِ ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ : عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَحَكَاهُ الشَّعْبِيُّ عَنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ مِنَ الصَّحَابَةِ ، وَمِنَ التَّابِعَيْنِ : الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالشَّعْبِيُّ . وَمِنَ الْفُقَهَاءِ : الْأَوْزَاعِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى ، وَأَهْلُ الْعِرَاقَيْنِ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ . وَقَالَ الشَّعْبِيُّ : الْأَقْرَاءُ الْأَطْهَارُ : وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ : زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ، وَابْنُ عُمَرَ ، وَعَائِشَةُ ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ : الزَّهْرِيُّ ، وَابْنُ أَبِي ذُؤَيْبٍ ، وَمَالِكٌ ، وَرَبِيعَةُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَحَكَى الزُّهْرِيُّ ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنُ عُمَرَ ، وَابْنُ حَزْمٍ : أَنَّهُ قَالَ : مَا أَجِدُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي الْأَقْرَاءِ خِلَافًا لِمَا قَالَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا . وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : أَنَا أَعْلَمُ فِيهَا بِقَوْلِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، ثُمَّ قَالَ : أَنَا لَا أُحْسِنُ أَنْ أُفْتِيَ فِيهَا بِشَيْءٍ فَتَوَقَّفَ . وَتَأْثِيرُ هَذَا الِاخْتِلَافِ فِي حُكْمِ الْمُعْتَدَّةِ كيف تحسب عدتها إن طلقت في طهر ؟ على قول من قال بأن الأقراء هي الأطهار . أَنَّ مَنْ جَعَلَ الْأَقْرَاءَ الْأَطْهَارَ قَالَ : إِنْ طُلِّقَتْ فِي طُهْرٍ كَانَ الْبَاقِي مِنْهُ ، وَإِنْ قَلَّ قُرْءًا ، فَإِذَا حَاضَتْ وَطَهُرَتِ الطُّهْرَ الثَّانِيَ كَانَ قُرْءًا ثَانِيًا ، فَإِذَا حَاضَتْ وَطَهُرَتِ الطُّهْرَ الثَّالِثَ حَتَّى بَرَزَ دَمُ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ كَانَ قُرْءًا ثَالِثًا ، وَقَدِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا . وَإِنْ طُلِّقَتْ فِي الْحَيْضِ ، فَإِذَا بَرَزَ دَمُ الْحَيْضَةِ الرَّابِعَةِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا . وَمَنْ قَالَ : الْأَقْرَاءُ : الْحَيْضُ ، قَالَ : إِنْ طُلِّقَتْ فِي طُهْرٍ أَوْ حَيْضٍ لَمْ تُعَدَّ بِمَا طُلِّقَتْ فِيهِ
مِنَ الطُّهْرِ وَالْحَيْضِ ، وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِدُخُولِهَا فِي الطُّهْرِ الرَّابِعِ ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ جَعَلَ الْأَقْرَاءَ الْحَيْضَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [ الْبَقَرَةِ : ] فَاقْتَضَتِ الْآيَةُ اسْتِيفَاءَ ثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ ، وَمَنْ جَعَلَهَا الْأَطْهَارَ ، لَمْ يَسْتَوْفِهَا إِذَا طُلِّقَتْ فِي طُهْرٍ وَجَعَلَ عِدَّتَهَا مُنْقَضِيَةً بِقُرْأَيْنِ وَبَعْضِ ثَالِثٍ ، وَمَنْ جَعَلَ الْحَيْضَ اسْتَوْفَاهَا كَامِلَةً فَصَارَ بِالْأَطْهَارِ أَخَصَّ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَنْقَضِ الْأَقْرَاءُ الثَّلَاثَةُ كَمَا لَمْ تَنْقَضِ الشُّهُورُ الثَّلَاثَةُ . ثُمَّ قَالَ عُقَيْبَهُ : وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ [ الْبَقَرَةِ : ] يَعْنِي مَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ مِنْ حَمْلٍ وَحَيْضٍ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَقْرَاءَ الْمُعْتَدَّ بِهَا هِيَ الْحَيْضُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى : ( فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ) [ الطَّلَاقِ : ] وَلَمْ يَقُلْ : فِي عِدَّتِهِنَّ ، وَالطَّلَاقُ لَهَا غَيْرُ الطَّلَاقِ فِيهَا ، وَمَنْ جَعَلَ الْأَقْرَاءَ الْأَطْهَارَ قَدْ جَعَلَ الطَّلَاقَ فِي الْعِدَّةِ إِذَا طُلِّقَتْ فِي طُهْرٍ ، وَمَنْ جَعَلَهَا الْحَيْضَ اسْتَقْبَلَ بِهَا الْعِدَّةَ فَكَانَ بِالظَّاهِرِ أَحَقَّ ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ [ الطَّلَاقِ : ] فَنَقَلَهَا عَمَّا يَئِسَتْ مِنْهُ إِلَى بَدَلِهِ ، وَالْبَدَلُ غَيْرُ الْمُبْدَلِ ، فَلَمَّا كَانَ الْإِيَاسُ مِنَ الْحَيْضِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَقْرَاءَ هِيَ الْحِيَضُ ، وَاسْتَدَلُّوا مِنَ السُّنَّةِ بِرِوَايَةِ مُظَاهِرِ بْنِ أَسْلَمَ ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : طَلَاقُ الْأَمَةِ طَلْقَتَانِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ وَهَذَا نَصٌّ فِي الِاعْتِدَادِ بِالْحَيْضِ دُونَ الطُّهْرِ ، وَلِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ : اقْعُدِي عَنِ الصَّلَاةِ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ يَعْنِي : أَيَّامَ حَيْضَتِكِ ، فَكَانَ ذَلِكَ أَيْضًا قَضَاءً عَلَى الْحَيْضِ فِي الْأَقْرَاءِ ، وَاسْتَدَلُّوا مِنَ الِاعْتِبَارِ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ يَكُونُ بِالْحَيْضِ ؛ لِأَنَّ مَنْ يَجْعَلُهَا الْأَطْهَارَ جَعَلَ عِدَّتَهَا مُتَقَضِّيَةً بِدُخُولِهَا فِي الْحَيْضِ ، وَمَنْ جَعَلَهَا الْحَيْضَ جَعَلَ عِدَّتَهَا مُتَقَضِّيَةً بِخُرُوجِهَا مِنَ الْحَيْضِ ، فَقَاسُوا الطَّرَفَ الْأَوَّلَ عَلَى الطَّرَفِ الثَّانِي فَقَالُوا : أَحَدُ طَرَفَيِ الْعِدَّةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَيْضُهَا الثَّانِي . قَالُوا : وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ إِذَا انْقَضَتْ بِخُرُوجِ كَامِلِ وَقْتِ انْقِضَائِهَا عَلَى انْفِصَالِ جَمِيعِهَا كَالْحَمْلِ لَا يَنْقَضِي بِخُرُوجِ بَعْضِهِ ، كَذَلِكَ بِالْحَيْضِ الْأَخِيرِ لَا يَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِخُرُوجِ بَعْضِهِ حَتَّى يَسْتَكْمِلَ . قَالُوا : وَلِأَنَّ مَقْصُودَ الْعِدَّةِ يُرَادُ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ عَنِ الْحَمْلِ ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْحَيْضِ دُونَ الطُّهْرِ ، فَكَانَ اعْتِبَارُ الْأَقْرَاءِ بِمَا يُرَى أَوْلَى مِنَ اعْتِبَارِهَا بِمَا لَا يُرَى ، وَلِأَنَّ مَوْضُوعَ الْعِدَّةِ الِاسْتِبْرَاءُ فِي الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ اسْتِبْرَاءَ الْأَمَةِ بِالْحَيْضِ دُونَ الطُّهْرِ ، فَكَذَلِكَ الْحُرَّةُ ؛ لِأَنَّ الِاعْتِدَادَ بِالْأَقْرَاءِ عِنْدَ فَقْدِ الْحَمْلِ فَكَانَتْ بَدَلًا مِنْهُ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الِاعْتِدَادَ
لِلْحَامِلِ بِخُرُوجِ مَا فِي الْبَطْنِ ، فَاعْتِدَادُ ذَاتِ الْأَقْرَاءِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِخُرُوجِ مَا فِي الْبَطْنِ وَهُوَ الْحَيْضُ دُونَ الطُّهْرِ .
فَصْلٌ : وَدَلِيلُنَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالِاعْتِبَارُ . فَأَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [ الْبَقَرَةِ : ] وَمِنْهُ دَلِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا أَوْجَبَهُ مِنَ التَّرَبُّصِ بِالْأَقْرَاءِ عَقِيبَ الطَّلَاقِ الْمُبَاحِ ، وَهُوَ الطَّلَاقُ فِي الطُّهْرِ فَاقْتَضَى أَنْ تَصِيرَ مُعْتَدَّةً بِالطُّهْرِ ؛ لِيَتَّصِلَ اعْتِدَادُهَا بِمُبَاحِ طَلَاقِهَا ، وَمَنِ اعْتَدَّ بِالْحَيْضِ لَمْ يَصِلِ الْعِدَّةَ بِالطَّلَاقِ سَوَاءً كَانَ مُبَاحًا فِي طُهْرٍ أَوْ مَحْظُورًا فِي حَيْضٍ ، فَكَانَ قَوْلُنَا بِالظَّاهِرِ أَحَقَّ . وَالثَّانِي : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ فَأَثْبَتَ التَّاءَ فِي الْعَدَدِ ، وَإِثْبَاتُهَا يَكُونُ فِي مَعْدُودٍ مُذَكَّرٍ ، فَإِنْ أُرِيدَ مُؤَنَّثًا حُذِفَتْ كَمَا يُقَالُ : ثَلَاثَةُ رِجَالٍ ، وَثَلَاثُ نِسْوَةٍ ، وَالطُّهْرُ مُذَكَّرٌ وَالْحَيْضُ مُؤَنَّثٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ جَمْعُ الْمُذَكَّرِ مُتَنَاوِلًا لِلطُّهْرِ الْمُذَكَّرِ دُونَ الْحَيْضِ الْمُؤَنَّثِ . وَقَالَ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [ الطَّلَاقِ : ] وَمِنْهُ دَلِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ قَوْلَهُ : لِعِدَّتِهِنَّ أَيْ لِوَقْتِ عِدَّتِهِنَّ ، ثُمَّ كَانَ هَذَا الطَّلَاقُ مَأْمُورًا بِهِ فِي الطُّهْرِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُكُونَ الطُّهْرُ هُوَ الْعِدَّةَ دُونَ الْحَيْضِ بيان الأدلة على ذلك . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّمَا جَعَلَ الطُّهْرَ عِدَّةَ الطَّلَاقِ دُونَ الِاحْتِسَابِ فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ دُخُولَ لَامِ الْإِضَافَةِ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْعِدَّةُ لَهَا لَا عَلَيْهَا ، وَعِدَّةُ الِاحْتِسَابِ الَّذِي هُوَ لَهَا أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى عِدَّةِ الطَّلَاقِ الَّذِي هُوَ عَلَيْهَا مَعَ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ [ الطَّلَاقِ : ] وَالْإِحْصَاءُ لِعِدَّةِ الِاحْتِسَابِ دُونَ الطَّلَاقِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَمْرَيْنِ مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ وَالِاحْتِسَابِ مَعًا ، فَيَكُونُ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى أَحَدِهِمْ . وَالدَّلِيلُ الثَّانِي : مِنَ الْآيَةِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : لِعِدَّتِهِنَّ يَقْتَضِي اسْتِقْبَالَ الْعِدَّةِ وَاتِّصَالَهَا بِالطَّلَاقِ لِأَمْرَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ : فَطَلَّقُوهُنَّ لِقُبُلِ عِدَّتِهِنَّ . وَقُبُلُ الشَّيْءِ : مَا اتَّصَلَ بِأَوَّلِهِ ، فَكَانَ الْقُبُلُ وَالِاسْتِقْبَالُ سَوَاءً . وَالثَّانِي : أَنَّ دُخُولَ اللَّامِ عَلَى الشَّرْطِ يَقْتَضِي اتِّصَالَهُ بِالْمَشْرُوطِ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ :
أَطْعِمْ زَيْدًا لِيَشْبَعَ وَأَعْطِ زَيْدًا لِيَعْمَلَ ، يَقْتَضِي التَّعْقِيبَ دُونَ التَّأْخِيرِ . وَمَنْ جَعَلَ الْأَقْرَاءَ الْأَطْهَارَ اعْتَدَّ بِبَقِيَّةِ الطُّهْرِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ هَذَا الطَّلَاقُ الْمَأْمُورُ بِهِ فَوَصَلَ بِهِ الْعِدَّةَ . وَمَنْ جَعَلَهَا الْحَيْضَ لَمْ يَعْتَدَّ بِبَقِيَّتِهِ فَفَصَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعِدَّةِ . فَإِنْ قِيلَ : فَنَحْنُ يُمْكِنُنَا أَنْ نَصِلَ الْعِدَّةَ بِهَذَا الطَّلَاقِ إِذَا كَانَ فِي آخِرِ الطُّهْرِ ؛ لِاتِّصَالِ الْحَيْضِ بِهِ وَهُوَ مُعْتَدٌّ بِهِ عِنْدَنَا وَغَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ عِنْدَكُمْ ، فَسَاوَيْنَاكُمْ فِي هَذَا الظَّاهِرِ حَيْثُ وَصَلْنَا بَيْنَهُمَا فِي هَذَا الْوَضْعِ دُونَكُمْ وَوَصَلْتُمْ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ دُونَنَا . قِيلَ : قَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الِاعْتِدَادِ بِزَمَانِ الطَّلَاقِ إِذَا كَانَ آخِرَ أَجْزَاءِ الطُّهْرِ عَلَى وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيٍّ : أَحَدُهُمَا : يُعْتَدُّ بِهِ قُرْءًا ، وَيَكُونُ الْعِدَّةَ وَالطَّلَاقَ مَعًا كَمَا لَوْ قَالَ : أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي بِأَلْفٍ فَأَعْتَقَهُ ، كَانَ وَقْتُ عِتْقِهِ وَقْتًا لِلتَّمْلِيكِ وَالْعِتْقِ جَمِيعًا ، فَعَلَى هَذَا لَمْ يَسْلَمْ لَهُمُ التَّسَاوِي فِي الظَّاهِرِ ، لِأَنَّنَا نُسَاوِيهِمْ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي اسْتَعْمَلْنَاهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَحَكَاهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ نَصًّا فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ لَا يَقَعُ الِاعْتِدَادُ بِزَمَانِ الطَّلَاقِ حَتَّى يَتَعَقَّبَهُ زَمَانُ الْعِدَّةِ لِيَتَمَيَّزَا ، فَتَكُونُ الْعِدَّةُ بَعْدَ الطَّلَاقِ ، وَلَوْ وَقَعَ الِاعْتِدَادُ بِزَمَانِ الطَّلَاقِ لَصَارَتِ الْعِدَّةُ مُتَقَدِّمَةً عَلَى الطَّلَاقِ ، وَهَذَا مُسْتَحِيلٌ ، فَعَلَى هَذَا هُمْ يَسْتَعْمِلُونَ الظَّاهِرَ فِي نَادِرٍ غَيْرِ مُعْتَادٍ ، وَنَحْنُ نَسْتَعْمِلُهُ فِي غَالِبٍ مُعْتَادٍ ، فَكَانَ حَمْلُ الظَّاهِرِ عَلَى اسْتِعْمَالٍ مُعْتَادٍ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى تَكَلُّفِ اسْتِعْمَالٍ نَادِرٍ . وَأَمَّا السُّنَّةُ : فَمَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ : " مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ طَلَّقَ وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُطْلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ " . فَجَعَلَ الطُّهْرَ زَمَانَ الْعِدَّةِ وَالطَّلَاقِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَقْرَاءَ : الْأَطْهَارُ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَوْلُهُ : فَتِلْكَ إِشَارَةٌ مِنْهُ إِلَى مُؤَنَّثٍ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعُودَ إِلَى الطُّهْرِ لِأَنَّهُ مُذَكَّرٌ وَعَادَ إِلَى الْحَيْضِ لِأَنَّهُ مُؤَنَّثٌ . قِيلَ : لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَجَّهَ الْإِشَارَةُ إِلَى الْحَيْضِ ، لِأَنَّ زَمَانَ الطَّلَاقِ الْمَأْمُورَ بِهِ الطُّهْرُ دُونَ الْحَيْضِ ، وَتَكُونُ إِشَارَةُ التَّأْنِيثِ مَحْمُولَةً عَلَى الْعِدَّةِ أَوْ عَلَى حَالِ الطُّهْرِ وَالْحَالُ مُؤَنَّثَةٌ ، وَأَمَّا الِاعْتِبَارُ فَقِيَاسٌ وَاسْتِدْلَالٌ وَاشْتِقَاقٌ .
فَأَمَّا الْقِيَاسُ فَقِيَاسَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا أَثْبَتَ الطُّهْرَ . وَالثَّانِي : مَا نَفَى الْحَيْضَ . فَأَمَّا مَا أَثْبَتَ الطُّهْرَ فَقِيَاسَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ وُجُوبَ الْعِدَّةِ إِذَا تَعَقَّبَهُ طُهْرٌ أَوْجَبَ الِاعْتِدَادَ بِذَلِكَ الطُّهْرِ كَالصَّغِيرَةِ وَالْمُؤَيَّسَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْعِدَّةَ إِذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى خَارِجٍ مِنَ الرَّحِمِ كَانَ الِاعْتِدَادُ بِحَالِ كُمُونِهِ دُونَ ظُهُورِهِ كَالْحَمْلِ . وَأَمَّا مَا نَفَى الْحَيْضَ فَقِيَاسَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ وُجُوبَ الْعِدَّةِ إِذَا تَعَقَّبَهُ حَيْضٌ لَمْ يَقَعِ الِاعْتِدَادُ بِهِ كَالْمُطَلَّقَةِ فِي الْحَيْضِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ دَمٌ لَا يَقَعُ الِاعْتِدَادُ بِبَعْضِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُعْتَدَّ بِجَمِيعِهِ كَدَمِ النِّفَاسِ ، وَأَمَّا الِاشْتِقَاقُ فَهُوَ أَنَّ الْقُرْءَ مِنْ قَرَا يَقْرِي ؛ أَيْ جَمَعَ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ : قَرَا الطَّعَامَ فِي فَمِهِ ، وَقَرَا الْمَاءَ فِي جَوْفِهِ ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ مَقْرَاةً لِاجْتِمَاعِ الْمَاءِ فِيهِ كَمَا قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ : فَتُوضِحَ فَالْمَقْرَاةُ لَمْ يَعْفُ رَسْمُهَا . . . . . . . . . . . . . . . . وَمِنْ ذَلِكَ سُمِّيَتِ الْقَرْيَةُ قَرْيَةً لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ فِيهَا ، وَسُمِّيَ الْقُرْآنُ قُرْآنًا لِاجْتِمَاعِهِ قَالَ اللَّهُ : فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ [ الْقِيَامَةِ : ] يَعْنِي إِذَا جَمَعْنَاهُ فَاتَّبِعِ اجْتِمَاعَهُ ، وَقِيلَ : مَا قَرَأَتِ النَّاقَةُ سَاقِطًا أَيْ : مَا ضَمَّتْ رَحِمًا عَلَى وَلَدٍ ، قَالَ الشَّاعِرُ فِي صِفَةِ نَاقَةٍ : تُرِيكَ إِذَا دَخَلْتَ عَلَى خَلَاءٍ وَقَدْ أَمِنَتْ عُيُونُ الْكَاشِحِينَا ذِرَاعَيْ عَيْطَلٍ أَدْمَاءَ بِكْرٍ هِجَانِ اللَّوْنِ لَمْ تَقْرَأْ جَنِينَا أَيْ لَمْ يَجْمَعْ بَطْنُهَا وَلَدًا . وَإِذَا كَانَ الْقُرْءُ هُوَ الْجَمْعَ كَانَ بِالطُّهْرِ أَحَقَّ مِنَ الْحَيْضِ ؛ لِأَنَّ الطُّهْرَ : اجْتِمَاعُ الدَّمِ فِي الرَّحِمِ ، وَالْحَيْضَ : خُرُوجُ الدَّمِ مِنَ الرَّحِمِ ، وَمَا وَافَقَ الِاشْتِقَاقَ كَانَ أَوْلَى بِالْمُرَادِ مِمَّا خَالَفَهُ . وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْعِدَّةَ مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجِ عَلَى الزَّوْجَةِ ، وَزَمَانُ الطُّهْرِ أَخَصُّ بِحُقُوقِهِ مَنْ
زَمَانِ الْحَيْضِ لِاخْتِصَاصِهِ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الْوَطْءِ وَيَمْلِكُ إِيقَاعَهُ مِنَ الطَّلَاقِ الْمُبَاحِ ، فَكَذَلِكَ الْعِدَّةُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ بِالطُّهْرِ أَخَصَّ مِنَ الْحَيْضِ . وَلَكَ تَحْرِيرُهُ قِيَاسًا فَنَقُولُ : حَقُّ الزَّوْجِ إِذَا تَفَرَّدَ بِأَحَدِ الزَّمَانَيْنِ كَانَ بِالطُّهْرِ أَخَصَّ مِنْهُ بِالْحَيْضِ كَالْوَطْءِ وَالطَّلَاقِ . وَالِاسْتِدْلَالُ الثَّانِي : أَنَّ الْعِدَّةَ بِالْأَقْرَاءِ تَجْمَعُ حَيْضًا وَطُهْرًا ؛ لِأَنَّهَا عِنْدَنَا ثَلَاثَةُ أَطْهَارٍ تَتَخَلَّلُهَا حَيْضَتَانِ ، وَعِنْدَهُمْ ثَلَاثُ حِيَضٍ يَتَخَلَّلُهَا طُهْرَانِ ، وَأَكْثَرُهُمَا مَتْبُوعٌ وَأَقَلُّهَا تَابِعٌ ، فَكَانَ الطُّهْرُ بِأَنْ يَكُونَ مَتْبُوعًا أَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِطَرْءِ الْحَيْضِ عَلَى الطُّهْرِ فِي الصِّغَرِ وَارْتِفَاعِهِ مِنْ بَقَاءِ الطُّهْرِ فِي الْكِبَرِ . وَالثَّانِي : لِغَلَبَةِ الطُّهْرِ بِكَثْرَتِهِ عَلَى الْحَيْضِ لِقِلَّتِهِ . وَالِاسْتِدْلَالُ الثَّالِثُ : أَنَّ الطَّلَاقَ إِنَّمَا أُبِيحَ فِي الطُّهْرِ وَحُظِرَ فِي الْحَيْضِ ؛ لِيَكُونَ تَسْرِيحًا بِإِحْسَانٍ يَتَعَجَّلُ بِهِ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ وَتُخَفُّفُ بِهِ أَحْكَامُ الْفُرْقَةِ ، وَانْقِضَاءُ الْعِدَّةِ بِالطُّهْرِ أَعْجَلُ مِنَ انْقِضَائِهَا بِالْحَيْضِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي الِابْتِدَاءِ ؛ لِأَنَّهَا تَعْتَدُّ عِنْدَنَا بِالطُّهْرِ الَّذِي طُلِّقَتْ فِيهِ وَلَا تَعْتَدُّ عِنْدَهُمْ بِالْحَيْضِ الَّذِي طُلِّقَتْ فِيهِ . وَالثَّانِي : فِي الِانْتِهَاءِ ؛ لِأَنَّهَا تَنْقَضِي عِنْدَنَا بِدُخُولِ الْحَيْضَةِ الْأَخِيرَةِ وَتَنْقَضِي عِنْدَهُمْ بِاسْتِكْمَالِ الْحَيْضَةِ الْأَخِيرَةِ ، وَمَا وَافَقَ مَقْصُودَ الْإِبَاحَةِ كَانَ أَوْلَى بِالْمُرَادِ مِمَّا وَافَقَ مَقْصُودَ الْحَظْرِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [ الْبَقَرَةِ : ] يَقْتَضِي اسْتِكْمَالَهَا ، وَالِاعْتِدَادُ بِالْأَطْهَارِ مُفْضٍ إِلَى الِاقْتِصَارِ عَلَى اثْنَيْنِ وَبَعْضِ الثَّالِثِ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْقُرْءَ مَا وَقَعَ الِاعْتِدَادُ بِهِ مِنْ قَلِيلِ الزَّمَانِ وَكَثِيرِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَلِيلِ الطُّهْرِ وَكَثِيرِهِ عِنْدَنَا ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَلِيلِ الْحَيْضِ وَكَثِيرِهِ عِنْدَهُمْ ، فَصَارَ الطُّهْرُ الَّذِي طُلِّقَتْ فِيهِ قُرْءًا كَامِلًا وَإِنْ كَانَ زَمَانُهُ قَلِيلًا . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ يَنْطَلِقُ اسْمُ الثَّلَاثِ عَلَى الِاثْنَيْنِ وَبَعْضِ الثَّالِثِ كَمَا قَالَ : الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [ الْبَقَرَةِ : ] وَهُوَ شَهْرَانِ وَبَعْضُ الثَّالِثِ ، وَكَقَوْلِهِمْ لِثَلَاثٍ خَلَوْنَ وَهُوَ يَوْمَانِ وَبَعْضُ الثَّالِثِ ، كَذَلِكَ فِي الْأَقْرَاءِ . وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ : أَنَّ الطُّهْرَ وَإِنْ أَفْضَى إِلَى نُقْصَانِ الثَّالِثِ إِذَا طُلِّقَتْ فِيهِ فَالْحَيْضُ مُفْضٍ إِلَى الزِّيَادَةِ عَلَى الثَّالِثِ إِذَا طُلِّقَتْ فِيهِ ، فَصَارَ النُّقْصَانُ عِنْدَنَا مُسَاوِيًا لِلزِّيَادَةِ عِنْدَهُمْ فِي مُخَالَفَةِ الظَّاهِرِ ثُمَّ عِنْدَهُمْ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ النُّقْصَانِ ، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عِنْدَهُمْ نَسْخٌ .
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ [ الْبَقَرَةِ : ] فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ قَوْلَهُ : وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [ الْبَقَرَةِ : ] كَلَامٌ تَامٌّ مُخْتَصٌّ بِالْعِدَّةِ ، وَقَوْلُهُ : وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ اسْتِئْنَافُ خِطَابٍ مُبْتَدَأٍ وَلَيْسَ بِتَفْسِيرٍ ؛ لِمَا تَقَدَّمَ نُهِيَتْ فِيهِ عَنْ كَتْمِ حَمْلِهَا أَوْ حَيْضِهَا ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ تَفْسِيرًا عَائِدًا لِمَا تَقَدَّمَ ، فَلَا دَلِيلَ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ الطُّهْرَ وَالْحَيْضَ جَمِيعًا فَاسْتَوَيَا . وَالثَّانِي : لَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ الْحَيْضَ ؛ لِأَنَّ بِهِ يُنْقَضُ الطُّهْرُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَلَمْ يَقُلْ فِيهَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الطَّلَاقَ فِي الطُّهْرِ الْمُعْتَدِّ بِهِ لَا يَكُونُ طَلَاقًا فِي الْعِدَّةِ ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ مَا بَعْدَ زَمَانِ الطَّلَاقِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ : لِعِدَّتِهِنَّ أَيْ فِي عِدَّتِهِنَّ كَمَا قَالَ : وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [ الْأَنْبِيَاءِ : ] أَيْ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ [ الطَّلَاقِ : ] وَأَنَّ الِانْتِقَالَ إِلَى الْبَدَلِ مُخَالِفٌ لِلْمُبْدَلِ فَهُوَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لَهُ ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ تَعْتَدُّ بِطُهْرٍ مُقَدَّرٍ بِحَيْضٍ ، فَصَارَتْ بِالْإِيَاسِ مُعْتَدَّةً بِطُهْرٍ مُقَدَّرٍ بِالشُّهُورِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : طَلَاقُ الْأَمَةِ طَلْقَتَانِ وَعَدَّتُهَا حَيْضَتَانِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ ضَعِيفٌ ، وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ : مَدَارُهُ عَلَى مُظَاهِرِ بْنِ أَسْلَمَ وَهُوَ ضَعِيفٌ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا يَكُونُ بِحَيْضَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقَعَ الِاعْتِدَادُ بِالْحَيْضِ ، لِأَنَّ الْعِدَّةَ مُقَدَّرَةٌ بِالْحَيْضِ وَالطُّهْرِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا أَحَدَهُمَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ : اقْعُدِي عَنِ الصَّلَاةِ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ هَذِهِ زِيَادَةٌ فِي الْخَبَرِ لَيْسَتْ بِثَابِتَةٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْقُرْءَ قَدْ يَنْطَلِقُ عَلَى الْحَيْضِ إِمَّا حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا إِذَا انْضَمَّ إِلَى قَرِينِةٍ ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيهِ إِذَا أُطْلِقَ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الطَّرَفِ الثَّانِي : فَهُوَ أَنَّهُ لَا يَسْلَمُ لَهُمُ الطَّرَفَانِ لِأَنَّ
الطَّرَفَ الْأَوَّلَ لَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا عِنْدَهُمْ إِلَّا بِالدُّخُولِ فِي الطُّهْرِ ، وَالطَّرَفَ الْأَوَّلَ لَا يُعْتَدُّ فِيهِ بِالْحَيْضِ إِذَا طُلِّقَتْ فِيهِ فَبَطَلَ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْحَمْلِ فَهُوَ دَلِيلُنَا ؛ لِأَنَّ عِدَّةَ الْحَامِلِ لِزَمَانِ كُمُونِهِ ، وَالْخُرُوجَ مِنْهَا بِطَهُورِهِ ، فَقِيَاسُهُ أَنْ تَكُونَ عِدَّةُ الْحَائِضِ زَمَانَ كُمُونِهِ ، وَالْخُرُوجُ مِنْهَا بِظُهُورِهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ فِي الْحَيْضِ بَرَاءَةَ الرَّحِمِ مِنَ الْحَمْلِ فَهُوَ أَنَّ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ تَكُونُ بِالْحَيْضِ وَهُوَ مُبَرِّئٌ ، وَإِنْ كَانَ الِاعْتِدَادُ بِغَيْرِهِ كَالْوِلَادَةِ تَنْقَضِي بِهَا الْعِدَّةُ وَبَرِئَ بِهَا الرَّحِمُ ، وَإِنْ كَانَ الِاعْتِدَادُ بِمَا تَقَدَّمَهَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْحَيْضِ فِي اسْتِبْرَاءِ الْأَمَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إِنِ اسْتَبْرَأَهَا عَلَى قَوْلِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا يَكُونُ بِالطُّهْرِ كَالْحُرَّةِ فَاسْتَوَيَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَكُونُ بِالْحَيْضِ ، وَالْحُرَّةُ بِالطُّهْرِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اسْتِبْرَاءَ الْأَمَةِ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ ، وَاسْتِبْرَاءَ الْحُرَّةِ لِزَوَالِ الْمِلْكِ ، فَكَانَ اخْتِلَافُ الْمُوجِبَيْنِ دَلِيلًا عَلَى اخْتِلَافِ الْحُكْمَيْنِ . وَالثَّانِي : أَنَّ اسْتِبْرَاءَ الْأَمَةِ مَوْضِعٌ لِاسْتِبَاحَةِ وَطْئِهَا فَكَانَ بِالْحَيْضِ لِيَتَعَقَّبَهُ الطُّهْرُ الْمُبِيحُ ، وَاسْتِبْرَاءَ الْحُرَّةِ مَوْضُوعٌ لِاسْتِبَاحَةِ النِّكَاحِ ، وَعَقْدُ النِّكَاحِ يَجُوزُ فِي الْحَيْضِ كَمَا يَجُوزُ فِي الطُّهْرِ فَاخْتَلَفَا لِاخْتِلَافِ الْمَقْصُودِ بِهِمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ لِلْغُسْلِ بَعْدَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ مَعْنًى تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَالَّذِي أَرَادَ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا الْفَصْلِ الرَّدُّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعِرَاقِيِّينَ فِي مُخَالَفَةِ الظَّاهِرِ فِي الثَّلَاثَةِ الْأَقْرَاءِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا ، وَيُنَاقِضُ أَقَاوِيلَهُمْ فِيهَا ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ قَدْ دَلَّا عَلَى وُجُوبِ ثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ في العدة ، وَزَادَ عَلَيْهَا أَبُو حَنِيفَةَ مَعَ كَوْنِ الزِّيَادَةِ عِنْدَهُ نَسْخًا ، فَقَالَ : إِذَا اسْتَكْمَلَتِ الْحَيْضَةَ الثَّالِثَةَ الَّتِي تَنْقَضِي بِهَا عِنْدَهُ الْعِدَّةُ قَالَ : اعْتَبَرَ الْحَيْضَةَ الثَّالِثَةَ ، فَإِنْ كَانَتْ عَشْرَةَ أَيَّامٍ كَامِلَةً انْقَضَتْ بِهَا الْعِدَّةُ إِذَا تَعَقَّبَهَا الطُّهْرُ سَوَاءٌ اغْتَسَلَتْ أَوْ لَمْ تَغْتَسِلْ ، وَإِنْ كَانَتِ الْحَيْضَةُ الثَّالِثَةُ نَاقِصَةً لِنُقْصَانِهَا عَنْ عَشْرَةِ أَيَّامٍ لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا حَتَّى تَغْتَسِلَ أَوْ يَمُرَّ عَلَيْهَا وَقْتُ الصَّلَاةِ ، وَيَفُوتَ وَهِيَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي الْعِدَّةِ ، وَلِلزَّوْجِ الرَّجْعَةُ " وَكَذَلِكَ يَقُولُ فِي اسْتِبْرَاءِ الْأَمَةِ بِالْحَيْضَةِ : إِنَّهَا كَالْحُرَّةِ فِي الِاسْتِبْرَاءِ قَبْلَ الْغُسْلِ ، فَإِنِ اغْتَسَلَتْ إِلَّا مِقْدَارَ كَفٍّ مِنْ جَسَدِهَا فَكَلَا غُسْلَ ، وَالْعِدَّةُ بَاقِيَةٌ ، وَإِنِ اغْتَسَلَتْ إِلَّا مِقْدَارَ إِصْبَعٍ فَقَدِ انْقَضَتِ الْعِدَّةُ ، وَبَطَلَتِ الرَّجْعَةُ عدة ذوات الأقراء وَحَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ وَإِنْ لَمْ تَسْتَبِحِ الصَّلَاةَ حَتَّى يَعُمَّ الْغَسْلُ جَسَدَهَا ، وَإِنْ تَيَمَّمَتْ فَهِيَ فِي الْعِدَّةِ حَتَّى تَدْخُلَ فِي
الصَّلَاةِ ، وَإِنِ اغْتَسَلَتْ بِسُؤْرِ الْحِمَارِ فَهِيَ فِي الْعِدَّةِ حَتَّى تَتَيَمَّمَ فَتَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ وَإِنْ لَمْ تَدْخُلْ فِي الصَّلَاةِ ، وَلَا يَحِلُّ لَهَا التَّصَرُّفُ فِي نَفْسِهَا حَتَّى تَدْخُلَ فِي الصَّلَاةِ ، وَقَالَ فِي الذِّمِّيَّةِ : تَنْقَضِي عِدَّتُهَا ، وَإِنْ لَمْ تَغْتَسِلْ وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْهَا وَقْتُ الصَّلَاةِ . وَهَذِهِ كُلُّهَا أَقَاوِيلُ مُخْتَلِفَةٌ يَنْقُضُ بَعْضُهَا بَعْضًا ، وَجَمِيعُهَا زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ الْمُقَدَّرِ ، وَقَالَ شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ : لَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ إِلَّا بِالْغُسْلِ وَحْدَهُ مَعَ كَمَالِ الْحَيْضِ ؛ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ بَقَاءَ الْغُسْلِ مِنْ بَقَايَا أَحْكَامِ الْحَيْضِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْكَمَ بِانْقِضَائِهِ مَعَ بَقَاءِ حُكْمِهِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [ الْبَقَرَةِ : ] فَفِي الظَّاهِرِ وُجُوبُ غَيْرِهَا ، فَصَارَتِ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ مُخَالِفَةً الظَّاهِرَ كَالنُّقْصَانِ مِنْهَا ، وَقَالَ : فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ فَأَبَاحَهُنَّ بَعْدَ انْقِضَاءِ أَجَلِهِنَّ التَّصَرُّفَ فِي أَنْفُسِهِنَّ ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ فِيهِ غُسْلًا وَلَا صَلَاةً ؛ وَلِأَنَّهَا عِدَّةٌ مَنَعَتْ مِنَ الْأَزْوَاجِ فَوَجَبَ أَنْ تَرْتَفِعَ قَبْلَ الِاغْتِسَالِ كَالْحَيْضِ الْكَامِلِ ، وَلِأَنَّ مَا انْقَضَتِ الْعِدَّةُ بِكَمَالِ مُدَّتِهِ انْقَضَتْ بِنُقْصَانِ مُدَّتِهِ كَالْحَمْلِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنِ الْغُسْلُ مَشْرُوطًا فِي ابْتِدَائِهَا فَأَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ مَشْرُوطًا فِي انْتِهَائِهَا لِقُوَّةِ الِابْتِدَاءِ وَضَعْفِ الِانْتِهَاءِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ أَنَّ بَقَاءَ الْغُسْلِ مِنْ أَحْكَامِ الْحَيْضِ دَلِيلٌ عَلَى بَقَاءِ الْحَيْضِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فَسَادُ اعْتِبَارٍ بِالْحَيْضِ الْكَامِلِ وَمُرُورِ وَقْتِ الصَّلَاةِ ، فَإِنَّ بَقَاءَ الْغُسْلِ فِيهِمَا لَا يُوجِبُ بَقَاءَ الصَّلَاةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ وُجُوبَ الْغُسْلِ مُسْتَحَقٌّ لِلصَّلَاةِ وَوَطْءِ الزَّوْجِ ، وَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مَشْرُوطًا فِي الْعِدَّةِ فَلَمْ يَكُنْ مَا يُوجَبُ لَهُمَا مُسْتَحَقًّا فِيهِمَا ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ : شَرْطُهُمُ الْغُسْلُ لِلْعِدَّةِ فِي بَعْضِ الْحِيَضِ وَهُوَ وَاجِبٌ فِي كُلِّ الْحِيَضِ ، وَأَوْجَبْتُمُوهُ عَلَى بَعْضِ الْمُعْتَدَّاتِ مِنَ الْمُسَلِّمَاتِ وَلَمْ تُوجِبُوهُ عَلَى الذِّمِّيَّاتِ ، وَجَمِيعُهُنَّ فِي الْعِدَّةِ سَوَاءٌ ، وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَنِ اغْتَسَلَتْ إِلَّا قَدْرَ الْكَفِّ وَبَيْنَ مَنِ اغْتَسَلَتْ إِلَّا قَدْرَ الْإِصْبَعِ وَكِلَاهُمَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ وَلَا يُبِيحُ الصَّلَاةَ ، وَأَقَمْتُمُ التَّيَمُّمَ مَقَامَ الْغُسْلِ فِي اسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ وَلَمْ تُقِيمُوهُ مَقَامَهُ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ مَعَ ارْتِفَاعِ الْحَدَثِ عِنْدَكُمْ بِالتَّيَمُّمِ وَأَقَمْتُمُ الْغُسْلَ بِسُؤْرِ الْحِمَارِ مَعَ التَّيَمُّمِ مَقَامَ الْغُسْلِ بِمَاءِ الْقِرَاحِ وَمَنَعْتُمُوهَا مِنَ التَّصَرُّفِ فِي نَفْسِهَا مَعَ انْقِضَاءِ عَدَّتِهَا وَإِبْطَالِ رَجْعَتِهَا ، وَلَمْ تَحْكُمُوا بِذَلِكَ فِي غُسْلِهَا فَجَعَلْتُمُوهَا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ مُعْتَدَّةً وَغَيْرَ مُعْتَدَّةٍ ، وَهَذَا مُسْتَحِيلٌ ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ : هَدَمْتُمْ بِذَلِكَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَصْلًا فِي أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ وَقَدْ مَنَعْتُمْ بِهِ مِنَ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ ، وَمِنَ النَّفْيِ مَعَ الْجَلْدِ وَلَمْ تَمْنَعُوا مِنْ وُجُوبِ الْغُسْلِ مَعَ الْأَقْرَاءِ .
فَإِنْ قَالُوا : رُوِّينَاهُ عَنِ الصَّحَابَةِ قِيلَ : فَقَدْ نَسَخْتُمْ عَلَى قَوْلِكُمُ الْقُرْآنَ بِقَوْلِ الصَّحَابَةِ ، وَهُوَ اسْتِوَاءٌ لِلْحَالِ وَحَسْبُكَ بِهَذَا التَّنَاقُضِ فَسَادًا ، وَبِهَذَا الِاعْتِذَارِ تَقْصِيرًا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : ( وَلَوْ طَلَّقَهَا طَاهِرًا قَبْلَ جِمَاعٍ أَوْ بَعْدَهُ ثَمَّ حَاضَتْ بَعْدَهُ بِطَرْفَةٍ فَذَلِكَ قُرْءٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ فِي الطُّهْرِ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ ، وَلِلْبَاقِي مِنْهُ قُرُوءٌ مُعْتَدٌّ بِهِ سَوَاءٌ جَامَعَهَا فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ أَوْ لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ . وَقَالَ أَبُو عَبِيدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ : إِنْ جَامَعَهَا فِيهِ لَمْ يُعْتَدَّ بِبَاقِيهِ ؛ لِأَنَّهُ طَلَاقُ بِدْعَةٍ كَالْحَيْضِ . وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ ، فَلَوْ لَمْ يُحْتَسَبْ بِطُهْرِ الطَّلَاقِ صَارَتْ أَرْبَعًا ، وَلِأَنَّهُ مُنِعَ مِنَ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ لِئَلَّا تَطُولَ عِدَّتُهَا لِفَوَاتِ الِاعْتِدَادِ بِحَيْضِهَا ، وَتَرْكُهُ الِاعْتِدَادَ بِطُهْرِ الْجِمَاعِ أَبْعَدُ لِعِدَّتِهَا وَأَسْوَأُ حَالًا مِنَ الطَّلَاقِ فِي حَيْضِهَا ، فَإِذَا ثَبَتَ الِاعْتِدَادُ بِهِ كَالطُّهْرِ الَّذِي لَمْ يُجَامِعُ فِيهِ اشْتَمَلَتْ فِيهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي أَوَّلِ الْعِدَّةِ . وَالثَّانِي : فِي آخِرِهَا . فَأَمَّا أَوَّلُ الْعِدَّةِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الطَّلَاقِ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي حَيْضٍ أَوْ طُهْرٍ . فَإِنْ كَانَ فِي حَيْضٍ فَهُوَ طَلَاقُ بِدْعَةٍ وَلَا يُعْتَدُّ بِبَقِيَّةِ الْحَيْضِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ مُخَالِفِنَا ، فَإِذَا دَخَلَتْ فِي الطُّهْرِ الْمُقْبِلِ فَهُوَ أَوَّلُ عِدَّتِهَا عِنْدَنَا ، وَيَكُونُ اعْتِدَادُهَا بِثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ كَوَامِلَ ، وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ فِي طُهْرٍ فَهُوَ طَلَاقُ سُنَّةٍ وَلَهُ حَالَتَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَبْقَى مِنْهُ بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ فِيهِ زَمَانٌ يَقَعُ الِاعْتِدَادُ بِهِ فَيَكُونُ الْبَاقِي مِنْهُ قُرْءًا وَإِنْ قَلَّ ، وَحَدَّهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ بِثَلَاثَةِ أَزْمِنَةٍ ؛ زَمَانٍ لِلَفْظِ الطَّلَاقِ ، وَزَمَانٍ لِوُقُوعِهِ ، وَزَمَانٍ لِلِاعْتِدَادِ بِهِ ، وَهَذَا الَّذِي اعْتَبَرَهُ مِنْ زَمَانِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ بَعْدَ زَمَانِ التَّلَفُّظِ بِهِ وَلَا يَتَمَيَّزُ فِي التَّصَوُّرِ ؛ لِأَنَّهُ وَاقِعٌ بِاسْتِيفَاءِ لَفْظِهِ فَلَمْ يَحْتَجْ بَعْدَهُ إِلَى زَمَانٍ يَخْتَصُّ بِهِ ، وَصَارَ مَحْدُودًا بِزَمَانَيْنِ ، زَمَانِ التَّلَفُّظِ بِالطَّلَاقِ وَزَمَانِ الِاعْتِدَادِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ فِي آخِرِ الطُّهْرِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ بَعْدَ التَّلَفُّظِ بِهِ إِمَّا بِأَنْ وَقَعَ ذَلِكَ اتِّفَاقًا ، وَإِمَّا بِأَنْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ فِي آخِرِ أَجْزَاءِ طُهْرِكِ ، فَاسْتَوْعَبَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ آخِرَ الطُّهْرِ فَقَدْ حَكَى أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ فِيهِ وَجْهَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا :
أَحَدُهُمَا : تَعْتَدُّ بِذَلِكَ الطُّهْرِ قُرْءًا ، وَيَكُونُ زَمَانُ الطَّلَاقِ زَمَانًا لِوُقُوعِهِ وَلِلْعِدَّةِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الطَّلَاقُ طَلَاقَ سُنَّةٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، أَنَّ زَمَانَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ لَا يَقَعُ بَعْدَ الِاعْتِدَادِ ، فَإِنْ لَمْ يَبْقَ بَعْدَهُ حَرُورُ الطُّهْرِ اعْتَدَّتْ بِمَا تَسْتَقْبِلُهُ مِنَ الطُّهْرِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ طَلَاقَ بِدْعَةٍ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ طَوَّلَ الْعِدَّةَ عَلَيْهَا ، وَنَحْنُ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ إِذَا طَلَّقَهَا فِي آخِرِ أَجْزَاءِ حَيْضِهَا . فَإِنْ قِيلَ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ : إِنَّ الطَّلَاقَ فِي آخِرِ الطُّهْرِ طَلَاقُ سُنَّةٍ كَانَ هَذَا طَلَاقَ بِدْعَةٍ . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ ذَاكَ طَلَاقُ بِدْعَةٍ لِمَا فِيهِ مِنْ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ كَانَ هَذَا طَلَاقَ سُنَّةٍ لِاتِّصَالِهِ بِالْعِدَّةِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا آخِرُ الْعِدَّةِ فَقَدْ رَوَى الْمُزَنِيُّ وَالرَّبِيعُ أَنَّهَا إِذَا رَأَتْ دَمَ الْحَيْضِ بَعْدَ الطُّهْرِ الثَّالِثِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِرُؤْيَةِ الدَّمِ . وَرَوَى الْبُوَيْطِيُّ وَحَرْمَلَةُ : أَنَّهُ لَا تَقْضِي عِدَّتُهَا حَتَّى يَمْضِيَ مِنْ دَمِ الْحَيْضِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اخْتِلَافِ هَذَا النَّقْلِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ عِدَّتَهَا تَنْقَضِي بِرُؤْيَةِ الدَّمِ عَلَى مَا رَوَاهُ الْمُزَنِيُّ وَالرَّبِيعُ ؛ لِأَنَّ تَحْدِيدَ عَدَّتِهَا ثَلَاثَةَ أَقَرَاءٍ يَمْنَعُ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ عِدَّتَهَا لَا تَنْقَضِي إِلَّا بِمُضِيِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ عَلَى مَا رَوَاهُ الْبُوَيْطِيُّ وَحَرْمَلَةُ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ حَيْضٌ بِيَقِينٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ اخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ ، فَرِوَايَةُ الْمُزَنِيِّ وَالرَّبِيعِ أَنَّ عِدَّتَهَا تَنْقَضِي بِرُؤْيَةِ الدَّمِ إِذَا كَانَتْ مُعْتَادَةً وَرَأَتِ الدَّمَ فِي وَقْتِ الْعَادَةِ ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْهُ أَنَّهُ حَيْضٌ ؛ وَرِوَايَةُ الْبُوَيْطِيِّ وَحَرْمَلَةَ أَنَّ الْعِدَّةَ لَا تَنْقَضِي إِلَّا بِمُضِيِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إِذَا كَانَتْ مُبْتَدِأَةً أَوْ مُعْتَادَةً وَرَأَتِ الدَّمَ فِي غَيْرِ أَيَّامِ الْعَادَةِ ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنَ ابْتِدَائِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَيْضٍ حَتَّى تَسْتَدِيمَ يَوْمًا وَلَيْلَةً ، فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنَ اعْتِبَارِ الدَّمِ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِيهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي زَمَانِهِ ، هَلْ يَكُونُ مِنَ الْعِدَّةِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مِنَ الْعِدَّةِ لِاعْتِبَارِهِ فِيهَا ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ رَجْعَتُهَا فِيهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَتَزَوَّجَ فِيهِ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَلَيْسَ مِنْهَا كَغَسْلِ الرَّأْسِ فِي تَجَاوُزِهِ إِلَى مَا لَيْسَ مِنَ الْوَجْهِ لِيَسْتَوْفِيَ بِهِ جَمِيعَ الْوَجْهِ ، كَالصَّائِمِ يَسْتَزِيدُ بِإِمْسَاكِ جُزْأَيْنِ مِنْ طَرَفَيِ اللَّيْلِ ؛ لِيَسْتَوْفِيَ بِهِ إِمْسَاكَ جَمِيعِ النَّهَارِ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ رَجْعَتُهَا فِيهِ ، وَيَجُوزُ أَنْ تَتَزَوَّجَ فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَتُصَدَّقُ عَلَى ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ فِي أَقَلِّ مَا يُمْكِنُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَا أَقَلُّ الزَّمَانِ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ تَعْتَدَّ فِيهِ بِثَلَاثَةِ أَقَرَاءٍ فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ : أَقَلُّهُ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا وَسَاعَتَانِ ، وَبَيَانُهُ أَنْ يُطَلِّقَ مِنْ آخِرِ الطُّهْرِ ، فَتَكُونُ السَّاعَةُ الْبَاقِيَةُ مِنْهُ قُرْءًا ثُمَّ يَمْضِي أَقَلُّ الْحَيْضِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ ، ثُمَّ أَقَلُّ الطُّهْرِ للحائض خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، وَهُوَ الْقُرْءُ الثَّانِي ، ثُمَّ أَقَلُّ الْحَيْضِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ ، ثُمَّ أَقَلُّ الطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، وَهُوَ الْقُرْءُ الثَّالِثُ ، فَإِذَا طَعَنَتْ فِي أَوَّلِ سَاعَةٍ مِنْ حَيْضَتِهَا الثَّالِثَةِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا اعْتِبَارًا بِالْيَقِينِ فِي أَقَلِّ الطُّهْرَيْنِ وَذَلِكَ ثَلَاثُونَ يَوْمًا ، وَأَقَلِّ حَيْضَتَيْنِ وَذَلِكَ يَوْمَانِ وَلَيْلَتَانِ وَسَاعَةٌ فِي الِابْتِدَاءِ مِنْ طُهْرٍ هِيَ قُرْءٌ ، وَسَاعَةٌ فِي الِانْتِهَاءِ مِنْ حَيْضٍ يُعْلَمُ بِهَا انْقِضَاءُ الطُّهْرِ . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : أَقَلُّ مَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا وَسَاعَةٌ وَاحِدَةٌ اعْتِبَارًا بِالْأَقَلِّ مِنْ ثَلَاثِ حَيْضَاتٍ وَطُهْرَيْنِ ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ الْحَيْضِ عِنْدَهُمَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ ؛ وَبَيَانُهُ أَنْ يُطَلِّقَ فِي آخِرِ الطُّهْرِ الْمُتَّصِلِ بِالْحَيْضِ ، ثُمَّ يَمْضِي ثَلَاثُ حَيْضَاتٍ أَقَلُّهَا تِسْعَةُ أَيَّامٍ يَتَخَلَّلُهَا طُهْرَانِ أَقَلُّهَا ثَلَاثُونَ يَوْمًا ، ثُمَّ تَدْخُلُ فِي أَوَّلِ سَاعَةٍ مِنْ طُهْرِهَا فَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : أَقَلُّ مَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ للمعتدة بالأقراء سِتُّونَ يَوْمًا وَسَاعَةٌ مِنْ طُهْرِهَا اعْتِبَارًا بِالْأَكْثَرِ مِنْ ثَلَاثِ حَيْضَاتٍ ، وَذَلِكَ ثَلَاثُونَ يَوْمًا ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ عِنْدَهُ وَالْأَقَلُّ مِنْ طُهْرَيْنِ ، وَذَلِكَ ثَلَاثُونَ يَوْمًا وَسَاعَةٌ يَدْخُلُ بِهَا فِي الطُّهْرِ الثَّالِثِ فَوَافَقَ فِي اعْتِبَارِ أَقَلِّ الطُّهْرِ ، وَخَالَفَنَا وَخَالَفَ صَاحِبَهُ فِي اعْتِبَارِهِ لِأَكْثَرِ الْحَيْضِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ اعْتِبَارُ أَقَلِّ الطُّهْرِ وَجَبَ اعْتِبَارُ أَقَلِّ الْحَيْضِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا أَوْجَبَ اعْتِبَارَ الْيَقِينِ وَجَبَ اعْتِبَارُ الْأَقَلِّ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا ، فَلَا يَخْلُو حَالُ طَلَاقُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ فِي طُهْرٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ فِي حَيْضٍ . وَالثَّالِثُ : أَنْ لَا يَعْلَمَ وَاحِدًا مِنْهُمَا . فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ فِي طُهْرٍ رَجَعَ إِلَى . قَوْلِهَا فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ
[ الْبَقَرَةِ : ] . يَعْنِي مِنْ حَمْلٍ وَحَيْضٍ فَوَجْهُ الْوَعِيدِ النَّهْيُ لِقَبُولِ قَوْلِهِنَّ فِيهَا ، ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ مَا ادَّعَتْهُ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِأَقَلِّ مَا يُمْكِنُ ، وَذَلِكَ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا وَسَاعَتَانِ فَقَوْلُهَا فِيهِ مَقْبُولٌ ، فَإِنْ أَكْذَبَهَا الزَّوْجُ أَحْلَفَهَا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ أَزْيَدَ مِنْ أَقَلِّ الْمُمْكِنِ فَأَوْلَى أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُهَا فِيهِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ مِنَ الْمُمْكِنِ كَادِّعَائِهَا انْقِضَاءَ ثَلَاثَةِ أَقَرَاءٍ فِي ثَلَاثِينَ يَوْمًا ، فَقَوْلُهَا مَرْدُودٌ لِاسْتِحَالَتِهِ ، ثُمَّ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا إِذَا اسْتَكْمَلَتْ أَقَلَّ الْمُمْكِنِ وَهُوَ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا وَسَاعَتَانِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا ، وَإِنْ لَمْ تَسْتَأْنِفِ الدَّعْوَى لِدُخُولِهِ ذَلِكَ فِي دَعْوَى الْأَوَّلِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا تَنْقَضِي الْعِدَّةُ مَا لَمْ تَسْتَأْنِفِ الدَّعْوَى ، لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ مَرْدُودَةٌ بِالِاسْتِحَالَةِ ، فَإِنِ اسْتَأْنَفَتِ الدَّعْوَى فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ قَبْلَ قَوْلِهَا مَعَ يَمِينِهَا إِنْ أَكْذَبَتْ نَفْسَهَا ، وَإِلَّا فَهِيَ بَاقِيَةٌ فِي الْعِدَّةِ ، وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهَا طُلِّقَتْ فِي حَيْضٍ فَأَقَلُّ مَا يَنْقَضِي بِهِ عَدَّتُهَا سَبْعَةٌ وَأَرْبَعُونَ يَوْمًا وَسَاعَةٌ وَاحِدَةٌ وَبَيَانُهُ أَنْ يُطَلِّقَ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ حَيْضِهَا ، فَتَسْتَقْبِلُ بَعْدَهَا ثَلَاثَةَ أَطْهَارٍ أَقَلُّهُمَا خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ يَوْمًا يَتَخَلَّلُهَا حَيْضَتَانِ أَقَلُّهَا يَوْمَانِ وَلَيْلَتَانِ ، ثُمَّ تَطْعَنُ فِي أَوَّلِ سَاعَةٍ مِنَ الْحَيْضِ فَتَقْضِي عِدَّتَهَا ، فَإِنِ ادَّعَتِ انْقِضَاءَهَا فِي هَذَا الْقَدْرِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ قُبِلَ قَوْلُهَا ، وَإِنِ ادَّعَتِ انْقِضَاءَهَا فِي أَقَلَّ مِنْهُ لَمْ يُقْبَلْ ، وَكَانَ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ وُقُوعُ الطَّلَاقِ قِيلَ : كَانَ فِي حَيْضٍ أَوْ طُهْرٍ رُجِعَ إِلَى قَوْلِهَا فِيهِ ، كَمَا يُرْجَعُ إِلَى قَوْلِهَا فِي الطَّلَاقِ إِذَا عَلَّقَهُ بِحَيْضِهَا أَوْ طُهْرِهَا ، فَإِنِ ادَّعَتْ وُقُوعَ الطَّلَاقِ فِي حَيْضِهَا فَهُوَ أَغْلَظُ أَمْرَيْهَا فَيُقْبَلُ قَوْلُهَا فِيهِ وَلَا يَمِينَ عَلَيْهَا لِلزَّوْجِ إِنْ أَكْذَبَهَا مَا لَمْ تُرِدْ بِهِ إِسْقَاطَ نَفَقَتِهَا ، وَكَانَ أَقَلُّ مَا تَنْقَضِي بِهِ عَدَّتُهَا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ سَبْعَةٍ وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا وَسَاعَةٍ ، وَإِنِ ادَّعَتْ وُقُوعَ الطَّلَاقِ فِي الطُّهْرِ فَقَوْلُهَا فِيهِ مَقْبُولٌ وَلِلزَّوْجِ إِحْلَافُهَا إِنْ أَكْذَبَهَا ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إِلَّا مِنْ جِهَتِهَا ، وَيَكُونُ أَقَلُّ مَا يَقْتَضِي بِهِ الْعِدَّةُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا وَسَاعَتَيْنِ .
فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ عَادَةُ الْمُطَلَّقَةِ أحوالها إذا كانت تحيض خمسة أيام وتطهر عشرين أَنْ تَحِيضَ خَمْسَةَ أَيَّامٍ وَتَطْهُرَ عِشْرِينَ يَوْمًا فَلَا يَخْلُو حَالُهَا إِذَا طُلِّقَتْ مِنْ أَنْ تَدَّعِيَ انْتِقَالَ الْعَادَةِ أَوْ لَا تَدَّعِيَهَا ، فَإِنْ لَمْ تَدَّعِ انْقِضَاءَ الْعَادَةِ نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ طَلَاقُهَا فِي طُهْرٍ فَأَقَلُّ مَا تَنْقَضِي بِهِ عِدَّتُهَا خَمْسُونَ يَوْمًا وَسَاعَتَانِ وَبَيَانُهُ أَنْ تُطَلَّقَ فِي آخِرِ طُهْرِهَا فَيَكُونُ قُرْءًا ثُمَّ طُهْرَانِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا وَحَيْضَتَانِ عَشَرَةُ أَيَّامٍ ثُمَّ سَاعَةٌ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ ، وَإِنْ طُلِّقَتْ فِي الْحَيْضِ فَأَقَلُّ مَا تَنْقَضِي بِهِ عَدَّتُهَا سَبْعُونَ يَوْمًا وَسَاعَةٌ وَاحِدَةٌ وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَطْهَارٍ كَوَامِلُ هِيَ سِتُّونَ يَوْمًا يَتَخَلَّلُهَا حَيْضَتَانِ هِيَ عَشَرَةُ أَيَّامٍ وَسَاعَةٌ مِنَ الْحَيْضَةِ الَّتِي يَنْقَضِي بِهَا الطُّهْرُ الثَّالِثُ ، فَإِنِ ادَّعَتْ فِي أَحَدِ الطَّلَاقَيْنَ أَقَلَّ
مِنْ هَذَا الْقَدْرِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهَا إِذَا كَانَتْ بَاقِيَةً عَلَى عَادَتِهَا ، فَإِنِ ادَّعَتِ انْتِقَالَ عَادَتِهَا فِي الْحَيْضِ إِلَى أَقَلِّهِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَفِي الطُّهْرِ إِلَى أَقَلِّهِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، فَفِي قَبُولِ قَوْلِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ مَقْبُولًا لِإِمْكَانِهِ كَمَا قِيلَ فِي ابْتِدَائِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ : إِنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي الِانْتِقَالِ عَنِ الْعَادَةِ ؛ لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ أَصْلًا مُتَيَقَّنًا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَأَقَلُّ مَا عَلِمْنَاهُ مِنَ الْحَيْضِ يَوْمٌ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : وَهَذَا أَوْلَى ؛ لِأَنَهُ زِيَادَةٌ فِي الْخَبَرِ وَالْعِلْمِ ، وَقَدْ يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ يَوْمًا بِلَيْلَةٍ ، فَيَكُونُ الْمُفَسَّرُ مِنْ قَوْلِهِ يَقْضِي عَلَى الْمُجْمَلِ وَهَكَذَا أَصْلُهُ فِي الْعِلْمِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ مَضَى فِي كِتَابِ الْحَيْضِ أَقَلُّ الْحَيْضِ ، وَإِعَادَتُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْعِدَّةِ بِالْأَقْرَاءِ . فَذَكَرَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ أَقَلَّهُ يَوْمٌ ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : أَقَلُّهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اخْتِلَافِ هَذَيْنِ النَّصَّيْنِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَقَلُّهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ . وَالثَّانِي : أَقَلُّهُ يَوْمٌ وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ فَاسِدَةٌ ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَيْنِ فِيمَا احْتَمَلَهُ الِاجْتِهَادُ مِنْ تَعَارُضِ ظَاهِرَيْنِ أَوْ تَرْجِيحِ قِيَاسَيْنِ ، وَأَقَلُّ الْحَيْضَتَيْنِ مُعْتَبَرٌ بِالْوُجُودِ الْمُعْتَادِ ، فَإِنْ وُجِدَ الْأَقَلُّ بَطَلَ الْأَكْثَرُ ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ بَطَلَ الْأَقَلُّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي لِأَصْحَابِنَا : أَنَّ أَقَلَّهُ يَوْمٌ بِغَيْرِ لَيْلَةٍ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَرَى أَنَّ أَقَلَّهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ إِلَى أَنْ صَحَّ عِنْدَهُ مَا قَالَهُ الْأَوْزَاعِيُّ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُمُ امْرَأَةٌ تَحِيضُ بِالْغَدَاةِ وَتَطْهُرُ بِالْعَشِيِّ ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ بِمِثْلِ ذَلِكَ فَصَارَ إِلَيْهِ وَرَجَعَ عَنِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَصَحُّ الطُّرُقِ الثَّلَاثَةِ أَنَّ أَقَلَّهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ ، وَقَوْلُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ " أَقَلُّهُ يَوْمٌ " يُرِيدُ بِهِ لَيْلَتَهُ ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تَذْكُرُ الْأَيَّامَ ، وَتُرِيدُ بِهَا مَعَ اللَّيَالِي وَ تَذْكُرُ اللَّيَالِيَ وَتُرِيدُ بِهَا مَعَ الْأَيَّامِ وَيُجْمَعُ بَيْنَهَا لِلتَّأْكِيدِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا [ مَرْيَمَ : ] . وَأَرَادَ بِأَيَّامِهَا ، وَقَالَ تَعَالَى : ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا [ آلِ عِمْرَانَ : ] . وَأَرَادَ بِلَيَالِيهَا ، فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ وَافَقَ عَلَى هَذَا ، فِي أَنَّ أَقَلَّ الْحَيْضِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَخَالَفَ فِي الْعِلَّةِ قَالَ : لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ فِي الْخَبَرِ وَالْعِلْمِ ، وَهَذَا تَعْلِيلٌ فَاسِدٌ ، لِأَنَّ زِيَادَةَ الْعِلْمِ وُجُودُ الْأَقَلِّ لَا وُجُودَ الْأَكْثَرِ ، وَلَوْ كَانَ هَذَا التَّعْلِيلُ صَحِيحًا لَكَانَ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ تَحْدِيدِ أَقَلِّهِ بِالثَّلَاثِ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّهُ أَزْيَدُ عِلْمًا ، وَأَحْسَبُ الْمُزَنِيَّ لَمْ يَزِدْ مَا تَوَهَّمَهُ
أَصْحَابُنَا مِنْ زِيَادَةِ الْعِلْمِ بِالْوُجُودِ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ زِيَادَةَ الْعِلْمِ بِالنَّقْلِ عَنِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّنْ لَا يَخِيلُ عَلَيْهِ مِثْلُ هَذَا فَيُنْسَبَ إِلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَإِنْ عَلِمْنَا أَنَّ طُهْرَ امْرَأَةٍ أَقَلُّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ جَعَلْنَا الْقَوْلَ فِيهِ قَوْلَهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، لِأَنَّ أَقَلَّ الطُّهْرَيْنِ الْحَيْضَتَيْنِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا اعْتِبَارًا بِأَقَلِّ الْوُجُودِ الْمُعْتَادِ ، لِأَنَّ مَا لَمْ يَتَقَدَّرْ بِالشَّرْعِ وَاللُّغَةِ تَقَدَّرَ بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ كَالْقَبْضِ وَالتَّفَرُّقِ ، فَلَوْ وَجَدْنَا طُهْرًا مُعْتَادًا كَانَ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا انْتَقَلْنَا إِلَيْهِ وَعُمِلَ عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَتَكَرَّرَ طُهْرُ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ مِرَارًا مُتَوَالِيَةً أَقَلُّهَا ثَلَاثُ مِرَارٍ مِنْ غَيْرِ مَرَضٍ وَلَا عَارِضٍ ، فَإِنْ تَفَرَّقَ لَمْ يَصِرْ عَادَةً . وَإِمَّا بِأَنْ يُوجَدَ مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ جَمَاعَةِ نِسَاءٍ أَقَلُّهُنَّ ثَلَاثُ نِسْوَةٍ ، وَهَلْ يُرَاعَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي فَصْلٍ وَاحِدٍ مِنْ عَامٍ وَاحِدٍ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُرَاعَى وُجُودُ ذَلِكَ مِنْهُنَّ فِي فَصْلٍ وَاحِدٍ مِنْ عَامٍ وَاحِدٍ ، فَإِنِ اتُّفِقَ عَلَيْهِ فِي فَصْلَيْنِ مَنْ عَامٍ وَاحِدٍ أَوْ فَصْلٍ وَاحِدٍ مِنْ عَامَيْنِ لَمْ يَصِرْ عَادَةً مُعْتَبَرَةً لِيَكُونَ اخْتِلَافُ طِبَاعِهِنَّ مَعَ اتِّفَاقِ زَمَانِهِنَّ شَاهِدًا عَلَى صِحَّةِ الْعَادَةِ احْتِيَاطًا لَهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ ، وَإِنِ اخْتَلَفَ فِي الْفُصُولِ وَالْأَعْوَامِ جَازَ وَصَارَ عَادَةً لِيَكُونَ أَنْفَى لِلتَّوَاطُؤِ وَأَبْعَدَ مِنَ التُّهْمَةِ وَلَا يُقْبَلُ ذَلِكَ إِلَّا مِنْ نِسَاءٍ ثِقَاتٍ تَجُوزُ شَهَادَتُهُنَّ لِمَا فِيهِ مِنْ إِثْبَاتِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ ، وَلَا يُقْبَلُ خَبَرُ الْمُعْتَدَّةِ مَعَهُنَّ فِي حَقِّ نَفْسِهَا لِتَوَجُّهِ التُّهْمَةِ إِلَيْهَا ، وَفِي قَبُولِهَا فِي حَقِّ غَيْرِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُقْبَلُ لِرَدِّهِ بِالتُّهْمَةِ . وَالثَّانِي : لَا تُقْبَلُ ، لِأَنَّهَا ثِقَةٌ فَإِذَا انْتَقَلْنَا فِي أَقَلِّ الطُّهْرِ عَنِ الْخَمْسَةَ عَشَرَ إِلَى مَا هُوَ أَقَلُّ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ وَاعْتَدَّتِ الْمُعْتَدَّةُ انْقِضَاءَ عَدَّتِهَا بِالطُّهْرِ الْأَقَلِّ قُبِلَ قَوْلُهَا فِيمَا نَقْضِي عَنْهَا ، وَإِلَى وَقْتِنَا مِنْ هَذَا الزَّمَانِ لَمْ يَسْتَمِرَّ طُهْرٌ نَقْضِي عَنْهَا فَلَا يُقْبَلُ فِيهِ قَوْلٌ ، وَإِنْ لَمْ يَنْتَقِلْ عَنِ الْخَمْسَةَ عَشَرَ بِأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا مُعْتَدَّةً وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَكَذَلِكَ تُصَدَّقُ عَلَى الصِّدْقِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ كَمَا قَالَ : إِذَا ادَّعَتِ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ بِالسَّقْطِ كَانَ قَوْلُهَا مَقْبُولًا إِذَا أَمْكَنَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ
[ الْبَقَرَةِ : ] . وَإِمْكَانُهُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ ثَمَانِينَ يَوْمًا مِنْ وَطْئِهِ ، وَإِنَّمَا اعْتُبِرَ بِالثَّمَانِينَ ، لِأَنَّ أَقَلَّ حَمْلٍ يَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ أَنْ يَكُونَ مُضْغَةً مُخَلَّقَةً . وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيُخْلَقُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ نُطْفَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا ، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَلَا يَقَعُ الِاعْتِدَادُ بِإِسْقَاطِهِ قَبْلَ الثَّمَانِينَ ، وَقُبِلَ قَوْلُهَا بَعْدَهَا ، وَلَا يَلْزَمُهَا إِحْضَارُ السَّقْطِ ؛ لِأَنَّهَا لَوْ أَحْضَرَتْهُ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ مِنْهَا إِلَّا بِقَوْلِهَا . فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الشُّهُورِ فَادَّعَتِ انْقِضَاءَ عَدَّتِهَا ، وَأَكْذَبَهَا الزَّوْجُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ دُونَهَا ، لِأَنَّ الشُّهُورَ مُقَدَّرَةٌ بِالشَّرْعِ ، وَالْحَلِفُ فِيهَا إِنَّمَا هُوَ حَلِفٌ فِي زَمَانِ الطَّلَاقِ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ فِي زَمَانِ طَلَاقِهِ كَمَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي أَصْلِ الطَّلَاقِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ رَأَتِ الدَّمَ فِي الثَّالِثَةِ دَفْعَةً ثُمَّ ارْتَفَعَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً أَوْ أَكْثَرَ ، فَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ الَّذِي رَأَتْ فِيهِ الدَّفْعَةَ فِي أَيَّامِ حَيْضِهَا وَرَأَتْ صُفْرَةً أَوْ كُدْرَةً أَوْ لَمْ تَرَ طُهْرًا حَتَّى يُكْمِلَ يَوْمًا وَلَيْلَةً فَهُوَ حَيْضٌ ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ أَيَّامِ الْحَيْضِ فَكَذَلِكَ إِذَا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ رُؤْيَتِهَا الدَّمَ وَالْحَيْضِ قَبْلَهُ قَدْرَ طُهْرٍ ، وَإِنْ رَأَتِ الدَّمَ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَمْ يَكُنْ حَيْضًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ عِدَّةَ الْمُطَلَّقَةِ فِي الطُّهْرِ تَنْقَضِي بِدُخُولِهَا فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ ، وَالْمُطَلَّقَةُ فِي الْحَيْضِ تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِدُخُولِهَا فِي الْحَيْضَةِ الرَّابِعَةِ ، فَوَصَفَ الشَّافِعِيُّ حَالَ الْحَيْضَةِ الْأَخِيرَةِ لِتَعَلُّقِ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ بِهَا ، فَإِذَا رَأَتْ دَمَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ بَعْدَ الطُّهْرِ الثَّالِثِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي أَيَّامِ الْعَادَةِ ، أَوْ يَكُونَ فِي غَيْرِهَا ، فَإِنْ كَانَ فِي أَيَّامِ الْعَادَةِ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَتَّصِلَ يَوْمًا وَلَيْلَةً ، فَيَكُونُ حَيْضًا سَوَاءٌ بَلَغَ قَدْرَ عَادَتِهَا مِنَ الْحَيْضِ أَوْ نَقَصَ عَنْهُ ، لِأَنَّ الْحَيْضَ قَدْ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الدَّمُ أَسْوَدَ أَوْ كَانَ صُفْرَةً أَوْ كُدْرَةً ؛ لِأَنَّ الصُّفْرَةَ وَالْكُدْرَةَ فِي أَيَّامِ الْعَادَةِ حَيْضٌ بِإِجْمَاعِ أَصْحَابِنَا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِدُخُولِهَا فِي هَذَا الْحَيْضِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ شَرْحِ الْمَذْهَبِ فِيهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَنْقَطِعَ لِأَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَتَّصِلَ الطُّهْرُ الَّذِي بَعْدَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ الدَّمُ
النَّاقِصُ عَنِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ حَيْضًا لِنُقْصَانِهِ عَنْ أَقَلِّ الْحَيْضِ ، وَيَكُونُ دَمَ فَسَادٍ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الطُّهْرِ فِي بَقَاءِ الْعِدَّةِ ، وَيَكُونُ مَا بَعْدَهُ مِنَ الطُّهْرِ مُضَافًا إِلَى الطُّهْرِ الْأَوَّلِ ، وَجَمِيعُهُمَا طُهْرٌ وَاحِدٌ وَيَكُونُ مَا بَعْدَهُ مِنَ الدَّمِ الْمُسْتَقْبَلِ هُوَ الْحَيْضَ الَّذِي تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ إِذَا اتَصَلَ يَوْمًا وَلَيْلَةً . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَتَّصِلَ الطُّهْرُ الَّذِي بَعْدَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا حَتَّى يُرَى الدَّمُ فَيُلَفَّقُ بَيْنَ الدَّمَيْنِ إِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا أَقَلُّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، فَإِنِ اسْتَكْمَلَ يَوْمًا وَلَيْلَةً كَانَ الْأَوَّلُ حَيْضًا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ ، وَإِنْ لَمْ تَسْتَكْمِلْ بِالتَّلْفِيقِ يَوْمًا وَلَيْلَةً فَلَيْسَ بِحَيْضٍ ، وَهِيَ بَاقِيَةٌ فِي الْعِدَّةِ .
فَصْلٌ : وَإِنْ رَأَتِ الدَّمَ فِي غَيْرِ أَيَّامِ الْعَادَةِ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَرَاهُ قَبْلَ اسْتِكْمَالِ الطُّهْرِ الْأَخِيرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَلَا يَكُونُ حَيْضًا لِوُجُودِهِ قَبْلَ اسْتِكْمَالِ الطُّهْرِ وَسَوَاءٌ اتَّصَلَ يَوْمًا وَلَيْلَةً أَوِ انْقَطَعَ لِأَقَلَّ مِنْهَا ، وَيَكُونُ دَمَ فَسَادٍ وَهِيَ بَاقِيَةٌ فِي الْعِدَّةِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَرَاهُ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ الطُّهْرِ الْأَخِيرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَتَّصِلَ الدَّمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً فَيُنْظَرُ فِي صِفَةِ الدَّمِ ، فَإِنْ كَانَ أَسْوَدَ فَهُوَ حَتَّى يَنْقَضِيَ بِهِ الْعِدَّةُ ، وَإِنْ كَانَ صُفْرَةً أَوْ كُدْرَةً فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَمَا عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا أَنْ يَكُونَ حَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ قَالَ : وَالصُّفْرَةُ وَالْكُدْرَةُ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ حَيْضٌ فَحَمَلَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا عَلَى أَيَّامِ الْإِمْكَانِ . وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ : لَا يَكُونُ الصُّفْرَةُ وَالْكُدْرَةُ فِي غَيْرِ أَيَّامِ الْعَادَةِ حَيْضًا ، وَحَمَلَ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ : وَالصُّفْرَةُ وَالْكُدْرَةُ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ حَيْضٌ عَلَى أَيَّامِ الْعَادَةِ ؛ لِأَنَّهُ إِذَا تَجَرَّدَ عَنْ صِفَةِ الْحَيْضِ وَخَرَجَ عَنْ زَمَانِهِ كَانَ قَاصِرًا ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَدْ كُنْتُ أَذْهَبُ إِلَى هَذَا حَتَّى رَأَيْتُ لِلشَّافِعِيِّ نَصًّا يُسَوِّي فِي الصُّفْرَةِ وَالْكُدْرَةِ بَيْنَ أَيَّامِ الْعَادَةِ وَغَيْرِهَا ، لِأَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قَالَتْ : كُنَّا نَعُدُّ الصُّفْرَةَ وَالْكُدْرَةَ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ حَيْضًا ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ يَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ غَيْرَ أَنَّ نَصَّ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يَمْنَعُ مِنْ تَأْوِيلِ مَذْهَبِهِ عَلَى غَيْرِ مَا نَصَّ عَلَيْهِ وَيَصِيرُ ذَلِكَ مَذْهَبًا لِقَائِلِهِ .
فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَنْقَطِعَ دَمُهَا لِأَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ المعتدة ، فَيُعْتَبَرُ مَا بَعْدَهُ مِنَ الطُّهْرِ ، فَإِنِ اتَّصَلَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَهَذَا الدَّمُ لِنُقْصَانِهِ عَنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ دَمُ فَسَادٍ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ
الطُّهْرِ مُتَّصِلٌ بِالَّذِي قَبْلَهُ وَهِيَ فِي عِدَّتِهَا حَتَّى تَرَى دَمَ الْحَيْضِ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ طُهْرِهَا ، وَإِنْ لَمْ يَتَّصِلِ الطُّهْرُ الَّذِي بَعْدَ هَذَا الدَّمِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا حَتَّى رَأَتْ دَمًا آخَرَ رُوعِيَ حَالُ الدَّمِ الْأَوَّلِ ، وَإِنْ لَمْ يَتَّصِلِ الطُّهْرُ الَّذِي بَعْدَهُ هَذَا الدَّمُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا حَتَّى رَأَتْ دَمًا آخَرَ رُوعِيَ حَالُ الدَّمِ الْأَوَّلِ ، فَإِنْ كَانَ أَسْوَدَ لُفِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدَّمِ الثَّانِي ، فَإِذَا اسْتَكْمَلَا يَوْمًا وَلَيْلَةً بِالتَّلْفِيقِ صَارَ الدَّمُ الْأَوَّلُ مَعَ الثَّانِي حَيْضًا ، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِرُؤْيَةِ الدَّمِ الْأَوَّلِ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ صُفْرَةً أَوْ كُدْرَةً فَعَلَى قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ لَيْسَ بِحَيْضٍ لِوُجُودِهِ فِي غَيْرِ أَيَّامِ الْعَادَةِ ، وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِرُؤْيَةِ الدَّمِ الثَّانِي إِذَا اتَّصَلَ يَوْمًا وَلَيْلَةً ، وَعَلَى قَوْلِ سَائِرِ أَصْحَابِنَا فِي الصُّفْرَةِ وَالْكُدْرَةِ أَنَّهَا حَيْضٌ فِي أَيَّامِ الْعَادَةِ وَغَيْرِهَا يَعْتَبِرُونَ حَالَ الثَّانِي ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ صُفْرَةً أَوْ كُدْرَةً كَانَ الْأَوَّلُ مَعَ الثَّانِي حَيْضًا إِذَا تَلَفَّقَا يَوْمًا وَلَيْلَةً وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِرُؤْيَةِ الْأَوَّلِ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي أَسْوَدَ فَفِي الْأَوَّلِ مِنَ الصُّفْرَةِ وَالْكُدْرَةِ لَهُمْ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ - يَكُونُ حَيْضًا ، وَيُسَوِّي بَيْنَ حُكْمِ الصُّفْرَةِ وَالْكُدْرَةِ فِي تَقَدُّمِهَا عَلَى الدَّمِ وَتَأَخُّرِهَا عَنْهُ ؛ لِوُجُودِهَا فِي زَمَانِ الْإِمْكَانِ ، وَيَجْعَلُ عِدَّتَهَا مُنْقَضِيَةً بِرُؤْيَةِ الصُّفْرَةِ وَالْكُدْرَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ - أَنَّ الصُّفْرَةَ وَالْكُدْرَةَ إِذَا تَقَدَّمَتْ عَلَى الدَّمِ لَمْ يَكُنْ حَيْضًا ، وَإِنَّمَا يَكُونُ حَيْضًا إِذَا تَأَخَّرَتْ عَنْهُ ، لِأَنَّ الدَّمَ الْأَسْوَدَ أَقْوَى ، وَالصُّفْرَةَ أَضْعَفُ ، وَأَوَّلَ الْحَيْضِ أَقْوَى ، وَآخِرَهُ أَضْعَفُ ، فَإِذَا صَادَفَتِ الصُّفْرَةُ بِالتَّأْخِيرِ زَمَانَ الضَّعْفِ وَافَقَهُ فَكَانَ حَيْضًا ، فَإِذَا صَادَفَ بِالتَّقَدُّمِ زَمَانَ الْقُوَّةِ خَالَفَهُ فَلَمْ يَكُنْ حَيْضًا ، وَيَكُونُ انْقِضَاءُ عِدَّتِهَا بِالدَّمِ الثَّانِي دُونَ الصُّفْرَةِ الْأُولَى .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : " وَلَوْ طَبَقَ عَلَيْهَا فَإِنْ كَانَ دَمُهَا يَنْفَصِلُ فَيَكُونُ فِي أَيَّامٍ أَحْمَرَ قَانِئًا مُحْتَدِمًا كَثِيرًا ، وَفِي أَيَّامٍ بَعْدَهُ رَقِيقًا إِلَى الصُّفْرَةِ فَحَيْضُهَا أَيَّامَ الْمُحْتَدِمِ الْكَثِيرِ وَطُهْرُهَا أَيَّامَ الرَّقِيقِ الْقَلِيلِ إِلَى الصُّفْرَةِ ، وَإِنْ كَانَ مُشْتَبِهًا كَانَ حَيْضُهَا بِقَدْرِ أَيَّامِ حَيْضِهَا فِيمَا مَضَى قَبْلَ الِاسْتِحَاضَةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا طَبَقَ فَاتَّصَلَ دَمُ الْحَيْضِ بِدَمِ الِاسْتِحَاضَةِ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ لَهَا تَمْيِيزٌ وَلَيْسَ لَهَا عَادَةٌ ، فَهَذِهِ تُرَدُّ إِلَى تَمْيِيزِهَا لِدَمِهَا ، فَمَا كَانَ مِنْهُ مُحْتَدِمًا ثَخِينًا فَهُوَ حَيْضٌ إِذَا بَلَغَ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَلَمْ يَزِدْ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، فَإِنْ طُلِّقَتْ فِيهِ كَانَ طَلَاقَ بِدْعَةٍ وَإِنْ رَأَتْهُ بَعْدَ الطُّهْرِ الثَّالِثِ انْقَضَتْ بِهِ الْعِدَّةُ ، وَمَا كَانَ مِنْهُ
أَصْفَرَ رَقِيقًا فَهُوَ اسْتِحَاضَةٌ تَجْرِي عَلَيْهِ فِي الْعِدَّةِ حُكْمُ الطُّهْرِ ، فَإِنْ طُلِّقَتْ فِيهِ كَانَ طَلَاقَ سُنَّةٍ وَاعْتَدَّتْ بِهِ قُرْءًا ، وَإِذَا رَأَتْهُ بَعْدَ الطُّهْرِ الثَّالِثِ لَمْ تَنْقَضِ بِهِ الْعِدَّةُ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ لَهَا عَادَةٌ وَلَيْسَ لَهَا تَمْيِيزٌ ، لِأَنَّ دَمَهَا كَاللَّوْنِ الْوَاحِدِ إِمَّا عَلَى صِفَةِ الْحَيْضِ ثَخِينٌ مُحْتَدِمٌ وَإِمَّا عَلَى صِفَةِ الِاسْتِحَاضَةِ أَصْفَرُ رَقِيقٌ ، فَهَذِهِ تُرَدُّ إِلَى عَادَتِهَا فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَيْضِهَا ، فَإِنْ كَانَتْ عَشَرَةَ أَيَّامٍ حِيضَتْ عَشْرًا ، وَكَانَ مَا سِوَاهَا طُهْرًا ، وَإِنْ طُلِّقَتْ فِي الْعَشْرِ كَانَ طَلَاقَ بِدْعَةٍ وَلَمْ يُعْتَدَّ بِهَا قُرْءًا وَانْقَضَتْ بِدُخُولِهَا فِي الْعَشْرِ الثَّالِثِ الْعِدَّةُ ، وَإِنْ طُلِّقَتْ بَعْدَ الْعَشْرِ كَانَ طَلَاقَ سُنَّةٍ وَاعْتَدَّتْ بِهِ قُرْءًا ، وَلَمْ يَنْقَضِ بِهِ فِي الْعَشْرِ الثَّالِثِ الْعِدَّةُ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يُجْمَعَ لَهَا تَمْيِيزٌ وَعَادَةٌ فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مَعَ اخْتِلَافِ حُكْمِهِمَا غَيْرُ مُمْكِنٍ ، وَفِيهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : - وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ ، وَأَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ - يَغْلِبُ حُكْمُ التَّمْيِيزِ عَلَى الْعَادَةِ ، لِأَنَّ التَّمْيِيزَ دَلَالَةٌ فِي الْحَيْضِ الْمُشْكِلِ ، وَالْعَادَةُ لَا دَلَالَةَ فِي غَيْرِ الْمُشْكِلِ ، فَيَكُونُ حُكْمُ الْمُمَيِّزَةِ عَلَى مَا مَضَى . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ - يَغْلِبُ حُكْمُ الْعَادَةِ عَلَى التَّمْيِيزِ لِتَكَرُّرِهَا فَيَجْرِي عَلَيْهَا حُكْمُ الْمُعْتَادَةِ عَلَى مَا مَضَى . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا تَمْيِيزٌ وَلَا عَادَةٌ ، وَهِيَ إِمَّا مُبْتَدَأَةٌ أَوْ نَاسِيَةٌ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : " وَإِنِ ابْتَدَأَتْ مُسْتَحَاضَةً أَوْ نَسِيَتْ أَيَّامَ حَيْضِهَا تَرَكَتِ الصَّلَاةَ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَاسْتَقْبَلْنَا بِهَا الْحَيْضَ مِنْ أَوَّلِ هِلَالٍ يَأْتِي عَلَيْهَا بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ ، فَإِذَا أَهَلَّ الْهِلَالُ الرَّابِعُ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى الْقِسْمِ الرَّابِعِ مِنْ أَقْسَامِ الْحَيْضِ الَّتِي لَا تَمْيِيزَ لَهُ وَلَا عَادَةَ وَهِيَ امْرَأَتَانِ : مُبْتَدَأَةٌ ، وَنَاسِيَةٌ . فَأَمَّا الْمُبْتَدَأَةُ إِذَا طَبَقَ عَلَيْهَا الدَّمُ وَلَمْ تُمَيِّزْ فَفِيمَا تُرَدُّ إِلَيْهِ مِنْ قَدْرِ الْحَيْضِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ ؛ لِأَنَّهُ الْيَقِينُ . وَالثَّانِي : سِتَّةُ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةُ أَيَّامٍ ؛ لِأَنَّهُ أَغْلَبُ ، فَأَمَّا الْعِدَّةُ للْمُبْتَدَأَةُ إِذَا طَبَقَ عَلَيْهَا الدَّمُ وَلَمْ تُمَيِّزْ فَلَا يَخْلُو حَالُ طَلَاقِهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي الدَّمِ أَوْ قَبْلَهُ ، وَإِنْ كَانَ فِي الدَّمِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ فَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ كَامِلَةٍ ؛ لِأَنَّ الْأَغْلَبَ مِنْ عَادَةِ النِّسَاءِ أَنْ يَحِضْنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ حَيْضَةً ، فَيَكُونُ كُلُّ شَهْرَيْنِ مِنْ شُهُورِهَا يَجْمَعُ
حَيْضًا وَطُهْرًا ، فَإِذَا حَاضَتْ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ عُلِمَ أَنَّهُ قَدْ مَضَى لَهَا ثَلَاثَةُ أَطْهَارٍ وَثَلَاثُ حِيَضٍ لِتَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ ، وَإِنَّمَا كَانَ الْأَغْلَبُ مُعْتَبَرًا لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْأَغْلَبَ مَحْصُورٌ . وَالثَّانِي : أَنَّ التَّأْكِيدَ يَتَقَابَلُ فِيهِ الْأَقَلُّ وَالْأَكْثَرُ فَغَلَبَ فِيهِ حُكْمُ الْأَغْلَبِ ، فَإِذَا صَحَّ انْقِضَاءُ عَدَّتِهَا بِاسْتِكْمَالِ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ طَلَاقِهَا فَقَدْ حَكَى الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا وَفِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ : " فَإِذَا أَهَلَّ الْهِلَالُ الرَّابِعُ فَقَدِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا " وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا وَهِمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا ، وَإِنَّمَا الْمُزَنِيُّ عَدَّ الْهِلَالَ الَّذِي طُلِّقَتْ فِيهِ مَعَ رُؤْيَتِهِ ؛ لِاتِّصَالِهِ بِالْعِدَّةِ فَجَعَلَ الْعِدَّةَ مُنْقَضِيَةً إِذَا أَهَلَّ الْهِلَالُ الرَّابِعُ ، وَالرَّبِيعُ لَمْ يَعُدَّ الْهِلَالَ الْأَوَّلَ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ بَعْدَهُ فَصَارَ الْهِلَالُ الَّذِي انْقَضَتْ بِهِ الْعِدَّةُ ثَالِثًا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يُطَلِّقَ بَعْدَ أَنْ مَضَى بَعْضُ الشَّهْرِ ، وَبَقِيَ بَعْضُهُ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْبَاقِي مِنْ شَهْرِهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ هَلْ يُعْتَدُّ بِهِ قُرْءًا أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُعْتَدُّ بِبَاقِيهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا حَتَّى يُسْتَكْمَلَ بَعْدَهُ بِالشَّهْرِ ، فَتَصِيرُ عِدَّتُهَا مُنْقَضِيَةً بِالْهِلَالِ الرَّابِعِ ، وَحَمَلُوا نَقْلَ الْمُزَنِيِّ عَلَى هَذَا وَنَسَبُوا إِلَيْهِ قَوْلَ هَذَا الْوَجْهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : - وَاخْتَارَهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ - أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِبَقِيَّةِ الشَّهْرِ قُرْءًا ، لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْأَغْلَبِ فِي الشَّهْرِ أَنَّهُ يَجْمَعُ حَيْضًا وَطُهْرًا يَقْتَضِي تَغْلِيبَ الْحَيْضِ فِي أَوَّلِهِ وَالطُّهْرَ فِي آخِرِهِ ، فَيَصِيرُ الطَّلَاقُ الْأَخِيرُ طَلَاقًا فِي الطُّهْرِ فَاعْتَدَّتْ بِهِ قُرْءًا وَتَصِيرُ عِدَّتُهَا مُنْقَضِيَةً بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ الثَّالِثِ ، وَحَمَلُوا نَقْلَ الرَّبِيعِ عَلَى هَذَا وَنَسَبُوا إِلَيْهِ هَذَا الْوَجْهَ . وَأَمَّا إِذَا طُلِّقَتِ الْمُبْتَدَأَةُ فِي الطُّهْرِ قَبْلَ رُؤْيَةِ الدَّمِ ثُمَّ رَأَتِ الدَّمَ فِي شَهْرِهَا ، فَفِي اعْتِدَادِهَا بِمَا مَضَى مِنْ طُهْرِهَا قُرْءًا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ : يُعْتَدُّ بِهِ قُرْءًا لِكَوْنِهِ طُهْرًا ، فَإِنَّمَا اسْتُكْمِلَ شَهْرَيْنِ بَعْدَهُ مَعَ اتِّصَالِ الدَّمِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا مَعَ انْقِضَائِهَا بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ الثَّالِثِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ لَا يَكُونُ قُرْءًا ؛ لِأَنَّ الْقُرْءَ هُوَ الطُّهْرُ مِنَ الْحَيْضَتَيْنِ يَتَقَدَّمُهُ أَحَدُهُمَا وَيَتَعَقَّبُهُ الْآخَرُ ، فَعَلَى هَذَا يُعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ مِنْ بَعْدِ رُؤْيَةِ الدَّمِ وَلَا يُحْتَسَبُ بِمَا بَقِيَ مِنَ الطُّهْرِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الدَّمُ فِي أَوَّلِ شَهْرٍ أَوْ فِي تَضَاعِيفِهِ ، لِأَنَّ أَوَّلَ الدَّمِ هُوَ الْحَيْضُ يَقِينًا ، فَلِذَلِكَ احْتُسِبَ بِأَوَّلِ شُهُورِ الْإِقْرَاءِ مِنْ وَقْتِ رُؤْيَتِهِ
فَصْلٌ : وَأَمَّا النَّاسِيَةُ لقدر حيضها ، أحوالها إن طلقت فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ نَاسِيَةً لِقَدْرِ حَيْضَتِهَا ذَاكِرَةً لِوَقْتِهِ وَهُوَ أَنْ تَقُولَ : أَعْلَمُ أَنَّ لِي فِي كُلِّ شَهْرٍ حَيْضَةً ، إِمَّا نَاسِيَةٌ لِقَدْرِهَا فَفِيمَا تَرُدُّ إِلَيْهِ مِنْ قَدْرِ الْحَيْضِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : سِتَّةُ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةُ أَيَّامٍ ، فَإِنْ طُلِّقَتْ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ اعْتَدَّتْ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ كَوَامِلَ ، وَكَانَ طَلَاقُهَا فِي أَوَّلِهِ طَلَاقَ بِدَعَةٍ ، وَإِنْ طُلِّقَتْ فِي تَضَاعِيفِهِ اعْتَدَّتْ بِبَاقِيهِ قُرْءًا وَجْهًا وَاحِدًا ، لِأَنَّهَا قَدْ تَيَقَّنَتْ وُجُودَ حَيْضِهَا فِي أَوَّلِهِ فَصَارَ بَاقِيهِ طُهْرًا يَقِينًا فَلِذَلِكَ اعْتَدَّتْ بِهِ قُرْءًا ، فَإِذَا مَضَى بَعْدَهُ شَهْرَانِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ الثَّالِثِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ نَاسِيَةً لِوَقْتِ حَيْضِهَا أحوالها إذا طلقت ذَاكِرَةً لِقَدْرِهِ ، وَهِيَ أَنْ تَقُولَ : أَعْلَمُ أَنَّ حِيضَتِي فِي كُلِّ شَهْرٍ عَشَرَةُ أَيَّامٍ ، وَنَسِيتُ وَقْتَهَا مِنَ الشَّهْرِ هَلْ كَانَتْ فِي أَوَّلِهِ أَوْ وَسَطِهِ أَوْ آخِرِهِ ؟ فَهَذِهِ يُنْظَرُ فِي الْبَاقِي مَنْ شَهْرِهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ ، فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةِ أَيَّامٍ احْتُسِبَ بِبَقِيَّةِ الشَّهْرِ قُرْءًا لِوُجُودِ الطُّهْرِ فِي بَقِيَّتِهِ ، فَإِذَا مَضَى عَلَيْهَا بَعْدَ بَقِيَّةِ شَهْرِهَا وَرَأَتِ الْهِلَالَ الثَّالِثَ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا ، وَإِنْ كَانَ الْبَاقِي مِنْ شَهْرِهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ عَشَرَةَ أَيَّامٍ فَمَا دُونَ لَمْ تَعْتَدَّ بِبَقِيَّةِ الشَّهْرِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا وَاسْتَقْبَلَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ شَهْرِهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ كَامِلَةً ، فَإِذَا أَهَلَّ الْهِلَالُ الرَّابِعُ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا . وَلَوْ قَالَتْ : أَعْلَمُ أَنِّي أَحِيضُ فِي كُلِّ شَهْرَيْنِ حَيْضَةً انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ ، وَلَوْ قَالَتْ : أَحِيضُ فِي كُلِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ حَيْضَةً انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِتِسْعَةِ أَشْهُرٍ ، وَلَوْ قَالَتْ : أَحِيضُ فِي كُلِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ حَيْضَةً انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِسَتَةٍ تَجْمَعُ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا بِالْأَهِلَّةِ ، ثُمَّ عَلَى قِيَاسِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ اعْتِدَادِهَا بِبَقِيَّةِ شَهْرِ الطَّلَاقِ ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الْحَيْضِ وَإِنْ كَانَ مِثْلَهُ أَوْ أَقَلَّ لَمْ تَعْتَدَّ بِبَقِيَّتِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ نَاسِيَةً لِقَدْرِ حَيْضَتِهَا وَوَقْتِهِ أحوالها إذا طلقت فَلَا تَعْلَمُ هَلْ كَانَ حَيْضُهَا يَوْمًا أَوْ عَشْرًا ؟ وَهَلْ كَانَ فِي كُلِّ شَهْرٍ ، أَوْ شُهُورٍ ، أَوْ فِي كُلِّ سَنَةٍ ، أَوْ سَنَتَيْنِ ؟ فَهَذِهِ هِيَ الْمُتَحَيِّرَةُ وَحُكْمُهَا فِي الْعِبَادَاتِ قَدْ مَضَى . فَأَمَّا حُكْمُهَا فِي الْعِدَّةِ فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا كَالْمُبْتَدَأَةِ تَحِيضُ فِي كُلِّ شَهْرٍ حَيْضَةً ، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ جَمَعَ بَيْنَهُمَا ، فَعَلَى هَذَا تَحِيضُ فِي كُلِّ شَهْرٍ وَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ ، فَإِنْ طُلِّقَتْ فِي شَهْرٍ قَدْ بَقِيَ مِنْهُ أَكْثَرُ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ اعْتَدَّتْ بِبَقِيَّتِهِ قُرْءًا ثُمَّ شَهْرَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ الْبَاقِي مِنْهُ يَوْمًا وَلَيْلَةً فَمَا دُونَ لَمْ يُعْتَدَّ بِبَقِيَّتِهِ يَجُوزُ أَنْ
يَكُونُ حَيْضًا ، وَاسْتَقْبَلَتْ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ كَامِلَةً . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : تَحِيضُ سِتَّةَ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ ، فَإِنْ طُلِّقَتْ فِي شَهْرٍ قَدْ بَقِيَ مِنْهُ أَكْثَرُ مِنْ سِتَّةِ أَوْ سَبْعَةِ أَيَّامٍ اعْتَدَّتْ بِبَقِيَّتِهِ قُرْءًا ، وَإِنْ بَقِيَ مِنْهُ هَذَا الْقَدْرُ فَمَا دُونَ لَمْ تَعْتَدَّ بِبَقِيَّتِهِ ، فَهَذَا حُكْمُ قَوْلِهِ : أَنْ يُجْعَلَ لَهَا فِي كُلِّ شَهْرٍ حَيْضَةٌ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ أَمْرَهَا مُشْكِلٌ ، وَكُلَّ زَمَانِهَا شَكٌّ وَلَا يُحْكَمُ لَهَا فِي كُلِّ شَهْرٍ بِحَيْضٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ فِي أَكْثَرَ مِنْهُ ، فَعَلَى هَذَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ كَامِلَةٍ مِنْ وَقْتِ طَلَاقِهَا سَوَاءٌ كَانَ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ أَوْ تَضَاعِيفِهِ ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ [ الطَّلَاقِ : ] وَهَذِهِ مُرْتَابَةٌ فَتَكُونُ عِدَّتُهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ غَيْرَ أَنَّهَا تَكُونُ شُهُورَ إِقْرَاءٍ لَا شُهُورَ إِيَاسٍ ، وَفِي هَذَا الْحُكْمِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ دَخَلَتْ لَوْلَا الضَّرُورَةُ الدَّاعِيَةُ إِلَى إِمْضَائِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ ، وَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهَا تَعْتَدُّ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ تَارَةً بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ ، وَتَارَةً بِأَكْثَرَ مِنْهَا ، وَتَعْتَدُّ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ لَا تَزِيدُ عَلَيْهَا وَلَا تَنْقُصُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : " وَلَوْ كَانَتْ تَحِيضُ يَوْمًا وَتَطْهُرُ يَوْمًا فبم تنقضي عدتها ؟ وَنَحْوُ ذَلِكَ جُعِلَتْ عِدَّتُهَا تَنْقَضِي بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ ، وَذَلِكَ الْمَعْرُوفُ مِنْ أَمْرِ النِّسَاءِ أَنَّهُنَّ يَحِضْنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ حَيْضَةً فَلَا أَجِدُ مَعْنًى أَوْلَى بِعِدَّتِهَا مِنَ الشُّهُورِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا رَأَتِ الْمَرْأَةُ يَوْمًا دَمًا وَيَوْمًا نَقَاءً ، وَاسْتَدَامَ ذَلِكَ بِهَا المعتدة فَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا مُسْتَحَاضَةٌ فِي أَيَّامِ الدَّمِ وَأَيَّامِ النَّقَاءِ ، وَيَكُونُ حُكْمُهَا كَالَّتِي طَبَقَ بِهَا الدَّمُ وَاسْتَمَرَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهَا تُلَفِّقُ أَيَّامَ الدَّمِ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ ، وَأَيَّامَ النَّقَاءِ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ فَتُلَفِّقُ لَهَا مِنَ الشَّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا دَمًا وَهِيَ أَكْثَرُ الْحَيْضِ ، وَخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا نَقَاءً ، وَهِيَ أَقَلُّ الطُّهْرِ فَيُجْمَعُ فِي كُلِّ شَهْرٍ أَكْثَرُ الْحَيْضِ وَأَقَلُّ الطُّهْرِ ، فَإِنْ طُلِّقَتْ فِي أَيَّامِ الدَّمِ كَانَ طَلَاقَ بِدْعَةٍ ، وَإِنْ طُلِّقَتْ فِي أَيَّامِ النَّقَاءِ كَانَ طَلَاقَ سُنَّةٍ ، وَهَذَا إِنْ عَدِمَتِ التَّمْيِيزَ وَالْعَادَةَ وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ ، لِأَنَّ الْأَغْلَبَ مِنْ أَحْوَالِ النِّسَاءِ أَنْ تَحِيضَ فِي كُلِّ شَهْرٍ حَيْضَةً فَأُجْرِيَ عَلَيْهَا حُكْمُ الْأَغْلَبِ مِنْ أَحْوَالِهِنَّ ، وَيَكُونُ اخْتِلَافُ الْقَوْلَيْنِ فِي التَّلْفِيقِ مُؤَثِّرًا فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : أَنَّهَا بِالتَّلْفِيقِ ، يَكُونُ لَهَا حَيْضٌ وَطُهْرٌ وَلَا تَكُونُ مُسْتَحَاضَةً ، وَإِذَا لَمْ تُلَفِّقْ كَانَتْ مُسْتَحَاضَةً .
وَالثَّانِي : أَنَّ قَدْرَ حَيْضِهَا يَكُونُ مُخْتَلِفًا ، فَيَكُونُ حَيْضُهَا بِالتَّلْفِيقِ فِي كُلِّ شَهْرٍ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، فَإِذَا لَمْ تُلَفِّقْ فَفِي قَدْرِ مَا تَرُدُّ إِلَيْهِ مِنَ الْحَيْضِ فِي كُلِّ شَهْرٍ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : سِتَّةُ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةُ أَيَّامٍ ، فَإِنْ رَدَّتْ إِلَى السِّتَّةِ أَيَّامٍ كَانَ حَيْضُهَا خَمْسَةَ أَيَّامٍ ؛ لِأَنَّهَا فِي السَّادِسِ فِي طُهْرٍ لَمْ يَتَّصِلْ بِدَمِ الْحَيْضِ ، وَإِنْ رَدَّتْ إِلَى سَبْعَةِ أَيَّامٍ كَانَ جَمِيعُهَا حَيْضًا . وَالثَّالِثُ : أَنَّ حَيْضَهَا فِي التَّلْفِيقِ يَكُونُ مُتَفَرِّقًا وَكَذَلِكَ طُهْرُهَا ، وَإِنْ لَمْ تُلَفِّقْ كَانَ مُجْمَعًا ، وَأَمَّا الْعِدَّةُ فَتَقَارَبَ الْقَوْلَانِ فِيهِمَا وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَيَكُونُ انْقِضَاؤُهَا بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ ، وَقَدْ مَضَى مِنَ التَّلْفِيقِ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ مَا أَغْنَى مِنْ إِعَادَتِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ تَبَاعَدَ حَيْضُهَا فَهِيَ مِنْ أَهْلِ الْحَيْضِ حَتَّى تَبْلُغَ السِّنَ الَّتِي مَنْ بَلَغَهَا لَمْ تَحِضْ بَعْدَهَا مِنَ الْمُؤَيَّسَاتِ اللَّاتِي جَعَلَ اللَّهُ عِدَّتَهُنَّ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ فَاسْتَقْبَلَتْ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ . وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ مِثْلُ هَذَا وَهُوَ يُشْبِهُ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ ، وَقَالَ عُثْمَانُ لِعَلِيٍّ وَزَيْدٍ فِي امْرَأَةِ حِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ : طَلِّقْهَا وَهُوَ صَحِيحٌ وَهِيَ تُرْضِعُ فَأَقَامَتْ تِسْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا لَا تَحِيضُ ثُمَّ مَرِضَ : مَا تَرَيَانِ ؟ قَالَا : نَرَى أَنَّهَا تَرِثُهُ إِنْ مَاتَ وَيَرِثُهَا إِنْ مَاتَتْ ؛ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْقَوَاعِدِ اللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ وَلَيْسَتْ مِنَ الْأَبْكَارِ اللَّاتِي لَمْ يَبْلُغْنَ الْمَحِيضَ ، ثُمَّ هِيَ عَلَى عِدَّةِ حَيْضِهَا مَا كَانَ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ ، فَرَجَعَ حِبَّانُ إِلَى أَهْلِهِ فَأَخَذَ ابْنَتَهُ ، فَلَمَّا فَقَدَتِ الرَّضَاعَ حَاضَتْ حَيْضَتَيْنِ ثُمَّ تُوُفِّيَ حِبَّانُ قَبْلَ الثَّالِثَةِ فَاعْتَدَّتْ عِدَّةَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا وَوَرِثَتْهُ . وَقَالَ عَطَاءٌ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِذَا يَئِسَتِ اعْتَدَّتْ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : فِي قَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الَّتِي رَفَعَتْهَا حَيْضَتُهَا تَنْتَظِرُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ ، فَإِنْ بَانَ بِهَا حَمْلٌ فَذَلِكَ وَإِلَّا اعْتَدَتْ بَعْدَ التِّسْعَةِ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ حَلَّتْ ، يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ قَدْ بَلَغَتِ السِّنَّ الَّتِي مَنْ بَلَغَهَا مِنْ نِسَائِهَا يَئِسْنَ ، فَلَا يَكُونُ مُخَالِفًا لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَذَلِكَ وَجْهٌ عِنْدَنَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ لِلْمُعْتَدَّةِ إِذَا تَأَخَّرَ حَيْضُهَا قَبْلَ وَقْتِ الْإِيَاسِ حَالَتَيْنِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَكُونَ بِسَبَبٍ مَعْرُوفٍ مِنْ مَرَضٍ أَوْ رَضَاعٍ فَتَكُونَ بَاقِيَةً فِي عِدَّتِهَا وَإِنْ تَطَاوَلَتْ مُدَّتُهَا حَتَّى يُعَاوِدَهَا الْحَيْضُ فَتَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ ، رُوِيَ أَنَّ حِبَّانَ بْنَ مُنْقِذٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ تُرْضِعُ فَأَقَامَتْ تِسْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا لَا تَحِيضُ ثُمَّ مَرِضَ حِبَّانُ فَقَالَ عُثْمَانُ لِعَلِيٍّ وَزَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - : مَا تَرَيَانِ فِي امْرَأَةِ حِبَّانَ ؟ فَقَالَا : نَرَى أَنَّهَا تَرِثُهُ وَيَرِثُهَا إِنْ
مَاتَتْ ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْقَوَاعِدِ اللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ ، وَلَيْسَتْ مِنَ الْأَبْكَارِ اللَّاتِي لَمْ يَبْلُغْنَ الْمَحِيضَ ، ثُمَّ هِيَ عَلَى حَيْضِهَا مَا كَانَ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ ، فَرَجَعَ حِبَّانُ إِلَى أَهْلِهِ وَأَخَذَ بِنْتَهُ ، فَلَمَّا فَصَلَتِ الرَّضَاعَ حَاضَتْ حَيْضَتَيْنِ ، ثُمَّ تُوُفِّيَ حِبَّانُ قَبْلَ الثَّالِثَةِ فَاعْتَدَّتْ عِدَّةَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَوَرِثَتْهُ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ تَأَخُّرُ حَيْضِهَا بِغَيْرِ سَبَبٍ يُعْرَفُ ، فَفِيمَا تَعْتَدُّ بِهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَمَذْهَبُ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهَا تَمْكُثُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ تَتَرَبَّصُ بِنَفْسِهَا مُدَّةَ غَالِبِ الْحَمْلِ ، فَإِذَا انْقَضَتْ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ وَهِيَ غَيْرُ مُسْتَرِيبَةٍ اعْتَدَّتْ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ عِدَّةَ الطَّلَاقِ وَإِنْ لَمْ يُحْكَمْ بِإِيَاسِهَا ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ مَوْضُوعَةٌ لِاسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ بِالظَّاهِرِ دُونَ الْإِحَاطَةِ ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ بِمُضِيِّ عِدَّةِ الْمُدَّةِ ، وَفِي الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا إِدْخَالُ ضَرَرٍ عَلَيْهَا فَلَمْ يُكَلَّفْ مَا يَضُرُّهَا ، فَعَلَى هَذَا لَوْ تَأَخَّرَتْ حَيْضَتُهَا بَعْدَ أَنْ يَمْضِيَ لَهَا قُرْءٌ مِنَ الْأَقْرَاءِ الثَّلَاثَةِ لَمْ تَعْتَدَّ بِهِ مِنْ شَهْرِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا تُبْنَى أَحَدُ الْعِدَّتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى وَاسْتَأْنَفَتْ بَعْدَ الْحُكْمِ بِتَأَخُّرِ حَيْضَتِهَا سَنَةً ، مِنْهَا تِسْعَةُ أَشْهُرٍ لَيْسَتْ بِعِدَّةٍ ، وَإِنَّمَا هِيَ لِلِاسْتِظْهَارِ بِهَا فِي اسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ ، وَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ بَعْدَهَا هِيَ الْعِدَّةُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهَا تَمْكُثُ مُتَرَبِّصَةً بِنَفْسِهَا مُدَّةَ أَكْثَرِ الْحَمْلِ وَهِيَ أَرْبَعُ سِنِينَ ؛ لِأَنَّهُ أَحْوَطُ لَهَا وَلِلزَّوْجِ فِي اسْتِبْرَاءِ رَحِمِهَا ، فَإِذَا انْقَضَتْ أَرْبَعُ سِنِينَ اسْتَأْنَفَتِ الْعِدَّةَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ ، فَإِنْ حَاضَتْ قَبْلَ اسْتِكْمَالِ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ عَاوَدَتِ الْأَقْرَاءَ وَسَقَطَ حُكْمُ مَا مَضَى ، وَإِنَّ تَأَخَّرَ بَعْدَ الْحَيْضَةِ اسْتَأْنَفَتْ تَرَبُّصَ أَرْبَعِ سِنِينَ ثُمَّ اعْتَدَّتْ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ ، وَكَذَلِكَ حُكْمُهَا إِنْ عَاوَدَهَا مِنْ بَعْدُ . فَأَمَّا إِنْ حَاضَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الشُّهُورِ الثَّلَاثَةِ رُوعِي حَالُهَا ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ تَزَوَّجَتْ فَقَدِ انْتَهَتْ عِدَّةُ الْأَوَّلِ وَهِيَ عَلَى نِكَاحِ الثَّانِي ، وَإِنْ حَاضَتْ قَبْلَ أَنْ تَزَوَّجَتْ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : تُعَاوِدُ الِاعْتِدَادَ بِالْأَقْرَاءِ لِمَا يُحْذَرُ مِنْ مُخَالَفَةِ الظَّاهِرِ كَمَا لَوْ عَاوَدَهَا الْحَيْضُ قَبْلَ انْقِضَاءِ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ عِدَّتَهَا قَدِ انْقَضَتْ لِلْحُكْمِ بِانْقِضَائِهَا كَمَا لَوْ تَزَوَّجَتْ ، وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ ذَكَرَهُمَا الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ . وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنَّهَا تَمْكُثُ مُتَرَبِّصَةً بِنَفْسِهَا مُدَّةَ الْإِيَاسِ ، لِأَنَّ مَوْضُوعَ الْعِدَدِ عَلَى الِاحْتِيَاطِ فِي اسْتِبْرَاءِ الْأَرْحَامِ وَحِفْظِ الْأَنْسَابِ ، فَوَجَبَ الِاسْتِظْهَارُ لَهَا لَا عَلَيْهَا ،
وَلَيْسَ لِتَطَاوُلِهَا بِالْبَلْوَى مِنْ وَجْهٍ فِي تَغْيِيرِ الْحُكْمِ كَامْرَأَةِ الْمَفْقُودِ ، فَعَلَى هَذَا فِيمَا يُعْتَبَرُ مِنْ مُدَّةِ إِيَاسِهَا ؟ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يُعْتَبَرُ نِسَاءُ عَشِيرَتِهَا فِي زَمَانِ إِيَاسِهِنَّ ، فَإِذَا انْتَهَتْ إِلَى ذَلِكَ السِّنِّ حُكِمَ بِإِيَاسِهَا ، فَقَدْ قِيلَ : إِنَّهُ لَمْ تَحِضِ امْرَأَةٌ لِخَمْسِينَ سَنَةً إِلَّا أَنْ تَكُونَ عَرَبِيَّةً ، وَلَمْ تَحِضْ لِسِتِّينَ سَنَةً إِلَّا أَنْ تَكُونَ قُرَشِيَّةً ، وَهُوَ قَوْلٌ لَمْ يَتَحَقَّقْ ، وَحَضَرَتْنِي وَأَنَا بِجَامِعِ الْبَصْرَةِ امْرَأَةٌ ذَاتُ خَفَرٍ وَخُشُوعٍ ، فَقَالَتْ : قَدْ عَاوَدَنِي الدَّمُ بَعْدَ الْإِيَاسِ ، فَهَلْ يَكُونُ حَيْضًا ؟ فَقُلْتُ : كَيْفَ عَاوَدَكِ ؟ قَالَتْ : أَرَاهُ كُلَّ شَهْرٍ كَمَا يَعْتَادُنِي فِي زَمَانِ الشَّبَابِ ، فَقُلْتُ : وَمُذْ كَمْ رَأَيْتِيهِ ؟ فَقَالَتْ : مُذْ نَحْوٍ مِنْ سَنَةٍ قُلْتُ : كَمْ سِنُّكِ ؟ قَالَتْ : سَبْعِينَ سَنَةً ، قُلْتُ : مِنْ أَيِّ النَّاسِ أَنْتِ ؟ قَالَتْ : مِنْ بَنِي تَمِيمٍ ، قُلْتُ : أَيْنَ مَنْزِلُكِ ؟ قَالَتْ : فِي بَنِي حَصِينٍ ، فَأَفْتَيْتُهَا أَنَّهُ حَيْضٌ يَلْزَمُهَا أَحْكَامُهُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يُعْتَبَرُ بِإِيَاسِهَا أَبْعَدُ زَمَانِ الْإِيَاسِ فِي نِسَاءِ الْعَالَمِ كُلِّهِنَّ كَمَا يُعْتَبَرُ فِي أَقَلِّ الْحَيْضِ وَأَكْثَرِ الْأَقَلِّ ، وَالْأَكْثَرُ مِنْ عَادَةِ نِسَاءِ الْعَالَمِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَحِيضَ بِأَهْلِهَا وَعَشِيرَتِهَا ، فَإِذَا حُكِمَ بِإِيَاسِهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ اعْتَدَّتْ حِينَئِذٍ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ عِدَّةَ الْمُؤَيَّسَةِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ مَاتَ صَبِيٌّ لَا يُجَامِعُ مِثْلُهُ فَوَضَعَتِ امْرَأَتُهُ قَبْلَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ أَتَمَّتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَيْسَ مِنْهُ فَإِنْ مَضَتْ قَبْلَ أَنْ تَضَعَ حَلَّتْ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ بَقِيَ لَهُ شَيْءٌ يَغِيبُ فِي الْفَرْجِ أَوْ لَمْ يَبْقَ لَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَتْ ، إِذَا مَاتَ صَبِيٌّ لَا يُولَدُ لِمِثْلِهِ عَنْ زَوْجَةٍ حَامِلٍ لَمْ تَعْتَدَّ مِنْهُ بِوَضْعٍ وَاعْتَدَّتْ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ سَوَاءٌ انْقَضَتْ قَبْلَ وَضْعِ الْحَمْلِ أَوْ بَعْدَهُ . وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو يُوسُفَ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ مَاتَ وَهِيَ حَامِلٌ اعْتَدَّتْ بِوَضْعِ الْحَمْلِ سَوَاءٌ وَضَعَتْهُ قَبْلَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ أَوْ بَعْدَهَا ، وَإِنْ حَدَثَ الْحَمْلُ بَعْدَ مَوْتِهِ اعْتَدَّتْ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ سَوَاءٌ انْقَضَتْ قَبْلَ وَضْعِ الْحَمْلِ أَوْ بَعْدَهُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [ الطَّلَاقِ : ] . وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : أَجَلُ كُلِّ ذَاتِ حَمْلٍ أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا ، فَكَانَ عُمُومُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يُوجِبُ انْقِضَاءَ عَدَّتِهَا ، قَالَ : وَلِأَنَّ كُلَّ مَنِ اعْتَدَّتْ زَوْجَتُهُ عَنْهُ بِالشَّهْرِ جَازَ أَنْ تَعْتَدَّ عَنْهُ بِالْحَمْلِ كَالْبَالِغِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ حَمْلٍ وَقَعَ الِاعْتِدَادُ بِهِ إِذَا كَانَ لَاحِقًا بِالزَّوْجِ جَازَ أَنْ يَقَعَ الِاعْتِدَادُ بِهِ ، وَإِنِ انْتَفَى عَنِ الزَّوْجِ كَوَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ .
وَدَلِيلُنَا : قَوْلُهُ تَعَالَى : وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [ الْبَقَرَةِ : ] . فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ ؛ وَلِأَنَّهُ وَلَدٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ فَلَمْ يَقَعِ الِاعْتِدَادُ بِهِ كَمَا لَوْ ظَهَرَ بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَلِأَنَّهُ حَمْلٌ لَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ لَوْ ظَهَرَ بَعْدَ وُجُوبِهَا فَوَجَبَ أَنْ لَا تَنْقَضِيَ بِهِ الْعِدَّةُ إِذَا ظَهَرَ قَبْلَ وُجُوبِهَا قِيَاسًا عَلَى زَوْجَةِ الْحَيِّ إِذَا وَضَعَتْهُ بَعْدَ طَلَاقِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ عَقْدِهِ ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الْعِدَّةَ مَوْضُوعَةٌ لِلتَّعَبُّدِ لَا لِاسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ فَكَانَتْ مَقْصُورَةً عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ التَّعَبُّدُ مِنَ الشُّهُورِ دُونَ مَا يَقَعُ بِهِ الِاسْتِبْرَاءُ مِنَ الْوِلَادَةِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [ الطَّلَاقِ : ] . فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا فِي الْمُطَلَّقَةِ لِاتِّصَالِهَا بِالطَّلَاقِ ، وَعِدَّةُ الْوَفَاةِ مَنْصُوصٌ فِيهَا عَلَى الشُّهُورِ ، وَإِنَّمَا اعْتَدَّتْ بِالْحَمْلِ إِذَا كَانَ لَاحِقًا بِالسُّنَّةِ فِي حَدِيثِ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى حَمْلٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ لِإِجْمَاعِنَا أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ بِهَا بَعْدَ مَوْتِهِ لَمْ تَعْتَدَّ بِهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَعِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا بِالشُّهُورِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، وَهِيَ مُتَقَدِّمَةٌ وَعَدَّتُهَا بِالْحَمْلِ فِي سُورَةِ الطَّلَاقِ ، وَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ وَالْمُتَأَخِّرَةُ نَاسِخَةٌ لِلْمُتَقَدِّمَةِ ، وَبِهَذَا احْتَجَّ ابْنُ مَسْعُودٍ عَلَى عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ حِينَ قَالَا : إِنَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا إِذَا كَانَتْ حَامِلًا اعْتَدَّتْ بِأَقْصَى الْأَجَلَيْنِ . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : بَلْ بِوَضْعِ الْحَمْلِ وَإِنْ كَانَ أَقَصَرَ ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِآيَةِ الْحَمْلِ لِتَأَخُّرِهَا ، وَقَالَ : مَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ أَنَّ السُّورَةَ الصُّغْرَى نَزَلَتْ بَعْدَ الطُّولَى يَعْنِي نَزَلَتْ سُورَةُ الطَّلَاقِ بَعْدَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، فَعَنْ ذَلِكَ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ عَلِيًّا وَابْنَ عَبَّاسٍ قَدْ خَالَفَا فَلَمْ يَكُنْ حُجَّةً . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا نَسْخٌ فَيُقْضَى بِالْمُتَأَخِّرِ عَلَى الْمُتَقَدِّمِ ، وَإِنَّمَا تُخَصُّ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى وَالتَّخْصِيصُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمُتَقَدِّمٍ وَمُتَأَخِّرٍ ، وَقَدْ أَجْمَعْنَا أَنَّ آيَةَ الْحَمْلِ مَخْصُوصٌ بِالشُّهُورِ إِذَا كَانَ ظَاهِرُ الْعَقْدِ مَوْتَ الصَّبِيِّ فَكَذَلِكَ إِذَا ظَهَرَ قَبْلَ مَوْتِهِ ؛ لِأَنَّهُ فِي الْحَالَيْنِ غَيْرُ لَاحِقٍ بِهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ فَكَالْجَوَابِ عَنِ الْآيَةِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْبَالِغِ فَالْمَعْنَى فِيهِ إِمْكَانُ لُحُوقِهِ بِهِ فَلِذَلِكَ اعْتَدَّتْ بِوَضْعِهِ ، وَحَمْلُ الصَّبِيِّ لَا يَلْحَقُ بِهِ ؛ فَلِذَلِكَ لَمْ تَعْتَدَّ بِوَضْعِهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ فَهُوَ جَوَازُ كَوْنِهِ مِنْهُ ، وَيَلْحَقُ بِهِ لَوِ
اعْتَرَفَ بِهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْحَمْلُ مِنَ الصَّبِيِّ لِعِلْمِنَا قَطْعًا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ وَلَا يَلْحَقُهُ لَوِ اعْتَرَفَ بِهِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا لَا تَعْتَدُّ بِوَضْعِ الْحَمْلِ فِي وَفَاةِ الصَّبِيِّ فَلِلْحَمْلِ حَالَتَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يَكُونُ لَاحِقًا بِوَطْءِ شُبْهَةٍ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مِنْ زِنًا لَا يَلْحَقُ بِأَحَدٍ ، فَإِنْ كَانَ لَاحِقًا بِوَطْءِ شُبْهَةٍ اعْتَدَّتْ بِوَضْعِهِ مِنْ وَاطِئِ الشُّبْهَةِ وَلَا تَحْتَسِبُ أَشْهُرَ الْحَمْلِ مِنْ عِدَّةِ الْوَفَاةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا تَتَدَاخَلُ عِدَّتَانِ مِنْ شَخْصَيْنِ ثُمَّ تَسْتَأْنِفُ بَعْدَ الْوَضْعِ عِدَّةَ الْوَفَاةِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ ، وَإِنْ كَانَ الْحَمْلُ مِنْ زِنًا لَا يَلْحَقُ بِأَحَدٍ وَاعْتَدَّتْ بِشُهُورِ حَمْلِهَا مِنْ عِدَّةِ الْوَفَاةِ لِاسْتِحْقَاقِهَا فِي عِدَّةٍ وَاحِدَةٍ ، فَإِنِ انْقَضَتْ شُهُورُهَا قَبْلَ وَضْعِ الْحَمْلِ حَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ ، وَإِنْ بَقِيَتْ بَعْدَ وَضْعِ الْحَمْلِ اسْتَكْمَلَتْهَا ثُمَّ حَلَّتْ بَعْدَهَا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : " وَكَانَ وَالْخَصِيُّ يُنْزِلَانِ لَحِقَهُمَا الْوَلَدُ وَاعْتَدَّتْ زَوْجَتَاهُمَا كَمَا تَعْتَدُّ زَوْجَةُ الْفَحْلِ الممسوح والمجبوب ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ مُرَادَ الشَّافِعِيِّ بِالْخَصِيِّ فِي أَوَّلِ كَلَامِهِ الْمَجْبُوبُ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ مِنْ بَعْدُ : ( وَكَانَ وَالْخَصِيُّ يُنْزِلَانِ ) فَعُلِمَ أَنَّ الْأَوَّلَ غَيْرُ خَصِيٍّ وَمَجْبُوبٍ وَمَسْمُوحٍ . فَأَمَّا الْخَصِيُّ فَهُوَ الْمَسْلُولُ الْأُنْثَيَيْنِ بَاقِي الذَّكَرِ ، فَهَذَا يَصِحُّ مِنْهُ الْوَطْءُ لِبَقَاءِ ذَكَرِهِ ، وَيَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ لِإِحْدَاثِهِ الْمَاءَ مِنْ ظَهْرِهِ بِقُوَّةِ إِيلَاجِهِ ، وَيَكُونُ كَالْفَحْلِ فِي لُحُوقِ الْوَلَدِ بِهِ وَوُجُوبِ الْعِدَّةِ مِنْهُ ، سَوَاءٌ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِمَوْتٍ أَوْ طَلَاقٍ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمَجْبُوبُ فَهُوَ الْمَقْطُوعُ الذَّكَرِ بَاقِي الْأُنْثَيَيْنِ ، وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَبْقَى مِنْ ذَكَرِهِ بِقَدْرِ حَشَفَةِ الْفَحْلِ فَيَصِحُّ مِنْهُ الْإِيلَاجُ وَالْإِنْزَالُ فَيَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ وَتَجِبُ مِنْهُ الْعِدَّةُ فِي فُرْقَةِ الْمَوْتِ وَالطَّلَاقِ ، وَلِأَنَّ الْفَحْلَ لَوْ أَوْلَجَ مِنْ ذَكَرِهِ قَدْرَ الْحَشَفَةِ اسْتَقَرَّ بِهِ الدُّخُولُ وَوَجَبَتْ بِهِ الْعِدَّةُ وَلَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَبْقَى مِنْ ذَكَرِهِ قَدْرُ الْحَشَفَةِ إِمَّا بِاسْتِئْصَالِ الذَّكَرِ أَوْ بِاسْتِبْقَاءِ أَقَلَّ مِنَ الْحَشَفَةِ ، فَالْحُكْمُ فِيهِمَا سَوَاءٌ ، فَيَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَاحَقَ فَرْجَ الْمَرْأَةِ فَيُنْزِلُ مَاءً يَسْتَدْخِلُهُ الْفَرْجَ فَتَحْبَلُ مِنْهُ ، وَكَذَلِكَ قُلْنَا : إِنَّ حَبَلَ الْبِكْرِ بِاسْتِدْخَالِ الْمَنِيِّ عِنْدَ الْإِنْزَالِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَتْ مِنْهُ عِدَّةُ الْوَفَاةِ ، لِأَنَّ الدُّخُولَ لَا يُعْتَبَرُ فِيهَا فَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا انْقَضَتْ بِوَضْعِ الْحَمْلِ ، وَإِنْ كَانَتْ حَائِلًا فَبِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ . أَمَّا عِدَّةُ الطَّلَاقِ فَلَا تَجِبُ مِنْهُ ، لِأَنَّ الدُّخُولَ فِيهَا مُعْتَبَرٌ وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ مِنْهُ ، فَإِنْ كَانَتْ حَائِلًا فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ أَوِ الشُّهُورِ ، وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا
فَهِيَ مَمْنُوعَةٌ مِنَ الْأَزْوَاجِ مُدَّةَ حَمْلِهَا حَفِظًا لِمَائِهِ ، وَجَرَى عَلَيْهَا حُكْمُ الْعِدَّةِ لِامْتِنَاعِهَا مِنَ الْأَزْوَاجِ فِي حَقِّهِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْمَمْسُوحُ أحواله وأحوال زوجته إذا طلقها أو توفي عنها فَهُوَ الْمَقْطُوعُ الذَّكَرِ الْمَسْلُوبُ الْأُنْثَيَيْنِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مَخْرَجُ الْمَنِيِّ مُلْتَحِمًا ، فَهَذَا غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى الْإِيلَاجِ لِجَبِّ ذَكَرِهِ وَغَيْرُ قَادِرٍ عَلَى الْإِنْزَالِ لِالْتِحَامِ مَخْرَجِهِ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ لِعَدَمِ مَائِهِ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا [ الْفُرْقَانِ : ] . فَإِذَا عُدِمَ الْمَاءُ اسْتَحَالَ الْوَلَدُ ، فَإِنْ طَلَّقَ لَمْ تَعْتَدَّ مِنْهُ لِعَدَمِ دُخُولِهِ ، وَإِنْ مَاتَ اعْتَدَّتْ مِنْهُ بِالشُّهُورِ دُونَ الْحَمْلِ كَالصَّبِيِّ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَخْرَجُ الْمَنِيِّ مَفْتُوحًا ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي لُحُوقِ الْوَلَدِ بِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَلْحَقُ بِهِ ، لِأَنَّ الْمَنِيَّ بِسَلِّ الْأُنْثَيَيْنِ قَدْ بَعُدَ وَلَدُهُ بِجَبِّ الذَّكَرِ وَقَدْ قَعَدَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ ، وَأَبِي بَكْرٍ الصَّيْرَفِيِّ ، وَأَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ حَرْبَوَيْهِ أَنَّهُ يَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ ، لِأَنَّ إِنْزَالَهُ مِنَ الظُّهُورِ مُجَوَّزٌ ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَبْعَدًا وَالْوَلَدُ يَلْحَقُ بِالْإِمْكَانِ وَالْجَوَازِ ، وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ حَرْبَوَيْهِ مِنْ أَصْحَابِنَا قُلِّدَ قَضَاءَ مِصْرَ فَقَضَى فِي مِثْلِ هَذَا بِلُحُوقِ الْوَلَدِ فَحَمَلَهُ الْخَصِيُّ عَلَى كَتِفِهِ ، وَطَافَ بِهِ فِي الْأَسْوَاقِ وَقَالَ : انْظُرُوا هَذَا الْقَاضِي يُلْحِقُ أَوْلَادَ الزِّنَا بِالْخَدَمِ . فَأَمَّا إِنْ بَقِيَ إِحْدَى أُنْثَيَيِ الْمَجْبُوبِ لَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ وَجْهًا وَاحِدًا سَوَاءٌ كَانَتْ يُمْنَى أَوْ يُسْرَى . وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : إِنْ بَقِيَتِ الْيُسْرَى لَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ ، وَإِنْ بَقِيَتِ الْيُمْنَى لَمْ يَلْحَقْ بِهِ ، لِأَنَّ الْيُسْرَى لِلْمَنِيِّ ، وَالْيُمْنَى لِشَعْرِ اللِّحْيَةِ وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ قَوْلِ الطِّبِّ وَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِمْ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ ، وَقَدْ وُجِدَ فِي إِنْسَانٍ ذُو خِصْيَةٍ وَاحِدَةٍ وَكَانَ ذَا لِحْيَةٍ وَأَوْلَادٍ ، فَإِنْ كَانَتْ يُمْنَى فَقَدْ وُلِدَ لَهُ ، وَإِنْ كَانَتْ يُسْرَى فَقَدْ نَبَتَتْ لَهُ لِحْيَةٌ فَعُلِمَ فَسَادُ هَذَا الْقَوْلِ . فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ الْوَلَدَ لَا يَلْحَقُ بِهِ لَمْ تَنْقَضِ بِهِ الْعِدَّةُ وَلَمْ يَلْزَمْ إِلَّا فِي الْوَفَاةِ دُونَ الطَّلَاقِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ . وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّهُ يَلْحَقُ بِهِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فِي الْوَفَاةِ بِوَضْعِهِ وَلَمْ يَلْزَمْهَا فِي الطَّلَاقِ عِدَّةٌ إِلَّا أَنْ تَكُونَ حَامِلًا فَيَجْرِي عَلَيْهَا حُكْمُ الْعِدَّةِ فِي الْمَنْعِ مِنَ الْأَزْوَاجِ حَتَّى تَضَعَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : " وَإِنْ أَرَادَتِ الْخُرُوجَ كَانَ لَهُ مَنْعُهَا حَيًّا وَلِوَرَثَتِهِ مَيِّتًا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا زوجة الخصي و المجبوب والممسوح ) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا مُعْتَبَرٌ بِلُحُوقِ الْوَلَدِ بِهِ . فَإِنَّا قُلْنَا : إِنَّهُ لَا يَلْحَقُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُهَا مِنَ الْخُرُوجِ فِي فُرْقَةِ الطَّلَاقِ ؛ لِأَنَّهُ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا . فَأَمَّا فُرْقَةُ الْمَوْتِ فَتَعْتَدُّ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ فَتُمْنَعُ مِنَ الْخُرُوجِ فِيهَا وَلَا تُمْنَعُ بَعْدَ انْقِضَائِهَا مِنَ الْخُرُوجِ ، وَإِنْ كَانَتْ فِي حَمْلِهَا فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْوَلَدَ لَاحِقٌ بِهِ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا فِي حَيَاتِهِ مِنَ الْخُرُوجِ فِي فُرْقَةِ الطَّلَاقِ ، وَيَحْكُمُ بِهَا بِالسُّكْنَى وَالنَّفَقَةِ وَلِوَرَثَتِهِ فِي فُرْقَةِ الْمَوْتِ مَنْعُهَا مِنَ الْخُرُوجِ حَتَّى تَضَعَ وَلَا يُحْكَمُ لَهَا بِالنَّفَقَةِ وَفِي السُّكْنَى قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَهَا السُّكْنَى وَلَهُمْ إِجْبَارُهَا عَلَى الْمُقَامِ فِي الْمَسْكَنِ الَّذِي مَاتَ زَوْجُهَا وَهِيَ فِيهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا سُكْنَى لَهَا ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لَهَا الْخُرُوجُ إِلَّا أَنْ يَتَطَوَّعَ الْوَرَثَةُ لَهَا بِالسُّكْنَى فَتُمْنَعُ مِنَ الْخُرُوجِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ طَلَّقَ مَنْ لَا تَحِيضُ مِنْ صِغَرٍ أَوْ كِبَرٍ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ أَوْ آخِرِهِ فبم تكون عدتها ؟ اعْتَدَّتْ شَهْرَيِنِ بِالْأَهِلَّةِ ، وَإِنْ كَانَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ وَشَهْرًا ثَلَاثِينَ لَيْلَةً حَتَّى يَأْتِيَ عَلَيْهَا تِلْكَ السَّاعَةُ الَّتِي طَلَّقَهَا فِيهَا مِنَ الشَّهْرِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، لِأَنَّ عِدَّةَ مَنْ لَا تَحِيضُ بِصِغَرٍ أَوْ إِيَاسٍ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ [ الطَّلَاقِ : ] . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ طَلَاقُهَا عَنْ أَنْ يَكُونَ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ أَوْ فِي تَضَاعِيفِهِ ، فَإِنْ كَانَ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ أَوْ مَعَ اسْتِهْلَالِهِ وَقَبْلَ مُضِيِّ شَيْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ ، إِمَّا بِأَنْ يُرَاعِيَ وُقُوعَ الطَّلَاقِ فِيهِ أَوْ عَلَّقَهُ فِيهِ فَعَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ بِالْأَهِلَّةِ سَوَاءٌ كَانَتْ كَامِلَةً فَكَانَتْ تِسْعِينَ يَوْمًا أَوْ كَانَتْ نَاقِصَةً فَكَانَتْ سَبْعَةً وَثَمَانِينَ يَوْمًا أَوْ كَانَ بَعْضُهَا كَامِلًا وَبَعْضُهَا نَاقِصًا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [ الْبَقَرَةِ : ] . فَكَانَتِ الشُّهُورُ مُعْتَبَرَةً بِالْأَهِلَّةِ فِي الشَّرْعِ ، وَقَدْ تَرَدَّدَ شَهْرُ الْهِلَالِ بَيْنَ كَمَالٍ وَنُقْصَانٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا مُشِيرًا بِأَصَابِعِهِ الْعَشْرِ يَعْنِي ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ قَالَ : وَالشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَحَبَسَ إِبْهَامَهُ فِي الثَّالِثَةِ يَعْنِي تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا ، وَإِنْ طَلَّقَهَا فِي تَضَاعِيفِ الشَّهْرِ كَأَنَّهُ طَلَّقَهَا وَقَدْ مَضَى مِنَ الشَّهْرِ عَشَرَةُ أَيَّامٍ اعْتَدَّتْ بِبَقِيَّتِهِ مِنْ سَاعَةِ طَلَاقِهَا
وَبِشَهْرَيْنِ بَعْدَهَا بِالْأَهِلَّةِ ، وَسَوَاءٌ كَانَا كَامِلَيْنِ أَوْ نَاقِصَيْنِ ثُمَّ اسْتَكْمَلَتْ بَعْدَهُ الْعِدَّةَ مِنَ الشَّهْرِ الرَّابِعِ ، فَإِنْ كَانَ شَهْرُ الطَّلَاقِ كَامِلًا وَكَانَ الْبَاقِي مِنْهُ عِشْرِينَ يَوْمًا ، اعْتَدَّتْ مِنَ الرَّابِعِ عَشَرَةَ أَيَّامٍ ، وَإِنْ كَانَ الشَّهْرُ نَاقِصًا اسْتَكْمَلَتْ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ، وَاعْتَدَّتْ مِنَ الرَّابِعِ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَعْتَدُّ مِنَ الرَّابِعِ عِدَّةَ مَا مَضَى مِنْ شَهْرِ الطَّلَاقِ ، وَهُوَ عَشَرَةُ أَيَّامٍ فِي زِيَادَتِهِ وَنُقْصَانِهِ اعْتِبَارًا بِعَدَدِ مَا فَاتَ مِنْهُ كَمَا يُعْتَبَرُ فِي قَضَاءِ شَهْرِ رَمَضَانَ بِعَدَدِ مَا فَاتَ مِنْهُ فِي زِيَادَتِهِ وَنُقْصَانِهِ . وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ابْنُ بِنْتِ الشَّافِعِيِّ : الطَّلَاقُ فِي تَضَاعِيفِ الشَّهْرِ يَرْفَعُ حُكْمَ الْأَهِلَّةِ ، لِأَنَّ كُلَّ شَهْرٍ يَتَّصِلُ فَلَا تَبْتَدِئُهُ إِلَّا فِي غَيْرِ هِلَالٍ ، فَوَجَبَ أَنْ تَسْتَوْفِيَ تَعْيِينَ يَوْمٍ كَامِلٍ لِفَوَاتِ هِلَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَا يُسْتَوْفَى الشَّهْرُ الْأَوَّلُ كَامِلًا لِفَوَاتِ هِلَالِهِ . وَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ : إِذَا طُلِّقَتْ فِي تَضَاعِيفِ يَوْمٍ لَمْ تَحْتَسِبْ بِبَقِيَّتِهِ ، وَإِنْ طُلِّقَتْ نَهَارًا كَانَ أَوَّلَ عِدَّتِهَا دُخُولُ اللَّيْلِ ، وَإِنْ طُلِّقَتْ لَيْلًا كَانَ أَوَّلَ عِدَّتِهَا طُلُوعُ الْفَجْرِ فَصَارَ الْخِلَافُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي يَوْمِ نَقْصِهِ وَزِيَادَتِهِ ، وَمَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ بِنْتِ الشَّافِعِيِّ فِي يَوْمَيْ زِيَادَتِهَا وَنُقْصَانِهَا ، وَمَعَ مَالِكٍ فِي بَقِيَّةِ الْيَوْمِ أَسْقَطَهَا وَاحْتَسَبْنَاهَا . وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ : أَنَّ الشَّهْرَ إِذَا أُدْرِكَ هِلَالُهُ تَعْتَدُّ بِهِ مَا بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ مِنْ زِيَادَةٍ وَنُقْصَانٍ ، فَإِذَا فَاتَ هِلَالُهُ اسْتُكْمِلَ عِدَّةَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا فَابْتَدَأَ الصِّيَامَ فِي أَوَّلِ شَهْرٍ اعْتُبِرَ بِمَا بَيْنَ هِلَالَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا ، وَلَوِ ابْتَدَأَ بِالصِّيَامِ فِي تَضَاعِيفِ الشَّهْرِ اسْتَكْمَلَ صِيَامَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا لِيَكُونَ بِفَوَاتِ الْهِلَالِ كَامِلًا فَاقْتَضَى أَنْ تَسْتَكْمِلَ الْمُعْتَدَّةُ الشَّهْرَ الْأَوَّلَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا لِفَوَاتِ هِلَالِهِ بِخِلَافِ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ : وَتَعْتَدُّ بِمَا بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ فِي الشَّهْرِ مِنَ الْمُسْتَقْبَلَيْنِ وَإِنْ كَانَا نَاقِصَيْنِ لِإِدْرَاكِ هِلَالِهِمَا بِخِلَافِ مَا قَالَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ابْنُ بِنْتِ الشَّافِعِيِّ . فَأَمَّا مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ فَقَدْ زَادَا فِي الْعِدَّةِ بِمَا اسْتَنْقَصَاهُ مِنْ بَقِيَّةِ يَوْمِ الطَّلَاقِ وَلَيْلَتِهِ عَلَى مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهَا كَالنُّقْصَانِ مِنْهَا فِي مُخَالَفَةِ التَّقْدِيرِ وَمُجَاوَزَةِ النَّصِّ ، وَلَوْ لَمْ تَعْتَدَّ بِبَقِيَّةِ الْيَوْمِ اعْتِبَارًا بِالْكَمَالِ لَلَزِمَ أَنْ لَا تَعْتَدَّ بِبَقِيَّةِ الشَّهْرِ اعْتِبَارًا بِالْكَمَالِ ، وَفِي فَسَادِ هَذَا فِي بَقِيَّةِ الشَّهْرِ دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِهِ فِي بَقِيَّةِ الْيَوْمِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوْ حَاضَتِ الصَّغِيرَةُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الثَّلَاثَةِ الْأَشْهُرِ فَقَدِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا ، وَلَوْ حَاضَتْ قَبْلَ انْقِضَائِهَا بِطَرْفَةٍ خَرَجَتْ مِنَ اللَّاتِي لَمْ يَحِضْنَ وَاسْتَقْبَلَتِ الْأَقْرَاءَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، لِأَنَّ مَنْ لَمْ تَحِضْ لِصِغَرٍ عِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ ، فَإِنِ
اعْتَدَّتْ بِالشُّهُورِ ثُمَّ حَاضَتْ لَمْ يَخْلُ حَيْضُهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الشُّهُورِ أَوْ قَبْلَهَا ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الشُّهُورِ أَجْزَأَتْهَا الْعِدَّةُ بِالشُّهُورِ ، وَإِنْ صَارَتْ بَعْدَهَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ لِلْحُكْمِ بِانْقِضَائِهَا وَلَمْ يُؤَثِّرْ حُدُوثُ الْحَيْضِ كَمَا لَوِ اعْتَدَّتْ بِالْأَقْرَاءِ ثُمَّ صَارَتْ مُؤَيَّسَةً أَجْزَأَتْهَا الْأَقْرَاءُ ، وَإِنْ صَارَتْ بَعْدَهَا مِنْ ذَوَاتِ الشُّهُورِ . فَإِنْ قِيلَ : أَفَلَيْسَ لَوِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالْأَقْرَاءِ ثُمَّ ظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ انْتَقَلَتْ إِلَيْهِ بَطَلَ الْأَقْرَاءُ ، فَهَلَّا كَانَتِ الصَّغِيرَةُ فِي حُدُوثِ الْحَيْضِ كَذَلِكَ ؟ قِيلَ : لِأَنَّ الْحَمْلَ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْأَقْرَاءِ فَانْتَقَلَتْ إِلَى الِاعْتِدَادِ بِالشُّهُورِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَلْفِيقُ الْعِدَّةِ مِنْ جِنْسَيْنِ شُهُورٍ وَأَقْرَاءٍ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ أَحَدَ الْجِنْسَيْنِ مِنْ أَقَرَاءٍ وَشُهُورٍ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : " اسْتَقْبَلَتِ الْأَقْرَاءَ " فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا لِأَجْلِ هَذَا الِاحْتِمَالِ فِيمَا مَضَى مِنْ طُهْرِهَا هَلْ تَعْتَدُّ بِهِ قُرْءًا أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِهِ قُرْءًا ؛ لِأَنَّ الْقُرْءَ هُوَ طُهْرٌ بَعْدَهُ حَيْضٌ ، فَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ حَيْضٌ كَمَا لَوْ طُلِّقَتْ فِي طُهْرِهَا اعْتَدَّتْ بِهِ ؛ لَأَنَّ بَعْدَهُ حَيْضًا وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ حَيْضٌ ؛ لِأَنَّ مَا مَضَى مِنَ الْحَيْضِ قَبْلَ الطَّلَاقِ لَا يُحْتَسَبُ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ أَنَّهَا لَا تَعْتَدُّ بِمَا مَضَى مِنَ الطُّهْرِ قُرْءًا وَلْتَسْتَقْبِلْ ثَلَاثَةَ أَقْرَاءٍ ؛ لِأَنَّ الْقُرْءَ هُوَ طُهْرَانِ حَيْضَتَيْنِ ، فَلَمَّا كَانَ فَقْدُ الْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ فِي الِانْتِهَاءِ تَمْنَعُ مِنْ أَنْ تَكُونَ قُرْءًا ، كَانَ فَقْدُ الْحَيْضَةِ الْأَوْلَى فِي الِابْتِدَاءِ أَوْلَى بِالْمَنْعِ مِنْ أَنْ تَكُونَ قُرْءًا ؛ وَلِأَنَّهَا لَوِ اعْتَدَّتْ بِقُرْءٍ ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهَا الْإِيَاسُ لَمْ تَحْتَسِبْ بِزَمَانِ الْقُرْءِ وَشَهْرٍ وَلْتَسْتَقْبِلَنَّ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ لِئَلَّا تُلَفَّقَ عِدَّةٌ مِنْ جِنْسَيْنِ ، كَذَلِكَ حَيْضُ الصَّغِيرَةِ لَا يُوجِبُ احْتِسَابَ مَا مَضَى مِنَ الشُّهُورِ قُرْءًا لِئَلَّا يَجْمَعَ فِي عِدَّتَيْنِ جِنْسَيْنِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَأَعْجَبُ مَنْ سَمِعْتُ بِهِ مِنَ النِّسَاءِ يَحِضْنَ نِسَاءُ تِهَامَةَ لِتِسْعِ سِنِينَ فَتَعْتَدُّ إِذَا حَاضَتْ مِنْ هَذِهِ السِّنِّ بِالْأَقْرَاءِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : فَقَدْ مَضَى فِي كِتَابِ الْحَيْضِ أَنَّ أَقَلَّ الزَّمَانِ الَّذِي تَحِيضُ فِيهِ النِّسَاءُ تِسْعُ سِنِينَ اعْتِبَارًا بِالْوُجُودِ ، وَأَنَّهُ لَمْ يَجُزْ بِذَلِكَ عَادَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ ، فَإِنْ وُجِدَتْ عَادَةٌ فِي الْحَيْضِ لِأَقَلَّ مِنْ تِسْعِ سِنِينَ مَعَ السَّلَامَةِ مِنَ الْعَوَارِضِ إِمَّا فِي ثَلَاثِ نِسَاءٍ حِضْنَ لِأَقَلَّ مِنْ تِسْعٍ ، وَإِمَّا فِي امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ حَاضَتْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِأَقَلَّ مِنْ تِسْعِ سِنِينَ انْتَقَلْنَا عَنِ التِّسْعِ فِي أَقَلِّهِ إِلَى مَا وَجَدْنَاهُ غَيْرَ أَنَّنَا لَمْ نَجِدْ ذَلِكَ فَوَقَفْنَا فِي الْأَقَلِّ عَلَى مَا اسْتَقَرَّ وُجُودُهُ وَهُوَ تِسْعُ سِنِينَ ، فَلَوْ أَنَّ مُعْتَدَّةً رَأَتِ الدَّمَ لِأَقَلَّ مِنْ تِسْعِ سِنِينَ كَانَ دَمَ فَسَادٍ وَلَمْ
يَكُنْ حَيْضًا فَتَعْتَدُّ بِالشُّهُورِ ؛ لِأَنَّهَا مِمَّنْ لَمْ تَحِضْ ، وَلَوْ رَأَتْهُ لِتِسْعِ سِنِينَ وَكَانَ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ اعْتَدَّتْ بِالشُّهُورِ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَحِضْ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَإِنْ بَلَغَتْ عِشْرِينَ سَنَةً أَوْ أَكْثَرَ لَمْ تَحِضْ قَطُّ اعْتَدَتْ بِالْشُهُورِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ الزَّمَانِ الَّذِي تَحِيضُ فِيهِ النِّسَاءُ غَيْرُ مُحَدَّدٍ ، فَإِذَا تَأَخَّرَ عَنِ الْمَرْأَةِ الْحَيْضُ حَتَّى طَعَنَتْ فِي السِّنِّ اعْتَدَّتْ بِالشُّهُورِ ؛ لِأَنَّهَا مِمَّنْ لَمْ تَحِضْ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ صِفَةُ الْمُعْتَدَّةِ وَإِنْ خَرَجَتْ عَنْ غَالِبِ الْعَادَةِ كَالْحَمْلِ الَّذِي يُعْتَبَرُ فِيهِ حَالُ الْحَامِلِ فِي بَقَائِهِ أَرْبَعَ سِنِينَ ، وَإِنْ خَالَفَ غَالِبَ الْعَادَةِ فِي تِسْعَةِ أَشْهُرٍ ، فَأَمَّا إِذَا وَلَدَتْ وَلَمْ تَرَ حَيْضَهَا قَبْلَهُ وَلَا نِفَاسًا بَعْدَهُ ثُمَّ طُلِّقَتْ فَفِي عِدَّتِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ : إِنَّهَا تَعْتَدُّ بِالشُّهُورِ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَحِضْ وَوِلَادَتُهَا قَبْلَ الْحَيْضِ كَالْبُلُوغِ الَّذِي تَعْتَدُّ بَعْدَهُ بِالشُّهُورِ إِذَا لَمْ تَحِضْ كَذَلِكَ بَعْدَ الْحَمْلِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا تَكُونُ كَالَّتِي ارْتَفَعَ حَيْضُهَا قَبْلَ الْإِيَاسِ لِغَيْرِ عِلَّةٍ عدتها فَيَكُونُ فِيمَا يُعْتَدُّ بِهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ ذَكَرْنَاهَا : أَحَدُهَا : تَمْكُثُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ مُدَّةَ أَوْسَطِ الْحَمْلِ ثُمَّ تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ . وَالثَّانِي : تَمْكُثُ مُدَّةَ أَكْثَرِ الْحَمْلِ لِأَرْبَعِ سِنِينَ ثُمَّ تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ . وَالثَّالِثُ : تَمْكُثُ إِلَى مُدَّةِ الْإِيَاسِ ثُمَّ تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ ؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْحَمْلِ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ لِقُوَّةِ الْحَمْلِ عَلَى الْأَقْرَاءِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : ( وَلَوْ طَرَحَتْ مَا تَعْلَمُ أَنَّهُ وَلَدٌ مُضْغَةً أَوْ غَيْرَهَا حَلَّتْ عدة الحامل ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : فِي كِتَابَيْنِ لَا تَكُونُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ حَتَّى يَبِينَ فِيهِ مِنْ خَلْقِ الْإِنْسَانِ شَيْءٌ وَهَذَا أَقْيَسُ ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ إِسْقَاطَ الْوَلَدِ يَتَعَلَّقُ بِهِ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ : أَحَدُهَا : انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ . وَالثَّانِي : كَوْنُهَا أُمَّ وَلَدٍ . وَالثَّالِثُ : وُجُوبُ الْعِدَّةِ . وَلَهُ فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ مُضْغَةً . وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ دُونَهَا .
وَالثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ فَوْقَهَا ، وَإِنْ كَانَ دُونَ الْمُضْغَةِ نُطْفَةً أَوْ عَلَقَةً لَمْ يَتَعَلَّقْ بِإِلْقَائِهِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ الثَّلَاثَةِ ، فَلَا تَنْقَضِي الْعِدَّةُ وَلَا تَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ وَلَا يَجِبُ فِيهِ الْغُرَّةُ ؛ لِأَنَّهُ دَمٌ فَصَارَ كَدَمِ الْحَيْضِ وَلَا يَتِمُّ بِهِ الْقُرُوءُ بِخِلَافِ الْحَيْضِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدُمْ دَوَامَ الْحَيْضِ ، فَإِنِ اتَّصَلَ بِهِ الدَّمُ حَتَّى صَارَ يَوْمًا وَلَيْلَةً فَهُوَ دَمُ حَيْضٍ يَتِمُّ بِهِ الطُّهْرُ وَلَا يَكُونُ نِفَاسًا ؛ لِأَنَّ النِّفَاسَ مَا اتَّصَلَ بِوَضْعِ الْوَلَدِ ، فَإِنْ كَانَ قَوِيَّ الْمُضْغَةِ فَهُوَ مَا اسْتَكْمَلَ خَلْقُهُ وَتَشَكَّلَتْ أَعْضَاؤُهُ وَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ إِلَّا التَّمَامُ وَالِاشْتِدَادُ ، فَهَذَا تَتَعَلَّقُ الْأَحْكَامُ الثَّلَاثَةُ بِهِ فَتَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ وَتَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ وَتَجِبُ فِيهِ الْغُرَّةُ وَيَكُونُ مَا اتَّصَلَ بِهِ مِنَ الدَّمِ نِفَاسًا ، وَإِنْ كَانَتْ مُضْغَةً فَلَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَظْهَرَ فِيهِ بَعْضُ الْأَعْضَاءِ مَنْ عَيْنٍ ، أَوْ إِصْبَعٍ ، أَوْ تَبِينُ فِيهِ أَوَائِلُ التَّخْطِيطِ وَأَوَائِلُ الصُّورَةِ فَتَتَعَلَّقُ فِيهِ الْأَحْكَامُ الثَّلَاثَةُ ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ ظَاهِرًا مُشَاهَدًا أَوْ كَانَ خَفِيًّا تُفَرِّقُهُ الْقَوَابِلُ عِنْدَ إِلْقَائِهِ فِي الْمَاءِ الْجَارِي فَتَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ ، وَتَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ وَتَجِبُ فِيهِ الْغُرَّةُ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ لَا تَبْلُغَ هَذِهِ الْحَدَّ وَتَضْعُفَ عَنْ قُوَّةِ الْحَمْلِ الْمُتَمَاسِكِ فَيَكُونُ بِالْعَلَقَةِ أَشْبَهَ ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ أَحْوَالِ انْتِقَالِهِ عَنْهَا فَلَا يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْأَحْكَامِ الثَّلَاثَةِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ لَحْمًا مُتَمَاسِكًا قَدْ تَهَيَّأَ لِلِانْتِقَالِ إِلَى التَّصَوُّرِ وَالتَّخْطِيطِ ، وَلَمْ يَبْدُ فِيهِ تَصَوُّرٌ وَلَا تُخَطُّطٌ لَا ظَاهِرَ وَلَا خَفِيَّ ، فَظَاهِرُ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا فِي الْقَدِيمِ أَنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي بِهِ ، وَظَاهِرُ مَا قَالَهُ فِي أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ : أَنَّهَا تَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ جَمَعُوا بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ وَخَرَّجُوهَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ وَتَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ وَتَجِبُ فِيهِ الْغُرَّةُ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَبَادِئِ الْخِلْقَةِ فَجَرَى عَلَيْهِ حُكْمُهَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ وَلَا تَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ وَلَا تَجِبُ فِيهِ الْغُرَّةُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَقِرَّ بِهِ خَلْقُهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْجَوَابَ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ فَتَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ وَلَا تَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ وَلَا تَجِبُ فِيهِ الْغُرَّةُ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ الْعِدَّةَ مَوْضُوعَةٌ لِاسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ ، وَإِلْقَاؤُهُ وَإِنْ لَمْ يُتَصَوَّرْ مُسْتَبْرِئٌ لِرَحِمِهَا كَمَا لَوْ تُصُوِّرَ فَلِذَلِكَ انْقَضَتِ الْعِدَّةُ بِهِ ، وَهِيَ إِنَّمَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ إِذَا انْطَلَقَ اسْمُ الْوَلَدِ عَلَيْهِ وَثَبَتَتْ حُرْمَتُهُ فَتَعَدَّتْ إِلَيْهَا ، وَهُوَ قَبْلَ التَّصَوُّرِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْوَلَدِ اسْتَقَرَّتْ لَهُ حُرْمَةٌ تَعَدَّتْ إِلَيْهَا ، فَلِذَلِكَ لَمْ تَصِرْ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ وَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الْغُرَّةُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ كَانَتْ تَحِيضُ عَلَى الْحَمْلِ تَرَكَتِ الصَّلَاةَ وَاجْتَنَبَهَا زَوْجُهَا وَلَمْ تَنْقَضِ بِالْحَيْضِ عِدَّتُهَا ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مُعْتَدَّةً بِهِ ، وَعِدَّتُهَا أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ أَجْرَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْعَادَةَ فِي أَغْلَبِ أَحْوَالِ النِّسَاءِ أَنْ يَنْقَطِعَ عَنْهُنَّ الْحَيْضُ فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ لِمَا ذُكِرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَجْعَلُهُ غِذَاءً لِلْجَنِينِ وَرُبَّمَا بَرَزَ الدَّمُ فِي حَالِ الْحَمْلِ ؛ إِمَّا لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مِنْ غِذَاءِ الْجَنِينِ ، وَإِمَّا لِضَعْفِ الْجَنِينِ عَنِ الِاغْتِذَاءِ بِجَمِيعِهِ فَيَخْرُجُ فَاضِلُ الدَّمِ ، وَيَكُونُ عَلَى صِفَةِ الْحَيْضِ وَقَدْرِهِ ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّهَا لَا تَعْتَدُّ بِهِ وَاخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ ، هَلْ يَكُونُ حَيْضًا تَجْتَنِبُ فِيهِ مَا تَجْتَنِبُ النِّسَاءُ فِي الْحَيْضِ أَوْ يَكُونُ دَمَ فَسَادٍ لَا حُكْمَ لَهُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَكُونُ حَيْضًا وَيَكُونُ دَمَ فَسَادٍ لَا تُمْنَعُ فِيهِ مِنَ الصَّلَاةِ وَإِتْيَانِ الزَّوْجِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ : اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ [ الرَّعْدِ : ] فَأَخْبَرَ أَنَّ الْحَيْضَ يَفِيضُ مَعَ الْحَمْلِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا ظَهَرَ مِنَ الدَّمِ لَيْسَ بِحَيْضٍ ، وَلِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : أَلَا لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تَحِيضَ فَجَعَلَ بَرَاءَةَ الرَّحِمِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَدَلَّ عَلَى تَنَافِي اجْتِمَاعِهِمَا ، وَلِأَنَّهُ دَمٌ لَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ حَيْضًا كَدَمِ الِاسْتِحَاضَةِ عَلَى الْحَمْلِ ، وَلِأَنَّ الْحَيْضَ عَلَى الْحَمْلِ فِي ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ لَيْسَ بِدَالٍّ عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ ، فَلَوْ حَاضَتْ لَمَا دَلَّتْ عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ مِنْهُ وَلَكَانَتِ الْعِدَّةُ غَيْرَ مُقْتَضِيَةٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ الْجَدِيدُ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ أَنَّهُ يَكُونُ حَيْضًا فِي تَحْرِيمِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَاجْتِنَابِ الزَّوْجِ وَإِنْ لَمْ تَنْقَضِ بِهِ الْعِدَّةُ ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ : إِنَّ لِدَمِ الْحَيْضِ عَلَامَاتٍ وَأَمَارَاتٍ ، إِنَّهُ الْأَسْوَدُ الثَّخِينُ الْمُحْتَدِمُ ، فَأَمَّا إِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ فَوَجَبَ اعْتِبَارُ هَذِهِ الصِّفَةِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَتَعْلِيقُ الْحُكْمِ عَلَيْهَا إِذَا وُجِدَتْ ، وَلِأَنَّ الْحَيْضَ وَالْحَمْلَ لَا يُنَافِي اجْتِمَاعُهُمَا سُنَّةً وَإِجْمَاعًا وَاسْتِدْلَالًا . وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ ، فَلَمَّا رَأَتْ بَرِيقَ أَسَارِيرِهِ قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ : أَنْتَ أَحَقُّ بِمَا قَالَهُ أَبُو كَبِيرٍ الْهُذَلِيُّ . وَمُبَرَّإٍ مِنْ كُلِّ غُبَّرِ حَيْضَةٍ وَفَسَادِ مُرْضِعَةٍ وَدَاءٍ مُغْيِلِ وَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى أَسِرَّةِ وَجْهِهِ بَرِقَتْ كَبَرْقِ الْعَارِضِ الْمُتَهَلِّلِ
يَعْنِي أَنَّهُ قَدْ بَرِئَ أَنْ تَكُونَ أُمُّهُ حَمَلَتْ بِهِ وَهِيَ حَائِضٌ ؛ لِأَنَّ مَا تَحْمِلُهُ فِي الْحَيْضِ يَكُونُ غَبْرَ اللَّوْنِ كَمِدَاءٍ ، وَمَا يَحْمِلُهُ فِي الطُّهْرِ وَضِيءَ الْأَسَارِيرِ صَافِيَ اللَّوْنِ ، وَكَانَتْ هَذِهِ صِفَتَهُ . وَقَوْلُهُ : وَدَاءٍ مُغْيِلٍ : الْوَطْءُ عَلَى الْحَمْلِ ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَدْتُ أَنْ أَنْهَى عَنِ الْغِيلَةِ يَعْنِي وَطْءَ الْحَامِلِ حَتَّى قِيلَ لِي : إِنَّ نِسَاءَ الرُّومِ يَفْعَلْنَ ذَلِكَ وَلَا يَضُرُّهُنَّ فَمَوْضِعُ السُّنَّةِ الْمُسْتَدَلِّ بِهَا مِنْ هَذَا الْخَبَرِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا نَزَّهَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْحَمْلِ بِهِ فِي حَيْضِ أُمِّهِ وَعَنْ غِيلَتِهَا بِصِفَتِهِ الَّتِي يُخَالِفُ حَالَ مَنْ حَمَلَتْ بِهِ فِي حَيْضَتِهَا ، فَأَقَرَّهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَمَا أَنْكَرَهُ مِنْهَا ، وَلَوْ خَالَفَ الشَّرْعَ لِأَنْكَرَهُ وَنَهَى عَنْهُ مَعَ قَوْلِهِ فِي الْغِيلَةِ : " أَرَدْتُ أَنْ أَنْهَى عَنْهَا ثُمَّ عَرَفْتُ أَنَّ الرُّومَ لَا يَضُرُّهُمْ " يُرِيدُ فِي الْحَمْلِ الْحَادِثِ مِنْهُ فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ وَمِنْ إِقْرَارِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَنَافَى فِي اجْتِمَاعِ الْحَيْضِ وَالْحَمْلِ وَأَمَّا الِاجْتِمَاعُ فَمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلَيْنِ تَدَاعِيًا وَلَدًا وَتَنَازَعَا فِيهِ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَدُعِيَ لَهُ الْقَافَةُ فَأَلْحَقُوهُ بِهِمَا ، فَدَعَا لَهُ عَجَائِزَ قُرَيْشٍ وَسَأَلَهُنَّ عَنْهُ فَقُلْنَ : إِنَّهَا حَمَلَتْ بِهِ مِنَ الْأَوَّلِ وَحَاضَتْ عَلَى الْحَمْلِ فَاسْتَخْشَفَ الْوَلَدُ ، فَلَمَّا تَزَوَّجَ بِهَا الثَّانِي انْتَعَشَ بِمَائِهِ فَأَخَذَ الشَّبَهَ مِنْهُ ، فَقَالَ عُمَرُ : اللَّهُ أَكْبَرُ ، وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْأَوَّلِ ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ شَهِدَهَا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ ، وَسَمِعُوا مَا جَرَى فَأَقَرُّوا عَلَيْهِ وَلَمْ يُنْكِرُوهُ ، فَدَلَّ عَلَى إِجْمَاعِهِمْ عَلَيْهِ . وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ فَهُوَ مَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ فِيمَنْ وَطِئَ فِي حَيْضٍ أَوْ عَقَدَ نِكَاحًا عَلَى حَائِضٍ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَطْئِهِ وَعَقْدِهِ فِي الْحَيْضِ أَنَّ الْوَلَدَ لَاحِقٌ بِهِ لِوُجُودِ زَمَانِ حَمْلِهِ مِنْ وَقْتِ وَطْئِهِ وَعَقْدِهِ ، فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى جَوَازِ حَمْلِهَا فِي الْحَيْضِ ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَاعْتَبَرُوا سِتَّةَ أَشْهُرٍ مِنْ بَعْدِ انْقِضَاءِ حَيْضَتِهَا ، فَإِنْ فَرَّقُوا بَيْنَ عُلُوقِ الْوَلَدِ وَبَيْنَ الْحَمْلِ جَوَّزْنَاهُ قِيَاسًا ، فَقُلْنَا : إِنَّ كُلَّ حَالَةٍ لَا تُنَافِي عُلُوقَ الْوَلَدِ لَا تُنَافِي الْحَمْلَ كَالطُّهْرِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ حُدُوثُ الْحَمْلِ عَلَى الْحَيْضِ صَحَّ حُدُوثُ الْحَيْضِ عَلَى الْحَمْلِ ؟ لِأَنَّهُمَا لَا يَتَنَافَيَانِ ؛ وَلِأَنَّ مَا تَأَخَّرَ بِهِ الْحَيْضُ فِي الْغَالِبِ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ ثُبُوتِ حُكْمِهِ إِذَا حَدَثَ نَادِرًا كَالرَّضَاعِ ، لِأَنَّ الْحَيْضَ يَتَأَخَّرُ بِهِ الْحَمْلُ ؛ وَلِأَنَّ الْأَقْرَاءَ فِي الْعِدَّةِ أَقْوَى مِنَ الشُّهُورِ ، وَالْحَمْلَ فِيهَا أَقْوَى مِنَ الْأَقْرَاءِ ، فَلَمَّا انْتَقَلَتْ إِلَى الْحَمْلِ مَعَ وُجُودِ الشُّهُورِ جَازَ أَنْ تَنْتَقِلَ إِلَى الْحَمْلِ مَعَ وُجُودِ الْأَقْرَاءِ ، وَهَذَا اسْتِدْلَالُ الْمُزَنِيِّ وَفِيهِ انْفِصَالٌ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ تَوْجِيهِ الْقَوْلَيْنِ ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْقَدِيمِ مِنْهُمَا أَنَّهُ لَيْسَ بِحَيْضٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي أَوَّلِ زَمَانِهِ الَّذِي يَرْتَفِعُ عَنْهُ حُكْمُ الْحَيْضِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ وَإِنْ تَرَكَتِ الصَّلَاةَ عِنْدَ رُؤْيَةِ الدَّمِ بِخَفَاءِ أَمَارَاتِ الْحَمْلِ قَضَتْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : مِنْ وَقْتِ حَرَكَةِ الْحَمْلِ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى الِاعْتِدَادِ بِهِ مِنَ الْحَيْضِ ؛ فَإِنْ صَامَتْ بَعْدَ الْعُلُوقِ وَقَبْلَ حَرَكَتِهِ أَعَادَتْ ، وَإِنْ قُلْنَا : هُوَ لَهُ فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ الْأَصَحُّ نُظِرَ فِي الدَّمِ ، فَإِنْ كَانَ ثَخِينًا مُحْتَدِمًا فَهُوَ حَيْضٌ ، وَإِنْ كَانَ رَقِيقًا أَصْفَرَ فَفِي كَوْنِهِ حَيْضًا وَجْهَانِ ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَ فِي الْحَمْلِ غَيْرُ مُعْتَادٍ وَفِي وُجُودِ الصُّفْرَةِ وَالْكُدْرَةِ فِي غَيْرِ أَيَّامِ الْعَادَةِ وَجْهَانِ كَذَلِكَ هَذَا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا تُنْكَحُ الْمُرْتَابَةُ وَإِنْ أَوْفَتْ عِدَّتَهَا ؛ لِأَنَّهَا لَا تَدْرِي مَا عِدَّتُهَا فَإِنْ نُكِحَتْ لَمْ يُفْسَخْ وَوَقَّفْنَاهُ ، فَإِنْ بَرِئَتْ مِنَ الْحَمْلِ فَهُوَ ثَابِتٌ وَقَدْ أَسَاءَتْ ، وَإِنْ وَضَعَتْ بَطَلَ النِّكَاحُ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : جَعَلَ الْحَامِلَ تَحِيضُ وَلَمْ يَجْعَلْ لِحَيْضِهَا مَعْنًى يُعْتَدُّ بِهِ كَمَا تَكُونُ الَّتِي لَمْ تَحِضْ تَعْتَدُّ بِالشُّهُورِ ، فَإِذَا حَدَثَ الْحَيْضُ كَانَتِ الْعِدَّةُ بِالْحَيْضِ وَالشُّهُورِ كَمَا كَانَتْ تَمُرُّ عَلَيْهَا وَلَيْسَتْ بِعْدَّةٍ ، وَكَذَلِكَ الْحَيْضُ يَمُرُّ عَلَيْهَا وَلَيْسَ كُلُّ حَيْضٍ عِدَّةً كَمَا لَيْسَ كُلُّ شُهُورٍ عِدَةً " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْمُرْتَابَةُ حكم نكاحها إذا انقضت عدتها فَهِيَ الَّتِي تَمْضِي فِي أَقْرَائِهَا وَهِيَ مُرْتَابَةٌ بِحَمْلِهَا لِمَا تَجِدُهُ مِنْ غِلَظٍ وَتَحُسُّ بِهِ مِنْ نَقْلٍ وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ مِنَ النِّكَاحِ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا حَتَّى تَزُولَ رِيبَتُهَا ، فَإِنْ نَكَحَتْ قَالَ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا لَمْ يُفْسَخِ النِّكَاحُ وَوَقَّفْنَاهُ ، فَإِنْ بَرِئَتْ مِنَ الْحَمْلِ فَهُوَ ثَابِتٌ وَقَدْ أَسَاءَتْ وَإِنْ وَضَعَتْ بَطَلَ النِّكَاحُ . وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِنْ نَكَحَتِ الْمُرْتَابَةُ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا وَهِمَ فِيهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اخْتِلَافِ حَالَتِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ : الْمَوْضِعُ الَّذِي أَبْطَلَ فِيهِ نِكَاحَهَا إِذَا كَانَتِ الرِّيبَةُ مَوْجُودَةً قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا وَالْمَوْضِعُ الَّذِي وَقَّفَ فِيهِ نِكَاحَهَا إِذَا أُحْدِثَتِ الرِّيبَةُ بَعْدَ انْقِضَاءِ عَدَّتِهَا ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ مَوْضُوعَةٌ لِاسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ ، وَوُجُودُ الرِّيبَةِ فِيهَا تَمْنَعُ مِنَ اسْتِبْرَائِهَا ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْكَمَ بِانْقِضَائِهَا ؛ فَلِذَلِكَ بَطَلَ نِكَاحُهَا لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الْبَاقِيَةِ فِي عِدَّتِهَا وَإِنِ انْقَضَتْ أَقَرَاؤُهَا
وَإِذَا صَدَقَتِ الرِّيبَةُ بَعْدَ الْعِدَّةِ فَقَدْ تَقَدَّمَهَا الْحُكْمُ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَلَمْ تَنْقَضِ لِمَظْنُونٍ مُجَوِّزٍ ، وَإِنْ كَانَ النِّكَاحُ مَوْقُوفًا عَلَى مَا تَحَقَّقَ مِنْ حَالِ الْحَمْلِ كَالْحَاكِمِ إِذَا اجْتَهَدَ ، ثُمَّ بَانَ لَهُ مَا هُوَ أَوْلَى مِنِ اجْتِهَادِهِ الْأَوَّلِ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ نُفُوذِ الْحُكْمِ بِهِ رَجَعَ عَنِ الْأَوَّلِ وَحَكَّمَ الثَّانِي ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ نُفُوذِ الْحُكْمِ بِهِ أَمْضَى الْحُكْمَ بِالِاجْتِهَادِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يُبَعِّضْهُ فَإِنْ بَانَ لَهُ مُخَالَفَةُ النَّصِّ نَقَضَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ اخْتِلَافَ حَالَتِهِمَا مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، وَهُوَ أَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي يَبْطُلُ فِيهِ نِكَاحُهَا إِذَا كَانَتِ الرِّيبَةُ مَوْجُودَةً قَبْلَ عَقْدِ النِّكَاحِ ، وَالْمَوْضِعَ الَّذِي وُقِفَ فِيهِ نِكَاحُهَا إِذَا حَدَثَتِ الرِّيبَةُ بَعْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ : لِأَنَّ اسْتِبْرَاءَهَا قَبْلَ النِّكَاحِ مِنْ حُقُوقِ الْأَوَّلِ : لِأَنَّ وَلَدَهَا يُلْحَقُ بِهِ إِلَى مُدَّةِ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ طَلَاقِهِ فَاسْتَوَى فِي حَقِّهِ وُجُودُ الرِّيبَةِ قَبْلَ الْعِدَّةِ وَبَعْدَهَا فَلِذَلِكَ بَطَلَ نِكَاحُهَا وَاسْتِبْرَاؤُهَا بَعْدَ النِّكَاحِ فِي حَقِّ الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ يُلْحَقُ بِهِ وَلَدُهَا إِذَا وَضَعَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَلِذَلِكَ وُقِفَ نِكَاحُهَا . فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنِ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ يَنْزِلُ لَهَا مِنْهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : مَا كَانَ نِكَاحُهَا فِيهِ بَاطِلًا ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الرِّيبَةُ مَوْجُودَةً قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَلَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِي بُطْلَانِ نِكَاحِهَا ، سَوَاءٌ زَالَتِ الرِّيبَةُ أَوْ تَحَقَّقَتْ بِالْوِلَادَةِ . وَالْحَالُ الثَّانِي : مَا كَانَ نِكَاحُهَا فِيهِ مَوْقُوفًا ، وَهُوَ أَنْ تَحْدُثَ الرِّيبَةُ بَعْدَ النِّكَاحِ فَلَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ لَا يَبْطُلُ : لِأَنَّهُ عُقِدَ عَلَى الصِّحَّةِ فِي الظَّاهِرِ فَلَمْ يَبْطُلْ بِالْوَهْمِ لَكِنْ يُكْرَهُ لَهُ وَطْؤُهَا حَتَّى يُنْظَرَ مَا يَكُونُ مِنْ حَالِ رِيبَتِهَا ، فَإِنِ انْفَشَّ الْحَمْلُ كَانَ النِّكَاحُ عَلَى صِحَّتِهِ ، وَإِنْ وَضَعَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ فَالْوَلَدُ لِلثَّانِي ، وَالنِّكَاحُ عَلَى صِحَّتِهِ ، وَإِنْ وَضَعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَهُوَ لِلْأَوَّلِ ، وَالنِّكَاحُ حِينَئِذٍ بَاطِلٌ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : مَا كَانَ نِكَاحُهَا مُخْتَلَفًا فِيهِ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الرِّيبَةُ حَادِثَةً بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، وَقَبْلَ نِكَاحِ الثَّانِي فَفِي النِّكَاحِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ ، وَهُوَ قَوْلُ مَنِ اعْتَبَرَ الرِّيبَةَ قَبْلَ النِّكَاحِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : مَوْقُوفٌ ، وَهُوَ قَوْلُ مَنِ اعْتَبَرَ الرِّيبَةَ قَبْلَ الْعِدَّةِ . فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يَكُونُ النِّكَاحُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ مَوْقُوفًا وَعَقْدُ النِّكَاحِ عِنْدَهُ لَا يَقِفُ عَلَى الْإِجَازَةِ ، وَلَا يَنْعَقِدُ إِلَّا عَلَى فَسَادٍ أَوْ صِحَّةٍ ؟ قِيلَ : إِنَّمَا جُعِلَ مَوْقُوفًا عَلَى الْفَسْخِ لَا عَلَى الْإِجَازَةِ وَالْإِمْضَاءِ كَمَا يُوقَفُ نِكَاحُ الْوَثَنِيَّيْنِ إِذَا أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْفَسْخِ دُونَ الْإِمْضَاءِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ : " وَلَوْ كَانَتْ حَامِلًا بِوَلَدَيْنِ فَوَضَعَتِ الْأَوَّلَ فَلَهُ الرَّجْعَةُ ، وَلَوِ ارْتَجَعَهَا وَخَرَجَ بَعْضُ وَلَدِهَا وَبَقِيَ بَعْضُهُ كَانَتْ رَجْعَةً وَلَا تَخْلُو حَتَّى يُفَارِقَهَا كُلُّهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَحُكِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ : أَنَّهَا إِذَا وَضَعَتْ أَحَدَ الْوَلَدَيْنِ ، أَوْ خَرَجَ بَعْضُ أَحَدِهِمَا انْتَقَضَتْ عِدَّتُهَا ، وَبَطَلَتْ رَجْعَةُ الزَّوْجِ كَمَا تَنْقَضِي عِدَّةُ ذَاتِ الْأَقْرَاءِ بِأَوَّلِ الْحَيْضِ ، كَذَلِكَ الْحَامِلُ تَقْضِي عِدَّتَهَا بِأَوَّلِ الْحَمْلِ ، وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِقَوْلِهِ : وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [ الطَّلَاقِ : ] وَوَضْعُ الْحَمْلِ يَكُونُ بَعْدَ انْفِصَالِ جَمِيعِهِ ، وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ مَوْضُوعَةٌ لِاسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ الحكمة من العدة وَخُلُوِّهِ مِنْ وَلَدٍ مَظْنُونٍ فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ تَنْقَضِيَ مَعَ بَقَاءِ وَلَدٍ مَوْجُودٍ ، فَأَمَّا ذَاتُ الْأَقْرَاءِ فَعِدَّتُهَا بِالْأَطْهَارِ ، وَإِنَّمَا يُرَاعَى أَوَّلُ الْحَيْضِ لِاسْتِكْمَالِهَا ، وَالْحَامِلُ تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ فَاقْتَضَى أَنْ يُرَاعِيَ اسْتِكْمَالَهُ ، فَعَلَى هَذَا لَوِ ارْتَجَعَهَا بَعْدَ خُرُوجِ بَعْضِ الْوَلَدِ وَبَقَاءِ بَعْضِهِ صَحَّتْ رَجْعَتُهُ ، وَلَوْ نَكَحَتْ غَيْرَهُ بَطَلَ نِكَاحُهَا وَلَوِ انْفَصَلَ جَمِيعُ حَمْلِهَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَلَمْ يَصِحَّ لَهُ الرَّجْعَةُ وَلَا يَمْنَعُهَا بَقَاءُ النَّاسِ مِنْ نِكَاحِ غَيْرِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : " وَلَوْ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ فَلَمْ يَدْرِ أَقَبْلَ وِلَادِهَا أَمْ بَعْدَهُ ، فَقَالَ : وَقَعَ بَعْدَ مَا وَلَدَتْ فَلِيَ الرَّجْعَةُ وَكَذَّبَتْهُ الحكم فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ حَقٌّ لَهُ وَالْخُلُوَّ مِنَ الْعِدَّةِ حَقٌّ لَهَا وَلَمْ يَدْرِ وَاحِدٌّ مِنْهُمَا كَانِتِ الْعِدَّةُ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا وَجَبَتْ وَلَا نُزِيلُهَا إِلَّا بِيَقِينٍ ، وَالْوَرَعُ أَنْ لَا يَرْتَجِعَهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ دُونَ الثَّلَاثِ فَوَلَدَتْ ، ثُمَّ اخْتَلَفَا هَلْ كَانَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الْوِلَادَةِ أَوْ بَعْدَهَا فَادَّعَى الزَّوْجُ أَنَّهُ طَلَّقَهَا بَعْدَ الْوِلَادَةِ وَأَنْ عِدَّتَهَا بِالْأَقْرَاءِ وَلَهُ الرَّجْعَةُ ، وَقَالَتْ : بَلْ طَلَّقَنِي قَبْلَ الْوِلَادَةِ فَقَدِ انْقَضَتْ عِدَّتِي بِهَا وَلَا رَجْعَةَ لَكَ فَلَا يَخْلُو حَالُهُمَا فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ مِنْ ثَمَانِيَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى وَقْتِ الْوِلَادَةِ أَنَّهُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَيَخْتَلِفَا فِي وَقْتِ الطَّلَاقِ فَيَقُولُ الزَّوْجُ : هُوَ يَوْمُ السَّبْتَ ، وَتَقُولُ الزَّوْجَةُ ، هُوَ فِي يَوْمِ الْخَمِيسَ ، فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ وَعَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِالْأَقْرَاءِ وَلَهُ الرَّجْعَةُ : لِأَنَّ الطَّلَاقَ مِنْ فِعْلِهِ فَرُجِعَ فِيهِ إِلَى قَوْلِهِ كَمَا يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي أَصْلِ وُقُوعِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى وَقْتِ الطَّلَاقِ أَنَّهُ كَانَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَيَخْتَلِفَا فِي وَقْتِ الْوِلَادَةِ ، فَيَقُولُ الزَّوْجُ : وَلَدَتْ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ ، وَتَقُولُ الزَّوْجَةُ ، بَلْ وَلَدْتُ فِي يَوْمِ السَّبْتِ ، وَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الزَّوْجَةِ مَعَ يَمِينِهَا ، وَقَدِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالْوِلَادَةِ ، لِتَأَخُّرِهَا وَلَا رَجْعَةَ لِلزَّوْجِ : لِأَنَّ الْوِلَادَةَ مِنْ فِعْلِهَا وَمَعْلُومٌ مِنْ جِهَتِهَا .
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَخْتَلِفَا فِي وَقْتِ الطَّلَاقِ ، وَفِي وَقْتِ الْوِلَادَةِ فَيَقُولُ الزَّوْجُ ، وَلَدَتْ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ ، وَطَلَّقْتُ فِي يَوْمِ السَّبْتِ ، وَتَقُولُ الزَّوْجَةُ بَلْ طُلِّقْتُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَوَلَدْتُ فِي يَوْمِ السَّبْتِ ، فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ وَالْبَادِي بِالْيَمِينِ أَسْبَقُهُمَا بِالدَّعْوَى ، وَفِي كَيْفِيَّةِ الْيَمِينِ عند اختلاف الزوجين في وقت الطلاق وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَحْلِفُ الزَّوْجُ بِاللَّهِ مَا طَلَّقْتُهَا إِلَّا بَعْدَ وِلَادَتِهَا ، وَتَحْلِفُ الزَّوْجَةُ بِاللَّهِ مَا وَلَدْتُ إِلَّا بَعْدَ طَلَاقِهِ ؟ لِأَنَّ ذَلِكَ أَوْجَزَ وَأَخْصَرَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُمَا يَحْلِفَانِ عَلَى صِفَةِ الدَّعْوَى فَتَضْمَنُ يَمِينُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِثْبَاتَ مَا ادَّعَاهُ وَنَفْيَ مَا ادُّعِيَ عَلَيْهِ ، فَيَقُولُ الزَّوْجُ : وَاللَّهِ لَقَدْ وَلَدَتْ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَمَا طَلَّقْتُهَا إِلَّا فِي يَوْمِ السَّبْتِ ، وَتَقُولُ الزَّوْجَةُ : وَاللَّهِ لَقَدْ طَلَّقَنِي فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَلَقَدْ وَلَدْتُ فِي يَوْمِ السَّبْتِ ، وَلَا تَحْتَاجُ أَنْ تَقُولَ مَا وَلَدْتُ إِلَّا فِي يَوْمِ السَّبْتِ وَإِنِ احْتِيجَ إِلَى ذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ : لِأَنَّ الْوِلَادَةَ لَا تَتَكَرَّرُ وَالطَّلَاقَ قَدْ يَتَكَرَّرُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُهُمَا فِي التَّحَالُفِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَنْكُلَا فَيُحْكَمُ عِنْدَ نُكُولِهَا بِقَوْلِ أَسْبَقِهِمَا بِالدَّعْوَى ، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ حُكِمَ لَهُ بِالرَّجْعَةِ ، وَعَلَيْهَا بِالْعِدَّةِ ، وَإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ حُكِمَ لَهَا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَإِسْقَاطِ الرَّجْعَةِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَحْلِفَ أَحَدُهُمَا وَيَنْكُلَ الْآخَرُ فَيُحْكَمُ لِلْحَالِفِ مِنْهُمَا دُونَ النَّاكِلِ سَوَاءٌ كَانَ سَابِقًا بِالدَّعْوَى أَوْ مَسْبُوقًا . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَحْلِفَا مَعًا فَالتَّحَالُفُ مِنْهُمَا وَقَعَ عَلَى حُكْمَيِ الرَّجْعَةِ وَالْعِدَّةِ فَأَثْبَتَهُمَا الزَّوْجُ لِنَفْسِهِ بِيَمِينِهِ وَنَفَتْهُمَا الزَّوْجَةُ عَنْهَا بِيَمِينِهَا فَوَجَبَ أَنْ يُلْزَمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَغْلَظَ الْأَمْرَيْنِ فِي حَقِّهِ يَقِينًا لِلتُّهْمَةِ عَنْهُمَا فَتَسْقُطُ رَجْعَةُ الزَّوْجِ بِيَمِينِ الزَّوْجَةِ ؛ لِأَنَّهُ أَغْلَظُ الْأَمْرَيْنِ عَلَيْهَا وَأَنْفَى لِلتُّهْمَةِ عَنْهَا . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى وَقْتِ الْوِلَادَةِ وَيَشُكَّا فِي الطَّلَاقِ هَلْ تَقَدَّمَهَا أَوْ تَأَخَّرَ عَنْهَا فَيُحْكُمُ عَلَيْهَا بِالْعِدَّةِ ، وَلِلزَّوْجِ الرَّجْعَةُ ؛ لِأَنَّا عَلَى يَقِينٍ مِنْ حُدُوثِ الطَّلَاقِ ، وَفِي شَكٍّ مِنْ تَقَدُّمِهِ ، وَالْوَرَعُ لِلزَّوْجِ أَنْ يَرْتَجِعَ لِجَوَازِ تَقَدُّمِهِ . وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ : أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى وَقْتِ الطَّلَاقِ وَيَشُكَّا فِي الْوِلَادَةِ هَلْ تَقَدَّمَتْ عَلَيْهِ أَوْ تَأَخَّرَتْ عَنْهُ فَيُحْكَمُ لَهَا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَسُقُوطِ الرَّجْعَةِ ؛ لِأَنَّا عَلَى يَقِينٍ مِنْ حُدُوثِ الْوِلَادَةِ وَفِي شَكٍّ مِنْ تَقَدُّمِهَا وَالْوَرَعُ لَهَا أَنْ تَعْتَدَّ لِجَوَازِ تَقَدُّمِهَا . وَالْقِسْمُ السَّادِسُ : أَنْ يَقُولَ الزَّوْجُ : قَدْ عَلِمْتِ أَنَّنِي طَلَّقْتُكِ بَعْدَ وِلَادَتِكَ ، وَتَقُولُ الزَّوْجَةُ : لَسْتُ أَعْلَمُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ لِعِلْمِهِ بِمَا جَهِلَتْهُ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَلَهُ الرَّجْعَةُ ، وَلَهَا إِحْلَافُهُ عَلَى الرَّجْعَةِ دُونَ الْعِدَّةِ ، فَإِنْ لَمْ يَرْتَجِعْهَا فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ : لِأَنَّ الْعِدَّةَ تَلْزَمُهَا مَعَ الْجَهْلِ بِأَدَائِهَا .
وَالْقِسْمُ السَّابِعُ : أَنْ تَقُولَ الزَّوْجَةُ : قَدْ عَلِمْتَ أَنَّنِي وَلَدْتُ بَعْدَ طَلَاقِكَ ، وَيَقُولَ الزَّوْجُ : لَسْتُ أَعْلَمُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجَةِ وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا وَلَا رَجْعَةَ لَهُ ، وَلَهُ إِحْلَافُهَا فِي سُقُوطِ الْعِدَّةِ دُونَ الرَّجْعَةِ إحلاف الزوج للزوجة : لِأَنَّهُ لَا يَسْتَبِيحُ الرَّجْعَةَ مَعَ الْجَهْلِ بِاسْتِحْقَاقِهَا . وَالْقِسْمُ الثَّامِنُ : أَنْ يَجْهَلَا جَمِيعًا وَقْتَ الْوِلَادَةِ وَالطَّلَاقِ وَلَا يَعْلَمُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا ، هَلْ تَقَدَّمَ الطَّلَاقُ عَلَى الْوِلَادَةِ أَوْ تَقَدَّمَتِ الْوِلَادَةُ عَلَى الطَّلَاقِ فَعَلَيْهِمَا الْعِدَّةُ وَلَهُ الرَّجْعَةُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ وُجُوبُ الْعِدَّةِ فَلَا تَنْقَضِي بِالشَّكِّ وَأَنَّ الرَّجْعَةَ مُسْتَحَقَّةٌ فَلَا تَبْطُلُ بِالشَّكِّ وَيُخْتَارُ لَهُ فِي الْوَرَعِ أَنْ لَا يَرْتَجِعَهَا احْتِيَاطًا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ طَلَّقَهَا فَلَمْ يُحْدِثْ لَهَا رَجْعَةً وَلَا نِكَاحًا حَتَّى وَلَدَتْ لَأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ فَأَنْكَرَهُ الزَّوْجُ فَهُوَ مَنْفِيٌّ بِاللِّعَانِ ؛ لِأَنَّهَا وَلَدَتْهُ بَعْدَ الطَّلَاقِ لِمَا لَا يَلِدُ لَهُ النِّسَاءُ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : فَإِذَا كَانَ الْوَلَدُ عِنْدَهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَلِدَهُ مِنْهُ فَلَا مَعْنَى لِلِّعَانِ بِهِ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا غَلَطًا مِنْ غَيْرِ الشَّافِعِيِّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَمُقَدِّمَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيَانُ أَقَلِّ الْحَمْلِ وَأَكْثَرِهِ ، فَأَمَّا مُدَّةُ أَقَلِّ الْحَمْلِ الَّذِي يَعِيشُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ فَسِتَّةُ أَشْهُرٍ اسْتِنْبَاطًا مِنْ نَصٍّ وَانْعِقَادًا مِنْ إِجْمَاعٍ وَاعْتِبَارًا بِوُجُودٍ . أَمَّا اسْتِنْبَاطُ النَّصِّ فَقَوْلُ اللَّهِ : وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا [ الْأَحْقَافِ : ] فَجَعَلَهَا مُدَّةً لِلْحَمْلِ وَلِفِصَالِ الرَّضَاعِ ، وَلَا تَخْلُو هَذِهِ الْمُدَّةُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ . إِمَّا أَنْ تَكُونَ جَامِعَةً لِأَقَلِّهِمَا أَوْ لِأَكْثَرِهِمَا أَوْ لِأَكْثَرِ الْحَمْلِ وَأَقَلِّ الرَّضَاعِ أَوْ لِأَقَلِّ الْحَمْلِ وَأَكْثَرِ الرَّضَاعِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ جَامِعَةً لِأَقَلَّيْهِمَا ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ الرَّضَاعِ غَيْرُ مُحَدَّدٍ ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ جَامِعَةً لِأَكْثَرِهِمَا لِزِيَادَتِهَا عَلَى هَذِهِ الْمُدَّةِ ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ جَامِعَةً لِأَكْثَرِ الْحَمْلِ وَأَقَلِّ الرَّضَاعِ : لِأَنَّ أَقَلَّهُ غَيْرُ مُحَدِّدٍ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَامِعَةً لِأَقَلِّ الْحَمْلِ وَأَكْثَرِ الرَّضَاعِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ أَكْثَرَ الرَّضَاعِ حَوْلَانِ لِقَوْلِ اللَّهِ : حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ [ الْبَقَرَةِ : ] عُلِمَ أَنَّ الْبَاقِيَ وَهُوَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ مُدَّةُ أَقَلِّ الْحَمْلِ . وَأَمَّا انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ فَمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى عَهْدِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ، فَوَلَدَتْ فَرَافَعَهَا إِلَيْهِ فَهَمَّ عُثْمَانُ بِرَجْمِهِمَا ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ : إِنْ خَاصَمْتُكَ الْمَرْأَةُ خَاصَمْتُكَ بِالْقُرْآنِ ، فَقَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : وَمِنْ أَيْنَ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ : قَالَ اللَّهُ : وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا [ الْأَحْقَافِ : ] وَقَالَ : وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ [ الْبَقَرَةِ : ] فَإِذَا ذَهَبَ الْحَوْلَانِ
مِنْ ثَلَاثِينَ شَهْرًا كَانَ الْبَاقِي لِحَمْلِهِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ فَعَجِبَ النَّاسُ مِنِ اسْتِخْرَاجِهِ وَرَجَعَ عُثْمَانُ ، وَمَنْ حَضَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ إِلَى قَوْلِهِ فَصَارَ إِجْمَاعًا . وَأَمَّا اعْتِبَارُ الْوُجُودِ فَمَا حُكِيَ أَنَّ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وُلِدَ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وِلَادَةِ أَخِيهِ الْحَسَنِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا . وَأَمَّا مُدَّةُ أَكْثَرِ الْحَمْلِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّ أَكْثَرَ مُدَّتِهِ أَرْبَعُ سِنِينَ . وَقَالَ الزُّهْرِيُّ ، وَرَبِيعَةُ ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ : أَكْثَرُ مُدَّتِهِ سَبْعُ سِنِينَ ، وَعَنْ مَالِكٍ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ : رُوِيَ عَنْهُ أَرْبَعُ سِنِينَ ، وَرُوِيَ خَمْسُ سِنِينَ ، وَرُوِيَ سَبْعُ سِنِينَ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : أَكْثَرُ مُدَّتِهِ سَنَتَانِ . وَبِهِ قَالَ الْمُزَنِيُّ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ : وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا [ الْأَحْقَافِ : ] فَجَعَلَهَا مَقْصُورَةً عَلَى الْمُدَّتَيْنِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ إِحْدَاهُمَا أَكْثَرَ مِنْهُمَا ؛ وَلِأَنَّ هَاتَيْنِ الْمُدَّتَيْنِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِمَا فَلَمْ يَجُزِ الِانْتِقَالُ عَنْهُمَا إِلَّا بِإِجْمَاعٍ أَوْ دَلِيلٍ . وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّ كُلَّ مَا احْتَاجَ إِلَى حَدٍّ وَتَقْدِيرٍ إِذَا لَمْ يَتَقَدَّرْ بِشَرْعٍ وَلَا لُغَةٍ كَانَ مِقْدَارُهُ بِالْعُرْفِ وَالْوُجُودِ كَالْحَيْضِ ، وَالنِّفَاسِ ، وَقَدْ وُجِدَ مِرَارًا حَمْلٌ وُضِعَ لِأَرْبَعِ سِنِينَ ، رَوَى دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ ، قَالَ : قُلْتُ لِمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ : إِنِّي حُدِّثْتُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : لَا تَزِيدُ الْمَرْأَةُ فِي حَمْلِهَا عَلَى سَنَتَيْنِ قَدْرَ ظِلِّ الْمِغْزَلِ فَقَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ مَنْ يَقُولُ هَذَا ؟ هَذِهِ جَارَتُنَا امْرَأَةُ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ امْرَأَةُ صِدْقٍ وَزَوْجُهَا رَجُلُ صِدْقٍ وَحَمَلَتْ ثَلَاثَةَ أَبْطُنٍ فِي اثْنَيْ عَشَرَ سَنَةً تَحْمِلُ كُلَّ بَطْنٍ أَرْبَعَ سِنِينَ . وَرَوَى الْمُبَارَكُ بْنُ مُجَاهِدٍ قَالَ : مَشْهُورٌ عِنْدَنَا كَانَتِ امْرَأَةُ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ تَحُولُ وَتَضَعُ فِي أَرْبَعِ سِنِينَ فَكَانَتْ تُسَمَّى حَامِلَةَ الْفِيلِ . وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ الْقُرَشِيِّ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ رَأَى رَجُلًا ، فَقَالَ : إِنَّ أَبَا هَذَا غَابَ عَنْ أُمِّهِ أَرْبَعَ سِنِينَ ثُمَّ قَدِمَ فَوَضَعَتْ هَذَا ، وَلَهُ ثَنَايَا . وَرَوَى هِشَامُ بْنُ يَحْيَى الْمُجَاشِعِيُّ قَالَ : بَيْنَمَا مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ يَوْمًا جَالِسٌ إِذْ قَامَ رَجُلٌ ، فَقَالَ : يَا يَحْيَى ، ادْعُ لِامْرَأَتِي حُبْلَى مُنْذُ أَرْبَعِ سِنِينَ قَدْ أَصْبَحَتْ فِي كَرْبٍ شَدِيدٍ فَغَضِبَ مَالِكٌ وَأَطْبَقَ الْمُصْحَفَ ، وَقَالَ : مَا يَرَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ إِلَّا أَنَّا أَنْبِيَاءُ ، ثُمَّ دَعَا ، ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ
هَذِهِ الْمَرْأَةُ إِنْ كَانَ فِي بَطْنِهَا رِيحٌ فَأَخْرِجْهَا عَنْهَا السَّاعَةَ وَإِنْ كَانَ فِي بَطْنِهَا جَارِيَةً فَأَبْدِلْهَا بِهَا غُلَامًا فَإِنَّكَ تَمْحُو مَا تَشَاءُ وَتُثْبِتُ وَعِنْدَكَ أُمُّ الْكِتَابِ ثُمَّ رَفَعَ مَالِكٌ يَدَهُ وَرَفَعَ النَّاسُ أَيْدِيَهُمْ وَجَاءَ الرَّسُولُ إِلَى الرَّجُلِ فَقَالَ : أَدْرِكِ امْرَأَتَكَ : فَذَهَبَ الرَّجُلُ فَمَا حَطَّ مَالِكٌ يَدَهُ حَتَّى طَلَعَ الرَّجُلُ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ عَلَى غُلَامٍ جَعْدٍ قَطَطٍ ابْنِ أَرْبَعِ سِنِينَ ، قَدِ اسْتَوَتْ أَسْنَانُهُ مَا قُطِعَتْ أَسْرَارُهُ ، وَإِذَا كَانَ هَذَا النَّقْلُ صَحِيحًا مِنْ طُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ ثَبَتَ وُجُودُهُ وَاسْتَقَرَّ حُكْمُهُ ، فَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ ذَكَرْنَا مَا اقْتَضَتْهُ وَفِيهِ جَوَابٌ . وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَقَدِ انْتَقَلْنَا عَنْهُ بِالْوُجُودِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ فَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ فِي رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا فِي الظَّاهِرِ بِالشُّهُورِ أَوْ بِالْأَقْرَاءِ ثُمَّ وَضَعَتْ قَبْلَ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِغَيْرِهِ وَلَدًا فَإِنْ رَضَّعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ فَهُوَ لَاحِقٌ بِالزَّوْجِ الْمُطَلِّقِ : لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَتَجَاوَزْ مُدَّةَ أَكْثَرِ الْحَمْلِ وَهِيَ أَرْبَعُ سِنِينَ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ نَادِرًا فَوَجَبَ أَنْ يَلْحَقَ بِهِ وَإِنْ خَالَفَ الْغَالِبَ كَمَا يَلْحَقُ بِهِ إِذَا وَلَدَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ عَقْدِهِ وَإِنْ نَدَرَ وَخَالَفَ الْغَالِبَ لِوُجُودِ الْإِمْكَانِ فِي الْحَالَيْنِ مَعَ كَوْنِهِمَا نَادِرَيْنِ وَتَنْقَضِي عِدَّتُهُمَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ دُونَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الشُّهُورِ وَالْأَقْرَاءِ ؛ لِأَنَّ لُحُوقَ الْوَلَدِ بِهِ يَمْنَعُ مِنِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِغَيْرِهِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا . وَإِنْ وَضَعَتِ الْوَلَدَ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ فَوْتِ الطَّلَاقِ الحكم لَمْ يَخْلُ الطَّلَاقُ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا فَإِنْ كَانَ بَائِنًا وَالْبَائِنُ وَاحِدٌ مِنْ ثَلَاثِ فِرَقٍ . إِمَّا الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ ، أَوِ الْخُلْعُ فِيمَا دُونَ الثَّلَاثِ ، أَوِ الْفَسْخُ بِمَا اسْتَحَقَّ بِهِ الْفَسْخَ ، فَإِنَّ الْوَلَدَ لَا يُلْحَقُ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْعُلُوقَ مَعَ حَادِثٍ بَعْدَ تَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ بِالطَّلَاقِ فِي حَالٍ لَوْ وَطِئَهَا حُدَّ فَصَارَ مَنْفِيًّا عَنْهُ بِغَيْرِ لِعَانٍ . فَأَمَّا الْعِدَّةُ فَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ : أَنَّهَا تَنْقَضِي بِالْوِلَادَةِ فَإِنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الشُّهُورِ أَوِ الْأَقْرَاءِ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ بِالْوِلَادَةِ أَقْوَى وَالْعِدَّةُ تُعْتَبَرُ فِي الِاسْتِبْرَاءِ بِمَا هُوَ الْأَقْوَى ؛ لِأَنَّهَا تُعْتَدُّ بِالشُّهُورِ ، فَإِنْ وُجِدَتِ الْأَقْرَاءُ انْتَقَلَتْ إِلَيْهَا لِقُوَّتِهَا فَإِنْ وُجِدَتِ الْوِلَادَةُ انْتَقَلَتْ عَنِ الْأَقْرَاءِ إِلَيْهَا لِقُوَّتِهَا . قَالُوا : وَلَيْسَ بِتَكْرَارٍ تَعْتَدُّ بِوَضْعِ الْوَلَدِ لَا يُلْحَقُ بِهِ كَوَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ ، وَالَّذِي عِنْدِي : أَنَّ عِدَّتَهَا قَدِ انْقَضَتْ بِالشُّهُورِ أَوْ بِالْأَقْرَاءِ الَّتِي كَانَتْ قَدِ اعْتَدَّتْ بِهَا دُونَ مَا حَدَثَ بَعْدَهَا
مِنْ حَمْلٍ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ : لِأَنَّ مَا انْتَفَى عَنْهُ لِعَدَمِ الْإِمْكَانِ امْتَنَعَ أَنْ تَنْقَضِيَ بِهِ الْعِدَّةُ كَزَوْجَةِ الصَّغِيرِ إِذَا وَلَدَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ عَنْهَا تَعْتَدُّ بِالشُّهُورِ دُونَ الْحَمْلِ . فَإِنْ قَالُوا : وَلَدُ الصَّغِيرِ لَا يُلْحَقُ بِهِ إِذَا ادَّعَاهُ قِيلَ : كَذَلِكَ هُوَ الْوَلَدُ لَا يُلْحَقُ بِهِ لَوِ ادَّعَاهُ كَمَا لَا يُلْحَقُ بِالزَّانِي مَا لَمْ يَدَّعِ نِكَاحًا أَوْ شُبْهَةً ، وَلَوْ جَازَ هَذَا لَوَجَبَ أَنْ لَا يُحْكَمَ لِمُطَلَّقَتِهِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ مَا لَمْ يَتَزَوَّجْ حَتَّى تَجَاوَزَ أَرْبَعَ سِنِينَ لِجَوَازِ أَنْ تَضَعَ وَلَدًا وَهَذَا مَدْفُوعٌ . فَأَمَّا وَلَدُ الْمُلَاعَنَةِ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمْ يُحْكَمْ بِانْقِضَاءِ عَدَّتِهَا بِغَيْرِهِ فَجَازَ أَنْ تَقْضِيَ عِدَّتَهَا بِهِ ، وَهَذِهِ قَدْ حُكِمَ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِغَيْرِهِ ؛ فَلِذَلِكَ لَمْ تَسْتَدِمِ الْعِدَّةُ إِلَى حِينِ وَضْعِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ وَلَدَ الْمُلَاعَنَةِ قَدْ نَفَاهُ بِاللِّعَّانِ مَعَ إِمْكَانِهِ ، وَهَذَا نَفَاهُ الشَّرْعُ بِاسْتِحَالَتِهِ فَافْتَرَقَا .
فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا وَقَدْ وَضَعَتْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ وَقَدْ وَضَعَتْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُلْحَقُ بِهِ وَيَنْتَفِي عَنْهُ بِغَيْرِ لِعَانٍ : لِأَنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ قَبْلَ الرَّجْعَةِ تَحْرِيمَ الْمَبْتُوتَةِ فَانْتَفَى عَنْهُ وَلَدُهَا لِحُدُوثِهِ بَعْدَ التَّحْرِيمِ كَمَا يَنْتَفِي عَنْهُ وَلَدُ الْمَبْتُوتَةِ وَتَكُونُ عِدَّتُهَا تَنْقَضِي عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ ، وَعِنْدِي بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الشُّهُورِ وَالْأَقْرَاءِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُلْحَقُ وَلَدُ الرَّجْعَةِ وَإِنْ لَمْ يُلْحَقْ بِهِ وَلَدُ الْمَبْتُوتَةِ : لِأَنَّ الرَّجْعَةَ بَعْدَ الْفُرْقَةِ فِي حُكْمِ الزَّوْجَاتِ لِوُجُوبِ نَفَقَتِهَا ، وَمِيرَاثِهَا ، وَسُقُوطِ الْحَدِّ فِي وَطْءٍ ، فَكَانَ مُخَالَفَتُهَا لِلْمَبْتُوتَةِ فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ مُوجِبًا لِمُخَالَفَتِهَا فِي لُحُوقِ الْوَلَدِ : لِأَنَّ الرَّجْعَةَ زَوْجَةٌ وَالْمَبْتُوتَةُ أَجْنَبِيَّةٌ ، فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْمُدَّةِ الَّتِي يُلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ ، هَلْ تُقَدَّرُ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّهَا غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ وَأَنَّهَا مَتَى وَلَدَتْهُ وَلَوْ إِلَى عَشْرِ سِنِينَ لَحِقَ الْوَلَدُ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ ، وَهَذَا بِعِيدٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَشْبَهُ أَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ بِمُدَّةِ الْعِدَّةِ ؛ لِأَنَّ الرَّجْعِيَّةَ وَإِنْ خَالَفَتِ الْمَبْتُوتَةَ فِي زَمَانِ الْعِدَّةِ فَهِيَ مُسَاوِيَةٌ لَهَا بَعْدَ الْعِدَّةِ فِي التَّحْرِيمِ ، وَوُجُوبِ الْحَدِّ فِي الْوَطْءِ فَصَارَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ كَالْمَبْتُوتَةِ بَعْدَ الْفُرْقَةِ فَاقْتَضَى أَنْ يُعْتَبَرَ فِي لُحُوقِ وَلَدِهَا أَرْبَعُ سِنِينَ بَعْدَ تَسَاوِيهِمَا ، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ إِنْ وَلَدَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ وَمُدَّةِ الْعِدَّةِ لَحِقَ بِهِ وَانْقَضَتْ بِهِ الْعِدَّةُ .
وَإِنْ وَلَدَتْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ وَمُدَّةِ الْعِدَّةِ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ وَانْقَضَتْ بِهِ الْعِدَّةُ عَلَى ظَاهِرِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَانْقَضَتْ عِنْدِي بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْعِدَّةِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ نَقَلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ يَنْتَفِي عَنْهُ بِاللِّعَانِ ، ثُمَّ نَسَبَ ذَلِكَ إِلَى الْغَلَطِ فِي النَّقْلِ عَنْهُ ، وَأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَنْفِيًّا عَنْهُ لَا بِاللِّعَانِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ مِنَ الْغَلَطِ فِي النَّقْلِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى مَا قَالَهُ الْمُزَنِيُّ مِنَ الْغَلَطِ فِي النَّقْلِ وَأَنَّ الرَّبِيعَ نَقَلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ أَنَّهُ مَنْفِيٌّ عَنْهُ لَا بِاللِّعَانِ ، وَتَعْلِيلُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ : لِأَنَّهَا وَلَدَتْهُ بَعْدَ الطَّلَاقِ لِمَا لَا يَلِدُ لَهُ النِّسَاءُ . قَالُوا : وَإِنَّمَا الْتَصَقَتِ اللَّامُ مِنْ لَا بِأَلِفٍ مِنَ اللِّعَانِ فَقُرِئَ بِاللِّعَانِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ النَّقْلَ صَحِيحٌ أَنَّهُ مَنْفِيٌّ بِاللِّعَانِ وَلَا حَقَّ بِهِ إِنْ لَمْ يَلْتَعِنْ ، وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ أَنَّ وَلَدَ الرَّجْعِيَّةِ لَاحِقٌ بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ فَلَا يَنْتَفِي عَنْهُ إِلَّا بِاللِّعَانِ ، وَيَكُونُ تَعْلِيلُهُ بِأَنَّهَا وَلَدَتْهُ بَعْدَ الطَّلَاقِ لِمَا لَا يَلِدُ لَهُ النِّسَاءُ يَعْنِي فِي الْأَغْلَبِ يُجْعَلُ لِلزَّوْجِ عُذْرًا فِي نَفْيِهِ بِاللِّعَانِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ .
فَصْلٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ : " وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : كُلَّمَا وَلَدْتِ وَلَدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَوَلَدَتْ وَلَدَيْنِ بَيْنَهُمَا سَنَةٌ حكم طُلِّقَتْ بِالْأَوَّلِ وَحَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ بِالْآخَرِ وَلَمْ نُلْحِقْ بِهِ الْآخَرَ ؛ لِأَنَّ طَلَاقَهُ وَقَعَ بِوِلَادَتِهَا ثُمَّ لَمْ يُحْدِثْ لَهَا نِكَاحًا وَلَا رَجْعَةً وَلَمْ يُقِرَّ بِهِ فَيَلْزَمُهُ إِقْرَارُهُ فَكَانَ الْوَلَدُ مُنْتَفِيًا عَنْهُ بِلَا لِعَانٍ وَغَيْرُ مُمْكِنٍ أَنْ يَكُونَ فِي الظَّاهِرِ مِنْهُ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : فَوَضْعُهَا لِمَا لَا يَلِدُ لَهُ النِّسَاءُ مِنْ ذَلِكَ أَبْعَدُ وَبِأَنْ لَا يُحْتَاجَ إِلَى لِعَانٍ بِهِ أَحَقُّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ أَوْرَدَهَا الْمُزَنِيُّ احْتِجَاجًا بِمَا ذَكَرَهُ مِنَ الْغَلَطِ فِي النَّقْلِ عَنِ الشَّافِعِيِّ ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ فِيهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنِ الْغَلَطِ فِي النَّقْلِ ، فَنَقُولُ : إِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ : كُلَّمَا وَلَدْتِ وَلَدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَوَلَدَتْ وَلَدَيْنِ ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا أَقَلُّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَهُمَا مِنْ حَمْلٍ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ الْحَمْلِ إِذَا كَانَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ كَانَ الْمَوْلُودُ قَبْلَهَا مُتَقَدِّمَ الْعُلُوقِ عَلَى وِلَادَةِ الْأَوَّلِ فَصَارَا حَمْلًا وَاحِدًا ، وَإِذَا كَانَا حَمْلًا وَاحِدًا لَحِقَ بِهِ جَمِيعًا وَطُلِّقَتْ بِالْأَوَّلِ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالثَّانِي وَلَمْ تُطَلَّقْ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْوِلَادَةَ بَعْدَ الطَّلَاقِ تَنْقَضِي بِهَا الْعِدَّةُ فَلَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ بِمَا انْقَضَتْ بِهِ الْعِدَّةُ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ طَلَاقًا بَعْدَ الْعِدَّةِ ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرُ فَالطَّلَاقُ الْوَاقِعُ بِالْأَوَّلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رَجْعِيٌّ ،
وَلَوْ كَانَ بَائِنًا لَمْ يُلْحَقْ بِهِ الثَّانِي : لِأَنَّهُ مِنْ حَمْلٍ حَادِثٍ بَعْدَ وَضْعِ الْأَوَّلِ الَّذِي صَارَتْ بِهِ مَبْتُوتَةً ، وَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الْمُعْتَدَّةِ بِالْأَقْرَاءِ إِذَا وَلَدَتْ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ ، فَإِذَا كَانَ الطَّلَاقُ الْوَاقِعُ بِوِلَادَةِ الْأَوَّلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رَجْعِيًّا ، وَوَلَدَتِ الثَّانِيَ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا فَفِي لُحُوقٍ الثَّانِي بِهِ قَوْلَانِ كَالْمُعْتَدَّةِ بِالْأَقْرَاءِ إِذَا كَانَتْ رَجْعِيَّةً وَوَلَدَتْ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ : أَحَدُهُمَا : لَا يُلْحَقُ بِهِ كَالْمَبْتُوتَةِ . وَالثَّانِي : يُلْحَقُ بِهِ ، وَفِي تَقْدِيرِ مُدَّتِهِ وَجْهَانِ عَلَى مَا مَضَى : أَحَدُهُمَا : لَا تَتَقَدَّرُ وَاعْتِبَارُهُ بِأَنْ لَا يَتَزَوَّجَ . وَالثَّانِي : أَنْ تَتَقَدَّرُ بِمُدَّةِ الْعِدَّةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ وِلَادَةِ ذَاتِ الْأَقْرَاءِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوِ ادَعَتِ الْمَرْأَةُ أَنَهُ رَاجَعَهَا فِي الْعِدَّةِ أَوْ نَكَحَهَا إِنْ كَانَتْ بَائِنًا أَوْ أَصَابَهَا وَهِيَ تَرَى أَنَّ لَهُ عَلَيْهَا الرَّجْعَةَ لَمْ يَلْزَمْهُ الْوَلَدُ وَكَانَتِ الْيَمِينُ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ حَيًّا وَعَلَى وَرَثَتِهِ عَلَى عِلْمِهِمْ إِنْ كَانَ مَيِّتًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا : أَنْ تَأْتِيَ الْمُطَلَّقَةُ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ وَيُحْكَمُ بِنَفْيِهِ عَنْهُ فَتَدَّعِي عَلَى الزَّوْجِ أَنَّهُ رَاجَعَهَا فِي الْعِدَّةِ إِنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا ، أَوْ نَكَحَهَا إِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا أَوْ أَصَابَهَا فِي عِدَّةِ الرَّجْعَةِ ؛ فَإِنَّ النِّكَاحَ بَيْنَهُمَا ثَابِتٌ ، وَإِنَّ الْوَلَدَ بِهِ لَاحِقٌ فَهَذِهِ دَعْوَى مَسْمُوعَةٌ ، وَلِلزَّوْجِ حَالَتَانِ : حَيٌّ ، وَمَيِّتٌ ، فَإِنْ كَانَ حَيًّا سُئِلَ عَنْهَا فَإِنْ صَدَّقَهَا ثَبَتَ نِكَاحُهَا وَاسْتَحَقَّتْ فِي الْعَقْدِ الْمَهْرَ ، وَالنَّفَقَةَ بِالرَّجْعَةِ وَلَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ إِنْ صَدَّقَهَا عَلَى وِلَادَتِهِ ، وَإِنْ أَنْكَرَ أَنَّهَا وَلَدَتْهُ وَأَنَّهَا الْتَقَطَتْهُ كُلِّفَتِ الْبَيِّنَةَ عَلَى وِلَادَتِهِ شَاهِدَيْنِ ، أَوْ شَاهِدًا وَامْرَأَتَيْنِ ، أَوْ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ يَشْهَدْنَ لَهَا عَلَى وِلَادَتِهِ فَإِنْ أَقَامَتْهَا ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ ، وَلَمْ يَنْتَفِ عَنْهُ إِلَّا بِاللِّعَانِ ، وَإِنْ عَدِمَتْهَا حَلَفَ الزَّوْجُ أَنَّهَا لَمْ تَلِدْهُ وَانْتَفَى عَنْهُ نَسَبُهُ ، فَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ رُدَّتْ عَلَيْهَا ، فَإِنْ حَلَفَتْ ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ وَلَمْ يَنْتَفِ عَنْهُ إِلَّا بِاللِّعَانِ ، وَإِنْ نَكَلَتْ فَهَلْ تُوقَفُ الْيَمِينُ عَلَى بُلُوغِ الْوَلَدِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا فِي الرَّهْنِ وَاللِّعَانِ . وَإِنْ أَنْكَرَ الزَّوْجُ مَا ادَّعَتْهُ مِنَ النِّكَاحِ ، أَوِ الرَّجْعَةِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَإِنْ عَدِمَتِ الزَّوْجَةُ الْبَيِّنَةَ ، وَالْبَيِّنَةُ شَاهِدَانِ عَدْلَانِ ، فَإِنْ عَدِمَتِ الْبَيِّنَةَ وَحَلَفَ الزَّوْجُ فَلَا نِكَاحَ وَلَا رَجْعَةَ وَالْوَلَدُ مَنْفِيٌّ عَنْهُ نَفْيَ لِعَانٍ ، وَإِنْ نَكَلَ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَيْهَا فَإِذَا حَلَفَتْ حُكِمَ لَهَا بِالْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ فِي النِّكَاحِ ، وَالنَّفَقَةِ وَحْدَهَا فِي الرَّجْعَةِ وَلَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ وَإِنْ نَكَلَتْ فَلَا مَهْرَ لَهَا وَلَا نَفَقَةَ ، وَفِي وُقُوفِ نِسَبِ الْوَلَدِ عَلَى يَمِينِهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ وَجْهَانِ :
فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ مَيِّتًا سُمِّعَتِ الدَّعْوَى تَأْتِيَ الْمُطَلَّقَةُ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ وَيُحْكَمُ بِنَفْيِهِ عَنْهُ فَتَدَّعِي عَلَى الزَّوْجِ أَنَّهُ رَاجَعَهَا فِي الْعِدَّةِ عَلَى وَارِثِهِ ، وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا أَوْ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ إِنْ كَانُوا عَدَدًا ، فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا وَصَدَّقَهَا كَانَ كَتَصْدِيقِ الزَّوْجِ فِي ثُبُوتِ مَا ادَّعَتْهُ مِنَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ ، وَلُحُوقِ نَسَبِ الْوَلَدِ ، وَلَهَا الْمِيرَاثُ . فَأَمَّا مِيرَاثُ الْوَلَدِ فَيُنْظَرُ فِي الْوَارِثِ الْمُصَدِّقِ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُحْجَبُ بِالْوَلَدِ كَالِابْنِ وَرِثَ الْوَلَدُ الْمُسْتَحَقَّ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُحْجَبُ بِهِ كَالْأَخِ ثَبَتَ فِيهِ نَسَبُ الْوَلَدِ ، وَلَمْ يَرْثِ لِمَا فِي تَوْرِيثِهِ مِنْ حَجْبِ الْمُقِرِّ وَإِبْطَالِ إِقْرَارِهِ بِحَجْبِهِ ، وَإِنْ أَنْكَرَ الْوَارِثُ مَا ادَّعَتْهُ حَلَفَ عَلَى الْعِلْمِ ، وَإِنْ كَانَتْ يَمِينُ الزَّوْجِ عَلَى الْبَتِّ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَنْفِي بِيَمِينِهِ فِعْلَ نَفْسِهِ فَحَلَفَ عَلَى الْبَتِّ وَالْوَارِثَ يَنْفِي يَمِينُهُ فِعْلَ غَيْرِهِ فَحَلَفَ عَلَى الْعِلْمِ ، فَإِنْ حَلَفَ أَوْ نَكَلَ كَانَ كَالزَّوْجِ إِنْ حَلَفَ أَوْ نَكَلَ وَقَامَ فِيهَا مَقَامَ الزَّوْجِ إِلَّا فِي شَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي صِفَةِ الْيَمِينِ فَإِنَّهَا مِنَ الزَّوْجِ عَلَى الْبَتِّ وَمِنَ الْوَارِثِ عَلَى الْعِلْمِ . وَالثَّانِي : فِي نَفْيِ الْوَلَدِ بِاللِّعَانِ إِنْ ثَبَتَ نَسَبُهُ فَإِنَّ لِلزَّوْجِ نَفْيَهُ وَلَيْسَ لِلْوَارِثِ نَفْيُهُ وَإِنْ كَانَ الْوَرَثَةُ جَمَاعَةُ سَمِّعَتِ الدَّعْوَى عَلَى جَمِيعِهِمْ وَلَهُمْ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُصَدِّقُوهَا جَمِيعًا عَلَيْهَا فَيَكُونُ كَتَصْدِيقِ الْوَاحِدِ لَهَا فِي لُحُوقِ النَّسَبِ وَاسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ مَعَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُكَذِّبُوهَا جَمِيعًا فَعَلَيْهِمُ الْيَمِينُ فَإِنْ حَلَفُوا أَوْ نَكَلُوا كَانُوا كَالْوَاحِدِ إِذَا حَلَفَ أَوْ نَكَلَ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يُصَدِّقَهَا بَعْضُهُمْ وَيُكَذِّبَهَا بَعْضُهُمْ فَالِلْمُكَذِّبِ حَالَتَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَحْلِفَ . وَالثَّانِيَةُ : أَنْ يَنْكُلَ . فَإِنْ حَلَفَ انْتَفَى نَسَبُ الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِتَصْدِيقِ بَعْضِ الْوَرَثَةِ وَلَمْ يُلْزَمِ الْمُكَذِّبُ مَهْرًا ، وَلَا نَفَقَةً ، وَلَا مِيرَاثًا ، فَأَمَّا الْمُصَدِّقُ فَيَلْزَمُهُ الْمَهْرُ ، وَالنَّفَقَةُ بِقَدْرِ حَقِّهِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ مِنْ مِيرَاثِ الِابْنِ شَيْءٌ وَفِي الْتِزَامِهِ مِنْ مِيرَاثِ الزَّوْجَةِ بِقِسْطِهِ وَجْهَانِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ ، وَإِنْ نَكَلَ الْمُكَذِّبُ عَنِ الْيَمِينِ رُدَّتْ عَلَى الزَّوْجَةِ ، فَإِنْ حَلَفَتْ ثَبَتَ مَا ادَّعَتْ وَصَارَ كَمَا لَوْ صَدَّقَهَا جَمِيعُهُمْ فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ وَاسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ مَعَ الْمَهْرِ ، وَالنَّفَقَةِ ، وَإِنْ نَكَلَتْ كَانَ نُكُولُهَا فِي حَقِّهَا كَمَا لَوْ حَلَفَّتِ الْمُكَذِّبَ فَلَا تَسْتَحِقُّ فِي حِصَّتِهِ شَيْئًا وَتَسْتَحِقُّ عَلَى الْمُصَدِّقِ مِنَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ بِقَدْرِ حَقِّهِ ، وَفِي مِيرَاثِهِ بِقَدْرِ حَقِّهِ وَجْهَانِ : فَأَمَّا فِي حَقِّ الْوَلَدِ ، فَهَلْ يُوجِبُ نُكُولُهَا عَنِ الْيَمِينِ وُقُوفَهَا عَلَى بُلُوغِ الْوَلَدِ أَمْ لَا ؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : لَا يُوقَفُ فَعَلَى هَذَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ ، وَلَا يَرِثُ ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ تَصْدِيقُ مَنْ صَدَّقَ مَعَ تَكْذِيبِ مَنْ كَذَّبَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : تُوقَفُ عَلَيْهِ ، فَإِنْ حَلَفَ ثَبَتَ نَسَبُهُ ، وَوَرِثَ مَنْ صَدَّقَ وَكَذَّبَ ، وَإِنْ نَكَلَ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ وَلَمْ يَرِثْ مِنْ حَقِّ مَنْ صَدَّقَ وَكَذَّبَ ، فَهَذَا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ إِنْ كَانَتْ دَعْوَاهُمَا لِرَجْعَةٍ أَوْ نِكَاحٍ . فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ لِوَاطِئِ شُبْهَةٍ فَإِنَّهَا تَقْصُرُ عَنْ دَعْوَى الرَّجْعَةِ وَالْعَقْدِ فِي حَقَّيْنِ : أَحَدُهُمَا : مِيرَاثُهَا فَإِنَّ الْمَوْطُوءَةَ بِشُبْهَةٍ لَا مِيرَاثَ لَهَا . وَالثَّانِي : فِي النَّفَقَةِ فَإِنَّ الْمَوْطُوءَةَ بِشُبْهَةٍ لَا نَفَقَةَ لَهَا إِنْ كَانَتْ حَامِلًا ، وَفِي نَفَقَتِهَا إِنْ كَانَتْ حَامِلًا قَوْلَانِ ، وَهِيَ فِيمَا سِوَى هَذَيْنِ مِنْ لُحُوقِ النَّسَبِ وَاسْتِحْقَاقِ مَهْرِ الْمِثْلِ عَلَى مَا مَضَى تَقْسِيمًا وَحُكْمًا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ نَكَحَ فِي الْعِدَّةِ وَأُصِيبَتْ فَوَضَعَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ نِكَاحِ الْآخَرِ وَتَمَامِ أَرْبَعِ سَنِينَ مِنْ فِرَاقِ الْأَوَّلِ فَهُوَ لِلْأَوَّلِ وَلَوْ كَانَ لَأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ فِرَاقِ الْأَوَّلِ لَمْ يَكُنِ ابْنَ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُمْكِنْ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : فَهَذَا قَدْ نَفَاهُ بِلَا لِعَانٍ فَهَذَا وَالَّذِي قَبْلَهُ سَوَاءٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا : فِي مُعْتَدَّةٍ مِنْ طَلَاقٍ نَكَحَتْ فِي عِدَّتِهَا زَوْجًا حكم النكاح ، فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ لِتَحْرِيمِهَا عَلَى الْأَزْوَاجِ مَعَ بَقَاءِ الْعَدَّةِ وَلَهَا حَالَتَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا يَدْخُلَ بِهَا الزَّوْجُ فَتَكُونُ سَارِيَةً فِي عِدَّتِهَا غَيْرَ أَنَّ مَا أَقْدَمَتْ عَلَيْهِ فِي الْعَقْدِ قَدْ أَسْقَطَ نَفَقَتَهَا إِنْ كَانَتْ رَجْعِيَّةً وَسُكْنَاهَا إِنْ كَانَتْ بَائِنَةً ؛ لِأَنَّهَا قَصَدَتْ بِذَلِكَ إِسْقَاطَ حَقِّ الْمُطَلِّقِ فَسَقَطَ حَقُّهَا عَنِ الْمُطَلِّقِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَدْخُلَ بِهَا الزَّوْجُ الثَّانِي ، فَلَهَا حَالَتَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَعْلَمَا التَّحْرِيمَ فَيَكُونَ الْحَدُّ عَلَيْهَا وَاجِبًا لِارْتِفَاعِ الشُّبْهَةِ بِعِلْمِهَا بِالتَّحْرِيمِ وَتَسْرِي فِي عِدَّتِهَا وَلَا تَنْقَطِعُ بِهَذَا الْوَطْءِ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَصِرْ بِهِ فِرَاشًا وَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لَمْ يُلْحَقْ بِالثَّانِي وَلَحِقَ بِالْأَوَّلِ إِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَجْهَلَا التَّحْرِيمَ فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا لِلشُّبْهَةِ ، وَقَدْ صَارَتْ فِرَاشًا لِلثَّانِي بِالْإِصَابَةِ ، وَخَرَجَتْ مِنْ عِدَّةِ الْأَوَّلِ : لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِرَاشًا لِوَاحِدٍ وَمُعْتَدَّةً مِنْ آخَرَ وَوَجَبَتْ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الثَّانِي ، فَإِذَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا فَعَلَيْهَا أَنْ تُتِمَّ عِدَّةَ الْأَوَّلِ ، ثُمَّ تَعْتَدَّ مِنْ إِصَابَةِ الثَّانِي فَيَجْتَمِعَ عَلَيْهَا عِدَّتَانِ ، وَلَهَا حَالَتَانِ حَائِلٌ ، وَحَامِلٌ . فَإِنْ كَانَتْ حَائِلًا فَالْعِدَّتَانِ بِالْأَقْرَاءِ فَتُقَدَّمُ عِدَّةُ الْأَوَّلِ عَلَى عِدَّةِ الثَّانِي لِتَقَدُّمِ وُجُوبِهَا
وَلِاسْتِحْقَاقِهَا عَنْ عَقْدٍ صَحِيحٍ وَتَبْنِي عِدَّةً عَلَى مَا مَضَى مِنْهَا ، فَإِنْ كَانَ الْمَاضِي مِنْهَا قَبْلَ إِصَابَةِ الثَّانِي قُرْءًا اعْتَدَّتْ بِقُرْأَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَاضِي مِنْهَا قُرْأَيْنِ اعْتَدَّتْ بِقُرْءٍ لِتَسْتَكْمِلَ ثَلَاثَةَ أَقْرَاءٍ فَإِذَا اسْتَكْمَلَتْهَا اعْتَدَّتْ مِنَ الثَّانِي ثَلَاثَةَ أَقْرَاءٍ وَيَجُوزُ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَرْتَجِعَهَا فِي زَمَانِ عِدَّتِهَا مِنْهُ إِنْ كَانَ طَلَاقُهَا رَجْعِيًّا وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ بَعْدَ الرَّجْعَةِ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّةُ الثَّانِي وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِيهَا نَفَقَةٌ لِتَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ وَلَا عَلَى الثَّانِي لِفَسَادِ عَقْدِهِ فَإِنْ لَمْ يَرْتَجِعْهَا الْأَوَّلُ فِي زَمَانِ عِدَّتِهِ كَانَ الثَّانِي أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فِي زَمَانِ عِدَّتِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ لِغَيْرِهِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ، وَيَسْقُطُ عَنْهَا بَقِيَّةُ عِدَّتِهِ إِنْ تَزَوَّجَهَا . وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا فَلَا يَخْلُو حَالُ الْحَمْلِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تُلْحَقَ بِالْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي . وَالثَّانِي : أَنْ تُلْحَقَ بِالثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ لَا تُلْحَقَ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يُمْكِنَ لُحُوقُهُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فَهُوَ أَنْ يُلْحَقَ بِالْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي فَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ لِأَرْبَعِ سِنِينَ فَمَا دُونَهَا مِنْ طَلَاقِ الْأَوَّلِ ، وَلِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ دُخُولِ الثَّانِي ، فَهُوَ لَاحِقٌ بِالْأَوَّلِ ، وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا مِنْهُ بِوَضْعِهِ وَعَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ بَعْدَهُ مِنْ إِصَابَةِ الثَّانِي بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَاحِقًا بِالثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ فَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ طَلَاقِ الْأَوَّلِ وَلِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ دُخُولِ الثَّانِي ، فَإِنْ كَانَ طَلَاقُ الْأَوَّلِ بَائِنًا فَهُوَ لَاحِقٌ بِالثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ ، وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا فِي الثَّانِي بِوَضْعِهِ وَتَأْتِي بَعْدَهُ بِمَا بَقِيَ مِنْ عِدَّةِ الْأَوَّلِ وَبَعْدَ تَقْدِمَةِ عِدَّةِ الثَّانِي عَلَى عِدَّةِ الْأَوَّلِ لِأَجْلِ لُحُوقِ الْحَمْلِ بِهِ ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَلْحَقَ الْحَمْلُ بِشَخْصٍ تَنْقَضِي بِهِ عِدَّةُ غَيْرِهِ ؛ فَلِأَجْلِ ذَلِكَ قُدِّمَتْ عِدَّةُ الثَّانِي عَلَى عِدَّةِ الْأَوَّلِ وَإِنْ كَانَ طَلَاقُ الْأَوَّلِ رَجْعِيًّا فَعَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ فِي وَلَدِ الرَّجْعِيَّةِ بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ هَلْ يَلْحَقُ بِالْمَطَلِّقِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَلْحَقُ بِهِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لَاحِقًا بِالثَّانِي وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا مِنْهُ بِوَضْعِهِ ، وَتَأْتِي بَعْدَهُ بِمَا بَقِيَ فِي عِدَّةِ الْأَوَّلِ ، وَلِلْأَوَّلِ أَنْ يُرَاجِعَهَا بَعْدُ مِنَ الْبَقِيَّةِ مِنْ عِدَّتِهِ ، وَهَلْ لَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا قَبْلَ وَضْعِهَا أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَاجِعَهَا ؛ لِأَنَّهَا فِي عِدَّةٍ مِنْ غَيْرِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا لِمَا بَقِيَ عَلَيْهَا فِي عِدَّتِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ وَلَدَ الرَّجْعِيَّةِ بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ لَاحِقٌ بِالْمُطَلَّقَةِ ، فَعَلَى هَذَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَاحِقًا بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَكُونَ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي الْقِسْمِ الرَّابِعِ مِنِ ادِّعَاءِ
الْقَافَةِ لَهُ ، وَيَجُوزُ هُنَا لِلْأَوَّلِ أَنْ يُرَاجِعَهَا فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ : لِأَنَّنَا لَمْ نَحْكُمْ بِهِ لِغَيْرِهِ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ لَا يُلْحَقَ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ طَلَاقِ الْأَوَّلِ وَلِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ دُخُولِ الثَّانِي ، فَإِنْ كَانَ طَلَاقُ الْأَوَّلِ بَائِنًا لَمْ يُلْحَقْ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَمْ تَنْقَضِ بِهِ عِدَّةُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِوِفَاقِ أَصْحَابِنَا : لِأَنَّهُ غَيْرُ لَاحِقٍ بِأَحَدِهِمَا ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْتُهُ مِنْ قَبْلُ : إِنَّهُ إِذَا لَمْ يُلْحَقُ بِالْمُطَلِّقِ لَمْ تَنْقَضِ بِهِ عِدَّتُهُ ، وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُنَا أَنَّهَا تَنْقَضِي وَإِنْ كَانَ طَلَاقُ الْأَوَّلِ رَجْعِيًّا فَعَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ حُكْمَهُ كَذَلِكَ لَا يُلْحَقُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَلَا يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ أَحَدِهِمَا ، وَعَلَيْهَا أَنْ تُتِمَّ عِدَّةَ الْأَوَّلِ وَلَهُ مُرَاجَعَتُهَا فِيهَا ثُمَّ تَسْتَأْنِفُ عِدَّةَ الثَّانِي ، وَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فِيهَا ، وَيَكُونُ الْوَلَدُ وَلَدَ زِنًى . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْوَلَدَ يُلْحَقُ بِالْأَوَّلِ وَتَنْقَضِي بِهِ عِدَّتُهَا ، ثُمَّ تَسْتَأْنِفُ بَعْدَ وِلَادَتِهِ عِدَّةَ الثَّانِي بِالْأَقْرَاءِ وَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ : وَهُوَ أَنْ يُمْكِنَ لُحُوقُهُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا : فَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ لِأَرْبَعِ سِنِينَ فَمَا دُونَهَا مِنْ طَلَاقِ الْأَوَّلِ وَلِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ دُخُولِ الثَّانِي فَنَدَّعِي لَهُ الْقَافَةَ فَإِنْ أَلْحَقُوهُ بِالْأَوَّلِ كَانَ كَالْقِسْمِ الْأَوَّلِ ، وَإِنْ أَلْحَقُوهُ بِالثَّانِي كَانَ كَالْقِسْمِ الثَّانِي وَإِنْ أَشْكَلَ عَلَى الْقَافَةِ أَوْ عَدِمُوا وُقِفَ إِلَى زَمَانِ الِانْتِسَابِ حَتَّى يَنْتَسِبَ بِطَبْعِهِ إِلَى أَبِيهِ مِنْهُمَا ، وَتَنْقَضِي إِحْدَى الْعِدَّتَيْنِ بِوَضْعِهِ وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ لِوَقْتِهِ فَتَأْتِي بِالْعِدَّةِ الثَّانِيَةِ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ اسْتِظْهَارًا : لِأَنَّهُ لَحِقَ بِالْأَوَّلِ كَانَ عَلَيْهَا ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ لِلثَّانِي وَإِنْ لَحِقَ بِالثَّانِي كَانَ عَلَيْهَا بَقِيَّةُ عِدَّةِ الْأَوَّلِ فَصَارَتِ الثَّلَاثَةُ الْأَقْرَاءِ احْتِيَاطًا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِنْ قِيلَ فَكَيْفَ لَمْ يَنْفِ الْوَلَدَ إِذَا أَقَرَّتْ أُمُّهُ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، ثُمَّ وَلَدَتْ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ إِقْرَارِهَا ؟ قِيلَ : لَمَّا أَمْكَنَ أَنْ تَحِيضَ وَهِيَ حَامِلٌ فَتُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ عَلَى الظَّاهِرِ ، وَالْحَمْلُ قَائِمٌ لَمْ يَنْقَطِعْ حَقُّ الْوَلَدِ بِإِقْرَارِهَا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَأَلْزَمْنَاهُ الْأَبَ مَا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ حَمْلًا مِنْهُ وَكَانَ الَّذِي يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ وَلَا يَمْلِكُهَا فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ كِلْتَيْهِمَا تَحِلَّانِ بِانْقِضَاءٍ لِلْأَزْوَاجِ وَقَالَ فِي بَابِ اجْتِمَاعِ الْعِدَّتَيْنِ وَالْقَافَةِ : إِنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لَأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ طَلَّقَهَا الْأَوَّلُ إِنْ كَانَ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ دَعَا لَهُ الْقَافَةَ وَإِنْ كَانَ لَا يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ فَهُوَ لِلثَّانِي ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : فَجَمَعَ بَيْنَ مَنْ لَهُ الرَّجْعَةُ عَلَيْهَا وَمَنْ لَا رَجْعَةَ لَهُ عَلَيْهَا فِي بَابِ الْمَدْخُولِ بِهَا وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنْ تَحِلَّ فِي بَابِ اجْتِمَاعِ الْعِدَّتَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي مُطَلَّقَةٍ أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِالشُّهُورِ ، أَوِ الْأَقْرَاءِ
فِي طَلَاقٍ بَائِنٍ أَوْ رَجْعِيٍّ ، ثُمَّ وَضَعَتْ وَلَدًا ، فَإِنْ وَضَعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ كَانَ حَقًّا بِالزَّوْجِ إِجْمَاعًا ، وَإِنْ وَضَعَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا أَوْ إِلَى أَرْبَعِ سِنِينَ ، وَهِيَ خَلِيَّةٌ مِنْ زَوْجٍ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَاحِقٌ بِالْمُطَلِّقِ وَلَا يَكُونُ إِقْرَارُهَا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ مُبْطِلًا لِنَسَبِهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُلْحَقُ بِهِ وَتَابَعَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْحُكْمَ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا قَدْ أَبَاحَهَا لِلْأَزْوَاجِ فَانْقَطَعَتْ بِهِ أَسْبَابُ الْأَوَّلِ فَلَوْ لَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ لَمَا كَانَتْ أَسْبَابُهُ مُنْقَطِعَةً ، وَلَمَا كَانَتْ مُبَاحَةً لِلْأَزْوَاجِ وَلَنَقَضْنَا حُكْمًا قَدْ نَفَذَ عَلَى الصِّحَّةِ بِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ وَمُجَوَّزٍ وَهَذَا كُلُّهُ غَيْرُ جَائِزٍ فَامْتَنَعَ بِهِ لُحُوقُ الْوَلَدِ . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا : أَنَّهَا أَتَتْ بِوَلَدٍ بَعْدَ ارْتِفَاعِ الْفِرَاشِ وَانْقِطَاعِ أَحْكَامِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُلْحَقَ بِهِ كَمَا لَوْ وَضَعَتْهُ لَأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ ؛ وَلِأَنَّهَا مُؤْتَمَنَةٌ عَلَى عِدَّتِهَا وَمُصَدَّقَةٌ فِي انْقِضَائِهَا فَوَجَبَ أَنْ لَا يُحْكَمَ بِإِبْطَالِهَا مَنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ كَذِبُهَا اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الْأُمَنَاءِ وَفِي لُحُوقِ الْوَلَدِ بِهِ تَكْذِيبٌ لَهَا فِي انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا ؛ وَلِأَنَّهَا أَتَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ عَدَّتِهَا بِحَمْلٍ تَمَامٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُلْحَقَ بِهِ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَتْ ثُمَّ وَضَعَتْهُ لِتَمَامٍ . قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ : وَلِأَنَّهُ لَمَّا انْتَفَى عَنْهُ وَلَدُ أَمَتِهِ إِذَا وَضَعَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ اسْتِبْرَائِهَا وَجَبَ أَنْ يَنْتَفِيَ عَنْهُ حَمْلُ زَوْجَتِهِ إِذَا وَضَعَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ عِدَّتِهَا . وَدَلِيلُنَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ الْخَبَرُ مَقْصُورًا عَلَى أَنْ تَلِدَهُ عَلَى فِرَاشِهِ ؛ لِأَنَّهَا لَوْ وَلَدَتْهُ بَعْدَ ارْتِفَاعِ الْفِرَاشِ لَأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَحِقَ بِهِ فَدَلَّكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَمَلَتْ بِهِ عَلَى فِرَاشِهِ ، وَهَذَا الْوَلَدُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَمَلَتْ بِهِ عَلَى فِرَاشِهِ ، فَوَجَبَ بِظَاهِرِ الْخَبَرِ أَنْ يَكُونَ لَاحِقًا بِهِ ، وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي بِالشُّهُورِ تَارَةً وَبِالْأَقْرَاءِ تَارَةً أُخْرَى ثُمَّ وَافَقُونَا أَنَّ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا بِالشُّهُورِ لَا تَمْنَعُ مِنْ لُحُوقِ الْوَلَدِ فَكَذَلِكَ إِذَا انْقَضَتْ بِالْأَقْرَاءِ . وَيَتَحَرَّرُ مِنْ ذَلِكَ قِيَاسَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ كُلَّ وَلَدٍ لَحِقَ بِالْإِمْكَانِ إِذَا انْقَضَتِ الْعِدَّةُ بِالشُّهُورِ لَحِقَ بِالْإِمْكَانِ إِذَا انْقَضَتِ الْعِدَّةُ بِالْأَقْرَاءِ كَالْمَوْلُودِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ كُلَّ وَلَدٍ لَحِقَ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ الْعِدَّةِ جَازَ أَنْ يَلْحَقَ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ الْعِدَّةِ كَالْمُعْتَدَّةِ بِالشُّهُورِ ، وَلِأَنَّ الْوَلَدَ فِي الِابْتِدَاءِ يُلْحَقُ بِالْإِمْكَانِ إِذَا وَضَعَتْهُ لِأَقَلِّ الْحَمْلِ فَوَجَبَ أَنْ يُلْحَقَ فِي الِانْتِهَاءِ لِإِمْكَانِ إِذَا وَضَعَتْهُ لِأَكْثَرِ الْحَمْلِ
وَلِأَنَّهَا قَدْ تَحِيضُ عَلَى الْحَمْلِ فَإِذَا أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ عَلَى الظَّاهِرِ مِنْ حَيْضِهَا لَمْ يُوجِبْ إِقْرَارُهَا انْتِفَاءَ النَّسَبِ فِي حَقِّ وَلَدِهَا وَهُوَ اسْتِدْلَالُ الشَّافِعِيِّ . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا : أَنَّهُ إِلْحَاقُ وَلَدٍ بِحُكْمِ الْفِرَاشِ فَلَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُهُ بِإِقْرَارِ الْمُفْتَرَشَةِ . أَصْلُهُ : إِذَا أَقَرَّتْ بِمَا يَتَضَمَّنُ نَفْيَ النَّسَبِ مَعَ بَقَاءِ الْفِرَاشِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِمَا حُكِمَ بِهِ مِنِ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا ، وَإِبَاحَتِهَا لِلْأَزْوَاجِ فَلَمْ تَنْقَضِ بِالْجَوَازِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّنَا حَكَمْنَا بِانْقِضَائِهَا فِي الظَّاهِرِ ، ثُمَّ حَدَثَ مِنْ حَمْلِهَا مَا خَالَفَ الظَّاهِرَ فَجَازَ أَنْ يَنْقَضِيَ كَمَا لَوْ وَلَدَتْهُ لَأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنْ نَقْضِهَا إِذَا انْقَضَتْ بِالشُّهُورِ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ نَقْضِهَا إِذَا انْقَضَتْ بِالْأَقْرَاءِ ، وَبِمِثْلِهِ يُجَابُ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِمْ : إِنَّهَا مُؤْتَمَنَةٌ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ : إِذَا تَزَوَّجَتْ فَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا تَقَابَلَ بَعْدَ تَزْوِيجِهَا حُكْمُ فِرَاشٍ ثَابِتٍ وَحُكْمُ فِرَاشٍ زَائِلٍ غَلَبَ أَقْوَاهُمَا ، وَهُوَ الْفِرَاشُ الثَّابِتُ فَلَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ وَإِذَا لَمْ تَتَزَوَّجِ انْفَرَدَ حُكْمُ الْفِرَاشِ الزَّائِلِ فَلَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِوَلَدِ الْأَمَةِ فَهُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَ ، وَالْمَذْهَبُ فِيهِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ فِيهِ : إِنَّهُ لَا يُلْحَقُ بِهِ إِذَا وَلَدَتْهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنِ اسْتِبْرَائِهَا . وَقَالَتْ فِي وَلَدِ الْحُرَّةِ : إِنَّهُ يُلْحَقُ بِهِ إِذَا وَلَدَتْهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنِ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ ابْنُ سُرَيْجٍ يَجْمَعُ بَيْنَ الْجَوَابَيْنِ وَيُخْرِجُهَا عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُلْحَقُ بِهِ وَلَدُ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ عَلَى مَا نُصَّ عَلَيْهِ فِي وَلَدِ الْحُرَّةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يُلْحَقُ بِهِ وَلَدُ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ عَلَى مَا نُصَّ عَلَيْهِ فِي وَلَدِ الْأَمَةِ ، فَعَلَى هَذِهِ التَّسْوِيَةِ بَطَلَ الِاسْتِدْلَالُ . وَقَالَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا : إِنَّ الْجَوَابَ مَحْمُولٌ عَلَى ظَاهِرِ نَصِّهِ فِيهِ فَيُلْحَقُ بِهِ وَلَدُ الْحُرَّةِ بَعْدَ عِدَّتِهَا وَلَا يُلْحَقُ بِهِ وَلَدُ الْأَمَةِ بَعْدَ اسْتِبْرَائِهَا ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ وَلَدَ الْحُرَّةِ لَحِقَ فِي الِابْتِدَاءِ بِالْإِمْكَانِ فَلَحِقَ فِي الِانْتِهَاءِ بِالْإِمْكَانِ ، وَوَلَدَ الْأَمَةِ لَمَّا لَمْ يُلْحَقْ فِي الِابْتِدَاءِ بِالْإِمْكَانِ حَتَّى يَعْتَرِفَ بِالْوَطْءِ لَمْ يُلْحَقْ فِي الِانْتِهَاءِ بِالْإِمْكَانِ إِذَا ارْتَفَعَ حُكْمُ الْوَطْءِ ، ثُمَّ يُقَالُ لِأَبِي حَنِيفَةَ : أَنْتَ تُلْحِقُ الْوَلَدَ مَعَ عَدَمِ الْإِمْكَانِ ، وَتَنْفِيهِ مَعَ وُجُودِ الْإِمْكَانِ فَنَقُولُ : فِيمَنْ نَكَحَ فِي مَجْلِسِ الْحَاكِمِ وَطَلَّقَ فِيهِ أَنَّ الْوَلَدَ لَاحِقٌ بِهِ إِذَا وُلِدَ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ وَالْعِلْمُ مُحِيطٌ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ ، وَنَقُولُ فِي الْمُطَلَّقَةِ بَعْدَ الْعِدَّةِ : إِنَّ الْوَلَدَ لَا يُلْحَقُ بِهِ إِذَا
وَلَدَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ وَفِي هَذَا مِنَ الِاسْتِحَالَةِ وَعَكْسِ الْمَعْقُولِ مَا يَمْنَعُ مِنَ الْقَوْلِ بِهِ . فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ : وَكَانَ الَّذِي يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ وَلَا يَمْلِكُهَا فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ يَعْنِي فِي وَضْعِ الْوَلَدِ فِي نَفْيِهِ عَنْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ هَاهُنَا أَنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ فِي نَفْيِ الْوَلَدِ عَنْهُ . وَالثَّانِي : يَفْتَرِقَانِ فَيُنْفَى عَنْهُ فِي الْبَائِنِ وَيُلْحَقُ بِهِ فِي الرَّجْعِيِّ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
بَابُ لَا عِدَّةَ عَلَى الَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا زَوْجُهَا .
مَسْأَلَةٌ لَا عِدَّةَ على التي لم يدخل بها زوجها
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ الْآيَةَ ، قَالَ : وَالْمَسِيسُ الْإِصَابَةُ ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَشُرَيْحٌ وَغَيْرُهُمَا : لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا إِلَّا بَالْإِصَابَةِ بِعَيْنِهَا ؛ لَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ هَكَذَا ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَهَذَا ظَاهِرُ الْقُرْآنِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ وَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُطَلَّقَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تُطَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَالْخَلْوَةِ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا لِقَوْلِ اللَّهِ : ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا [ الْأَحْزَابِ : ] وَلَيْسَ لَهَا مِنَ الْمَهْرِ إِلَّا نِصْفَهُ لِقَوْلِ اللَّهِ : وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ [ الْبَقَرَةِ : ] . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : يُطَلِّقُهَا بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا عدتها فَلَا خِلَافَ أَنَّ عَلَيْهَا الْعِدَّةَ ، وَلَهَا جَمِيعُ الْمَهْرِ كَامِلًا لِدَلِيلِ الْخِطَابِ فِي الْآيَتَيْنِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ الْخَلْوَةِ وَقَبْلَ الدُّخُولِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْعِدَّةِ ، وَكَمَالِ الْمَهْرِ ، عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّ الْخَلْوَةَ كَالدُّخُولِ فِي وُجُوبِ الْعِدَّةِ وَكَمَالِ الْمَهْرِ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي بَعْضِ الْقَدِيمِ . وَالثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهَا لَا تُوجِبُ الْعِدَّةَ وَلَا يَكْمُلُ بِهَا الْمَهْرُ ، لَكِنْ يَكُونُ لِمُدَّعِي الْإِصَابَةِ مِنْهُمَا ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي بَعْضِ الْقَدِيمِ . وَالثَّالِثُ : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ وَالْمَعْمُولُ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ أَنَّ الْخَلْوَةَ لَا تُوجِبُ الْعِدَّةَ وَلَا يَكْمُلُ بِهَا الْمَهْرُ بِخِلَافِ مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَلَا تَكُونُ لِمُدَّعِي الْإِصَابَةِ بِخِلَافِ مَا قَالَ مَالِكٌ وَيَكُونُ وَجُودُهَا فِي الْعِدَّةِ وَالْمِهْرِ كَعَدَمِهَا ، وَقَدْ مَضَى فِي كِتَابِ الصَّدَاقِ مِنْ تَوْجِيهِ الْأَقَاوِيلِ وَحِجَاجِ الْمُخَالِفِ مَا أَغْنَى عَنِ الْإِعَادَةِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : ( فَإِنْ وَلَدَتِ الَّتِي قَالَ زَوْجُهَا لَمْ أَدْخُلْ بِهَا لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ لَأَكْثَرِ مَا يَلِدُ لَهُ النِّسَاءُ مِنْ يَوْمِ عَقْدِ نِكَاحِهَا لَحِقَ نَسَبُهُ وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ إِذَا أَلْزَمْنَاهُ الْوَلَدَ حَكَمْنَا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مُصِيبٌ مَا لَمْ تَنْكِحْ زَوْجًا غَيْرَهُ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ ) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي الْمُطَلِّقِ إِذَا أَنْكَرَ الْإِصَابَةَ فَجَعَلْنَا الْقَوْلَ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ وَلَمْ يُحْكَمْ لَهَا إِلَّا بِنِصْفِ الْمَهْرِ ، إِمَّا مَعَ عَدَمِ الْخَلْوَةِ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَإِمَّا مَعَ وُجُودِهَا عَلَى أَصَحِّ الْأَقَاوِيلِ ، ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ يَوْمِ الْعَقْدِ وَلِأَرْبَعِ سِنِينَ فَمَا دُونَهَا مِنْ يَوْمِ الطَّلَاقِ فَالْوَلَدُ لَاحِقٌ بِهِ إِنْ صَدَّقَهَا عَلَى وِلَادَتِهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلَا يَنْتَفِي عَنْهُ بِاللِّعَّانِ وَإِنْ أَكْذَبَهَا وَادَّعَى أَنَّهَا الْتَقَطَتْهُ حَلَفَ وَهُوَ مَنْفِيٌّ عَنْهُ بِغَيْرِ لِعَانٍ إِلَّا أَنْ تُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى وِلَادَتِهِ فَيَصِيرُ لَاحِقًا بِهِ إِلَّا أَنْ يَنْفِيَهُ بِاللِّعَانِ ، فَأَمَّا اسْتِكْمَالُ الْمَهْرِ فَمُعْتَبَرٌ بِمَا تَدَّعِيهِ الزَّوْجَةُ مِنْ عُلُوقِ الْوَلَدِ ، فَإِنْ وَافَقَتْهُ عَلَى عَدَمِ الْإِصَابَةِ وَادَّعَتْ أَنَّهَا عَلِقَتْ بِاسْتِدْخَالِ مَائِهِ قُبِلَ قَوْلُهَا وَلَمْ يُكْمِلْ مَهْرَهَا مَعَ عَدَمِ الْإِصَابَةِ ، وَإِنْ أَكْذَبَتْهُ وَادَّعَتِ الْإِصَابَةَ ، فَهَلْ تَكُونُ وِلَادَتُهَا دَلِيلًا عَلَى صِدْقِهَا فِي الدُّخُولِ ، وَاسْتِكْمَالِ الْمَهْرِ بِالْإِصَابَةِ أَمْ لَا ؟ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الْوَلَدِ اللَّاحِقِ لِلنَّسَبِ ، فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ . إِمَّا أَنْ يُقِرَّ عَلَى نَسَبِهِ ، أَوْ يَنْفِيَ نَسَبَهُ بِاللِّعَانِ . فَإِنْ أَقَرَّ عَلَى نَسَبِهِ فَالَّذِي نَقَلَ الْمُزَنِيُّ وَالرَّبِيعُ أَنَّهُ يُحْكَمُ لَهَا بِالْإِصَابَةِ وَكَمَالِ الْمَهْرِ : لِأَنَّ لُحُوقَ الْوَلَدِ بِهِ شَاهِدٌ لَهَا عَلَى إِصَابَتِهِ ، قَالَ الرَّبِيعُ : وَفِيهَا قَوْلٌ آخَرُ : أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ لَهَا بِالْإِصَابَةِ وَلَا تَسْتَحِقُّ مِنَ الْمَهْرِ إِلَّا نِصْفَهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عُلُوقُهَا بِهِ مِنِ اسْتِدْخَالِ مَائِهِ فَلَمْ يُحْكَمْ بِاسْتِكْمَالِ الْمَهْرِ مَعَ الشَّكِّ فِي اسْتِحْقَاقِهِ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي تَفَرَّدَ بِهِ الرَّبِيعُ هَلْ قَالَهُ تَخْرِيجًا لِنَفْسِهِ أَوْ نَقْلًا عَنِ الشَّافِعِيِّ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَالَهُ تَخْرِيجًا لِنَفْسِهِ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ لِلشَّافِعِيِّ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِهِ وَلَا وَجْهَ لِتَخْرِيجِهِ : وَأَنَّ ظَاهِرَ الْحُكْمِ مَحْمُولٌ عَلَى غَالِبِ الْحَالِ دُونَ نَادِرِهَا ، وَالْغَالِبُ مِنْ عُلُوقِ الْوَلَدِ أَنَّهُ يَكُونُ مِنَ الْوَطْءِ دُونَ الِاسْتِدْخَالِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَيْهِ وَشَاهِدًا فِيهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ قَالَ نَقْلًا عَنِ الشَّافِعِيِّ : لِأَنَّهُ رَاوِي أَقَاوِيلِهِ ، وَحَاكِي مَذَاهِبِهِ ، فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا ، هَلْ يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ أَوْ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ : عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُكَمَّلُ بِهِ الْمَهْرُ عَلَى مَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ . وَالثَّانِي : لَا يُكَمَّلُ بِهِ الْمَهْرُ عَلَى مَا حَكَاهُ الرَّبِيعُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَحَكَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ لَا عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ فَرِوَايَةُ الْمُزَنِيِّ أَنَّهُ يُكَمَّلُ بِهِ الْمَهْرُ إِذَا كَانَتِ الْوِلَادَةُ بَعْدَ إِنْكَارِ الزَّوْجِ لِلْإِصَابَةِ وَقَبْلَ اخْتِلَافِهِ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِيهَا لَمْ يَنْبَرِمْ ، وَرِوَايَةُ الرَّبِيعِ أَنَّ الْمَهْرَ لَا يُكَمَّلُ
إِذَا كَانَتِ الْوِلَادَةُ بَعْدَ إِحْلَافِهِ عَلَيْهَا وَانْبِرَامِ الْحُكْمِ فِيهَا فَلَمْ يَتَعَقَّبْ بِنَقْضٍ ، وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ قَدْ نَفَاهُ بِاللِّعَانِ ، فَقَدْ قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ : إِنَّ نَفْيَهُ بِاللِّعَانِ كَجُحُودِهِ لِوِلَادَتِهِ ، وَيَصِيرُ كَاخْتِلَافِهِمَا لَوْ لَمْ تَأْتِ بِوَلَدٍ فَلَا يَكُونُ لَهَا مِنَ الْمَهْرِ إِلَّا نِصْفَهُ وَسَوَّى بَيْنِ جُحُودِهِ لِوِلَادَتِهِ وَبَيْنَ نَفْيِهِ ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ عِنْدِي بَلْ حُكْمُ نَسَبِهِ قَدْ ثَبَتَ فَتَثْبُتُ بِهِ الْوِلَادَةُ ، وَإِنَّمَا اسْتَأْنَفَ نَفْيَهُ بَعْدَ لُحُوقِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِمَنْ لَمْ يُلْحِقْ نَسَبَهُ فَاقْتَضَى أَنْ يُسْتَكْمَلَ بِهِ مَهْرُهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ خَلَا بِهَا فَقَالَ لَمْ أُصِبْهَا ، وَقَالَتْ : قَدْ أَصَابَنِي وَلَا وَلَدَ الحكم فَهِيَ مُدَّعِيَةٌ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَاخْتِلَافُ الزَّوْجَيْنِ فِي الْإِصَابَةِ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْخَلْوَةِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ أَنْكَرَ الْإِصَابَةَ مِنْهُمَا مَعَ يَمِينِهِ ، فَإِنْ كَانَ هُوَ الزَّوْجَ فَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ وَلَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْمَهْرِ إِلَّا نَصْفُهُ ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ بِإِقْرَارِهَا ، وَإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا وَلَا نَفَقَةَ لَهَا . فَأَمَّا الْمَهْرُ فَإِنْ كَانَ فِي يَدِهَا لَمْ يَسْتَرْجِعِ الزَّوْجُ مِنْهُ شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِيهِ وَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِ لَمْ يَأْخُذْ إِلَّا نِصْفَهُ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَدَّعِي أَكْثَرَ مِنْهُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُهُمَا فِي الْإِصَابَةِ بَعْدَ الْخَلْوَةِ فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مُنْكِرِهَا مَعَ يَمِينِهِ . وَالثَّانِي : وَهُوَ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مُدَّعِيهَا وَفِي وُجُوبِهَا الْيَمِينَ عَلَيْهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَمِينَ عَلَيْهِ إِذَا قِيلَ : إِنَّ الْخَلْوَةَ كَالْإِصَابَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ عَلَيْهِ الْيَمِينَ إِذَا قِيلَ إِنَّ الْخَلْوَةَ يَدٌ لِمُدَّعِي الْإِصَابَةِ ، فَإِذَا قِيلَ : إِنِ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُنْكِرِ فَالْجَوَابُ عَلَى مَا مَضَى عِنْدَ عَدَمِ الْخَلْوَةِ فِي اعْتِبَارِ حَالِ مَنْ أَنْكَرَ مِنَ الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُدَّعِي لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ أَوِ الزَّوْجَةُ ، فَإِنْ كَانَ هُوَ الزَّوْجُ فَعَلَيْهَا إِذَا حَلَفَ الْعِدَّةُ ، وَلَهُ عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ ، وَلَهَا عَلَيْهِ النَّفَقَةُ ؛ لِأَنَّهَا وَإِنْ أَنْكَرَتِ الْإِصَابَةَ الْمُوجِبَةَ لِلنَّفَقَةِ فَقَدْ مُنِعَتْ بِالْعِدَّةِ مِنَ الزَّوْجِ فَاسْتَحَقَّتْ بِالْمَنْعِ النَّفَقَةَ . فَأَمَّا الْمَهْرُ فَإِنْ كَانَ فِي يَدِهَا لَمْ يَسْتَرْجِعِ الزَّوْجُ شَيْئًا مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِ لَمْ تَأْخُذْ إِلَّا نِصْفَهُ ، وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي هِيَ الزَّوْجَةَ فَلَهَا إِذَا حَلَفَتْ جَمِيعُ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَلَا رَجْعَةَ لِلزَّوْجِ : لِأَنَّهُ يُنْكِرُهَا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ جَاءَتْ بِشَاهِدٍ بِإِقْرَارِهِ أَحْلَفْتُهَا مَعَ شَاهِدِهَا وَأَعْطَيْتُهَا الصَّدَاقَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا جُعِلَ الْقَوْلُ فِي الْإِصَابَةِ قَوْلَ مُنْكِرِهَا إِمَّا مَعَ عَدَمِ الْخَلْوَةِ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَإِمَّا مَعَ وُجُودِهَا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، فَإِنْ أَرَادَ مُدَّعِي الْإِصَابَةِ أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى مُنْكِرِهَا لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الزَّوْجَ أَوِ الزَّوْجَةَ ، وَإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ هِيَ الْمُدَّعِيَةَ حُكِمَ لَهَا فِي الْإِصَابَةِ بِإِقْرَارِهِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الْمُدَّعِي لَمْ يُحْكَمْ لَهُ فِي الْإِصَابَةِ بِإِقْرَارِهَا إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ دَعْوَى الزَّوْجَةِ لِلْإِصَابَةِ جاءت الزوجة المخلو بها قبل الدخول بشاهد على أن زوجها أصابها مَقْصُورَةٌ عَلَى الْمَالِ فِي اسْتِكْمَالِ الصَّدَاقِ ، وَاسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ ، وَالْمَالُ يُحْكَمُ فِيهِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ ، وَدَعْوَى الزَّوْجِ فِي الْإِصَابَةِ مَقْصُورَةٌ عَلَى وُجُوبِ الْعِدَّةِ وَاسْتِحْقَاقِ الرَّجْعَةِ ، وَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
بَابُ الْعِدَّةِ مِنَ الْمَوْتِ وَالطَّلَاقِ وَزَوْجٍ غَائِبٍ
بَابُ الْعِدَّةِ مِنَ الْمَوْتِ وَالطَّلَاقِ وَزَوْجٍ غَائِبٍ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ " وَإِذَا عَلِمَتِ الْمَرْأَةُ يَقِينَ مَوْتِ زَوْجِهَا أَوْ طَلَاقِهِ بِبَيِّنَةٍ أَوْ أَيِّ عِلْمٍ اعْتَدَّتْ مِنْ يَوْمِ كَانَتْ فِيهِ الْوَفَاةُ وَالطَّلَاقُ وَإِنْ لَمْ تَعْتَدَّ حَتَّى تَمْضِيَ الْعِدَّةُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا غَيْرُهَا ؛ لِأَنَّهَا مُدَّةٌ وَقَدْ مَرَّتْ عَلَيْهَا وَقَدْ رُوِيَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ " تَعْتَدُّ مِنْ يَوْمِ تَكُونُ الْوَفَاةُ أَوِ الطَّلَاقُ " وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَابْنِ الْمُسَيِّبِ وَالزُّهْرِيِّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا غَابَ الزَّوْجُ عَنِ امْرَأَتِهِ ثُمَّ طَلَّقَ ، أَوْ مَاتَ فِي غَيْبَتِهِ وقت عدتها فَعِدَّتُهَا إِذَا عَلِمَتْ بِطَلَاقِهَا أَوْ مَوْتِهِ مِنْ حِينِ الطَّلَاقِ أَوِ الْمَوْتِ لَا مِنْ وَقْتِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ ، وَسَوَاءٌ عَلِمَتْ ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ أَوْ خَبَرٍ . وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ ، وَحُكِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ أَوَّلَ عِدَّتِهَا مِنْ وَقْتِ عِلْمِهَا بِطَلَاقِهِ أَوْ مَوْتِهِ ، وَلَا تَعْتَدُّ بِمَا مَضَى سَوَاءٌ عَلِمَتْ بِبَيِّنَةٍ أَوْ خَبَرٍ . وَبِهِ قَالَ دَاوُدُ . وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ : إِنْ عَلِمَتْ ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ اعْتَدَّتْ بِمَا مَضَى ، وَإِنْ عَلِمَتْهُ بِخَبَرٍ اعْتَدَّتْ مِنْ وَقْتِهَا اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [ الْبَقَرَةِ : ] وَالتَّرَبُّصُ فِعْلٌ مِنْهَا مَقْصُودٌ فَخَرَجَ مَا تَقَدَّمَ مِنْهُ ، وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ فُرَيْعَةَ بِنْتَ مَالِكٍ قُتِلَ زَوْجُهَا فِي سَفَرٍ بِالْقَدُومِ فَلَمَّا عَلِمَتْ بِقَتْلِهِ أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَتْهُ ، فَقَالَ لَهَا : امْكُثِي فِي بَيْتِكَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَأَمَرَهَا بِاسْتِئْنَافِ الْعِدَّةِ لِوَقْتِهَا وَلَمْ يَعْتَبِرْ بِهَا مَا مَضَى ؛ وَلِأَنَّهَا مَأْمُورَةٌ فِي الْعِدَّةِ بِالْإِحْدَادِ ، وَاجْتِنَابِ الطِّيبِ وَأَنْ لَا تَخْرُجَ عَنْ مَسْكَنِهَا ، وَهِيَ قَبْلَ عِلْمِهَا غَيْرُ قَاصِدَةٍ لِأَحْكَامِ الْعِدَّةِ ؛ فَلِذَلِكَ لَمْ تَكُنْ فِي عِدَّةٍ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ : فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [ الطَّلَاقِ : ] أَيْ فِي الْوَقْتِ الَّذِي تَعْتَدُّنَّ فِيهِ فَدَلَّ عَلَى اتِّصَالِ الْعِدَّةِ بِالطَّلَاقِ ؛ وَلِأَنَّهَا لَوْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا انْقَضَتْ بِهِ عِدَّتُهَا ، وَإِنْ
لَمْ تَعْلَمْ بِطَلَاقِهَا كَذَلِكَ إِذَا أَمْضَتْ أَقَرَاءَهَا وَشُهُورَهَا ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُهَا قَبْلَ عِلْمِهَا بِطَلَاقِهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ زَوْجَةً أَوْ مُطَلَّقَةً فَبَطَلَ أَنْ تَكُونَ زَوْجَةً ؛ لِأَنَّهُ لَوْ مَاتَ لَمْ تَرِثْهُ فَثَبَتَ أَنَّهَا مُطَلَّقَةٌ ، وَالْمُطَلَّقَةُ لَا يَخْلُو أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهَا حُكْمُ الْعِدَّةِ أَوْ لَا يَجْرِي عَلَيْهَا فَبَطَلَ أَنْ لَا يَجْرِيَ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّهَا لَوْ تَزَوَّجَتْ غَيْرَهُ بَطَلَ نِكَاحُهَا ، وَإِذَا جَرَى عَلَيْهَا حُكْمُ الْعِدَّةِ وَجَبَ أَنْ تُجْرِيَهَا عَلَيْهَا كَالْعَالِمَةِ ؛ وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ معناها هِيَ التَّرَبُّصُ بِنَفْسِهَا عَنِ الْأَزْوَاجِ فِي الْمُدَّةِ الْمُقَدَّرَةِ لَهَا وَذَلِكَ مَوْجُودٌ وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ فَلَمْ يَكُنْ فَقْدُ الْعِلْمِ مُؤَثِّرًا كَالصَّغِيرَةِ وَالْمَجْنُونَةِ : لِأَنَّ النِّيَّةَ فِيهَا غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ ؛ وَلِأَنَّهَا لَوْ عَلِمَتْ فَنَوَتْ أَنَّهَا غَيْرُ مُعْتَدَّةٍ وَتَرَكَتِ الْإِحْدَادَ ، وَاسْتَعْمَلَتِ الطِّيبَ وَخَرَجَتْ مِنْ مَنْزِلِهَا ، وَلَمْ تَتَزَوَّجْ حَتَّى مَضَتْ مُدَّةُ الْعِدَّةِ أَجْزَأَتْهَا ، وَإِنْ كَانَتْ عَاصِيَةً فِيمَا فَعَلَتْ وَاعْتَقَدَتْ ، وَالَّتِي لَمْ تَعْلَمْ غَيْرُ عَاصِيَةٍ فَكَانَ بِأَنْ يُجْزِئَهَا أَوْلَى . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَهُوَ وُجُودُ التَّرَبُّصِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِيهَا مَعَ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ فَاقْتَضَى إِجْزَاءَهُ فِي الْحَالَيْنِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ فُرَيْعَةَ فَهُوَ أَنَّ أَمْرَهَا بِالْمُكْثِ يَحْتَمِلُ الِابْتِدَاءَ ، وَيَحْتَمِلُ الِاسْتِدَامَةَ ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مَعَ الِاحْتِمَالِ دَلِيلٌ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ فَإِنَّهَا غَيْرُ قَاصِدَةٍ لِلْعِدَّةِ فَهُوَ أَنَّ الْقَصْدَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بِمَا ذَكَرْنَا وَالْإِحْدَادَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِيهَا - عَلَى مَا وَصَفْنَا وَلَيْسَ لِلْجَهْلِ بِحَالِهَا تَأْثِيرٌ إِلَّا فِي الْعَقْدِ الَّذِي لَا يُعْتَبَرُ وَتَرْكُ الْإِحْدَادِ الَّذِي لَا يُشْتَرَطُ فِصَحَّ الْإِجْزَاءُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابٌ فِي عِدَّةِ الْأَمَةِ
بَابٌ فِي عِدَّةِ الْأَمَةِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ " فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَ الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ فِي حَدِّ الزِّنَا ، فَقَالَ فِي الْإِمَاءِ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ الْآيَةَ ، وَقَالَ تَعَالَى وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَذَكَرَ الْمَوَارِيثَ فَلَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ لَقِيتُهُ أَنَّ ذَلِكَ فِي الْأَحْرَارِ دُونَ الْعَبِيدِ ، وَفَرَضَ اللَّهُ الْعِدَّةَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ وَفِي الْمَوْتِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا مدة العدة للمطلقة والتي توفى عنها زوجها كما فرضها الله وَسَنَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُسْتَبْرَأَ الْأَمَةُ بِحَيْضَةٍ وَكَانَتِ الْعِدَّةُ فِي الْحَرَائِرِ اسْتِبْرَاءً وَتَعَبُّدًا وَلَمْ أَعْلَمْ مُخَالِفًا مِمَّنْ حَفِظْتُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّ عِدَّةَ الْأَمَةِ نِصْفُ عِدَّةِ الْحُرَّةِ فِيمَا لَهُ نِصْفٌ مَعْدُودٌ فَلَمْ يَجُزْ إِذَا وَجَدْنَا مَا وَصَفْنَا مِنَ الدَّلَائِلَ عَلَى الْفَرْقِ فِيمَا ذَكَرْنَا وَغَيْرِهِ إِلَّا أَنْ نَجْعَلَ عِدَّةَ الْأَمَةِ نِصْفَ عِدَّةِ الْحُرَّةِ فِيمَا لَهُ نِصْفٌ ، فَأَمَّا الْحَيْضَةُ فَلَا يُعْرَفُ لَهَا نِصْفٌ فَتَكُونَ عِدَّتُهَا فِيهِ أَقْرَبَ الْأَشْيَاءِ مِنَ النِّصْفِ إِذَا لَمْ يَسْقُطْ مِنَ النِّصْفِ شَيْءٌ ، وَذَلِكَ حَيْضَتَانِ . وَأَمَّا الْحَمْلُ فَلَا نِصْفَ لَهُ كَمَا لَمْ يَكُنْ لِلْقَطْعِ نِصْفٌ فَقُطِعَ الْعَبْدُ وَالْحُرُّ ، قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : يُطَلِّقُ الْعَبْدُ تَطْلِيقَتَيْنِ وَتَعْتَدُّ الْأَمَةُ حَيْضَتَيْنِ ، فَإِنْ لَمْ تَحِضْ فَشَهْرَيْنِ أَوْ شَهْرًا وَنِصْفًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا طُلِّقَتِ الْأَمَةُ فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ ، وَالْعِدَّةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : عِدَّةٌ بِالْحَمْلِ ، وَعِدَّةٌ بِالْأَقْرَاءِ ، وَعِدَّةٌ بِالشُّهُورِ . فَأَمَّا الْعِدَّةُ بِالْحَمْلِ فَتَسْتَوِي فِيهِ الْحُرَّةُ وَالْأَمَةُ ، فَلَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا إِلَّا بِوَضْعِ الْحَمْلِ لِقَوْلِ اللَّهِ : وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [ الطَّلَاقِ : ] وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : عِدَّةُ كُلِّ ذَاتِ حَمْلٍ أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا وَلِأَنَّ مَوْضِعَ الْعِدَّةِ لِاسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ ، وَلَا يَبْرَأُ رَحِمُ الْحَامِلِ إِلَّا بِالْوِلَادَةِ فَاسْتَوَتْ فِيهِ الْحُرَّةُ وَالْأَمَةُ ، وَأَمَّا الْعِدَّةُ بِالْأَقْرَاءِ ، فَعِدَّةُ الْأَمَةِ قُرْآنِ بِخِلَافِ الْحُرَّةِ . وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ . وَقَالَ دَاوُدُ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ : عِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ كَالْحُرَّةِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [ الْبَقَرَةِ : ] وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ حُرَّةٍ وَأَمَةٍ ، كَمَا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مُسْلِمَةٍ وَذِمِّيَّةٍ ؛ وَلِأَنَّ الْأَمَةَ لِمَّا سَاوَتِ الْحُرَّةَ فِي الْعِدَّةِ بِالْحَمْلِ وَجَبَ