كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي
وَحْدَهُ وَإِنْ لَمْ يُكَفِّرْ فِي إِيلَائِهِ وَأَعْتَقَ ذَلِكَ الْعَبْدَ فِيهِ عَنْ ظِهَارِهِ خَرَجَ بِعِتْقِهِ عَنْ حُكْمِ الْإِيلَاءِ ، وَفِي إِجْزَاءِ عِتْقِهِ عَنْ ظِهَارِهِ وَجْهَانِ عَلَى مَا مَضَى : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ يُجْزِئُهُ عَنِ الظِّهَارِ لِتَعْيِينِ عِتْقِهِ بَعْدَ وُجُودِ الظِّهَارِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجْزِيهِ ذَلِكَ عَنْ ظِهَارِهِ ، لِأَنَّهُ عِتْقٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ ظِهَارِهِ وَبَيْنَ إِيلَائِهِ ، فَهَذَا حُكْمُ إِيلَائِهِ إِنْ فَاءَ فِيهِ ، فَأَمَّا إِنْ طَلَّقَ فَقَدْ خَرَجَ بِالطَّلَاقِ مِنْ حُكْمِ الْإِيلَاءِ وَكَانَ مُخَيَّرًا فِي الظِّهَارِ بَيْنَ عِتْقِ ذَلِكَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ عِتْقِ غَيْرِهِ ، لِأَنَّ النَّذْرَ لَمْ يَلْزَمْ لِعَدَمِ الْوَطْءِ فَكَانَ فِي الظِّهَارِ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ فِي عِتْقِ أَيِّ عَبْدٍ شَاءَ ، فَإِنْ أَعْتَقَ ذَلِكَ الْعَبْدَ أَجْزَأَهُ وَجْهًا وَاحِدًا كَمَا يَجْزِيهِ عِتْقُ غَيْرِهِ : لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ بِعِتْقِهِ مِنْ حَقِّ الْإِيلَاءِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ رَاجَعَ فِي الْعِدَّةِ بَعْدَ طَلَاقِهِ نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَتْ رَجْعَتُهُ قَبْلَ الْعِتْقِ عَنْ ظِهَارِهِ عَادَ الْإِيلَاءُ ، وَاسْتُؤْنِفَ لَهُ الْوَقْفُ كَالِابْتِدَاءِ ، وَإِنْ كَانَتْ رَجْعَتُهُ بَعْدَ الْعِتْقِ عَنْ ظِهَارِهِ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَعْتَقَ ذَلِكَ الْعَبْدَ أَوْ أَعْتَقَ غَيْرَهُ فَإِنْ كَانَ قَدْ أَعْتَقَ غَيْرَهُ عَادَ الْإِيلَاءُ بَعْدَ رَجْعَتِهِ لِبَقَاءِ الْعَبْدِ الَّذِي يَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ عِتْقِهِ وَكَفَّارَتِهِ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَعْتَقَ ذَلِكَ الْعَبْدَ فَفِي عَوْدِ الْإِيلَاءِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَعُودُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِفَوَاتِ الْعَبْدِ الْمَنْذُورِ فِي الْإِيلَاءِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ قَدْ بَاعَ الْعَبْدَ فِي مُدَّةِ الْوَقْفِ سَقَطَ حُكْمُ الْإِيلَاءِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ حُكْمَ الْإِيلَاءِ يَعُودُ لِأَنَّ حُكْمَ نَذْرِهِ يَتَعَلَّقُ بِالْكَفَّارَةِ كَتَعَلُّقِهِ بِعِتْقِهِ ، وَالْكَفَّارَةُ مَقْدُورٌ عَلَيْهَا فَقَامَتْ مَقَامَ وُجُودِهِ وَيَكُونُ وَجُودُهُ مُوجِبًا لِلتَّخْيِيرِ بَيْنَ عِتْقِهِ وَبَيْنَ التَّكْفِيرِ وَفَوَاتُ عِتْقِهِ مُسْقِطًا لِلتَّخْيِيرِ مُوجِبًا لِلتَّكْفِيرِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ بَاعَ الْعَبْدَ فِي مُدَّةِ الْوَقْفِ أَوْ مَاتَ لَمْ يَسْقُطِ الْإِيلَاءُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ . مَسْأَلَةٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ آلَى ثَمَّ قَالَ لِأُخْرَى قَدْ أَشْرَكْتُكِ مَعْهَا فِي الْإِيلَاءِ لَمْ تَكُنْ شَرِيكَتَهَا لِأَنَّ الْيَمِينَ لَزِمَتْهُ لِلْأُولَى وَالْيَمِينُ لَا يُشْتَرَكُ فِيهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الْإِيلَاءَ اليمين في الايلاء عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مَعْقُودًا عَلَى الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَعْقُودًا بِكُلِّ يَمِينٍ لَازِمَةٍ ، فَإِنْ عَقْدَهَا بِاللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ لِإِحْدَى زَوْجَتَيْهِ ، وَاللَّهِ لَا أَصَبْتُكِ ثُمَّ قَالَ لِلْأُخْرَى وَأَنْتِ شَرِيكَتُهَا يَعْنِي فِي الْإِيلَاءِ كَانَ مُولِيًا مِنَ الْأُولَى ، وَلَمْ يَكُنْ مُولِيًا مِنَ الثَّانِيَةِ ، وَلَوْ طَلَّقَ إِحْدَاهُمَا وَقَالَ لِلْأُخْرَى وَأَنْتِ شَرِيكَتُهَا يَعْنِي فِي الطَّلَاقِ كَانَ مُطَلِّقًا لَهُمَا وَهَكَذَا لَوْ ظَاهَرَ مِنْ إِحْدَاهُمَا ثُمَّ قَالَ لِلْأُخْرَى وَأَنْتِ شَرِيكَتُهَا يَعْنِي فِي الظِّهَارِ كَانَ مُظَاهِرًا مِنْهُمَا فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ لَمْ تَكُنِ الثَّانِيَةُ شَرِيكَةَ الْأُولَى
فِي الْإِيلَاءِ إِذَا أَرَادَهُ وَكَانَتْ شَرِيكَةً لَهَا فِي الطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ إِذَا أَرَادَهُ ؟ قِيلَ : لِأَنَّ الْإِيلَاءَ يَمِينٌ بِاللَّهِ تَعَالَى لَا تَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ وَالطَّلَاقُ وَالظِّهَارُ يَقَعَانِ وَيَنْعَقِدَانِ بِالْكِنَايَةِ أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ إِنْ حَلَفَ زَيْدٌ بِاللَّهِ تَعَالَى فَأَنَا حَالِفٌ بِهِ ، لَمْ يَصِرْ حَالِفًا إِذَا حَلَفَ زَيْدٌ وَلَوْ قَالَ إِنْ طَلَّقَ زَيْدٌ فَامْرَأَتِي طَالِقٌ لَزِمَهُ الطَّلَاقُ بِطَلَاقِ زَيْدٍ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي دُخُولِ الْكِنَايَةِ فِي الطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ ، وَانْتِفَاءِ الْكِنَايَةِ عَنِ الْيَمِينِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْيَمِينَ بِاللَّهِ تَعَالَى حُرْمَةُ التَّعْظِيمِ فَلَمْ يَجُزْ لِعِظَمِ حُرْمَتِهِ أَنْ يُكَنَّى عَنْهُ ، وَلَيْسَ لِلطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ حُرْمَةُ تَعْظِيمٍ فَجَازَتِ الْكِنَايَةُ عَنْهُمَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَصِحَّ النِّيَابَةُ فِي الْيَمِينِ تَغْلِيظًا لَمْ تَصِحَّ فِيهَا الْكِنَايَةُ ، وَلَمَّا صَحَّتِ النِّيَابَةُ فِي الطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ تَخْفِيفًا صَحَّتِ فِيهِمَا الْكِنَايَةُ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي صِحَّةِ النِّيَابَةِ فِي الطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ ، وَانْتِفَاءِ النِّيَابَةِ عَنِ الْيَمِينِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَقْصُودَ الْيَمِينِ التَّعْظِيمُ فَلَمْ تَصِحَّ فِيهِ النِّيَابَةُ ، وَمَقْصُودَ الطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ التَّحْرِيمُ فَصَحَّ فِيهِ النِّيَابَةُ . وَالثَّانِي : أَنَّ تَأْثِيرَ الْيَمِينِ فِي الْحَالِفِ ، فَلَمْ يَجُزِ اسْتِنَابَةُ غَيْرِهِ ، وَتَأْثِيرَ الطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ فِي غَيْرِهِ فَجَازَ فِيهِمَا اسْتِنَابَةُ غَيْرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي : وَهُوَ إِذَا عَقَدَهَا بِعِتْقٍ أَوْ طَلَاقٍ وَجَعَلْنَاهُ مُولِيًا بِهِمَا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ فَإِذَا قَالَ لِإِحْدَى زَوْجَتَيْهِ إِنْ وَطِئْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ فَعَبْدِي حُرٌّ ، ثُمَّ قَالَ لِلْأُخْرَى وَأَنْتِ شَرِيكَتُهَا ، سُئِلَ عَنْ إِرَادَتِهِ وَلَهُ فِي الْإِرَادَةِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَقُولَ : أَرَدْتُ بِقَوْلِي أَنْتِ شَرِيكَتُهَا ، أَنَّنِي مَتَى وَطِئْتُ الثَّانِيَةَ مَعَ الْأُولَى ، فَالْأُولَى طَالِقَةٌ فَهَذَا يَكُونُ مُولِيًا مِنَ الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ وَلَا تَكُونُ الثَّانِيَةُ شَرِيكَةً لِلْأُولَى ، وَلَا يَكُونُ وَطْؤُهَا شَرْطًا فِي طَلَاقِ الْأُولَى : لِأَنَّهُ عَلَّقَ طَلَاقَ الْأُولَى بِشَرْطٍ وَاحِدٍ وَهُوَ وَطْؤُهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَضُمَّ إِلَيْهِ شَرْطًا ثَانِيًا بِوَطْءِ الثَّانِيَةِ ، لِمَا فِيهِ مِنْ رَفْعِ حُكْمِ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ بَعْدَ انْعِقَادٍ ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ : إِنْ كَلَّمْتِ زَيْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ ، ثُمَّ قَالَ : وَإِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ يُرِيدُ أَنَّ طَلَاقَهَا لَا يَقَعُ بِكَلَامِ زَيْدٍ حَتَّى تَدْخُلَ الدَّارَ ، لَمْ يَثْبُتِ الشَّرْطُ الثَّانِي ، وَتَعَلَّقَ الطَّلَاقُ بِوُجُودِ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَقُولَ : أَرَدْتُ بِقَوْلِي : أَنْتِ شَرِيكَتُهَا أَنَّنِي مَتَى وَطِئْتُ الْأُولَى فَهِيَ طَالِقٌ مَعَ الثَّانِيَةِ فَهَذَا يَكُونُ مُولِيًا مِنَ الْأُولَى عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ مُشَارَكَةِ الثَّانِيَةِ لَهَا وَحَالِفًا بِطَلَاقِ الثَّانِيَةِ ، وَلَا يَكُونُ مُولِيًا مِنْهَا ، لِأَنَّهُ عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِوَطْءِ الْأُولَى لَا بِوَطْئِهَا .
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَقُولَ أَرَدْتُ بِقَوْلِي : وَأَنْتِ شَرِيكَتُهَا أَنَّنِي مَتَى وَطِئْتُ الْأُولَى وَالثَّانِيَةَ فَهُمَا طَالِقَانِ فَقَدْ زَادَ بِهَذَا شَرْطًا ثَانِيًا فِي طَلَاقِ الْأُولَى ، فَلَمْ يَثْبُتْ وَكَانَ طَلَاقُهَا مُعَلَّقًا بِالشَّرْطِ الْأَوَّلِ وَهُوَ وَطْؤُهَا وَالشَّرْطُ الثَّانِي وَهُوَ وَطْءُ الثَّانِيَةِ لَغْوٌ فِي طَلَاقِ الْأُولَى ، ثُمَّ قَدْ عَلَّقَ طَلَاقَ الثَّانِيَةِ بِشَرْطَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَطْءُ الْأُولَى . وَالثَّانِي : وَطْءُ الثَّانِيَةِ ، فَلَا يَكُونُ مُولِيًا مِنَ الثَّانِيَةِ مَا لَمْ يَطَأِ الْأُولَى لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى وَطْءِ الثَّانِيَةِ ، وَلَا يَقَعُ طَلَاقُهَا فَإِذَا وَطِئَ الْأُولَى صَارَ حِينَئِذٍ مُولِيًا مِنَ الثَّانِيَةِ لِأَنَّهُ مَتَى وَطِئَهَا طُلِّقَتْ . وَالْحَالَةُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَقُولَ أَرَدْتُ بِقَوْلِي وَأَنْتِ شَرِيكَتُهَا أَنَّنِي مَتَى وَطِئْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، كَمَا أَنَّنِي مَتَى وَطِئْتُ الْأُولَى كَانَتْ طَالِقًا ، فَهَذَا يَكُونُ مُولِيًا مِنَ الثَّانِيَةِ لِأَنَّهُ مَتَى وَطِئَهَا وَحْدَهَا طُلِّقَتْ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَجْعَلَهَا شَرِيكَتَهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الرَّابِعَةِ فَيَكُونَ مُولِيًا إِذَا كَانَتْ يَمِينُهُ بِالطَّلَاقِ ، وَلَا يَكُونَ فِيهَا مُولِيًا إِذَا كَانَتْ يَمِينُهُ بِاللَّهِ تَعَالَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ هَذَا كِنَايَةٌ تَنْعَقِدُ بِهَا الْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ ، وَلَا تَنْعَقِدُ بِهِ الْيَمِينُ بِاللَّهِ تَعَالَى .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ قَالَ إِنْ قَرَبْتُكِ فَأَنْتِ زَانِيَةٌ الإيلاء فَلَيْسَ بِمُولٍ وَإِنْ قَرَبَهَا فَلَيْسَ بِقَاذِفٍ إِلَّا بِقَذْفٍ صَرِيحٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ هَذَا مُولِيًا ، لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى إِصَابَتِهَا مِنْ غَيْرِ الْتِزَامِ شَيْءٍ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ لِأَنَّهُ عَلَّقَ إِصَابَتَهَا بِقَذْفٍ ، وَلَيْسَ بِقَذْفٍ ، وَلَا حَدَّ فِيهِ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ قَذْفًا لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ جَعَلَ وَطْأَهُ لَهَا زِنًا ، وَهُوَ يَطَؤُهَا بِعَقْدِ نِكَاحٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ زِنًا ، فَتَحَقَّقْنَا كَذِبَهُ فِيهِ ، فَصَارَ كَقَوْلِهِ كُلُّ النَّاسِ زُنَاةٌ فَلَا يَكُونُ قَذْفًا وَلَا يُوجِبُ حَدًّا لِيَقِينِ كَذِبِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْقَذْفَ بِالزِّنَا إِخْبَارٌ عَنْ فِعْلٍ مَاضٍ وَهَذَا مُعَلَّقٌ بِفِعْلٍ مُسْتَقْبَلٍ ، فَلَمْ يَكُنْ قَذْفًا كَمَا لَوْ قَالَ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ زَانِيَةٌ لَمْ يَكُنْ قَذْفًا . وَالثَّالِثُ : أَنَّ الْقَذْفَ مَا كَانَ مُطْلَقًا ، وَهَذَا مُعَلَّقٌ بِصِفَةٍ ، فَلَمْ يَصِرْ بِوُجُودِ الصِّفَةِ قَذْفًا كَمَا لَوْ قَالَ إِنْ كَلَّمْتِ زَيْدًا فَأَنْتِ زَانِيَةٌ ، لَمْ يَكُنْ قَذْفًا وَإِنْ كَلَّمَتْهُ فَصَارَ فَسَادُ هَذَا الْقَذْفِ يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ وَسُقُوطُ الْحَدِّ يَمْنَعُ مِنْ دُخُولِ الضَّرَرِ عَلَيْهِ بِالْوَطْءِ وَمَنْعُ الضَّرَرِ بِالْوَطْءِ يُخْرِجُهُ مِنَ الْإِيلَاءِ .
مَسْأَلَةٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ قَالَ لَا أُصِيبُكِ سَنَةً إِلَّا مَرَّةً لَمْ يَكُنْ مُولِيًا فَإِنْ وَطِئَ وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ مِنَ السَّنَةِ أَكْثَرُ مِنَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَهُوَ مُولٍ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَلَيْسَ بِمُولٍ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا قَالَ وَاللَّهِ لَا أَصَبْتُكِ سَنَةً إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فَقَدَّرَ مُدَّةَ يَمِينِهِ بِسَنَةٍ وَاسْتَثْنَى مِنْهَا وَطْءَ مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ ، وَالْمَشْهُورُ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ ، أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُولِيًا لِأَنَّ الْمُولِيَ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْوَطْءِ إِلَّا بِالْحِنْثِ ، وَهَذَا يَقْدِرُ عَلَى وَطْءٍ تِلْكَ الْمَرَّةَ بِغَيْرِ حِنْثٍ فَلَمْ يَكُنْ فِي الْحَالِ مُولِيًا . وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ : يَكُونُ مُولِيًا فِي الْحَالِ . وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، فَخَرَّجَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ قَوْلًا ثَانِيًا ، أَنَّهُ يَكُونُ فِي الْحَالِ مُولِيًا تَعْلِيلُهُ أَنَّ الْمُولِيَ مَنْ يَدْخُلُ عَلَيْهِ بِالْوَطْءِ ضَرَرٌ وَهَذَا قَدْ يَدْخُلُ عَلَيْهِ بِالْوَطْءِ الْأَوَّلِ ضَرَرٌ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِهِ مُولِيًا وَالْإِيلَاءُ ضَرَرٌ فَكَانَ مَا أَدَّى إِلَيْهِ ضَرَرًا فَلِذَلِكَ صَارَ بِهِ مُولِيًا وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُولِيَ مَنِ امْتَنَعَ مِنَ الْوَطْءِ بِيَمِينٍ وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي وَطْءِ هَذِهِ الْمَرَّةِ يَمِينٌ فَلَمْ يَكُنْ مُولِيًا . وَالثَّانِي : أَنَّ ضَرَرَ الْإِيلَاءِ الْتِزَامُ مَا لَا يَلْزَمُ ، وَهَذَا لَيْسَ يَلْزَمُهُ بِالْوَطْءِ الْأَوَّلِ شَيْءٌ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي الْحَالِ مُولِيًا ، وَإِذَا كَانَ هَكَذَا نُظِرَ ، فَإِنْ لَمْ يَطَأْ حَتَّى مَضَتِ السَّنَةُ سَقَطَتِ الْيَمِينُ ، وَلَمْ يُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ فِي السَّنَةِ مُطَالَبَةٌ ، وَإِنْ وَطِئَ فِي السَّنَةِ مَرَّةً لَمْ يَحْنَثْ بِهِ لِأَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنْ يَمِينِهِ ، وَيَصِيرُ الْحِنْثُ مُعَلَّقًا بِالْوَطْءِ فِي بَقِيَّةِ السَّنَةِ ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ نُظِرَ فِي بَاقِي السَّنَةِ ، فَإِنْ كَانَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَمَا دُونَ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا ، وَإِنْ كَانَ حَالِفًا لِقُصُورِهِ عَنْ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ ، وَإِنْ كَانَ الْبَاقِي مِنْهَا أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ صَارَ مُولِيًا وَتُضْرَبُ لَهُ مُدَّةُ الْإِيلَاءِ ، لِأَنَّ زَمَانَ الْحِنْثِ يَتَّسِعُ لِمُدَّةِ الْوَقْفِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ : وَاللَّهِ لَا أَصَبْتُكِ سَنَةً إِلَّا مَرَّتَيْنِ الإيلاء فَعَلَى مَا حَكَيْنَاهُ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ يَكُونُ مُولِيًا فِي الْحَالِ ، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ فِي الْحَالِ مُولِيًا ، لِاسْتِثْنَائِهِ مِنْ مُدَّةِ يَمِينِهِ وَطْءَ مَرَّتَيْنِ ، فَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى الْوَطْءِ فِي الْحَالِ بِغَيْرِ حِنْثٍ ، فَإِذَا وَطِئَ مَرَّةً لَمْ يَحْنَثْ وَلَا يَصِيرُ بِهَا مُولِيًا ، لِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ مِنَ اسْتِثْنَائِهِ وَطْءٌ مَرَّةً أُخْرَى . فَإِذَا وَطِئَ الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ وَفِي السَّنَةِ بَقِيَّةٌ وَقَعَ الْحِنْثُ بِهِ وَإِنْ وَطِئَ بَعْدَهَا فَيُنْظَرُ فِي بَقِيَّةِ السَّنَةِ ، فَإِذَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ صَارَ مُولِيًا ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا وَإِنْ كَانَ حَالِفًا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ قَالَ إِنْ أَصَبْتُكِ فَوَاللَّهِ لَا أَصَبْتُكِ الإيلاء لَمْ يَكُنْ مُولِيًا حَتَى يُصِيبَهَا فَيَكُونَ مُولِيًا
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ كَالَّتِي قَبْلَهَا فِي أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ يَمِينِهِ وَطْءَ مَرَّةٍ ، وَمُخَالِفَةٌ لَهَا فِي أَنَّ تِلْكَ مَقْدِرَةٌ بِسَنَةٍ وَهَذِهِ مُطْلَقَةٌ عَلَى الْأَبَدِ ، فَإِذَا قَالَ لَهَا : إِنْ وَطِئْتُكِ فَوَاللَّهِ لَا وَطِئْتُكِ الإيلاء فَهُوَ كَقَوْلِهِ : وَاللَّهِ لَا وَطِئْتُكِ إِلَّا مَرَّةً ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ لَا يَكُونُ فِي الْحَالِ مُولِيًا لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى وَطْئِهَا فِي الْحَالِ مِنْ غَيْرِ حِنْثٍ ، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ يَكُونُ فِي الْحَالِ مُولِيًا ، يُسْتَضَرُّ بِوَطْئِهِ فِي الْحَالِ لِانْعِقَادِ الْإِيلَاءِ بِهِ ، وَقَدْ أَبْطَلْنَاهُ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى ، وَإِذَا كَانَ هَكَذَا وَصَحَّ بِهِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ ، لَمْ يَكُنْ فِي الْحَالِ مُولِيًا مَا لَمْ يَطَأْ ، وَلَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةُ ، وَإِنْ تَطَاوَلَ بِهِ الزَّمَانُ ، لِخُرُوجِهِ عَنْ حُكْمِ الْإِيلَاءِ فَإِذَا وَطِئَ مَرَّةً صَارَ حِينَئِذٍ مُولِيًا عَلَى الْإِطْلَاقِ ، لِأَنَّ زَمَانَ يَمِينِهِ مُؤَبَّدٌ غَيْرُ مُقَدَّرٍ ، بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى ، فَيُوقَفُ لَهَا مِنْهُ لِلْإِيلَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ قَالَ وَاللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ حَتَّى يَخْرُجَ الدَّجَّالُ الإيلاء أَوْ حَتَّى يَنْزِلَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ أَوْ حَتَّى يَقْدَمَ فُلَانٌ أَوْ يَمُوتَ أَوْ تَمُوتِي أَوْ تَفْطِمِي ابْنَكِ فَإِنْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِمَّا حَلَفَ عَلَيْهِ كَانَ مُولِيًا وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ حَتَّى تَفْطِمِي وَلَدَكِ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا لِأَنَّهَا قَدْ تَفْطِمُهُ قَبْلَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ أَكْثَرَ مِنَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ ) هَذَا أَوْلَى بِقَوْلِهِ لِأَنَّ أَصْلَهُ أَنَّ كُلَّ يَمِينٍ مَنَعَتِ الْجِمَاعَ بِكُلِّ حَالٍ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ إِلَّا بِأَنْ يَحْنَثَ فَهُوَ مُولٍ وَقَوْلُهُ حَتَّى يَشَاءَ فُلَانٌ فَلَيْسَ بِمُولٍ حَتَّى يَمُوتَ فُلَانٌ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ حَتَّى يَقْدَمَ فُلَانٌ أَوْ يَمُوتَ سَوَاءٌ فِي الْقِيَاسِ وَكَذَلِكَ حَتَّى تَفْطِمِي وَلَدَكِ إِذَا أَمْكَنَ الْفِطَامُ فِي أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَلَوْ قَالَ حَتَّى تَحْبَلِي فَلَيْسَ بِمُولٍ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَةُ اللَّهُ هَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ حَتَّى يَقْدَمَ فُلَانٌ أَوْ يَشَاءَ فُلَانٌ لِأَنَّهُ قَدْ يَقْدَمُ وَيَشَاءُ قَبْلَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَلَا يَكُونُ مُولِيًا ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَأَمَا قَوْلُهُ حَتَّى تَمُوتِي فَهُوَ مُولٍ بِكُلِّ حَالٍ كَقَوْلِهِ حَتَّى أَمُوتَ أَنَا وَهُوَ كَقَوْلِهِ وَاللَّهِ لَا أَطَؤُكِ أَبَدًا فَهُوَ مُولٍ مِنْ حِينِ حَلَفَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ تَمَهَّدَ بِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أُصُولِ الْوَطْءِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُولِيًا إِلَّا أَنْ تَزِيدَ مُدَّةُ إِيلَائِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَخْلُ مُدَّةُ إِيلَائِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ مُطْلَقَةً . وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ مُقَيَّدَةً بِزَمَانٍ . وَالثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ مُعَلَّقَةً بِشَرْطٍ .
أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ الْمُدَّةُ الْمُطْلَقَةُ ، فَهُوَ أَنْ يَقُولَ : وَاللَّهِ لَا أَصَبْتُكِ فَإِطْلَاقُهَا يَقْتَضِي الْأَبَدَ ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ : وَاللَّهِ لَا وَطِئْتُكِ أَبَدًا وَالتَّلَفُّظُ بِالْأَبَدِ هَاهُنَا تَأْكِيدٌ فَهَذَا أَقْوَى . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : الْمُقَدَّرُ بِالزَّمَانِ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ : وَاللَّهِ لَا أَصَبْتُكِ إِلَى سَنَةِ كَذَا أَوْ إِلَى شَهْرِ كَذَا أَوْ إِلَى يَوْمِ كَذَا ، الإيلاء فَيُنْظَرُ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَإِنْ زَادَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ كَانَ مُولِيًا وَإِنْ تَقَدَّرَ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَمَا دُونَ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ الْمُعَلَّقُ بِشَرْطٍ الإيلاء فَهُوَ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا كَانَ بِهِ مُولِيًا فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ لِاسْتِحَالَتِهِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ : وَاللَّهِ لَا أَصَبْتُكِ حَتَّى تَصْعَدِي السَّمَاءَ أَوْ حَتَّى تُصَافِحِي الثُّرَيَّا أَوْ حَتَّى تُعِدِّي رَمْلَ عَالِجٍ أَوْ حَتَّى تَنْقُلِي جَبَلَ أَبِي قَبِيسٍ أَوْ حَتَّى تَشْرَبِي مَاءَ الْبَحْرِ ، وَمَا شَابَهَ كُلَّ ذَلِكَ فَيَكُونُ مُولِيًا لِاسْتِحَالَةِ وُجُودِ هَذِهِ الشَّرَائِطِ فَكَانَ ذِكْرُهَا لَغْوًا وَصَارَ الْإِيلَاءُ مَعَهَا مُرْسَلًا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا كَانَ بِهِ مُولِيًا فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ لِلْقَطْعِ وَالْإِحَاطَةِ بِأَنَّهُ سَيَكُونُ بَعْدَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ كَقَوْلِهِ : وَاللَّهِ لَا وَطِئْتُكِ حَتَّى تَقُومَ الْقِيَامَةُ ، فَهَذَا مُولٍ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ لِأَنَّهُ قَدْ تَتَقَدَّمُ الْقِيَامَةَ أَشْرَاطٌ مُنْذِرَةٌ فَنَحْنُ إِذَا لَمْ نَرَ أَشْرَاطَهَا عَلَى يَقِينٍ مِنْ تَأَخُّرِهَا عَنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا كَانَ بِهِ مُولِيًا فِي الظَّاهِرِ ، وَإِنْ جَازَ أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ مُولِيًا فِي الْبَاطِنِ كَقَوْلِهِ وَاللَّهِ لَا أَصَبْتُكِ حَتَّى يَنْزِلَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ أَوْ حَتَّى يَظْهَرَ الدَّجَّالُ أَوْ حَتَّى يَخْرُجَ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَحَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا أَوْ مَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ الَّتِي الْأَغْلَبُ تَأَخُّرُهَا عَنْ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ ، وَإِنْ جَازَ فِي الْمُمْكِنِ تَقَدُّمُهَا فَلِذَلِكَ جَعَلْنَاهُ بِهَا مُولِيًا فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ ، وَأَلْزَمْنَاهُ بِهَا حُكْمَ الْمُولِي فِي الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَعَلَ أَشْرَاطَ السَّاعَةِ كُلَّهَا كَالْقِيَامَةِ فِي أَنَّهُ يَكُونُ بِهَا مُولِيًا فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ ، لِأَنَّ لَهَا أَمَارَاتٌ مُنْذِرَةً كَالْقِيَامَةِ تَتَأَخَّرُ قَبْلَ وُجُودِهَا عَنْ مُدَّةِ التَّرَبُّصِ . وَالْأَصَحُّ مِنْ إِطْلَاقِ هَذَيْنِ أَنْ يُقَالَ مَا صَحَّتْ بِهِ أَخْبَارُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَنَّهَا تَتَرَتَّبُ فَيَكُونُ بَعْضُهَا بَعْدَ بَعْضٍ كَنُزُولِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَكُونُ مِنْ بَعْدِ ظُهُورِ الدَّجَّالِ ، كَانَ إِيلَاؤُهُ إِلَى نُزُولِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَإِيلَاؤُهُ إِلَى ظُهُورِ الدَّجَّالِ ظَاهِرًا دُونَ الْبَاطِنِ ، لِجَوَازِ حُدُوثِهِ قَبْلَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَمَا لَمْ يَتَرَتَّبْ مِنْهَا فَهُوَ بِهِ مُولٍ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ ، وَهَذَا مِنَ الِاخْتِلَافِ الَّذِي لَا يُفِيدُ لِأَنَّ مُوجِبَ الْإِيلَاءِ فِيهِمَا لَا يَخْتَلِفُ ، فَأَمَّا إِذَا قَالَ : وَاللَّهِ لَا أَصَبْتُكِ حَتَّى أَمُوتَ أَوْ تَمُوتِي فَهُوَ مِمَّا يَكُونُ بِهِ مُولِيًا فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ أَوْ لِجَوَازِ مَوْتِهِمَا قَبْلَ مُدَّةِ التَّرَبُّصِ ، وَإِنَّمَا صَارَ مَعَ جَوَازِ الْمَوْتِ قَبْلَ الْمُدَّةِ مُولِيًا فِي الظَّاهِرِ لِعِلَّتَيْنِ :
إِحْدَاهُمَا : أَنَّ الظَّاهِرَ بَقَاؤُهُمْ إِلَى مُدَّةِ التَّرَبُّصِ ، وَإِنْ جَازَ مَوْتُهُمَا قَبْلَهَا فَحُكِمَ بِالظَّاهِرِ . وَالْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ : أَنَّهُمَا لَوْ أَطْلَقَا ذَلِكَ عَلَى الْأَبَدِ لَا تُقَدَّرُ بِمُدَّةِ حَيَّاتِهِمَا ، فَعَلَى هَذَيْنِ التَّعْلِيلَيْنِ لَوْ قَالَ : وَاللَّهِ لَا أَصَبْتُكِ حَتَّى يَمُوتَ زَيْدٌ ، فَإِنْ كَانَ زَيْدٌ فِي مَرَضٍ مُخَوِّفٍ لَمْ يَكُنْ بِهِ مُولِيًا ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِهِ ، مَوْتُهُ قَبْلَ مُدَّةِ التَّرَبُّصِ لِأَمَارَاتِ الْمَوْتِ بِحُدُوثِ الْخَوْفِ وَإِنْ كَانَ زَيْدٌ صَحِيحًا أَوْ فِي مَرَضٍ غَيْرِ مُخَوِّفٍ ، فَعَلَى التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ بِهِ مُولِيًا فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ اعْتِبَارًا بِظَاهِرِ بَقَائِهِ إِلَى مُدَّةِ التَّرَبُّصِ وَعَلَى التَّعْلِيلِ الثَّانِي لَا يَكُونُ بِهِ مُولِيًا لَا فِي الظَّاهِرِ وَلَا فِي الْبَاطِنِ لِتَرَدُّدِ حَالِهِ بَيْنَ الْمَوْتِ وَالْبَقَاءِ ، وَإِنَّ إِيلَاءَ الزَّوْجَيْنِ لَوْ كَانَ مُطْلَقًا لَمْ يَتَقَدَّرْ بِمَوْتِهِ ، وَحَمْلُهُ عَلَى التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ أَصَحُّ ، لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ إِنْ أَصَبْتُكِ فَعَبْدِي حُرٌّ كَانَ مُولِيًا فِي الظَّاهِرِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَمُوتَ عَبْدُهُ أَوْ يَبِيعَهُ قَبْلَ مُدَّةِ التَّرَبُّصِ فَلَا يَكُونُ مُولِيًا ، لَكِنْ عَلَيْنَا حُكْمُ الظَّاهِرِ ، مَعَ جَوَازِ خِلَافِهِ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : مَا اخْتَلَفَ حُكْمُهُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الشَّرْطِ من ألفاظ الإيلاء المعلق كَقَوْلِهِ : وَاللَّهِ لَا أَصَبْتُكِ حَتَّى يَقْدَمَ زَيْدٌ فَيُنْظَرُ غَيْبَةُ زَيْدٍ فَإِنْ كَانَ بِمَكَانٍ مَسَافَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ كَالصِّينِ كَانَ بِهِ مُولِيًا ، وَإِنْ كَانَ بِمَكَانٍ مَسَافَتُهُ أَقَلُّ لَمْ يَكُنْ بِهِ مُولِيًا ، لِجَوَازِ قُدُومِهِ قَبْلَ مُدَّةِ التَّرَبُّصِ سَوَاءٌ قَدِمَ قَبْلَهَا أَوْ لَا وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ غَيْبَةَ زَيْدٍ لَمْ يَكُنْ بِهِ مُولِيًا أَيْضًا لِجَوَازِ قُدُومِهِ قَبْلَ الْمُدَّةِ وَكَقَوْلِهِ وَاللَّهِ لَا أَصَبْتُكِ حَتَّى تَحْبَلِي ، فَلَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ أَنْ تَحْبَلَ قَبْلَ مُدَّةِ التَّرَبُّصِ لِصِغَرِهَا أَوْ لِإِيَاسِهَا فَيَكُونَ بِذَلِكَ مُولِيًا . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَجُوزُ أَنْ تَحْبَلَ فِي الْحَالِ لِكَوْنِهَا بَالِغَةً مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ فَلَا يَكُونَ بِذَلِكَ مُولِيًا لِإِمْكَانِ حَبَلِهَا وَتَسَاوِي الْأَمْرَيْنِ فِيهِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ تَكُونَ مُرَاهِقَةً لِجَوَازِ أَنْ يَتَعَجَّلَ بُلُوغُهَا فَتَحْبَلَ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ بُلُوغُهَا فَلَا تَحْبَلَ ، قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَكُونُ بِذَلِكَ مُولِيًا ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ تَأَخُّرُ الْبُلُوغِ ، وَتَأَخُّرُهُ مَانِعٌ مِنَ الْحَبَلِ . وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَكُونُ بِهِ مُولِيًا : لِأَنَّ الظَّاهِرَ بُلُوغُ الْمُرَاهِقَةِ مُمْكِنٌ كَمَا أَنَّ حَبَلَ الْبَالِغَةِ مُمْكِنٌ وَلَيْسَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ بِأَغْلَبَ مِنَ الْآخَرِ ، وَإِذَا أَمْكَنَ بُلُوغُهَا أَمْكَنَ حَبَلُهَا . وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ : مَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ إِرَادَتِهِ من ألفاظ الإيلاء المعلق : كَقَوْلِهِ : وَاللَّهِ لَا أَصَبْتُكِ حَتَّى تَفْطِمِي وَلَدَكِ فَإِنْ أَرَادَ بِهِ قَطْعَ الرَّضَاعِ لَمْ يَكُنْ بِهِ مُولِيًا : لِأَنَّهُ يُمْكِنُهَا قَطْعُهُ فِي الْحَالِ ،
وَإِنْ أَرَادَ بِهِ مُدَّةَ رَضَاعِ الْحَوْلَيْنِ نُظِرَ فِي الْبَاقِي مِنْهَا فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ كَانَ مُولِيًا ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مِنْ جَعَلَ هَذَا مِنَ الْقَسَمِ الرَّابِعِ الَّذِي يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِهِ لَا بِاخْتِلَافِ إِرَادَتِهِ فَقَالَ إِنْ كَانَ الْوَلَدُ طِفْلًا لَا يَجُوزُ قَطْعُ رَضَاعِهِ قَبْلَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ كَانَ بِهِ مُولِيًا ، وَإِنْ كَانَ مُشَدًّا يَجُوزُ قَطْعُ رَضَاعِهِ قَبْلَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَكُنْ بِهِ مُولِيًا ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ وَالْأَكْثَرِ مِنْ أَصْحَابِنَا ، لِأَنَّ قَطْعَهَا لِرَضَاعِهِ مُمْكِنٌ وَإِنْ مَنَعَ مِنْهُ الشَّرْعُ ، وَالْإِيلَاءُ مُتَعَلِّقٌ بِإِمْكَانِ الْفِعْلِ لَا بِجَوَازِهِ فِي الشَّرْعِ ، وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ لَوْ عَلَّقَ بِمَا يُمْكِنُ فِعْلُهُ لَكِنْ يَمْنَعُ الشَّرْعُ مِنْهُ كَقَوْلِهِ : وَاللَّهِ لَا أَصَبْتُكِ حَتَّى تَقْتُلِي أَخَاكِ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا عَلَى مَعْنَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ : لِأَنَّهَا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ فِي الْحَالِ ، وَكَانَ مُولِيًا عَلَى قَوْلِ مَنْ خَالَفَهُ : لِأَنَّ الشَّرْعَ مَنَعَهَا مِنْ قَتْلِهِ ، وَمِنْ هَذَا الْقِسْمِ أَنْ يَقُولَ : وَاللَّهِ لَا أَصَبْتُكِ حَتَّى تَخْرُجِي إِلَى الْحَجِّ فَإِنْ أَرَادَ بِهِ زَمَانَ الْخُرُوجِ الْمَعْهُودِ كَانَ بِهِ مُولِيًا إِذَا بَقِيَ إِلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ فِعْلَهَا لِلْخُرُوجِ لَمْ يَكُنْ بِهِ مُولِيًا لِأَنَّهُ يُمْكِنُهَا الْخُرُوجُ قَبْلَ الْمُدَّةِ . وَالْقِسْمُ السَّادِسُ : مَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ زَمَانِهِ من ألفاظ الإيلاء المعلق كَقَوْلِهِ : وَاللَّهِ لَا أَصَبْتُكِ حَتَّى يَسْقُطَ الْبَلَحُ أَوْ يَجْمُدَ الْمَاءُ ، فَإِنْ كَانَ هَذَا فِي الشِّتَاءِ وَزَمَانِ الْبَرْدِ لَمْ يَكُنْ بِهِ مُولِيًا لِإِمْكَانِهِ فِي الْحَالِ ، وَإِنْ كَانَ فِي الصَّيْفِ وَزَمَانِ الْحَرِّ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ فِي آخِرِهِ وَالْبَاقِي مِنَ الشِّتَاءِ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا ، وَإِنْ كَانَ فِي أَوَّلِهِ وَالْبَاقِي مِنْهُ إِلَى الشِّتَاءِ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ كَانَ مُولِيًا ، وَلَوْ قَالَ وَاللَّهِ لَا أَصَبْتُكِ حَتَّى يَجِيءَ الْمَطَرُ فَمِنْ أَصْحَابِنَا مِنْ جَعَلَهُ فِي أَوَّلِ الصَّيْفِ كَالثَّلْجِ يَكُونُ بِهِ مُولِيًا لِتَعَزُّرِهِ فِي الْأَغْلَبِ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ لَا يَكُونُ بِهِ مُولِيًا ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّلْجِ ، بِأَنَّ الْمَطَرَ قَدْ يَجِيءُ فِي الصَّيْفِ وَالثَّلْجَ لَا يَكُونُ فِي الصَّيْفِ ، فَأَمَّا الْبِلَادُ الَّتِي يُعْهَدُ فِيهَا الْمَطَرُ صَيْفًا وَشِتَاءً كَبِلَادٍ طَبَرِسْتَانَ فَلَا يَكُونُ بِهِ مُولِيًا لَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِيهِ . وَالْقِسْمُ السَّابِعُ : مَا لَا يَكُونُ مُولِيًا لِتَكَافُؤِ أَحْوَالِهِ ، من ألفاظ الإيلاء المعلق كَقَوْلِهِ وَاللَّهِ لَا أَصَبْتُكِ حَتَّى يَبْرَأَ هَذَا الْمَرِيضُ أَوْ حَتَّى يَمْرَضَ هَذَا الصَّحِيحُ أَوْ حَتَّى تَتَعَلَّمِي الْكِتَابَةَ أَوْ حَتَّى يُطَلِّقَ فُلَانٌ زَوْجَتَهُ أَوْ حَتَّى يَعْتِقَ عَبْدَهُ ، فَلَا يَكُونُ بِذَلِكَ مُولِيًا لِإِمْكَانِ حُدُوثِهِ وَتَقَدُّمِهِ عَلَى مُدَّةِ التَّرَبُّصِ كَإِمْكَانِ تَأَخُّرِهِ عَنْهُ ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ لَا أَصَبْتُكِ حَتَّى تَلْبَسِي هَذَا الثَّوْبَ أَوْ تَدْخُلِي هَذِهِ الدَّارَ أَوْ حَتَّى أُخْرِجَكِ مِنْ هَذَا الْبَلَدِ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا ، لِإِمْكَانِ فِعْلِ ذَلِكَ فِي الْحَالِ وَلَا يَلْزَمُهُ إِخْرَاجُهَا مِنَ الْبَلَدِ لِيَبَرَّ فِي يَمِينِهِ إِنْ وَطِئَ ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَصِرْ مُولِيًا لَمْ يَلْزَمْهُ وَطْؤُهَا وَلَمْ يُطَالَبْ بِفَيْئَةٍ وَلَا طَلَاقٍ . وَالْقِسْمُ الثَّامِنُ : مَا لَا يَكُونُ بِهِ مُولِيًا لِكَوْنِهِ قَبْلَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ من ألفاظ الإيلاء المعلق كَقَوْلِهِ وَاللَّهِ لَا أَصَبْتُكِ حَتَّى تَذْبُلَ هَذِهِ الْبَقْلَةُ أَوْ حَتَّى يَخْتَمِرَ هَذَا الْعَجِينُ أَوْ حَتَّى يَحْمُضَ هَذَا الْعَصِيرُ أَوْ حَتَّى يَنْضَجَ هَذَا الْقِدْرُ فَلَا يَكُونُ بِذَلِكَ مُولِيًا لِوُجُودِ هَذَا كُلِّهِ فِي أَكْثَرَ مِنْ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ .
فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ سَبْعِ مَسَائِلَ ، وَرَأْيُ الشَّافِعِيِّ قَدْ خَالَفَ فِي جَوَابِ بَعْضِ مَا يَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ اخْتِلَافُ جَوَابِهِ لِاخْتِلَافِ قَوْلِهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ لِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ عَلَى مَا بَيَّنَاهُ فِي فِطَامِ [ أُمِّ ] الْوَلَدِ وَقُدُومِ الْغَائِبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ . مَسْأَلَةٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوْ قَالَ وَاللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ إِنْ شِئْتِ فَشَاءَتْ فِي الْمَجْلِسِ الإيلاء فَهُوَ مُولٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ تَعْلِيقَ الْإِيلَاءِ بِمَشِيئَتِهَا الزوجة عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَقُولَ : وَاللَّهِ أَقْرَبُكِ إِنْ شِئْتِ أَنْ لَا أَقْرَبَكِ فَتَكُونَ مَشِيئَتُهَا أَنْ لَا يَقْرَبَهَا شَرْطًا فِي الْإِيلَاءِ مِنْهَا ، فَإِنْ شَاءَتْ أَنْ لَا يَقْرَبَهَا انْعَقَدَ الْإِيلَاءُ ، وَإِنْ لَمْ تَشَأْ لَمْ يَنْعَقِدْ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَقُولَ : وَاللَّهِ لَا قَرَبْتُكِ إِنْ شِئْتِ أَنْ أَقْرَبَكِ الإيلاء فَيَكُونَ مَشِيئَتُهَا أَنْ يَقْرَبَهَا شَرْطًا فِي انْعِقَادِ الْإِيلَاءِ مِنْهَا فَإِنْ شَاءَتْ أَنْ يَقْرَبَهَا ، انْعَقَدَ الْإِيلَاءُ فِيهَا وَإِنْ لَمْ تَشَأْ لَمْ يَنْعَقِدْ بِخِلَافِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَقُولَ : وَاللَّهِ لَا أَقْرَبَنَّكِ إِنْ شِئْتِ الإيلاء فَتَكُونَ مَشِيئَتُهَا أَنْ لَا يَقْرَبَهَا شَرْطًا ، وَلَا تَكُونَ مَشِيئَتُهَا أَنْ يَقْرَبَهَا شَرْطًا ، وَإِنَّمَا وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى ذَلِكَ مَعَ الْإِطْلَاقِ لِأَنَّ مِنْ حُكْمِ الشَّرْطِ أَنْ يَكُونَ وَفْقَ الْمَشْرُوطِ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ وَهُوَ حَلَفَ أَنْ لَا يَقْرَبَهَا فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ مَشِيئَتُهَا أَنْ لَا يَقْرَبَهَا . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يَقُولَ : وَاللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ إِلَّا أَنْ تَشَائِي الإيلاء فَتَكُونَ مَشِيئَتُهَا أَنْ لَا يَقْرَبَهَا شَرْطًا فِي رَفْعِ الْإِيلَاءِ لَا فِي انْعِقَادِهِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ ، فَإِنْ شَاءَتْ لَمْ يَنْعَقِدْ وَإِنْ لَمْ تَشَأِ انْعَقَدَ ، لِأَنَّ قَوْلَهُ وَاللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ إِثْبَاتٌ وَقَوْلَهُ إِلَّا أَنْ تَشَائِي نَفْيٌ ، فَصَارَ مُثْبِتًا لِلْإِيلَاءِ بِغَيْرِ شَرْطٍ ، وَمُثْبِتًا لَهُ بِوُجُودِ الشَّرْطِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ أَحْكَامِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى صِفَةِ مَشِيئَتِهَا ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَلَى التَّرَاخِي كَمَا لَوْ عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِمَشِيئَتِهَا لِأَنَّ فِيهِمَا نَوْعًا مِنَ التَّمْلِيكِ ، وَهَلْ يُرَاعَى فِيهِ حُكْمُ الْفَوْرِ أَوْ حُكْمُ الْمَجْلِسِ ، عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ : أَحَدُهُمَا : يُرَاعَى حُكْمُ الْفَوْرِ ، فَعَلَى هَذَا يَحْتَاجُ أَنْ تَكُونَ مَشِيئَتُهَا جَوَابًا فِي الْحَالِ كَالْقَبُولِ فِي الْعُقُودِ وَإِنْ تَمَادَى زَمَانًا وَإِنْ قَلَّ أَوْ تَخَلَّلَهُمَا كَلَامٌ بَطَلَتْ مَشِيئَتُهَا فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا حُكْمٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يُرَاعَى فِيهَا الْمَجْلِسُ ، فَإِنْ شَاءَتْ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ صَحَّتْ مَشِيئَتُهَا وَثَبَتَ حُكْمُهَا ، وَإِنْ شَاءَتْ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ فَلَا حُكْمَ لِمَشِيئَتِهَا ، فَإِنْ قِيلَ فَهَلَّا كَانَ تَعْلِيقُ
الْإِيلَاءِ ، بِمَشِيئَتِهَا رِضًا مِنْهَا بِإِسْقَاطِ حَقِّهَا مِنَ الْمُطَالَبَةِ كَتَعْلِيقِ الطَّلَاقِ فِي الْمَرَضِ بِمَشِيئَتِهَا رِضًا مِنْهَا فِي إِسْقَاطِ حَقِّهَا مِنَ الْمِيرَاثِ ، قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِحُكْمِ الْإِيلَاءِ لَا يَجِبُ إِلَّا بِثُبُوتِ الْإِيلَاءِ ، فَلَمْ يَكُنْ رِضَاهَا بِالْإِيلَاءِ مُسْقِطًا لِثُبُوتِ حَقِّهَا مِنْهُ ، وَالْمِيرَاثُ يَسْقُطُ بِالطَّلَاقِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ رِضَاهَا بِالطَّلَاقِ مُسْقِطًا لِحَقِّهَا مِنَ الْمِيرَاثِ .
فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ : وَاللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ إِنْ شَاءَ زَيْدٌ ، الإيلاء فَلَا يُعْتَبَرُ الْفَوْرُ فِي مَشِيئَةِ زَيْدٍ ، بِخِلَافِ مَشِيئَتِهَا ، لِأَنَّهُ إِذَا عَلَّقَ ذَلِكَ بِمَشِيئَتِهَا كَانَ فِيهِ تَمْلِيكٌ فَرُوعِيَ فِيهِ الْفَوْرُ ، وَإِذَا عَلَّقَ بِمَشِيئَةِ غَيْرِهَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَمْلِيكٌ ، فَلَمْ يُرَاعَى فِيهِ الْفَوْرُ ، فَمَتَى قَالَ زَيْدٌ قَدْ شِئْتُ عَلَى الْفَوْرِ أَوِ التَّرَاخِي انْعَقَدَ الْإِيلَاءُ ، وَإِنْ قَالَ لَسْتُ أَشَأْ لَمْ يَنْعَقِدْ ، وَإِنْ مَاتَ وَلَمْ تَعْلَمْ مَشِيئَتَهُ لَمْ يَنْعَقِدِ الْإِيلَاءُ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا مَشِيئَةَ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ . مَسْأَلَةٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَالْإِيلَاءُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا سِوَاءٌ لِمَا يَكُونُ الْيَمِينُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا سَوَاءٌ وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْإِيلَاءَ مُطْلَقًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : الْإِيلَاءُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا سَوَاءٌ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ . وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَكُونُ مُولِيًا إِلَّا فِي الْغَضَبِ دُونَ الرِّضَا وَحَكَى نَحْوَهُ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : لِأَنَّ قَصْدَ الْإِضْرَارِ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْغَضَبِ ، فَكَانَ الْغَضَبُ فِيهِ شَرْطًا ، وَهَذَا فَاسِدٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ [ الْبَقَرَةِ : ] وَلَمْ يُفَرِّقْ ، لِأَنَّهَا يَمِينٌ بِاللَّهِ تَعَالَى فَاسْتَوَى فِيهَا حَالُ الْغَضَبِ وَالرِّضَا كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ حَالٍ انْعَقَدَتْ فِيهَا الْيَمِينُ فِي غَيْرِ الْإِيلَاءِ انْعَقَدَتْ فِيهَا يَمِينُ الْإِيلَاءِ كَالْغَضَبِ . فَأَمَّا قَصْدُ الْإِضْرَارِ فَلَا يُرَاعَى فِيهَا وَإِنَّمَا يُرَاعَى وُجُودُهُ دُونَ قَصْدِهِ ، وَقَدْ وُجِدَ فِي الرِّضَا كَوُجُودِهِ فِي الْغَضَبِ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ . مَسْأَلَةٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ قَالَ وَاللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ حَتَى أُخْرِجَكَ مِنْ هَذَا الْبَلَدِ الإيلاء لَمْ يَكُنْ مُولِيًا لِأَنَهُ قَدْ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُخْرِجَهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى إِخْرَاجِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّقْسِيمِ فَإِذَا حَلَفَ أَنْ لَا يَقْرَبَهَا حَتَّى يُخْرِجَهَا مِنَ الْبَلَدِ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى إِخْرَاجِهَا مَتَى شَاءَ ، وَيَقْرَبُهَا مِنْ غَيْرِ حِنْثٍ ، فَصَارَ كَقَوْلِهِ : لَا أَقْرَبُكِ فِي هَذِهِ الدَّارِ ، فَلَا يَكُونُ مُولِيًا لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى إِخْرَاجِهَا وَإِصَابَتِهَا مِنْ غَيْرِ حِنْثٍ ، فَإِنْ قِيلَ فَهَلَّا كَانَ مُولِيًا وَإِنْ قَدَرَ عَلَى إِخْرَاجِهَا كَمَا لَوْ حَلَفَ بِعِتْقِ عَبْدِهِ أَنْ لَا يَقْرَبَهَا كَانَ مُولِيًا ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى بَيْعِ عَبْدِهِ فَلَا يَعْتِقُ بِوَطْئِهَا ثُمَّ
يَبْتَاعُهُ إِنْ شَاءَ ، قِيلَ الظَّاهِرُ مِنَ الْأَمْلَاكِ اقْتِنَاؤُهَا وَاسْتِيفَاؤُهَا ، وَفِي بَيْعِهَا ضَرَرٌ ، وَفِي تَمْلِيكِ الْغَيْرِ لَهَا أَسَفٌ ، وَفِي اسْتِرْجَاعِهَا تَعَذُّرٌ ، فَصَارَ الضَّرَرُ مُتَوَجِّهًا عَلَيْهِ فِي بَيْعِ الْعَبْدِ كَتَوَجُّهِهِ فِي عِتْقِهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِخْرَاجُهَا مِنَ الْبَلَدِ ، لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ ، وَرُبَّمَا كَانَ فِيهِ نُزْهَةٌ ، وَفِي إِخْرَاجِهَا إِلَى ظَاهِرِ الْبَلَدِ ، فَافْتَرَقَا ، فَلَوْ قَالَ لَا أَقْرَبُكِ حَتَّى أُخْرِجَكِ إِلَى بَلَدِ كَذَا ، فَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ الَّذِي حَلَفَ أَنْ يُخْرِجَهَا إِلَيْهِ عَلَى مَسَافَةٍ أَكْثَرَ مِنْ مَسَافَةِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ كَانَ مُولِيًا ، وَإِنْ كَانَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا ، فَلَوْ قَالَ : لَا أَقْرَبُكِ حَتَّى أَهَبَ عَبْدِي كَانَ مُولِيًا لِأَنَّ فِي هِبَتِهِ إِدْخَالَ ضَرَرٍ عَلَيْهِ فَصَارَ كَقَوْلِهِ لَا أَقْرَبُكِ حَتَّى أَعْتِقَ عَبْدِي ، فَاسْتَوَيَا فِي الضَّرَرِ بِزَوَالِ الْمِلْكِ ، وَإِنْ كَانَتِ الْهِبَةُ أَضَرَّ لِعَدَمِ الثَّوَابِ فِيهَا ، وَلَوْ قَالَ : وَاللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ حَتَّى أَبِيعَ عَبْدِي فَفِي إِيلَائِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ مُولِيًا لِتَعْلِيقِ ذَلِكَ بِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْهُ ، فَصَارَ الضَّرَرُ بِبَيْعِهِ دَاخِلًا عَلَيْهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَكُونُ مُولِيًا ؟ لِأَنَّ الثَّمَنَ الَّذِي فِي مُقَابَلَتِهِ يَمْنَعُ مِنْ دُخُولِ ضَرَرٍ عَلَيْهِ ، وَرُبَّمَا وَجَدَ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ ، وَلَوْ قِيلَ إِنْ كَانَ هَذَا الْعَبْدُ لِلتِّجَارَةِ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا لِبَيْعِهِ ، وَإِنْ كَانَ لِلْفَيْئَةِ كَانَ مُولِيًا بِبَيْعِهِ ، كَانَ لَهُ وَجْهٌ : لِأَنَّ بَيْعَ مَالِ التِّجَارَةِ مُفِيدٌ ، وَبَيْعَ مَالِ الْفَيْئَةِ مُضِرٌّ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ وَجْهًا ثَالِثًا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ الْإِيلَاءِ مِنْ نِسْوَةٍ
بَابُ الْإِيلَاءِ مِنْ نِسْوَةٍ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوْ قَالَ لِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ لَهُ وَاللَّهِ لَا أَقْرَبُكُنَّ الإيلاء فَهُوَ مُولٍ مِنْهُنَّ كُلِّهِنَّ يُوقَفُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَإِذَا أَصَابَ وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ خَرَجَتَا مِنْ حُكْمِ الْإِيلَاءِ وَيُوقَفُ لِلْبَاقِيَتَيْنِ حَتَّى يَفِيءَ أَوْ يُطَلِّقَ وَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ حَتَّى يُصِيبَ الْأَرْبَعَ اللَّائِي حَلَفَ عَلَيْهِنَّ كُلَّهِنَّ وَلَوْ طَلَّقَ مِنْهُنَّ ثَلَاثًا كَانَ مُولِيًا مِنَ الْبَاقِيَةِ لِأَنَهُ جَامَعَهَا وَاللَّائِي طَلَّقَ حَنِثَ وَلَوْ مَاتَتْ إِحْدَاهُنَّ سَقَطَ عَنْهُ الْإِيلَاءُ لِأَنَّهُ يُجَامِعُ الْبَوَاقِيَ وَلَا يَحْنَثُ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) أَصْلُ قَوْلِهِ أَنَ كُلَّ يَمِينٍ مَنَعَتِ الْجَمَاعَ بِكُلِّ حَالٍ فَهُوَ بِهَا مُولٍ وَقَدْ زَعَمَ أَنَّهُ مُولٍ مِنَ الرَّابِعَةِ الْبَاقِيَةِ وَلَوْ وَطِئَهَا وَحْدَهَا مَا حَنِثَ فَكَيْفَ يَكُونُ مِنْهَا مُولِيًا : ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ لَوْ مَاتَتْ إِحْدَاهُنَّ سَقَطَ عَنْهُ الْإِيلَاءُ وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا إِيلَاءَ عَلَيْهِ حَتَّى يَطَأَ ثَلَاثًا يَكُونُ مُولِيًا مِنَ الرَّابِعَةِ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَطَأَهَا إِلَّا حَنِثَ وَهَذَا بِقَوْلِهِ أَوْلَى " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَصِلُ هَذَا الْبَابِ أَنَّ مَنْ حَلَفَ عَلَى جُمْلَةٍ لَمْ يَحْنَثْ بِتَفْصِيلِهَا ، فَإِذَا قَالَ لِأَرْبَعِ زَوْجَاتٍ لَهُ : وَاللَّهِ لَا أَصَبْتُكُنَّ لَمْ يَحْنَثْ بِإِصَابَةِ وَاحِدَةٍ أَوِ اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ حَتَّى يُصِيبَ الْأَرْبَعَ كُلَّهُنَّ كَمَا لَوْ قَالَ : وَاللَّهِ لَا كَلَّمْتُ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَ الْيَوْمَ لَمْ يَحْنَثْ بِكَلَامِ وَاحِدَةٍ وَلَا بِكَلَامِ اثْنَتَيْنِ وَلَا بِكَلَامِ ثَلَاثَةٍ حَتَّى يُكَلِّمَ الْأَرْبَعَ كُلَّهُنَّ فَيَحْنَثَ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْإِيلَاءُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى جَمِيعِهِنَّ وَلَا يَتَعَيَّنُ إِلَّا فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ، وَتَعْيِينُهُ فِيهَا بِوَطْءِ مَنْ سِوَاهَا ، فَإِذَا جَاءَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ تُطَالِبُ بِحُكْمِ الْإِيلَاءِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهَا ، لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى وَطْئِهَا وَلَا يَحْنَثُ ، فَإِنْ وَطِئَهَا خَرَجَتْ مِنْ حُكْمِ الْإِيلَاءِ ، فَإِنْ جَاءَتِ الثَّانِيَةُ فَطَالَبَتْهُ لَمْ يَكُنْ لَهَا ، لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى وَطْئِهَا وَلَا يَحْنَثُ ، فَإِنْ وَطِئَهَا خَرَجَتْ مِنْ حُكْمِ الْإِيلَاءِ ، فَإِنْ جَاءَتِ الثَّالِثَةُ فَطَالَبَتْهُ لَمْ يَكُنْ لَهَا لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى وَطْئِهَا وَلَا يَحْنَثُ ، فَإِنْ وَطِئَهَا خَرَجَتْ مِنْ حُكْمِ الْإِيلَاءِ وَتَعَيَّنَ الْإِيلَاءُ حِينَئِذٍ فِي الرَّابِعَةِ ، وَكَانَ لَهَا الْمُطَالَبَةُ لِأَنَّهُ مَتَى وَطِئَهَا حَنِثَ ، وَأَوَّلُ مُدَّةِ الْوَقْفِ لَهَا مِنْ بَعْدِ أَنْ تَعَيَّنَ الْإِيلَاءُ مِنْهَا ، لِأَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ وَقْتًا لِلْحِنْثِ لَمْ يَكُنْ وَقْتًا لِلْوَقْفِ ، فَإِذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْوَقْفِ طُولِبَ بِالْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ ، فَإِنْ فَاءَ حَنِثَ وَكَفَّرَ ، وَإِنْ طَلَّقَ فَعَلَى مَا مَضَى مِنْ خُرُوجِهِ مِنْ حُكْمِ الْإِيلَاءِ وَعَوْدِهِ إِنْ رَاجَعَ ، هَذَا فِقْهُ الْمَسْأَلَةِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا بَيَانُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ ، فَقَوْلُهُ فَهُوَ مُولٍ مِنْهُنَّ كُلِّهُنَّ فِيهِ تَأْوِيلَانِ لِأَصْحَابِنَا : أَحَدُهُمَا : مَعْنَاهُ فَهُوَ حَالِفٌ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ وَطْئِهِنَّ كُلِّهِنَّ ، الايلاء من أكثر من زوجة وَلَمْ يُرِدْ أَنَّ الْإِيلَاءَ يُعْتَبَرُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ، وَإِنَّمَا يَجِيءُ هَذَا عَلَى مَذْهَبِهِ فِي الْقَدِيمِ أَنَّ مَا قَارَبَ مِنَ الْإِيلَاءِ كَانَ بِهِ مُولِيًا وَقَدْ خَرَّجَهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ هَاهُنَا قَوْلًا فِي الْقَدِيمِ ثَانِيًا . وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي : مَعْنَاهُ فَهُوَ مُولٍ مِنْهُنَّ كُلِّهِنَّ فِي الْجُمْلَةِ وَلَا يَتَعَيَّنُ إِلَّا فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِوَطْءِ مَنْ سِوَاهَا ، وَقَوْلُهُ يُوقَفُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فِيهِ لِأَصْحَابِنَا تَأْوِيلَانِ أَيْضًا : أَحَدُهُمَا : مَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مَحِلٌّ لِلْوَقْفِ لَهَا ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَيَّنَ الْإِيلَاءُ فِيهَا . وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي : مَعْنَاهُ : أَنَّهُ يُوقَفُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ إِنْ تَعَيَّنَ الْإِيلَاءُ فِيهَا بِوَطْءِ مَنْ سِوَاهَا وَقَوْلُهُ فَإِذَا أَصَابَ وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ خَرَجَتَا مَنْ حُكْمِ الْإِيلَاءِ ، وَيُوقَفُ لِلْبَاقِيَتَيْنِ حَتَّى يَفِيءَ أَوْ يُطَلِّقَ فَخُرُوجُ الْمَوْطُوءَتَيْنِ مِنَ الْإِيلَاءِ صَحِيحٌ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ يُوقَفُ لِلْبَاقِيَتَيْنِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّأْوِيلَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ . أَحَدُهُمَا : مَعْنَاهُ أَنَّهُمَا مَحَلٌّ لِلْوَقْفِ لَهُمَا . وَالثَّانِي : مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُوقَفُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إِنْ تَعَيَّنَ الْإِيلَاءُ فِيهَا بِوَطْءِ الْأُخْرَى ، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ هَذَا الْبَيَانِ مَا يَمْنَعُ اعْتِرَاضَ الْمُزَنِيِّ عَلَى ظَاهِرِ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ .
فَصْلٌ : ثُمَّ إِنَّ الشَّافِعِيَّ ذَكَرَ بَعْدَ الْإِيلَاءِ فِي الْأَرْبَعِ فَرْعَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُطَلِّقَ بَعْدَ الْأَرْبَعِ فَلَا يَسْقُطُ حُكْمُ الْإِيلَاءِ فِيمَنْ لَمْ يُطَلِّقْهَا مِنْهُنَّ ، فَإِنْ طَلَّقَ مِنْهُنَّ ثَلَاثًا خَرَجْنَ مِنْ حُكْمِ الْإِيلَاءِ بِالطَّلَاقِ وَيَكُونُ حُكْمُ الْإِيلَاءِ مَوْقُوفًا فِي الرَّابِعَةِ لَا يَتَعَيَّنُ فِيهَا لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى وَطْئِهَا وَلَا يَحْنَثُ وَلَا يَسْقُطُ الْإِيلَاءُ فِيهَا لِأَنَّهُ قَدْ يَطَأُ الثَّلَاثَ الْمُطَلَّقَاتِ بِنِكَاحٍ أَوْ سِفَاحٍ فَيَتَعَيَّنُ الْإِيلَاءُ فِي الرَّابِعَةِ : لِأَنَّهُ يَحْنَثُ بِوَطْئِهَا ، وَوُقُوعُ الْحِنْثِ بِالْوَطْءِ الْمَحْظُورِ كَوُقُوعِهِ بِالْوَطْءِ الْمُبَاحِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : وَاللَّهِ لَا وَطِئْتُكِ وَفُلَانَةَ لِلْأَجْنَبِيَّةِ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا مِنَ امْرَأَتِهِ حَتَّى يَطَأَ الْأَجْنَبِيَّةَ فَيَصِيرَ مُولِيًا مِنَ امْرَأَتِهِ . وَالْفَرْعُ الثَّانِي : أَنْ يَمُوتَ مِنَ الْأَرْبَعِ وَاحِدَةٌ فَيَسْقُطُ الْإِيلَاءُ مِنَ الثَّلَاثِ الْبَاقِيَاتِ لِأَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِوَطْئِهِنَّ لِفَوَاتِ الْوَطْءِ بِالْمَيِّتَةِ مِنْهُنَّ ، فَأَسْقَطَ الشَّافِعِيُّ الْإِيلَاءَ بِالْمَوْتِ ، وَلَمْ يُسْقِطْهُ بِالطَّلَاقِ : لِأَنَّ وَطْءَ الْمُطَلَّقَةِ لَمْ يَفُتْ وَوَطْءَ الْمَيِّتَةِ قَدْ فَاتَ ، فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ يَطَأُ الْمَيِّتَةَ كَمَا يَطَأُ الْمُطَلَّقَةَ وَهُمَا وَطْآنِ مُحَرَّمَانِ ، فَلِمَ أَجْرَيْتُمْ حُكْمَ الْوَطْءِ عَلَى أَحَدِهِمَا
وَنَفَيْتُمُوهُ عَنِ الْآخَرِ ؟ قُلْنَا : لِأَنَّ مُطْلَقَ عُرْفِ الْوَطْءِ يَنْتَفِي عَنْ وَطْءِ الْمَيِّتَةِ ، لِأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَطَأُ زَوْجَتَهُ فَوَطِئَهَا بَعْدَ مَوْتِهَا . قَالَ أَصْحَابُنَا : لَمْ يَحْنَثْ وَتَنْتَفِي عَنْهُ أَحْكَامُ الْوَطْءِ مِنَ الْإِحْصَانِ وَكَمَالِ الْمَهْرِ وَتَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ وَإِنْ أَوْجَبَ الْغُسْلَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَطْءُ الْحَيَّةِ ، لِأَنَّ مُطْلَقَ اسْمِ الْوَطْءِ عُرْفًا يَنْطَلِقُ عَلَى وَطْئِهَا سِفَاحًا كَإِطْلَاقِهِ عَلَى وَطْئِهَا نِكَاحًا فَافْتَرَقَا . فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْفَرْعِ الْأَوَّلِ وَلَوْ طَلَّقَ مِنْهُنَّ ثَلَاثًا كَانَ مُولِيًا فِي الْبَاقِيَةِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ التَّأْوِيلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَعْنَاهُ كَانَتِ الْبَاقِيَةُ مَحَلًّا لِلْإِيلَاءِ . وَالثَّانِي : مَعْنَاهُ كَانَ مُولِيًا فِي الْبَاقِيَةِ إِنْ جَامَعَ مَنْ طَلَّقَهَا ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ لَوْ جَامَعَهَا وَاللَّائِي طُلِّقْنَ حَنِثَ ، فَبَطَلَ بِهَذَا التَّأْوِيلِ اعْتِرَاضُ الْمُزَنِيِّ عَلَى ظَاهِرِ كَلَامِهِ ، لِأَنَّ الْمُزَنِيَّ تَكَلَّمَ عَلَى فِقْهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَفِقْهُهَا لَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ كَلَامِهِ وَإِنَّمَا يَقْتَضِيهِ أُصُولُهُ وَتَعْلِيلُهُ ثُمَّ يُؤْخَذُ مِنْهَا تَأْوِيلُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ . مَسْأَلَةٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ كَانَ قَالَ وَاللَّهِ لَا أَقْرَبُ وَاحِدَةً مِنْكُنَّ وَهُوَ يُرِيدُهُنَّ كُلَّهُنَّ فَهُوَ مُولٍ يُوقَفُ لَهُنَّ فَأَيَّ وَاحِدَةٍ مَا أَصَابَ مِنْهُنَّ خَرَجَ مِنَ الْإِيلَاءِ فِي الْبَوَاقِي لِأَنَّهُ حَنِثَ بِإِصَابَةِ الَوَاحِدَةِ فَإِذَا حَنِثَ مَرَّةً لَمْ يَعُدِ الْحِنْثُ بِإِيلَاءِ ثَانِيَةٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُخَالِفُ الَّتِي قَبْلَهَا ، وَصُورَتُهَا : أَنْ يَقُولَ لِلْأَرْبَعِ مِنْ نِسَائِهِ : وَاللَّهِ لَا أَصَبْتُ وَاحِدَةً مِنْكُنَّ وَهُوَ يُرِيدُهُنَّ كُلَّهُنَّ ، وَلَا يُعَيِّنُ إِحْدَاهُنَّ ، فَهُوَ فِي الِابْتِدَاءِ مُولٍ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ؛ لِأَنَّ أَيَّتَهُنَّ وَطِئَ حَنِثَ بِوَطْئِهَا كَمَنْ قَالَ لِجَمَاعَةٍ وَاللَّهِ لَا كَلَّمْتُ وَاحِدًا مِنْكُنَّ ، حَنِثَ بِكَلَامِ أَيِّهِمْ كَلَّمَ . فَإِذَا أَجْرَى عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فِي الِابْتِدَاءِ حُكْمَ الْإِيلَاءِ فَأَيَّتُهُنَّ جَاءَتْ مُطَالِبَةً وُقِفَ لَهَا مِنْ وَقْتِ يَمِينِهِ ، فَإِذَا مَضَتْ مُدَّةُ الْوَقْفِ طُولِبَ بِالْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ ، فَإِنْ طَلَّقَ ثُمَّ جَاءَتْ ثَانِيَةٌ وُقِفَ لَهَا ، فَإِذَا مَضَتْ مُدَّةُ الْوَقْفِ طُولِبَ بِالْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ فَإِذَا طَلَّقَ ثُمَّ جَاءَتْ ثَالِثَةٌ وُقِفَ لَهَا ، فَإِذَا مَضَتْ مُدَّةُ الْوَقْفِ طُولِبَ بِالْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ ، فَإِنْ طَلَّقَ ثُمَّ جَاءَتِ الرَّابِعَةُ وُقِفَ لَهَا ، فَإِذَا مَضَتْ مُدَّةُ الْوَقْفِ طُولِبَ بِالْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ ، فَيَصِيرُ الزَّوْجُ بِامْتِنَاعِهِ مِنْ وَطْءِ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مُولِيًا وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ يُوقَفُ لَهَا عَلَى الْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ ، وَإِنْ كَانَتِ الْأُولَى عِنْدَ مُطَالَبَتِهَا بِالْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ لَمْ يُطَلِّقْهَا ، وَلَكِنْ فَاءَ مِنْهَا وَوَطِئَهَا حَنِثَ وَسَقَطَ الْإِيلَاءُ مِمَّنْ بَقِيَ ، لِأَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِوَطْئِهِنَّ بَعْدَ حِنْثِهِ بِوَطْءِ الْأُولَى ، وَلَوْ طَلَّقَ الْأُولَى عِنْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْوَقْفِ وَوَطِئَ الثَّانِيَةَ سَقَطَ إِيلَاؤُهُ فِي الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ ، وَلَوْ وَطِئَ الثَّالِثَةَ سَقَطَ إِيلَاؤُهُ فِي الرَّابِعَةِ وَحْدَهَا .
فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ : وَاللَّهِ لَا وَطِئْتُ وَاحِدَةً مِنْكُنَّ وَهُوَ يُرِيدُ إِحْدَاهُنَّ بِعَيْنِهَا كَانَتْ هِيَ الْمُولَى مِنْهَا دُونَ مَنْ سِوَاهَا ، فَيُرْجَعُ إِلَى بَيَانِهِ فِي الَّتِي عَيَّنَهَا بِإِيلَائِهِ فَإِنْ صَدَّقَتْهُ الْبَاقِيَاتُ عَلَى ذَلِكَ فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ أَكْذَبْنَهُ حَلَفَ لَهُنَّ ، فَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ لَهُنَّ حَلَفْنَ وَثَبَتَ حُكْمُ الْإِيلَاءِ مِنْهُنَّ بِأَيْمَانِهِنَّ بَعْدَ نُكُولِهِ .
فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ : وَاللَّهِ لَا وَطِئْتُ وَاحِدَةً مِنْكُنَّ وَهُوَ يُرِيدُ وَاحِدَةً لَا بِعَيْنِهَا كَانَ لَهُ أَنْ يُعَيِّنَ الْإِيلَاءَ فِيمَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ ، فَإِنْ وَقَفَ عَنِ التَّعْيِينِ أُجْبِرَ عَلَيْهِ إِذَا طَلَبْنَ ذَلِكَ لِمَا فِي التَّعْيِينِ مِنْ حَقِّ الْمُعَيَّنَةِ فِي الْإِيلَاءِ ، فَإِنْ تَنَازَعْنَ فَلَا اعْتِبَارَ بِتَنَازُعِهِنَّ : لِأَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى اخْتِيَارِهِ كَالطَّلَاقِ إِذَا أَوْقَعَهُ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ لَا بِعَيْنِهَا كَانَ لَهُ أَنْ يُعَيِّنَهُ فِيمَنْ شَاءَ عَلَى اخْتِيَارِهِ ، فَإِذَا عَيَّنَ الْإِيلَاءَ فِيمَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ خَرَجَ الْبَاقِيَاتُ مِنْ حُكْمِ الْإِيلَاءِ ، وَوُقِفَ لِلْمُعَيَّنَةِ ، وَفِي ابْتِدَاءِ زَمَانِ الْوَقْفِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : مِنْ وَقْتِ الْيَمِينِ . وَالثَّانِي : مِنْ وَقْتِ التَّعْيِينِ كَالْعِدَّةِ فِي الطَّلَاقِ الْمُبْهَمِ إِذَا عُيِّنَ .
فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ : وَاللَّهِ لَا أَصَبْتُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْكُنَّ كُلِّكُنَّ فَهَذَا مُولٍ مِنْهُنَّ كُلِّهِنَّ وَمِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَأَيَّتَهُنَّ وَطِئَهَا بَعْدَ الْوَقْفِ حَنِثَ وَلَمْ يَسْقُطْ حُكْمُ الْإِيلَاءِ فِيمَنْ عَدَاهَا : لِأَنَّهُ يَحْنَثُ بِوَطْءِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ، وَأَوَّلُ زَمَانِ الْوَقْفِ مِنْ وَقْتِ الْيَمِينِ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابٌ عَلَى مَنْ يَجِبُ التَّأْقِيتُ فِي الْإِيلَاءِ وَمَنْ يَسْقُطُ عَنْهُ
بَابٌ عَلَى مَنْ يَجِبُ التَّأْقِيتُ فِي الْإِيلَاءِ وَمَنْ يَسْقُطُ عَنْهُ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَا تَعَرُّضَ لِلْمُولِي وَلَا لِامْرَأَتِهِ حَتَّى يُطْلَبَ الْوَقْفُ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِمَّا أَنْ يَفِيءَ وَإِمَّا أَنْ يُطَلِّقَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي شُرُوطِ الْإِيلَاءِ ، فَأَمَّا أَحْكَامُهُ فَهِيَ أَنْ يُنْتَظَرَ بِهِ مُدَّةَ التَّرَبُّصِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ لَهُ ، وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ لَا مُطَالَبَةَ عَلَيْهِ فِيهَا بِشَيْءٍ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْظَرَهُ بِهَا فَصَارَ كَالْإِنْظَارِ بِآجَالِ الدُّيُونِ لَا يَجُوزُ الْمُطَالَبَةُ بِهَا قَبْلَ انْقِضَائِهَا ، وَأَوَّلُ وَقْتِ التَّرَبُّصِ الإيلاء مَنْ وَقْتِ الْإِيلَاءِ ، لَا مَنْ وَقْتِ الْمُحَاكَمَةِ ، بِخِلَافِ أَجَلِ الْعُنَّةِ الَّذِي يَكُونُ أَوَّلُهُ مَنْ وَقْتِ الْمُحَاكَمَةِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مُدَّةَ الْإِيلَاءِ مُقَدَّرَةٌ بِالنَّصِّ فَلَمْ تَفْتَقِرْ إِلَى حُكْمٍ ، وَمُدَّةَ الْعُنَّةِ مَقْدِرَةٌ بِالِاجْتِهَادِ ، فَافْتَقَرَتْ إِلَى حُكْمٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْإِيلَاءَ يَقِينٌ فَكَانَ أَوَّلُ مُدَّتِهِ مَنْ وَقْتِ وُجُودِهِ ، وَالْعُنَّةَ مَظْنُونَةٌ فَكَانَ أَوَّلُ مُدَّتِهَا مَنْ وَقْتِ التَّحَاكُمِ فِيهَا ، فَإِذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ التَّرَبُّصِ بِمُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ اسْتَحَقَّتِ الزَّوْجَةُ الْمُطَالَبَةَ ، إِلَّا أَنَّهُ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهَا فِيهِ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهَا مِنْ حُقُوقِهَا الْمَحْضَةِ فَوَقَفَ عَلَى خِيَارِهَا ، فَإِنْ طَالَبَتْ وَمُطَالَبَتُهَا إِمَّا أَنْ تَقُولَ بَيِّنْ أَمْرِي ، وَإِمَّا أَنْ تَقُولَ أَخْرِجْ إِلَيَّ مِنْ حَقِّي ، فَإِذَا طَالَبَتْ بِأَحَدِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ قِيلَ لِلزَّوْجِ قَدْ خَيَّرَكَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ أَمْرَيْنِ : إِمَّا الْفَيْئَةُ أَوِ الطَّلَاقُ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ لَهُ ذَلِكَ حَاكِمٌ وَغَيْرُ حَاكِمٍ لِأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مَأْخُوذٌ مِنَ النَّصِّ ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى حُكْمٍ إِلَّا أَنَّ الَّذِي يُجْبِرُ عَلَيْهِ هُوَ الْحَاكِمُ : لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُجْبِرُ عَلَى تَأْدِيَةِ الْحُقُوقِ ، فَإِنْ فَاءَ فَحُكْمُ الْفَيْئَةِ مَا مَضَى ، وَإِنْ طَلَّقَ فَحُكْمُ الطَّلَاقِ مَا مَضَى ، وَإِنْ أَبَى أَنْ يَفْعَلَ أَحَدَهُمَا فَعَلَى قَوْلَيْنِ مَضَيَا : أَحَدُهُمَا : يُحْبَسُ حَتَّى يَفِيءَ أَوْ يُطَلِّقَ . وَالثَّانِي : يُطَلِّقُ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ . مَسْأَلَةٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ عَفَتْ ذَلِكَ ثَمَّ طَلَبَتْهُ كَانَ ذَلِكَ لَهَا لِأَنَّهَا تَرَكَتْ مَا لَمْ يَجِبْ لَهَا فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ " .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا عَفَتِ الزَّوْجَةُ عَنِ الْمُطَالَبَةِ بِحَقِّهَا مِنَ الْإِيلَاءِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ صَحَّ عَفْوُهَا فِي حَقِّهَا ، وَهُوَ مَا كَانَ مَأْخُوذًا بِهِ مِنَ الْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ ، وَلَمْ يُؤَثِّرِ الْعَفْوُ فِي حُكْمِ الْيَمِينِ ، لِأَنَّ الْحِنْثَ فِيهِ مَأْخُوذٌ بِهِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَسْقُطُ بِعَفْوِهَا وَيَكُونُ كَحَالِفٍ لَيْسَ بِمُولٍ . إِنْ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ أُلْزِمَ حُكْمَ حِنْثِهِ ، فَإِنْ عَادَتْ بَعْدَ الْعَفْوِ مُطَالِبَةً بِحُكْمِ الْإِيلَاءِ كَانَ ذَلِكَ لَهَا ، وَلَمْ يَكُنْ عَفْوُهَا مُسْقِطًا لِحَقِّهَا عَلَى الْأَبَدِ ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ أَنَّ الْإِيلَاءَ يَمِينٌ قُصِدَ بِهَا إِضْرَارُ الزَّوْجَةِ لِيَمْتَنِعَ مِنْ إِصَابَتِهَا بِيَمِينِهِ وَهَذَا الضَّرَرُ يَتَجَدَّدُ مَعَ الْأَوْقَاتِ ، فَإِذَا عَفَتْ عَنْهُ كَانَ عَفْوُهَا إِسْقَاطًا لِحَقِّهَا مِنَ الضَّرَرِ الْمَاضِي ، فَسَقَطَ ، وَلَمْ يَكُنْ عَفْوًا عَنْ حَقِّهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، لِأَنَّهُ عَفْوٌ عَمَّا لَمْ يَجِبْ ، وَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى عَفْوِهَا عَنِ النَّفَقَةِ يُسْقِطُ حَقَّهَا الْمَاضِيَ ، وَلَا يُسْقِطُ حَقَّهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، وَخَالَفَ الْعُنَّةَ الَّتِي تَسْقُطُ بِالْعَفْوِ وَلَا يَجُوزُ الْعَوْدُ فِي الْمُطَالَبَةِ بِهَا ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْعُنَّةَ عَيْبٌ مُسْتَدِيمٌ يَكُونُ الْعَفْوُ عَنْهُ إِسْقَاطًا ، فَجَرَى مَجْرَى سَائِرِ الْعُيُوبِ فِي النِّكَاحِ مِنَ الْجَبِّ وَالْبَرَصِ وَالْجُنُونِ الَّتِي تَسْقُطُ بِالْعَفْوِ وَلَا يَجُوزُ الْعَوْدُ فِيهَا ، وَلَيْسَ الْإِيلَاءُ عَيْبًا وَإِنَّمَا هُوَ ضَرَرٌ لَا يَسْتَدِيمُ فَكَانَ الْعَفْوُ عَنْهُ تَرْكًا ، وَلَمْ يَكُنْ إِسْقَاطًا كَالدَّيْنِ إِذَا تَرَكَهُ بِالْإِنْظَارِ جَازَ الْعَوْدُ فِيهِ . فَإِنْ قِيلَ فَهَلَّا كَانَ الْعَفْوُ فِي الْإِيلَاءِ جَارِيًا مَجْرَى الْإِبْرَاءِ فِي الدَّيْنِ الَّذِي لَا يَجُوزُ الْعَوْدُ فِيهِ بَعْدَ الْإِبْرَاءِ مِنْهُ ، قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْإِبْرَاءَ مِنَ الدَّيْنِ إِسْقَاطٌ لِلدَّيْنِ فَلَمْ يَجُزِ الْعَوْدُ فِيهِ بَعْدَ سُقُوطِهِ ، وَلَيْسَ الْعَفْوُ فِي الْإِيلَاءِ إِسْقَاطًا لِلْيَمِينِ ، فَجَازَ الْعُودُ فِيهِ بَعْدَ الْعَفْوِ لِثُبُوتِهِ .
فَصْلٌ : وَإِذَا صَحَّ جَوَازُ عَوْدِهَا فِي الْمُطَالَبَةِ بَعْدَ الْعَفْوِ أَجْزَأَ مُدَّةُ الْوَقْفِ الْمَاضِي عَنْ تَجْدِيدِ وَقْفٍ مُسْتَأْنَفٍ فِي الْمُطَالَبَةِ بِخِلَافِ سُقُوطِ الْمُطَالَبَةِ بِالطَّلَاقِ الَّذِي يُسْتَأْنَفُ الْوَقْفُ فِيهِ بِالْعِدَّةِ بَعْدَ الرَّجْعَةِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهَا قَدِ اسْتَوْفَتْ حَقَّهَا بِالطَّلَاقِ ، فَاسْتُؤْنِفَ لَهُ الْوَقْفُ بَعْدَ الرَّجْعَةِ وَلَمْ تَسْتَوْفِ حَقَّهَا بِالْعَفْوِ فَلَمْ يُسْتَأْنَفْ لَهُ الْوَقْفُ بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ فَلَا وَجْهَ لِمَنْ جَمَعَ مِنْ أَصْحَابِنَا بَيْنَ الْعَفْوِ وَالطَّلَاقِ فِي اسْتِئْنَافِ الْوَقْفِ فِيهِمَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ . مَسْأَلَةٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَيْسَ ذَلِكَ لِسَيِّدِ الْأَمَةِ وَلَا لِوَلِيِّ مَعْتُوهَةٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ فِي الْإِيلَاءِ تَخْتَصُّ بِحُقُوقِ الِاسْتِمْتَاعِ وَذَلِكَ مِمَّا تَخْتَصُّ بِهِ الزَّوْجَةُ دُونَ وَلِيِّهَا وَسَيِّدِهَا : لِأَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى شَهْوَتِهَا وَالْتِزَازِهَا فَإِذَا عَفَتْ عَنْهُ الزَّوْجَةُ صَحَّ عَفْوُهَا وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً ، وَلَمْ يَكُنْ لِسَيِّدِهَا الْمُطَالَبَةُ فَإِنْ قِيلَ
فَهَلَّا اسْتَحَقَّ السَّيِّدُ الْمُطَالَبَةَ بِالْوَطْءِ لِحَقِّهِ فِي مِلْكِ الْوَلَدِ ، قِيلَ : لِأَنَّ الْوَطْءَ الْمُسْتَحَقَّ فِي الْإِيلَاءِ وَالْعُنَّةِ يَكُونُ بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ دُونَ الْإِنْزَالِ ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَحْدُثُ عَنْهُ إِحْبَالٌ ، فَلَمْ يَتَعَلَّقْ لِلسَّيِّدِ بِهِ حَقٌّ ، هَكَذَا لَوْ عَفَا السَّيِّدُ مَعَ مُطَالَبَتِهَا لَمْ يُؤَثِّرْ عَفْوُ السَّيِّدِ فِي حَقِّهَا مِنَ الْمُطَالَبَةِ ، وَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى الْفَسْخِ بِالْعُيُوبِ مِنَ الْجُنُونِ وَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ تَسْتَحِقُّهُ دُونَ سَيِّدِهَا فَإِنْ عَفَتْ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لِلسَّيِّدِ الْمُطَالَبَةُ بِهِ ، وَإِنْ طَالَبَتْ بِهِ لَمْ يَكُنْ لِلسَّيِّدِ الْعَفْوُ عَنْهُ ، فَأَمَّا الْمَعْتُوهَةُ فَلَا يَصِحُّ مِنْهَا الْمُطَالَبَةُ بِحَقِّهَا فِي الْإِيلَاءِ ، لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لِقَوْلِهَا بِخِلَافِ الْأَمَةِ ، وَلَيْسَ لِوَلِيِّهَا الْمُطَالَبَةُ كَمَا لَيْسَ لِسَيِّدِ الْأَمَةِ ، فَإِنْ قِيلَ فَهَلَّا كَانَ لِوَلِيِّ الْمَعْتُوهَةِ الْمُطَالَبَةُ بِحَقِّهَا مِنَ الْإِيلَاءِ : لِأَنَّ لَهُ اسْتِيفَاءَ حُقُوقِهَا كَالدُّيُونِ ، وَخَالَفَ السَّيِّدُ لِأَنَّهُ يَسْتَوْفِي بِهَا حَقَّ نَفْسِهِ لَا حَقَّ أَمَتِهِ ، قِيلَ يَسْتَوِيَانِ فِي حُكْمِ الْإِيلَاءِ وَإِنِ افْتَرَقَا فِي الْمَعْنَى ، لِأَنَّ حَقَّ الْإِيلَاءِ مَقْصُورٌ عَلَى اخْتِيَارِ الِاسْتِمْتَاعِ الْمَوْقُوفِ عَلَى شَهْوَتِهَا ، وَلَيْسَ مِنْ حُقُوقِ الْأَمْوَالِ الَّتِي يَسْتَوْفِيهَا الْوَلِيُّ فِي حَقِّهَا ، وَالسَّيِّدُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ . مَسْأَلَةٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَنْ حَلَفَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَلَا إِيلَاءَ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا تَنْقَضِي وَهُوَ خَارِجٌ مِنَ الْيَمِينِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا قَدْ ذَكَرْنَاهُ وَإِنَّ الْمُولِيَ مَنِ اسْتُحِقَّتْ مُطَالَبَتُهُ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ، فَإِذَا حَلَفَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لَمْ تُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةُ ، لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الْإِصَابَةِ مِنْ غَيْرِ حِنْثٍ وَالْمُولِي مَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْإِصَابَةِ بَعْدَ الْوَقْفِ إِلَّا بِالْحِنْثِ فَخَرَجَ مَنْ حُكْمِ الْإِيلَاءِ ، وَصَارَ مُلْتَزِمًا لِحُكْمِ الْيَمِينِ فِي غَيْرِ الْإِيلَاءِ وَإِنْ وَطِئَ وَإِنْ لَمْ يَطَأْ لَمْ يَحْنَثْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ . مَسْأَلَةٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ حَلَفَ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ لَا يَقْرَبُ امْرَأَةً لَهُ أُخْرَى ثُمَّ بَانَتْ مِنْهُ ثُمَّ نَكَحَهَا الإيلاء فَهُوَ مُولٍ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ لَوْ آلَى مِنْهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا فَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا ثَمَّ نَكَحَهَا نِكَاحًا جَدِيدًا وَسَقَطَ عَنْهُ حُكْمُ الْإِيلَاءِ وَإِنَّمَا يَسْقُطُ عَنْهُ حُكْمُ الْإِيلَاءِ لِأَنَّهَا صَارَتْ فِي حَالٍ لَوْ طَلَّقَهَا لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ عَلَيْهَا وَلَوْ جَازَ أَنْ تَبِينَ امْرَأَةُ الْمُولِي حَتَّى تَصِيرَ أَمْلَكَ لِنَفْسِهَا مِنْهُ ثُمَّ يَنْكِحَهَا فَيَعُودَ حُكْمُ الْإِيلَاءِ جَازَ هَذَا بَعْدَ ثَلَاثٍ وَزَوْجٍ غَيْرِهِ لِأَنَّ الْيَمِينَ قَائِمَةٌ بِعَيْنِهَا فِي امْرَأَةٍ بِعَيْنَهَا يُكَفِّرُ إِنْ أَصَابَهَا كَمَا كَانَتْ قَائِمَةً قَبْلَ التَّزْوِيجِ وَهَكَذَا الظِّهَارُ مِثْلُ الْإِيلَاءِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ لَهُ زَوْجَتَانِ حَفْصَةُ وَعَمْرَةُ ، فَقَالَ يَا حَفْصَةُ إِنْ وَطِئْتُكِ فَعَمْرَةُ طَالِقٌ فَهَذَا مُولٍ مِنْ حَفْصَةَ ، وَحَالِفٌ بِطَلَاقِ عَمْرَةَ ، فَإِنْ أَحْدَثَ طَلَاقَ أَحَدِهِمَا ، لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يُطَلِّقَ حَفْصَةَ الْمُولَى مِنْهَا أَوْ يُطَلِّقَ عَمْرَةَ الْمَحْلُوفَ بِطَلَاقِهَا ،
فَإِنْ طَلَّقَ حَفْصَةَ الْمُولَى عَلَيْهَا ثُمَّ رَاجَعَهَا فَالْإِيلَاءُ مِنْهَا بَعْدَ الرَّجْعَةِ بَاقٍ وَإِنْ لَمْ يُرَاجِعْهَا حَتَّى انْقَضَتِ الْعِدَّةُ انْقَطَعَ الْإِيلَاءُ مِنْهَا ، فَإِنْ عَادَ فَاسْتَأْنَفَ نَكَحَهَا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ ، نُظِرَ فَإِنْ نَكَحَهَا بَعْدَ زَوْجٍ مِنْ طَلَاقِ ثَلَاثٍ ، فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ كُلِّهِ ، وَأَحَدِ قَوْلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ لَا يَعُودُ الْإِيلَاءُ ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي فِي الْقَدِيمِ يَعُودُ ، فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ ، فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ كُلِّهِ وَأَحَدِ قَوْلَيْنِ فِي الْجَدِيدِ يَعُودُ الْإِيلَاءُ ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي فِي الْجَدِيدِ لَا يَعُودُ ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : يَعُودُ الْإِيلَاءُ فِي الطَّلَاقَيْنِ . وَالثَّانِي : لَا يَعُودُ فِي الطَّلَاقَيْنِ . وَالثَّالِثُ : يَعُودُ إِنْ كَانَ الطَّلَاقُ دُونَ الثَّلَاثِ ، وَلَا يَعُودُ إِنْ كَانَ ثَلَاثًا ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، كَمَا بَيَّنَّا عَدَدَ الطَّلَاقِ فِي أَحَدِ النِّكَاحَيْنِ عَلَى الْآخَرِ إِنْ كَانَ دُونَ الثَّلَاثِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ ثَلَاثًا . سَوَاءٌ قُلْنَا إِنَّ الْإِيلَاءَ يَعُودُ عَلَى هَذِهِ الْمُطَلَّقَةِ أَوْ لَا يَعُودُ عَلَيْهَا فَالْيَمِينُ بِطَلَاقِ عَمْرَةَ بَاقِيَةٌ ، لَا تَنْتَقِضُ ، لِأَنَّ الْيَمِينَ بِطَلَاقِهَا يَجُوزُ أَنْ يُعَلَّقَ بِوَطْءِ الْأَجْنَبِيَّةِ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُعَلَّقَ بِوَطْءِ الزَّوْجَةِ ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ : إِنْ وَطِئْتُ هَذِهِ الْأَجْنَبِيَّةَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، ثُمَّ نَكَحَ الْأَجْنَبِيَّةَ وَوَطْئِهَا طُلِّقَتْ زَوْجَتُهُ الْمَحْلُوفُ بِطَلَاقِهَا .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنْ طَلَّقَ عَمْرَةَ الْمَحْلُوفَ بِطَلَاقِهَا ، فَإِنْ كَانَ طَلَاقًا رَجْعِيًّا فَمَا كَانَتْ فِي عِدَّتِهَا فَالْيَمِينُ بِطَلَاقِهَا بَاقِيَةٌ لِأَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا فِي الْعِدَّةِ وَقَعَ الطَّلَاقُ فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يَبْقَى فِيهِ الْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْإِيلَاءُ مِنْ حَفْصَةَ بَاقِيًا بِحَالِهِ مَا لَمْ تَنْتَقِضْ عِدَّةُ عَمْرَةَ ، فَإِنْ رَاجَعَ عَمْرَةَ فِي عِدَّتِهَا فَالْيَمِينُ بِطَلَاقِهَا بَاقِيَةٌ بِحَالِهَا وَالْإِيلَاءُ فِي حَفْصَةَ بَاقٍ بِحَالِهَا فَإِنْ لَمْ يُرَاجِعْهَا حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا مِنَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ أَوْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا بِثَلَاثٍ أَوْ فِي خُلْعٍ لِغَيْرِ مَدْخُولٍ بِهَا سَقَطَ حُكْمُ الْيَمِينِ بِطَلَاقِهَا ، لِأَنَّهَا فِي حَالٍ لَا يَلْحَقُهَا الطَّلَاقُ الْمُبْتَدَأُ فَكَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يَلْحَقَهَا بِصِفَةٍ مُتَقَدِّمَةٍ ، فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ حُكْمُ الْإِيلَاءِ فِي حَفْصَةَ ، لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى إِصَابَتِهَا وَلَا يَسْتَضِرُّ بِطَلَاقِ غَيْرِهَا ، فَإِنْ عَادَ فَنَكَحَ عَمْرَةَ الْمَحْلُوفَ بِطَلَاقِهَا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ نُظِرَ ، فَإِنْ نَكَحَهَا بَعْدَ أَنْ وَطِئَ حَفْصَةَ الْمُولَى مِنْهُمَا فِي زَمَانِ بَيْنُونَتِهَا سَقَطَتْ يَمِينُهُ بِطَلَاقِ عَمْرَةَ لِوُجُودِ الصِّفَةِ مِنْ غَيْرِ حِنْثٍ ، فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِوُجُودِهَا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ حِنْثٌ ، وَإِنْ نَكَحَ عَمْرَةَ الْمَحْلُوفَ بِطَلَاقِهَا قَبْلَ أَنْ يَطَأَ حَفْصَةَ الْمُولَى مِنْهَا فَهَلْ تَعُودُ يَمِينُهُ بِطَلَاقِ عَمْرَةَ فِي النِّكَاحِ الثَّانِي أَمْ لَا ؟ إِنْ كَانَ الطَّلَاقُ الْأَوَّلُ ثَلَاثًا فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ كُلِّهِ وَأَحَدِ قَوْلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ لَا يَعُودُ وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي فِي الْقَدِيمِ : تَعُودُ الْيَمِينُ ، وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ الْأَوَّلُ دُونَ الثَّلَاثِ ، فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ كُلِّهِ وَأَحَدِ قَوْلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ تَعُودُ الْيَمِينُ وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي فِي الْجَدِيدِ : لَا تَعُودُ ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ فِي عَوْدِ الْيَمِينِ ثَلَاثَةَ أَقَاوِيلَ :
أَحَدُهَا : تَعُودُ الْيَمِينُ فِي الطَّلَاقَيْنِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا تَعُودُ الْيَمِينُ فِي الطَّلَاقَيْنِ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : تَعُودُ الْيَمِينُ إِنْ كَانَ الطَّلَاقُ الْأَوَّلُ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ ، وَلَا تَعُودُ إِنْ كَانَ ثَلَاثًا فَعَلَى هَذَا إِنْ قُلْنَا إِنَّ يَمِينَهُ بِطَلَاقِ عَمْرَةَ تَعُودُ فِي نِكَاحِهَا الثَّانِي عَادَ إِيلَاؤُهُ مِنْ حَفْصَةَ لِأَنَّهُ مَتَى أَصَابَهَا طُلِّقَتْ عَمْرَةُ ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّ يَمِينَهُ بِطَلَاقِ عَمْرَةَ لَا يَعُودُ فِي نِكَاحِهَا الثَّانِي لَمْ يَعُدْ إِيلَاؤُهُ مِنْ حَفْصَةَ لِأَنَّهُ مَتَى أَصَابَهَا لَمْ تُطَلَّقْ عَمْرَةُ ، فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ كَانَ عَوْدُ الْإِيلَاءِ فِي حَفْصَةَ مُعْتَبَرًا بِعَوْدِ الطَّلَاقِ فِي عَمْرَةَ وَلَمْ يَكُنْ عَوْدُ الطَّلَاقِ فِي عَمْرَةَ مُعْتَبَرًا بِعُودِ الْإِيلَاءِ فِي حَفْصَةَ : قُلْنَا : لِأَنَّ الْإِيلَاءَ فِي حَفْصَةَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْقُودًا بِوَطْءِ أَجْنَبِيَّةٍ وَالطَّلَاقَ فِي عَمْرَةَ يَجُوزُ عَقْدُهُ بِوَطْءِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ . مَسْأَلَةٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ آلَى مِنَ امْرَأَتِهِ الْأَمَةِ ثُمَّ اشْتَرَاهَا فَخَرَجَتْ مِنْ مِلْكِهِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا أَوِ الْعَبْدُ مِنْ حُرَّةٍ ثَمَّ اشْتَرَتْهُ فَتَزَوَّجَتْهُ لَمْ يَعُدِ الْإِيلَاءُ لِانْفِسَاخِ النِّكَاحِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا كُلُّهُ أَشْبَهُ بِأَصْلِهِ لِأَنَّ كُلَّ نِكَاحٍ أَوْ مِلْكٍ حَدَثَ لَمْ يُعْمَلْ فِيهِ إِلَّا قَوْلٌ وَإِيلَاءٌ وَظِهَارٌ يَحْدُثُ فَالْقِيَاسُ أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ يَكُونُ فِي مِلْكٍ إِذَا زَالَ ذَلِكَ الْمِلْكُ زَالَ مَا فِيهِ مِنَ الْحُكْمِ فَإِذَا زَالَ نِكَاحُهُ فَبَانَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ زَالَ حُكْمُ الْإِيلَاءِ عَنْهُ فِي مَعْنَاهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَاتَانِ مَسْأَلَتَانِ مُخْتَلِفَتَا الصُّورَةِ مُتَّفِقَتَا الْحُكْمِ : إِحْدَاهُمَا : فِي حَرٍّ تَزَوَّجَ أَمَةً وَآلَى مِنْهَا ثُمَّ اشْتَرَاهَا ، فَبَطَلَ بِالشِّرَاءِ نِكَاحُهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ عِتْقِهَا أَوْ بَيْعِهَا ، هَلْ يَعُودُ الْإِيلَاءُ مِنْهَا أَمْ لَا ؟ وَالثَّانِيَةُ : فِي عَبْدٍ تَزَوَّجَ وَآلَى مِنْهَا ثُمَّ اشْتَرَتْهُ فَبَطَلَ النِّكَاحُ بِالشِّرَاءِ ثُمَّ عَادَ فَتَزَوَّجَهَا بَعْدَ عِتْقِهِ أَوْ بَيْعِهِ ، هَلْ يَعُودُ الْإِيلَاءُ مِنْهَا أَمْ لَا ؟ وَالْجَوَابُ فِي عَوْدِ الْإِيلَاءِ فِيهِمَا مَبْنِيٌّ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي الْفَسْخِ بِالْمِلْكِ هَلْ يَجْرِي مَجْرَى الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ ، أَوْ يَجْرِي مَجْرَى مَا دُونَ الثَّلَاثِ ، وَفِيهِ لَهُمْ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ ، لِأَنَّ الْفَسْخَ قَدْ رَفَعَ جَمِيعَ أَحْكَامِ النِّكَاحِ الْمُتَقَدِّمِ كَالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى مَا دُونَ الثَّلَاثِ مِنَ الطَّلَاقِ لِأَنَّهُ إِذَا طَلَّقَهَا فِي النِّكَاحِ الثَّانِي بَنَتْهُ عَلَى عَدَدِ الطَّلَاقِ فِي النِّكَاحِ الْأَوَّلِ ، وَلِأَنَّهَا تَحِلُّ قَبْلَ زَوْجٍ بِخِلَافِ الثَّلَاثِ .
فَعَلَى هَذَا إِنْ قُلْنَا : إِنَّهُ يَكُونُ كَالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ لَمْ يَعُدِ الْإِيلَاءُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ كُلِّهِ وَأَحَدِ قَوْلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ ، وَعَادَ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي فِي الْقَدِيمِ ، وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّهُ يَكُونُ كَالطَّلَاقِ إِذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ ، فَعَلَى هَذَا يَعُودُ الْإِيلَاءُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ كُلِّهِ وَأَحَدِ قَوْلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ وَلَا يَعُودُ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي فِي الْجَدِيدِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ لَا يَعُودُ الطَّلَاقُ وَالْإِيلَاءُ وَالظِّهَارُ فِي النِّكَاحِ الثَّانِي إِذَا كَانَ مَعْقُودًا فِي النِّكَاحِ الْأَوَّلِ احْتِجَاجًا بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ حُكْمٌ تَعَلَّقَ بِعَقْدٍ ، فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ الْعَقْدُ زَالَ حُكْمُهُ ، وَهَذَا فَاسِدٌ بِعَدَدِ الطَّلَاقِ بِزَوَالِ عَقْدِهِ وَلَا يَزُولُ حُكْمُهُ ، وَيَكُونُ فِي النِّكَاحِ الثَّانِي مُعْتَبَرًا بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ . وَالِاحْتِجَاجُ الثَّانِي : إِنْ قَالَ قَدْ صَارَتْ فِي حَالٍ لَوْ آلَى مِنْهَا أَوْ طَلَّقَهَا لَمْ يَصِحَّ ، فَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ أَنْ يُسْتَدَامَ فِيهَا حُكْمُ الْإِيلَاءِ وَالطَّلَاقِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ بِالْجُنُونِ ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَبْتَدِئَ فِيهِ الْإِيلَاءُ وَالطَّلَاقُ ، وَيَصِحُّ أَنْ يُسْتَدَامَ فِيهِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِيلَاءِ وَالطَّلَاقِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ . مَسْأَلَةٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَالْإِيلَاءُ يَمِينٌ لِوَقْتٍ فَالحُرُّ وَالْعَبْدُ فِيهَا سَوَاءٌ أَلَا تَرَى أَنَّ أَجَلَ الْعَبْدِ وَأَجَلَ الْحُرِّ الْعِنِّينِ سَنَةٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : مُدَّةُ الْوَقْفِ فِي الْإِيلَاءِ مُقَدَّرَةٌ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مَعَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ فِي الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ ، وَقَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ : تَنْتَصِفُ الْمُدَّةُ بِالرِّقِّ ، ثُمَّ اخْتَلَفَا . فَقَالَ مَالِكٌ : يُعْتَبَرُ بِهَا الزَّوْجُ دُونَ الزَّوْجَةِ ، فَوَقْفُ الْعَبْدِ شَهْرَيْنِ وَإِنْ كَانَتْ زَوْجَتُهُ حُرَّةً . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : يُعْتَبَرُ بِهَا الزَّوْجَةُ دُونَ الزَّوْجِ فَيُوقَفُ لِلْأَمَةِ شَهْرَيْنِ وَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا حُرًّا . فَأَمَّا مَالِكٌ فَجَعَلَهُ مُعْتَبَرًا بِالطَّلَاقِ ، لِأَنَّهُمَا يُوجِبَانِ الْفُرْقَةَ ، وَالْعَبْدُ يَمْلِكُ طَلْقَتَيْنِ مَعَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ ، وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَجَعَلَهُ مُعْتَبَرًا بِالْعِدَّةِ لِأَنَّ بِهَا تَقَعُ الْبَيْنُونَةُ ، وَالْأَمَةُ تَعْتَدُّ بِقُرْأَيْنِ مَعَ الْعَبْدِ وَالْحُرِّ . وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِمَا : قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ [ الْبَقَرَةِ : ] وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ مَعَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ ، وَلِأَنَّهَا مُدَّةٌ ضُرِبَتْ فِي عَقْدٍ لِرَفْعِ الضَّرَرِ الدَّاخِلِ فِي الِاسْتِمْتَاعِ فَلَمْ تَخْتَلِفْ بِالْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ كَالْعُنَّةِ : وَلِأَنَّهَا يَمِينٌ لِوَقْتٍ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهَا الْحُرُّ وَالْعَبْدُ كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ
وَهَذِهِ دَلَالَةُ الشَّافِعِيِّ : وَلِأَنَّهُ قَصَدَ تَحْرِيمَ الِاسْتِمْتَاعِ بِلَفْظٍ كَانَ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ الْحُرُّ وَالْعَبْدُ كَالظِّهَارِ . فَأَمَّا اعْتِبَارُ مَالِكٍ بِالطَّلَاقِ فَلَا يَصِحُّ : لِأَنَّ الطَّلَاقَ إِزَالَةُ مِلْكٍ وَالْحَرُّ وَالْعَبْدُ يَخْتَلِفَانِ فِي الْمِلْكِ فَاخْتَلَفَا فِي إِزَالَتِهِ ، وَمُدَّةُ الْإِيلَاءِ مَوْضُوعَةٌ لِرَفْعِ الضَّرَرِ لَا لِإِزَالَةِ الْمَالِكِ ، وَالضَّرَرُ يَسْتَوِي فِيهِ الْحُرُّ وَالْعَبْدُ فَاسْتَوَيَا فِي مُدَّةِ إِزَالَتِهِ . وَأَمَّا اعْتِبَارُ أَبِي حَنِيفَةَ بِالْعِدَّةِ فَلَا يَصِحُّ ، لِأَنَّ فِي الْعِدَّةِ اسْتِبْرَاءً وَتَعَبُّدًا ، فَالِاسْتِبْرَاءُ بِقُرْءٍ وَاحِدٍ تَشْتَرِكُ فِيهِ الْحُرَّةُ وَالْأَمَةُ ، وَالْقُرْءَانِ الزَّائِدَانِ تَعَبُّدٌ تَخْتَلِفُ فِيهِ الْحُرَّةُ وَالْأَمَةُ كَالْحُدُودِ ، فَاخْتَصَّتِ الْأَمَةُ بِنِصْفِهِ هُوَ أَحَدُ الْقُرْأَيْنِ فَصَارَتْ عِدَّتُهَا تَعَبُّدًا وَاسْتِبْرَاءً قُرْأَيْنِ ، وَمُدَّةُ الْإِيلَاءِ مَوْضُوعَةٌ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ رَفْعِ الضَّرَرِ الَّذِي يَسْتَوِي فِيهِ الْحُرِّيَّةُ وَالرِّقُّ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ قَالَتْ قَدِ انْقَضَتِ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرِ وَقَالَ لَمْ تَنْقَضِ الإيلاء فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَعَلَيْهَا الْبَيِّنَةُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا اخْتَلَفَا فِي انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ فَادَّعَتْهَا وَأَنْكَرَهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ ، فِي بَقَاءِ الْمُدَّةِ وَلَا مُطَالَبَةَ عَلَيْهِ لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ : أَحَدُهَا : أَنَّنَا عَلَى يَقِينٍ مِنْ بَقَائِهَا ، وَفِي شَكٍّ مِنَ انْقِضَائِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ حَلِفٌ فِي وَقْتِ الْإِيلَاءِ وَهُوَ فِعْلُ الزَّوْجِ فَكَانَ قَوْلُهُ فِيهِ أَثْبَتَ كَمَا لَوِ اخْتَلَفَا فِي أَصْلِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ الْأَصْلَ بِثُبُوتِ النِّكَاحِ ، وَهِيَ تَدَّعِي مَا يُخَالِفُهُ مِنَ اسْتِحْقَاقِ الْفُرْقَةِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ آلَى مِنْ مُطَلَّقَةٍ يَمْلِكُ رَجْعَتَهَا كَانَ مُولِيًا مِنْ حِينِ يَرْتَجِعُهَا وَلَوْ لَمْ يَمْلِكْ رَجْعَتَهَا لَمْ يَكُنْ مُولِيًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ وَلَوْ لَمْ يُرَاجِعْهَا لَمْ يَكُنْ مُولِيًا ، وَكِلَا النَّقْلَيْنِ صَحِيحٌ وَهُمَا مَسْأَلَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يُولِيَ مِنْ مُطَلَّقَةٍ يَمْلِكُ رَجَعَتْهَا فِي الْعِدَّةِ ، فَالْإِيلَاءُ مِنْهَا فِي عِدَّتِهَا مُنْعَقِدٌ ، لِأَنَّ أَحْكَامَ النِّكَاحِ جَارِيَةٌ عَلَيْهَا فِي عِدَّةِ الرَّجْعَةِ مِنَ التَّوَارُثِ وَوُجُوبِ النَّفَقَةِ وَوُقُوعِ الطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ فَكَذَلِكَ الْإِيلَاءُ ، وَإِذَا انْعَقَدَ إِيلَاؤُهُ نُظِرَ ، فَإِنْ لَمْ يُرَاجِعْ سَقَطَ حُكْمُ الْإِيلَاءِ بِالطَّلَاقِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَيْهِ ، وَإِنِ اسْتَقَرَّ الْإِيلَاءُ وَاسْتُحِقَّتِ الْمُطَالَبَةُ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ قَدْ رَفَعَتْ مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَحْرِيمِ الطَّلَاقِ ، وَإِذَا اسْتَقَرَّ إِيلَاؤُهُ بِالرَّجْعَةِ كَانَ أَوَّلُ مُدَّةِ الْوَقْفِ مَنْ وَقْتِ الرَّجْعَةِ لَا مَنْ وَقْتِ الْإِيلَاءِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَوَّلُ الْمُدَّةِ مِنْ وَقْتِ الْإِيلَاءِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الرَّجْعِيَّةَ غَيْرُ مُحَرَّمَةٍ ، وَنَحْنُ نَبْنِي عَلَى أَصْلِنَا فِي أَنَّ الرَّجْعِيَّةَ مُحَرَّمَةٌ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مُدَّةَ الْإِيلَاءِ مَضْرُوبَةٌ فِي نِكَاحٍ كَامِلٍ فَيُقْصَدُ بِهَا رَفْعُ الضَّرَرِ الدَّاخِلِ عَلَيْهَا وَقَدْ دَخَلَ الضَّرَرُ عَلَيْهَا بِالطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ حَتَّى مُنِعَتْ بِهَا النِّكَاحَ ، فَخَرَجَ هَذَا الْإِيلَاءُ قَبْلَ الرَّجْعَةِ أَنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِالضَّرَرِ فَلَمْ يُحْتَسَبْ فِي الْمُدَّةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مُدَّةَ الْإِيلَاءِ مَضْرُوبَةٌ لِيَأْخُذَ بِالْإِصَابَةِ عِنْدَ انْقِضَائِهَا ، وَانْقِضَاءُ الْمُدَّةِ فِي الْعِدَّةِ يَمْنَعُ مِنْ أَخْذِهِ بِالْإِصَابَةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَحْسُوبًا مِنَ الْمُدَّةِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فَهُوَ أَنْ يُولِيَ مِنْ مُعْتَدَّةٍ فِي طَلَاقٍ بَائِنٍ ، الزوج إِمَّا لِأَنَّهُ ثَلَاثٌ ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ دُونَهَا بِعِوَضٍ فَلَا يَنْعَقِدُ الْإِيلَاءُ مِنْهَا كَالْأَجْنَبِيَّةِ فَلَوْ نَكَحَهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِعَقْدٍ لَمْ يَصِرْ مُولِيًا ، وَكَانَ حَالِفًا لَا تَلْزَمُهُ الْمُطَالَبَةُ . وَقَالَ مَالِكٌ : يَكُونُ بِإِيلَائِهِ مِنْهَا فِي الْعِدَّةِ الْبَائِنِ مُولِيًا إِذَا نَكَحَهَا وَكَذَلِكَ لَوْ آلَى مِنْهَا وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ ثُمَّ نَكَحَهَا كَانَ مُولِيًا ، وَهَكَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى قَوْلِهِ فِي عَقْدِ الطَّلَاقِ قَبْلَ النِّكَاحِ . وَفِيمَا تَقَدَّمَ مَعَهُ مِنَ الدَّلِيِلِ فِي الطَّلَاقِ كَافٍ فِي الْإِيلَاءِ مَعَ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ [ الْبَقَرَةِ : ] وَلَيْسَتْ هَذِهِ مِنْ نِسَائِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَالْإِيلَاءُ مِنْ كُلِّ زَوْجَةٍ حُرَّةٍ وَأَمَةٍ وَمُسْلِمَةٍ وَذِمِّيَةٍ سِوَاءٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ [ الْبَقَرَةِ : ] وَلَمْ يُفَرِّقْ : وَلِأَنَّ مِنْ مَلَكَ الطَّلَاقَ مَلَكَ الْإِيلَاءَ وَالظِّهَارَ كَالْحُرِّ الْمُسْلِمِ مَعَ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ : وَلِأَنَّهُنَّ فِي أَحْكَامِ الزَّوْجِيَّةِ سَوَاءٌ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونُوا فِي الْإِيلَاءِ سَوَاءً وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
باب الْوَقْفُ
باب الْوَقْفُ مِنْ كِتَابِ الْإِيلَاءِ وَمِنَ الْإِمْلَاءِ عَلَى مَسَائِلِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَالْإِمْلَاءِ عَلَى مَسَائِلِ مَالِكٍ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " إِذَا مَضَتِ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرِ لِلْمُولِي وُقِفَ وَقِيلَ لَهُ إِنْ فِئْتَ وَإِلَّا فَطَلِّقْ وَالْفَيْئَةُ الْجِمَاعُ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ فَيَفِيءُ بِاللِّسَانِ مَا كَانَ الْعُذْرُ قَائِمًا فَيَخْرُجُ بِذَلِكَ مِنَ الضِّرَارِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا مُطَالَبَةَ عَلَى الْمُولِي قَبْلَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ وَهِيَ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ، فَإِذَا انْقَضَتْ كَانَ الْخِيَارُ إِلَيْهَا فِي مُطَالَبَتِهِ وَتَرْكِهِ فَإِنْ طَالَبَتْ كَانَ الزَّوْجُ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [ الْبَقَرَةِ : ] فَأَيَّهُمَا فَعَلَ لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجَةِ مُطَالَبَتُهُ بِالْآخَرِ فَإِنْ طَلَّقَ فَلَمْ يَكُنْ لَهَا مُطَالَبَتُهُ بِالْفَيْئَةِ ، وَإِنْ فَاءَ لَمْ يَكُنْ لَهَا مُطَالَبَتُهُ بِالطَّلَاقِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِيهِمَا فَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي صِفَةِ الطَّلَاقِ ، وَأَنَّهُ رَجْعِيٌّ ، فَإِنْ زَادَ عَلَى الْوَاحِدَةِ كَانَ مُتَطَوِّعًا بِهَا . وَأَمَّا الْفَيْئَةُ فَهِيَ الْجِمَاعُ لِأَنَّ الْفَيْءَ فِي اللُّغَةِ الرُّجُوعُ إِلَى مَا فَارَقَ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ [ الْحُجُرَاتِ : ] أَيْ تَرْجِعَ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ ، وَهُوَ بِالْإِيلَاءِ مُمْتَنِعٌ مِنَ الْجِمَاعِ فَكَانَتِ الْفَيْئَةُ الرُّجُوعَ إِلَيْهِ ، وَإِذَا كَانَتِ الْفَيْئَةُ الرُّجُوعَ إِلَى الْجِمَاعِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَيْهِ أَوْ عَاجِزًا عَنْهُ فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ فَايِئًا إِلَّا بِجِمَاعٍ ، وَأَقَلُّهُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْهُ لِعُذْرٍ مِنْ مَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ لَزِمَهُ أَنْ يَفِيءَ فَيْءَ مَعْذُورٍ بِلِسَانِهِ ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ لَسْتُ أَقْدِرَ عَلَى الْوَطْءِ وَلَوْ قَدَرْتُ عَلَيْهِ لَفَعَلْتُهُ ، وَإِذَا قَدَرْتُ عَلَيْهِ فَعَلْتُهُ فَيَقُومُ فَيْئُهُ بِلِسَانِهِ فِي حَالِ عُذْرِهِ فِي إِسْقَاطِ الْمُطَالَبَةِ مَقَامَ فَيْئَتِهِ . بِوَطْئِهِ . وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ : لَا يَلْزَمُهُ الْفَيْئَةُ بِاللِّسَانِ حَتَّى يَقْدِرَ عَلَيْهَا بِالْوَطْءِ ، وَتُؤَخَّرُ الْمُطَالَبَةُ إِلَى زَوَالِ الْعُذْرِ اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَوْ لَزِمَهُ فِي حَالِ الْعُذْرِ أَنْ يَفِيءَ بِلِسَانِهِ لَمَا لَزَمَهُ الْفَيْئَةُ بِالْوَطْءِ بَعْدَ زَوَالِ عُذْرِهِ لِسُقُوطِ الْحَقِّ بِمَا تَقَدَّمَ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ قَامَ مَقَامَ الْوَطْءِ فِي سُقُوطِ الْمُطَالَبَةِ لَقَامَ مَقَامَهُ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ . وَدَلِيلُنَا : قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ الْبَقَرَةِ : ] وَالْفَيْئَةُ الرُّجُوعُ ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ رُجُوعٍ بِالْقَوْلِ أَوْ رُجُوعٍ بِالْفِعْلِ ؟ وَلِأَنَّ الْفَيْئَةَ تُرَادُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ بِالْإِيلَاءِ وَسُكُونِ النَّفْسِ إِلَى زَوَالِهِ بِهَا وَقَدْ يَرْتَفِعُ الضَّرَرُ وَتَسْكُنُ النَّفْسُ بِقَوْلِ الْعَاجِزِ كَمَا يَرْتَفِعُ بِفِعْلِ الْقَادِرِ وَلِأَنَّ الْفَيْئَةَ تَرْفَعُ الضَّرَرَ كَالشُّفْعَةِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى أَحَدِهِمَا يَكُونُ بِالْفِعْلِ وَهُوَ دَفْعُ الثَّمَنِ وَانْتِزَاعُ الْمَبِيعِ فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا كَانَتِ الْمُطَالَبَةُ فِيهَا بِالْقَوْلِ وَهُوَ الْإِشْهَادُ عَلَى نَفْسِهِ بِالطَّلَبِ كَذَلِكَ الْفَيْئَةُ فِي الْإِيلَاءِ . فَأَمَّا اسْتِدْلَالُ أَبِي ثَوْرٍ بِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ لَوْ سَقَطَتْ بِفَيْءِ اللِّسَانِ لَمَا وَجَبَتْ لِزَوَالِ الْعُذْرِ ، فَفَاسِدٌ بِالْمُطَالَبَةِ بِالشُّفْعَةِ تَكُونُ بِالْقَوْلِ مَعَ الْعَجْزِ وَلَا يَسْقُطُ حَقُّ الطَّلَبِ بِالْفِعْلِ عِنْدَ زَوَالِ الْعُذْرِ وَنَحْنُ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ أَنْ يُصَلِّيَ ، وَلَا تَسْقُطُ الصَّلَاةُ إِذَا قَدَرَ عَلَى الْمَاءِ إِحْدَى الطِّهَارَتَيْنِ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَجِبْ بِهِ الْكَفَّارَةُ لَمْ تَسْقُطْ بِهِ الْمُطَالَبَةُ فَفَاسِدٌ ، لِأَنَّ الْفَيْئَةَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ بِوُجُوبٍ بِالْكَفَّارَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَجْنُونَ يَفِيءُ فَتَسْقُطُ الْمُطَالَبَةُ وَتَصِحُّ الْفَيْئَةُ وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْفَيْئَةَ بِاللِّسَانِ تُسْقِطُ الْمُطَالَبَةَ فِي حَالِ الْعُذْرِ ، فَإِذَا زَالَ الْعُذْرُ سَقَطَ حُكْمُ الْفَيْئَةِ بِاللِّسَانِ وَلَزِمَهُ أَنْ يَفِيءَ بِالْجِمَاعِ كَالشَّفِيعِ إِذَا أَشْهَدَ بِالطَّلَبِ فِي الْغَيْبَةِ ثُمَّ حَضَرَ جَدَّدَ الْمُطَالَبَةَ بِدَفْعِ الثَّمَنِ وَانْتِزَاعِ الْمَبِيعِ وَيَصِيرُ كَالْمُبْتَدِئِ بِالْعِلْمِ فِي الْحُضُورِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَفِيءَ بِالْوَطْءِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ بَعْدَ أَنْ فَاءَ بِلِسَانِهِ فِي حَالِ الْعَجْزِ : لِأَنَّ مَا كَانَ فَيْئَةً فِي الْإِيلَاءِ لَمْ يَلْزَمْهُ إِعَادَةُ فَيْئَةِ كَالْوَطْءِ . وَدَلِيلُنَا مَعَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الشُّفْعَةِ هُوَ أَنَّ الْوَطْءَ حَقٌّ ثَبَتَ لَهَا مَعَ الْقُدْرَةِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْعَجْزِ حُكْمُ الْقُدْرَةِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ : وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَحْنَثْ بِهِ فِي الْإِيلَاءِ لَمْ يَسْقُطْ بِهِ الْوَطْءُ الْمُسْتَحَقُّ فِي الْإِيلَاءِ كَالْقُبْلَةِ : وَلِأَنَّ فَيْئَةَ اللِّسَانِ لَا تَتِمُّ إِلَّا أَنْ يَعِدَ فِيهَا بِالْوَطْءِ مَعَ الْقُدْرَةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْقُطَ بِهَا فَوَجَبَ وَعْدُهُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ جَامَعَ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ الإيلاء خَرَجَ مِنْ حُكْمِ الْإِيلَاءِ وَكَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا إِنْ كَانَتْ يَمِينُهُ عَلَى أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَلَيْسَ بِمُولٍ وَمَتَى
وَطِئَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينِهِ لَا يُخْتَلَفُ ، سَوَاءٌ كَانَتْ بِاللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِغَيْرِ اللَّهِ ، وَإِنْ كَانَتْ يَمِينُهُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَهُوَ مُولٍ ، فَإِنْ فَاءَ فِيهَا بِالْوَطْءِ نُظِرَ فِي يَمِينِهِ ، فَإِنْ كَانَتْ بِعِتْقٍ أَوْ طَلَاقٍ عَلَّقَهُمَا بِوَطْئِهِ ، فَوَطْؤُهُ مُوجِبٌ لِلْحِنْثِ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ ، وَإِنْ كَانَتْ يَمِينُهُ بِاللَّهِ تَعَالَى فَفِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ أَشَارَ إِلَيْهِ فِي مَوْضِعٍ مِنْهُ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لِلْإِيلَاءِ حُكْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الْفَيْئَةُ أَوِ الطَّلَاقُ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُضَمَّ إِلَيْهِمَا ثَالِثٌ هُوَ الْكَفَّارَةُ لِمَا فِي إِيجَابِهَا مِنْ زِيَادَةِ حُكْمٍ عَلَى النَّصِّ ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ الْفَيْئَةَ بِالْغُفْرَانِ فَقَالَ تَعَالَى فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ الْبَقَرَةِ : ] وَمَا غُفِرَ لَنْ يُكَفَّرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ [ الْبَقَرَةِ : ] فَلَمْ يُكَفَّرْ لَغْوُ الْيَمِينِ لِلْعَفْوِ عَنْهُ وَلِأَنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ الْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ ، فَلَمَّا لَمْ يَجِبْ بِالطَّلَاقِ تَكْفِيرٌ لَمْ يَجِبْ بِالْفَيْئَةِ تَكْفِيرٌ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ الْكَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ [ الْمَائِدَةِ : ] فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي الْإِيلَاءِ وَغَيْرِهِ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ وَفَيْئَةُ الْمُولِي فِي الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرِ خَيْرٌ مِنْهَا بَعْدَهَا وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ التَّكْفِيرِ ، وَلِأَنَّ يَمِينَ الْمُولِي أَغْلَظُ مِنْ يَمِينِ غَيْرِ الْمُولِي ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا بِيَمِينِهِ لَكَفَّرَ بِحِنْثِهِ ، فَإِذَا كَانَ مُولِيًا فَأَوْلَى أَنْ يُكَفِّرَ : وَلِأَنَّ يَمِينَهُ بِاللَّهِ تَعَالَى أَغْلَظُ مَأْثَمًا مِنْ يَمِينِهِ بِالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ ، فَلَمَّا لَزِمَهُ الْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ إِذَا حَنِثَ بِهِمَا فَأَوْلَى أَنْ تَلْزَمَهُ الْكَفَّارَةُ إِذَا حَنِثَ بِاللَّهِ تَعَالَى . فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَحَلِّ الْقَوْلَيْنِ : فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهَا مِنْ عُمُومِ الْفَيْئَةِ قَبْلَ الْمُدَّةِ وَبَعْدَهَا فِي أَنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ بِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ : وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ الْقَوْلَيْنِ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بَعْدَ الْمُدَّةِ ، فَأَمَّا الْفَيْئَةُ قَبْلَ الْمُدَّةِ الإيلاء فَمُوجِبَةٌ لِلْكَفَّارَةِ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْمَوْضُوعَيْنِ بِأَنَّهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ فَأَوْجَبَتِ الْكَفَّارَةَ قَوْلًا وَاحِدًا وَبَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ وَاجِبَةٌ فَجَازَ أَنْ تَسْقُطَ الْكَفَّارَةُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ كَالْحَلْقِ فِي الْإِحْرَامِ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ إِذَا لَمْ تَجِبْ وَلَا يُوجِبُهَا إِذَا وَجَبَ ، وَهَذَا الْفَرْقُ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ أَوْلَى ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ فِي حِنْثِ الطَّاعَةِ كَوُجُوبِهَا فِي حِنْثِ الْمَعْصِيَةِ فَأَمَّا حَلْقُ الْمُحْرمِ فَلَا شَبَهَ فِيهِ لِلْإِيلَاءِ ، لِأَنَّ الْحَلْقَ فِي وَقْفَةِ نُسُكٍ فَلَمْ يُكَفَّرْ فِي غَيْرِ وَقْفِهٍ فَلَيْسَ بِنُسُكٍ ثُمَّ يَسْتَوِي حُكْمُهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ
نُسُكًا بَيْنَ مُبَاحَةٍ لِلْحَاجَةِ وَمَحْظُورَةٍ عِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِيهَا كَذَلِكَ الْفَيْئَةُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ قَالَ أَجِّلْنِي فِي الْجِمَاعِ لَمْ أُؤَجِّلْهُ أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ فَإِنْ جَامَعَ خَرَجَ مِنْ حُكْمِ الْإِيلَاءِ وَعَلَيْهِ الْحِنْثُ فِي يَمِينِهِ وَلَايُبَيَّنُ أَنْ أُؤَجِّلَهُ ثَلَاثًا وَلَوْ قَالَهُ قَائِلٌ كَانَ مَذْهَبًا فَإِنْ طَلَّقَ وَإِلَّا طَلَّقَ عَلَيْهِ السُّلْطَانُ وَاحِدَةً ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ قَطَعَ بِأَنَّهُ يُجْبَرُ مَكَانَهُ فَإِمَّا أَنْ يَفِيءَ وَإِمَّا أَنْ يُطَلِّقَ وَهَذَا بِالْقِيَاسِ أَوْلَى وَالتَّأْقِيتُ لَا يَجِبُ إِلَّا بِخَبَرٍ لَازِمٍ وَكَذَا قَالَ فِي اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّ مَكَانَهُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ فَكَانَ أَصَحَّ مِنْ قَوْلِهِ ثَلَاثًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا إِذَا سَأَلَ الْإِنْظَارَ بِالْفَيْئَةِ لِعَجْزِهِ عَنْهَا بِالْمَرَضِ فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ أَنْ يَفِيءَ بِلِسَانِهِ فَيْءَ مَعْذُورٍ عَلَى مَا مَضَى ، فَإِذَا سَأَلَ الْإِنْظَارَ بِهَا بِغَيْرِ مَرَضٍ فَالْمُدَّةُ تَنْقَسِمُ فِي إِنْظَارِهِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ ، قِسْمٌ يُجَابُ إِلَيْهِ ، وَقِسْمٌ لَا يُجَابُ إِلَيْهِ ، وَقِسْمٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الَّذِي يُجَابُ إِلَيْهِ فَهُوَ أَنْ يَسْأَلَ إِنْظَارَ يَوْمِهِ أَوْ إِنْظَارَ لَيْلَتِهِ فَهَذَا يُجَابُ إِلَى مَا سَأَلَ مِنْ إِنْظَارِ يَوْمِهِ أَوْ لَيْلَتِهِ : وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ جَائِعًا فَأُمْهِلَ لِأَكْلِهِ أَوْ شَبِعًا فَأُمْهِلَ لِهَضْمِهِ ، وَمَا أَشْبَهَ هَذَا فَيُنْظَرُ لَهُ لِيَهْدَأَ بَدَنُهُ إِلَى وَقْتٍ يُعْرَفُ أَنَّهُ زَالَ ذَلِكَ الْعَارِضُ الَّذِي يَضْطَرِبُ الْبَدَنُ لَهُ لِأَنَّ الْجِمَاعَ يَكُونُ بِأَسْبَابِ مُحَرِّكَةٍ تَخْتَلِفُ النَّاسَ فِيهَا فَأُمْهِلَ لَهَا . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : الَّذِي لَا يُجَابُ إِلَيْهِ فَهُوَ أَنْ يَسْأَلَ الْإِنْظَارَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلَا يُجَابُ إِلَى ذَلِكَ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ فِي حَدِّهِ الْكَثْرَةُ وَلِأَنَّهُ لَوْ أُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ لَزَادَتْ مُدَّةُ التَّرَبُّصِ عَلَى النَّصِّ ، وَصَارَ بِاسْتِنْظَارِهِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ كَالْمُمْتَنِعِ مِنَ الْفَيْئَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُحْبَسُ حَتَّى يَفِيءَ أَوْ يُطَلِّقَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يُطَلِّقُ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ ، فَهُوَ إِذَا سَأَلَ إِنْظَارَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَفِي إِجَابَتِهِ إِلَيْهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُجَابُ إِلَيْهَا لِمَا فِيهَا مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى مُدَّةِ النَّصِّ وَلِأَنَّهَا تَقْتَضِي تَأْخِيرَ حَقٍّ بَعْدَ الْوُجُوبِ كَالدُّيُونِ الَّتِي لَا يَلْزَمُ الْإِنْظَارُ بِهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُجَابُ إِلَى إِنْظَارِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِأَنَّهَا حَدٌّ بَيْنَ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ ، فَهِيَ حَدٌّ لِأَكْثَرِ الْقَلِيلِ وَأَقَلِّ الْكَثِيرِ ، فَلَمَّا نُظِرَ بِالْقَلِيلِ جَازَ أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى غَايَةِ حَدِّهِ ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَوْعَدَ بِعَذَابٍ قَرِيبٍ أَنْظَرَ فِيهِ ثَلَاثًا فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ [ هُودٍ : - ] فَكَانَ هَذَا الْإِنْظَارُ فِي الْأَحْكَامِ أَوْلَى مِنْهُ فِي الْعَذَابِ الْمَحْتُومِ ، وَهَكَذَا إِذَا اسْتَنْظَرَ الْعِنِّينُ ثَلَاثًا بَعْدَ السَّنَةِ كَانَ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ ، وَأَصْلُ الْقَوْلَيْنِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إِنْظَارُ الْمُرْتَدِّ ثَلَاثًا وَفِيهِ قَوْلَانِ ، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي إِنْظَارِ الزَّوْجِ ثَلَاثًا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ ، هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَوِ اسْتِحْبَابٌ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ وَاجِبٌ كَإِنْظَارِ الْمُرْتَدِّ بِهَا فَعَلَى هَذَا يُنْظَرُ بِهَا سَوَاءٌ اسْتَنْظَرَهَا أَمْ لَا كَالْمُرْتَدِّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ الْأَظْهَرُ وَاخْتَارَهُ الدَّارَكِيُّ أَنَّهَا اسْتِحْبَابٌ يُنْظَرُ بِهَا إِنِ اسْتَنْظَرَهَا وَلَا يُنْظَرُ بِهَا إِنْ لَمْ يَسْتَنْظِرْ وَيُؤْخَذُ بِتَعْجِيلِ الْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَالْمُرْتَدِّ ، أَنَّ إِنْظَارَ الْمُرْتَدِّ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، فَلَمْ يَقِفْ عَلَى اسْتِنْظَارِهِ ، وَإِنْظَارَ هَذَا فِي حَقِّهِ ، فَوَقَفَ عَلَى اسْتِنْظَارِهِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ مَنَعَ مِنْ إِنْظَارِ الثَّلَاثِ احْتِجَاجًا بِالْمُرْتَدِّ ، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ يُنْظَرُ ثَلَاثًا فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَاسْتَوَيَا ، بَلِ الْقَوْلَانِ فِي الْمُرْتَدِّ أَظْهَرُ مِنْهُمَا فِي الزَّوْجِ ، ثُمَّ احْتَجَّ عَلَى إِبْطَالِ الْإِنْظَارِ بِالثَّلَاثِ إنظار المولي للعجز بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إِنْ قَالَ هُوَ بِالْقِيَاسِ أَوْلَى ، وَلَيْسَ هَكَذَا : لِأَنَّهُ لَيْسَ قِيَاسُ الثَّلَاثِ عَلَى مَا زَادَ عَلَيْهَا بِأَوْلَى مِنْ قِيَاسِهَا عَلَى مَا نَقَصَ عَنْهَا . وَالثَّانِي : إِنْ قَالَ التَّأْقِيتُ لَا يَجِبُ إِلَّا بِخَبَرٍ لَازِمٍ ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَرَى هَذَا ، وَالشَّافِعِيُّ ثَبَّتَ التَّوْقِيتَ بِالنَّصِّ وَالْمَعْنَى عَلَى أَنَّ فِي الثَّلَاثِ نَصًّا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنَّمَا قُلْتُ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُطَلِّقَ عَلَيْهِ وَاحِدَةً لِأَنَّهُ كَانَ عَلَى الْمُولِي أَنْ يَفِيءَ أَوْ يُطَلِّقَ إِذَا كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْفَيْئَةِ إِلَّا بِهِ فَإِذَا امْتَنَعَ قَدَرَ عَلَى الطَّلَاقِ عَنْهُ وَلَزِمَهُ حُكْمُ الطَّلَاقِ كَمَا يَأْخُذُ مِنْهُ كُلَّ شَيْءٍ وَجَبَ عَلَيْهِ إِذَا امْتَنَعَ مِنْ أَنْ يُعْطِيَهُ ( وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ ) فِيهَا قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا وَهُوَ أَحَبُّهُمَا إِلَيْهِ وَالثَّانِي يُضَيِّقُ عَلَيْهِ بِالْحَبْسِ حَتَّى يَفِيءَ أَوْ يُطَلِّقَ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْهُ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ الثَّانِي بِشَيْءٍ وَمَا عَلِمْتُ أَحَدًا قَالَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ إِذَا امْتَنَعَ بَعْدَ الْمُدَّةِ مِنَ الْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ ، هَلْ يُطَلِّقُ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ أَمْ لَا الإيلاء عَلَى قَوْلَيْنِ أَصَحُّهُمَا تُطَلَّقُ عَلَيْهِ ، وَإِذَا كَانَ هَكَذَا : فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الْمُطَلِّقَ كَانَ مُخَيَّرًا فِي عَدَدِ الطَّلَاقِ وَأَقَلُّهُ وَاحِدَةٌ يَمْلِكُ فِيهَا الرَّجْعَةَ فَإِنْ طَلَّقَ اثْنَتَيْنِ فَإِنَّ
الرَّجْعَةَ بَعْدَهَا ، وَإِنْ طَلَّقَ ثَلَاثًا بَانَتْ وَطَلَاقُهُ وَاقِعٌ فِي أَيِّ زَمَانٍ أَوْقَعَهُ قَبْلَ الْمُدَّةِ وَبَعْدَهَا ، إِلَّا أَنَّهُ قَبْلَ الْمُدَّةِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ وَبَعْدَ الْمُدَّةِ مُسْتَحَقَّةٌ . وَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ هُوَ الْمُطَلِّقَ ، فَطَلَاقُهُ مُعْتَبَرٌ بِثَلَاثِ شُرُوطٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ مُمْتَنِعًا مِنْهُ فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ مِنْهُ فَطَلَّقَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَقْصُورًا عَلَى الْعَدَدِ الْمُسْتَحَقِّ وَهُوَ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ ، فَإِنْ طَلَّقَ أَكْثَرَ مِنْهَا وَقَعَتِ الْوَاحِدَةُ وَلَمْ يَقَعِ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الزَّوْجِ : أَنَّ الْحَاكِمَ مُوقِعٌ مَا وَجَبَ وَالزَّوْجَ يُوقِعُ مَا مَلَكَ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يُوقِعَ الطَّلَاقَ فِي زَمَانِ الْوُجُوبِ ، وَذَلِكَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ ، فَإِنْ طَلَّقَ قَبْلَ انْقِضَائِهَا لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ : لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ مَا يَسْتَوْفِيهِ ، وَإِنْ طَلَّقَ بَعْدَ انْقِضَائِهَا ، لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الثَّلَاثِ أَوْ بَعْدَهَا ، فَإِنْ طَلَّقَ بَعْدَ الثَّلَاثِ وَقَعَ طَلَاقُهُ ، وَإِنْ طَلَّقَ قَبْلَ الثَّلَاثِ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ فِي إِنْظَارِ الْمُولِي بِالْفَيْئَةِ ثَلَاثًا ، فَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ لَا يُنْظَرُ بِهَا وَقَعَ طَلَاقُ الْحَاكِمِ قَبْلَهَا ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ يُنْظَرُ بِهَا فَفِي وُقُوعِ طَلَاقِهِ قَبْلَهَا وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي الثَّلَاثِ ، هَلْ يَجِبُ شَرْعًا أَوِ اسْتِنْظَارًا فَإِنْ قِيلَ يَجِبُ اسْتِنْظَارًا وَقَعَ طَلَاقٌ ، وَإِنْ قِيلَ يَجِبُ شَرْعًا لَمْ يَقَعْ طَلَاقٌ ، هَذَا إِنْ كَانَ الْحَاكِمُ يَرَى إِنْظَارَ الثَّلَاثِ ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ لَا يَرَاهَا وَقَعَ طَلَاقُهُ وَجْهًا وَاحِدًا لِأَنَّهُ عَنِ اجْتِهَادٍ سَائِغٍ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنْ طَلَّقَ الْحَاكِمُ وَالزَّوْجُ جَمِيعًا الإيلاء فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهُمَا : إِنْ يُطَلِّقَ الزَّوْجُ ثُمَّ يُطَلِّقَ الْحَاكِمُ بَعْدَهُ فَطَلَاقُ الزَّوْجِ وَاقِعٌ وَطَلَاقُ الْحَاكِمِ غَيْرُ وَاقِعٍ لِأَنَّهُ غَيْرُ وَاجِدٍ وَسَوَاءٌ عَلِمَ الْحَاكِمُ بِطَلَاقِ الزَّوْجِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يُطَلِّقَ الْحَاكِمُ ثُمَّ يُطَلِّقَ الزَّوْجُ بَعْدَهُ فَنَنْظُرُ ، فَإِنْ عِلْمَ الزَّوْجُ بِطَلَاقِ الْحَاكِمِ وَقَعَ طَلَاقُ الزَّوْجِ وَطَلَاقُ الْحَاكِمِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الزَّوْجُ بِطَلَاقِ الْحَاكِمِ فَفِي وُقُوعِ طَلَاقِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَقَعُ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ قَدْ سَبَقَ الْحُكْمُ بِاسْتِيفَائِهِ مِنْهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَقَعُ طَلَاقُهُ ، لِأَنَّهُ يَمْلِكُ مَا وَجَبَ وَمَا لَمْ يَجِبْ ، فَإِذَا اسْتَوْفَى الْحَاكِمُ الْوَاجِبَ وَلَمْ يَسْتَكْشِفِ الزَّوْجُ عَنْهُ وَقَعَ طَلَاقُهُ غَيْرَ وَاجِبٍ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يُطَلِّقَ الزَّوْجُ وَالْحَاكِمُ مَعًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَطَلَاقُ الزَّوْجِ وَاقِعٌ وَفِي وُقُوعِ طَلَاقِ الْحَاكِمِ وَجْهَانِ :
أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَقَعُ طَلَاقُهُ أَيْضًا ، لِأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْهُ الزَّوْجُ بِالطَّلَاقِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَقَعُ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقِ الزَّوْجَ بِالطَّلَاقِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَيُقَالُ لِلَّذِيَ فَاءَ بِلِسَانِهِ مِنْ عُذْرٍ إِذَا أَمْكَنَكَ أَنْ تُصِيبَهَا وَقَفْنَاكَ فَإِنْ أَصَبْتَهَا وَإِلَّا فَرَّقْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا مِمَّا قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي فَيْئَةِ اللِّسَانِ بِالْعُذْرِ ، فَإِذَا زَالَ عُذْرُهُ زَالَ حُكْمُ فَيْئَتِهِ بِلِسَانِهِ وَطُولِبَ بِالْإِصَابَةِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مِنْ حُكْمِ فَيْئَتِهِ بِلِسَانِهِ أَنْ يَعِدَ بِالْإِصَابَةِ عِنْدَ إِمْكَانِهِ فَلِذَلِكَ كَانَ مَأْخُوذًا بِهَا لِأَجْلِ وَعْدِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْإِنْظَارَ إِذَا كَانَ بِعُذْرٍ زَالَ حُكْمُهُ بِزَوَالِ الْعُذْرِ كَإِنْظَارِ الْمُعْسِرِ وَكَإِنْظَارِ الْغَائِبِ بِالشُّفْعَةِ إِذَا حَضَرَ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ كَانَتْ حَائِضًا أَوْ أَحْرَمَتْ مَكَانَهَا بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَلَمْ يَأْمُرْهَا بِإِحْلَالٍ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَبِيلٌ حَتَّى يُمْكِنَ جِمَاعُهَا أَوْ تَحِلَّ إِصَابَتُهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَالْأَسْبَابُ الْمَانِعَةُ مِنَ الْوَطْءِ بالنسبة للمولى منها ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا كَانَ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجَةِ . وَالثَّانِي : مَا كَانَ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ . فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ فَالْوَقْفُ الْمَأْخُوذُ فِيهِ وَقْفَانِ ، وَقْفٌ لِلزَّوْجِ وَوَقْفٌ لِلزَّوْجَةِ فَأَمَّا وَقْفُ الزَّوْجِ فَهُوَ مُدَّةُ التَّرَبُّصِ الَّتِي ضَرَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُولِي ، وَهِيَ الْأَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَأَمَّا وَقْفُ الزَّوْجَةِ فَهُوَ زَمَانُ الْمُطَالَبَةِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَخْلُ الْأَسْبَابُ الْمَانِعَةُ مِنَ الْوَطْءِ إِذَا كَانَتْ حَادِثَةً مِنْ جِهَةِ الزَّوْجَةِ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَوْجُودَةً فِي مُدَّةِ التَّرَبُّصِ أَوْ فِي مُدَّةِ الْمُطَالَبَةِ ، فَإِنْ كَانَتْ فِي مُدَّةِ الْمُطَالَبَةِ فَجَمِيعُهَا مَانِعَةٌ مِنَ الْمُطَالَبَةِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَانِعُ الْمُضَافُ إِلَيْهَا لِعَجْزٍ أَوْ شَرْعٍ فَالْمَانِعُ لِعَجْزٍ كَالضَّنَا وَالْمَرَضِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ مَعَهُ إِصَابَتُهَا ، وَكَالْجُنُونِ الَّذِي يُخَافُ مِنْهُ وَالْإِغْمَاءِ الَّذِي لَا تَمْيِيزَ مَعَهُ وَالْحَبْسِ بِظُلْمٍ أَوْ بِحَقٍّ . وَأَمَّا الْمَانِعُ بِالشَّرْعِ مَعَ الْمُكْنَةِ مِنَ الْوَطْءِ فَالْإِحْرَامُ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ ، سَوَاءٌ كَانَ بِإِذْنِ الزَّوْجِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ اسْتَحَقَّ فَسْخَهُ عَلَيْهَا أَوْ لَمْ يَسْتَحِقَّ : لِأَنَّهَا لَا تَقْدِرُ بِنَفْسِهَا عَلَى الْخُرُوجِ مِنْهُ ، وَالصَّوْمُ الْمَفْرُوضُ سَوَاءٌ تَعَيَّنَ زَمَانُهُ أَوْ لَمْ يَتَعَيَّنْ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهَا
الْخُرُوجُ مِنْ صَوْمِ الْمَفْرُوضِ وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ ، فَأَمَّا صَوْمُ التَّطَوُّعِ فَمُخَالِفٌ لَهُ : لِأَنَّهُ يَجُوزُ لَهَا الْخُرُوجُ مِنْهُ ، وَمِنْ ذَلِكَ الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ يَمْنَعَانِ الْوَطْءَ بِالشَّرْعِ ، فَأَمَّا الِاسْتِحَاضَةُ فَلَا تَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ ، وَمِنْ ذَلِكَ الرِّدَّةُ عَنِ الْإِسْلَامِ يُحَرَّمُ فِيهَا الْوَطْءُ ، فَإِذَا وُجِدَ فِي زَمَانِ الْمُطَالَبَةِ وَهُوَ الْوَقْفُ الثَّانِي هَذِهِ الْأَسْبَابُ الْمَانِعَةُ مِنَ الْوَطْءِ مِنْ جِهَتِهَا مَنَعَهَا ذَلِكَ مِنَ الْمُطَالَبَةِ بِحَقِّهَا مِنَ الْإِيلَاءِ سَوَاءٌ كَانَ مَنْعَ عَجْزٍ أَوْ مَنْعَ شَرْعٍ : لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِالْفَيْئَةِ يَكُونُ مَعَ اسْتِحْقَاقِهَا وَهِيَ تَسْتَحِقُّهَا إِذَا قَدَرَتْ عَلَى التَّمْكِينِ مِنْهَا وَهِيَ غَيْرُ قَادِرَةٍ عَلَى التَّمْكِينِ فَسَقَطَ الِاسْتِحْقَاقُ ، وَإِذَا سَقَطَ الِاسْتِحْقَاقُ سَقَطَتِ الْمُطَالَبَةُ ، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ التَّقْسِيمِ فِي الْمَسْطُورِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " إِذَا كَانَ الْمَنْعُ لَيْسَ مِنْ قِبَلِهِ مِثْلُ أَنْ تَكُونَ صَبِيَّةً أَوْ مُضْنَاةً لَا يَقْدِرُ عَلَى جِمَاعِهَا ، فَإِذَا صَارَتْ فِي حَدِّ مَنْ تُجَامَعُ اسْتُؤْنِفَتْ بِهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا وُجِدَتْ هَذِهِ الْمَوَانِعُ الَّتِي مِنْ جِهَتِهَا فِي مُدَّةِ التَّرَبُّصِ وَهُوَ الْوَقْفُ الْأَوَّلُ فَجَمِيعُهَا غَيْرُ مَحْسُوبٍ عَلَى الزَّوْجِ لِمَنْعِهَا مِنَ الْإِصَابَةِ إِلَّا الْحَيْضَ وَحْدَهُ فَإِنَّ زَمَانَهُ مَحْسُوبٌ عَلَى الزَّوْجِ وَإِنْ كَانَ مَانِعًا وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنَ الْمَوَانِعِ أَنَّ الْحَيْضَ حِلُّهُ وَانْقِطَاعُهُ فِي مُدَّةِ التَّرَبُّصِ غَيْرُ مَعْهُودٍ ، وَخُلُوُّ الْمُدَّةِ مِنْهُ فِي الْغَالِبِ غَيْرُ مَوْجُودٍ ، فَصَارَ زَمَانُهُ مَحْسُوبًا فَلَيْسَ كَغَيْرِهِ مِنَ الْمَوَانِعِ الَّتِي تَخْلُو مُدَّةُ التَّرَبُّصِ مِنْهَا فِي الْأَغْلَبِ ، فَإِنْ طَرَأَتْ فِيهَا كَانَتْ نَادِرَةً فَلِذَلِكَ كَانَ زَمَانُهَا غَيْرَ مَحْسُوبٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّ وُجُودَ الْحَيْضِ فِي صَوْمِ الشَّهْرَيْنِ الْمُتَتَابِعَيْنِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ لَا يَبْطُلُ تَتَابُعُهُ بِالْحَيْضِ لِتَعَذُّرِ خُلُوِّهِ مِنْهُ ، وَيَبْطُلُ تَتَابُعُهُ بِفِطْرِ مَا سِوَى الْحَيْضِ لِإِمْكَانِ خُلُوِّهِ مِنْهُ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ وُجُودِ الْحَيْضِ فِي زَمَانِ الْمُطَالَبَةِ المطالبة بالفيء فَيَمْنَعُ مِنْهَا كَغَيْرِهِ مِنَ الْمَوَانِعِ ، وَبَيْنَ وُجُودِهِ فِي مُدَّةِ التَّرَبُّصِ فَيُحْتَسَبُ بِزَمَانِهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الْمَوَانِعِ ، هُوَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَخْلُوَ مِنْهُ زَمَانُ الْمُطَالَبَةِ فِي الْأَغْلَبِ فَسَاوَى غَيْرَهُ مِنَ الْمَوَانِعِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَخْلُوَ مِنْهُ زَمَانُ التَّرَبُّصِ فِي الْأَغْلَبِ فَخَالَفَ غَيْرَهُ مِنَ الْمَوَانِعِ وَجَرَى وُجُودُهُ فِي زَمَانِ الْمُطَالَبَةِ مَجْرَى وُجُودِهِ فِي صَوْمِ الثَّلَاثِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ يَبْطُلُ تَتَابُعُهَا لِإِمْكَانِ خُلُوِّهَا مِنْهُ . وَجَرَى وُجُودُهُ فِي مُدَّةِ التَّرَبُّصِ مَجْرَى وُجُودِهِ فِي صَوْمِ الشَّهْرَيْنِ الْمُتَتَابِعَيْنِ لَا يَبْطُلُ تَتَابُعُهُمَا لِتَعَذُّرِ خُلُوِّهَا مِنْهُ . فَأَمَّا النِّفَاسُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ غَيْرُ قَاطِعٍ لِمُدَّةِ التَّرَبُّصِ وَمَحْسُوبٌ فِيهِ : لِأَنَّ أَحْكَامَ الْحَيْضِ عَلَيْهِ جَارِيَةٌ فَأَشْبَهَ الْحَيْضَ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ قَاطِعٌ مُدَّةَ التَّرَبُّصِ وَغَيْرُ مَحْسُوبٍ فِيهَا بِخِلَافِ الْحَيْضِ وَهُوَ الصَّحِيحُ : لِأَنَّ الْحَيْضَ غَالِبٌ وَالنِّفَاسَ نَادِرٌ فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْمَوَانِعِ . فَأَمَّا الصِّغَرُ : فَإِنْ لَمْ يَمْنَعْ مِنَ الِافْتِضَاضِ بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ كَانَ زَمَانُهُ مَحْسُوبًا ، وَإِنْ كَانَ مَانِعًا مِنَ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ لَمْ يُحْتَسَبْ عَلَيْهِ فِي مُدَّةِ التَّرَبُّصِ حَتَّى يَصِيرَ عَلَى حَالٍ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ مِنْهَا فَيُسْتَأْنَفَ لَهُ التَّرَبُّصُ . وَأَمَّا الْمَرَضُ فَإِنْ أَمْكَنَ مَعَهُ إِصَابَتُهَا بِتَغْيِيبِ الْحَشَفَةِ فِي فَرْجِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْرَبَهَا كَانَ زَمَانُهُ مَحْسُوبًا فِي مُدَّةِ التَّرَبُّصِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُ مَعَهُ تَغْيِيبُ الْحَشَفَةِ إِلَّا بِضَرَرٍ يَلْحَقُهَا كَانَ زَمَانُهُ غَيْرَ مَحْسُوبٍ فِي مُدَّةِ التَّرَبُّصِ حَتَّى يَصِيرَ إِلَى مَا لَا يَلْحَقُهَا مِنْ ذَلِكَ ضَرَرٌ فَتُحْتَسَبُ فِي مُدَّةِ التَّرَبُّصِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي لَا يُحْتَسَبُ بِزَمَانِهَا فِي مُدَّةِ التَّرَبُّصِ ، فَإِذَا زَالَتِ اسْتُؤْنِفَتْ مُدَّةُ التَّرَبُّصِ وَلَا شَيْءَ عَلَى مَا مَضَى مِنْهَا قَبْلَ الْمَوَانِعِ وَبَطَلَ الْمَاضِي مِنْ مُدَّةِ التَّرَبُّصِ بِالْمَوَانِعِ الطَّارِئَةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْظَرَهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَاقْتَضَى إِطْلَاقُهَا التَّتَابُعَ فِي حَالِ الِاضْطِرَارِ كَمَا اقْتَضَاهُ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ فَصَارَ كَصَوْمِ الشَّهْرَيْنِ الْمُتَتَابِعَيْنِ يَبْطُلُ مَا تَقَدَّمَهُ بِتَرْكِ التَّتَابُعِ فِي الِاخْتِيَارِ وَغَيْرِ الِاخْتِيَارِ ، وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَخَالَفَ فِيهِ نَصَّ الشَّافِعِيِّ إِلَى تَلْفِيقِ التَّرَبُّصِ وَالْبِنَاءِ عَلَى مَا مَضَى قَبْلَ الْمَوَانِعِ ، قَالَ : لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ حُدُوثُ الْمَوَانِعِ فِي زَمَانِ الْمُطَالَبَةِ لَا يُسْقِطُ مَا مَضَى مِنْ مُدَّةِ التَّرَبُّصِ كَذَلِكَ حُدُوثُهَا فِي مُدَّةِ التَّرَبُّصِ لَا يُسْقِطُ مَا تَقَدَّمَهُ مِنْهَا وَهَذَا فَاسِدٌ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مُوَالَاةَ الْمُدَّةِ بِحُدُوثِهِ بَعْدَهَا مَوْجُودٌ وَمُوَالَاتَهَا بِحُدُوثِهِ فِي تَضَاعِيفِهَا مَعْدُومٌ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ قَدِ اسْتَوْفَى الزَّوْجُ حَقَّهُ بِحُدُوثِهِ بَعْدَهَا وَمَا اسْتَوْفَاهُ بِحُدُوثِهِ فِي تَضَاعِيفِهَا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا كَانَ الْمَنْعُ مِنْ قِبَلِهِ الإيلاء كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَفِيءَ فَيْءَ جِمَاعٍ ، أَوْ فَيْءَ مَعْذُورٍ وَفَيْءَ الْحَبْسِ بِاللِّسَانِ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِذَا آلَى فَحُبِسَ اسْتُوقِفَتْ بِهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ مُتَتَابِعَةٍ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمُهُ اللَّهُ ) الْحَبْسُ وَالْمَرَضُ عِنْدِي سَوَاءٌ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ بِهِمَا فَإِذَا حُبِسَتْ عَلَيْهِ فِي الْمَرَضِ وَكَانَ يَعْجِزُ عَنِ الْجِمَاعِ بِكُلِّ حَالٍ أُجِّلَ الْمُولِي كَانَ الْمَحْبُوسُ الَّذِي يُمْكِنَهُ أَنْ تَأْتِيَهُ فِي حَبْسِهِ فَيُصِيبَهَا بِذَلِكَ أَوْلَى " .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا كَانَتِ الْمَوَانِعُ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ فَزَمَانُ جَمِيعِهَا مَحْسُوبٌ عَلَيْهِ مِنْ مُدَّةِ التَّرَبُّصِ إِلَّا اثْنَتَيْنِ : زَمَانَ رِدَّتِهِ وَزَمَانَ عِدَّتِهَا مِنْ طَلَاقِهِ فَإِنَّهُمَا غَيْرُ مَحْسُوبَتَيْنِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ جِهَتِهِ لِأَنَّهُمَا مُوجِبَانِ مِنَ التَّحْرِيمِ فِي حَقِّهَا مِثْلَ مَا يُوجِبَانِهِ فِي حَقِّهِ ، وَلَيْسَ كَإِحْرَامٍ وَصِيَامٍ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ فِي حَقِّهَا وَإِنَّمَا يُوجِبُهُ فِي حَقِّهِ دُونَهَا فَافْتَرَقَا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ هَذِهِ الْمَوَانِعِ الْمَحْسُوبَةِ مِنْ أَنْ تُوجَدَ فِي الْوَقْتِ الْأَوَّلِ وَهُوَ مُدَّةُ التَّرَبُّصِ أَوْ فِي الْوَقْتِ الثَّانِي وَهُوَ زَمَانُ الْمُطَالَبَةِ ، فَإِنْ وُجِدَتْ فِي الْأَوَّلِ كَانَتْ مَحْسُوبَةً عَلَيْهِ فَيُحْسَبُ عَلَيْهِ زَمَانُ إِحْرَامٍ وَزَمَانُ صِيَامٍ وَزَمَانُ مَرَضٍ وَزَمَانُ سَفَرٍ سَوَاءٌ سَافَرَ فِي مُبَاحٍ أَوْ فِي وَاجِبٍ وَزَمَانُ حَبْسِهِ سَوَاءٌ حُبِسِ بِحَقٍّ أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ ، قَالَ الْمُزَنِيُّ : وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : وَلَوْ آلَى فَحُبِسَ اسْتُؤْنِفَتْ لَهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ ، فَلَمْ يُحْتَسَبْ بِزَمَانِ الْحَبْسِ عَلَيْهِ فَكَانَ أَبُو حَفْصِ بْن الْوَكِيلِ يُخْرِجُ هَذَا قَوْلًا ثَانِيًا فِي الْحَبْسِ كَمَا تَوَهَّمَهُ الْمُزَنِيُّ أَنَّهُ لَا يُحْتَسَبُ بِزَمَانٍ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ غَيْرُ مَنْسُوبٍ إِلَيْهِ ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ فَاسِدٌ بِالْمَرَضِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ وَزَمَانِهِ مَحْسُوبٌ عَلَيْهِ لِوُجُودِهِ فِي حَبْسِهِ . وَذَهَبَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِقَوْلٍ ثَانٍ وَأَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ لَمْ يَخْتَلِفْ فِي أَنَّ زَمَانَ الْحَبْسِ مَحْسُوبٌ عَلَيْهِ ، لِمَا عَلَّلَ بِهِ الْمُزَنِيُّ فِي أَنَّ زَمَانَ الْمَرَضِ لَمَّا كَانَ مَحْسُوبًا عَلَيْهِ وَحَالُهُ فِيهِ أَغْلَظَ ، كَانَ زَمَانُ حَبْسِهِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ تَأْتِيَهُ فِي الْحَبْسِ فَيُصِيبَهَا أَوْلَى بِالِاحْتِسَابِ ، وَنَسَبُوا الْمُزَنِيَّ إِلَى الْخَطَأِ فِي نَقْلِهِ : لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ فَلَوْ آلَى فَحُبِسَتِ اسْتُؤْنِفَتْ لَهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ لِأَنَّ الْحَبْسَ مِنْ جِهَتِهَا فَوَهِمَ الْمُزَنِيُّ فِي نَقْلِهِ ، وَلَوْ آلَى فَحُبِسَ فَأَضَافَ الْحَبْسَ إِلَيْهِ دُونَهَا . وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : الْمُزَنِيُّ مُصِيبٌ فِي نَقْلِهِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ كَمَا وَهِمَ فِيهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ ، فَفِي الْمَوْضِعِ الَّذِي احْتُسِبَ زَمَانُ حَبْسِهِ عَلَيْهِ إِذَا حُبِسَ بِحَقٍّ ، وَالْمَوْضِعِ الَّذِي لَمْ يُحْتَسَبْ بِزَمَانِ حَبْسِهِ عَلَيْهِ إِذَا حُبِسَ بِظَالِمٍ وَهَذَا التَّفْصِيلُ يَبْطُلُ بِالْمَرَضِ كَمَا يَبْطُلُ بِهِ أَصْلُ التَّعْلِيلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : وَإِنْ وُجِدَتْ هَذِهِ الْمَوَانِعُ فِي الْوَقْتِ الثَّانِي وَهُوَ زَمَانُ الْمُطَالَبَةِ لَمْ يَسْقُطْ بِهَا حُكْمُ الْمُطَالَبَةِ بِالْفَيْئَةِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ الِاحْتِسَابُ بِهَا كَانَتْ زَمَانًا لِلْفَيْئَةِ فَلَمْ تَمْنَعْ مِنَ الْمُطَالَبَةِ بِهَا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنْ كَانَ الْمَانِعُ مَرَضًا فَإِنْ قَدَرَ مَعَهُ عَلَى تَغْيِيبِ الْحَشَفَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ طُولِبَ أَنْ يَفِيءَ بِالْجِمَاعِ وَإِنْ عَجَزَ عَنْ تَغْيِيبِ الْحَشَفَةِ طُولِبَ أَنْ يَفِيءَ بِلِسَانِهِ فَيْءَ مَعْذُورٍ عَلَى مَا مَضَى ، وَإِنْ كَانَ الْمَانِعُ حَبْسًا فَإِنْ قَدَرَ عَلَى إِدْخَالِهَا إِلَى حَبْسِهِ طُولِبَ أَنْ يَفِيءَ بِالْجِمَاعِ ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى إِدْخَالِهَا إِلَى حَبْسِهِ طُولِبَ أَنْ يَفِيءَ بِلِسَانِهِ فَيْءَ مَعْذُورٍ مَا كَانَ فِي حَبْسِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَانِعُ إِحْرَامًا أَوْ صِيَامًا ، قِيلَ : لَا يَسْقُطُ فَيْئَةُ الْجِمَاعِ لِقُدْرَتِكَ عَلَيْهِ ، وَلَا يُؤْمَرُ بِهِ لِتَحْرِيمِهِ عَلَيْهِ ، وَلَا يُقْنِعُ مِنْكَ أَنْ تَفِيءَ بِلِسَانِكَ فَيْءَ مَعْذُورٍ لِأَنَّكَ قَادِرٌ عَلَى فَيْءِ غَيْرِ مَعْذُورٍ ، فَإِنْ أَقْدَمْتَ عَلَى الْفَيْئَةِ بِالْجِمَاعِ خَرَجْتَ مِنْ
حَقِّ الْإِيلَاءِ وَعَصَيْتَ بِالْوَطْءِ فِي الْإِحْرَامِ أَوِ الصِّيَامِ وَإِنْ لَمْ يَطَأْ لَمْ يَتَوَجَّهْ عَلَيْهِ مَأْثَمُ التَّحْرِيمِ ، وَإِنْ تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةُ بِالْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ فَإِنْ أَقَمْتَ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْهَا فَعَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُحْبَسُ حَتَّى يَفْعَلَ أَحَدَهُمَا . وَالثَّانِي : يُطَلِّقُ الْقَاضِي عَلَيْهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَقَالَ فِي مَوْضِعَيْنِ - يَعْنِي الشَّافِعِيَّ - وَلَوْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا مَسِيرَةَ أَشْهُرٍ وَطَلَبَهُ وَكِيلُهَا بِمَا يَلْزَمُهُ لَهَا أَمَرْنَاهُ أَنْ يَفِيءَ بِلِسَانِهِ وَالْمَسِيرِ إِلَيْهَا كَمَا يُمْكِنُهُ فَإِنْ فَعَلَ وَإِلَّا طَلَّقَ عَلَيْهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا سَافَرَ الْمُولِي عَنْ زَوْجَةٍ فِي مُدَّةِ التَّرَبُّصِ كَانَ زَمَانُ سَفَرِهِ مَحْسُوبًا عَلَيْهِ مِنْ مُدَّةِ وَقْفِهِ لِأَنَّهُ مَانِعٌ مِنْ جِهَتِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ آلَى مُبْتَدِئًا فِي سَفَرِهِ كَانَ مَا جَاوَزَ قَدْرَ " الْمُسَافِرِ " مِنْ أَيَّامِ سَفَرِهِ مَحْسُوبًا عَلَيْهِ وَفِي احْتِسَابِ قَدْرِ الْمَسَافَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُحْتَسَبُ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ لَمْ يَقْدِرْ فِيهِ عَلَى الْإِصَابَةِ لَوْ أَرَادَهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ الصَّحِيحُ تُحْتَسَبُ عَلَيْهِ كَغَيْرِهَا مِنْ أَيَّامِ السَّفَرِ ، وَلَيْسَ تَعَذُّرُ الْإِصَابَةِ لَوْ أَرَادَهَا بِمَانِعٍ مِنَ احْتِسَابِ الْمُدَّةِ عَلَيْهِ كَالْمَرَضِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مُدَّةَ السَّفَرِ مَحْسُوبَةٌ عَلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَ فِي وَقْتِ الْمُطَالَبَةِ حَاضِرًا طُولِبَ بِالْإِصَابَةِ أَوِ الطَّلَاقِ ، مطالبة الزوجة بالفيء وَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْبَتِهِ وَكَّلَتْ مَنْ يُطَالِبُهُ بِحَقِّهَا حَتَّى يُرَافِعَ وَكِيلُهَا إِلَى حَاكِمِ الْبَلَدِ الَّذِي هُوَ غَائِبٌ فِيهِ فَيُطَالِبَهُ بِالْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ فَإِنْ طَلَّقَ فَحُكْمُ طَلَاقِهِ فِي غَيْبَتِهِ كَحُكْمِ طَلَاقِهِ فِي حَضَرِهِ ، وَقَدْ سَقَطَ بِالطَّلَاقِ حَقُّهَا حَتَّى إِذَا قَدِمَ فَلَا مُطَالَبَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا ، وَإِنْ أَرَادَ الْفَيْئَةَ فَيَكْفِيهِ فِي الْفَيْئَةِ شَرْطَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَفِيءَ بِلِسَانِهِ فَيْءَ مَعْذُورٍ . وَالثَّانِي : أَنْ يَأْخُذَ فِي الِاجْتِمَاعِ لِلْإِصَابَةِ ، إِمَّا بِأَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهَا ، وَإِمَّا بِأَنْ يَسْتَقْدِمَهَا عَلَيْهِ ، وَالْخِيَارُ فِيهِمَا إِلَيْهِ ، فَإِنْ فَعَلَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ خَرَجَ مِنْ حُكْمِ الْفَيْئَةِ قَبْلَ الِاجْتِمَاعِ ، فَإِذَا اجْتَمَعَ لَمْ يَجُزْ مَا تَقَدَّمَ مِنْ فَيْئَةِ اللِّسَانِ حَتَّى يَفِيءَ بِالْإِصَابَةِ فَلَوْ أَنَّهُ فِي غَيْبَتِهِ أَخَذَ فِي الْقُدُومِ أَوِ الِاسْتِقْدَامِ وَلَمْ يَفِئْ بِلِسَانِهِ فَيْءَ مَعْذُورٍ لَمْ يَكُنْ فَايِئًا وَطَلَّقَ عَلَيْهِ حَاكِمُ ذَلِكَ الْبَلَدِ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ ، فَإِنْ فَاءَ بِلِسَانِهِ فَيْءَ مَعْذُورٍ لَمْ يُأْخَذْ فِي الِاجْتِمَاعِ إِمَّا بِقُدُومٍ أَوِ الِاسْتِقْدَامِ لَمْ تَتِمَّ الْفَيْئَةُ وَطَلَّقَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْحَاكِمُ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا بِخَوْفِ الطَّرِيقِ أَوْ لِمَرَضٍ مُعْجِزٍ فَالْفَيْئَةُ بِلِسَانِهِ كَافِيَةٌ إِلَى أَنْ يَزُولَ عُذْرُهُ فَيُؤْخَذَ
بِالْقُدُومِ أَوِ الِاسْتِقْدَامِ فَلَوِ اسْتَقْدَمَهَا فَامْتَنَعَتْ إِلَّا أَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهَا صَارَتْ نَاشِزًا وَسَقَطَ حَقُّهَا مِنَ الْمُطَالَبَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ غُلِبَ عَلَى عَقْلِهِ لَمْ يُوقَفْ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْهِ عَقْلُهُ فَإِنْ عَقِلَ بَعْدَ الْأَرْبَعَةِ وُقِفَ مَكَانَهُ فَإِمَّا أَنْ يَفِيءَ وَإِمَّا أَنْ يُطَلِّقَ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ ) هَذَا يُؤَكِّدَ أَنْ يُحْسَبَ عَلَيْهِ مُدَّةُ حَبْسِهِ وَمُنِعَ تَأَخُّرُهُ يَوْمًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا غُلِبَ عَلَى عَقْلِ الْمُولِي بِجُنُونٍ أَوْ إِغْمَاءٍ كَانَ زَمَانُ جُنُونِهِ وَإِغْمَائِهِ مَحْسُوبًا عَلَيْهِ فِي وَقْفِهِ وَمُدَّةِ تَرَبُّصِهِ : لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ جِهَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِهِ كَالْمَرَضِ ، فَإِذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ التَّرَبُّصِ وَهُوَ عَلَى جُنُونِهِ وَإِغْمَائِهِ لَمْ يَتَوَجَّهْ عَلَيْهِ مُطَالَبَةٌ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يُوقَفْ ، يَعْنِي الْوَقْفَ الثَّانِيَ الَّذِي هُوَ زَمَانُ الْمُطَالَبَةِ ، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ الْوَقْفَ الْأَوَّلَ الَّذِي هُوَ مُدَّةُ التَّرَبُّصِ ، فَإِذَا أَفَاقَ مِنْ جُنُونِهِ أَوْ إِغْمَائِهِ اسْتُحِقَّتْ حِينَئِذٍ مُطَالَبَتُهُ بِالْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ .
فَصْلٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ هَذَا يُؤَكِّدُ أَنْ يُحْتَسَبَ مُدَّةُ حَبْسِهِ وَمُنِعَ تَأْخِيرُهُ يَوْمًا أَوْ ثَلَاثَةً . أَرَادَ الْمُزَنِيُّ بِذَلِكَ أَمْرَيْنِ : أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ : أَنْ يَجْعَلَ الِاحْتِسَابَ بِزَمَانِ الْجُنُونِ دَلِيلًا عَلَى الِاحْتِسَابِ بِزَمَانِ الْحَبْسِ ، وَهَذَا صَحِيحٌ . وَالثَّانِي : أَنْ يَجْعَلَ مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ مَنْعِ تَأْخِيرِهِ يَوْمًا أَوْ ثَلَاثَةً دَلِيلًا عَلَى إِبْطَالِ إِنْظَارِهِ ثَلَاثًا فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ ، وَلَا دَلِيلَ فِيهِ وَعَمَّا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَنْ مَنْعِ تَأْخِيرِهِ يَوْمًا أَوْ ثَلَاثَةً جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَمْنَعُهُ ذَلِكَ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، وَهُوَ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي غَيْرُ مَمْنُوعٍ . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّ الْمَنْعَ مِنَ الْإِنْظَارِ فِي ابْتِدَاءِ الْمُطَالَبَةِ ، وَالْقَوْلَانِ فِي الْإِنْظَارِ فِي الْإِجَابَةِ إِلَى الْفَيْئَةِ ، لِأَنَّهُ لَوْ أَجَابَ إِلَى الطَّلَاقِ وَسَأَلَ الْإِنْظَارَ بِهِ لَمْ يُنْظَرْ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَإِنَّمَا الْقَوْلَانِ فِي الْإِنْظَارِ بِالْفَيْئَةِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوْ أَحْرَمَ قِيلَ لَهُ إِنْ وَطِئْتَ فَسَدَ إِحْرَامُكَ وَإِنْ لَمْ تَفِئْ طُلِّقَ عَلَيْكَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُولِيَ إِذَا أَحْرَمَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ كَانَ زَمَانُ إِحْرَامِهِ مَحْسُوبًا عَلَيْهِ ، فَإِنْ أَحَلَّ قَبْلَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ التَّرَبُّصِ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ ، وَإِنْ كَانَ بَاقِيًا عَلَى إِحْرَامِهِ إِلَى انْقِضَاءِ مُدَّةِ التَّرَبُّصِ ، قِيلَ لَهُ إِحْرَامُكَ قَدْ حَظَرَ عَلَيْكَ الْوَطْءَ وَالْإِيلَاءُ يُوجِبُهُ ، وَلَا يَمْنَعُ تَحْرِيمُهُ عَلَيْكَ مِنْ مُطَالَبَتِكَ فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ بِالْوَطْءِ أَوِ الطَّلَاقِ
لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِالْوَطْءِ هِيَ أَقْوَى الْحَقَّيْنِ ، لِأَنَّ الْوَطْءَ أَصْلٌ مَقْصُودٌ وَالطَّلَاقَ بَذْلٌ عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ ، فَإِذَا طُولِبَ وَطَلَّقَ خَرَجَ بِهِ مِنْ حُكْمِ الْإِيلَاءِ وَلَا يَأْثَمُ فِي إِفْسَادِ إِحْرَامِهِ ، فَإِذَا فَاءَ فَقَدْ عَصَى بِوَطْئِهِ فِي الْإِحْرَامِ وَأَفْسَدَ بِهِ الْحَجَّ وَوَجَبَتْ فِيهِ الْكَفَّارَةُ وَخَرَجَ مِنْ حُكْمِ الْإِيلَاءِ ، وَوَجَبَتْ بِهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ، فَإِنِ امْتَنَعَ أَنْ يَفْعَلَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ طُلِّقَ عَلَيْهِ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ . فَإِنْ قِيلَ فَهَلَّا اقْتُنِعَ مِنْهُ بِفَيْءِ مَعْذُورٍ بِلِسَانِهِ كَالْمَرِيضِ : قِيلَ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ الْإِحْرَامَ الْمَانِعَ عَلَى نَفْسِهِ بِخِلَافِ الْمَرَضِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ دُخُولُهُ عَلَيْهِ مِنْ فِعْلِهِ ، فَكَانَ بِالْإِحْرَامِ غَيْرَ مَعْذُورٍ وَبِالْمَرَضِ مَعْذُورًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ آلَى ثُمَّ تَظَاهَرَ أَوْ تَظَاهَرَ ثُمَّ آلَى وَهُوَ يَجِدُ الْكَفَّارَةَ قِيلَ أَنْتَ أَدْخَلْتَ الْمَنْعَ عَلَى نَفْسِكَ فَإِنْ فِئْتَ فَأَنْتَ عَاصٍ وَإِنْ لَمْ تَفِئْ طُلِّقَ عَلَيْكَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا جَمَعَ بَيْنَ الْإِيلَاءِ وَالظِّهَارِ فِي امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فَآلَى مِنْهَا ثُمَّ ظَاهَرَ أَوْ ظَاهَرَ ثُمَّ آلَى كَانَ زَمَانُ الظِّهَارِ مَحْسُوبًا عَلَيْهِ فِي مُدَّةِ التَّرَبُّصِ فَإِذَا انْقَضَتِ الْمُدَّةُ وَاسْتُحِقَّتِ الْمُطَالَبَةُ وَهُوَ عَلَى ظِهَارٍ لَمْ يُكَفِّرْ مِنْهُ فَقَدِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ فِي الْوَطْءِ حَقَّانِ مُتَنَافِيَانِ : أَحَدُهُمَا : يُحَرِّمُ الْوَطْءَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يُكَفِّرَ وَهُوَ الظِّهَارُ . وَالثَّانِي : يُوجِبُ الْوَطْءَ فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ قَبْلَ التَّكْفِيرِ وَهُوَ الْإِيلَاءُ ، فَإِنْ عَجَّلَ الْكَفَّارَةَ فِي الظِّهَارِ وَوَطِئَ فِي الْإِيلَاءِ خَرَجَ مِنْ تَحْرِيمِ الظِّهَارِ بِالْكَفَّارَةِ وَمَنْ حَقِّ الْإِيلَاءِ بِالْوَطْءِ ، وَإِنْ طَلَّقَ خَرَجَ بِالطَّلَاقِ مِنْ حَقِّ الْإِيلَاءِ ، وَخَرَجَ مِنْ مَأْثَمِ الظِّهَارِ بِتَرْكِ الْوَطْءِ ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَحَدَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ وَوَطِئَ قَبْلَ التَّكْفِيرِ فِي الظِّهَارِ كَانَ عَاصِيًا بِالْوَطْءِ فِي حُكْمِ الظِّهَارِ ، وَخَارِجًا بِهِ فِي الْإِيلَاءِ مِنْ حَقِّ الزَّوْجَةِ ، فَإِنْ سَأَلَ الْإِنْظَارَ فِي الْوَطْءِ حَتَّى يُكَفِّرَ بِالظِّهَارِ نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُكَفِّرُ بِالصِّيَامِ لَمْ يُنْظَرْ ، لِأَنَّهُ صَوْمُ شَهْرَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُكَفِّرُ بِالْعِتْقِ ، فَإِنْ كَانَ مَالِكًا لِلرَّقَبَةِ لَمْ يُنْظَرْ فِي عِتْقِهَا كَمَا لَا يُنْظَرُ فِي الطَّلَاقِ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى تَعْجِيلِهَا مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لِلرَّقَبَةِ أُنْظِرَ لِابْتِيَاعِهَا يَوْمًا ، وَهَلْ يَبْلُغُ بِإِنْظَارِهِ ثَلَاثًا ، عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ . وَلَوِ امْتَنَعَ مِنْ أَنْ يُطَلِّقَ أَوْ يَطَأَ طَلَّقَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ ، وَلَوْ أَرَادَ وَطْأَهَا فَمَنَعَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا لِتَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ قَبْلَ التَّكْفِيرِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهَا بِخِلَافِ الْوَطْءِ فِي الرِّدَّةِ وَالْحَيْضِ لِأَنَّ تَحْرِيمَهُ بِالرِّدَّةِ وَالْحَيْضِ فِي حَقِّهِمَا وَتَحْرِيمَهُ بِالظِّهَارِ فِي حَقِّهِ
وَحْدَهُ ، وَيَسْقُطُ حَقُّهَا مِنَ الْمُطَالَبَةِ بِهَذَا الِامْتِنَاعِ لِأَنَّ الْمُمْتَنِعَ مَمْنُوعٌ مِنَ الْمُطَالَبَةِ كَالدُّيُونِ الْمَبْذُولَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ قَالَتْ لَمْ يُصِبْنِي وَقَالَ أَصَبْتُهَا الإيلاء فَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهَا تَدَّعِي مَا بِهِ الْفُرْقَةُ الَّتِي هِيَ إِلَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا أُرِيهَا النِّسَاءُ فَإِنْ قُلْنَ هِيَ بِكْرٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَحْلَفَهَا لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَمْ يُبَالِغْ فَرَجَعَتِ الْعَذْرَةُ بِحَالِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا ادَّعَى الْمُولِي إِصَابَتَهَا لِيُسْقِطَ مُطَالَبَتَهَا وَأَنْكَرَتْ أَنْ يَكُونَ أَصَابَهَا وَادَّعَتْ أَنَّهَا عَلَى حَقِّهَا مِنَ الْمُطَالَبَةِ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا ، فَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ فِي الْإِصَابَةِ مَعَ يَمِينِهِ بِاللَّهِ لَقَدْ أَصَابَهَا لِأَنَّ الْوَطْءَ يُسْتَتَرُ بِهِ وَلَا يُمْكِنُ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ فَقِيلَ فِيهِ قَوْلُ مُدَّعِيهِ كَالْحَيْضِ وَالطُّهْرِ ، وَلِأَنَّ بَقَاءَ النِّكَاحِ وَدَوَامَ صِحَّتِهِ أَصِلٌ قَدِ اسْتَصْحَبَهُ الزَّوْجُ بِدَعْوَى الْإِصَابَةِ وَالزَّوْجَةُ تَدَّعِي مَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ مِنْ وُجُوبِ الْفُرْقَةِ بِإِنْكَارِ الْإِصَابَةِ فَكَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ لِاسْتِصْحَابِهِ حُكْمَ الْأَصْلِ ، فَإِنْ قِيلَ فَالْأَصْلُ أَنْ لَا إِصَابَةَ كَمَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي النِّكَاحِ الصِّحَّةُ ، فَلِمَ اسْتَصْحَبْتُمُ الْأَصْلَ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ وَلَمْ تَسْتَصْحِبُوا الْأَصْلَ فِي عَدَمِ الْإِصَابَةِ ؟ قُلْنَا : لِأَنَّ صِحَّةَ النِّكَاحِ أَصْلٌ مُتَيَقَّنٌ ، وَعَدَمَ الْإِصَابَةِ أَصْلٌ مَظْنُونٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ ، فَكَانَ اسْتِصْحَابُ الْأَصْلِ الْمُتَيَقَّنِ أَوْلَى مِنَ اسْتِصْحَابِ الْأَصْلِ الْمَظْنُونِ ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ لِجَوَازِ كَذِبِهِ ، فَإِذَا حَلَفَ حُكِمَ بِسُقُوطِ حَقِّهَا مِنَ الْإِيلَاءِ ، وَإِنْ نَكَلَ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَيْهَا ، فَإِنْ حَلَفَتْ كَانَتْ عَلَى حَقِّهَا مِنَ الْإِيلَاءِ وَأُخِذَ بِالْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ وَلَمْ يُحْكَمْ بِقَوْلِ الزَّوْجِ فِي ثُبُوتِ الْإِصَابَةِ .
فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا أَنَّهُ لَمْ يُصِبْهَا : لِأَنَّ الْبَكَارَةَ مِنْ شَوَاهِدِ صِدْقِهَا فِي عَدَمِ الْإِصَابَةِ ، فَصَارَ قَوْلُهَا أَقْوَى مِنْ قَوْلِ الزَّوْجِ ، فَلِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا قَالَ الْمُزَنِيُّ : إِنَّمَا أَحْلَفَهَا لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَمْ يُبَالِغْ فَرَجَعَتِ الْعُذْرَةُ بِحَالِهَا فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ إِنَّمَا يُحَلِّفُهَا إِنِ ادَّعَى الزَّوْجُ أَنَّهُ لَمْ يُبَالِغْ فِي الْإِصَابَةِ فَعَادَتِ الْعَذْرَةُ فَأَمَّا إِنْ لَمْ يَدَّعِ لَمْ يُحَلِّفْهَا . وَقَالَ الْبَغْدَادِيُّونَ بَلْ يُحَلِّفُهَا بِكُلِّ حَالَةٍ سَوَاءٌ ادَّعَى الزَّوْجُ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَدَّعِيهِ ، لِأَنَّ دَعْوَاهُ الْإِصَابَةَ مَعَ الْبَكَارَةِ مُفْضٍ إِلَى ذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ فِي الدَّعْوَى ، فَإِنْ حَلَفَتِ الزَّوْجَةُ كَانَتْ عَلَى حَقِّهَا مِنَ الْمُطَالَبَةِ بِالْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ ، وَإِنْ نَكَلَتْ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الزَّوْجِ ، وَإِنْ حَلَفَ سَقَطَ حَقُّهَا مِنَ الْإِيلَاءِ وَإِنْ نَكَلَ حُكِمَ بِقَوْلِ الزَّوْجَةِ فِي بَقَاءِ حَقِّهَا مِنَ الْمُطَالَبَةِ فَعَلَى هَذَا لَوِ اخْتَلَفَا فِي الْبَكَارَةِ فَادَّعَتْهَا الزَّوْجَةُ لِيَكُونَ قَوْلُهَا مَقْبُولًا فِي عَدَمِ
الْإِصَابَةِ وَأَنْكَرَهَا الزَّوْجُ لِيَكُونَ قَوْلُهُ مَقْبُولًا فِي وُجُودِ الْإِصَابَةِ لَمْ يُرْجَعْ فِيهَا إِلَى قَوْلِ أَحَدِهِمَا لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُشَاهِدَ ذَلِكَ النِّسَاءُ الثِّقَاتُ فَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعٌ مِنْهُنَّ بِأَنَّهَا بِكْرٌ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا فِي إِنْكَارِ الْإِصَابَةِ ، وَإِنْ شَهِدْنَ بِأَنَّهَا ثَيِّبٌ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي ثُبُوتِ الْإِصَابَةِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوِ ارْتَدَّا أَوْ أَحَدُهُمَا فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ أَوْ خَالَعَهَا ثُمَّ رَاجَعَهَا الإيلاء أَوْ رَجَعَ مَنِ ارْتَدَّ مِنْهُمَا فِي الْعِدَّةِ اسْتَأْنَفَ فِي هَذِهِ الْحَالَاتِ كُلِّهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ حَلَّ لَهُ الْفَرْجُ وَلَا يُشْبِهُ هَذَا الْبَابَ الْأَوَّلَ لِأَنَّهَا فِي هَذَا الْبَابِ كَانَتْ مُحَرَّمَةَ - كَالْأَجْنَبِيَّةِ - الشَّعْرِ وَالنَّظَرِ وَالْجَسِّ وَفِي تِلْكَ الْأَحْوَالِ لَمْ تَكُنْ مُحَرَّمَةً بِشَيْءٍ غَيْرِ الْجِمَاعِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) الْقِيَاسُ عِنْدِي أَنَّ مَا حَلَّ لَهُ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ امْرَأَتِهِ وَالْإِيلَاءُ يَلْزَمُهُ بِمَعْنَاهُ وَأَمَّا مَنْ لَمْ تَحِلَّ لَهُ بِعَقْدِهِ الْأَوَّلِ حَتَّى يُحْدِثَ نِكَاحًا جَدِيدًا فَحُكْمُهُ مِثْلُ الْأَيِّمِ تُزَوَّجُ فَلَا حُكْمَ لِلْإِيلَاءِ فِي مَعْنَاهُ الْمُشْبِهِ لِأَصْلِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الرِّدَّةَ تُسْقِطُ الْوَقْفَ الْأَوَّلَ فِي مُدَّةِ التَّرَبُّصِ وَيُسْقِطُ الْوَقْفُ الثَّانِي اسْتِحْقَاقَ الْمُطَالَبَةِ وَزَمَانُهَا غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ ، سَوَاءٌ كَانَتِ الرِّدَّةُ مِنْ جِهَتِهِ أَوْ مِنْ جِهَتِهَا ، فَإِنْ لَمْ يَعُدِ الْمُرْتَدُّ مِنْهُمَا إِلَى الْإِسْلَامِ إِلَى بَعْدِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَقَدْ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِالرِّدَّةِ ، وَسَقَطَ بِهَا حُكْمُ الْإِيلَاءِ ، وَهَذِهِ الْفُرْقَةُ فَسْخٌ ، فَإِنْ عَادَ فَنَكَحَهَا فَهَلْ يَعُودُ الْإِيلَاءُ فِي النِّكَاحِ الثَّانِي أَمْ لَا ؟ يَنْبَنِي عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي الْفُرْقَةِ بِالْفَسْخِ ، هَلْ تَجْرِي مَجْرَى فُرْقَةِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ ، أَوْ مَجْرَى مَا دُونَهَا ، عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا جَارِيَةٌ مَجْرَى الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَعُودُ الْإِيلَاءُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ كُلِّهِ وَأَحَدِ قَوْلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ ، وَيَعُودُ الْإِيلَاءُ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي فِي الْقَدِيمِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى مَا دُونَ الثَّلَاثِ ، فَعَلَى هَذَا يَعُودُ الْإِيلَاءُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ كُلِّهِ وَأَحَدِ قَوْلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ وَلَا يَعُودُ الْإِيلَاءُ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي فِي الْجَدِيدِ ، فَأَمَّا إِذَا عَادَ الْمُرْتَدُّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ إِلَى الْإِسْلَامِ كَانَا عَلَى النِّكَاحِ وَاسْتُوقِفَ لَهُ الْوَقْفُ الْأَوَّلُ ، وَهُوَ مُدَّةُ التَّرَبُّصِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ لَا يَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنْهَا فَإِذَا انْقَضَتْ طُولِبَ بِالْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الرِّدَّةُ فِي الْوَقْفِ الثَّانِي وَهُوَ زَمَانُ الْمُطَالَبَةِ فَلَا يُعَادُ الْوَقْفُ بَعْدَ انْقِضَائِهِ كَامِلًا قَبْلَ الرِّدَّةِ فَإِنْ قِيلَ فَهَلَّا اسْتُؤْنِفَ الْوَقْفُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ كَمَا يُسْتَأْنَفُ الْوَقْفُ بَعْدَ الرَّجْعَةِ ، قِيلَ لِأَنَّهُ قَدْ وَفَّاهَا حَقَّهَا بِالطَّلَاقِ وَلَمْ يُوفِّهَا حَقَّهَا بِالرِّدَّةِ ، فَلِذَلِكَ سَقَطَ بِالطَّلَاقِ حُكْمُ الْوَقْفِ الْأَوَّلِ وَاسْتُؤْنِفَ لَهُ وَقْفٌ بَعْدَ الرَّجْعَةِ وَلَمْ يَسْقُطْ بِالرِّدَّةِ حُكْمُ الْوَقْفِ الْأَوَّلِ ، فَلَمْ يُسْتَأْنَفْ لَهُ الْوَقْفُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا خَالَعَ الْمُولِي زَوْجَتَهُ فَقَدْ بَانَتْ مِنْهُ بِالْخُلْعِ وَسَقَطَ حُكْمُ الْإِيلَاءِ فِي النِّكَاحِ ، فَإِنْ عَادَ فَتَزَوَّجَهَا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ كَانَ عَوْدُ الْإِيلَاءِ مُعْتَبَرًا بِفُرْقَةِ الْخُلْعِ وَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ، فَعَلَى هَذَا يَعُودُ الْخُلْعُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ كُلِّهِ وَأَحَدِ قَوْلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ وَلَا يَعُودُ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي فِي الْجَدِيدِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : فِي الْخُلْعِ أَنَّهُ فَسْخٌ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي الْفَسْخِ هَلْ يَجْرِي مَجْرَى الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ أَوْ مَا دُونَهَا عَلَى مَا مَضَى ، فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَقَدْ تَكَرَّرَ مِنْ كَلَامِهِ مَا تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْهُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَأَقَلُّ مَا يَكُونُ بِهِ الْمُولِي فَائِتًا فِي الثَّيِّبِ أَنْ يُغَيِّبَ الْحَشَفَةَ ، وَفِي الْبِكْرِ أقل ما يكون به المولي فائتا في البكر ذَهَابُ الْعُذْرَةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَالْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ . بِهِمَا لِأَنَّ جَمِيعَ أَحْكَامِ الْوَطْءِ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ مِنْ وُجُوبِ الْغُسْلِ وَالْحَدِّ وَالْمَهْرِ وَالْعِدَّةِ وَلُحُوقِ النَّسَبِ وَتَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ وَثُبُوتِ الْإِحْصَانِ وَالْإِحْلَالِ لِلْأَوَّلِ وَفَسَادِ الْعِبَادَاتِ ، كَذَلِكَ الْخُرُوجُ مِنْ حُكْمِ الْإِيلَاءِ . وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا قَالَ الشَّافِعِيُّ فَبِذَهَابِ الْعُذْرَةِ لِأَنَّ الْتِقَاءَ الْخِتَانَيْنِ يُذْهِبُ الْعُذْرَةَ لَا أَنَّ ذَهَابَ الْعُذْرَةِ هِيَ الشَّرْطُ الْمُعْتَبَرُ ، فَأَمَّا الْوَطْءُ فِي الدُّبُرِ أَوْ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ فَلَا يُسْقِطُ حُكْمَ الْإِيلَاءِ وَالْعُنَّةِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ قَالَ لَا أَقْدِرُ عَلَى افْتِضَاضِهَا أُجِّلَ أَجَلَ الْعِنِّينِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا ادَّعَى الْمُولِي الْعُنَّةَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصَابَهَا فِي هَذَا النِّكَاحِ قَبْلَ الْإِيلَاءِ أَوْ لَمْ يُصِبْهَا ، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَصَابَهَا فِيهِ فَدَعَوَاهُ مَرْدُودَةٌ ، لِأَنَّ حُكْمَ الْعُنَّةِ لَا يَثْبُتُ فِي نِكَاحٍ قَدْ وَقَعَتْ فِيهِ إِصَابَةٌ ، وَصَارَ بِهَذِهِ الدَّعْوَى كَالْمُمْتَنِعِ مِنَ الْإِصَابَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا ، فَإِنْ أَصَابَ أَوْ طَلَّقَ وَإِلَّا طَلَّقَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَصَابَهَا فِيهِ وَهِيَ عَلَى بَكَارَتِهَا أَوْ كَانَتْ ثَيِّبًا قَبْلَ النِّكَاحِ نُظِرَ . فَإِنْ كَانَتْ عُنَّتُهُ قَدْ ثَبَتَتْ قَبْلَ الْإِيلَاءِ وَأَجَّلَ لَهَا وَرَضِيَتْ بِالْمُقَامِ مَعَهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ أَجَلِهَا كَانَ مَقْبُولَ الْقَوْلِ فِي الْعُنَّةِ وَلَا يَسْقُطُ بِهِ حُكْمُ الْفَيْئَةِ لَكِنْ يَفِيءُ بِلِسَانِهِ فَيْءَ مَعْذُورٍ وَيُخَيَّرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّلَاقِ ، فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُ الْعُنَّةِ قَبْلَ الْإِيلَاءِ وَلَمْ يَدَّعِهَا إِلَّا بَعْدَهُ ، فَهَلْ تُقْبَلُ دَعْوَاهُ أَمْ لَا ؟ الزوج عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَشَارَ إِلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ قَوْلَهُ
مَقْبُولٌ : لِأَنَّ الْعُنَّةَ مِنَ الْعُيُوبِ الْبَاطِنَةِ الَّتِي لَا تُعْرَفُ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ فَكَانَ مَقْبُولَ الْقَوْلِ فِيهَا، لَكِنْ مَعَ يَمِينِهِ لِإِمْكَانِ كَذِبِهِ ، فَعَلَى هَذَا إِذَا حَلَفَ قِيلَ لَهُ عَلَيْكَ أَنْ تَفِيءَ بِلِسَانِكَ فَيْءَ مَعْذُورٍ ، فَإِذَا فَاءَ بِلِسَانِهِ أُجِّلَ لِلْعُنَّةِ سَنَةً، فَإِنْ أَصَابَ فِيهَا سَقَطَ بِهَا حُكْمُ الْإِيلَاءِ وَالْعُنَّةِ جَمِيعًا ، وَإِنْ لَمْ يُصِبْ فِيهَا ثَبَتَ لَهُ حُكْمُ الْعُنَّةِ وَكَانَ لَهَا الْخِيَارُ بَيْنَ الْمُقَامِ أَوِ الْفَسْخِ ، فَإِنْ أَقَامَتْ سَقَطَ حَقُّهَا مِنَ الْعُنَّةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا الرُّجُوعُ فِيهِ فَيَسْقُطُ حَقُّهَا مِنَ الْإِيلَاءِ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا الرُّجُوعُ أَيْضًا لِأَنَّهُ قَدْ فَاءَ لَهَا فَيْءَ مَعْذُورٍ ، وَإِنْ لَمْ تَخْتَرِ الْمُقَامَ مَعَهُ زوجة العنين فَلِلْحَاكِمِ أَنْ يَقَعَ الْفُرْقَةَ بَيْنَهُمْ قَوْلًا وَاحِدًا بِالْعُنَّةِ وَقَدِ اسْتَوْفَتْ حَقَّهَا مِنَ الْإِيلَاءِ وَالْعُنَّةِ ، وَيَكُونُ ذَلِكَ فَسْخًا فِي الْعُنَّةِ لَا طَلَاقًا فِي الْإِيلَاءِ، وَحُكْمُ الْفَسْخِ أَغْلَظُ مِنْ حُكْمِ الطَّلَاقِ ، فَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ دَعْوَى الْعُنَّةِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَتْهُومًا بِدَعْوَاهَا لِيُقْتَنَعَ مِنْهُ بِفَيْءِ الْمَعْذُورِ وَيُنْظَرَ سَنَةً بَعْدَ مُدَّةِ التَّرَبُّصِ فَرُدَّ قَوْلُهُ بِهَذِهِ التُّهْمَةِ وَإِذَا صَارَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَرْدُودَ الْقَوْلِ قِيلَ لَا يَسْقُطُ عَنْكَ الْمُطَالَبَةُ إِلَّا بِفَيْئَةِ الْجِمَاعِ وَأَنْتَ مُخَيَّرٌ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الطَّلَاقِ ، فَإِنْ فَعَلَ أَحَدَهُمَا وَإِلَّا طَلَّقَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ جَامَعَهَا مُحْرِمَةً أَوْ حَائِضًا أَوْ هُوَ مُحْرِمٌ أَوْ صَائِمٌ خَرَجَ مِنْ حُكْمِ الْإِيلَاءِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا وَطِئَهَا الْمُولِي وَطْئًا مَحْظُورًا فِي إِحْرَامٍ ، أَوْ صِيَامٍ وطئها المولي في الصيام ، أَوْ ظِهَارٍ ، أَوْ حَيْضٍ وطئها المولي في الحيض كَانَ فِي سُقُوطِ حَقِّهَا مِنَ الْإِيلَاءِ فِي حُكْمِ الْوَطْءِ الْمُبَاحِ لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ جَمِيعَ أَحْكَامِ الْوَطْءِ الْمُبَاحِ يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مَحْظُورًا فَكَذَلِكَ فِي الْإِيلَاءِ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا قَدْ وَصَلَتْ إِلَى حَقِّهَا مِنْهُ وَإِنْ كَانَ مَحْظُورًا كَوُصُولِهَا إِلَيْهِ إِذَا كَانَ مُبَاحًا . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ الْحِنْثِ بِمَحْظُورِ الْوَطْءِ مَا يَلْزَمُ بِمُبَاحِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ سُقُوطُ الْإِيلَاءِ بِمَثَابَتِهِ ، وَخَالَفَ هَذَا قَضَاءَ الدَّيْنِ بِالْمَالِ الْمَغْصُوبِ لِأَنَّهُ يَقَعُ مَوْقِعَ الْحَلَالِ فِي الْمِلْكِ ، فَلَمْ يَقَعْ مَوْقِعَهُ فِي الِاسْتِيفَاءِ، وَلَوْ وَطِئَهَا وَهِيَ نَائِمَةٌ سَقَطَ حَقُّهَا مِنَ الْإِيلَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَلَوِ اسْتَدْخَلَتْ ذَكَرَهُ وَهُوَ نَائِمٌ ، فَفِي سُقُوطِ حَقِّهَا وَجْهَانِ فى الايلاء : أَحَدُهُمَا : قَدْ سَقَطَ حَقُّهَا لِوُصُولِهَا إِلَى الْإِصَابَةِ وَأَنَّ ذَلِكَ قَدَّرَ عَلَيْهِ الْغُسْلَ وَتَحْرِيمَ الْمُصَاهَرَةِ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَسْقُطُ حَقُّهَا مِنَ الْإِيلَاءِ : لِأَنَّ حَقَّهَا فِي فِعْلِهِ لَا فِي فِعْلِهَا : وَلِأَنَّهُ لَمْ يَحْنَثْ بِذَلِكَ فَلَمْ يَسْقُطْ بِهِ الْإِيلَاءُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ آلَى ثُمَّ جُنَّ فَأَصَابَهَا فِي جُنُونِهِ أَوْ جُنُونِهَا خَرَجَ مِنَ الْإِيلَاءِ ، وَكَفَّرَ إِذَا أَصَابَهَا وَهُوَ صَحِيحٌ وَلَمْ يُكَفِّرْ إِذَا أَصَابَهَا وَهُوَ مَجْنُونٌ ؛ لِأَنَّ الْقَلَمَ عَنْهُ مَرْفُوعٌ فِي تِلْكَ الْحَالِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ جَعَلَ فِعْلَ الْمَجْنُونِ فِي جُنُونٍ كَالصَحِيحِ فِي خُرُوجِهِ مِنَ الْإِيلَاءِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ إِذَا خَرَجَ مِنَ الْإِيلَاءِ فِي جُنُونِهِ بِالْإِصَابَةِ فَكَيْفَ لَا يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ، وَلَوْ لَمْ يَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ مَا كَانَ حَانِثًا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ حَانِثًا لَمْ يَخْرُجْ مِنَ الْإِيلَاءِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُولِيَ إِذَا جُنَّ كَانَ زَمَانُ جُنُونِهِ عَلَيْهِ مَحْسُوبًا ، لَكِنْ لَا مُطَالَبَةَ عَلَيْهِ حَتَّى يُفِيقَ فَلَا يَبْطُلُ الْوَقْفُ الْأَوَّلُ بِالْجُنُونِ وَيَبْطُلُ بِهِ الْوَقْفُ الثَّانِي ، فَإِنْ وَطِئَ فِي جُنُونِهِ لَمْ يَحْنَثْ وَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ بِارْتِفَاعِ الْقَلَمِ عَنْهُ ، وَأَنَّ أَفْعَالَهُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى عَفْوٌ ، وَهَلْ يَسْقُطُ بِهَذَا الْوَطْءِ حَقُّهَا مِنَ الْإِيلَاءِ أَمْ لَا ؟ حالة الجنون ، عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَسْقُطُ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهَا قَدْ وَصَلَتْ إِلَى حَقِّهَا مِنَ الْإِصَابَةِ فَإِنْ كَانَ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ كَالْوَاطِئِ نَاسِيًا لَا يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، وَيَسْقُطُ بِهِ حُكْمُ الْإِيلَاءِ قَوْلًا وَاحِدًا وَكَالْمُولِي مِنْ إِحْدَى زَوْجَتَيْهِ إِذَا قَصَدَ وَطْءَ غَيْرِ الْمُولِي مِنْهَا فَخَفِيَتْ عَلَيْهِ وَوَطِئَ الْمُولِي عَنْهَا سَقَطَ حَقُّهَا وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ وَطْأَهَا ، فَتَعَلَّقَ بِهَذَا الْوَطْءِ حَقَّانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُرَاعَى الْقَصْدُ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ كَالْمُسْلِمِ إِذَا حَاضَتْ زَوْجَتُهُ الذِّمِّيَّةُ أَجْبَرَهَا عَلَى الْغُسْلِ ، وَإِنْ لَمْ يُنْوَ لِأَنَّ فِي غُسْلِهَا حَقَّيْنِ . أَحَدُهُمَا : لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَصِحُّ إِلَّا بِالنِّيَّةِ، وَالْآخَرُ لَهُ وَيَصِحُّ بِغَيْرِ نِيَّةٍ وَهُوَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَلِذَلِكَ أُجْزِئَ بِغَيْرِ نِيَّةٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ وَطَائِفَةٍ أَنَّهَا عَلَى حَقِّهَا مِنَ الْفَيْئَةِ وَاسْتِحْقَاقِ الْمُطَالَبَةِ ، وَلَا يَسْقُطُ بِهَذِهِ الْإِصَابَةِ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَحْنَثْ بِهَا وَيَلْزَمِ الْكَفَّارَةَ ، وَكَانَ وَطْؤُهُ مِنْ بَعْدُ مُوجَبًا بِالْكَفَّارَةِ كَانَ حُكْمُ الْإِيلَاءِ بَاقِيًا . فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ ، فَإِذَا قُلْنَا بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ إِنَّ حُكْمَ الْإِيلَاءِ قَدْ سَقَطَ فَلَا مُطَالَبَةَ لَهَا، وَيَمِينُهُ بَاقِيَةٌ مَتَى وَطِئَهَا حَنِثَ كَمَنْ آلَى مِنْ أَجْنَبِيَّةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَمْ يَكُنْ مُولِيًا وَكَانَ حَالِفًا مَتَى وَطِئَهَا حَنِثَ ، وَإِذَا قُلْنَا بِالْوَجْهِ الثَّانِي أَنَّهُ يَكُونُ عَلَى إِيلَائِهِ وَيَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةَ بَعْدَ إِقَامَتِهِ فَهَلْ يُجْزِيهِ الْوَقْفُ الْأَوَّلُ أَوْ يُسْتَأْنَفُ لَهُ وَقْفٌ ثَانٍ بَعْدَ الْإِصَابَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : يَجْرِي لَهُ الْوَقْفُ الْأَوَّلُ : لِأَنَّ هَذِهِ الْإِصَابَةَ لَا حُكْمَ لَهَا فَصَارَ وُجُودُهَا كَعَدَمِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : قَدْ سَقَطَ حُكْمُ الْوَقْفِ الْأَوَّلِ بِهَذِهِ الْإِصَابَةِ وَإِنْ لَمْ يَسْقُطْ بِهَا أَصْلُ الْإِيلَاءِ كَالرَّجْعَةِ بَعْدَ الطَّلَاقِ، فَوَجَبَ اسْتِئْنَافُ الْوَقْفِ لِأَنَّهَا قَدِ اسْتَوْفَتْ بِالطَّلَاقِ مَا اسْتَحَقَّتْهُ بِالْوَقْفِ الْأَوَّلِ كَذَلِكَ هَا هُنَا ، لِأَنَّهُ وَقْفٌ فِي حَقِّ الْجُنُونِ ، قَدِ اسْتَوْفَتْ بِالْإِصَابَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَحْنَثْ لَهَا مَا اسْتَحَقَّتْهُ بِالْوَقْفِ الْأَوَّلِ فَوَجَبَ إِبْقَاءُ الْإِيلَاءِ أَوْ يُسْتَأْنَفُ لَهُ وَقْفٌ ثَانٍ بَعْدَ الْإِصَابَةِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنْ جُنَّتِ الْمَرْأَةُ الْمُولَى مِنْهَا فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى إِصَابَتِهَا فِي الْجُنُونِ لِهَرَبٍ أَوْ بَطْشٍ لَمْ يُحْسَبْ عَلَيْهَا زَمَانُ جُنُونِهَا ، لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ جِهَتِهَا فَإِذَا أَفَاقَتْ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ اسْتُؤْنِفَ الْوَقْفُ ، وَإِنْ أَفَاقَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ وَبَعْدَ جُنُونِهَا اسْتَقَرَّ حُكْمُ الْوَقْفِ وَكَانَ لَهَا الْمُطَالَبَةُ مَعَ الْإِفَاقَةِ فَأَمَّا إِذَا أَمْكَنَ الزَّوْجَ إِصَابَتُهَا فِي حَالِ الْجُنُونِ كَانَ زَمَانُ الْجُنُونِ مَحْسُوبًا مِنَ الْوَقْفِ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الْإِصَابَةِ مِنْ غَيْرِ مَانِعٍ فَإِذَا انْقَضَتِ الْمُدَّةُ لَمْ تَسْتَحِقَّ عَلَيْهَا الْمُطَالَبَةُ مَا كَانَتْ بَاقِيَةً فِي جُنُونِهَا لِأَنَّهُ مُوقَفٌ عَلَى اخْتِيَارِهَا مِنْ شَهْوَتِهَا ، فَإِنْ أَصَابَهَا فِي حَالِ الْجُنُونِ سَقَطَ حَقُّهَا مِنَ الْإِيلَاءِ وَوَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ عَلَى الزَّوْجِ بِالْإِصَابَةِ ، وَإِنْ لَمْ يُصِبْ لَمْ يُطَالَبْ لَكِنْ يُقَالُ اسْتِحْبَابًا يَنْبَغِي أَنْ تَتَّقِيَ اللَّهَ تَعَالَى فِيهَا، فَيَفِيءُ أَوْ يُطَلِّقُ ، وَإِنْ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى فَيْئَةٍ أَوْ طَلَاقٍ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَالذِّمِّيُّ كَالْمُسْلِمِ فِيمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْإِيلَاءِ إِذَا حَاكَمَ إِلَيْنَا ، وَحُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعِبَادِ وَاحِدٌ ( وَقَالَ ) فِي كِتَابِ الْجِزْيَةِ لَوْ جَاءَتِ امْرَأَةٌ تَسْتَعْدِي بِأَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا أَوْ آلَى مِنْهَا أَوْ تَظَاهَرَ حَكَمْتُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ حُكْمِي عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَلَوْ جَاءَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يَطْلُبُ حَقًّا كَانَ عَلَى الِإمَامِ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى الْمَطْلُوبِ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِهِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا أَشْبَهُ الْقَوْلَيْنِ بِهِ لِأَنَّ تأوِيلَ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَهُ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ أَنْ تَجْرِيَ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى حُكْمُ الذِّمِّيَّيْنِ إِذَا تَحَاكَمَا إِلَيْنَا ، هَلْ يَجِبُ عَلَى حَاكِمِنَا الْحُكْمُ عَلَيْهِمَا جَبْرًا، أَوْ يَكُونُ فِي الْحُكْمِ مُخَيَّرًا ، عَلَى الْقَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْحُكْمِ وَالتَّرْكِ ، وَهُمْ مُخَيَّرُونَ بَيْنَ الِالْتِزَامِ وَالْإِسْقَاطِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [ الْمَائِدَةِ : ] . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بَيْنَهُمْ وَيَجِبُ عَلَيْهِمُ الْتِزَامُ حُكْمِهِ ، لِقَوْلِ اللَّهِ
تَعَالَى حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [ التَّوْبَةِ : ] وَالصَّغَارُ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ فَأَمَّا إِنْ تَحَاكَمَ إِلَيْنَا ذِمِّيَّانِ مِنْ دِينَيْنِ يَهُودِيٍّ وَنَصْرَانِيٍّ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بَيْنَهُمَا قَوْلًا وَاحِدًا ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَعْتَقِدُ بُطْلَانَ دِينِ صَاحِبِهِ فَلَزِمَ الْعُدُولُ بِهِمَا إِلَى دِينِ الْحَقِّ الْإِسْلَامِ . وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا بَلْ هُوَ عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا لَوْ كَانَا عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ عِنْدَنَا مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا وَتَرَافَعَ إِلَيْنَا مِنْهُمْ زَوْجَانِ فِي طَلَاقٍ أَوْ ظِهَارٍ أَوْ إِيلَاءٍ حُكِمَ بَيْنَهُمَا فِيهِ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ الذميين لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ [ الْمَائِدَةِ : ] فَإِنْ طَلَّقَ صَحَّ طَلَاقُهُ وَأَلْزَمَهُ حُكْمُهُ ، وَإِنْ ظَاهَرَ فَيَأْتِي حُكْمَ ظِهَارِهِ ، وَإِنَّ الْأَصَحَّ إِيلَاؤُهُ . وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ ، وَمَالِكٌ : رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لَا يَصِحُّ إِيلَاؤُهُ ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِي آيَةِ الْإِيلَاءِ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ الْبَقَرَةِ : ] وَالْغُفْرَانُ وَالرَّحْمَةُ لَا يَسْتَحِقَّانِ مَعَ الْكُفْرِ فَلَمْ يَتَوَجَّهْ بِهِ الْإِيلَاءُ إِلَّا إِلَى الْمُسْلِمِ . وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ مَنْ صَحَّ إِيلَاؤُهُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى صَحَّ إِيلَاؤُهُ بِاللَّهِ كَالْمُسْلِمِ، وَلِأَنَّ مَا صَحَّ بِهِ إِيلَاءُ الْمُسْلِمِ صَحَّ بِهِ إِيلَاءُ غَيْرِ الْمُسْلِمِ كَالْإِيلَاءِ بِغَيْرِ اللَّهِ فَأَمَّا آيَةُ الْإِيلَاءِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ عُمُومَ نَصِّهَا تَنَاوَلَ الْمُسْلِمَ دُونَ الْكَافِرِ لِمَا تَضَمَّنَهُ آخِرُهَا مِنْ قَوْلِهِ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ الْبَقَرَةِ : ] ثُمَّ قِيسَ مَنْ آلَى مِنَ الْكُفَّارِ ، عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي مَعْنَى الْإِيلَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا [ الْأَحْزَابِ : ] فَقِيسَ عَلَى ذَلِكَ طَلَاقُ الذِّمِّيَّاتِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ عُمُومَ نَصِّهَا تَنَاوَلَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارَ ، فَعَلَى هَذَا لِأَصْحَابِنَا فِي قَوْلِهِ فِي آخِرِهَا : فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ الْبَقَرَةِ : ] . أَحَدُهُمَا : أَنَّ قَوْلَهُ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ [ الْبَقَرَةِ : ] عَامٌّ فِي الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ ، وَقَوْلَهُ تَعَالَى فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ خَاصٌّ فِي الْمُسْلِمِينَ دُونَ الْكُفَّارِ ، فَيَكُونُ أَوَّلُ الْآيَةِ عَامًّا وَآخِرُهَا خَاصًّا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ جَمِيعَهَا عَامٌّ فِي الْمُسْلِمِينَ ، وَقَوْلَهُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ الْبَقَرَةِ : ]
خَاصٌّ فِي غُفْرَانِ مَأْثَمِ الْإِيلَاءِ، وَالْكُفَّارُ قَدْ يُغْفَرُ لَهُمْ مَأْثَمُ الْمَظَالِمِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ وَلَا يُغْفَرُ لَهُمْ مَأْثَمُ الْأَدْيَانِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَكُونُ مُولِيًا حُكِمَ بَيْنَهُمْ بِحُكْمِ اللَّهِ فِي الْمُولِي الْمُسْلِمِ مِنْ تَرَبُّصِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، ثُمَّ مُطَالَبَتِهِ بَعْدَهَا بِالْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ، فَإِنْ فَعَلَ أَحَدَهُمَا وَإِلَّا طَلَّقَ عَلَيْهِ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا كَانَ الْعَرَبِيُّ يَتَكَلَّمُ بِأَلْسِنَةِ الْعَجَمِ وَآلَى بِأَيِّ لِسَانٍ كَانَ مِنْهَا فَهُوَ مُولٍ فِي الْحُكْمِ وَإِنْ كَانَ يَتَكَلَّمُ بِأَعْجَمِيَّةٍ فَقَالَ مَا عَرَفْتُ مَا قُلْتُ، وَمَا أَرَدْتُ إيْلَاءً فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا آلَى الْعَرَبِيُّ بِالْأَعْجَمِيَّةِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَعْرِفَ الْأَعْجَمِيَّةَ وَيَتَكَلَّمَ بِهَا فَهَذَا يَكُونُ مُولِيًا بِهَا كَمَا يَكُونُ مُولِيًا بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ لَا يَخْتَصُّ بِلِسَانٍ دُونَ لِسَانٍ وَلَيْسَ مَا يَقِفُ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ إِلَّا الْقُرْآنَ ، وَمَا سِوَاهُ فَيَجُوزُ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْهُ بِكُلِّ لِسَانٍ ، فَلَوْ قَالَ قُلْتُهُ وَمَا أَرَدْتُ بِهِ الْإِيلَاءَ ، لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ فِي هَذَا الظَّاهِرِ ، وَلَمْ يُدَنْ فِي الْبَاطِنِ كَمَا لَوِ ادَّعَى ذَلِكَ فِي اللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَعْرِفَ الْأَعْجَمِيَّةَ، لَكِنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ فَيَكُونُ مُولِيًا بِهَا ، فَإِنْ قَالَ مَا أَرَدْتُ الْإِيلَاءَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ فِي الظَّاهِرِ وَدِينَ فِي الْبَاطِنِ ، لِأَنَّ تَرْكَهُ الْكَلَامَ بِهَا يَحْتَمِلُ مَا قَالَهُ فَلِأَجْلِ ذَلِكَ دِينَ فِيهِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ لَا يَعْرِفَ الْعَجَمِيَّةَ فَيُسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ ، فَإِنْ قَالَ : أَرَدْتُ بِهِ الْإِيلَاءَ كَانَ مُولِيًا بِإِقْرَارِهِ وَإِنْ قَالَ : مَا عَرَفْتُهُ وَلَا أَرَدْتُ بِهِ الْإِيلَاءَ قُبِلَ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مَعَهُ، وَعَلَيْهِ الْيَمِينُ لِاحْتِمَالِ كَذِبِهِ، وَلَا نَجْعَلُهُ مُولِيًا فِي الظَّاهِرِ وَلَا فِي الْبَاطِنِ وَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ رُدَّتْ عَلَى الْمَرْأَةِ ، فَإِذَا حَلَفَتْ حُكِمَ عَلَيْهِ بِالْإِيلَاءِ ، وَإِنْ نَكَلَتْ فَلَا إِيلَاءَ عَلَيْهِ ، وَهَكَذَا الْأَعْجَمِيُّ إِذَا آلَى بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ عَلَى هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ الثَّلَاثَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ آلَى ثُمَّ آلَى فَإِنْ حَنِثَ فِي الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ لَمْ يَعُدْ عَلَيْهِ الْإِيلَاءُ وَإِنْ أَرَادَ بِالْيَمِينِ الثَّانِيَةِ الْأُولَى فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ وَإِنْ أَرَادَ غَيْرَهَا فَأُحِبُّ كَفَّارَتَيْنِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا آلَى مَرَّةً ثُمَّ آلَى ثَانِيَةً انْقَسَمَ حَالُهُ فِيهَا أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ الْيَمِينَانِ مِنْ جِنْسَيْنِ وَعَلَى زَمَانَيْنِ كَقَوْلِهِ : وَاللَّهِ لَا أَطَؤُكِ سَنَةً،
فَإِذَا مَضَتْ، فَإِنْ وَطِئْتُكِ بَعْدَهَا فَعَبْدِي حُرٌّ فَهُمَا إِيلَاءَانِ لَا يَكُونُ الْحِنْثُ فِي أَحَدِهِمَا حِنْثًا فِي الْآخَرِ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسَيْنِ وَالزَّمَانَيْنِ ، وَلَا الْوَاجِبُ فِي أَحَدِهِمَا وَاجِبٌ فِي الْآخَرِ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسَيْنِ فَإِذَا وَطِئَ بَعْدَهَا فِي السَّنَةِ الْأُولَى حَنِثَ بِاللَّهِ تَعَالَى وَلَزِمَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ، وَإِذَا وَطِئَ بَعْدَهَا حَنِثَ بِالْعِتْقِ وَعُتِقَ عَلَيْهِ عَبْدُهُ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَا مِنْ جِنْسَيْنِ وَعَلَى زَمَانٍ وَاحِدٍ حكم الايلاء مرة بعد مره كَقَوْلِهِ : إِنْ وَطِئْتُكِ سَنَةً فَمَالِي صَدَقَةٌ ثُمَّ يَقُولُ : إِنْ وَطِئْتُكِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَهُوَ إِيلَاءٌ وَاحِدٌ بِيَمِينَيْنِ يَكُونُ الْحِنْثُ فِيهِ وَاحِدًا لِأَنَّ الزَّمَانَ وَاحِدٌ، وَالْوَاجِبُ فِيهِ شَيْئَيْنِ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ فَتُطَلَّقُ عَلَيْهِ بِالْحِنْثِ وَيَكُونُ فِي الصَّدَقَةِ بِمَالِهِ مُخَيَّرًا بَيْنَ الصَّدَقَةِ وَبَيْنَ كَفَّارَةِ يَمِينٍ لِأَنَّهُ نَذْرُ لَجَاجٍ خَرَجَ مَخْرَجَ الْيَمِينِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَعَلَى زَمَانَيْنِ حكم الايلاء مرة بعد مره كَقَوْلِهِ : وَاللَّهِ لَا وَطِئْتُكِ خَمْسَةَ أَشْهُرٍ وَإِذَا مَضَتْ فَوَاللَّهِ لَا وَطِئْتُكِ سَنَةً فَهُوَ إِيلَاءَانِ لَا يَكُونُ الْحِنْثُ فِي أَحَدِهِمَا حِنْثًا فِي الْآخَرِ لِاخْتِلَافِ الزَّمَانَيْنِ، وَالْوَاجِبُ فِي أَحَدِهِمَا مِثْلُ الْوَاجِبِ فِي الْآخَرِ لِتَمَاثُلِ الْيَمِينَيْنِ، فَإِذَا حَنِثَ فِي الْأَوَّلِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَإِذَا حَنِثَ فِي الثَّانِي فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ ثَانِيَةٌ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَعَلَى زَمَانٍ وَاحِدٍ حكم الايلاء مرة بعد مره كَقَوْلِهِ وَاللَّهِ لَا وَطِئْتُكِ سَنَةً ثُمَّ يَقُولُ لَا وَطِئْتُكِ سَنَةً وَيُرِيدُ بِهِمَا سَنَةً وَاحِدَةً فَهُوَ إِيلَاءٌ وَاحِدٌ بِيَمِينَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَيَكُونُ الْحِنْثُ فِيهِمَا وَاحِدًا كَانَ الزَّمَانُ وَاحِدًا أَمْ لَا ، وَلَمْ يَخْلُ حَالُهُ فِي الْيَمِينَيْنِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُرِيدَ بِالثَّانِيَةِ تَأْكِيدَ الْأُولَى فَلَا يَلْزَمُهُ إِلَّا دَاخِلٌ فِي حُكْمِ الْمُؤَكَّدِ ، كَمَا لَوْ كَرَّرَ الطَّلَاقَ تَأْكِيدًا لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا طَلَاقٌ وَاحِدٌ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يُرِيدَ بِالْيَمِينِ الثَّانِيَةِ الِاسْتِئْنَافَ فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ هَا هُنَا لِأَنَّهُ قَالَ فَأُوجِبُ كَفَّارَتَيْنِ ، فَجَعَلَ الثَّانِيَةَ مُسْتَحَبَّةً لَا وَاجِبَةً ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْيَمِينَ الثَّانِيَةَ لَمْ تُفِدْ غَيْرَ مَا أَفَادَتِ الْأُولَى فَلَمْ تُوجِبْ غَيْرَ مُوجَبِ الْأُولَى ، وَلِأَنَّ الْحُرْمَتَيْنِ إِذَا اتَّفَقَتَا فِي الْمُوجِبِ تَدَاخَلَتَا كَالْمُحْرِمِ إِذَا قَتَلَ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ لَزِمَهُ جَزَاءٌ وَاحِدٌ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : عَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ . وَوَجْهُهُ : إِنَّ حُرْمَةَ الْيَمِينِ الثَّانِيَةِ كَحُرْمَةِ الْيَمِينِ الْأُولَى فَوَجَبَ أَنْ يُوجِبَ مِثْلَ حُكْمِ الْأُولَى ، وَلِأَنَّهُمَا يَمِينَانِ مَقْصُودَتَانِ فَلَمْ يَتَدَاخَلْ مُوجِبُهُمَا كَالْجِنْسَيْنِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يُطْلِقَ الْيَمِينَ الثَّانِيَةَ فَلَا يُرِيدُ بِهَا التَّأْكِيدَ كَالْقِسْمِ الْأَوَّلِ ، وَلَا يُرِيدُ بِهَا الِاسْتِئْنَافَ كَالْقِسْمِ الثَّانِي ، فَإِنْ قِيلَ لَوْ أَرَادَ الِاسْتِئْنَافَ لَزِمَتْهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ فَفِي
الْإِطْلَاقِ أَوْلَى أَنْ يَلْزَمَهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ ، فَإِنْ قِيلَ لَوْ أَرَادَ الِاسْتِئْنَافَ لَزِمَتْهُ كَفَّارَتَانِ، فَفِيهِ إِذَا أُطْلِقَ قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِيمَنْ - قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ وَلَمْ يُرِدْ تَأْكِيدًا وَلَا اسْتِئْنَافًا ، فَأَحَدُ قَوْلَيْهِ يَلْزَمُهُ طَلْقَتَانِ فَكَذَلِكَ هَا هُنَا يَلْزَمُهُ كَفَّارَتَانِ ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي يَلْزَمُهُ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ وَكَذَلِكَ هَا هُنَا يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَقَدْ زَعَمَ مَنْ خَالَفَنَا فِي الْوَقْفِ أَنَّ الْفَيْئَةَ فِعْلٌ يُحْدِثُهُ بَعْدَ الْيَمِينِ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ إِمَّا بِجِمَاعٍ أَوْ فَيْءِ مَعْذُورٍ بِلِسَانِهِ ، وَزَعَمَ أَنَّ عَزِيمَةَ الطَّلَاقِ انْقِضَاءُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ بِغَيْرِ فِعْلٍ يُحْدِثُهُ وَقَدْ ذَكَرَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى بِلَا فَصْلٍ بَيْنَهُمَا فَقُلْتُ لَهُ أَرَأَيْتَ أَنْ لَوْ عَزَمَ أَنْ لَا يَفِيءَ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ أَيَكُونُ طَلَاقًا ؟ المولى قَالَ : لَا حَتَّى يُطَلِّقَ قُلْتُ : فَكَيْفَ يَكُونُ انْقِضَاءُ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ طَلَاقًا بِغَيْرِ عَزْمٍ وَلَا إِحْدَاثِ شَيْءٍ لَمْ يَكُنْ ؟ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا فَصْلٌ قَصَدَ الشَّافِعِيُّ فِيهِ أَبَا حَنِيفَةَ ، قَالَ انْقِضَاءُ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ مُوجِبًا لِلطَّلَاقِ فَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِشَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إِنْ قَالَ لَمَّا كَانَ لَوْ عَزَمَ أَنْ لَا يَفِيءَ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا حَتَّى يُطَلِّقَ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ تَرْكُ الْعَزْمِ بِمُضِيِّ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ طَلَاقًا حَتَّى يُطَلِّقَ . وَالثَّانِي : وَهُوَ فَحْوَى كَلَامِهِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْفَيْئَةِ وَالطَّلَاقِ ثُمَّ لَمْ تَكُنِ الْفَيْئَةُ إِلَّا مِنْ فِعْلِهِ فَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ ، وَقَدْ مَضَى ذِكْرُ الْحِجَاجِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ مُسْتَوْفًى وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .
بَابُ إيْلَاءِ الْخَصِيِّ غَيْرِ الْمَجْبُوبِ، وَالْمَجْبُوبِ
بَابُ إيْلَاءِ الْخَصِيِّ غَيْرِ الْمَجْبُوبِ، وَالْمَجْبُوبِ مِنْ كِتَابِ الْإِيلَاءِ وَكِتَابِ النِّكَاحِ، وَإِمْلَاءٌ عَلَى مَسَائِلِ مَالِكٍ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَإِذَا آلَى الْخَصِيُّ مِنِ امْرَأَتِهِ فَهُوَ كَغَيْرِ الْخَصِيِّ إِذَا بَقِيَ مِنْ ذَكَرِهِ مَا يَنَالُ بِهِ مِنَ الْمَرْأَةِ مَا يَبْلُغُ الرَّجُلُ حَتَّى يُغَيِّبَ الْحَشَفَةَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْخَصِيُّ فَهُوَ الْمَسْلُولُ الْأُنْثَيَيْنِ السَّلِيمُ الذَّكَرِ ، فَإِيلَاؤُهُ صَحِيحٌ كَإِيلَاءِ الْفَحْلِ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الْإِصَابَةِ كَقُدْرَتِهِ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ جِمَاعُهُ أَقْوَى وَأَمَدَّ ؛ لِعَدَمِ إِنْزَالِهِ ، وَقِيلَ أَنَّهُ قَدْ يُنْزِلُ مَاءً رَقِيقًا أَصْفَرَ ، وَلِذَلِكَ أُلْحِقَ بِهِ الْوَلَدُ، فَيُوقَفُ ثُمَّ يُطَالَبُ بِالْفَيْئَةِ أَوْ بِالطَّلَاقِ وَفَيْئَتُهُ بِالْجِمَاعِ دُونَ اللِّسَانِ ، لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْإِصَابَةِ ، فَإِنِ ادَّعَى الْعُنَّةَ كَانَ كَالْفَحْلِ إِذَا ادَّعَاهَا، وَهَكَذَا إِنْ آلَى قَبْلَ الْخَصْيِ ثُمَّ خُصِيَ كَانَ عَلَى إِيلَائِهِ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْخَصْيُ ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُؤَثِّرْ فِي الِابْتِدَاءِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يُؤَثِّرَ فِي الِاسْتِدَامَةِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ كَانَ مَجْبُوبًا قِيلَ لَهُ فِءْ بِلِسَانِكَ لَا شَيْءَ عَلَيْكَ غَيْرَهُ لِأَنَّهُ مِمَّنْ لَا يُجَامِعُ مِثْلُهُ ( وَقَالَ فِي الْإِمْلَاءِ ) وَلَا إِيلَاءَ عَلَى الْمَجْبُوبِ لِأَنَّهُ لَا يُطِيقُ الْجِمَاعَ أَبَدًا ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِذَا لَمْ نَجْعَلْ لِيَمِينِهِ مَعْنًى يُمْكِنُ أَنْ يَحْنَثَ بِهِ سَقَطَ الْإِيلَاءُ، فَهَذَا بِقَوْلِهِ أَوْلَى عِنْدِي ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَالَ الْمُزَنِيُّ أَمَّا الْمَجْبُوبُ : فَهُوَ الْمَقْطُوعُ الذَّكَرِ السَّلِيمُ الْأُنْثَيَيْنِ . وَالْمَمْسُوحُ هُوَ الْمَقْطُوعُ " الذَّكَرِ " السَّلِيمُ الْأُنْثَيَيْنِ وَهُمَا فِي حُكْمِ الْإِيلَاءِ سَوَاءٌ ، وَلَهُ فِي قَطْعِ الذَّكَرِ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يُقْطَعَ بَعْضُهُ وَيَبْقَى مَا يُولِجُ بِهِ، فَإِيلَاؤُهُ صَحِيحٌ كَإِيلَاءِ الْفَحْلِ ( السَّلِيمِ ) وَفَيْئَتُهُ بِإِيلَاجِ الْبَاقِي مِنْ ذَكَرِهِ إِنْ كَانَ يَقْدُرُ الْحَشَفَةَ مِثْلَ الْمُسْتَحَقِّ مِنْ إِيلَاجِ السَّلِيمِ ، وَيَجْرِي الْبَاقِي مِنْهُ مَجْرَى الذَّكَرِ الصَّغِيرِ ، فَإِنْ كَانَ الْبَاقِي مِنْهُ أَكْثَرَ مِنْ حَشَفَةِ السَّلِيمِ ، فَفِي قَدْرِ مَا يَلْزَمُهُ إِيلَاجُهُ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : جَمِيعُهُ . وَالثَّانِي : قَدْرُ الْحَشَفَةِ .
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُقْطَعَ جَمِيعُهُ فَفِيهِ قَوْلَانِ لَا إِيلَاءَ عَلَيْهِ قَالَهُ فِي الْإِمْلَاءِ : لِأَنَّهُ لَمْ يُدْخِلْ بِيَمِينِهِ ضَرَرًا عَلَى زَوْجَتِهِ ، فَعَلَى هَذَا لَا وَقْفَ وَلَا مُطَالَبَةَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : قَالَهُ هَا هُنَا ، وَفِي كِتَابِ " الْأُمِّ " يَكُونُ مُولِيًا ، لِأَنَّهُ قَصَدَ الْإِضْرَارَ بِقَوْلِهِ، فَإِنْ كَانَ عَاجِزًا فَصَارَ كَقَصْدِهِ الْإِضْرَارَ بِفِعْلِهِ كَالْمَرِيضِ ، فَعَلَى هَذَا يُوقَفُ لَهَا مُدَّةَ التَّرَبُّصِ ثُمَّ يُطَالَبُ بَعْدَهَا بِالْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ ، إِلَّا أَنَّهَا فَيْئَةُ مَعْذُورٍ بِاللِّسَانِ فَيَقُولُ لَسْتُ أَقْدِرُ عَلَى الْوَطْءِ وَلَوْ أَقْدَرَنِي اللَّهُ عَلَيْهِ لَوَطِئْتُ فَيَسْقُطُ بِهَذِهِ الْفَيْئَةِ حُكْمُ الْإِيلَاءِ وَلَمْ تَجِبْ بِهَا الْكَفَّارَةُ : لِأَنَّهُ لَمْ يَحْنَثْ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوْ آلَى صَحِيحًا ثُمَّ جُبَّ ذَكَرُهُ كَانَ لَهَا الْخِيَارُ مَكَانَهَا فِي الْمُقَامِ مَعَهُ أَوْ فِرَاقَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا إِذَا آلَى الْفَحْلُ ثُمَّ خُصِيَ فَهُوَ عَلَى إِيلَائِهِ لِأَنَّ الْخَصْيَ لَمَّا لَمْ يَمْنَعِ ابْتِدَاءَ الْإِيلَاءِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنِ اسْتَدَامَتِهِ ، فَأَمَّا إِذَا آلَى ثُمَّ جُبَّ ذَكَرُهُ فَلَهَا خِيَارُ الْفَسْخِ فِي الْجَبِّ مِنْ وَقْتِهِ ، لِأَنَّهُ أَحَدُ عُيُوبِ الْأَزْوَاجِ الْمُوجِبَةِ لِاسْتِحْقَاقِ الْفَسْخِ الجب ، وَسَوَاءٌ كَانَ قَدْ أَصَابَهَا قَبْلَ الْجَبِّ أَوْ لَمْ يُصِبْهَا فَإِنَّهَا تَسْتَحِقُّ بِهِ الْفَسْخَ بِخِلَافِ الْعِنِّينِ إِذَا أَصَابَ قَبْلَ الْعُنَّةِ حكم فسخ النكاح حَيْثُ لَمْ يَجِبْ لَهَا الْفَسْخُ لِأَنَّ إِصَابَةَ الْعِنِّينِ تَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ عُنَّتِهِ وَإِصَابَةَ الْمَجْبُوبِ لَا تَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ جَبِّهِ ، وَإِنْ فَسَخَتْ بِالْجَبِّ سَقَطَ حُكْمُ الْإِيلَاءِ ، وَإِنْ لَمْ تَفْسَخْ بِالْجَبِّ فَفِي سُقُوطِ الْإِيلَاءِ بِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : قَدْ سَقَطَ إِيلَاؤُهُ بِحُدُوثِ الْجَبِّ إِذَا قِيلَ إِنَّهُ يَسْقُطُ إِذَا تَقَدَّمَ الْجَبُّ ، فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ الْبَاقِي مِنْ مُدَّةِ التَّرَبُّصِ وَلَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةُ بِفَيْئَةٍ وَلَا طَلَاقٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ إِيلَاءَهُ لَا يَسْقُطُ إِذَا تَقَدَّمَ الْجَبَّ ، فَعَلَى هَذَا يُسْتَكْمَلُ الْوَقْفُ ثُمَّ يُطَالَبُ بَعْدَهُ بِالْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ ، وَفَيْئَتُهُ فَيْئَةُ مَعْذُورٍ بِاللِّسَانِ ، فَإِنِ امْتَنَعَ مِنْهُمَا طَلَّقَ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ كَالْفَحْلِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
_____كِتَابُ الظِّهَارِ _____
بَابُ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الظِّهَارُ وَمَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ
كِتَابُ الظِّهَارِ بَابُ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الظِّهَارُ وَمَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَيْ ظِهَارٍ قَدِيمٍ وَجَدِيدٍ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ [ الْمُجَادَلَةِ : ] الْآيَةَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الظِّهَارُ تعريفه فَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الظَّهْرِ لِأَنَّهُ يَقُولُ : أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي أَيْ ظَهْرُكِ مُحَرَّمٌ عَلَيَّ كَتَحْرِيمِ ظَهْرِهَا وَخُصَّ الظَّهْرُ لِاخْتِصَاصِهِ بِالرُّكُوبِ، وَقَدْ كَانَ الظِّهَارُ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا رَجْعَةَ بَعْدَهُ، وَكَذَلِكَ الْإِيلَاءُ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ عُمِلَ بِهِ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ نُزُولِ مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ حُكْمُهُ الظهار . فَقَالَ بَعْضُهُمْ : عُمِلَ بِهِ ثُمَّ نُسِخَ . وَقَالَ آخَرُونَ : لَمْ يُعْمَلْ بِهِ حَتَّى تَبَيَّنَ .
بيان السَّبَبُ فِي نُزُولِ حُكْمِ الظِّهَارِ
وَالسَّبَبُ فِي نُزُولِ حُكْمِ الظِّهَارِ مَا رَوَاهُ قَتَادَةُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ أَوْسَ بْنَ الصَّامِتِ ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ فَشَكَتْ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَتْ : ظَاهَرَ مِنِّي حِينَ كَبِرَتْ سِنِّي وَرَقَّ عَظْمِي . وَفِي رِوَايَةٍ بَعْدَ أَنْ نَثَلْتُ لَهُ كِنَانَتِي وَقَدُمَتْ مَعَهُ صُحْبَتِي، وَابْنُهُ صِبْيَةٌ إِنْ ضَمَّهُمْ إِلَيَّ جَاعُوا وَإِنْ ضَمَّهُمْ إِلَيْهِ ضَاعُوا، إِلَى اللَّهِ أَشْكُو عَجْزِي وَقَحْرِي - أَيْ هُمُومِي وَأَحْزَانِي - . قَالَ أَنَسٌ : فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى آيَةَ الظِّهَارِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَوْسٍ أَعْتِقْ رَقَبَةً فَقَالَ : مَالِي بِذَلِكَ يَدَانِ فَقَالَ : صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فَقَالَ : أَمَا إِنِّي إِذَا أَخْطَأَنِي أَنْ آكُلَ فِي الْيَوْمِ يَكِلُّ بَصَرِي . قَالَ : فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا قَالَ : مَا أَجِدُ إِلَّا أَنْ تُعِينَنِي مِنْكَ بِعَوْنٍ وَصِلَةٍ قَالَ : فَأَعَانَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا حَتَّى جَمَعَ الْآيَةَ اللَّهُ لَهُ " وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ " . وَرَوَى هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ : أَوَّلُ مَنْ ظَاهَرَ فِي الْإِسْلَامِ زَوْجُ خَوْلَةَ فَأَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ : مَا أَتَانِي فِي هَذَا شَيْءٌ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ نَالَ مِنِّي وَجَعَلَتْ تَشْكُو إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَبَيْنَمَا هُمَا كَذَلِكَ إِذْ نَزَلَ الْقُرْآنُ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ [ الْمُجَادَلَةِ : ] إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : فَتَحْرِيرُ
رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا [ الْمُجَادَلَةِ : ] ثُمَّ حُبِسَ الْوَحْيُ فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيْهَا فَتَلَى عَلَيْهَا ، فَقَالَتْ : مَا نَجِدُ رَقَبَةً فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ ذَلِكَ فَبَيْنَمَا هِيَ كَذَلِكَ إِذْ نَزَلَ الْوَحْيُ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا [ الْمُجَادَلَةِ : ] ثُمَّ حُبِسَ الْوَحْيُ فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَلَى الْوَحْيَ عَلَيْهَا فَقَالَتْ : مَا نَسْتَطِيعُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : هُوَ ذَلِكَ فَبَيْنَمَا هِيَ كَذَلِكَ إِذْ نَزَلَ الْوَحْيُ فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا [ الْمُجَادَلَةِ : ] فَانْصَرَفَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَلَاهَا عَلَيْهَا فقَالَتَ : مَا نَجِدُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : إِنَّا سَنُعِينُهُ . قَالَ أَصْحَابُنَا : فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ . فَالْأُولَى : فِي قِصَّتِهَا . وَالثَّانِيَةُ : فِي قِصَّتِهِ . وَالثَّالِثَةُ : فِي بَيَانِ حُكْمِ كُلِّ مُظَاهِرٍ لِكَوْنِهَا عَامَّةً، هَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي نُزُولِ آيِ الظِّهَارِ وَبَيَانِ حُكْمِهِ . ثُمَّ حَدَثَتْ قِصَّةٌ أُخْرَى بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِ الظِّهَارِ ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ قَالَ : كُنْتُ امْرَأً يُصِيبُ مِنَ النِّسَاءِ مَا لَا يُصِيبُهُ غَيْرِي فَلَمَّا أَظَلَّنِي شَهْرُ رَمَضَانَ خَشِيتُ أَنْ لَا أَنْزَعَ عَنْهَا إِلَى أَنْ يُدْرِكَنِيَ الْفَجْرُ فَتَظَاهَرْتُ مِنْهَا فَخَدَمَتْنِي فِي لَيْلَةٍ قَمَراءَ فَرَأَيْتُ سَاقَهَا فَلَمْ أَلْبَثْ أَنْ وَثَبْتُ إِلَيْهَا فَجَامَعْتُهَا ثُمَّ انْطَلَقْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ : أَعْتِقْ رَقَبَةً ، فَقُلْتُ : وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ نَبِيًّا مَا أَمْلِكُ رَقَبَةً غَيْرَ هَذِهِ وَضَرَبْتُ بِيَدِي إِلَى رَقَبَتِي فَقَالَ : صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فَقُلْتُ : وَهَلْ أَصَابَنِي مَا أَصَابَنِي إِلَّا مِنَ الصَّوْمِ فَقَالَ : أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ : لَقَدْ بِتْنَا لَيْلَتَنَا هَذِهِ وَمَالَنَا طَعَامٌ نَأْكُلُهُ فَقَالَ : اذْهَبْ إِلَى صَدَقَةِ بَنِي زُرَيْقٍ فَخُذْهَا وَأَطْعِمْ مِنْهَا سِتِّينَ مِسْكِينًا وَكُلْ أَنْتَ وَأَهْلُكَ الْبَاقِي . فَخَبَرُ خَوْلَةَ مَعَ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ سَبَبٌ لِبَيَانِ حُكْمِ الظِّهَارِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَخَبَرُ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ مَعَ امْرَأَتِهِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِهِ وَظُهُورِ مَا نَزَلَ فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ كُلُّ زَوْجٍ جَازَ طَلَاقُهُ وَجَرَى عَلَيْهِ الْحُكْمُ مِنْ بَالِغٍ جَرَى عَلَيْهِ الظِّهَارُ حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا أَوْ ذِمِّيًّا
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَكُلُّ زَوْجٍ جَازَ طَلَاقُهُ وَجَرَى عَلَيْهِ الْحُكْمُ مِنْ بَالِغٍ جَرَى عَلَيْهِ الظِّهَارُ حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا أَوْ ذِمِّيًّا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ يَصِحُّ ظِهَارُ الذِّمِّيِّ كَمَا يَصِحُّ ظِهَارُ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ . وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَصِحُّ ظِهَارُ الْعَبْدِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَصِحُّ ظِهَارُ الْكَافِرِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ [ الْمُجَادَلَةِ : ] وَلَيْسَ الْكَافِرُ مِنَّا فَخَرَجَ مِنْ حُكْمِ الظِّهَارِ، وَالْعَبْدُ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا فَهُوَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِيمَا قُصِدَ بِهِ التَّمَيُّزُ وَالتَّشْرِيفُ ، ثُمَّ قَالَ : وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا [ الْمُجَادَلَةِ : ] فَجَعَلَهُ بِالظِّهَارِ قَائِلًا مُنْكَرًا وَزُورًا، وَالْكَافِرُ قَائِلٌ بِالشِّرْكِ وَجَحْدِ النُّبُوَّةِ وَهُوَ أَعْظَمُ وَأَغْلَظُ، ثُمَّ قَالَ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ [ الْمُجَادَلَةِ : ] وَالْكَافِرُ لَا يَتَوَجَّهُ مِثْلُ هَذَا الْخِطَابِ إِلَيْهِ، ثُمَّ أَمَرَ الْمُظَاهِرَ بِالْكَفَّارَةِ وَهِيَ عِتْقُ رَقَبَةٍ وَهِيَ لَا تَصِحُّ مِنَ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ عِنْدَكُمْ لَا يَمْلِكُ ، وَلَا مِنَ الْكَافِرِ لِأَنَّ الرَّقَبَةَ الَّتِي يُعْتِقُهَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُؤْمِنَةً وَالْكَافِرُ لَا يَمْلِكُ عَبْدًا مُسْلِمًا ثُمَّ قَالَ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ [ الْمُجَادَلَةِ : ] وَالصَّوْمُ لَا يَصِحُّ مِنَ الْكَافِرِ فَدَلَّتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ عَلَى خُرُوجِ الْعَبْدِ مِنْهَا عِنْدَ مَالِكٍ وَعَلَى خُرُوجِ الْكَافِرِ مِنْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ثُمَّ بَنَى أَبُو حَنِيفَةَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ التَّكْفِيرَ لَا يَصِحُّ مِنْهُ فَلَا يَصِحُّ الظِّهَارُ . وَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّكْفِيرَ لَا يَصِحُّ مِنْهُ مَعَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْآيَةِ بِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ فَلَمْ تَصِحَّ مِنَ الْكَافِرِ كَالزَّكَاةِ ، وَلِأَنَّ التَّكْفِيرَ تَغْطِيَةٌ لِلذَّنْبِ وَإِسْقَاطٌ لِلْمَأْثَمِ وَهَذَا لَا يَصِحُّ مِنَ الْكَافِرِ . وَاسْتَدَلَّ عَلَى هَذَا : بِأَنَّ مَنْ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ التَّكْفِيرُ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ الظِّهَارُ كَالْمَجْنُونِ ظهار المجنون . وَدَلِيلُنَا : قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا [ الْمُجَادَلَةِ : ] وَمِنَ الْآيَةِ دَلِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : عُمُومُهَا الْمُنْطَلِقُ عَلَى الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ . وَالثَّانِي : قَوْلُهُ تَعَالَى : ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [ الْمُجَادَلَةِ : ] وَتَوَجُّهُ ذَلِكَ إِلَى الْكَافِرِ فِي ابْتِدَاءِ الْإِيمَانِ أَخَصُّ مِنْ تَوَجُّهِهِ إِلَى الْمُسْلِمِ فِي اسْتِدَامَةِ الْإِيمَانِ، فَكَانَ أَسْوَأُ الْأَحْوَالِ أَنْ يَكُونَا فِيهَا سَوَاءً ، فَإِنْ قَالُوا : هَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ جَازَ أَنْ تَكُونَ عَامَّةً فِي الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ فَالْآيَةُ الَّتِي قَبْلَهَا فِي الْمُسْلِمِ دُونَ الْكَافِرِ وَمِنْ مَذْهَبِكُمْ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ فَلَزِمَكُمْ أَنْ تَحْمِلُوا عُمُومَ الثَّانِيَةِ عَلَى خُصُوصِ الْأُولَى . قِيلَ : إِنَّمَا يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ إِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْأُولَى خَاصَّةً إِذَا كَانَ الْحُكْمُ فِيهِمَا وَاحِدًا فَأَمَّا فِي الْحُكْمَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ فَلَا يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَالْحُكْمُ فِي الِاثْنَيْنِ مُخْتَلِفٌ لِأَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى فِي تَحْرِيمِ الظِّهَارِ وَالْآيَةَ الثَّانِيَةَ فِي حُكْمِ الظِّهَارِ فَإِنْ قَالُوا : فَالثَّانِيَةُ عَطْفٌ عَلَى الْأُولَى وَحُكْمُ الْعَطْفِ حُكْمُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ قُلْنَا : هَذَا فِيمَا لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ، فَإِنِ اسْتَقَلَّ لَمْ يُشَارِكِ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ فِي حُكْمِهِ . أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ : اضْرِبْ زَيْدًا وَعَمْرًا كَانَ عَمْرًا مَعْطُوفًا عَلَى زَيْدٍ فِي الضَّرْبِ لِأَنَّ ذِكْرَ زَيْدٍ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ ، وَلَوْ قَالَ : اضْرِبْ زَيْدًا وَأَكْرِمْ عَمْرًا لَمْ يَصِرْ عَطْفًا عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ لِاسْتِقْلَالِهِ وَإِنْ كَانَ عَطْفًا عَلَيْهِ فِي الذِّكْرِ . وَلِأَنَّ الظِّهَارَ طَلَاقٌ نُقِلَ إِلَى غَيْرِهِ ؛ فَصَحَّ مِنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ كَالْإِيلَاءِ ، وَلِأَنَّ مَنْ صَحَّ
طَلَاقُهُ صَحَّ ظِهَارُهُ كَالْمُسْلِمِ : وَلِأَنَّ مَا صَحَّ مِنَ الْمُسْلِمِ فِي زَوْجَتِهِ صَحَّ مِنَ الْكَافِرِ كَالطَّلَاقِ ، وَلِأَنَّ الْأَحْكَامَ الْمُخْتَصَّةَ بِالنِّكَاحِ خَمْسَةٌ : الطَّلَاقُ وَالظِّهَارُ وَالْإِيلَاءُ وَالْعِدَّةُ وَالنَّسَبُ ، فَلَمَّا تَسَاوَى الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ فِي سَائِرِهَا وَجَبَ أَنْ يُسَاوِيَهُ فِي الظِّهَارِ . . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهَا وَارِدَةٌ فِي التَّحْرِيمِ وَهُوَ يَخُصُّ الْمُسْلِمَ، وَالَّتِي بَعْدَهَا فِي الْحُكْمِ وَهُوَ يَعُمُّ الْمُسْلِمَ وَالْكَافِرَ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا وَإِنْ خَصَّتِ الْمُسْلِمَ نُطْقًا فَقَدْ عَمَّتِ الْمُسْلِمَ وَالْكَافِرَ حُكْمًا إِمَّا تَنْبِيهًا وَإِمَّا قِيَاسًا كَمَا قَالَ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا [ الْأَحْزَابِ : ] فَكَانَ الْكَافِرُ كَذَلِكَ . وَأَمَّا قَوْلُهُ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ . فَهَذَا الْقَوْلُ بِالْكَافِرِ أَخَصُّ وَلَيْسَ إِذَا قَالَ بِالْكُفْرِ مُنْكَرًا وَزُورًا لَمْ يَقُلْ بِالظِّهَارِ مُنْكَرًا وَزُورًا . فَإِنْ قِيلَ : فَمَا يَقُولُهُ بِالْكُفْرِ مِنَ الْمُنْكَرِ وَالزُّورِ أَعْظَمُ ثُمَّ لَا يَلْزَمُ بِهِ الْكَفَّارَةُ فَبِأَنْ لَا يَلْزَمُهُ بِالظِّهَارِ أَوْلَى قِيلَ : إِذَا لَمْ تَجِبِ الْكَفَّارَةُ بِأَغْلَظِ الْمُنْكَرَيْنَ لَمْ تَجِبْ بِأَخَفِّهِمَا ، أَلَا تَرَى أَنَّ رِدَّةَ الْمُسْلِمِ إِذَا تَابَ مِنْهَا أَعْظَمُ مِنْ ظِهَارِهِ وَلَا يَدُلُّ سُقُوطُ الْكَفَّارَةِ عَنْهُ فِي رِدَّتِهِ عَلَى سُقُوطِهَا عَنْهُ فِي ظِهَارِهِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ فَفِيهِ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : عَفُوٌ عَنِ الْكَفَّارَةِ بِقَبُولِهَا إِذَا أُدِّيَتْ . وَالثَّانِي : عَفُوٌ إِنْ أَسْلَمَ، وَأَمَّا قَوْلُكُمْ : إِنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّهَا عِتْقُ مُسْلِمٍ عِنْدَكُمْ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ مُسْلِمًا فَهُمْ يَقُولُونَ إِنَّهُ يُجْزِئُ عِتْقُ كَافِرٍ وَهُوَ يَمْلِكُ كَافِرًا ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَصِحُّ مِنْهُ عِتْقُ مُسْلِمٍ إِذَا وَرِثَ عَبْدًا مُسْلِمًا وَإِمَّا بِأَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ كَافِرًا فِي يَدِهِ فَيُسْلِمُ فِي مِلْكِهِ ، وَإِمَّا بِأَنْ يَقُولَ لِلْمُسْلِمِ أَعْتِقْ عَنِّي عَبْدَكَ هَذَا الْمُسْلِمَ فَيُجْزِئُ ، وَقَوْلُهُمْ : لَا يَصِحُّ مِنْهُ الصَّوْمُ فِيهَا ؛ لِأَنَّهُ قُرْبَةٌ وَلَيْسَ إِذَا لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ الصَّوْمُ فِي الْكَفَّارَةِ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ كَالْمُرْتَدِّ وَالْكَفَّارَةِ فِي الْقَتْلِ . وَقِيَاسُهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ : فَالْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ أَنَّهَا عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ وَفِي الْكَفَّارَةِ مَعَ التَّعَبُّدِ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ . وَقَوْلُهُمْ : " إِنَّهَا تَغْطِيَةٌ لِلذَّنْبِ وَتَكْفِيرٌ لِلْمَأْثَمِ " فَهِيَ كَذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَعُقُوبَةٌ فِي حَقِّ الْكَافِرِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحُدُودُ كَفَّارَاتٌ لِأَهْلِهَا . فَكَانَتْ كَذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَعُقُوبَةٌ فِي حَقِّ الْكَافِرِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ بِنَاءِ الظِّهَارِ عَلَى التَّكْفِيرِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : انْتِقَاضُهُ بِالْمُرْتَدِّ يَصِحُّ مِنْهُ الظِّهَارُ وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ التَّكْفِيرُ . إِذَا لَمْ يَعُدْ فِيهِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ بِهِ لِجَوَازِ خُلُوِّهِ عَنْهُ عَلَى أَنَّ التَّكْفِيرَ يَصِحُّ مِنْهُ بِغَيْرِ الصَّوْمِ وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ
عَلَى الْمَجْنُونِ ، فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ طَلَاقُهُ فَكَذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ ظِهَارُهُ وَالْكَافِرُ يَصِحُّ طَلَاقُهُ فَصَحَّ ظِهَارُهُ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ ظِهَارَ الْعَبْدِ وَالْكَافِرِ صَحِيحٌ فَكُلُّ زَوْجٍ عَاقِلٍ بَالِغٍ ظَاهَرَ صَحَّ ظِهَارُهُ فَتَكُونُ صِحَّتُهُ مُعْتَبَرَةً بِشَرْطَيْنِ هُمَا : الْبُلُوغُ ، وَالْعَقْلُ كَالطَّلَاقِ ، وَأَمَّا الصَّبِيُّ ظهار الصبي وَالْمَجْنُونُ ظهار المجنون فَلَا يَصِحُّ ظِهَارُهُمَا كَمَا لَا يَصِحُّ طَلَاقُهُمَا لِارْتِفَاعِ الْقَلَمِ عَنْهُمَا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَفِي امْرَأَتِهِ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ يَقْدِرُ عَلَى جِمَاعِهَا أَوْ لَا يَقْدِرُ بِأَنْ تَكُونَ حَائِضًا أَوْ مُحْرِمَةً أَوْ رَتْقَاءَ أَوْ صَغِيرَةً " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَمَّا الزَّوْجَةُ الَّتِي يَصِحُّ الظِّهَارُ مِنْهَا فَهِيَ الَّتِي يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا وَذَلِكَ بِأَنْ تَكُونَ زَوْجَةً سَوَاءً كَانَتْ مُسْلِمَةً أَوْ كَافِرَةً حُرَّةً أَوْ أَمَةً صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً عَاقِلَةً أَوْ مَجْنُونَةً ؛ لِأَنَّنَا نَعْتَبِرُ الْبُلُوغَ وَالْعَقْلَ فِي الزَّوْجِ . وَلَا نَعْتَبِرُهُمَا فِي الزَّوْجَةِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ - " دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ " رَدًّا عَلَى قَوْمٍ زَعَمُوا أَنَّ الظِّهَارَ لَا يَصِحُّ إِلَّا مِنْ مَدْخُولٍ بِهَا وَهَذَا قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْعَوْدَ فِي الظِّهَارِ هُوَ الْعَوْدُ إِلَى الْوَطْءِ ثَانِيَةً بَعْدَ أُولَى فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا عِنْدَ ظِهَارِهِ فَوَطِئَهَا لَمْ يَكُنْ عَوْدًا : لِأَنَّهُ الْوَطْءُ الْأَوَّلُ فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ فِيهَا الْعَوْدُ لَمْ يَصِحَّ مِنْهَا الظِّهَارُ . وَالْكَلَامُ مَعَهُمْ يَأْتِي فِي الْعَوْدِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مُظَاهِرٍ عَائِدًا فَجَازَ أَنْ يَصِحَّ الظِّهَارُ مِمَّنْ لَا يُوجَدُ مِنْهُ الْعَوْدُ ، ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ يَقْدِرُ عَلَى جِمَاعِهَا أَوْ لَا يَقْدِرُ بِأَنْ تَكُونَ حَائِضًا أَوْ مُحْرِمَةً أَوْ رَتْقَاءَ أَوْ صَغِيرَةً وَهَذَا قَالَهُ رَدًّا عَلَى آخَرِينَ زَعَمُوا أَنَّ الظِّهَارَ لَا يَصِحُّ إِلَّا عَلَى مَنْ يُمْكِنُ جِمَاعُهَا لِصِغَرٍ أَوْ رَتَقٍ ، أَوْ لَا تَحِلُّ لِإِحْرَامٍ أَوْ حَيْضٍ لِأَنَّهُ حَرَّمَ بِالظِّهَارِ مَا لَمْ يَكُنْ لِتَحْرِيمِ الظِّهَارِ فِيهِ تَأْثِيرٌ . وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّ الظِّهَارَ كَانَ لَفْظًا نُقِلَ حُكْمُهُ مَعَ بَقَاءِ مَحَلِّهِ، وَالطَّلَاقُ يَقَعُ عَلَيْهِنَّ فَصَحَّ الظِّهَارُ مِنْهُنَّ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " أَوْ فِي عِدَّةٍ يَمْلِكُ رَجْعَتَهَا فَذَلِكَ كُلُّهُ سَوَاءٌ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي الَّتِي يَمْلِكُ رَجْعَتَهَا أَنَّ ذَلِكَ يَلْزَمُهُ إِنْ رَاجَعَهَا لِأَنَّهُ يَقُولُ لَوْ تَظَاهَرَ مِنْهَا ثُمَّ أَتْبَعَ التَّظْهِيرَ طَلَاقًا مَلَكَ فِيهِ الرَّجْعَةَ فَلَا حُكْمَ لِلْإِيلَاءِ حَتَّى يَرْتَجِعَ فَإِذَا ارْتَجَعَ رَجَعَ حُكْمُ الْإِيلَاءِ، وَقَدْ جَمَعَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بَيْنَهُمَا حَيْثُ يَلْزَمَانِ وَحَيْثُ يَسْقُطَانِ وَفِي هَذَا لِمَا وَصَفْتُ بَيَانٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا ظَاهَرَ مِنَ الْمُطَلَّقَةِ لَمْ يَخْلُ طَلَاقُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا ؛ فَإِنْ كَانَ بَائِنًا الزوجة المظاهر منها في طلاق بائن لَمْ يَصِحَّ الظِّهَارُ مِنْهَا لِأَنَّهَا لَا يَقَعُ عَلَيْهَا لِخُرُوجِهَا مِنْ
حُكْمِ الزَّوْجَاتِ ، وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا المظاهر منها في طلاق رجعي فَإِنْ صَادَقَ ظِهَارَهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا مِنْهُ لَمْ يَصِحَّ الظِّهَارُ لِأَنَّهَا قَدْ بَانَتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَإِنْ كَانَ فِي الْعِدَّةِ صَحَّ الظِّهَارُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا فِي الْعِدَّةِ صَحَّ الظِّهَارُ مِنْهَا فِي الْعِدَّةِ كَالزَّوْجَةِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَكُونُ عَائِدًا مَعَ صِحَّةِ الظِّهَارِ مَا لَمْ يُرَاجِعْ ؛ لِأَنَّ الْعَوْدَ أَنْ يُمْسِكَهَا بَعْدَ الظِّهَارِ زَوْجَةً مِنْ غَيْرِ تَحْرِيمٍ يُوجِبُ لِلْفُرْقَةِ وَهَذِهِ فِي تَحْرِيمِ فُرْقَةٍ فَلَمْ يَصِرْ بِظِهَارِهِ عَائِدًا ، وَلِأَنَّهُ لَوْ ظَاهَرَ مِنْهَا قَبْلَ الطَّلَاقِ ثُمَّ اتَّبَعَهُ بِطَلَاقٍ رَجْعِيٍّ لَمْ يَكُنْ عَائِدًا فَكَذَلِكَ إِذَا ظَاهَرَ مِنْهَا فِي طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ وَإِذَا صَحَّ أَنَّهُ لَا يَكُونُ عَائِدًا وَإِنْ صَحَّ ظِهَارُهُ مَا لَمْ يُرَاجِعْ فَالْكَفَّارَةُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ بِالْعَوْدِ بَعْدَ الظِّهَارِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ ظِهَارَهُ فِي الْعِدَّةِ صَحِيحٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَائِدًا فَلَهُ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يُرَاجِعَهَا فِي الْعِدَّةِ . وَالثَّانِيَةُ : أَنْ لَا يُرَاجِعَهَا . فَإِنْ رَاجَعَهَا فِي الْعِدَّةِ عَادَتْ إِلَى النِّكَاحِ الَّذِي ظَاهَرَهَا فِيهِ وَعَادَ الظِّهَارُ فِيهِ وَصَارَ عَائِدًا ، وَبِمَاذَا يَصِيرُ عَائِدًا فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : قَالَ فِي الْأُمِّ يَصِيرُ عَائِدًا بِنَفْسِ الرَّجْعَةِ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ أَوْكَدُ مِنْ إِمْسَاكِهَا زَوْجَةً بَعْدَ الظِّهَارِ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي التَّمَسُّكِ بِعِصْمَتِهَا مِنِ اسْتِدَامَةِ إِمْسَاكِهَا فَكَانَ بِأَنْ يَصِيرَ عَائِدًا أَوْلَى . فَعَلَى هَذَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ الرَّجْعَةِ الَّتِي صَارَ بِهَا عَائِدًا ، الزوج المظاهر فَلَوِ اتَّبَعَ الرَّجْعَةَ طَلَاقًا لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ الْكَفَّارَةُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : قَالَهُ فِي " الْإِمْلَاءِ " أَنَّهُ لَا يَكُونُ عَائِدًا بِنَفْسِ الرَّجْعَةِ حَتَّى يَمْضِيَ عَلَيْهَا بَعْدَهَا زَمَانُ الْعَوْدِ وَهُوَ إِمْسَاكُهَا بَعْدَ الرَّجْعَةِ حَتَّى يَمْضِيَ زَمَانُ التَّحْرِيمِ بِالْفُرْقَةِ وَإِنَّمَا لَمْ يَصِرْ عَائِدًا إِلَّا بِالْإِمْسَاكِ بَعْدَ الرَّجْعَةِ : لِأَنَّ الْعَوْدَ أَنْ يُمْسِكَهَا زَوْجَةً غَيْرَ مُحَرَّمَةٍ وَلَيْسَ يُمْسِكُهَا زَوْجَةً إِلَّا بَعْدَ الرَّجْعَةِ فَعَلَى هَذَا لَوِ اتَّبَعَ الرَّجْعَةَ طَلَاقًا لَمْ يَصِرْ عَائِدًا وَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَلَوْ أَمْهَلَهَا بَعْدَ الرَّجْعَةِ حَتَّى مَضَى عَلَيْهِ زَمَانُ التَّحْرِيمِ صَارَ حِينَئِذٍ عَائِدًا وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ . وَأَمَّا الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : وَهُوَ أَنْ لَا يُرَاجِعَهَا حَتَّى تَمْضِيَ الْعِدَّةُ فَقَدْ بَانَتْ فَإِنْ لَمْ يَسْتَأْنِفْ نِكَاحَهَا سَقَطَ حُكْمُ الظِّهَارِ ، وَإِنِ اسْتَأْنَفَ نِكَاحَهَا فَهَلْ يَعُودُ ظِهَارُهُ فِيهِ أَمْ لَا ؟ الزوج المظاهر عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ كُلِّهِ وَأَحَدُ قَوْلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ أَنَّ ظِهَارَهُ فِي النِّكَاحِ الْأَوَّلِ يَعُودُ فِي النِّكَاحِ الثَّانِي . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : فِي الْجَدِيدِ لَا يَعُودُ وَقَدْ مَضَى تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ، فَإِذَا قِيلَ أَنَّ ظِهَارَهُ لَا يَعُودُ فَقَدْ بَطَلَ حُكْمُهُ وَحَلَّ لَهُ إِصَابَتُهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَعُدْ فَلَمْ يَحْرُمْ، وَإِذَا قِيلَ أَنَّ ظِهَارَهُ يَعُودُ
صَارَ عَائِدًا وَبِمَاذَا يَصِيرُ عَائِدًا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مُخَرَّجَيْنِ مِنَ الْقَوْلَيْنِ فِي الرَّجْعَةِ : أَحَدُهُمَا : يَصِيرُ عَائِدًا بِنَفْسِ النِّكَاحِ وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَكُونُ عَائِدًا إِلَّا بِأَنْ يَمْضِيَ بَعْدَ النِّكَاحِ زَمَانُ الْعَوْدِ فَلَوِ اتَّبَعَ النِّكَاحَ طَلَاقًا لَمْ يَعُدْ وَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُرَادِهِ بِكَلَامِهِ فَقَالَ الْبَغْدَادِيُّونَ : أَرَادَ بِهِ أَنَّ الظِّهَارَ فِي عِدَّةِ الرَّجْعَةِ لَا يَكُونُ ظِهَارًا إِلَّا بَعْدَ الرَّجْعَةِ فَيَكُونُ مُخَالِفًا لِلشَّافِعِيِّ فِي مَذْهَبِهِ وَمُحْتَجًّا بِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ عَائِدًا إِلَّا بَعْدَ الرَّجْعَةِ ، كَذَلِكَ لَا يَكُونُ مُظَاهِرًا إِلَّا بَعْدَ الرَّجْعَةِ ، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ شَرْطَ الظِّهَارِ أَنْ يُصَادِفَهَا فِي الزَّوْجِيَّةِ وَهَذِهِ جَارِيَةٌ فِي أَحْكَامِ الزَّوْجِيَّةِ فَصَحَّ ظِهَارُهُ مِنْهَا لِوُجُودِ شَرْطِهِ، وَشَرْطُ الْعَوْدِ أَنْ يُمْسِكَهَا غَيْرَ مُحَرَّمَةٍ، وَهَذِهِ مُحَرَّمَةٌ فَلَمْ يَصِرْ عَائِدًا لِعَدَمِ شَرْطِهِ فَافْتَرَقَا . وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ : بَلْ تَوَهَّمَ الْمُزَنِيُّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ حِينَ جَعَلَهُ مُظَاهِرًا فِي الْعِدَّةِ جَعَلَهُ عَائِدًا فِيهَا فَتَكَلَّمَ عَلَيْهِ وَهَذَا وَهْمٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ وَلَيْسَ بِمُخَالَفَةٍ لَهُ ؛ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ وَإِنْ جَعَلَهُ مُظَاهِرًا قَبْلَ الرَّجْعَةِ لَمْ يَجْعَلْهُ عَائِدًا إِلَّا بَعْدَهَا . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوْ تَظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ وَهِيَ أَمَةٌ ثُمَّ اشْتَرَاهَا فَسَدَ النِّكَاحُ، وَالظِّهَارُ بِحَالِهِ لَا يَقْرَبُهَا حَتَّى يُكَفِّرَ ؛ لِأَنَّهَا لَزِمَتْهُ وَهِيَ زَوْجَةٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ ظَاهَرَ مِنْ زَوْجَتِهِ وَهِيَ أَمَةٌ فَظِهَارُهُ مِنْهَا صَحِيحٌ كَمَا أَنَّ طَلَاقَهُ عَلَيْهَا وَاقِعٌ فَإِذَا اشْتَرَاهَا بَعْدَ ظِهَارِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الشِّرَاءُ بَعْدَ مُضِيِّ زَمَانِ الْعَوْدِ وَوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فَيَبْطُلُ النِّكَاحُ بِالْمِلْكِ ، وَلَا تَسْقُطُ الْكَفَّارَةُ بِالشِّرَاءِ لِوُجُوبِهَا قَبْلَهُ وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ بَعْدَ الشِّرَاءِ وَالْمِلْكِ حَتَّى يُكَفِّرَ، كَمَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ قَبْلَ الشِّرَاءِ كَالْمُلَاعَنَةِ إِذَا اشْتَرَاهَا كَانَ تَحْرِيمُهَا بَعْدَ الشِّرَاءِ كَتَحْرِيمِهَا قَبْلَهُ وَكَالْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا إِذَا اشْتَرَاهَا ، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَعْتَقَهَا فِي كَفَّارَتِهِ أَجْزَأَتْهُ، وَإِنْ كَانَتْ سَبَبًا فِي وُجُوبِهَا عَلَيْهِ كَمَا لَوْ نَذَرَ إِنْ مَلَكَ أَمَةً أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً فَمَلَكَ أَمَةً جَازَ أَنْ يُعْتِقَهَا عَنْ نَذْرِهِ وَإِنْ كَانَتْ سَبَبًا لِوُجُوبِ نَذْرِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَشْتَرِيَهَا قَبْلَ الْعَوْدِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَشْتَرِيَهَا عُقَيْبَ ظِهَارِهِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ فَفِي عَوْدِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ هَا هُنَا أَنَّهُ يَصِيرُ عَائِدًا بِالشِّرَاءِ لِأَنَّ الْعَوْدَ أَنْ يُمْسِكَهَا بَعْدَ الظِّهَارِ فَلَا يُحَرِّمُهَا، وَلَيْسَ الشِّرَاءُ تَحْرِيمًا لَهَا، بَلِ اسْتِبَاحَتُهَا بِالْمِلْكِ أَقْوَى مِنِ اسْتِبَاحَتِهَا بِالنِّكَاحِ، فَعَلَى هَذَا قَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْعَوْدِ وَحَرُمَ عَلَيْهِ إِصَابَتُهَا حَتَّى يُكَفِّرَ ، وَلَوِ اتَّبَعَ الشِّرَاءَ عِتْقَهَا لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ الْكَفَّارَةُ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ لَا يَكُونُ بِالشِّرَاءِ عَائِدًا وَلَا بَعْدَهُ، وَقَدْ سَقَطَ حُكْمُ الْعَوْدِ بِثُبُوتِ الْمِلْكِ ؛ لِأَنَّ الْعَوْدَ أَنْ يُمْسِكَهَا زَوْجَةً وَهَذِهِ بِالشِّرَاءِ عُقَيْبَ الظِّهَارِ خَارِجَةٌ مِنَ الزَّوْجِيَّةِ ، وَلِأَنَّ الشِّرَاءَ أَرْفَعُ لِلزَّوْجِيَّةِ مِنَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ ، وَلِأَنَّ الْعَوْدَ تَابِعٌ لِلظِّهَارِ، فَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ الظِّهَارُ إِلَّا فِي حَالِ الزَّوْجِيَّةِ لَمْ يَصِحَّ الْعَوْدُ إِلَّا فِي حَالِ الزَّوْجِيَّةِ . قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ : وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ تَعْلِيلَهُ بِأَنَّهَا لَزِمَتْهُ وَهِيَ زَوْجَتُهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ حَرَّمَهَا عَلَيْهِ لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ وَهِيَ زَوْجَةٌ فَعَلَى هَذَا لَا يَصِيرُ عَائِدًا بِالشِّرَاءِ وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَتَحِلُّ لَهُ كَالْأَمَةِ الَّتِي لَمْ يَتَقَدَّمْ ظِهَارُهَا ، وَوَجَدْتُ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا وَجْهًا ثَالِثًا وَهُوَ أَنْ قَالَ : إِنْ كَانَ الشِّرَاءُ عُقَيْبَ الظِّهَارِ بِأَنِ ابْتَدَأَ الزَّوْجُ بِالطَّلَبِ فَقَالَ لِلْمَالِكِ : بِعْنِي فَقَالَ : قَدْ بِعْتُ، لَمْ يَكُنْ عَائِدًا لِأَنَّهُ شَرَعَ عُقَيْبَ ظِهَارِهِ فِيمَا يَرْفَعُ الزَّوْجِيَّةَ فَلَمْ يَكُنْ عَائِدًا كَمَا لَوْ شَرَعَ فِي الطَّلَاقِ ، وَإِنِ ابْتَدَأَ الْمَالِكُ عُقَيْبَ ظِهَارِهِ بِالْبَذْلِ فَقَالَ : قَدْ بِعْتُكَ فَقَالَ الزَّوْجُ : قَدْ قَبِلْتُ صَارَ عَائِدًا لِأَنَّ بَذْلَ الْمَالِكِ غَيْرُ مَنْسُوبٍ إِلَى فِعْلِ الزَّوْجِ فَصَارَ الزَّوْجُ فِي زَمَانِ الْبَذْلِ مُمْسِكًا عَنْ رَفْعِ الزَّوْجِيَّةِ وَمَا يَعْقُبُ الْبَذْلَ مِنْ قَبُولِهِ الرَّافِعِ لِلزَّوْجِيَّةِ كَانَ بَعْدَ مُضِيِّ زَمَانِ الْعَوْدِ فَلِذَلِكَ صَارَ عَائِدًا وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ فَامْتَنَعَ مِنْهَا حَتَّى يُكَفِّرَ وَلِهَذَا الْوَجْهِ وَجْهٌ بَيِّنٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يَلْزَمُ الْمَغْلُوبَ عَلَى عَقْلِهِ إِلَّا مِنْ سُكْرٍ ( وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ ) فِي ظِهَارِ السَّكْرَانِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا يَلْزَمُهُ وَالْآخَرُ لَا يَلْزَمُهُ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَلْزَمُهُ أَوْلَى وَأَشْبَهُ بِأَقَاوِيلِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ أَشْبَهُ بِالْحَقِّ عِنْدِي إِذَا كَانَ لَا يُمَيِّزُ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِلَّةُ جَوَازِ الطَّلَاقِ عِنْدَهُ إِرَادَةُ الْمُطَلِّقِ وَلَا طَلَاقَ عِنْدَهُ عَلَى مُكْرَهٍ لِارْتِفَاعِ إِرَادَتِهِ، وَالسَّكْرَانُ الَّذِي لَا يَعْقِلُ مَعْنَى مَا يَقُولُ لَا إِرَادَةَ لَهُ كَالنَّائِمِ فَإِنْ قِيلَ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ قِيلَ أَوَلَيْسَ وَإِنْ أَدْخَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَهُوَ فِي مَعْنَى مَا أَدْخَلَهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ ذَهَابِ عَقْلِهِ وَارْتِفَاعِ إِرَادَتِهِ وَلَوِ افْتَرَقَ حُكْمُهُمَا فِي الْمَعْنَى الْوَاحِدِ لِاخْتِلَافِ نِسْبَتِهِ مِنْ نَفْسِهِ وَمِنْ غَيْرِهِ لَاخْتَلَفَ حُكْمُ مَنْ جُنَّ بِسَبَبِ نَفْسِهِ وَحُكْمُ مَنْ جُنَّ بِسَبَبِ غَيْرِهِ فَيَجُوزُ بِذَلِكَ طَلَاقُ بَعْضِ الْمَجَانِينِ، فَإِنْ قِيلَ فَفَرْضُ الصَّلَاةِ يَلْزَمُ السَّكْرَانَ وَلَا يَلْزَمُ الْمَجْنُونَ قِيلَ وَكَذَلِكَ فَرْضُ الصَّلَاةِ يَلْزَمُ النَائِمَ وَلَا يَلْزَمُ الْمَجْنُونَ فَهَلْ يُجِيزُ طَلَاقَ النَّوْمِ لِوُجُوبِ فَرْضِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ فَإِنْ قِيلَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَا يَعْقِلُ قِيلَ وَكَذَلِكَ طَلَاقُ السَّكْرَانِ لِأَنَّهُ لَا يَعْقِلُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ فَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَلَاةٌ حَتَّى يَعْلَمَهَا وَيُرِيدَهَا وَكَذَلِكَ لَا طَلَاقَ لَهُ وَلَا
ظِهَارَ حَتَّى يَعْلَمَهُ وَيُرِيدَهُ وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَغَيْرِهِمْ وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَي إِذَا ارْتَدَّ سَكْرَانٌ لَمْ يُسْتَتَبْ فِي سُكْرِهِ وَلَمْ يُقْتَلْ فِيهِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ أَنْ لَا حُكْمَ لِقَوْلِهِ لَا أَتُوبُ لِأَنَّهُ لَا يَعْقِلُ مَا يَقُولُ فَكَذَلِكَ هُوَ فِي الطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ لَا يَعْقِلُ مَا يَقُولُ فَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْمَجْنُونَ ظهار المجنون وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ ظهار المغمى عليه وَالنَّائِمَ ظهار النائم لَا يَقَعُ طَلَاقُهُمْ وَلَا يَصِحُّ ظِهَارُهُمْ ؛ فَأَمَّا السَّكْرَانُ فَلَهُ حَالَتَانِ ظهار السكران : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَكُونَ سُكْرُهُ مِنْ غَيْرِ مَعْصِيَةٍ كَمَنْ شَرِبَ شَرَابًا ظَنَّهُ غَيْرَ مُسْكِرٍ فَكَانَ مُسْكِرًا، أَوْ أُكْرِهَ عَلَى شُرْبِ الْمُسْكِرِ أَوْ شَرِبَ دَوَاءً فَأَسْكَرَهُ فَهَذَا كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ فِي أَنْ لَا يَقَعَ طَلَاقُهُ وَلَا يَصِحَّ ظِهَارُهُ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ سُكْرُهُ بِمَعْصِيَةٍ وَهُوَ أَنْ يَقْصِدَ شُرْبَ الْمُسْكِرِ فَيَسْكَرُ . فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي طَلَاقِهِ وَظِهَارِهِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ وَالْقَدِيمِ وَمَا ظَهَرَ فِي جَمِيعِ كُتُبِهِ وَنَقَلَهُ عَنْهُ سَائِرُ أَصْحَابِهِ غَيْرُ الْمُزَنِيِّ أَنَّ طَلَاقَهُ وَظِهَارَهُ وَاقِعٌ كَالصَّاحِي، وَنَقَلَ الْمُزَنِيُّ عَنْهُ قَوْلًا ثَانِيًا فِي الْقَدِيمِ أَنَّ طَلَاقَهُ وَظِهَارَهُ لَا يَقَعُ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ فَأَثْبَتَهُ بَعْضُهُمْ قَوْلًا ثَانِيًا لِثِقَةِ الْمُزَنِيِّ فِي رِوَايَتِهِ وَضَبْطِهِ لِنَقْلِهِ وَنَفَاهُ الْأَكْثَرُونَ وَامْتَنَعُوا مِنْ تَخْرِيجِهِ قَوْلًا ثَانِيًا لِأَنَّ الْمُزَنِيَّ وَإِنْ كَانَ ثِقَةً ضَابِطًا فَلَيْسَ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي الْقَدِيمِ ، وَمَذْهَبُهُ فِي الْقَدِيمِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَأْخُوذًا مِنْ كُتُبِهِ الْقَدِيمَةِ وَلَيْسَ فِيهَا هَذَا الْقَوْلُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَنْقُولًا عَنْ أَصْحَابِ الْقَدِيمِ وَهُمُ الزَّعْفَرَانِيُّ وَالْكَرَابِيسِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَالْحَارِثُ وَابْنُ سُرَيْجٍ ، وَالْقَفَّالُ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الشَّافِعِيُّ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ هَذَا الْقَوْلُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إِلَيْهِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ مِنْ بَعْضِ أَصْحَابِ الْقَدِيمِ مَذْهَبًا لَهُ فَوَهِمَ وَنَسَبَهُ إِلَى الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ أَبَا ثَوْرٍ يَرَى ذَلِكَ مَذْهَبًا لِنَفْسِهِ ، فَصَارَ مَذْهَبَهُ قَوْلًا وَاحِدًا فِي الْجَدِيدِ وَالْقَدِيمِ أَنَّ طَلَاقَ السَّكْرَانِ وَظِهَارَهُ وَاقِعٌ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ جَمِيعِهِمْ وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ ، وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ فِي أَكْثَرِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْأوْزَاعِيُّ فِي أَكْثَرِ أَهْلِ الشَّامِ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِرَاقِ . وَقَالَ الْمُزَنِيُّ : طَلَاقُ السَّكْرَانِ وَظِهَارُهُ لَا يَقَعُ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمِنَ التَّابِعِينَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ . وَمِنَ الْفُقَهَاءِ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ ، وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ ، وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ . وَاسْتَدَلُّوا
عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَأْخُوذٍ بِطَلَاقِهِ وَظِهَارِهِ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ بِأَنَّ مَاعِزًا أَقَرَّ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالزِّنَا فَقَالَ : لَعَلَّكَ لَمَسْتَ لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ قَالَ : لَا قَالَ : أَبِهِ جِنَّةٌ ؟ قِيلَ : لَا قَالَ : " اسْتَنْكِهُوهُ " لِيَعْلَمَ بِذَلِكَ حَالَ سُكْرِهِ مِنْ صَحْوِهِ فَلَوْلَا افْتِرَاقُ حُكْمِهِ بِالسُّكْرِ وَالصَّحْوِ لَمَا كَانَ لِأَمْرِهِ بِذَلِكَ تَأْثِيرٌ . وَاسْتَدَلَّ الْمُزَنِيُّ بِمَا سَنَذْكُرُهُ . وَالدَّلِيلُ عَلَى وُقُوعِ طَلَاقِهِ وَظِهَارِهِ مَعَ عُمُومِ الْقُرْآنِ فِيهِمَا وَمَا اجْتَمَعَتِ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ حِينَ قَالَ لَهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَرَى النَّاسَ قَدْ تَتَابَعُوا فِي شُرْبِ الْخَمْرِ وَاسْتَهَانُوا بِحَدِّهِ فَمَاذَا تَرَوْنَ فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَرَى أَنْ يُحَدَّ ثَمَانِينَ حَدَّ الْمُفْتَرِي : لِأَنَّهُ إِذَا شَرِبَ سَكِرَ وَإِذَا سَكِرَ هَذَى وَإِذَا هَذَى افْتَرَى فَوَافَقُوهُ جَمِيعًا عَلَى قَوْلِهِ وَحَدَّهُ عُمَرُ ثَمَانِينَ بَعْدَ أَنْ كَانَ حَدَّهُ أَرْبَعِينَ ، فَكَانَتِ الزِّيَادَةُ إِمَّا تَعْزِيرًا أَوْ حَدًّا عِنْدَ غَيْرِنَا ، وَأَيُّهُمَا كَانَ فَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى إِثْبَاتِ افْتِرَائِهِ فِي سُكْرِهِ ، وَثُبُوتِهِ لِإِجْرَاءِ حُكْمِ الصَّاحِي عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ فِي طَلَاقِهِ وَظِهَارِهِ ، وَلِأَنَّ وُقُوعَ طَلَاقِهِ وَظِهَارِهِ تَغْلِيظٌ وَسُقُوطَهُمَا تَخْفِيفٌ، وَالسَّكْرَانُ عَاصٍ فَكَانَ بِالتَّغْلِيظِ أَوْلَى وَأَحَقُّ مِنَ التَّخْفِيفِ ، وَلِأَنَّ السَّكْرَانَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَصْلَيْنِ . أَحَدُهُمَا : الصَّاحِي ، وَالْآخَرُ : الْمَجْنُونُ فَكَانَ إِلْحَاقُهُ بِالصَّاحِي لِتَكْلِيفِهِ وَوُجُوبِ الْعِبَادَاتِ عَلَيْهِ وَفِسْقِهِ، وَحَدُّهُ وَمُؤَاخَذَتُهُ بِرِدَّتِهِ وَقَذْفِهِ أَوْلَى مِنْ إِلْحَاقِهِ بِالْمَجْنُونِ الَّذِي لَا تَجْرِي عَلَيْهِ هَذِهِ الْأَحْكَامُ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا أَمَرَ بِهِ مِنِ اسْتِنْكَاهِ مَاعِزٍ فَهُوَ لِيَجْعَلَ سُكْرَهُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ عَنْهُ لِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ وَإِنْ كَانَ لِقَوْلِهِ حُكْمٌ .
فَصْلٌ : فَإِذَا صَحَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وُقُوعِ طَلَاقِهِ وَظِهَارِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِوُقُوعِ طَلَاقِهِ وَظِهَارِهِ السكران عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْعِلَّةَ فِيهِ عَدَمُ عُذْرِهِ بِزَوَالِ عَقْلِهِ فِي سُكْرِهِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ ، فَجَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الصَّاحِي فِي جَمِيعِ مَا يَضُرُّهُ كَالطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ وَالْعِتْقِ وَفِي جَمِيعِ مَا يَنْفَعُهُ كَالرَّجْعَةِ وَطَلَبِ الشُّفْعَةِ وَسَائِرِ الْعُقُودِ، وَيَكُونُ مُؤَاخَذًا بِذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ وَفِي الْبَاطِنِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَقَعُ الْفَرْقُ فِي وُجُودِ ذَلِكَ مِنْهُ بَيْنَ حَالِ الْإِصْحَاءِ وَحَالِ السُّكْرِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْعِلَّةَ فِيهِ التَّغْلِيظُ عَلَيْهِ لِأَجْلِ الْمَعْصِيَةِ لِسُكْرِهِ فَعَلَى هَذَا تَنْقَسِمُ أَفْعَالُهُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ السكران : قِسْمٌ هُوَ عَلَيْهِ كَالطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ وَالْعِتْقِ، يَصِحُّ مِنْهُ وَيُؤْخَذُ بِهِ كَالصَّاحِي تَغْلِيظًا . وَقِسْمٌ هُوَ لَهُ كَالرَّجْعَةِ وَطَلَبِ الْمَنْفَعَةِ، فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ لِأَنَّ صِحَّتَهُ مِنْهُ تَخْفِيفٌ عَلَيْهِ كَمَا أَنَّ
إِبْطَالَ طَلَاقِهِ وَظِهَارِهِ تَخْفِيفٌ عَلَيْهِ، وَإِبْطَالُ ذَلِكَ تَغْلِيظٌ عَلَيْهِ كَمَا أَنَّ إِيقَاعَ طَلَاقِهِ وَظِهَارِهِ تَغْلِيظٌ عَلَيْهِ . وَقِسْمٌ ثَالِثٌ : يَكُونُ لَهُ وَعَلَيْهِ وَهُوَ عُقُودُ بِيَاعَاتِهِ وَإِجَارَاتِهِ وَمَنَاكِحِهِ فَإِنْ كَانَ مَطْلُوبًا بِهَا كَانَ تَصْحِيحُهَا مِنْهُ تَغْلِيظًا عَلَيْهِ فَصَحَّتْ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ مُطَالَبًا بِهَا كَانَ تَصْحِيحُهَا مِنْهُ تَخْفِيفًا عَلَيْهِ فَأُبْطِلَتْ عَلَيْهِ . قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ كُنْتُ أَذْهَبُ إِلَى هَذَا حَتَّى وَجَدْتُ لِلشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ الرَّجْعَةِ أَنَّ رَجْعَتَهُ صَحِيحَةٌ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْعِلَّةَ فِيهِ وُجُودُ التُّهْمَةِ تَكْفِيهِ فِيمَا أَظْهَرَ مِنْ سُكْرِهِ فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ جَمِيعُ ذَلِكَ مِنْهُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ فِيمَا لَهُ وَعَلَيْهِ وَيَكُونُ فِي الْبَاطِنِ مُذْنِبًا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَعَلَى هَذَا إِنْ تَيَقَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِمَا تَلَفَّظَ بِهِ مِنْ طَلَاقِهِ وَظِهَارِهِ وَعِتْقِهِ جَازَ لَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَطْءُ زَوْجَتِهِ إِذَا قَدَرَ عَلَيْهَا، وَبِيعُ عَبْدِهِ إِذَا أَمْكَنَهُ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يُخْبِرَنَا الصَّادِقُ بِصِحَّةِ سُكْرِهِ لَمَا لَزِمَهُ ذَلِكَ فِي الظَّاهِرِ كَمَا لَا يَلْزَمُهُ فِي الْبَاطِنِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ احْتَجَّ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ رَدِّ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ وَإِبْطَالِ طَلَاقِهِ وَظِهَارِهِ السكران بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : عِلَّةُ جَوَازِ الطَّلَاقِ عِنْدَهُ إِرَادَةُ الْمُطَلِّقِ، وَلَا طَلَاقَ عِنْدَهُ عَلَى مُكْرَهٍ لِارْتِفَاعِ إِرَادَتِهِ، وَالسَّكْرَانُ الَّذِي لَا يَعْقِلُ مَعْنَى مَا يَقُولُ لَا إِرَادَةَ لَهُ كَالنَّائِمِ فَلَمْ يَصِحَّ طَلَاقُهُ . وَعَنْ هَذَا ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ عِلَّةَ طَلَاقِهِ مَا قَدَّمْنَاهُ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فَكَانَ مَا ادَّعَاهُ مَمْنُوعًا . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّ مَا ادَّعَاهُ مِنْ أَنَّ عِلَّةَ الطَّلَاقِ إِرَادَةُ الْمُطَلَّقِ خَطَأٌ فَاسِدٌ لِأَنَّ إِرَادَةَ الْمُطَلِّقِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي الصَّاحِي بِاتِّفَاقٍ، وَلَوْ طَلَّقَ غَيْرَ مُرِيدٍ وَقَعَ طَلَاقُهُ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ الْإِرَادَةُ عِلَّةً لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ ، وَإِنَّمَا لَمْ يُوقَعْ طَلَاقُ الْمُكْرَهِ وَالنَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ لِأَنَّ مَعَهُمْ عَلَمًا ظَاهِرًا هُمْ يُعْذَرُونَ فِيهِ يَدُلُّ عَلَى خُرُوجِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْإِرَادَةِ وَلَيْسَ مَعَ السَّكْرَانِ عَلَمٌ ظَاهِرٌ هُوَ مَعْذُورٌ فِيهِ يَدُلُّ عَلَى خُرُوجِهِ مِنْ أَهْلِ الْإِرَادَةِ . وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ : أَنَّ إِرَادَةَ الْمُطَلِّقِ جَعَلَهَا عِلَّةً لِإِثْبَاتِ الطَّلَاقِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَصِيرَ عِلَّةً لِإِسْقَاطِهِ : لِأَنَّ عِلَّةَ الْإِثْبَاتِ ضِدُّ عِلَّةِ الْإِسْقَاطِ ، وَجَمْعُهُ بَيْنَ السَّكْرَانِ وَالنَّائِمِ لَا يَصِحُّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ النَّوْمَ طَبْعٌ فِي الْخِلْقَةِ لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ السُّكْرُ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْعِلْمَ بِالنَّوْمِ مَرْفُوعٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ السُّكْرُ .
وَالثَّالِثُ : أَنَّ النَّوْمَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَأْثَمٌ وَيُفِيقُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ السُّكْرُ . فَصْلٌ : وَالسُّؤَالُ الثَّانِي : قَالَ الْمُزَنِيُّ : فَإِنْ قِيلَ : لِأَنَّهُ أَدْخَلَ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ قِيلَ : أَوَلَيْسَ وَإِنْ أَدْخَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَهُوَ كَمَا فِي مَعْنَى مَا أَدْخَلَهُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ مِنْ ذَهَابِ عَقْلِهِ وَارْتِفَاعِ إِرَادَتِهِ . وَهَذَا الْجَمْعُ خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَعْذُورٌ بِمَا أَدْخَلَهُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَلَيْسَ بِمَعْذُورٍ بِمَا أَدْخَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ حُكْمِ الْمَعْذُورِ وَغَيْرِ الْمَعْذُورِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَأْثَمُ بِمَا أَدْخَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا يَأْثَمُ بِمَا أَدْخَلَهُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْإِثْمِ وَغَيْرِ الْإِثْمِ . ثُمَّ قَالَ الْمُزَنِيُّ : وَلَوِ افْتَرَقَ حُكْمُهُمَا فِي الْمَعْنَى الْوَاحِدِ لِاخْتِلَافِ سَبَبِهِ مِنْ نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ لَاخْتَلَفَ حُكْمُ مَنْ جُنَّ بِسَبَبِ نَفْسِهِ وَحُكْمُ مَنْ جُنَّ بِسَبَبِ غَيْرِهِ، فَيَجُوزُ بِذَلِكَ طَلَاقُ بَعْضِ الْمَجَانِينِ . وَالْجَوَابُ عَنْهُ : أَنَّنَا كَذَلِكَ نَقُولُهُ فِي الْجُنُونِ وَالسُّكْرِ لِأَنَّهُ إِنْ زَالَ عَقْلُهُ بِشُرْبِ سُمٍّ أَوْ دَوَاءٍ السكران لَا يَخْلُو حَالُهُ فِيهِ مِنْ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِهِ أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ بِأَنَّهُ يُسْكِرُ لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ فَقَدِ اسْتَوَيَا فِي أَنَّ طَلَاقَهُمَا مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِحَالِهِمَا لَا يَقَعُ ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ مَا يَتَنَاوَلُهُ مِنَ الدَّوَاءِ يُسْكِرُ كَمَا يَعْلَمُ أَنَّ الشَّرَابَ الَّذِي يَتَنَاوَلُهُ يُسْكِرُ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَدْعُوَهُ الضَّرُورَةُ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا دَوَاءَ لَهُ غَيْرُهُ فَلَا يَكُونُ بِسُكْرِ هَذَا الدَّوَاءِ مُؤَاخَذًا وَلَا يَقَعُ طَلَاقُهُ فِيهِ وَإِنْ كَانَ مِثْلَهُ فِي شُرْبِ الْمُسْكِرِ شُرْبُهُ لِدَوَاءٍ اتَّفَقَ الطِّبُّ عَلَى أَنَّهُ لَا دَوَاءَ لَهُ غَيْرُهُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي إِبَاحَةِ شُرْبِهِ لَهُ عِنْدَ هَذِهِ الضَّرُورَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَصِيرُ مُبَاحًا لَهُ كَغَيْرِهِ مِنَ الْأَدْوِيَةِ الْمُسْكِرَةِ مِنَ الْبِنْجِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ فَعَلَى هَذَا لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ كَمَا لَا يَقَعُ طَلَاقُ مَنْ سَكِرَ بِغَيْرِهِ مِنَ الْأَدْوِيَةِ الَّتِي لَا يَجِدُ مِنْهَا بُدًّا فَقَدِ اسْتَوَيَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُبَاحًا وَإِنْ كَانَ لَهُ فِيهِ شِفَاءٌ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : مَا جُعِلَ شِفَاءُ أُمَّتِي فِيمَا حُرِّمَ عَلَيْهَا فَعَلَى هَذَا يَقَعُ طَلَاقُهُ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ سُكْرِ الشَّرَابِ الْمُسْكِرِ وَبَيْنَ سُكْرِ الدَّوَاءِ الْمُسْكِرِ مَعَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي التَّدَاوِي بِهِمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ شُرْبَ الْمُسْكِرِ فِي التَّدَاوِي يَدْعُو إِلَى شُرْبِهِ فِي غَيْرِ التَّدَاوِي لِمَيْلِ النَّفْسِ إِلَيْهِ ، وَلَيْسَ شُرْبُ الدَّوَاءِ فِي التَّدَاوِي بِدَاعٍ إِلَى شُرْبِهِ فِي غَيْرِ التَّدَاوِي لِنُفُورِ النَّفْسِ عَنْهُ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَعَ سُكْرِ الشَّرَابِ لَذَّةً مُطْرِبَةً وَلَيْسَ مَعَ سُكْرِ الدَّوَاءِ هَذِهِ اللَّذَّةُ الْمُطْرِبَةُ فَافْتَرَقَ السَّكْرَانُ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ :
وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَشْرَبَ الدَّوَاءَ الْمُسْكِرَ قَصْدَ السُّكْرِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ دَاعِيَةٍ إِلَى شُرْبِهِ حكم طلاقه ، فَفِي سُكْرِهِ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ ، كَسُكْرِهِ مِنَ الشَّرَابِ، يَقَعُ طَلَاقُهُ فِيهِ وَظِهَارُهُ فَعَلَى هَذَا قَدِ اسْتَوَيَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ بِخِلَافِ سُكْرِ الشَّرَابِ وَإِنِ اشْتَرَكَ فِي الْمَعْصِيَةِ لِلْفَرْقَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّ فِي سُكْرِ الشَّرَابِ لَذَّةً مُطْرِبَةً تَدْعُو إِلَى ارْتِكَابِ الْمَحْظُورَاتِ وَإِثَارَةِ الْعَدَاوَاتِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْدُومٌ فِي سُكْرِ الدَّوَاءِ . وَالثَّانِي : أَنَّ لِلنَّفْسِ مَيْلًا يَدْعُو إِلَى سُكْرِ الشَّرَابِ، فَيَبْعَثُ قَلِيلُهُ عَلَى كَثِيرِهِ، وَفِي النَّفْسِ نُفُورٌ مِنْ سُكْرِ الدَّوَاءِ يَبْعَثُ عَلَى مُجَانَبَتِهِ وَلِهَذَيْنِ الْفَرْقَيْنِ أَوْجَبْنَا الْحَدَّ فِي سُكْرِ الشَّرَابِ وَلَمْ نُوجِبْهُ فِي سُكْرِ الدَّوَاءِ، فَلِذَلِكَ أَوْقَعْنَا الطَّلَاقَ فِي سُكْرِ الشَّرَابِ ، وَلَمْ نُوقِعْهُ فِي سُكْرِ الدَّوَاءِ وَجَعَلْنَا سُكْرَ الدَّوَاءِ كَالْجُنُونِ وَلَمْ نَجْعَلْ سُكْرَ الشَّرَابِ كَالْجُنُونِ ، وَهَكَذَا الْجُنُونُ إِنْ أَدْخَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَهُوَ كَالدَّاخِلِ عَلَيْهِ بِغَيْرِ فِعْلِهِ وَإِنْ أَدْخَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِقَصْدِهِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَكُونُ مُؤَاخَذًا بِأَحْكَامِهِ وَبِطَلَاقِهِ وَبِظِهَارِهِ لِمَعْصِيَتِهِ كَالسَّكْرَانِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُؤَاخَذًا بِالْأَحْكَامِ وَلَا يَقَعُ طَلَاقُهُ وَظِهَارُهُ بِخِلَافِ السَّكْرَانِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَقَدْ ذَكَرَ الْمُزَنِيُّ فِي مَسَائِلِهِ الْمَنْثُورَةِ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ رَجُلًا لَوْ نَطَحَ رَجُلًا فَانْقَلَبَ دِمَاغُ النَّاطِحِ وَالْمَنْطُوحِ ثُمَّ طَلَّقَا امْرَأَتَيْهِمَا أَنَّ طَلَاقَهُمَا لَا يَقَعُ . يُسَوِّي بَيْنَ النَّاطِحِ وَالْمَنْطُوحِ فِي إِبْطَالِ طَلَاقِهِمَا وَإِنْ كَانَ النَّاطِحُ عَاصِيًا وَالْمَنْطُوحُ غَيْرَ عَاصٍ .
فَصْلٌ : وَالسُّؤَالُ الثَّالِثُ : قَالَ الْمُزَنِيُّ فَإِنْ قِيلَ : فَفَرْضُ الصَّلَاةِ يَلْزَمُ السَّكْرَانَ وَلَا يَلْزَمُ الْمَجْنُونَ ؛ فَلِذَلِكَ فَرْضُ الصَّلَاةِ يَلْزَمُ النَّائِمَ وَلَا يَلْزَمُ الْمَجْنُونَ فَهَلْ يُجِيزُ طَلَاقَ السَّكْرَانِ لِأَنَّهُ لَا يَعْقِلُ مَا يَقُولُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [ النِّسَاءِ : ] فَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَلَاةٌ حَتَّى يَعْلَمَهَا وَيُرِيدَهَا، كَذَلِكَ لَا طَلَاقَ لَهُ وَلَا ظِهَارَ حَتَّى يَعْلَمَهُ وَيُرِيدَهُ . وَذَكَرَ الْمُزَنِيُّ فِي هَذَا السُّؤَالِ ثَلَاثَةَ فُصُولٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ قَالَ لَوْ لَزِمَ طَلَاقُ السَّكْرَانِ لِأَنَّ فَرْضَ الصَّلَاةِ يَلْزَمُهُ وَلَا يَلْزَمُ الْمَجْنُونَ لَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَ طَلَاقُ النَّائِمِ، وَطَلَاقُهُ لَا يَلْزَمُ وَإِنْ لَزِمَهُ الْفَرْضُ، كَذَلِكَ السَّكْرَانُ . وَالْجَوَابُ عَنْهُ : أَنَّنَا لَسْنَا نُوقِعُ طَلَاقَهُ لِلُزُومِ فَرْضِ الصَّلَاةِ لَهُ فَنُوجِبُ إِلْحَاقَهُ بِالنَّائِمِ وَإِنَّمَا نُوقِعُهُ لِإِحْدَى الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ : إِمَّا لِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْذُورٍ وَالنَّائِمُ مَعْذُورٌ وَإِمَّا لِأَنَّهُ عَاصٍ
يَسْتَحِقُّ التَّغْلِيظَ، وَالنَّائِمُ لَيْسَ بِعَاصٍ وَغَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لِلتَّغْلِيظِ ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ بِإِظْهَارِ سُكْرِهِ كَذِبًا، وَالنَّائِمُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ قَالَ إِنْ كَانَ النَّائِمُ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ لِأَنَّهُ لَا يَعْقِلُ فَالسَّكْرَانُ لَا يَعْقِلُ . وَالْجَوَابُ عَنْهُ : أَنَّهُ لَيْسَ حَدُّ السُّكْرِ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا يَعْقِلُ فَيَصِيرُ مُلْحَقًا بِالنَّائِمِ وَقَدْ حَدَّهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ : السَّكْرَانُ مَنْ عَزَبَ عَنْهُ بَعْضُ عَقْلِهِ فَكَانَ مَرَّةً يَعْقِلُ وَمَرَّةً لَا يَعْقِلُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : السَّكْرَانُ مَنْ لَا يَعْرِفُ اللَّيْلَ مِنَ النَّهَارِ وَالسَّمَاءَ مِنَ الْأَرْضِ وَهَذَا بِعِيدٌ أَنْ يُوجَدَ فِي السُّكْرِ . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : هُوَ مَنْ لَا يُمَيِّزُ رِدَاءَهُ مِنْ أَرْدِيَّةِ الْحَيِّ . قَالَ آخَرُونَ : هُوَ مَنْ يَخْلِطُ فِي كَلَامِهِ ، وَإِذَا كَانَتِ الْمَذَاهِبُ مُخْتَلِفَةً فِي حَدِّ السَّكْرَانِ وَكَانَ الْمُزَنِيُّ مُخَالِفًا فِيهَا لَمْ يَكُنْ خِلَافُهُ حُجَّةً لَهُ، وَإِنْ سَلَّمَ الْحَدَّ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ بِأَنَّ بِهِ الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّائِمِ . وَالثَّالِثُ : أَنِ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [ النِّسَاءِ : ] فَلَمْ يَكُنْ [ لَهُ ] صَلَاةٌ حَتَّى يَعْلَمَهَا وَيُرِيدَهَا كَذَلِكَ لَا طَلَاقَ لَهُ وَلَا ظِهَارَ حَتَّى يَعْلَمَهُ وَيُرِيدَهُ . وَعَنْهُ جَوَابَانِ أَحَدُهُمَا : فَسَادُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا لِأَنَّهُ جَعَلَ وُقُوعَ الطَّلَاقِ مُعْتَبَرًا بِصِحَّةِ الصَّلَاةِ وَالشَّرْطُ فِيهِمَا [ مُخْتَلِفٌ ] فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُعْتَبَرًا بِالْآخَرِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَصِحُّ إِلَّا بِكَمَالِ جَمِيعِ الْعَقْلِ وَالتَّمْيِيزِ، وَالطَّلَاقُ لَا يَسْقُطُ إِلَّا بِزَوَالِ جَمِيعِ الْعَقْلِ وَالتَّمْيِيزِ ، وَالسَّكْرَانُ خَارِجٌ مِمَّنْ كَمَلَ ( جَمِيعُ ) عَقْلِهِ وَتَمْيِيزِهِ، فَلِذَلِكَ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، وَخَارِجٌ مِمَّنْ زَالَ جَمِيعُ عَقْلِهِ وَتَمْيِيزِهِ فَلِذَلِكَ وَقَعَ طَلَاقُهُ . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّنَا نَجْعَلُهَا دَلِيلًا عَلَيْهِ فِي وُقُوعِ طَلَاقِهِ لِأَنَّهُ خَاطَبَهُ بِالصَّلَاةِ أَمْرًا بِهَا إِذَا عَلِمَ، وَنَهْيًا عَنْهَا إِذَا جَهِلَ عَنْهَا، وَالْخِطَابُ عَلَى وَجْهَيْنِ : خِطَابُ مُوَاجَهَةٍ مُخْتَصٌّ بِالْعَقْلِ، وَخِطَابُ إِلْزَامٍ يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ الْأَصَاغِرِ وَالْمَجَانِينِ ، وَلَا يَخْلُو هَذَا الْخِطَابُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي حَالِ السُّكْرِ فَهُوَ مُوَاجَهَةٌ، وَإِمَّا فِي غَيْرِ حَالِ السُّكْرِ فَهُوَ إِلْزَامٌ وَعَلَى أَيِّهِمَا كَانَ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ لِسُكْرِهِ .
فَصْلٌ : وَالسُّؤَالُ الرَّابِعُ : قَالَ الْمُزَنِيُّ : وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إِذَا ارْتَدَّ السَّكْرَانُ لَمْ نَسْتَتِبْهُ فِي سُكْرِهِ وَلَمْ نَقْتُلْهُ فِيهِ . قَالَ الْمُزَنِيُّ : وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ أَنْ لَا حُكْمَ لِقَوْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْقِلُ مَا يَقُولُ فَكَذَلِكَ هُوَ فِي الطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ لَا يَعْقِلُ مَا يَقُولُ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْهِ فِي الظِّهَارِ . وَهَذَا مِنْ أَوْهَى
أَسْئِلَتِهِ : لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ أَثْبَتَ رِدَّتَهُ فِي حَالِ سُكْرِهِ، وَإِنْ مَنَعَ مِنِ اسْتِتَابَتِهِ فِي سُكْرِهِ فَصَارَ مُؤَاخَذًا بِالرِّدَّةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُؤَاخَذًا بِالطَّلَاقِ ، فَأَمَّا اسْتِتَابَتُهُ فَفِي تَأْخِيرِهَا إِلَى صَحْوِهِ السكران قَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ تَأْخِيرَهَا اسْتِحْبَابٌ وَاحْتِيَاطٌ، وَلَوِ اسْتَتَابَهُ فِي سُكْرِهِ صَحَّ ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ أَجْرَى عَلَيْهِ حُكْمَ الصَّاحِي فِيمَا لَهُ وَعَلَيْهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ تَأْخِيرَهَا إِلَى إِفَاقَتِهِ وَاجِبٌ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ عَلَيْهِ فَكَانَ مَأْخُوذًا بِهَا، وَالتَّوْبَةُ لَهُ فَلَمْ تَصِحَّ مِنْهُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالتَّوْبَةِ زَوَالُ الشُّبْهَةِ وَوُضُوحُ الْحَقِّ، وَالسَّكْرَانُ يُعَارِضُهُ الشُّبَهُ وَيَخْفَى عَلَيْهِ الْحَقُّ ؛ فَلِذَلِكَ رِدَّتُهُ وَلَمْ تَصِحَّ تَوْبَتُهُ مَعَهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ تَظَاهَرَ مِنْهَا ثُمَّ تَرَكَهَا أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَهُوَ مُتَظَاهِرٌ وَلَا إِيلَاءَ عَلَيْهِ يُوقَفُ لَهُ لَا يَكُونُ الْمُتَظَاهِرُ بِهِ مُولِيًا وَلَا الْمُولِي بِالْإِيلَاءِ مُتَظَاهِرًا وَهُوَ مُطِيعٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِتَرْكِ الْجِمَاعِ فِي الظِّهَارِ عَاصٍ لَهُ لَوْ جَامَعَ قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ المظاهر وَعَاصٍ بالْإِيلَاءِ، وَسَوَاءٌ كَانَ مُضَارًّا بِتَرْكِ الْكَفَّارَةِ أَوْ غَيْرَ مُضَارٍّ إِلَّا أَنَّهُ يَأْثَمُ بِالضِّرَارِ كَمَا يَأْثَمُ لَوْ آلَى أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ يُرِيدُ ضِرَارًا وَلَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْإِيلَاءِ وَلَا يُحَالُ حُكْمُ اللَّهِ عَمَّا أُنْزِلَ فِيهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا تَظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ بِعَوْدِهِ، وَمُنِعَ مِنْ إِصَابَتِهَا إِلَّا بِتَكْفِيرِهِ فَأَخَّرَ الْكَفَّارَةَ حَتَّى مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ لَمْ يَصِرْ مُولِيًا وَلَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِيلَاءِ، سَوَاءً قَصَدَ الْإِضْرَارَ بِهَا أَوْ لَمْ يَقْصِدْ . وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ قَصَدَ الْإِضْرَارَ بِهَا مِنْ غَيْرِ ظِهَارٍ صَارَ مُولِيًا ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ إِصَابَتَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ قَصْدَ الْإِضْرَارَ بِهَا مِنْ غَيْرِ ظِهَارٍ صَارَ مُولِيًا اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْمُولِيَ قَاصِدٌ لِلْإِضْرَارِ بِهَا بِالِامْتِنَاعِ مِنْ إِصَابَتِهَا، فَكَذَلِكَ كُلُّ زَوْجٍ قَصَدَ الْإِضْرَارَ بِالِامْتِنَاعِ ، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ يَمِينٌ فَلَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهَا بِقَصْدِ الْإِضْرَارِ كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُولِيًا بِقَصْدِ الْإِضْرَارِ لَكَانَ مُولِيًا وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْهُ كَالْحَالِفِ ، وَلِأَنَّ الظِّهَارَ وَالْإِيلَاءَ مُتَنَافِيَانِ فِي الْحُكْمِ لِأَنَّ الظِّهَارَ يَمْنَعُ مِنَ الْوَطْءِ حَتَّى يُكَفِّرَ، وَإِنْ وَطِئَ كَانَ عَاصِيًا ، وَالْإِيلَاءُ يُوجِبُ الْوَطْءَ قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ وَإِنْ وَطِئَ كَانَ طَائِعًا فَلَمْ يَجُزْ مَعَ تَنَافِي حُكْمِهِمَا أَنْ يَتَدَاخَلَا وَلَوْ جَازَ أَنْ يَتَدَاخَلَا فَيَصِيرُ الْمُتَظَاهِرُ مُولِيًا لَجَازَ أَنْ يَصِيرَ الْمُولِي مُتَظَاهِرًا وَفِي فَسَادِ هَذَا الْعَكْسِ دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ هَذَا الطَّرْدِ . فَأَمَّا قَوْلُهُ : إِنَّ الْإِيلَاءَ قَصْدٌ لِلْإِضْرَارِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ الْمُولِيَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِصَابَةِ بَعْدَ الْوَقْفِ إِلَّا بِأَنْ يَلْتَزِمَ مَا لَيْسَ بِلَازِمٍ وَمَنْ أَخَّرَ الْوَطْءَ فِي الظِّهَارِ فَلَيْسَ يَلْتَزِمُ إِنْ وَطِئَ مَا لَيْسَ بِلَازِمٍ فَلَمْ يَكُنْ مُولِيًا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ تَظَاهَرَ يُرِيدُ طَلَاقًا كَانَ طَلَاقًا أَوْ طَلَّقَ يُرِيدُ ظِهَارًا كَانَ طَلَاقًا وَهَذِهِ أُصُولٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا يَكُونُ الظِّهَارُ طَلَاقًا بِالْإِرَادَةِ وَلَا الطَّلَاقُ ظِهَارًا بِالْإِرَادَةِ لِأُمُورٍ مِنْهَا : أَنَّ الظِّهَارَ كَانَ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَنُسِخَ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ الْحُكْمُ الْمَنْسُوخُ . وَمِنْهَا : أَنَّ سَلَمَةَ بْنَ صَخْرٍ ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ مُرِيدًا لِلطَّلَاقِ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِنَسْخِهِ فَأُجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الظِّهَارِ وَلَمْ يُوقَعْ عَلَيْهِ بِالْإِرَادَةِ حُكْمُ الطَّلَاقِ . وَمِنْهَا : أَنَّ مَا كَانَ صَرِيحًا فِي التَّحْرِيمِ لِجِنْسٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَصِيرَ كِنَايَةً فِي ذَلِكَ الْجِنْسِ فِي حُكْمٍ غَيْرِ ذَلِكَ الْحُكْمِ لِتَنَافِي اجْتِمَاعِهِمَا ، وَلَا يَفْسُدُ بِالْعِتْقِ حَيْثُ جَعَلْنَاهُ كِنَايَةً فِي الطَّلَاقِ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ صَرِيحًا فِي الْحَرَائِرِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً فِيهِنَّ ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ " أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ " حَيْثُ صَارَ كِنَايَةً فِي الطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ وَإِنْ كَانَ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ صَرِيحًا فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ لِأَنَّنَا رَاعَيْنَا مَا كَانَ صَرِيحًا فِي التَّحْرِيمِ لَا فِي الْكَفَّارَةِ وَهُوَ غَيْرُ صَرِيحٍ فِي التَّحْرِيمِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً فِيهِ كَالْعِتْقِ جَازَ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً فِي الطَّلَاقِ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسَيْنِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا ظِهَارَ مِنْ أَمَةٍ وَلَا أُمِّ وَلَدٍ المظاهر منها أم ولد لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ : وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ كَمَا قَالَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ فَعَقَلْنَا عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ نِسَائِنَا، وَإِنَّمَا نِسَاؤُنَا أَزْوَاجُنَا، وَلَوْ لَزِمَهَا وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ لَزِمَهَا كَلُّهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . إِذَا ظَاهَرَ الرَّجُلُ مَنْ أَمَتِهِ لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ . وَقَالَ مَالِكٌ يَكُونُ مُظَاهِرًا وَهُوَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا [ الْمُجَادَلَةِ : ] وَهُوَ بِالظِّهَارِ مِنَ الْأَمَةِ قَائِلٌ مُنْكَرًا وَزُورًا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُظَاهِرًا ، وَلِأَنَّهَا ذَاتُ فَرْجٍ مُبَاحٍ فَصَحَّ مِنْهَا الظِّهَارُ كَالْحُرَّةِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوَى حُكْمُ قَوْلِهِ " أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ " فِي الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُ الظِّهَارِ فِيهِمَا . وَدَلِيلُنَا : مَعَ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الظِّهَارَ كَانَ طَلَاقًا لِلزَّوْجَاتِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَنُسِخَ حُكْمُهُ عَنْهُنَّ وَأُثْبِتَ مَحَلُّهُ فِيهِنَّ ، وَلِأَنَّ مَا أَثْبَتَ التَّحْرِيمَ فِي الزَّوْجَةِ لَمْ يُثْبِتْ ذَلِكَ التَّحْرِيمَ فِي الْأَمَةِ كَالطَّلَاقِ ، وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يَلْحَقْهَا الطَّلَاقُ لَمْ يَلْحَقْهَا
الظِّهَارُ كَالْأَجْنَبِيَّةِ . فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّهُ قَائِلٌ مُنْكَرًا وَزُورًا فَكَانَ مُظَاهِرًا . قُلْنَا : الْمُرْتَدُّ أَبْلَغُ فِي قَوْلِ الْمُنْكَرِ وَالزُّورِ مِنَ الْمُظَاهِرِ وَلَا يَصِيرُ مُظَاهِرًا ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ مُظَاهِرًا إِذَا قَالَ مُنْكَرًا وَزُورًا بِلَفْظٍ مَخْصُوصٍ فِي مَحَلٍّ مَخْصُوصٍ فَلَمَّا رُوعِيَ خُصُوصُ اللَّفْظِ وَجَبَ أَنْ يُرَاعَى خُصُوصُ الْمَحَلِّ، عَلَى أَنَّ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : أَنَّهُ لَا يَكُونُ بِذَلِكَ فِي الْأَمَةِ قَائِلًا مُنْكَرًا وَزُورًا . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْحُرَّةِ فَالْمَعْنَى فِي صِحَّةِ الظِّهَارِ مِنْهَا وُقُوعُ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا فَخَالَفَتْهَا الْأَمَةُ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ : بِاسْتِوَائِهِمَا فِي لَفْظِ التَّحْرِيمِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ : أَنَّ قَوْلَهُ " أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ " يَجْرِي مَجْرَى الْيَمِينِ وَهُمَا مُسْتَوِيَانِ فِي الْأَيْمَانِ فَكَذَلِكَ اسْتَوَيَا فِي لَفْظِ التَّحْرِيمِ، وَالظِّهَارُ مُلْحَقٌ بِالطَّلَاقِ الْمُخْتَصِّ بِأَحَدِهِمَا فَلَمْ يَسْتَوِيَا فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ مَا يَكُونُ ظِهَارًا وَمَا لَا يَكُونُ ظِهَارًا
بَابُ مَا يَكُونُ ظِهَارًا وَمَا لَا يَكُونُ ظِهَارًا مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَهُ تَعَالَى : " الظِّهَارُ تعريفه أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فَإِنْ قَالَ أَنْتِ مِنِّي أَوْ أَنْتِ مَعِي كَظَهْرِ أُمِّي وَمَا أَشْبَهَهُ فَهُوَ ظِهَارٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ وَهُوَ الظِّهَارُ عُرْفًا وَاشْتِقَاقًا فَإِنْ قَالَ أَنْتِ مِنِّي أَوْ عِنْدِي أَوْ مَعِي كَظَهْرِ أُمِّي كَانَ مُظَاهِرًا ، لِأَنَّ هَذِهِ حُرُوفٌ يَقُومُ بَعْضُهَا مَقَامَ بَعْضٍ، فَلَمْ يَخْرُجْ فِي الظِّهَارِ عَنْ حُكْمِ الصَّرِيحِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ قَالَ فَرْجُكِ أَوْ رَأْسُكِ أَوْ ظَهْرُكِ أَوْ جِلْدُكِ أَوْ يَدُكِ أَوْ رِجْلُكِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي كَانَ هَذَا ظِهَارًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا قَوْلُهُ : بَدَنُكِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي أَوْ نَفْسُكِ أَوْ ذَاتُكِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي ، كَقَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي يَكُونُ ( بِهَا ) مُظَاهِرًا وَهِيَ أَلْفَاظٌ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ جَمِيعِ بَدَنِهَا فَصَارَ كَقَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي . فَأَمَّا إِذَا ظَاهَرَ مِنْ بَعْضِ جَسَدِهَا كَقَوْلِهِ فَرْجُكِ أَوْ رَأْسُكِ أَوْ يَدُكِ أَوْ رِجْلُكِ أَوْ ظَهْرُكِ ( أَوْ جِلْدُكِ ) عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي كَانَ ظِهَارًا مِنْهَا جَمِيعًا كَالطَّلَاقِ إِذَا أَوْقَعَهُ عَلَى بَعْضِ جَسَدِهَا وَقَعَ عَلَى جَمِيعِهَا، وَسَوَاءً كَانَ الْعُضْوُ الَّذِي ظَاهَرَ مِنْهُ قَدْ تَحْيَا بِفَقْدِهِ كَالْأَنْفِ وَالْأُذُنِ أَوْ مِمَّا لَا تَحْيَا بِفَقْدِهِ كَالرَّأْسِ وَالْبَطْنِ . وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَكُونُ مُظَاهِرًا إِلَّا بِالْأَعْضَاءِ الَّتِي لَا تَحْيَا بِفَقْدِهَا كَالطَّلَاقِ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ وَذَكَرْنَا مِنَ التَّفْرِيعِ عَلَيْهِ مَا أَقْنَعَ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ قَالَ كَبَدَنِ أُمِّي أَوْ كَرَأْسِ أُمِّي أَوْ كَيَدِهَا كَانَ هَذَا ظِهَارًا لِأَنَّ التَّلَذُّذَ بِكُلِّ أُمِّهِ مُحَرَّمٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَمَّا مَعْهُودُ الظِّهَارِ عُرْفًا وَشَرْعًا فَهُوَ أَنْ يَقُولَ : أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فَيُشَبِّهُهَا بِظَهْرِ أُمِّهِ ، فَإِذَا شَبَّهَهَا بِعُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ أُمِّهِ فَقَالَ : أَنْتِ عَلَيَّ كَرَأْسِ أَوْ كَبَطْنِ أُمِّي أَوْ كَيَدِ أُمِّي أَوْ كَرِجْلِ أُمِّي أَوْ كَفَرْجِ أُمِّي فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ يَكُونُ بِكُلِّ ذَلِكَ مُظَاهِرًا تَعْلِيلًا بِأَنَّ التَّلَذُّذَ بِكُلِّ أُمِّهِ مُحَرَّمٌ كَالظَّهْرِ وَهَكَذَا لَوْ شَبَّهَ عُضْوًا مِنْ زَوْجَتِهِ
بِعُضْوٍ مِنْ أُمِّهِ فَقَالَ : رَأْسُكِ عَلَيَّ كَرَأْسِ أُمِّي ، أَوْ رِجْلُكِ عَلَيَّ كَرِجْلِ أُمِّي أَوْ يَدَيْكِ عَلَيَّ كَيَدِ أُمِّي كَانَ مُظَاهِرًا هَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْمَنْصُوصِ وَمُقْتَضَى التَّعْلِيلِ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : فِيمَنْ شَبَّهَ زَوْجَتَهُ بِغَيْرِ أُمِّهِ مِنَ النِّسَاءِ الْمُحَرَّمَاتِ عَلَيْهِ فَقَالَ : أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُخْتِي أَوْ بِنْتِي قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ يَكُونُ مُظَاهِرًا لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ كَأُمِّهِ وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ : لَا يَكُونُ مُظَاهِرًا لِأَنَّهُ عَدَلَ عَنِ الْأُمِّ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا إِلَى غَيْرِهَا ، فَعَلَى تَعْلِيلِ هَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا إِذَا عَدَلَ عَنِ الظَّهْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ إِلَى غَيْرِهِ فَهَلْ يَجِيءُ فِيهِ تَخْرِيجُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُظَاهِرًا أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَجِيءُ فِيهِ تَخْرِيجُهُ وَيَكُونُ فِي تَشْبِيهِ زَوْجَتِهِ بِغَيْرِ الظَّهْرِ مِنْ أَعْضَاءِ أُمِّهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ ، يَكُونُ مُظَاهِرًا لِأَنَّ التَّلَذُّذُ بِجَمِيعِهَا مُحَرَّمٌ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ الْقَدِيمُ لَا يَكُونُ مُظَاهِرًا لِأَنَّهُ عَدَلَ عَنِ الظَّهْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ إِلَى غَيْرِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ تَخْرِيجَ هَذَا الْقَوْلِ فِيهِ وَيَكُونُ مُظَاهِرًا قَوْلًا وَاحِدًا ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ عُدُولِهِ عَنْ أُمِّهِ إِلَى غَيْرِهَا وَبَيْنَ عُدُولِهِ عَنْ ظَهْرِ أُمِّهِ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ أَعْضَائِهَا أَنَّ حُرْمَةَ أُمِّهِ أَغْلَظُ فِي التَّحْرِيمِ مِنْ غَيْرِهَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ فَجَازَ أَنْ لَا يَكُونَ مُظَاهِرًا فِي التَّشْبِيهِ بِغَيْرِهَا ، وَأَعْضَاءُ أُمِّهِ فِي الْحُرْمَةِ سَوَاءٌ فَكَانَ مُظَاهِرًا فِي التَّشْبِيهِ بِغَيْرِ ظَهْرِهَا . وَذَكَرَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَجْهًا ثَالِثًا فَرَّقَ فِيهِ بَيْنَ أَعْضَاءِ أُمِّهِ فَقَالَ : مَا كَانَ مِنْ أَعْضَاءِ أُمِّهِ مَخْصُوصًا بِالْكَرَامَةِ وَالتَّعْظِيمِ وَهُوَ كَالرَّأْسِ وَالثَّدْيِ لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا فِي التَّشْبِيهِ بِهِ فَيَجْعَلُهُ بِقَوْلِهِ : أَنْتِ عَلَيَّ كَرَأْسِ أُمِّي أَوْ كَثَدْيِ أُمِّي غَيْرَ مُظَاهِرٍ، وَمَا كَانَ بِخِلَافِ هَذَا مِنْ أَعْضَائِهَا الَّتِي لَا تُقْصَدُ بِالْكَرَامَةِ وَتَعْظِيمِ الْحُرْمَةِ كَانَ بِهَا مُظَاهِرًا ، فَإِنْ صَحَّ هَذَا التَّخْرِيجُ بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُظَاهِرًا فَهَلْ يَكُونُ كِنَايَةً فِي الظِّهَارِ يَصِيرُ بِهِ مَعَ النِّيَّةِ مُظَاهِرًا أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ يَكُونُ كِنَايَةً يَصِيرُ بِهِ مُظَاهِرًا إِذَا نَوَاهُ لِأَنَّ النِّيَّةَ كَالْعُرْفِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا يَكُونُ كِنَايَةً وَلَا يَصِيرُ بِهِ مُظَاهِرًا وَإِنْ نَوَاهُ كَمَا لَا يَكُونُ التَّشْبِيهُ بِغَيْرِ أُمِّهِ كِنَايَةً، وَلَا يَصِيرُ بِهِ مُظَاهِرًا وَإِنْ نَوَاهُ تَعْلِيلًا بِالْعُرْفِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا إِذَا قَالَ : أَنْتِ عَلَيَّ كَبَدَنِ أُمِّي حكم ظهاره كَانَ مُظَاهِرًا مِنْهَا لَا يَخْتَلِفُ لِأَنَّ الْبَدَنَ يَشْتَمِلُ عَلَى الظَّهْرِ وَغَيْرِهِ فَصَارَ التَّشْبِيهُ بِهِ أَعَمَّ . وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ عَلَيَّ كَنَفْسِ أُمِّي فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ صَرِيحًا فِي الظِّهَارِ يَصِيرُ بِهِ مُظَاهِرًا لِأَنَّ النَّفْسَ يُعَبَّرُ بِهَا عَنِ الذَّاتِ فَجَرَى مَجْرَى قَوْلِهِ كَبَدَنِ أُمِّي . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَكُونُ كِنَايَةً إِنْ نَوَى الظِّهَارَ بِهِ كَانَ مُظَاهِرًا وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الذَّاتَ فِي التَّحْرِيمِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْكَرَامَةَ فِي التَّعْظِيمِ . وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ عَلَيَّ كَرُوحِ أُمِّي حكم طهاره فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : يَكُونُ صَرِيحًا فِي الظِّهَارِ كَالْبَدَنِ . وَالثَّانِي : يَكُونُ كِنَايَةً فِيهِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الِاحْتِمَالِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : لَا يَكُونُ صَرِيحًا وَلَا كِنَايَةً لِأَنَّ الرُّوحَ لَيْسَتْ مِنَ الْأَعْيَانِ الْمَرْئِيَّةِ الَّتِي يُتَعَلَّقُ بِهَا حَظْرًا أَوْ إِبَاحَةً وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ . وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ يَقُولُ : إِذَا شَبَّهَ زَوْجَتَهُ بِعُضْوٍ مِنْ أُمِّهِ لَا تَحْيَا بِفَقْدِهِ كَانَ مُظَاهِرًا مِنْ زَوْجَتِهِ وَإِنْ شَبَّهَهَا بِعُضْوٍ مِنْ أُمِّهِ تَحْيَا بِفَقْدِهِ لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا مِنْ زَوْجَتِهِ بِنَاءً عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ تَشْبِيهِ عُضْوٍ مِنْ زَوْجَتِهِ بِأُمِّهِ، وَالْخِلَافُ فِيهَا بِنَاءٌ عَلَى الْخِلَافِ فِي الطَّلَاقِ، وَقَدْ مَضَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ قَالَ كَأُمِّي أَوْ مِثْلَ أُمِّي وَأَرَادَ الْكَرَامَةَ فَلَا ظِهَارَ وَإِنْ أَرَادَ الظِّهَارَ فَهُوَ ظِهَارٌ وَإِنْ قَالَ لَا نِيَّةَ لِي فَلَيْسَ بِظِهَارٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا مِنْ كِنَايَاتِ الظِّهَارِ أَنْ يَقُولَ : أَنْتِ عَلَيَّ كَأُمِّي أَوْ مِثْلَ أُمِّي لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ مِثْلَهَا فِي الْكَرَامَةِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ مِثْلَهَا فِي التَّحْرِيمِ فَلِأَجْلِ هَذَا الِاحْتِمَالِ جَعَلْنَاهُ كِنَايَةً ؛ إِنْ نَوَى بِهِ الظِّهَارَ كَانَ مُظَاهِرًا وَإِنْ قَالَ وَلَا نِيَّةَ لَهُ لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا وَجُمْلَةُ الْأَلْفَاظِ فِي الظِّهَارِ تَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا كَانَ صَرِيحًا يَكُونُ بِهِ مُظَاهِرًا نَوَى بِهِ الظِّهَارَ أَوْ لَمْ يَنْوِهِ فَهُوَ قَوْلُهُ : أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا يَكُونُ كِنَايَةً يُرَاعِي فِيهِ النِّيَّةَ وَهُوَ قَوْلُهُ : أَنْتِ عَلَيَّ مِثْلَ أُمِّي . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا لَا يَكُونُ صَرِيحًا وَلَا كِنَايَةً وَلَا يَقَعُ بِهِ الظِّهَارُ وَإِنْ نَوَاهُ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ زَوْجَتِي هَذِهِ أَوْ كَظَهْرِ أَمَتِي هَذِهِ أَوْ كَظَهْرِ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ .
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : مَا كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ، وَهُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ، وَيَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا اخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ هُوَ صَرِيحٌ أَوْ كِنَايَةٌ وَهُوَ قَوْلُهُ : أَنْتِ عَلَيَّ كَنَفْسِ أُمِّي حكم ظهاره وَفِيهِ وَجْهَانِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا اخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ هُوَ صَرِيحٌ أَوْ كِنَايَةٌ أَوْ لَيْسَ بِصَرِيحٍ وَلَا كِنَايَةٍ وَهُوَ قَوْلُهُ : كَزَوْجِ أُمِّي حكم ظهاره وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا اخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ يَكُونُ ظِهَارًا صَرِيحًا أَوْ لَيْسَ بِظِهَارٍ صَرِيحٍ وَلَا كِنَايَةٍ وَهُوَ قَوْلُهُ : كَظَهْرِ أُخْتِي أَوْ بِنْتِي حكم ظهاره وَفِيهِ قَوْلَانِ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : مَا اخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ هُوَ مِنَ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ أَمْ لَا وَهُوَ قَوْلُهُ كَبَطْنِ أُمِّي أَوْ كَيَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا وَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ أَصْحَابِنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ امْرَأَةٍ مُحَرَّمَةٍ مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ قَامَتْ فِي ذَلِكَ مَقَامَ الْأُمِّ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ " يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ " ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَحِفْظِي وَغَيْرِي عَنْهُ لَا يَكُونُ مُتَظَاهِرًا بِمَنْ كَانَتْ حَلَالًا فِي حَالٍ ثُمَّ حَرُمَتْ بِسَبِبٍ، كَمَا حَرُمَتْ نِسَاءُ الْآبَاءِ وَحَلَائِلُ الْأَبْنَاءِ بِسَبَبٍ، وَهُوَ لَا يَجْعَلُ هَذَا ظِهَارًا وَلَا فِي قَوْلِهِ كَظَهْرِ أَبِي " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الظِّهَارُ الْمَعْهُودُ عُرْفًا وَشَرْعًا فَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ التَّشْبِيهِ بِالْأُمِّ، فَيَقُولُ لِزَوْجَتِهِ : أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا [ الْمُجَادَلَةِ : ] وَكَذَلِكَ إِذَا شَبَّهَ زَوْجَتَهُ بِجَدَّاتِهِ كَأُمِّ الْأُمِّ أَوْ أُمِّ الْأَبِ حكم طهاره كَانَ مُظَاهِرًا ، لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ مُظَاهِرًا بِالنَّصِّ أَوْ بِالْقِيَاسِ عَلَى النَّصِّ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا : بِالنَّصِّ لِأَنَّ الْجَدَّةَ تُسَمَّى أُمًّا . وَالثَّانِي : بِالْقِيَاسِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْوِلَادَةِ كَالْأُمِّ . فَأَمَّا إِذَا شَبَّهَ زَوْجَتَهُ بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أُمَّهَاتِهِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ بِنَسَبٍ . وَالثَّانِي : مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ بِسَبَبٍ . فَأَمَّا الْمُحَرَّمَاتُ بِالْأَنْسَابِ حكم تشبيه الزوجه بهن فى الظهار كَالْبِنْتِ وَالْأُخْتِ وَالْخَالَةِ وَالْعَمَّةِ وَهَذَا تَحْرِيمٌ أَزَلِيٌّ اقْتَرَنَ بِوُجُودِ الْعَيْنِ فَإِذَا شَبَّهَ زَوْجَتَهُ بِأَحَدِ هَؤُلَاءِ فَقَالَ : أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ ابْنَتِي أَوْ أُخْتِي أَوْ خَالَتِي أَوْ عَمَّتِي فَهَلْ يَكُونُ مُظَاهِرًا أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ لَا يَكُونُ مُظَاهِرًا، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْأُمَّ أَغْلَظُ حُرْمَةً فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُسَاوِيَهَا غَيْرُهَا فِي الْحُكْمِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ بِالنَّصِّ التَّنْبِيهَ لَنَصَّ عَلَى الْأَدْنَى لِيُنَبِّهَ عَلَى الْأَعْلَى وَقَدْ نَصَّ عَلَى الْأَعْلَى وَهُوَ الْأُمُّ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى الْأَدْنَى . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهُ يَكُونُ مُظَاهِرًا لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَدْ صَارَ بِهَذَا التَّحْرِيمِ قَائِلًا مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا كَالْأُمِّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُظَاهِرًا كَالتَّشْبِيهِ بِالْأُمِّ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَعْنَى التَّحْرِيمِ فِي الْأُمِّ مَوْجُودٌ فِي غَيْرِهَا مِنْ سَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ بِالْأَنْسَابِ وَهُوَ التَّحْرِيمُ الْأَزَلِيُّ الَّذِي يَكْفُرُ بِاسْتِبَاحَتِهِ فَصَارَ مُظَاهِرًا بِهِ كَالْأُمِّ . وَأَمَّا الْمُحَرَّمَاتُ بِالْأَسْبَابِ حكم تشبيه الزوجه بهن فى الظهار فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : سَبَبٌ لَا يَتَأَبَّدُ تَحْرِيمُهُ كَأُخْتِ امْرَأَتِهِ وَخَالَتِهَا وَعَمَّتِهَا يَحْرُمْنَ مَا كَانَ مُقِيمًا عَلَى نِكَاحِ امْرَأَتِهِ فَإِذَا فَارَقَهَا حَلَلْنَ لَهُ فَلَا يَكُونُ بِتَشْبِيهِ زَوْجَتِهِ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مُظَاهِرًا فَإِذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ : أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُخْتِ زَوْجَتِي ، أَوْ كَظَهْرِ خَالَتِهَا ، أَوْ كَظَهْرِ عَمَّتِهَا لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا ، لَا يَخْتَلِفُ ؛ لِأَنَّ ظَهْرَ هَؤُلَاءِ لَمْ يَكُنْ حَرَامًا عَلَيْهِ قَبْلَ نِكَاحِ زَوْجَتِهِ وَلَا يَحْرُمْنَ عَلَيْهِ بَعْدَ فِرَاقِهَا فَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهِنَّ التَّحْرِيمُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : سَبَبٌ يَتَأَبَّدُ تَحْرِيمُهُ وَذَلِكَ شَيْئَانِ ؛ الرَّضَاعُ وَالْمُصَاهَرَةُ وَتَحْرِيمُهُمَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَزَلِيٌّ وَطَارِئٌ ؛ فَأَمَّا الطَّارِئُ مِنْهُمَا فَهُوَ أَنْ يَحْدُثَ التَّحْرِيمُ بِهِمَا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ . مِثَالُهُ فِي الرَّضَاعِ : أَنْ تَرْتَضِعَ صَبِيَّةٌ مِنْ لَبَنِ أُمِّهِ بَعْدَ وِلَادَتِهِ فَتَصِيرُ أُخْتًا مُحَرَّمَةً بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ مُحَرَّمَةً . وَمِثَالُهُ فِي الْمُصَاهَرَةِ : أَنْ يَتَزَوَّجَهَا أَبُوهُ بَعْدَ وِلَادَتِهِ أَوْ تَكُونَ بِنْتَ امْرَأَتِهِ أَوْ أُمَّ زَوْجَتِهِ فَتَصِيرُ مُحَرَّمَةً بِالْمُصَاهَرَةِ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ مُحَرَّمَةً ، فَلَا يَكُونُ مُظَاهِرًا إِذَا شَبَّهَ زَوْجَتَهُ بِأَحَدِ هَؤُلَاءِ، وَكَذَلِكَ إِذَا شَبَّهَهَا بِامْرَأَةٍ لَاعَنَ مِنْهَا : لِأَنَّهُ تَحْرِيمٌ طَرَأَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَخَرَجَ عَنْ حَقِيقَةِ التَّحْرِيمِ فِي الِانْتِهَاءِ لِخُرُوجِهِ عَنْهُ فِي الِابْتِدَاءِ . وَأَمَّا الْأَزَلِيُّ : فَمِثَالُهُ فِي الرَّضَاعِ : أَنْ تَرْتَضِعَ صَبِيَّةٌ مِنْ أُمِّهِ قَبْلَ وِلَادَتِهِ فَلَا يُوجَدُ إِلَّا وَالتَّحْرِيمُ مَوْجُودٌ . وَمِثَالُهُ فِي الْمُصَاهَرَةِ : أَنْ يَتَزَوَّجَ أَبُوهُ امْرَأَةً قَبْلَ وِلَادَتِهِ ثُمَّ يُولَدُ مِنْ غَيْرِهَا فَلَا يُوجَدُ إِلَّا وَتَحْرِيمُهَا عَلَيْهِ مَوْجُودٌ فَيَكُونُ فِي حُكْمِ الْمُحَرَّمَاتِ بِالْأَنْسَابِ ، فَإِنْ شَبَّهَ زَوْجَتَهُ بِوَاحِدَةٍ فَقَالَ : أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِهَا هَلْ يَكُونُ مُظَاهِرًا أَمْ لَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ فَإِذَا وَرَدَ عَلَيْكَ تَحْرِيمُ رَضَاعٍ أَوْ مُصَاهَرَةٍ فَاعْتَبِرْهُ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ طُرُوئِهِ أَوْ أَزَلِيَّتِهِ، فَلَا تَجْعَلْهُ مُظَاهِرًا بِهِ إِنْ كَانَ طَارِئًا وَاجْعَلْهُ مُظَاهِرًا بِهِ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ إِنْ كَانَ أَزَلِيًّا ، وَالشَّافِعِيُّ وَإِنْ أَطْلَقَ ذِكْرَ الرَّضَاعِ وَالْمُصَاهَرَةِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ فَقَدْ فَصَّلَهُ الْمُزَنِيُّ
وَالرَّبِيعُ عَنْهُ وَهُمَا أَعْرَفُ بِمُرَادِهِ فَلَا وَجْهَ لِمَنْ وَهِمَ مِنْ أَصْحَابٍ فَسَوَّى بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ : أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أَبِي لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا ، لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمَذْهَبُ وَإِنْ كَانَ ظَهْرُهُ حَرَامًا كَالْأُمِّ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ ظَهْرَ الْأُمِّ مَحَلُّ الِاسْتِمْتَاعِ فَاخْتُصَّ بِتَحْرِيمِ الْمُظَاهَرَةِ، وَلَيْسَ ظَهْرُ الْأَبِ مَحَلًّا لَهُ فَانْتَفَى عَنْهُ تَحْرِيمُ الْمُظَاهَرَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْأُمَّ مَحَلٌّ لِلطَّلَاقِ فَاخْتَصَّتْ بِالظِّهَارِ وَلَيْسَ الْأَبُ مَحَلًّا لَهُ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ ظِهَارٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ : أَنَا عَلَيْكِ كَظَهْرِ أُمِّكِ كَانَ كِنَايَةً إِنْ أَرَادَ بِهِ الظِّهَارَ كَانَ مُظَاهِرًا وَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِهِ لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا وَيَجْرِي مَجْرَى الطَّلَاقِ فِي قَوْلِهِ : أَنَا طَالِقٌ مِنْكِ حَيْثُ جَعَلْنَاهُ كِنَايَةً وَخَالَفَ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ .
فَصْلٌ : وَإِذَا ظَاهَرَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ زَوْجِهَا فَقَالَتْ لَهُ : أَنْتَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي لَمْ يَصِحَّ الظِّهَارُ مِنْهَا وَلَمْ تَلْزَمْهَا كَفَّارَةٌ . وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ، وَالنَّخَعِيُّ : تَكُونُ مُظَاهِرَةً مِنْهُ كَالرَّجُلِ وَتَلْزَمُهَا الْكَفَّارَةُ بِالْعَوْدِ . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : لَا تَكُونُ مُظَاهِرَةً مِنْ زَوْجِهَا فَإِنْ قَالَتْ ذَلِكَ لِأَجْنَبِيٍّ لَزِمَتْهَا الْكَفَّارَةُ إِذَا تَزَوَّجَتْهُ لِرِوَايَةِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ عَائِشَةَ بِنْتَ طَلْحَةَ قَالَتْ : إِنْ تَزَوَّجْتُ مُصْعَبَ بْنَ الزُّبَيْرِ فَهُوَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي ثُمَّ سَأَلَتْ عَنْ ذَلِكَ فَأُمِرَتْ أَنْ تُعْتِقَ رَقَبَةً وَتُزَوَّجَهُ وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ [ الْمُجَادَلَةِ : ] فَخَصَّ الرِّجَالَ ، وَلِأَنَّهُ كَانَ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَصَارَ مُعْتَبَرًا بِالطَّلَاقِ فِي الْإِسْلَامِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلطَّلَاقِ مِنَ النِّسَاءِ حُكْمٌ فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ لِلظِّهَارِ مِنْهُنَّ حُكْمٌ . فَأَمَّا الْخَبَرُ فَلَا دَلِيلَ فِيهِ : لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهَا بِالتَّكْفِيرِ مِنْ قَوْلِهَا ذَلِكَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَنَ بِظِهَارِهَا يَمِينٌ فَأَمَرَهَا بِكَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيَلْزَمُ الْحِنْثُ بِالظِّهَارِ كَمَا يَلْزَمُ بِالطَّلَاقِ " .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الظِّهَارَ مُلْحَقٌ بِالطَّلَاقِ فَيَقَعُ مُعَجَّلًا الظهار بِأَنْ يَقُولَ : أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، وَمُؤَجَّلًا الظهار بِأَنْ يَقُولَ إِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فَلَا يَكُونُ مُظَاهِرًا قَبْلَ الشَّهْرِ فَإِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ صَارَ مُظَاهِرًا ، وَيَقَعُ عَلَى صِفَةٍ أَنْ يَقُولَ : أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي إِنْ شِئْتِ حكمه ، فَإِنْ شَاءَتْ فِي الْحَالِ صَارَ مُظَاهِرًا وَإِنْ لَمْ تَشَأْ فِي الْحَالِ لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا ، وَلَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ زَيْدٌ فَمَتَى شَاءَ زَيْدٌ عَلَى الْفَوْرِ أَوِ التَّرَاخِي كَانَ مُظَاهِرًا وَإِنْ لَمْ يَشَأْ فَلَيْسَ بِمُظَاهِرٍ ، وَيَقَعُ بِأَنْ يَحْلِفَ بِهِ فَيَحْنَثُ مِثْلَ قَوْلِهِ : إِنْ كَلَّمْتُ زَيْدًا فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فَمَتَى حَنِثَ بِكَلَامِ زَيْدٍ صَارَ مُظَاهِرًا . وَيَصِحُّ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَقُولُ لَهَا : أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَلَا يَكُونُ مُظَاهِرًا . وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ فَقَالَ : إِذَا ظَاهَرَ فَقَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَقَعُ وَهُوَ مَذْهَبٌ فِي الظِّهَارِ وَالطَّلَاقِ . وَالثَّانِي : يَقَعُ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَخْرِيجِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَصِحُّ تَخْرِيجُهُ لَهُ قَوْلًا ثَانِيًا وَلَا مَذْهَبًا مُعْتَمَدًا كَمَا لَا يَصِحُّ تَخْرِيجُهُ فِي الطَّلَاقِ وَيَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى الْحِكَايَةِ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْفُقَهَاءِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ تَخْرِيجَهُ صَحِيحٌ وَهُوَ قَوْلٌ ثَانٍ فِي الْقَدِيمِ أَنَّهُ يَصِحُّ ظِهَارُهُ مَعَ الِاسْتِثْنَاءِ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ طَلَاقُهُ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ جِنْسَ الطَّلَاقِ مُبَاحٌ فَجَازَ أَنْ يَرْتَفِعَ بِالِاسْتِثْنَاءِ، وَجِنْسُ الظِّهَارِ مَحْظُورٌ فَلَمْ يَرْتَفِعْ بِالِاسْتِثْنَاءِ ، وَمَنْ قَالَ بِتَخْرِيجِ هَذَا الْقَوْلِ قَالَ بِهِ فِي تَعْلِيقِ الظِّهَارِ بِشَرْطٍ أَوْ عَلَى صِفَةٍ ، أَوْ إِلَى أَجَلٍ أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا وَيَقَعُ نَاجِزًا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْمُخَرَّجِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوْ قَالَ إِذَا نَكَحْتُكِ فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فَنَكَحَهَا حكمه لَمْ يَكُنْ مُتَظَاهِرًا لِأَنَّ التَّحْرِيمَ إِنَّمَا يَقَعُ مِنَ النِّسَاءِ عَلَى مَنْ حَلَّ لَهُ وَلَا مَعْنَى لِلتَّحْرِيمِ فِي الْمُحَرَّمِ وَيُرْوَى مِثْلُ مَا قُلْتُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمْ وَهُوَ الْقِيَاسُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَنْعَقِدْ طَلَاقٌ قَبْلَ نِكَاحٍ لَمْ يَنْعَقِدْ ظِهَارٌ وَلَا إِيلَاءٌ قَبْلَ نِكَاحٍ، فَإِذَا نَكَحَهَا لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا ، وَلَوْ ظَاهَرَ مِنْهَا وَهِيَ زَوْجَتُهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا عُقَيْبَ ظِهَارِهِ مِنْ غَيْرِ عَوْدٍ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ نِكَاحَهَا بِعَقْدٍ فَفِي عَوْدِ ظِهَارِهِ قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى فِي الطَّلَاقِ وَالْإِيلَاءِ . وَلَوْ قَالَ وَتَزَوَّجَهَا صَغِيرًا : إِذَا بَلَغْتِ فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا إِذَا بَلَغَ لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لِقَوْلِهِ .
وَلَوْ قَالَ وَهُوَ بَالِغٌ وَهِيَ صَغِيرَةٌ إِذَا بَلَغْتِ فَأَنْتِ كَظَهْرِ أُمِّي كَانَ مُظَاهِرًا إِذَا بَلَغَتْ لِأَنَّهُ عَقَدَ الظِّهَارَ فِي وَقْتٍ لَوْ عَجَّلَهُ صَحَّ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ كَظَهْرِ أُمِّي، يُرِيدُ الظِّهَارَ فَهِيَ طَالِقٌ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِالطَّلَاقِ فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ كَظَهْرِ أُمِّي إِلَّا أَنَّكِ حَرَامٌ بِالطَّلَاقِ كَظَهْرِ أُمِّي " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : مُحَالٌ، فَلَا مَعْنَى لَهُ . قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الظِّهَارَ لَا يَكُونُ كِنَايَةً فِي الطَّلَاقِ، وَالطَّلَاقَ لَا يَكُونُ كِنَايَةً فِي الظِّهَارِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَرِيحٌ فِي حُكْمِهِ، فَإِذَا كَانَ هَكَذَا وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي زَوْجَةٍ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُقَدِّمَ الطَّلَاقَ عَلَى الظِّهَارِ وَهُوَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَيَقُولُ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ كَظَهْرِ أُمِّي طُلِّقَتْ مِنْهُ بِقَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ وَأَمَّا قَوْلُهُ : كَظَهْرِ أُمِّي فَلَا يَخْلُو فِيهِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَنْوِيَ بِهِ أَنَّهَا تَصِيرُ عَلَيْهِ بِـ " الطَّلَاقِ " مُحَرَّمَةً كَظَهْرِ أُمِّهِ، فَيَصِيرَ ذَلِكَ تَفْسِيرًا لِحُكْمِ الطَّلَاقِ وَتَأْكِيدًا لِإِثْبَاتِهِ، وَلَا يَكُونُ مُظَاهِرًا وَلَا يَصِيرُ بِهِ آثِمًا لِأَنَّهُ قَصَدَ بِهِ تَحْرِيمَ مُحَرَّمَةٍ ؛ كَمَا لَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي لَمْ يَكُنْ آثِمًا لِقَصْدِهِ بِتَحْرِيمِ مُحَرَّمَةٍ . فَإِنْ قِيلَ : يَقْتَضِي عَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ إِذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ وَهِيَ مُحْرِمَةٌ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي أَنْ لَا يَكُونَ مُظَاهِرًا وَلَا آثِمًا قِيلَ : يَكُونُ فِي الْمُحْرِمَةِ مُظَاهِرًا ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ لَا يُخْرِجُهَا مِنَ الزَّوْجِيَّةِ، وَالطَّلَاقُ يُخْرِجُهَا مِنَ الزَّوْجِيَّةِ، وَلَا يَحْرُمُ بِأَنْ يَسْتَمْتِعَ بِالنَّظَرِ إِلَى الْمُحْرِمَةِ وَيَحْرُمُ بِأَنْ يَسْتَمْتِعَ بِالنَّظَرِ إِلَى الْمُطَلَّقَةِ : فَإِنْ قَالَ فِي الْمُحْرِمَةِ أَنَّهَا عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي بِالْإِحْرَامِ الطَّارِئِ لَا بِالتَّحْرِيمِ الْمُؤَبَّدِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ وَدِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِاحْتِمَالِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَنْوِيَ بِهِ أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ الَّذِي تَقَدَّمَهُ ظِهَارًا، فَيَكُونُ مُطَلِّقًا وَلَا يَكُونُ مُظَاهِرًا ؛ لِأَنَّ صَرِيحَ الطَّلَاقِ لَا يَزُولُ عَنْ حُكْمِهِ بِالنِّيَّةِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَنْوِيَ بِهِ الظِّهَارَ بِانْفِرَادِهِ بَعْدَ الطَّلَاقِ الْمُتَقَدِّمِ، فَيُنْظَرُ ؛ فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا إِمَّا لِكَوْنِهِ ثَالِثًا أَوْ دُونَهَا بِعِوَضٍ أَوْ فِي غَيْرِ مَدْخُولٍ بِهَا لَمْ يَقَعِ الظِّهَارُ مِنْهَا كَمَا لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا ، وَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا كَانَ مُظَاهِرًا وَلَمْ يَكُنْ عَائِدًا، فَإِنْ رَاجَعَهَا فِي الْعِدَّةِ فَهَلْ يَصِيرُ عَائِدًا بِنَفْسِ الرَّجْعَةِ أَوْ بِمُضِيِّ زَمَانِهَا بَعْدَ الرَّجْعَةِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ . وَإِنْ لَمْ يُرَاجِعْ حَتَّى مَضَتِ الْعِدَّةُ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ الْعَقْدَ عَلَيْهَا فَفِي عَوْدِ الظِّهَارِ فِي
النِّكَاحِ الثَّانِي قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى . وَإِذَا عَادَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَبِمَاذَا يَصِيرُ عَائِدًا عَلَى مَا قُلْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يَقُولَهُ مُرْسَلًا لَا يَنْوِي بِهِ شَيْئًا فَلَا يَكُونُ بِهِ مُظَاهِرًا فَإِنَّ قَوْلَهُ كَظَهْرِ أُمِّي كَلَامٌ مَبْتُوتٌ يَخْرُجُ عَنْ حُكْمِ الصَّرِيحِ حَتَّى يُسْتَكْمَلَ بِقَوْلِ أَنْتِ عَلَيَّ، فَيَصِيرُ حِينَئِذٍ صَرِيحًا، وَإِذَا خَرَجَ بِنُقْصَانِهِ عَنْ حُكْمِ الصَّرِيحِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ مَعَ عَدَمِ النِّيَّةِ حُكْمٌ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ . فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يُقَدِّمَ الظِّهَارَ عَلَى الطَّلَاقِ فَيَقُولُ : أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي طَالِقٌ فَيَكُونُ مُظَاهِرًا بِقَوْلِهِ الْأَوَّلِ : فَأَمَّا قَوْلُهُ طَالِقٌ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ فِيهِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَنْوِيَ بِهِ أَنَّهَا تَصِيرُ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الظِّهَارِ كَالْمُطَلَّقَةِ، فَلَا تَصِيرُ بِالنِّيَّةِ كَالْمُطَلَّقَةِ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الظِّهَارِ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الطَّلَاقِ . الْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَنْوِيَ بِهِ أَنْ يَصِيرَ الظِّهَارُ الَّذِي تَقَدَّمَ طَلَاقًا، فَيَصِيرُ ظِهَارًا وَلَا يَصِيرُ بِالنِّيَّةِ طَلَاقًا ؛ لِأَنَّ صَرِيحَ الظِّهَارِ لَا يَصِيرُ طَلَاقًا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَنْوِيَ بِهِ إِيقَاعَ الطَّلَاقِ بَعْدَ الظِّهَارِ، فَيَكُونُ مُظَاهِرًا وَمُطَلِّقًا، وَيَمْنَعُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ مِنْ أَنْ يَصِيرَ عَائِدًا . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يَقُولَهُ مُرْسَلًا لَا يَنْوِي بِهِ شَيْئًا فَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَقَعُ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَبْتُوتُ اللَّفْظِ فَلَمْ يَقَعْ بِهِ طَلَاقٌ . وَالثَّانِي : لَمَّا رُوعِيَتْ نِيَّتُهُ فِيهِ صَارَ كِنَايَةً لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مَعَ عَدَمِ النِّيَّةِ حُكْمٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ لِأَنَّهُ مِنْ صَرِيحِ أَلْفَاظِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنَ الْمُوَاجَهَةِ مَا إِذَا تَلَفَّظَ بَعْدَهُ بِالطَّلَاقِ صَارَ مُضْمَرًا فِيهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ : أَنْتِ كَظَهْرِ أُمِّي وَأَنْتِ طَالِقٌ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يُؤَخِّرَ الظِّهَارَ فَلَا يَكُونُ مُظَاهِرًا مَعَ عَدَمِ النِّيَّةِ أَنَّ مَا تَرَكَهُ بِتَأْخِيرِ الظِّهَارِ حَرْفَانِ : أَحَدُهُمَا : حَرْفٌ لِلْمُوَاجَهَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ : أَنْتِ . وَالثَّانِي : حَرْفُ الِالْتِزَامِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيَّ، وَالَّذِي تَرَكَهُ مِنَ الطَّلَاقِ حَرْفُ الْمُوَاجَهَةِ دُونَ الِالْتِزَامِ لِعَدَمِ ذِكْرِهِ فِي الطَّلَاقِ الْمُتَقَدِّمِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي يُرِيدُ الطَّلَاقَ فَهُوَ ظِهَارٌ " .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً فِي الطَّلَاقِ وَكِنَايَةً فِي الظِّهَارِ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ التَّحْرِيمُ أَوْجَبَ كَفَّارَةً مِنْ غَيْرِ تَحْرِيمٍ ، وَإِنْ تَجَرَّدَ عَنْ نِيَّةٍ فَهَلْ يَكُونُ صَرِيحًا فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لَفْظَ التَّحْرِيمِ يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَحْكَامِ مَا وَصَفْنَا وَقَالَ لَهَا أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَظَهْرِ أُمِّي فَلَهُ فِي التَّحْرِيمِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَنْوِيَ لَهُ الظِّهَارَ، فَيَكُونُ ظِهَارًا ؛ فَكَأَنَّهُ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي . وَالثَّانِي : أَنْ يَنْوِيَ لَهُ الطَّلَاقَ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ طَلَاقًا وَيَجْرِي مَجْرَى قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ كَظَهْرِ أُمِّي، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَكُونُ ظِهَارًا وَلَا يَكُونُ طَلَاقًا ؛ لِأَنَّهُ قَدِ اجْتَمَعَ فِيهِ قَرِينَتَانِ : أَحَدُهُمَا : خَفِيَّةٌ تَدُلُّ عَلَى الطَّلَاقِ وَهِيَ النِّيَّةُ . وَالْأُخْرَى : ظَاهِرَةٌ تَدُلُّ عَلَى الظِّهَارِ وَهِيَ قَوْلُهُ كَظَهْرِ أُمِّي فَوَجَبَ تَقْدِيمُ الظَّاهِرَةِ عَلَى الْخَفِيَّةِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَهُ مَنْصُوصًا فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَهَذَا خَطَأٌ وَوُجُودُهُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ سَهْوٌ ؛ لِأَنَّ لَفْظَ التَّحْرِيمِ كِنَايَةٌ، إِذَا اقْتَرَنَ بِالنِّيَّةِ خَرَجَ مَخْرَجَ الصَّرِيحِ فَصَارَ كَقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ كَظَهْرِ أُمِّي . وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَنْوِيَ بِهِ تَحْرِيمَ عَيْنِهَا فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ يَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ يُوجِبُ التَّكْفِيرَ وَعَلَى قَوْلِ مَنْ خَالَفَهُ مِنْ أَصْحَابِنَا يَكُونُ ظِهَارًا . وَالْحَالَةُ الرَّابِعَةُ : أَلَّا يَكُونَ لَهُ فِيهِ نِيَّةٌ، فَيَكُونُ ظِهَارًا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اقْتَرَنَ بِقَوْلِهِ كَظَهْرِ أُمِّي صَارَ ظِهَارًا فِيهِ مَحْمُولًا عَلَيْهِ وَاعْتِرَافُهُ مَصْرُوفًا إِلَيْهِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَهُ عَنْهُ : " وَلَوْ قَالَ لِأُخْرَى قَدْ أَشْرَكْتُكِ مَعَهَا أَوْ أَنْتِ شَرِيكَتُهَا أَوْ أَنْتِ كَهِيَ وَلَمْ يَنْوِ ظِهَارًا لَمْ يَلْزَمْهُ لِأَنَّهَا تَكُونُ شَرِيكَتَهَا فِي أَنَّهَا زَوْجَةٌ لَهُ أَوْ عَاصِيَةٌ أَوْ مُطِيعَةٌ لَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : لَا يَخْلُو حَالُهُ إِذَا ظَاهَرَ مِنْ إِحْدَى زَوْجَتَيْهِ وَقَالَ لِلْأُخْرَى قَدْ أَشْرَكْتُكِ مَعَهَا أَوْ أَنْتِ مِثْلَهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُرِيدَ بِهِ شَرِيكَتَهَا فِي الظِّهَارِ، فَيَصِيرُ بِهِ مُظَاهِرًا مِنَ الثَّانِيَةِ كَظِهَارِهِ مِنَ الْأُولَى فَإِنْ قِيلَ : أَفَلَيْسَ لَوْ آلَى مِنْ إِحْدَاهُمَا وَقَالَ لِلْأُخْرَى أَنْتِ شَرِيكَتُهَا يُرِيدُ فِي الْإِيلَاءِ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا مِنَ الثَّانِيَةِ، فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، قِيلَ الْفَرْقُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْإِيلَاءَ يَمِينٌ لَا يَنْعَقِدُ بِالْإِضْمَارِ وَلَا بِالْكِنَايَةِ وَالظِّهَارُ كَالطَّلَاقِ يَصِحُّ بِالْكِنَايَةِ وَالْمُضْمَرِ .
وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يُرِيدَ بِهِ شَرِيكَتَهَا فِي الْكَرَامَةِ أَوْ فِي الْهَوَانِ، أَوْ مِثْلَهَا فِي الطَّاعَةِ أَوِ الْمَعْصِيَةِ، وَلَا يَكُونُ مُظَاهِرًا مِنَ الثَّانِيَةِ لِأَنَّ كَلَامَهُ يَحْتَمِلُ مَا أَرَادَهُ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يُطْلِقَ ذَلِكَ وَلَا يَكُونُ لَهُ إِرَادَةٌ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُظَاهِرًا مِنَ الثَّانِيَةِ لِأَنَّ اللَّفْظَ قَدْ صَارَ بِاعْتِبَارِ النِّيَّةِ كِنَايَةً إِذَا تَجَرَّدَ عَنِ الْإِرَادَةِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمٌ . وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ : يَكُونُ مُظَاهِرًا مِنَ الثَّانِيَةِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ فَأَثْبَتَهُ بَعْضُهُمْ قَوْلًا ثَانِيًا اعْتِبَارًا بِالظِّهَارِ وَنَفَاهُ الْأَكْثَرُونَ وَنَسَبُوهُ إِلَى الْحِكَايَةِ عَنْ غَيْرِهِ لِمَا قَدَّمْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ ظَاهَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ لَهُ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَالَ فِي كِتَابِ الظِّهَارِ الْجَدِيدِ وَفِي الْإِمْلَاءِ عَلَى مَسَائِلِ مَالِكٍ إِنَّ عَلَيْهِ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ كَفَّارَةً كَمَا يُطَلِّقُهُنَّ مَعًا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَالَ فِي الْكِتَابِ الْقَدِيمِ لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّهَا يَمِينٌ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْكَفَّارَاتِ قَالَ الْمُزَنِيُّ وَهَذَا بِقَوْلِهِ أَوْلَى " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : لَا يَخْلُو ظِهَارُهُ مِنَ الْأَرْبَعَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : - أَحَدُهُمَا : أَنْ يُفْرِدَهُنَّ فِيهِ وَيُظَاهِرَ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِقَوْلٍ مُنْفَرِدٍ فَيَلْزَمُهُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ كَفَّارَةٌ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمَذْهَبُ . وَالثَّانِي : أَنْ يَجْمَعَهُنَّ فِي الظِّهَارِ بِكَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَقُولُ لَهُنَّ : أَنْتُنَّ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فَفِي الْكَفَّارَةِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ يَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ لِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : أَنَّ لَفْظَةَ الظِّهَارِ وَاحِدَةٌ فَيَتَعَلَّقُ بِهَا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ كَالْمُظَاهِرِ مِنْ وَاحِدَةٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ الظِّهَارَ يُلْحَقُ بِالْإِيلَاءِ، وَمُعْتَبَرٌ بِالْأَيْمَانِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِسَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ حِينَ ظَاهَرَ : كَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ ، ثُمَّ إِنَّهُ لَوْ آلَى مِنْ أَرْبَعٍ بِيَمِينٍ وَاحِدَةٍ أَوْ جَمَعَ بَيْنَ عَدَدٍ فِي يَمِينٍ وَاحِدَةٍ لَزِمَهُ فِي الْحِنْثِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، كَذَلِكَ إِذَا ظَاهَرَ مِنَ الْأَرْبَعَةِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ لَزِمَهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ لَمَّا جَازَ إِذَا طَلَّقَ أَرْبَعًا أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُنَّ فِي رَجْعَةٍ وَاحِدَةٍ كَذَلِكَ ظِهَارُهُ مِنَ الْأَرْبَعِ يُجْزِئُ عَنْهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ الْأَصَحُّ قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ وَالْإِمْلَاءِ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ كَفَّارَةٌ، فَيَلْزَمُ فِي الْأَرْبَعِ إِنْ عَادَ مِنْهُنَّ أَرْبَعُ كَفَّارَاتٍ لِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ :