كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي
الْمُسْلِمِ ، وَلِأَنَّ الْكَذِبَ يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ ، وَالْكَذِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَعْظَمُ مِنَ الْكَذِبِ عَلَى عِبَادِهِ ، ثُمَّ كَانَتْ شَهَادَةٌ مَنْ كَذَبَ عَلَى النَّاسِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَرْدُودَةً ، وَالْكَافِرُ الْكَاذِبُ عَلَى اللَّهِ أَوْلَى أَنْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ ، وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى كَذِبَهُمْ فَقَالَ : يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ [ الْمَائِدَةِ : ] . وَقَالَ تَعَالَى : وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [ آلِ عِمْرَانَ : ] . وَيَتَحَرَّرُ مِنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَنْ كَانَ مَوْسُومًا بِالْكَذِبِ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ كَالْمُسْلِمِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْكَذِبَ إِذَا رُدَّتْ بِهِ شَهَادَةُ الْمُسْلِمِ ، فَأَوْلَى أَنْ تُرَدَّ بِهِ شَهَادَةُ الْكَافِرِ ، كَالْكَذِبِ عَلَى النَّاسِ ، وَلِأَنَّ نَقْصَ الْكُفْرِ أَغْلَظُ مِنْ نَقْصِ الرِّقِّ ، لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ نَقْصَ الْكَفْرِ يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الْعِبَادَاتِ ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْهَا نَقْصُ الرِّقِّ . وَالثَّانِي : أَنَّ نَقْصَ الْكَفْرِ يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ الْخَبَرِ ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْهُ نَقْصُ الرِّقِّ ، ثُمَّ ثَبَتَ بِاتِّفَاقِنَا وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنْ نَقْصَ الرِّقِّ يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ ، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يَمْنَعَ مِنْ قَبُولِهَا - نَقْصُ الْكَفْرِ ، وَلِهَذِهِ الْمَعَانِي مَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ قَبُولِ شَهَادَةِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ اعْتِبَارًا بِنَقْصِ الْكَفْرِ ، فَكَذَلِكَ أَهْلُ الْكِتَابِ . وَيَتَحَرَّرُ مِنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا شَهَادَةٌ يَمْنَعُ مِنْهَا الرِّقُّ ، فَوَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ مِنْهَا الْكُفْرُ ، قِيَاسًا عَلَى شَهَادَةِ الْوَثَنِيِّ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا شَهَادَةٌ يَمْنَعُ مِنْهَا كُفْرُ الْوَثَنِيِّ ، فَوَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ مِنْهَا كُفْرُ الْكِتَابِيِّ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الْمُسْلِمِ . فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِالْآيَةِ فَسَنَذْكُرُ مِنِ اخْتِلَافِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِي تَفْسِيرِهَا مَا يَتَكَافَأُ بِهِ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا . وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ [ الْمَائِدَةِ : ] ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهَا الشَّهَادَةُ بِالْحُقُوقِ عِنْدَ الْحُكَّامِ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا شَهَادَةُ الْحُضُورِ لِلْوَصِيَّةِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهَا أَيْمَانٌ ، وَمَعْنَى ذَلِكَ ، أَيْمَانُ بَيْنِكُمْ ، فَعَبَّرَ عَنِ الْيَمِينِ بِالشَّهَادَةِ ، كَمَا قَالَ فِي أَيْمَانِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ [ النُّورِ : ] ، فَلَا يَكُونُ لِأَبِي حَنِيفَةَ فِيهَا دَلِيلٌ إِلَّا عَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ ، وَيَمْنَعُهُ التَّأْوِيلَانِ الْآخَرَانِ مِنْهُمَا ، وَلَا يَكُونُ لِدَاوُدَ فِيهَا دَلِيلٌ إِلَّا عَلَى التَّأْوِيلِ الثَّانِي ، وَيَمْنَعُهُ التَّأْوِيلَانِ الْآخَرَانِ فِيهِمَا .
وَفِي قَوْلِهِ : اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ [ الْمَائِدَةِ : ] . تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَعْنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَمُجَاهِدٍ . وَالثَّانِي : يَعْنِي وَصِيَّ الْمُوصِي ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَفِيهِمَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمَا شَاهِدَانِ يَشْهَدَانِ عَلَى وَصِيَّةِ الْمُوصِي . وَالثَّانِي : أَنَّهُمَا وَصِيَّانِ وَلِيَّهُ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَدَاوُدَ دَلِيلٌ عَلَى التَّأْوِيلَيْنِ الْآخَرَيْنِ ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ لَهُمَا دَلِيلٌ عَلَى التَّأْوِيلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ . وَقَوْلُهُ تَعَالَى : أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ فِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : مِنْ غَيْرِ دِينِكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ ، وَشُرَيْحٍ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ . وَالثَّانِي : مِنْ غَيْرِ قَبِيلَتِكُمْ وَعَشِيرَتِكُمْ ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ ، وَعِكْرِمَةَ ، وَالزُّهْرِيِّ ، وَلَيْسَ لَهُمَا فِيهِمَا عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ دَلِيلٌ ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ لَهُمَا عَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ دَلِيلٌ . وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا عَلَى التَّخْيِيرِ فِي اثْنَيْنِ مِنَّا ، أَوْ آخَرَيْنِ مِنْ غَيْرِنَا . وَالثَّانِي : أَنَّهَا لِغَيْرِ التَّخْيِيرِ ، وَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ ، أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ لَمْ تَجِدُوا مِنْكُمْ ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَشُرَيْحٍ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ [ الْمَائِدَةِ : ] يَعْنِي سَافَرْتُمْ " فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ " ، وَفِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ ، وَتَقْدِيرُهُ ، وَقَدْ أَسْنَدْتُمُ الْوَصِيَّةَ إِلَيْهِمَا . وَقَوْلُهُ : تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ [ الْمَائِدَةِ : ] . أَيْ : تَسْتَوْثِقُوا بِهِمَا لِلْأَيْمَانِ ، وَهَذَا خِطَابٌ لِلْوَرَثَةِ ، وَفِي هَذِهِ الصَّلَاةِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعَصْرِ ، وَهَذَا قَوْلُ شُرَيْحٍ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ . وَالثَّانِي : مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ أَهْلِ دِينِهِمَا وَمِلَّتِهِمَا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَالسُّدِّيِّ ، فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا [ الْمَائِدَةِ : ] ، فِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : إِنِ ارْتَبْتُمْ بِالْوَصِيَّيْنِ فِي الْخِيَانَةِ أَحْلَفَهُمَا الْوَرَثَةُ . وَالثَّانِي : إِنِ ارْتَبْتُمْ بِالشَّاهِدَيْنِ فِي الْعَدَالَةِ ، وَالْجَرْحِ أَحْلَفَهُمَا الْحَاكِمُ .
وَفِي قَوْلِهِ : نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا فِيهِمَا تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا نَأْخُذُ عَلَيْهِ رِشْوَةً ، وَهَذَا قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ . وَالثَّانِي : لَا نُعْتَاضُ عَلَيْهِ بِحَقٍّ ، وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى أَيْ : لَا نَمِيلُ مَعَ ذِي الْقُرْبَى فِي قَوْلِ الزُّورِ وَالشَّهَادَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ ، عِنْدَنَا فِيمَا أَوْجَبَهُ مِنْ أَدَائِهَا عَلَيْنَا . وَقَوْلُهُ تَعَالَى : فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا [ الْمَائِدَةِ : ] . وَفِي " عُثِرَ " تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : ظَهَرَ ، حَكَاهُ ابْنُ عِيسَى . وَالثَّانِي : اطَّلَعَ ، قَالَهُ النَّخَعِيُّ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَإِنْ تَقَارَبَ مَعْنَاهُمَا : أَنَّ الظُّهُورَ مَا بَانَ بِنَفْسِهِ وَالِاطِّلَاعَ مَا بَانَ بِالْكَشْفِ عَنْهُ . وَقَوْلُهُ : اسْتَحَقَّا إِثْمًا [ الْمَائِدَةِ : ] . إِنْ كَذِبَا وَخَانَا ، فَعَبَّرَ عَنِ الْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ بِالْإِثْمِ ، لِحُدُوثِهِ عَنْهُمَا ، وَفِي الَّذِي عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا - قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمَا الشَّاهِدَانِ ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُمَا الْوَصِيَّانِ ، وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ . " فَآخَرَانِ " يَعْنِي مِنَ الْوَرَثَةِ . يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا يَعْنِي فِي حِينِ ظَهَرَ لَهُمَا الْخِيَانَةُ مِنَ الَذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمَا الْأَوْلَيَانِ ، فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : الْأَوْلَيَانِ بِالْمَيِّتِ مِنَ الْوَرَثَةِ ، وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ . وَالثَّانِي : الْأَوْلَيَانِ بِالشَّهَادَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَشُرَيْحٍ ، وَسَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ ، مَا رَوَى عَبْدُ الْمَلِكِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَهْمٍ ، قِيلَ : إِنَّهُ ابْنُ أَبِي مَارِيَةَ ، مَوْلَى الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ مَعَ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ ، وَعُدَيِّ بْنِ بَدَّاءٍ فَمَاتَ السَّهْمِيُّ بِأَرْضٍ لَيْسَ بِهَا مُسْلِمٌ ، فَلَمَّا قَدِمَا بِتَرِكَتِهِ فَقَدُوا جَامًا مِنْ فِضَّةٍ مُخَوَّصًا بِالذَّهَبِ ، فَأَحْلَفَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ وَجَدَ الْجَامَ بِمَكَّةَ ، فَقَالُوا : اشْتَرَيْنَاهُ مِنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ ، وَعَدِيِّ بْنِ بَدَّاءٍ ، فَقَامَ رَجُلَانِ مِنْ أَوْلِيَاءِ السَّهْمِيِّ ، قِيلَ : إِنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، وَالْمُطَّلِبُ بْنُ أَبِي وَدَاعَةَ فَحَلَفَا لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ
شَهَادَتِهِمَا ، وَأَنَّ الْجَامَ لِصَاحِبِهِمْ فَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ ، فَعِنْدَ ذَلِكَ ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " سَافِرُوا مَعَ ذَوِي الْجُدُودِ وَالْمَيْسَرَةِ " . وَاخْتُلِفَ فِي حُكْمِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ ، هَلْ هُوَ مَنْسُوخٌ أَوْ ثَابِتٌ ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : حُكْمُهُمَا مَنْسُوخٌ . وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : حُكْمُهُمَا ثَابِتٌ ، وَقَدْ تَجَاوَزْنَا بِتَفْسِيرِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ حَدَّ الْجَوَابِ لِيُعْرَفَ حُكْمُهُمَا ، وَلَيْسَ مَعَ هَذَا الِاخْتِلَافِ دَلِيلٌ فِيهِمَا ، فَإِنِ اسْتَدَلَّ مَنْ نَصَرَ مَذْهَبَ دَاوُدَ بِمَا رَوَاهُ غَيْلَانُ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ ، قَالَ : شَهِدَ رَجُلَانِ نَصْرَانِيَّانِ مِنْ أَهْلِ دَقُوقَاءَ عَلَى وَصِيَّةِ مُسْلِمٍ ، وَأَنَّ أَهْلَ الْوَصِيَّةِ أَقَرَّا بِهِمَا أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ ، فَاسْتَحْلَفَهُمَا بِاللَّهِ بَعْدَ الْعَصْرِ مَا اشْتَرَيْنَا ثَمَنًا ، وَلَا كَتَمْنَا شَهَادَةً ، بِاللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ ، ثُمَّ قَالَ أَبُو مُوسَى ، وَاللَّهِ إِنَّ هَذِهِ لَقَضِيَّةٌ مَا قُضِيَ بِهَا مُنْذُ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ الْيَوْمِ . قِيلَ : هَذَا خِلَافٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ ، فَلَمْ يَحُجَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، لَا سِيَّمَا وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى خِلَافِهِ . ثُمَّ هَذِهِ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَهَا تَأْوِيلٌ ، فَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا دَلِيلٌ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِحَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّهُ أَجَازَ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فَهُوَ أَنَّهُ أَرَادَ بِالشَّهَادَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً [ الْمُنَافِقُونَ : ] . وَكَمَا قَالَ فِي الْمُنَافِقِينَ : قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [ الْمُنَافِقُونَ : ] . أَيْ : نَحْلِفُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ رَجْمِ الزَّانِيَيْنِ الْيَهُودِيَّيْنِ : فَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يُرْوَ أَنَّهُ قَبِلَ شَهَادَةَ الْيَهُودِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشُّهُودُ مُسْلِمِينَ ، أَوْ حَصَلَ مَعَ شَهَادَةِ الْيَهُودِ اعْتِرَافُ الزَّانِيَيْنِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِصِحَّةِ وِلَايَتِهِمْ : فَهُوَ أَنَّ الْوِلَايَةَ خَاصَّةٌ فَخَفَّ حُكْمُنَا ، لِمَا يُرَاعَى فِيهَا عَدَالَةُ الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ ، وَيُرَاعَى فِي الشَّهَادَةِ عَدَالَةُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ ، فَلِذَلِكَ رُدَّتْ شَهَادَةُ الْكَافِرِ ، وَإِنْ صَحَّتْ وِلَايَتُهُ .
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّهُمْ عُدُولٌ : فَهُوَ أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ الْوَارِدَ بِتَكْذِيبِهِمْ يَمْنَعُ مِنْ ثُبُوتِ عَدَالَتِهِمْ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى أَهْلِ الْبَغْيِ ، لِأَنَّ فِسْقَهُمْ بِتَأْوِيلٍ : فَهُوَ أَنَّ مَنْ حُكِمَ بِفِسْقِهِ مِنْهُمْ لِظُهُورِ الْخَطَأِ فِي تَأْوِيلِهِ ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ ، وَمَنْ كَانَ تَأْوِيلُ شُبْهَتِهِ مُحْتَمَلًا ، كَانُوا عَلَى عَدَالَتِهِمْ وَقَبُولِ شَهَادَتِهِمْ .
_____كِتَابُ الْأَقْضِيَةِ وَالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ _____
الْحُكْمِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ
كِتَابُ الْأَقْضِيَةِ وَالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ وَمَا دَخَلَ فِيهِ مِنِ اخْتَلَافِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ الْمَخْزُومِيُّ ، عَنْ سَيْفِ بْنِ سُلَيْمَانَ ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ ، قَالَ عَمْرٌو فِي الْأَمْوَالِ ، وَرَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ وَمِنْ حَدِيثِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ وَرَوَاهُ عَنْ عَلِيٍّ ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَشُرَيْحٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْحُكْمِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى جَوَازِ الْحُكْمِ بِهِ . وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ . وَمِنَ التَّابِعِينَ : قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَشُرَيْحٍ ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ، وَابْنِ سِيرِينَ ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ . وَهُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ ، وَرَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، وَمَالِكٍ ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْكَمَ بِالْيَمِينِ وَالشَّاهِدِ ، وَوَافَقَهُ أَصْحَابُهُ عَلَيْهِ ، حَتَّى قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : انْقَضَّ حُكْمُ الْحَاكِمِ إِذَا حَكَمَ بِهِ . وَبِهِ قَالَ مِنَ التَّابِعِينَ : الزُّهْرِيُّ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالشَّعْبِيُّ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ : ابْنُ شُبْرُمَةَ ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ . اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ [ الْبَقَرَةِ : ] ، فَجُعِلَ الْقَضَاءُ مَقْصُورًا عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ ، فَكَانَ الْقَضَاءُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ زِيَادَةٌ عَلَيْهِمَا ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ تَكُونُ عِنْدَهُمْ نَسْخًا .
وَبِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي ، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ " . فَخُصَّ الْمُدَّعِي بِالْبَيِّنَةِ ، وَالْمُنْكِرُ بِالْيَمِينِ . وَبِرِوَايَةِ سِمَاكٍ ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلِ بْنِ حَجَرٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، أَنَّ رَجُلًا مِنْ كِنْدَةَ ، وَرَجُلًا مِنْ حَضْرَمَوْتَ أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ الْحَضْرَمِيُّ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ هَذَا غَصَبَنِي أَرْضِي ، وَرِثْتُهَا مِنْ أَبِي ، وَقَالَ الْكِنْدِيُّ : أَرْضِي وَفِي يَدِي ، أَزْرَعُهَا لَا حَقَّ لَهُ فِيهَا ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْحَضْرَمِيِّ : " أَلَكَ بَيِّنَةٌ " ، قَالَ : لَا ، قَالَ : " لَكَ يَمِينُهُ " ، فَقَالَ الْحَضْرَمِيُّ : إِنَّهُ فَاجِرٌ ، لَا يُبَالِي عَلَى مَا حَلَفَ ، إِنَّهُ لَا يَتَوَرَّعُ مِنْ شَيْءٍ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَيْسَ لَكَ مِنْهُ إِلَّا ذَاكَ " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَا الْبَيِّنَةَ لَا يَسْتَوْجِبُ بِهِ حَقًّا ، وَلِأَنَّ الْبَيِّنَةَ مَوْضُوعَةٌ لِإِثْبَاتِ الدَّعْوَى ، وَالْيَمِينَ مَوْضُوعَةٌ لِإِنْكَارِهَا ، فَلَمَّا لَمْ تُنْقَلِ الْبَيِّنَةُ إِلَى نَفْيِ الْمُنْكِرِ ، وَجَبَ أَنْ لَا تُنْقَلَ إِلَى إِثْبَاتِ الْمُدَّعِي . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا : أَنَّهَا حُجَّةٌ لِأَحَدِ الْمُتَنَازِعَيْنِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُنْقَلَ إِلَى خَصْمِهِ كَالْبَيِّنَةِ . وَلِأَنَّ نُقْصَانَ الْعَدَدِ الْمَشْرُوعِ فِي الْبَيِّنَةِ يَمْنَعُ مِنَ الْحُكْمِ بِهَا كَالْيَمِينِ مَعَ الْمَرْأَتَيْنِ . وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ يَمِينُ الْمُدَّعِي مَعَ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ تَقُومُ مَقَامَ شَاهِدٍ ، لَمَا قُبِلَتْ فِيهِ يَمِينُ عَبْدٍ وَلَا فَاسِقٍ ، وَفِي إِجَازَتِكُمْ لِيَمِينِ الْعَبْدِ وَالْفَاسِقِ مَا يَمْنَعُ أَنْ تَقُومَ مَقَامَ الشَّاهِدِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ قَامَتْ يَمِينُهُ مَقَامَ شَاهِدٍ ، لَمَا تَرَتَّبَ بَعْدَ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ ، لِأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ لَا يَتَرَتَّبَانِ ، وَيَجُوزُ تَقْدِيمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ ، وَفِي قَوْلِكُمْ : إِنَّ يَمِينَهُ لَا تُقْبَلُ إِلَّا بَعْدَ الشَّاهِدِ - دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَا تَقُومُ مَقَامَ شَاهِدٍ .
فَصْلٌ : وَدَلِيلُنَا : مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي صَدْرِ الْبَابِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ " فَإِنْ قِيلَ : هَذَا الْحَدِيثُ مُنْقَطِعٌ وَمُرْسَلٌ ، لِأَنَّ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ لَمْ يَلْقَ ابْنَ عَبَّاسٍ .
قِيلَ : قَدْ رَوَاهُ مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ الزِّنْجِيُّ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ، عَنْ طَاوُسٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَقَدْ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيِّ ، عَنْ رَبِيعَةَ ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ " . فَإِنْ قِيلَ : فَهَذَا الْحَدِيثُ مَعْلُولٌ ، لِأَنَّ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ مُحَمَّدٍ قَالَ : لَقِيتُ سُهَيْلَ بْنَ أَبِي صَالِحٍ فَسَأَلْتُهُ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ ، فَقَالَ : أَخْبَرَنِي رَبِيعَةُ وَهُوَ عِنْدِي ثِقَةٌ أَنِّي حَدَّثْتُهُ إِيَّاهُ ، وَلَا أَحْفَظُهُ . قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ : وَكَانَ أَصَابَ سُهَيْلًا عِلَّةٌ ذَهَبَ بِهَا بَعْضُ عَقْلِهِ ، فَنَسِيَ بَعْضَ حَدِيثِهِ ، فَكَانَ سُهَيْلٌ إِذَا رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ قَالَ : أَخْبَرَنِي رَبِيعَةُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ . قِيلَ : نِسْيَانُ الرَّاوِي لَا يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ حَدِيثِهِ ، قَبْلَ نِسْيَانِهِ ، وَلَيْسَ النِّسْيَانُ أَكْثَرَ مِنَ الْمَوْتِ الَّذِي لَا يُرَدُّ بِهِ الْحَدِيثُ . وَضَبْطُهُ لِنَفْسِهِ حَتَّى نَسِيَ الرِّوَايَةَ فَحَدَّثَ بِهَا عَنْ رَبِيعَةَ عَنْ نَفْسِهِ - دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ عَقْلِهِ . وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ ، عَنِ الْأَعْرَجِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ . فَكَانَ مَرْوِيًّا مِنْ طَرِيقَيْنِ ثَابِتَيْنِ . وَرَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " قَضَى بِالشَّاهِدِ الْوَاحِدِ مَعَ يَمِينِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ " . قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ : وَلَقِيتُ الْحَكَمَ بْنَ عُتَيْبَةَ يَسْأَلُ أَبِي ، وَقَدْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى جِدَارٍ ، لِيَقُومَ ، أَقَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ ؟ قَالَ : نَعَمْ . وَقَضَى بِهِ عَلِيٌّ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ بِالْعِرَاقِ . وَرَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَابِرٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَمَرَنِي أَنْ أَقْضِيَ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ ؟ قَالَ : نَعَمْ وَرَوَى مُطَرِّفُ بْنُ مَازِنٍ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ " ، وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، " أَنَّهُ قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ فِي الْحُقُوقِ " . وَرَوَى أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ أَنَّهُ : قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ ، فَصَارَ هَذَا الْحَدِيثُ مَرْوِيًّا عَنْ ثَمَانِيَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ : عَلِيٍّ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ ، وَجَابِرِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، وَسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ . وَلَعَلَّهُ قَدْ رَوَاهُ غَيْرُهُمْ ، فَكَانَ مِنْ أَشْهَرِ الْأَحَادِيثِ وَأَثْبَتِهَا ، وَقَدْ قَضَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِالْكُوفَةِ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ عَلَى الْمِنْبَرِ . مَعْنَاهُ : أَنَّهُ أَحْلَفَ الْمُدَّعِيَ قَائِمًا عَلَى الْمِنْبَرِ ، لَا أَنَّهُ حَكَمَ بِهِ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ . فَاعْتَرَضُوا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : الطَّعْنُ فِيهِ وَالْقَدْحُ فِي صِحَّتِهِ بِمَا حَكَوْهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ : أَنْ لَيْسَ فِي الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرٌ يَصِحُّ . وَهَذَا الْقَدْحُ فَاسِدٌ ، لِأَنَّ مَالِكًا ، وَالشَّافِعِيَّ قَدْ أَثْبَتَاهُ ، وَقَالَا بِهِ ، وَهَمَّا أَعْرَفُ بِصِحَّةِ الْحَدِيثِ وَأَقْرَبُ إِلَى زَمَنِ مَعْرِفَتِهِ مِنْ يَحْيَى ، وَإِنْ كَانَ الْحِكَايَةُ عَنْهُ فِي قَدْحِهِ ضَعِيفَةً ، وَقَدْ أَثْبَتَهُ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ فِي الصَّحِيحِ . وَالِاعْتِرَاضُ الثَّانِي : بَعْدَ تَسْلِيمِ صِحَّتِهِ أَنْ قَالُوا : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَضَى بِشَهَادَةِ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِشَهَادَتِهِ وَحْدَهُ ، وَسَمَّاهُ ذَا الشَّهَادَتَيْنِ ، وَهَذِهِ الشَّهَادَةُ يَخُصُّ بِهَا خُزَيْمَةَ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُعْتَبَرَ فِي غَيْرِهِ . وَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ خُزَيْمَةَ إِنَّمَا شَهِدَ وَحْدَهُ فِي قِصَّةِ الْأَعْرَابِيِّ حِينَ بَاعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَسًا ، ثُمَّ جَحَدَهُ إِلَى أَنْ شَهِدَ خُزَيْمَةُ ، فَاعْتَرَفَ الْأَعْرَابِيُّ . بَعْدَ شَهَادَتِهِ ، فَلَمْ يَخْتَصَّ خُزَيْمَةُ إِلَّا بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي شَهَادَةِ خُزَيْمَةَ ، لَمَا احْتَاجَ إِلَى إِحْلَافِ الْمُدَّعِي مَعَ شَهَادَتِهِ . وَالِاعْتِرَاضُ الثَّالِثُ : أَنْ قَالُوا اسْتِعْمَالُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَضَى بِيَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَعَ شَاهِدِ الْمُدَّعِي ، لِقُصُورِ بَيِّنَتِهِ ، فِي نَقْصِهَا عَنْ عَدَدِ الْكَمَالِ . وَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ قَضَاءَهُ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ مُوجِبٌ أَنْ يَكُونَ الْقَضَاءُ مُتَعَلِّقًا بِهِمَا ، وَهَذَا عَلَى مَا قَالُوهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْيَمِينِ دُونَ الشَّاهِدِ . وَالثَّانِي : أَنَّ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَضَى بِالشَّاهِدِ الْوَاحِدِ مَعَ يَمِينِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ إِبْطَالًا لِهَذَا الِاعْتِرَاضِ وَإِبْطَالًا لِهَذَا التَّأْوِيلِ . وَيَدُلُّ عَلَيْهِ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ بِهِ ، فَقَدْ قَضَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِالْكُوفَةِ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ عَلَى الْمِنْبَرِ ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ أَحْلَفَ الْمُدَّعِيَ قَائِمًا ، لَا أَنَّهُ حَكَمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ .
وَرَوَى أَبُو الزِّنَادِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ : شَهِدْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ ، وَعُمَرَ ، وَعُثْمَانَ يَقْضُونَ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ وَأَخْبَرَ يَحْيَى أَنَّهُ قَضَى بِهَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ، وَقَضَى بِهَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَكُتِبَ بِهَا إِلَى خُلَفَائِهِ فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ ، وَمِثْلُ هَذَا الْعَمَلِ الْمَشْهُورِ إِذَا لَمْ يُعَارَضْ بِالْخِلَافِ كَانَ إِجْمَاعًا مُنْتَشِرًا ، وَحِجَاجًا قَاطِعًا . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ الزُّهْرِيَّ : الْقَضَاءُ بِالشَّاهِدِ مَعَ الْيَمِينِ بِدْعَةٌ وَأَوَّلُ مَنْ قَضَى بِهِ مُعَاوِيَةُ . قِيلَ : قَوْلُ الزُّهْرِيِّ مَعَ عَمَلِ مَنْ ذَكَرْنَاهُ مَرْدُودٌ وَقِيلَ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : إِنَّ الزُّهْرِيَّ قَضَى بِهَا حِينَ وَلِيَ ، وَالْإِثْبَاتُ الْمُوافِقُ لِلْجَمَاعَةِ أَوْلَى مِنَ النَّفْيِ الْمُخَالِفِ لَهُمْ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أَحَدُ الْمُتَدَاعِيَيْنِ ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ فِي جَنَبَتِهِ ، كَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّ أُصُولَ الْأَحْكَامِ مَوْضُوعَةٌ عَلَى أَنْ تَكُونَ فِي جَنَبَةِ أَقْوَى الْمُتَدَاعِيَيْنِ ، وَأَقْوَاهُمَا مَعَ عَدَمِ الشَّهَادَةِ جَنَبَةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ ، فَإِذَا حَصَلَ مَعَ الْمُدَّعِي شَاهِدٌ صَارَ أَقْوَى فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ فِي جَنَبَتِهِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْآيَةِ ، وَأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَيْهَا نُسِخَ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ النَّسْخَ عِنْدَنَا رَفْعُ مَا لَزَمَ دَوَامُهُ ، وَالنَّسْخُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَصِيرَ مَا كَانَ مُجْزِئًا غَيْرَ مُجْزِئٍ ، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ رَفْعُ مَا لَزَمَ دَوَامُهُ ، فَيَكُونُ نَسْخًا عِنْدَنَا ، وَلَا فِيهِمَا ، إِنْ صَارَ مَا يُجْزِئُ غَيْرَ مُجْزِئٍ ، فَيَكُونُ نَسْخًا عِنْدَهُمْ فَصِرْنَا مُجْمِعِينَ عَلَى أَنْ لَيْسَ فِي هَذَا نَسْخٌ . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّنَا قَدْ رَدَدْنَا عَلَى مَا فِي آيَةِ الشَّهَادَةِ ، إِنْ قَبِلْنَا فِي الْوِلَادَةِ شَهَادَةَ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ ، وَهُمْ قَبِلُوا شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ ، وَحْدَهَا . فَلَمَّا لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ نَسْخًا لَمْ تَكُنِ الْيَمِينُ مَعَ الشَّاهِدِ نَسْخًا . وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ : أَنَّ مَا فِي آيَةِ الشَّهَادَةِ مَحْمُولٌ عَلَى حَالِ التَّحَمُّلِ ، وَالْيَمِينُ مَعَ الشَّاهِدِ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْأَدَاءِ دُونَ التَّحَمُّلِ ، فَلَمْ تَصِرْ زِيَادَةً عَلَى النَّصِّ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرَيْنِ فَهُوَ أَنَّ الَّتِي جَعَلَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَنَبَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، هِيَ غَيْرُ الَّتِي جَعَلْنَاهَا فِي جَنَبَةِ الْمُدَّعِي ، لِاخْتِلَافِهِمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وُجُوبُهَا مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَجَوَازُهَا فِي جَنَبَةِ الْمُدَّعِي . وَالثَّانِي : أَنَّ تِلْكَ لِلنَّفْيِ ، وَهَذِهِ لِلْإِثْبَاتِ فَلَمْ يَصِحَّ الْمَنْعُ ، وَبِمِثْلِهِ يُجَابُ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ الْأَوَّلِ .
وَقِيَاسُهُمْ عَلَى الْيَمِينِ ، مَعَ الْمَرْأَتَيْنِ وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْمَرْأَتَيْنِ فِي الشَّهَادَةِ يَضْعُفَانِ عَنْ حُكْمِ الرَّجُلِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمَا يُقْبَلَانِ مَعَ الرَّجُلِ فِي الْأَمْوَالِ فَقَطْ وَيُقْبَلُ الرَّجُلُ مَعَ الرَّجُلِ فِي كُلِّ الْأَحْكَامِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمَرْأَتَيْنِ لَوِ انْضَافَ إِلَيْهِمَا مَثْلُهُمَا فِي الْأَمْوَالِ فَصِرْنَ أَرْبَعًا لَمْ يُحْكَمْ بِهِنَّ ، وَيُحْكَمُ بِالرَّجُلِ ، إِذَا انْضَافَ إِلَى الرَّجُلِ ، فَلَمَّا كَانَ الرَّجُلُ أَقْوَى مِنَ الْمَرْأَتَيْنِ ، جَازَ أَنْ تُضَافَ إِلَى الْأَقْوَى ، وَيُمْنَعُ مِنْهَا مَعَ الْأَضْعَفِ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِيَمِينِ الْعَبْدِ ، وَالْفَاسِقِ ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ مَا تَعَلَّقَ بِالْيَمِينِ ، لَمْ تُعْتَبَرْ فِيهِ الْحُرِّيَّةُ وَالْعَدَالَةُ كَمَا لَمْ تُعْتَبَرْ فِي يَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَلَئِنْ قَامَتْ مَقَامَ الشَّاهِدِ فِي اسْتِيفَاءِ الْحَصْرِ ، فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِمَا مَا يُعْتَبَرُ فِي الشَّهَادَةِ ، كَالْأَيْمَانِ فِي الْقَسَامَةِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عِنْدَ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ تَرْتِيبَ الْيَمِينِ بَعْدَ الشَّهَادَةِ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ كَالشَّاهِدِ فَهُوَ أَنَّهَا مُقَوِّيَةٌ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدِ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ إِلَّا بَعْدَهَا ، وَخَالَفَ حَالُ الشَّاهِدَيْنِ ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُقَوًّ بِصَاحِبِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : فَإِذَا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ وَقَالَ عَمْرٌو وَهُوَ الَّذِي رَوَى الْحَدِيثَ فِي الْأَمْوَالِ ، وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ فِي الدَّيْنِ ، وَالدَّيْنُ مَالٌ ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْضَى بِهَا فِي غَيْرِ مَا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ مِثْلِ مَعْنَاهُ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَالْبَيِّنَةُ فِي دَلَالَةِ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيِّنَتَانِ ، بَيِّنَةٌ كَامِلَةٌ هِيَ بِعَدَدِ شُهُودٍ لَا يَحْلِفُ مُقِيمُهَا مَعَهَا ، وَبَيِّنَةٌ نَاقِصَةُ الْعَدَدِ فِي الْمَالِ يَحْلِفُ مُقِيمُهَا مَعَهَا . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْحُكْمِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ ، فَهُوَ مُخْتَصٌّ بِالْأَمْوَالِ ، وَمَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمَالَ وَلَا يُحْكَمُ بِهَا فِي غَيْرِ الْمَالِ مِنْ نِكَاحٍ ، أَوْ طَلَاقٍ ، أَوْ عَتَاقٍ ، أَوْ حَدٍّ ، وَقَالَ مَالِكٌ : أَحْكُمُ بِهَا فِي جَمِيعِ الْحُقُوقِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْحُدُودِ ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ وَلَمْ يَخُصَّ الْمَالَ مِنْ غَيْرِهِ ، فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ قَالَ : وَلِأَنَّ مَا كَانَ بَيِّنَةً فِي الْأَمْوَالِ ، جَازَ أَنْ يَكُونَ بَيِّنَةً فِي الْحُدُودِ ، كَالشَّاهِدَيْنِ ، وَلِأَنَّ يَمِينَ الْمُدَّعِي فِي النُّكُولِ ، لَمَّا جَازَ أَنْ تُثْبَتَ بِهَا الْأَمْوَالُ ، وَالْحُدُودُ جَازَ أَنْ يُحْكَمَ بِمِثْلِهِ فِي يَمِينِهِ مَعَ شَاهِدِهِ . وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالشَّاهِدِ مَعَ الْيَمِينِ قَالَ الرَّاوِي : فِي الْأَمْوَالِ ، وَقِيلَ فِي الدَّيْنِ ، وَالدَّيْنُ مَالٌ ، فَوَجَبَ أَنْ يَقْضِيَ بِهَا فِي مِثْلِ مَا قَضَى بِهِ ، لِأَنَّ الْقَضَايَا فِي الْأَعْيَانِ لَا تُسْتَعْمَلُ عَلَى الْعُمُومِ ، لِحُدُوثِهَا فِي مَخْصُوصٍ ، وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ
فِي سُنَنِهِ حَدِيثًا أَسْنَدَهُ إِلَى أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " اسْتَشَرْتُ جِبْرِيلَ فِي الْقَضَاءِ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ ، فَأَشَارَ عَلَيَّ بِذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ لَا تَعْدُو ذَلِكَ " . وَهَذَا نَصٌّ ، وَلِأَنَّ الشَّاهَدَ وَالْمَرْأَتَيْنِ أَقْوَى مِنَ الَشَاهِدِ وَالْيَمِينِ ، فَلَمَّا لَمْ يُحْكَمْ بِالشَّاهِدِ وَالْمَرْأَتَيْنِ فِي غَيْرِ الْأَمْوَالِ ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يُحْكَمَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ فِيهِ ، وَلِأَنَّ الْأَمْوَالَ نَفْعُ جِهَاتٍ تَمْلِكُهَا ، فَاتَّبَعَ حُكْمُ الشَّهَادَةِ بِهَا ، وَلَمَّا ضَاقَتْ جِهَاتُ مَا عَدَّا الْأَمْوَالَ ضَاقَ حُكْمُ الشَّهَادَةِ بِهَا . وَلَا وَجْهَ لِاسْتِدْلَالِ مَالِكٍ بِالْحَدِيثِ ، لِأَنَّ قَضَايَا الْأَعْيَانِ لَا يُدَّعَى فِيهَا الْعُمُومُ . وَقِيَاسُهُ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ مُنْتَقَضٌ بِالشَّاهِدِ وَالْمَرْأَتَيْنِ ، وَاسْتِدْلَالُهُ بِالْيَمِينِ فِي النُّكُولِ ، فَلِوُجُوبِهَا عَنِ اخْتِيَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَعَمَّتْ فِي حَقِّهِ ، وَالْيَمِينُ مَعَ الشَّاهِدِ وَجَبَتْ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ ، فَجُعِلَتْ مَقْصُورَةً عَلَى مَا اتَّسَعَ حُكْمُهُ ، وَلَمْ يَضِقْ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ اخْتِصَاصُ الْحُكْمِ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ فِي الْأَمْوَالِ ، دُونَ غَيْرِهَا . فَمُدَّعِي الْمَالِ إِذَا قَدَرَ عَلَى إِثْبَاتِ حَقِّهِ - بِالْخِيَارِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُثْبِتَهُ بِشَاهِدَيْنِ وَهُوَ أَقْوَاهُمَا ، فَيُحْكَمُ لَهُ بِالْمَالِ . وَالثَّانِي : أَنْ يُثْبِتَهُ بِشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ ، فَيُحْكَمُ لَهُ بِالْمَالِ بِالشَّاهِدِ وَالْمَرْأَتَيْنِ ، إِلَّا مَعَ عَدَمِ الشَّاهِدَيْنِ ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ [ الْبَقَرَةِ : ] . وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْمُسْتَشْهَدِينَ فِي تَوَثُّقِهِمْ بِالشَّهَادَةِ دُونَ الْحُكَّامِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ [ الْبَقَرَةِ : ] . وَقَدْ وَافَقَ مَالِكٌ عَلَى جَوَازِ أَنْ يَتَوَثَّقَ الْمُسْتَشْهِدُ بِشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى شَاهِدَيْنِ ، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الْحُكْمِ بِالشَّاهِدِ وَالْمَرْأَتَيْنِ ، مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ ، لِأَنَّ مَقْصُودَ التَّوَثُّقِ بِالشَّهَادَةِ : إِثْبَاتُ الْحُقُوقِ بِهَا عِنْدَ الْحُكَّامِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يُثْبِتَهُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ ، فَإِنْ كَانَ مَعَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ الْكَامِلَةِ بِشَاهِدَيْنِ ، أَوْ بِشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ ، جَازَ وَثَبَتَ بِهِ الْحَقُّ ، وَإِنْ كَانَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْبَيِّنَةِ الْكَامِلَةِ ، فَفِي جَوَازِ إِثْبَاتِهِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ مَعَ وُجُودِ مَا هُوَ أَكْمَلُ مِنْهَا ، كَمَا يَجُوزُ إِثْبَاتُهُ بِشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ مَعَ وُجُودِ شَاهِدَيْنِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ إِثْبَاتُهُ بِهَا مَعَ وُجُودِ الْبَيِّنَةِ الْكَامِلَةِ ، لِأَنَّ نَقْصَهَا عَنِ الْكَمَالِ ، يَبْعَثُ عَلَى الْحُكْمِ بِهَا فِي الِاضْطِرَارِ دُونَ الِاخْتِيَارِ .
فَصْلٌ : فَإِنْ عَدَلَ الْمُدَّعِي عَنْ إِثْبَاتِ حَقِّهِ بِالْبَيِّنَةِ مِنْ أَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثِ مَعَ
الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا ، إِلَى إِحْلَافِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، عِنْدَ إِنْكَارِهِ لَمْ يُمْنَعْ ، لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ حَقٌّ لَهُ ، وَلَيْسَتْ بِحَقٍّ عَلَيْهِ ، فَلَوْ أَقَامَ شَاهِدَيْنِ ثُمَّ طَلَبَ أَنْ لَا يُحْكَمَ لَهُ بِهِمَا ، وَيَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، أُجِيبَ إِلَى إِحْلَافِهِ ، فَلَوْ مَنَعَ مِنْ إِحْلَافِهِ وَطَلَبَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ أُجِيبَ إِلَى الْحُكْمِ بِهَا ، وَقُطِعَتْ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَلَوْ أَقَامَ شَاهِدًا وَاحِدًا ، وَامْتَنَعَ مَنْ مَعَهُ وَرَضِيَ بِإِحْلَافِ الْمُنْكِرِ ، ثُمَّ رَجَعَ عَنِ اسْتِحْلَافِهِ لِيَحْلِفَ مَعَ شَاهِدِهِ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ، لِأَنَّهُ قَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ مِنَ الْيَمِينِ بِمَا طَلَبَهُ مِنْ إِحْلَافِ الْمُنْكِرِ كَمَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُنْكِرِ إِذَا نَكَلَ عَنْ أَنْ يَرْجِعَ فِي رَدِّهَا عَلَى الْمُدَّعِي لِيَحْلِفَ عَلَى إِنْكَارِهِ لِإِسْقَاطِهَا فِي حَقِّهِ بِرَدِّهَا عَلَى خَصْمِهِ ، وَخَالَفَ الْبَيِّنَةَ الْكَامِلَةَ الَّتِي لَا يَسْقُطُ حَقُّهُ مِنْهَا بِطَلَبٍ لِأَنَّهَا لَا تُنْقَلُ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَحْلِفِ الْمُدَّعِي مَعَ شَاهِدِهِ ، وَطَلَبَ إِحْلَافَهُ الْمُنْكِرَ ، أُجِيبَ إِلَى إِحْلَافِهِ ، فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ ، وَلَمْ يَكُنْ لِلشَّاهِدِ تَأْثِيرٌ ، وَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ لَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ بِالشَّاهِدِ الْوَاحِدِ مَعَ نُكُولِ الْمُنْكِرِ . وَقَالَ مَالِكٌ : أَحْكُمُ عَلَيْهِ بِالشَّاهِدِ الْوَاحِدِ ، مَعَ نُكُولِهِ ، وَلَا أُحْلِفُ الْمُدَّعِيَ وَإِنْ وَافَقَ عَلَى أَنْ لَا يَحْكُمَ بِالنُّكُولِ إِلَّا مَعَ يَمِينِ الْمُدَّعِي ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ النُّكُولَ كَالشَّاهِدِ ، فَإِذَا انْضَمَّ إِلَى شَاهِدٍ ، صَارَ كَالشَّاهِدَيْنِ فَلَمْ يَحْتَجْ مَعَهُمَا إِلَى يَمِينِ الطَّالِبِ . وَهَذَا فَاسِدٌ ، لِأَنَّ الشَّاهِدَ فِي الْأَمْوَالِ كَاللَّوْثِ فِي الدِّمَاءِ ، فَلَمَّا لَمْ يُحْكَمْ بِاللَّوْثِ مَعَ عَدَمِ الْأَيْمَانِ ، لَمْ يُحْكَمْ بِالشَّاهِدِ مَعَ عَدَمِ الْيَمِينِ ، وَلَا وَجْهَ لِجَعْلِ النُّكُولِ كَالشَّاهِدِ ، لِأَنَّ الشَّاهِدَ مُثْبِتٌ ، وَالنَّاكِلَ نَافٍ فَتَضَادَّا . فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ عَلَى النَّاكِلِ بِالنُّكُولِ مَعَ الشَّاهِدِ ، لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعِي أَنْ يَحْلِفَ مَعَ شَاهِدِهِ ، لِإِسْقَاطِ حَقِّهِ مِنْ تِلْكَ الْيَمِينِ بِرَدِّهَا ، عَلَى الْمُنْكِرِ ، فَإِنْ طَلَبَ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ الَّتِي نَكَلَ عَنْهَا الْمُنْكِرُ ، فَفِي جَوَازِ رَدِّهَا عَلَيْهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ أَنْ تُرَدَّ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ قَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ مِنْهَا بِرَدِّهَا عَلَى الْمُنْكِرِ ، فَلَمْ تَعُدْ إِلَيْهِ بَعْدَ سُقُوطِهَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ ، أَنَّهُ تُرَدُّ عَلَيْهِ هَذِهِ الْيَمِينُ الْمُسْتَحَقَّةُ بِالنُّكُولِ ، وَإِنْ لَمْ تُرَدَّ عَلَيْهِ هَذِهِ الْمُسْتَحَقَّةُ مَعَ الشَّاهِدِ ، لِاخْتِلَافِ مُوجِبِهِمَا ، فَلَمْ يَكُنْ سُقُوطُ حَقِّهِ مِنْ إِحْدَاهُمَا مُوجِبًا لِسُقُوطِهِ مِنَ الْأُخْرَى ، مَعَ اخْتِلَافِهِمَا فِي السَّبَبِ الْمُوجِبِ ، وَلَيْسَ التَّوَقُّفَ عَنِ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ نُكُولًا ، حَتَّى يَحْكُمَ الْحَاكِمُ بِنُكُولِهِ فِيهَا ، بَعْدَ تَوَقُّفِهِ فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَانِ الْقَوْلَانِ : فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوْلِ أَنَّ يَمِينَ النُّكُولِ تُرَدُّ عَلَى الْمُدَّعِي ، عُرِضَتْ عَلَيْهِ ، فَإِنْ حَلَفَ اسْتَحَقَّ مَا ادَّعَاهُ بِيَمِينِهِ لَا بِشَاهِدِهِ ، وَإِنْ نَكَلَ سَقَطَ حَقُّهُ مِنْ بَعْدِ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِنُكُولِهِ فِيهَا بَعْدَ تَوَقُّفِهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِنُكُولِهِ إِلَّا أَنْ يَسْأَلَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، أَنْ يَحْكُمَ
عَلَى الْمُدَّعِي بِالنُّكُولِ عَنْ يَمِينِ الرَّدِّ ، لِأَنَّ قَصْدَ الْحَاكِمِ بِنُكُولِهِ حَقٌّ لَهُ ، وَلَا يَكُونُ نُكُولُهُ عَنِ الرَّدِّ مَعَ الشَّاهِدِ قَدْحًا فِي الشَّاهِدِ ، فَإِنِ اقْتَرَنَ بِشَهَادَتِهِ شَهَادَةُ غَيْرِهِ ثَبَتَتِ الْبَيِّنَةُ بِهِمَا ، وَحُكِمَ لَهُ بِالْحَقِّ ، وَإِنِ انْفَصَلَتِ الْمُحَاكَمَةُ بِالنُّكُولِ لِأَنَّ فَصْلَ الْمُحَاكَمَةِ بِالْأَيْمَانِ أَقْوَى ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ ، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يَمْنَعَ فِي سَمَاعِهَا فَصْلُهَا بِالنُّكُولِ الَّذِي هُوَ أَضْعَفُ ، فَإِنْ عُدِمَ شَاهِدٌ آخَرُ سَقَطَ حُكْمُ الْبَيِّنَةِ ، وَخُلِّيَ سَبِيلَ الْمُنْكِرِ . وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي : أَنَّ يَمِينَ النُّكُولِ لَا تُرَدُّ عَلَى الْمُدَّعِي ، فَقَدْ قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِي : إِنَّ الْمُنْكِرَ يُحْبَسُ بِالشَّاهِدِ حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يُغَرَّمَ وَهَذَا خَطَأٌ ، لِأَنَّ الْحَبْسَ عَلَى الْحُقُوقِ يَكُونُ بَعْدَ ثُبُوتِ اسْتِحْقَاقِهَا ، وَلَمْ يَثْبُتِ الْحَقُّ بِالشَّاهِدِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْبَسَ بِهِ وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَوَجَبَ تَخْلِيَةُ سَبِيلِهِ .
فَصْلٌ : وَيَتَفَرَّعُ عَلَى قِيَاسِ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ أَنْ يَنْكُلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، إِذَا أَنْكَرَ عَنِ الْيَمِينِ قَبْلَ شَهَادَةِ الْوَاحِدِ عَلَيْهِ ، وَرُدَّتْ يَمِينُهُ عَلَى الْمُدَّعِي ، فَنَكَلَ عَنْهَا ، ثُمَّ أَقَامَ شَاهِدًا ، فَحَلَفَ مَعَ شَاهِدِهِ بَعْدَ الْحُكْمِ بِنُكُولِهِ ، عَنْ يَمِينِ الرَّدِّ ، كَانَ جَوَازُ إِحْلَافِهِ مَعَ شَاهِدِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ شَاهِدِهِ إِذَا قِيلَ إِنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ يَمِينِ الرَّدِّ ، إِذَا امْتَنَعَ مِنَ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَجُوزُ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ الشَّاهِدِ إِذَا قِيلَ : إِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَحْلِفَ يَمِينَ الرَّدِّ ، إِذَا امْتَنَعَ مِنَ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ مَالٍ يَتَحَوَّلُ إِلَى مَالِكٍ مِنْ مَالِكٍ غَيْرِهِ حَتَّى يَصِيرَ فِيهِ مِثْلَهُ أَوْ فِي مِثْلِ مَعْنَاهُ قُضِيَ فِيهِ بِالشَّاهِدِ مَعَ الْيَمِينِ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا وَجَبَ بِهِ مَالٌ مِنْ جُرْحٍ أَوْ قَتْلٍ لَا قِصَاصَ فِيهِ أَوْ إِقْرَارٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ الْمَالَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ثَبَتَ بِمَا قَدَّمْنَاهُ جَوَازُ الْحُكْمِ ، بِالشَّاهِدِ ، وَالْيَمِينِ فِي الْأَمْوَالِ خَاصَّةً ، فَكُلُّ مَا كَانَ مَالًا مِنْ دَيْنٍ ، أَوْ عَيْنٍ ، فَالدَّيْنُ مَا كَانَ فِي الذِّمَّةِ مِنْ ثَمَنٍ ، أَوْ قَرْضٍ ، وَالْعَيْنُ مَا كَانَ فِي الْيَدِ مِنْ مَنْقُولٍ ، كَالثَّوْبِ ، وَالْعَبْدِ ، أَوْ غَيْرِ مَنْقُولٍ كَالدَّارِ وَالْأَرْضِ ، فَيُحْكَمُ لِمُدَّعِيهِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ ، وَكَذَلِكَ مَا اسْتُفِيدَ بِهِ مِنَ الْأَمْوَالِ مِنَ الْعُقُودِ بما تثبت
كَالْبَيْعِ ، وَالْإِجَارَةِ ، وَالْهِبَةِ ، تَثْبُتُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ ، لِأَنَّهَا عُقُودٌ مَوْضُوعَةٌ ، لِنَقْلِ مَالٍ مِنْ مَالِكٍ إِلَى مَالِكٍ ، أَوْ لِنَقْلِ مَا هُوَ بِمَعْنَى الْمَالِ مِنْ مَنَافِعَ الْإِجَارَةِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا عَقْدُ النِّكَاحِ ، فَلَا يَثْبُتُ بِالشَّاهِدِ ، وَالْيَمِينِ ، لِأَنَّ مَقْصُودَهُ الِاسْتِمْتَاعُ وَالصَّدَاقُ تَبَعٌ ، وَكَذَلِكَ الرَّجْعَةُ ، وَالطَّلَاقُ ، فَإِنْ تَصَادَقَا عَلَى النِّكَاحِ وَاخْتَلَفَا فِي الصَّدَاقِ ، ثَبَتَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ ، لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ فِيهِ مَقْصُورَةٌ عَلَى الْمَالِ ، دُونَ النِّكَاحِ ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ الْخُلْعِ ، إِذَا اخْتَلَفَا فِي أَصْلِهِ ، لَمْ يُثْبِتْ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ ، لِأَنَّ فِيهِ طَلَاقًا لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِهِمَا ، وَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى أَصْلِهِ ، وَاخْتَلَفَا فِي قَدْرِ عِوَضِهِ ، حُكِمَ فِيهِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ ، لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ فِيهِ مَقْصُورَةٌ عَلَى الْمَالِ ، دُونَ الطَّلَاقِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْوَصِيَّةُ هل تثبت بشاهد ويمين ، فَإِنْ كَانَتِ الْوِلَايَةُ عَلَيْهَا لَمْ تَثْبُتْ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ فِي تَمَلُّكِ الْمَالِ بِهَا ، ثَبَتَتْ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ . وَأَمَّا الْوِكَالَةُ ، فَلَا تَثْبُتُ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ سَوَاءٌ كَانَتْ بِمَالٍ أَوْ غَيْرِ مَالٍ ، لِأَنَّهَا عَقْدُ نِيَابَةٍ كَالْوَصِيَّةِ . وَأَمَّا الْعِتْقُ ، فَلَا يَثْبُتُ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُزِيلًا لِمِلْكِ مَالٍ ، فَلَيْسَ يَنْتَقِلُ مِنْ مَالِكٍ إِلَى مَالِكٍ ، لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ ، وَكَذَلِكَ التَّدْبِيرُ لَا يَثْبُتُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ لِأَنَّهُ يَئُولُ إِلَى الْمُعْتِقِ . فَأَمَّا الْكِتَابَةُ ، فَلَا يَثْبُتُ عَقْدُهَا إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ ، لِإِفْضَائِهَا إِلَى الْعِتْقِ ، وَيَثْبُتُ أَدَاءُ الْمَالِ فِيهَا بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ لِأَنَّهُ وَإِنْ أَفْضَى إِلَى الْعِتْقِ ، فَهُوَ كَالْعَقْدِ الَّذِي اتَّفَقَا عَلَيْهِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا السَّرِقَةُ الشهادة فيها فَمُوجِبَةٌ لِلْقَطْعِ ، وَالْغُرْمِ ، فَإِنْ كَانَتِ الْبَيِّنَةُ بِشَاهِدَيْنِ ، ثَبَتَ بِهِمَا الْقَطْعُ ، وَالْغُرْمُ ، وَإِنْ كَانَتْ بِشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ ، أَوْ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ ، ثَبَتَ بِهَا الْغُرْمُ وَلَمْ يَثْبُتْ بِهَا الْقَطْعُ ، لِأَنَّهُمَا قَدْ يَتَمَيَّزَانِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ ، لِوُجُوبِ الْغُرْمِ مَعَ عَدَمِ الْقَطْعِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْوَقْفُ هل تثبت بشاهد ويمين ، فَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ مُوجِبٌ لِنَقْلِ الْمِلْكِ ، مِنَ الْوَاقِفِ إِلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ ، ثَبَتَ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ ، وَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ غَيْرُ مُوجِبٍ لِنَقْلِ الْمِلْكِ ، فَفِي ثُبُوتِهِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ وَجْهَانِ ، نَذْكُرُهُمَا مِنْ بَعْدُ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْجِنَايَاتُ هل تثبت بشاهد ويمين فَضَرْبَانِ : عَمْدٌ وَخَطَأٌ . فَأَمَّا الْخَطَأُ فَيَثْبُتُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ ، لِأَنَّهَا مَقْصُورَةٌ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْمَالِ . وَأَمَّا الْعَمْدُ فَضَرْبَانِ :
أَحَدُهُمَا : مَا لَمْ يَجِبْ فِيهِ قِصَاصٌ ، كَجِنَايَةِ الْوَالِدِ عَلَى الْوَلَدِ ، وَالْمُسْلِمِ عَلَى الْكَافِرِ وَالْحُرِّ عَلَى الْعَبْدِ ، فَيَثْبُتُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ بِهَا إِلَّا الْمَالَ ، فَصَارَتْ كَالْخَطَأِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا وَجَبَ فِيهِ الْقِصَاصُ ، فَلَا يَثْبُتُ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ ، لِأَنَّهُ اسْتِهْلَاكُ نَفْسٍ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا أَوْجَبْتُمْ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ فِيهِ الدِّيَةَ دُونَ الْقِصَاصِ ، كَمَا أَوْجَبْتُمْ فِي السَّرِقَةِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ الْغُرْمَ ، دُونَ الْقَطْعِ ؟ قِيلَ : لِأَنَّ الْقَطْعَ فِي السَّرِقَةِ تَابِعٌ لِلْمَالِ ، لَا يُثْبِتُ إِلَّا مَعَ اسْتِحْقَاقِهِ ، فَصَارَ الْمَالُ فِيهَا أَصْلًا ، وَالْقَطْعُ فَرْعًا . وَالدِّيَةُ فِي الْعَمْدِ تَابِعَةٌ لِلْقِصَاصِ ، يَكُونُ الْقِصَاصُ فِيهَا أَصْلًا ، وَالدِّيَةُ فَرْعًا ، فَجَازَ أَنْ يَسْتَحِقَّ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ الْغُرْمَ فِي السَّرِقَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَحِقَّ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ الدِّيَةَ فِي الْجِنَايَةِ . فَأَمَّا جِرَاحُ الْعَمْدِ ، فَمَا سَقَطَ فِيهِ الْقِصَاصُ كَالْجَائِفَةِ ، وَمَا دُونَ الْمُوَضِّحَةِ فَيُسْتَحَقُّ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ ، وَمَا وَجَبَ فِيهِ الْقِصَاصُ كَالْمُوضِّحَةِ وَالْأَطْرَافِ لَمْ يُسْتَحَقَّ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ وَمَا جَمَعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ كَالْهَاشِمَةِ ، وَالْمُنْقِلَةِ لَمْ يَثْبُتْ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا إِسْقَاطُ الْحُقُوقِ هل تثبت بشاهد ويمين فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : بَرَاءَةٌ مِنْ مَالٍ ، وَيَثْبُتُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ . وَالثَّانِي : عَفْوٌ عَنْ حَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ ، فَلَا يَثْبُتُ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ ، لِيَكُونَ إِسْقَاطُهُمَا بَعْدَ الْوُجُوبِ مُعْتَبَرًا بِإِيجَابِهِمَا قَبْلَ السُّقُوطِ . وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ بِحَقٍّ فَادَّعَى الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ ، مَا يُوجِبُ رَدَّ شَهَادَتِهِمَا ، فَإِنْ كَانَتْ دَعْوَاهُ فِي جُرْحِ الشَّاهِدَيْنِ ، لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ ، وَإِنْ كَانَتْ دَعْوَاهُ فِي أَنَّ الْمُدَّعِيَ أَكْذَبُ الشَّاهِدَيْنِ ، حُكِمَ فِيهِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ لِأَنَّ إِكْذَابَ الْمُدَّعِي لِبَيِّنَتِهِ ، يُوجِبُ سُقُوطَ حَقِّهِ ، وَلَا يُوجِبُ جُرْحَ شُهُودِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ أَتَى قَوْمٌ بِشَاهِدٍ أَنَّ لِأَبِيهِمْ عَلَى فُلَانٍ حَقًّا أَوْ فُلَانًا قَدْ أَوْصَى لَهُمْ فَمَنْ حَلَفَ مِنْهُمْ مَعَ شَاهِدِهِ اسْتَحَقَّ وِرْثَهُ أَوْ وَصِيَّتَهُ دُونَ مَنْ لَمْ يَحْلِفْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي وَرَثَةِ مَيِّتٍ ادَّعَوْا أَنَّ لِمَيِّتِهِمْ دَيْنًا عَلَى رَجُلٍ مُنْكِرٍ ، أَوِ ادَّعَوْا وَصِيَّةً وَصَّى بِهَا لِمَيِّتِهِمْ ، وَأَقَامُوا عَلَى الدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ شَاهِدًا وَاحِدًا ، فَلَهُمْ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ :
أَحَدُهَا : أَنْ يَحْلِفُوا جَمِيعًا مَعَ شَاهِدٍ مِنْهُمْ ، فَيَسْتَحِقُّوا بِأَيْمَانِهِمْ مَعَ شَاهِدٍ مِنْهُمْ مَا ادَّعُوهُ مِنَ الدَّيْنِ ، وَالْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُمَا مِنْ حُقُوقِ الْأَمْوَالِ الْمَحْكُومِ فِيهَا بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ ، وَيَكُونُ الدَّيْنُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ . فَأَمَّا الْوَصِيَّةُ فَلَا يَخْلُو حَالُهُمْ فِيهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَدَّعُوا أَنَّ مَيِّتَهُمْ قَبِلَهَا قَبْلَ مَوْتِهِ ، فَتَكُونَ الْوَصِيَّةُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ ، لِأَنَّ مَيِّتَهُمْ قَدْ مَلَكَهَا بِقَبُولِهِ ، فَصَارَتْ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ الْمَوْرُوثَةِ عَنْهُ . وَالثَّانِي : أَنْ يَذْكُرُوا أَنَّهُ لَمْ يَقْبَلْهَا ، وَأَنَّهُمُ الْقَابِلُونَ لَهَا بَعْدَ مَوْتِهِ ، فَفِي كَيْفِيَّةِ اسْتِحْقَاقِهِمْ لَهَا بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : تَكُونُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ ، إِذَا قِيلَ : إِنَّ الْوَصِيَّةَ تُمْلَكُ بِالْقَبُولِ لِأَنَّ مِنْ حُكْمِ الْوَصِيَّةِ أَنْ يَتَسَاوَى فِيهَا أَهْلُ الْوَصَايَا ، فَيَكُونَ لِلْوَارِثِينَ عَنْ مَيِّتِهِمْ حَقُّهُ مِنَ الْقَبُولِ ، فَيَصِيرُوا هُمُ الْمَالِكِينَ لَهَا بِالْقَبُولِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَدْخُلَ فِي مِلْكِ مَيِّتِهِمْ . فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيهِمْ دَيْنٌ لَمْ يُقْضَ مِنْهَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : تَكُونُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ ، إِذَا قِيلَ : إِنَّ الْقَبُولَ يُبْنَى عَلَى مِلْكٍ سَابِقٍ ، مِنْ حِينِ مَاتَ الْمُوصِي فَيَكُونُ قَبُولُهُمْ مُوجِبًا لِدُخُولِهَا فِي مِلْكِ مَيِّتِهِمْ ، ثُمَّ مَلَكُوهَا عَنْهُ بِالْمِيرَاثِ فَصَارُوا فِيهَا عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيهِمْ دَيْنٌ قُضِيَ مِنْهَا . فَصْلٌ : وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَمْتَنِعُوا جَمِيعًا مِنَ الْيَمِينِ مَعَ شَاهِدٍ مِنْهُمْ ، فَلَا حَقَّ لَهُمْ فِيمَا شَهِدَ بِهِ شَاهِدُهُمْ مِنَ الدَّيْنَ وَالْوَصِيَّةِ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا اسْتَحَقُّوا النِّصْفَ ، لِأَنَّ لَهُمْ نِصْفَ الْبَيِّنَةِ ، قِيلَ : الْبَيِّنَةُ لَا تَتَبَعَّضُ فِي الِاسْتِحْقَاقِ لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنَ الْحَقِّ لَا يُسْتَحَقُّ إِلَّا بِكَمَالِ الْبَيِّنَةِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَحِقَّ بَعْضَهُ بِبَعْضِ الْبَيِّنَةِ ، فَإِنْ مَاتَ الْوَرَثَةُ وَأَرَادَ وَرَثَتُهُمْ أَنْ يَحْلِفُوا مَعَ شَاهِدِهِمْ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ امْتِنَاعُهُمْ مِنَ الْأَيْمَانِ ، لِنُكُولِهِمْ عَنْهَا ، فَلَا يَجُوزُ لِوَرَثَتِهِمْ أَنْ يَحْلِفُوا بَعْدَ مَوْتِهِمْ ، لِأَنَّهُمْ قَدْ أَسْقَطُوا حُقُوقَهُمْ مِنَ الْأَيْمَانِ بِنُكُولِهِمْ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونُوا قَدْ تَوَقَّفُوا عَنِ الْأَيْمَانِ لِيَحْلِفُوا بِهَا مِنْ غَيْرِ نُكُولٍ عَنْهَا ، فَيَجُوزُ لِوَرَثَتِهِمْ أَنْ يَحْلِفُوا بَعْدَ مَوْتِهِمْ ، وَيَسْتَحِقُّوا مَا كَانَ لَهُمْ لِأَنَّ حُقُوقَهُمْ مِنَ الْأَيْمَانِ لَمْ تَسْقُطْ بِالتَّوَقُّفِ ، إِنَّمَا تَسْقُطُ بِالنُّكُولِ ، وَلَيْسَ التَّوَقُّفُ نُكُولًا . فَصْلٌ : وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَحْلِفَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ مَعَ الشَّاهِدِ ، وَيَنْكُلَ بَعْضُهُمْ ، فَيُحْكَمَ لِمَنْ حَلَفَ بِحَقِّهِ مِنَ الدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ ، وَلَا شَيْءَ لِمَنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ لِأَمْرَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الشَّاهِدَ الْوَاحِدَ كَالْيَدِ عِنْدَ التَّنَازُعِ ، وَلَوْ حَلَفَ بَعْضُ ذَوِي الْأَيْدِي حُكِمَ لَهُ بِيَمِينِهِ ، دُونَ مَنْ نَكَلَ كَذَلِكَ هُنَا . وَالثَّانِي : أَنَّ الشَّاهِدَ الْوَاحِدَ حُجَّةٌ ، قَدْ قَبِلَهَا الْحَالِفُ ، فَثَبَتَ حَقُّهُ بِهَا ، وَرَدَّهَا النَّاكِلُ فَسَقَطَ حَقُّهُ مِنْهَا ، وَصَارَ كَأَخَوَيْنِ ادَّعَيَا حَقًّا مِنْ مِيرَاثٍ عَلَى مُنْكِرٍ فَنَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ ، فَرُدَّتْ عَلَى الْأَخَوَيْنِ ، فَحَلَفَ أَحَدُهُمَا ، وَنَكَلَ الْآخَرُ ، قَضَى لِلْحَالِفِ بِحَقِّهِ دُونَ النَّاكِلِ . فَإِنْ قِيلَ : إِذَا كَانَ الشَّاهِدُ وَالْيَمِينُ بَيِّنَةً فِي ثُبُوتِ الْحَقِّ كَالشَّاهِدَيْنِ ، وَلَوْ أَقَامَ أَحَدُ الْوَرَثَةِ الْبَيِّنَةَ بِشَاهِدَيْنِ حُكِمَ بِالْحَقِّ لِمَنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ وَلِمَنْ لَمْ يُقِمْهَا ، فَهَلَّا كَانَ فِي الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ كَذَلِكَ . قِيلَ : لِأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ بَيِّنَةٌ كَامِلَةٌ فِي ثُبُوتِ الْحَقِّ ، فَثَبَتَ لِجَمِيعِهِمْ ، وَالشَّاهِدُ الْوَاحِدُ تَكْمُلُ بِهِ الْبَيِّنَةُ مَعَ أَيْمَانِهِمْ ، فَكَمُلَتْ بَيِّنَةُ مَنْ حَلَفَ ، وَنَقَصَتْ بِهِ بَيِّنَةُ مَنْ نَكَلَ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَسْتَحِقَّ النَّاكِلُ وَاسْتَحَقَّ الْحَالِفُ . فَإِنْ قِيلَ : هَذَا مِيرَاثٌ يَجِبُ أَنْ يَشْتَرِكَ فِيهِ جَمِيعُ الْوَرَثَةِ ، كَأَخَوَيْنِ ادَّعَيَا دَارًا مِيرَاثًا ، فَصَدَّقَ عَلَيْهِ أَحَدُهُمَا ، وَأَكْذَبَ الْآخَرُ ، كَانَ النِّصْفُ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ الْمُصَدِّقُ بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ ، لِكَوْنِهِ مِيرَاثًا يُوجِبُ تَسَاوِيهِمَا فِيهِ ، فَهَلَّا كَانَ مَا اسْتَحَقَّهُ الْحَالِفُ مَعَ شَاهِدِهِ مَقْسُومًا بَيْنَ جَمِيعِهِمْ ، لِكَوْنِهِ مِيرَاثًا . قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَجْحُودَ ، كَالْمَغْصُوبِ ، وَغَصْبُ بَعْضِ التَّرِكَةِ يُوجِبُ تَسَاوِي الْوَرَثَةِ ، فِي غَيْرِ الْمَغْصُوبِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي النُّكُولِ مَعَ الشَّاهِدِ ، لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْوُصُولِ إِلَى حَقِّهِ بِيَمِينِهِ ، فَصَارَ بِنُكُولِهِ ، كَالْمُسَلِّمِ وَالتَّارِكِ لَهُ عَلَى خَصْمِهِ ، وَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى أَخَوَيْنِ أَقَرَّ رَجُلٌ لِأَبِيهِمَا بِدَيْنٍ ، فَقَبِلَهُ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يَقْبَلْهُ الْآخَرُ ، كَانَ حَقُّ الْقَابِلِ خَالِصًا لَهُ ، لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُ الْقَابِلِ ، لِأَنَّهُ تَارِكٌ لِحَقِّهِ مِنْهُ ، كَذَلِكَ حُكْمُ النَّاكِلِ مَعَ الْحَالِفِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَعْتُوهٌ وُقِفَ حَقُّهُ حَتَّى يَعْقِلَ فَيَحْلِفَ أَوْ يَمُوتَ فَيَقُومَ وَارِثُهُ مَقَامَهُ فَيَحْلِفَ وَيَسْتَحِقَّ وَلَا يَسْتَحِقُّ أَخٌ بِيَمِينِ أَخِيهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا كَانَ فِي الْوَرَثَةِ الَّذِينَ أَقَامُوا بِدَيْنِ مَيِّتِهِمْ شَاهِدًا وَاحِدًا وكان بينهم طفل أو معتوه - مَعْتُوهٌ ، أَوْ طِفْلٌ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا بِيَمِينٍ مِنْ طِفْلٍ كَمَا لَمْ يَسْتَحِقَّ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ إِذَا لَمْ يَحْلِفْ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحْلِفَ الْمَعْتُوهُ وَالطِّفْلُ ، لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لِأَيْمَانِهِمَا ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْلِفَ وَلِيُّهُمَا ، لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِأَحَدٍ حَقُّ يَمِينِ غَيْرِهِ ، وَلِأَنَّ النِّيَابَةَ فِي الْأَيْمَانِ لَا تَصِحُّ ، وَيَكُونُ حَقُّ الْمَعْتُوهِ وَالطِّفْلِ مَوْقُوفًا عَلَى إِفَاقَةِ الْمَعْتُوهِ ، وَبُلُوغِ
الطِّفْلِ ، لِيَحْلِفَا بَعْدَ الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ وَيَسْتَحِقَّا ، وَيَكُونَ تَصَرُّفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِيمَا يَسْتَحِقَّانِ بِأَيْمَانِهِمَا نَافِذًا ، سَوَاءٌ كَانَ دَيْنًا ، أَوْ يَمِينًا ، لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُمَا بِالشَّاهِدِ قَبْلَ الْيَمِينِ حَقٌّ يُوجِبُ وَقْفَهُ وَإِنَّمَا الْوَقْفُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْحُكْمِ بِالْحَقِّ ، إِنْ حَلَفَا وَلَيْسَ عَلَيْهِمَا قَبْلَ الْيَمِينِ حَقٌّ يُوقَفُ عَلَيْهِمَا ، وَإِنْ حُكِمَ بِاسْتِحْقَاقِ الْحَالِفِينَ مِنْ شُرَكَائِهِمَا ، فَلَا وَجْهَ لِمَا وَهَمَ فِيهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا ، أَنَّهُ يُوقَفُ الْحَقُّ عَلَيْهِمَا فَإِنْ مَاتَا قَبْلَ الْبُلُوغِ ، وَالْعَقْلِ قَامَ وَرَثَتُهُمَا مَقَامَهُمَا فِي الْيَمِينِ ، فَيَحْلِفُ الْوَرَثَةُ فِي حُقُوقِ أَنْفُسِهِمْ لِأَنَّهُمْ وَرِثُوا اسْتِحْقَاقَ الْيَمِينِ الَّتِي يُسْتَحَقُّ بِهَا الدَّيْنُ ، وَيَصِيرُونَ مَالِكِينَ لِحُقُوقِهِمْ مِنَ الدَّيْنِ بِأَيْمَانِهِمْ عَنِ الْمَعْتُوهِ وَالطِّفْلِ ، فَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَعْتُوهِ وَالطِّفْلِ دَيْنٌ قُضِيَ مِنْهُ ، وَلَوْ كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ دَيْنٌ قُضِيَ مِنْهُ بِقَدْرِ حَقِّ الْمَعْتُوهِ وَالطَّفْلِ ، فَلَوِ اجْتَمَعَ فِي هَذَا السَّهْمِ دَيْنَانِ ، دَيْنٌ عَلَى الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ ، وَدَيْنٌ عَلَى الْمَعْتُوهِ وَالطِّفْلِ ، قُضِيَ الدَّيْنَانِ مِنْهُ ، فَإِنْ ضَاقَ السَّهْمُ عَنْهُمَا قُدِّمَ دَيْنُ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ عَلَى دَيْنِ الْمَعْتُوهِ ، وَالطِّفْلِ ، لِأَنَّهُمَا يَرِثَانِ مَا بَقِيَ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَيْسَ الْغَرِيمُ وَلَا الْمُوصَى لَهُ مِنْ مَعْنَى الْوَارِثِ فِي شَيْءٍ وَإِنْ كَانُوا أَوْلَى بِمَالِ مَنْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ ، فَلَيْسَ مِنْ وَجْهٍ أَنَّهُمْ يَقُومُونَ مَقَامَهُ وَلَا يَلْزَمُهُمْ مَا يَلْزَمُ الْوَارِثَ مِنْ نَفَقَةِ عَبِيدِهِ الزَّمْنَى ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ مَالٌ سِوَى مَالِهِ الَّذِي يُقَالُ لِلْغَرِيمِ : احْلِفْ عَلَيْهِ كَانَ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يُعْطُوهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ الطَّاهِرِ الَذِي لَمْ يَحْلِفْ عَلَيْهِ الْغَرِيمُ قَالَ وَإِذَا حَلَفَ الْوَرَثَةُ ، فَالْغُرَمَاءُ أَحَقُّ بِمَالِ الْمَيِّتِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَمُقَدِّمَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَنْ مَاتَ عَنْ تَرِكَةٍ ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ ، مَلَكَ الْوَرَثَةُ تَرِكَتَهُ ، وَإِنْ أَحَاطَ الدَّيْنُ بِهَا ، وَمُنِعُوا مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهَا ، إِلَّا بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ ، وَهُمْ فِي قَضَائِهِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَقْضُوهُ مِنْهَا ، أَوْ مِنْ غَيْرِهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ، وَتَكُونُ التَّرِكَةُ كَالْمَرْهُونَةِ بِالدَّيْنِ ، وَالْوَرَثَةُ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ الرَّاهِنِ الَّذِي يُمْنَعُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الرَّهْنِ ، حَتَّى يَقْضِيَ مَا فِيهِ مِنَ الدَّيْنِ ، إِمَّا مِنْ مَالِهِ أَوْ مِنْ عَيْنِ الرَّهْنِ ، وَالدَّيْنُ بَاقٍ فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ ، دُونَ الْوَرَثَةِ حَتَّى يَقْضِيَهُ الْوَرَثَةُ ، وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا : إِنْ أَحَاطَ الدَّيْنُ بِالتَّرِكَةِ لَمْ يَمْلِكْهَا الْوَرَثَةُ إِلَّا بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ ، وَكَانَتْ بَاقِيَةً عَلَى مِلْكِ الْمَوْرُوثِ فَإِذَا قَضَوْهُ انْتَقَلَ مِلْكُهَا إِلَيْهِمْ ، وَإِنْ أَحَاطَ الدَّيْنُ بِبَعْضِ التَّرِكَةِ ، مَلَكُوا مِنَ التَّرِكَةِ مَا زَادَ عَلَى قَدْرِ الدَّيْنِ ، وَلَمْ يَمْلِكُوا مَا أَحَاطَ بِقَدْرِ الدَّيْنِ إِلَّا بَعْدَ قَضَائِهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ أَحَاطَ الدَّيْنُ بِجَمِيعِ التَّرِكَةِ ، لَمْ يَمْلِكُوهَا إِلَّا بَعْدَ قَضَائِهِ ، وَإِنْ أَحَاطَ بِبَعْضِ التَّرِكَةِ مَلَكُوهَا جَمِيعًا ، قَبْلَ قَضَائِهِ مَعَ مُوافَقَتِهِمَا ، أَنَّ لِلْوَرَثَةِ قَضَاءَ الدَّيْنِ مِنَ التَّرِكَةِ ، وَمِنْ غَيْرِ التَّرِكَةِ ، وَاسْتَدَلَّا عَلَى أَنَّ الدَّيْنَ مَانِعٌ مِنْ مِلْكِ الْوَرَثَةِ لِلتَّرِكَةِ ، إِلَّا بَعْدَ قَضَائِهِ ، وَتَأْثِيرُ هَذَا الْخِلَافِ يَكُونُ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : مَا يَحْدُثُ فِي التَّرِكَةِ مِنَ النَّمَاءِ قَبْلَ قَضَاءِ الدَّيْنِ ، كَالثَّمَرَةِ ، وَالنَّتَاجِ وَأُجُورِ الْعَقَارِ ، وَكَسْبِ الْعَبِيدِ ، يَكُونُ مِلْكًا لِلْوَرَثَةِ عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَهُمْ مَالِكِينَ لِلتَّرِكَةِ ، لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ قَضَاءُ الدَّيْنُ وَيَكُونُ مَضْمُومًا إِلَى التَّرِكَةِ عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَهُمْ غَيْرَ مَالِكِينَ لَهَا فِي قَوْلِ مَنْ جَعَلَهَا بَاقِيَةً عَلَى مِلْكِ الْمَيِّتِ لِيَتَعَلَّقَ بِهَا قَضَاءُ الدَّيْنِ . وَالثَّانِي : مَا يَجِبُ فِيهِ مِنْ زَكَاةِ الْأَعْيَانِ وَفِطْرَةِ الْعَبِيدِ ، وَنَفَقَاتُهُمْ تَكُونُ عَلَى الْوَرَثَةِ فِي قَوْلِ مَنْ جَعَلَهُمْ مَالِكِينَ لِلتَّرِكَةِ ، وَتَكُونُ فِي التَّرِكَةِ عَلَى قَوْلِ مَنْ لَمْ يَجْعَلْهُمْ مَالِكِينَ لِلتَّرِكَةِ . وَاسْتَدَلَّ مَنْ جَعَلَ الدَّيْنَ مَانِعًا مِنْ مِلْكِ الْوَرَثَةِ لِلتَّرِكَةِ ، إِلَّا بَعْدَ قَضَائِهِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ [ النِّسَاءِ : ] . وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي التَّرِكَةِ أَبُ الْوَارِثِ لَمْ يُعْتَقْ عَلَيْهِ قَبْلَ قَضَاءِ الدَّيْنِ ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ مَلَكَ عَمَّهُ ، وَخَلَّفَ ابْنَ عَمِّهِ حُرًّا ، وَأَبَاهُ مَمْلُوكًا فَلَا يُعْتَقُ عَلَى أَبِيهِ حَتَّى يَقْضِيَ الدَّيْنَ ، فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ . وَلَوْ دَخَلَ فِي مِلْكِهِ قَبْلَ قَضَائِهِ ، أُعْتِقَ عَلَيْهِ ، وَهَذَا دَلِيلٌ يَمْنَعُ مِنْ دُخُولِ التَّرِكَةِ فِي مِلْكِ الْوَرَثَةِ قَبْلَ قَضَاءِ الدَّيْنِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى انْتِقَالِ الْمِلْكِ إِلَى الْوَرَثَةِ قَبْلَ قَضَاءِ الدَّيْنِ ، أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لِلْوَرَثَةِ مَنْعُ الْغُرَمَاءِ مِنْ أَعْيَانِ التَّرِكَةِ ، وَقَضَاءُ الدُّيُونِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى دُخُولِهَا فِي مِلْكِهِمْ ، وَلِأَنَّ الْوَرَثَةَ لَوْ لَمْ يَمْلِكُوا التَّرِكَةَ إِلَّا بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ ، لَوَجَبَ إِذَا مَاتَ وَخَلَّفَ ابْنَيْنِ ، وَمَاتَ أَحَدُهُمَا وَخَلَّفَ ابْنًا ، ثُمَّ قَضَى الدَّيْنَ أَنْ تَكُونَ التَّرِكَةُ ، لِلِابْنِ الْبَاقِي دُونَ ابْنِ الِابْنِ . وَفِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهَا تَكُونُ لِلِابْنِ وَابْنِ الِابْنِ اعْتِبَارًا بِمَوْتِ الْمُورِّثِ - دَلِيلٌ عَلَى انْتِقَالِ التَّرِكَةِ إِلَيْهِمْ بِمَوْتِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْوَرَثَةُ أَحَقَّ بِاقْتِضَاءِ دُيُونِهِ مِنَ الْغُرَمَاءِ ، وَكَانُوا أَوْلَى بِالتَّصَرُّفِ فِي التَّرِكَةِ مِنْهُمْ ، وَهُمْ لَا يَتَصَرَّفُونَ إِلَّا بِحُكْمِ الْمِلْكِ ، دَلَّ عَلَى انْتِقَالِهَا إِلَى مِلْكِهِمْ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي حُقُوقِ أَنْفُسِهِمْ إِلَّا بَعْدَ قَضَائِهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْعِتْقِ ، فَهُوَ أَنَّ الدَّيْنَ قَدْ أَوْقَعَ حَجْرًا عَلَيْهِ كَحَجْرِ الْمُرْتَهِنِ وَذَلِكَ مَانِعٌ مِنَ الْعِتْقِ مَعَ اسْتِقْرَارِ الْمِلْكِ كَالرَّهْنِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ فَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ فِي رَجُلٍ أَقَامَ شَاهِدًا وَاحِدًا
بَالدَّيْنِ لَهُ ، وَمَاتَ قَبْلَ حَلِفِهِ مَعَ شَاهِدِهِ فَلِوَارِثِهِ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ الشَّاهِدِ ، وَيَسْتَحِقَّ دَيْنَهُ ، لِأَنَّهُ يَقُومُ فِي التَّرِكَةِ مَقَامَ مَوْرُوثِهِ . فَإِنْ حَلَفَ وَعَلَى الْمَيِّتِ دُيُونٌ وَوَصَايَا قُضِيَ مِنْهُ دُيُونُهُ ، وَنَفَذَتْ مِنْهُ وَصَايَاهُ وَإِنْ نَكَلَ الْوَرَثَةُ عَنْ الْيَمِينِ وَأَرَادَ الْغُرَمَاءُ ، وَأَهْلُ الْوَصَايَا أَنْ يَحْلِفُوا مَعَ الشَّاهِدِ لِيَسْتَوْجِبُوهُ فِي دُيُونِهِمْ ، وَوَصَايَاهُمْ فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَحْلِفُوا : وَيَسْتَحِقُّوا لِأَنَّ الْحَقَّ إِذَا ثَبَتَ صَارَ إِلَيْهِمْ ، فَكَانُوا فِيهِ كَالْوَرَثَةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ لَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَحْلِفُوا : لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَمْلِكُوا الدَّيْنَ بِأَيْمَانِهِمْ ، لَجَازَ أَنْ يَسْقُطَ بِإِبْرَائِهِمْ ، وَهُوَ لَا يَسْقُطُ لَوْ بَرِئُوا مِنْهُ ، فَكَذَلِكَ لَا يَسْتَحِقُّ إِذَا حَلَفُوا عَلَيْهِ . وَلِأَنَّهُمْ لَوْ مَلَكُوا أَنْ يَحْلِفُوا عَلَيْهِ لَمَلَكُوا أَنْ يَدَّعُوهُ ، وَدَعْوَاهُمْ مَرْدُودَةٌ ، فَكَذَلِكَ أَيْمَانُهُمْ . وَلِأَنَّ الدَّيْنَ لَوِ اسْتُحِقَّ بِأَيْمَانِهِمْ ، لَجَازَ أَنْ يُمَلَّكَ الْوَرَثَةُ بِهَا ، مَا فَضَلَ عَنْ دُيُونِهِمْ ، وَلَجَازَ إِذَا أَبْرَءُوا الْمَيِّتَ مِنْ دُيُونِهِمْ ، بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ أَنْ يَصِيرَ ذَلِكَ مِلْكًا لِلْوَرَثَةِ ، وَفِي الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الْوَرَثَةَ لَا يَمْلِكُونَهُ - دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَيِّتَ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ ، وَلِأَنَّ الْوَرَثَةَ لَوْ أَكْذَبُوا الشَّاهِدَ وَصَدَّقَهُ الْغُرَمَاءُ ، لَمْ يَكُنْ لِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَحْلِفُوا مَعَهُ ، وَلَوْ صَدَّقَهُ الْوَرَثَةُ وَكَذَّبَهُ الْغُرَمَاءُ كَانَ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَحْلِفُوا مَعَهُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مِلْكَ الدَّيْنِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ لِلْوَرَثَةِ دُونَ الْغُرَمَاءِ . وَهَكَذَا لَوِ ادَّعَى وَرَثَةُ الْمَيِّتِ دَيْنًا عَلَى مُنْكِرٍ ، وَنَكَلَ الْمُنْكِرُ عَنْ الْيَمِينِ فَرُدَّتْ عَلَى الْوَرَثَةِ فَلَمْ يَحْلِفُوا وَأَجَابَ غُرَمَاءُ الْمَيِّتِ إِلَى الْيَمِينِ فَفِي إِحْلَافِهِمْ قَوْلَانِ تَعْلِيلًا بِمَا ذَكَرْنَاهُ . وَهَكَذَا غُرَمَاءُ الْمُفْلِسِ إِذَا أَقَامَ شَاهِدًا بَدَيْنٍ وَلَمْ يَحْلِفْ مَعَهُ وَأَجَابَ غُرَمَاؤُهُ إِلَى الْيَمِينِ لِمْ يُرَاجِعْ ، أَوْ رُدَّتْ يَمِينَ النُّكُولِ عَلَيْهِ فَلَمْ يَحْلِفْ وَأَجَابَ غُرَمَاؤُهُ إِلَيْهَا ، فَفِي رَدِّهَا قَوْلَانِ : فَأَمَّا إِذَا وَصَّى الْمَيِّتُ بِعَيْنٍ قَائِمَةٍ فِي يَدِ زَيْدٍ ، وَوَصَّى بِهَا لِعَمْرٍو فَأَنْكَرَهَا زَيْدٌ ، وَنَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ فَرُدَّتْ عَلَى الْوَرَثَةِ ، فَإِنْ حَلَفُوا اسْتُحِقَّتِ الْعَيْنُ ، وَدُفِعَتْ إِلَى الْمُوصَى لَهُ ، وَإِنْ نَكَلُوا وَأَجَابَ الْمُوصَى لَهُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَيْهَا ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا ، فَخَرَّجَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى قَوْلَيْنِ ، كَالدُّيُونِ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لِلْمُوصَى لَهُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَيْهَا ، وَيَسْتَحِقَّهَا قَوْلًا وَاحِدًا بِخِلَافِ الدُّيُونِ لِأَنَّ الْأَعْيَانَ مُخَالِفَةٌ لِلدُّيُونِ لِسُقُوطِ حُقُوقِ الْوَرَثَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ وَبِثُبُوتِهِ فِي الدَّيْنِ ،
لِأَنَّ لَهُمْ قَضَاءَ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ التَّرِكَةِ ، وَلَيْسَ لَهُمْ إِبْدَالُ الْوَصِيَّةِ بِغَيْرِ الْعَيْنِ . وَعَلَى هَذَا لَوِ اخْتَلَفُوا فِي الْجَارِيَةِ الْمَرْهُونَةِ ، إِذَا أَحْبَلَهَا الرَّاهِنُ وَادَّعَى وَطْأَهَا بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ ، وَأَنْكَرَ الْمُرْتَهِنُ الْإِذْنَ ، فَجَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ ، فِي إِنْكَارِ الْإِذْنِ ، فَلَمْ يَحْلِفْ فَرُدَّتْ عَلَى الرَّاهِنِ ، فَلَمْ يَحْلِفْ وَأَجَابَتِ الْجَارِيَةُ الْمَرْهُونَةُ إِلَى أَنْ تَحْلِفَ ، فَخَرَّجَهَا أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ أَنْ تَحْلِفَ قَوْلًا وَاحِدًا لِتَعْيِينِ حَقِّهَا فِي مَصِيرِهَا أُمَّ وَلَدٍ لِسَيِّدِهَا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَوْ أَقَامَ شَاهِدًا أَنَّهُ سَرَقَ لَهُ مَتَاعًا مِنْ حِرْزٍ يُسَاوِي مَا تُقْطَعُ فِيهِ الْيَدُ ، حَلَفَ مَعَ شَاهِدِهِ وَاسْتَحَقَّ ، وَلَا يُقْطَعُ لِأَنَّ الْحَدَّ لَيْسَ بِمَالٍ ، كَرَجُلٍ قَالَ : امْرَأَتِي طَالِقٌ وَعَبْدِي حُرٌّ إِنْ كُنْتُ غَصَبْتُ فُلَانًا هَذَا الْعَبْدَ ، فَيَشْهَدُ لَهُ عَلَيْهِ بِغَصْبِهِ شَاهِدٌ ، فَيَحْلِفُ وَيَسْتَحِقُّ الْغَصْبَ وَلَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ طَلَاقٌ وَلَا عِتْقٌ لِأَنَّ حُكْمَ الْحِنْثِ غَيْرُ حُكْمِ الْمَالِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ ثَبَتَ مِنْ مَذْهَبِنَا أَنَّ الشَّاهِدَ وَالْيَمِينَ يُحْكَمُ بِهِ فِي الْأَمْوَالِ دُونَ الْحُدُودِ ، فَإِذَا ادَّعَى سَرِقَةَ مَالٍ يُوجِبُ الْقَطْعَ ، وَأَقَامَ عَلَيْهَا شَاهِدًا ، وَيَمِينًا وَجَبَ الْغُرْمُ ، وَسَقَطَ الْقَطْعُ لِأَنَّ الْغُرْمَ مَالٌ وَالْقَطْعَ حَدٌّ ، وَلَا يَمْتَنِعُ إِذَا اجْتَمَعَ فِي الدَّعْوَى أَنْ يَجْرِيَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمُهُ لَوِ انْفَرَدَ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ الْغُرْمُ دُونَ الْقَطْعِ إِذَا سَرَقَ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ ، أَوْ سَرَقَ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ . وَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ الْقَطْعُ دُونَ الْغُرْمِ ، إِذَا وُهِبَتْ لَهُ السَّرِقَةُ فَلَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يُثْبِتَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ الْغُرْمَ دُونَ الْقَطْعِ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا أَوْجَبْتُمْ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ الدِّيَةَ ، دُونَ الْقَوَدِ ، لِأَنَّ الدِّيَةَ مَالٌ ، وَالْقَوَدُ حَدٌّ ، كَمَا أَوْجَبْتُمْ بِهِ فِي السَّرِقَةِ الْغُرْمَ ، دُونَ الْقَطْعِ قِيلَ : لِفَرْقَيْنِ مَنَعَا مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَالَ فِي السَّرِقَةِ أَصْلٌ وَالْقَطْعَ فَرْعٌ فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ حُكْمُ الْأَصْلِ مَعَ سُقُوطِ فَرْعِهِ ، وَالْقَوَدُ فِي الْقَتْلِ أَصْلٌ ، وَالدِّيَةُ فَرْعٌ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَثْبُتَ حُكْمٌ لِلْفَرْعِ مَعَ سُقُوطِ أَصْلِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مُوجِبٌ لِلْقَوَدِ ، وَأَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ بِالْعَفْوِ عَنِ الْقَوَدِ ، وَاخْتِيَارِ الدِّيَةِ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَسْتَحِقَّ الدِّيَةَ إِلَّا مَنْ يَسْتَحِقُّ الْقَوَدَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ قَتْلَ الْعَمْدِ مُوجِبٌ لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْقَوَدِ أَوِ الدِّيَةِ ، وَأَنَّ كُلَّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَدَلٌ عَنِ الْآخَرِ يَكُونُ مُسْتَحِقُّهُ مُخَيَّرًا فِي أَحَدِهِمَا فَإِذَا امْتَنَعَ اسْتِحْقَاقُهُمَا ، وَثُبُوتُ الْخِيَارِ فِيهِمَا امْتَنَعَ وُجُوبُ أَحَدِهِمَا . وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ مَعْدُومَانِ فِي السَّرِقَةِ لِجَوَازِ ثُبُوتِ الْغُرْمِ دُونَ الْقَطْعِ ، وَثُبُوتِ الْقَطْعِ دُونَ الْغُرْمِ . وَقَدْ أَوْضَحَ الشَّافِعِيُّ ذَلِكَ بِمِثَالٍ ضَرَبَهُ فِي رَجُلٍ ادَّعَى عَبْدًا فِي يَدِ رَجُلٍ غَصَبَهُ عَلَيْهِ ، فَحَلَفَ الْمُدَعَّى عَلَيْهِ بِالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ أَنَّهُ مَا غَصَبَهُ الْعَبْدَ الَّذِي ادَّعَاهُ ، فَإِنْ أَقَامَ مُدَّعِي الْغَصْبِ شَاهِدَيْنِ حُكِمَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْغَصْبِ ، وَحُكِمَ عَلَيْهِ بِالْحِنْثِ فِي الطَّلَاقِ ، وَالْعَتَاقِ ، وَلَوْ أَقَامَ عَلَيْهِ شَاهِدًا وَامْرَأَتَيْنِ أَوْ شَاهِدًا وَيَمِينًا حُكِمَ عَلَيْهِ بِالْغَصْبِ ، وَلَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ بِالْحِنْثِ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ ، وَلِأَنَّ الْغَصْبَ مَالٌ ، وَالطَّلَاقَ وَالْعِتْقَ لَيْسَا بِمَالٍ .
فَصْلٌ : وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ إِذَا عَمَدَ الرَّامِي بِسَهْمِهِ إِنْسَانًا ، فَأَصَابَهُ ، وَنَفَذَ السَّهْمُ مِنَ الْأَوَّلِ إِلَى آخَرَ ، فَأَصَابَهُ - أَنَّ الْأَوَّلَ عَمْدٌ يُوجِبُ الْقَوَدَ . وَالثَّانِي خَطَأٌ يُوجِبُ الدِّيَةَ دُونَ الْقَوَدِ . فَإِنِ ادُّعِيَتْ هَذِهِ الْجِنَايَةُ عَلَى إِنْسَانٍ فَأَنْكَرَهَا ، وَأَقَامَ مُدَّعِيهَا شَاهِدًا وَيَمِينًا ، فَإِنْ كَانَ الْعَمْدُ مِمَّا يَسْقُطُ فِيهِ الْقَوَدُ ، لِأَنَّهُ مِنْ وَالِدٍ عَلَى وَلَدٍ ، وَمِنْ حُرٍّ عَلَى عَبْدٍ أَوْ مِنْ مُسْلِمٍ عَلَى كَافِرٍ ثَبَتَتِ الْجِنَايَتَانِ مَعًا ، بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ ، لِاجْتِمَاعِهِمَا فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ دُونَ الْقَوَدِ ، فَإِنْ كَانَ الْعَمْدُ مُوجِبًا لِلْقَوَدِ لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُ الْعَمْدِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ ، وَفِي وُجُوبِ الْخَطَأِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَثْبُتُ بِهِ حُكْمُهُ ، لِاخْتِصَاصِهِ بِالْمَالِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يَثْبُتُ بِهِ حُكْمُهُ ، لِأَنَّهُ حَدَثَ عَنْ عَمْدٍ سَقَطَ حُكْمُهُ ، فَسَقَطَ بِهِ حُكْمُ مَا حَدَثَ عَنْهُ ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِجَوَازِ انْفِرَادِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحُكْمِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ أَقَامَ شَاهِدًا عَلَى جَارِيَةٍ أَنَّهَا لَهُ ، وَابْنَهَا وَلَدٌ مِنْهُ ، حَلَفَ وَقُضِيَ لَهُ بِالْجَارِيَةِ ، وَكَانَتْ أُمَّ وَلَدِهِ بِإِقْرَارِهِ ، لِأَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ مَمْلُوكَةٌ ، وَلَا يُقْضَى لَهُ بِالْجَارِيَةِ ، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ عَلَى أَنَّهُ ابْنُهُ ، قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : يَأْخُذُهَا وَوَلَدَهَا وَيَكُونُ ابْنَهُ . قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَهَذَا أَشْبَهُ بِقَوْلِهِ الْآتِي لَمْ يَخْتَصَّ وَهُوَ قَوْلُهُ لَوْ أَقَامَ شَاهِدًا عَلَى عَبْدٍ فِي يَدَيْ رَجُلٍ يَسْتَرِقُّهُ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا لَهُ ، فَأَعْتَقَهُ ثُمَّ غَصَبَهُ هَذَا بَعْدَ الْعِتْقِ ، حَلَفَ وَأَخَذَهُ ، وَكَانَ مَوْلًى لَهُ . قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : فَهُوَ لَا يَأْخُذُهُ
مَوْلَاهُ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَرِقُّهُ كَمَا أَنَّهُ لَا يَأْخُذُ ابْنَهُ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَرِقُهُ فَإِذَا أَجَازَهُ فِي الْمَوْلَى لَزِمَهُ فِي الِابْنِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي جَارِيَةٍ وَلَدَتْ وَلَدًا فِي يَدَيْ رَجُلٍ يَسْتَرِقُّهُمَا ، فَادَّعَاهَا وَوَلَدَهَا مُدَّعٍ فَلَهُ فِي دَعْوَاهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَدَّعِيَهَا مِلْكًا لِنَفْسِهِ ، فَيُحْكَمَ لَهُ فِيهَا بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ ، لِاخْتِصَاصِ الدَّعْوَى بِالْمِلْكِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهَا حُرَّةٌ تَزَوَّجَهَا ، وَأَنَّ وَلَدَهَا ابْنُهُ مِنْهَا ، حُرٌّ ، لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ رِقٌّ ، فَلَا يُحْكَمُ لَهُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ ، حَتَّى يَشْهَدَ لَهُ شَاهِدَانِ بِدَعْوَاهُ ، لِأَنَّهَا تَضَمَّنَتْ حُرِّيَّةً وَزَوْجِيَّةً وَنَسَبًا . وَالشَّهَادَةُ بِحُرِّيَّتِهَا بَيِّنَةٌ عَلَى صَاحِبِ الْيَدِ ، وَالشَّهَادَةُ بِالزَّوْجِيَّةِ بَيِّنَةٌ عَلَيْهَا إِنْ كَانَتْ مُعْتَرِفَةً بِحُرِّيَّتِهَا ، وَإِنْ لَمْ تَعْتَرِفْ بِحُرِّيَّتِهَا كَانَتْ بَيِّنَةً عَلَى صَاحِبِ الْيَدِ ، وَتُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ بِحُرِّيَّتِهَا ، وَإِنْ لَمْ تَدَّعِهَا لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ صِحَّةِ نِكَاحِ الْمُدَّعِي ، وَحُرِّيَّةِ وَلَدِهِ مِنْهَا ، وَالشَّهَادَةُ بِنَسَبِ الْوَلَدِ بَيِّنَةٌ عَلَى صَاحِبِ الْيَدِ وَالْوَلَدِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهَا كَانَتْ أَمَتَهُ ، وَأَنَّهُ أَوْلَدَهَا هَذَا الْوَلَدَ ، فَصَارَتْ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ ، فَتَعَلَّقَ بِدَعْوَاهُ فِي الْأُمِّ حُكْمَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا أَمَتُهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا أُمُّ وَلَدِهِ ، وَتَعَلَّقَ بِهَا فِي الْوَلَدِ حُكْمَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ ابْنُهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ حُرٌّ ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُحْكَمُ لَهُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ فِي الْإِقْرَارِ أَنَّهَا أَمَتُهُ ، وَأَنَّهَا أُمُّ وَلَدِهِ تُعْتَقُ عَلَيْهِ بِمَوْتِهِ ، لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ أَحْكَامَ الرِّقِّ جَارِيَةٌ عَلَيْهَا فِي اسْتِخْدَامِهَا وَالِاسْتِمْتَاعِ بِهَا وَإِجَارَتِهَا ، وَتَمَلُّكِ مَنَافِعِهَا ، وَأَخْذِ الْقِيمَةِ مِنْ قَاتِلِهَا وَالرِّقِّ قَالَ : " وَيُحْكَمُ فِيهِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ " . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا حَرُمَ عَلَيْهِ بَيْعُهَا ، صَارَ الْمِلْكُ وَالدَّعْوَى مَقْصُورَيْنِ عَلَى مَنَافِعِهَا ، وَالْمَنَافِعُ فِي حُكْمِ الْأَمْوَالِ الْمَحْكُومِ بِهَا بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا لِاخْتِلَافِ هَذَا التَّعْلِيلِ : هَلْ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِإِقْرَارِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ بِإِقْرَارِهِ الشَّاهِدَ وَالْيَمِينَ ، فَوَجَبَ تَمَلُّكُ رِقِّهَا .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا صَارَتْ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ أَمَتَهُ وَأُمَّ وَلَدِهِ ، قَضَاءً بِالشَّهَادَةِ . فَصْلٌ : فَأَمَّا الْوَلَدُ فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، وَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي كُتُبِهِ ، أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لَهُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ مَا ادَّعَاهُ مِنْ نَسَبِهِ وَحُرِّيَّتِهِ ، وَيَكُونُ فِي يَدِ صَاحِبِ الْيَدِ عَلَى مَا يُذْكُرُهُ فِيهِ أَنَّهُ عَبْدُهُ أَوْ وَلَدُهُ مَعَ يَمِينِهِ ، كَمَا لَوْ تَجَرَّدَتِ الدَّعْوَى عَنْ بَيِّنَةٍ إِلَّا أَنْ يَشْهَدَ بِهَا شَاهِدَانِ ، فَيُحْكَمَ لَهُ بِالنَّسَبِ وَالْحُرِّيَّةِ ، لِأَنَّ الدَّعْوَى لَوِ انْفَرَدَتْ بِنَسَبِهِ وَبِحُرِّيَّتِهِ لَمْ يُحْكَمْ فِيهَا بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ كَذَلِكَ إِذَا أَقَرَّ بِادِّعَاءِ أَمَتِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَحَكَّاهُ الْمُزَنِيُّ عَنْهُ ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي كُتُبِهِ أَنَّهُ يَصِيرُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ تَبَعًا لِأُمِّهِ فِي ثُبُوتِ نَسَبِهِ وَحُرِّيَّتِهِ ، لِأَنَّهَا فِي الدَّعْوَى أَصْلٌ مَتْبُوعٌ ، وَهُوَ فِيهَا فَرْعٌ تَابِعٌ ، فَأَوْجَبَ ثُبُوتُ الْأَصْلِ ثُبُوتَ فَرْعِهِ ، وَاسْتَشْهَدَ لَهُ الْمُزَنِيُّ بِمَا حَكَاهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي رَجُلٍ ادَّعَى عَبْدًا فِي يَدِ رَجُلٍ لِيَسْتَرِقَّهُ أَنَّهُ كَانَ عَبْدَهُ ، وَأَنَّهُ أَعْتَقَهُ وَغَصَبَهُ صَاحِبُ الْيَدِ ، بَعْدَ حُرِّيَّتِهِ ، وَأَقَامَ بِمَا ادَّعَاهُ مِنَ الْمِلْكِ وَالْعِتْقِ شَاهِدًا وَيَمِينًا قُضِيَ لَهُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ ، وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُ الدَّعْوَى اسْتِحْقَاقَ الْوَلَاءِ ، لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِدَعْوَى رِقٍّ وَعِتْقٍ . كَذَلِكَ دَعْوَى الْوَلَدِ ، لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِرِقِّ أُمِّهِ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي حُكْمِ مَا اسْتَشْهَدَ بِهِ الْمُزَنِيُّ مِنْ دَعْوَى الْعَبْدِ الْمُعْتَقِ ، فَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا ، وَلَا يُفَرِّقُ وَيَمْنَعُ مِنْ ثُبُوتِ نَسَبِ الْوَلَدِ وَعِتْقِ الْعَبْدِ ، وَإِنْ خَرَّجَ فِي نَسَبِ الْوَلَدِ قَوْلٌ ثَانٍ خَرَجَ فِي عِتْقِ الْعَبْدِ . وَذَهَبَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا إِلَى تَصْحِيحِ مَا قَالَهُ الْمُزَنِيُّ فِي عِتْقِ الْعَبْدِ ، وَفَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَسَبِ الْوَلَدِ بِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ جَرَى عَلَيْهِ رِقٌّ يَثْبُتُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ ، فَاسْتَصْحَبَ حُكْمُهُ فِيهِ ، وَإِنْ عُتِقَ بِإِقْرَارِ مَالِكِهِ ، وَالْوَلَدُ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ رِقٌّ يَسْتَصْحِبُ حُكْمُهُ فِيهِ ، فَتَجَرَّدَتْ دَعْوَاهُ بِإِثْبَاتِ النَّسَبِ الَّذِي لَا يُحْكَمُ فِيهِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ . فَأَمَّا التَّعْلِيلُ بِأَنَّ الْوَلَدَ تَابِعٌ لِأُمِّهِ ، فَهُوَ وَإِنْ كَانَ تَابِعًا لَهَا فِي الْبُنُوَّةِ ، فَهِيَ تَابِعَةٌ لَهُ فِي الْحُرِّيَّةِ ، لِأَنَّهَا تُعْتَقُ بِحُرِّيَّتِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ أَقَامَ شَاهِدًا أَنْ أَبَاهُ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الدَّارِ ، صَدَقَةً مُحَرَّمَةً مَوْقُوفَةً ، وَعَلَى أَخَوَيْنِ لَهُ ، فَإِذَا انْقَرَضُوا ، فَعَلَى أَوْلَادِهِمْ ، أَوْ عَلَى الْمَسَاكِينِ ، فَمَنْ حَلَفَ مِنْهُمْ ثَبَتَ حَقُّهُ ، وَصَارَ مَا بَقِيَ مِيرَاثًا ، فَإِنْ حَلَفُوا مَعًا خَرَجَتِ الدَّارُ مِنْ مِلْكِ صَاحِبِهَا إِلَى مَنْ جُعِلَتْ لَهُ حَيَاتُهُ ، وَمَضَى الْحُكْمُ فِيهَا لَهُمْ ، فَمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ مِمَّنْ وُقِفَتْ عَلَيْهِ إِذَا مَاتُوا قَامَ مَقَامَ الْوَارِثِ وَإِنْ لَمْ يَخْلُصْ إِلَّا وَاحِدٌ ، فَنَصِيبُهُ مِنْهَا وَهُوَ الثُّلُثُ صَدَقَةً عَلَى مَا شَهِدَ بِهِ شَاهِدُهُ ، ثُمَّ نَصِيبُهُ عَلَى مَنْ تَصَدَّقَ بِهِ أَبُوهُ عَلَيْهِ ، بَعْدَهُ أَخَوَيْهِ فَإِنْ قَالَ الَّذِينَ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الِاثْنَيْنِ نَحْنُ نَحْلِفُ عَلَى مَا أَبَى أَنْ يَحْلِفَ عَلَيْهِ الِاثْنَانِ فَفِيهَا
قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُمْ إِلَّا مَا كَانَ لِلِاثْنَيْنِ قَبْلَهُمْ وَالْآخَرُ أَنَّ ذَلِكَ لَهُمْ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَمْلِكُونَ إِذَا حَلَفُوا بَعْدَ مَوْتِ الَّذِي جُعِلَ لَهُمْ مِلْكٌ إِذَا مَاتَ وَهُوَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ وَبِهِ أَقُولُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَمُقَدِّمَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : هَلْ يَثْبُتُ الْوَقْفُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي انْتِقَالِ مَالِكِ الْوَقْفِ بَعْدَ زَوَالِ مِلْكِ الْوَاقِفِ عَنْهُ ، فَأَحَدُ قَوْلَيْهِ نَصَّ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُ يَنْتَقِلُ إِلَى مِلْكِ الْوَقْفِ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِمَنَافِعِهِ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِرَقَبَتِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْوَقْفِ أَنَّهُ يَنْتَقِلُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا إِلَى مَالِكٍ كَالْعِتْقِ الَّذِي بِوُجُودِهِ يَنْتَقِلُ الْمِلْكُ بِهِ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لَا إِلَى مَالِكٍ ، وَلِمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ : فَرَّقَ بَيْنَ الْوَقْفِ وَالْعِتْقِ بِأَنَّ الْوَقْفَ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْمِلْكِ فِي ضَمَانِهِ بِالْيَدِ وَغُرْمِ قِيمَتِهِ بِالْإِتْلَافِ ، وَالْعِتْقُ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْمِلْكِ ، فَلَا يُضْمَنُ بِالتَّلَفِ ، وَلَا تُغْرَمُ قِيمَتُهُ بِالْإِتْلَافِ . فَإِنْ قِيلَ بِالْأَوَّلِ أَنَّهُ مِلْكٌ لِلْمُوقَفِ عَلَيْهِ حُكِمَ فِي إِثْبَاتِهِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ . وَإِنْ قِيلَ بِالثَّانِي : إِنَّ الْمِلْكَ زَائِلٌ عَنْهُ إِلَى غَيْرِ مَالِكٍ ، فَفِي إِثْبَاتِهِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ، لَا يَثْبُتُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ كَالْعِتْقِ لِزَوَالِ الْمِلْكِ بِهِمَا إِلَى غَيْرِ مَالِكٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ يَثْبُتُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ بِخِلَافِ الْعِتْقِ وَإِنْ زَالَ الْمِلْكُ بِهِمَا إِلَى غَيْرِ مَالِكٍ لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ أَحْكَامَ الْمِلْكِ بَاقِيَةٌ عَلَى الْوَقْفِ فِي ضَمَانِهِ بِالْيَدِ ، وَغُرْمِهِ بِالْقِيمَةِ ، وَزَائِلٌ عَنِ الْمُعْتِقِ ، لِأَنَّهُ لَا يُضْمَنُ بِالْيَدِ ، وَلَا يُغْرَمُ بِالْقِيمَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْوَقْفِ مِلْكُ مَنَافِعِهِ الَّتِي هِيَ أَمْوَالٌ ، وَالْمَقْصُودَ بِالْعِتْقِ كَمَالُ أَحْكَامِهِ فِي مِيرَاثِهِ وَشَهَادَتِهِ وَوِلَايَتِهِ ، وَلِهَذَيْنِ الْفَرْقَيْنِ ثَبَتَ الْوَقْفُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ ، وَلَمْ يَثْبُتْ بِهِمَا الْعِتْقُ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صُورَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ ، وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ، وَأَبِي حَامِدٍ
الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهَا مُصَوَّرَةٌ فِي رَجُلٍ مَاتَ وَخَلَّفَ دَارًا عَلَى وَرَثَةٍ مِنْ بَنِينَ وَبَنَاتٍ وَزَوْجَاتٍ ، فَادَّعَى أَحَدُ بَنِيهِ أَنَّ أَبَاهُ وَقَفَ هَذِهِ الدَّارَ عَلَيْهِ ، وَعَلَى أَخَوَيْهِ هَذَيْنِ دُونَ بَاقِي الْوَرَثَةِ ، وَصَدَّقَهُ الْأَخَوَانِ عَلَى الدَّعْوَى ، فَيَكُونُ دَعْوَى الْإِخْوَةِ عَلَى أَبِيهِمْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهَا مُصَوَّرَةٌ فِي رَجُلٍ أَجْنَبِيٍّ خَلَّفَ دَارًا عَلَى وَلَدِهِ ، فَادَّعَى أَجْنَبِيٌّ مِنْهُ أَنَّ صَاحِبَهَا وَقَفَهَا عَلَيْهِ ، وَعَلَى إِخْوَتِهِ . وَتَصْوِيرُهَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَشْبَهُ بِكَلَامِ الشَّافِعِيِّ مِنَ الْوَجْهِ الثَّانِي ، وَإِنْ كَانَ لِلثَّانِي فِي الِاحْتِمَالِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ ، وَلَيْسَ هَذَا الِاخْتِلَافُ فِي صُورَةِ الْمَسْأَلَةِ مُوجِبًا لِلِاخْتِلَافِ فِي حُكْمِهَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَجْهَيْنِ ، وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْأَحْكَامُ بِاخْتِلَافِ الصُّورَةِ ، وَنَحْنُ نَذْكُرُهُمَا مَعًا . فَأَمَّا تَصْوِيرُهَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ، وَهُوَ : أَنْ يَقُولَ الْمُدَّعِي : إِنَّ أَبِي وَقَفَ دَارَهُ هَذِهِ عَلَيَّ وَعَلَى إِخْوَتِي دُونَ غَيْرِنَا مِنْ شُرَكَائِنَا فِي الْمِيرَاثِ ، فَإِذَا انْقَرَضْنَا ، فَهِيَ عَلَى أَوْلَادِنَا مَا بَقَوْا ، ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ إِذَا انْقَرَضُوا ، فَإِنْ صَدَّقَهُ الْبَاقُونَ مِنَ الْوَرَثَةِ كَانَتِ الدَّارُ وَقْفًا عَلَيْهِمْ ، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمْ ، ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ بِإِقْرَارِ الْوَرَثَةِ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ يَلْزَمُ الْمُسْتَحِقِّينَ لِوَقْفِهَا مِنَ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْبُطُونِ . وَإِنْ أَنْكَرَ الْبَاقُونَ مِنَ الْوَرَثَةِ أَنْ تَكُونَ وَقْفًا ، وَأَقَامَ مُدَّعُوهَا شَاهِدَيْنِ صَارَتْ وَقْفًا بِإِقْرَارِ الْمَيِّتِ عِنْدَ الشَّاهِدَيْنِ ، وَإِنْ أَقَامُوا شَاهِدًا وَاحِدًا ، وَقِيلَ بِأَنَّ الْوَقْفَ يَثْبُتُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ ، لَمْ يَخْلُ حَالُ الْإِخْوَةِ الثَّلَاثَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَحْلِفُوا مَعَ شَاهِدِهِمْ . وَالثَّانِي : أَنْ يَنْكُلُوا . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَحْلِفَ بَعْضُهُمْ ، وَيَنْكُلَ بَعْضُهُمْ ، فَإِنْ حَلَفُوا جَمِيعًا كَانَتِ الدَّارُ وَقْفًا عَلَيْهِمْ ، وَمَنْفَعَتُهَا بَيْنَهُمْ عَلَى سَوَاءٍ مِنْ غَيْرِ تَفْضِيلٍ ، لِأَنَّهَا عَطِيَّةٌ مُطْلَقَةٌ كَالْهِبَةِ ، وَلَا حَقَّ فِيهَا لِأَوْلَادِهِمْ مَا بَقِيَ أَحَدُهُمْ ، لِأَنَّهَا مُصَوَّرَةٌ فِي تَرْتِيبِ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ عَلَى الثَّانِي ، فَإِنْ مَاتَ الْإِخْوَةُ الثَّلَاثَةُ لَمْ يَخْلُ انْقِرَاضُهُمْ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ أَوْ يَنْقَرِضُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ ، فَإِنِ انْقَرَضُوا مَعًا انْتَقَلَ الْوَقْفُ إِلَى أَوْلَادِهِمْ ، وَاخْتُلِفَ فِي اسْتِحْقَاقِهِمْ لَهُ هَلْ يَكُونُ بِأَيْمَانِهِمْ أَوْ بِأَيْمَانِ آبَائِهِمْ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَحِقُّونَهُ إِلَّا بِأَيْمَانِهِمْ مَعَ شَاهِدِ آبَائِهِمْ ، لِأَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَهُ عَنِ الْوَاقِفِ لَا عَنْ آبَائِهِمْ ، فَلَمَّا اسْتَحَقَّهُ الْآبَاءُ بِأَيْمَانِهِمْ وَجَبَ أَنْ يَسْتَحِقَّهُ الْأَبْنَاءُ بِأَيْمَانِهِمْ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَهُ بِأَيْمَانِ آبَائِهِمْ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِأَيْمَانِهِمْ وَقْفًا مُؤَبَّدًا ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكْمُلَ لِلْأَبْنَاءِ أَنْ يَصِيرَ مِلْكًا مُطْلَقًا . فَإِنِ انْقَرَضَ الْأَبْنَاءُ وَأَفْضَى الْوَقْفُ إِلَى الْمَسَاكِينِ ، فَلَا أَيْمَانَ عَلَيْهِمْ ، لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُتَعَيِّنِينَ وَاسْتِحْقَاقُهُمْ لَهُ مُعْتَبَرٌ بِالْأَبْنَاءِ . فَإِنْ قِيلَ بِالظَّاهِرِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَهُ بِأَيْمَانِ آبَائِهِمِ اسْتَحَقَّهُ الْمَسَاكِينُ ، بِتِلْكَ الْأَيْمَانِ . وَإِنْ قِيلَ : بِمَذْهَبِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهُ الْأَبْنَاءُ إِلَّا بِأَيْمَانِهِمْ ، فَلَهُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمَسَاكِينِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ لِلضَّرُورَةِ فِي عَدَمِ التَّعْيِينِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُمْ فِيهِ ، وَيَعُودُ مِلْكًا مُطْلَقًا . وَمِنْ مَذْهَبِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَنَّ الْوَقْفَ الْمُقَدَّرَ بِمُدَّةٍ يَصِحُّ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لَا يَصِحُّ حَتَّى يَكُونَ مُؤَبَّدًا ، وَإِنْ مَاتَ الْإِخْوَةُ الثَّلَاثَةُ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ ، فَإِنْ مَاتَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَادَ نَصِيبُهُ إِلَى أَخَوَيْهِ ، وَصَارَتْ مَنْفَعَةُ الْوَقْفِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، وَإِنْ مَاتَ ثَانٍ عَادَ نَصِيبُهُ إِلَى الْبَاقِي ، فَصَارَ لَهُ جَمِيعُ الْمَنْفَعَةِ إِذَا كَانَ شَرْطُ الْوَقْفِ الْمُرَتَّبِ أَنْ يَعُودَ سَهْمُ مَنْ مَاتَ ، اسْتَحَقَّهُ هُوَ فِي دَرَجَتِهِ ، فَإِنْ أَطْلَقَ الشَّرْطَ ، فَفِي مُسْتَحَقِّ سَهْمِ الْمَيِّتِ قَبْلَ انْقِرَاضِهِمْ جَمِيعِهِمْ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَسْتَحِقُّهُ مَنْ فِي دَرَجَتِهِ كَمَا لَوْ كَانَ ذَلِكَ مَشْرُوطًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَسْتَحِقُّهُ الْمَسَاكِينُ حَتَّى يَنْقَرِضَ جَمِيعُهُمْ ، فَيَسْتَحِقُّهُ الْبَطْنُ الثَّانِي . وَإِذَا وَجَبَ عَوْدُ هَذَا الْوَقْفِ إِلَى الْبَاقِي مِنَ الثَّلَاثَةِ كَانَ فِي اسْتِحْقَاقِهِ بِالْيَمِينِ مُعْتَبَرًا بِاسْتِحْقَاقِ الْبَطْنِ الثَّانِي ، فَإِنْ جُعِلَ لَهُمْ بِغَيْرِ يَمِينٍ كَانَ مَا عَادَ إِلَى الْبَاقِي عَلَى أَخَوَيْهِ مُسْتَحِقًّا لَهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ ، وَإِنْ لَمْ يُجْعَلْ لِلْبَطْنِ الثَّانِي إِلَّا بِأَيْمَانِهِمْ ، فَفِيمَا عَادَ إِلَى الْبَاقِي عَنْ إِخْوَتِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهُ إِلَّا بِيَمِينٍ ، لِأَنَّهُ صَارَ إِلَيْهِ عَنْ غَيْرِهِ كَالْبَطْنِ الثَّانِي . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ ، لِأَنَّهُ قَدْ حَلَفَ عَلَيْهِ مَرَّةً ، فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى يَمِينٍ ثَانِيَةٍ . وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ خَالَفَ الْبَطْنُ الثَّانِي ثُمَّ حُكْمُ الْبَطْنِ الثَّالِثِ بَعْدَ الثَّانِي كَحُكْمِ الْبَطْنِ الثَّانِي بَعْدَ الْأَوَّلِ . فَصْلٌ : وَأَمَّا الْحَالُ الثَّانِيَةُ : وَهُوَ أَنْ يَنْكُلَ الْإِخْوَةُ الثَّلَاثَةُ عَنِ الْيَمِينِ مَعَ شَاهِدِهِمْ ، فَتَكُونَ الدَّارُ بَعْدَ إِحْلَافِ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ - تَرِكَةً فِي الظَّاهِرِ ، فَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دُيُونٌ يَسْتَوْعِبُهَا قُضِيَتْ مِنْ ثَمَنِهَا ، وَبَطَلَ وَقْفُهَا ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ دُيُونٌ ، فَكَانَتْ وَصَايَا أَمْضَى مِنْ
وَصَايَاهُ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ دُيُونٌ وَلَا وَصَايَا كَانَتْ مِيرَاثًا بَيْنَ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ يَمْلِكُ هُوَ لَا الْإِخْوَةُ الثَّلَاثَةُ مِيرَاثَهُمْ مِنْهَا ، وَتَصِيرُ وَقْفًا بِإِقْرَارِهِمْ لِأَنَّ مَا ادَّعَوْهُ مِنْ وَقْفِهَا مَقْبُولٌ فِي حَقِّهِمْ وَغَيْرُ مَقْبُولٍ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ . فَإِذَا انْقَرَضَ الْإِخْوَةُ الثَّلَاثَةُ انْتَقَلَ الْوَقْفُ إِلَى الْبَطْنِ الثَّانِي بِغَيْرِ يَمِينٍ ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ وَقْفًا عَلَى الْبَطْنِ الْأَوَّلِ بِغَيْرِ يَمِينٍ ، فَصَارَ الْبَطْنُ الثَّانِي بِمَثَابَتِهِ ، وَكَذَلِكَ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْبُطُونِ ، وَكَانَ بَقِيَّةُ الدَّارِ مِلْكًا مُطْلَقًا لِبَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ ، فَإِنْ مَاتَ الْبَاقُونَ مِنَ الْوَرَثَةِ عَنْ نَصِيبِهِمْ مِنْهَا ، وَعَادَ مِيرَاثُهُمْ إِلَى الْإِخْوَةِ الثَّلَاثَةِ صَارَ جَمِيعُ الدَّارِ وَقْفًا بِإِقْرَارِهِمْ ، لِأَنَّهُمْ مَلَكُوا جَمِيعَهَا ، وَإِنْ وَرِثَهُمْ غَيْرُهُمْ ، وَعَادَ الْإِخْوَةُ ، فَادَّعَوْا وَقْفَ بَقِيَّتِهَا عَلَيْهِمْ بَعْدَ انْبِرَامِ الْحُكْمِ مَعَ مَنْ تَقَدَّمَهُمْ ، فَإِنِ ادَّعَوْا عَلَيْهِمْ بِوَقْفِهَا صَحَّتِ الدَّعْوَى عَلَيْهِمْ ، لِأَنَّهُمْ لَوِ اعْتَرَفُوا بِوَقْفِهَا صَارَ حَقُّهُمْ وَقْفًا ، وَإِنْ لَمْ يَدَّعُوا عَلَيْهِمْ لَمْ تَصِحَّ الدَّعْوَى عَلَيْهِمْ ، لِأَنَّ انْبِرَامَ الْحُكْمِ مَعَ تَقَدُّمِهِمْ قَدْ أَسْقَطَ دَعْوَاهُمْ . فَلَوْ بَذَلَ الْبَطْنُ الثَّانِي الْيَمِينَ مَعَ الشَّاهِدِ عِنْدَ نُكُولِ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ عَنْهَا ، فَفِي إِحْلَافِهِمْ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَحْلِفُونَ ، لِأَنَّهُمْ فَرْعٌ لِأَصْلٍ صَارُوا لَهُ تَبَعًا ، فَإِذَا بَطَلَ حُكْمُ الْأَصْلِ الْمَتْبُوعِ بَطَلَ حُكْمُ الْفَرْعِ التَّابِعِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ أَظْهَرُ لَهُمْ أَنْ يَحْلِفُوا ، لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْوَقْفَ يَصِيرُ إِلَيْهِمْ عَنِ الْوَاقِفِ لَا عَنِ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ ، فَصَارُوا فِي إِفْضَائِهِ إِلَيْهِمْ فِي حُكْمِ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوِ امْتَنَعَ الْبَطْنُ الثَّانِي مِنَ الْأَيْمَانِ ، لِامْتِنَاعِ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ مِنْهَا لَمَلَكَ بِهِ الْبَطْنُ الْأَوَّلُ إِبْطَالَ الْوَقْفِ عَلَى الْبَطْنِ الثَّانِي ، وَهَذَا مُمْتَنِعٌ ، فَكَانَ تَمْكِينُ الْبَطْنِ الثَّانِي مِنَ الْأَيْمَانِ غَيْرَ مُمْتَنَعٍ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي أَصْلِ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمَا مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي الْوَقْفِ إِذَا كَانَ عَلَى أَصْلٍ مَعْدُومٍ وَفَرْعٍ مَوْجُودٍ ، هَلْ يَبْطُلُ الْفَرْعُ لِبُطْلَانِهِ فِي الْأَصْلِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَبْطُلُ فِي الْفَرْعِ كَبُطْلَانِهِ فِي الْأَصْلِ ، لِامْتِزَاجِهِمَا فِي الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْلِفَ الْبَطْنُ الثَّانِي مَعَ نُكُولِ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ لِبُطْلَانِهِ فِي حُقُوقِهِمْ ، فَيَبْطُلُ فِي حَقِّ مَنْ بَعْدَهُمْ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يَبْطُلُ فِي الْفَرْعِ ، وَإِنْ بَطَلَ فِي الْأَصْلِ ، لِأَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَتَعَدَّاهُ ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ لِلْبَطْنِ الثَّانِي أَنْ يَحْلِفَ مَعَ نُكُولِ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْمَسْأَلَةَ أَصْلٌ فِي نَفْسِهَا ، وَالْقَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ فِيهَا ، فَإِذَا اسْتَقَرَّ الْقَوْلَانِ فِيهَا ، إِمَّا بِنَاءً وَإِمَّا أَصْلًا ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَوْضِعِ الْقَوْلَيْنِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : إِنْ كَانَ الْبَطْنُ الْأَوَّلُ بَاقِينَ لَمْ يَكُنْ لِلْبَطْنِ الثَّانِي أَنْ يَحْلِفُوا قَوْلًا وَاحِدًا ، وَإِنِ انْقَرَضُوا فَإِحْلَافُ الْبَطْنِ الثَّانِي عَلَى الْقَوْلَيْنِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِعَكْسِ الْأَوَّلِ : إِنِ انْقَرَضَ الْبَطْنُ الْأَوَّلُ كَانَ لِلْبَطْنِ الثَّانِي أَنْ يَحْلِفُوا قَوْلًا وَاحِدًا ، وَإِنْ كَانُوا بَاقِينَ ، فَإِحْلَافُ الْبَطْنِ الثَّانِي عَلَى الْقَوْلَيْنِ وَقَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ ، لِأَنَّ تَرْتِيبَ الْبُطُونِ يَمْنَعُ مِنِ اسْتِحْقَاقِ الثَّانِي مَعَ بَقَاءِ الْأَوَّلِ . فَصْلٌ : وَأَمَّا الْحَالُ الثَّالِثَةُ : وَهُوَ أَنْ يَحْلِفَ بَعْضُهُمْ ، وَيَنْكُلَ بَعْضُهُمْ ، مِثْلَ : أَنْ يَحْلِفَ مِنَ الثَّلَاثَةِ الْإِخْوَةِ وَاحِدٌ ، وَيَنْكُلُ اثْنَانِ ، فَيَكُونَ ثُلُثُهَا وَقْفًا عَلَى الْحَالِفِ بِيَمِينِهِ ، وَثُلُثَاهَا مِلْكًا مَوْرُوثًا بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ وَبَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ ، وَلَا يَرِثُ الْحَالِفُ مِنْهُ شَيْئًا ، لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِأَنَّ الْبَاقِيَ مِنَ الدَّارِ وَقْفٌ عَلَى أَخَوَيْهِ ، وَيَصِيرُ مَا وَرِثَهُ الْأَخَوَانِ مِنْهَا وَقْفًا عَلَيْهِمَا بِإِقْرَارِهِمَا وَسِهَامُ بَاقِي الْوَرَثَةِ مِلْكًا لَهُمْ طَلْقًا . فَإِنْ أَرَادَ الْبَطْنُ الثَّانِي أَنْ يَحْلِفُوا عَلَيْهِ كَانَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ فِي الْبِنَاءِ وَالْمَحَلِّ ، فَإِنْ مَاتَ الْإِخْوَةُ الثَّلَاثَةُ انْتَقَلَتْ حُقُوقُهُمْ إِلَى الْبَطْنِ الثَّانِي ، وَكَانَ نَصِيبُ مَنْ وَرِثَ وَلَمْ يَحْلِفْ مُنْتَقِلًا إِلَى الْبَطْنِ الثَّانِي بِغَيْرِ يَمِينٍ ، لِأَنَّهُ صَارَ وَقَفًا عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ بِغَيْرِ يَمِينٍ ، وَكَانَ نَصِيبُ مَنْ حَلَفَ مُنْتَقِلًا إِلَى الْبَطْنِ الثَّانِي بِيَمِينٍ أَوْ بِغَيْرِ يَمِينٍ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ فِي يَمِينِ الْبَطْنِ الثَّانِي بَعْدَ يَمِينِ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ ، وَيَسْتَوِي فِيهِ وَرَثَةُ الْحَالِفِ وَغَيْرِ الْحَالِفِ مِنَ الْبَطْنِ الثَّانِي . وَلَوْ مَاتَ مِنَ الْإِخْوَةِ اللَّذَانِ لَمْ يَحْلِفَا انْتَقَلَ نَصِيبُهُمْ إِلَى الْأَخِ الْحَالِفِ بِغَيْرِ يَمِينٍ . وَلَوْ مَاتَ الْأَخُ الْحَالِفُ وَبَقِيَ أَخَوَاهُ : فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ أَيْمَانَ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ تُسْقِطُ الْأَيْمَانَ عَنِ الْبَطْنِ الثَّانِي انْتَقَلَ نَصِيبُ الْحَالِفِ إِلَى أَخَوَيْهِ النَّاكِلَيْنِ ، وَلَمْ يَنْتَقِلْ إِلَى الْبَطْنِ الثَّانِي لِاسْتِحْقَاقِ التَّرْتِيبِ بَيْنَ الْبُطُونِ . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ أَيْمَانَ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ لَا تُسْقِطُ الْأَيْمَانَ عَنِ الْبَطْنِ الثَّانِي لَمْ يَنْتَقِلْ نَصِيبُ الْحَالِفِ إِلَى أَخَوَيْهِ ، لِنُكُولِهِمَا عَنِ الْيَمِينِ ، وَفِي انْتِقَالِهِ إِلَى الْبَطْنِ الثَّانِي إِنْ حَلَفُوا وَجْهَانِ :
أَحَدُهُمَا : يَنْتَقِلُ إِلَيْهِمْ ، وَإِنْ كَانَ التَّرْتِيبُ مُسْتَحَقًّا لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَى حِفْظِ الْوَقْفِ عَلَى الْبُطُونِ الْآتِيَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَنْتَقِلُ إِلَى الْبَطْنِ الثَّانِي مَا كَانَ الْأَخَوَانِ النَّاكِلَانِ بَاقِيَيْنِ اعْتِبَارًا بِشَرْطِ الْوَقْفِ فِي تَرْتِيبِ الْبُطُونِ . فَعَلَى هَذَا فِي مَصْرِفِهِ إِلَى انْقِرَاضِ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : إِلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ، حَتَّى يَنْقَرِضَ الْبَطْنُ الْأَوَّلُ ، فَيُرَدُّ عَلَى الْبَطْنِ الثَّانِي بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُصْرَفُ إِلَى أَقْرَبِ النَّاسِ بِالْوَاقِفِ ، وَيَكُونُ الْأَخَوَانِ النَّاكِلَانِ وَهُمَا مِنْ أَقْرَبِ النَّاسِ بِهِ وَمَنْ فِي دَرَجَتِهِمَا مِنَ الْأَقَارِبِ فِيهِ سَوَاءٌ . فَإِذَا مَاتَ الْأَخَوَانِ انْتَقَلَ جَمِيعُ هَذَا النَّصِيبِ إِلَى الْبَطْنِ الثَّانِي بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ ، لِإِفْضَاءِ الْوَقْفِ إِلَيْهِمْ بَعْدَ انْقِرَاضِ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ . فَصْلٌ : وَلَوْ كَانَ الْإِخْوَةُ الثَّلَاثَةُ عِنْدَ ادِّعَاءِ الْوَقْفِ عَلَيْهِمْ هُمْ وَرَثَةَ الْوَاقِفِ ، وَلَا يُشْرِكُهُمْ غَيْرُهُمْ ، صَارَتِ الدَّارُ وَقْفًا عَلَيْهِمْ بِإِقْرَارِهِمْ ، لَا بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ ، وَانْتَقَلَ الْوَقْفُ عَنْهُمْ إِلَى الْبَطْنِ الثَّانِي ، وَمَا يَلِيهِ بِغَيْرِ يَمِينٍ كَمَا صَارَ لِلْأَوَّلِ بِغَيْرِ يَمِينٍ . فَإِنْ كَانَ عَلَى الْوَاقِفِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِالْوَقْفِ ، فَإِنْ قَضَوْهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ خَلَصَ الْوَقْفُ لَهُمْ ، وَإِنْ لَمْ يَقْضُوهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بِإِسْقَاطِ الدُّيُونِ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ ، وَنُظِرَ : فَإِنْ كَانَ الْوَاقِفُ فِي الْمَرَضِ بَطَلَ ، لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ تَبْطُلُ بِاسْتِغْرَاقِ الدُّيُونِ ، وَلَا يَكُونُ لِبَيِّنَتِهِمْ تَأْثِيرٌ ، وَإِنْ كَانَ فِي الصِّحَّةِ سُمِعَتْ بَيِّنَتُهُمْ ، وَثَبَتَ الْوَقْفُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَاهُ : لِأَنَّهَا عَطِيَّةٌ فِي الصِّحَّةِ ، فَلَمْ تُرَدَّ بِالدُّيُونِ ، وَإِنْ عُدِمَتِ الْبَيِّنَةُ حَلَفَ أَرْبَابُ الدُّيُونِ عَلَى إِبْطَالِ الْوَقْفِ ، فَكَانَ مَصْرُوفًا فِي دُيُونِهِمْ ، فَإِنْ نَكَلُوا عَنِ الْأَيْمَانِ رُدَّتْ عَلَى الْوَرَثَةِ ، فَإِنْ حَلَفُوا ثَبَتَ الْوَقْفُ ، وَإِنْ نَكَلُوا صَرَفَهُ فِي أَرْبَابِ الدُّيُونِ . وَلَوْ كَانَتِ الدَّارُ الَّتِي أَقَرُّوا بِوَقْفِهَا مَغْصُوبَةً فِي يَدِ أَجْنَبِيٍّ قَضَى لَهُمْ عَلَى الْغَاصِبِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ قَوْلًا وَاحِدًا ، لِأَنَّ الْغَصْبَ يُسْتَحَقُّ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ ، وَالْغُصُوبُ تَتَوَجَّهُ إِلَى الْوَقْفِ كَمَا تَتَوَجَّهُ إِلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ ، فَإِذَا أُزِيلَتْ يَدُ الْغَاصِبِ عَنْهُ كَانَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَغْصُوبًا .
فَصْلٌ : وَأَمَّا تَصْوِيرُ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فِي ادِّعَاءِ الْوَقْفِ عَلَى أَجْنَبِيٍّ بَعْدَ مَوْتِهِ ، فَإِنْ صَدَّقَهُمْ وَارِثُهُ فَالدَّارُ وَقْفٌ عَلَيْهِمْ ، وَتَنْتَقِلُ عَنْهُمْ إِلَى مَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْبُطُونِ بِغَيْرِ يَمِينٍ لِمَصِيرِهَا إِلَى الْبَطْنِ الْأَوَّلِ بِغَيْرِ يَمِينٍ ، وَإِنْ أَكْذَبَهُمُ الْوَارِثُ ، وَأَقَامُوا شَاهِدًا لِيَحْلِفُوا مَعَهُ كَانَ حُكْمُهُمْ فِيهَا كَحُكْمِهِمْ لَوِ ادَّعَوْهَا وَقْفًا مِنْ أَبِيهِمْ إِلَّا فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ .
وَهُوَ أَنَّهُمْ إِذَا نَكَلُوا عَنِ الْيَمِينِ مَعَ شَاهِدِهِمْ صَارَ جَمِيعُهَا مِلْكًا طَلْقًا لِلْوَارِثِ ، وَلَوْ كَانَتْ مِنْ أَبِيهِمْ ، لَكَانَ قَدْرَ مَوَارِيثِهِمْ مِنْهَا وَقْفًا عَلَيْهِمْ بِإِقْرَارِهِمْ ، وَمَا عَدَا هَذَا الْحُكْمَ فَهُوَ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ قَالَ وَعَلَى أَوْلَادِهِمْ وَأَوُلَادِ أَوْلَادِهِمْ مَا تَنَاسَلُوا ، قَالَ : فَإِذَا حَدَثَ وَلَدٌ ، نَقَصَ مَنْ لَهُ حَقٌّ فِي الْحَبْسِ ، وَيُوقَفُ حَقُّ الْمَوْلُودِ حَتَّى يَبْلُغَ ، فَيَحْلِفَ ، فَيَأْخُذُ أَوْ يَدَعَ ، فَيَبْطُلَ حَقُّهُ ، وَيَرُدُّ كِرَاءَ مَا وُقِفَ لَهُ مِنْ حَقِّهِ عَلَى الَّذِينَ انْتَقَصُوا مِنْ أَجْلِهِ حَقُوقَهُمْ سَوَاءً بَيْنَهُمْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُوافِقَةٌ لِمَا تَقَدَّمَهَا مِنْ وَجْهٍ ، وَمُخَالِفَةٌ لَهَا مِنْ وَجْهٍ : وَصُورَتُهَا : أَنْ يَدَّعِيَ وَاحِدٌ مِنْ ثَلَاثَةِ إِخْوَةٍ أَنَّ أَبَاهُمْ وَقَفَ هَذِهِ الدَّارَ عَلَيْهِمْ ، وَعَلَى أَوْلَادِهِمْ وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهِمْ مَا تَنَاسَلُوا ، فَإِذَا انْقَرَضُوا فَعَلَى الْفُقَرَاءِ ، فَجَعَلَ الْبَطْنَ الثَّانِيَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُشَارِكًا لِلْبَطْنِ الْأَوَّلِ ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى جَعَلَ الْبَطْنَ الثَّانِيَ مُتَرَتِّبًا بَعْدَ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ ، وَهُمَا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ عَلَى سَوَاءٍ . فَإِذَا أَقَامَ بِهَذِهِ الدَّعْوَى شَاهِدًا لِيَحْلِفُوا مَعَهُ ، لَمْ يَخْلُ حَالُ الْإِخْوَةِ الثَّلَاثَةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعَهُمْ مِنْ أَوْلَادِهِمْ أَحَدًا أَوْ لَا يَكُونَ . فَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ مِنْ أَوْلَادِهِمْ وَاحِدٌ ، صَارُوا بِهِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْوَقْفِ أَرْبَعَةً ، لِأَنَّهُ يُشَارِكُهُمْ فِيهِ ، فَلَا يَسْتَحِقُّ نَصِيبَهُ مِنَ الْوَقْفِ إِلَّا بِيَمِينِهِ ، وَلَا تُغْنِيهِ يَمِينُ أَبِيهِ كَمَا لَا يَسْتَحِقُّهُ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ إِلَّا بِيَمِينِهِ ، وَلَا يُغْنِيهِ أَيْمَانُ إِخْوَتِهِ ، فَإِنْ حَلَفَ مَعَهُمْ قُسِّمَ الْوَقْفُ بَيْنَهُمْ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ ، وَإِنْ نَكَلَ سَقَطَ حَقُّهُ ، وَكَانَ حُكْمُهُ كَحُكْمِ أَحَدِ الثَّلَاثَةِ إِذَا نَكَلَ مَعَ يَمِينِ أَخَوَيْهِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ الْإِخْوَةِ الثَّلَاثَةِ عِنْدَ ادِّعَاءِ الْوَقْفِ أَحَدٌ مِنَ الْبَطْنِ الثَّانِي ، وَحَلَفُوا مَعَ شَاهِدِهِمُ اسْتَحَقُّوا الْوَقْفَ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا ، لِأَنَّهُ لَا مُشَارِكَ لَهُمْ فِيهِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِهِمْ . فَإِنْ وُلِدَ لَهُمْ وَلَدٌ صَارَ مُشَارِكًا لَهُمْ فِي الْوَقْفِ ، وَصَارَ مَعَهُمْ رَابِعًا ، فَوَجَبَ أَنْ يُوقَفَ بِهِ نَصِيبُهُ مِنَ الْوَقْفِ وَهُوَ الرُّبُعُ ، لِأَنَّهُ وَاحِدٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ ، وَيَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى يَمِينِهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ ، وَإِنْ كَانَ فِي الْوَقْفِ الْمُرَتَّبِ يَأْخُذُهُ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ بِغَيْرِ يَمِينٍ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ أَنَّهُمْ فِي الْوَقْفِ الْمُرَتَّبِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْوَاقِفِ وَاسِطَةٌ مِنَ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ قَدْ ثَبَتَ الْوَقْفُ بِهِمْ ، وَالْبَطْنُ الثَّانِي بَدَلٌ مِنْهُمْ ، فَانْتَقَلَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْوَقْفِ مَا كَانَ لَهُمْ . وَإِذَا كَانَ الْوَقْفُ مُشْتَرَكًا ، فَكُلُّ بَطْنٍ فِيهِ أَصْلٌ بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ غَيْرِ وَسِيطٍ بَيْنَهُمْ ، وَبَيْنَ
الْوَاقِفِ ، فَكَانَ حُكْمُ كُلِّ بَطْنٍ فِيهِ كَحُكْمِ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ لَا يَسْقُطُ بِأَيْمَانِ بَعْضِهِمْ أَيْمَانُ غَيْرِهِمْ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدِ اعْتَرَفَ لَهُ شُرَكَاؤُهُ بِحَقِّهِ فِيهِ ، فَلَمْ يَحْلِفْ عَلَيْهِ مَعَ اعْتِرَافِ مُسْتَحِقِّيهِ كَمَا لَوِ اعْتَرَفَ ثَلَاثَةُ شُرَكَاءَ فِي دَارٍ بِرَابِعٍ أَنَّهُ شَرِيكُهُمْ فِيهَا اسْتَحَقَّ سَهْمَهُ فِيهَا بِغَيْرِ يَمِينٍ قِيلَ : قَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا مَعَ نَصِّ الشَّافِعِيِّ ، عَلَى أَنَّ نَصِيبَ الْحَادِثِ مَوْقُوفٌ عَلَى يَمِينِهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْفَيَّاضِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ الْجَوَابَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الْوَاقِفَ شَرَطَ فِي وَقْفِهِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَقْبَلْهُ كَانَ نَصِيبَهُ عَلَى شُرَكَائِهِ ، فَلِذَلِكَ حَلَفَ الْحَادِثُ إِنْ صَدَّقَهُ الشُّرَكَاءُ ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ مِنْ أَهْلِهِ بِقَبُولِهِ ، وَقَبُولُهُ يَكُونُ بِيَمِينِهِ ، لِأَنَّ سَهْمَهُ إِذَا لَمْ يُقْبَلْ عَائِدٌ عَلَيْهِمْ ، وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِطِ الْوَاقِفُ هَذَا اسْتَحَقَّ الْحَادِثُ سَهْمَهُ بِاعْتِرَافِ شُرَكَائِهِ بِغَيْرِ يَمِينٍ كَالدَّارِ الْمَمْلُوكَةِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ الثَّلَاثَةِ ، إِذَا اعْتَرَفُوا بِشَرِيكٍ رَابِعٍ فِيهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْبَصْرِيِّينَ أَيْضًا أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى إِطْلَاقِ الْوَقْفِ إِذَا قِيلَ : إِنَّ سَهْمَ مَنْ لَمْ يُقْبَلْ أَوْ مَاتَ بَعْدَ قَبُولِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ - رَاجِعٌ عَلَى الشُّرَكَاءِ ، فَيُسْتَحْلَفُ الْحَادِثُ ، وَيَرْجِعُ عَلَى الشُّهَدَاءِ إِنْ لَمْ يَحْلِفْ . فَأَمَّا إِذَا قِيلَ : إِنَّ سَهْمَهُ رَاجِعٌ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ لَمْ يُسْتَحْلَفِ الْحَادِثُ ، وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَى الشُّرَكَاءِ إِنْ لَمْ يَحْلِفْ ، لِأَنَّ أَصْحَابَ الشَّافِعِيِّ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي مَذْهَبِهِ فِي الْوَقْفِ إِذَا لَمْ يَقْبَلْهُ أَحَدُ أَرْبَابِهِ ، هَلْ يَكُونُ نَصِيبُهُ مَعَ إِطْلَاقِ شَرْطِ الْوَقْفِ عَائِدًا عَلَى شُرَكَائِهِ أَوْ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِي : أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَمْوَالِ كُلِّهَا فِي أَنَّ الْحَادِثَ لَا يَسْتَحِقُّ نَصِيبَهُ ، وَإِنِ اعْتَرَفَ لَهُ الشُّرَكَاءُ إِلَّا بِيَمِينِهِ ، وَفَرَّقَ بَيْنَ الْوَقْفِ ، وَبَيْنَ الدَّارِ الْمَمْلُوكَةِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ بِفَرْقَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ فِي الْوَقْفِ مُقِرُّونَ عَلَى الْوَاقِفِ ، وَفِي غَيْرِ الْوَقْفِ مُقِرُّونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ . وَالْفَرْقُ الثَّانِي : أَنَّ فِي الْوَقْفِ حَقًّا لِلْبَطْنِ الثَّانِي ، فَلَمْ يَنْفُذْ إِقْرَارُهُمْ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ فِي الْمِلْكِ حَقٌّ لِغَيْرِهِمْ . فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا كَانَ سَهْمُ الرَّابِعِ ، وَهُوَ الرُّبْعُ ، مَوْقُوفًا عَلَى يَمِينِهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ ، وَلَوْ حَدَثَ خَامِسٌ وُقِفَ لَهُ خُمْسُ الْوَقْفِ عَلَى يَمِينِهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ ، فَإِنْ بَلَغَ الْحَادِثَانِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُمَا بَعْدَ بُلُوغِهِمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : إِمَّا أَنْ يَحْلِفَا أَوْ يَنْكُلَا أَوْ يَحْلِفَ أَحَدُهُمَا ، وَيَنْكُلَ الْآخَرُ .
فَإِنْ حَلَفَا اسْتَحَقَّ الرَّابِعُ الرُّبُعَ قَبْلِ حُدُوثِ الْخَامِسِ ، وَالْخُمُسَ بَعْدَ حُدُوثِهِ وَاسْتَحَقَّ الْخَامِسُ الْخُمُسَ لَا غَيْرَهُ ، وَإِنْ نَكَلَا جَمِيعًا رُدَّ مَا وُقِفَ مِنْ رُبُعِ الرَّابِعِ وَخُمُسِ الْخَامِسِ عَلَى الْإِخْوَةِ الثَّلَاثَةِ . وَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا ، وَنَكَلَ الْآخَرُ سَقَطَ حَقُّ النَّاكِلِ ، وَصَارَ الْوَقْفُ بَيْنَ أَرْبَعَةٍ فَيَكْمُلُ لِلرَّابِعِ رُبُعُ الْوَقْفِ مِنْ حِينِ حُدُوثِهِ ، وَإِلَى وَقْتِ يَمِينِهِ ، وَيُرَدُّ مَا زَادَ عَلَى الْإِخْوَةِ الثَّلَاثَةِ . وَبَاللَّهِ التَّوْفِيقُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ مَاتَ مِنَ الْمُنْتَقَصِ حُقُوقُهُمْ أَحَدٌ فِي نِصْفِ عُمُرِ الَّذِي وُقِفَ لَهُ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ رَدَّ حِصَّةَ الْمُوقَفِ عَلَى مَنْ مَعَهُ فِي الْحَبْسِ وَأُعْطِيَ وَرَثَةُ الْمَيِّتِ مِنْهُمْ بِقَدْرِ مَا اسْتَحَقَّ مِمَّا رُدَّ عَلَيْهِ بِقَدْرِ حَقِّهِ . قَالَ الْمُزَنِيُّ : أَصْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمُحْبِسَ أَزَالَ مِلْكَ رَقَبَتِهِ لِلَّهِ ، عَزَّ وَجَلَّ وَإِنَّمَا يَمْلِكُ الْمُحْبَسُ عَلَيْهِ مَنْفَعَةَ نَفْسِهِ لَا رَقَبَتَهُ كَمَا أَزَالَ الْمُعْتِقُ مِلْكَهُ عَنْ رَقَبَةِ عَبْدِهِ وَإِنَّمَا يَمْلِكُ الْمُعْتَقُ مَنْفَعَةَ نَفْسِهِ لَا رَقَبَتَهُ وَهُوَ لَا يُجِيزُ الْيَمِينَ مَعَ الشَّاهِدِ إِلَّا فِيمَا يَمْلِكُهُ الْحَالِفُ ، فَكَيْفَ يُخْرِجُ رَقَبَةَ مِلْكِ رَجُلٍ بِيَمِينِ مَنْ لَا يَمْلِكُ تِلْكَ الرَّقَبَةَ وَهُوَ لَا يُجِيزُ يَمِينَ الْعَبْدِ مَعَ شَاهِدِهِ بِأَنَّ مَوْلَاهُ أَعْتَقَهُ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مَا كَانَ السَّيِّدُ يَمْلِكُهُ مِنْ رَقَبَتِهِ فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي فِي قِيَاسِ قَوْلِهِ أَنْ لَا يُجِيزَ يَمِينَ الْمُحْبَسِ عَلَيْهِ فِي رَقَبَتِهِ الْحَبْسُ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مَا كَانَ الْمُحْبِسُ يَمْلِكُهُ مِنْ رَقَبَتِهِ قَالَ الْمُزَنِيُّ : وَإِذَا لَمْ تَزَلْ رَقَبَةُ الْحَبْسِ بِيَمِينِهِ بَطَلَ الْحَبْسُ مِنْ أَصْلِهِ وَهَذَا عِنْدِي قِيَاسُ قَوْلِهِ عَلَى أَصْلِهِ الَّذِي وَصَفْتُ وَلَوْ جَازَ الْحَبْسُ عَلَى مَا وَصَفَ الشَّافِعِيُّ مَا جَازَ أَنْ يُقِرَّ أَهْلُهُ أَنَّ لَهُمْ شَرِيكًا وَيُنْكِرَ الشَّرِيكُ الْحَبْسَ فَيَأْخُذُونَ حَقَّهُ لِامْتِنَاعِهِ مِنْ أَنْ يَحْلِفَ مَعَهُمْ فَأَصْلُ قَوْلِهِ أَنَّ حَقَّ مَنْ لَمْ يَحْلِفْ مَوْقُوفٌ حَتَّى يَخْلِفَ لَهُ وَارِثُهُ إِنْ مَاتَ يَقُومُ مَقَامَهُ وَلَا يَأْخُذُ مِنْ حَقٍّ أَقَرَّ بِهِ لِصَاحِبِهِ شَيْئًا لِأَنَّ أَخَذَهُ ذَلِكَ حَرَامٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَالْمَسْأَلَةُ مُصَوَّرَةٌ فِي الْوَقْفِ الْمُشْتَرَكِ إِذَا وُقِفَ سَهْمُ مَنْ حَدَثَ عَلَى يَمِينِهِ بَعْدَ الشَّاهِدِ ، فَمَاتَ بَعْضُ أَهْلِهِ ، وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَمُوتَ بَعْضُ مَنْ حَلَفَ ، كَأَنَّهُ وَقَفَ سَهْمٌ رَابِعٌ حَادِثٌ ، فَمَاتَ أَحَدُ الْإِخْوَةِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ حَلَفُوا بَعْدَ أَنْ مَضَى لِلصَّبِيِّ الْحَادِثِ الْمَوْقُوفِ سَهْمُهُ نِصْفُ عُمُرِ الصَّغِيرِ ، وَهُوَ سَبْعُ سِنِينَ وَنِصْفٌ ، لِأَنَّ مُدَّةَ الصِّغَرِ مِنْ وَقْتِ الْوِلَادَةِ إِلَى زَمَانِ الْبُلُوغِ وَذَلِكَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً ، فَيُوقَفُ لِلْحَادِثِ بَعْدَ مَوْتِ أَحَدِ الثَّلَاثَةِ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْمُوقَفُ لَهُ
الرُّبُعَ ، لِأَنَّهُ كَانَ قَبْلَ مَوْتِ أَحَدِ الثَّلَاثَةِ وَاحِدًا مِنْ أَرْبَعَةٍ ، فَكَانَ نَصِيبُهُ الرُّبُعَ ، وَصَارَ بَعْدَ مَوْتِ الثَّالِثِ وَاحِدًا مِنْ ثَلَاثَةٍ ، فَصَارَ نَصِيبُهُ الثُّلُثَ ، فَإِنْ بَلَغَ الْحَادِثَ ، وَحَلَفَ اسْتَحَقَّ جَمِيعَ مَا وُقِفَ لَهُ مِنَ الرُّبُعِ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ مِنْ عُمُرِ صِغَرِهِ ، وَالثُّلُثَ فِي النِّصْفِ الثَّانِي مِنْ عُمُرِ صِغَرِهِ . وَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ سَقَطَ حَقُّهُ مِنَ الْوَقْفِ ، وَرُدَّ الرُّبُعُ الْمَوْقُوفُ فِي الْأَوَّلِ عَلَى الْأَخَوَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ وَعَلَى وَرَثَةِ الْمَيِّتِ الثَّالِثِ ، وَرُدَّ الثُّلُثُ الْمَوْقُوفُ فِي الْآخِرِ عَلَى الْأَخَوَيْنِ خَاصَّةً دُونَ وَرَثَةِ الثَّالِثِ ، لِأَنَّ الْمَيِّتَ يَسْتَحِقُّ اسْتِرْجَاعَ مَا وَقَفَ فِي حَيَاتِهِ ، وَلَا يَسْتَحِقُّ اسْتِرْجَاعَ مَا وَقَفَ بَعْدَ مَوْتِهِ .
فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَمُوتَ الْحَادِثُ الْمَوْقُوفُ سَهْمُهُ قَبْلَ بُلُوغِهِ ، فَيَقُومُ وَرَثَتُهُ فِيهِ مَقَامَهُ لِانْتِقَالِ حَقِّهِ إِلَيْهِمْ بِالْمَوْتِ ، وَهَكَذَا لَوْ وُقِفَ سَهْمُ مَجْنُونٍ حَتَّى يَفِيقَ فَمَاتَ بَعْدَ بُلُوغِهِ وَقَبْلَ إِفَاقَتِهِ قَامَ وَرَثَتُهُ مَقَامَهُ ، فَيَحْلِفُونَ وَيَسْتَحِقُّونَ أَوْ يَنْكُلُونَ فَيُرَدُّ عَلَى أَهْلِ الْوَقْفِ وَإِذَا كَانَ هَكَذَا لَمْ يَخْلُ حَالُ وَارِثِ هَذَا الْمَيِّتِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَرِثَهُ عُمُومَتُهُ الثَّلَاثَةُ الَّذِينَ حَلَفُوا ، فَهَلْ يَلْزَمُهُمْ فِي مِيرَاثِ سَهْمِهِ أَنْ يَحْلِفُوا عَلَى اسْتِحْقَاقِهِ لَهُ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ، قَدَّمْنَاهُمَا فِي الْوَقْفِ الْمُرَتَّبِ : أَحَدُهَا : لَا يَلْزَمُهُمْ أَنْ يَحْلِفُوا ، لِأَنَّهُمْ قَدْ حَلَفُوا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَلْزَمُهُمْ أَنْ يَحْلِفُوا ، لِأَنَّهُمْ حَلَفُوا فِي حُقُوقِ أَنْفُسِهِمْ ، وَهَذِهِ يَمِينٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ ، فَإِنْ نَكَلُوا عَنْ هَذِهِ لَمْ يَسْتَحِقُّوا سَهْمَ الْمَيِّتِ ، وَإِنِ اسْتَحَقُّوا سِهَامَ أَنْفُسِهِمْ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ وَرَثَةُ الْمَيِّتِ مِمَّنْ لَا مَدْخَلَ لَهُمْ فِي الْوَقْفِ كَالزَّوْجَةِ وَالْأُمِّ وَالْجَدَّةِ وَالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ لِلْأُمِّ ، فَلَا حَقَّ لَهُمْ فِي سَهْمِهِمُ الْمَوْقُوفِ إِلَّا بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَسْتَحِقَّهُ الْمَيِّتُ إِلَّا بِيَمِينِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّهُ وَرَثَتُهُ إِلَّا بِأَيْمَانِهِمْ ، فَإِنْ حَلَفُوا جَمِيعًا اسْتَحَقُّوا جَمِيعَ الْمَوْقُوفِ ، وَإِنْ حَلَفَ بَعْضُهُمْ ، وَنَكَلَ بَعْضُهُمُ اسْتَحَقَّ الْحَالِفُ مِنْهُمْ قَدْرَ نَصِيبِهِ ، وَرُدَّ نَصِيبُ مَنْ لَمْ يَحْلِفْ عَلَى الْإِخْوَةِ الثَّلَاثَةِ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ وَارِثُهُ مِمَّنْ لَهُ مَدْخَلٌ فِي الْوَقْفِ كَمَوْتِ الْمَجْنُونِ عَنْ حَمْلٍ وُلِدَ بَعْدَ مَوْتِهِ ، فَيُوقَفُ مَا وَرِثَهُ عَنْ سَهْمِ أَبِيهِ عَلَى يَمِينِهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ ، وَيُسْتَأْنَفُ لَهُ وَقْفُ سَهْمِهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ مِنْ أَصْلِ الْوَقْفِ عَلَى يَمِينِهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ ، فَيَصِيرُ الْمَوْقُوفُ لَهُ سَهْمَيْنِ : سَهْمُ أَبِيهِ وَسَهْمُ نَفْسِهِ .
فَإِذَا بَلَغَ ، فَفِي يَمِينِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَحْلِفُ يَمِينًا وَاحِدَةً عَلَى اسْتِحْقَاقِهِ لِسَهْمِ نَفْسِهِ ، فَيَسْتَحِقُّ بِهَا سَهْمَ أَبِيهِ ، وَسَهْمَ نَفْسِهِ إِذَا قِيلَ : إِنَّ عُمُومَتَهُ لَوْ وَرِثُوهُ لَمْ يَحْلِفُوا ، فَإِنْ حَلَفَ عَلَى اسْتِحْقَاقِ سَهْمِ أَبِيهِ اسْتَحَقَّهُ ؟ وَلَمْ يَسْتَحِقَّ سَهْمَ نَفْسِهِ ، لِأَنَّهُ قَدْ يَسْتَحِقُّ سَهْمَ أَبِيهِ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوَقْفِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَحْلِفُ يَمِينَيْنِ ، وَيَسْتَحِقُّ بِإِحْدَاهُمَا سَهْمَ أَبِيهِ ، وَيَسْتَحِقُّ بِالْآخَرِ سَهْمَ نَفْسِهِ ، إِذَا قِيلَ : إِنَّ عُمُومَتَهُ لَوْ وَرِثُوهُ حَلَفُوا . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ، فَلَهُ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ : الْأُولَى : أَنْ يَحْلِفَ الْيَمِينَيْنِ فَيَسْتَحِقَّ بِهِمَا السَّهْمَيْنِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَنْكُلَ عَنِ الْيَمِينَيْنِ ، فَلَا يَسْتَحِقَّ السَّهْمَيْنِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَحْلِفَ عَلَى حَقِّ أَبِيهِ ، وَلَا يَحْلِفَ عَلَى حَقِّ نَفْسِهِ ، فَيَسْتَحِقَّ سَهْمَ أَبِيهِ ، وَلَا يَسْتَحِقَّ سَهْمَ نَفْسِهِ ، وَيَخْرُجُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْوَقْفِ . وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَحْلِفَ عَلَى حَقِّ نَفْسِهِ ، وَلَا يَحْلِفَ عَلَى حَقِّ أَبِيهِ ، فَيَسْتَحِقَّ سَهْمَ نَفْسِهِ ، وَيَصِيرَ مِنْ أَهْلِ الْوَقْفِ ، وَلَا يَسْتَحِقَّ سَهْمَ أَبِيهِ ، وَيُرَدُّ عَلَى الْإِخْوَةِ الثَّلَاثَةِ . فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ ، فَكَلَامُهُ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ ، قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمَا : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْوَقْفَ كَالْعِتْقِ الَّذِي يَزُولُ بِهِ الْمِلْكُ إِلَى غَيْرِ مَالِكٍ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْكَمَ فِيهِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ ، كَذَلِكَ الْوَقْفُ لَا يُحْكَمُ فِيهِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ فَعَلَّقَ عَلَى هَذَا الْفَصْلِ حُكْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ جَعَلَ الْوَقْفَ غَيْرَ مَمْلُوكِ الرَّقَبَةِ ، وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : هُوَ مَمْلُوكُ الرَّقَبَةِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَوْجِيهَ الْقَوْلَيْنِ . وَالْحُكْمُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ أَصْحَابِنَا فِيهِ ، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ لَا يَثْبُتُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ كَالْعِتْقِ ، مُوافَقَةً لِلْمُزْنِيِّ فِيهِ . وَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ يَثْبُتُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ ، بِخِلَافِ الْعِتْقِ ، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكَا ، فَخَالَفَهُ الْمُزَنِيُّ لِمَا ذَكَرَهُ مِنَ الْفَرْقَيْنِ بَيْنَ الْوَقْفِ وَالْعِتْقِ . وَالْفَصْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْإِخْوَةَ الثَّلَاثَةَ إِذَا حَلَفُوا ، وَصَارَ بِأَيْمَانِهِمْ وَقْفًا ، وَانْتَقَلَ إِلَى غَيْرِهِمْ لَمْ يَحْلِفْ ، وَلَا يُرَدُّ سَهْمُ مَنْ نَكَلَ عَلَى الْحَالِفِينَ ، لِاعْتِرَافِهِمْ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُمْ فِيهِ ، فَعَلَّقَ عَلَى هَذَا الْفَصْلِ حُكْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يَحْلِفُ مَنْ دَخَلَ فِي الْوَقْفِ بَعْدَ أَيْمَانِ مَنْ تَقَدَّمَهُ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ أَصْحَابِنَا فِيهِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ . وَالْحُكْمُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يُرَدُّ سَهْمُ النَّاكِلِ عَلَى الْحَالِفِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا وُجُوهَ أَصْحَابِنَا فِي مَوْضُوعِ الْمَسْأَلَةِ ، وَلَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ أَنْ يُرَدَّ عَلَيْهِمْ ، وَإِنِ اعْتَرَفُوا لَهُ بِالْحَقِّ ، لِأَنَّ امْتِنَاعَهُ مِنَ الْيَمِينِ امْتِنَاعٌ مِنَ الْقَبُولِ ، وَتَرْكَهُ لِقَبُولِ الْوَقْفِ يَجْعَلُهُ فِيهِ كَالْمَعْدُومِ فِي رَدِّهِ عَلَى الْمَوْجُودِينَ مِنْ أَهْلِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ الْخِلَافِ فِي الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ
بَابُ الْخِلَافِ فِي الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " قَالَ بَعْضُ النَّاسِ : فَقَدْ أَقَمْتُمُ الْيَمِينَ مَقَامَ شَاهِدٍ ، قُلْتُ : وَإِنْ أَعْطَيْتُ بِهَا كَمَا أَعْطَيْتُ بِشَاهِدٍ ، فَلَيْسَ مَعْنَاهَا مَعْنَى شَاهِدٍ ، وَأَنْتَ تُبَرِّئُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِشَاهِدَيْنِ وَبِيَمِينِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ ، وَتُعْطِي الْمُدَّعِيَ حَقَّهُ بِنُكُولِ صَاحِبِهِ كَمَا تُعْطِيهِ بِشَاهِدَيْنِ ، أَفَمَعْنَى ذَلِكَ مَعْنَى شَاهِدَيْنِ ؟ قَالَ : فَكَيْفَ يَحْلِفُ مَعَ شَاهِدِهِ عَلَى وَصِيَّةٍ أَوْصَى بِهَا مَيِّتٌ ، أَوْ أَنَّ لِأَبِيهِ حَقًّا عَلَى رَجُلٍ وَهُوَ صَغِيرٌ ، وَهُوَ إِنْ حَلَفَ حَلَفَ عَلَى مَا لَمْ يَعْلَمْ ، قُلْتُ : فَأَنْتَ تُجِيزُ أَنْ يَشْهَدَ أَنَّ فُلَانًا ابْنُ فُلَانٍ وَأَبُوهُ غَائِبٌ لَمْ يَرَ أَبَاهُ قَطُّ وَيَحْلِفَ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً مَشْرِقِيًّا ، اشْتَرَى عَبْدًا ابْنَ مِائَةِ سَنَةٍ مَغْرِبِيًّا ، وُلِدَ قَبْلَ جَدِّهِ ، فَبَاعَهُ ، فَأَبَقَ ، أَنَّكَ تُحَلِّفُهُ لَقَدْ بَاعَهُ بَرِيئًا مِنَ الْإِبَاقِ عَلَى الْبَتِّ ، قَالَ : مَا يَجِدُ النَّاسُ بُدًّا مِنْ هَذَا غَيْرَ أَنَّ الزُّهْرِيَّ أَنْكَرَهَا ، قُلْتُ : فَقَدْ قَضَى بِهَا حِينَ وَلِيَ ، أَرَأَيْتَ مَا رَوَيْتَ عَنْ عَلِيٍّ مِنْ إِنْكَارِهِ عَلَى مَعْقِلٍ حَدِيثَ بِرْوَعَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ لَهَا الْمَهْرَ وَالْمِيرَاثَ ، وَرَدَّ حَدِيثَهُ ، وَمَعَ عَلِيٍّ زَيْدٌ وَابْنُ عُمَرَ فَهَلْ رَدَدْتُ شَيْئًا بِالْإِنْكَارِ ، فَكَيْفَ يُحْتَجُّ بِإِنْكَارِ الزُّهْرِيِّ ؟ وَقُلْتُ لَهُ : وَكَيْفَ حَكَمْتَ بِشَهَادَةِ قَابِلَةٍ فِي الِاسْتِهْلَالِ ، وَهُوَ مَا يَرَاهُ الرِّجَالُ ؟ أَمْ كَيْفَ حَكَمْتَ عَلَى أَهْلِ مَحَلَّةٍ ، وَعَلَى عَوَاقِلِهِمْ ، بِدِيَةِ الْمَوْجُودِ قَتِيلًا فِي مَحَلَّتِهِمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ، وَزَعَمْتَ أَنَّ الْقُرْآنَ يُحَرِّمُ أَنْ يَجُوزَ أَقَلُّ مِنْ شَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ ، وَزَعَمْتَ أَنَّ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ بَرَاءَةٌ لِمَنْ حَلَفَ ، فَخَالَفْتَ فِي جُمْلَةِ قَوْلِكَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ ؟ أَرَأَيْتَ لَوْ قَالَ لَكَ أَهْلُ الْمَحِلَّةِ أَتَدَّعِي عَلَيْنَا فَأَحْلِفْ جَمِيعَنَا وَأَبْرِئْنَا ، قَالَ : لَا أُحَلِّفُهُمْ إِذَا جَاوَزُوا خَمْسِينَ رَجُلًا وَلَا أُبَرِّئُهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ ، وَأُغَرِّمُهُمْ ، قُلْتُ : فَكَيْفَ جَازَ لَكَ هَذَا ؟ قَالَ : رَوَيْنَا هَذَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَحْمَةٌ اللَّهِ عَلَيْهِ فَقُلْتُ فَإِنْ قِيلَ لَكَ : لَا يَجُوزُ عَلَى عُمَرَ أَنْ يُخَالِفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَقَالَ عُمَرُ نَفْسُهُ : الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي ، وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَعَّى عَلَيْهِ ، قَالَ : لَا يَجُوزُ أَنْ أَتَّهِمَ مَنْ أَثِقُ بِهِ ، وَلَكِنْ أَقُولُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةٍ وَقَوْلِ عُمَرَ عَلَى الْخَاصِّ : قُلْتُ فَلِمَ لَمْ يَجْرِ لَنَا مِنْ سُنَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَجَزْتَ لِنَفْسِكَ مِنْ عُمَرَ ؟ قُلْتُ : وَقَدْ رَوَيْتُمْ أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ فَجَلَبَهُمْ إِلَى مَكَةَ وَهُوَ مَسِيرَةُ
اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ يَوْمًا فَأَحْلَفَهُمْ فِي الْحِجْرِ ، وَقَضَى عَلَيْهِمْ بِالدِّيَةِ ، فَقَالُوا : مَا وَفَتْ أَمْوَالُنَا أَيْمَانَنَا وَلَا أَيْمَانُنَا أَمْوَالَنَا ، فَقَالَ : حَقَنْتُمْ بِأَيْمَانِكُمْ دَمَاءَكُمْ ، فَخَالَفْتُمْ فِي ذَلِكَ عُمَرَ ، فَلَا أَنْتُمْ أَخَذْتُمْ بِكُلِّ حُكْمِهِ ، وَلَا تَرَكْتُمُوهُ ، وَنَحْنُ نَرْوِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، بِالْإِسْنَادِ الصَّحِيحِ ، أَنَّهُ بَدَأَ فِي الْقَسَامَةِ بِالْمُدَّعِينَ ، فَلَمَّا لَمْ يَحْلِفُوا قَالَ : تَبَرُّئُكُمْ يَهُودٌ بِخَمْسِينَ يَمِينًا ، وَإِذْ قَالَ تُبَرِّئُكُمْ يَهُودُ ، فَلَا يَكُونُ عَلَيْهِمْ غُرْمٌ ، وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ بَدَّى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ ، ثَمَّ رَدَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعِينَ ، وَهَذَانِ جَمِيعًا يُخَالِفَانَ مَا رَوَيْتُمْ عَنْهُ ، وَقَدْ أَجَزْتُمْ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، وَهُمْ غَيْرُ الَّذِينَ شَرَطَ اللَّهُ ، عَزَّ وَجَلَّ ، أَنْ تَجُوزَ شَهَادَتُهُمْ ، وَرَدَدْتُمْ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فِي الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ ، قَالَ : فَإِنَّا أَجَزْنَا شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَةِ بِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ قُلْتُ : سَمِعْتُ مَنْ أَرْضَى يَقُولُ : مِنْ غَيْرِ قَبِيلَتِكُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَيَحْتَجُّ بِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ قُلْتُ : وَالْمُنَزَّلُ فِيهِ هَذِهِ الْآيَةُ رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ ، فَأَجَزْتَ شَهَادَةَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ ؟ قَالَ : لَا ، إِلَّا شَهَادَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ ، قُلْتُ : فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لَا إِلَّا شَهَادَةَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ فَمَا الْفَرْقُ ؟ فَقُلْتُ لَهُ : أَفَتُجِيزُ الْيَوْمَ شَهَادَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى وَصِيَّةِ مُسْلِمٍ كَمَا زَعَمْتَ أَنَّهَا فِي الْقُرْآنِ ؟ قَالَ : لَا ، لِأَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ ، قُلْتُ : بِمَاذَا ؟ قَالَ : بِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ قُلْتُ : فَقَدْ زَعَمْتَ بِلِسَانِكَ أَنَّكَ خَالَفْتَ الْقُرْآنَ ، إِذْ لَمْ يُجِزِ اللَّهُ إِلَّا مُسْلِمًا ، فَأَجَزْتَ كَافِرًا ، وَقَالَ لِي قَائِلٌ : إِذَا نَصَّ اللَّهُ حُكْمًا فِي كِتَابِهِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَكَتَ عَنْهُ ، وَقَدْ بَقِيَ مِنْهُ شَيْءٌ ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُحْدِثَ فِيهِ مَا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ ، قُلْتُ : فَقَدْ نَصَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْوُضُوءَ فِي كِتَابِهِ ، فَأَحْدَثَ فِيهِ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ ، وَنَصَّ مَا حَرَّمَ مِنَ النِّسَاءِ ، وَأَحَلَّ مَا وَرَاءَهُنَّ ، فَقُلْتُ : لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا ، وَنَصَّ الْمَوَارِيثَ ، فَقُلْتَ : لَا يَرِثُ قَاتِلٌ وَلَا مَمْلُوكٌ وَلَا كَافِرٌ ، وَإِنْ كَانُوا وَلَدًا أَوْ وَالِدًا ، وَنَصَّ حَجْبَ الْأُمِّ بِالْإِخْوَةِ ، فَحَجَبْتَهَا بِأَخَوَيْنِ ، وَنَصَّ لِلْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ أَنْ تُمَسَّ نِصْفَ الْمَهْرِ ، وَرَفْعَ الْعِدَّةِ ، فَقُلْتُ : إِنْ خَلَا بِهَا وَلَمْ يَمَسَّهَا ، فَلَهَا الْمَهْرُ ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ ، فَهَذِهِ أَحْكَامٌ مَنْصُوصَةٌ فِي الْقُرْآنِ ، فَهَذَا عِنْدَكَ خِلَافُ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ ، وَالْيَمِينُ مَعَ الشَّاهِدِ لَا يُخَالِفُ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ شَيْئًا ، وَالْقُرْآنُ عَرَبِيٌّ ، " فَيَكُونُ عَامًّا يُرَادُ بِهِ الْخَاصُّ ، وَكُلُّ كَلَامٍ احْتَمَلَ فِي الْقُرْآنِ مَعَانِيَ ، فَسَنَةُ رَسُولِ اللَّهِ فِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَدُلُّ عَلَى أَحَدِ مَعَانِيهِ ، مُوافِقَةً لَهُ لَا مُخَالِفَةً لِلْقُرْآنِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَمَا تَرَكْنَا مِنَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ - أَكْثَرُ مِمَّا كَتَبْنَاهُ . وَبَاللَّهِ التَّوْفِيقُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : يُرِيدُ الشَّافِعِيُّ بِمَنْ حَكَى عَنْهُ بَعْضَ النَّاسِ ، إِمَّا مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ أَوْ غَيْرَهُ مِنْ فُقَهَاءِ الْعِرَاقِ ، أَنَّهُ اعْتَرَضَ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي حُكْمِهِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ فِي
الْأَمْوَالِ دُونَ غَيْرِهَا ، بِأَنَّهُ لَوْ أَقَامَ مَقَامَ الشَّاهِدَيْنِ فِي الْأَمْوَالِ ، لَقَامَ مَقَامَهُمَا فِي غَيْرِ الْأَمْوَالِ ، فَأَجَابَ الشَّافِعِيُّ عَنْ هَذَا ، وَإِنْ كُنَّا قَدْ قَدَّمْنَا مِنْ دَلَائِلِ إِثْبَاتِهِ ، وَنَفْيِهِ وَمَا أَوْضَحَ بِهِ الشَّافِعِيُّ حِجَاجَهُ ، وَأَبْطَلَ بِهِ قَوْلَ مَنْ رَدَّ عَلَيْهِ ، فَيَحْسُنُ تَوْضِيحُهُ ، وَإِنْ تَقَدَّمَ مَا أَغْنَى عَنْهُ ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ لِمَنْ عَارَضَهُ بِهَذَا الرَّدِّ : " أَنَا وَإِنْ أَعْطَيْتُ بِهَا " ، يَعْنِي : بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ مَا أُعْطِي بِشَاهِدَيْنِ " فَلَيْسَ مَعْنَاهَا مَعْنَى شَاهِدٍ " يَعْنِي فَلَيْسَ مَعْنَاهَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مَعْنَى شَاهِدٍ ، وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَعْنَى شَاهِدٍ ثُمَّ بَيَّنَ لَهُ الشَّافِعِيُّ فَسَادَ اعْتِرَاضِهِ ، فَقَالَ : " وَأَنْتَ تُبَرِّئُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِشَاهِدَيْنِ ، وَبِيَمِينِهِ إِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ ، وَتُعْطِي الْمُدَّعِيَ حَقَّهُ بِنُكُولِ صَاحِبِهِ كَمَا تُعْطِي بِالشَّاهِدَيْنِ ، أَفَمَعْنَى ذَلِكَ مَعْنَى شَاهِدَيْنِ ؟ " يَعْنِي أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَبْرَأُ بِيَمِينِهِ كَمَا يَبْرَأُ بِشَاهِدَيْنِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ كَالشَّاهِدَيْنِ ، وَأَنَّهُ يُحْكَمُ لِلْمُدَّعِي بِنُكُولِ صَاحِبِهِ كَمَا يُحْكَمُ لَهُ بِشَاهِدَيْنِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ النُّكُولُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ كَالشَّاهِدَيْنِ صَحَّ ، وَأَنَّ الْحُكْمَ بِالشَّاهِدِ وَالْمَرْأَتَيْنِ فِي مَوْضِعٍ لَا يُوجِبُ الْحُكْمَ بِهِمْ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ ، كَذَلِكَ الْحُكْمُ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ فِي مَوْضِعٍ لَا يُوجِبُ الْحُكْمَ بِهِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ ، وَهَذَا جَوَابٌ مُقْنِعٌ .
فَصْلٌ : وَحَكَى الشَّافِعِيُّ عَنِ الْمُعْتَرِضِ عَلَيْهِ اعْتِرَاضًا ثَانِيًا ، فَقَالَ فِي الرَّدِّ عَلَى الْحُكْمِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ : وَكَيْفَ يَحْلِفُ مَعَ شَاهِدِهِ عَلَى وَصِيَّةٍ أَوْصَى بِهَا مَيِّتٌ أَوْ أَنَّ لِأَبِيهِ حَقًّا عَلَى رَجُلٍ آخَرَ ، وَهُوَ صَغِيرٌ ؟ وَهُوَ إِنْ حَلَفَ حَلَفَ عَلَى مَا لَا يَعْلَمُ ؟ يُرِيدُ الْمُعْتَرِضُ بِهَذَا الْفَصْلِ أَنْ تَكُونَ فِيمَا يَقْطَعُ الْحَالِفُ بِصِحَّتِهِ ، وَأَنْتُمْ تُحَلِّفُونَهُ مَعَ شَاهِدِهِ فِيمَا لَا يَقْطَعُ بِصِحَّتِهِ مِنْ وَصِيَّةِ مَيِّتٍ لَهُ وَفِي دَيْنِ أَبِيهِ إِذَا مَاتَ عَنْهُ ، وَهُوَ صَغِيرٌ ، وَهُوَ لَا يَقْطَعُ بِصِحَّةِ الْوَصِيَّةِ ، وَلَا بِاسْتِحْقَاقِ الدَّيْنِ ؟ فَأَجَابَ الشَّافِعِيُّ عَنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ بِرَدِّهِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَالَ لِلْمُعْتَرِضِ : " وَأَنْتَ تُجِيزُ أَنْ يَشْهَدَ أَنَّ فُلَانَ ابْنُ فُلَانٍ ، وَأَبُوهُ غَائِبٌ لَمْ يَرَ أَبَاهُ قَطُّ " ، يَعْنِي فِي الشَّاهِدِ يَشْهَدُ لَهُ بِالنَّسَبِ أَوْ فِي الْوَلَدِ يَحْلِفُ عَلَى نَسَبِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَرَ أَبَاهُ ، وَلَا سَبِيلَ لَهُمَا إِلَى الْقَطْعِ بِصِحَّةِ النَّسَبِ ، فَلَمْ يَمْتَنِعْ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ ، لِأَنَّ لِلْحَالِفِ طَرِيقًا إِلَى الْعِلْمِ بِهِ مِنْ وَجْهٍ يَقَعُ فِي نَفْسِهِ صِدْقُهُ إِمَّا مِنْ أَخْبَارٍ تَوَاتَرَ الْقَطْعُ بِهَا ، وَإِمَّا أَخْبَارُ آحَادٍ يَقَعُ فِي النَّفْسِ صِدْقُهَا . وَالثَّانِي : أَنْ قَالَ لِلْمُعْتَرِضِ : " وَأَنْتَ تُحَلِّفُ ابْنَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً مَشْرِقِيًّا اشْتَرَى عَبْدًا ابْنَ مِائَةِ سَنَةٍ مَغْرِبِيًّا وُلِدَ قَبْلَ جَدِّهِ ، فَبَاعَهُ ، فَأَبِقَ ، أَنَّكَ تُحَلِّفُهُ ، لَقَدْ بَاعَهُ بَرِيئًا مِنَ الْإِبَاقِ عَلَى الْبَتِّ ، فَأَجَابَهُ الْمُخَالِفُ بِأَنْ قَالَ : " مَا يَجِدُ النَّاسُ بُدًّا مِنْ هَذَا " ، وَهَذَا اعْتِذَارُ مَنْ يَضِيقُ عَلَيْهِ الِانْفِصَالُ ، وَلَيْسَ بِجَوَابٍ .
وَطُرُقُ الْعِلْمِ فِي هَذَا مُمْتَنِعَةٌ ، وَلَا يُمْنَعُ مِنَ الْيَمِينِ فِيهِ عَلَى الْبَتِّ ، فَكَيْفَ يُمْنَعُ مِنْهَا مَعَ الشَّاهِدِ فِيمَا تَكْثُرُ طُرُقُ الْعِلْمِ بِصِحَّتِهِ . فَأَمَّا مَذْهَبُنَا فِي يَمِينِ هَذَا الصَّبِيِّ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَمِينَهُ عَلَى الْبَتِّ وَالْقَطْعِ ، كَقَوْلِ الْعِرَاقِيِّينَ ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَهُ الشَّافِعِيُّ عَلَى وَجْهِ الْمُعَارَضَةِ دُونَ الْإِنْكَارِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يُحْلِفَهُ عَلَى الْعِلْمِ دُونَ الْقَطْعِ ، فَيَحْلِفُ بِاللَّهِ لَقَدْ بَاعَهُ ، وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُ آبِقٌ ، لِأَنَّهُ غَايَةُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ ، فَيَكُونُ ذِكْرُ الشَّافِعِيِّ لَهُ عَلَى وَجْهِ الْمُعَارَضَةِ ، وَإِنْكَارِ إِحْلَافِهِ عَلَى الْبَتِّ .
فَصْلٌ : وَحَكَى الشَّافِعِيُّ عَنْهُ اعْتِرَاضًا ثَالِثًا ، قَدَحَ بِهِ فِي خَبَرِ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ الطعن فيه ورد الإمام الشافعي على ذلك ، أَنَّ الزُّهْرِيَّ أَنْكَرَهَا ، فَجَعَلَ إِنْكَارَ الزُّهْرِيِّ قَدْحًا فِي الْخَبَرِ ، وَمَانِعًا مِنَ الْعَمَلِ بِهِ . وَأَجَابَ الشَّافِعِيُّ عَنْهُ بِجَوَابَيْنِ ، وَأَجَابَ أَصْحَابُهُ عَنْهُ بِجَوَابَيْنِ . أَحَدُ جَوَابَيِ الشَّافِعِيِّ مَا رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ قَضَاءً بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ حِينَ وَلَّى ، وَلَا يَثْبُتُ إِنْكَارُهَا مَعَ الْعَمَلِ بِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ أَنْكَرَ عَلَى مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ مَا رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍّ أَنَّ زَوْجَهَا مَاتَ عَنْهَا قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَقَدْ نَكَحَهَا عَلَى غَيْرِ صَدَاقٍ ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ لَهَا الْمَهْرَ وَالْمِيرَاثَ . وَوَافَقَ عَلِيًّا فِي إِنْكَارِهِ عَلَى مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ مِنْ جُلَّةِ الصَّحَابَةِ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ، فَعَمِلَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَلَمْ يَرُدُّهُ بِإِنْكَارِ عَدَدٍ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ . وَرَدَّ عَلَيْنَا حَدِيثَ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ بِإِنْكَارِ الزُّهْرِيِّ ، وَهُوَ وَاحِدٌ مِنَ التَّابِعِينَ ، وَأَحَدُ جَوَابَيْ أَصْحَابِهِ أَنَّ إِنْكَارَ الزُّهْرِيِّ لِلْقَضَاءِ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ إِنَّمَا كَانَ فِي الدِّمَاءِ دُونَ الْأَمْوَالِ حِينَ بَلَغَهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَضَى بِهِ فِي الشِّجَاجِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ تَقَابَلَ فِي الزُّهْرِيِّ إِنْكَارُهُ وَعَمَلُهُ ، فَسَقَطَا بِالْمُعَارَضَةِ ، وَلَمْ يَكُنْ فِي أَحَدِهِمَا حُجَّةٌ .
فَصْلٌ : ثُمَّ إِنَّ الشَّافِعِيَّ عَارَضَهُمْ فِي هَذَا الْفَصْلِ الرَّابِعِ ، بِمَا تَنَاقَضَتْ فِيهِ مَذَاهِبُهُمْ ، وَخَالَفُوا بِهِ أُصُولَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ حَكَمُوا فِي الِاسْتِهْلَالِ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَهُوَ مِمَّا يَرَاهُ الرِّجَالُ ، وَهَذَا إِنَّمَا أَوْرَدَهُ عَلَيْهِمْ ، لِأَنَّهُمْ مَنَعُوا مِنَ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدِ اسْتَوْفَى الشَّهَادَاتِ فِي كِتَابِهِ ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْيَمِينَ مَعَ الشَّاهِدِ ، فَصَارَ زَائِدًا عَلَى النَّصِّ
الْمُفْضِي إِلَى النَّسْخِ ، فَأَوْرَدَ عَلَيْهِمْ شَهَادَةَ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ فِي الِاسْتِهْلَالِ عِنْدَ التَّنَازُعِ رد الإمام الشافعي على من منع القضاء باليمين مع الشاهد فِيهِ وَلَيْسَتِ الْمَرْأَةُ الْوَاحِدَةُ بِبَيِّنَةٍ ، وَلَا لَهَا فِي النَّصِّ ذِكْرٌ ، وَالشَّاهِدُ وَالْيَمِينُ أَقْوَى مِنْهَا ، فَكَيْفَ رَدَدْتُمُ الْأَقْوَى ، وَأَجَزْتُمُ الْأَضْعَفَ ؟ وَجَعَلْتُمُ الْأَقْوَى زَائِدًا عَلَى النَّصِّ الْمُفْضِي إِلَى النَّسْخِ ؟ وَلَمْ تَجْعَلُوا ذَلِكَ فِي الْأَضْعَفِ ؟ هَلْ هُوَ إِلَّا تَنَاقُضٌ فِي الْقَوْلِ ، وَإِبْطَالٌ لِمَعْنَى النَّصِّ فِي شَهَادَةِ النِّسَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى [ الْبَقَرَةِ : ] . فَاقْتَصَرُوا عَلَى الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ ، وَإِنْ لَمْ تُذَكِّرْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى . وَالثَّانِي : أَنْ قَالَ لِمُعْتَقِدِ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ : كَيْفَ حَكَمْتَ عَلَى أَهْلِ مَحَلَّةٍ ، وَعَلَى عَوَاقِلِهِمْ بِدِيَةِ الْمَوْجُودِ قَتِيلًا فِي مَحَلَّتِهِمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ؟ وَزَعَمْتَ أَنَّ الْقُرْآنَ يُحَرِّمُ أَنْ يَجُوزَ أَقَلُّ مِنْ شَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَزَعَمْتَ أَنَّ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ بَرَاءَةٌ لِمَنْ حَلَفَ ، فَخَالَفْتَ فِي جُمْلَةِ قَوْلِكَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ ؟ وَأَرَادَ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا الرَّدَّ عَلَيْهِمْ فِي أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ أَجَازُوا فِي الْقَسَامَةِ مَا تُمْنَعُ مِنْهُ الْأُصُولُ بِغَيْرِ أَصْلٍ ، وَرَدُّوا مَعَ الشَّاهِدِ ، وَهُوَ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِلْأُصُولِ ، وَلَهُ فِيهِ أَصْلٌ . وَالثَّانِي : أَنَّ السُّنَّةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ مُبَرِّئَةٌ ، وَهُمْ جَعَلُوهَا مُلْزِمَةً ، فَعَلَّقُوا عَلَيْهَا ضِدَّ مُوجِبِهَا ، وَلَيْسَ يَتَعَلَّقُ عَلَى الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ ضِدُّ مُوجِبِهِ ، فَأَجَابُوهُ عَنِ اعْتِرَاضِهِ عَلَيْهِمْ بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ بِأَنْ قَالُوا : رَوَيْنَا هَذَا عَنْ عُمَرَ ، فَاتَّبَعْنَاهُ ، وَكَانَ أَصْلًا فِيهِ ، فَرَدَّ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِمْ هَذَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : قَالَ : إِنَّ عُمَرَ لَا يَسْتَجِيزُ أَنْ يُخَالَفَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ ، وَقَوْلُهُ فِي نَفْسِهِ : " الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي ، وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ " ، وَقَدْ جَعَلُوهُ بِهَذَا مُخَالِفًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَقَوْلِ نَفْسِهِ . وَرَدَدْتُمُ الْيَمِينَ مَعَ الشَّاهِدِ ، وَفِيهِ سُنَّةٌ لَا تُخَالِفُ الْكِتَابَ ، وَلَا السُّنَّةَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ قَالَ : قَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ مَا لَمْ يَعْلَمُوا بِهِ ، وَخَالَفْتُمُوهُ فِي أَرْبَعَةِ أَحْكَامٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ جَلَبَهُمْ إِلَى مَكَّةَ مِنْ مَسِيرَةِ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ يَوْمًا ، وَهُمْ لَا يَرَوْنَ نَقْلَ الْخَصْمِ مِنْ بَلَدِهِ إِلَى غَيْرِ بَلَدِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَحْلَفَهُمْ فِي الْحِجْرِ ، تَغْلِيظًا بِالْمَكَانِ ، وَهُمْ لَا يَرَوْنَ تَغْلِيظَ الْأَيْمَانِ بِالْمَكَانِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ اخْتَارَ مِنْ أَهْلِ الْحِجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا أَحْلَفَهُمْ ، وَهُمْ يَجْعَلُونَ الْخِيَارَ لِوَلِيِّ الدَّمِ دُونَ الْوَالِي .
وَالرَّابِعُ : أَنَّهُ أَلْزَمَهُمُ الدِّيَةَ ، لَمَّا حَلَفُوا ، فَقَالُوا : مَا وَفَّتْ أَمْوَالُنَا أَيْمَانَنَا ، وَلَا أَيْمَانُنَا أَمْوَالَنَا ، فَقَالَ : حَقَنْتُمْ بِأَيْمَانِكُمْ دِمَاءَكُمْ ، فَصَرَّحَ بِأَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَحْلِفُوا أُقِيدُوا ، وَهُمْ لَا يَرَوْنَ الْقَوَدَ ، فَلَا بِكُلِّ قَوْلِ عُمَرَ أَخَذُوا ، وَلَا لِجَمِيعِهِ رَدُّوا ، فَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ حُجَّةً فِيمَا أَخَذُوهُ كَانَ حُجَّةً فِيمَا رَدُّوهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً فِيمَا رَدُّوهُ ، فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ فِيمَا أَخَذُوهُ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنْ قَالَ لَهُمْ : عَمِلْتُمْ بِقَوْلِ عُمَرَ فِي الْقَسَامَةِ بِمَا يُخَالِفُ الْأُصُولَ ، وَلَمْ تَعْمَلُوا بِقَوْلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ وَهُوَ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِلْأُصُولِ ، وَهُوَ حُجَّةٌ تَدْفَعُ قَوْلَ عُمَرَ ، وَلَيْسَ قَوْلُ عُمَرَ حُجَّةً تَدْفَعُ قَوْلَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَمَا خَالَفَ الْأُصُولَ مُمْتَنِعٌ ، وَمَا لَمْ يُخَالِفْهَا فَتَبَعٌ ، فَعَمِلُوا بِخِلَافِ مَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ ، وَرَدُّوا مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ .
فَصْلٌ : وَعَارَضَهُمُ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا الْفَصْلِ الْخَامِسِ ، فَقَالَ : وَقَدْ أَجَزْتُمْ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، وَهُمْ غَيْرُ الَّذِينَ شَرَطَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ تَجُوزَ شَهَادَتُهُمْ ، وَرَدَدْتُمْ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ ؟ يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ : مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ ، [ الْبَقَرَةِ : ] . وَلَيْسَ الْكَفَّارُ بِمَرْضِيِّينَ ، وَلَا يَجْعَلُونَهُ مُخَالِفًا لِلنَّصِّ ، وَيَجْعَلُونَ الْقَضَاءَ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ ، وَلَيْسَ بِمُخَالِفٍ لِلنَّصِّ ، مُخَالِفًا لِلنَّصِّ ، فَأَجَابُوهُ بِمَا حَكَاهُ عَنْهُمْ أَنْ قَالُوا : إِنَّمَا أَجَزْنَا شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ " [ الْمَائِدَةِ : ] . فَأَبْطَلَ جَوَابَهُمْ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ : أَنْ قَالَ : سَمِعْتُ مَنْ أَرْضَى بِقَوْلِهِ : " مِنْ غَيْرِ قَبِيلَتِكُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ " وَلَئِنْ تَرَدَّدَ التَّأْوِيلُ بَيْنَ احْتِمَالَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ دَيْنِكُمْ ، وَمِنْ غَيْرِ أَهْلِ قِبْلَتِكُمْ فَحَمْلُهُ عَلَى غَيْرِ أَهْلِ الْقَبِيلَةِ ، لِمُوافَقَةِ النَّصِّ - أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى غَيْرِ أَهْلِ الدَّيْنِ لِمُخَالَفَةِ النَّصِّ مَعَ قَوْلِهِ : تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ [ الْمَائِدَةِ : ] . وَالثَّانِي : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْعَرَبِ ، وَكُفَّارُهُمْ مُشْرِكُونَ لَا يَقْبَلُ أَبُو حَنِيفَةَ شَهَادَتَهُمْ ، وَإِنَّمَا يَقْبَلُ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْكِتَابِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي وَصِيَّةِ مُسْلِمٍ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يُجِيزُ شَهَادَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ لِمُسْلِمٍ ، وَلَا عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا يُجِيزُهَا لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ ، فَإِنَّهُ مَنَعَ مِنْهَا فِي الْمُسْلِمِ مَعَ مَجِيءِ الْقُرْآنِ بِهَا ، لِأَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ عِنْدَهُ ، وَرَدَّ شَهَادَةَ أَهْلِ الشِّرْكِ عُمُومًا ، وَفِي أَهْلِ الْكِتَابِ لِمُسْلِمٍ ، وَعَلَى مُسْلِمٍ . فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ ، فَقَالَ : " بِمَاذَا نُسِخَتْ ؟ فَقَالَ : بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [ الْبَقَرَةِ : ] ، فَأَجَابَهُ الشَّافِعِيُّ عَنْهُ ، فَقَالَ : زَعَمْتَ بِلِسَانِكَ
أَنَّكَ خَالَفْتَ الْكِتَابَ إِذْ لَمْ يُجِزِ اللَّهُ إِلَّا مُسْلِمًا ، وَأَجَزْتَ كَافِرًا .
فَصْلٌ : وَحَكَى الشَّافِعِيُّ عَنْهُمْ فِي هَذَا الْفَصْلِ السَّادِسِ أَنَّهُ إِذَا نَصَبَ اللَّهُ تَعَالَى حُكْمًا فِي كِتَابِهِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَكَتَ عَنْهُ ، وَقَدْ بَقِيَ مِنْهُ شَيْءٌ رد الإمام الشافعي على من منع القضاء باليمين مع الشاهد ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُحْدِثَ فِيهِ مَا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ . مُرَادُهُمْ بِهَذَا : أَنْ يَمْنَعُوا مِنَ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ الشَّهَادَاتِ ، فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ مَقْصُورَةً عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ الْكِتَابُ ، وَلَيْسَ فِيهِ الشَّاهِدُ وَالْيَمِينُ ، وَهَذَا مِمَّا يُخَالِفُهُمْ فِيهِ الشَّافِعِيُّ حُكْمًا وَوُجُودًا ، فَحَكَى مِنْ وُجُودِهِ مَا وَافَقُوا عَلَيْهِ ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِهِ ، فَقَالَ : " قَدْ نَصَّ اللَّهُ الْوُضُوءَ فِي كِتَابِهِ ، فَأَجَزْتَ فِيهِ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ ، وَنَصَّ مَا حَرَّمَ مِنَ النِّسَاءِ فِي كِتَابِهِ ، وَأَحَلَّ مَا وَرَاءَهُنَّ ، فَقُلْتَ : لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا ، وَلَا عَلَى خَالَتِهَا ، وَنَصَّ الْمَوَارِيثَ ، فَقُلْتَ : " لَا يَرِثُ قَاتِلٌ وَلَا مَمْلُوكٌ ، وَلَا كَافِرٌ ، وَإِنْ كَانُوا وَلَدًا أَوْ وَالِدًا ، وَحَجَبَ الْأُمَّ بِالْإِخْوَةِ فَحَجَبْتَهَا بِأَخَوَيْنِ ، وَنَصَّ لِلْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ أَنْ تُمَسَّ نِصْفَ الْمَهْرِ ، وَرَفْعَ الْعِدَّةِ ، وَقُلْتُ : إِنْ خَلَا بِهَا ، وَلَمْ يَمَسَّهَا فَلَهَا الْمَهْرُ ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ ، فَهَذِهِ أَحْكَامٌ مَنْصُوصَةٌ فِي الْقُرْآنِ ، فَهَذَا عِنْدَكَ خِلَافُ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ ، وَالْيَمِينُ مَعَ الشَّاهِدِ لَا يُخَالِفُ مِنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ شَيْئًا . فَبَيَّنَ الشَّافِعِيُّ وُجُودَهُ ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِهِ ، ثُمَّ أَوْضَحَ طَرِيقَ جَوَازِهِ ، فَقَالَ : " وَالْقُرْآنُ عَرَبِيٌّ ، فَيَكُونُ عَامُّ الظَّاهِرِ يُرَادُ بِهِ الْخَاصَّ ، وَكُلُّ كَلَامٍ احْتَمَلَ فِي الْقُرْآنِ مَعَانِيَ ، فَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَدُلُّ عَلَى أَحَدِ مَعَانِيهِ ، مُوافِقَةً لَهُ لَا مُخَالِفَةً لِلْقُرْآنِ . يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ عَامٍّ وَمُجْمَلٍ ، فَفِي سُنَّةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَخْصِيصُ مَا أُرِيدَ بِالْعُمُومِ ، وَتَفْسِيرُ مَا أُرِيدَ بِالْمُجْمَلِ ، فَلَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يُبَيِّنَ بِسُنَّتِهِ فِي الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ مَا يَكُونُ مُوافِقًا لِلْقُرْآنِ ، وَغَيْرَ مُخَالِفٍ لَهُ ، فَهَذِهِ سِتَّةُ أُصُولٍ أَوْرَدَهَا الشَّافِعِيُّ بَيْنَ ثَلَاثَةِ فُصُولٍ ، مِنْهَا فَسَادُ مَا اعْتَرَضَ بِهِ الْمُخَالِفُ ، وَبَيْنَ ثَلَاثَةٍ مِنْهَا تُنَاقِضُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُخَالِفُ عَلَى أَوْضَحِ شَرْحٍ وَبَيَانٍ ، وَبَاللَّهِ التَّوْفِيقُ .
بَابُ مَوْضِعِ الْيَمِينِ
الْأَيْمَانُ مَوْضُوعَةٌ لِلزَّجْرِ
بَابُ مَوْضِعِ الْيَمِينِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " مَنِ ادَّعَى مَالًا فَأَقَامَ عَلَيْهِ شَاهِدًا ، أَوِ ادُّعِيَ عَلَيْهِ مَالٌ أَوْ جِنَايَةُ خَطَأٍ ، بِأَنْ بَلَغَ ذَلِكَ عِشْرِينَ دِينَارًا ، أَوِ ادَّعَى عَبْدٌ عِتْقًا تَبْلُغُ قِيمَتُهُ عِشْرِينَ دِينَارًا ، أَوِ ادَّعَى جِرَاحَةَ عَمْدٍ صَغُرَتْ أَوْ كَبُرَتْ ، أَوْ فِي طَلَاقٍ ، أَوْ لِعَانٍ ، أَوْ حَدٍّ ، أَوْ رَدِّ يَمِينٍ فِي ذَلِكَ ، فَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ بِمَكَّةَ كَانَتِ الْيَمِينُ بَيْنَ الْمَقَامِ وَالْبَيْتِ ، وَإِنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ ، كَانَتْ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَتْ بِبَلَدٍ غَيْرِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ أُحْلِفَ بَعْدَ الْعَصْرِ فِي مَسْجِدِ ذَلِكَ الْبَلَدِ بِمَا تُؤَكَّدُ بِهِ الْأَيْمَانُ وَيُتْلَى عَلَيْهِ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا الْآيَةَ قَالَ وَهَذَا قَوْلُ حُكَّامِ الْمَكِّيِّينَ وَمُفْتِيهِمْ وَمِنْ حُجَّتِهِمْ فِيهِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ رَأَى قَوْمًا يَحْلِفُونَ بَيْنَ الْمَقَامِ وَالْبَيْتِ فَقَالَ أَعْلَى دَمٍ ؟ قَالُوا : لَا ، قَالَ : فَعَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ ؟ قَالُوا : لَا ، قَالَ : لَقَدْ خَشِيتُ يَتَهَاوَنُ النَّاسُ بِهَذَا الْمَقَامِ ، قَالَ : فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْعَظِيمَ مِنَ الْأَمْوَالِ مَا وَصَفْتُ مِنْ عِشْرِينَ دِينَارًا فَصَاعِدًا ، قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ : كَتَبَ إِلَيَّ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي جَارِيَتَيْنِ ضَرَبَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى : أَنْ أَحْبِسَهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ ثَمَّ أَقْرَأُ عَلَيْهِمَا إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا ، فَفَعَلْتُ ، فَاعْتَرَفَتْ ، قَالَ : وَاسْتَدْلَلْتُ بِقَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ " قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : صَلَاةُ الْعَصْرِ عَلَى تَأَكِيدِ الْيَمِينِ عَلَى الْحَالِفِ فِي الْوَقْتِ الَذِي تَعْظُمُ فِيهِ الْيَمِينُ ، وَبِكِتَابِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَحْلِفُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ ، مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَمَا بَلَغَنِي أَنَّ عُمَرَ حَلَفَ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُصُومَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجُلٍ ، وَأَنَّ عُثْمَانَ رُدَّتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَاتَّقَاهَا ، وَقَالَ : أَخَافُ أَنْ تُوافِقَ قَدَرَ بَلَاءٍ ، فَيُمَالَ بِيَمِينِهِ ، قَالَ : وَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا دَارِ السُّنَّةِ وَالْهِجْرَةِ ، وَحَرَمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَحَرَمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقْتَدَيْنَا . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : الْأَيْمَانُ مَوْضُوعَةٌ لِلزَّجْرِ ، حَتَّى لَا يَتَعَدَّى طَالِبٌ ، وَلَا مَطْلُوبٌ ، فَجَازَ تَغْلِيظُهَا بِمَا سَاغَ فِي الشَّرْعِ مِنَ التَّغْلِيظِ بِالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ ، وَالْعَدَدِ ، وَاللَّفْظِ في الأيمان ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ ، وَأَهْلِ الْحَرَمَيْنِ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ .
وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ تَغْلِيظَهَا بِالْعَدَدِ ، وَاللَّفْظِ ، وَمَنَعَ مِنْ تَغْلِيظِهَا بِالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ ، وَاسْتَبْدَعَهُ مِنَ الْحُكَّامِ احْتِجَاجًا بِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي ، وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ " فَأَطْلَقَ ، كَمَا أَطْلَقَ بِالْبَيِّنَةِ ، فَوَجَبَ أَنْ تُحْمَلَ عَلَى إِطْلَاقِهَا مِنْ غَيْرِ تَغْلِيظٍ بِمَكَانٍ وَزَمَانٍ كَمَا حُمِلَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَى إِطْلَاقِهَا مِنْ غَيْرِ تَغْلِيظٍ بِمَكَانٍ وَزَمَانٍ وَلِأَنَّ حُجَّةَ الْمَطْلُوبِ ، وَالْبَيِّنَةُ حُجَّةُ الطَّالِبِ . فَلَوْ جَازَ التَّغْلِيظُ فِي حُجَّةِ أَحَدِهِمَا لَجَازَ فِي حُجَّتِهِمَا ، لِوُجُوبِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا . وَفِي سُقُوطِهَا مِنْ حُجَّةِ الطَّالِبِ دَلِيلٌ عَلَى سُقُوطِهَا مِنْ حُجَّةِ الْمَطْلُوبِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ تَغْلِيظُهُمَا فِي بَعْضِ الْحُقُوقِ لَجَازَ تَغْلِيظُهُمَا فِي جَمِيعِ الْحُقُوقِ ، لِأَنَّ مَا اسْتُحِقَّ فِي الْكَثِيرِ كَانَ مُسْتَحَقًّا فِي الْقَلِيلِ ، كَالْبَيِّنَةِ وَالْيَمِينِ ، فَلَمَّا لَمْ يُعْتَبَرِ التَّغْلِيظُ فِي الْقَلِيلِ لَمْ يُعْتَبَرْ فِي الْكَثِيرِ . وَدَلِيلُنَا : مَا رَوَاهُ صَفْوَانُ بْنُ سُلَيْمٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُمَامَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنْ حَلَفَ عِنْدَ مِنْبَرِي - وَرُوِيَ : عَلَى مِنْبَرِي - بِيَمِينٍ آثِمَةٍ ، تَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ وَلَوْ عَلَى قَضِيبٍ مِنْ أَرَاكٍ . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ تَغْلِيظَ الْيَمِينِ بِالْمِنْبَرِ مَشْرُوعٌ ، وَالْحَالِفُ عِنْدَهُ مَزْجُورٌ ، وَلِأَنَّ عَمَلَ الصَّحَابَةِ بِهِ شَائِعٌ ، وَإِجْمَاعَهُمْ عَلَيْهِ مُنْعَقِدٌ . رَوَى الْمُهَاجِرُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ ، قَالَ : كَتَبَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقِ : أَنْ أَبْعَثَ إِلَيْهِ بِقَيْسِ بْنِ الْمَكْشُوحِ فِي وِثَاقٍ ، فَبَعَثْتُ بِهِ ، فَأَحْلَفَهُ فِي قَتْلٍ عَلَى الْمِنْبَرِ خَمْسِينَ يَمِينًا . وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ فِي خُصُومَةٍ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي أَرْضٍ ، فَحَلَفَ عَلَى الْمِنْبَرِ ، ثُمَّ وَهَبَ لَهُ الْأَرْضَ بَعْدَ يَمِينِهِ . وَأَحْلَفَ عُمَرُ أَهْلَ الْقَسَامَةِ فِي الْحِجْرِ . وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ ، وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ ، فَاتَّقَاهَا ، وَدَفَعَ الْمَالَ ، وَقَالَ : أَخَافُ أَنْ يُوافِقَ قَدَرَ بَلَاءٍ ، فَيُقَالَ : بِيَمِينِهِ . وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ أَبِي مُطِيعٍ ، وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ اخْتَصَمَا إِلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ ، وَكَانَ وَالِيًا عَلَى الْمَدِينَةِ ، فَتَوَجَّهَتِ الْيَمِينُ عَلَى زَيْدٍ ، فَأَمَرَهُ مَرْوَانُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى الْمِنْبَرِ ، فَجَعَلَ زَيْدٌ يَمْتَنِعُ ، وَيَحْلِفُ بِاللَّهِ أَنَّ حَقَّهُ لَحَقٌّ ، فَقَالَ مَرْوَانُ : لَا وَاللَّهِ إِلَّا عِنْدَ مَقَاطِعِ الْحُقُوقِ ، فَامْتَنَعَ ، وَجَعَلَ مَرْوَانُ يَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ " .
قَالَ مَالِكٌ : أَكْرَهُ حَبْسَ الْيَمِينِ . وَرَوَى ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ : كَتَبَ إِلَيَّ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي جَارِيَتَيْنِ ضَرَبَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى ، فَكَتَبَ إِلَيَّ أَنْ أَحْبِسَهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ ، ثُمَّ أَقْرَأَ عَلَيْهِمَا : إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا [ آلِ عِمْرَانَ : ] . فَفَعَلْتُ ، فَاعْتَرَفَتْ . وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ رَأَى قَوْمًا يَحْلِفُونَ بَيْنَ الْبَيْتِ وَالْمَقَامِ ، فَقَالَ : أَعْلَى دَمٍ ؟ قَالُوا : لَا ، قَالَ : أَفَعَلَى عَظِيمٍ مِنَ الْمَالِ ؟ قَالُوا : لَا . قَالَ : لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَهْزَأَ النَّاسُ بِهَذَا الْمَقَامِ . فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ يَحْلِفُونَ فِيهِ عَلَى الدَّمِ ، وَعَلَى عَظِيمٍ مِنَ الْمَالِ ، فَهَذَا مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ مَنْ ذَكَرْنَا مِنَ الصَّحَابَةِ قَوْلًا وَعَمَلًا ، وَلَيْسَ يُعْرَفُ لَهُمْ فِيهِ مُخَالِفٌ ، فَثَبَتَ أَنَّهُ إِجْمَاعٌ ، فَإِنْ قِيلَ : امْتِنَاعُ زَيْدٍ مِنَ الْيَمِينِ عَلَى الْمِنْبَرِ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِهِ ، وَارْتِفَاعِ الْإِجْمَاعِ ، قِيلَ : لَمْ يَمْتَنِعْ إِلَّا لِلتَّوَقِّي دُونَ الْخِلَافِ ، وَلَوْ لَمْ يَرَهُ جَائِزًا لَأَنْكَرَهُ عَلَى مَرْوَانَ ، فَقَدْ كَانَ يُنْكِرُ عَلَيْهِ كَثِيرًا مِنْ أَفْعَالِهِ ، فَيُطِيعُهُ مَرْوَانُ ، حَتَّى قَالَ لَهُ ذَاتَ يَوْمٍ بِمَشْهَدِ الْمَلَأِ : إِنَّكَ أَحْلَلْتَ الرِّبَا ، فَقَالَ مَرْوَانُ : مَعَاذَ اللَّهِ ، فَقَالَ زَيْدٌ : إِنَّ النَّاسَ يَتَبَايَعُونَ الْأَمْلَاكَ بِالصُّكُوكِ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضُوا ، فَوَجَّهَ مَرْوَانُ مُسْرِعًا ، فَمَنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ طَاعَةً لِزَيْدٍ . وَقَدْ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ : إِنَّهَا بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ فِي أَيْمَانِ مَنْ نَزَلَتْ فِيهِ الْآيَةُ مِنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ ، وَعَدَيِّ بْنِ زَيْدٍ . أَوْ لِأَنَّ الْأَيْمَانَ مَوْضُوعَةٌ لِلزَّجْرِ ، وَالزَّمَانُ وَالْمَكَانُ أَزْجَرُ ، كَانَ بِاسْتِعْمَالِهِ فِي الْأَيْمَانِ أَجْدَرَ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ تَغْلِيظُهَا بِالْعَدَدِ وَاللَّفْظِ ، جَازَ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ خَبَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، فَهُوَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ وُجُوبُ الْيَمِينِ دُونَ صِفَتِهَا ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اعْتِبَارِهِمْ بِالْبَيِّنَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْبَيِّنَةَ لَا تَشْهَدُ بِحَقٍّ لَهَا ، فَارْتَفَعَتِ التُّهْمَةُ عَنْهَا ، فَاسْتَغْنَتْ عَنِ الزَّجْرِ ، وَالْحَالِفُ يُثْبِتُ حَقًّا لِنَفْسِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ زَجْرَ الْبَيِّنَةِ يُفْضِي إِلَى تَوَقُّفِهَا عَنْ مَا لَزِمَهَا مِنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ ، وَذَلِكَ مَعْصِيَةٌ يُخَالِفُ بِهَا حُكْمَ الْحَالِفِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ جَمْعِهِمْ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقَلِيلَ يُكْتَفَى فِي الزَّجْرِ عَنْهُ بِالْيَمِينِ ، وَالْكَثِيرُ لَا يُكْتَفَى فِيهِ بِالْيَمِينِ حَتَّى يَقْتَرِنَ بِهَا مَا يَزْجُرُ عَنِ الْكَثِيرِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الشَّرْعَ لَمَّا فَرَّقَ بَيْنَ قَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ ، وَقَطْعِ السَّرِقَةِ لَمْ يَمْنَعْ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِي التَّغْلِيظِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ التَّغْلِيظِ فِي الْأَيْمَانِ بِالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ فَهُوَ مَشْرُوعٌ ، وَلَيْسَ بِمُسْتَبْدَعٍ ، وَهُوَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مُسْتَبْدَعٌ غَيْرُ مَشْرُوعٍ ، وَعَلَيْهِ وَقَعَ الْخِلَافُ . وَالْكَلَامُ فِي التَّغْلِيظِ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : جِنْسُ مَا تُغَلَّظُ فِيهِ الْأَيْمَانُ مِنَ الْحُقُوقِ . وَالثَّانِي : صِفَةُ التَّغْلِيظِ بِمَكَانِهِ وَزَمَانِهِ . فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ : فِيمَا تُغَلَّظُ فِيهِ الْأَيْمَانُ مِنَ الْحُقُوقِ ، فَفِيهِ لِلْفُقَهَاءِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ طَائِفَةٍ مِنْ حُكَّامِ الْحِجَازِ ، وَابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ : أَنَّهَا تُغَلَّظُ فِي كُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ ، لِأَنَّهُ صِفَةٌ لِلْيَمِينِ ، كَالْبَيِّنَةِ الَّتِي يَسْتَوِي حُكْمُهَا فِي كُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ . وَالثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهَا تُغَلَّظُ فِيمَا يُقْطَعُ فِيهِ الْيَدُ ، وَلَا تُغَلَّظُ فِيمَا لَا يُقْطَعُ فِيهِ ، لِقَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : " لَمْ تَكُنِ الْيَدُ لِتُقْطَعَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ " . تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا تُقْطَعُ فِيهِ لَيْسَ بِتَافِهٍ ، فَكَانَ كَثِيرًا . وَالثَّالِثُ : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، أَنَّ مَا خَرَجَ عَنِ الْأَمْوَالِ ، وَلَمْ يَثْبُتْ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ، وَالنِّكَاحِ ، وَالطَّلَاقِ ، فَالْأَيْمَانُ فِيهِ مُغَلَّظَةٌ ، فِيمَا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ ، وَمَا ثَبَتَ بِالشَّاهِدِ وَالْمَرْأَتَيْنِ مِنَ الْأَمْوَالِ ، فَتُغَلَّظُ الْأَيْمَانُ فِي كَثِيرِهِ دُونَ قَلِيلِهِ ، وَكَثِيرُهُ عِشْرُونَ دِينَارًا : لِحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، حِينَ مَرَّ بِقَوْمٍ يَحْلِفُونَ بَيْنَ الْبَيْتِ وَالْمَقَامِ ، فَقَالَ : أَعْلَى دَمٍ ؟ قَالُوا : لَا . قَالَ : أَفَعَلَى عَظِيمٍ مِنَ الْمَالِ ؟ قَالُوا : لَا . قَالَ : لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَتَهَاوَنَ النَّاسُ بِهَذَا الْمَقَامِ . فَعَقَلَ السَّامِعُونَ لِقَوْلِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، أَنَّهُ أَرَادَ بِالْعَظِيمِ مِنَ الْمَالِ عِشْرِينَ مِثْقَالًا ، فَصَارَ هَذَا الْمِقْدَارُ أَصْلًا فِي تَغْلِيظِ الْأَيْمَانِ . فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا جَعَلْتُمْ هَذَا قَدْرًا فِي التَّغْلِيظِ ، فَهَلَّا جَعَلْتُمُوهُ قَدْرًا فِي الْإِقْرَارِ إِذَا أَقَرَّ بِمَالٍ عَظِيمٍ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُ أَقَلُّ مِنْ عِشْرِينَ دِينَارًا ، وَأَنْتُمْ تَقْبَلُونَ مِنْهُ مَا قَلَّ وَكَثُرَ ؟ قِيلَ : لِأَنَّهُ فِي الْإِقْرَارِ مُتَرَدِّدُ الِاحْتِمَالِ بَيْنَ إِرَادَةِ الْقَدْرِ ، وَإِرَادَةِ الصِّفَةِ ، وَفِي التَّغْلِيظِ لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا إِرَادَةَ الْقَدْرِ ، فَلِذَلِكَ جَعَلْنَاهُ قَدْرًا فِي التَّغْلِيظِ ، لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ . وَإِذَا كَانَ هَكَذَا ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَقْدِيرِهِ بِالْعِشْرِينِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِأَنَّهَا نِصَابٌ فِي الزَّكَاةِ ، لِيَكُونَ الْمِقْدَارُ مُعْتَبَرًا بِأَصْلٍ مَشْرُوعٍ ، فَعَلَى
هَذَا إِنْ وَجَبَتِ الْيَمِينُ فِي الدَّرَاهِمِ غُلِّظَتْ فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَصَاعِدًا . وَإِنْ وَجَبَتْ فِي الْغَنَمِ غُلِّظَتْ فِي أَرْبَعِينَ شَاةً فَصَاعِدًا . وَإِنْ وَجَبَتْ فِي الْبَقَرِ غُلِّظَتْ فِي ثَلَاثِينَ بَقَرَةً فَصَاعِدًا . وَإِنْ وَجَبَتْ فِي الْإِبِلِ غُلِّظَتْ فِي خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ فَصَاعِدًا . وَإِنْ وَجَبَتْ فِي الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ غُلِّظَتْ فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ فَصَاعِدًا . سَوَاءٌ بَلَغَ قِيمَةُ ذَلِكَ عِشْرِينَ دِينَارًا أَوْ لَمْ يَبْلُغْ ، وَإِنْ وَجَبَتْ فِي أَقَلَّ مِنْ هَذِهِ النُّصُبِ الْمُزَكَّاةِ لَمْ يُغَلَّظْ ، سَوَاءٌ بَلَغَ قِيمَةُ ذَلِكَ عِشْرِينَ دِينَارًا أَوْ لَمْ تَبْلُغْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ قُدِّرَ بِالْعِشْرِينِ : لِأَنَّهُ أَصْلٌ عَنْ تَوْقِيفٍ ، أَوِ اجْتِهَادٍ لَا يُعْتَبَرُ بِغَيْرِهِ ، فَعَلَى هَذَا لَا تُغَلَّظُ فِي الدَّرَاهِمِ وَالثِّمَارِ وَالْمَوَاشِي إِلَّا أَنْ تَبْلُغَ قِيمَتُهَا عِشْرِينَ دِينَارًا ، فَتُغَلَّظَ ، وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ نِصَابًا ، وَإِنْ نَقَصَتْ قِيمَتُهَا عَنِ الْعِشْرِينَ ، لَمْ تُغَلَّظْ ، وَإِنْ بَلَغَتْ نِصَابًا . فَأَمَّا الْأَمْوَالُ الَّتِي لَا زَكَاةَ فِي جِنْسِهَا ، فَيَصِيرُ فِي تَغْلِيظِ الْيَمِينِ فِيهَا أَنْ تَبْلُغَ قِيمَتُهَا عِشْرِينَ دِينَارًا مِنْ غَالَبِ دَنَانِيرِ الْبَلَدِ الْخَالِصَةِ مِنَ الْغِشِّ .
فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَتِ الْيَمِينُ فِي جِنَايَةٍ ، لَا يَجِبُ فِيهَا الْقَوَدُ مِنَ الْخَطَأِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ ، وَمَا لَا قَوَدَ فِيهِ مِنَ الْعَمْدِ غُلِّظَتْ إِذَا بَلَغَ أَرْشُهَا عِشْرِينَ دِينَارًا ، وَلَمْ تُغَلَّظْ إِنْ نَقَصَ أَرْشُهَا عَنِ الْعِشْرِينَ وَإِنْ كَانَتْ جِنَايَةَ عَمْدٍ تُوجِبُ الْقَوَدَ غُلِّظَتْ فِي قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا ، وَإِنْ وَجَبَتِ الْيَمِينُ فِي الْعِتْقِ ، فَإِنْ تَوَجَّهَتْ عَلَى السَّيِّدِ لِإِنْكَارِهِ لَمْ تُغَلَّظِ الْيَمِينُ إِلَّا أَنْ تَبْلُغَ قِيمَتُهُ عِشْرِينَ دِينَارًا ، وَإِنْ وَجَبَتْ عَلَى الْعَبْدِ لِرَدِّ الْيَمِينِ عَلَيْهِ غُلِّظَتْ ، وَإِنْ نَقَصَتْ قِيمَتُهُ عَنِ الْعِشْرِينَ ، لِأَنَّهَا فِي حَقِّ السَّيِّدِ عَلَى مَالٍ ، وَفِي حَقِّ الْعَبْدِ عَلَى عِتْقٍ ، وَهَكَذَا الْمُكَاتَبُ فِي عَقْدِ الْكِتَابَةِ إِنْ تَوَجَّهَتِ الْيَمِينُ فِيهِ ، عَلَى السَّيِّدِ لَمْ تُغَلَّظْ إِنْ قَلَّتْ قِيمَتُهُ ، وَإِنْ تَوَجَّهَتْ عَلَى الْمُكَاتَبِ غُلِّظَتْ وَإِنْ قَلَّتْ قِيمَتُهُ لِأَنَّهَا فِي حَقِّ السَّيِّدِ لِلْمَالِ ، وَفِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ لِلْعِتْقِ . وَإِنْ وَجَبَتِ الْيَمِينُ فِي وَقْفٍ عُطِّلَتْ ، وَإِنْ نَقَصَتْ قِيمَتُهُ عَنِ الْعِشْرِينَ إِذَا قِيلَ : إِنَّهُ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ ، وَلَمْ تُغَلَّظْ إِذَا قِيلَ : إِنَّهُ يَثْبُتُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ ، وَإِنْ وَجَبَتْ فِي الْوَصِيَّةِ فَإِنْ تَوَجَّهَتْ عَلَى الْمُوصِي بِالْوِلَايَةِ عَلَيْهَا تَغَلَّظَتْ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ، وَإِنْ تَوَجَّهَتْ عَلَى الْمُوصَى لَهُ تَغَلَّظَتْ فِي الْكَثِيرِ دُونَ الْقَلِيلِ ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ فِي عَبْدٍ قَدْ وَصَّى بِعِتْقِهِ أَوْ فِي وَالِدٍ قَدْ وَصَّى لَهُ بِوَلَدِهِ ، فَتَكُونَ عَلَى التَّغْلِيظِ ، فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي : فِي صِفَةِ التَّغْلِيظِ بِمَكَانِهِ وَزَمَانِهِ اليمين .
أَمَّا الْمَكَانُ ، فَيُعْتَبَرُ بِأَشْرَفِ الْبِقَاعِ مِنَ الْبَلَدِ ، فَإِنْ كَانَ بِمَكَّةَ ، فَبَيْنَ الْبَيْتِ وَالْمَقَامِ ، وَتُصَانُ الْكَعْبَةُ عَنْهُ . وَأَمَّا الْحِجْرُ ، فَقَدْ أَحْلَفَ عُمَرُ أَهْلَ الْقَسَامَةِ فِيهِ ، وَلَوْ صِينَ عَنْهُ كَانَ أَوْلَى : لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْبَيْتِ . وَإِنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ ، فَفِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى مِنْبَرِهِ ، كَمَا أَحْلَفَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ عَلَيْهِ . وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : يَحْلِفُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ ، لَا عَلَيْهِ ، لِأَنَّ عُلُوَّ الْمِنْبَرِ تَشْرِيفٌ يُصَانُ عَنْ مَأْثَمِ الْأَيْمَانِ ، لَكِنْ يَرْقَى عَلَيْهِ الْحَاكِمُ الْمُسْتَحْلِفُ ، لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَاتِ ، وَلَا يَرْقَى عَلَيْهِ الطَّالِبُ إِلَّا أَنْ يَرْقَى عَلَيْهِ الْحَالِفُ ، لِوُجُوبِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ . وَإِنْ كَانَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ ، فَفِي مَسْجِدِهَا عِنْدَ الصَّخْرَةِ ، لِأَنَّهَا أَشْرَفُ بِقَاعِهِ ، وَيُسْتَحْلَفُ قَائِمًا ، لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ عَلَى الْمِنْبَرِ ، لِأَنَّ الْمَنَابِرَ مَقَامَاتُ الْوُقُوفُ فِي الْوُلَاةِ ، فَكَانَ فِي الِاسْتِحْلَافِ أَوْلَى ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَكُونَ الطَّالِبُ الْمُسْتَحْلِفُ جَالِسًا عِنْدَ قِيَامِ الْحَاكِمِ ، لِأَنَّهُ هُوَ الْمَزْجُورُ دُونَ الْمُسْتَحْلَفِ . فَأَمَّا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى إِذَا تَغَلَّظَتْ عَلَيْهِمُ الْأَيْمَانُ ، فَفِي كَنَائِسِهِمْ ، وَبِيَعِهِمْ : لِأَنَّهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَشْرَفَ الْبِقَاعِ عِنْدَنَا ، فَهِيَ أَشْرَفُهَا عِنْدَهُمْ ، وَهُمُ الْمَزْجُورُونَ بِهَا ، فَاعْتَبَرْنَا مَا هُوَ أَشْرَفُ فِي مُعْتَقَدِهِمْ لَا فِي مُعْتَقَدِنَا . وَأَمَّا التَّغْلِيظُ بِالزَّمَانِ في الأيمان ، فَبَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ [ الْمَائِدَةِ : ] . أَنَّهَا صَلَاةُ الْعَصْرِ ، وَلِأَنَّهُ وَقْتٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ ، وَتُجَابُ فِيهِ الدَّعَوَاتُ . فَأَمَّا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ، فَبَعْدَ صَلَاتِهِمُ الَّتِي يَرَوْنَهَا أَعْظَمَ صَلَوَاتِهِمْ . وَأَمَّا التَّغْلِيظُ بِالْعَدَدِ في الأيمان فَفِي الْحُقُوقِ الَّتِي شُرِعَ فِيهَا الْعَدَدُ ، وَهِيَ الدِّمَاءُ : تُغَلَّظُ بِخَمْسِينَ يَمِينًا ، وَفِي اللِّعَانِ بِخَمْسَةِ أَيْمَانٍ . وَأَمَّا التَّغْلِيظُ بِاللَّفْظِ في الأيمان : فَهُوَ أَنْ يُذْكَرَ مَعَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ الْخَارِجَةِ عَنِ الْعُرْفِ الْمَأْلُوفِ فِي لَغْوِ الْيَمِينِ ، مَا يَكُونُ أَزْجَرَ وَأَرْدَعَ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي صِفَةِ الْيَمِينِ . وَأَمَّا التَّغْلِيظُ بِالْوَعْظِ في الأيمان ، فَيَكُونُ قَبْلَ الْيَمِينِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا [ آلِ عِمْرَانَ : ] .
وَبِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ حَلَفَ يَمِينًا فَاجِرَةً ، لِيَقْتَطِعَ مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ يَلْقَاهُ ، وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ " . فَأَمَّا الْإِحْلَافُ بِالْمُصْحَفِ تَغْلِيظًا حكمه ، فَقَدْ كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَفْعَلُهُ ، وَقَدْ حَكَّاهُ الشَّافِعِيُّ عَنِ بَعْضِ قُضَاتِهِمُ اسْتِحْسَانًا ، وَلَيْسَ بِمُسْتَحَبٍّ عِنْدَهُ ، وَإِنْ أَجَازَهُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ كَانَ حَالِفًا ، فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيُصْمِتْ " ، وَهَلْ يُجْزِئُ الْحَلِفُ بِهِ عَنِ الْحَلِفِ بِاللَّهِ ؟ المصحف عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُجْزِئُ ، وَيَسْقُطُ بِهِ وُجُوبَ الْيَمِينِ ، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْحِنْثِ بِهِمَا ، وَوُجُوبِ التَّكْفِيرِ فِيهِمَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يُجْزِئُ ، وَلَا يَسْقُطُ بِهِ وُجُوبُ الْيَمِينِ ، لِأَنَّ مِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ يُعَلِّقُ عَلَيْهِ حِنْثًا ، وَلَا يُوجِبُ بِهِ تَكْفِيرًا .
فَصْلٌ : فَإِنْ تَرَكَ التَّغْلِيظَ في الأيمان بِمَا وَصَفْنَا انْقَسَمَ تَرْكُهُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : لَا تُجْزِئُ الْيَمِينُ بِتَرْكِهِ ، وَهُوَ الْعَدَدُ فِيمَا يُسْتَحَقُّ فِيهِ الْعَدَدُ مِنَ الْقَسَامَةِ وَاللِّعَانِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا تُجْزِئُ الْيَمِينُ بِتَرْكِهِ ، وَهُوَ الْأَلْفَاظُ الْمُضَافَةُ إِلَى اسْمِ اللَّهِ ، تَعَالَى وَمَا سِوَى الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا اخْتُلِفَ فِي إِجْزَاءِ الْيَمِينِ بِتَرْكِهِ ، وَهُوَ التَّغْلِيظُ بِالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ ، وَفِي إِجْزَائِهَا لِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : تُجْزِئُ ، كَذَلِكَ التَّغْلِيظُ بِاللَّفْظِ . وَالثَّانِي : لَا تُجْزِئُ كَتَرْكِ التَّغْلِيظِ بِالْعَدَدِ . وَفَرَّقَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِي بَيْنَ التَّغْلِيظِ بِالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ ، وَجَعَلَ الْيَمِينَ بِتَرْكِ الزَّمَانِ مُجْزِئَةً وَبِتَرْكِ الْمَكَانِ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَجُمْهُورُ أَصْحَابِنَا عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ . وَيَسْتَوِي فِي تَغْلِيظِ الْيَمِينِ أَنْ يُسْتَحْلَفَ بِهَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذَا أَنْكَرَ ، أَوْ يُسْتَحْلَفَ بِهَا الْمُدَّعِي إِذَا رُدَّتْ عَلَيْهِ ، أَوْ إِذَا أَقَامَ شَاهِدًا ، لِيَحْلِفَ مَعَهُ ، فَإِنْ كَانَتْ عَلَى الْحَالِفِ يَمِينٌ مُتَقَدِّمَةٌ أَنْ لَا يَحْلِفَ فِي مَكَانِ التَّغْلِيظِ مِنْ مَكَّةَ أَوِ الْمَدِينَةِ وَأَنْ لَا يَحْلِفَ فِي زَمَانِ
التَّغْلِيظِ بَعْدَ الْعَصْرِ ، فَفِيهِ قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى التَّغْلِيظِ بِالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ : وَهَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي إِجْزَاءِ الْيَمِينِ أَمْ لَا ؟ أَحَدُهُمَا : يُعْفَى مِنَ التَّغْلِيظِ بِالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ ، لِأَنْ لَا يُحْمَلَ عَلَى الْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَجْعَلُ الْيَمِينَ بِتَرْكِ التَّغْلِيظِ مُجْزِئَةً . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يُعْفَى ، وَيُؤْخَذُ بِالتَّغْلِيظِ ، وَإِنْ أَفْضَى إِلَى حِنْثِهِ ، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَجْعَلُ الْيَمِينَ بِتَرْكِ التَّغْلِيظِ غَيْرَ مُجْزِئَةٍ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَالْمُسْلِمُونَ الْبَالِغُونَ رِجَالُهُمْ ، وَنِسَاؤُهُمْ ، وَأَحْرَارُهُمْ ، وَعَبِيدُهُمْ ، وَمَمَالِيكُهُمْ ، يَحْلِفُونَ كَمَا وَصَفْنَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا وَجَبَتِ الْيَمِينُ الْمُغَلَّظَةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنْ كَانَ رَجُلًا حُرًّا تَغَلَّظَتْ عَلَى مَا وَصَفْنَا بِالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ ، وَمَا عَدَاهُمَا ، فَإِنْ كَانَ زَمِنًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ ، إِلَى مَكَانِ التَّغْلِيظِ إِلَّا بِأُجْرَةِ مَرْكُوبٍ ، كَانَ أُجْرَةُ مَرْكُوبِهِ إِلَى مَكَانِ التَّغْلِيظِ مُسْتَحَقَّةً عَلَى الْمُسْتَحْلَفِ لَهُ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَقٍّ عَلَى الْحَالِفِ ، وَإِنَّمَا هُوَ حَقٌّ لِلْمُسْتَحْلِفِ وَكَانَتْ أُجْرَةُ عَوْدِهِ عَلَى الْحَالِفِ ، لِأَنَّهُ يَعُودُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ امْرَأَةً كيف يغلظ عليها اليمين ؟ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ بَرْزَةً ، أَوْ خَفِرَةً ، فَإِنْ كَانَتْ بَرْزَةً غُلِّظَتْ يَمِينُهَا بِالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ كَالرَّجُلِ ، لَكِنْ تُخَالِفُهُ فِي أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا تَحْلِفُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ ، لَا عَلَيْهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا تَحْلِفُ جَالِسَةً ، لَا قَائِمَةً ، سَتْرًا لَهَا ، لِأَنَّهَا عَوْرَةٌ . وَإِنْ كَانَتْ خَفِرَةً لَا تَبْرُزُ ، اسْتَخْلَفَ الْحَاكِمُ مَنْ يُحْلِفُهَا فِي مَنْزِلِهَا ، وَسَقَطَ تَغْلِيظُ يَمِينِهَا بِالْمَكَانِ ، لِحِفْظِ صِيَانَتِهَا بِإِقْرَارِهَا فِي مَنْزِلِهَا ، وَغُلِّظَتْ يَمِينُهَا بِالزَّمَانِ كَغَيْرِهَا ، وَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ عَبْدًا كيف يغلظ عليه اليمين ؟ غُلِّظَتْ يَمِينُهُ بِالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ كَالْحُرِّ ، فَإِنْ كَانَ مُقِيمًا عَلَى حِفْظِ مَالٍ لِسَيِّدِهِ يَخَافُ إِنْ فَارَقَهُ إِلَى مَكَانِ التَّغْلِيظِ أَنْ يُتَخَطَّفَ - نُظِرَ : فَإِنْ كَانَ سَيِّدُهُ حَاضِرًا تَوَلَّى حِفْظَ مَالِهِ ، وَحُمِلَ الْعَبْدُ إِلَى مَكَانِ التَّغْلِيظِ ، وَإِنْ كَانَ سَيِّدُهُ غَائِبًا أُقِرَّ الْعَبْدُ عَلَى حِفْظِهِ ، وَقِيلَ لِلْمُسْتَحْلِفِ : أَنْتَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ تُنْظِرَهُ بِالْيَمِينِ إِلَى وَقْتِ إِمْكَانِهِ مِنْ حُضُورِ الْمَكَانِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ ، وَيَدْخُلُ عَلَى سَيِّدِهِ ، أَوْ تُعَجِّلَ إِحْلَافَهُ فِي مَكَانِهِ .
فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْقَلَ مُسْتَحْلَفٌ مِنْ بَلَدِهِ ، لِتَغْلِيظِ يَمِينِهِ بِمَكَّةَ أَوِ الْمَدِينَةِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ نَقَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَيْسَ بْنَ الْمَكْشُوحِ فِي وِثَاقٍ مِنَ الْيَمَنِ إِلَى الْمَدِينَةِ ، حَتَّى أَحْلَفَهُ بِهَا ، وَنَقَلَ عُمَرُ أَهْلَ الْقَسَامَةِ مِنْ مَسَافَةِ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ يَوْمًا إِلَى مَكَّةَ حَتَّى
أَحْلَفَهُمْ فِي الْحِجْرِ ، قِيلَ : إِنَّمَا فَعَلَا ذَلِكَ فِي حَقِّ السِّيَاسَةِ الْمُعْتَبَرَةِ بِالرَّأْيِ وَالْمَصْلَحَةِ ، وَلَمْ يَنْقُلَا فِي حَقِّ الْمُسْتَحْلِفِ . فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَلَدِ الْحَالِفِ حَاكِمٌ يُغَلِّظُ الْيَمِينَ إِذَا اسْتَحْلَفَ هل ينقل الحالف إلى بلد آخر ؟ جَازَ نَقْلُهُ لِلْيَمِينِ ، وَتَغْلِيظُهَا إِلَى بَلَدٍ يَقْصُرُ عَنْ مَسَافَةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ، وَلَمْ يَجُزْ نَقْلُهُ إِلَى مَا زَادَ ، لِأَنْ لَا يَبْلُغَ سَفَرَ الْقَصْرِ ، وَاسْتَنَابَ حَاكِمُ الْبَلَدِ الْبَعِيدِ مَنْ يَسْتَحْلِفُهُ ، وَيُغَلِّظُ يَمِينَهُ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ إِذَا كَانَ مِنْ بِلَادِ عَمَلِهِ .
مَسْأَلَةٌ يَحْلِفُ الْمُشْرِكُونَ أَهْلُ الذِّمَّةِ وَالْمُسْتَأْمَنُونَ بِمَا يُعَظِّمُ مِنَ الْكُتُبِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيَحْلِفُ الْمُشْرِكُونَ أَهْلُ الذِّمَّةِ وَالْمُسْتَأْمَنُونَ ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمَا يُعَظِّمُ مِنَ الْكُتُبِ ، وَحَيْثُ يُعَظِّمِ مِنَ الْمَوَاضِعِ ، مِمَّا يَعْرِفُهُ الْمُسْلِمُونَ ، وَمَا يُعَظِّمُ الْحَالِفُ مِنْهُمْ ، مِثْلَ قَوْلِهِ وَاللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى ، وَاللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ الْإِنْجِيلَ عَلَى عِيسَى ، وَمَا أَشْبَهَ هَذَا وَلَا يَحْلِفُونَ بِمَا يَجْهَلُ مَعْرِفَتَهُ الْمُسْلِمُونَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ يَحْلِفُ الْكَفَّارُ فِي الْحُقُوقِ بِاللَّهِ تَعَالَى كَمَا يَحْلِفُ الْمُسْلِمُونَ إِذَا جَرَى عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ بِذِمَّةٍ أَوْ بِجِزْيَةٍ : وَهُمْ ضَرْبَانِ : مُقِرٌّ بِاللَّهِ تَعَالَى ، وَجَاحِدٌ لَهُ . فَأَمَّا الْمُقِرُّ بِهِ فَضَرْبَانِ : أَهْلُ الْكِتَابِ ، وَغَيْرُ أَهْلِ كِتَابٍ . فَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ ، فَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ، وَقَدْ أَجْرَى الْمُسْلِمُونَ الْمَجُوسَ مَجْرَاهُمْ ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ " . وَيُسْتَظْهَرُ عَلَيْهِمْ فِي الْيَمِينِ بِاللَّهِ بِمَا يَنْفِي عَنْهُ احْتِمَالَ التَّأْوِيلِ ، وَتُغَلَّظُ الْأَيْمَانَ عَلَيْهِمْ بِالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ أهل الكتاب كَمَا تُغَلَّظُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ يَهُودِيًّا أَحْلَفَهُ الْحَاكِمُ بِاللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى . وَإِنْ رَأَى أَنْ يَزِيدَ عَلَى هَذَا ، فَيَقُولَ : الَّذِي نَجَّى مُوسَى وَقَوْمَهُ مِنَ الْيَمِّ ، وَأَغْرَقَ فِيهِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ ، فَعَلَ . وَهَذَا فِي كُلِّ يَمِينٍ وَجَبَ تَغْلِيظُهَا أَوْ لَمْ يَجِبْ ، لِيَزُولَ الِاحْتِمَالُ عَنِ اسْمِ مَنْ يَحْلِفُ بِهِ ، وَلِيَخْرُجَ عَنِ الْمَأْلُوفِ مِنْ لَغْوِ أَيْمَانِهِمْ كَمَا يَحْلِفُ الْمُسْلِمُ بِاللَّهِ - الطَّالِبُ الْغَالِبُ ، فِيمَا يَجِبُ تَغْلِيظُهُ ، وَفِيمَا لَا يَجِبُ . فَإِنْ كَانَتْ يَمِينُ الْيَهُودِ يَجِبُ تَغْلِيظُهَا بِالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ ، وَمَكَانُ تَغْلِيظِهَا كَنَائِسُ الْيَهُودِ ، لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَهَا أَشْرَفَ بِقَاعِهِمْ ، وَإِنْ لَمْ يَرَهَا الْمُسْلِمُونَ كَذَلِكَ . وَأَمَّا تَغْلِيظُهَا بِالزَّمَانِ ، فَفِي وَقْتِ أَشْرَفِ صَلَوَاتِهِمْ عِنْدَهُمْ ، وَلَا يُحْلِفُهُمْ بِمَا لَا
يَعْرِفُهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَيْمَانِهِمْ كَقَوْلِهِمْ : إِهَيَا أَشَرَاهَيَا وَلَا بِالْعَشْرِ كَلِمَاتٍ الَّتِي يَدْعُونَهَا ، وَلَا يَعْرِفُهَا الْمُسْلِمُونَ ، وَلَا بِاللِّسَانِ الْعِبْرَانِيِّ إِذَا تَكَلَّمُوا بِغَيْرِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّمُوا إِلَّا بِهِ ، وَلَمْ يَعْرِفُوا غَيْرَهُ أَحْلَفَهُمْ بِهِ إِذَا كَانَ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَعْرِفُهُ .
فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ نَصْرَانِيًّا كيفية تحليفه أَحْلَفَهُ بِاللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ الْإِنْجِيلَ عَلَى عِيسَى . وَإِنْ رَأَى أَنْ يَزِيدَ عَلَى هَذَا ، فَيَقُولَ : الَّذِي أَبْرَأَ لَهُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ ، وَأَحْيَا لَهُ الْمَوْتَى بِإِذْنِهِ فَعَلَ ، فَإِنْ تَغَلَّظَتْ يَمِينُهُ بِالْمَكَانِ ، وَالزَّمَانِ كَانَ مَكَانُ تَغْلِيظِهَا بِيَعَ النَّصَارَى ، لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَهَا أَشْرَفَ بِقَاعِهِمْ ، وَكَانَ زَمَانُ تَغْلِيظِهَا فِي وَقْتِ أَشْرَفِ صَلَوَاتِهِمْ عِنْدَهُمْ .
فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ مَجُوسِيًّا كيف يحلف ، أَحْلَفَهُ بِاللَّهِ الَّذِي خَلَقَنِي وَرَزَقَنِي . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا : هَلْ يُحْلِفُهُ بِاللَّهِ الَّذِي خَلَقَ النَّارَ ، وَالنُّورَ . فَقَالَ بَعْضُهُمْ : يُحْلِفُهُ بِذَلِكَ ، لِاخْتِصَاصِهِمْ بِتَعْظِيمِ النَّارِ وَالنُّورِ . وَقَالَ آخَرُونَ : لَا يُحْلِفُهُمْ بِذَلِكَ ، لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ قِدَمَ النَّارِ وَالنُّورِ . فَأَمَّا تَغْلِيظُ يَمِينِهِ بِالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ فَأَجَلُّ الْأَمْكِنَةِ عِنْدَهُمْ بَيْتُ النَّارِ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَغْلِيظِ أَيْمَانِهِمْ فِيهِ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا تُغَلَّظُ فِيهِ ، لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ تَعْظِيمَ النَّارِ دُونَ الْبَيْتِ الَّذِي فِيهِ النَّارُ ، فَخَالَفُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فِي قَصْدِ الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ لِصَلَوَاتِهِمْ ، وَعِبَادَاتِهِمْ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا [ الْحَجِّ : ] . وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا : بَلْ يَحْلِفُونَ فِي بَيْتِ النَّارِ ، لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ أَشْرَفَ الْبِقَاعِ عِنْدَهُمْ ، وَإِنْ شَرَّفُوهُ ، لِتَعْظِيمِ النَّارِ عِنْدَهُمْ . وَأَمَّا الزَّمَانُ فَلَيْسَ لَهُمْ صَلَوَاتٌ مُؤَقَّتَاتٌ يَحْلِفُونَ فِيهَا ، وَإِنَّمَا لَهُمْ زَمْزَمَةٌ يَرَوْنَهَا قُرْبَةً ، فَإِنْ كَانَتْ مُؤَقَّتَةً عِنْدَهُمْ أُحْلِفُوا فِي أَعْظَمِ أَوْقَاتِهَا عِنْدَهُمْ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُؤَقَّتَةً
سَقَطَ تَغْلِيظُ أَيْمَانِهِمْ بِالزَّمَانِ ، إِلَّا أَنَّهُمْ يَرَوْنَ النَّهَارَ أَشْرَفَ مِنَ اللَّيْلِ ، لِأَنَّ النُّورَ عِنْدَهُمْ أَشْرَفُ مِنَ الظُّلْمَةِ ، فَيَحْلِفُونَ فِي النَّهَارِ دُونَ اللَّيْلِ .
فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ وَثَنِيًّا كيف يحلف ؟ لَمْ يَحْلِفْ بِمَا يُعَظِّمُهُ مِنَ الْأَوْثَانِ ، وَالْأَصْنَامِ ، وَحَلَّفَهُ بِاللَّهِ ، وَلَمْ يَقُلْ : الَّذِي خَلَقَ الْأَوْثَانَ وَالْأَصْنَامَ ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ أَجْسَامَهَا كَمَا خَلَقَ أَجْسَامَ غَيْرِهَا ، وَهُمُ اخْتَلَفُوا مَا أَحْدَثُوهُ مِنَ الْمَعَاصِي بِعِبَادَتِهَا ، وَلَكِنْ يُحْلِفُهُ بِاللَّهِ الَّذِي خَلَقَنِي ، وَرَزَقَنِي ، وَأَحْيَانِي . فَأَمَّا تَغْلِيظُهَا بِالْمَكَانِ ، فَسَاقِطٌ فِي حُقُوقِهِمْ ، لِأَنَّهُمْ يُعَظِّمُونَ بُيُوتَ أَصْنَامِهِمْ ، وَهِيَ مُخَالِفَةٌ لِكَنَائِسِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ، لِأَنَّ دُخُولَ الْمُسْلِمِينَ بُيُوتَ أَصْنَامِهِمْ مَعْصِيَةٌ ، وَدُخُولَهُمْ كَنَائِسَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى غَيْرُ مَعْصِيَةٍ ، لِأَنَّ بُيُوتَ الْأَصْنَامِ لَمْ تُوضَعْ فِي الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ إِلَّا لِأَجْلِ مَعْصِيَةٍ ، وَقَدْ كَانَتِ الْكَنَائِسُ وَالْبِيَعُ مَوْضُوعَةً فِي الِابْتِدَاءِ عَلَى طَاعَةٍ نُسِخَتْ ، فَصَارَتْ مَعْصِيَةً ، وَكَذَلِكَ تَغْلِيظُ الزَّمَانِ يَسْقُطُ عَنْهُمْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْأَيَّامِ عِنْدَهُمْ يَوْمٌ يَرَوْنَهُ أَشْرَفَ الْأَيَّامِ ، فَإِنْ بَعُدَ ذَلِكَ الْيَوْمُ ، وَتَأَخَّرَ لَمْ تُؤَخَّرِ الْيَمِينُ إِلَيْهِ ، لِاسْتِحْقَاقِ تَقَدُّمِهَا ، وَإِنْ قَرُبَ وَتَعَجَّلَ احْتَمَلَ أَنْ تُغَلَّظَ أَيْمَانُهُمْ فِيهِ ، كَمَا تُغَلَّظُ بِأَوْقَاتِ الْعِبَادَاتِ ، وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يُغَلَّظَ فِيهِ ، لِأَنَّ عِبَادَاتِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى قَدْ كَانَتْ طَاعَةً ، وَإِنْ صَارَتْ بَعْدَ النَّسْخِ مَعْصِيَةً ، وَيَوْمُ هَؤُلَاءِ لَمْ يَخْتَصَّ بِعِبَادَةٍ تَكُونُ طَاعَةً ، فَسَاوَى غَيْرَهُ مِنَ الْأَيَّامِ .
فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ دَهْرِيًّا كيف يحلف ؟ ، لَا يَعْتَقِدُ خَالِقًا ، وَلَا مَعْبُودًا ، اقْتَصَرَ الْحَاكِمُ عَلَى إِحْلَافِهِ بِاللَّهِ الْخَالِقِ الرَّازِقِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْ إِلَهًا خَالِقًا رَازِقًا . فَإِنْ قِيلَ : فَلَيْسَتْ يَمِينُهُ زَاجِرَةً لَهُ ، فَمَا الْفَائِدَةُ فِيهَا ؟ قِيلَ : أَمْرَانِ : أَحَدُهُمَا : إِجْرَاءُ حُكْمِهَا عَلَيْهِمْ ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ [ الْمَائِدَةِ : ] . وَالثَّانِي : لِيَزْدَادَ بِهَا إِثْمًا رُبَّمَا يُعَجِّلُ بِهِ انْتِقَامًا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ يَحْلِفُ الرَّجُلُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَفِيمَا عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ عَلَى الْبَتِّ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيَحْلِفُ الرَّجُلُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، وَفِيمَا عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ عَلَى الْبَتِّ ، مِثْلَ أَنْ يُدَّعَى عَلَيْهِ بَرَاءَةٌ مِنْ حَقٍّ لَهُ ، فَيَحْلِفُ بِاللَّهِ إِنَّ هَذَا الْحَقَّ - وَيُسَمِّيهِ - لَثَابِتٌ عَلَيْهِ ، مَا اقْتَضَاهُ وَلَا شَيْئًا مِنْهُ ، وَلَا مُقْتَضًى بِأَمْرٍ يَعْلَمُهُ ، وَلَا أَحَالَ بِهِ ، وَلَا بِشَيْءٍ مِنْهُ ، وَلَا أَبْرَأَهُ مِنْهُ ، لَا مِنْ شَيْءٍ مِنْهُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ ، وَإِنَّهُ لَثَابِتٌ عَلَيْهِ إِلَى أَنْ حَلَفَ بِهَذَا الْيَمِينِ ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا لِأَبِيهِ حَلَفَ فِي نَفْسِهِ عَلَى الْبَتِّ ، وَفِي أَبِيهِ عَلَى الْعِلْمِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا أَرَادَ الْحَاكِمُ اسْتِيفَاءَ يَمِينٍ تَوَجَّهَتْ عَلَى خَصْمٍ
فِي إِثْبَاتٍ أَوْ نَفْيٍ اشْتَمَلَ شَرْطُهَا الْمُعْتَبَرُ فِي إِجْزَائِهَا وَانْبِرَامِ الْحُكْمِ بِهَا عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : شَرْطُهَا فِي الْعِلْمِ وَالْبَتِّ . وَالثَّانِي : شَرْطُهَا فِي الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ . فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ ، وَهُوَ شَرْطُهَا فِي الْحَلِفِ بِهَا عَلَى الْعِلْمِ وَالْبَتِّ اليمين ، فَالْيَمِينُ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ عَلَى إِثْبَاتٍ . وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ عَلَى نَفْيٍ . فَإِنْ كَانَتْ عَلَى إِثْبَاتٍ ، فَهِيَ عَلَى الْبَتِّ وَالْقَطْعِ ، سَوَاءٌ أَثَبَتَ بِهَا الْحَالِفُ مَا حَدَثَ عَنْ فِعْلِهِ أَوْ مَا حَدَثَ عَنْ فِعْلِ غَيْرِهِ . وَالْحَادِثُ عَنْ فِعْلِهِ أَنْ يَقُولَ قَطْعًا بَاتًّا : وَاللَّهِ لَقَدْ بِعْتُكَ دَارِي ، أَوِ اشْتَرَيْتُ دَارَكَ ، أَوْ أَجَّرْتُكَ عَبْدِي ، أَوِ اسْتَأْجَرْتُ عَبْدَكَ ، أَوْ أَقْرَضْتُكَ أَلْفًا ، أَوِ اقْتَرَضْتَ مِنِّي أَلْفًا ، سَوَاءٌ أَضَافَ ذَلِكَ إِلَى نَفْسِهِ ، أَوْ إِلَى خَصْمِهِ ، لِأَنَّهُ بِهَا تَمَّ ، فَصَارَ حَادِثًا عَنْ فِعْلِهِ . وَأَمَّا الْحَادِثُ عَنْ فِعْلِ غَيْرِهِ ، فَهُوَ أَنْ يَقُولَ : وَاللَّهِ لَقَدِ اشْتَرَى مِنْكَ أَبِي دَارَكَ ، أَوِ اشْتَرَيْتَ مِنْ أَبِي دَارَهُ ، أَوْ لَقَدِ اسْتَأْجَرَ مِنْكَ أَبِي عَبْدَكَ ، أَوِ اسْتَأْجَرْتَ مِنْ أَبِي عَبْدَهُ ، أَوْ لَقَدْ أَقْرَضَكَ أَبِي أَلْفًا ، أَوْ لَقَدِ اقْتَرَضْتَ مِنْ أَبِي أَلْفًا ، فَتَكُونُ يَمِينُ الْإِثْبَاتِ لِفِعْلِهِ ، وَفِعْلِ غَيْرِهِ عَلَى الْبَتِّ ، وَالْقَطْعِ فِي الْحَالَتَيْنِ مَعًا ، لِأَنَّهُ عَلَى إِحَاطَةِ عِلْمٍ بِفِعْلِهِ ، وَمَا ادَّعَى فِعْلَ غَيْرِهِ إِلَّا بَعْدَ إِحَاطَتِهِ بِفِعْلِهِ .
فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَتِ الْيَمِينُ عَلَى نَفْيٍ لِبَيْعٍ أَوْ إِجَارَةٍ أَوْ قَرْضٍ هل تكون على البت أو العلم ؟ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا : هَلْ تَكُونُ عَلَى الْبَتِّ أَوْ عَلَى الْعِلْمِ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى : أَنَّهَا عَلَى الْبَتِّ كَالْإِثْبَاتِ سَوَاءٌ كَانَتْ عَلَى نَفْيِ فِعْلِ نَفْسِهِ أَوْ فِعْلِ غَيْرِهِ . وَالثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ : أَنَّهَا عَلَى الْعِلْمِ سَوَاءٌ كَانَتْ عَلَى نَفْيِ فِعْلِ نَفْسِهِ أَوْ فِعْلِ غَيْرِهِ . وَالثَّالِثُ : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ : أَنَّهَا إِنْ كَانَتِ الْيَمِينُ عَلَى نَفْيِ فِعْلِ نَفْسِهِ ، فَهِيَ عَلَى الْبَتِّ ، فَيَقُولُ : وَاللَّهِ مَا فَعَلْتُ ، وَلَا بِعْتُ ، وَلَا أَجَّرْتُ ، وَلَا نَكَحْتُ ، وَلَا طَلَّقْتُ . وَإِنْ كَانَتْ عَلَى نَفْيِ فِعْلِ غَيْرِهِ ، فَهِيَ عَلَى الْعِلْمِ دُونَ الْبَتِّ ، فَيَقُولُ : وَاللَّهِ لَا أَعْلَمُ أَنَّ أَبِي بَاعَكَ ، وَلَا أَعْلَمُ أَنَّهُ آجَرَكَ ، وَلَا أَعْلَمُ أَنَّهُ اقْتَرَضَ مِنْكَ ، وَلَا أَعْلَمُ أَنَّهُ وَصَّى لَكَ ، لِأَنَّهُ عَلَى إِحَاطَةِ عِلْمٍ بِمَا نَفَاهُ عَنْ نَفْسِهِ ، فَكَانَتْ يَمِينُهُ فِيهِ قَطْعًا عَلَى الْبَتِّ
وَلَيْسَ عَلَى إِحَاطَةِ عِلْمٍ بِمَا نَفَاهُ عَنْ غَيْرِهِ ، لِتَعَذُّرِ التَّوَاتُرِ فِيهِ ، وَاسْتِعْمَالِ الْمَظْنُونِ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ ، فَكَانَتْ فِيهَا بِحَسَبِ مَا أَدَّاهُ إِلَى الْعِلْمِ بِهِمَا ، وَهُوَ يَعْلَمُ نَفْيَ فِعْلِهِ قَطْعًا ، وَنَفْيَ فِعْلِ غَيْرِهِ ظَنًّا ، فَحَلَفَ فِيمَا قَطَعَ بِهِ عَلَى الْبَتِّ ، وَفِيمَا اسْتَعْمَلَ فِيهِ غَلَبَةَ الظَّنِّ عَلَى الْعِلْمِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ وَجَبَ إِحْلَافُهُ عَلَى الْبَتِّ ، فَأَحْلَفَهُ الْحَاكِمُ عَلَى الْعِلْمِ كَانَتْ يَمِينُهُ غَيْرَ مُجْزِئَةٍ ، وَهُوَ فِي الْحُكْمِ بِهَا بِمَثَابَةِ مَنْ لَمْ يَحْلِفْ ، وَيَجُوزُ لِلْخَصْمِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الدَّعْوَى عَلَيْهِ عِنْدَ ذَلِكَ الْحَاكِمِ ، أَوْ عِنْدَ غَيْرِهِ . وَلَوْ وَجَبَ إِحْلَافُهُ عَلَى الْعِلْمِ ، فَأَحْلَفَهُ الْحَاكِمُ عَلَى الْبَتِّ هل تجزئ تلك اليمين ؟ أَجْزَأَتْ يَمِينُهُ ، وَثَبَتَ بِهَا الْحُكْمُ فِيمَا حَلَفَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ يَمِينَ الْبَتِّ أَغْلَظُ ، وَيَمِينَ الْعِلْمِ أَخَفُّ ، فَجَازَ أَنْ يَسْقُطَ الْأَخَفُّ بِالْأَعْلَى ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْقَطَ الْأَغْلَظُ بِالْأَخَفِّ ، وَلَئِنْ حَلَفَ عَلَى الْبَتِّ فِي مَوْضِعِ الْعِلْمِ ، فَإِنَّهَا تَئُولُ بِهِ إِلَى الْعِلْمِ لِامْتِنَاعِ الْقَطْعِ مِنْهُ .
فَصْلٌ : وَهُوَ مَا تَضَمَّنَهُ الْيَمِينُ مِنْ شُرُوطِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : يَمِينٌ عَلَى النَّفْيِ تَخْتَصُّ بِالْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، يَمِينٌ عَلَى الْإِثْبَاتِ تَخْتَصُّ بِالْمُدَّعِي . فَأَمَّا يَمِينُ النَّفْيِ ، فَتَجِبُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى حُكْمِ الدَّعْوَى ، وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُدَّعَى عَلَيْهِ دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يُدَّعَى عَلَيْهِ عَيْنٌ فِي يَدِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يُدَّعَى عَلَيْهِ دَيْنٌ فِي ذِمَّةِ أَبِيهِ . وَالرَّابِعُ : أَنْ يُدَّعَى عَلَيْهِ عَيْنٌ فِي يَدِ أَبِيهِ . فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ أَنْ يُدَّعَى عَلَيْهِ دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى مُطْلَقَةً لَمْ يَقْتَرِنْ بِهَا ذِكْرُ السَّبَبِ كَقَوْلِهِ : لِي عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ ، وَلَا يَذْكُرُ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِهَا ، فَهِيَ دَعْوَى صَحِيحَةٌ . وَلَا يَلْزَمُ سُؤَالُهُ عَنْ سَبَبِهَا ، فَإِنْ سَأَلَهُ الْحَاكِمُ كَانَ مُخْطِئًا ، وَلَمْ تَلْزَمْهُ إِبَانَةُ السَّبَبِ ، لِأَنَّ تَنَوُّعَ الْأَسْبَابِ لَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْحُقُوقِ ، فَتَكُونُ يَمِينُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذَا أَنْكَرَهَا عَلَى الْبَتِّ ، فَيَقُولُ : وَاللَّهِ مَا لَهُ عَلَيَّ هَذِهِ الْأَلْفُ ، وَلَا شَيْءٌ مِنْهَا بِوَجْهٍ ، وَلَا سَبَبٍ . وَقَوْلُهُ : وَلَا شَيْءٌ مِنْهَا ، شَرْطٌ مُسْتَحَقٌّ فِي يَمِينِهِ ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ عَلَيْهِ بَعْضُهَا ، فَهُوَ إِذَا حَلَفَ أَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَيْهِ بَرَّ فِي يَمِينِهِ ، وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِ بَاقِيهَا ، وَقَوْلُهُ : " بِوَجْهٍ وَلَا سَبَبٍ " تَأْكِيدًا فَإِنْ أَغْفَلَهُ جَازَ . وَلَوْ قَالَ : وَاللَّهِ إِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيَّ شَيْئًا كَانَ مُجْزِئًا ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهِ فِي
يَمِينِهِ ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ يَمِينُهُ بِحَسَبِ جَوَابِهِ فِي إِنْكَارِهِ . فَإِنْ قَالَ فِي الْإِنْكَارِ : لَيْسَ لَهُ عَلَيَّ مَا ادَّعَاهُ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفِ ، وَلَا شَيْءٌ مِنْهَا كَانَ جَوَابًا مُقَابِلًا لِلدَّعْوَى ، وَحَلَفَ عَلَى مِثْلِ جَوَابِهِ : وَاللَّهِ مَا لَهُ عَلَيَّ هَذَا الْأَلْفُ ، وَلَا شَيْءٌ مِنْهُ . وَإِنْ قَالَ : لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيَّ شَيْئًا كَانَ جَوَابًا كَافِيًا ، وَحَلَفَ عَلَى مِثْلِ جَوَابِهِ : وَاللَّهِ مَا يَسْتَحِقُّ عَلَيَّ شَيْئًا ، فَإِنْ قَالَ : وَاللَّهِ مَا لَهُ عَلَيَّ شَيْءٌ كَانَتْ مَعْلُولَةً غَيْرَ مُقْنِعَةٍ ، لِاحْتِمَالِ مَا لَهُ عَلَى جَسَدِي شَيْءٌ ، فَإِذَا قَالَ : لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيَّ شَيْئًا انْتَفَى هَذَا الِاحْتِمَالُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى مُقْتَرِنَةً بِذِكْرِ السَّبَبِ ، فَيَقُولَ : لِي عَلَيْهِ أَلْفُ قَرْضٍ ، أَوْ غَصْبٌ ، أَوْ ثَمَنُ مَبِيعٍ ، أَوْ قِيمَةُ مُتْلَفٍ ، أَوْ أَرْشُ جِنَايَةٍ ، فَيَكُونَ فِي الْجَوَابِ عَلَى إِنْكَارِهِ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يَعُمَّ بِإِنْكَارِهِ ، فَيَقُولَ : لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيَّ شَيْئًا ، فَيَكُونَ جَوَابُهُ أَوْفَى ، وَتَكُونَ يَمِينُهُ عَلَى الْبَتِّ بِحَسَبِ جَوَابِهِ : وَاللَّهِ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيَّ شَيْئًا . فَإِنْ أَرَادَ الْحَاكِمُ أَنْ يُحْلِفَهُ : مَا اقْتَرَضَ مِنْهُ أَلْفًا وَلَا غَصَبَهُ أَلْفًا - لَمْ يَجُزْ ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اقْتَرَضَهَا ثُمَّ قَضَاهَا ، فَيَحْنَثَ فِي يَمِينِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ ، فَهَذَا أَحَدُ خِيَارَيْهِ فِي الْإِنْكَارِ . وَالْخِيَارُ الثَّانِي : أَنْ يَقْتَصِرَ فِي إِنْكَارِهِ عَلَى ذِكْرِ السَّبَبِ ، فَيَقُولَ : مَا اقْتَرَضْتُ مِنْهُ وَلَا غَصَبْتُ مِنْهُ شَيْئًا ، فَيَقْنَعُ مِنْهُ بِهَذَا الْجَوَابِ ، وَلَوْ قَالَ : مَا اقْتَرَضْتُ مِنْهُ أَلْفًا ، وَلَا غَصَبْتُهُ أَلْفًا لَمْ يُقْنِعْ حَتَّى يَقُولَ : وَلَا شَيْئًا مِنْهَا ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَضَ أَوْ غَصَبَ بَعْضَهَا . فَإِذَا اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ السَّبَبِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِفَةِ إِحْلَافِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْحَاكِمَ يُحْلِفُهُ قَطْعًا عَلَى الْعُمُومِ ، فَيَقُولُ : وَاللَّهِ إِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيَّ شَيْئًا احْتِرَازًا مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ غَصَبَ أَوِ اقْتَرَضَ ثُمَّ قَضَى . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُحْلِفُهُ قَطْعًا بِاللَّهِ إِنَّهُ مَا اقْتَرَضَهَا ، وَلَا غَصَبَهَا ، وَلَا شَيْئًا مِنْهَا ، لِأَنَّ احْتِمَالَ الْقَضَاءِ قَدِ ارْتَفَعَ عَنْهَا بِقَوْلِهِ : مَا اقْتَرَضْتُ وَلَا غَصَبْتُ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي ، وَهُوَ أَنْ يُدَّعَى عَلَيْهِ يَمِينٌ فِي يَدَيْهِ كَدَارٍ أَوْ عَبْدٍ أَوْ ثَوْبٍ كيفية إقامة الدعوى ؟ ، فَلَا يَسْتَقِلُّ بِهَذِهِ الدَّعْوَى إِلَّا أَنْ يَصِلَهَا بِمَا يُوجِبُ انْتِزَاعَهَا مِنْ يَدِهِ ، فَيَقُولَ : وَقَدْ غَصَبَنِي عَلَيْهَا ، أَوْ مَنَعَنِي مِنْهَا بِغَيْرِ حَقٍّ ، لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ لَهُ ، وَلَا يَسْتَحِقُّ انْتِزَاعَهَا مِنْ يَدِهِ ، لِأَنَّهَا مُسْتَأْجَرَةٌ أَوْ مَرْهُونَةٌ ، فَإِذَا كَمُلَتِ الدَّعْوَى بِقَوْلِ الْمُدَّعِي هَذِهِ الدَّارُ لِي ، وَقَدْ غَصَبَنِي عَلَيْهَا ، فَلِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي إِنْكَارِهِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَقُولَ : لَا حَقَّ لَهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ ، فَهَذَا جَوَابٌ مُقْنِعٌ ، وَلَا يَتَضَمَّنُ أَنَّهَا مِلْكُ الْمُنْكِرِ ، وَلَا أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا بِتَحْلِفَةِ الْحَاكِمِ عَلَى الْبَتِّ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِيهَا ، وَلَا
يَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ : وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْهَا ، لِأَنَّ قَوْلَهُ : " لَا حَقَّ لَهُ فِيهَا - مُسْتَوْعِبٌ لِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَقُولَ : لَا يَسْتَحِقُّ هَذِهِ الدَّارَ ، فَيَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ : وَلَا شَيْئًا مِنْهَا ، لِأَنَّ قَوْلَهُ : " وَلَا يَسْتَحِقُّهَا " لَا يَمْنَعُ أَنْ يَسْتَحِقَّ بَعْضَهَا ، فَيُحْلِفُهُ الْحَاكِمُ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ هَذِهِ الدَّارَ ، وَلَا شَيْئًا مِنْهَا . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَقُولَ : هَذِهِ الدَّارُ لِي دُونَهُ ، فَيَكُونَ هَذَا جَوَابًا كَافِيًا ، فَإِنْ قَالَ : هَذِهِ الدَّارُ لِي وَلَمْ يَقُلْ دُونَهُ - أَقْنَعَ ؛ لِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ لَهُ فَلَا شَيْءَ فِيهَا لِغَيْرِهِ ، فَيُحْلِفُهُ الْحَاكِمُ عَلَى الْبَتِّ عَلَى نَفْيِ مِلْكِ الْمُدَّعِي ، وَلَا يُحْلِفُهُ عَلَى إِثْبَاتِ مِلْكِهِ ، لِأَنَّهَا يَمِينٌ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَتْ بِيَمِينٍ لَهُ ، فَيَقُولُ : وَاللَّهِ إِنَّهُ لَا يَمْلِكُ هَذِهِ الدَّارَ ، وَلَا شَيْئًا مِنْهَا ، أَوْ لَا مِلْكَ لَهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ أَوْ لَا حَقَّ لَهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ . فَإِنْ زَادَ فِي يَمِينِهِ : وَإِنَّهَا لِي دُونَهُ - جَازَ ، وَكَانَتْ مِلْكًا لَهُ فِي الظَّاهِرِ بِيَدِهِ لَا بِيَمِينِهِ . وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَقُولَ : مَا غَصَبْتُ هَذِهِ الدَّارَ ، فَلَا يُقْنَعُ هَذَا الْجَوَابُ ، لِأَنَّهُ ادَّعَى عَلَيْهِ مِلْكَ الدَّارِ وَغَصْبِهَا ، فَأَنْكَرَ الْغَصْبَ ، وَلَمْ يَنْكَرِ الْمِلْكَ ، فَلَا يَمْنَعُ إِذَا لَمْ يَغْصِبْهَا مِنْهُ أَنْ تَكُونَ مِلْكًا لَهُ . فَإِذَا قَالَتْ : مَا غَصَبْتُهُ إِيَّاهَا ، وَهِيَ لِي دُونَهُ ، كَانَ جَوَابَ الْإِنْكَارِ ، وَكَانَ فِي إِحْلَافِ الْحَاكِمِ لَهُ وَجْهَانِ عَلَى مَا مَضَى : أَحَدُهُمَا : يُحْلِفُهُ عَلَى مَا أَجَابَ بِهِ : وَاللَّهِ مَا غَصَبْتُهُ هَذِهِ الدَّارَ ، وَأَنَّهَا لِي دُونَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُحْلِفُهُ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ ، وَلَا بِسَبَبِهَا ، لِأَنَّ الْغَصْبَ مُوجِبٌ لِلْأُجْرَةِ ، فَصَارَ بِادِّعَاءِ غَصْبِهَا وَمِلْكِهَا مُدَّعِيًا لَهَا وَلِأُجْرَتِهَا ، فَاحْتَاجَتْ يَمِينُهُ أَنْ تَتَضَمَّنَ نَفْيَ الْأَمْرَيْنِ : الْمِلْكِ وَالْأُجْرَةِ . فَلِذَلِكَ قَالَ فِي يَمِينِهِ : لَا حَقَّ لَهُ فِيهَا ، وَلَا بِسَبَبِهَا ، لِأَنَّهُ لَا يُمْتَنَعُ أَنْ يَزُولَ مِلْكُهُ عَنْهَا بَعْدَ اسْتِحْقَاقِ أُجْرَتِهَا بِالْغَصْبِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَيْهِ دَارًا فِي يَدِ أَبِيهِ كيفية إقامة الدعوى ؟ ، فَسَمَاعُ هَذِهِ الدَّعْوَى مُعْتَبَرٌ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : إِنْ ثَبَتَ مَوْتُ أَبِيهِ ، فَإِنْ كَانَ حَيًّا ، وَأَنْكَرَ الِابْنُ مَوْتَهُ لَمْ تُسْمَعْ مِنْهُ الدَّعْوَى عَلَيْهِ . وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ الدَّارُ فِي تَرِكَتِهِ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي تَرِكَتِهِ لَمْ تُسْمَعِ الدَّعْوَى عَلَيْهِ ،
وَسُمِعَتْ عَلَى مَنْ هِيَ فِي يَدَيْهِ إِلَّا أَنْ يَدَّعِيَ الْأُجْرَةَ ، فَتُسْمَعُ دَعْوَى الْغَصْبِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْأُجْرَةِ دُونَ الْعَيْنِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ هَذَا الِابْنُ وَارِثًا ، وَلَا يَكُونُ قَاتِلًا ، وَلَا كَافِرًا ، فَإِنْ لَمْ يَرِثْهُ سُمِعَتِ الدَّعْوَى عَلَى مَنْ يَرِثُهُ . فَإِذَا تَكَامَلَتْ شُرُوطُ سَمَاعِهَا كَانَ جَوَابُ إِنْكَارِهِ وَشُرُوطُ يَمِينِهِ مُتَرَدِّدَةً بَيْنَ الْأَحْوَالِ الْأَرْبَعَةِ فِي ادِّعَائِهَا فِي يَدِهِ إِلَّا فِي شَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يُقْتَنَعُ مِنْهُ فِي جَوَازِ إِنْكَارِهِ أَنْ يَقُولَ : لَا أَعْلَمُ أَنَّكَ تَسْتَحِقُّهَا ، وَلَا شَيْئًا مِنْهَا ، وَلَوْ كَانَتِ الدَّعْوَى عَلَيْهِ ، لَمْ يُقْتَنَعْ مِنْهُ إِلَّا بِالْقَطْعِ أَنْ يَقُولَ : لَا تَسْتَحِقُّهَا وَلَا شَيْئًا مِنْهَا . وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ يَمِينُهُ عَلَى الْعِلْمِ دُونَ الْبَتِّ ، فَيَقُولَ : وَاللَّهِ إِنِّي لَا أَعْلَمُ أَنَّكَ تَسْتَحِقُّهَا ، وَلَا شَيْئًا مِنْهَا ، لِأَنَّ مَا نَفَاهُ مِنْ فِعْلِ غَيْرِهِ مَحْمُولٌ عَلَى الْعِلْمِ دُونَ الْبَتِّ ، لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى الْقَطْعِ بِمَا ادَّعَى عَلَيْهِ مِنْ فِعْلِ غَيْرِهِ فَحُمِلَ إِنْكَارُهُ وَيَمِينُهُ عَلَى الْعِلْمِ دُونَ الْبَتِّ .
فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الضَّرْبُ الرَّابِعُ : وَهُوَ أَنْ يُدَّعَى عَلَيْهِ دَيْنٌ فِي ذِمَّةِ أَبِيهِ كيفية إقامة الدعوى ؟ ، فَسَمَاعُ هَذِهِ الدَّعْوَى مُعْتَبَرٌ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الشَّرَائِطِ الثَّلَاثَةِ : أَنْ يَكُونَ أَبُوهُ مَيِّتًا وَأَنْ يَكُونَ هُوَ وَارِثًا ، وَأَنْ يُخَلِّفَ أَبُوهُ تَرِكَةً . فَإِنْ مَاتَ مُعْدِمًا لَمْ تُسْمَعِ الدَّعْوَى ؟ لِأَنَّهَا عَلَى الْأَبِ دُونَهُ ، فَإِذَا تَكَامَلَتْ وَأَنْكَرَهَا كَانَ إِنْكَارُهُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ ، فَيَقُولُ : لَا أَعْلَمُ أَنَّ لَكَ عَلَى أَبِي هَذِهِ الْأَلْفَ ، وَلَا شَيْئًا مِنْهَا ، فَإِنْ قَالَ : لَا أَعْلَمُ أَنَّ لَكَ عَلَى أَبِي حَقًّا - أَجْزَأَ ، وَلَوْ أَنْكَرَ قَطْعًا ، فَقَالَ : لَيْسَ لَكَ عَلَى أَبِي حَقٌّ كَانَ أَبْلَغَ فِي لَفْظِ الْإِنْكَارِ ، وَإِنْ كَانَ مَحْمُولًا فِي الْمَعْنَى عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ ثُمَّ يَكُونُ يَمِينُهُ بَعْدَ إِنْكَارِهِ عَلَى الْعِلْمِ دُونَ الْبَتِّ بِحَسَبَ إِنْكَارِهِ ، فَيَقُولُ : وَاللَّهِ إِنِّي لَا أَعْلَمُ أَنَّ لَكَ عَلَى أَبِي هَذِهِ الْأَلْفَ ، وَلَا شَيْئًا مِنْهَا ، وَوَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ أَنَّ لَكَ عَلَى أَبِي حَقًّا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ وَارِثٌ سِوَاهُ سَقَطَتِ الدَّعْوَى بِيَمِينِهِ ، وَزَالَتِ الْمُطَالَبَةُ بِهَا ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ وَارِثٌ سِوَاهُ أُحْلِفَ بِمِثْلِ يَمِينِهِ إِذَا أَنْكَرَ كَإِنْكَارِهِ ، وَسَوَاءٌ قَلَّ سَهْمُهُ أَوْ كَثُرَ . فَإِنْ أَنْكَرَ أَحَدُ الْوَارِثِينَ ، وَاعْتَرَفَ الْآخَرُ أُلْزِمَ الْمُنْكِرُ حُكْمَ إِنْكَارِهِ ، وَأُلْزِمَ الْمُعْتَرِفُ حُكْمَ اعْتِرَافِهِ ، وَهَلْ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ جَمِيعِ الدَّيْنِ أَوْ قَدْرُ حَقِّهِ مِنْهُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَضَيَا فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ . فَإِنْ شَهِدَ بِالدَّيْنِ عَلَى الْمُنْكَرِ ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ إِنْ أُلْزِمَ جَمِيعَ الدَّيْنِ ، وَقُبِلَتْ إِنْ أُلْزِمَ قَدْرَ حَقِّهِ مِنْهُ .
فَهَذَا حُكْمٌ عَلَى النَّفْيِ ، وَإِنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ فِي الْإِنْكَارِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْيَمِينُ عَلَى الْإِثْبَاتِ ، فَمُسْتَحَقُّهُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ : أَحَدُهَا : فِي الدِّمَاءِ مَعَ اللَّوْثِ ، وَقَدْ مَضَتْ فِي الْقَسَامَةِ . وَالثَّانِي : يَمِينُ الرَّدِّ عَلَى الْمُدَّعِي بَعْدَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ . وَالثَّالِثُ : الْيَمِينُ مَعَ الشَّاهِدِ الْقَائِمَةُ مَقَامَ شَاهِدٍ . فَأَمَّا يَمِينُ الرَّدِّ ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : فِي يَمِينٍ ، وَدَيْنٍ . فَأَمَّا الْيَمِينُ فِي الْعَيْنِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَدَّعِيهَا لِنَفْسِهَا . وَالثَّانِي : لِأَبِيهِ . فَإِنِ ادَّعَاهَا لِنَفْسِهِ كَادِّعَائِهِ مِلْكَ دَارٍ أَوْ عَبْدٍ فِي يَدِ مُنْكِرٍ نَاكِلٍ ، فَيَحْلِفُ بِاللَّهِ : إِنَّ هَذِهِ الدَّارَ لِي فِي مِلْكِي ، لَا حَقَّ فِيهَا لِصَاحِبِ الْيَدِ ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ احْتِيَاطٌ وَتَأْكِيدٌ . وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى أَنْ حَلَفَ أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ لِي أَجْزَأَتْ . وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ وَاقْتَصَرَ عَلَى : إِنَّهَا مِلْكِي - أَجْزَأَ ، وَهُوَ أَوْكَدُ مِنْ قَوْلِهِ : إِنَّهَا لِي . وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى أَنَّهُ لَا حَقَّ فِيهَا لِصَاحِبِ الْيَدِ لَمْ تُجْزِهِ ، وَلَمْ يَصِرْ بِيَمِينِهِ مَالِكًا لَهَا ، لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ فِي يَدِهِ مِلْكًا لِغَيْرِهِ .
فَصْلٌ : وَلَوِ ادَّعَاهَا لِأَبِيهِ سُمِعَتْ دَعْوَاهُ بِشَرْطَيْنِ كيفية إقامة الدعوى ؟ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ أَبُوهُ مَيِّتًا ، فَإِنْ كَانَ حَيًّا لَمْ تُسْمَعْ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ وَارِثًا ، فَإِنْ لَمْ يَرِثْهُ ، لِكَوْنِهِ قَاتِلًا أَوْ كَافِرًا لَمْ تُسْمَعْ . فَإِذَا اسْتَكْمَلَتِ الشَّرْطَيْنِ جَازَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى الْبَتِّ بِاللَّهِ إِنَّ هَذِهِ الدَّارَ لِأَبِيهِ ، وَعَلَى مِلْكِهِ ، إِلَى أَنْ مَاتَ عَنْهَا لَا حَقَّ فِيهَا لِصَاحِبِ الْيَدِ ، وَلَوْ لَمْ يَقِلْ : إِلَى أَنْ مَاتَ عَنْهَا ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَحْوَطَ ، لِأَنَّهُ إِذَا أَثْبَتَ مِلْكَ أَبِيهِ بَعْدَ مَوْتِهِ ، فَقَدْ أَثْبَتَ مِلْكَهُ إِلَى حِينِ مَوْتِهِ . فَإِذَا حَلَفَ جَرَى عَلَيْهَا مِلْكُ أَبِيهِ ، وَانْتَقَلَتْ إِلَيْهِ مِيرَاثًا ، وَقَضَى مِنْهَا دُيُونَهُ ، وَنَفَّذَ مِنْهَا وَصَايَاهُ . فَإِنْ قِيلَ : أَفَلَسْتُمْ تَقُولُونَ : إِنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ مَالًا بِيَمِينِ غَيْرِهِ ؟ فَلِمَ قُلْتُمْ : الْأَبُ مَالِكٌ بِيَمِينِ ابْنِهِ ؟ قِيلَ : لِأَنَّ الِابْنَ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَبِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمِلْكِ ، فَقَامَ مَقَامَهُ فِي إِثْبَاتِهِ بِالْيَمِينِ ، كَمَا يَحْلِفُ الْوَكِيلُ عَلَى مَا ابْتَاعَهُ لِمُوكِّلِهِ ، وَيَحْلِفُ الْعَبْدُ عَلَى مَا ابْتَاعَهُ ، وَإِنْ
كَانَ الْمِلْكُ لِغَيْرِهِ . فَإِنْ نَكَلَ هَذَا الِابْنُ عَنْ يَمِينِ الرَّدِّ ، وَأَجَابَ إِلَيْهَا أَرْبَابُ الدُّيُونِ وَالْوَصَايَا - نُظِرَ : فَإِنِ اتَّسَعَتِ التَّرِكَةُ لِقَضَاءِ دُيُونِهِمْ وَوَصَايَاهُمْ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْلِفُوا . وَإِنْ ضَاقَتِ التَّرِكَةُ عَنْ دُيُونِهِمْ وَوَصَايَاهُمْ ، فَفِي جَوَازِ إِحْلَافِهِمْ عَلَيْهَا قَوْلَانِ مَضَيَا . فَإِذَا أُحْلِفُوا ثَبَتَ مِنْ مِلْكِ الْمَيِّتِ بِقَدْرِ الدُّيُونِ وَالْوَصَايَا ، وَبَقِيَ مَا زَادَ عَلَيْهَا عَلَى مِلْكٍ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، لَا يَمْلِكُهُ الْوَرَثَةُ كَمَا لَوْ حَلَفَ بَعْضٌ الْوَرَثَةِ أَثْبَتَ بِيَمِينِهِ حَقَّ نَفْسِهِ ، وَلَمْ يَثْبُتْ بِهَا حَقُّ غَيْرِهِ مِنَ الْوَرَثَةِ . وَأَمَّا الْيَمِينُ فِي الدَّيْنِ أحوالها ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِنَفْسِهِ . وَالثَّانِي : لِأَبِيهِ . فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ لَهُ كَادِّعَائِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ دَيْنًا لَهُ ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُطْلِقَهَا . وَالثَّانِي : أَنْ يَذْكُرَ سَبَبَهَا . فَإِنْ أَطْلَقَهَا حَلَفَ يَمِينًا عَلَى إِثْبَاتِهَا ، وَنَفَى مَا يُسْقِطُهَا ، فَيَقُولُ : وَاللَّهِ إِنَّ لِي عَلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مَا قَبَضْتُهَا ، وَلَا شَيْئًا مِنْهَا ، وَلَا قُبِضَتْ لِي ، وَلَا شَيْءٌ مِنْهَا ، وَلَا أَحَلْتُ بِهَا ، وَلَا بِشَيْءٍ مِنْهَا ، وَلَا أَبْرَأْتُهُ مِنْهَا ، وَلَا مِنْ شَيْءٍ مِنْهَا ، وَلَا وَجَبَ لَهُ عَلَيَّ مَا يَبْرَأُ بِهِ مِنْهَا أَوْ مِنْ شَيْءٍ مِنْهَا ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجْنِي عَلَيْهِ أَوْ يَشْتَرِي مِنْهُ بِقَدْرِ دَيْنِهِ ، فَيَصِيرُ قِصَاصًا فِي قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُ الدُّيُونَ الْمُتَمَاثِلَةَ قِصَاصًا . ثُمَّ يَقُولُ : وَإِنَّهَا لَثَابِتَةٌ عَلَيْهِ إِلَى وَقْتِي هَذَا ، فَتَكُونُ يَمِينُهُ إِذَا اسْتُوفِيَتْ بِكَمَالِهَا مُشْتَمِلَةً عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : إِثْبَاتُ اسْتِحْقَاقِهَا . وَالثَّانِي : نَفْيُ سُقُوطِهَا . وَالثَّالِثُ : بَقَاؤُهَا إِلَى وَقْتِ يَمِينِهِ فَأَمَّا إِثْبَاتُهَا بِالْيَمِينِ ، فَمُسْتَحَقٌّ . وَأَمَّا بَقَاؤُهَا إِلَى وَقْتِ الْيَمِينِ فَمُسْتَحَبٌّ . وَأَمَّا نَفْيُ إِسْقَاطِهَا ، فَفِيهِ وَجْهَانِ مُحْتَمَلَانِ : أَحَدُهُمَا : مُسْتَحَقٌّ ، لِأَنَّ ثُبُوتَهَا لَا يَمْنَعُ مِنْ حُدُوثِ مَا يُسْقِطُهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : مُسْتَحَبٌّ ، لِأَنَّ إِثْبَاتَهَا فِي الْحَالِ يَمْنَعُ مِنْ سُقُوطِهَا مِنْ قَبْلُ .
وَإِنْ ذَكَرَ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِهَا أَنَّهُ مِنْ قَرْضٍ أَوْ غَصْبٍ أَوْ قِيمَةِ مُتْلَفٍ أَوْ ثَمَنِ مَبِيعٍ نُظِرَ : فَإِنْ كَانَ السَّبَبُ يُسَبِّبُ الِاسْتِحْقَاقَ فِي يَمِينِهِ ، لِأَنْ لَا يُقِيمَهَا ، فَيَسْتَحِقُّ بِهَا أَلْفًا أُخْرَى ، وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ خَفِيًّا لَمْ يَجِبْ ذِكْرُهُ فِي الْيَمِينِ ، وَكَانَ ذِكْرُهُ فِيهَا احْتِيَاطًا .
فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ لِأَبِيهِ حَلَفَ عَلَى إِثْبَاتِهِ قَطْعًا ، وَعَلَى نَفْيِ سُقُوطِهِ عِلْمًا كيفية إقامة الدعوى ؟ ، فَقَالَ : وَاللَّهِ إِنَّ لِأَبِي عَلَيْكَ أَلْفًا لَا أَعْلَمُهُ قَبَضَهَا ، وَلَا شَيْئًا مِنْهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ ، لِأَنَّ إِثْبَاتَ فِعْلِ الْغَيْرِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْبَتِّ ، وَنَفْيَ فِعْلِ الْغَيْرِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْعِلْمِ . فَإِنْ كَانَ الِابْنُ هُوَ الْوَارِثَ وَحْدَهُ ، اسْتَحَقَّ جَمِيعَهَا ، وَإِنْ كَانَ أَحَدَ الْوَرَثَةِ اسْتَحَقَّ مِنْهَا قَدْرَ نَصِيبِهِ ، وَكَانَ بَاقِيهَا مَوْقُوفًا عَلَى إِثْبَاتِ شُرَكَائِهِ فِيهَا ، وَلَيْسَ لَهُمْ إِنْ نَكَلُوا أَنْ يُشَارِكُوا الْحَالِفَ فِي حَقِّهِ ، لِأَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَى الْوُصُولِ إِلَى حُقُوقِهِمْ بِمِثْلِ وُصُولِهِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْيَمِينُ مَعَ الشَّاهِدِ ، فَهِيَ كَيَمِينِ الْإِثْبَاتِ فِي الرَّدِّ بَعْدَ النُّكُولِ كيفية إقامة الدعوى ؟ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَذْكُرَ فِيهَا أَنَّ مَا شَهِدَ بِهِ شَاهِدُهُ حَقٌّ ، وَصِدْقٌ عَلَى مَا شَهِدَ بِهِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَلْزَمُهُ ذَاكَ تَحْقِيقًا لِشَهَادَتِهِ ، وَإِثْبَاتًا لِقَوْلِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ ، لِأَنَّهُ فِي يَمِينِهِ بِمَثَابَةِ الشَّاهِدِ الْآخَرِ ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ الشَّاهِدُ أَنْ يَشْهَدَ بِصِدْقِ الْآخَرِ وَصِحَّةِ شَهَادَتِهِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي أَيْمَانِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ ، فَصُورَةُ مَسْأَلَتِنَا فِي رَجُلٍ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَلْفًا ، فَذَكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ بَرِئَ مِنْهَا ، فَصَارَ مُقِرًّا بِهَا كيفية إقامة الدعوى ؟ ، وَمُدَّعِيًا لِسُقُوطِهَا عَنْهُ بَعْدَ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ ، وَصَارَ الْمُدَّعِي مُدَّعًى عَلَيْهِ قَدِ اسْتَحَقَّ الْأَلْفَ بِالْإِقْرَارِ ، وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ يَمِينُ النَّفْيِ فِي الْإِنْكَارِ . وَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ بِدَعْوَى الْبَرَاءَةِ ، وَدَعْوَاهَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُطْلِقَهَا . وَالثَّانِي : أَنْ يُعَيِّنَهَا . فَإِنْ أَطْلَقَهَا وَقَالَ : قَدْ بَرِئْتُ إِلَيْهِ مِنْهَا ، فَقَدْ عَمَّ ، وَلَمْ يَخُصَّ ، فَيَكُونُ يَمِينُ الْمُنْكِرِ لَهَا عَلَى الْعُمُومِ عَلَى مَا وَصَفَهَا الشَّافِعِيُّ فِي اشْتِمَالِ يَمِينِهِ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْبَرَاءَاتِ ، فَيَقُولُ : وَاللَّهِ مَا قَبَضْتُهَا ، وَلَا شَيْئًا مِنْهَا ، وَلَا قَبَضَهَا لَهُ قَابِضٌ بِأَمْرِهِ ، وَلَا شَيْئًا مِنْهَا ، وَعَبَّرَ الشَّافِعِيُّ عَنِ الْقَبْضِ بِالِاقْتِضَاءِ ، وَعَنِ الْأَمْرِ بِالْعِلْمِ ، وَذِكْرُ الْقَبْضِ أَوْلَى مِنَ الِاقْتِضَاءِ لِأَنَّ الِاقْتِضَاءَ الْمُطَالَبَةُ وَالْقَبْضَ الِاسْتِيفَاءُ ، وَهُوَ لَا يَبْرَأُ بِالِاقْتِضَاءِ ، وَيَبْرَأُ بِالِاسْتِيفَاءِ .
وَذِكْرُ الْأَمْرِ أَوْلَى مِنَ الْعِلْمِ ، لِأَنَّهُ قَدْ يَعْلَمُ أَنَّهُ قَبَضَهَا مَنْ لَمْ يَأْمُرْهُ ، فَلَا يَبْرَأُ بِهِ . ثُمَّ يَقُولُ : وَلَا أَحَالَ بِهَا عَلَيْهِ وَلَا بِشَيْءٍ مِنْهَا ، وَلَا أَبْرَأَهُ مِنْهَا ، وَلَا عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا . وَزَادَ الشَّافِعِيُّ فِي " الْأُمِّ " : " وَلَا كَانَ مِنْهُ مَا يَبْرَأُ بِهِ مِنْهَا ، وَلَا مِنْ شَيْءٍ مِنْهَا " يَعْنِي : مِنْ جِنَايَةٍ عَلَيْهِ أَوْ إِتْلَافٍ لِمَالِهِ بِقَدْرِ دَيْنِهِ ، وَيَقُولُ : وَإِنَّهَا لَثَابِتَةٌ عَلَيْهِ إِلَى وَقْتِ يَمِينِهِ هَذِهِ . فَهَذِهِ سِتَّةُ أَشْيَاءَ ذَكَرَهَا الشَّافِعِيُّ فِي اشْتِمَالِ يَمِينِهِ عَلَيْهَا ، اخْتَصَّ الشَّافِعِيُّ بِذِكْرِهَا وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهَا أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ أَصْحَابُهُ أَنَّ السَّادِسَ مِنْهَا ، وَهُوَ قَوْلُهُ : " وَإِنَّهَا لَثَابِتَةٌ عَلَيْهِ إِلَى وَقْتِ يَمِينِهِ " أَنَّهُ اسْتِظْهَارٌ ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ . وَاخْتَلَفُوا فِي الْخَمْسَةِ الْبَاقِيَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ لِتَشْتَمِلَ عَلَى أَنْوَاعِ الْبَرَاءَاتِ ، فَيَنْتَهِي بِهَا احْتِمَالُ التَّأْوِيلِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ هَذَا التَّفْصِيلَ اسْتِظْهَارٌ ، وَلَوِ اقْتَصَرَ فِي يَمِينِهِ عَلَى أَنْ قَالَ : مَا بَرِئَ إِلَيَّ مِنْهَا ، وَلَا مِنْ شَيْءٍ مِنْهَا ، لَعَمَّ فِي الْحُكْمِ جَمِيعَ أَنْوَاعِهَا مِنْ قَبْضٍ وَحَوَالَةٍ وَإِبْرَاءٍ ، وَمَا يُوجِبُ الْإِبْرَاءَ .
فَصْلٌ : وَإِنْ خَصَّ بِنَوْعِ الْإِبْرَاءِ مَا يَعُمُّ ، فَقَالَ : دَفَعْتُهَا إِلَيْهِ أَوْ قَالَ : أَحَالَ بِهَا عَلَيَّ ، أَوْ قَالَ : أَبْرَأَنِي مِنْهَا كيفية إقامة الدعوى ؟ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا : هَلْ تَكُونُ يَمِينُهُ مَقْصُورَةً عَلَى النَّوْعِ الَّذِي ادَّعَاهُ أَوْ مُشْتَمِلَةً عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْوَاعِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ ظَاهِرُ مَا أَطْلَقَهُ الشَّافِعِيُّ : أَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى عُمُومِ أَنْوَاعِ الْبَرَاءَاتِ فِي ذِكْرِ الْأَنْوَاعِ الْخَمْسَةِ ، لِأَنَّهَا أَنْفَى لِلِاحْتِمَالِ ، وَهَلْ تَكُونُ عَلَى الِاحْتِيَاطِ أَوْ عَلَى الْوُجُوبِ ؟ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّ يَمِينَهُ تَكُونُ مَقْصُورَةً عَلَى النَّوْعِ الَّذِي ادَّعَى الْبَرَاءَةَ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ ، لِأَنَّ مَا لَمْ يَذْكُرْهُ لَمْ يُتَبَرَّعْ بِهِ لَهُ ، وَمَا لَمْ يَدَّعِهِ لَمْ يَحْلِفْ عَلَيْهِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ صِفَةِ الْيَمِينِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَإِنْ أُحْلِفَ ، قَالَ : وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ، عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، الَّذِي يَعْلَمُ مِنَ السِّرِّ مَا يَعْلَمُ مِنَ الْعَلَانِيَةِ ، ثُمَّ يَنْسِقُ الْيَمِينَ .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا هُوَ الْأَوْلَى فِي صِفَةِ الْيَمِينِ ، لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلزَّجْرِ ، فَعَدَلَ بِهَا عَنْ مَعْهُودِ الْأَيْمَانِ ، فِيمَا يُكْثِرُونَهُ فِي كَلَامِهِمْ مِنْ لَغْوِ الْيَمِينِ ، لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الزَّجْرِ عَنْهَا ، وَأَمْنَعُ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَيْهَا . وَأَوْلَى الْأَيْمَانِ الزَّاجِرَةِ - مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ ، أَنْ يَقُولَ : وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ، عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ، الَّذِي يَعْلَمُ مِنَ السِّرِّ مَا يَعْلَمُ مِنَ الْعَلَانِيَةِ ، وَقَالَ فِي الْأُمِّ : الَّذِي يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ ، وَمَا تُخْفِي الصُّدُورَ ، وَهُمَا سَوَاءٌ فِي الْمَعْنَى ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى ، لِأَنَّ نَسَقَهَا إِلَى الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَدْ تَضَمَّنَهَا الْقُرْآنُ ، وَقَوْلُهُ : " الَّذِي يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ " ، تَنْبِيهًا لِلْحَالِفِ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ بِصِدْقِهِ ، وَكَذِبِهِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ فِي إِحْلَافِهِ مِمَّا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْحُكَّامِ : بِاللَّهِ الطَّالِبِ الْغَالِبِ ، الضَّارِّ النَّافِعِ الْمُدْرِكِ ، الْمُهْلِكِ ، جَازَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي نَسَقِ تِلَاوَتِهَا فِي الْقُرْآنِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَنْبِيهِ الْحَالِفِ عَلَى اسْتِدْفَاعِ مَضَارِّهِ ، وَاجْتِلَابِ مَنَافِعِهِ ، وَمِنْ زَجْرِ الْحَالِفِ - أَنْ يَعِظَهُ الْحَاكِمُ قَبْلَ إِحْلَافِهِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا [ آلِ عِمْرَانَ : ] . وَبِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ حَلَفَ يَمِينًا كَاذِبَةً ، لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ ، وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ " . وَحُكِيَ أَنَّ رَجُلًا قَدِمَ إِلَى الْحَاكِمِ ، فَهَمَّ بِالْيَمِينِ ، فَلَمَّا وَعَظَهُ بِهَذَا امْتَنَعَ وَأَقَرَّ ، وَقَالَ : مَا ظَنَنْتُ أَنَّ الْحَالِفَ يَسْتَحِقُّ هَذَا الْوَعِيدَ . فَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى إِحْلَافِهِ بِاللَّهِ أَوْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَةِ ذَاتِهِ ، كَقَوْلِهِ : وَعِزَّةِ اللَّهِ ، وَعَظَمَةِ اللَّهِ ، جَازَ . قَدِ اقْتَصَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِحْلَافِ رُكَانَةَ عَلَى أَنْ أَحْلَفَهُ بِاللَّهِ ، لِأَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ أَسْمَائِهِ ، وَقِيلَ : هُوَ اسْمُهُ الْأَعْظَمُ ، وَقِيلَ : فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى : هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [ مَرْيَمَ : ] . أَيْ : مَنْ يَتَسَمَّى بِاللَّهِ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَسَمَّ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ ، وَإِنْ تَسَمُّوا بِغَيْرِهِ مِنْ أَسْمَائِهِ . وَشَذَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا ، فَقَالَ : لَا يُجْزِئُهُ إِحْلَافُهُ بِاللَّهِ ، حَتَّى يُغَلِّظَهَا بِمَا وَصَفْنَا ، لِيَخْرُجَ بِهَا عَنْ عَادَتِهِ ، وَيُعِيدَهَا الْحَاكِمُ عَلَيْهِ مُغَلَّظَةً . فَأَمَّا إِحْلَافُهُ بِالْمُصْحَفِ ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْقُرْآنِ ، فَقَدْ حَكَى الشَّافِعِيُّ ، عَنْ مُطَرِّفٍ ، أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ كَانَ يَحْلِفُ عَلَى الْمُصْحَفِ ، قَالَ : وَرَأَيْتُ مُطَرِّفًا بِضْعًا يَحْلِفُ عَلَى الْمُصْحَفِ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَهُوَ حَسَنٌ ، وَعَلَيْهِ الْحُكَّامُ بِالْيَمَنِ ، وَهَذَا إِنَّمَا اسْتَحْسَنَهُ فِيمَا تُغَلَّظُ فِيهِ الْيَمِينُ بِالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ . فَأَمَّا إِحْلَافُهُ بِالْمَلَائِكَةِ وَالرُّسُلِ وَمَا يَعْظُمُ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ حكمه فَلَا يَجُوزُ : لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : سَمِعَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَقُولُ : وَذِمَّةِ الْخَطَّابِ ، فَضَرَبَ كَتِفِي وَقَالَ : إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ . فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ أَوْ فَلْيَصْمُتْ . قَالَ عُمَرُ : فَمَا حَلَفْتُ بَعْدَهَا ذَاكِرًا وَلَا آثِرًا ، وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : عَاهِدًا وَلَا نَاسِيًا . وَالثَّانِي : قَائِلًا وَلَا حَاكِيًا . فَإِنْ أَحْلَفَهُ الْحَاكِمُ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ حكمه ، فَقَدْ أَسَاءَ وَأَثِمَ . وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمُ الْيَمِينِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحَلِّفَ أَحَدًا بِطَلَاقٍ وَلَا عِتْقٍ وَلَا نَذْرٍ ، لِأَنَّهَا تَخْرُجُ عَنْ حُكْمِ الْيَمِينِ إِلَى إِيقَاعِ فُرْقَةٍ وَالْتِزَامِ غُرْمٍ ، وَهُوَ مُسْتَبْدَعٌ ، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : رَأَيْتُ كُلَيْبًا أَحْدَثَتْ فِي قَضَائِهَا طَلَاقَ نِسَاءٍ لَمْ يَسُوقُوا لَهَا مَهْرًا قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَمَتَى بَلَغَ الْإِمَامُ أَنَّ حَاكِمًا يَسْتَحْلِفُ النَّاسَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ عَزَلَهُ عَنِ الْحُكْمِ لِأَنَّهُ جَاهِلٌ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
مَسْأَلَةٌ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ الْيَمِينُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَسْتَحْلِفَهُ الْحَاكِمُ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ الْيَمِينُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَسْتَحْلِفَهُ الْحَاكِمُ ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ رَكَانَةَ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنِّي طَلَّقْتُ امْرَأَتِي الْبَتَّةَ ، وَاللَّهِ مَا أَرَدْتُ إِلَّا وَاحِدَةً . فَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ : وَاللَّهِ مَا أَرَدْتَ إِلَّا وَاحِدَةً فَرَدَّهَا إِلَيْهِ ، وَهَذَا تَجْوِيزٌ لِلْيَمِينِ فِي الطَّلَاقِ وَالرَّجْعَةِ فِي طَلَاقِ الْبَتَّةِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا وَجَبَتِ الْيَمِينُ عَلَى خَصْمٍ فِي نَفْيٍ أَوْ إِثْبَاتٍ ، فَجَعَلَهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ قَبْلَ اسْتِحْلَافِهِ هل تجزئ عنه ؟ ، لَمْ تُجْزِهِ ، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا الْحُكْمُ الْمَطْلُوبُ ، وَاسْتَحْلَفَهُ الْحَاكِمُ عَلَيْهَا ، وَإِنْ تَقَدَّمَ سَمَاعُهَا مِنْهُ لِأُمُورٍ مِنْهَا : مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ حَدِيثِ رُكَانَةَ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنِّي طَلَّقْتُ امْرَأَتِي الْبَتَّةَ ، وَوَاللَّهِ مَا أَرَدْتُ إِلَّا وَاحِدَةً ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " وَاللَّهِ مَا أَرَدْتَ إِلَّا وَاحِدَةً . فَرَدَّهَا عَلَيْهِ . وَإِنْ سَمِعَهَا مِنْهُ لِأَنَّهُ قَدَّمَهَا قَبْلَ اسْتِحْلَافِهِ . وَلِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْيَمِينِ اسْتِيفَاءَ الْحَاكِمِ لَهُ لِتَكُونَ عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ دُونَ الْحَالِفِ وَهَذَا الشَّرْطُ مَعْدُومٌ فِي الْيَمِينِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، فَلَمْ يَقَعْ مَوْقِعَ الْإِجْزَاءِ . وَلِأَنَّهَا مُؤَقَّتَةٌ بَعْدَ نَظَرِ الْحَاكِمِ وَاجْتِهَادِهِ ، فَكَانَ تَقْدِيمُهَا فِي مَجْلِسِهَا كَتَقْدِيمِهَا فِي
غَيْرِ مَجْلِسِهِ ، وَكَلِعَانِ الزَّوْجَيْنِ إِذَا قَدَّمَاهُ قَبْلَ لِعَانِ الْحَاكِمِ بَيْنَهُمَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمُ اللِّعَانِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْيَمِينَ الْمُسْتَحَقَّةَ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ ، هِيَ الَّتِي يَسْتَوْفِيهَا الْحَاكِمُ عَلَى الْحَالِفِ ، فَمِنْ صِفَتِهِ فِي أَخْذِهَا عَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَهُ بِهَا ، فَصْلًا بَعْدَ فَصْلٍ ، يَقُولُ الْحَالِفَ فِي كُلِّ فَصْلٍ مِنْهَا مِثْلَ مَا يَأْمُرُهُ الْحَاكِمُ عَلَى سَوَاءٍ ، لِأَنَّ يَمِينَهُ مَحْمُولَةٌ عَلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ ، فَلَمْ يَجُزْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُفَوِّضَهَا إِلَيْهِ ، فَتَكُونَ مَرْدُودَةً إِلَى اجْتِهَادِهِ ، فَتَصِيرَ مَحْمُولَةً عَلَى نِيَّتِهِ لَا عَلَى نِيَّةِ مُسْتَحْلِفِهِ ، فَإِنْ فَوَّضَهَا الْحَاكِمُ إِلَيْهِ ، فَاسْتَوْفَاهَا الْحَالِفُ عَلَى نَفْسِهِ كَانَ الْحَاكِمُ مُقَصِّرًا فِي حَقِّ الْمُسْتَحْلِفِ . وَفِي إِجْزَاءِ الْيَمِينِ وَجْهَانِ مُحْتَمَلَانِ : أَحَدُهُمَا : تُجْزِئُ فِيمَا يَجِبُ بِهَا مِنْ نَفْيٍ وَإِثْبَاتٍ ، لِأَنَّهَا بِاجْتِهَادِ الْحَاكِمِ ، وَعَنْ أَمْرِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا تُجْزِئُ ، لِأَنَّهَا تَصِيرُ مَحْمُولَةً عَلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ ، وَهِيَ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ ، فَكَانَتْ غَيْرَ الْمُسْتَحَقَّةِ . وَإِذَا أَخَذَهَا الْحَاكِمُ عَلَى الْحَالِفِ ، فَقَالَ بَعْدَ يَمِينِهِ : " إِنْ شَاءَ اللَّهُ " أَعَادَهَا عَلَيْهِ ، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى يَرْفَعُ حُكْمَهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ عَلَّقَهَا بِشَرْطٍ أَوْ وَصَلَهَا بِكَلَامٍ لَمْ يَفْهَمْهُ الْحَاكِمُ أَعَادَهَا عَلَيْهِ ، وَهَكَذَا لَوْ قَطَعَهَا الْحَالِفُ أَوْ أَدْخَلَ فِي إِثْبَاتِهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا أَعَادَهَا الْحَاكِمُ عَلَيْهِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا ، وَزَجَرَهُ عَلَيْهِ إِنْ عَمَدَ حَتَّى تُخَلَّصَ الْيَمِينُ مِنِ اسْتِثْنَاءٍ يَرْفَعُهَا أَوْ شَرْطٍ يُفْسِدُهَا ، أَوْ إِدْخَالِ كَلَامٍ يَقْطَعُهَا ، أَوْ سُكُوتٍ يُبْطِلُ مَا تَقَدَّمَهَا .
فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ أَخْرَسَ هل تقوم إشارته مقام عبارة الناطق ؟ ، فَإِنْ كَانَ مَفْهُومَ الْإِشَارَةِ أُحْلِفَ بِالْإِشَارَةِ لِأَنَّهَا فِي حَقِّ الْأَخْرَسِ تَقُومُ مَقَامَ الْعِبَارَةِ فِي حَقِّ النَّاطِقِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَفْهُومِ الْإِشَارَةِ كَانَ الْحُكْمُ مَوْقُوفًا إِلَى أَنْ يَزُولَ مَا بِهِ أَوْ تُفْهَمَ إِشَارَتُهُ ، كَمَا يُوقَفُ الْحُكْمُ فِي حَقِّ الْمَجْنُونِ إِلَى حَالِ إِفَاقَتِهِ ، فَإِنْ طَلَبَ الْمُدَّعِي رَدَّ الْيَمِينِ عَلَيْهِ ، لِتَعَذُّرِ الْيَمِينِ مِنْ جِهَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ ، لِأَنَّهَا لَا تُرَدُّ إِلَّا بَعْدَ النُّكُولِ عَنْهَا ، وَلَمْ يُعْرَفْ نُكُولُ الْأَخْرَسِ عَنْهَا .
فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَهَكَذَا يَجُوزُ الْيَمِينُ فِي الطَّلَاقِ ، وَالرَّجْعَةُ فِي طَلْقَةِ الْبَتَّةِ " ، يُرِيدُ بِهِ حَدِيثَ رُكَانَةَ ، فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ بَعْدَ أَنْ دَلَّ عَلَى إِعَادَةِ الْيَمِينِ إِذَا قُدِّمَتْ عَلَى الِاسْتِحْلَافِ ، فَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ عَلَى حُكْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وُجُوبُ الْيَمِينِ فِي الطَّلَاقِ .
وَالثَّانِي : اسْتِحْقَاقُ الرَّجْعَةِ فِي طَلْقَةِ الْبَتَّةِ . وَقَدِ اسْتَخْرَجَ أَصْحَابُنَا مِنْهُ أَدِلَّةً عَلَى أَحْكَامٍ فِي ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : الِاسْتِحْلَافُ ، وَفِيهِ أَدِلَّةٌ عَلَى خَمْسَةِ أَحْكَامٍ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ تَعَجُّلَ الْيَمِينِ قَبْلَ الِاسْتِحْلَافِ لَا يُجْزِئُ . وَالثَّانِي : جَوَازُ الِاقْتِصَارِ فِي الْيَمِينِ عَلَى إِحْلَافِهِ بِاللَّهِ مِنْ غَيْرِ تَغْلِيظٍ بِصِفَاتِهِ . وَالثَّالِثُ : جَوَازُ حَذْفِ وَاوِ الْقَسَمِ مِنَ الْيَمِينِ ، فَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِرُكَانَةَ : " اللَّهَ إِنَّكَ أَرَدْتَ وَاحِدَةً ؟ " فَقَالَ : اللَّهَ إِنِّي أَرَدْتُ وَاحِدَةً . وَالرَّابِعُ : اسْتِحْقَاقُ الْيَمِينِ فِي الطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ وَالرَّجْعَةِ إِذَا وَقَعَ فِيهِ الْخِلَافُ وَالتَّنَازُعُ بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَمِينَ فِي ذَلِكَ . وَالْخَامِسُ : اسْتِحْلَافُهُ عَلَى نِيَّتِهِ ، وَإِنْ لَمْ تُعْلَمْ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : الطَّلَاقُ ، وَفِيهِ أَدِلَّةٌ عَلَى خَمْسَةِ أَحْكَامٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْبَتَّةَ لَا تَكُونُ طَلَاقًا ثَلَاثًا ، بِخِلَافِ مَا قَالَهُ مَالِكٌ ، فَإِنَّهُ جَعَلَ الْبَتَّةَ ثَلَاثًا ، وَقَدْ جَعَلَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحِدَةً بِإِرَادَةِ رُكَانَةَ . وَالثَّانِي : أَنَّ اللَّفْظَ مَحْمُولٌ عَلَى إِرَادَةِ الْمُطَلِّقِ ، فَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِهِ الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يُحْمَلَ عَلَى إِرَادَتِهِ فِي الْعَدَدِ ، وَأَنَّهُ إِنْ أَرَادَ طَلْقَتَيْنِ وَقَعَتَا بِخِلَافِ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ ، أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ إِلَّا وَاحِدَةً أَوْ ثَلَاثًا ، وَلَا يَقَعُ بِهِ طَلْقَتَانِ ، وَقَدْ أُحْلِفَ رُكَانَةَ عَلَى مَا أَرَادَهُ . وَالرَّابِعُ : أَنَّ طَلَاقَ الثَّلَاثَةِ يَقَعُ دُفْعَةً وَاحِدَةً إِذَا أُرِيدَ ، بِخِلَافِ مَا قَالَهُ أَهْلُ الظَّاهِرِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ، تَقَعُ بِهِ وَاحِدَةٌ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ بِحَالٍ . وَلَوْ لَمْ تَقَعِ الثَّلَاثَةُ مَا أُحْلِفَ رُكَانَةَ عَلَى إِرَادَةِ الْوَاحِدَةِ .
وَالْخَامِسُ : أَنَّ طَلَاقَ الثَّلَاثِ لَيْسَ بِبِدْعَةٍ وَلَا حَرَامٍ بِخِلَافِ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ : لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُبْتَدَعًا حَرَامًا مَا أُحْلِفَ رُكَانَةَ عَلَيْهِ ، وَلَبَيَّنَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : الرَّجْعَةُ ، وَفِيهِ أَدِلَّةٌ عَلَى خَمْسَةِ أَحْكَامٍ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الرَّجْعَةَ مُسْتَحَقَّةٌ فِي الْبَتَّةِ بِخِلَافِ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّهَا تَكُونُ طَلْقَةً بَائِنَةً ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَقَرَّ رُكَانَةَ عَلَى زَوْجَتِهِ " . وَالثَّانِي : اسْتِحْقَاقُ الرَّجْعَةِ فِي كُلِّ طَلَاقٍ ، لَمْ يُبَتَّ . وَالثَّالِثُ : اخْتِصَاصُ الرَّجْعَةِ بِالْقَوْلِ فِي قِصَّةِ رُكَانَةَ بِرَدِّهَا عَلَيْهِ . وَالرَّابِعُ : جَوَازُ الرَّجْعَةِ بِغَيْرِ عِلْمِ الزَّوْجَةِ ، لِرَجْعَةِ رُكَانَةَ بِغَيْرِ عِلْمِهَا . وَالْخَامِسُ : جَوَازُهَا بِغَيْرِ شَهَادَةٍ الرجعة عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ الِامْتِنَاعِ مِنَ الْيَمِينِ
بَابُ الِامْتِنَاعِ مِنَ الْيَمِينِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا كَانَتِ الدَّعْوَى غَيْرَ دَمٍ فِي مَالٍ ، أُحْلِفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ ، وَإِنْ نَكَلَ قِيلَ لِلْمُدَّعِي احْلِفْ وَاسْتَحِقَّ ، فَإِنْ أَبَيْتَ سَأَلْنَاكَ عَنْ إِبَائِكَ ، فَإِنْ كَانَ لِتَأْتِيَ بِبَيِّنَةٍ أَوْ لِتَنْظُرَ فِي حِسَابِكَ تَرَكْنَاكَ ، وَإِنْ قُلْتَ لَا أُؤَخِّرُ ذَلِكَ لِشَيْءٍ غَيْرَ أَنَّى لَا أَحْلِفُ ، أَبْطَلْنَا أَنْ تَحْلِفَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَإِنَّمَا شَرَطَ أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى فِي غَيْرِ دَمٍ ، لِأَنَّ دَعْوَى الدَّمِ مُخَالِفَةٌ لِدَعْوَى الْمَالِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَبْدَأُ بِيَمِينِ الْمُدَّعِي مَعَ اللَّوْثِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَحْلِفَ فِي الدَّمِ خَمْسِينَ يَمِينًا . وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مُمْتَنِعَانِ فِي دَعْوَى الْأَمْوَالِ . فَإِذَا كَانَتِ الدَّعْوَى فِي مَالٍ ، وَأَنْكَرَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ . قِيلَ لِلْمُدَّعِي : أَلَكَ بَيِّنَةٌ ؟ فَإِنْ أَقَامَهَا حُكِمَ لَهُ بِهَا ، وَلَمْ يَحْلِفِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَعَهَا ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْحَضْرَمِيِّ لَمَّا تَحَاكَمَ إِلَيْهِ مَعَ الْكِنْدِيِّ : أَلَكَ بَيِّنَةٌ ؟ قَالَ : لَا ، قَالَ : لَكَ يَمِينُهُ لَيْسَ لَكَ مِنْهُ إِلَّا ذَاكَ . فَقَدَّمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْيَمِينِ ، وَلِأَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ خَارِجَةٌ عَنِ الْمُحْتَجِّ بِهَا ، فَانْتَفَتِ التُّهْمَةُ عَنْهَا ، وَالْيَمِينُ صَادِرَةٌ عَنِ الْمُحْتَجِّ بِهَا فَتَوَجَّهَتِ التُّهْمَةُ إِلَيْهَا ، وَمَا عُدِمَتِ التُّهْمَةُ فِيهِ أَقْوَى مِمَّا تَوَجَّهَتْ إِلَيْهِ . وَتَقْدِيمُ الْأَقْوَى عَلَى الْأَضْعَفِ أَوْلَى مِنْ تَقْدِيمِ الْأَضْعَفِ عَلَى الْأَقْوَى : وَلِأَنَّ الْبَيِّنَةَ قَوْلُ اثْنَيْنِ ، وَالْيَمِينَ قَوْلُ وَاحِدٍ ، وَقَوْلُ الِاثْنَيْنِ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ الْوَاحِدِ . فَإِنْ لَمْ يُقِمِ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مَعَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ أَقْوَى مِنَ الْمُدَّعِي ، لِأَنَّ الدَّعْوَى إِنْ كَانَتْ فِي دَيْنٍ يَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ ، فَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ . وَإِنْ كَانَتْ فِي عَيْنٍ بِيَدِهِ دَلَّتِ الْيَدُ فِي الظَّاهِرِ عَلَى مِلْكِهِ ، وَقِيلَ لِلْمُدَّعِي : قَدْ وَجَبَتْ لَكَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ ، فَأَنْتَ فِي اسْتِقْضَائِهَا عَلَيْهِ مُخَيَّرٌ ، فَإِنْ أَعْفَاهُ أَمْسَكَ عَنِ
الْمُطَالَبَةِ ، وَإِنْ طَالَبَ بِهَا قِيلَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ : أَتَحْلِفُ ؟ فَإِنْ حَلَفَ سَقَطَتِ الدَّعْوَى وَإِنْ نَكَلَ لَمْ يُسْأَلْ عَنْ سَبَبِ النُّكُولِ إِلَّا أَنْ يَبْتَدِئَ ، فَيَقُولَ : أَنَا مُتَوَقِّفٌ عَنِ الْيَمِينِ ، لِأَنْظُرَ فِي حِسَابِي ، وَأَسْتَثْبِتَ حَقِيقَةَ أَمْرِي ، فَيُنْظَرَ مَا قَلَّ مِنَ الزَّمَانِ ، وَلَا يَبْلُغُ إِنْظَارُهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ . وَإِنْ لَمْ يَبْتَدِئْ بِذِكْرِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِتَوَقُّفِهِ حُكِمَ بِنُكُولِهِ ، وَلَمْ يُقْضَ عَلَيْهِ بِالدَّعْوَى حَتَّى يَحْلِفَ الْمُدَّعِي عَلَى اسْتِحْقَاقِهَا . وَحَكَمَ عَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ بِالْحَقِّ إِذَا نَكَلَ . وَالْكَلَامُ مَعَهُ يَأْتِي . قَالَ الشَّافِعِيُّ : لِأَنَّ نُكُولَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنِ الْيَمِينِ لَيْسَ بِإِقْرَارٍ مِنْهُ بِالْحَقِّ ، وَلَا بِحُجَّةٍ لِلْمُدَّعِي ، فَلَا أَقْضِي عَلَيْهِ ، فَإِنْ بَذَلَ الْيَمِينَ ، بَعْدَ نُكُولِهِ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ ، لِسُقُوطِ حَقِّهِ مِنْهَا بِالنُّكُولِ . وَسَوَاءٌ كَانَ بَعْدَ رَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي أَوْ قَبْلَهُ . فَإِذَا حَلَفَ الْمُدَّعِي صَارَ بِيَمِينِهِ مَعَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَقْوَى مِنْهُ ، فَقَضَى بِحَقِّهِ عَلَيْهِ ، وَاخْتُلِفَ هَلْ تَكُونُ يَمِينُهُ مَعَ النُّكُولِ قَائِمَةً مَقَامَ الْإِقْرَارِ أَوْ مَقَامَ الْبَيِّنَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ فَذَكَرَهُمَا مِنْ بَعْدُ . وَإِنْ تَوَقَّفَ الْمُدَّعِي عَنِ الْيَمِينِ لَمْ يُحْكَمْ بِنُكُولِهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ سَبَبِ تَوَقُّفِهِ ، فَإِنْ ذَكَرَ أَنَّهُ مُتَوَقِّفٌ عَنِ الْيَمِينِ ، لِيَرْجِعَ إِلَى حِسَابِهِ ، وَيَسْتَظْهِرَ لِنَفْسِهِ - أُنْظِرَ بِهَا ، وَكَانَ عَلَى حَقِّهِ مِنَ الْيَمِينِ ، وَلَمْ تُضَيَّقْ عَلَيْهِ الْمُدَّةُ . وَلَوْ تَرَكَهَا تَارِكٌ بِخِلَافِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذَا اسْتُنْظِرَ ، لِأَنَّ يَمِينَ الْمُدَّعِي حَقٌّ لَهُ ، وَيَمِينَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَقٌّ عَلَيْهِ . فَإِنْ لَمْ يَذْكُرِ الْمُدَّعِي فِي تَوَقُّفِهِ عَنِ الْيَمِينِ عُذْرًا إِلَّا أَنَّهُ لَا يَخْتَارُ أَنْ يَحْلِفَ ، حُكِمَ بِنُكُولِهِ ، وَسُقُوطِ دَعْوَاهُ . فَإِنْ دَعَا إِلَى الْيَمِينِ بَعْدَ نُكُولِهِ عَنْهَا لَمْ يُسْتَحْلَفْ بَعْدَ الْحُكْمِ بِنُكُولِهِ ، وَقِيلَ : لَكَ أَنْ تَسْتَأْنِفَ الدَّعْوَى ، فَتَصِيرَ كَالْمُبْتَدِئِ بِهَا . وَيَكُونُ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْ يَحْلِفَ إِذَا أَنْكَرَهَا : لِأَنَّهَا غَيْرُ الدَّعْوَى الَّتِي حُكِمَ بِنُكُولِهِ فِيهَا ، فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ وَسَقَطَتِ الدَّعْوَى ، وَإِنْ نَكَلَ رُدَّتْ عَلَى الْمُدَّعِي ، فَإِذَا حَلَفَ حُكِمَ لَهُ بِالدَّعْوَى . فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ سَأَلْتُمُ الْمُدَّعِيَ عَنْ سَبَبِ نُكُولِهِ ، وَلَمْ تَسْأَلُوا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ سَبَبِ نُكُولِهِ ؟ قِيلَ : لِأَنَّ نُكُولَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَدْ أَوْجَبَ حَقًّا لِلْمُدَّعِي فِي رَدِّ الْيَمِينِ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَعَرَّضَ الْحَاكِمُ لِإِسْقَاطِهِ بِسُؤَالِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَيَمِينُ الْمُدَّعِي مَقْصُورَةٌ عَلَى حَقِّ نَفْسِهِ ، لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقٌّ لِغَيْرِهِ ، فَجَازَ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ سَبَبِ امْتِنَاعِهِ مِنْهَا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَإِنْ حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يَحْلِفْ ، فَنَكَلَ الْمُدَّعِي ، فَأَبْطَلْنَا يَمِينَهُ ، ثَمَّ جَاءَ بِشَاهِدَيْنِ ، أَوْ بِشَاهِدٍ وَحَلَفَ مَعَ شَاهِدِهِ ، أَخَذْنَا لَهُ حَقَّهُ ، وَالْبَيِّنَةُ الْعَادِلَةُ أَحَقُّ مِنَ الْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي دَعْوَى أُحْلِفَ الْمُنْكِرُ عَلَيْهَا ، ثُمَّ أَحْضَرَ الْمُدَّعِي بَعْدَ الْيَمِينِ بَيِّنَةً هل تسمع بينته ؟ ، سُمِعَتْ بَيِّنَتُهُ فِي قَوْلِ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ . وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : لَا تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَعْدَ يَمِينِهِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْحُكْمَ قَدْ نَفَذَ بِسُقُوطِ الدَّعْوَى ، وَبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُنْقَضَ بِسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ وَاسْتِحْقَاقِ الدَّعْوَى . وَلِأَنَّهُ قَدِ اعْتَاضَ عَنِ الدَّعْوَى بِالْيَمِينِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ عِوَضَيْنِ . وَدَلِيلُنَا : مَا رَوَاهُ رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : اخْتَصَمَ رِجَالٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ ، وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ . فَمَوْضِعُ الدَّلِيلِ مِنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلِ الْيَمِينَ مُبَرِّئَةً فِي الْبَاطِنِ ، وَإِنِ انْقَطَعَتْ بِهَا الْمُطَالَبَةُ فِي الظَّاهِرِ ، فَإِذَا قَامَتْ بِهَا الْبَيِّنَةُ ، لَزِمَتْ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ . وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : الْبَيِّنَةُ أَحَقُّ مِنَ الْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ . وَقَدْ رُوِيَ هَذَا مُسْنَدًا مِنْ طَرِيقٍ لَا يَثْبُتُ ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ ، وَحُجَّتُهُ أَنْ وُقِفَ وَأُسْنِدَ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ لِعُمَرَ فِيهِ مُخَالِفٌ ، وَلِأَنَّ الْحَقَّ يَثْبُتُ بِالْإِقْرَارِ تَارَةً ، وَبَالْبَيِّنَةِ أُخْرَى . فَإِذَا لَمْ تَمْنَعِ الْيَمِينُ مِنْ ثُبُوتِ الْحَقِّ بِالْإِقْرَارِ ، لَمْ تَمْنَعْ مِنْ ثُبُوتِهِ بِالْبَيِّنَةِ ، وَلَوْ بَرِئَ بِالْيَمِينِ لَسَقَطَ بِالْإِقْرَارِ ، وَفِيهِ جَوَابٌ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْبَرَاءَةِ ، وَتُؤْخَذُ الْعِوَضُ بِالْيَمِينِ ، لِأَنَّ الْيَمِينَ تُسْقِطُ الْمُطَالَبَةَ ، وَلَا تُبَرِّئُ مِنَ الْحَقِّ ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ ، وَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ ، وَلَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ ، فَلَا يَأْخُذْهُ ، فَإِنَمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ " .
فَصْلٌ : فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ يُسْتَحْلَفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَعَ إِمْكَانِ الْبَيِّنَةِ ، فَإِنَّمَا يُسْتَحْلَفُ مَعَ عَدَمِهَا ؟ قِيلَ : لِلْمُدَّعِي عِنْدَ الْمُطَالَبَةِ بِاسْتِحْلَافِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ثَلَاثُ أَحْوَالٍ :
أَحَدُهَا : أَنْ يَقُولَ لِي بَيِّنَةٌ لَا أَقْدِرُ عَلَيْهَا لِغَيْبَةٍ أَوْ عُذْرٍ ، فَيُسْتَحْلَفُ خَصْمُهُ ، ثُمَّ تُحْضَرُ بَيِّنَتُهُ ، فَتُسْمَعُ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَقُولَ : لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ ، وَأَنَا أَطْلُبُ إِحْلَافَ خَصْمِي ، فَلَا يُمْنَعُ مِنِ اسْتِحْلَافِهِ ، وَلَا مِنْ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ بَعْدَ يَمِينِهِ ، لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ لَا يُجْبَرُ عَلَى إِقَامَتِهَا ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعْدِلَ عَنْهَا إِلَى طَلَبِ الْيَمِينِ ، إِمَّا لِيَنْزَجِرَ بِهَا ، فَيُقِرَّ ، وَإِمَّا لِيَحْتَقِبَ بِهَا وِزْرًا . فَإِذَا لَمْ يُزْجَرْ بِهَا عَنِ الْإِنْكَارِ جَازَ أَنْ يُقِيمَ الْحُجَّةَ بِبَيِّنَتِهِ ، وَيُظْهِرَ بِهَا صِدْقَ الدَّعْوَى ، وَكَذِبَ الْإِنْكَارِ ، وَحِنْثَ الْيَمِينِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَقُولَ : لَيْسَ لِي بَيِّنَةٌ ، وَأَنَا أَطْلُبُ الْيَمِينَ ، لِعَدَمِ الْبَيِّنَةِ ، فَإِذَا أَقَامَهَا بَعْدَ إِحْلَافِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي قَبُولِهَا . وَقَدْ حُكِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ ، وَبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا لَا تُسْمَعُ ، لِأَنَّ فِي إِنْكَارِ الْبَيِّنَةِ حَرَجًا لِمَنْ يَشْهَدُ بِهَا ، وَلَا تُسْمَعُ لَهُ بَيِّنَةٌ قَدْ جَحَدَهَا . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، وَقَوْلِ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ ، لِأَنَّهُ قَدْ تُنْسَى الْبَيِّنَةُ ثُمَّ يَذْكُرُهَا ، وَقَدْ تَكُونُ لَهُ بَيِّنَةٌ ، وَلَا يَعْلَمُ بِهَا ، ثُمَّ يَعْرِفُهَا ، فَلَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِهِ حَرَجٌ ، وَلَا تَكْذِيبٌ . وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مَذْهَبًا ثَالِثًا : إِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي اسْتَوْثَقَ بِإِشْهَادِ الْبَيِّنَةِ ، لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ إِذَا أَنْكَرَهَا . وَإِنْ كَانَ قَدِ اسْتَوْثَقَ بِهَا وَلِيُّهُ فِي صِغَرِهِ ، أَوْ وَكِيلُهُ فِي كِبَرِهِ ، قُبِلَتْ مِنْهُ إِذَا أَنْكَرَهَا ، لِأَنَّهُ لَا يَجْهَلُ فِعْلَ نَفْسِهِ ، وَقَدْ يَجْهَلُ فِعْلَ غَيْرِهِ . وَهَذَا الْفَرْقُ لَا وَجْهَ لَهُ ، لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَجْهَلْ فِعْلَ نَفْسِهِ فِي وَقْتِهِ ، فَقَدْ يَنْسَاهُ بَعْدَ وَقْتِهِ ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ بَعْدَ يَمِينِ الْمُنْكِرِ بِشَاهِدَيْنِ ، أَوْ شَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ ، أَوْ شَاهِدٍ وَيَمِينِهِ ، إِذَا كَانَ مِمَّا يُحْكَمُ فِيهِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا إِذَا نَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنِ الْيَمِينِ ، وَرُدَّتْ عَلَى الْمُدَّعِي ، فَنَكَلَ عَنْهَا ، وَأَقَامَ شَاهِدًا ، لِيَحْلِفَ مَعَ شَاهِدِهِ هل للمدعي الحلف مع الشاهد ؟ فَفِي جَوَازِ إِحْلَافِهِ مَعَ شَاهِدِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " ، وَفِي " الْجَامِعِ الْكَبِيرِ " لِلْمُزَنِيِّ : لَا يُحْكَمُ لَهُ بِالْيَمِينِ مَعَ شَاهِدِهِ ، لِأَنَّهُ بِنُكُولِهِ عَنْهَا فِي الرَّدِّ قَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ بِهَا مِنْ بَعْدُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَحَكَاهُ الْمُزَنِيُّ فِي هَذَا الْمُخْتَصِرِ أَنَّهُ يُحْكَمُ لَهُ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ ،
لِأَنَّ يَمِينَ الرَّدِّ غَيْرُ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ ، لِاخْتِلَافِ السَّبَبَيْنِ ، وَافْتِرَاقِ الْمَعْنَيَيْنِ ، فَلَمْ يَكُنْ سُقُوطُ إِحْدَاهُمَا مُوجِبًا لِسُقُوطِ الْأُخْرَى . وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ بِالْعَكْسِ ، وَهُوَ إِذَا نَكَلَ الْمُدَّعِي عَنِ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ ، فَرُدَّتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ بِنُكُولِ الْمُنْكِرِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَأَرَادَ أَنْ يَحْلِفَ هل يصح له الحلف كَانَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَحْلِفُ تَعْلِيلًا بِأَنَّهُ قَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ مِنَ الْيَمِينِ بِالنُّكُولِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَحْلِفُ تَعْلِيلًا بِاخْتِلَافِهَا فِي السَّبَبِ وَالْمَعْنَى .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَوْ رَدَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْيَمِينَ ، فَقَالَ لِلْمُدَّعِي احْلِفْ ، فَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَا أَحْلِفُ - لَمْ أَجْعَلْ ذَلِكَ لَهُ ؛ لِأَنِّي قَدْ أَبْطَلْتُ أَنْ يَحْلِفَ وَحَوَّلْتُ الْيَمِينَ عَلَى صَاحِبِهِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ ، وَقُلْنَا : إِذَا نَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنِ الْيَمِينِ هل ترد على المدعى ؟ وَجَبَ رَدُّهَا عَلَى الْمُدَّعِي ، فَأَجَابَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِلَى الْيَمِينِ بَعْدَ نُكُولِهِ لَمْ يُسْتَحْلَفْ ، وَكَانَ الْمُدَّعِي أَحَقَّ بِالْيَمِينِ لِإِثْبَاتِ حَقِّهِ ، لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَحَقَّهَا بِنُكُولِ خَصْمِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ لِلْخَصْمِ إِبْطَالُهَا عَلَيْهِ ، فَإِنْ قِيلَ : أَفَلَيْسَ لَوِ امْتَنَعَ الْمُدَّعِي مِنْ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ ، وَاسْتَحَقَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْ يَحْلِفَ لِسُقُوطِ الدَّعْوَى عَنْهُ ، فَلَوْ أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ كَانَ لَهُ ، وَأَسْقَطَ بِهَا يَمِينَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَهَلَّا كَانَا سَوَاءً ؟ قِيلَ : لَا يَسْتَوِيَانِ ، لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ تَجُوزُ أَنْ تُقَامَ بَعْدَ يَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَكَانَ إِقَامَتُهَا قَبْلَ يَمِينِهِ أَوْلَى ، لِأَنَّ الْيَمِينَ وَالْبَيِّنَةَ مَعًا حَقٌّ لِلْمُدَّعِي ، فَكَانَ لَهُ الْخِيَارُ فِي أَيِّهِمَا شَاءَ ، وَلَهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا إِذَا تَقَدَّمَتِ الْيَمِينُ ، وَلَيْسَ لَهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا إِذَا قَدَّمَ الْبَيِّنَةَ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَوْ قَالَ أُحْلِفُهُ مَا اشْتَرَيْتَ هَذِهِ الدَّارَ الَّتِي فِي يَدَيْهِ ، لَمْ أُحْلِفْهُ إِلَّا مَا لِهَذَا ، وَيُسَمِّيهِ فِي هَذِهِ الدَّارِ حَقٌّ بِمِلْكٍ وَلَا غَيْرِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ ، لِأَنَّهُ قَدْ يَمْلِكُهَا وَتَخْرُجُ مِنْ يَدَيْهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ مَضَى نَظَائِرُهَا فِي جُمْلَةِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَبْلُ . وَقُلْتُ : فَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ دَارًا فِي يَدَيْهِ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْهُ كيفية إقامة الدعوى ، لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الْإِنْكَارِ مِنْ أَنْ يَقُولَ : مَا لَهُ فِيهَا حَقٌّ ، أَوْ يَقُولَ : مَا اشْتَرَاهَا مِنِّي . فَإِنْ كَانَ جَوَابُ إِنْكَارِهِ أَنَّهُ مَا لَهُ فِيهَا حَقُّ تَمْلِيكٍ ، وَلَا غَيْرِهِ كَانَ جَوَابُهُ مُقْنِعًا ،
وَأُحْلِفَ بِمِثْلِهِ ، وَلَمْ يُحْلَفْ أَنَّهُ مَا اشْتَرَاهَا مِنْهُ ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَهَا عَلَيْهِ ، وَيَبْتَاعَهَا مِنْهُ ، فَيَجِبُ أَنْ يَحْلِفَ : مَا اشْتَرَاهَا ، وَإِنْ كَانَ مَالِكًا لَهَا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ، حَلَفَ ، فَقَالَ : وَاللَّهِ مَا لِهَذَا وَيُسَمِّيهِ ، وَتَسْمِيَتُهُ اسْتِظْهَارٌ ، وَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ ، لِأَنَّ الْإِشَارَةَ إِلَيْهِ تُغْنِي عَنْ تَسْمِيَتِهِ : مَا لَهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ حَقٌّ بِمِلْكٍ ، وَلَا غَيْرِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ ، وَهَذَا تَأْكِيدٌ . وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى أَنَّ مَا لَهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ حَقٌّ أَجْزَأَ ، لِأَنَّهُ يَعُمُّ الْمِلْكَ وَغَيْرَهُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ . وَإِنْ كَانَ جَوَابُ الْمُنْكِرِ مُقَابِلًا لِدَعْوَى الْمُدَّعِي ، فَقَالَ : مَا اشْتَرَاهَا مِنِّي . فَفِي يَمِينِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى مِثْلِ مَا تَقَدَّمَ ، أَنَّهُ مَا لَهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ حَقٌّ اسْتِظْهَارًا مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ مَلَكَهَا بَعْدَ الْبَيْعِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : بَلْ يَكُونُ يَمِينُهُ مُوافِقَةً لِجَوَابِ إِنْكَارِهِ ، لِأَنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ قَدِ ارْتَفَعَ بِقَوْلِهِ : مَا اشْتَرَاهَا مِنْهُ ، فَعَلَى هَذَا يَحْلِفُ بِاللَّهِ أَنَّهُ مَا اشْتَرَاهَا مِنْهُ . وَلَا شَيْئًا مِنْهَا ، وَلَا اشْتُرِيَتْ لَهُ ، وَلَا شَيْءَ مِنْهَا . وَلَوْ حَلَفَ بِاللَّهِ مَا بَاعَهَا عَلَيْهِ ، وَلَا شَيْئًا مِنْهَا ، وَلَا بَاعَهَا عَلَى أَحَدٍ اشْتَرَاهَا لَهُ ، وَلَا شَيْئًا مِنْهَا وَلَا بَاعَهَا عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ جِهَتِهِ ، وَلَا شَيْئًا مِنْهَا أَجْزَأَ لِأَنَّ نَفْيَ الشِّرَاءِ مُوجِبٌ لِنَفْيِ الْبَيْعِ ، وَنَفْيُ الْبَيْعِ مُوجِبٌ لِنَفْيِ الشِّرَاءِ ، فَقَامَ نَفْيُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقَامَ نَفْيِ الْآخَرِ . وَفِي أَوْلَاهُمَا بِالْيَمِينِ وَجْهَانِ مُحْتَمَلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَحْلِفَ مَا اشْتَرَاهَا مِنْهُ ، لِأَنَّهَا مُقَابِلَةٌ لِلدَّعْوَى . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : بَلِ الْأَوْلَى أَنْ يَحْلِفَ مَا بَاعَهَا عَلَيْهِ ، لِأَنَّهَا أَخَصُّ بِنَفْيِ فِعْلِهِ .
فَصْلٌ : وَلَوِ ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ قَتَلَ أَبَاهُ ، وَكَمَّلَ الدَّعْوَى بِذِكْرِ صِفَةِ الْقَتْلِ حال المنكر في تلك المسألة ، فَلِلْمُنْكِرِ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يُنْكِرَ الْقَتْلَ . وَالثَّانِيَةُ : أَنْ يُنْكِرَ بِهَذِهِ الدَّعْوَى عَلَيْهِ حَقًّا . فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ جَوَابَيْ هَذَا الْإِنْكَارِ مُقْنِعٌ ، فَيَحْلِفُ إِنْ أَنْكَرَ الْحَقَّ أَنَّهُ مَا يَسْتَحَقُّ
عَلَيْهِ بِدَعْوَى هَذَا الْقَتْلِ - حَقٌّ مِنْ قَوَدٍ وَلَا دِيَةٍ ، وَلَا يَحْلِفُ أَنَّهُ مَا قَتَلَ ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَتَلَهُ قَوَدًا أَوْ قَتَلَهُ مُرْتَدًّا ، أَوْ قَتَلَهُ لِأَنَّهُ وَجَدَهُ عَلَى امْرَأَتِهِ ، أَوْ قَتَلَهُ لِدَفْعِهِ عَنْ نَفْسِهِ ، فَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ يَعْدِلَ فِي إِنْكَارِهِ وَيَمِينِهِ إِلَى نَفْيِ الْحَقِّ دُونَ الْقَتْلِ . وَإِنْ كَانَ قَدْ أَنْكَرَ الْقَتْلَ كَانَتْ يَمِينُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا قَتَلَ . وَالثَّانِي : مَا عَلَيْهِ حَقٌّ بِهَذَا الْقَتْلِ مِنْ قَوَدٍ ، وَلَا عَقْلٍ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ النُّكُولِ وَرَدِّ الْيَمِينِ
بَابُ النُّكُولِ وَرَدِّ الْيَمِينِ مِنَ الْجَامِعَ وَمِنِ اخْتِلَافِ الشَّهَادَاتِ وَالْحُكَّامِ وَمِنَ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَاتِ وَمِنْ إِمْلَاءٍ فِي الْحُدُودِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَلَا يَقُومُ النُّكُولُ مَقَامَ إِقْرَارٍ فِي شَيْءٍ حَتَّى يَكُونَ مَعَهُ يَمِينُ الْمُدَّعِي ، فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ أَحَلَفْتَ فِي الْحُدُودِ ، وَالطَّلَاقِ ، وَالنَّسَبِ ، وَالْأَمْوَالِ ، وَجَعَلْتَ الْأَيْمَانَ كُلَّهَا تَجِبُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَجَعَلْتَهَا تُرَدُّ عَلَى الْمُدَّعِي ؟ قِيلَ : قُلْتُهُ اسْتِدْلَالًا بِالْكِتَابِ ، وَالسُّنَّةِ ، ثَمَّ الْخَبَرِ عَنْ عُمَرَ حَكَمَ اللَّهُ عَلَى الْقَاذِفِ غَيْرَ الزَّوْجِ بِالْحَدِّ ، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا مِنْهُ إِلَّا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ، وَأَخْرَجَ الزَّوْجَ مِنَ الْحَدِّ بِأَنْ يَحْلِفَ أَرْبَعَةَ أَيْمَانٍ وَيَلْتَعِنَ بِخَامِسَةٍ ، فَيَسْقُطَ عَنْهُ الْحَدُّ وَيَلْزَمُهَا إِنْ لَمْ تَخْرُجْ مِنْهُ بِأَرْبَعَةِ أَيْمَانٍ وَالْتِعَانِهَا ، وَسَنَّ بَيْنَهُمَا الْفُرْقَةَ ، وَدَرَأَ اللَّهُ عَنْهُمَا الْحَدَّ بِالْأَيْمَانِ وَالْتِعَانِهِ ، وَكَانَتْ أَحْكَامُ الزَّوْجَيْنِ وَإِنْ خَالَفَتْ أَحْكَامَ الْأَجْنَبِيَّيْنِ فِي شَيْءٍ ، فَهِيَ مُجَامِعَةٌ لَهَا فِي غَيْرِهِ ، وَذَلِكَ أَنَّ الْيَمِينَ فِيهِ جَمَعَتْ دَرْءَ الْحَدِّ عَنِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ ، وَفُرْقَةً ، وَنَفْيَ وَلَدٍ ، فَكَانَ هَذَا الْحَدُّ وَالْفِرَاقُ وَالنَّفْيُ مَعًا دَاخِلَةً فِيهَا ، وَلَا يَحِقُّ الْحَدُّ عَلَى الْمَرْأَةِ حِينَ يَقْذِفُهَا الزَّوْجُ إِلَّا بِيَمِينِهِ ، وَتَنْكُلُ عَنِ الْيَمِينِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الزَّوْجَ لَوْ لَمْ يَلْتَعِنْ ، حُدَّ بِالْقَذْفِ ، وَلِتَرْكِ الْخُرُوجِ مِنْهُ بِالْيَمِينِ ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَرْأَةِ حَدٌّ وَلَا لِعَانٌ . أَوَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْأَنْصَارِيِّينَ : " تَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ " ، فَلَمَّا لَمْ يَحْلِفُوا رَدَّ الْأَيْمَانَ عَلَى يَهُودَ ، لِيَبْرَءُوا بِهَا ، فَلَمَّا لَمْ يَقْبَلْهَا الْأَنْصَارِيُّونَ تَرَكُوا حَقَّهُمْ ، أَوَلَا تَرَى عُمَرَ جَعَلَ الْأَيْمَانَ عَلَى الْمُدَعَّى عَلَيْهِمْ ، فَلَمَّا لَمْ يَحْلِفُوا رَدَّهَا عَلَى الْمُدَّعِينَ ، وَكُلُّ هَذَا تَحْوِيلُ يَمِينٍ مِنْ مَوْضِعٍ قَدْ نُدِبَتْ فِيهِ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يُخَالِفُهُ ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَعَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْيَمِينُ " وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى مُدَّعَى عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ إِلَّا بِخَبَرٍ لَازِمٍ وَهُمَا لَفْظَانِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ " مَخْرَجُهُمَا وَاحِدٌ ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنْ جَاءَ الْمُدَّعِي بِالْبَيِّنَةِ أَخَذَ ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِهَا حَدَثَ لَهُ حُكْمُ غَيْرِهَا ، وَهُوَ اسْتِخْلَافُ مَنِ ادَّعَى عَلَيْهِ ، وَإِنْ جَاءَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْيَمِينِ بَرِئَ ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِهَا لَزِمَهُ مَا نَكَلَ عَنْهُ ، وَلَمْ يَحْدُثْ لَهُ حُكْمُ غَيْرِهَا ، وَيَجُوزُ رَدُّ الْيَمِينِ كَمَا حَدَثَ لِلْمُدَّعِي ، إِنْ لَمْ يَأْتِ بِهَا حُكْمُ غَيْرِهِ ، وَهُوَ الْيَمِينُ ، وَإِذْ حَوَّلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَمِينَ حَيْثُ وَضَعَهَا ، فَكَيْفَ لَمْ تُحَوَّلْ كَمَا حَوَّلَهَا " .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ كَمَا قَالَ . إِذَا نَكَلَ الْمُنْكِرُ عَنِ الْيَمِينِ ، لَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ ، حَتَّى يَحْلِفَ الْمُدَّعِي ، فَيَسْتَحِقَّ الدَّعْوَى بِيَمِينِهِ لَا بِنُكُولِ خَصْمِهِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : " لَيْسَ النُّكُولُ إِقْرَارًا مِنْهُ بِالْحَقِّ ، وَلَا بَيِّنَةً لِلْمُدَّعِي ، فَلَا أَقْضِي عَلَيْهِ بِهِ . وَهَذَا صَحِيحٌ ، لِأَنَّ الْحُقُوقَ تَثْبُتُ بِالْإِقْرَارِ أَوِ الْبَيِّنَةِ ، وَلَيْسَ النُّكُولُ وَاحِدًا مِنْهَا ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْحُكَّامِ . وَسَوَاءٌ كَانَتِ الدَّعْوَى فِيمَا لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ كَالنِّكَاحِ ، وَالطَّلَاقِ ، وَالْخُلْعِ ، وَالرَّجْعَةِ ، وَالْقِصَاصِ ، وَالْعِتْقِ ، أَوْ كَانَتْ فِيمَا تَثْبُتُ بِشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ أَوْ شَاهِدٍ وَيَمِينٍ كَالْأَمْوَالِ أَوْ مَا يَكُونُ مَقْصُودُهُ الْمَالَ . وَقَالَ مَالِكٌ : لَا أَحْكُمُ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ ، لَكِنْ إِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى فِي مَالٍ يَثْبُتُ بِالشَّاهِدِ وَالْمَرْأَتَيْنِ رَدَدْتُ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعِي ، وَإِنْ كَانَتْ فِيمَا لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَالْقَتْلِ حَبَسْتُهُ حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يُقِرَّ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : أَحْكُمُ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ فِي الْأَمْوَالِ ، بَعْدَ أَنْ أَقُولَ لَهُ ثَلَاثًا : إِنْ حَلَفْتَ ، وَإِلَّا قَضَيْتُ عَلَيْكَ ، وَلَا أَحْكُمُ عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ فِي النُّكُولِ . وَخَالَفَهُ أَبُو يُوسُفَ ، فَحَكَمَ عَلَيْهِ فِي الْقَتْلِ بِالدِّيَةِ دُونَ الْقَوَدِ ، وَحَكَمَ عَلَيْهِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ بِالْقَوَدِ . وَإِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى فِي نِكَاحٍ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ نَسَبٍ لَمْ أُوجِبْ عَلَى الْمُنْكِرِ الْيَمِينَ ، وَلَمْ أَحْكُمْ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ . وَلِوُجُوبِ الْأَيْمَانِ فِي جَمِيعِ الدَّعَاوَى مَوْضِعٌ يَأْتِي ، وَهَذَا الْمَوْضِعُ مُخْتَصٌّ بِالنُّكُولِ عَنِ الْيَمِينِ إِذَا وَجَبَتْ عَلَى الْمُنْكِرِ ، هَلْ يُقْضَى عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ عَنْهَا ؟ وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَضَى عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ ، بِبِنَائِهِ عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ الْيَمِينَ تَخْتَصُّ بِالْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُنْقَلَ إِلَى الْمُدَّعِي ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُقْضَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ ، فَكَانَتِ الدَّلَائِلُ مُشْتَرِكَةً فِي الْمَوْضِعَيْنِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْحَضْرَمِيِّ حِينَ أَنْكَرَهُ الْكِنْدِيُّ : " أَلَكَ بَيِّنَةٌ " ؟ قَالَ : لَا . قَالَ : " لَكَ يَمِينُهُ لَيْسَ لَكَ مِنْهُ إِلَّا ذَاكَ ، فَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ حَقَّهُ فِي أَحَدِ أَمْرَيْنِ بَيِّنَتُهُ أَوْ يَمِينُ خَصْمِهِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لَا حَقَّ لَهُ فِي يَمِينِ نَفْسِهِ قَالُوا : وَلِأَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ لِلْمُدَّعِي ، وَالْيَمِينَ حُجَّةٌ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ تُنْقَلَ حُجَّةُ الْمُدَّعِي ، وَهِيَ الْبَيِّنَةُ إِلَى الْمُدَّعِي ؛ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَنْقِلَ حَقَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَهُوَ الْيَمِينُ إِلَى الْمُدَّعِي
قَالُوا : وَلِأَنَّ الْبَيِّنَةَ مَوْضُوعَةٌ لِلْإِثْبَاتِ ، وَالْيَمِينَ مَوْضُوعَةٌ لِلنَّفْيِ ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْدَلَ بِالْبَيِّنَةِ إِلَى النَّفْيِ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْدَلَ بِالْيَمِينِ إِلَى الْإِثْبَاتِ . قَالُوا : وَلِأَنَّهَا قَوْلُ الْمُدَّعِي ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَ بِهِ حُكْمٌ كَالدَّعْوَى . قَالُوا : وَلِأَنَّهُ رَجَّحَ دَعْوَاهُ بِقَوْلِهِ ، فَلَمْ يَقْضِ فِيهِ ، كَتَكْرِيرِ الدَّعْوَى .
فَصْلٌ : وَدَلِيلُنَا مِنَ الْكِتَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى : " أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ [ الْمَائِدَةِ : ] . أَيْ : بَعْدَ الِامْتِنَاعِ مِنَ الْأَيْمَانِ الْوَاجِبَةِ ، فَدَلَّ عَلَى نَقْلِ الْأَيْمَانِ مِنْ جِهَةٍ إِلَى جِهَةٍ هل هو جائز ؟ . وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ السُّنَّةِ مَا رَوَاهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " مَنْ طَلَبَ طَلَبَهُ بِغَيْرِ بَيَّنَةٍ ، فَالْمَطْلُوبُ أَوْلَى بِالْيَمِينِ مِنَ الْطَالِبِ " . وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " الْمَطْلُوبُ أَوْلَى بِالْيَمِينِ مِنَ الطَّالِبِ . فَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْ هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ أَنْ " أَوْلَى " . يُسْتَعْمَلُ حَقِيقَةً فِي الِاشْتِرَاكِ فِيمَا يَتَرَجَّحُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ ، كَقَوْلِكَ : زِيدٌ أَفْقَهُ مِنْ عَمْرٍو ، إِذَا اشْتَرَكَا فِي الْفِقْهِ ، وَزَادَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ . وَلَا يُقَالُ : زِيدٌ أَفْقَهُ فِيمَنْ لَيْسَ بِفَقِيهٍ ، إِلَّا عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ . فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلطَّالِبِ حَقٌّ فِي الْيَمِينِ لَمَا جُعِلَ الْمَطْلُوبُ أَوْلَى مِنْهُ ، فَيَكُونُ أَوْلَى فِي الِابْتِدَاءِ ، وَيُنْقَلُ عِنْدَ امْتِنَاعِهِ فِي الِانْتِهَاءِ . وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَى اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّ الْيَمِينَ عَلَى طَالِبِ حَقٍّ ، وَهَذَا نَصٌّ ذَكَرَهُ أَبُو الْوَلِيدِ فِي الْمُخَرَّجِ ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْأَنْصَارِ فَيَ دَعْوَى الْقَتْلِ عَلَى يَهُودِ خَيْبَرَ : " تَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبَكُمْ ؟ قَالُوا : لَا ، قَالَ : فَيُبَرِّئُكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ يَمِينًا " . فَدَلَّ هَذَا عَلَى نَقْلِ الْيَمِينِ مِنْ جِهَةٍ إِلَى جِهَةٍ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يَرَاهُ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ . وَرَوَى الشَّافِعِيُّ ، عَنْ مَالِكٍ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ ، أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَجْرَى فَرَسًا ، فَوَطِئَ عَلَى أُصْبُعِ رَجُلٍ مِنْ جُهَيْنَةَ ، فَتَأَلَّمَ مِنْهَا دَهْرًا ، ثُمَّ مَاتَ ، فَتَنَازَعُوا إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَقَالَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ : تَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا أَنَّهُ مَا مَاتَ مِنْهَا ، فَأَبَوْا ، فَقَالَ لِلْمُدَّعِينَ : احْلِفُوا أَنْتُمْ ، فَأَبَوْا . وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ مَشْهُورَةٌ فِي رَدِّ الْيَمِينِ لَمْ يَظْهَرْ فِيهَا مُخَالِفٌ .
وَقَدْ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى عُمَرَ ، فَحَلَفَ ، وَاسْتَحَقَّ ، وَرُدَّتْ عَلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، فَحَلَفَ . وَرُوِيَ أَنَّ الْمِقْدَادَ اقْتَرَضَ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ مَالًا ، قَالَ عُثْمَانُ : هِيَ سَبْعَةُ آلَافٍ ، فَاعْتَرَفَ الْمِقْدَادُ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ ، وَتَنَازَعَا إِلَى عُمَرَ ، فَقَالَ الْمِقْدَادُ لِعُثْمَانَ : احْلِفْ إِنَّهَا سَبْعَةُ آلَافٍ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : لَقَدْ أَنْصَفَكَ ، فَلَمْ يَحْلِفْ عُثْمَانُ ، فَلَمَّا وَلَّى الْمِقْدَادُ قَالَ عُثْمَانُ : وَاللَّهِ لَقَدْ أَقْرَضْتُهُ سَبْعَةَ آلَافٍ ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : لِمَ لَمْ تَحْلِفْ قَبْلُ أَوْلَى ؟ فَقَالَ : وَمَا عَلَيَّ أَنْ أَحْلِفَ ، وَاللَّهِ إِنَّ هَذِهِ لَأَرْضٌ وَاللَّهِ إِنَّ هَذِهِ لَسَمَاءٌ ، فَقَالَ عُثْمَانُ : خَشِيتُ أَنْ يُوافِقَ قَدَرَ بَلَاءٍ ، فَيُقَالَ : بِيَمِينِهِ . وَهَذَا مُسْتَفِيضٌ فِي الصَّحَابَةِ لَمْ يَظْهَرْ فِيهِمْ مُخَالِفٌ ، فَثَبَتَ أَنَّهُ إِجْمَاعٌ . فَإِنْ قِيلَ : قَدْ خَالَفَهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا ابْتَاعَ مِنْ رَجُلٍ عَبْدًا ، فَأَصَابَ بِهِ عَيْبًا ، فَتَرَافَعَا إِلَى شُرَيْحٍ ، فَقَالَ لِلْبَائِعِ : احْلِفْ ، فَقَالَ : أَرُدُّ الْيَمِينَ ، فَقَالَ شُرَيْحٌ : لَا ، فَقَالَ عَلِيٌّ : قَالُونَ ، وَهِيَ كَلِمَةٌ رُومِيَّةٌ قِيلَ : إِنْ مَعْنَاهَا جَيِّدٌ ، فَصَوَّبَ بِهَا امْتِنَاعَ شُرَيْحٍ مِنْ رَدِّ الْيَمِينِ ، فَصَارَ قَائِلًا بِهِ ، وَمَنَعَ هَذَا مِنِ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ . قِيلَ : هَذِهِ كَلِمَةٌ لَا تَعْرِفُ الْعَرَبُ مَعْنَاهَا ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ لُغَتِهِمْ ، وَلَوْ أَرَادَ مَا ذُكِرَ مِنْ مَعْنَاهَا : لَأَفْصَحَ بِهِ ، وَلَعَبَّرَ عَنْهُ بِمَا يُفْهَمُ مِنْهُ ، عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ : قَالُونَ بِمَعْنَى جَيِّدٍ ، يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنَّ مَا قَالَهُ شُرَيْحٌ جَيِّدٌ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنَّ مَا قَالَهُ الْبَائِعُ جَيِّدٌ ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مَعَ هَذَا الِاحْتِمَالِ ، مَا يَمْنَعُ مِنِ انْعِقَادِ إِجْمَاعٍ قَدِ انْتَفَى عَنْهُ الِاحْتِمَالُ .
فَصْلٌ : وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الِاعْتِبَارُ بِالْمَعَانِي الْمَعْقُولَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : امْتِنَاعُ الْحُكْمِ بِالنُّكُولِ . وَالثَّانِي : جَوَازُ رَدِّ الْيَمِينِ . فَأَمَّا امْتِنَاعُ الْحُكْمِ بِالنُّكُولِ فَدَلِيلُهُ مِنْ وُجُوهٍ مِنْهَا : أَنَّ إِثْبَاتَ الْحَقِّ لَا يَكُونُ بِنَفْيِهِ ، لِأَنَّهُ ضِدُّ مُوجِبِهِ ، وَمِنَ الْمُمْتَنِعِ أَنَّ وُجُودَ الضِّدِّ نَافٍ لِحُكْمِهِ ، وَمُثْبِتٌ لِحُكْمِ ضِدِّهِ ، كَالْإِقْرَارِ لَا يُوجِبُ إِنْكَارًا كَذَلِكَ الْإِنْكَارُ لَا يُوجِبُ إِقْرَارًا ، وَيَجْرِي هَذَا الِاسْتِدْلَالُ قِيَاسًا ، وَإِنْ كَانَ الِاسْتِدْلَالُ أَصَحَّ أَنَّهُ إِنْكَارٌ ، فَلَمْ يَثْبُتْ بِهِ حِكَمُ الْإِقْرَارِ ، كَالتَّكْذِيبِ لَا يَثْبُتُ بِهِ حَقُّ التَّصْدِيقِ . وَمِنْهَا أَنَّهُ نُكُولٌ عَنْ يَمِينٍ ، فَلَمْ يَجِبْ بِهَا قَبُولُ الْحَقِّ كَالْحَدِّ وَالْقِصَاصِ . فَإِنْ قِيلَ : النُّكُولُ حُجَّةٌ ضَعِيفَةٌ ، فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ بِهَا أَخَفُّ الْحُقُوقِ دُونَ أَغْلَظِهَا كَالشَّاهِدِ وَالْمَرْأَتَيْنِ يَثْبُتُ بِهَا الْأَمْوَالُ ، وَلَا يَثْبُتُ بِهَا الْحُدُودُ وَالْقِصَاصُ . قِيلَ : إِنَّمَا ضَعُفَ الشَّاهِدُ وَالْمَرْأَتَانِ لِنَقْصِ النِّسَاءِ عَنْ كَمَالِ الرِّجَالِ ، وَالنَّاكِلُ عَنْ
الْيَمِينِ كَامِلٌ ، وَجَبَ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى نُكُولِهِ حُكْمُ الْكَمَالِ ، وَلَمْ يَقَعْ بِهِ الْفَرْقُ بَيْنَ نُكُولِ الرِّجَالِ ، وَالنِّسَاءِ ، فَبَطَلَ بِهِ هَذَا التَّعْلِيلُ . فَإِنْ قِيلَ : النُّكُولُ عَنِ الْيَمِينِ يَجْرِي مَجْرَى تَرْكِ الْحَقِّ ، وَبَذْلُ الْأَمْوَالِ يَصِحُّ ، فَيَثْبُتُ بِالنُّكُولِ ، وَبَذْلُ الْحُدُودِ وَالنُّفُوسِ لَا يَصِحُّ ، فَلَمْ يَثْبُتْ بِالنُّكُولِ . قِيلَ : النُّكُولُ تَرْكٌ لِلْحُجَّةِ ، وَلَيْسَ بِبَذْلٍ لِلْحَقِّ ، وَلَوْ كَانَ بَذْلًا لَثَبَتَ حُكْمُهُ بِالنُّكُولِ الْأَوَّلِ كَسَائِرِ الْبُذُولِ ، وَهُمْ لَا يُثْبِتُونَهُ إِلَّا بَعْدَ نُكُولِهِ ثَلَاثًا ، فَخَرَجَ عَنْ صِفَةِ الْبَذْلِ ، فَزَالَ عَنْهُ حُكْمُ الْبَذْلِ ، وَيَتَحَرَّرُ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى قِيَاسَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ نُكُولٌ لَا يُقْضَى بِهِ فِي الْقِصَاصِ ، فَلَمْ يُقْضَ بِهِ فِي الْأَمْوَالِ كَالنُّكُولِ الْأَوَّلِ . وَالْقِيَاسُ الثَّانِي : أَنَّهُ حَقٌّ لَا يَثْبُتُ بِالنُّكُولِ الْأَوَّلِ ، فَلَمْ يَثْبُتْ بِالنُّكُولِ الثَّالِثِ كَالْقِصَاصِ . وَمِنْهَا : أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَوْ سَكَتَ عَنْ جَوَابِ الدَّعْوَى ، فَلَمْ يُقِرَّ ، وَلَمْ يُنْكِرْ لَمْ يُقْضَ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، فَكَانَ إِذَا أَنْكَرَ وَنَكَلَ أَوْلَى أَنْ يُقْضَى عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ السُّكُوتَ يَحْتَمِلُ الْإِقْرَارَ ، وَالْإِنْكَارَ لَا يَحْتَمِلُ الْإِقْرَارَ . وَالثَّانِي : أَنَّ فِي سُكُوتِهِ امْتِنَاعًا مِنْ أَمْرَيْنِ : الْجَوَابُ وَالْيَمِينُ وَفِي نُكُولِهِ امْتِنَاعٌ مِنَ الْيَمِينِ دُونَ الْجَوَابِ ، فَكَانَ امْتِنَاعُهُ مِنْ أَحَدِهِمَا أَخَفَّ حُكْمًا مِنِ امْتِنَاعِهِ مِنْهُمَا وَيَتَحَرَّرُ مِنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ امْتِنَاعٌ مِنْ لَفْظٍ وَجَبَ بِالدَّعْوَى ، فَلَمْ يُوجِبِ الْحُكْمَ بِالدَّعْوَى كَالثَّالِثِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَحَدُ لَفْظَيْ مَا وَجَبَ بِالدَّعْوَى ، فَلَمْ يَكُنِ السُّكُوتُ عَنْهُ مُوجِبًا لِلْحُكْمِ بِالدَّعْوَى كَالْجَوَابِ . وَمِنْهَا : أَنْ يَمِينَ الْمُنْكَرِ يَقْطَعُ الْخُصُومَةَ ، وَلَا يُسْقِطُ الْحَقَّ ، لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ لَوْ قَامَتْ بِهِ بَعْدَ الْيَمِينِ وَجَبَ ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَثْبُتَ بِالنُّكُولِ عَنْهَا مَا كَانَ مُنْقَطِعًا ، وَهُوَ بَقَاءُ الْخُصُومَةِ لَا ثُبُوتُ الْحَقِّ كَمَا أَنَّ الْبَيِّنَةَ لَمَّا كَانَتْ مُوجِبَةً لِثُبُوتِ الْحَقِّ كَانَ الْعَدْلُ عَنْهَا مَانِعًا مِنْ سُقُوطِهِ بِهَا .
وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا هُوَ أَنَّ مَا يَثْبُتُ بِحُجَّةٍ وُقِفَ بِعَدَمِهَا كَالْبَيِّنَةِ .
فَصْلٌ : وَالْوَجْهُ الثَّانِي فِي جَوَازِ رَدِّ الْيَمِينِ فَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى هُوَ أَنَّ يَمِينَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حُجَّةٌ لَهُ فِي النَّفْيِ ، كَمَا أَنَّ بَيِّنَةَ الْمُدَّعِي حِجَّةٌ لَهُ فِي الْإِثْبَاتِ ، فَلَمَّا كَانَ تَرْكُ الْمُدَّعِي لِحُجَّتِهِ مُوجِبًا لِلْعُدُولِ إِلَى يَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَرْكُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِحُجَّتِهِ مُوجِبًا لِلْعُدُولِ إِلَى يَمِينِ الْمُدَّعِي . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّهَا حُجَّةُ أَحَدِ الْمُتَدَاعِيَيْنِ ابْتِدَاءً ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَرْكُهَا مُوجِبًا لِلْعُدُولِ إِلَى يَمِينِ صَاحِبِهِ ، كَتَرْكِ الْبَيِّنَةِ . فَإِنْ قِيلَ : هَذَا بَاطِلٌ تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي إِذَا امْتَنَعَ مِنْهَا لَمْ يُوجِبْ رَدَّهَا عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، قُلْنَا : التَّعْلِيلُ إِنَّمَا كَانَ لِلْحُجَّةِ الْمُبْتَدَأَةِ ، وَبِذَلِكَ قُلْنَا : إِنَّهَا حُجَّةُ أَحَدِ الْمُتَدَاعِيَيْنِ ابْتِدَاءً ، وَلَيْسَتْ يَمِينُ الرَّدِّ مِنَ الْحُجَجِ الْمُبْتَدَأَةِ ، فَلَمْ يَقْدَحْ فِي التَّعْلِيلِ . فَإِنْ قَالُوا : نَقْلِبُهَا ، فَنَقُولُ : لِأَنَّهَا حُجَّةُ أَحَدِ الْمُتَدَاعِيَيْنِ ، فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْهَا لَمْ تُنْقَلْ إِلَى جَنَبَةِ صَاحِبِهِ ، كَالْبَيِّنَةِ . قُلْنَا : نَقُولُ بِهَذَا الْقَلْبِ ، لِأَنَّ يَمِينَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِلنَّفْيِ ، وَهِيَ لَا تُنْقَلُ إِلَى الْمُدَّعِي ، وَإِنَّمَا تُنْقَلُ إِلَيْهِ يَمِينُ الْإِثْبَاتِ ، وَبَيِّنَةُ الْمُدَّعِي لِإِثْبَاتٍ ، وَنَقْلُهَا إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِلنَّفْيِ ، وَالْبَيِّنَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْإِثْبَاتِ دُونَ النَّفْيِ ، وَالْيَمِينُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ ، فَصَحَّ قَلْبُنَا ، وَفَسَدَ قَلْبُهُمْ . وَلِأَنَّ أُصُولَ الشَّرْعِ مَوْضُوعَةٌ عَلَى إِثْبَاتِ الْيَمِينِ فِي جَنَبَةِ أَقْوَى الْخَصْمَيْنِ ، وَأَقْوَاهُمَا فِي الِابْتِدَاءِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ : لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ ، مِمَّا ادُّعِيَ عَلَيْهِ وَثُبُوتُ مِلْكِهِ عَلَى مَا فِي يَدِهِ ، فَجُعِلَتِ الْيَمِينُ فِي جَنَبَتِهِ ، فَلَمَّا نَكَلَ فِيهَا ، صَارَ الْمُدَّعِي أَقْوَى مِنْهُ : لِأَنَّ تَوَقُّفَهُ عَنِ الْيَمِينِ شُبْهَةٌ فِي صِحَّةِ الدَّعْوَى ، فَصَارَ الْمُدَّعِي بِهَا أَقْوَى مِنْهُ ، فَاسْتَحَقَّتِ الْيَمِينُ فِي جَنَبَتِهِ ، لِقُوَّتِهِ . كَمَا ثَبَتَتْ فِي جَنَبَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَالَ ثُبُوتِ قُوَّتِهِ . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا : أَنَّهَا جَنَبَةٌ قَوِيَتْ عَلَى صَاحِبَتِهَا ، فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ الْيَمِينُ مِنْ جِهَتِهَا كَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَبْلَ النُّكُولِ ، وَهِيَ حَالُ قُوَّتِهَا .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ بِنَائِهِمْ عَلَى رَدِّ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ ، فَهُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ إِثْبَاتِ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ .
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِقَوْلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْحَضْرَمِيِّ : " لَكَ يَمِينُهُ لَيْسَ لَكَ مِنْهُ إِلَّا ذَاكَ " . فَهُوَ أَنَّ خَصْمَهُ كَانَ بَاذِلًا لِلْيَمِينِ ، وَلَيْسَ لِلطَّالِبِ مَعَ بَذْلِ الْيَمِينِ إِلَّا الْيَمِينُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْبَيِّنَةِ ، فَهُوَ أَنَّ الْبَيِّنَةَ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْإِثْبَاتِ دُونَ النَّفْيِ ، فَلَمْ تُنْقَلْ إِلَى جَنَبَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ يَنْفِي بِهَا ، وَلَا يُثْبِتُ ، وَالْيَمِينُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ جَمِيعًا ، فَجَازَ نَقْلُهَا عَنِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَنْفِ بِهَا إِلَى الْمُدَّعِي لِيُثْبِتَ بِهَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : إِنَّ يَمِينَ الْمُدَّعِي مِنْ قَوْلِهِ كَالدَّعْوَى ، فَهُوَ أَنَّ الْيَمِينَ حُجَّةٌ تُخَالِفُ الْقَوْلَ ، كَمَا أَنَّ يَمِينَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ تُخَالِفُ الْإِنْكَارَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْإِنْكَارُ حُجَّةً ، فَصَارَتْ يَمِينُ الْمُدَّعِي حُجَّةً ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ دَعْوَاهُ حُجَّةً . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى تَكْرَارِ الدَّعْوَى مِرَارًا ، فَهُوَ أَنَّ تَكْرَارَ الْإِنْكَارِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ حُجَّةً لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، لَمْ يَكُنْ تَكْرَارُ الدَّعْوَى حُجَّةً لِلْمُدَّعِي ، وَلَمَّا كَانَتِ الْيَمِينُ حُجَّةً لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ جَازَ أَنْ تَكُونَ حُجَّةً لِلْمُدَّعِي . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ النُّكُولَ عَنِ الْيَمِينِ لَا يُوجِبُ ثُبُوتَ الْحَقِّ ، فَهُوَ مُعْتَبَرٌ فِيمَا أَمْكَنَ مِنْ رَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي . فَأَمَّا مَا تَعَذَّرَ فِيهِ رَدُّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي ، فَقَدْ ذَكَرَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ مَسْأَلَتَيْنِ ، وَلَهُمَا نَظَائِرُ ، خَرَّجَ الْحُكْمَ فِيهَا بِالنُّكُولِ عَلَى وَجْهَيْنِ : إِحْدَى الْمَسْأَلَتَيْنِ فِيمَنْ مَاتَ ، وَلَا وَارِثَ لَهُ ، إِلَّا كَافَّةُ الْمُسْلِمِينَ ، فَظَهَرَ فِي حِسَابِهِ الْمَوْثُوقِ بِهِ دَيْنٌ عَلَى رَجُلٍ أَنْكَرَهُ ، وَنَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ ، أَوْ شَهِدَ بِهِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ لَمْ تَكْمُلْ بِهِ الْبَيِّنَةُ إِلَّا مَعَ يَمِينٍ ، فَالْيَمِينُ هَاهُنَا فِي الرَّدِّ وَمَعَ الشَّاهِدِ مُتَعَذِّرَةٌ ، لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لَهُ كَافَّةُ الْمُسْلِمِينَ ، وَإِحْلَافُهُمْ جَمِيعُهُمْ غَيْرُ مُمْكِنٍ ، وَإِحْلَافُ بَعْضِهِمْ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ ، وَالْإِمَامُ وَإِنْ تَعَيَّنَ فِي الْمُطَالَبَةِ ، فَهُوَ نَائِبٌ ، وَالنِّيَابَةُ فِي الْأَيْمَانِ لَا تَصِحُّ . وَإِذَا امْتَنَعَ الرَّدُّ فِي الْأَيْمَانِ بِمَا ذَكَرْنَا ، فَفِي الْحُكْمِ بِالنُّكُولِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ : أَحَدُهُمَا : يُحْكَمُ بِالنُّكُولِ ، لِأَنَّهُ مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ خَرَجَ عَنْ حُكْمِ الْإِمْكَانِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ اعْتِبَارًا بِمُوجَبِ الْأَصْلِ ، الَّذِي تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ وَلَكِنْ يُحْبَسُ حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يَعْتَرِفَ بِالْحَقِّ ، فَهَذِهِ إِحْدَى الْمَسْأَلَتَيْنِ . وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي رَجُلٍ ادَّعَى عَلَى وَرَثَةٍ أَنَّ مَيِّتَهُمْ وَصَّى إِلَيْهِ بِإِخْرَاجِ ثُلُثِهِ مِنْ