كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي
أَوْ فِي الْجَامِعِ ، كَانَ لَهُ مُلَازَمَةُ الْمُنْكِرِ إِنِ اسْتَحَقَّ تَغْلِيظَهَا ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مُلَازَمَتُهُ إِنْ لَمْ يَسْتَحِقَّ تَغْلِيظَهَا . فَلَوْ كَانَتِ الدَّعْوَى تَشْتَمِلُ عَلَى أَنْوَاعٍ فَأَرَادَ الْمُدَّعِي أَنْ يُحْلِفَهُ عَلَى أَحَدِهَا وَيَتَوَقَّفَ عَنْ إِحْلَافِهِ فِيمَا عَدَاهُ جَازَ . وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُحْلِفَهُ عَلَى كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا يَمِينًا يَمِينًا ، نُظِرَ : فَإِنْ فَرَّقَهَا فِي الدَّعْوَى جَازَ أَنْ تُفَرَّقَ فِي الْأَيْمَانِ ، وَإِنْ جَمَعَهَا فِي الدَّعْوَى لَمْ يَجُزْ أَنْ تُفَرَّقَ فِي الْأَيْمَانِ . وَلَوِ اشْتَرَكَ فِي الدَّعْوَى اثْنَانِ فَأَنْكَرَهُمَا وَجَبَ أَنْ يُحْلِفَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمِينًا وَلَا يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا فِي الْيَمِينِ الْوَاحِدَةِ : لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَحِقٌّ لِيَمِينٍ فِي حَقِّهِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَتَبَعَّضَ يَمِينُهُ فِي حَقِّهِمَا . فَإِنْ رَضِيَا أَنْ يَحْلِفَ لَهُمَا يَمِينًا وَاحِدَةً فَفِي جَوَازِهَا لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ لِوُقُوفِ الْيَمِينِ عَلَى خِيَارِ الْمُدَّعِي . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَبْعِيضِ الْيَمِينِ : فَعَلَى هَذَا إِذَا أَحْلَفَهُ لَهُمَا يَمِينًا وَاحِدَةً لَمْ يَعْتَدَّ بِهَا وَاسْتَأْنَفَ إِحْلَافَهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمِينًا مُفْرَدَةً . وَقَدْ أَحْلَفَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِيَ يَمِينًا وَاحِدَةً فِي حَقِّ شَرِيكَيْنِ ، فَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِ فُقَهَاءُ عَصْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْحَقُّ دَعْوَى أَحَدِهِمَا صَحِيحَةً ، فَإِذَا أَحْلَفَ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُمَا عَلَيْهِ كَانَ صَادِقًا لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا .
فَصْلٌ : وَالْفَصْلُ السَّادِسُ فِي حُكْمِ النُّكُولِ معناه . وَهُوَ أَنْ تَجِبَ عَلَى الْمُنْكِرِ الْيَمِينُ فَيَمْتَنِعُ مِنْهَا ، أَوْ يَقُولُ : قَدْ نَكَلْتُ عَنْهَا أَوْ يَقُولُ : لَسْتُ أَحْلِفُ ، فَيَصِيرُ بِجَمِيعِ ذَلِكَ نَاكِلًا فَلَمْ يَحْكُمْ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ وَإِنْ خَالَفَنَا فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ بَعْدُ ، وَإِنَّمَا يُوجِبُ نُكُولُهُ رَدَّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي لِيَحْكُمَ بِيَمِينِهِ وَلَا يَحْكُمُ لَهُ بِنُكُولِ خَصْمِهِ . وَإِذَا صَارَ الْمُنْكِرُ نَاكِلًا ، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ حُكْمَ النُّكُولِ وَجَبَ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يُعْلِمَهُ حُكْمَهُ ، وَأَنَّهُ يُوجِبُ رَدُّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي ، لِيَحْكُمَ لَهُ بِيَمِينِهِ ، وَإِنْ عَرَفَ حُكْمَ النُّكُولِ اسْتَغْنَى الْقَاضِي بِمَعْرِفَتِهِ عَنْ إِعْلَامِهِ ، وَلَكِنْ يَقُولُ لَهُ : إِنْ أَقَمْتَ عَلَى امْتِنَاعِكَ جَعَلْتُكَ نَاكِلًا . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا بِمَاذَا يَسْتَقِرُّ نُكُولُهُ ؟ عن اليمين عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ : يَسْتَقِرُّ نُكُولُهُ بِإِعْلَامِهِ وَلَوْ كَانَ بِدَفْعَةٍ وَاحِدَةٍ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْعِرَاقِ : لَا يَسْتَقِرُّ النُّكُولُ إِلَّا بِأَنْ يَعْرِضَهُ عَلَيْهِ ثَلَاثًا هِيَ حَدُّ الِاسْتِظْهَارِ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا بَعْدَ اسْتِقْرَارِ النُّكُولِ هَلْ يَفْتَقِرُ إِلَى حُكْمِ الْقَاضِي بِهِ قَبْلَ رَدِّ الْيَمِينِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يَرُّدُ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعِي إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَقُولَ لِلْمُنْكِرِ قَدْ حَكَمْتُ عَلَيْكَ بِالنُّكُولِ لِمَا فِيهِ مِنَ الِاجْتِهَادِ ، فَإِنْ رَدَّهَا عَلَيْهِ قَبْلَ حُكْمِهِ بِهِ لَمْ يَصِحَّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ أَنْ يَرُدَّهَا عَلَى الْمُدَّعِي وَإِنْ لَمْ يَقُلْ قَدْ حَكَمْتُ عَلَيْكَ بِالنُّكُولِ ، لِأَنَّ رَدَّهَا عَلَيْهِ حُكْمٌ بِالنُّكُولِ . فَلَوْ بَذَلَ الْمُنْكِرُ الْيَمِينَ بَعْدَ الْحُكْمِ بِنُكُولِهِ ، لَمْ يَجُزْ إِحْلَافُهُ لِانْتِقَالِ الْيَمِينِ إِلَى الْمُدَّعِي . فَإِنْ حَلَفَ الْمُدَّعِي حَكَمَ لَهُ ، وَإِنِ اسْتَمْهَلَ لِلنَّظَرِ فِي حِسَابِهِ أُمْهِلَ . وَإِنْ تَوَقَّفَ عَنِ الْيَمِينِ لِغَيْرِ اسْتِمْهَالٍ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ . فِي يَمِينِ النُّكُولِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ : يَحْكُمُ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ كَمَا حَكَمَ عَلَى الْمُنْكِرِ بِالنُّكُولِ ، فَإِنْ رَامَ أَنْ يَحْلِفَ بَعْدَ الْحُكْمِ بِنُكُولِهِ لَمْ يَجُزْ ، كَمَا لَوْ رَامَهُ الْمُنْكِرُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَحْكُمُ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ ، وَإِنْ حَكَمَ عَلَى الْمُنْكِرِ بِالنُّكُولِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ نُكُولَ الْمُنْكِرِ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقٌّ لِغَيْرِهِ ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِنُكُولِ الْمُدَّعِي حَقٌّ لِغَيْرِهِ ، وَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ مَتَى شَاءَ وَيَسْتَحِقَّ .
حُضُورُ الْخَصْمِ قَبْلَ نُفُوذِ الْحُكْمِ وَاطِّرَادُهُ جَرْحَ الشُّهُودِ
حُضُورُ الْخَصْمِ قَبْلَ نُفُوذِ الْحُكْمِ وَاطِّرَادُهُ جَرْحَ الشُّهُودِ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَيَنْبَغِي إِذَا حَضَرَ أَنْ يَقْرَأَ عَلَيْهِ مَا شَهِدُوا بِهِ عَلَيْهِ وَيَنْسَخُهُ أَسْمَاءَهُمْ وَأَنْسَابَهُمْ وَيَطْرُدُهُ جَرْحَهُمْ فِإِنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ حَكَمَ عَلَيْهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهَا مُصَوَّرَةٌ فِي حَاضِرٍ سُمِعَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ قَبْلَ جَوَابِهِ عَنِ الدَّعْوَى ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ مِنْهُمْ ، فَإِذَا حَضَرَ مَجْلِسَ الْحُكْمِ بَعْدَ سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ أَعْلَمَهُ الْقَاضِي أَسْمَاءَ الشُّهُودِ ، وَأَطْرَدَهُ جَرْحَهُمْ ، فَإِنْ أَثْبَتَ مَا يُوجِبُ سُقُوطَ شَهَادَتِهِمْ أَسْقَطَهَا ، وَإِلَّا حَكَمَ بِهَا وَأَمْضَاهَا . وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ هِيَ مُصَوَّرَةٌ فِي غَائِبٍ سُمِعَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ ثُمَّ قَدِمَ قَبْلَ نُفُوذِ الْحُكْمِ
بِهَا فَيُعْلِمُهُ الْقَاضِي مَا ثَبَتَ عِنْدَهُ بِالْبَيِّنَةِ وَيُعَرِّفُهُ أَسْمَاءَ الشُّهُودِ وَأَنْسَابَهُمْ ، وَيَطْرُدُهُ جَرْحُهُمْ ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ مَنَعَ مِنْ سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْحَاضِرِ قَبْلَ جَوَابِهِ عَنِ الدَّعْوَى . وَفِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ : وَيَطْرُدُهُ جَرْحَهُمْ ، تَأْوِيلَانِ مُتَضَادَّانِ : أَحَدُهُمَا : مَعْنَاهُ يُمْهِلُهُ وَيُؤَخِّرُهُ ، حَتَّى يُقِيمَ بَيِّنَةً بِجَرْحِهِمْ . وَالثَّانِي : بَلْ مَعْنَاهُ يُضَيِّقُ عَلَيْهِ وَلَا يُؤَخِّرُهُ . وَعَلَى كِلَا التَّأْوِيلَيْنِ لَا بُدَّ أَنْ يُمْهِلَهُ قَدْرَ مَا يُمْكِنُهُ إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ الْحَاضِرَةِ بِجَرْحِهِمْ وَلَا يَزِيدُهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ؛ لِتَطَاوُلِ الزَّمَانِ بِمَا زَادَ عَلَيْهَا وَيَجْتَهِدُ رَأْيَهُ فِيمَا دُونَ الثَّلَاثِ بِحَسَبِ الْحَالِ وَعِظَمِ الْبَلَدِ وَصِغَرِهِ . فَإِذَا قَدَّرَ لَهُ مُدَّةً أَنْظَرَهُ بِهَا فَلَمْ يَأْتِ فِيهَا بِالْبَيِّنَةِ عَلَى الْجَرْحِ أَنْفَذَ الْحُكْمَ عَلَيْهِ بِالشَّهَادَةِ . وَإِنْ أَتَى بِالْبَيِّنَةِ فِي مُدَّةِ إِنْظَارِهِ بِجَرْحِ الشُّهُودِ بَعْدَ ثُبُوتِ عَدَالَتِهِمْ سَأَلَ شُهُودَ الْجَرْحِ عَنْ زَمَانِهِ ، فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو جَوَابُهُمْ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : إِحْدَاهَا : أَنْ يَشْهَدُوا بِجَرْحِهِمْ فِي زَمَانِ شَهَادَتِهِمْ فَهَذَا مُوجِبٌ لِإِسْقَاطِهَا ، وَإِبْطَالِ الْحُكْمِ بِهَا ، لِأَنَّ بَيِّنَةَ الْجَرْحِ أَثْبَتُ مِنْ بَيِّنَةِ التَّعْدِيلِ ، سَوَاءٌ كَانَ الْقَاضِي قَدْ أَنْفَذَ الْحُكْمَ بِشَهَادَتِهِمْ أَوْ لَمْ يُنْفِذْ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَشْهَدُوا بِجَرْحِهِمْ قَبْلَ زَمَانِ شَهَادَتِهِمْ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الزَّمَانَيْنِ مِنَ التَّطَاوُلِ مَا يَصْلُحُ فِيهِ حَالُ الْمَجْرُوحِ ، فَلَا يُوجِبُ سُقُوطَ شَهَادَتِهِمْ وَتَكُونُ بَيِّنَةُ التَّعْدِيلِ أَوْلَى . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَقْصُرَ مَا بَيْنَ الزَّمَانَيْنِ عَنْ أَنْ يَصْلُحَ فِيهِ حَالُ الْمَجْرُوحِ ، فَيَجِبُ سُقُوطُ شَهَادَتِهِمْ وَتَكُونُ بَيِّنَةُ الْجَرْحِ أَوْلَى . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَشْهَدُوا بِجَرْحِهِمْ بَعْدَ زَمَانِ شَهَادَتِهِمْ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْجَرْحُ بَعْدَ نُفُوذِ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمْ ، فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ مَا حَدَثَ بَعْدَهُ مِنْ جَرْحِهِمْ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْجَرْحُ بَعْدَ شَهَادَتِهِمْ وَقَبْلَ نُفُوذِ الْحُكْمِ بِهَا ، فَيَتَوَقَّفُ عَنْ إِنْفَاذِ الْحُكْمِ بِشَهَادَةِ مَجْرُوحِينَ . فَأَمَّا إِنِ ادَّعَى الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ قَضَاءَ الدَّيْنِ كَانَ تَصْدِيقًا لِلشَّهَادَةِ فَلَمْ تُسْمِعْ مِنْهُ بَيِّنَةُ الْجُرْحِ ، وَطُولِبَ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى الْقَضَاءِ . فَإِنْ أَقَامَهَا ، سَقَطَ الْحَقُّ عَنْهُ ، وَإِنْ عَدِمَهَا أَحْلَفَ الشُّهُودَ لَهُ وَحَكَمَ لَهُ بِالْحَقِّ .
فَصْلٌ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِشَهَادَةِ الزُّورِ
فَصْلٌ : فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِشَهَادَةِ الزُّورِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِذَا عَلِمَ مِنْ رَجُلٍ بِإِقْرَارِهِ أَوْ تَيَقَّنَ أَنَّهُ شَهِدَ عِنْدَهُ بِزُورٍ عَزَّرَهُ وَلَمْ يَبْلُغْ بِالتَّعْزِيرِ أَرْبَعِينَ سَوْطًا وَشَهَرَ أَمْرَهُ ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمَسْجِدِ وَقَفَهُ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلٍ قَبِيلٍ وَقَفَهُ فِي قَبِيلِهِ أَوْ فِي سُوقِهِ وَقَالَ إِنَّا وَجَدْنَا هَذَا شَاهِدَ زُورٍ فَاعْرِفُوهُ " . حُكْمُ شَهَادَةِ الزُّورِ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا شَهَادَةُ الزُّورِ فَمِنَ الْكَبَائِرِ . رَوَى خُرَيْمُ بْنُ فَاتِكٍ قَالَ : صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الصُّبْحِ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَامَ قَائِمًا وَقَالَ : " عُدِلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ بِالْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ " ثُمَّ تَلَا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى : فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ [ الْحَجِّ : ] . وَرَوَى مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " إِنَّ شَاهِدَ الزُّورِ لَا تَزُولُ قَدَمَاهُ حَتَّى يَتَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ " . مَا يَتَعَلَّقُ بِشَهَادَةِ الزُّورِ مِنَ الْأَحْكَامِ . وَالَّذِي يَتَعَلَّقُ بِشَهَادَةِ الزُّورِ أَرْبَعَةُ أَحْكَامٍ : أَحَدُهَا : مَا يَعْلَمُ بِهِ أَنَّهُ شَهِدَ بِزُورٍ . وَهَذَا يُعْلَمُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : مِنْ إِقْرَارِهِ أَنَّهُ شَهِدَ بِزُورٍ . وَالثَّانِي : مِنِ اسْتِحَالَتِهِ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى رَجُلٍ بِقَتْلٍ ، أَوْ زِنًا ، فِي زَمَانٍ مُعَيَّنٍ ، فِي بَلَدٍ بِعَيْنِهِ ، وَقَدْ عَلِمَ يَقِينًا أَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ كَانَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْبَلَدِ . وَالثَّالِثُ : بِأَنْ تَقُومَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ شَهِدَ بِزُورٍ . فَأَمَّا إِنْ شَهِدَ بِمَا أَخْطَأَ فِيهِ أَوِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ لَمْ تَكُنْ شَهَادَةُ زُورٍ وَلَكِنْ يُوَبَّخُ عَلَيْهَا ، لِتَسَرُّعِهِ إِلَى الشَّهَادَةِ قَبْلَ تَحَقُّقِهَا . فَإِنْ كَثُرَ ذَلِكَ مِنْهُ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى عَدَالَتِهِ لِعَدَمِ الثِّقَةِ بِهَا . فَأَمَّا تَعَارُضُ الْبَيِّنَتَيْنِ فَلَا يَقْضِي فِيهِ بِالتَّكْذِيبِ وَالرَّدِّ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ تَكْذِيبُ إِحْدَاهُمَا بِأَوْلَى مِنْ تَكْذِيبِ الْأُخْرَى ، فَلَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي عَدَالَةِ إِحْدَاهُمَا .
فَصْلٌ : وَالْحُكْمُ الثَّانِي : تَأْدِيبُ شَاهِدِ الزُّورِ . وَتَأْدِيبُهُ التَّعْزِيرُ ، لِأَنَّهُ مِمَّا لَمْ يَرِدْ فِيهِ حَدٌّ .
وَلَا يَبْلُغُ بِتَعْزِيرِهِ أَرْبَعِينَ وَغَايَتُهُ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ سَوْطًا ؛ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا يُبْلَغُ بِالْحَدِّ فِي غَيْرِ حَدٍّ " وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " مَنْ بَلَغَ مَا لَيْسَ بِحَدٍّ حَدًّا فَهُوَ مِنَ الْمُعْتَدِينَ " . وَلَا وَجْهَ لِمَا قَالَ مَالِكٌ ، مِنْ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَزِيدَ فِي التَّعْزِيرِ عَلَى أَكْثَرِ الْحُدُودِ . وَلَا وَجْهَ لِمَا قَالَهُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى أَنَّهُ لَا يَبْلُغُ بِهِ الْمِائَةَ ، وَيَجُوزُ بِمَا دُونَهَا . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يَبْلُغُ بِهِ ثَمَانِينَ ، وَيَجُوزُ فِيمَا دُونَهَا . وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَبْلُغُ بِهِ الْأَرْبَعِينَ وَيَجُوزُ بِمَا دُونَهَا ؛ لِأَنَّ الْأَرْبَعِينَ حَدُّ الْخَمْرِ فِي الْحُرِّ ، فَكَانَ غَايَةُ تَعْزِيرِ الْحُرِّ تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ . ثُمَّ هَذِهِ الْغَايَةُ لَا يَجِبُ اسْتِعْمَالُهَا فِي كُلِّ مُعَزَّرٍ ؛ لِأَنَّ التَّعْزِيرَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمُعَزَّرِ وَيَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى الِاجْتِهَادِ ، فَمَنْ أَدَّى الِاجْتِهَادُ إِلَى تَعْزِيرِهِ بِالضَّرْبِ اجْتُهِدَ فِي عَدَدِهِ ، فَإِنْ أَدَّى الِاجْتِهَادُ إِلَى تَعْزِيرِهِ بِعَشَرَةِ أَسْوَاطٍ لَمْ يَزِدْهُ عَلَيْهَا ، وَإِنْ أَدَّى الِاجْتِهَادُ إِلَى تَعْزِيرِهِ بِالْحَبْسِ لَمْ يَعْدِلْ بِهِ إِلَى الضَّرْبِ ، وَإِنْ أَدَّى الِاجْتِهَادُ إِلَى تَعْزِيرِهِ بِالْقَوْلِ وَالزَّجْرِ ، لَمْ يَعْدِلْ بِهِ إِلَى ضَرْبٍ وَلَا حَبْسٍ ، وَقَدِ اسْتَوْفَيْنَا حُكْمَ التَّعْزِيرِ فِي بَابِهِ .
فَصْلٌ : فِي التَّشْهِيرِ بِشَاهِدِ الزُّورِ وَالْحُكْمُ الثَّالِثُ : إِشْهَارُ أَمْرِهِ . لِرِوَايَةِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " اذْكُرُوا الْفَاسِقَ بِمَا فِيهِ يَحْذَرُهُ النَّاسُ " . وَلِأَنَّ فِي الشُّهْرَةِ زَجْرًا لَهُ وَلِغَيْرِهِ عَنْ مِثْلِهِ . وَإِشْهَارُ أَمْرِهِ ، أَنْ يُنَادَى عَلَيْهِ ، إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ مَسْجِدٍ عَلَى بَابِ مَسْجِدِهِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ سُوقٍ فِي سُوقِهِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قَبِيلَةٍ فِي قَبِيلَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قَبِيلٍ فِي قَبِيلِهِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقَبِيلَةِ وَالْقَبِيلِ : أَنَّ الْقَبِيلَةَ بَنُو الْأَبِ الْوَاحِدِ وَالْقَبِيلَ : الْأَخْلَاطُ الْمُجْتَمِعُونَ مِنْ آبَاءٍ شَتَّى . فَيَقُولُ فِي النِّدَاءِ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ : إِنَّا وَجَدْنَا هَذَا شَاهِدَ زُورٍ فَاعْرِفُوهُ . وَلَا يُزَادُ فِي هَذِهِ الشُّهْرَةِ تَسْوِيدُ وَجْهِهِ وَلَا حَلْقُ شَعْرِهِ وَلَا نِدَاؤُهُ بِذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ . وَقَالَ شُرَيْحٌ : يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي شُهْرَتِهِ ، وَهَذِهِ مُثْلَةٌ نَكْرَهُهَا لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا . فَإِنْ كَانَ هَذَا الشَّاهِدُ بِالزُّورِ مِنْ ذَوِي الصِّيَانَةِ فَقَدْ حُكِيَ عَنِ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يُصَانُ عَنْ هَذَا النِّدَاءِ وَيُقْتَصَرُ مِنْهُ عَلَى إِشَاعَةِ أَمْرِهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ " .
وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا بِالتَّسْوِيَةِ فِي النِّدَاءِ بَيْنَ ذَوِي الصِّيَانَةِ وَغَيْرِهِمْ ؛ لِأَنَّ الصِّيَانَةَ قَدْ خَرَجَ مِنْهَا بِزُورِهِ .
فَصْلٌ : فِي الْأَثَرِ الْمُتَرَتَّبِ عَلَى تَوْبَةِ شَاهِدِ الزُّورِ . وَالْحُكْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يُقْضَى بِفِسْقِهِ فَلَا تُسْمَعُ لَهُ شَهَادَةٌ مِنْ بَعْدِ مَا لَمْ يَتُبْ مِنْهَا . فَإِنْ تَابَ أَمْسَكَ عَنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ حَتَّى يَسْتَمِرَّ عَلَيْهَا وَيَتَحَقَّقَ صِدْقُ مُعْتَقَدِهِ فِيهَا ، فَحِينَئِذٍ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ . وَفِي النِّدَاءِ بَعْدَ تَوْبَتِهِ بِقَبُولِ شَهَادَتِهِ شاهد الزور وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُنَادَى بِهَا كَمَا نُودِيَ بِفِسْقِهِ . وَالثَّانِي : لَا يُنَادَى عَلَيْهِ بِالتَّوْبَةِ وَإِنْ نُودِيَ عَلَيْهِ بِالْفِسْقِ لِأَنَّ ظُهُورَ التَّوْبَةِ بِأَفْعَالِهِ أَقْوَى ، وَلِأَنَّ فِي النِّدَاءِ بِذْلَةً . وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي إِذَا لَمْ يَثِقْ بِسَلَامَةِ الشُّهُودِ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَنْ يُقَدِّمَ وَعْظَهُمْ وَتَخْوِيفَهُمْ وَتَحْذِيرَهُمْ فَقَدْ كَانَ شُرَيْحٌ إِذَا حَضَرَهُ شَاهِدَانِ لِلشَّهَادَةِ ، قَالَ لَهُمَا : " حَضَرْتُمَا وَلَمْ أَسْتَدْعِكُمَا ، وَإِنِ انْصَرَفْتُمَا لَمْ أَمْنَعْكُمَا ، وَإِنْ قُلْتُمَا سَمِعَتُ مِنْكُمَا ، فَاتَّقِيَا اللَّهَ فَإِنِّي مُتَّقٍ بِكُمَا " .
حُكْمُ الْقَاضِي بِعِلْمِهِ
حُكْمُ الْقَاضِي بِعِلْمِهِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ " اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي الْخَصْمِ يُقِرُّ عِنْدَ الْقَاضِي فَقَالَ فِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ كَشَاهِدٍ وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ ، وَالْآخَرُ أَنَّهُ يَحْكُمُ بِهِ " قَالَ الْمُزَنِيُّ " وَقَطَعَ بِأَنَّ سَمَاعَهُ الْإِقْرَارَ مِنْهُ أَثْبَتُ مِنَ الشَّهَادَةِ ، وَهَكَذَا قَالَ فِي كِتَابِ الرِّسَالَةِ : أَقْضِي عَلَيْهِ بِعِلْمِي وَهُوَ أَقْوَى مِنْ شَاهِدَيْنِ أَوْ بِشَاهِدَيْنِ وَبِشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَهُوَ أَقْوَى مِنْ شَاهِدٍ وَيَمِينٍ وَبِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ وَهُوَ أَقْوَى مِنَ النُّكُوَلِ وَرَدِّ الْيَمِينِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ ، وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِهِ بِعِلْمِهِ فِي الْحُقُوقِ وَالْحُدُودِ القاضي عَلَى مَذَاهِبَ شَتَّى . فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَحْكُمُ بِمَا عَلِمَهُ فِي زَمَانِ وِلَايَتِهِ وَفِي مَوَاضِعِ عَمَلِهِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ ، وَلَا يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَا بِمَا عَلِمَهُ قَبْلَ وِلَايَتِهِ ، وَلَا بِمَا عَلِمَهُ فِي غَيْرِ مَوَاضِعِ عَمَلِهِ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : يَحْكُمُ بِمَا عَلِمَهُ فِي مَجْلِسِ قَضَائِهِ وَلَا يَحْكُمُ بِمَا عَلِمَهُ فِي غَيْرِهِ . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ إِلَّا فِي الْحُدُودِ . وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ ، وَبِهِ قَالَ مِنَ التَّابِعَيْنِ شُرَيْحٌ ، وَالشَّعْبِيُّ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الْأَوْزَاعِيُّ ، وَأَحْمَدُ ، وَإِسْحَاقُ . فَأَمَّا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فَقَدْ نَصَّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ عَلَى قَوْلَيْنِ فَقَالَ فِي أَدَبِ الْقَاضِي مِنَ الْأُمِّ : لَا يَجُوزُ فِيهِ إِلَّا وَاحِدٌ مِنْ قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِكُلِّ مَا عَلِمَ قَبْلَ الْوِلَايَةِ وَبَعْدَهَا فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ وَغَيْرِهِ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ . وَالثَّانِي : لَا يَقْضِي بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ وَلَا غَيْرِهِ إِلَّا أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدَانِ عَلَى مِثْلِ مَا عَلِمَ فَيَكُونُ عِلْمُهُ وَجَهْلُهُ سَوَاءً . وَأَظْهَرُ قَوْلَيْهِ عَلَى مَذْهَبِهِ جَوَازُ حُكْمِهِ بِعِلْمِهِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ وَالرَّبِيعِ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقْطَعْ بِهِ حَذَارًا مِنْ مَيْلِ الْقُضَاةِ . فَأَمَّا حُكْمُهُ بِعِلْمِهِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَدَبِ الْقَاضِي يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا . فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي مَذْهَبِهِ فِيهَا فَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَجْمَعَانِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فِي تَخْرِيجِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ . وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ فِيهَا بِعِلْمِهِ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَإِنَّمَا الْقَوْلَانِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ . وَاسْتَدَلَّ مَنْ مَنَعَ الْقَاضِيَ مِنَ الْحُكْمِ بِعِلْمِهِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ، فَلَوْ جَازَ لَهُ الْحُكْمُ بِعِلْمِهِ لَقَرَنَهُ بِالشَّهَادَةِ . وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْحَضْرَمِيِّ فِي دَعْوَاهُ الْأَرْضَ عَلَى الْكِنْدِيِّ : شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ لَيْسَ لَكَ إِلَّا ذَلِكَ ، فَدَلَّ عَلَى انْتِفَاءِ الْحُكْمِ بِالْعِلْمِ . وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَلِمَ مِنْ كُفْرِ الْمُنَافِقِينَ مَا لَمْ يَحْكُمْ فِيهِ بِعِلْمِهِ . وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ تَقَاضَى إِلَيْهِ نَفْسَانِ فَقَالَ
أَحَدُهُمَا : أَنْتَ شَاهِدِي ، فَقَالَ : " فَإِنْ شِئْتُمَا شَهِدْتُ وَلَمْ أَحْكُمْ أَوْ أَحْكُمُ وَلَا أَشْهَدُ " وَتَرَافَعَ إِلَى شُرَيْحٍ خَصْمَانِ فَقَالَ لِلْمُدَّعِي : أَلَكَ بَيِّنَةٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ ؛ أَنْتَ شَاهِدِي . قَالَ شُرَيْحٌ : أَنْتَ الْأَمِيرُ حَتَّى أَحْضُرَ فَأَشْهَدَ لَكَ " وَلَمْ يُعَاصِرْهُمَا مُخَالِفٌ . وَلِأَنَّ الشَّاهِدَ مَنْدُوبٌ لِلْإِثْبَاتِ ، وَالْقَاضِيَ مَنْدُوبٌ لِلْحُكْمِ ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ قَاضِيًا بِشَهَادَتِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي شَاهِدًا لِحُكْمِهِ . وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَجُوزُ بِأَقَلِّ مِنِ اثْنَيْنِ فَلَوْ جَازَ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ لَصَارَ إِثْبَاتُ الْحَقِّ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ . وَلَوْ صَارَ الْقَاضِي كَالشَّاهِدَيْنِ لَصَحَّ عَقْدُ النِّكَاحِ بِحُضُورِهِ وَحْدَهُ لِقِيَامِهِ مَقَامَ شَاهِدَيْنِ ، وَفِي امْتِنَاعِ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى مَنْعِهِ مِنَ الْحُكْمِ بِعِلْمِهِ . وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَجَازَ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [ الْإِسْرَاءِ : ] فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقْفُوَ مَا لَهُ بِهِ عِلْمٌ . وَبِمَا رَوَاهُ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ أَنَّهُ قَالَ : " بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ وَأَنْ نَقُومَ بِالْحَقِّ حَيْثُ كُنَّا ، وَأَنْ لَا نَخَافَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ " . وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : وَلَا يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ هَيْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ فِي حَقٍّ إِذَا رَآهُ أَوْ سَمِعَهُ " . وَلِأَنَّ الْحُكْمَ بِالْأَقْوَى أَوْلَى مِنَ الْحُكْمِ بِالْأَضْعَفِ عَلَى مَا وَصَفَهُ الشَّافِعِيُّ ، وَالْحُكْمُ فِي الشَّهَادَةِ بِغَالِبِ الظَّنِّ وَبِالْعِلْمِ مِنْ طَرِيقِ الْيَقِينِ وَالْقَطْعِ ، فَلَمَّا جَازَ الْحُكْمُ بِالشَّهَادَةِ كَانَ بِالْعِلْمِ أَوْلَى وَأَجْوَزَ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَحْكُمَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ كَانَ الْحُكْمُ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ أَوْلَى ، وَلَمَّا جَازَ الْحُكْمُ بِقَوْلِ الرَّاوِي عَنِ الرَّسُولِ كَانَ الْحُكْمُ بِقَوْلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى . وَلِأَنَّهُ كَمَا جَازَ أَنْ يَحْكُمَ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ بِعِلْمِهِ ، جَازَ أَنْ يَحْكُمَ فِي غَيْرِهِمَا بِعِلْمِهِ ، لِثُبُوتِهِ بِأَقْوَى أَسْبَابِهِ . وَلِأَنَّ مَنْعَ الْقَاضِي مِنَ الْحُكْمِ بِعِلْمِهِ مُفْضٍ إِلَى وُقُوفِ الْأَحْكَامِ أَوْ فِسْقِ الْحُكَّامِ فِي رَجُلٍ سَمِعَهُ الْقَاضِي يُطَلِّقُ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا أَوْ يُعْتِقُ عَبْدَهُ ، ثُمَّ أَنْكَرَ الْعِتْقَ أَوِ الطَّلَاقَ فَإِنِ اسْتَحْلَفَهُ وَمَكَّنَهُ فَسَقَ ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَحْلِفْهُ وَقَفَ الْحُكْمَ ، وَإِذَا حَكَمَ بِعِلْمِهِ سَلِمَ مِنَ الْأَمْرَيْنِ . وَاسْتَدَلَّ مَنْ مَنَعَ مِنَ الْحُكْمِ بِعِلْمِهِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " هَلَّا سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ يَا هَزَّالُ ؟ " . وَبِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ : " لَوْ رَأَيْتُ رَجُلًا عَلَى حَدٍّ لَمْ أَحُدَّهُ بِهِ حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ بِهِ عِنْدِي " .
وَلِأَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى مَوْضُوعَةٌ عَلَى التَّخْفِيفِ وَالْمُسَامَحَةِ لِإِسْقَاطِهَا بِالشُّبْهَةِ . وَاسْتَدَلَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا عَلِمَهُ قَبْلَ الْوِلَايَةِ وَبَعْدَهَا ، بِأَنَّ حُكْمَهُ بِعِلْمِهِ كَحُكْمِهِ بِالشَّهَادَةِ فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا سَمِعَهُ مِنَ الشَّهَادَةِ قَبْلَ الْمُحَاكَمَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ قَبْلَ الْوِلَايَةِ ، وَلِأَنَّ عِلْمَهُ قَبْلَ الْوِلَايَةِ عِلْمُ شَهَادَةٍ وَبَعْدَهَا عِلْمُ حُكْمٍ فَجَازَ أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِ الْحُكْمِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِ الشَّهَادَةِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ مَا قَبْلَ الْوِلَايَةِ وَبَعْدَهَا : أَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَحْكُمَ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ بِعِلْمِهِ قَبْلَ الْوِلَايَةِ وَبَعْدَهَا ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ فِي الْحُدُودِ بِعِلْمِهِ قَبْلَ الْوِلَايَةِ وَبَعْدَهَا ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا عَدَاهُمَا مُعْتَبَرًا بِهِمَا ، إِنْ جَازَ الْحُكْمُ فِيهِ بِالْعِلْمِ اسْتَوَى مَا عَلِمَهُ قَبْلَ الْوِلَايَةِ وَبَعْدَهَا كَالْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِ بِالْعِلْمِ اسْتَوَى مَا عَلِمَهُ قَبْلَ الْوِلَايَةِ وَبَعْدَهَا كَالْحُدُودِ ، فَبَطَلَ بِهَذَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْعِلْمَيْنِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ فَهُوَ أَنَّ سَمَاعَ الْبَيِّنَةِ لَا يَجُوزُ إِلَّا بَعْدَ التَّحَاكُمِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا عَلِمَهُ قَبْلَ التَّحَاكُمِ فَافْتَرَقَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِأَنَّ عِلْمَهُ قَبْلَ الْوِلَايَةِ عِلْمُ شَهَادَةٍ وَبَعْدَهَا عِلْمُ حُكْمٍ ، فَهُوَ أَنَّ عِلْمَ الشَّهَادَةِ قَبْلَ الْوِلَايَةِ يَصِيرُ عِلْمَ حُكْمٍ بَعْدَ الْوِلَايَةِ .
فَصْلٌ : شُرُوطُ نُفُوذِ حُكْمِ الْقَاضِي بِعِلْمِهِ . فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَوْجِيهِ الْقَوْلَيْنِ وَإِبْطَالِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْعِلْمَيْنِ ، فَإِنْ قِيلَ : بِجَوَازِ حُكْمِهِ بِعِلْمِهِ وَهُوَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ ، كَانَ نُفُوذُ حُكْمِهِ بِعِلْمِهِ مُعْتَبَرًا بِشَرْطَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَقُولَ لِلْمُنْكِرِ : قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ لَهُ عَلَيْكَ مَا ادَّعَاهُ . وَالثَّانِي : أَنْ يَقُولَ : وَحَكَمْتُ عَلَيْكَ بِعِلْمِي . فَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى أَحَدِ الشَّرْطَيْنِ وَأَغْفَلَ الْآخَرَ لَمْ يُنَفَّذْ حُكْمُهُ . وَإِنْ قِيلَ بِمَنْعِهِ مِنَ الْحُكْمِ بِعِلْمِهِ ، فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ : إِذَا أَقَرَّ عِنْدَهُ الْخُصُومُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى الْمُقِرِّ إِلَّا أَنْ يَشْهَدَ بِإِقْرَارِهِ شَاهِدَانِ ، لِئَلَّا يَصِيرَ حَاكِمًا بِعِلْمِهِ . فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اعْتِبَارِ هَذَا إِذَا مُنِعَ مِنَ الْحُكْمِ بِعِلْمِهِ . فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى اعْتِبَارِهِ ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى الْمُقِرِّ بِإِقْرَارِهِ ، حَتَّى يَشْهَدَ بِهِ شَاهِدَانِ ، لِئَلَّا يَصِيرَ حَاكِمًا بِعِلْمِهِ . وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ وَهُوَ قَوْلُ الْحُسَيْنِ الْكَرَابِيسِيِّ وَأَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ إِلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي إِقْرَارِهِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ بِالْإِقْرَارِ وَلَيْسَ حُكْمٌ بِالْعِلْمِ . وَعَلَى هَذَا لَوْ أَقَرَّ فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ بِحَدِّ اللَّهِ تَعَالَى وَقِيلَ : إِنَّهُ لَا يَحْكُمُ فِي الْحُدُودِ
بِعِلْمِهِ ، فَإِنْ مَنَعَ مِنَ الْحُكْمِ بِالْإِقْرَارِ إِلَّا بِالشَّهَادَةِ ، لَمْ يَحْكُمْ عَلَيْهِ بِالْحَدِّ ، وَإِنْ أُجِيزَ لَهُ الْحُكْمُ بِالْإِقْرَارِ مِنْ غَيْرِ شَهَادَةٍ ، حُكِمَ عَلَيْهِ بِالْحَدِّ . وَعَلَى هَذَا إِذَا شَهِدَ عِنْدَهُ شَاهِدَانِ بِمَا يَعْلَمُ خِلَافَهُ القاضي لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِ حُكْمِهِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَحْكُمُ بِهَا ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ فِي حُكْمِهِ دُونَ عِلْمِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِالشَّهَادَةِ ؛ لِأَنَّهُ مُتَحَقِّقٌ لِكَذِبِهَا . فَأَمَّا إِذَا ذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ بَيِّنَةً قَامَتْ عِنْدَهُ فَهُوَ مُصَدَّقٌ عَلَى مَا ذَكَرَ مِنْهَا ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِهَا عَلَى الْقَوْلَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ حَاكِمٌ بِالْبَيِّنَةِ دُونَ الْعِلْمِ .
فَصْلٌ : تَحْكِيمُ الْخَصْمَيْنِ شَخْصًا من الرعية دون القاضي وَإِذَا حَكَّمَ خَصْمَانِ رَجُلًا مِنَ الرَّعِيَّةِ لِيَقْضِيَ بَيْنَهُمَا فِيمَا تَنَازَعَاهُ فِي بَلَدٍ فِيهِ قَاضٍ أَوْ لَيْسَ فِيهِ قَاضٍ جَازَ . لِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ تَحَاكَمَا إِلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ . وَلِأَنَّهُ لَمَّا حَكَّمَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي الْإِمَامَةِ ، كَانَ التَّحْكِيمُ فِيمَا عَدَاهَا أَوْلَى . وَهَكَذَا حَكَّمَ أَهْلُ الشُّورَى فِيهَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ . نُفُوذُ حُكْمِ الْمُحَكَّمِ معتبر بأربعة شروط . وَإِذَا جَازَ التَّحْكِيمُ فِي الْأَحْكَامِ فَنَفَاذُ حُكْمِهِ مُعْتَبَرٌ بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ الْمُحَكَّمُ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِالتَّحْكِيمِ حَاكِمًا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ بَطَلَ تَحْكِيمُهُ ، وَلَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ . وَالشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ يَتَّفِقَ الْخَصْمَانِ عَلَى التَّرَاضِي بِهِ إِلَى حِينِ الْحُكْمِ ، فَإِنْ رَضِيَ بِهِ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ أَوْ رَضِيَا بِهِ ثُمَّ رَجَعَا أَوْ رَضِيَ أَحَدُهُمَا بَطَلَ تَحْكِيمُهُ وَلَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ ، سَوَاءٌ حَكَمَ لِلرَّاضِي أَوْ لِلرَّاجِعِ . وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ التَّحَاكُمُ فِي أَحْكَامٍ مَخْصُوصَةٍ . وَالْأَحْكَامُ تَنْقَسِمُ فِي التَّحْكِيمِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ يَجُوزُ فِيهِ التَّحْكِيمُ : وَهُوَ حُقُوقُ الْأَمْوَالِ ، وَعُقُودُ الْمُعَاوَضَاتِ ، وَمَا يَصِحُّ فِيهِ الْعَفْوُ وَالْإِبْرَاءُ . وَقِسْمٌ لَا يَجُوزُ فِيهِ التَّحْكِيمُ ، وَهُوَ مَا اخْتَصَّ الْقُضَاةُ بِالْإِجْبَارِ عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْوِلَايَاتِ عَلَى الْأَيْتَامِ وَإِيقَاعِ الْحَجْرِ عَلَى مُسْتَحِقِّيهِ .
وَقِسْمٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَحْكَامٍ : النِّكَاحُ وَاللِّعَانُ وَالْقَذْفُ وَالْقِصَاصُ . فَفِي جَوَازِ التَّحْكِيمِ فِيهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ لِوُقُوفِهَا عَلَى رِضَا الْمُتَحَاكِمَيْنِ . وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ لِأَنَّهَا حُقُوقٌ وَحُدُودٌ يَخْتَصُّ الْوُلَاةُ بِهَا . فَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً لَا وَلِيَّ لَهَا خَطَبَهَا رَجُلٌ ، فَتَحَاكَمَا إِلَى رَجُلٍ لِيُزَوِّجَ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ التحكيم ، فَإِنْ كَانَا فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِي بَادِيَةٍ لَا يَصِلَانِ إِلَى حَاكِمٍ جَازَ تَحْكِيمُهُمَا وَتَزْوِيجُ الْمُحَكَّمِ لَهُمَا . وَإِنْ كَانَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَحَيْثُ يَقْدِرَانِ فِيهِ عَلَى الْحَاكِمِ كَانَ فِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا . وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ : فِيمَا يَصِيرُ الْحُكْمُ بِهِ لَازِمًا لَهُمَا . وَفِيهِ لِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي اخْتِلَافِ الْعِرَاقِيِّينَ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُمَا الْحُكْمُ إِلَّا بِالْتِزَامِهِ بَعْدَ الْحُكْمِ كَالْفُتْيَا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وَقَفَ عَلَى خِيَارِهِمَا فِي الِابْتِدَاءِ وَجَبَ أَنْ يَقِفَ عَلَى خِيَارِهَا فِي الِانْتِهَاءِ ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَكُونُ حُكْمُ الْمُحَكَّمِ لَازِمًا لَهُمَا وَلَا يَقِفُ بَعْدَ الْحُكْمِ عَلَى خِيَارِهِمَا ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " مَنْ حَكَمَ بَيْنَ اثْنَيْنِ تَرَاضَيَا بِهِ فَلَمْ يَعْدِلْ بَيْنَهُمَا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ " فَكَانَ الْوَعِيدُ دَلِيلًا عَلَى لُزُومِ حُكْمِهِ كَمَا قَالَ فِي الشَّهَادَةِ : وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [ الْبَقَرَةِ : ] فَدَلَّ الْوَعِيدُ عَلَى لُزُومِ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِ ، وَكَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : " مَنْ عَلِمَ عِلْمًا وَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ " فَدَلَّ الْوَعِيدُ عَلَى لُزُومِ الْحُكْمِ بِمَا أَبْدَاهُ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " وَإِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً فَأَمِّرُوا عَلَيْكُمْ وَاحِدًا " فَصَارَ بِتَأْمِيرِهِمْ لَهُ نَافِذَ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ كَنُفُوذِهِ لَوْ كَانَ وَالِيًا عَلَيْهِمْ ، وَلِذَلِكَ انْعَقَدَتِ الْإِمَامَةُ بِاخْتِيَارِ أَهْلِ الِاخْتِيَارِ . وَحَكَى أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ فِيهِ وَجْهًا ثَالِثًا : أَنَّ خِيَارَهُمَا فِي التَّحْكِيمِ يَنْقَطِعُ بِشُرُوعِهِ فِي الْحُكْمِ ، فَإِذَا شَرَعَ فِيهِ صَارَ لَازِمًا لَهُمَا ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ شُرُوعِهِ فِيهِ مَوْقُوفًا عَلَى خِيَارِهِمَا ؛ لِأَنَّ خِيَارَهُمَا بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْحُكْمِ مُفْضٍ إِلَى أَنْ لَا يَلْزَمَ بِالتَّحْكِيمِ حُكْمٌ إِذَا رَأَى أَحَدُهُمَا تَوَجَّهَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ ، فَيَصِيرُ التَّحْكِيمُ لَغْوًا . فَإِذَا صَارَ نَافِذَ الْحُكْمِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ ، نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ لَهُمْ عَلَيْهِمْ
لَزِمَ الْمُتَنَازِعَيْنِ إِلَيْهِ حُكْمُهُ ، وَكَانَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ مَأْخُوذًا بِهِ مَا لَمْ يَتَعَدَّ الْحُكْمَ إِلَى غَيْرِ الْمُتَنَازِعَيْنِ . وَلَمْ يَكُنْ لِلْقَاضِي أَنْ يَرُدَّ حُكْمَهُ إِلَّا مَا يَرُدُّهُ مِنْ حُكْمِ غَيْرِهِ مِنَ الْقُضَاةِ . وَإِذَا حَكَمَ بَيْنَهُمَا أَشْهَدَ بِهِ فِي الْمَجْلِسِ الَّذِي حَكَمَ فِيهِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا يُقْبَلُ عَلَيْهِمَا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ ، كَمَا لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْحَاكِمِ بَعْدَ الْعَزْلِ . فَإِنْ تَعَدَّى الْحُكْمُ إِلَى غَيْرِ الْمُتَنَازِعَيْنِ حكم من دون القاضي فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا كَانَ مُنْفَصِلًا عَنِ الْحُكْمِ ، وَلَا يَتَّصِلُ بِهِ إِلَّا عَنْ سَبَبٍ مُوجِبٍ كَتَحَاكُمِهِمَا إِلَيْهِ فِي دَيْنٍ فَأَقَامَ بِهِ مُدَّعِيهِ بَيِّنَةً شَهِدَتْ بِوُجُوبِ الدَّيْنِ ، وَأَنَّ فُلَانًا ضَامِنُهُ لَزِمَ حُكْمُهُ فِي الدَّيْنِ وَلَمْ يَلْزَمْ حُكْمُهُ فِي الضَّمَانِ لِوُجُودِ الرِّضَا مِمَّنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَعَلِمَ الرِّضَا مِمَّنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِالْحُكْمِ ، وَلَا يَنْفَصِلُ عَنْهُ إِلَّا بِسَبَبٍ مُوجِبٍ كَتَحَاكُمِهِمَا إِلَيْهِ فِي قَتْلٍ خَطَأٍ قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ ، فَفِي وُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ الَّتِي لَمْ تَرْضَ بِحُكْمِهِ وَجْهَانِ بحكم من دون القاضي : أَحَدُهُمَا : تَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ لِوُجُوبِهَا عَلَى الرَّاضِي بِحُكْمِهِ إِذَا قِيلَ إِنَّ الدِّيَةَ عَلَى الْجَانِي ثُمَّ تَتَحَمَّلُهَا عَنْهُ الْعَاقِلَةُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا تَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ الدِّيَةُ ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَرْضَوْا بِحُكْمِهِ إِذَا قِيلَ إِنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ بِابْتِدَاءٍ عَلَى الْعَاقِلَةِ . وَإِذَا رَضِيَ الْمُتَنَازِعَانِ بِتَحْكِيمِ اثْنَيْنِ لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُ أَحَدِهِمَا حَتَّى يَجْتَمِعَا ، فَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْحُكْمِ لَمْ يَنْفُذْ حُكْمٌ وَاحِدٌ مِنْهُمَا حَتَّى يَتَّفِقَا عَلَى الْحُكْمِ كَمَا اتَّفَقَا عَلَى النَّظَرِ . وَإِنْ كَانَ التَّحْكِيمُ مِنَ الْمُتَنَازِعَيْنِ لِمَنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ لَهُمَا وَلَا عَلَيْهِمَا ، وَالَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ لَهُمَا وَالِدٌ وَوَلَدٌ ، وَالَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِمَا عَدُوٌّ ، فَيَنْظُرُ : فَإِنْ حَكَمَ عَلَى مَنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ مِنْ وَالِدٍ أَوْ وَلَدٍ لِمَنْ يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ مِنَ الْأَجَانِبِ القاضي جَازَ ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ . وَإِنْ حَكَمَ لِمَنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ مِنْ وَالِدٍ أَوْ وَلَدٍ عَلَى مَنْ يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ مِنَ الْأَجَانِبِ فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ حُكْمُهُ لَهُ ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ لَهُ بِوِلَايَةِ الْقَضَاءِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ لَهُ بِوِلَايَةِ التَّحْكِيمِ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ لَهُ بِوِلَايَةِ
الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ التَّحْكِيمِ مُنْعَقِدَةٌ بِاخْتِيَارِهِمَا ، فَصَارَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ رَاضِيًا بِحُكْمِهِ عَلَيْهِ وَخَالَفَتِ الْوِلَايَةُ الْمُنْعَقِدَةُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِمَا . وَإِنْ حَكَمَ لِعَدُوِّهِ نَفَذَ حُكْمُهُ . وَإِنْ حَكَمَ عَلَى عَدُوِّهِ القاضي فَفِي نُفُوذِ حُكْمِهِ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ بِوِلَايَةِ الْقَضَاءِ بِوِلَايَةِ التَّحْكِيمِ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ بِوِلَايَةِ الْقَضَاءِ وَوِلَايَةِ التَّحْكِيمِ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ ، لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ أَسْبَابَ الشَّهَادَةِ خَافِيَةٌ وَأَسْبَابَ الْحُكْمِ ظَاهِرَةٌ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ بِوِلَايَةِ التَّحْكِيمِ لِانْعِقَادِهَا عَنِ اخْتِيَارِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ بِوِلَايَةِ الْقَضَاءِ لِانْعِقَادِهَا بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ .
الِاسْتِخْلَافُ عَلَى الْقَضَاءِ
الِاسْتِخْلَافُ عَلَى الْقَضَاءِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَأُحِبُّ لِلْإِمَامِ إِذْ وَلَّى الْقَضَاءَ رَجُلًا أَنْ يَجْعَلَ لَهُ أَنْ يُوَلِّيَ الْقَضَاءَ مَنْ رَأَى فِي الطَّرَفِ مِنْ أَطْرَافِهِ فَيَجُوزُ حُكْمُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْإِمَامُ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ عَلَى الْقَضَاءِ وَإِنْ قَدَرَ عَلَى مُبَاشَرَتِهِ لِعُمُومِ وِلَايَتِهِ ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ عَلَى غَيْرِ الْقَضَاءِ فِيمَا يَقْدِرُ عَلَى مُبَاشَرَتِهِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ الْأُمُورِ مَوْكُولَةٌ إِلَى نَظَرِهِ ، فَلَمْ يَخْتَصَّ بِبَعْضِهَا فَيَخْتَصُّ بِمُبَاشَرَتِهِ . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلَيْنِ أَتَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَحَدُهُمَا : إِنَّ لِي حِمَارًا وَلِهَذَا بَقَرَةً وَأَنَّ بَقَرَتَهُ قَتَلَتْ حِمَارِي . فَقَالَ لِأَبِي بَكْرٍ : " اقْضِ بَيْنَهُمَا " فَقَالَ : لَا ضَمَانَ عَلَى الْبَهَائِمِ ، فَقَالَ لِعُمَرَ : " اقْضِ بَيْنَهُمَا " فَقَالَ : مِثْلَ ذَلِكَ ، فَقَالَ لَعَلِّي : " اقْضِ بَيْنَهُمَا " فَقَالَ عَلِيٌّ : أَكَانَا مُرْسَلَيْنِ ؟ فَقَالَا : لَا . قَالَ : أَكَانَا مَشْدُودَيْنِ ؟ فَقَالَا : لَا . قَالَ : أَفَكَانَتِ الْبَقَرَةُ مَشْدُودَةً وَالْحِمَارُ مُرْسَلًا ؟ قَالَ : لَا . قَالَ : أَفَكَانَ الْحِمَارُ مَشْدُودًا وَالْبَقَرَةُ مُرْسَلَةً ؟ قَالَا : نَعَمْ . قَالَ : " عَلَى صَاحِبِ الْبَقَرَةِ الضَّمَانُ " . قَالَ أَصْحَابُنَا : وَتَأْوِيلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ قَضَيَا بِسُقُوطِ الضَّمَانِ عَنْ صَاحِبِ الْبَقَرَةِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا ، وَإِنَّ عَلِيًّا قَضَى بِوُجُوبِ ضَمَانٍ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مَعَهَا . فَقَدِ اسْتَخْلَفَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْقَضَاءِ بِمَشْهَدِهِ وَإِنْ أَمْكَنَهُ الْقَضَاءُ بِنَفْسِهِ . فَإِنْ قِيلَ فَكَيْفَ رَدَّهُ إِلَى عُمَرَ بَعْدَ قَضَاءِ أَبِي بَكْرٍ ، وَرَدَّهُ إِلَى عَلِيٍّ بَعْدَ قَضَاءِ عُمَرَ ، وَالْحُكْمُ إِذَا نَفَذَ انْقَطَعَ بِهِ التَّنَازُعُ .
قِيلَ : لِأَنَّ جَوَابَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ خَرَجَ مِنْهُمَا مَخْرَجَ الْفُتْيَا دُونَ الْحُكْمِ ، فَلِذَلِكَ رَدَّهُ إِلَى عَلِيٍّ حَتَّى حَكَمَ بِاللَّفْظِ الْمُعْتَبَرِ فِي الْأَحْكَامِ ، وَلَوْ كَانَ جَوَابُ أَبِي بَكْرٍ حُكْمًا لَمَا اسْتَجَازَ رَدَّهُ إِلَى غَيْرِهِ . اسْتِخْلَافُ الْقَاضِي غَيْرَهُ فَأَمَّا الْقَاضِي إِذَا قَلَّدَهُ الْإِمَامُ عَمَلًا فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ عَلَيْهِ لَمْ يَخْلُ حَالُ تَقْلِيدِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَجْعَلَ لَهُ الْإِمَامُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ عَلَيْهِ أقسام استخلاف القاضي فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ ، سَوَاءٌ قَلَّ عَمَلُهُ أَوْ كَثُرَ . لَكِنَّهُ إِنْ قَلَّ وَقَدَرَ عَلَى مُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ كَانَ فِي الِاسْتِخْلَافِ مُخَيَّرًا ، وَإِنْ كَثُرَ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى مُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ كَانَ الِاسْتِخْلَافُ عَلَيْهِ وَاجِبًا . ثُمَّ يَنْظُرُ فِي الْعَمَلِ ، فَإِنْ كَانَ مِصْرًا كَبِيرًا وَسَوَادًا كَثِيرًا قَضَى فِي الْمِصْرِ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى السَّوَادِ : لِأَنَّهُ تَبَعٌ فَاخْتَصَّ فِي الْمَتْبُوعِ لَا بِالتَّابِعِ . وَإِنْ كَانَا مِصْرَيْنِ مُتَكَافِئَيْنِ كَالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ كَانَ بِالْخِيَارِ فِي أَنْ يَقْضِيَ فِي أَيِّهِمَا شَاءَ وَيَسْتَخْلِفَ عَلَى أَيِّهِمَا شَاءَ . وَلَهُ إِذَا حَكَمَ فِي أَحَدِهِمَا أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى بَلَدِ خَلِيفَتِهِ يَنْقُلَ خَلِيفَتَهُ إِلَى بَلَدِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ قَدْ عَيَّنَ لَهُ الْحُكْمَ فِي أَحَدِهِمَا وَالِاسْتِخْلَافَ عَلَى الْآخَرِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْدِلَ عَمَّا عُيِّنَ لَهُ ، وَتَكُونُ وِلَايَتُهُ عَلَى الْبَلَدِ الْآخَرِ مَقْصُورَةً عَلَى اخْتِيَارِ النَّاظِرِ فِيهِ دُونَ الْحُكْمِ . فَإِنْ عَيَّنَ لَهُ الْإِمَامُ عَلَى مَنْ يَسْتَخْلِفُهُ فِيهِ صَارَتْ وِلَايَتُهُ عَلَيْهِ مَقْصُورَةً عَلَى تَنْفِيذِ وِلَايَةِ الْمُسْتَخْلَفِ وَمُرَاعَاتِهِ وَخَرَجَتْ عَنْ وِلَايَةِ الْحُكْمِ وَالِاخْتِيَارِ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَزْلُ هَذَا الْمُسْتَخْلَفِ ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ عَزَلَ مَنِ اسْتَخْلَفَهُ بِاخْتِيَارِهِ ؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ عَلَيْهِ قَدْ مَنَعَهُ مِنِ اسْتِخْلَافِ غَيْرِهِ . فَإِنْ كَانَ هَذَا الْمُعَيَّنُ عَلَى اسْتِخْلَافِهِ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْقَضَاءِ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَنْفِيذُ اسْتِخْلَافِهِ لِفَسَادِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ اسْتِخْلَافُ غَيْرِهِ لِمَنْعِ التَّعْيِينِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ . وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ فِي بَلَدِ حُكْمِهِ لِعُمُومِ الْإِذْنِ . فَإِنْ تَنَازَعَ خَصْمَانِ فِيهِ وَفِي خَلِيفَتِهِ فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا الْمُحَاكَمَةَ إِلَيْهِ وَطَلَبَ الْآخَرُ الْمُحَاكَمَةَ إِلَى خَلِيفَتِهِ القاضي ، نُظِرَ : فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي فِي يَوْمِ التَّنَازُعِ نَاظِرًا فَالدَّاعِي إِلَيْهِ أَوْلَى مِنَ الدَّاعِي إِلَى خَلِيفَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَصْلٌ ، وَإِنْ كَانَ الْقَاضِي فِيهِ تَارِكًا وَخَلِيفَتُهُ نَاظِرًا كَانَ الدَّاعِي إِلَى خَلِيفَتِهِ أَوْلَى مِنَ الدَّاعِي إِلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ أَعْجَلُ . فَإِنْ جَعَلَ لَهُ الْإِمَامُ عَلَى الْقَضَاءِ رِزْقًا ، نُظِرَ : فَإِنْ سَمَّى الرِّزْقَ لَهُ اخْتُصَّ بِهِ دُونَ
خُلَفَائِهِ وَإِنْ سَمَّاهُ لِلْقَضَاءِ شَارَكَهُ فِيهِ خُلَفَاؤُهُ ، بِحَسَبِ كِفَايَاتِهِمْ فِي النَّظَرِ وَكَثْرَةِ الْعَمَلِ ، فَإِنْ عَزَلَ مَنِ اسْتَخْلَفَهُ وَقَامَ بِعَمَلِهِ جَازَ أَنْ يَأْخُذَ رِزْقَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذَهُ .
فَصْلٌ : وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَنْهَاهُ الْإِمَامُ فِي التَّقْلِيدِ أَنْ يَسْتَخْلِفَ ينهى القاضي عن استخلاف غيره ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ ، سَوَاءٌ قَلَّ عَمَلُهُ أَوْ كَثُرَ ، لَكِنَّهُ إِنْ قَلَّ عَمَلُهُ بَاشَرَ الْحُكْمَ فِيهِ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ ، لِأَجْلِ الْمَنْعِ مِنْهُ ، فَإِنِ اسْتَخْلَفَ فَلَا وِلَايَةَ لِخَلِيفَتِهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُعْدِيَ خَصْمًا . فَإِنْ حَكَمَ بَيْنَ خَصْمَيْنِ تَرَافَعَا إِلَيْهِ كَانَ كَالْحُكْمِ مِنَ الرَّعَايَا فِي جَوَازِ حُكْمِهِ . وَفِي لُزُومِهِ قَوْلَانِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فِي حُكْمِ الْمُحَكَّمِ . وَإِنْ كَثُرَ عَمَلُهُ لَزِمَهُ إِعْلَامُ الْإِمَامِ بِعَجْزِهِ عَنِ النَّظَرِ فِي جَمِيعِهِ ، لِيَكُونَ الْإِمَامُ بَعْدُ بَيْنَ خِيَارَيْنِ إِمَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الِاسْتِخْلَافِ ، أَوْ يَقْتَصِرَ بِهِ عَلَى مَا يَقْدِرُ عَلَى مُبَاشَرَتِهِ وَالنَّظَرِ فِيهِ ، وَيَصْرِفُهُ عَمَّا عَدَاهُ . وَلَمْ يَجُزْ لِلْإِمَامِ بَعْدَ عِلْمِهِ أَنْ يَتْرُكَهُ عَلَى حَالِهِ . وَأَوْلَى الْأَمْرَيْنِ بِالْإِمَامِ صَرْفُهُ عَنِ الزِّيَادَةِ لِيَكُونَ هُوَ الْمُتَوَلِّي لِلِاخْتِيَارِ ، وَلَا يَرُدُّ الِاخْتِيَارَ إِلَى غَيْرِهِ ، لِيَكُونَ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ صِحَّةِ الِاخْتِيَارِ . فَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْإِمَامُ أَوْ أَعْلَمَهُ ، فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ فَكَثْرَةُ عَمَلِهِ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مِصْرًا كَثِيرَ السَّوَادِ كَالْبَصْرَةِ فَيَكُونُ نَظَرُهُ مُخْتَصًّا بِالْبَلَدِ ، اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ ، وَلَهُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ أَهْلِ سَوَادِهِ إِذَا قَدِمُوا عَلَيْهِ ، فَإِنِ اسْتَعْدَى إِلَيْهِ عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ السَّوَادِ ، فَإِنْ كَانَ عَلَى أَقَلِّ مِنْ مَسَافَةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَزِمَهُ إِحْضَارُهُ ، لِخُرُوجِهِ عَنْ مَسَافَةِ الْقَصْرِ فَصَارَ كَالْحَاضِرِ وَإِنْ كَانَ عَلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَأَكْثَرَ فَفِي وُجُوبِ إِحْضَارِهِ وَجْهَانِ مَضَيَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ عَمَلُهُ مُشْتَمِلًا عَلَى مِصْرَيْنِ مُتَبَاعِدَيْنِ كَالْبَصْرَةِ وَبَغْدَادَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ فِي النَّظَرِ فِي أَيِّهِمَا شَاءَ لِاشْتِمَالِ وِلَايَتِهِ عَلَيْهِمَا . فَإِذَا نُظِرَ فِي أَحَدِهِمَا فَفِي انْعِزَالِهِ عَنِ الْآخَرِ وَجْهَانِ مُحْتَمَلَانِ : أَحَدُهُمَا : قَدِ انْعَزَلَ عَنْهُ لِتَعَذُّرِ حُكْمِهِ فِيهِ بِالْعَجْزِ ، فَصَارَ كَتَعَذُّرِ حُكْمِهِ بِآفَةٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ عَنْهُ ، وَيَكُونُ بَاقِيَ الْوِلَايَةِ عَلَيْهِ لِصِحَّةِ الْوِلَايَةِ عَلَيْهِمَا مَعَ الْعَجْزِ عَنْهُمَا ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ وَلَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ .
فَصْلٌ : وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ مُطْلِقَ الْوِلَايَةِ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي الِاسْتِخْلَافِ وَلَمْ يُنْهَ عَنْهُ القاضي ، فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا حِينَ عَلَّقَ الشَّافِعِيُّ الْقَوْلَ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ قَلَّ عَمَلُهُ أَوْ كَثُرَ ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ نِيَابَةٌ فَاعْتُبِرَ فِيهَا لَفْظُ الْمُسْتَنِيبِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ أَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ ، قَلَّ عَمَلُهُ أَوْ كَثُرَ اعْتِبَارًا بِعُمُومِ وِلَايَتِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ : أَنَّ اسْتِخْلَافَهُ مُعْتَبَرٌ بِعَمَلِهِ فَإِنْ قَلَّ وَقَدَرَ عَلَى مُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَخْلِفَ ، وَإِنْ كَثُرَ وَعَجَزَ عَنْ مُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ جَازَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ اعْتِبَارًا بِالْوَكِيلِ إِذَا وُكِّلَ فِي عَمَلٍ قَدَرَ عَلَى مُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُوَكِّلَ فِيهِ ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ مُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ جَازَ أَنْ يُوَكِّلَ فِيهِ ، فَعَلَى هَذَا فِيمَا يَسْتَخْلِفُ عَلَيْهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ فِيمَا عَجَزَ عَنْهُ مِنْ زِيَادَةِ الْعَمَلِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ فِيمَا قَدَرَ عَلَيْهِ اعْتِبَارًا بِالْحَاجَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ عَلَى جَمِيعِهِ ؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ فِيهِ كَالْإِذْنِ ، فَعَلَى هَذَا إِنِ اسْتَخْلَفَ عَلَى مَا يَقْدِرُ عَلَى مُبَاشَرَتِهِ جَازَ لَهُ أَنْ يَعْزِلَ خَلِيفَتَهُ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى سَلَامَتِهِ ، وَإِنِ اسْتَخْلَفَ فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى مُبَاشَرَتِهِ فَفِي جَوَازِ عَزْلِهِ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى سَلَامَتِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : تَجُوزُ النِّيَابَةُ عَنْهُ كَالْوَكِيلِ . وَالثَّانِي : لَا تَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْهُ فِي حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " لَوْ عُزِلَ فَقَالَ قَدْ كُنْتُ قَضَيْتُ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ القاضي وشهادته لَمْ يُقْبَلْ إِلَا بِشُهُودٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : فَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَشْتَمِلُ عَلَى أَرْبَعَةِ فُصُولٍ : أَحَدُهَا : فِي وِلَايَتِهِ . وَالثَّانِي : فِي عَزْلِهِ . وَالثَّالِثُ : فِي حُكْمِهِ . وَالرَّابِعُ : فِي قَوْلِهِ . فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي وِلَايَتِهِ فَمُعْتَبَرَةٌ بِمَا تَضَمَّنَهُ عَهْدُهُ مِنْ حُدُودِ الْعَمَلِ وَصِفَةِ النَّظَرِ مِنْ عُمُومٍ أَوْ خُصُوصٍ ، وَعَلَى الْإِمَامِ فِيهِ حَقٌّ ، وَعَلَى الْقَاضِي فِيهِ حَقٌّ .
فَأَمَّا مَا عَلَى الْإِمَامِ مِنْ حَقٍّ فَثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : تَقْوِيَةُ يَدِهِ حَتَّى لَا يَعْجِزَ عَنِ اسْتِيفَاءِ حَقٍّ وَدَفْعِ ظُلْمٍ . وَالثَّانِي : مُرَاعَاةُ عَمَلِهِ حَتَّى لَا يَتَخَطَّاهُ إِلَى غَيْرِهِ وَلَا يُخِلُّ بِبَعْضِهِ . وَالثَّالِثُ : مُرَاعَاةُ أَحْكَامِهِ ، وَإِنْ تَحَرَّى ، عَمَلَ السَّدَادَ مِنْ غَيْرِ تَجَاوُزٍ وَلَا تَقْصِيرٍ . وَلِذَلِكَ مَا اخْتَرْنَا لِلْإِمَامِ أَنْ يُثْبِتَ نُسْخَةَ الْعَهْدِ فِي دِيوَانِهِ ؛ لِتُعْتَبَرَ أَفْعَالُهُ بِمَا تَضَمَّنَهَا وَمَا يَلْزَمُهُ مِنْ مُرَاعَاتِهِ فِي مَبَادِئِ نَظَرِهِ أَكْثَرُ مِمَّا يَلْزَمُهُ فِيمَا بَعْدُ ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُخِلَّ بِمُرَاعَاتِهِ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ . فَإِنْ شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ نَدَبَ لَهُ مَنْ يُرَاعِيهِ وَيُنْهِي إِلَيْهِ مَا يَجْرِي فِيهِ . وَلِذَلِكَ قَلَّدَ الْإِمَامُ قَاضِيَ الْقُضَاةِ لِيَكُونَ نَائِبًا عَنْهُ فِي مُرَاعَاةِ الْقُضَاةِ . وَأَمَّا مَا عَلَى الْقَاضِي مِنَ الْحَقِّ للإمام فَثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : أَنْ يَعْمَلَ بِمَا تَضَمَّنَهُ عَهْدُهُ مِنْ عَمَلٍ وَنَظَرٍ ، فَلَا يَتَجَاوَزُ عَمَلَهُ وَلَا يُقَصِّرُ عَنْهُ وَلَا يَتَعَدَّى مَا جُعِلَ إِلَيْهِ مِنْ خُصُوصِ النَّظَرِ وَلَا يُخِلُّ بِمَا جُعِلَ إِلَيْهِ مِنَ الْعُمُومِ النَّظَرِ . وَلِذَلِكَ أَمَرَ بِقِرَاءَةِ عَهْدِهِ عَلَى أَهْلِ عَمَلِهِ لِيَعْلَمُوا مِنْهُ مَا إِلَيْهِ وَمَا لَيْسَ إِلَيْهِ . وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَعَهُ عِنْدَ قِرَاءَةِ عَهْدِهِ شَاهِدَانِ قَدْ شَهِدَا عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ لِيَشْهِدُوا بِهِ عِنْدَ أَهْلِ عَمَلِهِ حَتَّى يَلْتَزِمُوا طَاعَتَهُ . فَإِنْ أَعْوَزَتِ الشَّهَادَةُ وَاقْتَرَنَ بِقِرَاءَةِ الْعَهْدِ مِنْ شَوَاهِدِ الْأَحْوَالِ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ مِنَ الْقُرْبِ مِنْ بَلَدِ الْإِمَامِ وَانْتِشَارِ الْحَالِ وَاشْتِهَارِهَا لَزِمَتْهُمُ الطَّاعَةُ . وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ شَاهِدُ حَالٍ لَمْ تَلْزَمِ الطَّاعَةُ . وَالثَّانِي : مِنَ الْحُقُوقِ عَلَى الْقَاضِي : أَنْ يَسْتَمِدَّ مَعُونَةَ الْإِمَامِ فِيمَا عَجَزَ عَنْهُ ، مِنِ اسْتِيفَاءِ حَقٍّ أَوْ دَفْعِ ظُلْمٍ ، حَتَّى لَا يَفُوتَ حَقٌّ قَدْ نُدِبَ لِاسْتِيفَائِهِ وَلَا يَتِمَّ ظُلْمٌ قَدْ نُدِبَ لِرَفْعِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ لَا يُخِلَّ بِالنَّظَرِ مَعَ الْمَكِنَةِ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ فِي أَنْ لَا يَتَأَخَّرَ الْخُصُومُ عَنِ الْمُحَاكَمَةِ ، وَلَا يَمْنَعُ مِنَ الِاسْتِرَاحَةِ ، وَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْقُضَاةِ لِلِانْقِطَاعِ بِمِثْلِهِ . فَإِنْ كَانَ مُرْتَزَقًا لَمْ يَسْتَحِقَّ رِزْقُهُ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَى عَمَلِهِ . فَإِذَا وَصَلَ إِلَيْهِ وَنَظَرَ اسْتَحَقَّ الرِّزْقَ . وَإِنْ وَصَلَ وَلَمْ يَنْظُرْ فَإِنْ كَانَ مُتَصَدِّيًا لِلنَّظَرِ يَسْتَحِقُّهُ وَإِنْ لَمْ يَنْظُرْ ، كَالْأَجِيرِ فِي الْعَمَلِ إِذَا سَلَّمَ نَفْسَهُ إِلَى مُسْتَأْجِرِهِ فَلَمْ يَسْتَعْمِلْهُ اسْتَحَقَّ أُجْرَتَهُ .
وَإِنْ لَمْ يَتَصَدَّ لِلنَّظَرِ فَلَا رِزْقَ لَهُ ، كَالْأَجِيرِ إِذَا لَمْ يُسَلِّمْ نَفْسَهُ لِلْعَمَلِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي فِي الْعَزْلِ للقاضي فَهُوَ : عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَعْزِلَهُ الْإِمَامُ الْمُوَلِّي . فَإِنْ كَانَ عَزْلُهُ عَنِ اجْتِهَادٍ أَدَّى إِلَيْهِ ، إِمَّا لِظُهُورِ ضَعْفِهِ وَإِمَّا لِوُجُودِ مَنْ هُوَ أَكْفَأُ مِنْهُ ، جَازَ أَنْ يَعْزِلَهُ . وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّهِ الِاجْتِهَادُ إِلَى عَزْلِهِ لِاسْتِقْلَالِهِ بِالنَّظَرِ فِي عَمَلِهِ عَلَى الصِّحَّةِ وَالِاسْتِقَامَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَعْزِلَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا مَصْلَحَةَ فِي عَزْلِ مِثْلِهِ . فَإِنْ عَزْلَهُ انْعَزَلَ ، وَإِنْ كَانَ الِاجْتِهَادُ بِخِلَافِهِ . لِأَنَّ عَزْلَهُ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الْإِمَامِ القاضي لَا يُرَدُّ إِذَا لَمْ يُخَالِفْ نَصًّا أَوْ إِجْمَاعًا . وَعَزْلُهُ يَكُونُ بِالْقَوْلِ فَإِنْ قَلَّدَ غَيْرَهُ وَاقْتَرَنَ بِتَقْلِيدِهِ شَوَاهِدُ الْعَزْلِ ، كَانَ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ عَزْلًا لَهُ . وَإِنْ لَمْ تَقْتَرِنْ بِهِ شَوَاهِدُ الْعَزْلِ كَانَ الْأَوَّلُ عَلَى وِلَايَتِهِ وَالثَّانِي مُشَارِكًا لَهُ فِي نَظَرِهِ . وَيَنْعَزِلُ بِعَزْلِهِ جَمِيعُ خُلَفَائِهِ إِنْ كَانَ خَاصَّ الْعَمَلِ . وَلَا يَنْعَزِلُ مَنْ وَلَّاهُ عَلَى الْأَيْتَامِ وَالْوُقُوفِ مِنْ أُمَنَائِهِ لِنَظَرِهِمْ فِي حَقِّ غَيْرِهِ . فَإِنْ نَظَرَ هَذَا الْمَعْزُولُ قَبْلَ عِلْمِهِ بِعَزْلِهِ ، فَفِي نُفُوذِ أَحْكَامِهِ قَوْلَانِ كَالْوَكِيلِ إِذَا عَقَدَ بَعْدَ عَزْلِ مُوَكِّلِهِ وَقَبْلَ عِلْمِهِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ أَحْكَامَهُ بَاطِلَةٌ ، إِذَا قِيلَ إِنَّ عَقْدَ الْوَكِيلِ بَاطِلٌ . وَالثَّانِي : أَنَّ أَحْكَامَهُ جَائِزَةٌ ، إِذَا قِيلَ إِنَّ عَقْدَ الْوَكِيلِ جَائِزٌ . وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : بَلْ أَحْكَامُهُ جَائِزَةٌ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَإِنْ كَانَتْ عُقُودُ الْوَكِيلِ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقَاضِيَ نَاظِرٌ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُوَلِّي ، وَالْوَكِيلَ نَاظِرٌ فِي حَقِّ الْمُوَكِّلِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَوْتَ الْإِمَامِ الْمُوَلِّي لَا يُوجِبُ عَزْلَ الْقَاضِي وَمَوْتَ الْمُوَكِّلِ مُوجِبٌ لِعَزْلِ الْوَكِيلِ ، فَقَوِيَ الْقَاضِي بِهَذَيْنِ الْفَرْقَيْنِ عَلَى الْوَكِيلِ ، فَصَحَّ لِأَجْلِهَا أَحْكَامُ الْقَاضِي وَإِنْ لَمْ تَصِحَّ عُقُودُ الْوَكِيلِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَعْزِلَ نَفْسَهُ القاضي . فَإِنْ كَانَ لِعُذْرٍ جَازَ اعْتِزَالُهُ وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ مُنِعَ مِنَ الِاعْتِزَالِ وَإِنْ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْقَضَاءِ مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ دُونَ اللَّازِمَةِ وَلِذَلِكَ نَفَذَ فِيهِ عَزْلُ الْإِمَامِ وَإِنْ خَالَفَ
الْأَوْلَى ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْتَزِلَ إِلَّا بَعْدَ إِعْلَامِ الْإِمَامِ وَاسْتِعْفَائِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَوْكُولٌ لِعَمَلٍ يَحْرُمُ عَلَيْهِ إِضَاعَتُهُ . وَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُعْفِيَهُ مِنَ النَّظَرِ إِذَا وَجَدَ غَيْرَهُ حَتَّى لَا يَخْلُوَ الْعَمَلُ مِنْ نَاظِرٍ . فَإِنْ أَعْفَاهُ قَبْلَ ارْتِيَادِ غَيْرِهِ ، جَازَ إِنْ كَانَ لَا يَتَعَذَّرُ وَلَمْ يَجُزْ إِنْ تَعَذَّرَ . وَيَتِمُّ عَزْلُهُ بِاسْتِعْفَائِهِ وَإِعْفَائِهِ وَلَا يَتِمُّ بِأَحَدِهِمَا . فَإِنْ نَظَرَ بَيْنَ اسْتِعْفَائِهِ وَإِعْفَائِهِ صَحَّ نَظَرُهُ . وَلَا يَكُونُ قَوْلُهُ قَدْ عَزَلْتُ نَفْسِي عَزْلًا : لِأَنَّ الْعَزْلَ يَكُونُ مِنَ الْمُوَلِّي وَهُوَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُوَلِّيَ نَفْسَهُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْزِلَهَا ، وَإِنَّمَا هُوَ أَنْ يَسْتَعْفِيَ فَيُعْفَى . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ تَحْدُثَ أَسْبَابُ الْعَزْلِ للقاضي وَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : مَوْتٌ وَعَجْزٌ وَجَرْحٌ . فَأَمَّا الْمَوْتُ من أسباب عزل القاضي : فَهُوَ مَوْتُ الْمُوَلِّي فَلَا يَخْلُو الْمُوَلِّي مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ إِمَامًا عَامَّ الْوِلَايَةِ عَلَى الْقَضَاءِ وَغَيْرِهِ فَلَا تَبْطُلُ بِمَوْتِهِ وِلَايَاتُ الْقُضَاةِ ، وَإِنْ بَطَلَ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ وِكَالَةُ الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّ تَوْلِيَةَ الْإِمَامِ لِلْقَاضِي اسْتِنَابَةٌ فِي حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ لَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ الْمُسْتَنَابِ فِي حَقِّ مُوَكِّلِهِ . قَدْ قَلَّدَ رَسُولُ اللَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ قَضَاءَ مَكَّةَ وَصَدَقَاتِ أَهْلِهَا فَلَمَّا مَاتَ اخْتَبَأَ عَتَّابٌ وَامْتَنَعَ مِنَ الْقَضَاءِ فَأَظْهَرَهُ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَقَالَ : إِنْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مَاتَ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ بَاقُونَ ، فَعَادَ عَتَّابٌ إِلَى نَظَرِهِ ، وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فَصَارَ إِجْمَاعًا . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ الْمُوَلِّي قَاضِيَ نَاحِيَةٍ أَوْ صُقْعٍ قَدِ اسْتَخْلَفَ فِيهِ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ فِي الْقَضَاءِ ، فَيَكُونُ مَوْتُهُ مُبْطِلًا لِوِلَايَاتِ خُلَفَائِهِ لِمَعْنَيَيْنِ القاضي : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ خَاصُّ النَّظَرِ خَاصُّ الْعَمَلِ ، فَخَالَفَ مَوْتُ الْإِمَامِ فِي عُمُومِ نَظَرِهِ وَعُمُومِ عَمَلِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْإِمَامَ يَقْدِرُ عَلَى اسْتِدْرَاكِ الْأَمْرِ فِي مَوْتِهِ بِتَقْلِيدِ غَيْرِهِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ الْمُوَلِّي هُوَ قَاضِي الْقُضَاةِ الْعَامُّ الْوِلَايَةِ فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ فَهُوَ عَامُّ الْعَمَلِ خَاصُّ النَّظَرِ . فَعُمُومُ عَمَلِهِ : أَنَّهُ وَالٍ عَلَى الْبِلَادِ كُلِّهَا . وَخُصُوصُ نَظَرِهِ : أَنَّهُ مَقْصُورٌ عَلَى الْقَضَاءِ دُونَ غَيْرِهِ . فَشَابَهَ الْإِمَامَ فِي عُمُومِ عَمِلِهِ ، وَخَالَفَهُ فِي خُصُوصِ نَظَرِهِ . فَفِي انْعِزَالِ الْقُضَاةِ بِمَوْتِهِ وَجْهَانِ :
أَحَدُهُمَا : لَا يَنْعَزِلُونَ لِعُمُومِ نَظَرِهِ كَالْإِمَامِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَنْعَزِلُونَ بِمَوْتِهِ لِخُصُوصِ نَظَرِهِ كَقَاضِي إِقْلِيمٍ . وَأَمَّا الْعَجْزُ من أسباب عزل القاضي : فَهُوَ أَنْ يَحْدُثَ فِي الْقَاضِي عَجْزٌ يَمْنَعُهُ مِنَ النَّظَرِ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : مَا يُمْنَعُ مِنَ التَّقْلِيدِ كَالْعَمَى وَالْخَرَسِ فَقَدِ انْعَزَلَ بِحُدُوثِهِ فِيهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا لَا يَمْنَعُ مِنَ التَّقْلِيدِ كَالزَّمَانَةِ فَلَا يَنْعَزِلُ بِهَا : لِأَنَّهُ يَعْجَزُ بِهَا عَنِ النَّهْضَةِ وَلَا يَعْجَزُ بِهَا عَنِ الْحُكْمِ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : الْمَرَضُ أسباب عزل القاضي فَإِنْ أَعْجَزَهُ عَنِ النَّهْضَةِ وَلَمْ يُعْجِزْهُ عَنِ الْحُكْمِ لَمْ يَنْعَزِلْ بِهِ وَإِنْ أَعْجَزَهُ عَنِ النَّهْضَةِ وَالْحُكْمِ فَإِنْ كَانَ مَرْجُوُّ الزَّوَالِ لَمْ يَنْعَزِلْ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَرْجُوِّ الزَّوَالِ انْعَزَلَ بِهِ . وَأَمَّا الْجَرْحُ من أسباب عزل القاضي : وَهُوَ الْفِسْقُ فَإِنْ حَدَثَ فِي الْمُوَلِّي كَانَ كَمَوْتِهِ : لِأَنَّهُ يَنْعَزِلُ بِالْفِسْقِ ، كَمَا يَنْعَزِلُ بِالْمَوْتِ ، فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى مِنِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمُوَلِّي . وَإِنْ حَدَثَ الْفِسْقُ فِي الْقَاضِي الْمُوَلَّى فَإِنِ اسْتَدَامَهُ مُصِرًّا عَلَيْهِ أُنْزِلَ بِهِ . وَإِنْ حَدَثَ الْفِسْقُ فِي الْقَاضِي الْمُوَلِّي فَإِنِ اسْتَدَامَهُ مُصِرًّا عَلَيْهِ انْعَزَلَ بِهِ . وَإِنْ كَانَ إِقْلَاعُهُ عَنْ نَدَمٍ وَتَوْبَةٍ ، نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ فِسْقُهُ قَدْ ظَهَرَ قَبْلَ التَّوْبَةِ انْعَزَلَ بِهِ . وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ حَتَّى تَابَ مِنْهُ لَمْ يَنْعَزِلْ بِهِ لِانْتِفَاءِ الْعِصْمَةِ عَنْهُ . وَإِنَّ هَفَوَاتِ ذَوِي الْهَيْئَاتِ مَقَالَةٌ قَلَّ أَنْ يَسْلَمَ مِنْهَا إِلَّا مَنْ عُصِمَ . وَإِذَا انْعَزَلَ بِالْفِسْقِ فَحَكَمَ فِي حَالِ انْعِزَالِهِ فَإِنْ كَانَ إِلْزَامًا بِإِقْرَارٍ صَحَّ ، وَإِنْ كَانَ حُكْمًا بِشَهَادَةٍ بَطَلَ . وَعَلَيْهِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنَ الْحُكْمِ وَيُنْهِيَ حَالَهُ إِلَى الْإِمَامِ إِلَى مَنْ وَلَّاهُ مِنَ الْقَضَاءِ لِيُقَلِّدَ غَيْرَهُ وَلَا يَغْتَرَّ بِهِ النَّاسُ إِنْ لَمْ يَعْرِفُوهُ وَتَقِفُ أَحْكَامُهُمْ إِنْ عَرَفُوهُ . وَهُوَ فِي إِنْهَاءِ حَالِهِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يُظْهِرَ الِاسْتِعْفَافَ وَيَكْتُمَ حَالَهُ لِيَكُونَ حَافِظًا لِسَتْرِهِ ، وَهُوَ أَوْلَاهُمَا ، وَإِمَّا أَنْ يُخْبِرَ بِحَالِهِ وَسَبَبِ انْعِزَالِهِ ، وَإِنْ كَرِهَ لَهُ هَتْكَ سِتْرِهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ أَتَى مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ " وَإِنْ خَرَجَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ مَأْثَمِ الْإِمْسَاكِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي حُكَمِهِ : فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا تَمَّمَهُ وَأَمْضَاهُ قَبْلَ مَوْتِهِ وَعَزْلِهِ ، فَهُوَ عَلَى نَفَاذِهِ وَإِمْضَائِهِ وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ مَا حَدَثَ بَعْدَهُ مِنْ مَوْتِهِ أَوْ عَزْلِهِ .
وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا شَرَعَ فِيهِ ثُمَّ مَاتَ أَوْ عُزِلَ قَبْلَ تَمَامِهِ القاضي فَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا يَجُوزُ لِلثَّانِي أَنْ يَبْنِيَ عَلَى فِعْلِ الْأَوَّلِ حَتَّى يَتِمَّ وَلَا يَلْزَمُهُ اسْتِئْنَافُهُ وَهُوَ كُلُّ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَادَ وَلَا يُزَادُ . مِثْلَ : حَدُّ الْقَذْفِ إِذَا عُزِلَ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ بَعْضِهِ وَبَقَاءِ بَعْضِهِ ، فَيَجُوزُ لِلثَّانِي أَنْ يَبْنِيَ عَلَى فِعْلِ الْأَوَّلِ حَتَّى يَسْتَكْمِلَ بِهِمَا . وَكَاللِّعَانِ إِذَا عُزِلَ بَعْدَ لِعَانِ الزَّوْجِ أَوْ بَعْضِهِ وَقَبْلَ لِعَانِ الزَّوْجَةِ أَوْ بَعْضِهِ فَيَبْنِي الثَّانِي عَلَى حُكْمِ الْأَوَّلِ وَلَا يَسْتَأْنِفُهُ حَتَّى يَتِمَّ اللِّعَانُ بِهِمَا . وَكَتَحَالُفِ الْمُتَبَايِعَيْنِ إِذَا اخْتَلَفَا فَيَعْزِلُ بَعْدَ يَمِينِ أَحَدِهِمَا وَقَبْلَ يَمِينِ الْآخَرِ ، فَيَبْنِي الثَّانِي عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ إِحْلَافِ الْأَوَّلِ وَلَا يَسْتَأْنِفُ التَّحَالُفَ . وَكَالْأَيْمَانِ فِي الْقِسَامَةِ إِذَا عُزِلَ وَقَدْ حَلَفَ الْمُقْسِمُ بَعْضَ الْأَيْمَانِ وَبَقِيَ بَعْضُهَا القاضي فَيَبْنِي الثَّانِي عَلَى إِحْلَافِ الْأَوَّلِ حَتَّى يَسْتَكْمِلَ الْأَيْمَانَ وَلَا يَسْتَأْنِفَهَا إِلَى نَظَائِرِ هَذَا . وَهَذَا الْبِنَاءُ مُعْتَبَرٌ بِتَصَادُقِ الْخَصْمَيْنِ ، أَوْ بِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ إِنْ تَكَاذَبَا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا يَسْتَأْنِفُهُ الثَّانِي وَلَا يَبْنِي عَلَى حُكْمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ كُلُّ مَا كَانَ الْفِعْلُ فِيهِ مُقْتَرِنًا بِالْحُكْمِ . مِثْلَ حُكْمِهِ بِفَسْخِ النِّكَاحِ بِإِعْسَارِ الزَّوْجِ وَلَا يَفْسَخُهُ حَتَّى يَعْزِلَ ، فَلَيْسَ لِلثَّانِي فَسْخُهُ بِحُكْمِ الْأَوَّلِ حَتَّى يَسْتَأْنِفَ الْحُكْمَ . وَكَمَا لَوْ حَكَمَ بِبَيْعِ مَالِ الْمُفْلِسِ ثُمَّ عُزِلَ قَبْلَ بَيْعِهِ القاضي لَمْ يَكُنْ لِلثَّانِي بَيْعُهُ بِحُكْمٍ . الْأَوَّلُ حَتَّى يَسْتَأْنِفَ الْحُكْمَ بِهِ . وَكَمَا لَوْ أَذِنَ لِوَلِّيِ يَتِيمٍ فِي بَيْعِ مَالِهِ فِي مَصَالِحِهِ فَلَمْ يَبِعْهُ الْوَلِيُّ ، حَتَّى عُزِلَ ، مُنِعَ مِنَ الْبَيْعِ حَتَّى يَسْتَأْنِفَ الثَّانِي الْإِذْنَ فِيهِ . وَكَمَا لَوْ حَكَمَ بِشُفْعَةِ الْجِوَارِ وَلَمْ يُسَلِّطِ الشَّفِيعُ عَلَى الْأَخْذِ حَتَّى عَزَلَ القاضي ، فَلَيْسَ لِلثَّانِي تَسْلِيطُهُ بِحُكْمِ الْأَوَّلِ حَتَّى يَسْتَأْنِفَ الْحُكْمَ بِالشُّفْعَةِ وَالتَّسْلِيطِ إِلَى نَظَائِرِ هَذَا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا اخْتَلَفَتْ أَحْوَالُهُ فِي الْبِنَاءِ وَالِاسْتِئْنَافِ ، وَهُوَ سَمَاعُ الْبَيِّنَةِ ، وَلَهُ فِي الْعَزْلِ بَعْدَ سَمَاعِهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَسْمَعَهَا وَلَا يَحْكُمَ بِقَبُولِهَا حَتَّى يَعْزِلَ ، فَلَا يَجُوزُ لِلثَّانِي أَنْ يَحْكُمَ بِقَبُولِهَا بِسَمَاعِ الْأَوَّلِ حَتَّى يَسْتَأْنِفَ الشَّهَادَةَ . فَإِنْ قِيلَ أَفَلَيْسَ يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَكْتُبَ بِسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ حَتَّى يَحْكُمَ الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ بِقَبُولِهَا وَإِنْفَاذِ الْحُكْمِ بِمَا تَضَمَّنَهَا فَهَلَا كَانَ الثَّانِي بَعْدَ الْأَوَّلِ بِمَثَابَتِهِ ؟
قِيلَ لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الثَّانِي قَادِرٌ عَلَى سَمَاعِهَا كَالْأَوَّلِ وَلَا يَقْدِرُ الْغَائِبُ عَلَى سَمَاعِهَا كَالْحَاضِرِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَعْزِلَ بَعْدَ الْحُكْمِ بِقَبُولِهَا وَبَعْدَ إِلْزَامِ الْحَقِّ الَّذِي تَضَمَّنَهَا ، فَعَلَى الثَّانِي إِذَا أَشْهَدَ الْأَوَّلُ عَلَى نَفْسِهِ بِإِلْزَامٍ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى حُكْمِ الْأَوَّلِ فِي تَنْفِيذِ الْإِلْزَامِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَعْزِلَ بَعْدَ الْحُكْمِ بِقَبُولِهَا وَقَبْلَ الْحُكْمِ بِإِلْزَامِ مَا تَضَمَّنَهَا فَلَا تَخْلُو حَالُ مَنْ شَهِدَ عِنْدَهُ مِنْ أَنْ يَكُونُوا أَحْيَاءً أَوْ مَوْتَى . فَإِنْ كَانُوا أَحْيَاءً مَوْجُودِينَ ، لَمْ يَكُنْ لِلثَّانِي أَنْ يَبْنِيَ عَلَى حُكْمِ الْأَوَّلِ حَتَّى يَسْتَأْنِفَ سَمَاعَ الشَّهَادَةِ وَالْحُكْمِ ؛ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى شُهُودِ الْأَصْلِ تَمْنَعُ مِنَ الْحُكْمِ بِشُهُودِ الْفَرْعِ . وَإِنْ كَانُوا مَوْتَى أَوْ غَيْرَ مَوْجُودِينَ فِي الْأَحْيَاءِ جَازَ لِلثَّانِي أَنْ يَبْنِيَ عَلَى حُكْمِ الْأَوَّلِ ، فَيَحْكُمُ بِالْإِلْزَامِ بِحُكْمِ الْأَوَّلِ بِالْقَبُولِ : لِأَنَّ تَعَذُّرَ الْقُدْرَةِ عَلَى شُهُودِ الْأَصْلِ يُبِيحُ الْحُكْمَ بِشُهُودِ الْفَرْعِ . وَكَمَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ أَنْ يَحْكُمَ بِالْإِلْزَامِ بِحُكْمِ الْكَاتِبِ بِالْقَبُولِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي قَوْلِهِ : وَهُوَ مَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ حَكَمَ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ بِكَذَا القاضي بعد عزله فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُخْبِرَ بِهِ فِي وِلَايَتِهِ فَقَوْلُهُ فِيهِ مَقْبُولٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ . وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ حَتَّى يَشْهَدَ بِهِ شَاهِدَانِ اسْتِدْلَالًا بِشَأْنِهِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى الْمُنْكِرِ إِلَّا بِالشَّهَادَةِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَى الْمُنْكِرِ إِلَّا بِالشَّهَادَةِ . وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهُ لَمَّا مَلَكَ أَنْ يَحْكُمَ فِي وِلَايَتِهِ مَلَكَ الْإِقْرَارَ بِالْحُكْمِ فِي وِلَايَتِهِ ؛ لِأَنَّ مَنْ مَلَكَ فِعْلَ شَيْءٍ مَلَكَ الْإِقْرَارَ بِهِ كَمَنْ مَلَكَ عِتْقَ عَبْدِهِ مَلَكَ الْإِقْرَارَ بِعِتْقِهِ . فَأَمَّا اعْتِبَارُ ذَلِكَ بِالشَّهَادَةِ فَخَارِجٌ عَنْهَا لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ لِلْحَاكِمِ وِلَايَةً وَلَيْسَ لِلشَّاهِدِ وِلَايَةٌ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يُخْبِرَ بَعْدَ عَزْلِهِ بِأَنَّهُ قَدْ كَانَ حَكَمَ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ بِكَذَا لَمْ يَقْبَلِ الْقَاضِي قَوْلَهُ وَحْدَهُ ، حَتَّى يَشْهَدَ بِهِ شَاهِدَانِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْلِكِ الْحُكْمَ بَعْدَ عَزْلِهِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي الْحُكْمِ بَعْدَ عَزْلِهِ . أَلَا تَرَاهُ لَوْ أَقَرَّ الْمُطَلِّقُ بِرَجْعَةِ زَوْجَتِهِ فِي عِدَّتِهَا قُبِلَ قَوْلُهُ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ بَعْدَ عِدَّتِهَا ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ فِي الْعِدَّةِ فَمَلَكَ الْإِقْرَارَ بِهَا ، وَلَا يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ بَعْدَ الْعِدَّةِ فَلَمْ يَمْلِكِ الْإِقْرَارَ بِهَا .
وَلَوْ أَقَرَّ بِعِتْقِ عَبْدٍ قَبْلَ بَيْعِهِ القاضي بعد عزله قُبِلَ مِنْهُ ، وَلَوْ أَقَرَّ بِعِتْقِهِ بَعْدَ بَيْعِهِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ عِتْقَهُ قَبْلَ الْبَيْعِ وَلَا يَمْلِكُ عِتْقَهُ بَعْدَ الْبَيْعِ . وَهَذَا أَصْلٌ مُسْتَمِرٌّ . وَإِذَا كَانَ هَكَذَا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي الْحُكْمِ بَعْدَ الْعَزْلِ القاضي فَإِنْ شَهِدَ بِهِ شَاهِدَانِ لَزِمَ بِالشَّهَادَةِ . فَأَمَّا إِنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي شَاهِدًا فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ لِيَشْهَدَ بِهِ مَعَ غَيْرِهِ ؛ انْقَسَمَ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَشْهَدَ بِإِقْرَارِ مُقِرٍّ عِنْدَهُ ، فَهَذَا جَائِزٌ : لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ بِإِقْرَارٍ ، وَلَيْسَتْ بِحُكْمٍ وَلَا يَحْتَاجُ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ إِلَى اسْتِرْعَاءٍ : لِأَنَّ الْإِقْرَارَ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ اسْتِرْعَاءٌ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَشْهَدَ لِحُكْمٍ أَمْضَاهُ عَلَيْهِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ يَشْهَدُ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ . وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ شَهَادَةً عَلَى فِعْلِهِ كَمَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُرْضِعَةِ عَلَى الرَّضَاعِ . وَهَذَا جَمْعٌ فَاسِدٌ : لِأَنَّ الرَّضَاعَ مِنْ فِعْلِ الْوَلَدِ ، فَجَازَتْ شَهَادَتُهَا فِيهِ ، وَالْحُكْمُ مِنْ فِعْلِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا فِيهِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَشْهَدَ بِأَنَّ حَاكِمًّا حَكَمَ عَلَيْهِ بِكَذَا وَيُرْسِلَ ذِكْرَ الْحَاكِمِ بِهِ فَلَا يُعْزِيهِ إِلَى نَفْسِهِ وَلَا إِلَى غَيْرِهِ ، فَفِي قَبُولِ شَهَادَتِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا تُقْبَلُ حَتَّى يُعْزِيَهُ إِلَى غَيْرِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْحَاكِمُ بِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَقْبَلُ مَا لَمْ يَعْزُهُ إِلَى نَفْسِهِ تَغْلِيبًا لِصِحَّةِ الشَّهَادَةِ .
مَنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ لَهُ الْقَاضِي
[ مَنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ لَهُ الْقَاضِي ] . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَكُلُّ مَا حَكَمَ بِهِ لِنَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَمَنْ لَا تَجُوزُ لَهُ شَهَادَتُهُ رُدَّ حُكْمُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا حُكْمُهُ لِنَفْسِهِ فَمَرْدُودٌ القاضي كَمَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ لِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ لَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ . وَأَمَّا حُكْمُهُ عَلَى نَفْسِهِ فَمَقْبُولٌ . وَهَلْ يَكُونُ إِقْرَارًا أَوْ حُكْمًا ؟ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ إِقْرَارًا ، فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ فِي كُلِّ مَا يَصِحُّ الْإِقْرَارُ بِهِ وَيُرَدُّ فِيمَا لَا
يَلْزَمُ بِالْإِقْرَارِ ، كَشُفْعَةِ الْجِوَارِ إِذَا قَالَ : قَدْ حَكَمْتُ بِهَا عَلَى نَفْسِي لِلْجَارِ ، لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ بِهَا عَلَى نَفْسِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَكُونُ حُكْمًا عَلَى نَفْسِهِ ، فَإِذَا حَكَمَ عَلَيْهَا بِشُفْعَةِ الْجِوَارِ لَزِمَتْهُ ، وَإِذَا حَكَمَ عَلَيْهِ بِمُقَاسَمَةِ الْإِخْوَةِ لِلْجَدِّ فِي الْمِيرَاثِ وَكَانَ جَدًّا نَفَذَ حُكْمُهُ ، وَإِنْ كَانَ أَخًا لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ : لِأَنَّهُ حَكَمَ لَهَا . فَأَمَّا حُكْمُهُ لِأَحَدٍ مِنْ وَالِدَيْهِ ، وَإِنْ يَعْلُوا ، أَوْ لِأَحَدٍ مِنْ مَوْلُودِيهِ القاضي وَإِنْ سَفُلُوا ، فَمَرْدُودٌ فِي قَوْلِ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ . وَحُكِيَ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ جَوَازَهُ . وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ أَقْوَى مِنَ الشَّهَادَةِ ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنَ الشَّهَادَةِ لَهُمْ ، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يَمْنَعَ مِنَ الْحُكْمِ لَهُمْ . فَأَمَّا حُكْمُهُ عَلَى وَالِدَيْهِ وَمَوْلُودَيْهِ القاضي فَجَائِزٌ : لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَتْ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِمْ جَازَ حُكْمُهُ عَلَيْهِمْ . فَأَمَّا مَنْ عَدَا طَرَفَيْهِ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلِ مِنْ أَقَارِبِهِ كَالْإِخْوَةِ وَبَنِيهِمْ وَالْأَعْمَامِ وَبَنِيهِمْ ، فَيَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ . فَلَوْ تَحَاكَمَ إِلَيْهِ وَلَدُهُ وَوَالِدُهُ فَحَكَمَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ القاضي فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ مُحْتَمَلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ : لِأَنَّهُ حَكَمَ لِوَالِدِهِ وَوَلَدِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ : لِأَنَّهُمَا قَدِ اسْتَوَيَا فِي الْبَعْضِيَّةِ فَانْتَفَتْ عَنْهُ تُهْمَةُ الْمُمَايَلَةِ ، فَصَارَ حَاكِمًا عَلَى وَالِدٍ أَوْ وَلَدٍ .
فَصْلٌ : اسْتِخْلَافُ الْقَاضِي وَلَدَهُ أَوْ وَالِدَهُ . وَإِذَا أَرَادَ الْقَاضِي أَنْ يَسْتَخْلِفَ فِي أَعْمَالِهِ وَالِدًا أَوْ وَلَدًا جَازَ ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْهَدَ لَهُمْ وَلَا يَحْكُمَ ، إِذَا كَانُوا مِمَّنْ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَخْلِفَهُمْ غَيْرُهُمْ ؛ لِأَنَّ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْبَعْضِيَّةِ الَّتِي تُجْرِيهِمْ مَجْرَى نَفْسِهِ ، فَحُكْمُهُ بِنَفْسِهِ جَائِزٌ فَجَازَ بِمَنْ هُوَ بَعْضُهُ ، وَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ الْإِمَامُ فِي أَعْمَالِهِ مَنْ يَرَى مِنْ أَوْلَادِهِ . وَخَالَفَ تَقْلِيدُ الْقَضَاءِ ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقْضِيَ بِنَفْسِهِ ، فَجَازَ أَنْ يَقْتَضِيَ مَنْ يَجْرِي بِالْقَضِيَّةِ مَجْرَى نَفْسِهِ . فَأَمَّا إِذَا رَدَّ الْإِمَامُ إِلَى الْقَاضِي اخْتِيَارَ قَاضٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ وَالِدَهُ وَلَا وَلَدَهُ : لِأَنَّ رَدَّ الِاخْتِيَارِ إِلَيْهِ يَمْنَعُهُ مِنِ اخْتِيَارِ نَفْسِهِ ، فَمَنَعَهُ ذَلِكَ مِنِ اخْتِيَارِ مَنْ يَجْرِي بِالْبَعْضِيَّةِ مَجْرَى نَفْسِهِ .
فَصْلٌ : مُحَاكَمَةُ الْقَاضِي خَصْمَهُ فَإِذَا أَرَادَ الْإِمَامُ مُحَاكَمَةَ خَصْمٍ جَازَ أَنْ يُحَاكِمَهُ إِلَى قُضَاتِهِ : لِأَنَّهُمْ وُلَاةٌ فِي حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ ، وَإِنْ صَدَرَتْ عَنْهُ وِلَايَاتُهُمْ . قَدْ حَاكَمَ عَلِيٌّ يَهُودِيًّا فِي دِرْعٍ إِلَى شُرَيْحٍ وَهُوَ قَاضِيهِ . فَأَمَّا إِنْ حَاكَمَ الْإِمَامُ خَصْمَهُ إِلَى وَاحِدٍ مِنْ رَعِيَّتِهِ جَازَ ، ثُمَّ نُظِرَ ، فَإِنْ قَلَّدَهُ خُصُوصَ هَذَا النَّظَرِ صَارَ قَاضِيًا خَاصًّا قَبْلَ التَّرَافُعِ إِلَيْهِ ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ رِضَا الْخَصْمِ ، وَإِنْ لَمْ يُقَلِّدْهُ النَّظَرُ قَبْلَ التَّرَافُعِ اعْتُبِرَ فِيهِ رِضَا الْخَصْمِ . فَأَمَّا الْقَاضِي إِذَا أَرَادَ مُحَاكَمَةَ خَصْمٍ لَهُ ، فَإِنْ كَانَ فِي بَلَدِ الْإِمَامِ ، جَازَ أَنْ يُحَاكِمَهُ إِلَى الْإِمَامِ أَوْ إِلَى مَنْ يَرُدُّ إِلَيْهِ الْإِمَامُ الْحُكْمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمِهِ . وَإِنْ بَعُدَ عَنْ بَلَدِ الْإِمَامِ وَعَنْ بَلَدٍ فِيهِ قَاضٍ مِنْ قِبَلِ الْإِمَامِ وَأَرَادَ أَنْ يُحَاكِمَ خَصْمَهُ إِلَى خَلِيفَتِهِ القاضي ، فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ كَمَا لِلْإِمَامِ مُحَاكَمَةُ خَصْمِهِ إِلَى خَلِيفَتِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ : لِأَنَّ كُلَّ الْقُضَاةِ خُلَفَاءُ الْإِمَامِ وَلَيْسَ كُلُّ الْقُضَاةِ خُلَفَاءَ هَذَا الْقَاضِي ، فَجَازَ لِلْإِمَامِ مَا لَمْ يَجُزْ لِهَذَا الْقَاضِي ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
الشَّهَادَاتُ فِي الْبُيُوعِ
الاستدلال عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا
الشَّهَادَاتُ فِي الْبُيُوعِ حكمها مُخْتَصَرٌ مِنَ الْجَامِعِ مِنِ اخْتِلَافِ الْحُكَّامِ وَالشَّهَادَاتِ وَمِنْ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ وَمِنْ مَسَائِلَ شَتَّى سَمِعْتُهَا مِنْهُ لَفْظًا.
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ فَاحْتَمَلَ أَمْرُهُ - جَلَّ ثَنَاؤُهُ - أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا تَرْكُهُ ، وَالَآخَرُ : حَتْمًا يَعْصِي مَنْ تَرَكَهُ بِتَرْكِهِ فَلَمَّا أَمَرَ اللَّهُ ، عَزَّ وَجَلَّ ، فِي آيَةِ الدَّيْنِ - وَالدَّيْنُ تَبَايُعٌ - بِالْإِشْهَادِ ، وَقَالَ فِيهَا فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ دَلَّ عَلَى أَنَ الْأُولَى دَلَّالَةٌ عَلَى الْحَظِّ لِمَا فِي الْإِشْهَادِ مِنْ مَنْعِ التَّظَالُمِ بِالْجُحُودِ أَوْ بِالنِّسْيَانِ وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ بَرَاءَاتِ الذِّمَمِ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا غَيْرَ وَكُلُّ أَمْرٍ نَدَبَ اللَّهُ إِلَيْهِ فَهُوَ الْخَيْرُ الَّذِي لَا يَعْتَاضُ مِنْهُ مَنْ تَرَكَهُ ، وَقَدْ حُفِظَ عَنْ رَسُوِلِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ بَايَعَ أَعْرَابِيًّا فَرَسًا ، فَجَحَدَهُ بِأَمْرِ بَعْضِ الْمُنَافِقِينَ ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا إِشْهَادٌ ، فَلَوْ كَانَ حَتْمًا مَا تَرَكَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الشَّهَادَةُ ، فَهِيَ إِحْدَى الْوَثَائِقِ فِي الْحُقُوقِ وَالْعُقُودِ ، وَهِيَ أَعَمُّ مِنَ الرَّهْنِ وَالضَّمَانِ ، لِجَوَازِهَا فِيمَا لَا يَجُوزُ فِيهِ الرَّهْنُ وَالضَّمَانُ ، وَنَدَبَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهَا احْتِيَاطًا فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ ، فَقَالَ تَعَالَى : وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ [ الْبَقَرَةِ : ] . وَقَالَ تَعَالَى : وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [ الْبَقَرَةِ : ] . وَقَالَ تَعَالَى : فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ [ الطَّلَاقِ : ] . وَقَالَ تَعَالَى : وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [ الْبَقَرَةِ : ] . فَدَلَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ عَلَى الْأَمْرِ بِالشَّهَادَةِ فِي الْحُقُوقِ ، وَدَلَّ مَا تَأَخَّرَ مِنَ الْآيَتَيْنِ عَلَى وُجُوبِ أَدَائِهَا الشهادة عَلَى الشُّهُودِ ، فَدَلَّ مَا ذَكَرْنَا عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا . وَمَا يُشْهَدُ فِيهِ ضَرْبَانِ : حُقُوقٌ وَعُقُودٌ . فَأَمَّا الْحُقُوقُ ، فَالشَّهَادَةُ فِيهَا مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا لِحِفْظِهَا عَلَى أَهْلِهَا ، وَأَمَّا الشَّهَادَةُ فِي الْعُقُودِ ، فَالشَّهَادَةُ فِيهَا تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا كَانَتِ الشَّهَادَةُ وَاجِبَةً فِيهِ ، وَشَرْطًا فِي صِحَّتِهِ ، وَهِيَ عُقُودُ الْمَنَاكِحِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ .
وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا كَانَتِ الشَّهَادَةُ فِيهِ وَثِيقَةً ، وَلَمْ تَكُنْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ عَقْدِهِ كَالْإِجَارَةِ ، وَالرَّهْنِ ، وَالْقِرَاضِ ، وَالْوَكَالَةِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا كَانَ مُخْتَلَفًا فِي وُجُوبِهَا فِيهِ الشهادة ، وَهُوَ عُقُودُ الْبِيَاعَاتِ ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٍ ، وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ : أَنَّ الشَّهَادَةَ فِي الْبَيْعِ مُسْتَحَبَّةٌ وَلَيْسَتْ وَاجِبَةً . وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ ، وَدَاوُدُ ، وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ : إِنَّ الشَّهَادَةَ فِي الْبَيْعِ وَاجِبَةٌ . اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ [ الْبَقَرَةِ : ] وَهَذَا أَمْرٌ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ ، وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " ثَلَاثَةٌ يَدْعُونَ فَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمُ : رَجُلٌ آتَى السَّفِيهَ مَالَهُ ، فَهُوَ يَدْعُو عَلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ [ النِّسَاءِ : ] . وَرَجُلٌ لَهُ امْرَأَةٌ سَيِّئَةُ الْخُلُقِ ، فَهُوَ يَدْعُو عَلَيْهَا لِلْخَلَاصِ مِنْهَا وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ إِلَيْهِ طَلَاقَهَا ، وَرَجُلٌ بَاعَ بَيْعًا فَلَمْ يُشْهِدْ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ [ الْبَقَرَةِ : ] ، فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ الشَّهَادَةِ فِي الْبَيْعِ . وَدَلِيلُنَا مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ [ الْبَقَرَةِ : ] . وَالدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ لَا يَثْبُتُ إِلَّا فِي الْبُيُوعِ ، وَالْكِتَابُ يَكُونُ لِلشَّهَادَةِ ، ثُمَّ قَالَ : فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ [ الْبَقَرَةِ : ] . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ فِي الْبَيْعِ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْإِرْشَادِ وَالِاسْتِحْبَابِ دُونَ الْحَتْمِ وَالْوُجُوبِ . وَرُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ : تَخَلَّفْتُ عَنِ النَّاسِ فِي السَّيْرِ ، فَلَحِقَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : " بِعْنِي جَمَلَكَ وَأَسْتَثْنِي لَكَ ظَهْرَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ قَالَ : فَبِعْتُهُ مِنْهُ " فَدَلَّ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يُشْهِدْ . وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْتَاعَ مِنْ أَعْرَابِيٍّ شَيْئًا ، فَاسْتَتْبَعَهُ لِيَقْضِيَهُ الثَّمَنَ ، فَلَمَّا رَآهُ الْمُشْرِكُونَ ، فَطَفِقُوا ، وَطَلَبُوهُ بِأَكْثَرَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " قَدِ ابْتَعْتُهُ فَجَحَدَهُ الْأَعْرَابِيُّ ، فَقَالَ : مَنْ يَشْهَدُ لِي ، فَقَالَ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ : أَنَا أَشْهَدُ لَكَ . قَالَ : بِمَ تَشْهَدُ ، وَلَمْ تَحْضُرْ ، فَقَالَ : نُصَدِّقُكَ عَلَى أَخْبَارِ السَّمَاءِ وَلَا نُصَدِّقُكَ عَلَى أَخْبَارِ الْأَرْضِ ؟ فَسَمَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَا
الشَّهَادَتَيْنِ " فَلَوْ وَجَبَتِ الشَّهَادَةُ فِي الْبَيْعِ لَمَا تَرَكَهَا فِي ابْتِيَاعِهِ مِنَ الْأَعْرَابِيِّ ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ أَسْلَمَ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ " فَذَكَرَ شُرُوطَ الْعَقْدِ وَلَمْ يَذْكُرِ الشَّهَادَةَ . وَلِأَنَّهَا وَثِيقَةٌ فِي الْبَيْعِ ، فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ كَالرَّهْنِ وَالضَّمَانِ ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ مَحْضَةٍ ، فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الشَّهَادَةُ كَالْإِجَارَةِ ، وَلِأَنَّ مَا صَحَّ فِيهِ الْإِبَاحَةُ لَمْ تَجِبْ فِيهِ الشَّهَادَةُ كَبَيْعِ الشَّيْءِ التَّافِهِ ، وَلِأَنَّ مَا قُصِدَ بِهِ تَمْلِيكُ الْمَالِ لَمْ تَجِبْ فِيهِ الشَّهَادَةُ كَالْهِبَةِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ أَمْرَهُ بِهَا بَعْدَ الْبَيْعِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ فِي الْبَيْعِ . وَالثَّانِي : مَا أَجَابَ بِهِ الشَّافِعِيُّ عَنْهَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى عَلِيٍّ وَلَيْسَ بِمُتَّصِلٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ بِدَلِيلِ مَا قَرَّرْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
بَابُ عِدَّةِ الشُّهُودِ وَحَيْثُ لَا يَجُوزُ فِيهِ النِّسَاءُ وَحَيْثُ يَجُوزُ وَحُكْمِ الْقَاضِي بِالظَّاهِرِ
بَابُ عِدَّةِ الشُّهُودِ وَحَيْثُ لَا يَجُوزُ فِيهِ النِّسَاءُ وَحَيْثُ يَجُوزُ وَحُكْمِ الْقَاضِي بِالظَّاهِرِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَدَلَّ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَلَى أَنْ لَا يَجُوزَ فِي الزِّنَى أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةٍ لِقَوْلِهِ لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ وَقَالَ سَعْدٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ لَوْ وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا أُمْهِلُهُ حَتَى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ؟ فَقَالَ : " نَعَمْ " ، وَجَلَدَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثَلَاثَةً لَمَّا لَمْ يَقُمِ الرَّابِعُ ، وَقَالَ اللَّهُ ، جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي الْإِمْسَاكِ وَالْفِرَاقِ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ فَانْتَهَى إِلَى شَاهِدَيْنِ ، وَدَلَّ عَلَى مَا دَلَّ قَبْلَهُ مِنْ نَفْيٍ أَنْ يَجُوزَ فِيهِ إِلَّا رِجَالٌ لَا نِسَاءَ مَعَهُمْ ، لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا أَنْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ ، وَقَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي آيَةِ الدَّيْنِ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي شُهُودِ الزِّنَى وَلَا الْفِرَاقِ وَلَا الرَّجْعَةِ امْرَأَةً ، وَوَجَدْنَا شُهُودَ الزِّنَى يَشْهَدُونَ عَلَى حَدٍّ لَا مَالٍ ، وَالطَّلَاقُ وَالرَّجْعَةُ تَحْرِيمٌ بَعْدَ تَحْلِيلٍ ، وَتَثْبِيتُ تَحْلِيلٍ لَا مَالٍ ، وَالْوَصِيَّةُ إِلَى الْمُوصَى إِلَيْهِ قِيَامٌ بِمَا أُوصِيَ بِهِ إِلَيْهِ لَا أَنَّ لَهُ مَالًا ، وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ خَالَفَ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الزِّنَى إِلَّا الرِّجَالُ ، وَأَكْثَرُهُمُ قَالَ وَلَا فِي الطَّلَاقِ وَلَا فِي الرَّجْعَةِ إِذَا تَنَاكَرَ الزَّوْجَانِ ، وَقَالُوا ذَلِكَ فِي الْوَصِيَّةِ ، فَكَانَ ذَلِكَ كَالدَّلَالَةِ عَلَى ظَاهِرِ الْقُرْآنِ ، وَكَانَ أَوْلَى الْأُمُورِ بِأَنْ يُصَارَ إِلَيْهِ وَيُقَاسَ عَلَيْهِ ، وَالدَّيْنُ مَالٌ فَمَا أَخَذَ بِهِ الْمَشْهُودُ لَهُ مَالًا جَازَتْ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ فِيهِ إِلَّا الرِّجَالُ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَفِي قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ وَقَالَ : أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى دَلَالَةٌ عَلَى أَنْ لَا تَجُوزَ شَهَادَةُ النَّسَاءِ حَيْثُ لَا يَجُزْنَ إِلَّا مَعَ الرَّجُلِ وَلَا يَجُوزُ مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَتَانِ فَصَاعِدًا وَأَصْلُ النِّسَاءِ أَنَّهُ قَصُرَ بِهِنَّ عَنْ أَشْيَاءَ بَلَغَهَا الرِّجَالُ أَنَّهُمْ جُعِلُوا قَوَّامِينَ عَلَيْهِنَّ ، وَحُكَّامًا ، وَمُجَاهِدِينَ ، وَأَنَّ لَهُمُ السَّهْمَانِ مِنَ الْغَنِيمَةِ دُونَهُنَّ ، وَغَيْرُ ذَلِكَ ، فَالْأَصْلُ أَنْ لَا يُجَزْنَ ، فَإِذَا أُجِزْنَ فِي مَوْضِعٍ لَمْ يُعْدَ بِهِنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ ، وَكَيْفَ أَجَازَهُنَّ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَرَدَّهُنَّ فِي الْحُدُودِ ؟ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنْ لَا يُجَزْنَ عَلَى الزِّنَى شهادة النساء ، وَلَمْ يَسْتَنَبْنَ فِي الْإِعْوَازِ مِنَ الْأَرْبَعَةِ - دَلِيلٌ
عَلَى أَنْ لَا يُجَزْنَ فِي الْوَصِيَّةِ شهادة النساء إِذْ لَمْ يُسْتَنَبْنَ فِي الْإِعْوَازِ مِنْ شَاهِدَيْنِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَجُمْلَةُ الشَّهَادَةِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهَا ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ ، الْعَدَدُ ، وَالْجِنْسُ ، وَالْعَدَالَةُ . فَأَمَّا الْعَدَالَةُ فَمُعْتَبَرَةٌ فِي كُلِّ شَهَادَةٍ ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْفَاسِقِ بِحَالٍ ، وَأَمَّا الْعَدَدُ وَالْجِنْسُ ، فَيُعْتَبَرَانِ بِالْمَشْهُودِ فِيهِ ، وَهُوَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَهِيَ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا لَا يُقْبَلُ فِيهِ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةِ رِجَالٍ لَا امْرَأَةَ فِيهِمْ ، وَهُوَ الزِّنَى ، وَاللِّوَاطُ ، وَإِتْيَانُ الْبَهَائِمِ : لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ [ النُّورِ : ] . الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى : لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ الْآيَةَ . وَقَالَ تَعَالَى : وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ [ النِّسَاءِ : ] . وَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَرَأَيْتَ إِنْ وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا ، أُمْهِلُهُ حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ؟ قَالَ : " نَعَمْ " شَهِدَ عِنْدَ عُمَرَ عَلَى الْمُغِيرَةِ بِالزِّنَى - أَبُو بَكْرَةَ ، وَنَافِعٌ ، وَنُفَيْعٌ وَتَوَقَّفَ زِيَادٌ عَنْ إِكْمَالِ الشَّهَادَةِ ، فَجَلَدَ عُمَرُ الثَّلَاثَةَ ، وَلَمْ يَرْجُمِ الْمُغِيرَةَ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا يُقْبَلُ فِيهِ شَاهِدَانِ لَا امْرَأَةَ فِيهِمَا ، وَهُوَ مَا سِوَى الزِّنَى مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى ، كَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ ، وَحَدِّ الْحِرَابَةِ ، وَالْجَلْدِ فِي الْخَمْرِ ، وَالْقَتْلِ فِي الرِّدَّةِ ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ . وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : كُلُّ مَا أَوْجَبَ الْقَتْلَ لَا أَقْبَلُ فِيهِ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةٍ كَالزِّنَى ، وَهَذَا فَاسِدٌ ، لِأَنَّ الزِّنَى مُخْتَلِفٌ ، فَبَعْضُهُ يُوجِبُ الرَّجْمَ ، وَبَعْضُهُ يُوجِبُ الْجَلْدَ ، وَالشَّهَادَةُ فِيهِمَا وَاحِدَةٌ ، فَوَجَبَ أَنْ يُخَالِفَ مَا عَدَاهُ فِيمَا يُوجِبُ الْقَتْلَ ، وَلَا يُوجِبُهُ فِي ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ الْبَيِّنَةُ فِيهِ وَاحِدَةً ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ ، إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ مَقْبُولَةٌ كَالْأَمْوَالِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ . لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [ الطَّلَاقِ : ] . وَلِأَنَّ حُدُودَ اللَّهِ تَعَالَى تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ ، فَكَانَتِ الشَّهَادَةُ فِيهَا أَغْلَظَ مِنَ الشَّهَادَةِ فِي غَيْرِهَا مِمَّا لَا يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ ، كَمَا أَنَّ الزِّنَى لَمَّا كَانَ أَغْلَظَ مِنَ السَّرِقَةِ لِتَعَدِّيهِ إِلَى اثْنَيْنِ ، وَاخْتِصَاصِهِ بِإِسْقَاطِ نَسَبِ الْوَلَدِ ، كَانَتِ الشَّهَادَةُ فِيهِ أَغْلَظَ مِنْهَا فِيمَا عَدَاهُ .
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا اخْتَلَفَ عَدَدُ الشَّهَادَةِ فِيهِ وَهُوَ الْإِقْرَارُ بِالزِّنَى ، وَفِيهِ لِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ شُهُودٍ لَا امْرَأَةَ فِيهِمْ ، لِأَنَّهُ مُوجِبٌ لِحَدِّ الزِّنَى كَالشَّهَادَةِ عَلَى فِعْلِ الزِّنَى . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَثْبُتُ بِشَاهِدَيْنِ ، لِأَنَّهُ إِقْرَارٌ فَأَشْبَهَ الْإِقْرَارُ بِمَا عَدَاهُ .
فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ ، وَهِيَ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ تَخْتَلِفُ فِي الْجِنْسِ وَالْعَدَدِ : أَحَدُهَا : وَهُوَ أَوْسَعُهَا ، وَهُوَ مَا يُقْبَلُ فِيهِ شَاهِدَانِ وَشَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ ، وَشَاهِدٌ وَيَمِينٌ ، وَهُوَ الْمَالُ وَمَا كَانَ مَقْصُودُهُ الْمَالَ ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ [ الْبَقَرَةِ : ] . وَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : مَا يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ ، وَهُوَ الْوِلَادَةُ ، وَالِاسْتِهْلَالُ ، وَالرَّضَاعُ ، وَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ الرِّجَالُ الْأَجَانِبُ مِنَ الْعُيُوبِ الْمَسْتُورَةِ بِالْعَوْرَةِ ، فَيُقْبَلُ فِيهِ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ ، وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْوِلَادَةِ قَبُولَ شَهَادَةِ الْقَابِلَةِ وَحْدَهَا ، وَالْكَلَامُ مَعَهُ يَأْتِي . فَإِنْ شَهِدَ بِذَلِكَ شَاهِدَانِ ، أَوْ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ ، قُبِلَ ، لِأَنَّ شَهَادَةَ الرِّجَالِ أَغْلَظُ ، وَلَا يُقْبَلُ فِيهِ شَاهِدٌ وَيَمِينٌ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ وَلَا يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ بِحَالٍ ، وَهُوَ كُلُّ مَا لَمْ يَكُنْ مَالًا وَلَا الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمَالَ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ الرِّجَالُ الْأَجَانِبُ ، كَالنِّكَاحِ ، وَالطَّلَاقِ ، وَالْخُلْعِ ، وَالرَّجْعَةِ ، وَالْقِصَاصِ ، وَالْقَذْفِ ، وَالْعِتْقِ ، وَالنَّسَبِ ، وَالْكِتَابَةِ ، وَالتَّدْبِيرِ ، وَعَقْدِ الْوِكَالَةِ ، وَالْوَصِيَّةِ ، فَلَا يُقْبَلُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ شَهَادَةُ النِّسَاءِ . وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَصْحَابُهُ ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ : أَقْبَلُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ شَهَادَةَ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ إِلَّا فِي الْقِصَاصِ وَالْقَذْفِ ، اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ [ الْبَقَرَةِ : ] . فَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى عُمُومِهِ فِي كُلِّ حَقٍّ إِلَّا مَا خَصَّهُ دَلِيلٌ .
قَالُوا : وَلِأَنَّهُ حَتَّى يَثْبُتَ مَعَ الشُّبْهَةِ ، فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ بِشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ كَالْأَمْوَالِ . وَدَلِيلُنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ فِي الشَّهَادَةِ فِيمَا سِوَى الْأَمْوَالِ عَلَى الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ فِي الطَّلَاقِ وَالرَّجْعَةِ وَالْوَصِيَّةِ ، فَقَالَ تَعَالَى : فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [ الطَّلَاقِ : ] . وَقَالَ فِي الْوَصِيَّةِ : إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ [ الْمَائِدَةِ : ] . فَنَصَّ عَلَى شَهَادَةِ الرِّجَالِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقْبَلَ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ كَالزِّنَى . فَرَوَى مَالِكٌ ، عَنْ عَقِيلٍ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، قَالَ : مَضَتِ السُّنَّةُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ ، وَلَا فِي النِّكَاحِ ، وَلَا فِي الطَّلَاقِ . وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا ، فَهُوَ لَازِمٌ لَهُمْ ، لِأَنَّ الْمَرَاسِيلَ حُجَّةٌ عِنْدَهُمْ ، وَلِأَنَّ كُلَّمَا لَمْ يَكُنِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمَالَ إِذَا لَمْ يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ عَلَى الِانْفِرَادِ ، لَمْ يُقْبَلْنَ فِيهِ مَعَ الرِّجَالِ ، كَالْقِصَاصِ . وَإِنِ اعْتَرَضُوا بِالْوِكَالَةِ وَالْوَصِيَّةِ أَنَّ الْمَالَ يَتَعَلَّقُ بِهِمَا ، فَهَلَّا جَازَ إِثْبَاتُهُمَا بِشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ ؟ قِيلَ : لَيْسَ فِي عَقْدِ الْوِكَالَةِ وَالْوَصِيَّةِ مَالٌ ، وَإِنَّمَا أُرِيدَ بِهِمَا التَّصَرُّفُ فِي الْمَالِ ، وَإِنَّمَا هِيَ تَوْلِيَةٌ أُقِيمَ الرَّجُلُ فِيهَا مَقَامَ غَيْرِهِ ، وَلِأَنَّ الْحُقُوقَ ضَرْبَانِ : حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى ، وَحُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ ، فَلَمَّا وَقَعَ الْفَرْقُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى ، بَيْنَ أَعْلَاهَا وَأَدْنَاهَا فِي الْعَدَدِ . فَأَعْلَاهَا الزِّنَى ، وَأَدْنَاهَا الْخَمْرُ ، وَجَبَ أَنْ يَقَعَ الْفَرْقُ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ بَيْنَ أَعْلَاهَا وَأَدْنَاهَا فِي الْجِنْسِ ، فَأَعْلَاهَا حُقُوقُ الْأَبْدَانِ ، وَأَدْنَاهَا حُقُوقُ الْأَمْوَالِ ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ ، فَهُوَ أَنَّهَا نَصٌّ فِي الْأَمْوَالِ ، فَلَمْ يَصِحَّ اسْتِعْمَالُ الْعُمُومِ فِيهَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْأَمْوَالِ ، فَهُوَ أَنَّهُ يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ مِنْهَا وَالْإِبَاحَةُ لَهَا .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا ، وَاخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي الصَّدَاقِ مَعَ اتِّفَاقِهِمَا فِي النِّكَاحِ سُمِعَ فِيهِ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ ، وَلَوِ اخْتَلَفَا فِي النِّكَاحِ لَمْ يُسْمَعْ فِيهِ إِلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ ، لِأَنَّ الصَّدَاقَ مَالٌ ، وَالنِّكَاحُ عَقْدٌ ، وَيَصِحُّ انْفِرَادُ هَذَا بِهِ . وَلَوِ ادَّعَتِ الزَّوْجَةُ الْخُلْعَ ، وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ ، لَمْ يُسْمَعْ فِيهِ إِلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ ، وَلَوِ ادَّعَاهُ الزَّوْجُ ، وَأَنْكَرَتْهُ الزَّوْجَةُ ، سُمِعَ فِيهِ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ بَيِّنَةَ الزَّوْجَةِ لِإِثْبَاتِ الطَّلَاقِ ، وَبَيِّنَةَ الزَّوْجِ لِإِثْبَاتِ الْمَالِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : إِنْ شَهِدَتِ امْرَأَتَانِ لِرَجُلٍ بِمَالٍ حَلَفَ مَعَهُنَّ ، وَلَقَدْ خَالَفَهُ عَدَدٌ أَحْفَظُ ذَلِكَ عَنْهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، وَهَذَا إِجَازَةُ النِّسَاءِ بِغَيْرِ رَجُلٍ في الشهادة ، فَيَلْزَمُهُ أَنْ يُجِيزَ أَرْبَعًا ، فَيُعْطِيَ بِهِنَّ حَقًّا فَإِنْ قَالَ إِنَهُمَا مَعَ يَمِينِ رَجُلٍ ، فَيَلْزَمُهُ أَنْ لَا يُجِيزَهُمَا مَعَ يَمِينِ امْرَأَةٍ ، وَالْحُكْمُ فِيهِمَا وَاحِدٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَكَانَ الْقَتْلُ وَالْجِرَاحُ وَشُرْبُ الْخَمْرِ وَالْقَذْفُ مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ عَدَدُ الشُّهُودِ ، فَكَانَ ذَلِكَ قِيَاسًا عَلَى شَاهِدَيِ الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ مِمَّا وَصَفْتُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا أَرَادَ بِهِ مَالِكًا ، لِأَنَّهُ يُوافِقُ عَلَى الْقَضَاءِ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ فِي الْأَمْوَالِ ، وَإِنْ خَالَفَ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ ، ثُمَّ تَجَاوَزَ مَالِكٌ ، فَقَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ شَهَادَةِ امْرَأَتَيْنِ ، وَإِنْ لَمْ يَرَهُ الشَّافِعِيُّ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَقَامَ شَهَادَةَ امْرَأَتَيْنِ مَقَامَ شَهَادَةِ رَجُلٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ [ الْبَقَرَةِ : ] . ثُمَّ ثَبَتَ جَوَازُ الْقَضَاءِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ ، فَكَذَلِكَ بِالْمَرْأَتَيْنِ وَالْيَمِينِ . وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى [ الْبَقَرَةِ : ] . وَفِي قَوْلِهِ " فَتُذَكِّرَ " قِرَاءَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : بِالتَّشْدِيدِ مِنَ النِّسْيَانِ . وَالثَّانِيَةُ : بِالتَّخْفِيفِ أَيْ : يَكُونَانِ كَالذَّكَرِ ، فَيَكُونُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ نَصًّا ، وَبَالْأُولَى تَنْبِيهًا . وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّ شَهَادَةَ الرَّجُلَيْنِ أَقْوَى مِنْ شَهَادَةِ الْمَرْأَتَيْنِ ، لِأَنَّ شَهَادَةَ الرَّجُلَيْنِ مَقْبُولَةٌ فِي الْحُدُودِ وَالْأَمْوَالِ ، وَشَهَادَةَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَتَيْنِ مَرْدُودَةٌ فِي الْحُدُودِ ، وَإِنْ قُبِلَتْ فِي الْأَمْوَالِ ، وَالْحُكْمُ بِالْيَمِينِ أَضْعَفُ مِنَ الْحُكْمِ بِالْبَيِّنَةِ لِتَقَدُّمِهَا عَلَى الْيَمِينِ ، فَحَكَمْنَا بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ ، لِاجْتِمَاعِ قَوِيٍّ مَعَ ضَعِيفٍ ، كَمَا حَكَمْنَا بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ ، وَلَمْ نَحْكُمْ بَامْرَأَتَيْنِ وَيَمِينٍ لِاجْتِمَاعِ ضَعِيفٍ مَعَ ضَعِيفٍ ، وَكَمَا لَمْ نَحْكُمْ فِي الْأَمْوَالِ بِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ . فَإِنْ قِيلَ : فَإِنَّمَا أُعْطَى مَعَ يَمِينِ رَجُلٍ . قِيلَ : فَيَلْزَمُكَ أَنْ لَا تُعْطِيَ مَعَ يَمِينِ امْرَأَةٍ وَأَنْتَ تُسَوِّي بَيْنَهُمَا فِي الْيَمِينِ ، وَفِي هَذَا انْفِصَالٌ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قَالَ " وَلَا يُحِيلُ حُكْمُ الْحَاكِمِ الْأُمُورَ عَمَّا هِيَ عَلَيْهِ ، أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَقْضِي بِالظَّاهِرِ وَيَتَوَلَّى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ السَّرَائِرَ فَقَالَ : مَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ بِشَيْءٍ فَلَا يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ فَلَوْ
شَهِدَا بِزُورٍ أَنَّ رَجُلًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا ، فَفَرَّقَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا ، كَانَتْ لَهُ حَلَالًا غَيْرَ أَنَّا نَكْرَهُ أَنْ يَطَأَهَا فَيُحَدَّا ، وَيَلْزَمُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ فِرْقَتَهُ فِرْقَةٌ تُحَرَّمُ بِهَا عَلَى الزَّوْجِ وَيَحِلُّ لِأَحَدِ الشَّاهِدَيْنِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، أَنْ يَقُولَ : لَوْ شَهِدَا لَهُ بِزُورٍ أَنَّ هَذَا قَتَلَ ابْنَهُ عَمْدًا ، فَأَبَاحَ لَهُ الْحَاكِمُ دَمَهُ ، أَنْ يُرِيقَ دَمَهُ وَيَحِلُّ لَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ لِطَالِبِ حَقٍّ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ ، فَإِنْ كَانَا صَادِقَيْنِ كَانَ حُكْمُهُ صَحِيحًا فِي الظَّاهِرِ ، وَالْبَاطِنِ ، وَإِنْ كَانَا كَاذِبَيْنِ كَانَ حُكْمُهُ نَافِذًا فِي الظَّاهِرِ ، وَبَاطِلًا فِي الْبَاطِنِ ، وَلَمْ يَحِلَّ لِلْمَحْكُومِ لَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ، أَنْ يَسْتَبِيحَ مَا حَكَمَ بِهِ ، سَوَاءٌ كَانَ مَالًا أَوْ فَرْجًا ، أَوْ قَتْلًا ، وَهَكَذَا لَوْ طُولِبَ بِمَالٍ يُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ كَالْوَدَائِعِ ، وَالشِّرَكِ ، وَالْمُضَارَبَاتِ ، فَأَحْلَفَهُ الْحَاكِمُ عِنْدَ إِنْكَارِهِ وَإِنْ كَانَ صَادِقًا بَرِئَ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا بَرِئَ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ ، وَلَمْ يَسْتَبِحْ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ ، وَلَا يُحِيلُ حُكْمُ الْحَاكِمِ الْأُمُورَ عَمَّا هِيَ عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَنْفُذُ حُكْمُهُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ فِيمَا تَعَلَّقَ بِالْفُرُوجِ دُونَ الْقَتْلِ وَالْأَمْوَالِ ، حَتَّى قَالَ فِي شَاهِدَيْنِ زُورٍ شَهِدَا لِرَجُلٍ بِنِكَاحِ امْرَأَةٍ ، حَلَّ لَهُ إِصَابَتُهَا ، وَوَرِثَهَا إِنْ مَاتَتْ وَإِنْ عَلِمَ كَذِبَ الشَّاهِدَيْنِ . وَقَالَ : لَوْ شَهِدَا بِزُورٍ عَلَى رَجُلٍ بِطَلَاقِ زَوْجَتِهِ ، حَلَّ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ غَيْرَهُ ، وَحَلَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ شَاهِدَيِ الزُّورِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ بِشَهَادَتِهِمَا ، وَقَالَ فِي شَاهِدَيْ زُورٍ شَهِدَا لِرَجُلٍ أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ بِنْتُهُ ، ثَبَتَ نَسَبُهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا ، وَصَارَ مَحْرَمًا لَهَا ، وَوَرِثَهَا إِنْ مَاتَتْ ، اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا ادَّعَى نِكَاحَ امْرَأَةٍ عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَجَحَدَتْهُ ، فَشَهِدَ لَهُ بِنِكَاحِهَا شَاهِدَانِ ، فَحَكَمَ بَيْنَهُمَا بِالزَّوْجِيَّةِ ، فَقَالَتْ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَاللَّهِ مَا تَزَوَّجَنِي . فَاعْقِدْ بَيْنَنَا عَقْدًا أَحِلَّ بِهِ لَهُ فَقَالَ : شَاهِدَاكِ زَوَّجَاكِ . أَيْ : جَعَلَاكِ زَوْجَتَهُ . قَالُوا : وَلِأَنَّ مَا لَزِمَ بِهِ الْحُكْمُ أَنْفَذُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ كَشَاهِدَيِ الصِّدْقِ . قَالُوا : وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ يَنْفُذُ مَعَ ظُهُورِ الصِّدْقِ ، فَجَازَ أَنْ يُنْفَذَ مَعَ ظُهُورِ الْكَذِبِ كَاللِّعَانِ . قَالُوا : وَلِأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ إِذَا نَفَذَ بَاجْتِهَادِهِ فِيمَا اخْتُلِفَ فِيهِ نُفِّذَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا ، كَتَوْرِيثِ الْجَدِّ جَمِيعَ الْمَالِ مَعَ الْإِخْوَةِ ، وَكَانْقِطَاعِ الْفُرْقَةِ فِيمَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ ، وَجَازَ أَنْ يَسْتَبِيحَ الْمَحْكُومُ لَهُ بِذَلِكَ ، وَإِنِ اعْتَقَدَ خِلَافَهُ كَذَلِكَ فِي الْمَحْكُومِ لَهُ بِشَهَادَةِ الزُّورِ ، لِنُفُوذِ الْحُكْمِ بِهِمَا فِي الْحَالَيْنِ .
وَدَلِيلُنَا الْكِتَابُ ، وَالسُّنَّةُ ، وَالِاعْتِبَارُ . فَأَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ [ الْبَقَرَةِ : ] . الْآيَةَ . وَفِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ دَلَائِلُ كَالنُّصُوصِ فَقَوْلُهُ : وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ فِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : بِالظُّلْمِ . وَالثَّانِي : بِالْحَرَامِ . وَلَا يَنْفَكُّ الْحُكْمُ بِشَهَادَةِ الزُّورِ مِنْهَا . وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَتَتَرَافَعُوا فِيهَا إِلَى الْحُكَّامِ . وَالثَّانِي : وَتَحْتَجُّوا بِهَا عِنْدَ الْحُكَّامِ . وَهَذِهِ صِفَةُ الْمَشْهُودِ لَهُ بِالزُّورِ . وَفِي قَوْلِهِ : لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَيْ : أَمْوَالَ فَرِيقٍ مِنَ النَّاسِ . بَالْإِثْمِ فِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : بِشَهَادَةِ الزُّورِ ، وَهَذَا نَصٌّ . وَالثَّانِي : بِالْجُحُودِ ، وَهُوَ فِي مَعْنَى النَّصِّ . وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ ، فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ بِمَا أَسْمَعُ مِنْهُ ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ ، فَلَا يَأْخُذْهُ مِنْهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ " وَهَذَا نَصٌّ ، لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ يَقْضِي بِالظَّاهِرِ ، وَأَنَّهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ فِي الْبَاطِنِ لَا يُحِلُّ حَرَامًا ، وَلَا يُحَرِّمُ حَلَالًا حكم الحاكم . وَرَوَى أَبُو مُعَاوِيَةَ ، عَنِ الْأَعْمَشِ ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قُتِلَ رَجُلٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَرُفِعَ الْقَاتِلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَدَفَعَهُ إِلَى وَلِيِّ الْمَقْتُولِ ، فَقَالَ
الْقَاتِلُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَرَدْتُ قَتْلَهُ قَالَ : فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْوَلِيِّ : " أَمَا إِنَّهُ إِنْ كَانَ صَادِقًا ، فَقَتَلْتَهُ دَخَلْتَ النَّارَ " ، فَخَلَّى سَبِيلَهُ ، فَخَرَجَ يَجُرُّ نَسْعَتَهُ ، فَسُمِّيَ ذَا النَّسْعَةِ . فَمَوْضِعُ الدَّلِيلِ مِنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ إِذْنِهِ فِي قَتْلِهِ أَخْبَرَ أَنَّهُ كَانَ صَادِقًا ، فَأَحْرَمَ قَتْلَهُ ، فَدَلَّ عَلَى نُفُوذِ الْحُكْمِ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ وَأَمَّا الِاعْتِبَارُ فَهُوَ أَنَّ شَهَادَةَ الزُّورِ أَفْسَدُ مِنْ شَهَادَةِ الْعَبْدِ وَالْكَافِرِ ، وَحُكْمُ الْأَمْوَالِ أَخَفُّ مِنْ حُكْمِ الْفُرُوجِ ، فَلَمَّا لَمْ يَنْفُذِ الْحُكْمُ فِي الْبَاطِنِ بِشَهَادَةِ الْعَبْدِ وَالْكَافِرِ ، كَانَ أَوْلَى أَنْ لَا تَنْفُذَ فِي الْفُرُوجِ بِشَهَادَةِ الزُّورِ ، وَلَمَّا لَمْ يَنْفُذْ بِشَهَادَةِ الزُّورِ فِي الْأَمْوَالِ ، كَانَ أُولَى أَنْ لَا تَنْفُذَ فِي الْفُرُوجِ ، وَيَتَحَرَّرُ مِنِ اعْتِلَالِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ كُلَّ شَهَادَةٍ لَا يَنْفُذُ بِهَا حُكْمُ الْبَاطِنِ فِي الْأَمْوَالِ لَمْ يَنْفُذْ فِي الْفُرُوجِ قِيَاسًا عَلَى شَهَادَةِ الْعَبْدِ وَالْكَافِرِ . وَالْقِيَاسُ الثَّانِي : أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ لَا يَنْفُذُ فِي الْبَاطِنِ بِشَهَادَةِ الْعَبْدِ وَالْكَافِرِ لَمْ يَنْفُذْ بِشَهَادَةِ الزُّورِ ، بِخِلَافِ الْحُكْمِ فِي الْأَمْوَالِ . فَإِنْ قَالُوا : الْأَمْوَالُ لَا مَدْخَلَ لِلْحُكَّامِ فِي نَقْلِهَا ، وَلَهُمْ مَدْخَلٌ فِي نَقْلِ الْفُرُوجِ بِتَزْوِيجِ الْأَيَامَى ، وَوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِالْعُنَّةِ وَالْفَسْخِ بِالْعُيُوبِ ، فَلِذَلِكَ وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمْوَالِ وَالْفُرُوجِ . وَالْعَبْدُ وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ ، وَشَاهِدُ الزُّورِ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ ، فَلِذَلِكَ وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا . قِيلَ : الْجَوَابُ عَنْ فَرْقِهِ بَيْنَ الْأَمْوَالِ وَالْفُرُوجِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ لَهُ فِي نَقْلِ الْأَمْوَالِ وِلَايَةً كَالْفُرُوجِ : لِأَنَّ لَهُ أَنْ يُبِيحَ عَلَى الصَّغِيرِ مَالَهُ لِحَاجَتِهِ وَعَلَى الْمُفْلِسِ مَالَهُ لِحَاجَةِ غُرَمَائِهِ . وَالثَّانِي : لَيْسَ لَهُ وِلَايَةٌ فِي نَقْلِ الْفُرُوجِ ، كَمَا لَيْسَ لَهُ وِلَايَةٌ فِي نَقْلِ الْأَمْوَالِ ، لِأَنَّهُ لَا يُزَوِّجُ ، وَلَا يَفْسِخُ إِلَّا بِاخْتِيَارٍ ، وَلَوْ مَلَكَ الْوَلَايَةَ لَنَقَلَهَا بِالِاخْتِيَارِ . وَعَنْ فَرْقِهِ بَيْنَ شَهَادَةِ الزُّورِ وَبَيْنَ شَهَادَةِ الْعَبْدِ وَالْكَافِرِ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا اسْتَوَيَا فِي إِبْطَالِ الْحُكْمِ عِنْدَ الْعِلْمِ بِهِمَا قَبْلَ الْحُكْمِ ، وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِيهِ عِنْدَ الْعِلْمِ بِهِمَا بَعْدَ الْحُكْمِ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ سَمِعَ شَهَادَةَ الزُّورِ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بُزُورٍ ، كَمَا يَسْمَعُ شَهَادَةَ الْعَبْدِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِعَبْدٍ ، فَلَمَّا كَانَ خَطَؤُهُ فِي الْعَبْدِ مُبْطِلًا لِحُكْمِهِ فِي الْحَالَيْنِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ خَطَؤُهُ فِي شَهَادَةِ الزُّورِ مُبْطِلًا لِحُكْمِهِ فِي الْحَالَيْنِ ، وَلِأَنَّهُ يَصِيرُ بِشَهَادَةِ الزُّورِ فَاسِقًا وَحُكْمُهُ بِشَهَادَةِ الْفَاسِقِ مَرْدُودٌ فِي الْحَالَيْنِ نَصًّا ، وَرَدَّ شَهَادَةَ الْعَبْدِ فِي الْحَالَيْنِ اجْتِهَادًا ، ثُمَّ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْحُكْمَ يَبْطُلُ بِفَسَادِ الشَّهَادَةِ كَمَا يَبْطُلُ إِذَا خَالَفَ بِاجْتِهَادِهِ نَصًّا ، فَلَمَّا كَانَ فَسَادُهُ بِمُخَالَفَةِ النَّصِّ يَبْطُلُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فَسَادُهُ بِشَهَادَةٍ مُوجِبًا لِإِبْطَالِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا . فَإِنْ قِيلَ : مَا خَالَفَ النَّصَّ لَا يَكُونُ حُكْمًا . قِيلَ : وَكَذَلِكَ مَا أَمْضَاهُ بِشَهَادَةِ الزُّورِ لَا يَكُونُ حُكْمًا ، وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ بِشَهَادَةِ زُورٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا كَالْحُكْمِ بِالْقِصَاصِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ ، عَلَيْهِ السَّلَامُ ، مِنْ قَوْلِهِ : شَاهِدَاكِ زَوَّجَاكِ ، فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ مَجْهُولٌ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ ، فَكَانَ أَسْوَأَ حَالًا مِمَّا ضَعُفَ إِسْنَادُهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ كَذِبَ الشُّهُودِ ، فَلَمْ يُبْطِلْ شَهَادَتَهُمْ ، وَالْخِلَافُ إِذَا عَلِمَهَا . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُمْ لَا يَحْمِلُونَهُ عَلَى قَوْلِهِ : شَاهِدَاكِ زَوَّجَاكِ ، لِأَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ الْحَاكِمَ مُزَوِّجًا لَهَا دُونَ الشَّاهِدِ ، وَقَدْ كَانَ شُرَيْحٌ يَقْضِي فِي أَيَّامِ عَلِيٍّ ، فَإِذَا حَكَمَ لِرَجُلٍ بِشَاهِدَيْنِ ، قَالَ لَهُ : يَا هَذَا إِنَّ حُكْمِي لَا يُبِيحُ لَكَ مَا هُوَ حَرَامٌ عَلَيْكَ ، وَلَوْ خَالَفَهُ عَلِيٌّ فِيهِ لَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى شَهَادَةِ الصِّدْقِ ، فَهُوَ اسْتِحَالَةُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا بِالْقَبُولِ : لِقَبُولِ الصِّدْقِ وَرَدِّ الْكَذِبِ . وَنُفُوذِ الْحُكْمِ فِي الظَّاهِرِ ، لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْجَهْلِ بِالْكَذِبِ ، وَلَوْ عَلِمَ لَمَا نَفَذَ فِي الظَّاهِرِ كَمَا لَمْ يَنْفُذْ فِي الْبَاطِنِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى اللِّعَانِ ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَنْفُذْ بِالْكَذِبِ ، وَإِنَّمَا نَفَذَ بِاللِّعَانِ . وَالثَّانِي : أَنَّ اللِّعَانَ اسْتِئْنَافُ فُرْقَةٍ ، وَالْحُكْمُ بِشَهَادَةِ الزُّورِ إِنَّمَا هُوَ تَنْفِيذٌ لِفُرْقَةٍ سَابِقَةٍ ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ لَمْ يَصِحَّ تَنْفِيذُ مَعْدُومٍ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ حُكْمِ الْحَاكِمِ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ ، فَهُوَ أَنْ لَيْسَ فِي الْبَاطِنِ مَا يُخَالِفُ الظَّاهِرَ ، فَلِذَلِكَ نَفَذَ حُكْمُهُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ ، وَخَالَفَ شَهَادَةَ الزُّورِ الَّتِي تُخَالَفُ الظَّاهِرُ فِيهَا الْبَاطِنَ ، فَلِذَلِكَ نَفَذَ حُكْمُهُ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ ، وَسَنَشْرَحُ مِنْ فُرُوعِ هَذَا الْأَصْلِ مَا يَسْتَقِرُّ بِهِ حُكْمُهُ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ فِي الظَّاهِرِ لَا يُحِيلُ الْأُمُورَ عَمَّا هِيَ عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ انْقَسَمَتْ أَحْكَامُهُ سِتَّةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُحْكَمَ بِشَهَادَةِ صِدْقٍ أَوْ يَمِينِ صِدْقٍ فِيمَا لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ مَذَاهِبُ الْفُقَهَاءِ ، فَحُكْمُهُ نَافِذٌ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ ، وَعَلَى الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ أَنْ يَلْتَزِمَهُ فِيمَا كَانَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا ، وَلِلْمَحْكُومِ لَهُ أَنْ يَسْتَبِيحَهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يُحْكَمَ بِشَهَادَةِ زُورٍ أَوْ يَمِينٍ كَاذِبَةٍ فِيمَا لَا تَخْتَلِفُ فِيهِ مَذَاهِبُ الْفُقَهَاءِ ، كَشَاهِدَيْ زُورٍ شَهِدَا لِرَجُلٍ بِنِكَاحِ امْرَأَةٍ مُنْكِرَةٍ ، فَحَكَمَ لَهُ الْحَاكِمُ بِنِكَاحِهَا ، فَهِيَ حَلَالٌ لَهُ فِي الظَّاهِرِ وَحَرَامٌ عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ ، وَلَهَا أَنْ تَنْكِحَ غَيْرَهُ فِي الْبَاطِنِ ، وَلَيْسَ لَهَا نِكَاحُهُ فِي الظَّاهِرِ . وَلَوْ طَلَّقَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا ، وَأَنْكَرَهَا ، وَحَاكَمَتْهُ ، فَأَحْلَفَهُ الْحَاكِمُ لَهَا حَلَّتْ لَهُ فِي الظَّاهِرِ ، وَحَرُمَتْ عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ ، وَحَلَّ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ غَيْرَهُ فِي الْبَاطِنِ ، وَمُنِعَتْ مِنَ التَّزْوِيجِ بِغَيْرِهِ فِي الظَّاهِرِ ثَمَّ عَلَى هَذَا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يُحْكَمَ بِمَا يُخَالِفُ ظَاهِرُهُ لِبَاطِنِهِ ، وَلَا تَنْبَرِمُ عَلَانِيَتُهُ بَعْدَ حُكْمِهِ كَرَجُلٍ بَاعَ جَارِيَةً عَلَى رَجُلٍ ، وَجَحَدَهُ الْمُشْتَرِي ، وَحَاكَمَهُ ، فَأَحْلَفَهُ الْحَاكِمُ أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِهَا ، وَعَادَتِ الْجَارِيَةُ إِلَى بَائِعِهَا ، فَالْأَوْلَى لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْمِلَ الْمُشْتَرِيَ عَلَى الِاسْتِقَالَةِ ، وَيَحْمِلَ الْبَائِعَ عَلَى الْإِقَالَةِ : لِتَحِلَّ لِبَائِعِهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَوْ فَعَلَ ، فَلَمْ يُجِبِ الْمُشْتَرِي إِلَى الِاسْتِقَالَةِ وَلَا الْبَائِعُ إِلَى الْإِقَالَةِ ، فَفِيهَا لِأَصْحَابِنَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَعُودَ إِلَى الْبَائِعِ مِلْكًا لِلْمُشْتَرِي لِيَبِيعَهَا ، فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ ثَمَنِهَا عَلَيْهِ ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا وَمَا بَاعَهَا بِهِ مِنْ زِيَادَةٍ فِي الثَّمَنِ لَزِمَهُ رَدُّهَا ، وَمَا بَقِيَ لَهُ مِنْ ثَمَنِهَا كَانَ حَقًّا لَهُ عَلَيْهِ : لِأَنَّ الْبَاطِنَ مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْجَحُودَ يَجْرِي مَجْرَى الرَّدِّ بِالْإِقَالَةِ ، فَإِنْ أَرَادَ الْبَائِعُ إِعَادَتَهَا إِلَى مِلْكِهِ أَظْهَرَ الْإِقَالَةَ ، وَحَكَمَ لَهُ بَعْدَ إِظْهَارِهَا ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْ إِعَادَتَهَا إِلَى مِلْكِهِ لَمْ تَحِلَّ لَهُ ، وَكَانَتْ فِي يَدِهِ لِيَسْتَوْفِيَ بِبَيْعِهَا مَالَهُ مِنْ ثَمَنِهَا ، وَفِي جَوَازِ تَفَرُّدِهِ بِبَيْعِهَا وَجْهَانِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْجُحُودَ يَجْرِي مَجْرَى الْفَلَسِ لِتَعَذُّرِ الْوُصُولِ إِلَى الثَّمَنِ ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا قَالَ : قَدِ اخْتَرْتُ عَيْنَ مَالِي بِاسْتِرْجَاعِهَا ، وَفِي جَوَازِ تَفَرُّدِهِ بِهَذَا الْقَوْلِ مِنْ غَيْرِ حَاكِمٍ وَجْهَانِ ، ثُمَّ هِيَ حَلَالٌ لَهُ وَإِنْ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا كَانَتْ فِي يَدِهِ لِلْمُشْتَرِي ، يَسْتَوْفِي ثَمَنَهَا مِنْ بَيْعِهَا . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يَحْكُمَ بِمَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ ، فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ :
أَحَدُهَا : أَنْ يَحْكُمَ بِأَقْوَى الْمَذْهَبَيْنِ أَصْلًا ، فَحُكْمُهُ نَافِذٌ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَحْكُمَ بِأَضْعَفِ الْمَذْهَبَيْنِ أَصْلًا مِمَّا يَنْقُضُهُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ مِنَ الْقُضَاةِ ، فَحُكْمُهُ بَاطِلٌ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ . وَهَلْ يَفْتَقِرُ بُطْلَانُهُ إِلَى حُكْمِ حَاكِمٍ لَهُ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ يَحْكُمَ فِيمَا يَحْتَمِلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَذْهَبَيْنِ وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ مِنَ الْقُضَاةِ أَنْ يَنْقُضَهُ عَلَيْهِ ، فَحُكْمُهُ نَافِذٌ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ ، فَإِنْ كَانَ الْمَحْكُومُ لَهُ وَعَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ ، كَانَ لَازِمًا لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ وَمُبَاحًا لِلْمَحْكُومِ لَهُ ، وَإِنْ كَانَا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ كَانَ لَازِمًا لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي إِبَاحَتِهِ لِلْمَحْكُومِ لَهُ إِذَا خَالَفَ مُعْتَقَدَهُ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَسْتَبِيحُهُ لِنُفُوذِ الْحُكْمِ بِهِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ . وَالثَّانِي : لَا يَسْتَبِيحُهُ فِي الْبَاطِنِ وَإِنِ اسْتَبَاحَهُ فِي الظَّاهِرِ لِاعْتِقَادِهِ بِحَظْرِهِ . وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ : الْحُكْمُ فِي الْمَنَاكِحِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا ، كَالنِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ وَنَحْوِهِ ، فَلِلزَّوْجَيْنِ فِيهَا حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : فِي عَقْدِهِ . وَالثَّانِي : فِي حِلِّهِ فَأَمَّا حَالُ الْعَقْدِ ، فَلِلزَّوْجَيْنِ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَكُونَا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ ، فَيَجُوزُ لَهُمَا أَنْ يَنْفَرِدَا بِالْعَقْدِ بِاجْتِهَادِهِمَا مِنْ غَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ ، وَلَا اسْتِفْتَاءِ مُجْتَهِدٍ ، وَإِنْ كَانَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ ، فَفِي جَوَازِ انْفِرَادِهِمَا بِالْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادِ حَاكِمٍ وَاسْتِفْتَاءِ مُجْتَهِدٍ - وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ مَا لَمْ يَمْنَعْهُمَا ذُو حُكْمٍ لِمَا فِي الِاجْتِهَادِ مِنْ إِبَاحَتِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ مَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُمَا ذُو حُكْمٍ لِمَا فِي الِاجْتِهَادِ مِنْ حَظْرِهِ . فَأَمَّا حَالُ الرَّفْعِ وَالْحِلِّ ، فَلَهُمَا حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَخْتَلِفَ الزَّوْجَانِ فِيهِ فَلَا يَرْتَفِعُ ، وَيَنْحَلُّ إِلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَتَّفِقَا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ فَلَهُمَا حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَكُونَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ ، فَلَا يَرْتَفِعُ بِأَنْفُسِهِمَا ، وَنُظِرَ : فَإِنْ زَوَّجَهُمَا حَاكِمٌ لَمْ يَرْتَفِعْ إِلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ ، وَإِنْ تَزَوَّجَا بِاسْتِفْتَاءِ فَقِيهٍ مُجْتَهِدٍ ، فَفِيمَا يَرْتَفِعُ بِهِ وَجْهَانِ :
أَحَدُهُمَا : يَرْتَفِعُ بِاسْتِفْتَاءِ مُجْتَهِدٍ اعْتِبَارًا بِعَقْدِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ : لَا يَرْتَفِعُ إِلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ لِتَجَاوُزِهِ إِلَى مَنْ يَعْقِدُ النِّكَاحَ مِنْ بَعْدِهِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ الزَّوْجَانِ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ ، فَفِيمَا يَرْتَفِعُ بِهِ الْعَقْدُ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَرْتَفِعُ بِاجْتِهَادِهِمَا اعْتِبَارًا بِعَقْدِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ لَا يَرْتَفِعُ إِلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ ، لِتَجَاوُزِهِمَا إِلَى مَنْ يَعْقِدُ النِّكَاحَ مِنْ بَعْدِهِ . وَالْقِسْمُ السَّادِسُ : مَا وَقَفَتِ اسْتِبَاحَتُهُ عَلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ ، كَفَسْخِ النِّكَاحِ بِعُنَّةِ الزَّوْجِ وَإِعْسَارِهِ بِالنَّفَقَةِ ، فَلَا يَجُوزُ فَسْخُهُ بِالْعُنَّةِ إِلَّا أَنْ يَحْكُمَ الْحَاكِمُ بِتَأْجِيلِ الزَّوْجِ سَنَةً ، ثُمَّ يَحْكُمُ بِعُنَّتِهِ بَعْدَ انْقِضَائِهَا ، فَإِذَا حَكَمَ بِالْعُنَّةِ بَعْدَ انْقِضَائِهَا ، فَفِي الْفَسْخِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ : أَنَّهُ لَا يَقَعُ الْفَسْخُ إِلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ كَمَا لَمْ تَثْبُتِ الْعُنَّةُ إِلَّا بِحُكْمِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ أَنْ تَنْفَرِدَ الزَّوْجَةُ بِالْفَسْخِ ؟ لِأَنَّ الْفَسْخَ بِالْعُنَّةِ بَعْدَ ثُبُوتِهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَهَكَذَا الْفَسْخُ بِإِعْسَارِ الزَّوْجِ بِالنَّفَقَةِ لَا يَصِحُّ إِلَّا أَنْ يَحْكُمَ الْحَاكِمُ بِجَوَازِ الْفَسْخِ ، فَإِذَا حَكَمَ بِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَصِحُّ الْفَسْخُ إِلَّا أَنْ يَتَوَلَّاهُ الْحَاكِمُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ أَنْ تَتَوَلَّاهُ الزَّوْجَةُ . فَأَمَّا إِذَا أُعْتِقَتِ الزَّوْجَةُ تَحْتَ عَبْدٍ ، فَلَهَا أَنْ تَنْفَرِدَ بِفَسْخِ النِّكَاحِ ، لِأَنَّ فَسْخَهُ بِالْعِتْقِ تَحْتَ عَبْدٍ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى حُكْمٍ ، لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ . فَأَمَّا عُيُوبُ الزَّوْجَيْنِ إِذَا أَرَادَ الزَّوْجُ أَنْ يَفْسَخَ بِهَا إِذَا كَانَتِ الزَّوْجَةُ مَعِيبَةً ، أَوْ أَرَادَتِ الزَّوْجَةُ أَنْ تَفْسَخَ إِذَا كَانَ الزَّوْجُ مَعِيبًا ، فَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْعُيُوبِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا جَازَ أَنْ يَنْفَرِدَ الزَّوْجَانِ بِالْفَسْخِ بِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلَفًا فِيهَا لَمْ يَجُزِ الْفَسْخُ بِهَا إِلَّا أَنْ يَحْكُمَ الْحَاكِمُ بِجَوَازِ الْفَسْخِ ، ثُمَّ عَلَى الْوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَصِحُّ الْفَسْخُ حَتَّى يَتَوَلَّاهُ الْحَاكِمُ . وَالثَّانِي : يَصِحُّ إِذَا تَوَلَّاهُ مُسْتَحِقُّهُ وَهَكَذَا رُجُوعُ الْبَائِعِ بِعَيْنِ مَالِهِ إِذَا أَفْلَسَ
الْمُشْتَرِي لَا يَصِحُّ إِلَّا أَنْ يَحْكُمَ الْحَاكِمُ بِفَلَسِهِ ثُمَّ يَحْكُمُ بِجَوَازِ الرُّجُوعِ بِالْأَعْيَانِ الْمَبِيعَةِ ، فَإِذَا حَكَمَ فِي الْفَلَسِ بِجَوَازِ الرُّجُوعِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَرْجِعُ بِهِ الْبَائِعُ إِلَّا أَنْ يَحْكُمَ الْحَاكِمُ بِرَدِّهِ عَلَيْهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ الْبَائِعُ إِذَا حَكَمَ لَهُ الْحَاكِمُ بِجَوَازِ الرُّجُوعِ ، وَكَذَلِكَ عَلَى قِيَاسِ هَذَا فِي نَظَائِرِهِ ، وَبَاللَّهِ التَّوْفِيقُ .
بَابُ شَهَادَةِ النِّسَاءِ لَا رَجُلَ مَعَهُنَّ وَالرَّدِّ عَلَى مَنْ أَجَازَ شَهَادَةَ امْرَأَةٍ
بَابُ شَهَادَةِ النِّسَاءِ لَا رَجُلَ مَعَهُنَّ ، وَالرَّدِّ عَلَى مَنْ أَجَازَ شَهَادَةَ امْرَأَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ ، وَمِنَ كِتَابِ اخْتِلَافِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَأَبِي حَنِيفَةَ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَالْوِلَادَةُ ، وَعُيُوبُ النِّسَاءِ ، مِمَّا لَمْ أَعْلَمْ فِيهِ مُخَالِفًا فِي أَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ جَائِزَةٌ فِيهِ لَا رَجُلَ مَعَهُنَّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْوِلَادَةُ ، فَلَا اخْتِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تُقْبَلَ فِيهَا شَهَادَةُ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي عِلَّةِ الْجَوَازِ ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ ، أَنَّهُ مِمَّا لَا يَحْضُرُهُ الرِّجَالُ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، أَنَّهُ مِمَّا لَا يُبَاشِرُهُ إِلَّا النِّسَاءُ . وَأَمَّا الشَّهَادَةُ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِ أَبْدَانِهِنَّ ، فَتَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ الْمُنْفَرِدَاتِ فِيهِ ، وَهُوَ مَا حَرُمَ عَلَى ذَوِي الْمَحَارِمِ تَعَمُّدُ النَّظَرِ إِلَيْهِ فِيمَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ ، سَوَاءٌ كَانَ فِي الْفَرْجِ كَالْقَرْنِ ، وَالرَّتْقِ أَوْ كَانَ مِمَّا عَدَاهُ مِنْ بَرَصٍ أَوْ غَيْرِهِ ، تَعْلِيلًا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِأَنَّهُ لَا يُشَاهِدُهُ الرِّجَالُ ، وَتَعْلِيلًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنَّهُ لَا يُبَاشِرُهُ إِلَّا النِّسَاءُ . فَإِنْ قِيلَ : فَهِيَ عَوْرَةٌ مِنَ الْمَرْأَةِ تَحْرُمُ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ، فَلِمَ جَوَّزْتُمْ فِيهَا شَهَادَةَ النِّسَاءِ مَعَ مُشَارَكَتِهِنَّ لِلرِّجَالِ فِي التَّحْرِيمِ ؟ قِيلَ : لِأَنَّهَا فِي حُقُوقِ الرِّجَالِ أَغْلَظُ تَحْرِيمًا مِنْهَا فِي حُقُوقِ النِّسَاءِ ، لِأَنَّ تَحْرِيمَهَا فِي الرِّجَالِ مُخْتَصٌّ بِمَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : سَتْرُ الْعَوْرَةِ . وَالثَّانِي : قَطْعُ الشَّهْوَةِ . وَتَحْرِيمُهَا فِي النِّسَاءِ مُخْتَصٌّ بِمَعْنًى وَاحِدٍ ، وَهُوَ سَتْرُ الْعَوْرَةِ ، فَلَمَّا دَعَتِ الضَّرُورَةُ فِيهِ إِلَى الشَّهَادَةِ أُبِيحَتْ لِأَخَفِّ الْجِنْسَيْنِ حَظْرًا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا لَا يُقْبَلُ فِيهِ إِلَّا الرِّجَالُ دُونَ النِّسَاءِ من الشهادة ، وَهُوَ مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ عَوْرَاتِ أَبْدَانِهِنَّ ، كَالْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ ، فَلَا يُقْبَلُ فِي عُيُوبِهِ إِلَّا شَهَادَةُ الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ إِجْمَاعًا ، لِخُرُوجِهِ عَنِ الْعَوْرَةِ فِي حُقُوقِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ، فَلَمْ تَدْعُ الضَّرُورَةُ فِيهِ إِلَى انْفِرَادِ النِّسَاءِ .
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا اخْتُلِفَ فِيهِ ، وَهُوَ فِيمَا كَانَ عَوْرَةً مَعَ الْأَجَانِبِ ، وَلَمْ يَكُنْ عَوْرَةً مَعَ ذَوِي الْمَحَارِمِ ، كَالَّذِي عَلَا عَنِ السُّرَّةِ وَانْحَدَرَ عَنِ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ ، وَمِنْهُ الرَّضَاعُ مِنَ الثَّدْيَيْنِ ، فَمَذْهَبُ مَالِكٍ ، أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقْبَلَ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ ، لِتَحْرِيمِهِ عَلَى الْأَجَانِبِ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، لَا يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ ، لِإِبَاحَتِهِ لِذَوِي الْمَحَارِمِ ، وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي الرَّضَاعِ .
فَصْلٌ : وَكُلُّ مَا جَازَ أَنْ تُقْبَلَ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ جَازَ أَنْ يُقْبَلَ فِيهِ شَهَادَةُ الرِّجَالِ مُنْفَرِدِينَ ، وَشَهَادَةُ الرِّجَالِ مَعَ النِّسَاءِ إِذَا بَقِيَ الرِّجَالُ فِي الْمُشَاهَدَةِ عَلَى عَدَالَتِهِمْ ، وَلَهُمْ فِي مُشَاهَدَةِ الْوِلَادَةِ وَالْعُيُوبِ الْبَاطِنَةِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَقُولُوا : حَانَتْ مِنَّا الْتِفَاتَةٌ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ ، فَرَأَيْنَا فَهُمْ بَاقُونَ عَلَى الْعَدَالَةِ ، وَيَجُوزُ أَنْ تُقْبَلَ فِيهِ شَهَادَتُهُمْ ، وَكَذَلِكَ فِي الزِّنَى . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَقُولُوا : تَعَمَّدْنَا النَّظَرَ لِغَيْرِ شَهَادَةٍ ، فَرَأَيْنَا ، فَقَدْ فَسَقُوا بِتَعَمُّدِ النَّظَرِ لِغَيْرِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ ، وَكَذَلِكَ فِي الزِّنَى . وَالْحَالُ الثَّالِثُ : أَنْ يَقُولُوا : تَعَمَّدْنَا النَّظَرَ لِإِقَامَةِ الشَّهَادَةِ ، فَفِي فِسْقِهِمْ بِهَذَا النَّظَرِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ : أَنَّهُ يَحْرُمُ فِي الزِّنَى ، وَغَيْرِ الزِّنَى : لِأَنَّهُ اسْتِبَاحَةُ مَحْظُورٍ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ ، فَيَصِيرُوا بِهَذَا النَّظَرِ فَسَقَةً ، لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، يَحِلُّ فِي الزِّنَى وَغَيْرِ الزِّنَى : لِأَنَّهُ نَظَرٌ لِحِفْظِ حَقٍّ ، فَيَكُونُوا عَلَى عَدَالَتِهِمْ ، وَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ يُحَرَّمُ فِي غَيْرِ الزِّنَى ، وَيَحِلُّ فِي الزِّنَى ، لِأَنَّ الزَّانِيَ هَاتِكٌ لِحُرْمَتِهِ ، وَغَيْرَ الزَّانِي حَافِظٌ لَهَا ، فَيُفَسَّقُوا بِالنَّظَرِ فِي غَيْرِ الزِّنَى ، وَلَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَتُهُمْ ، وَلَا يُفَسَّقُوا بِالنَّظَرِ فِي الزِّنَى ، وَتُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَتُهُمْ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَاخْتَلَفُوا فِي عَدَدِهَا ، فَقَالَ عَطَاءٌ لَا يَكُونُ فِي شَهَادَةِ النِّسَاءِ لَا رَجُلَ مَعَهُنَّ فِي أَمْرِ النِّسَاءِ - أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعِ عُدُولٍ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَبِهَذَا نَأْخُذُ ، وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ النِّسَاءَ فَجَعَلَ امْرَأَتَيْنِ يَقُومَانِ مَقَامَ رَجُلٍ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَجَازَهُمَا فِيهِ ، دَلَّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ إِذْ أَجَازَ الْمُسْلِمُونَ شَهَادَةَ النِّسَاءِ فِي مَوْضِعٍ - أَنْ لَا يَجُوزَ مِنْهُنَّ إِلَّا أَرْبَعُ عُدُولٍ : لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْنَى حُكْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، قَالَ الشَّافِعِيُ وَقُلْتُ لِمَنْ يُجِيزُ شَهَادَةَ امْرَأَةٍ فِي الْوِلَادَةِ كَمَا يُجِيزُ الْخَبَرَ بِهَا لَا مِنْ قِبَلِ الشَّهَادَةِ ، وَأَيْنَ الْخَبَرُ مِنَ الشَّهَادَةِ ؟ أَتَقْبَلُ امْرَأَةً عَنِ امْرَأَةٍ أَنَّ امْرَأَةَ رَجُلٍ وَلَدَتْ هَذَا الْوَلَدَ ؟ قَالَ : لَا ، قُلْتُ : فَتَقْبَلُ فِي الْخَبَرِ ؟ أَخْبَرْنَا
فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ قُلْتُ : فَالْخَبَرُ هُوَ مَا اسْتَوَى فِيهِ الْمُخْبَرُ ، وَالْمُخْبِرُ ، وَالْعَامَّةُ ، مِنْ حَلَالٍ أَوْ حَرَامٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قُلْتُ : وَالشَّهَادَةُ مَا كَانَ الشَّاهِدُ مِنْهُ خَلِيًّا ، وَالْعَامَّةُ إِنَّمَا تُلْزِمُ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قُلْتُ : أَفَتَرَى هَذَا مُشْبِهًا لِهَذَا ؟ قَالَ : أَمَّا فِي هَذَا فَلَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَإِذْ قَدْ مَضَى مَا يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عَدَدِ الْمَقْبُولِ مِنْهُنَّ في الشهادة عَلَى خَمْسَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ ، أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ . وَالثَّانِي : وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَنَسٍ ، وَيُحْكَى عَنْ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ ، أَنَّهُ يُقْبَلُ فِيهِ ثَلَاثَةُ نِسْوَةٍ ، وَلَا يُقْبَلُ أَقَلُّ مِنْهُنَّ . وَالثَّالِثُ : وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ ، وَالثَّوْرِيِّ : أَنَّهُ يُقْبَلُ شَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ . وَالرَّابِعُ : وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : يُقْبَلُ فِي الْوِلَادَةِ شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ وَحْدَهَا ، وَلَا يُقْبَلُ شَهَادَةُ غَيْرِ الْقَابِلَةِ إِلَّا مَعَ غَيْرِهَا . وَالْخَامِسُ : وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ، يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ ، الْقَابِلَةَ كَانَتْ أَوْ غَيْرَ قَابِلَةٍ إِلَّا وِلَادَةَ الْمُطَلَّقَةِ ، فَلَا يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْوَاحِدَةِ ، اسْتِدْلَالًا بِمَا رَوَى ابْنُ الْمَدَائِنِيِّ عَنِ الْأَعْمَشِ ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ ، عَنْ حُذَيْفَةَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَجَازَ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ " وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ : " أَنَّهُ أَجَازَ شَهَادَتَهَا " ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُ ، فَكَانَ هَذَا نَصًّا وَإِجْمَاعًا ، وَلِأَنَّهَا شَهَادَةٌ تَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْخَبَرِ ، فَلَمَّا قُبِلَتْ وَحْدَهَا فِي الْأَخْبَارِ ، قُبِلَتْ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ ، وَلِأَنَّهَا حَالٌ يَحْتَشِمُ فِيهَا مَنْ عَدَا الْقَابِلَةَ ، فَجَازَ قَبُولُ شَهَادَتِهَا وَحْدَهَا ، اعْتِبَارًا بِالضَّرُورَةِ . وَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوَى رَدُّ الْوَاحِدِ وَمَنْ زَادَ عَلَيْهَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يُقْبَلْنَ فِيهِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْوَاحِدَةُ مُسَاوِيَةً لِمَنْ زَادَ عَلَيْهَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تُقْبَلُ فِيهِ . وَأَمَّا مَالِكٌ فَاسْتَدَلَّ بِأَنَّهُنَّ لَمَّا قُمْنَ فِي انْفِرَادِهِنَّ بِالْقَبُولِ مَقَامَ الرِّجَالِ ، وَجَبَ أَنْ يَقُمْنَ فِي الْعَدَدِ مَقَامَ الرِّجَالِ فِي الْقَبُولِ ، وَأَكْثَرُ عَدَدِ الرِّجَالِ اثْنَانِ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ أَكْثَرُ عَدَدِ النِّسَاءِ اثْنَتَيْنِ ، وَأَمَّا الْبَتِّيُّ فَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ضَمَّ شَهَادَةَ الْمَرْأَتَيْنِ لِلرَّجُلِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يَنْفَرِدْنَ فِيهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَبْدَلَ الرَّجُلُ بِامْرَأَةٍ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَنْفَرِدْنَ فِيهِ فَيَصِيرُونَ ثَلَاثًا . وَدَلِيلُنَا عَلَى جَمِيعِهِمْ أَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ أَنْقَصُ مِنْ شَهَادَةِ الرِّجَالِ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجَازَ شَهَادَةَ امْرَأَتَيْنِ مَقَامَ شَهَادَةِ رَجُلٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ [ الْبَقَرَةِ : ] . وَالثَّانِي : أَنَّهُنَّ لَا يُقْبَلْنَ فِي مَوَاضِعَ يُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ الرِّجَالِ ، وَيُقْبَلُ الرِّجَالُ فِي الْمَوَاضِعِ الَّذِي يُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ النِّسَاءِ ، فَلَمَّا لَمْ يُقْبَلْ شَهَادَةُ الْوَاحِدِ مِنَ الرِّجَالِ مَعَ قُوَّتِهِ ، فَأَوْلَى أَنْ لَا تُقْبَلَ شَهَادَةُ الْوَاحِدَةِ مِنَ النِّسَاءِ مَعَ ضَعْفِهَا . وَلِأَنَّهَا شَهَادَةٌ يَنْفَرِدُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِالْتِزَامِهَا ، فَوَجَبَ أَنْ يَفْتَقِرَ إِلَى الْعَدَدِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ ، وَقَدْ حَكَى الْمُزَنِيُّ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ " وَالشَّهَادَةُ مَا كَانَ الشَّاهِدُ مِنْهُ خَلِيًّا " ، وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ خَلِيًّا مِنْ نَفْعٍ يَعُودُ عَلَيْهِ بِالشَّهَادَةِ ، لِيُوضِّحَ بِهِ الْفَرْقَ بَيْنَ الشَّهَادَةِ وَالْأَخْبَارِ الَّتِي تُقْبَلُ وَإِنْ عَادَتْ بِنَفْعٍ عَلَى الْمُخْبِرِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ خَلِيًّا أَنْ يَتَعَلَّقَ عَلَيْهِ بِالشَّهَادَةِ حُكْمٌ ، فَإِنَّ الْوَارِثَيْنِ إِذَا شَهِدَا بِدَيْنٍ عَلَى الْمَيِّتِ كَانَ مَا عَلَيْهِمَا مِنْهُ وَاجِبًا بِإِقْرَارِهِمَا ، وَمَا عَلَى غَيْرِهِمَا مِنْهُ وَاجِبًا بِشَهَادَتِهِمَا ، وَيَدُلُّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ خَاصَّةً أَنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَى وِلَادَةٍ ، فَلَمْ يَقْبَلْ فِيهَا شَهَادَةً وَاحِدَةً كَالشَّهَادَةِ عَلَى وِلَادَةِ الْمُطَلَّقَةِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْحَدِيثِ فِي شَهَادَةِ الْقَابِلَةِ مَعَ ضَعْفِهِ وَأَنَّ الْمَدَائِنِيَّ تَفَرَّدَ بِرِوَايَتِهِ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ ، فَلَا دَلِيلَ فِيهِ ، لِأَنَّهُ قَبِلَهَا وَلَمْ يَنْفَرِدْ بِقَبُولِهَا وَحْدَهَا ، وَتَكُونُ فَائِدَةُ الْحَدِيثِ أَنَّهَا وَإِنْ بَاشَرَتْ أَحْوَالَ الْوِلَادَةِ ، فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهَا ، وَكَذَلِكَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ فِيهَا مَعْنَى الْخَبَرِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا لَوْ جَرَتْ مَجْرَى الْخَبَرِ لَقُبِلَ فِيهَا شَهَادَةُ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ ، كَمَا يُقْبَلُ غَيْرُهُمَا وَلَقُبِلَتْ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ عَنِ الْمَرْأَةِ كَمَا يُقْبَلُ خَبَرُ الْمَرْأَةِ عَنِ الْمَرْأَةِ ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : " يُقْبَلُ خَبَرُ الْمُعَنْعِنِ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُعَنْعِنِ " ، يَعْنِي فُلَانًا عَنْ فُلَانٍ عَنْ فُلَانٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْخَبَرَ يَتَسَاوَى فِيهِ الْمُخْبِرُ وَالْمَخْبَرُ فِي الِالْتِزَامِ وَالِانْتِفَاعِ ، وَلَا يَتَسَاوَى الشَّاهِدُ وَمَنْ شَهِدَ لَهُ وَعَلَيْهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِاحْتِشَامِ مَنْ عَدَا الْقَابِلَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْعُرْفَ جَارٍ بِاجْتِمَاعِ النِّسَاءِ عِنْدَ الْوِلَادَةِ لِلتَّعَاوُنِ وَفَضْلِ الْمُرَاعَاةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى يَقْتَضِي أَنْ لَا تُقْبَلَ شَهَادَةُ غَيْرِ الْقَابِلَةِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ
لِلْحَسَنِ دَلِيلٌ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِالرَّدِّ وَالْإِجَازَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ اعْتِبَارٌ بِالضِّدِّ ، لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ الْإِجَازَةَ بِالرَّدِّ ، وَالرَّدُّ ضِدُّ الْإِجَازَةِ ، وَالشَّيْءُ إِنَّمَا يُعْتَبَرُ بِنَظِيرِهِ وَلَا يُعْتَبَرُ بِضِدِّهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ جَازَ هَذَا الِاعْتِبَارُ لَجَازَ أَنْ يُقَالَ : لَمَّا رَدَّ بِالْفِسْقِ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ وَالْعَدَدِ ، وَجَبَ أَنْ يَقْبَلَ بِالْعَدَالَةِ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ وَالْعَدَدِ ، وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا ذَكَرُوهُ أَيْضًا غَيْرَ جَائِزٍ .
فَصْلٌ : فَإِنْ شَهِدَ الرِّجَالُ فِيمَا يَنْفَرِدُ فِيهِ النِّسَاءُ قُبِلُوا ، وَلَمْ يَحْكُمْ بِأَقَلَّ مِنْ شَاهِدَيْنِ لِأَنَّ شَهَادَةَ الرِّجَالِ أَقْوَى ، فَكَانَتْ بِالْقَبُولِ أَوْلَى ، وَإِنْ شَهِدْنَ مَعَ الرِّجَالِ جَازَ ، وَقُبِلَ فِيهِ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ وَبَاللَّهِ التَّوْفِيقُ . . . .
بَابُ شَهَادَةِ الْقَاذِفِ
بَابُ شَهَادَةِ الْقَاذِفِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " أَمَرَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْ يُضْرَبَ الْقَاذِفُ ثَمَانِينَ ، وَلَا تُقْبَلَ لَهُ شَهَادَةٌ أَبَدًا ، وَسَمَّاهُ فَاسِقًا إِلَّا أَنْ يَتُوبَ ، فَإِذَا تَابَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَنَا فِي الْجُرْمَيْنِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا فِي أَنَّهُ إِذَا تَابَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ لِلْقَاذِفِ بِالزِّنَى حَالَتَيْنِ : إِحْدَاهُمَا : إِنْ تَحَقَّقَ قَذْفُهُ فِي الْأَجْنَبِيِّ وَالْأَجْنَبِيَّةِ يَكُونُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا بِإِقْرَارِ الْمَقْذُوفِ بِالزِّنَى ، وَإِمَّا بِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ بِفِعْلِ الزِّنَى ، وَتَحَقُّقُهُ فِي الزَّوْجَةِ يَكُونُ مَعَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ بِثَالِثٍ وَهُوَ اللِّعَانُ ، فَإِذَا حَقَّقَ قَذْفَهُ بِمَا ذَكَرْنَا كَانَ عَلَى حَالِهِ قَبْلَ الْقَذْفِ فِي عَدَالَتِهِ وَقَبُولِ شَهَادَتِهِ ، وَأَنْ لَا حَدَّ عَلَيْهِ لِقَذْفِهِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ لَا يُحَقِّقَ قَذْفَهُ بِبَيِّنَةٍ وَلَا تَصْدِيقٍ وَلَا لِعَانٍ ، فَيَتَعَلَّقُ بِقَذْفِهِ ثَلَاثُ أَحْكَامٍ : أَحَدُهَا : وُجُوبُ الْحَدِّ ثَمَانِينَ جَلْدَةً . وَالثَّانِي : فِسْقُهُ الْمُسْقِطُ لِعَدَالَتِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ لَا يُقْبَلَ لَهُ شَهَادَةٌ أَبَدًا مَا لَمْ يَتُبْ ، وَهَذِهِ الْأَحْكَامُ الثَّلَاثَةُ مَأْخُوذَةٌ نَصًّا مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [ النُّورِ : ] ، وَيَكُونُ الْقَذْفُ هُوَ الْمُوجِبُ لِهَذِهِ الْأَحْكَامِ الثَّلَاثَةِ مِنَ الْجَلْدِ ، وَالْفِسْقِ ، وَرَدِّ الشَّهَادَةِ شهادة القاذف . قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنَّ الْقَذْفَ مُوجِبٌ لِلْجَلْدِ وَحْدَهُ ، فَأَمَّا الْفِسْقُ ، وَرَدُّ الشَّهَادَةِ ، فَيَتَعَلَّقُ بِالْجَلْدِ دُونَ الْقَذْفِ ، فَيَكُونُ عَلَى عَدَالَتِهِ ، وَيَجُوزُ أَنْ تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ مَا لَمْ يُجْلَدْ ، فَإِذَا جُلِدَ فُسِّقَ وَلَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ أَبَدًا ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ قَبْلَ الْجَلْدِ مُتَعَرِّضٌ لِتَحْقِيقِ الْقَذْفِ وَسُقُوطِ الْجَلْدِ ، فَلَمْ يَسْتَقِرَّ حُكْمُ الْقَذْفِ إِلَّا بِالْجَلْدِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى فِسْقِهِ ، وَرَدِّ شَهَادَتِهِ بِالْقَذْفِ دُونَ الْجَلْدِ - قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [ النُّورِ : ] ، فَعَلَّقَ عَلَى الْقَذْفِ ثَلَاثَةَ أَحْكَامٍ : الْجَلْدِ ، وَالْفِسْقِ ، وَرَدِّ الشَّهَادَةِ ، فَلَمَّا تَعَلَّقَ الْجَلْدُ بِالْقَذْفِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا ضُمَّ إِلَيْهِ وَقُرِنَ بِهِ مُتَعَلِّقًا بِالْقَذْفِ ، وَلِأَنَّ الْجَلْدَ تَطْهِيرٌ وَتَكْفِيرٌ ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الْحُدُودُ كُفَّارَاتٌ لِأَهْلِهَا " فَلَمْ يُجِزْ أَنْ يَكُونَ تَكْفِيرُ ذَنْبِهِ مُوجِبًا لِتَغْلِيظِ حُكْمِهِ . وَلِأَنَّ فِسْقَهُ وَرَدَّ شَهَادَتِهِ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِهِ لَا بِفِعْلِ غَيْرِهِ ، وَالْقَذْفُ مِنْ فِعْلِهِ ، وَالْجَلْدُ مِنْ فِعْلِ غَيْرِهِ . وَلِأَنَّهُ لَمَّا فُسِّقَ بِالسَّرِقَةِ دُونَ الْقَطْعِ ، وَبِالزِّنَى دُونَ الْحَدِّ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَذْفُ بِمَثَابَتِهِمَا ، لِأَنَّ الْحُدُودَ مَوْضُوعَةٌ لِاسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ وَبِهِ يَقَعُ الِانْفِصَالُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا اسْتَقَرَّ بِقَذْفِهِ وُجُوبُ الْأَحْكَامِ الثَّلَاثَةِ ، فَإِنَّ مَنْ قَذَفَ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ بِالتَّوْبَةِ الْجَلْدُ بِاتِّفَاقٍ ، وَزَالَ فِسْقُهُ بِاتِّفَاقٍ ، وَاخْتُلِفَ فِي قَبُولِ شَهَادَتِهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ القاذف ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي ذَلِكَ ، وَفُقَهَاءُ الْحَرَمَيْنِ إِلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِ قَبْلَ الْجَلْدِ وَبَعْدِهِ ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَأَحْمَدُ ، وَإِسْحَاقُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا أَقْبَلُ شَهَادَتَهُ بَعْدَ الْجَلْدِ أَبَدًا وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ، اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَمَا أَبَّدَ اللَّهُ حُكْمَهُ لَمْ يَزُلْ . وَبِرِوَايَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلَا خَائِنَةٍ وَلَا مَحْدُودٍ فِي قَذْفٍ " . قَالُوا : وَهَذَا نَصٌّ لَا يَرْتَفِعُ بِالتَّوْبَةِ ، وَلِأَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِالْقَذْفِ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ لَمْ يَسْقُطْ بِالتَّوْبَةِ كَالْجَلْدِ وَالشَّهَادَةِ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ . وَالدَّلِيلُ عَلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا [ النُّورِ : ] . إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
[ النُّورِ : ] . وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِالتَّوْبَةِ ، يَرْفَعُ حُكْمَ مَا تَقَدَّمَ ، وَالِاسْتِثْنَاءُ إِذَا انْعَطَفَ عَلَى جُمْلَةٍ عَادَ إِلَى جَمِيعِهَا ، وَلَمْ يَخْتَصَّ بِبَعْضِهَا ، كَقَوْلِهِ زَيْنَبُ طَالِقٌ ، وَسَالِمٌ حُرٌّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، يَعُودُ الِاسْتِثْنَاءُ إِلَيْهِمَا ، وَلَا يَخْتَصُّ بِأَقْرَبِهِمَا ، فَلَا تُطَلَّقُ زَيْنَبَ كَمَا لَمْ يُعْتَقْ سَالِمٌ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْجَلْدَ وَرَدَّ الشَّهَادَةِ حُكْمَانِ ، وَالْفِسْقُ عِلَّةٌ ، وَالِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعٌ إِلَى الْحُكْمِ دُونَ الْعِلَّةِ . كَمَّا لَوْ قَالَ : إِنْ دَخَلَ زَيْدٌ الدَّارَ وَجَلَسَ ، فَأُعْطِهِ دِرْهَمًا ، لِأَنَّهُ صَدِيقٌ ، فَدَخَلَ وَلَمْ يَجْلِسْ ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ الدِّرْهَمَ ، وَكَانَ عَلَى الصَّدَاقَةِ ، لِأَنَّ الدِّرْهَمَ جَزَاءٌ ، وَالصَّدَاقَةُ عِلَّةٌ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ الْفِسْقَ إِخْبَارٌ عَنْ مَاضٍ ، وَرَدُّ الشَّهَادَةِ حُكْمٌ مُسْتَقْبَلٌ وَالِاسْتِثْنَاءُ يَرْجِعُ إِلَى مُسْتَقْبَلِ الْأَحْكَامِ ، وَلَا يَرْجِعُ إِلَى مَاضِي الْأَخْبَارِ . وَاعْتَرَضُوا عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَعُدِ الِاسْتِثْنَاءُ بِالتَّوْبَةِ إِلَى الْجَلْدِ مُنِعَ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْعُمُومِ ، وَدَلَّ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِأَقْرَبِ مَذْكُورٍ ، وَهُوَ الْفِسْقُ دُونَ رَدِّ الشَّهَادَةِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ مَذْهَبِهِمْ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَخْتَصُّ بِأَقْرَبِ مَذْكُورٍ ، عَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمْ يُعْدَلْ إِلَى الْجَلْدِ لِدَلِيلٍ خَصَّهُ ، وَهُوَ أَنَّهُ حَقٌّ آدَمِيٌّ ، فَبَقِيَ مَا عَدَاهُ عَلَى حُكْمِ أَصْلِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْفِسْقَ عِلَّةٌ فِي رَدِّ الشَّهَادَةِ ، وَارْتِفَاعُ الْعِلَّةِ مُوجِبٌ لِرَفْعِ حُكْمِهَا ، وَلَيْسَ الْفِسْقُ عِلَّةً فِي وُجُوبِ الْحَدِّ . فَلِذَلِكَ ارْتَفَعَ رَدُّ الشَّهَادَةِ ، وَلَمْ يَرْتَفِعْ وُجُوبُ الْحَدِّ . وَالِاعْتِرَاضُ الثَّانِي : أَنْ قَالُوا : فَقَوْلُهُ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا عَائِدٌ إِلَى مَا بَعْدَهُ مِنَ الْكَلَامِ لَا إِلَى مَا قَبْلَهُ ، لِأَنَّهُ قَالَ : إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ النُّورِ : ] . أَيْ : إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَهُمْ ، وَيَرْحَمُهُمْ فَتَعُودُ التَّوْبَةُ إِلَى الْغُفْرَانِ وَالرَّحْمَةِ ، وَلَا تَعُودُ إِلَى الْفِسْقِ وَرَدِّ الشَّهَادَةِ ، لِئَلَّا يَصِيرَ مَا بَعْدَهُ مِنَ الْكَلَامِ مُنْقَطِعًا وَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ قَوْلَهُ : فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ صِفَةٌ لِذَاتِهِ لَا تَتَعَلَّقُ بِاسْتِثْنَاءٍ وَلَا شَرْطٍ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ قَوْلُهُ فِي آيَةِ الْحِرَابَةِ : إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ الْمَائِدَةِ : ] . اسْتِثْنَاءٌ يَعُودُ إِلَى مَا قَبْلَهُ ، وَإِنْ كَانَ مَا بَعْدَهُ مُنْقَطِعًا ، لِأَنَّهُ صِفَةٌ ، كَذَلِكَ صِفَةُ هَذَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ . وَالِاعْتِرَاضُ الثَّالِثُ : أَنْ قَالُوا : رَدُّ الشَّهَادَةِ حُكْمٌ ، وَالْفِسْقُ تَسْمِيَةٌ ، وَالْخِطَابُ إِذَا اشْتَمَلَ عَلَى حُكْمٍ وَتَسْمِيَةٍ وَتَعَقَّبَهَا اسْتِثْنَاءٌ يَعُودُ إِلَى التَّسْمِيَةِ دُونَ الْحُكْمِ ، كَقَوْلِهِ : أَعْطِ زَيْدًا وَعَمْرًا الْفَاسِقَ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ يَعْنِي فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ فَاسِقًا ، وَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْفِسْقَ وَرَدَّ الشَّهَادَةِ حُكْمَانِ ، فَلَمْ يَسْلَمْ لَهُمْ مَا ادَّعَوْا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ جَازَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ، لَكَانَ عَوْدُ الِاسْتِثْنَاءِ بِالتَّوْبَةِ إِلَى الْحُكْمِ أَوْلَى مِنْ عُودِهِ إِلَى الِاسْمِ ، لِأَنَّ التَّوْبَةَ تُغَيِّرُ الْأَحْكَامَ وَلَا تُغَيِّرُ الْأَسْمَاءَ ، ثُمَّ تَدُلُّ عَلَى الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ [ الشُّورَى : ] ، فَأَخْبَرَ أَنَّ التَّوْبَةَ تُوجِبُ الْقَبُولَ وَالْعَفْوَ ، وَهُمْ حَمَلُوهَا عَلَى الْقَبُولِ دُونَ الْعَفْوِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ لَهُمُ الشَّعْبِيُّ : يَقْبَلُ اللَّهُ تَوْبَتَهُ وَلَا تَقْبَلُونَ شَهَادَتَهُ ؟ ثُمَّ يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ : مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " التَّوْبَةُ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا " أَيْ : تَقْطَعُهُ ، وَتَرْفَعُهُ ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ دُونَ الْخُصُوصُ . وَيَدُلُّ عَلَيْهِ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ ، وَهُوَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَمَّا جَلَدَ أَبَا بَكْرَةَ فِي شَهَادَتِهِ عَلَى الْمُغِيرَةِ بِالزِّنَى ، قَالَ لَهُ : تُبْ أَقْبَلْ شَهَادَتَكَ ، فَقَالَ : لَا أَتُوبُ ، وَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ بِمَشْهَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ : لِأَنَّهَا قِصَّةٌ اجْتَمَعُوا لَهَا ، فَمَا أَنْكَرَ قَوْلَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ ، فَدَلَّ عَلَى إِجْمَاعِهِمْ . وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مِنَ الِاعْتِبَارِ : أَنَّ الشَّهَادَةَ إِذَا رُدَّتْ بِفِسْقٍ قُبِلَتْ بِزَوَالِ الْفِسْقِ ؟ قِيَاسًا عَلَى جَمِيعِ مَا يُفَسَّقُ بِهِ . وَلِأَنَّ مَنْ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ الْحَدِّ ، قُبِلَتْ بِالتَّوْبَةِ بَعْدَ الْحَدِّ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْحُدُودِ . وَلِأَنَّهُ مَحْدُودٌ فِي قَذْفٍ ، فَوَجَبَ أَنْ تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ مِنْ بَعْدِ التَّوْبَةِ ، قِيَاسًا عَلَى الذِّمِّيِّ إِذَا حُدَّ فِي قَذْفٍ ثُمَّ أَسْلَمَ . وَلِأَنَّ فِعْلَ الزِّنَى أَغْلَظُ مِنَ الْقَذْفِ بِالزِّنَى لِتَرَدُّدِ الْقَذْفِ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ ، فَلَمَّا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ بِالتَّوْبَةِ مِنْ أَغْلَظِ الْإِثْمَيْنِ قَبْلَ الْحَدِّ وَبَعْدَهُ كَانَ قَبُولُهُ بِالتَّوْبَةِ مَنْ أَخَفِّهِمَا قَبْلَ الْحَدِّ وَبَعْدَهُ أَوْلَى . وَلِأَنَّهُ لَمَّا عَادَ إِلَى الْعَدَالَةِ فِي قَبُولِ رِوَايَتِهِ وَجَبَ أَنْ يَعُودَ إِلَيْهَا فِي قَبُولِ شَهَادَتِهِ ،
وَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرَةَ عَلَى إِصْرَارِهِ يُسْتَرْوَى فَيَرْوِي وَيُسْتَشْهَدُ فَلَا يَشْهَدُ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ رَدَّ الشَّهَادَةِ مُؤَبَّدًا ، فَهُوَ مَشْرُوطُ الْإِطْلَاقِ بِعَدَمِ التَّسْوِيَةِ وَمُسْتَثْنَى التَّأْيِيدِ بِالتَّوْبَةِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، فَهُوَ اسْتِعْمَالُهُ فِيمَنْ لَمْ يَتُبْ أَصْلًا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ ، فَهُوَ أَنَّهَا مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ [ الطَّلَاقِ : ] .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَالتَّوْبَةُ إِكْذَابُهُ نَفْسَهُ القاذف لِأَنَّهُ أَذْنَبَ بِأَنْ نَطَقَ بِالْقَذْفِ وَالتَّوْبَةُ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ : الْقَذْفُ بَاطِلٌ ، كَمَا تَكُونَ الرِّدَّةُ بِالْقَوْلِ ، وَالتَّوْبَةُ عَنْهَا بِالْقَوْلِ . فَإِنْ كَانَ عَدْلًا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ ، وَإِلَّا فَحَتَّى يَحْسُنَ حَالُهُ ، قَالَ الشَّافِعِيُ : أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ ، قَالَ : سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ : زَعَمَ أَهْلُ الْعِرَاقِ أَنَّ شَهَادَةَ الْقَاذِفِ لَا تَجُوزُ ، فَأَشْهَدُ لَأَخْبَرَنِي ، ثَمَّ سَمَّى الَّذِي أَخْبَرَهُ أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِأَبِي بَكْرَةَ تُبْ تُقْبَلْ شَهَادَتُكَ أَوْ قَالَ إِنْ تُبْتَ قَبِلْتُ شَهَادَتَكَ . قَالَ : وَبَلَغَنِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسِ مِثْلُ مَعْنَى هَذَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ : كُلُّنَا نَقُولُهُ ، قُلْتُ : مَنْ ؟ قَالَ : عَطَاءٌ ، وَطَاوُسٌ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ : يَقْبَلُ اللَّهُ تَوْبَتَهُ وَلَا تَقْبَلُونَ شَهَادَتَهُ ؟ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : وَهُوَ قَبْلَ أَنْ يُحَدَّ شَرٌّ مِنْهُ حِينَ يُحَدُّ لِأَنَّ الْحُدُودَ كَفَّارَاتٌ لِأَهْلِهَا فَكَيْفَ تَرُدُّونَهَا فِي أَحْسَنِ حَالَاتِهِ وَتَقْبَلُونَهَا فِي شَرِّ حَالَاتِهِ ؟ وَإِذَا قَبِلْتُمْ تَوْبَةَ الْكَافِرِ وَالْقَاتِلِ عَمْدًا كَيْفَ لَا تَقْبَلُونَ تَوْبَةَ الْقَاذِفِ وَهُوَ أَيْسَرُ ذَنْبًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الْقَاذِفَ إِذَا حَقَّقَ قَذْفَهُ بِمَا قَدَّمْنَاهُ كَانَ عَلَى عَدَالَتِهِ وَقَبُولِ شَهَادَتِهِ ، وَإِنْ لَمْ يُحَقِّقْهُ تَعَلَّقَ بِهِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَحْكَامِ الثَّلَاثَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَتُبْ مِنْ قَذْفِهِ اسْتَقَرَّتِ الْأَحْكَامُ فِيهِ ، وَإِنْ تَابَ ارْتَفَعَ مَا سِوَى الْجَلْدِ ، فَلَزِمَ أَنْ نَذْكُرَ شُرُوطَ التَّوْبَةِ ، وَشُرُوطُهَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الذَّنْبِ ، لِلذَّنْبِ حَالَتَانِ . إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ . وَالثَّانِي : أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ ، فَإِنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالذَّنْبِ حَقٌّ سِوَى الْإِثْمِ كَمَنْ قَبَّلَ أَجْنَبِيَّةً أَوِ اسْتَمْتَعَ بِمَا دَوَنَ الْفَرْجِ مِنْهَا فَمَأْثَمُ هَذَا الذَّنْبِ مُخْتَصٌّ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَتَجَاوَزُهُ إِلَى مَخْلُوقٍ ، فَالتَّوْبَةُ مِنْهُ تَكُونُ بِشَرْطَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : النَّدَمُ عَلَى مَا فَعَلَ من شُرُوطَ التَّوْبَةِ ، وَالْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ مِثْلِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ من شُرُوطَ التَّوْبَةِ ، فَتَصِحُّ تَوْبَتُهُ بِهِمَا ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ [ آلِ عِمْرَانَ : ، ] . قَوْلُهُ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ يُرِيدُ بِهِ النَّدَمَ ، لِأَنَّ ظُهُورَهُ يَكُونُ بِالِاسْتِغْفَارِ ، وَقَوْلُهُ : وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ هُوَ الْعَزْمُ عَلَى تَرْكِهِ مِنْ بَعْدِ وَقَبْلَ تَوْبَتِهِ بِالِاسْتِغْفَارِ ، وَتَرْكُ الْإِصْرَارِ ، لِأَنَّهَا تَوْبَةٌ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ ، وَهِيَ فِي الْبَاطِنِ النَّدَمُ عَلَيْهِ وَالْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ مِثْلِهِ ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الذَّنْبُ بَاطِنًا أَقْنَعَ فِيهِ التَّوْبَةُ الْبَاطِنَةُ ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا أَقْنَعَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى التَّوْبَةُ الْبَاطِنَةُ ، وَلَمْ يُقْنِعْ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعِبَادِ إِلَّا التَّوْبَةُ الظَّاهِرَةُ ، فَإِنْ تَجَاوَزَ مَأْثَمُ هَذَا الذَّنْبِ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى أَنْ أَثِمَ بِهِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ وَإِنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ غُرِّمَ وَلَا حَدَّ ، كَمَنْ تَعَدَّى بِضَرْبِ إِنْسَانٍ فَآلَمَهُ التوبة احْتَاجَ مَعَ التَّوْبَةِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى بِالنَّدَمِ وَالْعَزْمِ إِلَى اسْتِحْلَالِ الْمَضْرُوبِ بِاسْتِطَابَةِ نَفْسِهِ ، لِيَزُولَ عَنْهُ الْإِثْمُ فِي حَقِّهِ ، فَإِنْ أَحَلَّهُ مِنْهُ عَفْوًا وَإِلَّا مَكَّنَهُ مِنْ نَفْسِهِ لِيُقَاتِلَهُ عَلَى مِثْلِ فِعْلِهِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ قِصَاصٌ وَلَا غُرْمٌ ، لِأَنَّنَا نَعْتَبِرُ فِي الْقِصَاصِ الْمُمَاثَلَةَ ، وَهِيَ هَاهُنَا مُتَعَذِّرَةٌ ، وَيُعْتَبَرُ فِي التَّوْبَةِ : الِانْقِيَادُ ، وَالطَّاعَةُ ، وَهِيَ هَاهُنَا مَوْجُودَةٌ ، وَرَوَى إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، نَهَى الرِّجَالَ أَنْ يَطُوفُوا مَعَ النِّسَاءِ ، فَرَأَى رَجُلًا يُصَلِّي مَعَ النِّسَاءِ ، فَضَرَبَهُ بِالدِّرَّةِ ، فَقَالَ الرَّجُلُ : وَاللَّهِ لَئِنْ كُنْتُ أَحْسَنْتُ لَقَدْ ظَلَمْتَنِي ، وَإِنْ كُنْتُ أَسَأْتُ فَمَا أَعْلَمْتَنِي ، فَقَالَ عُمَرُ عدله وانصافه من نفسه : أَمَا شَهِدْتَ عَزْمَتِي ؟ قَالَ : مَا شَهِدْتُ لَكَ عَزْمَةً ، فَأَلْقَى إِلَيْهِ الدِّرَّةَ ، وَقَالَ : اقْتَصَّ قَالَ : لَا أَقْتَصُّ الْيَوْمَ ، قَالَ : فَاعْفُ قَالَ : لَا أَعْفُو ، فَافْتَرَقَا عَلَى ذَلِكَ ، ثُمَّ لَقِيَهُ مِنَ الْغَدِ ، فَتَغَيَّرَ لَوْنُ عُمَرَ ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَرَى مَا كَانَ مِنِّي قَدْ أَسْرَعَ فِيكَ ، قَالَ : أَجَلْ قَالَ : فَأُشْهِدُكَ أَنِّي قَدْ عَفَوْتُ عَنْكَ . فَبَذَلَ لَهُ الْقِصَاصَ مِنَ الضَّرْبِ وَإِنْ لَمْ يُجِبْ لِيَزُولَ عَنْهُ مَأْثَمُ الْخَطَأِ فِي حَقِّهِ ، وَإِنْ كَانَ الْخَطَأُ فِي حَقِّ اللَّهِ عَفْوًا ، فَإِنْ قَادَ نَفْسَهُ ، فَلَمْ يَسْتَوْفِ مِنْهُ صَحَّتْ تَوْبَتُهُ ، لِأَنَّ عَلَيْهِ الِانْقِيَادَ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ الِاسْتِيفَاءُ .
فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الذَّنْبُ مَعْصِيَةً يَتَعَلَّقُ بِهَا مَعَ الْإِثْمِ حَقٌّ ، فَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ فِعْلٍ وَقَوْلٍ ، فَأَمَّا الْفِعْلُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا كَانَ الْحَقُّ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ مُخْتَصًّا بِالْآدَمِيِّينَ شروط التوبة كَالْغُصُوبِ وَالْقَتْلِ ، فَصِحَّةُ تَوْبَتِهِ مِنْهُ مُعْتَبَرَةٌ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : بِالنَّدَمِ عَلَى فِعْلِهِ . وَالثَّانِي : بِالْعَزْمِ عَلَى تَرْكِ مِثْلِهِ .
وَالثَّالِثُ : بِرَدِّ الْمَغْصُوبِ أَوْ بَدَلِهِ إِنْ عُدِمَ عَلَى صَاحِبِهِ شُرُوطَ التَّوْبَةِ ، وَتَسْلِيمُ نَفْسِهِ إِلَى مُسْتَحِقِّ الْقِصَاصِ لِيَقْتَصَّ أَوْ يَعْفُوَ ، فَإِنْ أَعْسَرَ بِالْمَالِ أُنْظِرَ إِلَى مَيْسَرَتِهِ ، وَالتَّوْبَةُ قَدْ صَحَّتْ ، وَهَذِهِ التَّوْبَةُ مُعْتَبَرَةٌ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ ، لِأَنَّ الْغَصْبَ ظَاهِرٌ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا كَانَ الْحَقُّ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ مُخْتَصًّا بِاللَّهِ تَعَالَى كَالزِّنَى ، وَاللِّوَاطِ ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ ، فَلَهُ فِي فِعْلِهِ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَكُونَ قَدِ اسْتَتَرَ بِفِعْلِهِ ، وَلَمْ يَتَظَاهَرْ بِهِ التوبة ، فَالْأَوْلَى بِهِ أَنْ يَسْتُرَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا يُظْهِرَهُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَنْ أَتَى مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ مَنْ أَبْدَى لَنَا صَفْحَتَهُ أَقَمْنَا عَلَيْهِ حَدَّ اللَّهِ " وَكَانَتْ تَوْبَتُهُ مُعْتَبَرَةً بِشَرْطَيْنِ : أَحَدُهُمَا : النَّدَمُ عَلَى فِعْلِهِ . وَالثَّانِي : الْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ مِثْلِهِ ، فَإِنْ أَظْهَرَهُ ذنبه لَمْ يَأْثَمْ بِإِظْهَارِهِ لِأَنَّ مَاعِزًا وَالْغَامِدِيَّةَ اعْتَرَفَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالزِّنَى ، فَرَجَمَهُمَا ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمَا اعْتِرَافَهُمَا . وَقَالَ لِهَزَّالِ بْنِ شُرَحْبِيلَ وَقَدْ أَشَارَ عَلَى مَاعِزٍ بِالِاعْتِرَافِ بِالزِّنَى . " هَلَّا سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ يَا هَزَّالُ " ، فَإِنْ أَظْهَرَ ذَلِكَ قَبْلَ التَّوْبَةِ وَجَبَ الْحَدُّ عَلَيْهِ ، وَكَانَتْ تَوْبَتُهُ مُعْتَبَرَةً بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ : النَّدَمِ عَلَى فِعْلِهِ ، وَالْعَزْمِ عَلَى تَرْكِ مِثْلِهِ ، وَتَسْلِيمِ نَفْسِهِ لِلْحَدِّ ، فَإِنْ سَلَّمَهَا ، وَلَمْ يُحَدَّ صَحَّتْ تَوْبَتُهُ ، وَكَانَ الْمَأْثَمُ فِي تَرْكِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ يَلْزَمُهُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنَ الْإِمَامِ أَوْ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ ، فَإِنْ أَظْهَرَ ذَلِكَ بَعْدَ تَوْبَتِهِ ، فَالتَّوْبَةُ صَحِيحَةٌ يَسْقُطُ بِهَا حُدُودُ الْحِرَابَةِ . وَفِي سُقُوطِ مَا عَدَاهَا مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الزِّنَى وَالْخَمْرِ وَقَطْعِ السَّرِقَةِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : تَسْقُطُ كَالْحِرَابَةِ ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ صِحَّةُ تَوْبَتِهِ مُعْتَبَرَةً بِشَرْطَيْنِ : النَّدَمِ ، وَالْعَزْمِ . وَالثَّانِي : لَا تَسْقُطُ فَعَلَى هَذَا تَكُونُ صِحَّةُ تَوْبَتِهِ مُعْتَبَرَةً بَعْدَ الشَّرْطَيْنِ بِثَالِثٍ ، وَهُوَ تَسْلِيمُ نَفْسِهِ لِلْحَدِّ ، وَهَذَا إِذَا تَابَ قَبْلَ ظُهُورِ حَالِهِ ، وَيَعُودُ بَعْدَ التَّوْبَةِ إِلَى حَالِهِ قَبْلَ الْمَعْصِيَةِ . فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُقْبَلُ شَهَادَتُهُ قَبْلَ الْمَعْصِيَةِ قُبِلَتْ بَعْدَ التَّوْبَةِ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا تُقْبَلُ قَبْلَ الْمَعْصِيَةِ لَمْ تُقْبَلْ بَعْدَ التَّوْبَةِ وَلَا يَتَوَقَّفْ عَنْهُ لِاسْتِبْرَاءِ صَلَاحِهِ ، لِأَنَّهُ مَا أَظْهَرَ التَّوْبَةَ فِيمَا كَانَ مَسْتُورًا عَلَيْهِ إِلَّا عَنْ صَلَاحٍ يُغْنِي عَنِ اسْتِبْرَاءِ الْحَالِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ قَدْ تَظَاهَرَ بِالْمَعْصِيَةِ مِنَ الزِّنَى ، وَاللِّوَاطِ ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَظَاهَرَ بِالتَّوْبَةِ كَمَا تَظَاهَرَ بِالْمَعْصِيَةِ ، فَإِنْ ثَبَتَ الْحَدُّ عَلَيْهِ عِنْدَ مُسْتَوْفِيهِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ بِالتَّوْبَةِ ، وَيُعْتَبَرُ صِحَّةُ تَوْبَتِهِ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ : النَّدَمِ عَلَى فِعْلِهِ ، وَالْعَزْمِ عَلَى تَرْكِ مِثْلِهِ ، وَأَنْ يُسَلِّمَ نَفْسَهُ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ وَإِنْ تَابَ قَبْلَ ثُبُوتِ الْحَدِّ عَلَيْهِ ، فَفِي سُقُوطِهِ
عَنْهُ بِالتَّوْبَةِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : قَدْ سَقَطَ عَنْهُ بِالتَّوْبَةِ ، فَعَلَى هَذَا يُعْتَبَرُ فِي تَوْبَتِهِ شَرْطَانِ النَّدَمُ وَالْعَزْمُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ فَعَلَى هَذَا يُعْتَبَرُ فِي تَوْبَتِهِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ : النَّدَمُ عَلَى مَا فَعَلَ ، وَالْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ مِثْلِهِ فِي الْمُسْتُقْبَلِ ، وَالِاعْتِرَافُ بِهِ عِنْدَ مُسْتَوْفِي الْحَدِّ ، لِيُقِيمَهُ عَلَيْهِ ، فَإِذَا اسْتَكْمَلَهَا صَحَّتْ تَوْبَتُهُ فِي سُقُوطِ الْمَأْثَمِ ، وَمَا تَعَلَّقَ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى . فَأَمَّا ثُبُوتُ الْعَدَالَةِ وَقَبُولُ الشَّهَادَةِ ، فَمُعْتَبَرٌ بَعْدَ التَّوْبَةِ بِصَلَاحِ حَالِهِ وَاسْتِبْرَاءِ أَفْعَالِهِ ، بِزَمَانٍ يُخْتَبَرُ فِيهِ ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [ الْفُرْقَانِ : ] . وَصَلَاحُ حَالِهِ مُعْتَبَرٌ بِزَمَانٍ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَدِّهِ ، فَاعْتَبَرَهُ بَعْضُهُمْ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ ، وَاعْتَبَرَهُ أَصْحَابُنَا بِسَنَةٍ كَامِلَةٍ ، لِأَنَّ السُّنَّةَ فِي الشَّرْعِ أَصْلٌ مُعْتَبَرٌ فِي الزَّكَاةِ وَالْجِزْيَةِ وَأَجَلِ الْعُنَّةِ ، وَلِأَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ الْمُهَيِّجَةِ لِلطِّبَاعِ ، فَإِذَا سَلِمَ فِيهَا مِنِ ارْتِكَابِ مَا كَانَ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَعَاصِي صَحَّتْ عَدَالَتُهُ ، وَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُ ، وَفِي اعْتِبَارِ هَذِهِ السُّنَّةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ عَلَى وَجْهِ التَّحْقِيقِ . وَالثَّانِي : عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيبِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْمَعْصِيَةُ بِالْقَوْلِ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : رِدَّةٌ فِي الدِّينِ يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى . وَالثَّانِي : قَذْفٌ بِالزِّنَى يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ آدَمِيٍّ . فَأَمَّا الرِّدَّةُ عَنِ الْإِسْلَامِ فَالتَّوْبَةُ عَنْهَا بَعْدَ النَّدَمِ وَالْعَزْمِ ، يَكُونُ بِمَا أَسْلَمَ بِهِ الْكَافِرُ مِنَ الشَّهَادَتَيْنِ ، وَالْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ دِينٍ خَالَفَ الْإِسْلَامَ : لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ مَعْصِيَتُهُ بِالْقَوْلِ كَانَتْ تَوْبَتُهُ بِالْقَوْلِ ، كَمَا أَنَّ مَعْصِيَةَ الزِّنَى لِمَا كَانَتْ بِالْفِعْلِ كَانَتِ التَّوْبَةُ مِنْهَا بِالْفِعْلِ ، فَإِذَا أَتَى الْمُرْتَدُّ بِمَا يَكُونُ بِهِ تَائِبًا عَادَ إِلَى حَالِهِ قَبْلَ رِدَّتِهِ ، فَإِنْ كَانَ مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ قَبْلَ رِدَّتِهِ لَمْ تُقْبَلْ بَعْدَ تَوْبَتِهِ حَتَّى تَظْهَرَ مِنْهُ شُرُوطُ الْعَدَالَةِ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ قَبْلَ الرِّدَّةِ نُظِرَ فِي التَّوْبَةِ ، فَإِنْ كَانَتْ عَنْهُ اتِّقَاءً مِنْهُ لِلْقَتْلِ ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ ، إِلَّا أَنْ تَظْهَرَ مِنْهُ شُرُوطُ الْعَدَالَةِ بِاسْتِبْرَاءِ حَالِهِ وَصَلَاحِ عَمَلِهِ ، وَإِنْ تَابَ مِنَ الرِّدَّةِ عَفْوًا غَيْرَ مُتَّقٍ بِهَا الْقَتْلَ ، عَادَ بَعْدَ التَّوْبَةِ إِلَى عَدَالَتِهِ . وَأَمَّا الْقَذْفُ بِالزِّنَى شروط التوبة منه ، وَهُوَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ ، فَلَا يَكُونُ بَعْدَ النَّدَمِ وَالْعَزْمِ إِلَّا بِالْقَوْلِ ، لِأَنَّهُ مَعْصِيَةً بِالْقَوْلِ كَالرِّدَّةِ ، فَيُعْتَبَرُ فِي صِحَّةِ تَوْبَتِهِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : النَّدَمُ عَلَى قَذْفِهِ .
وَالثَّانِي : الْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ مِثْلِهِ . وَالثَّالِثُ : إِكْذَابُ نَفْسِهِ عَلَى مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ ، أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى ظَاهِرِهِ ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : وَإِنِّي كَاذِبٌ فِي قَذْفِي لَهُ بِالزِّنَى ، وَقَدْ رَوَى عُمَرُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " تَوْبَةُ الْقَاذِفِ إِكْذَابُهُ نَفْسَهُ " . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ إِكْذَابَهُ نَفْسَهُ أَنْ يَقُولَ : قَذْفِي لَهُ بِالزِّنَى كَانَ بَاطِلًا وَلَا يَقُولُ : كُنْتُ كَاذِبًا فِي قَذْفِي ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا ، فَيَصِيرُ عَاصِيًا بِكَذِبِهِ ، كَمَا كَانَ عَاصِيًا بِقَذْفِهِ ، وَهَلْ يَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ فِي التَّوْبَةِ : وَلَا أَعُودُ إِلَى مِثْلِهِ أَوْ لَا ؟ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ ، لِأَنَّ الْعَزْمَ عَلَى تَرْكِ مِثْلِهِ يُغْنِي عَنْهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ لَا أَعُودُ إِلَى مِثْلِهِ ، لِأَنَّ الْقَوْلَ فِي هَذِهِ التَّوْبَةِ مُعْتَبَرٌ ، وَالْعَزْمُ لَيْسَ بِقَوْلٍ ، وَإِذَا كَانَتِ التَّوْبَةُ مِنَ الْقَذْفِ مُعْتَبَرَةً بِهَذِهِ الشُّرُوطِ ، فَالْقَذْفُ عَلَى ضَرْبَيْنِ : قَذْفُ نَسَبٍ ، وَقَذْفُ شَهَادَةٍ . وَأَمَّا قَذْفُ النَّسَبِ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ التَّائِبِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْقَذْفِ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ أَوْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ إِلَّا بِاسْتِبْرَاءِ حَالِهِ ، وَصَلَاحِ عَمَلِهِ ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ النُّورِ : ] . وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَذْفِ عَدْلًا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ ، فَهَلْ يُرَاعَى فِي قَبُولِ شَهَادَتِهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ صَلَاحُ عَمَلِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ إِلَّا بَعْدَ اسْتِبْرَاءِ حَالِهِ وَصَلَاحِ عَمَلِهِ لِارْتِفَاعِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْعَدَالَةِ بِمَا حَدَثَ مِنَ الْفِسْقِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ ، وَتَثْبُتُ عَدَالَتُهُ بِحُدُوثِ تَوْبَتِهِ ، لِأَنَّهَا رَافِعَةٌ لِحُكْمِ فِسْقِهِ . وَأَمَّا قَذْفُ الشَّهَادَةِ إِذَا لَمْ يُسْتَكْمَلْ عَدَدُ الشُّهُودِ ، فَفِي وُجُوبِ حَدِّهِمْ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا حَدَّ عَلَيْهِمْ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُونَ عَلَى عَدَالَتِهِمْ ، وَلَا يُؤْخَذُونَ بِالتَّوْبَةِ ، لِأَنَّهُمْ قَصَدُوا إِقَامَةَ حَدِّ اللَّهِ تَعَالَى .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي : الْحَدُّ عَلَيْهِمْ وَاجِبٌ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّهُمْ حِينَ لَمْ يَكْمُلْ عَدَدُهُمْ فَعَلَى هَذَا يُحْكَمُ بِفِسْقِهِمْ ، وَيَجِبُ عَلَيْهِمُ التَّوْبَةُ مِنْ فِسْقِهِمْ ، وَيُعْتَبَرُ فِي تَوْبَتِهِمْ مِنَ الشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي قَذْفِ النَّسَبِ أَنْ يَقُولَ : قَذْفِي بَاطِلٌ ، لَا يَحْتَاجُ إِلَى النَّدَمِ وَتَرْكِ الْعَزْمِ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَا أَنْ يَقُولَ : إِنِّي كَاذِبٌ وَلَا يَقُولُ : لَا أَعُودُ إِلَى مِثْلِهِ لِأَنَّهُ لَوْ كَمُلَ عَدَدُ الشُّهُودِ لَزِمَهُ أَنْ يَشْهَدَ ، فَإِنْ تَابَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ بَعْدَ تَوْبَتِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ لِحَالِهِ ، وَصَلَاحِ عَمَلِهِ ، لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِأَبِي بَكْرَةَ : تُبْ أَقْبَلْ شَهَادَتَكَ ، وَمَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ إِذَا حَدَّهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ مِثْلَ قَوْلِ عُمَرَ لِأَبِي بَكْرَةَ تُبْ أَقْبَلْ شَهَادَتَكَ . وَقَالَ مَالِكٌ : لَا أَعْرِفُ لِقَوْلِهِ ذَلِكَ وَجْهًا ، وَهَذَا رَدٌّ مِنْهُ عَلَى عُمَرَ فِي قَوْلٍ انْتَشَرَ فِي الصَّحَابَةِ ، فَوَافَقُوهُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَتُبْ مِنْ قَذْفِهِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ ، وَقُبِلَتْ رِوَايَتُهُ لِأَنَّ أَبَا بَكْرَةَ لَمْ يَتُبْ فَقُبِلَتْ رِوَايَتُهُ وَلَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ تَغْلِيظُ الشَّهَادَةِ حِينَ لَمْ تُقْبَلْ مِنْ وَاحِدٍ ، وَتَخْفِيفُ الرِّوَايَةِ حِينَ قُبِلَتْ مِنْ وَاحِدٍ . فَأَمَّا قَذْفُ النَّسَبِ ، فَلَا يُقْبَلُ مِنْ قَاذِفِهِ قَبْلَ التَّوْبَةِ شَهَادَةٌ وَلَا تُسْمَعُ لَهُ رِوَايَةٌ : لِأَنَّ الْفِسْقَ بِقَذْفِ النَّسَبِ نَصٌّ ، وَبِقَذْفِ الشَّهَادَةِ اجْتِهَادٌ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ التَّحَفُّظِ فِي الشَّهَادَةِ وَالْعِلْمِ بِهَا
الشَّهَادَةَ لَا تَصِحُّ لِغَلَبَةِ الظَّنِّ حَتَّى يَتَحَقَّقَ الْعِلْمُ بِهَا فِي حَالَةِ التَّحَمُّلِ وَحَالَةِ الْأَدَاءِ
بَابُ التَّحَفُّظِ فِي الشَّهَادَةِ وَالْعِلْمِ بِهَا قَالَ الشَّافِعِيُّ : قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا وَقَالَ : إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ قَالَ : فَالْعِلْمُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ ، مِنْهَا مَا عَايَنَهُ ، فَيَشْهَدُ بِهِ ، وَمِنْهَا مَا تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ ، وَثَبَتَتْ مَعْرِفَتُهُ فِي الْقُلُوبِ ، فَيَشْهَدُ عَلَيْهِ ، وَمِنْهَا مَا أَثْبَتَهُ سَمْعًا مَعَ إِثْبَاتِ بَصَرٍ مِنَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ . " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَصِحُّ لِغَلَبَةِ الظَّنِّ حَتَّى يَتَحَقَّقَ الْعِلْمُ بِهَا فِي حَالَةِ التَّحَمُّلِ وَحَالَةِ الْأَدَاءِ . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [ الْإِسْرَاءِ : ] ، فَكَانَ دَلِيلُهُ أَنْ يَشْهَدَ بِمَا عَلِمَهُ بِسَمْعِهِ ، وَبَصَرِهِ ، وَفُؤَادِهِ ، فَالسَّمْعُ لِلْأَصْوَاتِ ، وَالْبَصَرُ لِلْمَرْئِيَّاتِ ، وَالْفُؤَادُ لِلْمَعْلُومَاتِ ، فَجَمَعَ فِي الْعِلْمِ بِهِ بَيْنَ جَمِيعِ أَسْبَابِهِ ، لِيَخْرُجَ مِنْ غَلَبَةِ الظَّنِّ إِلَى حَقِيقَةِ الْعِلْمِ ، وَقَالَ تَعَالَى : إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [ الزُّخْرُفِ : ] ، فَشَرَطَ فِي الشَّهَادَةِ أَنْ يَكُونَ بِحَقٍّ مَعْلُومٍ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَجُوزُ بِحَقٍّ غَيْرِ مَعْلُومٍ ، وَلَا أَنْ يَكُونَ بِمَعْلُومٍ لَيْسَ بِحَقٍّ ، وَقَالَ تَعَالَى : وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا [ يُوسُفَ : ] . فَأَخْبَرَ أَنَّ الشَّهَادَةَ تَكُونُ بِالْعِلْمِ ، فَامْتَنَعَ أَنْ يَشْهَدَ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، وَقَالَ تَعَالَى : سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ [ الزُّخْرُفِ : ] ، وَهَذَا وَعِيدٌ يُوجِبُ التَّحَفُّظَ فِي الْعَاجِلِ ، وَالْجَزَاءَ فِي الْآجِلِ . وَرَوَى عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، عَنِ الشَّهَادَةِ فَقَالَ : هَلْ تَرَى الشَّمْسَ ؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : فَعَلَى مِثْلِهَا فَاشْهَدْ أَوْ دَعْ وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْمُشَاهَدَةِ الَّتِي هِيَ أَقْوَى الْحَوَاسِّ دَرْكًا ، وَأَثْبَتُهَا عِلْمًا ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْهَدَ إِلَّا بِأَقْوَى أَسْبَابِ الْعِلْمِ فِي التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَالْعِلْمُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : مِنْهَا مَا عَايَنَهُ ، فَيَشْهَدُ بِهِ ، وَمِنْهَا مَا تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ وَثَبَتَتْ مَعْرِفَتُهُ فِي الْقُلُوبِ ، فَيَشْهَدُ عَلَيْهِ ، وَمِنْهَا مَا أَثْبَتَهُ سَمْعًا مَعَ إِثْبَاتِ بَصَرٍ مِنَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ، فَتَنْقَسِمُ الشَّهَادَاتُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ إِلَّا أَنْ يُشَاهِدَهُ مُعَايَنَةً بِبَصَرِهِ . وَالثَّانِي : مَا يَصِحُّ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ إِذَا سَمِعَهُ بِالْخَبَرِ الشَّائِعِ . وَالثَّالِثُ : مَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ إِلَّا بِالْمُعَايَنَةِ وَالسَّمَاعِ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ مَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ إِلَّا بِالْمُشَاهَدَةِ وَيُبْصِرَهُ أقسام الشهادة ، فَالْأَفْعَالُ كَالْقَتْلِ ، وَالسَّرِقَةِ ، وَالْغَصْبِ ، وَالزِّنَى ، وَالرَّضَاعِ ، وَالْوِلَادَةِ ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ ، وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْأَفْعَالِ الْمُشَاهَدَةِ ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَشْهَدَ فِيهَا إِلَّا إِذَا شَاهَدَهَا بِبَصَرِهِ ، لِأَنَّهُ قَدْ يَصِلُ إِلَى الْعِلْمِ بِهَا مِنْ أَقْصَى جِهَاتِهَا ، وَهِيَ الْمُشَاهَدَةُ ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَشْهَدَ فِيهَا بِالسَّمَاعِ وَالْخَبَرِ وَإِنْ كَانَ شَائِعًا مُسْتَفِيضًا ، لِأَنَّ مَا أَمْكَنَ الْوُصُولُ إِلَى عِلْمِهِ بِالْأَقْوَى لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ إِذَا عَلِمَهُ بِمَا هُوَ أَضْعَفُ ، بِحَمْلِهِ عَلَى الْعِلْمِ بِهِ مِنْ أَقْصَى جِهَاتِهِ الْمُتَمَكِّنَةِ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : هُوَ مَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ إِذَا عَلِمَهُ بِالسَّمْعِ وَالْخَبَرِ الشَّائِعِ أقسام الشهادة ، فَضَرْبَانِ : مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَمُخْتَلَفٌ فِيهِ . فَأَمَّا الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فَثَلَاثَةٌ : النَّسَبُ ، وَالْمِلْكُ ، وَالْمَوْتُ . وَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ فَثَلَاثَةٌ : الْوَقْفُ ، وَالْوَلَاءُ ، وَالزَّوْجِيَّةُ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا النَّسَبُ ، فَيَثْبُتُ بِسَمَاعِ الْخَبَرِ الشَّائِعِ الْخَارِجِ إِلَى حَدِّ الِاسْتِفَاضَةِ ، فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ ، وَأَحْوَالٍ مُتَبَايِنَةٍ ، مِنْ مَدْحٍ ، وَذَمٍّ ، وَسُخْطٍ ، وَرِضًا ، يُسْمَعُ النَّاسُ فِيهَا عَلَى اخْتِلَافِهِمْ ، يَقُولُونَ : هَذَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ فَيَخُصُّونَهُ بِالنَّسَبِ إِلَى أَبٍ أَوْ يَعُمُّونَهُ بِنَسَبٍ أَعْلَى ، فَيَقُولُونَ : هَذَا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ أَوْ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ ، فَيَثْبُتُ نَسَبُهُ فِي الْخُصُوصِ ، وَالْعُمُومِ ، بِالْخَبَرِ الشَّائِعِ ، وَإِنْ كَانَ اسْتِدْلَالًا لَا يُقْطَعُ بِمُعَيَّنٍ ، لِأَنَّ الْأَنْسَابَ تَلْحَقُ بِالِاسْتِدْلَالِ دُونَ الْقَطْعِ ، فَجَازَتْ لِشَهَادَةٍ فِيهَا بِالِاسْتِدْلَالِ دُونَ الْقَطْعِ ، وَأَقَلُّ الْعَدَدِ فِي اسْتِفَاضَةِ هَذَا الْخَبَرِ أَنْ يَبْلُغُوا عَدَدَ التَّوَاتُرِ ، وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِي : أَقَلُّهُ عَدْلَانِ يَذْكُرَانِ نَسَبَهُ خَبَرًا لَا شَهَادَةً ، فَيَشْهَدُ بِهِ السَّامِعُ شَهَادَةَ نَفْسِهِ ، وَلَا يَشْهَدُ بِهِ عَنْ شَهَادَةِ غَيْرِهِ ، وَهَذَا وَهْمٌ مِنْهُ ، لِأَنَّ قَوْلَ الِاثْنَيْنِ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ ، وَأَخْبَارٌ لَا تَبْلَغُ حَدَّ الشَّائِعِ الْمُسْتَفِيضِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ الْعَدَدُ الْمَقْطُوعُ بِصِدْقِ مُخْبِرِهِ ، وَهُوَ عَدَدُ التَّوَاتُرِ الْمُنْتَفَى عَنْهُ الْمُواطَأَةُ وَالْغَلَطُ .
فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ رَجُلٌ لِرَجُلٍ : أَنَا ابْنُكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُصَدِّقَهُ ، فَيَثْبُتَ نَسَبُهُ بِتَصْدِيقِهِ ، وَيَكُونُ بِثُبُوتِ النَّسَبِ بَيْنَهُمَا بِالْإِقْرَارِ ، وَتَكُونُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الْإِقْرَارِ ، فَلَوْ تَنَاكَرَا النَّسَبَ بَعْدَ الِاعْتِرَافِ لَمْ يَنْتَفِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُنْكِرَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَلَا يَثْبُتُ نَسَبُ الْمُدَّعِي فَلَوْ عَادَ الْمُنْكِرُ فَاعْتَرَفَ بِالنَّسَبِ بَعْدَ إِنْكَارِهِ ثَبَتَ النَّسَبُ ، وَلَوْ عَادَ الْمُدَّعِي فَأَنْكَرَ بَعْدَ إِقْرَارِهِ لَمْ يَنْتَفِ النَّسَبُ ، لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بَعْدَ الْإِنْكَارِ مَقْبُولٌ وَالْإِنْكَارُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ مَرْدُودٌ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يُمْسِكَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنِ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ ، فَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ حَالَ إِمْسَاكِهِ بِالرِّضَا لَمْ يَثْبُتِ النَّسَبُ ، وَإِنْ شَهِدَتْ حَالُ إِمْسَاكِهِ بِالرِّضَا ، فَقَدْ قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِي : يَثْبُتُ النَّسَبُ ، لِأَنَّ الرِّضَا مِنْ شَوَاهِدِ الِاعْتِرَافِ ، وَهَذَا عَلَى الْإِطْلَاقِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ ، وَالْحُكْمُ فِيهِ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنِ اعْتِرَافًا بِالنَّسَبِ ، وَإِنْ تَكَرَّرَ وَزَالَ عَنْهُ شَوَاهِدُ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ فِي أَحْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ ، صَارَ اعْتِرَافًا بِالنَّسَبِ ، لِأَنَّ أَكْثَرَ الْأَنْسَابِ بِمِثْلِهِ تَثْبُتُ وَهَكَذَا لَوِ ابْتَدَأَ أَحَدُهُمَا ، فَقَالَ لِلْآخَرِ : أَنَا أَبُوكَ اعْتُبِرَتْ حَالُ الِابْنِ بِمِثْلِ مَا اعْتُبِرَتْ بِهِ حَالُ الْأَبِ ، وَكَانَ الْجَوَابُ فِيهِمَا سَوَاءً .
فَصْلٌ : وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ هَذَا وَكَّلَ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ هَذَا ، فَقَدِ اخْتُلِفَ هَلْ تَكُونُ الشَّهَادَةُ بِالْوَكَالَةِ مُوجِبَةً لِلشَّهَادَةِ بِنَسَبِهِمَا ، فَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ مَقْصُورَةٌ عَلَى الْوِكَالَةِ دُونَ النَّسَبِ ، اعْتِبَارًا بِالْمَقْصُودِ فِيهِمَا ، وَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ تَكُونُ شَهَادَةٌ بِالْوِكَالَةِ وَبِالنَّسَبِ جَمِيعًا ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِهَا الْوِكَالَةَ دُونَ النَّسَبِ ، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ تُوجِبُ إِثْبَاتَ مَا تَضَمَّنَهَا مِنْ مَقْصُودٍ وَغَيْرِ مَقْصُودٍ ، كَمَنْ شَهِدَ بِثَمَنٍ فِي مَبِيعٍ وَصَدَاقٍ فِي نِكَاحٍ كَانَتْ شَهَادَةٌ بِالْمَبِيعِ وَالنِّكَاحِ ، وَإِنْ قَصَدَ بِهَا الثَّمَنَ وَالصَّدَاقَ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْمِلْكُ الْمُطْلَقُ ، فَيَثْبُتُ بِسَمَاعِ الْخَبَرِ الشَّائِعِ الْمُتَظَاهَرِ بِسَمْعِ النَّاسِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ يَقُولُونَ : هَذَا الدَّارُ لِفُلَانٍ ، وَهَذِهِ الضَّيْعَةُ لِفُلَانٍ ، وَهَذِهِ الدَّابَّةُ لِفُلَانٍ ، وَهَذَا الْعَبْدُ لِفُلَانٍ ، وَهَذَا الثَّوْبُ لِفُلَانٍ ، وَيَتَكَرَّرُ ذَلِكَ مِنْهُمْ عَلَى مُرُورِ الزَّمَانِ ، لَا يُرَى فِيهِمْ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ ، وَلَا مُنَازِعٌ فِيهِ فَتَصِحُّ الشَّهَادَةُ بِهَذَا الْخَبَرِ الْمُتَظَاهَرِ بِالْمِلْكِ دُونَ سَبَبِهِ ، لِأَنَّ أَسْبَابَ الْمِلْكِ كَثِيرَةٌ تَخْتَلِفُ ، فَتَكُونُ تَارَةً بِالشِّرَاءِ ، وَتَارَةً بِالْمِيرَاثِ ، وَأُخْرَى بِالْهِبَةِ ، وَأُخْرَى بِالْوَصِيَّةِ ، وَأُخْرَى بِالْإِحْيَاءِ ، وَأُخْرَى بِالْغَنِيمَةِ ، فَلَمَّا تَنَوَّعَتْ أَسْبَابُهُ ، جَازَ إِذَا تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ أَنْ يُشْهَدَ لَهُ بِالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ دُونَ سَبَبِهِ الَّذِي صَارَ بِهِ مَالِكًا ، لِأَنَّ السَّبَبَ يُعْلَمُ بِالْمُشَاهَدَةِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْمَلَ فِيهِ عَلَى الْخَبَرِ الْمُتَظَاهِرِ ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يُشْهَدَ بِالْمِلْكِ الْمُتَظَاهِرِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ سَبَبُ مِلْكِهِ الْمِيرَاثَ ، فَيَجُوزُ أَنْ يُشْهَدَ فِيهِ بِالْخَبَرِ
الْمُتَظَاهِرِ ، لِأَنَّ الْمِيرَاثَ مُسْتَحَقٌّ بِالْمَوْتِ وَالنَّسَبِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَثْبُتُ بِالْخَبَرِ الْمُتَظَاهِرِ ، وَلَا يَجُوزُ فِيمَا عَدَاهُ مِنَ الْأَسْبَابِ ، كَالشِّرَاءِ ، وَالْهِبَةِ ، وَالْإِحْيَاءِ ، لِأَنَّهَا تُعْلَمُ بِالْمُشَاهَدَةِ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا مَعَ تَظَاهُرِ الْخَبَرِ بِمِلْكِهِ ، هَلْ يَصِحُّ أَنْ يُشْهَدَ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرَاهُ مُتَصَرِّفًا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَصِحُّ حَتَّى يُشَاهِدَ تَصَرُّفَهُ فِيهِ ، فَيَجْمَعَ الشَّاهِدُ فِي الْعِلْمِ بِهِ بَيْنَ السَّمَاعِ وَالْمُشَاهَدَةِ لِيَصِلَ إِلَيْهِ مِنْ أَقْصَى جِهَاتِهِ الْمُمْكِنَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِهِمْ يَجُوزُ أَنْ يُشْهَدَ بِسَمَاعِ الْخَبَرِ الْمُتَظَاهِرِ ، وَإِنْ لَمْ يُشَاهَدِ التَّصَرُّفُ ، لِأَنَّ الْخَبَرَ الْمُتَظَاهِرَ أَنْفَى لِلِاحْتِمَالِ مِنَ التَّصَرُّفِ الَّذِي قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمِلْكٍ وَغَيْرِ مِلْكٍ ، وَأَصْلُ الْخَبَرِ الْمُتَظَاهِرِ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْعَدَدِ الْمُعْتَبَرِ فِي التَّوَاتُرِ ، وَوَهِمَ أَبُو حَامِدٍ فَاعْتَبَرَهُ بِشَاهِدَيْنِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا مُشَاهَدَةُ التَّصَرُّفِ فِي الْمِلْكِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَشِرَ بِهِ الْخَبَرُ الْمُتَظَاهِرُ فَيَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ لِلْمُتَصَرِّفِ فِيهِ بِالْيَدِ ، لِيُحْكَمَ بِهَا عِنْدَ مُنَازَعَتِهِ فِيهِ . فَأَمَّا إِنْ أَرَادَ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ بِمِلْكٍ عِنْدَ مُشَاهَدَةِ التَّصَرُّفِ ، فَقَدْ جَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي قَلِيلِ التَّصَرُّفِ وَكَثِيرِهِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى بَيْعِهِ لِمَا فِي يَدِهِ جَازَ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ بِمِلْكِهِ ، وَهُوَ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ مُعْتَبَرٌ بِالتَّصَرُّفِ وَإِنْ قَلَّ زَمَانُهُ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ بِالْمِلْكِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَدْ يَتَصَرَّفُ تَارَةً بِالْمِلْكِ ، وَتَارَةً بِتِجَارَةٍ وَوَكَالَةٍ ، وَاسْتِعَارَةٍ ، فَلَمْ يَتَعَيَّنِ الْمِلْكُ بِالتَّصَرُّفِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ دَلَّتِ الْيَدُ وَالتَّصَرُّفُ عَلَى الْمِلْكِ لَمَا جَازَ لِلْمُدَّعِي عِنْدَ الْحَاكِمِ أَنْ يَدَّعِيَ دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُقِرًّا لَهُ بِمِلْكِهَا ، وَفِي جَوَازِ ادِّعَائِهَا بَعْدَ ذِكْرِ يَدِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْيَدَ غَيْرُ مُوجِبَةٍ لِلْمِلْكِ ، وَلَا يُمْنَعُ صَاحِبُ الْيَدِ مِنَ الْبَيْعِ ، لِأَنَّهُ قَدْ يَبِيعُ بِالْمِلْكِ تَارَةً ، وَبَالْوِكَالَةِ أُخْرَى فَأَمَّا إِذَا طَالَ زَمَانُ تَصَرُّفِهِ حَتَّى اسْتَمَرَّ ، وَكَانَ تَصَرُّفُهُ فِي الْعَيْنِ كَالتَّصَرُّفِ بِالسُّكْنَى ، وَالْإِجَارَةِ ، وَالْهَدْمِ ، وَالْبِنَاءِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَصِحُّ الشَّهَادَةُ لَهُ بِالْمِلْكِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ لَا تَصِحُّ لَهُ الشَّهَادَةُ بِالْمِلْكِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ تَعْلِيلِ الْأَمْرَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ ، يَصِحُّ أَنْ يُشْهَدَ لَهُ بِالْمِلْكِ لِأَمْرَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ أَحْكَامَ الْمِلْكِ مِنْ شَوَاهِدِ الْمِلْكِ . وَالثَّانِي : أَنَّ إِطْلَاقَ التَّصَرُّفِ فِي الْعُرْفِ مِنْ دَلَائِلِ الْمِلْكِ ، وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْمَوْتُ فَيَثْبُتُ بِسَمَاعِ الْخَبَرِ الْمُتَظَاهِرِ بِأَنَّ فُلَانًا مَاتَ ، وَكَذَلِكَ إِذَا رَأَى الْجِنَازَةَ عَلَى بَابِهِ ، وَالصُّرَاخَ فِي دَارِهِ ، وَقِيلَ : قَدْ مَاتَ ، وَيَكُونُ الْعَدَدُ فِي الْخَبَرِ الْمُتَظَاهِرِ بِمَوْتِهِ - أَعْدَادَ التَّوَاتُرِ ، وَوَهِمَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِي فَاعْتَبَرَهُ بِشَاهِدَيْنِ ، وَإِنْ شَاهَدَ الْجِنَازَةَ وَسَمِعَ الصُّرَاخَ وَلَمْ يُذْكَرْ لَهُ مَوْتُهُ ثبوت الموت لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ غَيْرَهُ ، فَإِنْ ذُكِرَ لَهُ مَوْتُهُ كَانَ الْخَبَرُ الْمُعْتَبَرُ فِيهِ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ بِالتَّوَاتُرِ ، لِأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَنَ بِهِ مِنْ شَوَاهِدِ الْحَالِ مَا يَقُومُ مَقَامَ التَّوَاتُرِ ، وَإِنَّمَا جَازَ أَنْ يُشْهَدَ بِالْمَوْتِ بِالْخَبَرِ الْمُتَظَاهِرِ لِتَنَوُّعِ أَسْبَابِهِ ، فَجَازَ أَنْ يُعْدَلَ فِي الشَّهَادَةِ بِإِطْلَاقِهِ عَلَى الْخَبَرِ الْمُتَظَاهِرِ ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُعْزِيَهُ إِلَى أَحَدِ أَسْبَابِهِ لَمْ يَجُزْ إِلَّا بِالْمُشَاهَدَةِ ، كَمَا لَا يُعْتَبَرُ سَبَبُ الْمِلْكِ إِلَّا بِالْمُشَاهَدَةِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْوَقْفُ فِي تَظَاهُرِ الْخَبَرِ بِهِ إِذَا سَمِعَ عَلَى مُرُورِ الْأَوْقَاتِ ، فَلَا يَثْبُتُ وَقْفُهُ بِسَمَاعِ الْخَبَرِ الْمُتَظَاهِرِ ، لِأَنَّهُ عَنْ لَفْظٍ يَفْتَقِرُ إِلَى سَمَاعِهِ مَنْ عَاقَدَهُ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْمَلَ فِيهِ عَلَى تَظَاهُرِ الْخَبَرِ بِهِ فَأَمَّا ثُبُوتُهُ وَقْفًا مُطْلَقًا وَالشَّهَادَةُ عَلَى أَنَّ هَذَا وَقْفُ آلِ فُلَانٍ أَوْ هَذَا وَقْفٌ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ثُبُوتِهِ وَجَوَازِ الشَّهَادَةِ بِهِ عِنْدَ سَمَاعِ الْخَبَرِ الْمُتَظَاهِرِ بِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ عَيْنُ عَقْدٍ يَفْتَقِرُ إِلَى سَمَاعٍ وَمُشَاهَدَةٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ ، يَصِحُّ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَقَادَمُ عَهْدُهُ بِمَوْتِ شُهُودِهِ ، فَلَوْ لَمْ يَعْمَلْ فِيهِ عَلَى الْخَبَرِ الْمُتَظَاهِرِ لَأَفْضَى إِلَى دِرَاسَتِهِ وَتَعْطِيلِ سُبُلِهِ ، فَاقْتَضَى جَوَازَهُ الْعُرْفُ وَالضَّرُورَةُ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْوَلَاءُ فَهُوَ مُسْتَحَقٌّ عَنِ الْعِتْقِ ، وَثُبُوتُ الْعِتْقِ بِتَظَاهُرِ الْخَبَرِ لَا يَصِحُّ أَنْ يُضَافَ إِلَى لَفْظِ مُعْتِقِهِ ، وَيَشْهَدُ بِسَبَبِ عِتْقِهِ ، وَفِي جَوَازِ الشَّهَادَةِ بِأَنَّهُ قَدْ عَتَقَ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ السَّبَبِ فِي عِتْقِهِ لِتَظَاهُرِ الْخَبَرِ بِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ عَنْ لَفْظٍ مَسْمُوعٍ . وَالثَّانِي : يَجُوزُ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ عَنْ أَسْبَابٍ مُخْتَلِفَةٍ ، فَجَرَى مَجْرَى الشَّهَادَةِ بِالْمِلْكِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ يَتَقَادَمُ عَهْدُهُ فَتُحْفَظُ حُرِّيَّتُهُ . فَأَمَّا الْوَلَاءُ الْمُسْتَحَقُّ بِالْعِتْقِ إِذَا تَظَاهَرَ الْخَبَرُ بِأَنَّ هَذَا مَوْلَى فُلَانٍ أَوْ مَوْلَى آلِ فُلَانٍ ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خَرَّجَ جَوَازَ الشَّهَادَةِ بِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ ، كَالْعِتْقِ لِحُدُوثِهِ عَنْهُ ،
وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَهُ وَجْهًا وَاحِدًا : لِأَنَّ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ الثَّابِتِ يَتَظَاهَرُ الْخَبَرُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ " .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الزَّوْجِيَّةُ فَلَا يَثْبُتُ عَقْدُ نِكَاحِهَا وَالشَّهَادَةُ بِهِ بِالْخَبَرِ الْمُتَظَاهِرِ ، لِأَنَّهُ مِنَ الْعُقُودِ الْمُفْتَقِرَةِ إِلَى سَمَاعِ اللَّفْظِ وَمُشَاهَدَةِ الْعَاقِدِ . فَأَمَّا الشَّهَادَةُ بِأَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ زَوْجَةُ فُلَانٍ بِالْخَبَرِ الْمُتَظَاهِرِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ كَالْوَقْفِ وَالْعِتْقِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ ، لِأَنَّهُ عَنْ عَقْدٍ . وَالثَّانِي : يَجُوزُ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَقَادَمُ عَهْدُهُ ، فَعَلَى هَلْ يَحْتَاجُ فِي جَوَازِ الشَّهَادَةِ بِهَا أَنْ يُرَى الزَّوْجُ دَاخِلًا عَلَيْهَا وَخَارِجًا مِنْ عِنْدِهَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ كَالتَّصَرُّفِ فِي الْمِلْكِ مَعَ تَظَاهُرِ الْخَبَرِ بِهِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ مَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ إِلَّا قَطْعًا بِالسَّمَاعِ وَالْمُعَايَنَةِ إِذَا اجْتَمَعَا فِيهِ أقسام الشهادة ، لِيَصِلَ إِلَى الْعِلْمِ بِهِ مِنْ أَقْصَى جِهَاتِهِ الْمُمْكِنَةِ ، وَهُوَ الْعُقُودُ مِنَ الْمُنَاكَحِ ، وَالْبُيُوعِ ، وَالْإِجَارَاتِ الْمُفْتَقِرَةِ إِلَى مُشَاهَدَةِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَسَمَاعِ لَفْظِهِمَا بِالْعَقْدِ بَذْلًا وَقَبُولًا ، وَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ وَالطَّلَاقُ الْمُفْتَقِرُ إِلَى مُشَاهَدَةِ الْمُقِرِّ وَالْمُطَلِّقِ ، وَسَمَاعِ لَفْظِهِمَا بِالْإِقْرَارِ وَالطَّلَاقِ ، فَلَا تَصِحُّ الشَّهَادَةُ فِيهِمَا بِالْأَخْبَارِ الْمُتَظَاهِرَةِ ، لِأَنَّ مَا أَمْكَنَ إِدْرَاكُهُ بِعَلَمِ الْحَوَاسِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْمَلَ فِيهِ بِالِاسْتِدْلَالِ الْمُفْضِي إِلَى غَالِبِ الظَّنِّ ، وَهَكَذَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُشْهَدَ فِيهِ بِالْمُشَاهَدَةِ دُونَ السَّمَاعِ ، وَلَا بِالسَّمَاعِ دُونَ الْمُشَاهَدَةِ ، لِجَوَازِ اشْتِبَاهِ الْأَصْوَاتِ . فَلَوْ سَمِعَ الشَّاهِدَانِ لَفْظَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مِنْ وَرَاءِ حَائِلٍ ، وَعَرِفَا صَوْتَهُمَا لَمْ تَصِحَّ الشَّهَادَةُ بِهِ ، لِأَنَّهُ قَدْ يُحَاكِي الْإِنْسَانُ صَوْتَ غَيْرِهِ ، فَيَتَشَبَّهُ بِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْحَائِلُ ثَوْبًا ، نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ صَفِيقًا يَمْنَعُ مِنْ تَحْقِيقِ النَّظَرِ ، مُنِعَ مِنَ الشَّهَادَةِ ، وَإِنْ كَانَ خَفِيفًا يَشُفُّ ، فَفِي جَوَازِ الشَّهَادَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : تَجُوزُ لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ مَنْ يُشَاهِدُهُ مَا وَرَاءَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا تَجُوزُ لِأَنَّ الِاشْتِبَاهَ مَعَهُ يَجُوزُ .
مَسْأَلَةٌ شَهَادَةُ الأَعْمَى
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَبِذَلِكَ قُلْنَا : لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ أَعْمَى ، لِأَنَّ الصَّوْتَ يُشْبِهُ الصَّوْتَ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَثْبَتُ شَيْئًا يُعَايِنُهُ وَسَمْعًا وَنَسَبًا ثَمَّ عَمِيَ فَيَجُوزُ ، وَلَا عِلَّةَ فِي رَدِّهِ قَالَ : وَالشَّهَادَةُ عَلَى مِلْكِ الرَّجُلِ الدَّارَ وَالثَّوْبَ عَلَى ظَاهِرِ الْأَخْبَارِ من الأعمى بِأَنَّهُ مَالِكٌ وَلَا يُرَى مُنَازِعًا فِي ذَلِكَ فَتَثْبُتُ مَعْرِفَتُهُ فِي الْقَلْبِ ، فَتُسْمَعُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ وَعَلَى
النِّسَبِ إِذَا سَمِعَهُ يَنْسِبُهُ زَمَانًا وَسَمِعَ غَيْرَهُ يَنْسِبُهُ إِلَى نَسَبِهِ وَلَمْ يَسْمَعْ دَافِعًا وَلَا دَلَالَةَ يَرْتَابُ بِهَا " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . وَشَهَادَةُ الْأَعْمَى يَخْتَلِفُ قَبُولُهَا بِاخْتِلَافِ مَا رَتَّبْنَاهُ مِنْ أَقْسَامِ الشَّهَادَاتِ الثَّلَاثَةِ مِمَّا كَانَ طَرِيقُ الْعِلْمِ بِهِ الْمُعَايَنَةَ بِالْبَصَرِ كَالْأَفْعَالِ . فَشَهَادَةُ الْأَعْمَى مَرْدُودَةٌ بِإِجْمَاعٍ لِفَقْدِ آلَتِهِ بِذَهَابِ بَصَرِهِ فِيمَا يَصِيرُ عَالِمًا بِهِ ، وَمَا كَانَ طَرِيقُ الْعِلْمِ بِهِ السَّمَاعَ كَالْأَنْسَابِ ، وَالْأَمْلَاكِ ، وَالْمَوْتِ ، فَشَهَادَةُ الْأَعْمَى مَقْبُولَةٌ فِيهِ ، لِمُسَاوَاتِهِ لِلْبَصِيرِ فِي إِدْرَاكِهَا بِالسَّمْعِ الْمُتَكَافِئَانِ فِيهِ . وَلَوْ تَحَمَّلَ الشَّهَادَةَ عَلَى الْأَفْعَالِ ، وَهُوَ بَصِيرٌ ثُمَّ عَمِيَ ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا مَرْدُودَةٌ فِيمَا يُدْرَكُ بِالسَّمْعِ ، كَرَدِّهَا فِيمَا يُدْرَكُ بِالْبَصَرِ ، وَأَجْرَى الْعَمَى مَجْرَى الْفِسْقِ حِينَ قَالَ : لَوْ سَمِعَ الْحَاكِمُ شَهَادَتَهُ ، وَهُوَ بَصِيرٌ فَلَمْ يَحْكُمْ بِهَا حَتَّى عَمِيَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ بِهَا بَعْدَ عَمَاهُ ، كَمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ بِشَهَادَةِ مَنْ حَدَثَ فِسْقُهُ بَعْدَ الشَّهَادَةِ وَقَبْلَ الْحُكْمِ ، وَبِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ ، وَخَالَفَهُمَا بِالْمَصِيرِ إِلَى قَوْلِنَا أَبُو يُوسُفَ ، وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ الْكَمَالَ مُعْتَبَرٌ فِي الشَّهَادَةِ كَاعْتِبَارِهِ فِي وِلَايَةِ الْإِمَامَةِ ، وَالْقَضَاءِ لِاعْتِبَارِ الْحُرِّيَّةِ وَالْعَدَالَةِ فِي جَمِيعِهَا ، فَلَا يَجُوزُ فِيهِمَا تَقْلِيدُ عَبْدٍ ، وَلَا فَاسِقٍ ، وَلَا أَعْمَى ، فَوَجَبَ إِذَا رُدَّ فِي الشَّهَادَةِ الْعَبْدُ وَالْفَاسِقُ أَنْ يُرَدَّ فِيهَا شَهَادَةُ الْأَعْمَى ، قَالُوا : وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ فِي الْأَفْعَالِ لَمْ تُقْبَلْ فِي الْأَقْوَالِ ، كَالْعَبْدِ وَالْفَاسِقِ . وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ مَا أُدْرِكَ بِالسَّمَاعِ اسْتَوَى فِيهِ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ، كَمَا أَنَّ مَا أُدْرِكَ بِالْبَصَرِ اسْتَوَى فِيهِ الْأَصَمُّ وَالسَّمِيعُ لِاخْتِصَاصِ الْعِلْمِ بِجَارِحَتِهِ الْمَحْسُوسِ بِهَا ، وَلِأَنَّهُ فَقْدُ عُضْوٍ لَا يُدْرَكُ بِهِ الشَّهَادَةُ ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِي صِحَّتِهَا مَعَ إِمْكَانِ إِدْرَاكِهَا كَقَطْعِ الْيَدِ . وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الْإِنْسَانِ لَا تُؤَثِّرُ فِيهَا فَقْدُ رُؤْيَةِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ كَالشَّهَادَةِ عَلَى مَيِّتٍ أَوْ غَائِبٍ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ حُدُوثَ الْعَمَى بَعْدَ صِحَّةِ الْأَدَاءِ لَا يَمْنَعُ مِنْ إِمْضَاءِ الْحُكْمِ بِهَا - أَنَّ الْمَوْتَ الْمُبْطِلَ لِحَاسَّةِ الْبَصَرِ وَجَمِيعِ الْحَوَاسِّ ، إِذَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ إِمْضَاءِ الْحُكْمِ بِالشَّهَادَةِ ، فَذَهَابُ الْبَصَرِ مَعَ بَقَاءِ غَيْرِهِ مِنَ الْحَوَاسِّ أَوْلَى أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنْ إِمْضَاءِ الْحُكْمِ بِالشَّهَادَةِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لِلْأَصَمِّ أَنْ يَشْهَدَ بِمَا اخْتُصَّ بِالْمُعَايَنَةِ ، وَإِنْ فَقَدَ حَاسَّةَ السَّمْعِ جَازَ لِلْأَعْمَى أَنْ يَشْهَدَ بِمَا اخْتَصَّ بِالسَّمَاعِ ، وَإِنْ فَقَدَ حَاسَّةَ الْبَصَرِ ، لِاخْتِصَاصِ الِاعْتِبَارِ بِالْحَاسَّةِ الْمُدْرِكَةِ ، وَاعْتِبَارِ الشَّهَادَةِ بِالْوِلَايَةِ يَبْطُلُ ، فَالْمَرْأَةُ تَجُوزُ شَهَادَتُهَا وَإِنْ لَمْ تَصِحَّ وِلَايَتُهَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْأَفْعَالِ ، فَهُوَ أَنَّ مَا أُدْرِكَتْ بِهِ الْأَفْعَالُ - مَفْقُودٌ فِي الْأَعْمَى ، وَمَا أُدْرِكَتْ بِهِ الْأَقْوَالُ مَوْجُودٌ فِيهِ فَافْتَرَقَا .
فَصْلٌ : فَأَمَّا شَهَادَةُ الْأَعْمَى فِيمَا يُدْرِكُ بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ مِنَ الْعُقُودِ وَالْإِقْرَارِ ، فَمَرْدُودَةٌ عِنْدَنَا وَغَيْرُ مَقْبُولَةٍ ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَمِنَ التَّابِعِينَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَصَاحِبَاهُ ، وَسَوَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَاضِي مِنْ فُقَهَاءِ الْبَصْرَةِ ، وَأَكْثَرُ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ . وَقَالَ مَالِكٌ : تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْأَعْمَى إِذَا عَرَفَ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ بِصَوْتِهِ الَّذِي عَرَفَهُ بِهِ عَلَى قَدِيمِ الْوَقْتِ وَحَدِيثِهِ ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ ، وَمِنَ التَّابِعِينَ شُرَيْحٌ ، وَعَطَاءٌ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى ، وَدَاوُدُ ، وَابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنِ الْمُزَنِيِّ ، اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ [ الْبَقَرَةِ : ] . فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي الْبَصِيرِ وَالْأَعْمَى ، وَلِأَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ شُعَيْبًا قَدْ كَانَ أَعْمَى ، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا [ هُودٍ : ] . أَيْ : ضَرِيرًا ، وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ [ هُودٍ : ] . أَيْ : قَوْمُكَ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ أَيْ : شَيْبَتُكَ الْبَيْضَاءُ ، لِأَنَّهُ قَدْ يُحْتَشَمُ لِأَجْلِ الشَّيْبَةِ كَمَا يُحْتَشَمُ لِأَجْلِ رَهْطِهِ ، فَلَمَّا لَمْ يَمْنَعِ الْعَمَى مِنَ الشَّهَادَةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالنُّبُوَّةِ ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنَ الشَّهَادَةِ عَلَى الْمَخْلُوقِينَ بِالْأَمْوَالِ . وَلِأَنَّ مَنْ صَحَّ أَنْ يَتَحَمَّلَ الشَّهَادَةَ فِي الْأَنْسَابِ وَالْأَمْلَاكِ ، صَحَّ أَنْ يَتَحَمَّلَهَا فِي الْعُقُودِ وَالْإِقْرَارِ ، كَالْبَصِيرِ . وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ إِذَا افْتَقَرَتْ إِلَى حَاسَّةٍ لَمْ يُعْتَبَرْ فِيهَا حَاسَّةٌ أُخْرَى ، لِأَنَّ الْأَفْعَالَ لَمَّا افْتُقِرَ فِيهَا إِلَى الْبَصَرِ لَمْ يُعْتَبَرْ فِيهَا السَّمَاعُ ، وَالْأَنْسَابُ لَمَّا افْتَقَرَتْ إِلَى السَّمَاعِ لَمْ يُعْتَبَرْ فِيهَا الْبَصَرُ ، فَوَجَبَ إِذَا افْتَقَرَتِ الْعُقُودُ إِلَى السَّمَاعِ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ فِيهَا الْمُشَاهَدَةُ ، لِأَنَّ أُصُولَ الشَّهَادَةِ تَمْنَعُ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ حَاسَّتَيْنِ ، وَلِأَنَّ الصُّورَ تَخْتَلِفُ وَالْأَصْوَاتَ تَخْتَلِفُ ، فَلَمَّا لَمْ يَمْنَعِ اخْتِلَافُ الصُّورِ مِنَ الشَّهَادَةِ ، لَمْ يَمْنَعِ اخْتِلَافُ الْأَصْوَاتِ مِنَ الشَّهَادَةِ بِهَا . وَلِأَنَّ الصَّوْتَ يَدُلُّ عَلَى مَعْرِفَةِ الْمُصَوِّتِ كَمَا يَسْتَدِلُّ الْأَعْمَى بِصَوْتِ زَوْجَتِهِ عَلَى إِبَاحَةِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا ، وَكَمَا يُسْتَدَلُّ بِصَوْتِ الْمُحَدِّثِ عَلَى سَمَاعِ الْحَدِيثِ مِنْهُ وَرِوَايَتِهِ عَنْهُ ، كَذَلِكَ يُسْتَدَلُّ بِصَوْتِ الْعَاقِدِ وَالْمُقِرِّ عَلَى جَوَازِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِمَا وَقَدْ سَمِعَتِ الصَّحَابَةُ الْحَدِيثَ مِنْ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ، وَلَمْ تَكُنِ الْمُشَاهَدَةُ مَعَ مَعْرِفَةِ الصَّوْتِ مُعْتَبَرَةً . وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ [ فَاطِرٍ : ] . فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ إِلَّا مَا خَصَّهُ دَلِيلٌ ، وَقَالَ تَعَالَى : وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [ الْإِسْرَاءِ : ] ، فَجَمَعَ فِي الْعِلْمِ بَيْنَ السَّمْعِ
وَالْبَصَرِ فِي الْإِدْرَاكِ ، وَضَمَّ الْفُؤَادَ إِلَيْهَا فِي الْإِثْبَاتِ ، فَدَلَّ عَلَى اسْتِقْرَارِ الْعِلْمِ بِجَمِيعِهَا فِيمَا أُدْرِكَ إِثْبَاتُهُ بِهَا ، فَاقْتَضَى أَنْ لَا يَسْتَقِرَّ بِبَعْضِهَا ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ ظَنًّا فِي مَحَلِّ الْيَقِينِ ، وَلِأَنَّ شَهَادَةَ الْبَصِيرِ فِي الظُّلْمَةِ ، وَمِنْ وَرَاءِ حَائِلٍ - أَثْبَتُ مِنْ شَهَادَةِ الْأَعْمَى ، لِأَنَّهُ قَدْ يَتَخَيَّلُ مِنَ الْأَشْخَاصِ بِبَصَرِهِ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ الْأَعْمَى ، ثُمَّ لَمْ تَمْضِ شَهَادَةُ الْبَصِيرِ فِي هَذِهِ الْحَالِ فَأَوْلَى أَنْ لَا تَمْضِيَ شَهَادَةُ الْأَعْمَى الْمُقَصِّرِ عَنْ هَذِهِ الْحَالِ . وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الْعَقْدِ إِذَا عَرِيَتْ عَنْ رُؤْيَةِ الْعَاقِدِ لَمْ تَصِحَّ كَالشَّهَادَةِ بِالِاسْتِفَاضَةِ ، وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ تَصَحَّ مِنْهُ الشَّهَادَةُ عَلَى الْأَفْعَالِ لَمْ تَصِحَّ الشَّهَادَةُ عَلَى الْعُقُودِ ، كَالْأَخْرَسِ طَرْدًا وَالْبَصِيرِ عَكْسًا . وَلِأَنَّ الصَّوْتَ يَدُلُّ عَلَى الْمُصَوِّتِ كَمَا يَدُلُّ اللَّمْسُ عَلَى الْمَلْمُوسِ ، فَلَمَّا امْتَنَعَتِ الشَّهَادَةُ بِاللَّمْسِ لِاشْتِبَاهِ الْمَلْمُوسِ ، امْتَنَعَتْ بِالصَّوْتِ لِاشْتِبَاهِ الْأَصْوَاتِ . وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِعُمُومِ الْآيَةِ فَمَخْصُوصٌ بِأَدِلَّتِنَا . وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُمْنَعْ مِنَ النُّبُوَّةِ لَمْ يُمْنَعْ مِنَ الشَّهَادَةِ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي عَمَى شُعَيْبٍ ، فَأَنْكَرَهُ بَعْضُهُمْ ، وَاعْتَرَفَ آخَرُونَ بِحُدُوثِهِ بَعْدَ الرِّسَالَةِ وَسَلَّمَ آخَرُونَ وَجَوَّدَهُ قَبْلَ أَدَاءِ الرِّسَالَةِ ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ النُّبُوَّةِ وَالشَّهَادَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ إِعْجَازَ النُّبُوَّةِ يُوجِبُ الْقَطْعَ بِصِحَّةِ شَهَادَتِهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي غَيْرِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ فِي النُّبُوَّةِ شَهَادَةً عَلَى مَغِيبٍ فَاسْتَوَى فِيهَا الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ، فَخَالَفَ مَنْ عَدَاهُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى مُشَاهَدٍ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ جَمْعِهِمْ بَيْنَ الْأَنْسَابِ وَالْعُقُودِ ، فَهُوَ أَنَّ الْأَنْسَابَ لَا تُعْلَمُ قَطْعًا ، فَجَازَ أَنْ تُعْلَمَ بِالِاسْتِدْلَالِ ، وَالْعُقُودُ يُمْكِنُ أَنْ تُعْلَمَ قَطْعًا ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُعْلَمَ بِالِاسْتِدْلَالِ كَالْأَفْعَالِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ مَا أُدْرِكَ بِحَاسَّةِ الْبَصَرِ لَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ غَيْرُهَا ، فَهُوَ أَنَّ مَا أُدْرِكَ بِأَحَدِهِمَا كَانَ هَذَا حُكْمَهُ ، وَمَا أُدْرِكَ بِالْحَاسَّتَيْنِ اعْتَبَرْنَاهُمَا فِيهِ ، وَالْعُقُودُ تُدْرَكُ بِهِمَا فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَا فِيهَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الصُّورَ تَخْتَلِفُ كَالْأَصْوَاتِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الصُّورَ تَشْتَبِهُ فِي الْمَبَادِئِ ثُمَّ تَتَحَقَّقُ فِي الْغَايَاتِ ، وَالْأَصْوَاتُ تَشْتَبِهُ فِي الْمَبَادِئِ وَالْغَايَاتِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمُصَوِّتَ قَدْ يَحْكِي صَوْتَ غَيْرِهِ فَيُشْتَبَهُ ، وَفِي الصُّورِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَحْكِيَ صُورَةَ غَيْرِهِ فَلَمْ يُشْتَبَهْ .
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الصَّوْتَ يَدُلُّ عَلَى الْمُصَوِّتِ ، كَمَا يَسْتَدِلُّ الْأَعْمَى بِصَوْتِ زَوْجَتِهِ عَلَيْهَا ، فَهُوَ أَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ بِالْأَزْوَاجِ لِخُصُوصِ الِاسْتِحْقَاقِ أَوْسَعُ حُكْمًا مِنَ الشَّهَادَةِ ، لِجَوَازِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهَا بِاللَّمْسِ ، فَجَازَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَيْهَا بِالصَّوْتِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعْتَمِدَ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِالْمَزْفُوفَةِ إِلَيْهِ عَلَى خَبَرِ نَاقِلِهَا إِلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فِي الشَّهَادَةِ ، وَكَذَا الْأَخْبَارُ يَنْقُلُهَا الْوَاحِدُ عَنِ الْوَاحِدِ ، وَيُقْبَلُ خَبَرُ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ عَنِ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ ، وَإِنْ لَمْ يُقْبَلْ شَهَادَةُ الْوَاحِدَةِ عَنِ الْوَاحِدَةِ فَافْتَرَقَا .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْخِلَافِ فِي شَهَادَةِ الْأَعْمَى ، فَسَنَذْكُرُ شَرْحَ مَذْهَبِنَا فِي شَهَادَتِهِمْ ، فَإِذَا تَحَمَّلَ الشَّهَادَةَ ، وَهُوَ بَصِيرٌ ثُمَّ أَدَّاهَا وَهُوَ أَعْمَى لَمْ يَخْلُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا بِالْإِشَارَةِ أَوْ يَكُونَ مُعَيَّنًا بِالنَّسَبِ الْمُعْزَى إِلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا بِالْإِشَارَةِ إِلَى جِسْمِهِ دُونَ اسْمِهِ ، وَنَسَبِهِ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ صَحَّ التَّحَمُّلُ عَنْهُ لِأَنَّهُ يَعُدُّ الْعَمَى لَا يُثْبِتُ الشَّخْصَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ كَمَا لَا تَصِحُّ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ غَائِبًا لِلْجَهَالَةِ بِعَيْنِهِ ، وَإِنْ تَعَيَّنَ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ صَحَّ مِنَ الْأَعْمَى أَدَاءُ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ كَمَا تَصِحُّ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ مَعَ غَيْبَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ ، لِأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ بِالِاسْمِ وَالنَّسَبِ ، كَمَا يَتَعَيَّنُ بِالْإِشَارَةِ ، وَهَكَذَا لَوْ تَحَمَّلَ الشَّهَادَةَ عَنْهُ وَهُوَ بَصِيرٌ ، وَيَدُهُ فِي يَدِهِ ثُمَّ عَمِيَ ، فَشَهِدَ عَلَيْهِ قَبْلَ تَخْلِيَتِهِ مِنْ يَدِهِ صَحَّتْ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا بِالْإِشَارَةِ لِمَعْرِفَتِهِ قَبْلَ مُفَارَقَتِهِ ، فَصَحَّ مِنْهُ التَّحَمُّلُ وَالْأَدَاءُ مَعَ وُجُودِ الْعَمَى فِي الْحَالَيْنِ ، وَهَكَذَا شَهَادَتُهُ عَلَى الْمَضْبُوطِ ، وَهُوَ أَنْ يُدْنِيَ رَجُلٌ فَمَهُ مِنْ أُذُنِهِ وَيُقِرَّ عِنْدَهُ فَيَضْبُطَهُ ، وَيَشْهَدَ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ صَحَّتْ شَهَادَتُهُ ، وَإِنْ وُجِدَ الْعَمَى فِي حَالَتَيِ التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ لِقَطْعِهِ بِالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ . وَتَصِحُّ شَهَادَةُ الْأَعْمَى بِالتَّرْجَمَةِ عِنْدَ الْحُكَّامِ لِأَنَّهُ يَشْهَدُ بِتَفْسِيرِ الْكَلَامِ الْمَسْمُوعِ . وَيُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَعْمَى بِالنَّسَبِ إِذَا تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ الْمُدْرَكَةُ بِالسَّمْعِ الَّذِي يَشْتَرِكُ فِيهِ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ، وَكَذَلِكَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ بِالْمَوْتِ إِذَا تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ . فَأَمَّا شَهَادَتُهُ بِالْمِلْكِ بِالْخَبَرِ الْمُتَظَاهِرِ ، فَإِنْ لَمْ يُعْتَبَرْ مُشَاهَدَةُ التَّصَرُّفِ فِي صِحَّةِ الشَّهَادَةِ قُبِلَتْ فِيهِ شَهَادَةُ الْأَعْمَى ، لِاعْتِبَارِ السَّمْعِ وَحْدَهُ فِيهِ ، وَإِنِ اعْتُبِرَ مَعَ اسْتِفَاضَةِ الْخَبَرِ مُشَاهَدَةُ التَّصَرُّفِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ الْأَعْمَى فِيهِ ، لِفَقْدِ الْبَصَرِ الْمُعْتَبَرِ فِي وُجُودِ التَّصَرُّفِ ، وَهَكَذَا إِذَا قُبِلَتِ الشَّهَادَةُ بِالزَّوْجِيَّةِ بِتَظَاهُرِ الْأَخْبَارِ ، قُبِلَتْ شَهَادَةُ الْأَعْمَى بِهَا ، إِذَا لَمْ تُجْعَلْ مُشَاهَدَةُ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ شَرْطًا فِيهَا وَرُدَّتْ إِنْ جُعِلَ شَرْطًا . فَهَذَا مَا يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْأَعْمَى ، وَلَا يُقْبَلُ فِيمَا عَدَاهُ مِنَ الْأَفْعَالِ وَالْعُقُودِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْأَخْرَسُ شهادته فَيَصِحُّ مِنْهُ تَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ ، وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ الْأَدَاءُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَ مَالِكٌ : يَصِحُّ مِنْهُ الْأَدَاءُ كَمَا يَصِحُّ مِنْهُ التَّحَمُّلُ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ ، وَهَذَا فَاسِدٌ ، لِأَنَّ النُّطْقَ مُعْتَبَرٌ فِي الْأَدَاءِ وَغَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي التَّحَمُّلِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا صَحَّ مِنْهُ النِّكَاحُ ، وَالطَّلَاقُ ، وَالْإِقْرَارُ ، وَأُقِيمَتْ إِشَارَتُهُ فِيهِ مَقَامَ النُّطْقِ . قِيلَ : هَذَا الْجَمْعُ لَيْسَ بِلَازِمٍ لِوُجُودِ الضَّرُورَةِ فِيمَا يَخُصُّهُ مِنَ الْعُقُودِ الَّتِي جُعِلَ إِشَارَتُهُ كَنُطْقِهِ فِيهَا وَعَدَمُ الضَّرُورَةِ فِي الشَّهَادَةِ الَّتِي تَتَعَدَّاهُ إِلَى غَيْرِهِ ، أَنْ تُجْعَلَ إِشَارَتُهُ فِيهَا كَنُطْقِهِ لِإِمْكَانِ وُجُودِ النُّطْقِ بِهَا مِنْ غَيْرِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَكَذَلِكَ يَشْهَدُ عَلَى عَيْنِ الْمَرْأَةِ وَنَسَبِهَا إِذَا تَظَاهَرَتْ لَهُ الْأَخْبَارُ مِمَّنْ يُصَدَّقُ بِأَنَّهَا فُلَانَةٌ وَرَآهَا مَرَّةً وَهَذَا كُلُّهُ شَهَادَةٌ بِعِلْمٍ كَمَا وَصَفْنَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَشْهَدَ بِنَسَبِ امْرَأَةٍ كَانَتِ الشَّهَادَةُ أَغْلَظَ مِنْهَا فِي نَسَبِ الرَّجُلِ ، لِبُرُوزِ الرَّجُلِ وَخَفَرِ الْمَرْأَةِ ، وَإِبَاحَةِ النَّظَرِ إِلَى الرَّجُلِ ، وَتَحْرِيمُهُ فِي الْمَرْأَةِ ، فَصَارَتْ بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ أَغْلَظَ فَاحْتَاجَ فِي الْعِلْمِ بِنَسَبِهَا إِلَى أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَعْرِفَةُ عَيْنِهَا بِالْمُشَاهَدَةِ عَلَى وَجْهٍ مُبَاحٍ ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ وُجُوهٍ : مِنْهَا أَنْ يَرَاهَا فِي صِغَرِهَا ، وَقَبْلَ بُلُوغِهَا فِي حَالَةٍ لَا يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَيْهَا ، فَيَثْبُتُ مَعْرِفَةُ عَيْنِهَا فِي الصِّغَرِ حَتَّى لَمْ تَخْفَ عَلَيْهِ فِي الْكِبَرِ . وَمِنْهَا أَنْ تَكُونَ مِنْ ذَوِي مَحَارِمَ يَسْتَبِيحُ النَّظَرَ إِلَيْهِنَّ فَيَعْرِفُهَا بِالْمُشَاهَدَةِ وَالنَّظَرِ . وَمِنْهَا أَنْ يَكْثُرَ دُخُولُهَا عَلَى نِسَاءِ أَهْلِهِ فَيَقُلْنَ لَهُ هَذِهِ فُلَانَةٌ ، فَيَعْرِفُ شَخْصَهَا بِمَا يَتَّفِقُ لَهُ مِنْ نَظْرَةٍ بَعْدَ نَظْرَةٍ لَمْ يَقْصِدْهَا ، فَيَصِيرُ عَارِفًا بِهَا . فَأَمَّا مِعْرِفَةُ كَلَامِهَا ، فَلَا يَصِيرُ بِهِ عَارِفًا لَهَا لِاشْتِبَاهِ الْأَصْوَاتِ ، وَمِنْهَا أَنْ يَتَعَمَّدَ النَّظَرَ إِلَيْهَا حَتَّى يَعْرِفَهَا ، فَهَذَا مُوجِبٌ لِمَعْرِفَتِهَا ، لَكِنْ إِنْ نَظَرَ إِلَى مَا يُجَاوِزُ وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا كَانَ فِسْقًا تُرَدُّ بِهِ شَهَادَتُهُ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ ، فَتُقْبَلُ وَإِنْ نَظَرَ إِلَى وَجْهِهَا مُتَعَمِّدًا لِإِقَامَةِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهَا بَعْدَ مَعْرِفَتِهَا كَانَ عَلَى عَدَالَتِهِ فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ ، وَإِنْ نَظَرَ إِلَى وَجْهِهَا عَمْدًا لِشَهْوَةٍ كَانَ فِسْقًا تُرَدُّ بِهِ شَهَادَتُهُ ، وَإِنْ تَعَمَّدَ النَّظَرَ إِلَيْهَا لِغَيْرِ شَهْوَةٍ ، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لَعَلِيٍّ : " لَا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّ الْأُولَى لَكَ وَالثَّانِيَةَ عَلَيْكَ " فِيهِ تَأْوِيلَانِ يَخْتَلِفُ حُكْمُ عَدَالَتِهِ بِاخْتِلَافِهِمَا :
أَحَدُهُمَا : يُرِيدُ لَا تُتْبِعْ نَظَرَ عَيْنَيْكَ نَظَرَ قَلْبِكَ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَأْثَمُ بِالنَّظَرِ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ فَيَكُونُ عَلَى عَدَالَتِهِ . وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي : لَا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ الْأُولَى الَّتِي وَقَعَتْ سَهْوًا بِالنَّظْرَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي تُوقِعُهَا عَمْدًا ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ بِمُعَاوَدَةِ النَّظَرِ آثِمًا يَخْرُجُ بِهِ مِنَ الْعَدَالَةِ ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ إِلَّا بَعْدَ التَّوْبَةِ .
فَصْلٌ : وَإِذَا جَازَ لَهُ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِهَا ، لِيَعْرِفَهَا فِي الشَّهَادَةِ النظر إلى المرأة الأجنبية لَهَا وَعَلَيْهَا ، فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيمَا يَجُوزُ أَنْ يَنْظُرَ مِنْ وَجْهِهَا ، فَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى جَمِيعِ وَجْهِهَا : لِأَنَّ جَمِيعَهُ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ ، وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا فِي جَوَازِ النَّظَرِ إِلَى كَفَّيْهَا ، فَجَوَّزَهُ بَعْضُهُمْ تَعْلِيلًا بِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ ، وَمَنَعَ مِنْهُ أَكْثَرُهُمْ لِاخْتِصَاصِ الْمَعْرِفَةِ بِالْوَجْهِ دُونَ الْكَفَّيْنِ ، وَقَالَ آخَرُونَ : لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى جَمِيعِ وَجْهِهَا ، وَيَنْظُرُ مِنْهُ إِلَى مَا يَعْرِفُهَا بِهِ . وَقَالَ آخَرُونَ : إِنْ كَانَتْ شَابَّةً نَظَرَ إِلَى بَعْضِ وَجْهِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ عَجُوزًا نَظَرَ إِلَى جَمِيعِهِ . وَقَالَ آخَرُونَ : إِنْ كَانَتْ ذَاتَ جَمَالٍ نَظَرَ إِلَى بَعْضِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ ذَاتِ جَمَالٍ نَظَرَ إِلَى جَمِيعِهِ تَحَرُّزًا مِنَ الِافْتِتَانِ بِذَاتِ الْجَمَالِ . وَالصَّحِيحُ مِنِ اخْتِلَافِ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ أَنَّ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَا يَعْرِفُهَا بِهِ ، فَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُهَا إِلَّا بِالنَّظَرِ إِلَى جَمِيعِ وَجْهِهَا جَازَ لَهُ النَّظَرُ إِلَى جَمِيعِهِ ، وَإِنْ كَانَ يَعْرِفُهَا بِالنَّظَرِ إِلَى بَعْضِ وَجْهِهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَجَاوَزَهُ إِلَى غَيْرِهِ ، وَلَا يَزِيدُ عَلَى النَّظْرَةِ الْوَاحِدَةِ إِلَّا أَنْ لَا يَتَحَقَّقَ إِثْبَاتُهَا إِلَّا بِنَظْرَةٍ ثَانِيَةٍ ، فَيَجُوزُ لَهُ النَّظْرَةُ الثَّانِيَةُ ، وَمَتَى خَافَ إِثَارَةَ الشَّهْوَةِ بِالنَّظَرِ كَفَّ ، وَلَمْ يَشْهَدْ إِلَّا فِي مُتَعَيَّنٍ عَلَيْهِ بَعْدَ ضَبْطِ نَفْسِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ فِي نِقَابٍ عَرَفَهَا فِيهِ لَمْ تَكْشِفْهُ ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهَا فِيهِ كَشَفَتْ مِنْهُ مَا يَعْرِفُهَا بِهِ ، وَلَا يُعَوَّلُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْكَلَامِ لِأَنَّهُ قَدْ يُشْتَبَهُ .
فَصْلٌ : فَإِذَا عَرَفَهَا بِعَيْنِهَا مِنْ أَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ احْتَاجَ فِي مَعْرِفَةِ نَسَبِهَا إِلَى الْخَبَرِ الْمُتَظَاهِرِ بِأَنَّ فُلَانَةَ هَذِهِ بِعَيْنِهَا هِيَ ابْنَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ ، وَيَكُونُ مَعْرِفَةُ الْخَبَرِ بِنَسَبِهَا لِعَيْنِهَا ، كَمِثْلِ مَعْرِفَتِهِ ثُمَّ يَنْظُرُ فِي تَظَاهُرِ الْخَبَرِ ، فَإِنْ كَانَ مِنْ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ وَصِغَارٍ وَكِبَارٍ وَأَحْرَارٍ وَعَبِيدٍ ، فَهُوَ الْأَوْكَدُ فِي تَظَاهُرِ الْخَبَرِ بِنَسَبِهَا ، لِامْتِزَاجِ مَنْ تَصِحُّ شَهَادَتُهُ بِمَنْ لَا تَصِحُّ ، وَإِنْ تَفَرَّدَ بِهِ النِّسَاءُ وَالْعَبِيدُ صَحَّ بِهِمْ تَظَاهُرُ الْخَبَرِ ، لِقَبُولِ خَبَرِهِمْ ، وَإِنْ رُدَّتْ شَهَادَتُهُمْ وَإِنْ تَفَرَّدَ بِهِ الصِّبْيَانُ مَعَ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ وَشَوَاهِدِ الْحَالِ بِانْتِفَاءِ التَّصَنُّعِ
وَالْمُواطَأَةِ مِنْهُمْ ، احْتَمَلَ صِحَّةُ تَظَاهُرِهِمْ بِهِ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَصِحُّ تَظَاهُرُهُمْ بِهِ ، لِأَنَّ أَخْبَارَ آحَادِهِمْ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَصِحُّ تَظَاهُرُهُمْ بِهِ ، لِأَنَّ أَخْبَارَ آحَادِهِمْ قَدْ تُقْبَلُ فِي الْإِذْنِ وَقَبُولِ الْهَدِيَّةِ ، وَلِأَنَّهُمْ أَبْعَدُ مِنَ التَّصَنُّعِ وَالتُّهْمَةِ ، فَإِذَا صَحَّ لِلشَّاهِدِ مَعْرِفَةُ عَيْنِهَا ، وَصَحَّ لَهُ تَظَاهُرُ الْخَبَرِ بِنَسَبِهَا صَحَّ لَهُ الشَّهَادَةُ بِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ أَحَدُهُمَا لَمْ تَصِحَّ لَهُ الشَّهَادَةُ بِهِ وَرُدَّتْ إِنْ شَهِدَ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَكَذَلِكَ يَحْلِفُ الرَّجُلُ عَلَى مَا يَعْلَمُ بِأَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ فِيمَا أَخَذَ بِهِ مَعَ شَاهِدِهِ وَفِي رَدِّ يَمِينٍ وَغَيْرِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي وَارِثٍ أَرَادَ أَنْ يُطَالِبَ بِحَقٍّ لِمَيِّتِهِ مِنْ مِلْكٍ أَوْ غَيْرِ مِلْكٍ ، فَلِعِلْمِهِ بِهِ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَعْلَمَ بِهِ مِنْ وَجْهٍ يَصِحُّ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ لِغَيْرِهِ عَلَى مَا فَصَّلْنَا مِنْ عِلْمِ الشَّاهِدِ بِمَا تَصِحُّ بِهِ شَهَادَتُهُ فَتَصِحُّ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَدَّعِيَهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَيْهِ إِنْ رُدَّتْ عَلَيْهِ ، أَوْ مَعَ شَاهِدٍ إِنْ شَهِدَ لَهُ لِيَسْتَحِقَّهُ بِشَاهِدِهِ مَعَ يَمِينِهِ ، لِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَهُ مِنْ أَقْصَى جِهَاتِ الْعِلْمِ بِهِ ، وَلِأَنَّ مَا جَازَ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ لِغَيْرِهِ ، فَأَوْلَى أَنْ يَدَّعِيَهُ لِنَفْسِهِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَعْرِفَهُ مِنْ وَجْهٍ لَا تَصِحُّ لَهُ الشَّهَادَةُ بِمِثْلِهِ بِأَنْ أَخْبَرَهُ بِهِ وَاحِدٌ أَوْ وَجَدَهُ مَكْتُوبًا فِي حِسَابٍ أَوْ كِتَابٍ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَتَشَكَّكَ فِيهِ وَلَا يَثِقُ بِصِدْقِهِ ، وَصِحَّتِهِ فَتَجُوزُ لَهُ الْمُطَالَبَةُ لِجَوَازِ أَنْ يَعْتَرِفَ بِهِ الْمَطْلُوبُ فَيَعْلَمُ صِحَّتَهُ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَدَّعِيَهُ عِنْدَ الْحُكَّامِ إِنْ أَنْكَرَهُ ، وَلَا أَنْ يَحْلِفَ عَلَيْهِ إِنْ رُدَّتْ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ عَلَى غَيْرِ ثِقَةٍ بِصِحَّةِ الدَّعْوَى ، وَجَوَازِ الْحَلِفِ ، وَلَا تَكُونُ الدَّعْوَى وَالْيَمِينُ إِلَّا بِمَا عَرَفَ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَقَعَ فِي نَفْسِهِ صِدْقُ الْمُخْبِرِ : وَصِحَّةُ الْحِسَابِ وَالْكِتَابِ ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِهِ وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَدَّعِيَهُ عِنْدَ الْحُكَّامِ لِمَعْرِفَتِهِ بِصِحَّتِهِ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِ يَمِينِهِ عَلَيْهِ إِنْ رُدَّتْ عَلَيْهِ أَوْ يَحْلِفُ مَعَ شَاهِدِهِ إِنْ شَهِدَ لَهُ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ عَرَفَهُ بِغَالِبِ ظَنٍّ ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْبَاطِنِ بِخِلَافِهِ ، وَجَعَلَهُ قَائِلُ هَذَا الْوَجْهِ كَأَنَّهُ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ يَجُوزُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَيْهِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْأَنْصَارِ حِينَ
ادَّعَوْا قَتْلَ صَاحِبِهِمْ عَلَى يَهُودِ خَيْبَرَ وَقَدْ غَابُوا عَنْ قَتْلِهِ " تَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ " . وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَرْوِيَ خَبَرَ الْوَاحِدِ ، وَثَبَتَ بِهِ شَرْعًا جَازَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَيْهِ لِيَثْبُتَ بِهِ حَقًّا . وَلِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ بِمِثْلِهِ كَالِاسْتِمْتَاعِ بِزَوْجَتِهِ فِي الظَّلَامِ وَمَعْرِفَتِهَا بِاللَّمْسِ وَالْكَلَامِ .
مَسْأَلَةٌ الْبَصِيرِ إِذَا تَحَمَّلَ شَهَادَةً ثُمَّ عَمِيَ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَقُلْتُ لِمَنْ قَالَ لَا أُجِيزُ الشَّاهِدَ وَإِنْ كَانَ بَصِيرًا حِينَ عَلِمَ حَتَّى يُعَايِنَ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ يَوْمَ يُؤَدِّيهَا عَلَيْهِ : فَأَنْتَ تُجِيزُ شَهَادَةَ الْبَصِيرِ عَلَى مَيِّتٍ وَعَلَى غَائِبٍ فِي حَالٍ وَهَذَا نَظِيرُ مَا أَنْكَرْتَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا أَرَادَ بِهِ أَبَا حَنِيفَةَ فِي الْبَصِيرِ إِذَا تَحَمَّلَ شَهَادَةً ثُمَّ عَمِيَ ، لَمْ تُقْبَلْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ بَعْدَ الْعَمَى ، وَهِيَ عِنْدُ الشَّافِعِيِّ مَقْبُولَةٌ ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ فِيهِ لَكِنَّهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ لَهُ فِي أَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَصِحُّ إِلَّا عَلَى حَاضِرٍ ، وَالْأَعْمَى لَا يُشَاهِدُ الْحَاضِرَ ، فَلَمْ تَصِحَّ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ ، فَنَاقَضَهُ الشَّافِعِيُّ ، فَقَالَ : أَنْتَ تُجِيزُ الشَّهَادَةَ عَلَى الْمَيِّتِ ، وَهُوَ غَيْرُ حَاضِرٍ ، فَكَانَ هَذَا نَقْضًا لِمَذْهَبِهِ ، فِي جَوَازِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْغَائِبِ وَإِبْطَالًا لِتَعْلِيلِهِ فِي رَدِّ شَهَادَةِ الْأَعْمَى . فَإِنْ قِيلَ شُرُوطُ الْأَدَاءِ فِي الشَّهَادَةِ أَغْلَظُ مِنْ شُرُوطِ التَّحَمُّلِ ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَحَمَّلَهَا ، وَهُوَ صَغِيرٌ وَعَبْدٌ ، وَفَاسِقٌ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَدِّيَهَا إِلَّا بَعْدَ بُلُوغِهِ وَحُرِّيَّتِهِ وَعَدَالَتِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ تَحَمُّلُ الْأَعْمَى لَهَا ، فَأَوْلَى أَنْ لَا تَجُوزَ شَهَادَتُهُ بِهَا . قِيلَ : إِنَّمَا أُرِيدَ الْبَصَرُ فِي حَالِ التَّحَمُّلِ لِيَقَعَ لَهُ الْعِلْمُ بِهَا ، فَلَمْ يُعْتَبَرِ الْبَصَرُ فِي الْأَدَاءِ لِاسْتِقْرَارِ الْعِلْمِ بِهَا وَلَمْ يَمْنَعِ الصِّغَرُ وَالرِّقُّ ، وَالْفِسْقُ مِنَ التَّحَمُّلِ ، وَإِنْ مَنَعَ مِنَ الْأَدَاءِ لِأَنَّهَا أَحْوَالٌ لَا تَمْنَعُ مِنْ وُقُوعِ الْعِلْمِ بِهَا وَتَمْنَعُ مِنْ نُفُوذِ الْحُكْمِ بِهَا .
فَصْلٌ : وَتَجُوزُ شَهَادَةُ الْأَعْوَرِ ، وَالْأَعْمَشِ ، وَالْأَحْوَلِ ، وَالْأَعْشَى ، فَإِنْ كَانَ الْأَحْوَلُ يَرَى الْوَاحِدَ اثْنَيْنِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ فِي الْعَدَدِ ، وَقُبِلَ فِيمَا سِوَاهُ . وَأَمَّا شَهَادَةُ مَنْ فِي بَصَرِهِ ضَعْفٌ ، فَإِنْ كَانَ لَا يُدْرِكُ الْأَشْخَاصَ وَلَا يَعْرِفُ الصُّورَ
لَمْ تَصِحَّ شَهَادَتُهُ كَالْأَعْمَى فِيمَا يَخْتَصُّ بِالْبَصَرِ ، وَإِنْ كَانَ يَعْرِفُ الصُّورَ بَعْدَ الْمُقَارَبَةِ وَشِدَّةِ التَّأَمُّلِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ بِهِ كَالْبَصِيرِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الشَّهَادَةُ عَلَى مَنْ لَا يَعْرِفُهُ الشَّاهِدُ وَلِمَنْ لَا يَعْرِفُهُ الشَّاهِدُ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي أَدَائِهَا وَإِقَامَتِهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْهَدَ بِهَا عَلَى مَنْ لَا يَعْرِفُهُ وَلِمَنْ لَا يَعْرِفُهُ لِأَنَّ الْجَهْلَ بِمَعْرِفَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَانِعٌ مِنْ صِحَّةِ الشَّهَادَةِ ، كَالْجَهْلِ بِمَعْرِفَةِ الْمَشْهُودِ فِيهِ ، وَكَمَالُ الْمَعْرِفَةِ أَنْ يَعْرِفَهُ بِعَيْنِهِ وَاسْمِهِ وَنَسَبِهِ ، فَإِنْ عَرَفَهُ بِعَيْنِهِ دُونَ اسْمِهِ وَنَسَبِهِ جَازَ فِي الْحَاضِرِ ، وَلَمْ يَجُزْ فِي الْغَائِبِ ، وَإِنْ عَرَفَهُ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ ، وَلَمْ يَعْرِفْهُ بِعَيْنِهِ جَازَ فِي الْمَشْهُودِ لَهُ ، وَلَمْ يَجُزْ فِي الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَتَحَمَّلَهَا لِغَائِبٍ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَحَمَّلَهَا عَنْ غَائِبٍ . فَأَمَّا إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَحَمَّلَ الشَّهَادَةَ عَمَّنْ لَا يَعْرِفُهُ ، وَلِمَنْ لَا يَعْرِفُهُ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي جَوَازِهِ ، فَمَنَعَ مِنْهُ قَوْمٌ ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالشَّهَادَةِ أَدَاؤُهَا ، وَمَعَ الْجَهَالَةِ لَا تَصِحُّ ، فَصَارَ الشَّاهِدُ غَارًّا . وَقَالَ قَوْمٌ : يُكَلِّفُ الْمُقِرَّ أَنْ يَأْتِيَهُ بِمَنْ يُعَرِّفُهُ ثُمَّ يَشْهَدُ عَلَيْهِ بَعْدَ التَّعْرِيفِ ، وَلَا يَشْهَدُ عَلَيْهِ قَبْلَهُ ، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى مَنْ لَا يَعْرِفُهُ ، وَلِمَنْ لَا يَعْرِفُهُ إِذَا أَثْبَتَ صُورَتَهُمَا ، وَتَحَقَّقَ أَشْخَاصُهُمَا وَإِنْ لَمْ يَرَهُمَا قَبْلَ الشَّهَادَةِ ، فَإِنْ أَرَادَ الشَّاهِدُ إِقَامَتَهَا وَعَرَفَ عِنْدَ أَدَائِهَا شَخْصَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ، وَالْمَشْهُودَ لَهُ بِأَعْيَانِهَا صَحَّ مِنْهُ إِقَامَتُهَا مَعَ الْجَهَالَةِ بِاسْمِهَا وَنَسَبِهَا ، وَإِنْ خَفِيَ عَلَيْهِ أَشْخَاصُهُمَا ، وَاشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ أَعْيَانُهُمَا لَمْ يَجُزْ لَهُ إِقَامَتُهَا .
فَصْلٌ : فَأَمَّا تَحْلِيَةُ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مَجْهُولًا ، فَقَدْ أَوْجَبَهَا قَوْمٌ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى الْمَعْرِفَةِ ، وَمَنَعَ مِنْهَا آخَرُونَ لِأَنَّ الْحِلَى قَدْ يَشْتَبِهُ ، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ اسْتِظْهَارٌ لَهُ بَاعِثُهُ عَلَى التَّذَكُّرِ ، كَالْخَطِّ الَّذِي يُرَادُ لِيُذَكِّرَ الشَّهَادَةَ ، وَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي الْأَدَاءِ ، وَإِذَا جَازَتِ التَّحْلِيَةُ اسْتِظْهَارًا بِهَا اشْتَمَلَ الْكَلَامُ فِيهَا عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا يَجُوزُ أَنْ يُحَلَّى فِيهِ الْمُقَرُّ بِهِ . وَالثَّانِي : مَا يَجُوزُ أَنْ يُحَلَّى فِيهِ الْمُقِرُّ . فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ : فِيمَا يَجُوزُ أَنْ يُحَلَّى فِيهِ الْمُقِرُّ ، فَالْحُقُوقُ الْمُقَرُّ بِهَا عَلَى ثَلَاثَةٍ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّحْلِيَةِ ، وَهُوَ الْوَصَايَا ، وَمَا لَا يَلْزَمُ فِي الْعُقُودِ . وَالثَّانِي : مَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى التَّحْلِيَةِ ، وَهِيَ الدُّيُونُ ، وَالْبَرَاءَاتُ ، وَالْحُقُوقُ الْمُؤَجَّلَةُ .
وَالثَّالِثُ : مَا لَمْ يَجْرِ الْعُرْفُ فِيهِ بِالتَّحْلِيَةِ ، وَإِنْ جَازَتْ ، وَهِيَ عُقُودُ الْبِيَاعَاتِ النَّاجِزَةِ ، وَالْمَنَاكِحِ ، وَالْوِكَالَاتِ . وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي : فِيمَا يَجُوزُ أَنْ يُحَلَّى بِهِ الْمُقِرُّ ، فَقَدْ حَدَّهُ قَوْمٌ بِأَنَّهُ مَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِهِ الْقَائِفُ فِي إِلْحَاقِ النَّسَبِ ، وَمَنَعُوا مِنَ التَّحْلِيَةِ بِمَا يَجُوزُ أَنْ يَحْدُثَ مِنْ آثَارٍ ، وَجِرَاحٍ ، أَوْ يُمْكِنُ أَنْ يُغَيِّرَ مِنْ شَيْبٍ وَشَبَابٍ . وَحَدَّهُ آخَرُونَ بِأَنَّهُ كُلُّ مَا اشْتُهِرَ بِهِ مِنْ أَوْصَافِهِ ، وَمَنَعُوا مِنْ تَحْلِيَتِهِ مَا لَمْ يَشْتَهِرْ بِهِ ، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ التَّحْلِيَةَ تَكُونُ بِكُلِّ مَا دَلَّتْ عَلَى الْمُحَلَّى مِنْ أَوْصَافِهِ الظَّاهِرَةِ دُونَ الْبَاطِنَةِ ، فَمِنْهَا الطُّولُ ، وَالْقِصَرُ ، وَمِنْهَا اللَّوْنُ مِنْ بَيَاضٍ أَوْ سَوَادٍ أَوْ سُمْرَةٍ ، وَمِنْهَا الْبَدَنُ مِنْ سِمَنٍ أَوْ هُزَالٍ ، وَمِنْهَا الْكَلَامُ كَاللُّثْغَةِ ، وَالْفَأْفَأَةِ ، وَالتَّمْتَمَةِ وَالرَّدَّةِ وَمَا فِي اللِّسَانِ مِنَ الْعَجَلَةِ وَالثِّقَلِ ، وَمِنْهَا مَا فِي الْعَيْنِ مِنَ الْكُحْلَةِ ، وَالشُّهْلَةِ ، وَالشُّكْلَةِ فَقَدْ قِيلَ : إِنَّ الشُّكْلَةَ هِيَ كَمِّيَّةُ الْحُمْرَةِ فِي بَيَاضِ الْعَيْنِ ، وَالشُّهْلَةُ كَمِّيَّةُ الْحُمْرَةِ فِي سَوَادِ الْعَيْنِ ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي عَيْنِهِ شُكْلَةٌ وَمِنْهَا الشَّعْرُ فِي الْجُعُودَةِ وَالسُّبُوطَةِ ، وَقِيلَ : لَا يُحَلَّى بِهِ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَصَنَّعُ النَّاسُ تَجْعِيدَ السِّبْطِ وَتَسْبِيطَ الْجَعْدِ ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ قَدْ يُعْرَفُ الْمَصْنُوعُ مِنَ الْمَخْلُوقِ ، وَمِنْهَا سَوَادُ الشَّعْرِ وَبَيَاضُهُ ، وَقِيلَ : لَا يُحَلَّى بِهِ لِأَنَّ السَّوَادَ قَدْ يَبْيَضُّ وَالْبَيَاضَ قَدْ يُخَضَّبُ ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ بَيَاضَ السَّوَادِ يَعْلُو السِّنَّ ، قَدْ بَدَّلَ عَلَيْهِ تَارِيخَ الشَّهَادَةِ ، وَخِضَابُ الْبَيَاضِ يَظْهَرُ لِلْمُتَأَمِّلِ ، وَاخْتُلِفَ فِي جَوَازِ التَّحْلِيَةِ بِالصَّمَمِ فَجَوَّزَهُ قَوْمٌ ، وَمَنَعَ مِنْهُ آخَرُونَ ، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ مَرَضٍ فَيَزُولُ . فَأَمَّا التَّحْلِيَةُ بِمَا فِي الْفَمِ مِنَ الْأَسْنَانِ ، فَيَجُوزُ بِمَا ظَهَرَ مِنَ الثَّنَايَا وَالْأَنْيَابِ ، وَيُمْنَعُ مِنْهَا بِمَا بَطَنَ مِنَ الْأَضْرَاسِ ، وَتَجُوزُ التَّحْلِيَةُ بِالْجِرَاحِ ، وَالشِّجَاجِ ، وَالْآثَارِ اللَّازِمَةِ ، وَلَا تَجُوزُ بِالثِّيَابِ وَاللِّبَاسِ ، وَتَجُوزُ تَحْلِيَةُ النِّسَاءِ بِمَا فِي وُجُوهِهِنَّ ، وَبِمَا ظَهَرَ مِنْ طُولٍ وَقِصَرٍ وَهُزَالٍ أَوْ سِمَنٍ ، وَتَجُوزُ تَحْلِيَةُ الْمَشْهُودِ لَهُ أَيْضًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
بَابُ مَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْءِ مِنَ الْقِيَامِ بِالشَّهَادَةِ إِذَا دُعِيَ لِيَشْهَدَ أَوْ يَكْتُبَ
تأويلات قوله تَعَالَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا
بَابُ مَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْءِ مِنَ الْقِيَامِ بِالشَّهَادَةِ إِذَا دُعِيَ لِيَشْهَدَ أَوْ يَكْتُبَ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَالَّذِي أَحْفَظُ عَنْ كُلِّ مَنْ سَمِعْتُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ ذَلِكَ فِي الشَّاهِدِ قَدْ لَزِمَتْهُ الشَّهَادَةُ وَأَنَّ فَرْضًا عَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ بِهَا عَلَى وَالِدِهِ ، وَوَلَدِهِ ، وَالْقَرِيبِ ، وَالْبَعِيدِ لَا تُكْتَمُ عَنْ أَحَدٍ وَلَا يُحَابَى بِهَا أَحَدٌ وَلَا يُمْنَعَهَا أَحَدٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الشَّهَادَةَ وَثِيقَةٌ تَتِمُّ بِالتَّحَمُّلِ وَتُسْتَوْفَى بِالْأَدَاءِ فَصَارَتْ جَامِعَةً لِلتَّحَمُّلِ فِي الِابْتِدَاءِ وَالْأَدَاءِ فِي الِانْتِهَاءِ ، وَالشَّاهِدُ مَأْمُورٌ بِهَا فِي التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا [ الْبَقَرَةِ : ] . وَفِيهِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا : إِذَا دُعُوا لِتَحَمُّلِهَا وَإِثْبَاتِهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَقَتَادَةَ ، وَالرَّبِيعِ . وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي : إِذَا دُعُوا لِإِقَامَتِهَا وَأَدَائِهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ ، وَعَطَاءٍ ، وَالشَّعْبِيِّ . وَالتَّأْوِيلُ الثَّالِثُ : إِذَا دُعُوا لِلتَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ جَمِيعًا ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ . وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ هَذَا الْأَمْرِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ نَدْبٌ ، وَلَيْسَ بِفَرْضٍ ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ ، وَعَطِيَّةَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْأَعْيَانِ ، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ ، وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ . فَأَمَّا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ فَهُمَا مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ ، إِنْ كَثُرَ مَنْ يَتَحَمَّلُ وَيُؤَدِّي كَالْجِهَادِ ، وَطَلَبِ الْعِلْمِ وَالصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ ، وَهُمَا مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ ، إِنْ لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُمَا فِي التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ ، وَقَدْ يَكُونُ فَرْضُ التَّحَمُّلِ عَلَى الْكِفَايَةِ وَفَرْضُ الْأَدَاءِ عَلَى الْأَعْيَانِ ، إِذَا كَثُرَ عَدَدُهُمْ فِي التَّحَمُّلِ وَقَلَّ عَدَدُهُمْ فِي الْأَدَاءِ ،
وَيُمْتَنَعُ أَنْ يَكُونَ فَرْضُ التَّحَمُّلِ عَلَى الْأَعْيَانِ وَفَرْضُ الْأَدَاءِ عَلَى الْكِفَايَةِ ، لِأَنَّ الْأَدَاءَ يَكُونُ بَعْدَ التَّحَمُّلِ ، غَيْرَ أَنَّ الْأَغْلَبَ مِنْ حَالِ التَّحَمُّلِ أَنَّهُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ ، وَرُبَّمَا تَعَيَّنَ ، وَفِي الْأَغْلَبِ مِنْ حَالِ الْأَدَاءِ أَنَّهُ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ ، وَرُبَّمَا صَارَ عَلَى الْكِفَايَةِ ، لِأَنَّ التَّحَمُّلَ عَامٌّ وَالْأَدَاءَ خَاصٌّ ، وَلِذَلِكَ كَثُرَ عَدَدُ الْمُتَحَمِّلِينَ وَقَلَّ عَدَدُ الْمُؤَدِّينَ ، وَلِذَلِكَ مَا اخْتِيرَ أَنْ يَكُونَ عَدَدُ الْمُتَحَمِّلِينَ ثَمَانِيَةً ، اثْنَانِ يَمُوتَانِ ، وَاثْنَانِ يَمْرَضَانِ ، وَاثْنَانِ يَغِيبَانِ ، وَاثْنَانِ يَحْضُرَانِ فَيُؤَدِّيَانِ ، وَإِذَا اسْتَوَى التَّحَمُّلُ وَالْأَدَاءُ فِي فُرُوضِ الْكِفَايَةِ ، وَفُرُوضِ الْأَعْيَانِ ، كَانَ فَرْضُ الْأَدَاءِ أَغْلَظَ مِنْ فَرْضِ التَّحَمُّلِ . قَالَ تَعَالَى : وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [ الْبَقَرَةِ : ] . وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ فَاجِرٌ قَلْبُهُ فَيُحْمَلُ عَلَى فِسْقِهِ بِكَتْمِهَا فِي الْعُمُومِ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ السُّدِّيِّ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مُكْتَسِبٌ لِإِثْمِ كَتْمِهَا ، فَيُحْمَلُ عَلَى مَأْثَمِهِ بِهَا فِي الْخُصُوصِ ، وَخُصَّ الْقَلْبُ بِهَا ، لِأَنَّهُ مَحَلٌّ لِاكْتِسَابِ الْآثَامِ وَالْأُجُورِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا لَمْ يَخْلُ حَالُ التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ أحوال التحمل والأداء للشهادة مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْفَرْضُ فِيهِ عَلَى الْكِفَايَةِ ، لِكَثْرَةِ مَنْ يَتَحَمَّلُ وَيُؤَدِّي ، وَزِيَادَتِهِمْ عَلَى الْعَدَدِ الْمَشْرُوطِ فِي الْحُكْمِ ، فَدَاعِي الشُّهُودِ إِلَى التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ ، مُخَيَّرٌ فِي الِابْتِدَاءٍ بِدُعَاءِ أَيِّهِمْ شَاءَ ، فَإِذَا بَدَأَ بِاسْتِدْعَاءِ أَحَدِهِمْ إِلَى تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ أَوْ أَدَائِهَا ، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي حُكْمِ فَرْضِهِ إِذَا ابْتُدِئَ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ فَرْضُ الْإِجَابَةِ ، إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ غَيْرَهُ يُجِيبُ ، فَلَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ فَرَضُ الْإِجَابَةِ ، إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ غَيْرَهُ لَا يُجِيبُ ، فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْفَرْضُ ، فَيَكُونُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ عَاصِيًا حَتَّى يُجِيبَ غَيْرُهُ ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي غَيْرُ عَاصٍ حَتَّى يَمْتَنِعَ غَيْرُهُ ، فَإِذَا أَجَابَ إِلَى التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ الْعَدَدُ الْمَشْرُوطُ فِي الشَّهَادَةِ سَقَطَ فَرْضُهَا عَنِ الْبَاقِينَ ، وَإِنِ امْتَنَعُوا جَمِيعًا جُرِحُوا أَجْمَعِينَ ، وَكَانَ الْمُبْتَدِئُ بِالِاسْتِدْعَاءِ أَغْلَظَهُمْ مَأْثَمًا ، لِأَنَّهُ صَارَ مَتْبُوعًا فِي الِامْتِنَاعِ ، كَمَا لَوْ بَدَأَ بِالْإِجَابَةِ كَانَ أَكْثَرَهُمْ أَجْرًا ، لِأَنَّهُ صَارَ مَتْبُوعًا فِيهَا .
فَصْلٌ : وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَتَعَيَّنَ الْفَرْضُ فِي التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ في الشهادة ، لِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ غَيْرُ الْمَدْعُوِّ إِلَيْهَا فِي الْعَدَدِ الْمَشْرُوطِ فِي الْحُكْمِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ ، فَلَا يَمْتَنِعُ مَنْ دُعِيَ إِلَى تَحَمُّلِهَا وَأَدَائِهَا أَنْ يَتَوَقَّفَ عَنِ الْإِجَابَةِ ، وَهُوَ بِالتَّوَقُّفِ عَاصٍ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ إِلَّا أَنْ
تَكُونَ الشَّهَادَةُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى ، الَّتِي تُدْرَأُ بِالشُّبَهَاتِ ، كَالْحُدُودِ فِي الزِّنَى ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ فَهُوَ مَنْدُوبٌ إِلَى التَّوَقُّفِ عَنْ تَحَمُّلِهَا ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " هَلَّا سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ يَا هَزَّالُ " . وَأَمَّا تَوَقُّفُهُ عَنْ أَدَائِهَا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ فِي تَوَقُّفِهِ إِيجَابُ حَدٍّ عَلَى غَيْرِهِ ، كَمَنْ شَهِدَ بِالزِّنَى فَلَمْ تَكْمُلْ شَهَادَتُهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ ، وَأَثِمَ بِالتَّوَقُّفِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَجِبَ لِتَوَقُّفِهِ - حَدٌّ عَلَى غَيْرِهِ ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَظْهَرَ مِنَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ نَدَمٌ فِيمَا أَوْجَبَ الْحَدَّ عَلَيْهِ ، فَالْمَنْدُوبُ إِلَيْهِ أَنْ لَا يُؤَدِّيَ الشَّهَادَةَ عَلَيْهِ ، وَلَا يَأْثَمُ بِتَوَقُّفِهِ عَنْهَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ عَلَى إِصْرَارِهِ غَيْرَ نَادِمٍ عَلَى فِعْلِهِ ، فَالْمَنْدُوبُ إِلَيْهِ أَنْ يُقِيمَ الشَّهَادَةَ ، وَيَكُونُ تَوَقُّفُهُ عَنْهَا مَكْرُوهًا وَلَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ ، وَإِنَّمَا يَعْصَى بِالتَّوَقُّفِ عَنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ .
فَصْلٌ : وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ فَرْضُ التَّحَمُّلِ عَلَى الْكِفَايَةِ ، وَفَرْضُ الْأَدَاءِ عَلَى الْأَعْيَانِ الشهادة ، لِأَنَّهُمْ عِنْدَ التَّحَمُّلِ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ الشَّهَادَةِ فَلَمْ يُخَفَّضِ الْفَرْضُ بِبَعْضِهِمْ ، وَصَارَ عَلَى الْكِفَايَةِ ، وَهُمْ عِنْدَ الْأَدَاءِ مَقْصُورُونَ عَلَى عَدَدِ الشَّهَادَةِ فَأُخْفِضَ الْفَرْضُ بِهِمْ وَتَعَيَّنَ عَلَيْهِمْ فَيَجْرِي عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حُكْمُهُ فِي اعْتِبَارِ الْكِفَايَةِ فِي التَّحَمُّلِ ، وَتَعَيَّنَ الْفَرْضُ فِي الْأَدَاءِ ، فَإِنْ مَاتَ أَحَدُ شَاهِدَيِ الْأَدَاءِ وَبَقِيَ الْآخَرُ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمَشْهُودِ مِنْ إِحْدَى حَالَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يُحْكَمُ فِيهِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ ، كَالنِّكَاحِ ، وَالطَّلَاقِ ، وَجِنَايَةِ الْعَمْدِ ، فَيَسْقُطُ فَرْضُ الْأَدَاءِ عَنِ الْبَاقِي ، لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِ حَقٌّ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يُحْكَمَ فِيهِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الشَّاهِدِ الْمُؤَدِّي وَالْحَاكِمِ الْمَشْهُودِ عِنْدَهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَرَى الْحُكْمَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ ، فَيَجِبُ عَلَى الشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ ، وَعَلَى الْمَشْهُودِ عِنْدَهُ أَنْ يَحْكُمَ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَا يَرَى الْحُكْمَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ ، فَلَا يَجِبُ عَلَى الشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ ، وَلَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ مِمَّنْ يَرَى الْحُكْمَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ ، وَالْحَاكِمُ مِمَّنْ لَا يَرَى الْحُكْمَ بِهِ ، فَلَا يَجِبُ عَلَى الشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ ، لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِشَهَادَتِهِ إِلْزَامٌ .
وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ مِمَّنْ لَا يَرَى الْحُكْمَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ ، وَالْحَاكِمُ مِمَّنْ يَرَى الْحُكْمَ بِهِ ، فَعَلَى الشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ ، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَرَى ذَلِكَ فَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّ مَا يَشْهَدُ بِهِ حَقٌّ وَاجِبٌ ، وَإِنْ كَانَ فِي الْتِزَامِ الْحُكَّامِ غَيْرُ وَاجِبٍ ، وَالْإِلْزَامُ مُعْتَبَرٌ بِاجْتِهَادِ الْحَاكِمِ دُونَ اجْتِهَادِ الشَّاهِدِ ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ الْيَمِينُ مَعَ الشَّاهِدِ امْرَأَتَانِ ، فِيمَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْحُكْمُ بِالشَّاهِدِ وَالْمَرْأَتَيْنِ ، كَانَ مُعْتَبَرًا بِهَذِهِ الْأَحْوَالِ الْأَرْبَعَةِ .
مَسْأَلَةٌ تَفرُع الشَّهَادَاتُ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " ثُمَّ تَتَفَرَّعُ الشَّهَادَاتُ قَالَ الشَّافِعِيُّ : قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : " وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ " فَأَشْبَهَ أَنْ يَكُونَ خَرَجَ مَنْ تَرَكَ ذَلِكَ ضِرَارًا ، وَفَرْضُ الْقِيَامِ بِهَا فِي الِابْتِدَاءِ عَلَى الْكِفَايَةِ ، كَالْجِهَادِ وَالْجَنَائِزِ وَرَدِّ السَّلَامِ ، وَلَمْ أَحْفَظْ خِلَافَ مَا قُلْتُ عَنْ أَحَدٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ : ثُمَّ تَتَفَرَّعُ الشَّهَادَاتُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهَا تَتَفَرَّعُ بِأَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ فِي حَالٍ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ عِنْدَ كَثْرَةِ الْعَدَدِ ، وَفِي حَالٍ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ عِنْدَ قِلَّةِ الْعَدَدِ ، وَقَائِلُ هَذَا الْوَجْهِ مُتَأَوِّلٌ عَلَى مَا لَا يُخَالِفُ فِيهِ نَصَّ مَذْهَبِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا تَتَفَرَّعُ بِأَنْ يَكُونَ فَرْضُ تَحَمُّلِهَا عَلَى الْكِفَايَةِ ، وَفَرْضُ أَدَائِهَا عَلَى الْأَعْيَانِ . وَقَائِلُ هَذَا الْوَجْهِ مُتَأَوِّلٌ لَهُ عَلَى خِلَافِ مَذْهَبِهِ ، لِأَنَّ فَرْضَ التَّحَمُّلِ قَدْ يَتَعَيَّنُ إِذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُ مَنْ دُعِيَ لِلتَّحَمُّلِ ، وَفَرْضُ الْأَدَاءِ قَدْ لَا يَتَعَيَّنُ إِذَا وُجِدَ غَيْرُ مَنْ دُعِيَ لِلْأَدَاءِ ، فَلَمْ يَمْتَنِعْ فِي التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ مِنْ أَنْ يَنْتَقِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ فَرْضِ الْكِفَايَةِ إِلَى فَرْضِ الْأَعْيَانِ ، وَمِنْ فَرْضِ الْأَعْيَانِ إِلَى فَرْضِ الْكِفَايَةِ ، وَلَئِنْ كَانَ الْمُتَحَمِّلُ مُلْتَزِمًا لِفَرْضِ الْأَدَاءِ فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ لَا يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهَا تَتَفَرَّعُ بِأَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ تَارَةً فِي تَصْحِيحِ عَقْدٍ كَالنِّكَاحِ وَالرَّجْعَةِ ، وَتَارَةً فِي نَدْبٍ كَالْبَيْعِ ، وَالْإِجَارَةِ وَتَارَةً فِي وَثِيقَةٍ كَالدُّيُونِ . وَقَائِلُ هَذَا الْوَجْهِ لَا يَخْرُجُ بِتَأْوِيلِهِ عِنْدَ مَذْهَبِهِ . فَإِنْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ فِي عَقْدِ نِكَاحٍ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِهَا وَجَبَ عَلَى الطَّالِبِ أَنْ يَدْعُوَ إِلَيْهَا لِتَصْحِيحِ عَقْدِهِ . فَإِذَا اقْتَصَرَ بِالشَّهَادَةِ عَلَى تَصْحِيحِ الْعَقْدِ جَازَ أَنْ يَدْعُوَ إِلَيْهَا أَهْلَ الْعَدَالَةِ الظَّاهِرَةِ ، وَإِنْ أَرَادَ بِهَا مَعَ تَصْحِيحِ الْعَقْدِ الْوَثِيقَةَ فِي إِثْبَاتِهِ عِنْدَ الْحُكَّامِ دَعَا إِلَيْهَا أَهْلَ الْعَدَالَةِ الْبَاطِنَةِ ، لِأَنَّ النِّكَاحَ يَصِحُّ بِالْعَدَالَةِ الظَّاهِرَةِ ، وَثُبُوتَهُ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِالْعَدَالَةِ الْبَاطِنَةِ .
وَأَمَّا الْمَطْلُوبُ لِلشَّهَادَةِ عَلَيْهِ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِالْإِجَابَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي تَصْحِيحِ الْعَقْدِ بِحُضُورِهِ . وَالثَّانِي : فِي الْوَثِيقَةِ بِتَحَمُّلِهِ ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعَدَالَةِ الظَّاهِرَةِ تَفَرَّدَ حُضُورُهُ بِتَصْحِيحِ الْعَقْدِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعَدَالَةِ الْبَاطِنَةِ جَمَعَ بِحُضُورِهِ بَيْنَ تَصْحِيحِ الْعَقْدِ وَتَحَمُّلِهِ ، وَإِنْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ فِي مَنْدُوبٍ إِلَيْهِ كَالْبَيْعِ كَانَ مَطْلَبُهَا مَنْدُوبًا إِلَيْهَا ، وَالْمَطْلُوبُ لَهَا مَنْدُوبًا إِلَى الْحُضُورِ ، لِأَنَّهُ فِي الْعَقْدِ عَلَى حُكْمِ الطَّالِبِ ، وَفِي الْوَثِيقَةِ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الطَّالِبِ فَيَصِيرُ دَاخِلًا فِي فَرْضِ الْوَثِيقَةِ ، وَكَانَ خَارِجًا مِنْ فَرْضِ الْعَقْدِ . وَإِذَا كَانَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى دَيْنٍ فَهِيَ وَثِيقَةٌ مَحْضَةٌ طَالِبُهَا مُخَيَّرٌ فِي طَلَبِهَا ، وَالْمَطْلُوبُ بِهَا دَاخِلٌ فِي فَرْضِ تَحَمُّلِهَا . وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنَّهَا تَتَفَرَّعُ بِأَنْ يَخْتَلِفَ حَكَمُهَا بِوُجُودِ الْمُضَارَّةِ وَعَدَمِهَا ، وَوُجُودِ الْأَعْذَارِ وَعَدَمِهَا . وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ التَّفْرِيعُ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُضَارَّةُ فَيَسْقُطُ بِهَا فَرْضُ الشَّهَادَةِ إِنْ كَانَتْ فِي حَقِّ الشَّاهِدِ ، وَتَتَغَلَّظُ بِهَا فَرْضُ الشَّهَادَةِ إِذَا كَانَتْ فِي حَقِّ الْمَشْهُودِ لَهُ ، قَالَ تَعَالَى : وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ [ الْبَقَرَةِ : ] ، وَلِأَهْلِ الْعِلْمِ فِيهِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُضَارَّةَ أَنْ يَكْتُبَ الْكَاتِبُ مَا لَمْ يُمْلَ عَلَيْهِ ، وَيَشْهَدَ الشَّاهِدُ بِمَا لَمْ يُسْتَشْهَدْ ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ ، وَطَاوُسٍ ، وَقَتَادَةَ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمُضَارَّةَ أَنْ يَمْتَنِعَ الْكَاتِبُ أَنْ يَكْتُبَ ، وَيَمْتَنِعَ الشَّاهِدُ أَنْ يَشْهَدَ ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَعَطَاءٍ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ الْمُضَارَّةَ أَنْ يُدْعَى الْكَاتِبُ وَالشَّاهِدُ وَهُمَا مَشْغُولَانِ مَعْذُورَانِ ، وَهُوَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ ، وَالضِّحَاكِ ، وَالسُّدِّيِّ ، وَالرَّبِيعِ . وَيَحْتَمِلُ عِنْدِي تَأْوِيلًا رَابِعًا : أَنْ تَكُونَ الْمُضَارَّةَ أَنْ يُدْعَى الْكَاتِبُ أَنْ يَكْتُبَ بِالْبَاطِلِ ، وَيُدْعَى الشَّاهِدُ أَنْ يَشْهَدَ بِالزُّورِ فَهَذَا مَا اخْتَلَفَ فِيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْ تَأْوِيلِ الْآيَةِ . فَإِنْ كَانَتِ الْمُضَارَّةُ فِي حَقِّ الشَّاهِدِ فَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْإِجَابَةِ مَأْثَمٌ ، وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَسْأَلَهُ الْمَشْهُودُ لَهُ أَنْ يَزِيدَ فِي الْحَقِّ . وَالثَّانِي : أَنْ يَسْأَلَهُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ أَنْ يُنْقِصَهُ مِنَ الْحَقِّ ، فَلَا يَسَعُ الطَّالِبُ أَنْ يَسْأَلَ وَلَا يَسَعُ الشَّاهِدُ أَنْ يُجِيبَ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا آثِمٌ إِنْ فَعَلَ .
وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِهَا مَأْثَمٌ ، وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُدْعَى الشَّاهِدُ إِلَى مَا يَضُرُّ بِبَدَنِهِ مِنْ سَفَرٍ . وَالثَّانِي : إِلَى مَا يَضُرُّ بِدُنْيَاهُ مِنِ انْقِطَاعٍ عَنْ مَكْسَبٍ ، فَالْمَأْثَمُ هَاهُنَا يَتَوَجَّهُ عَلَى الطَّالِبِ إِنْ أَلْزَمَ ، وَلَا يَتَوَجَّهُ إِنْ سَأَلَ ، وَلَكَ هَذَا فَضْلُ الْأَجْرِ إِنْ أَجَابَ ، وَإِنْ سَقَطَتْ عَنْهُ الْإِجَابَةُ بِالْمُضَارَّةِ . وَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الْمُضَارَّةُ فِي حَقِّ الْمَشْهُودِ لَهُ فَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَضُرَّ الشَّاهِدُ بِالتَّوَقُّفِ عَنِ الشَّهَادَةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ . وَالثَّانِي : أَنْ يَضُرَّ بِتَغْيِيرِ الشَّهَادَةِ مِنْ غَيْرِ شُبْهَةٍ ، فَيَكُونُ بِالتَّوَقُّفِ آثِمًا ، وَبِالتَّغْيِيرِ مَعَ الْمَأْثَمِ كَاذِبًا ، وَفِسْقُهُ بِالْكَذِبِ مَقْطُوعٌ بِهِ ، لِأَنَّهُ مِنَ الْكَبَائِرِ ، وَفِسْقُهُ بِالْمَأْثَمِ مُعْتَبَرٌ بِدُخُولِهِ فِي الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ بِحَسَبِ الْحَالِ . فَإِنْ دَخَلَ فِي الصَّغَائِرِ لَمْ يُفَسَّقْ ، وَإِنْ دَخَلَ فِي الْكَبَائِرِ فُسِّقَ بِهِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْأَعْذَارُ فَيَسْتَبِيحُ بِهَا الشَّاهِدُ تَأْخِيرَ الشَّهَادَةِ أعذارها ، سَوَاءٌ تَعَلَّقَتْ بِمَالِهِ أَوْ بِبَدَنِهِ ، وَلَا يَسْتَبِيحُ بِهَا تَغَيُّرَ الشَّهَادَةِ سَوَاءٌ تَعَلَّقَتْ بِمَالِهِ أَوْ بَدَنِهِ . فَأَمَّا الْأَعْذَارُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِبَدَنِهِ للشاهد في تأخير الشهادة فَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِعَجْزٍ دَاخِلٍ . وَالثَّانِي : لِمَشَقَّةٍ دَاخِلَةٍ لَاحِقَةٍ . فَأَمَّا الْعَجْزُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَرِيضًا يَعْجِزُ عَنِ الْحَرَكَةِ ، فَإِنْ دُعِيَ إِلَى الْحَاكِمِ كَانَ مَعْذُورًا فِي التَّأَخُّرِ ، وَإِنْ أَحْضَرَهُ الْحَاكِمُ لَمْ يُعْذَرْ فِي التَّوَقُّفِ عَنْهَا . وَأَمَّا الْمَشَقَّةُ فَضَرْبَانِ : حَظْرٌ ، وَأَذًى . فَأَمَّا الْحَظْرُ فَهُوَ أَنْ يَخَافَ مِنْ سُلْطَانٍ جَائِرٍ ، أَوْ مِنْ عَدْوٍ قَاهِرٍ أَوْ مِنْ فِتْنَةٍ عَامَّةٍ ، فَيَسْقُطُ مَعَهُ فَرْضُ الْإِجَابَةِ مَعَ بَقَاءِ هَذِهِ الْأَعْذَارِ حَتَّى تَزُولَ ، فَتَلْزَمُهُ الْإِجَابَةُ . وَأَمَّا الْأَذَى : فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا يُتَوَقَّعُ زَوَالُهُ . وَهُوَ أَنْ يُدْعَى فِي حَرٍّ شَدِيدٍ ، أَوْ بَرْدٍ شَدِيدٍ ، أَوْ مَطَرٍ جُودٍ فَمَا كَانَ هَذَا الْأَذَى بَاقِيًا فَفَرْضُ الْإِجَابَةِ سَاقِطٌ . فَإِذَا زَالَ وَجَبَتِ الْإِجَابَةُ .
وَأَمَّا الدَّائِمُ : فَهُوَ أَنْ يُدْعَى ، مَعَ الصِّحَّةِ إِلَى الْمَشْيِ إِلَيْهَا ، لِتَحَمُّلِهَا أَوْ لِأَدَائِهَا ، فَإِنْ كَانَ إِلَى مَوْضِعٍ لَا يَخْرُجُ بِهِ عَنْ بَلَدِهِ عُذِرَ بِالتَّأْخِيرِ سَوَاءٌ قَرُبَتِ الْمَسَافَةُ أَمْ بَعُدَتْ ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَا مَرْكُوبٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ ، لِأَنَّ فِي مُفَارَقَةِ وَطَنِهِ مَشَقَّةً يَسْقُطُ مَعَهَا فَرْضُ الْإِجَابَةِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْضِعُ فِي بَلَدِهِ ، فَإِنْ قَرُبَتْ أَطْرَافُ بَلَدِهِ لِصِغَرِهِ لَزِمَتْهُ الْإِجَابَةُ ، وَإِنْ بَعُدَتْ أَقْطَارُهُ لِسَعَتِهِ اعْتُبِرَ حَالُهُ ، فَإِنْ جَرَتْ عَادَتُهُ بِالْمَشْيِ فِي جَمِيعِ أَقْطَارِهِ لَزِمَتْهُ الْإِجَابَةُ ، وَإِنْ لَمْ تَجْرِ عَادَتُهُ بِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ مُفَارَقَةَ الْعَادَةِ شَاقٌّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَا مَرْكُوبٍ فَلَا مَشَقَّةَ عَلَيْهِ فِي الرُّكُوبِ ، فَتَلْزَمُهُ الْإِجَابَةُ ، فَإِنْ حُمِلَ إِلَيْهِ مَا يَرْكَبُهُ وَهُوَ غَيْرُ ذِي مَرْكُوبٍ اعْتُبِرَ حَالُهُ ، فَإِنْ لَمْ يَتَنَاكَرِ النَّاسُ رُكُوبَ مِثْلِهِ لَزِمَتْهُ الْإِجَابَةُ ، وَإِنْ تَنَاكَرُوهَا لَمْ يَلْزَمْهُ ، لِأَنَّ مَا يُنْكِرُهُ النَّاسُ مُسْتَقْبَحٌ وَأَمَّا الْأَعْذَارُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِمَالِهِ المبيحة لتأخير الشهادة فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا خَافَ بِهِ ضَيَاعَ مَالٍ . وَالثَّانِي : مَا تَعَطَّلَ بِهِ عَنِ اكْتِسَابٍ . فَأَمَّا مَا خَافَ بِهِ ضَيَاعَ مَالِهِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُقِيمًا عَلَى حِفْظِهِ وَلَيْسَ لَهُ نَائِبٌ يَقُومُ مَقَامَهُ فِيهِ ، فَيَسْقُطُ عَنْهُ فَرْضُ الْإِجَابَةِ مَا كَانَ عَلَى حَالِهِ . فَإِذَا زَالَ عَنْهَا وَجَبَ فَرْضُهَا ، فَإِنْ ضَمِنَ لَهُ الدَّاعِي حِفْظَ مَالِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِجَابَةُ لِأَنَّهُ لَا يَلْتَزِمُ ائْتِمَانَ النَّاسِ عَلَى مَالِهِ . وَأَمَّا مَا تَعَطَّلَ بِهِ عَنِ اكْتِسَابِهِ ، فَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْمَعَائِشِ الْمُكْتَسِبِينَ ، فَإِنْ دُعِيَ فِي وَقْتِ اكْتِسَابِهِ لَمْ تَلْزَمْهُ الْإِجَابَةُ ، وَإِنْ دُعِيَ فِي غَيْرِهِ لَزِمَتْهُ ، فَلَوْ بَذَلَ لَهُ الدَّاعِي قَدْرَ كَسْبِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ ، وَلَوْ طَلَبَ قَدْرَ كَسْبِهِ نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ أُجْرَةِ مِثْلِهِ لَمْ يَجُزْ ، وَإِنْ كَانَ قَدْرَ أُجْرَةِ مِثْلِهِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهَا ، كَمَا يَجُوزُ لِلْكَاتِبِ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى كِتَابَتِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهَا ، كَمَا لَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْخُصُومِ أُجْرَةً عَلَى حُكْمِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا عَلَى التَّحَمُّلِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا عَلَى الْأَدَاءِ ، لِأَنَّهُ فِي الْأَدَاءِ مُتَهَوِّمٌ ، وَفِي التَّحَمُّلِ غَيْرُ مُتَهَوِّمٍ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا مَنْ تَلْزَمُهُ الشَّهَادَةُ عِنْدَهُ فَهُوَ كُلُّ ذِي وِلَايَةٍ ، يَصِحُّ مِنْهُ اسْتِيفَاءُ الْحُقُوقِ لِأَهْلِهَا ، مِنَ الْأَئِمَّةِ ، وَالْأُمَرَاءِ ، وَالْحُكَّامِ ، وَسَوَاءٌ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ ، أَوْ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ ، فَإِنْ دُعِيَ أَنْ يَشْهَدَ عِنْدَ جَائِرٍ ، فَإِنْ كَانَ جَوْرُهُ فِي الْحَقِّ الْمَشْهُودِ بِهِ لَمْ تَلْزَمْهُ الْإِجَابَةُ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِهِ لَزِمَتْهُ ، وَإِنْ دُعِيَ أَنْ يَشْهَدَ عِنْدَ مُتَوَسِّطٍ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ ، فَإِنْ لَمْ يَلْتَزِمِ الْخَصْمَانِ حُكْمَ الْوَسَطِ لَمْ تَلْزَمْهُ الشَّهَادَةُ عِنْدَهُ ، وَإِنِ الْتَزَمَا حُكْمَهُ فَفِي وُجُوبِ
الشَّهَادَةِ عِنْدَهُ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي الْمُحَكَّمِ مِنْ غَيْرِ الْحُكَّامِ ، هَلْ يَلْزَمُ الْمُتَرَاضِيَيْنِ بِهِ حُكْمُهُ أَمْ لَا ؟ فَإِنْ قِيلَ : بِلُزُومِ حُكْمِهِ لَزِمَ الشَّاهِدُ أَنْ يَشْهَدَ عِنْدَهُ . فَإِنْ قِيلَ : لَا يَلْزَمُهُمَا حُكْمُهُ لَمْ يُلْزَمِ الشَّهَادَةُ عِنْدَهُ ، وَإِنْ دُعِيَ أَنْ يَشْهَدَ عِنْدَ حَاكِمٍ لَا يَعْلَمُ هَلْ يَقْبَلُ شَهَادَتَهُ أَوْ لَا يَقْبَلُهَا ؟ لَزِمَتْهُ الشَّهَادَةُ عِنْدَهُ ، لِجَوَازِ أَنْ يَقْبَلَهَا . فَإِنْ شَهِدَ عِنْدَهُ فَتَوَقَّفَ عَنْ قَبُولِهَا لِاسْتِبْرَاءِ حَالِهِ ، لَزِمَهُ أَنْ يَشْهَدَ عِنْدَ غَيْرِهِ مِنَ الْحُكَّامِ إِذَا دُعِيَ إِلَيْهِ ، وَلَوْ تَوَقَّفَ عَنْ قَبُولِهَا لَهَا كَحُكْمِهِ بِرَدِّ شَهَادَتِهِ لِجُرْحِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَشْهَدَ بِهَا عِنْدَ غَيْرِهِ إِذَا دُعِيَ إِلَيْهَا ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ الْحُكْمُ بِشَهَادَةٍ قَدْ رُدَّتْ بِحُكْمٍ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا وَقْتُ الشَّهَادَةِ : فَعِنْدَ اسْتِدْعَائِهَا سَوَاءٌ كَانَتْ فِي حَقٍّ حَالٍّ ، أَوْ مُؤَجَّلٍ ، وَالْمُسْتَدْعِي لَهَا هُوَ صَاحِبُ الْحَقِّ إِذَا كَانَ جَائِزَ الْأَمْرِ ، أَوِ الْحَاكِمُ فِي حَقِّ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ . فَأَمَّا الشَّهَادَةُ بِالْحَقِّ قَبْلَ اسْتِدْعَاءِ الشَّهَادَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ زَكَاةٍ ، أَوْ كَفَّارَةٍ ، أَوْ حَجٍّ كَانَ مَنْدُوبًا إِلَى الشَّهَادَةِ قَبْلَ الِاسْتِشْهَادِ ، وَهَكَذَا إِنْ كَانَتْ فِي حَقِّ مُوَلًّى عَلَيْهِ بِجِنُونٍ أَوْ صِغَرٍ ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " خَيْرُ الشُّهُودِ مَنْ أَخْبَرَ بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُدْعَى " وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ لِآدَمِيٍّ حَاضِرٍ ، جَائِزِ الْأَمْرِ عَالِمٍ بِحَقِّهِ ، كُرِهَ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ قَبْلَ الِاسْتِدْعَاءِ : لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثَمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ حَتَّى يَشْهَدَ الرَّجُلُ قَبْلَ أَنْ يُشْهَدَ " فَكَانَ لِاخْتِلَافِ هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ مَحْمُولًا عَلَى اخْتِلَافِ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
بَابُ شَرْطِ الَّذِينَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ
الشُّرُوطَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي قَبُولِ الشَّاهِدِ
بَابُ شَرْطِ الَّذِينَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَقَالَ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ قَالَ فَكَانَ الَّذِي يُعْرَفُ مَنْ خُوطِبَ بِهَذَا أَنَّهُ أُرِيدَ بِذَلِكَ الْأَحْرَارُ الْبَالِغُونَ الْمُسْلِمُونَ الْمَرْضِيُّونَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الشُّرُوطَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي قَبُولِ الشَّاهِدِ خَمْسَةٌ . الْأَوَّلُ : الْحُرِّيَّةُ . الثَّانِي : الْبُلُوغُ . الثَّالِثُ : الْعَقْلُ . الرَّابِعُ : الْإِسْلَامُ . الْخَامِسُ : الْعَدَالَةُ . فَأَمَّا شَهَادَةُ الْعَبِيدِ ، فَمَرْدُودَةٌ عَلَى الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ فِي كَثِيرِ الْمَالِ وَقَلِيلِهِ ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ ، وَالتَّابِعِينَ ، وَالْفُقَهَاءِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٍ . وَحُكِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، عَلَيْهِ السَّلَامُ ، أَنَّ شَهَادَةَ الْعَبْدِ مَقْبُولَةٌ عَلَى الْعَبِيدِ دُونَ الْأَحْرَارِ . وَحُكِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ ، وَالنَّخَعِيِّ ، أَنَّ شَهَادَتَهُ مَقْبُولَةٌ فِي الْقَلِيلِ دُونَ الْكَثِيرِ . وَحُكِيَ عَنْ دَاوُدَ ، وَأَحْمَدَ ، وَإِسْحَاقَ ، وَأَبِي ثَوْرٍ أَنَّ شَهَادَةَ الْعَبِيدِ مَقْبُولَةٌ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا . وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ . وَمِنَ التَّابِعِينَ : شُرَيْحٌ ، وَقِيلَ : إِنْ عَبْدًا شَهِدَ عِنْدَهُ ، فَقَبِلَ شَهَادَتَهُ ، فَقِيلَ لَهُ : إِنَّهُ عَبْدٌ فَقَالَ : " قُمْ " كُلُّكُمُ ابْنُ عَبْدٍ وَأَمَةٍ . وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : " رُبَّ عَبْدٍ خَيْرٌ مِنْ مَوْلَاهُ " . وَاسْتَدَلُّوا عَلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِ مَعَ اخْتِلَافِ مَذَاهِبِهِمْ ، بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ [ الْبَقَرَةِ : ] . وَظَاهِرُهُ عِنْدَهُمْ فِي الْعَبِيدِ ، لِإِضَافَتِهِ إِلَيْنَا بِـ " لَامِ " التَّمْلِيكِ ، وَلِأَنَّ مَنْ قُبِلَ خَبَرُهُ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ كَالْحُرِّ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى رَدِّ شَهَادَتِهِ ، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [ الْبَقَرَةِ : ] . وَهَذَا الْخِطَابُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْأَحْرَارِ ، لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُشْهِدُونَ فِي حُقُوقِ أَنْفُسِهِمْ ، وَقَوْلُهُ ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ يُبْقِي دُخُولَ الْعَبِيدِ فِيهِمْ ، وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ مَوْضُوعَةٌ عَلَى الْمُفَاضَلَةِ ، لِأَنَّ الرَّجُلَ فِيهَا كَالْمَرْأَتَيْنِ ، فَمَنَعَتِ الْمُفَاضَلَةُ مِنْ مُسَاوَاةِ الْعَبْدِ فِيهَا لِلْحُرِّ كَالْقَضَاءِ فِي الْوِلَايَاتِ ، وَالْحَجِّ ، وَالْجِهَادِ ، فِي الْعِبَادَاتِ ، وَكَالتَّوَارُثِ فِي الْمُمْتَلَكَاتِ ، وَلِأَنَّ نَقْصَ الرِّقِّ يَمْنَعُ كَمَالَ الشَّهَادَةِ لِوُرُودِهِ مِنْ جِهَةِ الْكُفْرِ الْمَانِعِ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ رِجَالِكُمْ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تَخْصِيصُ عُمُومِهَا بِمَا ذَكَرْنَاهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى حَالِ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ ، دُونَ أَدَائِهَا ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اعْتِبَارِ شَهَادَتِهِ بِقَبُولِ خَبَرِهِ ، فَهُوَ أَنَّ الْخَبَرَ أَوْسَعُ حُكْمًا مِنَ الشَّهَادَةِ ، لِقَبُولِ الْوَاحِدِ فِي الْخَبَرِ ، وَانْتِقَالِهِ بِالْعَنْعَنَةِ عَنْ وَاحِدٍ بَعْدَ وَاحِدٍ ، وَهَذَا مُمْتَنِعٌ فِي الشَّهَادَةِ ، فَكَذَلِكَ فِي الرِّقِّ .
مَسْأَلَةٌ شَهَادَةُ الصِّبْيَانِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَقَوْلُهُ شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ يَدُلُّ عَلَى إِبْطَالِ قَوْلِ مَنْ قَالَ تَجُوزُ شَهَادَةُ الصِّبْيَانِ فِي الْجِرَاحِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقُوا فَإِنْ قَالَ أَجَازَهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ فَابْنُ عَبَّاسٍ رَدَّهَا . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْبُلُوغَ شَرْطٌ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الصِّبْيَانِ بِحَالٍ فِي قَلِيلٍ وَلَا كَثِيرٍ مِنْ مَالٍ ، وَلَا جِرَاحٍ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ . وَقَالَ مَالِكٌ : تُقْبَلُ شَهَادَةُ الصِّبْيَانِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْجِرَاحِ دُونَ غَيْرِهَا مَا لَمْ يَتَفَرَّقُوا ، فَإِنْ تَفَرَّقُوا لَمْ تُقْبَلْ . وَبِهِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ . وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصَرِيِّ أَنَّهُ أَجَازَ شَهَادَتَهُمْ فِي الْمُوَضِّحَةِ ، وَالسِّنِّ فَمَا دُونَ ، وَلَمْ يُجِزْهَا فِيمَا زَادَ ، احْتِجَاجًا بِقَضَاءِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِشَهَادَتِهِمْ فِي الْجِرَاحِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقُوا . قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ : فَخَالَفَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ ، وَصَارَ النَّاسُ إِلَى قَضَاءِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ ، فَكَانَ إِجْمَاعًا ، وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ مُعْتَبَرَةٌ بِحَالِ الضَّرُورَةِ ، كَمَا أُجِيزَتْ شَهَادَةُ النِّسَاءِ الْمُنْفَرِدَاتِ فِي الْوِلَادَةِ ، لِأَنَّهَا حَالَةٌ لَا يَحْضُرُهَا الرِّجَالُ ، كَذَلِكَ اجْتِمَاعُ الصِّبْيَانِ فِي لَعِبِهِمْ ، وَمَا يَتَعَاطَوْنَ مِنْ رَمْيِهِمْ لَا يَكَادُ يَحْضُرُهُمُ الرِّجَالُ ، فَجَازَ لِلضَّرُورَةِ أَنْ تُقْبَلَ
شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ قَبْلَ افْتِرَاقِهِمْ ، لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ عَنْهُمْ ، وَلَمْ يَجُزْ بَعْدَ افْتِرَاقِهِمْ لِتُوَجُّهِ التُّهْمَةِ إِلَيْهِمْ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى رَدِّ شَهَادَتِهِمْ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [ الْبَقَرَةِ : مِنَ الْآيَةِ ] ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ قَبُولِ شَهَادَةِ الصِّبْيَانِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : قَوْلُهُ : مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَيْسَ الصِّبْيَانُ مِنَ الرِّجَالِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا عَدَلَ عَنِ الرَّجُلَيْنِ إِلَى أَنْ قَالَ : فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعْدَلُ إِلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الصِّبْيَانِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ قَالَ : مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ وَلَيْسَ الصِّبْيَانُ مِمَّنْ يُرْضَى مِنَ الشُّهَدَاءِ . وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، عَلَيْهِ السَّلَامُ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " رُفِعَ الْقَلَمُ عَنِ ثَلَاثٍ : عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَنْتَبِهَ ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَفِيقَ " فَلَمَّا كَانَ الْقَلَمُ مَرْفُوعًا عَنْهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ إِذَا أَقَرَّ ، كَانَ أَوْلَى أَنْ يُرْفَعَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ ، إِذَا شَهِدَ ، وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ فِي الْأَمْوَالِ أَخَفُّ مِنْهَا فِي الدِّمَاءِ ، وَهِيَ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ مِنْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ ، فَأَوْلَى أَنْ لَا تُقْبَلَ فِي الدِّمَاءِ . وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ لِأَجْلِ اعْتِزَالِهِمْ عَنِ الرِّجَالِ أَنْ تُقْبَلَ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ ، لَجَازَ لِأَجْلِ اجْتِمَاعِ النِّسَاءِ فِي الْحَمَّامَاتِ وَالْأَعْرَاسِ ، أَنْ تُقْبَلَ شَهَادَةُ بِعَضِّهِنَّ عَلَى بَعْضٍ ، وَهِيَ لَا تُقْبَلُ مَعَ الضَّرُورَةِ مَعَ جَوَازِ قَبُولِهِنَّ مَعَ الرِّجَالِ فِي الْأَمْوَالِ ، فَالصِّبْيَانُ الَّذِينَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ مَعَ الرِّجَالِ ، فَأَوْلَى أَنْ لَا تُقْبَلَ فِي الِانْفِرَادِ ، وَبِهِ يَبْطُلُ اسْتِدْلَالُهُمْ . وَقَضَاءُ ابْنِ الزُّبَيْرِ مَعَ خِلَافِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَمْنَعُ مِنِ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ . وَالْقِيَاسُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ فِي الْأَمْوَالِ لَمْ تُقْبَلْ فِي الْجِرَاحِ ، كَالْفَسَقَةِ .
مَسْأَلَةٌ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ مَمْلُوكٍ وَلَا كَافِرٍ وَلَا صَبِيٍّ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ " وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ مَمْلُوكٍ ، وَلَا كَافِرٍ ، وَلَا صَبِيٍّ بِحَالٍ ، لِأَنَّ الْمَمَالِيكَ يَغْلِبُهُمْ مَنْ يَمْلِكُهُمْ عَلَى أُمُورِهِمْ ، وَأَنَّ الصِّبْيَانَ لَا فَرَائِضَ عَلَيْهِمْ ، فَكَيْفَ يَجِبُ بِقَوْلِهِمْ فَرْضٌ ، وَالْمَعْرُوفُونَ بِالْكَذِبِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ ، فَكَيْفَ تَجُوزُ شَهَادَةُ الْكَافِرِينَ مَعَ كَذِبِهِمْ عَلَى اللَّهِ ، جَلَّ وَعَزَّ قَالَ الْمُزَنِيُّ أَحْسَنَ الشَّافِعِيُّ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْمَمْلُوكُ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ شَهَادَتَهُ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ ، وَكَذَلِكَ مَنْ بَقِيَتْ فِيهِ أَحْكَامُ الرِّقِّ ، وَإِنِ انْعَقَدَتْ لَهُ أَسْبَابُ الْعِتْقِ مِنَ الْمُدَبَّرِ ، وَالْمُكَاتَبِ ، وَأُمِّ الْوَلَدِ ، وَمَنْ رَقَّ بَعْضُهُ وَعُتِقَ بَعْضُهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ ، لِجَرَيَانِ أَحْكَامِ الرِّقِّ عَلَيْهِمْ ، فَإِذَا تَكَامَلَ عِتْقُ أَحَدِهِمْ وَصَارَ حُرًّا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ ، وَإِنْ كَانَ وَلَاءُ الْعِتْقِ جَارِيًا عَلَيْهِ ، وَهُوَ مِنْ أَحْكَامِ
الرِّقِّ ، لِأَنَّ الْوَلَاءَ جَارٍ مَجْرَى النَّسَبِ فِي الْمِيرَاثِ ، فَخَرَجَ عَنْ أَحْكَامِ الرِّقِّ فِي النَّقْضِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الصَّبِيُّ حكم شهادته فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ شَهَادَتَهُ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ بِحَالٍ ، سَوَاءٌ رَاهَقَ أَوْ لَمْ يُرَاهِقْ ، وَسَوَاءٌ حُكِمَ بِصِحَّةِ إِسْلَامِهِ ، أَوْ لَمْ يُحْكَمْ ، فَإِنْ بَلَغَ الِاحْتِلَامَ قَبْلَ اسْتِكْمَالِ السِّنِّ قُبِلَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَلَغَ بِاسْتِكْمَالِ السِّنِّ قُبِلَ ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالِغًا ، فَلَمْ يُعْتَبَرِ اجْتِمَاعُهُمَا فِيهِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْكَافِرُ حكم شهادته فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِمُسْلِمٍ ، وَلَا عَلَيْهِ فِي وَصِيَّةٍ ، وَلَا غَيْرِهَا ، فِي سِفْرٍ كَانَ أَوْ حَضَرٍ . وَحُكِيَ عَنْ دَاوُدَ : أَنَّهُ أَجَازَ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي وَصِيَّتِهِ ، فِي السَّفَرِ دُونَ الْحَضَرِ . وَبِهِ قَالَ مِنَ التَّابِعِينَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ ، وَعِكْرِمَةُ . فَأَمَّا قَبُولُ شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ ، وَعَلَى بَعْضٍ ، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي جَوَازِهَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ بِحَالٍ سَوَاءٌ اتَّفَقَتْ مِلَلُهُمْ أَوِ اخْتَلَفَتْ . وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ أَنَّ شَهَادَةَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ مَقْبُولَةٌ مَعَ اتِّفَاقِ مِلَلِهِمْ وَاخْتِلَافِهَا ، وَبِهِ قَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ ، وَقُضَاةُ الْبَصْرَةِ ، الْحَسَنُ ، وَسَوَّارٌ وَعُبَيْدُ اللَّهِ . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ ، وَالشَّعْبِيِّ ، وَقَتَادَةَ أَنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ لِأَهْلِ مِلَّتِهِمْ وَعَلَيْهِمْ ، وَلَا تُقْبَلُ عَلَى غَيْرِ أَهْلِ مِلَّتِهِمْ كَالْيَهُودِ عَلَى النَّصَارَى ، وَالنَّصَارَى عَلَى الْيَهُودِ . وَاسْتَدَلُّوا بُقُولِ اللَّهِ تَعَالَى يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ [ الْمَائِدَةِ : ] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : مِنْ غَيْرِ دِينِكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ، فَجَعَلَهُ دَاوُدُ مَقْصُورًا عَلَى الْوَصِيَّةِ ، وَجَعَلَهُ أَبُو حَنِيفَةَ مَقْصُورًا عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ ، وَجَعَلَهُ الزُّهْرِيُّ ، وَالشَّعْبِيُّ مَقْصُورًا عَلَى الْمُوافِقِينَ فِي الْمِلَّةِ دُونَ الْمُخَالِفِينَ وَرَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ جَابِرٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَجَازَ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ " قَالُوا : وَهَذَا نَصٌّ . وَرَوَى أَبُو أُسَامَةَ عَنْ مُجَالِدٍ عَنْ عَامِرٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ : جَاءَتِ الْيَهُودُ بِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ مِنْهُمْ زَنَيَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : " ائْتُونِي بِأَعْلَمِ رَجُلَيْنِ مِنْكُمْ " ، فَأَتَوْهُ
بَابْنَيْ صُورِيَا " فَنَشَدَهُمَا كَيْفَ تَجِدُونَ أَمْرَ هَذَيْنِ فِي التَّوْرَاةِ " فَقَالَا نَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ إِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا مِثْلَ الْمَيْلِ فِي الْمُكْحُلَةِ رُجِمَا ، قَالَ : " فَمَا مَنَعَكُمَا أَنْ تَرْجُمُوهُمَا " قَالَا ذَهَبَ سُلْطَانُنَا فَكَرِهْنَا الْقَتْلَ ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشُّهُودِ فَجَاءُوا بِأَرْبَعَةٍ فَشَهِدُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا مِثْلَ الْمَيْلِ فِي الْمُكْحُلَةِ ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجْمِهِمَا " . فَدَلَّ عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ قَالُوا : وَلِأَنَّ الْكُفْرَ لَا يُنَافِي الْوِلَايَةَ ، لِأَنَّ الْكَافِرَ يَلِي عَلَى أَطْفَالِهِ وَعَلَى نِكَاحِ بَنَاتِهِ ، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يُمْنَعَ مِنَ الشَّهَادَةِ ، لِأَنَّهَا أَخَصُّ شُرُوطًا مِنَ الْوِلَايَةِ . قَالُوا : وَلِأَنَّ مَنْ كَانَ عَدْلًا مِنْ أَهْلِ دِينِهِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ كَالْمُسْلِمِينَ . قَالُوا : وَلِأَنَّهُ فُسِّقَ عَلَى وَجْهِ التَّأْوِيلِ ، فَلَمْ يُمْنَعْ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ كَأَهْلِ الْبَغْيِ . وَدَلِيلُنَا : قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [ الطَّلَاقِ : ] ، فَمَنَعَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ غَيْرُ عُدُولٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنَّا . وَقَالَ تَعَالَى : إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [ الْحُجُرَاتِ : ] . وَالْكَافِرُ فَاسِقٌ ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَثَبَّتَ فِي خَبَرِهِ ، وَالشَّهَادَةُ أَغْلَظُ مِنَ الْخَبَرِ ، فَأَوْجَبَتِ التَّوَقُّفَ عَنْ شَهَادَتِهِ . وَرَوَى عُبَادَةُ بْنُ نُسَيٍّ عَنِ ابْنِ غَنْمٍ قَالَ : سَأَلْتُ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ عَنْ شَهَادَةِ الْيَهُودِيِّ عَلَى النَّصْرَانِيِّ ، فَقَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ دِينٍ عَلَى غَيْرِ أَهْلِ دِينِهِمْ إِلَّا الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُمْ عُدُولٌ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ، وَعَلَى غَيْرِهِمْ " فَإِذَا مَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ عَلَى غَيْرِ أَهْلِ دِينِهِمْ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يُسَوِّي بَيْنَ أَهْلِ دِينِهِمْ وَغَيْرِهِمْ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ عَلَى أَهْلِ دِينِهِمْ ، وَعَلَى غَيْرِهِمْ ، وَلِأَنَّ الْفَاسِقَ الْمُسْلِمَ أَكْمَلُ مِنَ الْكَافِرِ الْعَدْلِ ، لِصِحَّةِ الْعِبَادَاتِ مِنَ الْفَاسِقِ ، وَاسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ ، وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ مِنَ الْكَافِرِ ، وَلَا يَسْتَحِقُّ مِيرَاثَ مُسْلِمٍ ، ثُمَّ كَانَ الْفِسْقُ مَانِعًا مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ ، فَكَانَ الْكُفْرُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَانِعًا مِنْهَا . وَيَتَحَرَّرُ لَكَ مِنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسَانِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَنْ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ عَلَى الْمُسْلِمِ ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ عَلَى غَيْرِ الْمُسْلِمِ كَالْفَاسِقِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَنْ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ بِالْفِسْقِ ، رُدَّتْ شَهَادَتُهُ بِالْكُفْرِ ، كَالشَّهَادَةِ عَلَى