كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي
أَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ رَكِيكٌ وَضَعَهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي ، ثُمَّ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لَمْ تَكُنْ تَحِلُّ لِلْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلُ ، فَوَجَبَ أَنْ تَحِلَّ لِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقَوْلِهِ : أُعْطِيتُ مَا لَمْ يُعْطَ نَبِيٌّ مِنْ قَبْلِي : أُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ عَلَى أَنَّ النَّارَ لَا تَأْكُلُ الْفِضَّةَ ، وَالذَّهَبَ . وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ أَنْ تَكُونَ غَنِيمَةً مَقْسُومَةً كَذَلِكَ الْأَرْضُ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْآدَمِيُّونَ الْمَقْدُورُ عَلَيْهِمْ وَالْمَظْفُورُ بِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَضَرْبَانِ : عَبِيدٌ ، وَأَحْرَارٌ . فَأَمَّا الْعَبِيدُ فَمَالٌ مَغْنُومٌ . وَأَمَّا الْأَحْرَارُ فَضَرْبَانِ : ذُرِّيَّةٌ ، وَمُقَاتِلَةٌ . فَأَمَّا الذُّرِّيَّةُ فَهُمُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ ، وَمِنْهُمْ لَا يَصِيرُونَ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ ، مَرْقُوقِينَ وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ فِيهِمْ خِيَارٌ وَعَلَيْهِ أَنْ يُقَسِّمَهُمْ بَيْنَ الْغَانِمِينَ بَعْدَ إِخْرَاجِ خُمُسِهِمْ . وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ لِكَوْنِهِمْ مَالًا مَغْنُومًا ، وَقَسَمَ سَبْيَ بَنِي الْمُصْطَلِقِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ وَاصْطَفَى صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ مِنْ سَبْيِ خَيْبَرَ ، وَقَسَمَ سَبْيَ هَوَازِنَ بَيْنَ النَّاسِ حَتَّى اسْتَنْزَلَتْهُ هَوَازِنُ فَنَزَلَ وَاسْتَنْزَلَ . وَأَمَّا الْمُقَاتِلَةُ فَلِلْإِمَامِ فِيهِمُ الْخِيَارُ اجْتِهَادًا وَنَظَرًا بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ وَمِنْهَا مَا رَآهُ صَالِحًا : أَحَدُهُمَا : الْقَتْلُ . وَالثَّانِي : الِاسْتِرْقَاقُ . وَالثَّالِثُ : الْفِدَاءُ بِمَالٍ أَوْ رِجَالٍ . وَالرَّابِعُ : الْمَنُّ ، فَإِنْ كَانَ ذَا قُوَّةٍ يُخَافُ شَرُّهُ ، أَوْ ذَا رَأْيٍ يُخَافُ مَكْرُهُ قَتَلَهُ ، وَإِنْ كَانَ مَهِينًا ذَا كَدٍّ وَعَمَلٍ اسْتَرَقَّهُ ، وَإِنْ كَانَ ذَا مَالٍ فَادَاهُ بِمَالٍ ، وَإِنْ كَانَ ذَا جَاهٍ فَادَاهُ بِمَنْ فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ الْأَسْرَى ، وَإِنْ كَانَ ذَا خَيْرٍ وَرَغْبَةٍ فِي الْإِسْلَامِ مَنَّ عَلَيهِ وَأَطْلَقَهُ مِنْ غَيْرِ فِدَاءٍ . فَيَكُونُ خِيَارًا لِلْإِمَامِ أَوْ أَمِيرِ الْجَيْشِ ، فَمَنْ أُسِرَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْيَاءِ بَيْنَ الْقَتْلِ أَوِ الِاسْتِرْقَاقِ أَوِ الْفِدَاءِ بِمَالٍ أَوْ رِجَالٍ أَوِ الْمَنِّ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ : الْقَتْلُ ، أَوِ الِاسْتِرْقَاقُ وَلَيْسَ لَهُ الْفِدَاءُ وَالْمَنُّ . وَقَالَ صَاحِبَاهُ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : هُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : بَيْنَ الْقَتْلِ ، أَوِ الِاسْتِرْقَاقِ ، أَوِ الْفِدَاءِ بِرِجَالٍ ، وَلَيْسَ لَهُ الْفِدَاءُ بِمَالٍ وَلَا الْمَنُّ . وَنَحْنُ نَدُلُّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى انْفِرَادِهِ . أَمَّا الْقَتْلُ فَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ الْآيَةَ [ التَّوْبَةِ : 5 ] وَقَتَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْأَسْرَى أَرْبَعَةَ أَنْفُسٍ صَبْرًا ، وَمِنْهُمْ أَبُو عَزَّةَ الْجُمَحِيُّ وَعُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ وَابْنُ خَطَلٍ وَابْنُ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ ، فَأَمَّا أَبُو عَزَّةَ الْجُمَحِيُّ فَإِنَّهُ أُسِرَ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ مُنَّ عَلَيَّ ، فَمَنَّ عَلَيْهِ ، فَلَمَّا عَادَ إِلَى مَكَّةَ قَالَ سَخِرْتُ بِمُحَمَّدٍ ، وَعَادَ لِقِتَالِهِ يَوْمَ أُحُدٍ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللَّهُمَّ أَوْقِعْ أَبَا عَزَّةَ ، فَلَمَّا أُسِرَ أُتِيَ بِهِ فَقَالَ :
يَا مُحَمَّدُ مُنَّ عَلَيَّ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمُنُّ عَلَيْكَ حَتَّى تَأْتِيَ مَكَّةَ فَتَقُولُ فِي نَادِي قُرَيْشٍ : سَخِرْتُ مِنْ مُحَمَّدٍ مَرَّتَيْنِ ؛ لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ ، اقْتُلُوهُ ، فَقُتِلَ . وَأَمَّا عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ فَلَمَّا أُسِرَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَتْلِهِ ، فَقَالَ مَنِ الْمُصِيبَةُ ، فَقَالَ : النَّارُ ، وَأَمَّا ابْنُ خَطَلٍ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ أَبَاحَ دَمَ سِتَّةٍ هُوَ مِنْهُمْ ، فَتَعَلَّقَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ : لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : مَنْ تَعَلَّقَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَهُوَ آمِنٌ وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَثْنَى السِّتَّةَ وَقَالَ : اقْتُلُوهُمْ وَإِنْ تَعَلَّقُوا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ ، فَلَمَّا أُقِرَّ بِذَلِكَ قَالَ اقْتُلُوهُ فَقُتِلَ . وَأَمَّا النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِقَتْلِهِ حِينَ أُسِرَ فَقُتِلَ ، فَلَمَّا دَخَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ اسْتَقْبَلَتْهُ قُتَيْلَةُ بِنْتُ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ وَأَنْشَدَتْهُ : أَمُحَمَّدٌ وَلَدَتْكَ خَيْرُ نَجِيبَةٍ مِنْ قَوْمِهَا وَالْفَحْلُ فَحْلٌ مُعْرِقُ مَا كَانَ ضَرُّكَ لَوْ مَنَنْتَ وَرُبَّمَا مَنَّ الْفَتَى وَهُوَ الْمَغِيظُ الْمُحْنَقُ فَالنَّضْرُ أَقْرَبُ مَنْ تَرَكْتَ قَرَابَةً وَأَحَقُّهُمْ إِنْ كَانَ عِتْقٌ يُعْتَقُ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَوْ سَمِعْتُ شِعْرَهَا مَا قَتَلْتُهُ . فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ قَتْلِ الْأَسْرَى مِنَ الْمُشْرِكِينَ واسترقاقهم . وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ اسْتِرْقَاقِهِمْ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ وَفِي الْآيَةِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ بِالظَّفَرِ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ بِالْأَسْرِ . وَالثَّانِي : إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ بِالْأَسْرِ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ بِالِاسْتِرْقَاقِ . وَقَدِ اسْتَرَقَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَبْيَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَهَوَازِنَ وَرَجُلًا مِنْ بَنِي عُقَيْلٍ ، فَقَالَ لَهُ قَدْ أَسْلَمْتُ ، فَقَالَ : لَوْ أَسْلَمْتَ قَبْلَ هَذَا لَكُنْتَ قَدْ أَفْلَحْتَ كُلَّ الْفَلَاحِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفِدَاءُ وَالْمَنُّ ، فَاسْتِدْلَالُ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى الْمَنْعِ مِنْهُمَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ إِلَى قَوْلِهِ لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [ الْأَنْفَالِ : 67 ، 68 ] ، يَعْنِي : مِنْ أَمْوَالِ الْفِدَاءِ فِي أَسْرَى
بَدْرٍ ، وَإِذْ مَنَعَتِ الْآيَةُ مِنَ الْفِدَاءِ بِمَالٍ كَانَتْ مِنَ الْفِدَاءِ بِالْمَنِّ لِمَنْ بَغَيرِ مَالٍ أَمْنَعُ . وَقَالَ تَعَالَى : فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [ التَّوْبَةِ : 5 ] فَأَمَرَ بِقَتْلِهِمْ وَنَهَى عَنْ تَخْلِيَتِهِمْ بَعْدَ أَخْذِهِمْ وَحَصْرِهِمْ إِلَّا بِإِسْلَامِهِمْ ؛ فَدَلَّ عَلَى تَحْرِيمِ الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ . وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزِ الْمَنُّ عَلَيْهِمْ بِسِلَاحِهِمْ وَعَبِيدِهِمْ وَلَا مَنْعُ السِّلَاحِ وَالْعَبِيدِ عَلَيْهِمْ ؛ وَذَلِكَ تَبَعٌ يَقِلُّ ضَرَرُهُ قَصْدًا لِإِضْعَافِهِمْ ، فَكَانَ بِأَنْ لَا يَمُنَّ عَلَيْهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ وَلَا يُفَادَوْا بِمَالٍ عَنْ رِقَابِهِمْ أَوْلَى : لِأَنَّ الضَّرَرَ بِهِمْ أَعْظَمُ وَإِضْعَافَهُمْ بِالْقَتْلِ وَالِاسْتِرْقَاقِ أَبْلَغُ ، وَلِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي حَظْرِ الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ ظَاهِرَةٌ : لِأَنَّهُمْ إِذَا تَصَوَّرُوا جَوَازَهَا عِنْدَنَا أَقْدَمُوا عَلَى الْحَرْبِ تَعْوِيلًا عَلَى الْفِدَاءِ بَعْدَ الْأَسْرِ وَرَجَاءَ الْمَنِّ . وَإِذَا تَصَوَّرُوا أَنَّهُ لَا خَلَاصَ لَهُمْ مِنَ الْقَتْلِ إِذَا أَصَرُّوا ؛ كَانَ ذَلِكَ أَحْجَمَ لَهُمْ عَنِ الْإِقْدَامِ وَأَمْنَعَ مِنَ الْقِتَالِ . وَإِذَا كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِيهِ ظَاهِرَةً كَانَ مَا دَعَى إِلَيْهَا لَازِمًا . وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ للأسرى قَوْلُهُ تَعَالَى : فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى قَوْلِهِ : فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا [ مُحَمَّدٍ : 4 ] وَقَالَ مُجَاهِدٌ : حَتَّى لَا يَبْقَى فِي الْأَرْضِ دِينٌ غَيْرُ الْإِسْلَامِ ، فَكَانَ الْمَنُّ وَالْفِدَاءُ صَرِيحًا فِي هَذَا الْآيَةِ وَلَيْسَ لَهُمْ نَسْخُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [ التَّوْبَةِ : 5 ] لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ إِذَا أَمْكَنَ اسْتِعْمَالُ الْآيَتَيْنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَنْسَخَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى ، وَاسْتِعْمَالُهُمَا مُمْكِنٌ فِي جَوَازِ الْكُلِّ . وَيُعْتَبَرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِاجْتِهَادِ الْإِمَامِ وَرَأْيِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْأَمْرَ بِالْقَتْلِ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ دُونَ الْوُجُوبِ ، وَإِبَاحَتُهُ لَا تَمْنَعُ مِنَ الْعُدُولِ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ ، وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْمَنِّ خَاصَّةً مَا رَوَاهُ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ : أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأُسَارَى بَدْرٍ : لَوْ كَانَ مُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَى لَأَطْلَقْتُهُمْ لَهُ ؛ وهُوَ لَا يَقُولُ ذَلِكَ إِلَّا لِجَوَازِهِ عِنْدَهُ . وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ خَيْلًا قِبَلَ نَجْدٍ فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ ، فَرَبَطُوهُ إِلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ : مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ ؟ قَالَ : عِنْدِي يَا مُحَمَّدُ خَبَرٌ إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ ، فَتَرَكَهُ ، حَتَّى إِذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ ذَكَرَ مِثْلَ هَذَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ فَانْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَسْجِدِ فَاغْتَسَلَ ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَقَالَ : أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ . وَكَتَبَ إِلَى قَوْمِهِ فَأَتَوْهُ مُسْلِمِينَ . وَقَدْ مَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَبِي عَزَّةَ الْجُمَحِيِّ يَوْمَ بَدْرٍ عَلَى
أَلَّا يَعُودَ لِحَرْبِهِ أَبَدًا فَعَادَ يَوْمَ أُحُدٍ وَأَسَرَهُ ، وَمَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ الرَّبِيعِ وَكَانَ صِهْرَهُ عَلَى ابْنَتِهِ زَيْنَبَ . وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْفِدَاءِ رِوَايَةُ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ : أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَادَى رَجُلًا بِرَجُلَيْنِ ، رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ مُفَسِّرًا أَنَّ عِمْرَانَ بْنَ الْحُصَيْنِ قَالَ : بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَرِيَّةً فَأَسَرُوا رَجُلًا مِنْ بَنِي عَقِيلٍ فَاسْتُوْثِقَ مِنْهُ ، وَطُرِحَ فِي الْحَرَّةِ فَمَرَّ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : فِيمَا أُخِذْتُ وَفِيمَ أُخِذَتْ سَالِفَةُ الْحَاجِّ ، يَعْنِي الْعَضْبَاءَ ، قَالَ أُخِذَتُ بِجَرِيرَةِ حُلَفَائِكُمْ مِنْ ثَقِيفٍ قَدْ أَسَرُوا مُسْلِمِينَ ، فَقَالَ الْعُقَيْلِيُّ : إِنِّي جَائِعٌ فَأَطْعِمْنِي وَعَطْشَانٌ فَاسْقِنِي وَأَنَا مُسْلِمٌ فَخَلِّنِي ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَوْ قُلْتَ هَذَا قَبْلَ هَذَا أَفْلَحْتَ كُلَّ الْفَلَاحِ . يَعْنِي : قَبْلَ أَنْ تَسْتَرِقَّ ، وَفَادَاهُ بِرَجُلَيْنِ وَحَبَسَ الْعَضْبَاءَ ، وَهِيَ نَاقَتُهُ الَّتِي خَطَبَ عَلَيْهَا بِمِنًى فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ . فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ يُفَادَى بِهِ بَعْدَ إِسْلَامِهِ ؟ قِيلَ : لِأَنَّهُ كَانَ مُسْتَرَقًّا فَصَارَتْ مُفَادَاتُهُ عِتْقًا ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ بِالْفِدَاءِ مَعَ خُرُوجِهِمْ مِنْ دَارِنَا بِالْجِزْيَةِ مَعَ إِقْرَارِهِمْ فِي دَارِنَا جَازَ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُمْ بِالْفِدَاءِ مَعَ خُرُوجِهِمْ مِنْ دَارِنَا أَوْلَى . وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهُ اعْتِيَاضُ رَقَبَةٍ مُشْرِكَةٍ فَجَازَ كَالْحُرِّيَّةِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ تَآلُفُ الْمُشْرِكِينَ بِإِعْطَائِهِمْ سَهْمَ الْمُؤَلَّفَةِ كَانَ تَآلُفُهُمْ بالْمَنِّ أَوْلَى ، وَرُبَّمَا كَانَ الْمَنُّ أَبْلَغَ فِي تَآلُفِهِمْ أَثَرًا أَوْ أَعَمَّ صَلَاحًا . وَحُكِيَ أَنَّ الْحَجَّاجَ أُتِيَ بِأَسِيرٍ مِنَ الْخَوَارِجِ مِنْ أَصْحَابِ قَطَرِيِّ بْنِ الْفُجَاءَةِ وَكَانَ يَعْرِفُهُ ، فَلَمَّا رَآهُ مَنَّ عَلَيْهِ فَعَادَ إِلَى قَطَرِيٍّ فَقَالَ لَهُ قَطَرِيٌّ : عُدْ إِلَى قِتَالِ عَدُوِّ اللَّهِ الْحَجَّاجِ ، فَقَالَ : هَيْهَاتَ عَلَا يَدًا مُطْلِقُهَا وَاسْتَرَقَّ رَقَبَةً مُعَتِقُهَا وَأَنْشَدَ يَقُولُ : أَأُقَاتِلُ الْحَجَّاجَ عَنْ سُلْطَانِهِ بِيَدٍ تُقِرُّ بِأَنَّهَا مَوْلَاتُهُ إِنِّي إِذَنْ لَأَخُو الدَّنَاءَةِ وَالَّذِي شَهِدَتْ بِأَقْبَحِ فِعْلِهِ غَدَرَاتُهُ مَاذَا أَقُولُ إِذَا وَقَفْتُ إِزَاءَهُ فِي الصَّفِّ وَاحْتَجَّتْ لَهُ فَعَلَاتُهُ أَأَ قُولُ جَارَ عَلَيَّ إِنِّي فِيكُمُ لَأَ حَقُّ مَنْ جَارَتْ عَلَيْهِ وُلَاتُهُ وَتَحَدَّثَ الْأَقْوَامُ أَنَّ ضَبَائِعًا عَرَسَتْ لِذِي مُحْبَنْطِلٍ نَحَلَاتُهُ وَإِذَا كَانَ الْمَنُّ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ مِنَ التَّآلُفِ وَالِاسْتِصْلَاحِ ، جَازَ إِذَا أَدَّى الِاجْتِهَادُ إِلَيْهِ أَنْ يُفْعَلَ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ [ الْأَنْفَالِ : 67 ] فَهُوَ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَاوَرَ أَصْحَابَهُ فِي أَسْرَى بَدْرٍ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : هُمْ قَوْمُكَ وَعَشِيرَتُكَ فَاسْتَبْقِهِمْ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَهُمْ وَقَالَ عُمَرُ : هُمْ
أَعْدَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَذَّبُوكَ وَأَخْرَجُوكَ ، فَاضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ ، فَمَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ انْصِرَافِهِ عَنْهُمْ إِلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ وَأَخَذَ فِدَاءَ الْأَسْرَى ( لِيَتَّقُوا بِهِ الْمُسْلِمِينَ ) فَقِيلَ إِنَّهُ فَدَى كُلَّ أَسِيرٍ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَقِيلَ بِأَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَقَالَ لِلْمُهَاجِرِينَ : أَنْتُمْ عَالَةٌ ، يَعْنِي : فُقَرَاءَ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِنْكَارًا عَلَى نَبِيِّهِ فِي فِدَاءِ أُولَئِكَ الْأَسْرَى ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَوْ عُذِّبْنَا فِي هَذَا الْأَمْرِ يَا عُمَرُ مَا نَجَا غَيْرُكَ فِي إِنْكَارِ هَذَا الْفِدَاءِ ، فَكَانَ دَلِيلًا عَلَى إِبَاحَةِ الْفِدَاءِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ فداء الأسير : أَحَدُهَا : قَوْلُهُ تَعَالَى : مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ [ الْأَنْفَالِ : 67 ] وَهُوَ كَثْرَةُ الْقَتْلِ فَاقْتَضَى إِبَاحَةَ ذَلِكَ بَعْدَ الْإِثْخَانِ فِي الْأَرْضِ وَقَدْ أَثْخَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْأَرْضِ وَكَثْرَةِ الْقَتْلِ ، وَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ . وَالثَّانِي : قَوْلُهُ تَعَالَى : لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ [ الْأَنْفَالِ : 68 ] وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ فِي أَنَّهُ سَيُحِلُّ لَكُمُ الْغَنَائِمَ ، لَمَسَّكُمْ فِي تَعَجُّلِهَا مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَالْحَسَنُ وَعُبَيْدَةُ ) . وَالثَّانِي : لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ فِي أَهْلِ بَدْرٍ أنْ يُعَذِّبَهُمْ لَمَسَّهُمْ فِيمَا أَخَذُوا مِنْ فِدَاءِ أَسْرَى بَدْرٍ عَذَابٌ عَظِيمٌ ، ( قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ) . وَالثَّالِثُ : قَوْلُهُ تَعَالَى : فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا [ الْأَنْفَالِ : 69 ] ، يَعْنِي : بِهِ مَالَ الْغَنِيمَةِ وَالْفِدَاءِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [ التَّوْبَةِ : 15 ] فَهُوَ أَنَّهُ عَلَى طَرِيقِ الْإِبَاحَةِ وَإِنْ خَرَجَ مَخْرَجَ الْأَمْرِ : لِأَنَّهُ بَعْدَ حَظْرٍ وَإِذْ أَبَاحَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْقَتْلَ ، لَمْ تَمْنَعْ مِنْ جَوَازِ الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ تَحْرِيمِ الْمَنِّ عَلَيْهِمْ لِسِلَاحِهِمْ وَعَبْدِهِمْ ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ السِّلَاحَ وَالْعَبِيدَ وَالْمَالَ لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ إِتْلَافُهُ ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الْمَنُّ بِهِ . وَلَيْسَ الرِّجَالُ الْأَحْرَارُ مَالًا : لِأَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ إِتْلَافُهُمْ فَجَازَ لَهُ الْمَنُّ بِهِمْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ السِّلَاحَ وَالْعَبِيدَ قَدْ دَخَلَا فِي مِلْكِ الْغَانِمِينَ فَلَمْ يَكُنْ لِلْإِمَامِ فِي الْمَنِّ بِهِمَا اجْتِهَادٌ . وَلَمْ يَدْخُلِ الرِّجَالُ الْأَحْرَارُ فِي مِلْكِ الْغَانِمِينَ ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ لِلْإِمَامِ فِي الْمَنِّ عَلَيْهِمُ اجْتِهَادٌ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّهُ لَا مَصْلَحَةَ فِي الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ للأسري فَهُوَ أَنَّنَا نُجَوِّزُهُ مَعَ ظُهُورِ الْمَصْلَحَةِ فِيمَنْ يُرْجَى إِسْلَامُهُ ، أَوْ تَأَلُّفُ قَوْمِهِ وَيُمْنَعُ مِنْهُ عِنْدَ عَدَمِ الْمَصْلَحَةِ وَظُهُورِ الضَّرَرِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَعْزِلَ خُمُسَ مَا حُصِّلَ بَعْدَمَا وَصَفْنَا كَامِلًا وَيُقِرَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ لِأَهْلِهَا ، ثُمَّ يَحْسِبَ مَنْ حَضَرَ الْقِتَالَ مِنَ الرِّجَالِ
الْمُسْلِمِينَ الْبَالِغِينَ وَيَرْضَخَ مِنْ ذَلِكَ لِمَنْ حَضَرَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَغَيْرِ الْبَالِغِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالنِّسَاءِ فَيَنْفُلُهُمْ شَيْئًا لِحُضُورِهِمْ وَيَرْضَخُ لِمَنْ قَاتَلَ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ ، وَقَدْ قِيلَ يَرْضَخُ لَهُمْ مِنَ الْجَمِيعِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَجُمْلَةُ مَالِ الْغَنِيمَةِ أَنَّهُ لِصِنْفَيْنِ : لِحَاضِرٍ وَغَائِبٍ . فَأَمَّا الْغَائِبُونَ فَهُمْ أَهْلُ الْخُمُسِ يَسْتَحِقُّونَهُ بِأَوْصَافِهِمْ لَا بِحُضُورِهِمْ وَلَا يُزَادُ مِنْهُمْ حَاضِرٌ لِحُضُورِهِ عَلَى غَائِبٍ لِغَيْبَتِهِ . وَأَمَّا الْحَاضِرُونَ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَنْ تَفَرَّدَ مِنْهُمَا بِحَقٍّ مُعَيَّنٍ لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ ، وَهُوَ الْقَاتِلُ يَسْتَحِقُّ سَلَبَ قَتِيلِهِ لَا يُشَارَكُ فِيهِ ، وَقَدْ مَضَى حُكْمُهُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا كَانَ حَقُّهُ مُشْتَرِكًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ وَهُمْ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَنْ كَانَ لَهُ سَهْمٌ مُقَدَّرٌ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَنْ عُيِّنَ لَهُ رَضْخٌ غَيْرُ مُقَدَّرٍ ، فَأَمَّا أَصْحَابُ السِّهَامِ الْمُقَدَّرَةِ فَهُمْ أَهْلُ الْقِتَالِ قَدْ تَعَذَّرَتْ سِهَامُهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ بِأَعْدَادِ رُءُوسِهِمْ ، لَا يُفَضَّلُ فِيهَا إِلَّا الْفَارِسُ بِفَرَسِهِ بِمَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ تَفْضِيلِهِ عَلَى الرَّاجِلِ . وَأَمَّا أَصْحَابُ الرَّضْخِ فَهُمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ وَهُمْ خَمْسَةُ أَصْنَافٍ : الصِّبْيَانُ ، وَالْمَجَانِينُ ، وَالنِّسَاءُ ، وَالْعَبِيدُ ، وَأَهْلُ الذِّمَّةِ ، يَرْضَخُ لَهُمْ مِنَ الْغَنِيمَةِ لِحُضُورِ الْوَاقِعَةِ بِسَبَبِ غِيَابِهِمْ ، وَيُفَضِّلُ مَنْ قَاتَلَ عَلَى مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ ، وَلَا يَبْلُغُ بِرَضْخِ أَحَدِهِمْ سَهْمَ فَارِسٍ وَلَا رَاجِلٍ ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ بِسَهْمٍ لِجَمِيعِ هَؤُلَاءِ ، وَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ كَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ وَتَعْلِيَلًا بِأَنَّهُمْ شَهِدُوا الْوَاقِعَةَ فَأَسْهَمَ لَهُمْ كَأَهْلِ الْجِهَادِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا [ الْأَنْفَالِ : 68 ، 69 ] ، فَلَمَّا كَانَ الْوَعْدُ فِيمَا أَخَذُوهُ مُتَوَجِّهًا إِلَى أَهْلِ الْجِهَادِ كَانَ السَّهْمُ فِيمَا غَنِمُوهُ مُسْتَحَقًّا لِأَهْلِ الْجِهَادِ ، وَلِأَنَّ سَهْمَ الْغَنِيمَةِ فِي مُقَابَلَةِ فَرْضِ الْجِهَادِ ، فَلَمَّا خَرَجَ هَؤُلَاءِ مِنَ الْفَرْضِ خَرَجُوا مِنَ السَّهْمِ ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ هَؤُلَاءِ قَدْ حَضَرُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزَوَاتِهِ فَرَضَخَ لَهُمْ وَلَمْ يُسْهِمْ ، حَتَّى إِنَّهُ اسْتَعَانَ بِيَهُودِ بَنِي قَيْنُقَاعَ فَرَضَخَ لَهُمْ وَلَمْ يُسْهِمْ ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا تَخْصِيصًا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ ، عَلَى أَنَّنَا نَجْعَلُهَا لِجَمِيعِهِمْ ، وَإِنَّمَا نُفَاضِلُ بَيْنَ أَهْلِ الرَّضْخِ وَالْجِهَادِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يُرْضَخُ لِهَؤُلَاءِ الْخَمْسَةِ وَلَا يُسْهَمُ ، فَالرَّضْخُ يَتَقَدَّرُ بِاجْتِهَادِ الْإِمَامِ وَرَأْيِهِ ، أَوْ مَنْ يَسْتَخْلِفُهُ الْإِمَامُ مِنْ أَمِيرِ جَيْشٍ أَوْ قَاسِمِ مَغْنَمٍ ؛ فَيَقَعُ التَّفْضِيلُ بَيْنَهُمْ بِحَسَبِ تَفَاضُلِهِمْ فِي الْقِتَالِ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا سُوِّيَ بَيْنَهُمْ وَإِنْ تَفَاضَلُوا كالْغَانِمِينَ .
قِيلَ : لِأَنَّ سِهَامَ الْغَانِمِينَ مُقَدَّرَةٌ ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِمُ التَّفَاضُلُ كَدِيَةِ الْحُرِّ . وَالرَّضْخُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ ؛ فَاعْتُبِرَ فِيهِ التَّفَاضُلُ كَغَنِيمَةِ الْعَبْدِ وَلَا يُبْلَغُ بِالرَّضْخِ سَهْمُ فَارِسٍ وَلَا رَاجِلٍ : لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلسِّهَامِ فَنُقِصَ عَنْ قَدْرِهَا كَحُكُومَاتِ الْجِرَاحِ عَلَى الْأَعْضَاءِ لَمَّا كَانَتْ تَبَعًا لِلْأَعْضَاءِ لَمْ تَبْلُغْ بِأَرْشِهَا دِيَاتِ تِلْكَ الْأَعْضَاءِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ الرَّضْخُ ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ إِخْرَاجِ خُمُسِهَا كَالسَّلَبِ لِأَنَّهُـمْ أَعْوَانٌ . فَصَارُوا كَحَافِظِي الْغَنِيمَةِ ( وَحَامِلِيهَا الَّذِينَ أُعْطَوْا أُجُورَهُمْ مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ ) ، فَعَلَى هَذَا يَبْدَأُ مِنَ الْغَنِيمَةِ بِإِعْطَاءِ السَّلَبِ وَأُجُورِ الْحَفَظَةِ وَالْحَمَّالِينَ ثُمَّ الرَّضْخِ ، ثُمَّ يُخَمِّسُ الْبَاقِيَ ، فَيَعْزِلُ خُمُسَهُ لِأَهْلِ الْخُمُسِ ، وَتُقَسَّمُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ فِي الْغَانِمِينَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنْ يَرْضَخَ لَهُمْ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ ؛ لِأَنَّهُمْ أَضْعَفُ مِنَ الْغَانِمِينَ حُكْمًا ؛ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونُوا أَقْوَى حَقًّا ؛ فَعَلَى هَذَا يَبْدَأُ بِالسَّلَبِ ، ثُمَّ بِالْأُجُورِ ، ثُمَّ بِالْخُمُسِ ، ثُمَّ بِالرَّضْخِ ، ثُمَّ يُقَسِّمُ الْبَاقِيَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ يَرْضَخُ لَهُمْ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ : لِأَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَتِهَا . وَهُوَ أَضْعَفُ الْأَقَاوِيلِ ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي بَعْضِ مَنْصُوصَاتِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " ثُمَّ يَعْرِفُ عَدَدَ الْفُرْسَانِ وَالرَّجَّالَةِ الَّذِينَ حَضَرُوا الْقِتَالَ فَيَضْرِبُ كَمَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلَلْفَارِسِ سَهْمًا وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا ، وَلَيْسَ يَمْلِكُ الْفَرَسُ شَيْئًا إِنَّمَا يَمْلِكُهُ صَاحِبُهُ لِمَا تَكَلَّفَ مِنِ اتِّخَاذِهِ وَاحْتَمَلَ مِنْ مُؤْنَتِهِ وَنَدْبِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى اتِّخَاذِهِ لِعَدُوِّهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا أَفْرَدَ الْإِمَامُ خُمُسَ الْغَنِيمَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهَا يَبْدَأُ بالْغَانِمِينَ ، فَقَسَّمَ فِيهِمْ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ وَقَدَّمَهُمْ عَلَى أَهْلِ الْخُمُسِ لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ : أَحَدُهَا : لِحُضُورِهِمْ وَغَيْبَةِ أَهْلِ الْخُمُسِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ اجْتِهَادِهِمْ ، فَصَارَ مُعَاوَضَةً ، وَحَقُّ أَهْلِ الْخُمُسِ مُوَاسَاةً . وَالثَّالِثُ : أَنْ بِهِمْ مَلَكَ أَهْلُ الْخُمُسِ خُمُسَهُمْ ، فَكَانُوا أَقْوَى فِي الْغَنِيمَةِ مِنْهُمْ ، فَإِذَا شَرَعَ فِي قِسْمَتِهَا فِيهِمْ لَمْ يَخْلُ حَالُهُمْ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : إِمَّا أَنْ يَكُونُوا رَجَّالَةً لَا فَارِسَ فِيهِمْ ، أَوْ فُرْسَانًا لَا رِجَالَ فِيهِمْ ، أَوْ يَكُونُوا فُرْسَانًا وَرِجَالًا . فَإِنْ كَانُوا رَجَّالَةً لَا فَارِسَ فِيهِمْ ، أَوْ فُرْسَانًا لَا رِجَالَ فِيهِمْ سَوَّى بَيْنَهُمْ وَقَسَمَهَا عَلَى أَعْدَادِ رُءُوسِهِمْ ، وَلَمْ يُفَضِّلْ شُجَاعًا عَلَى جَبَانٍ وَلَا مُحَارِبًا عَلَى كَافٍّ : لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ حَاضِرٌ مُكَثِّرٌ ، وَرَدٌّ مَهِيبٌ ، كَمَا يُسَوَّى فِي الْمَوَارِيثِ بَيْنَ الْبَارِّ وَالْعَاقِّ وَالْمُحْسِنِ وَالْمُسِيءِ لِتَسَاوِيهِمْ فِي النَّسَبِ .
وَإِنْ كَانُوا فُرْسَانًا وَرَجَّالَةً فَضَّلَ الْفَارِسَ عَلَى الرَّاجِلِ . وَاخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ مَا يُفَضِّلُ بِهِ ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهُ يُعْطِي الْفَارِسَ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ ، سَهْمًا لَهُ وَسَهْمَيْنِ لِفَرَسِهِ ، وَيُعْطِي الرَّاجِلَ سَهْمًا وَاحِدًا ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ، وَمِنَ التَّابِعِينَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَابْنُ سِيرِينَ ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ مَعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ مَعَ أَهْلِ الشَّامِ ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ مَعَ أَهْلِ مِصْرَ ، وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ مَعَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ ، وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مَعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ ، إِلَّا أَبَا حَنِيفَةَ وَحْدَهُ فَإِنَّهُ تَفَرَّدَ عَنْهُمْ فَذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ يُعْطِي الْفَارِسَ سَهْمَيْنِ وَالرَّاجِلَ سَهْمًا ، اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ عُبَيدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْعُمَرِيِّ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَى الْفَارِسَ سَهْمَيْنِ ، فَبِرِوَايَةِ الْمِقْدَادِ قَالَ : أَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَهْمًا لِي وَسَهْمًا لِفَرَسِي ، وَبِرِوَايَةِ مَجْمَعِ بْنِ حَارِثَةَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ : قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيْبَرَ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا وَكَانَ الْجَيْشُ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ ، فَمِنْهُمْ ثَلَاثُمِائَةِ فَارِسٍ فَأَعْطَى الْفَارِسَ سَهْمَيْنِ : وَالرَّاجِلَ سَهْمًا : لِأَنَّهُ جَعَلَ لِثَلَاثِمِائَةِ فَارِسٍ سِتَّمِائَةِ سَهْمٍ حَتَّى صَارَ لِكُلِّ مِائَةٍ مِنْهُمْ سَهْمٌ وَاحِدٌ مِنْ خَيْبَرَ . وَمِنَ الْقِيَاسِ : أَنَّهُ حَيَوَانٌ يُسْهَمُ لَهُ ، فَوَجَبَ أَلَّا يُزَادَ عَلَى سَهْمٍ كَالرَّاجِلِ ، وَلِأَنَّ الْفَرَسَ تَبَعٌ ؛ أَلَا تَرَاهُ لَوْ حَضَرَ بِلَا صَاحِبِهِ لَمْ يُسْهَمْ لَهُ ! وَلَوْ حَضَرَ صَاحِبُهُ بِلَا فَرَسٍ أُسْهِمَ لَهُ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَهْمُ التَّابِعِ أَفْضَلَ مِنْ سَهْمِ الْمَتْبُوعِ ؛ وَلِأَنَّ عَنَاءَ صَاحِبِهِ أَكْثَرُ تَأْثِيرًا وَتَأْثِيرُهُ أَظْهَرُ : لِأَنَّهُ هُوَ الْمُقَاتِلُ دُونَ الْفَرَسِ . وَسَهْمُ الْغَنِيمَةِ إِنَّمَا يُسْتَحَقُّ بِحَسَبِ الْعَنَاءِ وَعَلَى قَدْرِ الْبَلَاءِ : فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُفَضَّلَ مَا قَلَّ تَأْثِيرُهُ عَلَى مَا كَثُرَ ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لِأَنَّ فِي إِعْطَاءِ الْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَصَاحِبِهِ سَهْمًا تَفْضِيلًا لِلْبَهِيمَةِ عَلَى الْآدَمِيِّ ، وَإِنِّي لِأَسْتَحِي أَنَّ أُفَضِّلَ بَهِيمَةً عَلَى آدَمِيٍّ . قَالَ أَصْحَابُهُ : وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُسْهَمَ لِلْفَرَسِ : لِأَنَّهُ آلَةٌ كَالسِّلَاحِ ، وَلِأَنَّهُ بَهِيمَةٌ كَالْبِغَالِ ، وَلَكِنْ صِرْنَا إِلَى إِعْطَائِهِ سَهْمًا وَاحِدًا بِالْإِجْمَاعِ ، وَمَنَعَ الْقِيَاسُ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ . وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ عُبَيدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو الْعُمَرِيُّ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسْهَمَ لِلرَّاجِلِ وَلِفَرَسِهِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ ، سَهْمًا لَهُ وَسَهْمَيْنِ لِفَرَسِهِ . وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ وَقَدْ رَوَى جَابِرٌ وَأَبُو هُرَيْرَةَ مِثْلَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ قَالُوا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسْهِمُ لِلْفَارِسِ
ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ : سَهْمًا لَهُ وَسَهْمَيْنِ لِفَرَسِهِ وَهَذَا إِخْبَارٌ عَنِ اسْتِدَامَةِ فِعْلِهِ . لَكِنَّ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ أَشْهَرُ وَأَصَحُّ : لِأَنَّ مَدَارَ هَذَا عَلَى بِشْرِ بْنِ مُعَاذٍ وَفِيهِ لِينٌ . وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَسَمَ يَوْمَ خَيْبَرَ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ . وَرَوَى الشَّافِعِيُّ أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ كَانَ يَضْرِبُ فِي الْمَغْنَمِ بِأَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ ، سَهْمٍ لَهُ : وَسَهْمَيْنِ لِفَرَسِهِ ، وَسَهْمٍ لِأُمِّهِ صَفِيَّةَ : لِأَنَّهَا مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى وَكُلُّ هَذِهِ الْأَخْبَارِ نُصُوصٌ تَمْنَعُ مِنَ الْخِلَافِ . فَإِنْ قِيلَ : فَيُحْمَلُ السَّهْمُ الثَّالِثُ فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَفَعَهُ إِلَى الْفَارِسِ نَفْلًا كَمَا نَفَلَ الرُّبُعَ فِي الْبُدَاءَةِ وَالثُّلُثَ فِي الرُّجْعَةِ ؛ فَعَنْ ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَجْوِبَةٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ السَّهْمَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُسْتَحَقِّ لَا عَنِ النَّفْلِ . وَالثَّانِي : أَنَّ النَّفْلَ يُسْتَحَقُّ بِالشَّرْطِ وَلَيْسَ فِي الْفَرَسِ شَرْطٌ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ النَّفْلَ لَا يَكُونُ لِلْفَرَسِ . وَالرَّابِعُ : أَنَّ حُكْمَ السَّهْمِ الثَّالِثِ كَحُكْمِ السَّهْمَيْنَ الْمُتَقَدِّمَيْنِ ، فَلَمَّا لَمْ يَكُونَا نَفْلًا لَمْ يَكُنِ الثَّالِثُ نَفْلًا . ثُمَّ الدَّلِيلُ مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ يَزِيدُ عَلَى مُقَدَّرٍ عَلَى وَجْهِ الرِّفْقِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِالضَّعْفِ قِيَاسًا عَلَى الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ ؛ لَمَّا مَسَحَ الْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً أَرْفَقَ الْمُسَافِرَ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ ، وَلِأَنَّ مُؤْنَةَ الْفَرَسِ أَكْثَرُ لِمَا يُتَكَلَّفُ مِنْ عُلُوفِهِ وَأُجْرَةِ خَادِمِهِ وَكَثْرَةِ آلَتِهِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَحَقُّ بِهِ أَكْثَرَ ، وَلِأَنَّهُ فِي الْحَرْبِ أَهْيَبُ وَتَأْثِيرُهُ فِي الْكَرِّ وَالْفَرِّ أَظْهَرُ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ سَهْمُهُ أَوْفَرَ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو الْعُمَرِيِّ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ ضَعِيفٌ وَأَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ أَقْوَى عِنْدَهُمْ مِنْهُ وَأَصَحُّ حَدِيثًا ، وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْهُ خِلَافَ مَا رَوَاهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ خَبَرَ عَبْدِ اللَّهِ أَزْيَدُ مِنْ خَبَرِهِ وَالْأَخْذُ بِالزِّيَادَةِ أَوْلَى . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ يَحْمِلُ سَهْمَ الْفَارِسِ عَلَى الزِّيَادَةِ الَّتِي اسْتَحَقَّهَا بِفَرَسِهِ عَلَى السَّهْمِ الرَّاتِبِ لِنَفْسِهِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ كَمَا رَوَيْنَا اسْتِعْمَالًا لِلرِّوَايَتَيْنِ ، فَيَكُونُ أَوْلَى مِنْ إِسْقَاطِ
إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى ، كَمَا رُوِيَ فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَبَّرَ فِي الْأُولَى سَبْعًا وَفِي الثَّانِيَةِ خَمْسًا فَحَمَلْنَا ذَلِكَ عَلَى التَّكْبِيرِ الزَّائِدِ عَلَى التَّكْبِيرَةِ الرَّاتِبَةِ فِي الْإِحْرَامِ وَالْقِيَامِ . وَأَمَّا حَدِيثُ الْمِقْدَادِ فَقَدْ رَوَتْ عَنْهُ بِنْتُهُ كَرِيمَةُ أَنَّهُ قَالَ : أَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ : سَهْمًا لِي وَسَهْمَيْنِ لِفَرَسِي . فَتَعَارَضَتِ الرِّوَايَتَانِ عَنْهُ وَسَقَطَتَا وَاسْتُعْمِلَتَا عَلَى مَا وَصَفْنَا . وَأَمَّا حَدِيثُ مَجْمَعِ بْنِ حَارِثَةَ فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا قَالَهُ أَبُو دَاوُدَ أَنَّ مَجْمَعًا وَهِمَ فِي حَدِيثِهِ ، أَنَّهُمْ كَانُوا ثَلَاثَ مِائَةِ فَارِسٍ وَإِنَّمَا كَانُوا مِائَتَيْ فَارِسٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُمْ كَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ فَهُمْ مِائَتَا فَارِسٍ . وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَصَحُّ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ رِوَايَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ تُوَافِقُهَا . وَالثَّانِي : أَنَّ هَذَا الْجَيْشَ هُمْ أَهْلُ الْحُدَيْبِيَةِ ، وَقَدِ اتَّفَقَ أَهْلُ السِّيَرِ عَلَى أَنَّ عِدَّتَهُمْ أَلْفٌ وَأَرْبَعُمِائَةٍ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الرَّاجِلِ لِعِلَّةِ أَنَّهُ حَيَوَانٌ يُسْهَمُ لَهُ فَهُوَ أَنَّ الْفَرَسَ لَا يُسْهَمُ لَهُ وَإِنَّمَا يُسْهَمُ لِصَاحِبِهِ لِأَجْلِهِ ، فَكَانَ الْوَصْفُ غَيْرَ سَلِيمٍ ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْفَرَسِ أَنَّ مُؤْنَتَهُ أَكْثَرُ وَبَلَاءَهُ أَظْهَرُ ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ أَكْثَرَ ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ أَنَّهُ تَابِعٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَهْمُهُ أَكْثَرَ مِنْ سَهْمِ الْمَتْبُوعِ . فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ كِلَا السَّهْمَيْنِ لِلْمَتْبُوعِ لَيْسَ لِلتَّابِعِ سَهْمٌ وَهُوَ أَكْثَرُ ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَوْ جَازَ أَنْ يَمْنَعَ مِنَ الزِّيَادَةِ لَجَازَ أَنْ يَمْنَعَ مِنَ الْمُسَاوَاةِ : لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَزِيدَ عَلَى الْمَتْبُوعِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُسَاوِيَهُ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ عَنَاءَ صَاحِبِهِ أَكْثَرُ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُقَاتِلُ ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ كِلَا الْعَنَائَيْنِ مُضَافٌ إِلَى صَاحِبِهِ إِلَّا أَنَّ تَأْثِيرَهُ لِفَرَسِهِ أَكْثَرُ مِنْ تَأْثِيرِهِ لِنَفْسِهِ : لِأَنَّهُ بِالْفَرَسِ يَلْحَقُ إِنْ طَلَبَ وَلَا يُلْحَقُ إِنْ هَرَبَ . وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ : " إِنَّنِي أَسْتَحِي أَنَّ أُفَضِّلَ بَهِيمَةٍ عَلَى آدَمِيٍّ " ، فَيُقَالُ لَهُ : لَئِنِ اسْتَحْيَيْتَ أَنْ تُفَضِّلَ بَيْنَهُمَا فَاسْتَحِ أَنْ تُسَاوِيَ بَيْنَهُمَا وَأَنْتَ قَدْ سَوَّيْتَ . ثُمَّ يُقَالُ لَهُ : أَلَسْتَ قَدْ فَضَّلْتَ قِيمَةَ الْبَهِيمَةِ إِذَا تَلَفَتْ عَلَى ذِمَّةِ الْحُرِّ إِذَا قُتِلَ وَلَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ الِاسْتِحْيَاءَ ، فَكَذَلِكَ فِي السَّهْمِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ السَّهْمُ لِلْبَهِيمَةِ فَيَسْتَحِي مِنْ تَفْضِيلِهَا بِهِ وَإِنَّمَا هُوَ لِصَاحِبِهَا وَالْبَهِيمَةُ لَا تَمْلِكُ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ أَنَّ الْقِيَاسَ يَمْنَعُ مِنَ السَّهْمِ لِلْبَهِيمَةِ ، فَهَذَا قِيَاسٌ قَدْ أَبْطَلَهُ النَّصُّ فَبَطَلَ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ ، فَالْفُرْسَانُ هُمْ أَصْحَابُ الْخَيْلِ دُونَ الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَالْمَطَايَا وَالْفِيَلَةِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ [ الْأَنْفَالِ : 60 ] وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : يَا خَيْلَ اللَّهِ ارْكَبِي وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : الْخَيْلُ مَعْقُودٌ بِنَوَاصِيهَا الْخَيْرُ ، وَلِأَنَّهَا هِيَ الْمُخْتَصَّةُ بِالْكَرِّ وَالْفَرِّ دُونَ الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْخَيْلُ كُلُّهَا سَوَاءٌ لَا فَرْقَ بَيْنَ عَتِيقِهَا وبَرَاذِينِهَا وَمَقَارِفِهَا وَهُجْنِهَا ، وَالْعَتِيقُ مَا كَانَ أَبَوَاهُ عَرَبِيَّيْنِ . وَالْبِرْذَوْنُ : مَا كَانَ أَبَوَاهُ أَعْجَمِيَّيْنِ . وَالْمُقْرِفُ : مَا كَانَتْ أُمُّهُ عَرَبِيَّةً وَأَبُوهُ أَعْجَمِيُّ . وَالْهَجِينُ : مَا كَانَ أَبُوهُ عَرَبِيًّا وَأُمُّهُ أَعْجَمِيَّةً ، وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : إِنْ كَانَ الْفَرَسُ عَتِيقًا أُسْهِمَ لَهُ سَهْمَانِ ، وَإِنْ كَانَ بِرْذَوْنًا لَمْ يُسْهَمْ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ مُقْرِفًا أَوْ هَجِينًا أُسْهِمَ لَهُ سَهْمٌ وَاحِدٌ . وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : يُسْهَمُ لِلْعَتِيقِ سَهْمَانِ وَلِغَيْرِهِ مِنَ الْخَيْلِ سَهْمٌ وَاحِدٌ ؛ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْمُخْتَصَّةَ بِالْكَرِّ وَالْفَرِّ هِيَ الْعُتْقُ فَاخْتَصَّتْ بِالسَّهْمِ الْأَوْفَى ، وَكَانَ مَا سِوَاهُمَا بِالنَّقْصِ أَوْلَى ؛ وَهَذَا خَطَأٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ [ الْأَنْفَالِ : 60 ] ، وَلِأَنَّ الْعَتِيقَ وَإِنْ كَانَ أَحَدَّ وَأَسْرَعَ فَالْبِرْذَوْنُ أَشَدُّ وَأَبْهَى وَأَصْبَرُ ، فَصَارَ اخْتِصَاصُ الْعَتِيقِ بِالْحِدَّةِ فِي مُقَابَلَةِ اخْتِصَاصِ الْبِرْذَوْنِ بِالشِّدَّةِ فَتَقَابَلَا وَاسْتَوَيَا ؛ وَلِأَنَّ أَصْحَابَ الْخَيْلِ لَمَّا اسْتَوَى عَرَبِيُّهُمْ وعَجَمِيُّهُمْ فِي السُّهُمِ ؛ فَالْخَيْلُ أَوْلَى بِأَنْ يَسْتَوِيَ عَرَبِيُّهَا وَعَجَمِيُّهَا فِي السُّهُمِ . وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ دَلِيلٌ وَانْفِصَالٌ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَمَنْ حَضَرَ بِفَرَسَيْنِ فَأَكْثَرَ لَمْ يُعْطَ إِلَّا لِوَاحِدٍ : لِأَنَّهُ لَا يَلْقَى إِلَّا بِوَاحِدٍ ، وَلَوْ أُسْهِمَ لِاثْنَيْنِ لَأُسْهِمَ لِأَكْثَرَ وَلَا يُسْهَمُ لِرَاكِبِ دَابَّةٍ غَيْرِ دَابَّةِ الْخَيْلِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . إِذَا حَضَرَ الْفَارِسُ الْوَقْعَةَ بِأَفْرَاسٍ لَمْ يُعْطَ إِلَّا سَهْمَ فَرَسٍ وَاحِدٍ وَلَوْ حَضَرَهَا بِمِائَةِ فَرَسٍ . وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ : يُسْهَمُ لِفَرَسَيْنِ وَلَا يُسْهَمُ لِأَكْثَرَ اسْتِدْلَالًا بِمَا رَوَى مَكْحُولٌ أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ حَضَرَ خَيْبَرَ بِفَرَسَيْنِ فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَمْسَةَ أَسْهُمٍ : سَهْمٌ لَهُ ، وَأَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ لِفَرَسَيْهِ ، وَلِأَنَّ الثَّانِيَ عُدَّةٌ
مَجِيئُهَا يُرَاوَحُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَوَّلِ إِنْ أَعْيَا أَوْ زَمِنَ ، فَكَانَ تَأْثِيرُهُمَا أَكْثَرَ مَعَ مَا قَدْ تَكَلَّفَهُ لَهُمَا مِنْ زِيَادَةِ الْمُؤْنَةِ ، وَهَذَا خَطَأٌ . وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ أَبُو عَاصِمٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ حَضَرَ خَيْبَرَ وَمَعَهُ أَفْرَاسٌ فَلَمْ يُسْهِمِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ . وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَضَرَ خَيْبَرَ وَمَعَهُ ثَلَاثَةُ أَفْرَاسٍ : السَّكْبُ وَالظَّرِبُ وَالْمُرْتَجِزُ ، فَلَمْ يَأْخُذِ السَّهْمَ إِلَّا لِوَاحِدٍ ، وَلِأَنَّهُ لَا يُقَاتِلُ إِلَّا عَلَى وَاحِدٍ مِنْهَا ، وَلَوْ تَحَوَّلَ عَنْهُ صَارَ تَارِكًا لَهُ وَيَكُونُ الثَّانِي إِنِ انْتَقَلَ إِلَيْهِ كَالثَّالِثِ فِي أَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَيْهِ وَلَا يُسْهَمُ لَهُ ، فَكَذَلِكَ الثَّانِي وَيَصِيرُ مَا سِوَى الْأَوَّلِ زِينَةً وَاسْتِظْهَارًا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمُ الِاسْتِحْقَاقِ ، كَخَدَمِ الزَّوْجَةِ لَا تَسْتَحِقُّ إِلَّا نَفَقَةَ وَاحِدَةٍ مِنْهُمْ ، لِوُقُوعِ الْكِفَايَةِ بِهِ وَيَصِيرُ مَا عَدَاهُ زِينَةً وَزِيَادَةً وَاسْتِظْهَارًا . وَأَمَّا حَدِيثُ مَكْحُولٍ فَقَدْ رَوَيْنَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ خِلَافَهُ وَهُوَ صَحَابِيٌّ خَبَرُهُ مُسْنَدٌ وَذَاكَ تَابِعِيٌّ خَبَرُهُ مُرْسَلٌ ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ أَنَّ الثَّانِيَ عُدَّةٌ وَقَدْ تُكُلِّفَ لَهُ زِيَادَةُ مُؤْنَةٍ ، فَهَذَا حَالُ الثَّالِثِ أَيْضًا وَلَا يُوجِبُ السَّهْمَ لَهُ ، فَكَذَلِكَ الثَّانِي .
فَصْلٌ : وَإِذَا حَضَرَ الرَّجُلُ الْوَقْعَةَ بِفَرَسٍ يُقَاتِلُ عَلَيْهِ أُسْهِمَ لَهُ : لِأَنَّهُ قَدْ هَيَّبَ بِهِ وَقَدْ يُقَاتِلُ عَلَيْهِ إِنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ ، وَهَكَذَا لَوْ قَاتَلَ فِي الْمَاءِ أُسْهِمَ لَهُ : لِأَنَّهُ قَدْ رُبَّمَا انْتَقَلَ إِلَى الْبرِ وَقَاتَلَ عَلَيْهِ ، وَهَكَذَا لَوْ قَاتَلَ عَلَى حِصَارِ حِصْنٍ أُسْهِمَ لِفَرَسِهِ : لِأَنَّهُ عُدَّةٌ يَلْحَقُ بِهِ أَهْلَ الْحِصْنِ إِنْ هَرَبُوا ، أَوْ يُرْهِبَهُمْ بِهِ إِنْ حُوصِرُوا .
فَصْلٌ : وَإِذَا غَصَبَ الرَّجُلُ فَرَسًا ، فَشَهِدَ بِهِ الْوَقْعَةَ ، أُسْهِمَ لِلْفَرَسِ لِلْحُضُورِ مَعَ الْغَاصِبِ ، لِظُهُورِ التَّأْثِيرِ فِيهِ وَحُصُولِ الْإِرْهَابِ بِهِ ؛ وَلَيْسَ ذَلِكَ مَعْصِيَةً وَإِنْ كَانَ الْغَصْبُ مَعْصِيَةً . وَإِذَا كَانَ سَهْمُ الْفَرَسِ الْمَغْصُوبِ مُسْتَحَقًّا ، فَفِي مُسْتَحِقِّهِ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيهِ فِي رِبْحِ الْمَالِ الْمَغْصُوبِ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ لِلْغَاصِبِ بِعَمَلِهِ ، جُعِلَ سَهْمُ الْفَرَسِ الْمَغْصُوبِ لِلْغَاصِبِ لِقِتَالِهِ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ رِبْحَ الْمَالِ الْمَغْصُوبِ لِرَبِّ الْمَالِ بِحَقِّ مِلْكِهِ ، جُعِلَ سَهْمُ الْفَرَسِ الْمَغْصُوبِ لِمَالِكِهِ بِحَقِّ مِلْكِهِ ، وَلَكِنْ لَوْ كَانَ صَاحِبٌ مِمَّنْ حَضَرَ الْوَقْعَةَ فَغَصَبَ فَرَسَهُ غَاصِبٌ قَاتَلَ عَلَيْهِ كَانَ سَهْمُ الْفَرَسِ لِمَالِكِهِ دُونَ غَاصِبِهِ وَجْهًا وَاحِدًا : لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَحَقَّهُ بِالْحُضُورِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْغَصْبِ ، وَيَكُونُ عَلَى الْغَاصِبِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ ، وَإِنْ كَانَ السَّهْمُ لِغَيْرِهِ لِوُجُوبِهَا بِالْغَصْبِ .
فَصْلٌ : وَلَوِ اسْتَعَارَ فَرَسًا أَوِ اسْتَأْجَرَهُ فَشَهِدَ بِهِ الْوَقْعَةَ أله أخذ سهمه ؟ نُظِرَ ، فَإِنِ اسْتَعَارَهُ أَوِ اسْتَأْجَرَهُ لِلْقِتَالِ عَلَيْهِ مَلَكَ سَهْمَهُ ، لِتَمَلُّكِهِ هَذِهِ الْمَنْفَعَةَ بِالْعَارِيَةِ وَالْإِجَارَةِ ، وَإِنِ اسْتَعَارَهُ أَوِ اسْتَأْجَرَهُ لِلرُّكُوبِ دُونَ الْقِتَالِ صَارَ كَالْغَاصِبِ ، فَيَكُونُ فِي سَهْمِهِ وَجْهَانِ .
فَصْلٌ : وَإِذَا حَضَرَ رَجُلٌ بِفَرَسٍ فَضَلَّ مِنْهُ الْفَرَسُ نُظِرَ ، فَإِنْ حَضَرَ لَمْ يَخْرُجْ عَنِ الْوَقْعَةِ وَمَصَافِّ الْقِتَالِ أُسْهِمَ لَهُ ، وَإِنْ خَرَجَ عَنْهَا وَتَجَاوَزَ مَصَافَّ الْقِتَالِ لَمْ يُسْهَمْ لَهُ . وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : يُسْهَمُ لَهُ لِبَقَائِهِ وَخُرُوجِهِ عَنْهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ ، وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ الْأَعْذَارَ تُؤَثِّرُ فِي تَمَلُّكِ الْأَمْوَالِ كَمَا لَوْ ضَلَّ صَاحِبُهُ عَنْ حُضُورِ الْوَقْعَةِ حَتَّى فَاتَتْهُ لَمْ يُسْهَمْ لَهُ ، وإِنْ كَانَ مَعْذُورًا .
فَصْلٌ : وَإِنْ خَلَفَ الرَّجُلُ فَرَسَهُ فِي مُعَسْكَرِ الْحَرْبِ وَلَمْ يَشْهَدْ بِهِ وَقْعَةَ الْقِتَالِ ، هل يسهم له ؟ لَمْ يُسْهَمْ لَهُ : لِأَنَّ مَالِكَهُ لَوْ تَأَخَّرَ فِي الْمُعَسْكَرِ عَنْ حُضُورِ الْوَقْعَةِ لَمْ يُسْهَمْ لَهُ ، فَفَرَسُهُ أَوْلَى أَلَّا يُسْهَمَ لَهُ ، وَلَكِنْ لَوِ اسْتَخْلَفَهُ أَمِيرُ الْجَيْشِ بِالْمُعَسْكَرِ عَلَى حِفْظِهِ وَحِرَاسَتِهِ حَظْرًا مِنْ هُجُومِ الْعَدُوِّ عَلَيْهِ أُسْهِمَ لَهُ وَلِفَرَسِهِ : لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ أَنْفَعَ لِلْجَيْشِ مِنْ حُضُورِهِ مَعَهُمْ ، وَهَكَذَا لَوْ أَنَّ أَمِيرَ الْجَيْشِ أَفْرَدَ مِنْهُمْ كَمِينًا لِيَظْفَرَ مِنَ الْعَدُوِّ بِفَرِّهِ ، أُسْهِمَ لَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدُوا الْوَقْعَةَ : لِأَنَّهُمْ عَوْنٌ فِيهَا يَخَافُهُمُ الْعَدُوُّ وَيَقْوَى بِهِمُ الْجَيْشُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَعَاهَدَ الْخَيْلَ ، فَلَا يُدْخِلُ إِلَّا شَدِيدًا وَلَا يُدْخِلُ حَطِمًا وَلَا قَمْحًا ضَعِيفًا وَلَا ضَرْعًا ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْقَحْمُ الْكَبِيرُ وَالضَّرْعُ الصَّغِيرُ وَلَا أَعْجَفَ رَازِحًا ، وَإِنْ أَغْفَلَ فَدَخَلَ رَجُلٌ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْهَا فَقَدْ قِيلَ لَا يُسْهَمُ لَهُ : لِأَنَّهُ لَا يُغْنِي غَنَاءَ الْخَيْلِ الَّتِي يُسْهَمُ لَهَا ، وَلَا أَعْلَمُهُ أَسْهَمَ فِيمَا مَضَى عَلَى مِثْلِ هَذِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَعَاهَدَ خَيْلَ الْمُجَاهِدِينَ وَتَجْهِيزَهَا وَلَا يُدْخِلُ فِيهَا حَطِمًا وَهُوَ الْكَبِيرُ وَلَا ضَرْعًا وَهُوَ الصَّغِيرُ وَلَا أَعْجَفَ رَازِحًا وَهُوَ الْهَزِيلُ الَّذِي لَا حَرَاكَ بِهِ : لِأَنَّهَا لَا تَفِي عَنَاءَ الْخَيْلِ الشَّدِيدَةِ وَقَدْ تَضُرُّ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : عَجْزُهَا عَنِ النَّهْضَةِ ، وَعَجْزُ رَاكِبِهَا عَنِ الْمُقَاتَلَةِ . وَالثَّانِي : ضِيقُ الْغَنِيمَةِ بِالْإِسْهَامِ لَهَا عَلَى ذَوِي الْعَنَاءِ وَالشِّدَّةِ ، فَلَوْ دَخَلَ رَجُلٌ بِوَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الضَّعِيفَةِ الْعَاجِزَةِ عَنْ عَنَاءِ الْخَيْلِ السَّلِيمَةِ نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ أَوْ أَمِيرُ الْجَيْشِ قَدْ نَادَى فِيهِمْ أَلَّا يَدْخُلَ أَحَدٌ مِنَ الْجَيْشِ بِوَاحِدٍ مِنْهَا ، فَلَا سَهْمَ لِمَنْ دَخَلَ بِهَا : لِأَنَّ فِي الْبِغَالِ الَّتِي لَا سَهْمَ لَهَا مَا هُوَ عَنَاءٌ مِنْهَا ، وَإِنْ لَمْ يُنَادِ فِيهِمْ بِذَلِكَ ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ هَا هُنَا وَفِي الْأُمِّ قِيلَ : لَا يُسْهَمُ وَقِيلَ يُسْهَمُ لَهَا فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا ، فَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ حَيْرَانَ يُخَرِّجُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُسْهَمُ لَهَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ ؛ فَعَجْزُهَا عَنِ الْعَنَاءِ كَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يُسْهَمُ لَهَا : لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ لَا يُوجِبُ اخْتِلَافَهُمَا فِي السَّهْمِ كَالْمُقَاتِلَةِ ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ : لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ
فَقَوْلُهُ يُسْهَمُ لَهَا إِذَا أَمْكَنَ الْقِتَالُ عَلَيْهَا مَعَ ضَعْفِهَا ، وَقَوْلُهُ لَا يُسْهَمُ لَهَا إِذَا لَمْ يُمْكِنِ الْقِتَالُ عَلَيْهَا لِضَعْفِهَا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَإِنَّمَا يُسْهَمُ لِلْفَرَسِ إِذَا حَضَرَ صَاحِبُهُ شَيْئًا مِنَ الْحَرْبِ فَارِسًا ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ فَارِسًا - إِذَا دَخَلَ بِلَادَ الْعَدُوِّ - ثُمَّ مَاتَ فَرَسُهُ أَوْ كَانَ فَارِسًا بَعْدَ انْقِطَاعِ الْحَرْبِ وَجَمْعِ الْغَنِيمَةِ ، فَلَا يُضْرَبُ لَهُ وَلَوْ جَازَ أَنْ يُسْهَمَ لَهُ : لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي الدِّيوَانِ حِينَ دَخَلَ لَكَانَ صَاحِبُهُ إِذَا دَخَلَ ثَبَتَ فِي الدِّيوَانِ ، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ الْغَنِيمَةِ أَحَقُّ أَنْ يُسْهَمَ لَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِيمَنْ دَخَلَ أَرْضَ الْعَدُوِّ فَارِسًا ثُمَّ نَفِقَ فَرَسُهُ هل يسهم له ؟ أَوْ بَاعَهُ أَوْ أَجَّرَهُ قَبْلَ حُضُورِ الْوَقْعَةِ حَتَّى حَضَرَهَا رَاجِلًا ، لَمْ يُسْهَمْ لَهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُسْهَمُ لَهُ إِذَا زَالَ عَنْ مِلْكِهِ بَعْدَ دُخُولِ الْحَرْبِ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدِ الْوَقْعَةَ . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : إِنْ زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ كَنِفَاقِهِ أَوْ سَرِقَتِهِ ، أُسْهِمَ لَهُ ، وَإِنْ زَالَ بِاخْتِيَارِهِ كَبَيْعِهِ أَوْ هِبَتِهِ لَمْ يُسْهَمْ لَهُ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلُهُ ، وَرُوِيَ عَنْهُ مِثْلُ قَوْلِنَا ، فَصَارَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ أَشْهَرُهَا الْأُولَى . وَالْفَصْلُ الثَّانِي : فِيمَنْ دَخَلَ أَرْضَ الْعَدُوِّ رَاجِلًا ، ثُمَّ مَلَكَ قَبْلَ تَنْقَضِي الْحَرْبُ فَرَسًا بِابْتِيَاعٍ ، أَوْ هِبَةٍ فَحَضَرَ بِهِ الْوَقْعَةَ أُسْهِمَ لَهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُسْهَمُ لَهُ اعْتِبَارًا فِي اسْتِحْقَاقِ السَّهْمِ بِدُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ فَارِسًا فِي الْفَصْلَيْنِ مَعًا اسْتِدْلَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ [ الْأَنْفَالِ : 60 ] ، فَكَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ هُوَ الْإِعْدَادُ وَقَدْ أَعَدَّهُ بِدُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ ، فَاسْتَحَقَّ سَهْمَهُ . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ : " مَا غُزِيَ قَوْمٌ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إِلَّا ذَلُّوا " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ دُخُولَ دَارِ الْحَرْبِ قَدْ حَصَّلَ الْإِذْلَالَ وَالْقَهْرَ ، فَاسْتُحِقَّ بِهِ السَّهْمُ ، قَالُوا : وَلِأَنَّ سَهْمَ فَرَسِهِ فِي مُقَابَلَةِ مَا تَكَلَّفَهُ مِنْ مُؤْنَتِهِ وَقَدْ تَكَلَّفَهَا فَاسْتَحَقَّ السَّهْمَ بِهَا وَرُبَّمَا حَرَّرُوا هَذَا الِاعْتِلَالَ قِيَاسًا فَقَالُوا : لِأَنَّهُ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَارِسًا مُجَاهِدًا ، فَاسْتَحَقَّ سَهْمَ الْفَارِسِ كَالْحَاضِرِ لِلْوَاقِعَةِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ اعْتِبَارَ اسْتِحْقَاقِ السَّهْمِ فِي الْفَصْلَيْنِ مَعًا بِحُضُورِ الْوَقْعَةِ لَا بِدُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ [ الْأَنْفَالِ : 41 ] فَاعْتُبِرَ بِمِلْكٍ حَالَ الْمَغْنَمِ إِجَازَتُهُ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَمْلِكَ قَبْلَهَا ، وَلِأَنَّ الْفَرَسَ تَابِعٌ وَالْمَالِكَ مَتْبُوعٌ ، فَلَمَّا كَانَ مَوْتُ الْمَالِكِ الْمَتْبُوعِ بَعْدَ دُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ وَقَبْلَ الْوَقْعَةِ يَمْنَعُ مِنِ اسْتِحْقَاقِ سَهْمِهِ ، فَالْفَرَسُ التَّابِعُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُ مَانِعًا مِنِ اسْتِحْقَاقِهِ . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّهُ ذُو سَهْمٍ مَاتَ قَبْلَ حُضُورِ الْوَقْعَةِ ، فَلَمْ يُسْهَمْ لَهُ كَالْمَالِكِ ، وَلِأَنَّ يَدَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَا دَخَلَ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ أَثْبَتُ وَأَقْوَى مِنْهَا عَلَى مَا فِي دَارِ الْحَرْبِ ( فَلَمَّا
اسْتَوَى اعْتِبَارُ سَهْمِ الْفَارِسِ وَالْفَرَسِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِحُضُورِ الْإِسْلَامِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يُعْتَبَرَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ) بِحُضُورِ الْوَقْعَةِ . وَيَتَحَرَّرُ مِنْ هَذَا الِاعْتِلَالِ قِيَاسَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ كُلَّ حَالٍ مَنَعَ مَا قَبْلَهَا مِنِ اسْتِحْقَاقِ سَهْمِ الْفَارِسِ مَنَعَ مِنِ اسْتِحْقَاقِ سَهْمِ الْفَرَسِ قِيَاسًا عَلَى دَارِ الْإِسْلَامِ . وَالثَّانِي : أَنَّ كُلَّ مَغْنَمٍ مُنِعَ بِدَارِ الْإِسْلَامِ مِنِ اسْتِحْقَاقِهِ مَنَعَتْ دَارُ الْحَرْبِ مِنِ اسْتِحْقَاقِهِ قِيَاسًا عَلَى مَوْتِ الْفَارِسِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ ، فَهُوَ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هُوَ الْقِتَالُ بَعْدَ الِاسْتِعْدَادِ لَا الِاقْتِصَارُ عَلَى الِاسْتِعْدَادِ ؛ أَلَا تَرَى أَنْ لَوِ اسْتَعَدَّ وَلَمْ يَحْضُرْ لَمْ يُسْهَمْ لَهُ ، وَلَوْ حَضَرَ وَلَمْ يَسْتَعِدَّ أُسْهِمَ لَهُ ، فَإِنْ قِيلَ : فَالرَّهْبَةُ قَدْ وَقَعَتْ بِالْفَرَسِ فِي دُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ الرَّهْبَةِ بِالْفَارِسِ لَا بِالْفَرَسِ ، ثُمَّ لَيْسَتِ الرَّهْبَةُ مِنَ الْفَارِسِ بِدُخُولِهِ دَارَ الْحَرْبِ مُوجِبَةً لِسَهْمِهِ ، فَكَذَلِكَ لِفَرَسِهِ . وَأَمَّا قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - : " مَا غُزِيَ قَوْمٌ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إِلَّا ذَلُّوا " ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ جَعَلَ الْغَزْوَ فِي الدَّارِ هُوَ الْإِذْلَالَ لَا دُخُولَ الدَّارِ عَلَى أَنَّ الْغَنِيمَةَ لَا تُمْلَكُ بِالْإِذْلَالِ ، وَإِنَّمَا تُمْلَكُ بِالْغَلَبَةِ وَالْإِجَازَةِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِمَا تَكَلَّفَهُ مِنْ مُؤْنَتِهِ ، فَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ تَكَلُّفُ الْمُؤْنَةِ مُوجِبًا لِمِلْكِ السَّهْمِ فِي الْمَغْنَمِ ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ تَكَلَّفَهَا لِفَرَسِهِ فَهَلَكَ قَبْلَ دُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ ، أَوْ تَكَلَّفَهَا لِنَفْسِهِ وَهَلَكَ بَعْدَ دُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يُسْهَمْ لِوَاحِدٍ مِنْهَا ، فَبَطَلَ التَّعْلِيلُ بِذَلِكَ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَوْ دَخَلَ يُرِيدُ الْجِهَادَ فَمَرِضَ وَلَمْ يُقَاتِلْ أُسْهِمَ لَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الصَّحِيحُ إِذَا حَضَرَ الْوَاقِعَةَ فَلَهُ سَهْمُهُ قَاتَلَ أَوْ لَمْ يُقَاتِلْ : لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ سَرِيَّةً مِنْ حُنَينٍ إِلَى أَوَطَاسٍ فَغَنِمَتْ ، فَقَسَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ أَقَامَ بِحُنَينٍ وَلَمْ يَحْضُرْ مَعَهُمْ ، فَكَانَ الْحَاضِرُ مَعَهُمْ وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلْ أَوْلَى أَنْ يَشْرُكَهُمْ ؛ وَلِأَنَّهُ إِذَا حَضَرَ هَيَّبَ وَكَثَّرَ وَأَرْهَبَ وَخَوَّفَ ، فَصَارَ حُضُورُهُ مُؤَثِّرًا كَالْمُقَاتِلِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَادَةِ جَمِيعِ الْجَيْشِ أَنْ يُقَاتِلَ ، وَإِنَّمَا يُقَاتِلُ بَعْضُهُمْ وَيَكُونُ الْبَاقُونَ رِدًّا لَهُمْ لِتَقْوَى نَفْسُ الْمُقَاتِلِ بِحُضُورِ مَنْ لَا يُقَاتِلُ . وَأَمَّا إِذَا حَضَرَهَا وَهُوَ مَرِيضٌ أَوْ كَانَ صَحِيحًا فَمَرِضَ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مَرِيضًا يَقْدِرُ عَلَى الْقِتَالِ كالصُّدَاعِ وَالسُّعَالِ وَنُفُورِ الطِّحَالِ وَالْحُمَّى الْقَرَنِيَّةِ ، فَهَذَا يُسْهَمُ لَهُ ، لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ لِعَدَمِ تَأْثِيرِهِ وَقِلَّةِ خُلُوِّ الْأَبْدَانِ مِنْ مِثْلِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَرِيضًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِتَالِ مَعَهُ فَفِي اسْتِحْقَاقِهِ لِلسَّهْمِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ لِأَصْحَابِنَا :
أَحَدُهَا وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ هَا هُنَا أَنَّهُ يُسْهَمُ لَهُ : لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ ؛ وَلِأَنَّهُ مُهَيِّبٌ وَمُكَثِّرٌ كَالصَّحِيحِ ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَنْفَعُ بِرَأْيِهِ أَكْثَرَ مِنْ نَفْعِهِ بِقِتَالِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَلَّا يُسْهَمَ لَهُ وَيُعْطَى رَضْخًا : لِأَنَّهُ مَسْلُوبُ النُّهُوضِ بِالْمَرَضِ ، فَصَارَ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ إِنْ كَانَ مَرِيضًا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ كَالْعَمَى وَقَطْعِ الْيَدَيْنِ ، أَوِ الرِّجْلَيْنِ ، أَوِ الزَّمَانَةِ الْمُقْعِدَةِ ، فَلَا يُسْهَمُ لَهُ . وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا لَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ فَيُرْجَى زَوَالُهُ بِالْعَوْدِ إِلَى الصِّحَّةِ كَالْحُمَّى الشَّدِيدَةِ وَرَمَدِ الْعَيْنِ وَانْطِلَاقِ الْجَوْفِ أُسْهِمَ لَهُ : لِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فِي فَرْضِ الْجِهَادِ فَرْقٌ بَيْنَهُمَا فِي اسْتِحْقَاقِ السَّهْمِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ أَجِيرٌ يُرِيدُ الْجِهَادَ فَقَدْ قِيلَ يُسْهَمُ لَهُ وَقِيلَ يُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يُسْهَمَ لَهُ وَتُطْرَحَ الْإِجَارَةُ وَلَا يُسْهَمُ لَهُ وَقِيلَ يُرْضَخُ لَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَجِيرَ إِذَا حَضَرَ الْوَاقِعَةَ هل يسهم له ؟ لَمْ يَخْلُ حَالُ إِجَارَتِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَكُونَ ثَابِتَةً فِي ذِمَّتِهِ ، أَوْ مُعَيَّنَةً فِي رَقَبَتِهِ ، فَإِنْ كَانَتْ فِي الذِّمَّةِ أُسْهِمَ لَهُ : لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُقُوقِ فِي الذِّمَمِ لَا يَمْنَعُ مِنِ اسْتِحْقَاقِ السَّهْمِ فِي الْمَغْنَمِ كَالدُّيُونِ ، وَإِنْ كَانَتْ مُعَيَّنَةً فِي رَقَبَتِهِ وَعَلَى يَدَيْهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ مُقَدَّرَةً بِالْعَمَلِ . وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ مُقَدَّرَةً بِالزَّمَانِ . فَإِنْ كَانَتِ الْمَنْفَعَةُ فِيهَا مُقَدَّرَةً بِالْعَمَلِ كَرَجُلٍ اسْتُؤْجِرَ لِخِيَاطَةِ ثَوْبٍ ، أَوْ صِنَاعَةِ حُلِيٍّ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ إِجَارَةً لَازِمَةً لَا يَقْدِرُ عَلَى فَسْـخِهَا . وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ إِجَارَةً يَقْدِرُ عَلَى فَسْخِهَا ، فَإِنْ كَانَتْ لَازِمَةً لَا يَقْدِرُ عَلَى فَسْخِهَا فَفِي اسْتِحْقَاقِهِ لِلسَّهْمِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا سَهْمَ لَهُ : لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ بِالْعَقْدِ مُسْتَحَقَّةٌ فَأَشْبَهَ الْعَبْدَ ؛ فَعَلَى هَذَا يُرْضَخُ لَهُ وَهُوَ عَلَى إِجَارَتِهِ مُسْتَحِقٌّ لِأُجْرَتِهِ : لِأَنَّهُ لَمْ يَعْتَضْ عَنْ مَنْفَعَتِهِ فَانْصَرَفَتْ إِلَى إِجَارَتِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُسْهَمُ لَهُ ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ مَنَافِعِهِ بِالْعَقْدِ لَا يَمْنَعُ مِنِ اسْتِيفَاءِ أَحْكَامِ قُرْبِهِ كَالْحَجِّ وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ خَالَفَ أَحْكَامَ الْعَبْدِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ حُضُورُ الْوَقْعَةِ لَا يَمْنَعُ
مِنْ مَنَافِعِ إِجَارَتِهِ كَأَجِيرٍ يَخْدُمُ مَنْ حَضَرَ الْوَقْعَةَ فَلَهُ الْأُجْرَةُ مَعَ السَّهْمِ كَمَا يَكُونُ لَهُ الْحَجُّ مَعَ الْأُجْرَةِ ، وَإِنْ كَانَ حُضُورُ الْوَقْعَةِ يَمْنَعُ مِنْ مَنَافِعِ إِجَارَتِهِ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَدْعُوَهُ الْمُسْتَأْجِرُ إِلَى خِدْمَتِهِ فَيَأْبَى وَيَغْلِبَهُ عَلَى مَنَافِعِ نَفْسِهِ ، فَهَذَا يَرُدُّ مِنَ الْأُجْرَةِ مَا قَابَلَ مُدَّةَ حُضُورِهِ لِئَلَّا يَجْمَعَ فِيهَا بَيْنَ بَدَلَيْنِ وَقَدِ امْتَلَكَهَا فِي إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : لَا يَدْعُوهُ الْمُسْتَأْجِرُ إِلَى خِدْمَتِهِ فَفِي اسْتِحْقَاقِ الْأَجْرِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَسْتَحِقُّهَا تَعْلِيلًا بِمَا ذَكَرْنَا . وَالثَّانِي : يَسْتَحِقُّهَا : لِأَنَّ الْأُجْرَةَ فِي مُقَابَلَةِ التَّمْكِينِ مِنَ الْخِدْمَةِ ، وَالتَّمْكِينُ مَوْجُودٌ وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ الِاسْتِيفَاءُ وَإِنْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ تُقَدَّرُ عَلَى قَسْمِهَا ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : لَا يُسْهَمُ لَهُ ، سَوَاءً أَقَامَ عَلَيْهَا مِنْ بَعْدُ أَوْ فَسَخَ . وَالثَّانِي : يُسْهَمُ لَهُ ، سَوَاءً أَقَامَ عَلَيْهَا مِنْ بَعْدُ أَوْ فَسَخَ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُقِيمَ عَلَى الْإِجَارَةِ ، فَلَا يُسْهَمُ لَهُ وَيُعْطَى رَضْخًا وَتَكُونَ لَهُ الْأُجْرَةُ ، وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ فَيُسْهَمُ لَهُ وَتَسْقُطُ الْأُجْرَةُ . فَإِذَا قِيلَ : يُسْهَمُ لَهُ فَسَوَاءً قَاتَلَ أَوْ لَمْ يُقَاتِلْ لَهُ سَهْمُهُ كَغَيْرِهِ مِنَ الْجَيْشِ . وَإِذَا قِيلَ لَا يُسْهَمُ لَهُ كَانَ ذَلِكَ حُكْمَهُ مَا لَمْ يُقَاتِلْ فِي حُضُورِهِ ، فَأَمَّا إِذَا قَاتَلَ وَأَبْلَى ؛ فِإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ السَّلَبَ إِنْ قَتَلَ قَتِيلًا ؛ وَفِي اسْتِحْقَاقِهِ لِلسَّهْمِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْبَصْرِيِّينَ مِنْهُمْ أَبُو الْفَيَّاضِ : يَسْتَحِقُّ السَّهْمَ لِبَلَائِهِ وَظُهُورِ عَنَائِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَالْأَصَحُّ عِنْدِي : أَنَّهُ لَا سَهْمَ لَهُ : لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَسْتَحِقَّ السَّهْمَ بِالْحُضُورِ إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ لَمْ يَسْتَحِقَّهُ وَإِنْ قَاتَلَ كَأَهْلِ الرَّضْخِ طَرْدًا وَأَهْلِ الْجِهَادِ عَكْسًا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَوْ أَفْلَتَ إِلَيْهِمْ أَسِيرٌ قَبْلَ تَحَرُّزِ الْغَنِيمَةِ فَقَدْ قِيلَ يُسْهَمُ لَهُ وَقِيلَ لَا يُسْهَمُ لَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قِتَالٌ فَيُقَاتِلُ فَأَرَى أَنْ يُسْهَمَ لَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا كَانَ فِي أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ أَسِيرٌ وَأَفْلَتَ مِنْهُمْ وَقْتَ الْقِتَالِ وَصَارَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَنْ يَخْتَلِطَ بِالْجَيْشِ أَوْ لَا يَخْتَلِطُ ، فَإِنْ لَمْ يَخْتَلِطْ وَتَوَجَّهَ إِلَى وَطَنِهِ فَلَا حَقَّ لَهُ فِي الْغَنِيمَةِ ، وَإِنِ اخْتَلَطَ فِي الْجَيْشِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَحْضُرَ قَبْلَ تَقَضِّي الْحَرْبِ ، فَهَذَا يُسْهَمُ لَهُ قَاتَلَ أَوْ لَمْ يُقَاتِلْ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُسْهَمُ لَهُ إِلَّا أَنْ يُقَاتِلَ : لِأَنَّهُ مَا قَصَدَ الْجِهَادَ وَلَا تَكَلَّفَ لَهُ وَهَذَا خَطَأٌ : لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ ، وَلِأَنَّ مَنْ أُسْهِمَ لَهُ إِذَا قَاتَلَ أُسْهِمَ لَهُ وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلْ كَسَائِرِ الْجَيْشِ ، وَلِأَنَّ مَا عَانَاهُ مِنْ شِدَّةِ الْأَسْرِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِحِرْمَانِهِ ، فَأَمَّا نِيَّةُ الْقَصْدِ وَتَكَلُّفُ الْمُؤَنِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي سَهْمِ غَيْرِهِ ، فَكَذَلِكَ فِي سَهْمِهِ .
وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَحْضُرَ بَعْدَ الْوَقْعَةِ وَقَبْلَ إِحَازَةِ الْغَنِيمَةِ فَفِي اسْتِحْقَاقِهِ لِلسَّهْمِ قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ مَتَى يَمْلِكُ الْغَانِمُونَ الْغَنِيمَةَ . فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ لَهُمْ بِانْقِضَاءِ الْحَرْبِ أَنْ يَتَمَلَّكُوهَا ، فَعَلَى هَذَا يُسْهَمُ مِنْهَا لِأَسِيرٍ : لِأَنَّهُ قَدْ شَارَكَهُمْ فِي سَهْمِ التَّمَلُّكِ لَهَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : إِنَّهُمْ يَتَمَلَّكُونَهَا بِشَرْطَيْنِ : الْقِتَالُ عَلَيْهَا وَالْإِحَازَةُ لَهَا . فَعَلَى هَذَا لَا سَهْمَ لِأَسِيرٍ بِحُضُورِهِ بَعْدَ أَنْ مَلَكَ الْجَيْشُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا . فَإِذَا قِيلَ يُسْهَمُ لَهُ ، فَبِحَسَبِ حَالِهِ فَارِسًا كَانَ أَوْ رَاجِلًا وَإِذَا قِيلَ : لَا يُسْهَمُ لَهُ ، فَإِنْ حَضَرَ بَعْدَ قَسْمِ الْغَنِيمَةِ ، فَلَا رَضْخَ لَهُ فِيهَا وَإِنْ حَضَرَ قَبْلَ قِسْمَتِهَا رُضِخَ لَهُ مِنْهَا ، وَتَحْتَمِلُ وَجْهًا آخَرَ أَنْ لَا يُرْضَخَ لَهُ لِفَوَاتِ زَمَانِ التَّمَلُّكِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَوْ دَخَلَ تُجَّارٌ فَقَاتَلُوا لَمْ أَرَ بَأْسًا أَنْ يُسْهَمَ لَهُمْ قِيلَ لَا يُسْهَمُ لَهُمْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا اتَّبَعَ الْجَيْشَ تُجَّارٌ وَصُنَّاعٌ قَصَدُوا كَسْبَ مَنَافِعِهِمْ وَصَنَائِعِهِمْ فِي جِهَادِ عَدُوِّهِمْ ، فَإِنْ تَأَخَّرُوا عَنِ الْوَقْعَةِ لَمْ يُسْهَمُ لَهُمْ وَإِنْ حَضَرُوهَا نُظِرَ ، فَإِنْ قَاتَلُوا أُسْهِمَ لَهُمْ : لِأَنَّهُمْ بِالْقِتَالِ قَدْ عَدَلُوا عَنْ قَصْدِ الْكَسْبِ إِلَى نِيَّةِ الْجِهَادِ وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلُوا ، فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا سَهْمَ لَهُمْ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ : لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يُسْهَمُ لَهُمْ : لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَمْنَعِ التِّجَارَةُ وَالصِّنَاعَةُ مِنَ الْحَجِّ لَمْ تَمْنَعْ مِنَ الْجِهَادِ ، فَإِذَا أُسْهِمَ لَهُمُ اعْتُبِرَتْ أَحْوَالُهُمْ فُرْسَانًا وَرَجَّالَةً . وَإِذَا قِيلَ : لَا يُسْهَمُ ، أُعْطَوْا رَضْخًا لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ لِإِدْرَاكِهِمْ زَمَانَ الِاسْتِحْقَاقِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَوْ جَاءَهُمْ مَرَدٌّ قَبْلَ تَنْقَضِي الْحَرْبُ فَحَضَرُوا مِنْهَا شَيْئًا هل يسهم لهم قَلَّ أَوْ كَثُرَ شَرَكُوهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ ، فَإِنِ انْقَضَتِ الْحَرْبُ وَلَمْ يَكُنْ لِلْغَنِيمَةِ مَانِعٌ لَمْ يَشْرُكُوهُمْ . وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا أَلْحَقَ بِالْجَيْشِ فِي دَارِ الْحَرْبِ مَرَدٌّ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمَرَدِّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُدْرِكُوا الْوَقْعَةَ قَبْلَ تَنْقَضِي الْحَرْبُ فَيَكُونُوا شُرَكَاءَ لِلْجَيْشِ فِي الْغَنِيمَةِ ، سَوَاءً قَاتَلُوا مَعَهُمْ أَمْ لَا ، وَسَوَاءً احْتَاجَ الْجَيْشُ إِلَيْهِمْ أَمْ لَا : لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : الْغَنِيمَةُ لِمَنْ حَضَرَ الْوَقْعَةَ ، وَلِأَنَّ لِوُرُودِهِمْ تَأْثِيرًا فِي الْقُوَّةِ وَرُبَّمَا كَانَ سَبَبًا لِلظَّفَرِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنْ يُدْرِكُوهُمْ بَعْدَ تَنْقَضِي الْحَرْبُ وَانْجِلَاءِ الْوَقْعَةِ وَقَبْلَ إِحَازَةِ الْغَنِيمَةِ .
وَالْإِحَازَةُ أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ وَيُوَلِّيَ عَنْهَا الْمُشْرِكُونَ وَنَأْمَنُ رَجَعَتَهُمْ فِي الْحَالِ فَتَكْمُلُ الْإِحَازَةُ بِهَذِهِ الشُّرُوطِ الثَّلَاثَةِ ، فَإِنِ انْخَرَمَ شَرْطٌ مِنْهَا لَمْ تَكْمُلِ الْإِحَازَةُ ، فَإِذَا كَانَ حُضُورُ الْمَرَدِّ بَعْدَ تَنْقَضِي الْحَرْبُ وَقَبْلَ الْإِحَازَةِ فَهَلْ يُشْرِكُونَهُمْ فِيهَا أَمْ لَا عَلَى الْقَوْلَيْنَ الْمَاضِيَيْنِ نَصًّا وَتَخْرِيجًا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يُدْرِكُوهُمْ بَعْدَ تَنْقَضِي الْحَرْبُ وَبَعْدَ إِحَازَةِ الْغَنِيمَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ صِفَةِ الْإِحَازَةِ ، فَلَا حَقَّ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْجَيْشُ أَحَقُّ بِهَا مِنَ الْمَرَدِّ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْمَرَدُّ شُرَكَاءُ الْجَيْشِ فِي الْغَنِيمَةِ إِذَا أَدْرَكُوهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَإِنْ أُحْرِزَتِ الْغَنَائِمُ مَا لَمْ يَقْتَسِمُوهَا ، أَوْ يَكُنِ الْإِمَامُ قَدْ بَاعَهَا ، وَلَوْ كَانَ الْمَرَدُّ أَسْرَى لَحِقُوا بِالْجَيْشِ فِي دَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ إِحَازَةِ الْغَنَائِمِ لَمْ يَشْرُكُوهُمْ . وَاسْتَدَلَّ عَلَى مُشَارَكَةِ الْمَرَدِّ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ جَيْشٌ اجْتَمَعُوا عَلَى نَفْلِ الْغَنِيمَةِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُشْرَكُوا فِيهَا قِيَاسًا عَلَى الْحَاضِرِينَ قَبْلَ الْحَرْبِ ، وَلِأَنْ لَمَّا كَانَ الرَّدُّ مُشَارِكًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمَرَدُّ مُشَارِكًا : لِأَنَّ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ عَوْنٌ وَلِلْجَيْشِ بِهِمَا قُوَّةٌ ، وَلِأَنَّ الْغَنِيمَةَ لَا تُمْلَكُ إِلَّا بِالْإِحَازَةِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ، فَصَارَ الْمَرَدُّ مُدْرِكًا لَهَا قَبْلَ إِحَازَتِهَا . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ وَالَّذِي شَهِدَهَا الْجَيْشُ دُونَ الْمَرَدِّ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَحَقَّ بِهَا مِنَ الْمَرَدِّ . وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَّرَ أَبَّانَ بْنَ سَعِيدٍ عَلَى سَرِيَّةٍ قِبَلَ نَجْدٍ فَقَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخَيْبَرَ وَقَدْ فَتَحَهَا وَأَحَازَهَا فَسَأَلَهُ أَنْ يُسْهِمَ لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ مِنْهَا فَأَبَى : فَدَلَّ عَلَى اخْتِصَاصِ الْجَيْشِ بِهَا دُونَ الْمَرَدِّ ، وَلِأَنَّ لُحُوقَهُمْ بِالْجَيْشِ بَعْدَ إِحَازَةِ الْغَنِيمَةِ يَمْنَعُ مُشَارَكَتَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ قِيَاسًا عَلَى الْأَسْرَى ، وَلِأَنَّ كُلَّ غَنِيمَةٍ لَا يُسْهَمُ لِلْأَسْرَى مِنْهَا لَمْ يُسْهَمْ لِلْمَرَدِّ مِنْهَا قِيَاسًا عَلَى مَا نُفِلَ ، أَوْ قُسِّمَ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ أَنَّهُمُ اجْتَمَعُوا عَلَى نَفْلِ الْغَنِيمَةِ ، فَلَيْسَ النَّفْلُ عِلَّةً فِي التَّمَلُّكِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَسْرَى لَوْ نَفَلُوا لَمْ يَتَمَلَّكُوا ، وَكَذَلِكَ الْأُجَرَاءُ عَلَى النَّفْلِ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالرَّدِ ، فَهُمْ وَالْمَرَدُّ سَوَاءٌ ؛ إِنْ أَدْرَكَ الْوَقْعَةَ أُسْهِمَ لَهُمْ كَالرِّدِّ ، وَإِنْ لَمْ يُدْرِكِ الرِّدُّ الْوَقْعَةَ لَمْ يُسْهَمْ لَهُمْ كَالْمَرَدِّ . وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ الْغَنِيمَةَ يُمْكِنُ إِحَازَتُهَا إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ؛ فَلَيْسَ لِلدَّارِ تَأَثِيرٌ فِي تَمَلُّكِهَا ، وَإِنَّمَا تُمَلَكُ بِمُجَرَّدِ الْإِحَازَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَوْ أَنَّ قَائِدًا فَرَّقَ جُنْدَهُ فِي وَجْهَيْنِ فَغَنِمَتْ إِحْدَى الْفِرْقَتَيْنِ ، أَوْ غَنِمَ الْعَسْكَرُ وَلَمْ تَغْنَمْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا شَرَكُوهُمْ لِأَنَّهُمْ جَيْشٌ وَاحِدٌ وَكُلُّهُمْ رِدْءٌ
لِصَاحِبِهِ وَقَدْ مَضَتْ خَيْلُ الْمُسْلِمِينَ فَغَنِمُوا بِأَوْطَاسٍ غَنَائِمَ كَثِيرَةً وَأَكْثَرُ الْعَسَاكِرِ بِحُنَيْنٍ فَشَرَكُوهُمْ وَهُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَلَكِنْ لَوْ كَانَ قَوْمٌ مُقِيمِينَ بِبِلَادِهِمْ فَخَرَجَتْ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ فَغَنِمُوا لَمْ يُشْرِكُوهُمْ وَإِنْ كَانُوا مِنْهُمْ قَرِيبًا : لِأَنَّ السَّرَايَا كَانَتْ تَخْرُجُ مِنَ الْمَدِينَةِ فَتَغْنَمُ فَلَا يَشْرُكُهُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ، وَلَوْ أَنَّ إِمَامًا بَعَثَ جَيْشَيْنِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَائِدٌ وَأَمَرَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَتَوَجَّهَ نَاحِيَةً غَيْرَ نَاحِيَةِ صَاحِبِهِ مِنْ بِلَادِ عَدُوِّهِمْ فَغَنِمَ أَحَدُ الْجَيْشَيْنِ لَمْ يَشْرُكْهُمُ الْآخَرُونَ ، فَإِذَا اجْتَمَعُوا فَغَنِمُوا مُجْتَمِعِينَ فَهُمْ كَجَيْشٍ وَاحِدٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَلِلسَّرَايَا الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى الْجُيُوشِ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ تَسْرِيَ مِنْ جُمْلَةِ جَيْشٍ خَارِجٍ فِي الْجِهَادِ . وَالثَّانِيَةُ : أَنْ تَسْرِيَ مِنْ جُمْلَةِ جَيْشٍ مُقِيمٍ . فَأَمَّا الْحَالَةُ الْأُولَى وَهِيَ أَنْ تَسْرِيَ مِنْ جُمْلَةِ جَيْشٍ خَارِجٍ فِي الْجِهَادِ ، فَصُورَتُهَا أَنْ يَخْرُجَ الْإِمَامُ لِجَيْشِهِ ، أَوْ يَسْتَخْلِفَ عَلَى الْجَيْشِ أَمِيرًا فَيُنْفِذَ السَّرَايَا مِنْ جُمْلَةِ الْجَيْشِ الْخَارِجِ ، فَفِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ : فَالْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : أَنْ يَتَقَدَّمَ مِنْ جُمْلَتِهِ سَرِيَّةٌ وَاحِدَةٌ إِلَى بَعْضِ الْجِهَاتِ : فَتَكُونُ السَّرِيَّةُ وَالْجَيْشُ شُرَكَاءَ بِجَمِيعِ مَا غَنِمُوهُ ، فَإِنْ غَنِمَتِ السَّرِيَّةُ شَارَكَهُمُ الْجَيْشُ ، وَإِنْ غَنِمَ الْجَيْشُ شَارَكَتْهُمُ السَّرِيَّةُ ، وسَوَاءً كَانَ تَفَرُّدُ السَّرِيَّةِ إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي يَقْصِدُهَا الْجَيْشُ أَوْ إِلَى غَيْرِهَا ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ . وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : يَتَمَيَّزُ حُكْمُ السَّرِيَّةِ عَنِ الْجَيْشِ ، وَيَخْتَصُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا غَنِمَهُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ هَزَمَ هَوَازِنَ بِحُنَيْنٍ أَسْرَى قِبَلَ أَوْطَاسٍ سَرِيَّةً غَنِمَتْ فَقَسَّمَ غَنَائِمَهُمْ فِي الْجَمِيعِ . وَرَوَى عُمَرُ بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ ، وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ يَرُدُّ مُشَدُّهُمْ عَلَى مُضْعَفِهِمْ وَمُتَسَرِّيهِمْ عَلَى قَاعِدِهِمْ ، لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ ، فَأَخْبَرَ أَنَّ السَّرَايَا تَرُدُّ عَلَى الْقَاعِدِ ؛ وَلِأَنَّهُمْ جَيْشٌ وَاحِدٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رِدٌّ لِصَاحِبِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْجَيْشَ إِنِ احْتَاجَ إِلَيْهَا رَجَعَتْ إِلَيْهِ ، وَإِنِ احْتَاجَتْ إِلَيْهِ لَحِقَ بِهَا . وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُنْفِذَ مِنَ الْجَيْشِ سَرِيَّتَيْنِ إِلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ فِي طَرِيقٍ وَاحِدٍ أَوْ طَرِيقَيْنِ ، فَيَكُونُ الْجَيْشُ وَالسَّرِيَّتَانِ جَيْشًا وَاحِدًا إِنْ غَنِمَتِ السَّرِيَّتَانِ اشْتَرَكَتَا مَعَ الْجَيْشِ ، وَإِنْ غَنِمَتْ إِحْدَاهُمَا شَرَكَتْهَا الْأُخْرَى وَالْجَيْشُ ، وَإِنْ غَنِمَ الْجَيْشُ شَارَكَتْهُ السَّرِيَّتَانِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ النَّصِّ وَالتَّعْلِيلِ .
وَالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يُنْفِذَ سَرِيَّتَيْنِ إِلَى جِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ فَتَكُونُ السَّرِيَّتَانِ مُشَارِكَتَيْنِ لِلْجَيْشِ وَالْجَيْشُ مُشَارِكًا لِلسَّرِيَّتَيْنِ ، وَهَلْ تَكُونُ إِحْدَى السَّرِيَّتَيْنِ مُشَارِكَةً لِلْأُخْرَى أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تَكُونُ مُشَارِكَةً لَهَا : لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ جَيْشٍ وَاحِدٍ ، فَصَارَ الْكُلُّ جَيْشًا وَاحِدًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ السَّرِيَّتَيْنِ حُكْمُ نَفْسِهَا لَا تُشَارِكُ الْأُخْرَى وَلَا يُشَارِكُهَا : لِأَنَّ الْجَيْشَ أَصْلُ السَّرِيَّتَيْنِ وَلَيْسَتْ إِحْدَى السَّرِيَّتَيْنِ أَصْلٌ لِلْأُخْرَى .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْحَالَةُ الْأُخْرَى وَهِيَ أَنْ يَكُونَ الْجَيْشُ مُقِيمًا وَالسَّرَايَا مِنْهُ نَافِذَةٌ فهل يسهم للجيش والسرايا ؟ فَفِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : إِحْدَاهَا : أَنْ يُنْفِذَ الْإِمَامُ مِنْ جُمْلَةِ جَيْشِهِ الْمُقِيمِ سَرِيَّةً فَتَغْنَمُ فَتَخْتَصُّ السَّرِيَّةُ بِغَنِيمَتِهَا وَلَا يَشْرُكُهَا الْجَيْشُ الْمُقِيمُ سَوَاءً أَسْرَتْ إِلَى مَوْضِعٍ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ : لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُنْفِذُ السَّرَايَا مِنَ الْمَدِينَةِ ، فَلَا يُشْرِكُهُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ، وَلِأَنَّ الْغَنِيمَةَ لِلْمُجَاهِدِينَ وَلَيْسَ الْمُقِيمُ مُجَاهِدًا . وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُنْفِذَ الْإِمَامُ مِنْ جُمْلَةِ جَيْشِهِ الْمُقِيمِ سَرِيَّتَيْنِ إِلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ فِي طَرِيقٍ وَاحِدٍ ، أَوْ طَرِيقَيْنِ فَتَكُونُ السَّرِيَّتَانِ جَيْشًا وَاحِدًا ، أَيُّهُمَا غَنِمَتْ شَارَكَتْهَا الْأُخْرَى وَلَا يُشَارِكُهُمَا الْجَيْشُ الْمُقِيمُ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُجَاهِدٍ . وَالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يُنْفِذَ الْإِمَامُ مِنْ جُمْلَةِ الْجَيْشِ الْمُقِيمِ سَرِيَّتَيْنِ إِلَى جِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ وَقَدْ أَفْرَدَ كُلَّ سَرِيَّةٍ مِنْهُمَا بِقَائِدٍ ، فَإِنِ اجْتَمَعَتِ السَّرِيَّتَانِ عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي غَنَائِمِهَا دُونَ الْجَيْشِ الْمُقِيمِ ، وَإِنِ انْفَرَدَتْ كُلُّ سَرِيَّةٍ بِالْجِهَةِ الَّتِي أُنْفِذَتْ إِلَيْهَا لَنْ تُشَارِكَهَا الْأُخْرَى فِي غَنَائِمِهَا وَلَا يُشَارِكُ الْجَيْشُ وَاحِدَةً مِنْهَا : لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ السَّرِيَّتَيْنِ إِذَا اخْتَصَّتْ بِجِهَةٍ لَمْ تَكُنْ رِدًّا لِلْأُخْرَى فَصَارَتْ جَيْشًا مُنْفَرِدًا ، فَلَوِ انْضَمَّ نَفَرٌ مِنْ إِحْدَى السَّرِيَّتَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى وَغَنِمُوا شَارَكُوهَا فِي غَنَائِمِهِمْ ، لِأَنَّهُمْ بِالِانْضِمَامِ إِلَيْهَا قَدْ صَارُوا مِنْ جُمْلَتِهَا ، فَإِذَا حَازَ النَّفَرُ سَهْمَهُمْ مِنْهَا فَهَلْ يُشَارِكُهُمْ فِيهِ بَاقِي أَصْحَابِهِ مِنَ السَّرِيَّةِ الْأُخْرَى أَوْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُشَارِكُونَهُمْ فِيهِ : لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ جَيْشٌ وَاحِدٌ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ بَاقِي السَّرِيَّةِ غَنِمَتْ شَارَكَهُمْ فِيهَا النَّفَرُ الْمُنْفَرِدُ عَنْهُمْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ هَؤُلَاءِ النَّفَرَ يَخْتَصُّونَ بِمَا أَخَذُوا مِنَ السَّرِيَّةِ الَّتِي انْضَمُّوا إِلَيْهَا : لِأَنَّهُمْ لَمَّا صَارُوا مِنْ جُمْلَتِهَا بِالِانْضِمَامِ إِلَيْهَا خَرَجُوا مِنْ جُمْلَةِ سَرِيَّتِهِمْ بِالِانْفِرَادِ عَنْهَا ، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ الْبَاقِينَ مِنْ سَرِيَّتِهِمْ غَنِمُوا لَمْ يُشَارِكُوهُمْ كَمَا لَمْ يَرُدُّوا عَلَيْهِمْ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ تَفْرِيقِ الْخُمُسِ
بَابُ تَفْرِيقِ الْخُمُسِ الغنيمة مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ الْآيَةَ وَرُوِيَ أَنَّ جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَسَمَ سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ أَتَيْتُهُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، هَؤُلَاءِ إِخْوَانُنَا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ - لَا نُنْكِرُ فَضْلَهُمْ لِمَكَانِكَ الَّذِي وَضَعَكَ اللَّهُ بِهِ مِنْهُمْ - أَرَأَيْتَ إِخْوَانَنَا مِنْ بَنِي الْمُطَّلِبِ أَعْطَيْتَهُمْ وَتَرَكْتَنَا وَإِنَّمَا قَرَابَتُنَا وَقَرَابَتُهُمْ وَاحِدَةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " إِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ هَكَذَا ، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ " . وَرَوَى جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُعْطِ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَلَا بَنِي نَوْفَلٍ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ ، فَأَمَّا خُمُسُهَا وَخُمُسُ الْفَيْءِ فَهُمَا سَوَاءٌ ، وَلِأَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ حُكْمٌ يُخَالِفُ حُكْمَ خُمُسِهِ ، وَخُمُسُ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ مَقْسُومٌ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ : سَهْمٍ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَيَاتِهِ وَيُصْرَفُ بَعْدَهُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ ، وَسَهْمٍ لِذَوِي الْقُرْبَى مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ بَاقٍ لَهُمْ مَا بَقَوْا ، وَسَهْمٍ لِلْيَتَامَى ، وَسَهْمٍ لِلْمَسَاكِينِ ، وَسَهْمٍ لِبَنِي السَّبِيلِ . وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ الرِّيَاحِيُّ : يُقَسَّمُ الْخُمُسُ عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ : سَهْمٍ مِنْهَا لِلَّهِ تَعَالَى مَصْرُوفٍ فِي رِيَاحِ الْكَعْبَةِ وَزِينَتِهَا ، ثُمَّ الْخَمْسَةُ الْأَسْهُمِ بَعْدَهُ عَلَى مَا وَصَفْنَاهُ . وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : يُقَسَّمُ الْخُمُسُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ أُسْقِطَ مِنْهَا سَهْمُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَوْتِهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُقَسَّمُ الْخُمُسُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ : سَهْمٍ لِلْيَتَامَى ، وَسَهْمٍ لِلْمَسَاكِينِ ، وَسَهْمٍ لِبَنِي السَّبِيلِ . وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : نُقَسِّمُ الْخُمُسَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ أُسْقِطَ مِنْهَا سَهْمُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَهْمُ ذِي الْقُرْبَى . وَقَالَ مَالِكٌ : يُصْرَفُ الْخُمُسُ مَعَ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ فِي وُجُوهِ الْمَصَالِحِ . فَأَمَّا أَبُو الْعَالِيَةِ فَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ [ الْأَنْفَالِ : 41 ] فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَفْسَهُ مِنَ الْمُسْتَحِقِّينَ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ لَهُ . وَدَلِيلُنَا مَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : مَا لِيَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ
عَلَيْكُمْ إِلَّا الْخُمُسَ وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ ، فَلَوْ كَانَ مَقْسُومًا عَلَى سِتَّةٍ لَقَالَ إِلَّا السُّدُسَ ، وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُقَسِّمُ الْخُمُسَ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ . فَأَمَّا الْآيَةُ فَالْجَوَابُ عَنْهَا أَنَّ تَقْدِيمَ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا هُوَ لِلتَّبَرُّكِ بِاسْمِهِ وَلِإِبَاحَةِ الْمَالِ بَعْدَ حَظْرِهِ ، وَإِلَّا فَجَمِيعُ الْأَمْوَالِ لَهُ وَلِتَغَلُّظِ حَظْرِ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ مَنْ سَمَّاهُ . وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ سَهْمَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَاقِطٌ بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَنْ مَلَكَ فِي حَيَاتِهِ حَقًّا كَانَ بَعْدَ مَوْتِهِ إِمَّا مَوْرُوثًا وَإِمَّا سَاقِطًا ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ سَهْمُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَوْرُوثًا سَقَطَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ كَانَ يَمْلِكُ سَهْمَهُ مِنَ الْخُمُسِ كَمَا كَانَ يَمْلِكُ مِنَ الْغَنِيمَةِ الصَّفِيَّ ، فَلَمَّا سَقَطَ حَقُّهُ مِنَ الصَّفِيِّ بِمَوْتِهِ سَقَطَ سَهْمُهُ مِنَ الْخُمُسِ بِهِ . وَاسْتُدِلَّ أَيْضًا عَلَى أَنْ لَا حَقَّ لِذَوِي الْقُرْبَى فِيهِ إِلَّا بِالْفَقْرِ مِنْ جُمْلَةِ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ [ الْحَشْرِ : 7 ] فَحَظَرُوا بِهَذَا التَّعْلِيلِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ وَثُبُوتُ حَقِّهِمْ فِيهِ يُوجِبُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْفُقَرَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ ، فَدَلَّ عَلَى سُقُوطِهِ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : دَعَانِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَدْ عَزَلَ لَنَا سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى فَقُلْتُ إِنَّ بَنِي هَاشِمٍ عَنْهُ فِي غَنَاءٍ وَإِنَّ بِالْمُسْلِمِينَ خَلَّةً وَفَاقَةً ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَرُدَّهُ عَلَيْهِمْ ، فَلَمَّا تَرَكَهُ لِلْغَنِيِّ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُونَهُ بِالْفَقْرِ . قَالَ : وَلِأَنَّ كُلَّ مَالٍ لَمْ يَجُزْ صَرْفُهُ إِلَى أَغْنِيَاءَ غَيْرِ ذِي الْقُرْبَى لَمْ يَجُزْ صَرْفُهُ إِلَى أَغْنِيَاءِ ذِي الْقُرْبَى كَالصَّدَقَاتِ : وَلِأَنَّهُمْ صِنْفٌ مُسَمًّى فِي الْخُمُسِ ، فَوَجَبَ أَلَّا يَسْتَحِقُّوهُ مَعَ الْغِنَى كَالْيَتَامَى ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ وَهُوَ أَنَّ سَهْمَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَابِتٌ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : مَا لِيَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ إِلَّا الْخُمُسَ وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ فَدَلَّ رَدُّهُ ثُبُوتَهُ وَإِنْ تَغَيَّرَ حُكْمُهُ لَا عَلَى سُقُوطِهِ . وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِمَّا لَمْ يُوجِفِ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بَخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ ، فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دُونَ الْمُسْلِمِينَ : وَكَانَ يُنْفِقُ مِنْهَا عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَةٍ ، فَمَا فَضَلَ جَعَلَهُ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، ثُمَّ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَلِيَهَا أَبُو بَكْرٍ مِثْلَمَا وَلِيَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، ثُمَّ وَلِيَهَا عُمَرُ بِمِثْلِ مَا وَلِيَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو بَكْرٍ ، فَمَوْضِعُ الدِّلَالَةِ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - سَلَكَا بِحَقِّهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ مَسْلَكَهُ بِحَقِّهِ فِي حَيَاتِهِ ، فَدَلَّ عَلَى بَقَائِهِ وَثُبُوتِهِ ، وَلِأَنَّ مَا اسْتَحَقَّ مِنْ سِهَامِ الْخُمُسِ لَمْ يَسْقُطْ كَسَائِرِ السِّهَامِ .
فَصْلٌ : وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى ثَابِتٌ يُسْتَحَقُّ مَعَ الْغِنَى وَالْفَقْرِ قَوْلُهُ تَعَالَى : مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى [ الْحَشْرِ : 7 ] فَأَضَافَ الْخُمُسَ إِلَى خَمْسَةِ أَصْنَافٍ بِلَامِ التَّمْلِيكِ وَجَمَعَ بَيْنَهُمْ بِوَاوِ التَّشْرِيكِ ، فَاقْتَضَى الظَّاهِرُ تَسَاوِيَهُمْ بِجَمِيعِهِمْ بِالْأَوْصَافِ الَّتِي أَضَافَهَا اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِمْ ، وَهُوَ إِنَّمَا وَصَفَهُمْ بِذِي الْقُرْبَى فَدَلَّ عَلَى اسْتِحْقَاقِهِمْ إِيَّاهُ بِاسْمِ الْقَرَابَةِ لَا بِالْفَقْرِ ، وَقَالَ تَعَالَى : فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ [ الرُّومِ : 38 ] قَالَ السُّدِّيُّ : هُمْ ذَوِي الْقُرْبَى مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ . وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ مَازِنٍ عَنْ مَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ : أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ لَمَّا قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ أَتَيْتُهُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، هَؤُلَاءِ إِخْوَانُنَا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ لَا نُنْكِرُ فَضْلَهُمْ لِمَكَانِكَ الَّذِي وَضَعَكَ اللَّهُ مِنْهُمِ ، أَرَأَيْتَ إِخْوَانَنَا مِنْ بَنِي الْمُطَّلِبِ أَعْطَيْتَهُمْ وَتَرَكْتَنَا وَإِنَّمَا قَرَابَتُنَا وَاحِدَةٌ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : إِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ كَذَا ، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ لَمْ يَفْتَرِقُوا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ . وَالدِّلَالَةُ فِي هَذَا الْخَبَرِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَجُبَيْرًا كَانَا مِنْ أَغْنِيَاءِ قُرَيْشٍ ، سَأَلَاهُ لِمَ أَعْطَيْتَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ وَحَرَمْتَنَا ، وَنَحْنُ وَهُمْ فِي الْقَرَابَةِ سَوَاءٌ ، فَلَمْ يَجْعَلْ سَبَبَ الْمَنْعِ الْغِنَى ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْغَنِيَّ فِيهِ كَالْفَقِيرِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ كَانَ فِي بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ أَغْنِيَاءُ وَفُقَرَاءُ وَقَدْ أَعْطَاهُمْ وَكَانَ فِي عَبْدِ شَمْسٍ أَغْنِيَاءُ وَفُقَرَاءُ وَقَدْ حَرَمَهُمْ : فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ اعْتَبَرَ الْقَرَابَةَ دُونَ الْفَقْرِ . فَإِنْ قِيلَ : النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعْتَبَرَ النُّصْرَةَ دُونَ الْقَرَابَةِ : لِأَنَّ هَاشِمًا وَالْمُطَّلِبَ وَعَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلًا كَانُوا أُخْوَةً وَكُلُّهُمْ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ ، وَقَدْ خَصَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى بِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ دُونَ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَنَوْفَلٍ وَجَمِيعُهُمْ فِي الْقَرَابَةِ سَوَاءٌ ، لِمَا قَالَ فِي ضَمِّ بَنِي الْمُطَّلِبِ إِلَى بَنِي هَاشِمٍ بِأَنَّهُمْ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَلَمْ يَفْتَرِقُوا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ لِيُعْلِمَهُمْ أَنَّ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنِي نَوْفَلٍ قَدْ خَالَفُوهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعَطَاءَ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ النُّدْرَةِ الَّتِي مَيَّزَتْهُمْ بِهَا دُونَ الْقَرَابَةِ الَّتِي قَدِ اشْتَرَكُوا فِيهَا فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا لِأَجْلِ ذَلِكَ فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ لسهم ذي القربى عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالْقَرَابَةِ وَحْدَهَا دُونَ النُّصْرَةِ ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ لِلنُّصْرَةِ فِيهَا تَأْثِيرٌ : لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ عُثْمَانُ وَجُبَيْرٌ فِي طَلَبِهِمَا وَلَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَنْعِهِمَا وَدَفَعَ ذَلِكَ لِمَنْ لَا نُصْرَةَ
فِيهِ مِنْ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ وَرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ وَمَنَعَ مَنْ ظَهَرَتْ مِنْ غَيْرِهِمْ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ بَنِي الْمُطَّلِبِ مَنْ قَامَ بِالنُّصْرَةِ مَقَامَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَأَبِي دُجَانَةَ وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ ، فَمَنَعَهُمْ وَأَعْطَى مِنْ بَنِي الْمُطَّلِبِ مَنْ هُوَ أَقَلُّ نُصْرَةً مِنْهُمْ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا ذَلِكَ بِالْقَرَابَةِ لَا بِالنُّصْرَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالْقَرَابَةِ وَالتَّقْدِيمَ بِالنُّصْرَةِ كَمَا نَقُولُ فِي الْأَخَوَيْنِ أَحَدُهُمَا لِأَبٍ وَأُمٍّ وَالْآخَرُ لِأَبٍ ابْنُهُمَا فِي التَّعْصِيبِ بِالْأَبِ سَوَاءٌ ، وَيُقَدَّمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ لِلْأُمِّ وَإِنِ اشْتَرَكَا فِي التَّعْصِيبِ ، كَذَلِكَ بَنِي الْمُطَّلِبِ وَإِنْ شَارَكُوا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَبَنِي نَوْفَلٍ فِي الْقَرَابَةِ قُدِّمُوا عَلَيْهِمْ بِمَا اخْتُصُّوا بِهِ مِنَ النُّصْرَةِ . فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا كَانَ التَّقْدِيمُ بِالنُّصْرَةِ فَهَلَّا زَالَ حُكْمُهُمَا بِزَوَالِهَا وَقَدْ زَالَتِ الْيَوْمَ . قِيلَ : النُّصْرَةُ فِي الْآبَاءِ أَوْجَبَتْ ثُبُوتَ حُكْمِهَا فِي الْأَبْنَاءِ كَمَا نَقُولُ فِي تَمْيِيزِ كَفَرَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي قَبُولِ الْجِزْيَةِ : إِنَّ حُرْمَةَ آبَائِهِمْ حِينَ كَانُوا عَلَى حَقٍّ أَوْجَبَتْ ثُبُوتَهَا لِأَبْنَائِهِمْ وَإِنْ زَالُوا عَنِ الْحَقِّ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالْقَرَابَةِ وَحْدَهَا وَالْمَنْعَ مَعَ وُجُودِهَا لِسَبَبٍ آخَرَ كَمَا نَقُولُ فِي ابْنَيْنِ أَحَدُهُمَا قَاتِلٌ أَنَّهُمَا وَإِنِ اسْتَوَيَا فِي الْبُنُوَّةِ ، فَالْقَاتِلُ مَمْنُوعٌ بِعِلَّةٍ ، فَكَذَلِكَ بَنُو عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنُو نَوْفَلٍ وَإِنْ سَاوَوْا بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ فِي الْقَرَابَةِ ، فَقَدْ كَانَ مِنْهُمْ مَا يَسْقُطُ بِهِ حَقُّهُمْ كَمَا يَسْقُطُ حَقُّ الِابْنِ الْقَاتِلِ . فَإِنْ قِيلَ : جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ رَاوِي هَذَا الْحَدِيثِ أَسْلَمَ بَعْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ ، فَلَمْ يُلْتَفَتْ إِلَى حَدِيثِهِ فِي أَحْكَامِ غَنَائِهِمَا فَعَنْ ذَلِكَ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنِ الْخَبَرَ فِي خُمُسِ خَيْبَرَ ، وَقَدْ كَانَ بَعْدَهَا غَنَائِمُ يُحْمَلُ خَبَرُهُ عَلَى خُمُسِهَا . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : قَدْ كَانَ أَكْثَرُهَا فَيْئًا فَيُسْتَغَلُّ فِي كُلِّ عَامٍ ، فَكَانَ خُمُسُهُ بَاقِيًا . وَرُوِيَ أَنَّ الْفَضْلَ بْنَ الْعَبَّاسِ اسْتَشْفَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَلِيٍّ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا - فِي عِمَالَةِ الصَّدَقَاتِ ، فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ : أَلَيْسَ فِي خُمُسِ الْخُمُسِ مَا يُغْنِيكُمْ عَنْ أَوْسَاخِ النَّاسِ فَجَعَلَ لَهُمْ خُمُسَ الْخُمُسِ تَنْزِيهًا عَمَّا يُمْلَكُ بِالْفَقْرِ مِنَ الصَّدَقَاتِ فَلَمْ يُجِزْ أَنْ يَسْتَحِقُّوهُ بِالْفَقْرِ الْمَشْرُوطِ فِي الصَّدَقَاتِ ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى وَقَدْ رُوِيَ عَلَى وَجْهَيْنِ يَكُونُ فِي أَحَدِهِمَا نَصٌّ مُسْنَدٌ ، فَهُوَ مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى قَالَ : سَمِعْتُ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ اجْتَمَعْتُ أَنَا وَالْعَبَّاسُ وَفَاطِمَةُ وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَرَأَيْتَ إِنْ تَوَلَّيْنَا حَقَّنَا مِنْ هَذَا الْخُمُسِ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَاقْسِمْهُ فِي حَيَاتِكَ كَيْ لَا يُنَازِعَنَا أَحَدٌ بَعْدَكَ فَافْعَلْ ، قَالَ : فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : نَفْعَلُ ذَلِكَ . فَوَلَّانِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَسَمْتُهُ فِي حَيَاتِهِ ، ثُمَّ فِي وِلَايَةِ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى كَانَتْ آخِرَ سَنَةٍ مِنْ سِنِي عُمَرَ ، فَإِنَّهُ أَتَاهُ
مَالٌ كَثِيرٌ فَعَزَلَ حَقَّنَا ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيَّ فَقُلْتُ : لَنَا عَنْهُ الْعَامَ غَنَاءٌ وَبِالْمُسْلِمِينَ الْآنَ حَاجَةٌ فَارْدُدْهُ عَلَيْهِمْ ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِمْ ، فَلَقِيتُ الْعَبَّاسَ بَعْدَمَا خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِ عُمَرَ فَقَالَ : يَا عَلِيُّ ، حَرَمْتَنَا ! لَا تُرَدُّ عَلَيْنَا أَبَدًا ، وَكَانَ رَجُلًا دَاهِيًا فَلَمْ يَدْعُنِي إِلَيْهِ أَحَدٌ بَعْدَ عُمَرَ . فَدَلَّ قَوْلُ عَلِيٍّ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : إِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُوَلِّيَنَا حَقَّنَا عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ يَخْتَصُّ بِهِمْ لَا يُسْتَحَقُّ بِالْفَقْرِ الَّذِي هُوَ فِي غَيْرِهِمْ . وَأَمَّا الْوَجْهُ الَّذِي يَكُونُ إِجْمَاعًا مُنْعَقِدًا فَهُوَ مَا رَوَاهُ الْحَكَمُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى ، قَالَ : لَقِيتُ عَلِيًّا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عِنْدَ أَحْجَارِ الرَّكْبِ فَقُلْتُ لَهُ : بِأَبِي وَأُمِّي مَا فَعَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فِي حَقِّكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ مِنَ الْخُمُسِ ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ : أَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِهِ أَخْمَاسٌ وَمَا كَانَ فَقَدْ أَوْفَانَاهُ ، وَأَمَّا عُمَرُ فَلَمْ يَزَلْ يُعْطِينَا حَتَّى جَاءَهُ مَالُ السُّوسِ وَالْأَهْوَازِ ، أَوْ قَالَ مَالُ فَارِسَ - الشَّافِعِيُّ يَشُكُّ - ، فَقَالَ عُمَرُ : إِنَّ بِالْمُسْلِمِينَ خَلَّةً ، فَإِنْ أَحْبَبْتُمْ تَرَكْتُمْ حَقَّكُمْ ، فَجَعَلْنَاهُ فِي خَلَّةِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَأْتِيَنَا مَالٌ فَأُوَفِّيَكُمْ حَقَّكُمْ ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ لِعَلِيٍّ : لَا تُطْمِعْهُمْ فِي حَقِّنَا ، فَقُلْتُ يَا أَبَا الْفَضْلِ أَلَسْنَا أَحَقَّ مَنْ أَجَابَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَدَفَعَ خَلَّةَ الْمُسْلِمِينَ ، فَتُوُفِّيَ عُمَرُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُ مَالٌ فَيَقْضِينَاهُ . فَدَلَّ اسْتِنْزَالُ عُمَرَ لَهُمْ ثَمَنَهُ بِخَلَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَحِقُّوهُ بِالْفَقْرِ الَّذِي قَدْ شَارَكُوا فِيهِ فُقَرَاءَ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَكِنَّهُ حَقٌّ لَهُمْ لَا يَسْقُطُ بِمُطَالَبَتِهِمْ ، وَلَا يُؤَخَّرُ لِفَقْرِهِمْ وَإِنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ قَضَاءَ مَا أُخِّرُوهُ مِنْ حَقِّهِمْ . وَرَوَى زَيْدُ بْنُ هُرْمُزَ أَنَّ نَجْدَةَ الْحَرُورِيَّ حِينَ حَجَّ فِي فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَرْسَلَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُهُ عَنْ سَهْمِ ذِي الْقُرْبَى وَيَقُولُ : لِمَنْ تَرَاهُ ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لِقُرْبَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَسَمَهُ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ كَانَ عُمَرُ عَوَّضَ مِنْ ذَلِكَ عِوَضًا رَأَيْنَاهُ دُونَ حَقِّنَا فَرَدَدْنَاهُ عَلَيْهِ وَأَبَيْنَا أَنْ نَقْبَلَهُ : وَلِأَنَّهُمْ أَحَدُ أَصْنَافِ أَهْلِ الْخُمُسِ ، فَوَجَبَ أَلَّا يَسْقُطَ حَقُّهُمْ مِنْهُ كَسَائِرِ الْأَصْنَافِ . وَلِأَنَّ مَنْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ الصَّدَقَاتُ الْمَفْرُوضَاتُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ ثَبَتَ لَهُمْ سَهْمٌ فِي الْخُمُسِ كَالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : وَلِأَنَّهُمْ عُوِّضُوا عَنِ الصَّدَقَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ بِخُمُسِ الْخُمُسِ : لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : أَوَلَيْسَ فِي خُمُسِ الْخُمُسِ مَا يُغْنِيكُمْ عَنْ أَوْسَاخِ النَّاسِ ، فَلَمَّا كَانَ تَحْرِيمُ الصَّدَقَاتِ عَلَيْهِمْ ثَابِتًا لَا يَزُولُ ، كَانَ مَا عُوِّضُوهُ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ ثَابِتًا لَهُمْ لَا يَزُولُ . وَتَحْرِيرُهُ أَنَّ مَا تَمَيَّزَ بِهِ ذَوُو الْقُرْبَى فِي الْأَمْوَالِ اسْتَلْزَمَ ثُبُوتَهُ قِيَاسًا عَلَى تَحْرِيمِ الصَّدَقَاتِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا لَمْ يَكُنْ مَوْرُوثًا كَانَ سَاقِطًا ، فَهُوَ أَنَّ الْمِيرَاثَ إِذَا انْتَفَى عَنْهُ رُدَّ إِلَى مَا قَدْ أُقِيمَ مَقَامَهُ مِنْ وُجُوهِ الْمَصَالِحِ لِقَوْمِهِ فِي حَقِّهِ مَقَامَ الْمِيرَاثِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَصْرِفَ مَالِهِ .
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ إِنَّ سُقُوطَ حَقِّهِ مِنَ الصَّفِيِّ بِمَوْتِهِ يُوجِبُ سُقُوطَ حَقِّهِ مِنْ غَيْرِهِ ، فَهُوَ أَنَّ الْحَقَّ مِنَ الصَّفِّيِّ غَيْرُ مُقَدَّرٍ ، فَلَا يَكُونُ ثَابِتًا بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَإِنَّمَا كَانَ يَأْخُذُ مِنَ الْغَنِيمَةِ مَا شَاءَ بِاخْتِيَارِهِ وَاخْتِيَارِهِ لِلصَّفِيِّ مَعْدُومٌ بَعْدَ مَوْتِهِ فَسَقَطَ بِخِلَافِ غَيْرِهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي سُقُوطِ سَهْمِ ذِي الْقُرْبَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى : كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ [ الْحَشْرِ : 7 ] مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى جَمِيعِ الْخُمُسِ وَلَيْسَ هُوَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ : لِأَنَّ سَهْمَ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ يَسْتَحِقُّ بِالْفَقْرِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ سَهْمُ ذِي الْقُرْبَى لَيْسَتْ هُوَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ : لِأَنَّهُ يَشْتَرِكُ فِيهِ الْأَغْنِيَاءُ وَالْفُقَرَاءُ ، وَمَا كَانَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ خَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ حَقٌّ لِلْفُقَرَاءِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ ( عَلَيْهِ السَّلَامُ ) أَنَّهُ رَدَّ سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى لِغِنَاهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِخَلَّتِهِمْ وَفَقْرِهِمْ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ اخْتَارَ تَرْكَ حَقِّهِ وَمَنْ يَتْرُكُ حَقَّهُ بِاخْتِيَارِهِ لَمْ يَدُلَّ عَلَى سُقُوطِ اسْتِحْقَاقِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَخَّرَهُ لِخَلَّةِ الْمُسْلِمِينَ لِيَأْخُذَ عِوَضَهُ عِنْدَ اسْتِغْنَائِهِمْ ، فَكَانَ حَقُّهُ ثَابِتًا بَاقِيًا وَهُوَ أَدَلُّ شَيْءٍ عَلَى ثُبُوتِ اسْتِحْقَاقِهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الصَّدَقَاتِ مَعَ جَوَازِ أَنْ يُدْفَعَ مِنَ الصَّدَقَاتِ إِلَى أَغْنِيَاءِ الْعَامِلِينَ وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَالْغَارِمِينَ فَهُوَ أَنَّ الصَّدَقَةَ مُوَاسَاةٌ ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْفُقَرَاءُ أَحَقَّ بِهَا ، وَالْخُمُسُ يُمْلَكُ مِنْ غَنَائِمِ الْمُشْرِكِينَ قَهْرًا لَا بِالْمُوَاسَاةِ ، فَجَازَ أَنْ يَشْتَرِكَ فِيهِ الْفُقَرَاءُ وَالْأَغْنِيَاءُ كالْغَانِمِينَ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَنِ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ فَهُوَ أَنَّ مَا أُخِذَ بِاسْمِ الْمَسْكَنَةِ وَالْفَقْرِ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْفَقْرُ فِيهِ شَرْطًا ، وَمَا أُخِذَ بِاسْمِ الْقَرَابَةِ كَانَتِ الْقَرَابَةُ شَرْطًا فِيهِ إِذَا وُجِدَتْ وَلَمْ يَكُنِ الْفَقْرُ شَرْطًا ، وَمَا أُخِذَ بِاسْمِ الْقَرَابَةِ كَانَتِ الْقَرَابَةُ كَالْمِيرَاثِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) فَيُعْطَى سَهْمُ ذِي الْقُرْبَى فِي ذِي الْقُرْبَى حَيْثُ كَانُوا ، وَلَا يُفَضَّلُ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ حَضَرَ الْقِتَالَ أَوْ لَمْ يَحْضُرْ إِلَّا سَهْمَهُ فِي الْغَنِيمَةِ كَسَهْمِ الْعَامَّةِ وَلَا فَقِيرٌ عَلَى غَنِيٍّ ، وَيُعْطَى الرَّجُلُ سَهْمَيْنِ وَالْمَرْأَةُ سَهْمًا سهم ذوي القربي لِأَنَّهُمْ أُعْطُوا بِاسْمِ الْقَرَابَةِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ أَعْطَى بَعْضَهُمْ مِائَةَ وَسْقٍ وَبَعْضَهُمْ أَقَلَّ ؛ قِيلَ : لِأَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ ذَا وَلَدٍ ، فَإِذَا أَعْطَاهُ حَظَّهُ وَحَظَّ غَيْرِهِ فَقَدْ أَعْطَاهُ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ ، وَالدِّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا حَكَيْتُ مِنَ التَّسْوِيَةِ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَقِيتُ مِنْ عُلَمَاءِ أَصْحَابِنَا لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي ذَلِكَ وَأَنْ بِاسْمِ الْقَرَابَةِ أُعْطُوا . وَإِنَّ حَدِيثَ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَسَمَ سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ " .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي أَنَّ سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى ثَابِتٌ وَثُبُوتُهُ يَقْتَضِي إِبَانَةَ أَحْكَامِهِمْ فِيهِ وَذَلِكَ يَشْتَمِلُ عَلَى خَمْسَةِ فُصُولٍ : فَالْفَصْلُ الْأَوَّلُ : فِي ذِي الْقُرْبَى مَنْ هُمْ ؟ وَهُمْ بَنُو هَاشِمٍ ، وَبَنُو الْمُطَّلِبِ دُونَ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنِي نَوْفَلٍ ، وَجَمِيعُهُمْ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ ، وَكَانَ لِعَبْدِ مَنَافٍ مَعَ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ خَامِسٌ اسْمُهُ عَمْرٌو وَلَيْسَ لَهُ عَقِبٌ ، فَأَمَّا هَاشِمٌ فَهُوَ جَدُّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لِأَنَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ ، فَهَاشِمٌ فِي عَمُودِ الشَّرَفِ الَّذِي تَعَدَّى شَرَفُهُ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى أُخْوَتِهِ ، وَالْمُطَّلِبُ أَخُوهُ وَالشَّافِعِيُّ مِنْ وَلَدِهُ ، ثُمَّ عَبْدُ شَمْسٍ أَخُوهُمَا وَعُثْمَانُ مِنْ وَلَدِهِ ، ثُمَّ نَوْفَلٌ أَخُوهُمْ وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ مِنْ وَلَدِهِ : فَاخْتُصَّ بِسَهْمِ ذِي الْقُرْبَى بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ دُونَ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَنَوْفَلٍ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : إِنَّ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَمْ يَفْتَرِقُوا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ يَعْنِي أَنَّهُمْ كَانُوا مُتَنَاصِرِينَ بِحِلْفٍ عَقَدُوهُ بَيْنَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَيَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَنَوْفَلٍ : وَلِهَذَا الْحَلِفِ دَخَلَ بَنُو الْمُطَّلِبِ مَعَ بَنِي هَاشِمٍ الشِّعْبَ بِمَكَّةَ حِينَ دَخَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنَ الْمُسَيَّبِ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَقْسِمْ لِبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَلَا لِبَنِي نَوْفَلٍ مِنَ الْخُمُسِ شَيْئًا كَمَا قَسَمَ لِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ .
فَصْلٌ : وَالْفَصْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي ذِي الْقُرْبَى بَيْنَ صَغِيرِهِمْ وَكَبِيرِهِمْ وَبَيْنَ غَنِيِّهِمْ وَفَقِيرِهِمْ في السهم وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا حَقَّ لِغَنِيِّهِمْ فِيهِ وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَى مِنْهُ الْعَبَّاسَ وَكَانَ لِيَسَارِهِ يَعُولُ عَامَّةَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَا اسْتُحِقَّ بِالْقَرَابَةِ اسْتَوَى فِيهِ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ كَالْمِيرَاثِ ، ثُمَّ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ حَضَرَ الْقِتَالَ وَمَنْ لَمْ يَحْضُرْهُ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ شَاقَقَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ لَمْ يُشَاقِقْهُ فِي أَنَّهُمْ سَوَاءٌ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فِي سَهْمِهِمْ ، إِلَّا أَنَّ مَنْ حَضَرَ الْقِتَالَ أَخَذَ سَهْمَهُ مِنَ الْغَنِيمَةِ خَارِجًا عَنْ حَقِّهِ فِي الْخُمُسِ .
فَصْلٌ : وَالْفَصْلُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ يَشْتَرِكُ فِيهِ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ : لِأَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ أَخَذَ مِنَ الْخُمُسِ سَهْمَ أُمِّهِ صَفِيَّةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ، وَلِأَنَّ مَا اسْتُحِقَّ بِالْقَرَابَةِ اشْتَرَكَ فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ كَالْمِيرَاثِ ، سهم ذوي القربي من الغنيمة وَخَالَفَ الْعَقْلَ الَّذِي يَخْتَصُّ الرِّجَالُ بِتَحَمُّلِهِ دُونَ النِّسَاءِ : لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ مَنْ ذَبَّ عَنِ الْقَاتِلِ مُنِعَ مِنْهُ بِالسَّيْفِ وَهَذَا يَخْتَصُّ بِالرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ ، وَسَهْمُ ذِي الْقُرْبَى لِأَجْلِ النَّسَبِ الَّذِي يَشْتَرِكُ فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ ، فَإِذَا ثَبَتَ اشْتِرَاكُ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ فِيهِ فُضِّلَ الذُّكُورُ عَلَى الْإِنَاثِ وَكَانَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ سَهْمَانِ وَلِلْأُنْثَى سَهْمٌ كَالْمِيرَاثِ . وَقَالَ الْمُزَنِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ : يُسَوَّى بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ كَالْوَصَايَا لِلْقَرَابَةِ يُسَوَّى فِيهَا بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ ، وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ اعْتِبَارَ سَهْمِهِمْ بِالْمِيرَاثِ أَوْلَى مِنِ اعْتِبَارِهِ بِالْوَصَايَا مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمِيرَاثَ وَسَهْمَ ذِي الْقُرْبَى عَطِيَّتَانِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَالْوَصَايَا عَطِيَّةٌ مِنْ آدَمِيٍّ تَقِفُ عَلَى خِيَارِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ فِي ذِي الْقُرْبَى نُصْرَةً هِيَ بِالذُّكُورِ أَخَصُّ ، فَجَازَ أَنْ يَكُونُوا بِهَا أَفْضَلَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْوَصَايَا ، ثُمَّ لَا حَظَّ لِأَوْلَادِ الْإِنَاثِ فِيهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ آبَاؤُهُمْ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى ؛ لِأَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ فِي النَّسَبِ إِلَى الْآبَاءِ الَّذِينَ لَيْسُوا مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى .
فَصْلٌ : وَالْفَصْلُ الرَّابِعُ : أَنْ يُسَوَّى بَيْنَ جَمِيعِ الذُّكُورِ وَيُسَوَّى بَيْنَ جَمِيعِ الْإِنَاثِ في سهم ذي القربى وَيُفَضَّلَ الذُّكُورُ عَلَى الْإِنَاثِ ، وَيُسَوَّى بَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ وَبَيْنَ الْمُطِيعِ وَالْعَاصِي وَبَيْنَ الْعَدْلِ وَالْبَاغِي كَمَا يُسَوَّى بَيْنَهُمْ فِي الْمِيرَاثِ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ أَعْطَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْضَهُمْ مِائَةَ وَسْقٍ وَبَعْضَهُمْ أَقَلَّ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : لِأَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ ذَا وَلَدٍ ، فَإِذَا أَعْطَاهُ حَظَّهُ وَحَظَّ غَيْرِهِ فَقَدْ أَعْطَاهُ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا قُسِّمَ سَهْمُهُمْ عَلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ وَرَأْيِهِ فِي التَّسْوِيَةِ وَالتَّفْضِيلِ كَمَا يُقَسَّمُ سَهْمُ الْفُقَرَاءِ فِي الزَّكَاةِ عَلَى اجْتِهَادِهِ ؟ قِيلَ : لِأَنَّ الْفُقَرَاءَ يَأْخُذُونَ سَهْمَهُمْ بِالْحَاجَةِ الَّتِي قَدْ تَخْتَلِفُ فِيهِمْ ، فَجَازَ أَنْ يُفَضِّلَ بَيْنَهُمْ لِأَجْلِهَا ، وَسَهْمُ ذِي الْقُرْبَى لِلْقَرَابَةِ الَّتِي قَدْ صَارُوا فِيهَا سَوَاءً فَوَجَبَتِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ لِأَجْلِهَا .
فَصْلٌ : وَالْفَصْلُ الْخَامِسُ : أَنَّ سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى مِنْ غَنَائِمِ جَمِيعِ الثُّغُورِ مَقْسُومٌ بَيْنَ جَمِيعِ ذَوِي الْقُرْبَى فِي جَمِيعِ الْأَقَالِيمِ . وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ : يُقَسِّمُ سِهَامَهُمْ مِنْ غَيْرِ كُلِّ ثَغْرٍ فِي إِقْلِيمِ ذَلِكَ الثَّغْرِ الَّذِينَ هُمْ بِالْجِهَادِ فِيهِ أَخَصُّ ، وَلَا يَنْتَقِلُ سَهْمُهُمْ مِنْ غَنَائِمِ ثَغْرِ الْمَشْرِقِ إِلَى مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي بِلَادِ الْمَغْرِبِ ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ لِيُحَالَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ عَلَى غَنَائِمِ الثَّغْرِ الَّذِي فِي إِقْلِيمِهِمْ فَيَكُونُ أَسْهَلَ ، كَمَا يُحَالُ ثَغْرُ كُلِّ بَلَدٍ عَلَى زَكَوَاتِهِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يُفْضِي إِلَى إِعْطَاءِ بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ ، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ خَطَأٌ يُخَالِفُ نَصَّ الْآيَةِ وَخَالَفَ سَهْمَ الْفُقَرَاءِ فِي الزَّكَاةِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا جَازَ إِعْطَاءُ بَعْضِ فُقَرَاءِ الْبَلَدِ دُونَ جَمِيعِهِمْ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِي ذَوِي الْقُرْبَى ؛ جَازَ أَنْ يَخْتَصَّ بِهَا فُقَرَاءُ ذَلِكَ الْبَلَدِ بِخِلَافِ ذَوِي الْقُرْبَى . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا نُقِلَ سَهْمُ ذِي الْقُرْبَى وَغَنِيمَةُ الثَّغْرِ إِلَى بِلَادِ ذَلِكَ الْإِقْلِيمِ ، بِخِلَافِ الزَّكَاةِ وَجَبَ نَقْلُهُ إِلَى جَمِيعِ الْأَقَالِيمِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ . وَالْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ الزَّكَاةِ وَالْغَنِيمَةِ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ هُوَ أَنَّ فِي كُلِّ الْبِلَادِ زَكَوَاتٍ وَفُقَرَاءَ ، فَجَازَ أَنْ يُحَالَ فُقَرَاءُ كُلِّ بَلَدٍ عَلَى زَكَوَاتِهِ وَلَيْسَ لِكُلِّ بَلَدٍ غَنِيمَةٌ وَلَا فِي
كُلِّ بَلَدٍ ذَوِي الْقُرْبَى : فَلِذَلِكَ اشْتَرَكَ جَمِيعُ ذَوِي الْقُرْبَى فِي جَمِيعِ الْغَنَائِمِ حَتَّى لَا يُخْتَصَّ بِهَا بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : " وَيُفَرَّقُ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ الْخُمُسِ عَلَى مَنْ سَمَّى اللَّهَ تَعَالَى ، عَلَى الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ يُحْصَوْنَ ، ثُمَّ يُوَزَّعُ بَيْنَهُمْ لِكُلِّ صِنْفٍ مِنْهُمْ سَهْمُهُ ، لَا يُعْطَى لِأَحَدٍ مِنْهُمْ سَهْمُ صَاحِبِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، وَإِذْ قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي سَهْمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَهْمِ ذِي الْقُرْبَى مِنَ الْخُمُسِ ، انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى بَاقِي السِّهَامِ وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ لِثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ : سَهْمٌ لِلْيَتَامَى ، وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ ، وَسَهْمٌ لِبَنِي السَّبِيلِ عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [ الْأَنْفَالِ : 41 ] . فَأَمَّا الْيَتَامَى فَهُمُ الَّذِينَ مَاتَ آبَاؤُهُمْ وَإِنْ بَقِيَتْ أُمَّهَاتُهُمْ ، فَيَكُونُ الْيُتْمُ بِمَوْتِ الْآبَاءِ دُونَ الْأُمَّهَاتِ لِاخْتِصَاصِ الْآبَاءِ بِالنَّسَبِ فَاخْتُصُّوا بِالْيُتْمِ وَسُمُّوا بِذَلِكَ لُغَةً لِتَفَرُّدِهِمْ بِمَوْتِ الْآبَاءِ دُونَ الْأُمَّهَاتِ كَمَا يُقَالُ دُرَّةٌ يَتِيمَةٌ لِتَفَرُّدِهَا عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهَا نَظِيرٌ ، ثُمَّ يُعْتَبَرُ فِيهِمْ مَعَ فَقْدِ الْآبَاءِ شَرْطَانِ آخَرَانِ : هُمَا الصِّغَرُ وَالْإِسْلَامُ ، فَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَيُعْتَبَرُ فِيهِمْ شَرْعًا لَا لُغَةً : لِأَنَّ الْيَتِيمَ يَعُمُّ مُسْلِمَهُمْ وَمُشْرِكَهُمْ ، إِنَّمَا خَصَّ الشَّرْعُ بِهَذَا السَّهْمِ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُسْلِمًا لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَالٌ لِلَّهِ تَعَالَى فَاخْتَصَّ بِهِ أَهْلَ طَاعَتِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَالٌ قَدْ مُلِكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَكَانَ لِغَيْرِهِمْ لَا لَهُمْ ، وَأَمَّا الصِّغَرُ فَكَانَ فِيهِمْ مُعْتَبَرًا : لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَتِيمَ بَعْدَ الْحُلُمِ ، لَكِنِ اخْتُلِفَ فِي هَذَا الشَّرْطِ ، هَلْ ثَبَتَ اعْتِبَارُهُ شَرْعًا أَمْ لُغَةً ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَثْبُتُ اعْتِبَارُهُ شَرْعًا لِلْخَيْرِ ، وَإِلَّا فَهُوَ فِي اللُّغَةِ يَنْطَلِقُ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ ، وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ يَثْبُتُ اعْتِبَارُهُ لُغَةً وَشَرْعًا : لِأَنَّ اسْمَ الْيَتِيمِ فِي اللُّغَةِ مَوْضُوعٌ لِمَنْ كَانَ مُتَضَعِّفًا مَحْرُومًا وَهَذَا بِالصِّغَارِ أَخَصُّ مِنْهُ بِالْكِبَارِ ، فَإِذَا ثَبَتَ اعْتِبَارُ هَذِهِ الشُّرُوطِ الثَّلَاثَةِ فِي الْيَتَامَى فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اعْتِبَارِ شَرْطٍ رَابِعٍ فِيهِمْ وَهُوَ الْفَقْرُ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ : أَنَّ الْفَقْرَ شَرْطٌ رَابِعٌ يُعْتَبَرُ فِي اسْتِحْقَاقِهِمْ لِهَذَا السَّهْمِ مِنَ الْخُمُسِ : لِأَنَّهُ مَصْرُوفٌ فِي ذَوِي الْحَاجَاتِ ؛ فَخَرَجَ مِنْهُمُ الِاعْتِبَارُ ، وَلِأَنَّهُ إِرْفَاقٌ لِمَنْ تُوَجَّهُ إِلَيْهِ الْمَعُونَةُ وَالرَّحْمَةُ وَهُمُ الْفُقَرَاءُ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِمُ الْفَقْرُ ، وَأَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ لِغَنِيِّهِمْ وَفَقِيرِهِمْ لِذَوِي الْقُرْبَى اعْتِبَارًا بِمُطْلَقِ الِاسْمِ : لِأَنَّهُمْ لَوِ اعْتُبِرَ فِيهِمُ الْفَقْرُ لَدَخَلُوا فِي جُمْلَةِ الْمَسَاكِينِ . وَلَمَّا كَانَ تَخْصِيصُهُمْ بِالذِّكْرِ فَائِدَةً ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْفَقْرَ فِيهِمْ مُعْتَبَرٌ يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِيهِمْ بَيْنَ مَنْ مَاتَ أَبُوهُ أَوْ قُتِلَ : لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي الْحَاجَةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِيهِمْ .
وَالْحُكْمُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِ الْيَتَامَى دُونَ جَمِيعِهِمْ كَالْفُقَرَاءِ . وَالْحُكْمُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ الْإِمَامُ بِرَأْيِهِ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمْ وَالتَّفْضِيلِ كَالْفُقَرَاءِ . وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي أَنَّ الْفَقْرَ فِيهِمْ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ تُخَالِفُ تِلْكَ : فَالْحُكْمُ الْأَوَّلُ : أَنَّهُ يُخْتَصُّ بِذَلِكَ مَنْ قُتِلَ أَبُوهُ فِي الْجِهَادِ دُونَ غَيْرِهِ رِعَايَةً لِنُصْرَةِ الْآبَاءِ فِي الْأَبْنَاءِ كَذَوِي الْقُرْبَى . وَالْحُكْمُ الثَّانِي : أَنْ يُفَرَّقَ فِي جَمِيعِهِمْ وَلَا يُخَصُّ بِهِ بَعْضُهُمْ ، فَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ يُفَرَّقُ فِي أَيْتَامِ جَمِيعِ الْأَقَالِيمِ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : يُفَرَّقُ فِي إِقْلِيمِ ذَلِكَ الثَّغْرِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَقَالِيمِ . وَالْحُكْمُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ يُسَوَّى بَيْنَهُمْ مِنْ غَيْرِ تَفْضِيلٍ كَذِي الْقُرْبَى وَأَنْ يُسَوَّى بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ ، بِخِلَافِ ذَوِي الْقُرْبَى : لِأَنَّ سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى كَالْمِيرَاثِ ، فَفُضِّلَ فِيهِ الذَّكَرُ عَلَى الْأُنْثَى . وَسَهْمُ الْيَتَامَى عَطِيَّةٌ كَالْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ يُسَوَّى فِيهِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْمَسَاكِينُ وَالْفُقَرَاءُ يَدْخُلُونَ فِي جُمْلَتِهِمْ إِذَا أُطْلِقُوا ، وَكَذَلِكَ إِذَا أُطْلِقَ الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ يَدْخُلُونَ فِي جُمْلَتِهِمْ وَيُمَيَّزُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ إِذَا جُمِعُوا . وَالْفَقِيرُ هُوَ الَّذِي لَا شَيْءَ لَهُ ، وَالْمِسْكِينُ هُوَ الَّذِي لَهُ مَا يَكْفِيهِ ، فَصَارَ الْفَقِيرُ أَسْوَأَ حَالًا مِنَ الْمِسْكِينِ وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ فِي قِسْمِ الصَّدَقَاتِ ، وَإِذَا دَخَلَ الْفُقَرَاءُ مَعَ الْمَسَاكِينِ فِي سَهْمِهِمْ مِنَ الْخُمُسِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُسْتَحِقِّيهِ مِنْهُمْ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَسْتَوِي فِيهِ جَمِيعُ الْمَسَاكِينِ مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ لِدُخُولِ الْمَسْكَنَةِ فِي جَمِيعِهِمْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُخْتَصُّ بِهِ مَسَاكِينُ أَهْلِ الْجِهَادِ الَّذِينَ قَدْ عَجَزُوا عَنْهُ بِالْمَسْكَنَةِ أَوِ الزَّمَانَةِ ، وَلَا حَقَّ فِيهِ لِغَيْرِهِمْ مِنَ الْمَسَاكِينِ : لِأَنَّ مَالَ الْغَنِيمَةِ لِأَهْلِ الْجِهَادِ أَخَصُّ ، وَلِيَصِيرَ ذَوُو الْقُدْرَةِ عَلَى الْجِهَادِ أَحْرَصَ ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ يَسْتَوِي فِي جَمِيعِ الْمَسَاكِينِ وَيَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُخْتَصَّ بِهِ بَعْضُ الْمَسَاكِينِ دُونَ جَمِيعِهِمْ كَالزَّكَاةِ . وَالْحُكْمُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ الْإِمَامُ بِرَأْيِهِ فِي التَّسْوِيَةِ وَالتَّفْضِيلِ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ . وَالْحُكْمُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَ لَهُمْ بَيْنَ سَهْمِهِمْ مِنَ الزَّكَاةِ وَسَهْمِهِمْ مِنَ الْخُمُسِ وَحَقِّهِمْ فِي الْكَفَّارَاتِ فَيَصِيرُ إِلَيْهِمْ ثَلَاثَةُ أَمْوَالٍ . وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي : أَنَّهُ يَخُصُّ بِهِ مَسَاكِينَ أَهْلِ الْجِهَادِ دُونَ غَيْرِهِمْ وَيَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُفَرَّقَ فِي جَمِيعِهِمْ وَلَا يُخْتَصُّ بِهِ بَعْضُهُمْ : فَعَلَى مَذْهَبِ
الشَّافِعِيِّ فِي مَسَاكِينِ جَمِيعِ الْأَقَالِيمِ وَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ فِي مَسَاكِينِ إِقْلِيمِ الثَّغْرِ الْمَغْنُومِ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَقَالِيمِ . وَالْحُكْمُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَسْتَوِي بَيْنَهُمْ فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَفْضِيلٍ وَلَا يُفَضَّلُ ذَكَرٌ عَلَى أُنْثَى وَلَا صَغِيرٌ عَلَى كَبِيرٍ ، فَإِنِ اجْتَمَعَ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ مَسْكَنَةٌ وَيُتْمٌ أُعْطِيَ بِالْيُتْمِ دُونَ الْمَسْكَنَةِ : لِأَنَّ الْيُتْمَ صِفَةٌ لَازِمَةٌ وَالْمَسْكَنَةُ صِفَةٌ زَائِلَةٌ . وَالْحُكْمُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ لَا يُجْمَعُ لَهُمْ بَيْنَ سَهْمِهِمْ مِنَ الْخُمُسِ وَبَيْنَ سَهْمِهِمْ مِنَ الزَّكَاةِ ؛ لِتَمَيُّزِ أَهْلِ الْفَيْءِ عَنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ وَتَمَيُّزِ مَسَاكِينِ الْخُمُسِ عَنِ مَسَاكِينِ الزَّكَاةِ ، وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْكَفَّارَاتِ فَيَصِيرُ إِلَيْهِمْ مَالَانِ وَيُمْنَعُونَ مَالًا ، وَلَا يَخْتَصُّ الْكَفَّارَاتِ بِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا بَنُو السَّبِيلِ فَهُمُ الْمُسَافِرُونَ ؛ سهم الغنيمة سُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ بِمُلَازَمَةِ سَبِيلِ السَّفَرِ قَدْ صَارُوا كَأَبْنَائِهِ ، وَهُمْ ضَرْبَانِ : مُنْشِئُ سَفَرٍ ، وَمُجْتَازٌ فِيهِ ، وَكِلَا الْفَرِيقَيْنِ يُعْتَبَرُ فِيهِمُ الْحَاجَةُ فِي سَفَرِهِمْ ، وَلَا يُدْفَعُ إِلَيْهِمْ مَعَ عَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَّا أَنَّ النَّاشِئَ لِسَفَرِهِ لَا يُدْفَعُ إِلَيْهِ مَعَ الْفَقْرِ ، وَالْمُجْتَازُ يَجُوزُ أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِ مَعَ الْغِنَى إِذَا كَانَ فِي سَفَرِهِ مُعْدِمًا . ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِمْ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لِبَنِي السَّبِيلِ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لِبَنِي السَّبِيلِ مِنَ الْمُجَاهِدِينَ خَاصَّةً ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لِبَنِي السَّبِيلِ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي الْمَسَاكِينِ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُخْتَصَّ بِهِ بَعْضُ الْمَسَاكِينِ دُونَ جَمِيعِهِمْ . وَالْحُكْمُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ الْإِمَامُ بِرَأْيِهِ فِي التَّسْوِيَةِ وَالتَّفْضِيلِ . وَالْحُكْمُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُجْمَعَ لَهُمْ بَيْنَ سَهْمِهِمْ مِنَ الْخُمُسِ وَبَيْنَ سَهْمِهِمْ مِنَ الزَّكَاةِ . وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي أَنَّهُ يُخَصُّ بِهِ بَنُو السَّبِيلِ مِنَ الْمُجَاهِدِينَ ، فَعَلَى هَذَا يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ الثَّلَاثَةُ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُفَرَّقَ فِي جَمِيعِهِمْ وَلَا يُخَصُّ بِهِ بَعْضُهُمْ : فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ يُفَرَّقُ فِي بَنِي السَّبِيلِ فِي الْأَقَالِيمِ كُلِّهَا ، وَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ يُفَرَّقُ فِي بَنِي السَّبِيلِ فِي إِقْلِيمِ الثَّغْرِ الْمَغْنُومِ فِيهِ . وَالْحُكْمُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُسَوَّى بَيْنَ جَمِيعِهِمْ فِيهِ تَقْسِيطًا عَلَى مَسَافَةِ أَسْفَارِهِمْ ، فَيَكُونُ تَسْوِيَةً بَيْنَهُمْ فِي الْبَاطِنِ وَإِنْ تَفَاضَلُوا فِي الظَّاهِرِ ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ بَايَنُوا الْمَسَاكِينَ الَّذِينَ يُسَوَّى بَيْنَهُمْ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ . وَالْحُكْمُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ لَا يُجْمَعُ لَهُمْ بَيْنَ سَهْمٍ مِنَ الْخُمُسِ وَبَيْنَ سَهْمٍ مِنَ الزَّكَاةِ . وَتَمَيَّزَ بَنُو السَّبِيلِ فِي الْخُمُسِ عَنْ بَنِي السَّبِيلِ فِي الزَّكَاةِ ؛ فَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ شَخْصًا جَمَعَ بَيْنَ
الْمَسْكَنَةِ وَبَيْنَ كَوْنِهِ ابْنَ السَّبِيلِ أُعْطَى بِأَيِّ السَّبَبَيْنِ شَاءَ ، وَلَا يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَخَصَّ بِهِ مِنَ الْآخَرِ وَلَا يُجْمَعُ لَهُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَقَدْ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - - بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي - فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ عِنْدَنَا فِي سَهْمِهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يُرَدُّ عَلَى أَهْلِ السُّهْمَانِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى مَعَهُ ؛ لِأَنِّي رَأَيْتُ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا فِيمَنْ سُمِّيَ لَهُ سَهْمٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ فَلَمْ يُوجَدْ رَدٌّ عَلَى مَنْ سُمِّيَ مَعَهُ ، وَهَذَا مَذْهَبٌ يَحْسُنُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يَضَعُهُ الْإِمَامُ حَيْثُ رَأَى عَلَى الِاجْتِهَادِ لِلِإسلَامِ وَأَهْلِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يَضَعُهُ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ ، وَالَّذِي أَخْتَارُ أَنْ يَضَعَهُ الْإِمَامُ فِي كُلِّ أَمْرٍ حُصِّنَ بِهِ الْإِسْلَامُ وَأَهْلُهُ ، مِنْ سَدِّ ثَغْرٍ ، أَوْ إِعْدَادِ كُرَاعٍ ، أَوْ سِلَاحٍ ، أَوْ إِعْطَاءِ أَهْلِ الْبَلَاءِ فِي الْإِسلَامِ نَفْلًا عِنْدَ الْحَرْبِ وَغَيْرِ الْحَرْبِ إِعْدَادًا لِلزِّيَادَةِ فِي تَعْزِيزِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ عَلَى مَا صَنَعَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَإِنَّهُ أَعْطَى الْمُؤَلَّفَةَ وَنَفَّلَ فِي الْحَرْبِ وَأَعْطَى عَامَ حُنَيْنٍ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِهِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ أَهْلَ حَاجَةٍ وَفَضْلٍ ، وَأَكْثَرُهُمْ أَهْلُ حَاجَةٍ وَنَرَى ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ سَهْمِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ . وَمِمَّا احْتَجَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ فِي ذَوِي الْقُرْبَى أَنْ رَوَى حَدِيثًا عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ : لَقِيتُ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقُلْتُ لَهُ : بِأَبِي وَأُمِّي مَا فَعَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فِي حَقِّكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ مِنَ الْخُمُسِ ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ : أَمَّا أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَلَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِهِ أَخْمَاسٌ ، وَمَا كَانَ فَقَدْ أَوْفَانَاهُ ، وَأَمَّا عُمَرُ فَلَمْ يَزَلْ يُعْطِينَاهُ حَتَّى جَاءَهُ مَالُ السُّوسِ وَالْأَهْوَازِ ، أَوْ قَالَ مَالُ فَارِسَ ( الشَّافِعِيُّ يَشُكُّ ) وَقَالَ عُمَرُ فِي حَدِيثِ مَطَرٍ أَوْ حَدِيثٍ آخَرَ : إِنَّ فِي الْمُسْلِمِينَ خَلَّةً ، فَإِنْ أَحْبَبْتُمْ تَرَكْتُمْ حَقَّكُمْ فَجَعَلْنَاهُ فِي خَلَّةِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَأْتِيَنَا مَالٌ فَأُوَفِّيَكُمْ حَقَّكُمْ مِنْهُ ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ : لَا تُطْمِعْهُ فِي حَقِّنَا ، فَقُلْتُ يَا أَبَا الْفَضْلِ أَلَسْنَا مِنْ أَحَقِّ مَنْ أَجَابَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَرَفَعَ خَلَّةَ الْمُسْلِمِينَ ؟ فَتُوُفِّيَ عُمَرُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُ مَالٌ فَيَقضِينَاهُ . وَقَالَ الْحَكَمُ فِي حَدِيثِ مَطَرٍ أَوِ الْآخَرِ إِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : لَكُمْ حَقٌّ وَلَا يَبْلُغُ عِلْمِي إِذْ كَثُرَ أَنْ يَكُونَ لَكُمْ كُلُّهُ ، فَإِنْ شِئْتُمْ أَعْطَيْتُكُمْ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا أَرَى لَكُمْ ، فَأَبَيْنَا عَلَيْهِ إِلَّا كُلَّهُ فَأَبَى أَنْ يُعْطِيَنَا كُلَّهُ . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِلْمُنَازِعِ فِي سَهْمِ ذِي الْقُرْبَى : أَلَيْسَ مَذْهَبُ الْعُلَمَاءِ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ أَنَّ الشَّيْءَ إِذَا كَانَ مَنْصُوصًا فِي كِتَابِ اللَّهِ مُبَيَّنًا عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخَبَرِ الثِّقَةِ لَا مُعَارِضَ لَهُ فِي إِعْطَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَنِيًّا لَا دَيْنَ عَلَيْهِ فِي إِعْطَائِهِ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، وَهُوَ فِي كَثْرَةِ مَالِهِ يَعُولُ عَامَّةَ بَنِي الْمُطَّلِبِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا بِالْقَرَابَةِ لَا بِالْحَاجَةِ كَمَا أَعْطَى الْغَنِيمَةَ مَنْ حَضَرَهَا لَا بِالْحَاجَةِ ، وَكَذَلِكَ مَنِ استَحَقَّ الْمِيرَاثَ بِالْقَرَابَةِ لَا بِالْحَاجَةِ ، وَكَيْفَ جَازَ لَكَ أَنْ تُرِيدَ إِبْطَالَ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ بِأَنْ تَقُولَ هِيَ بِخِلَافِ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَلَيْسَتْ مُخَالِفَةً لَهُ ، ثُمَّ تَجِدُ سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى مَنْصُوصًا فِي آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعَهُمَا سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَرُدُّهُ ؟ أَرَأَيْتَ لَوْ عَارَضَكَ مُعَارِضٌ فَأَثْبَتَ سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى وَأَسْقَطَ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ مَا حُجَّتُكَ عَلَيْهِ إِلَّا كَهِيَ عَلَيْكَ " .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي ثُبُوتِ سَهْمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي خُمُسِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ وهل يسقط بوفاته ؟ وَأَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ . وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مَصْرِفِهِ ، فَحَكَى الشَّافِعِيُّ فِيهِ مَذَاهِبَ ، فَمِنْهُ مَنْ جَعَلَهُ مَصْرُوفًا إِلَى الْإِمَامِ الْقَائِمِ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ لِوَرَثَتِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ مَصْرُوفًا فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ خَاصَّةً ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ سَهْمَهُ مَصْرُوفٌ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : مَا لِيَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ إِلَّا الْخُمُسُ وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ ، وَلِأَنَّهُ قَدْ كَانَ مَا فَضَلَ مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ بَعْدَ فَوْتِ سَنَةٍ يَصْرِفُهُ فِي إِعْزَازِ الدِّينِ وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ ، فَكَذَلِكَ حُكْمُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ . فَأَمَّا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ فِي ثُبُوتِ سَهْمِ ذِي الْقَرَابَةِ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ وَاسْتَوْفَيْنَا حُكْمَ كُلِّ سَهْمٍ مِنَ السِّهَامِ الْخَمْسَةِ بِمَا أَغْنَى عَنِ الْإِعَادَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
بَابُ تَفْرِيقِ مَا أُخِذَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ غَيْرِ الْمُوجَفِ عَلَيْهِ
مَسْأَلَةٌ يَنْبَغِي لِلْوَالِي أَنْ يُحْصِيَ جَمِيعَ مَنْ فِي الْبُلْدَانِ مَنَ الْمُقَاتِلَةِ
بَابُ تَفْرِيقِ مَا أُخِذَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ غَيْرِ الْمُوجَفِ عَلَيْهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : " وَيَنْبَغِي لِلْوَالِي أَنْ يُحْصِيَ جَمِيعَ مَنْ فِي الْبُلْدَانِ مَنَ الْمُقَاتِلَةِ وَهُمْ مَنْ قَدِ احْتَلَمَ ، أَوِ اسْتَكْمَلَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً مِنَ الرِّجَالِ ، وَيُحْصِيَ الذُّرِّيَّةَ وَهُمْ مَنْ دُونَ الْمُحْتَلِمِ وَدُونَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً ، وَالنِّسَاءَ صَغِيرَهُمْ وَكَبِيرَهُمْ ، وَيَعْرِفَ قَدْرَ نَفَقَاتِهِمْ وَمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ مُؤْنَاتِهِمْ بِقَدْرِ مَعَاشِ مِثْلِهِمْ فِي بُلْدَانِهِمْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْغَنِيمَةِ وَهُوَ الْمَأْخُوذُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَنْوَةً بِقِتَالٍ ، فَأَمَّا الْفَيْءُ وَهُوَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُمْ بِغَيْرِ قِتَالٍ هل يخمس ؟ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا تَرَكُوهُ عَلَيْنَا خَوْفًا وَرُعْبًا كَالْأَمْوَالِ الَّتِي انْجَلَوْا عَنْهَا وَمَا بَذَلُوهُ صُلْحًا فِي كَفِّنَا وَرَدِّنَا عَنْ أَنْفُسِهِمْ ، فَهَذَا يُخَمَّسُ وَيَكُونُ خُمُسُهُ كَخُمُسِ الْغَنِيمَةِ مَقْسُومًا عَلَى السِّهَامِ الْخَمْسَةِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا وَصَلَ إِلَيْنَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فِي غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا رُعْبٍ كَالْجِزْيَةِ وَعُشْرِ تِجَارَتِهِمْ وَمَالِ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ فِي دَارِنَا وَلَا وَارِثَ لَهُ فَفِي تَخْمِيسِهِ قَوْلَانِ : أَصَحُّهُمَا وَهُوَ الْجَدِيدُ أَنَّهُ يُخَمَّسُ وَيَكُونُ خُمُسُهُ مَقْسُومًا عَلَى السِّهَامِ الْخَمْسَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [ الْحَشْرِ : 7 ] ، وَلِأَنَّهُ كَالْمَتْرُوكِ رُعْبًا فِي كَوْنِهِ فَيْئًا ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُخَمَّسًا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ : أَنَّهُ لَا يُخَمَّسُ : لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي الْغَنِيمَةِ مَالًا يُخَمَّسُ وَهُوَ السَّلَبُ ، كَانَ فِي الْفَيْءِ مَالًا يُخَمَّسُ وَهُوَ الْعَقَارُ ، وَالْأَوَّلُ مِنْ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ أَشْهَرُ وَأَصَحُّ . فَأَمَّا أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ فَفِي مَصْرِفِهِ الْآنَ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَصْرُوفٌ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ مِنْ أَرْزَاقِ الْمُقَاتِلَةِ وَالْأَئِمَّةِ وَالْقُضَاةِ وَبِنَاءِ الْحُصُونِ وَالْمَسَاجِدِ وَالْقَنَاطِرِ وَإِعْدَادِ الْقِلَاعِ وَالسِّلَاحِ : لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَتَمَلَّكُ ذَلِكَ فَيَصْرِفُهُ فِي هَذِهِ الْمَصَالِحِ ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ مَصْرُوفٌ فِي أَرْزَاقِ الْجَيْشِ الْمُقَاتِلَةِ الْخَاصَّةِ الْمَنْدُوبُونَ لِجِهَادِ
الْعَدُوِّ وَالذَّبِّ عَنِ الْبَيْضَةِ وَالْمَنْعِ مِنَ الْحَرِيمِ ، لِأَنَّهُمُ الْقَائِمُونَ بِذَلِكَ بَعْدَ الرَّسُولِ فَمَلَكُوا بَعْدَهُ مَا كَانَ لَهُ . وَجُمْلَةُ الْمُجَاهِدِينَ ضَرْبَانِ : مُرْتَزِقَةٌ ، وَمُتَطَوِّعَةٌ . فَأَمَّا الْمُرْتَزِقَةٌ فَهُمُ الَّذِينَ فَرَّغُوا أَنْفُسَهُمْ لِلْجِهَادِ فَلَمْ يُشْغَلُوا إِلَّا بِهِ الفيء وَثَبَتُوا فِي الدِّيوَانِ فَصَارُوا جَيْشًا لِلْمُسْلِمِينَ وَمُقَاتِلَةً لِلْمُشْرِكِينَ ، فَهَؤُلَاءِ يُرْزَقُونَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ وَلَا حَقَّ لَهُمْ فِي الصَّدَقَاتِ ، وَأَمَّا الْمُتَطَوِّعَةُ فَهُمْ أَرْبَابُ الْمَعَائِشِ وَالصَّنَائِعِ ، وَالْأَعْرَابُ الَّذِينَ يَتَطَوَّعُونَ بِالْجِهَادِ إِنْ شَاءُوا وَيَقْعُدُونَ عَنْهُ إِنْ أَحَبُّوا وَلَمْ يَثْبُتُوا فِي الدِّيوَانِ وَلَا جُعِلَ لَهُمْ رِزْقٌ ، فَهَؤُلَاءِ يُعْطَوْنَ مِنَ الصَّدَقَاتِ مِنْ سَهْمِ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا حَقَّ لَهُمْ فِي الْفَيْءِ : وَلِهَذَا تَمَيَّزَ أَهْلُ الصَّدَقَةِ عَنْ أَهْلِ الْفَيْءِ . وَقَدْ كَانَ الْمُتَطَوِّعَةُ يُسَمَّوْنَ أَعْرَابًا ، وَيُسَمَّى الْمُقَاتِلَةُ مُهَاجِرِينَ فَتَمَيَّزُوا بِهَذَيْنِ الِاثْنَيْنِ لِتَمَيُّزِهِمْ فِي الْمَالَيْنَ ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ : قَدْ حَسَّهَا اللَّيْلُ بِعُصْلُبِيٍّ أَرْوَعَ خَرَّاجٍ مِنَ الدَّوِيِّ مُهَاجِرٍ لَيْسَ بِأَعْرَابِيِّ
فَصْلٌ : وَإِذْ قَدْ تَمَيَّزَ أَهْلُ الْفَيْءِ عَنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ بِمَا وَصَفْنَا ، فَسَنَذْكُرُ أَهْلَ الصَّدَقَةِ فِي قِسْمِ الصَّدَقَاتِ وَنُبَيِّنُ حُكْمَ أَهْلِ الْفَيْءِ فَنَقُولُ : يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُثْبِتَ الْمُقَاتِلَةَ فِي جَمِيعِ الثُّغُورِ وَالْبُلْدَانِ فِي دِيوَانِهِ وَمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي نَفَقَاتِهِمْ وَمُؤْنَاتِهِمْ فَيُعْطِيهِمْ مِنْ مَالِ الْفَيْءِ قَدْرَ كِفَايَاتِهِمْ حَتَّى لَا يَتَشَاغَلُوا بِاكْتِسَابِ الْمَالِ عَنْ جِهَادِ الْعَدُوِّ وَيَكُونُوا مُتَشَاغِلِينَ بِالْحَرْبِ فِي الذَّبِّ عَنِ الْبَيْضَةِ . وَإِذَا لَزِمَ الْإِمَامَ الْقِيَامُ بِكِفَايَتِهِمْ فَكِفَايَتُهُمْ تَخْتَلِفُ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : كَثْرَةُ الْعِيَالِ وَقِلَّتُهُمُ الَّذِينَ تَلْزَمُ نَفَقَاتُهُمْ مِنَ الْأَوْلَادِ وَالزَّوْجَاتِ وَالْعَبِيدِ وَالْخَدَمِ ، فَيُثْبِتُ ذُرِّيَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَهُمْ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ مِنْ أَوْلَادِهِ فَثَبَتَ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي حَالِ الْفَقْرِ ، ثُمَّ فِي حَالِ النُّشُوءِ وَالْكِبَرِ ، هَذَا مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ : وَتُعْطِي الْمَنْفُوسَ شَيْئًا وَكُلَّمَا كَبُرَ يُزَادُ عَلَى قَدْرِ مُؤْنَتِهِ ، يَعْنِي : أَنَّهُ يُعْطِي أَبَاهُ لِأَجْلِهِ وَيَزِيدُ لِكِبَرِهِ . وَيَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الزَّوْجَاتِ وَالْعَبِيدِ وَالْخَدَمِ لِيَعْلَمَ بِذَلِكَ قَدْرَ مُؤْنَتِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَعْرِفَ حَالَهُ هَلْ هُوَ مِنَ الرَّجَّالَةِ أَوِ الْفُرْسَانِ ، فَإِنْ كَانَ مِنَ الْفُرْسَانِ عَرَفَ عَدَدَ خَيْلِهِ وَظَهْرِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَعْرِفَ حَالَ بَلَدِهِ فِي قُرْبِهِ مِنَ الْمَغْزَى وَبُعْدِهِ ، فَإِنَّهُ إِنْ بَعُدَ كَثُرَتْ مُؤْنَتُهُ وَإِنْ قَرُبَ قَلَّتْ . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَعْرِفَ خَصْبَ بَلَدِهِ وَجَدْبِهِ ، فَإِنَّ الْمُؤَنَ فِي بِلَادِ الْخَصْبِ قَلِيلَةٌ فِي بِلَادِ الْجَدْبِ كَثِيرَةٌ . وَالْخَامِسُ : أَنْ يَعْرِفَ غَلَاءَ السِّعْرِ وَرُخْصَهُ لِيَزِيدَهُ مَعَ الْغَلَاءِ وَيَنْقُصَهُ مَعَ الرُّخْصِ ،
فَإِذَا كَشَفَ عَنْ أَحْوَالِهِمْ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ الْخَمْسَةِ ، عَرَفَ قَدْرَ كِفَايَتِهِمْ فَأَثْبَتَهَا أَوْ جَعَلَهَا مَبْلَغَ أَرْزَاقِهِمْ فِي كُلِّ عَامٍ مِنْ غَيْرِ صَرْفٍ وَلَا تَقْصِيرٍ وَذَلِكَ قَدْ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ فِي الْوُجُوهِ الْخَمْسَةِ : فَلِذَلِكَ مَا اخْتَلَفَ قَدْرُ أَرْزَاقِهِمْ وَإِنْ وَجَبَتْ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمْ فِي الْقِيَامِ بِكِفَايَاتِهِمْ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ بَلَغَ بِالْعَطَاءِ خَمْسَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذَا أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الْكِفَايَةِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفْرَضَ لِلْمُقَاتِلَةِ أَكْثَرُ مِنْ كِفَايَتِهِمْ ، وَقِيلَ : لَيْسَ هَكَذَا : لِأَنَّ خَمْسَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ مَعَ بُعْدِ الْمَغْزَى وَغَلَاءِ الْأَسْعَارِ لَيْسَتْ بِأَكْثَرَ مِنْ كِفَايَةِ ذِي عِيَالٍ ، فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَقْدِيرِ أَرْزَاقِهِمْ بِحَسَبِ كِفَايَاتِهِمْ خَرَجَ مَا يُعْطُونَهُمْ مِنْهَا عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي مَصْرِفِ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ مَصْرُوفٌ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ ، أُعْطُوا مِنْهُ قَدْرَ أَرْزَاقِهِمْ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْهَا كَانَ الْفَضْلُ بَاقِيًا فِي بَيْتِ الْمَالِ ، وَإِنْ نَقَصَ عَنْهَا كَانَ الْبَاقِي لَهُمْ دَيْنًا عَلَى بَيْتِ الْمَالِ ، وَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ لِلْجَيْشِ خَاصَّةً ، قُسِمَ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ كِفَايَاتِهِمْ بِزِيَادَةٍ وَنَقْصٍ . مِثَالُهُ : أَنْ يَكُونَ رِزْقُ أَحَدِهِمُ الْكَافِي لَهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ ، وَرِزْقُ الْآخَرِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ ، وَرِزْقُ الثَّالِثِ الْآخَرِ ثَلَاثَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ ، وَرِزْقُ الرَّابِعِ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ ، فَيَكُونُ رِزْقُ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ عَشْرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ ، لِصَاحِبِ الْأَلْفِ عُشْرُهَا ، وَلِصَاحِبِ الْأَلْفَيْنِ خُمُسُهَا ، وَلِصَاحِبِ الثَّلَاثَةِ آلَافٍ ثَلَاثَةُ أَعْشَارِهَا ، وَلَصَاحِبِ الْأَرْبَعَةِ آلَافٍ خُمُسُهَا ، فَيَنْقَسِمُ الْحَاصِلُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ عَلَى عَشْرَةِ أَسْهُمٍ لِصَاحِبِ الْأَلْفِ سَهْمٌ ، وَلِصَاحِبِ الْأَلْفَيْنِ سَهْمَانِ ، وَلِصَاحِبِ الثَّلَاثَةِ آلَافٍ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ . وَعَلَى هَذَا الْحِسَابِ فَإِنْ كَانَ الْمَالُ عَشْرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ بِقَدْرِ أَرْزَاقِهِمْ فَقَدِ اسْتَوْفَوْهَا ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ قُسِمَ جَمِيعُهُ عَلَى هَذَا ، أَوْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ لَهُمْ ، وَلَا يُحْتَسَبُ بِمَا عَلَيْهِمْ ، وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ كَانَ النُّقْصَانُ عَلَيْهِمْ لَا يُحْتَسَبُ بِهِ لَهُمْ ، فَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ إِذَا اتَّسَعَ الْمَالُ لَمْ يُزَادُوا عَلَى أَرْزَاقِهِ ، وَعَلَى الثَّانِي يُزَادُونَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّهُمَا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ إِذَا ضَاقَ الْمَالُ يَقْضُونَ بَقِيَّةَ أَرْزَاقِهِمْ وَعَلَى الثَّانِي لَا يَقْضُونَ .
فَصْلٌ : وَيَنْبَغِي لِوَالِي الْجَيْشِ أَنْ يَسْتَعْرِضَ أَهْلَ الْعَطَاءِ فِي وَقْتِ كُلِّ عَطَاءٍ ، فَمَنْ وُلِدَ لَهُ مِنْهُمْ زَادَهُ لِأَجْلِ وَلَدِهِ ، وَمَنْ مَاتَ لَهُ وَلَدٌ نَقَصَهُ قِسْطَ وَلَدِهِ ، وَإِذَا يُنْفَسُ الْمَوْلُودُ زَادَهُ حَالًا بَعْدَ حَالٍ حَتَّى يَبْلُغَ ، فَإِذَا بَلَغَ خَرَجَ مِنْ جُمْلَةِ الذُّرِّيَّةِ وَصَارَ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ ، فَأَثْبَتَهُ فِي الدِّيوَانِ وَفَرَضَ لَهُ فِي الْعَطَاءِ رِزْقًا ، وَرَاعَى حَالَ مَنْ يَنْكِحُ مِنَ الزَّوْجَاتِ أَوْ يُطَلِّقُ ، وَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ ، أَوْ يَبِيعُ لِيَزِيدَهُ مِمَّنْ نَكَحَ أَوْ مَلَكَ ، وَيَنْقُصَهُ لِأَجْلِ مَنْ طَلَّقَ أَوْ بَاعَ ، وَكَذَا يُرَاعِي حَالَ خَيْلِهِ فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ ؛ إِلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ قَدْرَ الْحَاجَةِ فِي شِرَاءِ الْعَبِيدِ وَالْخَيْلِ فَلَا يُزَادُ لِأَجْلِهِمْ .
وَقْتُ الْعَطَاءِ وَزَمَانُهُ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " ثُمَّ يُعْطِي الْمُقَاتِلَةَ فِي كُلِّ عَامٍ عَطَاءَهُمْ وَالذُّرِّيَّةَ وَالنِّسَاءَ مَا يَكْفِيهِمْ لِسَنَتِهِمْ فِي كُسْوَتِهِمْ وَنَفَقَاتِهِمْ طَعَامًا أَوْ قِيمَتَهُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ يُعْطِي الْمَنْفُوسَ شَيْئًا ثُمَّ يُزَادُ كُلَّمَا كَبُرَ عَلَى قَدْرِ مُؤْنَتِهِ ، وَهَذَا يَسْتَوِي لِأَنَّهُمْ يُعْطَوْنَ الْكِفَايَةَ ، وَيُختَلَفُ فِي مَبْلَغِ الْعَطَاءِ بِاخْتِلَافِ أَسْعَارِ الْبُلْدَانِ وَحَالَاتِ النَّاسِ فِيهَا ؛ فَإِنَّ الْمُؤْنَةَ فِي بَعْضِ الْبُلْدَانِ أَثْقَلُ مِنْهَا فِي بَعْضٍ ، وَلَا أَعْلَمُ أَصْحَابَنَا اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْعَطَاءَ لِلْمُقَاتِلَةِ حَيْثُ كَانَتْ إِنَّمَا يَكُونُ مِنَ الْفَيْءِ ، وَقَالُوا لَا بَأْسَ أَنْ يُعْطَى الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ أَكْثَرَ مِنْ كِفَايَتِهِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَلَغَ فِي الْعَطَاءِ خَمْسَةَ آلَافٍ وَهِيَ أَكْثَرُ مِنْ كِفَايَةِ الرَّجُلِ بِنَفْسِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ خَمْسَةُ آلَافٍ بِالْمَدِينَةِ وَيَغْزُو إِذَا غَزَا وَلَيْسَتْ بِأَكْثَرَ مِنَ الْكِفَايَةِ إِذَا غَزَا عَلَيْهَا لِبُعْدِ الْمَغْزَى ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَهَذَا كَالْكِفَايَةِ عَلَى أَنَّهُ يَغْزُو وَإِنْ لَمْ يَغْزُ فِي كُلِّ سَنَةٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَإِذَا قَدْ مَضَى مَا يَتَعَذَّرُ بِهِ الْعَطَاءُ فَهَذَا الْفَصْلُ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَقْتُ الْعَطَاءِ وَزَمَانُهُ . وَالثَّانِي : جِنْسُهُ وَنَوْعُهُ . وَهَذَانِ الْفَصْلَانِ يَخْتَلِفَانِ بِاخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي مَالِ الْفَيْءِ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ مِلْكٌ لِلْجَيْشِ خَاصَّةً ؛ فَوَقْتُ الْعَطَاءِ هُوَ الْوَقْتُ الَّذِي يَتَكَامَلُ فِيهِ حُصُولُ الْمَالِ ، سَوَاءً تَعَجَّلَ أَوْ تَأَجَّلَ ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُؤَخِّرَهُ عَنْهُمْ إِذَا حُصِّلَ وَلَا لَهُمْ مُطَالَبَتُهُ بِهِ إِنْ تَأَخَّرَ إِلَّا أَنْ يُؤَخِّرَ جِبَايَتَهُ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِهِ ؛ فَلَهُمْ أَنْ يُطَالِبُوهُ بِاجْتِبَائِهِ وَاسْتِخْلَاصِهِ ، ثُمَّ الْجِنْسُ الْحَاصِلُ مِنَ الْمَالِ هُوَ الَّذِي يُسْتَحَقُّ دَفْعُهُ إِلَيْهِمْ ، سَوَاءً كَانَ وَرِقًا أَوْ ذَهَبًا أَوْ حِنْطَةً أَوْ شَعِيرًا ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي جُمْلَةِ عُرُوضٍ فَتُبَاعُ وَتُضَمُّ أَثْمَانُهَا إِلَى الْمَالِ . ثُمَّ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُجْمَعُ الْفَيْءُ فِي جَمِيعِ الْأَقَالِيمِ فَيُقَسَّمُ فِي جَمِيعِ أَهْلِ الْفَيْءِ حَتَّى يَتَسَاوَى جَمِيعُ أَهْلِ الْفَيْءِ فِي كُلِّ مَالِ الْفَيْءِ ، وَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ يُقَسَّمُ مَالُ كُلِّ إِقْلِيمٍ فِي أَهْلِهِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا قِيلَ إِنَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ مَصْرُوفٌ فِي وُجُوهِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ الَّتِي مِنْهَا عَطَاءُ الْجَيْشِ ، وَجَبَ بَيَانُ الْفَصْلَيْنِ فِي وَقْتِ الْعَطَاءِ وَجِنْسِ الْمَالِ الْمُعْطَى . فَأَمَّا وَقْتُ الْعَطَاءِ فَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِمَالِ الْفَيْءِ ، فَإِنْ كَانَ مُسْتَحَقًّا فِي دُفْعَةٍ وَاحِدَةٍ جُعِلَ وَقْتُ الْعَطَاءِ فِي دُفْعَةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ السَّنَةِ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْوَقْتُ مِنَ السَّنَةِ مَعْلُومًا عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ الْفَيْءِ لِيُقَدَّرَ إِلَيْهِ نَفَقَاتُهُمْ ، يَتَوَقَّعُوا فِيهِ أَرْزَاقَهُمْ وَيُنْظِرَهُمْ إِلَيْهِ تُجَّارُهُمْ ، وَيُخْتَارُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمُحَرَّمِ : لِأَنَّهُ أَوَّلُ السَّنَةِ الْعَرَبِيَّةِ ، فَإِذَا حَلَّ وَفَّاهُمْ عَطَاءَ السَّنَةِ بِأَسْرِهِ . وَإِذَا كَانَ مَالُ الْفَيْءِ مُسْتَحَقًّا فِي أَوْقَاتٍ شَتَّى مِنَ السَّنَةِ ، جَعَلَ لِلْعَطَاءِ وَقْتَيْنِ وَقَسَمَهُ نِصْفَيْنِ وَأَعْطَاهُمْ بَعْدَ كُلِّ سِتَّةِ
أَشْهُرٍ نِصْفَهُ . وَلَا يَجِبُ أَنْ يَجْعَلَ لِلْعَطَاءِ فِي السَّنَةِ أَكْثَرَ مِنْ وَقْتَيْنِ ، وَلَا أَنْ يَجْعَلَهُ مُشَاهَرَةً وَإِنْ قُبِضَ مَالُ الْفَيْءِ مُشَاهَرَةً لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِئَلَّا يَصِيرَ الْجَيْشُ مُتَشَاغِلًا فِي كُلِّ السَّنَةِ بِالْقَبْضِ وَالطَّلَبِ . وَالثَّانِي : كَيْلَا يَنْقَطِعَ عَنِ الْجِهَادِ تَوَقُّعًا لِحُلُولِ الشُّهُورِ أَوْ تَتَأَخَّرُ عَنْهُمْ إِنْ خَرَجُوا . فَإِنْ قِيلَ : أَفَيَكُونُ الْعَطَاءُ لِمَا مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ ، أَوْ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنْهَا ؟ قِيلَ : لَيْسَ هُوَ لِمَا مَضَى وَلَا لِمَا يُسْتَقْبَلُ : لِأَنَّ أَرْزَاقَ الْمُقَاتِلَةِ تَجْرِي مَجْرَى الْجُعَالَةِ ، وَالْوُجُوبُ مُتَعَلِّقٌ بِحُصُولِ الْمَالِ ، وَالْأَدَاءُ مُسْتَحَقٌّ بِحُلُولِ الْوَقْتِ . وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الْوُجُوبُ وَالْأَدَاءُ مَعًا مُتَعَلِّقَيْنِ بِحُصُولِ الْمَالِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
جِنْسُ الْمَالِ الْمُعْطَى
فَصْلٌ : وَأَمَّا جِنْسُ الْمَالِ الْمُعْطَى ، للمقاتلة من الفيء فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي جُمْلَةِ مَا قَدَّرَهُ مِنْ كِفَايَاتِهِمْ ، طَعَامٌ لِأَقْوَاتِهِمْ وَشَعِيرٌ لِدَوَابِّهِمْ وَثِيَابٌ لِكُسْوَتِهِمْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ أَهْلُ الْأَمْصَارِ ، فَيَجِبُ اخْتِلَافُهَا عَلَى قَدْرِ عَادَاتِهَا ، فَيُقَوِّمُ مَا سِوَى الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَرِقًا أَوْ ذَهَبًا ، فَأَمَّا الْحِنْطَةُ وَالشَّعِيرُ فَيَنْظُرُ ، فَإِنْ كَانَ فِي مَالِ الْفَيْءِ الْمُسْتَحَقِّ حِنْطَةٌ وَشَعِيرٌ قَدَّرَهُ لَهُمْ حَبًّا وَأَعْطَاهُمْ إِيَّاهُ مَعَ أَرْزَاقِهِمْ مِنَ الْوَرِقِ وَالذَّهَبِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مَالِ الْفَيْءِ الْمُسْتَحَقِّ حِنْطَةٌ وَلَا شَعِيرٌ أَعْطَاهُمْ قِسْمَتَهُ وَرِقًا ، أَوْ ذَهَبًا بِسِعْرِ وَقْتِهِ . وَالْوَرِقُ أَخَصُّ بِالْعَطَاءِ مِنَ الذَّهَبِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : اتِّبَاعُ الْأَئِمَّةِ الرَّاشِدِينَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يُصْرَفُ فِي قَلِيلِ النَّفَقَاتِ وَكَثِيرِهَا ، فَلَا يُعْدَلُ عَنْهُ إِلَى الذَّهَبِ إِلَّا إِذَا كَانَ مَالُ الْفَيْءِ ذَهَبًا ، أَوْ كَانَ هُوَ الْأَغْلَبَ فِي مُعَامَلَاتِ النَّاسِ ، فَلَوْ تَعَامَلَ النَّاسُ بِالْفُلُوسِ لَمْ يَجْعَلْ مَالَ الْعَطَاءِ فُلُوسًا : لِأَنَّهَا فِي الْمُعَامَلَاتِ نَادِرَةٌ وَلِذَلِكَ خَرَجَتْ عَنْ أَنْ يَثْبُتَ فِيهَا الرِّبَا وَتَجِبَ فِيهَا الزَّكَاةُ .
مَسْأَلَةٌ لَيْسَ لِلْمَمَالِيكِ فِي الْعَطَاءِ حَقٌّ وَلَا الْأَعْرَابِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ لَقِيتُهُ فِي أَنْ لَيْسَ لِلْمَمَالِيكِ فِي الْعَطَاءِ حَقٌّ وَلَا الْأَعْرَابِ من الفيء الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الصَّدَقَةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . الْمَمْلُوكُ لَا يُفْرَدُ لَهُ فِي الْعَطَاءِ ، سَوَاءً قَاتَلَ مَعَ سَيِّدِهِ أَوْ تَشَاغَلَ بِخِدْمَتِهِ ، لَكِنْ يُزَادُ السَّيِّدُ فِي عَطَائِهِ لِمَا يَتَكَلَّفُهُ مِنْ نَفَقَةِ عَبْدِهِ ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أَعْطَى الْعَبِيدَ فِي أَيَّامِ خِلَافَتِهِ ، فَلَمَّا أَفْضَى الْأَمْرُ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَرَمَهُمْ وَلَمْ يُعْطِهِمْ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ وَإِنَّمَا هُوَ عَوْنٌ لِسَيِّدِهِ ، عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ وَكُسْوَتُهُ وَلَهُ كَسْبُهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ فَيُعْطَى عَطَاءَ الْمُجَاهِدِينَ ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ حَضَرَ الْوَقْعَةَ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ الْقِتَالُ فِيهَا .
فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ قَالَ الشَّافِعِيُّ لَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ لَقِيتُهُ فِي أَنْ لَيْسَ لِلْمَمَالِيكِ فِي الْعَطَاءِ حَقٌّ ، فَادَّعَى فِي ذَلِكَ الْإِجْمَاعَ وَأَبُو بَكْرٍ قَدْ خَالَفَ ؛ وَلَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ مَعَ خِلَافِهِ ؟ فَعَنْ ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ صَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَنْ لَقِيَهُ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ وَهُوَ لَمْ يُعَاصِرِ الصَّحَابَةَ . وَالثَّانِي : قَدْ يَعْقُبُ خِلَافَ الصَّحَابَةِ إِجْمَاعُ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْأَعْصَارِ ، فَصَارَ حُكْمُ الْخِلَافِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا مُرْتَفِعًا . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى عَبِيدِ الْخِدْمَةِ لَا عَبِيدِ الْمُقَاتِلَةِ ، وَلَمْ يُعْطِهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَلَا أَحَدٌ بَعْدَهُ شَيْئًا .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْأَعْرَابُ فَالْمُرَادُ بِهِمْ مَنْ لَمْ يَثْبُتْ فِي دِيوَانَ الْجَيْشِ وَلَا الْتَزَمَ مُلَازَمَةَ الْجِهَادِ ، وَلَكِنْ يَغْزُو إِذَا أَرَادَ وَيَقْعُدُ إِذَا شَاءَ ، الفيء فَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُسَمَّوْنَ أَعْرَابًا ، سَوَاءً كَانُوا عَرَبًا أَوْ عَجَمًا ، فَيُعْطَى هَؤُلَاءِ إِذَا غَزَوْا مِنَ الصَّدَقَاتِ مِنْ سَهْمِ سَبِيلِ اللَّهِ مَا يُعِينُهُمْ عَلَى غَزْوِهِمْ وَلَا يُعْطَوْنَ مِنْ مَالِ الْفَيْءِ شَيْئًا ، فَإِنْ دَخَلُوا فِي أَهْلِ الْفَيْءِ وَأَثْبَتُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الدِّيوَانِ وَالْتَزَمُوا الْجِهَادَ مَعَهُمْ ، إِذَا جَاهَدُوا صَارُوا فِي عَدَدِ الْجَيْشِ وَمِنْ جُمْلَةِ الْمُقَاتِلَةِ فَيُفْرَضُ لَهُمْ فِي عَطَاءِ أَهْلِ الْفَيْءِ ، وَيُخْرَجُوا مِنْ عِدَادِ أَهْلِ الصَّدَقَةِ وَيُحْرَمُوا مَا كَانُوا يُعْطَوْهُ مِنْهَا كَيْ لَا يَجْمَعُوا بَيْنَ مَالِ الصَّدَقَةِ وَمَالِ الْفَيْءِ : لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ مَيَّزَ أَهْلَ الصَّدَقَةِ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ فِي أَيَّامِهِ ، وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ مِنْ بَعْدِهِ ، فَصَارَ الْغُزَاةُ ضَرْبَيْنِ : أَهْلَ صَدَقَةٍ وَهُمْ مَا ذَكَرْنَا ، وَأَهْلَ فَيْءٍ وَهُمْ مَنْ وَصَفْنَا ، وَحُكْمُهُمَا مُتَمَيِّزٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَجْعَلُ الْأَعْرَابَ الْمُعْطَوْنَ مِنَ الصَّدَقَةِ دُونَ الْفَيْءِ الَّذِينَ هُمْ أَشْذَاذٌ مُفْتَرِقُونَ لَا يَرْهَبُهُمُ الْعَدُوُّ وَلَا يَسْتَعِينُ بِهِمُ الْإِمَامُ ، فَإِنْ قَوِيَ جَمْعُهُمْ وَكَثُرَ عَدَدُهُمْ حَتَّى رَهِبَهُمُ الْعَدُوُّ وَاسْتَعَانَ بِهِمُ الْإِمَامُ صَارُوا مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَذْهَبُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ التَّفْضِيلِ عَلَى السَّابِقَةِ وَالنَّسَبِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَاخْتَلَفُوا فِي التَّفْضِيلِ عَلَى السَّابِقَةِ وَالنَّسَبِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : أُسَوِّي بَيْنَ النَّاسِ ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ قَالَ لَهُ عُمَرُ : أَتَجْعَلُ لِلَّذِينَ جَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَهَجَرُوا دِيَارَهُمْ كَمَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ كَرْهًا ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : إِنَّمَا عَمِلُوا لِلَّهِ وَإِنَّمَا أُجُورُهُمْ عَلَى اللَّهِ ، وَإِنَّمَا الدُّنْيَا بَلَاغٌ . وَسَوَّى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَيْنَ النَّاسِ وَلَمْ يُفَضِّلْ ، ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - : وَهَذَا الَّذِي أَخْتَارُهُ وَأَسْأَلُ اللَّهَ التَّوْفِيقَ ، وَذَلِكَ أَنِّي رَأَيْتُ اللَّهَ تَعَالَى قَسَمَ الْمَوَارِيثَ عَلَى الْعَدَدِ فَسَوَّى ؛ فَقَدْ تَكُونُ الْإِخْوَةُ مُتَفَاضِلِي الْغَنَاءِ عَنِ الْمَيِّتِ فِي الصِّلَةِ فِي الْحَيَاةِ وَالْحِفْظِ بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَسَمَ لِمَنْ حَضَرَ الْوَقْعَةَ مِنَ الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ عَلَى الْعَدَدِ فَسَوَّى ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُغْنَى غَايَةَ الْغَنَاءِ وَيَكُونُ الْفُتُوحُ عَلَى يَدَيْهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ مَحْضَرُهُ إِمَّا غَيْرَ نَافِعٍ ، وإِمَّا ضَارًّا بِالْجُبْنِ وَالْهَزِيمَةِ ، فَلَمَّا
وَجَدْتُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ عَلَى التَّسْوِيَةِ كَمَا وَصَفْتُ كَانَتِ التَّسْوِيَةُ أَوْلَى مِنَ التَّفْضِيلِ عَلَى النَّسَبِ أَوِ السَّابِقَةِ ، وَلَوْ وَجَدْتُ الدِّلَالَةَ عَلَى التَّفْضِيلِ أَرْجَحَ بِكِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ كُنْتُ إِلَى الْتَفْضِيلِ بِالدِّلَالَةِ مَعَ الْهَوَى أَسْرَعَ . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَإِذَا قَرُبَ الْقَوْمُ مِنَ الْجِهَادِ وَرَخُصَتْ أَسْعَارُهُمْ أُعْطُوا أَقَلَّ مَا يُعْطَى مَنْ بَعُدَتْ دَارُهُ وَغَلَا سِعْرُهُ ، وَهَذَا - وَإِنْ تَفَاضَلَ عَدَدُ الْعَطِيَّةِ - تَسْوِيَةٌ عَلَى مَعْنَى مَا يَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْجِهَادِ إِذَا أَرَادَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ أَهْلِ الْفَيْءِ وَالتَّفْضِيلِ بِالسَّابِقَةِ وَالنَّسَبِ ، وَفِي السَّابِقَةِ الَّتِي أُشِيرُ بِالتَّفْضِيلِ إِلَيْهَا تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا السَّابِقَةُ فِي الْإِسْلَامِ . وَالثَّانِي : السَّابِقَةُ فِي الْهِجْرَةِ ، فَحُكِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سَوَّى بَيْنَ النَّاسِ فِي الْعَطَاءِ وَلَمْ يُفَضِّلْ أَحَدًا بِسَابِقَةٍ وَلَا نَسَبٍ ، وَأَعْطَى الْعَبِيدَ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : أَتَجْعَلُ الَّذِينَ جَاهَدُوا فِي اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَهَجَرُوا دِيَارَهُمْ كَمَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ كَرْهًا ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : إِنَّمَا عَمِلُوا لِلَّهِ وَإِنَّمَا أُجُورُهُمْ عَلَى اللَّهِ ، وَإِنَّمَا الدُّنْيَا بَلَاغٌ . يَعْنِي : بَلَاغٌ إِلَى الْآخِرَةِ الَّتِي هِيَ دَارُ الْجَزَاءِ . فَلَمَّا أَفْضَى الْأَمْرُ إِلَى عُمَرَ فَضَّلَ بَيْنَ النَّاسِ وَلَمْ يُعْطِ الْعَبِيدَ ، وَأَعْطَى عَائِشَةَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا ، وَأُعْطِيَ غَيْرُهَا مِنْ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعَرَبِيَّاتِ عَشْرَةَ آلَافٍ ، وَأَعْطَى صَفِيَّةَ وَجُوَيْرِيَّةَ سِتَّةَ آلَافٍ لِأَنَّهُمَا كَانَتَا مُعْتَقَتَيْنِ ، وَأَعْطَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ عَلِيٍّ وَالْعَبَّاسِ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - سِتَّةَ آلَافٍ ، وَأَعْطَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ وَالْأَنْصَارِ السَّابِقِينَ خَمْسَةَ آلَافٍ ، وَأَعْطَى الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - كُلَّ وَاحِدٍ أَرْبَعَةَ آلَافٍ ، وَأَعْطَى أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ أَلْفَيْنِ ، وَأَعْطَى ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ ، فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ : أَتُفَضِّلُ عَلَيَّ أُسَامَةَ وَتَنْقُصُ مِنْهُ . فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : لِأَنَّهُ كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْكَ ، وَكَانَ أَبُوهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَبِيكَ . فَلَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِلَى عَلِيٍّ رَجَعَ إِلَى رَأْيِ أَبِي بَكْرٍ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْعَطَاءِ وَلَا يُفَضِّلُ أَحَدَهُمْ بِسَابِقَةٍ وَلَا نَسَبٍ ، وَمَذْهَبُ عُمَرَ التَّفْضِيلُ بَيْنَهُمْ بِالسَّابِقَةِ وَالنَّسَبِ ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمْ أَوْلَى مِنَ التَّفْضِيلِ اتِّبَاعًا لِرَأْيِ أَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ، وَاسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ لِمَا سَوَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ الْغَانِمِينَ وَلَمْ يُفَضِّلْ ذَا غِنًى عَلَى فَقِيرٍ ، وَلَا فَضَّلَ شُجَاعًا عَلَى جَبَانٍ بَعْدَمَا حَضَرَ الْوَقْعَةَ . ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ يُسَوِّي فِيهِ بَيْنَ أَهْلِهِ لِإِرْصَادِ أَنْفُسِهِمْ لِلْجِهَادِ الَّذِينَ هُمْ فِيهِ سَوَاءٌ وَإِنْ تَفَاضَلُوا بِالسَّابِقَةِ وَالنَّسَبِ تَسْوِيَةً بَيْنَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ فِي أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهِ كَاسْتِوَاءِ الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا فِي خُمُسِهِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَوَّى فِي الْمِيرَاثِ بَيْنَ الْبَارِّ وَالْعَاقِّ وَبَيْنَ الْمُحِبِّ وَالْمُشَاقِّ لِاسْتِوَائِهِمْ فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ ، كَذَلِكَ أَهْلُ الْفَيْءِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَوْ وَجَدْتُ الدِّلَالَةَ عَلَى أَنَّ التَّفْضِيلَ أَرْجَحُ بِكِتَابِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُنْتُ إِلَى التَّفْضِيلِ بِالدِّلَالَةِ مَعَ الْهَوَى أَسْرَعَ بِمَكَانَ الشَّافِعِيِّ مِنَ السَّابِقَةِ وَالنَّسَبِ الَّذِي لَوْ جَازَ أَنْ يَسْتَحِقَّ بِهِ التَّفْضِيلَ لَكَانَ أَسْرَعَ إِلَى هَوَاهُ مِنَ التَّسْوِيَةِ ، وَلَكِنَّ اتِّبَاعَ الدِّلَالَةِ أَحَقُّ .
مَسْأَلَةٌ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ وَالْأَعْرَابِ أَنْ يَغْزُوا إِلَّا بِأَمْرِ الْإِمَامِ وَإِذْنِهِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَعَلَيْهِمْ أَنْ يَغْزُوَا إِذَا غُزُوا وَيَرَى الْإِمَامُ فِي إِغْزَائِهِمْ رَأْيَهُ ، فَإِنِ اسْتَغْنَى مُجَاهِدُهُ بِعَدَدٍ وَكَثْرَةٍ مِنْ قُرْبِهِ أَغْزَاهُمْ إِلَى أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ مِنْ مُجَاهِدِهِمْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ وَالْأَعْرَابِ أَنْ يَغْزُوا إِلَّا بِأَمْرِ الْإِمَامِ وَإِذْنِهِ لِأُمُورٍ ، مِنْهَا : أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَغْزُو عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا بِأَمْرِهِ ، وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ مِنْ بَعْدِهِ . وَلِأَنَّ الْإِمَامَ أَعْرَفُ بِأَحْوَالِ الْعَدُوِّ وَفِيمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ قُوَّةٍ وَضَعْفٍ وَخَصْبٍ وَجَدْبٍ وَاخْتِلَافٍ وَوِفَاقٍ . وَيُنْفِذُ مِنَ الْجَيْشِ مَنْ يُكَافِئُ الْعَدُوَّ فِي الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ وَالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ ، وَلِأَنَّهُمْ رُبَّمَا اضْطُرُّوا لِتَكَاثُرِ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ إِلَى مَدَدٍ فَيَمُدُّهُمْ ، وَلِأَنَّهُمْ رُبَّمَا احْتَاجُوا إِلَى مَيْزَةٍ فَيُمَيِّزُهُمْ ، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا عَرَفَ لِاتِّصَالِ الْأَخْبَارِ بِهِ مِنْ مَكَامِنِ الْعَدُوِّ مَا سَدَّدَهُمْ . فَبِهَذِهِ الْأُمُورِ وَنَظَائِرِهَا مَا مُنِعُوا مِنَ الْغَزْوِ إِلَّا بِأَمْرِهِ ، فَإِذَا أَمَرَهُمْ بِالْغَزْوِ لَزِمَتْهُمْ طَاعَتُهُ وَإِجَابَتُهُ ، فَإِنْ لَمْ يُطِيعُوهُ مَعَ ارْتِفَاعِ الْمَوَانِعِ سَقَطَتْ أَرْزَاقُهُمْ : لِأَنَّ مَا يُرْزَقُونَ مِنَ الْعَطَاءِ فِي مُقَابَلَةِ مَا يَأْخُذُونَ بِهِ مِنَ الْجِهَادِ ، فَإِذَا قَعَدُوا عَنْهُ بَعْدَ الْأَمْرِ سَقَطَ مَا يُعْطَوْنَهُ عَلَيْهِ مِنَ الرِّزْقِ ، كَالزَّوْجَاتِ لَمَّا اسْتَحَقُّوا نَفَقَاتِهِمْ بِالطَّاعَةِ سَقَطَتْ بِالنُّشُوزِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ، فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَفْسِرَ مِنَ الْجِهَادِ مَعَ الْمُكْنَةِ اتِّبَاعًا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَاقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَحْقِيقًا لِوَعْدِهِ تَعَالَى وَإِظْهَارًا عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ، وَأَقَلُّ مَا عَلَيْهِ أَنْ يَغْزُوَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً إِمَّا بِنَفْسِهِ أَوْ خُلَفَائِهِ : لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا تَرَكَهُ فِي كُلِّ عَامٍ مُنْذُ فُرِضَ عَلَيْهِ الْجِهَادُ ، وَكَيْ لَا يَمْضِيَ عَطَاءُ الْعَامِ هَدَرًا وَكَيْ لَا يَقْوَى الْعَدُوُّ بِالْمُشَارَكَةِ وَكَيْ لَا يَأْلَفَ أَهْلُ الْجِهَادِ الرَّاحَةَ .
فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : الْإِمَامُ فِي إِغْزَائِهِمْ رَأْيُهُ . يَعْنِي : فِي الزَّمَانِ الَّذِي يَأْمُرُهُمْ بِالْغَزْوِ إِلَيْهِ وَالْعَدَدِ الَّذِي يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ ، فَإِذَا أَرَادَ ذَلِكَ اخْتَارَ لَهُمْ مِنَ الزَّمَانِ أُولَاهُ وَمِنَ الْمَكَانِ أَدْنَاهُ ، وَيَنْدُبُ عَنْ كُلِّ طَائِفَةٍ إِلَى مَنْ يَلِيهَا ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ [ التَّوْبَةِ : 123 ] ، وَلِأَنَّ كُلَّ قَوْمٍ بِمَنْ يَلِيهِمْ أَخْبَرُ ، وَعَلَى قِتَالِهِمْ أَقْدَرُ ، وَمَا يَتَكَلَّفُونَهُ مِنَ الْمُؤْنَةِ فِي قِتَالِهِمْ أَيْسَرُ ، فَلَا يُنْفَذُ أَهْلُ ثَغْرٍ إِلَى غَيْرِهِ إِلَّا لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يُسْلِمَ أَهْلُهُ فَيَنْقُلُهُمْ عَنْهُ إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي لَمْ يُسَلِمْ أَهْلُهَا وَيَسْتَوْطِنُوا فِيمَا يُقَابِلُهَا وَيَلِيهَا ،
وَإِمَّا لِظُهُورِ قُوَّةٍ مِنْ عَدُوٍّ فِي غَيْرِ جِهَتِهِمْ ، فَأَقْرَبُهَا عَلَى مَنْ بِإِزَائِهِمْ يَكُونُ هَؤُلَاءِ أَظْهَرُ عَلَى عَدُوِّهِمْ فَيَسْتَمِدُّ مِنْهُمْ مَنْ يَدْفَعُ بِهِمْ قُوَّةَ الْآخَرِينَ ، ثُمَّ يَعُودُوا بَعْدَ الْفَرَاغِ إِلَى أَمَاكِنِهِمْ ، فَإِذَا فَعَلَ الْإِمَامُ هَذَا بِهِمْ زَادَهُمْ نَفَقَةَ مَا تَكَلَّفُوهُ مِنْ زِيَادَةِ سَفَرِهِمْ ، فَإِنْ تَزَايَدَتْ قُوَّةُ الْعَدُوِّ فِي إِحْدَى الْجِهَاتِ وَضَعُفَتْ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْجِهَاتِ عَنِ الْمُنَادَاةِ جَازَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَجْمَعَ عَلَى تِلْكَ الْجِهَةِ الْقَوِيَّةِ جَمِيعَ أَهْلِ الْفَيْءِ : لِأَنَّ فِي كَسْرِهَا كَسْرٌ لِمَنْ هُوَ أَضْعَفُ مِنْهَا وَلَيْسَ فِي كَسْرِ الْأَضْعَفِ كَسْرٌ إِلَيْهَا . وَيَفْعَلُ فِي إِعْطَاءِ الْمَنْقُولِ مِنْ زِيَادَةِ النَّفَقَةِ مَا ذَكَرْنَا .
مَسْأَلَةٌ إِعْطَاءِ الذُّرِّيَّةِ وَنِسَاءِ أَهْلِ الْفَيْءِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي إِعْطَاءِ الذُّرِّيَّةِ وَنِسَاءِ أَهْلِ الْفَيْءِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يُعْطَوْنَ وَأَحْسِبُ مِنْ حُجَّتِهِمْ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَمُؤنَتُهُمْ تَلْزَمُ رِجَالَهُمْ فَلَمْ يُعْطِهِمُ الْكِفَايَةَ فَيُعْطِيهِمْ كَمَالَ الْكِفَايَةِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِذَا أُعْطُوا وَلَمْ يُقَاتِلُوا فَلَيْسُوا بِذَلِكَ أَوْلَى مِنْ ذُرِّيَّةِ الْأَعْرَابِ وَنِسَائِهِمْ وَرِجَالِهِمُ الَّذِينَ لَا يُعْطَوْنَ مِنَ الْفَيْءِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا مَاتَ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ مُرْتَزِقٌ وَخَلَفَ ذُرِّيَّةً ، هل يدفع إليهم جميع عطائه من الفيء لَمْ يُدْفَعْ إِلَيْهِ جَمِيعُ عَطَائِهِ . وَفِي إِعْطَائِهِمْ مِنْ قَدْرِ الْكِفَايَةِ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا الشَّافِعِيُّ خِلَافًا عَنْ أَصْحَابِهِ : أَحَدُهُمَا : يُعْطَوْنَ مِنْ مَالِ الْفَيْءِ قَدْرَ كِفَايَتِهِمُ اعْتِبَارًا بِالْمَصْلَحَةِ فِي تَرْغِيبِ أَهْلِ الْفَيْءِ فِي الْجِهَادِ ؛ ثِقَةً لِحِفْظِ الذُّرِّيَّةِ وَأَلَّا يَتَشَاغَلُوا عَنْهُ بِطَلَبِ الْكَسْبِ لِمَنْ يَخْلُفُونَ ، أَوْ يَجْبُنُوا عَنِ الْجِهَادِ فَلَا يُقْدِمُونَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُمْ لَا يُعْطَوْنَ : لِأَنَّ مَا اسْتُحِقَّ بِهِ الْعَطَاءُ وَهُوَ إِرْصَادُ النَّفْسِ لِلْجِهَادِ مَفْقُودٌ فِيهِمْ ، وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا تَبَعًا ، فَإِذَا بَطَلَ حُكْمُ الْمَتْبُوعِ بَطَلَ حُكْمُ التَّابِعِ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : إِنْ كَانَ فِي الذُّرِّيَّةِ مِنْ أَصَاغِرِ الذُّكُورِ يُرْجَى أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ إِذَا بَلَغَ أُعْطُوا قَدْرَ الْكِفَايَةِ وَإِلَّا مُنِعُوا . فَامْتَنَعَ قَائِلُ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ تَخْرِيجِ الْقَوْلَيْنِ وَخَرَّجَهُ عَلَى اخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ ، وَحَكَاهُ أَبُو بَكْرِبْنُ الدَّقَّاقِ . فَإِذَا قِيلَ : إِنَّهُمْ لَا يُعْطَوْنَ اعْتُبِرَتْ أَحْوَالُهُمْ ، فَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ ، فَلَا حَقَّ لَهُمْ فِي مَالِ الْفَيْءِ وَلَا فِي مَالِ الصَّدَقَاتِ ، وَإِنْ كَانُوا فُقَرَاءَ صَارُوا مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ وَأُعْطُوا مِنْهَا مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ . وَإِذَا قِيلَ : إِنَّهُمْ يُعْطَوْنَ قَدْرَ الْكِفَايَةِ فَسَوَاءً كَانُوا أَغْنِيَاءَ ذَوِي كِفَايَةٍ ، أَوْ فُقَرَاءَ ذَوِي حَاجَةٍ وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُمْ لِمَنْ كَانَتْ نَفَقَتُهُ وَاجِبَةً عَلَى مَيِّتِهِمْ مِنْ أَوْلَادِهِ الْأَصَاغِرِ وَزَوْجَاتِهِ مَا لَمْ يَتَزَوَّجْنَ وَأَقَمْنَ عَلَى رِعَايَةِ الزَّوْجِ فِي حِفْظِ ذُرِّيَّتِهِ ، فَإِنْ تَزَوَّجْنَ قُطِعَ عَطَاؤُهُنَّ ، فَإِذَا بَلَغَ الْأَوْلَادُ خَرَجُوا بِالْبُلُوغِ مِنْ جُمْلَةِ الذُّرِّيَّةِ ، فَإِنْ أَحَبُّوا أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ أُثْبِتُوا فِي دِيوَانِهِ وَصَارُوا بِأَنْفُسِهِمْ مُرْتَزِقِينَ وَتَبِعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ ، وَإِنْ عَدَلُوا عَنْ أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ رَغْبَةً فِي غَيْرِهِ ، فَلَا حَقَّ لَهُمْ فِي مَالِ الْفَيْءِ ، لَا تَبَعًا وَلَا مَتْبُوعِينَ لِخُرُوجِهِمْ مِنَ الذُّرِّيَّةِ بِالْبُلُوغِ وَمِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ بِالْعُدُولِ عَنْهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " حَدَّثَنِي سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : مَا أَحَدٌ إِلَّا وَلَهُ فِي هَذَا الْمَالِ حَقٌّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ أُعْطِيَهُ أَوْ مُنِعَهُ . ( وقَالَ الشَّافِعِيُّ ) : وَهَذَا الْحَدِيثُ يَحْتَمِلُ مَعَانِيَ مِنْهَا أَنْ نَقُولَ لَيْسَ أَحَدٌ بِمَعْنَى حَاجَةٍ مِنَ الصَّدَقَةِ ، أَوْ بِمَعْنَى أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ الَّذِينَ يَغْزُونَ إِلَّا وَلَهُ فِي مَالِ الْفَيْءِ أَوِ الصَّدَقَةِ حَقٌّ ، وَكَانَ هَذَا أَوْلَى مَعَانِيهِ بِهِ ، فَإِنْ قِيلَ مَا دَلَّ عَلَى هَذَا ؟ قِيلَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّدَقَةِ : لَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي مِرَّةٍ مُكْتَسِبٍ وَالَّذِي أَحْفَظُ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْأَعْرَابَ لَا يُعْطَوْنَ مِنَ الْفَيْءِ ( قَالَ ) وَقَدْ رُوِّينَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ أَهْلَ الْفَيْءِ كَانُوا فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَعْزِلٍ عَنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ ، وَأَهْلُ الصَّدَقَةِ بِمَعْزِلٍ عَنْ أَهْلِ الْفَيْءِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِنْ قِيلَ فَكَيْفَ تَأْوِيلُ هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَكُمْ وَمِنْ مَذْهَبِكُمْ أَنَّ أَهْلَ الْفَيْءِ لَا يَأْخُذُونَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ ، والعكس وَأَهْلُ الصَّدَقَاتِ لَا يَأْخُذُونَ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ ؟ قِيلَ فِيهِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى مَالِ بَيْتِ الْمَالِ الْجَامِعِ لِمَالِ الْفَيْءِ وَمَالِ الصَّدَقَاتِ ، وَالنَّاسُ صِنْفَانِ : أَغْنِيَاءُ وَحَقُّهُمْ فِي مَالِ الْفَيْءِ ، وَفُقَرَاءُ وَحَقُّهُمْ فِي مَالِ الصَّدَقَةِ . أَمَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ مِنَ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ فَلَا حَقَّ لَهُمْ فِي الْمَالَيْنِ جَمِيعًا . وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي : أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى مَالِ الْفَيْءِ وَحْدَهُ وَلَيْسَ أَحَدٌ إِلَّا وَلَهُ فِيهِ حَقٌّ ، أَمَّا الْفُقَرَاءُ فَفِيهِ خُمُسُهُ مِنْ سَهْمِ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَبَنِي السَّبِيلِ ، وَأَمَّا الْأَغْنِيَاءُ فَفِي أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهِ ، فَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ فَالْعَطَاءُ ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ غَيْرِهِمْ فَمِنَ الْمَصَالِحِ ، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي نَجْعَلُهُ مَصْرُوفًا فِي الْمَصَالِحِ . وَالتَّأْوِيلُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى مَالِ الْفَيْءِ : لِأَنَّهُ إِنِ اخْتُصَّ بِأَهْلِ الْفَيْءِ فَنَفْعُهُ عَائِدٌ إِلَى غَيْرِهِمْ مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ لَذَبِّ أَهْلِ الْفَيْءِ عَنْهُمْ وَقِيَامِهِمْ بِالْجِهَادِ الَّذِي بِهِ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْهُمْ ، فَصَارَ الْمَالُ الْمَصْرُوفُ إِلَى مَنْ قَامَ بِغَرَضِ الْجِهَادِ عَنْهُمْ كَالْمَصْرُوفِ إِلَيْهِمْ ؛ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي جَعَلَهُ مِلْكًا لِلْجَيْشِ خَاصَّةً .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَالْعَطَاءُ الْوَاجِبُ فِي الْفَيْءِ لَا يَكُونُ إِلَّا لِبَالِغٍ يُطِيقُ مِثْلُهُ الْقِتَالَ ( قَالَ ) ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عُرِضْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ أُحُدٍ وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَرَدَّنِي ، وَعُرِضْتُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَجَازَنِي ، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ هَذَا فَرْقٌ بَيْنَ الْمُقَاتِلَةِ وَالذُّرِّيَّةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ
لَا يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ فِي أَهْلِ الْفَيْءِ إِلَّا مَنِ اسْتَكْمَلَ شُرُوطَ الْجِهَادِ فَصَارَ مِنْ أَهْلِهِ ، فَحِينَئِذٍ يُثْبِتُ نَفْسَهُ فِي دِيوَانِ الْفَيْءِ وَيُفْرَضُ لَهُ مِنَ الْعَطَاءِ قَدْرُ كِفَايَتِهِ . وَشُرُوطُ الْجِهَادِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ فَرْضُ الْجِهَادِ بِهَا . وَيَجُوزُ الدُّخُولُ فِي أَهْلِ الْفَيْءِ مَعَهَا سِتَّةٌ : وَهِيَ أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا ، بَالِغًا ، عَاقِلًا ، حُرًّا ، مُسْلِمًا ، قَادِرًا عَلَى الْقِتَالِ ، فَإِنْ أَخَلَّ بِشَرْطٍ مِنْهَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ وَلَا مِمَّنْ يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ فِي أَهْلِ الْفَيْءِ ، وَإِنِ اسْتَكْمَلَهَا صَارَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَتَوَجَّهُ الْفَرْضُ إِلَيْهِ إِلَّا بِالِاسْتِطَاعَةِ ، لِجَوَازِ أَنْ يَدْخُلَ فِي أَهْلِ الْفَيْءِ مَعَ عَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ : لِأَنَّهُ قَدْ يَسْتَطِيعُ بِعَطَائِهِ إِذَا أَخَذَهُ عَلَى الْقِتَالِ إِذَا نُدِبَ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِنْ كَمَّلَهَا أَعْمَى لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِتَالِ أَبَدًا أَوْ مَنْقُوصُ الْخَلْقِ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِتَالِ أَبَدًا ، لَمْ يُفْرَضْ لَهُ فَرْضُ الْمُقَاتِلَةِ وَأُعْطِيَ عَلَى كِفَايَةِ الْمَقَامِ وَهُوَ شَبِيهٌ بِالذُّرِّيَّةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا بَلَغَ الصِّغَارُ مِنْ ذُرِّيَّةِ أَهْلِ الْفَيْءِ بِالِاحْتِلَامِ أَوْ بِاسْتِكْمَالِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً ، لَمْ يَخْلُ حَالُهُمْ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونُوا قَادِرِينَ عَلَى الْقِتَالِ ، أَوْ عَاجِزِينَ عَنْهُ ، فَإِنْ كَانُوا قَادِرِينَ عَلَيْهِ خَرَجُوا مِنْ جُمْلَةِ الذُّرِّيَّةِ ، سَوَاءً كَانُوا مِنْ ذُرِّيَّةِ أَمْوَاتٍ أَوْ أَحْيَاءٍ ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ جَعَلَ الْبُلُوغَ فَرْقًا بَيْنَ الذُّرِّيَّةِ وَالْمُقَاتِلَةِ ، وَلِأَنَّ بُلُوغَ الذُّرِّيَّةِ يُسْقِطُ نَفَقَاتِهِمْ عَنِ الْمُقَاتِلَةِ فَخَرَجُوا مِنْ جُمْلَةِ الذُّرِّيَّةِ ، ثُمَّ هُمْ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَكْتُبُوا أَنْفُسَهُمْ فِي دِيوَانِ الْفَيْءِ فَيَكُونُوا مِنْ أَهْلِهِ وَبَيْنَ أَنْ لَا يَفْعَلُوا فَيُمْنَعُوا مِنَ الْفَيْءِ وَيَصِيرُوا مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ ، وَإِنْ كَانُوا فُقَرَاءَ ، وَإِنْ بَلَغُوا عَاجِزِينَ عَلَى الْقِتَالِ لِعَمًى أَوْ زَمَانَةٍ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُثْبَتُوا فِي دِيوَانِ الْفَيْءِ مُنْفَرِدِينَ ، وَهَلْ يُبْقَوْا عَلَى حُكْمِ الذُّرِّيَّةِ فِي إِعْطَائِهِمْ مَالَ الْفَيْءِ تَبَعًا أَمْ لَا ؟ إن عجزوا بعد البلوغ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُمْ بَاقُونَ عَلَى حُكْمِ الذَّرَارِي فِي مَنْعِهِمْ مِنْ مَالِ الصَّدَقَةِ وَإِعْطَائِهِمْ قَدْرَ الْكِفَايَةِ بَيْنَ مَالِ الْفَيْءِ ، سَوَاءً كَانُوا ذُرِّيَّةً لِأَحْيَاءٍ أَوْ لِأَمْوَاتٍ ، اسْتِصْحَابًا لِمَا تَقَدَّمَ فِي حُكْمِهِمْ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُمْ قَدْ خَرَجُوا فِي حُكْمِ الذَّرَارِي لِتَمَيُّزِهِمْ بِالْبُلُوغِ وَيُعْدَلُ بِهِمْ إِلَى مَالِ الصَّدَقَاتِ إِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِهَا ، وَسَوَاءً كَانُوا ذُرِّيَّةً لِأَحْيَاءٍ أَوْ لِأَمْوَاتٍ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُمْ إِنْ كَانُوا مِنْ ذُرِّيَّةِ أَمْوَاتٍ مُنِعُوا مِنْ مَالِ الْفَيْءِ وَعُدِلَ بِهِمْ إِلَى مَالِ الصَّدَقَاتِ ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ ذُرِّيَّةِ أَحْيَاءٍ بَقَوْا فِي مَالِ الْفَيْءِ عَلَى حُكْمِ الذَّرَارِي وَمُنِعُوا مَالَ الصَّدَقَاتِ : لِأَنَّ الْحَيَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَتْبُوعًا فِي مَالِ الْفَيْءِ لِبَقَاءِ عَطَائِهِ ، وَالْمَيِّتَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَتْبُوعًا فِيهِ لِسُقُوطِ عَطَائِهِ ، وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنْ يُنْظَرَ : فَإِنْ كَانَ الَّذِي أَقْعَدَهُمْ عَنِ الْقِتَالِ مُوجِبًا لِنَفَقَاتِهِمْ عَلَى الْآبَاءِ بَعْدَ بُلُوغِهِمْ ، كَوُجُوبِهَا عَلَيْهِمْ فِي صِغَرِهِمْ كَالْجُنُونِ وَالزَّمَانَةِ الْمَانِعَةِ مِنَ الِاكْتِسَابِ بَقُوا عَلَى حُكْمِ الذَّرَارِي فِي مَالِ الْفَيْءِ ، وَلَمْ يُعْدَلْ بِهِمْ إِلَى مَالِ الصَّدَقَاتِ ، سَوَاءً كَانُوا ذُرِّيَّةَ أَحْيَاءٍ أَوْ أَمْوَاتٍ : لِأَنَّ بَقَاءَ حُكْمِهِمْ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ مُوجِبٌ لِبَقَائِهِمْ
عَلَى حُكْمِ الذُّرِّيَّةِ فِي مَالِ الْفَيْءِ ، وَإِنْ كَانَ مَا أَعْجَزَهُمْ عَنِ الْقِتَالِ لَا يُوجِبُ نَفَقَاتِهِمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ لِقُدْرَتِهِمْ عَلَى الِاكْتِسَابِ مَعَ الْعَجْزِ عَنِ الْقِتَالِ خَرَجُوا عَنْ حُكْمِ الذُّرِّيَّةِ فِي مَالِ الْفَيْءِ ، وَعُدِلَ بِهِمْ إِلَى مَالِ الصَّدَقَاتِ إِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِهَا ، سَوَاءً كَانُوا ذُرِّيَّةَ أَحْيَاءٍ أَوْ أَمْوَاتٍ : لِأَنَّ سُقُوطَ نَفَقَتِهِمْ بِالْبُلُوغِ تُخْرِجُهُمْ عَنْ حُكْمِ الذُّرِّيَّةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِنْ فُرِضَ لِصَحِيحٍ ثُمَّ زَمِنَ ، خَرَجَ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ ، وَإِنْ مَرِضَ طَوِيلًا يُرْجَى أُعْطِيَ كَالْمُقَاتِلَةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا مَرِضَ أَحَدُ الْمُقَاتِلَةِ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ هل يأخذ من الفيء أو يخرج منه ؟ لَمْ يَخْلُ حَالُ مَرَضِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ يُرْجَى مِنَ اللَّهِ زَوَالُهُ أَوْ لَا يُرْجَى ، فَإِنْ كَانَ زَوَالُهُ مَرْجُوًّا كَانَ عَلَى حَقِّهِ فِي الْعَطَاءِ ، سَوَاءً أَكَانَ مَرَضًا مُخَوِّفًا أَمْ غَيْرَ مُخَوِّفٍ : لِأَنَّ الْأَمْرَاضَ تَنَاوَبُ وَلَا تَنْفَكُّ الْأَبْدَانُ مِنْهَا فِي الْغَالِبِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَرَضُ مِمَّا لَا يُرْجَى زَوَالُهُ كَالْعَمَى وَالْفَالَجِ سَقَطَ عَطَاؤُهُ فِي الْمُقَاتِلَةِ بِخُرُوجِهِ مِنْهَا بِالْعَجْزِ عَنِ الْقِتَالِ وَصَارَ كَالذُّرِّيَّةِ إِذَا انْفَرَدُوا ، فَهَلْ يُعْطَى كِفَايَتُهُ مِنْ مَالِ الْفَيْءِ ، أَوْ يُعْدَلُ بِهِ إِلَى مَالِ الصَّدَقَةِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُعْطَى مِنْ مَالِ الْفَيْءِ قَدْرَ كِفَايَتِهِ كَالذُّرِّيَّةِ ، فَيَكُونُ حَقُّهُ فِي أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَا يُعْطَى مِنْ مَالِ الْفَيْءِ فَيُمْنَعُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهِ ، ثُمَّ يُنْظَرُ ، فَإِنْ كَانَتْ زَمَانَتُهُ بِمَرَضٍ عُدِلَ إِلَى مَالِ الصَّدَقَاتِ ، وَإِنْ كَانَتْ زَمَانَتُهُ عَنْ جِرَاحٍ نَالَتْهُ فِي الْقِتَالِ ، فَهَلْ يُعْدَلُ بِهِ إِلَى مَالِ الصَّدَقَاتِ ، أَوْ إِلَى سَهْمِ الْمَسَاكِينِ مِنْ خُمُسِ الْفَيْءِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يُعْدَلُ بِهِ إِلَى سَهْمِ الْمَسَاكِينِ مِنْ خُمُسِ الْفَيْءِ وَيُمَيَّزُ عَنْ مَسَاكِينِ الصَّدَقَاتِ اسْتِيفَاءً لِحُكْمِ الْفَيْءِ فِيهِ .
مَسْأَلَةٌ يُخْرَجُ الْعَطَاءُ لِلْمُقَاتِلَةِ كُلَّ عَامٍ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَيُخْرَجُ الْعَطَاءُ لِلْمُقَاتِلَةِ كُلَّ عَامٍ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ وَالذُّرِّيَّةِ عَلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا إِذَا كَانَ مَالُ الْفَيْءِ لَا يَجِيءُ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فِي كُلِّ عَامٍ لَمْ يُجْعَلِ الْعَطَاءُ إِلَّا مَرَّةً فِي كُلِّ عَامٍ فِي وَقْتٍ مِنْهُ مَعْلُومٍ يَتَقَدَّرُ بِاسْتِكْمَالِ الْمَالِ فِيهِ ، وَأَوْلَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ فِي الْمُحَرَّمِ إِذَا أَمْكَنَ ، وَإِنْ كَانَ مَالُ الْفَيْءِ يُحَصَّلُ فِي مَرَّتَيْنِ مِنْ كُلِّ عَامٍ أَوْ مِرَارًا لَمْ يَنْبَغِ أَنْ يُجْعَلَ الْعَطَاءُ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّتَيْنِ فِي كُلِّ عَامٍ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَشَاغُلِ الْمُجَاهِدِينَ بِالِاقْتِضَاءِ وَتَشَاغُلِ الْإِمَامِ بِالْعَطَاءِ ، ثُمَّ يَنْظُرُ الْإِمَامُ فِي أَرْفَقِ الْأَمْرَيْنِ بِهِ وَبِالْجَيْشِ ؛ فَإِنْ كَانَ الْأَرْفَقُ الْأَصْلَحُ أَنْ يَجْعَلَهُ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً لِبُعْدِ الْمَغْزَى أَوْ طُولِ الْمُدَّةِ فَعَلَ ، وَإِنْ كَانَ الْأَرْفَقُ الْأَصْلَحُ أَنْ يَجْعَلَهُ فِي مَرَّتَيْنِ مِنْهَا صَيْفًا وَشِتَاءً ، كَيْ لَا يَتَشَاغَلَ بِحِفْظِ الْمَالِ إِذَا اسْتَبْقَاهُ وَلَا يَسْتَبْطِئُ الْجَيْشُ مَعَ قُرْبِ الْمَغْزَى وَبُعْدِ مَدَاهُ فَعَلَ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : لَا يَنْظُرُ الْإِمَامُ فِي
ذَلِكَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَهُ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ كُلِّ عَامٍ وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّهُ كَالزَّكَاةِ لَا تَجِبُ فِي الْعَامِ إِلَّا مَرَّةً ؛ فَلَمَ يَجُزْ أَنْ يُفَرَّقَ فِي الْعَامِ إِلَّا مَرَّةً وَفِي الْفَيْءِ مَا قَدْ يُحَصَّلُ فِي السَّنَةِ بِأَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ ، فَجَازَ أَنْ يُفَرَّقَ فِي الْعَامِ فِي أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِذَا صَارَ مَالُ الْفَيْءِ إِلَى الْوَالِي ، ثُمَّ مَاتَ مَيِّتٌ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ عَطَاءَهُ من الفيء أُعْطِيَهُ وَرَثَتُهُ ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ إِلَيْهِ مَالُ ذَلِكَ الْعَامِ لَمْ يُعْطَهُ وَرَثَتُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْعَطَاءِ يَكُونُ بِحُصُولِ مَالِ الْفَيْءِ ، وَأَدَاؤُهُ يَجِبُ بِحُلُولِ وَقْتِ الْعَطَاءِ . وَقَالَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ : اسْتِحْقَاقُهُ وَأَدَاؤُهُ يَكُونَانِ مَعًا بِحُلُولِ وَقْتِ الْعَطَاءِ وَلَا اعْتِبَارَ بِحُصُولِ الْمَالِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ وَالْأَدَاءِ . وَهَذَا مَعَ كَوْنِهِ مُخَالِفًا لِنَصِّ الشَّافِعِيِّ خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَا لَمْ يَجِبْ عَلَى مُؤَدِّيهِ لَمْ يَجِبْ بِمُسْتَوْفِيهِ ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَحِلَّ وَقْتُ الْعَطَاءِ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِ مَالِ الْفَيْءِ عَلَى أَهْلِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْعَطَاءَ يَتَعَلَّقُ اسْتِحْقَاقُهُ بِعَيْنٍ لَا بِذِمَّةٍ ، وَفِي اعْتِبَارِ وُجُوبِهِ بِالْوَقْتِ دُونَ الْمَالِ نَقْلٌ لَهُ مِنَ الْعَيْنِ إِلَى الذِّمَّةِ ، فَبَطَلَ تَقْدِيرُ مَا اعْتَبَرَهُ . وَإِذَا كَانَ حُصُولُ الْمَالِ مُعْتَبَرًا فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ حُصُولَهُ هُوَ قَبْضُهُ مِنْ أَهْلِهِ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : حُصُولُهُ هُوَ حُلُولُ وُجُوبِهِ عَلَى أَهْلِهِ . وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّهُ قَدْ يَحِلُّ وُجُوبُهُ وَلَا يَحْصُلُ بِمَوْتٍ وَإِعْسَارٍ ، فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا ، لَمْ يَخْلُ حَالُ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُ قَبْلَ حُصُولِ الْمَالِ وَقَبْلَ حُلُولِ وَقْتِ الْعَطَاءِ فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لَا يَكُونُ حَقُّهُ فِيهِ ثَابِتًا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُ بَعْدَ حُصُولِ الْمَالِ وَبَعْدَ حُلُولِ وَقْتِ الْعَطَاءِ ، فَحَقُّهُ فِيهِ ثَابِتٌ وَهُوَ لِوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ لِئَلَّا يَخْتَلِفُوا . الْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُ بَعْدَ حُصُولِ الْمَالِ وَقَبْلَ حُلُولِ وَقْتِ الْعَطَاءِ ؛ فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ يَكُونُ حَقُّهُ ثَابِتًا فِيهِ يَنْتَقِلُ عَنْهُ إِلَى وَرَثَتِهِ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُ بَعْدَ حُلُولِ وَقْتِ الْعَطَاءِ وَقَبْلَ حُصُولِ الْمَالِ ، فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَامِدٍ يَكُونُ حَقُّهُ فِيهِ ثَابِتًا يُوَرَّثُ عَنْهُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَإِنْ فَضَلَ مِنَ الْفَيْءِ شَيْءٌ بعد إعطاء العطايا بَعْدَمَا وَصَفْتُ مِنْ إِعْطَاءِ الْعَطَايَا وَضَعَهُ الْإِمَامُ فِي إِصْلَاحِ الْحُصُونِ وَالِازْدِيَادِ فِي السِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ وَكُلِّ مَا قَوِيَ
بِهِ الْمُسْلِمُونَ ، فَإِنِ اسْتَغْنَوْا عَنْهُ وَكَمُلَتْ كُلُّ مَصْلَحَةٍ لَهُمْ فُرِّقَ مَا يَبْقَى مِنْهُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ مَا يَسْتَحِقُّونَ فِي ذَلِكَ الْمَالِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي مَالِ الْفَيْءِ إِذَا حُصِّلَ أَنْ يَبْدَأَ مِنْهُ بَعْدَ إِخْرَاجِ خُمُسِهِ بِأَرْزَاقِ الْجَيْشِ : لِأَنَّهُ إِنْ قِيلَ إِنَّهُ لِلْجَيْشِ خَاصَّةً فَلَا شَرِيكَ لَهُمْ فِيهِ ، وَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ لِلْمَصَالِحِ ، فَمِنْ أَهَمِّهَا أَرْزَاقُ الْجَيْشِ ، فَإِنْ كَانَ بِقَدْرِ أَرْزَاقِهِمْ لَمْ يَفْضُلْ مِنْهُ مَتَى أُعْطُوا جَمِيعَهُ ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْزَاقِهِمْ وَكَانَ يَفْضُلُ مِنْ بَعْدِ إِعْطَاءِ جَمِيعِهِمْ فَضْلٌ ، فَمَصْرِفُ الْفَضْلِ مُعْتَبَرٌ بِاخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَصْرِفِ الْفَيْءِ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ لِلْجَيْشِ خَاصَّةً وَاسْتَوْفَوْا مِنْهُ قَدْرَ أَرْزَاقِهِمْ رَدَّ الْفَاضِلَ عَلَيْهِ بِقِسْطِ أَرْزَاقِهِمْ وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُصْرَفَ مِنَ الْفَضْلِ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ وَإِصْلَاحِ الْحُصُونِ وَالثُّغُورِ مَا دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهُمْ لَهُ كَالْغَنِيمَةِ . وَالثَّانِي : يَجُوزُ : لِأَنَّهُ مَعُونَةٌ لَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَفْضُلْ تَكَلَّفُوهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ، فَيَبْدَأُ بَعْدَ أَرْزَاقِهِمْ بِشِرَاءِ مَا احْتِيجَ إِلَيْهِ مِنَ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ وَإِصْلَاحِ مَا تَشَعَّثَ مِنَ الْحُصُونِ وَالثُّغُورِ ، ثُمَّ رَدِّ مَا فَضَلَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ ، وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ مَصْرُوفٌ فِي الْمَصَالِحِ قَدَّمَ الْجَيْشَ مِنْهُ بِقَدْرِ أَرْزَاقِهِمْ وَصُرِفَ الْفَضْلُ فِي الْكُرَاعِ وَمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ إِصْلَاحِ الْحُصُونِ وَالثُّغُورِ ، فَإِنْ فَضَلَ مِنْهُ بَعْدَ الْمَصَالِحِ كُلِّهَا فَضْلٌ ؛ فَفِي رَدِّهِ عَلَى الْجَيْشِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُسْتَبْقَى فِي بَيْتِ الْمَالِ وَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِمْ : لِأَنَّهُ قَدْ يَتَجَدَّدُ مِنْ وُجُوهِ الْمَصَالِحِ مَا يَكُونُ ذَلِكَ مُعَدًّا لَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُرَدُّ عَلَى الْجَيْشِ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ الْمَصَالِحِ بِقِسْطِ أَرْزَاقِهِمْ وَلَا يُسْتَبْقَى لِمَصْلَحَةٍ لَمْ يُعْلَمْ بِهَا مَعَ ظُهُورِ الْمَصْلَحَةِ فِي اتِّسَاعِ الْجُيُوشِ بِهَا ، وَلِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ حَلَفَ فِي الْمَالِ الْمَحْمُولِ مِنْ فَارِسَ أَنَّهُ لَا يَأْوِي تَحْتَ سَقْفٍ حَتَّى يُقَسِّمَهُ ، وَلِمَا رُوِيَ عَنْهُ فِي أَهْلِ الرَّمَادَةِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَدِ اسْتَبْقَى لَهُمْ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَا يَسُدُّ بِهِ خَلَّتَهُمْ حَتَّى انْتَظَرَ بِهِمْ مَا يَأْتِي مِنْ مَالٍ بَعْدَ مَالٍ إِلَى أَنِ اسْتَقَلُّوا فَرَحَلُوا ، فَعَلَى هَذَا فِي حُكْمِ رَدِّهِ عَلَيْهِمْ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يُرَدُّ عَلَيْهِمْ مَعُونَةً لَهُمْ لَا يُحْتَسَبُ بِهَا عَلَيْهِمْ . وَالثَّانِي : يُرَدُّ عَلَيْهِمْ سَلَفًا مُعَجَّلًا ، يُحْتَسَبُ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ رِزْقِ الْعَامِ الْقَابِلِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ ضَاقَ عَنْ مَبْلَغِ الْعَطَاءِ فَرَّقَهُ بَيْنَهُمْ بَالِغًا مَا بَلَغَ لَمْ يُحْبَسْ عَنْهُمْ مِنْهُ شَيْءٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا ضَاقَ مَالُ الْفَيْءِ عَنْ أَرْزَاقِ الْجَيْشِ وَجَبَ أَنْ يُقَسِّمَهُ بَيْنَ جَمِيعِهِمْ عَلَى قَدْرِ أَرْزَاقِهِمْ ، كَمَا لَوْ ضَاقَتْ أَمْوَالُ الْمُفْلِسِ عَنْ دُيُونِ غُرَمَائِهِ قُسِّمَ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ
دُيُونِهِمْ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِي ذَلِكَ بَعْضَ الْجَيْشِ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ ذَلِكَ مَالَ الْمُفْلِسِ بَعْضَ الْغُرَمَاءِ لِاسْتِوَائِهِمْ فِي الِاسْتِحْقَاقِ ، ثُمَّ يَنْظُرُ فِي الْبَاقِي مِنْ أَرْزَاقِهِمْ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ مَالَ الْفَيْءِ مِلْكٌ لِلْجَيْشِ ، سَقَطَ الْبَاقِي مِنْ أَرْزَاقِهِمْ وَلَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَقْضُوهُ مِنْ عَامٍ قَابِلٍ ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُعَوِّضَهُمْ مِنَ الْغَنَائِمِ مَا يُتَمِّمُونَ بَاقِي كِفَايَاتِهِمْ . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ مَالَ الْفَيْءِ مَصْرُوفٌ فِي الْمَصَالِحِ ، كَانَ الْبَاقِي مِنْ أَرْزَاقِ الْجَيْشِ دَيْنًا عَلَى بَيْتِ الْمَالِ يَقْضُونَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَإِنْ عَوَّضُوهُمْ بِمَغْنَمٍ قَبْلَهُ كَانَ أَوْلَى .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَيُعْطَى مِنَ الْفَيْءِ رِزْقُ الْحُكَّامِ وَوُلَاةِ الْأَحْدَاثِ وَالصَّلَاةِ لِأَهْلِ الْفَيْءِ وَكُلِّ مَنْ قَامَ بِأَمْرِ أَهْلِ الْفَيْءِ مِنْ وَالٍ وَكَاتِبٍ وَجُنْدِيٍّ مِمَّنْ لَا غَنَاءَ لِأَهْلِ الْفَيْءِ عَنْهُ رِزْقُ مِثْلِهِ ، فَإِنْ وُجِدَ مَنْ يُغْنِي غَنَاءَهُ وَكَانَ أَمِينًا بِأَقَلَّ لَمْ يَزِدْ أَحَدًا عَلَى أَقَلِّ مَا يَجِدُ : لِأَنَّ مَنْزِلَةَ الْوَالِي مِنْ رَعِيَّتِهِ مَنْزِلَةُ وَالِي الْيَتِيمِ مِنْ مَالِهِ لَا يُعْطِي مِنْهُ عَنِ الْغَنَاءِ لِلْيَتِيمِ أَقَلَّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ ، وَمَنْ وَلِيَ عَلَى أَهْلِ الصَّدَقَاتِ كَانَ رِزْقُهُ مِمَّا يُؤْخَذُ مِنْهَا لَا يُعْطَى مِنَ الْفَيْءِ عَلَيْهَا كَمَا لَا يُعْطَى مِنَ الصَّدَقَاتِ عَلَى الْفَيْءِ . ( قَالَ ) وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ فِي قَسْمِ الْفَيْءِ وَذَهَبُوا مَذَاهِبَ لَا أَحْفَظُ عَنْهُمْ تَفْسِيرَهَا وَلَا أَحْفَظُ أَيُّهُمْ قَالَ مَا أَحْكِي مِنَ الْقَوْلِ دُونَ مَنْ خَالَفَهُ ، وَسَأَحْكِي مَا حَضَرَنِي مِنْ مَعَانِي كُلِّ مَنْ قَالَ فِي الْفَيْءِ شَيْئًا ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هَذَا الْمَالُ لِلَّهِ تَعَالَى دَلَّ عَلَى مَنْ يُعْطَاهُ ، فَإِذَا اجْتَهَدَ الْوَالِي فَفَرَّقَهُ فِي جَمِيعِ مَنْ سَمَّى لَهُ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى مِنِ اسْتِحْقَاقِهِمْ بِالْحَاجَةِ إِلَيْهِ وَإِنْ فَضَّلَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْعَطَاءِ فَذَلِكَ تَسْوِيَةٌ إِذَا كَانَ مَا يُعْطَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَدَّ خَلَّتَهُ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ صِنْفًا مِنْهُمْ وَيَحْرِمَ صِنْفًا . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إِذَا اجْتَمَعَ الْمَالُ نَظَرَ فِي مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ فَرَأَى أَنْ يَصْرِفَ الْمَالَ إِلَى بَعْضِ الْأَصْنَافِ دُونَ بَعْضٍ ، فَإِنْ كَانَ الصِّنْفُ الَّذِي يَصْرِفُهُ إِلَيْهِ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ شَيْءٍ مِمَّا يَصْرِفُهُ إِلَيْهِ وَكَانَ أَرْفَقَ بِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ صَرَفَهُ وَحَرَمَ غَيْرَهُ ، وَيُشْبِهُ قَوْلَ الَّذِي يَقُولُ هَذَا أَنَّهُ إِنْ طَلَبَ الْمَالَ صِنْفَانِ ، وَكَانَ إِذَا حُرِمَهُ أَحَدُ الصِّنْفَيْنِ تَمَاسَكَ وَلَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِ خَلَّةٌ مُضِرَّةٌ ، وَإِنْ سَاوَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآخَرِ كَانَتْ عَلَى الصِّنْفِ الْآخَرِ خَلَّةٌ مُضِرَّةٌ أَعْطَاهُ الَّذِينَ فِيهِمُ الْخَلَّةُ الْمُضِرَّةُ كُلَّهُ . ( قَالَ ) ثُمَّ قَالَ بَعْضُ مَنْ قَالَ إِذَا صَرَفَ مَالَ الْفَيْءِ إِلَى نَاحِيَةٍ فَسَدَّهَا وَحَرَمَ أُخْرَى ، ثُمَّ جَاءَهُ مَالٌ آخَرُ أَعْطَاهَا إِيَّاهُ دُونَ النَّاحِيَةِ الَّتِي سَدَّهَا فَكَأَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ إِنَّمَا عَجَّلَ أَهْلَ الْخَلَّةِ وآخَّرَ غَيْرَهُمْ حَتَّى أَوْفَاهُمْ بَعْدُ . ( قَالَ ) وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْهُمْ قَالَ يُعْطَى مَنْ يُعْطَى مِنَ الصَّدَقَاتِ وَلَا مُجَاهِدًا مِنَ الْفَيْءِ . وَقَالَ بَعْضُ مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ : وَإِنْ أَصَابَتْ أَهْلَ الصَّدَقَاتِ هل يعطوا من الفيء سَنَةٌ فَهَلَكَتْ أَمْوَالُهُمْ ، أُنْفِقَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْفَيْءِ ، فَإِذَا اسْتَغْنَوْا عَنْهُ مُنِعُوا الْفَيْءَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِي مَالِ الصَّدَقَاتِ هَذَا الْقَوْلُ يَرُدُّ بَعْضَ مَالِ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - : وَالَّذِي أَقُولُ بِهِ وَأَحْفَظُ
عَمَّنْ أَرْضَى مِمَّنْ سَمِعْتُ أَلَّا يُؤَخَّرَ الْمَالُ إِذَا اجْتَمَعَ ، وَلَكِنْ يُقَسَّمُ ، فَإِنْ كَانَتْ نَازِلَةٌ مِنْ عَدُوٍّ وَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْقِيَامُ بِهَا وَإِنْ غَشِيَهُمْ عَدُوٌّ فِي دَارِهِمْ وَجَبَ النَّفِيرُ عَلَى جَمِيعِ مَنْ غَشِيَهُ أَهْلُ الْفَيْءِ وَغَيْرُهُمْ . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَخْبَرَنَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَالٌ أُصِيبَ بَالْعِرَاقِ فَقَالَ لَهُ صَاحِبُ بَيْتِ الْمَالِ : أَلَا نُدْخِلُهُ بَيْتَ الْمَالِ ؟ قَالَ لَا وَرَبِّ الْكَعْبَةِ لَا يَأْوِي تَحْتَ سَقْفِ بَيْتٍ حَتَّى أُقَسِّمَهُ فَأَمَرَ بِهِ فَوُضِعَ فِي الْمَسْجِدِ وَوُضِعَتْ عَلَيْهِ الْأَنْطَاعُ وَحَرَسَهُ رِجَالٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا مَعَهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بِنُ عَوْفٍ آَخِذًا بِيَدِ أَحَدِهِمَا ، أَوْ أَحَدُهُمَا آَخِذٌ بِيَدِهِ ، فَلَمَّا رَأَوْهُ كَشَفُوا الْأَنْطَاعَ عَنِ الْأَمْوَالِ فَرَأَى مَنْظَرًا لَمْ يَرَ مِثْلَهُ ، الذَّهَبُ فِيهِ وَالْيَاقُوتُ وَالزَّبَرْجَدُ وَاللُّؤلؤُ يَتَلَأْلَأُ فَبَكَى ، فَقَالَ لَهُ أَحَدُهُمَا : إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا هُوَ بِيَوْمِ بُكَاءٍ ، لَكِنَّهُ وَاللَّهِ يَوْمُ شُكْرٍ وَسُرُورٍ ، فَقَالَ : إِنِّي وَاللَّهِ مَا ذَهَبْتُ حَيْثُ ذَهَبْتَ ، وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا كَثُرَ هَذَا فِي قَوْمٍ قَطُّ إِلَّا وَقَعَ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الْقِبْلَةِ وَرَفَعَ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَكُونَ مُسْتَدْرَجًا ، فَإِنِّي أَسْمَعُكَ تَقُولُ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ، ثُمَّ قَالَ أَيْنَ سُرَاقَةُ بْنُ جُعْشُمٍ ؟ فَأُتِيَ بِهِ أَشْعَرَ الذِّرَاعَيْنِ دَقِيقَهُمَا فَأَعْطَاهُ سُوَارَيْ كِسْرَى وَقَالَ الْبَسْهُمَا ، فَفَعَلَ ، فَقَالَ : قُلِ اللَّهُ أَكْبَرُ فَقَالَ : اللَّهُ أَكْبَرُ ، قَالَ : فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي سَلَبَهُمَا كِسْرَى بْنَ هُرْمُزَ وَأَلْبَسَهُمَا سُرَاقَةَ بْنَ جُعْشُمٍ أَعْرَابِيًّا مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ . وَإِنَّمَا أَلْبَسَهُ إِيَّاهُمَا : لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِسُرَاقَةَ وَنَظَرَ إِلَى ذِرَاعِهِ : " كَأَنِّي بِكَ وَقَدْ لَبِسْتَ سُوَارَيْ كِسْرَى " وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ إِلَّا سُوَارَيْهِ وَجَعَلَ يُقَلِّبُ بَعْضَ ذَلِكَ بَعْضًا ، ثُمَّ قَالَ إِنَّ الَّذِي أَدَّى هَذَا لِأَمِينٌ ، فَقَالَ قَائِلٌ أَنَا أُخْبِرُكَ أَنَّكَ أَمِينُ اللَّهِ وَهُمْ يُؤدُّونَ إِلَيْكَ مَا أَدَّيْتَ إِلَى اللَّهِ ، فَإِذَا رَتَعْتَ رَتَعُوا ، قَالَ صَدَقْتَ ، ثُمَّ فَرَّقَهُ . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَأَخْبَرَنَا الثِّقَةُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ قَالَ : أَنْفَقَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى أَهْلِ الرَّمَادَةِ فِي مَقَامِهِمْ حَتَّى وَقَعَ مَطَرٌ فَتَرَحَّلُوا فَخَرَجَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَاكِبًا إِلَيْهِمْ فَرَسًا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ كَيْفَ يَترَحَّلُونَ فَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ مُحَارِبِ خَصَفَةَ : أَشْهَدُ أَنَّهَا انْحَسَرَتْ عَنْكَ وَلَسْتَ بِابْنِ أُمَيَّةَ ، فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : وَيْلَكَ ذَاكَ لَوْ كُنْتُ أُنْفِقُ عَلَيْهِمْ مِنْ مَالِي أَوْ مَالِ الْخَطَّابِ ، إِنَّمَا أُنْفِقُ عَلَيْهِمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا أَرْزَاقُ الْجَيْشِ وَكُتَّابُهُمْ وَقُضَاتُهُمْ وَأَئِمَّتُهُمْ وَمُؤَذِّنِيهِمْ وَعُمَّالُهُمْ فَفِي أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا ، وَأَمَّا أَرْزَاقُ الْقُضَاةِ بَيْنَ الْكَافَّةِ وَوُلَاةِ الْأَحْدَاثِ وَهُمْ أَصْحَابُ الشُّرْطِ وَأَئِمَّةُ الْجَوَامِعِ وَالْمُؤَذِّنُونَ فِيهَا . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ مَصْرُوفٌ فِي الْمَصَالِحِ ، أُعْطُوا مِنْهَا أَرْزَاقَهُمْ . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ مِلْكٌ لِلْجَيْشِ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطَوْا مِنْهُ وَأُعْطُوا مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ مِنَ الْخُمُسِ وَهُوَ سَهْمُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَصْرُوفُ بَعْدَهُ فِي وُجُوهِ الْمَصَالِحِ ، وَإِذَا وَجَدَ الْإِمَامُ مُتَطَوِّعًا بِالْقَضَاءِ وَالْإِمَامَةِ وَالْأَذَانِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطِيَ عَلَيْهِ رِزْقًا ، وَإِذَا وَجَدَ مُرْتَزِقًا بِأَقَلَّ مِنْ أُجْرَةِ
مِثْلِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُكْمِلَ لَهُ جَمِيعَ أُجْرَتِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إِلَّا مُسْتَوْفِيًا لِأُجْرَتِهِ وَفَّاهُ وَلَا يَزِيدُ عَلَى أُجْرَةِ مِثْلِهِ : لِأَنَّهُ فِي مَالِ الْمُسْلِمِينَ بِمَنْزِلَةِ الْوَلِيِّ فِي مَالِ الْيَتِيمِ . فَأَمَّا عُمَّالُ الصَّدَقَاتِ فَأَرْزَاقُهُمْ مِنْهَا ، الصدقات وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرْزَقُوا مِنْ مَالِ الْفَيْءِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا . فَأَمَّا مَالُ الْفَيْءِ وَمَالُ الصَّدَقَاتِ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ وَمَصْرِفُهُمَا مُتَمَيِّزَانِ ، لَا يَجُوزُ أَنْ يُشْرَكَ بَيْنَهُمَا وَلَا أَنْ يُعَدَلَ بِأَحَدِهِمَا إِلَى مَصْرِفِ الْآخَرِ وَإِنْ خَالَفَ فِيهِ مَنْ قَهَرَهُ بِالدَّلِيلِ ، وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ .
بَابُ مَا لَمْ يُوجَفُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَرَضِينَ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ
بَابُ مَا لَمْ يُوجَفُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَرَضِينَ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : " كُلُّ مَا صُولِحَ عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ بِغَيْرِ قِتَالِ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ فَسَبِيلُهُ سَبِيلُ الْفَيْءِ عَلَى قَسْمِهِ ، وَمَا كَانَ مِنْ أَرَضِينَ وَدُورٍ فَهِيَ وَقْفٌ لِلْمُسْلِمِينَ يُسْتَغَلُّ وَيُقَسَّمُ عَلَيْهِمْ فِي كُلِّ عَامٍ كَذَلِكَ أَبَدًا . ( قَالَ ) وَأَحْسَبُ مَا تَرَكَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ بِلَادِ أَهْلِ الشِّرْكِ هَكَذَا ، أَوْ شَيْئًا اسْتَطَابَ أَنْفُسَ مَنْ ظَهَرَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَرِكَابٍ فَتَرَكُوهُ كَمَا اسْتَطَابَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْفُسَ أَهْلِ سَبْيِ هَوَازِنَ فَتَرَكُوا حُقُوقَهُمْ ، وَفِي حَدِيثِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنَهُ عَوَّضَهُ مِنْ حَقَّهِ وَعَوَّضَ امْرَأَتَهُ مِنْ حَقِّهَا بِمِيرَاثِهَا كَالدَّلِيلِ عَلَى مَا قُلْتُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . لَا يَخْلُو مَالُ الْفَيْءِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَنْقُولًا أَوْ غَيْرَ مَنْقُولٍ ، فكيف يقسم ؟ فَإِنْ كَانَ مَنْقُولًا كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْعُرُوضِ وَالسِّلَعِ قُسِمَ بَيْنَ أَهْلِ الْفَيْءِ بِوَضْعِ خُمُسِهِ فِي أَهْلِهِ وَأَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهِ فِي مُسْتَحِقِّهِ . وَجَازَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ الْعُرُوضَ إِذَا رَأَى ذَلِكَ صَلَاحًا بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ ؛ لِمَا لَهُ فِيهِ مِنَ الِاجْتِهَادِ إِلَّا سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ عَلَيْهِمْ إِلَّا بِإِذْنِهِمْ ؛ لِانْقِطَاعِ اجْتِهَادِهِ فِيهِ وَأَنَّهُ صَائِرٌ إِلَيْهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْمِيرَاثِ ، وَإِنْ كَانَ مَالُ الْفَيْءِ غَيْرَ مَنْقُولٍ كَالدُّورِ وَالْعَقَارِ وَالْأَرَضِينَ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَهِيَ وَقْفٌ ؛ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا تَكُونُ وَقْفًا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَجْعَلُ مَصْرِفَ الْفَيْءِ فِي وُجُوهِ الْمَصَالِحِ لِمَا فِي وَقْفِهَا مِنِ اسْتِدَامَةِ الْمَصْلَحَةِ وَاسْتِدْرَارِ الْعِلَّةِ فِي كُلِّ عَامٍ ، وَأَنَّهُ يَسْتَغِلُّهَا لِأَهْلِ الْفَيْءِ فِي كُلِّ عَصْرِهِ ، فَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَجْعَلُ مَالَ الْفَيْءِ مِلْكًا لِلْجَيْشِ خَاصَّةً ، فَلَا يَجُوزُ وَقْفُهَا إِلَّا بِإِذْنِهِمْ وَاخْتِيَارِهِمْ كَالْغَنِيمَةِ الَّتِي لَا يَجُوزُ وَقْفُ دُورِهَا وَأَرَضِيهَا إِلَّا بِرِضَى الْغَانِمِينَ وَاخْتِيَارِهِمْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : قَالَهُ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا تَصِيرُ وَقْفًا عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا : لِأَنَّ تَمْلِيكَ الْغَلَّةِ فِي كُلِّ عَامٍ أَمَدُّ وَأَنْفَعُ ، وَلِأَنَّ أَهْلَ الْفَيْءِ قَامُوا فِي تَمَلُّكِهِ مَقَامَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَقِّهِ وَمَا مَلَكَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَقُّهُ مِنَ الْفَيْءِ وَقْفٌ ، فَكَذَلِكَ مَا مَلَكَهُ الْجَيْشُ بَعْدَهُ ، فَصَارَ الْحُكْمُ فِيهِ أَنْ يَصِيرَ وَقْفًا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَجْعَلُ مَصْرِفَهُ فِي وُجُوهِ الْمَصَالِحِ ، وَهُوَ يَصِيرُ وَقْفًا عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّهُ مِلْكٌ لِلْجَيْشِ خَاصَّةً أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ كَوْنِ ذَلِكَ وَقْفًا كَانَ جَمِيعُهُ مِنَ الْخُمُسِ وَغَيْرِهِ وَقْفًا إِلَّا سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى وَحْدَهُ ، فَإِنَّ أَصْحَابَنَا اخْتَلَفُوا فِيهِ هَلْ يَصِيرُ سَهْمُهُمْ مِنْهُ وَقْفًا مَعَهُ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَصِيرُ وَقْفًا إِلَّا عَنْ رِضًا مِنْهُمْ وَاخْتِيَارٍ لِتَمَلُّكِهِمْ لَهُ عَلَى سَبِيلِ الْمِيرَاثِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ الْأَصَحُّ : أَنَّهُ قَدْ صَارَ وَقْفًا لِأَنَّهُمْ قَدْ مَلَكُوا خُمُسَ الْخُمُسِ مِنْ مَالٍ مَحْكُومٍ لَهُ بِالْوَقْفِ فَلَمْ يُمَيَّزْ حُكْمُ سَهْمِهِمْ مِنْهُ عَنْ حُكْمِ جَمِيعِهِ وَصَارَ مَا مَلَكُوهُ مِنْهُ وَهُوَ اسْتِغْلَالُهُ فِي كُلِّ عَامٍ مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهِ . وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ يَكُونُ وَقْفًا فَإِنَّهَا تَصِيرُ وَقْفًا بِمَصِيرِهَا فِيهَا وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى وَاقِفٍ يَقِفُهَا . وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ : لَا تَصِيرُ وَقْفًا إِلَّا أَنْ يَقِفَهَا الْإِمَامُ لَفْظًا : لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اسْتَنْزَلَ أَهْلَ السَّوَادِ عَنْهُ وَعَارَضَ مَنْ أَبَى أَنْ يَنْزِلَ عَنْهُ ثُمَّ وَقَفَهُ ، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَا لَا يَتِمُّ وَقْفُهُ إِلَّا بِاللَّفْظِ إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا رُدَّ إِلَى خِيَارِ الْوَاقِفِ فِي تَمَلُّكِهِ وَوَقْفِهِ ، وَهَذَا غَيْرُ مَرْدُودٍ إِلَى خِيَارِ الْوَاقِفِ فِي تَمَلُّكِهِ وَوَقْفِهِ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى لَفْظٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ حُكْمٌ قَدْ يَثْبُتُ لِأَرْضِ الْفَيْءِ عِنْدَ انْتِقَالِهَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَصَارَتْ بِالِانْتِقَالِ وَقْفًا ، وَأَمَّا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَفِي فِعْلِهِ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ هُوَ أَنْ حَكَمَ بِوَقْفِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ اسْتَنْزَلَ الْغَانِمِينَ عَنْ مِلْكٍ ، فَجَازَ أَنْ يَقِفَهُ بِلَفْظٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْفَيْءُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ قَالَ اللَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - : إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا الْآيَةَ ( قَالَ ) وَرَوَى الزُّهْرِيُّ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَرَّفَ عَامَ حُنَيْنٍ عَلَى كُلِّ عَشَرَةٍ عَرِيفًا ، ( قَالَ ) وَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُهَاجِرِينَ شِعَارًا وَلِلْأَوْسِ شِعَارًا وَلِلْخَزْرَجِ شِعَارًا ، ( قَالَ ) وَعَقَدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأَلْوِيَةَ ، فَعَقَدَ لِلْقَبَائِلِ قَبِيلَةً فَقَبِيلَةً حَتَّى جَعَلَ فِي الْقَبِيلَةِ أَلْوِيَةً كُلُّ لِوَاءٍ لِأَهْلِهِ وَكُلُّ هَذَا لِيَتَعَارَفَ النَّاسُ فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِهَا فَتَخِفُّ الْمُؤْنَةُ عَلَيْهِمْ بِاجْتِمَاعِهِمْ وَعَلَى الْوَالِي كَذَلِكَ لِأَنَّ فِي تَفَرُّقِهِمْ إِذَا أُرِيدُوا مُؤْنَةً عَلَيْهِمْ وَعَلَى وَالِيهِمْ فَهَكَذَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَمِيزَ الْجَيْشَ بِمَا يَتَزَيَّنُونَ بِهِ وَيَتَعَارَفُونَ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا [ الْحُجُرَاتِ : 13 ] وَفِي الشُّعُوبِ وَالْقَبَائِلِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الشُّعُوبَ لِلنَّسَبِ الْأَبْعَدِ وَالْقَبَائِلَ لِلنَّسَبِ الْأَقْرَبِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الشُّعُوبَ عَرَبُ الْيَمَنِ مِنْ قَحْطَانَ وَالْقَبَائِلَ رَبِيعَةُ وَمُضَرُ وَسَائِرُ عَدْنَانَ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ الشُّعُوبَ بُطُونُ الْعَجَمِ وَالْقَبَائِلَ بُطُونُ الْعَرَبِ ، فَجَعَلَ ذَلِكَ سِمَةً لِلتَّعَارُفِ وَأَصْلُهُ التَّمْيِيزُ وَذَلِكَ يَكُونُ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : مَا يَتَعَارَفُونَ بِهِ . وَالثَّانِي : مَا يَتَرَتَّبُونَ فِيهِ ، فَأَمَّا مَا يَتَعَارَفُونَ بِهِ فَثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ : الْعُرَفَاءُ ، وَالنُّقَبَاءُ ، وَاخْتِلَافُ الشِّعَارِ . فَأَمَّا الْعُرَفَاءُ فَهُوَ أَنْ يُضَمَّ إِلَى كُلِّ جَمَاعَةٍ وَاحِدٌ مِنْهُمْ يَكُونُ عَرِيفًا عَلَيْهِمْ وَقَيِّمًا بِهِمْ ، يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ فِي عَوَارِضِهِمْ وَيَرْجِعُ الْإِمَامُ إِلَيْهِ فِي تَعَرُّفِ أَحْوَالِهِمْ وَيُضِيفُهُمْ إِلَيْهِ إِذَا أَرَادَ أَغَزَاهُمْ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَرَّفَ عَامَ حُنَيْنٍ عَلَى كُلِّ عَشَرَةٍ عَرِيفًا ، وَقَدْ سُمِّيَ الْعُرَفَاءُ فِي وَقْتِنَا هَذَا قُوَّادًا . وَأَمَّا النُّقَبَاءُ فَجَعَلَ عَلَى كُلِّ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُرَفَاءِ نَقِيبًا : لِيَكُونَ لَهُمْ مُرَاعِيًا وَلِأَحْوَالِهِمْ وَأَحْوَالِ أَصْحَابِهِمْ مُنْهِيًا وَلَهُمْ إِذَا ارْتَدُّوا مُسْتَدْعِيًا لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اخْتَارَ مِنَ الْأَنْصَارِ حِينَ بَايَعَهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا . وَأَمَّا الشِّعَارُ ، فَهِيَ الْعَلَامَةُ الَّتِي يَتَمَيَّزُ بِهَا كُلُّ قَوْمٍ مِنْ غَيْرِهِمْ فِي مَسِيرِهِمْ وَفِي حُرُوبِهِمْ : حَتَّى لَا يَخْتَلِطُوا بِغَيْرِهِمْ وَلَا يَخْتَلِطَ بِهِمْ غَيْرُهُمْ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي تَضَافُرِهِمْ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ لِلْمُهَاجِرِينَ شِعَارًا وَلِلْأَنْصَارِ شِعَارًا عَلَامَةً مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : الرَّايَةُ الَّتِي يَتَّبِعُونَهَا وَيَسِيرُونَ إِلَى الْحُرُوبِ تَحْتَهَا فَتَكُونُ رَايَةُ كُلِّ قَوْمٍ مُخَالِفَةً لِرَايَةِ غَيْرِهِمْ . وَالثَّانِي : مَا يُعَلَّمُونَ بِهِ فِي حُرُوبِهِمْ فَيُعَلَّمُ كُلُّ قَوْمٍ بِخِرْقَةٍ ذَاتِ لَوْنٍ مِنْ أَسْوَدَ ، أَوْ أَحْمَرَ ، أَوْ أَصْفَرَ ، أَوْ أَخْضَرَ ، تَكُونُ إِمَّا عِصَابَةً عَلَى رُءُوسِهِمْ ، وَإِمَّا مَشْدُودَةً فِي أَوْسَاطِهِمْ . وَالثَّالِثُ : النِّدَاءُ الَّذِي يَتَعَارَفُونَ بِهِ فَيَقُولُ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ يَا آَلَ كَذَا ، أَوْ يَا آَلَ فُلَانٍ ، أَوْ كَلِمَةً إِذَا تَلَاقَوْا تَعَارَفُوا بِهَا لِيَجْتَمِعُوا إِذَا افْتَرَقُوا وَيَتَنَاصَرُوا إِذَا أُرْهِبُوا ، فَهَذَا كُلُّهُ وَإِنْ كَانَ سِيَاسَةً وَلَمْ يَكُنْ فِقْهًا فَهُوَ مِنْ أَبْلَغِ الْأُمُورِ فِي مَصَالِحِ الْجَيْشِ وَأَحْفَظِهَا لِلسِّيَرِ الشَّرْعِيَّةِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا مَا يَتَرَتَّبُونَ فِيهِ فَهُوَ الدِّيوَانُ الْمَوْضُوعُ لِإِثْبَاتِ أَسْمَائِهِمْ وَمَبْلَغِ أَرْزَاقِهِمْ يَتَرَتَّبُونَ فِيهِ الجنود بِشَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا : النَّسَبُ . وَالثَّانِي : السَّابِقَةُ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ بَعْدُ ، حَتَّى إِذَا دُعُوا لِلْعَطَاءِ ، أَوِ الْغَزْوِ قُدِّمَ فِيهِ الْمُقَدَّمُ فِي الدِّيوَانِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَضَعَ الدِّيوَانَ عَلَى هَذَا حِفْظًا لِلْأَسْمَاءِ وَالْأَرْزَاقِ ، فَإِنْ قِيلَ لِمَ اسْتَحْدَثَ عُمَرُ وَضْعَ الدِّيوَانِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : كُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ ؟
قِيلَ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الْحَاجَةُ دَعَتْهُ إِلَيْهِ عِنْدَ كَثْرَةِ الْجَيْشِ وَاخْتِلَافِ الثُّغُورِ لِيَحْفَظَ بِهِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ لَا تَنْحَفِظُ بِغَيْرِهِ : أَحَدُهَا : حِفْظُ أَسْمَائِهِمْ وَأَنْسَابِهِمْ . وَالثَّانِي : حَفِظُ أَرْزَاقِهِمْ وَأَوْقَاتِ عَطَائِهِمْ . وَالثَّالِثُ : تَرْتِيبُهُمْ بِالنَّسَبِ وَالسَّابِقَةِ فِي إِسْلَامِهِمْ وَبِأَنْفُسِهِمْ ، وَكُلُّ ذَلِكَ احْتِيَاطٌ فِي الدِّينِ وَمُسْتَحْسَنٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدُ اللَّهِ حَسَنٌ ، وَمَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ سَيِّئًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ سَيِّئٌ ، فَهَذَا وَجْهٌ . وَالثَّانِي : أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ فَعَلَ مَا نَبَّهَ بِهِ عَلَى وَضْعِ الدِّيوَانِ وَإِنْ أَخَّرَهُ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ مَعَ اجْتِمَاعِ الْجَيْشِ وَقِلَّتِهِمْ ، كَالَّذِي فَعَلَهُ مِنْ تَعْرِيفِ الْعُرَفَاءِ وَاخْتِيَارِ النُّقَبَاءِ وَالْمُخَالَفَةِ بَيْنَ الشِّعَارِ وَالنِّدَاءِ ، فَتَمَّمَ عُمَرُ بِوَضْعِ الدِّيوَانِ مَا ابْتَدَأَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنِ مُقَدِّمَاتِهِ حِينَ احْتَاجَ إِلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُسْتَغْنِيًا عَنْهُ فَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ مُخَالِفًا وَلَا مُبْتَدِعًا ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَأُحِبُّ لِلْوَالِي أَنْ يَضَعَ دِيوَانَهُ عَلَى الْقَبَائِلِ وَيَسْتَظْهِرَ عَلَى مَنْ غَابَ عَنْهُ وَمَنْ جَهِلَ مِمَّنْ حَضَرَهُ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ مِنْ قَبَائِلِهِمْ ، ( قَالَ الشَّافَعِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - : وَأَخْبَرَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالصِّدْقِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ مِنْ قَبَائِلِ قُرَيْشٍ وَكَانَ بَعْضُهُمْ أَحْسَنَ اقْتِصَاصًا لِلْحَدِيثِ مِنْ بَعْضٍ وَقَدْ زَادَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ : أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا دَوَّنَ الدِّيوَانَ قَالَ : ابْدَأْ بِبَنِي هَاشِمٍ ، ثُمَّ قَالَ : حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعْطِيهِمْ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ ، فَإِذَا كَانَتِ السِّنُّ فِي الْهَاشِمِيِّ قَدَّمَهُ عَلَى الْمُطَّلِبِيِّ ، وَإِذَا كَانَتْ فِي الْمُطَّلِبِيِّ قَدَّمَهُ عَلَى الْهَاشِمِيِّ . فَوَضَعَ الدِّيوَانَ عَلَى ذَلِكَ وَأَعْطَاهُمْ عَطَاءَ الْقَبِيلَةِ الْوَاحِدَةِ ، ثُمَّ اسْتَوَتْ لَهُ بَنُو عَبْدِ شَمْسٍ وَنَوْفَلٍ فِي قِدَمِ النَّسَبِ فَقَالَ : عَبْدُ شَمْسٍ إِخْوَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ دُونَ نَوْفَلٍ فَقَدَّمَهُمْ ، ثُمَّ دَعَا بِبَنِي نَوْفَلٍ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ اسْتَوَتْ لَهُ عَبْدُ الْعُزَّى وَعَبْدُ الدَّارِ ، فَقَالَ فِي بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى : أَصْهَارُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِيهِمْ أَنَّهُمْ مِنَ الْمُطَيَّبِينَ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُمْ حِلْفٌ مِنَ الْفُضُولِ وَفِيهِمْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَقِيلَ : ذَكَرَ سَابِقَةً فَقَدَّمَهُمْ عَلَى بَنِي عَبْدِ الدَّارِ ، ثُمَّ دَعَا بَنِي عَبْدِ الدَّارِ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ انْفَرَدَتْ لَهُ زُهْرَةُ فَدَعَاهَا تَتْلُو عَبْدَ الدَّارِ ، ثُمَّ اسْتَوَتْ لَهُ تَيْمٌ وَمَخْزُومٌ ، فَقَالَ فِي تَيْمٍ : إِنَّهُمْ مِنْ حِلْفِ الْفُضُولِ وَالْمُطَيَّبِينَ وَفِيهِمَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَقِيلَ ذَكَرَ سَابِقَةً وَقِيلَ ذَكَرَ صِهْرًا فَقَدَّمَهُمْ عَلَى مَخْزُومٍ ، ثُمَّ دَعَا مَخْزُومًا يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ اسْتَوَتْ لَهُ سَهْمٌ وَجُمَحُ وَعَدِيُّ بْنُ كَعْبٍ فَقِيلَ : ابْدَأْ بِعَدِيٍّ فَقَالَ : بَلْ أُقِرُّ نَفْسِي حَيْثُ كُنْتُ ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ دَخَلَ وَأَمْرُنَا وَأَمْرُ بَنِي سَهْمٍ وَاحِدٌ ، وَلَكِنِ انْظُرُوا بَيْنَ جُمَحَ وَسَهْمٍ ، فَقِيلَ قَدِّمْ بَنِي جُمَحَ ، ثُمَّ دَعَا بَنِي سَهْمٍ ، وَكَانَ دِيوَانُ عَدِيٍّ وَسَهْمٍ مُخْتَلِطًا كَالدَّعْوَةِ الْوَاحِدَةِ ، فَلَمَّا خَلَصَتْ إِلَيْهِ دَعْوَتُهُ كَبَّرَ تَكْبِيرَةً عَالِيَةً ، ثُمَّ قَالَ الْحَمْدُ لَلَّهِ الَّذِي
أَوْصَلَ إِلَيَّ حَظِّي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، ثُمَّ دَعَا عَامِرَ بْنَ لُؤَيٍّ . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) فَقَالَ بَعْضُهُمْ : إِنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْجَرَّاحِ الْفِهْرِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا رَأَى مَنْ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ قَالَ : أَكُلُّ هَؤُلَاءِ يُدْعَى أَمَامِي ؟ فَقَالَ : يَا أَبَا عُبَيْدَةَ اصْبِرْ كَمَا صَبَرْتُ ، أَوْ كَلِّمْ قَوْمَكَ فَمَنْ قَدَّمَكَ مِنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ لَمْ أَمْنَعْهُ ، فَأَمَّا أَنَا وَبَنُو عَدِيٍّ فَنُقَدِّمُكَ إِنْ أَحْبَبْتَ عَلَى أَنْفُسِنَا ، قَالَ فَقَدَّمَ مُعَاوِيَةَ بَعْدَ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ فَفَصَلَ بِهِمْ بَيْنَ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَأَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى . وَشَجَرَ بَيْنَ بَنِي سَهْمٍ وَعَدِيٍّ شَيْءٌ فِي زَمَانِ الْمَهْدِيِّ فَافْتَرَقُوا ، فَأَمَرَ الْمَهْدِيُّ بِبَنِي عَدِيٍّ فَقُدِّمُوا عَلَى سَهْمٍ وَجُمَحَ لِسَابِقَةٍ فِيهِمْ . ( قَالَ ) : فَإِذَا فَرَغَ مِنْ قُرَيْشٍ بُدِئَتِ الْأَنْصَارُ عَلَى الْعَرَبِ لِمَكَانِهِمْ مِنَ الْإِسْلَامِ . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : النَّاسُ عِبَادُ اللَّهِ فَأَوْلَاهُمْ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّمًا أَقْرَبُهُمْ بِخِيَرَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِرِسَالَتِهِ وَمُسْتَوْدَعِ أَمَانَتِهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَخَيْرِ خَلْقِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَمَنْ فَرَضَ لَهُ الْوَالِي مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ رَأَيْتُ أَنْ يُقَدِّمَ الْأَقْرَبَ فالْأَقْرَبَ مِنْهُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ إعطاء الناس من الديوان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَإِذَا استَوَوْا قَدَّمَ أَهْلَ السَّابِقَةِ عَلَى غَيْرِ أَهْلِ السَّابِقَةِ مِمَّنْ هُوَ مِثْلُهُمْ فِي الْقَرَابَةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَإِذَا كَانَ وَضْعُ الدِّيوَانِ مَأْثُورًا قَدْ عَمِلَ بِهِ الْأَئِمَّةُ الرَّاشِدُونَ وَلَمْ يَجِدِ الْإِمَامُ مِنْهُ بُدًّا ، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَسْمِيَتِهِ بِالدِّيوَانِ : فَقَالَ قَوْمٌ : لِأَنَّ كِسْرَى اطَّلَعَ يَوْمًا عَلَى كِتَابِهِ وَهُمْ مُنْتَحُونَ مَعَ أَنْفُسِهِمْ فَقَالَ : " دِيوَانُهُ " أَيْ مَجْنُونٌ ؛ فَسُمِّيَ وَضْعُ جُلُوسِهِمْ دِيوَانًا . وَقَالَ آخَرُونَ : سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الدِّيوَانَ اسْمٌ لِلسَّلَاطِينِ ، فَسُمِّي الْكِتَابُ بِاسْمِهِمْ لِوُصُولِهِمْ إِلَى غَوَامِضِ الْأُمُورِ وَضَبْطِهِمُ الشَّاذَّ وَجَمْعِهِمُ الْمُتَفَرِّقَ ، ثُمَّ سُمِّيَ مَوْضِعُ جُلُوسِهِمْ بِاسْمِهِمْ فَقِيلَ دِيوَانٌ ، فَإِذَا أَرَادَ الْإِمَامٌ أَنْ يَضَعَ دِيوَانَ الْجَيْشِ قَدَّمَ فِيهِ الْعَرَبَ عَلَى الْعَجَمِ لِمَا فَضَّلَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنْ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : النَّاسُ عِبَادُ اللَّهِ وَأَوْلَاهُمْ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّمًا أَقْرَبُهُمْ بِخِيَرَةِ اللَّهِ لِرِسَالَتِهِ وَمُسْتَوْدَعِ أَمَانَتِهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَخَيْرِ خَلْقِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَإِذَا أَرَادَ تَقْدِيمَ الْعَرَبِ قَدَّمَ مِنْهُمْ قُرَيْشًا : لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : قَدِّمُوا قُرَيْشًا وَلَا تَتَقَدَّمُوهَا ، ثُمَّ مَنْ يَلِيهِمْ مِنْ بُطُونِ قُرَيْشٍ بِحَسَبِ قُرْبِ آبَائِهِمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لِأَنَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قَصِيِّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ . فَأَقْرَبُهُمْ إِلَيْهِ نَسَبًا بَنُو هَاشِمٍ وَضَمَّ إِلَيْهِمْ بَنُو الْمُطَّلِبِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : إِنَّ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ ، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ لَمْ يَفْتَرِقُوا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ . وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا أَرَادَ وَضْعَ الدِّيوَانِ قَالَ بِمَنْ أَبْدَأُ ؟ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ ابْدَأْ بِنَفْسِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، إِمَّا عَلَى عَادَةِ الْفُرْسِ فِي تَقْدِيمِ الْوُلَاةِ ، وَإِمَّا لِتَحَيُّرِ
عُمَرَ فِيمَا يَفْعَلُهُ ، فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : أَذَكَّرْتَنِي بِأَنْ أَبْدَأَ بِبَنِي هَاشِمٍ فَإِنِّي حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعْطِيهِمْ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ ، فَكَانَ إِذَا كَانَتِ السِّنُّ فِي الْهَاشِمِيِّ قَدَّمَهُ عَلَى الْمُطَّلِبِيِّ ، وَإِذَا كَانَتْ فِي الْمُطَّلِبِيِّ قَدَّمَهُ عَلَى الْهَاشِمِيِّ ، فَوَضَعَ دِيوَانَهُ عَلَى ذَلِكَ وَأَعْطَاهُمْ عَطَاءَ الْقَبِيلَةِ الْوَاحِدَةِ ، ثُمَّ اسْتَوَتْ لَهُ عَبْدُ شَمْسٍ وَنَوْفَلٍ فِي قِدَمِ النَّسَبِ : لِأَنَّ عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلًا أَخَوَا هَاشِمٍ وَالْمُطَّلِبِ : لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ ، وَحَكَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ أَنَّهُ كَانَ يُقَالُ لِهَاشِمٍ وَالْمُطَّلِبِ الْبَدْرَانِ ، وَلِعَبْدِ شَمْسٍ وَنَوْفَلٍ الْأَبْهَرَانِ . وَأَصْلُ عَبْدِ شَمْسٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ عَبَاءُ الشَّمْسِ ، أَيْ يَسْتُرُ الشَّمْسَ ، ثُمَّ خَفَّفُوا فَقَالُوا : عَبْدُ شَمْسٍ ، وَكَانَ أَكْبَرَ وَلَدِ عَبْدِ مَنَافٍ وَأَصْغَرَهُمُ الْمُطَّلِبُ ؛ فَقَدَّمَ عُمَرُ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ عَلَى بَنِي نَوْفَلٍ : لِأَنَّ عَبْدَ شَمْسٍ أَخُو هَاشِمٍ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ ، وَنَوْفَلٌ أَخُو هَاشِمٍ لِأَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ لِآدَمَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ . يَا أَمِيرُ إِنِّي قَائِلٌ قَوْلَ ذِي دِينٍ وَبِرٍّ وَحَسَبْ عَبْدُ شَمْسٍ [ . . . ، . . . ] أَنَّهَا عَبْدُ شَمْسٍ عَمُّ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ عَبْدُ شَمْسٍ كَانَ يَتْلُوهَا هَاشِمًا وَهُمَا بَعْدُ لِأُمٍّ وَلِأَبْ فَقَدَّمَ عُمَرُ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ ، ثُمَّ دَعَا بَعْدَهُمْ بَنِي نَوْفَلٍ ، ثُمَّ اسْتَوَتْ لَهُ بَنُو عَبْدِ الْعُزَّى وَبَنُو عَبْدِ الدَّارِ وَهُمَا أَخَوَا عَبْدِ مَنَافٍ ، وَجَمِيعُهُمْ بَنُو قُصَيٍّ ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ عَدَلَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَخَوَيْ عَبْدِ مَنَافٍ وَعَبْدِ الْعُزَّى وَعَبْدِ الدَّارِ ابْنَيْ قُصَيٍّ فَقَدَّمَ بَنِي عَبْدِ الْعُزَّى عَلَى بَنِي عَبْدِ الدَّارِ لِأَرْبَعَةِ أُمُورٍ : مِنْهَا أَنَّهُمْ أَصْهَارُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لِأَنَّ خَدِيجَةَ مِنْهُمْ ، وَمِنْهَا السَّابِقَةُ لِلزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ : لِأَنَّهُ مِنْهُمْ ، وَمِنْهَا لِأَنَّهُمْ مِنْ حِلْفِ الْمُطَيَّبِينَ ، وَمِنْهَا لِأَنَّهُمْ مِنْ حِلْفِ الْفُضُولِ ، فَأَمَّا حِلْفُ الْمُطَيَّبِينَ فَإِنَّهُ حِلْفٌ عَقَدَتْهُ قَبَائِلُ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَعَلَى رَدْعِ الظَّالِمِ وَنُصْرَةِ الْمَظْلُومِ ، وَقَالُوا : إِنَّ لَنَا حَرَمًا يُعَظَّمُ وَبَيْتًا يُزَارُ فَأَخْرَجُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ مَا أَعَدُّوهُ لِلتَّعَاوُنِ عَلَى حِلْفِهِمْ ، فَصَارَ الِاجْتِمَاعُ عَلَى هَذَا الْحِلْفِ كَالِاشْتِرَاكِ فِي النَّسَبِ . وَاخْتُلِفَ فِي تَسْمِيَتِهِ بِحِلْفِ الْمُطَيَّبِينَ ، فَقَالَ قَوْمٌ : لِأَنَّهُمْ طَيَّبُوا مَكَّةَ بِرَدْعِ الظَّالِمِ وَنُصْرَةِ الْمَظْلُومِ : لِأَنَّ قُرَيْشًا تَسَلَّطُوا حِينَ قَوُوا . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ سُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّ أُمَّ حَكِيمٍ الْبَيْضَاءَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَخْرَجَتْ لَهُمْ عِنْدَ هَذَا الْحِلْفِ جِفْنَةً فِيهَا طِيبٌ فَغَمَسُوا أَيْدِيَهُمْ فِيهَا عِنْدَ التَّحَالُفِ وَتَطَيَّبُوا بِهِ فَسُمِّيَ حِلْفُ الْمُطَيَّبِينَ ، وَكَانَ مَنْ دَخَلَ فِيهِ مِنْ قُرَيْشٍ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ وَبَنُو أَسَدٍ وَبَنُو زُهْرَةَ وَبَنُو تَيْمٍ وَبَنُو الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ ، فَلَمَّا سَمِعَتْ بِذَلِكَ بَنُو هَاشِمٍ نَحَرُوا جَزُورًا ، ثُمَّ قَالُوا مَنْ أَدْخَلَ يَدَهُ
فِي دَمِهَا ثُمَّ عَلَّقَ مِنْهُ فَهُوَ مِنَّا ، لِيَتَمَيَّزُوا عَنْ حِلْفِ الْمُطَيَّبِينَ ، فَأَدْخَلَتْ أَيْدِيَهَا بَنُو هَاشِمٍ فَأَدْخَلُوا أَيْدِيَهُمْ بَنُو سَهْمٍ وَبَنُو عَبْدِ الدَّارِ وَبَنُو جُمَحَ وَبَنُو عَدِيٍّ وَبَنُو مَخْزُومٍ ، فَسُمِّيَ هَذَا أَحْلَافَ اللَّعْقَةِ ، فَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ فِي ذَلِكَ : وَسُمِّينَا الْأَطَايبَ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى كَرَمٍ فَلَا طِبْنَا وَلَا طَابَا وَأَيُّ الْخَيْرِ لَمْ نَسْبِقْ إِلَيْهِ وَلَمْ نَفْتَحْ بِهِ لِلنَّاسِ بَابَا وَأَمَّا حِلْفُ الْفُضُولِ فَهُوَ حِلْفٌ عَقَدَتْهُ أَيْضًا قَبَائِلُ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي حِلْفِ الْمُطَيَّبِينَ ، وَكَانَ سَبَبُهُ مَا حَكَاهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ : أَنَّ قَيْسَ بْنَ شَيْبَةَ السُّلَمِيَّ بَاعَ مَتَاعًا إِلَى أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ الْجُمَحِيِّ فَلَوَاهُ وَذَهَبَ بِحَقِّهِ ، فَاسْتَجَارَ عَلَيْهِ بَنِي جُمَحَ فَلَمْ يُجِيرُوهُ فَقَامَ قَيْسٌ مُنْشِدًا فَقَالَ : يَا آَلَ قُصَيٍّ كَيْفَ هَذَا فِي الْحَرَمِ وَحُرْمَةُ الْبَيْتِ وَأَخْلَاقُ الْكَرَمْ أَظُلْمٌ لَا يُمْنَعُ مَنْ ظُلِمْ فَجَدَّدُوا لِأَجْلِهِ حِلْفَ الْفُضُولِ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ عَلَى رَدِّ الظُّلْمِ بِمَكَّةَ ، وَأَنْ لَا يُظْلَمَ بِهَا أَحَدٌ إِلَّا مَنَعُوهُ ، وَدَخَلَ فِي الْحِلْفَ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ وَبَنُو أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى وَبَنُو زُهْرَةَ وَبَنُو تَيْمٍ ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَئِذٍ مَعَهُمْ ، وَذَلِكَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً ، فَرَوَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : لَقَدْ شَهِدْتُ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفَ الْفُضُولِ ، وَلَوْ دُعِيتُ إِلَيْهِ فِي الْإِسْلَامِ لَأَجَبْتُ وَمَا أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ لِي حُمْرُ النَّعَمِ ، وَإِنِّي كُنْتُ نَقَضْتُهُ ، وَمَا يَزِيدُهُ الْإِسْلَامُ إِلَّا شِدَّةً . وَلَمْ يَدْخُلْ بَنُو عَبْدِ شَمْسٍ فِيهِ ، وَاخْتُلِفَ فِي تَسْمِيَتِهِ بِحِلْفِ الْفُضُولِ ، فَقَالَ قَوْمٌ : لِمَا فِيهِ مِنَ الْأَخْذِ بِالْفَضْلِ . وَقَالَ آخَرُونَ : لِأَنَّ قُرَيْشًا وَسَائِرَ الْأَحْلَافِ كَرِهُوهُ فَعَابُوا مَنْ دَخَلَ فِيهِ وَنَسَبُوهُمْ إِلَى الْفُضُولِ ، فَسُمِّيَ بِحِلْفِ الْفُضُولِ . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ سُمِّيَ حِلْفَ الْفُضُولِ لِأَنَّهُمْ تَحَالَفُوا عَلَى مِثْلِ مَا تَحَالَفَ عَلَيْهِ قَومٌ مِنْ جُرْهُمٍ فِيهِمُ الْفَضْلُ وَفُضَالٌ وَفُضَيْلٌ وَسُمِّيَ بِإِضَافَتِهِ إِلَيْهِمْ حِلْفَ الْفُضُولِ ، فَهَذَا الْكَلَامُ فِي تَرْتِيبِ بَنِي قُصَيٍّ ، ثُمَّ انْفَرَدَ بِعَدَهُمْ بَنُو زُهْرَةَ أَخُو قُصَيٍّ وَهُمَا ابْنَا كِلَابٍ وَلَيْسَ لَهُ عَقِبٌ مِنْ غَيْرِهِمَا ، وَقَدْ رَوَى الْأَوْزَاعِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : صَرِيحُ قُرَيْشٍ ابْنَا كِلَابٍ ، يَعْنِي : قُصَيًّا وَزُهْرَةَ . وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُنْسَبُ إِلَيْهِمَا : لِأَنَّ أَبَاهُ مِنْ قُصَيٍّ وَأُمَّهُ مِنْ زُهْرَةَ ، ثُمَّ اسْتَوَتْ لَهُ بَعْدَ بَنِي كِلَابٍ بَنُو تَيْمٍ وَبَنُو مَخْزُومٍ : لِأَنَّ تَيْمًا وَمَخْزُومًا أَخَوَا كِلَابٍ وَجَمِيعُهُمَا بَنُو مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ فَقَدَّمَ بَنِي تَيْمٍ عَلَى بَنِي مَخْزُومٍ لِأَرْبَعَةِ أُمُورٍ : مِنْهَا السَّابِقَةُ لِأَبِي بَكْرٍ لِأَنَّهُ مِنْهُمْ ،
وَمِنْهَا لِأَنَّهُمْ أَصْهَارُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّ عَائِشَةَ مِنْهُمْ ، وَمِنْهَا لِأَنَّهُمْ مِنْ حِلْفِ الْمُطَيَّبِينَ ، وَمِنْهَا لِأَنَّهُمْ مِنْ حِلْفِ الْفُضُولِ . ثُمَّ اسْتَوَتْ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بَنُو عَدِيٍّ وَبَنُو سَهْمٍ وَبَنُو جُمَحَ لِأَنَّهُمْ إِخْوَةُ مُرَّةَ وَجَمِيعُهُمْ بَنُو كَعْبِ بْنِ عَامِرٍ فَقِيلَ لَهُ : ابْدَأْ بِبَنِي عَدِيٍّ وَهُمْ قَوْمُهُ ، فَقَالَ : بَلْ أُقِرُّ نَفْسِي حَيْثُ كُنْتُ ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ دَخَلَ وَأَمْرُنَا وَأَمْرُ بَنِي سَهْمٍ وَاحِدٌ ، وَلَكِنِ انْظُرُوا بَيْنَ بَنِي جُمَحَ وَبَنِي سَهْمٍ ، فَقِيلَ إِنَّهُ قَدَّمَ بَنِي جُمَحَ ، ثُمَّ دَعَا بَنِي سَهْمٍ وَكَانَ دِيوَانُ عَدِيٍّ وَسَهْمٍ مُخْتَلِطًا كَالدَّعْوَةِ الْوَاحِدَةِ ، فَلَمَّا بَلَغَتْ إِلَيْهِ دَعْوَتُهُ كَبَّرَ تَكْبِيرَةً عَالِيَةً ، ثُمَّ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَوْصَلَ إِلَيَّ حَظِّي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، ثُمَّ دَعَا بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ وَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ حَاضِرًا وَهُوَ مِنْ بَنِي فِهْرِ بْنِ مَالِكٍ ، فَلَمَّا رَأَى مَنْ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ قَالَ : أَكُلُّ هَذَا يُدْعَى أَمَامِي ؟ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : يَا أَبَا عُبَيْدَةَ اصْبِرْ كَمَا صَبَرْتُ ، أَوْ كَلِّمْ قَوْمَكَ ، فَمَنْ قَدَّمَكَ مِنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ لَمْ أَمْنَعْهُ ، فَأَمَّا أَنَا وَبَنُو عَدِيٍّ فَنُقَدِّمُكَ عَلَى أَنْفُسِنَا إِنْ أَحْبَبْتَ ، ثُمَّ دَعَا بَعْدَ بَنِي لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ . ثُمَّ دَعَا بِعْدَهُمْ بَنِي فِهْرِ بْنِ مَالِكٍ حَتَّى اسْتَكْمَلَ قُرَيْشًا ، وَاخْتَلَفَ النَّسَّابُونَ مِنْ عُلَمَاءِ الشَّرْعِ فِي قُرَيْشٍ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ بَنُو فِهْرِ بْنِ مَالِكٍ ، فَمَنْ تَفَرَّقَ نَسَبُهُ عَنْ فِهْرٍ فَهُوَ مِنْ قُرَيْشٍ وَمَنْ جَاوَزَ فِهْرَ بْنَ مَالِكٍ بِنَسَبِهِ فَلَيْسَ مِنْ قُرَيْشٍ ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ وَطَائِفَةٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ قُرَيْشًا هُمْ بَنُو النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ جَدِّ فِهْرِ بْنِ مَالِكٍ : لِأَنَّهُ فِهْرُ بْنُ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ وَلَدِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ فَهُوَ مِنْ قُرَيْشٍ وَمَنْ جَاوَزَ النَّضْرَ بِنَسَبِهِ فَلَيْسَ مِنْ قُرَيْشٍ ، وَهَذَا قَوْلُ الشِّعْبِيِّ وَطَائِفَةٍ أُخْرَى وَاخْتَلَفُوا فِي تَسْمِيَتِهِمْ قُرَيْشًا عَلَى سِتَّةِ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : أَنَّ فِهْرَ بْنَ مَالِكٍ كَانَ اسْمُهُ قُرَيْشًا ، وَإِنَّمَا نَبَزَتْهُ أُمُّهُ فِهْرًا لَقَبًا ، وَهَذَا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ سُمِّيَ قُرَيْشًا لِأَنَّ قُرَيْشَ بْنَ بَدْرِ بْنِ مَخْلَدِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ كَانَ دَلِيلَ بَنِي كِنَانَةَ فِي تِجَارَتِهِمْ ، وَكَانَ يُقَالُ قَدِمَتْ عِيرُ قُرَيْشٍ ؛ فَسُمِّيَتْ قُرَيْشٌ بِهِ . وَأَبُوهُ بَدْرُ بْنُ مَخْلَدٍ وَهُوَ صَاحِبُ بَدْرٍ ، الْمَوْضِعِ الَّذِي لَقِيَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُرَيْشًا وَهُوَ احْتَفَرَ بِئْرَهَا وَفِيهِ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ [ آَلِ عِمْرَانَ : 123 ] وَهَذَا الْقَوْلُ حَكَاهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ عَنْ عُمَرَ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّهُمْ سُمُّوا قُرَيْشًا لِأَنَّ النَّضْرَ بْنَ كِنَانَةَ سُمِّيَ قُرَيْشًا : لِأَنَّهُ كَانَ يُقَرِّشُ عَنْ خَلَّةِ النَّاسِ وَحَاجَتِهِمْ فَيَسُدُّهَا ، وَالتَّقَرُّشُ هُوَ التَّفْتِيشُ ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْحَارِثِ بْنِ حِلِّزَةَ :
أَيُّهَا النَّاطِقُ الْمُقَرِّشُ عَنَّا عِنْدَ عَمْرٍو فَهَلْ لَهُ إِبْقَاءُ وَهَذَا قَوْلُ الشِّعْبِيِّ . وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ : أَنَّهُمْ سُمُّوا قُرَيْشًا لِلتِّجَارَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا تُجَّارًا فِي رِحْلَتَيِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ : لِأَنَّ التُّجَّارَ يُقَرِّشُونَ وَيُفَتِّشُونَ عَنْ أَمْوَالِ التِّجَارَةِ ، وَحَكَاهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ . وَالْقَوْلُ الْخَامِسُ : أَنَّهُمْ سُمُّوا قُرَيْشًا لِتَجَمُّعِهِمْ إِلَى الْحَرَمِ بَعْدَ تَفَرُّقِهِمْ : لِأَنَّ قُصَيًّا جَمْعَهُمْ إِلَيْهِ ، وَالتَّقَرُّشُ التَّجَمُّعُ ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ : إِخْوَةٌ قَرَّشُوا الذُّنُوبَ عَلَيْنَا فِي حَدِيثٍ مِنْ دَهْرِهِمْ وَقَدِيمِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ مَعْمَرِ بْنِ الْمُثَنَّى . وَالْقَوْلُ السَّادِسُ : أَنَّهُمْ سُمُّوا قُرَيْشًا لِقُوَّتِهِمْ تَشْبِيهًا بِدَابَّةٍ فِي الْبَحْرِ قَوِيَّةٍ تُسَمَّى قُرَيْشًا ، كَمَا قَالَ تُبَّعُ بْنُ عَمْرٍو الْجَبْرِيُّ : وَقُرَيْشٌ هِيَ الَّتِي تَسْكُنُ الْبَحْـ ـرَ بِهَا سُمِّيَتْ قُرَيْشُ قُرَيْشَا تَأْكُلُ الْغَثَّ وَالسَّمِينَ وَلَا تَتْـ ـرُكُ يَوْمًا مِنْ جَنَاحَيْنِ رِيشَا هَكَذَا فِي الْعِبَادِ حَيُّ قُرَيْشٍ يَأْكُلُونَ الْبِلَادَ أَكْلًا كَشِيشَا وَلَهُمْ آخِرُ الزَّمَانِ نَبِيٌّ يُكْثِرُ الْقَتْلَ فِيهِمْ وَالْخُمُوشَا يَمْلَأُ الْأَرْضَ خَيْلَةً وَرِجَالًا يَحْشُرُونَ الْمَطِيَّ حَشْرًا كَمِيشَا فَلَمَّا فَرَغَ عُمَرُ مِنْ قُرَيْشٍ دَعَا بَعْدَهُمْ بِالْأَنْصَارِ وَقَدَّمَهُمْ عَلَى سَائِرِ الْعَرَبِ بَعْدَ قُرَيْشٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ [ التَّوْبَةِ : 100 ] وَلِنُصْرَتِهِمْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا [ الْأَنْفَالِ : 72 ] ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : الْأَنْصَارُ كِرْشِي وَعَيْبَتِي ، لَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا وَالْأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَشَجَرَ بَيْنَ بَنِي سَهْمٍ وَعَدِيٍّ فِي زَمَانِ الْمَهْدِيِّ فَافْتَرَقُوا ، فَأَمَرَ الْمَهْدِيُّ بِبَنِي عَدِيٍّ فَقُدِّمُوا عَلَى سَهْمٍ وجُمَحَ لِسَابِقَةٍ فِيهِمْ ، وَلِأَنَّهُمْ أَصْهَارُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قِبَلِ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَنْعُ الدِّيوَانِ عَلَى مِثْلِ مَا وَضَعَهُ عُمَرُ يَبْدَأُ بِقُرَيْشٍ فَيُقَدِّمُ مِنْهُمْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ ، ثُمَّ مَنْ يَلِيهِمْ مِنْ بِنِي أَبٍ بَعْدَ أَبٍ حَتَّى يَسْتَوْعِبَ جَمِيعَ قُرَيْشٍ ، ثُمَّ يُقَدِّمُ بَعْدَهُمُ الْأَنْصَارَ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ ، ثُمَّ يَعْدِلُ بَعْدَهُمْ إِلَى مُضَرَ ، ثُمَّ
رَبِيعَةَ ، ثُمَّ جَمِيعِ وَلَدِ عَدْنَانَ ، ثُمَّ يَعْدِلُ بَعْدَهُمْ إِلَى قَحْطَانَ فَيُرَتِّبُهُمْ عَلَى السَّابِقَةِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي قُرَيْشٍ ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ جَمِيعِ الْعَرَبِ عَدَلَ بَعْدَهُمْ إِلَى الْعَجَمِ فَرَتَّبَهُمْ عَلَى سَابِقَةٍ إِنْ كَانَتْ لَهُمْ . فَأَمَّا تَرْتِيبُ أَهْلِ الْقَبِيلَةِ الْوَاحِدَةِ في الديوان مِنْ قُرَيْشٍ أَوْ غَيْرِهِمْ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّمَ مِنْهُمْ ذُو السَّابِقَةِ ، ثُمَّ ذُو السِّنِّ ، ثُمَّ ذُو الشَّجَاعَةِ ، فَإِذَا أَرَادَ تَفْرِيقَ الْعَطَاءِ فِيهِمْ بَدَأَ بِالْقَبِيلَةِ الْمُقَدَّمَةِ فِي الدِّيوَانِ فَقَدَّمَهَا فِي الْعَطَاءِ وَقَدَّمَ مِنْهَا مَنْ كَانَ فِي الدِّيوَانِ مُقَدَّمًا : لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِعْطَاءُ جَمِيعِهِمْ إِلَّا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ ، فَيُقَدِّمُ الْأَسْبَقَ فَالْأَسْبَقَ فِي الدِّيوَانِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ جَمِيعَ أَهْلِهِ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .
_____مُخْتَصَرُ كِتَابِ الصَّدَقَاتِ _____
وُجُوبَ الزَّكَاةِ يَتَعَلَّقُ بِثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ
مُخْتَصَرُ كِتَابِ الصَّدَقَاتِ مِنْ كِتَابَيْنِ قَدِيمٍ وَجَدِيدٍ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : " فَرَضَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى أَهْلِ دِينِهِ الْمُسْلِمِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقًّا لِغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ دِينِهِ الْمُسْلِمِينَ الْمُحْتَاجِينَ إِلَيْهِ لَا يَسَعُهُمْ حَبْسُهُ عَمَّنْ أُمِرُوا بِدَفْعِهِ إِلَيْهِ أَوْ وُلَاتِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . اعْلَمْ أَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ يَتَعَلَّقُ بِثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ : أَحَدُهَا : الْمَالُ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ . وَالثَّانِي : الْمَالُ الَّذِي تَجِبُ عَلَيْهِ . وَالثَّالِثُ : الْمُسْتَحِقُّ الَّذِي تُصْرَفُ إِلَيْهِ . فَأَمَّا الْمَالُ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ " الزَّكَاةِ " أَنَّهُ الْمَالُ الثَّانِي عَلَى شُرُوطِهِ الْمَاضِيَةِ ، وَأَمَّا الْمَالِكُ الَّذِي تَجِبُ عَلَيْهِمْ فَهُمُ الْمُسْلِمُونَ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْمُشْرِكِينَ هَلْ خُوطِبُوا مَعَ الْإِيمَانِ بِالْعِبَادَاتِ الشَّرْعِيَّةِ أَمْ لَا ؟ هَلْ هُمْ مُخَاطَبُونَ بِهَا ، وَإِنْ لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُمْ عَلَى وَجْهَيْنِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا ، هَلْ خُوطِبُوا مَعَ الْإِيمَانِ بِالْعِبَادَاتِ الشَّرْعِيَّةِ أَمْ لَا ؟ فَذَهَبَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْعِبَادَاتِ الشَّرْعِيَّةِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ كَمُخَاطَبَتِهِمْ بِالْإِيمَانِ ، وَأَنَّهُمْ مُعَاقَبُونَ عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ [ الْمُدَّثِّرِ : 42 - 43 - 44 ] وَقَالَ آخَرُونَ ، وَهُوَ قَوْلُ الْعِرَاقِيِّينَ أَنَّهُمْ فِي حَالِ الْكُفْرِ إِنَّمَا خُوطِبُوا بِالْإِيمَانِ وَحْدَهُ وَلَمْ يَتَوَجَّهْ إِلَيْهِمُ الْخِطَابُ بِالْعِبَادَاتِ الشَّرْعِيَّةِ إِلَّا بَعْدَ الْإِيمَانِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا ؛ وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ لَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ لَطُولِبُوا بِهَا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ .
فَصْلٌ الْمُسْتَحِقُّ لِصَرْفِ الزَّكَاةِ إِلَيْهِ
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْمُسْتَحِقُّ لِصَرْفِ الزَّكَاةِ إِلَيْهِ فَهَذَا الْكِتَابُ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [ التَّوْبَةِ : 103 ] أَيْ تُطَهِّرُ ذُنُوبَهُمْ وَتُزَكِّي أَعْمَالَهُمْ ، فَكَانَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وُجُوبٌ لِأَدَائِهَا مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ لِمُسْتَحِقِّهَا ، وَقَالَ تَعَالَى : وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [ الذَّارِيَاتِ : 19 ] ، فَأَمَّا السَّائِلُ فَهُوَ الَّذِي يُسَائِلُ النَّاسَ لِفَاقَتِهِ .
وَفِي الْمَحْرُومِ خَمْسَةُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ الْمُتَعَفِّفُ الَّذِي لَا يَسْأَلُ [ النَّاسَ شَيْئًا وَلَا يُعْلَمُ بِحَاجَتِهِ ] وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ الْمُحَارِفُ الَّذِي لَا يَتَيَسَّرُ لَهُ مَكْسَبُهُ ، وَهُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ الَّذِي يَطْلُبُ الدُّنْيَا وَتُدْبِرُ عَنْهُ ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالرَّابِعُ : أَنَّهُ الْمُصَابُ بِزَرْعِهِ وَثَمَرِهِ [ يُعِينُهُ مَنْ لَمْ يُصَبْ ] ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ . وَالْخَامِسُ : أَنَّهُ الْمَمْلُوكُ ، وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حُمَيْدٍ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ فَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ : يَا مُعَاذُ ، بَشِّرْ وَلَا تُنَفِّرْ وَيَسِّرْ وَلَا تُعَسِّرْ ، ادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقًّا يُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَيُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ ، فَدَلَّ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ مَصْرُوفَةٌ فِي ذَوِي الْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ مِنْ غَيْرِ حِرْفَةٍ وَلَا تَعَيُّشٍ ، وَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْلَمَنَا أَنَّهُ مِنِ اجْتِهَادِهِ ، إِلَى أَنْ كَانَ مَا رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْسِمُ قَسْمًا إِذْ جَاءَهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ الْيَمَانِيُّ فَقَالَ : اعْدِلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَالَ : وَيْلَكَ ، فَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ ؟ ! فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، ائْذَنْ لِي فَأَضْرِبْ عُنُقَهُ ، فَقَالَ : دَعْهُ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ [ التَّوْبَةِ : 58 ] ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَزَّهَ نَبِيَّهُ عَنْ هَذَا الْعُتْبِ وَتَوَلَّى قَسْمَهَا بَيْنَ أَهْلِهَا فَقَالَ : إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [ التَّوْبَةِ : 60 ] الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [ التَّوْبَةِ : 60 ] أَيْ عَلِيمٌ بِالْمَصْلَحَةِ حَكِيمٌ فِي الْقِسْمَةِ ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَرْضَ فِي قِسْمَةِ الْأَمْوَالِ بِمَلَكٍ مُقَرَّبٍ وَلَا نَبِيٍّ مُرْسَلٍ حَتَّى تَوَلَّى قَسْمَهَا بِنَفْسِهِ ، فَصَارَ مَالُ الزَّكَوَاتِ مَقْسُومًا فِي أَهْلِهِ بِنَصِّ الْكِتَابِ كَالْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ . وَرَوَى زِيَادُ بْنُ الْحَرْثِ الصُّدَائِيُّ فَقَالَ : أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَايَعْتُهُ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ : أَعْطِنِي مِنَ الصَّدَقَةِ ، فَقَالَ : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَرْضَ فِي الصَّدَقَةِ بِحُكْمِ نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ حَتَّى حَكَمَ فِيهَا هُوَ فَجَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ ، فَإِنْ كُنْتَ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ أَعْطَيْتُكَ حَقَّكَ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا تُصْرَفُ إِلَى مَنْ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ ، فَلَا يَجُوزُ صَرْفُهَا إِلَّا إِلَى الْمُسْلِمِينَ كَمَا لَمْ يَجُزْ أَخْذُهَا إِلَّا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ
وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَقَالَ أَبُو شُبْرُمَةَ : يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَوَاتِ كُلِّهَا إِلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ ، وَكَذَلِكَ الْكَفَّارَاتُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ أَنْ تُصْرَفَ إِلَيْهِمْ زَكَاةُ الْفِطْرِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [ التَّوْبَةِ : 60 ] وَبِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ حَرَّى أَجْرٌ وَبِرِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَى أَهْلَ الذِّمَّةِ مِنَ الصَّدَقَاتِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ أَنْ تُدْفَعَ إِلَيْهِ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ جَازَ أَنْ تُدْفَعَ إِلَيْهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ كَالْمُسْلِمِ . وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ نَشَدْتُكَ اللَّهَ ، اللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَأْخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا فَتَرُدَّهَا عَلَى فُقَرَائِنَا ؟ فَقَالَ : نَعَمْ ، فَأَخْبَرَ أَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْهُمْ هُمُ الْمَرْدُودُ عَلَيْهِمْ وَهِيَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَأْخُوذَةٌ ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ عَلَيْهِمْ مَرْدُودَةً ؛ وَلِأَنَّهُ مَالٌ يَخْرُجُ عَلَى وَجْهِ الطُّهْرِ فَلَمْ يَجُزْ دَفْعُهُ إِلَى مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الطُّهْرَةِ قِيَاسًا عَلَى زَكَاةِ الْمَالِ ؛ وَلِأَنَّ مَنْ لَا يَجُوزُ دَفْعُ زَكَاةِ الْمَالِ إِلَيْهِ لَا يَجُوزُ دَفْعُ زَكَاةِ الْفِطْرِ إِلَيْهِ كَالْأَغْنِيَاءِ وَذَوِي الْقُرْبَى ، وَلِأَنَّ مَنْ نَقَصَ بِالْكُفْرِ حَرُمَ دَفْعُ الزَّكَاةِ إِلَيْهِ كَالْمُسْتَأْمَنِ ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَوَّلَنَا أَمْوَالَ الْمُشْرِكِينَ اسْتِعْلَاءً عَلَيْهِمْ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ نُمَلِّكَهُمْ أَمْوَالَنَا اسْتِذْلَالًا لَهُمْ . فَأَمَّا عُمُومُ الْآيَةِ وَالْخَبَرِ مَخْصُوصَانِ بِمَا ذَكَرْنَا . وَأَمَّا حَدِيثُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَعَنْهُ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ مُرْسَلٌ لَا يَلْزَمُنَا الْعَمَلُ بِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ . وَالثَّالِثُ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ افْتُرِضَ مِنْهُمْ لِأَهْلِ الصَّدَقَةِ ، فَرَدَّ عَلَيْهِمُ الْفَرْضُ مِنْ مَالِ الصَّدَقَةِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ بِأَنَّهُ مِمَّنْ يَجُوزُ دَفْعُ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ إِلَيْهِ كَالْمُسْلِمِ فَمُنْتَقَضٌ بِذَوِي الْقُرْبَى ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْمُسْلِمِ أَنَّهُ يَجُوزُ دَفْعُ زَكَاةِ الْمَالِ إِلَيْهِ وَلَيْسَ كَذَا الذِّمِّيُّ ، فَكَانَ إِلْحَاقُهُ بِالْمُسْتَأْمَنِ أَوْلَى ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا يَسَعُ الْوُلَاةَ تَرْكُهُ لِأَهْلِ الْأَمْوَالِ لِأَنَّهُمْ أُمَنَاءُ عَلَى أَخْذِهِ لِأَهْلِهِ وَلَمْ نَعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَّرَهَا عَامًا لَا يَأْخُذُهَا فِيهِ . وَقَالَ أَبُو بَكْرٍالصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا مِمَّا أَعْطَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الْأَمْوَالَ ضَرْبَانِ : ظَاهِرَةٌ وَبَاطِنَةٌ ، فَالظَّاهِرَةُ هِيَ الْمَوَاشِي وَالزُّرُوعُ وَالْمَعَادِنُ ، وَالْبَاطِنَةُ الذَّهَبُ وَالْوَرِقُ وَعُرُوضُ التِّجَارَاتِ .
فَأَمَّا الْبَاطِنَةُ : فَأَرْبَابُ التِّجَارَاتِ وَسَائِرِ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ ؛ فَصَاحِبُهَا بِالْخِيَارِ فِي تَفْرِيقِهَا بِنَفْسِهِ ، أَوْ دَفْعِهَا إِلَى الْإِمَامِ الْعَادِلِ لِيَتَوَلَّى تَفْرِيقَهَا بِنَفْسِهِ ، وَلَا يَلْزَمُ دَفْعُهَا إِلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ ، وَأَمَّا الظَّاهِرَةُ فَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ ، إِنَّ عَلَى أَرْبَابِهَا دَفْعَ زَكَاتِهَا إِلَى الْإِمَامِ وَلَا يُجْزِئُهُمْ تَفْرِيقُهَا بِأَنْفُسِهِمْ الأموال الظَّاهِرَةُ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ ، إِنَّ أَرْبَابَهَا بِالْخِيَارِ فِي دَفْعِهَا إِلَى الْإِمَامِ ، أَوْ تَفْرِيقِهَا بِأَنْفُسِهِمْ وَدَلِيلُ قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ أَنَّ دَفْعَهَا إِلَى الْإِمَامِ وَاجِبٌ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ . قَوْلُهُ تَعَالَى : خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ [ التَّوْبَةِ : 103 ] وَإِذَا دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ عَلَى الْإِمَامِ الْأَخْذَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ عَلَى الْأَرْبَابِ الدَّفْعَ ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ فَأَرُدَّهَا عَلَى فُقَرَائِكُمْ فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَى مِثْلِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي مَانِعِي الزَّكَاةِ : لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا أَوْ عِقَالًا مِمَّا أَعْطَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ . فَوَافَقَتْهُ الصَّحَابَةُ بَعْدَ مُخَالَفَتِهِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ الْأَخْذَ وَعَلَيْهِمُ الدَّفْعُ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ يتَعَلَّقُ بِالْمَالِ الظَّاهِرِ ، يُصْرَفُ إِلَى الْأَصْنَافِ عَلَى أَوْصَافٍ ؛ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَفَرُّدُ الْإِمَامِ بِهِ شَرْطًا فِي إِجْزَائِهِ كَالْخُمُسِ . وَدَلِيلُنَا ، قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ إِنَّ تَفَرُّدَ أَرْبَابِهَا بِتَفْرِيقِهَا الزكاة يَجُوزُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [ الْبَقَرَةِ : 271 ] فَجَعَلَ كِلَا الْأَمْرَيْنِ مُجْزِءًا . وَقَوْلُهُ تَعَالَى : الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً [ الْبَقَرَةِ : 274 ] فَدَلَّ عُمُومُ الْآيَتَيْنِ عَلَى جَوَازِ إِخْرَاجِ الصَّدَقَاتِ فَرْضًا وَنَفْلًا مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ . وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ حَمَلَ صَدَقَتَهُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَدَّهَا وَحَمَلَهَا إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَرَدَّهَا وَحَمَلَهَا إِلَى عُمَرَ فَرَدَّهَا ، فَلَوْ كَانَ تَفَرُّدُهُ بِإِخْرَاجِهَا لَا يُجْزِئُهُ لَمَا اسْتَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَدَّهَا عَلَيْهِ : لِأَنَّ فِيهِ تَضْيِيعًا لَهَا مِنْ غَيْرِ إِجْزَاءٍ ؛ وَلِأَنَّهُ مَالٌ مُخْرَجٌ عَلَى وَجْهِ الطُّهْرَةِ ، فَجَازَ أَنْ يَنْفَرِدَ أَرْبَابُهُ بِإِخْرَاجِهِ كَالْكَفَّارَاتِ ، وَلِأَنَّ مَا أُخْرِجَ زَكَاةً لَمْ يَجُزْ دَفْعُهُ إِلَى الْإِمَامِ كَالْمَالِ الْبَاطِنِ ، وَلِأَنَّ مَنْ جَازَ لَهُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِإِخْرَاجِ زَكَاةِ الْمَالِ الْبَاطِنِ جَازَ لَهُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِإِخْرَاجِ زَكَاةِ الْمَالِ الظَّاهِرِ كَالْإِمَامِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ ، انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى التَّفْرِيعِ عَلَيْهِمَا ، فَإِذَا قِيلَ بِوُجُوبِ دَفْعِهَا إِلَى الْإِمَامِ الزكاة وَأَنَّ تَفْرِيقَ رَبِّهَا لَا يَجُوزُ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْإِمَامِ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَادِلًا أَوْ جَائِرًا ، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ عَادِلًا فَعَلَى رَبِّ الْمَالِ أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى الْإِمَامِ ، أَوْ إِلَى مَنِ اسْتَخْلَفَهُ الْإِمَامُ عَلَيْهَا مِنْ عُمَّالِهِ وَسُعَاتِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ وَالْعَامِلُ حَاضِرَيْنِ كَانَ رَبُّ الْمَالِ بِالْخِيَارِ فِي دَفْعِهَا إِلَى أَيِّهِمَا شَاءَ ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى الْإِمَامِ لِأَنَّهُ أَصْلٌ . وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ غَائِبًا عَنِ الْمَالِ وَالْعَامِلُ حَاضِرًا فَعَلَى رَبِّ الْمَالِ أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى
الْعَامِلِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَدِّيَهَا حَتَّى يَدْفَعَهَا إِلَى الْإِمَامِ ، وَإِذَا دَفَعَهَا رَبُّ الْمَالِ إِلَى الْإِمَامِ أَوْ إِلَى عَامِلِهِ بَرِئَ رَبُّ الْمَالِ مِنْهَا وَكَانَتْ يَدُ الْإِمَامِ وَيَدُ عَامِلِهِ سَوَاءً لِنِيَابَتِهِ عَنْهُ ، فَإِنْ هَلَكَ ذَلِكَ فِي يَدِهِ كَانَ تَالِفًا لِأَهْلِ السُّهْمَانِ مِنْ مَالِ أَهْلِ السُّهْمَانِ وَلَمْ يَضْمَنْهُ إِلَّا بِالْعُدْوَانِ . وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ جَائِرًا هل تدفع الزكاة إليه ؟ لَمْ يَجُزْ دَفْعُهَا إِلَيْهِ : لِأَنَّهُ بِالْجَوْرِ قَدْ خَرَجَ مِنَ الْأَمَانَةِ ، وَجَازَ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يُفَرِّقَهَا بِنَفْسِهِ لِلضَّرُورَةِ ، فَإِنْ دَفَعَهَا إِلَى الْإِمَامِ الْجَائِرِ لَمْ يُجْزِ رَبَّ الْمَالِ إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ وُصُولَهَا إِلَى أَهْلِ السُّهْمَانِ ، وَلَا يَكُونُ الْإِمَامُ الْجَائِرُ نَائِبًا عَنْهُمْ ، فَإِنْ هَلَكَ الْمَالُ فِي يَدِهِ ، أَوِ اسْتَهْلَكَهُ بِنَفْسِهِ فَعَلَى رَبِّ الْمَالِ إِخْرَاجَهَا ثَانِيَةً ، سَوَاءً أَخَذَهَا الْإِمَامُ الْجَائِرُ مِنْهُ جَبْرًا ، أَوْ دَفَعَهَا إِلَيْهِ مُخْتَارًا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُجْزِئُهُ أَخْذُ الْإِمَامِ الْجَائِرِ لَهَا سَوَاءً أَخَذَهَا جَبْرًا ، أَوْ دَفَعَهَا رَبُّ الْمَالِ مُخْتَارًا . وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ أَخَذَهَا الْإِمَامُ الْجَائِرُ جَبْرًا أَجْزَأَهُ وَإِنْ دَفَعَهَا رَبُّ الْمَالِ مُخْتَارًا لَمْ يُجْزِئْهُ . وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : السُّلْطَانُ يُفْسِدُ ، وَمَا يُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ أَكْثَرُ ، فَإِنْ عَدَلَ فَلَهُ الْأَجْرُ وَعَلَيْكُمْ ، وَإِنْ جَارَ فَلَهُ الْوِزْرُ وَعَلَيْكُمُ الصَّبْرُ ، فَلَمَّا جَعَلَ وِزْرَ جَوْرِهِ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعُودَ عَلَى غَيْرِهِ . وَفِي تَكْلِيفِ رَدِّ الْمَالِ الْإِعَادَةِ يَحْتَمِلُ لِوِزْرِهِ ، وَلِأَنَّ الْإِمَامَ الْجَائِرَ فِي اسْتِيفَاءِ الْحُدُودِ كَالْعَادِلِ ، فَكَذَلِكَ فِي الزَّكَاةِ وَيَتَحَرَّرُ مِنْ هَذَا الِاعْتِلَالِ قِيَاسَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَنْ سَقَطَتِ الْحُدُودُ بِاسْتِيفَائِهِ لَهَا سَقَطَتِ الزَّكَاةُ بِقَبْضِهِ لَهَا كَالْعَادِلِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَا سَقَطَ بِاسْتِيفَاءِ الْإِمَامِ الْعَادِلِ لَهُ سَقَطَ بِاسْتِيفَاءِ الْإِمَامِ الْجَائِرِ لَهُ كَالْحُدُودِ ، وَلِأَنَّ خِيَانَةَ النَّائِبِ لَا تَقْتَضِي فَسَادَ الْقَبْضِ كَالْوَكِيلِ . وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : " أَطِيعُونِي مَا أَطَعْتُ اللَّهَ ، فَإِذَا عَصَيْتُ اللَّهَ ، فَلَا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ " فَجَعَلَ حُدُوثَ الْمَعْصِيَةِ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْمَعْصِيَةِ بَعِيدًا رَافِعًا لِوُجُوبِ الطَّاعَةِ . وَإِذَا ارْتَفَعَتْ طَاعَةُ الْوَالِي لِجَوْرِهِ صَارَ كَغَيْرِهِ مِنَ الرَّعِيَّةِ الَّتِي لَا تُجَزِئُ الزَّكَاةُ بِأَخْذِهِمْ لَهَا . وَيَتَحَرَّرُ مِنِ اعْتِلَالِ هَذَا الْخَبَرِ قِيَاسَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَنْ سَقَطَتْ طَاعَتُهُ سَقَطَتْ نِيَابَتُهُ كَالْعَاصِي . وَالثَّانِي : أَنَّ مَنْ بَطُلَتْ نِيَابَتُهُ لَمْ يَصِحَّ قَبْضُهُ كَالْوَكِيلِ ، وَلِأَنَّ الْإِمَامَ يَخْتَصُّ بِتَنْفِيذِ الْأَحْكَامِ كَمَا يَخْتَصُّ بِاسْتِيفَاءِ الْأَمْوَالِ ، فَلَمَّا لَمْ تُنَفَّذْ أَحْكَامُهُ بِجَوْرِهِ لَمْ يَصِحَّ اسْتِيفَاؤُهُ الْأَمْوَالَ بِجَوْرِهِ ، وَتَحْرِيرُهُ أَنَّ مَا وُقِفَتْ صِحَّتُهُ عَلَى عَدَالَةِ الْإِمَامِ كَانَ مَرْدُودًا بِجَوْرِهِ كَالْأَحْكَامِ ؛ وَلِأَنَّ
إِمَامَتَهُ تَبْطُلُ بِجَوْرِهِ كَمَا تَبْطُلُ بِعَزْلِهِ وَخَلْعِهِ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ قَبَضَهَا بَعْدَ خَلْعِ نَفْسِهِ لَمْ تَقَعْ مَوْقِعَ الْإِجْزَاءِ كَذَلِكَ إِذَا قَبَضَهَا بَعْدَ جَوْرِهِ . وَتَحْرِيرُهُ : أَنَّ مَا أَبْطَلَ إِمَامَتَهُ مَنَعَ مِنْ إِجْزَاءِ قَبْضِهِ كَالْخَلْعِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْخَبَرِ ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : اخْتِصَاصُ الْوِزْرِ بِالْإِمَامِ دُونَ الْأَحْكَامِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَتَعَدَّ وِزْرُهُ إِلَى غَيْرِهِ لَمْ يَتَعَدَّ وَزِرُ غَيْرِهِ إِلَيْهِ ، وَرَبُّ الْمَالِ مَأْخُوذٌ بِوِزْرِ زَكَاتِهِ حَتَّى تَصِلَ إِلَى مُسْتَحِقِّهَا فَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ وِزْرُهَا لَهَا . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْحُدُودِ فَهِيَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَحْضَةِ الَّتِي لَا حَقَّ فِيهَا لِآدَمِيٍّ ، وَالْمَقْصُودُ بِهَا الزَّجْرُ الْحَاصِلُ بَعْدَ الْإِمَامِ وَجَوْرِهِ ؛ وَلِذَلِكَ جَوَّزْنَا لِغَيْرِ الْإِمَامِ مِنْ سَيِّدِ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ أَنْ يَحُدَّهُمَا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الزَّكَاةُ ؛ وَالْمَقْصُودُ بِهَا وُصُولُهَا إِلَى مُسْتَحِقِّهَا ، وَذَلِكَ بِجَوْرِ الْإِمَامِ مَعْدُومٌ فَافْتَرَقَا . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْوَكِيلِ فَالْمَعْنَى فِي الْوَكِيلِ أَنَّ وِكَالَتَهُ لَا تَبْطُلُ بِجِنَايَتِهِ : فَلِذَلِكَ صَحَّ قَبْضُهُ . وَالْإِمَامُ تَبْطُلُ وِلَايَتُهُ بِجَوْرِهِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ قَبْضُهُ .
فَصْلٌ : وَإِذَا قِيلَ بِالْقَوْلِ الْجَدِيدِ : إِنَّ دَفْعَ الزَّكَاةِ إِلَى الْإِمَامِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ ، وَإِنَّ تَفْرِيقَ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ لَهَا جَائِزٌ ، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ جَائِرًا لَمْ يَجُزْ دَفْعُهَا إِلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ عَادِلًا كَانَ رَبُّ الْمَالِ بِالْخِيَارِ فِي زَكَاةِ مَالَيْهِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ بَيْنَ دَفْعِهَا إِلَى الْإِمَامِ ، أَوْ تَفْرِيقِهَا بِنَفْسِهِ . فَإِنْ أَرَادَ دَفْعَهَا إِلَى الْإِمَامِ كَانَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُسَلِّمَهَا إِلَى الْإِمَامِ وَهُوَ أَفْضَلُ ، أَوْ إِلَى عَامِلِهِ وَإِنْ أَرَادَ تَفْرِيقَهَا بِنَفْسِهِ كَانَ بِالْخِيَارِ أَنْ يَتَوَلَّاهَا بِنَفْسِهِ وَهُوَ أَفْضَلُ أَوْ بِوَكِيلِهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَمَا أَفْضَلُ الْأَمْرَيْنِ ، أَنْ يَدْفَعَ زَكَاةَ مَالِهِ إِلَى الْإِمَامِ ، أَوْ تَفْرِيقُهَا بِنَفْسِهِ ؟ قِيلَ : إِنْ كَانَ مَالُهُ ظَاهِرًا فَدَفَعَ زَكَاتَهُ إِلَى الْإِمَامِ أَفْضَلُ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إِظْهَارِ الطَّاعَةِ بِأَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ الْجَمَاعَةُ ، وَإِنْ كَانَ مَالُهُ بَاطِنًا فَتَفَرُّدُهُ بِإِخْرَاجِ زَكَاتِهِ أَفْضَلُ مِنْ دَفْعِهَا إِلَى الْإِمَامِ ؛ لِمَا قَدِ اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ فِعْلُ الْأَئِمَّةِ الرَّاشِدِينَ مِنْ إِقْرَارِ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ عَلَى إِخْرَاجِهَا ، وَلِتَكُونَ مُبَاشَرَةُ التَّأْدِيَةِ مَا لَزِمَهُ مِنْ حَقِّهَا وَلِيَخُصَّ أَقَارِبَهُ وَذَوِي رَحِمِهِ بِهَا . فَإِنْ قِيلَ : فَأَيُّ الْأَمْرَيْنِ أَفْضَلُ فِي تَفْرِيقِ الزَّكَاةِ أَنْ تُخْفَى أَوْ تُبْدَى ؟ قِيلَ : إِنْ كَانَ الْإِمَامُ هُوَ الْمُفَرِّقُ لَهَا فَإِبْدَاؤُهَا أَفْضَلُ مِنْ إِخْفَائِهَا ، سَوَاءً كَانَتْ زَكَاةَ مَالٍ ظَاهِرٍ أَوْ بَاطِنٍ : لِأَنَّهُ ثَابِتٌ فِيهَا ، فَكَانَ إِظْهَارُ إِخْرَاجِهَا أَفْضَلَ لَهُ مِنْ إِخْفَائِهَا وَكَتْمِهَا ، وَإِنْ كَانَ الْمُفَرِّقُ لَهَا رَبَّ الْمَالِ ، فَإِنْ كَانَتْ زَكَاةَ مَالٍ ظَاهِرٍ فَالْأَفْضَلُ لَهُ إِظْهَارُهَا بِالْعُدُولِ أَهْلِ السُّهْمَانِ عَنِ الْإِمَامِ إِلَيْهِ ، وَلِيَعْلَمَ الْإِمَامُ أَنَّهُ قَدْ أَخْرَجَ مَا عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَتْ زَكَاةَ مَالٍ بَاطِنٍ فَالْأَفْضَلُ لَهُ إِخْفَاؤُهَا إِذَا أَخْرَجَهَا مِنْ أَنْ يَجْهَرَ بِهَا ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ، وَلِأَنَّ إِخْفَاءَهُ فِي حَقِّهِ أَبْعَدُ مِنَ الرِّيَاءِ وَفِي حَقِّ أَهْلِ السُّهْمَانِ أَبْعَدُ مِنَ الِاسْتِحْيَاءِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِذَا أُخِذَتْ صَدَقَةُ مُسْلِمٍ دُعِيَ لَهُ بَالْأَجْرِ وَالْبَرَكَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَصَلِّ عَلَيْهِمْ أَيِ ادْعُ لَهُمْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : لِقَوْلِهِ تَعَالَى : خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [ التَّوْبَةِ : 103 ] وَفِي قَوْلِهِ وَصَلِّ عَلَيْهِمْ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : الِاسْتِغْفَارُ لَهُمْ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ الدُّعَاءُ لَهُمْ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ . وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى : إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا : قُرْبَةٌ لَهُمْ ، رَوَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي : رَحْمَةٌ لَهُمْ ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّالِثُ : أَمْنٌ لَهُمْ . ثُمَّ الدُّعَاءُ نُدِبَ عَلَى الْآخْذِ لَهَا إِنْ لَمْ يُسْأَلِ الدُّعَاءَ ، وَأَوْجَبَهُ دَاوُدُ . وَإِنْ سُئِلَ الدُّعَاءَ فَفِي وُجُوبِهِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ وَاجِبٌ لِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى عَنْ أَبِيهِ قَالَ : أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِصَدَقَاتِ قَوْمِي ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، صَلِّ عَلَيَّ فَقَالَ : اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آَلِ أَبِي أَوْفَى وَلِيَقَعَ بِذَلِكَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْجِزْيَةِ الْمَأْخُوذَةِ صَغَارًا وَبَيْنَ الزَّكَاةِ الْمَأْخُوذَةِ تَطْهِيرًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ غَيْرُ وَاجِبٍ : لِأَنَّ أَجْرَهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا عَلَى الْآخِذِ لَهَا كَغَيْرِهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي لَا يَلْزَمُ الدُّعَاءُ لِفَاعِلِهَا . وَقِيلَ : إِنَّهُ إِنْ كَانَ الْإِمَامُ هُوَ الْآخِذَ لَهَا ، لَزِمَهُ الدُّعَاءُ لِمَا فِي دَفْعِهَا إِلَيْهِ مِنْ إِظْهَارِ طَاعَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْفَقِيرُ هُوَ الْآخِذَ لَهَا لَمْ يَلْزَمْهُ ، وَقِيلَ بِضِدِّهِ : إِنَّ الدُّعَاءَ يَلْزَمُ الْفَقِيرَ دُونَ الْإِمَامِ : لِأَنَّ دَفْعَهَا إِلَى الْإِمَامِ مُتَعَيَّنٌ وَإِلَى الْفَقِيرِ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ ، فَأَمَّا مَا يَدْعُو بِهِ الْآخِذُ فَقَدْ مَضَى فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ .
مَسْأَلَةٌ الصَّدَقَةُ هِيَ الزَّكَاةُ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَالصَّدَقَةُ هِيَ الزَّكَاةُ وَالْأَغْلَبُ عَلَى أَفْوَاهِ الْعَامَّةِ أَنَّ لِلثَّمَرِ عُشْرًا وَلِلْمَاشِيَةِ صَدَقَةً وَلِلْوَرِقِ زَكَاةً ، وَقَدْ سَمَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا كُلَّهُ صَدَقَةً " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، قَدْ كَانَ الشَّافِعِيُّ يَرَى فِي الْقَدِيمِ : أَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنَ الزَّرْعِ
وَالثَّمَرِ يُسَمَّى عُشْرًا ، وَالْمَأْخُوذَ مِنَ الْمَاشِيَةِ يُسَمَّى صَدَقَةً ، وَالْمَأْخُوذَ مِنَ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ يُسَمَّى زَكَاةً ، وَلَا يَجْعَلُ لِاخْتِلَافِ الْأَسْمَاءِ تَأْثِيرًا فِي اخْتِلَافِ الْأَحْكَامِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هِيَ مُخْتَلِفَةُ الْأَسْمَاءِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَاخْتِلَافُ الْأَسْمَاءِ يَدُلُّ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَحْكَامِ ؛ فَخَصَّ الْمَأْخُوذَ مِنَ الزَّرْعِ وَالثَّمَرِ بِاسْمِ الْعُشْرِ دُونَ الصَّدَقَةِ وَالزَّكَاةِ ، وَجَعَلَ حُكْمَهُ مُخَالِفًا لِحُكْمِ الصَّدَقَةِ وَالزَّكَاةِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وُجُوبُ الْعُشْرِ فِي مَالِ الْمُكَاتَبِ وَالذِّمِّيِّ ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ فِي مَالِهِمَا صَدَقَةٌ وَلَا زَكَاةٌ . وَالثَّانِي : جَوَازُ مَصْرَفِ الْعُشْرِ فِي أَهْلِ الْفَيْءِ وَإِنْ لَمْ تُصْرَفْ فِيهِمْ صَدَقَةٌ وَلَا زَكَاةٌ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ : الْأَسْمَاءُ مُشْتَرِكَةٌ وَالْأَحْكَامُ مُتَسَاوِيَةٌ ، وَإِنَّ الْمَأْخُوذَ مِنَ الزَّرْعِ وَالثَّمَرِ يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى صَدَقَةً وَزَكَاةً ، أَمَّا تَسْمِيَتُهُ بِالصَّدَقَةِ فَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : فَمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنَ التَّمْرِ صَدَقَةٌ ، وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ زَكَاةً فَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْكَرْمِ : يَخْرُصُ كَمَا يَخْرُصُ النَّخْلُ ثُمَّ تُؤَدَّى زَكَاتُهُ زَبِيبًا كَمَا تُؤَدَّى زَكَاةُ النَّخْلِ ثَمَرًا . وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَسْمَاءَ مُشْتَرِكَةٌ ثَبَتَ أَنَّ الْأَحْكَامَ مُتَسَاوِيَةٌ ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي مَالِ الْمُسْلِمِ ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ لِمَا ثَبَتَ أَنَّهُ زَكَاةٌ ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ طُهْرَةً لِلْمُسْلِمِ فِي مَالِهِ كَانَ زَكَاةً لِمَالِهِ كَالزَّكَاةِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَمَا أُخِذَ مِنْ مُسْلِمٍ مِنْ زَكَاةِ مَالٍ نَاضٍّ أَوْ مَاشِيَةٍ أَوْ زَرْعٍ أَوْ زَكَاةِ فِطْرٍ أَوْ خُمُسِ رِكَازٍ أَوْ صَدَقَةِ مَعْدِنٍ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ بِكِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إِجْمَاعِ عَوَامِّ الْمُسْلِمِينَ فَمَعْنَاهُ وَاحِدٌ وَقَسْمُهُ وَاحِدٌ . وَقَسْمُ الْفَيْءِ خِلَافُ هَذَا ؛ فَالْفَيْءُ مَا أُخِذَ مِنْ مُشْرِكٍ تَقْوِيَةً لِأَهْلِ دِينِ اللَّهِ وَلَهُ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا الْمَوْضِعِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ كُلَّمَا وَجَبَ فِي مَالِ الْمُسْلِمِ مِنْ حَقٍّ ، إِمَّا بِحُلُولِ الْحَوْلِ كَالْمَوَاشِي وَزَكَاةِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ ، أَوْ بِتَكَامُلِ الْمَنْفَعَةِ كَالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ ، أَوْ بِالِاسْتِفَادَةِ كَالْمَعَادِنِ وَالرِّكَازِ ، أَوْ عَنْ رَقَبَةٍ كَزَكَاةِ الْفِطْرِ ، فَمَصْرِفُ جَمِيعِهِ وَاحِدٌ فِي السُّهْمَانِ الْمَوْضُوعَةِ فِي الزَّكَوَاتِ وَالصَّدَقَاتِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ الْآيَةَ . إِلَّا أَنَّهُ مَا تَجِبُ زَكَاتُهُ بِالْحَوْلِ إِذَا حَالَ عَلَيْهِ فِي يَدِهِ أَحْوَالُ زَكَاةٍ فِي كُلِّ حَوْلٍ كَالْمَوَاشِي وَالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ ، وَمَا يَجِبُ زَكَاتُهُ بِتَكَامُلِ الْمَنْفَعَةِ كَالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ ، إِذَا بَقِيَ فِي يَدِهِ أَحْوَالٌ لَمْ يُزَكِّهِ إِلَّا الزَّكَاةَ الْأُولَى وَمَا اسْتُفِيدَ مِنْ مَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ أَوْ رِكَازٍ زَكَّى فِي كُلِّ حَوْلٍ : لِأَنَّهُمَا ذَهَبٌ وَوَرِقٌ يُرَاعَى فِيهَا بَعْدَ الِاسْتِفَادَةِ حُلُولُ الْحَوْلِ ، وَخُولِفَ الشَّافِعِيُّ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : الزُّرُوعُ وَالثِّمَارُ ، فَجَعَلَ أَبُو حَنِيفَةَ مَصْرِفَ عُشْرِهَا مَصْرِفَ الْفَيْءِ دُونَ الزَّكَاةِ ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ .
وَالثَّانِي : زَكَاةُ الْفِطْرِ جَعَلَ مَالِكٌ مَصْرِفَهَا فِي الْمَسَاكِينِ خَاصَّةً ، وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ : إِنْ فُرِّقَتْ فِي ثَلَاثَةِ فُقَرَاءَ أَجْزَأَتْ . وَالثَّالِثُ : الْمَعَادِنُ . وَالرَّابِعُ : الرِّكَازُ ، جَعَلَ أَبُو حَنِيفَةَ مَصْرِفَهَا الْفَيْءَ اسْتِدْلَالًا بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ فِيهَا الْخُمُسُ كَالْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ مُبَايَنَةً لِمَقَادِيرِ الزَّكَوَاتِ كُلِّهَا ، فَانْصَرَفَ مَصْرِفَ الْفَيْءِ لَا مَصْرِفَ الزَّكَاةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْحَقَّ فِيهَا مُعَجَّلٌ وَفِي الزَّكَاةِ مُؤَجَّلٌ فَلَوْ جَرَيَا مَجْرَى الزَّكَاةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَتَأَجَّلَتْ وَلَمَا تَعَجَّلَتِ الْمَأْخُوذَةُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَالثَّالِثُ : إِذَا اعْتُبِرَ بِالرِّكَازِ حَالُ الدَّافِنِ أَنَّهُ كَافِرٌ ، وَقَدْ مُلِكَ عَنْهُ كَالْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ . وَدَلِيلُنَا ، قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ وَلِأَنَّهُ حَقٌّ يَجِبُ فِي مَالِ مُسْلِمٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ فَيْئًا كَالزَّكَاةِ ، وَلِأَنَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ لَمَّا خَرَجَتْ عَنْ حُكْمِ الْفَيْءِ خَرَجَ خُمُسُهُ عَنْ حُكْمِ الْفَيْءِ . وَتَحْرِيرُهُ أَنَّ مَا لَمْ يَجُزْ عَلَى الْمُسْتَبْقَى مِنْهُ حُكْمُ الْفَيْءِ لَمْ يَجُزْ عَلَى الْمَأْخُوذِ مِنْهُ حُكْمُ الْفَيْءِ كَسَائِرِ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ ، وَلِأَنَّ حَقَّ الْمَعْدِنِ وَالرِّكَازِ لَمَّا اخْتُصَّ بِبَعْضِ أَمْوَالٍ دُونَ بَعْضٍ كَالزَّكَاةِ ، كَانَ زَكَاةً وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ فَيْئًا لِاسْتِوَاءِ حُكْمِهِ فِي جَمِيعِ الْأَمْوَالِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِاسْتِحْقَاقِ الْخُمُسِ فِيهِ فَهُوَ أَنَّ مَقَادِيرَ الزَّكَوَاتِ مُخْتَلِفَةٌ ، فَتَارَةً يَكُونُ رُبُعَ الْعُشْرِ ، وَتَارَةً نِصْفَ الْعُشْرِ ، وَتَارَةً الْعُشْرَ ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ ذَلِكَ زَكَاةً ، فَكَذَلِكَ تَكُونُ تَارَةً الْخُمُسَ ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْ أَنْ يَكُونَ زَكَاةً ، وَيَكُونُ اخْتِلَافُ الْمَقَادِيرِ بِحَسَبَ اخْتِلَافِ الْمُؤَنِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَا سُقِيَ بِنَاضِحٍ أَوْ رِشَاءٍ لَمَّا كَثُرَتْ مَئُونَتُهُ قَلَّتْ زَكَاتُهُ ؛ فَكَانَتْ نِصْفَ الْعُشْرِ وَمَا بِسَيْحٍ أَوْ سَمَاءٍ لَمَّا قَلَّتْ مَئُونَتُهُ كَثُرَتْ زَكَاتُهُ ، فَكَانَتِ الْعُشْرَ ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلرِّكَازِ مُؤْنَتُهُ أُضْعِفَتْ زَكَاتُهُ فَكَانَتِ الْخُمُسَ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِتَعْجِيلِ الْحَقِّ فِيهِ فَهُوَ لِأَنَّهُ تَعَجَّلَتِ الْفَائِدَةُ بِهِ فَتَعَجَّلَ الْحَقُّ ، وَمَا تَأَجَّلَتِ الْفَائِدَةُ بِهِ تَأَجَّلَ الْحَقُّ فِيهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَا لَمْ تَكْمُلْ فَائِدَتُهُ إِلَّا بِالْحَوْلِ رُوعِيَ فِيهِ الْحَوْلُ كَالْمَوَاشِي ، وَمَا كَمُلَتْ فَائِدَتُهُ قَبْلَ الْحَوْلِ لَمْ يُرَاعَ فِيهِ الْحَوْلُ كَالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اعْتِبَارِهِ بِحَالِ الدَّافِنِ دُونَ الْوَاجِدِ فَهُوَ أَنَّ اعْتِبَارَهُ بِالْوَاجِدِ دُونَ الدَّافِنِ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ اعْتُبِرَ بِحَالِ الدَّافِنِ لَمَّا جَازَ أَنْ يُمَلَّكَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لِمَنْ لَا يُمَلَّكُ عَلَيْهِ مَالُهُ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ مَنْ هُوَ عَلَى دِينِ مُوسَى وَعِيسَى قَبْلَ التَّبْدِيلِ أَوْ لِمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ ، وَكُلُّ هَؤُلَاءِ لَا يَجُوزُ أَنْ تُمَلَّكُ عَلَيْهِمْ أَمْوَالُهُمْ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْتَبَرَ بِهِ الدَّافِنُ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوِ اعْتُبِرَ بِهِ الدَّافِنُ لَمَا جَازَ أَنْ يُمَلَّكَ الْوَاجِدُ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ وَلَكَانَ إِمَّا مِلْكًا لِلْغَانِمِينَ ، أَوْ لِأَهْلِ الْفَيْءِ فَيَثْبُتُ أَنَّ اعْتِبَارَهُ بِحَالِ الْوَاجِدِ أَوْلَى مِنِ اعْتِبَارِهِ بِحَالِ الدَّافِنِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ قَسْمُ الصَّدَقَاتِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَقَسْمُ الصَّدَقَاتِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ ، ثُمَّ أَكَّدَهَا وَشَدَّدَهَا فَقَالَ : فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ الْآيَةَ . وَهِيَ سُهْمَانٌ ثَمَانِيَةٌ لَا تُصْرَفُ مِنْهَا سَهْمٌ وَلَا شَيْءٌ مِنْهُ عَنْ أَهْلِهِ مَا كَانَ مِنْ أَهْلِهِ أَحَدٌ يَستَحِقُّهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ قَسْمُ الصَّدَقَاتِ يُسْتَحَقُّ فِي الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ وَلَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِهَا مَعَ وُجُودِ جَمِيعِهَا الأصناف في الزكاة . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ اقْتِصَارُ أَيِّ الْأَصْنَافِ شَاءَ ، وَإِنْ دَفَعَ جَمِيعَ الزَّكَاةِ إِلَى نَفْسٍ وَاحِدَةٍ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ أَجَزَأَهُ . وَقَالَ مَالِكٌ : يَدْفَعُهَا إِلَى أَمَسِّ الْأَصْنَافِ حَاجَةً . وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ : إِنْ كَثُرَتِ الزَّكَاةُ دَفَعَهَا إِلَى الْأَصْنَافِ كُلِّهَا ، كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَإِنْ قَلَّتْ دَفَعَهَا إِلَى أَيِّ الْأَصْنَافِ شَاءَ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ . وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [ الْبَقَرَةَ : 271 ] فَجَعَلَ تَخْصِيصَ الْفُقَرَاءِ بِهَا خَيْرًا مَشْكُورًا فَدَلَّ عَلَى جَوَازِهِ وَصَرْفِ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [ الْمَعَارِجِ : 24 ، 25 ] فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ تَفَرُّدِهِمْ بِهِ ، وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ وَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ ، وَبِمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ سَلَمَةَ بْنَ صَخْرٍ الْأَنْصَارِيَّ ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ فَذَكَرَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَجْزَهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ ، فَقَالَ لَهُ : انْطَلِقْ إِلَيَّ بِصَدَقَةِ بَنِي زُرَيْقٍ فَلْتُدْفَعْ إِلَيْكَ فَأَطْعِمْ مِنْهَا وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَكُلْ أَنْتَ وَعَيَالُكَ بَقِيَّتَهَا ، فَدَلَّ نَصُّ هَذَا الْخَبَرِ عَلَى جَوَازِ دَفْعِهَا إِلَى نَفْسٍ وَاحِدَةٍ عَنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ . قَالُوا : وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ الْأَصْنَافَ الثَّمَانِيَةَ بِالذِّكْرِ كَمَا خَصَّ الصِّنْفَ الْوَاحِدَ بِالذِّكْرِ ، فَلَمَّا لَمْ يَلْزَمِ اسْتِيفَاءُ جَمِيعِ الصِّنْفِ وَجَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِهِ لَمْ يَلْزَمِ اسْتِيفَاءُ جَمِيعِ الْأَصْنَافِ وَجَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِهَا ؛ وَيَتَحَرَّرُ مِنْهُ قِيَاسَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا صَدَقَةٌ يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ بِهَا بَعْضُ الْفُقَرَاءِ فَجَازَ أَنْ يُخَصَّ بِهَا بَعْضُ الْأَصْنَافِ كَالْكَفَّارَاتِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَنْ جَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ فِي الْكَفَّارَاتِ جَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ فِي الزَّكَوَاتِ ، قِيَاسًا عَلَى بَعْضِ الْفُقَرَاءِ .