كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي
يَقُولُونَ : زَنَى فَلَانٌ ، فَلَا حَدَّ عَلَى حَاكِي الْقَذْفِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقَاذِفٍ ، وَلَا يَسْأَلُهُ عَنِ الْقَاذِفِ ، لِأَنَّ حَقَّ الْمُطَالَبَةِ لَمْ يَتَوَجَّهْ عَلَيْهِ بِحَدٍّ وَلَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَوِ الْإِمَامِ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الْمَقْذُوفِ هَلْ زَنَى أَمْ لَا ؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَلَا تَجَسَّسُوا [ الْحُجُرَاتِ : ] . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِهَزَّالٍ : هَلَّا سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ يَا هَزَّالُ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَتَعَيَّنَ فِيهِ الْقَاذِفُ وَالْمَقْذُوفُ ، كَقَوْلِ رَجُلٍ لِإِمَامٍ : زَنَى فُلَانٌ أَوْ فُلَانَةٌ ، فَيَكُونُ الْقَاذِفُ وَالْمَقْذُوفُ مُعَيَّنَيْنِ ، فَلَا يَجُوزُ لِإِمَامٍ أَنْ يَسْأَلَ الْمَقْذُوفَ هَلْ زَنَى أَمْ لَا ؟ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : مَنْ أَتَى مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ ، فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ حَدَّ اللَّهِ عَلَيْهِ . وَهَلْ يَلْزِمُ الْإِمَامَ إِعْلَامُ الْمَقْذُوفِ بِحَالِ قَذْفِهِ لِيُطَالِبَ قَاذِفَهُ بِحَدِّهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ إِعْلَامُهُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ وَجَبَ لَهُ بِالْقَذْفِ حَقٌّ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَلَزِمَ الْإِمَامَ حِفْظُهُ عَلَيْهِ بِإِعْلَامِهِ لِيَسْتَوْفِيَهُ إِنْ شَاءَ كَمَا يَلْزَمُهُ إِعْلَامُهُ بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ مِنْ أَمْوَالِهِ ، لِجَمْعِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ فِي قَوْلِهِ : أَلَا إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُنَيْسًا حِينَ أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا لِهَذَا ، وَأَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَتِهِ ، فَقَالَ : يَا أُنَيْسُ ، اغْدُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا فَكَانَ إِيفَادُ أُنَيْسٍ إِلَيْهَا لَا لِيَسْأَلَهَا عَنِ الزِّنَى : هَلْ زَنَتْ أَمْ لَا ؟ وَلَكِنْ لِيُخْبِرَهَا بِحَالِ قَاذِفِهَا ، فَإِنْ أَكْذَبَتْهُ وَطَلَبَتْ حَدَّهُ حُدَّ لَهَا ، وَإِنْ صَدَّقَتْهُ وَاعْتَرَفَتْ بِالزِّنَا حُدَّتْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَيْسَ عَلَى الْإِمَامِ إِعْلَامُهُ ، لِأَنَّهَا حُدُودٌ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " جَنْبُ الْمُؤْمِنِ حِمًى " . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ : إِنَّهُ أَنْ يُعَدِّيَ قَذْفَ الْغَائِبِ إِلَى قَذْفِ حَاضِرٍ مُطَالِبٍ كَرَجُلٍ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِرَجُلٍ سَمَّاهُ فَلَاعَنَ الزَّوْجُ مِنْهَا ، لَمْ يَلْزَمِ الْإِمَامَ إِعْلَامُهُ ؛ لِأَنَّ لِعَانَ الزَّوْجِ يُسْقِطُ مِنَ الْقَذْفِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُعْلِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَرِيكًا حِينَ قَذَفَهُ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ بِامْرَأَتِهِ ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ الْقَذْفُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ لِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ بِزِنَاهَا بِهِ فَحَضَرَ أَحَدُهُمَا مُطَالِبًا بِالْحَدِّ لَمْ يَلْزَمِ الْإِمَامَ إِعْلَامُ الْآخَرِ ، لِأَنَّ الْحَاضِرَ إِذَا اسْتَوْفَى الْحَدَّ فَهُوَ فِي حَقِّهِ وَحَقِّ الْغَائِبِ ، لِأَنَّ فِي زَوَالِ الْمَعَرَّةِ عَنْ أَحَدِهِمَا بِالْحَدِّ فِي قَذْفِهِمَا زَوَالًا لِلْمَعَرَّةِ عَنْهُمَا ، لِأَنَّ الزِّنَا وَاحِدٌ ، فَإِذَا لَمْ يَتَّصِلْ قَذْفُ الْغَائِبِ بِحَاضِرٍ فَيُطَالِبُ ، وَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ إِعْلَامُ الْغَائِبِ لِيَسْتَوْفِيَ بِالْمُطَالَبَةِ حَقَّهُ إِنْ شَاءَ كَمَا أَوْفَدَ أُنَيْسًا إِلَى الْمَرْأَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَأْيُّ الزَّوْجَيْنِ كَانَ أَعْجَمِيًّا الْتَعَنَ بِلِسَانِهِ بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ يَعْرِفَانِ لِسَانَهُ وَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ لَوْ كَانُوا أَرْبَعَةً " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْقَذْفُ بِالْأَعْجَمِيَّةِ لِمَنْ يَعْرِفُهَا ، فَكَالْقَذْفِ بِالْعَرَبِيَّةِ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ عَرَبِيًّا أَوْ أَعْجَمِيًّا ، فَأَمَّا اللِّعَانُ بِالْأَعْجَمِيَّةِ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ جَازَ لِعَانُهُ بِالْأَعْجَمِيَّةِ ، لِأَنَّ اللِّعَانَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ يَمِينًا أَوْ شَهَادَةً وَكِلَاهُمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِالْأَعْجَمِيَّةِ ، وَإِنْ كَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ نُظِرَ فِي أَصْلِ لِسَانِهِ وَعُمُومِ كَلَامِهِ ؛ فَإِنْ كَانَ عَرَبِيَّ اللِّسَانِ وَالْكَلَامِ وَهُوَ يَعْرِفُ الْأَعْجَمِيَّةَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُلَاعِنَ إِلَّا بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اللِّعَانَ مَحْمُولُ الْأَلْفَاظِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْقُرْآنُ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ بِلِسَانِهِ الْعَرَبِيِّ مِنَ الْعَرَبِ . وَالثَّانِي : أَنَّ فِي عُدُولِ الْعَرَبِيِّ عَنْ لِسَانِهِ اسْتِرَابَةً تَضْمَنُ احْتِمَالًا يَمْنَعُ مِنْ تَغْلِيظِ اللِّعَانِ ، فَإِنْ كَانَ أَصْلُ لِسَانِهِ أَعْجَمِيًّا وَهُوَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ ، فَفِي جَوَازِ لِعَانِهِ بِالْأَعْجَمِيَّةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ - لَا يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ إِلَّا بِالْعَرَبِيَّةِ اعْتِبَارًا بِلَفْظِ الْقُرْآنِ الْمُعَوَّلِ عَلَيْهِ فِي اللِّعَانِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ بِالْأَعْجَمِيَّةِ اعْتِبَارًا بِزَوَالِ الِاسْتِرَابَةِ مِنْ مِثْلِهِ فِي جَرْيِهِ عَلَى عَادَةِ لِسَانِهِ .
فَصْلٌ : فَإِنْ أَرَادَ الْحَاكِمُ أَنْ يُلَاعِنَ بَيْنَ الْأَعْجَمِيَّيْنِ بِالْأَعْجَمِيَّةِ لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِلِسَانِهِمَا أَوْ غَيْرَ عَارِفٍ ، فَإِنْ كَانَ عَارِفًا بِلِسَانِهِمَا لَمْ يَحْتَجْ إِلَى تُرْجُمَانٍ وَجَعَلَ الْحَاضِرِينَ لِلِعَانِهِمَا مَنْ يَعْرِفُونَ الْأَعْجَمِيَّةَ ، أَوْ يَكُونُ فِيهِمْ مِمَّنْ يَعْرِفُهَا الْعَدَدُ الْمَأْمُورُ بِهِ وَهُمْ أَرْبَعَةٌ ، وَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ لَا يَعْرِفُ لِسَانَهُمَا احْتَاجَ إِلَى تُرْجُمَانٍ ، وَاخْتُلِفَ فِي التَّرْجَمَةِ هَلْ تَكُونُ خَبَرًا أَوْ شَهَادَةً ؟ . فَجَعَلَهُمَا أَبُو حَنِيفَةَ خَبَرًا وَاعْتَمَدَ فِيهَا عَلَى تَرْجَمَةِ الْوَاحِدِ كَالْأَخْبَارِ ، وَهِيَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ شَهَادَةٌ ، لِأَنَّ الْحَاكِمَ يَحْكُمُ بِهَا عَلَى غَيْرِ الْمُتَرْجِمِ فِيمَا لَمْ يَعْلَمْهُ إِلَّا مِنَ الْمُتَرْجِمِ فَصَارَتْ عِنْدَهُ شَهَادَةً بِإِقْرَارٍ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهَا حُكْمُ الشَّهَادَاتِ ، وَسَنَسْتَوْفِي الْكَلَامَ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ كِتَابِ " الشَّهَادَاتِ " . فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّرْجَمَةَ شَهَادَةٌ فَهِيَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فِي لِعَانٍ قَدْ يَجْرِي عَلَيْهِ بَعْضُ أَحْكَامِ الزِّنَا ، وَالشَّهَادَةُ فِي الزِّنَا مُعْتَبَرَةٌ بِمَا تَضَمَّنَهَا ، فَإِنْ كَانَتْ عَلَى فِعْلِ الزِّنَا لَمْ تَثْبُتْ بِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةٍ ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا فَعَلَى قَوْلَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَكُونُ بِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةٍ ؛ لِأَنَّهَا تُوجِبُ حَدَّ الزِّنَا كَمَا تُوجِبُهُ الشَّهَادَةُ عَلَى فِعْلِ الزِّنَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهَا تَثْبُتُ بِشَاهِدَيْنِ ، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى فِعْلِ الزِّنَا أَغْلَظُ مِنَ الشَّهَادَةِ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا ، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى فِعْلِهِ إِذَا لَمْ تَكْمُلْ أَوْجَبَتْ حَدَّ الْقَذْفِ وَعَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ لَا تُوجِبُهُ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالتَّرْجَمَةُ لَا يُعْتَبَرُ فِيهَا عَدَدُ الشُّهُودِ عَلَى فِعْلِ الزِّنَا ، وَهَلْ يُعْتَبَرُ فِيهَا عَدَدُ الشُّهُودِ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا : أَحَدُهُمَا : يُعْتَبَرُ فِيهِمْ عَدَدُ الْإِقْرَارِ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا تَضَمَّنَ اللِّعَانُ إِقْرَارًا بِهِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَرْبَعَةً وَفِي الثَّانِي شَاهِدَيْنِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهِمْ عَدَدُ الْإِقْرَارِ بِغَيْرِ الزِّنَا فِي جَوَازِ الِاقْتِصَارِ عَلَى شَاهِدَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَقَرَّ بِالزِّنَا ، فَإِنَّ أَقَرَّ بِهِ أَحَدُهُمَا اعْتُبِرَ حِينَئِذٍ فِي إِقْرَارِهِ شَهَادَةُ الْمُقِرِّ ، فَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَرْبَعَةً عَلَى الِاخْتِيَارِ دُونَ الْوُجُوبِ ، أَوْ عَلَى الْجَمَاعَةِ الْحُضُورِ دُونَ الْمُتَرْجِمِينَ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ كَانَ أَخْرَسَ يَفْهَمُ الْإِشَارَةَ الْتَعَنَ بِالْإِشَارَةِ وَإِنِ انْطَلَقَ لِسَانُهُ بَعْدَ الْخَرَسِ لَمْ يُعِدْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي لِعَانِ الْأَخْرَسِ وَذَكَرْنَا خِلَافَ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهَا وَمَنْعَهُ مِنْ لِعَانِ الْأَخْرَسِ وَإِنْ جَوَّزْنَاهُ ، بِمَا أَغْنَى عَنِ الْإِعَادَةِ ، فَلَوْ لَاعَنَ الْأَخْرَسُ بِالْإِشَارَةِ ثُمَّ انْطَلَقَ لِسَانُهُ لَمْ يُعِدِ اللِّعَانَ وَأَجْزَأَ مَا تَقَدَّمَ مِنْهُ بِالْإِشَارَةِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " ثُمَّ تُقَامُ الْمَرْأَةُ فَتَقُولُ : أَشْهَدُ بِاللَّهِ أَنَّ زَوْجِيَ فُلَانًا - وَتُشِيرُ إِلَيْهِ إِنْ كَانَ حَاضِرًا - لَمِنَ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنَ الزِّنَا صِفَةِ اللِّعَانِ فِي الْمَرْأَةِ ثُمَّ تَعُودُ حَتَّى تَقُولَ ذَلِكَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ ، فَإِذَا فَرَغَتْ وَقَّفَهَا الْإِمَامُ وَذَكَّرَهَا اللَّهَ تَعَالَى وَقَالَ : احْذَرِي أَنْ تَبُوئِي بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ إِنْ لَمْ تَكُونِي صَادِقَةً فِي أَيْمَانِكِ ، فَإِنْ رَآهَا تُفْضِي وَحَضَرَتْهَا امْرَأَةٌ أَمَرَهَا أَنْ تَضَعَ يَدَهَا عَلَى فِيهَا ، وَإِنْ لَمْ تَحْضُرْهَا وَرَآهَا تَمْضِي قَالَ لَهَا : قُولِي وَعَلَيَّ غَضَبُ اللَّهِ إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنَ الزِّنَا ، فَإِذَا قَالَتْ ذَلِكَ فَقَدْ فَرَغَتْ . قَالَ : وَإِنَّمَا أَمَرْتُ بِوَقْفِهِمَا وَتَذْكِيرِهِمَا اللَّهَ ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حَكَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ رَجُلًا حِينَ لَاعَنَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى فِيهِ فِي الْخَامِسَةِ وَقَالَ : إِنَّهَا مُوجِبَةٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا مِمَّا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ مِنْ صِفَةِ اللِّعَانِ فِي الْمَرْأَةِ بَعْدَ لِعَانِ الرَّجُلِ وَاسْتَوْفَيْنَا حُكْمَهُ بِمَا أَغْنَى .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الشَّهَادَاتِ أَرْبَعًا ثَمَّ فَصَلَ بَيْنَهُنَّ بِاللَّعْنَةِ فِي الرَّجُلِ وَالْغَضَبِ فِي الْمَرْأَةِ دَلَّ عَلَى حَالِ افْتِرَاقِ اللِّعَانِ وَالشَّهَادَاتِ ، وَأَنَّ اللَّعْنَةَ وَالْغَضَبَ بَعْدَ الشَّهَادَةِ مُوجِبَانِ عَلَى مَنْ أُوجِبَا عَلَيْهِ بِأَنْ يَجْتَرِئَ عَلَى الْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ ثُمَّ عَلَى الشَّهَادَةِ بِاللَّهِ بَاطِلًا ثَمَّ يَزِيدُ فَيَجْتَرِئُ عَلَى أَنْ يَلْتَعِنَ وَعَلَى أَنْ يَدْعُوَ بِلَعْنَةِ اللَّهِ ، فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ إِذَا عَرَفَ مِنْ ذَلِكَ مَا جَهِلَا أَنْ يَقِفَهُمَا نَظَرًا لَهُمَا بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا مِمَّا أَرَادَ بِهِ الشَّافِعِيُّ أَبَا حَنِيفَةَ فِي إِثْبَاتِ اللِّعَانِ هل يكون يمينا أو شهادة ؟ . يَمِينًا حِينَ جَعَلَهُ أَبُو حَنِيفَةَ شَهَادَةً ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ وَعَلَيْهِ بِمَا أَقْنَعَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - .
بَابُ مَا يَكُونُ بَعْدَ الْتِعَانِ الزَّوْجِ مِنَ الْفُرْقَةِ وَنَفْيِ الْوَلَدِ وَحَدِّ الْمَرْأَةِ
بَابُ مَا يَكُونُ بَعْدَ الْتِعَانِ الزَّوْجِ مِنَ الْفُرْقَةِ وَنَفْيِ الْوَلَدِ وَحَدِّ الْمَرْأَةِ مِنْ كِتَابَيْنِ قَدِيمٍ وَجَدِيدٍ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " فَإِذَا أَكْمَلَ الزَّوْجُ الشَّهَادَةَ وَالِالْتِعَانَ فَقَدْ زَالَ فِرَاشُ امْرَأَتِهِ وَلَا تَحِلُّ لَهُ أَبَدًا بِحَالٍ وَإِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ الْتَعَنَتْ أَوْ لَمْ تَلْتَعْنَ ، وَإِنَّمَا قُلْتُ هَذَا لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا " وَلَمْ يَقُلْ حَتَّى تُكَذِّبَ نَفْسَكَ وَقَالَ فِي الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا : " حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ " وَلَمَّا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - : الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَكَانَتْ فِرَاشًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْفِيَ الْوَلَدَ عَنِ الْفِرَاشِ إِلَّا بِأَنْ يَزُولَ الْفِرَاشُ وَكَانَ مَعْقُولًا فِي حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ أَلْحَقَ الْوَلَدَ بِأُمِّهِ أَنَّهُ نَفَاهُ عَنْ أَبِيهِ وَإِنَّ نَفْيَهُ عَنْهُ بِيَمِينِهِ بِالْتِعَانِهِ لَا بِيَمِينِ الْمَرْأَةِ عَلَى تَكْذِيبِهِ بِنَفْيِهِ ، وَمَعْقُولٌ فِي إِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ لَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ وَجُلِدَ الْحَدَّ إِذْ لَا مَعْنَى لِلْمَرْأَةِ فِي نَفْسِهِ وَأَنَّ الْمَعْنَى لِلزَّوْجِ فِيمَا وُصِفَتْ مِنْ نَفْيِهِ وَكَيْفَ يَكُونُ لَهَا مَعْنًى فِي يَمِينِ الزَّوْجِ وَنَفْيِ الْوَلَدِ وَإِلْحَاقِهِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْ أَنَ الْأُمَّ لَوْ قَالَتْ : لَيْسَ هُوَ مِنْكَ إِنَّمَا اسْتَعَرْتُهُ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهَا شَيْئًا إِذَا عُرِفَ أَنَّهَا وَلَدَتْهُ عَلَى فِرَاشِهِ إِلَّا بِلِعَانٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ لِلْوَلَدِ دُونَ الْأُمِّ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : هُوَ ابْنِي ، وَقَالَتْ : بَلْ زَنَيْتُ فَهُوَ مِنْ زِنًا كَانَ ابْنُهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ حُكْمَ الْوَلَدِ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ إِلَيْهِ دُونَ أُمِّهِ ، فَكَذَلِكَ نَفْيُهُ بِالْتِعَانِهِ دُونَ أُمِّهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَصَدَ الشَّافِعِيُّ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ الْكَلَامَ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ أَحْكَامَ اللِّعَانِ مُخْتَصَّةٌ بِلِعَانِ الزَّوْجِ وَحْدَهُ . وَالثَّانِي : أَنَّ تَحْرِيمَ اللِّعَانِ مُؤَبَّدٌ لَا يَزُولُ وَإِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ . فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ مِنْ أَحْكَامِ اللِّعَانِ : فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ أَحْكَامَ اللِّعَانِ أَرْبَعَةٌ وَخَامِسٌ يَخْتَصُّ بِالزَّوْجَةِ ، فَأَمَّا الْأَرْبَعَةُ : فَارْتِفَاعُ الْفِرَاشِ ، وَتَأْبِيدُ التَّحْرِيمِ ، وَنَفْيُ النَّسَبِ ، وَسُقُوطُ حَدِّ الْقَذْفِ ، وَأَمَّا الْخَامِسُ الْمُخْتَصُّ بِالزَّوْجَةِ فَهُوَ وُجُوبُ حَدِّ الزِّنَا عَلَيْهَا إِلَّا أَنْ تَلْتَعِنَ ، وَهَذِهِ الْأَحْكَامُ الْخَمْسَةُ ثَبَتَتْ بِالْتِعَانِ الزَّوْجِ وَحْدَهُ ، وَلِعَانُ الزَّوْجَةِ مَقْصُورٌ عَلَى سُقُوطِ الزِّنَا عَنْهَا .
وَعَلَّقَ مَالِكٌ جَمِيعَ هَذِهِ الْأَحْكَامِ بِلِعَانِهِمَا مَعًا ، وَعَلَّقَهَا أَبُو حَنِيفَةَ بِلِعَانِهِمَا وَحُكْمِ الْحَاكِمِ ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُمَا . وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي فِي تَأْبِيدِ التَّحْرِيمِ : فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ تَحْرِيمَ اللِّعَانِ مُؤَبَّدٌ لَا يَزُولُ أَبَدًا ، فَإِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ بَعْدَ الْتِعَانِهِ لَزِمَهُ مِنَ الْأَحْكَامِ الْأَرْبَعَةِ مَا كَانَ عَلَيْهِ وَذَلِكَ شَيْئَانِ : وُجُودُ الْحَدِّ ، وَلُحُوقُ النَّسَبِ ، وَبَقِيَ مَا كَانَ لَهُ مِنْ رَفْعِ الْفِرَاشِ وَتَأْبِيدِ التَّحْرِيمِ بِحَالِهِ ، فَلَا تَحِلُّ لَهُ وَإِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ . وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ ، وَعَلِيٌّ ، وَابْنُ مَسْعُودٍ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ . وَمِنَ التَّابِعِينَ : الزَّهْرِيُّ ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ : مَالِكٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو يُوسُفَ ، وَأَحْمَدُ ، وَإِسْحَاقُ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمُحَمَّدٌ : إِذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ حَلَّتْ لَهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ وُجِدَ فِي لِعَانِهِ حَدٌّ فِي قَذْفٍ فَلَمْ يَجْعَلْ تَحْرِيمَ اللِّعَانِ مُؤَبَّدًا . وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ : إِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ حَلَّتْ لَهُ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ نِكَاحٍ مُسْتَجَدٍّ . وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : إِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ حَلَّتْ لَهُ ، وَإِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ عَدَّتِهَا لَمْ تَحِلَّ لَهُ أَبَدًا . وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : إِذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ النَّسَبُ كَمَا لَا يَرْتَفِعُ بِهِ التَّحْرِيمُ . وَاسْتَدَلَّ مَنْ نَصَرَ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [ النِّسَاءِ : ] . وَهَذِهِ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ فَحَلَّتْ لَهُ ، وَلِأَنَّهُ تَحْرِيمٌ يَخْتَصُّ بِالزَّوْجِيَّةِ فَلَمْ يَتَأَبَّدْ كَالطَّلَاقِ وَخَالَفَ تَحْرِيمَ الرِّضَاعِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِالزَّوْجِيَّةِ ، وَلِأَنَّهُ تَحْرِيمٌ إِذَا عَرِيَ عَنِ الْحُرْمَةِ لَمْ يَتَأَبَّدْ ثُبُوتُهُ كَالرِّدَّةِ طَرْدًا وَالرِّضَاعِ عَكْسًا ، وَلِأَنَّ مَا اسْتُفِيدَ حُكْمُهُ بِاللِّعَانِ جَازَ أَنْ لَا يَتَأَبَّدَ ثُبُوتُهُ كَالنَّسَبِ . وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : الْمُتَلَاعِنَانِ إِذَا تَفَرَّقَا لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا . وَرَوَى الزُّهْرِيُّ ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ : أَنْ عُوَيْمِرَ الْعَجْلَانِيَّ لَاعَنَ امْرَأَتَهُ فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُمَا وَقَالَ : " لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا " فَدَلَّ هَذَا الْخِبْرُ عَلَى تَأْبِيدِ التَّحْرِيمِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : نَصَّ عَلَيْهِ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ تَحِلَّ لَوَجَبَ أَنْ يَذْكُرَ شَرْطَ الْإِحْلَالِ كَمَا قَالَ فِي الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ : فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [ الْبَقَرَةِ : ] . وَمِنَ الْقِيَاسِ : أَنَّهُ تَحْرِيمُ عَقْدٍ لَا يَرْتَفِعُ بِغَيْرِ تَكْذِيبٍ وَحَدٍّ فَوَجَبَ أَنَّهُ لَا يَرْتَفِعُ بِالتَّكْذِيبِ وَالْحَدِّ كَالْمُصَاهَرَةِ ، وَلِأَنَّهُ لَفْظٌ مَوْضُوعٌ لِلْفُرْقَةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَرْتَفِعَ تَحْرِيمُهُ بِالتَّكْذِيبِ كَالطَّلَاقِ ، وَلِأَنَّ تَحْرِيمَ الزَّوْجَةِ يَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ : مِنْهَا تَحْرِيمٌ يَرْتَفِعُ بِغَيْرِ عَقْدٍ كَالطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ مَعَ بَقَاءِ الْعِدَّةِ . وَمِنْهَا تَحْرِيمٌ يَرْتَفِعُ بِعَقْدٍ كَالطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ بَعْدَ الْعِدَّةِ . وَمِنْهَا تَحْرِيمٌ بِعَقْدٍ وَإِصَابَةِ زَوْجٍ كَالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ . وَمِنْهَا تَحْرِيمٌ مُؤَبَّدٌ كَتَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ وَالرِّضَاعِ ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ تَحْرِيمُ اللِّعَانِ مُلْحَقًا بِالْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ فِي شُرُوطِ الْإِبَاحَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُلْحَقًا بِالرَّابِعِ فِي تَأْبِيدِ التَّحْرِيمِ . فَأَمَّا عُمُومُ الْآيَةِ فَمَخْصُوصٌ بِنَصِّ السُّنَّةِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى تَحْرِيمِ الطَّلَاقِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مَعَ تَسْلِيمِ الْوَصْفِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ هُوَ أَنَّ الطَّلَاقَ لَمَّا كَانَ مِنْهُ مَا لَا يَرْتَفِعُ الْعَقْدُ ضَعُفَ عَنْ تَحْرِيمِ الْأَبَدِ ، وَخَالَفَ تَحْرِيمَ مَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَثْبُتَ مَعَهُ الْعَقْدُ لِقُوَّتِهِ . أَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الرِّدَّةِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الرِّدَّةَ قَدْ لَا تَقَعُ بِهَا الْفُرْقَةُ إِذَا عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ فِي الْعِدَّةِ . لَمْ يَتَأَبَّدْ تَحْرِيمُهَا إِذَا وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِخِلَافِ اللِّعَانِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى النَّسَبِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ حَقٌّ عَلَيْهِ فَجَازَ أَنْ يُلْحِقَهُ بِالتَّكْذِيبِ ، وَارْتِفَاعُ التَّحْرِيمِ حَقٌّ لَهُ فَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ فَصَارَ فِي النَّسَبِ مُقِرًّا وَفِي ارْتِفَاعِ التَّحْرِيمِ مُدَّعِيًا ، وَالْإِقْرَارُ مُلْزِمٌ وَالدَّعْوَى غَيْرُ مُلْزِمَةٍ ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ .
فَصْلٌ : وَإِذَا لَاعَنَ زَوْجَتَهُ وَهِيَ أَمَةٌ ثُمَّ ابْتَاعَهَا حَرُمَ عَلَيْهِ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا لِتَأْبِيدِ تَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ بِاللِّعَانِ ، وَلَوْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ الْأَمَةَ ثَلَاثًا حَرُمَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنِ ابْتَاعَهَا . فَفِي إِحْلَالِهَا لَهُ قَبْلَ زَوْجٍ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا عَلَى تَحْرِيمِهَا كَالْمُلَاعَنَةِ إِذَا اشْتَرَاهَا - فَلَا تَحِلُّ لَهُ بَعْدَ الْمِلْكِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا تَحِلُّ لَهُ بِالْمِلْكِ قَبْلَ زَوْجٍ ، لِأَنَّ تَحْرِيمَ الطَّلَاقِ مُخْتَصٌّ بِالنِّكَاحِ ؛ وَلِذَلِكَ لَمْ يَقَعْ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ ، وَتَحْرِيمَ اللِّعَانِ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالنِّكَاحِ لِوُقُوعِهِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَوَطْءِ الشُّبْهَةِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ : إِذَا الْتَعَنَ ثُمَّ قَالَتْ : صَدَقَ إِنِّي زَنَيْتُ فَالْوَلَدُ لَاحِقٌ وَلَا حَدَّ عَلَيْهَا ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَتْ مَحْدُودَةً فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَنْ لَوْ كَانَ فَاسِقًا قَذَفَ عَفِيفَةً مُسْلِمَةً وَالْتَعَنَا نُفِيَ الْوَلَدُ وَهِيَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ أَصْدَقُ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَتْ فَاسِقَةً فَصَدَّقَتْهُ
لَمْ يُنْفَ الْوَلَدُ فَجَعَلَ وَلَدَ الْعَفِيفَةِ لَا أَبَ لَهُ وَأَلْزَمَهَا عَارَهُ وَوَلَدُ الْفَاسِقَةِ لَهُ أَبٌ لَا يُنْفَى عَنْهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَرَادَ الشَّافِعِيُّ أَبَا حَنِيفَةَ فِي الرَّجُلِ إِذَا قَذَفَ زَوْجَتَهُ بِالزِّنَا فَصَدَّقَتْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ مِنْهَا ، وَلَا يَنْتَفِيَ مِنْ وَلَدِهَا ، وَلَا يُوجِبَ حَدَّ الزِّنَا ، وَبَنَى ذَلِكَ عَلَى أَصْلَيْنِ لَهُ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اللِّعَانَ شَهَادَةٌ وَالشَّهَادَةُ لَا تُقَامُ عَلَى مُعْتَرِفٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالزِّنَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ عِنْدَهُ حَتَّى يَتَكَرَّرَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ فَجَوَّزَ لَهُ نَفْيَ وَلَدِ الْعَفِيفَةِ وَأَلْحَقَ بِهِ وَلَدَ الزَّانِيَةِ ، وَفِي هَذَا الْقَوْلِ مِنَ الشَّنَاعَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى وَهَاءِ أُصُولِهِ فِيهِ ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي اللِّعَانِ أَنَّهُ يَمِينٌ ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ مَعَهُ فِي الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا مِنْ أَنَّهُ يُوجِبُ الْحَدَّ ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْمُصَدِّقَةِ عَلَى الزِّنَا الْمُعْتَرِفَةِ بِهِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ تُصَدِّقَ الزَّوْجَ قَبْلَ لِعَانِهِ أَوْ بَعْدَهُ ، فَإِنَّ صَدَّقَتْهُ بَعْدَ لِعَانِهِ ثَبَتَتْ أَحْكَامُ اللِّعَانِ بِهِ مِنْ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ وَتَحْرِيمِ التَّأْبِيدِ وَنَفْيِ النَّسَبِ ، وَلَيْسَ لِإِقْرَارِهَا بِالزِّنَا بَعْدَ لِعَانِ الزَّوْجِ تَأْثِيرٌ إِلَّا فِي مَنْعِهَا مِنَ الِالْتِعَانِ بَعْدَهُ ، لِأَنَّ لِعَانَهَا لِإِسْقَاطِ حَدِّ الزِّنَا عَنْهَا بِلِعَانِ الزَّوْجِ ، وَالْمُقِرَّةُ بِالزِّنَا يُوجِبُ الْحَدَّ عَلَيْهَا بِالْإِقْرَارِ وَلَا يَسْقُطُ عَنْهَا بِاللِّعَانِ ، فَإِنْ رَجَعَتْ عَنِ الْإِقْرَارِ صَارَ الْحَدُّ وَاجِبًا عَلَيْهَا بِاللِّعَانِ دُونَ الْإِقْرَارِ ، لِأَنَّ الرُّجُوعَ فِي الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا مَقْبُولٌ فِي سُقُوطِ الْحَدِّ وَجَازَ لَهَا أَنْ تُلَاعِنَ لِإِسْقَاطِ الْحَدِّ الْوَاجِبِ عَلَيْهَا بِلِعَانِ الزَّوْجِ ، فَأَمَّا إِنْ صَدَّقَتْهُ عَلَى الزِّنَا قَبْلَ لِعَانِهِ أَوْ فِي تَضَاعِيفِهِ فَقَدْ سَقَطَ حَدُّ الْقَذْفِ عَنِ الزَّوْجِ بِتَصْدِيقِهِ ، فَإِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ يُرِيدُ نَفْيَهُ فَلَهُ أَنْ يُلَاعِنَ لِنَفْيِهِ لِأَنَّهُ ، كَمَا جَازَ لَهُ أَنْ يَنْفِيَ وَلَدَ الْمُكَذِّبَةِ الظَّاهِرَةِ الْعِفَّةِ فَلِأَنْ يَنْفِيَ وَلَدَ الْمُصَدِّقَةِ الظَّاهِرَةِ الْفُجُورِ أَوْلَى ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَفِي جَوَازِ لِعَانِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ ، لِأَنَّ اللِّعَانَ مَوْضُوعٌ لِسُقُوطِ الْحَدِّ وَنَفْيِ النَّسَبِ وَقَدْ سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ بِتَصْدِيقِهَا وَعَدَمِ الْوَلَدِ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَى نَفْيِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ لِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ وَتَأْبِيدِ التَّحْرِيمِ ، وَلَيْسَ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تُلَاعِنَ بَعْدَ لِعَانِهِ مَا أَقَامَتْ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا ، فَإِنْ رَجَعَتْ عَنْهُ لَاعَنَتْ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَأَيُّهُمَا مَاتَ قَبْلُ يُكْمِلُ الزَّوْجُ اللِّعَانَ وَرِثَ صَاحِبَهُ وَالْوَلَدُ غَيْرُ مَنْفِيٍّ حَتَّى يَكْمُلَ ذَلِكَ كُلُّهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا مَاتَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي اللِّعَانِ وَقَبْلَ كَمَالِهِ تَوَارَثَا ، وَنُظِرَ فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ مِنْهُمَا هِيَ الزَّوْجَةَ فَقَدْ بَانَتْ بِالْمَوْتِ وَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ ذَاتَ وَلَدٍ أَوْ لَا وَلَدَ لَهَا ، فَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ وَلَدٍ فَلَهُ أَنْ يُلَاعِنَ لِنَفْيِهِ
وَيُبْنَى عَلَى مَا مَضَى مِنْ لِعَانِهِ قَبْلَ مَوْتِهَا ، فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ قَدْ مَاتَ جَازَ أَنْ يُلَاعِنَ لِنَفْيِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَلَا يَرِثُ الْوَلَدَ وَإِنْ وَرِثَ الزَّوْجَةَ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ وُقُوعَ الْفُرْقَةِ لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الزَّوْجِيَّةِ قَبْلَ الْفُرْقَةِ ، وَنَفْيَ الْوَلَدِ يَمْنَعُ مِنْ نِسْبَتِهِ قَبْلَ النَّفْيِ ، فَلِذَلِكَ وَرِثَ الزَّوْجَةَ إِذَا مَاتَتْ قَبْلَ لِعَانِهِ ، وَلَمْ يَرِثِ الْوَلَدَ إِذَا مَاتَ قَبْلَ لِعَانِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجَةِ وَلَدٌ زَالَ حُكْمُ نَفْيِهِ بِاللِّعَانِ وَبَقِيَ حَدُّ الْقَذْفِ وَهُوَ عِنْدَنَا مَوْرُوثٌ ، فَإِنْ طَالَبَهُ بِهِ الْوَرَثَةُ كَانَ لِلزَّوْجِ أَنْ يُلَاعِنَ لِإِسْقَاطِهِ وَلَا يَمْنَعَهُ اللِّعَانُ لِإِسْقَاطِهِ وَلِنَفْيِ الْوَلَدِ مِنْ مِيرَاثِهَا لِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِالْمَوْتِ لَا بِاللِّعَانِ ، فَإِنْ قِيلَ : أَفَلَيِسَ إِذَا وَرِثَهَا وَرِثَ حَقَّهُ مِنْ حَدِّ قَذْفِهَا ؛ فَهَلَّا سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ كَمَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِالْقِصَاصِ إِذَا وَرِثَ بَعْضَهُ ؟ . قِيلَ : لِأَنَّ مِيرَاثَ الْقِصَاصِ مُشْتَرَكٌ عَلَى الْفَرَائِضِ ، فَإِذَا وَرِثَ بَعْضَهُ سَقَطَ عَنْهُ لِأَنَّهُ لَا يَتَبَعَّضُ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ حَدُّ الْقَذْفِ ، لِأَنَّ كُلَّهُ مِيرَاثٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَرَثَةِ فَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ كُلَّهُ ، فَإِنْ عَفَى الْوَارِثُ عَنِ الْحَدِّ لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ أَنْ يُلَاعِنَ ؛ لِأَنَّ الْفِرَاشَ قَدِ ارْتَفَعَ بِالْمَوْتِ ، وَالْحَدُّ قَدْ سَقَطَ بِالْعَفْوِ وَلَيْسَ هُنَاكَ وَلَدٌ يُنْفَى فَلَمْ يَبْقَ مَا يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى اللِّعَانِ فَلِذَلِكَ سَقَطَ ، فَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَارِثٌ فَفِي قِيَامِ الْإِمَامِ فِي اسْتِيفَاءِ الْحَدِّ لَهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ ، لِأَنَّ الْإِمَامَ مَقَامَ الْوَرَثَةِ فِي الْمَالِ فَقَامَ مَقَامَهُمْ فِي اسْتِيفَاءِ الْحَدِّ . فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يُلَاعِنَ لِإِسْقَاطِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ وَإِنِ اسْتَوْفَى مِيرَاثَهَا لِبَيْتِ الْمَالِ ، لِأَنَّ لِبَيْتِ الْمَالِ حُقُوقًا مُسْتَفَادَةً تُخَالِفَ حَدَّ الْقَذْفِ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يُلَاعِنَ .
فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ قَبْلَ إِكْمَالِ اللِّعَانِ هُوَ الزَّوْجَ هل ترث منه الزوجة فَلِلزَّوْجَةِ مِيرَاثُهَا مِنْهُ لِبَقَاءِ الزَّوْجِيَّةِ إِلَى الْمَوْتِ ، وَالْوَلَدُ لَاحِقٌ بِهِ ، وَلَا يَجُوزُ لِلْوَرَثَةِ نَفْيُهُ وَهُوَ وَارِثٌ مَعَهُمْ ، لِأَنَّ اللِّعَانَ لَا يَتَوَلَّاهُ إِلَّا زَوْجٌ . وَحَدُّ الْقَذْفِ قَدْ بَطَلَ اسْتِيفَاؤُهُ بِمَوْتِ مَنْ لَزِمَهُ وَلَيْسَ لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْمَالِ كَالْقِصَاصِ فَلِذَلِكَ بَطَلَ حُكْمُهُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِنِ امْتَنَعَ أَنْ يُكْمِلَ اللِّعَانَ اللعان بين الزوجين حُدَّ لَهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا شَرَعَ فِي اللِّعَانِ إِمَّا فِي حَيَاتِهَا أَوْ بَعْدَ مَوْتِهَا ، ثُمَّ امْتَنَعَ أَنْ يُكْمِلَهُ حُدَّ لَهَا حَدَّ الْقَذْفِ سَوَاءٌ بَقِيَ مِنْ لِعَانِهِ أَقَلُّهُ أَوْ أَكْثَرُهُ ، وَحَتَّى لَوْ أَتَى بِالشَّهَادَاتِ الْأَرْبَعِ وَبَقِيَتِ اللَّعْنَةُ الْخَامِسَةُ حُدَّ لَهَا كَمَا لَوْ لَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ مِنْ لِعَانِهِ وَلَا يَتَسَقَّطُ الْحَدُّ عَلَى أَعْدَادِ اللِّعَانِ لِأَمْرَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ اللِّعَانَ فِي سُقُوطِ حَدِّ الْقَذْفِ عَنْهُ وَوُجُوبِ حَدِّ الزِّنَا عَلَيْهَا كَالْبَيِّنَةِ يُقِيمُهَا ، وَلَوْ أَقَامَ عَلَيْهَا بِالزِّنَا أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ شُهُودٍ حُدَّ وَلَمْ يَكُنْ لِمَنْ شَهِدَ عَلَيْهَا تَأْثِيرٌ ، كَذَلِكَ اللِّعَانُ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْحُكْمَ إِذَا تَعَلَّقَ بِعَدَدٍ مِنَ الْأَيْمَانِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِبَعْضِهَا كَالْقَسَامَةِ ، وَكَذَلِكَ فِي اللِّعَانِ ، وَهَكَذَا لَوْ شَرَعَتِ الزَّوْجَةُ فِي اللِّعَانِ بَعْدَ الْتِعَانِ الزَّوْجِ ثُمَّ امْتَنَعَتْ مِنْ إِتْمَامِهِ حُدَّتْ حَدَّ الزِّنَا وَكَانَ مَا مَضَى مِنْ لِعَانِهَا مُلْغَى .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ طَلَبَ الْحَدَّ الَّذِي قَذَفَهَا بِهِ لَمْ يُحَدَّ ؛ لِأَنَهُ قَذْفٌ وَاحِدٌ حُدَّ فِيهِ مَرَةً ، وَالْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ فَلَا يُنْفَى إِلَّا عَلَى مَا نَفَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَلِكَ أَنَّ الْعَجْلَانِيَّ قَذَفَ امْرَأَتَهُ وَنَفَى حَمْلَهَا لَمَّا اسْتَبَانَهُ فَنَفَاهُ عَنْهُ بِاللِّعَانِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَذَكَرْنَا أَنَّهُ إِذَا قَذَفَ زَوْجَتَهُ بِرَجُلٍ سَمَّاهُ ، فَإِنِ الْتَعَنَ الزَّوْجُ وسمى الذي قذفها به في لعانه وَسَمَّاهُ فِي لِعَانِهِ سَقَطَ حَدُّ قَذْفِهَا ، وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِ فَفِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ لِقَذْفِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُحَدُّ وَلَا يَجُوزُ لَهُ إِعَادَةُ اللِّعَانِ مِنْ أَجْلِهِ . وَالثَّانِي : يُحَدُّ وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْقُطَ بِلِعَانِهِ ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَلْتَعِنْ مِنْ زَوْجَتِهِ وَحُدَّ لَهَا ثُمَّ جَاءَ الْمُسَمَّى بِهَا مُطَالِبًا ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يُحَدُّ لَهُ ، وَعَلَّلَ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ قَذْفٌ وَاحِدٌ قَدْ حُدَّ فِيهِ مَرَّةً ، يَعْنِي أَنَّ الزِّنَا الَّذِي قَذَفَهُمَا بِهِ وَاحِدٌ فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ إِلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ وَقَدِ اسْتَوْفَى مِنْهُ فَلَمْ يَعُدْ عَلَيْهِ ، وَقَدْ وَهِمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فَخَرَّجَ قَوْلًا آخَرَ : إِنَّهُ يُحَدُّ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِيمَنْ قَذَفَ جَمَاعَةً بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ هَذَا التَّخْرِيجِ ، فَإِنْ قِيلَ بِتَخْرِيجِهِ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ ، فَفِي جَوَازِ لِعَانِهِ مِنْهُ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ قَذْفٌ قَدْ كَانَ اللِّعَانُ فِيهِ مُجَوَّزًا فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا . وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِحَدِّ الزَّوْجَةِ فِي اللِّعَانِ فَلَمْ يَجُزْ مَعَ سُقُوطِ اللِّعَانِ فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ أَنْ يُفْرَدَ بِاللِّعَانِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ أَكْمَلَ اللِّعَانَ وَامْتِنَعَتْ مِنَ اللِّعَانِ وَهِيَ مَرِيضَةٌ أَوْ فِي بَرْدٍ أَوْ حَرٍّ وَكَانَتْ ثَيِّبًا رُجِمَتْ ، وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا لَمْ تُحَدَّ حَتَّى تَصِحَّ وَيَنْقَضِيَ الْحَرُّ وَالْبَرْدُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ الْآيَةَ وَالْعَذَابُ : الْحَدُّ فَلَا يُدْرَأُ عَنْهَا إِلَّا بِاللِّعَانِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ لِعَانَ الزَّوْجِ مُسْقِطٌ لِحَدِّ الْقَذْفِ عَنْهُ ، وَلِعَانَ الزَّوْجَةِ بَعْدَهُ مُسْقِطٌ لِحَدِّ الزِّنَا عَنْهَا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا حَدَّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَعَلَيْهِمَا اللِّعَانُ ، فَأَيُّهُمَا امْتَنَعَ مِنْهُ حُبِسَ حَتَّى يَلْعَنَ . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يُحَدُّ الزَّوْجُ وَلَا يُحْبَسُ ، وَلَا تُحَدُّ الزَّوْجَةُ وَتُحْبَسُ حَتَّى تُلَاعِنَ ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ بِمَا أَقْنَعَ ، فَإِذَا امْتَنَعَتِ الزَّوْجَةُ مِنَ اللِّعَانِ وَجَبَ حَدُّ الزِّنَا عَلَيْهَا ، وَكَانَ مُعْتَبَرًا بِحَالِهَا ، فَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا فَعَلَيْهَا جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ ، وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا فَالرَّجْمُ . فَإِنْ كَانَتْ صَحِيحَةً وَالزَّمَانُ مُعْتَدِلًا أُقِيمَ عَلَيْهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْحَدَّيْنِ إِذَا كَانَتْ مِنْ أَهْلِهِ سَوَاءٌ كَانَ جَلْدًا أَوْ رَجْمًا ، وَإِنْ كَانَ الزَّمَانُ خَارِجًا عَنِ الِاعْتِدَالِ بِشِدَّةِ حَرٍّ أَوْ شِدَّةِ بِرْدٍ أُخِّرَ جَلْدُهَا إِلَى زَمَانِ الِاعْتِدَالِ ؛ لِئَلَّا يُفْضِيَ بِحَدِّهِ الزَّمَانَ إِلَى تَلَفِهَا ، وَلَا يُؤَخَّرُ رَجْمُهَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالرَّجْمِ تَلَفُهَا ، وَإِنْ كَانَتْ مَرِيضَةً فَإِنْ كَانَ حَدُّهَا الرَّجْمَ رُجِمَتْ فِي الْمَرَضِ ، وَإِنْ كَانَ حَدُّهَا الْجَلْدَ رُوعِيَ مَرَضُهَا ، فَإِنْ كَانَ مَرْجُوَّ الزَّوَالِ أُنْظِرَتْ إِلَى وَقْتِ الصِّحَّةِ ثُمَّ جُلِدَتْ ، وَإِنْ لَمْ يُرْجَ زَوَالُهُ جُلِدَتْ بِمَا يُؤْمَنُ بِهِ تَلَفُهَا مِنْ أَثْكَالِ النَّخْلِ وَأَطْرَافِ النِّعَالِ ، وَخَالَفَ الرَّجْمَ الْمَقْصُودَ بِهِ التَّلَفُ . وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : يُؤَخَّرُ رَجْمُهَا فِي الْمَرَضِ إِذَا وَجَبَ الْحَدُّ عَلَيْهَا بِإِقْرَارٍ وَلِعَانٍ حَتَّى تَبْرَأَ ، وَلَا يُؤَخَّرُ إِذَا وَجَبَ بِبَيِّنَةٍ لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يَسْقُطُ بَعْدَ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ وَيَسْقُطُ إِذَا وَجَبَ بِاللِّعَانِ بِالْإِجَابَةِ إِلَيْهِ . وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ بِالْإِقْرَارِ بِعَكْسِ هَذَا أَنَّهُ يُؤَخَّرُ إِذَا وَجَبَ بِالْبَيِّنَةِ لِجَوَازِ رُجُوعِهَا ، وَلَا يُؤَخَّرُ إِذَا وَجَبَ بِالْإِقْرَارِ وَاللِّعَانِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَسْقَطَ بِذَلِكَ حُرْمَةَ نَفْسِهِ ، وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ النَّفْسِ تَسْقُطُ بِالْبَيِّنَةِ كَسُقُوطِهَا بِالْإِقْرَارِ . وَيُمْكِنُ رُجُوعُ الْبَيِّنَةِ كَمَا يُمْكِنُ الرُّجُوعُ فِي إِقْرَارٍ ، فَلَمْ يَكُنْ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَجْهٌ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَزَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ : لَا يُلَاعِنُ بِحَمْلٍ لَعَلَّهُ رِيحٌ فَقِيلَ لَهُ : أَرَأَيْتَ لَوْ أَحَاطَ الْعِلْمَ بِأَنْ لَيْسَ حَمْلٌ ، أَمَا تُلَاعِنُ بِالْقَذْفِ ؟ قَالَ : بَلَى ، قِيلَ : فَلِمَ لَا يُلَاعِنُ مَكَانَهُ ؟ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ مِنَ الْحَامِلِ ، وَيَنْفِيَ حَمْلَهَا قَبْلَ الْوِلَادَةِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ مِنْ حَامِلٍ حَتَّى تَضَعَ . وَإِنْ خَالَفَ وَلَاعَنَ فِي حَمْلِهَا سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ بِلِعَانِهِ وَلَمْ يَنْتَفِ عَنْهُ الْحَمْلُ بِلِعَانٍ ، وَصَارَ لَاحِقًا بِهِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى نَفْيِهِ ، وَهَذَا قَوْلٌ خَالَفَ فِيهِ السُّنَّةَ ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَاعَنَ بَيْنَ الْعَجْلَانِي وَامْرَأَتِهِ وَهِيَ حَامِلٌ ، وَلَاعَنَ بَيْنَ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ وَامْرَأَتِهِ وَهِيَ حَامِلٌ ، وَلِأَنَّ الْحَمْلَ إِنْ كَانَ
غِلَظًا أَوْ رِيحًا فَهِيَ حَائِلٌ وَيَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ عَنْهَا ، وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فَهِيَ كَذَاتِ وَلَدٍ ، فَهَلَّا لَاعَنَ مِنْهَا ، وَقَدْ مَضَى مِنَ الْكَلَامِ مَعَهُ فِي ذَلِكَ بِمَا أَغْنَى . وَإِنْ كَانَ لِعَانُهُ مِنَ الْحَامِلِ جَائِزًا فَهُوَ مُخَيَّرٌ فِيهِ بَيْنَ أَنْ يُعَجِّلَ نَفْيَهُ قَبْلَ وَضْعِهِ فَيَنْتَفِيَ عَنْهُ وَاحِدًا كَانَ أَوْ جَمَاعَةً ، أَوْ يُؤَخِّرَ نَفْيَهُ حَتَّى تَضَعَ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَبَيَّنٍ قَبْلَ الْوِلَادَةِ ، فَإِنْ عَجَّلَ بِاللِّعَانِ قَبْلَ الْوِلَادَةِ لِإِسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْهُ وَلَمْ يَنْتَفِ بِهِ الْحَمْلُ كَانَ لَهُ إِذَا وَلَدَتْ وَأَرَادَ نَفْيَهُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ لِنَفْيِهِ لِعَانًا يَنْفَرِدُ بِهِ الزَّوْجُ دُونَ الزَّوْجَةِ ، وَلَمْ يَكُنْ تَأْخِيرُهُ فِي وَقْتِ الْحَمْلِ مَانِعًا مِنْ جَوَازِ نَفْيِهِ بَعْدَ الْوَضْعِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَظْنُونًا غَيْرَ مُتَيَقَّنٍ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَزَعَمَ لَوْ جَامَعَهَا وَهُوَ يَعْلَمُ بِحَمْلِهَا ، فَلَمَّا وَضَعَتْ تَرَكَهَا تِسْعًا وَثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَهِيَ فِي الدَّمِ مَعَهُ فِي مَنْزِلِهِ ، ثَمَّ نَفَى الْوَلَدَ مَعَهُ كَانَ ذَلِكَ لَهُ فَيَتْرُكَ مَا حَكَمَ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْعَجْلَانِيِّ وَامْرَأَتِهِ وَهِيَ حَامِلٌ مِنَ اللِّعَانِ وَنَفْيِ الْوَلَدِ عَنْهُ كَمَا قُلْنَا ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَا قُلْنَا سُنَّةً كَانَ يَجْعَلُ السُّكَاتَ فِي مَعْرِفَةِ الشَّيْءِ فِي مَعْنَى الْإِقْرَارِ ، فَزَعَمَ فِي الشُّفْعَةِ إِذَا عَلِمَ فَسَكَتَ فَهُوَ إِقْرَارٌ بِالتَّسْلِيمِ ، وَفِي الْعَبْدِ يَشْتَرِيهِ إِذَا اسْتَخْدَمَهُ رَضِيَ بِالْعَيْبِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ ، فَحَيْثُ شَاءَ جَعَلَهُ رِضًا ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى الْأَشْبَهِ بِالرِّضَا وَالْإِقْرَارِ فَلَمْ يَجْعَلْهُ رِضًا ، وَجَعَلَ صِفَتَهُ عَنْ إِنْكَارِهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً كَالْإِقْرَارِ وَأَبَاهُ فِي تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ ، فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الصِّمْتَيْنِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا أَنْ يُؤَخِّرَ الزَّوْجُ نَفْيَ الْحَمْلِ حَتَّى تَضَعَ ، فَلَهُ أَنْ يُعَجِّلَ نَفْيَ الْوَلَدِ بَعْدَ الْوَضْعِ وَعَلَى الْفَوْرِ ، فَإِنْ أَخَّرَ نَفْيَهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْتِعَانِهِ لَعَنَ بِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نَفْيُهُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمُحَمَّدٌ : الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ نَفْيُهُ عَلَى الْفَوْرِ ، وَلَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ نَفْيَهُ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ اسْتِحْسَانًا . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَهُ نَفْيُهُ فِي مُدَّةِ النِّفَاسِ إِلَى أَرْبَعِينَ يَوْمًا ، وَلَيْسَ لَهُ نَفْيُهُ بَعْدَهَا . وَقَالَ مُجَاهِدٌ ، وَعَطَاءٌ : لَهُ نَفْيُهُ عَلَى التَّرَاخِي مَتَى شَاءَ ، وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ خِيَارَ نَفْيِهِ لِعَيْبٍ دَخَلَ عَلَى فِرَاشِهِ فَجَرَى مَجْرَى خِيَارِ الْعُيُوبِ الْمُسْتَحَقَّةِ عَلَى الْفَوْرِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ بِمُدَّةٍ لَوَجَبَ أَنْ يُقَدَّرَ بِالشَّرْعِ دُونَ الِاسْتِحْسَانِ ، وَلِأَنَّ الثَّلَاثَ فِي الْخِيَارِ حَدٌّ مَشْرُوعٌ وَلَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ فِي خِيَارِ نَفْيِهِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يُعْتَبَرَ مَا سِوَاهُ ، لِأَنَّ مُدَّةَ النِّفَاسِ بَعْضُ أَحْوَالِ الْوِلَادَةِ فَلَمْ يَكُنِ اعْتِبَارُهَا فِي خِيَارِ نَفْيِهِ بِأَوْلَى مِنْ مُدَّةِ الْحَمْلِ فِي أَقَلِّهِ أَوْ أَكْثَرِهِ أَوْ بِمُدَّةِ رَضَاعِهِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ كَانَ نَفْيُهُ فِي الْحَمْلِ عَلَى التَّرَاخِي وَبَعْدَ الْوِلَادَةِ عَلَى الْفَوْرِ ؟ قِيلَ : لِأَنَّهُ قَبْلَ الْوِلَادَةِ مَظْنُونٌ وَبَعْدَهَا مُتَيَقَّنٌ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَزَعَمَ بِأَنَّهُ اسْتَدَلَّ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَوْجَبَ عَلَى الزَّوْجِ الشَّهَادَةَ لِيَخْرُجَ بِهَا مِنَ الْحَدِّ ، فَإِذَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ مَعْنَى الْقَذْفِ لَزِمَهُ الْحَدُّ ، قِيلَ لَهُ : وَكَذَلِكَ
كُلُّ مَنْ أَحَلَفْتُهُ لِيَخْرُجَ مِنْ شَيْءٍ ، وَكَذَلِكَ قُلْتُ : إِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ فِي مَالٍ أَوْ غَصْبٍ أَوْ جُرْحِ عَمْدٍ حَكَمْتُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ كُلِّهِ ، قَالَ : نَعَمْ ، قُلْتُ : فَلِمَ لَا تَقُولُ فِي الْمَرْأَةِ إِنَّكَ تُحْلِفُهَا لِتَخْرُجَ مِنَ الْحَدِّ وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهَا تَدْرَأُ بِذَلِكَ عَنْ نَفْسِهَا الْعَذَابَ ، فَإِذَا لَمْ تَخْرُجْ مِنْ ذَلِكَ فَلِمَ لَمْ تُوجِبْ عَلَيْهَا الْحَدَّ كَمَا قُلْتَ فِي الزَّوْجِ وَفِيمَنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ ؟ وَلَيْسَ فِي التَّنْزِيلِ أَنَّ الزَّوْجَ يَدْرَأُ بِالشَّهَادَةِ حَدًّا ، وَفِي التَّنْزِيلِ أَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَدْرَأَ بِالشَّهَادَةِ الْعَذَابَ وَهُوَ الْحَدُّ عِنْدَنَا وَعِنْدَكَ وَهُوَ الْمَعْقُولُ وَالْقِيَاسُ وَقُلْتُ لَهُ : لَوْ قَالَتْ لَكَ : لِمَ حَبَسْتَنِي وَأَنْتَ لَا تَحْبِسُ إِلَّا بِحَقٍّ ؟ قَالَ : أَقُولُ حَبَسْتُكِ لِتَحْلِفِي فَتَخْرُجِي بِهِ مِنَ الْحَدِّ . فَقَالَتْ : فَإِذَا لَمْ أَفْعَلْ فَأَقِمِ الْحَدَّ عَلَيَّ . قَالَ : لَا ، قَالَتْ : فَالْحَبْسُ حَدٌّ ؟ قَالَ : لَا ، فَقَالَ قَالَتْ : فَالْحَبْسُ ظُلْمٌ ، لَا أَنْتَ أَقَمْتَ عَلَيَّ الْحَدَّ وَلَا مَنَعْتَ عَنِّي حَبْسًا وَلَنْ تَجِدَ حَبْسِي فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا إِجْمَاعٍ وَلَا قِيَاسٍ عَلَى أَحَدِهَا . قَالَ : فَإِنْ قُلْتُ : فَالْعَذَابُ الْحَبْسُ ، فَهَذَا خَطَأٌ ، فَكَمْ ذَلِكَ مِائَةُ يَوْمٍ أَوْ حَتَّى تَمُوتَ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَفَتَرَاهُ عَنَى الْحَدَّ أَمِ الْحَبْسِ ؟ قَالَ : بَلِ الْحَدُّ ، وَمَا السِّجْنُ بِحَدٍّ ، وَالْعَذَابُ فِي الزِّنَا الْحُدُودُ ، وَلَكِنَّ السِّجْنَ قَدْ يَلْزَمُهُ اسْمُ عَذَابٍ ، قُلْتُ : وَالسَّفَرُ وَالدَّهَقُ وَالتَّعْلِيقُ كُلُّ ذَلِكَ يَلْزَمُهُ اسْمُ عَذَابٍ قَالَ : وَالَّذِينَ يُخَالِفُونَنَا فِي أَنْ لَا يَجْتَمِعَا أَبَدًا ، وَرُوِيَ فِيهِ عَنْ عُمَرَ ، وَعَلِيٍّ ، وَابْنِ مَسُعُودٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لَا يَجْتَمِعُ الْمُتَلَاعِنَانِ أَبَدًا رَجَعَ بَعْضُهُمْ إِلَى مَا قُلْنَا ، وَأَبَى بَعْضُهُمْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا أَرَادَ بِهِ أَبَا يُوسُفَ ، فَإِنَّ أَبَا يُوسُفَ يُوجِبُ الْحَدَّ عَلَى الزَّوْجِ إِذَا امْتَنَعَ مِنَ اللِّعَانِ ، وَلَا يُوجِبُ الْحَدَّ عَلَى الزَّوْجَةِ إِذَا امْتَنَعَتْ مِنْهُ وَيَحْبِسُهَا حَتَّى تُلَاعِنَ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُحَدَّانِ مَعًا وَيُحْبَسَانِ حَتَّى يُلَاعِنَانِ ، وَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهُمَا يُحَدَّانِ وَلَا يُحْبَسَانِ ، فَصَارَ أَبُو يُوسُفَ مُوَافِقًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي حَبْسِ الزَّوْجَةِ ، وَمُوَافِقًا لِلشَّافِعِيِّ فِي حَدِّ الزَّوْجِ ، وَحَبْسُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَطَأٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ [ النُّورِ : ] . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ تَرْكَهَا لِلشَّهَادَةِ مُوجِبٌ لِتَوَجُّهِ الْعَذَابِ عَلَيْهَا . فَإِنْ قَالَ : فَالْحَبْسُ عَذَابٌ ، قِيلَ : فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [ النُّورِ : ] أَفَيُحْبَسُ الشُّهُودُ مَعَهُمَا ؟ ثُمَّ يُقَالُ لَهُ : جَعَلْتَ الْحَبْسَ عَذَابًا لَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ الْعَذَابُ الْمَخْصُوصُ بِالزِّنَا وَالْقَذْفِ ، أَوْ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ ؟ فَإِنْ قَالَ : لِأَنَّهُ الْعَذَابُ الْمَخْصُوصُ بِالزِّنَا قِيلَ : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَذَّبَ الزَّانِيَ بِالْحَدِّ لَا بِالْحَبْسِ . وَإِنْ
أَوْجَبَ الْحَبْسَ ؛ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْعَذَابِ ، قِيلَ لَهُ : لِمَ خَصَّصْتَ الْحَبْسَ مِنْ بَيْنِ أَنْوَاعِهِ ؟ هَلَّا عَدَلْتَ إِلَى الدَّهْقِ ، وَالتَّعْلِيقِ ، وَالْإِعْزَارِ ، وَالتَّجْوِيعِ ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ : أَحَبَسْتَهُمَا عَلَى حَقٍّ أَوْ غَيْرِ حَقٍّ ؟ . فَإِنْ قَالَ : لِحَقٍّ ، قِيلَ : هَلَّا اسْتَوْفَيْتَ ذَلِكَ الْحَقَّ وَمَنَعْتَ مِنَ الْحَبْسِ ؟ فَإِنْ قَالَ : إِنَّهُ لَا يُسْتَوْفَى إِلَّا مِنْهَا فَلِذَلِكَ حُبِسَتْ عَلَيْهِ ، قِيلَ لَهُ : فَمَا ذَلِكَ الْحَقُّ ؟ فَإِنْ ذَكَرَهُ لَمْ يَجِبِ الْحَبْسُ ، وَإِنْ لَمْ يُذْكُرْهُ عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهَا عِنْدَهُ حَقٌّ ، ثُمَّ يُقَالُ لِأَبِي يُوسُفَ : حَدَدْتَ الزَّوْجَ وَلَمْ يَدْرَأِ اللَّهُ عَنْهُ الْعَذَابَ بِلِعَانِهِ ، وَلَمْ تَحُدَّ الزَّوْجَةَ وَقَدْ دَرَأَ اللَّهُ تَعَالَى بِلِعَانِهَا الْحَدَّ عَنْهَا ، فَكَانَ عَكْسُ مَقَالَتِكَ أَوْلَى لَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ مَا يَكُونُ قَذْفًا وَلَا يَكُونُ
بَابُ مَا يَكُونُ قَذْفًا وَلَا يَكُونُ وَنَفْيِ الْوَلَدِ بِلَا قَذْفٍ وَقَذْفِ ابْنِ الْمُلَاعِنَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : " وَلَوْ وَلَدَتِ امْرَأَتُهُ وَلَدًا فَقَالَ : لَيْسَ مِنِّي ، فَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ حَتَى يَقِفَهُ ، فَإِنْ قَالَ : لَمْ أَقْذِفْهَا وَلَمْ تَلِدْهُ أَوْ وَلَدَتْهُ مِنْ زَوْجٍ قَبْلِي ، وَقَدْ عُرِفَ نِكَاحُهَا قَبْلَهُ فَلَا يَلْحَقُهُ إِلَّا بِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ تَشْهَدُ أَنَّهَا وَلَدَتْهُ وَهِيَ زَوْجَةٌ لَهُ لِوَقْتٍ يُمْكِنُ أَنْ تَلِدَ مِنْهُ فِيهِ لِأَقَلِّ الْحَمْلِ ، وَإِنْ سَأَلَتْ يَمِينَهُ أَحْلَفْنَاهُ وَبَرِئَ ، وَإِنْ نَكَلَ أَحْلَفْنَاهَا وَلَحِقَهُ ، فَإِنْ لَمْ تَحْلِفْ لَمْ يَلْحَقْهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا أَتَتِ امْرَأَتُهُ بِوَلَدٍ فَقَالَ : هَذَا الْوَلَدُ لَيْسَ مِنِّي هل يكون هذا قذفا ؟ ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَذْفًا صَرِيحًا لِاحْتِمَالِهِ فَيُؤْخَذُ بِبَيَانِ مُرَادِهِ ، وَلَهُ فِي الْبَيَانِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ : أَنْ يُبَيِّنَهُ بِمَا يَكُونُ قَذْفًا وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : أَرَدْتُ بِذَلِكَ أَنَّهَا زَنَتْ فَجَاءَتْ بِهِ مِنَ الزِّنَا فَيَصِيرُ قَاذِفًا وَعَلَيْهِ الْحَدُّ إِلَّا أَنْ يُلَاعِنَ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُبَيِّنَ فَيَقُولُ : أَرَدْتُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنِّي شَبَهًا فَلَا يُشْبِهُنِي خَلْقًا وَخُلُقًا ، وَلَمْ يَكُنْ قَاذِفًا وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ، فَإِنِ ادَّعَتْ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْقَذْفَ حَلَفَ وَبَرِئَ ، وَإِنْ نَكَلَ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَيْهَا ، فَإِنْ حَلَفَتْ صَارَ قَاذِفًا وَحُدَّ إِلَّا أَنْ يُلَاعِنَ وَلَيْسَ لَهُ نَفْيُ الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْحَدْ نَسَبَهُ .
فَصْلٌ : وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَبِيِّنَ ذَلِكَ أَنَّهَا لَمْ تَلِدْهُ وَإِنَّمَا الْتَقَطَتْهُ ما يكون لعانا وما لا يكون ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ إِلَّا أَنْ تُقِيمَ بَيِّنَةً عَلَى وِلَادَتِهَا ؛ لِأَنَّ إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْوِلَادَةِ مُمْكِنَةٌ ، لِأَنَّ الْوِلَادَةَ لَا تَخْلُو فِي الْأَغْلَبِ مِنْ حُضُورِ النِّسَاءِ لَهَا ، وَالْبَيِّنَةُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ يَشْهَدْنَ بِوِلَادَتِهَا كَالرِّضَاعِ وَالِاسْتِهْلَالِ ، فَإِنْ شَهِدَ بِهَا شَاهِدَانِ ، أَوْ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ ذَكَرَا مُشَاهَدَةَ الْوِلَادَةِ بِالِاتِّفَاقِ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدِ النَّظَرِ سُمِعَتْ شَهَادَتُهُمَا ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الرَّجُلِ أَغْلَظُ ، فَإِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ بِوِلَادَتِهَا ثَبَتَ نَسَبُهُ وَلَمْ يَنْتَفِ عَنْهُ إِلَّا بِاللِّعَانِ ، فَإِنْ عُدِمَتِ الْبَيِّنَةُ فَهَلْ تَرْجِعُ إِلَى الْقَافَةِ فِي إِلْحَاقِهِ بِهَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُرْجَعُ إِلَى الْقَافَةِ كَمَا يُرْجَعُ إِلَيْهِمْ فِي إِلْحَاقِهِ بِالرَّجُلِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ أَلْحَقُوهُ بِهَا صَارَ كَالْبَيِّنَةِ عَلَى وِلَادَتِهَا فَيَلْحَقُ بِهَا وَبِزَوْجِهَا إِلَّا أَنْ يَنْفِيَهُ بِاللِّعَانِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْقَافَةِ فِي إِلْحَاقِ الْوَلَدِ بِالْأُمِّ وَيَجُوزُ أَنْ
يُرْجَعَ إِلَيْهِمْ فِي إِلْحَاقِهِ بِالْأَبِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ الْأُمَّ يُمْكِنُ أَنْ يَلْحَقَ بِهَا وَلَدُهَا قَطْعًا بِالْمُشَاهَدَةِ ، فَلَمْ يَكُنْ لِاجْتِهَادِ الْقَافَةِ فِي إِلْحَاقِهِ مَدْخَلٌ ، وَلَا يَلْحَقُ الْأَبَ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ وَغَلَبَةِ الظَّنِّ فَجَازَ اجْتِهَادُ الْقَافَةِ فِي إِلْحَاقِهِ بِهِ ، فَعَلَى هَذَا يَحْلِفُ الزَّوْجُ بِاللَّهِ تَعَالَى أَنَّهَا مَا وَلَدَتْهُ ، فَإِذَا حَلَفَ انْتَفَى عَنْهُ ، وَإِنْ نَكَلَ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَيْهَا فَحَلَفَتْ بِاللَّهِ أَنَّهَا وَلَدَتْهُ ، فَإِذَا حَلَفَتْ لَحِقَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَنْفِيَهُ بِاللِّعَانِ ، فَإِنْ نَكَلَتْ فَهَلْ تُوقِفُ الْيَمِينَ عَلَى بُلُوغِ الْوَلَدِ لِيَحْلِفَ أَنَّهَا وَلَدَتْهُ عَلَى فِرَاشِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا تُوقِفُ الْيَمِينَ وَقَدِ انْقَطَعَ حُكْمُهَا ، لِأَنَّ حَقَّهَا فِي الْيَمِينِ فِي بَطَلٍ بِنُكُولِهَا وَيَكُونُ مَنْفِيًّا عَنِ الزَّوْجِ بِإِنْكَارِهَا وَنُكُولِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : تُوقِفُ الْيَمِينَ عَلَى بُلُوغِهِ ؛ لِأَنَّ إِنْكَارَ الزَّوْجِ قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقَّانِ ، حَقٌّ لَهَا فِي الْوِلَادَةِ ، وَحَقُّ الْوَلَدِ فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ ، فَإِذَا بَطَلَ حَقُّهَا بِنُكُولِهَا لَمْ يَبْطُلْ حَقُّ الْوَلَدِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ حَلَفَ الْوَلَدُ بَعْدَ بُلُوغِهِ لَحِقَ بِالزَّوْجِ إِلَّا أَنْ يَنْفِيَهُ بِاللِّعَانِ ، وَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ وَكَانَ مَنْفِيًّا عَنْهُ بِغَيْرِ لِعَانٍ ، وَهَلْ يَلْحَقُ بِهَا أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَلْحَقُ بِهَا إِلَّا بِبَيِّنَةٍ ، وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْتِقَاطِ الْمَنْبُوذِ : أَنَّهُ لَا يُسْمَعُ فِيهِ دَعْوَى الْمَرْأَةِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ لِمَا فِي لُحُوقِهِ بِهَا مِنْ إِلْحَاقِهِ بِزَوْجِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَلْحَقُ بِإِقْرَارِهَا وَلَا يَلْحَقُ بِزَوْجِهَا مَعَ إِنْكَارِهِ .
فَصْلٌ : وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهَا وَلَدَتْهُ مِنْ زَوْجٍ كَانَ لَهَا قَبْلَهُ ما يكون لعانا وما لا يكون فَلَا يَخْلُو أَنْ يُعْرَفَ لَهَا زَوْجٌ قَبْلَهُ أَوْ لَا يُعْرَفَ ، فَإِنْ لَمْ يُعَرَفْ لَهَا زَوْجٌ قَبْلَهُ قِيلَ : هَذَا الْبَيَانُ غَيْرُ مَقْبُولٍ مِنْكَ فَبَيِّنْهُ بِمَا يُمْكِنُ لِيُقْبَلَ ، وَإِنْ عُرِفَ لَهَا زَوْجٌ قَبْلَهُ ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يُعْرَفَ وَقْتُ طَلَاقِ الْأَوَّلِ وَعَقْدِ الثَّانِي وَوَقْتُ الْوِلَادَةِ أَوْ لَا يُعْرَفَ ذَلِكَ كُلُّهُ . فَإِنْ عُرِفَ وَقْتُ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ وَوَقْتُ عَقْدِ الثَّانِي وَوَقْتُ الْوِلَادَةِ ، فَلِلْوَلَدِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ لَاحِقًا بِالْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي ، وَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ لِأَرْبَعِ سِنِينَ فَمَا دُونَ مِنْ طَلَاقِ الْأَوَّلِ ، وَلَا أَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ عَقْدِ الثَّانِي فَيَنْتَفِي عَنِ الثَّانِي لِلُحُوقِهِ بِالْأَوَّلِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ مُلْحَقًا بِالثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ ، وَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ طَلَاقِ الْأَوَّلِ ، وَلِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ عَقْدِهِ الثَّانِي . فَيَلْحَقُ بِهِ وَلَا يَنْتَفِي عَنْهُ إِلَّا أَنْ يُلَاعِنَ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ لَا يَلَحَقَ بِالْأَوَّلِ وَلَا بِالثَّانِي ، وَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ طَلَاقِ الْأَوَّلِ وَلِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ عَقْدِ الثَّانِي فَيَنْتَفِي عَنْهُمَا وَهُوَ بَعْدَ يَمِينِهِ
مَنْفِيٌّ عَنْهُ بِغَيْرِ لِعَانٍ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْفِرَاشِ الْمُوجِبِ لِلُحُوقِ الْوَلَدِ وَلِإِمْكَانِ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ عَلَى وَقْتِ الْوِلَادَةِ ، فَإِنْ نَكَلَ الزَّوْجُ عَنِ الْيَمِينِ رُدَّتْ عَلَى الزَّوْجَةِ يَمِينُهَا أَنْ تَحْلِفَ بِاللَّهِ أَنَّ هَذَا الْوَلَدَ مِنْهُ مَا هُوَ مِنْ غَيْرِهِ وَجْهًا وَاحِدًا ، لِأَنَّهَا فِي ذَلِكَ عَلَى يَقِينٍ بِخِلَافِ غَيْرِهَا ، فَإِذَا حَلَفَتْ لَحِقَ بِالزَّوْجِ وَلَهُ نَفْيُهُ بِاللِّعَانِ ، وَإِنْ نَكَلَتْ عَنِ الْيَمِينِ فَهَلْ تُوقَفُ عَلَى بُلُوغِ الْوَلَدِ أَمْ لَا ؟ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ : " ( قَالَ ) فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ مِنْ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ : لَوْ قَالَ لَهَا : مَا هَذَا الْحَمْلُ مِنِّي وَلَيْسَتْ بِزَانِيَةٍ وَلَمْ أُصِبْهَا قَدْ تُخْطِئُ فَلَا يَكُونُ حَمْلًا فَيَكُونُ صَادِقًا وَهِيَ غَيْرُ زَانِيَةٍ فَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ ، فَمَتَى اسْتَيْقَنَّا أَنَّهُ حَمْلٌ قُلْنَا : قَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ تَأْخُذَ نُطْفَتَكَ فَتُدْخِلَهَا فَتَحْمَلَ مِنْكَ فَتَكُونَ صَادِقًا بِأَنَّكَ لَمْ تُصِبْهَا وَهِيَ صَادِقَةٌ بِأَنَّهُ وَلَدُكَ ، فَإِنْ قَذَفْتَ لَاعَنَتْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا أَنْ يَظْهَرَ بِالزَّوْجَةِ حَمْلٌ فَيَقُولُ : مَا هَذَا الْحَمْلُ مِنِّي وَلَيْسَتْ بِزَانِيَةٍ وَلَمْ أُصِبْهَا ، قِيلَ : قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحَمْلُ غِلَظًا أَوْ رِيحًا فَلَا يَعْجَلُ ، فَإِنْ تَيَقَّنَاهُ حَمْلًا صَحِيحًا قِيلَ : قَدْ يَجُوزُ أَنْ تُدْخِلَ نَطْفَتَكَ فَتَعْلَقَ مِنْهَا فَيَكُونُ الْحَمْلُ مِنْكَ وَهِيَ عَفِيفَةٌ . وَأَنْتَ صَادِقٌ فَلَا يَنْتَفِي عَنْكَ بِهَذَا الْقَوْلِ ، وَلَا اعْتِبَارَ فِي الشَّرْعِ بِمَا يَقُولُهُ أَهْلُ الطِّبِّ : إِنَّ النُّطْفَةَ إِذَا لَمْ تَسْتَقِرَّ فِي الرَّحِمِ مِنْ مَخْرَجِ الذَّكَرِ وَأَصَابَهَا الْهَوَاءُ فَبَرُدَتْ لَمْ يَكُنْ مِنْهَا عُلُوقٌ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَنْهُ قَالَ : الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَهُوَ يَلْحَقُ بِالْإِمْكَانِ وَلَا يَنْتَفِي بِالْإِمْكَانِ ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ : أَنَا عَقِيمٌ وَهِيَ عَفِيفَةٌ وَلَيْسَ الْوَلَدُ مِنِّي قِيلَ : هَذَا ظَنٌّ فَاسِدٌ ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ : هِيَ عَاقِرٌ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ تَلِدَ الْعَاقِرُ وَيُولَدَ لِلْعَقِيمِ . هَذَا نَبِيُّ اللَّهِ زَكَرِيَّا يَقُولُ : رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا [ آلِ عِمْرَانَ : ] فَأَجَابَهُ اللَّهُ تَعَالَى : كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا [ مَرْيَمَ : ] فَجَاءَهُمَا الْوَلَدُ بَعْدَ الْإِيَاسِ مِنْهُ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَنْتَفِ عَنْهُ بِهَذَا الْقَوْلِ إِذَا صَدَّقَهَا عَلَى الْوِلَادَةِ إِلَّا أَنْ يَنْسِبَهُ إِلَى وَطْءِ غَيْرِهِ دَخَلَ عَلَى فِرَاشِهِ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ عَلَيْهِ فَيَنْتَفِي عَنْهُ بِلِعَانِهِ بَعْدَ إِضَافَتِهِ إِلَى وَطْءِ غَيْرِهِ عَلَى مَا سَنَشْرَحُهُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِنْ نَفَى وَلَدَهَا وَقَالَ : لَا أُلَاعِنُهَا وَلَا أَقْذِفُهَا لَمْ يُلَاعِنْهَا وَلَزِمَهُ الْوَلَدُ ، وَإِنْ قَذَفَهَا لَاعَنَهَا لِأَنَّهُ إِذَا لَاعَنَهَا بِغَيْرِ قَذْفٍ ، فَإِنَّمَا يَدَّعِي أَنَّهَا لَمْ تَلِدْهُ وَقَدْ حَكَتْ أَنَّهَا وَلَدَتْهُ ، وَإِنَّمَا أَوْجَبَ اللَّهُ اللِّعَانَ بِالْقَذْفِ فَلَا يَجِبُ بِغَيْرِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَلَدُ الْمَرْأَةِ لَاحِقٌ زَوْجَهَا إِذَا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ ، وَذَلِكَ بِأَنْ تَلِدَهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ وَقْتِ عَقْدِهِ إِذَا أَمْكَنَ اجْتِمَاعُهُمَا ، وَلَا يَقِفُ
لُحُوقُهُ عَلَى اعْتِرَافِ الزَّوْجِ بِهِ ، فَإِنْ أَنْكَرَهُ لَمْ يَنْتَفِ عَنْهُ إِلَّا بِأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ، إِمَّا بِأَنْ يَقُولَ لَمْ تَلِدْهُ وَإِنَّهَا الْتَقَطَتْهُ أَوِ اسْتَعَارَتْهُ ، فَيَحْلِفُ إِنْ عُدِمَتِ الْبَيِّنَةُ وَيَنْتَفِي عَنْهُ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ ، وَإِمَّا أَنْ يَقْذِفَهَا إِذَا اعْتَرَفَتْ بِوِلَادَتِهَا وَيُلَاعِنَ مِنْهَا فَيَنْتَفِي عَنْهُ بِقَذْفِهِ وَلَا يَنْتَفِي بِغَيْرِهِمَا وَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا لَهُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ : لَمْ تَزْنِ بِهِ وَلَكِنَّهَا عَصَتْ ، لَمْ يُنْفَ عَنْهُ إِلَّا بِلِعَانٍ وَوَقَعَتِ الْفُرْقَةُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ اخْتَلَطَ فِيهَا كَلَامُ أَصْحَابِنَا وَلَمْ يَتَحَرَّرْ ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ مَا اشْتَمَلَ عَلَى فُصُولِهَا مِنَ الْأَقْسَامِ وَنَجْتَهِدُ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ فِي تَحْرِيرِ الْأَجْوِبَةِ . فَإِنْ نَسَبَ وَلَدَ امْرَأَتِهِ إِلَى وَطْءِ غَيْرِهِ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَقْذِفَهُمَا بِالزِّنَا . وَالثَّانِي : أَنْ يَقْذِفَ الرَّجُلَ دُونَ الْمَرْأَةِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَقْذِفَ الْمَرْأَةَ دُونَ الرَّجُلِ . وَالرَّابِعُ : أَلَّا يَقْذِفَ وَاحِدًا مِنْهُمَا . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ أَنْ يَقْذِفَهُمَا مَعًا بِالزِّنَا من نَسَبَ وَلَدَ امْرَأَتِهِ إِلَى وَطْءِ غَيْرِهِ فَيَقُولُ : زَنَيْتِ بِفُلَانٍ ، أَوْ زَنَى بِكِ رَجُلٌ ، فَيَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَهَا وَيَنْفِيَ بِهِ وَلَدَهَا سَوَاءٌ سَمَّى الزَّانِيَ أَوْ لَمْ يُسَمِّهِ ، فَإِنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ سَمَّى الزَّانِيَ ، وَالْعَجْلَانِيَّ لَمْ يُسَمِّهِ ، وَهَذَا الْقِسْمُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
فَصْلٌ : أَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يَقْذِفَ بِالزِّنَا الرَّجُلَ دُونَ الْمَرْأَةِ ، فَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ : اغْتُصِبْتِ فَاسْتُكْرِهْتِ عَلَى نَفْسِكِ فَيَكُونُ قَذْفًا لِلْمُغْتَصِبِ دُونَهَا ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ ، فَيَجُوزُ أَنْ يَلْتَعِنَ بِهَذَا الْقَذْفِ وَيَنْفِيَ وَلَدَهَا سَوَاءٌ سَمَّى الْمُغْتَصِبَ أَوْ لَمْ يُسَمِّهِ ، وَحُكِيَ عَنِ الْمُزَنِيِّ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ : إِنَّهُ إِنْ سَمَّى الْمُغْتَصِبَ لَاعَنَ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِ لَمْ يُلَاعِنْ ، لِأَنَّ الْحَدَّ يَجِبُ عَلَيْهِ إِذَا سَمَّاهُ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يُسَمِّهِ ، وَاللِّعَانُ عِنْدَهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي قَذْفٍ يُوجِبُ الْحَدَّ وَنَظَرْتُ فِي جَامِعِهِ فَلَمْ أَرَهُ مُصَرِّحًا بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ كَلَامُهُ مُحْتَمِلًا ، وَلَيْسَ لِهَذَا الْقَوْلِ وَجْهٌ إِنْ صَحَّ عَنْهُ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ تَسْمِيَةَ الْمَقْذُوفِ مِنْ شُرُوطِ اللِّعَانِ كَالْمَقْذُوفِينَ ، وَلَا سُقُوطُ الْحَدِّ بِمَانِعٍ مِنْ لِعَانِهِ فِي نَفْيِ النَّسَبِ كَالْمَجْنُونِينَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ هَذَا الْوَطْءُ فِي إِفْسَادِ الْفِرَاشِ كَغَيْرِهِ وَجَبَ أَنْ يُسَاوِيَهُ فِي نَفْيِ النَّسَبِ بِلِعَانِهِ .
فَصْلٌ : أَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يَقْذِفَ الْمَرْأَةَ دُونَ الرَّجُلِ من نَسَبَ وَلَدَ امْرَأَتِهِ إِلَى وَطْءِ غَيْرِهِ ، فَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ : تَشَبَّهْتِ لَهُ بِزَوْجَتِهِ فَأَصَابَكِ يَظُنُّكِ زَوْجَتَهُ فَأَنْتِ زَانِيَةٌ لِعِلْمِكِ بِهِ وَهُوَ غَيْرُ زَانٍ لِجَهْلِهِ بِكِ ، فَيَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَالْمُزَنِيِّ أَنْ يُلَاعِنَ لِنَفْيِ النَّسَبِ وَسُقُوطِ الْحَدِّ . وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ : لَا يُلَاعِنُ لِنَفْيِ النَّسَبِ بِهَذَا الْقَذْفِ ؛ لِأَنَّهُ وَطْءُ شُبْهَةٍ فِي حَقِّ الرَّجُلِ يُوجِبُ لُحُوقَ الْوَلَدِ بِهِ إِنْ أَلْحَقَتْهُ الْقَافَةُ فَيَنْتَفِي عَنْهُ بِغَيْرِ لِعَانٍ ، وَإِذَا أَمْكَنَ نَفْيُ النَّسَبِ بِغَيْرِ لِعَانٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُلَاعِنَ لِنَفْيِهِ كَوَلَدِ الْأَمَةِ لَمَّا جَازَ أَنْ يَنْفِيَ عَنْهُ بِادِّعَاءِ الِاسْتِبْرَاءِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُلَاعِنَ لِنَفْيِهِ . وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَاطِئُ غَيْرَ مُسَمَّى فَلَا يَلْحَقُهُ الْوَلَدُ ، وَلَوْ كَانَ مُسَمًّى لَجَازَ أَنْ يُنْكِرَ الْوَاطِئُ فَلَا يَلْحَقُهُ الْوَلَدُ ، وَلَوِ اعْتَرَفَ بِالْوَطْءِ لَجَازَ أَنْ لَا تُلْحِقَهُ الْقَافَةُ بِهِ ، وَلَوْ أَلْحَقَتْهُ الْقَافَةُ بِهِ احْتَاجَ الزَّوْجُ إِلَى إِسْقَاطِ الْحَدِّ بِلِعَانِهِ فَصَارَ اللِّعَانُ مُسْتَحَقًّا فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا ، فَجَازَ أَنْ يَتَضَمَّنَهُ نَفْيُ النَّسَبِ الَّذِي قَدْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْقَذْفُ نَفْيَهُ وَإِنْ لَحِقَ بِهِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ : وَهُوَ أَنْ لَا يَقْذِفَ وَاحِدًا مِنْهُمَا بِالزِّنَا من نَسَبَ وَلَدَ امْرَأَتِهِ إِلَى وَطْءِ غَيْرِهِ ، فَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ : وَجَدَكِ عَلَى فِرَاشِهِ فَظَنَّكِ زَوْجَتَهُ وَظَنَنْتِيهِ زَوْجَكِ . فَلَا يَكُونُ قَاذِفًا لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمَا زَانٍ ، فَلَا يَجِبُ بِهَذَا الرَّمْيِ حَدٌّ ، وَيَكُونُ مَقْصُورًا عَلَى نَفْيِ النَّسَبِ ، فَإِنْ كَانَ حَمْلًا فَلَا لِعَانَ بِهِ ، وَلَا تَنَازُعَ فِيهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ غِلَظًا أَوْ رِيحًا ، فَإِذَا وَضَعَتْ رُوعِيَ حَالُ الْمَرْمِيِّ بِوَطْئِهَا ، فَإِنْ كَانَ مُسَمًّى مُعْتَرِفًا بِوَطْئِهَا فَلَا لِعَانَ ، وَإِنْ أَلْحَقُوهُ بِالزَّوْجِ اضْطُرَّ إِلَى نَفْيِهِ بِاللِّعَانِ ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ الْمَرْمِيُّ بِهَا مُنْكِرًا لِوَطْئِهَا أَوْ كَانَ مَجْهُولًا غَيْرَ مُسَمًّى اضْطُرَّ إِلَى نَفْيِهِ بِاللِّعَانِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ ، وَفِي جَوَازِ لِعَانِهِ مِنْهُ بِغَيْرِ قَذْفٍ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الْأَصَحُّ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ : إِنَّهُ يَصِحُّ لِعَانُهُ مِنْهُ بِغَيْرِ قَذْفٍ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ هَذَا الْوَطْءَ مُفْسِدٌ لِفِرَاشِهِ كَالزِّنَا فَاسْتَوَيَا فِي نَفْيِ نَسَبِهِ بِاللِّعَانِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ قَدِ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُمَا لَمْ يَزْنِيَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكْذِبَ عَلَيْهِمَا فِي رَمْيِهِمَا بِالزِّنَا ، فَعَلَى هَذَا يَقُولُ فِي لِعَانِهِ : أَشْهَدُ بِاللَّهِ ، إِنَّنِي لِمِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ مِنْ إِصَابَةِ غَيْرِي لَهَا عَلَى فِرَاشِي وَأَنَّ هَذَا الْوَلَدَ مِنْ تِلْكَ الْإِصَابَةِ مَا هُوَ مِنِّي . فَإِذَا أَكْمَلَ لِعَانَهُ انْتَفَى عَنْهُ النَّسَبُ وَلَمَ تُلَاعِنِ الْمَرْأَةُ بَعْدَهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا اللِّعَانَ لَا يُوجِبُ عَلَيْهَا الْحَدَّ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَثْبَتَ وَطْءَ شُبْهَةٍ وَلَمْ يُثْبِتِ الزِّنَا ، وَوَطْءُ الشُّبْهَةِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ ، فَلِذَلِكَ لَمْ تَلْتَعِنْ ؛ لِأَنَّ لِعَانَهَا مَقْصُورٌ عَلَى إِسْقَاطِ الْحَدِّ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَبِهِ قَالَ الْمُزَنِيُّ وَهُوَ مُخَرَّجٌ مِنْ كَلَامٍ لِلشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ
يُلَاعِنَ مِنْهُ حَتَّى يَتَضَمَّنَ قَذْفًا يُوجِبُ الْحَدَّ ، لِأَنَّ اللِّعَانَ مَقَامُ خِزْيٍ فَلَمْ يَجُزْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ إِلَّا فِي مِثْلِهِ ، وَلِأَنَّ فَحْوَى الْكِتَابِ وَنَصَّ السُّنَّةِ جَاءَتْ بِمِثْلِهِ ، فَعَلَى هَذَا فِي كَيْفِيَّةِ قَذْفِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : بِصَرِيحِ الزِّنَا وَلَوْ كَانَ فِيهِ إِكْذَابٌ لِنَفْسِهِ ، حَكَاهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : بِمَعَارِيضِ الزِّنَا ، كَقَوْلِهِ : فَجَرَتْ بِوَطْءِ غَيْرِي ، أَوْ وُطِئَتْ وَطْأً حَرَامًا ، لِئَلَّا يُصَرِّحَ بِتَكْذِيبِ نَفْسِهِ ، وَهَذَا أَشْبَهُ ، فَإِنْ وَقَعَ الِاقْتِصَارُ مِنْهُ عَلَى مَعَارِيضِ الْقَذْفِ ، بَنَى لَفْظَ لِعَانِهِ عَلَيْهِ فَقَالَ : أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ مِنْ وَطْءِ الْفُجُورِ أَوِ الْوَطْءِ الْحَرَامِ ، وَأَنَّ هَذَا الْوَلَدَ مَا هُوَ مِنِّي ، وَلَا يَلْزَمُهَا أَنْ تُلَاعِنَ بَعْدَهُ سَوَاءٌ أَضَافَ الْفُجُورَ إِلَيْهَا أَوْ إِلَى الْوَاطِئِ ؛ لِأَنَّهُ كِنَايَةٌ ، وَإِنْ لَمْ يُقْتَنَعْ مِنْهُ إِلَّا بِالْقَذْفِ الصَّرِيحِ ، فَإِنْ قَذَفَهُمَا لَاعَنَ ، وَلَاعَنَتْ بَعْدَهُ ، وَإِنْ قَذَفَهُ دُونَهَا لَاعَنَ وَلَمْ تُلَاعِنْ بَعْدَهُ ، وَإِنْ قَذَفَهَا دُونَهُ لَاعَنَ وَلَاعَنَتْ بَعْدَهُ ، لِأَنَّ لِعَانَهُ مِنْ قَذْفِهَا مُوجِبٌ لِلْحَدِّ عَلَيْهَا . فَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهَا إِلَّا بِلِعَانِهَا وَلِعَانِهِ ، وَقَذْفُ الْوَاطِئِ وَحْدَهُ غَيْرُ مُوجِبٍ لِحَدِّهَا فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى لِعَانِهَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ لِابْنِ مُلَاعَنَةٍ : لَسْتَ ابْنَ فُلَانٍ اللعان بين الزوجين أُحْلِفَ مَا أَرَادَ قَذْفَ أُمِّهِ وَلَا حَدَّ ، فَإِنْ أَرَادَ قَذْفَ أُمِّهِ حَدَدْنَاهُ ، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يُقِرَّ بِهِ الَّذِي نَفَاهُ حُدَّ إِنْ كَانَتْ أُمُّهُ حُرَّةً إِنْ طَلَبَتِ الْحَدَّ وَالتَّعْزِيرَ إِنْ كَانَتْ نَصْرَانِيَّةً أَوْ أَمَةً ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : قَدْ قَالَ فِي الرَّجُلِ يَقُولُ لِابْنِهِ : لَسْتَ بِابْنِي ، إِنَّهُ لَيْسَ بِقَاذِفٍ لِأُمِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُعَزَّيَهُ إِلَى حَلَالٍ وَهَذَا بِقَوْلِهِ أَشْبَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ لِوَلَدِ الرَّجُلِ : لَسْتَ ابْنَ فُلَانٍ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْوَلَدِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ ابْنَ مُلَاعَنَةٍ قَدْ نَفَاهُ أَبُوهُ بِلِعَانِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ ابْنَ مُلَاعَنَةٍ قَدِ اسْتَلْحَقَهُ أَبُوهُ بَعْدَ نَفْيِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ ابْنَ غَيْرِ مُلَاعِنَةٍ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ابْنَ مُلَاعَنَةٍ قَدْ نَفَاهُ أَبُوهُ بِلِعَانِهِ ، فَيَقُولُ لَهُ أَجْنَبِيٌّ : لَسْتَ بِابْنِ فُلَانٍ ، فَهَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ ، يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ : لَسْتَ بِابْنِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ نَفَاهُ بِلِعَانِهِ فَلَا يَكُونُ قَاذِفًا لِأُمِّهِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنَّ أُمَّهُ زَنَتْ بِهِ فَيَصِيرُ قَاذِفًا لِأُمِّهِ : فَصَارَ مِنْ مَعَارِضِ الْقَذْفِ وَكِنَايَاتِهِ ، فَوَجَبَ مَعَ الْمُطَالَبَةِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ إِلَى بَيَانٍ فِي إِرَادَتِهِ ، وَلَهُ فِي بَيَانِهِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُرِيدَ بِهِ قَذْفَ أُمِّهِ .
وَالثَّانِي : أَنْ لَا يُرِيدَ بِهِ قَذْفَهَا . وَالثَّالِثُ : أَنْ لَا تَكُونَ لَهُ إِرَادَةٌ ، فَإِنْ أَرَادَ بِهِ قَذْفَ أُمِّهِ حُدَّ لَهَا ، وَإِنْ لَاعَنَ الزَّوْجُ مِنْهَا ؛ لِأَنَّ لِعَانَهُ بَيِّنَةٌ فِي حَقِّهِ وَلَيْسَتْ بَيِّنَةً فِي حَقِّ غَيْرِهِ ، فَصَارَتْ عَلَى عِفَّتِهَا مَعَ الْأَجَانِبِ وَإِنِ ارْتَفَعَتْ عِفَّتُهَا مَعَ الزَّوْجِ ، فَيُحَدُّ لَهَا إِنْ كَانَتْ حُرَّةً مُسْلِمَةً ، وَيُعَزَّرُ لَهَا إِنْ كَانَتْ ذِمِّيَّةً أَوْ أَمَةً ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ : أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ وَنَفَى النَّسَبَ ، وَقَضَى أَلَّا تَرْمِيَ وَلَا يُرْمَى وَلَدُهَا ، فَمَنْ رَمَاهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ . وَهَذَا نَصُّ الشَّافِعِيِّ ، وَمُطْلَقُ جَوَابِهِ فِي قَذْفِهَا ، وَتَفْصِيلُ هَذَا الْإِطْلَاقِ أَشْبَهُ بِالْحَقِّ عِنْدِي ، وَهُوَ أَنْ يُعْتَبَرَ حَالُ الْمُلَاعَنَةِ ، فَإِنْ لَاعَنَتْ بَعْدَ لِعَانِ الزَّوْجِ كَانَتْ عَلَى عِفَّتِهَا مَعَ الْأَجَانِبِ فَيُحَدُّ قَاذِفُهَا ، وَإِنْ لَمْ تُلَاعِنْ وَحُدَّتْ فِي الزِّنَا ، ذَهَبَتْ عِفَّتُهَا ، وَلَمْ يُحَدَّ قَاذِفُهَا ؛ لِأَنَّهُ يَتَنَافَى ثُبُوتُ الْعِفَّةِ وَوُجُوبُ الْحَدِّ كَمَا يَتَنَافَى إِذَا وَجَبَ بِالْبَيِّنَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَرِدْ بِهِ قَذْفَ أُمِّهِ وَأَرَادَ بِهِ نَفْيَهُ عَنِ الْأَبِ بِلِعَانِهِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ فِي الْحُكْمِ كَذَلِكَ ، فَإِنِ ادَّعَتِ الْأُمُّ أَنَّهُ أَرَادَ قَذْفَهَا أَوِ ادَّعَى ذَلِكَ الِابْنُ بَعْدَ مَوْتِهَا أُحْلِفَ بِاللَّهِ مَا أَرَادَ قَذْفَهَا وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ، فَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ حَلَفَتْ بِاللَّهِ لَقَدْ أَرَادَ قَذْفَهَا أَوْ حَلَفَ وَلَدُهَا بَعْدَ مَوْتِهَا فَإِذَا حَلَفَتْ حُدَّ لَهَا حَدُّ الْقَذْفِ ، وَإِنْ نَكَلَتْ أَوْ نَكَلَ وَلَدُهَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِرَادَةُ قَذْفٍ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْكِنَايَةَ إِذَا تَجَرَّدَتْ عَنْ نِيَّتِهِ سَقَطَ حُكْمُهَا كَالْكِنَايَةِ فِي الطَّلَاقِ ، فَإِذَا ادَّعَتْ عَلَيْهِ إِرَادَةَ الْقَذْفِ أُحْلِفَ عَلَى مَا مَضَى .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ابْنَ مُلَاعَنَةٍ اسْتَحْلَفَهُ أَبُوهُ وَأَقَرَّ أَنَّهُ وَلَدُهُ ، فَيَقُولُ لَهُ أَجْنَبِيٌّ : لَسْتَ بِابْنِ فُلَانٍ ، فَظَاهِرُهُ الْقَذْفُ ، لِأَنَ الِاحْتِمَالَ فِيهِ بَعْدَ الِاسْتِلْحَاقِ أَقَلُّ ، فَصَارَ أَغْلَبُ أَحْوَالِهِ الْقَذْفَ ، فَيُؤْخَذُ بِالْحَدِّ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ اعْتِبَارًا بِالْأَغْلَبِ بِخِلَافِ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ الَّذِي تَسَاوَى فِيهِ الِاحْتِمَالُ فِيهِ هَذَا مَا لَمْ يَدَّعِ احْتِمَالًا مُمْكِنًا ، فَإِنِ ادَّعَاهُ وَقَالَ : أَرَدْتُ أَنَّكَ لَمْ تَكُنِ ابْنَ فُلَانٍ حِينَ نَفَاكَ بِلِعَانِهِ وَإِنْ صِرْتَ ابْنًا لَهُ بَعْدَ اسْتِلْحَاقِهِ ، فَقَوْلُهُ مُحْتَمَلٌ فَيُقْبَلُ مِنْهُ مَعَ يَمِينِهِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِاحْتِمَالِ مَا قَالَ ، وَإِمْكَانِهِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَلَوْ قَالَ : يَا زَانِيَةُ ، وَقَالَ : أَرَدْتُ زِنَا الْعَيْنِ أَوِ الْيَدِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ . فَهَلَّا كَانَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ هَكَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ مَعَ احْتِمَالِهِ ؟ قِيلَ : لِأَنَّهُ إِذَا رَمَاهَا بِالزِّنَا كَانَ قَذْفًا صَرِيحًا فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ فَأُخِذَ بِالْحَدِّ وَلَمْ يَنْوِ ، وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَكُونُ تَعْرِيضًا بِقَذْفٍ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ ؛ فَلِذَلِكَ جَازَ مَعَ الِاحْتِمَالِ أَنْ يَنْوِيَ . وَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْقِسْمِ وَبَيْنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ : أَنَّهُ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ لَا يُحَدُّ حَتَّى يُسْأَلَ ، لِأَنَّ لَفْظَهُ كِنَايَةٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ إِلَّا مَعَ النِّيَّةِ .
وَفِي هَذَا الْقِسْمِ ظَاهِرُ لَفْظِهِ الْقَذْفُ ، فَحُدَّ بِالظَّاهِرِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ بَيِّنَةٌ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الِابْنُ ثَابِتَ النَّسَبِ لَمْ يَجُزْ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى أُمِّهِ لِعَانٌ من قَالَ لِوَلَدِ الرَّجُلِ : لَسْتَ ابْنَ فُلَانٍ قَطُّ ، فَيَقُولُ لَهُ أَجْنَبِيٌّ : لَسْتَ بِابْنِ فُلَانٍ ، فَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَكُونُ قَذْفًا لِأُمِّهِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ ، لِأَنَّ فِي الْمُسْتَلْحِقِ بَعْدَ الِالْتِعَانِ مِنَ الِاحْتِمَالِ مَا لَيْسَ فِي هَذَا ، فَلِذَلِكَ كَانَ قَذْفًا فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ ، وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ قَذْفًا فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ ، وَهَذَا ظَاهِرُ مَا يَقْتَضِيهِ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ فِي الْأَجْنَبِيِّ . وَحَكَى الْمُزَنِيُّ عَنْهُ فِي الْأَبِ إِذَا قَالَ لِابْنِهِ : لَسْتَ بِابْنِي ، أَنَّهُ لَا يَكُونُ قَاذِفًا لِأُمِّهِ حَتَّى يُرِيدَ بِهِ الْقَذْفَ ، فَخَالَفَ بَيْنَ الْأَبِ وَالْأَجْنَبِيِّ فَلَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ مِنَ الْأَبِ قَذْفًا ، وَجَعَلَهُ مِنَ الْأَجْنَبِيِّ قَذْفًا ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ طُرُقٍ : أَحَدُهَا - وَقَدْ أَوْمَأَ الْمُزَنِيُّ إِلَيْهَا - : التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْأَبِ وَالْأَجْنَبِيِّ ، وَتَخْرِيجُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ جَمْعًا بَيْنَ مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ قَذْفًا صَرِيحًا مِنَ الْأَبِ وَالْأَجْنَبِيِّ جَمِيعًا عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأَجْنَبِيِّ فَيُحَدَّانِ مَعًا إِلَّا أَنْ يُلَاعِنَ الْأَبُ فَيَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ وَلَا يَسْقُطُ عَنِ الْأَجْنَبِيِّ . وَوَجْهُهُ : أَنَّ نَفْيَ الْوَلَدِ عَنْ أَبِيهِ مَوْضُوعٌ فِي الْعُرْفِ لِقَذْفِ أُمِّهِ ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْعُرْفُ مُعْتَبَرًا وَالْحُكْمُ بِهِ مُتَعَلِّقًا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَكُونُ قَذْفًا صَرِيحًا مِنَ الْأَبِ وَلَا مِنَ الْأَجْنَبِيِّ لِظُهُورِ الِاحْتِمَالِ فِيهِ ، وَأَنْ يُرَادَ بِهِ لَيْسَ بِابْنِهِ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْأَفْعَالِ وَالْأَخْلَاقِ مَعَ اتِّفَاقِهِمَا فِي الْأَنْسَابِ ، فَخَرَجَ بِهَذَا الِاحْتِمَالِ عَنْ حُكْمِ الصَّرِيحِ ، وَمَا الَّذِي يَكُونُ حُكْمُهُ حِينَئِذٍ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مَقْذُوفًا فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ اعْتِبَارًا بِالْأَغْلَبِ مِنْ حَالَيْهِ . وَإِنْ لَمْ يَتَغَلَّظْ عَلَى الْمُسْتَلْحِقِ بَعْدَ النَّفْيِ لَمْ يَكُنْ أَضْعَفَ مِنْهُ ، فَعَلَى هَذَا يُؤْخَذُ بِالْحَدِّ إِلَّا أَنْ يَقُولَ : لَمْ أُرِدْ بِهِ الْقَذْفَ ، فَيَحْلِفُ عَلَيْهِ وَلَا يُحَدُّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ كِنَايَةٌ يَنْوِي فِيهِ وَلَا يُحَدُّ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْقَذْفَ ، بِخِلَافِ الْمُسْتَلْحِقِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ الْمُسْتَلْحِقَ لَمَّا اعْتَلَّ نَسَبُهُ بِاللِّعَانِ صَارَ الظَّاهِرُ مِنْ نَفْيِهِ قَذْفَ أُمِّهِ ، وَغَيْرُ الْمُسْتَلْحِقِ لَمَّا لَمْ يَعْتَلَّ نَسَبُهُ صَارَ الظَّاهِرُ مَنْ نَفْيِهِ مُخَالَفَةَ أَبِيهِ فِي أَفْعَالِهِ وَأَخْلَاقِهِ . فَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ الْأُولَى لِأَصْحَابِنَا وَيُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ طَرِيقَةَ أَبِي الطَّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ . وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ : وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ الْجَوَابَ عَلَى ظَاهِرِ النَّصِّ فِيهِمَا ، فَيَكُونُ قَذْفًا مِنَ الْأَجْنَبِيِّ وَلَا يَكُونُ قَذْفًا مِنَ الْأَبِ .
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ لِلْأَبِ مِنْ تَأْدِيبِ وَلَدِهِ بِالضَّرْبِ وَالْإِغْلَاظِ فِي الْقَوْلِ مَا لَيْسَ لِلْأَجْنَبِيِّ فَصَارَ ذَلِكَ مِنَ الْأَبِ إِغْلَاظًا فِي الْقَوْلِ الْمَحْمُولِ عَلَى التَّأْدِيبِ ، وَمِنَ الْأَجْنَبِيِّ إِغْلَاظَ قَذْفٍ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي التَّأْدِيبِ . وَالطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ : - وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ - أَنَّ اخْتِلَافَ الْجَوَابِ فِيهِمَا مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ يَسْتَوِيَانِ فِيهِمَا ، فَالَّذِي قَالَهُ فِي الْأَبِ : أَنَّهُ لَا يَكُونُ قَذْفًا إِذَا قَالَهُ عِنْدَ وِلَادَتِهِ وَقَبْلَ اسْتِقْرَارِ نَسَبِهِ فِي الْحَالِ الَّتِي لَوْ أَرَادَ نَفْيَهُ فِيهَا بِاللِّعَانِ لِأَمْكَنَهُ ، وَالَّذِي قَالَهُ فِي الْأَجْنَبِيِّ : أَنَّهُ يَكُونُ قَذْفًا إِذَا قَالَهُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ نَسَبِهِ فِي حَالٍ لَا يَجُوزُ لِأَبِيهِ نَفْيُهُ فِيهَا بِاللِّعَانِ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ قَذْفًا مِنَ الْأَبِ وَالْأَجْنَبِيِّ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ النَّسَبِ وَلَا يَكُونُ قَذْفًا مِنْهُمَا قَبْلَ اسْتِقْرَارِهِ لِضَعْفِ النَّسَبِ قَبْلَ اسْتِقْرَارِهِ ، وَقُوَّتِهِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِذَا نَفَيْنَا عَنْهُ وَلَدَهَا بِاللِّعَانِ ثُمَّ جَاءَتْ بَعْدَهُ بِوَلَدٍ لَأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ مَا يَلْزَمُهُ لَهُ نَسَبُ وَلَدِ الْمَبْتُوتَةِ فَهُوَ وَلَدُهُ إِلَّا أَنْ يَنْفِيَهُ بِلِعَانٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ نَفْيَ النَّسَبِ بِاللِّعَانِ أنواعه عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَنْفِيَ بِهِ حَمْلًا . وَالثَّانِي : أَنْ يَنْفِيَ بِهِ وَلَدًا . فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ أَنْ يَنْفِيَ بِهِ حَمْلًا ، فَإِذَا وَضَعَتْ وَاحِدًا أَوْ عَدَدًا انْتَفَى عَنْهُ جَمِيعُهُمْ ، لِأَنَّ الْحَمْلَ مَا اشْتَمَلَ الْبَطْنُ عَلَيْهِ ، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْأَخِيرِ مِنْهُمْ فَلَوْ وَضَعَتْ وَلَدًا فَانْتَفَى عَنْهُ وَانْقَضَتْ بِهِ عَدَّتُهَا فِي الظَّاهِرِ ، ثُمَّ وَضَعَتْ بِهِ وَلَدًا آَخَرَ ، نَظَرَ فِي زَمَانِ وَضْعِهِ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا أَقَلُّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ ، فَإِنْ وَضَعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وِلَادَةِ الْأَوَّلِ فَهُمَا مِنْ حَمْلٍ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ بَيْنَ الْحَمْلَيْنِ أَقَلُّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ، وَهِيَ أَقَلُّ مُدَّةِ الْحَمْلِ ، فَإِذَا كَانَ بَيْنَ الْوَلَدَيْنِ أَقَلُّ مِنْهُمَا كَانَا حَمْلًا وَاحِدًا اشْتَمَلَ الْبَطْنُ عَلَيْهِمَا ، فَانْتَفَيَا عَنْهُ بِاللِّعَانِ الْأَوَّلِ ، وَعَلِمْنَا أَنَّهَا كَانَتْ بَاقِيَةً فِي عِدَّتِهَا إِلَى وَضْعِ الثَّانِي . وَكَذَلِكَ لَوْ وَضَعَتْ وَلَدًا ثَالِثًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَوَّلِ أَقَلُّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ انْتَفَى الثَّالِثُ مَعَ الثَّانِي وَالْأَوَّلِ بِاللِّعَانِ الْمُتَقَدِّمِ لِاشْتِمَالِ الْبَطْنِ عَلَى الثَّلَاثَةِ فِي وَقْتِ نَفْيِ الْحَمْلِ بِاللِّعَانِ ، وَعِدَّتُهَا مُنْقَضِيَةٌ بِوَضْعِ الثَّالِثِ ، فَأَمَّا إِنْ وَضَعَتِ الْوَلَدَ الثَّانِيَ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ وِلَادَةِ الْأَوَّلِ فَهُوَ مِنْ حَمْلٍ ثَانٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْوَلَدَيْنِ مِنْ حَمْلٍ وَاحِدٍ سِتَّةُ أَشْهُرٍ ، وَإِذَا كَانَ الْوَلَدُ الثَّانِي مِنْ حَمْلٍ ثَانٍ فَهِيَ مَثْبُوتَةٌ بِاللِّعَانِ وَقَدِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْأَوَّلِ انْقِضَاءً تَيَقَّنَّا بِهِ اسْتِبْرَاءَ رَحِمِهَا فَلَمْ يُلْحَقْ بِهِ الثَّانِي لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ مِنْ إِصَابَتِهِ
قَبْلَ اللِّعَانِ لِأَنَّهُ انْتَفَى عَنْهُ بِاللِّعَانِ ، وَيَخْتَلِفُ حُكْمُ الْوَلَدَيْنِ فِي الِاسْتِلْحَاقِ ، فَإِنِ اسْتَلْحَقَ الْأَوَّلَ لَحِقَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ انْتَفَى عَنْهُ بِاللِّعَانِ ، وَإِنِ اسْتَلْحَقَ الثَّانِيَ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ لِأَنَّهُ مَنْفِيٌّ عَنْهُ بِغَيْرِ لِعَانٍ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يَنْفِيَ بِلِعَانِهِ وَلَدًا ، فَإِذَا اعْتَدَّتْ مِنْ فُرْقَةِ اللِّعَانِ بِالْأَقْرَاءِ ثُمَّ وَضَعَتْ بَعْدَهُ وَلَدًا ثَانِيًا لَمْ يَخْلُ وَضْعُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَضَعَهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ . وَالثَّانِي : أَنْ تَضَعَهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا إِلَى أَرْبَعِ سِنِينَ . وَالثَّالِثُ : أَنْ تَضَعَهُ لِأَرْبَعِ سِنِينَ فَأَكْثَرَ . فَأَمَّا الْحَالُ الْأُولَى : وَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ حَتَّى يَنْفِيَهُ بِلِعَانٍ ثَانٍ ، بِخِلَافِ الْتِعَانِهِ مِنَ الْحَمْلِ ، لِأَنَّ الْتِعَانَهُ مِنَ الْحَمْلِ مُتَوَجَّهٌ إِلَى مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْبَطْنُ مِنْ وَاحِدٍ أَوْ جَمَاعَةٍ فَانْتَفَى جَمِيعُهُمْ بِاللِّعَانِ الْوَاحِدِ ، وَإِذَا كَانَ اللِّعَانُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ ، كَانَ النَّفْيُ مَقْصُورًا عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ اللِّعَانُ ، وَلَمْ يَتَضَمَّنْ إِلَّا الْأَوَّلَ فَانْتَفَى عَنْهُ دُونَ الثَّانِي ، فَإِنِ اعْتَرَفَ بِالثَّانِي أَوْ لَمْ يَعْتَرِفْ بِهِ لَكِنَّهُ لَمْ يُلَاعِنْ مِنْهُ لَحِقَ بِهِ الثَّانِي وَالْأَوَّلُ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ حَمْلٍ وَاحِدٍ حَيْثُ كَانَ بَيْنَهُمَا أَقَلُّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ، وَالْحَمْلُ الْوَاحِدُ لَا يَتَبَعَّضُ فِي اللُّحُوقِ بِاثْنَيْنِ كَمَا لَا يَلْحَقُ الْوَلَدُ الْوَاحِدُ بِاثْنَيْنِ فَجَعَلْنَا الْأَوَّلَ تَبَعًا لِلثَّانِي فِي الِاسْتِلْحَاقِ وَلَمْ نَجْعَلِ الثَّانِيَ تَبَعًا لِلْأَوَّلِ فِي النَّفْيِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ حُكْمَ الِاسْتِلْحَاقِ بَعْدَ النَّفْيِ جَائِزٌ ، وَالنَّفْيُ [ بَعْدَ الِاسْتِلْحَاقِ غَيْرُ جَائِزٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْوَلَدَ يَلْحَقُ بِالْإِمْكَانِ وَلَا يَنْتَفِي بِالْإِمْكَانِ ، فَيَغْلُظُ بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ حُكْمُ الِاسْتِلْحَاقِ ] وَعَلَى حُكْمِ النَّفْيِ فَصَارَ الْأَغْلَظُ مَتْبُوعًا وَالْأَخَفُّ تَابِعًا ، فَإِذَا لَحِقَهُ لَمْ يُحَدَّ لِقَذْفِ الْأُمِّ ؛ لِأَنَّ لُحُوقَ الْوَلَدِ لَا يَقْتَضِي تَكْذِيبَهُ فِي الْقَذْفِ ، كَمَا لَوْ لَاعَنَ مِنْهَا وَلَمْ يَنْفِ وَلَدَهَا . وَأَمَّا الْحَالُ الثَّانِيَةُ : فَهُوَ أَنْ تَضَعَ الثَّانِيَ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ وِلَادَةِ الْأَوَّلِ وَلِدُونِ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ وَقْتِ اللِّعَانِ فَيَكُونُ الْوَلَدُ الثَّانِي مِنْ حَمْلٍ ثَانٍ ، وَلَا يَكُونُ مِنْ حَمْلِ الْوَلَدِ الْأَوَّلِ فَيَصِيرُ الْوَلَدُ الثَّانِي لَاحِقًا بِهِ دُونَ الْأَوَّلِ مَا لَمْ تَصِرْ ذَاتَ زَوْجٍ يَلْحَقُهُ وَلَدُهَا ، لِأَنَّ وَلَدَ الْمَبْتُوتَةِ يَلْحَقُ بِزَوْجِهَا إِلَى أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ فِرَاقِهِ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ ، فَإِنْ قِيلَ : أَفَلَيْسَ قَدْ نَفَيْتُمْ عَنْهُ إِذَا الْتَعَنَ مِنَ الْحَمْلِ مَنْ وَلَدَتْهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ؟ .
قُلْنَا : إِنَّمَا فَرَّقْنَا بَيْنَهُمَا فِي اللُّحُوقِ لِافْتِرَاقِهِمَا فِي مَعْنَى الِاسْتِبْرَاءِ وَاخْتِلَافِهِمَا فِي إِمْكَانِ اللُّحُوقِ فَصَارَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْحَامِلَ إِذَا لَاعَنَ مِنْهَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ ، وَوَضْعُ الْحَمْلِ يَقِينٌ فِي اسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْقَى بَعْدَهُ لِلزَّوْجِ مَا فِي الرَّحِمِ ، وَذَاتُ الْوَلَدِ إِذَا لَاعَنَ مِنْهَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالْأَقْرَاءِ ، وَالِاسْتِبْرَاءُ بِالْأَقْرَاءِ غَلَبَةُ ظَنٍّ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ تَحِيضَ عَلَى الْحَمْلِ وَيُرَى دَمُ فَسَادٍ ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الرَّحِمُ مُشْتَمِلًا عَلَى مَاءِ الزَّوْجِ وَانْعِقَادُ الْوَلَدِ مِنْهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ ذَاتِ الْحَمْلِ إِذَا الْتَعَنَ مِنْهَا أَنْ يَطَأَهَا فِي الزَّوْجِيَّةِ بَعْدَ وَضْعِ الْحَمْلِ فَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الْحَمْلُ الثَّانِي مِنْهُ وَلَا يَمْتَنِعُ مِنْ ذَاتِ الْوَلَدِ إِذَا الْتَعَنَ مِنْهَا أَنْ يَكُونَ قَدْ وَطِئَهَا فِي الزَّوْجِيَّةِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ ، فَلَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَكُونَ الْحَمْلُ الثَّانِي مِنْهُ ] فَلِهَذَيْنِ مَا فَرَّقْنَا فِي الثَّانِي بَيْنَ الْحَمْلَيْنِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَلَحِقَهُ الْوَلَدُ الثَّانِي وَلَمْ يَنْتَفِ مِنْهُ إِلَّا بِلِعَانٍ فَإِنِ الْتَعَنَ مِنْهُ احْتَاجَ فِيهِ إِلَى قَذْفٍ ثَانٍ ، لِأَنَّ الْقَذْفَ بِالزِّنَا الْأَوَّلِ قَدِ انْقَطَعَ مَاؤُهُ بِوِلَادَةِ الْأَوَّلِ فَصَارَ الْوَلَدُ الثَّانِي مِنْ مَاءٍ ثَانٍ فَاقْتَضَى أَنْ يُضَافَ فِي اللِّعَانِ إِلَى زِنًا ثَانٍ ، فَإِنْ لَمْ يَلْتَعِنْ مِنَ الثَّانِي لَحِقَ بِهِ دُونَ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُمَا مِنْ حَمْلَيْنِ وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ فِي الْحَمْلَيْنِ أَنْ يَكُونَا مِنَ اثْنَيْنِ . وَأَمَّا الْحَالُ الثَّالِثَةُ : وَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ لِأَرْبَعِ سِنِينَ فَصَاعِدًا مِنْ وَقْتِ لِعَانِهِ ، فَهُوَ مَنْفِيٌّ عَنْهُ بِغَيْرِ لِعَانٍ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ مِنْ إِصَابَتِهِ فِي الزَّوْجِيَّةِ قَبْلَ لِعَانِهِ لِتَجَاوُزِهِ مُدَّةَ أَكْثَرِ الْحَمْلِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِذَا وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ فِي بَطْنٍ فَأَقَرَّ بِأَحَدِهِمَا وَنَفَى الْآخَرَ فَهُمَا ابْنَاهُ ، وَلَا يَكُونُ حَمْلٌ وَاحِدٌ بِوَلَدَيْنِ إِلَّا مِنْ وَاحِدٍ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - : وَإِنْ كَانَ نَفْيُهُ بِقَذْفٍ لِأُمِّهِ فَعَلَيْهِ لَهَا الْحَدُّ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا وَلَدَتْ تَوْأَمَيْنِ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ ، أَوْ وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ مُتَفَرِّقَيْنِ بَيْنَهُمَا أَقَلُّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ، فَذَلِكَ سَوَاءٌ وَهُمَا مِنْ حَمْلٍ وَاحِدٍ لِاشْتِمَالِ الْبَطْنِ عَلَيْهِمَا ، فَإِنْ نَفَى أَحَدَهُمَا بِاللِّعَانِ وَاعْتَرَفَ بِالْآخَرِ ، أَوْ نَفَى أَحَدَهُمَا وَأَمْسَكَ عَنْ نَفْيِ الْآخَرِ فَذَلِكَ سَوَاءٌ وَهُمَا لَاحِقَانِ بِهِ ، لِأَنَّ الَّذِي اعْتَرَفَ بِهِ وَأَمْسَكَ عَنْ نَفْيِهِ لَاحِقٌ بِهِ ، وَهُوَ مِنْ حَمْلِ الْأَوَّلِ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَتْبَعَهُ الْأَوَّلُ فِي اللُّحُوقِ ، وَإِنْ نَفَى ؛ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْحَمْلَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ أَبٍ وَاحِدٍ ، فَصَارَ الْأَوَّلُ تَابِعًا لِلثَّانِي فِي الْإِقْرَارِ ، وَلَمْ يَصِرِ الثَّانِي تَابِعًا لِلْأَوَّلِ فِي الْإِنْكَارِ ، لِأَنَّ الشَّرِيكَ يَتَعَدَّى إِلَيْهِ الْإِقْرَارُ وَلَا يَتَعَدَّى إِلَيْهِ
الْإِنْكَارُ ؟ أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّ أَخَوَيْنِ ادَّعَيَا دَارًا وَرِثَاهَا عَنْ أَبِيهِمَا فَصَدَّقَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَحَدَهُمَا وَأَنْكَرَ الْآخَرَ ، فَكَانَ النِّصْفُ الْمُقَرُّ شِرْكَةً بَيْنَهُمَا فَتَعَدَّى الْإِقْرَارُ إِلَى الْمُكَذَّبِ وَلَمْ يَتَعَدَّ الْإِنْكَارُ إِلَى الْمُصَدَّقِ وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَجْهَيْنِ مَضَيَا .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الثَّانِيَ يَلْحَقُ بِهِ مَعَ الْأَوَّلِ من وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ فِي بَطْنٍ فَأَقَرَّ بِأَحَدِهِمَا وَنَفَى الْآخَرَ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ مُعْتَبَرٌ بِحَالَةِ اللُّحُوقِ ، فَإِنْ كَانَ لُحُوقُ الثَّانِي لِإِمْسَاكِهِ عَنْ نَفْيِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ فِي لُحُوقِهِمَا بِهِ حَدُّ الْقَذْفِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي إِمْسَاكِهِ تَكْذِيبُ الْقَذْفِ ، وَإِذَا كَانَ لُحُوقُ الثَّانِي لِاعْتِرَافٍ بِهِ وَقَدْ كَانَ قَالَ فِي لِعَانِهِ فِي نَفْيِ الْأَوَّلِ : إِنَّهُ مَنْ زَنَى وَجَبَ عَلَيْهِ إِذَا أَلْحَقْنَاهُمَا بِالِاعْتِرَافِ حَدُّ الْقَذْفِ لِمَا فِي الِاعْتِرَافِ بِأَحَدِهِمَا مِنْ تَكْذِيبِ نَفْسِهِ فِي قَذْفِهِمَا بِالَآخَرِ .
فَصْلٌ : وَإِذَا نَفَى بِاللِّعَانِ وَلَدَيْنِ تَوْأَمَيْنِ من وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ فِي بَطْنٍ فَأَقَرَّ بِأَحَدِهِمَا وَنَفَى الْآخَرَ انْتَفَى الْوَلَدُ عَنْهُ وَلَمْ يَنْتَفِيَا عَنْهُ فِي الْأُمِّ وَكَانَا مُلْحَقَيْنِ بِهَا دُونَهُ وَهَكَذَا تَوْأَمُ الزِّنَا يُلْحَقَانِ بِالزَّانِيَةِ دُونَ الزَّانِي ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَلَدَ مِنْ أُمِّهِ يَقِينًا وَمِنْ أَبِيهِ ظَنًّا ، فَرَفَعَ الشَّرْعُ حُكْمَ الظَّنِّ فِي الزَّانِي وَلَمْ يَرْفَعْ حُكْمَ الْيَقِينِ فِي الزَّانِيَةِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَرِثَا الْأُمَّ وَوَرِثَتْهُمَا وَلَمْ يَرِثَا الزَّانِيَ وَلَا الْمُلَاعِنَ وَلَمْ يَرِثَاهُمَا ، وَفِيمَا يَتَوَارَثُ بِهِ هَذَانِ التَّوْأَمَانِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : مِيرَاثُ أَخٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ لِعِلْمِنَا قَطْعًا أَنَّهُمَا مِنْ أَبٍ وَأُمٍّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُمَا يَتَوَارَثَانِ مِيرَاثَ أَخٍ لِأُمٍّ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا انْتَفَى أَنْ يَكُونَ لَهُمَا أَبٌ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَا أَخَوَيْنِ مِنْ أَبٍ وَصَارَا أَخَوَيْنِ مِنْ أُمٍّ ؛ لِأَنَّ لَهُمَا أُمًّا فَوَرِثَا بِالْأُمِّ لَمَّا وَرِثَاهَا ، وَلَمْ يَرِثَا بِالْأَبِ لَمَّا لَمْ يَرِثَاهُ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ تَوْأَمَ الْمُلَاعَنَةِ يَتَوَارَثَانِ مِيرَاثَ أَخٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ ، وَتَوْأَمَ الزِّنَا يَتَوَارَثَانِ مِيرَاثَ أَخٍ لِأُمٍّ ، لِأَنَّ تَوْأَمَ الْمُلَاعَنَةِ لَوِ اسْتَلْحَقَا صَارَا أَخَوَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ ، وَتَوْأَمَ الزِّنَا لَا يَصِيرَانِ بِالِاسْتِلْحَاقِ أَخَوَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَافْتَرَقَا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا ثُمَّ الْتَعَنَ نُفِيَ عَنْهُ الْحَيُّ وَالْمَيِّتُ ، وَلَوْ نَفَى وَلَدَهَا بِلِعَانٍ ثُمَّ وَلَدَتْ آَخَرَ بَعْدَهُ بِيَوْمٍ فَأَقَرَّ بِهِ لَزِمَاهُ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّهُ حَمْلٌ وَاحِدٌ وَحُدَّ لَهَا إِنْ كَانَ قَذَفَهَا ، وَلَوْ لَمْ يَنْفِهِ وُقِفَ ، فَإِنْ نَفَاهُ وَقَالَ : الْتِعَانِي الْأَوَّلُ يَكْفِينِي لِأَنَّهُ حَمْلٌ وَاحِدٌ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُ حَتَّى يَلْتَعِنَ مِنَ الْآخَرِ ( وَقَالَ ) بَعْضُ النَّاسِ : لَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ اللِّعَانِ لَاعَنَ وَلَزِمَهُ الْوَلَدَانِ وَهُمَا عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ حَمْلٌ وَاحِدٌ فَكَيْفَ يُلَاعِنُ وَيَلْزَمُهُ الْوَلَدُ ؟ قَالَ : مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ وَرِثَ الْمَيِّتَ قُلْتُ لَهُ : وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَرِثُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا مَاتَ الْوَلَدُ قَبْلَ الِالْتِعَانِ جَازَ أَنْ يَنْفِيَهُ بِاللِّعَانِ بَعْدَ مَوْتِهِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِذَا مَاتَ قَبْلَ اللِّعَانِ وَرِثَهُ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْفِيَهُ بِاللِّعَانِ بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : أَنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى حُكْمٍ اسْتَقَرَّ ذَلِكَ الْحُكْمُ بِمَوْتِهِ ، كَمَنْ مَاتَ عَبْدًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْتِقَ بَعْدَ مَوْتِهِ ، أَوْ مَاتَ كَافِرًا لَمْ يَصِرْ مُسْلِمًا بَعْدَ مَوْتِهِ ، كَذَلِكَ هَذَا الْوَلَدُ مَاتَ ابْنًا فَلَمْ تَرْتَفِعْ بُنُوَّتُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ بِالْمَوْتِ قَدْ صَارَ وَارِثًا لَهُ وَمِيرَاثُهُ اعْتِرَافٌ بِهِ ، وَالْمُعْتَرِفُ بِالْوَلَدِ لَا يَجُوزُ لَهُ نَفْيُهُ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْتَفِعَ بِاللِّعَانِ فِرَاشُ زَوْجَتِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْفِيَ بِهِ نَسَبَ وَلَدِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ . وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّ نَسَبَ الْحَيِّ أَقْوَى مِنْ نَسَبِ الْمَيِّتِ . فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَنْفِيَ بِاللِّعَانِ أَقْوَى النَّسَبَيْنِ كَانَ أَنْ يَنْفِيَ أَضْعَفَهُمَا أَوْلَى . لِأَنَّ الدَّاعِيَ إِلَى نَفْيِهِ فِي الْحَيَاةِ أَمْرَانِ : أَنْ لَا يَنْتَسِبَ إِلَيْهِ ، وَأَنْ لَا يَلْزَمَهُ مُونَتُهُ ، وَهَذَانِ مَوْجُودَانِ بَعْدَ الْمَوْتِ كَوُجُودِهِمَا قَبْلَهُ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَسْتَوِيَ الْحَالَانِ فِي نَفْيِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَلْحَقَ بِهِ النَّسَبُ [ يَوْمَ ] الْمَوْتِ جَازَ أَنْ يُنْفَى عَنْهُ بَعْدَ الْمَوْتِ لِيَسْتَوِيَ حُكْمُ اللُّحُوقِ وَالنَّفْيِ بَعْدَ الْمَوْتِ كَمَا اسْتَوَيَا قَبْلَهُ ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ إِلَى الْمَوْتِ يَمْنَعُ مِنَ ارْتِفَاعِهِ بَعْدَهُ كَالْكُفْرِ وَالرِّقِّ فِيمَا تَقَدَّمَهُمَا ، فَذَلِكَ مَا اسْتَقَرَّ بِالْمَوْتِ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ بَعْدَهُ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ نَفْيُ النَّسَبِ لِأَنَّهُ يُوجِبُ ارْتِفَاعَهُ مِنْ أَصْلِهِ وَلَا يَثْبُتُ لَهُ فِيمَا بَعْدُ عَنِ النَّسَبِ ، فَجَازَ أَنْ يَنْفِيَهُ لِيَرْتَفِعَ قَبْلَ الْمَوْتِ وَبَعْدَهُ ، وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عَنْ رَفْعِ الْفِرَاشِ بِاللِّعَانِ ، أَنَّهُ رَافِعٌ فِي الْحَالِ مَعَ ثُبُوتِهِ مِنْ قَبْلُ وَقَدِ ارْتَفَعَ بِالْمَوْتِ ، فَلَمْ يَبْقَ لِرَفْعِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ تَأْثِيرٌ بِخِلَافِ النِّسَبِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْمِيرَاثِ فَهُوَ عِنْدَنَا غَيْرُ وَارِثٍ إِذَا الْتَعَنَ مِنْهُ ، فَلَمْ يَسْلَمْ لَهُمُ الِاسْتِدْلَالُ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا فَكَانَا وَلَدَيْنِ الْتَعَنَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَنَفَاهُ وَمَاتَ الْآخَرُ قَبْلَ نَفْيِهِ ، فَإِنَّ الْتِعَانَهُ مِنَ الْحَيِّ لَا يَقْتَضِي نَفْيَ الْمَيِّتِ عَنْهُ حَتَّى يُلَاعِنَ مِنْهُ ، فَإِنْ لَمْ يَلْتَعِنْ مِنْهُ لَحِقَ بِهِ الْمَيِّتُ وَالْحَيُّ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ حَمْلٍ وَاحِدٍ ، وَإِنِ الْتَعَنَ مِنْهُ انْتَفَيَا عَنْهُ بِلِعَانَيْنِ ، وَلَا يَحْتَاجُ فِي اللِّعَانِ الثَّانِي إِلَى قَذْفٍ يَتَقَدَّمُهُ ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ حَمْلٍ قَدْ تَقَدَّمَ الْقَذْفُ لَهُ وَمَاؤُهُ وَاحِدٌ فَافْتَقَرَ إِلَى قَذْفٍ وَاحِدٍ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُلَاعِنُ مِنَ الْمَيِّتِ وَيَلْحَقُ بِهِ الْحَيُّ وَالْمَيِّتُ لِأَنَّهُمَا مِنْ حَمْلٍ وَاحِدٍ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَقَالَ أَيْضًا - يَعْنِي أَبَا حَنِيفَةَ - : لَوْ نَفَاهُ بِلِعَانٍ وَمَاتَ الْوَلَدُ فَادَّعَاهُ الْأَبُ ضُرِبَ الْحَدَّ وَلَمْ يَثْبُتِ النَّسَبُ ، فَإِنْ كَانَ الِابْنُ الْمَنْفِيُّ تَرَكَ وَلَدًا حُدَّ أَبُوهُ وَثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ وَوَرِثَهُ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - : وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ تَرَكَ وَلَدًا أَوْ لَمْ يَتْرُكْهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْوَلَدَ الْمَنْفِيَّ إِذَا مَاتَ مَنْفِيَّ النَّسَبِ ثُمَّ أَقَرَّ بِهِ لَمْ يَعُدْ إِلَى النَّسَبِ ؛ لِأَنَّهُ فَارَقَ الْحَيَاةَ بِحَالٍ فَلَا يَنْتَقِلُ عَنْهَا ، وَكَذَلِكَ ابْنُ الْنَّفْيِ فِي مَعْنَى الْمَنْفِيِّ ، وَهُوَ لَا يَكُونُ ابْنًا بِنَفْسِهِ ، فَكَيْفَ يَكُونُ ابْنَهُ بِالْوَلَدِ الْمَنْفِيِّ الَّذِي قَدِ انْقَطَعَ نَسَبُ الْحَيِّ مِنْهُ ، وَالَّذِي يَنْقَطِعُ بِهِ نَسَبُ الْحَيِّ يَنْقَطِعُ بِهِ نَسَبُ الْمَيِّتِ ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُمَا وَاحِدٌ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - : وَلَوْ قُتِلَ وَقُسِّمَتْ دِيَتُهُ ثُمَّ أَقَرَّ بِهِ لَحِقَهُ وَأَخَذَ حِصَّتَهُ مِنْ دِيَتِهِ وَمِنْ مَالِهِ ؛ لِأَنَّ أَصْلَ أَمْرِهِ أَنَّ نَسَبَهُ ثَابِتٌ ، وَإِنَّمَا هُوَ مَنْفِيٌّ مَا كَانَ أَبُوهُ مُلَاعِنًا مُقِيمًا عَلَى نَفْيِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِيمَنْ نَفَى وَلَدَهُ بِاللِّعَانِ ثُمَّ مَاتَ الْوَلَدُ فَاعْتَرَفَ بِهِ وَاسْتَلْحَقَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ - هَلْ يَلْحَقُ بِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - أَنَّهُ يَلْحَقُ بِهِ إِذَا اسْتَلْحَقَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ سَوَاءٌ تَرَكَ وَلَدًا أَوْ لَمْ يَتْرُكْ ، غَنِيًّا مَاتَ أَوْ فَقِيرًا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ تَرَكَ الْمَنْفِيُّ وَلَدًا أُلْحِقَ بِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ وَلَدًا لَمْ يُلْحَقْ بِهِ . وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ مَاتَ غَنِيًّا ذَا مَالٍ لَحِقَ بِهِ ، وَإِنْ مَاتَ فَقِيرًا لَمْ يُلْحَقْ بِهِ ، وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ إِذَا لَمْ يَتْرُكْ وَلَدًا بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ : أَحَدُهَا : بِأَنَّهُ قَدِ انْقَطَعَتْ بِالْمَوْتِ أَسْبَابُهُ فَصَارَ قَطْعًا لِاسْتِلْحَاقِهِ ، وَهُوَ بَاقِي الْأَسْبَابِ بِالْوَلَدِ فَبَقِيَ حُكْمُ اسْتِلْحَاقِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ بِعَدَمِ الْوَلَدِ مُتَّهَمٌ بِالِاسْتِلْحَاقِ فِي إِجَازَةِ الْمِيرَاثِ فَرَدَّ إِقْرَارَهُ بِالتُّهْمَةِ وَمَعَ وُجُودِ الْوَلَدِ غَيْرُ [ مُتَّهَمٍ ] فَلَزِمَ إِقْرَارُهُ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ فِي اسْتِلْحَاقِ النَّسَبِ حَقَّانِ : أَحَدُهُمَا لَهُ وَالْآخَرُ عَلَيْهِ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَتَّصِلَ بِحَيٍّ يَثْبُتُ لَهُ مِنْ حَقِّ الِاسْتِلْحَاقِ مِثْلُ مَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ . وَاسْتَدَلَّ مَالِكٌ بِأَنَّ مَوْتَ الْغَنِيِّ بَاقِي الْعَلَقِ ، فَكَانَ لِاسْتِلْحَاقِهِ تَأْثِيرٌ فَثَبَتَ ، وَمَوْتَ الْفَقِيرِ مُنْقَطِعُ الْعَلَقِ ، فَلَمْ يَبْقَ لِاسْتِلْحَاقِهِ تَأْثِيرٌ فَلَمْ يَثْبُتْ .
وَدَلِيلُنَا : أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِاسْتِلْحَاقِ نَسَبِهِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقِّ الْوَلَدِ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مَقْبُولَ الِاعْتِرَافِ فِي الْحَيَاةِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ ، لِأَنْ لَا يَكُونَ عَلَى الْجُحُودِ مُصِرًّا وَلِلْوَعِيدِ مُسْتَحِقًّا ، وَقَدْ يَتَحَرَّرُ مِنْ مَعْنَى هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ اسْتِلْحَاقٌ يَثْبُتُ بِهِ نَسَبُ الْحَيِّ ، فَوَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ نَسَبُ الْمَيِّتِ ؛ كَالَّذِي تَرَكَ وَلَدًا مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَكَالْغَنِيِّ مَعَ مَالِكٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ اسْتِلْحَاقٌ يَثْبُتُ بِهِ نَسَبُ ذِي الْوَلَدِ فَوَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ نَسَبُ الْأَبِ مَنْ نَسَبَ غَيْرِ ذِي الْوَلَدِ الْحَيِّ ، وَلِأَنَّ نَسَبَ الْوَلَدِ مَأْخُوذٌ مَنْ نَسَبَ الْأَبِ فَلَا يُؤْخَذُ مَنْ نَسَبَ الْوَلَدَ ، لِأَنَّ الْفُرُوعَ تُرَدُّ إِلَى أُصُولِهَا ، وَلَا تُرَدُّ الْأُصُولُ إِلَى فُرُوعِهَا ، وَأَبُو حَنِيفَةَ عَكَسَ فِيهِمَا أُصُولَ الشَّرْعِ فَجَعَلَ نَسَبَ الْأَبِ مَأْخُوذًا مِنْ نَسَبِ الْوَلَدِ ، وَلَمْ يَجْعَلْ نَسَبَ الْوَلَدِ مَأْخُوذًا مِنْ نَسَبِ الْأَبِ ، وَمَا انْعَكَسَتْ بِهِ أُصُولُ الشَّرْعِ كَانَ مَدْفُوعًا ، وَبِمْثِلِهِ يَنْدَفِعُ قَوْلُ مَالِكٍ فِي اعْتِبَارِ الْمَالِ ، وَلِأَنَّ الْمَنْعَ مِنَ اسْتِلْحَاقِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ لِأَجْلِ الْمَوْتِ ، أَوْ لِأَجْلِ التُّهْمَةِ ، فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ لِأَجْلِ الْمَوْتِ لِجَوَازِ اسْتِلْحَاقِهِ مَعَ الْوَلَدِ وَالْمَوْتُ مَوْجُودٌ ، وَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ لِأَجْلِ التُّهْمَةِ فِي الْمِيرَاثِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ مَاتَ فَقِيرًا لَمْ يَلْحَقْ بِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَتْهُومٍ وَتَرَكَ وَلَدًا لَا يَرْثُ لِرِقٍّ أَوْ كُفْرٍ أَلْحَقُوهُ بِهِ وَإِنْ كَانَ مَتْهُومًا ، وَإِذَا بَطَلَ تَعْلِيقُ الْمَنْعِ بِوَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ ثَبَتَ تَسَاوِي حُكْمِهِ فِي الْحَيَاةِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِقَطْعِ الْأَسْبَابِ مَعَ عَدَمِ الْوَلَدِ وَبَقَائِهَا مَعَ وُجُودِهِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْأَسْبَابَ بَاقِيَةٌ مَعَ عَدَمِ الْوَلَدِ كَبَقَائِهَا مَعَ وُجُودِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَعَلَّقَ بِالْأَسْبَابِ مِنَ الْحُقُوقِ لَهَا وَعَلَيْهَا مِنْ تَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ وَغَيْرِهِ مَا لَا يَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ وَإِنِ انْقَطَعَ بِهَا الْحُقُوقُ الْمُسْتَقْبَلَةُ لَمْ تُقْطَعْ بِهَا الْحُقُوقُ الْمَاضِيَةُ ، وَإِنِ انْقَطَعَ بِهَا حَقُّ الْآدَمِيِّ لَمْ يَنْقَطِعْ بِهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالتُّهْمَةِ فَقَدْ أَبْطَلْنَا أَنْ تَكُونَ عَلَيْهِ ، وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِأَنَّ وُجُودَ الْوَلَدِ يَجْمَعُ حَقَّيِ النَّسَبِ وَيُعْدَمَانِ بِفَقْدِهِ ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَدْ يَتَعَلَّقُ بِالنَّسَبِ أَحْكَامٌ سِوَى أَحْكَامِ الْوَلَدِ فَلَمْ تَسْقُطْ بِعَدَمِ الْوَلَدِ . وَالثَّانِي : أَنَّ حُكْمَ النَّسَبِ مَعَ وُجُودِ الْوَلَدِ أَغْلَظُ وَمَعَ عَدَمِهِ أَخَفُّ . فَلَمَّا ثَبَتَ النَّسَبُ فِي أَغْلَظِ حَالَيْهِ كَانَ ثُبُوتُهُ فِي أَخَفِّهِمَا أَوْلَى .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ ثُبُوتِ نَسَبِهِ مَعَ وُجُودِ الْوَلَدِ وَعَدَمِهِ ، فَلَهُ مِيرَاثُهُ بِالْأُبُوَّةِ اللعان بين الزوجين سَوَاءٌ حَجَبَ الْوَارِثَ أَوْ شَارَكَهُ بَاقِيَهُ كَانَتِ التَّرِكَةُ أَوْ مَقْسُومُهُ ، وَلَوْ كَانَ الِابْنُ قَدْ مَاتَ قَتِيلًا ، وَرِثَ الْأَبُ مَالَهُ وَدِيَتَهُ ، وَجَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ مَنْ لَمْ يَزَلْ ثَابِتَ النَّسَبِ مَنْ وَقْتِ الْوِلَادَةِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : يَا زَانِيَةُ ، فَقَالَتْ : زَنَيْتُ بِكَ ، وَطَلَبَا جَمِيعًا مَا لَهُمَا سَأَلْنَا ، فَإِنْ قَالَتْ : عَنَيْتُ أَنَّهُ أَصَابَنِي وَهُوَ زَوْجِي أُحُلِفَتْ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا وَيَلْتَعِنُ أَوْ يُحَدُّ ، وَإِنْ قَالَتْ : زَنَيْتُ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَنْكِحَنِي فَهِيَ قَاذِفَةٌ لَهُ وَعَلَيْهَا الْحَدُّ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهَا مُقِرَّةٌ لَهُ بِالزِّنَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا قَوْلُهُ لَهَا مُبْتَدِئًا : يَا زَانِيَةُ ، فَهُوَ قَذْفٌ لَهَا صَرِيحٌ لَا يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى إِرَادَتِهِ ، وَأَمَّا قَوْلُهَا لَهُ فِي جَوَابِ قَذْفِهَا لَهُ : زَنَيْتُ بِكَ ، فَهُوَ مُحْتَمِلٌ إِذَا كَانَ جَوَابًا ، فَلَمْ يَكُنْ قَذْفًا صَرِيحًا إِلَّا أَنْ تُرِيدَ بِهِ الْقَذْفَ ، وَالَّذِي يَحْتَمِلُهُ هَذَا الْجَوَابُ أَحَدُ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ ذَكَرَ مِنْهَا الشَّافِعِيُّ اثْنَيْنِ ، وَأَغْفَلَ الثَّالِثَ : أَحَدُهَا : أَنْ تُرِيدَ إِقْرَارَهَا بِالزِّنَا وَقَذْفَهَا لَهُ . وَالثَّانِي : أَنْ تُرِيدَ إِقْرَارَهَا بِالزِّنَا وَلَا تُرِيدَ قَذْفَهُ بِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ تُرِيدَ قَذْفَهُ بِالزِّنَا وَلَا تُرِيدَ إِقْرَارَهَا بِهِ . وَالرَّابِعُ : أَنْ لَا تُرِيدَ قَذْفَهُ وَلَا إِقْرَارَهَا بِهِ . فَأَمَّا الْأَوَّلُ : وَهُوَ أَنْ تُرِيدَ إِقْرَارَهَا بِالزِّنَا وَقَذْفَهُ بِهِ ، فَهُوَ أَنْ تَقُولَ : أَرَدْتُ بِهِ أَنَّهُ زَنَى بِي قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَنِي ، فَكُنْتُ زَانِيَةً بِهِ وَكَانَ زَانِيًا بِي ، فَهَذَا الْبَيَانُ هُوَ أَغْلَظُ أَحْوَالِهِمَا فِي حَقِّهَا وَحَقِّ الزَّوْجِ ، فَعَلَيْهَا حَدَّانِ : أَحَدُهُمَا : حَدُّ الزِّنَا لِإِقْرَارِهَا بِهِ ، وَهُوَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى لَا تُرَاعَى فِيهِ الْمُطَالَبَةُ . وَالثَّانِي : حَدُّ الْقَذْفِ لِلزَّوْجِ ، لِأَنَّهَا قَاذِفَةٌ لَهُ . وَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِطَلَبِهِ ، وَقَدْ سَقَطَ عَنِ الزَّوْجِ حَدُّ الْقَذْفِ بِتَصْدِيقِهَا لَهُ ، وَإِذَا وَجَبَ الْحَدَّانِ عَلَيْهَا لَمْ يَتَدَاخَلَا ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ : الْمُوجِبُ وَالْحُكْمُ ، وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنَ اجْتِمَاعِهِمَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنْ لَا يُجْمَعَ فِي السَّرِقَةِ بَيْنَ الْقَطْعِ وَالْغُرْمِ ، وَنَحْنُ نُجْرِيهِ عَلَى أَصْلِنَا فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْقَطْعِ وَالْغُرْمِ وَإِنْ كَانَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ حَدِّ الزِّنَا وَالْقَذْفِ نَصٌّ ، وَهُوَ مَا رُوِيَ : أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ قَائِمًا يَخْطُبُ فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ فَقَالَ : إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : اقْعُدْ ، حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثًا ، فَقَالَ لَهُ : مَاذَا فَعَلْتَ ؟ فَقَالَ : زَنَيْتُ بِبِنْتِ امْرَأَتِي ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُمَرَ وَعَلِيًّا وَزَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ أَنْ يُقِيمُوا عَلَيْهِ حَدَّ الزِّنَا ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى بِنْتِ امْرَأَتِهِ وَسَأَلَهَا فَقَالَتْ : مَا زَنَيْتُ ، فَأَمَرَ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ ، فَجَمَعَ عَلَيْهِ الْحَدَّيْنِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ تُرِيدَ إِقْرَارَهَا بِالزِّنَا وَلَا تُرِيدَ قَذْفَهُ بِالزِّنَا ، فَهُوَ أَنْ تَقُولَ : أَرَدْتُ أَنِّي زَنَيْتُ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَزَوَّجَنِي وَهُوَ لَا يَعْلَمُ ، إِمَّا بِأَنْ تَقُولَ : اسْتَدْخَلْتُ ذَكَرَهُ وَهُوَ نَائِمٌ ، أَوْ نِمْتُ عَلَى فِرَاشِهِ فَوَطِئَنِي وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِي ، فَكُنْتُ زَانِيَةً بِهِ وَلَمْ يَكُنْ زَانِيًا بِي ، فَهَذَا الْبَيَانُ أَغْلَظُ الْأَحْوَالِ فِي حَقِّهَا وَأَخَفُّهَا فِي حَقِّ الزَّوْجِ فَعَلَيْهَا
حَدُّ الزِّنَا ، وَلَيْسَ عَلَيْهَا حَدُّ الْقَذْفِ ، وَقَدْ سَقَطَ بِهِ عَنِ الزَّوْجِ حَدُّ الْقَذْفِ ، فَإِنِ ادَّعَى الزَّوْجُ أَنَّهَا أَرَادَتْ قَذْفَهُ أَحْلَفَهَا أَنَّهَا مَا أَرَادَتْهُ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ تُرِيدَ قَذْفَهُ بِالزِّنَا وَلَا تُرِيدَ إِقْرَارَهَا بِهِ من قَالَ لِامْرَأَتِهِ : يَا زَانِيَةُ ، فَقَالَتْ : زَنَيْتُ بِكَ ، فَهُوَ أَنْ تَقُولَ : زَنَى بِي قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَنِي وَأَنَا نَائِمَةٌ أَوْ مُسْتَكْرَهَةٌ ، فَهُوَ زَانٍ بِي وَأَنَا غَيْرُ زَانِيَةٍ بِهِ ، فَهَذَا الْبَيَانُ أَخَفُّ الْأَحْوَالِ فِي حَقِّهَا وَأَغْلَظُهَا فِي حَقِّ الزَّوْجِ ، فَعَلَيْهَا حَدُّ قَذْفِهِ ، وَعَلَيْهِ حَدُّ قَذْفِهَا ، وَلَا قِصَاصَ فِي الْحَدَّيْنِ ، وَلَهُ إِسْقَاطُ حَدِّ الْقَذْفِ عَنْ نَفْسِهِ بِاللِّعَانِ ، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهَا حَدُّ الْقَذْفِ بِلِعَانِهَا ، فَإِنْ أَكْذَبَهَا عَلَى أَنَّهَا لَمْ تُرِدِ الْإِقْرَارَ بِالزِّنَا أَحْلَفَهَا أَنَّهَا لَمْ تُرِدْهُ ، لِمَا يَتَعَلَّقُ مِنْ سُقُوطِ حَدِّ قَذْفِهَا عَنْهُ بِغَيْرِ لِعَانٍ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْوَجْهُ الرَّابِعُ : وَهُوَ أَنْ تُرِيدَ لَا إِقْرَارًا بِالزِّنَا وَلَا قَذْفَهُ من قَالَ لِامْرَأَتِهِ : يَا زَانِيَةُ ، فَقَالَتْ : زَنَيْتُ بِكَ ، فَهُوَ أَنْ تَقُولَ : أَرَدْتُ أَنَّهُ أَصَابَنِي بَعْدَ أَنْ تَزَوَّجَنِي فَإِنْ كُنْتُ زَانِيَةً فِيهِ زَنَيْتُ ، فَهَذَا أَخَفُّ أَحْوَالِهَا فِي حَقِّهَا وَحَقِّ الزَّوْجِ ، فَيَكُونُ قَوْلُهَا فِي الْأَمْرَيْنِ مَقْبُولًا ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا حَدُّ الزِّنَا وَلَا حَدُّ الْقَذْفِ ، لِأَنَّ الْجَوَابَ قَدْ يَخْرُجُ فِي مُقَابَلَةِ اللَّفْظِ بِمِثْلِهِ وَيُخَالِفُهُ فِي حُكْمِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [ الشُّورَى : ] . وَالِابْتِدَاءُ سَيِّئَةٌ وَالْجَزَاءُ لَيْسَ بِسَيِّئَةٍ ، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى : وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [ آلِ عِمْرَانَ : ] . فَالِابْتِدَاءُ مَكْرٌ وَالْجَزَاءُ لَيْسَ بِمَكْرٍ ، وَلِأَنَّ خُرُوجَ الْجَوَابِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَدْ يَكُونُ نَفْيًا لِمَا تَضَمَّنَهُ الِابْتِدَاءُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ صَاحِبِهِ ، وَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ : مَا زَنَيْتُ إِلَّا بِكَ ، فَلَمَّا لَمْ تَكُنْ زَانِيًا لَمْ أَكُنْ زَانِيَةً ، كَقَوْلِ الرَّجُلِ لِصَاحِبِهِ : دَخَلْتَ الدَّارَ ؟ فَيَقُولُ : مَا دَخَلْتُهَا إِلَّا مَعَكَ ، يُرِيدُ أَنَّكَ لَمَّا لَمْ تَدْخُلِ الدَّارَ ، لَمْ أَدْخُلْهَا ، فَثَبَتَ بِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ فَرْقُ مَا بَيْنَ الِابْتِدَاءِ وَالْجَوَابِ ، وَلِأَجْلِهِمَا جَعَلْنَا الِابْتِدَاءَ صَرِيحًا ، وَالْجَوَابَ كِنَايَةً ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ، كَانَ قَوْلُهُمَا فِي الْأَمْرَيْنِ مَقْبُولًا ، وَإِنْ كَانَ أَخَفَّ أَحْوَالِهَا ، ثُمَّ يَنْظُرُ فِي حَالِ الزَّوْجِ فَلَهُ فِيمَا بَيْنَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُصَدِّقَهَا فِي الْأَمْرَيْنِ أَنَّهَا مَا أَرَادَتْ إِقْرَارًا بِالزِّنَا وَلَا قَذْفَهُ بِهِ ، فَلَا يَمِينَ لَهُ عَلَيْهَا ، وَلَا يَلْزَمُهَا حَدُّ قَذْفٍ وَلَا زِنًا ، وَعَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ لَهَا ، إِمَّا أَنْ يُلَاعِنَ [ فَإِنْ لَاعَنَ سَقَطَ حَدُّ الْقَذْفِ عَنْهُ وَوَجَبَ حَدُّ الزِّنَا عَلَيْهَا إِلَّا أَنْ تُلَاعِنَ ] ، فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ يَلْتَعِنُ مِنْهَا وَقَدْ صَدَّقَهَا ، قِيلَ : إِنَّمَا صَدَّقَهَا عَلَى أَنْ لَمْ تُقِرَّ بِالزِّنَا ، وَلَمْ يُصَدِّقْهَا عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَزْنِ ؛ فَلِذَلِكَ الْتَعَنَ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُكَذِّبَهَا فِي الْأَمْرَيْنِ وَيَقُولَ : بَلْ أَرَدْتِ إِقْرَارًا بِالزِّنَا وَقَذْفِي بِهِ . فَلَهُ إِحْلَافُهَا عَلَى الْأَمْرَيْنِ . أَمَّا الزِّنَا فَيَحْلِفُ أَنَّهَا مَا أَرَادَتِ الْإِقْرَارَ بِالزِّنَا ، وَلَا تَحْلِفُ
أَنَّهَا مَا زَنَتْ ، وَتَكُونُ يَمِينَهَا فِي حَقِّ الزَّوْجِ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ سُقُوطِ حَدِّ الْقَذْفِ عَنْهُ لَا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، لِأَنَّ مُنْكِرَ الزِّنَا لَا تَجِبُ [ عَلَيْهِ الْيَمِينُ ] . وَأَمَّا الْقَذْفُ فَتَحْلِفُ بِاللَّهِ أَنَّهَا مَا أَرَادَتْ قَذْفَهُ ، وَلَا تَحْلِفُ أَنَّهَا قَذَفَتْهُ ، وَهَلْ يَلْزَمُهَا فِي الْأَمْرَيْنِ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ أَوْ يَمِينَانِ ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَمِينٌ وَاحِدَةٌ لِتَعَلُّقِ الْحَقِّ فِيهَا بِشَخْصٍ وَاحِدٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَمِينَانِ ، لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمًا يُخَالِفُ حُكْمَ الْآخَرِ ، فَإِنْ حَلَفَتْ عَلَى الْأَمْرَيْنِ سَقَطَ عَنْهَا حَدُّ الزِّنَا وَحَدُّ الْقَذْفِ كَمَا لَوْ صَدَّقَهَا ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ لَهَا إِلَّا أَنْ يُلَاعِنَهَا ، وَإِنْ نَكَلَتْ عَنِ الْيَمِينِ فِي الْأَمْرَيْنِ أُحْلِفَ الزَّوْجُ عَلَيْهَا أَنَّهَا أَرَادَتِ الْإِقْرَارَ بِالزِّنَا وَأَرَادَتْ قَذْفَهُ بِالزِّنَا ، وَهَلْ يَحْلِفُ يَمِينًا أَوْ يَمِينَيْنِ عَلَى مَا مَضَى مِنَ احْتِمَالِ الْوَجْهَيْنِ ؟ فَإِذَا حَلَفَ وَسَقَطَ عَنْهُ حَدُّ قَذْفِهَا وَوَجَبَ عَلَيْهَا حَدُّ قَذْفِهِ وَلَمْ تُحَدَّ لِلزِّنَا ؛ لِأَنَّهَا لَا تُحَدُّ فِي الزِّنَا بِيَمِينِ غَيْرِهَا . وَإِنَّمَا كَانَتْ يَمِينُ الزَّوْجِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ مِنْ أَحْوَالِ الزَّوْجِ : أَنْ يُصَدِّقَهَا عَلَى أَنَّهَا لَمْ تُرِدِ الْإِقْرَارَ بِالزِّنَا ، وَيُكَذِّبَهَا فِي أَنَّهَا لَمْ تُرِدْ قَذْفَهُ بِالزِّنَا ، فَيُحَلِّفُهَا أَنَّهَا لَمْ تُرِدْ قَذْفَهُ ، فَإِذَا حَلَفَتْ فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا لِقَذْفٍ وَلَا زِنًا ، وَعَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ لَهَا إِلَّا أَنْ يَلْتَعِنَ ، وَإِنْ نَكَلَتْ حَلَفَ وَحُدَّتْ لَهُ حَدَّ الْقَذْفِ ، وَكَانَ لَهَا عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ إِلَّا أَنْ يَلْتَعِنَ . وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يُكَذِّبَهَا عَلَى أَنَّهَا لَمْ تُرِدِ الْإِقْرَارَ بِالزِّنَا وَيُصَدِّقَهَا عَلَى أَنَّهَا لَمْ تُرِدْ قَذْفَهُ بِالزِّنَا ، فَلَهُ إِحْلَافُهَا أَنَّهَا لَمْ تُرِدِ الْإِقْرَارَ بِالزِّنَا ، فَإِذَا حَلَفَتْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَدُّ قَذْفِهَا إِلَّا أَنْ يَلْتَعِنَ ، وَإِنْ نَكَلَتْ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يَحْلِفَ فَيَسْقُطَ عَنْهُ حَدُّ الْقَذْفِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا حَدُّ الزِّنَا ، وَبَيْنَ أَنْ يَلْتَعِنَ فَيَسْقُطَ عَنْهُ حَدُّ الْقَذْفِ وَيَجِبَ عَلَيْهَا حَدُّ الزِّنَا إِلَّا أَنْ يَلْتَعِنَ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَتْ لَهُ : بَلْ أَنْتَ أَزْنَى مِنِّي كَانتْ قَالَتْ ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِالْقَذْفِ إِذَا لَمْ تُرِدْ بِهِ قَذْفًا وَعَلَيْهِ الْحَدُّ أَوِ اللِّعَانُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا أَنْ يَقُولَ : يَا زَانِيَةُ ، فَتَقُولُ لَهُ : أَنْتَ أَزْنَى مِنِّي ، فَمَا ابْتَدَأَهَا بِهِ قَذْفٌ صَرِيحٌ يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ إِلَّا أَنْ يُلَاعِنَ ، وَمَا أَجَابَتْهُ بِهِ كِنَايَةٌ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى إِرَادَتِهَا كَالَّذِي تَقَدَّمَ . وَقَالَ مَالِكٌ : هُوَ قَذْفٌ صَرِيحٌ يُوجِبُ الْحَدَّ ، وَبَنَى ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ مَعَارِيضَ الْقَذْفِ قَذْفٌ كَالصَّرِيحِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ سَوَّى بَيْنَ صَرِيحِ اللَّفْظِ وَكِنَايَتِهِ وَقَدْ فَرَّقَ الشَّرْعُ بَيْنَهُمَا .
وَالثَّانِي : أَنْ مَعَارِيضَ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا لَا تَكُونُ كَصَرِيحِ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا ، فَكَذَلِكَ مَعَارِيضُ الْقَذْفِ بِهِ ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْجَوَابُ قَذْفًا بِالزِّنَا لَكَانَ إِقْرَارًا بِالزِّنَا ؛ لِأَنَّ قَوْلَهَا : أَزْنَى مِنِّي يُوجِبُ اشْتِرَاكَهُمَا فِي الزِّنَا وَأَنْ يَكُونَ هَذَا أَبْلَغَ فِي الزِّنَا عَمَلًا ، وَهَكَذَا يَكُونُ حَالُ الزَّانِي وَالزَّانِيَةِ ؛ لِأَنَّ الزَّانِيَ فَاعِلٌ وَالزَّانِيَةَ مُمَكِّنَةٌ ، وَمَالِكٌ لَا يَجْعَلُهَا مُقِرَّةً فَلَزِمَهُ أَنْ لَا يَجْعَلَهَا قَاذِفَةً .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهَا : أَنْتَ أَزْنَى مِنِّي كِنَايَةٌ إِذَا كَانَ جَوَابًا ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ مَا وَطِئَنِي غَيْرُكَ ، فَإِنْ كُنْتُ زَانِيَةً فَأَنْتَ أَزْنَى مِنِّي ؛ لِأَنَّكَ فَاعِلٌ وَأَنَا مُمَكِّنَةٌ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الِابْتِدَاءِ بِهَذَا الْقَوْلِ : هَلْ يَكُونُ كِنَايَةً كَالْجَوَابِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ كِنَايَةً كَالْجَوَابِ ، لِأَنَّ أَزْنَى صِفَةٌ فَاسْتَوَى فِي الِابْتِدَاءِ وَالْجَوَابِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْقَاسِمِ الدَّارَكِيِّ أَنَّهُ يَكُونُ قَذْفًا صَرِيحًا فِي الِابْتِدَاءِ وَكِنَايَةً فِي الْجَوَابِ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ فِي الْجَوَابِ رَدًّا ، وَفِي الِابْتِدَاءِ جَرْحًا ، كَمَا يَكُونُ قَوْلُهَا : زَنَيْتُ بِكَ فِي الْجَوَابِ كِنَايَةً ، وَفِي الِابْتِدَاءِ صَرِيحًا ، وَكَذَلِكَ هَذَا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ أَزْنَى مِنْ فُلَانَةَ أَوْ أَزْنَى النَّاسِ لَمْ يَكُنْ هَذَا قَذْفًا إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ قَذْفًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَاتَانِ مَسْأَلَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَقُولَ : أَنْتِ أَزْنَى مِنْ فُلَانَةَ هل يكون قذفا . قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَمْ يَكُنْ قَذْفًا إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ قَذْفًا فَجَعَلَهُ مِنْ أَلْفَاظِ الْكِنَايَاتِ فِي زَوْجَتِهِ وَفِي فُلَانَةٍ الْمُشَبِّهِ بِهَا ، وَتَابَعَهُ أَصْحَابُنَا عَلَى هَذَا الْجَوَابِ . وَقَالُوا : يُسْأَلُ الزَّوْجُ وَيَنْوِي ، فَإِنْ قَالَ : أَرَدْتُ أَنَّكِ أَزْنَى مِنْ فُلَانَةَ الزَّانِيَةِ كَانَ قَاذِفًا لَهَا وَلِفُلَانَةَ وَعَلَيْهِ لَهُمَا حَدَّانِ ، وَلَإِنْ قَالَ : أَرَدْتُ أَنَّكِ أَزْنَى مِنْ فُلَانَةَ ، وَلَيْسَتْ فُلَانَةُ زَانِيَةً ، لَمْ يَكُنْ قَذْفًا لَهُمَا جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ التَّشَبُّهَ يَقْتَضِي تَسَاوِيَهُمَا فِي الصِّفَةِ وَقَدْ نَفَى الزِّنَا عَنْ فُلَانَةَ فَصَارَ مَنْفِيًّا عَنِ الزَّوْجَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِرَادَةٌ لَمْ يَكُنْ قَذْفًا ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْكِنَايَةِ الْمَنَوِيَّ فِيهِ يَسْقُطُ حُكْمُهُ مَعَ عَدَمِ النِّيَّةِ ، فَهَذَا مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَتَابَعَهُ أَصْحَابُنَا عَلَى شَرْحِهِ ، وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ يَكُونُ قَذْفًا صَرِيحًا فِي زَوْجَتِهِ ، وَكِنَايَةً فِي قَذْفِ فُلَانَةَ ، أَمَّا كَوْنُهُ قَذْفًا صَرِيحًا لِزَوْجَتِهِ فَلِأَنَّهُ قَدْ صَرَّحَ فِيهَا بِلَفْظِ الزِّنَا وَأَدْخَلَ أَلِفَ الْمُبَالَغَةِ زِيَادَةً فِي تَأْكِيدِ الْقَذْفِ كَمَا دَخَلَتْ أَلِفُ الْمُبَالَغَةِ فِي أَكْثَرِ مُبَالَغَةٍ فِي التَّعْظِيمِ ، فَكَانَتْ إِنْ لَمْ تَزِدْهُ فِي هَذَا الْقَذْفِ شَرًّا لَمْ تُفِدْهُ خَيْرًا .
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : هُوَ أَزْنَاهُمَا بِظُنُونٍ أَفَالِي سَ مِمَّنْ يُقَادُ بِالتَّقْلِيدِ فَرَأَى النَّاسُ ذَلِكَ قَذْفًا لِلْأُمِّ ، وَلِهَذَا الشِّعْرِ حَدِيثٌ فِي هِجَاءِ بَعْضِ الْأُمَرَاءِ قُتِلَ بِهِ الشَّاعِرُ ، فَوَضَحَ بِمَا ذَكَرْتُهُ أَنَّهُ صَرِيحٌ فِي قَذْفِ زَوْجَتِهِ يُحَدُّ فِيهِ وَلَا يَنْوِي ، وَأَمَّا فُلَانَةُ الَّتِي جَعَلَ زَوْجَتَهُ أَزْنَى مِنْهَا ، فَيُحْتَمَلُ مِنْ لَفْظِهِ فِيهَا أَحَدُ أَمْرَيْنِ ، إِمَّا الِاشْتِرَاكُ وَإِمَّا السَّلْبُ ، فَالِاشْتِرَاكُ كَقَوْلِهِمْ : زِيدٌ أَعْلَمُ مِنْ عَمْرٍو فَيَكُونُ شَرِيكًا بَيْنَهُمَا فِي الْعِلْمِ وَتَفْضِيلًا لِزَيْدٍ عَلَى عَمْرٍو فِيهِ ، وَأَمَّا السَّلْبُ فَكَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [ الْفُرْقَانِ : ] . فَكَانَ ذَلِكَ سَلْبًا لِلْخَيْرِ عَنْ أَهْلِ النَّارِ ؛ لِأَنَّهُ لَا خَيْرَ لَهُمْ فِيهَا ، وَإِذَا احْتَمَلَ لَفْظُهُ فِي فُلَانَةَ الِاشْتِرَاكَ وَالسَّلْبَ صَارَ كِنَايَةً يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى إِرَادَتِهِ ، فَإِنْ أَرَادَ الْجَمْعَ وَالتَّشْرِيكَ كَانَ قَذْفًا ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ السَّلْبَ وَالنَّفْيَ لَمْ يَكُنْ قَذْفًا ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُ إِرَادَةٌ .
فَصْلٌ : أَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فَهُوَ أَنْ يَقُولَ لَهَا : أَنْتِ أَزْنَى النَّاسِ هل يعد ذلك قذفا ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا لَمْ يَكُنْ قَذْفًا إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ قَذْفًا ، فَجَعَلَهُ كِنَايَةً فِي الْقَذْفِ [ فَعَلَّلَ ] أَصْحَابُنَا هَذَا الْجَوَابَ حِينَ تَابَعُوهُ عَلَيْهِ ، بِأَنَّهُ شَبَّهَهَا بِجَمِيعِ النَّاسِ فِي الْمُبَالَغَةِ ، وَنَعْلَمُ يَقِينًا أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ لَيْسُوا زُنَاةً ، فَيُعْلَمُ كَذِبُهُ يَقِينًا فَلَمْ يَكُنْ قَذْفًا صَرِيحًا ، وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ يَكُونُ قَذْفًا صَرِيحًا لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ لَفْظَ الْمُبَالِغَةِ فِي الصِّفَةِ إِذَا أُضِيفَتْ إِلَى الْجَمَاعَةِ فِيهِمْ مُشَارِكٌ وَفِيهَا مُخَالِفٌ حُمِلَتْ عَلَى الْمُشَارِكِ فِي إِثْبَاتِ الصِّفَةِ ، وَلَمْ تُحْمَلْ عَلَى الْمُخَالِفِ فِي نَفْيِهَا ، كَمَا لَوْ قَالَ : زِيدٌ أَعْلَمُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ ، - وَمَعْلُومٌ أَنَّ بِالْبَصْرَةِ عُلَمَاءَ وَغَيْرَ عُلَمَاءَ - كَانَ مَحْمُولًا عَلَى إِثْبَاتِ عِلْمِهِ فِي التَّشْرِيكِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جُهَّالِهَا ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : أَنْتِ أَزْنَى النَّاسِ - وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِي النَّاسِ زُنَاةً وَغَيْرَ زُنَاةٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى مُبَالَغَةِ إِضَافَتِهِ إِلَى الزُّنَاةِ ، وَلَيْسَ فِي الْقَذْفِ أَبْلَغُ مِنْ هَذَا ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهَا أَزْنَى مِنْ كُلِّ زَانٍ . وَالثَّانِي : أَنَّنَا لَوْ أَخْرَجْنَا هَذَا اللَّفْظَ مِنْ صَرِيحِ الْقَذْفِ لِلتَّعْلِيلِ الَّذِي ذَكَرُوهُ مِنْ تَيَقُّنِ كَذِبِهِ لَخَرَجَ بِهَذَا التَّعْلِيلِ مِنْ كِنَايَةِ الْقَذْفِ ، وَلَا يَصِيرُ قَاذِفًا وَإِنْ أَرَادَهُ ، لِأَنَّ الْقَذْفَ مَا احْتَمَلَ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ ، فَأَمَّا مَا قُطِعَ فِيهِ بِالصِّدْقِ أَوْ قُطِعَ فِيهِ بِالْكَذِبِ فَلَيْسَ بِقَذْفٍ ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ لِبِنْتِ شَهْرٍ : زَنَيْتِ ، لَمْ يَكُنْ قَذْفًا لِاسْتِحَالَتِهِ ، وَلَوْ قَذَفَ مَنْ ثَبَتَ زِنَاهَا لَمْ يَكُنْ قَذْفًا لِاسْتِحَالَتِهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ حُكِيَ عَنِ الْمُزَنِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْهُ قَذْفًا وَإِنْ أَرَادَهُ . فَأَخْرَجَهُ عَنْ صَرِيحِ الْقَذْفِ وَكِنَايَتِهِ تَصْحِيحًا لِهَذَا التَّعْلِيلِ .
قِيلَ : قَدْ خَالَفْتُمُ الْمُزَنِيَّ فِي هَذَا الْجَوَابِ ؛ لِأَنَّكُمْ جَعَلْتُمُوهُ كِنَايَةً فِي الْقَذْفِ فَبَطَلَ بِخِلَافِكُمْ لَهُ صِحَّةُ هَذَا التَّعْلِيلِ ، عَلَى أَنَّنِي لَمْ أَرَ لِلْمُزَنِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ وَلَا فِي جَامِعِهِ مَا حَكَيْتُمُوهُ عَنْهُ مِنْ هَذَا الْجَوَابِ ، وَمَا حُكِيَ عَنْهُ فِي غَيْرِهَا مَدْخُولٌ عَلَيْهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ لَهَا : يَا زَانِ كَانَ قَذْفًا وَهَذَا تَرْخِيمٌ ، كَمَا يُقَالُ لِمَالِكٍ : يَا مَالِ ، وَلِحَارِثٍ : يَا حَارِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا قَذَفَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ فَقَالَ لَهَا : يَا زَانِ كَانَ قَذْفًا ، وَعَلَّلَ لَهُ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ تَرْخِيمٌ حُذِفَ بِهِ الْيَاءُ وَالْهَاءُ ، وَكَمَا يُقَالُ لِمَالِكٍ : يَا مَالِ ، وَلِحَارِثٍ : يَا حَارِ ، كَمَا حَكَاهُ عَنْهُ الْمُزَنِيُّ فِي هَذَا الْمُخْتَصَرِ وَفِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ . وَحَكَى عَنْهُ حَرْمَلَةُ : أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا : يَا زَانِي كَانَ قَذْفًا ، بِحَذْفِ الْهَاءِ وَحْدَهَا وَإِثْبَاتِ الْيَاءِ . وَجُمْلَتُهُ : أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا : يَا زَانِ ، أَوْ يَا زَانِي ، أَوْ يَا زَانِيَةُ ، كَانَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ الثَّلَاثَةُ سَوَاءً فِي الْقَذْفِ وَفِي وُجُوبِ الْحَدِّ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ ، وَمَنْ يُعْتَدُّ بِمَذْهَبِهِ مِنَ الْفُقَهَاءِ . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ : إِذَا قَالَ لَهَا : يَا زَانِ لَمْ يَكُنْ قَذْفًا لَهَا ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ تَرْخِيمًا ، فَاعْتَرَضَ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي الْحُكْمِ وَالتَّعْلِيلِ مَعًا ، وَاحْتَجَّ لِإِبْطَالِ الْحُكْمِ بِالْقَذْفِ ، بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي مَوْضِعِ اللُّغَةِ أَنْ يَتَوَجَّهَ اللَّفْظُ الْمُذَكَّرُ إِلَى الْإِنَاثِ كَمَا لَا يَتَوَجَّهُ اللَّفْظُ الْمُؤَنَّثُ إِلَى الذُّكُورِ لِيَتَمَيَّزَ بِاللَّفْظِ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ ، حَتَّى يَزُولَ الِاشْتِبَاهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ [ الْأَنْعَامِ : ] . فَخَرَجَ مِنْهُ الْمُؤْمِنَاتُ ، وَالشَّافِعِيُّ جَعَلَ هَاهُنَا لَفْظَ الْمُذَكَّرِ مَصْرُوفًا إِلَى الْأُنْثَى وَهَذَا فَاسِدٌ . وَاحْتَجَّ عَلَى إِبْطَالِ مَا عَلَّلَ بِهِ الشَّافِعِيُّ فِي التَّرْخِيمِ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : أَنَّ التَّرْخِيمَ إِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي أَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ ؛ مِثْلِ مَالِكٍ ، وَحَارِثٍ ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْأَفْعَالِ وَلَا فِيمَا يُشْتَقُّ مِنْهَا ؛ مِثْلِ : زَنَى ، وَدَخَلَ ، وَخَرَجَ ، فَلَا يَقَعُ فِيهَا تَرْخِيمٌ ، وَلَا يُقَالُ لِدَاخِلٍ : يَا دَاخِ ، وَلَا لِخَارِجِ : يَا خَارِ ، كَذَلِكَ فِي الزِّنَى . وَالثَّانِي : أَنَّ التَّرْخِيمَ إِسْقَاطُ حَرْفٍ وَاحِدٍ كَمَا حَذَفُوا فِي تَرْخِيمِ مَالِكٍ ، وَحَارِثٍ ، حَرْفًا وَاحِدًا ، وَالشَّافِعِيُّ أَسْقَطَ فِي تَرْخِيمِ الزَّانِيَةِ حَرْفَيْنِ : الْيَاءُ ، وَالْهَاءُ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ الْهَاءَ إِذَا تَطَرَّفَتِ الْكَلِمَةُ لَمْ تُحْذَفْ إِلَّا أَنْ تُوصَلَ بِمَا بَعْدَهَا كَمَا قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ : أَفَاطِمُ مَهْلًا بَعْضَ هَذَا التَّدَلُّلِ . . . . . . . . . . . . . .
وَالشَّافِعِيُّ قَدْ حَذَفَهَا فِي تَرْخِيمِ زَانِيَةٍ مِنْ غَيْرِ صِلَةٍ . وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ مِنَ ابْنِ دَاوُدَ فِي الْحُكْمِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ وَالتَّرْخِيمِ الْمُعَلَّلِ بِهِ مِنْ أَوْضَحِ خَطَأٍ وَأَقْبَحِ ذَلَلٍ ، أَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى الْحُكْمِ فِي أَنْ يَكُونَ قَذْفًا إِذَا قَالَ لَهَا : يَا زَانِ مَعَ مَا عَلَّلَ بِهِ الشَّافِعِيُّ مِنَ التَّرْخِيمِ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْقَذْفَ بِالزِّنَى هُوَ دُخُولُ الْمَعَرَّةِ بِالْفَاحِشَةِ ، وَقَدْ أَدْخَلَ الْمَعَرَّةَ عَلَيْهَا بِالزِّنَى فِي قَوْلِهِ لَهَا : يَا زَانِ كَمَا أَدْخَلَهَا فِي قَوْلِهِ : يَا زَانِيَةُ ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي حُكْمِ الْقَذْفِ كَمَا اسْتَوَى فِيهِ حُكْمُ اللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ وَالْأَعْجَمِيِّ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَا فُهِمَ مِنْهُ مَعْنَى الْقَذْفِ كَانَ قَذْفًا صَوَابًا كَانَ أَوْ خَطَأً ، كَمَا لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ : زَنَيْتِ بِكَسْرِ التَّاءِ ، وَلِامْرَأَةٍ : زَنَيْتَ بِفَتْحِ التَّاءِ ، كَانَ قَذْفًا وَإِنْ لَحَنَ فِيهِ ، لِأَنَّ الْقَذْفَ مَفْهُومٌ مِنْهُ ، كَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ لَهَا : يَا زَانِ ، وَإِنْ كَانَ لَحْنًا عِنْدَهُ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ هَاءَ التَّأْنِيثِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي تَوْجِيهِ الْخِطَابِ إِلَى مُؤَنَّثٍ لِيَزُولَ بِهَا الْإِشْكَالُ ، وَالْإِشَارَةُ بِالنِّدَاءِ أَبْلَغُ مِنْهَا فِي إِرَادَةِ الْمُخَاطَبِ ، فَإِذَا أَشَارَ إِلَيْهَا فِي النِّدَاءِ بِقَوْلِهِ : يَا زَانٍ أَغْنَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهَا عَنِ الْهَاءِ الْمَوْضُوعَةِ لِتَوْجِيهِ الْخِطَابِ إِلَيْهَا فَلَمْ يُؤَثِّرْ حَذْفُهَا مَعَ وُجُودِ الْإِشَارَةِ وَإِنْ أَثَّرَ حَذْفُهَا مَعَ عَدَمِ الْإِشَارَةِ . وَفِي هَذَا انْفِصَالٌ عَمَّا احْتَجَّ بِهِ . وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ التَّعْلِيلِ بِالتَّرْخِيمِ ، فَإِنَّ التَّرْخِيمَ مُسْتَعْمَلٌ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ مَعًا ، قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ : وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ [ الزُّخْرُفَ : ] . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : كَفَى بِالسَّيْفِ شَا ، يَعْنِي شَاهِدًا . وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي حَدِّ التَّرْخِيمِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَدْخُلُ فِي الِاسْمِ الْمُفْرَدِ إِذَا زَادَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ . وَقَالَ ثَعْلَبٌ : يَدْخُلُ فِي الْأَسْمَاءِ وَالْأَفْعَالِ إِذَا كَانَ الْبَاقِي مَفْهُومَ الْمُرَادِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي أَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ كُلِّهَا إِذَا لَمْ يُعْلَمْ بَاقِيهَا ، مِثْلُ : طَالُوتَ وَجَالُوتَ ، وَلَا يُمْنَعُ فِي أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ كُلِّهَا إِذَا فُهِمَ بَاقِيهَا مِثْلُ : مَالِكٍ ، مُشْتَقٍّ مَنْ مَلَكَ ، وَحَارِثٍ مِنْ حَرَثَ ، وَصَاحِبٍ مِنْ صَحِبَ . فَبَطَلَ بِذَلِكَ مَا قَالَهُ ابْنُ دَاوُدَ مِنَ اخْتِصَاصِهِ بِالْأَسْمَاءِ دُونَ الْأَفْعَالِ ، وَلَيْسَ لَهَا لَمَّا اسْتُشْهِدَ بِهِ مِنَ امْتِنَاعِهِ فِي بَعْضِ الْأَفْعَالِ تَأْثِيرٌ ، لِأَنَّ بَاقِيَهَا غَيْرُ مَفْهُومٍ . أَمَّا قَوْلُهُ : إِنَّهُ لَا يُحْذَفُ بِالتَّرْخِيمِ إِلَّا حَرْفٌ وَاحِدٌ فَهُوَ جَهْلٌ مِنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُحْذَفُ بِالتَّرْخِيمِ حَرْفَانِ وَأَكْثَرُ مَا بَعْدَ الْحَرْفِ الثَّالِثِ مِنَ الِاسْمِ مِعْتَلًّا . وَالْحُرُوفُ الْمُعْتَلَّةُ : الْأَلِفُ وَالْيَاءُ وَالْوَاوُ ، فَيَقُولُ فِي عُثْمَانَ : يَا عُثْمَ ، وَفِي مَنْصُورٍ : يَا مَنْصُ ، وَفِي مَرْوَانَ : يَا مَرْوَ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كَفَى بِالسَّيْفِ شَا ، يَعْنِي شَاهِدًا ، فَحَذَفَ ثَلَاثَةَ أَحْرُفٍ ، وَنَادَى أَبَا هُرَيْرَةَ فَقَالَ : " يَا أَبَا هِرٍّ ، فَحَذَفَ مِنْ كُنْيَتِهِ ثَلَاثَةَ أَحْرُفٍ ، أَمَّا قَوْلُهُ : إِنَّ
الْهَاءَ إِذَا تَطَرَّفَتِ الْكَلِمَةُ لَمْ تُحْذَفْ فِي التَّرْخِيمِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً بِمَا بَعْدَهَا ، فَخَطَأٌ ، لِأَنَّ مَا فُهِمَ الْمُرَادُ بِهِ جَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ فِي التَّرْخِيمِ وَغَيْرِهِ ، وَإِنْ تَطَرَّفَتِ الْهَاءُ . قَالَ الشَّاعِرُ . قِفِي قَبْلَ التَّفَرُّقِ يَا ضُبَاعَا . . . . . . . . . . . . . . يَعْنِي ضُبَاعَةَ . وَقَوْلُهُ لَهَا : يَا زَانِ ، كَلِمَةٌ مَفْهُومَةُ الْمُرَادِ ، فَجَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهَا فِي تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهَا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَتْ : يَا زَانِيَةُ أَكْمَلَتِ الْقَذْفَ وَزَادَتْهُ حَرْفًا أَوِ اثْنَيْنِ ( وَقَالَ ) بَعْضُ النَّاسِ : إِذَا قَالَ لَهَا : يَا زَانِ ، لَاعَنَ أَوْ حُدَّ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : وَقَالَ نِسْوَةٌ وَقَالَ : وَلَوْ قَالَتْ لَهُ : يَا زَانِيَةُ لَمْ تُحَدَّ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - : تَعَالَى وَهَذَا جَهْلٌ بِلِسَانِ الْعَرَبِ ، إِذَا تَقَدَّمَ فِعْلُ الْجَمَاعَةِ مِنَ النِّسَاءِ كَانَ الْفِعْلُ مُذَكَّرًا ؛ مِثْلَ : قَالَ نِسْوَةٌ وَخَرَجَ النِّسْوَةُ ، وَإِذَا كَانَتْ وَاحِدَةً فَالْفَعْلُ مُؤَنَّثٌ مِثْلَ : قَالَتْ ، وَجَلَسَتْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَإِنَّمَا عَنَى الشَّافِعِيُّ بِبَعْضِ النَّاسِ أَبَا حَنِيفَةَ ، فَإِنَّهُ مُوَافِقٌ فِي الرَّجُلِ إِذَا قَالَ لَهَا : يَا زَانِ ، أَنَّهُ يَكُونُ قَذْفًا ، وَخَالَفَ فِي الْمَرْأَةِ إِذَا قَالَتْ لَهُ : يَا زَانِيَةُ ، فَقَالَ : لَا يَكُونُ قَذْفًا ، وَتَابَعَهُ عَلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ ، وَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ يَكُونُ قَذْفًا ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ زَوْجَتَيْنِ أَوْ أَجْنَبِيَّتَيْنِ ، وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ ، وَاسْتَدَلَّ مِنْ نَصِّ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنَّ الْعَرَبَ تُذَكِّرُ الْمُؤَنَّثَ وَلَا تُؤَنِّثُ الْمُذَكَّرَ اسْتِشْهَادًا بِآيَتَيْنِ حَكَى الشَّافِعِيُّ عَنْهُمَا إِحْدَاهُمَا وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ [ يُوسُفَ : ] . وَلَمْ يَقُلْ : وَقَالَتْ ، وَحَكَى أَصْحَابُهُ عَنْهُ الْأُخْرَى وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى : فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي [ الْأَنْعَامِ : ] . وَلَمْ يَقُلْ : هَذِهِ ، فَلِذَلِكَ جَعَلَ قَوْلَ الرَّجُلِ لَهَا : يَا زَانِ قَذْفًا ؛ لِأَنَّهُ تَذْكِيرُ مُؤَنَّثٍ وَذَلِكَ جَائِزٌ ، وَلَمْ يَجْعَلْ قَوْلَ الْمَرْأَةِ لَهُ : يَا زَانِيَةُ قَذْفًا ؛ لِأَنَّهُ تَأْنِيثُ مُذَكَّرٍ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ ، وَقَالُوا : وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ بِإِدْخَالِ الْهَاءِ تُغَيِّرُ مَعْنَى الْكَلِمَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا تَصِيرُ كِنَايَةً لِخُرُوجِهَا عَنِ الْمَعْهُودِ إِلَى غَيْرِ مَعْهُودٍ ، وَالْكِنَايَةُ لَا تَكُونُ قَذْفًا .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ عَبَّرَ عَنْ زِنَا الرَّجُلِ بِزِنَا الْمَرْأَةِ ، وَزِنَا الْمَرْأَةِ تَمْكِينٌ وَزِنَا الرَّجُلِ فِعْلٌ ، فَإِذَا نُسِبَ الرَّجُلُ إِلَى التَّمْكِينِ وَسُلِبَ الْفِعْلَ لَمْ يَكُنْ زَانِيًا فَلَمْ يَصِرْ ذَلِكَ قَذْفًا . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ قَذْفٌ : هُوَ أَنَّ اللَّفْظَ إِذَا كَانَ مَفْهُومَ الْمَعْنَى مَعْقُولَ الْمُرَادِ ، ثَبَتَ حُكْمُهُ صَوَابًا كَانَ أَوْ لَحْنًا كَالَّذِي قَدَّمْنَاهُ ، وَمَفْهُومٌ مِنْ قَوْلِهَا : يَا زَانِيَةُ ، إِرَادَةُ الْقَذْفِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَذْفًا ، كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا : يَا زَانِ ، وَتَحْرِيرُ هَذَا الْمَعْنَى قِيَاسًا أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ صَرِيحًا فِي مَقْذُوفٍ كَانَ صَرِيحًا فِي كُلِّ مَقْذُوفٍ كَاللَّفْظِ الْمُذَكَّرِ فِي النِّسَاءِ ، وَلِأَنَّ الْعَلَامَةَ الْفَاصِلَةَ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ تَسْقُطُ مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى الْغَيْرِ كَقَوْلِهِ لِعَبْدِهِ : أَنْتَ حُرٌّ ، وَلِأَنَّ كُلَّ لَفْظٍ اسْتَوَى الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ فِي حُكْمِ تَذْكِيرِهِ اسْتَوَيَا فِي حُكْمِ تَأْنِيثِهِ كَالْعِتْقِ ، وَلِأَنَّ دُخُولَ الْهَاءِ عَلَى اللَّفْظِ الْمُذَكِّرِ مَوْضُوعٌ لِلْمُبَالَغَةِ دُونَ السَّلْبِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ [ الْقِيَامَةِ : ] . كَقَوْلِهِمْ : عَلَامَةٌ وَنَسَايَةٌ ، فَلَمْ يَجُزْ مَعَ دُخُولِهَا لِلْمُبَالِغَةِ أَنْ تَسْلُبَ لَفْظَ الْقَذْفِ حُكْمَهُ ، وَلِأَنَّ زِيَادَةَ الْهَاءِ الَّتِي لَا يَفْتَقِرُ اللَّفْظُ إِلَيْهَا إِنْ لَمْ تُوجِبْ زِيَادَةَ الْحُكْمِ لَمْ تَقْتَضِ نُقْصَانًا مِنْهُ ؛ لِأَنَّ أَسْوَأَ أَحْوَالِهَا أَنْ تَكُونَ لَغْوًا . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الْمُؤَنَّثَ يُذَكَّرُ وَالْمُذَكَّرَ لَا يُؤَنَّثُ ، فَهُوَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَذْكِيرُ الْمُؤَنَّثِ وَلَا تَأْنِيثُ الْمُذَكَّرِ لِمَا فِيهِ مِنَ اشْتِبَاهِ اللَّفْظِ وَإِشْكَالِ الْخِطَابِ ، وَإِنَّمَا الْهَاءُ الْمَوْضُوعَةُ لِلتَّأْنِيثِ رُبَّمَا حُذِفَتْ مِنَ الْمُؤَنَّثِ كَقَوْلِهِمْ : " عَيْنٌ كَحِيلٌ " ، وَ " كَفٌّ خَصِيبٌ " ، وَأُدْخِلَتْ عَلَى الْمُذَكَّرِ كَقَوْلِهِمْ : " رَجُلٌ دَاهِيَةٌ وَرَاوِيَةٌ " ، فَصَارَ حَذْفُهَا مِنَ الْمُؤَنَّثِ كَدُخُولِهَا عَلَى الْمُذَكَّرِ إِذَا زَالَ الْإِشْكَالُ عَنْهُمَا ، فَلَمْ يَكُنْ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَجْهٌ - فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ فَلِأَنَّ فِعْلَ الْمُؤَنَّثِ إِذَا تَقَدَّمَ ذُكِّرَ جَمْعُهُ وَأُنِّثَ وَاحِدُهُ - كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْجَمْعِ : وَقَالَ نِسْوَةٌ وَقَالَ فِي الْوَاحِدَةِ : قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ [ يُوسُفَ : ] فَأَمَّا إِذَا تَأَخَّرَ الْفِعْلُ عَنْهُنَّ كَانَ مُؤَنَّثًا فِي الْجَمْعِ وَالِانْفِرَادِ تَقُولُ : النِّسَاءُ قُلْنَ وَالْمَرْأَةُ قَالَتْ . أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي [ الْأَنْعَامِ : ] فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى الرَّبِّ بِأَنَّهُ الشَّمْسُ وَلَمْ يُشِرْ بِهِ إِلَى الشَّمْسِ بِأَنَّهَا الرَّبُّ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى شُعَاعِ الشَّمْسِ وَشُعَاعُهَا مُذَكَّرٌ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْكَلِمَةِ تُغَيِّرُ مَعْنَاهُ ، فَهُوَ : وَإِنْ غَيَّرَتْ لِلْمُبَالَغَةِ دُونَ السَّلْبِ إِثْبَاتًا لِلزِّيَادَةِ دُونَ النُّقْصَانِ ، وَقَوْلُهُمْ : تَصِيرُ كِنَايَةً لِخُرُوجِهَا عَنِ الْمَعْهُودِ فَتَعْلِيلٌ يَنْتَقِضُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ لَهَا : يَا زَانِ ، وَقَوْلُهُمْ : إِنَّهُ أَضَافَ إِلَى الرَّجُلِ زِنَا الْمَرْأَةِ فَسَلَبَهُ فِعْلَ الزِّنَا فَهُوَ خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ زِنَا كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُضَافٌ إِلَى فِعْلِهِ لَا إِلَى فِعْلِ
صَاحِبِهِ ، فَإِذَا عَبَّرَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِلَفْظِ صَاحِبِهِ لَمْ يَسْلُبْهُ حُكْمَ فِعْلِهِ وَإِنْ سَلْبَهُ صِفَةَ لَفْظِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَقَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ لَوْ قَالَ رَجُلٌ : زَنَأْتِ فِي الْجَبَلِ حُدَّ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْعَرَبِ أَنَّهُ صَعَدْتِ فِي الْجَبَلِ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : يَحْلِفُ مَا أَرَادَ إِلَّا الرُّقِيَّ فِي الْجَبَلِ وَلَا حَدَّ ، فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ حُدَّ إِذَا حَلَفَ الْمَقْذُوفُ لَقَدْ أَرَادَ الْقَذْفَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا مِمَّا خَالَفَ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ : إِذَا قَالَ لَهَا زَنَأْتِ فِي الْجَبَلِ هل يقع قذفا كَانَ قَذْفًا صَرِيحًا يُوجِبُ حَدًّا . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : زَنَأْتِ فِي الْجَبَلِ هُوَ التَّرَقِّي فِيهِ فَلَا يَكُونُ قَذْفًا إِنْ لَمْ يُرِدْهُ . وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ . وَقَالَ أَبُو الطَّيِّبِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ : إِنْ كَانَ قَائِلُ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ لَمْ يَكُنْ قَذْفًا ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَعْرِفْهَا كَانَ قَذْفًا ، فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَذْفٌ : بِأَنَّ لَفْظَ الزِّنَا يَقْصُرُ تَارَةً وَيُمَدُّ أُخْرَى ، فَيُقَالُ : زَنَأْتِ . وَزَنَيْتِ ، قَالَ الشَّاعِرُ : كَانَتْ فَرِيضَةً مَا تَقُولُ كَمَا كَانَ الزِّنَا فَرِيضَةَ الرَّجْمِ وَإِذَا اسْتَوَى فِي الْقَذْفِ : زَنَأْتِ وَزَنَيْتِ ، لَمْ تَكُنْ إِضَافَتُهُ إِلَى الْجَبَلِ مُخْرِجًا لَهُ مِنَ الْقَذْفِ ، كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ : زَنَيْتَ فِي الْجَبَلِ ، كَانَ قَذْفًا فَلَمْ تُخْرِجْهُ الْإِضَافَةُ إِلَى الْجَبَلِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَذْفًا ، أَمَّا أَبُو الطَّيِّبِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ فَإِنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ النَّحْوِيِّ وَالْعَامِّيِّ ، فَإِنَّ النَّحْوِيَّ لِوُقُوفِهِ عَلَى مَعَانِي الْأَلْفَاظِ يُفَرِّقُ بَيْنَ قَوْلِهِ : زَنَأْتِ فِي الْجَبَلِ فَيَعْلَمُ أَنَّهُ التَّرَقِّي فِيهِ ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ : زَنَيْتِ فِي الْجَبَلِ فَيَعْلَمُ أَنَّهُ إِتْيَانُ الْفَاحِشَةِ فِيهِ ، وَالْعَامِّيُّ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا ، فَكَانَ مِنَ الْعَامِّيِّ قَذْفًا لِجَهْلِهِ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ، وَلَمْ يَكُنْ مِنَ النَّحْوِيِّ قَذْفًا لِعِلْمِهِ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا . كَمَا إِذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ ، يُفَرَّقُ فِي حَقِّ النَّحْوِيِّ بَيْنَ كَسْرٍ إِنْ وَفَتْحِهَا ، فَإِنْ فَتَحَهَا فَقَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ أَنْ دَخَلْتِ الدَّارَ كَانَ خَبَرًا ، وَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ ؛ لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ : أَنْتِ طَالِقٌ لِأَنَّكِ دَخَلْتِ الدَّارَ ، وَإِنْ كَسَرَهَا فَقَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ دَخَلَتِ الدَّارَ ، كَانَتْ شَرْطًا ، لَا تُطَلَّقُ حَتَّى تَدْخُلَ الدَّارَ ؛ لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ : أَنْتِ طَالِقٌ إِذَا دَخَلْتِ الدَّارَ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ قَذْفًا إِذَا لَمْ تَرَ أَنَّ الْأَحْكَامَ تُعْتَبَرُ بِحَقِيقَةِ اللَّفْظِ دُونَ مَجَازِهِ مِنَ الْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ إِذَا تَجَرَّدَ عَنْ نِيَّةٍ وَإِرَادَةٍ ، كَصَرِيحِ الطَّلَاقِ وَكِنَايَتِهِ ، وَحَقِيقَةُ قَوْلِهِ : زَنَأْتِ فِي الْجَبَلِ ، هُوَ الصُّعُودُ إِلَيْهِ وَالتَّرَقِّي فِيهِ ، يُقَالُ : زَنَأَ يَزْنَأُ وَزَنْوًا إِذْ صَعَدَ فِيهِ ، وَزَنَى يَزْنِي زِنًا ، إِذَا فَجَرَ ، يُمَدُّ وَيُقْصَرُ ، وَالْقَصْرُ أَكْثَرُ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي حَقِيقَةِ اللِّسَانِ وَعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ مَشْهُورٌ ، حُكِيَ أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الْعَرَبِ كَانَتْ تُرَقِّصُ ابْنًا وَهِيَ تَقُولُ : أَشْبِهْ أَبَا أُمِّكَ أَوْ أَشْبِهْ جَمَلْ وَلَا تَكُونَنَّ كَهِلَّوْفٍ وَكَلْ يُصْبِحُ فِي مَضْجَعِهِ قَدِ انْجَدَلْ وَارْقَ إِلَى الْخَيْرَاتِ زَنَأْ فِي الْجَبَلِ قَوْلُهَا : " أَشْبِهْ أَبَا أُمِّكَ " يَعْنِي أَبَاهَا الَّذِي هُوَ جَدُّهُ لِأُمِّهِ . وَأَشْبِهْ جَمَلْ هُوَ نَجِيبٌ مِنْ قَوْمِهِ ، وَلَعَلَّهُ أَبُوهُ ، وَمَعْنَاهُ أَشْبِهْ هَذَا أَوْ هَذَا ، وَلَا تَكُونُنَّ كَهِلَّوْفٍ . الْهِلَّوْفُ : الرَّجُلُ الْجَافِي الْعَظِيمُ . وَالْوَكَلُ : الضَّعِيفُ ، وَمَعْنَاهُ : لَا تَكُونُنَّ رَجُلًا ثَقِيلَ الْجِسْمِ مُسْتَرْخِيًا . يُصْبِحُ فِي مَضْجَعِهِ قَدِ انْجَدَلَ ، يَعْنِي وَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ ، لِأَنَّ الْأَرْضَ تُسَمَّى الْجِدَالَةَ . وَارْقَ إِلَى الْخَيْرَاتِ : مَعْنَاهُ ، وَاصْعَدْ إِلَيْهَا . زَنَّأْ فِي الْجَبَلِ : أَيْ كَصُعُودِكَ فِيهِ وَمَعْنَاهُ أَنَّكَ تَعْلُو بِصُعُودِكَ إِلَى الْخَيْرَاتِ كَمَا تَعْلُو بِصُعُودِكَ فِي الْجَبَلِ . وَهَذَا لِسَانُ مَنْ قَدْ فُطِرَ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ وَلَمْ يَتَكَلَّفْهَا فَكَانَتْ أَلْفَاظُهُ حَقِيقَةً فِي مَعَانِيهَا . فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْدِلَ بِزَنَأَ فِي الْجَبَلِ عَنْ حَقِيقَتِهِ وَلَا أَنْ يُعَلِّقَ الْحُكْمَ فِيهِ بِمَجَازِهِ ، وَلِأَنَّ زَنَأْتِ فِي الْجَبَلِ لَوْ كَانَ حَقِيقَةً فِي الصُّعُودِ وَحَقِيقَةً فِي الْفَاحِشَةِ لَكَانَ مَا قُرِنَ بِهِ مِنْ ذِكْرِ الْجَبَلِ يَصْرِفُهُ عَنْ حَقِيقَةِ الْفُجُورِ إِلَى الصُّعُودِ ؛ لِأَنَّ الْقَرَائِنَ تَصْرِفُ حَقَائِقَ الْأَلْفَاظِ الْمُطْلَقَةِ إِلَى حَقَائِقِ قَرَائِنِهَا . أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ وِثَاقٍ لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ ، وَإِنْ كَانَ يَقَعُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ ، لِأَنَّ الْقَرِينَةَ بِقَوْلِهِ : مِنْ وِثَاقٍ قَدْ صَرَفَتْهُ عَنْ حَقِيقَتِهِ إِلَى مَجَازِهِ ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ زَنَأْتِ فِي الْجَبَلِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ لَهَا : زَنَأْتِ وَلَمْ يُقِلْ فِي الْجَبَلِ لَمْ يَكُنْ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ الْأَوَّلِ قَذْفًا ، وَكَانَ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ الثَّانِي قَذْفًا ، فَصَارَ عَلَى وَجْهَيْنِ ، وَفِيمَا أَوْضَحْنَاهُ مِنْ هَذَيْنِ الِاسْتِدْلَالَيْنِ انْفِصَالٌ عَمَّا تَقَدَّمَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ إِذَا اسْتَوْضَحَ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : زَنَيْتِ وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ ، أَوْ قَالَ : وَأَنْتِ نَصْرَانِيَّةٌ
أَوْ أَمَةٌ ، وَقَدْ كَانَتْ نَصْرَانِيَّةً أَوْ أَمَةً وَقَالَ : مُسْتَكْرَهَةً ، أَوْ زَنَى بِكِ صَبِيٌّ لَا يُجَامِعُ مِثْلُهُ ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَدٌّ وَيُعَزَّرُ لِلْأَذَى إِلَّا أَنْ يَلْتَعِنَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : جَمَعَ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا بَيْنَ خَمْسِ مَسَائِلَ لِاتِّفَاقِ أَحْكَامِهَا مَعَ اخْتِلَافِ أَقْسَامِهَا ، وَنَحْنُ نُفْرِدُ كُلَّ مَسْأَلَةٍ مِنْهَا لِتَوْضِيحِ أَقْسَامِهَا وَأَحْكَامِهَا : فَالْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : إِذَا قَالَ لَهَا : زَنَيْتِ وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ هل يقع القذف ، فَيُسْأَلُ عَمَّا أَرَادَ مِنْ حَالِ صِغَرِهَا ؛ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ حَالَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ طِفْلَةً لَا يُجَامَعُ مِثْلُهَا كَابْنَةِ سَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ ، فَهَذَا يَسْتَحِيلُ صِدْقُهُ وَيَتَحَقَّقُ كَذِبُهُ ، فَلَا يَكُونُ قَذْفًا ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ مَا احْتَمَلَ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ ، وَيُعَزَّرُ لِلْفُحْشِ وَالْخَنَا تَعْزِيرَ الْأَذَى لَا تَعْزِيرَ الْقَذْفِ ، وَلَا يُلَاعِنُ مِنْ هَذَا التَّعْزِيرِ لِخُرُوجِهِ عَنْ حُكْمِ الْقَذْفِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ تَكُونَ مُشْتَدَّةً يُجَامَعُ مِثْلُهَا كَابْنَةِ سَبْعٍ أَوْ ثَمَانٍ ، فَهَذَا قَذْفٌ ؛ لِاحْتِمَالِهِ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ ، لَكِنْ لَا حَدَّ عَلَيْهِ لِعَدَمِ كَمَالِهَا ، وَإِنَّهَا لَوْ زَنَتْ لَمْ تُحَدَّ ، فَلَمْ يَجِبِ الْحَدُّ عَلَى قَاذِفِهَا ، وَلَكِنْ يُعَزَّرُ تَعْزِيرَ الْقَذْفِ لِكَوْنِهِ قَاذِفًا ، وَلَهُ أَنْ يُلَاعِنَ مِنْهُ فَيَسْقُطُ عَنْهُ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ تَعْزِيرِ الْأَذَى وَتَعْزِيرِ الْقَذْفِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ تَعْزِيرَ الْأَذَى مَوْقُوفٌ عَلَى مُطَالَبَةِ الْإِمَامِ دُونَهَا ، وَتَعْزِيرَ الْقَذْفِ مَوْقُوفٌ عَلَى مُطَالَبَتِهَا دُونَ الْإِمَامِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يُلَاعِنُ فِي تَعْزِيرِ الْقَذْفِ وَلَا يُلَاعِنُ فِي تَعْزِيرِ الْأَذَى .
فَصْلٌ : الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ يَقُولَ لَهَا : زَنَيْتِ وَأَنْتِ نَصْرَانِيَّةٌ أَوْ يَهُودِيَّةٌ هل يكون قذفا ، فَلَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهَا كَانَتْ نَصْرَانِيَّةً . وَالثَّانِي : أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهَا لَمْ تَزَلْ مُسْلِمَةً . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَجْهَلَ حَالَهَا . فَأَمَّا الْحَالُ الْأُولَى ، وَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهَا كَانَتْ نَصْرَانِيَّةً ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ بِقَذْفِهَا فِي حَالِ النَّصْرَانِيَّةِ لِعَدَمِ كَمَالِهَا ، وَيُعَزَّرُ تَعْزِيرَ الْقَذْفِ ؛ لِأَنَّهُ قَاذِفٌ وَلَهُ أَنْ يُلَاعِنَ مِنْهُ ، فَلَوِ اخْتَلَفَا فَقَالَتْ : أَرَدْتَ قَذْفِي بَعْدَ إِسْلَامِي فَعَلَيْكَ الْحَدُّ ، وَقَالَ : بَلْ أَرَدْتُ قَذْفَكِ قَبْلَ إِسْلَامِكِ فَلَا حَدَّ عَلَيَّ ، فَالَّذِي قَالَهُ أَبُو الْقَاسِمِ الدَّارَكِيُّ ، وَأَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا ، وَعَلَيْهِ الْحَدُّ إِلَّا أَنْ يُلَاعِنَ .
لِأَنَّ قَوْلَهُ : زَنَيْتِ يَقْتَضِي الْقَذْفَ فِي الْحَالِ ، وَقَوْلَهُ : وَأَنْتِ نَصْرَانِيَّةٌ يَقْتَضِي الْإِخْبَارَ عَنْ تَقَدُّمِ حَالِهَا ، فَصَارَ الظَّاهِرُ مَعَهَا ، وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وَصَلَ قَوْلَهُ : زَنَيْتِ ، بِقَوْلِهِ : وَأَنْتِ نَصْرَانِيَّةٌ ، كَانَ أَظْهَرُ احْتِمَالَيْهِ إِضَافَةَ الزِّنَا إِلَى النَّصْرَانِيَّةِ لِيَكُونَ أَحَدُهُمَا تَعَلَّقَ بِالَآخَرِ ، وَلَوِ اسْتَوَى الِاحْتِمَالَانِ لَوَجَبَ أَنْ تُدْرَأَ الْحُدُودُ بِالشُّبُهَاتِ . وَأَمَّا الْحَالُ الثَّانِيَةُ : وَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهَا لَمْ تَزَلْ مُسْلِمَةً فَقَدْ صَارَ قَاذِفًا لَهَا بِالزِّنَا ، وَرَامِيًا لَهَا بِالْكُفْرِ ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ فِي قَذْفِهَا إِلَّا أَنْ يُلَاعِنَ ، وَعَلَيْهِ التَّعْزِيرُ فِي رَمْيِهَا بِالنَّصْرَانِيَّةِ لِأَجْلِ الْأَذَى . وَأَمَّا الْحَالُ الثَّالِثَةُ : وَهُوَ أَنْ يَجْهَلَ حَالَهَا ، فَلَمْ يَعْلَمْ هَلْ كَانَتْ نَصْرَانِيَّةً أَمْ لَا ؟ فَإِنَّهَا تُسْأَلُ ، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ بِتَقَدُّمِ النَّصْرَانِيَّةِ كَانَ عَلَى مَا مَضَى إِذَا عُلِمَ نَصْرَانِيَّتُهَا ، وَإِنْ لَمْ تَعْتَرِفْ بِالنَّصْرَانِيَّةِ وَأَنْكَرَتْهَا ، فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَيُعَزَّرُ وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ تَجْمَعُ الْفَرِيقَيْنِ ، وَجَنْبَ الْمُؤْمِنِ حِمًى ، وَالْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَلَهُ أَنْ يُلَاعِنَ فِي هَذَا التَّعْزِيرِ لِأَنَّهُ تَعْزِيرُ قَذْفٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا أَنَّهَا لَمْ تَزَلْ مُسْلِمَةً وَيُحَدُّ لَهَا إِلَّا أَنْ يَلْتَعْنَ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ إِسْلَامُ أَهْلِهَا ، فَجَرَى حُكْمُ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمْ كَمَا يَجْرِي حُكْمُ الْإِسْلَامِ عَلَى اللَّقِيطِ إِذَا جُهِلَتْ حَالُهُ .
فَصْلٌ : وَالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : إِذَا قَالَ لَهَا : زَنَيْتِ وَأَنْتِ أَمَةٌ ، فَلَهَا أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهَا أَمَةٌ فِي الْحَالِ ، فَيُعَزَّرُ لِقَذْفِهَا وَلَا يُحَدُّ لِنَقْصِهَا عَنْ حَالِ الْكَمَالِ وَيُلَاعِنُ مِنْ هَذَا التَّعْزِيرِ ؛ لِأَنَّهُ تَعْزِيرُ قَذْفٍ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهَا حُرَّةٌ فِي الْحَالِ وَأَمَةٌ مِنْ قَبْلُ ، فَيُعَزَّرُ تَعْزِيرَ قَذْفٍ وَلَا يُحَدُّ ، فَإِنِ اخْتُلِفَ فِي الْقَذْفِ فَقَالَتْ : أَرَدْتَ بِهِ قَذْفِي بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ وَقَالَ : أَرَدْتُ بِهِ قَذْفَكِ قَبْلَهَا ، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْقَاسِمِ الدَّارَكِيِّ ، وَأَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ : الْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا وَيُحَدُّ لَهَا ، وَعَلَى مَا أَرَاهُ وَأَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَيُعَزَّرُ وَلَا يُحَدُّ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهَا لَمْ تَزَلْ حُرَّةً ، فَيُحَدُّ لِقَذْفِهَا وَلَا يُعَزَّرُ لِرَمْيِهَا بِالرِّقِّ ، وَإِنْ عُزِّرَ لِرَمْيِهَا بِالْكُفْرِ ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ اعْتِقَادٌ يُمْكِنُ حُدُوثُهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ . فَصَارَ فِي الرَّمْيِ بِهِ مَعَرَّةٌ ، وَالرِّقُّ لَا يُمْكِنُ حُدُوثُهُ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ فِي مُسْلِمٍ ، فَلَمْ يَكُنْ فِي الرَّمْيِ بِهِ مَعَرَّةٌ فَافْتَرَقَا فِي التَّعْزِيرِ لِافْتِرَاقِهِمَا فِي الْمَعَرَّةِ . وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَجْهَلَ حَالَهَا فِي تَقَدُّمِ الرِّقِّ مَعَ تَحَقُّقِ حُرِّيَّتِهَا فِي الْوَقْتِ ، فَفِيهِ عِنْدَ اخْتِلَافِهِمَا قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهَا كَانَتْ أَمَةً وَيُعَزَّرُ لَهَا تَعْزِيرَ الْقَذْفِ وَلَا يُحَدُّ ؛ لِأَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ تَجْمَعُ الْأَحْرَارَ وَالْمَمَالِيكَ . وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا أَنَّهَا لَمْ تَزَلْ حُرَّةً ، وَيُحَدُّ لَهَا إِلَّا أَنْ يَلْتَعِنَ ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي النَّاسِ الْحُرِّيَّةُ ، وَالرِّقُّ طَارِئٌ ، فَكَانَ الظَّاهِرُ مَعَهَا ، وَلَوْ كَانَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ عُمِلَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا .
فَصْلٌ : وَالْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَقُولَ لَهَا : زَنَيْتِ وَأَنْتِ مُسْتَكْرَهَةٌ عَلَى الزِّنَا ، فَهَذَا لَيْسَ بِقَاذِفٍ ؛ لِأَنَّهُ مَا نَسَبَهَا إِلَى مَا يُعِرُّهَا . فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ وَلَا تَعْزِيرُهُ ، وَفِي تَعْزِيرِهِ لِلْأَذَى وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُعَزَّرُ لِانْتِفَاءِ مَعَرَّةِ الزِّنَا . وَالثَّانِي : يُعَزَّرُ لِلْأَذَى ، لِأَنَّ فِيهِ أَذًى بِمَا أَضَافَ إِلَيْهَا مِنَ اخْتِلَاطِ النَّسَبِ ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ لَهَا : وُطِئْتِ بِشُبْهَةٍ لَمْ يَكُنْ قَاذِفًا ، وَفِي تَعْزِيرِهِ لِلْأَذَى وَجْهَانِ .
فَصْلٌ : وَالْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : إِذَا قَالَ لَهَا : زَنَى بِكِ صَبِيٌّ لَا يُجَامِعُ مِثْلُهُ ، فَهَذَا لَيْسَ بِقَاذِفٍ لِاسْتِحَالَتِهِ ، وَيُعَزَّرُ لِلْأَذَى وَلَا يَلْتَعِنُ ، فَهَذَا تَفْصِيلُ مَا جَمَعَهُ الشَّافِعِيُّ مِنَ الْمَسَائِلِ الْخَمْسِ ، وَقَوْلُهُ فِيهَا : وَيُعَزَّرُ لِلْأَذَى إِلَّا أَنْ يَلْتَعِنَ ، إِشَارَةٌ إِلَى أَذَى الْقَذْفِ دُونَ أَذَى الْفُحْشِ وَالْخَنَا ، وَعَبَّرَ عَنْ تَعْزِيرِ الْقَذْفِ بِتَعْزِيرِ الْأَذَى ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ أَذًى ، وَفِيمَا شَرَحْنَاهُ مِنَ التَّفْصِيلِ زَوَالُ مَا أُشْكِلَ مِنْ إِطْلَاقِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ : زَنَيْتِ قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَكِ حُدَّ وَلَا لِعَانَ ؛ لِأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى يَوْمِ تَكَلَّمَ بِهِ وَيَوْمِ تَوَقُّعِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَنْ قَذَفَ زَوْجَتَهُ بِزِنًا كَانَ مِنْهَا قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا أَنَّهُ يُحَدُّ وَلَا يُلَاعِنُ اعْتِبَارًا بِوَقْتِ الزِّنَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُلَاعِنُ اعْتِبَارًا بِوَقْتِ الْقَذْفِ وَتَقَدَّمَ مِنَ الْحِجَاجِ عَلَيْهِ مَا أَغْنَى ، فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا لَاعَنَ مِنَ الْقَذْفِ بِالزِّنَا الْمُتَقَدِّمِ قَبْلَ نِكَاحِهِ ؟ لِأَنَّهَا قَدْ تَحْبَلُ مِنْهُ فَيَلْحَقُهُ الْوَلَدُ ، فَصَارَتِ الضَّرُورَةُ دَاعِيَةً إِلَى قَذْفِهَا وَلِعَانِهِ لِيَنْتَفِيَ عَنْهُ نَسَبُ الزِّنَا ، قِيلَ : قَدْ كَانَ يُمْكِنُ إِطْلَاقُ الْقَذْفِ مِنْ غَيْرِ إِضَافَةٍ إِلَى زَمَانٍ مُعَيَّنٍ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ ، وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ لَاعَنَ مِنْ هَذَا الْقَذْفِ وَلَيْسَتْ حَامِلًا لَمْ يَنْتَفِ عَنْهُ نَسَبُ وَلَدٍ تَضَعُهُ بَعْدَ لِعَانِهِ ، فَإِنْ وَلَدَتْ بَعْدَ هَذَا الْقَذْفِ وَلَدًا ، نَظَرَ زَمَانَ وِلَادَتِهِ ، فَإِنْ كَانَ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ نِكَاحِهِ فَهُوَ مَنْفِيٌّ عَنْهُ بِغَيْرِ لِعَانٍ لِعِلْمِنَا بِتَقَدُّمِ عُلُوقِهِ عَلَى نِكَاحِهِ ، وَإِنْ وَلَدَتْهُ بَعْدَ نِكَاحِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا فَهُوَ لَاحِقٌ بِهِ بِحُكْمِ الْفِرَاشِ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا حِينَئِذٍ ، هَلْ لَهُ أَنْ يَلْتَعِنَ لِنَفْيِهِ بِذَاكَ الْقَذْفِ الْمُتَقَدِّمِ الَّذِي نُسِبَ الزِّنَا فِيهِ إِلَى مَا قَبْلَ نِكَاحِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَلْتَعِنَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَسْتَأْنِفَ قَذْفًا مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي الْقَذْفِ الْأَوَّلِ فِي حُكْمِ الْأَجَانِبِ بِمَنْعِهِ مِنَ الِالْتِعَانِ فِيهِ ، فَصَارَ كَمَا لَوْ قَذَفَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَلْتَعِنَ مِنْهُ سَوَاءٌ وَضَعَتِ الْوَلَدَ أَوْ لَمْ تَضَعْ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ يُحَدَّ قَذْفًا مُطْلَقًا ، حُدَّ لِلْقَذْفِ الْأَوَّلِ وَلَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ ، وَإِنْ جَدَّدَ قَذْفًا مُطْلَقًا ، حُدَّ لِلْقَذْفِ الْأَوَّلِ وَلَاعَنَ بِالْقَذْفِ الثَّانِي لِنَفْيِ الْوَلَدِ ، وَلَمْ يَسْقُطْ حَدُّ الْقَذْفِ الْأَوَّلِ بِاللِّعَانِ فِي الْقَذْفِ الثَّانِي لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْحُكْمِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : يَجُوزُ أَنْ يَلْتَعِنَ مِنْهُ إِذَا وَلَدَتْ ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَلْتَعِنَ لَوْ لَمْ تَلِدْ ؛ لَأَنَّ الضَّرُورَةَ تَدْعُوهُ إِلَى الِالْتِعَانِ مَعَ الْوِلَادَةِ وَلَا تَدْعُوهُ مِعِ عَدَمِهَا ؛ وَلِأَنْ يَصْدُقَ فِي إِضَافَةِ الْقَذْفِ إِلَى مَا قَبْلَ نِكَاحِهِ أَوْلَى مِنْ أَنْ يَسْتَأْنِفَ قَذْفًا مُطْلَقًا يَتَجَوَّزُ فِي إِرْسَالِهِ ، فَعَلَى هَذَا إِذَا الْتَعَنَ مُقْتَصِرًا عَلَى الْقَذْفِ الْأَوَّلِ ، أَجْزَأَهُ وَانْتَفَى بِهِ الْوَلَدُ وَسَقَطَ بِهِ الْحَدُّ ، وَلَوْ حُدَّ بَعْدَ الْقَذْفِ الْأَوَّلِ قَذْفًا ثَانِيًا نُظِرَ فِيهِ ، فَإِنْ أَضَافَهُ إِلَى زَمَانِ نِكَاحِهِ فَهُوَ غَيْرُ الزِّنَا الْأَوَّلِ ، فَعَلَى هَذَا يُلَاعِنُ مِنَ الْقَذْفِ الثَّانِي وَيَنْفِي بِهِ الْوَلَدَ وَلَا يَسْقُطُ بِهِ حَدُّ الْقَذْفِ الْأَوَّلِ لِتَمَيُّزِهِ عَنْ نَفْيِ الْوَلَدِ ، فَصَارَ كَوُجُوبِهِ مَعَ عَدَمِ الْوَلَدِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ . قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ قَذَفَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا ثُمَّ قَذَفَهَا وَلَاعَنَهَا وَطَلَبَتْهُ بِحَدِّ الْقَذْفِ قَبْلَ النِّكَاحِ حُدَّ لَهَا ، وَلَوْ لَمْ يَلْتَعِنْ حَتَّى حَدَّهُ الْإِمَامُ بِالْقَذْفِ الْأَوَّلِ ثَمَّ طَلَبَتْهُ بِالْقَذْفِ بَعْدَ النِّكَاحِ لَاعَنَ ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ قَاذِفًا غَيْرَ زَوْجَتِهِ وَحُكْمَهُ قَاذِفًا زَوْجَتَهُ الْحَدُّ أَوِ اللِّعَانُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ مَسْأَلَةُ قَسَّمَ الشَّافِعِيُّ أَحْوَالَهَا ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ ، وَلَهَا مُقَدِّمَةٌ يَجِبُ أَنْ يَبْدَأَ بِهَا لِيَكُونَ جَوَابُ هَذِهِ الْأَقْسَامِ مَحْمُولًا عَلَيْهَا ، وَمُقَدِّمَتُهَا مُصَوَّرَةٌ فِي رَجُلٍ قَذَفَ أَجْنَبِيَّةً ثُمَّ قَذَفَهَا ثَانِيَةً وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْقَذْفِ الثَّانِي مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ حَدِّ الْقَذْفِ الْأَوَّلِ أَوْ بَعْدَهُ ، فَإِنْ كَانَ الْقَذْفُ الثَّانِي بَعْدَ أَنْ حُدَّ مِنَ الْقَذْفِ الْأَوَّلِ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَقْذِفَهَا ثَانِيَةً بِالزِّنَا الْأَوَّلِ ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي الْقَذْفِ الثَّانِي حَدٌّ ؛ لِأَنَّهُمَا قَذْفٌ بِزِنًا وَاحِدٍ وَقَدْ حُدَّ فِيهِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَادَ الْحَدُّ فِيهِ ؛ لِأَنْ لَا يَجْتَمِعَ فِي الْقَذْفِ بِالزِّنَا الْوَاحِدِ حَدَّانِ ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَمِعَ فِي فِعْلِ الزِّنَا الْوَاحِدِ حَدَّانِ ، وَلَكِنْ يُعَزَّرُ فِي إِعَادَةِ الْقَذْفِ الثَّانِي لِأَجْلِ الْأَذَى . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَقْذِفَهَا ثَانِيَةً بِزِنًا ثَانٍ غَيْرِ الزِّنَا الْأَوَّلِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ حَدٌّ ثَانٍ بَعْدِ الْحَدِّ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ قَذْفٌ بِزِنَائَيْنِ ، فَإِذَا حُدَّ لِأَحَدِهِمَا وَجَبَ أَنْ يُحَدَّ لِلْآخَرِ كَمَا لَوْ زَنَا
فَحُدَّ ، ثُمَّ زَنَا ثَانِيَةً يُحَدُّ حَدًّا ثَانِيًا ، فَهَذَا حُكْمُ الْقَذْفِ الثَّانِي إِذَا كَانَ بَعْدَ حَدِّ الْقَذْفِ الْأَوَّلِ ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَذْفِ الْأَوَّلِ ، فَهُوَ أَيْضًا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْقَذْفُ الثَّانِي بِالزِّنَا الْأَوَّلِ ، فَلَا يَلْزَمُهُ فِي الْقَذْفَيْنِ إِلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ ؛ لِأَنَّهُمَا بِزِنَاءٍ وَاحِدٍ ؛ كَمَا لَوْ كَرَّرَ لَفْظَ الْقَذْفِ لِوَقْتِهِ فَقَالَ : زَنَيْتِ ، زَنَيْتِ ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إِلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْقَذْفُ الثَّانِي بِزِنَاءٍ ثَانٍ غَيْرِ الزِّنَا الْأَوَّلِ كَأَنَّهُ قَالَ فِي الْقَذْفِ الْأَوَّلِ : زَنَى بِكِ زَيْدٌ ، ثُمَّ قَالَ فِي الْقَذْفِ الثَّانِي : زَنَى بِكِ عَمْرٌو ، فَفِيهِمَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ ، وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ ، أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ فِيهِمَا إِلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ وَيَدْخُلُ أَحَدُ الْقَذْفَيْنِ فِي الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الزِّنَا أَغْلَظُ مِنَ الْقَذْفِ بِهِ ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ زَنَى فَلَمْ يُحَدَّ حَتَّى زَنَى حُدَّ لَهُمَا حَدًّا وَاحِدًا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ مُخْرَّجٌ مِنْ دَلِيلِ كَلَامِهِ فِي الْقَدِيمِ لِأَنَّهُ قَالَ : عَلَيْهِ لَهُمَا حَدٌّ وَاحِدٌ ، وَلَوْ قِيلَ : عَلَيْهِ حَدَّانِ ، كَانَ مَذْهَبًا فَخَرَّجَهُ أَصْحَابُنَا قَوْلًا ثَانِيًا فِي الْقَدِيمِ ، ثُمَّ إِنَّ لِهَذَيْنِ الْقَذْفَيْنِ حَدَّيْنِ ، بِخِلَافِ الزِّنَائَيْنِ ، لِأَنَّ حَدَّ الزِّنَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَحْضَةِ فَجَازَ أَنْ يَتَدَاخَلَ ، وَحَدَّ الْقَذْفِ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَدَاخَلَ .
مَسْأَلَةٌ : فَإِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ : فَصُورَةُ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فِي رَجُلٍ قَذَفَ أَجْنَبِيَّةً ثُمَّ تَزَوَّجَهَا ثُمَّ قَذَفَهَا ثَانِيَةً بَعْدَ التَّزْوِيجِ ، وَفِي الْمُقَدِّمَةِ كَانَ الْقَذْفَانِ مِنْ غَيْرِ تَزْوِيجٍ ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْقَذْفِ الْأَوَّلِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ حُدَّ لَهُ قَبْلَ الْقَذْفِ الثَّانِي أَوْ لَمْ يُحَدَّ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ حُدَّ لَهُ ، وَقَدْ قَذَفَهَا ثَانِيَةً فِي التَّزْوِيجِ بَعْدَ أَنْ حُدَّ لِلْأَوَّلِ قَبْلَ التَّزْوِيجِ ، فَالْقَذْفُ الثَّانِي عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ بِالزِّنَا الْأَوَّلِ ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي الْقَذْفِ الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ حُدَّ لَهُ فِي الْأَوَّلِ لَكِنْ يُعَزَّرُ لِلْأَذَى ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَلْتَعِنَ بِالْقَذْفِ الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ بِزِنَاءٍ قَبْلَ نِكَاحِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْقَذْفُ بِزِنَاءٍ ثَانٍ بَعْدِ الزَّوْجِيَّةِ فَعَلَيْهِ حَدٌّ ثَانٍ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَلْتَعِنَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ الْأَوَّلَ تَقَضَّى حُكْمُهُ قَبْلَ الزَّوْجِيَّةِ ، وَقَدْ قَذَفَ مُبْتَدِأً بَعْدَ الزَّوْجِيَّةِ فَانْفَرَدَ بِحُكْمِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْقَذْفُ الثَّانِي قَبْلَ حَدِّهِ مِنَ الْقَذْفِ الْأَوَّلِ ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ بِالزِّنَا الْأَوَّلِ ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِيهَا إِلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ ؛ لِأَنَّهُ قَذْفٌ بِزِنَاءٍ وَاحِدٍ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ عَنْ زِنًا قَبْلَ الزَّوْجِيَّةِ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ وَلَدٌ ، فَفِي جَوَازِ لِعَانِهِ وَجْهَانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ :
أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ : لَا يَلْتَعِنُ مِنْهُ مَعَ الْوَلَدِ كَمَا لَا يَلْتَعِنُ مِنْهُ مَعَ عَدَمِهِ ، فَعَلَى هَذَا يُحَدُّ لِلْقَذْفَيْنِ حَدًّا وَاحِدًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَلْتَعِنَ مِنْهُ مَعَ وُجُودِ الْوَلَدِ ، وَإِنْ لَمْ يَلْتَعِنَ مِنْهُ مَعَ عَدَمِهِ لِلضَّرُورَةِ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَسْقُطُ عَنْهُ حَدُّ الْقَذْفِ الْأَوَّلِ وَيُجْمَعُ عَلَيْهِ بَيْنَ الْحَدِّ وَاللِّعَانِ ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ لَا يُسْقِطُ حَدَّ قَذْفٍ قَبْلَ الزَّوْجِيَّةِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْقَذْفُ الثَّانِي بِزِنَاءٍ ثَانٍ بَعْدَ الزَّوْجِيَّةِ ، فَيَصِيرُ قَاذِفًا لَهَا بِزِنَائَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَبْلَ الزَّوْجِيَّةِ يُوجِبُ الْحَدَّ وَلَا يُسْقِطُ اللِّعَانَ . وَالثَّانِي : فِي الزَّوْجِيَّةِ يُوجِبُ الْحَدَّ وَيُسْقِطُ اللِّعَانَ ، فَلَمَّا اخْتَلَفَ حُكْمُ الْقَذْفَيْنِ وَجَبَ أَنْ يُجْمَعَ عَلَيْهِ بَيْنَ الْحَدَّيْنِ ، وَخَالَفَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ قَذْفَيِ الْأَجْنَبِيِّ . حَيْثُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ فِيهِمَا إِلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ؛ لِأَنَّ قَذْفَيِ الْأَجْنَبِيَّةِ مُتَّفِقَا الْحُكْمِ فَتَدَاخَلَا ، وَقَذْفَيِ الزَّوْجِيَّةِ مُخْتَلِفَا الْحُكْمِ فَلَمْ يَتَدَاخَلَا . وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ : وَإِذَا جُمِعَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَدَّيْنِ لِاخْتِلَافِ حُكْمِهِمَا وَإِنْ تَجَانَسَا وَجَبَ إِذَا زَنَى وَهُوَ بِكْرٌ فَلَمْ يُحَدَّ حَتَّى زَنَى بَعْدَ إِحْصَانِهِ أَنْ يُحَدَّ حَدَّيْنِ لِاخْتِلَافِ حُكْمِهِمَا وَإِنْ تَجَانَسَا ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ الْأَوَّلَ جَلْدٌ ، وَالثَّانِيَ رَجْمٌ ، فَيُجْلَدُ وَيُرْجَمُ ، وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ حَدَّ الزِّنَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - ، فَجَازَ أَنْ يَدْخُلَ أَخَفُّهُمَا فِي أَغْلَظِهِمَا عِنْدَ التَّجَانُسِ كَمَا يَدْخُلُ الْحَدَثُ فِي الْجَنَابَةِ ، وَلَمْ يَجُزْ مِثْلُ ذَلِكَ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَلَيْهِ فِي هَذَيْنِ الْقَذْفَيْنِ حَدَّيْنِ يُلَاعِنُ فِي الثَّانِي مِنْهُمَا وَلَا يُلَاعِنُ فِي الْأَوَّلِ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا عِنْدَ الْمُطَالَبَةِ [ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ ذَكَرَهَا الشَّافِعِيُّ : أَحَدُهَا : أَنْ تُقَدِّمَ الْمُطَالَبَةَ بِالْقَذْفِ الْأَوَّلِ ، فَيُحَدُّ لَهَا فِي وَقْتِهِ ، فَإِذَا طَالَبَتْهُ ] بَعْدَهُ بِالْقَذْفِ الثَّانِي ، نُظِرَ فَإِنْ قَدَّمَتِ الْمُطَالَبَةَ بِالْقَذْفِ الْأَوَّلِ فَإِنْ لَاعَنَ مِنْهَا الْتَعَنَ لِوَقْتِهِ ، وَإِنْ لَمْ يُلَاعِنْ حُدَّ لِلثَّانِي بَعْدَ أَنْ يَبْرَأَ جِلْدُهُ مِنَ الْأَوَّلِ ، لِئَلَّا يُوَالَى عَلَيْهِ بَيْنَ حَدَّيْنِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ تُقَدِّمَ الْمُطَالَبَةَ بِالْقَذْفِ الثَّانِي ، فَإِنِ الْتَعَنَ مِنْهُ حُدَّ بَعْدَهُ لِلْقَذْفِ الْأَوَّلِ إِذَا طَالَبَتْهُ بِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَلْتَعِنْ حُدَّ لَهُ ، وَوَقَفَ حَدُّهُ لِلْأَوَّلِ حَتَّى يَبْرَأَ جِلْدُهُ ، وَلَا يَكُونُ لِعَانُهُ كَالْبَيِّنَةِ فِي سُقُوطِ الْقَذْفِ الْأَوَّلِ . وَإِنْ كَانَ كَالْبَيِّنَةِ فِي سُقُوطِ قَذْفٍ مِنْ بَعْدِهِ ؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَ اللِّعَانِ مُسْتَقِرٌّ وَمَا بَعْدَهُ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ تَطْلُبَهُمَا وَلَا تُقَدِّمَ أَحَدَهُمَا ، فَيُقَالُ لَهَا : الْحَقُّ فِي الْقَذْفِ الثَّانِي
مُشْتَرَكٌ بَيْنَكُمَا ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَلْتَعِنَ مِنْهُ ، وَهُوَ فِي الْأَوَّلِ خَالِصٌ ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِهِ عِنْدَ الِاسْتِيفَاءِ ، وَحَقُّكِ فِيهِمَا أَقْوَى ، وَلَابُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ وَالرُّجُوعِ فِيهِمَا إِلَى خِيَارِكِ لِقُوَّةِ حَقِّكِ فِيهِمَا عَلَى حَقِّ الزَّوْجِ ، فَأَيُّهُمَا قُدِّمَ فِي الِاسْتِيفَاءِ كَانَ عَلَى مَا مَضَى ، فَإِنِ اخْتَلَفَا أَوْ طَالَبَ الزَّوْجُ تَقْدِيمَ الثَّانِي لِيَلْتَعِنَ مِنْهُ وَطَلَبَتِ الزَّوْجَةُ تَقْدِيمَ الْأَوَّلِ لِيُحَدَّ فِيهِ ، فَيُعْمَلُ فِيهِ عَلَى قَوْلِ الزَّوْجَةِ دُونَ الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّهَا طَالِبَةٌ ، وَالزَّوْجَ مَطْلُوبٌ ، فَلَوِ اسْتَوْفَى مِنْهُ أَحَدَ الْحَدَّيْنِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِيهِ فَقَالَ الزَّوْجُ : هُوَ الْحَدُّ الْأَوَّلُ ، وَلِي أَنْ أَلْتَعِنَ مِنَ الثَّانِي ، وَقَالَتِ الزَّوْجَةُ : بَلْ هُوَ الْحَدُّ الثَّانِي وَلَيْسَ لَكَ أَنْ تَلْتَعِنَ مِنَ الْحَدِّ الْأَوَّلِ ، فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّهُ عَلَى حَقِّهِ مِنَ اللِّعَانِ فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ الزَّوْجَةِ فِي إِسْقَاطِهِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا قَذَفَ زَوْجَهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ، ثُمَّ قَذَفَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ بِزِنَاءٍ آخَرَ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ عَكْسُ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ الْأَوَّلَ هَاهُنَا فِي حُكْمِ الْقَذْفِ الثَّانِي هُنَاكَ لِأَنَّهُمَا فِي الزَّوْجِيَّةِ ، وَالْقَذْفُ الثَّانِي هَاهُنَا فِي حُكْمِ الْقَذْفِ الْأَوَّلِ هُنَاكَ لِأَنَّهُمَا فِي أَجْنَبِيَّةٍ فَيَكُونُ الْقَذْفُ فِيهِمَا وَاحِدًا ، فَتَعَلَّقَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَذْفَيْنِ حُكْمُهُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ تَقْسِيمٍ وَجَوَابٍ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا قَذَفَ زَوْجَهُ وَالْتَعَنَ مِنْهَا ثُمَّ قَذَفَهَا بَعْدَ اللِّعَانِ بِزِنَاءٍ آخَرَ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَنْسِبَهُ إِلَى مَا بَعْدَ لِعَانِهِ ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ فِيهِ ، لِأَنَّ حَصَانَتَهَا مَعَهُ قَدِ ارْتَفَعَتْ بِلِعَانِهِ ، فَإِنْ كَانَتْ حَصَانَتُهَا بَاقِيَةً مَعَ غَيْرِهِ ، وَجَرَى لِعَانُهُ فِي حَقِّهِ مَجْرَى الْبَيِّنَةِ فِي حَقِّهِ وَحَقِّ غَيْرِهِ ، فَإِذَا سَقَطَ الْحَدُّ عَنْهُ عُزِّرَ لِلْأَذَى . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَنْسِبَهُ إِلَى مَا قَبْلَ لِعَانِهِ وَقَبْلَ زَوْجِيَّتِهِ فَيُحَدُّ فِيهِ ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ أَجْنَبِيَّةً مِنْهُ ، وَلَا يَسْقُطُ ذَلِكَ الْحَدُّ بِمَا تَجَدَّدَ مِنْ لِعَانِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَنْسِبَهُ إِلَى مَا بَعْدَ نِكَاحِهَا وَقَبْلَ لِعَانِهَا ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُحَدُّ لَهَا ؛ لِأَنَّهَا قَبْلَ الْتِعَانِهِ مِنْهَا بَاقِيَةٌ عَلَى حَصَانَتِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا حَدَّ عَلَيْهِ لَكِنْ يُعَزَّرُ تَعْزِيرَ الْقَذْفِ ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ إِذَا نَفَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ النَّسَبِ رَفَعَ مَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْحَصَانَةِ ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ أَنْ يُعِيدَ اللِّعَانَ لِإِسْقَاطِ الْحَدِّ وَلَا التَّعْزِيرِ إِلَّا أَنْ يَنْفِيَ بِهِ نَسَبًا لَمْ يَنْفِهِ بِلِعَانِهِ ، فَيَجُوزُ لِلضَّرُورَةِ إِلَى نَفْيِهِ أَنْ يَلْتَعِنَ ثَانِيَةً لِنَفْيِهِ ، فَيَتْبَعُهُ سُقُوطُ الْحَدِّ وَالتَّعْزِيرِ .
فَصْلٌ : وَإِذَا قَذَفَ زَوْجَتَهُ بِالزِّنَا وَلَمْ يَلْتَعِنَ حَتَّى قَذَفَهَا بِزِنَاءٍ آخَرَ فَفِيهِمَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : عَلَيْهِ فِيهِمَا حَدٌّ وَاحِدٌ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : حَدَّانِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَوْجِيهَ الْقَوْلَيْنِ وَتَخْرِيجَهُمَا ، فَإِنْ لَاعَنَ مِنْهُمَا
الْتَعَنَ لِعَانًا وَاحِدًا يَسْقُطُ بِهِ الْحَدَّانِ مَعًا ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ يَمِينٌ فَجَازَ أَنْ يَسْقُطَ بِهِ الْحَدَّانِ إِذَا كَانَا لِشَخْصٍ وَاحِدٍ كَالْيَمِينِ عَلَى حَقَّيْنِ مِنْ مَالٍ . وَلَوْ قَذَفَ زَوْجَتَيْنِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ حَدَّانِ الْتَعَنَ مِنْهُمَا لِعَانَيْنِ وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا فِي لِعَانٍ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّهُمَا حَقَّانِ ، فَوَجَبَ لِشَخْصٍ فَاخْتُصَّ إِسْقَاطُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْحَقَّيْنِ بِيَمِينٍ كَإِسْقَاطِ حَقَّيْ مَالٍ لِشَخْصَيْنِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِيَمِينَيْنِ ، وَإِذَا صَحَّ أَنَّهُ فِي الْقَذْفَيْنِ مِنَ الزَّوْجَةِ الْوَاحِدَةِ يَلْتَعِنُ فِيهِمَا لِعَانًا وَاحِدًا لَزِمَهُ أَنْ يَذْكُرَ الْقَذْفَيْنِ ؛ لِأَنَّ صِدْقَهُ فِي أَحَدِهِمَا لَا يُوجِبُ صِدْقَهُ فِي الْآخَرِ فَلَمْ يُؤْمَنْ إِذَا ذَكَرَ أَحَدَهُمَا فِي لِعَانِهِ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِيهِ كَاذِبًا فِي الْآخَرِ فَكَذَلِكَ لَزِمَهُ أَنْ يَذْكُرَهُمَا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ سَمَّى فِيهِمَا زَانِيًا قَالَ : أَشْهَدُ بِاللَّهِ ، إِنَّنِي لَمِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا [ قَذَفْتُهَا بِهِ مِنَ الزِّنَا الْأَوَّلِ وَمِنَ الزِّنَا الثَّانِي ، وَإِنْ سَمَّاهُمَا قَالَ : أَشْهَدُ بِاللَّهِ ، إِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا ] رَمَيْتُهَا بِهِ مِنَ الزِّنَا بِفُلَانٍ وَفُلَانٍ ، وَإِنْ سَمَّى أَحَدَهُمَا وَلَمْ يُسَمِّ الْآخَرَ ، بَدَأَ بِذِكْرِ مَنْ سَمَّاهُ ثُمَّ بِالْآخَرِ ، سَوَاءٌ إِنْ تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ فَقَالَ : أَشْهَدُ بِاللَّهِ ، إِنَّنِي لِمِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ مِنَ الزِّنَا بِفُلَانٍ ، وَفِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ مِنَ الزِّنَا الْآخَرِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَلَوْ قَالَ لَهَا : يَا زَانِيَةُ ، فَقَالَتْ لَهُ : بَلْ أَنْتَ زَانٍ لَاعَنَهَا وَحُدَّتْ لَهُ ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ : لَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ فَأَبْطَلَ الْحُكْمَيْنِ جَمِيعًا وَكَانَتْ حُجَّتُهُ أَنْ قَالَ : أَسْتَقْبِحُ أَنْ أُلَاعِنَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ أَحُدَّهَا ، وَمَا قَبُحَ فَأَقْبَحُ مِنْهُ تَعْطِيلُ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا قَذَفَهَا وَقَذَفَتْهُ فَقَالَ لَهَا : يَا زَانِيَةُ ، فَقَالَتْ : بَلْ أَنْتَ زَانٍ ، وَجَبَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ حَدُّ الْقَذْفِ ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لَهَا بِقَوْلِهِ : يَا زَانِيَةُ ، وَيَجِبُ عَلَيْهَا الْحَدُّ لَهُ بِقَوْلِهَا : بَلْ أَنْتَ ، فَإِنْ لَمْ يَلْتَعِنْ حُدَّ لَهَا وَحُدَّتْ لَهُ ، وَإِنِ الْتَعَنَ وَالْتَعَنَتْ سَقَطَ عَنْهُ حَدُّ الْقَذْفِ بِلِعَانِهِ ، وَسَقَطَ عَنْهَا حَدُّ الزِّنَا دُونَ حَدِّ الْقَذْفِ . فَإِنِ الْتَعَنَ وَلَمْ تَلْتَعِنْ هِيَ سَقَطَ عَنْهُ حَدُّ الْقَذْفِ بِلِعَانِهِ وَوَجَبَ عَلَيْهَا حَدَّانِ ، حَدُّ الزِّنَا وَحَدُّ الْقَذْفِ وَيُقَدَّمُ حَدُّ الْقَذْفِ عَلَى حَدِّ الزِّنَا لِتَقَدُّمِ وُجُوبِهِ ، وَلِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ ، فَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا حَدَّهَا الْجَلْدَ لَا يُوَالِي عَلَيْهَا بَيْنَ الْحَدَّيْنِ وَأُمْهِلَتْ بَيْنَهُمَا لِيَبْرَأَ جِلْدُهَا ، وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا حَدَّهَا الرَّجْمَ ، رُجِمَتْ لِوَقْتِهَا ، وَإِنْ لَمْ يَلْتَعِنِ الزَّوْجُ مِنْهَا ، حُدَّ لَهَا حَدَّ الْقَذْفِ ، وَحُدَّتْ لَهُ حَدَّ الْقَذْفِ ، وَلَمْ يَتَقَاصَّا الْحَدَّيْنِ لِأَنَّ الْقَذْفَ لَا يَدْخُلُهُ الْقِصَاصُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ قَذَفَ رَجُلًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ مِنَ الْقَاذِفِ بِأَنْ يَقْذِفَهُ مِثْلَ قَذْفِهِ ، فَإِذَا لَمْ يَتَقَاصَّا الْقَذْفَ ، لَمْ يَتَقَاصَّا حَدَّ الْقَذْفِ ، وَلَكِنْ لَوْ تَبَارَآ وَعَفَى كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ جَازَ فَسَقَطَ الْحَدَّانِ بِعَفْوِهِمَا لَا بِقِصَاصِهِمَا ، فَهَذَا شَرْحُ مَذْهَبِنَا فِي قَذْفِهِ لَهَا وَقَذْفِهَا لَهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : إِذَا قَذَفَهَا فَقَذَفَتْهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَلْتَعِنَا ، وَحُدَّتْ لِقَذْفِهِ وَلَمْ يُحَدَّ لِقَذْفِهَا ، اسْتِدْلَالًا بِاسْتِقْبَاحِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِّ وَاللِّعَانِ ؛ لِأَنَّ مَنْ حُدَّ لَمْ يَلْتَعِنْ ، وَمَنِ الْتَعَنَ لَمْ يُحَدَّ ، قَالُوا : وَلِأَنَّ اللِّعَانَ حَدٌّ فَلَا يُوَالَى بَيْنَ حَدَّيْنِ . قَالُوا : وَلِأَنَّ مِنْ أَصْلِنَا أَنَّ الْمَحْدُودَ لَا يَلْتَعِنُ ، وَهَذِهِ فِي لُزُومِ الْحَدِّ لَهَا كَالْمَحْدُودَةِ ، فَوَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ بِهِ الْحُدُودُ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ [ النُّورِ : ] فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي جَوَازِ اللِّعَانِ لِقَذْفِهِ ؛ لِأَنَّهُمَا قَذْفَانِ فَلَا يَسْقُطُ حُكْمُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ ، كَتَقَاذُفِ الْأَجْنَبِيَّيْنِ ، وَلِأَنَّ اخْتِلَافَ حُكْمِ الْقَذْفَيْنِ عِنْدَ انْفِرَادِهِمَا لَا يُوجِبُ سُقُوطَ أَحَدِهِمَا بِالَآخَرِ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمَا كَتَقَاذُفِ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ صَارَ قَاذِفًا وَمَقْذُوفًا فَصَارَتْ حَالُهُمَا سَوَاءً وَكَانَا بِتَغْلِيظِ الِالْتِعَانِ أَوْلَى ؛ وَلِأَنَّ اللِّعَانَ حَقُّ الزَّوْجِ مَوْضُوعٌ لِنَفْيِ النَّسَبِ الَّذِي لَا يَنْتَفِي بِغَيْرِهِ ، فَلَوْ سَقَطَ حَقُّهُ مِنَ اللِّعَانِ بِقَذْفِهَا لَهُ لَمَا أَمْكَنَ زَوْجًا أَنْ يَنْفِيَ نَسَبًا إِذَا قَذَفَ ، وَلَتَوَصَّلَتْ كُلُّ زَوْجَةٍ إِلَى إِبْطَالِ حَقِّ الزَّوْجِ مِنَ اللِّعَانِ وَنَفْيِ النَّسَبِ بِقَذْفِهِ وَأَلْحَقَتْ بِهِ كُلَّ وَلَدٍ مِنْ زِنًا ، وَمَا أَدَّى إِلَى هَذَا فَالشَّرْعُ مَانِعٌ مِنْهُ ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِقْبَاحِهِ الْجَمْعَ بَيْنَ اللِّعَانِ وَالْحَدِّ فَهُوَ مَا أَجَابَ بِهِ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِنَّ أَقْبَحَ مِنْهُ تَعْطِيلُ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُمَا ، ثُمَّ هَلَّا إِذَا اسْتَقْبَحَ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا أَثَبَتَ حُكْمَ أَغْلَظِهِمَا وَهُوَ اللِّعَانُ ، وَأَسْقَطَ حُكْمَ أَخَفِّهِمَا وَهُوَ الْحَدُّ ، فَكَانَ أَشْبَهَ بِالصَّوَابِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَوَابٌ ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي اسْتِبْقَاءِ الْحَقَّيْنِ أَوْلَى مِنْ إِسْقَاطِ أَحَدِهِمَا . وَقَوْلُهُمْ : إِنَّ اللِّعَانَ حَدٌّ فَلَا يُوالَى بَيْنَ حَدَّيْنِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ : يَجِبُ بِقَذْفِهَا حَدٌّ وَاحِدٌ ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ الْقَذْفِ وَاحِدَةٌ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يُوَالِيَ عَلَيْهِ حُدُودًا مُتَجَانِسَةً كَالْقَاذِفِ لِجَمَاعَةٍ مُخْتَلِفَةٍ كَالْقَذْفِ وَالزِّنَا ، وَأَمَّا بِنَاؤُهُمْ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِمْ فَهُمْ مُخَالِفُونَ عَنْهُ أَصْلًا وَفَرْعًا فَلَمْ يَسْلَمْ لَهُمْ دَلِيلٌ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَلَوْ قَذَفَهَا وَأَجْنَبِيَّةً بِكَلِمَةٍ لَاعَنَ وَحُدَّ لِلْأَجْنَبِيَّةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَأَصِلُ ذَلِكَ قَذْفُ الْأَجْنَبِيَّتَيْنِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ يَجِبُ بِقَذْفِهِمَا حَدٌّ وَاحِدٌ ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ الْقَذْفِ وَاحِدَةٌ .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ : يَجِبُ بِقَذْفِهِمَا حَدَّانِ ؛ لِأَنَّهُمَا مَقْذُوفَانِ ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَقَذَفَ زَوْجَتَهُ وَأَجْنَبِيَّةً بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَحُكْمُ قَذْفِهِمَا مُخْتَلِفٌ ؛ لِأَنَّ قَذْفَ زَوْجَتِهِ يَسْقُطُ بِاللِّعَانِ وَلَا يَسْقُطُ بِهِ قَذْفُ الْأَجْنَبِيَّةِ ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَهُ حَالَتَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَلْتَعِنَ ، وَلَا يَسْقُطُ بِهِ قَذْفُ الْأَجْنَبِيَّةِ ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَهُ حَالَتَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَلْتَعِنَ مِنْ زَوْجَتِهِ ، فَيَسْقُطُ بِهِ حَدُّ قَذْفِهَا وَيُحَدُّ لِلْأَجْنَبِيَّةِ ، لِأَنَّ اللِّعَانَ كَالْبَيِّنَةِ فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ دُونَ الْأَجْنَبِيَّةِ . فَإِنْ قِيلَ : فَالْأَجْنَبِيَّةُ تَبَعٌ لِزَوْجَتِهِ فِي الْقَذْفِ ، فَهَلَّا سَقَطَ بِاللِّعَانِ حَقُّهَا فِي الْقَذْفِ كَمَا لَوْ قَذَفَ زَوْجَتَهُ بِرَجُلٍ سَمَّاهُ فَسَقَطَ حَدُّهُمَا بِلِعَانِهِ وَلَوْ كَانَ أَجْنَبِيًّا ، لِكَوْنِهِ تَبَعًا . قِيلَ : لِأَنَّ قَذْفَهُ لِلرَّجُلِ بِزَوْجَتِهِ هُوَ زِنَاءٌ وَاحِدٌ ، فَإِذَا أَثْبَتَهُ بِاللِّعَانِ فِي حَقِّ زَوْجَتِهِ ثَبَتَ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَذْفُ زَوْجَتِهِ مَعَ الْأَجْنَبِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ قَذْفٌ بِزِنَائَيْنِ فَلَمْ يُوجِبْ إِثْبَاتُ أَحَدِهِمَا ثُبُوتَ الْآخَرِ فَافْتَرَقَا . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ لَا يَلْتَعِنَ مَنْ زَوْجَتِهِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي قَدْرِ مَا يُحَدُّ لَهُمَا ، فَمِنْهُمْ مَنْ خَرَّجَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا لَوْ جَمَعَ فِي الْقَذْفِ بَيْنَ أَجْنَبِيَّيْنِ أَحَدُهُمَا حَدٌّ وَاحِدٌ وَالثَّانِي حَدَّانِ . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ يُحَدُّ بِهِ لَهُمَا حَدَّيْنِ قَوْلًا وَاحِدًا بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيَّيْنِ ؛ لِأَنَّ قَذْفَهُمَا مُتَسَاوِي الْأَحْكَامِ ، وَقَذْفَ زَوْجَتِهِ مَعَ الْأَجْنَبِيَّةِ مُخْتَلِفُ الْأَحْكَامِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَذَفَ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ لَهُ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ لَاعَنَ كُلَّ وَاحِدَةٍ ، وَإِنْ تَشَاحَحْنَ أَيَّتُهُنَّ تَبْدَأُ أَقْرَعَ بَيْنَهُنَ وَأَيَّتُهُنَ بَدَأَ الْإِمَامُ بِهَا رَجَوْتُ أَنْ لَا يَأْثَمَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ إِلَّا وَاحِدًا وَاحِدًا ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ فِي الْحُدُودِ : وَلَوْ قَذَفَ جَمَاعَةً كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ حَدٌّ ، فَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَلْتَعِنْ كَانَ لِكُلِّ امْرَأَةٍ حَدٌّ فِي قِيَاسِ قَوْلِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ قَذْفَ الْوَاحِدِ لِجَمَاعَةٍ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُفْرِدَ قَذْفَهُمْ . وَالثَّانِي : أَنْ يُشْرِكَ بَيْنَهُمْ ، فَإِنْ أَفْرَدَ قَذْفَهُمْ وَقَذَفَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِكَلِمَةٍ مُفْرَدَةٍ فَقَالَ : قَدْ زَنَيْتَ يَا زَيْدُ وَزَنَيْتَ يَا عَمْرُو ، وَزَنَيْتَ يَا بَكْرُ ، فَلَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ عَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَدًّا . وَقَالَ مَالِكٌ : يُحَدُّ لِجَمِيعِهِمْ حَدًّا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّ الزِّنَا أَغْلَظُ مِنَ الْقَذْفِ فَلَمَّا تَدَاخَلَتْ حُدُودُ الزِّنَا فَأَوْلَى أَنْ تَتَدَاخَلَ حُدُودُ الْقَذْفِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ ، وَحُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ إِذَا اجْتَمَعَتْ لَمْ تَتَدَاخَلْ كَالْقِصَاصِ وَالدُّيُونِ لِمَا فِي
تَدَاخُلِهَا مِنْ إِسْقَاطِ حَقِّ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ ، وَخَالَفَتْ حَدَّ الزِّنَا وَقَطْعَ السَّرِقَةِ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ ، فَجَازَ أَنْ يَتَدَاخَلَ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ إِذَا تَجَانَسَا ، لِأَنَّ تَدَاخُلَهَا غَيْرُ مُسْقِطٍ لِحَقِّهِ مِنْ جَمِيعِهَا . وَأَمَّا إِنْ شَرَكَ بَيْنَهُمْ فِي الْقَذْفِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ ، فَقَالَ لِجَمَاعَتِهِمْ : زَنَيْتُمْ ، أَوْ قَالَ لَهُمْ : يَا زُنَاةُ ، فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَهُمْ حَدٌّ وَاحِدٌ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِأَنَّ كَلِمَةَ الْقَذْفِ وَاحِدَةٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحَدُّ عَلَيْهَا وَاحِدًا . وَالثَّانِي : لِأَنَّ الْمَعَرَّةَ بِهَا قَدِ ارْتَفَعَتْ بِتَكْذِيبِهِ عَلَيْهَا بِالْحَدِّ فَوَجَبَ أَنْ يَرْتَفِعَ حُكْمُ جَمِيعِهَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ أَنَّ عَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدًّا كَامِلًا لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ : أَحَدُهَا : أَنْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَقْذُوفٌ ، فَوَجَبَ أَنْ يُحَدَّ لِقَذْفِهِ كَمَا لَوْ أَفْرَدَهُ . وَالثَّانِي : لِأَنَّ الْحُقُوقَ إِذَا لَمْ تَتَدَاخَلْ إِذَا انْفَرَدَتْ لَمْ تَتَدَاخَلْ إِذَا اجْتَمَعَتْ ، كَالْقِصَاصِ وَالدُّيُونِ ، وَإِذَا تَدَاخَلَتْ إِذَا اجْتَمَعَتْ تَدَاخَلَتْ إِذَا انْفَرَدَتْ كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ كَمَا كَانَ - لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِمْ بِالزِّنَا حُدَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَدًّا وَجَبَ إِذْ عَدِمَهَا أَنْ يُحَدَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ فِي جِهَتِهِ فِي مُقَابَلَةِ حَدِّ الزِّنَا فِي جِهَتِهِمْ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا وَقَذَفَ أَرْبَعَ زَوْجَاتٍ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ كيف يكون الحد أو اللعان ، فَلَا يَخْلُو فِي قَذْفِهِنَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ مُلَاعَنَتِهِمْ ، فَفِيمَا يُحَدُّ لَهُنَّ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الْقَدِيمُ يُحَدُّ لِجَمَاعَتِهِنَّ حَدًّا وَاحِدًا إِذَا اجْتَمَعْنَ عَلَى الطَّلَبِ ، فَإِذَا طَلَبَتْ وَاحِدَةٌ فَحُدَّ لَهَا وَالْبَاقِيَاتُ مُتَأَخِّرَاتٌ لِغَيْبَةٍ ثُمَّ حَضَرْنَ فَطَالَبْنَ لَمْ يُحَدَّ ثَانِيَةً ؛ لِئَلَّا يُضَاعَفَ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِغَيْبَتِهِنَّ ، وَيَكُونُ الْحَدُّ مُسْتَوْفِيَ حَقِّ مَنْ حَضَرَ وَغَابَ ، وَلَوْ حَضَرْنَ فَعَفَوْنَ إِلَّا وَاحِدَةً حُدَّ لَهَا حَدًّا كَامِلًا وَلَمْ يَتَبَعَّضِ الْحَدُّ فِي حُقُوقِهِنَّ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ الْجَدِيدُ يُحَدُّ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ حَدًّا كَامِلًا إِذَا طَلَبَتْ ، فَإِنِ اجْتَمَعْنَ عَلَى الطَّلَبِ وَتَنَازَعْنَ فِي التَّقْدِيمِ أُقْرِعَ بَيْنَهُنَّ وَقُدِّمَ حَقُّ مَنْ قُرِعَ مِنْهُنَّ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُجِيبَ إِلَى مُلَاعَنَتِهِنَّ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُفْرِدَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِلِعَانٍ مُفْرَدٍ سَوَاءٌ قِيلَ : إِنَّهُ يُحَدُّ لَهُنَّ حَدًّا وَاحِدًا أَوْ حُدُودًا ، وَلَا يَجْمَعَ بَيْنَهُنَّ فِي لِعَانٍ وَاحِدٍ لِأَمْرَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ لِلِعَانِ كُلِّ وَاحِدَةٍ حُكْمًا فَلَمْ يَشْتَرِكْنَ فِيهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ اللِّعَانَ يَمِينٌ ، وَالْأَيْمَانُ لَا تَتَدَاخَلُ فِي حُقُوقِ الْجَمَاعَةِ . وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ : اسْتَحْلَفَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي رَجُلًا فِي حَقٍّ لِرَجُلَيْنِ يَمِينًا وَاحِدَةً فَاجْتَمَعَ فُقَهَاءُ زَمَانِنَا عَلَى أَنَّهُ خَطَأٌ . قَالَ الدَّارَكِيُّ : فَسَأَلْتُ أَبَا إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيَّ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : إِنْ كَانَا ادَّعَيَا ذَلِكَ الْحَقَّ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ ، مِثْلَ أَنْ تَدَاعَيَا دَارًا وَرِثَاهَا عَنْ أَبِيهِمَا ، أَوْ مَالًا شَرِكَةً بَيْنَهُمَا ، حَلَّفَ لَهُمَا يَمِينًا وَاحِدَةً ، وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ مِنْ جِهَتَيْنِ حَلَّفَ لِكُلِّ وَاحِدٍ عَلَى الِانْفِرَادِ ؛ لِأَنَّهُ إِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْيَمِينِ وَكَانَ لِأَحَدِهِمَا حَقٌّ لَمْ يَحْنَثْ ، وَالْمَقْصُودُ بِالْيَمِينِ مَا تَمَّ الْحِنْثُ إِنْ كَذَبَ . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ صَحِيحٌ ، وَحُقُوقُ الزَّوْجَاتِ هَاهُنَا مِنْ جِهَاتٍ مُشْتَرَكَةٍ مُخْتَلِفَةٍ ؛ لِأَنَّهُنَّ لَا يَشْتَرِكْنَ فِي زِنَاءٍ وَاحِدٍ ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَلْتَعِنَ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ لِعَانًا مُفْرَدًا وَتَنَازَعْنَ فِي التَّقْدِيمِ ، أُقْرِعَ بَيْنَهُنَّ وَقُدِّمَ مَنْ قُرِعَتْ مِنْهُنَّ لِاسْتِوَائِهِنَّ فِي الِاسْتِحْقَاقِ ، فَإِنْ قَدَّمَ الْحَاكِمُ بِغَيْرِ قُرْعَةٍ مِنْ رَأَى جَازَ وَإِنْ تَرَكَ مِنَ الْقَرْعَةِ مَا هُوَ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُنَّ قَدْ وَصَلْنَ إِلَى حُقُوقِهِنَّ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَلْتَعِنَ مِنْ بَعْضِهِنَّ دُونَ بَعْضٍ لَاعَنَ لِمَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ وَحُدَّ لِمَنْ بَقِيَ . فَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً حُدَّ لَهَا حَدًّا كَامِلًا ، وَإِنْ بَقِيَ اثْنَتَانِ حُدَّ لَهُمَا - عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ - حَدًّا وَاحِدًا ، - وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ - حَدَّيْنِ ، فَإِنْ وَقَعَ التَّنَازُعُ فِي تَقْدِيمِ اللِّعَانِ وَالْحَدِّ قُدِّمَ اللِّعَانُ عَلَى الْحَدِّ لِخِفَّتِهِ ؛ وَلِأَنَّ الْحَقَّ فِيهِ مُشْتَرِكٌ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ أَصَابَهَا فِي الطُّهْرِ الَّذِي رَمَاهَا فِيهِ فَلَهُ أَنْ يُلَاعِنَ وَالْوَلَدُ لَهَا ، وَذُكِرَ أَنَّهُ قَوْلُ عَطَاءٍ قَالَ : وَذَهَبَ بَعْضُ مَنْ يُنْسَبُ إِلَى الْعِلْمِ إِنَّمَا يَنْفِي الْوَلَدَ إِذَا قَالَ : اسْتَبْرَأْتُهَا ، كَأَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى نَفْيِ وَلَدِ الْعَجْلَانِيِّ إِذَا قَّالَ : لَمْ أُقِرَّ بِهَا مُنْذُ كَذَا وَكَذَا قِيلَ : فَالْعَجْلَانِيُّ سَمَّى الَّذِي رَأَى بِعَيْنِهِ يَزْنِي وَذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يُصِبْهَا فِيهِ أَشْهُرًا وَرَأَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَامَةً تُثْبِتُ صِدْقَ الزَّوْجِ فِي الْوَلَدِ فَلَا يُلَاعِنُ وَيَنْفِي عَنْهُ الْوَلَدَ إِذًا إِلَّا بِاجْتِمَاعِ هَذِهِ الْوُجُوهِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَمَا حُجَّتُكَ فِي أَنَّهُ يُلَاعِنُ وَيَنْفِي الْوَلَدَ وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ الِاسْتِبْرَاءَ ؟ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - : قُلْتُ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْآيَةَ فَكَانَتِ الْآيَةُ عَلَى كُلِ رَامٍ لِمُحْصَنَةٍ ، قَالَ الرَّامِي لَهَا : رَأَيْتُهَا تَزِنِي أَوْ لَمْ يَقُلْ : رَأَيْتُهَا تَزْنِي ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ اسْمُ الرَّامِي وَقَالَ : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ فَكَانَ الزَّوْجُ رَامِيًا ، قَالَ : رَأَيْتُ أَوْ عَلِمْتُ بِغَيْرِ رُؤْيَةٍ ، وَقَدْ يَكُونُ الِاسْتِبْرَاءُ وَتَلِدُ مِنْهُ ، فَلَا مَعْنَى لَهُ مَا كَانَ الْفِرَاشُ قَائِمًا " .
فَصْلٌ : إِذَا قَذَفَ زَوْجَتَهُ فِي طُهْرٍ قَدْ جَامَعَهَا فِيهِ جَازَ أَنْ يَلْتَعِنَ مِنْهَا وَيَنْفِيَ وَلَدَهَا ، وَكَذَلِكَ إِذَا أَصَابَهَا بَعْدَ الْقَذْفِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ قَذَفَهَا فِي طُهْرٍ قَدْ وَطِئَهَا فِيهِ لَاعَنَ لِإِسْقَاطِ الْحَدِّ ، وَلَمْ يَلْتَعِنْ لِنَفْيِ النَّسَبِ ، وَإِنْ وَطِئَهَا بَعْدَ الْقَذْفِ حُدَّ وَلَمْ يَلْتَعِنْ ، وَيُجْعَلُ الْوَطْءُ تَكْذِيبًا لِنَفْسِهِ ، وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ آيَةَ اللِّعَانِ وَرَدَتْ فِي الْعَجْلَانِيِّ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ ، وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ : " رَأَيْتُ بِعَيْنِي وَسَمِعْتُ بِأُذُنِي ، وَمَا قَرَبْتُهَا مُنْذُ عِفَارِ النَّخْلِ " ، وَفِي عِفَارِهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : تَلْقِيحُهَا . وَالثَّانِي : تَرْكُ سَقْيِهَا ؛ لِأَنَّهُمْ يَتْرُكُونَ سَقْيَهَا إِذَا زَهَتْ ، وَذَلِكَ الْحَدُّ شَهْرَانِ ، فَقَصَدَ الْعَجْلَانِيُّ بِذَلِكَ أَنَّهُ تَرَكَ إِصَابَتَهَا مُدَّةً طَوِيلَةً ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ تَرْكُ إِصَابَتِهَا شَرْطًا فِي جَوَازِ لِعَانِهَا ؛ لِأَنَّ خُصُوصَ السَّبَبِ يَمْنَعُ مِنَ اسْتِعْمَالِ الْعُمُومِ عِنْدَهُ ، قَالَ : وَلِأَنَّهُ إِذَا شَارَكَ الزَّانِيَ فِي وَطْئِهَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْوَلَدَ مِنْ زِنًا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْطَعَ فِي لِعَانِهِ بِأَنَّهُ مِنْهُ ، وَقَالَ : وَلِأَنَّ وَلَدَ الْحُرَّةِ الَّذِي يَلْحَقُ بِالْعَقْدِ أَثْبَتُ نَسَبًا مِنْ وَلَدِ الْأَمَةِ الَّذِي لَا يَلْحَقُ إِلَّا بِالْوَطْءِ ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْفِيَ وَلَدَ الْأَمَةِ إِلَّا بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَنْفِيَ وَلَدَ الْحُرَّةِ إِلَّا بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ فَكَانَ عُمُومُهُ فِيمَنْ أَصَابَ زَوْجَتَهُ أَوْ لَمْ يُصِبْهَا ، فَإِنْ حَمَلُوهُ عَلَى خُصُوصِ السَّبَبِ فِي قِصَّةِ الْعَجْلَانِي ، فَعَنْهُ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ دُونَ الْعَجْلَانِيِّ ، وَهِلَالٌ لَمْ يَقُلْ : إِنِّي لَمْ أُصِبْهَا ، فَكَانَ السَّبَبُ عَامًّا . وَالثَّانِي : لَوْ كَانَ مَحْمُولًا عَلَى قِصَّةِ الْعَجْلَانِيِّ فِي أَنَّهُ لَمْ يُصِبْهَا لِكَوْنِ الِاسْتِبْرَاءِ يَخُصُّ عُمُومَ اللَّفْظِ ، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَرْكُ إِصَابَتِهَا مِنْ عِفَارِ النَّخْلِ مُدَّةَ شَهْرَيْنِ شَرْطًا ، وَأَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْعَجْلَانِيِّ : رَأَيْتُ بِعَيْنِي وَسَمِعْتُ بِأُذُنِي شَرْطًا ، وَقَوْلُهُ : هِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِنْ كَذَبْتُ عَلَيْهَا شَرْطًا ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : إِنْ جَاءَتْ بِهِ عَلَى نَعْتِ كَذَا فَلَا أَرَاهُ إِلَّا وَقَدْ صَدَقَ عَلَيْهَا شَرْطًا ، وَمِنْ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الْإِصَابَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ ، وَهَذَا جَوَابُ الشَّافِعِيِّ . وَالثَّانِي : أَنَّ عُمُومَ اللَّفْظِ لَا يَقْتَضِي حَمْلَهُ عَلَى خُصُوصِ السَّبَبِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ انْفِرَادَ الْعُمُومِ وَالسَّبَبِ يُوجِبُ الْحُكْمَ بِالْعُمُومِ دُونَ السَّبَبِ ، فَكَذَلِكَ إِذَا اجْتَمَعَا غَلَبَ حُكْمُ الْعُمُومِ عَلَى السَّبَبِ . وَالثَّانِي : أَنَّ السَّبَبَ بَعْضُ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْعُمُومُ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُخَصَّ بِهِ الْعُمُومُ لِدُخُولِهِ فِيهِ ، وَخُصَّ بِمَا نَافَاهُ لِخُرُوجِهِ مِنْهُ ، كَمَا خُصَّ عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [ الْمَائِدَةِ : ] . بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَا قَطْعَ فِي أَقَلَّ مِنْ رُبْعِ دِينَارٍ وَلِمُنَافَاةِ الْعُمُومِ " وَلَمْ يُخَصَّ بِقَطْعِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي " الْمِجَنِّ " لِمُوَافَقَتِهِ الْعُمُومَ . وَمِنَ الدَّلِيلِ أَيْضًا أَنَّهُ قَذْفٌ يَجُوزُ أَنْ يَلْتَعِنَ مِنْهُ لِإِسْقَاطِ الْحَدِّ فَجَازَ أَنْ يَلْتَعِنَ مِنْهُ
لِنَفْيِ الْوَلَدِ كَالَّذِي لَمْ يَطَأْ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ لَا تَأْثِيرَ لَهُ مَعَ بَقَاءِ الزَّوْجِيَّةِ بِلُحُوقِ الْوَلَدِ فِي الْحَالَتَيْنِ ، فَجَازَ أَنْ يَنْفِيَهُ فِي الْحَالَتَيْنِ بِاللِّعَانِ ، وَلِأَنَّ وَلَدَ الْحُرَّةِ يَلْحَقُ بِالِاسْتِدْلَالِ لِإِمْكَانِ الْإِصَابَةِ ، فَجَازَ أَنْ يُنْفَى بِالِاسْتِدْلَالِ لِإِمْكَانِ الزِّنَا ، وَخَالَفَ وَلَدُ الْأَمَةِ حِينَ لَمْ يَلْحَقْ إِلَّا بِالْإِصَابَةِ ، فَلَمْ يَنْتَفِ إِلَّا بِالِاسْتِبْرَاءِ مِنَ الْإِصَابَةِ ، فَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ : إِنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّهُ مِنَ الزِّنَا إِذَا لَمْ يَطَأْ وَلَا يَعْلَمُ إِذَا وَطِئَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَمْتَنِعُ مِنَ الْوَطْءِ وَهِيَ حَائِلٌ ، وَقَدْ يَطَأُ وَهِيَ حَامِلٌ ، فَكَانَ الْعِلْمُ فِي الْحَالَيْنِ مُمْتَنِعًا ، وَإِنَّمَا يُعْتَمَدُ فِيهِ عَلَى الْأَمَارَاتِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا اجْتَمَعَ فِي الرَّحِمِ مَاؤُهُ وَمَاءُ الزِّنَا مِنْ أَيْنَ تُرَجِّحُ لَهُ فِي نَفْيِ الْوَلَدِ أَنَّهُ مِنْ مَاءِ الزِّنَا . قِيلَ : قَدْ كَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَنْفِيهِ مَعَ اخْتِلَاطِ الْمَائَيْنِ . وَهُوَ خَاصُّ نَصِّ الشَّافِعِيِّ وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ ، وَالصَّحِيحُ أَنْ يَنْفِيَهُ لِتَرَجُّحِهِ مِنْ وُجُوهٍ مِنْهَا : أَنَّ الذَّكِيَّ الْفَطِنَ مِنَ الرِّجَالِ يُحِسُّ بِالْعُلُوقِ عِنْدَ الْإِنْزَالِ إِنْ كَانَ أَوْ لَمْ يَكُنْ ، وَكَذَلِكَ مِنَ النِّسَاءِ . وَمِنْهَا أَنَّهُ قَدْ يُعْلَمُ مِنْ نَفْيِهِ أَنَّهُ عَقِيمٌ لَا يُولَدُ بِهِ ، وَمِنْهُ أَنْ يَرَى مَنْ بِهِ الْوَلَدُ بِالزَّانِي مَا يَسْتَدِلُّ بِهِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْإِمَارَاتِ الدَّالَّةِ ، فَجَازَ أَنْ يَقَعَ التَّرْجِيحُ وَالْعَمَلُ عَلَيْهَا إِذَا تَحَقَّقَ الزِّنَا ، وَأَمَّا اسْتِشْهَادُهُ بِاسْتِبْرَاءِ الْأَمَةِ فِي نَفْيِ وَلَدِهَا ، فَإِنَّهُ لَا يُنْفَى مِنْهَا إِلَّا بِالِاسْتِبْرَاءِ فَلِذَلِكَ كَانَ شَرْطًا ، وَوَلَدُ الْحُرَّةِ يَنْتَفِي بِاللِّعَانِ دُونَ الِاسْتِبْرَاءِ فَلَمْ يَكُنْ فِي نَفْيِهِ شَرْطٌ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ زَنَتْ بَعْدَ الْقَذْفِ أَوْ وَطِئَتْ وَطْئًا حَرَامًا ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا لِعَانَ إِلَّا أَنْ يَنْفِيَ وَلَدًا فَيَلْتَعِنَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِهِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - : كَيْفَ يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى صِدْقِهِ وَالْوَقْتُ الَّذِي رَمَاهَا فِيهِ كَانَتْ فِي الْحُكْمِ غَيْرَ زَانِيَةٍ ؛ وَأَصْلُ قَوْلِهِ إِنَمَا يُنْظَرُ فِي حَالِ مَنْ تَكَلَّمَ بِالرَّمْيِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ فِي حُكْمِ مَنْ لَمْ يَزْنِ قَطُّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي قَاذِفِ الزِّنَا وَجَبَ الْحَدُّ عَلَيْهِ فَلَمْ يُحَدَّ حَتَّى زَنَا الْمَقْذُوفُ ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ الْحَدَّ يَسْقُطُ عَنِ الْقَاذِفِ بِمَا حَدَثَ مِنْ زِنَا الْمَقْذُوفِ . وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ . وَقَالَ الْمُزَنِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ : لَا يَسْقُطُ الْحَدُّ اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الْوُجُوبِ لَا بِمَا يَحْدُثُ بَعْدَهُ ، بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ قَذَفَ عَبْدًا فَأُعْتِقَ لَمْ يُحَدَّ ، وَلَوْ قَذَفَ مُسَلِمًا فَارْتَدَّ لَمْ يَسْقُطِ الْحَدُّ اعْتِبَارًا بِحَالِ الْوُجُوبِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ شَوَاهِدَ الْأُصُولِ فِي جَمِيعِ الْحُدُودِ مُسْتَقِرَّةٌ عَلَى اعْتِبَارِهَا بِوَقْتِ الْوُجُوبِ ، كَالزَّانِي إِذَا زَنَى بِكْرًا فَلَمْ يُحَدَّ حَتَّى أُحْصِنَ لَمْ يُرْجَمْ . وَكَالسَّارِقِ لِمَا قِيمَتُهُ رُبْعُ دِينَارٍ فَصَاعِدًا إِذَا انْقَضَتْ قِيمَتُهُ قَبْلَ الْقَطْعِ لَمْ يَسْقُطِ الْقَطْعُ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ حَدُّ الْقَذْفِ بِمَثَابَتِهَا فِي اعْتِبَارِهِ بِوَقْتِ الْوُجُوبِ . وَدَلِيلُنَا أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْحَدَّ عَلَى قَاذِفِ الْمُحْصَنِ إِثْبَاتًا لِعِفَّتِهِ ، وَالزَّانِي لَا يَثْبُتُ لَهُ عِفَّةٌ فَلَمْ يَجِبْ فِي قَذْفِهِ حَدٌّ . وَالثَّانِي : أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ مَوْضُوعٌ لِإِسْقَاطِ الْمَعَرَّةِ عَنِ الْمَقْذُوفِ ، وَ الْمَعَرَّةُ تَسْقُطُ عَنْهُ إِذَا زَنَى فَلَمْ يَجِبْ فِي قَذْفِهِ حَدٌّ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ مِنْ عَادَةِ مَنْ لَا يُبَالِي بِاجْتِنَابِ الْمَعَاصِي أَنْ يَسْتَتِرَ بِإِخْفَائِهَا وَأَنَّ ظُهُورَهَا مِنْهُ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ كَثْرَتِهَا وَتَكْرَارِهَا ، حُمِلَ إِلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَجُلٌ زَنَى ، فَقَالَ : وَاللَّهِ مَا زَنَيْتُ قَبْلَ هَذَا ، فَقَالَ عُمَرُ : كَذَبْتَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَفْضَحُ عَبْدَهُ بِأَوَّلِ مَعْصِيَةٍ فَكَانَ فِيمَا ظَهَرَ زِنَاهُ دَلِيلٌ عَلَى تَقَدُّمِهِ مِنْهُ فَلَمْ يُحَدَّ قَاذِفُهُ . وَالرَّابِعُ وَهُوَ الْعُمْدَةُ : أَنَّ الْعِفَّةَ تَكُونُ اسْتِدْلَالًا بِالظَّاهِرِ دُونَ الْيَقِينِ كَالْعَدَالَةِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُخْفِيَ غَيْرَ مَا يُظْهِرُ ، فَإِذَا ظَهَرَ مَا كَانَ يُخْفِيهِ مِنَ الزِّنَا قُدِحَ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِظَاهِرِ الْعِفَّةِ فَسَقَطَ ثُبُوتُهَا ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحَدَّ قَاذِفُهُ كَالشَّاهِدِ إِذَا شَهِدَ ، وَهُوَ عَلَى ظَاهِرِ الْعَدَالَةِ ، فَلَمْ يُحْكَمْ بِهَا حَتَّى ظَهَرَ فِسْقُهُ فَسَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ بِظَاهِرِ عَدَالَتِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْكَمُ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ شَهَادَتِهِ ، فَإِنْ قِيلَ : لَا يَصِحُّ الْجَمْعُ بَيْنَ الْعِفَّةِ وَالْعَدَالَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الرِّدَّةَ تُسْقِطُ مَا تَقَدَّمَهَا مِنَ الشَّهَادَةِ ، وَلَا تُسْقِطُ مَا تَقَدَّمَهَا مِنَ الْعِفَّةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْبَحْثَ عَنِ الْعَدَالَةِ لَازِمٌ ، وَالْبَحْثَ عَنِ الْعِفَّةِ غَيْرُ لَازِمٍ ، فَجَازَ أَنْ تَثْبُتَ الْعِفَّةُ بِالظَّاهِرِ الَّذِي لَا تَثْبُتُ الْعَدَالَةُ فَافْتَرَقَا ، قِيلَ : هَذَانِ الْوَجْهَانِ لَا يُقْدَحُ فِيهِمَا بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ ، وَلَا يُمْنَعُ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْعِفَّةِ وَالْعَدَالَةِ . أَمَّا أَوَّلُ الْوَجْهَيْنِ : فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِالرِّدَّةِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ : أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ مَوْضُوعٌ لِحِرَاسَةِ الْعِفَّةِ مِنَ الْقَذْفِ بِالزِّنَا دُونَ الرِّدَّةِ ، فَجَازَ أَنْ تَسْقُطَ بِحُدُوثِ الزِّنَا وَإِنْ لَمْ تَسْقُطْ بِحُدُوثِ الرِّدَّةِ ، وَالْعَدَالَةُ مَحْرُوسَةٌ مِنْ جَمِيعِ الْكَبَائِرِ فَاسْتَوَتْ فِيهِ الرِّدَّةُ وَغَيْرُهَا وَإِنْ خَالَفَتْ فِي الْعِفَّةِ غَيْرَهَا .
وَأَمَّا الثَّانِي مِنَ الْوَجْهَيْنِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْعِفَّةِ وَالْعَدَالَةِ بِوُجُوبِ الْبَحْثِ عَنِ الْعَدَالَةِ دُونَ الْعِفَّةِ ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ : أَنَّ أَصْحَابَنَا قَدِ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْبَحْثِ عَنِ الْعِفَّةِ مَعَ إِجْمَاعِهِمْ فِي وُجُوبِ الْبَحْثِ عَنِ الْعَدَالَةِ ، فَلَهُمْ فِي ذَلِكَ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَجِبُ الْبَحْثُ عَنِ الْعِفَّةِ فِي حَقِّ الْقَاذِفِ ؛ لِأَنَّ جَنْبَهُ حِمَى فَلَا يُسْتَبَاحُ عِرْضُهُ بِالِاحْتِمَالِ ، فَعَلَى هَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ الْعِفَّةِ وَالْعَدَالَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْبَحْثُ عَنِ الْعِفَّةِ ، وَإِنْ وَجَبَ الْبَحْثُ عَنِ الْعَدَالَةِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ الْبَحْثَ عَنِ الْعَدَالَةِ إِنَّمَا يَجِبُ فِي حَقِّ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَلَمْ تَظْهَرْ مِنْهُ مَعْصِيَةٌ ، فَجَازَ الِاسْتِظْهَارُ لَهُ بِالْبَحْثِ عَنْ عَدَالَةِ مَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْعِفَّةِ ؛ لِأَنَّ الْبَحْثَ عَنْهَا فِي حَقِّ الْقَاذِفِ - وَالْقَاذِفُ عَاصٍ بِقَذْفِهِ - وَإِنْ كَانَ صَادِقًا لِمَا نُدِبَ إِلَيْهِ مِنَ السَّتْرِ عَلَى أَخِيهِ ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : هَلَّا سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ يَا هَزَّالُ فَكَانَ بِأَنْ يَسْتَظْهِرَ عَلَيْهِ الْمَقْذُوفُ بِتَرْكِ الْبَحْثِ أَوْلَى مِنْ أَنْ يَسْتَظْهِرَ لَهُ ، ثُمَّ افْتِرَاقُ الْعِفَّةِ وَالْعَدَالَةِ فِي الْبَحْثِ لَا يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الْعِلْمِ بِهِمَا مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ دَلِيلِ الْمُزَنِيِّ فَهُوَ أَنَّ الْعِلْمَ بِتَقَدُّمِ الرِّقِّ وَالْبَكَارَةِ وَقِيمَةِ النِّصَابِ فِي السَّرِقَةِ مَعْلُومٌ قَطْعًا ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ مَا حَدَثَ بَعْدَهُ . وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْعِفَّةُ ؛ لِأَنَّهَا مَعْلُومَةٌ اسْتِدْلَالًا فَأَثَّرَ فِيهَا مَا حَدَثَ بَعْدَهَا كَالْعَدَالَةِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ زِنَا الْمَقْذُوفَةِ يُسْقِطُ الْحَدَّ عَنْ قَاذِفِهَا فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " أَوْ وَطِئَتْ وَطْئًا حَرَامًا " فَجَمَعَ فِي سُقُوطِ الْحَدِّ عَنِ الْقَاذِفِ بَيْنَ زِنَاهَا وَبَيْنَ وَطْئِهَا حَرَامًا ، وَهَذَا الْجَمْعُ عَلَى تَفْصِيلٍ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الظَّاهِرِ . وَالْوَطْءُ الْحَرَامُ يَنْقَسِمُ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَيُسْقِطُ الْعِفَّةَ ، وَهُوَ أَنْ يَطَأَ ذَاتَ مَحْرَمٍ لَهُ بِعَقْدِ نِكَاحٍ ، أَوْ يَطَأَ جَارِيَةَ أَبِيهِ أَوْ جَارِيَةَ زَوْجَتِهِ الَّتِي دَفَعَهَا صَدَاقًا ، فَيَجِبُ فِي ذَلِكَ الْحَدُّ إِذَا عَلِمَ . وَتَسْقُطُ بِهِ عِفَّتُهُ ، وَيَكُونُ كَالزِّنَا فِي سُقُوطِ الْحَدِّ عَلَى الْقَاذِفِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا تَسْقُطُ بِهِ عِفَّتُهُ وَفِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ قَوْلَانِ : وَهُوَ أَنْ يَطَأَ ذَاتَ مَحْرَمٍ بِمِلْكِ يَمِينٍ مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ ، كَمَنْ مَلَكَ أُمَّهُ مِنَ الرَّضَاعِ أَوْ أُخْتَهُ مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ ، فَوَطِئَهَا بِمِلْكِهِ ، فَفِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ قَوْلَانِ مَضَيَا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ : أَحَدُهُمَا : يُحَدُّ . وَالثَّانِي : لَا يُحَدُّ ، وَعِفَّتُهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا سَاقِطَةٌ وَيَسْقُطُ بِهَا الْحَدُّ عَنْ قَاذِفِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ ، وَلَكِنْ يَسْقُطُ بِالْعِفَّةِ ، وَهُوَ أَنْ يَطَأَ جَارِيَةَ ابْنِهِ ، أَوْ
أَمَةً بَيْنَ شَرِيكَيْنِ وَطِئَهَا أَحَدُهُمَا ، أَوْ كَوَطْءِ الزَّوْجَةِ وَالْأَمَةِ فِي الدُّبُرِ ، فَلَا حَدَّ فِي ذَلِكَ ، وَالْعِفَّةُ بِهِ سَاقِطَةٌ ، يَسْقُطُ عَنْهَا الْحَدُّ عَنْ قَاذِفِهِ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : مَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ ، وَفِي سُقُوطِ الْعِفَّةِ وَجْهَانِ : وَهُوَ الْوَطْءُ فِي النِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ ، أَوْ نِكَاحُ مُتْعَةٍ ، أَوْ شِغَارٌ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي سُقُوطِ الْعِفَّةِ بِهِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى سُقُوطِ الْحَدِّ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْعِفَّةَ بَاقِيَةٌ لِسُقُوطِ الْحَدِّ فِيهِ ، فَعَلَى هَذَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الْقَاذِفِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْعِفَّةَ سَاقِطَةٌ بِهَذَا لِمَا فِيهِ مِنْ قِلَّةِ التَّحَرُّجِ مَعَ ظُهُورِ الْخِلَافِ ، فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْ قَاذِفِهِ . وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ : مَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَلَا يُسْقِطُ الْعِفَّةَ ، وَهُوَ وَطْءُ الْأَمَةِ أَوِ الزَّوْجَةِ فِي الْحَيْضِ ، أَوِ الْإِحْرَامِ ، أَوِ الصِّيَامِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ حَرَامٌ لَكِنْ لَا حَدَّ فِيهِ ، وَلَا تَسْقُطُ بِهِ الْعِفَّةُ ، وَالْحَدُّ عَلَى قَاذِفِهِ وَاجِبٌ ؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ صَادَفَ مَحِلًّا مُبَاحًا طَرَأَ التَّحْرِيمُ عَلَيْهِ لِعَارِضٍ . فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ سُقُوطِ الْحَدِّ عَنِ الْقَاذِفِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حُدُوثِ الزِّنَا وَالْوَطْءِ الْحَرَامِ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمُتَقَدِّمِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى اللِّعَانِ ، فَأَمَّا إِذَا جَازَ أَنْ يُلَاعِنَ لِنَفْيِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْفَى عَنْهُ مَعَ سُقُوطِ الْحَدِّ إِلَّا بِاللِّعَانِ ، فَأَمَّا إِنْ أَرَادَ مَعَ عَدَمِ الْوَلَدِ أَنْ يَرْفَعَ بِاللِّعَانِ الْفِرَاشَ لِيُثْبِتَ بِهِ التَّحْرِيمَ الْمُؤَبَّدَ ، فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ لَاعَنَهَا ثُمَّ قَذَفَهَا هل عليه الحد فَلَا حَدَّ لَهَا كَمَا لَوْ حُدَّ لَهَا ثُمَّ قَذَفَهَا لَمْ يُحَدَّ ثَانِيَةً وَيُنْهَى فَإِنْ عَادَ عُزِّرَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ لِعَانَهُ مِنْهَا قَدْ أَسْقَطَ عِفَّتَهَا فِي حَقِّهِ ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى عِفَّتِهَا مَعَ الْأَجَانِبِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هِيَ عَلَى عِفَّتِهَا مَعَ الزَّوْجِ كَمَا هِيَ مَعَ الْأَجَانِبِ ، وَلَا يُؤَثِّرُ اللِّعَانُ فِي الْعِفَّةِ ، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ اللِّعَانُ فِي تَصْدِيقِ الزَّوْجِ دُونَ الْأَجَانِبِ كَالْبَيِّنَةِ وَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ بِهِ الْعِفَّةُ فِي حَقِّ الزَّوْجِ ، وَإِنْ لَمْ تَسْقُطْ بِهِ الْعِفَّةُ فِي حَقِّ الْأَجَانِبِ . وَالثَّانِي : أَنَّ لِعَانَهُ لَمَّا سَقَطَتْ بِهِ الْعِفَّةُ إِنْ نَفَى وَلَدًا أَسْقَطَهُ وَإِنْ لَمْ يَنْفِهِ ؛ لِأَنَّهُ كَالْبَيِّنَةِ لَهُ فِي الْحَالَيْنِ بِلِعَانِهِ وَلَدًا سَقَطَتْ عِفَّتُهَا مَعَ الْأَجَانِبِ فِي الْحَالَتَيْنِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِذَا نَفَى بِلِعَانِهِ وَلَدًا سَقَطَتْ عِفَّتُهَا مَعَ الْأَجَانِبِ كَسُقُوطِهَا مَعَ الزَّوْجِ ، وَهَذَا خَطَأٌ ، لِاخْتِصَاصِ الزَّوْجِ بِاللِّعَانِ دُونَ الْأَجَانِبِ ، وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ وَعَادَ الزَّوْجُ فَقَذَفَهَا بَعْدَ لِعَانِهِ لَمْ يَخْلُ قَذْفُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِالزِّنَا الَّذِي لَاعَنَهَا عَلَيْهِ أَوْ بِغَيْرِهِ ، فَإِنْ قَذَفَهَا بِذَلِكَ الزِّنَا الَّذِي لَاعَنَهَا عَلَيْهِ لَمْ يُحَدَّ ، لِأَنَّ لِعَانَهُ كَالْبَيِّنَةِ لَهُ فِي الْقَضَاءِ بِتَصْدِيقِهِ
فِيهِ لَكِنْ يُعَزَّرُ لِلْأَذَى ، وَإِنْ قَذَفَهَا بزنا آخر غير الذي لاعنها فيه بِغَيْرِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُحَدُّ لِأَنَّهُ لَيْسَ إِذَا حُكِمَ بِتَصْدِيقٍ فِي قَذْفٍ اقْتَضَى أَنْ يُحْكَمَ بِهِ فِي كُلِّ قَذْفٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ عِفَّتَهَا قَدْ سَقَطَتْ فِي حَقِّهِ بِلِعَانِهِ لِأَنَّهُ كَالْبَيِّنَةِ لَهُ ، وَمَعَ سُقُوطِ الْعِفَّةِ لَا يَجِبُ الْحَدُّ ، فَأَمَّا إِذَا قَذَفَهَا غَيْرُهُ مِنَ الْأَجَانِبِ فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ قَدْ لَاعَنَتْ أَوْ نَكَلَتْ ، فَإِنْ لَاعَنَتْ كَانَتْ عَلَى عِفَّتِهَا مَعَ الْأَجَانِبِ وَإِنْ سَقَطَتْ مَعَ الزَّوْجِ ، فَعَلَى هَذَا يُحَدُّ قَاذِفُهَا لِبَقَائِهَا عَلَى الْعِفَّةِ مَعَهُ . وَإِنْ نَكَلَتْ عَنِ اللِّعَانِ وَحُدَّتْ لِلزِّنَا هل تسقط عفتها مع الأجانب ، فَفِي سُقُوطِ عِفَّتِهَا مَعَ الْأَجَانِبِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ : إِنَّهَا عَلَى عِفَّتِهَا مَعَ الْأَجَانِبِ وَأَنَّ مَنْ قَذَفَهَا فِيهِمْ حُدَّ لِاخْتِصَاصِ اللِّعَانِ بِالزَّوْجِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : إِنَّ الْحَدَّ قَدْ أَسْقَطَ عِفَّتَهَا مَعَ الْأَجَانِبِ ، كَمَا لَوْ حُدَّتْ بِالْبَيِّنَةِ لِتَنَافِي اجْتِمَاعِ الْحَدِّ وَالْعِفَّةِ ، فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى قَاذِفِهَا أَجْنَبِيًّا كَانَ أَوْ زَوْجًا لَكِنْ يُعَزَّرُ لِلْأَذَى .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَذَفَهَا بِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ وَطَلَبَا الْحَدَّ ، فَإِنِ الْتَعَنَ فَلَا حَدَّ لَهُ إِذَا بَطَلَ الْحَدُّ لِهَا بَطَلَ لَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَلْتَعِنْ حُدَّ لَهُمَا أَوْ لِأَيِّهِمَا طَلَبَ ؛ لِأَنَّهُ قَذْفٌ وَاحِدٌ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْحَدِّ الْوَاحِدِ إِذَا كَانَ لِعَانًا وَاحِدًا أَوْ حَدًّا وَاحِدًا ، وَقَدْ رَمَى الْعَجْلَانِيُّ امْرَأَتَهُ بِرَجُلٍ سَمَّاهُ وَهُوَ ابْنُ السَّحْمَاءِ رَجُلٌ مُسْلِمَ فَلَاعَنَ بَيْنَهُمَا وَلَمْ يَحُدَّهُ لَهُ ، وَلَوْ قَذَفَهَا غَيْرُ الزَّوْجِ حُدَّ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ - حِينَ لَزِمَهَا الْحُكْمُ بِالْفُرْقَةِ وَنَفْيِ الْوَلَدِ - زَانِيَةً حُدَّتَ وَلَزِمَهَا اسْمُ الزِّنَا وَلَكِنْ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى ثَمَّ حُكْمُ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِمَا هَكَذَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا ذَكَرَ فِي قَذْفِ زَوْجَتِهِ اسْمَ الزَّانِي بِهَا وَصَارَ قَاذِفًا لَهُ وَلَهَا فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يُلَاعِنَ ، أَوْ يَمْتَنِعَ ، فَإِنِ امْتَنَعَ وَجَبَ أَنْ يُحَدَّ لِقَذْفِهِمَا ، فَإِنْ قِيلَ بِقَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ : إِنَّهُ إِذَا قَذَفَ اثْنَيْنِ بِلَفْظَةٍ وَاحِدَةٍ وَجَبَ عَلَيْهِ حَدٌّ وَاحِدٌ ، كَانَ هَذَا الْقَذْفُ أَوْلَى أَنْ يَجِبَ بِهِ حَدٌّ وَاحِدٌ . وَإِنْ قِيلَ بِقَوْلِهِ الْجَدِيدِ : إِنَّ عَلَيْهِ فِي قَذْفِ الِاثْنَيْنِ حَدَّيْنِ فَقَدْ عَلَّلَهُ أَصْحَابُنَا بِعِلَّتَيْنِ : إِحْدَاهُمَا : أَنَّهُ قَدْ أَدْخَلَ بِقَذْفِهِ الْمَعَرَّةَ عَلَى اثْنَيْنِ ، فَعَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ وَجَبَ عَلَيْهِ بِقَذْفِ زَوْجَتِهِ بِالْمُسَمَّى حَدَّيْنِ لِإِدْخَالِ الْمَعَرَّةِ بِهِ عَلَى اثْنَيْنِ .
وَالْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ : أَنَّهُ قَذْفٌ بِزِنَاءٍ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ بِهَذَا الْقَذْفِ إِلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ لِأَنَّهُ زِنًا وَاحِدٌ .
فَصْلٌ : وَإِنْ لَاعَنَ في قذفه زوجته والرجل الذي زنى بها فَلَا يَخْلُو حَالُهُ فِيهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَذْكُرَ الْمُسَمَّى فِي لِعَانِهِ أَوْ لَا يَذْكُرَهُ ، فَإِنْ ذَكَرَهُ فِي لِعَانِهِ سَقَطَ حَدُّ الْقَذْفِ لَهُمَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُحَدُّ لِلْمُسَمَّى وَلَا يَسْقُطُ بِلِعَانِهِ وَإِنْ ذَكَرَهُ فِيهِ ؛ لِاخْتِصَاصِ اللِّعَانِ بِالزَّوْجَاتِ دُونَ الْأَجَانِبِ . فَصَارَ كَمَنْ قَذَفَ زَوْجَتَهُ وَأَجْنَبِيَّةً وَلَمْ يَسْقُطْ حَدُّ الْأَجْنَبِيَّةِ بِلِعَانِهِ مِنَ الزَّوْجَةِ ، وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّ الْعَجْلَانِيَّ سَمَّى شَرِيكَ بْنَ السَّحْمَاءِ فَلَمْ يَحُدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ بَعْدَ لِعَانِهِ ، فَدَلَّ عَلَى سُقُوطِ الْحَدِّ بِهِ ، وَلِأَنَّ لِعَانَهُ قَدْ أَوْجَبَ تَصْدِيقَهُ فِي حَدِّ الْأَجْنَبِيِّ ؛ لِأَنَّهُ زِنًا وَاحِدٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مُصَدَّقًا وَمُكَذَّبًا وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي لِعَانِهِ وَطَالَبَ بِحَدِّهِ ، فَإِنْ أَعَادَ اللِّعَانَ فَذَكَرَهُ فِيهِ فَلَا حَدَّ ، فَيَكُونُ هَذَا اللِّعَانُ لِاسْتِدْرَاكِ مَا أَخَلَّ بِهِ فِي اللِّعَانِ الْأَوَّلِ . وَإِنْ لَمْ يُعِدْهُ فَفِي وُجُوبِ حَدِّهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : حُدَّ لِأَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِاللِّعَانِ حَدُّ مَنْ لَمْ يُسَمِّ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا حَدَّ لِأَنَّهُ زِنًا وَاحِدٌ ، وَقَدْ حُكِمَ بِتَصْدِيقِهِ فِيهِ بِلِعَانِهِ مِنْ زَوْجَتِهِ فَسَقَطَ الْحَدُّ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَذَفَهَا حُبِسَ حَتَّى يَعْدِلُوا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا ادَّعَتِ الْمَرْأَةُ عَلَى زَوْجِهَا أَنَّهُ قَذَفَهَا فَأَنْكَرَ . فَأَقَامَتْ عَلَيْهِ شَاهِدَيْنِ ، أَوْ كَانَتْ دَعْوَى الْقَذْفِ بَيْنَ أَجْنَبِيَّيْنِ ، نُظِرَتْ عَدَالَةُ الشَّاهِدَيْنِ ، فَإِنْ عُلِمَتْ عَدَالَتُهُمَا حُكِمَ بِهِمَا ، وَإِنَ عُلِمَ جَرْحُهُمَا أُسْقِطَتْ شَهَادَتُهُمَا ، وَإِنْ جُهِلَ حَالُهُمَا حُبِسَ الْقَاذِفُ حَتَّى يُسْتَكْشَفَ عَنْهُمَا لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الظَّاهِرَ عَدَالَةُ الشَّاهِدَيْنِ وَإِنَّمَا يُتَوَقَّفُ لِلْكَشْفِ عَنْ جَرْحِهِمَا . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمُدَّعِيَ قَدْ فَعَلَ مَا عَلَيْهِ مِنْ إِحْضَارِ الْبَيِّنَةِ وَبَقِيَ مَا عَلَى الْحَاكِمِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْعَدَالَةِ ، فَأَمَّا إِنْ شَهِدَ بِالْقَذْفِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ عَدَالَتُهُ لَمْ يُحْبَسِ الْقَاذِفُ ، وَإِنْ عُرِفَتْ عَدَالَتُهُ فَهَلْ يُحْبَسُ عَلَى حُضُورِ الشَّاهِدِ الْآخَرِ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يُحْبَسُ ؛ لِأَنَّهُ كَمَا حُبِسَ مَعَ كَمَالِ الْعَدَدِ وَنُقْصَانِ الْعَدَالَةِ ، جَازَ أَنْ يُحْبَسَ مَعَ كَمَالِ الْعَدَالَةِ وَنُقْصَانِ الْعَدَدِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ حَبْسُهُ ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ بِكَمَالِ الْعَدَدِ مَوْجُودَةٌ وَبِنُقْصَانِهِ مَفْقُودَةٌ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَلَا يَكْفُلُ رَجُلٌ فِي حَدٍّ وَلَا لِعَانِ وَلَا
يُحْبَسُ بِوَاحِدٍ . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - : هَذَا دَلِيلٌ عَلَى إِثْبَاتِهِ كَفَالَةَ الْوَجْهِ فِي غَيْرِ الْحَدِّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَلِلْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : فِي حُقُوقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . وَالثَّانِي : فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ ، فَأَمَّا فِي حُقُوقِ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فَلَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهَا إِنْ كَانَتْ فِي حُدُودٍ فَهِيَ مَوْضُوعَةٌ عَلَى الْإِدْرَاءِ وَالتَّسْهِيلِ ، وَإِنْ كَانَتْ فِي أَمْوَالٍ فَهِيَ مَوْكُولَةٌ إِلَى أَمَانَتِهِ إِنْ تَعَلَّقَتْ بِذِمَّتِهِ أَوْ زَكَاةٍ تُؤْخَذُ مِنْ عَيْنِ مَا بِيَدِهِ ، - أَمَّا حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ فَضَرْبَانِ : أَمْوَالٌ ، وَحُدُودٌ . فَأَمَّا الْأَمْوَالُ فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي أَكْثَرِ كُتُبِهِ أَنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ فِيهَا جَائِزَةٌ وَقَالَ فِي كِتَابِ الدَّعَاوَى وَالْبَيِّنَاتِ : غَيْرَ أَنَّ كَفَالَةَ الْأَبْدَانِ عِنْدِي ضَعِيفَةٌ . فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُرَادِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِتَضْعِيفِهَا ، فَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى إِبْطَالِهَا وَخَرَّجَ كَفَالَةَ النَّفْسِ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى ضَعْفِهَا فِي الْقِيَاسِ ؛ لِأَنَّهُ ضَمَانٌ عُيِّنَ بِعَقْدٍ لَكِنْ جَازَ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَيْهِ ، وَكَمَا خَالَفَ ضَمَانَ الدَّرْكِ مَعَ مُخَالَفَةِ الْأُصُولِ ، وَأَمَّا الْحُدُودُ كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُنَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ كَحُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي لَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ فِيهَا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ فِيهَا ضَمَانُ مَا فِي الذِّمَّةِ لَمْ تَجُزْ فِيهِ الْكَفَالَةُ بِذِي الذِّمَّةِ ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى فَارَقَ الْكَفَالَةَ فِي الْمَالِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : مِنْ مَذَاهِبِ أَصْحَابِنَا : أَنَّهَا كَالْأَمْوَالِ فِي جَوَازِ الْكَفَالَةِ فِيهَا بِالنَّفْسِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا مِنَ الشَّرْحِ ؛ لِأَنَّ جَمِيعَهَا مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الَّتِي يُبَاشِرُ فِيهَا مَنْ هِيَ عَلَيْهِ وَيَسْتَوْثِقُ فِيهَا لِمَنْ هِيَ لَهُ ، وَلَيْسَ عَلَى الْكَفِيلِ بِالنَّفْسِ الْمُطَالَبَةُ بِالْحَقِّ الَّذِي فِي الذِّمَّةِ ، فَاسْتَوَى فِيهَا مَا يَجُوزُ ضَمَانُهُ وَمَا لَا يَجُوزُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَلَوْ قَالَ : زَنَى فَرْجُكِ أَوْ يَدُكِ أَوْ رِجْلُكِ فَهُوَ قَذْفٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ ذَكَرَهَا الْمُزَنِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ وَلَمْ يَذْكُرْهَا فِي جَامِعِهِ ، فَجَعَلَ قَوْلَهُ لَهَا : زَنَى فَرْجُكِ أَوْ يَدُكِ ، أَوْ رِجْلُكِ ، قَذْفًا وَلَمْ يَذْكُرِ الشَّافِعِيُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ إِلَّا فِي الْقَدِيمِ فَقَالَ : وَلَوْ قَالَ : زَنَى فَرْجُكِ فَهُوَ قَاذِفٌ ، وَإِنْ قَالَ : يَدُكِ أَوْ
رِجْلُكِ ، فَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ - يَعْنِي أَبَا حَنِيفَةَ : فِي الْبَدَنِ وَهُوَ قَاذِفٌ ، وَفِي الْيَدِ وَالرِّجْلِ لَا يَكُونُ قَاذِفًا ، وَلَا فِي الْعَيْنِ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : هَذَا كُلُّهُ مَا عَدَا الْفَرْجَ وَاحِدٌ وَلَمْ يُصَرِّحْ أَنَّهُ وَاحِدٌ فِي الْقَذْفِ ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ إِذَا قَالَ : زَنَى فَرْجُكِ ، أَنَّهُ قَاذِفٌ ، وَإِذَا قَالَ : زَنَتْ عَيْنُكِ ، لَمْ يَكُنْ قَاذِفًا ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْأَعْضَاءِ : هَلْ يَكُونُ قَاذِفًا بِإِضَافَةِ الزِّنَا إِلَيْهَا أَمْ لَا ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، لَا يَكُونُ قَاذِفًا إِذَا قَالَ : زَنَتْ يَدُكِ ، أَوْ رِجْلُكِ ، أَوْ رَأْسُكِ ، أَوْ يَدُكِ ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْقَدِيمِ ، وَنَسَبُوا الْمُزَنِيَّ إِلَى الْخَطَأِ فِي نَقْلِهِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ ، وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا اللَّمْسُ ، وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ أَوْ يُكَذِّبُهُ الْفَرْجُ ، وَلِأَنَّ بِالْفَرْجِ يَكُونُ الزِّنَا بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَكُونُ بِجَمِيعِ ذَلِكَ قَاذِفًا كَالْفَرْجِ عَلَى مَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ كَمَا يَسْتَوِي جَمِيعُهُ فِي الطَّلَاقِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي ، وَبِهِ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ أَنَّهُ إِذَا قَالَ : زَنَى بَدَنُكِ كَانَ قَاذِفًا ، وَلَوْ : قَالَ زَنَتْ يَدُكِ أَوْ رِجْلُكِ أَوْ رَأْسُكِ لَمْ يَكُنْ قَاذِفًا ؛ لِأَنَّ الْبَدَنَ هُوَ الْجُمْلَةُ الَّتِي فِيهَا الْفَرَجُ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ بِالْفَرْجِ قَاذِفًا وَبِالْبَدَنِ الَّذِي مِنْهُ الْفَرَجُ لَيْسَ بِقَاذِفٍ ، فَأَمَّا سَائِرُ الْأَعْضَاءِ مِنَ الرَّأْسِ وَالْبَدَنِ ، وَالْيَدِ وَالرِّجْلِ ، فَلَا تَخْتَصُّ بِالزِّنَا فَلَا يَكُونُ بِهَا قَاذِفًا كَالْعَيْنِ ، فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ فَرَّقَ فِيهَا بَيْنَ الْأَعْضَاءِ الَّتِي لَا تَبْقَى الْحَيَاةُ بِانْفِصَالِهَا وَبَيْنَ مَا تَبْقَى الْحَيَاةُ بِانْفِصَالِهَا فَجَعَلَهُ قَاذِفًا بِقَوْلِهِ : زَنَى رَأْسُكِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ قَاذِفًا بِقَوْلِهِ : زَنَتْ يَدُكِ أَوْ رِجْلُكِ ، وَبَنَاهُ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي الطَّلَاقِ الَّذِي تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى اسْتِوَاءِ حُكْمِ مَا يَحْفَظُ الْحَيَاةَ وَمَا لَا يَحْفَظُهَا ، أَنَّ كُلَّ مَا لَوْ نَسَبَهُ مِنْهَا إِلَى نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ مُقِرًّا بِالزِّنَا لَمْ يَكُنْ إِذَا نَسَبَهُ إِلَى غَيْرِهِ قَاذِفًا بِالزِّنَا ، كَالْعَيْنِ طَرْدًا وَالْفَرْجِ عَكْسًا لِاسْتِوَاءِ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا وَالْقَذْفِ بِهِ فِي الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَكُلُّ مَا قَالَهُ وَكَانَ يُشْبِهُ الْقَذْفَ إِذَا احْتَمَلَ غَيْرَهُ لَمْ يَكُنْ قَذْفًا وَقَدْ أَتَى رَجُلٌ مِنْ فَزَارَةَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ فَلَمْ يَجْعَلْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَذْفًا وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ فَكَانَ خِلَافًا لِلتَّصْرِيحِ " .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : كِنَايَاتُ الْقَذْفِ وَمَعَارِيضُهُ لَا تَكُونُ قَذْفًا إِلَّا بِالْإِرَادَةِ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَى جَمِيعًا . وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ ، وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ : أَكْثَرُ الْمَعَارِيضِ قَذْفٌ فِي الْغَضَبِ دُونَ الرِّضَى كَقَوْلِهِ : أَنَا مَا زَنَيْتُ ، أَوْ يَا حَلَالُ ابْنَ الْحَلَالِ . حُكِيَ أَنَّ رَجُلًا أَتَى مَالِكًا فَقَالَ : مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ قَالَ لِرَجُلٍ : يَا زَانِ ابْنَ الزَّانِيَةِ ، قَالَ : هُوَ قَاذِفٌ ، قَالَ : فَإِنْ قَالَ : يَا حَلَالُ ابْنَ الْحَلَالِ ، قَالَ : هُوَ قَاذِفٌ ، فَقَالَ الرَّجُلُ : يَكُونُ قَاذِفًا إِذَا قَالَ : يَا حَلَالُ ابْنَ الْحَلَالِ وَإِذَا قَالَ : يَا زَانِي ابْنَ الزَّانِيَةِ ، فَقَالَ مَالِكٌ : قَدْ يَأْتِيهِ [ الْبَاطِلُ ] بِلَفْظِ الْحَقِّ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [ سَبَأٍ : ] . فَكَانَ صَرِيحَ الْآيَةِ أَنَّ أَحَدَهُمَا عَلَى هُدًى وَالَآخَرَ عَلَى ضَلَالٍ ، وَدَلِيلُهَا فِي مَوْضِعِ الْخِطَابِ وَالتَّعْرِيضِ بِالذَّمِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُمَّتَهُ عَلَى هُدًى ، وَأَنَّ الْمُشْرِكِينَ عَلَى ضَلَالٍ مُبِينٍ ، فَكَذَلِكَ حُكْمُ الْمَعَارِيضِ كُلِّهَا . وَرَوَى سَالِمٌ عَنْ أَبِيهِ : أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَدَّ فِي التَّعْرِيضِ بِالزِّنَا ، وَلَيْسَ لَهُ مُخَالِفٌ ، فَكَانَ إِجْمَاعًا ، وَلِأَنَّ احْتِمَالَ التَّعْرِيضِ يَصْرِفُهُ الْغَضَبُ إِلَى الصَّرِيحِ ، لِأَنَّ شَاهِدَ الْحَالِ أَظْهَرُ مِنَ الِاعْتِقَادِ . وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ ، عَنْ مَالِكٍ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ رَجُلًا مِنْ فَزَارَةَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ . فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : أَلَكَ إِبِلٌ ؟ قَالَ نَعَمْ : قَالَ مَا أَلْوَانُهَا ؟ قَالَ : حُمْرٌ كُلُّهَا ، قَالَ : هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : أَنَّى تَرَى ذَلِكَ ؟ قَالَ : لَعَلَّ عِرْقًا نَزَعَ ، قَالَ : كَذَلِكَ هَذَا لَعَلَّ عِرْقًا نَزَعَ . فَلَمْ يَجْعَلِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا التَّعْرِيضَ بِالْقَذْفِ صَرِيحًا . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّمَا يَكُونُ صَرِيحًا فِي الْغَضَبِ وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ غَضَبٌ ، قِيلَ : حَالُهُ يَشْهَدُ بِغَضَبِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَنْكَرَ مِنْ زَوْجَتِهِ وَهُمَا أَبْيَضَانِ أَنْ تَلِدَ غُلَامًا أَسْوَدَ يُخَالِفُهُمَا فِي الشَّبَهِ . وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ امْرَأَتِي لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ ، فَقَالَ : طَلِّقْهَا ، فَقَالَ : إِنِّي أُحِبُّهَا ، قَالَ : أَمْسِكْهَا ، وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِالْقَذْفِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ قَاذِفًا . فَإِنْ قِيلَ : الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : " يَدَ لَامِسٍ " ، أُرِيدَ بِهِ مُلْتَمِسٍ ، أَيْ طَالِبٍ لِمَا لَهُ لِتَبْذِيرِهَا لَهُ فِي كُلِّ سَائِلٍ وَطَالِبٍ ، وَلَمْ يُرِدِ الْتِمَاسَ الْفَاحِشَةِ فَيَكُونُ تَعْرِيضًا ، قِيلَ : لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ الْمُخَالِفِ لِأَمْرَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ هَذَا الْقَوْلَ لَقَالَ : لَا تَرُدُّ يَدَ مُلْتَمِسٍ ، وَلَمْ يَقُلْ : يَدَ لَامِسٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ قَصَدَ هَذَا لَمْ يُؤْمَرْ بِطَلَاقِهَا ، وَلَأُمِرَ بِحَبْسِ مَالِهِ عَنْهَا . وَرُوِيَ أَنَّ الْيَهُودَ كَانَتْ تَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُذَمَّمًا عَصَيْنَا ، وَأَمْرَهُ أَبَيْنَا ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : أَمَا تَرَوْنَ كَيْفَ عَصَمَنِي اللَّهُ مِنْهُمْ ، إِنَّهُمْ يَسُبُّونَ مُذَمَّمًا وَأَنَا مُحَمَّدٌ ، فَلَمْ يَجْعَلْ تَعْرِيضَهُمْ بِهِ صَرِيحًا ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَلَّ التَّعْرِيضَ بِالْخُطْبَةِ وَقَدْ حَرَّمَ صَرِيحَهَا ، فَدَلَّ عَلَى اخْتِلَافِ حُكْمِ التَّعْرِيضِ وَالتَّصْرِيحِ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ عَنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى : أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ كِنَايَةً فِي الرِّضَا كَانَ كِنَايَةً فِي الْغَضَبِ كَالْكِنَايَاتِ فِي الطَّلَاقِ ، وَأَنَّ كُلَّ مَا لَوْ نَسَبَهُ إِلَى نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ إِقْرَارًا بِالزِّنَا وَجَبَ إِذَا نَسَبَهُ إِلَى غَيْرِهِ أَنْ لَا يَكُونَ قَذْفًا بِالزِّنَا قِيَاسًا عَلَى حَالِ الرِّضَا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ لِنَفْسِهِ : أَنَا مَا زَنَيْتُ لَمْ يَكُنْ إِقْرَارًا ، كَذَلِكَ إِذَا قَالَ لِغَيْرِهِ : أَنَا مَا زَنَيْتُ لَمْ يَكُنْ قَذْفًا . فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ ، فَهِيَ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ التَّعْرِيضِ وَالتَّصْرِيحُ أَدَلُّ ؛ لِأَنَّهُ عَدَلَ عَنْ قَوْلِهِ : نَحْنُ عَلَى هُدًى ، وَأَنْتُمْ عَلَى ضَلَالٍ مُبِينٍ ، لِمَا فِيهِ مِنَ التَّنْفِيرِ [ إِلَى مَا هُوَ أَلْطَفُ ] فِي الْقَوْلِ تَأْلِيفًا لَهُمْ وَإِنْ كَانَ فِي مَعْنَاهُ ، فَقَالَ : وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ فَلَوْ كَانَ التَّعْرِيضُ كَالتَّصْرِيحِ لَعَدَلَ عَنِ اللَّفْظِ الْمُحْتَمَلِ إِلَى مَا هُوَ أَوْضَحُ مِنْهُ وَأَبْيَنُ . أَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْإِجْمَاعِ بِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَدَّ فِي التَّعْرِيضِ ، فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَدْ خُولِفَ فِيهِ فَقَدْ رَوَتْ عَمْرَةُ أَنَّ شَابًّا خَاصَمَ غَيْرَهُ فِي زَمَانِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ : مَا زَنَى أَبِي وَلَا أُمِّي ، فَرُفِعَ إِلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَاسْتَشَارَ الصَّحَابَةَ ، فَقَالُوا : مَدَحَ أَبَاهُ وَأُمَّهُ ، فَحَدَّهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَثَبَتَ اخْتِلَافُهُمْ فِيهِ . وَالثَّانِي : مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ فِي الْمَعَارِيضِ لِمَنْدُوحَةً عَنِ الْكَذِبِ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ شَاهِدَ الْحَالِ يَنْفِي احْتِمَالَ الْمَعَارِيضِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ صَرِيحَ الْقَذْفِ فِي حَالَةِ الرِّضَا وَالْبِرِّ لَا يَزُولُ عَنْ حُكْمَهِ ، وَكَذَلِكَ التَّعْرِيضُ فِي حَالِ الْغَضَبِ وَالْعُقُوقِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَلَا يَكُونُ اللِّعَانُ إِلَّا عِنْدَ سُلْطَانٍ أَوْ عُدُولٍ يَبْعَثُهُمُ السُّلْطَانُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ اللِّعَانِ وَثُبُوتِ حُكْمِهِ أَنْ يَكُونَ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ وَمَشْهَدِهِ ، وَلَا يَصِحُّ لِعَانُ الزَّوْجَيْنِ بِأَنْفُسِهِمَا ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَاعَنَ بَيْنَ الْعَجْلَانِيِّ وَامْرَأَتِهِ ، وَبَيْنَ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ وَامْرَأَتِهِ وَلَمْ يَكُنْ يَسْتَنِيبُهُ عَنْهُ شَرْطًا فِيهِ ، وَلِأَنَّ اللِّعَانَ يَمِينٌ عِنْدِنَا ، وَشَهَادَةٌ عِنْدَ غَيْرِنَا ، وَلَا يَثْبُتُ حُكْمٌ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فِي الْحُقُوقِ إِلَّا عِنْدَ الْحَاكِمِ ، وَلِأَنَّ اللِّعَانَ قَدْ تَتَعَلَّقُ بِهِ حُدُودٌ لَا يَسْتَوْفِيهَا وَيُقِيمُهَا إِلَّا الْحَاكِمُ كَسَائِرِ الْحُدُودِ ، وَلِأَنَّهُ فِيمَنْ صَحَّ لِعَانُهُ خِلَافٌ وَلَا يَتَقَرَّرُ إِلَّا بِالْحُكْمِ ، وَلِأَنَّ اللِّعَانَ قَدْ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقٌّ لِغَيْرِ الزَّوْجَيْنِ فِي نَفْيِ حَمْلٍ أَوْ وَلَدٍ أَوْ مُسَمًّى فِي قَذْفٍ ، فَلَمْ يَتَوَلَّاهُ إِلَّا الْحَاكِمُ لِيَنُوبَ عَمَّنْ غَابَ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ اللِّعَانَ مَوْضُوعٌ لِلْفُرْقَةِ ، فَكَانَ مُلْحَقًا إِمَّا بِالطَّلَاقِ أَوْ بِالْفَسْخِ ، وَلَيْسَ الْحَاكِمُ شَرْطًا فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا . قِيلَ : قَدْ يَتَعَلَّقُ بِاللِّعَانِ مِنَ الْأَحْكَامِ فِي الْحُدُودِ وَنَفْيِ النَّسَبِ مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِطَلَاقٍ وَلَا فَسْخٍ ، عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْفُسُوخِ مَا لَا يَصِحُّ إِلَّا عِنْدَ الْحَاكِمِ ، فَكَانَ اللِّعَانُ أَوْلَى .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِمَامَ أَوِ الْحَاكِمَ أَوْ مَنْ يَسْتَنِيبُهُ أَحَدُهُمَا شَرَطَا فِي صِحَّةِ اللِّعَانِ ، فَتَفَرُّدُ الزَّوْجَيْنِ وتفردهما باللعان دون السلطان بِهِ فِي جَمَاعَةٍ أَوْ عَلَى خَلْوَةٍ ، لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ اللِّعَانِ لَا فِي وُقُوعِ فُرْقَةٍ وَلَا فِي سُقُوطِ حَدٍّ ، وَفِي نَفْيِ نَسَبٍ ، حَتَّى يَسْتَأْنِفَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا ، وَهَكَذَا لَوْ حَضَرَا عِنْدَ الْحَاكِمِ فَسَبَقَا بِاللِّعَانِ قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُمَا لَمْ يَصِحَّ حَتَّى يَسْتَأْنِفَاهُ [ عَنْ أَمْرِهِ لِأَنَّهُ يَمِينٌ عِنْدِنَا ، وَشَهَادَةٌ عِنْدَ غَيْرِنَا ، وَلَا يَجُوزُ الْيَمِينُ قَبْلَ الِاسْتِحْلَافِ ، وَالشَّهَادَةُ ] قَبْلَ الِاسْتِشْهَادِ .
فَصْلٌ : فَلَوْ حَكَّمَا رَجُلًا رَضِيَاهُ لِيُلَاعِنَ بَيْنَهُمَا كَانَ التَّحْكِيمُ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ مَا عَدَا الْحُدُودَ وَاللِّعَانَ جَائِزًا ، فَقَدِ اتَّفَقَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى تَحْكِيمِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فِي مُنَازَعَةٍ بَيْنَهُمَا فَحَكَمَ عَلَيْهِمَا . وَرُوِيَ أَنَّ وَفْدًا قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِيهِمْ رَجُلٌ يُكَنَّى أَبَا الْحَكَمِ ، فَقَالَ : لِمَ كُنِّيتَ أَبَا الْحَكَمِ ، فَقَالَ : لِأَنَّ قَوْمِي يُحَكِّمُونِي بَيْنَهُمْ فَأَحْكُمُ ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ ، وَلَا نَهَاهُ عَنْهُ مِنْ بَعْدُ .
وَإِذَا صَحَّ التَّحْكِيمُ فَالْخَصْمَانِ قَبْلَ الْحُكْمِ مُخَيَّرَانِ فِي الْمُقَامِ عَلَى التَّحْكِيمِ أَوِ الرُّجُوعِ عَنْهُ ، فَإِذَا حَكَمَ فَفِي لُزُومِ حُكْمِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ حُكْمَهُ نَافِذٌ عَلَيْهِمَا وَلَازِمٌ لَهُمَا ، وَغَيْرُ مَوْقُوفٍ عَلَى رِضَاهُمَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ لَهُمَا إِلَّا بَعْدَ الرِّضَا بِالْتِزَامِهِ ، وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَلْزَمْ لَكَانَ وَسِيطًا وَلَمْ يَكُنْ حُكْمًا . فَأَمَّا التَّحْكِيمُ فِي اللِّعَانِ فَفِي جَوَازِهِ قَوْلَانِ ، بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي لُزُومِ حُكْمِهِ فِي غَيْرِ اللِّعَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ إِذَا قِيلَ : إِنَّ حُكْمَهُ فِي غَيْرِ اللِّعَانِ لَازِمٌ . وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ إِذَا قِيلَ : إِنَّ حُكْمَهُ لَا يَلْزَمُ إِلَّا بِالرِّضَا ؛ لِأَنَّ حُكْمَ اللِّعَانِ لَا يَقَعُ وَلَا يَقِفُ عَلَى التَّرَاضِي ، وَلَا يَصِحُّ فِيهِ الْعَفْوُ وَالْإِبْرَاءُ كَالْحُدُودِ ، وَكَانَ أَبُو الْقَاسِمِ الدَّارَكِيُّ يَقُولُ : يَجُوزُ التَّحْكِيمُ فِيهِ عِنْدَ عَدَمِ الْحَاكِمِ ، وَلَا يَجُوزُ مَعَ وُجُودِهِ اعْتِبَارًا بِالضَّرُورَةِ فِيهِ ، فَأَمَّا السَّيِّدُ إِذَا زَوَّجَ عَبْدَهُ بِأَمَتِهِ جَازَ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِمَا ، فَصَارَ كَالْحَاكِمِ مَعَ غَيْرِهِمَا .
بَابٌ فِي الشَّهَادَةِ فِي اللِّعَانِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَإِذَا جَاءَ الزَّوْجُ وَثَلَاثَةٌ يَشْهَدُونَ عَلَى امْرَأَتِهِ مَعًا بِالزِّنَا لَاعَنَ الزَّوْجُ فَإِنْ لَمْ يَلْتَعِنْ حُدَّ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الزَّوْجِ غَيْرُ حُكْمِ الشُّهُودِ ؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ لَا يَلْتَعِنُونَ وَيَكُونُونَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ قَذَفَةً يُحَدُّونَ إِذَا لَمْ يَتِمُّوا أَرْبَعَةً ، وَإِذَا زَعَمَ بِأَنَّهَا قَدْ وَتَرَتْهُ فِي نَفْسِهِ بِأَعَظَمَ مِنْ أَنْ تَأْخُذَ كَثِيرَ مَالِهِ أَوْ تَشْتُمَ عِرْضَهُ أَوْ تَنَالَهُ بِشَدِيدٍ مِنَ الضَّرْبِ بِمَا يَبْقَى عَلَيْهِ مِنَ الْعَارِ فِي نَفْسِهِ بِزِنَاهَا تَحْتَهُ وَعَلَى وَلَدِهِ ، فَلَا عَدَاوَةَ تَصِيرُ إِلَيْهِمَا فِيمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ تَكَادُ تَبْلُغُ هَذَا وَنَحْنُ لَا نُجِيزُ شَهَادَةَ عَدُوٍّ عَلًى عَدُوِّهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا شَهِدَ الزَّوْجُ مَعَ ثَلَاثَةٍ عُدُولٍ عَلَى امْرَأَتِهِ بِالزِّنَا لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ مَعَهُمْ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : تُقْبَلُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - : وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ [ النِّسَاءِ : ] فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي الزَّوْجِ وَغَيْرِهِ ، وَلِأَنَّهُ حَدٌّ فَجَازَ أَنْ تُقْبَلَ فِيهِ شَهَادَةُ الزَّوْجِ كَسَائِرِ الْحُدُودِ ، وَلِأَنَّهُ مَنْ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ فِي حَدٍّ غَيْرِ الزِّنَا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ فِي حَدِّ الزِّنَا كَالْأَجْنَبِيِّ . وَدَلِيلُنَا : قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ [ النُّورِ : ] فَلَمْ يَجْعَلْ لِشَهَادَتِهِ عَلَيْهَا حُكْمًا ، وَلَا جَعَلَ قَوْلَهُ عَلَيْهَا مَقْبُولًا . رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ ، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ فِي أَرْبَعَةٍ شَهِدُوا عَلَى امْرَأَةٍ أَنَّهَا زَنَتْ وَأَحَدُهُمْ زَوْجُهَا فَقَالَ : يُلَاعِنُ الزَّوْجُ وَيُحَدُّ الثَّلَاثَةُ ، وَهَذَا قَوْلُ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ مُخَالِفٌ ، فَإِنْ كَانَ مُنْتَشِرًا فَهُوَ إِجْمَاعٌ لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُنْتَشِرٍ فَهُوَ عَلَى قَوْلِ الْمُخَالِفِ حُجَّةٌ يُتْرَكُ بِهِ الْقِيَاسُ ، وَكَذَلِكَ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْقَدِيمِ ؛ وَلِأَنَّهُ مَنِ انْتَصَبَ خَصْمًا فِي حَادِثَةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا فِيهَا ، أَصْلُهُ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ شَهِدَ عَلَى خِيَانَتِهَا لَهُ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ عَلَيْهَا ، أَصْلُهُ إِذَا شَهِدَ عَلَيْهَا بِإِتْلَافِ وَدِيعَةٍ لَهُ فِي يَدِهَا ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ لَهُ تَصْدِيقُ نَفْسِهِ بِاللِّعَانِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ فِيمَا يَصِحُّ فِيهِ لِعَانُهُ ، أَصْلُهُ نَفْيُ النَّسَبِ ؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ
صَارَ عَدُوًّا بِمَا وَتَرَهُ فِي نَفْسِهِ وَخَانَتْهُ فِي حَقِّهِ ، وَأَدْخَلَتِ الْعَارَ عَلَيْهِ وَعَلَى وَلَدِهِ ، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي الْعَدَاوَةِ مِنْ مُؤْلِمِ الضَّرْبِ وَفَاحِشِ السَّبِّ ، وَشَهَادَةُ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ مَرْدُودَةٌ لِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلَا خَائِنَةٍ ، وَلَا ذِي غَمْرٍ عَلَى أَخِيهِ " أَيْ ذِي جَوْرٍ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ [ النِّسَاءِ : ] فَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ خِطَابٌ لِلْأَزْوَاجِ ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ : وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ [ النِّسَاءِ : ] فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الشُّهُودُ غَيْرَهُمْ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى سَائِرِ الْحُدُودِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِيهَا لَا يَسْتَفِيدُ بِهِ نَفْعًا وَلَا يَسْتَدْفِعُ بِهِ ضَرَرًا وَهُوَ فِي الزِّنَا مَتْهُومٌ ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَدْفِعُ بِهِ ضَرَرًا وَيَسْتَفِيدُ بِهِ نَفْعًا . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ فَالْمَعْنَى فِيهِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ عَدَمِ التُّهْمَةِ فِي الْأَجْنَبِيِّ وَوُجُودِهَا فِي الزَّوْجِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الزَّوْجَ مَرْدُودُ الشَّهَادَةِ ، فَالشُّهُودُ مَعَهُ ثَلَاثَةٌ لَا تَكْتَمِلُ بِهِمُ الْبَيِّنَةُ فِي الزِّنَا لِنُقْصَانِ عَدَدِهِمْ ، فَهَلْ يَصِيرُونَ قَذَفَةً يُحَدُّونَ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُحَدُّونَ ؛ لِأَنَّهُمْ أَتَوْا بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ دُونَ الْقَذْفِ ، لَوْ كَانُوا قَذَفَةً لَمَا جَازَ قَبُولُ شَهَادَتِهِمْ مَعَ كَمَالِ عَدَدِهِمْ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا بِخُرُوجِهِمْ مِنْ كَمَالِ الشَّهَادَةِ قَذَفَةً ، لِإِدْخَالِهِمُ الْمَعَرَّةَ بِالزِّنَا كَالْقَذْفِ الصَّرِيحِ ، وَلِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا شَهِدَ عِنْدَهُ بِالزِّنَا عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَبُو بَكْرَةَ وَنَافِعٌ وَشِبْلُ بْنُ مَعْبَدٍ وَتَوَقَّفَ زِيَادٌ عَنِ الْإِفْصَاحِ بِالشَّهَادَةِ أَمَرَ عُمَرُ بِجَلْدِ الثَّلَاثَةِ وَجَعَلَهُمْ قَذَفَةً ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَمُلَ عَدَدُهُمْ أَرْبَعَةً وَكَانَ فِيهِمْ مَنْ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِرِقٍّ أَوْ فِسْقٍ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْبَاقِينَ ، فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يَقُولُ : لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُمْ بِنُقْصَانِ الْعَدَدِ مَعَ كَمَالِ الصِّفَةِ وَبَيْنَ أَنْ تَرُدَّ مَعَ كَمَالِ الْعَدَدِ وَنُقْصَانِ الصِّفَةِ فِي أَنَّ وُجُوبَ حَدِّهِمْ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ : إِذَا كَمُلَ عَدَدُهُمْ وَنَقَصَتْ صِفَتُهُمْ لَمْ يُحَدُّوا قَوْلًا وَاحَدًا ، وَفَرَّقَ بَيْنَ نُقْصَانِ الصِّفَةِ وَنُقْصَانِ الْعَدَدِ بِأَنَّ نُقْصَانَ الْعَدَدِ رَاجِعٌ إِلَى الشُّهُودِ وَنُقْصَانَ الصِّفَةِ رَاجِعٌ إِلَى الْحَاكِمِ ، وَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فَإِنْ قِيلَ : يُوجَبُ الْحَدُّ عَلَى الشُّهُودِ فَعَلَى الزَّوْجِ أَيْضًا الْحَدُّ ، لِأَنَّ أَحْسَنَ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ كَأَحَدِهِمْ ، لَكِنْ لِلزَّوْجِ أَنْ يُلَاعِنَ لِإِسْقَاطِ الْحَدِّ
وَنَفْيِ النَّسَبِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ بِالْقَذْفِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ لَفْظُ الشَّهَادَةِ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِهِ قَاذِفًا ، وَلَا يَسْقُطُ بِلِعَانِهِ حَدُّ الْقَذْفِ عَنِ الشُّهُودِ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا : هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُحَدَّ الشُّهُودُ قَبْلَ لِعَانِ الزَّوْجِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي الزَّوْجِ إِذَا لَاعَنَ وَامْتَنَعَتِ الزَّوْجَةُ عَنِ اللِّعَانِ فَحُدَّتْ ، هَلْ تَسْقُطُ حَصَانَتُهَا مَعَ الْأَجَانِبِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّ حَصَانَتَهَا لَا تَسْقُطُ مَعَ الْأَجَانِبِ وَإِنْ حُدَّتْ ؛ لِأَنَّهُ عَنْ لِعَانٍ يَخْتَصُّ بِالزَّوْجِيَّةِ دُونَ الْأَجَانِبِ ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُحَدَّ الشُّهُودُ قَبْلَ لِعَانِهِمَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ حَصَانَتَهَا قَدْ سَقَطَتْ مَعَ الْأَجَانِبِ كَسُقُوطِهَا مَعَ الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّهَا قَدْ حُدَّتْ بِاللِّعَانِ كَمَا تُحَدُّ بِالْبَيِّنَةِ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُحَدَّ الشُّهُودُ إِلَّا بَعْدَ لِعَانِ الزَّوْجِ لِجَوَازِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنَ اللِّعَانِ ، فَيُحَدُّ ، فَتَسْقُطُ حَصَانَتُهَا مَعَهُمْ ، وَإِذَا قِيلَ : إِنَّ الشُّهُودَ لَا حَدَّ عَلَيْهِمْ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الزَّوْجِ هَلْ يَجْرِي مَجْرَى الشُّهُودِ فِي سُقُوطِ الْحَدِّ عَنْهُ ؛ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ كَالشُّهُودِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ لَا بِلَفْظِ الْقَذْفِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُلَاعِنَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ إِلَّا بِاسْتِئْنَافِ قَذْفٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُحَدُّ بِخِلَافِ الشُّهُودِ ، وَهُوَ الْمَحْكِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ لَفْظُهُ لَفْظَ شَهَادَةٍ وَصَارَ قَاذِفًا مَحْضًا ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ بِالْقَذْفِ فِي الشَّهَادَةِ وَلَا يَسْتَأْنِفَ قَذْفًا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَلَوْ قَذَفَهَا وَانْتَفَى مِنْ حَمْلِهَا فَجَاءَ بِأَرْبَعَةٍ فَشَهِدُوا أَنَّهَا زَنَتْ لَمْ يُلَاعِنْ حَتَّى تَلِدَ ، فَيَلْتَعِنُ إِذَا أَرَادَ نَفْيَ الْوَلَدِ ، فَإِنْ لَمْ يَلْتَعِنْ لَحِقَهُ الْوَلَدُ وَلَمْ تُحَدَّ حَتَّى تَضَعَ ثَمَّ تُحِدُّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عُدُولٌ عَلَى امْرَأَةِ رَجُلٍ بِالزِّنَاءِ تَعَلَّقَ بِشَهَادَتِهِمْ حُكْمَانِ لَا يُؤَثِّرَانِ فِي الزَّوْجِيَّةِ :
أَحَدُهُمَا : ارْتِفَاعُ حَصَانَتِهَا عَلَى الْعُمُومِ مَعَ الزَّوْجِ وَمَعَ غَيْرِهِ ، فَلَا يُحَدُّ قَاذِفُهَا بِحَالٍ . وَالثَّانِي : وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَيْهَا ، إِنْ كَانَتْ بِكْرًا فَجَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ ، وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا فَرَجْمٌ ، وَلَا يَنْتَفِي الْوَلَدُ بِالْبَيِّنَةِ وَلَا يَرْتَفِعُ بِهَا الْفِرَاشُ إِلَّا أَنْ يَلْتَعِنَ ، فَإِنْ أَرَادَ الزَّوْجُ أَنْ يَلْتَعِنَ لَمْ يَخْلُ حَالُ لِعَانِهِ مَعَ سُقُوطِ حَدِّ الْقَذْفِ عَنْهُ بِالْبَيِّنَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَلْتَعِنَ لِنَفْيِ الْوَلَدِ . وَالثَّانِي : لِنَفْيِ الْحَمْلِ . وَالثَّالِثُ : لِرَفْعِ الْفِرَاشِ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ أَنْ يَلْتَعِنَ لِنَفْيِ الْوَلَدِ ، فَيَجُوزُ لَهُ نَفْيُهُ بِاللِّعَانِ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَا يَنْتَفِي إِلَّا بِهِ ، فَكَانَتْ ضَرُورَتُهُ إِلَيْهِ دَاعِيَةً ، ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ قَدْ قَذَفَهَا قَبْلَ الشَّهَادَةِ ، جَازَ أَنْ يُلَاعِنَهَا بِذَاكَ الْقَذْفِ وَإِنْ سَقَطَ عَنْهُ حَدُّهُ بِالشَّهَادَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَذَفَهَا قَبْلَ الشَّهَادَةِ فَهَلْ يَسْتَغْنِي بِالشَّهَادَةِ عَنِ التَّلَفُّظِ بِقَذْفِهَا أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مُحْتَمَلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَسْتَغْنِي بِهَا عَنِ الْقَذْفِ لِثُبُوتِ الزِّنَا عَلَيْهَا ، فَعَلَى هَذَا يَقُولُ فِي لِعَانِهِ : أَشْهَدُ بِاللَّهِ ، إِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ فِي زِنَاهَا ، وَلَا يَقُولُ : فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ مِنَ الزِّنَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْمِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَسْتَغْنِي بِالشَّهَادَةِ عَنِ الْقَذْفِ ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ فَجَعَلَ رَمْيَهُ شَرْطًا فِي لِعَانِهِ ، فَعَلَى هَذَا يَسْتَأْنِفُ الْقَذْفَ ، وَيَأْتِي بِاللِّعَانِ عَلَى صِفَتِهِ .
فَصْلٌ : أَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يَلْتَعِنَ لِنَفْيِ الْحَمْلِ قَبْلَ وَضْعِهِ الولد ، فَفِي جَوَازِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ، وَاخْتَارَهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا : أَنَّهُ لَا يَلْتَعِنُ مِنْهُ قَبْلَ وَضْعِهِ ؛ لِأَنَّ لِعَانَهُ مَقْصُورٌ عَلَى نَفْيِهِ وَهُوَ غَيْرُ مُنْتَفٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ رِيحًا فَيَنْفُشُ ، وَإِنَّمَا يُلَاعِنُ لِنَفْيِهِ إِذَا كَانَ حَدُّ الْقَذْفِ وَاجِبًا عَلَى الزَّوْجِ لِيُسْقِطَ بِلِعَانِهِ حَدَّ الْقَذْفِ عَنْ نَفْسِهِ ، وَيَكُونُ نَفْيُ الْحَمْلِ تَبَعًا وَلَيْسَ عَلَى الزَّوْجِ هَاهُنَا حَدٌّ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَلْتَعِنَ فِيمَا تَرَدَّدَ بَيْنَ احْتِمَالَيْنِ إِلَّا بَعْدَ تَيَقُّنِهِ بِالْوِلَادَةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمَبْتُوتَةِ الْحَامِلِ وَيَجُوزُ أَنْ يَلْتَعِنَ لِنَفْيِ الْحَمْلِ ؛ لِأَنَّ لَهُ حُكْمًا مُعْتَبَرًا وَظَاهِرًا مُغَلَّبًا . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يَلْتَعِنَ لِرَفْعِ الْفِرَاشِ لَا غَيْرَ الولد ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا : لَا يَجُوزُ أَنْ يَلْتَعِنَ لِرَفْعِهِ ؟ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى رَفْعِهِ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ ، فَلَمْ
يَكُنْ بِهِ إِلَىاللِّعَانُ ضَرُورَةٌ ، وَاللِّعَانُ لَا يُسْتَبَاحُ إِلَّا بِالضَّرُورَاتِ . وَقَالَ أَبُو الطَّيِّبِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ : يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ لِرَفْعِ الْفِرَاشِ لِيَسْتَفِيدَ تَأْبِيدَ تَحْرِيمِهَا ، فَيَنْحَسِمُ عَنْهُ الطَّمَعُ فِي مُرَاجَعَتِهَا وَلِيَكُونَ أَدْخَلَ فِي وُجُوبِ الْمَعَرَّةِ عَلَيْهَا .
فَصْلٌ : فَإِذَا لَاعَنَ الزَّوْجُ مِنْهَا عَلَى مَا وَصَفْنَا لَمْ تَلْتَعِنِ الزَّوْجَةُ بَعْدَهُ لِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهَا بِالشَّهَادَةِ ، فَإِذَا أُرِيدَ حَدُّهَا وَهِيَ حَامِلٌ لَمْ تُحَدَّ حَتَّى تَضَعَ ؛ لِأَنَّ الْغَامِدِيَّةَ حِينَ أَقَرَّتْ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالزِّنَا وَكَانَتْ حَامِلًا قَالَ : اذْهَبِي حَتَّى تَضَعِي حَمْلَكِ ، فَلَمَّا وَضَعَتْهُ وَعَادَتْ إِلَيْهِ فَقَالَتْ : طَهِّرْنِي قَالَ : اذْهَبِي حَتَّى تُرْضِعِي وَلَدَكِ حَوْلَيْنِ فَأَرْضَعَتْهُ حَوْلَيْنِ . ثُمَّ عَادَتْ وَمَعَهَا وَلَدُهَا فِي يَدِهِ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ، وَقَالَتْ : طَهِّرْنِي ، فَرَجَمَهَا حِينَئِذٍ . قَالَ عَلِيٌّ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَقَدْ أَمَرَ بِرَجْمِ حَامِلٍ : إِنَّهُ لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَى مَا فِي بَطْنِهَا ، فَإِذَا وَضَعَتْ حَمْلَهَا مَكَّنْتَ مِنْ سَقْيِهِ لَبَنَهَا الَّذِي لَا تُحْفَظُ حَيَاةُ الْمَوْلُودِ إِلَّا بِهِ ، ثُمَّ رُوعِيَ حَالُ مَنْ تُرْضِعُهُ ، فَإِنْ كَانَ بِمَكَانٍ لَا يُوجَدُ بِهِ مُرْضِعٌ غَيْرُهَا أُخِّرَ حَدُّهَا إِنْ كَانَ رَجْمًا حَتَّى تُرْضِعَهُ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ جَلْدًا قُدِّمَ جَلْدُهَا إِذَا انْقَطَعَ عَنْهَا ضَعْفُ الْوِلَادَةِ ، وَإِنْ وُجِدَ لِوَلَدِهَا مُرْضِعٌ قُدِّمَ رَجْمُهَا قَبْلَ رَضَاعِهِ ، وَهَلْ تُرْجَمُ قَبْلَ تَعْيِينِ الْمُرْضِعَةِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ جَاءَ بِشَاهِدَيْنِ عَلَى إِقْرَارِهَا بِالزِّنَا لَمْ يُلَاعِنْ وَلَمْ يُحَدَّ وَلَا حَدَّ عَلَيْهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الشَّهَادَةُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا فَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ : لَا يُقْبَلُ مِنْهُ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةٍ كَمَا لَا يُقْبَلُ عَلَى فِعْلِ الزِّنَا أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةٍ ؛ لِيَكُونَ الْفَرْعُ مُعْتَبَرًا بِأَصْلِهِ قِيَاسًا عَلَى غَيْرِ الزِّنَا مِنَ الْحُقُوقِ الَّتِي لَا يُقْبَلُ فِي الْإِقْرَارِ بِهَا إِلَّا مَا يُقْبَلُ فِي أَصْلِهَا . كَالْقَتْلِ يُقْبَلُ فِيهِ وَفِي الْإِقْرَارِ بِهِ شَاهِدَانِ ، وَكَالدَّيْنِ يُقْبَلُ فِيهِ وَفِي الْإِقْرَارِ بِهِ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ أَقَامَ الزَّوْجُ عَلَى إِقْرَارِهَا بِالزِّنَا شَاهِدَيْنِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ حَدُّ الْقَذْفِ ، وَكَانَ مَأْخُوذًا بِهِ إِلَّا أَنْ يَلْتَعِنَ ؛ لِأَنَّ بَيِّنَةَ الْإِقْرَارِ لَمْ تَكْتَمِلْ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : قَالَ فِي الْجَدِيدِ : يُقْبَلُ فِي الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا شَاهِدَانِ ، وَإِنْ لَمْ يُقْبَلْ فِي فِعْلِ الزِّنَا إِلَّا أَرْبَعَةٌ ، لِأَنَّ اخْتِلَافَ حُكْمِهِمَا يَقْتَضِي اخْتِلَافَ حُكْمِ الشَّهَادَةِ فِيهِمَا ؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ لَهُ بِالزِّنَا لَا يَتَحَتَّمُ حَدُّهُ ، لِأَنَّ لَهُ إِسْقَاطَهُ بِالرُّجُوعِ فِي إِقْرَارِهِ ، وَالْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِفِعْلِ الزِّنَا مَحْتُومُ الْحَدِّ لَا سَبِيلَ إِلَى إِسْقَاطِهِ عَنْهُ فَتَغَلَّظَتِ الْبَيِّنَةُ فِي الْحَدِّ وَتَحَقَّقَتْ فِي الْإِقْرَارِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ سَائِرُ الْحُقُوقِ لِاسْتِوَاءِ الْحُكْمِ فِيهَا وَفِي الْإِقْرَارِ بِهَا ؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ بِالْقَتْلِ مَأْخُوذٌ بِالْقَوْلِ كَالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ ، فَاسْتَوَتِ الْبَيِّنَةُ فِي الْقَتْلِ وَفِي الْإِقْرَارِ بِهِ
لِاسْتِوَاءِ حُكْمِهَا ؛ لِأَنَّ مَنْ قَالَ : أَقْرَرْتُ بِالزِّنَا لَمْ يُحَدَّ ، وَمَنْ قَالَ : أَقْرَرْتُ بِالْقَتْلِ أُقْيِدَ ، فَعَلَى هَذَا إِذَا أَقَامَ الزَّوْجُ بَعْدَ قَذْفِهَا شَاهِدَيْنِ عَلَى إِقْرَارِهَا بِالزِّنَا سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا الْحَدُّ ؛ لِأَنَّ بِإِنْكَارَهَا رُجُوعًا فِي الْإِقْرَارِ ، فَلَوْ أَرَادَ الزَّوْجُ أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى زِنَاهَا ، فَفِي جَوَازِ ذَلِكَ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الطَّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ - : يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ تَصْدِيقًا لِقَذْفِهَا وَتَكْذِيبًا لِإِنْكَارِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ الْأَصَحُّ : لَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ ، وَيُمْنَعُ مِنَ التَّعَرُّضِ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَفِيدُ بِهِ حَقًّا ؛ لِأَنَّ حَدَّهُ قَدْ سَقَطَ بِإِقْرَارِهَا .
فَصْلٌ : وَإِذَا ادَّعَتْ عَلَى زَوْجِهَا الْقَذْفَ فَأَنْكَرَ فَشَهِدَ عَلَيْهِ ابْنَاهُ بِقَذْفِهَا ، فَإِنْ كَانَا مِنْ غَيْرِهَا سُمِعَتْ شَهَادَتُهُمَا عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَا مِنْهَا لَمْ تُسْمَعْ شَهَادَتُهُمَا ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ لِأُمِّهِمَا ، وَإِذَا قَذَفَهَا وَشَهِدَ ابْنَاهَا عَلَى إِقْرَارِهَا بِالزِّنَا فَإِنْ كَانَا مِنْ غَيْرِهِ سُمِعَتْ شَهَادَتُهُمَا ؛ لِأَنَّهَا عَلَى أُمِّهِمَا ، وَإِنْ كَانَا مِنْهُ لَمْ تُسْمَعْ شَهَادَتُهُمَا ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ لِأَبِيهِمَا ، وَإِذَا قَذَفَهَا وَشَهِدَ عَلَيْهَا أَرْبَعَةٌ بِالزِّنَا مِنْ بَنِيهَا لَمْ يَسْقُطْ بِهَا الْحَدُّ عَنِ الْأَبِ ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ لَهُ ، وَفِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الْأُمِّ قَوْلَانِ ، مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الشَّهَادَةِ ، إِذَا رُدَّ بَعْضُهَا هَلْ يُوجِبُ رَدَّ جَمِيعِهَا ؛ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا تُحَدُّ ، إِذَا قِيلَ : إِنَّ رَدَّ الشَّهَادَةِ فِي الْبَعْضِ يُوجِبُ رَدَّ جَمِيعِهَا ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ لِأَبِيهِمْ عَلَى أُمِّهِمْ فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُمْ لِلْأَبِ . وَالثَّانِي : تُحَدُّ إِذَا قُلْنَا : إِنَّ رَدَّ بَعْضِهَا لَا يُوجِبُ رَدَّ جَمِيعِهَا إِذَا رُدَّتْ فِي حَقِّ الْأَبِ وَأَمْضِيَتْ عَلَى الْأُمِّ ، وَلَوْ شَهِدَ ابْنَاهَا عَلَى أَنَّ أَبَاهُمَا قَذَفَ زَوْجَةً لَهُ أُخْرَى غَيْرَ أُمِّهِمَا ، فَفِي قَبُولِ شَهَادَتِهِمَا قَوْلَانِ ذَكَرَهُمَا فِي الْقَدِيمِ وَنَقَلَهُمَا الْمُزَنِيُّ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ : أَحَدُهُمَا : تُرَدُّ شَهَادَتُهُمَا وَلَا تُقْبَلُ وَإِنْ كَانَ عَلَى أَبِيهِمَا لِغَيْرِ أُمِّهِمَا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُلَاعِنُ مِنْهَا إِذَا ثَبَتَ قَذْفُهُ فَتَنْتَفِعُ الْأُمُّ بِعَدَمِ الضَّرَّةِ وَخُلُوعِهَا بِالزَّوْجَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ الْأَصَحُّ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ أَنَّ شَهَادَتَهُمَا مَقْبُولَةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ لِأُمِّهِمَا فِيهَا إِلَّا أَنْ تُسَرَّ بِفِرَاقِ ضَرَّتِهَا ، وَهَذَا غَيْرُ مُؤَثِّرٍ ؛ لِأَنَّهُ لِلْأَبِ أَنْ يَتَزَوَّجَ مَكَانَهَا ، وَهَكَذَا لَوْ شَهِدَ ابْنَاهُمَا عَلَى الزَّوْجِ بِطَلَاقِ غَيْرِ أُمِّهِمَا كَانَ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ ، ذَكَرَهُمَا فِي الْقَدِيمِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُقْبَلُ . وَالثَّانِي : يُقْبَلُ وَتُوجِيهُهُمَا مَا قَدَّمْنَاهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ قَذَفَهَا وَقَالَ : كَانَتْ أَمَةً أَوْ مُشْرِكَةً
فَعَلَيْهَا الْبَيِّنَةُ أَنَّهَا يَوْمَ قَذَفَهَا حُرَّةٌ مُسْلِمَةٌ ؛ لِأَنَّهَا مُدَّعِيَةُ الْحَدِّ وَعَلَيْهِ الْيَمِينُ وَيُعَزَّرُ إِلَّا أَنْ يَلْتَعِنَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : جُمْلَتُهُ أَنَّهُمَا إِذَا اخْتَلَفَا بَعْدَ الْقَذْفِ ، فَقَالَ : قَذَفْتُكِ وَأَنْتِ أَمَةٌ أَوْ مُشْرِكَةٌ ، وَقَالَتْ : بَلْ كُنْتُ حُرَّةً أَوْ مُسْلِمَةً ، فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مَعَ الِاحْتِمَالِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهَا كَانَتْ أَمَةً أَوْ مُشْرِكَةً مِنْ قَبْلُ ، وَيَجْهَلُ أَمْرَهَا فِي الْحَالِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهَا حُرَّةٌ فِي الْحَالِ أَوْ مُسْلِمَةٌ ، وَيَجْهَلُ أَمْرَهَا مِنْ قَبْلُ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَجْهَلَ أَمْرَهَا مِنْ قَبْلُ وَفِي الْحَالِ ، فَلَا يَعْلَمُ لَهَا حُرِّيَّةً وَلَا رِقًّا وَلَا إِسْلَامًا وَلَا شِرْكًا . وَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهَا كَانَتْ أَمَةً أَوْ مُشْرِكَةً مِنْ قَبْلُ وَيَجْهَلُ أَمْرَهَا فِي الْحَالِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاذِفِ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهَا أَمَةٌ أَوْ مُشْرِكَةٌ ، وَعَلَيْهِ التَّعْزِيرُ ، إِلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ قَذَفَهَا وَهِيَ حُرَّةٌ أَوْ مُسْلِمَةٌ فَيُحَدُّ . لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ رِقٍّ أَوْ شِرْكٍ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهَا فِي الْحَالِ حُرَّةٌ أَوْ مُسْلِمَةٌ ، وَيَجْهَلُ أَمْرَهَا مِنْ قَبْلُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا أَنَّهَا لَمْ تَزَلْ حُرَّةً مُسْلِمَةً مِنْ قَبْلُ ، وَيُحَدُّ إِلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا كَانَتْ أَمَةً أَوْ مُشْرِكَةً مِنْ قَبْلُ فَيُعَزَّرُ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ تَقَدُّمُ مَا هِيَ عَلَيْهِ الْآنَ مِنْ حُرِّيَّةٍ أَوْ إِسْلَامٍ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يَجْهَلَ أَمْرَهَا فِي الْحَالِ وَمِنْ قَبْلُ ، فَلَا يَعْرِفُ لَهَا حُرِّيَّةً وَلَا رِقًّا وَلَا إِسْلَامًا وَلَا شِرْكًا ، فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عِنْدَ اخْتِلَافِهِمَا فِي الْقَذْفِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْقَاذِفِ دُونَ الْمَقْذُوفِ ، وَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ عِنْدَ اخْتِلَافِهِمَا فِي الْقَتْلِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ دُونَ الْقَاتِلِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ نَقَلُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْجَوَابَيْنَ إِلَى الْآخَرِ وَخَرَّجُوا الْقَذْفَ وَالْقَتْلَ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْقَاتِلِ وَالْقَاذِفِ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ تَجْمَعُهُمْ ، وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَقْذُوفِ وَوَلِيِّ الْمَقْتُولِ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ إِسْلَامُ أَهْلِهَا وَحُرِّيَّتُهُمْ فَأُجْرِيَ حُكْمُ ذَلِكَ عَلَى مَنْ فِيهَا ، كَمَا يَجْرِي عَلَى اللَّقِيطِ حُكْمُ الْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ ، وَهَذَا حَدُّ وَجْهَيْ أَصْحَابِنَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ حَمَلُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْجَوَابَيْنَ عَلَى ظَاهِرِهِ فَجَعَلُوا فِي الْقَذْفِ
الْقَوْلَ قَوْلَ الْقَاذِفِ دُونَ الْمَقْذُوفِ ، وَجَعَلُوا فِي الْقَتْلِ الْقَوْلَ قَوْلَ أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ دُونَ الْقَاتِلِ وَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا بِفَرْقَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقَوْلَ فِي الْقَتْلِ مَوْضُوعٌ لِمَعْنَى الْمُمَاثَلَةِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الِانْتِقَالِ عَنْهُ إِلَى التَّعْزِيرِ . وَالْفَرْقُ الثَّانِي : أَنَّ الْقَتْلَ إِذَا انْتُقِلَ عَنْهُ إِلَى الدِّيَةِ انْتُقِلَ مِنْ مَشْكُوكٍ فِيهِ إِلَى مَشْكُوكٍ فِيهِ ، فَلَمْ يَكُنْ لِنَقْلِهِ تَأْثِيرٌ ، وَالْقَذْفُ إِذَا انْتُقِلَ عَنِ الْحَدِّ فِيهِ إِلَى التَّعْزِيرِ انْتُقِلَ مِنْ مَشْكُوكٍ فِيهِ إِلَى يَقِينٍ ، فَكَانَ لِانْتِقَالِهِ تَأْثِيرٌ ، وَكِلَا الْفَرْقَيْنِ مَعْلُولٌ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ كَانَتْ حُرَّةً مُسْلِمَةً وَادَّعَى أَنَّهَا مُرْتَدَّةٌ وقت قذفه لها فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَلَهَا فِيمَا ادَّعَاهُ مَنْ رِدَّتِهَا وَقْتَ قَذْفِهِ حَالَتَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا يَعْلَمَ لَهَا رِدَّةً تَقَدَّمَتْ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا . أَنَّهَا لَمْ تَزَلْ مُسْلِمَةً وَعَلَيْهِ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِهَا اسْتِدَامَةُ الْإِسْلَامِ ، وَلَمْ تُقْبَلْ دَعْوَى تُخَالِفُهُ إِلَّا أَنْ يُقِيمَ الْقَاذِفُ بَيِّنَةً عَلَى رِدَّتِهَا فَيُحْكَمُ بِهَا وَلَا يُحَدُّ ، وَفِي كَيْفِيَّةِ الْبَيِّنَةِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ تَشَهَدَ بِرِدَّتِهَا ثُمَّ يَكُونُ الْقَوْلُ حِينَئِذٍ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَلَا يَكْتَفِيَ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى الرِّدَّةِ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنَّهُ قَذَفَهَا فِي حَالِ الرِّدَّةِ حَتَّى يَكُونَ الْحُكْمُ مَقْصُورًا عَلَى الْبَيِّنَةِ ، وَلَا تُقْبَلُ يَمِينُهُ إِنْ لَمْ تَشْهَدِ الْبَيِّنَةُ بِذَلِكَ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَعْلَمَ تَقَدُّمَ رَدَّتِهَا وَيَخْتَلِفَانِ ، فَيَقُولُ الْقَاذِفُ : قَذَفْتُكِ وَأَنْتِ مُرْتَدَّةٌ ، وَتَقُولُ الْمَقْذُوفَةُ : قَذَفْتَنِي وَأَنَا مُسْلِمَةٌ . فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْقَاذِفِ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَقْذُوفَةِ مَعَ يَمِينِهَا ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْإِحْصَانُ ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مِنَ اخْتِلَافِ الْقَوْلِ فِي الْبَيِّنَةِ عَلَى الرِّدَّةِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوِ ادَّعَى أَنَّ لَهُ الْبَيِّنَةَ عَلَى إِقْرَارِهَا بِالزِّنَا فَسَأَلَ الْأَجَلَ لَمْ أُؤَجِّلْهُ إِلَّا يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ ، فَإِنْ جَاءَ بِهَا وَإِلَّا حُدَّ أَوْ لَاعَنَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ كَمَا قَالَ ؛ لِأَنَّا لَوْ لَمْ نُؤَجِّلْهُ لِإِحْضَارِ الْبَيِّنَةِ لَتَعَذَّرَتْ عَلَيْهِ لِوَقْتِهِ ؛ لَأَنَّ الشُّهُودَ فِي الْأَغْلَبِ غَيْرُ حُضُورٍ ، وَلَوْ عُوجِلَ بِالْحَدِّ مَعَ إِمْكَانِ الْبَيِّنَةِ لَصَارَ
مَظْلُومًا ، وَلَوْ مُدَّ لَهُ فِي الْإِمْهَالِ ، وَلَمْ يُقَدَّرْ لَهُ الِانْتِظَارُ لَصَارَ الْمَقْذُوفُ فِي تَأْخِيرِ حَدٍّ وَجَبَ لَهُ مَظْلُومًا وَكَانَ لِكُلِّ قَاذِفٍ أَنْ يُسْقِطَ الْحَدَّ عَنْ نَفْسِهِ بِادِّعَاءِ الْبَيِّنَةِ ؛ فَلَمَّا امْتَنَعَ الطَّرَفَانِ لِئَلَّا يَتَوَجَّهَ ظُلْمٌ فِي أَحَدِهِمَا ، وَجَبَ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا بِتَوَسُّطِ الطَّرَفَيْنِ فِي حِفْظِ الْحُقُوقِ ، فَكَانَ الْإِنْظَارُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ هِيَ أَكْثَرُ الْقَلِيلِ وَأَقَلُّ الْكَثِيرِ ؛ عَدْلًا بَيْنَهُمَا فِي وُصُولِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى حَقِّهِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ [ هُودٍ : ] وَلِخَبَرِ " الْمُصَرَّاةِ " وَخَبَرِ حَبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ فِي بَيْعِ خِيَارٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ . فَلِأَجْلِ ذَلِكَ أُنْظِرَ الْقَاذِفُ بِالْبَيِّنَةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، فَإِنْ جَاءَ بِهَا وَإِلَّا حُدَّ أَوْ لَاعَنَ ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَمْ أُؤَجِّلْهُ إِلَّا يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ تَأْجِيلِهِ فِي الثَّالِثِ ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الثَّانِي وَالْأَوَّلِ ، وَإِنَّمَا قَالَهُ فِي وَجْهِ التَّقْرِيبِ فِي الْحَدِّ ، فَإِنْ سَأَلَتِ الْمَقْذُوفَةُ حَبْسَهُ فِي الثَّلَاثِ حُبِسَ ، فَإِنْ قَالَ : لَسْتُ أَقْدِرُ عَلَى إِحْضَارِ الْبَيِّنَةِ إِنْ حُبِسْتُ ، أُخْرِجَ مِنَ الْحَبْسِ مُلَازَمًا لِيُحْفَظَ بِالْمُلَازِمَةِ ، وَيُمَلِّكُهُ إِحْضَارَ الْبَيِّنَةِ بِالْإِفْرَاجِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ أَقَامَتِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ قَذَفَهَا كَبِيرَةً وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ قَذَفَهَا صَغِيرَةً قذف الزوجة فَهَذَانِ قَذْفَانِ مُفْتَرِقَانِ ، وَلَوِ اجْتَمَعَ شُهُودُهُمَا عَلَى وَقْتٍ وَاحِدٍ فَهِيَ مُتَصَادِمَةٌ وَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَإِذَا اخْتَلَفَ فِي الْقَذْفِ فَادَّعَتِ الزَّوْجَةُ أَنَّهُ قَذَفَهَا كَبِيرَةً ، وَأَقَرَّ الزَّوْجُ أَنَّهَا كَانَتْ وَقْتَ قَذْفِهِ لَهَا صَغِيرَةً ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهَا بَيِّنَةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهَا كَانَتْ حِينَ قَذَفَهَا صَغِيرَةً وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الصِّغَرَ يَقِينٌ ، وَجَنْبُ الْمُؤْمِنِ حِمًى ، وَعَلَيْهِ التَّعْزِيرُ ؛ لِأَنَّ قَذْفَ الصَّغِيرَةِ يُوجِبُهُ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي الصِّغَرِ زَوْجَتَهُ ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَلْتَعِنَ مِنْ تَعْزِيرٍ وَجَبَ فِي غَيْرِ الزَّوْجِيَّةِ ، كَمَا لَمْ يَلْتَعِنْ مِنْ حَدٍّ وَجَبَ فِي غَيْرِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الصِّغَرِ زَوْجَتَهُ نُظِرَ ، فَإِنْ نَسَبَ ذَلِكَ إِلَى حَالٍ يُجَامَعُ مِثْلُهَا فَهُوَ تَعْزِيرُ قَذْفٍ يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ مِنْهُ . وَإِنْ قَامَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَى مَا ادَّعَتْ مِنْ قَذْفِهِ لَهَا فِي الْكِبَرِ حُكِمَ بِهَا وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَلَهُ أَنْ يَلْتَعِنَ مِنْهُ ، وَإِنْ عَارَضَ بَيِّنَتَهَا بِبَيِّنَةٍ شَهِدَتْ لَهُ أَنَّهُ قَذَفَهَا فِي الصِّغَرِ فَلِلْبَيِّنَتَيْنِ حَالَتَانِ : اتِّفَاقٌ وَمُضَادَّةٌ . فَأَمَّا الْحَالَةُ الْأُولَى : وَهِيَ الِاتِّفَاقُ الْمُمْكِنُ فَقَدْ تَكُونُ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ : إِمَّا أَنْ تُطْلِقَ الْبَيِّنَتَانِ الشَّهَادَةَ مِنْ غَيْرِ تَارِيخٍ ، وَإِمَّا أَنْ تُؤَرِّخَا تَارِيخَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ ، فَيُعْمَلُ بِشَهَادَتِهِمَا ، وَيَصِيرُ قَاذِفًا لَهَا قَذْفَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي الصِّغَرِ بِبَيِّنَتِهِ .
وَالثَّانِي : فِي الْكِبَرِ بِبَيِّنَتِهَا ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ بِقَذْفِ الصِّغَرِ التَّعْزِيرُ ، وَبِقَذْفِ الْكِبَرِ الْحَدُّ . وَلَهُ حَالَتَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَلْتَعِنَ فَيُسْقِطُ بِلِعَانِهِ الْحَدَّ ، وَالتَّعْزِيرُ إِنْ كَانَ تَعْزِيرَ قَذْفٍ ، وَلَا يَسْقُطُ بِلِعَانِهِ إِنْ كَانَ تَعْزِيرَ أَذًى وَيُسْتَوْفَى مِنْهُ بَعْدَ اللِّعَانِ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ لَا يَلْتَعِنَ فَيُقَامُ حَدُّ الْقَذْفِ فِي الْكِبَرِ ، وَأَمَّا التَّعْزِيرُ لِلْقَذْفِ فِي الصِّغَرِ ، فَإِنْ كَانَ تَعْزِيرَ أَذًى لِكَوْنِهَا فِي صِغَرٍ لَا يُجَامَعُ مِثْلُهَا فِيهِ لَمْ يَدْخُلْ هَذَا التَّعْزِيرُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ لِاخْتِلَافِ مُسْتَحِقِّهَا ؛ لِأَنَّ التَّعْزِيرَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالْحَدَّ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ ، وَإِنْ كَانَ تَعْزِيرَ قَذْفٍ لِكَوْنِهَا فِي صِغَرٍ يُجَامَعُ مِثْلُهَا فِيهِ فَهُمَا جَمِيعًا مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ ، وَفِي دُخُولِ التَّعْزِيرِ فِي الْحَدِّ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَدْخُلُ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِهِ وَمُسْتَحَقِّهِ كَدُخُولِ الْحَدَثِ فِي الْجَنَابَةِ وَيُقْتَصَرُ فِيهِ عَلَى الْحَدِّ وَحْدَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَدْخُلُ فِيهِ ، لِأَنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ لَا تَتَدَاخَلُ ، فَيُقَامُ عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ ثُمَّ الْحَدُّ . فَصْلٌ : فَأَمَّا الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : وَهِيَ مُضَادَّةُ الشَّهَادَتَيْنِ ، فَهُوَ أَنْ يَخْتَلِفَا فِي التَّارِيخِ وَيَخْتَلِفَا فِي السِّنِّ ، فَتَشْهَدُ بَيِّنَتُهَا أَنَّهُ قَذَفَهَا مُسْتَهَلَّ الْمُحَرَّمِ وَهِيَ كَبِيرَةٌ وَتَشْهَدُ ، بَيِّنَتُهُ أَنَّهُ قَذَفَهَا مُسْتَهَلَّ الْمُحَرَّمِ وَهِيَ صَغِيرَةٌ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ تَكُونَ صَغِيرَةً كَبِيرَةً فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ ، فَصَارَ فِي الشَّهَادَتَيْنِ تَكَاذُبٌ تَعَارَضَتَا فِيهِ ، وَفِي تَعَارُضِ الشَّهَادَتَيْنِ في القذف قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَسْقُطَانِ ، فَعَلَى هَذَا يَصِيرُ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ قَذَفَهَا فِي الصِّغَرِ ، وَلَهُ أَنْ يَلْتَعِنَ مِنْهَا إِنْ كَانَ تَعْزِيرَ قَذْفٍ ، وَلَا يَلْتَعِنُ إِنْ كَانَ تَعْزِيرَ أَذًى ، وَلَهُ أَرَادَ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ : لَا حَدَّ ، وَلَا لِعَانَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : فِي تَعَارُضِ الشَّهَادَتَيْنِ أَنَّهُمَا تُسْتَعْمَلَانِ ، وَفِي اسْتِعْمَالِهِمَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : يُوقَفَانِ حَتَّى يَقَعَ الْبَيَانُ ، وَالْوَقْفُ هَاهُنَا لَا وَجْهَ لَهُ لِفَوَاتِ الْبَيَانِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يُعْمَلُ بِهِمَا فِي قِسْمَةِ الدَّعْوَى ، وَالْقِسْمَةُ هَاهُنَا لَا تَعُمُّ ، لِأَنَّ الْقَذْفَ لَا يَتَبَعَّضُ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا ، وَالْقُرْعَةُ مُرَجِّحَةٌ هَاهُنَا ، فَأَيُّ الْبَيِّنَتَيْنِ قُرِعَتْ حُكِمَ بِهَا ، وَهَلْ يَحْلِفُ مَنْ قُرِعَتْ بَيِّنَتُهُ أَمْ لَا ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْقُرْعَةِ ، هَلْ دَخَلَتْ مُرَجِّحَةً لِلدَّعْوَى أَوِ الْبَيِّنَةِ ؛ فَإِنْ قِيلَ : إِنَّهَا مُرَجِّحَةٌ لِلدَّعْوَى حَلَفَ صَاحِبُهَا ، وَإِنْ قِيلَ : إِنَّهَا مُرَجِّحَةٌ لِلْبَيِّنَةِ لَمْ يَحْلِفْ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ أَنَّهُ قَذَفَهُمَا وَقَذَفَ امْرَأَتَهُ لَمْ تَجُزْ
شَهَادَتُهَا إِلَّا أَنْ يَعْفُوَا قَبْلَ أَنْ يَشْهَدَا وَيُرَى مَا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَهُ حَسَنٌ فَيَجُوزَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا أَنْ تَدَّعِيَ زَوْجَتُهُ عَلَيْهِ الْقَذْفَ فَيُنْكِرُهَا ، فَيَشْهَدُ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ أَنَّهُ قَذَفَهُمَا وَقَذَفَ امْرَأَتَهُ ، أَوْ يَشْهَدَانِ أَنَّهُ قَذَفَ امْرَأَتَهُ وَقَذَفَهُمَا ، لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُقَدِّمَا الشَّهَادَةَ لِلْمَرْأَةِ عَلَى أَنْفُسِهِمَا أَوْ يُؤَخِّرَاهَا فَقَدْ صَارَا شَاهِدَيْنِ لِأَنْفُسِهِمَا وَلِغَيْرِهِمَا ، وَشَهَادَةُ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ مَرْدُودَةٌ وَصَارَا بِهَا خَصْمَيْنِ وَعَدُوَّيْنِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْذُوفَ عَدُوٌّ لِلْقَاذِفِ ، وَشَهَادَةُ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ مَرْدُودَةٌ ، فَرُدَّتْ لِلزَّوْجَةِ كَمَا رُدَّتْ لِأَنْفُسِهِمَا وَلَمْ تُقْبَلْ فِي وَاحِدٍ مِنَ الْحَقَّيْنِ ، فَإِنْ شَهِدَا أَنَّهُ قَذَفَ أَمَّهُمَا وَقَذَفَ أَجْنَبِيًّا رُدَّتْ شَهَادَتُهُمَا لِأُمِّهِمَا لِلتُّهْمَةِ ، وَهَلْ تُرَدُّ شَهَادَتُهُمَا لِلْأَجْنَبِيِّ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تُرَدُّ وَلَا تَتَبَعَّضُ كَمَا لَوْ شَهِدَ أَنَّهُ قَذَفَهَا وَقَذَفَ زَوْجَتَهُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا لِلْأَجْنَبِيِّ وَإِنْ رُدَّتْ لِأُمِّهِمَا . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ أَنَّ الشَّهَادَةَ لِأُمِّهِمَا رُدَّتْ لِأَجْلِ التُّهْمَةِ ، وَمَنِ اتُّهِمَ فِي شَهَادَةٍ جَازَ أَنْ يُقْبَلَ فِي غَيْرِهَا إِذَا انْفَرَدَتْ فَكَذَلِكَ إِذَا اجْتَمَعَتْ ، وَمَنْ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ بِالْعَدَاوَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقْبَلَ فِيهَا وَلَا فِي غَيْرِهَا سَوَاءٌ اجْتَمَعَتْ أَوِ افْتَرَقَتْ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ عَدُوًّا فِي الْجَمِيعِ وَلَا يَكُونُ مَفْهُومًا فِي الْجَمِيعِ فَافْتَرَقَا ، وَإِنْ كَانَ ابْنُ سُرَيْجٍ قَدْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا جَمْعًا يُبْطِلُهُ الْفَرْقُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنْ عَفَا الشَّاهِدَانِ عَنْ حَقِّهِمَا وَحَسُنَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا الشهادة في القذف ، لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ الشَّهَادَةِ أَوْ بَعْدَهَا ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الشَّهَادَةِ ، وَذَكَرَا أَنْفُسَهُمَا بَعْدَ الْعَفْوِ إِخْبَارًا عَنِ الْحَالِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا لِلزَّوْجَةِ ؛ لِأَنَّهُمَا قَدْ خَرَجَا بِالْعَفْوِ مِنْ أَنْ يَكُونَا خَصْمَيْنِ وَخَرَجَا بِحُسْنِ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ أَنْ يَكُونَا عَدُوَّيْنِ ، وَإِنْ كَانَ عَفْوُهُمَا بَعْدَ الشَّهَادَةِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا بِالْعَفْوِ الْحَادِثِ بَعْدَهَا ، لِاقْتِرَانِهِمَا بِمَا مَنَعَ مِنْ قَبُولِهَا ، فَلَوْ أَعَادَ الشَّهَادَةَ بَعْدَ الْعَفْوِ لَمْ تُقْبَلْ ؛ لِأَنَّهَا رُدَّتْ بَعْدَ سَمَاعِهَا فَصَارَ كَرَدِّهَا بِالْفِسْقِ ، فَلَا تُقْبَلُ إِذَا أُعِيدَتْ بَعْدَ الْعَدَالَةِ ، وَيَجْرِي عَفْوُهُمَا قَبْلَ الشَّهَادَةِ مَجْرَى الْعَدَالَةِ قَبْلَ الشَّهَادَةِ . فَلَا يَمْنَعُ تَقَدُّمُ الْفِسْقِ مِنْ قَبُولِهَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَذَفَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ ، وَالْآخَرُ أَنَّهُ قَذَفَهَا بِالْفَارِسِيَّةِ لَمْ يَجُوزَا ؛ لَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْكَلَامَيْنِ غَيْرُ الْآخَرِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اخْتِلَافُ الشَّاهِدَيْنِ فِي الْأَدَاءِ الشهادة في القذف عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُهُمَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُهُمَا فِي الْإِخْبَارِ عَنْهُ .