كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يَدَّعِيَ الْعَدْلُ تَسْلِيمَ الثَّمَنِ إِلَى الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ فَعَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُقِرَّ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ فَقَدْ بَرِئَ الْعَدْلُ مِنْ حَقِّهِمَا مَعًا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يُنْكِرَهُ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ ، فَقَدْ بَرِئَ الْعَدْلُ مِنْ مُطَالَبَةِ الرَّاهِنِ ، لِأَنَّ قَوْلَ الْعَدْلِ مَقْبُولٌ عَلَيْهِ وَإِنْ أَنْكَرْهُ ، وَلَمْ يَبْرَأْ مِنْ مُطَالَبَةِ الْمُرْتَهِنِ : لِأَنَّ قَوْلَهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ عَلَيْهِ إِذَا أَنْكَرَ . ثُمَّ الْمُرْتَهِنُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ مُطَالَبَةِ الرَّاهِنِ ، أَوِ الْعَدْلِ فَإِنْ طَالَبَ الرَّاهِنَ فَأَغْرَمَهُ فَقَدْ بَرِئَ الرَّاهِنُ وَالْعَدْلُ جَمِيعًا ، وَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ ، أَنْ يَرْجِعَ بِذَلِكَ عَلَى الْعَدْلِ . وَإِنْ طَالَبَ الْعَدْلَ فَأَغْرَمَهُ بَرِئَ الْعَدْلُ وَالرَّاهِنُ جَمِيعًا وَلَيْسَ لِلْعَدْلِ أَنْ يَرْجِعَ بِذَلِكَ عَلَى الرَّاهِنِ : لِأَنَّ قَوْلَ الْعَدْلِ فِيمَا يَدَّعِي اسْتِحْقَاقَ الرُّجُوعِ بِهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ فِيمَا بِيَدِهِ مَقْبُولًا . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ يُقِرَّ الْمُرْتَهِنُ وَيُنْكِرَ الرَّاهِنُ فَقَدْ بَرِئَ الْعَدْلُ مِنْ حَقِّهِمَا ، أَمَّا الْمُرْتَهِنُ فَبِإِقْرَارِهِ وَأَمَّا الرَّاهِنُ فَلِقَبُولِ قَوْلِهِ . وَالضَّرْبُ الرَّابِعُ : أَنْ يُقِرَّ الرَّاهِنُ وَيُنْكِرَ الْمُرْتَهِنُ فَقَدْ بَرِئَ الْعَدْلُ مِنْ حَقِّ الرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ وَلِلْمُرْتَهِنِ الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يُطَالِبَ الرَّاهِنَ أَوِ الْعَدْلَ ، فَإِنْ أَغْرَمَ الرَّاهِنَ بَرِئَ الرَّاهِنُ وَالْعَدْلُ جَمِيعًا ، وَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَرْجِعَ بِذَلِكَ عَلَى الْعَدْلِ . فَإِنْ أَغْرَمَهُ الْعَدْلَ بَرِئَ الْعَدْلُ وَالرَّاهِنُ جَمِيعًا ، وَلَيْسَ لِلْعَدْلِ أَنْ يَرْجِعَ بِذَلِكَ عَلَى الرَّاهِنِ ، لِأَنَّ الْعَدْلَ مُقِرٌّ أَنَّهُ مَظْلُومٌ بِإِغْرَامِ الْمُرْتَهِنِ لَهُ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَى غَيْرِ مَنْ ظَلَمَهُ ، فَهَذَا حُكْمُ دَعْوَى الْعَدْلِ تَسْلِيمَ الثَّمَنِ إِلَى الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ لَوْ بَاعَ بِدَيْنٍ كَانَ ضَامِنًا
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ بَاعَ بِدَيْنٍ كَانَ ضَامِنًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ وَجُمْلَتُهُ إِذَا أَذِنَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ لِلْعَدْلِ فِي بَيْعِ الرَّهْنِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ خَمْسَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَأْذَنَا لَهُ فِي بَيْعِهِ بِالنَّقْدِ إذن الراهن والمرتهن للعدل بيع الرهن بالنقد فَلَا يَجُوزُ لِلْعَدْلِ أَنْ يَبِيعَهُ بِالدَّيْنِ ، فَإِنْ بَاعَهُ بِالدَّيْنِ كَانَ بَيْعُهُ بَاطِلًا ، وَكَانَ لِجَمِيعِ قِيمَتِهِ بِالتَّسْلِيمِ ضَامِنًا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَأْذَنَا لَهُ فِي بَيْعِهِ بِالدَّيْنِ إذن الراهن والمرتهن للعدل في بيع الرهن بالدين فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ بِالدَّيْنِ بِمَا حَدَا لَهُ مِنَ الْأَجَلِ أَوْ بِمَا لَا يَتَفَاوَتُ مِنَ الْآجَالِ إِنْ لَمْ يَحُدَّا لَهُ الْأَجَلَ ، فَإِنْ بَاعَهُ بِالنَّقْدِ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الَّذِي
يُسَاوَى بِالدَّيْنِ كَانَ بَيْعُهُ جَائِزًا لِتَعْجِيلِ الثَّمَنِ مَعَ حُصُولِ مَا يُقْصَدُ مِنَ التَّوْفِيرِ لِلْأَجَلِ ، وَإِنْ بَاعَهُ بِالنَّقْدِ بِدُونِ مَا يُسَاوَى بِالدَّيْنِ كَانَ بَيْعُهُ بَاطِلًا وَكَانَ لِقِيمَتِهِ بِالتَّسْلِيمِ ضَامِنًا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَأْذَنَا لَهُ فِي بَيْعِهِ مُطْلَقًا ، فَإِطْلَاقُ الْإِذْنِ يَقْتَضِي بَيْعَ النَّقْدِ كَمَا لَوْ صَرَّحَا بِهِ فَإِنْ بَاعَهُ بِالدَّيْنِ كَانَ بَيْعُهُ بَاطِلًا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِطْلَاقُ الْإِذْنِ يَقْتَضِي جَوَازَ الْبَيْعِ بِالنَّقْدِ وَالدَّيْنِ فَبِأَيِّهِمَا بَاعَ جَازَ ، وَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ مَعَ الْإِطْلَاقِ لِأَنَّ اسْمَ الْبَيْعِ يَتَنَاوَلُهُ . وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّ إِطْلَاقَ الْإِذْنِ كَإِطْلَاقِ الْعَقْدِ ، فَلَمَّا كَانَ إِطْلَاقُ الْعَقْدِ يَقْتَضِي تَعْجِيلَ الثَّمَنِ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِطْلَاقُ الْإِذْنِ يَقْتَضِي تَعْجِيلَ الثَّمَنِ وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يُسْتَوْفَى فِي كِتَابِ الْوِكَالَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يَأْذَنَ الرَّاهِنُ إذن الراهن للعدل ببيع الرهن دينا فأذن له المرتهن ببيعه نقدا فِي بَيْعِهِ بِالدَّيْنِ وَيَأْذَنَ الْمُرْتَهِنُ فِي بَيْعِهِ بِالنَّقْدِ فَلَيْسَ لِلْعَدْلِ بَيْعُهُ بِالدَّيْنِ ، لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ مَعَ اسْتِحْقَاقِ تَعْجِيلِهِ ، فَأَمَّا بِالنَّقْدِ فَإِنْ بَاعَهُ بِمِثْلِ مَا يُسَاوَى بِالدَّيْنِ جَازَ وَإِنْ بَاعَهُ بِمِثْلِ مَا يُسَاوَى بِالنَّقْدِ دُونَ مَا يُسَاوَى بِالدَّيْنِ لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّ الرَّاهِنَ الْمَالِكَ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ ، فَيَجْرِي عَلَى هَذَا الْإِذْنِ حُكْمُ النَّقْدِ فِي التَّعْجِيلِ وَحُكْمُ الدَّيْنِ فِي التَّوْفِيرِ . وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ : أَنْ يَأْذَنَ لَهُ الرَّاهِنُ فِي بَيْعِهِ بِالنَّقْدِ وَيَأْذَنُ لَهُ الْمُرْتَهِنُ فِي بَيْعِهِ بِالدَّيْنِ فَلِلْعَدْلِ أَنْ يَبِيعَهُ بِالنَّقْدِ الَّذِي أَذِنَ فِيهِ الرَّاهِنُ وَلَا يَبِيعَهُ بِالدَّيْنِ الَّذِي أَذِنَ فِيهِ الْمُرْتَهِنُ ، لِأَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ فِي الْبَيْعِ وَالتَّعْجِيلِ وَلَيْسَ لَهُ حَقٌّ فِي التَّأْخِيرِ فَقُبِلَ إِذْنُهُ فِي الْبَيْعِ : لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُ وَلَمْ يُقْبَلْ إِذْنُهُ فِي التَّأْخِيرِ لِأَنَّهُ حَقٌّ عَلَيْهِ وَفَارَقَ إِذْنَ الرَّاهِنِ بِالتَّأْخِيرِ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ . فَصْلٌ : وَإِذَا أَذِنَا لِلْعَدْلِ فِي بَيْعِ الرَّهْنِ بَعْدَ شَهْرٍ فَبَاعَهُ قَبْلَ مُضِيِّ الشَّهْرِ كَانَ بَيْعُهُ بَاطِلًا وَكَانَ لِقِيمَتِهِ بِالتَّسْلِيمِ ضَامِنًا ، وَلَوْ أَذِنَا فِي بَيْعِهِ بِالْكُوفَةِ فَبَاعَهُ بِالْبَصْرَةِ كَانَ بَيْعُهُ جَائِزًا إِذَا كَانَ الثَّمَنَانِ وَاحِدًا وَكَانَ لِثَمَنِهِ ضَامِنًا . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ قَبْلَ الشَّهْرِ غَيْرَ مَأْذُونٍ لَهُ فِي بَيْعِهِ فَبَطَلَ بَيْعُهُ ، وَإِذَا نَقَلَهُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ كَانَ مَأْذُونًا فِي بَيْعِهِ فَجَازَ بَيْعُهُ وَضَمِنَ ثَمَنَهُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ قَالَ لَهُ أَحَدُهُمَا بِعْ بِدَنَانِيرَ وَالْآخَرُ بِعْ بِدَرَاهِمَ لَمْ يَبِعْ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا لَحِقِّ الْمُرْتَهِنِ فِي ثَمَنِ الرَهْنِ وَحَقِّ الرَّاهِنِ فِي رَقَبَتِهِ وَثَمَنِهِ وَجَاءَ الْحَاكِمُ حَتَّى يَأْمُرَهُ بِالْبَيْعِ بِنَقْدِ الْبَلَدِ ثُمَّ يَصْرِفُهُ فِيمَا الرَّهْنُ فِيهِ " .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ إِذْنِهِمَا لِلْعَدْلِ فِي الثَّمَنِ الَّذِي يَبِيعُ الرَّهْنَ بِهِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُعَيِّنَا فِي الْإِذْنِ جِنْسَ الثَّمَنِ فَيَأْذَنَا لَهُ فِي بَيْعِهِ بِالدَّرَاهِمِ أَوْ يَأْذَنَا لَهُ فِي بَيْعِهِ بِجِنْسٍ مِنَ الْأَمْتِعَةِ وَالْعُرُوضِ ، فَلَا يَجُوزُ لِلْعَدْلِ أَنْ يَبِيعَ الرَّهْنَ إِلَّا بِالثَّمَنِ الَّذِي عَيَّنَّاهُ لَهُ ، فَإِنْ بَاعَهُ بِغَيْرِهِ كَانَ بَيْعُهُ بَاطِلًا وَكَانَ لِقِيمَتِهِ بِالتَّسْلِيمِ ضَامِنًا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يُطْلِقَا الْإِذْنَ وَلَا يُعَيِّنَا جِنْسَ الثَّمَنِ فَوَاجِبٌ عَلَى الْعَدْلِ أَنْ يَبِيعَهُ بِغَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ سَوَاءٌ كَانَ مَنْ جِنْسِ الْحَقِّ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " : يَبِيعُهُ بِجِنْسِ حَقِّهِ . قَالَ أَصْحَابُنَا : إِنَّمَا أَرَادَ بِجِنْسِ حَقِّهِ إِذَا كَانَ مِنْ غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدَ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ بَاعَهُ بِغَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ ، فَحَمَلُوا إِطْلَاقَهُ عَلَى هَذَا التَّقْيِيدِ ، فَإِنْ كَانَ غَالِبُ نَقْدِ الْبَلَدِ دَرَاهِمَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَبِيعَهُ بِدَنَانِيرَ ، وَإِنْ كَانَ غَالِبُ نَقْدِ الْبَلَدِ دَنَانِيرَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَبِيعَهُ بِدَرَاهِمَ ، فَإِنْ فَعَلَ كَانَ بَيْعُهُ بَاطِلًا وَكَانَ لِقِيمَتِهِ بِالتَّسْلِيمِ ضَامِنًا . الْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَأْذَنَا لَهُ فِي بَيْعِهِ بِمَا رَأَى مِنَ الْأَثْمَانِ فَلَهُ بَيْعُهُ بِمَا رَأَى مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ سَوَاءٌ بَاعَهُ بِغَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ أَوْ بِغَيْرِهِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ بِالْبُرِّ أَوْ بِالشَّعِيرِ ، لِأَنَّ مُطْلَقَ الْأَثْمَانِ يَتَنَاوَلُ الْفِضَّةَ وَالذَّهَبَ دُونَ غَيْرِهِمَا إِلَّا أَنْ يُصَرِّحَا بِهِ فِي إِذْنِهِمَا فَإِنْ بَاعَهُ بِذَلِكَ كَانَ بَيْعُهُ بَاطِلًا . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يَخْتَلِفَا عَلَيْهِ فِي الْإِذْنِ اختلاف الراهن والمرتهن على العدل في جنس ثمن الرهن وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَيَأْذَنُ أَحَدُهُمَا فِي بَيْعِهِ بِالدَّرَاهِمِ وَيَأْذَنُ الْآخَرُ فِي بَيْعِهِ بِالدَّنَانِيرِ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ مَا اخْتَلَفَا فِيهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ غَالِبُ نَقْدِ الْبَلَدِ وَجِنْسُ الْحَقِّ هُوَ مَا أَذِنَ بِهِ الْمُرْتَهِنُ دُونَ الرَّاهِنِ ، فَلَا يَجُوزُ لِلْعَدْلِ أَنْ يَبِيعَهُ بِمَا أَذِنَ بِهِ الْمُرْتَهِنُ وَلَا بِمَا أَذِنَ بِهِ الرَّاهِنُ ، أَمَّا مَا أَذِنَ بِهِ الرَّاهِنُ فَلِأَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ فِي غَيْرِهِ وَأَمَّا مَا أَذِنَ بِهِ الْمُرْتَهِنُ فَلِأَنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ لِغَيْرِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ غَالِبُ نَقْدِ الْبَلَدِ وَجِنْسُ الْحَقِّ مَا أَذِنَ بِهِ الرَّاهِنُ دُونَ الْمُرْتَهِنِ ، فَهَذَا يَبِيعُهُ الْعَدْلُ بِمَا أَذِنَ بِهِ الرَّاهِنُ دُونَ الْمُرْتَهِنِ ، لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ يَمْلِكُ إِمْسَاكَ الرَّهْنُ ثُمَّ الْإِذْنُ فِي بَيْعِهِ إِمَّا بِجِنْسِ الْحَقِّ أَوْ بِغَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ ، فَإِذَا أَذِنَ فِي بَيْعِهِ بِغَيْرِهِمَا كَانَ إِذْنًا فِي الْبَيْعِ دَاعِيًا إِلَى بَيْعِهِ بِمَا لَا يَسْتَحِقُّ ، فَكَانَ إِذْنُهُ مَاضِيًا وَمَا دَعَى إِلَيْهِ مِنْ بَيْعِهِ بِمَا لَا يَسْتَحِقُّ مَرْدُودًا ، فَلِذَلِكَ جَازَ الْقَوْلُ بِبَيْعِهِ بِمَا أَذِنَ بِهِ الرَّاهِنُ وَلَمْ يَقِفْ ذَلِكَ عَلَى إِذْنِ الْحَاكِمِ لِأَنَّ إِذْنَ الْحَاكِمِ إِنَّمَا يَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى اجْتِهَادِهِ فِي تَقْلِيبِ قَوْلِ أَحَدِهِمَا .
وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ غَالِبُ النَّقْدِ مَا أَذِنَ فِيهِ أَحَدُهُمَا إِمَّا الرَّاهِنُ أَوِ الْمُرْتَهِنُ وَجِنْسُ الْحَقِّ مَا أَذِنَ بِهِ الْآخَرُ إِمَّا الرَّاهِنُ أَوِ الْمُرْتَهِنُ ، فَلَيْسَ لِلْعَدْلِ أَنْ يَبِيعَهُ بِمَا قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقًّا فِيمَا دَعَا إِلَيْهِ فَافْتَقَرَ إِلَى إِذْنِ الْحَاكِمِ لِيَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى اجْتِهَادِهِ ، فَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ أَطْلَقَ الْقَوْلَ فِي اخْتِلَافِهِمَا بِأَنْ لَيْسَ لِلْعَدْلِ بَيْعُهُ بِقَوْلِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَسَاعَدَهُ أَصْحَابُنَا عَلَى هَذَا الْإِطْلَاقِ ، وَإِطْلَاقُهُ عِنْدِي مَحْمُولٌ عَلَى مَا وَصَفْتُ لِأَنَّ تَعْلِيلَهُ يَقْتَضِيهِ . فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنْ لَيْسَ لِلْعَدْلِ بَيْعُهُ إِذَا اخْتَلَفَا عَلَى مَا وَصَفْتُ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَجَاءَ الْعَدْلُ إِلَى الْحَاكِمِ حَتَّى يَأْمُرَهُ بِالْبَيْعِ بِنَقْدِ الْبَلَدِ ، وَفِي هَذَا الْكَلَامِ إِضْمَارٌ لِأَنَّ الْعَدْلَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْتِيَ الْحَاكِمَ ابْتِدَاءً إِذْ لَيْسَ فِي بَيْعِهِ حَقٌّ لَهُ وَلَا عَلَيْهِ فَيَأْتِي الْحَاكِمَ مُسْتَعْدِيًا ، وَإِنَّمَا الْحَقُّ لِلرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ وَإِضْمَارُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّاهِنَ أَوِ الْمُرْتَهِنَ ، جَاءَ إِلَى الْحَاكِمِ مُسْتَعْدِيًا بأن العدل لم يبع الرهن كما أراداه فَإِنَّ الْحَاكِمَ يُحْضِرُ الْعَدْلَ حَتَّى يَأْمُرَهُ بِبَيْعِهِ بِنَقْدِ الْبَلَدِ إِذَا كَانَ الْحَظُّ لَهُمَا ، فَإِنْ كَانَ نَقْدُ الْبَلَدِ مِنْ جِنْسِ الْحَقِّ تَقَدَّمَ بِدَفْعِهِ إِلَى الْمُرْتَهِنِ وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ تَقَدَّمَ بِصَرْفِهِ فِي جِنْسِ الْحَقِّ ثُمَّ دَفَعَهُ إِلَى الْمُرْتَهِنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ تَغَيَّرَتْ حَالُ الْعَدْلِ فَأَيُّهُمَا دَعَا إِلَى إِخْرَاجِهِ كَانَ ذَلِكَ لَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَمَّا الْعَدْلُ فَهُوَ نَائِبٌ عَنِ الرَّاهِنِ فِي حِفْظِ الْمِلْكِ وَعَنِ الْمُرْتَهِنِ فِي حَبْسِ الرَّهْنِ ، فَإِذَا اتَّفَقَا عَلَى وَضْعِ الرَّهْنِ عَلَى يَدِ عَدْلٍ أَوْ شَرَطَا ذَلِكَ فِي عَقْدِ الرَّهْنِ فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى إِخْرَاجِهِ مِنْ يَدِهِ وَوَضْعِهِ فِي يَدِ غَيْرِهِ فَذَاكَ لَهُمَا سَوَاءٌ تَغَيَّرَتْ حَالُ الْعَدْلِ أَمْ لَا ، وَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى إِقْرَارِهِ فِي يَدِهِ وَالْإِذْنِ لَهُ بِبَيْعِهِ فَذَاكَ لَهُمَا سَوَاءٌ تَغَيَّرَتْ حَالُ الْعَدْلِ أَمْ لَا وَإِنْ دَعَا أَحَدُهُمَا إِلَى إِخْرَاجِهِ وَدَعَا الْآخَرُ إِلَى إِقْرَارِهِ فِي يَدِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْعَدْلُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ عَدَالَتِهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ دَعَا إِلَى إِقْرَارِهِ فِي يَدِهِ : لِأَنَّهُ يَسْتَصْحِبُ حُكْمًا لَزِمَ بِعَقْدٍ وَاتِّفَاقٍ ، وَإِنْ كَانَ الْعَدْلُ قَدْ تَغَيَّرَتْ حَالُهُ بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ : إِمَّا لِفِسْقٍ فِي دِينِهِ ، أَوْ عَجْزٍ فِي حِفْظِهِ ، أَوْ عَدَاوَةٍ ظَهَرَتْ مِنْهُ لِمَالِكِ الرَّهْنِ أَوْ مُرْتَهِنِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ دَعَا إِلَى إِخْرَاجِهِ يَدَهُ : لِأَنَّ فِيهِ حِفْظًا لَحِقِّهِ فَإِذَا أُخْرِجَ مِنْ يَدِهِ قَالَ لَهُمَا الْحَاكِمُ : اتَّفِقَا عَلَى اخْتِيَارِ عَدْلٍ يُوضَعُ عَلَى يَدَيْهِ ، فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى اخْتِيَارِهِ وَضَعَهُ فِي يَدِهِ . وَإِنْ لَمْ يَتَّفِقَا وَاخْتَارَ الرَّاهِنُ عَدْلًا وَاخْتَارَ الْمُرْتَهِنُ عَدْلًا وَضَعَهُ الْحَاكِمُ عَلَى يَدِ عَدْلٍ يَخْتَارُهُ لَهُمَا سَوَاءٌ كَانَ الْعَدْلُ الْمَوْضُوعُ عَلَى يَدِهِ الرَّهْنُ مَشْرُوطًا فِي عَقْدِ الرَّهْنِ أَوْ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَعْدَ الرَّهْنِ فِي أَنَّ الْحُكْمَ فِي وُجُوبِ إِقْرَارِهِ فِي يَدِهِ سَوَاءٌ .
فَصْلٌ : إِذَا طَلَبَ الْمُرْتَهِنُ أَنْ يُوضَعَ الرَّهْنُ عَلَى يَدِهِ هل يُجْبَرِ الرَّاهِنُ ؟ لِحَقِّ وَثِيقَتَهُ وَأَبَى الرَّاهِنُ لَمْ يُجْبَرِ الرَّاهِنُ عَلَى وَضْعِهِ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ لِأَجْلِ مِلْكِهِ ، كَمَا لَا يُجْبَرُ الْمُرْتَهِنُ عَلَى وَضْعِ الرَّهْنِ فِي يَدِ الرَّاهِنِ لِأَجْلِ اسْتِيثَاقِهِ ، وَأَمَرَهُمَا الْحَاكِمُ بِاخْتِيَارِ عَدْلٍ يُوضَعُ عَلَى يَدِهِ ، فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى اخْتِيَارِ عَدْلٍ وَإِلَّا اخْتَارَ الْحَاكِمُ لَهُمَا عَدْلًا ، وَوَضَعَهُ عَلَى يَدِهِ فَلَوْ تَعَدَّى الْمُرْتَهِنُ فَأَخَذَ الرَّهْنَ مِنْ يَدِ الرَّاهِنِ ، هل يصير ضَامِنًا لَهُ ؟ صَارَ ضَامِنًا لَهُ ، فَإِنْ رَدَّهُ عَلَى الرَّاهِنِ سَقَطَ عَنْهُ الضَّمَانُ وَلَمْ يَبْطُلِ الرَّهْنُ ، وَلَوْ كَانَ الرَّهْنُ عَلَى يَدِ عَدْلٍ فَأَخَذَهُ الْمُرْتَهِنُ مِنْ يَدِهِ لَزِمَهُ ضَمَانُهُ كَمَا لَوْ رَدَّهُ إِلَى يَدِ الرَّاهِنِ فَإِنْ رَدَّهُ عَلَى الْعَدْلِ سَقَطَ عَنْهُ الضَّمَانُ كَمَا لَوْ رَدَّهُ إِلَى يَدِ الْمُرْتَهِنِ ، لِأَنَّ الْعَدْلَ وَكَيْلُ الرَّاهِنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ . فَصْلٌ : إِذَا رَضِيَ الرَّاهِنُ بِتَرْكِ الرَّهْنِ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ ، ثُمَّ سَأَلَ إِخْرَاجَهُ مِنْ يَدِهِ إِلَى غَيْرِهِ ، فَإِنْ تَغَيَّرَ حَالُ الْمُرْتَهِنِ وَجَبَ إِخْرَاجُهُ مِنْ يَدِهِ وَوَضْعُهُ عَلَى يَدِ عَدْلٍ يَرْضَيَانِ بِهِ ، أَوْ يَرْضَاهُ الْحَاكِمُ لَهُمَا إِنِ اخْتَلَفَا ، وَإِنْ لَمْ يَخْتَلِفْ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُ الْمُرْتَهِنِ ، وَجَبَ إِقْرَارُهُ فِي يَدِهِ ، كَمَا يَجِبُ إِقْرَارُهُ فِي يَدِ الْعَدْلِ لَوْ لَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُهُ ، فَلَوْ مَاتَ الْمُرْتَهِنُ لَمْ يَلْزَمِ الرَّاهِنَ أَنْ يُقِرَّهُ فِي يَدِ وَارِثِهِ أَوْ وَصِّيهِ وَإِنْ كَانَ عَدْلًا إِلَّا أَنْ يَخْتَارَهُ ، وَقِيلَ لِوَارِثِهِ إِنْ كَانَ بَالِغًا أَوْ لِوَصِيِّهِ : تَرَاضَ أَنْتَ وَالرَّاهِنُ بِعَدْلٍ يُوضَعُ عَلَى يَدِهِ فَإِنْ تَرَاضَيَا وَإِلَّا اخْتَارَ الْحَاكِمُ لَهُمَا عَدْلًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ أَرَادَ الْعَدْلُ رَدَّهُ وَهُمَا حَاضِرَانِ فَذَلِكَ لَهُ وَلَوْ دَفَعَهُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْحَاكِمِ مِنْ غَيْرِ مَحْضَرِهِمَا ضَمِنَ وَإِنْ كَانَا بَعِيدَيِ الْغَيْبَةِ لَمْ أَرَ أَنْ يَضْطَرَّهُ عَلَى حَبْسِهِ وَإِنَمَا هِيَ وِكَالَةٌ لَيْسَتْ لَهُ فِيهَا مَنْفَعَةٌ وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ إِلَى عَدْلٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَدْلَ الْمَوْضُوعَ عَلَى يَدِهِ الرَّهْنُ نَائِبٌ عَنِ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ فِي حِفْظِ الرَّهْنِ ، فَإِذَا أَرَادَ رَدَّ الرَّهْنِ الْعَدْلَ الْمَوْضُوعَ عَلَى يَدِهِ الرَّهْنُ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْجَرًا أَوْ مُتَطَوِّعًا ، فَإِنْ كَانَ مُسْتَأْجَرًا مُدَّةً مَعْلُومَةً بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ فَلَيْسَ لَهُ رَدُّ الرَّهْنِ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ لِأَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ لَازِمٌ ، وَإِنْ كَانَ مُتَطَوِّعًا فَلَهُ رَدُّهُ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ مَحْضَةٌ ، وَإِذَا كَانَ لَهُ رَدُّهُ فَلَا يَخْلُو حَالُ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَا حَاضِرَيْنِ ، فَالْوَاجِبُ عَلَى الْعَدْلِ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِمَا وَلَيْسَ لَهُ مَعَ حُضُورِهِمَا أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى أَحَدِهِمَا وَلَا عَلَى غَيْرِهِمَا مِنْ حَاكِمٍ أَوْ عَدْلٍ ، فَإِنْ دَفَعَهُ إِلَى غَيْرِهِمَا كَانَ ضَامِنًا ، وَإِنْ رَدَّهُ عَلَيْهِمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنَ الْحِرْزِ لِرَدِّهِ عَلَيْهِمَا إِلَّا بِإِذْنِهِمَا فَإِنْ أَخْرَجَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِمَا ضَمِنَهُ لِتَعَدِّيهِ بِإِخْرَاجِهِ فَإِنْ لَمْ يَقْبَلَا مِنْهُ الرَّهْنَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ الْحَاكِمُ حَتَّى يَأْمُرَهُمَا بِأَخْذِهِ مِنْ يَدِهِ مِنْ غَيْرِ إِخْرَاجِهِ إِلَى الْحَاكِمِ ، فَإِنْ أَجَابَا الْحَاكِمَ إِلَى أَخْذِهِ مِنْهُ وَإِلَّا ارْتَضَى لَهُمَا عَدْلًا وَأَمَرَهُ بِتَسْلِيمِ الرَّهْنِ إِلَيْهِ .
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَا غَائِبَيْنِ فَإِنْ حَضَرَ لَهُمَا وَكِيلٌ مُطْلَقُ التَّصَرُّفِ فَإِنَّهُ يَقُومُ مَقَامَهُمَا ، فَإِنْ عَدَلَ عَنْ تَسْلِيمِهِ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ حَاكِمٍ أَوْ عَدْلٍ ضَمِنَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا وَكِيلٌ حَاضِرٌ فَلَا يَخْلُو الْعَدْلُ فِي رَدِّ الرَّهْنِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا أَوْ غَيْرَ مَعْذُورٍ ، فَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا لِسَفَرٍ يُرِيدُهُ أَوْ مَرَضٍ يُعْجِزُهُ أَتَى الْحَاكِمَ فَسَلَّمَهُ إِلَيْهِ لِيَضَعَهُ الْحَاكِمُ عَلَى يَدِ عَدْلٍ يَرْضَاهُ لَهُمَا سَوَاءٌ كَانَ بَعِيدَيِ الْغَيْبَةِ أَمْ لَا . وَلَيْسَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَضْطَرَّهُ عَلَى تَرْكِهِ بِيَدِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ دُخُولِ الْمَضَرَّةِ عَلَيْهِ . فَإِنْ عَدَلَ عَنْ تَسْلِيمِهِ إِلَى الْحَاكِمِ وَسَلَّمَهُ إِلَى عَدْلٍ ثِقَةٍ أَشْهَدَ عَلَيْهِ شَاهِدَيْنِ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ لِعَدَمِ حَاكِمٍ أَمِينٍ فَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ مِنَ الْمُودَعِ أَظْهَرُهُمَا وُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْذُورٍ فَلَا يَخْلُو حَالُ سَفَرِ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ طَوِيلًا أَوْ قَصِيرًا ، فَإِنْ كَانَ سَفَرُهُمَا طَوِيلًا رَفَعَهُ إِلَى الْحَاكِمِ لِيُسَلِّمَهُ إِلَى عَدْلٍ يَرْضَاهُ لَهُمَا كَمَا لَوْ كَانَ مَعْذُورًا وَلَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَضْطَرَّهُ عَلَى تَرْكِهِ بِيَدِهِ ، وَإِنْ كَانَ سَفَرُهُمَا قَصِيرًا عَلَى مَسَافَةٍ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَمَرَهُ الْحَاكِمُ بِتَرْكِهِ فِي يَدِهِ وَأَنْفَذَ إِلَى الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ لِيَخْتَارَا عَدْلًا يُوضَعُ عَلَى يَدِهِ لِأَنَّهُمَا رُبَّمَا رَضِيَا غَيْرَ مَنْ يَخْتَارُهُ لَهُمَا ، فَإِنِ اخْتَارَا عَدْلًا أَمَرَهُ بِتَسْلِيمِ الرَّهْنِ إِلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَخْتَارَا عَدْلًا اخْتَارَ الْحَاكِمُ لَهُمَا عَدْلًا وَأَمَرَهُ بِتَسْلِيمِ الرَّهْنِ إِلَيْهِ . وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا حَاضِرًا وَالْآخَرُ غَائِبًا ، فَلَا يَجُوزُ لِلْعَدْلِ تَسْلِيمُهُ إِلَى الْحَاضِرِ مِنْهُمَا لِمَا فِيهِ مِنْ حَقِّ الْغَائِبِ ، فَإِنْ حَضَرَ لِلْغَائِبِ وَكِيلٌ مُطْلَقُ التَّصَرُّفِ تَرَاضَى الْحَاضِرُ وَوَكِيلُ الْغَائِبِ بِعَدْلٍ يَضَعَانِهِ عَلَى يَدِهِ ، فَإِنِ ارْتَضَيَا بِعَدْلٍ وَإِلَّا ارْتَضَى لَهُمَا الْحَاكِمُ عَدْلًا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْغَائِبِ وَكِيلٌ حَاضِرٌ نَابَ الْحَاكِمُ عَنِ الْغَائِبِ فِي اخْتِيَارِ عَدْلٍ يُوضَعُ عَلَى يَدِهِ . فَصْلٌ : وَإِنْ سَافَرَ الْعَدْلُ بِالرَّهْنِ هل يكون ضامنا له ؟ كَانَ ضَامِنًا لَهُ سَوَاءٌ كَانَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ حَاضِرَيْنِ أَوْ كَانَا غَائِبَيْنِ لِأَنَّ فِي السَّفَرِ تَغْرِيرًا بِهِ ، فَإِنْ قَالَ إِنَّمَا سَافَرْتُ بِهِ إِلَيْهِمَا لِأَرُدَّهُ عَلَيْهِمَا لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الضَّمَانُ لِعَدَمِ إِذْنِهِمَا فَلَوْ لَقِيَهُمَا فِي السَّفَرِ فَسَأَلَهُمَا أَخْذَ الرَّهْنِ مِنْهُ لَمْ يَلْزَمْهُمَا أَخْذُهُ وَوَجَبَ عَلَى الْعَدْلِ رَدُّهُ إِلَى الْبَلَدِ إِلَّا أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى أَخْذِهِ فِي السَّفَرِ فَيَبْرَأُ مِنْهُ بِأَخْذِهِمَا لَهُ ، فَلَوْ رَضِيَ أَحَدُهُمَا بِأَخْذِهِ مِنْهُ فِي السَّفَرِ وَلَمْ يَرْضَ الْآخَرُ لَمْ يُجْبَرِ الْمُمْتَنِعُ عَلَى أَخْذِهِ وَلَمْ يَكُنْ لِلْعَدْلِ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى الرَّاضِي بِأَخْذِهِ وَكَانَ فِي ضَمَانِهِ وَعَلَيْهِ رَدُّهُ إِلَى بَلَدِهِ . فَصْلٌ : إِذَا وَضَعَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ عَلَى يَدَيْ عَدْلَيْنِ فَعَلَيْهِمَا أَنْ يَشْتَرِكَا فِي حِفْظِهِ وَإِحْرَازِهِ ، فَإِنْ أَرَادَ الْعَدْلَانِ أَنْ يُقِرَّا الرَّهْنَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا أَوْ يُقَسِّمَانِهِ لِيَكُونَ فِي أَيْدِيهِمَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ :
أَحَدُهَا : أَنْ يَأْذَنَا لَهُمَا بِذَلِكَ ، فَيَجُوزُ لِلْعَدْلَيْنِ فِعْلُهُ لِصَرِيحِ الْإِذْنِ بِهِ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَنْهَيَاهُمَا عَنْ ذَلِكَ ، فَلَا يَجُوزُ لِلْعَدْلَيْنِ فِعْلُهُ لِصَرِيحِ النَّهْيِ عَنْهُ ، فَإِنْ فَعَلَا ذَلِكَ نُظِرَ ، فَإِنِ اقْتَسَمَاهُ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَمَانُ نِصْفِهِ وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي خَرَجَ مِنْ يَدِهِ إِلَى يَدِ صَاحِبِهِ وَإِنْ لَمْ يَقْتَسِمَاهُ وَلَكِنِ اتَّفَقَا عَلَى إِقْرَارِهِ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا فَعَلَى الْمُخْرِجِ لَهُ مِنْ يَدِهِ ضَمَانُ جَمِيعِهِ وَلَيْسَ عَلَى مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ ضَمَانٌ . وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يُطْلِقَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ بِإِذْنٍ وَلَا نَهْيٍ فَفِي جَوَازِ ذَلِكَ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الرَّاهِنَ وَالْمُرْتَهِنَ لَمْ يَرْضَيَا بِأَمَانَةِ أَحَدِهِمَا فَإِنْ فَعَلَا لَزِمَ الضَّمَانُ عَلَى مَا وَصَفْنَاهُ ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي يَجُوزُ لِمَا فِيهِ مِنَ الرِّفْقِ بِهِمَا فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ الرَّهْنُ مِمَّا لَا يُقْسَمُ جَازَ أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى كَوْنِهِ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْآخَرِ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُقَسَّمُ جَازَ أَنْ يُقَسِّمَاهُ لِيَكُونَ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ وَلَا ضَمَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا . فَإِنْ لَمْ يَقْتَسِمَاهُ وَاتَّفَقَا عَلَى كَوْنِهِ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا فَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى الْمُخْرِجِ لَهُ مِنْ يَدِهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ : أَحَدُهُمَا : لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ . وَالثَّانِي : عَلَيْهِ ضَمَانُ نِصْفِهِ .
مَسْأَلَةٌ لَوْ جَنَى الْمَرْهُونُ عَلَى سَيِّدِهِ فَلَهُ الْقِصَاصُ فَإِنْ عَفَا فَلَا دَيْنَ لَهُ عَلَى عَبْدِهِ وَهُوَ رَهْنٌ بِحَالِهِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ جَنَى الْمَرْهُونُ عَلَى سَيِّدِهِ فَلَهُ الْقِصَاصُ فَإِنْ عَفَا فَلَا دَيْنَ لَهُ عَلَى عَبْدِهِ وَهُوَ رَهْنٌ بِحَالِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي عَبْدٍ مَرْهُونٍ جَنَى عَلَى سَيِّدِهِ فَلَا يَخْلُو حَالُ جِنَايَتِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ فِي طَرَفٍ مِنْ أَطْرَافِهِ ، فَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى طَرَفٍ مِنْ أَطْرَافِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ خَطَأً فَهِيَ هَدَرٌ وَلَا قَوَدَ فِيهِمَا وَلَا أَرْشَ لِأَنَّ الْقَوَدَ لَا يَجِبُ فِي الْخَطَأِ وَالْأَرْشَ لَا يَجِبُ لِلسَّيِّدِ لِأَنَّ مِلْكَهُ لِمَحَلِّ الْأَرْشِ سَابِقًا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ عَمْدًا تُوجِبُ الْقَوَدَ فَلِلسَّيِّدِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ لِأَنَّ الْقِصَاصَ مَوْضُوعٌ لِلرَّدْعِ وَحِرَاسَةِ النُّفُوسِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [ الْبَقَرَةِ : 179 ] فَاسْتَوَى حُكْمُ السَّيِّدِ وَغَيْرُهُ فِي الْقِصَاصِ فَإِنْ عَفَا السَّيِّدُ عَنِ الْقِصَاصِ إِلَى الْأَرْشِ صَارَتْ
هَدَرًا يَسْقُطُ الْقِصَاصُ وَلَا يَجِبُ الْأَرْشُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ مِلْكِهِ لِمَحَلِّ الْأَرْشِ ، فَلَوْ لَمْ يَقْتَصَّ السَّيِّدُ مَنْ عَبْدِهِ الْمَرْهُونِ وَلَا عَفَا عَنْهُ حَتَّى مَاتَ السَّيِّدُ مِنْ غَيْرِ الْجِنَايَةِ هل يكون لِوَارِثِهِ الْقِصَاصُ ؟ كَانَ لِوَارِثِهِ الْقِصَاصُ مِنَ الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ فَإِنْ عَفَا الْوَارِثُ عَنِ الْقِصَاصِ إِلَى الْأَرْشِ سَقَطَ الْقِصَاصُ وَلَمْ يَجِبْ لَهُ الْأَرْشُ لِأَنَّهُ يَحُلُّ مَحَلَّ السَّيِّدِ فَمَلَكَ عَنْهُ مَا كَانَ السَّيِّدُ مَالِكًا لَهُ . فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ فِي الْعَمْدِ ، في العَبْد المَرْهُونٍ يجَني عَلَى سَيِّدِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ بِنَفْسِهِ أَوْ يَقْتَصَّ لَهُ السُّلْطَانُ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَحُدَّهُ إِذَا زَنَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ حَتَّى يَقْتَصَّ السُّلْطَانُ لَهُ لِأَنَّهُ الْخَصْمُ فِي الْقِصَاصِ ، وَالْخَصْمُ فِي الْقِصَاصِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ كَالْأَجْنَبِيِّ . فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى نَفْسِهِ في العَبْد المَرْهُونٍ يجَني عَلَى سَيِّدِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ خَطَأً فَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا تَكُونُ هَدَرًا فَلَا شَيْءَ لِوَارِثِهِ كَمَا لَوْ جَنَى عَلَى طَرَفٍ مِنْ أَطْرَافِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهَا لَا تَكُونُ هَدَرًا وَلَهُمْ إِخْرَاجُهُ مِنَ الرَّهْنِ وَبَيْعُهُ فِي الْجِنَايَةِ ، وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي الدِّيَةِ مَتَى تَجِبُ ؟ فَأَحَدُ قَوْلَيْهِ أَنَّهَا تَجِبُ لِلْمَقْتُولِ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ حَيَاتِهِ لِأَنَّهُ قَدْ يَقْضِي مِنْهَا دُيُونَهُ ، وَتُنَفَّذُ فِيهَا وَصَايَاهُ فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِهَا فِي مِلْكِهِ ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ الْجِنَايَةُ هَدَرًا لِأَنَّ السَّيِّدَ لَا يَثْبُتُ لَهُ فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ مَالٌ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْعَبْدُ رَهْنًا بِحَالِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهَا تَجِبُ فِي مِلْكِ الْوَرَثَةِ لِأَنَّ الدِّيَةَ بَدَلٌ فَلَمْ يَسْتَحِقَّ وُجُوبُهَا مَعَ بَقَاءِ نَفْسِهِ ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يَكُونُ هَدَرًا وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي رَقَبَتِهِ وَلَهُمْ إِخْرَاجُهُ مِنَ الرَّهْنِ وَبَيْعُهُ فِيهَا ، فَعَلَى هَذَا إِذَا بِيعَ فِي الْجِنَايَةِ بَطَلَ الرَّهْنُ وَكَانَ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ وَاجِبًا فِي التَّرِكَةِ كَسَائِرِ الْغُرَمَاءِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ جِنَايَةَ عَمْدٍ تُوجِبُ الْقَوَدَ في العَبْد المَرْهُونٍ يجَني عَلَى سَيِّدِهِ فَلِلْوَارِثِ إِذَا كَانَ بَالِغًا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَطْلُبَ الْقَوَدَ وَيُرِيدَ الْقِصَاصَ الوارث فَذَلِكَ لَهُ ، لِأَنَّ السَّيِّدَ قَدْ يَجِبُ لَهُ الْقِصَاصُ عَلَى عَبْدِهِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مَحَلَّ الْقِصَاصَ قَبْلَ الْجِنَايَةِ فَجَازَ أَنْ يَمْلِكَهُ بِالْجِنَايَةِ ، وَهُوَ يَمْلِكُ مَحَلَّ الْأَرْشِ قَبْلَ الْجِنَايَةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَمْلِكَهُ بِالْجِنَايَةِ ، وَإِذَا اقْتَصَّ مِنْهُ الْوَارِثُ بَطَلَ الرَّهْنُ وَتَعَلَّقَ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ بِالتَّرِكَةِ كَسَائِرِ الْغُرَمَاءِ .
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَعْفُوَ الْوَارِثُ عَنِ الْقِصَاصِ في العَبْد المَرْهُونٍ يجَني عَلَى سَيِّدِهِ عَلَى غَيْرِ مَالٍ ، فَقَدْ سَقَطَ حُكْمُ الْجِنَايَةِ وَكَانَ الْعَبْدُ هَاهُنَا رَهْنًا عَلَى حَالِهِ ، يُقَدِّمُ الْمُرْتَهِنَ بِثَمَنِهِ عَلَى جَمِيعِ غُرَمَائِهِ . وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقَوَدِ إِلَى الدِّيَةِ لِيُبَاعَ الْعَبْدُ فِيهَا الوارث في العَبْد المَرْهُونٍ يجَني عَلَى سَيِّدِهِ فَفِي جَوَازِ ذَلِكَ قَوْلَانِ نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي الْأُمِّ بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي دِيَةِ الْمَقْتُولِ مَتَى تَجِبُ ؟ أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْجِنَايَةَ صَارَتْ هَدَرًا لِعَفْوِهِ عَنِ الْقَوَدِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْعَبْدُ رَهْنًا عَلَى حَالِهِ يُقَدِّمُ الْمُرْتَهِنُ ثَمَنَهُ عَلَى جَمِيعِ الْغُرَمَاءِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : قَدْ وَجَبَتْ لَهُ الدِّيَةُ فِي رَقَبَتِهِ فَيُبَاعُ فِيهَا فَإِذَا بِيعَ بَطَلَ الرَّهْنُ وَكَانَ ثَمَنُ الْعَبْدِ الْمَأْخُوذُ عَنِ الدِّيَةِ مَضْمُونًا إِلَى التَّرِكَةِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا لِتُقْضَى مِنْهَا دُيُونُ السَّيِّدِ الرَّاهِنِ وَتُنَفَّذَ مِنْهَا وَصَايَاهُ وَيَكُونُ الْمُرْتَهِنُ فِي ثَمَنِهِ وَجَمِيعُ الْغُرَمَاءِ أُسْوَةً كَمَا يَكُونُوا فِي جَمِيعِ التَّرِكَةِ أُسْوَةً . فَصْلٌ : فَلَوْ جَنَى الْعَبْدُ الْمَرْهُونُ عَلَى ابْنِ سَيِّدِهِ أَوْ عَلَى أَبِيهِ ، وَمَاتَ مِنْ جِنَايَتِهِ فَوَرِثَهُ السَّيِّدُ ، فَلِلسَّيِّدِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ ثَانِيَةً ، وَلَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقِصَاصِ إِلَى الدِّيَةِ فَيُخْرِجَهُ مِنَ الرَّهْنِ وَيَبِيعَهُ فِيهَا ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ لِأَنَّهُ مَلَكَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِهِ وَلَمْ يُمْتَنَعْ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْأَرْشَ فِي رَقَبَتِهِ كَمَا كَانَ يَسْتَحِقُّهُ الِابْنُ الْوَارِثُ قَائِمًا مَقَامَ مُوَرِّثِهِ .
فَصْلٌ إِذَا جَنَى الْمُكَاتَبُ عَلَى سَيِّدِهِ فَلِلسَّيِّدِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ
فَصْلٌ : إِذَا جَنَى الْمُكَاتَبُ عَلَى سَيِّدِهِ فَلِلسَّيِّدِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ إِنْ كَانَتْ عَمْدًا وَيَجِبَ عَلَيْهِ أَرْشُهَا إِنْ كَانَتْ خَطَأً بِخِلَافِ الْعَبْدِ لِأَنَّ السَّيِّدَ قَدْ يَجِبُ لَهُ عَلَى مُكَاتَبِهِ مَالٌ مِنْ غَيْرِ الْجِنَايَةِ ، فَجَازَ أَنْ يَجِبَ لَهُ عَلَيْهِ أَرْشُ الْجِنَايَةِ إِذْ لَيْسَ يَمْلِكُ مَحَلَّ الْأَرْشِ قَبْلَ الْجِنَايَةِ ، وَلَمَّا لَمْ يَجِبْ لِلسَّيِّدِ عَلَى عَبْدِهِ مَالٌ مِنْ غَيْرِ الْجِنَايَةِ لَمْ يَجِبْ لَهُ عَلَيْهِ أَرْشُ الْجِنَايَةِ ، فَلَوْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ قَبْلَ أَدَاءِ الْأَرْشِ لِسَيِّدِهِ هل يسقط الأرش ؟ سَقَطَ الْأَرْشُ لِأَنَّهُ صَارَ بِالْعَجْزِ عَبْدًا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ جَنَى عَبْدُهُ الْمَرْهُونُ عَلَى عَبْدٍ لَهُ آخَرَ مَرْهُونٍ فَلَهُ الْقِصَاصُ فَإِنْ عَفَا عَلَى مَالٍ فَالْمَالُ مَرْهُونُ فِي يَدَيْ مُرْتَهِنِ الْعَبْدِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِحَقِّهِ الَّذِي بِهِ أَجَزْتُ لِسَيِّدِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْخُذَ الْجِنَايَةَ مِنْ عُنُقِ عَبْدِهِ الْجَانِي " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . وَصُورَتُهَا فِي عَبْدٍ مَرْهُونٍ جَنَى عَلَى عَبْدٍ لِسَيِّدٍ آخَرَ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْعَبْدِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَرْهُونًا أَوْ غَيْرَ مَرْهُونٍ ، فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ غَيْرَ مَرْهُونٍ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْجِنَايَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ ، إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً ، فَإِنْ كَانَتْ خَطَأً فَهِيَ هَدَرٌ لِأَنَّهَا تُوجِبُ الْمَالَ وَالسَّيِّدُ لَا يَثْبُتُ لَهُ فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ مَالٌ ، وَإِنْ كَانَتْ عَمْدًا تُوجِبُ الْقَوَدَ فَالسَّيِّدُ
بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَقْتَصَّ مِنَ الْعَبْدِ الْجَانِي وَبَيْنَ أَنْ يَعْفُوَ ، فَإِنْ عَفَا صَارَتِ الْجِنَايَةُ هَدَرًا وَكَانَ الْعَبْدُ الْجَانِي رَهْنًا بِحَالِهِ ، وَإِنِ اقْتَصَّ مِنْهُ فَذَلِكَ لَهُ رَدْعًا لِلْجَانِي إِنْ كَانَ الْقِصَاصُ فِي طَرَفِهِ وَزَجْرًا لِغَيْرِهِ إِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [ الْبَقَرَةِ : 179 ] فَإِنْ كَانَ الْقِصَاصُ فِي نَفْسِهِ بَطَلَ الرَّهْنُ ، وَإِنْ كَانَ الْقِصَاصُ فِي طَرَفٍ مِنْ أَطْرَافِهِ كَانَ رَهْنًا بِحَالِهِ . فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مَرْهُونًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مُرْتَهَنًا عِنْدَ مُرْتَهِنٍ ثَانٍ غَيْرِ مُرْتَهِنِ الْعَبْدِ الْجَانِي العبد المرهون فَلَا يَخْلُو حَالُ الْجِنَايَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ ، إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً ، فَإِنْ كَانَتْ خَطَأً فَأَرْشُهَا ثَابِتٌ فِي رَقَبَةِ الْجَانِي لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِرَقَبَةِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْأَرْشِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ مِنْ قِيمَةِ الْجَانِي . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ مِثْلَ قِيمَتِهِ . فَإِنْ كَانَ الْأَرْشُ أَقَلَّ مِنْ قِيمَةِ الْجَانِي إذا كان الجاني والْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عبدين مرهونين بِأَنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْجَانِي أَلْفَ دِرْهَمٍ وَأَرْشُ الْجِنَايَةِ خَمْسَمِائَةٍ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُبَاعَ مِنَ الْجَانِي بِقَدْرِ الْأَرْشِ وَذَلِكَ نَصِفُهُ وَيَكُونُ النِّصْفُ الثَّانِي رَهْنًا بِحَالِهِ ، وَيُؤْخَذُ ثَمَنُ مَا بِيعَ مِنَ الْأَرْشِ فَيُوضَعُ رَهْنًا مَكَانَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ، أَوْ قِصَاصًا مِنَ الْحَقِّ الْمَرْهُونِ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ مِثْلَ قِيمَةِ الْجَانِي أَوْ كَانَ أَرْشُهَا أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الْجَانِي إذا كان الجاني والْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عبدين مرهونين فَهُمَا سَوَاءٌ وَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُنْقَلَ الْجَانِي مِنَ الرَّهْنِ فَيُوضَعَ رَهْنًا فِي يَدَيْ مُرْتَهِنِ الْعَبْدِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ بَيْعٍ لِأَنَّ بَيْعَهُ إِنَّمَا يَجُوزُ لِيَكُونَ الْفَاضِلُ مِنْ ثَمَنِهِ رَهْنًا فِي يَدِ مُرْتَهِنِهِ فَإِذَا اسْتَوْعَبَتِ الْجِنَايَةُ جَمِيعَ قِيمَتِهِ لَمْ يَكُنْ لِبَيْعِهِ وَارْتِهَانِ ثَمَنِهِ مَعْنًى . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْجَانِيَ يُبَاعُ وَيُوضَعُ ثَمَنُهُ رَهْنًا مَكَانَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لِجَوَازِ حُدُوثِ رَاغِبٍ يَشْتَرِيهِ بِأَكْثَرَ مِنْ أَرْشِ جِنَايَتِهِ ، فَيَكُونُ الْفَاضِلُ مِنْهَا رَهْنًا بِيَدِ مُرْتَهِنِهِ وَهَذَا أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ إِلَّا أَنْ يَقْطَعَ بِعَدَمِ الزِّيَادَةِ ، وَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَمْدًا فَالسَّيِّدُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَقْتَصَّ مِنَ الْجَانِي وَبَيْنَ أَنْ يَبِيعَهُ فِي الْأَرْشِ ، فَإِذَا أَرَادَ الْقِصَاصَ فَذَاكَ لَهُ ، فَإِذَا اقْتَصَّ مِنْهُ وَكَانَ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ فَقَدْ بَطَلَ الرَّهْنُ ، وَإِنْ كَانَ فِي طَرَفٍ كَانَا بَعْدَ الْجِنَايَةِ وَالْقِصَاصِ رَهْنًا بِحَالِهِمَا ، وَإِنْ عَدَلَ عَنِ الْقِصَاصِ إِلَى الْمَالِ فَذَلِكَ لَهُ وَيَكُونُ حُكْمُ الْأَرْشِ كَحُكْمِ الْأَرْشِ فِي جِنَايَةِ الْخَطَأِ عَلَى مَا مَضَى .
فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مَرْهُونًا عِنْدَ مُرْتَهِنِ الْعَبْدِ الْجَانِي فَيَكُونُ مُرْتَهِنُهُمَا وَاحِدًا ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَا مَرْهُونَيْنِ فِي حَقٍّ وَاحِدٍ فَالْحُكْمُ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ غَيْرَ مَرْهُونٍ فَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ خَطَأً فَهُوَ هَدَرٌ لِأَنَّ تَعَلُّقَ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ كَتَعَلُّقِهِ بِالْجَانِي ، فَلَمْ يَكُنْ لِبَيْعِ الْجَانِي فِي أَرْشِ الْجِنَايَةِ مَعْنًى ، وَإِنْ كَانَتْ عَمْدًا فَالسَّيِّدُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَقْتَصَّ أَوْ يَعْفُوَ عَنْهُ ، فَإِنِ اقْتَصَّ مِنْهُ بَطَلَ الرَّهْنُ فِيهِمَا جَمِيعًا إِنْ كَانَ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ ، وَإِنْ عَفَا عَنِ الْقِصَاصِ صَارَتْ هَدَرًا وَكَانَ الْجَانِي عَلَى حَالِهِ رَهْنًا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَا مَرْهُونَيْنِ عِنْدَ مُرْتَهِنٍ وَاحِدٍ بِحَقَّيْنِ فِي عَقْدَيْنِ العبد المجني عليه والعبد الجاني فَهَذَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَسْتَوِيَ قَدْرُ الْحَقَّيْنِ وَتَسْتَوِيَ قِيمَةُ الْعَبْدَيْنِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَخْتَلِفَ قَدْرُ الْحَقَّيْنِ وَتَخْتَلِفَ قِيمَةُ الْعَبْدَيْنِ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ يَسْتَوِيَ قَدْرُ الْحَقَّيْنِ وَتَخْتَلِفَ قِيمَةُ الْعَبْدَيْنِ . وَالضَّرْبُ الرَّابِعُ : أَنْ يَخْتَلِفَ قَدْرُ الْحَقَّيْنِ وَتَسْتَوِيَ قِيمَةُ الْعَبْدَيْنِ . فَصْلٌ : فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ أَنْ يَسْتَوِيَ قَدْرُ الْحَقَّيْنِ وَتَسْتَوِيَ قِيمَةُ الْعَبْدَيْنِ إذا كان الجاني والْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عبدين مرهونين فَمِثَالُهُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْحَقَّيْنِ أَلْفًا وَقِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَبْدَيْنِ أَلْفًا ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَسْتَوِيَ وَصْفُ الْحَقَّيْنِ بِأَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَالًا أَوْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُؤَجَّلًا ، فَالْجِنَايَةُ هَدَرٌ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَفِيدُ الْمُرْتَهِنُ بِنَقْلِ ثَمَنِ الْقَاتِلِ إِلَى مَوْضِعِ الْمَقْتُولِ شَيْئًا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَخْتَلِفَ وَصْفُ الْحَقَّيْنِ بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا حَالًا وَالْآخَرُ مُؤَجَّلًا ، فَلِلْمُرْتَهِنِ بَيْعُ الْقَاتِلِ وَوَضْعُ ثَمَنِهِ مَوْضِعَ الْمَقْتُولِ ، وَلَا تَكُونُ الْجِنَايَةُ هَدَرًا لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ رَهْنًا فِي الْحَالِ وَالْقَاتِلُ فِي الْمُؤَجَّلِ اسْتَفَادَ بِبَيْعِ الْقَاتِلِ أَنْ يَصِيرَ ثَمَنُهُ رَهْنًا فِي مُعَجَّلٍ بَعْدَ أَنْ كَانَ رَهْنًا فِي مُؤَجَّلٍ ، وَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ فِي الْمُعَجَّلِ وَالْمَقْتُولُ فِي الْمُؤَجَّلِ فَقَدْ يَكُونُ الرَّاهِنُ مُوسِرًا فِي الْحَالِ يَقْدِرُ عَلَى أَدَاءِ الْمُعَجَّلِ وَلَا يَأْمَنُ الْمُرْتَهِنُ أَنْ يَعْسُرَ الرَّاهِنُ عِنْدَ حُلُولِ الْمُؤَجَّلِ فَيَسْتَفِيدُ الْمُرْتَهِنُ بِبَيْعِ الْقَاتِلِ أَنْ يُعْتَبَرَ ثَمَنُهُ رَهْنًا قَيِّمًا يُخَافُ إِعْسَارُ الرَّاهِنِ بِهِ فِي الْمُؤَجَّلِ . فَصْلٌ : وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يَسْتَوِيَ قَدْرُ الْحَقَّيْنِ وَتَخْتَلِفَ قِيمَةُ الْعَبْدَيْنِ إذا كان الجاني والْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عبدين مرهونين فَمِثَالُهُ
أَنْ يَكُونَ قَدْرُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْحَقَّيْنِ أَلْفًا ، وَتَكُونُ قِيمَةُ أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ أَلْفًا وَالْآخَرُ خَمْسَمِائَةٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ أَكْثَرَهُمَا قِيمَةً مِنَ الْمَقْتُولِ ، فَلِلرَّاهِنِ أَنْ يَبِيعَ مِنَ الْقَاتِلِ بِقِدْرِ قِيمَةِ الْمَقْتُولِ وَهُوَ النِّصْفُ فَيَكُونُ رَهْنًا مَكَانَ الْمَقْتُولِ ، وَلَا تَكُونُ الْجِنَايَةُ هَدَرًا لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ قَدْ يَسْتَفِيدُ بِهَا أَنْ يُعْتَبَرَ لَهُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْحَقَّيْنِ رَهْنًا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ أَقَلَّ قِيمَةً مِنَ الْمَقْتُولِ إذا كان الجاني والْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عبدين مرهونين وَهُوَ أَنْ تَكُونَ قِيَمَةُ الْقَاتِلِ خَمْسَمِائَةٍ وَقِيمَةُ الْمَقْتُولِ أَلْفًا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ رَهْنًا فِي أَكْثَرِ الْحَقَّيْنِ إذا كان الجاني والْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عبدين مرهونين فَالْجِنَايَةُ هَدَرٌ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَا يَسْتَفِيدُ بِنَقْلِ ثَمَنِهِ إِلَى أَقَلِّ الْحَقَّيْنِ شَيْئًا بَلْ يُعْتَبَرُ مُسْتَضَرًّا . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ رَهْنًا فِي أَقَلِّ الْحَقَّيْنِ إذا كان الجاني والْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عبدين مرهونين فَلِلْمُرْتَهِنِ بَيْعُ الْقَاتِلِ وَتَرْكُ ثَمَنِهِ رَهْنًا مَكَانَ الْمَقْتُولِ وَلَا تَكُونُ الْجِنَايَةُ هَدَرًا لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ يَسْتَفِيدُ بِهَا أَنْ يَصِيرَ الثَّمَنُ رَهْنًا فِي أَكْثَرِ الْحَقَّيْنِ . فَصْلٌ : وَأَمَّا الضَّرْبُ الرَّابِعُ وَهُوَ أَنْ يَخْتَلِفَ قَدْرُ الْحَقَّيْنِ وَتَسْتَوِيَ قِيمَةُ الْعَبْدَيْنِ ، إذا كان الجاني والْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عبدين مرهونين فَمِثَالُهُ أَنْ يَكُونَ قَدْرُ أَحَدِ الْحَقَّيْنِ أَلْفًا وَالْآخَرُ خَمْسَمِائَةٍ ، وَتَكُونُ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَبْدَيْنِ أَلْفًا فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ رَهْنًا فِي أَكْثَرِ الْحَقَّيْنِ إذا كان الجاني والْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عبدين مرهونين فَالْجِنَايَةُ هَدَرٌ : لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَا يَسْتَفِيدُ بِنَقْلِ قِيمَتِهِ إِلَى مَوْضِعِ الْقَاتِلِ شَيْئًا بَلْ يَصِيرُ مُسْتَضَرًّا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ رَهْنًا فِي أَقَلِّ الْحَقَّيْنِ إذا كان الجاني والْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عبدين مرهونين فَلِلْمُرْتَهِنِ بَيْعُ الْقَاتِلِ وَتَرْكُ ثَمَنِهِ رَهْنًا لِلْمَقْتُولِ وَلَا تَكُونُ الْجِنَايَةُ هَدَرًا لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ يَسْتَفِيدُ بِهَا أَنْ يَصِيرَ الثَّمَنُ رَهْنًا فِي أَكْثَرِ الْحَقَّيْنِ بَعْدَ أَنْ كَانَ رَهْنًا فِي أَقَلِّهِمَا فَهَذَا حُكْمُ جِنَايَةِ الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ عَلَى عَبْدِ الرَّاهِنِ مَرْهُونٍ وَغَيْرِ مَرْهُونٍ ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَنَى عَلَى مُدَبَّرِهِ وَأُمِّ وَلَدِهِ . فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا جَنَى الْعَبْدُ الْمَرْهُونُ عَلَى مُكَاتَبٍ لِسَيِّدِهِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْجِنَايَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : أَنْ تَكُونَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى طَرَفِهِ ، فَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى نَفْسِهِ فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْجِنَايَةِ عَلَى عَبْدِ سَيِّدِهِ ، لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ إِذَا مَاتَ عَلَى كِتَابَتِهِ مَاتَ عَبْدًا ، فَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ خَطَأً فَهِيَ هَدَرٌ ، وَإِنْ كَانَتْ عَمْدًا فَلِلسَّيِّدِ الْقِصَاصُ فَإِنْ عَفَا عَنِ الْقِصَاصِ صَارَتِ الْجِنَايَةُ هَدَرًا ، فَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى طَرَفِ الْمُكَاتَبِ نُظِرَ فَإِنْ كَانَتْ خَطَأً ثَبَتَ لِلْمُكَاتَبِ أَرْشُ الْجِنَايَةِ فِي رَقَبَةِ
الْعَبْدِ الْجَانِي فَيُبَاعُ فِيهَا وَإِنْ كَانَ مِلْكًا لِسَيِّدِهِ ، حَقٌّ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ قَدْ يَصِحُّ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ حَقٌّ عَلَى سَيِّدِهِ فَكَذَا يَصِحُّ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ حَقٌّ فِي رَقَبَةِ عَبْدِ سَيِّدِهِ ، فَإِنْ كَانَتْ عَمْدًا فَالْمُكَاتَبُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَقْتَصَّ أَوْ يَعْفُوَ عَنِ الْقِصَاصِ إِلَى الْأَرْشِ أَوْ يَعْفُوَ عَنِ الْقِصَاصِ وَالْأَرْشِ ، فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ الْمُكَاتَبُ مَمْنُوعًا مِنَ الْعَفْوِ عَنِ الْمَالِ فَكَيْفَ يَصِحُّ عَفْوُهُ عَنِ الْأَرْشِ وَهُوَ مَالٌ ؟ قُلْنَا : إِنَّمَا مُنِعَ مِنَ الْعَفْوِ لِحَقِّ السَّيِّدِ وَحِفْظِ مَالِهِ وَهَذَا حَقٌّ عَلَى السَّيِّدِ فَصَحَّ عَفْوُهُ عَنْهُ ، فَلَوْ لَمْ يَقْتَصَّ الْمُكَاتَبُ وَلَا أَخَذَ الْأَرْشَ حَتَّى مَاتَ عَلَى كِتَابَتِهِ فَلِلسَّيِّدِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ عَبْدِهِ الْجَانِي وَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ فِي الْأَرْشِ : لِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ ابْتِدَاءً فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ الْأَرْشُ ، فَهُوَ إِنَّمَا يَمْلِكُ ذَلِكَ عَنِ الْمُكَاتَبِ الَّذِي قَدْ كَانَ مَالِكًا لِلْأَرْشِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يَمْنَعُ الْمُرْتَهَنُ السَّيِّدَ مِنَ الْعَفْوِ بِلَا مَالٍ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ فِي الْعَبْدِ مَالٌ حَتَى يَخْتَارَهُ الْوَلِيُّ وَمَا فَضَلَ بَعْدَ الْجِنَايَةِ فَهُوَ رَهْنٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ خَطَأً يُوجِبُ الْمَالَ . وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ عَمْدًا يُوجِبُ الْقَوَدَ ، فَإِنْ كَانَتْ خَطَأً يُوجِبُ الْمَالَ فَعَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : مَا اسْتَوَى فِيهِ ضَمَانُ الْجِنَايَةِ وَضَمَانُ الْغَصْبِ . وَالثَّانِي : مَا يُضْمَنُ بِالْجِنَايَةِ وَلَا يُضْمَنُ بِالْغَصْبِ . وَالثَّالِثُ : مَا يَزِيدُ فِيهِ ضَمَانُ الْجِنَايَةِ عَلَى ضَمَانِ الْغَصْبِ . وَالرَّابِعُ : مَا يَنْقُصُ فِيهِ ضَمَانُ الْجِنَايَةِ عَنْ ضَمَانِ الْغَصْبِ . فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ مَا اسْتَوَى فِيهِ ضَمَانُ الْجِنَايَةِ وَضَمَانُ الْغَصْبِ الْجِنَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ فَفِي ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ فِي النَّفْسِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا كَمَالُ الْقِيمَةِ بِالْجِنَايَةِ كَمَا يَجِبُ فِيهَا كَمَالُ الْقِيمَةِ بِالْغَصْبِ . وَالثَّانِيَةُ : فِيمَا لَا يَتَقَدَّرُ أَرْشُهُ مِنَ الْجِرَاحِ ، يَجِبُ فِيهِ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ كَمَا يَجِبُ فِي نَقْصِ الْغَصْبِ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ . وَالثَّالِثُ : فِيمَا يَتَقَدَّرُ أَرْشُهُ مِنَ الْجِرَاحِ وَالْأَطْرُفِ إِذَا سَاوَى بِالِاتِّفَاقِ ضَمَانُ الْجِنَايَةِ فِيهِ ضَمَانَ الْغَصْبِ فَيَكُونُ الْوَاجِبُ بِالْجِنَايَةِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ رَهْنًا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ . وَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ الْعَفْوُ عَنْهُ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمُرْتَهِنِ ، لِأَنَّ حَقَّهُ قَدْ تَعَلَّقَ بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ كَمَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ قَبْلَ الْجِنَايَةِ ، وَإِنْ عَفَا عَنِ الْأَرْشِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمُرْتَهِنِ كَانَ عَفْوُهُ بَاطِلًا
وَلِلْمُرْتَهِنِ أَخْذُ الْأَرْشِ مِنَ الْجَانِي لِيَكُونَ رَهْنًا مَكَانَ الْعَبْدِ أَوْ قِصَاصًا مِنَ الْحَقِّ فَإِنْ أَخَذَ الْمُرْتَهِنُ الْأَرْشَ فَكَانَ رَهْنًا مَكَانَ الْعَبْدِ أَوْ قِصَاصًا مِنَ الْحَقِّ ، ثُمَّ إِنَّ الرَّاهِنَ قَضَى الْمُرْتَهِنُ حَقَّهُ مِنْ مَالِهِ ، فَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَأْخُذَ الْأَرْشَ وَيَتَمَلَّكَهُ وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الْجَانِي لِأَجْلِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ عَفْوِهِ : لِأَنَّ عَفْوَهُ وَقَعَ بَاطِلًا لَمْ يُبْرِئِ الْجَانِيَ فَكَانَ الْأَرْشُ مَأْخُوذًا مِنْهُ بِحَقٍّ لَازِمٍ فَلَمْ يَجِبْ رَدُّهُ عَلَيْهِ . وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي وَهُوَ مَا يُضْمَنُ بِالْجِنَايَةِ وَلَا يُضْمَنُ بِالْغَصْبِ الْجِنَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ فَمِثَالُهُ أَنْ يَقْطَعَ الْجَانِي ذَكَرَهُ فَتَجِبُ فِيهِ كَمَالُ قِيمَتِهِ وَلَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ قِيمَتِهِ فَتَصِيرُ هَذِهِ الْقِيمَةُ بِالْجِنَايَةِ مَضْمُونَةً وَبِالْغَصْبِ غَيْرَ مَضْمُونَةٍ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْقِيمَةُ الْوَاجِبَةُ بِهَذِهِ الْجِنَايَةِ يَخْتَصُّ بِهَا الرَّاهِنُ وَلَا تَكُونُ رَهْنًا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ كَالنَّمَاءِ لِأَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ فِيمَا قَابَلَ النَّقْصَ الْمَضْمُونَ بِالْغَصْبِ ، وَلَوْ عَفَا الرَّاهِنُ عَنْهُ صَحَّ عَفْوُهُ وَبَرِئَ الْجَانِي مِنْهُ : لِأَنَّهُ عَفَا عَمَّا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ فَكَانَ عَفْوُهُ صَحِيحًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ . فَصْلٌ : وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ : وَهُوَ مَا يَزِيدُ فِيهِ ضَمَانُ الْجِنَايَةِ عَلَى ضَمَانِ الْغَصْبِ الْجِنَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ فَمِثَالُهُ : أَنْ يَقْطَعَ أُذُنَيْهِ فَيَجِبُ فِيهِ كَمَالُ قِيمَتِهِ وَيَكُونُ النَّاقِصُ مِنْهُ بِهَذِهِ الْجِنَايَةِ نِصْفَ قِيمَتِهِ وَهُوَ الْقَدْرُ الْمَضْمُونُ بِالْغَصْبِ فَيَكُونُ نِصْفَ الْقِيمَةِ وَهُوَ قَدْرُ مَا يُضْمَنُ بِالْغَصْبِ وَهُنَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ وَالنِّصْفُ الْبَاقِي الزَّائِدُ بِالْجِنَايَةِ الْمُقَدَّرَةِ عَلَى ضَمَانِ الْغَصْبِ الْمُعْتَبَرِ بِالنَّقْصِ يَخْتَصُّ بِهِ الرَّاهِنُ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ فَلَوْ عَفَا الرَّاهِنُ عَنْ هَذِهِ الْجِنَايَةِ صَحَّ عَفْوُهُ عَنْ مَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنْ ضَمَانِ الْجِنَايَةِ الزَّايِدِ عَلَى ضَمَانِ الْغَصْبِ وَهُوَ النِّصْفُ لِأَنَّهُ خَالِصٌ لَهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ ، وَلَمْ يَصِحَّ عَفْوُهُ عَنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ الَّذِي يَضْمَنُهُ بِالْغَصْبِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِهِ ، فَلَوْ كَانَ الْجَانِي قَدْ قَطَعَ أَنْفَهُ وَلِسَانَهُ فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ قِيمَتَانِ ، وَكَانَ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ بِهَذِهِ الْجِنَايَةِ النِّصْفَ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ رَهْنًا وَاخْتَصَّ الرَّاهِنُ بِالْبَاقِي وَهُوَ قِيمَةٌ وَنِصْفٌ . فَلَوْ عَفَا الرَّاهِنُ صَحَّ عَفْوُهُ عَنْ قِيمَةٍ وَنِصْفٍ وَهُوَ قَدْرُ مَا يَخْتَصُّ بِهِ وَلَمْ يَصِحَّ عَفْوُهُ عَنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِهِ . وَأَمَّا الضَّرْبُ الرَّابِعُ : وَهُوَ مَا يَنْقُصُ فِيهِ ضَمَانُ الْجِنَايَةِ عَنْ ضَمَانِ الْغَصْبِ الْجِنَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ فَمِثَالُهُ أَنْ تُقْطَعَ إِحْدَى يَدَيْهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ نِصْفُ الْقِيمَةِ وَيَكُونُ النَّاقِصُ مِنْهُ بِهَذِهِ الْجِنَايَةِ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْقِيمَةِ ، فَلَيْسَ عَلَى الْجَانِي أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ لِأَنَّهُ يَضْمَنُهُ بِالْجِنَايَةِ وَيَكُونُ النَّقْصُ الزَّايِدُ عَلَى ذَلِكَ غَيْرَ مَضْمُونٍ كَالشَّيْءِ التَّالِفِ ، وَيَكُونُ نِصْفُ الْقِيمَةِ الْمَأْخُوذَةِ رَهْنًا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ ، فَلَوْ عَفَا الرَّاهِنُ عَنْهُ لَمْ يَصِحَّ عَفْوُهُ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ ، فَهَذَا حُكْمُ الْجِنَايَةِ إِذَا كَانَتْ خَطَأً تُوجِبُ الْمَالَ .
فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَمْدًا تُوجِبُ الْقَوَدَ الْجِنَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ ، وأحوال الراهن في ذلك فَلِلرَّاهِنِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَطْلُبَ الْقِصَاصَ دُونَ الْمَالِ وَالثَّانِيَةُ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقِصَاصِ إِلَى الْمَالِ ، وَالثَّالِثَةُ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقِصَاصِ وَعَنِ الْمَالِ ، وَالرَّابِعَةُ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقِصَاصِ وَلَا يُصَرِّحَ بِالْعَفْوِ عَنِ الْمَالِ . فَأَمَّا الْحَالَةُ الْأُولَى : وَهِيَ أَنْ يَطْلُبَ الْقِصَاصَ دُونَ الْمَالِ فَلَهُ أَنْ يَقْتَصَّ وَلَا يَأْخُذَ الْمَالَ وَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ مَنْعُهُ مِنَ الْقِصَاصِ وَجَبْرُهُ عَلَى أَخْذِ الْمَالِ ، وَأَمَّا الْحَالُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقِصَاصِ إِلَى الْمَالِ فَلَهُ ذَلِكَ وَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ مَنْعُهُ مِنَ الْمَالِ وَجَبْرُهُ عَلَى الْقِصَاصِ ، وَأَمَّا الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ وَهِيَ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقِصَاصِ وَعَنِ الْمَالِ فَيَصِحُّ عَفْوُهُ عَنِ الْقِصَاصِ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّهُ لَا حَظَّ فِيهِ لِلْمُرْتَهِنِ ، وَهَلْ يَصِحُّ عَفْوُهُ عَنِ الْمَالِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمُرْتَهِنِ فِيمَا قَابَلَ ضَمَانَ الْغَصْبِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي جِنَايَةِ الْعَمْدِ مَا الَّذِي تُوجِبُ ؟ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهَا تُوجِبُ الْقَوَدَ . فَأَمَّا الْمَالُ فَلَا يَجِبُ إِلَّا بِاخْتِيَارِ الْوَلِيِّ وَعَلَى هَذَا يَصِحُّ عَفْوُهُ لِأَنَّ الْمَالَ لَا يَجِبُ إِلَّا بِاخْتِيَارِهِ وَهُوَ لَا يُجْبَرُ عَلَى اخْتِيَارِ الْمَالِ ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّهَا تُوجِبُ أَحَدَ شَيْئَيْنِ ، إِمَّا الْقَوَدُ أَوِ الْمَالُ فَعَلَى هَذَا لَا يَصِحُّ عَفْوُهُ عَنِ الْمَالِ لِتَقَدُّمِ وُجُوبِهِ وَتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِهِ كَجِنَايَةِ الْخَطَأِ . وَأَمَّا الْحَالُ الرَّابِعَةُ : وَهُوَ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقِصَاصِ وَلَا يُصَرِّحَ بِالْعَفْوِ عَنِ الْمَالِ وَلَا يَخْتَارَهُ ، فَقَدْ سَقَطَ الْقِصَاصُ بِعَفْوِهِ وَفِي الْمَالِ قَوْلَانِ ، أَحَدُهُمَا أَنَّهُ وَاجِبٌ إِذَا قِيلَ إِنَّ جِنَايَةَ الْعَمْدِ تُوجِبُ الْقَوَدَ أَوِ الْمَالَ لِأَنَّ الْعَفْوَ عَنْ أَحَدِ الْحَقَّيْنِ لَا يَكُونُ عَفْوًا عَنِ الْآخَرِ ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّ الْمَالَ لَا يَجِبُ وَقَدْ سَقَطَتِ الْمُطَالَبَةُ بِهِ إِذَا قِيلَ إِنَّ الْمَالَ فِي جِنَايَةِ الْعَمْدِ لَا يَجِبُ إِلَّا بِاخْتِيَارِ الْوَلِيِّ وَالِاخْتِيَارُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ فَيَجِبُ الْمَالُ بِهِ وَقَدْ سَقَطَ خِيَارُهُ : لِأَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ بَعْدَ عَفْوِهِ . فَصْلٌ : قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي جِنَايَةِ الْأَجْنَبِيِّ عَلَى الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً ، فَأَمَّا جِنَايَةُ السَّيِّدِ عَلَى عَبْدِهِ الْمَرْهُونِ فَهِيَ مَضْمُونَةٌ عَلَيْهِ بِالْأَرْشِ ضَمَانَ غَصْبٍ لِمَا تَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ مِنْ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ ، فَلَوْ كَانَ السَّيِّدُ قَدْ قَطَعَ إِحْدَى يَدَيْهِ وَجَبَ عَلَيْهِ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ وَلَمْ يَتَقَدَّرْ ذَلِكَ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ كَالْأَجْنَبِيِّ ، فَإِنْ كَانَ النَّاقِصُ مِنْ قِيمَتِهِ بِالْقَطْعِ نِصْفَ الْقِيمَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ النِّصْفُ ، وَقَدِ اسْتَوَى النَّقْصُ بِهَا وَالْمُقَدَّرُ فِيهَا ، وَإِنْ كَانَ النَّاقِصُ بِالْقَطْعِ ثُلُثَ الْقِيمَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ الثُّلُثُ وَيَكُونُ النَّقْصُ بِهَا أَقَلَّ مِنَ الْمُقَدَّرِ فِيهَا ، وَإِنْ كَانَ النَّاقِصُ مِنْ قِيمَتِهِ بِالْقَطْعِ ثُلْثَا الْقِيمَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ الثُّلُثَانِ وَيَكُونُ النَّقْصُ بِهَا أَكْثَرَ مِنَ الْمُقَدَّرِ فِيهَا ، فَإِنْ قِيلَ : أَفَيَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ بِجِنَايَةٍ أَكْثَرَ مِمَّا يَجِبُ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ بِجِنَايَتِهِ ؟ قِيلَ : لَمَّا اخْتَلَفَ سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِمَا فَكَانَ مَضْمُونًا عَلَى الْأَجْنَبِيِّ بِالْجِنَايَةِ وَعَلَى السَّيِّدِ بِالْغَصْبِ وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِي الْأَجْنَبِيِّ
ضَمَانُ الْمُقَدَّرِ بِالْجِنَايَاتِ سَوَاءٌ كَانَ أَكْثَرَ مِنَ النَّقْصِ أَوْ أَقَلَّ وَفِي السَّيِّدِ ضَمَانُ النَّقْصِ بِالْغَصْبِ سَوَاءٌ كَانَ أَكْثَرَ مِنَ الْمُقَدَّرِ أَوْ أَقَلَّ ، فَإِنْ ضَمِنَهُ الْأَجْنَبِيُّ بِالْغَصْبِ وَالْجِنَايَةِ لَزِمَهُ ضَمَانُ أَكْثَرِ الْأَرْشَيْنِ مِنَ الْمُقَدَّرِ بِالْجِنَايَةِ أَوِ النَّقْصِ بِالْغَصْبِ . مِثَالُهُ : أَنْ يَغْصِبَهُ أَجْنَبِيٌّ ثُمَّ يَقْطَعَ يَدَهُ ، فَإِنْ نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ بِالْقَطْعِ أَقَلُّ مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ ضَمِنَهُ الْجَانِي بِنِصْفِ الْقِيمَةِ ضَمَانَ الْجِنَايَةِ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ الْأَرْشَيْنِ ، وَكَانَ الزَّايِدُ عَلَى النَّقْصِ يَخْتَصُّ بِهِ الرَّاهِنُ ، وَإِنْ نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ بِالْقَطْعِ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ ضَمِنَهُ الْجَانِي بِالنَّقْصِ ضَمَانَ غَصْبٍ وَلَمْ يَضْمَنْهُ بِالنِّصْفِ لِأَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ أَكْثَرُ الْأَرْشَيْنِ ، وَيَكُونُ جَمِيعُ ذَلِكَ رَهْنًا لَا يَخْتَصُّ الرَّاهِنُ بِشَيْءٍ مِنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِقْرَارُ الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ بِمَا فِيهِ قِصَاصٌ جَائِزٌ كَالْبَيِّنَةِ وَمَا لَيْسَ فِيهِ قِصَاصٌ فَإِقْرَارُهُ بَاطِلٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . قَدْ مَضَى هَذَا الْفَصْلُ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ بِتَمَامِهِ ، وَجُمْلَتُهُ أَنَّ إِقْرَارَ الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ بِالْجِنَايَةِ كَإِقْرَارِ غَيْرِ الْمَرْهُونِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ فَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ خَطَأً تُوجِبُ الْمَالَ كَانَ إِقْرَارُهُ مَرْدُودًا يُتْبَعُ بِهِ إِذَا أُعْتِقَ وَأَيْسَرَ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ رَقَبَتَهُ مِلْكٌ لِسَيِّدِ الْعَبْدِ وَإِقْرَارُ الْمُقِرِّ لَا يَنْفُذُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي إِقْرَارِهِ ، لِأَنَّ إِقْرَارَهُ إِضْرَارٌ بِسَيِّدِهِ لِلْخَلَاصِ مِنْ يَدِهِ وَالْمُتَّهَمُ فِي إِقْرَارِهِ مَرْدُودُ الْإِقْرَارِ كَالسَّفِيهِ . فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَتْ جِنَايَتُهُ عَمْدًا تُوجِبُ الْقَوَدَ الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ ، هل يكون إِقْرَارُهُ بها مَقْبُولًا أم مردوداً ؟ كَانَ إِقْرَارُهُ نَافِذًا مَقْبُولًا وَقَالَ زُفَرُ بْنُ الْهَزِيلِ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَأَبُو إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيُّ وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ : إِقْرَارُهُ بِمَا يُوجِبُ الْقَوَدَ مَرْدُودٌ كَإِقْرَارِهِ بِمَا يُوجِبُ الْمَالَ ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَا يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ فِي الْخَطَأِ لَمْ يُقْبَلْ فِي الْعَمْدِ ، كَالْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ ، وَلِأَنَّهُ مُقِرٌّ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُقْبَلَ إِقْرَارُهُ كَالْخَطَأِ . وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ حَدَّ اللَّهِ عَلَيْهِ وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَزِمَهُ الْحَدُّ بِإِقْرَارِهِ لَزِمَهُ الْقَوَدُ بِإِقْرَارِهِ كَالْحُرِّ ، وَلِأَنَّهُ قَتْلٌ يَجِبُ بِإِقْرَارِ الْحُرِّ فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ بِإِقْرَارِ الْعَبْدِ كَالرِّدَّةِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ فَمُنْتَقَضٌ بِالسَّفِيهِ يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ فِي الْعَمْدِ وَلَا يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ فِي الْخَطَأِ ، فَإِنْ لَمْ يَلْتَزِمُوهُ فَالْمَعْنَى فِي الْمَجْنُونِ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِإِقْرَارِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ
الْقَوَدُ بِإِقْرَارِهِ وَلَمَّا وَجَبَ الْحَدُّ عَلَى الْعَبْدِ بِإِقْرَارِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ بِإِقْرَارِهِ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى إِقْرَارِهِ بِجِنَايَةِ الْخَطَأِ فَالْمَعْنَى فِي جِنَايَةِ الْخَطَأِ لَمَّا كَانَ مُتَّهَمًا فِيهَا لَمْ يَصِحَّ إِقْرَارُهُ بِهَا وَلَمَّا لَمْ يُتَّهَمْ فِي جِنَايَةِ الْعَمْدِ نَفَذَ إِقْرَارُهُ بِهَا . فَصْلٌ : إِذَا ثَبَتَ أَنَّ إِقْرَارَهُ بِجِنَايَةِ الْعَمْدِ مَقْبُولٌ فَالْمُقَرُّ لَهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَقْتَصَّ مِنَ الْعَبْدِ الْمُقِرِّ وَبَيْنَ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقِصَاصِ العبد المرهون إِلَى الْمَالِ وَبَيْنَ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقِصَاصِ وَالْمَالِ ، فَإِنْ عَفَا عَنِ الْأَمْرَيْنِ كَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِحَالِهِ ، وَإِنِ اقْتَصَّ مِنْهُ نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ الْقِصَاصُ فِي نَفْسِهِ بَطَلَ الرَّهْنُ ، وَإِنْ كَانَ فِي طَرَفِهِ كَانَ بَعْدَ الْقِصَاصِ رَهْنًا بِحَالِهِ ، وَإِنْ عَفَا عَنِ الْقِصَاصِ إِلَى الْمَالِ ثَبَتَ الْمَالُ فِي رَقَبَتِهِ وَبِيعَ مِنْهُ بِقَدْرِ جِنَايَتِهِ ، فَإِنِ اسْتَغْرَقَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ جَمِيعَ قِيمَتِهِ بِيعَ وَبَطَلَ الرَّهْنُ بِبَيْعِهِ ، وَإِنْ قَابَلَ بَعْضَ قِيمَتِهِ بِيعَ مِنْهُ بِقَدْرِ جِنَايَتِهِ وَكَانَ الْبَاقِي مِنْهُ رَهْنًا بِحَالِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا جَنَى الْعَبْدُ فِي الرَّهْنِ قِيلَ لِسَيِّدِهِ إِنْ فَدَيْتَهُ بِجَمِيعِ الْجِنَايَةِ فَأَنْتَ مُتَطَوِّعٌ وَهُوَ رَهْنٌ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ بِيعَ فِي جِنَايَتِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . أَمَّا جِنَايَةُ الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ هل تَلْزَمُ الرَّاهِنَ أو الْمُرْتَهِنَ ؟ فَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِرَقَبَتِهِ كَغَيْرِ الْمَرْهُونِ لَا تَلْزَمُ الرَّاهِنَ وَلَا تَلْزَمُ الْمُرْتَهِنَ ، وَلَيْسَ يَجِبُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَفْدِيَهُ ، أَمَّا الْمُرْتَهِنُ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ وَأَمَّا الرَّاهِنُ فَهُوَ وَإِنْ كَانَ مَالِكًا لِرَقَبَتِهِ فَلَيْسَتِ الْجِنَايَةُ مُتَعَلِّقَةً بِذِمَّتِهِ وَإِنَّمَا هِيَ فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ ، بِدَلِيلِ أَنَّ الرَّقَبَةَ إِذَا أُتْلِفَتْ بِالْجِنَايَةِ أَوْ تَلِفَتْ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْجِنَايَةِ سَقَطَ الْأَرْشُ . فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْجِنَايَةَ وَاجِبَةٌ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ دُونَ سَيِّدِهِ وَمُرْتَهِنِهِ فَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ لَا يَمْلِكُ رَقَبَتَهُ بِجِنَايَتِهِ ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُ اسْتِيفَاءَ الْأَرْشِ مِنْ رَقَبَتِهِ مَا لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ رَقَبَتِهِ ، وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ قَدْ صَارَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ هل يَمْلِكُ رَقَبَةَ الْعَبْدِ بِجِنَايَتِهِ عَلَيْهِ ؟ مَالِكًا لِرَقَبَتِهِ بِالْجِنَايَةِ وَعَلَى السَّيِّدِ تَسْلِيمُهُ إِلَيْهِ ، فَإِنْ شَاءَ بَاعَهُ وَإِنْ شَاءَ تَمَلَّكَهُ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ قَدْ مَلَكَ الْأَرْشَ وَاسْتَحَقَّهُ وَالْحُقُوقُ الْمَمْلُوكَةُ لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ مُسْتَقِرَّةً فِي ذِمَّةٍ مَضْمُونَةٍ كَالدُّيُونِ ، أَوْ مُسْتَقِرَّةٍ فِي عَيْنٍ مَمْلُوكَةٍ كَالْإِرْثِ ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ أَرْشُ الْجِنَايَةِ مَضْمُونًا فِي الذِّمَّةِ بِدَلِيلِ سُقُوطِهِ بِتَلَفِ الذِّمَّةِ ثَبَتَ أَنَّهُ مُسْتَقِرٌّ فِي الرَّقَبَةِ لِاسْتِحْقَاقِهِ مَعَ بَقَائِهَا وَسُقُوطِهِ مَعَ عَدَمِهَا . وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّ رَقَبَةَ الْعَبْدِ مِلْكٌ لِسَيِّدِهِ وَالْأَعْيَانُ لَا تُمْلَكُ عَنْ أَرْبَابِهَا بِالْجِنَايَاتِ كَالْفَحْلِ إِذَا صَالَ فَأَتْلَفَ مَالًا ، لَا يَصِيرُ الْفَحْلُ مَمْلُوكًا لِصَاحِبِ الْمَالِ فَكَذَلِكَ الْعَبْدُ . وَتَحْرِيرُ عِلَّتِهِ : أَنَّهَا جِنَايَةٌ مِنْ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ فَوَجَبَ أَلَّا تُعْتَبَرَ الْجِنَايَةُ مَمْلُوكَةً كَالْفَحْلِ وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْحَقِّ الْوَاجِبِ لَا يَصِحُّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا فِي ذِمَّةٍ أَوْ مُسْتَقِرًّا فِي عَيْنٍ مَمْلُوكَةٍ
فَمُنْتَقَضٌ بِدَيْنِ الْمَيِّتِ فَهُوَ وَاجِبٌ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ فِي ذِمَّةٍ وَلَا مَلَكَ بِهِ عَيْنَ التَّرِكَةِ ، وَإِنَّمَا يَجِبُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ رَقَبَةِ الْعَبْدِ الْجَانِي مَا لَمْ يَفْدِهِ السَّيِّدُ . فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ لَا يَمْلِكُ رَقَبَةَ الْعَبْدِ بِجِنَايَتِهِ عَلَيْهِ ، فَالسَّيِّدُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُسَلِّمَ الْعَبْدَ الْجَانِيَ لِيُبَاعَ فِي جِنَايَتِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَفْدِيَهُ مِنْهَا ، فَإِنْ سَلَّمَهُ لِيُبَاعَ فِي أَرْشِ الْجِنَايَةِ نُظِرَ فِي أَرْشِ الْجِنَايَةِ فَإِنْ كَانَ مُحِيطًا بِقِيمَتِهِ بِيعَ وَبَطَلَ الرَّهْنُ بِالْبَيْعِ ، فَإِنْ مَلَكَهُ السَّيِّدُ فِيمَا بَعْدُ لَمْ يَعُدْ إِلَى الرَّهْنِ لِبُطْلَانِهِ بِالْبَيْعِ ، وَإِنْ كَانَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ يُقَابِلُ بَعْضَ قِيمَتِهِ بِيعَ مِنْهُ بِقَدْرِ الْأَرْشِ نِصْفًا أَوْ ثُلُثًا ، وَكَانَ الْبَاقِي مِنْهُ بَعْدَ الْبَيْعِ رَهْنًا . وَإِنْ أَرَادَ السَّيِّدُ أَنْ يَفْدِيَهُ مِنَ الْجِنَايَةِ فَإِنْ كَانَ الْأَرْشُ مِثْلَ قِيمَتِهِ أَوْ أَقَلَّ لَزِمَهُ أَنْ يَفْدِيَهُ بِجَمِيعِ الْأَرْشِ ، وَإِنْ كَانَ الْأَرْشُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ فَفِيمَا يَفْدِيهِ بِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يُقَدَّرُ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْقِيمَةِ أَوِ الْأَرْشِ ، لِأَنَّ الْقِيمَةَ إِذَا زَادَتْ فَلَيْسَ يَسْتَحِقُّ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنَ الْأَرْشِ ، فَإِنْ زَادَ الْأَرْشُ فَلَيْسَ يَسْتَحِقُّ أَكْثَرَ مِنَ الرَّقَبَةِ فَلِذَلِكَ لَزِمَ السَّيِّدَ أَنْ يَفْدِيَهُ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنْ يَفْدِيَهُ بِجَمِيعِ الْأَرْشِ وَإِنْ زَادَ عَلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ ، أَوْ تَمَكَّنَ مِنْ بَيْعِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ غَيْرَ ثَمَنِ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْدُثُ لِلْعَبْدِ لَوْ بِيعَ رَاغِبٌ يَبْتَاعُهُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيَمَتِهِ فَإِذَا امْتَنَعَ السَّيِّدُ مِنْ بَيْعِ عَبْدِهِ لِيَفْدِيَهُ مُنِعَ مِنْ زِيَادَةِ الرَّغْبَةِ فَلَزِمَهُ جَمِيعُ الْأَرْشِ وَلَمْ يَقْتَصِرْ مِنْهُ عَلَى الْقِيمَةِ ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ ، فَإِذَا فَدَاهُ السَّيِّدُ بِمَا وَصَفْتُ كَانَ الْعَبْدُ عَلَى حَالِهِ رَهْنًا ، لِأَنَّ جِنَايَتَهُ لَمْ تُبْطِلْ رَهْنَهُ ، وَإِنَّمَا أَدْخَلَتْ عَلَى الرَّاهِنِ حَقًّا زَاحَمَهُ فَإِذَا سَقَطَ الْحَقُّ ثَبَتَ الرَّهْنُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ تَطَوَّعَ الْمُرْتَهِنُ لَمْ يَرْجِعْ بِهَا عَلَى السَّيِّدِ ، وَإِنْ فَدَاهُ بِأَمْرِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ رَهْنًا بِهِ مَعَ الْحَقِّ فَجَائِزٌ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) قُلْتُ أَنَا : هَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَزْدَادَ حَقًّا فِي الرَّهْنِ الْوَاحِدِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَفْدِيَ الْعَبْدَ الْمَرْهُونَ مِنْ جِنَايَتِهِ ، الْمُرْتَهِن فَإِنْ فَدَاهُ الْمُرْتَهِنُ فَقَدْ بَرِئَ مِنَ الْجِنَايَةِ وَاسْتَقَرَّ فِي الرَّهْنِ ، وَبِمَاذَا يَفْدِيهِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالرَّاهِنِ ، أَحَدُهُمَا يَفْدِيهِ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مَنْ أَرْشِ جِنَايَتِهِ أَوْ قِيمَتِهِ ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي يَفْدِيهِ بِأَرْشِ جِنَايَتِهِ وَإِنْ زَادَتْ عَلَى قِيمَتِهِ . فَإِنْ فَدَاهُ وَخَلَصَ مِنَ الرَّهْنِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ فِي فِدْيَتِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَفْدِيَهُ بِأَمْرِ الرَّاهِنِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ، فَإِنْ فَدَاهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الرَّاهِنِ بِمَا فَدَاهُ وَكَانَ مُتَطَوِّعًا بِهِ ، وَإِنْ
فَدَاهُ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ ، أَحَدُهُمَا أَنْ يَفْدِيَهُ بِأَمْرِهِ عَلَى شَرْطِ الرُّجُوعِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : أَفْدِهِ بِالْجِنَايَةِ لِتَرْجِعَ عَلَيَّ فَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الرَّاهِنِ بِمَا فَدَاهُ بِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَفْدِيَهُ بِأَمْرِهِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الرُّجُوعِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : أَفْدِهِ عَنِّي ، فَلِلْمُرْتَهِنِ الرُّجُوعُ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا . فَصْلٌ : فَإِنْ فَدَاهُ الْمُرْتَهِنُ بِأَمْرِ الرَّاهِنِ عَلَى شَرْطِ الرُّجُوعِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ فِي يَدِهِ رَهْنًا بِالْحَقِّ الْأَوَّلِ وَبِالْأَرْشِ الَّذِي فَدَاهُ بِهِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَذَلِكَ جَائِزٌ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَقَالَ بَعْضُهُمْ : فِي جَوَازِهِ قَوْلَانِ مِنْ إِدْخَالِ حَقٍّ ثَانٍ عَلَى أَوَّلٍ ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ إِنَّهُ جَائِزٌ يَعْنِي عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ وَنَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ ، وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ ذَلِكَ جَائِزٌ قَوْلًا وَاحِدًا وَفَرَّقُوا بَيْنَ ارْتِهَانِهِ بِالْأَرْشِ مَعَ الْحَقِّ الْأَوَّلِ فَيَجُوزُ قَوْلًا وَاحِدًا وَبَيْنَ ارْتِهَانِهِ بِحَقٍّ ثَانٍ مَعَ الْحَقِّ الْأَوَّلِ فَيَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ ، لِأَنَّ فِدْيَتَهُ بِالْأَرْشِ اسْتِصْلَاحٌ لِلرَّهْنِ ، فَجَازَ فِيهِ مَا لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْحُقُوقِ الْمُبْتَدَأَةِ فِي الرَّهْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ كَانَ السَّيِّدُ أَمَرَ الْعَبْدَ بِالْجِنَايَةِ فَإِنْ كَانَ يَعْقِلُ بَالِغًا فَهُوَ آثِمٌ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ أَعْجَمِيًّا فَبِيعَ فِي الْجِنَايَةِ كُلِّفَ السَّيِّدُ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ يَكُونُ رَهْنًا مَكَانَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا أَمَرَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ الْمَرْهُونَ بِالْجِنَايَةِ فَجَنَى الْعَبْدُ عَنْ أَمْرِ السَّيِّدِ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْعَبْدِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِأَنَّ طَاعَةَ السَّيِّدِ فِيمَا حَظَرَهُ الشَّرْعُ لَا تَجُوزُ ، أَوْ يَكُونُ جَاهِلًا بِذَلِكَ فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ السَّيِّدَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُطَاعَ فِي الْمَحْظُورِ مِنْ قَتْلٍ أَوْ إِتْلَافٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْعَبْدَ الْمَأْمُورَ جَنَى غَيْرَ مُكْرَهٍ وَلَا مُجْبَرٍ فَالْجِنَايَةُ مَنْسُوبَةٌ إِلَى الْعَبْدِ دُونَ السَّيِّدِ ، فَيَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمَ جِنَايَتِهِ لَوْ لَمْ يَأْمُرْهُ السَّيِّدُ بِهَا وَسَوَاءٌ كَانَ بَالِغًا أَوْ مُرَاهِقًا إِذَا كَانَ بِحَظْرِ مَا فَعَلَهُ عَالِمًا ، لِأَنَّ أَمْرَ السَّيِّدِ إِنَّمَا يَلْزَمُهُ امْتِثَالُهُ فِيمَا أُبِيحَ فِعْلُهُ دُونَمَا حَظْرٍ ، وَأَمْرُ السَّيِّدِ بِالْمَحْظُورِ غَيْرُ مُمْتَثَلٍ . بَلْ يَكُونُ بِأَمْرِهِ آثِمًا لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِالْأَمْرِ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى مُعَاوِنًا ، وَالْمُؤَاخَذُ بِالْجِنَايَةِ هُوَ الْعَبْدُ الْجَانِي دُونَ السَّيِّدِ الْآمِرِ .
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ تُوجِبُ الْمَالَ كَانَتْ فِي رَقَبَتِهِ يُبَاعُ فِيهَا وَإِنْ كَانَتْ تُوجِبُ الْقَوَدَ ، فَإِنْ كَانَ بَالِغًا اقْتُصَّ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ مُرَاهِقًا لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ ، لِأَنَّ غَيْرَ الْبَالِغِ لَا قَوَدَ عَلَيْهِ ، وَكَانَتْ مُوجِبَةً لِلْمَالِ فِي رَقَبَتِهِ يُبَاعُ فِيهَا كَالْخَطَأِ وَلَا غُرْمَ عَلَى السَّيِّدِ فِيهَا وَإِنْ كَانَ أَمَرَ بِهَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ الْمَأْمُورُ بِالْجِنَايَةِ مُكْرَهًا عَلَيْهَا مَجْبُورًا عَلَى فِعْلِهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ مُوجِبَةً لِلْمَالِ فَيَكُونُ الْغُرْمُ وَاجِبًا عَلَى السَّيِّدِ فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ وَسَائِرِ مَالِهِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ أَرْشَ جِنَايَتِهِ وَإِنْ زَادَتْ عَلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ الْجَانِي لِكَوْنِ السَّيِّدِ جَانِيًا بِإِكْرَاهِ عَبْدِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تُوجِبَ الْقَوَدَ فَيَكُونُ الْقَوَدُ وَاجِبًا عَلَى السَّيِّدِ وَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ الْمُكْرَهِ الْقَوَدُ إِذَا كَانَ بَالِغًا أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : فَهَذَا حُكْمُ الْعَبْدِ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ طَاعَةَ السَّيِّدِ فِي الْمَحْظُورِ لَا تَجُوزُ . فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ جَاهِلًا بِتَحْرِيمِ طَاعَةِ السَّيِّدِ فِي الْمَحْظُورَاتِ السَّيِّدُ يأمر عَبْدَهُ الْمَرْهُونَ بِالْجِنَايَةِ كَالصَّبِيِّ الصَّغِيرِ وَالْأَعْجَمِيِّ الْجَلْبِ الْجَاهِلِ بِتَحْرِيمِ الْقَتْلِ وَالْإِتْلَافِ الْمُعْتَقِدِ طَاعَةَ السَّيِّدِ فِيمَا أَمَرَهُ مِنْ مَحْظُورٍ أَوْ مُبَاحٍ فَالْجِنَايَةُ مَنْسُوبَةٌ إِلَى السَّيِّدِ الْآمِرِ دُونَ الْعَبْدِ الْجَانِي لِأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا كَانَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ صَارَ كَالْآلَةِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ كَلْبٍ يُشْلِيهِ أَوْ سَهْمٍ يَرْمِيهِ ، فَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ تُوجِبُ الْقَوَدَ فَالْقَوَدُ وَاجِبٌ عَلَى السَّيِّدِ وَالْعَبْدُ رَهْنٌ بِحَالِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ تُوجِبُ الْمَالَ فَالْغُرْمُ وَاجِبٌ عَلَى السَّيِّدِ وَالْعَبْدُ رَهْنٌ بِحَالِهِ ، فَإِنْ أَعْسَرَ السَّيِّدُ بِهَا فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ الْعَبْدُ فِيهَا أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، لَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ فِيهَا وَيَكُونُ الْأَرْشُ وَاجِبًا فِي ذِمَّةِ السَّيِّدِ وَالْعَبْدِ بِحَالِهِ فِي الرَّهْنِ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ مَنْسُوبَةٌ إِلَى السَّيِّدِ وَجِنَايَاتُ السَّيِّدِ إِذَا أَعْسَرَ بِأَرْشِهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ تُبَاعَ فِيهَا أَمْوَالُهُ الْمَرْهُونَةُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ يُبَاعُ فِي الْأَرْشِ إِذَا كَانَ السَّيِّدُ مُعْسِرًا لِأَنَّ الْجِنَايَةَ عَنِ الْعَبْدِ صَدَرَتْ وَمِنْ فِعْلِهِ حَدَثَتْ وَإِنَّمَا غُلِبَ فِيهَا السَّيِّدُ لِأَمْرِهِ إِذَا أَمْكَنَ أَخْذُهَا مِنْ مَالِهِ ، وَأَمَّا إِذَا تَعَذَّرَ أَخْذُهَا مِنْ مَالِهِ فَأَوْلَى الْأُمُورِ أَنْ يُبَاعَ فِيهَا الْجَانِي ، فَإِذَا بِيعَ بَطَلَ الرَّهْنُ ، فَإِنْ أَيْسَرَ السَّيِّدُ بِهَا فِيمَا بَعْدُ أُخِذَتْ مِنْهُ قِيمَةُ الْعَبْدِ وَتَكُونُ رَهْنًا مَكَانَهُ أَوْ قِصَاصًا مِنَ الْحَقِّ ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ : وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا بَالِغًا عَاقِلًا أَمَرَ صَبِيًّا صَغِيرًا بِقَتْلِ إِنْسَانٍ فَقَتَلَهُ على من يكون القود ؟ كَانَ الْقَوَدُ عَلَى الرَّجُلِ الْآمِرِ دُونَ الصَّبِيِّ الْقَاتِلِ .
وَإِنْ عَفَا وَلِيُّ الْجِنَايَةِ عَنِ الْقَوَدِ إِلَى الدِّيَةِ وَكَانَ الرَّجُلُ الْآمِرُ مُعْسِرًا بِهَا وَالصَّبِيُّ الْقَاتِلُ مُوسِرًا بِهَا أُخِذَتِ الدِّيَةُ مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ الْقَاتِلِ وَكَانَتِ الدِّيَةُ دَيْنًا لِلصَّبِيِّ عَلَى الرَّجُلِ الْآمِرِ يَرْجِعُ بِهَا إِذَا أَيْسَرَ بِهَا وَعَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا يَجُوزُ أَنْ تُؤْخَذَ الدِّيَةُ مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ مَنْسُوبَةٌ إِلَى غَيْرِهِ وَتَكُونُ دَيْنًا عَلَى الرَّجُلِ الْآمِرِ يُؤْخَذُ بِهَا إِذَا أَيْسَرَ . فَصْلٌ : فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ أَعْجَمِيًّا فَبِيعَ فِي الْجِنَايَةِ كُلِّفَ السَّيِّدُ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ تَكُونُ رَهْنًا مَكَانَهُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّ الْعَبْدَ يُبَاعُ فِي الْجِنَايَةِ إِذَا أَعْسَرَ السَّيِّدُ بِهَا ، قِيلَ أَمَّا أَبُو إِسْحَاقَ فَتَعَلَّقَ بِهَذَا مِنْ قَوْلِهِ وَحَكَمَ فِي الْعَبْدِ بِجَوَازِ بَيْعِهِ ، وَأَمَّا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَإِنَّهُ مَنَعَ مِنْ جَوَازِ بَيْعِهِ وَقَالَ : لَيْسَ فِي هَذَا الْقَوْلِ مِنَ الشَّافِعِيِّ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهِ لِأَنَّهُ لِمَ يَقُلْ : بِيعَ فِي الْجِنَايَةِ ، فَيَكُونُ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ حُكْمًا بِبَيْعِهِ ، وَإِنَّمَا قَالَ : بِيعَ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى وَجْهِ الْإِخْبَارِ عَنْ حَالِهِ إِنْ بِيعَ بِرَأْيِ حَاكِمٍ أَوِ اجْتِهَادِ مُجْتَهِدٍ ، فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ قَالَ الشَّافِعِيُّ كُلِّفَ السَّيِّدُ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ فَتَكُونُ رَهْنًا مَكَانَهُ فَحَكَمَ عَلَى السَّيِّدِ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ تَكُونُ رَهْنًا مَكَانَهُ إِذَا بِيعَ فِي جِنَايَتِهِ وَلَيْسَ يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا فَالْجِنَايَةُ فِي رَقَبَتِهِ يُبَاعُ فِيهَا وَلَيْسَ عَلَى السَّيِّدِ غُرْمُ قِيمَتِهِ لِلْمُرْتَهِنِ أَوْ يَكُونُ صَغِيرًا لَا يَعْقِلُ فَعَلَى السَّيِّدِ أَرْشُ الْجِنَايَةِ وَلَا يُبَاعُ الْعَبْدُ بَلْ يَكُونُ عَلَى حَالِهِ رَهْنًا فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ ، فَعَلَى كِلَا الْحَالَيْنِ تَأْوِيلُ أَبِي عَلِيٍّ لَا يَصِحُّ وَقَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ أَصَحُّ . قِيلَ قَدْ أَجَابَ أَبُو عَلِيٍّ عَنْ هَذَا جَوَابَيْنَ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْعَبْدَ بِيعَ فِي الْجِنَايَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْلَمْ مِنَ السَّيِّدِ أَنَّهُ أَمَرَهُ ثُمَّ عُلِمَ بَعْدَ بَيْعِهِ أَنَّ السَّيِّدَ قَدْ كَانَ أَمَرَهُ بِهَا ، فَلَمْ يُفْسَخِ الْبَيْعُ لِمَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْمُشْتَرِي وَأُخِذَ عَنِ السَّيِّدِ قِيمَتُهُ رَهْنًا مَكَانَهُ . وَالْجَوَابُ الثَّانِي أَنَّهُ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ السَّيِّدَ أَمَرَ الْعَبْدَ بِالْجِنَايَةِ إِلَّا بِقَوْلِ السَّيِّدِ وَهُوَ مُعْسِرٌ وَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ يُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ السَّيِّدُ أَمَرَهُ بِهَا ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ السَّيِّدِ فِي تَأْخِيرِ حَقِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَيُبَاعُ الْعَبْدُ فِي الرَّهْنِ فَإِذَا أَيْسَرَ أُخِذَتْ مِنْهُ قِيمَةُ الْعَبْدِ تَكُونُ رَهْنًا مَكَانَهُ ، وَهَذَانِ الْجَوَابَانِ مِنْ أَبِي عَلِيٍّ عَنِ السُّؤَالِ حَسَنٌ عَلَى أَصْلٍ مِنَ الْمَذْهَبِ صَحِيحٍ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ أُذِنَ لَهُ بِرَهْنِهِ فَجَنَى فَبِيعَ فِي الْجِنَايَةِ العبد فَأَشْبَهُ الْأَمْرَيْنِ أَنَّهُ غَيْرُ ضَامِنٍ وَلَيْسَ كَالْمُسْتَعِيرِ الَّذِي مَنْفَعَتُهُ مَشْغُولَةٌ بِخِدْمَةِ الْعَبْدِ عَنْ مُعِيرِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : صُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : فِي رَجُلٍ اسْتَعَارَ مِنْ رَجُلٍ عَبْدًا لِيَرْهَنَهُ عِنْدَ رَجُلٍ بِحَقٍّ لَهُ عَلَيْهِ فَهَذَا جَائِزٌ لِأَمْرَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُمَلِّكَهُ رَقَبَةَ عَبْدِهِ جَازَ أَنْ يُمَلِّكَهُ الِانْتِفَاعَ بِرَقَبَتِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُمَلِّكَهُ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ مُوَثَّقًا فِي ذِمَّةِ نَفْسِهِ جَازَ أَنْ يَجْعَلَهُ مُوَثَّقًا فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ لِاسْتِوَاءِ تَصَرُّفِهِ فِي ذِمَّةِ نَفْسِهِ وَرَقَبَةِ عَبْدِهِ . فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُهُ فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حُكْمِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي الرَّهْنِ الصَّغِيرِ وَالرَّهْنِ الْقَدِيمِ . أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ جَارٍ مَجْرَى الْعَارِيَةِ لِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَدْ أَرْفَقَ الرَّاهِنُ مَنْفَعَتَهُ فِيمَا اسْتَأْذَنَ بِهِ مِنْ رَهْنِ رَقَبَتِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَارِيَةً كَمَا لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي الِانْتِفَاعِ بِخِدْمَتِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْعَبْدُ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِ سَيِّدِهِ وَكَانَتْ ذِمَّةُ السَّيِّدِ بَرِيَّةً مِنْ حَقِّ مُرْتَهِنِهِ انْصَرَفَ عَنِ الضَّمَانِ لِبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ إِلَى الْعَارِيَةِ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْمَنْفَعَةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الضَّمَانِ فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَالِكًا لِرَقَبَةِ عَبْدِهِ كَمِلْكِهِ لِذِمَّةِ نَفْسِهِ ثُمَّ كَانَ لَوْ جُعِلَ دَيْنُ الْمُرْتَهِنِ مُوَثَّقًا فِي ذِمَّةِ نَفْسِهِ كَانَ ضَمَانًا وَلَمْ يَكُنْ عَارِيَةً وَجَبَ إِذَا جُعِلَ دَيْنُ الْمُرْتَهِنِ مُوَثَّقًا فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ أَنْ يَكُونَ ضَمَانًا لَا تَكُونُ عَارِيَةً . وَالثَّانِي : أَنَّ الْعَارِيَةَ تَخْتَصُّ بِالْمَنْفَعَةِ وَالضَّمَانَ يَخْتَصُّ بِالْوَثِيقَةِ فَلَمَّا كَانَتِ الْمَنْفَعَةُ عَلَى مِلْكِ سَيِّدِهِ لَمْ يَكُنْ عَارِيَةً وَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ضَمَانًا لِاخْتِصَاصِهِ بِالْوَثِيقَةِ . فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فَرَهْنُهُ صَحِيحٌ سَوَاءٌ قِيلَ إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْعَارِيَةِ ، أَوْ قِيلَ إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الضَّمَانِ . وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ : إِنَّهُ يَصِحُّ رَهْنُهُ إِذَا قِيلَ إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الضَّمَانِ فَأَمَّا إِذَا قِيلَ إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْعَارِيَةِ فَلَا يَصِحُّ لِأَنَّ لِلْمُعِيرِ أَنْ يَرْجِعَ فِي عَارِيَتِهِ وَالرَّهْنُ يَمْنَعُ مِنَ الرُّجُوعِ بَعْدَ تَمَامِهِ فَلَمَّا تَنَافَيَا حُكْمُ الْعَارِيَةِ وَالرَّهْنُ لَمْ يَصِحَّ إِعَارَةُ الرَّهْنِ ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ الْعَارِيَةَ تَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ جَائِزَةً وَلَازِمَةً ، فَالْجَائِزَةُ يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا ، وَاللَّازِمَةُ لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا كَإِعَارَةِ حَائِطٍ لِوَضْعِ جُذُوعٍ وَإِعَارَةِ أَرْضٍ لِدَفْنِ مَيِّتٍ فَكَذَا إِعَارَةُ عَبْدِ الرَّهْنِ . فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ رَهْنِهِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا ، انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى التَّفْرِيعِ عَلَيْهِمَا ، فَإِذَا قِيلَ إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْعَارِيَةِ جَازَ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي رَهْنِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَارِفٍ بِجِنْسِ الْحَقِّ وَقَدْرِهِ وَوَصْفِهِ وَمَالِكِهِ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ بِمَنْفَعَةِ الْعَارِيَةِ لَا تَقْدَحُ فِي صِحَّتِهَا ، فَلَوْ أُذِنَ لَهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنْ يَرْهَنَهُ فِي قَدْرٍ مَعْلُومٍ مِنْ جِنْسٍ مَعْلُومٍ عَلَى صِفَةٍ مَعْلُومَةٍ عِنْدَ رَجُلٍ مُعَيَّنٍ لَمْ يَجُزْ لِمُسْتَعِيرِهِ أَنْ
يُخَالِفَ نَعْتَ مُعِيرِهِ ، لِأَنَّ الْعَارِيَةَ لِمَنْفَعَةٍ مَخْصُوصَةٍ لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهَا فِي غَيْرِ تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ . وَإِذَا قِيلَ إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الضَّمَانِ لَمْ يَجُزْ رَهْنُهُ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْمَالِكِ لِجِنْسِ الْحَقِّ وَقَدْرِهِ وَوَصْفِهِ ، وَفِي وُجُوبِ مَعْرِفَةِ مَالِكِ الْحَقِّ وَجْهَانِ : فَأَمَّا جِنْسُ الْحَقِّ فَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ هَلْ ذَلِكَ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ لِيَعْلَمَ جِنْسَ مَا ضَمِنَهُ فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ فَيَصِحُّ ضَمَانُهُ ، وَأَمَّا قَدْرُ الْحَقِّ فَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ ذَلِكَ مِائَةٌ أَوْ أَلْفٌ لِتَنْتَفِيَ الْجَهَالَةُ عَمَّا ضَمِنَهُ فَيَصِحُّ ضَمَانُهُ . وَأَمَّا وَصْفُ الْحَقِّ فَهُوَ أَنْ يُعْلَمَ هَلْ ذَلِكَ حَالٌ أَوْ مُؤَجَّلٌ : لِأَنَّ الْجَهَالَةَ بِوَصْفِهِ كَالْجَهَالَةِ بِقَدْرِهِ وَجِنْسِهِ ، وَأَمَّا مَعْرِفَةُ مَالِكِ الْحَقِّ فَعَلَى وَجْهَيْنِ مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي الضَّمَانِ هَلْ تَكُونُ مَعْرِفَةُ الْمَضْمُونِ لَهُ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الضَّمَانِ أَمْ لَا ؟ وَإِنْ قُلْنَا مَعْرِفَةُ الْمَضْمُونِ لَهُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الضَّمَانِ فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْمُرْتَهِنِ ، وَإِنْ قُلْنَا لَيْسَتْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الضَّمَانِ جَازَ جَهْلُهُ بِالْمُرْتَهِنِ . فَصْلٌ : فَإِذَا أُذِنَ لَهُ فِي رَهْنِهِ في رَجُلٍ اسْتَعَارَ مِنْ رَجُلٍ عَبْدًا لِيَرْهَنَهُ ، فَرَهَنَهُ عَلَى غير الْأَوْصَافِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِيهَا عَلَى مَا وَصَفْنَا فَرَهَنَهُ كَذَلِكَ عَلَى الْأَوْصَافِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِيهَا صَحَّ الرَّهْنُ وَلَزِمَ ، وَإِنْ خَالَفَهُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا لَمْ يَخْلُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ : إِمَّا أَنْ يُخَالِفَهُ فِي الْجِنْسِ أَوْ يُخَالِفَهُ فِي الْقَدْرِ أَوْ يُخَالِفَهُ فِي الْوَصْفِ أَوْ يُخَالِفَهُ فِي الْمَالِكِ ، فَإِنْ خَالَفَهُ فِي الْجِنْسِ فَمِثَالُهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي رَهْنِهِ بِدَنَانِيرَ فَيَرْهَنُهُ بِدَرَاهِمَ أَوْ فِي دَرَاهِمَ فَيَرْهَنُهُ بِدَنَانِيرَ فَالرَّهْنُ بَاطِلٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا ، لِأَنَّنَا إِنْ قُلْنَا إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الضَّمَانِ فَمَنْ ضَمِنَ دَنَانِيرَ لَمْ يَلْزَمْهُ غَيْرُهَا ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْعَارِيَةِ فَمَنْ أَعَارَ لِمَنْفَعَةٍ مَخْصُوصَةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْتَفِعَ بِالْعَارِيَةِ فِي مَنْفَعَةِ غَيْرِهَا ، وَإِنْ خَالَفَهُ فِي الْقَدْرِ فَمِثَالُهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي رَهْنِهِ بِأَلْفٍ فَيَرْهَنُهُ بِأَقَلَّ أَوْ بِأَكْثَرَ فَهَذَا يُنْظَرُ فَإِنْ رَهَنَهُ بِأَقَلَّ مَنْ أَلْفٍ جَازَ رَهْنُهُ لِأَنَّهُ بَعْضُ الْمَأْذُونِ فِيهِ ، وَإِنْ رَهَنَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ فَالرَّهْنُ بَاطِلٌ فِيمَا زَادَ عَلَى الْأَلْفِ ، وَهَلْ يَبْطُلُ فِي الْأَلْفِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ بِنَاءً عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ وَإِنْ خَالَفَهُ فِي الصِّفَةِ فَمِثَالُهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي رَهْنِهِ بِدَيْنٍ حَالٍ فَيَرْهَنُهُ فِي مُؤَجَّلٍ أَوْ فِي مُؤَجَّلٍ فَيَرْهَنُهُ فِي حَالٍ فَالرَّهْنُ بَاطِلٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ . لِأَنَّهُ إِنْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَرْهَنَهُ فِي حَالٍ فَرَهَنَهُ فِي مُؤَجَّلٍ فَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْعَارِيَةِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ مَنْ أَعَارَ شَيْئًا لِيُنْتَفَعَ بِهِ فِي الْحَالِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُنْتَفَعَ بِهِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ . وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الضَّمَانِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَدِمِ الضَّمَانُ إِلَى تِلْكَ الْمُدَّةِ . وَإِنْ أَذِنَهُ أَنْ يَرْهَنَهُ فِي مُؤَجَّلٍ فَرَهَنَهُ فِي حَالٍ فَإِنْ قُلْنَا يَجْرِي مَجْرَى الْعَارِيَةِ لَمْ يَجُزْ ، لِأَنَّ
مَنْ أَعَارَ شَيْئًا لِيُنْتَفَعَ بِهِ بَعْدَ مُدَّةٍ هل يجوز أَنْ يُنْتَفَعَ قَبْلَ تِلْكَ الْمُدَّةِ ؟ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُنْتَفَعَ قَبْلَ تِلْكَ الْمُدَّةِ ، وَإِنْ قُلْنَا يَجْرِي مَجْرَى الضَّمَانِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ مِنْ ضَمِنَ شَيْئًا إِلَى مُدَّةٍ لَمْ يَلْزَمْهُ قَبْلَ تِلْكَ الْمُدَّةِ . وَإِنْ خَالَفَهُ فِي الْمَالِكِ فَمِثَالُهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي رَهْنِهِ عِنْدَ زَيْدٍ فَرَهَنَهُ عِنْدَ غَيْرِهِ فَالرَّهْنُ بَاطِلٌ إِنْ قُلْنَا إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الضَّمَانِ ، لِأَنَّ مَنْ ضَمِنَ لِزَيْدٍ لَمْ يَلْزَمْهُ الضَّمَانُ لِغَيْرِهِ ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْعَارِيَةِ فَالرَّهْنُ جَائِزٌ : لِأَنَّهُ وَإِنْ صَارَ مَرْهُونًا عِنْدَ غَيْرِ مَنْ أُذِنَ لَهُ ، فَلَيْسَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ مَوْضُوعًا عَلَى يَدِ مَنِ ارْتَهَنَهُ وَإِذَا لَمْ يَجِبْ لَمْ يَقَعِ الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ حَقُّ الِارْتِهَانِ لِزَيْدٍ أَوْ غَيْرِهِ : لِأَنَّهُ قَدْ يُمْكِنُ أَلَّا يُوضَعَ عَلَى يَدِ مُرْتَهِنِهِ وَيُوضَعَ عَلَى يَدِ عَدْلٍ يَرْضَيَانِ بِهِ . فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ رَهْنَهُ لَا يَصِحُّ إِذَا خَالَفَهُ فَرَهَنَهُ رَهْنًا صَحِيحًا كَمَا أَذِنَ لَهُ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَهُ بِفَكَاكِهِ مِنَ الرَّهْنِ وَخَلَاصِهِ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْحَقِّ الْمَرْهُونِ فِيهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَالًا أَوْ يَكُونُ مُؤَجَّلًا ، فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ حَالًا فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِخَلَاصِهِ وَيُطَالِبَهُ بِفَكَاكِهِ إِنْ جَرَى مَجْرَى الْعَارِيَةِ ، فَلِلْمُعِيرِ الرُّجُوعُ فِي الْعَارِيَةِ ، وَإِنْ جَرَى مَجْرَى الضَّمَانِ فَلِلضَّامِنِ أَخْذُ الْمَضْمُونِ عَنْهُ بِفَكَاكِهِ مِمَّا ضَمِنَهُ بِأَمْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ مُؤَجَّلًا فَهَلْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِفَكَاكِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ إِنْ قُلْنَا إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْعَارِيَةِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِفَكَاكِهِ : لِأَنَّ لِلْمُعِيرِ أَنْ يَرْجِعَ فِي عَارِيَتِهِ ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الضَّمَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِفَكَاكِهِ لِأَنَّ الضَّامِنَ إِلَى أَجَلٍ لَيْسَ لَهُ أَخْذُ الْمَضْمُونِ عَنْهُ بِفَكَاكِهِ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ . فَصْلٌ : فَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُفَكَّ مِنَ الرَّهْنِ وَالثَّانِي أَنْ يُبَاعَ فِي الرَّهْنِ وَالثَّالِثُ أَنْ يُتْلَفَ فِي الرَّهْنِ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يُفَكَّ مِنَ الرَّهْنِ الْعَبْد الْمَرْهُون المستعار فَلِسَيِّدِهِ أَنْ يَسْتَرْجِعَهُ وَيَسْقُطُ عَنِ الرَّاهِنِ الْمُسْتَعِيرِ ضَمَانُهُ ، فَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ فَكَّهُ مِنَ الرَّهْنِ بِقَضَاءٍ أَوْ بِإِبْرَاءِ الْمُرْتَهِنِ لَهُ ، خَلَصَ الْعَبْدُ لِسَيِّدِهِ وَبَرِئَ الرَّاهِنُ عَنْ ضَمَانِهِ وَإِنْ كَانَ السَّيِّدُ قَدْ فَكَّهُ مِنَ الرَّهْنِ بِقَضَاءِ الْحَقِّ نُظِرَ فَإِنْ فَكَّهُ بِأَمْرِ الرَّاهِنِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الرَّاهِنِ بِمَا افْتَكَّهُ بِهِ مِنَ الْحَقِّ قَلِيلًا كَانَ الْحَقُّ أَمْ كَثِيرًا ، وَإِنِ افْتَكَّهُ بِقَضَاءِ الْحَقِّ مِنْ غَيْرِ أَمْرِ الرَّاهِنِ فَهَلْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الرَّاهِنِ بِمَا افْتَكَّهُ بِهِ مِنَ الْحَقِّ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ ، فَإِنْ قُلْنَا إِنَّهَا تَجْرِي مَجْرَى الضَّمَانِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِالْحَقِّ الَّذِي افْتَكَّهُ كَمَنْ ضَمِنَ عَنْهُ حَقًّا بِأَمْرِهِ فَلَهُ الرُّجُوعُ بِمَا غَرِمَهُ فِي ضَمَانِهِ ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْعَارِيَةِ فَلَا رُجُوعَ لَهُ بِالْحَقِّ الَّذِي افْتَكَّهُ لِأَنَّ الْعَارِيَةَ تُوجِبُ اسْتِرْجَاعَ مَا أَعَارَهُ وَلَا تُوجِبُ غُرْمَ مَا تَعَلَّقَ بِالْمُعَارِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يُبَاعَ فِي الرَّهْنِ الْعَبْد الْمَرْهُون المستعار وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ إِمَّا لِكَوْنِ الرَّاهِنِ مُعْسِرًا وَإِمَّا لِيَصِيرَ بِهِ مُوسِرًا فَإِذَا بِيعَ وَقَضَى بِهِ الْحَقَّ الْمَرْهُونَ فِيهِ كَانَ مَضْمُونًا عَلَى الرَّاهِنِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا لِأَنَّهُ إِنْ جَرَى مَجْرَى الْعَارِيَةِ فَالْعَارِيَةُ مَضْمُونَةٌ عَلَى مُسْتَعِيرِهَا وَإِنْ جَرَى مَجْرَى الضَّمَانِ فَالضَّامِنُ يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ بِمَا أَدَّى ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُ مَا بِيعَ بِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُبَاعَ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يُبَاعَ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يُبَاعَ بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ . فَإِنْ بِيعَ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ الْعَبْد الْمَرْهُون المستعار وَهُوَ أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهُ أَلْفًا فَيُبَاعُ بِأَلْفٍ فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَى الرَّاهِنِ الْمُسْتَعِيرِ بِأَلْفٍ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا ، لِأَنَّهُ إِنْ جَرَى مَجْرَى الْعَارِيَةِ فَالْعَارِيَةُ مَضْمُونَةٌ بِالْقِيمَةِ وَهِيَ أَلْفٌ وَإِنْ جَرَى مَجْرَى الضَّمَانِ فَالضَّامِنُ يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ بِمَا أَدَّى وَهُوَ أَلْفٌ . فَلِذَلِكَ اسْتَحَقَّ الرُّجُوعَ بِأَلْفٍ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا ، وَإِنْ بِيعَ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ الْعَبْد الْمَرْهُون المستعار وَهُوَ أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهُ أَلْفًا فَيُبَاعُ بِأَلْفٍ وَمِائَةٍ فَفِيمَا يَضْمَنُ الرَّاهِنُ الْمُسْتَعِيرُ وَيُرْجَعُ بِهِ عَلَى الْمَالِكِ الْمُعِيرِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ بِأَلْفٍ إِذَا قِيلَ إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْعَارِيَةِ ، لِأَنَّ الْعَارِيَةَ مَضْمُونَةٌ بِالْقِيمَةِ دُونَ مَا زَادَ عَلَيْهَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ بِأَلْفٍ وَمِائَةٍ ، إِذَا قِيلَ إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الضَّمَانِ : لِأَنَّ الْمَضْمُونَ عَنْهُ يَضْمَنُ الْقَدْرَ الْمُؤَدَّى عَنْهُ . وَإِنْ بِيعَ بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ الْعَبْد الْمَرْهُون المستعار وَهُوَ أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهُ أَلْفًا فَيُبَاعُ بِتِسْعِمِائَةٍ فَفِي قَدْرِ مَا يَضْمَنُهُ الرَّاهِنُ الْمُسْتَعِيرُ وَيَسْتَحِقُّ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ الْمَالِكُ الْمُعِيرُ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ بِأَلْفٍ إِذَا قِيلَ إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْعَارِيَةِ لِأَنَّ الْعَارِيَةَ مَضْمُونَةٌ بِجَمِيعِ الْقِيمَةِ وَهِيَ أَلْفٌ وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ بِتِسْعِمِائَةٍ إِذَا قِيلَ إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الضَّمَانِ : لِأَنَّ الْمَضْمُونَ عَنْهُ يَضْمَنُ الْقَدْرَ الْمُؤَدَّى عَنْهُ وَهُوَ تِسْعُمِائَةٍ وَلَوْ بَقِيَ لِلْمُرْتَهِنِ بَقِيَّةٌ مِنْ حَقِّهِ بَعْدَ قَبْضِ الثَّمَنِ لَمْ يَكُنِ الرُّجُوعُ بِهَا عَلَى الْمُعِيرِ سَوَاءٌ قِيلَ إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْعَارِيَةِ أَوْ مَجْرَى الضَّمَانِ لِأَنَّهُ إِنْ جَرَى مَجْرَى الْعَارِيَةِ فَالْمُعِيرُ لَا يَلْزَمُهُ غُرْمٌ ، وَإِنْ جَرَى مَجْرَى الضَّمَانِ فَهُوَ إِنَّمَا يَضْمَنُ ذَلِكَ فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْجِنَايَةِ بِرَقَبَتِهِ فِيمَا ضَاقَتْ
عَنْهُ رَقَبَةُ الْعَبْدِ فَهُوَ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ ، فَلَوْ فَضَلَ مِنْ ثَمَنِهِ بَعْدَ قَضَاءِ الْحَقِّ فَضْلَةٌ كَانَ الْمَالِكُ أَحَقَّ بِهَا وَيَسْقُطُ عَنِ الرَّاهِنِ الْمُسْتَعِيرِ ضَمَانُهَا . فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يُتْلَفَ فِي الرَّهْنِ الْعَبْد الْمَرْهُون المستعار فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ تَلَفُهُ بِالْمَوْتِ مِنْ غَيْرِ جِنَايَةٍ عَلَيْهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ تَلَفُهُ بِجِنَايَةٍ جُنِيَتْ عَلَيْهِ فَمَاتَ مِنْهَا . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ تَلَفُهُ بِجِنَايَةٍ جَنَاهَا وَاقْتُصَّ مِنْهُ أَوْ بِيعَ فِيهَا . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَمُوتَ فِي الرَّهْنِ حَتْفَ أَنْفِهِ فَهَلْ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى رَاهِنِهِ أَمْ لَا ؟ الْعَبْد الْمَرْهُون المستعار عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ إِذَا قِيلَ إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الضَّمَانِ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ عَنْهُ لَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ إِلَّا مَا أَدَّى عَنْهُ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ تَالِفًا مِنْ مَالِ مَالِكِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَكُونُ مَضْمُونًا إِذَا قِيلَ إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْعَارِيَةِ ، لِأَنَّ الْعَارِيَةَ مَضْمُونَةٌ عَلَى مُسْتَعِيرِهَا فَعَلَى هَذَا فِي كَيْفِيَّةِ ضَمَانِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَضْمَنُ قِيمَتَهُ يَوْمَ التَّلَفِ . وَالثَّانِي : يَضْمَنُهُ أَكْثَرَ مَا كَانَتْ قِيمَتُهُ مِنْ يَوْمِ الْقَبْضِ إِلَى يَوْمِ التَّلَفِ ، فَإِذَا قَبَضَ الْقِيمَةَ اخْتَصَّ بِهَا الْمَالِكُ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا حَقُّ الْمُرْتَهِنِ لِبُطْلَانِ الرَّهْنِ بِتَلَفِهِ مِنْ غَيْرِ جِنَايَةٍ وَلَا غَصْبٍ ، فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ إِذَا كَانَ تَلِفَ بِالْقِيمَةِ كَالْجِنَايَةِ كَانَتِ الْقِيمَةُ رَهْنًا مَكَانَهُ فَهَلَّا كَانَتِ الْقِيمَةُ الْمَأْخُوذَةُ مِنَ الْمُسْتَعِيرِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ رَهْنًا مَكَانَهُ ؟ قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْجَانِيَ عَلَى الرَّهْنِ مُتَعَدٍّ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فَتَعَلَّقَ بِأَرْشِ جِنَايَتِهِ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ ، وَالْمُسْتَعِيرُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِمَا يُغْرِمُهُ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ . وَالثَّانِي : أَنَّ أَرْشَ الْجِنَايَةِ وَجَبَ بِالْإِتْلَافِ فَلَمْ يَبْطُلِ الرَّهْنُ بِالْإِتْلَافِ وَكَانَتِ الْقِيمَةُ فِي الرَّهْنِ قَائِمَةً مَقَامَ الرَّهْنِ ، وَقِيمَةُ الْعَارِيَةِ وَاجِبَةً بِالْعَقْدِ لَا بِالْإِتْلَافِ وَإِنَّمَا يَسْتَقِرُّ وُجُوبُهَا بِالتَّلَفِ فَلَمْ تَكُنِ الْقِيمَةُ رَهْنًا يَبْطُلُ بِالتَّلَفِ كَمَا لَوْ بِيعَ بِثَمَنٍ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ لَمْ يَكُنِ الثَّمَنُ الْمَأْخُوذُ بِالْعَقْدِ رَهْنًا وَبَطَلَ الرَّهْنُ بِالْبَيْعِ . فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَكُونَ تَلَفُهُ بِجِنَايَةٍ جُنِيَتْ عَلَيْهِ فَمَاتَ مِنْهَا الْعَبْد الْمَرْهُون المستعار فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ بِجِنَايَةٍ عَمْدًا يُوجِبُ الْقَوَدَ . وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ جِنَايَةَ خَطَأٍ تُوجِبُ الْمَالَ . فَإِنْ كَانَتْ عَمْدًا يُوجِبُ الْقَوَدَ فَلِلسَّيِّدِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنَ الْجَانِي فَإِذَا اقْتَصَّ مِنْهُ فَقَدِ اسْتَوْفَى حَقَّهُ وَلَا مُطَالَبَةَ لَهُ عَلَى الرَّاهِنِ الْمُسْتَعِيرِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا سَوَاءٌ قِيلَ إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الضَّمَانِ أَوْ مَجْرَى الْعَارِيَةِ : لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَوْفَى بِالْقِصَاصِ حَقَّ الْجِنَايَةِ وَبَدَلَ الْمِلْكِ . وَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ خَطَأً تُوجِبُ الْمَالَ كَانَ الْجَانِي ضَامِنًا لِأَرْشِهَا ، وَهَلْ يَكُونُ الرَّاهِنُ الْمُسْتَعِيرُ ضَامِنًا أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا لَا يَكُونُ ضَامِنًا . وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَقُولُ إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الضَّمَانِ ، فَعَلَى هَذَا لِلْمَالِكِ مُطَالَبَةُ الْجَانِي بِالْأَرْشِ فَإِذَا اسْتَحَقَّهُ وَضَعَهُ رَهْنًا مَكَانَهُ ، لِأَنَّ أَرْشَ الْجِنَايَةِ عَلَى الرَّهْنِ بِكَوْنِهِ رَهْنًا مَكَانَهُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الرَّاهِنَ الْمُسْتَعِيرَ يَكُونُ ضَامِنًا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَقُولُ يَجْرِي مَجْرَى الْعَارِيَةِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمَالِكُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ مُطَالَبَةِ الْجَانِي أَوِ الرَّاهِنِ الْمُسْتَعِيرِ فَإِنْ أُغْرِمَ الْجَانِي لَمْ يَكُنْ لِلْجَانِي أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ . وَكَانَ الْأَرْشُ رَهْنًا مَكَانَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَرْشُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ فَلَهُ أَنْ يَخْتَصَّ بِأَخْذِ الْفَاضِلِ عَلَى قِيمَتِهِ وَتَكُونُ لَهُ الْقِيمَةُ لَا غَيْرَ رَهْنًا مَكَانَهُ . فَإِنْ أُغْرِمَ الْمُسْتَعِيرُ فَلَا يَخْلُو حَالُ أَرْشِ الْجِنَايَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِقَدْرِ قِيمَتِهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ أَوْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ . فَإِنْ كَانَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ بِقَدْرِ قِيمَتِهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ فَلَهُ أَنْ يُغْرِمَ الْمُسْتَعِيرَ جَمِيعَهَا وَلِلْمُسْتَعِيرِ إِذَا غَرِمَهَا أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْجَانِي بِهَا ، وَإِنْ كَانَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ أَكْبَرَ مِنْ قِيمَتِهِ فَلَهُ أَنْ يُغْرِمَ الْمُسْتَعِيرَ قَدْرَ قِيمَتِهِ دُونَ الزِّيَادَةِ ، وَيُغْرِمَ الْجَانِي مَا زَادَ عَلَى قِيمَتِهِ مِنَ الْأَرْشِ وَيَرْجِعُ الْمُسْتَعِيرُ بِمَا غَرِمَهُ مِنَ الْقِيمَةِ عَلَى الْجَانِي لِضَمَانِهِ لَهَا بِالْجِنَايَةِ ثُمَّ تَكُونُ الْقِيمَةُ رَهْنًا مَكَانَهُ دُونَ الزِّيَادَةِ . فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ تَلَفُهُ بِجِنَايَةٍ جَنَاهَا فَاقْتُصَّ مِنْهُ أَوْ بِيعَ فِيهَا وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ وَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ قَدْ أَتَتْ عَلَى جَمِيعِهِ وَذَلِكَ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْقِصَاصُ فِي نَفْسِهِ ، أَوْ يَكُونَ الْأَرْشُ الَّذِي بِيعَ فِيهِ مُسْتَوْعِبًا لِقِيمَتِهِ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَلْ يَكُونُ الرَّاهِنُ الْمُسْتَعِيرُ ضَامِنًا قِيمَتَهُ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَكُونُ ضَامِنًا إِذَا قِيلَ إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الضَّمَانِ .
وَالثَّانِي : يَكُونُ ضَامِنًا لِقِيمَتِهِ إِذَا قِيلَ إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْعَارِيَةِ وَفِي كَيْفِيَّةِ ضَمَانِهِ وَجْهَانِ مَضَيَا ، فَإِذَا غَرِمَ الْقِيمَةَ اخْتَصَّ الْمَالِكُ بِهَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ قَدْ أَتَتْ عَلَى بَعْضِهِ الْعَبْد الْمَرْهُون المستعار وَذَلِكَ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْقِصَاصُ فِي طَرَفٍ مِنْ أَطْرَافِهِ أَوْ يَكُونَ الْأَرْشُ الَّذِي بِيعَ فِيهِ يُقَابِلُ قِيمَةَ بَعْضِهِ ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْبَاقِي رَهْنًا بِحَالِهِ ، وَهَلْ يَكُونُ الرَّاهِنُ الْمُسْتَعِيرُ ضَامِنًا لِمَا تَلِفَ مِنْهُ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلِلسَّيِّدِ فِي الرَّهْنِ أَنْ يَسْتَخْدِمَ عَبْدَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : فَأَمَّا مَنَافِعُ الرَّهْنِ فَهِيَ مِلْكٌ لِرَاهِنِهِ دُونَ مُرْتَهِنِهِ وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَإِذَا كَانَتْ عَلَى مِلْكِ رَاهِنِهِ فَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ الرَّهْنَ لِيَكُونَ الْمُسْتَأْجِرُ مُسْتَوْفِيًا لِمَنَافِعِهِ ، وَكَذَلِكَ لَهُ أَنْ يُعِيرَهُ لِيَتَوَلَّى الْمُسْتَعِيرُ اسْتِيفَاءَ مَنَافِعِهِ ، فَأَمَّا إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَوَلَّى اسْتِيفَاءَ مَنَافِعِهِ بِنَفْسِهِ حَتَّى إِذَا كَانَتْ دَارًا سَكَنَهَا وَإِنْ كَانَتْ دَابَّةً رَكِبَهَا وَإِنْ كَانَ عَبْدًا اسْتَخْدَمَهُ ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الرَّهْنِ الصَّغِيرِ وَالرَّهْنِ الْقَدِيمِ : لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إِلَّا بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ ، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ وَسَائِرِ كُتُبِهِ : لَهُ ذَلِكَ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ وَبِغَيْرِ إِذْنِهِ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ بَعْضُهُمْ يُخْرِجُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ وَالرَّهْنِ الصَّغِيرِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مَنَافِعَ الرَّهْنِ وَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهُ وَيُعِيرَهُ لِأَنَّ الرَّهْنَ إِذَا عَادَ إِلَى يَدِهِ لَمْ يُؤْمَنْ مِنْهُ جُحُودُ مُرْتَهِنِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ وَسَائِرِ كُتُبِهِ ، لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مَنَافِعَ الرَّهْنِ بِنَفْسِهِ كَمَا يَسْتَوْفِيهَا غَيْرُهُ بِإِجَارَتِهِ وَإِعَادَتِهِ وَلَوْ جَازَ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ عَوْدِهِ إِلَى يَدِهِ خَوْفًا مِنْ جُحُودِ مُرْتَهِنِهِ لَجَازَ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ خُرُوجِهِ إِلَى يَدِ مُسْتَأْجِرِهِ ، عَلَى أَنَّ يَدَ الْمُرْتَهِنِ لَا تُوجِبُ قَبُولَ قَوْلِهِ عِنْدَ جُحُودِ رَاهِنِهِ . وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا : لَيْسَتِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ وَإِنَّمَا هِيَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ ، فَالْمَوْضِعُ الَّذِي مَنَعَهُ مِنَ اسْتِيفَاءِ مَنَافِعِ الرَّهْنِ بِنَفْسِهِ إِذَا كَانَ غَيْرَ أَمِينٍ عَلَيْهِ وَكَانَ الْجُحُودُ غَيْرَ مَأْمُونٍ مِنْهُ ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي جَوَّزَ لَهُ اسْتِيفَاءَ مَنَافِعِ الرَّهْنِ بِنَفْسِهِ إِذَا كَانَ أَمِينًا عَلَيْهِ وَكَانَ الْجُحُودُ مَأْمُونًا عَنْهُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَالْخَصْمُ فِيمَا جَنَى عَلَى الْعَبْدِ سَيِّدُهُ فَإِنْ أَحَبَّ الْمُرْتَهِنُ حَضَرَ خُصُومَتَهُ فَإِذَا قَضَى لَهُ بِشَيْءٍ أَخَذَهُ رَهْنًا وَلَوْ عَدَا الْمُرْتَهِنُ كَانَ عَفْوُهُ بَاطِلًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : هَذَا كَمَا قَالَ ، الْمُطَالِبُ بِمَا جَنَى عَلَى الْعَبْدِ وَالْخَصْمُ فِيهِ الرَّاهِنُ دُونَ
الْمُرْتَهِنِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْمُطَالِبُ بِهِ وَالْخَصْمُ فِيهِ الْمُرْتَهِنُ دُونَ الرَّاهِنِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الرَّهْنَ مَضْمُونٌ عَلَى مُرْتَهِنِهِ ، وَلِأَنَّ الْيَدَ لَهُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ كَالْمَالِكِ وَالدَّلِيلُ بِنَاؤُهُ عَلَى أَصْلِنَا فِي أَنَّ الرَّهْنَ عَلَى مِلْكِ رَاهِنِهِ وَغَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى مُرْتَهِنِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ اسْتِحْقَاقُ الْمُطَالَبَةِ لِمَالِكِهِ كَغَيْرِ الرَّهْنِ وَلِأَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ قَدْ تُوجِبُ الْقَوَدَ تَارَةً وَالْمَالَ أُخْرَى ثُمَّ أَنَّهَا لَوْ أَوْجَبَتِ الْقَوَدَ كَانَ الْخَصْمُ فِيهَا الرَّاهِنَ لِحَقِّ مِلْكِهِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ وَكَذَا إِذَا أَوْجَبَتِ الْمَالَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْخَصْمُ فِيهَا الرَّاهِنَ لِحَقِّ الْمِلْكِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ . وَقَدْ تَحَرَّرَ مِنَ اعْتِلَالِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ خَصْمًا فِي الْعَمْدِ كَانَ خَصْمًا فِي الْخَطَأِ كَغَيْرِ الْمَرْهُونِ . وَالثَّانِي : أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ خَصْمًا فِي غَيْرِ الْمَرْهُونِ كَانَ خَصْمًا فِي الْمَرْهُونِ كَالْعَمْدِ : فَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مَنْ بَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ فَمُقَابَلٌ بِمِثْلِهِ ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ حَقِّ الْيَدِ فَيَنْتَقِضُ بِالْمُسْتَأْجِرِ لَهُ يَدٌ وَلَيْسَ بِخَصْمٍ . فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْخَصْمَ فِي الْجِنَايَةِ هُوَ الرَّاهِنُ فَلِلْمُرْتَهِنِ حُضُورُ خُصُومَتِهِ لِيَرْتَهِنَ مَا يُقْضَى بِهِ مِنْ أَرْشٍ وَلَا يَخْلُو حَالُ الْجَانِي مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَعْتَرِفَ بِالْجِنَايَةِ أَوْ يُنْكِرَهَا فَإِنِ اعْتَرَفَ بِالْجِنَايَةِ نُظِرَ ، فَإِنْ صَدَّقَهُ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ عَلَيْهَا كَانَ الْأَرْشُ مِلْكًا لِلرَّاهِنِ وَوَثِيقَةً لِلْمُرْتَهِنِ ، وَإِنْ صَدَّقَهُ الرَّاهِنُ وَكَذَّبَهُ الْمُرْتَهِنُ كَانَ الْأَرْشُ مِلْكًا لِلرَّاهِنِ وَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ وَثِيقَةً لِلْمُرْتَهِنِ ، فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُرْتَهِنُ وَكَذَّبَهُ الرَّاهِنُ كَانَ الْأَرْشُ الْمَأْخُوذُ وَثِيقَةً لِلْمُرْتَهِنِ وَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ مِلْكًا لِلرَّاهِنِ ، فَإِنْ أَخَذَ الْمُرْتَهِنُ حَقَّهُ مِنْ غَيْرِ الْأَرْشِ وَجَبَ رَدُّ الْأَرْشِ عَلَى الْجَانِي ، وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْ حَقَّهُ مِنْ غَيْرِ الْأَرْشِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنَ الْأَرْشِ لِكَوْنِهِ وَثِيقَةً فِيهِ ، فَإِنْ بَقِيَ مِنَ الْأَرْشِ بَعْدَ قَضَاءِ الْحَقِّ بَقِيَّةٌ وَجَبَ رَدُّهَا عَلَى الْجَانِي ، فَهَذَا حُكْمُ اعْتِرَافِ الْجَانِي . وَإِنْ أَنْكَرَ الْجَانِي فَإِنْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ بِالْجِنَايَةِ لَزِمَتْهُ الْجِنَايَةُ وَإِنْ لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْجَانِي مَعَ يَمِينِهِ فَإِنْ حَلَفَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَإِنْ نَكَلَ عَنْهَا رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الرَّاهِنِ لِأَنَّهُ مَالِكٌ بِمُوجِبِهَا فَإِنْ حَلَفَ ثَبَتَتِ الْجِنَايَةُ وَإِنْ نَكَلَ عَنْهَا فَهَلْ يَجِبُ إِحْلَافُ الْمُرْتَهِنِ فِيهَا أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَضَيَا . فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى الْجَانِي إِمَّا بِإِقْرَارٍ أَوْ بِبَيِّنَةٍ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَكُونَ خَطَأً يُوجِبُ الْمَالَ أَوْ تَكُونَ عَمْدًا يُوجِبُ الْقَوَدَ ، فَإِنْ كَانَتْ خَطَأً يُوجِبُ الْمَالَ جناية العبد المرهون فَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ قَبْضُ أَرْشِهَا لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ خَصْمًا فِيهِ فَحَقُّ الْمُرْتَهِنِ مُتَعَلِّقٌ بِأَرْشِهَا وَإِنَّمَا لَهُ أَنْ
يُثْبِتَ عَلَى الْجَانِي مَا وَجَبَ بِهَا ، وَالْوَاجِبُ أَنْ يَقْبِضَ الْأَرْشَ مَا كَانَ قَابِضًا لِلرَّهْنِ ، فَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَلِلْمُرْتَهِنِ قَبْضُ الْأَرْشِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى يَدِ عَدْلٍ فَلِلْعَدْلِ قَبْضُ الْأَرْشِ ، فَإِنْ عَفَا الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ عَنِ الْأَرْشِ بَرِئَ الْجَانِي وَلَمْ يَكُنْ لِلْعَدْلِ أَنْ يَقْبِضَ الْأَرْشَ ، وَإِنْ عَفَا الْمُرْتَهِنُ عَنِ الْأَرْشِ دُونَ الرَّاهِنِ بَطَلَتْ وَثِيقَةُ الْمُرْتَهِنِ فِي الْأَرْشِ وَلَمْ يَبْرَأِ الْجَانِي وَكَانَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَقْبِضَ مِنْهُ الْأَرْشَ دُونَ الْعَدْلِ لِأَنَّ الْعَدْلَ إِنَّمَا كَانَ لَهُ أَنْ يَقْبِضَ الْأَرْشَ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ وَعَفْوُ الْمُرْتَهِنِ قَدْ أَبْطَلَ وَثِيقَتَهُ فِيهِ فَلَمْ يَبْقَ لِلْعَدْلِ نِيَابَةٌ عَنْهُ ، وَإِنْ عَفَا الرَّاهِنُ دُونَ الْمُرْتَهِنِ لَمْ يَصِحَّ عَفْوُهُ لِأَنَّ تَعَلُّقَ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِهِ قَدْ أَوْقَعَ حَجْرًا عَلَيْهِ وَالْمَحْجُورُ عَلَيْهِ إِذَا عَفَا عَنْ مِلْكِهِ لَمْ يَصِحَّ عَفْوُهُ فَلِذَلِكَ قُلْنَا إِنَّ عَفْوَ الرَّاهِنِ لَا يُبْطِلُ مِلْكَهُ لِأَنَّ لِلْمُرْتَهِنِ حَجْرًا عَلَيْهِ ، وَعَفْوُ الْمُرْتَهِنِ يُبْطِلُ وَثِيقَتَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلرَّاهِنِ حَجْرًا عَلَيْهِ ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ عَفْوُ الرَّاهِنِ فَلِلْعَدْلِ قَبْضُ الْأَرْشِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ لِبَقَاءِ نِيَابَةِ الْعَدْلِ عَنِ الرَّاهِنِ إِذْ عَفْوُهُ لَمْ يُبْطِلْ مِلْكَهُ عَنِ الْأَرْشِ ، فَإِذَا قَبَضَ الْمُرْتَهِنُ حَقَّهُ مِنَ الْأَرْشِ كَانَ الْفَاضِلُ مِنْهُ مَرْدُودًا عَلَى الرَّاهِنِ وَإِنْ تَقَدَّمَ مِنْهُ الْعَفْوُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ . فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَمْدًا يُوجِبُ الْقَوَدَ العبد الجاني المرهون فَلِلرَّاهِنِ الْخِيَارُ بَيْنَ الْقِصَاصِ أَوِ الْمَالِ فَإِنِ اخْتَارَ الْقِصَاصَ فَلَهُ أَنْ يَقْتَصَّ وَإِنْ لَمْ يَحْضُرِ الْمُرْتَهِنُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَيْسَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَقْتَصَّ إِلَّا بِحُضُورِ الْمُرْتَهِنِ وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ الْقِصَاصَ مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ وَلَيْسَ مِنْ حُقُوقِ الرَّهْنِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْطَالِ الرَّهْنِ . وَإِنِ اخْتَارَ الرَّاهِنُ الْمَالَ وَعَفَا عَنِ الْقِصَاصِ كَانَ الْحُكْمُ فِي الْمَالِ عَلَى مَا مَضَى فِي جِنَايَةِ الْخَطَأِ لَيْسَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَقْبِضَهُ وَالْمُسْتَحِقُّ لِقَبْضِهِ مَنْ كَانَ الرَّهْنُ فِي يَدِهِ . فَإِنْ عَفَا الرَّاهِنُ عَنِ الْقِصَاصِ وَالْمَالِ مَعًا فَإِنْ كَانَ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ صَحَّ عَفْوُهُ عَنْهُمَا وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنٍ صَحَّ عَفْوُهُ عَنِ الْقِصَاصِ وَهَلْ يَصِحُّ عَنِ الْمَالِ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ مَضَيَا .
مَسْأَلَةٌ لَوْ رَهَنَهُ عَبْدًا بِدَنَانِيرَ وَعَبْدًا بِحِنْطَةٍ فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ كَانَتِ الْجِنَايَةُ هَدَرًا
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ رَهَنَهُ عَبْدًا بِدَنَانِيرَ وَعَبْدًا بِحِنْطَةٍ فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ كَانَتِ الْجِنَايَةُ هَدَرًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَ الْعَبْدَيْنِ إِذَا رُهِنَا عِنْدَ رَجُلٍ بِحَقَّيْنِ وَسَوَاءٌ كَانَ الْحَقَّانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَوْ جِنْسَيْنِ . فَإِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا رَهْنًا عَلَى عِشْرِينَ دِينَارًا وَالْآخَرُ رَهْنًا عَلَى كُسَرِ حِنْطَةٍ ، فَإِنْ كَانَ قِيمَةُ الْحِنْطَةِ عِشْرِينَ دِينَارًا فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْعَبْدَيْنِ إِذَا رُهِنَا بِحَقَّيْنِ مُتَمَاثِلَيْنِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ وَإِنْ كَانَ قِيمَةُ الْحِنْطَةِ أَقَلَّ مِنْ عِشْرِينَ دِينَارًا أَوْ أَكْثَرَ فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْعَبْدَيْنِ إِذَا رُهِنَا بِحَقَّيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَأَكْرَهُ أَنْ يَرْهَنَ مِنْ مُشْرِكٍ مُصْحَفًا أَوْ عَبْدًا مُسْلِمًا وَأَجْبَرَهُ عَلَى أَنْ يَضَعَهُمَا عَلَى يَدَيْ مُسْلِمٍ وَلَا بَأْسَ بِرَهْنِهِ مَا سِوَاهُمَا ، رَهَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِرْعَهُ عِنْدَ أَبِي الشَّحْمِ الْيَهُودِيِّ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) فِي غَيْرِ كِتَابِ الرَّهْنِ الْكَبِيرِ : إِنَّ الرَّهْنَ فِي الْمُصْحَفِ وَالْعَبْدِ الْمُسْلِمِ مِنَ النَّصْرَانِيِّ بَاطِلٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، كُلُّ شَيْءٍ جَازَ أَنْ يَمْلِكَهُ الْمُشْرِكُ جَازَ أَنْ يُرْهَنَ عِنْدَ الْمُشْرِكِ كَالدُّورِ وَالْأَرْضِينَ وَالْمَوَاشِي وَالثِّيَابِ وَالْعُرُوضِ وَالْأَثَاثِ ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَهَنَ دِرْعِهِ عِنْدَ أَبِي الشَّحْمِ الْيَهُودِيِّ ، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ فَاسْتَوَى فِيهِ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ كَالضَّمَانِ . فَأَمَّا مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَهُ الْمُشْرِكُ كَالْعَبْدِ الْمُسْلِمِ وَالْمُصْحَفِ إِذَا رَهَنَهُ مُسْلِمٌ عِنْدَ مُشْرِكٍ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَشْتَرِطَا تَرْكَهُ عَلَى يَدَيِ الْمُشْرِكِ فَيَكُونُ رَهْنًا بَاطِلًا لِأَنَّ مُوجِبَ الشَّرْطِ مَحْظُورٌ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَشْتَرِطَا تَرْكَهُ عَلَى يَدِ عَدْلٍ مُسْلِمٍ فَيَكُونُ رَهْنُهُ جَائِزًا لِأَنَّ مُوجِبَ الشَّرْطِ مُبَاحٌ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ يُطْلِقَا رَهْنَهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فَفِي جَوَازِ رَهْنِهِ قَوْلَانِ نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي كِتَابِ الرَّهْنِ مِنَ الْأُمِّ ، أَحَدُهُمَا بَاطِلٌ وَالثَّانِي جَائِزٌ . وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي بَيْعِ ذَلِكَ عَلَى الْمُشْرِكِ ، وَقَدْ مَضَى تَوْجِيهُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ . فَإِذَا قُلْنَا بِبُطْلَانِ الرَّهْنِ فَسَوَاءٌ أَسْلَمَ الْمُشْرِكُ قَبْلَ الْقَبْضِ أَمْ لَا لِفَسَادِ الْعَقْدِ ، وَإِنْ قُلْنَا يَجُوزُ الرَّهْنُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُوضَعَ عَلَى يَدِ الْمُشْرِكِ لِأَنَّ الْمُشْرِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ تُقَرَّ يَدُهُ عَلَى مُسْلِمٍ وَلَا مُصْحَفٍ فَوَجَبَ أَنْ يُوضَعَ عَلَى يَدِ عَدْلٍ مُسْلِمٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
بَابُ اخْتِلَافِ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ
بَابُ اخْتِلَافِ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَعْقُولٌ إِذَا أَذِنَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ بِالرَّهْنِ أَنَّهُ زِيَادَةٌ وَثِيقَةٌ لِصَاحِبِ الْحَقِّ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِالْحَقِّ بِعَيْنِهِ وَلَا جُزْءًا مِنْ عَدَدِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَهَذِهِ جُمْلَةٌ تَحْتَاجُ إِلَى تَفْصِيلٍ وَشَرْحٍ . أَمَّا قَوْلُهُ وَمَعْقُولٌ فَيَعْنِي أَنَّ الرَّهْنَ لَمْ يُعْلَمْ كَوْنُهُ وَثِيقَةً بِنَصِّ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ ، وَإِنَّمَا عُقِلَ اسْتِنْبَاطًا مِنْ إِبَاحَتِهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكُلِّ مَوْضِعٍ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَمَعْقُولٌ ، فَإِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ مَعْقُولَ الشَّرْعِ ، لَا مَعْقُولَ الْبَدِيهَةِ وَالْعَقْلِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ إِذَا أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى بِالرَّهْنِ فَلْيُعْلَمْ أَنَّهُ مُبَاحٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ رَدًّا عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ فِي السَّفَرِ وَاجِبٌ : لِأَنَّهُ أَذِنَ بِهِ وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَأَمَرَ بِهِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : إِنَّهُ زِيَادَةٌ وَثِيقَةٌ لِصَاحِبِ الْحَقِّ فَقَدْ قِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ وَثِيقَةٌ ، وَقَوْلُهُ زِيَادَةٌ صِلَةٌ فِي الْكَلَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ [ النِّسَاءِ : 11 ] وَكَقَوْلِهِ : فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ [ الْأَنْفَالِ : 12 ] وَقِيلَ : بَلْ هُوَ زِيَادَةٌ وَثِيقَةٌ حَقِيقَةٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ صِلَةً ، وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ زِيَادَةٌ وَثِيقَةٌ عَلَى الذِّمَّةِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ زِيَادَةٌ مَعَ الشَّهَادَةِ الَّتِي هِيَ وَثِيقَةٌ ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ ، ثُمَّ عَقَّبَهَا بِإِبَاحَةِ الرَّهْنِ الَّذِي هُوَ وَثِيقَةٌ ، فَصَارَ الرَّهْنُ وَثِيقَةً زَايِدَةً مَعَ الشَّهَادَةِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّهُ لَيْسَ الْحَقَّ بِعَيْنِهِ وَلَا جُزْءًا مِنْ عَدَدِهِ فَإِنَّمَا قَصَدَ بِهِ الرَّدَّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فِي إِيجَابِهِ ضَمَانَ الرَّهْنِ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْقِيمَةِ أَوِ الْحَقِّ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنِ الرَّهْنُ هُوَ الْحَقَّ بِعَيْنِهِ وَلَا جُزْءًا مِنْ عَدَدِهِ فَلِمَ أُبْطِلَ الْحَقُّ بِتَلَفِهِ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ هُوَ الْحَقَّ بِعَيْنِهِ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَوْ أَبْرَأَ الرَّاهِنَ مِنَ الرَّهْنِ بَرِئَ مِنْهُ وَلَمْ يَبْرَأْ مِنَ الْحَقِّ ، وَلَوْ كَانَ هُوَ الْحَقَّ بِعَيْنِهِ لَكَانَ إِذَا بَرِئَ مِنْهُ بَرِئَ مِنَ الْحَقِّ . وَلَمْ يَكُنْ أَيْضًا جُزْءًا مِنَ الْحَقِّ : لِأَنَّهُ يَجُوزُ اشْتِرَاطُ الرَّهْنِ فِي الْقَرْضِ وَلَوْ كَانَ جُزْءًا مِنْهُ
لِكُلِّ زِيَادَةٍ فِي الْقَرْضِ وَالزِّيَادَةُ رِبًا مُحَرَّمٌ ، فَهَذَا تَفْصِيلُ كَلَامِهِ وَبَيَانُ شَرْحِهِ ، وَمَا قَصَدَهُ الشَّافِعِيُّ بِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِضَمِيرِ قَلْبِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ بَاعَ رَجُلٌ شَيْئًا عَلَى أَنْ يَرْهَنَهُ مِنْ مَالِهِ مَا يَعْرِفَانِهِ يَضَعَانِهِ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ أَوْ عَلَى يَدَيِ الْمُرْتَهِنِ كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، الْبَيْعُ بِشَرْطِ الرَّهْنِ جَائِزٌ ، فَإِنْ بَاعَهُ شَيْئًا عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ بِثَمَنِهِ رَهْنًا وَكَانَ الرَّهْنُ مُعَيَّنًا كَانَ الْبَيْعُ صَحِيحًا وَالرَّهْنُ جَائِزًا ، لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إِنْ جَازَ اشْتِرَاطُهُ بَعْدَ الْعَقْدِ كَانَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ مَعَ الْعَقْدِ لِأَنَّ مِنَ الشُّرُوطِ مَا يَلْزَمُ مَعَ الْعَقْدِ وَلَا يَلْزَمُ بَعْدَ الْعَقْدِ كَالْأَجَلِ ، فَلَمَّا كَانَ الرَّهْنُ بَعْدَ الْعَقْدِ جَائِزًا كَانَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَعَ الْعَقْدِ جَائِزًا . وَالثَّانِي : أَنَّ الرَّهْنَ مِنْ مَصْلَحَةِ الْعَقْدِ لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِاسْتِيفَاءِ مُوجِبِهِ ، وَمَا كَانَ مِنْ مَصْلَحَتِهِ جَازَ اشْتِرَاطُهُ فِيهِ كَالْخِيَارِ . فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ اشْتِرَاطِهِ فِي الْعَقْدِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَشْتَرِطَا تَرْكَ الرَّهْنِ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُوضَعَ عَلَى يَدِهِ لِمُوجِبِ شَرْطِهِ ، وَلَيْسَ لَهُ إِذَا قَبَضَهُ أَنْ يَنْتَزِعَهُ مِنْهُ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُهُ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَشْتَرِطَا وَضْعَهُ عَلَى يَدِ عَدْلٍ ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يُوضَعَ عَلَى يَدِهِ مَا لَمْ يَتَّفِقَا عَلَى غَيْرِهِ وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا إِذَا حَصَلَ الرَّهْنُ بِيَدِهِ أَنْ يَنْتَزِعَهُ مِنْهُ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُهُ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يُطْلِقَا وَلَا يَشْتَرِطَا تَرْكَهُ عَلَى يَدِ الْمُرْتَهِنِ وَلَا عَدْلٍ يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ . فَفِي الرَّهْنِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ لِلْجَهْلِ بِمُسْتَحَقِّ الْيَدِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهَذَا أَصَحُّ أَنَّ الرَّهْنَ جَائِزٌ لِأَنَّ تَعَيُّنَهُ لِمَا لَمْ يَلْزَمْ بِالْعَقْدِ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ ، فَعَلَى هَذَا إِنِ اتَّفَقَا عَلَى تَرْكِهِ فِي يَدِ مَنْ يَرْضَيَانِ بِهِ ، وَإِلَّا اخْتَارَ لَهُمَا الْحَاكِمُ عَدْلًا وَأَمَرَهُمَا بِوَضْعِهِ عَلَى يَدِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَمْ يَكُنِ الرَّهْنُ تَامًّا حَتَّى يَقْبِضَهُ الْمُرْتَهِنُ وَلَوِ امْتَنَعَ الرَّاهِنُ أَنْ يُقْبِضَهُ الرَّهْنَ لَمْ يُجْبِرْهُ وَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ فِي إِتْمَامِ الْبَيْعِ بِلَا رَهْنٍ أَوْ رَدِّهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِذِمَّتِهِ دُونَ الرَّهْنِ " .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَإِنَّمَا قَصَدَ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا الْكَلَامِ الرَّدَّ عَلَى مَالِكٍ فِي مَسْأَلَةٍ ، وَعَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فِي أُخْرَى . أَمَّا عَلَى مَالِكٍ فَقَوْلُهُ : إِنَّ الرَّهْنَ يَتِمُّ بِالْعَقْدِ دُونَ الْقَبْضِ ، وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ : إِنَّهُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْعَقْدِ وَالْقَبْضِ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ . وَأَمَّا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ يَقُولُ : إِنَّ الرَّهْنَ إِنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ أُجْبِرَ الرَّاهِنُ عَلَى قَبْضِهِ ، وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ : إِنَّ الرَّهْنَ وَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ فَإِنَّ الرَّاهِنَ لَا يُجْبَرُ عَلَى قَبْضِهِ ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنْ أَقْبَضَ الرَّاهِنُ الْمُرْتَهِنَ حَقَّهُ لَزِمَهُ وَسَقَطَ خِيَارُ الْبَائِعِ وَإِنْ لَمْ يُقْبِضْهُ الرَّهْنَ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ وَلَكِنْ يَكُونُ الْبَائِعُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِلَا رَهْنٍ وَبَيْنَ فَسْخِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِذِمَّتِهِ حَتَّى شَرَطَ رَهْنًا يَتَوَثَّقُ بِهِ ، فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ التَّوَثُّقُ بِالرَّهْنِ كَانَ ذَلِكَ نَقْصًا وَعَيْبًا ، فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ وَهَذَا الْخِيَارُ يَجِبُ بَعْدَ الِامْتِنَاعِ عَلَى الْفَوْرِ لِأَنَّهُ خِيَارُ عَيْبٍ وَالِامْتِنَاعُ يَكُونُ بَعْدَ الطَّلَبِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَهَكَذَا لَوْ بَاعَهُ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ حَمِيلًا بِعَيْنِهِ فَلَمْ يَتَحَمَّلْ لَهُ فَلَهُ رَدُّ الْبَيْعِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : فَأَمَّا الضَّمَانُ فَهُوَ أَحَدُ الْوَثَائِقِ الثَّلَاثَةِ فِي الْأَمْوَالِ ، فَإِذَا شَرَطَ الْمُشْتَرِي عَلَى نَفْسِهِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ أَنْ يُقِيمَ بِالثَّمَنِ ضَامِنًا مُعَيَّنًا صَحَّ الْبَيْعُ وَلَزِمَ الشَّرْطُ كَالرَّهْنِ إِذَا شُرِطَ فِي الْعَقْدِ ، فَإِذَا ضَمِنَهُ الضَّامِنُ الْمَشْرُوطُ سَقَطَ خِيَارُ الْبَائِعِ وَإِنْ لَمْ يَضْمَنْ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى الضَّمَانِ ، لِأَنَّ الضَّمَانَ لَا يَصِحُّ بِالْإِجْبَارِ وَيَكُونُ الْبَائِعُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِلَا ضَمَانٍ وَبَيْنَ فَسْخِهِ لِمَا دَخَلَ عَلَيْهِ مِنَ النَّقْصِ فِي شَرْطِهِ ، فَإِنْ قَالَ الْمُشْتَرِي : أَنَا أُقِيمُ لَكَ بِالثَّمَنِ ضَمِينًا غَيْرَهُ لَمْ يَلْزَمِ الْبَائِعَ إِمْضَاءُ الْبَيْعِ بِضَمَانِ الثَّانِي وَكَانَ عَلَى خِيَارِهِ لِاخْتِلَافِ الذِّمَمِ وَفَقْدِ الشَّرْطِ ، كَمَا أَنَّ الْبَائِعَ لَوْ سَأَلَ الْمُشْتَرِيَ أَنْ يُقِيمَ لَهُ ضَمِينًا غَيْرَ الْمُعَيَّنِ لَمْ يَلْزَمْهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ بِالشَّرْطِ . فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا شَرَطَ الْمُشْتَرِي عَلَى نَفْسِهِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ شَهَادَةَ شَاهِدِينَ مُعَيَّنَيْنِ فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ وَالشَّرْطُ لَازِمٌ ، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ وَثِيقَةٌ كَالرَّهْنِ وَالضَّمَانِ ، فَإِنْ أَشْهَدَهُمَا لَمْ يَلْزَمْهُ إِشْهَادُ غَيْرِهِمَا ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ خِيَارٌ بِمَوْتِهِمَا ، كَمَا لَوْ مَاتَ الضَّامِنُ لَمْ يَلْزَمِ الْمُشْتَرِيَ إِقَامَةُ غَيْرِهِ وَلَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ خِيَارٌ بِمَوْتِهِ ، وَأَمَّا إِنْ مَاتَ الشَّاهِدَانِ قَبْلَ إِشْهَادِهِمَا أَوِ امْتَنَعَا مِنَ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِمَا لَمْ يُجْبَرِ الْمُشْتَرِي عَلَى إِشْهَادِ غَيْرِهِمَا ، وَلِلْبَائِعِ الْخِيَارُ لِفَقْدِ شَرْطِهِ ، فَلَوْ أَشْهَدَ الْمُشْتَرِي عَلَى نَفْسِهِ غَيْرَهُمَا مِنَ الشُّهُودِ الْعُدُولِ فَفِي خِيَارِ الْبَائِعِ وَجْهَانِ :
أَحَدُهُمَا : لَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ لِعَدَمِ شَرْطِهِ كَمَا لَوْ شَرَطَ ضَامِنًا لَمْ يَلْزَمْهُ الرِّضَا بِضَمَانِ غَيْرِهِ ، وَإِذَا شَرَطَ رَهْنًا لَمْ يَلْزَمْهُ أَخْذُ رَهْنٍ غَيْرِهِ ، كَذَلِكَ لَوْ شَرَطَ شَهَادَةَ شَاهِدَيْنِ مُعَيَّنَيْنِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ ، أَنَّ خِيَارَ الْبَائِعِ قَدْ أُسْقِطَ بِإِشْهَادِ شَاهِدَيْنِ إِذَا كَانَا عَدْلَيْنِ وَإِنْ كَانَا غَيْرَ الْمُعَيَّنَيْنِ الْمَشْرُوطَيْنِ بِخِلَافِ الرَّهْنِ وَالضَّمَانِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا صَحَّ اشْتِرَاطُ شَاهِدَيْنِ غَيْرِ مُعَيَّنَيْنِ لَمْ يَتَعَيَّنَا وَإِنْ شَرَطَا مُعَيَّنَيْنِ ، وَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ اشْتِرَاطُ رَهْنٍ أَوْ ضَمِينٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ لَزِمَ إِذَا كَانَ مُعَيَّنًا . وَالْفَرْقُ الثَّانِي : أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالضَّمَانِ وَالرَّهْنِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ ذِمَمِ الضُّمَنَاءِ وَقِيَمِ الرُّهُونِ ، وَالْمَقْصُودُ بِالشَّهَادَةِ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الشُّهُودِ ، وَلِهَذَا لَوْ قَدَرَ الْمُشْتَرِي عَلَى الشَّاهِدَيْنِ الْمُعَيَّنَيْنِ فَعَدَلَ عَنْ إِشْهَادِهِمَا إِلَى إِشْهَادِ غَيْرِهِمَا كَانَ خِيَارُ الْبَائِعِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي رَدُّ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِ نَقْصٌ يَكُونُ لَهُ بِهِ الْخِيَارُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا شَرَطَ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي عَقْدِ الْبَيْعِ رَهْنًا مُعَيَّنًا أَوْ ضَمِينًا مَعْرُوفًا ثُمَّ امْتَنَعَ مِنْ قَبْضِ الرَّهْنِ أَوْ قَبُولِ الضَّمَانِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى الْقَبْضِ أَوِ الْقَبُولِ لِأَنَّهُ وَثِيقَةٌ لَهُ ، وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي فِي فَسْخِ الْبَيْعِ بِامْتِنَاعِ الْبَائِعِ مِنْ قَبْضِ الرَّهْنِ وَقَبُولِ الضَّمَانِ وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ : لِلْمُشْتَرِي فَسْخُ الْبَيْعِ فِي امْتِنَاعِ الْبَائِعِ مِنْ قَبُولِ الضَّمَانِ وَلَيْسَ لَهُ فَسْخُ الْبَيْعِ فِي امْتِنَاعِهِ مِنْ قَبْضِ الرَّهْنِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لِلْمُشْتَرِي فَسْخُ الْبَيْعِ فِي امْتِنَاعِهِ مِنْ قَبْضِ الرَّهْنِ وَلَيْسَ لَهُ فَسْخُ الْبَيْعِ فِي امْتِنَاعِهِ مِنْ قَبُولِ الضَّمَانِ . وَبَنَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَلِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْمَرْهُونَ مَضْمُونٌ عَلَى مُرْتَهِنِهِ ، فَإِذَا امْتَنَعَ الْمُرْتَهِنُ مَنْ قَبْضِهِ صَارَ مُمْتَنِعًا مِمَّا شَرَطَ عَلَيْهِ مِنْ أَخْذِهِ بِحَقِّهِ فَثَبَتَ لِلرَّاهِنِ الْخِيَارُ ، وَأَمَّا دَاوُدُ فَلِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الضَّمَانَ يُسْقِطُ الْحَقَّ مِنْ ذِمَّةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ ، فَإِذَا امْتَنَعَ الْبَائِعُ مِنْ قَبُولِ الضَّمَانِ صَارَ مُمْتَنِعًا مِنْ نَقْلِ حَقِّهِ مِنْ ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي ، وَشَرْطُ الضَّمَانِ قَدْ أَلْزَمَهُ بِنَقْلِ حَقِّهِ فَثَبَتَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ ، وَكِلَا الْأَصْلَيْنِ عِنْدَنَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِمَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . ثُمَّ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِمَا أَنَّهَا وَثِيقَةٌ فِي الْحَقِّ فَلَمْ يَكُنْ تَرْكُ قَبُولِهَا مُوجِبًا لِخِيَارِ مَنْ عَلَيْهِ
الْحَقُّ كَالشَّهَادَةِ ، وَلِأَنَّ النَّقْصَ فِي صِفَةِ الْبَيْعِ نَقْصَانِ ، نَقْصٌ فِي الثَّمَنِ يُوجِبُ خِيَارَ الْبَائِعِ ، وَنَقْصٌ فِي الْمُثَمَّنِ يُوجِبُ خِيَارَ الْمُشْتَرِي . فَلَمَّا كَانَ النَّقْصُ فِي الْمُثَمَّنِ بِظُهُورِ الْعَيْبِ إِذَا أَوْجَبَ خِيَارَ الْمُشْتَرِي لَمْ يُوجِبْ خِيَارَ الْبَائِعِ لِأَجْلِ مَا ثَبَتَ مِنْ خِيَارِ الْمُشْتَرِي وَجَبَ أَنْ يَكُونَ النَّقْصُ فِي الثَّمَنِ لِعَدَمِ الْوَثِيقَةِ إِذَا أَوْجَبَ خِيَارَ الْبَائِعِ لَمْ يُوجِبْ خِيَارَ الْمُشْتَرِي لِأَجْلِ مَا ثَبَتَ مِنْ خِيَارِ الْبَائِعِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ كَانَا جَهِلَا الرَّهْنَ أَوِ الْحَمِيلَ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) قُلْتُ أَنَا : هَذَا عِنْدِي غَلَطٌ الرَّهْنُ فَاسِدٌ لِلْجَهْلِ بِهِ وَالْبَيْعُ جَائِزٌ لِعِلْمِهِمَا بِهِ وَلِلْبَائِعِ الْخِيَارُ إِنْ شَاءَ أَتَمَّ الْبَيْعَ بِلَا رَهْنٍ وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ لِبُطْلَانِ الْوَثِيقَةِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا شَرَطَ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ رَهْنًا مَجْهُولًا أَوْ ضَمِينًا مَجْهُولًا كَانَ الشَّرْطُ بَاطِلًا وَالرَّهْنُ وَالضَّمَانُ فَاسِدَيْنِ مَا لَمْ يَكُونَا مُعَيَّنَيْنِ . وَقَالَ مَالِكٌ : يَصِحُّ اشْتِرَاطُ الرَّهْنِ وَالضَّمَانِ وَإِنْ لَمْ يَكُونَا مُعَيَّنَيْنِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَصِحُّ اشْتِرَاطُ الضَّمَانِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعَيَّنًا وَلَا يَصِحُّ اشْتِرَاطُ الرَّهْنِ حَتَّى يَكُونَ مُعَيَّنًا ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهَا وَثِيقَةٌ فَجَازَ اشْتِرَاطُهَا غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ كَالشَّهَادَةِ ، وَلِأَنَّ مَا يَتَعَيَّنُ بِالْعُرْفِ يُسْتَغْنَى فِيهِ عَنْ تَعَيُّنِهِ بِالشَّرْطِ كَالْأَثْمَانِ وَالْعُرْفُ فِي الرَّهْنِ أَنْ يَكُونَ بِقِيمَةِ الْحَقِّ ، وَفِي الضَّمَانِ أَنْ يَكُونَ فِي الذِّمَّةِ كَمَا أَنَّ الْعُرْفَ فِي الْأَثْمَانِ الْمُطْلَقَةِ أَنَّهَا مِنْ نَقْدِ الْبَلَدِ . وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الرَّهْنِ وَالضَّمَانِ بِأَنْ بَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الرَّهْنَ يُؤْخَذُ بَدَلًا مِنَ الْحَقِّ فَلَمْ يَصِحَّ إِلَّا مُعَيَّنًا ، وَلَيْسَ الضَّمَانُ بَدَلًا مِنَ الْحَقِّ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا . وَدَلِيلُنَا : أَنَّهُ رَهْنٌ مَجْهُولٌ فَوَجَبَ أَلَّا يَصِحَّ كَالْحَمْلِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ ، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْبَيْعِ لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِاسْتِيفَاءِ الْحَقِّ مِنْ ثَمَنِهِ ، فَلَمَّا كَانَتْ جَهَالَةُ الْمَبِيعِ مَانِعَةً مِنْ صِحَّةِ الْبَيْعِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ جَهَالَةُ الْمَرْهُونِ مَانِعَةً مِنْ صِحَّةِ الرَّهْنِ . وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّهَا جَهَالَةٌ تَمْنَعُ صِحَّةَ الرَّهْنِ فَوَجَبَ أَنْ تَمْنَعَ صِحَّةَ الضَّمَانِ ، أَصْلُهُ إِذَا شَرَطَ أَنْ يَضْمَنَ لَهُ مَنْ شَاءَ زَيْدٌ . فَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الشَّهَادَةِ فَالْمَعْنَى فِي الشَّهَادَةِ أَنَّهَا لَمَّا لَمْ تَتَعَيَّنْ بِالتَّعَيُّنِ جَازَ إِطْلَاقُهَا مِنْ غَيْرِ تَعَيُّنٍ ، وَلَمَّا تَعَيَّنَ الرَّهْنُ وَالضَّمَانُ بِالتَّعَيُّنِ لَمْ يَصِحَّ إِطْلَاقُهُمَا مِنْ غَيْرِ تَعَيُّنٍ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْأَثْمَانِ لِأَنَّهَا تَتَعَيَّنُ بِالْعُرْفِ فَغَلَطٌ لِأَنَّ الْأَثْمَانَ إِنَّمَا يَتَعَيَّنُ مِنْهَا بِالْعُرْفِ وَصْفُهَا دُونُ
قَدْرِهَا ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَاسَ عَلَيْهَا الرُّهُونُ فِي تَعْيِينِ قَدْرِهَا وَوَصْفِهَا مَعَ أَنَّ جِنْسَ الْأَثْمَانِ وَاحِدٌ فَيَصِحُّ تَعَيُّنُهُ بِالْعُرْفِ ، وَلَيْسَ جِنْسُ الرَّهْنِ وَاحِدًا فَيَصِحُّ تَعَيُّنُهُ بِالْعُرْفِ ، عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الرَّهْنِ عُرْفٌ يَتَعَيَّنُ بِهِ : لِأَنَّهُ قَدْ يَرْهَنُ الْقَلِيلَ فِي الْكَثِيرِ وَالْكَثِيرَ فِي الْقَلِيلِ ، فَأَمَّا فَرْقُ أَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ الرَّهْنِ وَالضَّمَانِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فَنَحْنُ نُخَالِفُهُ فِي أَصْلِهِ كَمَا نُخَالِفُهُ فِي فَرْعِهِ . فَصْلٌ : وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ جَهَالَةَ الرَّهْنِ وَالضَّمِينِ هل تقدح فِي صِحَّةِ الرَّهْنِ وَالضَّمَانِ ؟ قَادِحَةٌ فِي صِحَّةِ الرَّهْنِ وَالضَّمَانِ وَأَنَّهُمَا لَا يَصِحَّانِ إِلَّا مُعَيَّنَيْنِ ، فَالضَّامِنُ لَا يَتَعَيَّنُ إِلَّا بِشَيْءٍ وَاحِدٍ ، وَهُوَ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ مُشَاهَدَةً أَوْ تَسْمِيَةً ، فَالْإِشَارَةُ إِلَيْهِ مُشَاهَدَةً أَنْ يَقُولَ عَلَى أَنَّهُ تَضْمَنُ لِي هَذَا وَالْإِشَارَةُ إِلَيْهِ تَسْمِيَةً أَنْ يَقُولَ عَلَى أَنْ يَضْمَنَ لَكَ هَذَا زَيْدٌ ، وَلَا يَصِحُّ بِغَيْرِ الْإِشَارَةِ عَلَى غَيْرِ مُسَمًّى . وَأَمَّا الرَّهْنُ فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ مُشَاهَدَةً أَوْ تَسْمِيَةً كَقَوْلِهِ : عَلَى أَنْ أُرْهِنَكَ عَبْدِي أَوْ أُرْهِنَكَ عَبْدِي سَالِمًا ، وَإِمَّا بِالصِّفَةِ مِنْ غَيْرِ إِشَارَةٍ وَهَذَا فِيمَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا فِي السَّلَمِ كَقَوْلِهِ : عَلَى أَنْ أُرْهِنَكَ عَبْدًا خُمَاسِيًّا وَيَذْكُرُ أَوْصَافَهُ الْمُسْتَحَقَّةَ فِي السَّلَمِ فَيَصِيرُ مُعَيَّنَ الْوَصْفِ ، فَإِذَا أَقْبَضَهُ عَبْدًا بِتِلْكَ الصِّفَةِ صَارَ مُعَيَّنَ الذَّاتِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ إِبْدَالُهُ بَعْدَ قَبْضِهِ بَعِيدًا عَلَى وَصْفِهِ . فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنْ تَعَيُّنَ الرَّهْنِ وَالضَّمِينِ بِمَا وَصَفْنَاهُ ، فَشَرَطَ فِي الْبَيْعِ رَهْنًا أَوْ ضَمِينًا صَحَّ ، وَإِنْ شَرَطَ رَهْنًا أَوْ ضَمِينًا مَجْهُولًا بَطَلَ الشَّرْطُ فِي الرَّهْنِ وَالضَّمَانِ ، وَفِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِأَنَّ الْبَيْعَ وَإِنْ صَحَّ أَنْ يُعَرَّى مِنَ الرَّهْنِ وَالضَّمَانِ فَقَدْ صَارَ الشَّرْطُ صِفَةً مِنْ صِفَاتِهِ كَالْأَجَلِ ، ثُمَّ كَانَ الْجَهْلُ بِالْأَجَلِ مُبْطِلًا لِلْبَيْعِ وَإِنْ صَحَّ أَنْ يُعَرَّى مِنْهُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْجَهْلُ بِالرَّهْنِ وَالضَّمَانِ مُبْطِلًا لِلْبَيْعِ وَإِنْ صَحَّ أَنْ يُعَرَّى مِنْهُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : فِي أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ وَلِلْبَائِعِ الْخِيَارُ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ ، لِأَنَّ الرَّهْنَ يَنْفَرِدُ بِنَفْسِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ فَسَادُهُ فِي الْعَقْدِ بِنَفْسِهِ مُفْسِدًا لِمَا اقْتَرَنَ بِهِ كَالصَّدَاقِ الَّذِي لَمَّا صَحَّ إِفْرَادُهُ عَنِ الْعَقْدِ ، لَمْ يَكُنْ فِي النِّكَاحِ مُفْسِدًا لِلنِّكَاحِ الَّذِي يَقْتَرِنُ بِهِ ، وَلِهَذَا فَارَقَ فَسَادَ الْأَجَلِ ، لِأَنَّ الْأَجَلَ لَا يَصِحُّ إِفْرَادُهُ بِنَفْسِهِ فَكَانَ فَسَادُهُ فِي الْعَقْدِ مُفْسِدًا لِمَا اقْتَرَنَ بِهِ . قَالَ الْمُزَنِيُّ : الرَّهْنُ فَاسِدٌ لِلْجَهْلِ بِهِ وَالْبَيْعُ جَائِزٌ لِلْعِلْمِ بِهِ ، وَلِمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ أَنْ يَنْفَصِلَ عَنْ قَوْلِهِ بِأَنَّ دُخُولَ الْجَهَالَةِ فِي الرَّهْنِ وَفَسَادَهُ يُوجِبُ دُخُولَهُ الْجَهَالَةَ فِي الثَّمَنِ الْمَضْمُونِ بِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ قَالَ أُرْهِنُكَ أَحَدَ عَبْدَيَّ كَانَ فَاسِدًا لَا يَجُوزُ إِلَّا مَعْلُومًا يَعْرِفَانِهِ جَمِيعًا بِعَيْنِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ رَهْنَ الْمَجْهُولِ لَا يَصِحُّ ، فَإِذَا قَالَ : أُرْهِنُكَ أَحَدَ عَبِيدِي ، أَوْ أَحَدَ عَبْدَيَّ هَذَيْنِ ، فَالرَّهْنُ وَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا فِي أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ فَالْجَهَالَةُ حَاصِلَةٌ فِيمَا يَتَنَاوَلُهُ الرَّهْنُ مِنَ الْعَبْدَيْنِ ، وَكَانَ الرَّهْنُ مَجْهُولًا ، إِذْ لَيْسَ بِمَوْصُوفٍ ، وَلَا مُعَيَّنٍ ، وَلِأَنَّهَا جَهَالَةٌ تَمْنَعُ جَوَازَ بَيْعِهِ فَوَجَبَ أَنْ تَمْنَعَ جَوَازَ رَهْنِهِ كَرَهْنِ مَا فِي الصُّنْدُوقِ أَوِ الْقُفْلِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهً : " وَلَوْ أَصَابَ الْمُرْتَهِنُ بَعْدَ الْقَبْضِ بِالرَّهْنِ عَيْبًا فَقَالَ كَانَ بِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَأَنَا أَفْسَخُ الْبَيْعَ ، وَقَالَ الرَّاهِنُ بَلْ حَدَثَ بَعْدَ الْقَبْضِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ إِذَا كَانَ مِثْلُهُ يَحْدُثُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا وَجَدَ الرَّهْنَ مَعِيبًا ، فَادَّعَى الْمُرْتَهِنُ تَقَدُّمَ الْعَيْبِ لِيَفْسَخَ بِهِ الْبَيْعَ ، وَادَّعَى الرَّاهِنُ حُدُوثَهُ لِيَمْنَعَ الْمُرْتَهِنَ مِنْ فَسْخِ الْبَيْعِ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْعَيْبِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَلَّا يُمْكِنَ حُدُوثُ مِثْلِهِ بَعْدَ الْقَبْضِ كَالْأُصْبُعِ الزَّائِدِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ فِي تَقَادُمِ الْعَيْبِ بِلَا يَمِينٍ لِعِلْمِنَا بِصِدْقِهِ وَكَذِبِ الرَّاهِنِ ، فَإِنِ ادَّعَى الرَّاهِنُ أَنَّ الْمُرْتَهِنَ كَانَ عَالِمًا بِهَذَا الْعَيْبِ لَمْ تُسْمَعْ مِنْهُ هَذِهِ الدَّعْوَى : لِأَنَّهُ بِادِّعَائِهِ حُدُوثَ الْعَيْبِ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ مُكَذِّبٌ لِنَفْسِهِ فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنْ تَقَدُّمِ عِلْمِ الْمُرْتَهِنِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَلَّا يُمْكِنَ تَقَدُّمُ مِثْلِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ كَالشَّجَّةِ الدَّامِيَةِ إِذَا وُجِدَتْ بِهِ فِي الْحَالِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَبْضُ الرَّهْنِ سَابِقًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ بِلَا يَمِينٍ ، لِعِلْمِنَا بِصِدْقِهِ وَكَذِبِ الْمُرْتَهِنِ ، وَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ فَسْخُ الْبَيْعِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يُمْكِنَ حُدُوثُ مِثْلِهِ بَعْدَ الْقَبْضِ وَيُمْكِنَ تَقَدُّمُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ ، فَإِنْ كَانَتْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ تَشْهَدُ لَهُ بِمَا يَدَّعِيهِ عُمِلَ عَلَيْهَا . وَالْبَيِّنَةُ شَاهِدَانِ ، أَوْ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ ، أَوْ شَاهِدٌ وَيَمِينٌ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُرْتَهِنَ بِدَعْوَاهُ يُرِيدُ فَسْخَ عَقْدٍ قَدْ ثَبَتَ ، فَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَدَّعِي تَقَدُّمَ عَيْبٍ لَمْ يُشَاهِدْهُ إِلَّا فِي يَدِهِ فَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ . فَإِنْ حَلَفَ الرَّاهِنُ ، لَمْ يَكُنْ لِلْمُرْتَهِنِ فَسْخٌ ، وَإِنْ نَكَلَ الرَّاهِنُ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى
الْمُرْتَهِنِ ، فَإِنْ حَلَفَ ثَبَتَ لَهُ الْفَسْخُ ، وَإِنْ نَكَلَ الْمُرْتَهِنُ أَيْضًا لَمْ يَكُنْ لَهُ الْفَسْخُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ قُتِلَ الرَّاهِنُ بِرِدَّةٍ أَوْ قُطِعَ بِسَرِقَةٍ قَبْلَ الْقَبْضِ كَانَ لَهُ فَسْخُ الْبَيْعِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) قُلْتُ أَنَا : فِي هَذَا دَلِيلٌ أَنَّ الْبَيْعَ وَإِنْ جَهِلَا الرَّهْنَ أَوِ الْحَمِيلَ غَيْرُ فَاسِدٍ وَإِنَمَا لَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ أَوْ إِثْبَاتِهِ لِجَهْلِهِ بِالرَّهْنِ أَوِ الْحَمِيلِ وَبِاللَّهِ التَوْفِيقُ ، ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَإِنْ كَانَ حَدَثَ ذَلِكَ بَعْدَ الْقَبْضِ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَسْخُ الْبَيْعِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ حَالَ الْقَاتِلِ وَالْمُرْتَدِّ وَالسَّارِقِ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ ، وَسَنَذْكُرُ مِنْهُ مَا يَقْتَضِيهِ هَذَا الْمَوْضِعُ ، فَإِذَا قُتِلَ الْعَبْدُ الْمَرْهُونُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ بِرِدَّةٍ أَوْ قِصَاصٍ لَمْ يَخْلُ حَالُ الرِّدَّةِ وَالْجِنَايَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَكُونَ حَادِثَةً بَعْدَ الْقَبْضِ ، أَوْ مُتَقَدِّمَةً ، فَإِذَا كَانَتْ حَادِثَةً فَقَدْ بَطَلَ الرَّهْنُ ، وَلَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ فِي الْبَيْعِ لِحُدُوثِهِ فِي يَدِهِ كَحُدُوثِ الْعَيْبِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَقَدِّمَةً قَبْلَ الْقَبْضِ فَهَلْ لِلْمُرْتَهِنِ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : لَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ : لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى قَتْلِهِ بِالرِّدَّةِ وَالْقِصَاصِ مَجْرَى الِاسْتِحْقَاقِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : لَا خِيَارَ لَهُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ سَوَاءٌ كَانَ عَالِمًا بِرِدَّتِهِ أَمْ لَا : لِأَنَّهُ يَجْرِي قَتْلُهُ بِالرِّدَّةِ وَالْقِصَاصِ مَجْرَى مَوْتِهِ بِالْمَرَضِ . فَصْلٌ : فَإِذَا قُطِعَتْ يَدُهُ بِالسَّرِقَةِ ، الْعَبْدُ الْمَرْهُونُ فَإِنْ كَانَتِ السَّرِقَةُ حَادِثَةً بَعْدَ الْقَبْضِ فَلَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَقَدِّمَةً قَبْلَ الْقَبْضِ نُظِرَ فِي حَالِ الْمُرْتَهِنِ فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِسَرِقَتِهِ فَلَا خِيَارَ لَهُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ : لِأَنَّهُ عَيْبٌ قَدْ كَانَ عَالِمًا بِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِسَرِقَتِهِ فَلَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الرَّهْنِ وَالْبَيْعِ : لِأَنَّهُ عَيْبٌ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى رَدِّهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ مَاتَ فِي يَدَيْهِ وَقَدْ دَلَّسَ لَهُ فِيهِ بِعَيْبٍ قَبْلَ أَنْ يَخْتَارَ فَسْخَ الْبَيْعِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ لِمَا فَاتَ مِنَ الرَّهْنِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا دَلَّسَ الرَّاهِنُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ حَتَّى خَفِيَ عَلَيْهِ ، ثُمَّ عَلِمَ الْمُرْتَهِنُ بِهِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الرَّهْنِ بَعْدَ عِلْمِ الْمُرْتَهِنِ بِعَيْبِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا أَوْ تَالِفًا ، فَإِنْ كَانَ بَاقِيًا فَلِلْمُرْتَهِنِ فَسْخُ الرَّهْنِ وَالْبَيْعِ ، لِأَجْلِ مَا ظَهَرَ عَلَيْهِ مِنَ الْعَيْبِ ، كَمَا لَوْ ظَهَرَ فِيمَا ابْتَاعَهُ عَيْبٌ . وَإِذَا بَذَلَ لَهُ الرَّاهِنُ أَرْشَ الْعَيْبِ لِيَزُولَ عَنْهُ الضَّرَرُ فَيَمْتَنِعَ مِنَ الْفَسْخِ لَمْ يَلْزَمِ
الْمُرْتَهِنَ قَبُولُ الْأَرْشِ ، وَكَانَ لَهُ فَسْخُ الرَّهْنِ وَالْبَيْعِ لِاسْتِحْقَاقِهِ بِوُجُودِ الْعَيْبِ كَالْمُشْتَرِي الَّذِي يَسْتَحِقُّ رَدَّ مَا ابْتَاعَهُ لِوُجُودِ الْعَيْبِ . وَإِنْ بَذَلَ لَهُ الْأَرْشَ ، فَلَوْ لَمْ يَعْلَمِ الْمُرْتَهِنُ بِالْعَيْبِ حَتَّى حَدَثَ عِنْدَهُ بِالرَّهْنِ عَيْبٌ آخَرُ كَانَ لَهُ فَسْخُ الرَّهْنِ وَالْبَيْعِ ، بِخِلَافِ الْمُشْتَرِي الَّذِي لَيْسَ لَهُ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ إِذَا حَدَثَ عِنْدَهُ عَيْبٌ آخَرُ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ عَيْبَ الْمَبِيعِ إِذَا حَدَثَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي مِنْ ضَمَانِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ بَعْدَ حُدُوثِ عَيْبِهِ ، وَلَيْسَ عَيْبُ الرَّهْنِ إِذَا حَدَثَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ مِنْ ضَمَانِهِ ، وَكَانَ لَهُ رَدُّهُ بَعْدَ حُدُوثِ عَيْبِهِ . فَلَوْ لَمْ يَعْلَمِ الْمُرْتَهِنُ بِالْعَيْبِ حَتَّى ارْتَفَعَ فِي يَدِهِ كَانَ فِي خِيَارِهِ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَهُ الْخِيَارُ اعْتِبَارًا بِوُجُوبِهِ فِي الِابْتِدَاءِ . وَالثَّانِي : لَا خِيَارَ لَهُ ، اعْتِبَارًا بِسُقُوطِهِ فِي الِانْتِهَاءِ . فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ الرَّهْنُ تَالِفًا قَبْلَ عِلْمِ الْمُرْتَهِنِ بِعَيْبِهِ ، كَعَبْدٍ مَاتَ فِي يَدِهِ ، أَوْ ثَوْبٍ سُرِقَ مِنْ حِرْزِهِ ، ثُمَّ عَلِمَ حِينَئِذٍ بِعَيْبِهِ فَلَا خِيَارَ لَهُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ لِفَوَاتِ رَدِّهِ وَلَا رُجُوعَ لَهُ بِأَرْشِهِ ، فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي الرُّجُوعُ بِأَرْشِهِ عِنْدَ فَوَاتِ رَدِّهِ ؟ فَهَلَّا كَانَ لِلْمُرْتَهِنِ الرُّجُوعُ بِأَرْشِهِ عِنْدَ فَوَاتِ رَدِّهِ ؟ قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْبَائِعَ لَمَّا أُجْبِرَ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ سَلِيمًا أُجْبِرَ عَلَى تَسْلِيمِ أَرْشِهِ مَعِيبًا ، وَلَمَّا لَمْ يُجْبَرِ الرَّاهِنُ عَلَى تَسْلِيمِ الرَّهْنِ سَلِيمًا ، لَمْ يُجْبَرْ عَلَى تَسْلِيمِ أَرْشِهِ مَعِيبًا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ عَلَى الْبَائِعِ رَدُّ الثَّمَنِ عِنْدَ تَعَذُّرِ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّ الْأَرْشِ عِنْدَ تَعَذُّرِ رَدِّ الْمَبِيعِ ، وَلَمَّا لَمْ يَجِبْ عَلَى الرَّاهِنِ دَفْعُ الْحَقِّ عِنْدَ تَعَذُّرِ تَسْلِيمِ الرَّهْنِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ رَدُّ الْأَرْشِ لِفَوَاتِ رَدِّ الرَّهْنِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي مَنْعِ الْمُشْتَرِي مِنَ الْأَرْشِ تَفْوِيتٌ لِحَقِّهِ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ بِهِ ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي مَنْعِ الْمُرْتَهِنِ مِنَ الْأَرْشِ تَفْوِيتٌ لِحَقِّهِ ، لِأَنَّ حَقَّهُ مُوَثَّقٌ فِي ذِمَّةِ رَاهِنِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ بِهِ . فَصْلٌ : وَإِذَا ارْتَهَنَ عَبْدَيْنِ فَقَبَضَ أَحَدَهُمَا فَمَاتَ فِي يَدِهِ وَمَاتَ الْآخَرُ فِي يَدِ رَاهِنِهِ أَوْ مَاتَ فِي يَدِهِ ، لَمْ يَكُنْ لِلْمُرْتَهِنِ رَدُّ الْبَيْعِ لِفَوَاتِ رَدِّ مَا تَلِفَ بِيَدِهِ . فَصْلٌ : إِذَا ارْتَهَنَ عَبْدًا فَقُتِلَ فِي يَدِ مُرْتَهِنِهِ ، ثُمَّ عَلِمَ الْمُرْتَهِنُ بِعَيْبٍ كَانَ بِهِ ، فَإِنْ كَانَ قَتْلُهُ قَدْ أَوْجَبَ مَالًا ، تَرَكَ مَكَانَهُ رَهْنًا ، وَلِلْمُرْتَهِنِ فَسْخُ الْبَيْعِ : لِأَنَّهُ وَإِنْ فَاتَ رَدُّ الْعَبْدِ بِعَيْنِهِ
فَقَدْ رَدَّ مَا قَامَ مَقَامَهُ مِنْ قِيمَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَوْجَبَ قِصَاصًا اقْتُصَّ لَهُ مِنْ قَاتِلِهِ ، وَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ فَسْخُ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ فِي اقْتِصَاصِ سَيِّدِهِ وَاسْتِرْجَاعِ بَدَلِهِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ الْفَسْخُ مَعَ خُرُوجِهِ بِالْقَتْلِ وَالْقِصَاصِ مِنْ يَدِهِ ، فَأَوْلَى أَلَّا يَكُونَ لَهُ الْفَسْخُ إِذَا عَلِمَ بِعَيْبِهِ . فَصْلٌ : فَلَوْ بِيعَ الرَّهْنُ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ ، ثُمَّ عَلِمَ الْمُرْتَهِنُ بِتَقَدُّمِ عَيْبِهِ لَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ فَسْخُ الْبَيْعِ وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ بَاقِيًا ، فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا كَانَ لَهُ فَسْخُ الْبَيْعِ وَرَدُّ الثَّمَنِ ، لِأَنَّ الثَّمَنَ بَدَلٌ يَقُومُ مَقَامَهُ كَالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إِذَا أُخِذَتْ قِيمَتُهُ ، ثُمَّ عَلِمَ الْمُرْتَهِنُ بِعَيْبِهِ تَكُونُ الْقِيمَةُ الْمَأْخُوذَةُ قَائِمَةً مَقَامَ رَدِّهِ بِعَيْبِهِ ، وَلَهُ فَسْخُ الْبَيْعِ . قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَبِيعِ وَالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَبِيعَ قَدْ عَاوَضَ عَلَيْهِ سَلِيمًا ، وَلَمْ يَكُنْ نَقْصُ الْعَيْبِ مُؤَثِّرًا إِذَا لَمْ يَظْهَرْ عَيْبُهُ إِلَّا بَعْدَ نُفُوذِ بَيْعِهِ كَالْمُشْتَرِي إِذَا بَاعَ ثُمَّ ظَهَرَ عَلَى عَيْبٍ لَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَسْخٌ وَلَا أَرْشٌ ، وَلَيْسَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ فِيهِ قِيمَتُهُ الَّتِي كَانَ يُسَاوِيهَا وَقْتَ الْجِنَايَةِ مَعَ نَقْصِهِ بِالْعَيْبِ فَافْتَرَقَا . فَلَوْ أَنَّ مُشْتَرِيَ الرَّهْنِ ظَهَرَ عَلَى عَيْبِهِ فَرَدَّهُ بِهِ ، وَطَالَبَ بِرَدِّ ثَمَنِهِ نُظِرَ ، فَإِنِ اسْتَرْجَعَ الثَّمَنَ مِنْ يَدِ الْمُرْتَهِنِ أَوْ مِنْ يَدِ الْعَدْلِ الْمَوْضُوعِ عَلَى يَدِهِ الرَّهْنُ ، فَلِلْمُرْتَهِنِ فَسْخُ الْبَيْعِ ، لِأَنَّ الرَّهْنَ قَدْ عَادَ إِلَى حُكْمِهِ قَبْلَ الْبَيْعِ . وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ رَجَعَ عَلَى الرَّاهِنِ بِالثَّمَنِ وَلَمْ يَسْتَرْجِعْهُ مِنْ يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ فَسْخُ الْبَيْعِ لِسَلَامَةِ الثَّمَنِ لَهُ وَارْتِفَاعِ ضَرَرِ النَّقْصِ عَنْهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِطَا رَهْنًا فِي الْبَيْعِ فَتَطَوَّعَ الْمُشْتَرِي فَرَهَنَهُ فَلَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى إِخْرَاجِهِ مِنَ الرَّهْنِ وَبَقِيَ مِنَ الْحَقِّ شَيْءٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، التَّطَوُّعُ بِالرَّهْنِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ جَائِزٌ كَجَوَازِهِ لَوْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي الْبَيْعِ ، لِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ فَيَصِحُّ التَّطَوُّعُ بِهَا كَالشَّهَادَةِ وَالضَّمَانِ ، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ عَقْدٌ يَنْفَرِدُ بِحُكْمِهِ بِدَلِيلِ افْتِقَارِهِ إِلَى بَذْلٍ وَقَبُولٍ ، فَصَحَّ عَقْدُهُ مُفْرَدًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا فِي غَيْرِهِ كَسَائِرِ الْعُقُودِ ، وَلَيْسَ كَالْأَجَلِ الَّذِي لَا يَصِحُّ بِغَيْرِ شَرْطٍ فِي الْعَقْدِ : لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَقْدٍ يَنْفَرِدُ بِحُكْمِهِ ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَتَطَوَّعَ الْمُشْتَرِي فَأَعْطَى الْبَائِعَ رَهْنًا بِالثَّمَنِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ عَلَيْهِ فَقَدْ لَزِمَ الرَّهْنُ بِإِقْبَاضِهِ كَمَا لَوْ كَانَ مَشْرُوطًا ، وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي انْتِزَاعُ الرَّهْنِ إِلَّا بَعْدَ قَضَاءِ الْحَقِّ كُلِّهِ ، وَتَكُونُ جَمِيعُ أَحْكَامِ هَذَا الرَّهْنِ كَأَحْكَامِ الرَّهْنِ لِلشُّرُوطِ فِي الْبَيْعِ إِلَّا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ ، وَهُوَ أَنَّ الْبَائِعَ الْمُرْتَهِنَ إِذَا بَانَ لَهُ بِالرَّهْنِ عَيْبٌ مُتَقَدِّمٌ لَيْسَ لَهُ فَسْخُ الْبَيْعِ . وَلَوْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي الْبَيْعِ كَانَ لَهُ فَسْخُ الْبَيْعِ : لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَشْرُوطًا فَقَدْ دَخَلَ عَلَيْهِ
بِظُهُورِ الْعَيْبِ نَقْصٌ ، وَإِذَا كَانَ تَطَوُّعًا لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِ نَقْصٌ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الْفَسْخُ : لِأَنَّهُ بَعْدَ ظُهُورِ الْعَيْبِ زِيَادَةٌ مَحْضَةٌ تَطَوَّعَ بِهَا الْمُشْتَرِي .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوِ اشْتَرَطَا أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ نَفْسُهُ رَهْنًا فَالْبَيْعُ مَفْسُوخٌ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَمْ يُمَلِّكْهُ الْمَبِيعَ إِلَا بِأَنْ يَكُونَ مَحْبُوسًا عَلَى الْمُشْتَرِي " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا شَرَطَا فِي عَقْدِ الْبَيْعِ أَنْ يَكُونَ مَا ابْتَاعَهُ رَهْنًا عَلَى ثَمَنِهِ كَانَ رَهْنًا بَاطِلًا وَبَيْعًا بَاطِلًا ، أَمَّا بُطْلَانُ الرَّهْنِ فَلِمَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ عُقِدَ الرَّهْنُ عَلَيْهِ قَبْلَ مِلْكِهِ لَهُ : لِأَنَّهُ يَمْلِكُ مَا ابْتَاعَهُ ، إِمَّا بِالْعَقْدِ وَالِافْتِرَاقِ ، أَوْ بِالْعَقْدِ وَحْدَهُ ، وَهُوَ عَقَدَ الرَّهْنَ عَلَيْهِ قَبْلَ وُجُودِ هَذَيْنِ ، فَكَانَ رَهْنًا لَهُ قَبْلَ مِلْكِهِ ، وَالرَّهْنُ قَبْلَ الْمَلِكِ بَاطِلٌ . وَالثَّانِي : أَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ يَنْفِي ضَمَانَ الثَّمَنِ : لِأَنَّهُ عَقْدُ أَمَانَةٍ فَإِذَا وَجَبَ ضَمَانُهُ بِالتَّعَدِّي كَانَ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ دُونَ الثَّمَنِ ، وَالْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ مَضْمُونٌ عَلَى بَائِعِهِ بِالثَّمَنِ . فَإِذَا جَعَلَ الْمَبِيعَ الْمَضْمُونَ بِالثَّمَنِ رَهْنًا هل يجب ضمانه ؟ لَا يَجِبُ ضَمَانُهُ بِالثَّمَنِ ، صَارَ مُشْتَرِطًا فِي الرَّهْنِ ضَمَانًا يُنَافِيهِ فَبَطَلَ . فَأَمَّا بُطْلَانُ الْبَيْعِ فَلِمَعْنَيَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ يُوجِبُ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ ، وَعَقْدَ الرَّهْنِ يُوجِبُ حَبْسَ الْمَرْهُونِ ، فَإِذَا اشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ رَهْنًا فَقَدْ شَرَطَ فِي الْبَيْعِ تَأْخِيرَ التَّسْلِيمِ ، وَبُيُوعُ الْأَعْيَانِ بِشَرْطِ تَأْخِيرِ التَّسْلِيمِ بَاطِلَةٌ . وَالثَّانِي : أَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ يَنْقُلُ مَنَافِعَ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي كَمَا يَنْقُلُ الْمِلْكَ ، فَإِذَا شَرَطَ ارْتِهَانَ الْمَبِيعِ فَقَدْ شَرَطَ لِنَفْسِهِ مَنْفَعَةَ الْمَبِيعِ ، كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا . فَإِنْ قِيلَ : ارْتِهَانُ الْمَبِيعِ إِنَّمَا هُوَ حَبْسُ الْمَبِيعِ عَلَى ثَمَنِهِ وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَحْبِسَ مَا بَاعَهُ حَتَّى يَقْبِضَ ثَمَنَهُ ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا مِنْ غَيْرِ شَرْطِ ارْتِهَانِهِ كَانَ مَعَ شَرْطِ ارْتِهَانِهِ أَوْلَى بِالْجَوَازِ . قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَبِيعَ الْمَحْبُوسَ عَلَى ثَمَنِهِ مَضْمُونٌ بِالثَّمَنِ وَالرَّهْنُ يَنْفِي ضَمَانَ الثَّمَنِ . وَالثَّانِي : أَنِ الْمَبِيعَ الْمَحْبُوسَ عَلَى ثَمَنِهِ يَمْنَعُ مِنْ بَيْعِهِ عِنْدَ تَأَخُّرِ ثَمَنِهِ وَالرَّهْنُ يُوجِبُ بَيْعَهُ عِنْدَ تَأَخُّرِ مَا رُهِنَ بِهِ ، فَافْتَرَقَ حُكْمُهُمَا مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ . فَصْلٌ : فَإِذَا تَبَايَعَا سِلْعَةً بِشَرْطِ أَنْ يُسَلِّمَهَا إِلَى الْمُشْتَرِي فَإِذَا صَارَتْ فِي قَبْضِ الْمُشْتَرِي
رَهَنَهَا عِنْدَ الْبَائِعِ عَلَى ثَمَنِهَا كَانَ الرَّهْنُ بَاطِلًا وَالْبَيْعُ بَاطِلًا ، أَمَّا بُطْلَانُ الرَّهْنِ فَلِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّهُ رَهَنَهُ قَبْلَ مِلْكِهِ ، وَأَمَّا بُطْلَانُ الْبَيْعِ فَلِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّهُ شَرَطَ مَنْفَعَةَ مَا بَاعَهُ . فَصْلٌ : فَلَوْ بَاعَ سِلْعَةً بِغَيْرِ شَرْطِ رَهْنِ الْمَبِيعِ ، ثُمَّ إِنَّ الْمُشْتَرِيَ رَهَنَهَا قَبْلَ قَبْضِهَا عِنْدَ بَايِعِهَا أَوْ غَيْرِ بَايِعِهَا ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَرْهَنَهَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ ، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ لِسَلَامَتِهِ مِنْ شَرْطٍ يُفْسِدُهُ وَالرَّهْنُ بَاطِلٌ سَوَاءٌ رَهَنَهُ عِنْدَ الْبَائِعِ أَوْ غَيْرِ الْبَائِعِ : لِأَنَّهُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ غَيْرُ مُسْتَقِرِّ الْمِلْكِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَرْهَنَهُ بَعْدَ التَّفَرُّقِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْبَائِعُ لَمْ يَقْبِضِ الثَّمَنَ فَرَهْنُهُ غَيْرُ جَائِزٍ سَوَاءٌ رَهَنَهُ عِنْدَ الْبَائِعِ أَوْ عِنْدَ غَيْرِهِ ، لِأَنَّ لِلْبَائِعِ حَبْسَ الْمَبِيعِ عَلَى ثَمَنِهِ فَلَا مَعْنَى لِارْتِهَانِهِ عَلَى ثَمَنِهِ ، وَلَا عِنْدَ غَيْرِ بَائِعِهِ لِحَقِّ الْبَائِعِ فِي حَبْسِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْبَائِعُ قَدْ قَبَضَ الثَّمَنَ ، فَفِي جَوَازِ رَهْنِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ يَجُوزُ رَهْنُهُ عِنْدَ بَائِعِهِ وَغَيْرِ بَائِعِهِ ، وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنَ الْبَغْدَادِيِّينَ وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ جَوَّزَ إِجَارَةَ الْمَبِيعِ قَبْلَ قَبْضِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ لَا مِنْ بَائِعِهِ وَلَا مِنْ غَيْرِ بَائِعِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَطَائِفَةٍ ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ مَنَعَ مِنْ إِجَارَةِ الْمَبِيعِ قَبْلَ قَبْضِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ رَهْنَهُ جَائِزٌ عِنْدَ غَيْرِ بَائِعِهِ وَرَهْنَهُ عِنْدَ بَائِعِهِ غَيْرُ جَائِزٍ وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْبَصْرِيِّينَ ، لِأَنَّ رَهْنَهُ عِنْدَ بَائِعِهِ يُوجِبُ اسْتِدَامَةَ ضَمَانِهِ بِالثَّمَنِ الْمُنَافِي لِلرَّهْنِ ، وَرَهْنَهُ عِنْدَ غَيْرِ بَائِعِهِ يَنْفِي هَذَا الضَّمَانَ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ قَالَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ أُرْهِنُكَ عَلَى أَنْ تَزِيدَنِي فِي الْأَجَلِ فَفَعَلَا فَالرَّهْنُ مَفْسُوخٌ وَالْحَقُّ الْأَوَّلُ بِحَالِهِ وَيَرُدُّ مَا زَادَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . إِذَا كَانَ الْحَقُّ حَالًّا فَقَالَ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ لِمَنْ هُوَ لَهُ : أُعْطِيكَ بِحَقِّكَ رَهْنًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ الْحَقَّ مُؤَجَّلًا ، أَوْ كَانَ الْحَقُّ إِلَى سَنَةٍ فَقَالَ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ : أُعْطِيكَ بِهِ رَهْنًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَهُ مُؤَجَّلًا إِلَى سَنَتَيْنِ فَفَعَلَا ذَلِكَ وَأَجَّلَا الْحَقَّ وَوَثَّقَاهُ بِالرَّهْنِ ، فَالشَّرْطُ فِي الْأَجَلِ بَاطِلٌ ، وَالرَّهْنُ فَاسِدٌ . أَمَّا بُطْلَانُ الشَّرْطِ فِي الْأَجَلِ فَلِمَعْنَيَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْأَجَلَ لَا يَنْفَرِدُ عَنِ الْعَقْدِ وَلَا يُفْرَدُ بِالْعَقْدِ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ فِي الْبَيْعِ تَبَعًا لِلْعَقْدِ ، وَقَدْ عَرَّى الْأَجَلَ هَاهُنَا عَنْ أَنْ يَكُونَ تَبَعًا لِلْعَقْدِ . وَالثَّانِي : أَنَّ أَخْذَ الْعِوَضِ عَنِ الْأَجَلِ رِبًا ، وَالرَّهْنُ عِوَضٌ مَأْخُوذٌ عَنِ الْأَجَلِ ، فَلَمْ يَصِحَّ . وَأَمَّا بُطْلَانُ الرَّهْنِ فَلِمَعْنًى وَاحِدٍ ، وَهُوَ أَنَّهُ عُقِدَ عَلَى شَرْطِ خِيَارٍ فِي مُقَابَلَتِهِ ، فَلَمَّا بَطَلَ الشَّرْطُ فِي الْأَجَلِ ، بَطَلَ مَا فِي مُقَابَلَتِهِ مِنَ الرَّهْنِ ، فَإِذَا ثَبَتَ بُطْلَانُ الشَّرْطِ وَالرَّهْنِ فَالْحَقُّ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ قَبْلِ حُلُولٍ أَوْ تَأْجِيلٍ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا أَقَرَّ أَنَّ الْمَوْضُوعَ عَلَى يَدَيْهِ قَبَضَ الرَّهْنَ جَعَلْتُهُ رَهْنًا وَلَمْ أَقْبَلْ قَوْلَ الَعَدْلِ : لَمْ أَقْبِضْهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ اخْتِصَارٌ ، وَصُورَتُهَا فِي مُتَبَايِعَيْنِ شَرَطَا فِي عَقْدِ الْبَيْعِ رَهْنًا يَضَعَانِهِ عَلَى يَدِ عَدْلٍ ، فَأَقَرَّ الرَّاهِنُ الْمُشْتَرِي بِتَسْلِيمِ الرَّهْنِ ، وَأَقَرَّ الْمُرْتَهِنُ الْبَائِعُ بِقَبْضِ الرَّهْنِ ، وَأَنْكَرَ الْعَدْلُ أَنْ يَكُونَ قَبَضَ الرَّهْنَ ، فما الحكم فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ ، وَالرَّهْنُ قَدْ تَمَّ وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ إِنْكَارُ الْعَدْلِ ، لِأَنَّ مَنْ بِهِ يَتِمُّ الرَّهْنُ هُوَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ دُونَ الْعَدْلِ ، وَقَدْ أَقَرَّا بِتَمَامِهِ ، وَإِذَا كَانَ قَوْلُهُمَا مَقْبُولًا فَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ فَسْخُ الْبَيْعِ ، لِإِقْرَارِهِ بِقَبْضِ الرَّهْنِ ، وَلَا لِلرَّاهِنِ الرُّجُوعُ فِيهِ لِإِقْرَارِهِ بِتَسْلِيمِ الرَّهْنِ ، غَيْرَ أَنَّ إِقْرَارَهُمَا بِالرَّهْنِ لَا يَكُونُ مَقْبُولًا عَلَى الْعَدْلِ ، وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْعَدْلِ مَعَ يَمِينِهِ بِاللَّهِ مَا قَبَضْتُهُ إِنِ ادَّعَيَاهُ فِي يَدِهِ ، فَإِذَا حَلَفَ صَارَ الرَّهْنُ تَالِفًا ، وَلَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ : لِأَنَّهُ رَهْنٌ مَحْكُومٌ بِتَلَفِهِ بَعْدَ الْقَبْضِ ، وَإِنْ لَمْ يَدَّعِيَاهُ فِي يَدِهِ وَكَانَ مَعَ أَحَدِهِمَا فَلَا يَمِينَ عَلَى الْعَدْلِ ، وَلَهُمَا أَنْ يَضَعَاهُ عَلَى يَدِ مَنْ يَرْتَضِيَانِهِ . فَصْلٌ : فَلَوْ أَقَرَّ الْمُرْتَهِنُ وَالْعَدْلُ بِقَبْضِ الرَّهْنِ ، وَأَنْكَرَ الرَّاهِنُ ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ بِاللَّهِ مَا أُقْبِضَ ، ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ الرَّهْنِ الَّذِي أَقَرَّ الْعَدْلُ وَالْمُرْتَهِنُ بِقَبْضِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا أَوْ تَالِفًا ، فَإِنْ كَانَ بَاقِيًا فَلِلرَّاهِنِ انْتِزَاعُهُ وَاسْتِرْجَاعُهُ ، فَإِذَا اسْتَرْجَعَهُ قِيلَ لَهُ : إِنْ أُقْبِضْتَ الرَّهْنَ فَلَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ ، وَإِنِ امْتَنَعْتَ مِنْ إِقْبَاضِهِ فَلِلْمُرْتَهِنِ فِي الْبَيْعِ الْخِيَارُ بَيْنَ فَسْخِهِ أَوْ إِمْضَائِهِ ، وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ تَالِفًا فَلَهُ الرُّجُوعُ بِقِيمَتِهِ عَلَى مَنْ شَاءَ مِنَ الْعَدْلِ أَوِ الْمُرْتَهِنِ ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُقِرٌّ بِقَبْضِهِ ، وَقَدْ حَكَمْنَا بِإِقْرَارِ أَنَّهُ غَيْرُ مَقْبُوضٍ فِي الرَّهْنِ فَصَارَ مَقْبُوضًا بِالتَّعَدِّي فَلَزِمَهُ ضَمَانُهُ بِالتَّلَفِ ، فَإِنْ رَجَعَ الرَّاهِنُ عَلَى الْعَدْلِ وَأَغْرَمَهُ قِيمَةَ الرَّهْنِ فَلَا رُجُوعَ لِلْعَدْلِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ : لِأَنَّهُ مُقِرٌّ أَنَّ الرَّاهِنَ ظَلَمَهُ بِهَا ، وَلَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ
فِي فَسْخِ الْبَيْعِ : لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِقَبْضِ مَا شَرَطَهُ مِنَ الرَّهْنِ ، فَإِنْ رَجَعَ الرَّاهِنُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ فَأَغْرَمَهُ قِيمَةَ الرَّهْنِ ، فَلَا رُجُوعَ لِلْمُرْتَهِنِ عَلَى الْعَدْلِ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ أَنَّ الْعَدْلَ أَمِينٌ ، وَأَنَّ الرَّاهِنَ ظَالِمٌ ، وَلِلْمُرْتَهِنِ فِي الْبَيْعِ الْخِيَارُ بَيْنَ فَسْخِهِ وَإِمْضَائِهِ لِأَنَّ حُكْمَنَا عَلَيْهِ يُغَرِّمُ الْقِيمَةَ وَهُوَ حُكْمٌ يَرُدُّ الرَّهْنَ ، فَلَمْ يَكُنْ مَا تَقَدَّمَ مِنْ إِقْرَارِهِ بِالْقَبْضِ مَانِعًا مِنَ الْفَسْخِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا رَجَعَ الرَّاهِنُ بِالْغُرْمِ عَلَى الْعَدْلِ إِذْ لَيْسَ فِيهِ حُكْمٌ عَلَى الْمُرْتَهِنِ بِرَدِّ الرَّهْنِ . فَصْلٌ : وَلَوْ أَقَرَّ الرَّاهِنُ وَالْعَدْلُ بِقَبْضِ الرَّهْنِ وَأَنْكَرَ الْمُرْتَهِنُ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الرَّهْنِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا أَوْ تَالِفًا ، فَإِنْ كَانَ بَاقِيًا فَلَا يَمِينَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّهُ وَإِنْ أَنْكَرَ قَبْضَهُ مِنْ قَبْلُ ، أُمِرَ بِقَبْضِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، فَإِنِ امْتَنَعَ مِنْ قَبْضِهِ ثُمَّ تَلِفَ بَعْدَ امْتِنَاعِهِ لَزِمَهُ إِمْضَاءُ الْبَيْعِ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ الْفَسْخُ ، فَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ تَالِفًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ : بِاللَّهِ مَا قَبَضَ الرَّهْنَ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِمَا يَدَّعِيهِ الرَّاهِنُ مِنَ الْإِقْبَاضِ ، فَإِذَا حَلَفَ فَلَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ شَرَطَ فِيهِ رَهْنًا لَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ بِقَبْضِهِ ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْعَدْلِ عَلَيْهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا عَلَيْهِ : لِأَنَّ إِقْرَارَ الْعَدْلِ بِقَبْضِهِ شَهَادَةٌ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ ، وَشَهَادَةُ الْإِنْسَانِ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ مَرْدُودَةٌ ، وَلَيْسَ عَلَى الْعَدْلِ عَزْمُ مَا تَلِفَ بِيَدِهِ مِنَ الرَّهْنِ ، لِأَنَّ الرَّاهِنَ مُقِرٌّ أَنَّهُ أَمِينٌ فَلَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانٌ وَالْمُرْتَهِنُ مُنْكِرٌ أَنْ يَكُونَ قَبَضَ فَأَوْلَى أَلَّا يَلْزَمَهُ ضَمَانٌ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَأَيُّهُمَا مَاتَ قَامَ وَارِثُهُ مَقَامَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . إِذَا مَاتَ أَحَدُ مُتَعَاقِدَيِ الرَّهْنِ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ فَلَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ ، فَإِنْ كَانَ مَوْتُهُ بَعْدَ الْقَبْضِ لَمْ يَبْطُلْ بِمَوْتِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، لِأَنَّ الرَّهْنَ بَعْدَ الْقَبْضِ لَازِمٌ ، وَالْعُقُودُ اللَّازِمَةُ لَا تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ هُوَ الرَّاهِنَ فَقَدْ حَلَّ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ الْمُؤَجَّلِ بِمَوْتِهِ وَالرَّهْنُ عَلَى حَالِهِ فِي يَدِ مُرْتَهِنِهِ حَتَّى يَقْبِضَ الْحَقَّ مِنْ وَرَثَتِهِ أَوْ يُبَاعَ الرَّهْنُ إِنِ امْتَنَعَ الْوَارِثُ لِيَقْبِضَ الْمُرْتَهِنُ حَقَّهُ مِنْ ثَمَنِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ هُوَ الْمُرْتَهِنَ فَحَقُّهُ فِي ذِمَّةِ الرَّاهِنِ إِلَى أَجَلِهِ لِأَنَّ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ يُحَلُّ بِمَوْتِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ ، وَلَا يُحَلُّ بِمَوْتِ مَنْ هُوَ لَهُ ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الرَّهْنِ فَإِنْ كَانَتْ عَلَى يَدِ عَدْلٍ وَجَبَ إِقْرَارُهُ فِي يَدِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ لِلرَّاهِنِ وَلَا لِوَارِثِ الْمُرْتَهِنِ إِخْرَاجُهُ مِنْ يَدِهِ إِلَّا أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى إِخْرَاجِهِ ، ثُمَّ لِوَارِثِ الْمُرْتَهِنِ مُطَالَبَةُ الرَّاهِنِ بِالْحَقِّ عِنْدَ حُلُولِ أَجَلِهِ . وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ عَلَى يَدِ الْمُرْتَهِنِ لَمْ يَلْزَمِ الرَّاهِنَ إِقْرَارُ الرَّهْنِ فِي يَدِ وَارِثِهِ إِلَّا بِاخْتِيَارِهِ ، وَلَهُ أَنْ يَنْتَزِعَهُ مِنْ يَدِ الْوَارِثِ : لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِأَمَانَتِهِ وَيَضَعَانِهِ عَلَى يَدِ عَدْلٍ يَرْضَيَانِ بِهِ ، فَإِنْ تَمَانَعَا وَاخْتَلَفَا ارْتَضَى الْحَاكِمُ لَهُمَا عَدْلًا ، فَإِنْ مَنَعَ الْوَارِثُ مِنْ تَسْلِيمِ الرَّهْنِ ضَمِنَهُ .
فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الْمَوْتُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَالْحَيُّ مِنْهُمَا وَوَارِثُ الْمَيِّتِ عَلَى حَالِهِمَا ، إِنْ أَحَبَّا أَنْ يُمْضِيَا الرَّهْنَ أَمْضَيَاهُ ، لِأَنَّ الرَّهْنَ قَبْلَ الْقَبْضِ غَيْرُ لَازِمٍ ، ثُمَّ هَلْ يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ حُكْمُ الْعَقْدِ الْمُتَقَدِّمِ حَتَّى إِنْ أَحَبَّا إِمْضَاءَ الرَّهْنِ اسْتَأْنَفَاهُ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ : قُلْتُ أَنَا : وَجُمْلَةُ قَوْلِهِ فِي اخْتِلَافِ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاهِنِ فِي الْحَقِّ وَالْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ فِي الرَّهْنِ فِيمَا يُشْبِهُ وَلَا يُشْبِهُ وَيَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى دَعْوَى صَاحِبِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الْمُزَنِيَّ ذَكَرَ جُمْلَةً مُجْمَلَةً لَهَا تَفْصِيلٌ ، وَبَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي تَأْوِيلِهَا خِلَافٌ ، وَلِلْكَلَامِ فِيهَا مُقَدِّمَةٌ ، فَمُقَدِّمَتُهَا وَمَا بِهِ يَنْكَشِفُ إِجْمَالُهَا شَرْحُ الْمَذْهَبِ فِي اخْتِلَافِ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ فِي الْحَقِّ ، الْقَوْلَ قَوْلُ من منهما وَفِي اخْتِلَافِهِمَا فِي الرَّهْنِ ، فَأَمَّا اخْتِلَافُهُمَا فِي الْحَقِّ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَخْتَلِفَا فِي أَصْلِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَخْتَلِفَا فِي قَدْرِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَخْتَلِفَا فِي وَصْفِهِ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَخْتَلِفَا فِي أَصْلِ الْحَقِّ فَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ الْمُرْتَهِنُ : لِي عَلَيْكَ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ بَيْعٍ أَوْ قَرْضٍ رَهَنْتَنِي بِهَا عَبْدَكَ سَالِمًا ، فَيَقُولُ الرَّاهِنُ : لَيْسَ لَكَ عَلَيَّ شَيْءٌ مِنْ بَيْعٍ وَلَا قَرْضٍ ، أَوْ يَقُولُ : أَقْرَضَتْنِي أَلْفًا وَلَمْ تُقْبِضْنِي وَرَهَنْتُكَ سَالِمًا عَلَى أَنْ تُقْبِضَنِي مَا أَقْرَضْتَنِي ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ ، بِاللَّهِ مَا لِلْمُرْتَهِنِ عَلَيْهِ الْأَلْفُ الَّتِي ادَّعَاهَا ، أَوْ مَا أَقْبَضَهُ الْأَلْفَ الَّتِي أَقْرَضَهُ إِيَّاهَا ، فَإِذَا حَلَفَ الرَّاهِنُ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ فِي الْحُكْمِ وَلَا رَهْنَ بَيْنَهُمَا ، لِأَنَّ الرَّهْنَ إِنَّمَا يَصِحُّ بَعْدَ ثُبُوتِ الْحَقِّ . فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ اخْتِلَافُهُمَا فِي قَدْرِ الْحَقِّ فَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ الْمُرْتَهِنُ ، رَهَنْتَنِي عَبْدَكَ سَالِمًا فِي أَلْفٍ ، فَيَقُولُ الرَّاهِنُ : رَهَنْتُكَ فِي خَمْسِمِائَةٍ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الرَّاهِنُ مُقِرًّا بِخَمْسِمِائَةٍ وَمُنْكِرًا مَا زَادَ عَلَيْهَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مُقِرًّا بِالْأَلْفِ كُلِّهَا وَمُنْكِرًا أَنْ يَكُونَ سَالِمٌ رَهْنًا إِلَّا فِي خَمْسِمِائَةٍ مِنْهَا ، فَإِنْ كَانَ مُقِرًّا بِخَمْسِمِائَةٍ وَمُنْكِرًا مَا زَادَ عَلَيْهَا ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ فِي نَفْسِ مَا زَادَ عَلَيْهَا ، فَيَقُولُ : وَاللَّهِ مَا لَهُ أَكْثَرُ مِنْ خَمْسِمِائَةٍ ، فَإِذَا حَلَفَ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ فِي الْحُكْمِ مِمَّا زَادَ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ ، وَكَانَ سَالِمٌ رَهْنًا بِهَا .
وَإِنْ كَانَ مُقِرًّا بِالْأَلْفِ كُلِّهَا وَمُنْكِرًا أَنْ يَكُونَ سَالِمٌ رَهْنًا إِلَّا فِي خَمْسِمِائَةٍ مِنْهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ : بِاللَّهِ مَا رَهَنَهُ سَالِمًا إِلَّا فِي خَمْسِمِائَةٍ وَسَوَاءٌ كَانَ سَالِمٌ يُسَاوِي أَلْفًا أَوْ خَمْسَمِائَةٍ . وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ كَانَ سَالِمٌ الْمَرْهُونُ يُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ فَمَا دُونَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ وَيَكُونُ رَهْنًا بِخَمْسِمِائَةٍ ، وَإِنْ كَانَ سَالِمٌ يُسَاوِي أَلْفًا فَمَا زَادَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ ، وَيَكُونُ رَهْنًا بِالْأَلْفِ ، اسْتِدْلَالًا بِالْعَادَةِ وَاسْتِشْهَادًا بِالْعُرْفِ ، إِنَّ الْعَبْدَ يَكُونُ رَهْنًا بِقَدْرِ قِيمَتِهِ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمْ عُمُومُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ . وَلِأَنَّ إِنْكَارَ الرَّاهِنِ مَا زَادَ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ أَغْلَظُ مِنْ إِنْكَارِهِ الرَّهْنَ فِيهَا مَعَ إِقْرَارِهِ بِهَا ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ الِاسْتِشْهَادُ بِالْعُرْفِ فِي اعْتِبَارِهِ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ دَلِيلًا عَلَى قَبُولِ قَوْلِ الْمُرْتَهِنِ فِي إِثْبَاتِ الزِّيَادَةِ لَمْ يَكُنْ دَلِيلًا عَلَى قَبُولِهِ فِي إِثْبَاتِ الرَّهْنِ فِي الزِّيَادَةِ ، وَلِأَنَّ إِنْكَارَهُ الْأَلْفَ فِي جَمِيعِ الرَّهْنِ أَعْظَمُ مِنْ إِنْكَارِهِ الرَّهْنَ فِي بَعْضِ الْأَلْفِ ، فَلَمَّا كَانَ لَوْ أَنْكَرَ الرَّهْنَ فِي جَمِيعِ الْأَلْفِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَلَمْ يُعْتَبَرِ الْعُرْفُ فِي الرَّاهِنِ أَنَّهُ مِمَّا لَا يُوثَقُ بِذِمَّتِهِ إِلَّا بِرَهْنٍ ، وَلَا فِي الْمُرْتَهِنِ أَنَّهُ مِمَّا لَا يُوثَقُ بِذِمَّتِهِ إِلَّا بِرَهْنٍ وَجَبَ إِذَا أَنْكَرَ الرَّهْنَ فِي بَعْضِ الْأَلْفِ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ وَلَا يُعْتَبَرُ الْعُرْفُ فِي قِيمَةِ الرَّهْنِ ، وَلِأَنَّ الدَّعَاوَى لَا تَقْوَى بِالتَّعَارُفِ وَظُهُورِ الْحَالِ ، بِدَلِيلِ أَنَّ دَعْوَى الْعَدْلِ التَّقِيِّ عَلَى الْفَاسِقِ الْغَوِيِّ فِي الشَّيْءِ غَيْرُ مَقْبُولٍ ، وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ فِي التَّعَارُفِ صِدْقَ الْمُدَّعِي فِيهَا ، وَدَعْوَى الْعَطَّارِ عَلَى الدَّبَّاغِ عِطْرًا لَا يُوجِبُ قَبُولَ قَوْلِ الْعَطَّارِ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ الْعُرْفُ يَقْتَضِيهِ ، كَذَلِكَ الرَّهْنُ لَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ فِي قَبُولِ قَوْلِ الْمُرْتَهِنِ ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْعُرْفُ مَعَهُ ، وَلِأَنَّ الْعُرْفَ فِي الرَّهْنِ يَخْتَلِفُ ، فَمِنِ النَّاسِ مَنْ يَرْهَنُ مَا فِيهِ وَفَاءٌ عَلَى الْحَقِّ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْهَنُ مَا فِيهِ نُقْصَانٌ عَنِ الْحَقِّ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْعُرْفُ مَعَ اخْتِلَافِهِ مُعْتَبَرًا . فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ اخْتِلَافُهُمَا فِي صِفَةِ الْحَقِّ فَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ الْمُرْتَهِنُ : رَهَنْتَنِي عَبْدَكَ سَالِمًا فِي أَلْفٍ حَالَّةٍ ، وَيَقُولُ الرَّاهِنُ رَهَنْتُكَ فِي أَلْفٍ مُؤَجَّلَةٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى أَنَّ لِلْمُرْتَهِنِ أَلْفًا حَالَّةً وَأَنَّ لَهُ أَلْفًا مُؤَجَّلَةً ، ثُمَّ يَخْتَلِفَانِ ، فَيَقُولُ الْمُرْتَهِنُ رَهَنْتَنِي سَالِمًا فِي الْأَلْفِ الْحَالَّةِ ، وَيَقُولُ الرَّاهِنُ : رَهَنْتُكَ فِي الْأَلْفِ الْمُؤَجَّلَةِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ ، بِاللَّهِ مَا رَهَنَهُ سَالِمًا فِي الْأَلْفِ الْحَالَّةِ ، وَيَخْرُجُ سَالِمٌ مِنَ الرَّهْنِ فِي الْمُؤَجَّلَةِ وَالْحَالَّةِ ، أَمَّا الْحَالَّةُ فَبِيَمِينِ الرَّاهِنِ وَأَمَّا الْمُؤَجَّلَةُ فَبِإِنْكَارِ الْمُرْتَهِنِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى أَنَّهَا أَلْفٌ وَاحِدَةٌ وَأَنَّ سَالِمًا رَهْنٌ بِهَا ، ثُمَّ يَخْتَلِفَانِ فِي حُلُولِهَا وَتَأْجِيلِهَا ، فَيَقُولُ الْمُرْتَهِنُ : هِيَ حَالَّةٌ ، وَيَقُولُ الرَّاهِنُ : بَلْ هِيَ مُؤَجَّلَةٌ ، فَفِيهَا قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ ، بِاللَّهِ أَنَّ الْأَلْفَ حَالَّةٌ ، وَيَصِيرُ سَالِمٌ رَهْنًا فِي أَلْفِ حَالَّةٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاهِنِ : بِاللَّهِ أَنَّ الْأَلْفَ مُؤَجَّلَةٌ ، وَيَصِيرُ سَالِمٌ رَهْنًا فِي أَلْفٍ مُؤَجَّلَةٍ ، وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِيمَنْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ مُؤَجَّلٍ ، هَلْ يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ فِي الْأَجَلِ أَمْ لَا ؟ فَهَذَا حُكْمُ اخْتِلَافِهِمَا فِي الْحَقِّ . فَصْلٌ : فَأَمَّا اخْتِلَافُهُمَا فِي الرَّهْنِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَخْتَلِفَا فِي أَصْلِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَخْتَلِفَا فِي قَدْرِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَخْتَلِفَا فِي صِفَتِهِ وَعَيْنِهِ ، فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ ، وَهُوَ اخْتِلَافُهُمَا فِي أَصْلِ الرَّهْنِ ، الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَخْتَلِفَا فِي أَصْلِ الرَّهْنِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْحَقِّ . وَالثَّانِي : أَنْ يَخْتَلِفَا فِي أَصْلِ الرَّهْنِ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الْحَقِّ ، فَإِنْ كَانَ اخْتِلَافُهُمَا فِي أَصْلِ الرَّهْنِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْحَقِّ فَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ صَاحِبُ الْحَقِّ : رَهَنْتَنِي عَبْدَكَ سَالِمًا بِالْأَلْفِ الَّتِي لِي عَلَيْكَ ، فَيَقُولُ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ : مَا رَهَنْتُكَ سَالِمًا وَلَا غَيْرَهُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ : بِاللَّهِ مَا رَهَنَهُ سَالِمًا ، وَيَصِيرُ الْأَلْفُ بِلَا رَهْنٍ ، وَإِنْ كَانَ اخْتِلَافُهُمَا فِي أَصْلِ الرَّهْنِ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الْحَقِّ فَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ صَاحِبُ الْحَقِّ : بِعْتُكَ دَارِي بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ تَرْهَنَنِي بِهَا عَبْدَكَ سَالِمًا ، وَيَقُولُ الْمُشْتَرِي : بِعْتَنِي دَارَكَ بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ لَا رَهْنَ بِهَا ، فَيَتَحَالَفَانِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُدَّعٍ عَلَى صَاحِبِهِ ، فَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي شِرَاءَ الدَّارِ بِلَا رَهْنٍ ، وَالْبَائِعُ يَدَّعِي عَلَى الْمُشْتَرِي عَقْدَ الرَّهْنِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَحْلِفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى دَعْوَى صَاحِبِهِ ، فَيَبْدَأُ الْمُشْتَرِي بِالْيَمِينِ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمَذْهَبُ ، لِأَنَّ يَمِينَهُ لِإِنْكَارِ عَقْدِ الرَّهْنِ ، وَيَمِينَ الْبَائِعِ لِفَسْخِ الْبَيْعِ لِعَدَمِ الرَّهْنِ فَيَقُولُ الْمُشْتَرِي : وَاللَّهِ لَقَدِ اشْتَرَيْتُهَا بِلَا رَهْنٍ ، ثُمَّ يَحْلِفُ الْبَائِعُ ، بِاللَّهِ لَقَدْ بِعْتُهَا بِرَهْنٍ ، فَإِذَا حَلَفَا جَمِيعًا خَرَجَ الْعَبْدُ مِنَ الرَّهْنِ وَلَمْ يَلْزَمِ الْبَائِعَ إِمْضَاءُ الْبَيْعِ بِلَا رَهْنٍ ، وَكَانَ بِالْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ بَيْنَ إِمْضَائِهِ بِلَا رَهْنٍ وَبَيْنَ فَسْخِهِ ، وَإِنْ حَلَفَ الْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ خَرَجَ الْعَبْدُ مِنَ الرَّهْنِ ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ فَسْخُ الْبَيْعِ ، وَإِنْ حَلَفَ الْبَائِعُ دُونَ الْمُشْتَرِي ، كَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِالثَّمَنِ ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ فَسْخُ الْبَيْعِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ . فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ اخْتِلَافُهُمَا فِي قَدْرِ الرَّهْنِ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ أَيْضًا : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُهُمَا بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْحَقِّ وَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ الْمُرْتَهِنُ : رَهَنْتَنِي
عَبْدَيْكَ سَالِمًا وَغَانِمًا فِي الْأَلْفِ الَّتِي لِي عَلَيْكَ ، وَيَقُولُ الرَّاهِنُ رَهَنْتُكَ عَبْدِي سَالِمًا وَحْدَهُ فِي الْأَلْفِ الَّتِي لَكَ عَلَيَّ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ ، وَيَكُونُ سَالِمٌ وَحْدَهُ رَهْنًا فِي الْأَلْفِ . وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ كَانَتْ قِيمَةُ سَالِمٍ وَحْدَهُ أَلْفًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ سَالِمٍ وَغَانِمٍ مَعًا أَلْفًا ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ وَيَكُونُ سَالِمٌ وَغَانِمٌ رَهْنًا ، وَقَدْ مَضَتِ الدَّلَالَةُ عَلَيْهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُهُمَا قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الْحَقِّ ، وَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ الْمُرْتَهِنُ : بِعْتُكَ دَارِي بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ تَرْهَنَنِي سَالِمًا وَغَانِمًا ، وَيَقُولُ الرَّاهِنُ : ابْتَعْتُ دَارَكَ بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ أُرْهِنَكَ سَالِمًا دُونَ غَانِمٍ ، فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ ثُمَّ يَكُونُ الْبَائِعُ فِي الْبَيْعِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَائِهِ بِرَهْنِ سَالِمٍ وَحْدَهُ وَبَيْنَ فَسْخِهِ . فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ اخْتِلَافُهُمَا فِي صِفَةِ الرَّهْنِ وَعَيْنِهِ ، الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ أَيْضًا : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْحَقِّ ، وَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ الْمُرْتَهِنُ : رَهَنْتَنِي عَبْدَكَ سَالِمًا فِي الْأَلْفِ الَّتِي لِي عَلَيْكَ ، وَيَقُولُ الرَّاهِنُ : رَهَنْتُكَ عَبْدِي غَانِمًا فِي الْأَلْفِ الَّتِي لَكَ عَلَيَّ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ ، بِاللَّهِ مَا رَهَنَهُ سَالِمًا ، فَإِذَا حَلَفَ خَرَجَ سَالِمٌ بِيَمِينِ الرَّاهِنِ ، وَلَمْ يَكُنْ غَانِمٌ فِي الرَّهْنِ لِإِنْكَارِ الْمُرْتَهِنِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الْحَقِّ ، وَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ الْمُرْتَهِنُ : بِعْتُكَ دَارِي بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ تَرْهَنَنِي عَبْدَكَ سَالِمًا ، وَيَقُولُ الرَّاهِنُ : ابْتَعْتُ دَارَكَ بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ أُرْهِنَكَ عَبْدِي غَانِمًا ، فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ فَإِذَا حَلَفَا لَمْ يَكُنْ سَالِمٌ وَلَا غَانِمٌ رَهْنًا ، وَالْمُرْتَهِنُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِلَا رَهْنٍ وَبَيْنَ فَسْخِهِ ، فَهَذَا حُكْمُ اخْتِلَافِهِمَا فِي الرَّهْنِ ، فَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْحَقِّ وَالرَّهْنِ مَعًا كَانَ اخْتِلَافُهُمَا فِي الْحَقِّ عَلَى مَا وَصَفْنَا وَفِي الرَّهْنِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ أَوْضَحْنَا بِهَا شَرْحَ الْمَذْهَبِ لِنَبْنِيَ عَلَيْهَا كَلَامَ الْمُزَنِيِّ وَاخْتِلَافَ أَصْحَابِنَا فِي تَأْوِيلِهِ . فَصْلٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ : وَجُمْلَةُ قَوْلِهِ فِي اخْتِلَافِ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاهِنِ فِي الْحَقِّ وَالْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ فِي الرَّهْنِ ، أَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاهِنِ فِي الْحَقِّ فَصَحِيحٌ مُطَّرِدٌ ، لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَوْ قَالَ : الْحَقُّ أَلْفٌ ، وَقَالَ الرَّاهِنُ الْحَقُّ خَمْسُمِائَةٍ ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الرَّاهِنِ فِي الْحَقِّ أَنَّهُ خَمْسُمِائَةٍ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ فِي الرَّهْنِ فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ : لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَوِ ادَّعَى فِي الْحَقِّ رَهْنًا وَأَنْكَرَهُ الرَّاهِنُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الرَّاهِنِ ، وَلَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِ مُرَادِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : أَنَّ مُرَادَهُ بِهِ إِذَا اخْتَلَفَا فِي الرَّهْنِ بَعْدَ تَلَفِهِ ، الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ الْقَوْلَ قَوْلُ من منهما فَقَالَ الرَّاهِنُ : تَلِفَ الرَّهْنُ بِتَعَدِّيكَ
أَيُّهَا الْمُرْتَهِنُ ، وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ : تَلِفَ بِغَيْرِ تَعَدٍّ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ فِي الرَّهْنِ مَعَ يَمِينِهِ بِاللَّهِ أَنَّهُ تَلِفَ بِغَيْرِ تَعَدٍّ . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : مُرَادُ الْمُزَنِيِّ بِهِ إِذَا اخْتَلَفَا بَعْدَ تَلَفِ الرَّهْنِ بِالتَّعَدِّي فِي قَدْرِ قِيمَتِهِ ، فَقَالَ الرَّاهِنُ : قِيمَتُهُ أَلْفٌ وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ قِيمَتُهُ مِائَةٌ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ فِي الرَّهْنِ مَعَ يَمِينِهِ ، بِاللَّهِ أَنَّ قِيمَتَهُ مِائَةٌ . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : هُوَ أَصَحُّ الْمَذَاهِبِ ، أَنَّ مُرَادَهُ إِذَا اخْتَلَفَا فِي الْبَيْعِ ، فَقَالَ الرَّاهِنُ : ابْتَعْتُهُ بِلَا رَهْنٍ ، وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ : مَا بِعْتُكَ إِلَّا بِرَهْنٍ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ فِي الْحَقِّ أَنَّهُ لَزِمَهُ بِغَيْرِ رَهْنٍ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ فِي الرَّهْنِ أَنَّهُ وَثِيقَةٌ فِي الْحَقِّ . أَلَا تَرَاهُ قَالَ بَعْدَهُ : وَيَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى دَعْوَى صَاحِبِهِ ، وَهُمَا لَا يَتَحَالَفَانِ إِلَّا فِي مَسْأَلَةِ الْبَيْعِ ، فَأَمَّا فِي تَلَفِهِ بِتَعَدٍّ أَوْ غَيْرِ تَعَدٍّ فَإِنَّمَا يَحْلِفُ أَحَدُهُمَا ، فَأَمَّا قَوْلُ الْمُزَنِيِّ فِيمَا يُشْبِهُ وَلَا يُشْبِهُ ، فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الرَّدَّ عَلَى مَالِكٍ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنَ اعْتِبَارِ الْعَادَةِ مِنْ قِيمَةِ الرَّهْنِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ قَالَ رَجُلٌ لِرَجُلَيْنِ رَهَنْتُمَانِي عَبْدَكُمَا هَذَا بِمِائَةٍ وَقَبَضْتُهُ مِنْكُمَا فَصَدَّقَهُ أَحَدُهُمَا وَكَذَّبَهُ الْآخَرُ كَانَ نِصْفُهُ رَهْنًا بِخَمْسِينَ وَنِصْفُهُ خَارِجًا مِنَ الرَّهْنِ ، فَإِنْ شَهِدَ شَرِيكُ صَاحِبِ نِصْفِ الْعَبْدِ عَلَيْهِ بِدَعْوَى الْمُرْتَهِنِ وَكَانَ عَدْلًا حَلَفَ الْمُرْتَهِنُ مَعَهُ وَكَانَ نَصِيبُهُ مِنْهُ رَهْنًا بِخَمْسِينَ وَلَا مَعْنَى فِي شَهَادَتِهِ نَرُدُّهَا بِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلَيْنِ أَنَّهُمَا رَهَنَاهُ عَبْدَهُمَا سَالِمًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ لَهُ عَلَيْهِمَا لَمْ يَخْلُ حَالُهُمَا فِي الدَّعْوَى مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُصَدِّقَاهُ عَلَيْهِ فَيَصِيرُ الْعَبْدُ رَهْنًا لَهُمَا عِنْدَهُ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَيْهِمَا لَهُ فَيَكُونُ نِصْفُ الْعَبْدِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَهْنًا عَلَى خَمْسِينَ دِرْهَمًا ، فَإِذَا قَضَاهُ أَحَدُهُمَا مَا عَلَيْهِ خَرَجَ نِصْفُ الْعَبْدِ مِنَ الرَّهْنِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُكَذِّبَاهُ عَلَيْهَا ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمَا مَعَ أَيْمَانِهِمَا ، فَإِذَا حَلَفَا لَمْ يَكُنِ الْعَبْدُ رَهْنًا ، فَإِنْ كَانَا يَعْتَرِفَانِ بِالْحَقِّ وَيُنْكِرَانِ الرَّهْنَ كَانَ الْحَقُّ عَلَيْهِمَا بِلَا رَهْنٍ ، وَإِنْ كَانَا يُنْكِرَانِ الْحَقَّ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا ، فَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا وَنَكَلَ الْآخَرُ ، بَدَأَ الْحَالِفُ بِيَمِينِهِ وَرُدَّتْ يَمِينُ النَّاكِلِ عَلَى الْمُدَّعِي ، فَإِذَا حَلَفَ حُكِمَ لَهُ بِدَعْوَاهُ ، وَإِنْ نَكَلَا مَعًا رُدَّتْ يَمِينُهُمَا عَلَى الْمُدَّعِي ، فَيَحْلِفُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمِينًا ، فَإِذَا حَلَفَ لَهُمَا حُكِمَ عَلَيْهِمَا بِدَعْوَاهُ ، وَكَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِمَا ادَّعَاهُ .
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ ، أَنْ يُصَدِّقَهُ أَحَدُهُمَا وَيُكَذِّبَهُ الْآخَرُ ، فَتَكُونُ حِصَّةُ الْمُصَدِّقِ مِنْهُمَا وَهِيَ نِصْفُ الْعَبْدِ رَهْنًا عَلَى خَمْسِينَ ، وَعَلَى الْمُكَذِّبِ الْيَمِينُ ، فَإِنْ حَلَفَ ، كَانَتْ حِصَّتُهُ خَارِجَةً مِنَ الرَّهْنِ ، وَإِنْ نَكَلَ الْمُكَذِّبُ رُدَّتْ يَمِينُهُ عَلَى الْمُدَّعِي ، فَإِذَا حَلَفَ حُكِمَ لَهُ بِدَعْوَاهُ وَصَارَ جَمِيعُ الْعَبْدِ رَهْنًا بِمِائَةٍ ، نِصْفُهُ بِتَصْدِيقِ أَحَدِهِمَا بِخَمْسِينَ ، وَنِصْفُهُ الْآخَرُ بِيَمِينِ الْمُدَّعِي بَعْدَ نُكُولِ الْمُكَذِّبِ مِنْهُمَا رَهْنٌ بِخَمْسِينَ ، فَأَيُّهُمَا قَضَاهُ خَمْسِينَ خَرَجَتْ حِصَّتُهُ مِنَ الرَّهْنِ وَهِيَ نِصْفُ الْعَبْدِ ، وَكَانَتْ حِصَّةُ الْآخَرِ بَاقِيَةً مِنَ الرَّهْنِ ، فَلَوْ كَانَ الْمُصَدِّقُ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ عَدْلًا جَازَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَرِيكِهِ الْمُكَذِّبِ ، لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ لَا تَجُرُّ لَهُ نَفْعًا وَلَا تَدْفَعُ عَنْهُ ضَرَرًا ، فَلَمْ يَكُنْ لِرَدِّ شَهَادَتِهِ مَعْنًى ، فَإِنْ شَهِدَ مَعَهُ عَدْلٌ آخَرُ أَوِ امْرَأَتَانِ أَوْ حَلَفَ مَعَهُ الْمُدَّعِي فَقَدْ كَمُلَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُكَذِّبِ وَصَارَ جَمِيعُ الْعَبْدِ رَهْنًا لَهُمَا عِنْدَهُ عَلَى مِائَةٍ نِصْفُهُ بِالتَّصْدِيقِ وَنِصْفُهُ بِالْبَيِّنَةِ . فَصْلٌ : فَلَوِ ادَّعَى رَجُلَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ رَهَنَهُمَا عَبْدَهُ عَلَى مِائَةٍ لَهُمَا عَلَيْهِ ، فَصَدَّقَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ ، كَانَ نِصْفُهُ رَهْنًا عِنْدَ الْمُصَدِّقِ وَحَلَفَ الْمُكَذِّبُ ، فَلَوْ أَرَادَ الْمُصَدِّقُ وَهُوَ عَدْلٌ أَنْ يَشْهَدَ لِصَاحِبِهِ عَلَى الْمُنْكِرِ لَمْ يَجُزْ إِذَا كَانَا شَرِيكَيْنِ : لِأَنَّهُ يَجُرُّ بِشَهَادَتِهِ نَفْعًا إِلَى نَفْسِهِ : لِأَنَّهُ يَشْهَدُ لِشَرِيكِهِ ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى يَشْهَدُ عَلَى شَرِيكِهِ . فَصْلٌ : فَلَوِ ادَّعَى رَجُلَانِ عَلَى رَجُلَيْنِ فِي عَبْدٍ بَيْنَهُمَا أَنَّهُمَا رَهَنَاهُمَا عَبْدَهُمَا عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ لَهُمَا فَصَدَّقَا أَحَدَ الْمُدَّعِيَيْنِ كَانَ نِصْفُ الْعَبْدِ رَهْنًا عِنْدَ الْمُصَدِّقِ مِنْهُمَا عَلَى خَمْسِينَ دِرْهَمًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُبْعُهُ رَهْنًا عَلَى خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا ، وَعَلَى الرَّاهِنَيْنِ أَنْ يَحْلِفَا لِلْمُكَذِّبِ مِنَ الْمُرْتَهِنَيْنِ ، فَإِنْ حَلَفَا كَانَ نِصْفُهُ بَيْنَهُمَا خَارِجًا مِنَ الرَّهْنِ . فَلَوْ كَانَ الْمُصَدِّقُ مِنَ الْمُرْتَهِنَيْنِ عَدْلًا جَازَ أَنْ يَشْهَدَ لِلْمُرْتَهِنِ الْمُكَذِّبِ عَلَى الرَّاهِنَيْنِ ، لِأَنَّ شَهَادَتَهُ لَا تَجُرُّ إِلَيْهِ نَفْعًا ، وَلَا تَدْفَعُ عَنْهُ ضَرَرًا ، فَإِذَا شَهِدَ حَلَفَ مَعَهُ الْمُرْتَهِنُ الْمُكَذِّبُ وَصَارَ جَمِيعُ الْعَبْدِ رَهْنًا عِنْدَهُمَا عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ ، نِصْفُهُ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ الْمُصَدِّقِ رَهْنٌ عَلَى خَمْسِينَ دِرْهَمًا بِتَصْدِيقِ الرَّاهِنَيْنِ وَنِصْفُهُ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ الْمُكَذِّبِ رَهْنٌ عَلَى خَمْسِينَ دِرْهَمًا لِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الرَّاهِنَيْنِ ، فَلَوْ صَدَّقَ أَحَدُ الرَّاهِنَيْنِ الْمُرْتَهِنَيْنِ مَعًا ، وَكَذَّبَ الرَّاهِنُ الْآخَرُ الْمُرْتَهِنَيْنِ مَعًا كَانَ نِصْفُ الْعَبْدِ وَهِيَ حِصَّةُ الْمُصَدِّقِ مِنَ الرَّاهِنَيْنِ رَهْنًا عِنْدَ الْمُرْتَهِنَيْنِ عَلَى خَمْسِينَ دِرْهَمًا عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُبْعُهُ رَهْنٌ عَلَى خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا ، وَالنِّصْفُ الثَّانِي مِنَ الْعَبْدِ وَهِيَ حِصَّةُ الْمُكَذِّبِ خَارِجَةٌ مِنَ الرَّهْنِ إِذَا حَلَفَ . فَلَوْ صَدَّقَ أَحَدُ الرَّاهِنَيْنِ أَحَدَ الْمُرْتَهِنَيْنِ وَكَذَّبَ الْمُرْتَهِنُ الْآخَرُ ، وَكَذَّبَ الرَّاهِنُ الْآخَرُ الْمُرْتَهِنَيْنِ مَعًا كَانَ رُبْعُ الْعَبْدِ وَهِيَ نِصْفُ حِصَّةِ الرَّاهِنِ الْمُصَدِّقِ رَهْنًا عِنْدَ الْمُصَدَّقِ مِنْ
الْمُرْتَهِنَيْنِ عَلَى خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْعَبْدِ خَارِجَةٌ مِنَ الرَّهْنِ نِصْفُهُ لِمُكَذِّبِ الْمُرْتَهِنَيْنِ وَرُبْعُهُ لِمُكَذِّبِ أَحَدِ الْمُرْتَهِنَيْنِ . فَلَوْ صَدَّقَ أَحَدُ الرَّاهِنَيْنِ أَحَدَ الْمُرْتَهِنَيْنِ وَصَدَّقَ الرَّاهِنُ الْآخَرُ الْمُرْتَهِنَ الْآخَرَ ، وَكَذَّبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الرَّاهِنَيْنِ مَنْ صَدَّقَهُ صَاحِبُهُ كَانَ نِصْفُ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَهُوَ الرُّبُعُ رَهْنًا عِنْدَ مَنْ صَدَّقَهُ عَلَى خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا ، وَيَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِمَنْ كَذَّبَهُ . فَصْلٌ : فَلَوِ ادَّعَى ثَلَاثَةٌ عَلَى ثَلَاثَةٍ فِي عَبْدٍ بَيْنَهُمْ أَنَّهُمْ رَهَنُوهُ عِنْدَهُمْ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ ، فَصَدَّقُوا أَحَدَ الثَّلَاثَةِ كَانَ ثُلُثُ الْعَبْدِ رَهْنًا عِنْدَ الْمُصَدِّقِ مِنَ الثَّلَاثَةِ عَلَى ثُلُثِ الْمِائَةِ لِثَلَاثَةِ أَنْفُسٍ ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثُ الثُّلُثِ ، وَهُوَ تُسْعُ الرَّهْنِ عِنْدَ الْمُصَدِّقِ عَلَى ثُلُثٍ مِنَ الْمِائَةِ ، وَهُوَ تُسْعُ الْمِائَةِ ، فَإِذَا قَضَاهُ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ مَا عَلَيْهِ وَهُوَ تُسْعُ الْمِائَةِ خَرَجَتْ حِصَّتُهُ مِنَ الرَّهْنِ وَهِيَ تُسْعُ الْعَبْدِ ، لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ إِذَا عَاقَدُوا ثَلَاثَةً جَرَى عَلَى عَقْدِهِمْ حُكْمُ عُقُودٍ تِسْعَةٍ ، فَلَوْ صَدَّقَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ جَمِيعَ الثَّلَاثَةِ ، كَانَتْ حِصَّةُ الْمُصَدِّقِ وَهِيَ ثُلُثُ الْعَبْدِ رَهْنًا عِنْدَ الثَّلَاثَةِ عَلَى ثُلُثِ الْمِائَةِ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ تُسْعُ الْعَبْدِ رَهْنٌ عَلَى تُسْعِ الْمِائَةِ . فَصْلٌ : فَلَوِ ادَّعَى أَرْبَعَةٌ عَلَى أَرْبَعَةٍ فِي عَبْدٍ بَيْنَهُمْ أَنَّهُمْ رَهَنُوهُ عِنْدَهُمْ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ فَصَدَّقَ جَمِيعُ الْأَرْبَعَةِ أَحَدَ الْأَرْبَعَةِ كَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا عِنْدَ الْمُصَدَّقِ مِنَ الْأَرْبَعَةِ عَلَى رُبْعِ الْمِائَةِ لِأَرْبَعَةِ أَنْفُسٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَرْبَعَةِ رُبْعُ الْعَبْدِ وَاحِدٌ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ رَهْنٌ فِي رُبْعِ رُبْعِ الْمِائَةِ سِتَّةُ دَرَاهِمَ وَرُبْعٌ ، فَلَوْ صَدَّقَ أَحَدُ الْأَرْبَعَةِ جَمِيعَ الْأَرْبَعَةِ ، كَانَتْ حِصَّةُ الْمُصَدِّقِ وَهِيَ رُبْعُ الْعَبْدِ رَهْنًا عِنْدَ الْأَرْبَعَةِ عَلَى رُبْعِ الْمِائَةِ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رُبْعُ رُبْعِ الْعَبْدِ وَاحِدٌ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ رَهْنٌ عَلَى رُبْعِ رُبْعِ سِتَّةِ دَرَاهِمَ وَرُبْعٍ . فَصْلٌ : فَلَوِ ادَّعَى ثَلَاثَةٌ عَلَى أَرْبَعَةٍ فِي عَبْدٍ بَيْنَهُمْ أَنَّهُمْ رَهَنُوهُ عِنْدَهُمْ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ فَصَدَّقَ جَمِيعُ الْأَرْبَعَةِ أَحَدَ الثَّلَاثَةِ كَانَ ثُلُثُ الْعَبْدِ رَهْنًا لِلْأَرْبَعَةِ عِنْدَ الْمُصَدَّقِ مِنَ الثَّلَاثَةِ عَلَى ثُلُثِ الْمِائَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَرْبَعَةِ رُبْعُ ثُلُثِ الْعَبْدِ مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ رَهْنٌ عَلَى رُبْعِ ثُلُثِ الْمِائَةِ ثَمَانِيَةِ دَرَاهِمَ وَثُلُثٍ . فَلَوْ صَدَّقَ أَحَدُ الْأَرْبَعَةِ جَمِيعَ الْأَرْبَعَةِ كَانَتْ حِصَّةُ الْمُصَدَّقِ وَهِيَ رُبْعُ الْعَبْدِ رَهْنًا عِنْدَ الثَّلَاثَةِ عَلَى رُبْعِ الْمِائَةِ ، عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثُ رُبْعِ الْعَبْدِ وَاحِدٌ مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ رَهْنٌ عَلَى ثُلُثِ الْمِائَةِ ثَمَانِيَةِ دَرَاهِمَ وَثُلُثٍ ، فَهَذِهِ فُصُولٌ كَافِيَةٌ وَفُرُوعٌ مُقْنِعَةٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا كَانَتْ لَهُ عَلَى رَجُلٍ أَلْفَانِ إِحْدَاهُمَا بِرَهْنٍ وَالْأُخْرَى بِغَيْرِ رَهْنٍ فَقَضَاهُ أَلْفًا ثُمَّ اخْتَلَفَا فَقَالَ الْقَاضِي هِيَ الَّتِي فِي الرَهْنِ وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ هِيَ الَّتِي بِلَا رَهْنٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاضِي مَعَ يَمِينِهِ " .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي رَجُلٍ عَلَيْهِ لِرَجُلٍ أَلْفَانِ ، أَحَدُهُمَا بِرَهْنٍ وَالْآخَرُ بِغَيْرِ رَهْنٍ ، فَقَضَاهُ مِنَ الْأَلْفَيْنِ أَلْفًا ، فَإِنْ جَعَلَهَا قَضَاءً فِي الْأَلْفِ الَّتِي فِيهَا الرَّهْنُ كَانَتْ كَذَلِكَ ، وَخَرَجَ الرَّهْنُ مِنْ وَثِيقَةِ الْمُرْتَهِنِ ، وَإِنْ جَعَلَهَا قَضَاءً مِنَ الْأَلْفِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا الرَّهْنُ كَانَتْ كَذَلِكَ ، وَكَانَ الرَّاهِنُ عَلَى حَالِهِ فِي الْأَلْفِ الْأُخْرَى وَثِيقَةً لِلْمُرْتَهِنِ . فَإِنْ دَفَعَهَا مُطْلَقَةً مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعَيِّنَهَا فِي أَيِّ الْأَلْفَيْنِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى وَجْهَيْنِ ، أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : أَنَّ لَهُ أَنْ يَجْعَلَهَا قَضَاءً فِي أَيِّ الْأَلْفَيْنِ شَاءَ ، كَمَا لَوْ طَلَّقَ إِحْدَى امْرَأَتَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَعَيُّنٍ كَانَ لَهُ أَنْ يُعَيِّنَ الطَّلَاقَ فِي أَيِّهِمَا شَاءَ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ شَاءَ أَنْ يَجْعَلَهَا قَضَاءً مِنَ الْأَلْفِ الَّتِي فِيهَا الرَّهْنُ كَانَ ذَلِكَ لَهُ ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَجْعَلَهَا قَضَاءً مِنَ الْأَلْفِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا الرَّهْنُ فَذَلِكَ لَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : هُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهَا تَكُونُ قَضَاءً فِي الْأَلْفَيْنِ مَعًا ، فَيَكُونُ نِصْفُهَا قَضَاءً مِنَ الْأَلْفِ الَّتِي فِيهَا الرَّهْنُ ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ قَضَاءً مِنَ الْأَلِفِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا الرَّهْنُ لِاسْتِوَاءِ الْأَلْفَيْنِ وَحُصُولِ الْإِبْرَاءِ بِالدَّفْعِ ، فَلَمْ تَكُنْ إِحْدَى الْأَلْفَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْأُخْرَى . فَعَلَى هَذَا وَلَوِ اتَّفَقَا بَعْدَ الدَّفْعِ عَلَى أَنْ تَكُونَ الْأَلْفُ قَضَاءً مِنْ إِحْدَى الْأَلْفَيْنِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ ، وَتُعْتَبَرُ الْأَلْفُ الْمَدْفُوعَةُ قَضَاءً فِيمَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ مِنَ الْأَلْفَيْنِ : لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَهُ ذَلِكَ قَبْلَ الدَّفْعِ جَازَ ذَلِكَ لَهُ بَعْدَ الدَّفْعِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ أَصَحُّ ، أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ ، لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ قَدْ حَصَلَ بِالدَّفْعِ ، فَإِذَا كَانَ الدَّفْعُ قَدْ جَعَلَهَا مِنَ الْأَلْفَيْنِ نِصْفَيْنِ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَصِيرَ بِاتِّفَاقِهِمَا قَضَاءً مِنْ إِحْدَى الْأَلْفَيْنِ : لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ نَقْلَ دَيْنٍ بِدَيْنٍ . فَصْلٌ : فَلَوْ دَفَعَ الْأَلْفَ قَضَاءً مِنْ إِحْدَى الْأَلْفَيْنِ ثُمَّ اخْتَلَفَا ، فَقَالَ الدَّافِعُ الْقَاضِي : دَفَعْتُهَا قَضَاءً مِنَ الْأَلْفِ الَّتِي بِرَهْنٍ ، وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ : بَلْ دَفَعْتَهَا مِنَ الْأَلْفِ الَّتِي بَلَا رَهْنٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ الْقَاضِي : لِأَنَّهُ بِالدَّفْعِ مُزِيلٌ لِمِلْكِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي صِفَةِ إِزَالَةِ مِلْكِهِ كَسَائِرِ الْأَمْلَاكِ ، وَإِذَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الرَّاهِنِ الْقَاضِي لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمُرْتَهِنِ الْقَابِضِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ ، إِمَّا أَنْ يَدَّعِيَ عَلَى الْقَاضِي أَنَّهُ صَرَّحَ لَهُ عِنْدَ الدَّفْعِ أَنَّهَا الَّتِي بَلَا رَهْنٍ ، أَوْ لَا يَدَّعِي ذَلِكَ ، فَإِنِ ادَّعَى أَنَّهُ صَرَّحَ لَهُ بِذَلِكَ عِنْدَ الدَّفْعِ وَجَبَ عَلَى الرَّاهِنِ الْقَاضِي الْيَمِينُ ، بِاللَّهِ أَنَّهُ دَفَعَهَا قَضَاءً مِنَ الَّتِي فِيهَا الرَّهْنُ ، وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ أَنَّهُ صَرَّحَ بِذَلِكَ عِنْدَ
الدَّفْعِ ، وَسَأَلَ يَمِينَهُ ، فَفِي الْيَمِينِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ ، أَنَّ الْيَمِينَ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ لِإِنْكَارِ مَا ادَّعَى عَلَيْهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّهُ لَا يَمِينَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ عَدَمَ التَّصْرِيحِ بِهِ يُوجِبُ الرُّجُوعَ إِلَى مُرَادِهِ ، وَمُرَادُهُ لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِإِخْبَارِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ لِلْقَابِضِ سَبِيلٌ إِلَى الْعِلْمِ بِهِ . فَصْلٌ : وَقَدْ يَتَفَرَّعُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ جِهَةِ الْمُرْتَهِنِ أَنْ يُبَرِّئَ الرَّاهِنَ مِنْ إِحْدَى الْأَلْفَيْنِ ، ثُمَّ يَخْتَلِفَانِ ، فَيَقُولُ الْمُرْتَهِنُ : أَبْرَأْتُكَ مِنَ الْأَلْفِ الَّتِي لَا رَهْنَ فِيهَا ، وَيَقُولُ الرَّاهِنُ : بَلْ أَبْرَأْتَنِي مِنَ الْأَلْفِ الَّتِي فِيهَا الرَّهْنُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ الْمُبَرِّئِ ، لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ كَالْقَضَاءِ ، فَلَمَّا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْقَاضِي وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُبَرِّئِ ثُمَّ الْكَلَامُ فِي الْيَمِينِ عَلَى مَا مَضَى . فَصْلٌ : وَقَدْ يَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الضَّمَانِ أَنْ يَكُونَ عَلَى رَجُلٍ أَلْفَانِ ، إِحْدَاهُمَا مَضْمُونَةٌ عَنْهُ وَالْأُخْرَى غَيْرُ مَضْمُونَةٍ عَنْهُ فَيَقْضِي إِحْدَى الْأَلْفَيْنِ ، ثُمَّ يَخْتَلِفَانِ ، فَيَقُولُ الْقَاضِي : قَضَيْتَ الْمَضْمُونَةَ عَنِّي ، وَيَقُولُ الْقَابِضُ : بَلْ قَبَضْتُ غَيْرَ الْمَضْمُونَةِ عَنْكَ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاضِي مَعَ يَمِينِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا . فَلَوْ أَنَّ صَاحِبَ الْأَلْفَيْنِ أَبْرَأَهُ مِنْ إِحْدَى الْأَلْفَيْنِ ، ثُمَّ اخْتَلَفَا ، فَقَالَ الْمُبَرِّئُ ، أَبْرَأْتُكَ مِنَ الْأَلْفِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ ، وَقَالَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ أَبْرَأْتَنِي مِنَ الْأَلْفِ الْمَضْمُونَةِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُبَرِّئِ وَالْكَلَامُ فِي يَمِينِهِ عَلَى مَا مَضَى ، وَالدَّعْوَى عَلَى ذَلِكَ مَسْمُوعَةٌ مِنَ الضَّامِنِ دُونَ الْمَضْمُونِ عَنْهُ . فَصْلٌ : وَقَدْ يَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الرَّهْنِ وَالضَّمَانِ أَنْ يَكُونَ عَلَى الرَّجُلِ أَلْفَانِ أَحَدُهُمَا بِرَهْنٍ وَالْأُخْرَى بِضَمِينٍ فَيَقْضِي إِحْدَى الْأَلْفَيْنِ ، ثُمَّ يَخْتَلِفُ الْقَاضِي وَالضَّامِنُ ، فَيَقُولُ الْقَاضِي : قَضَيْتُ عَنِ الْأَلْفِ الَّتِي فِيهَا الرَّهْنُ فَقَدْ خَرَجَ الرَّهْنُ وَبَقِيَ الضَّمَانُ ، يَقُولُ الضَّامِنُ : بَلْ قَضَيْتَ الْأَلْفَ الَّتِي ضَمِنْتُهَا عَنْكَ فَقَدْ خَرَجَ الضَّمَانُ وَبَقِيَ الرَّهْنُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاضِي لِمَا ذَكَرْنَا وَالْكَلَامُ فِي يَمِينِهِ عَلَى مَا مَضَى ، ثُمَّ لَا يَخْلُو صَاحِبُ الدَّيْنِ ، مِنْ أَنْ يُصَدِّقَ الْقَاضِيَ أَوِ الضَّامِنَ ، فَإِنْ صَدَّقَ الْقَاضِيَ كَانَ الضَّمَانُ بِحَالِهِ ، وَلَيْسَ لِلضَّامِنِ إِحْلَافُ صَاحِبِ الدَّيْنِ ، وَإِنَّمَا لَهُ إِحْلَافُ الْقَاضِي . وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الدَّيْنِ قَدْ صَدَّقَ الضَّامِنَ وَكَذَّبَ الْقَاضِيَ ، كَانَ تَصْدِيقُهُ مَقْبُولًا عَلَى نَفْسِهِ فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ وَبَرَاءَةِ الضَّامِنِ ، وَلَا يَكُونُ مَقْبُولًا عَلَى الْقَاضِي فِي بَقَاءِ الرَّهْنِ ، وَتَكُونُ الْأَلْفُ الثَّانِيَةُ لَهُ بِلَا رَهْنٍ وَضَمِينٍ .
فَصْلٌ : وَقَدْ يَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الرَّهْنِ وَالضَّمَانِ فِي الْقَضَاءِ وَالْإِبْرَاءِ أَنْ يَكُونَ عَلَى رَجُلٍ أَلْفَانِ ، إِحْدَاهُمَا بِرَهْنٍ وَالْأُخْرَى بِضَمِينٍ فَيَقْضِي أَلْفًا وَيُبْرِئُهُ صَاحِبُ الْحَقِّ مِنْ أَلْفٍ ، ثُمَّ يَخْتَلِفُ الْقَاضِي وَالْمُبَرِئُ ، فَيَقُولُ الْقَاضِي : قَضَيْتُكَ الْأَلْفَ الَّتِي فِيهَا الرَّهْنُ وَأَبْرَأْتَنِي مِنَ الَّتِي فِيهَا الضَّمِينُ ، وَيَقُولُ الْمُبَرِئُ : أَبْرَأْتُكَ مِنَ الَّتِي فِيهَا الرَّهْنُ وَقَضَيْتَنِي الَّتِي فِيهَا الضَّمِينُ ، فَهَذَا اخْتِلَافٌ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَا بِعَكْسِ ذَلِكَ ، لِحُصُولِ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْأَلْفَيْنِ مَعًا بِالْقَضَاءِ وَالْإِبْرَاءِ ، وَخُرُوجِ الرَّهْنِ وَالضَّمِينِ ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ الْقَاضِي : قَضَيْتُكَ الَّتِي فِيهَا الرَّهْنُ وَأَبْرَأْتَنِي مِنَ الَّتِي فِيهَا الضَّمِينُ ، وَقَالَ الْمُبَرِئُ : بَلْ أَبْرَأْتُكَ مِنَ الَّتِي فِيهَا الرَّهْنُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاضِي فِي قَضَائِهِ ، وَقَوْلُ الْمُبَرِئِ فِي إِبْرَائِهِ ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الْإِبْرَاءِ ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَضَاءِ فَلَا تَأْثِيرَ لِوُقُوعِ الْإِبْرَاءِ قَبْلَهُ بِالْقَضَاءِ ، وَتَكُونُ الْأَلْفُ الَّتِي فِيهَا الضَّمِينُ بَاقِيَةً ، وَإِنْ كَانَ الْإِبْرَاءُ كَانَ مَا دَفَعَهُ مِنَ الْقَضَاءِ مَنْقُولًا عَمَّا فِيهِ الرَّهْنُ لِتَقَدُّمِ الْبَرَاءَةِ مِنْهُ إِلَى مَا فِيهِ الضَّمِينُ لِبَقَائِهِ عَلَيْهِ ، وَيَبْرَأُ مِنَ الْأَلْفَيْنِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ قَالَ : رَهَنْتُهُ هَذِهِ الدَّارَ الَّتِي فِي يَدَيْهِ بِأَلْفٍ وَلَمْ أَدْفَعْهَا إِلَيْهِ فَغَصَبَنِيهَا ، أَوْ تَكَارَاهَا مِنِّي رَجُلٌ وَأَنْزَلَهُ فِيهَا ، أَوْ تَكَارَاهَا هُوَ مِنِّي فَنَزَلَهَا وَلَمْ أُسْلِمْهَا رَهْنًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا ادَّعَى رَجُلٌ دَارًا فِي يَدِهِ أَنَّهَا مَرْهُونَةٌ عِنْدَهُ عَلَى أَلْفٍ لَهُ عَلَى مَالِكِهَا ، وَقَالَ الْمَالِكُ : لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ رَهَنْتُهُ الدَّارَ بِهَا ، غَيْرَ أَنَّنِي لَمْ أُقْبِضْهُ إِيَّاهَا ، وَإِنَّمَا غَصَبَنِيهَا أَوْ تَكَارَاهَا أَوِ اسْتَعَارَهَا أَوْ تَكَارَاهَا رَجُلٌ فَأَنْزَلَهُ بِهَا ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَالِكِهَا مَعَ يَمِينِهِ ، لِأَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْقَبْضِ ، فَكَانَ الْخُلْفُ فِي الْقَبْضِ خُلْفًا فِي أَصْلِ الْعَقْدِ ، وَلَوِ اخْتَلَفَا فِي عَقْدِ الرَّهْنِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الرَّاهِنِ ، وَكَذَلِكَ إِذَا اخْتَلَفَا فِي الْقَبْضِ بَعْدَ الْعَقْدِ عقد الرهن يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ الرَّاهِنِ ، فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ لَوِ اشْتَرَى رَجُلٌ دَارًا ثُمَّ وُجِدَتِ الدَّارُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي ، فَقَالَ الْمُشْتَرِي : أَقْبَضَنِيهَا ، وَقَالَ الْبَائِعُ : بِعْتُهُ وَلَمْ أَقْبِضْ ، لَكِنْ غَصَبَنِيهَا ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي لِحُصُولِ يَدِهِ ، وَكَذَلِكَ الْمُسْتَأْجِرُ إِذَا كَانَتِ الدَّارُ فِي يَدِهِ ، وَقَالَ أَقْبَضَنِيهَا الْمُؤَجِّرُ ، وَقَالَ الْمُؤَجِّرُ : بَلْ غَصَبَنِيهَا الْمُسْتَأْجِرُ ، لِحُصُولِ يَدِهِ ، فَهَلَّا كَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ الْمُرْتَهِنِ فِي قَبْضِ الْمَرْهُونِ لِحُصُولِ يَدِهِ ؟ قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْقَبْضَ فِي الرَّهْنِ شَرْطٌ فِي تَمَامِهِ لَا يَصِحُّ أَنْ يُجْبَرَ عَلَى الرَّاهِنِ ، وَلَيْسَتْ يَدُ الْمُرْتَهِنِ دَلِيلًا عَلَى اخْتِيَارِهِ ، وَالْقَبْضُ فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَاجِبٌ يُجْبَرُ عَلَيْهِ الْبَائِعُ وَالْمُؤَجِّرُ ، فَكَانَتْ يَدُ الْمُشْتَرِي وَالْمُسْتَأْجِرِ دَلِيلًا عَلَى حُصُولِهِ ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى تَعْلِيلِ هَذَا الْفَرْقِ بَيْنَ الْإِجَارَةِ وَالرَّهْنِ أَنَّ إِجَارَةَ الرَّهْنِ مِنْ مُرْتَهِنِهِ جَائِزَةٌ ، وَلَا تَحْتَاجُ إِلَى قَبْضٍ لِكَوْنِهَا فِي
قَبْضِهِ ، وَرَهْنُ مَا فِي الْإِجَارَةِ مِنْ مُسْتَأْجِرِهِ جَائِزٌ وَيَحْتَاجُ إِلَى قَبْضٍ وَإِنْ كَانَ فِي قَبْضِهِ ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ قَبْضَ الْإِجَارَةِ يَصِحُّ بِغَيْرِ إِذْنٍ ، وَقَبْضَ الرَّهْنِ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِإِذْنٍ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
بَابُ انْتِفَاعِ الرَّاهِنِ بِمَا يَرْهَنُهُ
نَمَاءُ الرَّهْنِ وَمَنَافِعُهُ مِلْكٌ لِلرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ سَوَاءٌ أَنْفَقَ عَلَى الرَّهْنِ أَمْ لَا
بَابُ انْتِفَاعِ الرَّاهِنِ بِمَا يَرْهَنُهُ " قَالَ : حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، قَالَ أَخْبَرَنِي الْمُزَنِيُّ قَالَ : ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ الرَّهْنُ مَرْكُوبٌ وَمَحْلُوبٌ ( قَالَ ) وَمَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ مَنْ رَهَنَ ذَاتَ دَرٍّ وَظَهْرٍ لَمْ يُمْنَعِ الرَّاهِنُ مِنْ ظَهْرِهَا وَدَرِّهَا ، وَأَصْلُ الْمَعْرِفَةِ بِهَذَا الْبَابِ أَنَّ لِلْمُرْتَهِنِ حَقًّا فِي رَقَبَةِ الرَّهْنِ دُونَ غَيْرِهِ ، وَمَا يَحْدُثُ مِمَّا يَتَمَيَّزُ مِنْهُ غَيْرُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : نَمَاءُ الرَّهْنِ وَمَنَافِعُهُ مِنْ ثَمَرَةٍ وَنِتَاجٍ وَدَرٍّ وَرُكُوبٍ وَسُكْنَى مِلْكٌ لِلرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ ، سَوَاءٌ أَنْفَقَ عَلَى الرَّهْنِ أَمْ لَا . وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ . وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : جَمِيعُ نَمَاءِ الرَّهْنِ وَسَائِرُ مَنَافِعِهِ مِلْكُ الْمُرْتَهِنِ دُونَ الرَّاهِنِ ، سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الْمُنْفِقُ عَلَى الرَّهْنِ أَمْ لَا . وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ : إِذَا كَانَ الرَّاهِنُ هُوَ الَّذِي يُنْفِقُ عَلَى الرَّهْنِ ، فَالنَّمَاءُ وَالْمَنَافِعُ لَهُ . وَإِذَا كَانَ الْمُرْتَهِنُ هُوَ الْمُنْفِقُ عَلَى الرَّهْنِ ، فَالنَّمَاءُ وَالْمَنَافِعُ لَهُ . فَأَمَّا أَحْمَدُ فَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الرَّهْنُ مَحْلُوبٌ وَمَرْكُوبٌ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ عَلَّقَ عَلَى الرَّهْنِ هَذَا الْحُكْمَ لَمَّا حَدَثَ عَقْدُ الرَّهْنِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْحَلْبُ وَالرُّكُوبُ مُضَافًا إِلَى الرَّاهِنِ ، لِأَنَّ لَهُ ذَلِكَ قَبْلَ الرَّهْنِ ، فَعَلِمَ أَنَّهُ أَضَافَ ذَلِكَ إِلَى الْمُرْتَهِنِ ، لِيَصِيرَ حُكْمُهُ مُسْتَفَادًا بِالرَّهْنِ ، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ كَالْبَيْعِ فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقْدٌ عَلَى مِلْكٍ فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٍ ، ثُمَّ لَمَّا كَانَ عَقْدُ الْبَيْعِ يَجْعَلُ نَمَاءَ الْمَبِيعِ مِلْكًا لِلْمُشْتَرِي وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَقْدُ الرَّهْنِ يَجْعَلُ نَمَاءَ الْمَبِيعِ مِلْكًا لِلْمُرْتَهِنِ . وَأَمَّا أَبُو ثَوْرٍ فَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الرَّهْنُ يُرْكَبُ
بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا ، وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا ، وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُ وَيَشْرَبُ النَّفَقَةُ قَالَ : فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّمَاءَ تَبَعًا لِلنَّفَقَةِ ، فَعَلِمَ أَنَّهَا مِلْكٌ لِمَنْ تَوَلَّى النَّفَقَةَ ، قَالَ : وَلِأَنَّ النَّمَاءَ فِي مُقَابَلَةِ النَّفَقَةِ لِأَنَّ النَّفَقَةَ نَقْصٌ وَغُرْمٌ ، وَالنَّمَاءَ زِيَادَةٌ وَكَسْبٌ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَسْبُ النَّمَاءِ لِمَنْ جُعِلَ عَلَيْهِ نَقْصُ النَّفَقَةِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهَا حَدِيثُ ابْنِ الْمُسَيَّبِ مُرْسَلًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا يُغْلَقُ الرَّهْنُ مِنْ رَاهِنِهِ الَّذِي رَهَنَهُ ، لَهُ غُنْمُهُ ، وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ . فَجَعَلَ لِمَالِكِ الرَّهْنِ غُنْمَهُ مِنْ نَمَاءٍ وَزِيَادَةٍ ، وَجَعَلَ عَلَيْهِ غُرْمَهُ مِنْ مَئُونَةٍ وَنَقْصٍ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ لَهُ مِلْكٌ كَانَ لَهُ نَمَاءُ ذَلِكَ الْمِلْكِ ، لِأَنَّ الْفُرُوعَ تَابِعَةٌ لِلْأُصُولِ ، فَلَمَّا كَانَ الرَّهْنُ عَلَى مِلْكِ الرَّاهِنِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ النَّمَاءُ عَلَى مِلْكِ الرَّاهِنِ كَسَائِرِ الْأَمْلَاكِ ، وَلِأَنَّ يَدَ الْمُرْتَهِنِ عَلَيْهِ لِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ مِنْهُ ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ تَمَلُّكَ الْمَنَافِعِ كَحَبْسِ الْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ ، وَلِأَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ قَدْ تَعَلَّقَ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ كَتَعَلُّقِ الْجِنَايَةِ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ الْجَانِي ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ تَعَلُّقُ حَقِّ الْجِنَايَةِ بِالرَّقَبَةِ مُوجِبًا لِتَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ ؛ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ تَعَلُّقُ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِالرَّهْنِ مُوجِبًا لِتَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّهْنُ مَحْلُوبٌ وَمَرْكُوبٌ فَيَعْنِي لِرَاهِنِهِ ، وَقَصَدَ بِهِ بَيَانَ الْحُكْمِ بِأَنَّ الرَّاهِنَ لَا يَمْتَنِعُ مِنْهُ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِالْبَيْعِ ، فَالْبَيْعُ لَمَّا نَقَلَ مِلْكَ الْمَبِيعِ إِلَى الْمُشْتَرِي نَقَلَ نَمَاءَ الْمَبِيعِ إِلَى الْمُشْتَرِي ، وَلَمَّا لَمْ يَنْقُلْ عَقْدُ الرَّهْنِ الْمِلْكَ إِلَى الْمُرْتَهِنِ لَمْ يَنْقُلْ نَمَاءَ الرَّهْنِ إِلَى الْمُرْتَهِنِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ أَبُو ثَوْرٍ مِنَ الْخَبَرِ فَالْمُرَادُ بِهِ الرَّاهِنُ بِدَلِيلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَوْلُهُ : الرَّهْنُ مِنْ رَاهِنِهِ الَّذِي رَهَنَهُ ، لَهُ غُنْمُهُ ، وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ مِلْكًا لِمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ لِمَنْ تَطَوَّعَ بِالنَّفَقَةِ ، وَالنَّفَقَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى الرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ . فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِدَلِيلِ هَذَا الْحَدِيثِ النَّمَاءُ وَاجِبًا لِلرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ ، وَهُوَ جَوَابٌ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ النَّمَاءَ مِلْكٌ لِلرَّاهِنِ فَالْكَلَامُ فِي خُرُوجِهِ مِنَ الرَّهْنِ وَخِلَافِ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ يَأْتِي مِنْ بَعْدُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَكَذَلِكَ سُكْنَى الدُّورِ وَزُرُوعُ الْأَرَضِينَ وَغَيْرُهَا " .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي أَنَّ نَمَاءَ الرَّهْنِ وَمَنَافِعَهُ مِلْكٌ لِلرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ ، فَقَدَّمَ الشَّافِعِيُّ سُكْنَى الدُّورِ وَزُرُوعَ الْأَرَضِينَ ، فَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ دَارًا فَلِلرَّاهِنِ حَالَاتٌ ، حَالٌ يُرِيدُ سُكْنَاهَا ، وَحَالٌ يُرِيدُ إِجَارَتَهَا ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَسْكُنَهَا فَمَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ فِي كُتُبِهِ الْجَدِيدَةِ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ سُكْنَاهَا مُدَّةَ الرَّهْنِ ، فَإِذَا حَلَّ الْحَقُّ بِيعَتْ فِيهِ . وَقَالَ فِي الرَّهْنِ الصَّغِيرِ وَالرَّهْنِ الْقَدِيمِ : يُمْنَعُ مِنْ سُكْنَاهَا إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ الْمُرْتَهِنُ ، وَقِيلَ : لَكَ أَنْ تُؤْجِرَهَا غَيْرَكَ ، وَلَا تَسْكُنَهَا بِنَفْسِكَ . فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا ، فَكَانَ بَعْضُهُمْ يُخَرِّجُهَا عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَقَالَ آخَرُونَ ؛ وَهَذَا الصَّحِيحُ : إِنَّهَا لَيْسَتْ عَلَى قَوْلَيْنِ وَإِنَّمَا هِيَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ ، فَالْمَوْضِعُ الَّذِي أَجَازَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَسْكُنَهَا بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ وَغَيْرِ إِذْنِهِ إِذَا كَانَ ثِقَةً يُؤْمَنُ جُحُودُهُ ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي مَنَعَ الرَّاهِنَ أَنْ يَسْكُنَهَا إِلَّا بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ إِذَا كَانَ مُتَّهَمًا لَا يُؤْمَنُ جُحُودُهُ ، فَإِنْ أَرَادَ الرَّاهِنُ إِجَارَتَهَا فَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهَا مُدَّةَ الرَّهْنِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَيْهَا ، مِثَالُهُ أَنْ تَكُونَ مُدَّةُ الرَّهْنِ وَأَجَلُ الْحَقِّ سَنَةً ، فَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهَا سَنَةً فَمَا دُونَ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهَا أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ ، فَإِنْ آجَرَهَا أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ قَدْ آجَرَهَا بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ صَحَّتِ الْإِجَارَةُ وَلَزِمَتْ ، وَإِنْ أَجَّرَهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَفِي الْإِجَارَةِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : جَائِزَةٌ . وَالثَّانِي : غَيْرُ جَائِزَةٍ ، بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي بَيْعِ الدَّارِ الْمُؤَاجَرَةِ ، فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ بَيْعَ الدَّارِ الْمُؤَاجَرَةِ جَائِزٌ جَازَتِ الْمُؤَاجَرَةُ ، وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ بَيْعَ الدَّارِ الْمُؤَاجَرَةِ لَا يَجُوزُ لَمْ تَجُزِ الْإِجَارَةُ . فَإِذَا قُلْنَا إِنَّ الْإِجَارَةَ غَيْرُ جَائِزَةٍ فَهِيَ بَاطِلَةٌ فِيمَا زَادَ عَلَى السَّنَةِ ، وَهَلْ تَبْطُلُ فِي السَّنَةِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ : لِأَنَّهُ عَقْدٌ قَدْ جَمَعَ جَائِزًا وَغَيْرَ جَائِزٍ . وَإِذَا قُلْنَا : الْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تُوكِسُ فِي ثَمَنِ الرَّهْنِ فَهِيَ لَازِمَةٌ فِي جَمِيعِ مُدَّتِهَا ، وَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ الِاعْتِرَاضُ ، وَإِنْ كَانَتْ تُوكِسُ فِي ثَمَنِ الرَّهْنِ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ فِيمَا زَادَ عَلَى السَّنَةِ ، وَهَلْ تَبْطُلُ فِي السَّنَةِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ، لِأَنَّ مَا فَعَلَهُ الرَّاهِنُ مِمَّا يُوكِسُ فِي ثَمَنِ الرَّهْنِ مَرْدُودٌ كَتَزْوِيجِ الْأَمَةِ ، وَسَوَاءٌ رَضِيَ بِذَلِكَ الْمُرْتَهِنُ فِيمَا بَعْدُ أَوْ لَمْ يَرْضَ .
فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ الرَّهْنُ أَرْضًا ، فَلِلرَّاهِنِ حَالَاتٌ ، حَالٌ يُرِيدُ إِجَارَتَهَا ، وَحَالٌ يُرِيدُ زِرَاعَتَهَا ، فَإِنْ أَرَادَ إِجَارَتَهَا كَانَ عَلَى مَا مَضَى فِي إِجَارَةِ الدَّارِ ، وَإِنْ أَرَادَ زِرَاعَتَهَا فَلَهُ ذَلِكَ قَوْلًا وَاحِدًا بِخِلَافِ سُكْنَى الدَّارِ ، فَإِنَّ لِلسَّاكِنِ يَدًا عَلَى الدَّارِ فَجَازَ أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ الرَّاهِنُ إِلَّا بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ ، وَلَيْسَ لِلزَّارِعِ يَدٌ عَلَى الْأَرْضِ ، وَإِنَّمَا يَدُهُ عَلَى الزَّرْعِ ، فَلَمْ يُمْنَعْ مِنْهَا الرَّاهِنُ .
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَهُ أَنْ يَزْرَعَهَا مَا يُحْصَدُ قَبْلَ مَحَلِّ الْحَقِّ أَوْ مَعَهُ ، فَإِنْ زَرَعَهَا مَا يُحْصَدُ بَعْدَ مَحَلِّ الْحَقِّ فَفِيهِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي بَيْعِ الْأَرْضِ الْمَزْرُوعَةِ دُونَ الزَّرْعِ . أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا مَزْرُوعَةً دُونَ الزَّرْعِ ، فَعَلَى هَذَا يُمْنَعُ مِنْ زَرْعِهَا ، فَإِنْ زَرَعَ لَمْ يُقْلَعْ زَرْعُهُ قَبْلَ مَحَلِّ الْحَقِّ ، فَإِذَا حَلَّ الْحَقُّ أَخَذَ بِقَلْعِ الزَّرْعِ إِلَّا أَنْ يَخْتَارَ الْمُرْتَهِنُ تَأْخِيرَ حَقِّهِ إِلَى حَصَادِ الزَّرْعِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ بَيْعَ الْأَرْضِ الْمَزْرُوعَةِ جَائِزٌ ، فَعَلَى هَذَا لَا يُمْنَعُ مِنْ زَرْعِهَا ، فَإِذَا زَرَعَهَا وَحَلَّ الْحَقُّ وَالزَّرْعُ قَائِمٌ فِيهَا ، فَإِنْ قَضَاهُ الْحَقَّ تُرِكَ زَرْعُهُ فِي الْأَرْضِ ، وَإِنْ لَمْ يَقْضِهِ حَقَّهُ بِيعَتِ الْأَرْضُ ، وَإِنْ كَانَ فِي بَيْعِهَا مَعَ بَقَاءِ الزَّرْعِ فِيهَا وَفَاءٌ لِلْحَقِّ لَمْ يُؤْخَذْ بِقَلْعِ الزَّرْعِ وَبِيعَتِ الْأَرْضُ وَالزَّرْعُ فِيهَا قَائِمٌ ، فَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ وَفَاءَ حَقِّهِ إِلَّا بِأَنْ يَقْلَعَ الزَّرْعَ أَخَذَ بِقَلْعِهِ إِلَّا أَنْ يَجِدَ مَنْ يَشْتَرِيهَا مِنْهُ بِحَقِّهِ عَلَى أَنَّهُ يَقْلَعُ الزَّرْعَ ثُمَّ يُقِرُّ الْمُشْتَرِي الزَّرْعَ فِي أَرْضِهِ إِنْ شَاءَ مُتَطَوِّعًا .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنْ أَرَادَ أَنْ يَغْرِسَ الْأَرْضَ أَوْ يَبْنِيَ فِيهَا ، فَإِنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلًا وَاحِدًا ، لِأَنَّ بَيْعَ بَيَاضِ الْأَرْضِ دُونَ غِرَاسِهَا وَبِنَائِهَا غَيْرُ جَائِزٍ ، لِأَنَّ الْغَرْسَ وَالْبِنَاءَ يُرَادُ بِهِ الِاسْتِدَامَةُ وَالْبَقَاءُ ؛ وَهُوَ يُوكِسُ قِيمَةَ الْأَرْضِ عَنْ حَالِهَا بَيْضَاءَ ، فَإِنْ بَنَى أَوْ غَرَسَ لَمْ يُؤْخَذْ بِقَلْعِ غَرْسِهِ وَبِنَائِهِ قَبْلَ مَحَلِّ الْحَقِّ كَمَا قُلْنَا فِي الزَّرْعِ ، فَإِنْ حَلَّ الْحَقُّ وَكَانَ فِي بَيَاضِ الْأَرْضِ وَفَاءٌ بِالْحَقِّ بِيعَ الْبَيَاضُ مُفْرَدًا ، وَأُقِرَّ الْغَرْسُ وَالْبِنَاءُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَيَاضِ وَفَاءٌ بِالْحَقِّ أُخِذَ بِقَلْعِ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ وَبِيعَتِ الْأَرْضُ بَيْضَاءَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُفْلِسًا فَتُبَاعُ الْأَرْضُ مَعَ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ ، وَيُدْفَعُ إِلَى الْمُرْتَهِنِ مِنَ الثَّمَنِ مَا قَابَلَ قِيمَةَ الْأَرْضِ بَيْضَاءَ ، وَيُدْفَعُ إِلَى الْغُرَمَاءِ مَا قَابَلَ قِيمَةَ الزَّرْعِ وَالْبِنَاءِ .
فَصْلٌ : فَإِنْ أَرَادَ الرَّاهِنُ أَنْ يُحْدِثَ فِيهَا عَيْنًا أَوْ يَحْفِرَ فِيهَا بِئْرًا الأرض المرهونة . فَإِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ وَالْبِئْرُ يُزِيدَانِ فِيهَا وَلَا يُنْقِصَانِ ثَمَنَهَا لَمْ يُمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ . وَإِنْ كَانَا يُنْقِصَانِهَا قَبْلَ أَنْ يَكُونَا فِيهَا مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَلِلرَّاهِنِ أَنْ يَسْتَخْدِمَ فِي الرَّهْنِ عَبْدَهُ وَيَرْكَبَ دَوَابَّهُ وَيُؤَاجِرَهَا وَيَحْلِبَ دَرَّهَا وَيَجِزَّ صُوفَهَا ، وَتَأْوِيَ بِاللَّيْلِ إِلَى مُرْتَهِنِهَا أَوْ إِلَى يَدَيِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى يَدَيْهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ .
وَقَدْ مَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنَ اسْتِخْدَامِ الْعَبْدِ وَرُكُوبِ الدَّابَّةِ وَإِجَارَتِهَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي اسْتِدَامَةِ قَبْضِ الرَّهْنِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ فِي هَذَا الْأَصْلِ . فَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ عَبْدًا ، فَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهُ كَالدَّارِ ، فَأَمَّا اسْتِخْدَامُهُ فَإِنْ كَانَ ثِقَةً جَازَ لَهُ اسْتِخْدَامُهُ كَسُكْنَى الدَّارِ ، وَقَدْ خَرَجَ قَوْلٌ آخَرُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ اسْتِخْدَامُهُ بِنَفْسِهِ ، كَمَا خَرَجَ فِي سُكْنَى الدَّارِ قَوْلٌ آخَرُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُكْنَاهَا بِنَفْسِهِ ، فَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ غَيْرَ ثِقَةٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ اسْتِخْدَامُهُ بِنَفْسِهِ قَوْلًا وَاحِدًا بِخِلَافِ سُكْنَى الدَّارِ ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى إِخْفَاءِ الْعَبْدِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى إِخْفَاءِ الدَّارِ عَنْ مُرْتَهِنِهَا ، فَإِذَا اسْتَخْدَمَهُ أَوْ آجَرَهُ لِلْخِدْمَةِ فَهُوَ كَالدَّارِ إِذَا سَكَنَهَا أَوْ آجَرَهَا لِلسُّكْنَى فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ إِلَّا فِي شَرْطٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ الدَّارَ لَهُ أَنْ يَسْكُنَهَا لَيْلًا وَنَهَارًا ، وَالْعَبْدَ لَهُ أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ نَهَارًا ، وَيَرْجِعُ فِي اللَّيْلِ إِلَى يَدِ مُرْتَهِنِهِ أَوِ الْمَوْضُوعِ عَلَى يَدِهِ ، لِأَنَّ الْعُرْفَ جَارٍ بِاسْتِخْدَامِ الْعَبْدِ نَهَارًا دُونَ اللَّيْلِ ، وَسُكْنَى الدَّارِ فِي النَّهَارِ وَاللَّيْلِ ، وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ دَابَّةً فَهُوَ فِي حُكْمِ الْعَبْدِ سَوَاءٌ ، لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهَا ، وَإِنْ كَانَ ثِقَةً فَلَهُ أَنْ يَرْكَبَهَا ، ثُمَّ تَعُودُ فِي اللَّيْلِ إِلَى يَدِ مُرْتَهِنِهَا . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَافِرَ بِعَبْدِهِ وَلَا بِدَابَّتِهِ وَلَا يُؤَاجِرَهُمَا مِمَّنْ يُسَافِرُ بِهِمَا لِمَا فِي السَّفَرِ مِنَ التَّغْرِيرِ بِهِمَا وَإِحَالَةِ يَدِ الْمُرْتَهِنِ عَنْهُمَا .
فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ مَاشِيَةً فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ عَامِلَةً كَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ الْعَامِلَةِ فِي الْحُمُولَةِ وَالنَّاضِحِ ، فَحُكْمُهَا حُكْمُ الدَّوَابِّ ، لِأَنَّهَا مَفْقُودَةُ الدَّرِّ وَالنَّسْلِ مُرْصَدَةٌ لِلرُّكُوبِ وَالْعَمَلِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ غَيْرَ عَوَامِلَ قَدْ أُرْصِدَتْ لِلدَّرِّ وَالنَّسْلِ سَائِمَةً أَوْ مَعْلُوفَةً ، فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَكُونَ مَفْقُودَةَ الدَّرِّ وَالنَّسْلِ عِنْدَ عَقْدِ الرَّهْنِ ، أَوْ مَوْجُودَةَ الدَّرِّ وَالنَّسْلِ ، فَإِنْ كَانَتْ مَفْقُودَةَ الدَّرِّ وَالنَّسْلِ فَكُلُّ مَا حَدَثَ مِنْ دَرِّهَا وَنَسْلِهَا فَهُوَ لِلرَّاهِنِ . فَعَلَى هَذَا فَلِلرَّاهِنِ أَنْ يَحْلِبَهَا وَيَجِزَّ صُوفَهَا ، أَمَّا الْحِلَابُ فَفِي وَقْتِ الْعَادَةِ وَلَا يَسْتَقْصِي فِيهِ اسْتِقْصَاءً يَضُرُّ بِالْمَاشِيَةِ مَعَ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مِنَ النَّهْيِ عَنْهُ ، وَأَمَّا جَزُّ الصُّوفِ فَفِي الزَّمَانِ الَّذِي لَا يَضُرُّ أَخْذُهُ بِالْمَاشِيَةِ يَأْخُذُهُ جَزًّا وَلَا يَأْخُذُهُ حَلْقًا ، وَيُبْقِي مِنْهُ بَعْدَ الْجَزِّ مَا يَكُونُ حَافِظًا لِلْمَاشِيَةِ . وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ مَوْجُودَةَ الدَّرِّ وَالنَّسْلِ وَقْتَ عَقْدِ الرَّهْنِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعَهَا حَمْلٌ وَفِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ وَعَلَى ظُهُورِهَا صُوفٌ ، فَفِي الْحَمْلِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ دَاخِلًا فِي الرَّهْنِ .
وَالثَّانِي : لَا يَكُونُ دَاخِلًا فِيهِ ، بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْحَمْلِ هَلْ يَأْخُذُ قِسْطًا مِنَ الثَّمَنِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : فَأَمَّا اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ وَالصُّوفُ عَلَى الظَّهْرِ رهن الماشية فَمَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي الرَّهْنِ ، وَلِلرَّاهِنِ أَنْ يَأْخُذَهَا ، قَالَ الرَّبِيعُ : وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ أَنَّهُ يَكُونُ رَهْنًا ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا ، فَكَانَ أَكْثَرُهُمْ يُخَرِّجُونَ اللَّبَنَ وَالصُّوفَ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْحَمْلِ ، وَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَقُولُ يَدْخُلُ الصُّوفُ فِي الرَّهْنِ وَلَا يَدْخُلُ اللَّبَنُ ، وَيُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا ؛ بِأَنَّ اللَّبَنَ مُنْفَصِلٌ لَا يُسْتَبْقَى ، وَالصُّوفُ مُتَّصِلٌ يُسْتَبْقَى . فَأَمَّا مَا حَدَثَ مِنَ اللَّبَنِ وَالصُّوفِ بَعْدَ عَقْدِ الرَّهْنِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْحَادِثِ بَعْدَ الْقَبْضِ لَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي الرَّهْنِ وَلَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ كُلُّ وَلَدِ أَمَةٍ وَنِتَاجِ مَاشِيَةٍ وَثَمَرِ شَجَرَةٍ وَنَخْلَةٍ فَذَلِكَ كُلُّهُ خَارِجٌ مِنَ الرَّهْنِ يُسَلَّمُ لِلرَّاهِنِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَكُلُّ وَلَدِ أَمَةٍ وَنِتَاجِ مَاشِيَةٍ وَثَمَرِ شَجَرَةٍ وَنَخْلَةٍ فَذَلِكَ كُلُّهُ خَارِجٌ مِنَ الرَّهْنِ يُسَلَّمُ لِلرَّاهِنِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ نَمَاءَ الرَّهْنِ مِلْكٌ لِلرَّاهِنِ ، فَأَمَّا دُخُولُهُ فِي الرَّهْنِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ . أَحَدُهَا : مَا يَدْخُلُ فِي الرَّهْنِ : وَهُوَ النَّمَاءُ الْمُتَّصِلُ كَالطُّولِ وَالسِّمَنِ . وَالثَّانِي : مَا لَا يَدْخُلُ فِي الرَّهْنِ : وَهُوَ كَسْبُ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ . وَالثَّالِثُ : مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ : وَهُوَ مَا سِوَى الْكَسْبِ مِنَ النَّمَاءِ الْمُنْفَصِلِ كَالثَّمَرَةِ وَالنِّتَاجِ وَالدَّرِّ وَالصُّوفِ وَأَوْلَادِ الْإِمَاءِ ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ . أَحَدُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ خَارِجٌ مِنَ الرَّهْنِ . وَالثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي الرَّهْنِ . وَالثَّالِثُ : وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ الرَّهْنِ كَالْأَوْلَادِ وَالنِّتَاجِ ، فَإِنَّهُ يَكُونُ دَاخِلًا فِي الرَّهْنِ ، وَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ كَالدَّرِّ وَالثَّمَرَةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ خَارِجًا مِنَ الرَّهْنِ . وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُ نَمَاءٌ فِي الرَّهْنِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي الرَّهْنِ كَالنَّمَاءِ الْمُتَّصِلِ ، وَلِأَنَّهُ مَحْبُوسٌ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَمَاؤُهُ مَحْبُوسًا مَعَهُ ، كَالْمَبِيعِ إِذَا حَبَسَهُ الْبَائِعُ عَلَى ثَمَنِهِ كَانَ نَمَاؤُهُ الْحَادِثُ مَحْبُوسًا مَعَهُ كَالْمَبِيعِ ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ لَا يَصِحُّ إِلَّا عَلَى مِلْكٍ فَوَجَبَ أَنْ
يَكُونَ النَّمَاءُ الْحَادِثُ بَعْدَهُ تَابِعًا لَهُ كَالْمَبِيعِ ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ يَقْضِي إِلَى زَوَالِ الْمِلْكِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ فِيهِ تَابِعًا لِأُمِّهِ كَالْكِتَابَةِ . وَلِأَنَّهُ حَقٌّ ثَابِتٌ فِي الرَّقَبَةِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ فِيهِ تَابِعًا لِأُمِّهِ كَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرَةِ ، وَلِأَنَّ الْوَلَدَ لَمَّا كَانَ تَابِعًا لِأُمِّهِ فِي الزَّكَاةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْهَدْيِ وَالْأُضْحِيَّةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لِأُمِّهِ فِي الرَّهْنِ . وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الرَّهْنُ مَحْلُوبٌ وَمَرْكُوبٌ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِلْمُرْتَهِنِ ثَبَتَ أَنَّهُ لِلرَّاهِنِ ، وَلِرِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ مُرْسَلًا وَمُسْنَدًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ الرَّهْنَ مِنْ رَاهِنِهِ الَّذِي رَهَنَهُ لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ وَغُنْمُهُ نَمَاؤُهُ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُنْمَهُ مِلْكًا لِلرَّاهِنِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ خَارِجًا مِنَ الرَّهْنِ ، وَنَحْنُ نَقُولُ : إِنَّهُ مِلْكٌ لِلرَّاهِنِ ، وَإِنَّمَا نَخْتَلِفُ فِي خُرُوجِهِ مِنَ الرَّهْنِ ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ جَعَلَ غُنْمَ الرَّهْنِ مِلْكًا لِلرَّاهِنِ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَدُخُولُهُ فِي الرَّهْنِ يَمْنَعُ مِنْ إِطْلَاقِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَّقَ فِي الْحَدِيثِ بَيْنَ الرَّهْنِ وَبَيْنَ غُنْمِهِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّهْنَ عَلَى مِلْكِ رَاهِنِهِ ، فَعُلِمَ أَنَّ مَا أَضَافَهُ إِلَيْهِ مِنْ غُنْمِهِ مُخَالِفٌ لِمَا لَمْ يُضِفْهُ إِلَيْهِ مِنْ رَهْنِهِ وَلَا وَجْهَ يَخْتَلِفَانِ فِيهِ إِلَّا خُرُوجُهُ مِنَ الرَّهْنِ وَعَدَمُ دُخُولِهِ فِيهِ ، وَلِأَنَّهُ نَمَاءٌ مُنْفَصِلٌ مِنَ الرَّهْنِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ خَارِجًا مِنَ الرَّهْنِ كَالْكَسْبِ ، وَلِأَنَّ النَّمَاءَ عَيْنٌ يَصِحُّ أَنْ تُفْرَدَ بِالْعَقْدِ ؛ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَدْخُلَ فِي الرَّهْنِ إِلَّا بِعَقْدٍ كَالْأُمِّ ، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ فِي الْحَقِّ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْرِيَ حُكْمُهُ لِلْوَلَدِ كَالشَّهَادَةِ وَالضَّمَانِ . وَلِأَنَّهَا عَيْنٌ مُحْتَبَسَةٌ لِاسْتِيفَاءِ الْحَقِّ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ زَوَالِ مِلْكِ مَالِكِهَا ؛ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتْبَعَهَا وَلَدُهَا كَالْعَيْنِ الَّتِي آجَرَهَا ، وَلِأَنَّ حَقَّ الْجِنَايَةِ آكَدُ ثُبُوتًا مِنْ حَقِّ الرَّهْنِ ، لِأَنَّ حَقَّ الْجِنَايَةِ يَطْرَأُ عَلَى الرَّهْنِ ، وَحَقُّ الرَّهْنِ لَا يَطْرَأُ عَلَى الْجِنَايَةِ ، ثُمَّ كَانَ حَقُّ الْجِنَايَةِ مَعَ تَأَكُّدِهِ لَا يَسْرِي عَلَى وَلَدِ الْجَانِيَةِ ، فَحَقُّ الرَّهْنِ مَعَ ضَعْفِهِ أَوْلَى أَلَّا يَسْرِيَ إِلَى وَلَدِ الْمَرْهُونَةِ . وَتَحْرِيرُ عِلَّتِهِ ، أَنَّهُ حَقٌّ تَعَلَّقَ بِالرَّقَبَةِ لِاسْتِيفَائِهِ مِنْهَا ، فَوَجَبَ أَلَّا يَسْرِيَ إِلَى وَلَدِهَا كَالْجِنَايَةِ ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى النَّمَاءِ الْمُتَّصِلِ فَمُنْتَقَضٌ أَوَّلًا بِالْكَسْبِ ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْمُتَّصِلِ أَنَّهُ تَابِعٌ لِلْأَصْلِ فِي مَوْضِعِ الْأُصُولِ ، لِعَدَمِ تَمْيِيزِهِ عَنْهُ وَالْمُنْفَصِلُ غَيْرُ تَابِعٍ لِلْأُصُولِ لِتَمْيِيزِهِ عَنْهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُتَّصِلَ تَابِعٌ لِلْأَصْلِ فِي الْإِجَارَةِ وَالْجِنَايَةِ وَالْبَيْعِ إِذَا رُدَّ بِعَيْبٍ ، فَكَذَلِكَ يَتْبَعُ الْأَصْلَ فِي الرَّهْنِ ، وَالْمُنْفَصِلُ لَا يَتْبَعُ الْأَصْلَ فِي الْإِجَارَةِ وَالْجِنَايَةِ وَلَا الْمَبِيعِ إِذَا رُدَّ بِعَيْبٍ ، فَكَذَلِكَ لَا يَتْبَعُ الْأَصْلَ فِي الرَّهْنِ .
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْمَبِيعِ إِذَا حَبَسَهُ الْبَائِعُ عَلَى ثَمَنِهِ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ لِأَنَّ عِنْدَنَا أَنَّ الْبَائِعَ إِذَا حَبَسَ الْمَبِيعَ لِاسْتِيفَاءِ ثَمَنِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَبْسُ النَّمَاءِ الْحَادِثِ بَعْدَ مَبِيعِهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْبَيْعِ فَدَلِيلُنَا أَنَّهُ يُوجِبُ كَوْنَ النَّمَاءِ لِمَالِكِ الْأَصْلِ ، لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَدْ مَلَكَ الْأَصْلَ ، كَذَلِكَ الرَّهْنُ لَمَّا كَانَ عَلَى مِلْكِ الرَّاهِنِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ خَالِصًا لِلرَّاهِنِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْكِتَابَةِ بِعِلَّةِ أَنَّهُ عَقْدٌ يُفْضِي إِلَى زَوَالِ الْمِلْكِ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : مَنْعُ الْوَصْفِ بِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى زَوَالِ الْمِلْكِ ، لِأَنَّ الْكِتَابَةَ وَإِنْ أَفْضَتْ إِلَى زَوَالِ الْمِلْكِ فَالرَّهْنُ لَا يُفْضِي إِلَى زَوَالِ الْمِلْكِ : لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى اسْتِيفَائِهِ وَثِيقَةً لِمُرْتَهِنِهِ وَإِنْ طَالَتِ الْمُدَّةُ ، وَإِنَّمَا بَيْعُهُ يُفْضِي إِلَى زَوَالِ الْمِلْكِ . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّهُ وَإِنْ سَلِمَ لَهُمُ الْوَصْفُ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي وَلَدِ الْمُكَاتَبَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَوْقُوفٌ لَا يَتْبَعُهَا وَكَذَا وَلَدُ الْمُدَبَّرَةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ حُكْمَهُ مُعْتَبَرٌ بِحُكْمِ أُمِّهِ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ ، فَإِنْ عُتِقَتِ الْمُكَاتَبَةُ بِالْأَدَاءِ وَالْمُدَبَّرَةُ بِمَوْتِ السَّيِّدِ عُتِقَ وَلَدُهُمَا وَإِنْ عَجَزَتْ وَرَقَّتْ رَقَّ وَلَدُهَا ، فَإِنْ قِيلَ لَا يَتْبَعُهَا سَقَطَ السُّؤَالُ . وَإِنْ قِيلَ يَتْبَعُهَا فَهُوَ لَيْسَ يَتْبَعُهَا فِي الْكِتَابَةِ وَإِنَّمَا يَتْبَعُهَا فِي الْحُرِّيَّةِ ، فَلَمْ يَسْلَمْ لَهُمُ الْحُكْمُ ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ : إِنَّ وَلَدَ الْمَرْهُونَةِ دَاخِلٌ فِي الرَّهْنِ ، وَوَلَدُ الْمُكَاتَبَةِ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الْكِتَابَةِ . وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ لَمَّا تَبِعَهَا كَسْبُهَا تَبِعَهَا وَلَدُهَا ، وَالرَّهْنُ لَمَّا لَمْ يَتْبَعْهُ الْكَسْبُ لَمْ يَتْبَعْهُ الْوَلَدُ ، وَالْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى أُمِّ الْوَلَدِ فِي أَنَّ وَلَدَهَا مِنْ غَيْرِ السَّيِّدِ يَتْبَعُهَا فِي الْعِتْقِ بِمَوْتِ السَّيِّدِ ، فَالْقِيَاسُ مُنْتَقَضٌ بِوَلَدِ الْجَانِيَةِ . ثُمَّ الْمَعْنَى أَنَّ سَبَبَ حُرِّيَّتِهَا مُسْتَقِرٌّ اسْتِقْرَارًا يَمْنَعُ مِنْ إِزَالَتِهِ ، فَجَازَ أَنْ يَسْرِيَ إِلَى الْوَلَدِ لِقُوَّتِهِ ، وَالرَّهْنُ لَا يَسْتَقِرُّ اسْتِقْرَارًا يَمْنَعُ مِنْ إِزَالَتِهِ ، فَلَمْ يَسْرِ إِلَى الْوَلَدِ لِضَعْفِهِ ، وَأَمَّا الْمُدَبَّرَةُ فَهَلْ يَتْبَعُهَا وَلَدُهَا أَمْ لَا في الرهن ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَأَمَّا الْمُكَاتَبَةُ فَلَا يَتْبَعُهَا وَلَدُهَا فِي الْكِتَابَةِ ، وَلَكِنْ هَلْ يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُهَا أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَأَمَّا نِتَاجُ الْمَاشِيَةِ ، فَإِنَّمَا كَانَ تَبَعًا لِلْأُمَّهَاتِ فِي حَوْلِ الزَّكَاةِ لِأَنَّهُ لَمَّا ارْتَفَقَ أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ بِالرِّبَا وَالْمَاخِضِ ارْتَفَقَ الْمَسَاكِينُ بِحَوْلِ السِّخَالِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الرَّهْنُ ، فَأَمَّا وَلَدُ الْمُوصَى بِهَا ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي لَمْ يَتْبَعْهَا ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْقَبُولِ تَبِعَهَا لِانْتِقَالِ الْمِلْكِ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَقَبْلَ الْقَبُولِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : لِلْوَرَثَةِ ، هَذَا إِذَا قِيلَ إِنَّ الْقَبُولَ هُوَ التَّمَلُّكُ . وَالثَّانِي : لِلْمُوصِي لَهُ ، وَهَذَا إِذَا قِيلَ إِنَّ الْقَوْلَ يُبْنَى عَلَى مِلْكٍ سَابِقٍ ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي وَلَدِ الْمَرْهُونَةِ . وَأَمَّا وَلَدُ الْهَدْيِ وَالْأُضْحِيَّةِ فَيَتْبَعُ لِلْهَدْيِ وَالْأُضْحِيَّةِ في الرهن لِزَوَالِ الْمِلْكِ عَنْهَا إِلَى الْمَسَاكِينِ ، وَكَانَ الْوَلَدُ حَادِثًا عَلَى مِلْكِ الْمَسَاكِينِ . وَأَمَّا وَلَدُ الْمَغْصُوبَةِ فَيَتْبَعُ لِأُمِّهِ فِي الضَّمَانِ لِحُصُولِ التَّعَدِّي فِيهِمَا . وَأَمَّا وَلَدُ الْمُودَعَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ كَأُمِّهِ أَمَانَةٌ لَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَضْمُونٌ بِخِلَافِ أُمِّهِ : لِأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ عَلَى أُمِّهِ دُونَ وَلَدِهَا . وَأَمَّا وَلَدُ الْعَارِيَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ كَأُمِّهِ مَضْمُونٌ لِأَنَّهُ فَرْعٌ لِأَصْلٍ مَضْمُونٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِخِلَافِ أُمِّهِ ، لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْأُمِّ أَوْجَبَ ضَمَانَهَا ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الِانْتِفَاعُ بِالْوَلَدِ لَمْ يَجِبْ ضَمَانُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَعَلَيْهِ مُؤْنَةُ رُهُونِهِ ، وَمَنْ مَاتَ مِنْ رَقِيقِهِ فَعَلَيْهِ كَفَنُهُ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمَةِ تُعْتَقُ أَوْ تُبَاعُ فَيَتْبَعُهَا وَلَدُهَا وَبَيْنَ الرَّهْنِ أَنَّهُ إِذَا أَعْتَقَ أَوْ بَاعَ زَالَ مِلْكُهُ وَحَدَثَ الْوَلَدُ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ ، وَإِذَا رَهَنَ فَلَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ وَحَدَثَ الْوَلَدُ فِي مِلْكِهِ ، إِلَّا أَنَّهُ مَحُولٌ دُونَهُ لِحَقٍّ حُبِسَ بِهِ لِغَيْرِهِ كَمَا يُؤَاجِرُهَا فَتَكُونُ مُحْتَبِسَةً بِحَقِّ غَيْرِهِ ، وَإِنْ وَلَدَتْ لَمْ يَدْخُلْ وَلَدُهَا فِي ذَلِكَ مَعَهَا ، وَالرَّهْنُ كَالضَّمِينِ لَا يَلْزَمُ إِلَّا مَنْ أَدْخَلَ نَفْسَهُ فِيهِ ، وَوَلَدُ الْأَمَةِ لَمْ يَدْخُلْ فِي الرَّهْنِ قَطُّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . كُلُّ نَفَقَةٍ احْتَاجَ الرَّهْنُ إِلَيْهَا مِنْ نَفَقَةِ مَطْعَمٍ وَمَشْرَبٍ وَنَفَقَةِ دَوَاءٍ وَعِلَاجٍ وَنَفَقَةِ مُرَاعَاةٍ وَحِفْظٍ فَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : نَفَقَةُ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ عَلَى الرَّاهِنِ ، وَنَفَقَةُ الْمُرَاعَاةِ وَالْحِفْظِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ ، وَنَفَقَةُ الدَّوَاءِ وَعِلَاجِ الدُّبُرِ مُعْتَبَرَةٌ بِقِيمَةِ الرَّهْنِ ، فَإِنْ كَانَتْ بِقَدْرِ الْحَقِّ أَوْ أَقَلَّ فَهُوَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ أَكْثَرَ مِنَ الْحَقِّ فَهُوَ عَلَى الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ بِالْقِسْطِ ، مِثَالُهُ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ بِقِيمَةِ نِصْفِ الرَّهْنِ ، فَالنَّفَقَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ : وَهَذَا خَطَأٌ ، لِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الرَّهْنُ مِنْ رَاهِنِهِ الَّذِي رَهَنَهُ لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ فَجَعَلَ الْغُرْمَ وَاجِبًا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوجِبَهُ عَلَى غَيْرِهِ .
وَلِأَنَّهُ مَالِكٌ لِرَقَبَتِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُلْتَزِمًا لِلنَّفَقَةِ كَسَائِرِ الْمُلَّاكِ وَلِأَنَّهَا نَفَقَةٌ تَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ فِي غَيْرِ الرَّهْنِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ فِي الرَّهْنِ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ النَّفَقَةِ عَلَى الرَّاهِنِ ، فَإِنْ شَرَطَهَا الرَّاهِنُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ كَانَ الشَّرْطُ وَالرَّهْنُ بَاطِلَيْنِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ ، كَانَ مُتَطَوِّعًا بِالنَّفَقَةِ سَوَاءٌ كَانَ الرَّاهِنُ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَنْفَقَ بِأَمْرِ الرَّاهِنِ ، أَوْ إِذْنِ الْحَاكِمِ عِنْدَ غَيْبَةِ الرَّاهِنِ ، فَيَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا أَنْفَقَهُ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا كَيْفِيَّةُ النَّفَقَةِ وَمَا يَجِبُ مِنْهَا وَمَا لَا يَجِبُ فَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا كَانَتْ وَاجِبَةً . وَالثَّانِي : مَا كَانَتْ غَيْرَ وَاجِبَةٍ . وَالثَّالِثُ : مَا كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ ، فَأَمَّا مَا كَانَتْ وَاجِبَةً فَهِيَ نَفَقَةُ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ فِي الْحَيَوَانِ دُونَ غَيْرِهِ ، وَهِيَ وَاجِبَةٌ لَا رُخْصَةَ لَهُ فِي تَرْكِهَا ، وَلَا تَخْيِيرَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا . فَإِنْ كَانَتْ مِمَّا تُعْلَفُ وَلَا تُرْعَى وَجَبَ عَلَيْهِ عَلْفُهَا ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا تُرْعَى وَلَا تُعْلَفُ وَجَبَ عَلَيْهِ رَعْيُهَا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَلْفُهَا ، لِأَنَّ مَا يُرْعَى وَلَا يُعْلَفُ يَضُرُّ بِهِ الْعَلْفُ . وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا تُرْعَى وَتُعْلَفُ مَعًا ، فَالرَّاهِنُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ رَعْيِهَا وَعَلْفِهَا ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الرَّعْيُ مُخَوِّفًا فَلَيْسَ لَهُ رَعْيُهَا وَعَلَيْهِ عَلْفُهَا حِفْظًا لِوَثِيقَةِ الرَّهْنِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا مَا كَانَتْ مِنَ النَّفَقَةِ غَيْرَ وَاجِبَةٍ ، فَنَفَقَةُ الدَّوَاءِ وَعِلَاجِ الْمَرَضِ لَا يَجِبُ عَلَى الرَّاهِنِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَذْهَبُ بِغَيْرِ عِلَاجٍ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الرَّهْنُ دَارًا فَاسْتُهْدِمَتْ لَمْ يَلْزَمْهُ عِمَارَتُهَا . فَلَوْ أَرَادَ الرَّاهِنُ عِلَاجَ مَا مَرِضَ وَمِرَمَّةَ مَا اسْتُهْدِمَ لَمْ يَكُنْ لِلْمُرْتَهِنِ مَنْعُهُ مِنْهُ ، فَإِنْ أَرَادَ الْمُرْتَهِنُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ لِيَرْجِعَ بِهِ عَلَى الرَّاهِنِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِهِ كَانَ لَهُ ، وَلَمْ يَكُنْ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَمْنَعْهُ إِذَا كَانَ مَا يُعَالِجُهَا بِهِ نَافِعًا ، فَإِنْ عَالَجَهَا بِشَيْءٍ يَنْفَعُ فِي حَالٍ وَيَضُرُّ فِي أُخْرَى مُنِعَ ، فَإِنْ فَعَلَ ضَمِنَ . فَأَمَّا مَا كَانَتْ مِنَ النَّفَقَةِ وَاجِبَةً عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ ، فَنَفَقَةُ الْحِفْظِ وَالْمُرَاعَاةِ وَارْتِيَادِ الْحِرْزِ وَالسَّكَنِ فَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ سَقَطَ عَنْهُ ، وَإِنْ أَبَى إِلَّا بِمَالِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ ، وَكَذَا مَئُونَةُ نَقْلِ الرَّهْنِ إِلَى الْمُرْتَهِنِ أَوْ إِلَى يَدِ الْمَوْضُوعِ عَلَى يَدِهِ وَاجِبَةٌ عَلَى الرَّاهِنِ أَيْضًا . وَأَمَّا مَئُونَةُ رَدِّهِ بَعْدَ الْفِكَاكِ وَاسْتِيفَاءِ الْحَقِّ فَفِيهَا وَجْهَانِ ، أَحَدُهُمَا عَلَى الرَّاهِنِ أَيْضًا لِتَعَلُّقِهَا بِالْمِلْكِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا عَلَى الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ رَدُّهُ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ فَكَانَتْ مَئُونَةُ الرَّدِّ عَلَى مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الرَّدُّ .
فَأَمَّا مَئُونَةُ رَدِّ الْعَبْدِ الْآبِقِ وَالْجَمَلِ الشَّارِدِ فَوَاجِبٌ عَلَى الرَّاهِنِ ، وَكَذَا عَلَيْهِ كَفَنُ مَنْ مَاتَ مِنْ رَقِيقِهِ وَمَئُونَةُ دَفْنِهِ .
فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ ، وَلَوْ كَانَ الرَّهْنُ مَاشِيَةً فِي بَادِيَةٍ فَأَجْدَبَ مَوْضِعُهَا لَمْ يُؤْمَرِ الْمَالِكُ بِعَلْفِهَا إِذَا كَانَتْ سَائِمَةً ، وَكُلِّفَ رَبُّهَا النُّجْعَةَ بِهَا ، فَإِنْ أَرَادَ النُّجْعَةَ بِهَا وَأَرَادَ الْمُرْتَهِنُ حَبْسَهَا ، قِيلَ لِلْمُرْتَهِنِ إِنْ رَضِيتَ أَنْ تَنْجِعَ بِهَا ، وَإِلَّا اخْتَرْ أَنْ تَضَعَهَا عَلَى يَدِ عَدْلٍ يَنْجَعُ بِهَا إِذَا طَلَبَ ذَلِكَ رَبُّهَا . قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : فَإِنْ أَرَادَتِ الْمَاشِيَةُ النُّجْعَةَ مِنْ غَيْرِ جَدْبٍ وَالْمُرْتَهِنُ الْمَقَامَ ، قِيلَ لِرَبِّ الْمَاشِيَةِ : لَيْسَ لَكَ إِخْرَاجُهَا مِنَ الْبَلَدِ الَّذِي رَهَنْتَهَا بِهِ إِلَّا مِنْ ضَرَرٍ عَلَيْهَا ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا ضَرَرَ عَلَيْهَا فَوَكِّلْ بِرَشْلِهَا مَنْ شِئْتَ يَعْنِي بِالرَّشْلِ اللَّبَنَ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : وَإِنْ أَرَادَ الْمُرْتَهِنُ النُّجْعَةَ مِنْ غَيْرِ جَدْبٍ ، قِيلَ لَهُ : لَيْسَ لَكَ تَحْوِيلُهَا مِنَ الْبَلَدِ الَّذِي ارْتَهَنْتَهَا بِهِ وَبِحَضْرَةِ مَالِكِهَا إِلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ ، فَتَرَاضَيَا بِمَنْ شِئْتُمَا ، مِمَّنْ يُقِيمُ فِي الدَّارِ أَنْ تَكُونَ عَلَى يَدَيْهِ مَا كَانَتِ الدَّارُ غَيْرَ مُجْدِبَةٍ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَجْبَرْنَاهُ عَلَى رَجُلٍ تَأْوِي إِلَيْهِ .
فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَتِ الْأَرْضُ الَّتِي رَهَنَهَا بِهَا غَيْرَ مُجْدِبَةٍ وَغَيْرُهَا أَخْصَبُ مِنْهَا مؤنة نقل الماشية لَمْ يُجْبَرْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى نَقْلِهَا مِنْهَا ، وَإِنْ أَجْدَبَتْ فَاخْتَلَفَتْ نُجْعَتُهَا إِلَى بَلَدَيْنِ مُشْتَبِهَيْنِ فِي الْخِصْبِ ، فَسَأَلَ رَبُّ الْمَاشِيَةِ أَنْ تَكُونَ مَعَهُ وَسَأَلَ الْمُرْتَهِنُ أَنْ تَكُونَ مَعَهُ ، قِيلَ لَهُمَا : إِنِ اجْتَمَعْتُمَا بِبَلَدٍ فَهِيَ مَعَ الْمُرْتَهِنِ أَوِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى يَدَيْهِ ، وَإِنِ اخْتَلَفْتُمَا أُجْبِرْتُمَا عَلَى عَدْلٍ تَكُونُ عَلَى يَدَيْهِ فِي الْبَلَدِ الَّذِي يَنْتَجِعُ إِلَيْهِ رَبُّ الْمَاشِيَةِ لِيَنْتَفِعَ بِرَشْلِهَا ، فَأَيُّهُمَا دَعَا إِلَى بَلَدٍ فِيهِ عَلَيْهَا ضَرَرٌ لَمْ يَجِبْ إِلَيْهِ لِحَقِّ الرَّاهِنِ فِي رِقَابِهَا وَرَشْلِهَا وَحَقِّ الْمُرْتَهِنِ فِي رِقَابِهَا .
فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ إِلَى أَجَلٍ فَقَالَ الْمُرْتَهِنُ لِلرَّاهِنِ فِي حَالِ تَسَاقُطِ الْمَاشِيَةِ مِنَ الْهُزَالِ وَالضَّرَرِ : مُرْ مَنْ يَذْبَحُهَا وَيَبِيعُ لُحُومَهَا وَجُلُودَهَا ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَلَى الرَّاهِنِ ، لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ يُحْدِثُ لَهَا الْغَيْثَ فَيَحْسُنُ حَالُهَا ، وَإِنْ كَانَ حَالًّا أَخَذَ الرَّاهِنُ بِبَيْعِهَا . قَالَ الشَّافِعِيُّ : إِذَا أَصَابَهَا مَرَضٌ وَكَانَ الْحَقُّ إِلَى أَجَلٍ لَمْ يُكَلَّفِ الرَّاهِنُ عِلَاجَهَا لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَذْهَبُ بِغَيْرِ عِلَاجٍ . وَلَوْ كَانَتِ الْمَاشِيَةُ أَوَارِكَ أَوْ خَمِيصَةً أَوْ غَوَادِيَ فَاسْتُؤْنِيَتْ مَكَانَهَا ، فَسَأَلَ الْمُرْتَهِنُ الرَّاهِنَ أَنْ يَنْجَعَهَا إِلَى مَوْضِعٍ غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَلَى الرَّاهِنِ ، لِأَنَّ الْمَرَضَ قَدْ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ الْمَرْعَى .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَأَكْرَهُ رَهْنَ الْأَمَةِ إِلَّا أَنْ تُوضَعَ عَلَى يَدَيِ امْرَأَةٍ ثِقَةٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . إِذَا رَهَنَ أَمَةً لَهُ فَالْوَاجِبُ أَنْ تُوضَعَ عَلَى يَدَيِ امْرَأَةٍ ثِقَةٍ ، لِأَنَّهَا عَوْرَةٌ ذَاتُ فَرْجٍ ، فَإِنْ شَرَطَ أَنْ تَكُونَ عَلَى يَدِ الْمُرْتَهِنِ أَوْ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ عَدْلٍ ، فَإِنْ كَانَ مَأْمُونًا ذَا زَوْجَةٍ جَازَ أَنْ تُوضَعَ عَلَى يَدَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْمُونٍ أَوْ كَانَ مَأْمُونًا لَكِنَّهُ أَعْزَبُ غَيْرُ ذِي زَوْجَةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ تُوضَعَ عَلَى يَدَيْهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ ثَالِثُهُمَا . سَوَاءٌ كَانَتْ جَمِيلَةً تَدْعُو الشَّهْوَةُ إِلَيْهَا ، أَوْ كَانَتْ قَبِيحَةً لَا تَدْعُو الشَّهْوَةُ إِلَيْهَا ، لِأَنَّ الْقَبِيحَةَ تَشْتَهِي ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ مِمَّا يَحْبَلُ مِثْلُهَا أَوْ كَانَتْ مِمَّا لَا يَحْبَلُ لِصِغَرٍ أَوْ إِيَاسٍ : لِأَنَّ الْمَنْعَ لَيْسَ لِأَجْلِ الْإِحْبَالِ وَحْدَهُ ، وَإِنَّمَا الْمَنْعُ خَوْفًا مِنْ مُوَاقَعَةِ الْفَاحِشَةِ ، وَسَوَاءٌ رَضِيَ بِذَلِكَ الرَّاهِنُ أَمْ لَا ، لِأَنَّ هَذَا الْمَنْعَ لَا يَخْتَصُّ بِهَا لِأَجْلِ مِلْكِهِ وَإِنَّمَا هُوَ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى خَوْفًا مِنْ مُوَاقَعَةِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا لَا تُوضَعُ عَلَى يَدِ الْمُرْتَهِنِ وَإِنْ شَرَطَ كَوْنَهَا عَلَى يَدِهِ ، فَإِنَّ هَذَا الشَّرْطَ لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الرَّهْنِ : لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَمْ يُمْنَعُ مِنْهُ لِأَجْلِ الْمِلْكِ ، وَإِنَّمَا مُنِعَ مِنْهُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، فَتُوضَعُ عَلَى يَدِ امْرَأَةٍ ثِقَةٍ ، فَلَوْ رَهَنَهَا وَلَمْ يَشْرُطْ فِي الْعَقْدِ مَنْ تُوضَعُ عَلَى يَدَيْهِ صَحَّ الْعَقْدُ بِخِلَافِ رَهْنِ غَيْرِهَا مِنَ الْأَمْلَاكِ ، فَإِنَّ غَيْرَهَا مِنَ الْأَمْلَاكِ الْمَنْقُولَةِ إِذَا لَمْ يَذْكُرْ فِي الْعَقْدِ مَنْ يَكُونُ عَلَى يَدَيْهِ بَطَلَ الْعَقْدُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ، وَفِي الْأَمَةِ لَا يَبْطُلْ وَجْهًا وَاحِدًا ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَمَةَ لَيْسَتْ لَهَا إِلَّا جِهَةٌ وَاحِدَةٌ تَكُونُ مَوْضُوعَةً فِيهَا ، وَهِيَ أَنْ تَكُونَ مَوْضُوعَةٌ عَلَى يَدِ امْرَأَةٍ ثِقَةٍ ، وَغَيْرُهَا مِنَ الرُّهُونِ لَهُ جِهَاتٌ شَتَّى يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا ، فَبَطَلَ الرَّهْنُ مَعَ الْإِطْلَاقِ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ لِاخْتِلَافِ الْجِهَاتِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ أَخْذُهَا لِلْخِدْمَةِ خَوْفًا أَنْ يُحْبِلَهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَنَافِعَ الرَّهْنِ لِلرَّاهِنِ ، وَهُوَ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْهَا مَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا سَبَبٌ يُفْضِي إِلَى إِبْطَالِ وَثِيقَةِ الْمُرْتَهِنِ ، أَوْ إِلَى النُّقْصَانِ فِيهَا ، فَإِذَا كَانَ الرَّهْنُ أَمَةً فَلَهَا مَنْفَعَتَانِ ، اسْتِخْدَامٌ وَاسْتِمْتَاعٌ فَأَمَّا الِاسْتِخْدَامُ فَهُوَ غَيْرُ مَمْنُوعٍ : لِأَنَّهُ لَا يُفْضِي إِلَى إِبْطَالِ وَثِيقَةِ الْمُرْتَهِنِ وَلَا إِلَى النُّقْصَانِ فِيهَا . وَأَمَّا الِاسْتِمْتَاعُ فَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ يُخَافُ حَبَلُهَا فَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا ، لِأَنَّ حَبَلَهَا
يُفْضِي إِلَى إِبْطَالِ وَثِيقَةِ الْمُرْتَهِنِ فِيهَا ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا يُخَافُ حَبَلُهَا لِصِغَرٍ أَوْ إِيَاسٍ ، فَفِي جَوَازِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : يَجُوزُ اسْتِمْتَاعُهُ بِهَا وَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ ، لِأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ لَا تُفْضِي إِلَى إِبْطَالِ وَثِيقَةِ الْمُرْتَهِنِ مِنْهَا وَلَا إِلَى النُّقْصَانِ فِيهَا ، وَتَعْلِيلُ الشَّافِعِيِّ يَقْتَضِيهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّهُ يُمْنَعُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ ، لِأَنَّ عَادَةَ النِّسَاءِ فِي زَمَانِ الْحَمْلِ مُخْتَلِفَةٌ ، فَرُبَّمَا أَسْرَعَ إِلَيْهَا بِقُوَّةِ الطَّبْعِ وَفَرَطِ الْحَرَارَةِ ، وَرُبَّمَا تَأَخَّرَ لِضَعْفِ الطَّبْعِ وَكَثْرَةِ الْبُرُودَةِ ، فَكَانَ حَسْمُ ذَلِكَ لِاخْتِلَافِهِ خَوْفًا مِنْ حُدُوثِ الْإِحْبَالِ أَوْلَى . كَمَا أَنَّ طِبَاعَ النَّاسِ لَمَّا كَانَتْ تَخْتَلِفُ فِي السُّكْرِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَسْكَرُ بِالْقَلِيلِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَسْكَرُ بِهِ ، مُنِعَ مِنْ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ . فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَانِ الْوَجْهَانِ ، فَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْلُوَ بِهَا فِي الِاسْتِخْدَامِ لَهَا خَوْفًا مِنْ مُوَاقَعَتِهَا ، سَوَاءٌ كَانَتْ جَمِيلَةً أَمْ لَا ، إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ الْمُرْتَهِنُ فَيَجُوزُ ، لِأَنَّ هَذَا الْمَنْعَ لَيْسَ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَمَنْعِ الْمُرْتَهِنِ ، فَإِذَا أَذِنَ جَازَ . فَإِذَا قِيلَ : إِنَّهُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ ، جَازَ أَنْ يَخْلُوَ بِهَا فِي الِاسْتِخْدَامِ لَهَا ، لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا يُخَافُ مِنَ الْخَلْوَةِ بِهَا أَنْ يَطَأَ ، وَالْوَطْءُ مُبَاحٌ لَهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَا كَانَتْ مِنْ زِيَادَةٍ لَا تَتَمَيَّزُ مِنْهَا مِثْلَ الْجَارِيَةِ تَكْبُرُ وَالثَّمَرَةِ تَعْظُمُ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهُوَ غَيْرُ مُتَمَيِّزٍ مِنْهَا وَهِيَ رَهْنٌ كُلُّهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَ الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ فِيمَا مَضَى قَبْلُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ كَانَ الرَّهْنُ مَاشِيَةً فَأَرَادَ الرَّاهِنُ أَنْ يُنْزِيَ عَلَيْهَا ، أَوْ عَبْدًا صَغِيرًا فَأَرَادَ أَنْ يَخْتِنَهُ ، أَوِ احْتَاجَ إِلَى شُرْبِ دَوَاءٍ أَوْ فَتْحِ عِرْقٍ ، أَوِ الدَّابَّةُ إِلَى تَوْدِيجٍ أَوْ تَبْزِيعٍ فَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِمَّا فِيهِ لِلرَّهْنِ مَنْفَعَةٌ ، وَيَمْنَعُهُ مِمَا فِيهِ مَضَرَّةٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا كَانَ الرَّهْنُ مَاشِيَةً ، فَإِنْ كَانَتْ ذُكْرَانًا فَلَهُ أَنْ يُنْزِيَهَا عَلَى إِنَاثِهِ مَا لَمْ يَتَجَاوَزْ فِيهَا الْعُرْفَ ، لِأَنَّ الْإِنْزَاءَ مِنْ مَنْفَعَتِهَا وَلَا يَنْتَقِصُ شَيْءٌ مِنْ ثَمَنِهَا ، فَإِنْ كَانَتْ إِنَاثًا فَأَرَادَ أَنْ يُنْزِيَ عَلَيْهَا ذُكْرَانًا ، فَإِنْ كَانَتْ تَضَعُ قَبْلَ حُلُولِ الْحَقِّ فَلَهُ ذَلِكَ ، وَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ مَنْعُهُ مِنْهُ فِي أَوَانِهِ ، لِمَا فِي مَنْعِهِ مِنْ تَعْطِيلِ نَفْعِهَا وَذَهَابِ نِتَاجِهَا ، فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ لَوْ كَانَ الرَّهْنُ جَارِيَةً لَمْ يَكُنْ لِلرَّاهِنِ أَنْ يُزَوِّجَهَا خَوْفًا مِنْ حَبَلِهَا ؟ فَهَلَّا كَانَ مَمْنُوعًا فِي الْمَاشِيَةِ مِنَ الْإِنْزَاءِ عَلَيْهَا لِأَجْلِ حَبَلِهَا ، قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّ النِّتَاجَ فِي الْمَاشِيَةِ هُوَ الْمَنْفَعَةُ الْمَقْصُودَةُ وَالنَّمَاءُ الْمَطْلُوبُ غَالِبًا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْإِمَاءِ . وَالثَّانِي : أَنَّ غَالِبَ الْوِلَادَةِ فِي الْإِمَاءِ مُخَوَّفٌ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْمَاشِيَةِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ الْوِلَادَةَ فِي الْإِمَاءِ فِي الْغَالِبِ نَقْصٌ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْمَاشِيَةِ . فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ لَا تَضَعُ قَبْلَ حُلُولِ الْحَقِّ ، فَهَلْ لَهُ الْإِنْزَاءُ عَلَيْهَا أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْمَاشِيَةِ هَلْ تُبَاعُ إِذَا حَلَّ الْحَقُّ وَهِيَ حَوَامِلُ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى بَيْعِهَا عِنْدَ حُلُولِ الْحَقِّ وَإِنْ حَمَلَتْ ، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَقُولُ إِنَّ الْحَمْلَ تَبَعٌ ، فَعَلَى هَذَا لَهُ أَنْ يُنْزِيَ عَلَيْهَا وَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ مَنْعُهُ . وَالثَّانِي : أَنَّ الرَّاهِنَ لَا يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهَا عِنْدَ حُلُولِ الْحَقِّ إِذَا حَمَلَتْ حَتَّى تَضَعَ وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَقُولُ إِنَّ الْحَمْلَ يَأْخُذُ قِسْطًا مِنَ الثَّمَنِ . فَعَلَى هَذَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُنْزِيَ عَلَيْهَا إِلَّا بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ ، وَلِلْمُرْتَهِنِ مَنْعُهُ مِنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَأْخِيرِ حَقِّهِ . وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ لَوْ كَانَتِ الْمَاشِيَةُ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا في الرهن ، كَانَ وُجُوبُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ ذُكْرَانِهَا وَأُنْثَاهَا عَلَى قَوْلَيْنِ ، فَلَوْ قَالَ الرَّاهِنُ : أَنَا أُنْزِي عَلَيْهَا وَأَبِيعُهَا عِنْدَ مَحَلِّ الْحَقِّ حَوَامِلَ ، كَانَ هَذَا وَعْدًا ، وَلَهُ أَلَّا يَفْعَلَ ، وَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْهُ .
فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ عَبْدًا وَأَرَادَ الرَّاهِنُ أَنْ يَخْتِنَهُ ، فَإِنْ كَانَ حَقُّهُ حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلًا يَحِلُّ قَبْلَ بُرْئِهِ مِنَ الْخِتَانِ ، فَإِنَّ لِلْمُرْتَهِنِ مَنْعُهُ ، لِأَنَّ فِي بَيْعِهِ قَبْلَ بُرْئِهِ نَقْصًا فِي ثَمَنِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ مُؤَجَّلًا يَحِلُّ بَعْدَ بُرْئِهِ مِنَ الْخِتَانِ لَمْ يَكُنْ لِلْمُرْتَهِنِ مَنْعُهُ لِوُرُودِ الشَّرْعِ بِهِ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي شِدَّةِ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ أَوْ بِالْعَبْدِ ضَنًى مِنْ مَرَضٍ يُخْشَى عَلَيْهِ إِنْ خُتِنَ ، فَيُمْنَعَ مِنْهُ حَتَّى يَطِيبَ الزَّمَانُ فَيَزُولَ الْمَرَضُ ، فَأَمَّا إِنْ أَرَادَ أَنْ يَحْجُمَهُ فَلَهُ ذَلِكَ وَلَا يُمْنَعُ ، لِأَنَّ الْحِجَامَةَ نَافِعَةٌ فِي الْغَالِبِ غَيْرُ مُخَوِّفَةٍ فِي الْعَادَةِ . فَأَمَّا الْفِصَادُ فَهُوَ أَخْوَفُ وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : قَطْعُ الْعُرُوقِ مَسْقَمَةٌ ، وَالْحِجَامَةُ خَيْرٌ مِنْهُ . فَإِنْ لَمْ تَدْعُهُ إِلَى الْفِصَادِ حَاجَةٌ مُنِعَ مِنْهُ ، وَإِنْ دَعَتْهُ إِلَى الْفِصَادِ حَاجَةٌ لَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ ، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَنَّهُ أَرْخَصَ لِأُبَيِّ بِنْ كَعْبٍ فِي الْفَصْدِ " .
وَأَمَّا إِنْ وَقَعَتْ فِي عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ أَكَلَةٌ فَأَرَادَ قَطْعَهَا فَإِنْ كَانَ الْخَوْفُ مِنَ الْقَطْعِ أَكْثَرَ مِنَ الْخَوْفِ مِنَ الْأَكَلَةِ مُنِعَ مِنْ قَطْعِهَا ، وَإِنْ كَانَ الْخَوْفُ مِنَ الْأَكَلَةِ أَكْثَرَ مِنَ الْخَوْفِ مِنَ الْقَطْعِ لَمْ يُمْنَعْ . وَإِنْ كَانَ الْخَوْفُ مِنَ الْأَكَلَةِ كَالْخَوْفِ مِنَ الْقَطْعِ نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ الْقَطْعُ يُزِيدُ فِي ثَمَنِهِ لَمْ يُمْنَعْ ، وَإِنْ كَانَ لَا يُزِيدُ فِيهِ مُنِعَ . فَأَمَّا شُرْبُ الدَّوَاءِ فَنَوْعَانِ ، مُخَوِّفٌ وَغَيْرُ مُخَوِّفٍ ، فَأَمَّا غَيْرُ الْمُخَوِّفِ كَالشَّرَابِ وَالسَّعُوطِ فَغَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْهُ ، وَأَمَّا الْمُخَوِّفُ فَمَا لَمْ تَدْعُ إِلَيْهِ حَاجَةٌ فَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ ، وَإِنْ دَعَتْ إِلَيْهِ حَاجَةٌ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ السَّلَامَةُ فِيهِ أَغْلَبَ مِنَ الْخَوْفِ ، فَهَذَا غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْهُ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْخَوْفُ مِنْهُ أَغْلَبَ مِنَ السَّلَامَةِ ، فَهَذَا مَمْنُوعٌ مِنْهُ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ السَّلَامَةُ وَالْخَوْفُ ، فَيُمْنَعُ مِنْهُ لِأَنَّهُ مُخَوِّفٌ .
فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ دَابَّةً فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْعَبْدِ ، وَحُكْمُ التَّوْدِيجِ وَالتَّبْزِيغِ حُكْمُ الْحِجَامَةِ وَالْفِصَادِ ، لِأَنَّ التَّوْدِيجَ فِي الرَّقَبَةِ وَالتَّبْزِيغَ فِي الْيَدَيْنِ ، فَيَجُوزُ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَفْعَلَهُ وَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ مَنْعُهُ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي وَصَفْنَاهُ ، فَأَمَّا الْمُرْتَهِنُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بِحَالٍ ، لِأَنَّ الرَّهْنَ مِلْكٌ لِغَيْرِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ .
بَابُ رَهْنِ الْمُشْتَرَكِ
بَابُ رَهْنِ الْمُشْتَرَكِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا رَهَنَاهُ مَعَا عَبْدًا بِمَائَةٍ وَقَبَضَ الْمُرْتَهِنُ فَجَائِزٌ ، وَإِنْ أَبْرَأَ أَحَدَهُمَا مِمَّا عَلَيْهِ فَنِصْفُهُ خَارِجٌ مِنَ الرَّهْنِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا كَانَ عَبْدٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَرَهَنَا مَعًا عِنْدَ رَجُلٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ صَحَّ الرَّهْنُ ، بِوِفَاقِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَإِنْ كَانَ فِي رَهْنٍ مَشَاعٍ مُخَالِفًا لِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ بَيْعُ عَبْدِهِمَا عَلَيْهِ صَحَّ رَهْنُ عَبْدِهِمَا عِنْدَهُ ، وَإِذَا صَحَّ رَهْنُهُ صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَصَّفَهُ بِخَمْسِينَ ، فَإِنْ قَضَاهُ أَحَدُهُمَا : أَوْ أَبْرَأَ أَحَدَهُمَا خَرَجَتْ حِصَّتُهُ وَهِيَ نِصْفُ الْعَبْدِ مِنَ الرَّهْنِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِذَا أَبْرَأَ أَحَدَهُمَا لَمْ تَخْرُجْ حِصَّتُهُ مِنَ الرَّهْنِ حَتَّى يُؤَدِّيَ الشَّرِيكُ مَا عَلَيْهَا ، وَتَبْرِئَةُ الْمُرْتَهِنِ مِنْهُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ رَهْنَ الْمَشَاعِ لَا يَجُوزُ فِي ابْتِدَاءِ عَقْدِهِ ، فَكَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ الرَّهْنُ مَشَاعًا فِي انْتِهَاءِ فَكِّهِ . وَدَلِيلُنَا الْجَوَابُ عَلَى أَصْلِنَا فِي أَنَّ رَهْنَ الْمَشَاعِ جَائِزٌ فِي الِابْتِدَاءِ ، فَكَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ الرَّهْنُ مَشَاعًا فِي الِانْتِهَاءِ : لِأَنَّهُ قَدْ بَرِئَ مِنْ جَمِيعِ مَا كَانَ مِلْكُهُ مَرْهُونًا فِيهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الرَّهْنِ كَالْمُتَفَرِّدِ ، وَلِأَنَّهَا بَرَاءَةٌ تَنْفَكُّ بِهَا رَهْنُ الْمُنْفَرِدِ فَوَجَبَ أَنْ يَنْفَكَّ بِهَا رَهْنُ الْمُشْتَرِي ، أَصْلُهُ : إِذَا بَرِئَ الشَّرِيكَانِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ رَهَنَهُ مِنْ رَجُلَيْنِ بِمَائَةٍ وَقَبَضَاهُ فَنِصْفُهُ مَرْهُونٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِخَمْسِينَ ، فَإِنْ أَبْرَأَ أَحَدَهُمَا أَوْ قَبَضَ مِنْهُ نِصْفَ الْمِائَةِ فَنِصْفُهُ خَارِجٌ مِنَ الرَّهْنِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا رَهَنَ رَجُلٌ وَاحِدٌ عَبْدًا لَهُ مِنْ رَجُلَيْنِ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ لَهُمَا عَلَيْهِ وَصَحَّ الرَّهْنُ ، كَانَ نِصْفُهُ رَهْنًا عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى خَمْسِينَ ، فَيَصِيرُ الرَّهْنُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاحِدًا ، وَالْمُرْتَهِنُ اثْنَيْنِ ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى كَانَ الْمُرْتَهِنُ وَاحِدًا وَالرَّاهِنُ اثْنَيْنِ ، وَالْحُكْمُ فِيهِمَا سَوَاءٌ ، فَإِذَا بَرِئَ الرَّاهِنُ مِنْ حَقِّ أَحَدِهِمَا بِأَدَاءٍ أَوْ إِبْرَاءٍ خَرَجَ نِصْفُ الْعَبْدِ مِنَ الرَّهْنِ وَكَانَ نِصْفُهُ الْبَاقِي رَهْنًا فِي يَدِ الْآخَرِ حَتَّى يُؤَدِّيَ إِلَيْهِ حَقَّهُ وَتُبْرِئَهُ مِنْهُ .
فَصْلٌ : إِذَا رَهَنَ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ عَبْدَيْنِ لَهُ عِنْدَ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ عَلَى مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَذَلِكَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَرْهَنَ جَمِيعَ الْعَبْدَيْنِ عَلَى جَمِيعِ الْمِائَتَيْنِ ، فَهَذَا رَهْنٌ وَاحِدٌ قَدِ اشْتَمَلَ عَلَى عَبْدَيْنِ ، فَإِنْ قَضَاهُ أَحَدَ الْمِائَتَيْنِ لَمْ يَنْفَكَّ وَاحِدٌ مِنَ الْعَبْدَيْنِ ، فَإِنْ قَضَاهُ جَمِيعَ الْمِائَتَيْنِ انْفَكَّ جَمِيعُ الْعَبْدَيْنِ ، وَلَوْ كَانَ قَدْ أَقْبَضَهُ أَحَدَ الْعَبْدَيْنِ كَانَ الْمَقْبُوضُ رَهْنًا بِجَمِيعِ الْمِائَتَيْنِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَرْهَنَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَبْدَيْنِ فِي مِائَةٍ فَيَصِيرَا رَهْنَيْنِ رَاهِنُهُمَا وَاحِدٌ ، وَمُرْتَهِنُهُمَا وَاحِدٌ ، فَإِنْ قَضَاهُ إِحْدَى الْمِائَتَيْنِ انْفَكَّ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ ، وَلَوْ كَانَ قَدْ أَقْبَضَهُ أَحَدَ الْعَبْدَيْنِ كَانَ الْمَقْبُوضُ رَهْنًا فِي إِحْدَى الْمِائَتَيْنِ ، فَيَجْرِي عَلَيْهِمَا حُكْمُ الْعَقْدَيْنِ إِذَا كَانَا مِنْ رَاهِنَيْنِ أَوْ مُرْتَهِنَيْنِ ، فَلَوِ اخْتَلَفَتْ قِيمَةُ الْعَبْدَيْنِ فَقَالَ الرَّاهِنُ : قَضَيْتُ الْمِائَةَ الَّتِي فِيهَا أَكْثَرُ الْعَبْدَيْنِ قِيمَةً ، وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ : بَلْ قَضَيْتَ الْمِائَةَ الَّتِي فِيهَا أَقَلُّ الْعَبْدَيْنِ قِيمَةً كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الرَّاهِنِ .
فَصْلٌ : وَلَوْ كَانَ الرَّاهِنُ قَضَاهُ مِائَةً يَنْوِي بِهَا إِحْدَى الْمِائَتَيْنِ بِكَمَالِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَيَّنَهَا فِي أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ ، ثُمَّ أَرَادَ الرَّاهِنُ أَنْ يَفُكَّ بِهَا أَكْثَرَ الْعَبْدَيْنِ قِيمَةً ، وَأَرَادَ الْمُرْتَهِنُ أَنْ يَفُكَّ أَقَلَّهُمَا قِيمَةً فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : إِنَّ الْمِائَةَ الْمَقْضِيَّةَ مَوْقُوفَةٌ عَلَى خِيَارِ الرَّاهِنِ فِي تَعْيِينِهَا فِي أَيِّ الْعَبْدَيْنِ شَاءَ ، فَعَلَى هَذَا لَهُ أَنْ يَأْخُذَ أَيَّ الْعَبْدَيْنِ شَاءَ بَعْدَ أَنْ يُعَيِّنَ الْمِائَةَ فِيهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ الْمِائَةَ الْمَقْضِيَّةَ لَا تَكُونُ مَوْقُوفَةً عَلَى خِيَارِ الرَّاهِنِ فِي التَّعْيِينِ ، وَلَا عَلَى خِيَارِ الْمُرْتَهِنِ لِوُقُوعِ الْإِبْرَاءِ بِالْأَدَاءِ ، فَعَلَى هَذَا قَدْ بَرِئَ فِي إِحْدَى الْمِائَتَيْنِ لَا بِعَيْنِهَا ، وَخَرَجَ مِنَ الرَّاهِنِ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ لَا بِعَيْنِهِ ، وَبَقِيَ فِي الرَّهْنِ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ لَا بِعَيْنِهِ ، وَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ بِعَيْنِهِ ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَرْهُونُ ، وَلَا يَجُوزُ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَحْبِسَ أَحَدَ الْعَبْدَيْنِ بِعَيْنِهِ ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَفْكُوكُ ، وَيُوضَعُ الْعَبْدَانِ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ لِلْجَهْلِ بِتَعْيِينِ الْمَفْكُوكِ مِنَ الْمَرْهُونِ ، إِلَّا أَنْ يَصْطَلِحَا عَلَى فَكِّ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ ، وَبَقَاءِ الْآخَرِ بِعَيْنِهِ .
فَصْلٌ : فَلَوْ كَانَ الرَّاهِنُ قَضَاهُ مِائَةً مُطْلَقَةً ، وَلَمْ يَنْوِ بِهَا إِحْدَى الْمِائَتَيْنِ بِكَمَالِهَا كَانَ عَلَى وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إِنَّهَا مَوْقُوفَةٌ وَلَهُ أَنْ يَصْرِفَهَا إِلَى أَيِّ الْمِائَتَيْنِ شَاءَ ، وَيُفَكُّ بِهَا الْعَبْدُ الْمَرْهُونُ فِيهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهَا تَكُونُ قَضَاءً مِنْ قَضَاءٍ مِنَ الْمِائَتَيْنِ نِصْفَيْنِ ، وَلَا يَنْفَكُّ وَاحِدٌ مِنَ الْعَبْدَيْنِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ كَانَ الرَّهْنُ مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ كَانَ لِلَّذِيَ افْتَكَّ نِصْفَهُ أَنْ يُقَاسِمَ الْمُرْتَهِنَ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَإِنَّمَا عَطَفَ الشَّافِعِيُّ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الرَّاهِنُ اثْنَيْنِ وَالْمُرْتَهِنُ وَاحِدٌ ، فَيَنْفَكُّ حِصَّةُ أَحَدِ الرَّاهِنَيْنِ مِنَ الرَّهْنَيْنِ ، إِمَّا بِأَدَاءٍ أَوْ إِبْرَاءٍ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الرَّهْنِ إِذًا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يُقَسَّمُ جَبْرًا وَلَا صُلْحًا كَالْعَبْدِ وَالدَّابَّةِ ، فَتَكُونُ الْحِصَّةُ الْخَارِجَةُ مِنَ الرَّهْنِ شَائِعَةً ، وَلِمَالِكِهَا التَّصَرُّفُ فِيهَا ، كَتَصَرُّفِ الشُّرَكَاءِ فِي الْمَشَاعِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُقَسَّمُ جَبْرًا ، وَهُوَ مَا تَمَاثَلَ أَجْزَاؤُهُ مِنَ الْحُبُوبِ الْمُكَيَّلَةِ وَالْمَائِعَاتِ الْمَوْزُونَةِ ، فَإِذَا ادَّعَى الشَّرِيكُ إِلَى الْقِيمَةِ أَجْبَرَ الشَّرِيكُ الرَّاهِنَ وَالْمُرْتَهِنَ عَلَى مُقَاسَمَتِهِ ، فَإِنْ قَسَّمَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ ، وَأَخَذَ مِنَ الْحَمْلَةِ قَدْرَ حِصَّتِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَقَاسَمَهُ الْمُرْتَهِنُ وَالشَّرِيكُ وَالرَّاهِنُ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ ، لِأَنَّ الْمِلْكَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِتَمْلِيكِ بَعْضِهِ ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَا أَخَذَهُ بِالْقِسْمَةِ بَيْنَهُمَا ، وَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ ، وَمَا تَرَكَهُ بَيْنَهُمَا ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ ، لِأَنَّ مَا أَخَذَهُ لَوْ كَانَ غَاصِبًا ضَمِنَهُ بِمِثْلِهِ ، فَإِذَا كَانَ شَرِيكًا ضَمِنَهُ بِحَقِّهِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَخَذَ بِالْقِسْمَةِ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ مَلَكَ مِنْهُ قَدْرَ حِصَّتِهِ ، وَضَمِنَ الزِّيَادَةَ لِشَرِيكِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُقَسَّمُ صُلْحًا وَلَا يُقَسَّمُ جَبْرًا ، وَهُوَ مَا اخْتَلَفَتْ أَجْزَاؤُهُ وَتَفَاضَلَتْ قِيمَتُهُ ، كَالْبَقَرِ وَالْأَرْضِ وَالْعُرُوضِ وَالنَّبَاتِ ، فَلَا تَصِحُّ لِلْقِسْمَةِ إِلَّا بِرِضَى الرَّاهِنِ الْبَاقِي وَالْمُرْتَهِنِ ، فَإِنْ تَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِمُقَاسَمَتِهِ تَصِحُّ الْقِسْمَةُ : لِأَنَّ لِلرَّاهِنِ حَقَّ الْمِلْكِ وَلِلْمُرْتَهِنِ حَقَّ الْمَنْفَعَةِ الْوَثِيقَةِ ، فَإِنْ رَضِيَ الرَّاهِنُ دُونَ الْمُرْتَهِنِ لَمْ يُجْبَرِ الْمُرْتَهِنُ : لِحَقِّهِ فِي الْوَثِيقَةِ ، وَلَوْ رَضِيَ الْمُرْتَهِنُ دُونَ الرَّاهِنِ لَمْ يُجْبَرِ الرَّاهِنُ لِحَقِّهِ فِي الْمِلْكِ ، وَلَكِنْ لَوْ رَضِيَا مَعًا وَجَعَلَ أَحَدُهُمَا إِلَى
الْآخَرِ مُقَاسَمَةَ الشَّرِيكِ جَازَ ذَلِكَ وَصَحَّتِ الْقِسْمَةُ ، سَوَاءٌ قَاسَمَهُ الرَّاهِنُ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ ، أَوْ قَاسَمَهُ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْذَنَ رَجُلٌ لِرَجُلٍ فِي أَنْ يَرْهَنَ عَبْدَهُ إِلَّا بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ أَوْ أَجَلٍ مَعْلُومٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي بَابِ بَيْعِ الْحَاكِمِ وَالِاسْتِحْقَاقِ وَاسْتَوْفَيْنَا مَنْصُوصَهَا ، وَاسْتَقْصَيْنَا فُرُوعَهَا ، فَإِذَا اسْتَعَارَ أَرْضًا لِرَهْنِهِ جَازَ وَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَجْرِيَ مَجْرَى الْعَارِيَةِ ، فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ أَنْ يَسْتَعِيرَهُ لِيَرْهَنَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَذْكُرَ قَدْرَ الْحَقِّ وَوَصْفَهُ وَمُسْتَحَقَّهُ . وَالثَّانِي : أَنْ يَجْرِيَ مَجْرَى الضَّمَانِ ، وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَصِحُّ حَتَّى يَذْكُرَ قَدْرَ الْحَقِّ وَوَصْفَهُ وَمُسْتَحَقَّهُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ رَهَنَهُ بِأَكْثَرَ لَمْ يَجُزْ مِنَ الرَّهْنِ شَيْءٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : لِأَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا إِذَا أَذِنَ لَهُ مَالِكُ الْعَبْدِ أَنْ يَرْهَنَهُ بِمِائَةٍ ، جَازَ أَنْ يَرْهَنَهُ بِالْمِائَةِ فَمَا دُونَ ، فَإِنْ رَهَنَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ مِائَةٍ كَانَ رَهْنُهُ فِيمَا زَادَ عَلَى الْمِائَةِ بَاطِلًا ، وَفِي الْمِائَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ رَهَنَهُ بِمَا أَذِنَ لَهُ ثُمَّ أَرَادَ أَخْذَهُ بِافْتِكَاكِهِ وَكَانَ الْحَقُّ حَالًّا كَانَ ذَلِكَ لَهُ وَتَبِعَ فِي مَالِهِ حَتَّى يُوفَى الْغَرِيمُ حَقَّهُ ، وَلَوْ لَمْ يُرِدْ ذَلِكَ الْغَرِيمُ أَسْلَمَ عَبْدَهُ الْمَرْهُونَ ، وَإِنْ كَانَ أَذِنَ لَهُ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِافْتِكَاكِهِ إِلَّا إِلَى مَحَلِّهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ إِذَا رَهَنَ الْمُسْتَعِيرُ بِمَا أُذِنَ لَهُ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرَهُ ثُمَّ أَرَادَ الْمَالِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ الْمُسْتَعِيرُ بِفِكَاكِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ مُنْجَزًا فَلَهُ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا فَعَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَهُ ذَلِكَ إِذَا قِيلَ إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْعَارِيَةِ : لِأَنَّ الْعَوَارِيَ مُسْتَرْجَعَةٌ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إِذَا قِيلَ إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الضَّمَانِ ، لِأَنَّ الضَّمَانَ لَا يَسْتَحِقُّ فِيهِ الرُّجُوعُ قَبْلَ الْمَحَلِّ ، وَقَدِ اسْتَوْفَيْنَا فِي فُصُولٍ هَذِهِ الْمَسَائِلَ مَا يُغْنِي عَنْ إِعَادَتِهِ ، وَسَنَذْكُرُ فُصُولًا تَتَعَلَّقُ بِهَا .
فَصْلٌ : إِذَا اسْتَعَارَ رَجُلَانِ مِنْ رَجُلٍ عَبْدًا وَرَهَنَاهُ عِنْدَ رَجُلٍ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ ، كَانَ نِصْفُهُ
رَهْنًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى خَمْسِينَ دِرْهَمًا ، فَإِنْ أَقْضَاهُ أَحَدُهُمَا خَمْسِينَ خَرَجَ نِصْفُهُ مِنَ الرَّهْنِ ، وَلَوِ اسْتَعَارَ رَجُلٌ عَبْدَيْنِ مِنْ رَجُلَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ وَرَهَنَهُمَا عِنْدَ رَجُلٍ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ كَانَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَفْتَكَّ أَحَدَ الْعَبْدَيْنِ وَيَدْفَعَ نِصْفَ الْمِائَةِ : لِأَنَّهُ إِذَا كَانَا لِمَالِكَيْنِ جَرَى عَلَيْهِمَا حُكْمُ الْعَقْدَيْنِ ، فَإِنْ كَانَ الْمُرْتَهِنُ عَالِمًا بِأَنَّ الْعَبْدَيْنِ لِرَجُلَيْنِ فَلَا خِيَارَ لَهُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ الْمَشْرُوطِ ارْتِهَانُ الْعَبْدِ ، وَإِنْ كَانَ الْمُرْتَهِنُ جَاهِلًا بِأَنَّ الْعَبْدَيْنِ الِاثْنَيْنِ فَإِنْ قَضَاهُ الرَّاهِنُ مَا قَضَاهُ مُجْتَمِعًا وَافْتَكَّهَا مَعًا فَلَا خِيَارَ لَهُ ، وَإِنْ قَضَاهُ عَنْ أَحَدِهِمَا وَافْتَكَّ وَاحِدًا مِنْهُمَا فَهَلْ لَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ حَكَاهُمَا أَبُو حَامِدٍ فِي جَامِعِهِ . أَحَدُهُمَا : لَا خِيَارَ لَهُ ، لِبَقَاءِ وَثِيقَتِهِ فِي بَاقِي الْحَقِّ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَهُ الْخِيَارُ لِأَنَّ فَكَّهُمَا مَعًا خَيْرٌ لِلْمُرْتَهِنِ مِنْ فَكِّ أَحَدِهِمَا .
فَصْلٌ : وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ ، وَكَانَ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، فَاسْتَعَارَهُ رَجُلٌ لِرَهْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ ، وَأَقَرَّ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَرَهَنَهُ عِنْدَهُ عَلَى الْمِائَةِ ، ثُمَّ أَرَادَ الرَّاهِنُ أَنْ يَفُكَّ إِحْدَى الْحِصَّتَيْنِ قَبْلَ الْأُخْرَى ، فَإِنْ كَانَ الْمُرْتَهِنُ عَالِمًا أَنَّ الْعَبْدَ لِرَجُلَيْنِ فَلِلرَّاهِنِ أَنْ يَفُكَّ أَيَّ الْحِصَّتَيْنِ شَاءَ ، بِأَنْ يَدْفَعَ خَمْسِينَ دِرْهَمًا وَيَفُكَّ نِصْفَ الْعَبْدِ ، فَإِنْ كَانَ الْمُرْتَهِنُ جَاهِلًا فَإِنَّ الْعَبْدَ لِرَجُلَيْنِ ، فَهَلْ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَفُكَّ إِحْدَى الْحِصَّتَيْنِ ، قَبْلَ فِكَاكِ الْأُخْرَى أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي الرَّهْنِ الْكَبِيرِ فِي الْجَدِيدِ : أَحَدُهُمَا : لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَفُكَّ جَمِيعَهُ : لِأَنَّهُ رَهْنٌ وَاحِدٌ ، كَمَا لَوْ رَهَنَ عَبْدًا لِنَفْسِهِ بِمِائَةٍ ثُمَّ أَدَّى تِسْعِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَفُكَّ تِسْعَةَ أَعْشَارِهِ ، فَعَلَى هَذَا لَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ فِي الْبَيْعِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ أَصَحُّ : لَهُ أَنْ يَفُكَّ حِصَّتَهُ أَيَّهُمَا شَاءَ ، وَيَخْرُجُ نِصْفُ الْعَبْدِ مِنَ الرَّهْنِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : كَمَا لَوِ اسْتَعَارَ مِنْ رَجُلٍ عَبْدًا وَمِنْ آخَرَ عَبْدًا جَازَ لَهُ أَنْ يَفُكَّ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ ، وَالرَّجُلَانِ وَإِنْ كَانَ فِي مِلْكَيْهِمَا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ فَأَحْكَامُهُمَا فِي الْبَيْعِ وَالرَّهْنِ حُكْمُ مَالِكِي الْعَبْدَيْنِ الْمُتَفَرِّقَيْنِ ، فَعَلَى هَذَا هَلْ لِلْمُرْتَهِنِ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَكَذَا لَوْ كَانَ عَبْدَيْنِ شَرِيكَيْنِ فَاسْتَعَارَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ حِصَّةَ شَرِيكِهِ وَرَهَنَهَا مَعَ حِصَّتِهِ فَهَلْ لَهُ أَنْ يَفُكَّ إِحْدَى الْحِصَّتَيْنِ قَبْلَ الْأُخْرَى أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ .
فَصْلٌ : وَلَوْ كَانَ الْعَبْدَانِ رَجُلَيْنِ فَأَذِنَا لِرَجُلٍ أَنْ يَرْهَنَهُ عِنْدَ رَجُلَيْنِ بِمِائَةٍ فَرَهَنَهُ بِهَا ، فَلِلرَّاهِنِ أَنْ يُعْطِيَ خَمْسِينَ لِأَحَدِهِمَا وَيَفُكَّ نِصْفَ الْعَبْدِ ، وَهَلْ لَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ وَيَفُكَّ رُبْعَ الْعَبْدِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ :