كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي
كُلِّ مَسْأَلَةٍ إِلَى الْأُخْرَى ، وَيُخَرِّجُونَهَا عَلَى قَوْلَيْنِ ذَكَرْنَا تَوْجِيهَهُمَا . وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ يَحْمِلُ جَوَابَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ عَلَى ظَاهِرِهِ ، وَيَجْعَلُ الْقَوْلَ فِي الدَّابَّةِ قَوْلَ رَاكِبِهَا دُونَ رَبِّهَا ، وَفِي الْأَرْضِ الْقَوْلَ قَوْلَ رَبِّهَا دُونَ زَارِعِهَا اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ فِي إِعَارَةِ الدَّوَابِّ وَإِجَارَةِ الْأَرَضِينَ . فَإِذَا قِيلَ : إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ رَبِّ الْأَرْضِ وَالدَّابَّةِ ، فَمَعَ يَمِينِهِ ، وَلَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ فِيمَا مَضَى عَلَى أَصَحِّ وَجْهَيْ أَصْحَابِنَا ، وَفِي الْآخَرِ الْمُسَمَّى ، وَإِذَا قِيلَ : إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّارِعِ وَالرَّاكِبِ فَلَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ فِيمَا مَضَى ، وَعَلَيْهِ رَفْعُ يَدِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، فَإِنْ كَانَ لَهُ فِي الْأَرْضِ زَرْعٌ فَإِنِ امْتَنَعَ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ قَلَعَ : لِأَنَّ قَوْلَهُ إِنَّمَا قُبِلَ فِي الْمَاضِي دُونَ الْمُسْتَقْبَلِ ، وَإِنْ بَذَلَهَا أَقَرَّ زَرْعَهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ
_____كِتَابُ إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ _____
مَسْأَلَةٌ الْأَصْلُ فِي جَوَازِ إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ وَحُصُولِ الْمِلْكِ بِالْإِحْيَاءِ
كِتَابُ إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ مِنْ كِتَابٍ وَضَعَهُ بِخَطِّهِ لَا أَعْلَمُهُ سَمِعَ مِنْهُ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " بِلَادُ الْمُسْلِمِينَ شَيْئَانِ : عَامِرٌ وَمَوَاتٌ ، فَالْعَامِرُ لِأَهْلِهِ وَكُلُّ مَا صَلَحَ بِهِ الْعَامِرُ مِنْ طَرِيقٍ وَفِنَاءٍ وَمَسِيلِ مَاءٍ وَغَيْرِهِ ، فَهُوَ كَالْعَامِرِ فِي أَنْ لَا يُمْلَكَ عَلَى أَهْلِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِمْ ، وَالْمَوَاتُ شَيْئَانِ : مَوَاتُ مَا قَدْ كَانَ عَامِرًا لِأَهْلِهِ مَعْرُوفًا فِي الْإِسْلَامِ ثُمَّ ذَهَبَتْ عِمَارَتُهُ فَصَارَ مَوَاتًا ، فَذَلِكَ كَالْعَامِرِ لِأَهْلِهِ لَا يُمْلَكُ إِلَّا بِإِذْنِهِمْ . وَالْمَوَاتُ الثَّانِي مَا لَا يَمْلِكُهُ أَحَدٌ فِي الْإِسْلَامِ يُعْرَفْ ، وَلَا عِمَارَةَ مِلْكٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا لَمْ يُمْلَكْ فَذَلِكَ الْمَوَاتُ الَّذِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : مَنْ أَحْيَا مَوَاتًا فَهُوَ لَهُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَالْأَصْلُ فِي جَوَازِ إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ وَحُصُولِ الْمِلْكِ بِالْإِحْيَاءِ حكمه رِوَايَةُ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ ، وَلَيْسَ لِعَرَقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ . وَرَوَى وَهْبُ بْنُ كَيْسَانَ ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فِيهَا أَجْرٌ ، وَمَا أَكَلَتِ الْعَوَافِي مِنْهَا فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ ، وَالْعَوَافِي : جَمْعُ عَافٍ وَهُوَ طَالِبُ الْفَضْلِ . وَرَوَى نَافِعٌ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ ، عَنْ عُرْوَةَ قَالَ : أَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى أَنَّ الْأَرْضَ أَرْضُ اللَّهِ ، وَالْعِبَادَ عِبَادُ اللَّهِ ، وَمَنْ أَحْيَا مَوَاتًا فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ جَاءَنَا بِهَذَا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِينَ جَاءُوا بِالصَّلَوَاتِ عَنْهُ . وَرَوَى شُعْبَةُ ، عَنْ قَتَادَةَ ، عَنِ الْحَسَنِ ، عَنْ سَمُرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : مَنْ أَحَاطَ حَائِطًا عَلَى أَرْضٍ فَهِيَ لَهُ .
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : مَوَتَانُ الْأَرْضِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ هِيَ لَكُمْ مِنِّي . وَرَوَى الشَّافِعِيُّ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ طَاوُسٍ ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : عِمَارَاتُ الْأَرْضِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ ثُمَّ هِيَ لَكُمْ فَيْءٌ وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَجُرْ عَلَيْهِ مِلْكٌ نَوْعَانِ : أَرْضٌ ، وَحَيَوَانٌ ، فَلَمَّا مَلَكَ الْحَيَوَانَ إِذَا ظَهَرَ عَلَيْهِ بِالِاصْطِيَادِ مَلَكَ مَوَاتَ الْأَرْضِ إِذَا ظَهَرَ عَلَيْهِ بِالْإِحْيَاءِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ جَوَازُ الْإِحْيَاءِ قَالَ الشَّافِعِيُّ : بِلَادُ الْمُسْلِمِينَ شَيْئَانِ . عَامِرٌ ، وَمَوَاتٌ ، وَإِنَّمَا خَصَّ الشَّافِعِيُّ بِلَادَ الْمُسْلِمِينَ بِمَا ذَكَرَهُ مِنْ قِسْمَيِ الْعَامِرِ وَالْمَوَاتِ ، وَإِنْ كَانَتْ بِلَادُ الشِّرْكِ قِسْمَيْنِ : عَامِرٌ وَمُوَاتٌ ؛ لِمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ عَامِرَ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ لِأَهْلِهِ لَا يُمْلَكُ عَلَيْهِ إِلَّا بِإِذْنِهِمْ ، وَعَامِرَ بِلَادِ الشِّرْكِ قَدْ يُمْلَكُ عَلَيْهِمْ قَهْرًا وَغَلَبَةً بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ بَدَأْنَا بِذِكْرِ الْعَامِرِ مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ بِمَوَاتِهِمْ ، أَمَّا الْعَامِرُ فَلِأَهْلِهِ الَّذِينَ قَدْ مَلَكُوا بِأَحَدِ أَسْبَابِ التَّمْلِيكِ وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ : أَحَدُهَا : الْمِيرَاثُ . وَالثَّانِي : الْمُعَاوَضَاتُ . وَالثَّالِثُ : الْهِبَاتُ . وَالرَّابِعُ : الْوَصَايَا . وَالْخَامِسُ : الْوَقْفُ . وَالسَّادِسُ : الصَّدَقَاتُ . وَالسَّابِعُ : الْغَنِيمَةُ . وَالثَّامِنُ : الْإِحْيَاءُ . فَإِذَا مَلَكَ عَامِرًا مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ بِأَحَدِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ الثَّمَانِيَةِ ، صَارَ مَالِكًا لَهُ وَلِحَرِيمِهِ وَمَرَافِقِهِ مِنْ فِنَاءٍ وَطَرِيقٍ وَمَسِيلِ مَاءٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَرَافِقِ الْعَامِرِ الَّتِي لَا يَسْتَغْنِي الْعَامِرُ عَنْهَا ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الْعَامِرِ بِإِحْيَاءٍ وَلَا غَيْرِهِ ، فَمَنْ أَحْيَاهُ لَمْ يَمْلِكْهُ . وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ : حَرِيمُ الْعَامِرِ كَسَائِرِ الْمَوَاتِ مَنْ أَحْيَاهُ فَقَدْ مَلَكَهُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا فَهِيَ لَهُ وَهَذَا خَطَأٌ ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : لَا حِمَى إِلَّا فِي ثَلَاثٍ : ثُلَّةِ الْبِئْرِ ، وَطُولِ الْفَرَسِ ، وَحَلْقَةِ الْقَوْمِ .
وَثُلَّةُ الْبِئْرِ : هُوَ مَلْقَى طِينِهَا ، وَطُولُ الْفَرَسِ : وَهُوَ مَا انْتَهَى الْفَرَسُ إِلَيْهِ بِحَبْلِهِ الَّذِي قَدْ رُبِطَ بِهِ ، وَحَلْقَةُ الْقَوْمِ : فَإِنَّهُ نَهَى مِنْهُ عَنِ الْجُلُوسِ وَسَطَ الْحَلْقَةِ ، وَلِأَنَّ حَرِيمَ الْعَامِرِ قَدْ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ عَلَى عَهْدِ خُلَفَائِهِ مُقِرًّا عَلَى أَهْلِهِ لَمْ يَتَعَرَّضْ أَحَدٌ لِإِحْيَائِهِ مَعَ مَا انْتَهَوْا إِلَيْهِ عِنْدَ كَثْرَتِهِمْ مِنْ ضِيقِ الْعَامِرِ بِهِمْ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ إِحْيَاءُ حَرِيمِ الْعَامِرِ وَمَنْعُ أَهْلِهِ مِنْهُ بِالْإِحْيَاءِ لِيَبْطُلَ الْعَامِرُ عَلَى أَهْلِهِ وَسَقَطَ الِانْتِفَاعُ بِهِ : لِأَنَّهُ يَقْضِي إِلَى أَنْ يَبْنِيَ الرَّجُلُ دَارًا يَسُدُّ بِهَا بَابَ جَارِهِ فَلَا يَصِلُ الْجَارُ إِلَى مَنْزِلِهِ ، وَمَا أَدَّى إِلَى هَذَا مِنَ الضَّرَرِ كَانَ مَمْنُوعًا مِنْهُ ، وَلَيْسَ الْحَرِيمُ مَوَاتًا ، فَيَصِحُّ اسْتِدْلَالُ دَاوُدَ عَلَيْهِ .
فَصْلٌ الْمَوَاتُ ضَرْبَانِ
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْمَوَاتُ أقسامه فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا لَمْ يَزَلْ عَلَى قَدِيمِ الدَّهْرِ مَوَاتًا لَمْ يُعْمَرْ قَطُّ ، فَهَذَا هُوَ الْمَوَاتُ الَّذِي قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا فَهِيَ لَهُ فَمَنْ أَحْيَاهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ مَلَكَهُ وَإِنْ أَحْيَاهُ ذِمِّيٌّ لَمْ يَمْلِكْهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَمْلِكُهُ الذِّمِّيُّ بِالْإِحْيَاءِ كَالْمُسْلِمِ اسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا فَهِيَ لَهُ وَلِأَنَّهَا أَعْيَانٌ مُبَاحَةٌ ، فَجَازَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِي تَمَلُّكِهَا الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ كَالصَّيْدِ ، وَالْحَطَبِ : وَلِأَنَّ مَنْ صَحَّ أَنْ يَمْلِكَ بِالِاصْطِيَادِ وَالِاحْتِطَابِ ، صَحَّ أَنْ يَمْلِكَ بِالْإِحْيَاءِ كَالْمُسْلِمِ : وَلِأَنَّهُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ التَّمْلِيكِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ كَالْبَيْعِ . وَدَلِيلُنَا : قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : الْأَرْضُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ هِيَ لَكُمْ فَوَاجَهَ الْمُسْلِمِينَ بِخِطَابِهِ وَأَضَافَ مِلْكَ الْمَوَاتِ إِلَيْهِمْ ، فَدَلَّ عَلَى اخْتِصَاصِ الْحُكْمِ بِهِمْ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ إِشَارَةً إِلَى إِجْلَائِهِمْ حَتَّى أَجْلَاهُمْ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنَ الْحِجَازِ ، فَلَمَّا أَمَرَ بِإِزَالَةِ أَمْلَاكِهِمِ الثَّابِتَةِ فَأَوْلَى أَنْ يُمْنَعُوا مِنْ أَنْ يَسْتَبِيحُوا أَمْلَاكًا مُحْدَثَةً : لِأَنَّ اسْتِدَامَةَ الْمِلْكِ أَقْوَى مِنَ الِاسْتِحْدَاثِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمُ الْأَقْوَى فَالْأَضْعَفُ أَوْلَى : وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يَقَرَّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إِلَّا بِجِزْيَةٍ مُنِعَ مِنَ الْإِحْيَاءِ كَالْمُعَاهِدِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَمْلِكْهُ الْكَافِرُ قَبْلَ عَقْدِ الْجِزْيَةِ لَمْ يَمْلِكْهُ بَعْدَ عَقْدِ الْجِزْيَةِ . أَصْلُهُ : نِكَاحُ الْمُسْلِمَةِ : وَلِأَنَّهُ نَوْعُ تَمْلِيكٍ يُنَافِيهِ كُفْرُ الْحَرْبِيِّ فَوَجَبَ أَنْ يُنَافِيَهُ كُفْرُ الذِّمِّيِّ كَالْإِرْثِ مِنْ مُسْلِمٍ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا فَهِيَ لَهُ فَهُوَ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ وَارِدٌ فِي بَيَانِ مَا يَقَعُ بِهِ الْمِلْكُ . وَقَوْلُهُ : ثُمَّ هِيَ لَكُمْ مِنِّي وَارِدٌ فِي بَيَانِ مَنْ يَقَعُ لَهُ الْمِلْكُ فَصَارَ الْمَعْنَى فِي كُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا فِيمَا قَصَدَ لَهُ قَاضِيًا عَلَى صَاحِبِهِ ، فَصَارَ الْخَبَرَانِ فِي التَّقْدِيرِ كَقَوْلِهِ : مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَهِيَ لَهُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الصَّيْدِ وَالْحَطَبِ ، فَهُوَ أَنَّهُ مُنْتَقَضٌ بِالْغَنِيمَةِ حَيْثُ لَمْ يَسْتَوِ الْمُسْلِمُ ، وَالذِّمِّيُّ فِيهَا مَعَ كَوْنِهَا أَعْيَانًا مُبَاحَةً ، ثُمَّ لَوْ سَلِمَ مِنَ النَّقْصِ لَكَانَ الْمَعْنَى فِي الصَّيْدِ وَالْحَطَبِ أَنْ لَا ضَرَرَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِيهِ إِذَا أَخَذَهُ الْكَافِرُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْإِحْيَاءُ . وَلِذَلِكَ لَمْ يُمْنَعِ الْمُعَاهِدُ مِنَ الِاصْطِيَادِ وَالِاحْتِطَابِ ، وَإِنْ مُنِعَ مِنَ الْإِحْيَاءِ فَكَانَ الْمَعْنَى الَّذِي فَرَّقُوا بِهِ فِي الْمُعَاهِدِ بَيْنَ إِحْيَائِهِ وَاصْطِيَادِهِ هُوَ فَرْقَنَا فِي الذِّمِّيِّ بَيْنَ إِحْيَائِهِ وَاصْطِيَادِهِ وَهُوَ الْجَوَابَ عَنْ قِيَاسِهِمِ الثَّانِي ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى فِي الْمُسْلِمِ فَضِيلَتُهُ بِدِينِهِ وَاسْتِقْرَارِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ مُبَايِنَةٍ لِصِغَارِ الذِّمَّةِ فَاسْتَعْلَى عَلَى مَنْ خَالَفَ الْمِلَّةَ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْبَيْعِ فَهُوَ أَنَّهُ مُنْتَقَضٌ بِالزَّكَاةِ : لِأَنَّهَا سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ التَّمْلِيكِ الَّذِي يَخْتَصُّ بِهَا الْمُسْلِمُ دُونَ الذِّمِّيِّ ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْبَيْعِ أَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَمْلِكَ بِهِ الْمُعَاهِدُ جَازَ أَنْ يَمْلِكَ بِهِ الذِّمِّيُّ ، وَلَمَّا لَمْ يَجُزْ فِي الْإِحْيَاءِ أَنْ يَمْلِكَ بِهِ الْمُعَاهِدُ لَمْ يَمْلِكْ بِهِ الذِّمِّيُّ .
فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي مِنَ الْمَوَاتِ : مَا كَانَ عَامِرًا ثُمَّ خُرِّبَ فَصَارَ بِالْخَرَابِ مَوَاتًا فَذَلِكَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ جَاهِلِيًّا لَمْ يُعْمَرْ فِي الْإِسْلَامِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ قَدْ خُرِّبَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ حَتَّى صَارَ مَوَاتًا مُنْدَرِسًا كَأَرْضِ عَادٍ وَتُبَّعٍ ، فَهَذَا كَالَّذِي لَمْ يَزَلْ مَوَاتًا يَمْلِكُهُ مَنْ أَحْيَاهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأَرْضُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ هِيَ لَكُمْ مِنِّي . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا كَانَ بَاقِيَ الْعِمَارَةِ إِلَى وَقْتِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ خُرِّبَ وَصَارَ مَوَاتًا قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَرْفَعَ أَرْبَابُهُ أَيْدِيَهُمْ عَنْهُ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ ، فَهَذَا يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ كَالَّذِي لَمْ يَزَلْ مَوَاتًا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَتَمَسَّكُوا بِهِ إِلَى حِينِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ ، فَهَذَا يَكُونُ فِي حُكْمِ عَامِرِهِمْ لَا يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يُجْهَلَ حَالُهُ فَلَا يُعْلَمُ هَلْ رَفَعُوا أَيْدِيَهُمْ عَنْهُ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ أَمْ لَا ؟ . فَفِي جَوَازِ تَمَلُّكِهِ بِالْإِحْيَاءِ وَجْهَانِ كَالَّذِي جُهِلَ حَالُهُ .
فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي : فِي الْأَصْلِ مَا كَانَ عَامِرًا مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ خُرِّبَ حَتَّى ذَهَبَتْ عِمَارَتُهُ ، وَانْدَرَسَتْ آثَارُهُ فَصَارَ مَوَاتًا حكم تملكه ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ تَمَلُّكِهِ بِالْإِحْيَاءِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ مِنْهَا : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُمْلَكَ بِالْإِحْيَاءِ ، سَوَاءٌ عُرِفَ أَرْبَابُهُ ، أَوْ لَمْ يُعْرَفُوا .
وَقَالَ مَالِكٌ : يَصِيرُ كَالْمَوَاتِ الْجَاهِلِيِّ يَمْلِكُهُ مَنْ أَحْيَاهُ سَوَاءٌ عُرِفَ أَرْبَابُهُ ، أَوْ لَمْ يُعْرَفُوا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ عُرِفَ أَرْبَابُهُ فَهُوَ عَلَى مِلْكِهِمْ لَا يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفُوا مُلِكَ بِالْإِحْيَاءِ : اسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا فَهِيَ لَهُ وَحَقِيقَةُ الْمَوَاتِ : مَا صَارَ بَعْدَ الْإِحْيَاءِ مَوَاتًا ، وَمَا لَمْ يَزَلْ مَوَاتًا فَإِنَّمَا يُسَمَّى مَجَازًا ، قَالُوا : وَلِأَنَّ مَا صَارَ مَوَاتًا مِنَ الْعَامِرِ زَالَ عَنْ حُكْمِ الْعَامِرِ كَالْجَاهِلِيِّ ، وَلِأَنَّهُ مَوَاتٌ فَجَازَ إِحْيَاؤُهُ كَسَائِرِ الْمَوَاتِ : وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ وَهَذَا مَالُ مُسْلِمٍ . وَرَوَى عُرْوَةُ ، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً لَيْسَتْ لِأَحَدٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا فَجَعَلَ زَوَالَ الْمِلْكِ عَنِ الْمَوَاتِ شَرْطًا فِي جَوَازِ مِلْكِهِ بِالْإِحْيَاءِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا جَرَى عَلَيْهِ مِلْكٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُمْلَكَ بِالْإِحْيَاءِ ، وَرَوَى أَسْمَرُ بْنُ مُضَرِّسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : مَنْ سَبَقَ إِلَى مَاءٍ لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهِ مُسْلِمٌ فَهُوَ لَهُ مَالٌ ، قَالَ : فَخَرَجَ النَّاسُ تَبَعًا يَتَخَاطُّونَ ، وَهَذَا نَصٌّ ، وَلِأَنَّهَا أَرْضٌ اسْتَقَرَّ عَلَيْهَا مِلْكُ مُسْلِمٍ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُمْلَكَ بِالْإِحْيَاءِ كَالَّذِي بَقِيَتْ آثَارُهَا مَعَ مَالِكٍ ، وَكَالَّذِي تَعَيَّنَ أَرْبَابُهَا مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَلِأَنَّ مَا صَارَ مَوَاتًا مِنْ عَامِرِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُمْلَكَ بِالْإِحْيَاءِ كَالْأَوْقَافِ وَالْمَسَاجِدِ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا فَهِيَ لَهُ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَيْهِمْ : لِأَنَّ الْأَوَّلَ قَدْ أَحْيَاهَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَحَقَّ بِهَا مِنَ النَّاسِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَسْبَقُ . وَالثَّانِي : أَنَّ مِلْكَهُ قَدْ ثَبَتَ بِاتِّفَاقٍ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْجَاهِلِيِّ وَعَلَى الَّذِي لَمْ يَزَلْ مَوَاتًا ، فَالْمَعْنَى فِيهِمَا أَنَّهُمَا لَمْ يَجُرْ عَلَيْهِمَا مِلْكُ مُسْلِمٍ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ إِحْيَاءَهُ لَا يَجُوزُ ، فَإِنْ عُرِفَ أَرْبَابُهُ فَهُمْ أَحَقُّ بِهِ وَلَهُمْ بَيْعُهُ إِنْ شَاءُوا ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ أَرْبَابُهُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا : هَلْ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُعْطِيَهُ مَنْ يُعْمِرُهُ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ لِاسْتِقْرَارِ الْمِلْكِ عَلَيْهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ إِذَا رَأَى ذَلِكَ صَلَاحًا ، لِقِيَامِهِ بِالنَّظَرِ الْعَامِ ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ حَكَاهُمَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ كَجٍّ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَعَطِيَّتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَّةٌ لِمَنْ أَحْيَا الْمَوَاتَ أَثْبَتُ مِنْ عَطِيَّةِ مَنْ بَعْدَهُ مِنْ سُلْطَانٍ وَغَيْرِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . الْمَوَاتُ يُمْلَكُ بِإِحْيَائِهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الْإِمَامِ وَإِقْطَاعِهِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : مَنْ أَحْيَا مَوَاتًا بِغَيْرِ إِذْنِ الْإِمَامِ حكم لَمْ يَمْلِكْهُ وَانْتَزَعَهُ مِنْ يَدِهِ . وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ كَانَ لِلْأَرْضِ ثَمَنٌ وَيُشَاعُ النَّاسُ عَلَيْهَا وَيَتَنَافَسُونَ فِيهَا لَمْ يَجُزْ إِحْيَاؤُهَا إِلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ ، وَإِنْ كَانَتْ مُهْمَلَةً جَازَ إِحْيَاؤُهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ مَنَعَ مِنْ إِحْيَائِهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ مَنَعَ مِنْ إِحْيَائِهَا بِغَيْرِ إِذْنِ الْإِمَامِ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : لَيْسَ لِلْمَرْءِ إِلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إِمَامِهِ ، وَلِأَنَّ مَا ثَبَتَ أُصُولُهُ مِنَ الْمُبَاحَاتِ لَمْ يُمْلَكْ بِغَيْرِ إِذْنِ الْإِمَامِ كَالْمَعَادِنِ ، وَلِأَنَّ وُجُوهَ الْمَصَالِحِ إِذَا كَانَ اجْتِهَادٌ لِلْإِمَامِ فِيهَا يَقْطَعُ الِاخْتِلَافَ وَالتَّنَازُعَ فِيهَا كَانَ إِذْنُ الْإِمَامِ شَرْطًا فِي ثُبُوتِ مِلْكِهَا قِيَاسًا عَلَى بَيْتِ الْمَالِ ، وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا فَهِيَ لَهُ ، فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِيمَا كَانَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَبِغَيْرِ إِذْنِهِ ، وَلِأَنَّ مَا يَبْتَدِئُ الْمُسْلِمُ بِمِلْكِهِ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى إِذْنِ الْإِمَامِ كَالصَّيْدِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَا يَفْتَقِرُ بِمِلْكِ الصَّيْدِ إِلَيْهِ لَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى إِذْنِ الْإِمَامِ كَالصَّيْدِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَا يَفْتَقِرُ بِمِلْكِ الصَّيْدِ إِلَيْهِ لَمْ يَفْتَقِرِ الْإِحْيَاءُ لَهُ كَإِذْنِ غَيْرِ الْإِمَامِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَا يَنْحَصِرُ عَلَى الْإِمَامِ الْإِذْنُ فِيهِ لَمْ يَفْتَقِرِ الْإِحْيَاءُ لَهُ كَإِذْنِ غَيْرِ الْإِمَامِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَا يَنْحَصِرُ عَلَى الْإِمَامِ الْإِذْنُ فِيهِ لَمْ يَفْتَقِرْ تَمَلُّكُهُ إِلَى إِذْنِهِ كَالْمَاءِ ، وَالْحَطَبِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَالٍ لَمْ يَمْلِكْهُ مُسْلِمٌ لَمْ يَفْتَقِرِ الْمُسْلِمُ فِي تَمَلُّكِهِ إِلَى إِذْنِ الْإِمَامِ كَالْغَنَائِمِ ، وَلِأَنَّهُ نَوْعُ تَمْلِيكٍ فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى إِذْنِ الْإِمَامِ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ ، وَلِأَنَّ الْإِذْنَ فِي التَّمْلِيكِ إِنَّمَا يُسْتَفَادُ بِهِ رَفْعُ الْحَجْرِ عَنِ الْمُتَمَلِّكِ ، وَالْمَوَاتُ مَرْفُوعُ الْحَجْرِ عَنْهُ فَلَمْ يُفِدْهُ الْإِذْنُ صِحَّةَ التَّمْلِيكِ ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَيْسَ لِلْمَرْءِ إِلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إِمَامِهِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا أَجَابَ بِهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ إِمَامُنَا وَإِمَامُ الْأَئِمَّةِ قَدْ طَابَتْ نَفْسُهُ لَنَا بِذَلِكَ ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : مَوَتَانُ الْأَرْضِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ هِيَ لَكُمْ مِنِّي . وَالثَّانِي : أَنَّهُ عَامٌّ فِي أَمْوَالِ الْفَيْءِ وَأَنْوَاعِ الْغَنَائِمِ وَسَائِرِ الْمَصَالِحِ فَخَصَّ الْمَوَاتَ مِنْهُ ، بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا فَهِيَ لَهُ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْمَعَادِنِ فَهُوَ أَنَّ الْمَعَادِنَ أَمْوَالٌ فِي الْحَالِ يُتَوَصَّلُ إِلَى أَخْذِهَا بِالْعَمَلِ ، فَصَارَتْ كَأَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمَوَاتُ : لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِهِ وَلَوْ جَازَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي كَوْنِهِمَا مَالًا : لِأَنَّ الْمَوَاتَ قَدْ يَصِيرُ مَالًا لَكَانَ الْمَعْنَى فِي أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ أَنَّ إِذْنَ الْإِمَامِ فِيهَا مَحْصُورٌ ، وَفِي الْمَوَاتِ غَيْرُ مَحْصُورٍ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمَوَاتَ يَجُوزُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَبِغَيْرِ إِذْنِهِ ، فَكُلُّ مُسْلِمٍ أَحْيَاهُ مِنْ رَجُلٍ ، أَوِ امْرَأَةٍ ، أَوْ صَبِيٍّ ، أَوْ مَجْنُونٍ فَقَدْ مَلَكَهُ وَمَلَكَ حَرِيمَهُ الَّذِي لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ ، فَإِنْ خُرِّبَ بَعْدَ إِحْيَائِهِ حَتَّى صَارَ مَوَاتًا لَمْ يَزُلْ عَنْهُ مِلْكُ مَالِكِهِ . وَقَالَ مَالِكٌ : قَدْ زَالَ مِلْكُهُ بِزَوَالِ الْعِمَارَةِ ، فَإِنْ أَحْيَاهَا غَيْرُهُ كَانَ أَحَقَّ بِهَا ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " سَوَاءٌ كَانَ إِلَى جَنْبِ قَرْيَةٍ عَامِرَةٍ ، أَوْ حَيْثُ كَانَ ، وَقَدْ أَقْطَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الدُّورَ فَقَالَ حَيٌّ مِنْ بَنِي زُهْرَةَ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو عَبْدِ بْنِ زُهْرَةَ : نَكَبَ عَنَّا ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : فَلِمَ ابْتَعَثَنِي اللَّهُ إِذَنْ ، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُقَدِّسُ أُمَّةً لَا يُؤْخَذُ
فِيهِمْ لِلضَّعِيفِ حَقُّهُ وَفِي ذَلِكَ دِلَالَةٌ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقْطَعَ بِالْمَدِينَةِ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ عِمَارَةِ الْأَنْصَارِ مِنَ الْمَنَازِلِ وَالنَّخْلِ ، وَإِنَّ ذَلِكَ لِأَهْلِ الْعَامِرِ وَدَلَالَةٍ عَلَى أَنَّ مَا قَارَبَ الْعَامِرَ يَكُونُ مِنْهُ مَوَاتٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي حَدِّ الْمَوَاتِ إِذَا اتَّصَلَ بِعَامِرٍ . وَالثَّانِي : هَلْ يَسْتَوِي فِيهِ جَمِيعُ النَّاسِ ، أَوْ يَخْتَصُّ بِهِ أَهْلُ الْعَامِرِ ، فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي حَدِّ الْمَوْتِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ : أَنَّ الْمَوَاتَ كُلَّهُ مَا لَمْ يَكُنْ عَامِرًا ، وَلَا حَرِيمًا لِعَامِرٍ سَوَاءٌ قَرُبَ مِنَ الْعَامِرِ أَوْ بَعُدَ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْمَوَاتُ هُوَ كُلُّ أَرْضٍ لَا يَبْلُغُهَا الْمَاءُ وَتَبْعُدُ مِنَ الْعَامِرِ وَلَيْسَ عَلَيْهَا مِلْكٌ لِأَحَدٍ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : أَرْضُ الْمَوَاتِ كُلُّ أَرْضٍ إِذَا وُقِفَ عَلَى أَدْنَاهَا مِنَ الْعَامِرِ يُنَادِي بِأَعْلَى صَوْتِهِ لَمْ يَسْمَعْهُ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَيْهَا فِي الْعَامِرِ ، اسْتِدْلَالًا بِمَا رَوَاهُ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : مَنْ أَحْيَا أَرْضًا دَعْوَةً مِنَ الْمِصْرِ ، - أَوْ قَالَ فِيهِ - مِنَ الْمِصْرِ فَهِيَ لَهُ . وَدَلِيلُنَا : أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اقْتَطَعَ بَيْنَ ظَهَرَانَيْ عِمَارَةِ الْأَنْصَارِ ، وَلِأَنَّ الْبِلَادَ الْمُحَيَّاةَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ عَلَى عَهْدِ خُلَفَائِهِ مُتَّصِلَةُ الْعِمَارَةِ مُتَلَاصِقَةُ الْجُذُورِ ، وَلَوْ كَانَ عَلَى مَا قَالُوهُ لَوَجَبَ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَ كُلِّ عِمَارَتَيْنِ بِمَا ذَكَرُوهُ مِنَ التَّحْدِيدِ ، وَمَا اسْتُدِلَّ بِهِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ : لِأَنَّ فَحْوَاهُ أَنَّ مَا قَرُبَ مِنَ الْمِصْرِ جَازَ إِحْيَاؤُهُ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي مِنَ الْمَوَاتِ إِذَا قَرُبَ مِنَ الْعَامِرِ ، فَإِنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ يَتَسَاوُونَ فِي إِحْيَائِهِ ، وَلَا يَكُونُ أَهْلُ الْعَامِرِ أَحَقَّ بِهِ ، وَقَالَ مَالِكٌ : أَهْلُ الْعَامِرِ أَحَقُّ بِإِحْيَائِهِ مِنْ غَيْرِهِمْ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ عُمُومُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا فَهِيَ لَهُ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدِ اقْتَطَعَ بَيْنَ ظَهَرَانَيْ عِمَارَةِ الْأَنْصَارِ لِابْنِ مَسْعُودٍ وَاقْتَطَعَ الْمَدِينَةَ وَهُوَ مُتَّصِلٌ بِهَا ، وَأَقْطَعَ لِلزُّبَيْرِ بِالْبَقِيعِ رَكْضَ فَرَسِهِ ، وَرَوَى عَلْقَمَةُ بْنُ نَضْلَةَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ قَامَ بِفَنَاءِ دَارِهِ فَضَرَبَ بِرِجْلِهِ ، وَقَالَ : لِي سَنَامُ الْأَرْضِ أَنَّ لَهَا سَنَامًا زَعَمَ ابْنُ فَرْقَدٍ الْأَسْلَمِيُّ أَنِّي لَا أَعْرِفُ حَقِّي مِنْ حَقِّهِ ، لِي بَيَاضُ الْمَرْوَةِ وَلَهُ سَوَادُهَا ، وَلِي مَا بَيْنَ كَذَا إِلَى كَذَا ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ : لَيْسَ لِأَحَدٍ إِلَّا مَا أَحَاطَتْ بِهِ جُدْرَانُهُ ، وَلَا يَمْلِكُ إِلَّا مَا حَفَرَ أَوْ زَرَعَ ، وَلِأَنَّ مَا لَمْ يُمَلَّكْ أَهْلُ الْعَامِرِ لَمْ يَكُنْ لَهُمُ الْمَنْعُ مِنْ إِحْيَائِهِ قِيَاسًا عَلَى الْبَعِيدِ مِنْ عَامِرِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَالْمَوَاتُ ومنافع إقطاعه على العامة والخاصة الَّذِي لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُقْطِعَهُ مَنْ يُعْمِرُهُ خَاصَّةً وَأَنْ يَحْمِيَ مِنْهُ مَا يَرَى أَنْ يَحْمِيَهُ عَامًّا لِمَنَافِعِ الْمُسْلِمِينَ ، وَالَّذِي عَرَفْنَا نَصًّا وَدَلَالَةً
فِيمَا حَمَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ حَمَى النَّقِيعَ وَهُوَ بَلَدٌ لَيْسَ بِالْوَاسِعِ الَّذِي إِذَا حُمِيَ ضَاقَتِ الْبِلَادُ عَلَى أَهْلِ الْمَوَاشِي حَوْلَهُ وَأَضَرَّ بِهِمْ وَكَانُوا يَجِدُونَ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْبِلَادِ سَعَةً لِأَنْفُسِهِمْ وَمَوَاشِيهِمْ ، وَأَنَّهُ قَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ مُجَاوِزٍ لِلْقَدْرِ ، وَفِيهِ صَلَاحٌ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ بِأَنْ تَكُونَ الْخَيْلُ الْمُعَدَّةُ لِسَبِيلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، وَمَا فَضَلَ مِنْ سُهْمَانِ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ ، وَمَا فَضَلَ مِنَ النَّعَمِ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنَ الْجِزْيَةِ تُرْعَى جَمِيعُهَا فِيهِ ، فَأَمَّا الْخَيْلُ فَقُوَّةٌ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ وَمَسْلَكُ سَبِيلِهَا أَنَّهَا لِأَهْلِ الْفَيْءِ ، وَالْمُجَاهِدِينَ ، وَأَمَّا النَّعَمُ الَّتِي تَفْضُلُ عَنْ سُهْمَانِ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ فَيُعَادُ بِهَا عَلَى أَهْلِهَا ، وَأَمَّا نَعَمُ الْجِزْيَةِ فَقُوَّةٌ لِأَهْلِ الْفَيْءِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَبْقَى مُسْلِمٌ إِلَّا دَخَلَ عَلَيْهِ مِنْ هَذَا خَصْلَةُ صَلَاحٍ فِي دِينِهِ أَوْ نَفْسِهِ ، أَوْ مَنْ يَلْزَمُهُ أَمْرُهُ مِنْ قَرِيبٍ أَوْ عَامَّةٍ مِنْ مُسْتَحِقِّي الْمُسْلِمِينَ ، فَكَانَ مَا حَمَى عَنْ خَاصَّتِهِمْ أَعْظَمَ مَنْفَعَةً لِعَامَّتِهِمْ مِنْ أَهْلِ دِينِهِمْ وَقُوَّةً عَلَى مَنْ خَالَفَ دِينَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ عَدُوِّهِمْ ، قَدْ حَمَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى هَذَا الْمَعْنَى بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوَلَّى عَلَيْهِ مَوْلًى لَهُ يُقَالُ لَهُ : هُنَيُّ ، وَقَالَ لَهُ : يَا هُنَيُّ ، ضُمَّ جَنَاحَكَ لِلنَّاسِ وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ ، فَإِنَّ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ مُجَابَةٌ ، وَأَدْخِلْ رَبَّ الصَّرِيمَةِ وَرَبَّ الْغَنِيمَةِ ، وَإِيَّايَ وَنَعَمَ ابْنِ عَفَّانَ وَنَعَمَ ابْنِ عَوْفٍ فَإِنَّهُمَا إِنْ تَهْلِكْ مَاشِيَتُهُمَا يَرْجِعَانِ إِلَى نَخْلٍ وَزَرْعٍ ، وَإِنَّ رَبَّ الْغَنِيمَةِ يَأْتِينِي بِعِيَالِهِ فَيَقُولُ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَفَتَارِكُهُمْ أَنَا ؟ لَا أَبَا لَكَ ، وَالْكَلَأُ أَهْوَنُ مِنَ الدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - : وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَحْمِيَ مِنَ الْأَرْضِ إِلَّا أَقَلَّهَا الَّذِي لَا يَتَبَيَّنُ ضَرَرُهُ عَلَى مَنْ حَمَاهُ عَلَيْهِ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَا حِمَى إِلَّا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ( قَالَ ) وَكَانَ الرَّجُلُ الْعَزِيزُ مِنَ الْعَرَبِ إِذَا انْتَجَعَ بَلَدًا مُخْصِبًا أَوْفَى بِكَلْبٍ عَلَى جَبَلٍ إِنْ كَانَ بِهِ ، أَوْ نَشَزَ إِنْ لَمْ يَكُنْ ثُمَّ اسْتَعْوَى كَلْبًا وَأَوْقَفَ لَهُ مَنْ يَسْمَعُ مُنْتَهَى صَوْتِهِ بِالْعُوَاءِ ، فَحَيْثُ انْتَهَى صَوْتُهُ حَمَاهُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ لِنَفْسِهِ وَيَرْعَى مَعَ الْعَامَّةِ فِيمَا سِوَاهُ وَيَمْنَعُ هَذَا مِنْ غَيْرِهِ لِضَعْفِي مَاشِيَتِهِ ، وَمَا أَرَادَ مَعَهَا فَنَرَى أَنَّ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَا حِمَى إِلَّا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ لَا حِمَى عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الْخَاصِّ وَأَنَّ قَوْلَهُ لِلَّهِ فَلِلَّهِ كُلُّ مَحْمِيٍّ وَغَيْرُهُ ، وَرَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَمَا يَحْمِي لِصَلَاحِ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ لَا لِمَا يَحْمِي لَهُ غَيْرُهُ مِنْ خَاصَّةِ نَفْسِهِ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَمْلِكْ مَالًا إِلَّا مَا لَا غِنَى بِهِ وَبِعِيَالِهِ عَنْهُ وَمَصْلَحَتِهِمْ حَتَّى صَيَّرَ مَا مَلَّكَهُ اللَّهُ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ وَمَالِهِ إِذَا حَبَسَ قُوتَ سَنَتِهِ مَرْدُودًا فِي مَصْلَحَتِهِمْ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؛ وَلِأَنَّ نَفْسَهُ وَمَالَهُ كَانَ مُفَرَّغًا لِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْبَابَ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ يَخْتَصُّ بِالْمَوَاتِ ، وَهِيَ الْإِحْيَاءُ ، وَالْإِقْطَاعُ ، وَالْحِمَى ، فَأَمَّا الْإِحْيَاءُ : فَقَدْ ذَكَرْنَا جَوَازَهُ وَمَنْ يَجُوزُ لَهُ وَسَنَذْكُرُ صِفَتَهُ ، وَأَمَّا الْإِقْطَاعُ : فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ إِلَّا فِي مَوَاتٍ لَمْ يَسْتَقِرَّ عَلَيْهِ مِلْكٌ ، وَعَلَى هَذَا كَانَتْ قَطَائِعُ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ أَقْطَعَ الزُّبَيْرَ رَكْضَ فَرَسِهِ مِنْ مَوَاتِ الْبَقِيعِ فَأَجْرَاهُ ثُمَّ رَمَى بِسَوْطِهِ رَغْبَةً فِي الزِّيَادَةِ فَقَالَ : أَعْطُوهُ مُنْتَهَى سَوْطِهِ وَأَقْطَعَ رَاشِدَ بْنَ عَبْدِ رَبِّهِ السُّلَمِيَّ غَلْوَةً بِسَهْمٍ ، وَغَلْوَةَ حَجَرٍ بِرُهَاطٍ ، وَأَقْطَعَ الْعَدَّاءَ بْنَ خَالِدِ بْنِ هَوْذَةَ مَا يُقَالُ لَهُ : سَوَاحُ الْوَخِيخِ ، وَأَقْطَعَ الْعَبَّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ مَنْزِلَهُ بِالرَّشَّةِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، فَعَلَى هَذَا كَانَتْ قَطَائِعُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا مَا كَانَ مِنْ شَأْنِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ وَأَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ ، فَإِنَّ تَمِيمًا سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُقْطِعَهُ عُيُونَ الْبَلَدِ الَّذِي كَانَ مِنْهُ بِالشَّامِ قَبْلَ فَتْحِهِ ، وَأَبُو ثَعْلَبَةَ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُقْطِعَهُ أَرْضًا كَانَتْ بِيَدِ الرُّومِ فَأَعْجَبَهُ الَّذِي قَالَ فَقَالَ : أَلَا تَسْمَعُونَ مَا يَقُولُ ؟ فَقَالَ : وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لِيَفْتَحَنَّ عَلَيْكَ ، فَكَتَبْتُ لَهُ كِتَابًا فَاحْتَمَلَ ذَلِكَ عَنْ فِعْلِهِ أَنْ يَكُونَ أَقْطَعَهُمَا ذَلِكَ إِقْطَاعَ تَقَيُّدٍ لَا إِقْطَاعَ تَمْلِيكٍ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا مَخْصُوصَيْنِ بِذَلِكَ لِتَعَلُّقِهِ بِتَصْدِيقِ إِخْبَارٍ وَتَحْقِيقِ إِعْجَازٍ ، وَأَمَّا الْأَئِمَّةُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَمْ يَقْطَعَا إِلَّا مَوَاتًا لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ مِلْكٌ وَاصْطَفَى عُمَرُ مِنْ أَرْضِ السَّوَادِ أَمْوَالَ كِسْرَى وَأَهْلِ بَيْتِهِ ، وَمَا هَرَبَ عَنْهُ أَرْبَابُهُ أَوْ هَلَكُوا ، فَكَانَ مَبْلَغُ تِسْعَةِ أَلْفِ أَلْفٍ ، فَكَانَ يَصْرِفُهَا فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَمْ يَقْطَعْ شَيْئًا ثُمَّ إِنَّ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَقْطَعَهَا : لِأَنَّهُ رَأَى اقْتِطَاعَهَا أَوْفَرَ لِغَلَّتِهَا مِنْ تَعْطِيلِهَا ، وَشَرَطَ عَلَى مَنْ أَقْطَعَهَا أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ حَقَّ الْفَيْءِ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ إِقْطَاعَ إِجَارَةٍ لَا إِقْطَاعَ تَمْلِيكٍ ، وَقَدْ تَوَفَّرَتْ عَلَيْهِ حَتَّى بَلَغَتْ خَمْسِينَ أَلْفَ أَلْفٍ فَكَانَتْ مِنْهَا إِقْطَاعًا بِهِ وَصِلَاتِهِ ، ثُمَّ تَنَاقَلَهَا الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ ، فَلَمَّا كَانَ عَامُ الْجَمَاجِمِ سَنَةَ اثْنَيْنِ وَثَمَانِينَ وَفِتْنَةُ ابْنِ الْأَشْعَثِ لِحَرْقِ الدِّيوَانِ وَأَخْذِ كُلِّ قَوْمٍ مَا يَلِيهِمْ ، وَإِذَا كَانَ إِقْطَاعُ الْإِمَامِ إِنَّمَا يَخْتَصُّ بِالْمَوَاتِ دُونَ الْعَامِرِ ، فَالَّذِي يُؤْثِرُهُ إِقْطَاعُ الْإِمَامِ أَنْ يَكُونَ الْمُقْطِعُ أَوْلَى النَّاسِ بِإِحْيَائِهِ مَنْ لَمْ يَسْبِقْ إِلَى إِحْيَائِهِ لَمَّا كَانَ إِذْنُهُ وَفَضْلُ اجْتِهَادِهِ ، فَلَوْ بَادَرَ بِإِحْيَائِهَا غَيْرِ الْمُقْتَطِعِ فَهِيَ مِلْكٌ لِلْمُحْيِي دُونَ الْمُقْطِعِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ أَحْيَاهَا قَبْلَ مُضِيِّ ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ وَقْتِ الْإِقْطَاعِ فَهِيَ لِلْمُقْطِعِ ، وَإِنْ أَحْيَاهَا بَعْدَ ثَلَاثِ سِنِينَ فَهِيَ لِلْمُحْيِي ، وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ : إِنْ أَحْيَاهَا عَالِمًا بِالْإِقْطَاعِ فَهِيَ لِلْمُقْطِعِ ، وَإِنْ أَحْيَاهَا غَيْرَ عَالِمٍ بِالْإِقْطَاعِ خُيِّرَ الْمُقْطِعُ بَيْنَ أَنْ يُعْطِيَ الْمُحْيِي نَفَقَةَ عِمَارَتِهِ وَتَكُونُ الْأَرْضُ لَهُ ، وَبَيْنَ أَنْ يَتْرُكَ عَلَيْهِ الْأَرْضَ وَيَأْخُذَ قِيمَتَهَا قَبْلَ الْعِمَارَةِ ، اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ مَعْمَرٍ ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقْطَعَ أَقْوَاهَا أَرْضًا فَجَاءَ آخَرُونَ فِي زَمَانِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَأَحْيَوْهَا فَقَالَ لَهُمْ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ فَرَغُوا إِلَيْهِ : تَرَكْتُمُوهُمْ يَعْمَلُونَ وَيَأْكُلُونَ ثُمَّ جِئْتُمْ تُغِيرُونَ عَلَيْهِمْ : لَوْلَا أَنَّهَا قَطِيعَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا أَعْطَيْتُكُمْ شَيْئًا ، ثُمَّ قَوَّمَهَا عَامِرَةً وَقَوَّمَهَا غَيْرَ عَامِرَةٍ ثُمَّ قَالَ لِأَهْلِ الْأَصْلِ : إِنْ شِئْتُمْ فَرُدُّوا عَلَيْهِمْ مَا بَيْنَ ذَلِكَ وَخُذُوا أَرْضَكُمْ ، وَإِنْ شِئْتُمْ رَدُّوا عَلَيْكُمْ ثَمَنَ أَرْضِكُمْ ثُمَّ هِيَ لَهُمْ ، وَدَلِيلُنَا عَلَى أَنَّهَا مِلْكُ الْمُحْيِي بِكُلِّ حَالٍ دُونَ الْمُقْطِعِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا فَهِيَ لَهُ ، وَلِأَنَّ الْإِقْطَاعَ لَا يُوجِبُ التَّمْلِيكَ ، وَالْإِحْيَاءَ يُوجِبُ التَّمْلِيكَ ، فَإِذَا اجْتَمَعَا كَانَ مَا أَوْجَبَ التَّمْلِيكَ أَقْوَى حُكْمًا مِمَّا لَا يُوجِبُهُ ، فَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَدْ قَالَ فِي قَضِيَّتِهِ : لَوْلَا أَنَّهَا قَطِيعَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا أَعْطَيْتُكُمْ شَيْئًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مِنْ رَأْيِهِ أَنَّهَا لِلْمُحْيِي ، وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْ هَذَا الرَّأْيِ لِمَا تَوَجَّهَ إِلَيْهَا مِنْ إِقْطَاعِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَرِهَ أَنْ يُبْطِلَهُ ، فَاسْتَنْزَلَ الْخَصْمَيْنِ إِلَى مَا قَضَى مَرْضَاةً لَا جَبْرًا ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمُقْطِعُ قَدْ حَجَرَهَا وَجَمَعَ تُرَابَهَا حَتَّى تَمَيَّزَتْ عَنْ غَيْرِهَا فَجَاءَ
غَيْرُهُ فَعَمَرَهَا وَحَرَثَهَا نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ الْمُقْطِعُ مُقِيمًا عَلَى عِمَارَتِهَا حَتَّى تَغَلَّبَ عَلَيْهَا الثَّانِي فَعَمَرَهَا فَهِيَ لِلْأَوَّلِ وَيَكُونُ الثَّانِي مُتَطَوِّعًا بِعِمَارَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْمُقْطِعُ قَدْ تَرَكَ عِمَارَتَهَا فَعَمَرَهَا الثَّانِي فَهِيَ لِلثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ الْأَوَّلُ قَدْ بَدَأَ بِالْعَمَلِ مِنْ غَيْرِ إِقْطَاعٍ ، فَهَذَا حُكْمُ الْإِقْطَاعِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْحِمَى معناه وحكمه فَهُوَ الْمَنْعُ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ لِيَتَوَفَّرَ فِيهِ الْكَلَأُ فَتَرْعَاهُ الْمَوَاشِي : لِأَنَّ الْحِمَى فِي كَلَامِهِمْ هُوَ الْمَنْعُ ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : جَنْبُ الْمُؤْمِنِ مِنْ حِمَى ، وَالْحِمَى عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ ضَرْبٌ حَمَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَضَرْبٌ حَمَاهُ الْإِمَامُ بَعْدَهُ ، وَضَرْبٌ حَمَاهُ غَيْرُهُ مِنْ عَوَامِّ الْمُسْلِمِينَ . فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ وَقَفَ عَلَى جَبَلٍ بِالْبَقِيعِ يُقَالُ لَهُ : يَعْمَلُ ، فَصَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ : هَذَا حِمَايَ وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الْبِقَاعِ ، وَهُوَ قَدْرُ مَيْلٍ فِي سِتَّةِ أَمْيَالٍ مَا بَيْنَ يَعْمَلَ إِلَى ثُلُثَيْنِ فَحَمَاهُ لِخَيْلِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ ، وَلِأَنَّ اجْتِهَادَ رَسُولِ اللَّهِ يَخُصُّهُ فِي أُمَّتِهِ أَمْضَى ، وَقَضَاءَهُ فِيهِمْ أَنْفَذُ ، وَكَانَ مَا حَمَاهُ لِمَصَالِحِهِمْ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَقَرًّا مِنْ إِحْيَائِهِمْ وَعِمَارَتِهِمْ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا حِمَى الْإِمَامِ بَعْدَهُ ، فَإِنْ أَرَادَ الْحِمَى لِنَفْسِهِ ، أَوْ لِأَهْلِهِ ، أَوْ لِلْأَغْنِيَاءِ خُصُوصًا لَمْ يَجُزْ وَكَانَ مَا حَمَاهُ مُبَاحًا لِمَنْ أَحْيَاهُ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَحْمِيَ لِخَيْلِ الْمُجَاهِدِينَ وَنَعَمِ الْجِزْيَةِ وَالصَّدَقَةِ وَمَوَاشِي الْفُقَرَاءِ نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ الْحِمَى يَضُرُّ بِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَأَغْنِيَائِهِمْ لِضِيقِ الْكَلَأِ عَلَيْهِمْ بِحِمَى أَكْثَرِ مَوَاتِهِمْ لَمْ يَجُزْ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِهِمْ : لِأَنَّهُ قَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ يَكْتَفِي الْمُسْلِمُونَ بِمَا بَقِيَ مِنْ مَوَاتِهِمْ ، فَفِيهِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْمِيَ ، لِرِوَايَةِ مُجَاهِدٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءٌ فِي ثَلَاثٍ : الْمَاءُ ، وَالنَّارُ ، وَالْكَلَأُ وَثَمَنُهُ حَرَامٌ . رَوَى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، عَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَمَى الْبَقِيعَ وَقَالَ : لَا حِمَى إِلَّا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْمِيَ ، لِمَا فِيهِ مِنْ صَلَاحِ الْمُسْلِمِينَ ، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَمَى بِالرَّبَذَةِ لِإِبِلِ الصَّدَقَةِ وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِ مَوْلَاهُ أَبُو أُسَامَةَ وَتَوَلَّاهُ عَلَيْهِ قُرْطُ بْنُ مَالِكٍ ، وَحَمَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الشَّرَفَ فَحَمَى مِنْهُ نَحْوَ مَا حَمَى أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالرَّبَذَةِ وَوَلَّى عَلَيْهِ مَوْلًى لَهُ يُقَالُ لَهُ : هُنَيُّ وَقَالَ : يَا هُنَيُّ ، ضُمَّ جَنَاحَكَ عَنِ النَّاسِ وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ مُجَابَةٌ ، وَأَدْخِلْ رَبَّ الصَّرِيمَةِ وَرَبَّ الْغَنِيمَةِ ، وَإِيَّاكَ وَنَعَمَ ابْنِ عَفَّانَ وَنَعَمَ ابْنِ عَوْفٍ ، فَإِنَّهُمَا إِنْ تَهْلِكْ مَاشِيَتُهُمَا يَرْجِعَانِ إِلَى نَخْلٍ وَزَرْعٍ ، وَإِنَّ رَبَّ
الصَّرِيمَةِ وَالْغَنِيمَةِ يَأْتِينِي بِعِيَالِهِ فَيَقُولُ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، أَتَارِكُهُمْ أَنَا ؟ لَا أَبَا لَكَ ، فَالْكَلَأُ أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنَ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ ، وَايْمُ اللَّهِ نُودِيَ أَنِّي قَدْ طَلَحْتُهُمْ إِنَّمَا أَكْلَأُهُمْ ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا الْمَالُ الَّذِي أَحْمِلُ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا حَمَيْتُ عَلَيْهِمْ مِنْ بِلَادِهِمْ شِبْرًا . فَأَمَّا قَوْلُهُ : الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءٌ فِي ثَلَاثٍ فَهُوَ عَامٌّ خَصَّ مِنْهُ الْحِمَى عَلَى أَنَّ الْحِمَى يُشْرَكُ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ : لِأَنَّ نَفْعَ الْحِمَى يَعُودُ عَلَى كَافَّتِهِمْ مِنَ الْفُقَرَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ ، أَمَّا الْفُقَرَاءُ فَلِأَنَّهُ مَرْعَى صَدَقَاتِهِمْ ، وَأَمَّا الْأَغْنِيَاءُ فَلِخَيْلِ الْمُجَاهِدِينَ عَنْهُمْ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ : لَا حِمَى إِلَّا لِلَّهِ . فَمَعْنَاهُ لَا حِمَى إِلَّا أَنْ يُقْصَدَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيُسَلِّمُ فِيمَا حَمَاهُ لِلْفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَفِي مَصَالِحِهِمْ ، وَخَالَفَ فِيهِ فِعْلَ الْجَاهِلِيَّةِ ، فَإِنَّ الْعَرَبِيَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ إِذَا اسْتَوْلَى عَلَى بَلَدٍ أَوْفَى بِكَلْبٍ فَجَعَلَهُ عَلَى جَبَلٍ ، أَوْ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْوَاهُ ، فَحَيْثُ انْتَهَى عُوَاهُ حَمَاهُ لِنَفْسِهِ فَلَا يَرْعَى فِيهِ غَيْرُهُ وَيُشَارِكُ النَّاسَ فِيمَا سِوَاهُ ، وَهَكَذَا كَانَ كُلَيْبُ بْنُ وَائِلٍ إِذَا أَعْجَبَتْهُ رَوْضَةٌ أَلْقَى فِيهَا كَلْبًا وَحَمَى إِلَى مُنْتَهَى عُوَائِهِ ، وَفِيهِ يَقُولُ مَعْبَدُ بْنُ شُعْبَةَ الضَّبِّيُّ : كَفِعْلِ كُلَيْبٍ كُنْتُ أُنْبِئْتُ أَنَّهُ مُخَطَّطٌ أَكَلَأَ الْمِيَاهَ وَيَمْنَعُ وَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ : كَمَا بَغِيَهَا كُلَيْبٌ لِظُلْمَةٍ مِنَ الْعِزِّ حَتَّى ضَاعَ وَهُوَ قَتْلُهَا عَلَى وَائِلٍ أَنْ يَتْرُكَ الْكَلْبَ هَائِجًا وَإِذْ يَمْنَعُ الْإِكْلَأَ مِنْهَا حَوْلَهَا
فَصْلٌ : وَأَمَّا حِمَى الْوَاحِدِ مِنْ عَوَامِّ الْمُسْلِمِينَ وبيان حكمه فَمَحْظُورٌ وَحِمَاهُ مُبَاحٌ : لِأَنَّهُ إِنْ حَمَى لِنَفْسِهِ فَقَدْ تَحَكَّمُ وَتَعَدَّى بِمَنْعِهِ ، وَإِنْ حَمَاهُ لِلْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ عَلَيْهِمْ ، وَلَا فِيمَنْ يُؤْثَرُ اجْتِهَادُهُ لَهُمْ ، وَقَدْ رَوَى أَبُو هَانِئٍ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : لَا تُمَانِعُوا فَضْلَ الْمَاءِ ، وَلَا فَضْلَ الْكَلَأِ ، فَيُعْزَلَ الْمَاءُ وَيَجُوعَ الْعِيَالُ فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنْ عَوَامِّ الْمُسْلِمِينَ حَمَى مَوَاتًا ، وَمَنَعَ النَّاسَ مِنْهُ زَمَانًا رَعَاهُ وَحْدَهُ ، ثُمَّ ظَهَرَ الْإِمَامُ عَلَيْهِ ، وَرَفَعَ يَدَهُ عَنْهُ ، وَلَمْ يُغَرِّمْ مَا رَعَاهُ : لِأَنَّهُ لَيْسَ لِمَالِكٍ ، وَلَا يُعَزِّرُهُ : لِأَنَّهُ أَحَدُ مُسْتَحِقِّيهِ وَنَهَاهُ عَنْ مِثْلِ تَعَدِّيهِ ، فَأَمَّا أَمِيرُ الْبَلَدِ وَوَالِي الْإِقْلِيمِ إِذَا رَأَى أَنْ يَحْمِيَ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ كَالْإِمَامِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إِلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ : لِأَنَّ اجْتِهَادَ الْإِمَامِ أَعَمُّ ، وَلَكِنْ لَوْ أَنَّ وَالِيَ الصَّدَقَاتِ اجْتَمَعَتْ مَعَهُ مَوَاشِي الصَّدَقَةِ وَقَلَّ الْمَرْعَى لَهَا وَخَافَ عَلَيْهَا التَّلَفَ إِنْ لَمْ يَحْمِ الْمَوَاتَ لَهَا ، فَإِنْ مَنَعَ الْإِمَامُ مِنَ الْحِمَى كَانَ وَالِي الصَّدَقَاتِ أَوْلَى ، وَإِنْ جَوَّزَ الْإِمَامُ الْحِمَى فَفِي جَوَازِهِ لِوَالِي الصَّدَقَاتِ عِنْدَمَا ذَكَرْنَا مِنْ حُدُوثِ الضَّرُورَةِ بِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ كَمَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ الضَّرُورَةِ ، فَعَلَى هَذَا يَتَعَزَّرُ الْحِمَى بِزَمَانِ الضَّرُورَةِ ، وَلَا يَسْتَدِيمُ بِخِلَافِ حِمَى الْإِمَامِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْمِيَ : لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْفَعَ الضَّرَرَ عَنْ أَمْوَالِ الْفُقَرَاءِ
بِإِدْخَالِ الضَّرَرِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ وَيَكُونُ الضَّرَرُ إِنْ كَانَ بِالْفَرِيقَيْنِ مَعًا ، وَهَذَا أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُعْطِيَ وَلَا يَأْخُذَ مِنَ الَّذِي حَمَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنْ أُعْطِيَهُ فَعَمَّرَهُ نُقِضَتْ عِمَارَتُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ أَمَّا حِمَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُمَكَّنَ أَحَدٌ مِنْ إِحْيَائِهِ فما الحكم لو أحياه إنسان ؟ ، فَإِنْ أَحْيَاهُ إِنْسَانٌ لَمْ يَخْلُ حَالُ السَّبَبِ الَّذِي حَمَاهُ مِنْ أَجْلِهِ مِنْ مَوَاشِي الْفُقَرَاءِ وَنَعَمٍ بِعَلَاقَاتٍ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا ، أَوْ زَائِلًا ، فَإِنْ كَانَ السَّبَبُ بَاقِيًا ، وَالْحَاجَةُ إِلَيْهِ مَاسَّةً فَإِحْيَاؤُهُ مَرْدُودٌ وَعِمَارَتُهُ مَنْقُوضَةٌ وَهُوَ عَلَى مَا حَيَّاهُ بِمَنْعِ النَّاسِ كُلِّهِمْ مِنْ إِحْيَائِهِ : لِأَنَّ حُكْمَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَجُوزُ أَنْ يُتَعَقَّبَ بِنَقْضٍ ، وَلَا أَنْ يُعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِإِبْطَالٍ ، وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ زَائِلًا وَحَاجَةُ الْفُقَرَاءِ إِلَيْهِ قَدِ ارْتَفَعَتْ وَنَعَمُ الصَّدَقَاتِ قَدْ تَحَوَّلَتْ ، فَفِي جَوَازِ إِحْيَائِهِ وَإِقْرَارِ عِمَارَتِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : هُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ : يَجُوزُ : لِأَنَّ السَّبَبَ يَقْتَضِي زَوَالَ الْمُسَبِّبِ : لِأَنَّ مَا وَجَبَ لِعِلَّةٍ زَالَ بِزَوَالِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا : لَا يَجُوزُ إِحْيَاؤُهُ وَإِنْ زَالَ سَبَبُهُ : لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ السَّبَبُ بَعْدَ زَوَالِهِ كَمَا أَنَّ مَا خَرِبَ مِنَ الْمَسَاجِدِ بِخَرَابِ بِقَاعِهَا ، لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لِجَوَازٍ أَنْ تَعُودَ عِمَارَةُ الْبُقْعَةِ فَيُحْتَاجُ إِلَى مَسَاجِدِهَا ، وَلِأَنَّ فِي إِحْيَائِهِ نَقْضًا لِحُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَّا حِمَى الْأَئِمَّةِ ، فَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ لَا يَجُوزُ فَإِحْيَاؤُهُ جَائِزٌ ، وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ حِمَى الْإِمَامِ جَائِزٌ كَحِمَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهَلْ يَجُوزُ إِحْيَاؤُهُ وَتَمْلِيكُ مُحْيِيهِ فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَمْلِكُهُ بِالْإِحْيَاءِ كَمَا لَا يَمْلِكُ حِمَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لِأَنَّ كِلَيْهِمَا حِمًى مُحَرَّمٌ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَمْلِكُ بِالْإِحْيَاءِ وَإِنْ مُنِعَ مِنْهُ : لِأَنَّ حِمَى الْإِمَامِ اجْتِهَادٌ وَمِلْكَ الْمَوَاتِ بِالْإِحْيَاءِ نَصٌّ ، وَالنَّصُّ أَثْبَتُ حُكْمًا مِنَ الِاجْتِهَادِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ مَا يَكُونُ إِحْيَاءً
بَابُ مَا يَكُونُ إِحْيَاءً مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " ، وَالْإِحْيَاءُ مَا عَرَفَهُ النَّاسُ إِحْيَاءً لِمِثْلِ الْمُحَيَّا إِنْ كَانَ مَسْكَنًا فَبِأَنْ يَبْنِيَ بِمِثْلِ مَا يَكُونُ مِثْلُهُ بِنَاءً ، وَإِنْ كَانَ لِلدَّوَابِّ فَبِأَنْ يَبْنِيَ مَحْظَرَةً ، وَأَقَلُّ عِمَارَةِ الزَّرْعِ الَّتِي تُمْلَكُ بِهَا الْأَرْضُ أَنْ يَجْمَعَ تُرَابًا يُحِيطُ بِهَا تَتَبَيَّنُ بِهِ الْأَرْضُ مِنْ غَيْرِهَا وَيَجْمَعَ حَرْثَهَا وَزَرْعَهَا ، وَإِنْ كَانَ لَهُ عَيْنُ مَاءٍ أَوْ بِئْرٍ حَفَرَهَا ، أَوْ سَاقَهُ مِنْ نَهْرٍ إِلَيْهَا فَقَدْ أَحْيَاهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ وَإِنَّمَا أَطْلَقَ رَسُولُ اللَّهِ ذِكْرَ الْإِحْيَاءَ ، وَلَمْ يُقَيِّدْهُ وَإِنْ كَانَ مُخْتَلِفًا : لِأَنَّ لِلنَّاسِ فِيهِ عُرْفًا وَكُلُّهُمْ إِلَيْهِ كَمَا أَطْلَقَ ذِكْرَ الْحِرْزِ فِي قَطْعِ السَّارِقِ ، وَالتَّفْرِيطِ فِي الْبَيْعِ وَالْقَبْضِ : لِأَنَّ لِلنَّاسِ فِيهِ عُرْفًا : لِأَنَّ مَا لَمْ يَتَقَدَّرْ فِي الشَّرْعِ وَلَا فِي اللُّغَةِ ، كَانَ تَقْدِيرُهُ مَأْخُوذًا مِنَ الْعُرْفِ ، وَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَعُرْفُ النَّاسِ فِي الْإِحْيَاءِ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْمُحَيَّا ، فَيُقَالُ لِلْمُحْيِي : لِمَاذَا تُرِيدُ إِحْيَاءَهُ ؟ فَإِنْ قَالَ : أُرِيدُ إِحْيَاءَهُ لِلسُّكْنَى ، قِيلَ : فَأَقَلُّ الْإِحْيَاءِ الَّذِي تَصِيرُ بِهِ مَالِكًا أَنْ تَبْنِيَ حِيطَانًا تَحْظُرُ ، وَسَقْفًا يُورِي ، فَإِذَا بَنَيْتَ الْحِيطَانَ وَالسَّقْفَ فَقَدْ أَحْيَيْتَهُ وَمَلَكْتَهُ ، وَلَوْ بَنَيْتَ وَلَمْ تَسْقُفْ لَمْ يَكْمُلِ الْإِحْيَاءُ ، وَلَمْ يَسْتَقِرَّ الْمِلْكُ : لِأَنَّ سُكْنَى مَا لَمْ يَسْقُفْ غَيْرُ مَعْهُودٍ فِي الْعُرْفِ .
فَصْلٌ : فَإِنْ قَالَ : أُرِيدُ إِحْيَاءَهُ لِلدَّوَابِّ أَوِ الْغَنَمِ ، فَأَقَلُّ الْإِحْيَاءِ لِذَلِكَ أَنْ تَبْنِيَ حِيطَانًا فَتَصِيرُ بِذَلِكَ مُحْيِيًا مَالِكًا : لِأَنَّ الدَّوَابَّ وَالْغَنَمَ قَدْ لَا تَحْتَاجُ فِي الْعُرْفِ إِلَى سَقْفٍ ، فَلَوْ لَمْ يَبْنِ حِيطَانَهَا وَلَكِنْ عَبَّأَ الْأَحْجَارَ حَوْلَهَا فَذَلِكَ تَحْجِيرٌ يَصِيرُ بِهِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ ، وَلَيْسَ بِإِحْيَاءٍ يَصِيرُ بِهِ مَالِكًا ، وَهَكَذَا لَوْ حَظَرَ عَلَيْهَا بِقَصَبٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَكَانًا جَرَتْ عَادَةُ أَهْلِهِ أَنْ يَبْنُوا أَوْطَانَهُمْ بِالْقَصَبِ كَعَرِينٍ بَيْنَ آجَامِ الْبَطَائِحِ ، فَيَصِيرُ بِذَلِكَ مُحْيِيًا اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ فِيهِ ، وَهَكَذَا فِي بِلَادِ جَبَلَانِ عُرْفُهُمْ أَنْ يَبْنُوا مَنَازِلَ أَوْطَانِهِمْ بِالْخَشَبِ ، فَيَصِيرُ بِنَاؤُهَا بِذَلِكَ إِحْيَاءً يَتِمُّ بِهِ الْمِلْكُ لِعُرْفِهِمْ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي غَيْرِ بِلَادِهِمْ إِحْيَاءً .
فَصْلٌ : فَإِنْ قَالَ : أُرِيدُ إِحْيَاءَهَا لِلزَّرْعِ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ ثَلَاثَةِ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَجْمَعَ لَهَا تُرَابًا يُحِيطُ بِهَا وَيُمَيِّزُهَا عَنْ غَيْرِهَا ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ أَهْلُ الْعِرَاقِ سَنَاهْ . وَالشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ يَسُوقَ الْمَاءَ إِلَيْهَا إِنْ كَانَتْ يَبَسًا مِنْ نَهْرٍ أَوْ بِئْرٍ ، وَإِنْ كَانَتْ بَطَائِحَ حُبِسَ الْمَاءُ عَنْهَا : لِأَنَّ إِحْيَاءَ الْبَطَائِحِ يَحْبِسُ الْمَاءَ عَلَى شُرُوطِهِ .
وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ : أَنْ يُخَزِّنَهَا لِيُمْكِنَ زَرْعُهَا ، وَالْحَرْثُ يَجْمَعُ وَيَمْسَحُ مَا اسْتَعْلَى مِنْ تَطْوِيلِ مَا انْخَفَضَ ، فَإِنْ سَاقَ الْمَاءَ وَلَمْ يَحْرُثْ فَقَدْ مَلَكَ الْمَاءَ وَحَرِيمَهُ ، وَلَمْ يَمْلِكْ مَا تَحَجَّرَ عَلَيْهِ ، فَإِذَا حَرَثَ بَعْدَ التَّحْجِيرِ وَسَوَّقَ الْمَاءَ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي كَمَالِ الْإِحْيَاءِ وَحُصُولِ الْمِلْكِ ، عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي كِتَابِ الْأُمِّ ، وَاخْتَارَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ أَنَّ الْإِحْيَاءَ قَدْ كَمُلَ ، وَالْمِلْكَ قَدْ تَمَّ وَإِنْ لَمْ يَزْرَعْ وَلَمْ يَغْرِسْ : لِأَنَّ مَثَابَةَ الزَّرْعِ بَعْدَ الْعِمَارَةِ بِمَثَابَةِ السُّكْنَى بَعْدَ الْبِنَاءِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ شَرْطًا فِي الْإِحْيَاءِ ، كَذَلِكَ الزَّرْعُ وَالْغَرْسُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُ لَا يَكْمُلُ الْإِحْيَاءُ ، وَلَا يَتِمُّ الْمِلْكُ إِلَّا بِالزَّرْعِ وَالْغَرْسِ بَعْدَ الْحَرْثِ : لِأَنَّهُ مِنْ تَمَامِ الْعِمَارَةِ ، وَمَثَابَةُ السُّكْنَى بَعْدَ الْبِنَاءِ بِمَثَابَةِ الْحَصَادِ بَعْدَ الزَّرْعِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ : لَا يَكْمُلُ الْإِحْيَاءُ وَلَا يَتِمُّ الْمِلْكُ إِلَّا بِالزَّرْعِ أَوِ الْغَرْسِ ثُمَّ بِالسَّقْيِ ، فَمَا لَمْ يُسْقَ لَمْ يَكْمُلِ الْإِحْيَاءُ : لِأَنَّ الْعِمَارَةَ لَمْ تَكْمُلْ ، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَصَحُّهَا ، فَإِذَا كَمُلَ الْإِحْيَاءُ بِمَا وَصَفْنَا ، وَاسْتَقَرَّ مِلْكُ الْمُحْيِي عَلَيْهَا بِمَا بَيَّنَّا ، فَهِيَ أَرْضُ عُشْرٍ وَلَيْسَتْ أَرْضَ خَرَاجٍ ، سَوَاءٌ سُقِيَتْ بِمَاءِ الْعُشْرِ ، أَوْ بِمَاءِ الْخَرَاجِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَبُو يُوسُفَ : إِنْ سَاقَ إِلَيْهَا مَاءَ الْخَرَاجِ وَسَقَاهَا بِهِ فَهِيَ أَرْضُ خَرَاجٍ ، وَإِنْ سَاقَ إِلَيْهَا مَاءَ الْعُشْرِ فَسَقَاهَا بِهِ فَهِيَ أَرْضُ عُشْرٍ ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : إِنْ كَانَتِ الْأَرْضُ الْمُحَيَّاةُ عَلَى أَنْهَارٍ احْتَفَرَتْهَا الْأَعَاجِمُ فَهِيَ أَرْضُ خَرَاجٍ ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى أَنْهَارٍ أَجْرَاهَا اللَّهُ تَعَالَى كَدِجْلَةَ ، وَالْفُرَاتِ ، وَالنِّيلِ ، وَالْبَحْرِ فَهِيَ أَرْضُ عُشْرٍ ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْعِرَاقِيُّونَ عَلَى أَنَّ مَا أُحْيِيَ مِنْ مَوَاتِ الْبَصْرَةِ وَسِبَاخِهَا أَرْضُ عُشْرٍ ، أَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فَلِأَنَّ دِجْلَةَ الْبَصْرَةِ مِمَّا أَجْرَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْأَنْهَارِ ، وَمَا عَلَيْهَا مِنَ الْأَنْهَارِ الْمُحْدَثَةِ ، فَهِيَ مُحَيَّاةٌ احْتَفَرَهَا الْمُسْلِمُونَ فِي الْمَوَاتِ ، وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِي عِلَّةِ ذَلِكَ عَلَى قَوْلِهِ ، فَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي ذَلِكَ أَنَّ مَاءَ دِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ يَسْتَقِرُّ فِي الْبَطَائِحِ فَيَنْقَطِعُ حُكْمُهُ وَيَذْهَبُ الِانْتِفَاعُ بِهِ ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى دِجْلَةَ وَالْبَصْرَةِ فَلَا يَكُونُ مِنْ مَاءِ الْخَرَاجِ : لِأَنَّ الْبَطَائِحَ لَيْسَتْ مِنْ أَنْهَارِ الْخَرَاجِ ، وَهَذَا قَوْلُ طَلْحَةَ بْنَ آدَمَ ، وَقَالَ آخَرُونَ : إِنَّ عِلَّةَ ذَلِكَ وَمَعْنَاهُ أَنَّ مَاءَ الْخَرَاجِ يَفِيضُ إِلَى دِجْلَةِ الْبَصْرَةِ فِي حِرْزِهَا ، وَأَرْضُ الْبَصْرَةِ يَشْرَبُ مِنْ مَدِّهَا ، وَالْمَدُّ مِنَ الْبَحْرِ وَلَيْسَ مِنْ دِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ ، وَهَذَا تَعْلِيلٌ جَعَلُوهُ عُذْرًا لِمَذْهَبِهِمْ حِينَ شَاهَدُوا الصَّحَابَةَ وَمَنْ تَعَقَّبَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَدْ أَجْمَعُوا عِنْدَ إِحْيَاءِ الْبَصْرَةِ وَهِيَ أَوَّلُ مِصْرٍ بُنِيَ فِي الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّهَا أَرْضُ عُشْرٍ لَمْ يُضْرَبْ عَلَيْهَا خَرَاجٌ ، وَلَيْسَتِ الْعِلَّةُ فِيهِ إِلَّا أَنَّهُ مَوَاتٌ اسْتُحْدِثَ إِحْيَاؤُهُ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَوَاتٍ أُحْيِيَ ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حُكْمُ الْأَرْضِ مُعْتَبَرًا بِمَائِهَا حَتَّى تَصِيرَ أَرْضُ الْعُشْرِ خَرَاجًا بِمَاءِ الْخَرَاجِ لَوَجَبَ أَنْ تَصِيرَ أَرْضُ الْخَرَاجِ عُشْرًا بِمَاءِ الْعُشْرِ ، وَفِي تَرْكِهِمْ لِلْقَوْلِ بِذَلِكَ فِي مَاءِ الْعُشْرِ إِبْطَالٌ لِمَا قَالُوهُ فِي مَاءِ الْخَرَاجِ ، وَلِأَنَّ الْأَرْضَ أَصْلٌ ، وَالْمَاءَ فَرْعٌ ، لِأَمْرَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَاءَ قَدْ يُصَرَّفُ عَنْ أَرْضٍ إِلَى أُخْرَى وَيُسَاقُ إِلَيْهَا مَاءُ أَرْضٍ أُخْرَى . وَالثَّانِي : أَنَّ الْخَرَاجَ مَضْرُوبٌ عَلَى الْأَرْضِ دُونَ الْمَاءِ ، وَالْعُشْرَ مُسْتَحَقٌّ فِي الزَّرْعِ دُونَ الْأَرْضِ وَالْمَاءِ إِذَا كَانَ الْمَاءُ فَرْعًا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ أَحَدُ الْحَقَّيْنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْتَبَرَ بِهِ وَاحِدٌ مِنَ الْحَقَّيْنِ .
فَصْلٌ : وَإِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ حَفْرَ بِئْرٍ بِالْبَادِيَةِ ، فَإِحْيَاؤُهَا يَكُونُ بِحَفْرِهَا حَتَّى يَصِلَ إِلَى مَائِهَا ، فَمَا لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ فَالْإِحْيَاءُ غَيْرُ تَامٍّ فما الحكم إن وصل إلى الماء ، فَإِذَا وَصَلَ إِلَى الْمَاءِ نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَتِ الْأَرْضُ صُلْبَةً لَا تَحْتَاجُ إِلَى طَيٍّ فَقَدْ كَمُلَ الْإِحْيَاءُ وَتَمَّ الْمِلْكُ ، وَإِنْ كَانَتِ الْأَرْضُ رَخْوَةً لَا تَسْتَغْنِي عَنْ طَيٍّ صَارَ الطَّيُّ مِنْ كَمَالِ الْإِحْيَاءِ ، فَمَا لَمْ يُطْوَ فَالْإِحْيَاءُ لَمْ يَكْمُلْ ، فَإِذَا كَمُلَ الْإِحْيَاءُ نُظِرَ ، فَإِنْ حَفَرَهَا لِلسَّابِلَةِ صَارَتْ سَبِيلًا عَلَى ذِي كَبِدٍ حَيٍّ مِنْ آدَمِيٍّ ، أَوْ بَهِيمَةٍ ، وَيَكُنْ حَافِرُهَا كَأَحَدِهِمْ ، فَقَدْ وَقَفَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِرَدْمِهِ فَكَانَ يَغْتَرِفُ بِدَلْوِهِ مَعَ النَّاسِ ، وَإِنْ حَفَرَهَا لِنَفْسِهِ فَقَدْ مَلَكَهَا وَحَرِيمَهَا ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ فَضْلَ مَائِهَا ، فَلَوْ أَرَادَ سَدَّهَا مُنِعَ مِنْهُ ، لِمَا تَعَلَّقَ بِفَضْلِ مَائِهَا مِنْ حُقُوقِ السَّابِلَةِ ، وَهَكَذَا لَوْ حَفَرَ نَهْرًا أَوْ سَاقَ عَيْنًا ، كَانَ فِي حُكْمِ الْبِئْرِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَهُ مَرَافِقُهَا الَّتِي لَا يَكُونُ صَلَاحُهَا إِلَّا بِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَكَذَا كَمَا قَالَ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَنْ أَحْيَا أَرْضًا فَقَدْ مَلَكَهَا وَحَرِيمَهَا بِدَلِيلِ مَا قَدَّمْنَاهُ عَلَى دَاوُدَ فِيمَا تَفَرَّدَ بِهِ عَنِ الْكَافَّةِ فِي إِبْطَالِ الْحَرِيمِ ، فَإِذَا كَانَ حَرِيمُ الْأَرْضِ مِنْ حُقُوقِهَا فَهُوَ عِنْدَنَا مُعْتَبَرٌ بِالْعُرْفِ فِيمَا لَا تَسْتَغْنِي الْأَرْضُ عَنْهُ مِنْ مَرَافِقِهَا وَلَيْسَ بِحُدُودٍ ، فَإِنْ كَانَتِ الْأَرْضُ الْمُحَيَّاةُ كَانَ حَرِيمُهَا طَرَفَهَا وَمَفِيضَ مَائِهَا ، وَيَبْدُرُ زَرْعُهَا ، وَمَا لَا تَسْتَغْنِي عَنْهُ مِنْ مَرَافِقِهَا ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : حَرِيمُهَا مَا لَمْ يَبْلُغْهُ مَاؤُهَا وَبَعُدَ مِنْهَا . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : حَرِيمُهَا مَا انْتَهَى إِلَيْهَا صَوْتُ الْمُنَادِي مِنْ حُدُودِهَا ، وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ تَرْكِيبٌ لِقَدْرٍ لَمْ يَرْكَبْهُ شَرْعٌ ، وَلَا اقْتَضَاهُ مَعْهُودٌ ، وَلَا أَوْجَبَهُ قِيَاسٌ ، وَلَيْسَ لِمَا لَمْ يُوجِبْهُ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا بِالْعُرْفِ فِيمَا لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ .
فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الْمُحَيَّا دَارًا فَحَرِيمُهَا طَرِيقُهَا وَفِنَاؤُهَا ، وَلِمَا مُصِّرَتِ الْبَصْرَةُ وَجُعِلَتْ خُطَطًا لِقَبَائِلِ أَهْلِهَا ، جُعِلَ عَرْضُ كُلِّ شَارِعٍ مِنْ شَوَارِعِهَا عِشْرِينَ ذِرَاعًا إِلَّا الْأَعْظَمَ مِنْ شَوَارِعِهَا فَإِنَّهُمْ جَعَلُوهُ سِتِّينَ ذِرَاعًا ، وَجَعَلُوا عَرْضَ كُلِّ زُقَاقٍ تِسْعَ أَذْرُعٍ ، وَجَعَلُوا فِي وَسَطِ كُلِّ قَبِيلَةٍ رَحَبَةً فَسِيحَةً لِمَرَابِطِ خَيْلِهِمْ وَمَقَابِرِ مَوْتَاهُمْ ، وَقَدْ رَوَى بَشِيرُ بْنُ كَعْبٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : إِذَا اخْتَلَفَ الْقَوْمُ فِي طَرِيقٍ فَلْيُجْعَلْ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ ، وَهَذَا إِنَّمَا قَالَهُ اخْتِيَارًا لَا حَتْمًا : لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ حَدًّا فِيمَا أَحْيَاهُ لِأَصْحَابِهِ بِالْمَدِينَةِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْبِئْرُ وَالنَّهْرُ ، فَحَرِيمُهَا مُعْتَبَرٌ بِالْعُرْفِ أَيْضًا مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ ، وَكَذَلِكَ الْعَيْنُ وَهُوَ قَدْرُ مَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَيْهِ فِيمَا حَوْلَهَا ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : حَرِيمُ الْعَيْنِ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ ، وَحَرِيمُ بِئْرِ النَّاضِجِ خَمْسُونَ ذِرَاعًا .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : حَرِيمُ بِئْرِ الْعَطَنِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ رِشَاؤُهُ أَبْعَدَ فَتَكُونَ لَهُ مُنْتَهَى رِشَائِهِ ، وَحَرِيمُ النَّهْرِ مَلْقَى طِينَةٍ عِنْدَ حَفْرِهِ ، وَحَرِيمُ الْفَنَاءِ مَا لَمْ يَسْمَحْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَكَانَ جَامِعًا لِلْمَاءِ ، وَالْعُرْفُ فِي ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ تَحْدِيدِ مَا لَمْ يَتَقَدَّرْ شَرْعًا ، وَلَا قِيَاسًا ، فَلَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مَوَاتٍ فَمَلَكَهَا وَحَرِيمَهَا ثُمَّ حَفَرَ آخَرَ مِنْ بَعْدِ الْحَرِيمِ بِئْرًا أُخْرَى فَنَضَبَ مَاءُ الْأُولَى إِلَيْهَا وَغَارَ فِيهَا . قَالَ مَالِكٌ : يُمْنَعُ الثَّانِي وَيَطِمُّ عَلَيْهِ بِئْرُهُ ، وَهَكَذَا لَوْ حَفَرَ الثَّانِي بِئْرًا طَهُورًا فَتَغَيَّرَ مَاءُ الْأُولَى طَمَّتِ الثَّانِيَةُ عَلَى صَاحِبِهَا ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ بِئْرَ الثَّانِي مُقَرَّةٌ وَإِنْ نَضَبَ بِهَا مَاءُ الْأُولَى أَوْ تَغَيَّرَ : لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْأَوَّلِ فِيمَا جَاوَزَ حَرِيمَ مِلْكِهِ وَلَوِ اسْتَحَقَّ الْمَنْعَ لِتَقْدِيرِ الْحَرِيمِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَمَنْ أَقْطَعَ أَرْضًا ، أَوْ تَحَجَّرَهَا فَلَمْ يُعْمِرْهَا حكمه رَأَيْتُ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَقُولَ لَهُ : إِنْ أَحْيَيْتَهَا ، وَإِلَّا خَلَّيْنَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَنْ يُحْيِيهَا ، فَإِنْ تَأَجَّلَهُ رَأَيْتُ أَنْ يَفْعَلَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا تَحَجَّرَ أَرْضٌ مَوَاتٌ بِإِقْطَاعٍ أَوْ غَيْرِ إِقْطَاعٍ ، فَقَدْ صَارَ بِالْحَجْرِ عَلَيْهَا أَحَقَّ النَّاسِ بِهَا ، لِثُبُوتِ يَدِهِ عَلَيْهَا ، وَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَأْخُذَ فِي الْإِحْيَاءِ وَيَشْرَعَ فِي الْعِمَارَةِ ، فَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فِيهَا وَهُوَ أَحَقُّ النَّاسِ بِهَا حَتَّى يَسْتَكْمِلَ الْعِمَارَةَ وَيُتِمَّ الْإِحْيَاءَ ، فَلَوْ غَلَبَ عَلَيْهَا وَأَكْمَلَ الْمُتَغَلِّبُ إِحْيَاءَهَا فَذَلِكَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ قَدْ تَغَلَّبَ عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ يَشْرَعَ الْمُحْيِي فِي عِمَارَتِهَا ، فَيَكُونُ مِلْكًا لِلْمُتَغَلِّبِ الْمُحْيِي دُونَ الْمُحْجِرِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ قَدْ تَغَلَّبَ عَلَيْهَا بَعْدَ أَنْ شَرَعَ الْمُحْجِرُ فِي عِمَارَتِهَا وَقَبْلَ اسْتِكْمَالِهَا ، فَأَكْمَلَ الْمُتَغَلِّبُ الْإِحْيَاءَ وَتَمَّمَ الْعِمَارَةَ فَفِيهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا مِلْكٌ لِلْمُحْجِرِ ، لِمَا اسْتَقَرَّ مِنْ ثُبُوتِ يَدِهِ وَتَقَدُّمِ عِمَارَتِهِ ، وَيَصِيرُ الْمُتَغَلِّبُ مُتَطَوِّعًا بِنَفَقَتِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا مِلْكٌ لِلْمُتَغَلِّبِ الْمُحْيِي : لِأَنَّهُ أَحْدَثَ مَا بِهِ يَتِمُّ الْإِحْيَاءُ وَيَسْتَقِرُّ الْمِلْكُ .
فَصْلٌ : وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُوَلِّيَهَا الْمُحْجِرُ لِغَيْرِهِ وَيُسَلِّمَهَا إِلَيْهِ فَهَذَا جَائِزٌ ، وَيَصِيرُ الثَّانِي أَحَقَّ بِهَا مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ : لِأَنَّ الْأَوَّلَ قَدْ أَقَامَهُ فِيهَا مَقَامَ نَفْسِهِ وَلَيْسَتْ هِبَةً مِنْهُ وَإِنَّمَا هِيَ تَوْلِيَةٌ وَإِيثَارٌ ، وَهَكَذَا لَوْ مَاتَ الْمُحْجِرُ كَانَ وَارِثُهُ قَائِمًا مَقَامَهُ فِي إِحْيَائِهَا وَأَحَقَّ النَّاسِ بَعْدَهُ : لِأَنَّ حُقُوقَهُ بِمَوْتِهِ تَصِيرُ مُنْتَقِلَةً إِلَى وَرَثَتِهِ ، فَأَمَّا إِنْ جُنَّ الْمُحْجِرُ فَلَا حَقَّ فِيهَا لِوَرَثَتِهِ : لِأَنَّ الْحَيَّ لَا يُورَثُ وَلَكِنْ يَقُومُ وَلِيُّهُ مَقَامَهُ فِي إِحْيَائِهَا لِلْمُحْجِرِ الْمَجْنُونِ لَا لِنَفْسِهِ ، فَإِنْ أَحْيَاهَا الْوَلِيُّ لِنَفَسِهِ صَارَ كَمَنْ غَلَبَ عَلَى أَرْضٍ مَوَاتٍ قَدْ حَجَرَهَا إِنْسَانٌ فَأَحْيَاهَا فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى .
فَصْلٌ : وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَبِيعَهَا الْمُحْجِرُ قَبْلَ الْعِمَارَةِ ، فَفِي جَوَازِ بَيْعِهِ وَجْهَانِ :
أَحَدُهُمَا : وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَطَائِفَةٍ أَنَّ بَيْعَهَا جَائِزٌ : لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَوْلَى بِهَا يَدًا جَازَ أَنْ يَكُونَ بِهَا أَوْلَى بَيْعًا ، وَقَدْ أَشَارَ الشَّافِعِيُّ إِلَى هَذَا فِي كِتَابِ السِّيَرِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ الْأَظْهَرُ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ ، وَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي جُمْهُورِ كُتُبِهِ : أَنَّ بَيْعَهَا لَا يَجُوزُ : لِأَنَّهُ بِالتَّحْجِيرِ لَمْ يَمْلِكْ وَإِنَّمَا مَلَكَ أَنْ يَمْلِكَ كَالشَّفِيعِ الَّذِي يَمْلِكُ بِالشُّفْعَةِ أَنْ يَتَمَلَّكَ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَبِيعَ قَبْلَ أَنْ يَمْلِكَ ، فَإِذَا قُبِلَ بِجَوَازِ الْبَيْعِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَالثَّمَنُ لَازِمٌ لِلْمُشْتَرِي أَحْيَا ، أَوْ لِمَ يُحْيِ ، فَلَوْ أَحْيَاهَا غَيْرُ الْمُشْتَرِي مُتَغَلِّبًا عَلَيْهَا صَارَتْ مِلْكًا لِلْمُتَغَلِّبِ الْمُحْيِي ، وَفِي سُقُوطِ الثَّمَنِ عَنِ الْمُشْتَرِي وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ . أَحَدُهُمَا : وَهُوَ اخْتِيَارُهُ أَنَّ الثَّمَنَ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ : لِأَنَّهُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ أَتَى . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الثَّمَنَ قَدْ سَقَطَ عَنْهُ : لِأَنَّهُ مِنْ قَبِلِ الْمَبِيعِ صَارَ مُسْتَهْلِكًا قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الْأَرْضِ بِالْإِحْيَاءِ وَإِذَا قِيلَ بِبُطْلَانِ الْبَيْعِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَإِنْ أَحْيَاهَا غَيْرُ الْمُشْتَرِي فَإِنْ تَغَلَّبَ عَلَيْهَا فَهِيَ مِلْكٌ لِلْمُحْيِي ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُشْتَرِي ، فَإِنْ أَحْيَاهَا الْمُشْتَرِي نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ أَنْ حُكِمَ بِفَسْخِ الْبَيْعِ فَهِيَ مِلْكٌ لِلْمُشْتَرِي الْمُحْيِي ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْحُكْمِ بِفَسْخِ الْبَيْعِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا مِلْكٌ لِلْمُشْتَرِي أَيْضًا : لِأَنَّ بِإِحْيَائِهَا صَارَتْ مِلْكًا كَمَا لَوْ كَانَ الْمُحْيِي مُتَغَلِّبًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا مِلْكٌ لِلْبَائِعِ الْمُحْجِرِ : لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَصَدَ أَنْ يَمْلِكَهَا بِالثَّمَنِ دُونَ الْإِحْيَاءِ فَإِذَا لَمْ يَلْزَمْهُ الثَّمَنُ لِفَسَادِ الْبَيْعِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ الْمِلْكُ .
فَصْلٌ : وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَمْسِكَهَا الْمُحْجِرُ بِيَدِهِ مَوَاتًا لَا يَأْخُذُ فِي عِمَارَتِهَا فَيُنْظَرُ ، فَإِنْ كَانَ فِي تَرْكِ الْعِمَارَةِ مَعْذُورًا تُرِكَ ، وَلَمْ يُعْتَرَضْ عَلَيْهِ فِيهَا ، وَإِنْ أَخَّرَ الْعِمَارَةَ غَيْرَ مَعْذُورٍ ، فَعَلَى السُّلْطَانِ أَنْ يَقُولَ لَهُ : إِنْ أَحْيَيْتَهَا وَأَخَذْتَ فِي عِمَارَتِهَا ، وَإِلَّا رَفَعْتَ يَدَكَ عَنْهَا وَخَلَّيْنَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَنْ يُحْيِيهَا وَيُعْمِرُهَا : لِأَنْ لَا يَصِيرَ مُضِرًّا بِالْحِمَى وَتَعْطِيلِ الْعِمَارَةِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُؤَجَّلُ ثَلَاثَ سِنِينَ لَا يُخَاطَبُ فِيهَا ، فَإِنْ لَمْ يُحْيِهَا حَتَّى مَضَتِ السِّنِينَ الثَّلَاثَ فَلَا حَقَّ لَهُ فِيهَا ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَعَلَ أَجَلَ الْإِقْطَاعِ ثَلَاثَ سِنِينَ ، وَهَذَا الْقَوْلُ لَا وَجْهَ لَهُ ، وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِنَّمَا جَعَلَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ لِمَصْلَحَةٍ رَآهَا ، وَلَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ أَجَلًا شَرْعِيًّا : لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُقَدِّرْ فِيهَا أَجَلًا ، فَلَوْ أَنَّ الْمُحْجِرَ حِينَ أَمَرَهُ السُّلْطَانُ بِالْإِحْيَاءِ أَوْ رَفْعِ يَدِهِ سَأَلَ التَّأْجِيلَ ، وَالْإِنْظَارَ أَجَّلَهُ مُدَّةً قَرِيبَةً إِنْ ظَهَرَ لَهُ أَعْذَارٌ وَيُرْجَى قُرْبُ زَوَالِهَا مِنْ إِعْدَادِ آلَةٍ ، أَوْ جَمْعِ رِجَالِهِ ، أَوْ قَدُومِ مَالٍ قَرِيبِ الْغَيْبَةِ ، وَلَا يُؤَجَّلُ مَا يَطُولُ زَمَانُهُ ، أَوْ مَا لَا تَظْهَرُ فِيهِ أَعْذَارُهُ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .
بَابُ مَا يَجُوزُ أَنْ يُقْطَعَ وَمَا لَا يَجُوزُ
بَابُ مَا يَجُوزُ أَنْ يُقْطَعَ وَمَا لَا يَجُوزُ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " مَا لَا يَمْلِكُهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ يُعْرَفُ صِنْفَانِ أَحَدُهُمَا مَا مَضَى ، وَلَا يَمْلِكُهُ إِلَّا بِمَا يَسْتَحْدِثُهُ فِيهِ ، وَالثَّانِي مَا لَا تُطْلَبُ الْمَنْفَعَةُ فِيهِ إِلَّا بِشَيْءٍ يَجْعَلُ فِيهِ غَيْرَهُ ، وَذَلِكَ الْمَعَادِنُ الظَّاهِرَةُ ، وَالْبَاطِنَةُ مِنَ الذَّهَبِ ، وَالتِّبْرِ ، وَالْكُحْلِ ، وَالْكِبْرِيتِ وَالْمِلْحِ وَغَيْرِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَجُمْلَةُ مَا لَمْ يَمْلِكْهُ مِنَ الْأَرْضِ ضَرْبَانِ مَعَادِنُ وَمَوَاتٌ ، فَأَمَّا الْمَوَاتُ فَقَدِ انْقَضَى حُكْمُهُ ، وَأَمَّا الْمَعَادِنُ مناها وحكمها فَهِيَ الْبِقَاعُ الَّتِي أَوْدَعَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ جَوَاهِرَ الْأَرْضِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ ، لِإِقَامَةِ الْجَوَاهِرِ فِيهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى : جَنَّاتِ عَدْنٍ أَيْ جَنَّاتِ إِقَامَةٍ ، غَيْرَ أَنَّ الْمُزَنِيَّ أَخْطَأَ فِي نَقْلِهِ حِينَ نَقَلَ ، فَقَالَ : مَا لَا يُطْلَبُ الْمَنْفَعَةُ فِيهِ إِلَّا بِشَيْءٍ يُجْعَلُ فِيهِ غَيْرُهُ ، وَهَذِهِ صِفَةُ الْمَوَاتِ الَّتِي لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ إِلَّا أَنْ يُجْعَلَ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ غَرْسٍ ، أَوْ زَرْعٍ ، أَوْ بِنَاءٍ ، فَأَمَّا الْمَعَادِنُ فَهِيَ الَّتِي بَطَلَتِ الْمَنْفَعَةُ فِيهَا لَا بِشَيْءٍ يُجْعَلُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ غَرْسٍ ، أَوْ زَرْعٍ ، أَوْ بِنَاءٍ : لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ مَخْلُوقَةٌ فِيهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَأَصْلُ الْمَعَادِنِ صِنْفَانِ : مَا كَانَ ظَاهِرًا كَالْمِلْحِ فِي الْجِبَالِ تَنْتَابُهُ النَّاسُ ، فَهَذَا لَا يَصْلُحُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْطَعَهُ بِحَالٍ ، وَالنَّاسُ فِيهِ شَرْعٌ ، وَهَكَذَا النَّهْرُ ، وَالْمَاءُ الطَّاهِرُ ، وَالنَّبَاتُ فِيمَا لَا يُمْلَكُ لِأَحَدٍ ، وَقَدْ سَأَلَ الْأَبْيَضُ بْنُ حَمَّالٍ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُقْطِعَهُ مِلْحَ مَأْرِبٍ فَأَقْطَعَهُ إِيَّاهُ ، أَوْ أَرَادَهُ فَقِيلَ لَهُ : إِنَّهُ كَالْمَاءِ الْعَدِّ فَقَالَ : " فَلَا إِذَنْ " قَالَ : وَمِثْلُ هَذَا كُلُّ عَيْنٍ ظَاهِرَةٍ كَنَفْطٍ ، أَوْ قِيرٍ ، أَوْ كِبْرِيتٍ ، أَوْ مُومِيَا ، أَوْ حِجَارَةٍ ظَاهِرَةٍ فِي غَيْرِ مِلْكِ أَحَدٍ فَهُوَ كَالْمَاءِ ، وَالْكَلَأِ ، وَالنَّاسُ فِيهِ سَوَاءٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَالْمَعَادِنُ ضَرْبَانِ ظَاهِرَةٌ وَبَاطِنَةٌ ، فَأَمَّا الْبَاطِنَةُ فَيَأْتِي حُكْمُهَا فِيمَا بَعْدُ ، وَأَمَّا الظَّاهِرَةُ فَهُوَ كُلُّ مَا كَانَ ظَاهِرًا فِي مَعْدِنِهِ يُؤْخَذُ عَفْوًا عَلَى أَكْمَلِ أَحْوَالِهِ كَالْمِلْحِ ، وَالنِّفْطِ ، وَالْقَارِ ، وَالْكِبْرِيتِ ، وَالْمُوهِبَا ، وَالْحِجَارَةِ فَهَذِهِ الْمَعَادِنُ الظَّاهِرَةُ حكمها كُلُّهَا لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْطَعَهَا ، وَلَا لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهَا ، وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ فِيهَا شَرْعٌ يَتَسَاوُونَ فِيهَا لَا فَرْقَ بَيْنَ صَغِيرِهِمْ وَكَبِيرِهِمْ ، ذَكَرِهِمْ وَأُنْثَاهُمْ ، مُسَلِمِهِمْ وَكَافِرِهِمْ ، رَوَى ثَابِتُ بْنُ سَعْدٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّ أَبْيَضَ بْنَ حَمَّالٍ اسْتَقْطَعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِلْحَ مَأْرِبٍ فَأَقْطَعَهُ ثُمَّ إِنَّ
الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ التَّمِيمِيَّ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنِّي قَدْ وَرَدْتُ الْمِلْحَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، وَهُوَ بِأَرْضٍ لَيْسَ فِيهَا مِلْحٍ ، وَمَنْ وَرَدَهُ أَخَذَهُ ، وَهُوَ مِثْلُ الْمَاءِ الْعِدِّ بِأَرْضٍ ، فَاسْتَقَالَ الْأَبْيَضَ مِنْ قَطِيعَتِهِ الْمِلْحِ ، فَقَالَ الْأَبْيَضُ : قَدْ أَقَلْتُكَ مِنْهُ عَلَى أَنْ تَجْعَلَهُ مِنِّي صَدَقَةً فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : هُوَ مِنْكَ صَدَقَةٌ ، وَهُوَ مِثْلُ الْمَاءِ الْعِدِّ مَنْ وَرَدَهُ أَخَذَهُ وَرَوَتْ نَهِيسَةُ ، عَنْ أَبِيهَا أَنَّهُ قَالَ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ ؟ قَالَ : الْمَاءُ ، قَالَ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ ، مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ ؟ قَالَ : الْمِلْحُ قَالَ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ قَالَ : أَنْ تَفْعَلَ الْخَيْرَ خَيْرًا لَكَ ، وَأَنَّهُ لَيْسَ الْمَانِعُ بِأَحَقَّ مِنَ الْمَمْنُوعِ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَا فِيهِ سَوَاءً ، وَإِذَا اسْتَوَى النَّاسُ فِي الْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ ، فَإِنْ أَمْكَنَ اشْتِرَاكُ النَّاسِ فِيهِ عِنْدَ الْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ ، وَإِلَّا لَقُدِّمَ الْأَسْبَقُ فَالْأَسْبَقُ فَإِنْ تَسَاوَى مَجِيئُهُمْ ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُقْرَعُ بَيْنَهُمْ فَمَنْ قُرِعَ مِنْهُمْ تَقَدَّمَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُقَدِّمُ السُّلْطَانُ بِاجْتِهَادِهِ مَنْ رَأَى ، فَلَوْ أَقَامَ رَجُلٌ عَلَى الْمَعْدِنِ زَمَانًا يَتَفَرَّدُ بِهِ وَبِمَا فِيهِ نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ مَعَ تَفَرُّدِهِ بِهِ يُمْنَعُ مِنْهُ فَمِنْهُ تَعَدَّى ، وَعَلَى السُّلْطَانِ أَنْ يَرْفَعَ يَدَهُ عَنْهُ ، وَقَدْ مَلَكَ مَا أَخَذَهُ مِنْهُ ، وَإِذَا لَمْ يَمْنَعْ غَيْرُهُ مِنْهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُقِرَّ مَا لَمْ يَكُنْ فِي إِقْرَارِهِ إِدْخَالُ ضَرَرٍ عَلَى غَيْرِهِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُمْنَعُ لَيْلًا بِطُولِ مُكْثِهِ وَيَدُومُ تَصَرُّفُهُ فَيَنْتَقِلُ عَنْ حُكْمِ الْمُبَاحِ إِلَى أَحْكَامِ الْأَمْلَاكِ ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ فِي هَذَيْنِ الْفَرْعَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا : هَلْ لِلسُّلْطَانِ اسْتِحْقَاقُ نَظَرٍ فِيهَا أَمْ لَا ؟ فَلَهُمْ فِيهَا وَجْهَانِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوْ كَانَتْ بُقْعَةً مِنَ السَّاحِلِ يَرَى أَنَّهُ إِنْ حَفَرَ تُرَابًا مِنْ أَعْلَاهَا ثُمَّ دَخَّلَ عَلَيْهَا مَاءً ظَهَرَ لَهَا مِلْحٌ ، كَانَ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُقْطِعَهَا وَلِلْرَجُلِ أَنْ يُعْمِرَهَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَيَمْلِكَهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ : لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي الْحَالِ مَعْدِنًا وَإِنَّمَا هِيَ مَوَاتٌ تَصِيرُ بِالْإِحْيَاءِ مَعْدِنًا ، فَجَازَ إِقْطَاعُهَا كَمَا يَجُوزُ إِقْطَاعُ الْمَوَاتِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ تَفْرِيقِ الْقَطَائِعِ وَغَيْرِهَا
بَابُ تَفْرِيقِ الْقَطَائِعِ وَغَيْرِهَا مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَالْقَطَائِعُ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا مَضَى . وَالثَّانِي : إِقْطَاعُ إِرْفَاقٍ لَا تَمْلِيكٍ مِثْلُ الْمَقَاعِدِ بِالْأَسْوَاقِ الَّتِي هِيَ طَرِيقُ الْمُسْلِمِينَ فَمَنْ قَعَدَ فِي مَوْضِعٍ مِنْهَا لِلْبَيْعِ كَانَ بِقَدْرِ مَا يَصْلُحُ لَهُ مِنْهَا مَا كَانَ مُقِيمًا فِيهِ ، فَإِذَا فَارَقَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُهُ مِنْ غَيْرِهِ كَأَفْنِيَةِ الْعَرَبِ وَفَسَاطِيطِهِمْ ، فَإِذَا انْتَجَعُوا لَمْ يَمْلِكُوا بِهَا حَيْثُ تَرَكُوا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ إِقْطَاعَ السُّلْطَانِ إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ إِلَى مَا كَانَ مُبَاحًا مِنَ الْأَرْضِ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ مِلْكُ مُسْلِمٍ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ : وَلَيْسَ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُعْطِيَ إِنْسَانًا مَا لَا يَحِلُّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ مَوَاتٍ لَا مَالِكَ لَهُ ، وَالسُّلْطَانُ لَا يُحِلُّ لَهُ شَيْئًا ، وَلَا يُحَرِّمُهُ ، وَلَوْ أَعْطَى السُّلْطَانُ أَحَدًا شَيْئًا لَا يَحِلُّ لَهُ حكمه لَمْ يَكُنْ لَهُ أَخْذُهُ ، فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ مَعَ مَا قَدِ اسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ أُصُولُ الشَّرْعِ أَنَّ مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ مِلْكُ آدَمِيٍّ لَمْ يَجُزْ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُقْطِعَهُ أَحَدًا ، وَإِنْ أَقْطَعْهُ جَازَ لِلْمُقْطَعِ أَنْ يَمْلِكَهُ ، فَأَمَّا مَا لَمْ يَسْتَقِرْ عَلَيْهِ مِلْكٌ مِنْ سِبَاخِ الْأَرْضِ فَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ أي ملك السلطان : قِسْمٌ لَا يَجُوزُ إِقْطَاعُهُ ، وَقِسْمٌ يَجُوزُ إِقْطَاعُهُ ، وَقِسْمٌ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي جَوَازِ إِقْطَاعِهِ ، فَأَمَّا مَا لَا يَجُوزُ إِقْطَاعُهُ فَالْمَاءُ وَالْكَلَأُ وَسَائِرُ الْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهَا ، وَأَمَّا مَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي جَوَازِ إِقْطَاعِهِ فَهِيَ الْمَعَادِنُ الْبَاطِنَةُ وَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهَا ، وَأَمَّا مَا يَجُوزُ إِقْطَاعُهُ فَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ يُمْلَكُ بَعْدَ الْإِقْطَاعِ ، وَقِسْمٌ لَا يُمْلَكُ ، وَقِسْمٌ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي تَمْلِيكِهِ ، فَأَمَّا مَا يُمْلَكُ بَعْدَ الْإِقْطَاعِ فَهُوَ الْمَوَاتُ يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ مِلْكًا مُسْتَقِرًّا وَقَدْ مَضَى ، وَأَمَّا مَا يُمْلَكُ بِالْإِقْطَاعِ فَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْبَابِ ، وَهُوَ الِارْتِفَاقُ بِمَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ وَأَقْنِيَةِ الشَّوَارِعِ وَحَرِيمِ الْأَمْصَارِ وَمَنَازِلِ الْأَسْفَارِ ، أَنْ يَجْلِسَ فِيهِ الْبَاعَةُ وَأَنْ تُحَطَّ فِيهِ الرِّحَالُ فَهَذَا مُبَاحٌ ، قَدْ أَقَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّاسَ عَلَيْهِ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ ، وَمَكَّنَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ بَعْدَهُ فِي الْأَمْصَارِ كُلِّهَا فُتُوحَهَا وَمُحَيَّاهَا ، وَلِأَنَّ حَاجَةَ النَّاسِ إِلَى ذَلِكَ مَاسَّةٌ وَضَرُورَتَهُمْ إِلَيْهِ دَاعِيَةٌ فَجَرَى مَجْرَى الِاسْتِطْرَاقِ ، وَالِارْتِفَاقِ ، وَأَمَّا مَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي تَمْلِيكِهِ فَهُوَ الْمَعَادِنُ الْبَاطِنَةُ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ جَوَازُ الِارْتِفَاقِ بِمَا وَصَفْنَا فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : ضَرْبٌ يَخْتَصُّ الِارْتِفَاقُ فِيهِ بِالصَّحَارِي وَالْفَلَوَاتِ ، وَضَرْبٌ يَخْتَصُّ الِارْتِفَاقُ فِيهِ بِأَقْنِيَةِ الْمَنَازِلِ وَالْأَمْلَاكِ ، وَضَرْبٌ يَخْتَصُّ الِارْتِفَاقُ فِيهِ بِأَقْنِيَةِ الشَّوَارِعِ وَالطُّرُقَاتِ . فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ وَهُوَ مَا يَخْتَصُّ الِارْتِفَاقُ فِيهِ بِالصَّحَارِي وَالْفَلَوَاتِ حكمه ، كَمَنَازِلِ الْمُسَافِرِينَ إِذَا حَلُّوا فِي أَسْفَارِهِمْ بِمَنْزِلٍ اسْتِرَاحَةً ، فَلَا نَظَرَ لِلْإِمَامِ عَلَيْهِمْ فِيهِ لِبُعْدِهِ عَنْهُمْ
وَيَجُوزُ لَهُمُ النُّزُولُ حَيْثُ لَا يَضُرُّونَ الْمُجْتَازَ ، وَلَا يَمْنَعُونَ سَائِلًا ثُمَّ لَهُمُ الْمَاءُ وَالْمَرْعَى مِنْ غَيْرِ مَنْعٍ وَلَا حِمًى ، وَهَكَذَا الْبَادِيَةُ إِذَا انْتَجَعُوا أَرْضًا طَلَبًا لِلْمَاءِ وَالْكَلَأِ مَكَثُوا فِيهَا ، وَلَمْ يَزَالُوا عَنْهَا وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوا غَيْرَهُمْ مِنَ انْتِجَاعِهَا وَرَعْيِهَا إِلَّا أَنْ يَضِيقَ بِهِمْ ، فَيَكُونُ السَّابِقُونَ إِلَيْهَا أَوْلَى بِهَا مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ رَوَى يُوسُفُ بْنُ مَاهِكٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَلَا نَبْنِي لَكَ بِمِنًى بِنَاءً يُظَلِّلُكَ مِنَ الشَّمْسِ فَقَالَ : لَا ، إِنَّمَا هُوَ مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ إِلَيْهِ ، فَلَوْ ضَاقَ الْمَنْزِلُ عَنْ جَمِيعِ مَنْ وَرَدَ إِلَيْهِ نَزَلُوا فِيهِ بِحَسَبِ مَسِيرِهِمْ إِلَيْهِ يَتَرَتَّبُونَ النُّزُولَ كَمَا كَانُوا مُتَرَتِّبِينَ فِي الْمَسِيرِ ، فَمَنْ قَصُرَ عَنْهُمْ عَنْ لُحُوقِ الْمَنْزِلِ نَزَلَ حَيْثُ بَلَغَ ، وَلَوْ ضَاقَ بِهِمُ الْمَاءُ فَإِنْ كَانُوا لَوْ تُوَاسَوْا بِهِ عَمَّا لَزِمَهُمْ أَنْ يَتَوَاسَوْا فِيهِ وَمَنَعُوا مِنْ أَنْ يَحُوزَ بَعْضُهُمْ أَكْثَرَ مِنْ حَاجَتِهِ ، وَإِنْ ضَاقَ عَنْ مُوَاسَاتِهِمْ فِيهِ كَانَ الْأَسْبَقُ إِلَيْهِ أَحَقَّ بِقَدْرِ كِفَايَتِهِ عَنْهُمْ ، فَإِنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْمَسْبُوقُ لَمْ يَسْتَرْجِعْ مِنْهُ : لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَهُ بِالْإِحَازَةِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُبَاحًا ، وَإِنْ جَاءُوا إِلَيْهِ عَلَى سَوَاءٍ لَمْ يَسْبِقْ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَهُوَ يَنْقُصُ عَنْ كِفَايَتِهِمِ اقْتَرَعُوا عَلَيْهِ ، فَأَيُّهُمْ قُرِعَ كَانَ أَحَقَّ بِمَا يُمْسِكُ رَمَقَهُ حَتَّى يَرْتَوِيَ الْآدَمِيُّونَ ، وَلَيْسَ لِمَنْ قُرِعَ مِنْهُمْ أَنْ يُقَدِّمَ بَهَائِمَهُ عَلَى ارْتِوَاءِ الْآدَمِيِّينَ ، فَإِذَا ارْتَوَى الْآدَمِيُّونَ جَمِيعًا اسْتُؤْنِفَتِ الْقُرْعَةُ بَيْنَ الْبَهَائِمِ ، وَلَمْ يُحْمَلُوا عَلَى الْقُرْعَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ : لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ يَخْتَلِفُ حُكْمُهُمَا ، وَهَلْ تُسْتَأْنَفُ الْقُرْعَةُ عَلَى أَعْيَانِ الْبَهَائِمِ ، أَوْ عَلَى أَعْيَانِ أَرْبَابِهَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تُسْتَأْنَفَ عَلَى أَعْيَانِ أَرْبَابِهَا تَغْلِيبًا لِحُرْمَةِ الْمِلْكِ ، فَعَلَى هَذَا إِذَا قُرِعَ أَحَدُ أَرْبَابِ الْبَهَائِمِ يَسْقِي جَمِيعَ بَهَائِمِهِ ثُمَّ هَكَذَا مَنْ قُرِعَ بَعْدَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْقُرْعَةَ تُسْتَأْنَفُ عَلَى أَعْيَانِ الْبَهَائِمِ تَغْلِيبًا لِحُرْمَتِهَا ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ أَوْ لَا يُؤْكَلُ ، وَهَذَا أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ . لِأَنَّ حُرْمَةَ النَّفْسِ أَعْظَمُ مِنْ حُرْمَةِ الْمِلْكِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ قَرَعَتِ الْقَرْعَةُ مَالَ رَجُلٍ مَرَّ تَقْدِيمًا لِمَنْ قُرِعَ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي : وَهُوَ مَا يَخْتَصُّ الِارْتِفَاقُ فِيهِ بِأَقْنِيَةِ الْمَنَازِلِ وَالْأَمْلَاكِ حكمه كَمَقَاعِدِ الْبَاعَةِ وَالسُّوقَةِ فِي أَقْنِيَةِ الدُّورِ ، فَيُنْظَرُ فِيهِ ، فَإِنْ أَضَرَّ ذَلِكَ بِأَرْبَابِ الدُّورِ مُنِعُوا مِنَ الْجُلُوسِ إِلَّا بِإِذْنِهِمْ ، وَإِنْ لَمْ يَضُرَّ بِهِمْ نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ الْجُلُوسُ عَلَى عَتَبَةِ الدَّارِ لَمْ يَجُزْ إِلَّا بِإِذْنِ مَالِكِ الدَّارِ ، وَهُوَ أَحَقُّ بِالْإِذْنِ مِنَ الْإِمَامِ ، وَإِنْ كَانَ فِي فِنَاءِ الدَّارِ وَحَرِيمِهَا الَّذِي لَا يَضُرُّ بِالدَّارِ ، وَلَا بِمَالِكِهَا فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُمُ الْجُلُوسُ فِيهِ بِغَيْرِ إِذْنِ مَالِكِهَا : لِأَنَّ حَرِيمَ الدَّارِ مِرْفَقٌ عَامٌّ كَالطَّرِيقِ ، وَلَيْسَ لِرَبِّ الدَّارِ أَنْ يَمْنَعَ مَنْ جَلَسَ ، وَلَا يُقَدِّمَ عَلَيْهِ غَيْرَهُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُمُ الْجُلُوسُ فِيهِ إِلَّا بِإِذْنِ مَالِكِهَا : لِأَنَّ مَالِكَ الدَّارِ أَحَقُّ بِحَرِيمِهَا ، وَلَا يَجُوزُ لِلْمَالِكِ وَإِنْ كَانَ أَحَقَّ بِالْإِذْنِ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِ أُجْرَةً كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِ بِانْفِرَادِهِ ثَمَنًا : لِأَنَّهُ يَقَعُ لِلْمِلْكِ وَلَيْسَ بِمِلْكٍ ، فَلَوْ كَانَ مَالِكُ الدَّارِ مَوْلًى عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَأْذَنَ فِي الْجُلُوسِ فِيهِ : لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ فِي الْمِلْكِ ، وَلَا مُعَاوِضٍ عَلَيْهِ ، وَلَا مُنْتَفِعٍ بِهِ ، وَسَوَاءٌ
كَانَ مَالِكُ الدَّارِ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا ، وَلِمَالِكِ الدَّارِ إِذَا أَجْلَسَ رَجُلًا أَنْ يُقِيمَهُ مِنْهُ إِذَا شَاءَ وَيُقَدِّمَ عَلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ ، فَأَمَّا فِنَاءُ الْمَسْجِدِ فَإِنْ كَانَ فِي الْجُلُوسِ فِيهِ إِضْرَارٌ بِأَهْلِ الْمَسْجِدِ مُنِعُوا مِنْهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِضْرَارٌ بِأَهْلِ الْمَسْجِدِ فَهَلْ يَلْزَمُ اسْتِئْذَانُ الْإِمَامِ فِيهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : إِنْ قِيلَ : إِنَّ فَنَاءَ الْمِلْكِ لَا يَلْزَمُ اسْتِئْذَانُ رَبِّهِ فِيهِ لَمْ يَلْزَمِ اسْتِئْذَانُ الْإِمَامِ فِي فِنَاءِ الْمَسْجِدِ ، وَإِذْنُ الْإِمَامِ إِذْنُ اجْتِهَادٍ فِي الْأَصْلَحِ ، وَسَوَاءٌ فِي فِنَاءِ الْمَسْجِدِ جِيرَانُهُ ، وَالْأَبَاعِدُ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ : وَهُوَ مَا يَخْتَصُّ بِالِارْتِفَاقِ فِيهِ بِأَقْنِيَةِ الشَّوَارِعِ وَالطُّرُقَاتِ حكمه أَنْ يَجْلِسَ فِيهَا السُّوقَةُ بِأَمْتِعَتِهِمْ لِيَبِيعُوا وَيَشْتَرُوا ، فَهَذَا مُبَاحٌ لِمَا قَدَّمْنَا مِنَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ ، وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي حُكْمِ نَظَرِ الْإِمَامِ فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ نَظَرَهُ فِيهِ مَقْصُورٌ عَلَى كَفِّهِمْ عَنِ التَّعَدِّي وَمَنْعِهِمْ مِنَ الْإِضْرَارِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ جَالِسًا وَلَا أَنْ يُقَدِّمَ أَحَدًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ نَظَرَهُ نَظَرُ مُجْتَهِدٍ فِيمَا يَرَاهُ صَلَاحًا مِنْ إِجْلَاسِ مَنْ يُجْلِسُهُ ، وَمَنْعِ مَنْ يَمْنَعُهُ ، وَتَقْدِيمِ مَنْ يُقَدِّرُهُ ، كَمَا يَجْتَهِدُ فِي أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ ، فَإِذَا أَخَذَ الْبَاعَةُ مَقَاعِدَهُمْ فِي أَقْنِيَةِ الْأَسْوَاقِ وَالطُّرُقَاتِ ، رُوعِيَ فِي جُلُوسِهِمْ أَلَّا يَضُرُّوا بِمَارٍ ، وَلَا يُضَيِّقُوا عَلَى سَائِلٍ ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ أُجْرَةَ مَقَاعِدِهِمْ ، فَلَوْ جَلَسَ رَجُلٌ بِمَتَاعِهِ فِي مَكَانٍ فَجَاءَ غَيْرُهُ لِيُقِيمَهُ مِنْهُ وَيَجْلِسَ مَكَانَهُ لَمْ يَجُزْ مَا كَانَ الْأَوَّلُ جَالِسًا بِمَتَاعِهِ ، فَلَوْ قَامَ وَمَتَاعُهُ فِي الْمَكَانِ فَهُوَ عَلَى حَقِّهِ فِيهِ وَمَنَعَ غَيْرَهُ مِنْهُ ، فَإِذَا قَامُوا مِنْ مَقَاعِدِهِمْ بِأَمْتِعَتِهِمْ عِنْدَ دُخُولِ اللَّيْلِ ثُمَّ غَدَوْا إِلَيْهَا مِنَ الْغَدِ كَانَ كُلُّ مَنْ سَبَقَ إِلَى مَكَانٍ أَحَقَّ بِهِ ، وَلَا يَسْتَحِقُّ الْعَوْدَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ وَعُرِفَ بِهِ ، وَقَالَ مَالِكٌ : إِذَا عُرِفَ أَحَدُهُمْ بِمَكَانِهِ طَالَ جُلُوسُهُ فِيهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ بِقَطْعِ التَّنَازُعِ وَوُقُوعِ الِاخْتِلَافِ وَهَذَا عَنْهُ صَحِيحٌ ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنًى مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ وَلِأَنَّهُ لَوْ جُعِلَ أَحَقَّ بِهِ لَصَارَ فِي حُكْمِ مِلْكِهِ وَلِحِمَاهُ عَنْ غَيْرِهِ فَلَوْ تَنَازَعَ رَجُلَانِ فِي مَقْعَدٍ وَلَمْ يُمْكِنْهُمَا الْجُلُوسُ بِنَاءً عَلَى نَظَرِ الْإِمَامِ فِيهِ . أَحَدُهُمَا : يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا فَأَيُّهُمَا قُرِعَ كَانَ بِهِ أَحَقَّ ، وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجْعَلُ نَظَرَ الْإِمَامِ مَقْصُورًا عَلَى مَنْعِ الضَّرَرِ وَقَطْعِ التَّنَازُعِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْإِمَامَ يَجْتَهِدُ رَأْيَهُ فِي إِجْلَاسِ مَنْ يَرَى مِنْهُمَا ، وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجْعَلُ نَظَرَ الْإِمَامِ نَظَرَ اجْتِهَادٍ وَمَصْلَحَةٍ ، فَلَوْ أَقْطَعَ الْإِمَامُ رَجُلًا مَوْضِعًا مِنْ مَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ لِيَبِيعَ فِيهِ مَتَاعَهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَحَقُّ بِالْمَكَانِ مَا لَمْ يَسْبِقْ إِلَيْهِ ، فَإِنْ سَبَقَ إِلَيْهِ كَانَ السَّابِقُ أَحَقَّ بِهِ ، وَهَذَا إِذَا قِيلَ : إِنَّ نَظَرَهُ مَقْصُورٌ عَلَى مَنْعِ الضَّرَرِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ أَحَقُّ مِنَ السَّابِقِ بِذَلِكَ الْمَكَانِ ، وَهَذَا إِذَا قِيلَ : إِنَّ نَظَرَهُ اجْتِهَادٌ فِي الْأَصْلَحِ ، فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَلِفَ مَقْعَدًا فِي فِنَاءِ طَرِيقٍ حَتَّى تَقَادَمَ عَهْدُهُ فِيهِ وَعُرِفَ بِهِ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ :
أَحَدُهُمَا : يَقَرُّ فِي مَكَانِهِ مَا لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهِ غَيْرُهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُقَامُ عَنْهُ وَيُمْنَعُ مِنْهُ لِئَلَّا يَصِيرَ زَرِيعَةً إِلَى تَمَلُّكِهِ وَادِّعَائِهِ ، فَلَوْ أَرَادَ رَجُلٌ أَنْ يَبْنِيَ فِي مَقْعَدٍ مِنْ فَنَاءِ السُّوقِ بِنَاءً مُنِعَ : لِأَنَّ إِحْدَاثَ الْأَبْنِيَةِ يُسْتَحَقُّ فِي الْأَمْلَاكِ ، وَأَمَّا إِذَا حَلَّقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَسَاجِدِ ، وَالْجَوَامِعِ حِلَقًا مُنِعَ النَّاسُ مِنَ اسْتِطْرَاقِهَا وَالِاجْتِيَازِ فِيهَا ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَا حِمَى إِلَّا فِي ثَلَاثٍ : ثُلَّةِ الْبِئْرِ ، وَطُولِ الْفَرَسِ ، وَحَلْقَةِ الْقَوْمِ فَلَوْ عُرِفَ فَقِيهٌ بِالْجُلُوسِ مَعَ أَصْحَابِهِ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْجَامِعِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُ مَنْ سَبَقَ إِلَيْهِ وَكَانَ السَّابِقُ أَحَقَّ بِهِ ، وَقَالَ مَالِكٌ : قَدْ صَارَ مَنْ عُرِفَ بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْقُرَّاءِ أَحَقَّ بِهِ ، وَلَهُ مَنْعُ مَنْ سَابَقَ إِلَيْهِ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
بَابُ إِقْطَاعِ الْمَعَادِنِ وَغَيْرِهَا
بَابُ إِقْطَاعِ الْمَعَادِنِ وَغَيْرِهَا مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَفِي إِقْطَاعِ الْمَعَادِنِ حكمه قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يُخَالِفُ إِقْطَاعَ الْأَرْضِ : لِأَنَّ مَنْ أَقْطَعَ أَرْضًا فِيهَا مَعَادِنُ ، أَوْ عَمِلَهَا وَلَيْسَتْ لِأَحَدٍ سَوَاءٌ كَانَتْ ذَهَبًا ، أَوْ فِضَّةً ، أَوْ نُحَاسًا ، أَوْ مَا لَا يَخْلُصُ إِلَا بِمُؤْنَةٍ : لِأَنَّهُ بَاطِنٌ مُسْتَكِنٌّ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ تُرَابٍ أَوْ حِجَارَةٍ كَانَتْ هَذِهِ كَالْمَوَاتِ فِي أَنَّ لَهُ أَنْ يُقْطِعَهُ إِيَّاهَا ، وَمُخَالِفَةٌ لِلْمَوَاتِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، فَإِنَّ الْمَوَاتَ إِذَا أُحْيِيَتْ مَرَّةً ثَبَتَ إِحْيَاؤُهَا ، وَهَذِهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ يُبْتَدَأُ إِحْيَاؤُهَا لِبُطُونِ مَا فِيهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَعَادِنَ ضَرْبَانِ ظَاهِرَةٌ وَبَاطِنَةٌ فما حكم إقطاعها ؟ ، وَذَكَرْنَا أَنَّ الظَّاهِرَةَ مِنْهَا لَا يَجُوزُ إِقْطَاعُهَا ، فَأَمَّا الْبَاطِنَةُ وَهِيَ الَّتِي لَا شَيْءَ فِي ظَاهِرِهَا حَتَّى تُحْفَرَ أَوْ تُقْطَعَ ، فَيَظْهَرَ مَا فِيهَا بِالْحَفْرِ وَالْقَطْعِ كَمَعَادِنِ الْفِضَّةِ ، وَالذَّهَبِ ، وَالنُّحَاسِ ، وَالْحَدِيدِ ، سَوَاءٌ احْتَاجَ مَا فِيهَا إِلَى سَبْكٍ وَتَخْلِيصٍ كَالْفِضَّةِ ، وَالنُّحَاسِ ، أَوْ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى ذَلِكَ كَالتِّبْرِ مِنَ الذَّهَبِ ، فَفِي جَوَازِ إِقْطَاعِهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ إِقْطَاعَهَا لَا يَجُوزُ ، وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ فِيهَا شَرْعٌ يَتَسَاوَى جَمِيعُهُمْ فِي تَنَاوُلِ مَا فِيهَا كَالْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي يَتَسَاوَى النَّاسُ فِيهَا ، وَلَا يَجُوزُ إِقْطَاعُهَا : لِأَنَّ مَا فِيهَا جَمِيعًا مَخْلُوقٌ يُوصَلُ إِلَيْهِ بِالْعَمَلِ وَيُمْلَكُ بِالْأَخْذِ ، فَعَلَى هَذَا يَسْتَوِي حَالُ الْمُقْطِعِ وَغَيْرِهِ فِي تَنَاوُلِ مَا فِيهَا ، كَمَا لَوْ أَقْطَعَ الْمَعَادِنَ الظَّاهِرَةَ ، وَلَمْ يَصِرْ أَحَقَّ بِهَا مَنْ لَمْ يَسْتَقْطِعْهَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ إِقْطَاعَهَا جَائِزٌ ، وَالْقَطْعُ أَحَقُّ بِهَا مِنْ غَيْرِهِ ، رَوَى كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيُّ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقْطَعَ بِلَالَ بْنَ الْحَارِثِ الْمُزَنِيَّ مَعَادِنَ الْقَبَلِيَّةِ جَلْسِيَّهَا وَغَوْرِيَّهَا ، وَحَيْثُ يَصْلُحُ الزَّرْعُ مِنْ قُدْسٍ ، وَلَمْ يُعْطِهِ حَقَّ مُسْلِمٍ وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ أَنَّ جَلْسِيَّهَا وَغَوْرِيَّهَا أَعْلَاهَا وَأَسْفَلَهَا . وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَبِيدٍ وَابْنِ قُتَيْبَةَ أَنَّ الْغَوْرَ مَا كَانَ مِنْ بِلَادِ تِهَامَةَ ، وَالْجَلْسَ مَا كَانَ مِنْ بِلَادِ نَجْدٍ . قَالَ الشَّمَّاخُ :
فَأَضْحَتْ عَلَى مَاءِ الْعُذَيْبِ وَعَيْنُهَا كَوَقْبِ الصَّنْعَا جِلْسِيُّهَا قَدْ تَغَوَّرَا وَلِأَنَّ الْمَعَادِنَ الْبَاطِنَةَ تُخَالِفُ الظَّاهِرَةَ مِنْ وَجْهَيْنِ تَوَافَقَ بَيْنَهُمَا الْمَوَاتُ . أَحَدُهُمَا : مَا يَلْزَمُ مِنْ كَثْرَةِ الْمَؤُونَةِ فِي الْبَاطِنَةِ حَتَّى رُبَّمَا سَاوَتْ مَؤُونَةَ إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ وَزَادَتْ ، وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ فِي الظَّاهِرِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَا فِي الْبَاطِنَةِ مَظْنُونٌ مُتَوَهَّمٌ فَشَابَهَ مَا يَظُنُّ مِنْ مَنَافِعِ الْمَوَاتِ بَعْدَ الْإِحْيَاءِ ، وَمَا فِي الظَّاهِرَةِ مُشَاهِدٌ مُتَيَقِّنٌ فَصَارَتِ الْبَاطِنَةُ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مُفَارَقَةً لِلظَّاهِرَةِ فِي الْمَنْعِ مِنْ إِقْطَاعِهَا ، وَمُلْحَقَةً بِالْمَوَاتِ فِي جَوَازِ إِقْطَاعِهَا .
فَصْلٌ : فَعَلَى هَذَا إِذَا أَقْطَعَهَا الْإِمَامُ رَجُلًا فَمَا لَمْ يَتَصَرَّفْ فِيهِمَا بِالْعَمَلِ أي الباطن من المعادن لَمْ يَمْلِكْهَا كَمَا لَا يَمْلِكُ الْمَوَاتَ بِالْإِقْطَاعِ مَا لَمْ يُحْيِهِ ، فَإِذَا عَمِلَ فِيهَا صَارَ مَالِكَهَا ، وَفِي مِلْكِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَدْ مَلَكَهَا مِلْكًا مُؤَبَّدًا ، سَوَاءٌ أَقَامَ عَلَى الْعَمَلِ أَوْ تَرَكَ ، كَمَا يَمَلِكُ الْمَوَاتَ بِالْإِحْيَاءِ سَوَاءٌ اسْتَدَامَ عِمَارَتَهُ أَوْ عَطَّلَهُ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ إِذْنُ الْإِمَامِ شَرْطًا فِي ثُبُوتِ مِلْكِهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِذْنُهُ فِي إِقْطَاعِهَا شَرْطًا فِي تَنَاوُلِ مَا فِيهَا ، لِكَوْنِهِ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ مِلْكَهُ لَهَا مُقَدَّرٌ بِمُدَّةِ عَمَلِهِ فِيهَا فَمَا أَقَامَ عَلَى الْعَمَلِ فَهُوَ عَلَى مِلْكِهِ ، وَلَهُ مَنْعُ النَّاسِ مِنْهُ ، فَإِذَا فَارَقَ الْعَمَلَ زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ وَعَادَ إِلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِتَعَذُّرِ آلَةٍ أَوْ هَرَبِ عَبْدٍ ، فَلَا يَزُولُ مِلْكُهُ مَا كَانَ نَاوِيًا لِلْعَمَلِ حَتَّى يَقْطَعَ قَطْعَ تَرْكٍ فَيَزُولَ مِلْكُهُ ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ : لِأَنَّ عَمَلَهُ يَكُونُ إِحْيَاءً لِلطَّبَقَةِ الَّتِي عَمِلَ فِيهَا فَصَارَ مَالِكًا لَهَا بِإِحْيَائِهِ وَعَمَلِهِ ، فَأَمَّا مَا تَحْتَ تِلْكَ الطَّبَقَةِ فَلَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا عَمَلٌ ، وَلَمْ يَحْصُلْ فِيهَا إِحْيَاءٌ فَلَمْ يَمْلِكْهَا ، فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا : هَلْ يَكُونُ إِذْنُ الْإِمَامِ شَرْطًا فِي ثُبُوتِ مِلْكِهِ عَلَيْهَا مُدَّةَ عَمَلِهِ فِيهَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ إِذْنَهُ شَرْطٌ فِيهِ حَتَّى يَجُوزَ مَنْعُ غَيْرِهِ كَمَا لَوْ قِيلَ بِتَأْيِيدِ مِلْكِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ إِذْنَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ كَمَا لَمْ يَكُنْ إِذْنُهُ شَرْطًا فِي إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ : لِأَنَّ مِلْكَهُ فِيهَا يَخْتَصُّ بِمَا بَاشَرَ عَمَلَهُ ، وَيَجُوزُ لَهُ عِنْدَ شُرُوعِهِ فِي الْعَمَلِ أَنْ يَمْنَعَ غَيْرَهُ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي عَمِلَ فِيهِ ، وَلَا يَمْنَعَهُ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنَ الْعُذْرِ كَمَا لَا يَمْنَعُ بِشُرُوعِهِ فِي إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ مِنْ غَيْرِ إِقْطَاعٍ إِلَّا مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي عَمِلَ فِيهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْطِعَهُ مِنَ الْمَعَادِنِ إِلَّا قَدْرَ مَا يَحْتَمِلُ ، عَلَى أَنَّهُ إِنْ عَطَّلَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُ مَنْ أَخَذَهُ ، وَمِنْ حُجَّتِهِ فِي ذَلِكَ أَنَّ لَهُ بَيْعَ الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ بَيْعُ الْمَعَادِنِ وَأَنَّهَا كَالْبِئْرِ تُحْفَرُ بِالْبَادِيَةِ فَتَكُونُ لِحَافِرِهَا ، وَلَا يَكُونُ لَهُ مَنْعُ الْمَاشِيَةِ فَضْلَ مَائِهَا وَكَالْمَنْزِلِ بِالْبَادِيَةِ هُوَ أَحَقُّ بِهِ ، فَإِذَا تَرَكَهُ لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ مَنْ نَزَلَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِقْطَاعَ ضَرْبَانِ : إِقْطَاعُ إِرْفَاقٍ ، وَإِقْطَاعُ تَمْلِيكٍ ، فَأَمَّا إِقْطَاعُ
الْإِرْفَاقِ معناه وحكمه فَهُوَ التَّمْكِينُ مِنَ الْمَعْدِنِ لِيَعْمَلَ فِيهِ وَلَا يَمْنَعَ غَيْرَهْ مِنْهُ ، فَهَذَا يَصِحُّ فِي الْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ جَمِيعًا ، وَأَمَّا إِقْطَاعُ التَّمْلِيكِ معناه وحكمه فَهُوَ الَّذِي يَمْنَعُ مِنْهُ فِي الْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ ، وَفِي جَوَازِهِ فِي الْمَعَادِنِ الْبَاطِنَةِ قَوْلَانِ مَضَيَا ، فَإِذَا جَوَّزْنَاهُ فَلَا يَنْتَفِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْطَعَ أَحَدًا مِنْهُ إِلَّا قَدْرَ مَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ وَيَقْدِرَ عَلَى الْقِيَامِ بِهِ ، فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا أَقْطَعَهُ قَدْرَ مَا يَحْتَمِلُهُ الْوَاحِدُ ، وَإِنْ كَانُوا عَشَرَةً أَقْطَعَهُمْ قَدْرَ مَا يَحْتَمِلُ الْعَشَرَةَ ، فَإِنِ اقْتَطَعَ أَحَدًا مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْعَمَلِ فِيهِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الْقِيَامِ بِهِ لَمْ يَجُزْ ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ مَنْفَعَتِهِ عَلَى الْمُقْطِعِ وَغَيْرِهِ فَصَارَ أَسْوَأَ حَالًا مِنَ الْحِمَى الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ مَنْ حَمَاهُ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ عَطَّلَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُ مَنْ أَخَذَهُ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُرَادِهِ بِهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : أَرَادَ بِهِ إِقْطَاعَ الْإِرْفَاقِ دُونَ التَّمْلِيكِ ، وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ أَرَادَ بِهِ إِقْطَاعَ التَّمْلِيكِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْهِ فِي أَنَّهُ يَمْلِكُهُ مُدَّةَ عَمَلِهِ ، وَلَا يَمْلِكُهُ إِذَا عَطَّلَهُ ، فَأَمَّا مَا ظَهَرَ بِالْعَمَلِ قَبْلَ التَّعْطِيلِ فَقَدْ صَارَ فِي مِلْكِهِ وَلَهُ مَنْعُ غَيْرِهِ مِنْهُ ، وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ أَرَادَ بِهِ إِقْطَاعَ التَّمْلِيكِ إِذَا قَدَّرَهُ بِمُدَّةِ الْعَمَلِ وَشَرَطَ فِيهِ زَوَالَ الْمِلْكِ عِنْدَ تَعْطِيلِ الْعَمَلِ ، فَلَا يَتَأَيَّدُ مِلْكُهُ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَوْ أَقْطَعَ أَرْضًا فَأَحْيَاهَا ثُمَّ ظَهَرَ فِيهَا مَعْدِنٌ حكم ملكه المعدن مَلَكَهُ مِلْكَ الْأَرْضِ فِي الْقَوْلَيْنِ مَعًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا أَحْيَا الرَّجُلُ أَرْضًا مَوَاتًا بِإِقْطَاعٍ أَوْ غَيْرِ إِقْطَاعٍ ، فَظَهَرَ فِيهَا بَعْدَ الْإِحْيَاءِ مَعْدِنٌ فَقَدْ مَلَكَهُ مِلْكًا مُؤَبَّدًا قَوْلًا وَاحِدًا ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَعْدِنُ ظَاهِرًا أَوْ بَاطِنًا : لِأَنَّ الْمَعْدِنَ لَمْ يَظْهَرْ إِلَّا بِالْإِحْيَاءِ فَصَارَ كَعَيْنٍ اسْتَنْبَطَهَا ، أَوْ بِئْرٍ احْتَفَرَهَا ، وَلِأَنَّ الْمَعْدِنَ مِنْ أَرْضِهِ الَّتِي مَلَكَهَا بِإِحْيَائِهِ فَخَالَفَ الْمَعَادِنَ الَّتِي فِي غَيْرِ مِلْكِهِ ، فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ لَوْ أَحْيَا أَرْضًا فَظَهَرَ فِيهَا رِكَازٌ لَمْ يَمْلِكْهُ ، فَهَلَّا صَارَ الْمَعْدِنُ مِثْلَهُ لَا يَمْلِكُهُ قُبِلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَعْدِنَ خَلَقَهُ فِي الْأَرْضِ فَمَالِكُهُ يَمْلِكُ الْأَرْضَ ، وَالرِّكَازُ مُسْتَوْدَعٌ فِي الْأَرْضِ فَلَمْ يُمْلَكْ ، وَإِنِّ مِلْكَ الْأَرْضِ لِمَا بَنَتْهُ لَهَا ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوِ اشْتَرَى أَرْضًا فَكَانَ فِيهَا حِجَارَةٌ مُسْتَوْدَعَةٌ لَمْ يَمْلِكْهَا وَلَوْ كَانَتِ الْحِجَارَةُ خِلْقَةً فِيهَا مَلَكَهَا ؟ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَكُلُّ مَعْدِنٍ عَمِلَ فِيهِ جَاهِلِيٌّ ثُمَّ اسْتَقْطَعَهُ رَجُلٌ فما الحكم ، فَفِيهِ أَقَاوِيلُ أَحَدُهَا أَنْهُ كَالْبِئْرِ الْجَاهِلِيِّ وَالْمَاءِ الْعِدِّ ، فَلَا يُمْنَعُ أَحَدٌ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ ، فَإِذَا اسْتَبَقُوا إِلَيْهِ فَإِنْ وَسِعَهُمْ عَمِلُوا مَعًا ، وَإِنْ ضَاقَ أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ أَيُّهُمْ يَبْدَأُ ، ثُمَّ يَتْبَعُ الْآخَرُ حَتَّى يَتَآسَوْا فِيهِ ، وَالثَّانِي لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُقْطِعَهُ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ فَيْهِ ، وَلَا يَمْلِكَهُ إِذَا تَرَكَهُ ، وَالثَّالِثُ يَقْطَعُهُ فَيَمْلِكُهُ مِلْكَ الْأَرْضِ إِذَا أَحْدَثَ فِيهَا عِمَارَةً " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ كَالسِّرِّ الْجَاهِلِيِّ وَالْمَاءِ الْعِدِّ هل يمنع أحد بالعمل فيه ، فَلَا يُمْنَعُ أَحَدٌ يَعْمَلُ فِيهِ ، فَإِذَا اسْتَبَقُوا إِلَيْهِ فَإِنْ وَسِعَهُمْ غَلُّوا مَعًا ، وَإِنْ ضَاقَ أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ أَيُّهُمْ يَبْدَأُ ، ثُمَّ يَتْبَعُ الْآخَرُ فَالْآخَرُ فَالْآخَرُ حَتَّى يَتَسَاوَوْا فِيهِ .
وَالثَّانِي : لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُقْطِعَهُ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ يَعْمَلُ فِيهِ وَلَا يَمْلِكُهُ إِذَا تَرَكَهُ ، وَالثَّالِثُ يُقْطِعُهُ فَيَمْلِكُهُ مِلْكَ الْأَرْضِ إِذَا أَحْدَثَ فِيهَا عِمَارَةً . اعْلَمْ أَنَّ الْمَعَادِنَ الْبَاطِنَةَ ضَرْبَانِ : ضَرْبٌ لَمْ يَعْمَلْ فِيهِ ، وَضَرْبٌ عَمِلَ فِيهِ ، فَأَمَّا مَا لَمْ يَعْمَلْ فِيهِ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَعْمَلَ مِنْهُ بِمَا يُشَاهَدُ مِنْ ظَاهِرِهِ أَنَّهُ إِنْ عَمِلَ فِيهِ ظَهَرَ نَيْلُهُ وَأَجَابَ وَلَمْ يُخْلَفْ ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرْنَا اخْتِلَافُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي جَوَازِ إِقْطَاعِهِ ، وَمَنْ لَمْ يُقْطَعْ فَهُوَ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ لِمَنْ وَرَدَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يُعْلَمَ مِنْهُ ظُهُورُ نَيْلِهِ يَقِينًا ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُخْلَفَ وَيَجُوزُ أَنْ لَا يُخْلَفَ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ هَلْ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْمَوَاتِ فِي جَوَازِ إِقْطَاعِهِ وَتَأْيِيدِ مِلْكِهِ بِالْإِحْيَاءِ ، أَوْ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْمَعَادِنِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْمَوَاتِ فِي جَوَازِ إِقْطَاعِهِ وَتَأْيِيدِ مِلْكِهِ بِالْإِحْيَاءِ : لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَوَاتِ مَا لَمْ يَتَيَقَّنْ كَوْنَهُ مَعْدِنًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْمَعَادِنِ تَغْلِيبًا لِظَاهِرِ أَمْرِهَا مَا لَمْ يَتَيَقَّنْ كَوْنَهُ مَوَاتًا ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا مَا عَمِلَ فِيهِ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ فِيهِ إِسْلَامِيًّا فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ عَنْ إِقْطَاعِ إِمَامٍ . وَالثَّانِي : عَنْ غَيْرِ إِقْطَاعٍ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ عَمِلَ فِيهِ مُسْلِمٌ بِغَيْرِ إِقْطَاعٍ ، فَإِنْ تَرَكَ الْعَمَلَ عَادَ إِلَى أَصْلِهِ فِي الْإِبَاحَةِ وَجَازَ لِلنَّاسِ الْعَمَلُ فِيهِ ، وَفِي جَوَازِ إِقْطَاعِهِ قَوْلَانِ ، وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُ مُقِيمًا عَلَى الْعَمَلِ فِيهِ ، فَفِي جَوَازِ مُشَارِكَةِ النَّاسِ لَهُ فِيهِ وَجْهَانِ مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا : هَلْ يَكُونُ إِذْنُ الْإِمَامِ شَرْطًا فِي تَمَلُّكِهِ مُدَّةَ الْعَمَلِ أَمْ لَا ؟ الإقطاع إن كان العمل إسلاميا . أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَدْ صَارَ أَحَقَّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ ، وَلَهُ مَنْعُ النَّاسِ مِنْهُ ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مُشَارَكَتُهُ فِيهِ حَتَّى يَقْطَعَ الْعَمَلَ ، وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي لَا يَجْعَلُ إِذْنَ الْإِمَامِ شَرْطًا فِي تَمَلُّكِهِ مُدَّةَ الْعَمَلِ ، وَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ فِي مُدَّةِ عَمَلِهِ أَنْ يُقْطِعَهُ أَحَدًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ فِيهِ وَغَيْرَهُ سَوَاءٌ ، وَلِمَنْ وَرَدَ إِلَيْهِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي الْعَمَلِ ، وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ هَذَا الْعَمَلُ بِالْمَوْضِعِ الَّذِي قَدْ عَمِلَ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ ، وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجْعَلُ إِذْنَ الْإِمَامِ شَرْطًا فِي تَمَلُّكِهِ مُدَّةَ الْعَمَلِ ، وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ فِي مُدَّةِ عَمَلِهِ أَنْ يُقْطِعَهُ مَنْ رَأَى وَيَتَوَجَّهُ إِقْطَاعُ الْإِمَامِ إِلَى مَا سِوَى مَوْضِعِ عَمَلِهِ مِنَ الْمَعْدِنِ ، فَإِذَا قَطَعَ الْعَمَلَ جَازَ إِقْطَاعُ جَمِيعِهِ .
فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ قَدْ عَمِلَ فِيهِ مُسْلِمٌ بِإِقْطَاعِ إِمَامٍ فهل له أن يشارك فيه في مدة العمل لَمْ يَجُزْ فِي مُدَّةِ الْعَمَلِ أَنْ يُشَارِكَ فِيهِ ،
فَأَمَّا بَعْدَ قَطْعِ الْعَمَلِ ، فَإِنْ قِيلَ : قَدِ اسْتَقَرَّ مِلْكُهُ عَلَيْهِ مُؤَبَّدًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ، وَلَا أَنْ يَجْعَلَهُ الْإِمَامُ إِقْطَاعًا لِغَيْرِهِ ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ وَيَهَبَهُ ، وَإِنْ مَاتَ وُرِّثَ عَنْهُ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ ، وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ مِلْكَهُ مُقَدَّرٌ بِمُدَّةِ الْعَمَلِ جَازَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ ، وَهَلْ يَفْتَقِرُ إِلَى إِذْنِ الْإِمَامِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا ، وَهَلْ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ إِقْطَاعُهُ أَمْ لَا ؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ بَعْدَ قَطْعِ الْعَمَلِ أَنْ يَبِيعَهُ ، وَلَا أَنْ يَهَبَهُ وَإِنْ مَاتَ لَمْ يُورَثْ عَنْهُ ، فَأَمَّا فِي مُدَّةِ الْعَمَلِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهُ وَلَا هِبَتُهُ : لِأَنَّ مِلْكَهُ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ لَكِنْ تَرْتَفِعُ يَدُهُ بِالْهِبَةِ ، وَلَا تَرْتَفِعُ بِالْبَيْعِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ رَفْعَ يَدِهِ فِي الْبَيْعِ كَانَ مَشْرُوطًا بَعِوَضٍ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ ، وَلَمْ تَرْتَفِعْ يَدُهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْهِبَةُ ، وَلَا يُورَثُ عَنْهُ بِالْمَوْتِ ، وَيَكُونُ لِوَارِثِهِ إِتْمَامُ مَا شَرَعَ فِيهِ مِنَ الْعَمَلِ وَهُوَ فِيمَا يَسْتَأْنِفُهُ كَسَائِرِ النَّاسِ كُلِّهِمْ ، هَلْ يَلْزَمُهُ اسْتِئْذَانُ الْإِمَامِ فِيهِ بَعْدَ تَقَضِّي مُدَّةِ الْإِقْطَاعِ بِتَرْكِ الْعَمَلِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ .
فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ فِيهِ جَاهِلِيًّا كَمَعْدِنٍ عَمِلَتِ الْجَاهِلِيَّةُ فِيهِ ثُمَّ وَصَلَ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهِ فما الحكم ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ الْجَاهِلِيُّ قَدْ تَمَلَّكَهُ بِعَمَلِهِ أَوْ بِإِحْيَائِهِ ، فَهَذَا مَغْنُومٌ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْطَعَ ، وَلَا أَنْ يَسْتَبِيحَهُ النَّاسُ ، وَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ مَا اسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ أَرْضُهُمْ مِنْ صُلْحٍ أَوْ غَيْرِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْجَاهِلِيُّ لَمْ يَتَمَلَّكْهُ بِعَمَلِهِ وَلَا بِإِحْيَائِهِ ، وَإِنَّمَا اسْتَمْتَعَ بِمَا فِيهِ وَفَارَقَهُ عَفْوًا فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَعَادِنِ الْمُبَاحَةِ ، إِنْ كَانَ ظَاهِرًا مُنِعَ مِنْ إِقْطَاعِهِ ، وَإِنْ كَانَ بَاطِنًا ، فَعَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْعَامِرِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ لَا يَجُوزُ إِقْطَاعُهُ ، وَلَا اسْتِبَاحَتُهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَعَادِنِ الْإِسْلَامِيَّةِ ، وَفِي إِقْطَاعِهَا قَوْلَانِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَكُلُّ مَا وَصَفْتُ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ وَإِقْطَاعِ الْمَعَادِنِ وَغَيْرِهَا ، فَإِنَّمَا عَنَيْتُهُ فِي عَفْوِ بِلَادِ الْعَرَبِ الَّذِي عَامِرُهُ عُشْرٌ وَعَفْوُهُ مَمْلُوكٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَرَادَ بِهَذَا الْفَصْلِ أَنَّ جَمِيعَ مَا وَصَفَهُ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ وَإِقْطَاعِ الْمَعَادِنِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْحِمَى هل هو في بلاد العرب أو في بلاد الإسلام عامة فَإِنَّمَا هُوَ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ : إِنَّمَا عَنَيْتُهُ فِي عَفْوِ بِلَادِ الْعَرَبِ ، يُرِيدُ بِالْعَفْوِ الْمَوَاتَ الَّذِي هُوَ عَفْوٌ مَتْرُوكٌ ، وَيُرِيدُ بِبِلَادِ الْعَرَبِ بِلَادَ الْإِسْلَامِ : لِأَنَّ بِلَادَ الْعَرَبِ هِيَ دَارُ الْإِسْلَامِ وَمِنْهَا بَدَأَ وَفِيهَا نَشَأَ ، ثُمَّ قَالَ : الَّذِي عَامِرُهُ عُشْرٌ يَعْنِي لَا خَرَاجَ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا هِيَ أَرْضُ عُشْرٍ يُؤْخَذُ الْعُشْرُ مِنْ زَرْعِهَا ، وَلَا يُؤْخَذُ الْخَرَاجُ مِنْ أَرْضِهَا ، ثُمَّ قَالَ : وَعَفْوُهُ مَمْلُوكٌ ، وَرَوَى الرَّبِيعُ : وَعَفْوُهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا لِاخْتِلَافِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ ، فَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَأَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ ، وَأَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ يَنْسُبُونَ الْمُزَنِيَّ إِلَى الْخَطَأِ فِي نَقْلِهِ حِينَ قَالَ : وَعَفْوُهُ مَمْلُوكٌ : لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَمْلُوكًا مَا جَازَ إِحْيَاؤُهُ ، وَأَنَّ الصَّحِيحَ مَا نَقَلَهُ الرَّبِيعُ ، وَأَنَّ عَفْوَهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِيُمْلَكَ بِالْإِحْيَاءِ ، وَكَانَ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّيْمَرِيُّ وَطَائِفَةٌ يَقُولُونَ : كِلَا النَّقْلَيْنِ صَحِيحٌ ، وَالْمُرَادُ بِهِمَا مُخْتَلِفٌ ، فَقَوْلُ الْمُزَنِيِّ : وَعَفْوُهُ مَمْلُوكٌ ، يَعْنِي لِكَافَّةِ
الْمُسْلِمِينَ ، وَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لِمُشْرِكٍ أَنْ يُحْيِيَ مَوَاتًا فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ ، وَقَوْلُ الرَّبِيعِ وَعَفْوُهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ يَعْنِي لِوَاحِدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِعَيْنِهِ : لِأَنَّ مَنْ أَحْيَاهُ مِنْهُمْ مَلَكَهُ ، فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ خَصَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِلَادَ الْإِسْلَامِ بِهَذَا التَّقْسِيمِ مِنَ الْحُكْمِ ، وَقَدْ تَكُونُ بِلَادُ الشِّرْكِ مِثْلَهَا وَعَلَى حُكْمِهَا ؟ فَعَنْ ذَلِكَ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ خَصَّ بِلَادَ الْإِسْلَامِ بِذَلِكَ : لِأَنَّ أَحْكَامَنَا عَلَيْهَا جَارِيَةٌ بِخِلَافِ بِلَادِ الشِّرْكِ الَّذِي لَا تَجْرِي عَلَيْهَا أَحْكَامُنَا . وَالثَّانِي : أَنَّ بِلَادَ الشِّرْكِ قَدْ يَكُونُ حُكْمُهَا كَبِلَادِ الْإِسْلَامِ فِي عَامِرِهَا وَمَوَاتِهَا بِحَسَبِ اخْتِلَافِ فُتُوحِهَا ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْمَعَهَا فِي الْحُكْمِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَكُلُّ مَا ظَهَرَ عَلَيْهِ عَنْوَةً مِنْ بِلَادِ الْعَجَمِ ، فَعَامِرُهُ كُلُّهُ لِمَنْ ظَهَرَ عَلَيْهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ بِلَادَ الشِّرْكِ إِذَا صَارَتْ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ فكيف تقسم القسمة في الغنيمة ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَصِيرَ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ عَفْوًا بِإِسْلَامِ أَهْلِهَا طَوْعًا مِنْ غَيْرِ إِيجَافِ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ ، وَلَا بِتَهْدِيدٍ وَإِرْهَابٍ فَحُكْمُ ذَلِكَ حُكْمُ مَا أَحْيَاهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَمْصَارِهِمْ فِي مِلْكِهِمْ لِرِقَابِ عَامِرِهَا وَاسْتِوَاءِ كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ فِي إِحْيَاءِ مَوْتَاهَا ، وَجَمِيعُهَا أَرْضُ عُشْرٍ فِيمَا أَسْلَمُوا عَلَيْهِ مِنْ عَامِرٍ ، وَمَا اسْتَأْنَفُوا إِحْيَاءَهُ مِنْ مَوَاتٍ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا ظَهَرَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ بِالْيَدِ وَالْغَلَبَةِ ، وَذَلِكَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا مُلِكَ عَنْوَةً . وَالثَّانِي : مَا فُتِحَ صُلْحًا ، فَأَمَّا الْمَمْلُوكُ عَنْوَةً فَعَامِرٌ مَغْنُومٌ يُقَسَّمُ خَمْسَةً عَلَى خَمْسَةٍ مِنْ أَهْلِ الْخُمْسِ ، وَتَكُونُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ مَقْسُومَةً بَيْنَ الْغَانِمِينَ ، فَأَمَّا مَوَاتُهُ فَلَهُمْ فِيهِ حَالَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا يَذُبُّوا عَنْهُ ، وَلَا يَمْنَعُوا مِنْهُ ، وَيُخَلُّوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ عَنْهُ ، فَهَذَا فِي حُكْمِ مَوَاتِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ أَحْيَاهُ فَقَدْ مَلَكَهُ ، وَلَا يَخْتَصُّ بِهِ الْغَانِمُونَ دُونَ غَيْرِهِمْ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَذُبُّوا عَنْهُ وَيَمْنَعُوا مِنْهُ ، وَيُقَاتِلُوا دُونَهُ ، فَقَدْ صَارَ الْغَانِمُونَ أَوْلَى بِهِ ، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ صَارُوا أَوْلَى بِهِ يَدًا ، أَوْ مِلْكًا ؟ وهو ما ظهر عليه المسلمون يدا أو غلبة عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ أَوْلَى بِهِ يَدًا كَالْمُحْجِرِ عَلَى الْمَوَاتِ وَهُوَ أَوْلَى بِهِ ، لِمَحْجَرِهِ وَيَدِهِ مِنْ غَيْرِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَصِرْ مِلْكًا لَهُ فَإِنْ أَخَّرُوا إِحْيَاءَهُ قَالَ لَهُمُ الْإِمَامُ : إِمَّا أَنْ تُحْيُوهُ أَوْ تَرْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ عَنْهُ لِيُحْيِيَهُ غَيْرُكُمْ ، كَمَا يَقُولُ لِمَنْ يَحْجُرُ مَوَاتًا فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ : لِأَنَّ مَنْعَ الْمُشْرِكِينَ مِنْهُ تَحْجِيرٌ ثُمَّ انْتَقَلَتْ أَيْدِيهُمْ إِلَى الْغَانِمِينَ فَصَارُوا بِالْغَنِيمَةِ مُتَحَجِّرِينَ ، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَوْ بَدَرَ غَيْرُ الْغَانِمِينَ فَأَحْيَاهُ ، مَلَكَهُ كَمَا يَمْلِكُ مَا أَحْيَاهُ مِنْ مَوَاتِ مَا يَحْجُرُ عَلَيْهِ مُسْلِمٌ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي الْفَيَّاضِ أَنَّ الْغَانِمِينَ أَوْلَى بِالْمَوَاتِ مِلْكًا : لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِالْمَنْعِ تَبَعًا لِلْعَامِرِ ، فَلَمَّا مَلَكَ الْغَانِمُونَ الْعَامِرَ مَلَكُوا مَا صَارَ تَبَعًا لَهُ مِنَ الْمَوَاتِ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَمْلِكُهُ غَيْرُهُمْ بِالْإِحْيَاءِ ، وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِمْ بِرَفْعِ الْيَدِ بِتَأْخِيرِ الْإِحْيَاءِ ، وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِمْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَعَادِنِ هَذَا الْمَوَاتِ شَيْئًا لَا مِنْ ظَاهِرِهَا ، وَلَا مِنْ بَاطِنِهَا ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَجُوزُ فَهَذَا حُكْمُ مَا فُتِحَ عَنْوَةً ، وَسَيَأْتِي حُكْمُ مَا فُتِحَ صُلْحًا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَمَا كَانَ فِي قَسْمِ أَحَدِهِمْ مِنْ مَعْدِنٍ ظَاهِرٍ فَهُوَ لَهُ كَمَا يَقَعُ فِي قِسْمَةِ الْعَامِرِ بِقِيمَتِهِ فَيَكُونُ لَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا قُسِمَ عَامِرُ بِلَادِ الْعَنْوَةِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ ، فَحَصَلَ فِي قَسْمِ أَحَدِهِمَا مِنَ الْعَامِرِ مَعْدِنٌ فما حكم المعدن فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا ، فَهَذَا مِلْكٌ لِمَنْ قُسِمَ لَهُ مِنَ الْغَانِمِينَ ، لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيهِ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ بَاطِنًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ قَدْ عَرَفَ حَالَهُ وَقْتَ الْقَسْمِ أَوْ لَمْ يَعْرِفْ ، فَإِنْ عَرَفَ حَالَهُ بَعْدَ مِلْكِهِ لِلْغَانِمِ بِالْقَسْمِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ حَالَهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : قَدْ مَلَكَهُ كَمَا يَمْلِكُ مَا أَحْيَاهُ . وَالثَّانِي : لَا يَمْلِكُهُ لِجَهَالَةِ الْإِمَامِ بِهِ ، وَإِنَّ قَسْمَ الْمَجْهُولِ لَا يَصِحُّ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَمْلِكُ الْمَعْدِنَ وَحْدَهُ وَيَمْلِكُ مَا سِوَاهُ مِمَّا قُسِمَ لَهُ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي إِفْرَادِهِ عَنْ مِلْكِهِ ضَرَرٌ فَلَا خِيَارَ لَهُ وَلَا بَدَلَ ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ فِي إِفْرَادِهِ ضَرَرٌ فَلَا خِيَارَ لَهُ أَيْضًا : لِأَنَّ قَسْمَ الْإِمَامِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ لِلْمَقْسُومِ لَهُ خِيَارٌ ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ بَدَلَ النَّقْصِ الدَّاخِلِ عَلَيْهِ بِالضَّرَرِ مَا يَكُونُ عِوَضًا عَنْهُ ، أَوْ يَنْقُضُ الْقَسْمَ مَنْ يُعْطِيهِ غَيْرُهُ مِمَّا يَفِي بِسَهْمِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى : " وَكُلُّ مَا كَانَ فِي بِلَادِ الْعَنْوَةِ مِمَّا عُمِّرَ مَرَّةً ثُمَّ تُرِكَ ، فَهُوَ كَالْعَامِرِ الْقَائِمِ الْعِمَارَةِ مِثْلُ مَا ظَهَرَتْ عَلَيْهِ الْأَنْهَارُ وَعُمِّرَ بِغِيَرِ ذَلِكَ عَلَى نُطَفِ السَّمَاءِ أَوْ بِالرِّشَاءِ ، وَكُلُّ مَا كَانَ لَمْ يُعَمَّرْ قَطُّ مِنْ بِلَادِهِمْ فَهُوَ كَالْمَوَاتِ مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ مَا انْدَرَسَتْ عِمَارَتُهُ مِنْ بِلَادِ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى صَارَ مَوَاتًا خَرَابًا فما حكمه عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي إِحْيَائِهَا بَاقِيَةً فِيهِ كَأَرْضِ الزِّرَاعَاتِ إِذَا كَانَتْ مَسْنِيَّاتُهَا بَاقِيَةً وَمَاؤُهَا قَائِمًا ، وَصَارَتْ بِنَبَاتِ الْحَشِيشِ خَرَابًا وَبِتَأْخِيرِ عِمَارَتِهَا مَوَاتًا ، فَهَذِهِ فِي حُكْمِ الْعَامِرِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ يُقَسَّمُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ فِي الْعَنْوَةِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي إِيجَابِهَا ذَاهِبَةً كَالدُّورِ وَالْمَنَازِلِ إِذَا ذَهَبَ آلَتُهَا وَانْدَرَسَتْ آثَارُهَا ، فَحُكْمُ هَذَا عَلَى مَا اسْتَوْفَيْنَاهُ تَقْسِيمًا وَحُكْمًا فِي صَدْرِ هَذَا الْكِتَابِ .
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ تَذْهَبَ بَعْضُ الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي إِيجَابِهَا وَيَبْقَى بَعْضُهَا عَارِضَ الزَّرْعِ ، إِذَا ذَهَبَتْ مَسْنِيَّاتُهَا وَبَقِيَ مَاؤُهَا ، أَوْ ذَهَبَ مَاؤُهَا وَبَقِيَتْ مَسْنِيَّاتُهَا فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَوَاتِ مَا لَمْ يَنْدَرِسْ جَمِيعُ آثَارِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَوَاتِ مَا لَمْ يَبْقَ جَمِيعُ آثَارِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ إِذَا تَقَادَمَ الْعَهْدُ بِجَوَابِهَا صَارَتْ مَوَاتًا ، وَإِنْ قَرُبَ الْعَهْدُ لِعِمَارَتِهَا فَهِيَ فِي حُكْمِ مَا كَانَ عَامِرًا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَمَا كَانَ مِنْ بِلَادِ الْعَجَمِ صُلْحًا فَمَا كَانَ لَهُمْ فَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ غَيْرُ مَا صُولِحُوا عَلَيْهِ إِلَّا بِإِذْنِهِمْ ، فَإِنْ صُولِحُوا عَلَى أَنَّ لِلْمُسْلِمِينَ الْأَرْضَ وَيَكُونُونَ أَحْرَارًا ثُمَّ عَامَلَهُمُ الْمُسْلِمُونَ بَعْدُ ، فَالْأَرْضُ كُلُّهَا صُلْحٌ وَخُمْسُهَا لِأَهْلِ الْخُمْسِ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهَا لِجَمَاعَةِ أَهْلِ الْفَيْءِ ، وَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ مَوَاتٍ فَهُوَ كَالْمَوَاتِ غَيْرَهُ ، فَإِنْ وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى عَامِرِهَا وَمَوَاتِهَا كَانَ الْمَوَاتُ مَمْلُوكًا لِمَنْ مَلَكَ الْعَامِرَ ، كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَوَاتِ مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا حَازَهُ رَجُلٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَا انْتَقَلَ إِلَيْنَا مِنْ بِلَادِ الْمُشْرِكِينَ سواء كان عنوة أو صلحا فما حكمه ضَرْبَانِ : عَنْوَةً وَصُلْحًا ، فَأَمَّا بِلَادُ الْعَنْوَةِ فَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَهَا ، وَأَمَّا بِلَادُ الصُّلْحِ وأحكامها فَضَرْبَانِ . أَحَدُهُمَا : أَنْ يُعْقَدَ الصُّلْحُ فِيهَا عَلَى بَقَاءِ مِلْكِهِمْ عَلَيْهَا ، وَأَنْ يُؤَدُّوا عَنْهَا خَرَاجًا فَهَذَا جِزْيَةٌ تَسْقُطُ عَنْهُمْ بِإِسْلَامِهِمْ ، وَهُوَ فِي الْعَامِرِ وَالْمَوَاتِ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ الصُّلْحِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يُعْقَدَ الصُّلْحُ مَعَهُمْ عَلَى أَنَّ رِقَابَ أَرْضِهِمْ مِلْكٌ لِلْمُسْلِمِينَ ، وَتَقَرُّ فِي أَيْدِيهِمْ بِخَرَاجٍ يُؤَدُّونَهُ عَنْهَا ، فَهَذَا خَرَاجُ أُجْرَةٍ لَا تَسْقُطُ عَنْهُمْ بِإِسْلَامِهِمْ ، وَيَكُونُ الْخَرَاجُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَصْرُوفًا فِي أَهْلِ الْفَيْءِ ، فَأَمَّا مَوَاتُهُمْ فَلَا يَخْلُو أَنْ يُضَمَّ إِلَى الْعَامِرِ فِي الصُّلْحِ أَوْ بِعَقْلٍ ، فَإِنْ أُعْقِلَ وَلَمْ يُذْكَرْ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَوَاتِ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ ، وَأَرْضُهُمْ إِلَى الْعَامِرِ فِي مِلْكِ الْمُسْلِمِينَ لَهُ صَارَ فِي حُكْمِ مَا غُنِمَ مِنْ مَوَاتِهِمْ إِذَا مَنَعُوا مِنْهُ يَكُونُ أَهْلُ الْفَيْءِ أَوْلَى بِهِ ، وَهَلْ يَكُونُونَ أَوْلَى بِهِ يَدًا أَوْ مِلْكًا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ أَوْلَى بِهِ يَدًا ، فَإِنْ أَحْيَاهُ غَيْرُهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَلِكَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُمْ أَوْلَى بِهِ مِلْكًا ، فَإِنْ أَحْيَاهُ غَيْرُهُمْ لَمْ يَمْلِكُوا ، تَعَلُّقًا بِظَاهِرِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ : كَانَ الْمَوَاتُ مَمْلُوكًا لِمَنْ مَلِكَ الْعَامِرَ ، وَمَنْ قَالَ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ تَأَوَّلَ ذَلِكَ بِتَأْوِيلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ فِي مَوَاتٍ كَانَ عَامِرًا ثُمَّ خُرِّبَ عَلَى مَا مَضَى مِنْ تَقْسِيمِ حُكْمِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ مِلْكًا لِلْمُسْلِمِينَ لَا لِمَنْ مَلَكَ الْعَامِرَ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ : لِأَنَّ فِي الْفَيْءِ خُمْسًا لِأَهْلِ الْخُمْسِ وَأَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ لِأَهْلِ الْفَيْءِ وَهَؤُلَاءِ هُمْ كَافَّةُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ : كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَوَاتِ مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ حكمه إِذَا
أَحَازَهُ رَجُلٌ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ ، فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يَحْمِلُ ذَلِكَ عَلَى ظَاهِرِهِ ، وَيُجَوِّزُ بَيْعَ الْمَوَاتِ بِإِحَازَةِ الْمُسْلِمِ وَإِنْ لَمْ يُحْيِهِ : لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِالْإِحَازَةِ أَوْلَى بِهِ وَكَانَ غَيْرُهُ ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ يَمْنَعُ مِنْ بَيْعِ الْمَوَاتِ قَبْلَ الْإِحْيَاءِ : لِأَنَّ يَدَهُ قَدْ تُرْفَعُ إِنْ أَخَّرَ الْإِحْيَاءَ ، وَتَأَوَّلُوا قَوْلَ الشَّافِعِيِّ إِذَا أَحَازَهُ رَجُلٌ ، فَعَبَّرَ عَنِ الْإِحْيَاءِ بِالْإِحَازَةِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَمَنْ عَمِلَ فِي مَعْدِنٍ فِي الْأَرْضِ مِلْكُهَا لِغَيْرِهِ ، فَمَا خَرَجَ مِنْهُ فَلِمَالِكِهَا وَهُوَ مُتَعَدٍّ بِالْعَمَلِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا مَلَكَ رَجُلٌ مَعْدِنًا ظَاهِرًا أَوْ بَاطِنًا ، إِمَّا بِإِحْيَائِهِ ، أَوْ بِمَغْنَمٍ حَصَلَ فِي سَهْمِهِ ، أَوْ بِإِقْطَاعٍ ، وَقِيلَ : يَجُوزُ إِقْطَاعُهُ وَاسْتِدَامَةُ مِلْكِهِ ، فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيهِ ، وَلَا أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْهُ ، فَإِنْ فَعَلَ كَانَ مُتَعَدِّيًا فِي حُكْمِ الْغَاصِبِ يَسْتَرْجِعُ مِنْهُ مَا أَخَذَهُ إِنْ كَانَ بَاقِيًا ، وَيَغْرَمُ إِنْ كَانَ تَالِفًا بِمِثْلِ مَالِهِ مِثْلٌ وَبِقِيمَةِ مَا لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ ، وَلَا أُجْرَةَ لَهُ فِي عَمَلِهِ لِتَعَدِّيهِ بِهِ ، وَمَنْ تَعَدَّى فِي عَمَلٍ لَهُ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ عِوَضًا ، وَعَلَيْهِ غُرْمُ مَا أَفْسَدَ مِنَ الْمَعْدِنِ بِعَمَلِهِ ، وَكَانَ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّيْمَرِيُّ يَرَى أَنْ لَا تَعْزِيرَ عَلَيْهِ ، تَعْلِيلًا بِأَنَّ أَصْلَ الْمَعْدِنِ قَدْ كَانَ مُبَاحًا فَصَارَتْ شُبْهَةً ، وَالَّذِي أَرَى أَنْ يُعَزَّرَ وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ مُبَاحًا قَبْلَ الْمِلْكِ كَمَا يُقْطَعُ فِي سَرِقَةِ الْأَمْوَالِ الْمَمْلُوكَةِ وَإِنْ كَانَتْ عَنْ أُصُولٍ مُبَاحَةٍ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَإِنْ عَمِلَ بِإِذْنِهِ أَوْ عَلَى أَنَّ مَا خَرَجَ مِنْ عَمَلِهِ فَهُوَ لَهُ فَسَوَاءٌ ، وَأَكْثَرُ هَذَا أَنْ يَكُونَ هِبَةً لَا يَعْرِفُهَا الْوَاهِبُ ، وَلَا الْمَوْهُوبُ لَهُ ، وَلَمْ يَجُزْ ، وَلَمْ يَقْبِضْ وَلِلْإِذْنِ الْخِيَارُ فِي أَنْ يَتِمَّ ذَلِكَ أَوْ يُرَدَّ وَلَيْسَ كَالدَّابَّةِ يَأْذَنُ فِي رُكُوبِهَا : لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِمَا أَعْطَاهُ وَقَبَّضَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا مَلَكَ مَعْدِنًا فِي أَرْضٍ أَحْيَاهَا ، أَوِ اشْتَرَاهَا فَظَهَرَ فِيهَا ثُمَّ أَنَّ رَجُلًا عَمِلَ فِيهِ فَأَخْرَجَ مِنْهُ قِطَعًا فما الحكم فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ عَمِلَ بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ ، فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَهُوَ مُتَعَدٍّ بِذَلِكَ ، وَلَا أُجْرَةَ لَهُ ، وَمَا أَخْرَجَهُ فَلِصَاحِبِهِ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِإِذْنِهِ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ عَلَى أَنْ يُخْرِجَهُ الْعَامِلُ لِنَفْسِهِ أَوْ لَهُ ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ عَلَى أَنْ يُخْرِجَهُ لَهُ فَمَا يُخْرِجُهُ يَكُونُ لَهُ ، وَهَلْ لِلْعَامِلِ الْأُجْرَةُ أَمْ لَا يَكُونُ ؟ يَحْكُمُ فِيهِ كَالْحَاكِمِ فِي الْغَسَّالِ إِذَا أَعْطَاهُ الثَّوْبَ لِيَغْسِلَهُ فَغَسَلَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْتَرِطَ لَهُ أُجْرَةً ، وَأَمَّا إِذَا أَذِنَ لَهُ عَلَى أَنَّ مَا يُخْرِجُهُ الْعَامِلُ فَلِنَفْسِهِ دُونَهُ ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ : لِأَنَّهَا هِبَةٌ مَجْهُولَةٌ ، وَالْمَجْهُولُ لَا يَصِحُّ تَمَلُّكُهُ ، وَكُلُّ مَا يُخْرِجُهُ فَإِنَّهُ يَرُدُّهُ عَلَى صَاحِبِ الْمَعْدِنِ إِلَّا أَنْ يَسْتَأْنِفَ لَهُ هِبَةً بَعْدَ الْإِخْرَاجِ وَيُقْبِضَهُ إِيَّاهُ ، وَلَا أُجْرَةَ لِلْعَامِلِ : لِأَنَّهُ عَمِلَ لِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا تَثْبُتُ لَهُ الْأُجْرَةُ إِذَا عَمِلَ لِغَيْرِهِ بِإِجَارَةٍ صَحِيحَةٍ أَوْ فَاسِدَةٍ . فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ إِذَا قَارَضَهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ كُلُّهُ لِلْعَامِلِ فَعَمِلَ وَرَبِحَ ، فَإِنَّ الرِّبْحَ يَكُونُ لِرَبِّ الْمَالِ ، وَأُجْرَةَ الْمِثْلِ لِلْمُقَارِضِ ، وَهَاهُنَا قَدْ عَمِلَ لِنَفْسِهِ : لِأَنَّهُ شَرَطَ جَمِيعَ الرِّبْحِ . فَالْجَوَابُ : أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا عَمِلَ لِغَيْرِهِ : لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ لَيْسَ لَهُ ، وَإِنَّمَا هُوَ
لِغَيْرِهِ ، وَالْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ يَقَعُ لِغَيْرِهِ دُونَهُ ، فَأَمَّا فِي مَسْأَلَتِنَا فَإِنَّ الْعَمَلَ وَقَعَ لِنَفْسِهِ ، وَلَمْ يَقْصِدْ بِذَلِكَ إِلَّا نَفْسَهُ ، فَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أُجْرَةٌ ، فَأَمَّا إِذَا اسْتَأْجَرَهُ لِإِخْرَاجِ شَيْءٍ مِنَ الْمَعْدِنِ فَإِنَّهُ يُنْظَرُ ، فَإِنِ اسْتَأْجَرَهُ مُدَّةً مَعْلُومَةً صَحَّتِ الْإِجَارَةُ ، وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ مَعْلُومًا مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : تَحْفِرُ لِي كَذَا وَكَذَا ذِرَاعًا صَحَّ ذَلِكَ إِذَا كَانَتِ الْأُجْرَةُ مَعْلُومَةً ، فَأَمَّا إِذَا اسْتَأْجَرَهُ لِذَلِكَ وَجَعَلَ أُجْرَتَهُ جَزَاءً مِمَّا يُخْرِجُهُ مِنَ الْمَعْدِنِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : ثُلُثُهُ ، أَوْ رُبْعُهُ ، فَإِنَّ الْإِجَارَةَ فَاسِدَةٌ : لِأَنَّهَا مَجْهُولَةٌ ، وَلَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِلَفْظِ الْجَهَالَةِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : إِنْ أَخْرَجْتَ مِنْهُ شَيْئًا فَقَدْ جَعَلْتُ لَكَ نِصْفَهُ أَوْ ثُلُثَهُ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ : لِأَنَّ الَّذِي جَعَلَ لَهُ كَمَجْهُولِ الْقَدْرِ ، وَإِنْ جَعَلَ مَعْلُومًا فَقَالَ : إِنْ أَخْرَجْتَ مِنْهُ كَذَا فَقَدْ جَعَلْتُ لَكَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ ، صَحَّ ذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ : مَنْ جَاءَ بِعَبْدِي ، أَوْ قَالَ : إِنْ جِئْتَ بِعَبْدِي فَلَكَ دِينَارٌ صَحَّ ذَلِكَ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : مَنْ مَنَعَ فَضْلَ مَاءٍ لِيَمْنَعَ بِهِ الْكَلَأَ مَنَعَهُ اللَّهُ فَضْلَ رَحْمَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَيْسَ لَهُ مَنْعُ الْمَاشِيَةِ مِنْ فَضْلِ مَائِهِ ، وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ مَا يُسْقَى بِهِ الزَّرْعُ أَوِ الشَّجَرُ إِلَّا بِإِذْنِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . الْآبَارُ احياء الموات عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : ضَرْبٌ يَحْفِرُهُ فِي مِلْكِهِ ، وَضَرْبٌ يَحْفِرُهُ فِي الْمَوَاتِ لِتَمَلُّكِهِ ، وَضَرْبٌ يُحْفَرُ فِي الْمَوَاتِ لَا لِلتَّمَلُّكِ . فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ إِذَا حَفَرَ بِئْرًا فِي مِلْكِهِ ، فَإِنَّمَا نَقَلَ مِلْكَهُ مِنْ مِلْكِهِ : لِأَنَّهُ مَلَكَ الْمَحَلَّ قَبْلَ الْحَفْرِ . وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي : وَهُوَ إِذَا حَفَرَ بِئْرًا فِي الْمَوَاتِ لِيَتَمَلَّكَهَا نوى تملك البئر بالاحياء فَإِنَّهُ يَمْلِكُهَا بِالْإِحْيَاءِ ، وَالْإِحْيَاءُ أَنْ يَبْلُغَ إِلَى مَائِهَا : لِأَنَّ ذَلِكَ نَيْلُهَا ، وَإِذَا بَلَغَ نَيْلَ مَا يُحْيِيهِ مَلَكَهُ ، وَقِيلَ : إِنْ يَبْلُغِ الْمَاءَ يَكُنْ ذَلِكَ تَحَجُّرًا ، وَهَذَا كَمَا قُلْنَا فِي الْمَعْدِنِ الْبَاطِنِ : إِنَّ تَحْجِيرَهُ مَا لَمْ يَبْلُغِ النَّيْلَ ، وَإِذَا بَلَغَ النَّيْلَ كَانَ ذَلِكَ إِحْيَاءً وَيَمْلِكُهُ ، وَيُفَارِقُ الْمَعْدِنَ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ : لِأَنَّ الْمَعْدِنَ لَا يَنْتَهِي عِمَارَتُهُ ، وَالْبِئْرَ تَنْتَهِي عِمَارَتُهَا ، فَإِذَا بَلَغَ الْمَاءَ تَكَرَّرَتْ مَنْفَعَتُهَا عَلَى صِنْفَيْهَا ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَهَلْ يَمْلِكُ الْمَاءَ الَّذِي يَحْصُلُ فِي هَذَيْنِ الضَّرْبَيْنِ أَمْ لَا ؟ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّهُ يَمْلِكُ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : لَا يَمْلِكُ : لِأَنَّ الْمَاءَ فِي الْبِئْرِ لَوْ كَانَ مَمْلُوكًا يُسْتَبَاحُ بِالْإِجَارَةِ : لَأَنَّ الْأَعْيَانَ لَا تُسْتَبَاحُ بِالْإِجَارَةِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَمْلُوكًا لَمَا جَازَ بَيْعُ دَارٍ فِي بِئْرِهَا مَاءٌ بِدَارٍ فِي بِئْرِهَا مَاءٌ : لِأَنَّ الرِّبَا يَجْرِي فِي الْمَاءِ لِكَوْنِهِ مَطْعُومًا ، وَلَمَّا جَازَ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مَمْلُوكٌ أَنَّهُ نَمَاءٌ مَلَكَهُ فَهُوَ كَثَمَرَةِ الشَّجَرَةِ ، وَلِأَنَّ هَذَا الْمَاءَ مَعْدِنٌ ظَهَرَ فِي أَرْضِهِ ، فَهُوَ كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَغَيْرِهَا إِذَا ظَهَرَتْ فِي أَرْضِهِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : لَوْ كَانَ مَمْلُوكًا لَمْ يُسْتَبَحْ بِالْإِجَارَةِ ، فَهُوَ أَنَّ الْعَيْنَ قَدْ تُسْتَبَاحُ بِالْإِجَارَةِ إِذَا دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَمْلِكَ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ عَلَى الْإِرْضَاعِ عَيْنَ اللَّبَنِ : لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ ، وَجَوَابٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ إِنَّمَا جَازَ أَنْ يَسْتَبِيحَهُ الْمُسْتَأْجِرُ : لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى الْمُكْرِي فِي ذَلِكَ : لِأَنَّهُ يَسْتَخْلِفُ فِي الْحَالِ ، وَمَا لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِيهِ فَلَيْسَ لَهُ مَنْعُ
الْغَيْرِ مِنْهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ أَنْ يُسْتَظَلَّ بِحَائِطِهِ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ دَلِيلِهِمُ الثَّانِي فَهُوَ أَنَّ الْمَاءَ يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فَهُوَ مَمْلُوكٌ ، وَلَا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ، فَكَذَلِكَ صَحَّ الْبَيْعُ إِذَا تَقَرَّرَ هَذَانِ الْوَجْهَانِ ، فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّهُ مَمْلُوكٌ فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْهُ ، وَإِنْ أَخَذَهُ كَانَ عَلَيْهِ رَدُّهُ عَلَى صَاحِبِهِ ، فَإِنْ قُلْنَا : لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ ، فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَيْضًا أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا : لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يَتَخَطَّى فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ ، فَإِنْ تَخَطَّى بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَاسْتَقَى مِنْ ذَلِكَ الْمَاءَ مَلَكَهُ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ رَدُّهُ ، كَمَا إِذَا تَوَغَّلَ فِي أَرْضِهِ صَيْدٌ فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ : لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يَتَخَطَّى مِلْكَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ، فَإِنْ خَالَفَ وَتَخَطَّى فَأَخَذَهُ مَلَكُهُ ، وَأَمَّا إِذَا أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ مِنْهُ شَيْئًا ، فَإِنْ خَالَفَ قُلْنَا : إِنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْهُ حَتَّى يَسْتَقِيَهُ وَيَحُوزَهُ فَيَمْلِكَهُ بِالْحِيَازَةِ ، وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّهُ مَمْلُوكٌ جَازَ أَنْ يَبِيعَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْبِئْرِ إِذَا شَاهَدَ الْمُشْتَرِيَ كَيْلًا أَوْ وَزْنًا ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ جَمِيعَ مَا فِي الْبِئْرِ : لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ إِذَا كَانَ بِبَيْعٍ وَيُرِيدُ كُلَّمَا اسْتَقَى مِنْهُ شَيْءٌ ، فَلَا يُمْكِنُ تَمْيِيزُ الْمَبِيعِ مِنْ غَيْرِهِ . وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ مِنَ الْآبَارِ : وَهُوَ إِذَا نَزَلَ قَوْمٌ مَوْضِعًا مِنَ الْمَوَاتِ فَحَفَرُوا فِيهِ بِئْرًا لِيَشْرَبُوا مِنْ مَائِهَا وَيَسْقُوا مِنْهُ مَوَاشِيَهُمْ مُدَّةَ مُقَامِهِمْ ، وَلَمْ يَقْصِدُوا التَّمَلُّكَ بِالْإِحْيَاءِ فهل يمتلكونها أم لا ، فَإِنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَهَا : لِأَنَّ الْمُحْيِيَ إِنَّمَا يَمْلِكُ بِالْإِحْيَاءِ مُدَّةَ مَا قَصَدَ بِهِ بِمِلْكِهِ ، فَإِنَّهُ يَكُونُ أَحَقَّ بِهِ مُدَّةَ مُقَامِهِ ، فَإِذَا رَحَلَ فَكُلُّ مَنْ يَسْبِقُ إِلَيْهِ كَانَ أَحَقَّ بِهِ ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنَا إِنَّهُ يَمْلِكُ الْبِئْرَ فَإِنَّهُ أَحَقُّ بِمَائِهَا بِقَدْرِ حَاجَتِهِ لِشُرْبِهِ وَشُرْبِ مَاشِيَتِهِ وَسَقْيِ زَرْعِهِ ، فَإِذَا فَضَلَ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْءٌ وَجَبَ عَلَيْهِ بَذْلُهُ بِلَا عِوَضٍ لِمَنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ لِشُرْبِهِ وَشُرْبِ مَاشِيَتِهِ مِنَ السَّائِلَةِ وَغَيْرِهِمْ ، وَلَيْسَ لَهُ مَنْعُ الْمَاءِ الْفَاضِلِ عَنْ حَاجَتِهِ حَتَّى لَا يَتَمَكَّنَ غَيْرُهُ مِنْ رَعْيِ الْكَلَأِ ، وَالَّذِي يَقْرُبُ ذَلِكَ الْمَاءَ ، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِشُرْبِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ وَشُرْبِ مَاشِيَتِهِ ، فَأَمَّا لِسَقْيِ زَرْعِهِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدِ بْنُ حَرْبَوَيْهِ : يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ لِشُرْبِ مَاشِيَتِهِ وَسَقْيِ زَرْعِهِ ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ : يَجِبُ عَلَيْهِ بَذْلُهُ بِعِوَضٍ لِشُرْبِ الْمَاشِيَةِ وَسَقْيِ الزَّرْعِ ، فَأَمَّا بِلَا عِوَضٍ فَلَا ، وَاحْتَجَّ أَبُو عُبَيْدٍ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ وَقَالَ : وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَلَأً مَمْلُوكًا وَبِجَنْبِهِ بِئْرٌ ، وَلَا يُمْكِنُ سَقْيُ الْمَوَاشِي مِنْ تِلْكَ الْبِئْرِ إِلَّا بِالرَّعْيِ فِي ذَلِكَ الْكَلَأِ لَمْ يَلْزَمْهُ بَذْلُ الْفَاضِلِ مِنْ كِلَائِهِ ، فَإِنْ كَانَ مَنْعُهُ يُؤَدِّي إِلَى مَنْعِ الْمَاءِ الْمُبَاحِ ، فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمَاءُ لَهُ ، وَكَانَ الْكَلَأُ مُبَاحًا لَمْ يَلْزَمْهُ بَذْلُ الْمَاءِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَنْعُ يُؤَدِّي إِلَى مَنْعِ الْكَلَأِ الْمُبَاحِ ، قَالَ : وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِبْ ذَلِكَ لِسَقْيِ زَرْعِهِ فَكَذَلِكَ لِمَوَاشِيهِ . وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : مَنْ مَنَعَ فَضْلَ الْمَاءِ لِيَمْنَعَ بِهِ الْكَلَأَ مَنَعَهُ اللَّهُ فَضْلَ رَحْمَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَفِيهِ أَدِلَّةٌ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ تَوَعَّدَ عَلَى الْمَنْعِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْبَذْلَ وَاجِبٌ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْفَاضِلَ هُوَ الَّذِي يَجِبُ بَذْلُهُ ، فَأَمَّا مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمَاشِيَةُ وَنَفْسُهُ وَزَرْعُهُ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ بَذْلُهُ وَهُوَ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِ .
وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْبَذْلُ بِلَا عِوَضٍ . وَالرَّابِعُ : أَنَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِلْمَاشِيَةِ دُونَ غَيْرِهَا وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : النَّاسُ شُرَكَاءٌ فِي ثَلَاثٍ : الْمَاءِ ، وَالنَّارِ ، وَالْكَلَأِ وَرَوَى جَابِرٌ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعِ فَضْلِ الْمَاءِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ : هُوَ عَامٌ وَخَبَرُنَا خَاصٌّ فَقَضَى عَلَيْهِ . وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْكَلَأِ فَهُوَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمَاءِ وَبَيْنَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَاءَ إِذَا أُخِذَ اسْتُخْلِفَ فِي الْحَالِ وَنَبَعَ مِثْلُهُ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْحَشِيشُ فَإِنَّهُ إِذَا أُخِذَ لَا يُسْتَخْلَفُ بَدَلُهُ فِي الْحَالِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْحَشِيشَ يَتَمَوَّلُ فِي الْعَادَةِ ، وَالْمَاءَ لَا يَتَمَوَّلُ فِي الْعَادَةِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ دَلِيلِهِ الْأَخِيرِ فَهُوَ أَنَّ الزَّرْعَ لَا حُرْمَةَ لَهُ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْحَيَوَانُ فَإِنَّ لَهُ حُرْمَةً ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ عَطِشَ زَرْعُهُ فَلَمْ يَسْقِهِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى ذَلِكَ ، وَلَوْ عَطِشَ حَيَوَانٌ أُجْبِرَ عَلَى سَقْيِهِ ، فَبَانَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا إِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْبَذْلُ لِمَا ذَكَرْنَا ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَبْذُلَ آلَتَهُ الَّتِي هِيَ الْبَكَرَةُ ، وَالدَّلْوُ ، وَالْحَبْلُ : لِأَنَّهَا تَبْلَى بِالِاسْتِعْمَالِ ، وَلَا تُسْتَخْلَفُ ، وَيُفَارِقُ الْمَاءَ : لِأَنَّهُ يُسْتَخْلَفُ فِي الْحَالِ بَدَلُهُ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الَّذِي قَدْ حَازَهُ وَجَمَعَهُ فِي جُبَّةٍ ، أَوْ مَرْكَبِهِ ، أَوْ مَصْنَعِهِ أثر الإحياء فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ بَذْلُ شَيْءٍ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ فَاضِلًا عَنْ حَاجَتِهِ : لِأَنَّهُ لَا يُسْتَخْلَفُ ، وَحُكْمُهُ كَحُكْمِ الْبِئْرِ يَجِبُ عَلَى صَاحِبِ الْعَيْنِ بَذْلُ الْفَاضِلِ عَنْ حَاجَتِهِ لِمَاشِيَةِ غَيْرِهِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ بَذْلُهُ لِزَرْعِ غَيْرِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : فِي الْمِيَاهِ مِلْكِهَا والسَّقْيِ مِنْهَا . وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْكَلَامَ فِيهَا مِنْ فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي مِلْكِهَا . وَالْآخَرُ : فِي السَّقْيِ مِنْهَا . فَأَمَّا الْكَلَامُ فِي مِلْكِهَا فَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : مُبَاحٌ ، وَمَمْلُوكٌ ، وَمُخْتَلَفٌ فِيهِ . فَأَمَّا الْمُبَاحُ كَمَاءِ الْبَحْرِ ، وَالنَّهْرِ الْكَبِيرِ كَدِجْلَةَ ، وَالْفُرَاتِ ، وَالنِّيلِ ، وَمِثْلُ الْعُيُونِ النَّابِعَةِ فِي مَوَاتِ السَّهْلِ وَالْجَبَلِ ، فَكُلُّ هَذَا مُبَاحٌ ، وَلِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَسْتَعْمِلَ مِنْهُ مَا أَرَادَ كَيْفَ شَاءَ . وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : النَّاسُ شُرَكَاءٌ فِي ثَلَاثٍ : الْمَاءِ ، وَالنَّارِ ، وَالْكَلَأِ وَلِأَنَّهُ حَادِثٌ فِي أَرْضِ مَوَاتٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا كَالْحَشِيشِ ، وَإِنْ زَادَ هَذَا الْمَاءُ وَدَخَلَ أَمْلَاكَ النَّاسِ وَاجْتَمَعَ فِيهَا لَمْ يَمْلِكُوهُ : لِأَنَّهُ لَوْ نَزَلَ مَطَرٌ وَاجْتَمَعَ فِي مِلْكِهِ فَمَكَثَ ، أَوْ فَرَّخَ طَائِرٌ فِي بُسْتَانِهِ ، أَوْ تَوَحَّلَ ظَبْيٌ فِي أَرْضِهِ لَمْ يَمْلِكْهُ ، وَكَانَ بِمَنْ حَازَهُ ، فَكَذَلِكَ الْمَاءُ ، وَأَمَّا الْمَمْلُوكُ فَكُلُّ مَا حَازَهُ مِنَ الْمَاءِ الْمُبَاحِ مِنْ قِرْبَةٍ ، أَوْ جَرَّةٍ ، أَوْ سَاقَهُ إِلَى بِرْكَةٍ فَجَمَعَهُ فِيهَا
فَهَذَا مَمْلُوكٌ لَهُ كَسَائِرِ الْمَائِعَاتِ الْمَمْلُوكَةِ ، وَمَتَى غَصَبَ غَاصِبٌ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَجَبَ رَدُّهُ عَلَى صَاحِبِهِ . وَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِي كَوْنِهِ مَمْلُوكًا ، فَهُوَ كُلُّ مَا نَبَعَ فِي مِلْكِهِ مِنْ بِئْرٍ ، أَوْ عَيْنٍ ، وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَمْلُوكٌ ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ ، فَإِذَا قُلْنَا : إِنَّهُ غَيْرَ مَمْلُوكٍ ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَهُ ، وَلَا شَيْئًا مِنْهُ كَيْلًا ، وَلَا وَزْنًا ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ جَمِيعَهُ : لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَإِنَّهُ يَخْتَلِطُ بِهِ غَيْرُهُ ، وَإِذَا بَاعَ دَارًا فِيهَا بِئْرٌ مَا لَمْ يَدْخُلِ الْمَاءُ فِي الْبَيْعِ : لِأَنَّهُ مُودَعٌ فِيهَا غَيْرُ مُتَّصِلٍ بِهَا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الطَّعَامِ فِي الْمَاءِ فِي الدَّارِ ، هَكَذَا قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ : يَدْخُلُ فِي الدَّارِ تَبَعًا ، وَمَنْ قَالَ : لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ تَبَعًا ، قَالَ : إِذَا شَرَطَ صَحَّ الْبَيْعُ ، فَإِنْ قِيلَ : قَدْ قُلْتُمْ لَا يَجُوزُ بَيْعُ جَمِيعِ مَا فِي الْبِئْرِ مِنَ الْمَاءِ وَأَجَزْتُمْ هَاهُنَا فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ؟ . فَالْجَوَابُ أَنَّهُ إِذَا بَاعَ الْبِئْرَ مَعَ مَائِهَا فَمَا يَحْدُثُ مِنَ الْمَاءِ يَكُونُ مِلْكًا لِلْمُشْتَرِي ، وَلَا يَتَعَذَّرُ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ إِلَيْهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا بَاعَ الْمَاءَ وَحْدَهُ : لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ : لِأَنَّهُ إِلَى أَنْ يُسَلَّمَ قَدْ بِيعَ فِيهِ مَاءٌ آخَرُ فَاخْتَلَطَ بِهِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا السَّقْيُ مِنْهُ فَإِنَّ الْمَاءَ الْمُبَاحَ أقسامه في السقي عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : الضَّرْبُ الْأَوَّلُ : هُوَ مَاءُ نَهْرٍ عَظِيمٍ مِثْلِ دِجْلَةَ ، وَالْفُرَاتِ وَغَيْرِهِمَا ، وَالنَّاسُ فِي السَّقْيِ مِنْهُ شَرْعٌ سَوَاءٌ ، وَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى تَرْتِيبٍ وَتَقْدِيمٍ وَتَأْخِيرٍ لِكَثْرَتِهِ وَاتِّسَاعِهِ . وَالثَّانِي : مَاءٌ مُبَاحٌ فِي نَهْرٍ صَغِيرٍ يَأْخُذُ مِنَ النَّهْرِ الْكَبِيرِ ، وَلَا يَسْعُ جَمِيعَ الْأَرَاضِي إِذَا سُقِيَتْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ ، وَيَقَعُ فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ نِزَاعٌ ، فَهَذَا يُقَدَّمُ فِيهِ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ إِلَى أَوَّلِ النَّهْرِ الصَّغِيرِ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا خَاصَمَ الزُّبَيْرَ فِي سَرَاحِ الْحُرَّةِ الَّتِي يَسْقُونَ بِهَا ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ : سَرَحُ الْمَاءِ يَمُرُّ عَلَيْهِ ، فَأَبَى عَلَيْهِ الزُّبَيْرُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ فَغَضِبَ الْأَنْصَارِيُّ ، وَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ : اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَبْلُغَ إِلَى الْجِدْرِ قَالَ الزُّبَيْرُ : فَوَاللَّهِ ، إِنِّي لَأَحْسِبُ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ : فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [ النِّسَاءِ : 65 ] الْآيَةَ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْأَقْرَبَ أَوْلَى ، فَإِذَا اسْتَكْفَى أَرْسَلَهُ إِلَى جَارِهِ إِلَى مَنْ يَلِيهِ ، وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ كَانَ لَهُ سَهْمٌ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَخَاصَمَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مُرُورِ السُّبُلِ الَّذِي يَقْتَسِمُونَ مَاءَهُ ، فَقَضَى بَيْنَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْمَاءَ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ثُمَّ يَحْبِسُهُ الْأَعْلَى عَنِ الْأَسْفَلِ لِكِي يُرْسِلَهُ إِلَيْهِ ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَقْرَبَ إِلَى فُرْهَةِ النَّهْرِ بِمَنْزِلَةِ السَّابِقِ إِلَى الْمَشْرَعَةِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَوْلَى مِنَ الَّذِي هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ . وَأَمَّا تَأْوِيلُ قِصَّةِ الْبِئْرِ فَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْرَهُ أَوَّلًا بِأَنْ لَا يَسْتَوْفِيَ جَمِيعَ حَقِّهِ ، وَيُرْسِلَ
الْمَاءَ إِلَى جَارِهِ ، فَلَمَّا أَسَاءَ جَارُهُ الْأَدَبَ أَمْرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَسْتَوْفِيَ فِي حَقِّهِ فَقَالَ : احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَبْلُغَ الْجِدْرَ ( وَهُوَ الْحَائِطُ ) . فَإِنْ قِيلَ : فَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ أَنَّهُ عَلَّقَ الْحَقَّ بِأَنْ يَبْلُغَ الْمَاءُ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِذَلِكَ . قُلْنَا : لَيْسَ فِيهِمَا خِلَافٌ : لِأَنَّ الْمَاءَ إِذَا بَلَغَ الْكَعْبَيْنِ وَكَانَتِ الْأَرْضُ مُسْتَوِيَةً رَجَعَ الْمَاءُ إِلَى الْجِدَارِ . إِذَا تَقَرَّرَ هَذَا ، فَإِنَّ الْأَقْرَبَ إِلَى الْفُرْهَةِ يَسْقِي وَيَحْبِسُ الْمَاءَ عَمَّنْ دُونَهُ ، فَإِذَا بَلَغَ الْمَاءُ الْكَعْبَيْنِ أَرْسَلَهُ إِلَى جَارِهِ ، وَهَكَذَا الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ يَفْعَلُ كُلَّمَا حَبَسَ الْمَاءَ وَبَلَغَ فِي أَرْضِهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ أَرْسَلَهُ إِلَى مَنْ يَلِيهِ حَتَّى تَشْرَبَ الْأَرَاضِي كُلُّهَا ، فَإِنْ كَانَ زَرْعُ الْأَسْفَلِ يَهْلَكُ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ الْمَاءُ إِلَيْهِ لَمْ يَجِبْ عَلَى مَنْ فَوْقَهُ إِرْسَالُهُ إِلَيْهِ ، فَإِذَا أَحْيَا عَلَى هَذَا النَّهْرِ الصَّغِيرِ رَجُلٌ أَرْضًا مَوَاتًا هِيَ أَقْرَبُ إِلَى فُرْهَةِ النَّهْرِ مَنْ أَرَاضِيهِمْ ، فَإِنَّهُمْ أَحَقُّ بِمَائِهِ ، فَإِذَا فَضَلَ عَنْهُمْ شَيْءٌ سَقَى الْمُحْيِي مِنْهُ ، وَلَا يَقُولُ : إِنَّ هَذَا الْمَاءَ مِلْكٌ لَهُمْ كَمَا إِذَا حَازُوهُ مَلَكُوهُ ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ مَرَافِقِ مِلْكِهِمْ فَكَانُوا أَحَقَّ بِهِ مَعَ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ ، فَمَا فَضَلَ مِنْهُمْ كَانَ لِمَنْ أَحْيَا عَلَى ذَلِكَ الْمَاءِ مَوَاتًا ، وَأَمَّا الَّذِي فِي نَهْرٍ مَمْلُوكٍ فَهُوَ أَنْ يَحْفِرُوا فِي الْمَوَاتِ نَهْرًا صَغِيرًا لِيُحْيُوا عَلَى مَائِهِ أَرْضًا ، فَإِذَا بَدَوْا بِالْحَفْرِ فَقَدْ تَحَجَّرُوا إِلَى أَنْ يَصِلَ الْحَفْرُ بِالنَّهْرِ الْكَبِيرِ الَّذِي يَأْخُذُونَ الْمَاءَ مِنْهُ ، فَإِذَا وَصَلُوا إِلَيْهِ مَلَكُوهُ كَمَا إِذَا حَفَرُوا بِئْرًا فَوَصَلُوا إِلَى الْمَاءِ مَلَكُوهُ ، وَإِذَا حَفَرُوا مَعْدِنًا مِنَ الْمَعَادِنِ الْبَاطِنَةِ ، وَقُلْنَا : يَمْلِكُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، فَإِذَا وَصَلُوا إِلَى النِّيلِ مَلَكُوهُ . إِذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُمْ يَمْلِكُونَهُ عَلَى قَدْرِ نَفَقَاتِهِمْ عَلَيْهِ ، فَإِنْ أَنْفَقُوا عَلَى السَّوَاءِ كَانَ النَّهْرُ بَيْنَهُمْ بِالتَّسْوِيَةِ ، وَإِنْ تَفَاضَلُوا كَانَ مِلْكُهُمْ عَلَى قَدْرِ مَا أَنْفَقُوا . فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا ، فَإِنَّ الْمَاءَ إِذَا جَرَى فِيهِ لَمْ يَمْلِكُوهُ كَمَا إِذَا جَرَى الْفَيْضُ إِلَى مِلْكِ رَجُلٍ وَاجْتَمَعَ لَمْ يَمْلِكْهُ ، وَلَكِنْ يَكُونُ أَهْلُ النَّهْرِ أَوْلَى بِهِ : لِأَنَّ يَدَهُمْ عَلَيْهِ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُزَاحِمَهُمْ فِيهِ : لِأَنَّ النَّهْرَ مِلْكٌ لَهُمْ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ عَلَى قَدْرِ الْمِلْكِ : لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهِ لِأَجْلِ الْمِلْكِ ، فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ كَبِيرًا يَسَعُهُمْ أَنْ يَسْقُوا مِنْ غَيْرِ قِسْمَةٍ سَقَوْا مِنْهُ ، وَإِنْ لَمْ يَسَعْهُمْ فَإِنْ تَهَابَوْا وَتَرَاضَوْا عَلَى ذَلِكَ جَازَ لَهُمْ مَا تَرَاضَوْا بِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ وَاخْتَلَفُوا نَصَبَ الْحَاكِمُ فِي مَوْضِعِ الْقِسْمَةِ خَشَبَةً مُسْتَوِيَةَ الظَّهْرِ مُحْفَرَةً بِقَدْرِ حُقُوقِهِمْ ، فَإِنْ كَانَ لِقَوْمٍ مِائَةُ جَرِيبٍ وَلِآخِرَ عَشَرَةُ أَجْرِبَةٍ كَانَتِ الْحُفَرُ إِحْدَى عَشَرَةَ حُفْرَةً مُتَسَاوِيَةً فَيَكُونُ حُفْرَةً مِنْهَا لِسَاقِيَةِ مَنْ لَهُ عَشَرَةُ أَجْرِبَةٍ ، وَالْبَوَاقِي لِأَصْحَابِ الْمِائَةِ جَرِيبٍ ، وَذَلِكَ قِسْمَةُ الْمَاءِ الْعَادِلَةُ . وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ .
_____كِتَابُ الْعَطَايَا وَالصَّدَقَاتِ وَالْحَبْسِ وَمَا دَخَلَ فِي ذَلِكَ مِنْ كِتَابِ السَّائِبَةِ _____
مَسْأَلَةٌ يُجْمَعُ مَا يُعْطِي النَّاسُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ثَلَاثَةُ وُجُوهٍ
كِتَابُ الْعَطَايَا وَالصَّدَقَاتِ وَالْحَبْسِ وَمَا دَخَلَ فِي ذَلِكَ مِنْ كِتَابِ السَّائِبَةِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " يُجْمَعُ مَا يُعْطِي النَّاسُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ثَلَاثَةُ وُجُوهٍ ، ثُمَّ يَتَشَعَّبُ كُلُّ وَجْهٍ مِنْهَا ، فَفِي الْحَيَاةِ مِنْهَا وَجْهَانِ وَبَعْدَ الْمَمَاتِ مِنْهَا وَجْهٌ ، فَمِمَّا فِي الْحَيَاةِ : الصَّدَقَاتُ ، وَاحْتَجَّ فِيهَا بِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَلَكَ مَائَةَ سَهْمٍ مِنْ خَيْبَرَ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لَمْ أُصِبْ مَالًا مِثْلَهُ قَطُّ ، وَقَدْ أَرَدْتُ أَنْ أَتَقَرَّبَ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : حَبِّسِ الْأَصْلَ وَسَبِّلِ الثَّمَرَةَ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : فَلَمَّا أَجَازَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُحْبَسَ أَصْلُ الْمَالِ وَتُسْبَلَ الثَّمَرَةُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى إِخْرَاجِهِ الْأَصْلَ مِنْ مِلْكِهِ إِلَى أَنْ يَكُونَ مَحْبُوسًا لَا يَمْلِكُ مَنْ سَبَلَ عَلَيْهِ ثَمَرَهُ بَيْعَ أَصْلِهِ ، فَصَارَ هَذَا الْمَالُ مُبَايِنًا لِمَا سِوَاهُ وَمُجَامِعًا لِأَنْ يَخْرُجَ الْعَبْدُ مِنْ مِلْكِهِ بِالْعِتْقِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى غَيْرِ مَالِكٍ ، فَمِلْكُهُ بِذَلِكَ مَنْفَعَةُ نَفْسِهِ لَا رَقَبَتِهِ كَمَا يَمْلِكُ الْمُحْبَسُ عَلَيْهِ مَنْفَعَةَ الْمَالِ لَا رَقَبَتَهُ ، وَمُحَرَّمٌ عَلَى الْمُحْبِسِ أَنْ يَمْلِكَ الْمَالَ كَمَا مُحَرَّمٌ عَلَى الْمُعْتِقِ أَنْ يَمْلِكَ الْعَبْدَ وَيَتِمُّ الْحَبْسُ وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْ : لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هُوَ الْمُصَدِّقُ بِأَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَلَمْ يَزَلْ يَلِي صَدَقَتَهُ فِيمَا بَلَغَنَا حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ ، وَلَمْ يَزَلْ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَلِي صَدَقَتَهُ حَتَى لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى ، وَلَمْ تَزَلْ فَاطِمَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - تَلِي صَدَقَتَهَا حَتَّى لَقِيَتِ اللَّهَ ، وَرَوَى الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَدِيثًا ذَكَرَ فِيهِ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَصَدَّقَتْ بِمَالِهَا عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ وَأَنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ تَصَدَّقَ عَلَيْهِمْ وَأَدْخَلَ مَعَهُمْ غَيْرَهُمْ " . فَأَمَّا الَّذِي يَكُونُ بَعْدَ الْوَفَاةِ فَهُوَ الْوَصِيَّةُ وَلَهَا كِتَابٌ مُفْرَدٌ نَذْكُرُهَا فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَأَمَّا اللَّذَانِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَهُمَا الْهِبَةُ ، وَالْوَقْفُ ، فَأَمَّا الْهِبَةُ فَلَهَا بَابٌ يَجِيءُ فِيمَا بَعْدُ ، وَأَمَّا الْوَقْفُ فَهَذَا مَوْضِعُهُ فَالْوَقْفُ يَحْبِسُ الْأَصْلَ وَيُسْبِلُ الْمَنْفَعَةَ ، وَجَمْعُهُ : وُقُوفٌ وَأَوْقَافٌ ، فَإِذَا وَقَفَ شَيْئًا زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ فهل له الرجوع فيه بِنَفْسِ الْوَقْفِ وَلَزِمَ الْوَقْفُ ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَلَا التَّصَرُّفُ فِيهِ بِبَيْعٍ وَلَا هِبَةٍ ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنْ وَرَثَتِهِ التَّصَرُّفُ فِيهِ ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ لُزُومُ الْقَبْضِ ، وَلَا حُكْمِ الْحَاكِمِ وَهُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ أَجْمَعَ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُفْيَانَ وَمُحَمَّدٍ غَيْرَ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقُولُ : مِنْ شَرْطِ لُزُومِهِ الْقَبْضُ ، وَرَوَى عِيسَى بْنُ أَبَانٍ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ لَمَّا قَدِمَ بَغْدَادَ كَانَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي بَيْعِ الْأَوْقَافِ حَتَّى حَدَّثَهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ بِحَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ : هَذَا لَا يَسَعُ أَحَدًا خِلَافُهُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ حَكَمَ الْحَاكِمُ بِالْوَقْفِ لَزِمَ ، وَإِنْ لَمْ يَحْكُمْ بِهِ لَمْ يَلْزَمْ ، وَكَانَ الْوَاقِفُ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ بَاعَهُ أَوْ وَهَبَهُ ، وَإِنْ مَاتَ وَرِثَهُ وَرَثَتُهُ ، وَإِنْ أَوْصَى بِالْوَقْفِ يَلْزَمُ فِي الثُّلُثِ . قَالَ الْقَاضِي : قَدْ نَاقَضَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي هَذَا : لِأَنَّهُ جَعَلَ الْوَقْفَ لَازِمًا فِي ثُلُثِهِ فِي حَالِ مَرَضِهِ الْمَخُوفِ إِذَا أَنْجَزَهُ وَلَمْ يُؤَخِّرْهُ . وَلَا لَازِمًا فِي جَمِيعِ مَالِهِ فِي حَالِ صِحَّتِهِ : لِأَنَّ كُلَّ مَا لَزِمَ فِي الثُّلُثِ بِوَصِيَّةٍ لَزِمَ فِيهِ فِي مَرَضِهِ إِذَا أَنْجَزَهُ وَفِي جَمِيعِ مَالِهِ فِي حَالِ صِحَّتِهِ مِثْلَ الْعِتْقِ فَإِنَّهُ إِذَا أَوْصَى بِهِ لَزِمَ فِي ثُلُثِهِ ، وَإِذَا أَنْجَزَهُ فِي مَرَضِهِ لَزِمَ فِي ثُلُثِهِ ، وَإِذَا أَنْجَزَهُ فِي حَالِ صِحَّتِهِ لَزِمَ فِي جَمِيعِ مَالِهِ وَاحْتَجَّ بِأَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ وَفُرِضَ فِيهَا الْفَرَائِضُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَا حَبْسَ بَعْدَ سُورَةِ النِّسَاءَ . وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ صَاحِبَ الْأَذَانِ جَعَلَ حَائِطًا لَهُ صَدَقَةً ، وَجَعَلَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَتَى أَبَوَاهُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لَمْ يَكُنْ لَنَا عَيْشٌ إِلَّا هَذَا الْحَائِطَ فَرَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ مَاتَا فَوَرِثَهُمَا فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ وَقْفَهُ إِيَّاهُ لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ مِلْكِهِ ، وَلَوْ كَانَ قَدْ أَخْرَجَهُ عَنْ مِلْكِهِ لَمْ يَصِحَّ الرَّدُّ عَلَى أَبَوَيْهِ ، وَرُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ قَالَ : جَاءَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِطْلَاقِ الْحَبْسِ . وَرُوِيَ عَنْ سَلْمَانَ بْنِ زَيْدٍ ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا وَقَفَ وَقْفًا فَأَبْطَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَوْ كَانَ قَدْ لَزِمَ لَمْ يَصِحَّ إِبْطَالُهُ ، وَمِنَ الْقِيَاسِ أَنَّهُ قَصَدَ إِخْرَاجَ مَالِهِ عَنْ مِلْكِهِ عَلَى وَجْهِ الصَّدَقَةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَ لِمُجَدِّدٍ الْقَوْلُ . أَصْلُهُ : صَدَقَةُ التَّمْلِيكِ ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَةٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَزُولَ بِهِ الْمِلْكُ عَنِ الرَّقَبَةِ قِيَاسًا عَلَى الْإِجَارَةِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ قَالَ : هَذِهِ الْأَرْضُ مُحَرَّمَةٌ لَا تُوَرَّثُ وَلَا تُبَاعُ وَلَا تُوهَبُ لَمْ يَصِرْ وَقْفًا ، وَلَمْ يَزَلْ مِلْكُهُ عَنْهَا ، وَقَدْ أَتَى بِصَرِيحِ مَعْنَى الْوَقْفِ ، فَإِذَا قَالَ : وَقَفْتُهَا أَوْ حَبَسْتُهَا ، أَوْلَى أَنْ لَا يَزُولَ مِلْكُهُ عَنْهَا . وَدَلِيلُنَا : مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَلَكَ مِائَةَ سَهْمٍ مِنْ خَيْبَرَ اشْتَرَاهَا ، فَلَمَّا اسْتَجْمَعَهَا ، قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنِّي أَصَبْتُ مَالًا لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ مِثْلَهُ ، وَقَدْ أَرَدْتُ أَنْ أَتَقَرَّبَ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : حَبِّسِ الْأَصْلَ وَسَبِّلِ الثَّمَرَةَ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ : إِنْ شِئْتَ تَصَدَّقْتَ بِهَا وَحَبَسْتَ أَصْلَهَا فَجَعَلَهَا عُمَرُ عَلَى الْفُقَرَاءِ ، وَالْمَسَاكِينِ ، وَالْغُزَاةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَفِي الرِّقَابِ ، وَابْنِ السَّبِيلِ ، وَلَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلَّاهَا إِنْ أَكَلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ وَيُطْعِمُ صَدِيقَهُ غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ ، وَأَوْصَى بِهَا إِلَى حَفْصَةَ ، ثُمَّ إِلَى الْأَكَابِرِ مِنْ أَوْلَادِ عُمَرَ ، وَالتَّعَلُّقُ بِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهُ بِأَنْ يَحْبِسَ الْأُصُولَ ، وَعِنْدَ الْمُخَالِفِ لَا يَقَعُ تَحْبِيسُ الْأَصْلِ بِحَالٍ ، فَإِنْ قِيلَ : بَلْ يَصِحُّ مِنْهُ : لِأَنَّهُ يَقِفُ وَيَرْفَعُ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى يَحْكُمَ بِهِ ، فَإِذَا حَكَمَ بِهِ لَزِمَ قِيلَ : فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ اللُّزُومُ مِنْ جِهَتِهِ ، إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ جِهَةِ الْحَاكِمِ بِالْحُكْمِ ، كَمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَعَلَى أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ عُمَرَ رَفَعَ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَكَمَ بِهِ ، وَلَوْ كَانَ فَعَلَ ذَلِكَ لَنُقِلَ : لِأَنَّهُ أَوْلَى بِالنَّقْلِ مِنْ غَيْرِهِ . وَالتَّعَلُّقُ الثَّانِي : بِالْخَبَرِ أَنَّ عُمَرَ جَعَلَهَا صَدَقَةً ثُمَّ ذَكَرَ أَحْكَامَهَا فَقَالَ : لَا تُبَاعُ ، وَلَا تُوهَبُ ، وَلَا تُورَثُ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ تَتَعَلَّقُ بِهَا إِذَا صَارَتْ صَدَقَةً وَإِنْ لَمْ يَحْكُمْ بِهَا الْحَاكِمُ ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ : لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ ، وَعُمَرَ ، وَعُثْمَانَ ، وَعَلِيًّا ، وَطَلْحَةَ ، وَالزُّبَيْرَ ، وَأَنَسًا ، وَأَبَا الدَّرْدَاءِ ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ ، وَفَاطِمَةَ وَغَيْرَهُمْ وَقَفُوا دُورًا وَبَسَاتِينَ ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ رَجَعَ فِي وَقْفِهِ فَبَاعَ مِنْهُ شَيْئًا ، وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ وَرَثَتِهِمْ مَعَ اخْتِلَافِ هَمِّهِمْ ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لَنُقِلَ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمُ الرُّجُوعُ . وَمِنَ الْقِيَاسِ : أَنَّهُ تَصَرُّفٌ يَلْزَمُ بِالْوَصِيَّةِ ، فَجَازَ أَنْ يَلْزَمَ فِي حَالِ الْحَيَاةِ مِنْ غَيْرِ حُكْمِ الْحَاكِمِ . أَصْلُهُ : إِذَا بَنَى مَسْجِدًا ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ غَيْرِ حُكْمِ الْحَاكِمَ ، وَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِذَا أُذِنَ لِقَوْمٍ فَصَلَّوْا فِيهِ صَارَ مَحْبِسًا وَثَبَتَ وَقْفُهُ ، وَكَذَلِكَ إِذَا عَمِلَ مَقْبَرَةً وَأَرَادَ أَنْ يَقِفَهَا فَأَذِنَ لِقَوْمٍ فَدَفَنُوا فِيهَا ثَبَتَ الْوَقْفُ ، وَلِأَنَّهُ إِزَالَةُ مِلْكٍ يَلْزَمُ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ فَجَازَ أَنْ يَلْزَمَ بِغَيْرِ حُكْمِهِ . أَصْلُهُ : سَائِرُ أَنْوَاعِ التَّصَرُّفِ الَّتِي تُزِيلُ الْمِلْكَ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَرَادَ حَبْسَ الزَّانِيَةِ ، وَذَلِكَ - قَوْلُهُ تَعَالَى - : فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا [ النِّسَاءِ : 15 ] ، وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السَّبِيلَ فَقَالَ : الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ مَا يُنَبِّهُ فِي آخَرَ وَهُوَ قَوْلُهُ : إِنَّ اللَّهَ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍ حَقَّهُ ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ كَأَنَّهُ قَالَ : لَا يُحْبَسُ عَنْ وَارِثٍ شَيْءٌ جَعَلَهُ اللَّهُ لَهُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ : فَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ الْحَائِطَ مَا كَانَ لَهُ إِنَّمَا كَانَ لِأَبَوَيْهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ رُوِيَ عَنِ الْخَبَرِ مَاتَا فَوَرِثَهُمَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ شُرَيْحٍ فَهُوَ أَنْ نَقُولَ : هَذَا مُرْسَلٌ : لِأَنَّ شُرَيْحًا تَابِعِيٌّ ، وَلَا
نَقُولُ بِالْمَرَاسِيلِ ، أَوْ نَقُولُ : أَرَادَ بِذَلِكَ الْأَحْبَاسَ الَّتِي كَانَتْ تَفْعَلُهَا الْجَاهِلِيَّةُ ، وَقَدْ ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ فَقَالَ : مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ [ الْمَائِدَةِ : 103 ] . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ فَهُوَ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِيهِ : لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْوَقْفُ مَا صَحَّ لِمَعْنًى عَرَضَ فِيهِ فَرَدَّهُ لِذَلِكَ الْمَعْنَى ، وَذَلِكَ الرَّدُّ لَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الْحَبْسِ ، كَمَا لَوْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا بَاعَ بَيْعًا فَرَدَّهُ رَسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ حَبْسَ الْبَيْعِ بَاطِلٌ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى صَدَقَةِ التَّمْلِيكِ فَإِنَّا نَقْلِبُهُ ، فَنَقُولُ : فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ حُكْمِ الْحَاكِمِ وَعَدَمُهُ سَوَاءً . أَصْلُهُ : مَا ذَكَرُوهُ ثُمَّ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ لَا يَلْزَمَ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ إِذَا أَخْرَجَهُ بِلَفْظِ الصَّدَقَةِ ، وَإِذَا أَخْرَجَهُ بِلَفْظِ الْوَقْفِ لَزِمَ ، أَلَا تَرَى أَنَّ هِبَةَ الْعَبْدِ لَا تَلْزَمُ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ ، وَعِتْقَهُ يَلْزَمُ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى عَقْدِ الْإِجَارَةِ فَهُوَ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَةٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ عَقْدٌ عَلَى الرَّقَبَةِ : لِأَنَّ الْوَقْفَ مُزِيلُ الْمِلْكِ عَنِ الرَّقَبَةِ فَهُوَ كَالْعِتْقِ ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمُ الْأَخِيرُ فَهُوَ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ لَا يَلْزَمَ إِذَا أَتَى بِصَرِيحِ الْمَعْنَى ، وَيَلْزَمَ إِذَا أُتِيَ بِلَفْظَةٍ كَمَا إِذَا قَالَ عَنْ عَقْدِ النِّكَاحِ : أَحْلَلْتُ لَكَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ وَأَبَحْتُهَا لَكَ ، لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ ، وَقَدْ صَرَّحَ بِمَعْنَاهُ ، وَلَوْ قَالَ : زَوَّجْتُكَ ، أَوْ أَنَكَحْتُكَ جَازَ ذَلِكَ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ تَفْسِيرَ السَّائِبَةِ وَالْبَحِيرَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِ
فَصْلٌ : ذِكْرُ أَصْحَابِنَا تَفْسِيرَ السَّائِبَةِ ، وَالْبَحِيرَةِ ، وَالْوَصِيلَةِ ، وَالْحَامِ ، فَأَمَّا السَّائِبَةُ فَهِيَ النَّاقَةُ تَلِدُ عَشَرَةَ بُطُونٍ ، كُلُّهَا إِنَاثٌ فَتُسَيَّبُ تِلْكَ النَّاقَةُ فَلَا تُحْلَبُ إِلَّا لِلضَّيْفِ ، وَلَا تُرْكَبُ ، وَالْبَحِيرَةُ : وَلَدُهَا الَّذِي يَجِيءُ بِهِ فِي الْبَطْنِ الْحَادِي عَشَرَ ، فَإِذَا كَانَ أُنْثَى فَهِيَ الْبَحِيرَةُ ، وَإِنَّمَا سَمَّوْهَا بِذَلِكَ : لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَنْحَرُونَ أُذُنَهَا ، أَيْ : يَشُقُّونَهَا ، وَالنَّحْرُ : الشَّقُّ ، وَلِهَذَا سَمَّوُا الْبَحْرَ بَحْرًا : لِأَنَّهُ شَقٌّ فِي الْأَرْضِ . وَأَمَّا الْوَصِيلَةُ : فَهِيَ الشَّاةُ تَلِدُ خَمْسَةَ بُطُونٍ فِي كُلِّ بَطْنٍ عَنَاقَانِ ، فَإِذَا وَلَدَتْ بَطْنًا سَادِسًا ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى ، قَالُوا : وَصَلَتْ أَخَاهَا ، فَمَا وَلَدَتْ بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ حَلَالًا لِلذُّكُورِ وَحَرَامًا لِلْإِنَاثِ ، وَأَمَّا الْحَامُ : فَهُوَ الْفَحْلُ يَنْتِجُ مِنْ ظَهْرِهِ عَشَرَةَ بُطُونٍ فَيُسَيَّبُ وَيُقَالُ : حَمَى ظَهْرَهُ فَكَانَ لَا يُرْكَبُ .
فَصْلٌ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ لُزُومِ الْوَقْفِ الْقَبْضُ
فَصْلٌ : لَيْسَ مِنْ شَرْطِ لُزُومِ الْوَقْفِ عِنْدَنَا الْقَبْضُ ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : مِنْ شَرْطِ لُزُومِهِ الْقَبْضُ كَالْهِبَةِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُمَرَ : حَبِّسِ الْأَصْلَ وَسَبِّلِ الثَّمَرَةَ ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِقْبَاضِ وَلِأَنَّهُ جَعَلَ إِلَيْهِ التَّحْبِيسَ ، وَعِنْدَ الْمُخَالِفِ لَا يَمْلِكُ الْوَاقِفُ التَّحْبِيسَ ، لِأَنَّهُ لَا تَصِيرُ بِوَقْفِهِ لَازِمًا حَتَّى يَقْبِضَهُ مِنْ غَيْرِهِ وَذَلِكَ سَبَبٌ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ ، وَلِأَنَّ عُمَرَ وَقَفَ تِلْكَ السِّهَامَ الَّتِي مَلَكَهَا مِنْ أَرْضِ خَيْبَرَ فَكَانَ يَلِي صَدَقَتَهُ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ ، وَكَذَلِكَ وَقَفَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ ، وَلَمْ يَزَلْ يَلِي
صَدَقَتَهُ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، وَلَمْ تَزَلْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلَامُ تَلِي صَدَقَتَهَا حَتَّى لَقِيَتِ اللَّهَ ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْوَقْفَ يَلْزَمُ قَبْلَ الْقَبْضِ ، فَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الْمُخَالِفُ فَهُوَ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ عَطِيَّةٌ : لِأَنَّ الْوَقْفَ بِمَنْزِلَةِ الْعِتْقِ ، وَالْعِتْقُ وَالْعَقْدُ لَا يُسَمَّى عَطِيَّةً ، فَكَذَلِكَ الْوَقْفُ ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ أَنَّ ذَلِكَ تَمْلِيكٌ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي الْمَوْهُوبِ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْوَقْفُ : لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ بِبَيْعٍ وَلَا غَيْرِهِ .
فَصْلٌ : إِذَا وَقَفَ أَرْضًا أَوْ دَارًا ، فَالْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ أَنَّ مِلْكَ الْوَاقِفِ هل يزول عن الموقوف بالوقف يَزُولُ عَنِ الْمَوْقُوفِ بِالْوَقْفِ كَمَا يَزُولُ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ ، وَخَرَّجَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِيهِ قَوْلًا آخَرَ أَنَّهُ لَا يَزُولُ مِلْكُهُ ، وَاحْتَجَّ مَنْ نَصَرَهُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : حَبِّسِ الْأَصْلَ وَسَبِّلِ الثَّمَرَةَ وَتَحْبِيسُ الْأَصْلِ يَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ الْمِلْكِ ، وَهَذَا غَلَطٌ : لِأَنَّ الْوَقْفَ سَبَبٌ بِقَطْعِ تَصَرُّفِ الْوَاقِفِ فِي الرَّقَبَةِ وَالْمُنَفِّعَةِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُزِيلَ الْمِلْكَ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْبَيْعُ وَالْعِتْقُ وَغَيْرُهُمَا . وَإِنَّ الْجَوَابَ عَمَّا ذَكَرُوهُ : فَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّحْبِيسُ ذَكَرَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مِلْكَ الْوَاقِفِ يَزُولُ عَنِ الْمَوْقُوفِ ، فَهَلْ يَزُولُ إِلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ فَيَمْلِكُهُ ، أَوْ يَنْتَقِلُ مِلْكُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ؟ الوقف اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ طُرُقٍ : مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الْمَسْأَلَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمِلْكَ يَنْتَقِلُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَا يَنْتَقِلُ إِلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّهُ قَالَ : كَمَا يَمْلِكُ الْمُحْبَسُ عَلَيْهِ مَنْفَعَةَ الْمَالِ لَا رَقَبَتَهُ . وَالْقَوْلُ الْآخَرُ : أَنَّهُ يَنْتَقِلُ إِلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ ذَكَرَ مِنْ كِتَابِ الشَّهَادَاتِ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا ادَّعَى وَقْفًا عَلَيْهِ فَأَقَامَ شَاهِدًا ، أَوْ أَحَدًا حَلِفَ مَعَهُ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ قَدِ انْتَقَلَ إِلَيْهِ وَخَالَفَ ذَلِكَ الْعِتْقُ : لِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِيهِ الْيَمِينُ وَالشَّاهِدُ ، فَلَوِ ادَّعَى الْعَبْدُ أَنَّ سَيِّدَهُ أَعْتَقَهُ وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ شَاهِدًا وَاحِدًا لَمْ يَحْلِفْ مَعَهُ ، فَإِذَا تَقَرَّرَ الْقَوْلَانِ ، فَإِنْ قَالَ : إِنَّهُ يَنْتَقِلُ الْمِلْكُ إِلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ ، فَوَجْهُهُ أَنَّ الْوَقْفَ لَا يُخْرِجُ الْمَوْقُوفَ عَنِ الْمَالِيَّةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَطْعَنُ بِالْغَصْبِ وَيُثْبِتُ عَلَيْهِ الْيَدَ ، وَلَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ بَيْعَهُ ، وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا مَلَكَهُ : لِأَنَّ السَّيِّدَ لَا يَبِيعُ أُمَّ الْوَلَدِ وَهِيَ مِلْكٌ لَهُ ، وَإِذَا قُلْنَا : إِنَّ الْمِلْكَ يَنْتَقِلُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ، فَوَجْهُهُ أَنَّهُ إِزَالَةُ مِلْكٍ عَنِ الرَّقَبَةِ وَالْمَنْفَعَةِ عَلَى وَجْهِ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ، فَوَجَبَ أَنْ يَنْتَقِلَ الْمِلْكُ إِلَيْهِ كَالْعِتْقِ . وَالْجَوَابُ عَنْ دَلِيلِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ هُوَ أَنَّهُ يَنْتَقِضُ بِحَصِيرِ الْمَسْجِدِ ، فَإِنَّهَا تُضْمَنُ بِالْيَدِ وَلَيْسَتْ مِلْكًا لِأَحَدٍ مِنِ الْآدَمِيِّينَ ، وَأَمَّا الطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ : مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : إِنَّ الْمِلْكَ يَنْتَقِلُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى قَوْلًا وَاحِدًا كَمَا ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا ، وَمَا ذَكَرُوهُ فِي الشَّهَادَاتِ مِنْ قَبُولِ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ عَلَى الْوَقْفِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ قَدِ انْتَقَلَ إِلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ : لِأَنَّ الْوَقْفَ وَإِنْ كَانَ يَنْتَقِلُ مِلْكُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ انْتِفَاعُ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَ دَارًا
فَالْمَقْصُودُ بِهِ أَنْ يَأْخُذَ غَلَّتَهُ ، وَإِنْ كَانَ بُسْتَانًا فَالْمَقْصُودُ بِهِ أَنْ يَأْخُذَ ثَمَرَتَهُ ، وَذَلِكَ الْمَقْصُودُ مَالٌ ، وَكُلَّمَا كَانَ الْمَقْصُودُ بِهِ مَالًا قُبِلَ فِيهِ الشَّاهِدُ وَالْيَمِينُ ، وَأَمَّا الطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ : فَإِنَّ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : إِنَّ الْمِلْكَ يَنْتَقِلُ إِلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَالَّذِي ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ : لَا يَمْلِكُ بَيْعَ الْمَوْقُوفِ كَمَا لَا يَمْلِكُ الْعِتْقُ بَيْعَ رَقَبَتِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَبَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِمُ الصَّدَقَاتُ الْمَفْرُوضَاتُ ، وَلَقَدْ حَفِظْنَا الصَّدَقَاتِ عَنْ عَدَدٍ كَثِيرٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ، وَلَقَدْ حَكَى لِي عَدَدٌ مِنْ أَوْلَادِهِمْ وَأَهْلِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَلَّوْنَهَا حَتَى مَاتُوا ، يَنْقُلُ ذَلِكَ الْعَامَّةُ مِنْهُمْ عَنِ الْعَامَّةِ لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - : وَإِنَّ أَكْثَرَ مَا عِنْدَنَا بِالْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ مِنَ الصَّدَقَاتِ لَعَلِّي مَا وَصَفْتُ لَمْ يَزَلْ مَنْ تَصَدَّقَ بِهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ السَّلَفِ يَلُونَهَا عَلَى مَنْ مَاتُوا وَإِنْ نُقِلَ الْحَدِيثُ فِيهَا كَالتَّكَلُّفِ ( قَالَ ) : وَاحْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِحَدِيثِ شُرَيْحٍ أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَاءَ بِإِطْلَاقِ الْحَبْسِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ : الْحَبْسُ الَّذِي جَاءَ بِإِطْلَاقِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ كَانَ حَدِيثًا ثَابِتًا كَانَ عَلَى مَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَحْبِسُ مِنَ الْبَحِيرَةِ ، وَالْوَصِيلَةِ ، وَالِحَامِ : لِأَنَّهَا كَانَتْ أَحْبَاسَهُمْ ، وَلَا نَعْلَمُ جَاهِلِيًّا حَبَسَ دَارًا عَلَى وَلَدٍ ، وَلَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَلَا عَلَى مَسَاكِينَ وَأَجَازَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُمَرَ الْحَبْسَ عَلَى مَا رَوَيْنَا ، وَالَّذِي جَاءَ بِإِطْلَاقِهِ غَيْرُ الْحَبْسِ الَّذِي أَجَازَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( قَالَ ) : وَاحْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِقَوْلِ شُرَيْحٍ : لَا حَبْسَ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : لَوْ جَعَلَ عَرْصَةً لَهُ مَسْجِدًا لَا تَكُونُ حَبْسًا عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَكَذَلِكَ مَا أَخْرَجَ مِنْ مَالِهِ فَلَيْسَ بِحَبْسٍ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . جُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَأَهْلُ بَيْتِهِ ، وَسَائِرُ النَّاسِ . فَأَمَّا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : فَكَانَتِ الصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ حكمها للنبي صلى الله عليه وسلم مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : إِنَّا أَهْلَ بَيْتٍ لَا يَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ ، وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَأَى ثَمَرَةً مُلْقَاةً فَقَالَ : لَوْلَا أَنِّي أَخْشَى أَنْ تَكُونَ مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ لَأَكَلْتُهَا وَلِأَنَّ الصَّدَقَاتِ أَوْسَاخُ النَّاسِ ، وَمَا كَانَ مِنْ أَوْسَاخِ النَّاسِ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنَزَّهٌ عَنْهُ . وَأَمَّا صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ حكمها للنبي صلى الله عليه وسلم فَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَقْبَلُهَا ، وَرُوِيَ أَنَّ سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ حَمَلَ إِلَيْهِ تَمْرًا فِي طَبَقٍ فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ قَالَ : صَدَقَةٌ فَرَدَّهُ ، ثُمَّ حَمَلَ إِلَيْهِ يَوْمًا آخَرَ مِثْلَ ذَلِكَ فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ قَالَ : هَدِيَّةٌ فَقَبِلَهُ ، وَرُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكَلَ مِنْ لَحْمٍ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ وَقَالَ : هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ وَهَلْ كَانَ ذَلِكَ الِامْتِنَاعُ لِأَجْلِ التَّحْرِيمِ ، أَوْ لِأَجْلِ الِاسْتِحْبَابِ ؟ امتناع النبي عن الصدقة فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لِأَجْلِ التَّحْرِيمِ : لِأَنَّهُ رَدَّ الصَّدَقَةَ عَلَى سَلْمَانَ ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ لَمَا رَدَّهَا وَلَكَانَ يَطِيبُ قَلْبُهُ بِقَبُولِهَا ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ لِلصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ لَمَّا رَدَّ حِمَارَهُ الَّذِي أَهْدَاهُ إِلَيْهِ وَرَأَى الْكَرَاهَةَ فِي وَجْهِهِ : لَيْسَ بِنَا رَدٌّ عَلَيْكَ وَكُلُّنَا حُرُمٌ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ
قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي اللَّحْمِ الَّذِي تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ : هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : إِنَّا أَهْلَ بَيْتٍ لَا يَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ وَهَذَا عَامٌّ ، وَإِذَا قُلْنَا : إِنَّ ذَلِكَ الِامْتِنَاعَ كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّنَزُّهِ لَا التَّحْرِيمِ فَوَجْهُهُ : أَنَّ كُلَّ مَنْ حَلَّتْ لَهُ الْهَدِيَّةُ حَلَّتْ لَهُ الصَّدَقَةُ الْمُتَطَوَّعُ بِهَا لِغَيْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَنَّ أَهْلَ بَيْتِهِ يَحْرُمُ عَلَيْهِمِ الصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ وَتَحِلُّ لَهُمُ الصَّدَقَةُ الْمُتَطَوَّعُ بِهَا ، وَكَذَلِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . فَأَمَّا أَهْلُ بَيْتِهِ : فَالصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ حكمها لأهل بيت النبي مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : إِنَّا أَهْلَ بَيْتٍ لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ وَقَوْلِهِ لِلْفَضْلِ فِي خُمْسِ الْخُمْسِ : مَا يُغْنِيكُمْ عَنْ أَوْسَاخِ النَّاسِ ، وَرُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ أَخَذَ ثَمَرَةً مِنَ الصَّدَقَةِ فَأَكَلَهَا فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : كَخٍ كَخٍ ، يَعْنِي : ارْمِ بِهَا ، وَأَمَّا صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ فَكَانَتْ حَلَالًا لَهُمْ . وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ كَانَ يَشْرَبُ مِنْ مَاءِ السِّقَايَاتِ الَّتِي بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ . فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ ، فَقَالَ : " إِنَّمَا حُرِمَتْ عَلَيْنَا الصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ " . فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَعْنِي بِأَهْلِ الْبَيْتِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِذَوِي الْقُرْبَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ ، فَهُمُ الَّذِينَ يَحْرُمُ عَلَيْهِمِ الصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ وَهُمْ ذَوِي الْقُرْبَى ، فَأَمَّا آلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِينَ يُذْكَرُونَ فِي التَّشَهُّدِ الصدقة لهم ، فَقَدْ قِيلَ : هُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ وَقِيلَ : هُمُ الْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ فَآلُ الرَّجُلِ : أَتْبَاعُهُ وَأَشْيَاعُهُ ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [ غَافِرٍ : 46 ] وَأَرَادَ بِهِ أَشْيَاعَ فِرْعَوْنَ ، وَأَمَّا سَائِرُ النَّاسِ فَتَحِلُّ الصَّدَقَاتُ كُلُّهَا عَلَيْهِمِ الْمَفْرُوضَةُ ، وَغَيْرُ الْمَفْرُوضَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
مَسْأَلَةٌ الْحَبْسُ فِي الرَّقِيقِ وَالْمَاشِيَةِ إِذَا عُرِفَتْ بِعَيْنِهَا
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَيَجُوزُ الْحَبْسُ فِي الرَّقِيقِ ، وَالْمَاشِيَةِ هل يجوز أم لا إِذَا عُرِفَتْ بِعَيْنِهَا قِيَاسًا عَلَى النَّخْلِ ، وَالدُّورِ ، وَالْأَرَضِينَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . يَجُوزُ وَقْفُ الْعَقَارِ ، وَالدُّورِ ، وَالْأَرْضِ ، وَالرَّقِيقِ ، وَالْمَاشِيَةِ ، وَالسِّلَاحِ وَكُلِّ عَيْنٍ تَبْقَى بَقَاءً مُتَّصِلًا وَيُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي الْأَرَاضِي ، وَالدُّورِ ، وَالْكُرَاعِ ، وَالسِّلَاحِ ، وَالْغِلْمَانِ فَأَمَّا وَقْفُ الْغِلْمَانِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْحَيَوَانِ عَلَى الِانْفِرَادِ فَلَا تَصِحُّ وَاحْتَجَّ مَنْ نَصَرَهُ مَا عَدَا الْأَرْضَ وَالدُّورَ لَا يَثْبُتُ فِيهِ الشُّفْعَةُ ، وَلَا يُسْتَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ فَلَمْ يَصِحَّ وَقْفُهُ كَالْأَطْعِمَةِ وَالسَّمُومَاتِ ، وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ أَنَّ أُمَّ مَعْقَلٍ جَاءَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ أَبَا مَعْقِلٍ جَعَلَ نَاضِحَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَإِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ فَأَرْكَبُهُ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ارْكَبِيهِ فَإِنَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ عُمَرَ سَاعِيًا ، فَلَمَّا رَجَعَ ثَلَاثَةٌ : أَحَدُهُمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ ، أَمَّا خَالِدٌ فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا إِنَّهُ قَدْ حَبَسَ أَدْرَاعهَهُ وَأَعْتُدَهُ ، وَمِنْ وِجْهَةِ الْمَعْنَى أَنَّهَا عَيْنٌ تَجُوزُ بَيْعُهَا وَيُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا مَعَ بَقَائِهَا الْمُتَّصِلِ فَجَازَ وَقْفُهَا كَالدُّورِ . وَقَوْلُنَا : " عَيْنٌ " احْتِرَازُهَا يَكُونُ فِي الذِّمَّةِ : لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ فِي ذِمَّةِ رَجُلٍ حَيَوَانٌ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ غَيْرِهِ لَمْ يَصِحَّ . وَقَوْلُنَا : " يَجُوزُ بَيْعُهُ " احْتِرَازٌ مِنْ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْحُرِّ . وَقَوْلُنَا : يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا " احْتِرَازٌ مِنَ الْحَشَرَاتِ الَّتِي لَا يُنْتَفَعُ بِهَا وَقَوْلُنَا : " مَعَ
بَقَائِهَا الْمُتَّصِلِ " احْتِرَازٌ مِنَ الطَّعَامِ ، فَإِنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ وَلَكِنَّهُ سَلَفٌ بِالِانْتِفَاعِ وَقَوْلُنَا " الْمُتَّصِلُ " احْتِرَازٌ مِنَ السَّمُومَاتِ فَإِنَّهُ لَا يَتَّصِلُ بَقَاؤُهَا وَإِنَّمَا تَبْقَى يَوْمًا وَيَوْمَيْنِ وَثَلَاثَةً فَقَطْ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا جَازَ وَقْفُهُ تَبَعًا لِغَيْرِهِ جَازَ وَقْفُهُ مُنْفَرِدًا كَالشَّجَرَةِ : لِأَنَّهَا وَقْفٌ تَبَعًا لِلْأَرْضِ وَتُوقَفُ مُنْفَرِدَةً عَنْهَا ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْوَقْفِ انْتِفَاعُ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِيمَا عَدَا الْأَرْضَ وَالْعَقَارَ فَجَازَ وَقْفُهُ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرُوهُ فَهُوَ أَنَّهُ مُنْتَقَضٌ بِالْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ ، فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِيهِ الشُّفْعَةُ وَيَصِحُّ وَقْفُهُ ، ثُمَّ إِنَّ الشُّفْعَةَ إِنَّمَا اخْتَصَّتْ بِالْأَرْضِ وَالْعَقَارِ : لِأَنَّهُ إِنَّمَا تَثَبَّتَ لِإِزَالَةِ الضَّرَرِ الَّذِي يَلْحَقُ الشَّرِيكَ عَلَى الدَّوَامِ ، وَإِنَّمَا يَدُومُ الضَّرَرُ فِيمَا لَا يَنْفَكُّ ، وَمَا يَنْفَكُّ فَلَا يَدُومُ الضَّرَرُ فِيهِ ، فَلِهَذَا لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ الشُّفْعَةُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْوَقْفُ : لِأَنَّهُ إِنَّمَا جَازَ الِانْتِفَاعُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِيمَا يَنْفَكُّ وَيُحَوَّلُ إِذَا كَانَ عَلَى الْأَوْصَافِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا ، فَجَازَ وَقْفُهُ إِذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَكُلُّ عَيْنٍ جَازَ بَيْعُهَا وَأَمْكَنَ الِانْتِفَاعُ بِهَا مَعَ بَقَائِهَا الْمُتَّصِلِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ وَقْفُهَا إِذَا كَانَتْ مُعَيَّنَةً ، فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ فِي الذِّمَّةِ أَوْ مُطْلَقَةً وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : وَقَفْتُ فَرَسًا أَوْ عَبْدًا ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ : لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ ، وَلَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا : لَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ ثَوْبًا مُطْلَقًا : لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ وَالْإِخْبَارُ عَلَيْهِ . فَأَمَّا الْكَلْبُ فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَقْفُهُ : لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " فَإِذَا قَالَ : تَصَدَّقْتُ بِدَارِي عَلَى قَوْمٍ أَوْ رَجُلٍ مَعْرُوفٍ حَيٍّ يَوْمَ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ وَقَالَ : صَدَقَةٌ مُحَرَّمَةٌ ، أَوْ قَالَ : مَوْقُوفَةٌ ، أَوْ قَالَ : صَدَقَةٌ مُسْبَلَةٌ فَقَدْ خَرَجَتْ مِنْ مِلْكِهِ فَلَا تَعُودُ مِيرَاثًا أَبَدًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . أَلْفَاظُ الْوَقْفِ سِتَّةٌ : تَصَدَّقْتُ وَوَقَفْتُ وَحَبَسْتُ : لِأَنَّ التَّصَدُّقَ يَحْتَمِلُ الْوَقْفَ وَيَحْتَمِلُ صَدَقَةَ التَّمْلِيكِ الْمُتَطَوَّعِ بِهَا وَيَحْتَمِلُ الصَّدَقَةَ الْمَفْرُوضَةَ ، فَإِذَا قَرَنَهُ بِقَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَى الْوَقْفِ انْصَرَفَ إِلَى الْوَقْفِ وَانْقَطَعَ الِاحْتِمَالُ ، وَالْقَرِينَةُ أَنْ يَقُولَ : تَصَدَّقْتُ صَدَقَةً مَوْقُوفَةً ، أَوْ مُحْبَسَةً ، أَوْ مُسْبِلَةً ، أَوْ مُحَرَّمَةً ، أَوْ مُؤَبَّدَةً ، أَوْ يَقُولُ : صَدَقَةً لَا تُبَاعُ ، وَلَا تُوهَبُ ، وَلَا تُورَثُ : لِأَنَّ هَذِهِ كُلَّهَا تُصْرَفُ إِلَى الْوَقْفِ ، وَكَذَلِكَ إِذَا نَوَى الْوَقْفَ انْصَرَفَ إِلَى الْوَقْفِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَصِيرُ وَقْفًا مِنَ الْحُكْمِ ، فَإِذَا أَقَرَّ بِأَنَّهُ نَوَى الْوَقْفَ صَارَ وَقْفًا فِي الْحُكْمِ حِينَئِذٍ كَمَا قَالَ : أَنْتِ حِلٌّ وَنَوَى الطَّلَاقَ وَقَعَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَإِذَا أَقَرَّتْ بِالنِّيَّةِ وَقَعَ الطَّلَاقُ فِي الْحُكْمِ ، فَأَمَّا إِذَا قَالَ : وَقَفْتُ ، كَانَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِيهِ : لِأَنَّ الشَّرْعَ قَدْ وَرَدَ بِهَا حَيْثُ قَالَ لِعُمَرَ : حَبِّسِ الْأَصْلَ وَسَبِّلِ الثَّمَرَةَ وَعُرْفُ الشَّرْعِ بِمَنْزِلَةِ عُرْفِ الْعَادَةِ ، فَأَمَّا إِذَا قَالَ : حُرِّمَتْ وَبَدَتْ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمَا كِنَايَتَانِ : لِأَنَّهُ مَا وَرَدَ بِهِمَا : لِأَنَّهُمَا لَا يُسْتَعْمَلَانِ إِلَّا فِي الْوَقْفِ ، وَلَا يَحْتَمِلَانِ شَيْئًا آخَرَ ، فَإِذَا قُلْنَا : إِنَّهُمَا صَرِيحَانِ فِيهِ ، فَالْحَاكِمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَإِذَا قُلْنَا : كِنَايَتَانِ ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْقَرِينَةِ أَوِ النِّيَّةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا هُوَ كِنَايَةٌ مِنْ أَلْفَاظِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا مَا اخْتُلِفَ فِيهِ فَلَفْظَانِ : التَّحْرِيمُ وَالتَّأْبِيدُ في الوقف وحكمهما ، فَإِذَا قَالَ : حَرَّمْتُهَا أَوْ أَبَدْتُهَا ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يَكُونُ كِنَايَةً لِاحْتِمَالِهِ أَنْ يُرِيدَ بِتَحْرِيمِ الْوَقْفِ ، أَوْ يُرِيدَ تَحْرِيمَ التَّصَرُّفِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَكُونُ صَرِيحًا : لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْوَقْفُ مِنَ الصَّرِيحِ .
فَصْلٌ : وَقْفُ الْمُشَاعِ حكمه يَجُوزُ ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : لَا يَجُوزُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ مِنْ أَنَّ رَهْنَهُ وَإِحَازَتَهُ لَا تَجُوزُ . وَدَلِيلُنَا : مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَلَكَ مَائَةَ سَهْمٍ مِنْ خَيْبَرَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : حَبِّسِ الْأَصْلَ وَسَبِّلِ الثَّمَرَةَ فَوَقَفَهَا بِأَمْرِهِ وَكَانَتْ مُشَاعًا ، وَلِأَنَّ مَا صَحَّ بَيْعُهُ مِنْ ذَوَاتِ الْمَنَافِعِ الْبَاقِيَةِ صَحَّ وَقْفُهُ كَالْمَحُوزِ ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ صَحَّ آخِرُهُ ، وَالْمُشَاعُ كَالْبَيْعِ .
فَصْلٌ : وَقْفُ الدِّرْهَمِ وَالدَّنَانِيرِ حكمه لَا يَجُوزُ وَقْفُهَا لِاسْتِهْلَاكِهَا فَكَانَتْ كَالطَّعَامِ ، وَرَوَى أَبُو ثَوْرٍ ، عَنِ الشَّافِعِيِّ جَوَازَ وَقْفِهَا وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى وَقْفِهَا عَلَى أَنْ يُؤَاجِرَهَا لِمَنَافِعِهَا لَا لِاسْتِهْلَاكِهَا بِأَعْيَانِهَا ، فَكَأَنَّهُ أَرَادَ وَقْفَ الْمَنَافِعِ وَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ وَإِنْ وَقَفَهَا لِلْإِجَارَةِ وَالِانْتِفَاعِ الْبَاقِي ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ كَمَا قُلْنَا فِي الْإِجَارَةِ . وَأَمَّا وَقْفُ الْحُلِيِّ حكمه فَجَائِزٌ لَا يَخْتَلِفُ لِجَوَازِ إِجَارَتِهِ ، أَوْ مَكَانِ الِانْتِفَاعِ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ :
فَصْلٌ : أَرْضُ الْخَرَاجِ حكم وقفها ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ مَمْلُوكَةَ الدُّورِ ، فَيَكُونُ خَرَاجُهَا جِزْيَةً تَسْقُطُ عَنْهَا بِالْإِسْلَامِ وَيَجُوزُ وَقْفُهَا لِكَوْنِهَا مِلْكًا تَامًّا لِوَقْفِهَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ غَيْرَ مَمْلُوكَةِ الدُّورِ كَأَرْضِ السَّوَادِ ، فَخَرَاجُهَا أُجْرَةٌ ، وَوَقْفُهَا لَا يَجُوزُ ، وَأَجَازَهُ أَهْلُ الْعِرَاقِ عَلَى أَصْلِهِمْ فِي جَوَازِ بَيْعِهَا ، وَهُوَ أَصْلُنَا فِي الْمَنْعِ مِنْ وَقْفِهَا ، أَوْ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا بَيْعُهَا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْ مِلْكِهِ إِلَّا إِلَى مَالِكِ مَنْفَعَةٍ يَوْمَ يُخْرِجُهَا إِلَيْهِ ، فَإِنْ لَمْ يُسْبِلْهَا عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً أَبَدًا ، فَإِذَا انْقَرَضَ الْمُتَصَدِّقُ بِهَا عَلَيْهِ كَانَتْ مُحَرَّمَةً أَبَدًا وَرَدَدْنَاهَا عَلَى أَقْرَبِ النَّاسِ بِالَّذِي تَصَدَّقَ بِهَا يَوْمَ تَرْجِعُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الْوَقْفَ مُلْحَقٌ بِالْهِبَاتِ فِي أَصْلِهِ ، وَبِالْوَصَايَا فِي فَرْعِهِ ، وَلَيْسَ كَالْهِبَاتِ الْمَحْضَةِ : لِأَنَّهُ قَدْ يَدْخُلُ فِيهَا مَنْ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ ، وَلَا كَالْوَصَايَا : لِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ أَصْلٍ مَوْجُودٍ ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ صِحَّةَ الْوَقْفِ مَنْ يَجُوزُ وَقْفُهُ ، وَمَا يَجُوزُ وَقْفُهُ مُعْتَبَرٌ بِخَمْسَةِ شروط الموقوف شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفَ السَّبِيلِ ، لِيُعْلَمَ مَصْرِفُهُ وَجِهَةُ اسْتِحْقَاقِهِ ، فَإِنْ قَالَ : وَقَفْتُهُ عَلَى
مَا شَاءَ زَيْدٌ ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ : وَقَفْتُهُ عَلَى مَا شَاءَ زَيْدٌ ، كَانَ بَاطِلًا ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ : وَقَفْتُهُ فِيمَا شَاءَ اللَّهُ ، كَانَ بَاطِلًا : لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَشِيئَةَ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ ، فَلَوْ قَالَ : وَقَفْتُهُ عَلَى مَنْ شِئْتُ ، أَوْ فِيمَا شِئْتُ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ تَعَيَّنَ لَهُ مَنْ شَاءَ ، أَوْ مَا شَاءَ عِنْدَ وَقْفِهِ جَازَ ، وَأَخَذَ بَيَانَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ لَهُ لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّهُمْ إِذَا تَعَيَّنُوا لَهُ عِنْدَ مَشِيئَتِهِ فَالسَّبِيلُ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ وَاقِفِهِ يُؤْخَذُ بَيَانُهَا ، وَإِذَا لَمْ يَتَعَيَّنُوا فَهِيَ مَجْهُولَةٌ كَوُرُودِ ذَلِكَ إِلَى مَشِيئَةِ غَيْرِهِ ، فَهِيَ مَجْهُولَةٌ عِنْدَهُ ، وَإِنْ كَانَتْ مُعَيَّنَةً عِنْدَ غَيْرِهِ ، فَلَوْ قَالَ : وَقَفْتُ هَذِهِ الدَّارَ ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا ، فَفِي الْوَقْفِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ ، وَهُوَ الْأَقْيَسُ لِلْجَهْلِ بِاسْتِحْقَاقِ الْمَصْرِفِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : جَائِزٌ ، وَفِي مَصْرِفِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ حَكَاهُمُ ابْنُ سُرَيْجٍ . أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ يَصْرِفُ إِلَى الْفُقَرَاءِ ، وَالْمَسَاكِينِ : لِأَنَّ مَقْصُودَ الْوَقْفِ الْقُرْبَى ، وَمَقْصُودَ الْقُرْبَى فِي الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ، فَصَارَ كَمَا لَوْ وَصَّى بِإِخْرَاجِ ثُلُثِ مَالِهِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي أَيِّ الْجِهَاتِ صَرَفَ فِي الْفُقَرَاءِ ، وَالْمَسَاكِينِ ، وَيَكُونُ أَقْرَبُ النَّاسِ نَسَبًا وَدَارًا مِنْ ذَوِي الْحَاجَةِ أَحَقَّ بِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَصْرِفُ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ وَالْبَرِّ لِعُمُومِ النَّفْعِ بِهَا . وَالثَّالِثُ : وَهُوَ مَذْهَبٌ لَهُ أَنَّ الْأَصْلَ وَقْفٌ ، وَالْمَنْفَعَةُ لَهُ وَلِوَرَثَتِهِ وَوَرَثَةِ وَرَثَتِهِ مَا بَقَوْا ، فَإِذَا انْقَرَضُوا كَانَتْ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ فَكَأَنَّهُ وَقَفَ الْأَصْلَ وَاسْتَبْقَى الْمَنْفَعَةَ لِنَفْسِهِ وَلِوَرَثَتِهِ . وَإِنْ قِيلَ : فَلَوْ قَالَ : وَقَفْتُهَا عَلَى مَنْ يُولَدُ لِي وَلَيْسَ لَهُ وَلَدٌ فما الحكم يَجُوزُ . قِيلَ : لَا ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ مَعَ الْإِطْلَاقِ قَدْ يَحْمِلُ بِالْعُرْفِ عَلَى جِهَةٍ مَوْجُودَةٍ وَمَعَ تَعْيِينِ الْحَمْلِ قَدْ حَمَلَهُ عَلَى جِهَةٍ غَيْرِ مَوْجُودَةٍ . فَلَوْ قَالَ : وَقَفْتُهَا عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ ، أَوْ جَمِيعِ الْخَلْقِ فما الحكم ، أَوْ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَهُوَ وَقْفٌ بَاطِلٌ لِعِلَّتَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْوَقْفَ مَا كَانَ سَبِيلًا مَخْصُوصَ الْجِهَاتِ لِتُعْرَفَ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ هَذَا . وَالْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ : أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ اسْتِيفَاءَ هَذَا الشَّرْطِ ، وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ جَازَ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ وَقْفُهَا إِلَى جَمِيعِهِمْ ، لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْجِهَةَ مَخْصُوصَةٌ . وَالثَّانِي : أَنَّ عُرْفَ الشَّرْعِ فِيهِمْ لَا يُوجِبُ اسْتِيعَابَ جَمِيعِهِمْ كَالزَّكَاوَاتِ ، وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى قَبِيلَةٍ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ جَمِيعِهِمْ فما حكم الوقف كَوَقْفِهِ إِيَّاهَا عَلَى رَبِيعَةَ ، أَوْ مُضَرَ ، أَوْ عَلَى بَنِي تَمِيمٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْوَقْفَ بَاطِلٌ تَعْلِيلًا بِأَنَّ اسْتِيفَاءَ جَمِيعِهِمْ غَيْرُ مُمْكِنٍ ، وَلَيْسَ فِي الشَّرْعِ لَهُمْ عُرْفٌ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْوَقْفَ جَائِزٌ تَعْلِيلًا بِأَنَّ الْجِهَةَ مَخْصُوصَةٌ مَعْرُوفَةٌ وَيَدْفَعُ إِلَى مَنْ أَمْكَنَ مِنْهُمْ كَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ، وَهَذَا حُكْمُ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ ، وَمَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ .
فَصْلٌ : وَالشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ مُسْبَلَةً مُؤَبَّدَةً لَا تَنْقَطِعُ من شروط الوقف ، فَإِنْ قَدَّرَهُ بِمُدَّةٍ بِأَنْ قَالَ : وَقَفُتُ دَارِي عَلَى زَيْدٍ سَنَةً لَمْ يَجُزْ ، وَأَجَازَهُ مَالِكٌ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ ، فَقَالَ : لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لَهُ أَنْ يَتَقَرَّبَ بِكُلِّ مَالِهِ وَبِبَعْضِهِ جَازَ لَهُ أَنْ يَتَقَرَّبَ بِهِ فِي كُلِّ الزَّمَانِ وَفِي بَعْضِهِ ، قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ : وَإِنْ قِيلَ : فَهَذِهِ عَارِيَةٌ وَلَيْسَتْ وَقْفًا . قِيلَ لَهُ : لَيْسَ كَذَلِكَ ، فَإِنَّ الْعَارِيَةَ يَرْجِعُ فِيهَا وَهَذِهِ لَا رَجْعَةَ فِيهَا ، أَوْ هَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : حَبِّسِ الْأَصْلَ وَسَبِّلِ الثَّمَرَةَ وَهَذَا أَصْلٌ غَيْرُ مُحْبَسٍ وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ وَقَفَ إِلَى مُدَّةٍ لَجَازَ أَنْ يَكُونَ عَتَقَ إِلَى مُدَّةٍ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ جَرَى مَجْرَى الْهِبَاتِ فَلَيْسَ فِي الْهِبَاتِ رُجُوعٌ ، وَإِنْ جَرَى مَجْرَى الْوَصَايَا وَالصَّدَقَاتِ فَلَيْسَ فِيهَا إِلَى زَوَالِ الْمِلْكِ رُجُوعٌ ، وَلِهَذَا فَرَّقْنَا بَيْنَ أَنْ يَقِفَ بَعْضَ مَالِهِ فَيَجُوزُ ، وَبَيْنَ أَنْ يَقِفَ فِي بَعْضِ الزَّمَانِ فَلَا يَجُوزُ : لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وَقْفِ بَعْضِ مَالِهِ رُجُوعٌ فِي الْوَقْفِ ، وَفِي وَقْفِهِ فِي بَعْضِ الزَّمَانِ رُجُوعٌ فِي الْوَقْفِ ، وَإِذَا صَحَّ أَنَّ الْوَقْفَ إِلَى مُدَّةٍ لَا يَجُوزُ ، فَكَذَلِكَ الْوَقْفُ الْمُتَقَطِّعُ وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّرْ بِمُدَّةٍ لَا يَجُوزُ
مَسْأَلَةٌ : أَنْ يَقُولَ : وَقَفْتُ بَعْدَهُ الدَّارَ عَلَى زَيْدٍ ، وَلَمْ يَذْكُرْ آخِرَهُ فما حكم الوقف لَمْ يَصِحَّ : لِأَنَّ زَيْدًا يَمُوتُ فَيَصِيرُ الْوَقْفُ مُنْقَطِعًا ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : عَلَى زَيْدٍ وَأَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهِ مَا تَنَاسَلُوا : لِأَنَّهُ وَقْفٌ لَا يُعْلَمُ تَأْبِيدُهُ لِجَوَازِ انْقِرَاضِهِمْ فَصَارَ وَقْفًا مُنْقَطِعًا ، وَهَكَذَا لَوْ وَقَفَ عَلَى مَسْجِدٍ أَوْ رِبَاطٍ أَوْ نَفَرٍ فما حكم الوقف : لَأَنَّ الْمَسْجِدَ وَالرِّبَاطَ قَدْ يُخَرَّبَانِ وَيَبْطُلَانِ ، وَالثَّغْرَ قَدْ يُسَلَّمُ أَهْلَهُ فَصَارَ مُنْقَطِعًا حَتَّى يَقُولَ : فَإِنْ بَطَلَ ، فَعَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ . وَأَمَّا إِنْ وَقَفَهُ عَلَى قُرَّاءِ الْقُرْآنِ فما حكم الوقف لَمْ يَكُنْ مُنْقَطِعًا : لِأَنَّهُمْ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الْإِسْلَامُ ، وَقَدْ تَكَفَّلَ اللَّهُ تَعَالَى بِإِظْهَارِهِ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ، وَهَكَذَا لَوْ وَقَفَهُ عَلَى الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فما حكم الوقف كَانَ وَقْفًا بَاقِيًا إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى ثَغْرٍ بِعَيْنِهِ ، وَإِذَا لَمْ يَجُزْ بِمَا وَصَفْنَا أَنْ يَكُونَ الْوَقْفُ مُقَدَّرًا وَلَا مُنْقَطِعًا ، فَفِيهِ قَوْلَانِ إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ . أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْوَقْفِ أَنْ يَكُونَ مُؤَبَّدًا ، وَالْمُنْقَطِعُ غَيْرُ مُؤَبَّدٍ فَلَمْ يَصِرْ وَقْفًا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْوَقْفَ جَائِزٌ : لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْأَصْلُ مَوْجُودًا لَمْ يَحْتَجْ إِلَى ذِكْرِ مَنْ يَنْتَقِلُ إِلَيْهِ كَالْوَصَايَا وَالْهِبَاتِ . فَإِذَا قِيلَ بِبُطْلَانِ الْوَقْفِ كَانَ مِلْكُ الْوَاقِفِ ، وَلَا يَلْزَمُ فِي الْأَصْلِ وَلَا فِي غَيْرِهِ ، وَلَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِ . فَإِذَا قِيلَ بِجَوَازِ الْوَقْفِ ، كَانَ عَلَى الْأَصْلِ الْمَوْجُودِ مَا كَانَ بَاقِيًا لَا حَقَّ لَوَاقِفِهِ فِيهِ ، فَإِذَا هَلَكَ الْأَصْلُ وَهُوَ أَنْ يَمُوتَ الْوَقْفُ فَيَنْقَطِعَ سُبُلُهُ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْوَاقِفِ أحواله عند الوقف مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَشْتَرِطَ تَحْرِيمَهَا وَتَأْبِيدَهَا .
وَالثَّانِي : أَنْ يِشْتَرِطَ رُجُوعَهَا إِلَيْهِ . وَالثَّالِثْ : أَنْ يُطْلِقَ ، وَإِنِ اشْتَرَطَ رُجُوعَهَا إِلَيْهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُمَا تَرْجِعُ إِلَيْهِ لِمَا ذَكَرْنَا لَهُمَا مِنَ الْآثَارِ لِمُوجِبِ الشَّرْطِ . وَالثَّانِي : وَهُوَ الْأَصَحُّ : لِأَنَّهَا لَا تَرْجِعُ تَغْلِيبًا لِلْحُكْمِ فِي الْوَقْفِ عَلَى الشَّرْطِ ، وَإِنِ اشْتَرَطَ تَأْبِيدَهَا أَوْ أَطْلَقَ لَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ لَا يَخْتَلِفُ : لِأَنَّ تَعْيِينَ الْأَصْلِ قَدْ أَخْرَجَهُ عَنْ مِلْكِهِ ، وَفِي مَصْرَفِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : يُصْرَفُ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ وَالْبِرِّ : لِأَنَّهَا أَعَمُّ . وَالثَّانِي : فِي الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ : لِأَنَّهُمْ مَقْصُودُ الصَّدَقَاتِ . وَالثَّالِثُ : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ نَصَّ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ يَرُدُّ عَلَى أَقَارِبِ الْوَاقِفِ ، لَكِنْ أَطْلَقَ الْمُزَنِيُّ وَالرَّبِيعُ ذِكْرَ الْأَقَارِبِ ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْفُقَرَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ ، وَرَوَى حَرْمَلَةُ أَنَّهُ يَرُدُّ عَلَى الْفُقَرَاءِ مِنْ أَقَارِبِهِ ، وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُخَرِّجُ اخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَرُدُّ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ مِنْ أَقَارِبِهِ ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَا رَوَاهُ الْمُزَنِيُّ وَالرَّبِيعُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَرْجِعُ عَلَى الْفُقَرَاءِ مِنْهُمْ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ ، وَهُوَ نَصُّ مَا رَوَاهُ حَرْمَلَةُ ، وَقَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا : لَيْسَتِ الرِّوَايَةُ مُخْتَلِفَةً ، وَإِنَّمَا اخْتِلَافُ الْمُزَنِيِّ وَالرَّبِيعِ مَحْمُولٌ عَلَى تَقْيِيدِ حَرْمَلَةَ ، وَيَرُدُّ عَلَى الْفُقَرَاءِ مِنْ أَقَارِبِهِ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ : لِأَنَّهُ مَصْرِفُ الْوَقْفِ الْمُنْقَطِعِ فِي ذَوِي الْحَاجَةِ وَإِنَّمَا خَصَّ الْأَقَارِبَ صِلَةً لِلرَّحِمِ كَالزَّكَاةِ ، وَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الْوَقْفِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ عَلَى أَصْلٍ مَوْجُودٍ وَفَرْعٍ مَوْجُودٍ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ عَلَى أَصْلٍ مَعْدُومٍ وَفَرْعٍ مَعْدُومٍ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ عَلَى أَصْلٍ مَوْجُودٍ وَفَرْعٍ مَعْدُومٍ . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ عَلَى أَصْلٍ مَعْدُومٍ وَفَرْعٍ مَوْجُودٍ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عَلَى أَصْلٍ مَوْجُودٍ وَفَرْعٍ مَوْجُودٍ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ : وَقَفْتُ الدَّارَ عَلَى زَيْدٍ ، فَإِذَا مَاتَ فَعَلَى الْفُقَرَاءِ حكم الوقف وَالْمَسَاكِينِ ، فَهَذَا جَائِزٌ : لِأَنَّهُ قَدْ جَعَلَ زَيْدًا أَصْلًا وَهُوَ مَوْجُودٌ ، وَالْفُقَرَاءَ وَالْمَسَاكِينَ فَرْعًا وَهُمْ مَوْجُودُونَ ، وَهَكَذَا إِذَا قَالَ : وَقَفْتُهَا عَلَى زَيْدٍ وَأَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهِ مَا تَنَاسَلُوا ، ثُمَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ صَحَّ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَوْلَادُ زَيْدٍ مَوْجُودِينَ : لِأَنَّهُمْ تَبَعٌ لِمَوْجُودٍ وَيَتَعَقَّبُهُمْ فَرْعٌ مَوْجُودٌ ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ صَارَ الْوَقْفُ مُلْحَقًا بِالْوَصَايَا فِي فَرْعِهِ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَصْلٌ مَعْدُومٌ وَفَرْعٌ مَعْدُومٌ ، فَهُوَ أَنْ يَقُولَ : وَقَفْتُهَا
عَلَى مَنْ يُولَدُ لِي ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمْ وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهِمْ مَا تَنَاسَلُوا فما حكم الوقف ، فَهَذَا وَقْفٌ بَاطِلٌ : لِأَنَّ مَنْ يُولَدُ لَهُ مَعْدُومٌ ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ صَارَ مُلْحَقًا بِالْهِبَاتِ ثُمَّ يَكُونُ مَا وَقَفَهُ عَلَى مِلْكِهِ قَوْلًا وَاحِدًا بِخِلَافِ مَا وَقَفَهُ وَقْفًا مُرْسَلًا لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عَلَى أَصْلٍ مَوْجُودٍ وَفَرْعٍ مَعْدُومٍ من أحوال الوقف وحكمه فَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمُقَدَّرِ وَالْمُنْقَطِعِ ، وَفِيهِ مَا وَصَفْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ : هُوَ أَنْ يَكُونَ عَلَى أَصْلٍ مَعْدُومٍ وَفَرْعٍ مَوْجُودٍ من أحوال الوقف وحكمه ، فَهُوَ أَنْ يَقُولَ : وَقَفْتُهَا عَلَى مَنْ يُولَدُ لِي ، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمْ ، فَإِذَا انْقَرَضُوا فَعَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يُخَرِّجُهَا عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا لَوْ كَانَ عَلَى أَصْلٍ مَوْجُودٍ وَفَرْعٍ مَعْدُومٍ . أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ لِعَدَمِ أَصْلِهِ . وَالثَّانِي : جَائِزٌ لِوُجُودِ فَرْعِهِ ، وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يَجْعَلُ الْوَقْفَ بَاطِلًا قَوْلًا وَاحِدًا ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَلَى أَصْلٍ مَوْجُودٍ وَفَرْعٍ مَعْدُومٍ أَنَّ مَا عُدِمَ أَصْلُهُ فَلَيْسَ لَهُ مَصْرِفٌ فِي الْحَالِ ، وَإِنَّمَا يُنْتَظَرُ لَهُ مَصْرِفٌ فِي ثَانِي حَالٍ ، فَبَطَلَ ، وَمَا وُجِدَ فَلَهُ مَصْرِفٌ فِي الْحَالِ ، وَأَمَّا مَا يُخَافُ عَدَمُ مَصْرِفِهِ فِي ثَانِي حَالٍ فَلَوْ قَالَ : وَقَفْتُهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ إِلَّا أَنْ يُولَدَ لِي وَلَدٌ ، فَيَكُونُ الْوَقْفُ لَهُ وَلِوَلَدِهِ وَأَوْلَادِهِمْ مَا تَنَاسَلُوا ، وَإِذَا انْقَرَضُوا فَالْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ ، وَهَذَا وَقْفٌ جَائِزٌ : لِأَنَّ الْفُقَرَاءَ فِيهِ أَصْلٌ وَفَرْعٌ ، وَإِنَّمَا جَعَلَ مَا بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ مَعْدُومًا ، فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ صِحَّةِ الْوَقْفِ ، كَمَا لَوْ وَقَفَهُ عَلَى وَلَدٍ لَهُ مَوْجُودٌ ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِ الَّذِينَ لَمْ يُولَدُوا بَعْدُ ثُمَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ كَانَ الْوَقْفُ جَائِزًا ، فَهَذَا حُكْمُ الشَّرْطِ الثَّانِي وَمَا تَفَرَّعَ عَلَيْهِ . وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ عَلَى جِهَةٍ تَصِحُّ مِلْكُهَا أَوِ التَّمَلُّكُ لَهَا من شروط الوقف : لِأَنَّ غَلَّةَ الْوَقْفِ مَمْلُوكَةٌ ، وَلَا تَصِحُّ إِلَّا فِيمَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مَالِكًا . قِيلَ : هَذَا وَقَفٌ عَلَى كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَإِنَّمَا عَيَّنَ مَصْرِفَهُ فِي هَذِهِ الْجِهَةِ فَصَارَ مَمْلُوكًا مَصْرُوفًا فِي هَذِهِ الْجِهَةِ مِنْ مَصَالِحِهِمْ . فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ : وَقَفْتُ دَارِي عَلَى دَابَّةِ زَيْدٍ فما حكم الوقف لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّ الدَّابَّةَ لَا تُمَلَّكُ ، وَلَا يُصْرَفُ ذَلِكَ فِي نَفَقَتِهَا : لِأَنَّ نَفَقَتَهَا تَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ : وَقَفْتُهَا عَلَى دَارِ عَمْرٍو فما حكم الوقف لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّ الدَّارَ لَا تُمَلَّكُ فَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى عِمَارَةِ دَارِ زَيْدٍ ، نُظِرَ فَإِنْ كَانَتْ دَارُ زَيْدٍ وَقْفًا صَحَّ هَذَا الْوَقْفُ : لِأَنَّ الْوَقْفَ طَاعَةٌ وَحِفْظَ عِمَارَتِهِ قُرْبَةٌ ، فَصَارَ كَمَا لَوْ وَقَفَهَا عَلَى مَسْجِدٍ أَوْ رِبَاطٍ ، أَوْ كَانَتْ دَارُ زَيْدٍ مِلْكًا طَلْقًا ، بَطَلَ هَذَا الْوَقْفُ عَلَيْهَا : لِأَنَّ الدَّارَ لَا تُمَلَّكُ وَلَيْسَ اسْتِيفَاؤُهَا وَاجِبًا إِذْ لِزَيْدٍ بَيْعُهَا ، وَلَيْسَ فِي حِفْظِ عِمَارَتِهَا طَاعَةٌ ، وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى عَبْدِ زَيْدٍ ، نُظِرَ فَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى نَفَقَةِ الْعَبْدِ لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّ نَفَقَتَهُ عَلَى سَيِّدِهِ وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ لِيَكُونَ الْعَبْدُ مَالِكًا لِغَلَّتِهِ ، فَعَلَى قَوْلَيْنِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْعَبْدِ هَلْ يَمْلِكُ إِذَا مَلَكَ أَمْ لَا ؟ وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى الْمُكَاتِبِينَ ، أَوْ عَلَى
مُكَاتِبٍ بِعَيْنِهِ كَانَ الْوَقْفُ جَائِزًا : لِأَنَّ سِهَامَ الزَّكَوَاتِ أَغْلَظُ حُكْمًا ، وَفِيهَا سَهْمُ الرِّقَابِ ، وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى مُدَبَّرٍ كَانَ كَالْعَبْدِ وَكَذَلِكَ أُمُّ الْوَلَدِ ، وَلَكِنْ لَوْ وَقَفَهَا عَلَى عَبْدِهِ أَوْ مُدَبَّرِهِ أَوْ مَكَاتَبِهِ أَوْ أُمِّ وَلَدِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّهُ كَالْوَقْفِ عَلَى نَفْسِهِ ، فَهَذَا حُكْمُ الشَّرْطِ الثَّالِثِ .
فَصْلٌ : وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ : أَنْ لَا يَكُونَ عَلَى مَعْصِيَةٍ من شروط الوقف ، فَإِنْ كَانَ عَلَى مَعْصِيَةٍ لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّ الْوَقْفَ طَاعَةٌ تُنَافِي الْمَعْصِيَةَ فَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَقِفَهَا عَلَى الزُّنَاةِ ، أَوِ السُّرَّاقِ ، أَوْ شُرَّابِ الْخَمْرِ ، أَوِ الْمُرْتَدِّينَ عَنِ الْإِسْلَامِ ، فَيَكُونُ الْوَقْفُ فِي هَذِهِ الْجِهَاتِ بَاطِلًا : لِأَنَّهَا مَعَاصٍ يَجِبُ الْكَفُّ عَنْهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَانَ عَلَيْهَا ، فَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى رَجُلٍ بِعَيْنِهِ فَكَانَ الرَّجُلُ حِينَ وَقَفَهَا عَلَيْهِ مُرْتَدًّا ، فَعَلَى الْوَقْفِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ كَمَا لَوْ وَقَفَهَا عَلَى مَنِ ارْتَدَّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : جَائِزٌ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَقِفَهَا عَلَى مُرْتَدٍّ فَيَجُوزُ ، وَبَيْنَ أَنْ يَقِفَهَا عَلَى مَنِ ارْتَدَّ فَلَا يَجُوزُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى مَنِ ارْتَدَّ حكمه وَقْفٌ عَلَى الرِّدَّةِ ، وَالرِّدَّةُ مَعْصِيَةٌ ، وَالْوَقْفُ عَلَى رَجُلٍ هُوَ مُرْتَدٌّ لَيْسَ يُوقَفُ عَلَى الرِّدَّةِ ، فَلَمْ يَكُنْ وَقْفًا عَلَى مَعْصِيَةٍ . وَالْفَرْقُ الثَّانِي : فِي الْوَقْفِ عَلَى مَنِ ارْتَدَّ إِغْرَاءٌ بِالدُّخُولِ فِي الرِّدَّةِ ، وَلَيْسَ فِي الْوَقْفِ عَلَى مُرْتَدٍّ إِغْرَاءٌ بِالدُّخُولِ فِي الرِّدَّةِ : لِأَنَّ غَيْرَهُ لَوِ ارْتَدَّ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْوَقْفِ حَقٌّ ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لِكُلِّ مَنْ دَخَلَ فِي الرِّدَّةِ إِنْ لَوْ صَحَّ الْوَقْفُ . فَأَمَّا إِذَا وَقَفَهَا عَلَى مُسْلِمٍ وَارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ ، فَالْوَقْفُ صَحِيحٌ وَأَبْطَلَهُ أَهْلُ الْعِرَاقِ ، وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ أَمْلَاكَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَبْطُلُ بِالرِّدَّةِ ، فَصَارَ الْوَقْفُ عَلَى الْمُرْتَدِّ يَنْقَسِمُ عَلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ : بَاطِلٌ : وَهُوَ أَنْ يُنْفِقَهُ عَلَى مَنِ ارْتَدَّ . وَجَائِزٌ : وَهُوَ أَنْ يُنْفِقَهُ عَلَى مُسْلِمٍ فَيَرْتَدُّ . وَمُخْتَلَفٌ فِيهِ : وَهُوَ أَنْ يَقِفَهُ عَلَى رَجُلٍ مُرْتَدٍّ . فَأَمَّا الْوَقْفُ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى حكمه فَجَائِزٌ سَوَاءٌ كَانَ الْوَاقِفُ مُسْلِمًا أَوْ غَيْرَ مُسْلِمٍ : لِأَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَيْهِمْ جَائِزَةٌ ، وَإِنْ مُنِعُوا الْمَفْرُوضَ مِنْهَا ، فَلَوْ وَقَفَ عَلَى رَجُلٍ لِيَحُجَّ عَنْهُ ، وَلَا يَكُونُ وَقْفًا عَلَى نَفْسِهِ : لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْ غَلَّتِهِ ، فَلَوِ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَصْرِفَ الْوَقْفَ وَالْحَجَّ عَنْهُ : لِأَنَّ الْحَجَّ عَنِ الْمُرْتَدِّ لَا يَصِحُّ وَصُرِفَ فِي الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ، فَإِنْ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ أُعِيدَ الْوَقْفُ إِلَى الْحَجِّ عَنْهُ ، وَلَوْ وَقَفَهَا فِي الْجِهَادِ عَنْهُ جَازَ ، فَلَوِ ارْتَدَّ الْوَاقِفُ عَنِ الْإِسْلَامِ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى حَالِهِ مَصْرُوفًا فِي الْمُجَاهِدِينَ عَنْهُ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ أَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يَصِحُّ مِنْهُ الْحَجُّ وَيَصِحُّ مِنْهُ الْجِهَادُ ، فَأَمَّا الْوَقْفُ عَلَى الْكَنَائِسِ وَالْبَيْعِ حكمه فَبَاطِلٌ سَوَاءٌ كَانَ الْوَاقِفُ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا : لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلِاجْتِمَاعِ عَلَى مَعْصِيَةٍ ، وَلَوْ وَقَفَ دَارًا لِيُسْكِنَهَا
فَقُرَاءَ الْيَهُودِ وَمَسَاكِينَهُمْ حكم الوقف ، فَإِنْ جَعَلَ لِلْفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَمَسَاكِينِهِمْ فِيهَا حَظًّا جَازَ الْوَقْفُ ، وَإِنْ جَعَلَهَا مَخْصُوصَةً بِالْفُقَرَاءِ الْيَهُودِ فَفِي صِحَّةِ وَقْفِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : جَائِزَةٌ كَالْوَقْفِ عَلَى فُقَرَائِهِمْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ : لِأَنَّهُمْ إِذَا انْفَرَدُوا بِسُكْنَاهَا صَارَتْ كَبَيْعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ ، فَأَمَّا الْوَقْفُ عَلَى كُتُبِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ حكم الوقف فَبَاطِلٌ : لِأَنَّهَا مُبْدَلَةٌ ، فَصَارَ وَقْفًا عَلَى مَعْصِيَةٍ ، وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُعَلِّلُ بُطْلَانَ الْوَقْفِ عَلَيْهَا بِأَنَّهَا كُتُبٌ قَدْ نُسِخَتْ وَهَذَا تَعْلِيلٌ فَاسِدٌ : لِأَنَّ تِلَاوَةَ الْمَنْسُوخِ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى وَآيَاتِهِ خَطَأٌ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الْقُرْآنِ مَنْسُوخًا يُتْلَى وَيُكْتَبُ كَغَيْرِ الْمَنْسُوخِ ، فَهَذَا حُكْمُ الشَّرْطِ الرَّابِعِ ، وَمَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ .
فَصْلٌ : وَالشَّرْطُ الْخَامِسُ أَنْ لَا يَعُودَ الْوَقْفُ عَلَيْهِ ، وَلَا شَيْءَ مِنْهُ من شروط الوقف ، وَإِنْ وَقَفَهُ عَلَى نَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَجُوزُ وَقْفُ الرَّجُلِ عَلَى نَفْسِهِ حكمه ، وَبِهِ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا . وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ شَرَطَ أَوَّلَ الْوَقْفِ لِنَفْسِهِ جَازَ ، وَإِنْ شَرَطَ جَمِيعَهُ لِنَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ حِينَ ضَاقَ الْمَسْجِدُ بِهِ : مَنْ يَشْتَرِيَ هَذِهِ الْبُقْعَةَ وَيَكُونُ فِيهَا كَالْمُسْلِمِينَ وَلَهُ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْهَا ، فَاشْتَرَاهَا عُثْمَانُ . وَقَالَ فِي بِئْرِ رُومَةَ : مَنْ يَشْتَرِيهَا مِنْ مَالِهِ ، وَاشْتَرَاهَا عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَاشْتَرَطَ فِيهَا رِشًا كَرِشَا الْمُسْلِمِينَ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ الزُّبَيْرِيُّ : كَيْفَ ذَهَبَ هَذَا عَلَى الشَّافِعِيِّ ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِصَاحِبِ الْبَدَنَةِ : ارْكَبْهَا إِذَا أُلْجِئْتَ إِلَيْهَا حَتَّى تَجِدَ ظَهْرًا فَجَعَلَ لَهُ الِانْتِفَاعَ بِمَا أَخْرَجَهُ مِنْ مَالِهِ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَتَقَ صَفِيَّةَ ، وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا مُعَادًا إِلَيْهِ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَهُ لِلَّهِ ، وَلِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَفَ دَارًا لَهُ فَسَكَنَهَا إِلَى أَنْ مَاتَ ، وَأَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ جَعَلَ رِبَاعَهُ صَدَقَاتٍ مَوْقُوفَاتٍ فَسَكَنَ مَنْزِلًا مِنْهَا حَتَّى خَرَجَ إِلَى الْعِرَاقِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوَى هُوَ وَغَيْرُهُ فِي الْوَقْفِ الْعَامِّ جَازَ أَنْ يَسْتَوِيَ هُوَ وَغَيْرُهُ فِي الْوَقْفِ الْخَاصِّ . وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ وَقْفَهُ عَلَى نَفْسِهِ لَا يَجُوزُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : حَبِّسِ الْأَصْلَ وَسَبِّلِ الثَّمَرَةَ وَبِتَسْبِيلِ الثَّمَرَةِ يَمْنَعُ أَنْ تَكُونَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ وَلِأَنَّ الْوَقْفَ صَدَقَةٌ ، وَلَا تَصِحُّ صَدَقَةُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ ، وَلِأَنَّ الْوَقْفَ عَقْدٌ يَقْتَضِي زَوَالَ الْمِلْكِ فَصَارَ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ ، فَلَمَّا لَمْ تَصِحَّ مُبَايَعَةُ نَفْسِهِ وَلَا الْهِبَةُ بِهَا لَمْ يَصِحَّ الْوَقْفُ عَلَيْهَا ، وَلِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ مَنَافِعِ الْوَقْفِ لِنَفْسِهِ كَاسْتِثْنَائِهِ فِي الْعِتْقِ بَعْضَ أَحْكَامِ الرِّقِّ لِنَفْسِهِ ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ هَذَا فِي الْعِتْقِ لَمْ يَجُزْ مِثْلُهُ فِي الْوَقْفِ ، وَلِأَنَّ الْوَقْفَ يُوجِبُ إِزَالَةَ مِلْكٍ بِاسْتِحْدَاثِ غَيْرِهِ وَهُوَ إِذَا وَقَفَ عَلَى نَفْسِهِ لَمْ يَدُلَّ بِالْوَقْفِ مِلْكًا ، وَلَا اسْتَحْدَثَ بِهِ مِلْكًا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَصِيرَ وَقْفًا ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ عُثْمَانَ شَرَطَ فِي بِئْرِ رُومَةَ أَنْ يَكُونَ دَلْوُهُ كَدِلَاءِ الْمُسْلِمَيْنِ فَهُوَ أَنَّ الْمَاءَ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ لَا يُمْلَكُ بِالْإِجَارَةِ فَلَمْ يَقِفْ مَا اشْتَرَطَهُ لِنَفْسِهِ مِنَ الْبِئْرِ شَيْئًا ، وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ لَكَانَ دَلْوُهُ فِيهَا كَدِلَاءِ الْمُسْلِمِينَ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا الشَّرْطَ لِيُعْلِمَهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَأْثِرْ بِهَا دُونَهُمْ وَأَنَّهُ فِيهَا كَأَحَدِهِمْ .
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ لِصَاحِبِ الْبَدَنَةِ : ارْكَبْهَا إِذَا أُلْجِئْتَ إِلَيْهَا حَتَى تَجِدَ ظَهْرًا فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْبَدَنَةِ مَنَافِعَهَا فَجَازَ أَنْ يَعُودَ إِلَيْهِ ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْوَقْفِ مَنَافِعُهُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعُودَ إِلَيْهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا جَازَ فِي الْبَدَنَةِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ جَازَ أَنْ يَعُودَ إِلَيْهِ مَنَافِعُهَا ، وَلَا يَجُوزُ فِي الْوَقْفِ أَنْ يَعُودَ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهُ يُعْتَبَرُ شَرْطًا ، فَكَذَلِكَ لَا يَعُودُ إِلَيْهِ بِالشَّرْطِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ عِتْقِهِ لِصَفِيَّةَ فَهُوَ أَنَّ الْعِتْقَ عَلَى عِوَضٍ جَائِزٌ ، وَالْوَقْفَ عَلَى عِوَضٍ غَيْرُ جَائِزٍ . وَأَمَّا سُكْنَى عُمَرَ ، وَالزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ، وَمَا وَقَفَاهُ فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ سُكْنَاهُمَا بَعْدَ اسْتِطَابَةِ نُفُوسِ أَرْبَابِهِ : لِأَنَّ نَفْسَ مَنْ وُقِفَ عَلَيْهِ لَا يَأْتِي إِرْفَاقُ الْوَقْفِ بِهِ ، وَلَوْ مَنَعَهُ لَامْتَنَعَ ، أَوْ يَكُونَ قَدِ اسْتَأْجَرَ ذَلِكَ مِنْ وَاقِفِهِ . وَأَمَّا الْوَقْفُ الْعَامُّ فَسَنَذْكُرُ مِنْ حُكْمِهِ مَا يَكُونُ جَوَابًا عَنْهُ .
فَصْلٌ : وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ وَقْفَ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ لَا يَجُوزُ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْوَاقِفِ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَامًّا أَوْ خَاصًّا ، وَإِنْ كَانَ خَاصًّا ، فَعَلَى قِسْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَقُولَ : وَقَفْتُهُ عَلَى نَفْسِي ثُمَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَقْفًا لِنَفْسِهِ ، وَهَلْ يَبْطُلُ أَنْ يَكُونَ وَقْفًا لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ، فَعَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ فَرْعٌ لِأَصْلٍ بَاطِلٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : جَائِزٌ : لِأَنَّهُمْ صَارُوا فِيهِ أَصْلًا عِنْدَ بُطْلَانِ الْأَصْلِ ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يَسْتَحِقُّونَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ إِلَّا بَعْدَ مَوْتِهِ اعْتِبَارًا بِظَاهِرِ شَرْطِهِ وَيَكُونُ أَحَقَّ بِغَلَّتِهِ مِنْهُمْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّوِنَ الْوَقْفَ فِي الْحَالِ ، وَإِلَّا صَارَ وَقْفًا بَعْدَ مُدَّةٍ : وَلِأَنَّهُ لَوْ صَارَتِ الْغَلَّةُ إِلَيْهِ قَبْلَ مَوْتِهِ لَصَارَ وَقْفًا عَلَى نَفْسِهِ وَمَعْمُولًا فِيهِ عَلَى شَرْطِهِ . وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَامًّا ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ مَنَافِعُهُ مُبَاحَةً كَمَرَافِقِ الْمَسْجِدِ وَمَاءِ الْبِئْرِ ، فَهَلْ يَكُونُ فِيهِ كَغَيْرِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سَوَاءٌ شَرَطَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ أَوْ لَمْ يَشْتَرِطِ اسْتِدْلَالًا بِوَقْفِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءٌ ثَلَاثٌ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ مَنَافِعُهُ لَيْسَتْ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ كَثِمَارِ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُطْلِقَهُ وَلَا يَشْتَرِطَ لِنَفْسِهِ شَيْئًا مِنْهُ ؛ كَرَجُلٍ وَقَفَ نَخْلًا عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَأَبْنَاءِ السَّبِيلِ وَصَارَ مِنْ جُمْلَتِهِمْ ، دَخَلَ فِيهِ وَجَازَ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا كَأَحَدِهِمْ : لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَتِهِمْ بِوَصْفِهِ لَا بِعَيْنِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ وَقْفًا عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ عَلَى مَوْصُوفَيْنِ لَا عَلَى مَعْنَيَيْنِ فَيُسَاوِي مَنْ شَارَكَهُ فِي حَقِّهِ .
وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَشْتَرِطَ لِنَفْسِهِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا أي مما أوقفه كَانَ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ ، وَالزُّبَيْرِيِّ ، أَنَّهُ يَجُوزُ : لِأَنَّهُ قَدْ أَخْرَجَهُ عَامًّا ، فَجَازَ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْعُمُومِ بِعَيْنِهِ كَمَا يَدْخُلُ فِيهِ بِوَصْفِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ بِعَيْنِهِ كَمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْخَاصِّ بِعَيْنِهِ ، فَإِذَا قُلْنَا : يَجُوزُ دُخُولُهُ فِيهِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ حَقٌّ قَائِمٌ عَلَى التَّأْبِيدِ يَخْلُفُهُ فِيهِ وَرَثَتُهُ وَوَرَثَةُ وَرَثَتِهِ مَا بَقُوا ، فَإِذَا انْقَرَضُوا عَادَ حِينَئِذٍ عَلَى جَمَاعَةِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِمُدَّةِ حَيَّاتِهِ ، فَإِذَا مَاتَ عَادَ إِلَى الْفُقَرَاءِ دُونَ وَرَثَتِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونُوا مِنْ جُمْلَةِ الْفُقَرَاءِ ، وَإِذَا قِيلَ : إِنَّهُ يَجُوزُ دُخُولُهُ فِيهِمْ بِعَيْنِهِ فَهَلْ يَكُونُ مَا جَعَلَهُ مِنْ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِهِ أَمْ دَاخِلًا فِي عُمُومِ وَقْفِهِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ : لِأَنَّ الْوَقْفَ بَطَلَ فِيهِ وَصَحَّ فِيمَا سِوَاهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ دَخَلَ فِي عُمُومِ وَقْفِهِ : لِأَنَّ الْوَقْفَ بَقِيَ فِي الْجَمِيعِ ، وَإِنَّمَا بَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْحُكْمِ .
فَصْلٌ : فَلَوْ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى وَلَدٍ ، ثُمَّ عَلَى وَرَثَةِ وَلَدِهِ ، ثُمَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ، فَمَاتَ الْوَلَدُ وَكَانَ الْأَبُ الْوَاقِفُ أَحَدَ وَرَثَتِهِ فَهَلْ يَرْجِعُ عَلَيْهِ قَدْرُ مِيرَاثِهِ مِنْهُ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَرْجِعُ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ وَالزُّبَيْرِيِّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَرْجِعُ ، وَلَا عَلَى الْبَاقِينَ مِنْ وَرَثَتِهِ : لِأَنَّ الْوَرَثَةَ إِنَّمَا يَأْخُذُونَ مِنْهُ قَدْرَ مَوَارِيثِهِمْ ، وَلَا يَأْخُذُونَ مِيرَاثَ غَيْرِهِمْ ، وَيَرُدُّ عَلَى الْفُقَرَاءِ ثُمَّ يَنْظُرُ فِيمَا جَعَلَهُ لِوَرَثَةِ وَلَدِهِ مِنْ بَعْدِهِ فَلَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَجْعَلَهُ لَهُمْ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ ، فَيَكُونُ بَيْنَهُمْ كَذَلِكَ . وَالثَّانِي : أَنْ يَجْعَلَهُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ ، فَيَكُونُ كَذَلِكَ يَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى وَالزَّوْجَةُ وَالْوَلَدُ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يُطْلِقَ ، فَيَكُونُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ : لِأَنَّ الْأَصْلَ التَّسَاوِي فِي الْعَطَايَا فَلَمْ يَشْتَرَطِ التَّفَاضُلَ ، فَلَوْ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى وَرَثَةِ زَيْدٍ ، وَكَانَ زَيْدٌ حَيًّا ، فَلَا حَقَّ فِيهِ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ : لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَكُونُ مَوْرُوثًا وَإِنَّمَا يُسَمَّى أَهْلُهُ وَرَثَةً عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ دُونَ الْحَقِيقَةِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَارَ هَذَا وَقْفًا عَلَى أَصْلٍ مَعْدُومٍ فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى ، وَلَوْ كَانَ زَيْدٌ مَيِّتًا كَانَ ذَلِكَ وَقْفًا صَحِيحًا عَلَى وَرَثَتِهِ ، ثُمَّ يَكُونُ عَلَى الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ فِي التَّسَاوِي وَالتَّفْضِيلِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَهِيَ عَلَى مَا شَرَطَ مِنَ الْأَثَرَةِ وَالتَّقْدِمَةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الْوَقْفَ عَمَلِيَّةٌ يُرْجَعُ فِيهَا إِلَى شَرْطِ الْوَاقِفِ ، فَإِذَا وَقَفَ عَلَى
أَوْلَادِهِ وَكَانُوا مَوْجُودِينَ ثُمَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ فما حكم الوقف ، صَحَّ الْوَقْفُ إِنْ كَانَ فِي الصِّحَّةِ وَبَطَلَ عَلَى أَوْلَادِهِ إِنْ كَانَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ : لِأَنَّهُمْ وَرَثَةٌ وَفِي بُطْلَانِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ قَوْلَانِ ، ثُمَّ إِذَا كَانَ الْوَاقِفُ عَلَى أَوْلَادِهِ فِي الصِّحَّةِ فَأَمْضَيَاهُ دَخَلَ فِيهِمُ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ وَالْخَنَاثَى : لِأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ أَوْلَادُهُ ، فَإِنْ فَضَّلَ الذُّكُورَ عَلَى الْإِنَاثِ ، أَوْ فَضَّلَ الْإِنَاثَ عَلَى الذُّكُورِ حُمِلُوا عَلَى تَفْضِيلِهِ ، وَهَكَذَا لَوْ فَضَّلَ الصِّغَارَ عَلَى الْكِبَارِ ، أَوِ الْكِبَارَ عَلَى الصِّغَارِ ، وَإِنْ أَطْلَقَ سَوَّى بَيْنَهُمْ ، وَلَا يُفَضَّلُ ذَكَرٌ عَلَى أُنْثَى ، وَلَا صَغِيرٌ عَلَى كَبِيرٍ ، وَلَا غَنِيٌّ عَلَى فَقِيرٍ ، وَلَا شَيْءَ لِأَوْلَادِ أَوْلَادِهِ إِذَا كَانَ وَقْفُهُ عَلَى أَوْلَادِهِ ، وَيَكُونُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ، وَبِهِ قَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ . وَقَالَ مَالِكٌ : إِذَا وَقَفَ عَلَى أَوْلَادِهِ دَخَلَ فِيهِ أَوْلَادُ أَوْلَادِهِ وَإِنْ سَفَلُوا : لِأَنَّهُمْ مِنْ أَوْلَادِهِ ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَخَرَّجَهُ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ : لِأَنَّ اسْمَ الْوَلَدِ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِمْ وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ الْأَحْكَامَ تَتَعَلَّقُ بِحَقَائِقِ الْأَسْمَاءِ دُونَ مَجَازِهَا ، وَحَقِيقَةُ اسْمِ الْوَلَدِ يَنْطَلِقُ عَلَى وَلَدِ الصُّلْبِ دُونَ وَلَدِ الْوَلَدِ .
فَصْلٌ : وَلَوْ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى أَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهِ فما حكم الوقف كَانَ ذَلِكَ لِلْبَطْنِ الْأَوَّلِ مِنْ أَوْلَادِ صُلْبِهِ وَلِلْبَطْنِ الثَّانِي وَهُمْ أَوْلَادُ أَوْلَادِهِ يَشْتَرِكُ الْبَطْنُ الثَّانِي ، وَالْبَطْنُ الْأَوَّلُ فِيهِ إِلَّا أَنْ يَقُولَ : ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمْ ، أَوْ يَقُولَ : بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ ، وَلَا يَشْتَرِكُ الْبَطْنُ الثَّانِي ، وَالْبَطْنُ الْأَوَّلُ حَتَّى إِذَا انْقَرَضَ الْبَطْنُ الْأَوَّلُ أَخَذَ الْبَطْنُ الثَّانِي حِينَئِذٍ ، فَإِذَا انْقَرَضَ الْبَطْنُ الثَّانِي فَلَا حَقَّ فِيهِ لِلْبَطْنِ الثَّالِثِ ، وَيَنْتَقِلُ إِلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ، وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ وَمَنْ تَابَعَهُ مِنْ أَصْحَابِنَا يَكُونُ لِمَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ مِنَ الْبُطُونِ ، وَلَا يَنْتَقِلُ إِلَى الْفُقَرَاءِ إِلَّا بَعْدَ انْقِرَاضِهِمْ ، وَإِنْ سَفَلُوا فَلَوْ قَالَ : عَلَى أَوْلَادِي وَأَوْلَادِ أَوْلَادِي وَأَوْلَادِ أَوْلَادِ أَوْلَادِي اسْتَحَقَّ ثَلَاثَةَ أَبْطُنٍ مِنْ وَلَدِهِ ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ بَعْدَ الْبَطْنِ الثَّالِثِ إِلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ، ثُمَّ يُشَارِكُ كُلُّ بَطْنٍ لِمَنْ بَعْدَهُ إِلَّا أَنْ يُرَتِّبَ ، فَيَكُونُ عَلَى التَّرْتِيبِ ، فَلَوْ قَالَ : عَلَى أَوْلَادِي وَأَوْلَادِ أَوْلَادِي أَبَدًا مَا بَقُوا وَتَنَاسَلُوا اسْتَحَقَّهُ كُلُّ بَطْنٍ يَحْدُثُ مِنْ وَلَدِهِ ، فَإِنْ رَتَّبَ كَانَ عَلَى تَرْتِيبِهِ ، وَإِنْ أَطْلَقَ شَارَكَ الْبَطْنُ الْأَعْلَى الْبَطْنَ الْأَسْفَلَ ، وَلَا حَقَّ لِلْفُقَرَاءِ فِيهِ مَا بَقِيَ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلَ ، فَإِذَا انْقَرَضَ جَمِيعُهُمْ صَارَ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ .
فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ الْوَقْفُ عَلَى أَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهِ فهل يدخل فيهم ولد البنين مع البنات دَخَلَ فِيهِمْ وَلَدُ الْبَنِينَ مَعَ الْبَنَاتِ . وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَدْخُلُ فِيهِمْ أَوْلَادُ الْبَنِينَ دُونَ أَوْلَادِ الْبَنَاتِ : لِأَنَّ أَوْلَادَ الْبَنَاتِ لَا يُنْسَبُونَ إِلَيْهِ ، فَلَمْ يَكُونُوا مِنْ وَلَدِهِ وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ : بَنُونَا بَنُو أَبْنَائِنَا وَبَنَاتِنَا بَنُوهُنَّ أَبْنَاءُ الرِّجَالِ الْأَبَاعِدِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ أَوْلَادَ بَنَاتِهِ هُمْ خَيْرُ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ ، هُوَ أَنَّ الْبَنَاتَ لَمَّا كُنَّ مِنْ أَوْلَادِهِ كَانَ أَوْلَادُهُنَّ أَوْلَادَ أَوْلَادِهِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَسَنِ : إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ فَسَمَّاهُ ابْنًا .
فَصْلٌ : فَلَوْ قَالَ : وَقَفْتُ هَذِهِ الدَّارَ عَلَى نَسْلِي فهل يدخل فيهم ولد البنين مع البنات ، أَوْ قَالَ عَلَى عَقِبِي ، أَوْ عَلَى ذُرِّيَّتِي ، دَخَلَ فِيهِمْ أَوْلَادُ الْبَنِينَ وَأَوْلَادُ الْبَنَاتِ وَإِنْ بَعُدُوا : لِأَنَّهُمْ مِنْ نَسْلِهِ وَعَقِبِهِ وَذُرِّيَّتِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى [ الْأَنْعَامِ : 184 ] فَجَعَلَ عِيسَى مِنْ ذُرِّيَّتِهِ وَهُوَ إِنَّمَا نَسَبَ إِلَيْهِ بِأُمٍّ لَا بِأَبٍ ، وَلَكِنْ لَوْ وَقَفَهَا عَلَى مُنَاسَبَةٍ ، لَمْ يَدْخُلْ فِيهِمْ أَوْلَادُ بَنَاتِهِمْ : لِأَنَّهُمْ يُنْسَبُونَ إِلَى آبَائِهِمْ دُونَ أُمَّهَاتِهِمْ ، لَكِنْ يَدْخُلُ فِيهِمِ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ مِنْ أَوْلَادِ الْبَنِينَ دُونَ أَوْلَادِ الْبَنَاتِ ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ : عَلَى عَصَبَتِي لَمْ يَدْخُلْ فِيهِمْ إِلَّا الذُّكُورُ وَمِنْ أَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِ بَنِيهِ دُونَ الْإِنَاثِ .
فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ : وَقَفْتُ هَذِهِ الدَّارَ عَلَى بَنِيَّ لَمْ يُشْرِكْهُمْ بَنَاتُهُ وَلَا الْخَنَاثَى فما حكم الوقف ، وَلَوْ قَالَ : عَلَى بَنَاتِي لَمْ يُشَارِكْهُمْ بَنُوهُ وَلَا الْخَنَاثَى ، وَلَوْ قَالَ : عَلَى بَنِيَّ وَبَنَاتِي ، دَخَلَ فِيهِ الْفَرِيقَانِ وَفِي دُخُولِ الْخَنَاثَى فِيهِمْ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَدْخُلُونَ فِيهِمْ : لِأَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ فِي الْبَنِينَ وَلَا فِي الْبَنَاتِ . وَالثَّانِي : يَدْخُلُونَ فِيهِمْ : لِأَنَّهُمْ لَا يَخْلُونَ مِنْ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْبَنِينَ أَوْ مِنَ الْبَنَاتِ ، وَإِنْ كَانُوا عِنْدَنَا مُشْكَلِينَ فَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ غَيْرُ مُشْكَلِينَ .
فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ : وَقَفْتُهَا عَلَى بَنِي فُلَانٍ الوقف المطلق ، فَإِنْ أَشَارَ إِلَى رَجُلٍ لَا إِلَى قَبِيلَةٍ اخْتَصَّ ذَلِكَ بِالذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ ، وَلَوْ أَشَارَ إِلَى قَبِيلَةٍ كَقَوْلِهِ : عَلَى بَنِي تَمِيمٍ فَفِي دُخُولِ الْبَنَاتِ فِيهِمْ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَدْخُلُونَ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْقَبِيلَةِ . وَالثَّانِي : لَا يَدْخُلُونَ تَغْلِيبًا لِحَقِيقَةِ الِاسْمِ ، وَلَوْ قَالَ : عَلَى بَنَاتِ فُلَانٍ ، لَمْ يَدْخُلْ فِيهِمِ الذُّكُورُ سَوَاءٌ أَرَادَ رَجُلًا أَوْ قَبِيلَةً ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ حَدٌّ يَجْمَعُ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ بِاسْمِ الذُّكُورِ ، وَلَا يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِاسْمِ الْإِنَاثِ .
فَصْلٌ : وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ فَفِيهِمْ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : مَنْ نَاسَبَهُ إِلَى الْجَدِّ . وَالثَّانِي : مَنِ اجْتَمَعَ مَعَهُ فِي رَحِمٍ . وَالثَّالِثُ : كُلُّ مَنِ اتَّصَلَ مِنْهُ بِنَسَبٍ أَوْ سَبَبٍ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى آلِهِ فَفِيهِمْ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ أَهْلُ بَيْتِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُمْ مَنْ دَانَ بِدِينِهِ .
فَصْلٌ : وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى أَقْرَبِ النَّاسِ بِهِ فَهُمُ الْمَوْلُودُونَ ، يُقَدَّمُ الْأَقْرَبُ مِنْهُمْ فَالْأَقْرَبُ ، يَسْتَوِي فِيهِ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ ، وَأَوْلَادُ الذُّكُورِ وَأَوْلَادُ الْإِنَاثِ ، ثُمَّ الْوَالِدُونَ ، يَسْتَوِي فِيهِمُ الْآبَاءُ وَالْأُمَّهَاتُ ، ثُمَّ يَسْتَوِي بَعْدَهُمُ الْأَجْدَادُ وَالْجَدَّاتُ مِنْ قِبَلِ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ ، وَفِي تَقْدِيمِ الْإِخْوَةِ عَلَى الْجَدِّ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يُقَدَّمُونَ . وَالثَّانِي : يَسْتَوُونَ ثُمَّ يُقَدَّمُ بَنُو الْإِخْوَةِ عَلَى الْأَعْمَامِ ، وَيُسَوَّى بَيْنَ الْأَخْوَالِ وَالْأَعْمَامِ
وَيُسَوَّى بَيْنَ وَلَدِ الْأَبِ وَوَلَدِ الْأُمِّ ، وَهَلْ يُفَضَّلُ عَلَيْهِمَا وَلَدُ الْأَبِ وَالْأُمِّ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ .
فَصْلٌ : وَإِنْ وَقَفَهَا عَلَى مَوَالِيهِ ، فَإِنْ ذَكَرَ مَوْلًى مِنْ أَعْلَى فَهِيَ لَهُ دُونَ مَنْ سَفَلَ ، وَإِنْ ذَكَرَ مَوْلًى مِنْ أَسْفَلَ فَهِيَ لَهُ دُونَ مَنْ عَلَا ، وَإِنْ أَطْلَقَ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ حَكَاهُمَا أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ لِمَنْ عَلَا وَهُوَ الْمُعْتِقُ لِأَنَّهُ الْمُنْعِمُ . وَالثَّانِي : يَكُونُ لِمَنْ سَفَلَ وَعَلَا لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي اسْمِ الْمَوْلَى . وَالثَّالِثُ : أَنَّ الْوَقْفَ بَاطِلٌ لِامْتِيَازِ الْفَرِيقَيْنِ وَاسْتِوَاءِ الْأَمْرَيْنِ .
فَصْلٌ : وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى عِيَالِهِ فَهُمْ مَنْ فِي نَفَقَتِهِ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ وَالِدٌ وَوَلَدٌ ، وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى حَشَمِهِ فَهُمْ مَنْ فِي نَفَقَةٍ سِوَى الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ ، وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى حَاشِيَتِهِ فَهُمُ الْمُتَّصِلُونَ بِخِدْمَتِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَ أَهْلِ الْغِنَى وَالْحَاجَةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، لِلْوَاقِفِ أَنْ يُشْرِكَ فِي وَقْفِهِ بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ ، وَلَهُ أَنْ يَخُصَّ بِهِ الْفُقَرَاءَ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ ، وَلَهُ أَنْ يَخُصَّ بِهِ الْأَغْنِيَاءَ دُونَ الْفُقَرَاءِ ، وَلَوْ قَالَ : وَقَفْتُ دَارِي عَلَى الْفُقَرَاءِ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ دَفَعَ مَنْ عَلَيْهَا إِلَى كُلِّ مَنِ ادَّعَى الْفَقْرَ مِنْهُمْ فَإِنْ ، جُهِلَتْ حَالُهُ مَا لَمْ يُعْلَمْ غِنَاهُ ، وَلَا يُكَلَّفُ الْبَيِّنَةَ عَلَى فَقْرِهِ : لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي النَّاسِ الْعَدَمُ ، وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى الْأَغْنِيَاءِ مِنْهُمْ لَمْ يَدْفَعْ إِلَى مَنِ ادَّعَى الْغِنَى مِنْهُمْ عِنْدَ الْجَهْلِ بِحَالِهِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ يَشْهَدُ لَهُ بِالْغِنَى : لِأَنَّهُ يَدَّعِي حُدُوثَ مَا لَمْ يُعْلَمْ .
فَصْلٌ : فَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى مَنِ اسْتَغْنَى مِنْهُمْ فما حكم الوقف لَمْ يَسْتَحِقَّهَا إِلَّا مَنْ كَانَ فَقِيرًا ثُمَّ اسْتَغْنَى ، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَزَلْ غَنِيًّا فَلَا حَقَّ لَهُ فِيهَا : لِأَنَّ الِاسْتِغْنَاءَ يَقْتَضِي حُدُوثَ الْغِنَى ، وَلَا يَدْفَعُ إِلَى مَنِ ادَّعَى ذَلِكَ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ ، وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى مَنِ افْتَقَرَ لَمْ يَسْتَحِقَّهَا إِلَّا مَنْ كَانَ غَنِيًّا ثُمَّ افْتَقَرَ ، وَلَا يَدْفَعُ إِلَى مَنِ ادَّعَى ذَلِكَ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ : لِأَنَّهُ يَدَّعِي فَقْرًا بَعْدَ غِنًى .
فَصْلٌ : فَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى فَقْرِ أَهْلِهِ حكم الوقف فَكَانَ مِنْهُمْ صَبِيٌّ فَقِيرٌ لَهُ أَبٌ غَنِيٌّ ، أَوِ امْرَأَةٌ فَقِيرَةٌ لَهَا زَوْجٌ غَنِيٌّ ، أَوْ رَجُلٌ فَقِيرٌ لَهُ ابْنٌ غَنِيٌّ ، فَكُلُّ هَؤُلَاءِ مِنَ الْفُقَرَاءِ الْمُسْتَحِقِّينَ لَهَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَا مَالَ لَهُ وَهُوَ يَشْتَغِلُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ كَانَ مِنْ فُقَرَاءِ الْوَقْفِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ فُقَرَاءِ الزَّكَاةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يُكَفِّرُونَ بِالصِّيَامِ تَكْفِيرَهُمُ الْفُقَرَاءَ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَمِنْ إِخْرَاجِ مَنْ أَخْرَجَ مِنْهَا بِصِفَةٍ وَرَدَّهُ إِلَيْهَا بِصِفَةٍ ما يشترطه الواقف في صرف الغلة " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُخْرِجَ مَنْ أَخْرَجَ مِنْهَا وَيُدْخِلَ مَنْ أَدْخُلُهُ فِيهَا بِصِفَةٍ فَيَشْتَرِطُهَا ، وَإِذَا وُجِدَتْ دَخَلَتْ فِيهَا بِوُجُودِ الصِّفَةِ ، وَإِذَا عُدِمَتْ خَرَجَ مِنْهَا بِعَدَمِ الصِّفَةِ ، فَهَذَا جَائِزٌ وَهُوَ عَلَى شَرْطِهِ فِيهِ
مَحْمُولٌ كَقَوْلِهِ : وَقَفْتُهَا عَلَى أَغْنِيَاءِ بَنِي تَمِيمٍ ، فَمَنِ اسْتَغْنَى مِنَ الْفُقَرَاءِ أُدْخِلَ فِيهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ خَارِجًا مِنْهُ ، وَمَنِ افْتَقَرَ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ خَرَجَ مِنْهَا بَعْدَ أَنْ كَانَ دَاخِلًا فِيهَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يُخْرِجَ مَنْ أَخْرَجَ مِنْهَا بِاخْتِيَارِهِ وَيُدْخِلَ مَنْ أَدْخَلَ فِيهَا بِاخْتِيَارِهِ ؛ كَأَنَّهُ قَالَ : قَدْ وَقَفْتُ دَارِي هَذِهِ عَلَى مَنْ شِئْتُ عَلَى أَنْ أُدْخِلَ فِي الْوَقْفِ مَنْ أَشَاءُ ، وَأُخْرِجَ مِنْهُ مَنْ أَشَاءُ اشتراط الواقف فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : جَائِزٌ كَمَا لَوْ أَدْخَلَهُ بِصِفَةٍ وَأَخْرَجَهُ بِصِفَةٍ . وَالثَّانِي : هُوَ أَصَحُّ : لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَيَكُونُ الْوَقْفُ بَاطِلًا : لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ عَلَى مَوْصُوفٍ وَلَا مُعَيَّنٍ ، فَإِذَا قِيلَ : لَا يَجُوزُ ، كَانَ الْوَقْفُ بَاطِلًا إِلَّا أَنْ يَجْعَلَ آخِرَهُ عَلَى الْفُقَرَاءِ ، فَيَكُونُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ ، وَإِذَا قِيلَ بِجَوَازِهِ صَحَّ إِنْ كَانَ قَدْ سَمَّى فِيهِ عِنْدَ عَقْدِ الْوَقْفِ قَوْمًا ، ثُمَّ لَهُ يُدْخِلُ مَنْ شَاءَ وَيُخْرِجُ مَنْ شَاءَ ، وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ مَرَّةً وَاحِدَةً فَهَلْ لَهُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَيْسَ لَهُ : لِأَنَّهُ قَدْ فَعَلَ مَا شَاءَ ، وَلَهُ شَرْطُهُ ، وَقَدِ اسْتَقَرَّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ مِرَارًا مَا عَاشَ وَبَقِيَ لِعُمُومِ الشَّرْطِ ، فَإِذَا مَاتَ فَقَدْ تَعَيَّنَ عَلَى مَنْ فِيهِ عِنْدَ مَوْتِهِ مَنْ أَدْخَلَ فِيهِ فَقَدِ اسْتَقَرَّ دُخُولُهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ ، وَمَنْ أَخْرَجَ مِنْهُ فَقَدِ اسْتَقَرَّ خُرُوجُهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ .
فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ : وَقَفْتُهَا عَلَى الْأَرَامِلِ فَهُمُ النِّسَاءُ اللَّاتِي لَا أَزْوَاجَ لَهُنَّ ، وَفِي اعْتِبَارِ فَقْرِهِنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْيَتَامَى إِنْ خَصَّ أَرَامِلَ قَبِيلَةٍ لَمْ يُرَاعِ فَقْرَهُنَّ ، وَإِنْ عَمَّ وَأَطْلَقَ فَفِيهِ وَجْهَانِ ، وَهَلْ يَدْخُلُ فِيهِمُ الرِّجَالُ الَّذِينَ لَا أَزْوَاجَ لَهُمْ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَدْخُلُونَ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ فِي الِاسْمِ . وَالثَّانِي : يَدْخُلُونَ اعْتِبَارًا بِحَقِيقَةِ اللُّغَةِ ، وَصَرِيحِ اللِّسَانِ وَأَنَّ الْأَرْمَلَ الَّذِي لَا زَوْجَ لَهُ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ قَالَ الشَّاعِرُ : كُلُّ الْأَرَامِلِ قَدْ قَضَيْتُ حَاجَتَهَا فَمَنْ لِحَاجَةِ هَذَا الْأَرْمَلِ الذَّكَرِ
فَصْلٌ : وَمَنْ وَقَفَهَا عَلَى الْغِلْمَانِ حكم الوقف فَهُمْ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ مِنَ الذُّكُورِ ، وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى الْجَوَارِي فَهُمْ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ مِنَ الْإِنَاثِ ، وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى الْفِتْيَانِ فَهُمْ مَنْ قَدْ بَلَغَ وَإِلَى ثَلَاثِينَ سَنَةً ، وَكَذَا لَوْ وَقَفَهَا عَلَى الشَّبَابِ فَهُمْ كَالْفِتْيَانِ مَا بَيْنَ الْبُلُوغِ وَالثَّلَاثِينَ ، وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى الْكُهُولِ فَهُمْ مَنْ لَهُ مِنْ بَيْنِ الثَّلَاثِينَ وَالْأَرْبَعِينَ ، وَقَدْ قِيلَ : فِي تَأْوِيلِ - قَوْلِهِ تَعَالَى - : وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ [ آلِ عِمْرَانَ : 46 ] أَنَّهُ كَانَ ابْنَ ثَلَاثِينَ سَنَةً ، وَلَوْ وَقَفَهَا فَهُمْ مَنْ تَجَاوَزَ الْأَرْبَعِينَ .
فَصْلٌ : وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى جِيرَانِهِ حكم الوقف فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْجِيرَانِ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : مَنْ لَيْسَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ دَرْبٌ يُعَلَّقُ ، وَقَالَ آخَرُونَ : مَنْ صَلَّى مَعَكَ فِي مَسْجِدِكَ وَدَخَلَ مَعَكَ إِلَى
حَمَّامِكَ ، وَقَالَ آخَرُونَ : مَنْ كَانَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ أَرْبَعُونَ دَارًا ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُمْ مَنْ نَسَبُوا إِلَى سُكْنَى مَحَلَّتِكَ ، وَسَوَاءٌ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مَالِكًا أَوْ مُسْتَأْجِرًا وَيُسَوِّي بَيْنَ أَغْنِيَائِهِمْ وَفُقَرَائِهِمْ وَجْهًا وَاحِدًا مَا لَمْ يُمَيِّزْ : لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الشُّيُوعِ تَخْصِيصُ الْجَوَازِ بِالْفَقْرِ .
فَصْلٌ : وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى قُرَّاءِ الْقُرْآنِ أُعْطِيَ مَنْ قَرَأَهُ كُلَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَافِظًا ، وَلَا يُعْطَى مَنْ قَرَأَ بَعْضَهُ إِلَّا أَنْ يَقُولَ : مَنْ قَرَأَ قُرْآنًا فَيُعْطَى مِنْهُ مَنْ قَرَأَ وَلَوْ بَعْضَ آيَةٍ ، وَهُوَ قَدْرُ مَا يَمْنَعُ مِنَ الْجُنُبِ ، وَلَوْ وَقَفَهُ عَلَى حُفَّاظِ الْقُرْآنِ لَمْ يُعْطَ مَنْ نَسِيَهُ بَعْدَ حِفْظِهِ .
فَصْلٌ : وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى الْعُلَمَاءِ فَهُمْ عُلَمَاءُ الدِّينِ : لِأَنَّهُمْ فِي الْعُرْفِ الْعُلَمَاءُ عَلَى الْإِطْلَاقِ دُونَ الْقُرَّاءِ وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ : لِأَنَّ الْعِلْمَ مَا تَصَرَّفَ فِي مَعَانِيهِ لَا مَا كَانَ مَحْفُوظَ التِّلَاوَةِ .
فَصْلٌ : وَلَوْ وَقَفَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُمُ الْغُزَاةُ ، وَلَوْ وَقَفَهَا فِي سَبِيلِ الثَّوَابِ فَهُمُ الْقَرَابَاتُ فَقِيرُهُمْ وَغَنِيُّهُمْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : صَدَقَتُكَ عَلَى ذِي رَحِمِكَ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ وَلَوْ وَقَفَهَا فِي سَبِيلِ الْخَيْرِ وَالْبِرِّ فَهُمْ سَهْمَانِ لِلصَّدَقَاتِ ، وَقِيلَ : يَدْخُلُ فِيهِمُ الضَّيْفُ وَالسَّائِلُ ، وَالْمُعِيرُ وَفِي الْحَجِّ .
فَصْلٌ : فَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى أَنَّهُ إِنِ احْتَاجَ إِلَيْهَا بَاعَهَا ، أَوْ رَجَعَ فِيهَا أَوْ أَخَذَ غَلَّتَهَا فما حكم الوقف فَهُوَ وَقْفٌ بَاطِلٌ ، وَأَجَازَهُ مَالِكٌ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ فَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَفَ وَكَتَبَ : هَذَا مَا وَقَفَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَقَفَ عَيْنَ أَبِي ابْتِغَاءَ ثَوَابِ اللَّهِ وَلِيَدْفَعَ اللَّهُ بِهَا عَنْ وَجْهِهِ حَرَّ جَهَنَّمَ عَلَى أَنَّهُ مَتَى احْتَاجَ الْحَسَنُ أَوِ الْحُسَيْنُ إِلَى بَيْعِهَا بِدَيْنٍ أَوْ نِيَابَةٍ ، فَلَهُمَا بَيْعُ مَا رَأَيَاهُ مِنْهَا ، فَاحْتَاجَ الْحَسَنُ إِلَى بَيْعِهَا لِدَيْنٍ ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَهُ : " لِيَدْفَعَ اللَّهُ بِهَا عَنْ وَجْهِهِ حَرَّ جَهَنَّمَ " فَامْتَنَعَ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى بُطْلَانِ الْوَقْفِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : حَبِّسِ الْأَصْلَ وَسَبِّلِ الثَّمَرَةَ وَلِأَنَّ الشُّرُوطَ الْمُنَافِيَةَ لِلْعُقُودِ مُبْطِلَةٌ لَهَا إِذَا اقْتَرَنَتْ بِهَا كَالشُّرُوطِ الْمُبْطِلَةِ كَسَائِرِ الْعُقُودِ ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يُؤَيِّدِ الْوَقْفَ ، وَلَا حَرَّمَهُ فَلَمْ يَصِحَّ كَالْقَدْرِ إِلَى وَقْتٍ بَلْ هَذَا أَفْسَدُ : لِأَنَّهُ بِمَوْتِهِ أَجْهَلُ ، فَأَمَّا عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِنْ صَحَّ مَا ذَكَرَ فِيهِ فَمَحْمُولٌ عَلَى بَيْعِ مَا رَأَيَاهُ مِنْ غَلَّتِهِ لَا مِنْ أَصْلِهِ ، وَحَكَى ابْنُ سُرَيْجٍ فِي هَذَا الْوَقْفِ وَجْهًا آخَرَ أَنَّ الشَّرْطَ بَاطِلٌ ، وَالْوَقْفَ جَائِزٌ ، وَلَيْسَ لَهُ بَيْعُهُ أَبَدًا .
فَصْلٌ : فَإِذَا وَقَفَهَا عَلَى زَيْدٍ وَعَمْرٍو عَلَى أَنَّ لِزَيْدٍ مِنْهَا النِّصْفَ ، وَلِعَمْرٍو مِنْهَا الثُّلُثَ فما حكم الوقف كَانَتْ بَيْنَهُمَا عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ وَيَرْجِعُ السُّدُسُ الْفَاضِلُ عَلَيْهِمَا بِالرَّدِّ ، فَيَكُونُ لِزَيْدٍ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهَا وَلِعَمْرٍو خُمُسَاهَا ، وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى أَنَّ لِزَيْدٍ نِصْفَهَا وَلِعَمْرٍو ثُلُثَهَا ، وَلَمْ يَقُلْ فِي أَصْلِ الْوَقْفِ : إِنَّهَا عَلَيْهِمَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا سُمِّيَ لَهُ ، وَكَانَ السُّدُسُ الْفَاضِلُ إِذَا صَحَّ الْوَقْفُ فِيهِ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِمَا ، وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى أَنَّ لِزَيْدٍ نِصْفَهَا وَلِعَمْرٍو ثُلُثَهَا قُسِّمَتْ بَيْنَهُمَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ فَيَكُونُ لِزَيْدٍ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ ، وَلِعَمْرٍو سَهْمٌ ، فَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى زَيْدٍ ثُمَّ عَلَى عَمْرٍو ثُمَّ عَلَى بَكْرٍ ثُمَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ يُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ عَلَى شَرْطِهِ فَكَانَتْ لِزَيْدٍ ، فَإِذَا مَاتَ فَلِعَمْرٍو فَإِذَا مَاتَ فَلِبَكْرٍ فَإِذَا مَاتَ فَلِلْفُقَرَاءِ فَإِذَا مَاتَ عَمْرٌو قَبْلَ زَيْدٍ ثُمَّ مَاتَ زَيْدٌ فَلَا حَقَّ فِيهَا لِبَكْرٍ وَكَانَتْ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ : لِأَنَّ بَكْرًا رُتِّبَ بَعْدَ عَمْرٍو ، وَجُعِلَ لَهُ مَا كَانَ لِعَمْرٍو ، وَعَمْرٌو بِمَوْتِهِ قَبْلَ زَيْدٍ لَمْ يَسْتَحِقَّ فِيهِ شَيْئًا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَمْلِكَ بَكْرٌ عَنْهُ شَيْئًا .
فَصْلٌ : الْوِلَايَةُ عَلَى الْوَقْفِ مُسْتَحَقَّةٌ ، فَإِنْ شَرَطَهَا الْوَاقِفُ فِي وَقْفِهَا كَانَتْ لِمَنْ شَرَطَهَا لَهُ سَوَاءٌ شَرَطَهَا لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ ، وَإِنْ أَعْقَلَ اشْتِرَاطَهَا فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ ذَكَرْنَاهَا مِنْ قَبْلُ . أَحَدُهَا : أَنَّهَا لِلْوَاقِفِ اسْتِصْحَابًا بِمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنِ اسْتِحْقَاقِهَا عَلَى مِلْكِهِ وَاسْتِشْهَادًا بِوَلَاءِ عِتْقِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لِلْمُوقَفِ عَلَيْهِ إِلْحَاقًا بِمِلْكِ الْمَنَافِعِ وَتَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْأَخَصِّ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهَا لِلْحَاكِمِ وَلَهُ رَدُّهَا إِلَى مَنْ شَاءَ لِعُمُومِ وِلَايَتِهِ وَلُزُومِ نَظَرِهِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ الْوَاقِفَ جَعَلَهَا لِلْأَفْضَلِ ، وَالْأَفْضَلُ مِنْ بَيْنِهِ كَانَتْ لِأَفْضَلِهِمْ ، فَلَوِ اسْتَقَرَّتْ لَهُ فَحَدَثَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ لَمْ يَنْتَقِلْ ، وَإِنَّمَا يُرَاعَى الْأَفْضَلُ فِيهِمْ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْوِلَايَةِ إِلَّا أَنْ يَتَغَيَّرَ حَالُ الْفَاضِلِ فَيَصِيرَ مَفْضُولًا ، فَتَنْتَقِلُ الْوِلَايَةُ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ ، فَلَوْ جَعَلَهَا لِلْأَفْضَلِ مِنْ وَلَدِهِ فَهَلْ يُرَاعَى الْأَفْضَلُ مِنَ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ ، أَمْ يُرَاعَى الْأَفْضَلُ مِنَ الْبَنِينَ دُونَ الْبَنَاتِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُرَاعَى أَفْضَلُ الْفَرِيقَيْنِ : لِأَنَّ كُلَّهُمْ وَلَدٌ . وَالثَّانِي : يُرَاعَى أَفْضَلُ الْبَنِينَ دُونَ الْبَنَاتِ : لِأَنَّ الذُّكُورَ أَفْضَلُ مِنَ الْإِنَاثِ ، فَلَوْ جَعَلَهَا لِابْنَيْنِ مِنْ أَفَاضِلِ وَلَدِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ هَذِهِ الصِّفَةُ إِلَّا وَاحِدًا لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى نَظَرِهِ وَحْدَهُ وَضَمَّ الْحَاكِمُ إِلَيْهِ أَمِينًا مِنْ غَيْرِ وَلَدِهِ : لِأَنَّ الْوَاقِفَ لَمْ يَرْضَ بِأَمَانَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ مُسْتَحِقٌّ لَهَا اخْتَارَ الْحَاكِمُ أَمِينَيْنِ يَكُونَانِ وَالِيَيْنِ ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ مِنْهُمْ فَاضِلَانِ فَلَمْ يَقْبَلَا الْوِلَايَةَ اخْتَارَ لِلْوِلَايَةِ غَيْرَهُمَا ، فَإِنْ طَلَبَا الْوِلَايَةَ بَعْدَ رَدِّهَا لَهُمَا ؛ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا مِنْ أَهْلِ الْوَقْفِ بَطَلَتْ وِلَايَتُهُمَا بِالرَّدِّ ، وَلَمْ يَعُدْ إِلَيْهِمَا بِالطَّلَبِ كَالْوَصِيَّةِ ، وَإِنْ كَانَا مِنْ أَهْلِهِ ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِهِمْ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْوِلَايَةِ شَرْطٌ هَلْ يَكُونُ الْمُوقَفُ عَلَيْهِ بِالْوِلَايَةِ أَحَقَّ . أَحَدُهُمَا : قَدْ بَطَلَتْ وِلَايَتُهُمَا إِذَا قِيلَ إِنَّهَا مَعَ عَدَمِ الشَّرْطِ بِغَيْرِهِمَا . وَالثَّانِي : هُمَا أَحَقُّ بِهَا إِذَا قِيلَ لَوْ لَمْ يَكُنْ شَرَطَ أَنَّهَا لَهُمَا .
فَصْلٌ : فَإِذَا اخْتَلَفَ أَرْبَابُ الْوَقْفِ فِي شَرْطِهِ وَتَنَازَعُوا فِي تَرْتِيبٍ أَوْ تَفَاضُلٍ وَلَا بَيِّنَةٍ لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ نظر الوقف ، اشْتَرَكُوا جَمِيعًا فِيهِ بِالسَّوِيَّةِ مِنْ غَيْرِ تَرْتِيبٍ وَلَا تَفَاضُلٍ ، وَإِنْ طَلَبَ بَعْضُهُمْ أَيْمَانَ بَعْضٍ لَزِمَتْ ، فَلَوْ كَانَ الْوَاقِفُ حَيًّا واختلف أرباب الوقف كَانَ قَوْلُهُ فِيهِ مَقْبُولًا وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ ، وَلَوْ مَاتَ وَكَانَ وَارِثُهُ بَاقِيًا كَانَ قَوْلُ وَارِثِهِ فِيهِ مَقْبُولًا ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ وَاقِفًا وَلَا وَارِثًا ، وَكَانَ وَالِيًا عَلَيْهِ نُظِرَ فِي وِلَايَتِهِ ؛ فَإِنْ كَانَتْ مِنْ قِبَلِ حَاكِمٍ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى قَوْلِهِ فِي شُرَكَاءِ الْوَقْفِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الْوَاقِفِ رَجَعَ إِلَى قَوْلِهِ فِي شُرُوطِهِ عِنْدَ اخْتِلَافِ أَهْلِهِ ، فَلَوِ اخْتَلَفَ الْوَالِي عَلَيْهِ ، وَالْوَارِثُ فَأَيُّهُمَا أَحَقُّ بِالرُّجُوعِ إِلَى قَوْلِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الْوَارِثُ : لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ الْوَاقِفِ . وَالثَّانِي : الْوَالِي : لِأَنَّهُ أَخَصُّ بِالنَّظَرِ فَلَوْ جَعَلَ الْوَاقِفُ لِلْوَالِي عَلَيْهِ جَعْلًا وَكَانَ أَكْبَرَ مِنْ أُجْرَةِ مِثْلِهِ صَحَّ ، وَكَانَ لَهُ مَا سُمِّيَ مِنْ أَجْلِ الْعِلَّةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : ( وَمِنْهَا ) فِي الْحَيَاةِ الْهِبَاتُ ، وَالصَّدَقَاتُ غَيْرُ الْمُحَرَّمَاتِ وَلَهُ إِبْطَالُ ذَلِكَ مَا لَمْ يَقْبِضْهَا الْمُتَصَدِّقُ عَنْهُ وَالْمَوْهُوبُ لَهُ ، فَإِنْ قَبَضَهَا أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ بِأَمْرِهِ فَهِيَ لَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْأَوْقَافِ ، وَسَنَذْكُرُ أَحْكَامَ الْهِبَاتِ وَهِيَ مِنَ الْعَطَايَا الْجَائِزَةِ بِدَلِيلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [ الْمَائِدَةِ : 2 ] ، وَالْهِبَةُ بِرٌّ وَقَالَ : وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ [ الْبَقَرَةِ : 177 ] الْآيَةَ يَعْنِي بِهِ الْهِبَةَ ، وَالصَّدَقَةَ وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : لَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ لَقَبِلْتُ وَلَوْ دُعِيتُ إِلَى كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ وَرَوَتْ عَائِشَةُ رِضَى اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : تَهَادُوا تَحَابُّوا وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : إِنَّنَا نَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَنُكَافِئُ عَلَيْهَا وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى إِبَاحَتِهَا ، وَقِيلَ : إِنَّ الْهَدِيَّةَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْهِدَايَةِ : لِأَنَّهُ اهْتَدَى بِهَا إِلَى الْخَيْرِ وَالتَّآلُفِ .
فَصْلٌ : إِذَا تَقَرَّرَ إِبَاحَةُ الْهِبَةِ أركانها بِمَا ذَكَرْنَا ، فَتَكُونُ بِخَمْسَةِ أَشْيَاءَ : بِمَوْهُوبٍ وَوَاهِبٍ وَمَوْهُوبٍ لَهُ وَعَقْدٍ وَقَبْضٍ . وَأَمَّا الشَّيْءُ الْمَوْهُوبُ : فَهُوَ كُلُّ شَيْءٍ صَحَّ بَيْعُهُ جَازَتْ هِبَتُهُ ، وَذَلِكَ مَا اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ أَوْصَافٍ : أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَمْلُوكٍ مِنْ وَقْفٍ أَوْ طَلْقٍ لَمْ يَجُزْ ، وَأَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا ، وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا لَمْ يَجُزْ ، وَأَنْ يَكُونَ حَاضِرًا ، فَإِنْ كَانَ غَائِبًا لَمْ يَجُزْ وَلَا يَمْنَعُ مِنْ نَقْلِ مِلْكِهِ مَانِعٌ ، فَإِنْ مَنَعَ مِنْهُ مَانِعٌ كَالْمَرْهُونِ وَأُمِّ الْوَلَدِ لَمْ يَجُزْ ، فَهَذَا حُكْمُ الْمَوْهُوبِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَحُوزِ وَالْمُشَاعِ سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يَنْقَسِمُ وَلَا يَنْقَسِمُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هِبَةُ الْمُشَاعِ الَّذِي لَا يَنْقَسِمُ حكمها جَائِزَةٌ ، وَالْمُشَاعُ الَّذِي يَنْقَسِمُ بَاطِلَةٌ وَدَلِيلُنَا - قَوْلُهُ تَعَالَى - : فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا [ النِّسَاءِ : 4 ] ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا جَازَ بَيْعُهُ جَازَتْ هِبَتُهُ كَالْمَحُوزِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْوَاهِبُ أركان الهبة فَهُوَ كُلُّ مَالِكٍ جَائِزِ التَّصَرُّفِ ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَالِكٍ كَالْغَاصِبِ لَمْ يَجُزْ ، وَإِنْ كَانَ مَالِكًا عَنْهُ جَائِزَ التَّصَرُّفِ كَالسَّفِيهِ وَالْمُولَى عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ ، وَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِالْفَلَسِ ، فَعَلَى قَوْلَيْنِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْمَوْهُوبُ لَهُ أركان الهبة فَهُوَ مَنْ صَحَّ أَنْ يُحْكَمَ لَهُ بِالْمِلْكِ صَحَّ أَنْ يَكُونَ مَوْهُوبًا لَهُ مِنْ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ وَمَجْنُونٍ وَرَشِيدٍ ، فَأَمَّا مَنْ لَا يَصِحُّ أَنْ يُحْكَمَ لَهُ بِالْمِلْكِ كَالْحَمَلِ وَالْبَهِيمَةِ ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَوْهُوبًا لَهُ ، فَأَمَّا الْعَبْدُ فَفِي صِحَّةِ كَوْنِهِ مَوْهُوبًا لَهُ قَوْلَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ هَلْ يَمْلِكُ إِذَا مَلَكَ أَمْ لَا ؟ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْعَقْدُ فَهُوَ بَذْلٌ مِنَ الْوَاهِبِ ، وَقَبُولٌ مِنَ الْمَوْهُوبِ لَهُ ، أَوْ مَنْ يَقُومُ فِيهِ مِنْ وَلِيٍّ وَوَكِيلٍ ، فَإِذَا قَالَ الْوَاهِبُ : قَدْ وَهَبْتُ فَتَمَامُهُ أَنْ يَقُولَ الْمَوْهُوبُ لَهُ عَلَى الْفَوْرِ : قَدْ قَبِلْتُ ، فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ لَمْ يَتِمَّ الْعَقْدُ ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : الْقَبُولُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي عَقْدِ الْهِبَةِ كَالْعِتْقِ ، وَهُوَ قَوْلٌ شَذَّ بِهِ عَنِ الْجَمَاعَةِ ، وَخَالَفَ بِهِ الْكَافَّةَ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْهَدَايَا ، فَلِلْهَدِيَّةِ فِي الْقَبُولِ حُكْمٌ يُخَالِفُ قَبُولَ الْهِبَاتِ نَحْنُ نَذْكُرُهُ مِنْ بَعْدُ . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ عَقْدَ الْهِبَةِ بما يتم لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْقَبُولِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْدَى إِلَى النَّجَاشِيِّ مِسْكًا فَمَاتَ النَّجَاشِيُّ قَبْلَ وُصُولِ الْمِسْكِ إِلَيْهِ فَعَادَ الْمِسْكُ إِلَيْهِ فَقَسَّمَهُ بَيْنَ نِسَائِهِ ، وَلَوْ صَارَ الْمِسْكُ لِلنَّجَاشِيِّ لَمَا اسْتَحَلَّ ذَلِكَ وَلَأَوْصَلَهُ إِلَى وَارِثِهِ ، وَلِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ تَامٌّ يَنْتَقِلُ عَنْ حَيٍّ فَافْتَقَرَ إِلَى قَبُولٍ كَالْبَيْعِ ، وَفَارَقَ الْعِتْقَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمُعْتِقَ لَوْ رَدَّ الْعِتْقَ لَمْ يَبْطُلْ ، وَالْمَوْهُوبَ لَهُ لَوْ رَدَّ الْهِبَةَ بَطَلَتْ فَلِذَلِكَ مَا افْتَقَرَتِ الْهِبَةُ إِلَى قَبُولٍ ، وَلَمْ يَفْتَقِرِ الْعِتْقُ إِلَى قَبُولٍ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ : قَدْ وَهَبْتُ لَكَ عَبْدِي هَذَا إِنْ شِئْتَ فَقَالَ : قَدْ شِئْتُ ، لَمْ يَكُنْ قَبُولًا حَتَّى يَقُولَ : قَدْ قَبِلْتُ ، فَيَصِحُّ الْعَقْدُ وَإِنْ كَانَ مُعَلَّقًا بِمَشِيئَتِهِ : لِأَنَّهَا إِنَّمَا تَكُونُ هِبَةً لَهُ إِنْ شَاءَهَا ، وَلَوْ قَالَ الْمَوْهُوبُ لَهُ : قَدْ قَبِلْتُهُ إِنْ شِئْتَ ، لَمْ يَصِحَّ : لِأَنَّ قَبُولَ الْهِبَةِ إِنَّمَا يَكُونُ إِلَى مَشِيئَةِ الْقَابِلِ دُونَ الْبَاذِلِ ، فَلَوِ ابْتَدَأَ الْمَوْهُوبُ لَهُ فَقَالَ : هَبْ لِي عَبْدَكَ إِنْ شِئْتَ فَقَالَ : قَدْ شِئْتُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بَذْلًا حَتَّى يَقُولَ : قَدْ وَهَبْتُ ، فَلَوْ قَالَ : قَدْ وَهَبْتُ إِنْ شِئْتَ لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّ بَذْلَ الْهِبَةِ إِنَّمَا يَكُونُ إِلَى مَشِيئَةِ الْوَاهِبِ دُونَ الْمَوْهُوبِ لَهُ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقَبْضُ فَهُوَ مِنْ تَمَامِ الْهِبَةِ لَا تَمَلُّكَ إِلَّا بِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْعِرَاقِ . وَقَالَ مَالِكٌ ، وَدَاوُدُ : الْهِبَةُ تَتِمُّ بِالْعَقْدِ وَيُؤْخَذُ الْوَاهِبُ جَبْرًا بِالْقَبْضِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [ الْمَائِدَةِ : 1 ] ، وَبِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَقِيءُ ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ قَالُوا : وَلِأَنَّهَا عَطِيَّةٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَفْتَقِرَ إِلَى قَبْضٍ كَالْوَصِيَّةِ . وَدَلِيلُنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ أَهْدَى إِلَى النَّجَاشِيِّ ثَلَاثِينَ أُوقِيَّةً مِسْكًا قَالَ لِأُمِّ سَلَمَةَ : إِنَّ النَّجَاشِيَّ قَدْ مَاتَ وَسَيُرَدُّ عَلَيَّ فَأُعْطِيكِ فَلَمَّا رَدَّ عَلَيْهِ أَعْطَى كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ نِسَائِهِ أُوقِيَّةً وَدَفَعَ بَاقِيهِ إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ ، فَلَوْلَا أَنَّ بِالْقَبْضِ يَمْلِكُ لَمَا اسْتَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَتَمَلَّكَهُ وَيَتَصَرَّفَ فِيهِ ، وَرَوَى الزُّهْرِيُّ ، عَنْ عُرْوَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ أَبَاهَا نَحَلَهَا جِدَادَ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِهِ فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ جَلَسَ فَتَشَهَّدَ وَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ : أَمَّا بَعْدُ ، فَإِنَّ أَحَبَّ النَّاسِ غِنًى بَعْدِي لَأَنْتِ ، وَإِنَ أَعَزَّ النَّاسِ فَقْرًا بَعْدِي لَأَنْتِ ، وَإِنِّي قَدْ نَحَلْتُكِ جِدَادَ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِي وَوَدِدْتُ لَوْ كُنْتِ حُزْتِيهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْمَ مَالُ الْوَارِثِ ، وَإِنَّمَا هُوَ أَخَوَاكِ وَأُخْتَاكِ ، قَالَتْ : هَذَا أَخَوَايَ فَمَنْ أُخْتَايَ ؟ قَالَ ذُو بَطْنٍ : ابْنَةُ خَارِجَةَ ، فَإِنِّي أَظُنُّهَا جَارِيَةً ، قَالَتْ : لَوْ كُنَّ مَا بَيْنَ كَذَا وَكَذَا لَرَدَدْتُهُ ، فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَى أَنَّ الْهِبَةَ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالْقَبْضِ . وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : مَا لِي أَرَاكُمْ تُنْحِلُونَ ، لَا نَحْلَ إِلَّا مَا أَجَازَهُ الْمَنْحُولُ ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ وَلِأَنَّهُ عَقْدُ إِرْفَاقٍ يَفْتَقِرُ إِلَى الْقَبُولِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَفْتَقِرَ إِلَى الْقَبْضِ كَالْقَرْضِ وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ لَا
يَلْزَمُ الْوَارِثَ إِلَّا بِالْقَبْضِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَ الْمَوْرُوثَ إِلَّا بِالْقَبْضِ كَالرَّهْنِ طَرْدًا ، وَالْبَيْعِ عَكْسًا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ - قَوْلِهِ تَعَالَى - : أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [ الْمَائِدَةِ : 1 ] ، فَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ لَازِمُ الْعُقُودِ ، وَلُزُومُ الْهِبَةِ رُكُوبٌ بِالْقَبْضِ لَا بِالْعَقْدِ وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَقِيءُ ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا بَعْدَ الْقَبْضِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْوَصِيَّةِ ، فَالْمَعْنَى فِي الْوَصِيَّةِ أَنَّهَا لَمَّا لَزِمَتِ الْوَارِثَ لَزِمَتِ الْمَوْرُوثَ ، وَالْهِبَةُ قَبْلَ الْقَبْضِ لَمَّا لَمْ تَلْزَمِ الْوَارِثَ لَمْ تَلْزَمِ الْمَوْرُوثَ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ فِي لُزُومِ الْهِبَةِ ، فَهُوَ مُخْتَلِفٌ بِحَسْبَ اخْتِلَافِ الْمَقْبُوضَاتِ ، فَكُلُّ مَا كَانَ قَبْضًا فِي الْبَيْعِ كَانَ قَبْضًا فِي الْهِبَةِ ، إِلَّا أَنَّ فِي الْبَيْعِ لَوْ قَبَضَ مَا دَفَعَ ثَمَنَهُ بِغَيْرِ إِذْنِ بَائِعِهِ ، صَحَّ فِي الْهِبَةِ لَوْ قَبَضَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ بَائِعِهِ ، صَحَّ فِي الْهِبَةِ لَوْ قَبَضَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ الْوَاهِبِ لَمْ تَصِحَّ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الرِّضَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي قَبْضِ الْبَيْعِ ، فَصَحَّ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ ، وَالرِّضَا مُعْتَبَرٌ فِي قَبْضِ الْبَيْعِ ، فَصَحَّ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ ، وَالرِّضَا مُعْتَبَرٌ فِي قَبْضِ الْبَيْعِ ، فَصَحَّ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ ، وَالرِّضَا مُعْتَبَرٌ فِي قَبْضِ الْهِبَةِ ، فَلَمْ يَصِحَّ إِلَّا بِإِذْنِهِ ، فَلَوْ كَانَ الشَّيْءُ الْمَوْهُوبُ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَمْضِيَ عَلَيْهِ بَعْدَ عَقْدِ الْهِبَةِ زَمَانُ الْقَبْضِ ، وَهَلْ يَحْتَاجُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِيهِ أَمْ لَا ؟ قَالَ الشَّافِعِيُّ : تَمَّتِ الْهِبَةُ بِالْهِبَةِ بِالْعَقْدِ وَمَضَى زَمَانُ الْقَبْضِ ، وَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى إِذْنٍ بِالْقَبْضِ وَقَالَ فِي الرَّهْنِ : إِذَا كَانَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الْقَبْضِ ، فَكَانَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا يَنْقُلُونَ جَوَابَ كُلٍّ مِنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى وَيُخَرِّجُونَهَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَحْتَاجُ فِيهِمَا إِلَى إِذْنٍ بِالْقَبْضِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْهِبَةِ ، وَيَكُونُ الْعَقْدُ فِيهِمَا إِذْنًا بِقَبْضِهِمَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا بُدَّ فِيهِمَا مِنَ الْإِذْنِ بِالْقَبْضِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الرَّهْنِ ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ ، بَلِ الْجَوَابُ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ يَحْتَاجُ فِي الرَّهْنِ إِلَى إِذْنٍ بِالْقَبْضِ ، وَلَا يَحْتَاجُ فِي الْهِبَةِ إِلَى إِذْنٍ بِالْقَبْضِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْهِبَةَ تُزِيلُ الْمِلْكَ فَقَوِيَ أَمْرُهَا فَلَمْ تَحْتَجْ فِي الْهِبَةِ إِلَى إِذْنٍ بِالْقَبْضِ ، وَالرَّهْنُ أَضْعَفُ مِنْهَا : لِأَنَّهُ لَا يُزِيلُ الْمِلْكَ وَافْتَقَرَ إِلَى إِذْنٍ بِالْقَبْضِ .
فَصْلٌ : وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْقَبْضِ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْفَوْرِ ، بَلْ إِنْ كَانَ عَلَى التَّرَاخِي وَلَوْ بَعْدَ طَوِيلِ الزَّمَانِ جَازَ ، فَإِذَا قَبَضَ الْهِبَةَ فَفِيمَا اسْتَقَرَّ بِهِ مِلْكُهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقَبْضَ هُوَ الْمِلْكُ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ حَدَثَ مِنَ الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ نَمَاءٌ كَثَمَرَةِ نَخْلٍ وَنِتَاجٍ وَمَاشِيَةٍ ، فَهُوَ لِلْوَاهِبِ دُونَ الْمَوْهُوبِ لَهُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْقَبْضَ يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ الْمِلْكِ بِالْعَقْدِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَا حَدَثَ مِنَ النَّمَاءِ مِلْكًا لِلْمَوْهُوبِ لَهُ دُونَ الْوَاهِبِ ، فَإِنْ كَانَ الْوَاهِبُ قَدِ اسْتَهْلَكَهُ قَبْلَ
تَسْلِيمِ الْأَصْلِ لَمْ يَضْمَنْهُ وَيَكُونُ اسْتِهْلَاكُهُ رُجُوعًا فِيهِ أَنْ لَوْ كَانَ هِبَةً ، وَلَوِ اسْتَهْلَكَهُ وَقَدْ حَدَثَ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْأَصْلِ ضَمِنَهُ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْهَدَايَا فَهِيَ مُخَالِفَةٌ لِلْهِبَاتِ فِي حُكْمِهَا : لِأَنَّ فِي الْهِبَةِ عَقْدًا بِالْقَوْلِ يَفْتَقِرُ إِلَى بَدَلٍ وَقَبُولٍ ، وَلَيْسَ فِي الْهِبَةِ عَقْدٌ يَفْتَقِرُ إِلَى بَدَلٍ وَقَبُولٍ ، بَلْ إِذَا دَفَعَهَا الْمُهْدِي إِلَى الْمُهْدَى إِلَيْهِ فَقَبِلَهَا مِنْهُ بِالرِّضَا وَالْعَقْدِ فَقَدْ مَلَكَهَا ، وَهَكَذَا لَوْ أَرْسَلَهَا الْمُهْدِي مَعَ رَسُولِهِ جَازَ لِلْمُهْدَى إِلَيْهِ إِذَا وَقَعَ فِي نَفْسِهِ صِدْقُ الرَّسُولِ أَنْ يَقْبَلَهَا ، فَإِذَا أَخَذَهَا مِنَ الرَّسُولِ ، أَوْ أَذِنَ لِغُلَامِهِ فِي أَخْذِهَا مِنَ الرَّسُولِ ، أَوْ قَالَ لِلرَّسُولِ : ضَعْهَا مَوْضِعَهَا ، اسْتَقَرَّ مِلْكُ الْمُهْدَى إِلَيْهِ الْهِبَةَ ، فَلَوْ قَالَ الْمُرْسِلُ : لَمْ أُنْفِذْهَا هَدِيَّةً وَكَذَبَ الرَّسُولُ بَلْ أَنْفَذْتُهَا وَدِيعَةً ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَهِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِهِ ، وَالْهَدَايَا تَخْتَصُّ بِالْمَأْكُولَاتِ وَمَا أَشْبَهَهَا ، وَالْهِبَاتُ فِيمَا زَادَ عَلَيْهَا ، وَالْعُرْفُ فِي ذَلِكَ قُوَى شَاهَدٍ وَأَظْهَرُ دَلِيلٍ ، فَإِنْ كَانَتِ الْهَدِيَّةُ فِي طَرَفٍ فَإِنْ كَانَ الطَّرَفُ مِمَّا لَمْ تُجْرِيهِ الْعَادَةُ بِاسْتِرْجَاعِهِ مِثْلَ قَوَاصِرِ التَّمْرِ وَالْفَوَاكِهِ وَقَوَارِيرِ مَاءِ الْوَرْدِ وَالْأَزْهَارِ إِذَا كَانَتْ سَقْفًا فَهِيَ مَمْلُوكَةٌ مَعَ الْهَدِيَّةِ : لِأَنَّ الْعُرْفَ لَمْ يَجْرِ بِاسْتِرْجَاعِهَا ، وَإِنْ كَانَتِ الطُّرُوفُ كَالطَّيَافِيرِ الْمَدْهُونَةِ ، وَالْفَضَارِ ، وَالزُّجَاجِ الْمُحْكَمِ ، وَمَا شَاكَلَهُ مِمَّا جَرَى الْعُرْفُ بِاسْتِرْجَاعِهِ فَهُوَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ مَعَ الْهَدِيَّةِ ، وَلِلْمُهْدِي بَعْدَ إِرْسَالِ الْهَدِيَّةِ أَنْ يَسْتَرْجِعَهَا مَا لَمْ تَصِلْ إِلَى الْمُهْدَى إِلَيْهِ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجَعَتْ إِلَيْهِ هَدِيَّتُهُ إِلَى النَّجَاشِيِّ قَبْلَ وُصُولِهَا إِلَيْهِ فَمَلَكَهَا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَيَقْبِضُ لِلطِّفْلِ أَبُوهُ ، نَحَلَ أَبُو بَكْرٍ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - جِدَادَ عِشْرِينَ وَسْقًا ، فَلَمَّا مَرِضَ قَالَ : وَدِدْتُ أَنَّكِ كُنْتِ قَبَضْتِيهِ ، وَهُوَ الْيَوْمَ مَالُ الْوَارِثِ ( وَمِنْهَا ) بَعْدَ الْوَفَاةِ الْوَصَايَا وَلَهُ إِبْطَالُهَا مَا لَمْ يَمُتْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ تَجُوزُ الْهِبَةُ لِكُلِّ مَنْ صَحَّ مِنْهُ الْمِلْكُ مِنْ طِفْلٍ ، أَوْ مَجْنُونٍ ، أَوْ سَفِيهٍ إِلَّا أَنَّ السَّفِيهَ يَصِحُّ أَنْ يَقْبَلَ الْهَدِيَّةَ ، وَالطِّفْلَ وَالْمَجْنُونَ لَا يَصِحُّ مِنْهُمَا قَبُولُ الْهَدِيَّةِ : لِأَنَّ لِقَوْلِ السَّفِيهِ حُكْمًا وَلَيْسَ لِقَوْلِ الطِّفْلِ وَالْمَجْنُونِ حُكْمٌ ، وَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَالْقَابِلُ لِلطِّفْلِ وَالْمَجْنُونِ وَلِيُّهُمَا مِنْ أَبٍ أَوْ وَصِيٍّ أَوْ أَمِينٍ حَاكِمٍ وَهُوَ الْقَابِضُ لَهُمَا بَعْدَ الْقَبُولِ ، وَأَمَّا السَّفِيهُ فَهُوَ الْعَائِلُ وَوَلِيُّهُ هُوَ الْقَابِضُ فَإِنْ قَبَضَهَا السَّفِيهُ تَمَّتِ الْهِبَةُ أَيْضًا ، وَلَوْ قَبَضَهَا الطِّفْلُ وَالْمَجْنُونُ لَمْ تَتِمَّ الْهِبَةُ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ فَإِنْ كَانَ الْوَاهِبُ لِلطِّفْلِ أَبَاهُ فَهَلْ يَحْتَاجُ فِي عَقْدِ الْهِبَةِ إِلَى لَفْظٍ بِالْبَدَلِ وَالْقَبُولِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ بَلْ يَنْوِي بِهِ : لِأَنَّهُ يَكُونُ مُخَاطِبًا نَفْسَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يُرِيدُ مَنْ عَقَدَ بِالْقَبُولِ ، فَيَبْذُلُ مِنْ نَفْسِهِ لِابْنِهِ بِنَفْسِهِ فَيَكُونُ فِي الْبَذْلِ وَالْإِقْبَاضِ شَائِبًا عَنْ نَفْسِهِ ، وَفِي الْقَبُولِ وَالْقَبْضِ نَائِبًا عَنِ ابْنِهِ ، فَأَمَّا أَمِينُ الْحَاكِمِ فَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ مِنْهُ إِلَّا أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُ قَابِلٌ وَيَقْبِضَهُ مِنْهُ قَابِضٌ ، وَكَذَلِكَ وَصِيُّ الْأَبِ وَهُمَا مَعًا بِخِلَافِ الْأَبِ كَمَا خَالَفَاهُ فِي بَيْعِهِ وَشِرَائِهِ .
فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : وَمِنْهَا بَعْدَ الْوَفَاةِ الْوَصَايَا ، وَلَهُ إِبْطَالُهَا مَا لَمْ يُثْبِتْ وَهَذَا
صَحِيحٌ : لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَسَّمَ الْعَطَايَا ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ ، فِي الْحَيَاةِ مِنْهَا قِسْمَانِ : الْوَقْفُ ، وَالْهِبَةُ ، وَبَعْدَ الْمَوْتِ قِسْمٌ : وَهُوَ الْوَصَايَا ، قَدْ ذَكَرْنَا الْوَصَايَا وَإِنْ أَفْرَدَ لَهَا كِتَابًا لَاقْتَضَى التَّسْلِيمَ لَهَا ، وَهِيَ مُخَالِفَةٌ لِلْهِبَاتِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ ، وَإِنْ جَازَ بَيْعُهَا فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ . أَحَدُهَا : أَنَّ الْهِبَةَ عَطِيَّةٌ نَاجِزَةٌ ، وَالْوَصِيَّةَ عَطِيَّةٌ مُتَرَاخِيَةٌ بَعْدَ الْمَوْتِ . وَالثَّانِي : جَوَازُ الْوَصِيَّةِ بِالْمَجْهُولِ حكمها وَمَا لَمْ يَمْلِكْ ، وَبُطْلَانُ الْهِبَةِ بِذَلِكَ . وَالثَّالِثُ : جَوَازُ الْوَصِيَّةِ لِمَنْ لَيْسَ بِمَالِكٍ فِي الْحَالِ مِنْ خَمْلٍ وَمُتَبَطِّرٍ ، وَبُطْلَانُ الْهِبَةِ كَذَلِكَ . وَالرَّابِعُ : تَمَامُ الْوَصِيَّةِ بِالْقَبُولِ دُونَ الْقَبْضِ ، وَتَمَامُ الْهِبَةِ بِالْقَبْضِ فَهَذِهِ أَرْبَعَةٌ . وَخَامِسٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ : وَهُوَ الْمُكَافَأَةُ لَا تُسْتَحَقُّ فِي الْوَصِيَّةِ ، وَفِي اسْتِحْقَاقِهَا فِي الْهِبَةِ قَوْلَانِ نَذْكُرُهُمَا مِنْ بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ .
بَابُ الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى
بَابُ الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى مِنَ اخْتِلَافِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ، عَنْ طَاوُسٍ ، عَنْ حُجْرٍ الْمَدَرِيِّ ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ جَعَلَ الْعُمْرَى لِلْوَارِثِ وَمِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَا تُعْمِرُوا وَلَا تُرْقِبُوا ، فَمَنْ أَعْمَرَ شَيْئًا أَوْ أَرْقَبَهُ فَهُوَ سَبِيلُ الْمِيرَاثِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : وَهُوَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَبِهِ أَقُولُ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ عِنْدِي فِي الْعُمْرَى أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ : قَدْ جَعَلْتُ دَارِي هَذِهِ لَكَ عُمْرَكَ أَوْ حَيَاتَكَ ، أَوْ جَعَلْتُهَا لَكَ عُمْرِي أَوْ رُقْبَى ، وَيَدْفَعُهَا إِلَيْهِ فَهِيَ مِلْكٌ لِلْمُعْمِرِ تُورَثُ عَنْهُ إِنْ مَاتَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى عَطِيَّتَانِ مِنْ عَطَايَا الْجَاهِلِيَّةِ تعريفهما وحكمهما ؟ ، وَرَدَّ الشَّرْعُ فِيهِمَا بِأَمْرٍ وَنَهْيٍ ، اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ لِأَجَلِهِمَا وَفِي الَّذِي أُرِيدَ بِهِمَا ، أَمَّا الْعُمْرَى فَهُوَ أَنْ يَقُولَ : جَعَلْتُ دَارِي هَذِهِ لَكَ عُمْرِي ، أَوْ يَقُولُ : قَدْ جَعَلْتُهَا لَكَ عُمْرَكَ ، أَوْ مُدَّةَ حَيَاتِكِ ، فَيَكُونُ لَهُ مُدَّةُ حَيَاتِهِ وَعُمْرِهِ ، فَإِذَا مَاتَ رَجَعَتْ إِلَى الْمُعْمِرِ إِنْ كَانَ حَيًّا ، أَوْ إِلَى وَارِثِهِ إِنْ كَانَ مَيِّتًا ، سُمِّيَتْ عُمْرَى لِتَمَلُّكِهِ إِيَّاهَا مُدَّةَ عُمْرِهِ وَحَيَاتِهِ ، وَإِذَا مَاتَ رَجَعَتْ إِلَى الْمُعْمِرِ وَمِنْهُ - قَوْلُهُ تَعَالَى - : هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا [ هُودٍ : 61 ] يَعْنِي أَسْكَنَكُمْ فِيهَا مُدَّةَ أَعْمَارِكُمْ فَصِرْتُمْ عُمَّارَهَا . وَأَمَّا الرُّقْبَى فَهُوَ أَنْ يَقُولَ : قَدْ جَعَلْتُ دَارِي هَذِهِ لَكَ رُقْبَى ، يَعْنِي : إِنَّكَ تَرْقُبُنِي وَأَرْقُبُكَ ، وَإِنْ مِتَّ قَبْلِي رَجَعَتْ إِلَيَّ ، وَإِنْ مِتُّ قَبْلَكَ فَالدَّارُ لَكَ ، فَسُمِّيَتْ رُقْبَى مِنْ مُرَاقَبَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ ، وَكَانَ النَّاسُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى مَا وَصَفْنَا فِي الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى إِلَى أَنْ جَاءَ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ بِإِسْنَادِهِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ ، فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الرُّقْبَى وَالْعُمْرَى ، فَذَهَبَ دَاوُدُ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ إِلَى بُطْلَانِهَا اسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ النَّهْيِ ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ : إِلَى جَوَازِهَا عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ قَتَادَةَ ، عَنْ عَطَاءٍ ، عَنْ جَابِرٍ ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : الْعُمْرَى جَائِزَةٌ . وَرَوَى الشَّافِعِيُّ ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ ، عَنْ هِشَامٍ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ ، عَنْ