كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي
الْغَلَبَةِ ، فَإِنَّ اللَّبَنَ إِذَا كَانَ مَغْلُوبًا صَارَ مُسْتَهْلَكًا بِمَا غَلَبَ عَلَيْهِ ، وَزَالَ عَنْهُ الِاسْمُ ، وَارْتَفَعَ عَنْهُ الْحُكْمُ . أَمَّا زَوَالُ اسْمِهِ ؛ فَلِأَنَّ رَجُلًا لَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ اللَّبَنَ فَغَلَبَ عَلَيْهِ الْمَاءُ لَمْ يَحْنَثْ بِشُرْبِهِ . وَأَمَّا ارْتِفَاعُ حُكْمِهِ ؛ فَلِأَنَّ الْخَمْرَ لَوْ كَانَ مَغْلُوبًا فِي الْمَاءِ لَمْ يَجِبِ الْحَدُّ بِشُرْبِهِ ، وَلَوْ كَانَ الطِّيبُ مَغْلُوبًا فِي الْمَاءِ لَمْ يُفْدِ الْمُحْرِمُ بِاسْتِعْمَالِهِ ، فَإِذَا زَالَ عَنِ الْمَغْلُوبِ اسْمُهُ ، وَحُكْمُهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَثْبُتَ بِمَغْلُوبِ اللَّبَنِ تَحْرِيمُ الرِّضَاعِ لِمَا فِيهِ مِنْ ذَهَابِ اسْمِهِ ، وَحُكْمِهِ ، وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ تَحْرِيمَ اللَّبَنِ إِذَا كَانَ خَالِصًا يَتَعَلَّقُ بِهِ فَتَعَلَّقَ بِهِ إِذَا كَانَ مُخْتَلِطًا قِيَاسًا عَلَيْهِ إِذَا كَانَ غَالِبًا ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ مُمَازَجَةٍ تَسْلُبُ حُكْمَ اللَّبَنِ إِذَا كَانَ غَالِبًا لَمْ تَسْلُبْ حُكْمَهُ إِذَا كَانَ مَغْلُوبًا . دَلِيلُهُ إِذَا خُلِطَ لَبَنُ آدَمِيَّةٍ بِلَبَنِ بَهِيمَةٍ فَإِنَّهُمْ يُوَافِقُونَ عَلَى ثُبُوتِ التَّحْرِيمِ ، وَإِنْ كَانَ لَبَنُ الْبَهِيمَةِ أَكْثَرَ ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ مَا تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ غَالِبًا تَعَلَّقَ بِهِ مَغْلُوبًا كَالنَّجَاسَةِ فِي قَلِيلِ الْمَاءِ ؛ وَلِأَنَّ اخْتِلَاطَ اللَّبَنِ بِالْمَاءِ قَبْلَ دُخُولِهِ فَمَهُ كَاخْتِلَاطِهِ بِهِ فِي فَمِهِ ، وَلَوِ اخْتَلَطَ بِهِ فِي فَمِهِ ثَبَتَ بِهِ التَّحْرِيمُ وَإِنْ كَانَ مَغْلُوبًا ، كَذَلِكَ إِذَا اخْتَلَطَ قَبْلَ دُخُولِهِ فَمَهُ . فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِزَوَالِ اسْمِهِ الْمُوجِبِ لِارْتِفَاعِ حُكْمِهِ ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مُطْلَقَ الِاسْمِ يَتَنَاوَلُ الْخَالِصَ دُونَ الْغَالِبِ ، ثُمَّ لَا يَقْتَضِي زَوَالَ الِاسْمِ عَنْهُ إِذَا كَانَ غَالِبًا مِنْ وُقُوعِ التَّحْرِيمِ بِهِ كَذَلِكَ إِذَا كَانَ مَغْلُوبًا . وَالثَّانِي : أَنَّ الْحُكْمَ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَعْنَى دُونَ الِاسْمِ ، وَالْمَعْنَى حُصُولُ اللَّبَنِ فِي جَوْفِهِ ، وَقَدْ حَصَلَ بِالِامْتِزَاجِ غَالِبًا وَمَغْلُوبًا كَالنَّجَاسَةِ إِذَا غَلَبَ الْمَاءُ عَلَيْهَا ثَبَتَ حُكْمُهَا مَعَ زَوَالِ اسْمِهَا . فَأَمَّا سُقُوطُ الْحَدِّ بِمَغْلُوبِ الْخَمْرِ دُونَ غَالِبِهِ ، فَلِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبَهَاتِ . فَأَمَّا سُقُوطُ الْفِدْيَةِ بِمُسْتَهْلَكِ الطِّيبِ فِي الْمَاءِ فَلِزَوَالِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهِ . وَأَمَّا سُقُوطُ الْكَفَّارَةِ عَنِ الْحَالِفِ فَلِأَنَّ الْأَيْمَانَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْعُرْفِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ التَّحْرِيمُ بِاللَّبَنِ الْمَشُوبِ غَالِبًا وَمَغْلُوبًا ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يُشْرَبَ جَمِيعُ الْمَشُوبِ أَوْ بَعْضُهُ ، فَإِنْ شُرِبَ جَمِيعُ الْمَشُوبِ بِاللَّبَنِ ثَبَتَ بِهِ التَّحْرِيمُ الرضاع ، وَإِنْ شُرِبَ بَعْضُهُ لَمْ يَخْلُ أَنْ يُعْلَمَ اخْتِلَاطُ اللَّبَنِ بِجَمِيعِهِ أَوْ لَا يُعْلَمَ ، فَإِنْ لَمْ يُعْلَمِ اخْتِلَاطُ اللَّبَنِ بِجَمِيعِهِ كَقَطْرَةٍ مِنْ لَبَنٍ وَقَعَتْ فِي جُبٍّ مِنْ مَاءٍ فَشَرِبَ الطِّفْلُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ تَحْرِيمُ الرِّضَاعِ ، لِأَنَّ التَّحْرِيمَ لَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ وَإِنْ عُلِمَ اخْتِلَاطُ اللَّبَنِ بِجَمِيعِهِ كَأُوقِيَّةٍ مِنْ
لَبَنٍ مُزِجَتْ بِأُوقِيَّتَيْنِ مِنْ مَاءٍ حَتَّى لَمْ يَتَمَيَّزِ الْمَاءُ مِنَ اللَّبَنِ ، فَحُكْمُ جَمِيعِهِ فِي حُكْمِ اللَّبَنِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ التَّحْرِيمِ فَأَيُّ شَيْءٍ شَرِبَهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَشُوبِ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ ثَبَتَ بِهِ التَّحْرِيمُ .
فَصْلٌ : وَإِذَا امْتَزَجَ لَبَنُ امْرَأَتَيْنِ ثُمَّ شَرِبَهُ الْمَوْلُودُ فما الحكم ؟ ثَبَتَ بِهِ تَحْرِيمُهُمَا عَلَيْهِ سَوَاءٌ تَسَاوَى لَبَنُهُمَا أَوْ غَلَبَ لَبَنُ إِحْدَاهُمَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَبُو يُوسُفَ : يَخْتَصُّ التَّحْرِيمُ بِأَغْلَبِهِمَا لَبَنًا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمَا فِي اعْتِبَارِ الْأَغْلَبِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوْ جَبَّنَ اللَّبَنَ فَأَطْعَمَهُ كَانَ كَالرِّضَاعِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا جَبَّنَ اللَّبَنَ أَوْ أَغْلَاهُ بِالنَّارِ وطعمه المولود هل يتعلق به تحريم ؟ تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ [ النِّسَاءِ : ] وَهَذَا مَفْقُودٌ فِي الْمُجَبَّنِ وَالْمَغْلِيِّ ؛ وَلِأَنَّ زَوَالَ اسْمِ اللَّبَنِ مُوجِبٌ لِارْتِفَاعِ حُكْمِهِ بِنَاءً عَلَى مَا قَالَهُ فِي الْمَشُوبِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ وَهَذَا أَبْلَغُ فِي سَدِّ الْمَجَاعَةِ مِنْ مَائِعِ اللَّبَنِ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَخَصَّ بِالتَّحْرِيمِ ؛ وَلِأَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ مَائِعًا تَعَلَّقَ بِهِ جَامِدًا كَالنَّجَاسَةِ وَالْخَمْرِ ؛ وَلِأَنَّ انْعِقَادَ أَجْزَائِهِ لَا يَمْنَعُ مِنْ بَقَاءِ تَحْرِيمِهِ كَمَا لَوْ ثَخُنَ ؛ وَلِأَنَّ تَغْيِيرَ صِفَتِهِ لَا تُوجِبُ تَغْيِيرَ حُكْمِهِ كَمَا لَوْ حَمُضَ ، وَقَدْ مَضَى الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ .
مَسْأَلَةٌ لَا يُحَرِّمُ لَبَنُ الْبَهِيمَةِ إِنَّمَا يُحَرِّمُ لَبَنُ الْآدَمِيَّاتِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يُحَرِّمُ لَبَنُ الْبَهِيمَةِ إِنَّمَا يُحَرِّمُ لَبَنُ الْآدَمِيَّاتِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَقَالَ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا ارْتَضَعَ رَجُلَانِ مِنْ لَبَنِ بَهِيمَةٍ لَمْ يَصِيرَا أَخَوَيْنِ ، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِلَبَنِهَا تَحْرِيمٌ . وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ وَأُضِيفَ ذَلِكَ إِلَى مَالِكٍ ، وَقَدْ أَنْكَرَهُ أَصْحَابُهُ : إِنَّ لَبَنَ الْبَهِيمَةِ يُحَرِّمُ وَيَصِيرَا بِلَبَنِهَا أَخَوَيْنِ اسْتِدْلَالًا بِاجْتِمَاعِهِمَا عَلَى لَبَنٍ وَاحِدٍ فَوَجَبَ أَنْ يَصِيرَا بِهِ أَخَوَيْنِ كَلَبَنِ الْآدَمِيَّاتِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَالْبَهِيمَةُ لَا تَكُونُ بِارْتِضَاعِ لَبَنِهَا أُمًّا مُحَرَّمَةً كَذَلِكَ لَا يَصِيرُ الْمُرْتَضِعَانِ بِلَبَنِهَا أَخَوَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْأُخُوَّةَ فَرْعٌ مِنَ الْأُبُوَّةِ ؛ وَلِأَنَّ الرِّضَاعَ يُلْحِقُ بِالنَّسَبِ فَلَمَّا لَمْ يَثْبُتِ النَّسَبُ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الْأَبَوَيْنِ وَجَبَ أَنْ لَا يَثْبُتَ الرِّضَاعُ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِمَا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " قَالَ وَلَوْ حُلِبَ مِنْهَا رَضْعَةٌ خَامِسَةٌ ، ثُمَّ مَاتَتْ فَأُوجِرَهُ صَبِيٌّ فما الحكم ؟ كَانَ ابْنَهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَوْتَهَا بَعْدَ حَلْبِ اللَّبَنِ فِي الْإِنَاءِ كَوْنُهَا بَعْدَ اجْتِمَاعِ اللَّبَنِ فِي فَمِهِ ؛ لِأَنَّ فَمَهُ كَالْإِنَاءِ فَلَمَّا كَانَ مَوْتُهَا بَعْدَ اجْتِمَاعِ اللَّبَنِ فِي فَمِهِ وَقِيلَ ازْدِرَادُهُ ثَبَتَ بِالتَّحْرِيمِ إِذَا ازْدَرَدَهُ ، كَذَلِكَ إِذَا مَاتَتْ بَعْدَ حَلْبِ اللَّبَنِ فِي الْإِنَاءِ فَوَجَبَ التَّحْرِيمُ إِذَا شَرِبَهُ . وَالثَّانِي : أَنَّ الرِّضَاعَ مُعْتَبَرٌ بِشَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مِنْ جِهَةِ الْمُرْضِعَةِ ، وَهُوَ خُرُوجُ اللَّبَنِ مِنْ ثَدْيِهَا . وَالثَّانِي : وُلُوجُهُ فِي جَوْفِ الْمُرْتَضَعِ فَاعْتَبَرْنَا حَيَاةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا يُخْتَصُّ بِهِ وَلَمْ يَعْتَبِرْهَا فِيمَا يُخْتَصُّ بِصَاحِبِهِ كَالْجَارِحِ رَجُلًا إِذَا مَاتَ قَبْلَ الْمَجْرُوحِ كَانَ مَأْخُوذًا بِدِيَتِهِ إِذَا مَاتَ مِنْ جِرَاحَتِهِ كَمُرْسِلِ السَّهْمِ إِذَا مَاتَ قَبْلَ وُصُولِ السَّهْمِ إِلَى الْمَرْمَى ، ثُمَّ وَصَلَ السَّهْمُ إِلَيْهِ ، فَمَاتَ كَانَ الرَّامِي مَأْخُوذًا بِدِيَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ وَصُولُ السَّهْمِ بِحَدِّ مَوْتِهِ لِوُجُودِ الْإِرْسَالِ فِي حَيَاتِهِ ، وَكَالْحَافِرِ بِئْرًا إِذَا تَلِفَ فِيهَا إِنْسَانٌ بَعْدَ مَوْتِ حَافِرَهَا كَانَ مَأْخُوذًا بِدِيَتِهِ فِيمَا خَلَّفَهُ مَنْ تَرِكَتِهِ لِوُجُودِ الْحَفْرِ فِي حَيَاتِهِ فَإِنْ قِيلَ : فَيَدْخُلُ عَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ مَوْتُ الْمُكَاتَبِ بَعْدَ اكْتِسَابِ الْوَفَاءِ أَنْ يُعْتَقَ بِأَدَائِهِ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ لِوُجُودِ الْكَسْبِ فِي حَيَاتِهِ . قِيلَ : لَا يَدْخُلُ عَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ مَا ذَكَرَ مِنْ كَسْبِ الْمُكَاتَبِ ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْكِتَابَةِ مِنْ جِهَةِ السَّيِّدِ الْعَقْدُ ، وَمِنْ جِهَةِ الْمُكَاتَبِ الْأَدَاءُ ، فَمِثَالُهُ مِنَ الرِّضَاعِ مَوْتُ السَّيِّدِ بَعْدَ عَقْدِهِ ، وَذَلِكَ لَا يُبْطِلُ الْكِتَابَةَ وَمَوْتُ الْمُكَاتَبِ قَبْلَ الْأَدَاءِ كَمَوْتِ الطِّفْلِ قَبْلَ الرِّضَاعِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ رَضَعَ مِنْهَا بَعْدَ مَوْتِهَا لَمْ يَحْرُمْ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَبَنُ الْمَيِّتَةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ كَمَا قَالَ ، إِذَا ارْتُضِعَ الْمَوْلُودُ مِنْ لَبَنِ الْمَيِّتَةِ الْحَاصِلِ مِنْ ثَدْيِهَا بَعْدَ مَوْتِهَا لَمْ يَثْبُتْ بِهِ التَّحْرِيمُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٌ : يَثْبُتُ بِهِ التَّحْرِيمُ كَارْتِضَاعِهِ فِي حَيَاتِهِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ . وَقَـوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الرَّضَاعُ مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَأَنْشَزَ الْعَظْمَ ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي لَبَنِ
الْمَيِّتَةِ كَوُجُودِهِ فِي لَبَنِ الْحَيَّةِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَبَنُ آدَمِيَّةٍ وَصَلَ إِلَى جَوْفِهِ فِي زَمَانِ التَّحْرِيمِ فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ كَمَا لَوْ شَرِبَهُ فِي حَيَاتِهَا . وَلِأَنَّهُ لَبَنٌ لَوْ وَصَلَ إِلَى جَوْفِهِ فِي حَيَاتِهَا ثَبَتَ بِهِ التَّحْرِيمُ فَوَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ التَّحْرِيمُ إِذَا وَصَلَ إِلَى جَوْفِهِ بَعْدَ مَوْتِهَا كَالْمَحْلُوبِ مِنْهَا فِي حَيَاتِهَا ؛ وَلِأَنَّهُ سَبَبٌ ثَبَتَ بِهِ التَّحْرِيمُ الْمُؤَبَّدُ . فَاسْتَوَى وُجُودُهُ فِي الْحَيَاةِ وَبَعْدَ الْوَفَاةِ كَالْوِلَادَةِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَوْتِهَا أَكْثَرُ مِنْ سُقُوطِ فِعْلِهَا ، وَهَذَا لَا يُؤَثِّرُ فِي تَحْرِيمِ الرِّضَاعِ كَمَا لَوِ ارْتَضَعَ مِنْهَا فِي نَوْمِهَا ؛ وَلِأَنَّ لَبَنَهَا مَا مَاتَ بِمَوْتِهَا فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ بِهِ التَّحْرِيمُ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَرَامُ لَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ وَهَذَا اللَّبَنُ مُحَرَّمٌ لِنَجَاسَةِ عَيْنِهِ ، فَلَمْ يَثْبُتْ بِهِ تَحْرِيمُ مَا كَانَ حَلَالًا مِنْ قَبْلِهِ ؛ وَلِأَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِهِ تَحْرِيمُ النِّكَاحِ يَنْتَفِي مِنْ حُدُوثِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ كَالنِّكَاحِ ؛ وَلِأَنَّ الرِّضَاعَ ثَبَّتَ تَحْرِيمَ الْمُصَاهَرَةِ كَالْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ ، فَلَمَّا كَانَ الْمَوْتُ مَانِعًا مِنْ ثُبُوتِ التَّحْرِيمِ بِالْوَطْءِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَطِئَ الْمَيِّتَةَ بَعْدَ مَوْتِهَا مُعْتَقِدًا أَنَّهَا فِي الْحَيَاةِ لَمْ يَثْبُتْ بِوَطْئِهِ التَّحْرِيمُ كَذَلِكَ ارْتِضَاعُ لَبَنِ الْمَيِّتَةِ . وَتَحْرِيرُهُ أَنَّ مَا ثَبَتَ بِهِ التَّحْرِيمُ إِذَا اتَّصَلَ بِحَيَاتِهَا زَالَ عَنْهُ التَّحْرِيمُ إِذَا اتَّصَلَ بِمَوْتِهَا كَالْوَطْءِ ؛ وَلِأَنَّ تَحْرِيمَ الرَّضَاعِ مُتَعَلِّقٌ بِانْفِصَالِهِ مِنْ ثَدْيِ الْأُمِّ وَوُصُولِهِ إِلَى جَوْفِ الْوَلَدِ ، فَلَمَّا كَانَ وَصُولُ اللَّبَنِ إِلَى الْوَلَدِ بَعْدَ مَوْتِهَا مَانِعًا مِنْ ثُبُوتِ التَّحْرِيمِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ انْفِصَالُهُ بَعْدَ مَوْتِ الْأُمِّ مَانِعًا مِنْ ثُبُوتِ التَّحْرِيمِ . وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهُ أَحَدُ جِهَتَيِ التَّحْرِيمِ فَوَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ الْمَوْتُ مِنْ ثُبُوتِ التَّحْرِيمِ كَالْوَلَدِ ؛ وَلِأَنَّ الْمَوْتَ لَمَّا أَسْقَطَ حُرْمَةَ وَطْئِهَا وَجَبَ أَنْ يُسْقِطَ حُرْمَةَ لَبَنِهَا كَالزِّنَا ؛ وَلِأَنَّ الرِّضَاعَ كَالْجِنَايَةِ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ ضَمَانِ التَّحْرِيمِ ، وَالْمَيِّتُ لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْجِنَايَةِ فِي حَقِّهِ ، وَإِنْ ثَبَتَ فِي حَقِّ النَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَيِّتًا لَوْ سَقَطَ عَلَى رَجُلٍ فَقَتَلَهُ لَمْ يَضْمَنْهُ ، وَلَوْ سَقَطَ عَلَيْهِ نَائِمٌ أَوْ مَجْنُونٌ ضَمِنَهُ وَلَا يَدْخُلُ عَلَى هَذَا حَافِرُ الْبِئْرِ إِذَا حَدَثَتْ بِهَا جِنَايَةٌ بَعْدَ مَوْتِهِ لِوُجُودِ الْحَفْرِ مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ ، وَإِذَا سَقَطَ بِالْمَوْتِ حُكْمُ الْجِنَايَةِ سَقَطَ بِهَا حُكْمُ الضَّمَانِ . وَلِأَنَّ لَبَنَ الرِّضَاعِ مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَأَنْشَزَ الْعَظْمَ ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَثْبُتْ رِضَاعُ الْكَبِيرِ ، وَلَبَنُ الْمَيِّتَةِ دَاءٌ لَا يَنْبُتُ بِهِ اللَّحْمُ وَلَا يَنْتَشِرُ بِهِ الْعَظْمُ فَلَمْ يَثْبُتْ بِهِ التَّحْرِيمُ ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى يُجَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْخَبَرَيْنِ . وَبِمِثْلِهِ يُجَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى شُرْبِهِ فِي حَيَاتِهَا أَنَّ لَبَنَ الْحَيَّةِ يُنْبِتُ اللَّحْمَ وَيُنْشِزُ الْعَظْمَ .
وَجَوَابٌ ثَانٍ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ أَنَّهَا حَالٌ لَوْ وَطِئَتْ فِيهَا لَمْ يَثْبُتْ بِهِ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ ، فَيَثْبُتُ بِهِ تَحْرِيمُ الرِّضَاعِ ، وَالْوَطْءُ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يَثْبُتُ بِهِ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ ، فَلَمْ يَثْبُتْ بِهِ تَحْرِيمُ الرِّضَاعِ . وَالْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْوِلَادَةِ فَهُوَ أَنَّ لُحُوقَ النَّسَبِ بِالْعُلُوقِ ، وَإِنَّمَا يَسْتَقِرُّ حُكْمُهُ وَتَتَحَقَّقُ حَالُهُ بِالْوِلَادَةِ بَعْدَ تَقَدُّمِ ثُبُوتِهِ بِعُلُوقِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَرِثُ وَيُوَرَّثُ قَبْلَ وِلَادَتِهِ وَيُضْمَنُ دِيَتُهُ جَنِينًا . وَالْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ سُقُوطَ فِعْلِهَا لَا يُؤَثِّرُ فِي تَحْرِيمِ الرَّضَاعِ كَالنَّائِمَةِ فَهُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمَيِّتَ لَا يُضَافُ إِلَيْهِ فِعْلٌ ، وَيُضَافُ إِلَى النَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ فَافْتَرَقَا ، وَقَوْلُهُمْ : إِنَّ لَبَنَهَا لَمْ يَمُتْ فَهُوَ وَإِنْ لَمْ تُحِلَّهُ حَيَاةٌ تَبَعٌ لِمَا فِيهِ حَيَاةٌ فَجَرَى عَلَيْهِ حُكْمُهَا ، وَزَالَ عَنْهُ الْحُكْمُ لِعَدَمِهَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ حُلِبَ مِنِ امْرَأَةٍ لَبَنٌ كَثِيرٌ فَفُرِّقَ ثُمَّ أُوجِرَ مِنْهُ صَبِيٌّ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً لَمْ يَكُنْ إِلَّا رَضْعَةً وَاحِدَةً وَلَيْسَ كَاللَّبَنِ يَحْدُثُ فِي الثَّدْيِ كُلَّمَا خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ حَدَثَ غَيْرُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ لِلْمَرْأَةِ إِذَا حُلِبَ لَبَنُهَا وَشَرِبَهُ الْوَلَدُ أَرْبَعَةَ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُحْلَبَ لَبَنُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً وَيَشْرَبَهُ الْمَوْلُودُ فِي مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ فَهَذِهِ رَضْعَةٌ وَاحِدَةٌ ، سَوَاءٌ قَلَّ اللَّبَنَ أَوْ كَثُرَ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُحْلَبَ لَبَنُهَا خَمْسَ مَرَّاتٍ فِي خَمْسِ أَوَانِي وَيَشْرَبَهُ فِي خَمْسِ مَرَّاتٍ فَهَذِهِ خَمْسُ رَضَعَاتٍ لِوُجُودِ الْعَدَدِ مِنَ الْجِهَتَيْنِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يُحْلَبَ لَبَنُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ ، وَيَشْرَبَهُ الْمَوْلُودُ فِي خَمْسِ مَرَّاتٍ ، فَالَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ وَجَامِعِهِ وَنَقَلَهُ الرَّبِيعُ فِي كِتَابِ الْأُمِّ أَنَّهَا رَضْعَةٌ وَاحِدَةٌ اعْتِبَارًا بِفِعْلِ الْمُرْضِعَةِ ، قَالَ الرَّبِيعُ : وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ أَنَّهَا خَمْسُ رَضَعَاتٍ اعْتِبَارًا بِشُرْبِ الْمُرْتَضَعِ ، وَاخْتُلِفَ فِي تَخْرِيجِ الرَّبِيعِ ، هَلْ هُوَ قَوْلٌ ثَانٍ لِلشَّافِعِيِّ أَوْ هُوَ وَجْهٌ قَالَهُ مَذْهَبًا لِنَفْسِهِ ، فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ ، وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَجْعَلَانِهِ وَجْهًا قَالَهُ مَذْهَبًا لِنَفْسِهِ ، وَكَانَ أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ وَجَمِيعُ الْبَصْرِيِّينَ يُخَرِّجُونَهُ قَوْلًا ثَانِيًا لِلشَّافِعِيِّ ، فَإِذَا قِيلَ بِالْقَوْلِ الْمَشْهُورِ : إِنَّهُ يَكُونُ رَضْعَةً وَاحِدَةً اعْتِبَارًا بِفِعْلِ الْمُرْضِعَةِ فَوَجْهُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ [ النِّسَاءِ : ] فَأَضَافَ فِعْلَ الرِّضَاعِ إِلَيْهِنَّ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُنَّ فِيهِ أَغْلَبَ ، وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي الْحُكْمِ وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَهْلَةَ فِي سَالِمٍ : أَرَضِعِيهِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ يَحْرُمُ بِهِنَّ عَلَيْكِ فَاعْتَبَرَ فِعْلَهَا ، وَإِذَا قِيلَ
بِالثَّانِي ، وَهُوَ تَخْرِيجُ الرَّبِيعِ : أَنَّهُ يَكُونُ خَمْسَ رَضَعَاتٍ اعْتِبَارًا بِشُرْبِ الْمُرْتَضَعِ فَوَجْهُهُ أَنَّ جِهَتَهُ أَقْوَى مِنْ جِهَةِ الْمُرْضِعَةِ لِوُقُوعِ التَّحْرِيمِ بِوُصُولِ اللَّبَنِ إِلَيْهِ لَا بِانْفِصَالِهِ عَنْهَا ؛ وَلِأَنَّ الْحَالِفَ لَا يَأْكُلُ إِلَّا مَرَّةً إِذَا جُمِعَ لَهُ الطَّعَامُ فَأَكَلَهُ مِرَارًا حَنِثَ اعْتِبَارًا بِأَكْلِهِ لَا يَجْمَعُهُ كَذَلِكَ الرِّضَاعُ . وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يُحْلَبَ لَبَنُهَا خَمْسَ مَرَّاتٍ فِي خَمْسَةِ أَوَانِي ، وَيَشْرَبَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً ، فَفِيهِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ أَحَدَهُمَا : يَكُونُ خَمْسَ رَضَعَاتٍ اعْتِبَارًا بِفِعْلِ الْمُرْضِعِ . " وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ رَضْعَةً وَاحِدَةً اعْتِبَارًا بِشُرْبِ الْمُرْتَضَعِ . وَأَمَّا إِذَا حُلِبَ خَمْسَ مَرَّاتٍ فِي خَمْسِ أَوَانِي ، ثُمَّ جُمِعَ فِي إِنَاءٍ وَشَرِبَهُ الْمُرْتَضَعُ فِي خَمْسِ مَرَّاتٍ ، فَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَكُونُ بِخَمْسِ رَضَعَاتٍ اعْتِبَارًا بِوُجُودِ الْعَدَدِ فِي الِانْفِصَالِ وَالِاتِّصَالِ . وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : يُعْتَبَرُ بَعْدَ الِاجْتِمَاعِ كَالْحَلْبَةِ الْوَاحِدَةِ يَشْرَبُهَا الْمُرْتَضَعُ خَمْسَ مَرَّاتٍ فَيَكُونُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ الِاجْتِمَاعِ فِيهِ صَارَ شَارِبًا فِي كُلِّ مَرَّةٍ مِنْ كُلِّ حَلْبَةٍ فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ الِاجْتِمَاعُ بَعْدَ وُجُودِ التَّفْرِقَةِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ تَزَوَّجَ صَغِيرَةً ، ثُمَّ أَرْضَعَتْهَا أُمُّهُ أَوِ ابْنَتُهُ مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ ، أَوِ امْرَأَةُ ابْنِهِ مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ بِلَبَنِ ابْنِهِ حَرُمَتْ عَلَيْهِ الصَّغِيرَةُ أَبَدًا وَكَانَ لَهَا عَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ رَجَعَ عَلَى الَّتِي أَرْضَعَتْهَا بِنِصْفِ صَدَاقِ مِثْلِهَا ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ أَفْسَدَ شَيْئًا لَزِمَهُ قِيمَةُ مَا أَفْسَدَ بِخَطَأٍ أَوْ عَمْدٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ صَغِيرَةً لَهَا دُونَ الْحَوْلَيْنِ ، فَأَرْضَعَتْهَا ذَاتُ قُرَابَةٍ لَهُ مِنْ نَسَبٍ أَوْ رِضَاعٍ ، فَالْكَلَامُ فِيهَا يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ : أَحَدُهَا : فِي تَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ . وَالثَّانِي : فِيمَا تَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهِ الصَّغِيرَةُ الْمُرْضَعَةُ . وَالثَّالِثُ : فِيمَا تَسْتَحِقُّهُ عَلَى الْكَبِيرَةِ الْمُرْضِعَةِ . فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي تَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ : فَهُوَ أَنْ يُعْتَبَرَ حَالُ الْمُرْضِعَةِ ، فَإِنْ كَانَتْ مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ ابْنَتُهَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ الصَّغِيرَةُ بِرِضَاعِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ مَنْ لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ ابْنَتُهَا لَمْ تَحْرُمِ الصَّغِيرَةُ ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُنْظَرَ حَالُ الْمُرْضِعَةِ ، فَإِنْ كَانَتْ أُمَّ الزَّوْجِ مِنْ نَسَبٍ أَوْ رِضَاعٍ حَرُمَتِ الصَّغِيرَةُ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ أُخْتَهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَرْضَعَتْهَا إِحْدَى جَدَّاتِهِ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ خَالَتَهُ ، وَلَوْ أَرْضَعَتْهَا ابْنَتُهُ مِنْ نَسَبٍ أَوْ رِضَاعٍ حَرُمَتِ الصَّغِيرَةُ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ
بِنْتَ بِنْتِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَرْضَعَتْهَا وَاحِدَةٌ مِنْ بَنَاتِ بَنِيهِ أَوْ بَنَاتِهِ : لِأَنَّهَا صَارَتْ وَلَدَ وَلَدِهِ ، وَلَوْ أَرْضَعَتْهَا أُخْتُهُ مَنْ نَسَبٍ أَوْ رِضَاعٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ بَنَاتُ إِخْوَتِهِ وَأَخَوَاتِهِ . وَلَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ لَوْ أَرْضَعَتْهَا خَالَتُهُ أَوْ عَمَّتُهُ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ بَنَاتُ خَالَاتِهِ وَلَا بَنَاتُ عَمَّاتِهِ ، وَلَوْ أَرْضَعَتْهَا زَوْجَةُ أَبِيهِ بِلَبَنِ أَبِيهِ حَرُمَتْ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ أُخْتَهُ وَلَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ لَوْ أَرْضَعَتْهَا بِغَيْرِ لَبَنِ أَبِيهِ ؛ لِأَنَّهَا رَبِيبَةُ أَبِيهِ ، وَلَوْ أَرْضَعَتْهَا امْرَأَةُ ابْنَةٍ بِلَبَنِ ابْنِهِ حَرُمَتْ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ بِنْتَ ابْنِهِ ، وَلَا تَحْرُمُ لَوْ أَرْضَعَتْهَا بِغَيْرِ لَبَنِ ابْنِهِ ، لِأَنَّهَا رَبِيبَةُ ابْنِهِ ، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْمِثَالِ ، فَإِذَا لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ كَانَ النِّكَاحُ بِحَالِهِ ، وَإِنْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ بَطَلَ نِكَاحُهَا ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَهَا مُؤَبَّدٌ ، وَمَنْ تَأَبَّدَ تَحْرِيمُهَا بَطَلَ نِكَاحُهَا فِي الِابْتِدَاءِ وَالِاسْتِدَامَةِ كَالْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ إِذَا ثَبَتَ بِهِ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ بَطَلَ بِهَا نِكَاحُ الْمُحَرَّمَةِ "
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي : فِيمَا يَجِبُ لِلْمُحَرَّمَةِ عَلَى الزَّوْجِ من أحكام الرضاع فَذَلِكَ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الرِّضَاعِ وَهُوَ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَنْفَرِدَ بِهِ الصَّغِيرَةُ فَتَرْضَعَ مِنْ لَبَنِ الْكَبِيرَةِ وَهِيَ نَائِمَةٌ لَا تَعْلَمُ بِارْتِضَاعِ الصَّغِيرَةِ فَلَا مَهْرَ لَهَا ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ جَاءَ مِنْ قِبَلِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَسَقَطَ بِهِ مَهْرُهَا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ تَنْفَرِدَ بِهِ الْكَبِيرَةُ فَتُرْضِعَهَا ، فَلِلصَّغِيرَةِ عَلَى زَوْجِهَا نِصْفُ مَهْرِهَا الْمُسَمَّى ؛ لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لَهَا فِي الْفَسْخِ فَصَارَ كَطَلَاقِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَشْتَرِكَا فِيهِ . وَالِاشْتِرَاكُ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَتَمَيَّزَا فِي الشَّرِكَةِ . وَالثَّانِي : أَنْ لَا يَتَمَيَّزَا فِيهَا . فَالَّذِي لَا يَتَمَيَّزَانِ فِيهِ أَنْ تَبْتَدِئَ الصَّغِيرَةُ فِي كُلِّ رَضْعَةٍ بِالْتِقَامِ الثَّدْيِ ، وَتُمَكِّنُهَا الْكَبِيرَةُ مِنْ شُرْبِهِ وَلَا تَنْزِعُ ثَدْيَهَا مِنْ فَمِهَا ، فَفِيهِ وَجْهَانِ مُحْتَمَلَانِ : أَحَدُهُمَا : يُغَلَّبُ فِيهِ فِعْلُ الْكَبِيرَةِ ؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَةَ تَبَعٌ لَهَا فَعَلَى هَذَا يَجِبُ لِلصَّغِيرَةِ نِصْفُ مَهْرِهَا الْمُسَمَّى . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَكُونَانِ فِي التَّحْرِيمِ سَوَاءً ؛ لِأَنَّ الْبُلُوغَ فِي فِعْلِ هَذَا التَّحْرِيمِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فَعَلَى هَذَا يَصِيرُ التَّحْرِيمُ مِنْ فِعْلِهَا ، فَيَسْقُطُ مَنْ نِصْفِ الْمَهْرِ مَا قَابَلَ فِعْلَهَا وَهُوَ نِصْفُ النِّصْفِ ، وَيَبْقَى نِصْفُهُ وَهُوَ الرُّبْعُ فَتَسْتَحِقُّ رُبْعَ مَهْرِهَا عَلَى الزَّوْجِ ، وَإِنْ كَانَ اشْتِرَاكُهُمَا فِي الرِّضَاعِ مُتَمَيِّزًا . مِثَالُهُ أَنْ تَنْفَرِدَ الْكَبِيرَةُ بِأَنْ تُرْضِعَهَا بَعْضَ الرَّضَعَاتِ الْخَمْسِ وَتَنْفَرِدَ الصَّغِيرَةُ بِأَنْ تَرْضَعَ بَعْضَ الرَّضَعَاتِ الْخَمْسِ لمن رضعت من اثنتين فَفِيهِ وَجْهَانِ مُحْتَمَلَانِ :
أَحَدُهُمَا : يُغَلَّبُ فِيهِ حُكْمُ مَنْ تَفَرَّدَ بِالرَّضْعَةِ الْخَامِسَةِ ؛ لِأَنَّ بِهَا وَقَعَ التَّحْرِيمُ فَإِنْ تَفَرَّدَتْ بِهَا الصَّغِيرَةُ فَلَا مَهْرَ لَهَا ، وَإِنْ تَفَرَّدَتْ بِهَا الْكَبِيرَةُ فَلِلصَّغِيرَةِ نِصْفُ مَهْرِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَتَقَسَّطُ نِصْفُ الْمَهْرِ عَلَى أَعْدَادِ الرَّضَعَاتِ ؛ لِأَنَّ الْخَامِسَةَ لَمْ تُحَرِّمْ إِلَّا بِمَا تَقَدَّمَهَا فَصَارَ لِكُلِّ رَضْعَةٍ تَأْثِيرٌ فِي التَّحْرِيمِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَتِ الصَّغِيرَةُ قَدِ انْفَرَدَتْ بِرَضْعَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَالْكَبِيرَةُ بِأَرْبَعِ رَضَعَاتٍ سَقَطَ مِنْ نِصْفِ مَهْرِ الصَّغِيرَةِ خَمْسَةٌ ، وَوَجَبَ لَهَا أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ النِّصْفِ مِنْ مَهْرِهَا ، وَإِنْ تَفَرَّدَتْ مُرْضِعَةٌ بِوَاحِدَةٍ ، وَالصَّغِيرَةُ بِأَرْبَعِ رَضَعَاتٍ سَقَطَ مِنْ نِصْفِ مَهْرِهَا أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ ، وَوَجَبَ لَهَا مِنْ نِصْفِ مَهْرِهَا خُمْسُهُ ، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ : وَهُوَ مَا يَسْتَحِقُّهُ الزَّوْجُ عَلَى الْمُرْضِعَةِ الْمُحَرَّمَةِ إِذَا صَارَ التَّحْرِيمُ مَنْسُوبًا إِلَيْهَا فَمُعْتَبَرٌ بِحَالِهَا أحكام الرضاع ، وَلَهَا حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ لَا يَثْبُتُ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا ، وَفِي ذِمَّتِهَا مَالٌ كَأُمِّ الْوَلَدِ ، فَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ لَا يَمْلِكُ فِي ذِمَّةِ أَمَتِهِ مَالًا ، وَإِنْ كَانَتْ مُكَاتَبَةً رَجَعَ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّهَا بِالْكِتَابَةِ قَدْ مَلَكَتْ مَا بِيَدِهَا ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا إِنْ كَانَتْ مُدَبَّرَةً ؛ لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ مَا بِيَدِهَا كَالْأَمَةِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ تَكُونَ مَنْ يَمْلِكُ الزَّوْجُ عَلَيْهَا وَفِي ذِمَّتِهَا مَالًا كَسَائِرِ الْحَرَائِرِ ، فَلَهَا فِي الرِّضَاعِ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ تَكُونَ بِإِذْنِ الزَّوْجِ فَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ إِرَادَتَهُ كَالْإِبْرَاءِ كَمَنِ اسْتَحْفَرَ أَجِيرًا بِئْرًا فِي أَرْضٍ لَا يَمْلِكُهَا كَانَ غُرْمُ مَا تَلَفَ بِهَا مَضْمُونًا عَلَى الْآمِرِ ، وَلَا يُرْجَعُ بِهِ عَلَى الْمَأْمُورِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ لَا يَأْذَنَ لَهَا الزَّوْجُ وَتَكُونَ هِيَ الْمُنْفَرِدَةَ بِالرِّضَاعِ ، فَالْكَلَامُ فِيهِ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ : أَحَدُهَا : فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ . وَالثَّانِي : فِي قَدْرِهِ . وَالثَّالِثُ : فِي صِفَتِهِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْحُكْمُ الْأَوَّلُ ، وَهُوَ وُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَى الْمُرْضِعَةِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمُرْضِعَةَ ضَامِنَةٌ ، يَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَيْهَا بِغُرْمِ التَّحْرِيمِ سَوَاءٌ قَصَدَتِ الْمُرْضِعَةُ التَّحْرِيمَ أَوْ لَمْ تَقْصِدْهُ .
وَالثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّ الْمُرْضِعَةَ غَيْرُ ضَامِنَةٍ لِغُرْمِ التَّحْرِيمِ سَوَاءٌ قَصَدَتِ التَّحْرِيمَ أَوْ لَمْ تَقْصِدْهُ بِأَنْ خَافَتْ تَلَفَ الصَّغِيرَةِ ، فَأَرْضَعَتْهَا أَوِ اسْتُؤْجِرَتْ مُرْضِعًا لَهَا . وَالثَّالِثُ : وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا إِنْ قَصَدَتِ التَّحْرِيمَ ضَمِنَتْ ، وَإِنْ لَمْ تَقْصِدْهُ لَمْ تَضْمَنْ ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ تَحْرِيمَ الرِّضَاعِ سَبَبٌ ؛ لِأَنَّ الرِّضَاعَ يُثْبِتُ الْحُرْمَةَ ، ثُمَّ يَبْطُلُ النِّكَاحُ بِثُبُوتِ الْحُرْمَةِ ، وَالِاسْتِهْلَاكُ إِذَا كَانَ بِسَبَبٍ لَمْ يَكُنْ عَنْ مُبَاشَرَةٍ ، فُرِّقَ فِيهِ بَيْنَ التَّعَدِّي بِالْقَصْدِ ، وَبَيْنَ مَنْ لَيْسَ بِقَاصِدٍ وَلَا مُتَعَدٍّ ، كَحَافِرِ الْبِئْرِ إِنْ تَعَدَّى بِحَفْرِهَا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ ضَمِنَ ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَدَّ بِحَفْرِهَا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ لَمْ يَضْمَنْ . وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ إِلَى قَوْلِهِ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا فَمَنَحَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ رَدَّ الْمُسْلِمَةَ الْمُهَاجِرَةَ عَلَى زَوْجِهَا مَعَ اشْتِرَاطِ رَدِّ مَنْ أَسْلَمَ عَلَيْهِمْ وَأَوْجَبُ غُرْمَ مَهْرِهَا لِلزَّوْجِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ ، فَكَذَلِكَ الْمُرْضِعَةُ ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ مَا صَحَّ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا بِالْعَقْدِ صَحَّ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا بِالْإِتْلَافِ كَالْأَمْوَالِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ أَنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ إِذَا ضُمِّنَتْ بِالْعَمْدِ ضُمِّنَتْ بِالْخَطَأِ كَالْأَمْوَالِ ؛ وَلِأَنَّ تَحْرِيمَ الزَّوْجَةِ بِالرِّضَاعِ يُوجِبُ الضَّمَانَ كَالْعَمْدِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ التَّحْرِيمَ عَنْ سَبَبٍ فَهُوَ أَنَّ كَوْنَ السَّبَبِ عُدْوَانًا يُوجِبُ الضَّمَانَ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ كَمَا فِي حَفْرِ الْبِئْرِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ يَضْمَنُ لِتَعَدِّيهِ ، وَفِي مِلْكِهِ لَا يَضْمَنُ لِعَدَمِ تَعَدِّيهِ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ ، وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ الْمُرْضِعَةَ إِنْ أَرْضَعَتْ بِشَرْعٍ أَوْجَبَ عَلَيْهَا الرِّضَاعَ كَالَّتِي يُخَافُ تَلَفُهَا إِنْ لَمْ تُرْضِعْهَا لَمْ تَضْمَنْ وَإِنْ لَمْ يُوجِبْهُ الشَّرْعُ عَلَيْهَا ضَمِنَتْ ، وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ مِنْ سُقُوطِ الْغُرْمِ ، وَإِنَّمَا هُوَ وَجْهٌ فِي سُقُوطِ الْمَاءِ ، ثُمَّ كَمَنَ خَافَ تَلَفَ نَفْسِهِ فَأَحْيَاهَا بِمَالِ غَيْرِهِ ضَمِنَ وَلَمْ يَأْثَمْ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّانِي وَهُوَ قَدْرُ الضَّمَانِ إِذَا وَجَبَ عَلَى الْمُرْضِعَةِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : تَرْجِعُ عَلَيْهِ بِنِصْفِ الْمَهْرِ ، وَقَالَ فِي الشَّاهِدَيْنِ " إِذَا شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ بِطَلَاقِ زَوْجَتِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ ، ثُمَّ رَجَعَا عَنِ الشَّهَادَةِ غَرِمَا لَهُ جَمِيعَ الْمَهْرِ " فِيمَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ عَنْهُ بِخِلَافِ الرِّضَاعِ ، وَنَقَلَ الرَّبِيعُ عَنْهُ أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الْمَهْرِ كَالرِّضَاعِ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الرَّضَاعِ وَالشَّهَادَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ طُرُقٍ : أَحَدُهَا : وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ أَنْ جَمَعُوا بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ وَخَرَّجُوهَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُرْجَعُ فِي الرِّضَاعِ وَالشَّهَادَةِ بِنِصْفِ الْمَهْرِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الرِّضَاعِ ؛ لِأَنَّهُ الْقَدْرُ الَّذِي غَرِمَهُ الزَّوْجُ فَلَمْ يُرْجَعْ بِأَكْثَرَ مِنْهُ .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُرْجَعُ فِي الرِّضَاعِ وَالشَّهَادَةِ بِجَمِيعِ الْمَهْرِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الشَّهَادَةِ لِمَا فِيهِمَا مِنِ اسْتِهْلَاكِ الْبُضْعِ عَلَيْهِ بِالْإِحَالَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ ، فَوَجَبَ ضَمَانُ قِيمَتِهِ ، وَهُوَ جَمِيعُ الْمَهْرِ . وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ : وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ الْجَوَابَ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ فَيُرْجَعُ فِي الرِّضَاعِ بِنِصْفِ الْمَهْرِ ، وَيُرْجَعُ فِي الشَّهَادَةِ بِجَمِيعِ الْمَهْرِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْفُرْقَةَ فِي الرِّضَاعِ وَقَعَتْ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ حَقِيقَةً ، وَالزَّوْجُ بِهَا مُعْتَرِفٌ ، وَقَدْ رَجَعَ إِلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ فَلَمْ يُرْجَعْ عَلَى الْمُرْضِعَةِ إِلَّا بِالنِّصْفِ الَّذِي الْتَزَمَهُ ، وَخَالَفَ الشَّهَادَةَ لِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِهَا فِي الظَّاهِرِ وَاعْتِرَافِ الشُّهُودِ بِإِحْلَالِهَا لَهُ ، وَأَنَّهُ لَمْ يَسْتَرْجِعْ مِنَ الْمَهْرِ شَيْئًا ، فَلِذَلِكَ رَجَعَ عَلَيْهِمْ بِقِيمَةِ مَا فَوَّتُوهُ عَلَيْهِ مِنَ الْبُضْعِ وَهُوَ جَمِيعُ الْمَهْرِ . وَالطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ : أَنَّهُ يُرْجَعُ فِي الرِّضَاعِ بِنِصْفِ الْمَهْرِ ، فَأَمَّا الشَّهَادَةُ فَعَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ فَالْمَوْضِعُ الَّذِي قَالَ يُرْجَعُ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ بِجَمِيعِ الْمَهْرِ ، إِذَا كَانَ الزَّوْجُ قَدْ سَاقَ إِلَيْهَا جَمِيعَهُ ؛ لِأَنَّهُ بِإِنْكَارِ الطَّلَاقِ لَا يُرْجَعُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ مِنْهُ فَصَارَ مُلْتَزِمًا بِجَمِيعِهِ ، فَلِذَلِكَ رَجَعَ بِجَمِيعِهِ عَلَى الشُّهُودِ ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي يُرْجَعُ بِنِصْفِ الْمَهْرِ إِذَا لَمْ يَكُنْ قَدْ دُفِعَ إِلَيْهَا جَمِيعُ الصَّدَاقِ فَلَا يَلْزَمُهُ إِلَّا دَفْعُ نِصْفِهُ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَةَ بِادِّعَاءِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ لَا تَسْتَحِقُّ إِلَّا نِصْفَ الْمَهْرِ ، فَصَارَ الَّذِي لَزِمَهُ نِصْفُ الْمَهْرِ فَلَا يُرْجَعُ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ بِأَكْثَرَ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ صِفَةُ الضَّمَانِ فَالْكَلَامُ فِيهِ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : صِفَةُ مَا تَضَمَّنَهُ الزَّوْجُ لِزَوْجَتِهِ الْمُرْتَضَعَةِ ، وَذَلِكَ مُعْتَبَرٌ بِالْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ وَإِنْ كَانَ قَدْرَ مَهْرِ الْمِثْلِ فَمَا زَادَ وَجَبَ لَهَا نِصْفُ الْمُسَمَّى ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الَّذِي بِيَدِهِ عَقْدُ النِّكَاحِ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ الزَّوْجُ دُونَ الْأَبِ لَمْ يَكُنْ لِلْأَبِ أَنْ يُزَوِّجَ بِنْتَهُ الصَّغِيرَةَ بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ فَيَكُونَ الْمُسَمَّى إِذَا نَقَصَ مِنْهُ بَاطِلًا ، وَيَجِبُ لَهَا نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ ، وَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ الْأَبُ ، فَفِي جَوَازِ تَزْوِيجِهِ لَهَا بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لَهُ أَنْ يُبَرِّئَ مِنْ جَمِيعِ الْمَهْرِ ، فَأَوْلَى أَنْ يُزَوِّجَ بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ ، فَتَكُونُ لَهَا نِصْفُ الْمُسَمَّى ، وَإِنْ نَقَصَ عَنْ مَهْرِ مِثْلِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُزَوِّجَهَا بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يُبَرِّئَ مِنْ جَمِيعِ مَهْرِهَا ؛ لِأَنَّهُ يُبَرِّئُ مِنْهُ بَعْدَ الطَّلَاقِ لِيَسْتَفِيدَ مِثْلُهُ فِي النِّكَاحِ الْمُسْتَقْبَلِ وَخَالَفَ ابْتِدَاءَ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَسْقَطَ لَهَا حَقًّا لَا يَسْتَفِيدُ مِثْلُهُ .
وَالْفَصْلُ الثَّانِي : صِفَةُ مَا تَضْمَنُهُ الْمُرْضِعَةُ لِلزَّوْجِ ، وَهُوَ نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى ، سَوَاءٌ زَادَ عَلَيْهِ أَوْ نَقَصَ مِنْهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُرْجَعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الْمُسَمَّى ؛ لِأَنَّهُ الْقَدْرُ الَّذِي غَرِمَهُ فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَّا بِمِثْلِهِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ ضَمِنَ الْمَهْرَ بِالْعَقْدِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا الْمُسَمَّى فِيهِ ، وَالْمُرْضِعَةُ اسْتَهْلَكَتِ الْبُضْعَ بِالتَّحْرِيمِ فَلَزِمَهَا قِيمَةُ مَا اسْتَهْلَكَتْ وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ كَمَنِ اسْتَهْلَكَ عَلَى الْمُشْتَرِي مَا اشْتَرَاهُ لَمْ يُغَرَّمْ إِلَّا الْقِيمَةَ ، وَإِنْ غُرِّمَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ الْمُسَمَّى بِزِيَادَتِهِ وَنَقْصِهِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفًا ، وَقَدْ أَصْدَقَهَا أَلْفَيْنِ غَرِمَ لَهَا أَلْفًا وَرَجَعَ عَلَى الْمُرْضِعَةِ بِخَمْسِمِائَةٍ ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ مُحَابَاةٌ كَالْعَطَايَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ أَرْضَعَتْهَا امْرَأَةٌ لَهُ كَبِيرَةٌ لَمْ يُصِبْهَا حَرُمَتِ الْأَمُّ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أُمَّهَاتِ نِسَائِهِ ، وَلَا نِصْفَ مَهْرٍ لَهَا وَلَا مُتْعَةَ ؛ لِأَنَّهَا الْمُفْسِدَةُ وَفَسَدَ نِكَاحُ الْمُرْضَعَةِ بِلَا طَلَاقٍ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ وَأُمُّهَا فِي مِلْكِهِ فِي حَالٍ ، وَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ وَيُرْجَعُ عَلَى الَّتِي أَرْضَعَتْهَا بِنِصْفِ مَهْرِ مِثْلِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ لَهُ زَوْجَتَانِ صُغْرَى وَكُبْرَى ، أَرْضَعَتِ الْكُبْرَى الصُّغْرَى خَمْسَ رَضَعَاتٍ فما الحكم فَالْكَلَامُ فِيهَا يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ : أَحَدُهَا : فَسْخُ النِّكَاحِ . وَالثَّانِي : ثُبُوتُ التَّحْرِيمِ . وَالثَّالِثُ : الْمَهْرُ . فَأَمَّا الْحُكْمُ الْأَوَّلُ فَهُوَ بُطْلَانُ النِّكَاحِ فَفِيهِ أَرْبَعَةُ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي ذُؤَيْبٍ : إِنَّ النِّكَاحَ لَا يَنْفَسِخُ بِرِضَاعِ الضَّرَائِرِ . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : مَا حَكَاهُ ابْنُ بُكَيْرٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَدْخُلْ بِالْكُبْرَى بَطَلَ نِكَاحُهَا ، وَثَبَتَ نِكَاحُ الصُّغْرَى . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ : إِنَّهُ إِذَا لَمْ يَدْخُلْ بِالْكُبْرَى ثَبَتَ نِكَاحُهَا وَبَطَلَ نِكَاحُ الصُّغْرَى . وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ : وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ : إِنَّهُ بَطَلَ بِالرِّضَاعِ نِكَاحُهُمَا مَعًا سَوَاءٌ دَخَلَ بِالْكُبْرَى ، أَوْ لَمْ يَدْخُلْ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ جَامِعًا بَيْنَ امْرَأَةٍ وَبِنْتِهَا . وَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّانِي : وَهُوَ التَّحْرِيمُ فَتَحْرُمُ عَلَيْهِ الْكُبْرَى عَلَى التَّأْبِيدِ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أُمَّهَاتِ نِسَائِهِ ، وَأَمَّا الصُّغْرَى فَتَحْرِيمُهَا مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الْكُبْرَى فَإِنْ دَخَلَ بِهَا حَرُمَتِ
الصُّغْرَى ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا لَمْ تَحْرُمِ الصُّغْرَى ؛ لِأَنَّهَا مِنْ رَبَائِبِهِ وَتَحْرِيمُ الرَّبِيبَةِ يَكُونُ بِدُخُولِهِ بِالْأُمِّ . وَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ الْمَهْرُ فَلِلصُّغْرَى عَلَيْهِ نِصْفُ مَهْرِهَا الْمُسَمَّى ؛ لِأَنَّ فَسْخَ نِكَاحِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ كَانَ مِنْ غَيْرِهَا ، وَيُرْجَعُ عَلَى الْكُبْرَى بِنِصْفِ مَهْرِ مِثْلِهَا أَوْ بِجَمِيعِهِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ . وَأَمَّا مَهْرُ الْكُبْرَى ، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَقَدِ اسْتَحَقَّتْ جَمِيعَهُ وَإِلَّا سَقَطَ بِالرِّضَاعِ كَالْمُرْتَدَّةِ بَعْدَ الدُّخُولِ ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا سَقَطَ مَهْرُهَا ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ مِنْ جِهَتِهَا كَالرِّدَّةِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَوْ تَزَوَّجَ ثَلَاثًا صِغَارًا فَأَرْضَعَتِ الْمَرْأَةُ اثْنَتَيْنِ مِنْهُنَّ الرَّضْعَةَ الْخَامِسَةَ مَعًا فما الحكم ؟ فَسَدَ نِكَاحُ الْأُمِّ وَنِكَاحُ الصَّبِيَّتَيْنِ وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ نِصْفُ الْمَهْرِ الْمُسَمَّى ، وَيَرْجِعُ عَلَى امْرَأَتِهِ بِمِثْلِ نِصْفِ مَهْرِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَتَحِلُّ لَهُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ ؛ لِأَنَّهُمَا ابْنَتَا امْرَأَةٍ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَإِنْ أَرْضَعَتِ الثَّالِثَةَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ تُحَرَّمْ لِأَنَّهَا مُنْفَرِدَةٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا اعْتَمَدَتِ الْكُبْرَى وَلَهُ مَعَهَا ثَلَاثٌ صِغَارٌ ، فَأَرْضَعَتِ اثْنَتَيْنِ مِنْهُنَّ خَمْسَ رَضَعَاتٍ مَعًا بَطَلَ نِكَاحُهَا ، وَنِكَاحُ الْكُبْرَى ، وَلِتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْكُبْرَى عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مِنْ أُمَّهَاتِ نِسَائِهِ فَكَانَ تَحْرِيمُهَا مُؤَبَّدًا ، وَلِتَحْرِيمِ نِكَاحِ الصَّغِيرَتَيْنِ عِلَّتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنَّهُمَا مِنْ رَبَائِبِهِ فَإِنْ دَخَلَ بِالْأُمِّ حَرُمَتَا عَلَى التَّأْبِيدِ ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا لَمْ يَتَأَبَّدْ تَحْرِيمُهُمَا . وَالْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ : أَنَّهُمَا صَارَتَا أُخْتَيْنِ فَحَرُمَتَا تَحْرِيمَ جَمْعٍ ، وَحَلَّ لَهُ إِذَا لَمْ يَدْخُلْ بِالْأُمِّ أَنْ يَنْكِحَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ وَلَا يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا فِي عَقْدٍ ، فَأَمَّا مُهُورُهُنَّ فَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الصَّغِيرَتَيْنِ نِصْفُ مَهْرِهَا الْمُسَمَّى فَيَرْجِعُ عَلَى الْكُبْرَى بِنِصْفِ مَهْرِ مِثْلِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ . وَأَمَّا الْكُبْرَى فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا جَمِيعُ مَهْرِهَا ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَلَا مَهْرَ لَهَا ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ جَاءَ مِنْ قِبَلِهَا ، فَعَلَى هَذَا لَوْ عَادَتِ الْكُبْرَى فَأَرْضَعَتِ الصَّغِيرَةَ الثَّالِثَةَ لَمْ يَبْطُلْ نِكَاحُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ دَخَلَ بِالْكُبْرَى وَيَبْطُلُ إِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ أَرْضَعَتْ إِحْدَاهُنَّ الرَّضْعَةَ الْخَامِسَةَ ، ثُمَّ الْأُخْرَيَيْنِ الْخَامِسَةَ مَعًا فما الحكم ؟ حَرُمْتَ عَلَيْهِ وَالَّتِي أَرْضَعَتْهَا أَوَّلًا لِأَنَّهُمَا صَارَتَا أُمًّا وَبِنْتًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مَعًا وَحَرُمَتِ الْأُخْرَيَانِ ؛ لِأَنَّهُمَا صَارَتَا أُخْتَيْنِ فِي وَقْتٍ مَعَا " .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ الْكُبْرَى إِذَا أَرْضَعَتِ الْأُولَى مِنَ الصَّغَائِرِ بَطَلَ نِكَاحُهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا صَارَتَا أُمًّا وَبِنْتًا وَحَرُمُ نِكَاحُ الْكُبْرَى ، عَلَى التَّأْبِيدِ ، فَأَمَّا الصُّغْرَى ، فَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِالْكُبْرَى حَرُمَتْ عَلَى التَّأْبِيدِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ دَخَلَ بِهَا حَلَّتْ ، وَلِلصَّغِيرَةِ نِصْفُ مَهْرِهَا وَيَرْجِعُ عَلَى الْكَبِيرَةِ بِنِصْفِ مَهْرِ مِثْلِهَا فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، وَفِي الْآخَرِ بِجَمِيعِهِ عَلَى مَا مَضَى ، وَلَا مَهْرَ لِلْكَبِيرَةِ إِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا ؛ وَلِأَنَّ الْفَسْخَ مِنْ قِبَلِهَا وَلَهَا جَمِيعُ الْمَهْرِ إِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا ، فَإِنْ عَادَتِ الْكُبْرَى فَأَرْضَعَتِ الصَّغِيرَتَيْنِ الْبَاقِيَتَيْنِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ مَعًا ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ دُخُولِهِ بِالْكُبْرَى حَرُمَتَا عَلَى التَّأْبِيدِ ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِالْكُبْرَى حَرُمَتَا تَحْرِيمَ الْجَمْعِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ جَامِعًا بَيْنَ أُخْتَيْنِ ، وَحَلَّ لَهُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ نِكَاحَ مَنْ شَاءَ مِنَ الثَّلَاثِ الصَّغَائِرِ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ اثْنَتَيْنِ مِنْهُنَّ ؛ لِأَنَّهُنَّ أَخَوَاتٌ وَالْكَلَامُ عَلَى الْمَهْرِ عَلَى مَا مَضَى .
فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ لَهُ زَوْجَةٌ صَغِيرَةٌ وَثَلَاثُ زَوْجَاتٍ كِبَارٌ فَأَرْضَعَتْ إِحْدَى الْكِبَارِ الصَّغِيرَةَ فما الحكم ؟ بَطَلَ نِكَاحُهَا ، فَإِنْ جَاءَتْ ثَانِيَةٌ مِنَ الْكِبَارِ فَأَرْضَعَتِ الصَّغِيرَةَ بَعْدَ بُطْلَانِ نِكَاحِهَا حَرُمَتِ الْكَبِيرَةُ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ أُمَّ مَنْ كَانَتْ زَوْجَةً لَهُ فَإِنْ جَاءَتِ الثَّالِثَةُ فَأَرْضَعَتْ تِلْكَ الصَّغِيرَةَ بَطَلَ نِكَاحُهَا أَيْضًا لِهَذَا الْمَعْنَى .
فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ لَهُ زَوْجَتَانِ صُغْرَى وَكُبْرَى ، فَطَلَّقَ إِحْدَاهُمَا ثُمَّ أَرْضَعَتِ الْكُبْرَى قَبْلَ دُخُولِهِ بِهَا الصُّغْرَى نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَتِ الْمُطَلَّقَةُ هِيَ الصُّغْرَى حُرِمَّتْ عَلَيْهِ الْكُبْرَى ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ أُمَّ مَنْ كَانَتْ زَوْجَتَهُ ، وَإِنْ كَانَتِ الْمُطَلَّقَةٌ هِيَ الْكُبْرَى لَمْ تَحْرُمِ الصُّغْرَى ؛ لِأَنَّهَا رَبِيبَتُهُ لَمْ يَدْخُلْ بِأُمِّهَا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ أَرْضَعَتْهُمَا مُتَفَرِّقَتَيْنِ لَمْ يَحْرُمَا مَعًا لَأَنَّهَا لَمْ تُرْضِعْ وَاحِدَةً مِنْهُمَا إِلَّا بَعْدَمَا بَانَتْ مِنْهُ هِيَ وَالْأُولَى ، فَيَثْبُتَ نِكَاحُ الَّتِي أَرْضَعَتْهُمَا بَعْدَمَا بَانَتِ الْأُولَى ، وَيَفْسَدَ نِكَاحُ الَّتِي أَرْضَعَتْهَا بَعْدَهَا ؛ لِأَنَّهَا أُخْتُ امْرَأَتِهِ فَكَانَتِ كَالْمَرْأَةِ نُكِحَتْ عَلَى أُخْتِهَا ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : لَيْسَ يَنْظُرُ الشَّافِعِيُّ فِي ذَلِكَ إِلَّا إِلَى وَقْتِ الرَّضَاعِ فَقَدْ صَارَتَا أُخْتَيْنِ فِي وَقْتٍ مَعًا بِرِضَاعِ الْآخِرَةِ مِنْهُمَا ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : وَلَا فَرْقَ بَيْنَ امْرَأَةٍ كَبِيرَةٍ أَرْضَعَتِ امْرَأَةً لَهُ صَغِيرَةً فَصَارَتَا أُمًّا وَبِنْتًا فِي وَقْتٍ مَعًا ، وَبَيْنَ أَجْنَبِيَّةٍ أَرْضَعَتْ لَهُ الْمَرْأَتَيْنِ صَغِيرَتَيْنِ فَصَارَتَا أُخْتَيْنِ فِي وَقْتٍ مَعًا وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ إِذَا أَرْضَعَتْ صَغِيرَةً ثُمَّ صَغِيرَةً كَامْرَأَةٍ نُكِحَتْ عَلَى أُخْتِهَا لَزِمَ إِذَا نَكَحَ كَبِيرَةً ، ثُمَّ صَغِيرَةً فَأَرْضَعَتْهَا أَنْ يَكُونَ كَالْمَرْأَةِ نُكِحَتْ عَلَى أُمِّهَا وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى مَا قُلْتُ أَنَا ، وَقَدْ قَالَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ الْقَدِيمِ لَوْ تَزَوَّجَ صَبِيَّتَيْنِ فَأَرْضَعَتْهُمَا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ بَعْدَ وَاحِدَةٍ انْفَسَخَ
نِكَاحُهُمَا ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ وَهَذَا وَذَاكَ سَوَاءٌ وَهُوَ بِقَوْلِهِ أَوْلَى " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ كَبِيرَةً وَثَلَاثًا صِغَارًا فَأَرْضَعَتِ الْكَبِيرَةُ مِنْ قَبْلِ دُخُولِهِ بِهَا إِحْدَى الصِّغَارِ فما الحكم ؟ فَبَطَلَ نِكَاحُهُمَا مَعًا ؛ لِأَنَّهُمَا أُمٌّ وَبِنْتٌ ، ثُمَّ عَادَتِ الْكَبِيرَةُ فَأَرْضَعَتْ ثَانِيَةً مِنَ الصَّغِيرَتَيْنِ الْبَاقِيَتَيْنِ لَمْ يَبْطُلْ نِكَاحُ الصَّغِيرَةِ ؛ لِأَنَّهَا بِنْتُ امْرَأَةٍ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا ، وَقَدْ بَانَتْ مِنْهُ فَإِنْ عَادَتِ الْكَبِيرَةُ فَأَرْضَعَتِ الصَّغِيرَةَ الثَّالِثَةَ بَطَلَ نِكَاحُ الثَّالِثَةِ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ أُخْتَ الثَّانِيَةِ ، وَهَلْ يَبْطُلُ بِهَا نِكَاحُ الثَّانِيَةِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمُزَنِيِّ ، وَأَبِي الْعَاصِ بْنِ سُرَيْجٍ : يَنْفَسِخُ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ بِرِضَاعِ الثَّالِثَةِ ؛ لِأَنَّهُمَا قَدْ صَارَتَا أُخْتَيْنِ فَصَارَ كَمَا لَوْ أَرْضَعَتْهُمَا مَعًا ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ بِصُغْرَى وَكُبْرَى فَأَرْضَعَتِ الْكُبْرَى الصُّغْرَى بَطَلَ نِكَاحُهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا صَارَتَا أُخْتَيْنِ ، وَإِنْ تَقَدَّمَ سَبَبُ الْكُبْرَى عَلَى رِضَاعِ الصُّغْرَى كَذَلِكَ هَاهُنَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّ نِكَاحَ الثَّانِيَةِ بِحَالِهِ لَا يَنْفَسِخُ بِرِضَاعِ الثَّالِثَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَنْفَسِخْ نِكَاحُهَا بِرِضَاعِهَا لَمْ يَنْفَسِخْ بِرِضَاعِ غَيْرِهَا وَصَارَتْ كَامْرَأَةٍ نُكِحَتْ عَلَيْهَا أُخْتُهَا يَبْطُلُ نِكَاحُ الْأُخْتِ وَثَبَتَ نِكَاحُهَا ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ مَلَكَ أَمَتَيْنِ أُخْتَيْنِ فَوَطِئَ إِحْدَاهُمَا كَانَتِ الْأُخْرَى مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ ، فَإِنْ وَطِئَهَا لَمْ تَحْرُمِ الْأُولَى بِوَطْءِ الثَّانِيَةِ وَكَانَتِ الْأُولَى عَلَى إِبَاحَتِهَا كَذَلِكَ تَحْرِيمُ الرِّضَاعِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ لَهُ أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ صِغَارٌ ، فَأَرْضَعَتْ أَجْنَبِيَّةٌ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الصِّغَارِ الْأَرْبَعِ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ قَدْ بَطَلَ نِكَاحُهُنَّ كُلُّهُنَّ فَيَبْطُلُ نِكَاحُ الْأُولَى بِرِضَاعِ الثَّانِيَةِ ، وَيَبْطُلُ نِكَاحُ الثَّالِثَةِ بِرِضَاعِ الرَّابِعَةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : ثَبَتَ نِكَاحُ الْأُولَى ، وَيَبْطُلُ نِكَاحُ الثَّلَاثِ بِرَضَاعِهِنَّ بَعْدَ الْأُولَى .
فَصْلٌ : وَلَوْ كَانَ لَهُ زَوْجَتَانِ صَغِيرَتَانِ فَأَرْضَعَتْ أَجْنَبِيَّةٌ إِحْدَاهُمَا ، ثُمَّ أَرْضَعَتْ أُمُّ الْأَجْنَبِيَّةِ الْأُخْرَى فما الحكم ؟ بَطَلَ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ خَالَةَ الْأُولَى ، وَفِي بُطْلَانِ نِكَاحِ الْأُولَى قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَبْطُلُ نِكَاحُ الْأُولَى بِرِضَاعِ الثَّانِيَةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يَبْطُلُ نِكَاحُ الْأُولَى ، وَإِنْ بَطَلَ بِالرِّضَاعِ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ ، وَكَانَ لِلَّتِي بَطَلَ نِكَاحُهَا نِصْفُ مَهْرِهَا ، وَيَرْجِعُ بِنِصْفِ مَهْرِ مِثْلِهَا فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ ، وَبِجَمِيعِهِ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ ، وَفِي الَّتِي يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِذَلِكَ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : عَلَى الْمُرْضِعَةِ الثَّانِيَةِ ؛ لِأَنَّ بِرِضَاعِهَا انْفَسَخَ النِّكَاحُ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُرْضِعَتَيْنِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ ؛ لِأَنَّ بِرِضَاعِهِمَا اسْتَقَرَّ فَسْخُ النِّكَاحِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوْ كَانَ لِلْكَبِيرَةِ بَنَاتٌ مَرَاضِعُ أَوْ مِنْ رَضَاعٍ فَأَرْضَعْنَ الصِّغَارَ كُلَّهُنَّ انْفَسَخَ نِكَاحُهُنَّ مَعًا وَرُجِعَ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِنِصْفِ مَهْرِ الَّتِي أَرْضَعَتْ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : وَيَرْجِعُ عَلَيْهِنَّ بِنِصْفِ مَهْرِ امْرَأَتِهِ الْكَبِيرَةِ إِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ جَدَّةً مَعَ بَنَاتِ بَنَاتِهَا مَعًا ، وَتَحْرُمُ الْكَبِيرَةُ أَبَدًا وَيَتَزَوَّجُ الصِّغَارَ عَلَى الِانْفِرَادِ وَلَوْ كَانَ دَخَلَ بِالْكَبِيرَةِ حَرُمْنَ جَمِيعًا أَبَدًا ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا فَأَرْضَعَتْهُنَّ أُمُّ امْرَأَتِهِ الْكَبِيرَةِ أَوْ جَدَّتُهَا أَوْ أُخْتُهَا أَوْ بِنْتُ أُخْتِهَا كَانَ الْقَوْلُ فِيهَا كَالْقَوْلِ فِي بَنَاتِهَا فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا أَنْ يَتَزَوَّجَ كَبِيرَةً وَثَلَاثَ صِغَارٍ ، وَلِلْكَبِيرَةِ ثَلَاثُ بَنَاتٍ مَرَاضِعَ أَيْ لَهُنَّ لَبَنٌ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ [ الْقَصَصِ : ] فَتُرْضِعُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ بَنَاتِ الْكَبِيرَةِ وَاحِدَةً مِنَ الزَّوْجَاتِ الصِّغَارِ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْكَبِيرَةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَدْخُولًا بِهَا أَوْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا ، فَإِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا بَطَلَ نِكَاحُ الْكَبِيرَةِ ، وَنِكَاحُ الثَّلَاثِ الصَّغَائِرِ عَلَى التَّأْبِيدِ سَوَاءٌ كَانَ رَضَاعُهُنَّ مَعًا ، أَوْ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ . أَمَّا الْكُبْرَى فَلِأَنَّهَا جَدَّةُ الصِّغَارِ ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ بَنَاتِهَا مِنْ نَسَبٍ أَوْ رِضَاعٍ . وَأَمَّا الصِّغَارُ ؛ فَلِأَنَّهُنَّ صِرْنَ بَنَاتِ امْرَأَةٍ قَدْ دَخَلَ بِهَا ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الصِّغَارِ نِصْفُ مَهْرِهَا ، وَتَرْجِعُ عَلَى الَّتِي حَرَّمَتْهَا بِنِصْفِ مَهْرِ مِثْلِهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا . وَأَمَّا الْكُبْرَى فَلَهَا جَمِيعُ مَهْرِهَا لِاسْتِقْرَارِهِ بِالدُّخُولِ ، فَإِنْ كَانَ بَنَاتُهَا أَرْضَعْنَ الصَّغَائِرَ مُتَفَرِّقَاتٍ وَاحِدَةً بَعْدَ أُخْرَى رَجَعَ بِمِثْلِ مَهْرِ الْكُبْرَى عَلَى الْمُرْضِعَةِ الْأُولَى عَلَى بَنَاتِهَا الثَّلَاثِ بِالسَّوِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُنَّ يَشْتَرِكْنَ فِي تَحْرِيمِهَا ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ مِنْ بَعْدُ أَنْ يَنْكِحَ وَاحِدَةً مِنَ الصَّغَائِرِ ؛ لِأَنَّهُنَّ رَبَائِبُ قَدْ دُخِلَ بِجَدَّتِهِنَّ وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ وَاحِدَةً مِنَ الْبَنَاتِ الْمُرْضَعَاتِ ؛ لِأَنَّهُنَّ مِنْ أُمَّهَاتِ نِسَائِهِ ، وَلِأَنَّهُنَّ بَنَاتُ امْرَأَةٍ قَدْ دَخَلَ بِهَا .
فَصْلٌ : وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِالْكُبْرَى لَمْ يَخْلُ رَضَاعُ بَنَاتِهَا لِلصَّغَائِرِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يُرْضِعْنَ الصَّغَائِرَ مَعًا أَوْ مُتَفَرِّقَاتٍ . فَإِنْ أَرْضَعَهُنَّ مَعًا مِثْلَ أَنْ يَنْفَرِدَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ بَنَاتِ الْكُبْرَى بِوَاحِدَةٍ مِنَ الصَّغَائِرِ فَتُرْضِعُهَا أَرْبَعَ رَضَعَاتٍ ، إِمَّا عَلَى الِاجْتِمَاعِ أَوْ عَلَى الِانْفِرَادِ ، ثُمَّ اتَّفَقُوا عَلَى إِجْمَاعِهِنَّ فِي الرَّضْعَةِ الْخَامِسَةِ مَعًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ فَيَبْطُلُ نِكَاحُ الْكُبْرَى وَالصَّغَائِرِ مَعًا ؛ لِأَنَّهُ صَارَ جَامِعًا بَيْنَ امْرَأَةٍ وَبَنَاتِ بَنَاتِهَا ، وَحَرُمَتِ الْكُبْرَى عَلَى التَّأْبِيدِ ؛ لِأَنَّهَا جَدَّةُ نِسَائِهِ وَحَرُمَ
بَنَاتُهَا الْمَرَاضِعُ عَلَى التَّأْبِيدِ ؛ لِأَنَّهُنَّ أُمَّهَاتُ نِسَائِهِ وَحَلَّ لَهُ الصَّغَائِرُ أَنْ يَتَزَوَّجَهُنَّ ؛ لِأَنَّهُنَّ رَبَائِبُ مِنْ غَيْرِ مَدْخُولٍ بِهَا ، وَجَازَ لَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُنَّ ؛ لِأَنَّهُنَّ بَنَاتُ خَالَاتٍ ، وَلَسْنَ بِأَخَوَاتٍ . وَقَالَ الْمُزَنِيُّ : يُنْكَحْنَ عَلَى الِانْفِرَادِ . وَهَذَا وَهْمٌ مِنَ الْمُزَنِيِّ سَهَا فِيهِ . وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : لَيْسَ ذَلِكَ بِوَهْمٍ مِنْهُ ، وَلَا سَهْوٍ ، وَإِنَّمَا صُوَرُ الْمَسْأَلَةِ فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ بَنَاتِ الْكُبْرَى أَرْضَعَتِ الثَّلَاثَ كُلَّهُنَّ فَصِرْنَ أَخَوَاتٍ وَبَنَاتِ خَالَاتٍ فَحَرُمَ الْجَمْعُ بَيْنَهُنَّ ؛ لِأَنَّهُنَّ أَخَوَاتٌ وَإِنْ لَمْ يَحْرُمْ بِأَنَّهُنَّ بَنَاتُ خَالَاتٍ . فَأَمَّا الْمَهْرُ فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الصَّغَائِرِ نِصْفُ مَهْرِهَا ، وَتَرْجِعُ بِنِصْفِ مَهْرِ مِثْلِهَا عَلَى الَّتِي حَرَّمَهَا ، وَيَكُونُ لِلْكُبْرَى نِصْفُ مَهْرِهَا ، وَتَرْجِعُ بِنِصْفِ مَهْرِ مِثْلِهَا عَلَى بَنَاتِهَا لِاشْتِرَاكِهِنَّ فِي تَحْرِيمِهَا .
فَصْلٌ : وَإِنِ افْتَرَقْنَ فِي الرِّضَاعِ فَأَرْضَعَتْ وَاحِدَةٌ مِنْ بَنَاتِ الْكُبْرَى لِوَاحِدَةٍ مِنَ الزَّوْجَاتِ ، ثُمَّ أَرْضَعَتْ ثَانِيَةٌ لِثَانِيَةٍ ، ثُمَّ أَرْضَعَتْ ثَالِثَةٌ لِثَالِثَةٍ بَطَلَ نِكَاحُ الْكُبْرَى وَالصَّغِيرَةِ الْأُولَى ، وَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفُ مَهْرِهَا ، وَيُرْجَعُ بِنِصْفِ مَهْرِ مِثْلِهَا عَلَى الْمُرْضِعَةِ الْأُولَى ؛ لِأَنَّهَا الْمُخْتَصَّةُ بِتَحْرِيمِهَا ، وَأَمَّا نِكَاحُ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ فَبِحَالِهِ ، وَعَلَى صِحَّتِهِ ؛ لِأَنَّهَا بَنَاتُ خَالَاتٍ ، وَيَجُوزُ أَنْ تَتَزَوَّجَ الْأُولَى فَيَصِيرُ جَامِعًا بَيْنَهُنَّ كُلِّهِنَّ لِهَذَا الْمَعْنَى .
فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ لَهُ ثَلَاثُ زَوْجَاتٍ كِبَارٍ وَرَابِعَةٌ صَغِيرَةٌ ، فَاجْتَمَعَ الْكِبَارُ عَلَى رِضَاعِ الصَّغِيرَةِ فَأَرْضَعْنَهَا خَمْسَ رَضَعَاتٍ بَيْنَهُنَّ لَمْ تَصِرْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ ، إِمَّا لِلصَّغِيرَةِ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَسْتَكْمِلْ رِضَاعَهَا خَمْسًا ، وَفِي تَحْرِيمِ الصَّغِيرَةِ عَلَى الزَّوْجِ إِذَا كَانَ اللَّبَنُ لَهُ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيِّ وَأَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ : لَا تَحْرُمُ عَلَى الزَّوْجِ وَلَا تَصِيرُ لَهُ وَلَدًا ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَ الرِّضَاعِ يَنْتَشِرُ عَنِ الْمُرْضِعَةِ إِلَى غَيْرِهَا ، فَلَمَّا لَمْ يَثْبُتْ تَحْرِيمُ الرِّضَاعِ فِي الْمُرْضِعَةِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَنْتَشِرَ إِلَى غَيْرِ الْمُرْضِعَةِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ نِكَاحُ الصَّغِيرَةِ وَالْكِبَارِ بِحَالِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : إِنَّ الصَّغِيرَةَ قَدْ صَارَتْ بِنْتًا لِلزَّوْجِ ، وَإِنْ لَمْ تَصِرْ بِنْتًا لِوَاحِدَةٍ مِنَ الْمُرْضِعَاتِ ؛ لِأَنَّ الْمُرْضِعَةَ تَصِيرُ أُمًّا إِذَا أَرْضَعَتْ خَمْسًا ، وَهَذِهِ قَدِ اسْتَكْمَلَتْ خَمْسَ رَضَعَاتٍ مِنْ لَبَنِهِ فَاسْتَوَى حُكْمُ الْخَمْسِ مِنْ وَاحِدَةٍ أَوْ مِنْ خَمْسٍ . فَعَلَى هَذَا يَبْطُلُ نِكَاحُ الصَّغِيرَةِ : لِأَنَّهَا صَارَتْ بِنْتَهُ ، وَلَا يَبْطُلُ نِكَاحُ وَاحِدَةٍ مِنَ
الْكِبَارِ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَصِرْ مِنْ أُمَّهَاتِ نِسَائِهِ ، وَيَكُونُ لِلصَّغِيرَةِ نِصْفُ مَهْرِهَا وَتَرْجِعُ بِنِصْفِ مَهْرِ مِثْلِهَا عَلَى الْكِبَارِ بَيْنَهُنَّ عَلَى أَعْدَادِ الزَّوْجَاتِ . وَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ خَمْسُ بَنَاتٍ مَرَاضِعُ اشْتَرَكْنَ فِي إِرْضَاعِ صَغِيرَةٍ فَأَرْضَعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ رَضْعَةً ، فَلَا تَكُونُ فِيهِنَّ أُمٌّ لَهَا ، وَهَلْ أَبُوهُنَّ جَدٌّ لَهَا وَيَصِرْنَ بِذَلِكَ اللَّبَنِ خَالَاتٍ أَمْ لَا ؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ الْأَنْمَاطِيِّ : إِنَّهُ لَا يَصِيرُ أَبُوهُنَّ جَدًّا لَهَا ، وَلَا هُنَّ خَالَاتِهَا وَلَا تَحْرُمُ عَلَى أَبِيهِنَّ وَلَا عَلَى إِخْوَتِهِنَّ ، وَيَجُوزُ لِلْأَجْنَبِيِّ إِذَا تَزَوَّجَ الصَّغِيرَةَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَنْ شَاءَ مِنَ الْمُرْضِعَاتِ الْخَمْسِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ صَارَ أَبُوهُنَّ جَدًّا لَهَا لِارْتِضَاعِهَا مِنْ لَبَنِ بَنَاتِهِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ ، فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ وَعَلَى أَوْلَادِهِ : لِأَنَّهُمْ أَخْوَالُهَا ، وَلَا يَجُوزُ لِلْأَجْنَبِيِّ إِذَا تَزَوَّجَهَا أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ إِحْدَى الْمُرْضِعَاتِ ؛ لِأَنَّهَا خَالَتُهَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً أَرْضَعَتْ مَوْلُودًا فَلَا بَأْسَ أَنْ تَتَزَوَّجَ الْمَرْأَةُ الْمُرْضِعَةُ أَبَاهُ ، وَيَتَزَوَّجَ الْأَبُ ابْنَتَهَا أَوْ أُمَّهَا عَلَى الِانْفِرَادِ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُرْضِعْهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا مَا تَقَدَّمَ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ ، وَقُلْنَا : إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا أَرْضَعَتْ طِفْلًا بِلَبَنِ زَوْجِهَا صَارَ ابْنًا لَهُمَا وَصَارَا أَبَوَيْنِ لَهُ فَانْتَشَرَتْ حُرْمَةُ الرِّضَاعِ مِنْهُمَا إِلَيْهِ ، بِأَنْ صَارَ وَلَدًا لَهُمَا ، وَانْتَشَرَتِ الْحُرْمَةُ مِنْهُ إِلَيْهِمَا بِأَنْ صَارَا أَبَوَيْنِ لَهُ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ التَّحْرِيمُ الْمُنْتَشِرُ إِلَى الْأَبَوَيْنِ مُتَعَدِّيًا عَنْهُمَا إِلَى كُلِّ مَنْ نَاسَبَهُمَا ، فَيَصِيرُ أَبُو الزَّوْجِ جَدًّا لَهُ مِنْ أَبٍ ، وَأُمُّهُ جَدَّةً لَهُ مِنْ أَبٍ ، وَإِخْوَةُ الْأَبِ أَعْمَامَهُ ، وَأَخَوَاتُ الْأَبِ عَمَّاتِهِ ، وَأَبُو الْمُرْضِعَةِ جَدًّا لَهُ مِنْ أُمٍّ ، وَأُمُّهَا جَدَّةً لَهُ مِنْ أُمٍّ ، فَكَذَلِكَ مَا عَلَا مِنْهُمَا . وَأَمَّا التَّحْرِيمُ الْمُنْتَشِرُ إِلَى الْوَلَدِ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ ، وَعَلَى وَلَدِهِ وَلَا يَتَعَدَّى مِنْهُ إِلَى أَبَوَيْهِ فَيَجُوزُ لِأَبِيهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالْمُرْضِعَةِ ؛ لِأَنَّ أُمَّ وَلَدِهِ مِنَ النَّسَبِ لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ ، وَيَجُوزُ لِأُمِّهِ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِأَبِيهِ مِنَ الرَّضَاعِ ، وَيَجُوزُ لِإِخْوَتِهِ وَأَخَوَاتِهِ أَنْ يَتَزَوَّجُوا بِأَبَوَيْهِ مِنَ الرَّضَاعِ ؛ لِأَنَّهُ لَا نَسَبَ بَيْنَهُمْ وَلَا رَضَاعَ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
فَصْلٌ : وَإِذَا زَوَّجَ الرَّجُلُ عَبْدَهُ الصَّغِيرَ بِأَمَتِهِ ، ثُمَّ أَعْتَقَهَا ، وَاخْتَارَتْ فَسْخَ نِكَاحِهِ ، وَتَزَوَّجَتْ فَنَزَلَ لَهَا مِنْ زَوْجِهَا لَبَنٌ أَرْضَعَتْ بِهِ الزَّوْجَ الْأَوَّلَ بَطَلَ نِكَاحُهَا مِنَ الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ صَارَ أَبًا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ ، فَصَارَتْ مِنْ حَلَائِلِ أَبْنَائِهِ فَحَرُمَتْ عَلَيْهِ ، وَلَوْ زَوَّجَ السَّيِّدُ أُمَّ وَلَدِهِ بِصَغِيرٍ فَأَرْضَعَتْهُ بِلَبَنِهَا انْفَسَخَ نِكَاحُهَا ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ أُمَّ زَوْجِهَا وَحَرُمَتْ عَلَى سَيِّدِهَا ؛ لِأَنَّ زَوْجَهَا صَارَ ابْنًا لِسَيِّدِهَا فَحَرُمَتْ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مَنْ حَلَائِلِ أَبْنَائِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ شَكَّ أَرْضَعَتْهُ خَمْسًا أَوْ أَقَلَّ فما الحكم ؟ لَمْ يَكُنِ ابْنًا لَهَا بِالشَّكُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ الشَّكَّ إِذَا طَرَأَ عَلَى الْيَقِينِ سَقَطَ حُكْمُهُ كَالشَّاكِّ فِي الطَّلَاقِ وَالْحَدَثِ . فَإِنْ قِيلَ : فَلَوْ شَكَّ فِي الَّتِي طَلَّقَهَا مِنْ نِسَائِهِ ، حَرُمْنَ عَلَيْهِ كُلُّهُنَّ ، وَقَدْ ثَبَتَ هَذَا التَّحْرِيمُ بِالشَّكِّ قَبْلَ الْجَوَابِ ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ فِي الْمُطَلَّقَةِ مُتَيَقَّنٌ وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْمُطَلَّقَةَ ، وَخَالَفَ هَذَا التَّحْرِيمَ الْمَشْكُوكَ فِي وُقُوعِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
_____بَابُ لَبَنِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ _____
بَابُ لَبَنِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَاللَّبَنُ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ كَمَا الْوَلَدُ لَهُمَا ، وَالْمُرْضَعُ بِذَلِكَ اللَّبَنِ وَلَدُهُمَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا قَدْ مَضَى فِي أَوَّلِ الْبَابِ ، وَذَكَرْنَا أَنَّ لَبَنَ الرَّضَّاعِ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ ، وَالْمُرْضَعَ بِهِ ابْنٌ لَهُمَا ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ دَاوُدُ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ فَجَعَلُوا اللَّبَنَ لِلْمَرْأَةِ دُونَ الرَّجُلِ وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُسْتَوْفَاةً فِيمَا تَقَدَّمَ إِلَى آخِرِهَا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ وَلَدَتِ ابْنًا مِنْ زِنًا فَأَرْضَعَتْ مَوْلُودًا فَهُوَ ابْنُهَا وَلَا يَكُونُ ابْنَ الَّذِي زَنَى بِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَلَدُ الرِّضَاعِ تَبَعٌ لِوَلَدِ الْوِلَادَةِ فَإِذَا وَلَدَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ زَوْجٍ أَوْ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ كَانَ وَلَدُهَا الَّذِي وَلَدَتْهُ حَقًّا بِزَوْجِهَا الَّذِي وَلَدَتْ مِنْهُ وَبِالْوَطْءِ لَهَا بِالشُّبْهَةِ ، فَإِنْ أَرْضَعَتْ بِلَبَنِهِ وَلَدًا كَانَ وَلَدُ الرِّضَاعِ وَلَدًا لِلزَّوْجِ الَّذِي تَزَوَّجَتْ بِهِ ، وَلِلْوَاطِئِ الَّذِي وَطِئَهَا بِالشُّبْهَةِ ؛ لِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ مَائِهِمَا وَكَانَ وَلَدُ الرِّضَاعِ لَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ مُتَغَذٍّ بِلَبَنِهِمَا ، فَإِنْ زَنَتْ وَوَلَدَتْ وَلَدًا مِنْ زِنًا وَأَرْضَعَتْ بِلَبَنِهِ وَلَدًا كَانَ وَلَدُ الزِّنَا وَوَلَدُ الرِّضَاعِ لَاحِقَيْنِ بِهَا وَلَمْ يُلْحَقَا بِالزَّانِي ؛ لِأَنَّ ابْنَهَا الْمَوْلُودَ عَنِ الزَّانِي يُوجِبُ انْتِفَاءَ الْمُرْضَعِ عَنْهُ ، وَلِأَنَّ وَلَدَ النَّسَبِ أَقْوَى حُكْمًا مِنْ وَلَدِ الرِّضَاعِ ، وَقَدِ انْتَفَى عَنِ الزَّانِي فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يَنْتَفِيَ عَنْهُ وَلَدُ الرِّضَاعِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَأَكْرَهُ لَهُ فِي الْوَرَعِ أَنْ يَنْكِحَ بَنَاتِ الَّذِي وَلَدَهُ مِنْ زِنًا ، فَإِنْ نَكَحَ لَمْ أَفْسَخْهُ ؛ لِأَنَّهُ ابْنُهُ فِي حُكْمِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِابْنِ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ لِزَمْعَةَ وَأَمَرَ سَوْدَةَ أَنْ تَحْتَجِبَ مِنْهُ ؛ لَمَّا رَأَى مِنْ شَبَهِهِ بِعُتْبَةَ ، فَلَمْ يَرَهَا وَقَدْ حَكَمَ أَنَّهُ أَخُوهَا لِأَنَّ تَرْكَ رُؤْيَتِهَا مُبَاحٌ وَإِنْ كَانَ أَخَاهَا ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : وَقَدْ كَانَ أَنْكَرَ عَلَى مَنْ قَالَ : يَتَزَوَّجُ ابْنَتَهُ مِنْ زِنًا وَيَحْتَجُّ بِهَذَا الْمَعْنَى ، وَقَدْ زَعَمَ أَنَ رُؤْيَةَ ابْنِ زَمْعَةَ سَوْدَةَ مُبَاحٌ وَإِنْ كَرِهَهُ ، فَكَذَلِكَ فِي الْقِيَاسِ لَا يُفْسَخُ نِكَاحُهُ وَإِنْ كَرِهَهُ ، وَلَمْ يُفْسَخْ نِكَاحُ ابْنِهِ مِنْ زِنًا بَنَاتِهِ مِنْ حَلَالٍ لِقَطْعِ الْأُخُوَّةِ فَكَذَلِكَ فِي الْقِيَاسِ لَوْ تَزَوَّجُ ابْنَتَهُ مِنْ زِنًا لَمْ
يُفْسَخْ ، وَإِنْ كَرِهَهُ لِقَطْعِ الْأُبُوَّةِ ، وَتَحْرِيمُ الْأُخُوَّةِ كَتَحْرِيمِ الْأُبُوَّةِ ، وَلَا حُكْمَ عِنْدَهُ لِقَوْلِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ فَهُوَ فِي مَعْنَى الْأَجْنَبِيِّ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ قَدْ مَضَتْ ، وَذَكَرْنَا أَنَّ وَلَدَ الزِّنَا لَا يُلْحَقُ بِالزَّانِي وَأَنَّ الْفُقَهَاءَ قَدِ اخْتَلَفُوا ، هَلْ يَجُوزُ لِلزَّانِي أَنْ يَتَزَوَّجَهَا إِذَا كَانَتْ بِنْتًا أي بنتا لمن زنا بها عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : أَنَّ نِكَاحَهَا حَرَامٌ عَلَيْهِ وَمَتَى أَقَرَّ بِهَا لَحِقَتْهُ ، حَكَى ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ ، وَالْحَسَنِ ، وَابْنِ سِيرِينَ ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ ، وَإِسْحَاقُ . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : أَنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ وَلَا تُلْحَقُ بِهِ إِذَا أَقَرَّ بِهَا ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : أَنَّهَا تَحِلُّ لَهُ وَلَا يُكْرَهُ لَهُ نِكَاحُهَا ، وَبِهِ قَالَ الْمُزَنِيُّ . وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ : وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا ، وَيَكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي مَعْنَى كَرَاهِيَتِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُخْتَلَقَةً مِنْ مَائِهِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ تَحَقَّقَ خَلْقُهَا مِنْ مَائِهِ بِأَنْ حُبِسَا مَعًا مِنْ مُدَّةِ الزِّنَا إِلَى وَقْتِ الْوِلَادَةِ حَرُمَتْ عَلَيْهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ : أَنَّهُ يُكْرَهُ نِكَاحُهُمَا لِمَا فِيهِ مِنِ اخْتِلَافٍ ، كَمَا كُرِهَ الْقَصْرُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ جَائِزًا لِمَا فِيهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ تَحَقَّقَ خَلْقُهَا مِنْ مَائِهِ ، لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِثَلَاثَةِ أُمُورٍ : أَحَدُهَا : لِانْتِفَاءِ نَسَبِهَا عَنْهُ كَالْأَجَانِبِ . وَالثَّانِي : لِانْتِفَاءِ أَحْكَامِ النِّسَبِ بَيْنَهُمَا مِنَ الْمِيرَاثِ ، وَالنَّفَقَةِ وَالْقِصَاصِ كَذَلِكَ تَحْرِيمُ النِّكَاحِ . وَالثَّالِثُ : لِإِبَاحَتِهَا لِأَخِيهِ وَلَوْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ الْأَبُ لَحَرُمَتْ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ الْعَمُّ ، فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ تَكَلَّمَ عَلَى كَرَاهَةِ الشَّافِعِيِّ لَهُ ، فَإِنْ نَسَبَ ذَلِكَ إِلَى التَّحْرِيمِ كَانَ غَلَطًا مِنْهُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ نَسَبَهُ إِلَى كَرَاهَةِ اخْتِيَارٍ مَعَ جَوَازِهِ كَانَ مُصِيبًا ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَعْنَى الْكَرَاهِيَةِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فِي عِدَّتِهَا فَأَصَابَهَا ، فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَأَرْضَعَتْ مَوْلُودًا كَانَ ابْنَهَا وَأُرِيَ الْمَوْلُودُ الْقَافَةَ فَبِأَيِّهِمَا أُلْحِقَ لَحِقَ ، وَكَانَ الْمُرْضَعُ ابْنَهُ وَسَقَطَتْ أَبُوَّةُ الْآخَرِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي امْرَأَةٍ تَزَوَّجَتْ فِي عِدَّتِهَا وَوَضَعَتْ وَلَدًا أَرْضَعَتْ بِلَبَنِهِ طِفْلًا فَالْمُرْضَعُ تَابِعٌ لِلْمَوْلُودِ ، وَلِلْمَوْلُودِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ :
أَحَدُهَا : أَنْ يُلْحَقَ بِالْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي فَيَتْبَعَهُ الْمُرْضَعُ ، وَيَكُونَ لِلْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ الْمَوْلُودُ يُلْحَقُ بِالثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ ، فَيَتْبَعَهُ الْمُرْضَعُ ، وَيَكُونَ ابْنًا لِلثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَنْتَفِيَ الْمَوْلُودُ عَنِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي فَيَتْبَعَهُ الْمُرْضَعُ ، وَيَنْتَفِيَ عَنِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي ، وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ إِلْحَاقَ الْمُرْضَعِ بِالْأَوَّلِ لِثُبُوتِ لَبَنِهِ كَمَا لَوْ لَمْ تَلِدِ الْمُرْضِعَةُ ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لَأَنَّ لَبَنَ الْوِلَادَةِ قَاطِعٌ لِحُكْمِ مَا تَقَدَّمَهُ ، فَإِذَا انْتَفَتِ الْوِلَادَةُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَأَوْلَى أَنْ يَنْتَفِيَ الرِّضَاعُ عَنْهُمَا . وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يُمْكِنَ لُحُوقُ الْمَوْلُودِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيُرَى الْمَوْلُودُ لِلْقَافَةِ فَإِنْ أَلْحَقُوهُ بِالْأَوَّلِ لَحِقَ بِهِ وَتَبِعَهُ الْمُرْضَعُ ، وَإِنْ أَلْحَقُوهُ بِالثَّانِي لَحِقَ بِهِ ، وَتَبِعَهُ الْمُرْضَعُ وَإِنْ أَشْكَلَ عَلَى الْقَافَةِ أَوْ عُدِمُوا وُقِفَ الْمَوْلُودُ إِلَى زَمَانِ الْأَنْسَابِ ، فَإِذَا انْتَسَبَ إِلَى أَحَدِهِمَا لَحِقَ بِهِ وَتَبِعَ الْمُرْضَعُ ، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الِانْتِسَابِ ، وَكَانَ لَهُ وَلَدٌ قَامَ وَلَدُهُ مَقَامَهُ فِي الِانْتِسَابِ ، فَإِذَا انْتَسَبَ إِلَى أَحَدِهِمَا لَحِقَ بِهِ وَتَبِعَهُ الْمُرْضَعُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ صَارَ ثُبُوتُ النَّسَبِ مِنْ جِهَةِ الْمَوْلُودِ مَعْدُومًا . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : " ضَاعَ نَسَبُهُ " وَمَعْنَاهُ : ضَاعَ النَّسَبُ الَّذِي يَثْبُتُ بِهِ النَّسَبُ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَفِي الْمُرْضَعِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ ابْنًا لَهُمَا جَمِيعًا بِخِلَافِ الْمَوْلُودِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْمَوْلُودِ أَبَوَانِ مِنْ نَسَبٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُخْلَقُ إِلَّا مِنْ مَاءِ أَحَدِهِمَا ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَبَوَانِ مِنْ رِضَاعٍ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُرْتَضَعُ مِنْ لَبَنِهِمَا وَيَكُونُ غِذَاءُ اللَّبَنِ لَهُمَا ، وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ لِأَحَدِهِمَا ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ قَدْ يَحْدُثُ بِالْوَطْءِ تَارَةً ، وَبِالْوِلَادَةِ أُخْرَى فَلِذَلِكَ صَارَ الْمُرْضَعُ ابْنًا لَهُمَا ، وَفِي هَذَا الْقَوْلِ ضَعْفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَوْ صَارَ ابْنًا لَهُمَا بِمَوْتِ الْوَلَدِ لَمَا جَازَ أَنْ يَنْقَطِعَ عَنْهُ أُبُوَّةُ أَحَدِهِمَا بِحَيَاةِ الْوَلَدِ . وَالثَّانِي : أَنَّ نُزُولَ اللَّبَنِ إِنَّمَا يُضَافُ إِلَى الْوَاطِئِ بِالْوِلَادَةِ لَا بِالْوَطْءِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَزَلَ لَهَا بِوَطْئِهِ لَبَنٌ فَأَرْضَعَتْ بِهِ وَلَدًا لَمْ يَصِرِ ابْنًا لِلزَّوْجِ حَتَّى تَلِدَ مِنْهُ ، فَيَصِيرَ اللَّبَنُ لَهُ ، وَالْمُرْضَعُ بِهِ ابْنًا لَهُ ، فَهَذَا قَوْلٌ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْمُرْضَعَ يُنْسَبُ إِلَى أَحَدِهِمَا ، كَمَا كَانَ الْمَوْلُودُ يُنْسَبُ إِلَى أَحَدِهِمَا ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لَهُ فَجَرَى عَلَيْهِ حُكْمُهُ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّمَا انْتَسَبَ الْمَوْلُودُ ؛ لِأَنَّ الطَّبْعَ جَاذِبٌ ، وَالشَّبَهَ غَالِبٌ ، وَهَذَا مَفْقُودٌ فِي
الْمُرْضَعِ ؛ وَلِذَلِكَ رُجِعَ إِلَى الْقَافَةِ فِي الْمَوْلُودِ ، وَلَمْ يُرْجَعْ إِلَيْهِمْ فِي الْمُرْضَعِ . قِيلَ : قَدْ يُحْدِثُ الرِّضَاعُ مِنْ شَبَهِ الْأَخْلَاقِ مِثْلَ مَا تُحْدِثُهُ الْوِلَادَةُ مِنْ شَبَهِ الْأَجْسَامِ وَالصَّوْتِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا تَسْتَرْضِعُوا الْحَمْقَى فَإِنَّ اللَّبَنَ يُغَذِّي . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنَا أَفْصَحُ الْعَرَبِ بَيْدَ أَنِّي مِنْ قُرَيْشٍ ، وَأَخْوَالِي بَنُو زُهْرَةَ وَارْتُضِعْتُ فِي بَنِي سَعْدٍ . وَرَأَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَجُلًا ، فَقَالَ : أَنْتَ مِنْ بَنِي فُلَانٍ ؟ قَالَ مِنْهُمْ رِضَاعًا لَا نَسَبًا فَأَضَافَهُ إِلَيْهِمْ بِشَبَهِ الْأَخْلَاقِ كَمَا تُضِيفُهُ الْقَافَةُ بِشَبَهِ الْأَجْسَامِ ، وَلَمْ يُعَوَّلْ عَلَى الْقَافَةِ فِي إِلْحَاقِ الْمُرْضَعِ ، وَإِنْ عُوِّلَ عَلَيْهِمْ فِي إِلْحَاقِ الْمَوْلُودِ ؛ لِأَنَّ شَبَهَ الْأَجْسَامِ وَالصُّوَرِ أَقْوَى بِظُهُورِهِ ، وَشَبَهَ الْأَخْلَاقِ وَالشِّيَمِ أَضْعَفُ لَحْقًا بِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ يَنْقَطِعُ عَنْهُ أُبُوَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي الِانْتِسَابِ إِلَى أَحَدِهِمَا ؛ لِأَنَّ الْأَنْسَابَ تَثْبُتُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : بِالْفِرَاشِ ، ثُمَّ الْقَافَةِ ، ثُمَّ الِانْتِسَابِ ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي الرِّضَاعِ فِرَاشٌ ، وَلَمْ يَثْبُتْ بِالْقَافَةِ لَمْ يَثْبُتْ بِالِانْتِسَابِ وَإِنْ ثَبَتَ بِهِ النَّسَبُ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ النَّسَبَ لَا يَقَعُ فِيهِ اشْتِرَاكٌ فَجَازَ أَنْ يُعَوَّلَ فِيهِ عَلَى الطَّبْعِ الْحَادِثِ ، وَيَقَعُ فِي الرِّضَاعِ اشْتِرَاكٌ فَعُدِمَ فِيهِ الطَّبْعُ الْحَادِثُ . وَالثَّانِي : أَنَّ امْتِزَاجَ النَّسَبِ مَوْجُودٌ مَعَ أَصْلِ الْخِلْقَةِ ، وَالرِّضَاعَ حَادِثٌ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ الْخَلْقِ وَاسْتِقْرَارِ الْخَلْقِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ مَاتَ فَالْوَرَعُ أَنْ لَا يَنْكِحَ ابْنَةَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَلَا يَكُونَ مَحْرَمًا لَهَا ، وَلَوْ قَالُوا : الْمَوْلُودُ هُوَ ابْنُهُمَا جُبِرَ إِذَا بَلَغَ عَلَى الِانْتِسَابِ إِلَى أَحَدِهِمَا وَتَنْقَطِعُ أُبُوَّةُ الْآخَرِ ، وَلَوْ كَانَ مَعْتُوهًا لَمْ يُلْحَقْ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى يَمُوتَ ، وَلَهُ وَلَدٌ فَيَقُومُونَ مَقَامَهُ فِي الِانْتِسَابِ إِلَى أَحَدِهِمَا أَوْ لَا يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ فَيَكُونُ مِيرَاثُهُ مَوْقُوفًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا حُدُوثُ الْمَوْتِ بَعْدَ الِاشْتِبَاهِ فَالْكَلَامُ فِيهِ مُتَعَلِّقٌ بِفَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : نَسَبُ الْمَوْلُودِ . وَالثَّانِي : أُبُوَّةُ الْمُرْضَعِ . فَأَمَّا نَسَبُ الْمَوْلُودِ ، فَالْكَلَامُ فِيهِ مُتَعَلِّقٌ بِفَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : حُكْمُ الْقِيَافَةِ . وَالثَّانِي : حُكْمُ الِانْتِسَابِ .
فَأَمَّا حُكْمُ الْقِيَافَةِ فَمُعْتَبَرٌ بِحَالِ الْمَيِّتِ ، فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ هُوَ الْمَوْلُودَ نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ لَمْ يَنْقَطِعْ بِمَوْتِهِ حُكْمُ الْقِيَافَةِ وَقَامَ وَلَدُهُ فِي إِلْحَاقِ الْقَافَةِ مَقَامَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ وَلَدًا نُظِرَ فَإِنْ دُفِنَ انْقَطَعَ بِدَفْنِهِ حُكْمُ الْقِيَافَةِ ، وَإِنْ لَمْ يُدْفَنْ فَفِي انْقِطَاعِ حُكْمِ الْقِيَافَةِ بِمَوْتِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَنْقَطِعُ لِبَقَاءِ الصُّوَرِ الْمُشَاكِلَةِ أَوِ الْمُتَنَافِيَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : قَدِ انْقَطَعَ بِمَوْتِهِ حُكْمُ الْقِيَافَةِ ؛ لِأَنَّ فِي إِشَارَاتِ الْحَيِّ وَحَرَكَاتِهِ عَوْنًا لِلْقَافَةِ عَلَى إِلْحَاقِهِ ، وَذَلِكَ مَفْقُودٌ بِمَوْتِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ هُوَ الْوَاطِئَانُ أَوْ أَحَدُهُمَا ، فَإِنْ تَرَكَ الْمَيِّتُ وَالِدًا لَمْ يَنْقَطِعْ حُكْمُ الْقَافَةِ بِمَوْتِهِ ، وَقَامَ وَالِدُهُ مَقَامَهُ كَمَا قَامَ وَلَدُ الْمَوْلُودِ مَقَامَهُ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وَلَدِ الْوَاطِئِ وَأَخِيهِ ، هَلْ يَقُومَانِ بَعْدَ مَوْتِهِ مَقَامَ أَبِيهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَقُومَانِ مَقَامَهُ لِامْتِزَاجِ النَّسَبِ . وَالثَّانِي : لَا يَقُومَانِ مَقَامَهُ لِبُعْدِ الِامْتِزَاجِ وَتَغَيُّرِ الْخَلْقِ بِاخْتِلَافِ الْأُمَّهَاتِ ، وَإِنْ لَمْ يَتْرُكِ الْوَاطِئُ بَعْدَ مَوْتِهِ أَحَدًا فَفِي انْقِطَاعِ الْقِيَافَةِ بِمَوْتِهِ قَبْلَ دَفْنِهِ الْوَجْهَانِ الْمَاضِيَانِ : وَأَمَّا الِانْتِسَابُ فَهُوَ مُعْتَبَرٌ مِنْ جِهَةِ الْمَوْلُودِ دُونَ الْوَاطِئِ ، وَإِنَّمَا انْفَرَدَ بِهِ الْمَوْلُودُ لِانْفِرَادِهِ ، وَمُنِعَ مِنْهُ الْوَاطِئُ لِاشْتِرَاكِهِ فِيهِ مَعَ غَيْرِهِ ، وَأُخِذَ بِهِ الْمَوْلُودُ جَبْرًا وَإِنِ امْتَنَعَ ؛ لِأَنَّ فِي انْتِسَابِهِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى بِمَنْعِهِمْ مِنَ الِاتِّفَاقِ عَلَى نَفْيِ الِانْتِسَابِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَعَنَ اللَّهُ مَنِ انْتَفَى مِنْ نَسَبٍ ، وَإِنْ رُقَّ وَلِأَنَّ فِي الِانْتِسَابِ حَقًّا لَهُ وَحَقًّا عَلَيْهِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ نُظِرَ فِي الْمَيِّتِ ، فَإِنْ كَانَ هُوَ الْمَوْلُودَ رُوعِيَ حَالُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ ، فَإِنْ تَرَكَ وَلَدًا قَامَ وَلَدُهُ فِي انْتِسَابِ مَقَامِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الطَّبْعِ الْحَادِثِ كَالْأَبِ ، وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ وَلَدًا انْقَطَعَ حُكْمُ النَّسَبِ بِمَوْتِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ هُوَ الْوَاطِئَ نُظِرَ حَالُ الْمَوْلُودِ عِنْدَ مَوْتِهِ ، فَإِنْ كَانَ مُرَاهِقًا قَوِيَّ الْفِطْنَةِ صَحِيحَ الذَّكَاءِ قَدْ شَاهَدَ الْوَاطِئَ لَمْ يَنْقَطِعِ انْتِسَابَهُ بِمَوْتِ الْوَاطِئِ ، وَكَانَ لَهُ الِانْتِسَابُ بَعْدَ مَوْتِهِ مَا كَانَ لَهُ مِنَ الِانْتِسَابِ فِي حَيَاتِهِ ، وَإِنْ كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ طِفْلًا لَا يُمَيِّزُ ، أَوْ لَمْ يَرَهُ فِي حَيَاتِهِ سَقَطَ حُكْمُ انْتِسَابِهِ فَهَذَا حُكْمُ نَسَبِ الْمَوْلُودِ إِنْ حَدَثَ مَوْتٌ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا أُبُوَّةُ الْمُرْضَعِ فَمُعْتَبَرَةٌ بِنَسَبِ الْمَوْلُودِ فَإِنْ لَمْ يَنْقَطِعْ نَسَبُهُ بِالْمَوْتِ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمُقَدَّمِ لَمْ تَنْقَطِعْ أُبُوَّةُ الْمُرْضَعِ ، وَكَانَ فِيمَا تَبِعَ الْوَلَدُ النَّسَبَ عِلَّةُ مَا قَدَّمْنَاهُ وَإِنِ انْقَطَعَ نَسَبُ الْمَوْلُودِ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمُقَدَّمِ ، كَانَ فِي بُنُوَّةِ الْمُرْضَعِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَقَاوِيلِ الثَّلَاثَةِ ، وَعَلَيْهَا تُبْنَى مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فِي تَزْوِيجِهِ بِنْتًا مِنَ الْوَاطِئَيْنِ ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ إِنَّهُ ابْنٌ لَهُمَا حَرُمَ عَلَيْهِ بَنَاتُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَكَانَ مَحْرَمًا لَهُنَّ .
وَإِنْ قُلْنَا بِالْقَوْلِ الثَّانِي : إِنَّهُ نُسِبَ إِلَى أَحَدِهِمَا فَإِذَا انْتَسَبَ إِلَيْهِ حَرُمَتْ عَلَيْهِ بَنَاتُهُ فَصَارَ مَحْرَمًا لَهُنَّ لِثُبُوتِ الْأُخُوَّةِ بَيْنَهُمْ ، وَلَمْ يَصِرْ مَحْرَمًا لِبَنَاتِ الْآخَرِ ، وَفِي تَحْرِيمِهِ عَلَيْهِنَّ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَحْرُمُ عَلَيْهِنَّ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْحَظْرِ قَبْلَ الِانْتِسَابِ . وَالثَّانِي : لَا يَحْرُمْنَ لِانْقِطَاعِ النَّسَبِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ ، وَإِنَّمَا مُنِعَ مِنْهُنَّ وَرَعًا ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْقَوْلِ الثَّالِثِ : إِنَّهُ يَنْقَطِعُ عَنْهُ أُبُوَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يَصِرْ مَحْرَمًا لِبَنَاتِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَفِي إِبَاحَةِ تَزْوِيجِهِ بَنَاتِهِمَا أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ بَنَاتُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِانْقِطَاعِ الْأُبُوَّةِ ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ بِنْتِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَإِنَّمَا يُمْنَعُ مِنْ تَزْوِيجِهِمَا وَرَعًا لَا تَحْرِيمًا ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ بَنَاتُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَإِنْ لَمْ يَصِرْ مَحْرَمًا لَهَا تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْحَظْرِ الْمُشْتَبَهِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِنْتَ أَيِّهِمَا شَاءَ ، وَلَا يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ بِنْتِ الْآخَرِ ، فَإِذَا فَارَقَهُمَا حَلَّ لَهُ نِكَاحُ بِنْتِ الْآخَرِ ، فَجَعَلَهُ مُخَيَّرًا فِي نِكَاحِ بِنْتِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَمَنَعَهُ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا . قَالَ : لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ لَا يَتَعَيَّنُ الْحَظْرُ فِيهَا ، وَتَعَيَّنَ فِي الشَّيْئَيْنِ فَمُنِعَ مِنَ الْجَمْعِ وَلَمْ يُمْنَعْ مِنَ الِانْفِرَادِ ، وَضَرَبَ بِذَلِكَ مِثَالًا لِرَجُلَيْنِ رَأَيَا طَائِرًا ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا : إِنْ كَانَ هَذَا الطَّائِرُ غُرَابًا فَعَبْدِي حُرٌّ ، وَقَالَ الْآخَرُ : إِنْ لَمْ يَكُنْ غُرَابًا فَعَبْدِي حُرٌّ ، فَطَارَ وَلَمْ يُعْلَمْ هَلْ كَانَ غُرَابًا أَوْ غَيْرَ غُرَابٍ لَا عِتْقَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ لِانْفِرَادِهِمَا بِمَشْكُوكٍ فِي عِتْقِهِ فَإِنِ اجْتَمَعَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ عِتْقُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِاجْتِمَاعِهِمَا فِي مِلْكٍ . وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ بِنْتَ أَيِّهِمَا شَاءَ ، فَإِذَا نَكَحَهَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ بِنْتُ الْآخَرِ كَالْمُجْتَهِدِ فِي إِنَائَيْنِ مِنْ مَاءٍ إِذَا اسْتَعْمَلَ أَحَدَهُمَا حَرُمَ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُ الْآخَرِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ أَرْضَعَتْ بِلَبَنِ مَوْلُودٍ نَفَاهُ أَبُوهُ بِاللِّعَانِ لَمْ يَكُنْ أَبًا لِلْمُرْضَعِ ، فَإِنْ رَجَعَ لَحِقَهُ وَصَارَ أَبًا لِلْمُرْضَعِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا أَرْضَعَتِ الْمَرْأَةُ بِلَبَنِ وِلَادَتِهَا طِفْلًا وَنَفَى الزَّوْجُ وَلَدَهَا بِاللِّعَانِ فما الحكم ؟ انْتَفَى عَنْهُ نَسَبُ الْمَوْلُودِ بِلِعَانِهِ ، وَتَبِعَهُ الْمُرْضَعُ فِي نَفْيِهِ ؛ لِأَنَّ بُنُوَّةَ النَّسَبِ أَقْوَى مِنْ بُنُوَّةِ الرِّضَاعِ ، فَإِذَا انْتَفَتْ بُنُوَّةُ النَّسَبِ بِاللِّعَانِ ، فَأَوْلَى أَنْ تَنْتَفِيَ بُنُوَّةُ الرِّضَاعِ
سَوَاءٌ أُرْضِعَ قَبْلَ اللِّعَانِ أَوْ بَعْدَهُ ، وَسَوَاءٌ ذَكَرَ الْمُرْضَعَ فِي لِعَانِهِ أَوْ لَمْ يَذْكُرْهُ ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِلْمَوْلُودِ فِي الثُّبُوتِ وَالنَّفْيِ ، فَلَوِ اعْتَرَفَ بِهِ الْأَبُ بَعْدَ نَفْيِهِ لَحِقَ بِهِ الْمَوْلُودُ ، وَتَبِعَهُ وَلَدُ الرِّضَاعِ ، فَصَارَ لَهُ ابْنًا مِنَ الرِّضَاعِ كَمَا صَارَ الْمَوْلُودُ ابْنًا لَهُ مِنَ النَّسَبِ لِاتِّبَاعِهِ لَهُ فِي الْحَالَيْنِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِثَلَاثِ حِيَضٍ وَثَبَتَ لَبَنُهَا أَوِ انْقَطَعَ ، ثُمَّ تَزَوَّجَتْ زَوْجًا فَأَصَابَهَا فَثَابَ لَهَا لَبَنٌ وَلَمْ يَظْهَرْ بِهَا حَمْلٌ فَهُوَ مِنَ الْأَوَّلِ وَلَوْ كَانَ لَبَنُهَا ثَبَتَ فَحَمَلَتْ مِنَ الثَّانِي فَنَزَلَ بِهَا لَبَنٌ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَكُونُ لَهَا فِيهِ لَبَنٌ مِنَ الْحَمْلِ الْآخَرِ كَانَ اللَّبَنُ مِنَ الْأَوَّلِ بِكُلِ حَالٍ ؛ لِأَنَّا عَلَى عِلْمٍ مِنْ لَبَنِ الْأَوَّلِ وَفِي شَكٍّ أَنْ يَكُونَ خَلَطَهُ لَبَنُ الْآخَرِ فَلَا أُحَرِّمُ بِالشَّكِّ وَأُحِبُّ لِلْمُرْضَعِ لَوْ تُوِفَّيُ بَنَاتِ الزَّوْجِ الْآخَرِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ : هَذَا عِنْدِي أَشْبَهُ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : وَلَوِ انْقَطَعَ فَلَمْ يَثِبْ حَتَّى كَانَ الْحَمْلُ الْآخَرُ فِي وَقْتٍ يُمْكِنْ مِنَ الْأَوَّلِ فَفِيهَا قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا كَأَنَّهُ مِنَ الْأَوَّلِ بِكُلِّ حَالٍ يَثُوبُ بِأَنَ تَرْحَمَ الْمَوْلُودَ أَوْ تَشْرَبَ دَوَاءً فَتُدِرَّ عَلَيْهِ ، وَالثَّانِي أَنَّهُ إِذَا انْقَطَعَ انْقِطَاعًا بَيِّنًا فَهُوَ مِنَ الْآخَرِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَكُونُ مِنَ الْآخَرِ لَبَنٌ تُرْضِعُ بِهِ حَتَّى تَلِدَ فَهُوَ مِنَ الْأَوَّلِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ ، وَإِنْ كَانَ يَثُوبُ شَيْءٌ تُرْضِعُ بِهِ ، وَإِنْ قَلَّ فَهُوَ مِنْهُمَا جَمِيعًا وَمَنْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ اللَّبَنِ وَالْوَلَدِ قَالَ هُوَ لِلْأَوَّلِ وَمَنْ فَرَّقَ قَالَ : هُوَ مِنْهُمَا مَعًا وَلَوْ لَمْ يَنْقَطِعِ اللَّبَنُ حَتَّى وَلَدَتْ مِنَ الْآخَرِ فَالْوِلَادَةُ قَطْعٌ لِلَّبَنِ الْأَوَّلِ فَمَنْ أَرْضَعَتْ فَهُوَ ابْنُهَا ، وَابْنُ الزَّوْجِ الْآخَرِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ إِذَا كَانَ لَهَا لَبَنٌ مِنْ وَلَدِ الزَّوْجِ الْمُطَلِّقِ فَكُلُّ مَنْ أَرْضَعَتْهُ بِلَبَنِهَا كَانَ ابْنًا لَهَا وَلِزَوْجِهَا الْمُطَلِّقِ ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ يُدِرُّ عَلَى الْمَوْلُودِ لِحَاجَتِهِ إِلَى اغْتِذَائِهِ بِهِ فَصَارَ اللَّبَنُ لَهُ ، وَهُوَ وَلَدُ الْمُطَلِّقِ فَكَانَ وَلَدُ الرِّضَاعِ بِمَثَابَتِهِ ، وَعَلَى حُكْمِهِ ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ فِي عِدَّتِهَا أَوِ انْقَضَتْ ، فَإِنْ تَزَوَّجَتْ بَعْدَ عِدَّتِهَا زَوْجًا كَانَ مَنْ أَرْضَعَتْهُ بَعْدَ تَزْوِيجِهَا ابْنًا لِلْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي سَوَاءٌ دَخَلَ بِهَا الثَّانِي أَوْ لَمْ يَدْخُلْ مَا لَمْ تَحْبَلْ ، فَلَوْ كَانَ اللَّبَنُ قَدِ انْقَطَعَ قَبْلَ دُخُولِ الثَّانِي ، ثُمَّ ثَابَ وَنَزَلَ بَعْدَ دُخُولِ الثَّانِي كَانَ اللَّبَنُ لِلْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ لِغِذَاءِ الْوَلَدِ ، وَالْوَلَدُ لِلْأَوَّلِ ، وَإِنَّمَا ثَابَ لِلثَّانِي بَعْدَ انْقِطَاعِهِ ؛ لِأَنَّ الْجِمَاعَ لِقَاحٌ مُبَاحٌ بِهِ اللَّبَنُ فَثَابَ وَظَهَرَ بَعْدَ كَوْنِهِ ؛ فَلِذَلِكَ كَانَ لِلْأَوَّلِ وَكَانَ الْمُرْضَعُ ابْنًا لَهُ دُونَ الثَّانِي .
فَصْلٌ : وَأَمَّا إِذَا حَمَلَتْ مِنَ الثَّانِي ، ثُمَّ أَرْضَعَتْ عَلَى حَمْلِهَا وَلَدًا فما الحكم ؟ فَيُنْظَرُ فِي وَقْتِ
الرِّضَاعِ فَإِنْ كَانَ فِي مَبَادِئِ الْحَمْلِ فِي وَقْتٍ لَا يُخْلَقُ لِلْحَمْلِ فِيهِ اللَّبَنُ : لِأَنَّ لَبَنَ الْحَمْلِ يَحْدُثُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ ، وَذَلِكَ فِي زَمَانٍ يُسْتَكْمَلُ فِيهِ خَلْقُهُ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُولَدَ فِيهِ حَيًّا فَإِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْحَمْلُ إِلَى هَذَا الْحَدِّ ، فَالْوَلَدُ لِلْأَوَّلِ ، وَإِنْ ثَابَ وَنَزَلَ بَعْدَ انْقِطَاعِهِ بِتَهَيُّجِ الْجِمَاعِ فَيَكُونُ الْمُرْضَعُ ابْنًا لِلْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي ، وَإِنْ كَانَ الْحَمْلُ قَدِ انْتَهَى إِلَى وَقْتٍ يَجُوزُ أَنْ يَنْزِلَ لِمِثْلِهِ لَبَنٌ لَمْ يَخْلُ حِينَئِذٍ لَبَنُ الْحَمْلِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ حَالُهُ قَبْلَ الْحَمْلِ لَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ فَيَكُونَ لَبَنُهَا لِلْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ نَقَصَ لَبَنُهَا بِالْحَمْلِ فَيَكُونُ الْمُرْضَعُ بِهِ ابْنًا لِلْأَوَّلِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ لَبَنُهَا قَدْ زَادَ بِالْحَمْلِ ، وَلَمْ يَنْقُصْ فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ : أَنَّهُ يَكُونُ اللَّبَنُ لِلْأَوَّلِ وَالثَّانِي وَالْمُرْضَعُ بِهِ ابْنًا لَهُمَا ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْحَمْلِ تَكُونُ مُضَافَةً إِلَيْهِ ، وَحَادِثَةً عَنْهُ ، فَامْتَزَجَ اللَّبَنَانِ ، فَصَارَ كَامْتِزَاجِهِ مِنِ امْرَأَتَيْنِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ أَنَّ اللَّبَنَ لِلْأَوَّلِ ، وَالْمُرْضَعُ بِهِ ابْنٌ لَهُ دُونَ الثَّانِي ؛ لِأَنَّنَا عَلَى يَقِينٍ مِنْ بَقَاءِ اللَّبَنِ مِنَ الْأَوَّلِ : فِي شَكٍّ مِنَ الزِّيَادَةِ أَنْ تَكُونَ لِلثَّانِي لِجَوَازِ حُدُوثِهَا وَبِتَهَيُّجِ الْجِمَاعِ كَحُدُوثِهَا قَبْلَ الْحَمْلِ ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ " وَأُحِبُّ لَهُ تَوَقِّي بَنَاتِ الثَّانِي لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ لَهُ " . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ لَبَنُهَا قَدِ انْقَطَعَ ، ثُمَّ ثَابَ وَنَزَلَ بِالْحَمْلِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ لِلْأَوَّلِ وَالْمُرْضَعُ بِهِ ابْنٌ لَهُ ، دُونَ الثَّانِي اعْتِبَارًا بِالْيَقِينِ فِي بَقَاءِ لَبَنِهِ وَأَنَّهُ مُبَاحٌ بِالْجِمَاعِ فَثَابَ ، وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ لَوْ تَوَقَّى بَنَاتِ الثَّانِي . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ لِلثَّانِي وَالْمُرْضَعُ بِهِ ابْنٌ لَهُ دُونَ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حُدُوثِهِ بِالْحَمْلِ أَنَّهُ مِنْهُ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَوْ تَوَقَّى بَنَاتِ الْأَوَّلِ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ لَهُمَا وَالْمُرْضَعُ بِهِ ابْنٌ لَهُمَا وَتَحْرُمُ عَلَيْهِ بَنَاتُهُمَا ؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ الْأَمْرَيْنِ يُوجِبُ تَسَاوِي حُكْمِهِمَا ، وَأَنْ لَا يُخْتَصَّ بِأَحَدِهِمَا .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا وَضَعَتْ حَمْلَهَا فَاللَّبَنُ بَعْدَهُ حَادِثٌ مِنْهُ وَمُضَافٌ إِلَى الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ عَلَى الْأَحْوَالِ كُلِّهَا مِنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ ؛ لِأَنَّ حَاجَةَ الْمَوْلُودِ إِلَى اغْتِذَائِهِ يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ فَيَكُونَ الْمُرْضَعُ بِهِ ابْنًا لِلثَّانِي وَهُوَ فِي بَنَاتِ الْأَوَّلِ عَلَى حُكْمِ الْإِبَاحَةِ ، فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ اللَّبَنِ وَالْوَلَدِ قَالَ : هُوَ لِلْأَوَّلِ وَمَنْ فَرَّقَ ، قَالَ : هُوَ بَيْنَهُمَا جَمِيعًا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : وَهُوَ تَأْوِيلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ " وَمَنْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ اللَّبَنِ وَالْوَلَدِ " يَعْنِي أَنَّ اللَّبَنَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ مِنْ رَجُلَيْنِ كَمَا أَنَّ الْمَوْلُودَ لَا يَكُونُ مِنْ أَبَوَيْنِ . فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُرْضَعُ ابْنًا لِلْأَوَّلِ مَا لَمْ تَضَعْ حَمْلَ الثَّانِي ، فَإِذَا وَضَعَتْهُ صَارَ الْمُرْضَعُ بَعْدَ وَضْعِهِ ابْنًا لِلثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرْضَعُ ابْنًا لَهُمَا ، كَمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْمَوْلُودُ ابْنًا لَهُمَا ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ : " وَمَنْ فَرَّقَ قَالَ : هُوَ بَيْنَهُمَا جَمِيعًا ، يَعْنِي وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ اللَّبَنِ وَالْوَلَدِ فَجَعَلَ اللَّبَنَ لِرَجُلَيْنِ ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْمَوْلُودُ لِأَبَوَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُرْضِعِ أُمَّانِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْمَوْلُودِ أُمَّانِ . فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرْضَعُ بِاللَّبَنِ الزَّائِدِ قَبْلَ الْوِلَادَةِ ابْنًا لَهُمَا ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْمَوْلُودُ إِلَّا لِأَحَدِهِمَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ " وَمَنْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ اللَّبَنِ وَالْوَلَدِ " يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْمَوْلُودِ قَبْلَ وِلَادَتِهِ لَبَنٌ ، وَيُجْعَلَ جَمِيعُهُ مَعَ الزِّيَادَةِ لِلْأَوَّلِ جَعَلَ الْمُرْتَضِعَ قَبْلَ الْوِلَادَةِ ابْنًا لِلْأَوَّلِ ، وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا ؛ يَعْنِي جَعَلَ لَهُ اللَّبَنَ الْحَادِثَ قَبْلَ وِلَادَتِهِ إِذَا زَادَ بِحَمْلِهِ قَالَ : إِنَّ الْمُرْتَضِعَ بِهِ ابْنٌ لَهَا ، حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا فَيَصِيرَ الْمُرْتَضِعُ بَعْدَ الْحَمْلِ ابْنًا لِلثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ ، وَكِلَا التَّأْوِيلَيْنِ مُحْتَمَلٌ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
الشَّهَادَاتُ فِي الرَّضَاعِ وَالْإِقْرَارُ مِنْ كِتَابِ الرَّضَاعِ وَمِنْ كِتَابَ النِّكَاحِ الْقَدِيمِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَشَهَادَةُ النِّسَاءِ جَائِزَةٌ فِيمَا لَا يَحِلُّ لِلرِّجَالِ مِنْ غَيْرِ ذَوِي الْمَحَارِمِ أَنْ يَتَعَمَّدُوا النَّظَرَ إِلَيْهِ لِغَيْرِ شَهَادَةٍ ؛ مِنْ وِلَادَةِ الْمَرْأَةِ وَعُيُوبِهَا الَّتِي تَحْتَ ثِيَابِهَا ، وَالرَّضَاعُ عِنْدِي مِثْلُهُ لَا يَحِلُّ لِغَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ أَنْ يَتَعَمَّدَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى ثَدْيِهَا ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى رَضَاعِهَا بِغَيْرِ رُؤْيَةِ ثَدْيَيْهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : يَجُوزُ أَنْ تُقْبَلَ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ : الْوِلَادَةُ وَالِاسْتِهْلَالُ ، وَالرَّضَاعُ ، وَعُيُوبُ النِّسَاءِ الَّتِي تَحْتَ الثِّيَابِ ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى : لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُنَّ إِلَّا فِي الْوِلَادَةِ وَحْدَهَا ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الرَّضَاعَ يَجُوزُ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ الرِّجَالُ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ ، فَلَمْ يُقْبَلْ فِيهِ النِّسَاءُ عَلَى الِانْفِرَادِ كَالَّذِي يَجُوزُ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ الرِّجَالُ الْأَجَانِبُ . وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ ، وَكُنَّ فِيهِ عَلَى اسْتِتَارٍ وَصِيَانَةٍ جَازَ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ النِّسَاءُ مُنْفَرِدَاتٍ كَالْوِلَادَةِ ، وَخَالَفَ الزِّنَا لِأَنَّهُنَّ هَتَكْنَ فِيهِ الْعَوْرَةَ فَلَمْ تُقْبَلْ فِيهِ إِلَّا الرِّجَالُ . وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُسْتَوْفَى فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ ، فَإِنْ شَهِدَ الرِّجَالُ بِذَلِكَ نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ لِلنَّظَرِ فَهُمْ عَلَى الْعَدَالَةِ وَشَهَادَتُهُمْ مَقْبُولَةٌ ، وَإِنْ تَعَمَّدُوا النَّظَرَ لِغَيْرِ الشَّهَادَةِ كَانُوا فَسَقَةً لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ ، وَإِنْ تَعَمَّدُوا النَّظَرَ لِإِقَامَةِ الشَّهَادَةِ فَفِي قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ لِأَصْحَابِنَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ : إِنَّهُمْ فَسَقَةٌ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ ، لِأَنَّهُمْ تَعَمَّدُوا النَّظَرَ إِلَى عَوْرَةٍ مُحَرَّمَةٍ عَلَيْهِمْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : إِنَّهُمْ عَلَى الْعَدَالَةِ وَشَهَادَتُهُمْ مَقْبُولَةٌ لِمَا فِي النَّظَرِ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي يَلْزَمُ حِفْظُهَا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : إِنَّهُمْ يُقْبَلُونَ فِي الزِّنَا وَلَا يُقْبَلُونَ
فِيمَا عَدَاهُ ، لِأَنَّ الزَّانِيَ قَدْ هَتَكَ حُرْمَةَ نَفْسِهِ فَجَازَ النَّظَرُ إِلَيْهِ لِإِقَامَةِ حَدِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ ، وَخَالَفَ حُكْمَ مَنْ كَانَ عَلَى سَتْرِهِ وَصِيَانَتِهِ .
مَسْأَلَةٌ لَا يَجُوزُ مِنَ النِّسَاءِ عَلَى الرَّضَاعِ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعِ حَرَائِرَ بَوَالِغَ عُدُولٍ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يَجُوزُ مِنَ النِّسَاءِ عَلَى الرَّضَاعِ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعِ حَرَائِرَ بَوَالِغَ عُدُولٍ ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَجَازَ شَهَادَتَهُنَّ فِي الدَّيْنِ جَعَلَ امْرَأَتَيْنِ يَقُومَانِ مَقَامَ رَجُلٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عَدَدِ النِّسَاءِ فِيمَا يَشْهَدُونَ فِيهِ مُنْفَرِدَاتٍ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَعَطَاءٍ ، أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُنَّ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعٍ . وَالثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَسَنِ الْبَصَرِيِّ وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ ، أَنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُنَّ ثَلَاثٌ . وَالثَّالِثُ : وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ يُقْبَلُ فِيهِ امْرَأَتَانِ . وَالرَّابِعُ : وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ شَهَادَةُ الْوَاحِدَةِ . وَاحْتَجَّ مَنِ اعْتَبَرَ الثَّلَاثَ بِأَنَّ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَتَيْنِ بَيِّنَةٌ كَامِلَةٌ ، وَقَدْ أُقِيمَ النِّسَاءُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَقَامَ الرِّجَالِ فَأُبْدِلَ الرَّجُلُ بِامْرَأَتَيْنِ فَصِرْنَ ثَلَاثًا . وَاحْتَجَّ مَنِ اعْتَبَرَ شَهَادَةَ امْرَأَتَيْنِ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ امْرَأَةً شَهِدَتْ عِنْدَهُ أَنَّهَا أَرْضَعَتْ رَجُلًا وَامْرَأَةً فَقَالَ : اطْلُبُوا لِي مَعَهَا أُخْرَى ، وَلَمْ يَفْسَخِ النِّكَاحَ ، وَلِأَنَّهُنَّ قَدْ أُقِمْنَ مَقَامَ الرِّجَالِ فَاقْتُصِرَ مِنْهُنَّ عَلَى عَدَدَ الرِّجَالِ . وَاحْتَجَّ مَنْ قَبِلَ شَهَادَةَ الْوَاحِدَةِ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ شَهَادَةَ الْقَائِلَةِ : وَلِأَنَّهُ لَمَّا اقْتُصِرَ عَلَى قَبُولِ النِّسَاءِ لِلضَّرُورَةِ قُبِلَتِ الْوَاحِدَةُ ، لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقْبَلَ مِنْهُنَّ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعٍ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى [ الْبَقَرَةِ : ] وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَجْعَلَهَا كَالذَّكَرِ . وَالثَّانِي : أَنْ تُذَكِّرَهَا إِذَا نَسِيَتْ فَلَمَّا أَقَامَ الْمَرْأَتَيْنِ مَقَامَ الرَّجُلِ لَمْ يُقْبَلْ مِنَ الرِّجَالِ أَقَلُّ مِنَ اثْنَيْنِ ، وَجَبَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنَ النِّسَاءِ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعٍ ، وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ إِذَا كَانَ لِلنِّسَاءِ فِيهَا مَدْخَلٌ لَمْ يُقْتَصَرْ عَلَى شَهَادَةِ الْوَاحِدِ كَالْأَمْوَالِ . فَأَمَّا شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ يَأْتِي .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ : تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً فَجَاءَتْ سَوْدَاءُ ، فَقَالَتْ : إِنِّي أَرْضَعْتُكُمَا فَجِئْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَلْتُ : إِنَّ السَّوْدَاءَ قَالَتْ كَذَا ، وَهِيَ كَاذِبَةٌ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : دَعْهَا لَا خَيْرَ لَكَ فِيهَا . قِيلَ عَنْهُ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ : أَحَدُهَا : مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْرَضَ عَنْهُ ، وَقَالَ : وَكَيْفَ وَقَدْ زَعَمَتِ السَّوْدَاءُ أَنَّهَا أَرْضَعَتْكُمَا وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهَا فِي الْإِمْضَاءِ ، وَلَا فِي الرَّدِّ ، وَأَجْرَاهُ فَجَرَى الْخَبَرُ الَّذِي يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ فَلَمْ يَقْطَعْ بِأَحَدِهِمَا . وَالثَّانِي : أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : دَعْهَا لَا خَيْرَ لَكَ فِيهَا طَرِيقُهُ طَرِيقُ الِاخْتِيَارِ وَالِاسْتِحْبَابِ دُونَ الِالْتِزَامِ وَالْإِيجَابِ ؛ لِقَوْلِهِ لَا خَيْرَ لَكَ فِيهَا وَلَوْ حَرُمَتْ لَأَخْبَرَهُ بِتَحْرِيمِهَا . وَالثَّالِثُ : أَنَّ السَّوْدَاءَ الَّتِي شَهِدَتْ كَانَتْ أَمَةً وَشَهَادَةُ الْأَمَةِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ ، وَقَدْ رَوَى الْحَدِيثَ عَلَى سِيَاقِهِ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ عُقْبَةَ بْنَ الْحَارِثِ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ نَكَحَ أُمَّ يَحْيَى بِنْتَ أَبِي إِهَابٍ فَقَالَتْ لَهُ أَمَةٌ سَوْدَاءُ : قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا ، قَالَ : فَجَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ فَأَعْرَضَ عَنْهَا ، قَالَ : فَجِئْتُ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ : وَكَيْفَ وَقَدْ زَعَمَتِ السَّوْدَاءُ أَنَّهَا أَرْضَعَتْكُمَا ، قَالَ : فَنَهَى عَنْهَا . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ لَمْ يَكُنْ لِلشَّهَادَةِ وَإِنَّمَا كَانَ لِلِاحْتِيَاطِ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّلْمَانِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَمَّا يَجُوزُ فِي الرَّضَاعِ فَقَالَ رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ . قِيلَ : هَذَا رَوَاهُ حَرَامٌ ، وَرَوَاهُ أَيْضًا عُمَارَةُ بْنُ حَرَمِيٍّ وَهُوَ ضَعِيفٌ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ حَدِيثُ حَرَامٍ قَبُولُهُ حَرَامٌ وَابْنُ السَّلْمَانِيِّ ضَعِيفٌ وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى جَوَازِ أَنْ يَشْهَدَ فِيهِ الرِّجَالُ إِذَا انْفَرَدُوا وَيَشْهَدَ بِهِ النِّسَاءُ إِذَا انْفَرَدْنَ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ تُنْكِرُ الرَّضَاعَ فَكَانَتْ فِيهِنَّ أُمُّهَا أَوِ ابْنَتُهَا جُزْنَ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَتْ تَدَّعِي الرَّضَاعَ لَمْ يَجُزْ فِيهَا أُمُّهَا وَلَا أُمَّهَاتُهَا وَلَا ابْنَتُهَا وَلَا بَنَاتُهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُدَّعِي الرَّضَاعَ بَعْدَ الزَّوْجِيَّةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الزَّوْجَ أَوِ الزَّوْجَةَ ، فَإِنْ كَانَ مُدَّعِيهِ الزَّوْجَ فَقَدِ انْفَسَخَ نِكَاحُهُ بِدَعْوَاهُ ، لِأَنَّ الْفُرْقَةَ بِيَدِهِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ " وَأُحِبُّ أَنْ يُطَلِّقَ وَاحِدَةً لِيَسْتَبِيحَ الزَّوَاجَ بِيَقِينٍ " . وَإِنَّمَا قُبِلَ قَوْلُهُ فِي الْفُرْقَةِ " بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ " ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُ وَلَمْ يُقْبَلْ فِي الْمَهْرِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ
لِأَنَّهُ حَقٌّ عَلَيْهِ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ الدُّخُولِ نِصْفُ الْمُسَمَّى وَبَعْدَ الدُّخُولِ جَمِيعُهُ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ بَيِّنَةٌ ، وَبَيِّنَتُهُ شَاهِدَانِ ، أَوْ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ ، أَوْ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ ، لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ عَلَى الرَّضَاعِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَبْلَ الدُّخُولِ مَهْرٌ ، وَعَلَيْهِ بَعْدَ الدُّخُولِ مَهْرُ الْمِثْلِ يُسْتَحَقُّ بِالْإِصَابَةِ دُونَ الْمُسَمَّى ، لِفَسَادِ الْعَقْدِ . فَلَوْ شَهِدَ لَهُ بِالرَّضَاعِ أُمَّهَاتُهُ أَوْ بَنَاتُهُ لَمْ يُقْبَلْنَ ، لِأَنَّ شَهَادَةَ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ مَرْدُودَةٌ ، وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِنَّ أُمُّ الزَّوْجَةِ أَوْ بِنْتُهَا قُبِلَتْ شَهَادَتُهَا ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ مَقْبُولَةٌ ، وَإِنْ لَمْ يُقْبَلْ لَهُ . وَإِنْ كَانَ مُدَّعِي الرَّضَاعَةِ الزَّوْجَةَ ، وَالزَّوْجُ مُنْكِرٌ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا فِي الْفُرْقَةِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ الْفُرْقَةَ ، فَإِنْ أَقَامَتْ بَيِّنَةً بِرَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ أَوْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ يَشْهَدْنَ بِالرَّضَاعِ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهَا ، وَوَقَعَتِ الْفُرْقَةُ ، وَسَقَطَ مَهْرُهَا قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَكَانَ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ بَعْدَ الدُّخُولِ ، فَلَوْ كَانَ فِي شُهُودِهَا أُمُّهَا أَوْ بِنْتُهَا رُدَّتْ شَهَادَتُهُمَا لِلتُّهْمَةِ ، وَلَوْ كَانَ فِيهِنَّ أُمُّ الزَّوْجِ أَوْ بِنْتُهُ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا عَلَيْهِ لِارْتِفَاعِ التُّهْمَةِ . فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ تَشْهَدَ الْبِنْتُ عَلَى رَضَاعِ أَبِيهَا وَأُمِّهَا وَالرَّضَاعُ يَكُونُ فِي الصِّغَرِ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَهُ الْوَلَدُ ، قِيلَ : لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ كَبِيرًا لَهُ وَلَدٌ يَكُونَ الْآخَرُ صَغِيرًا فَيَرْتَفِعَ مِنْ أُمِّ الْكَبِيرِ وَتَشْهَدَهُ بِنْتُهُ فَتَشْهَدَ بِالرَّضَاعِ لَهُ وَعَلَيْهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيَجُوزُ فِي ذَلِكَ شَهَادَةُ الَّتِي أَرْضَعَتْ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا فِي ذَلِكَ وَلَا عَلَيْهَا مَا تُرَدُّ بِهِ شَهَادَتُهُمَا ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : وَكَيْفَ تَجُوزُ شَهَادَتُهُمَا عَلَى فِعْلِهَا وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ أُمِّهَا وَأُمَّهَاتِهَا وَبَنَاتِهَا فَهُنَّ فِي شَهَادَتِهِنَّ عَلَى فِعْلِهَا أَجْوَزُ فِي الْقِيَاسِ مِنْ شَهَادِتِهَا عَلَى فِعْلِ نَفْسِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا شَهَادَةُ الْمُرْضِعَةِ بِالرَّضَاعِ حكمها فَمَقْبُولَةٌ مَا لَمْ تَدَّعِ بِهَا أُجْرَةَ الرَّضَاعِ ، لِأَنَّهَا لَا تَسْتَفِيدُ بِهَا نَفْعًا ، وَلَا تَسْتَدْفِعُ بِهَا ضَرَرًا ، فَزَالَتِ التُّهْمَةُ عَنْهَا فَقُبِلَتْ . فَإِنْ قِيلَ : فَهِيَ تَشْهَدُ عَلَى فِعْلِهَا وَشَهَادَةُ الْفَاعِلِ عَلَى فِعْلِهِ مَرْدُودَةٌ كَالْحَاكِمِ إِذَا شَهِدَ بِمَا حَكَمَ بِهِ ، وَالْقَاسِمِ إِذَا شَهِدَ بِمَا قَسَّمَهُ . قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْحَاكِمَ وَالْقَاسِمَ تَفَرَّدَا بِالْفِعْلِ فَلَمْ تَصِحَّ شَهَادَتُهُمَا بِهِ وَالْمُرْضِعَةُ إِمَّا أَنْ يَنْفَرِدَ الْوَلَدُ بِالرَّضَاعِ وَهِيَ نَائِمَةٌ ، وَإِمَّا أَنْ تُمَكِّنَهُ فَيَكُونَ الْوَلَدُ هُوَ الْمُرْتَضِعَ فَلَمْ تَكُنْ شَهَادَتُهُمَا عَلَى مُجَرَّدِ فِعْلِهَا .
وَالثَّانِي : أَنَّ فِي شَهَادَةِ الْحَاكِمِ وَالْقَاسِمِ تَزْكِيَةً لَهُمَا ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهَا مَعَ الْفُسُوقِ وَالْكُفْرِ فَلَمْ تُرَدَّ بِهِ شَهَادَتُهَا مَعَ الْعَدَالَةِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا ادَّعَتِ الْمُرْضِعَةُ بِشَهَادَتِهَا الْأُجْرَةَ فما الحكم ؟ لَمْ يُقْبَلْ بِهِ قَوْلُهَا فِي اسْتِحْقَاقِ الْأُجْرَةِ ، وَهَلْ تُرَدُّ بِهِ شَهَادَتُهُا فِي الرَّضَاعِ وَثُبُوتِ التَّحْرِيمِ بِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهَا تُقْبَلُ وَلَا تُرَدُّ . وَالثَّانِي : وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهَا تُرَدُّ وَلَا تُقْبَلُ ، وَاخْتِلَافُهُمَا فِي ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الشَّاهِدِ إِذَا رُدَّتْ شَهَادَتُهُ فِي بَعْضِ مَا شَهِدَ بِهِ هَلْ تُرَدُّ فِي الْبَاقِي ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ يُذْكَرَانِ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ غَلِطَ عَلَى الشَّافِعِيِّ غَلَطًا وَاضِحًا فَظَنَّ أَنَّهُ أَجَازَ شَهَادَةَ الْمُرْضِعَةِ وَرَدَّ شَهَادَةَ أُمِّهَا . فَقَالَ : " كَيْفَ تَجُوزُ شَهَادَتُهُا عَلَى فِعْلِهَا ، وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ أُمِّهَا " ؟ وَهَذَا غَلَطٌ مِنْهُ عَلَى الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ إِنَّمَا رَدَّ شَهَادَةَ أُمِّ الزَّوْجَيْنِ مِنَ النَّسَبِ وَلَمْ يَرُدَّ شَهَادَةَ أُمِّ الْمُرْضِعَةِ : لِأَنَّ أُبُوَّةَ الرَّضَاعِ لَا تَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَإِنَّمَا مَنَعَتْ أُبُوَّةُ النَّسَبِ مِنْهَا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيُوقَفْنَ حَتَّى يَشْهَدْنَ أَنْ قَدْ رَضَعَ الْمَوْلُودُ خَمْسَ رَضَعَاتٍ يَخْلُصْنَ كُلُّهُنَّ إِلَى جَوْفِهِ وَتَسَعُهُنَّ الشَّهَادَةُ عَلَى هَذَا ؛ لِأَنَّهُ ظَاهِرُ عِلْمِهِنَّ ، وَذَكَرَتِ السَّوْدَاءُ أَنَّهَا أَرْضَعَتْ رَجُلًا وَامْرَأَةً تَنَاكَحَا فَسَأَلَ الرَّجُلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ : فَأَعْرَضَ فَقَالَ " وَكَيْفَ وَقَدْ زَعَمَتِ السَّوْدَاءُ أَنَّهَا قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) إِعْرَاضُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ لَمْ يَرَ هَذَا شَهَادَةً تَلْزَمُهُ ، وَقَوْلُهُ : وَكَيْفَ وَقَدْ زَعَمَتِ السَّوْدَاءُ أَنَّهَا قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا يُشْبِهُ أَنْ يَكْرَهَ لَهُ أَنْ يُقِيمَ مَعَهَا وَقَدْ قِيلَ إِنَّهَا أُخْتُهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَهُوَ مَعْنَى مَا قُلْنَا يَتْرُكُهَا وَرَعًا لَا حُكْمًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، لَا تُسْمَعُ الشَّهَادَةُ عَلَى الرَّضَاعِ مَعَ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِيهِ إِلَّا مَشْرُوحَةً يَنْتَفِي عَنْهَا الِاحْتِمَالُ وَيَنْقَطِعُ بِهَا النِّزَاعُ ، فَإِذَا شَهِدْنَ أَنَّهُمَا أَخَوَانِ مِنَ الرَّضَاعِ لَمْ تُسْمَعْ شَهَادَتُهُنَّ حَتَّى يَصِفْنَ الرَّضَاعَ ، وَيَذْكُرْنَ الْعَدَدَ وَصِفَةَ الرَّضَاعِ ، فَجَمَعَ ثَلَاثَةَ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : مُعَايَنَةُ الْتِقَامِ الْمَوْلُودِ لِثَدْيِ الْمَرْأَةِ ؛ لِأَنَّ هَذَا إِنَّمَا يُعَايَنُ وَيُشَاهَدُ فَلَمْ يُعْمَلْ فِيهِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ كَالْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ ، وَالْغَاصِبِ وَالْمَغْصُوبِ ، فَلَوْ دَخَلَ الْمَوْلُودُ
فِي ثِيَابِ الْمُرْضِعَةِ مُسْتَتِرًا بِهَا لَمْ تَصِحَّ شَهَادَتُهُنَّ بِالرَّضَاعِ لِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ قَطْعًا . وَالثَّانِي : أَنْ يَشْهَدْنَ أَنَّ فِي ضَرْعِ الْمُرْضِعَةِ لَبَنًا بِفِعْلِ الْمَفْطُومِ ، وَعِلْمُهُنَّ بِوُجُودِ اللَّبَنِ فِي الثَّدْيِ يَكُونُ بِأَنْ يُحْلَبَ فَيُرَى لَبَنُهُ ، وَهَذَا مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ فِي الرَّضْعَةِ الْأُولَى فَأَمَّا فِيمَا بَعْدَهَا إِلَى اسْتِكْمَالِ الْخَمْسِ فَلَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ إِنْ قَرُبَ الزَّمَانُ ؛ لِتَقَدُّمِ الْعِلْمِ بِهِ ، وَيُحْتَاجُ إِلَى مُشَاهَدَتِهِ بَعْدَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ وَبَعْدَهُ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَشْهَدْنَ بِوُصُولِ اللَّبَنِ إِلَى جَوْفِهِ ، وَهَذَا يُعْمَلُ فِيهِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ فِيهِ مُتَعَذِّرَةٌ ؛ لِأَنَّهُ إِذَا عُلِمَ جُوعُ الطِّفْلِ ، وَقَدِ الْتَقَمَ الثَّدْيِ وَمَصَّهُ وَتَحَرَّكَ حُلْقُومُهُ حَرَكَةَ الشُّرْبِ وَسَكَنَ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الْهَتْمِ بِالْتِقَامِ الثَّدْيِ عُلِمَ وُصُولُ اللَّبَنِ إِلَى جَوْفِهِ بِظَاهِرِ الِاسْتِدْلَالِ ، وَغَالِبِ الظَّنِّ الَّذِي لَا يُوجَدُ طَرِيقٌ إِلَى الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ ، فَجَازَتِ الشَّهَادَةُ بِهِ قَطْعًا مَعَ عَدَمِ الْمُشَاهَدَةِ ، لِأَنَّهَا غَايَةُ مَا يُعْلَمُ بِهِ مِثْلُهُ ، كَالشَّهَادَةِ بِالْأَنْسَابِ وَالْأَمْلَاكِ حَيْثُ جَازَتْ بِشَائِعِ الْخَبَرِ فَتَحَرَّرَتْ بِصِفَةِ الشَّهَادَةِ هَذِهِ الشُّرُوطُ أَنْ يَشْهَدْنَ فَيَقُلْنَ : نَشْهَدُ أَنَّهُ الْتَقَمَ ثَدْيَهَا ، وَفِيهِ لَبَنٌ ارْتَضَعَ خَمْسَ رَضَعَاتٍ وَصَلْنَ كُلُّهُنَّ إِلَى جَوْفِهِ فَيُحْكُمَ حِينَئِذٍ بِشَهَادَتِهِنَّ لَا يُنْفَى الِاحْتِمَالُ عَنْهَا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ قَالَ رَجُلٌ : هَذِهِ أُخْتِي مِنَ الرَّضَاعَةِ أَوْ قَالَتْ : هَذَا أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ وَكَذَّبَتْهُ أَوْ كَذَّبَهَا فما الحكم ؟ فَلَا يَحِلُّ لِوَاحِدٍ مِنْهَا أَنْ يَنْكِحَ الْآخَرَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ لَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا فَأَقَرَّ الرَّجُلُ أَنَّهَا أُخْتُهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ أَوْ بِنْتُهُ أَوْ أُمُّهُ ، أَوْ أَقَرَّتِ الْمَرْأَةُ بِأَنَّهُ أَخُوهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ ، أَوِ ابْنُهَا أَوْ أَبُوهَا ، كَانَ قَوْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي التَّحْرِيمِ مَقْبُولًا عَلَيْهَا إِذَا كَانَ مُمْكِنًا سَوَاءٌ صَدَّقَهُ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ أَوْ كَذَّبَهُ ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ وَاسْتَحَالَ _ مِثْلَ أَنْ يَتَسَاوَى بَيْنَهُمَا أَوْ يَتَقَارَبَ فَتَقُولَ الْمَرْأَةُ : هَذَا أَبِي مَنَ الرَّضَاعَةِ ، أَوْ يَقُولَ الرَّجُلُ : هَذِهِ أُمِّي مِنَ الرَّضَاعَةِ فَيُعْلَمَ اسْتِحَالَةُ هَذَا الْإِقْرَارِ - فَيَكُونُ مَرْدُودًا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُقْبَلُ الْإِقْرَارُ وَيَثْبُتُ بِهِ التَّحْرِيمُ مَعَ اسْتِحَالَتِهِ الْتِزَامًا لِلْإِقْرَارِ ، وَتَغْلِيبًا لِلْحَظْرِ وَبِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِيمَنْ قَالَ لِعَبْدٍ لَهُ هُوَ أَكْبَرُ سِنًّا مِنْهُ : أَنْتَ ابْنِي ، عَتَقَ عَلَيْهِ مَعَ اسْتِحَالَةِ بُنُوَّتِهِ ، وَهَذَا قَوْلٌ مُسْتَهْجَنٌ يَدْفَعُهُ الْمَعْقُولُ ، وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ يَأْتِي بَعْدُ . فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا وَحُكِمَ بِتَحْرِيمِ الرَّضَاعِ بَيْنَهُمَا بِوُجُودِ الْإِقْرَارِ مِنْ أَحَدِهِمَا لَمْ يُحْتَجْ فِي الْإِقْرَارِ إِلَى صِفَةِ الرَّضَاعِ وَذِكْرِ الْعَدَدِ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ ؛ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَصِحُّ إِلَّا عَنْ مُشَاهَدَةٍ فَاسْتَوْفَى فِيهَا شُرُوطَ الْمُشَاهَدَةِ ، وَالْإِقْرَارُ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى الْمُشَاهَدَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُشَاهِدُ رَضَاعَ نَفْسِهِ مِنْ لَبَنِ أُمِّهِ ، وَإِنَّمَا يَعْمَلُ عَلَى الْخَبَرَ الَّذِي يُوَثَّقُ لَهُ فَيُصَدِّقُهُ .
وَالثَّانِي : أَنَّ فِي الشَّهَادَةِ الْتِزَامَ حَقٍّ عَلَى غَيْرِ الْمُشَاهِدِ فَبُنِيَ عَلَى الِاحْتِيَاطِ فِي نَفْيِ الِاحْتِمَالِ ، وَالْإِقْرَارُ الْتِزَامُ حَقٍّ عَلَى النَّفْسِ فَكَانَ فِي تَرْكِ الِاحْتِيَاطِ تَقْصِيرٌ عَنِ الْمُقِرِّ فَالْتُزِمَ حُكْمُ إِقْرَارِهِ ، هَذَا فِيمَا تَعَلَّقَ بِصِفَةِ الرَّضَاعِ . فَأَمَّا الْعَدَدُ فَمُعْتَبِرٌ بِحَالِ الْإِقْرَارِ ؛ فَإِنْ قَالَ الرَّجُلُ : بَيْنِي وَبَيْنَهَا رَضَاعٌ افْتَقَرَ التَّحْرِيمُ إِلَى ذِكْرِ الْعَدَدِ ، وَإِنْ قَالَ : هِيَ أُخْتِي مِنَ الرَّضَاعِ لَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى ذِكْرِ الْعَدَدِ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ ؛ لِأَنَّ فِي اعْتِرَافِهِ بِأُخُوَّتِهَا الْتِزَامًا بِحُكْمِ التَّحْرِيمِ بِالْعَدَدِ الْمُحَرَّمِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَلْزَمُهُ ذِكْرُ الْعَدَدِ وَيُرْجَعُ فِيهِ إِلَيْهِ بَعْدَ إِقْرَارِهِ بِجَهْلِهِ بِالتَّحْرِيمِ الْمُحْتَمَلِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَلْزَمُ ذِكْرُ الْعَدَدِ ، وَلَا يُرْجَعُ فِيهِ إِلَيْهِ بَعْدَ إِطْلَاقِ الْإِقْرَارِ بِالتَّحْرِيمِ كَمَا لَا يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي صِفَةِ الطَّلَاقِ بَعْدَ إِقْرَارِهِ بِهِ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِأَنَّهَا أُخْتُهُ مِنَ النَّسَبِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَاهُ مِنْ ثُبُوتِ التَّحْرِيمِ بِإِقْرَارِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَإِنَّهُمَا يُمْنَعَانِ مِنَ النِّكَاحِ في الرضاع ، فَإِنْ تَنَاكَحَا فُسِخَ النِّكَاحُ عَلَيْهِمَا وَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا سَوَاءٌ كَانَ الْإِقْرَارُ مِنْ جِهَتِهَا أَوْ مِنْ جِهَتِهِ لِفَسَادِ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا حُدَّا إِنْ عَلِمَا تَحْرِيمَ الرَّضَاعِ ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِمَا إِنْ لَمْ يَعْلَمَا ، وَلَا مَهْرَ لَهَا إِنْ حُدَّتْ ، وَلَهَا الْمَهْرُ إِنْ لَمْ تُحَدَّ ، وَلَكِنْ لَوْ كَانَتْ أَمَةً فَوَطِئَهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ كَانَ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِمَا مَعَ عِلْمِهِمَا بِالتَّحْرِيمِ قَوْلَانِ ، كَالْأُخْتِ مِنَ النَّسَبِ . فَلَوْ رَجَعَا عَنِ الرَّضَاعِ بَعْدَ إِقْرَارِهِمَا اعْتُبِرَ حَالُ إِقْرَارِهِمَا ، فَإِنْ لَزِمَهُمَا فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ لِعِلْمِهِمَا بِهِ لَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُمَا فِيهِ ظَاهِرًا وَلَا بَاطِنًا ، وَإِنْ لَزِمَهُمَا إِقْرَارُهُمَا فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ لِجَهْلِهِمَا بِهِ لَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُمَا ظَاهِرًا ، وَقُبِلَ بَاطِنًا . فَإِنْ قِيلَ : " فَلَيْسَ لَوِ ادَّعَتِ امْرَأَةٌ عَلَى رَجُلٍ عَقْدَ نِكَاحٍ وَأَنْكَرَهَا ثُمَّ اعْتَرَفَ بِهَا حَلَّتْ لَهُ ؟ فَهَلَّا كَانَ فِي الرَّضَاعِ كَذَلِكَ ؟ قِيلَ لِأَنَّ تَحْرِيمَ الَّتِي أَنْكَرَهَا غَيْرُ مُؤَبَّدٍ ، فَجَازَ أَنْ يَسْتَبِيحَهَا بِالِاعْتِرَافِ ، وَتَحْرِيمَ الرَّضَاعِ مُؤَبَّدٌ فَلَمْ يَسْتَبِحْهَا بِالِاعْتِرَافِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ بَعْدَ عَقْدِ نِكَاحِهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا الرضاع فَإِنْ كَذَّبَتْهُ أَخَذَتْ نِصْفَ مَا سُمِّيَ لَهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَقُلْنَا : إِنَّ دَعْوَى أَحَدِهِمَا لِلرِّضَاعِ بَعْدَ وُجُودِ الْعَقْدِ بَيْنَهُمَا مَقْبُولَةٌ فِي وُقُوعِ الْفُرْقَةِ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ ، وَغَيْرُ مَقْبُولٍ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجَةِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِي أَنَّ الْفُرْقَةَ يَمْلِكُهَا الزَّوْجُ وَلَا تَمْلِكُهَا ،
فَلِذَلِكَ قُبِلَ فِي الْفُرْقَةِ قَوْلُ الزَّوْجِ دُونَ الزَّوْجَةِ ، فَأَمَّا سُقُوطُ الْمَهْرِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَالِانْتِقَالُ إِلَى مَهْرِ الْمِثْلِ بَعْدَ الدُّخُولِ فَلَا يُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُ الزَّوْجِ ، وَإِنْ قُبِلَ قَوْلُهُ فِي الْفُرْقَةِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ حَقٌّ لَهُ وَالْمَهْرَ حَقٌّ عَلَيْهِ فَقُبِلَ قَوْلُهُ فِيمَا لَهُ ، وَلَمْ يُقْبَلْ فِيمَا عَلَيْهِ ، فَتَحْلِفُ الزَّوْجَةُ إِذَا أَكْذَبَتْهُ وَتَسْتَحِقُّ نِصْفَ الْمُسَمَّى قَبْلَ الدُّخُولِ وَجَمِيعَهُ بَعْدَهُ وَيَمِينُهَا عَلَى الْعِلْمِ ؛ لِأَنَّهَا عَلَى نَفْيٍ فِي فِعْلِ الْغَيْرِ فَتَحْلِفُ بِاللَّهِ أَنَّهَا لَا تَعْلَمُ أَنَّ بَيْنَهُمَا رَضَاعًا ، فَإِنْ نَكَلَتْ عَنْهَا رُدَّتْ عَلَى الزَّوْجِ وَحَلَفَ عَلَى الْبَتِّ بِاللَّهِ أَنَّ بَيْنَهُمَا رَضَاعًا يَصِفُهُ ، لِأَنَّ يَمِينَهُ كَالْبَيِّنَةِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ كَانَتْ هِيَ الْمُدَّعِيَةَ أَفْتَيْتُهُ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ وَيَدَعَ نِكَاحَهَا بِطَلْقَةٍ لِتَحِلَّ بِهَا لِغَيْرِهِ إِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً وَأُحَلِّفُهُ لَهَا فَإِنْ نَكَلَ حَلَفَتْ وَفَرَّقْتُ بَيْنَهُمَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا ادَّعَتِ الزَّوْجَةُ بِالرَّضَاعِ فما الحكم ؟ لَمْ يَخْلُ حَالُ الزَّوْجِ مَعَهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُصَدِّقُهَا فَيُفْسَخَ النِّكَاحُ بِتَصْدِيقِهِ وَيَسْقُطَ الْمَهْرُ الْمُسَمَّى بِدَعْوَاهَا وَتَحِلَّ لِلْأَزْوَاجِ بَعْدَ عِدَّتِهَا . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُكَذِّبَهَا فَلَا يُقْبَلَ دَعْوَاهَا عَلَيْهِ وَيَحْلِفَ لَهَا الزَّوْجُ ، وَيَكُونَانِ عَلَى النِّكَاحِ وَفِي صِفَةِ يَمِينِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا عَلَى الْعِلْمِ كَيَمِينِ الزَّوْجَةِ إِذَا أَنْكَرَتِ الرَّضَاعَ . وَالثَّانِي : عَلَى الْبَتِّ وَالْقَطْعِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ يَمِينِ الزَّوْجِ وَيَمِينِ الزَّوْجَةِ ، وَإِنْ كَانَتَا عَلَى نَفْيِ فِعْلِ الْغَيْرِ أَنَّ فِي يَمِينِ الزَّوْجِ مَعَ تَصْحِيحِ الْعَقْدِ فِيمَا مَضَى إِثْبَاتُ اسْتِبَاحَةٍ فِي الْمُسْتُقْبَلِ فَكَانَتْ عَلَى الْبَتِّ تَغْلِيظًا ، وَيَمِينُ الزَّوْجَةِ لِبَقَاءِ حَقٍّ وَجَبَ بِالْعَقْدِ فَكَانَتْ عَلَى الْعِلْمِ تَحْقِيقًا ، فَإِنْ كَانَ نَكَلَ الزَّوْجُ عَنْهَا رُدَّتْ عَلَى الزَّوْجَةِ ، وَحَلَفَتْ عَلَى الْبَتِّ ؛ لِأَنَّهَا يَمِينُ إِثْبَاتٍ فَكَانَتْ عَلَى الْبَتِّ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَسْكُتَ فَلَا يَقَعَ فِي نَفْسِهِ صِدْقُهَا وَلَا كَذِبُهَا فَفِي جَوَازِ إِحْلَافِهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي صِفَةِ يَمِينِهِ . أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ أَنْ يَحْلِفَ إِذَا قِيلَ إِنَّ يَمِينَهُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِهَا حُكْمًا وَيَخْتَارَ أَنْ يُفَارِقَهَا وَرَعًا .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ إِذَا قِيلَ : إِنَّ يَمِينَهُ عَلَى الْبَتِّ ، وَيَكُونَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهَا الْيَمِينَ فَإِذَا حَلَفَتْ فُسِخَ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا ، وَإِمَّا أَنْ يُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً لِتَحِلَّ لِغَيْرِهِ مِنَ الْأَزْوَاجِ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ : وَأَفْتَيْتُهُ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ وَيَدَعَ نِكَاحَهَا بِطَلْقَةٍ وَهَذَا أَوْلَى الْأَمْرَيْنِ ، لِأَنَّهَا تَسْتَبِيحُ الْأَزْوَاجَ بِيَقِينٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهَا إِنْ كَانَتْ فِي دَعْوَى الرَّضَاعِ صَادِقَةً فَالنِّكَاحُ مَفْسُوخٌ ، وَالطَّلَاقُ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ فَلَيْسَ بِضَارٍّ ، وَإِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً حَلَّتْ بِالطَّلَاقِ لِلْأَزْوَاجِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ رَضَاعِ الْخُنْثَى
بَابُ رَضَاعِ الْخُنْثَى مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " إِنْ كَانَ الْأَغْلَبُ مِنَ الْخُنْثَى أَنَّهُ رَجُلٌ نَكَحَ امْرَأَةً وَلَمْ يُنْزِلْ فَنَكَحَهُ رَجُلٌ فَإِذَا نَزَلَ لَهُ لَبَنٌ فَأَرْضَعَ بِهِ صَبِيًّا لَمْ يَكُنْ رَضَاعًا يُحَرِّمُ ، وَإِنْ كَانَ الْأَغْلَبُ أَنَّهُ امْرَأَةٌ فَنَزَلَ لَهُ لَبَنٌ مِنْ نِكَاحٍ أَوْ غَيْرِهِ فَأَرْضَعَ صَبِيًّا حَرَّمَ ، وَإِنْ كَانَ مُشْكِلًا فَلَهُ أَنْ يُنْكَحَ بِأَيِّهِمَا شَاءَ ، وَبِأَيِّهِمَا نُكِحَ بِهِ أَوَّلًا أَجَزْتُهُ وَلَمْ أَجْعَلْ لَهُ أَنْ يُنْكَحَ بِالْآخَرِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ تَكَرَّرَ فِي كِتَابِنَا هَذَا ذِكْرُ الْخُنْثَى ، وَذَكَرْنَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْهُ مِنْ أَحْكَامِهِ طَرَفًا . وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْحَيَوَانَ ذُكُورًا وَإِنَاثًا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الشَّبَهِ لِيَأْنَسَ الذَّكَرُ بِالْإِنَاثِ ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي آلَةِ التَّنَاسُلِ فَجَعَلَ لِلرَّجُلِ ذَكَرًا وَلِلْمَرْأَةِ فَرْجًا لِيَجْتَمِعَا عَلَى الْغَشَيَانِ بِمَا رَكَّبَهُ فِي طِبَاعِهِمَا مِنْ شَهْوَةِ الِاجْتِمَاعِ فَيَمْتَزِجُ الْبُنْيَانُ فِي قَرَارِ الرَّحِمِ ، وَهُوَ مَحَلُّ الْعُلُوقِ لِيَحْفَظُ بِالتَّنَاسُلِ بَقَاءَ الْخَلْقِ فَمَنْ أَفْرَدَهُ بِالذَّكَرِ كَانَ رَجُلًا ، وَمَنْ أَفْرَدَهُ بِالْفَرْجِ كَانَ امْرَأَةً ، وَمَنْ جَمَعَ هَذَيْنِ الْعُضْوَيْنِ : الذَّكَرَ وَالْفَرْجَ فَهُوَ الْخُنْثَى تعريفه ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِاشْتِرَاكِ الشَّبَهَيْنِ فِيهِ ، مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ : تَخَنَّثَ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ إِذَا اشْتَبَهَ أَمْرُهُ فَلَمْ يَخْلُصْ طَعْمُهُ الْمَقْصُودُ وَشَارَكَهُ طَعْمٌ غَيْرُهُ ، وَرَجُلٌ مُخَنَّثٌ لِأَنَّهُ شُبِّهَ بِالْإِنَاثِ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ جَعَلَ لِكُلٍّ وَاحِدٍ مِنْ عُضْوَيِ الذَّكَرِ وَالْفَرْجِ مَنْفَعَتَيْنِ عَامَّةٍ وَخَاصَّةٍ فَالْمَنْفَعَةُ الْعَامَّةُ هِيَ الْبَوْلُ وَالْمَنْفَعَةُ الْخَاصَّةُ هِيَ غَشَيَانُ التَّنَاسُلِ ، فَإِذَا اجْتَمَعَ الْعُضْوَانِ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ فَكَانَ لَهُ ذَكَرٌ وَفَرْجٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا وَأُنْثَى ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ لَا ذَكَرًا وَلَا أُنْثَى ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ ذَكَرًا وَبَعْضُهُ أُنْثَى ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ خَرْقِ الْعَادَةِ الَّتِي رَكَّبَهَا فِي خَلْقِهِ ، وَحَفِظَ بِهَا تَنَاسُلَ الْعَالَمِ وَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِمَّا ذِكْرًا وَإِمَّا أُنْثَى ، وَقَدِ اشْتَبَهَ الْأَمْرُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الذَّكَرِ الدَّالِّ عَلَى كَوْنِهِ رَجُلًا ، وَالْفَرْجِ الدَّالِّ عَلَى كَوْنِهِ امْرَأَةً ، فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِالْغَالِبِ الظَّاهِرِ مِنْ مَنَافِعِهِمَا العلامات التي يستدل بها على الخنثى ، وَهُوَ الْبَوْلُ فَإِنْ بَالَ مِنَ الذَّكَرِ كَانَ رَجُلًا وَكَانَ الْفَرْجُ عُضْوًا زَائِدًا ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الرِّجَالِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ ، وَإِنْ بَالَ مِنَ الْفَرْجِ كَانَ امْرَأَةً وَكَانَ الذَّكَرُ عُضْوًا زَائِدًا ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهَا حُكْمُ النِّسَاءِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهَا ؛ لِأَنَّ وُجُودَ مَنْفَعَةِ الْعُضْوِ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مَخْلُوقٌ لَهُ ، وَلِذَلِكَ : لَمَّا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غُلَامٍ مَيِّتٍ حُمِلَ إِلَيْهِ مِنَ الْأَنْصَارِ لَهُ ذَكَرٌ وَفَرْجٌ فَقَالَ : وَرِّثُوهُ مِنْ حَيْثُ يَبُولُ وَهَذَا الْخُنْثَى غَيْرُ مُشْكِلٍ ، وَإِنْ كَانَ
يَبُولُ مِنْهُمَا فَيَخْرُجُ بَوْلُهُ مِنْ ذَكَرِهِ وَمِنْ فَرْجِهِ ، وَجَبَ أَنْ يُرَاعَى أَسْبَقُهُمَا بَوْلًا لِقُوَّتِهِ فَيُحْكَمَ بِهِ فَإِنِ اسْتَوَيَا فِي السَّبْقِ وَجَبَ أَنْ يُرَاعَى آخِرُهُمَا انْقِطَاعًا لِغَلَبَتِهِ فَيُحْكَمَ بِهِ فَإِنِ اسْتَوَيَا فِي السَّبْقِ وَالْخُرُوجِ فَهُوَ مُشْكِلٌ تعريفه . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُعْتَبَرُ أَكْثَرُهُمَا بَوْلًا فَيُحْكَمُ بِهِ ، وَحَكَاهُ أَبُو الْقَاسِمِ الدَّارَكِيُّ عَلَى الْمَذْهَبِ ، وَأَنْكَرَهُ سَائِرُ أَصْحَابِنَا وَجَعَلُوهُ مُشْكِلًا فَلَوْ سَبَقَ بَوْلُهُ مِنْ أَحَدِهِمَا ، وَتَأَخَّرَ انْقِطَاعُهُ مِنَ الْآخَرِ بِقَدْرِ السَّبْقِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُحْكَمُ بِالسَّبْقِ . وَالثَّانِي : قَدِ اسْتَوَيَا ، وَيَكُونُ مُشْكِلًا ، فَلَوْ سَبَقَ بَوْلُهُ مِنْ أَحَدِهِمَا ، وَكَانَ قَلِيلًا وَتَأَخَّرَ مِنَ الْآخَرِ ، وَكَانَ كَثِيرًا فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهُمَا : يُحْكَمُ بِالسَّابِقِ مِنْهُمَا . وَالثَّانِي : يُحْكَمُ بِأَكْثَرِهِمَا . وَالثَّالِثُ : يَكُونُ مُشْكِلًا ، فَلَوْ كَانَ يَبُولُ مِنْ أَحَدِهِمَا تَارَةً ، وَمِنَ الْآخَرِ تَارَةً ، أَوْ كَانَ يَسْبِقُ أَحَدُهُمَا تَارَةً وَيَتَأَخَّرُ تَارَةً ، اعْتُبِرَ أَكْثَرُ الْحَالَتَيْنِ مِنْهُمَا ، فَإِنِ اسْتَوَيَا فَهُوَ مُشْكِلٌ . وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : اعْتُبِرَ صِفَةُ الْبَوْلِ فَإِنْ زَرَقَ فَهُوَ ذَكَرٌ وَإِنْ رَشَّشَ فَهُوَ أُنْثَى . وَأَنْكَرَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا هَذَا الِاعْتِبَارَ وَجَعَلُوهُ مُشْكِلًا ، فَإِذَا عُدِمَ الْبَيَانُ مِنْ طَرِيقِ الْمَبَالِ الَّذِي هُوَ الْأَعَمُّ مِنْ مَنْفَعَتِي الْعُضْوَيْنِ وَجَبَ الرُّجُوعُ إِلَى اعْتِبَارِ الْمَنْفَعَةِ الْخَاصَّةِ ، وَهِيَ الْمَنِيُّ ، وَذَلِكَ يَكُونُ عِنْدَ الْبُلُوغِ فَإِنْ أَمْنَى مَنْ ذَكَرِهِ فَهُوَ رَجُلٌ ، وَإِنْ أَمْنَى مِنْ فَرْجِهِ فَهِيَ امْرَأَةٌ ، وَإِنْ أَمْنَى مِنْهُمَا فَلَا بَيَانَ فِيهِ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يُعْتَبَرُ بِالْحَيْضِ أَمْ لَا ؟ أى الخنثى في الحكم عليه بالذكورة وعدمها ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُعْتَبَرُ بِالْحَيْضِ ؛ فَإِنْ حَاضَ فَهُوَ أُنْثَى ، وَإِنْ لَمْ يَحِضْ فَهُوَ ذَكَرٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا اعْتِبَارَ بِالْحَيْضِ ، وَإِنِ اعْتُبِرَ الْمَنِيُّ ؛ لِأَنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي الْمَنِيِّ ، وَيَخْتَلِفَانِ فِي مَخْرِجِهِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا كَمَا يَشْتَرِكَانِ فِي الْبَوْلِ ، وَيَخْتَلِفَانِ فِي مَخْرِجِهِ وَلَا يَشْتَرِكَانِ فِي الْحَيْضِ ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الدَّمُ لَيْسَ بِحَيْضٍ ، فَإِذَا فَاتَ الْبَيَانُ مِنَ الذَّكَرِ وَالْفَرْجِ بِاعْتِبَارِ الْبَوْلِ وَالْمَنِيِّ فَلَا اعْتِبَارَ بَعْدَهُمَا بِشَيْءٍ مِنْ أَعْضَاءِ الْجَسَدِ وَصِفَاتِهِ فَلَا تَكُونُ فِي اللِّحْيَةِ دَلِيلٌ ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ لِبَعْضِ النِّسَاءِ ، وَلَا تَكُونُ فِي الثَّدْيِ وَاللَّبَنِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِبَعْضِ الرِّجَالِ . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ اعْتَبَرَ بِعَدَدِ الْأَضْلَاعِ العلامات التي يستدل بها على الذكورة أو الأنوثة ؛ فَإِنَّ أَضْلَاعَ الْمَرْأَةِ مُتَسَاوِيَةٌ مِنَ الْجَانِبَيْنِ ، وَأَضْلَاعَ الرَّجُلِ تَنْقُصُ مِنَ الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ ، ضِلْعًا لِأَجْلِ مَا حُكِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ ضِلْعِ آدَمَ الْأَيْسَرِ ، وَبِهَذَا قَالَ حَسَنٌ الْبَصْرِيُّ وَحَكَاهُ
ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِعَدَدِ الْأَضْلَاعِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُعْتَبَرًا لَقُدِّمَ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَبَالِ ؛ لِأَنَّهُ أَصْلٌ ثَابِتٌ فِي الْخِلْقَةِ . وَالثَّانِي : مَا حُكِيَ عَنْ أَصْحَابِ التَّشْرِيحِ وَمَا تُوجَدُ شَوَاهِدُهُ فِي الْبَهَائِمِ بَعْدَ الذَّبْحِ أَنَّ أَضْلَاعَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مُتَسَاوِيَةٌ فِي الْيُمْنَى وَالْيُسْرَى ، وَأَنَّهَا أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ ضِلْعًا مِنَ الْجَانِبَيْنِ وَفِي كُلِّ جَانِبٍ مِنْهَا اثْنَا عَشَرَ ضِلْعًا خَمْسَةٌ مِنْهَا تَتَلَاقَى ، وَسَبْعَةٌ مِنْهَا أَضْلَاعُ الْخَلَفِ وَهِيَ الَّتِي لَا تَتَلَاقَى ، فَإِذَا لَمْ يَزُلْ إِشْكَالُهُ بِالْأَمَارَاتِ الظَّاهِرَةِ لِتُكَافُؤِ دَلَائِلِهَا وَجَبَ أَنْ يُرْجَعَ إِلَى الْأَمَارَاتِ الْبَاطِنَةِ الْمَرْكُوزَةِ فِي طَبْعِهِ ، فَإِنَّ الذَّكَرَ مَطْبُوعٌ عَلَى مَا رَكَّبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ مِنْ شَهْوَةِ الْأُنْثَى وَالْأُنْثَى مَطْبُوعَةٌ عَلَى مَا رَكَّبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا مِنْ شَهْوَةِ الرِّجَالِ ، لِيَحْفَظَ بِالشَّهْوَةِ الْغَرِيزِيَّةِ بَقَاءَ التَّنَاسُلِ . وَمِثَالُهُ مَا يَقُولُهُ فِي لُحُوقِ الْأَنْسَابِ عِنْدَ الِاشْتِرَاكِ وَالِاشْتِبَاهِ ، وَإِنَّمَا يُرْجَعُ بِالْقَافَةِ إِلَى الْأَمَارَاتِ الظَّاهِرَةِ فِي الْجَسَدِ فَإِذَا عُدِمَ الْبَيَانُ مِنْهَا رَجَعْنَا إِلَى الْأَمَارَاتِ الْبَاطِنَةِ فِي الْمَيْلِ بِالطَّبْعِ الْمَرْكُوزِ فِي الْخِلْقَةِ إِلَى الْمُتَمَازِجِينَ فِي الِانْتِسَابِ في تمييز الخنثى به فَيُؤْخَذَ بِالِانْتِسَابِ إِلَى مَنْ مَالَ طَبْعُهُ إِلَيْهِ ؛ كَذَلِكَ الْخُنْثَى ، وَهَذِهِ الشَّهْوَةُ تُسْتَكْمَلُ بِالْبُلُوغِ فَلَا اعْتِبَارَ بِهَا قَبْلَ الْبُلُوغِ وَالَّذِي يَكُونُ بِهِ الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ بَالِغًا قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي بَابِ الصَّلَاةِ فَإِذَا بَلَغَ اعْتُبِرَتْ حِينَئِذٍ شَهْوَتُهُ فِي الْمَيْلِ إِلَى أَحَدِ الْجِنْسَيْنِ من الخنثى هل يحكم يعتبر أم لا ؟ فَإِنْ مَالَتْ شَهْوَتُهُ إِلَى النِّسَاءِ حُكِمَ بِأَنَّهُ رَجُلٌ وَإِنْ مَالَ إِلَى شَهْوَةِ الرِّجَالِ حُكِمَ بِأَنَّهُ امْرَأَةٌ ، وَلَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ كَمَا أُجْرِيَ عَلَيْهِ مِنْ حُكْمِ أَحَدِ الْجِنْسَيْنِ إِلَّا أَنْ تَظْهَرَ مِنْ دَلَائِلِ أَصِلِ الْخِلْقَةِ مَا تَقْتَضِيهِ ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَرْجِعَ إِلَى شَهْوَتِهِ عِنْدَ عَدَمَ الْبَيَانِ فِي الْمَبَالِ لِتَسَاوِيهِمَا ، وَيُحْكَمُ بِمَيْلِهِ إِلَى الرِّجَالِ أَنَّهُ امْرَأَةٌ ثُمَّ يَنْقَطِعُ بَوْلُهُ مِنَ الْفَرْجِ وَيَسْتَدِرُّ مِنَ الذَّكَرِ ، فَيُحْكَمُ بِأَنَّهُ رَجُلٌ بَعْدَ أَنْ جَرَى حُكْمُ النِّسَاءِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْأَمَارَاتِ الظَّاهِرَةَ أَقْوَى بَيَانًا مِنَ الْأَمَارَاتِ الْبَاطِنَةِ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ تَزَوَّجَ رَجُلًا فُسِخَ نِكَاحُهُ وَزُوِّجَ امْرَأَةً إِنْ شَاءَ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حَالِ الْخُنْثَى فِي زَوَالِ إِشْكَالِهِ أَوْ بَقَائِهِ عَلَى إِشْكَالِهِ فَحُكْمُ مَنْ أَرْضَعَهُ مِنَ الْأَطْفَالِ مُعْتَبَرٌ بِحَالِهِ أي من أرضعه الخنثى ؛ فَإِنْ أُجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الرِّجَالِ ، وَنَزَلَ لَهُ لَبَنٌ فَأَرْضَعَ بِهِ طِفْلًا لَمْ تَنْتَشِرْ بِهِ الْحُرْمَةُ وَلَمْ يَصِرِ ابْنًا لَهُ مِنَ الرَّضَاعِ ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ لَا يَصِيرُ بِلَبَنِهِ أَبًا وَقَالَ الْحُسَيْنُ الْكَرَابِيسِيُّ : يَصِيرُ بِلَبَنِهِ أَبًا كَالْأُمِّ تَصِيرُ بِلَبَنِهَا أُمًّا وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْبَتَ بِالرَّضَاعِ أُمًّا ، وَلَمْ يُثْبِتْ بِهِ أَبًا فَقَالَ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ [ النِّسَاءِ : ] .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْحُرْمَةَ تَنْتَشِرُ عَنِ ارْتِضَاعِ اللَّبَنِ الْمَخْلُوقِ لِغِذَاءِ الْوَلَدِ ، وَذَلِكَ مَخْصُوصٌ فِيمَا خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى غَالِبًا مِنْ أَلْبَانِ النِّسَاءِ دُونَ الرِّجَالِ ، وَصَارَ لَبَنُ الرَّجُلِ أَضْعَفَ حُكْمًا مِنْ لَبَنِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي لَا يَنْتَشِرُ بِهِ حُرْمَةُ الرَّضَاعِ ، وَلِأَنَّ الرَّضَاعَ تَبَعٌ لِلْوِلَادَةِ فَلَمَّا كَانَتِ الْمَرْأَةُ مَحَلَّ الْوِلَادَةِ ، وَجَبَ أَنْ تَكُونَ مَحَلَّ الرَّضَاعِ ، وَإِذَا لَمْ تَنْتَشِرِ الْحُرْمَةُ بِلَبَنِ الرَّجُلِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : كَرِهْتُ لَهُ إِنْ كَانَ الْمُرْضَعُ بِنْتًا فهل يجوز لمن أرضعها أن يتزوجها ؟ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِاغْتِذَائِهَا بِلَبَنِهِ ، فَإِنْ تَزَوَّجَهَا لَمْ يُفْسَخْ نِكَاحُهُ لِعَدَمِ حُرْمَتِهِ ، وَإِنْ أُجْرِيَ عَلَى الْخُنْثَى حُكْمُ النِّسَاءِ وَأُبِيحِ لَهُ التَّزْوِيجُ بِالرِّجَالِ انْتَشَرَتِ الْحُرْمَةُ عَنْ لَبَنِهِ قَبْلَ التَّزْوِيجِ وَبَعْدَهُ ؛ لِأَنَّ لَبَنَ النِّسَاءِ مَخْلُوقٌ لِلِاغْتِذَاءِ ، وَلَيْسَ جِمَاعُ الرَّجُلِ شَرْطًا فِيهِ وَإِنْ كَانَ سَبَبًا لِنُزُولِهِ فِي الْأَغْلَبِ فَصَارَ كَالْبِكْرِ إِذَا نَزَلَ لَهَا لَبَنٌ فَأَرْضَعَتْ بِهِ طِفْلًا انْتَشَرَتْ بِهِ حُرْمَةُ الرَّضَاعِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ فَلَوْ حُكِمَ بِانْتِشَارِ حُرْمَةِ اللَّبَنِ بِمَا أُجْرِيَ عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ النِّسَاءِ وَتَزَوَّجَ رَجُلًا ثُمَّ ذَكَرَ مَيْلَهُ إِلَى طَبْعِ الرِّجَالِ ، وَقَالَ أَنَا رَجُلٌ أي الخنثى ، نُظِرَ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِمَا ادَّعَاهُ مِنَ انْتِقَالِ الشَّهْوَةِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ ، لِأَنَّهُ مُتَهَوِّمٌ فِيهِ ، وَكَانَ عَلَى حُكْمِهِ الْأَوَّلِ فِي كَوْنِهِ امْرَأَةً ، وَكَانَ الزَّوْجُ عَلَى نِكَاحِهِ لَكِنْ يُقَالُ لَهُ : نَخْتَارُ لَكَ فِي الْوَرَعِ أَنْ تُفَارِقَهَا إِنْ صَدَّقْتَهَا ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِالْأَمَارَاتِ الظَّاهِرَةِ فِي الْبَوْلِ وَالْمَنِيِّ الَّذِي لَا يُتَّهَمُ فِيهِ قُبِلَ مِنْهُ ، وَنُقِلَ عَنْ أَحْكَامِ النِّسَاءِ إِلَى أَحْكَامِ الرِّجَالِ وَانْفَسَخَ نِكَاحُ الزَّوْجِ ، وَبَطَلَ مَا انْتَشَرَ مِنْ حُرْمَةِ الرَّضَاعِ ، وَكَرِهْنَاهُ إِنْ كَانَ الْوَلَدُ بِنْتًا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَأُبِيحَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً بَعْدَ أَنْ تَزَوَّجَ بِرَجُلٍ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى إِشْكَالِهِ أي الخنثى فَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُ إِذَا فَاتَ الْبَيَانُ بِالْأَمَارَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ لِتَكَافُئِهَا وَعَدَمِ الشَّهْوَةِ الْمَرْكُوزَةِ فِي الطَّبْعِ صَارَ نُزُولُ اللَّبَنِ بَيَانًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْزِلُ فِي الْغَالِبِ إِلَّا مِنَ امْرَأَةٍ فَاعْتُبِرَ الْإِشْكَالُ بِالْأَغْلَبِ مِنْهُمَا لَا اللَّبَنُ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ أَحْكَامُ النِّسَاءِ وَانْتَشَرَتِ الْحُرْمَةُ عَنْ لَبَنِهِ ، وَقَدْ حَكَى هَذَا الْوَجْهَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا اخْتَلَفَ عَنْهُ فِي ظُهُورِ اللِّحْيَةِ هَلْ يَصِيرُ بَيَانًا عِنْدَ عَدَمِ الْبَيَانِ ؟ لتمييز الخنثى عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَصِيرُ بَيَانًا كَاللَّبَنِ . وَالثَّانِي : لَا يَصِيرُ بَيَانًا ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ عَدَمُ اللِّحْيَةِ دَلِيلًا عَلَى الْأُنُوثَةِ لَمْ يَكُنْ وُجُودُهَا دَلِيلًا عَلَى الذُّكُورِيَّةِ ، وَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ اللَّبَنُ وَاللِّحْيَةُ بَيَانًا ، لِأَنَّهُمَا قَدْ يَشْتَرِكُ فِيهِمَا الْجِنْسَانِ ، وَإِنْ كَانَ نَادِرًا فَلَمْ يَصِرْ بَيَانًا ، وَإِذَا فَاتَ الْبَيَانُ وَدَامَ الْإِشْكَالُ وَأَرْضَعَ بِلَبَنِهِ مَوْلُودًا أي الخنثى لَمْ يُحْكَمْ لِلَبَنِهِ بِانْتِشَارِ الْحُرْمَةِ ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا ، وَلَا يُعْدَمْهَا ؛ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ امْرَأَةً ، وَكَانَ عَلَى الْوَقْفِ مَا بَقِيَ عَلَى الْإِشْكَالِ ؛ لِأَنَّ مَا مِنْ وَقْتٍ يَحْدُثُ إِلَّا وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَحْدُثَ فِيهِ مَا يَزُولُ بِهِ الْإِشْكَالُ فَلِأَجْلِ ذَلِكَ وُقِفَ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
_____كِتَابُ النَّفَقَاتِ _____
بيان الأصل في وجوب النفقة
كِتَابُ النَّفَقَاتِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا [ النِّسَاءِ : ] أَيْ لَا يَكْثُرَ مَنْ تَعُولُونَ ( قَالَ ) وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عَلَى الزَّوْجِ نَفَقَةَ امْرَأَتِهِ فَأُحِبُّ أَنْ يَقْتَصِرَ الرَجُلُ عَلَى وَاحِدَةٍ وَإِنْ أُبِيحَ لَهُ أَكْثَرُ وَجَاءَتْ هِنْدٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ وَإِنَّهُ لَا يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي إِلَّا مَا أَخَذْتُ مِنْهُ سِرًّا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ ؛ فَهَلْ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ مِنْ جُنَاحٍ ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بَالْمَعْرُوفِ وَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عِنْدِي دِينَارٌ فَقَالَ " أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِكَ " قَالَ عِنْدِي آخَرُ ، قَالَ " أَنْفِقْهُ عَلَى وَلَدِكَ " ، قَالَ عِنْدِي آخَرُ ، فَقَالَ " أَنْفِقْهُ عَلَى أَهْلِكَ " ، قَالَ عِنْدِي آخَرُ قَالَ " أَنْفِقْهُ عَلَى خَادِمِكَ ، قَالَ عِنْدِي آخَرُ ، قَالَ أَنْتَ أَعْلَمُ قَالَ سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ : ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ : يَقُولُ وَلَدُكَ أَنْفِقْ عَلَيَّ إِلَى مَنْ تَكِلُنِي ؟ وَتَقُولُ زَوْجَتُكَ أَنْفِقْ عَلَيَّ أَوْ طَلِّقْنِي ، وَيَقُولُ خَادِمُكَ أَنْفِقْ عَلَيَّ أَوْ بِعْنِي " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا وُجُوبُ النَّفَقَاتِ بِأَسْبَابِهَا الْمُسْتَحَقَّةِ ، فَمِمَّا لَا يَجِدُ النَّاسُ بُدًّا مِنْهُ لِعَجْزِ ذَوِي الْحَاجَةِ عَنْهَا وَقُدْرَةِ ذَوِي الْمُكْنَةِ عَلَيْهَا لِيَأْتَلِفَ الْخَلْقُ بِوُجُودِ الْكِفَايَةِ : فَجَعَلَهَا لِلْأَبَاعِدِ زَكَاةً لَا تَتَعَيَّنُ لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ لِعُمُومِهَا فِيهِمْ ، وَجَعَلَهَا لِلْأَقَارِبِ بِأَنْسَابٍ وَأَسْبَابِ مَعُونَةٍ وَمُوَاسَاةٍ تَتَعَيَّنُ لِمَنْ تَجِبُ لَهُ وَعَلَيْهِ لِتَعَيُّنِ مُوجِبِهَا مِنْ نَسَبٍ أَوْ سَبَبٍ فَمِنْ ذَلِكَ نَفَقَاتُ الزَّوْجَاتِ مشروعيتها . وَاجِبَةٌ عَلَى الْأَزْوَاجِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْمَعْقُولِ . فَأَمَّا الْكِتَابُ فَقَـوْلُهُ تَعَالَى : قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ [ الْأَحْزَابِ : ] ، فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ النَّفَقَةِ ؛ لِأَنَّهَا مِنَ الْفَرْضِ ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ [ الطَّلَاقِ : ] ، فَأَمَرَهُ بِهَا فِي يَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ ، وَقَالَ تَعَالَى الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ [ النِّسَاءِ : ] ، فَدَلَّتْ عَلَى وُجُوبِ النَّفَقَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ : مَعْقُولٍ وَنَصٍّ ، فَالْمَعْقُولُ مِنْهَا قَوْلُهُ جَلَّ وَعَزَّ : الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ ، وَالْقَيِّمُ عَلَى غَيْرِهِ هُوَ الْمُتَكَفِّلُ بِأَمْرِهِ ، وَالنَّصُّ مِنْهَا قَوْلُهُ
وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ، وَقَالَ تَعَالَى : وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [ الْبَقَرَةِ : ] ، فَنَصَّ عَلَى وُجُوبِهَا بِالْوِلَادَةِ فِي الْحَالِ الَّتِي تَتَشَاغَلُ بِوَلَدِهَا عَنِ اسْتِمْتَاعِ الزَّوْجِ ؛ لِيَكُونَ أَدَلَّ عَلَى وُجُوبِهَا عَلَيْهِ فِي حَالِ اسْتِمْتَاعِهِ بِهَا . وَقَالَ تَعَالَى : وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [ الطَّلَاقِ : ] ، فَلَمَّا أَوْجَبَ نَفَقَتَهَا بَعْدَ الْفُرْاقِ إِذَا كَانَتْ حَامِلًا كَانَ وُجُوبُهَا قَبْلَ الْفُرْاقِ أَوْلَى ، وَقَالَ تَعَالَى : فِيمَا اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ : فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا [ النِّسَاءِ : ] ، قَالَ الشَّافِعِيُّ مَعْنَاهُ أَلَّا يَكْثُرَ مَنْ تَعُولُونَ ، فَلَوْلَا وُجُوبُ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ لَمَا كَانَ لِخَشْيَةِ الْعِيَالِ تَأْثِيرٌ ، فَاعْتَرَضَ عَلَى الشَّافِعِيَّ ابْنُ دَاوُدَ وَبَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ ، وَقَالُوا : مَعْنَى عَالَ يَعُولُ أَيْ جَارَ يَجُورُ ، فَأَمَّا كَثْرَةُ الْعِيَالِ فَيُقَالُ فِيهِ أَعَالَ يُعِيلُ فَكَانَ الْعُدُولُ عَنْ هَذَا التَّأْوِيلِ جَهْلًا بِمَعْنَى اللُّغَةِ وَغَفْلَةً عَمَّا تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً [ النِّسَاءِ : ] وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ تَأْوِيلَ الشَّافِعِيِّ أَصَحُّ لِشَاهِدَيِ شَرْحٍ وَلُغَةٍ . فَأَمَّا الشَّرْحُ فَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَرَأَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ لَا يَكْثُرَ مَنْ تَعُولُونَ ، فَكَانَ هَذَا التَّأْوِيلُ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ لَفْظًا مَتْلُوًّا حَكَاهُ التَّاجِيُّ عَنِ الْفَرَّاءِ ؛ قَالَ اخْتَرْتُ مِنْ قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ . وَرَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ . وَأَمَّا اللُّغَةُ فَقَدْ حَكَى ثَعْلَبٌ عَنْ سَلَمَةَ عَنِ الْفَرَّاءِ عَنِ الْكِسَائِيِّ أَنَّهُ قَالَ : سَمِعْتُ الْعَرَبَ تَقُولُ : عَالَ يَعُولُ ، مَعْنَاهُ كَثُرَ عِيَالُهُ ، قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : وَمِنْهُ أُخِذَ عَوْلُ الْفَرَائِضِ لِكَثْرَةِ سِهَامِهَا ، فَهَذَا جَوَابٌ ، وَالْجَوَابُ الثَّانِي أَنَّ مِنَ الْأَبْنِيَةِ الْمُشْتَرِكَةِ ثَلَاثَةَ مَعَانٍ ؛ يُقَالُ عَالَ يَعُولُ . بِمَعْنَى جَارَ يَجُورُ . وَبِمَعْنَى كَانَ يَكُونُ . وَبِمَعْنَى أَكْثَرَ الْعِيَالَ . فَهُوَ بِكَثْرَتِهِمْ . فَتَنَاوَلَهُ الشَّافِعِيُّ بِأَحَدِ مَعَانِيهِ ، وَبِهِ قَالَ ابْنَ مَسْعُودٍ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَطَائِفَهٌ . وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ : أَنَّ حَقِيقَتَهُ فِي اللُّغَةِ مَا ذَكَرُوهُ ، وَمَجَازَهُ فِيهَا مَا ذَكَرْنَاهُ ، فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى مَجَازِهِ دُونَ حَقِيقَتِهِ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ حَقِيقَتَهُ فِي الْجَوْرِ قَدِ اسْتُفِيدَتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً وَحَمْلُهُ عَلَى كَثْرَةِ الْعِيَالِ مُسْتَفَادٌ بِمَجَازِ قَوْلِهِ تَعَالَى : ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا وتأويل الشافعي لها لِيَكُونَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى مَعْنَيَيْنِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى أَحَدِهِمَا : وَالثَّانِي : أَنَّ كَثْرَةَ الْعِيَالِ يَؤُولُ إِلَى الْجَوْرِ فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْجَوْرِ ؛ لِأَنَّهُ يَؤُولُ إِلَيْهِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا [ يُوسُفَ : ] ، وَلَمْ يَعْصِرْ إِلَّا عِنَبًا فَسَمَّاهُ خَمْرًا
لِأَنَّهُ يَؤُولُ إِلَى أَنْ يَصِيرَ خَمْرًا ، وَهَذَا مَشْهُورٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَأَشْعَارِهِمْ . وَأَمَّا السُّنَّةُ فِي نَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ ، فَمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِجْلَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمُقْبُرِيَّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَعِي دِينَارٌ ، قَالَ أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِكَ . قَالَ مَعِي آخَرُ ، قَالَ أَنْفِقْهُ عَلَى وَلَدِكَ . قَالَ مَعِي آخَرُ ، قَالَ أَنْفِقْهُ عَلَى أَهْلِكَ . قَالَ مَعِي آخَرُ قَالَ أَنْفِقْهُ عَلَى خَادِمِكَ . قَالَ مَعِي آخَرُ ، قَالَ أَنْتَ أَعْلَمُ . وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ عَنْ وَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْمُقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ دِينَارِ الْخَادِمِ مَعِي آخِرُ لَمْ يَبْقَ غَيْرُهُ ، قَالَ أَنْفِقْهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهُوَ أَدْنَاهَا أَجْرًا . قَالَ سَعِيدٌ الْمُقْبُرِيُّ : فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ قَالَ : يَقُولُ وَلَدُكَ : أَنْفِقْ عَلَيَّ ، إِلَى مَنْ تَكِلُنِي ؟ وَتَقُولُ زَوْجَتُكَ : أَنْفِقْ عَلَيَّ أَوْ طَلِّقْنِي ، وَيَقُولُ خَادِمُكَ : أَنْفِقْ عَلَيَّ أَوْ بِعْنِي ، وَهَذَا أَعَمُّ حَدِيثٍ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ فِيهِ بَيْنَ وُجُوبِهَا بِنَسَبٍ وَسَبَبٍ . وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَعُولُ ، وَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مُجْمَلٌ لَا يُخْرِجُ الزَّوْجَةَ مِنْ بَيَانِ إِجْمَالِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ عَامٌّ يُدْخِلُ الزَّوْجَةَ فِي جُمْلَةِ عُمُومِهِ . وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ عِيَاضٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ : جَاءَتْ هِنْدٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ وَإِنَّهُ لَا يُعْطِينِي وَوَلَدِي إِلَّا مَا آخُذُ مِنْهُ سِرًّا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ ؛ فَهَلْ عَلَيَّ فِيهِ شَيْءٌ ، فَقَالَ خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ فَدَلَّ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ ، وَاسْتُفِيدَ مِنْهُ سِوَى ذَلِكَ دَلَائِلُ عَلَى أَحْكَامٍ مِنْهَا جَوَازُ بُرُوزِ الْمَرْأَةِ فِيمَا عَرَضَ مِنْ حَاجَةٍ ، وَدَلَّ عَلَى جَوَازِ سُؤَالِهَا فِيمَا يَخْتَصُّ بِهَا وَبِغَيْرِهَا مِنَ الْأَحْكَامِ ، وَدَلَّ عَلَى جَوَازِ كَلَامِهَا لِلْأَجَانِبِ ، وَدَلَّ عَلَى جَوَازِ أَنْ يُوصَفَ الْإِنْسَانُ بِمَا فِيهِ وَإِنْ كَانَ ذَمًّا إِذَا تَعَلَّقَ بِمَا عَسُرَ ؛ لِأَنَّهَا نَسَبَتْ أَبَا سُفْيَانَ إِلَى الشُّحِّ ؛ وَهُوَ ذَمٌّ ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ يَأْخُذَ حَقَّهُ بِغَيْرِ إِذْنَ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ ؛ لِأَنَّهُ أَذِنَ لَهَا فِي أَخْذِ مَا يَكْفِيهَا وَوَلَدَهَا . وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ
يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ حَقَّهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ إِذَا عُدِمَ الْجِنْسُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ عَلَى أَخْذِ مَا تَسْتَحِقُّهُ مِنْ قَوَدٍ أَوْ لِبَاسٍ . وَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ النَّفَقَةِ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا تَقْصِيرٍ ؛ لِقَوْلِهِ : خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ ، وَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ ؛ لِأَنَّهُ حَكَمَ عَلَى أَبِي سُفْيَانَ بِالنَّفَقَةِ وَلَمْ يَكُنْ حَاضِرًا . وَدَلَّ عَلَى أَنَّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ ؛ لِأَنَّهُ حَكَمَ لَهَا بِالنَّفَقَةِ فِي مَالِ أَبِي سُفْيَانَ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهَا زَوْجَتُهُ ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ لِلْأُمِّ وِلَايَةً عَلَى وَلَدِهَا إِذَا كَانَ صَغِيرًا ؛ لِقَوْلِهِ : خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ وَأَمَّا الْمَعْقُولُ مِنْ مَعَانِي الْأُصُولِ ، فَهُوَ أَنَّ الزَّوْجَةَ مَحْبُوسَةُ الْمَنَافِعِ عَلَيْهِ وَمَمْنُوعَةٌ مِنَ التَّصَرُّفِ لِحَقِّهِ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فَوَجَبَ لَهَا مُؤْنَتُهَا وَنَفَقَتُهَا كَمَا يَلْزَمُهُ لِمَمْلُوكِهِ الْمَوْقُوفِ عَلَى خِدْمَتِهِ وَكَمَا يَلْزَمُ الْإِمَامَ فِي بَيْتِ الْمَالِ نَفَقَاتُ أَهْلِ الْغَيْرِ لِاحْتِبَاسِ نُفُوسِهِمْ عَلَى الْجِهَادِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ نَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ وَاجِبَةٌ فَقَدْ أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَنْكِحَ أَرْبَعًا بِقَوْلِهِ : مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ [ النِّسَاءِ : ] وَنَدَبَهُ إِلَى الِاقْتِصَارِ عَلَى وَاحِدَةٍ بِقَوْلِهِ : فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً وَذَهَبَ ابْنُ دَاوُدَ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ إِلَى أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَسْتَكْمِلَ نِكَاحَ الْأَرْبَعِ إِذَا قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ بِهِنَّ وَلَا يَقْتَصِرَ عَلَى وَاحِدَةٍ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَيْهَا ، وَاسْتَحَبَّ الشَّافِعِيُّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى وَاحِدَةٍ وَإِنْ أُبِيحَ لَهُ أَكْثَرُ : لِيَأْمَنَ الْجَوْرَ بِالْمَيْلِ إِلَى بَعْضِهِنَّ أَوْ بِالْعَجْزِ عَنْ نَفَقَاتِهِنَّ ، وَأَوْلَى الْمَذْهَبَيْنِ عِنْدِي اعْتِبَارُ حَالِ الزَّوْجِ ؛ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ تُقْنِعُهُ الْوَاحِدَةُ فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَزِيدَ عَلَيْهَا ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا تُقْنِعُهُ الْوَاحِدَةُ لِقُوَّةِ شَهْوَتِهِ وَكَثْرَةِ جِمَاعِهِ فَالْأَوْلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى الْعَدَدِ الْمُقْنِعِ مِنَ اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ لِيَكُونَ أَكْنَى لِبَصَرِهِ وَأَعَفَّ لِفَرْجِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
الْقَوْلُ فِي وُجُوبِ نَفَقَةِ الْخَادِمِ
الْقَوْلُ فِي وُجُوبِ نَفَقَةِ الْخَادِمِ حكمها مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ بَيَانُ أَنَّ عَلَى الرَجُلِ مَا لَا غِنَى بِامْرَأَتِهِ عَنْهُ مِنْ نَفَقَةٍ وَكِسْوَةٍ وَخِدْمَةٍ فِي الْحَالِ الَّتِي لَا تَقْدِرُ عَلَى مَا لَا صَلَاحَ لِبَدَنِهَا مِنْ زَمَانَةٍ وَمَرَضٍ إِلَّا بِهِ ( وَقَالَ ) فِي كِتَابِ عِشْرَةِ النِّسَاءِ : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ لِخَادِمِهَا نَفَقَةٌ إِذَا كَانَتْ مِمَّنْ لَا تَخْدُمُ نَفْسَهَا ، وَقَالَ فِيهِ أَيْضًا : إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا خَادِمٌ فَلَا يَبِينُ أَنْ يُعْطِيَهَا خَادِمًا وَلَكِنْ يُجْبَرُ عَلَى مَنْ يَصْنَعُ لَهَا الطَّعَامَ الَّذِي لَا تَصْنَعُهُ هِيَ وَيُدْخِلُ عَلَيْهَا مَا لَا تَخْرُجُ لِإِدْخَالِهِ مِنْ مَاءٍ وَمَا يُصْلِحُهَا وَلَا تُجَاوِزُ بِهِ ذَلِكَ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) قَدْ أَوْجَبَ لَهَا فِي مَوْضِعٍ مِنْ هَذَا نَفَقَةَ خَادِمٍ وَقَالَهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ إِمْلَاءً عَلَى مَسَائِلِ مَالِكٍ الْمَجْمُوعَةِ وَقَالَهُ فِي كِتَابِ النَّفَقَةِ وَهُوَ بِقَوْلِهِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَ عَنْ خَادِمِهَا فَكَذَلِكَ يُنْفِقُ عَلَيْهَا ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : وَمِمَّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ : لَوْ أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ عَنْهَا أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ أَخْرَجَهُنَّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي وُجُوبِ نَفَقَتِهَا ، فَأَمَّا نَفَقَةُ خَادِمِهَا إِذَا كَانَ مِثْلُهَا مَخْدُومًا فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [ النِّسَاءِ : ] وَالْخِدْمَةُ مِنَ الْمُعَوَّدِ الْمَعْرُوفُ . وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ . فَكَانَ الْخَادِمُ مِنَ الْمَعْرُوفِ . وَلِأَنَّهُ مَلَكَ مِنْهَا الِاسْتِمْتَاعَ الْكَامِلَ فَلَزِمَهُ لَهَا الْكِفَايَةُ الْكَامِلَةُ ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ مِثْلُهَا مَخْدُومًا لِقِيَامهَا بِخِدْمَةِ نَفْسِهَا لَمْ تَلْزَمْهُ نَفَقَةُ خَادِمِهَا ؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ جُمْلَةِ الْمَعْرُوفِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي حَقِّهَا ، وَالِاعْتِبَارُ فِي نفقة الخادم الْعُرْفِ بِذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : عُرْفُ الْقَدْرِ وَالْمَنْزِلَةِ . فَإِنَّ عُرْفَ ذَوِي الْأَقْدَارِ بِشَرَفٍ أَوْ يَسَارٍ أَنْ يَخْدُمَهُمْ غَيْرُهُمْ فَلَا يَخْدُمُوا أَنْفُسَهُمْ . وَعُرْفَ مَنِ انْخَفَضَ قَدْرُهُ وَانْحَطَّتْ رُتْبَتُهُ أَنْ يَخْدُمَ نَفْسَهُ وَلَا يُخْدَمَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : عُرْفُ الْبِلَادِ ؛ فَإِنَّ عَادَةَ أَهْلِ الْأَمْصَارِ أَنْ يَسْتَخْدِمُوا وَلَا يَخْدُمُوا ، وَعَادَةَ أَهْلِ السَّوَادِ أَنْ يَخْدُمُوا وَلَا يَسْتَخْدِمُوا فَإِذَا كَانَتِ الزَّوْجَةُ مِمَّنْ يُخْدَمُ مِثْلُهَا لِأَنَّهَا مِنْ ذَوِي الْأَقْدَارِ وَسُكَّانِ الْأَمْصَارِ لَزِمَهُ نَفَقَةُ خَادِمِهَا إِلَّا أَنْ تَكُونَ مَرِيضَةً فَيَلْتَزِمَ لَهَا مُدَّةَ
مَرَضِهَا وَإِنْ طَالَتْ ، نَفَقَةُ خَادِمِهَا ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ كِفَايَتِهَا وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهُ ثَمَنُ الدَّوَاءِ وَأُجْرَةُ الطَّبِيبِ ؛ لِأَنَّ الْخِدْمَةَ قَدْ تَجِبُ فِي حُقُوقِ الزَّوْجَاتِ وَلَا يَجُبْ فِي حُقُوقِهِنَّ الدَّوَاءُ وَالطَّبِيبُ . وَالِاعْتِبَارُ فِي خِدْمَتِهَا بِمَا تَأْخُذُ بِهِ نَفْسَهَا ؛ فَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا يُخْدَمُ مِثْلُهَا فَتَرَفَّعَتْ عَنِ الْخِدْمَةِ لَمْ تَلْزَمْ نَفَقَةُ خَادِمِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ يُخْدَمُ مِثْلُهَا فَتَبَذَّلَتْ فِي الْخِدْمَةِ لَزِمَهُ نَفَقَةُ خَادِمِهَا وَلَا يَلْزَمُهُ لَهَا نَفَقَةُ أَكْثَرَ مِنْ خَادِمٍ وَاحِدٍ وَإِنْ جَلَّتْ . وَقَالَ مَالِكٌ : إِذَا لَمْ تَسْتَقِلَّ بِخَادِمٍ وَاحِدٍ لِجَلَالَةِ الْقَدْرِ وَكَثْرَةِ الْحَشَمِ . أُخِذَ مِنْهَا مَنْ جَرَتْ بِهِمْ عَادَةُ مِثْلِهَا مِنْ عَادَةِ الْخَدَمِ ؛ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ . وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى الْخَادِمِ الْوَاحِدِ مَعَهُ لِزِينَةٍ أَوْ حِفْظِ مَالٍ وَذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَى الزَّوْجِ ، وَجَرَى حُكْمُ مَا زَادَ عَلَى الْخَادِمِ الْوَاحِدِ حُكْمَ مَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ بِأَفْرَاسٍ ؛ فَإِنَّهُ لَا يُعْطَى إِلَّا سَهْمَ فَرْضٍ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَاتِلُ إِلَّا عَلَى فَرَسٍ وَاحِدٍ وَمَا عَدَاهُ لِعِدَّةٍ أَوْ زِينَةٍ " .
الْقَوْلُ فِي صِفَةِ الْخِدْمَةِ
[ الْقَوْلُ فِي صِفَةِ الْخِدْمَةِ ] فَإِذَا ثَبَتَ اسْتِحْقَاقُ الْخِدْمَةِ فَالْكَلَامُ فِيهَا يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : صِفَةُ الْخِدْمَةِ . وَالثَّانِي : مَنْ يَقُومُ لَهَا بِالْخِدْمَةِ ؛ فَأَمَّا صِفَةُ الْخِدْمَةِ فَهِيَ نَوْعَانِ : خَارِجَةٌ وَدَاخِلَةٌ . فَأَمَّا الْخَارِجَةُ فَيَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّاهَا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ مِنَ الْأَحْرَارِ وَالْمَمَالِيكِ ، وَأَمَّا الدَّاخِلَةُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُومَ بِهَا إِلَّا أَحَدُ ثَلَاثَةٍ . إِمَّا النِّسَاءُ في الخدمة للنساء ، وَإِمَّا ذُو مَحْرَمٍ مِنَ الرِّجَالِ خدمتهم للمرأة . وَإِمَّا صَبِيٌّ لَمْ يَحْتَلِمْ خدمته للمرأة ، وَفِي الشَّيْخِ الْهَرِمِ وَمَمْلُوكِهَا وَجْهَانِ مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي عَوْرَتِهَا مَعَهُمَا . فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَخْدِمَ لَهَا مَنْ خَالَفَ دِينَهَا مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الزوج فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ، : يَجُوزُ لِحُصُولِ الْخِدْمَةِ بِهِمْ ، وَلِأَنَّهُمْ رُبَّمَا كَانُوا أَذَلَّ نُفُوسًا وَأَسْرَعَ فِي الْخِدْمَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ رُبَّمَا عَافَتِ اسْتِخْدَامَهُ ، وَلِأَنَّهُمْ رُبَّمَا لَمْ يُؤْمَنُوا لِعَدَاوَةِ الدِّينِ ، وَلَوْ قِيلَ يَجُوزُ أَنْ يَقُومُوا بِالْخِدْمَةِ الْخَارِجَةِ وَلَا يَقُومُوا بِالْخِدْمَةِ الدَّاخِلَةِ كَانَ وَجْهًا ، وَأَمَّا مَنْ يَقُومُ لَهَا بِالْخِدْمَةِ فَالزَّوْجُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ : إِمَّا بِأَنْ يَشْتَرِيَ خَادِمًا يَقُومُ بِخِدْمَتِهَا ، وَإِمَّا بِأَنْ يَكْتَرِيَ لَهَا خَادِمًا ، وَإِمَّا بِأَنْ يَكُونَ لَهَا خَادِمٌ يُنْفِقُ عَلَيْهِ ، وَالْخِيَارُ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ إِلَيْهِ دُونَهَا ؛ لِأَنَّهُ حَقُّهَا فِي الْخِدْمَةِ ، فَأَمَّا إِنْ أَرَادَ الزَّوْجُ أَنْ يَخْدُمَهَا بِنَفْسِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ :
أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : لَهُ ذَاكَ ؛ لِاسْتِغْنَائِهَا بِخِدْمَتِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَيْسَ لَهُ ذَاكَ ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَحْتَشِمْهُ فِي الِاسْتِخْدَامِ فَيَلْحَقُهَا تَقْصِيرٌ ، فَلَوْ قَالَتْ أُرِيدُ أَنْ أَخْدُمَ نَفْسِي وَآخُذَ أُجْرَةَ خَادِمِي الزوجة لَمْ يَكُنْ لَهَا ذَلِكَ ، كَالْعَامِلِ فِي الْمُضَارَبَةِ لَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ لِلْمَالِ حَمَّالًا وَنَقَّالًا ، فَلَوْ تَكَلَّفَ حَمْلَهُ بِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ أُجْرَةَ حَمْلِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَطَوَّعَ إِنْسَانٌ بِخِدْمَتِهَا أي بخدمة الزوجة فهل تسقط عن الزوج ؟ سَقَطَتْ خِدْمَتُهَا عَنِ الزَّوْجِ سَوَاءٌ تَطَوَّعَ بِالْخِدْمَةِ عَنْهَا أَوْ عَنِ الزَّوْجِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْخَادِمِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ . أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ مُشْتَرًى ، فَالْمُسْتَحَقُّ عَلَى الزَّوْجِ نَفَقَتُهُ ، وَزَكَاةُ فِطْرِهِ سَوَاءٌ كَانَ مِلْكًا لَهَا أَوْ لِلزَّوْجِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مُكْتَرًى ، فَعَلَى الزَّوْجِ أُجْرَتُهُ وَلَا تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ ، وَلَا زَكَاةُ فَطَرِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ مُتَطَوِّعًا ، فَلَا يَلْزَمُ الزَّوْجَ أُجْرَتُهُ وَلَا نَفَقَتُهُ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ رَأَى الشَّافِعِيَّ قَدْ أَوْجَبَ نَفَقَةَ خَادِمِهَا فِي مَوْضِعٍ وَلَمْ يُوجِبْهَا فِي مَوْضِعٍ فَوَهِمَ وَتَصَوَّرَ أَنَّهُ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ جَوَابُهُ لِاخْتِلَافِ حَالَيْنِ ، اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِمَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي أَوْجَبَ فِيهِ نَفَقَةَ خَادِمِهَا إِذَا كَانَ مِثْلُهَا مَخْدُومًا ، وَالْمَوْضِعَ الَّذِي أَسْقَطَ فِيهِ نَفَقَةَ خَادِمِهَا إِذَا كَانَ مِثْلُهَا غَيْرَ مَخْدُومٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ اخْتِلَافَ حَالَيْهِ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ . فَالْمَوْضِعُ الَّذِي أَوْجَبَ فِيهِ نَفَقَةَ خَادِمِهَا إِذَا كَانَ مُشْتَرًى . وَالْمَوْضِعُ الَّذِي أَسْقَطَ فِيهِ نَفَقَةَ خَادِمِهَا إِذَا كَانَ مُكْتَرًى ، ثُمَّ وَهِمَ الْمُزَنِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ : قَدْ أَوْجَبَ زَكَاةَ فِطْرِهِ وَلَمْ يُوجِبْ نَفَقَتَهُ وَهَذَا أَظْهَرُ و هْمًا مِنَ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ لَا تَلْزَمُ إِلَّا بِلُزُومِ النَّفَقَةِ وَقَدْ تَلْزَمُ النَّفَقَةُ وَإِنْ لَمْ تَلْزَمْ زَكَاةُ الْفِطْرِ .
الْقَوْلُ فِي نَفَقَةِ الْمُكَاتَبِ
[ الْقَوْلُ فِي نَفَقَةِ الْمُكَاتَبِ ] مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيُنْفِقُ الْمُكَاتَبُ عَلَى وَلَدِهِ مِنْ أَمَتِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ لِوَلَدِ الْمُكَاتَبِ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَكُونَ مِنْ زَوْجَتِهِ ، وَالْخِلَافُ فِيهِ يَأْتِي . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مِنْ أَمَةٍ اشْتَرَاهَا فِي كِتَابَتِهِ فَأَوْلَدَهَا بِإِذْنِ السَّيِّدِ أَوْ غَيْرِ إِذْنِهِ ، فَهُوَ لَاحِقٌ بِهِ بِالْمِلْكِ أَوْ بِشُبْهَةِ الْمِلِكِ وَهُوَ تَابِعٌ لِأَبِيهِ بِعِتْقِهِ إِنْ أَدَّى وَيَرِقُّ بِرِقِّهِ إِنْ عَجَزَ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَزِمَهُ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ مِمَّا بِيَدِهِ مِنْ مَالِ الْكِتَابَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى وَلَدِهِ بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُكَاتَبَ يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ وَلَا يَجُوزُ تَصَرُّفُ الْعَبْدِ . وَالثَّانِي : أَنَّ وَلَدَ الْمُكَاتَبِ مِنْ أَمَتِهِ تَابِعٌ لَهُ إِنْ عُتِقَ وَعَائِدٌ إِلَى سَيِّدِهِ إِنْ رُقَّ ، فَخَالَفَ وَالِدَ الْعَبْدِ ، وَلِأَنَّهُ إِنْ أُعْتِقَ فَمَالُهُ لَهُ : فَجَازَ أَنْ يُنْفِقَ مِنْهُ عَلَى وَلَدِهِ . وَإِنْ رُقَّ فَمَالُهُ لِسَيِّدِهِ ، وَهُوَ وَوَلَدُهُ مَمْلُوكَانِ لِلسَّيِّدِ وَمَا بِيَدِهِ لِلسَّيِّدِ ، فَجَارَ أَنْ يُنْفِقَ مِنْ مَالِ السَّيِّدِ عَلَى مَمْلُوكِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَقَالَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ ، وَلَوْ كَانَتِ امْرَأَتُهُ مُكَاتَبَةٍ وَلَيْسَتْ كِتَابَتُهُمَا وَاحِدَةً وَلَا مَوْلَاهُمَا وَاحِدًا وَوُلِدَ لَهُ فِي الْكِتَابَةِ أَوْلَادٌ فَنَفَقَتَهُمْ عَلَى الْأُمِّ ؛ لِأَنَّهَا أَحَقُّ بِهِمْ وَيُعْتَقُونَ بِعِتْقِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا وَلَدُ الْمُكَاتَبِ مِنْ زَوْجَتِهِ فَلَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ مِنْ حُرَّةٍ فَهُوَ حُرٌّ وَنَفَقَتُهُ عَلَى أُمِّهِ دُونَ أَبِيهِ ؛ لِأَنَّ مَا بِيَدِ الْأَبَ الْمُكَاتَبِ مَوْقُوفٌ عَلَى سَيِّدِهِ بِأَنْ يَصِيرَ إِلَيْهِ بِالْأَدَاءِ إِنْ عُتِقَ أَوْ بِالْمِلْكِ إِنْ عَجَزَ وَرُقَّ فَلِذَلِكَ يُمْنَعُ مِنَ الْإِنْفَاقِ عَلَى وَلَدِ الْحُرِّ ؛ لِأَنَّهُ لَاحِقٌ فِيهِ لِلسَّيِّدِ . وَلَمْ يُمْنَعْ مِنَ الْإِنْفَاقِ عَلَى وَلَدِهِ مَنْ أَمَتِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ حَقِّ السَّيِّدِ ، وَإِذَا سَقَطَتْ نَفَقَتُهُ عَنِ الْأَبِ وَجَبَتْ عَلَى الْأُمِّ كَمَا لَوْ أَعْسَرَ بِهَا الْأَبُ الْحُرُّ .
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ وَلَدُهُ مِنْ مَمْلُوكَةٍ فَهُوَ مَمْلُوكٌ لِسَيِّدِ الْأُمِّ وَنَفَقَتُهُ عَلَيْهِ وَتَسْقُطُ عَنْ أُمِّهِ لِرِقِّهَا وَعَنْ أَبِيهِ لِكِتَابَتِهِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ وَلَدُهُ مِنْ مُكَاتَبَةٍ : فَلَا يَكُونُ الْوَلَدُ تَبَعًا لِلْأَبِ ، وَهَلْ يَكُونُ تَبَعًا لِأُمِّهِ أَوْ مِلْكًا لِلسَّيِّدِ ؛ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ مِلْكًا لِسَيِّدِهَا وَيَجُوزُ لَهُ بَيْعُهُ ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ نَفَقَتُهُ عَلَى سَيِّدِهَا دُونَهَا وَدُونَ الْأَبِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَكُونُ تَبَعًا لَهَا يُعْتَقُ بِعِتْقِهَا وَيَرِقُّ بِرِقِّهَا كَمَا قُلْنَا فِي وَلَدِ الْمُكَاتَبِ مِنْ أَمَتِهِ ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ نَفَقَتُهُ عَلَى أُمِّهِ دُونَ أَبِيهِ ؛ لِأَنَّهُ يَتْبَعُهَا فِي الْعِتْقِ وَالرِّقِّ دُونَ الْأَبِ ، فَإِنْ أَرَادَ الْأَبُ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ نُظِرَ فِي الْأَبَوَيْنِ ؛ فَإِنْ كَانَا مُكَاتَبَيْنِ لِسَيِّدَيْنِ لَمْ يَجُزْ لِلْأَبِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ سَيِّدَ الْأَبِ لَاحِقٌ لَهُ فِي وَلَدِ الْمُكَاتَبَةِ ، وَإِنْ كَانَا لِسَيِّدٍ وَاحِدٍ كَاتَبَهُمَا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي عَقْدَيْنِ جَازَ لِلْأَبِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ . وَإِنْ وَجَبَتْ عَلَى الْأُمِّ : لِأَنَّ لِسَيِّدِهِ حَقًّا فِي وَلَدِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَيْسَ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى وَلَدِهِ مِنَ امْرَأَةٍ حُرَّةٍ وَلَا أَمَةٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مِنْ حُرَّةٍ فَهُوَ حُرٌّ وَنَفَقَةُ الْوَلَدِ الْحُرِّ وَاجِبَةٌ عَلَى الْحُرِّ مِنْ أَبَوَيْهِ دُونَ الْمَمْلُوكِ . وَإِنْ كَانَ مِنْ مَمْلُوكَةٍ فَهُوَ مَمْلُوكٌ لِسَيِّدِ الْأُمِّ ، وَنَفَقَةُ الْمَمْلُوكِ عَلَى سَيِّدِهِ دُونَ أَبِيهِ ، فَإِنْ قِيلَ أَفَلَيْسَ الْعَبْدُ تَلْزَمُهُ نَفَقَةُ زَوْجَتِهِ فَهَلَّا وَجَبَتْ عَلَيْهِ نَفَقَةُ وَلَدِهِ ؟ قِيلَ : لِأَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ مُعَاوَضَةٌ فِي مُقَابَلَةِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا ، فَلَمَّا مَلَكَ الِاسْتِمْتَاعَ مَلَكَ عَلَيْهِ مَا فِي مُقَابَلَتِهِ مِنَ النَّفَقَةِ ، وَلَيْسَتْ نَفَقَةُ الْوَلَدِ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا مُوَاسَاةٌ ، وَلَيْسَ الْعَبْدُ مِنْ أَهْلِهَا وَلِذَلِكَ سَقَطَتْ عَنْهُ الزَّكَاةُ لِخُرُوجِهِ مَنْ أَهْلِ الْمُوَاسَاةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ قَدْرِ النَّفَقَةِ
بَابُ قَدْرِ النَّفَقَةِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " عَلَيْهِ النَّفَقَةُ نَفَقَتَانِ : نَفَقَةُ الْمُوسِعِ ، وَنَفَقَةُ الْمُقْتِرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : نَفَقَاتُ الزَّوْجَاتِ مُقَدَّرَةٌ تَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ ، وَيُعْتَبَرُ فِيهَا حَالُ الزَّوْجِ دُونَ الزَّوْجَةِ ؛ فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا تَقَدَّرَتْ بِمُدَّيْنِ ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا تَقَدَّرَتْ بِمُدٍّ ، وَإِنْ كَانَ مُتَوَسِّطًا تَقَدَّرَتْ بِمُدٍّ وَنِصْفٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَالُكٌ : نَفَقَةُ الزَّوْجِيَّةِ مُعْتَبَرَةٌ بِكِفَايَتِهَا ، وَلَا اعْتِبَارَ بِيَسَارِ الزَّوْجِ وَإِعْسَارِهِ . فَخَالَفُوا فِي الْأَحْكَامِ الثَّلَاثَةِ ، فَلَمْ يَجْعَلُوهَا مُقَدَّرَةً وَلَا مُعْتَبَرَةً بِحَالِ الزَّوْجِ وَلَا مُخْتَلِفَةً بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ . وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِهِنْدٍ : خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ . فَأَذِنَ لَهَا فِي أَخْذِ كِفَايَتِهَا ، وَجَمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ وَلَدِهَا ، وَنَفَقَةُ وَلَدِهَا مُعْتَبَرَةٌ بِالْكِفَايَةِ ، وَهُوَ لَا يَأْذَنُ لَهَا إِلَّا فِيمَا تَسْتَحِقُّهُ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْكِفَايَةَ هِيَ الْقَدْرُ الْمُسْتَحَقُّ ، وَلِأَنَّ نَفَقَتَهَا فِي مُقَابَلَةِ تَمْكِينِ الزَّوْجِ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ ، وَالتَّمْكِينُ مُعْتَبَرٌ بِكِفَايَةِ الزَّوْجِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا فِي مُقَابَلَتِهِ مِنَ النَّفَقَةِ مُعْتَبَرًا بِكِفَايَةِ الزَّوْجَةِ كَالْمُقَاتِلَةِ لَمَّا يَلْزَمُهُمْ كِفَايَةُ الْمُسْلِمِينَ جِهَادَ عَدُوِّهِمُ اسْتَحَقُّوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي بَيْتِ مَالِهِمْ قَدْرَ كِفَايَتِهِمْ ، وَلِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ النَّفَقَةِ يَكُونُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : بِنَسَبٍ ، وَزَوْجِيَّةٍ ، وَمِلْكٍ : فَلَمَّا كَانَ الْمُسْتَحَقُّ بِالنَّسَبِ وَالْمِلْكِ مُعْتَبَرًا بِالْكِفَايَةِ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَحَقُّ بِالزَّوْجِيَّةِ مُعْتَبَرًا بِالْكِفَايَةِ . وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهَا جِهَةٌ تَسْتَحِقُّ بِهَا النَّفَقَةَ . فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ مُعْتَبَرَةً بِالْكِفَايَةِ كَالنَّسَبِ وَالْمِلْكِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ [ الطَّلَاقِ : ] فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى اعْتِبَارِ النَّفَقَةِ بِالزَّوْجِ وَاخْتِلَافِهَا بِيَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ . فَسَقَطَ بِذَلِكَ اعْتِبَارُ كِفَايَتِهَا وَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى نَفَقَةِ الْمُرْضِعَةِ : لِأَنَّهَا لَا تَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ ، وَلِأَنَّهَا أُجْرَةٌ مُقَدَّرَةٌ ، وَلِأَنَّ الْمَالَ الْمُسْتَحَقَّ بِالزَّوْجِيَّةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّرًا كَالْمَهْرِ ، وَلِأَنَّ مَا اسْتَقَرَّ ثُبُوتُهُ فِي الذِّمَّةِ مِنَ الْإِطْعَامِ إِذَا لَمْ يَسْقُطُ
بِالْإِعْسَارِ كَانَ مُقَدَّرًا كَالْكَفَّارَاتِ . وَلِأَنَّ اعْتِبَارَهَا بِالْكِفَايَةِ مُفْضٍ إِلَى التَّنَازُعِ فِي قَدْرِهَا . فَكَانَ تَقْدِيرُهَا بِالشَّرْعِ حَسْمًا لِلتَّنَازُعِ فِيهِ أَوْلَى كَدِيَةِ الْجَنِينِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ هِنْدٍ ؛ فَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لَهَا أَنْ تَأْخُذَ بِالْمَعْرُوفِ ، وَالْمَعْرُوفُ أَنْ لَا تَأْخُذَ فِي الْإِعْسَارِ مَا تَأْخُذُهُ فِي الْيَسَارِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّهَا فِي مُقَابَلَةِ الِاسْتِمْتَاعِ الْمُعْتَبَرِ بِالْكِفَايَةِ كَالْمُجَاهِدِينَ . فَهُوَ أَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ فِي مُقَابَلَةِ بَدَلٍ مُسْتَحَقٍّ بِعَقْدٍ فَجَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْعِوَضِ ، وَإِنَّمَا يَجِبُ بِالِانْقِطَاعِ عَنِ الْتِمَاسِهِ الْكِفَايَةَ فَجَازَ أَنْ لَا يُسْتَحَقَّ بِهَا قَدْرُ الْكِفَايَةِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى نَفَقَاتِ الْأَقَارِبِ وَالْمَمَالِيكِ ، فَالْمَعْنَى فِيهَا أَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ فَجَازَ أَنْ تَكُونَ غَيْرَ مُقَدَّرَةٍ ، وَنَفَقَةُ الزَّوْجَةِ مُسْتَحَقَّةٌ عَنْ بَدَلٍ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ مُقَدَّرَةً كَالْأُجُورِ وَالْأَثْمَانِ . فَصْلٌ : فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : النَّفَقَةُ نَفَقَتَانِ : نَفَقَةُ الْمُوسِرِ ، وَنَفَقَةُ الْمُعْسِرِ ، ثُمَّ قَدَّرَهَا ثَلَاثُ نَفَقَاتٍ . مُوسِرٌ وَمُعْسِرٌ وَمُتَوَسِّطٌ فَنَقَضَ بَعْضُ كَلَامِهِ بَعْضًا . قِيلَ : أَرَادَ : الْمُعْتَبَرُ بِالشَّرْحِ نَفَقَتَانِ : يَسَارٌ وَإِعْسَارٌ ، وَالثَّالِثَةُ مُعْتَبِرَةٌ بِالِاجْتِهَادِ لِتَوَسُّطِهَـا بَيْنَ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ .
القول فِي مِقْدَارِ النَّفَقَةِ
[ القول فِي مِقْدَارِ النَّفَقَةِ ] مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَأَمَّا مَا يَلْزَمُ الْمُقْتِرَ لِامْرَأَتِهِ إِنْ كَانَ الْأَغْلَبُ بِبَلَدِهَا أَنَّهَا لَا تَكُونُ إِلَّا مَخْدُومَةً عَالَهَا وَخَادِمًا وَاحِدًا بِمَا لَا يَقُومُ بَدَنٌ عَلَى أَقَلَّ مِنْهُ وَذَلِكَ مُدٌّ بِمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ طَعَامِ الْبَلَدِ الْأَغْلَبِ فِيهَا مِنْ قُوتِ مِثْلِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ : أَحَدُهَا : فِي مِقْدَارِ النَّفَقَةِ . وَالثَّانِي : فِي جِنْسِهَا . وَالثَّالِثُ : فِي صِفَتِهَا .
[ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي مِقْدَارِ النَّفَقَةِ ] فَأَمَّا مِقْدَارُهَا النفقة : فَهُوَ مُخْتَلِفٌ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ وَالتَّوَسُّطِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمِقْدَارُ مُخْتَلِفًا لِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَأَنْ يُعْتَبَرَ بِأَصْلٍ يُحْمَلُ عَلَيْهِ وَيُؤْخَذَ الْمِقْدَارُ مِنْهُ ، فَكَانَ أَوْلَى الْأُصُولِ بِهَا الْكَفَّارَاتُ ؛ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ طَعَامٌ يُقْصَدُ بِهِ سَدُّ الْجَوْعَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ طَعَامٌ يَسْتَقِرُّ ثُبُوتُهُ فِي الذِّمَّةِ ثُمَّ وَجَدْنَا أَكْثَرَ الطَّعَامِ الْمُقَدَّرِ فِي الْكَفَّارَاتِ فِدْيَةَ الْأَذَى ؛ قُدِّرَ فِيهَا لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدَّانِ ، فَجَعَلْنَاهُ أَصْلًا لِنَفَقَةِ الْمُوسِرِ ، فَأَوْجَبْنَا عَلَيْهِ لِنَفَقَةِ زَوْجَتِهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مُدَّيْنِ ، وَلِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَا يَقْتَاتُهُ الْإِنْسَانُ فِي الْأَغْلَبِ ، وَوَجَدْنَا أَقَلَّ الطَّعَامِ الْمُقَدَّرِ فِي الْكَفَّارَاتِ كَفَّارَةَ الْوَطْءِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ؛ عَلَيْهِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ ، فَجَعَلْنَاهُ أَصْلًا لِنَفَقَةِ الْمُعْسِرِ ، وَأَوْجَبْنَا عَلَيْهِ لِنَفَقَةِ زَوْجَتِهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مُدًّا ، وَلِأَنَّهُ أَقَلُّ مَا يَقْتَاتُهُ الْإِنْسَانُ فِي الْأَغْلَبِ ، ثُمَّ وَجَدْنَا الْمُتَوَسِّطَ يَزِيدُ عَلَى حَالِ الْمُقْتِرِ وَيَنْقُصُ عَنْ حَالِ الْمُوسِرِ ، فَلَمْ نَعْتَبِرْهُ بِالْمُعْسِرِ لِمَا يَدْخُلُ عَلَى الزَّوْجَةِ مِنْ حَيْفِ النُّقْصَانِ . وَلَمْ نَعْتَبِرْهُ بِالْمُوسِرِ لِمَا يَدْخُلُ عَلَى الزَّوْجِ مِنْ حَيْفِ الزِّيَادَةِ فَعَامَلْنَاهُ بِالتَّوَسُّطِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَأَوْجَبْنَا عَلَيْهِ مُدًّا وَنِصْفًا ؛ لِأَنَّهُ نِصْفُ نَفَقَةِ مُوسِرٍ وَنِصْفُ نَفَقَةِ مُعْسِرٍ . فَأَمَّا الْمُوسِرُ : فَهُوَ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى نَفَقَةِ الْمُوسِرِينَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَحَقِّ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ مِنْ كَسْبِهِ لَا مِنْ أَصْلِ مَالِهِ . وَأَمَّا الْمُعْسِرُ : فَهُوَ الَّذِي لَا يَقْدِرُ أَنْ يُنْفِقَ مِنْ كَسْبِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ إِلَّا نَفَقَةَ الْمُعْسِرِينَ ، وَإِنْ زَادَ عَلَيْهَا كَانَتْ مِنْ أَصْلِ مَالِهِ لَا مِنْ كَسْبِهِ . وَأَمَّا الْمُتَوَسِّطُ : فَهُوَ الَّذِي يَقْدِرُ أَنْ يُنْفِقَ مِنْ كَسْبِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ نَفَقَةَ الْمُتَوَسِّطِينَ . فَإِنْ زَادَ عَلَيْهَا كَانَتْ مِنْ أَصْلِ مَالِهِ ، وَإِنْ نَقَصَ عَنْهَا فَضُلَ مِنْ كَسْبِهِ . فَيَكُونُ الْيَسَارُ وَالْإِعْسَارُ بِالْكَسْبِ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ ، وَلَا يُعْتَبَرُ بِأَصْلِ الْمَالِ ، كَمَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي الْكَفَّارَاتِ . وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُقَدَّرَ لِلزَّوْجَةِ - وَهُوَ شِبَعَهَا - أَوْ كَانَ زَائِدًا أَوْ مُقَصِّرًا ، فَإِنْ زَادَ عَلَى شِبَعِهَا كَانَتِ الزِّيَادَةُ مِلْكًا لَهَا ، وَإِنْ نَقَصَ وَلَمْ تَقْدِرْ عَلَى التَّشَبُّعِ بِهِ كَانَ الزَّوْجُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُتَمِّمَ لَهَا قَدْرَ شِبَعِهَا وَبَيْنَ أَنْ يُمَكِّنَهَا مِنَ اكْتِسَابِهِ . فَأَيُّهُمَا فَعَلَ فَلَا خِيَارَ لَهَا . فَإِنْ مَكَّنَهَا فَلَمْ تَقْدِرْ عَلَى اكْتِسَابِ كِفَايَتِهَا صَارَتْ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ تَأْخُذُ بَاقِيَ كِفَايَتِهَا مِنَ الزَّكَوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ .
الْقَوْلُ فِي جِنْسِ النَّفَقَةِ
فَصْلٌ : [ الْقَوْلُ فِي جِنْسِ النَّفَقَةِ ] وَأَمَّا جِنْسُ النَّفَقَةِ . فَهُوَ الْغَالِبُ مِنْ قُوتِ بَلَدِهِمَا . لِقَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى :
وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [ الْبَقَرَةِ : ] وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْعُرْفِ ، وَلِأَنَّ الْكَفَّارَاتِ مُعْتَبَرَةٌ بِالنَّفَقَاتِ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ [ الْمَائِدَةِ : ] ثُمَّ كَانَتِ الْكَفَّارَاتُ مِنْ غَالَبِ الْأَقْوَاتِ ، فَكَانَتِ النَّفَقَاتُ بِذَلِكَ أَوْلَى ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ، فَغَالَبُ قُوتِ أَهْلِ الْحِجَازِ التَّمْرُ ، وَغَالِبُ قُوتِ أَهْلِ الطَّائِفِ الشَّعِيرُ ، وَغَالِبُ قُوتِ أَهْلِ الْيَمَنِ الذَّرَّةُ ، وَغَالِبُ قُوتِ أَهْلِ الْعِرَاقِ الْبُرُّ ، وَغَالِبُ قُوتِ أَهْلِ طَبَرِسْتَانَ الْأُرْزُ . فَيُنْظَرُ فِي غَالِبِ قُوتِ أَهْلِ بَلَدِهِمَا فَتَسْتَحِقُّ نَفَقَتَهَا مِنْهُ ، فَإِنِ اخْتَلَفَ قُوتُ بَلَدِهِمَا في نفقة الزوجية وَجَبَ لَهَا الْغَالِبُ مِنْ قُوتِ مِثْلِهَا ، فَإِنْ كَانَ مُخْتَلِفًا كَانَ الزَّوْجُ مُخَيَّرًا دُونَهَا ، فَإِنْ كَانَا مِنْ بَلَدَيْنِ يَخْتَلِفُ قُوتُهُمَا نَظَرَ ، فَإِنْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ فِي بَلَدِهِ اعْتُبِرَ الْغَالِبُ مِنْ قُوتِ بَلَدِ الزَّوْجِ ، وَإِنْ نَزَلَ عَلَيْهَا فِي بَلَدِهَا اعْتُبِرَ غَالِبُ قُوتِ بَلَدِ الزَّوْجَةِ ، فَإِنْ لَمْ تَأْلَفِ الزَّوْجَةُ أَكْلَ قُوتِ بَلَدِهِ ، قِيلَ : هَذَا حَقُّكِ فَإِنْ شِئْتِ فَأَبْدِلِيهِ بِقُوتِ بَلَدِكِ ، وَهَكَذَا لَوِ انْتَقَلَا عَنْ بَلَدِهِمَا إِلَى بَلَدٍ قُوتُهُ مُخَالِفٌ لِقُوتِ بَلَدِهِمَا ، لَزِمَهُ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا مِنْ غَالِبِ قُوتِ الْبَلَدِ الَّذِي انْتَقَلَا مِنْهُ دُونَ الْبَلَدِ الَّذِي انْتَقَلَا إِلَيْهِ ، سَوَاءٌ كَانَ أَعْلَى أَوْ أَدْنَى . لِأَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ فِي وَقْتٍ بَعْدَ وَقْتٍ ، فَكَانَ لِكُلِّ وَقْتٍ حُكْمُهُ .
الْقَوْلُ فِي صِفَةِ النَّفَقَةِ
فَصْلٌ : [ الْقَوْلُ فِي صِفَةِ النَّفَقَةِ ] فَأَمَّا صِفَةُ جِنْسِ النَّفَقَةِ . فَهُوَ الْمُدُّ مِنَ الْبُرِّ أَوِ الشَّعِيرِ أَوِ الْأُرْزِ أَوِ الذُّرَةِ ، دُونَ الدَّقِيقِ وَالْخُبْزِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يُقْتَاتُ إِلَّا بَعْدَ طَحْنِهِ وَخَبْزِهِ ؛ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْحَبَّ أَكْمَلُ مَنْفَعَةً مِنْ مَطْحُونِهِ وَمَخْبُوزِهِ لِإِمْكَانِ ادِّخَارِهِ وَازْدِرَاعِهِ . وَالثَّانِي : لِثُبُوتِهِ فِي الذِّمَّةِ الَّتِي لَا يَثْبُتُ فِيهَا إِلَّا الْحَبُّ دُونَ الدَّقِيقِ وَالْخُبْزِ ، فَإِذَا وَجَبَ لَهَا الْحَبُّ نُظِرَ ؛ فَإِنْ كَانَتْ عَادَةُ أَمْثَالِهَا أَنْ يَتَوَلَّوْا طَحْنَ أَقْوَاتِهِمْ وَخَبْزَهَا بِأَنْفُسِهِمْ كَأَهْلِ السَّوَادِ ، كَانَ مُبَاشَرَةُ طَحْنِهِ وَخَبْزِهِ عَلَيْهَا دُونَ الزَّوْجِ ، وَإِنْ لَمْ تَجْرِ عَادَةُ أَمْثَالِهَا بِمُبَاشَرَةِ طَحْنِ أَقْوَاتِهِمْ وَخَبْزِهَا بِأَنْفُسِهِمْ كَانَ الزَّوْجُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهَا أُجْرَةَ الطَّحْنِ وَبَيْنَ أَنْ يُقِيمَ لَهَا مَنْ يَتَوَلَّى طَحْنَهُ وَخَبْزَهُ ، فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا أَفْضَى حَقُّهَا إِلَى الْخُبْزِ كَانَ إِيجَابُهُ أَحَقَّ . قِيلَ : لِأَنَّ لَهَا أَنْ تَدَّخِرَهُ وَتَزْرَعَهُ إِنْ شَاءَتْ ، فَلَوْ أَرَادَ الزَّوْجُ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهَا قِيمَةَ الْحَبِّ لَمْ تُجْبَرِ الزَّوْجَةُ عَلَى قَبُولِهَا ، وَلَوْ طَلَبَتِ الزَّوْجَةُ الْقِيمَةَ لَمْ يُجْبَرِ الزَّوْجُ عَلَى دَفْعِهَا ، وَلَوِ اتَّفَقَا عَلَى الْقِيمَةِ فَفِي جَوَازِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ كَالسَّلَمِ وَكَالزَّكَوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ لِاسْتِقْرَارِهِ فِي الذِّمَّةِ بِخِلَافِ السَّلَمِ ، وَلِمُعَيَّنٍ بِخِلَافِ الْكَفَّارَاتِ ، فَأَشْبَهَ الْقُرُوضَ .
الْقَوْلُ فِي نَفَقَةِ خَادِمِ الزَّوْجَةِ
[ الْقَوْلُ فِي نَفَقَةِ خَادِمِ الزَّوْجَةِ ] مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلِخَادِمِهَا مِثْلُهُ نفقة خادم الزوجة " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا إِذَا كَانَ مِثْلُهَا مَخْدُومًا وَأَخْدَمَهَا مَمْلُوكًا لَهَا أَوْ لَهُ ، فَعَلَيْهِ حِينَئِذٍ نَفَقَتُهُ . لَكِنْ إِنْ كَانَ الْخَادِمُ لَهُ فَنَفَقَتُهُ مُعْتَبَرَةٌ بِكِفَايَتِهِ كَسَائِرِ مَمَالِيكِهِ وَإِنْ كَانَ الْخَادِمُ مَمْلُوكًا لَهَا فَنَفَقَتُهُ مُخْتَلِفَةٌ بِحَسْبِ حَالِ الزَّوْجِ فِي يَسَارِهِ وَإِقْتَارِهِ وَتَوَسُّطِهِ ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ نَفَقَةَ زَوْجَتِهِ مُدَّانِ ، فَتَكُونُ نَفَقَةُ خَادِمِهَا مُدًّا وَثُلُثًا ، لِكَوْنِهِ تَابِعًا لَهَا لَمْ يَتَسَاوَيَا فِيهَا ، وَلَمْ يُعْطَ مُدًّا وَنِصْفًا لِئَلَّا يُسَاوَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَةِ الْمُتَوَسِّطِ ، وَاقْتُصِرَ بِهِ عَلَى مُدٍّ وَثُلُثٍ وَهُوَ ثُلُثَا نَفَقَةِ زَوْجَةِ الْمُوسِرِ ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ مُتَوَسِّطًا وَنَفَقَةُ زَوْجَتِهِ مُدٌّ وَنِصْفٌ فَنَفَقَةُ خَادِمِهَا مُدٌّ وَاحِدٌ ، وَذَلِكَ ثُلُثَا نَفَقَتِهَا ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ مُعْسِرًا وَنَفَقَةُ زَوْجَتِهِ مُدٌّ وَاحِدٌ ، فَنَفَقَةُ خَادِمِهَا مُدٌّ وَاحِدٌ ، وَقَدْ كَانَ الِاعْتِبَارُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ثُلُثَا مُدٍّ وَلَا يُسَاوَى بَيْنَهُمَا ، لَكِنْ لَمْ يَقُمْ بَدَنٌ فِي الْأَغْلَبِ عَلَى أَقَلَّ مِنْ مُدٍّ كَامِلٍ فَسَوَّيْنَا بَيْنَهُمَا فِيهِ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَى التَّسْوِيَةِ كَالْعَدَدِ وَالْحُدُودِ تَنْقُصُ بِالرِّقِّ عَنْ حَالِ الْحُرِّيَّةِ فِيمَا تَبَعَّضَ مِنَ الْأَقْرَاءِ وَالشُّهُورِ وَالْجَلْدِ وَسُوِّيَ بَيْنُهَمَا فِيمَا لَمْ يَتَبَعَّضْ مِنَ الْحَمْلِ وَقَطْعِ السَّرِقَةِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَكِيلَةٌ مِنْ أُدْمِ بِلَادِهَا زَيْتًا كَانَ أَوْ سَمْنًا بِقَدْرِ مَا يَكْفِي مَا وَصَفْتُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْأُدْمُ أنواع نفقة الزوجة فَمِنَ الْمَعْرُوفِ الْمَأْلُوفِ ، لِأَنَّ الطَّعَامَ لَا يَنْسَاغُ أَكْلُهُ فِي الْأَغْلَبِ إِلَّا بِهِ ، فَأَوْجَبْنَاهُ لَهَا عُرْفًا ، وَإِذَا كَانَ أُدْمُهَا مُسْتَحَقًّا فَقَدْ جَعَلَهُ الشَّافِعِيُّ دُهْنًا ، وَهَذَا خَارِجٌ مِنْهُ عَلَى عُرْفِ الْبِلَادِ الَّتِي يَتَأَدَّمُ أَهْلُهَا بِالدُّهْنِ ، وَمِنَ الْبِلَادِ مَا يَتَأَدَّمُ أَهْلُهَا بِاللَّحْمِ فَيَكُونُ أُدْمُهَا لَحْمًا ، وَمِنْهَا مَا يَتَأَدَّمُ أَهْلُهَا بِالسَّمَكِ فَيَكُونُ أُدْمُهَا سَمَكًا ، وَمِنْهَا مَا يَتَأَدَّمُ أَهْلُهَا بِاللَّبَنِ فَيَكُونُ أُدْمُهَا لَبَنًا ، وَنَحْنُ نِصْفُ مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ إِدَامِ الدُّهْنِ ، وَيَكُونُ مَا عَدَاهُ بِقِيَاسِهِ ؛ فَالْبِلَادُ الَّتِي يَتَأَدَّمُ أَهْلُهَا بِالدُّهْنِ يَخْتَلِفُ جِنْسُهُ بِاخْتِلَافِ عُرْفِ الْبِلَادِ . فَإِدَامُ أَهْلِ الْحِجَازِ السَّمْنُ ، وَإِدَامُ أَهْلِ الشَّامِ الزَّيْتُ ، وَإِدَامُ أَهْلِ الْعِرَاقِ الشَّيْرَجُ ، فَيُعْتَبَرُ جِنْسُهُ بِعُرْفِ الْبَلَدِ مِنْ سَمْنٍ أَوْ زَيْتٍ أَوْ شَيْرَجٍ ، فَأَمَّا مِقْدَارُهُ فَمُعْتَبَرٌ بِالْعُرْفِ الْمُسْتَعْمَلِ . فَيُقَالُ كَمْ يَكْفِي إِدَامُ كُلِّ مُدِّ طَعَامٍ مِنَ الدُّهْنِ . فَإِذَا قِيلَ كُلُّ مُدٍّ يُكْتَفَى فِي إِدَامِهِ بِأُوقِيَّةٍ مِنْ دُهْنٍ جَعَلْتَ ذَلِكَ قَدْرًا مُسْتَحَقًّا فِي إِدَامِ ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا تَجِبُ عَلَيْهِ فِي نَفَقَتِهَا مُدَّانِ مِنْ حَبٍّ وَجَبَتْ عَلَيْهِ لِإِدَامِهَا أُوقِيَّتَانِ مِنْ دُهْنٍ ، وَإِنْ كَانَ مُتَوَسِّطًا تَجِبُ عَلَيْهِ مُدٌّ وَنِصْفٌ ، وَجَبَ لِإِدَامَهَا أُوقِيَّةٌ وَنِصْفٌ ، وَإِنْ كَانَ مُقْتِرًا وَجَبَ عَلَيْهِ مُدٌّ وَجَبَ لِإِدَامِهِ أُوقِيَّةٌ ، وَكَذَلِكَ إِدَامُ خَادِمِهَا تُعْتَبَرُ بِقُوتِهِ مِنَ الْحَبِّ . فَإِنْ كَانَ لَهُ مُدٌّ وَثُلُثٌ مِنَ الْحَبِّ ، كَانَ لَهُ أُوقِيَّةٌ وَثُلُثٌ مِنَ الدُّهْنِ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ مُدٌّ مِنَ الْحَبِّ كَانَ لَهُ أُوقِيَّةٌ مِنَ الدُّهْنِ ، ثُمَّ
يُرَاعَى بَعْدَ الدُّهْنِ حَالُهُمْ فِيمَا عَدَاهُ ، فَإِنْ كَانَ لَهُمْ بِاللَّحْمِ عَادَةً اعْتَبَرْتَهَا فِيهِمْ ، فَإِنْ كَانُوا يَأْكُلُونَ اللَّحْمَ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ مَرَّةً ، أَوْجَبْتَهُ لَهَا فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ مَرَّةً وَاحِدَةً ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ ، لِأَنَّهُ عُرْفُ مَنْ لَا يَأْكُلُ اللَّحْمَ إِلَّا مَرَّةً ، وَإِنْ كَانُوا يَأْكُلُونَهُ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ مَرَّتَيْنِ أَوْجَبْتَهُ لَهَا مَرَّتَيْنِ : إِحْدَاهُمَا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ ، وَالْأُخْرَى فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ ؛ لِأَنَّهُ عُرْفُ مَنْ يَأْكُلُهُ مَرَّتَيْنِ ، وَعَلَى هَذَا الْعِبْرَةُ فِي الْعُرْفِ الْمُعْتَبَرُ فِيهِ ، فَأَمَّا مِقْدَارُ اللَّحْمِ الَّذِي تَسْتَحِقُّهُ فَقَدْ قَدَّرَهُ الشَّافِعِيُّ بِرِطْلٍ وَاحِدٍ فِي الْيَوْمِ الَّذِي تَسْتَحِقُّهُ فِيهِ ، وَلَيْسَ هَذَا الْمِقْدَارُ عَامًّا فِي جَمِيعِ النَّاسِ ، وَإِنَّمَا اعْتَبَرَ الشَّافِعِيُّ عُرْفَ بِلَادِهِ بِالْحِجَازِ وَمِصْرَ ، وَأَمَّا فِي الْبِلَادِ الَّتِي جَرَتْ عَادَةُ أَهْلِهَا أَنْ يَتَأَدَّمَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ فِي الْيَوْمِ بِأَكْثَرَ مِنْ رِطْلٍ مِنَ اللَّحْمِ فَقَدْرُهُ مُعْتَبَرٌ بِعُرْفِهِمْ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ . فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ جَعَلْتُمُ الْحَبَّ مُقَدَّرًا لَا يُعْتَبَرُ بِالْعُرْفِ وَجَعَلْتُمُ الدُّهْنَ وَاللَّحْمَ مُعْتَبَرًا بِالْعُرْفِ ؟ قِيلَ : لِأَنَّ الْحَبَّ يُقَدَّرُ بِالشَّرْعِ لِسُقُوطِ اعْتِبَارِ الْعُرْفِ فِيهِ وَالْأُدْمَ لَمْ يَتَقَدَّرْ إِلَّا بِالْعُرْفِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ فِيهِ ، وَمَا اعْتَبَرْنَاهُ مِنْ عُرْفِ الْأَزْوَاجِ فِي إِدَامِهَا اعْتَبَرْنَا عُرْفَ الْخَدَمِ فِي إِدَامِ خَادِمِهَا .
الْقَوْلُ فِي أَدَوَاتِ الزِّينَةِ وَالنَّظَافَةِ لِلزَّوْجَةِ
[ الْقَوْلُ فِي أَدَوَاتِ الزِّينَةِ وَالنَّظَافَةِ لِلزَّوْجَةِ ] مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيُفْرَضُ لَهَا فِي دُهْنٍ وَمُشْطٍ أَقَلُّ مَا يَكْفِيهَا وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ لِخَادِمِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِالْمَعْرُوفِ لَهَا ، وَقِيلَ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ رِطْلُ لَحْمٍ ، وَذَلِكَ الْمَعْرُوفُ لِمِثْلِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَالَ تَسْتَحِقُّ فِي نَفَقَتِهَا عَلَى الزَّوْجِ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الدُّهْنِ لِتَرْجِيلِ شَعْرِهَا وَتَدْهِينِ جَسَدِهَا اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ ، وَإِنَّ مِنْ حُقُوقِهِ عَلَيْهَا اسْتِعْمَالَ الزِّينَةِ الَّتِي تَدْعُوهُ إِلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا ، وَذَلِكَ مُعْتَبَرٌ بِعُرْفِ بِلَادِهَا ، فَمِنْهَا مَا يَدِّهِنُ أَهْلُهُ بِالزَّيْتِ كَالشَّامِ فَهُوَ الْمُسْتَحَقُّ لَهَا ، وَمِنْهَا مَا يَدَّهِنُ أَهْلُهُ بِالشَّيْرَجِ كَالْعِرَاقِ فَهُوَ الْمُسْتَحَقُّ لَهَا ، وَمِنْهَا مَا لَا يَسْتَعْمِلُ أَمْثَالَهَا فِيهِ إِلَّا مَا طُيِّبَ مِنَ الدُّهْنِ بِالْبَنَفْسَجِ وَالْوَرْدِ ، فَتَسْتَحِقُّ فِي دُهْنِهَا مَا كَانَ مُطَيَّبًا ، فَأَمَّا مِقْدَارُهُ نفقة التنظيف فَمُعْتَبَرٌ بِكِفَايَةِ مِثْلِهَا ، وَأَمَّا وَقْتُهُ فَهُوَ كُلُّ أُسْبُوعٍ مَرَّةً ؛ لِأَنَّهُ الْعُرْفُ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ادَّهِنُوا يَذْهَبُ الْبُؤْسُ عَنْكُمْ ، وَالدُّهْنُ فِي الْأُسْبُوعِ يَذْهَبُ بِالْبُؤْسِ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَالْمُشْطُ - يَعْنِي بِهِ آلَةَ الْمُشْطِ - مِنَ الْأَفَاوِيهِ وَالْغِسْلَةِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ عُرْفِ بِلَادِهِمْ . فَأَمَّا الْكُحْلُ من حقوق الزوجة في النفقة فَمَا كَانَ مِنْهُ لِلزِّينَةِ كَالْإِثْمِدِ فَهُوَ عَلَى الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الِاسْتِمْتَاعِ ، وَمَا كَانَ مِنْهُ لِلدَّوَاءِ فَهُوَ عَلَى الزَّوْجَةِ كَسَائِرِ الْأَدْوِيَةِ ، فَإِنْ قِيلَ فَهِيَ لِلدَّوَاءِ أَحْوَجُ مِنْهَا إِلَى الدُّهْنِ فَكَانَ بِأَنْ يَجِبَ عَلَى الزَّوْجِ أَحَقُّ ! قِيلَ : لِأَنَّ الدَّوَاءَ مُسْتَعْمَلٌ لِحِفْظِ الْجَسَدِ فَكَانَ عَلَيْهَا ، وَالدُّهْنَ مُسْتَعْمَلٌ لِلزِّينَةِ فَكَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الزِّينَةَ لَهُ وَحِفْظَ الْجَسَدِ لَهَا ، وَجَرْيُ الزَّوْجِ مَجْرَى الْمُكْرَى لَزِمَهُ بِنَاءَ مَا اسْتُهْدِمَ مِنَ الدَّارِ الْمُكْرَاةِ دُونَ مُكْتَرِيهَا ،
فَأَمَّا دُخُولُ الْحَمَّامِ على من تكون نفقته على الزوج أم على الزوجة ؟ فَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِالْعُرْفِ ؛ فَإِنْ لَمْ تَجْرِ عَادَةُ أَهْلِهَا بِدُخُولِ الْحَمَّامِ كَالْقُرَى لَمْ يَجِبْ عَلَى الزَّوْجِ ، وَإِنْ جَرَتْ بِهِ عَادَةُ أَهْلِهَا كَالْأَمْصَارِ كَانَ أَقَلُّ مَا يَلْزَمُهُ لَهَا فِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً : لِأَنَّ أَكْثَرَ النِّسَاءِ يَغْتَسِلْنَ بِهِ وَيَخْرُجْنَ بِهِ مِنْ دَمِ الْحَيْضِ الَّذِي يَكُونُ فِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً فِي الْغَالِبِ ، فَأَمَّا الْحِنَّاءُ وَالِاخْتِضَابُ من حقوق الزوجة في النفقة بِهِ فِي الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ . فَإِنْ لَمْ يَطْلُبْهُ الزَّوْجُ لَمْ يَلْزَمْهُ وَلَمْ يَلْزَمْهَا ، وَإِنْ طَلَبَهُ الزَّوْجُ وَجَبَ عَلَيْهَا فِعْلُهُ وَوَجَبَ عَلَى الزَّوْجِ نَفَقَتُهُ ، رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَعَنَ السَّلْتَاءَ وَالْمَرْهَاءَ وَالسَّلْتَاءُ : الَّتِي لَا تَخْتَضِبُ وَالْمَرْهَاءُ الَّتِي لَا تَكْتَحِلُ ؛ تَفْعَلُ ذَلِكَ إِذَا كَرِهَتْ زَوْجَهَا لِيُفَارِقَهَا فَلِذَلِكَ لَعَنَهَا . فَأَمَّا الطِيِبُ فَمَا كَانَ مِنْهُ مُزِيلًا لِسَهُوكَةِ الْجَسَدِ فَهُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الزَّوْجِ لَهَا ، وَمَا كَانَ مِنْهُ مُسْتَعْمَلًا لِلِالْتِذَاذِ وَالِاسْتِمْتَاعِ بِرَائِحَتِهِ فَهُوَ حَقٌّ لِلزَّوْجِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ ، فَإِنْ قَامَ بِهِ لَزِمَهَا اسْتِعْمَالُهُ وَإِنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْمُطَالَبَةَ بِهِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا خَادِمُهَا فَلَا يَسْتَحِقُّ عَلَى الزَّوْجِ دُهْنًا وَلَا مُشْطًا الزوجة ؛ لِأَنَّهَا زِينَةٌ تُقْصَدُ فِي الزَّوْجَاتِ دُونَ الْخَدَمِ ، فَأَمَّا مَا احْتَاجَ إِلَيْهِ مِنَ الدَّوَاءِ الخادم فَيَسْتَحِقُّهُ عَلَى مَالِكِهِ مِنَ الزَّوْجَيْنِ ، فَإِنْ كَانَ مِلْكًا لِلزَّوْجِ فَدَوَاؤُهُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الزَّوْجَةِ الَّتِي لَا يَجِبُ دَوَاؤُهَا عَلَى الزَّوْجِ : لِأَنَّ هَذَا مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ ، وَإِنْ كَانَ الْخَادِمُ مِلْكًا لِلزَّوْجَةِ كَانَ دَوَاؤُهُ عَلَيْهَا .
الْقَوْلُ فِي وُجُوبِ كِسْوَةِ الزَّوْجَةِ
[ الْقَوْلُ فِي وُجُوبِ كِسْوَةِ الزَّوْجَةِ ] مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَفُرِضَ لَهَا مِنَ الْكِسْوَةِ مَا يُكْسَى مِثْلُهَا بِبَلَدِهَا عِنْدَ الْمُقْتِرِ مِنَ الْقُطْنِ الْكُوفِيِّ وَالْبَصْرِيِّ وَمَا أَشْبَهَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا كِسْوَةُ الزَّوْجَةِ فَمُسْتَحَقَّةٌ عَلَى الزَّوْجِ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [ الْبَقَرَةِ : ] وَلِأَنَّ اللِّبَاسَ مِمَّا لَا تَقُومُ الْأَبْدَانُ فِي دَفْعِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ إِلَّا بِهِ ، فَجَرَى فِي اسْتِحْقَاقِهِ عَلَى الزَّوْجِ مَجْرَى الْقُوتَ ، وَإِذَا وَجَبَتِ الْكِسْوَةُ تَعَلَّقَ بِهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : عَدَدُ الثِّيَابِ في كسوة الزوجة . وَالثَّانِي : جِنْسُهَا . وَالثَّالِثُ : مِقْدَارُهَا . فَأَمَّا الْعَدَدُ فَأَقَلُّ مَا تَسْتَحِقُّهُ عَلَى الزَّوْجِ في الصيف والشتاء من الأثواب في النفقة ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ فِي الصَّيْفِ وَأَرْبَعَةٌ فِي الشِّتَاءِ . قَمِيصٌ لِجَسَدِهَا وَقِنَاعٌ لِرَأْسِهَا ، وَسَرَاوِيلُ أَوْ مِئْزَرٌ لِوَسَطِهَا . وَالرَّابِعُ : جُبَّةٌ تَخْتَصُّ بِالشِّتَاءِ جنس كسوة الزوجة ، فَأَمَّا الْمِلْحَفَةُ جنس كسوة الزوجة فَلَا تَجِبُ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَحْتَاجُ إِلَيْهَا إِلَّا فِي الْخُرُوجِ الَّتِي تَلْتَحِفُ بِهَا ، وَلِلزَّوْجِ مَنْعُهَا مِنَ الْخُرُوجِ فَسَقَطَ عَنْهُ مَا احْتَاجَتْ إِلَيْهِ فِي
خُرُوجِهَا ، وَكَذَلِكَ الْخُفُّ جنس كسوة الزوجة مِمَّا يَسْتَوِي فِي عَدَدِهِ زَوْجَةُ الْمُوسِرِ وَالْمُعْسِرِ فِي الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى ، وَلَئِنْ كَانَ فِي سُكَّانِ الْقُرَى مِنَ النِّسَاءِ مَنْ لَا يَلْبَسُ السَّرَاوِيلَ وَالْمِئْزَرَ كسوة الزوجة فَفِي تَرْكِهِ هَتْكُ عَوْرَةٍ ، وَيُؤْخَذُ بِهَا فِي حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى جَمِيعُ النَّاسِ ، لَكِنْ إِنْ كَانَتْ عَادَةُ نِسَاءِ الْبَلَدِ جَارِيَةً بِلَبْسِ السَّرَاوِيلِ كَانَ حَقُّهَا فِيهِ دُونَ الْمِئْزَرِ ، وَإِنْ كُنَّ يَلْبَسْنَ الْمِئْزَرَ فَحَقُّهَا دُونَ السَّرَاوِيلِ ، وَإِنْ كَانَتِ السَّرَاوِيلُ أَصْوَنَ وَأَسْتَرَ ، فَأَمَّا مَدَاسُ الرِّجْلَيْنِ مِنْ نَعْلٍ أَوْ شِبْشِبٍ في كسوة الزوجة فَمُعْتَبَرٌ بِالْعَادَةِ وَالْعُرْفِ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي سُكَّانِ الْقُرَى الَّتِي لَمْ تَجْرِ عَادَةُ نِسَائِهَا بِلُبْسِ الْمَدَاسِ فِي أَرْجُلِهِنَّ إِذَا كُنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ لَمْ تَسْتَحِقَّ عَلَى الزَّوْجِ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ سُكَّانِ الْأَمْصَارِ وَمِمَّنْ جَرَتْ عَادَتُهُنَّ بِلُبْسِ الْمَدَاسِ فِي أَرْجُلِهِنَّ إِذَا كُنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ اسْتَحَقَّتْ عَلَيْهِ مَدَاسًا مُعْتَبَرًا بِالْعُرْفِ مِنْ نَعْلٍ أَوْ شِبْشِبٍ .
الْقَوْلُ فِي جِنْسِ الْكِسْوَةِ
فَصْلٌ : [ الْقَوْلُ فِي جِنْسِ الْكِسْوَةِ ] فَأَمَّا جِنْسُ الثِّيَابِ التي تجب على الزوج لزوجته فَتَخْتَلِفٌ بِالْيَسَارِ وَالْإِقْتَارِ وَالتَّوَسُّطِ ، وَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ ثِيَابِ الْبَلَدِ ، فَإِنْ كَانَ الْأَغْلَبُ مِنْ ثِيَابِهِ الْقُطْنَ فِي الصَّيْفِ وَالْخَزَّ فِي الشِّتَاءِ ، فَرَضَ لِزَوْجَةِ الْمُوسِرِ ثَوْبًا مِنْ مُرْتَفِعِ الْقُطْنِ وَنَاعِمِهِ . كَالْبَصَرِيِّ وَمُرْتَفِعِ الْمَرْوَزِيِّ ، وَفَرَضَ لَهَا فِي الشِّتَاءِ جُبَّةَ خَزٍّ وَفَرَضَ لِزَوْجَةِ الْمُتَوَسِّطِ ثَوْبًا مِنْ وَسَطِ الْقُطْنِ كَالْبَصَرِيِّ وَالْبَغْدَادِيِّ وَجُبَّةَ قُطْنٍ مَحْشُوَّةً أَوْ مِنْ وَسَطِ الْخَزِّ ، وَفَرَضَ لِزَوْجَةِ الْمُقْتِرِ ثَوْبًا مِنْ غَلِيظِ الْقُطْنِ كَالْبَصَرِيِّ وَالْكُوفِيِّ وَجُبَّةً مِنْهُ أَوْ مِنْ صُوفٍ إِنْ كَانَ يَكْتَسِيهِ نِسَاءُ بَلَدِهَا ، وَإِنْ كَانَ الْأَغْلَبُ مِنْ ثِيَابِ بَلَدِهَا الْكَتَّانَ وَالْإِبْرَيْسَمَ فَرَضَ لِزَوْجَةِ الْمُوسِرِ مِنْ مُرْتَفِعِ الْكَتَّانِ كَالدَّبِيقِيِّ وَمُتْرَفٍ وَمُرْتَفِعِ السَّقْلَسِ ، وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا مِنْ مُرْتَفِعِ الْقَصَبِ الْخَفِيفِ النَّسْجِ الَّذِي لَا تَجُوزُ فِيهِ الصَّلَاةُ ؛ لِأَنَّهَا تَسْتَحِقُّ ثَوْبًا وَاحِدًا وَذَلِكَ لَا يَسْتُرْهَا وَلَا تَصِحُّ فِيهِ صَلَاتُهُا فَلِذَلِكَ فَرَضَ لَهَا مَا تُجْزِي فِيهِ الصَّلَاةُ ، وَفَرَضَ لَهَا فِي الشِّتَاءِ جُبَّةَ إِبْرِيسَمَ كَالدِّيبَاجِ وَالْحَرِيرِ وَمَا يَخْتَصُّ بِبَلَدِهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْإِبْرَيْسَمِ ، وَفَرَضَ لِزَوْجَةِ الْمُتَوَسِّطِ وَسَطَ الْكَتَّانِ كَالْمَعْصُورِ بِمِصْرَ وَالْمَعْرُوفِ بِالْبَصْرَةِ ، وَوَسَطَ الرُّومِيِّ بِبَغْدَادَ وَجُبَّةً مِنْ وَسَطَ الْجِبَابِ الَّتِي يَلْبَسُهَا نِسَاءُ بَلَدِهَا ، وَفَرَضَ لِزَوْجَةِ الْمُقْتِرِ غَلِيظَ الْكَتَّانِ وَخَشِنَهُ وَجُبَّةً لِجِسْمِهَا ، ، وَهَذَا مِثَالٌ وَلِكُلِّ بَلَدٍ عُرْفٌ ، فَاعْتَبِرْ عُرْفَهُمْ فِيهِ .
الْقَوْلُ فِي مِقْدَارِ الْكِسْوَةِ
فَصْلٌ : [ الْقَوْلُ فِي مِقْدَارِ الْكِسْوَةِ ] وَأَمَّا مِقْدَارُ الكسوة ثِيَابِهَا فَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِقَدِّهَا فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ وَالنَّحَافَةِ وَالسِّمَنِ ، هَذَا فِي مِقْدَارِ قَمِيصِهَا ، فَأَمَّا الْقِنَاعُ فَيَتَسَاوَى وَالسَّرَاوِيلُ يَتَقَارَبُ ، وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا مِقْدَارَ الثِّيَابِ بِكِفَايَتِهَا ، وَلَمْ يُعْتَبَرِ الْقُوتُ بِكِفَايَتِهَا ؛ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ فِي الشَّرْعِ أَصْلًا يَتَقَدَّرُ بِهِ الْقُوتُ فَلَمْ تُعْتَبَرْ فِيهِ الْكِفَايَةُ وَلَيْسَ فِي
الشَّرْعِ يَتَقَدَّرُ بِهِ اللِّبَاسُ فَاعْتَبَرَنَا فِيهِ الْكِفَايَةَ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْكِفَايَةَ فِي الْكِسْوَةِ مُتَحَقِّقَةٌ بِالْمُشَاهَدَةِ فَاعْتَبَرْنَاهَا ، وَكِفَايَةُ الْقُوتِ غَيْرُ مُتَحَقِّقَةٍ وَلَا مُشَاهَدَةٍ لَمْ نَعْتَبِرْهَا .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا مِنْ جِنْسِ الْكِسْوَةِ وَمِقْدَارِهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَهَا ثِيَابًا وَلَا يَدْفَعَ إِلَيْهَا ثَمَنَهَا الكسوة لِاسْتِحْقَاقِهَا لِلْكِسْوَةِ دُونَ الثَّمَنِ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَخِيطَ لَهَا مِنْهُ مَا احْتَاجَ إِلَى خِيَاطَةٍ ، فَإِنْ بَاعَتْهَا لَمْ يَصِحَّ وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ صَحَّ الْبَيْعُ وَمَلَكَتِ الثَّمَنَ ، وَكَانَ عَلَيْهَا أَنْ تَكْسُوَ نَفْسَهَا بِمَا شَاءَتْ . وَقَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ الْمِصْرِيُّ : لَا يَصِحُّ بَيْعُهَا وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ ، وَهَذَا فَاسِدٌ ؟ لِأَنَّ الْكِسْوَةَ لَا تَخْلُو أَنْ تَكُونَ فِي مِلْكِهَا أَوْ مِلْكِ الزَّوْجِ . فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ فِي مِلْكِ الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ اسْتِرْجَاعُهَا . فَثَبَتَ أَنَّهَا لِلزَّوْجَةِ وَجَازَ لَهَا بَيْعُ مَا مَلَكَتْ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
كِسْوَةُ خَادِمِ الزَّوْجَةِ
[ كِسْوَةُ خَادِمِ الزَّوْجَةِ ] مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلِخَادِمِهَا كِرْبَاسٌ وَمَا أَشْبَهَهُ
كسوة خادم الزوجة
، وَفِي الْبَلَدِ الْبَارِدِ أَقَلُّ مَا يَكْفِي الْبَرْدَ مِنْ جُبَّةٍ مَحْشُوَّةٍ وَقَطِيفَةٍ أَوْ لِحَافٍ يَكْفِي السَنَتَيْنِ وَقَمِيصٍ وَسَرَاوِيلَ وَخِمَارٍ أَوْ مَقْنَعَةٍ وَلِجَارِيَتِهَا جُبَّةُ صُوفٍ وَكِسَاءٌ تَلْتَحِفُهُ يُدْفِئُ مِثْلَهَا وَقَمِيصٌ وَمَقْنَعَةٌ وَخُفٌّ وَمَا لَا غِنَى بِهَا عَنْهُ وَيَفْرِضُ لَهَا فِي الصَّيْفِ قَمِيصًا وَمَلْحَفَةً وَمَقْنَعَةً " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا وَجَبَتْ نَفَقَةُ خَادِمِهَا وَجَبَتْ كِسْوَتُهُ ، فَإِنْ كَانَ عَبْدًا فَكِسْوَةُ الْعَبْدِ قَمِيصٌ وَمِنْدِيلٌ ، وَفِي الشِّتَاءِ جُبَّةٌ ، فَأَمَّا السَّرَاوِيلُ فَإِنْ كَانُوا فِي بَلَدٍ يَلْبَسُ عَبِيدُهُ السَّرَاوِيلَاتِ كَسَاهُ سَرَاوِيلَ ، وَإِنْ لَمْ يَكْتَسُونَهُ سَقَطَ عَنْهُ وَإِنْ كَانُوا فِي بَلَدٍ يَأْتَزِرُونَ وَلَا يَتَقَمَّصُونَ كَالْبَحْرِ كَسَاهُ مِئْزَرًا وَسَقَطَ عَنْهُ الْقَمِيصُ ، وَإِنْ كَانَ الْخَادِمُ أَمَةً كَسَاهَا قَمِيصًا وَقِنَاعًا وَلَمْ يَقْتَصِرْ بِهَا عَلَى الْمِئْزَرِ وَحْدَهُ وَإِنْ أَلِفُوهُ ؛ لِأَنَّهُ يُبْدِي مِنْ جَسَدِهَا مَا تُغَضُّ عَنْهُ الْأَبْصَارُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَوْرَةً . وَتَحْتَاجُ الْأَمَةُ مَعَ ذَلِكَ إِلَى مِلْحَفَةٍ إِذَا خَرَجَتْ لِلْخِدْمَةِ ، وَلَا تَحْتَاجُ إِلَيْهَا الزَّوْجَةُ ؛ لِأَنَّ لَهُ مَنْعَهَا مِنَ الْخُرُوجِ . فَأَمَّا الْخُفُّ فِي خُرُوجِ الْأَمَةِ ، فَإِنْ كَانَ عَادَةُ الْبَلَدِ أَنْ تَتَخَفَّفَ إِمَاؤُهُ لَزِمَهُ خُفُّهَا ، وَإِنْ لَمْ يَتَخَفَّفُوا سَقَطَ عَنْهُ ، وَبِمِثْلِهِ يُعْتَبَرُ حَالُ السَّرَاوِيلِ وَالْمِئْزَرِ ، فَأَمَّا جِنْسُ الثِّيَابِ فَفِي النَّاسِ قَوْمٌ تَتَسَاوَى كِسْوَاتُهُمْ وَكِسْوَاتُ إِمَائِهِمْ وَعَبِيدِهِمْ كَفُقَرَاءِ الْبَوَادِي وَسُكَّانِ الْفَلَوَاتِ فَيَكُونُ أَحْرَارُهُمْ وَعَبِيدُهُمْ فِي الْكِسْوَةِ سَوَاءً ، وَالْأَغْلَبُ مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ أَنَّ كِسْوَاتِ عَبِيدِهِمْ وَإِمَائِهِمْ أَدْوَنُ مِنْ كِسْوَاتِ سَادَاتِهِمْ ، وَعَلَيْهِ يَكُونُ الْكَلَامُ ، فَيَفْرِضُ لِخَادِمِ زَوْجَةِ الْمُوسِرِ قدر نفقته أَدْوَنَ مِمَّا يَفْرِضُهُ لِزَوْجَةِ الْمُتَوَسِّطِ كَمَا كَانَ فِي الْقُوتِ أَدْوَنَ مِنْهَا ، وَيَفْرِضُ لِخَادِمِ زَوْجَةِ الْمُتَوَسِّطِ قدر نفقته مِثْلَ مَا يَفْرِضُهُ لِزَوْجَةِ الْمُقْتِرِ كَمَا كَانَ فِي الْقُوتِ مِثْلَهَا ، وَيَفْرِضُ لِخَادِمِ زَوْجَةِ الْمُقْتِرِ مَا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ دُونَهُ كَغَلِيظِ الْكَرَابِيسِ وَثِيَابِ الصُّوفِ ، وَإِلَّا سَاوَى بَيْنَهُمَا وَكَانَ الْعُرْفُ فِيهِ شَاهِدًا مُعْتَبَرًا فِي الثِّيَابِ وَالْجِبَابِ .
الْقَوْلُ فِي حُكْمِ النَّفَقَةِ إِذَا كَانَتْ لَا تُكْفَى الزَّوْجَةُ بِهَا
[ الْقَوْلُ فِي حُكْمِ النَّفَقَةِ إِذَا كَانَتْ لَا تُكْفَى الزَّوْجَةُ بِهَا ] مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ كَانَتْ رَغِيبَةً لَا يُجْزِئْهَا هَذَا دَفَعَ إِلَيْهَا ذَلِكَ وَتَزَيَّدَتْ مِنْ ثَمَنِ أُدْمٍ وَلَحْمٍ وَمَا شَاءَتْ فِي الْحَبِّ وَإِنْ كَانَتْ زَهِيدَةً تَزَيَّدَتْ فِيمَا لَا يَقُوتُهَا مِنْ فَضْلِ الْمَكِيلَةِ وَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا مُوسِعًا فُرِضَ لَهَا مُدَّانِ وَمِنَ الْأُدْمِ وَالْفَحْمِ ضِعْفُ مَا وَصَفْتُ لِامْرَأَةِ الْمُقْتِرِ وَكَذَلِكَ فِي الدُهْنِ وَالْمُشْطِ وَمِنَ الْكِسْوَةِ وَسَطَ الْبَغْدَادِيِّ وَالْهَرَوِيَ وَلَيِّنِ الْبَصْرَةِ وَمَا أَشْبَهَهُ وَيَحْشُو لَهَا إِنْ كَانَتْ بِبِلَادٍ يَحْتَاجُ أَهْلُهَا إِلَيْهِ وَقَطِيفَةٍ وَسَطٍ وَلَا أُعْطِيهَا فِي الْقُوتِ دَرَاهِمَ فَإِنْ شَاءَتْ أَنْ تَبِيعَهُ فَتَصْرِفَهُ فِيمَا شَاءَتْ صَرَفَتْهُ ، وَأَجْعَلُ لِخَادِمِهَا مُدًّا وَثُلُثًا لِأَنَّ ذَلِكَ سَعَةٌ لِمِثْلِهَا وَفِي كِسْوَتِهَا الْكِرْبَاسُ وَغَلِيظُ الْبَصْرِيِّ وَالْوَاسِطِيِّ وَمَا أَشْبَهَهُ وَلَا أُجَاوِزُهُ بِمُوسِعٍ كَانَ ، وَمَنْ كَانَتِ امْرَأَتُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الرَّغِيبَةُ فَالْأَكُولَةُ ، وَأَمَّا الزَّهِيدَةُ فَالْقَنُوعَةُ ، فَإِذَا كَانَتِ الزَّوْجَةُ رَغِيبَةً لَا تَكْتَفِي مِنَ الْحَبِّ بِمَا فَرَضَ لَهَا فَأَرَادَتْ أَنْ تَأْخُذَ مِنْ ثَمَنِ أُدْمِهَا مَا تَزِيدُهُ فِي الْحَبَّ الَّذِي يَكْفِيهَا كَانَ ذَلِكَ لَهَا ، فَأَمَّا الْكِسْوَةُ إِذَا أَرَادَتْ بَيْعَهَا وَشِرَاءَ مَا هُوَ أَدْوَنُ مِنْهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا ذَلِكَ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ لِلزَّوْجِ حَقَّ الِاسْتِمْتَاعِ فِي زِينَةِ ثِيَابِهَا فَمُنِعَتْ مِنْ تَغْيِيرِهَا وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ فِي قُوتِهَا فَمُكِّنَتْ مِنْ إِرَادَتِهَا ، وَسَوَّى أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ بَيْنَهُمَا ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَرْقِ ، وَإِذَا أَرَادَتْ أَنْ تَسْتَبْدِلَ بِجَمِيعِ قُوتِهَا أَوْ تَتَصَدَّقَ بِهِ أَوْ تَهَبَهُ كَانَ ذَلِكَ لَهَا وَلَمْ تُمْنَعْ إِذَا وَجَدَتْ قُوتَهَا مِنْ غَيْرِهِ فَكَانَ فِيمَا صَوَّرَهُ الشَّافِعِيُّ مَنْ حَالِ الرَّغِيبَةِ وَالزَّهِيدَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْقُوتَ مُقَدَّرٌ بِالشَّرْعِ وَغَيْرُ مُعْتَبَرٍ بِالْكِفَايَةِ ، وَالثَّانِي أَنَّ لَهَا التَّصَرُّفَ فِيهِ كَيْفَ شَاءَتْ . فَلَوْ أَرَادَتِ الزَّوْجَةُ أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى أَكْلٍ لَا يُشْبِعُهَا وَإِنْ كَانَتْ تَقْضِي بِهَا شِدَّةُ الْجُوعِ إِلَى مَرَضٍ أَوْ ضَعْفٍ مُنِعَتْ مِنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ اسْتِمْتَاعِ الزَّوْجِ كَمَا تُمْنَعُ مِنْ أَكْلِ مَا يُفْضِي إِلَى تَلَفِهَا مِنَ السُّمُومِ وَإِنْ كَانَ لَا يُفْضِي إِلَى مَرَضِهَا وَكَانَ مُفْضِيًا إِلَى هُزَالِهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي إِجْبَارِهَا عَلَى الِاسْتِحْدَادِ وَمَنْعِهَا مِنْ أَكْلِ مَا يَتَأَذَّى بِرَائِحَتِهِ : أَحَدُهُمَا : لَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَصِلُ مَعَهُ إِلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا . وَالثَّانِي : لَهُ مَنْعُهَا مِنْ ذَلِكَ وَإِجْبَارُهَا عَلَى أَكْلِ مَا يَحْفَظُ بِهِ جَسَدَهَا وَيَدْفَعُ بِهِ
هُزَالَهَا لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ نُقْصَانِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا .
الْقَوْلُ فِيمَا يَجِبُ لِلزَّوْجَةِ مِنَ الْفِرَاشِ
[ الْقَوْلُ فِيمَا يَجِبُ لِلزَّوْجَةِ مِنَ الْفِرَاشِ ] مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلِامْرَأَتِهِ فِرَاشٌ وَوِسَادَةٌ مِنْ غَلِيظِ مَتَاعِ الْبَصْرَةِ وَمَا أَشْبَهَهُ وَلِخَادِمَهَا فَرْوَةٌ وَوِسَادَةٌ وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ عَبَاءَةٍ أَوْ كِسَاءٍ غَلِيظٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدَّمَ الشَّافِعِيُّ الْكَلَامَ فِي الْقُوتِ ؛ لِأَنَّهُ أَعَمُّ ثُمَّ تَلَاهُ بِالْكِسْوَةِ لِأَنَّهَا أَمَسُّ ثُمَّ عَقَبَهُ بِالدِّثَارِ وَالْوَطَاءِ من أنواع النفقة ؛ لِأَنَّ دِثَارَ الشِّتَاءِ لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ لِدَفْعِ الْبَرْدِ بِهِ فَكَانَ مُسْتَحَقًّا عَلَى الزَّوْجِ ، وَعَادَةُ النَّاسِ فِي الدِّثَارِ تَخْتَلِفُ ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَعْمِلُ اللُّحُفَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَعْمِلُ الْقُطُفَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَعْمِلُ الْأَكْسِيَةَ ، فَيَفْرِضُ لَهَا مِنْ ذَلِكَ مَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ بَلَدِهَا . فَيَكُونُ لِزَوْجَةِ الْمُوسِرِ جنس نفقة ما تنام عليه لِحَافٌ مَحْشُوٌّ مِنْ مُرْتَفِعِ الْقُطْنِ أَوْ مِنْ وَسَطِ الْحَرِيرِ ، وَإِنْ كَانُوا يَسْتَعْمِلُونَ الْقُطُفَ فَرَضَ لَهَا قَطِيفَةً مُرْتَفِعَةً ، أَوِ الْأَكْسِيَةَ فَرَضَ لَهَا كِسَاءً مُرْتَفِعًا مِنْ أَكْسِيَةِ بَلَدِهَا ، وَفَرَضَ لِزَوْجَةِ الْمُتَوَسِّطِ جنس نفقة ما تنام عليه الْوَسَطَ مِنَ اللُّحُفِ أَوِ الْقُطُفِ أَوِ الْأَكْسِيَةِ ، وَلِزَوْجَةِ الْمُقْتِرِ جنس نفقة ما تنام عليه الْأَدْوَنُ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ ، هَذَا فِي الشِّتَاءِ فَأَمَّا الصَّيْفُ فَإِنِ اعْتَادُوا لِنَوْمِهِمْ غِطَاءً غَيْرَ لِبَاسِهِمْ فَرَضَ لَهَا بِحَسْبِ عُرْفِهِمْ ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَادُوهُ أُسْقِطَ عَنْهُ ، وَخَالَفَ فِيهِ حَالُ الشِّتَاءِ لِأَنَّ الْعُرْفَ فِيهِ الِاسْتِكْثَارُ فِي دِثَارِ اللَّيْلِ عَلَى لِبَاسِ النَّهَارِ . وَالْعُرْفُ فِي الصَّيْفِ والشتاء بالنسبة لنفقة الزوجة مما تنام عليه إِسْقَاطُ اللِّبَاسِ فِي نَوْمِ اللَّيْلِ عَنْ لِبَاسِ النَّهَارِ ، وَأَمَّا الْوِطَاءُ فَهُوَ نَوْعَانِ : بِسَاطٌ لِجُلُوسِهَا ، وَفِرَاشٌ لِمَنَامِهَا ، فَأَمَّا بِسَاطُ الْجُلُوسِ من أنواع نفقة الزوجة فَمِمَّا لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ مُوسِرٌ وَلَا مُقْتِرٌ ، فَيَفْرِضُ لَهَا بِحَسَبِ حَالِهِ وَعَادَةِ أَهْلِهِ مِنْ بُسُطِ الشِّتَاءِ وَحُصُرِ الصَّيْفِ من أنواع نفقة الزوجة ، فَأَمَّا الْفِرَاشُ فَكُلُّ الْأَمْصَارِ وَذَوُو الْيَسَارِ يَسْتَعْمِلُونَهُ زِيَادَةً عَلَى بُسُطِ جُلُوسِهِمْ ، فَيُفْرَضُ لَهَا عَلَيْهِ فِرَاشٌ مَحْشُوٌّ وَوِسَادَةٌ بِحَسَبِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ ، فَأَمَّا سُكَّانُ الْقُرَى وَدُورِ الْإِقْتَارِ فَيَكْتَفُونَ فِي نَوْمِهِمْ بِالْبُسُطِ الْمُسْتَعْمَلَةِ لِجُلُوسِهِمْ . فَلَا يُفْرَضُ لِمِثْلِهَا فِرَاشٌ لَكِنْ وِسَادَةٌ لِرَأْسِهَا ، قَدْ أَلِفَ النَّاسُ فِي زَمَانِنَا أَنْ يَكُونَ جِهَازُ الْمَنَازِلِ عَلَى النِّسَاءِ وَلَا يَصِيرُ ذَلِكَ عُرْفًا مُعْتَبَرًا . كَمَا أَلِفُوا رَشْوَةَ النِّسَاءِ فِي النِّكَاحِ وَلَا يَصِيرُ حَقًّا مَعْتَبَرًا ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْأَمْوَالِ فِي الْمَنَاكِحِ تَجِبُ لِلنِّسَاءِ عَلَى الْأَزْوَاجِ فَلَا تُعْكَسُ فِي الِاسْتِحْقَاقِ وَأَمَّا خَادِمُهَا الزوجة وما يجب على الزوج له من فراش فَلَا يَسْتَغْنِي عَنْ دِثَارٍ فِي الشِّتَاءِ بِحَسْبِ عَادَتِهِ مِنَ الْفِرَاءِ وَالْأَكْسِيَةِ وَوِسَادَةٍ لِرَأْسِهِ وَبِسَاطٍ لِجُلُوسِهِ وَمَنَامِهِ مَا يَجْلِسُ مِثْلُهُ عَلَيْهِ فِي جَسَدِهِ . . فَيُفْرَضُ عَلَيْهِ لِخَادِمِهَا ذَلِكَ كَمَا يُفْرَضُ قُوتُهُ وَكِسْوَتُهُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِذَا بَلِيَ أَخْلَفَهُ ، وَإِنَّمَا جَعَلْتُ أَقَلَّ الْفَرْضِ فِي هَذَا بِالدَّلَالَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَفْعِهِ إِلَى الَّذِي أَصَابَ أَهْلَهُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ عَرَقًا فِيهِ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا لِسِتِّينَ مِسْكِينًا وَإِنَّمَا جَعَلْتُ أَكْثَرَ مَا فَرَضْتُ مُدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا أَمَرَ بِهِ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فِدْيَةِ الْأَذَى مُدَّانِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ فَلَمْ أُقَصِّرْ عَنْ هَذَا وَلَمْ أُجَاوِزْ هَذَا مَعَ أَنَّ مَعْلُومًا أَنَّ الْأَغْلَبَ أَنَّ أَقَلَّ الْقُوتِ مُدٌّ وَأَنَّ أَوْسَعَهُ مُدَّانِ ، وَالْفَرْضُ الَّذِي عَلَى الْوَسَطِ الَّذِي لَيْسَ بِالْمُوسِعِ وَلَا الْمُقْتِرِ بَيْنَهُمَا مُدٌّ وَنِصْفٌ وَلِلْخَادِمَةِ مُدًّا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْقُوتُ فَمُسْتَحَقٌّ فِي كُلِّ يَوْمٍ ، عَلَيْهِ دَفْعُهُ إِلَيْهَا مَرَّةً وَاحِدَةً ، وَلَا يُوَقِّتُهُ عَلَيْهَا ، وَتَسْتَحِقُّهُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ ؛ لِتَتَشَاغَلَ بِعَمَلِهِ وَلِتُبْدِيَ مِنْهُ لِغِذَائِهَا ، فَعَلَى هَذَا إِنْ دَفَعَهُ إِلَيْهَا فَسُرِقَ مِنْهَا أَوْ تَلِفَ فِي إِصْلَاحِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ بَدَلُهُ كَمَا لَوْ دَفَعَ إِلَيْهَا صَدَاقَهَا فَرَّقَ ، فَأَمَّا الْكِسْوَةُ عددها فَالْعُرْفُ الْجَارِي فِيهَا ، أَنْ تَسْتَحِقَّ فِي السَّنَةِ دَفْعَتَيْنِ : كِسْوَةٌ فِي الصَّيْفِ تَسْتَحِقُّهَا فِي أَوَّلِهِ ، وَكِسْوَةٌ فِي الشِّتَاءِ تَسْتَحِقُّ فِي أَوَّلِهِ فَتَكُونُ مُدَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْكِسْوَتَيْنِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ ، وَتَسْتَحِقُّ عِنْدَ انْقِضَائِهَا الْكِسْوَةَ الْأُخْرَى ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمَكْسُوَّةِ بَعْدَ لِبَاسِهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ وَفْقَ مُدَّتِهَا لَا تَخْلُقُ قَبْلَهَا وَلَا تَبْقَى بَعْدَهَا فَقَدْ وَافَقَتْ مُدَّةَ الِاسْتِحْقَاقِ ، فَعَلَيْهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ أَنْ يَكْسُوَهَا الْكِسْوَةَ الثَّانِيَةَ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ تَبْلَى كِسْوَتُهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ مُدَّتِهَا . فَيَنْظُرُ فِيهَا . فَإِنْ بَلِيَتْ لِسَخَافَةِ الثِّيَابِ وَرَدَاءَتِهَا كَسَاهَا غَيْرَهَا لِبَاقِي مُدَّتِهَا ، وَإِنْ بَلِيَتْ لِسُوءِ فِعْلِهَا وَفَسَادِ عَادَتِهَا لَمْ يَلْزَمْهُ غَيْرُهَا إِلَى انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ تَبْقَى الْكِسْوَةُ بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّتِهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَلْزَمُهُ كِسْوَتُهَا فِي وَقْتِهَا مَعَ بَقَاءِ مَا تَقَدَّمَهَا كَمَا لَوْ بَقِيَ مِنْ قُوتِ يَوْمِهَا إِلَى غَدِهِ اسْتَحَقَّتْ فِيهِ قُوتَهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا تَسْتَحِقُّ الْكِسْوَةَ مَعَ بَقَائِهَا بَعْدَ الْمُدَّةِ بِخِلَافِ الْقُوتِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ الْكِسْوَةَ مُعْتَبَرَةٌ بِالْكِفَايَةِ وَالْقُوتَ مُعْتَبَرٌ بِالشَّرْعِ ، وَالْأَصَحُّ عِنْدِي مِنْ إِطْلَاقِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنْ يَنْظُرَ فِي الْكِسْوَةِ ، فَإِنْ بَقِيَتْ بَعْدَ مُدَّتِهَا لِجَوْدَتِهَا النفقة لَمْ تَسْتَحِقَّ بَدَلَهَا ؛ لِأَنَّ الْجَوْدَةَ زِيَادَةٌ ، وَإِنْ بَقِيَتْ بَعْدَهَا لِصِيَانَةِ لُبْسِهَا النفقة اسْتَحَقَّتْ بَدَلَهَا كَمَا لَوْ لَمْ تَلْبَسْهَا ، هَذَا كُلُّهُ فِيمَا عَدَا الْجِبَابِ . فَأَمَّا الْجِبَابُ فَمِنْهَا مَا يُعْتَادُ تَجْدِيدُهُ فِي كُلِّ شَتْوَةٍ مِثْلُ : جِبَابِ الْقُطْنِ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَكْسُوَهَا فِي كُلِّ شَتْوَةٍ جُبَّةً ، وَمِنْهَا مَا يُعْتَادُ أَنْ يُلْبَسَ سَنَتَيْنِ وَأَكْثَرَ كَالدِّيبَاجِ وَالسَّقْلَاطُونِ . فَلَا يَلْزَمُهُ إِبْدَالُهَا فِي كُلِّ شَتْوَةٍ ، وَيُعْتَبَرُ فِيهِ عُرْفُ مِثْلِهَا فِيمَا تَلْبَسُ لَهُ مِنَ السِّنِينَ ، وَأَمَّا الدِّثَارُ مِنَ اللُّحُفِ وَالْقُطُفِ وَالْأَكْسِيَةِ وَمَا تَسْتَوْطِئُهُ مِنَ الْفُرُشِ وَالْوَسَائِدِ فَهُوَ فِي الْعُرْفِ أَبْقَى مِنَ الْكِسْوَةِ ، وَمُدَّةُ اسْتِعْمَالِهِ أَطْوَلُ مِنْ مُدَّةِ الثِّيَابِ ، وَمُدَّةُ اللُّحُفِ وَالْقُطُفِ أَطْوَلُ مِنْ مُدَّةِ الْوَسَائِدِ وَالْفُرُشِ لِقُصُورِ مُدَّةِ اسْتِعْمَالِ اللُّحُفِ لِاخْتِصَاصِهَا بِالشَّتَاءِ ، وَالْفَرُشُ مُسْتَدَامَةٌ فِي الصَّيْفِ وَالشَّتَاءِ ، فَيُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ
الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ ، وَهِيَ جَارِيَةٌ بِتَصَرُّفِهَا وَعَمَلِهَا فِي كُلِّ سَنَةٍ وَالِاسْتِبْدَالُ بِهَا فِي كُلِّ سَنَتَيْنِ فَيُرَاعَى فِيهَا الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ فِي مُدَّةِ اسْتِحْقَاقِهَا ، فَإِنْ بَلِيَتْ قَبْلَهَا أَوْ بَقِيَتْ بَعْدَهَا فَهِيَ كَالثِّيَابِ عَلَى مَا مَضَى .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا وَأَخَذَتْ مَا تَسْتَحِقُّهُ وَاسْتَعْجَلَتْهُ فَفَارَقَهَا قَبْلَ اسْتِعْمَالِهَا بِطَلَاقٍ أَوْ مَوْتٍ وَمَا أَخَذَتْهُ مِنْ ذَلِكَ بَاقٍ بِحَالِهِ . فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ قُوتًا أَوْ كِسْوَةً ؛ فَإِنْ كَانَ قُوتُ يَوْمِهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَرْجِعَهَا لِاسْتِحْقَاقِهَا لَهُ فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ ، وَإِنْ تَعَجَّلَتْ قُوتَ شَهْرٍ فَطَلَّقَهَا لِيَوْمِهَا اسْتَرْجَعَ مِنْهَا مَا زَادَ عَلَى قُوتِ الْيَوْمِ ؛ لِأَنَّهُ تَعْجِيلُ مَا لَا تَسْتَحِقُّ فَصَارَ كَتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ إِذَا ثَبَتَ الْمَالُ قَبْلَ الْحَوْلِ اسْتَحَقَّ الرُّجُوعَ بِهَا عَلَى الْأَخْذِ وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ عَنْهَا اسْتَرْجَعَ الْوَرَثَةُ مِنْهَا نَفَقَةَ مَا زَادَ عَلَى يَوْمِ الْمَوْتِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَرْجِعُ بِهِ بَعْدَ الْقَبْضِ كَالْهِبَةِ وَبَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّهَا بِرٌّ وَمُوَاسَاةٌ وَهِيَ عِنْدُنَا مُعَاوَضَةٌ فَرَجَعَ بِهَا عِنْدَ عَدَمِ الِاسْتِحْقَاقِ ، وَإِنْ كَانَ كِسْوَةً مِنْ لِبَاسٍ أَوْ دِثَارٍ . فَفَارَقَهَا بَعْدَ دَفْعِهَا وَهِيَ بَاقِيَةٌ . فَفِي اسْتِحْقَاقِ الرُّجُوعِ بِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا " يَرْجِعُ بِهَا كَالْقُوتِ الْمُعَجَّلِ لِأَنَّهَا لِمُدَّةٍ لَمْ تَأْتِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَرْجِعُ بِهَا لِأَنَّهُ دَفَعَهَا مُسْتَحِقٌّ لِمَا تُؤْخَذُ بِهِ جَبْرًا بِخِلَافِ الْقُوتِ الْمُعَجَّلِ . فَجَرَى مَجْرَى قُوتِ الْيَوْمِ الَّذِي لَا يُسْتَرْجَعُ .
الْقَوْلُ فِي نَفَقَةِ الْبَدَوِيَّةِ
[ الْقَوْلُ فِي نَفَقَةِ الْبَدَوِيَّةِ ] مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ كَانَتْ بَدَوِيَّةً فَمِمَّا يَأْكُلُ أَهْلُ الْبَادِيَةِ ، وَمِنَ الْكِسْوَةِ بِقَدْرِ مَا يَلْبَسُونَ ، لَا وَقْتَ فِي ذَلِكَ إِلَّا قَدْرُ مَا يَرَى بِالْمَعْرُوفِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ : لِأَنَّ أَهْلَ الْبَادِيَةِ يُخَالِفُونَ الْحَاضِرَةَ فِي الْأَقْوَاتِ وَاللِّبَاسِ ، فَأَقْوَاتُهُمْ أَخْشَنُ وَمَلَابِسُهُمْ أَخْشَنُ ، وَمَنْ قَرُبَ مِنْ أَمْصَارِ الرِّيفِ وَطُرُقِهَا كَانَ فِي الْقُوتِ وَاللِّبَاسِ أَحْسَنَ حَالًا مِمَّنْ بَعُدَ عَنْهَا ، فَيَنْظُرُ فِي الْأَقْوَاتِ إِلَى عُرْفِهِمْ فَيَفْرِضُ لَهَا مِنْهُ ، وَفِي الْمَلَابِسِ إِلَى عُرْفِهِمْ فَيَفْرِضُ لَهَا مِنْهُ ، فَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ حَضَرِيًّا وَالزَّوْجَةُ بَدَوِيَّةً كيف تكون الكسوة والنفقة ؟ . فَإِنْ سَاكَنَهَا فِي الْبَادِيَةِ لَزِمَهُ لَهَا قُوتُ الْبَادِيَةِ وَكِسْوَتُهُمْ ، وَإِنْ سَاكَنَهَا فِي الْحَضَرِ لَزِمَهُ لَهَا قُوتُ الْحَضَرِ وَكِسْوَتُهُمْ ، وَكَذَلِكَ الْبَدَوِيُّ إِذَا تَزَوَّجَ حَضَرِيَّةً رُوعِيَ مَوْضِعُ مُسَاكَنَتِهِمَا فَكَانَ هُوَ الْمُعْتَبَرَ فِي قُوتِهَا وَمَسْكَنِهَا وَكِسْوَتِهَا .
الْقَوْلُ فِي أُجْرَةِ الطَّبِيبِ وَثَمَنِ الدَّوَاءِ
[ الْقَوْلُ فِي أُجْرَةِ الطَّبِيبِ وَثَمَنِ الدَّوَاءِ ] مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَيْسَ عَلَى رَجُلٍ أَنْ يُضَحِّيَ لِامْرَأَتِهِ وَلَا يُؤَدِّيَ عَنْهَا أَجْرَ طَبِيبٍ وَلَا حَجَّامٍ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْأُضْحِيَةُ في النفقة فَمِمَّا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَلَا فِي حَقِّهَا ، وَهِيَ بِخِلَافِ زَكَاةِ الْفِطْرِ الَّتِي تَجِبُ عَلَيْهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَفِي حَقِّهَا . فَإِنْ قِيلَ فَهَلَّا كَانَ الْعُرْفُ فِيهَا مُعْتَبَرًا كَالْأَقْوَاتِ . قِيلَ إِنِ اعْتُبِرَ فِيهَا عُرْفُ الْأَكْلِ مِنْهَا فَقَدِ اسْتَحَقَّتْ مِثْلَهُ فِي قُوتِهَا ، وَإِنِ اعْتُبِرَ فِيهَا عُرْفُ الصَّدَقَةِ فَهُوَ عَنِ الزَّوْجِ لَا عَنْهَا ، وَأَمَّا أُجْرَةُ الطَّبِيبِ وَالْحَجَّامِ وَثَمَنُ الدَّوَاءِ في النفقة فِي الْأَمْرَاضِ فَجَمِيعُهُ عَلَيْهَا دُونَ الزَّوْجِ بِخِلَافِ الدُّهْنِ وَالْمُشْطِ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الدُّهْنَ مَأْلُوفٌ وَهَذَا نَادِرٌ . وَالثَّانِي : اخْتِصَاصُ الدُّهْنِ بِالِاسْتِمْتَاعِ وَاخْتِصَاصُ الدَّوَاءِ وَالطَّبِيبِ بِحِفْظِ الْجَسَدِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ الْحَالِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا النَّفَقَةُ وَمَا لَا يَجِبُ
بَابُ الْحَالِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا النَّفَقَةُ وَمَا لَا يَجِبُ مِنْ كِتَابِ عِشْرَةِ النِّسَاءِ وَكِتَابِ التَّعْرِيضِ بِالْخِطْبَةِ وَمِنَ الْإِمْلَاءِ عَلَى مَسَائِلِ مَالِكٍ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ يُجَامَعُ مِثْلُهَا فَخَلَّتْ - أَوْ أَهْلُهَا - بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدُّخُولِ بِهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا ، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ مِنْ قِبَلِهِ ، وَقَالَ فِي كِتَابَيْنِ : وَقَدْ قِيلَ إِذَا كَانَ الْحَبْسُ مِنْ قِبَلِهِ فَعَلَيْهِ وَإِذَا كَانَ مِنْ قِبَلِهَا فَلَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ : يُنْفِقُ ؛ لِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ مِنْ غَيْرِهِ كَانَ مَذْهَبًا ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : قَدْ قُطِعَ بِأَنَّهَا إِذَا لَمْ تُخَلِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا فَلَا نَفَقَةَ لَهَا حَتَّى قَالَ فَإِنِ ادَّعَتِ التَّخْلِيَةَ فَهِيَ غَيْرُ مُخَفِيَةٍ حَتَّى يُعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : الْمُسْتَحَقُّ بِالزَّوْجِيَّةِ مِنْ حُقُوقِ الْأَمْوَالِ شَيْئَانِ : الْمَهْرُ ، وَالنَّفَقَةُ . فَأَمَّا الْمَهْرُ فَيَجِبُ بِالْعَقْدِ ، وَقَدْ مَضَى بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الصَّدَاقِ . وَأَمَّا النَّفَقَةُ فَلَا تَجِبُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ لِسُقُوطِهَا بِالنُّشُوزِ ، وَلِـ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَدَخَلَ بِهَا بَعْدَ سِنْتَيْنِ فَمَا أَنْفَقَ عَلَيْهَا حَتَّى دَخَلَتْ عَلَيْهِ وَلَوْ أَنْفَقَ عَلَيْهَا لَنُقِلَ ، وَلَوْ كَانَ حَقًّا لَهَا لَسَاقَهُ إِلَيْهَا وَلَمَا اسْتَحَلَّ أَنْ يُقِيمَ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ حَقٍّ وَجَبَ لَهَا ، وَلَكَانَ إِنْ أَعْوَزَهُ فِي الْحَالِ بِسَوْقِهِ إِلَيْهَا مِنْ بَعْدٍ أَوْ يُعْلِمُهَا بِحَقِّهَا ثُمَّ يَسْتَحِلُّهَا لِتَبْرَأَ ذِمَّتُهُ مِنْ مُطَالَبَتِهِ بِفَرْضٍ ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ النَّفَقَةَ لَا تَجِبُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ ، وَكَذَلِكَ لَا تَجِبُ النَّفَقَةُ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِمْتَاعِ ؛ لِأَنَّ الْمَوْطُوءَةَ بِشُبْهَةٍ لَا نَفَقَةَ لَهَا وَإِنْ كَانَ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا مَوْجُودًا ، وَكَذَلِكَ لَا تَجِبُ بِالْعَقْدِ وَالِاسْتِمَاعِ ؛ لِأَنَّهَا لَوْ مَكَّنَتْ مِنْ نَفْسِهَا بَعْدَ الْعَقْدِ وَجَبَ لَهَا النَّفَقَةُ وَإِنْ لَمْ يَسْتَمْتِعْ بِهَا ، فَدَلَّ إِذَا لَمْ تَجِبْ بِوَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ ، عَلَى أَنَّهَا تَجِبُ بِاجْتِمَاعِ الْعَقْدِ وَالتَّمْكِينِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَحْرِيرِ الْعِبَارَةِ عَنْهُ . فَقَالَ الْبَغْدَادِيُّونَ : تَجِبُ بِالتَّمْكِينِ الْمُسْتَنِدِ إِلَى عَقْدٍ فَجَعَلُوا الْوُجُوبَ مُعَلَّقًا بِالتَّمْكِينِ وَتَقْدِيمِ الْعَقْدِ شَرْطًا فِيهِ وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ : تَجِبُ بِالْعَقْدِ وَالتَّمْكِينِ ، فَجَعَلُوا الْوُجُوبَ مُعَلَّقًا بِالْعَقْدِ وَحُدُوثِ التَّمْكِينِ شَرْطًا فِيهِ ، وَتَأْثِيرُ هَذَا الِاخْتِلَافِ يَكُونُ فِي زَمَانِ التَّأْنِيثِ لِلتَّمْكِينِ : هَلْ تَسْتَحِقُّ فِيهِ النَّفَقَةَ أَمْ لَا ؟ فَمَنْ جَعَلَ التَّمْكِينَ فِي الْوُجُوبِ أَصْلًا وَجَعَلَ تَقَدُّمَ الْعَقْدِ شَرْطًا لَمْ يُوجِبْ لَهَا النَّفَقَةَ فِي زَمَانِ التَّأْنِيثِ وَأَوْجَبَهَا بِكَمَالِ
التَّمْكِينِ ، وَمَنْ جَعَلَ الْعَقْدَ فِي الْوُجُوبِ أَصْلًا وَجَعَلَ حُدُوثَ التَّمْكِينِ شَرْطًا أَوْجَبَ لَهَا النَّفَقَةَ فِي أَوَّلِ زَمَانِ التَّأْنِيثِ لِلتَّمْكِينِ إِلَى أَقْصَى كَمَالِ التَّمْكِينِ .
الْقَوْلُ فِي النَّفَقَةِ فِي الْعَقْدَ الْفَاسِدِ
[ الْقَوْلُ فِي النَّفَقَةِ فِي الْعَقْدَ الْفَاسِدِ ] فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا تَجِبُ بِهِ النَّفَقَةُ مِنَ الْعَقْدِ وَالتَّمْكِينِ ، فَالْعَقْدُ مَا حُكِمَ لَهُ بِالصِّحَّةِ دُونَ الْفَسَادِ وَأَمَّا التَّمْكِينُ فَيَشْتَمِلُ عَلَى أَمْرَيْنِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهِمَا . أَحَدُهُمَا : تَمْكِينُهُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا . وَالثَّانِي : تَمْكِينُهُ مِنَ النَّقْلَةِ مَعَهُ حَيْثُ شَاءَ فِي الْبَلَدِ الَّذِي تَزَوَّجَهَا فِيهِ وَإِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْبِلَادِ إِذَا كَانَتِ السُّبُلُ مَأْمُونَهً ، فَلَوْ مَكَّنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا وَلَمْ تُمَكِّنْهُ مِنَ النَّقْلَةِ مَعَهُ أي الزوجة لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ ؛ لِأَنَّ التَّمْكِينَ لَمْ يَكْمُلْ ، إِلَّا أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِهَا فِي زَمَانِ الِاسْتِمْتَاعِ مِنَ النَّقْلَةِ ، فَتَجِبَ لَهَا النَّفَقَةُ وَيَصِيرَ اسْتِمْتَاعُهُ بِهَا عَفْوًا عَنِ النَّقْلَةِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ ، وَإِنْ أَجَابَتْهُ إِلَى النَّقْلَةِ وَمَنَعَتْهُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ أي الزوجة . فَإِنْ كَانَ لِعُذْرٍ يَحْرُمُ مَعَهُ الِاسْتِمْتَاعُ كَالْحَيْضِ وَالْإِحْرَامِ وَالصِّيَامِ لَمْ تَسْقُطْ نَفَقَتُهَا : لِأَنَّهُ مَحْظُورٌ عَلَيْهِ بِالشَّرْعِ فَصَارَ مُسْتَثْنًى مِنَ الْعَقْدِ ، وَإِنْ كَانَ الِامْتِنَاعُ لِغَيْرِ عُذْرٍ سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا إِذَا كَانَ الِاسْتِمْتَاعُ مُمْكِنًا .
فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ الزَّوْجَيْنِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ الِاسْتِمْتَاعُ مُمْكِنًا مِنْ جِهَتِهِمَا جَمِيعًا ، فَيَكُونَ الزَّوْجُ مِمَّنْ يَطَأُ وَالزَّوْجَةُ مِمَّنْ تُوطَأُ ، فَإِذَا مَكَّنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا أَوْ كَانَتْ مُرَاهِقَةً غَيْرَ بَالِغٍ فَمَكَّنَهُ مِنْهَا وَلِيُّهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا سَوَاءٌ اسْتَمْتَعَ بِهَا أَوْ لَمْ يَسْتَمْتِعْ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ حَقٌّ لَهُ إِنْ شَاءَ اسْتَوْفَاهُ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ ، وَلَوْ مَنَعَهُ مِنْهَا أَهْلُهَا لِعَدَمِ بُلُوغِهَا أحوال لزوم النفقة وعدمه على الزوج لَمْ تَجِبْ نَفَقَتُهَا ، وَإِنْ كَانَتْ مَعْذُورَةً ؛ لِأَنَّ مَا تَجِبُ بِهِ النَّفَقَةُ مَعْدُومٌ ، فَلَوْ بَذَلَتْ نَفْسَهَا قَبْلَ بُلُوغِهَا وَأَكْرَهَتْ أَهْلَهَا عَلَى تَمْكِينِهِ مِنْهَا أحوال لزوم النفقة وعدمه على الزوج اسْتَحَقَّتِ النَّفَقَةَ ؛ لِأَنَّ الْبُلُوغَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي التَّسْلِيمٍ الْمُسْتَحَقِّ كَالْمَبِيعِ إِذَا سَلَّمَهُ إِلَى الْمُشْتَرِي غَيْرَ بَالِغٍ صَحَّ الْقَبْضُ ، فَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ غَائِبًا فَمَكَّنَتْ مِنْ نَفْسِهَا فِي حَالِ غَيْبَتِهِ أحوال لزوم النفقة وعدمه على الزوج فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ قَدْ تَسَلَّمَهَا قَبْلَ الْغِيبَةِ فَالنَّفَقَةُ لَهَا فِي زَمَانِ الْغِيبَةِ وَاجِبَةٌ ؛ لِأَنَّهَا مُسْتَدِيمَةٌ لِتَمْكِينٍ كَامِلٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ لَا يُوجَدَ التَّسْلِيمُ قَبْلَ الْغَيْبَةِ فَشُرُوعُهَا فِي التَّمْكِينِ أَنْ تَأْتِيَ الْحَاكِمَ فَتُخْبِرَهُ بَعْدَ ثُبُوتِ الزَّوْجِيَّةِ عِنْدَهُ بِأَنَّهَا مُسَلِّمَةٌ نَفْسَهَا إِلَى زَوْجِهَا ، فَإِذَا فَعَلَتْ كَتَبَ حَاكِمُ بَلَدِهَا إِلَى حَاكِمِ الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ زَوْجُهَا بِحُضُورِ الزَّوْجَةِ وَتَسْلِيمِ نَفْسِهَا ، فَإِذَا عَلِمَ الزَّوْجُ مِنْ حَاكِمِ بَلَدٍ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهَا إِلَيْهِ فَكَمَالُ التَّمْكِينِ يَكُونُ بِأَنْ يَمْضِيَ عَلَى الزَّوْجِ بَعْدَ عِلْمِهِ زَمَانُ الِاجْتِمَاعِ إِمَّا بِأَنْ يَنْتَقِلَ إِلَيْهَا وَإِمَّا بِأَنْ يَنْقُلَهَا إِلَيْهِ ، وَالْخِيَارُ فِي ذَلِكَ إِلَيْهِ
دُونَهَا وَنَفَقَةُ نَقْلَتِهَا عَلَيْهِ دُونَهَا ، فَإِذَا كَمَلَ التَّمْكِينُ بِمُضِيِّ زَمَانِ الِاجْتِمَاعِ فَعَلَى قَوْلِ الْبَغْدَادِيِّينَ تَجِبُ نَفَقَتُهَا حِينَئِذٍ ، وَلَا تَجِبُ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ بَذْلِ التَّسْلِيمِ ، وَعَلَى قَوْلِ الْبَصْرِيِّينَ تَجِبُ نَفَقَتُهَا مِنْ وَقْتِ الشُّرُوعِ فِي التَّسْلِيمِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي التَّمْكِينِ : هَلْ هُوَ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ أَصْلٌ أَمْ شَرْطٌ ؟ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ .
فَصْلٌ : وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ الِاسْتِمْتَاعُ مُمْكِنًا مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ لِبُلُوغِهِ وَغَيْرَ مُمْكِنٍ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجَةِ أحوال لزوم النفقة وعدمه على الزوج لِصِغَرِهَا وَكَوْنِهَا مِمَّنْ لَا يُوطَأُ مِثْلُهَا ، فَلَا يَلْزَمُ أَهْلُهَا تَسْلِيمُهَا إِلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ زَمَانٌ يَطَؤُهَا إِنْ تَسَلَّمَهَا ، وَفِي وُجُوبِ نَفَقَتِهَا عَلَيْهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَهَا النَّفَقَةُ ؛ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَانِعَ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فِي الصِّغَرِ كَالْمَانِعِ مِنْهُ بِالْمَرَضِ ، وَنَفَقَةُ الْمَرِيضَةِ وَاجِبَةٌ ، كَذَلِكَ نَفَقَةُ الصَّغِيرَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ تَزَوَّجَهَا عَالِمًا بِأَنَّهُ لَا اسْتِمْتَاعَ فِيهَا فَصَارَ كَالْعَاقِدِ مَعَ عِلْمِهِ بِالْعُيُوبِ ، فَلَزِمَ فِيهَا حُكْمُ السَّلَامَةِ مِنْهَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ النَّفَقَاتِ ، وَفِي عِشْرَةِ النِّسَاءِ : أَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لَهَا ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ . اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ فَقْدَ الِاسْتِمْتَاعِ بِالصِّغَرِ أَغْلَظُ مِنْ تَعَذُّرِهِ بِالنُّشُوزِ فِي الْكِبَرِ لِإِمْكَانِهِ فِي حَالِ النُّشُوزِ وَتَعَذُّرِهِ فِي حَالِ الصِّغَرِ ، فَكَانَ إِلْحَاقُهُ بِالنُّشُوزِ فِي سُقُوطِ النَّفَقَةِ أَحَقَّ . وَالثَّانِي : أَنَّ النَّفَقَةَ مُسْتَحَقَّةٌ فِي مُقَابَلَةِ التَّمْكِينِ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ فَصَارَتْ بَدَلًا فِي مُقَابَلَةِ مُبْدَلٍ وَفَوَاتُ الْمُبْدِلِ مُوجِبٌ لِسُقُوطِ الْبَدَلِ سَوَاءٌ كَانَ فَوَاتُهُ بِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِ عُذْرٍ لِسُقُوطِ الثَّمَنِ بِتَلَفِ الْمَبِيعِ .
فَصْلٌ : وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ الِاسْتِمْتَاعُ مِنَ الزَّوْجَةِ لِكِبَرِهَا وَمُتَعَذِّرًا مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ لِصِغَرِهِ أحوال لزوم النفقة وعدمه على الزوج ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا لِتَعَذُّرِهِ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ : هَلْ يَجْرِي مَجْرَى تَعَذُّرِهِ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجَةِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّهُمَا سَوَاءٌ وَأَنَّ وُجُوبَ نَفَقَتِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ ؛ لِأَنَّ عِلْمَهَا بِصِغَرِهِ كَعِلْمِهِ بِصِغَرِهَا فَاسْتَوَى فَوَاتُ الِاسْتِمْتَاعِ بِهِمَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ : إِنَّ تَعَذُّرَ الِاسْتِمْتَاعِ مِنْ جِهَتِهِ مُخَالِفٌ لِتَعَذُّرِهِ مِنْ جِهَتِهَا وَإِنَّ نَفَقَتَهَا تَجِبُ عَلَيْهِ قَوْلًا وَاحِدًا وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهَا دُونَهُ ، وَقَدْ وُجِدَ التَّمْكِينُ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجَةِ فَلَمْ تَسْقُطِ النَّفَقَةُ بِتَعَذُّرِهِ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ فَصَارَ كَمَا لَوْ هَرَبَ أَوْ جُبَّ وَكَالْمُسْتَأْجِرِ دَارًا إِذَا
مُكِّنَ مِنْ سَكَنَهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ أُجْرَتُهَا وَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ سُكَنَاهَا .
فَصْلٌ : وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَتَعَذَّرَ الِاسْتِمْتَاعَ مِنْ جِهَتِهِمَا لِصِغَرِهِمَا وَأَنَّ الزَّوْجَ مِمَّنْ لَا يَطَأُ وَالزَّوْجَةُ مِمَّنْ لَا تُوطَأُ أحوال لزوم النفقة وعدمه على الزوج . فَفِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ ؟ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَهَا النَّفَقَةُ وَهُوَ أَصَحُّ تَغْلِيبًا لِعِلْمِهَا بِالْحَالِ مَعَ اسْتِوَائِهِمَا فِي الْعَجْزِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا نَفَقَةَ لَهَا اعْتِبَارًا بِتَعَذُّرِ الِاسْتِمْتَاعِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
الْقَوْلُ فِي نَفَقَةِ الْمَرِيضَةِ
[ الْقَوْلُ فِي نَفَقَةِ الْمَرِيضَةِ ] مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوْ كَانَتْ مَرِيضَةً لَزِمَتْهُ نَفَقَتُهَا وَلَيْسَتْ كَالصَّغِيرَةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : لَا تَسْقُطُ نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ المريضة بِالْمَرَضِ وَإِنْ سَقَطَتْ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ بِالصِّغَرِ لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَرِيضَةَ فِي قَبْضَتِهِ لِمَا يَلْزَمُهَا مِنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا إِلَيْهِ ، وَالصَّغِيرَةَ مَمْنُوعَةٌ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ تَسْلِيمُهَا إِلَيْهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ فِي الْمَرِيضَةِ اسْتِمْتَاعًا بِمَا سِوَى الْوَطْءِ ، وَأَنَّهَا سَكَنٌ وَإِلْفٌ وَلَيْسَ فِي الصَّغِيرَةِ اسْتِمْتَاعٌ . وَلَيْسَتْ بِسَكَنٍ وَلَا إِلْفٍ ، وَفَرْقٌ بَيْنَ تَعَذُّرِ جَمِيعِ الِاسْتِمْتَاعِ وَبَيْنَ تَعَذُّرِ بَعْضِهِ كَالرَّتْقَاءِ تَجِبُ نَفَقَتُهَا وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى إِصَابَتِهَا .
الْقَوْلُ فِي حُكْمِ النَّفَقَةِ إِذَا كَانَ فِي الْجِمَاعِ ضَرَرٌ عَلَيْهَا
[ الْقَوْلُ فِي حُكْمِ النَّفَقَةِ إِذَا كَانَ فِي الْجِمَاعِ ضَرَرٌ عَلَيْهَا ] مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ كَانَ فِي جِمَاعِهَا شِدَّةُ ضَرَرٍ مُنِعَ وَأُخِذَ بِنَفَقَتِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ إِذَا كَانَ الْجِمَاعُ يَنْكَؤُهَا وَيَنَالُهَا مِنْهُ شِدَّةُ ضَرَرٍ فهل لها النفقة إِمَّا لِضُؤُولَةِ جَسَدِهَا وَضِيقِ فَرْجِهَا وَإِمَّا لِعَظْمِ خِلْقَةِ الزَّوْجِ وَغِلَظِ ذَكَرِهِ مُنِعَ مَنْ وَطْئِهَا ؛ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا يُخَافُ مِنْ جِنَايَتِهِ عَلَيْهَا وَأَنَّهُ رُبَّمَا أَفْضَاهَا وَأَدَّى إِلَى تَلَفِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ الْمُسْتَحَقَّ مَا اشْتَرَكَ فِي الِالْتِذَاذِ بِهِ غَالِبًا . فَإِذَا خَرَجَ عَنْ هَذَا الْحَدِّ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقًّا وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ عَيْبًا يُوجِبُ الْفَسْخَ ؛ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْعَيْبَ مَا ثَبَتَ حُكْمُهُ فِي حَقِّ كُلِّ زَوْجٍ ، وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ مِثْلَهَا لَمْ يَكُنْ عَيْبًا فَسَقَطَ أَنْ يَكُونَ فِي حَقِّهَا عَيْبًا .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ وُجُودُ مِثْلِهِ فِي الزَّوْجِ عَيْبًا تَفْسَخُ بِهِ الزَّوْجَةُ لَمْ يَكُنْ وُجُودُ مِثْلِهِ فِي الزَّوْجَةِ عَيْبًا يَفْسَخُ بِهِ الزَّوْجُ . فَلَوِ اخْتَلَفَا وَادَّعَتِ الزَّوْجَةُ دُخُولَ شِدَّةِ الضَّرَرِ عَلَيْهَا فِي جِمَاعِهِ وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهَا فِيهِ ضَرَرٌ فَهَذَا مِمَّا يُوصَلُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ بِالْمُشَاهَدَةِ فِيهِ عَدَالَةُ ثِقَاتِ النِّسَاءِ لِيَشْهَدْنَ ، فَإِنْ وَصَلْنَ إِلَى عِلْمِهِ وَمَعْرِفَةِ حَالِهِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الْإِيلَاجِ نَظَرْنَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَتَوَصَّلْنَ إِلَى عِلْمِهِ إِلَّا عِنْدَ الْإِيلَاجِ جَازَ أَنْ يَشْهَدْنَ حَالَ الْإِيلَاجِ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَيْهِ كَمَا يَشْهَدْنَ الْعُيُوبَ الْبَاطِنَةَ ، وَكَمَا يُشَاهِدُ الطَّبِيبُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ فَرْجَ الْمَرْأَةِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَلْ يَجْرِي ذَلِكَ مَجْرَى الْخَبَرِ أَوِ الشَّهَادَةِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : إِحْدَاهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْخَبَرِ فَيُقْبَلُ فِيهِ خَبَرُ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا شَهَادَةٌ لَا يُقْبَلُ فِيهَا أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةِ نِسْوَةٍ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوِ ارْتَتَقَتْ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى جِمَاعِهَا فَهَذَا عَارِضٌ ، لَا مَنْعَ بِهِ مِنْهَا وَقَدْ جُومِعَتْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْقُرْنُ هل يكون مانعا من النفقةعلى الزوجة فَهُوَ عَظْمٌ يَعْتَرِضُ الرَّحِمَ لَا يُمْكِنُ جِمَاعُهَا مَعَهُ وَلَا يَجُوزُ حُدُوثُ مِثْلِهِ بَعْدَ كَمَالِ الْخِلْقَةِ وَلَا يُرْجَى زَوَالُهُ بَعْدَ وُجُودِهِ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ ، وَلِلزَّوْجِ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ نِكَاحِهَا بِهِ ، فَإِنْ أَقَامَ عَلَى نِكَاحِهَا لَزِمَتْهُ النَّفَقَةُ ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِمَا دُونَ الْفَرْجِ مِنْهَا ، وَأَمَّا الرَّتْقُ هل يكون مانعا من النفقة على الزوجة : فَهُوَ لَحْمٌ يَنْبُتُ فِي الرَّحِمِ لَا يُمْكِنُ جِمَاعُهَا مَعَهُ لِضِيقِ الْفَرْجِ بِهِ عَنْ دُخُولِ الذَّكَرِ وَيَجُوزُ حُدُوثُ مِثْلُهُ بَعْدَ كَمَالِ الْخِلْقَةِ وَيُمْكِنُ أَنْ يَزُولَ بَعْدَ حُدُوثِهِ ، فَلِلزَّوْجَ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ نِكَاحِهَا بِهِ إِذَا كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْعَقْدِ ، وَفِي فَسْخِهِ لِنِكَاحِهَا إِذَا وُجِدَ بَعْدَ الْعَقْدِ قَوْلَانِ مَضَيَا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ . أَحَدُهُمَا : لَهُ الْفَسْخُ وَعَلَيْهِ بَعْدَ الْفَسْخِ جَمِيعُ الْمَهْرِ إِذَا كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا . وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا ، فَإِنْ أَقَامَ لَزِمَتْهُ النَّفَقَةُ ، وَلَهُ الِاسْتِمْتَاعُ بِمَا دُونَ الْفَرْجِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا خِيَارَ لَهُ ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ بِيَدِهِ ، وَلَهَا النَّفَقَةُ لِكَوْنِهَا مُمْكِنًا وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ جِمَاعُهَا وَأَنَّهُ قَدْ يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِمَا دُونَ الْفَرْجِ مِنْهَا .
الْقَوْلُ فِي النَّفَقَةِ إِذَا أَحْرَمَتْ أَوِ اعْتَكَفَتْ
[ الْقَوْلُ فِي النَّفَقَةِ إِذَا أَحْرَمَتْ أَوِ اعْتَكَفَتْ ] مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ أَذِنَ لَهَا فَأَحْرَمَتْ أَوِ اعْتَكَفَتْ أَوْ لَزِمَهَا نَذْرُ كَفَّارَةٍ كَانَ عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا " .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : جُمْلَةُ الْعِبَادَاتِ الَّتِي يَحْرُمُ الْوَطْءُ فِيهَا أَرْبَعَةٌ : الصَّلَاةُ ، وَالصِّيَامُ ، وَالِاعْتِكَافُ وَالْحَجُّ ، فَبَدَأَ الشَّافِعِيُّ بِالْحَجِّ لِتَغْلِيظِ حُكْمِهِ ، وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْخُرُوجُ مِنْهُ قَبْلَ تَمَامِهِ مَعَ السَّفَرِ فِيهِ عَنِ الْوَطَنِ ، فَإِذَا أَحْرَمَتْ بِالْحَجِّ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا فِيهِ مَعَ الزَّوْجِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِهِ ، أَوْ غَيْرِ إِذْنِهِ ، فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ سفر المرأة صَارَتْ بِالْإِحْرَامِ فِي حُكْمِ النَّاشِزِ وَنَفَقَتُهَا سَاقِطَةٌ عَنْهُ سَوَاءٌ أَحَرَمَتْ بِتَطَوُّعٍ أَوْ وَاجِبٍ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْحَجِّ عَلَى التَّرَاخِي وَاسْتِمْتَاعَ الزَّوْجِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْفَوْرِ ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الزَّوْجُ مُحِلًّا يَقْدِرُ عَلَى الْإِصَابَةِ أَوْ كَانَ مُحْرِمًا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا ، لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِحُدُوثِ الِامْتِنَاعِ مِنْ جِهَتِهَا ، وَلَا اعْتِبَارَ بِمَنْعِ الزَّوْجِ مِنْهَا ؛ أَلَا تَرَاهُ لَوْ كَانَ مُسَافِرًا عَنْهَا وَتَرَكَهَا فِي مَنْزِلِهِ فَخَرَجَتْ مِنْهُ سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ بِالْغِيبَةِ عَلَى إِصَابَتِهَا ، وَإِنْ أَحْرَمَتْ بِإِذْنِهِ سفر المرأة بإذن زوجها لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهَا أَوْ لَا يَكُونَ ؛ فَإِنْ كَانَ مَعَهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ ؛ لِأَنَّ إِذْنَهُ لَهَا قَدْ أَخْرَجَهَا مِنْ مَعْصِيَتِهِ ، وَاجْتِمَاعِهَا مَعَهُ قَدْ أَخْرَجَهَا مِنْ مُبَاعَدَتِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا فَفِي سُقُوطِ نَفَقَتِهَا قَوْلَانِ : أَظْهَرُهُمَا : لَهَا النَّفَقَةُ وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّ إِحْرَامَهَا عَنْ إِذْنِهِ فَأَشْبَهَ إِذَا كَانَ مَعَهَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا نَفَقَةَ لَهَا ، ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ النُّشُوزِ . لِأَنَّهَا سَافَرَتْ عَنْهُ فَأَشْبَهَ إِذَا لَمْ يَأْذَنْ لَهَا ، وَهَكَذَا حُكْمُ الْعُمْرَةِ .
الْقَوْلُ فِي نَفَقَةِ الْمُعْتَكِفَةِ
فَصْلٌ [ الْقَوْلُ فِي نَفَقَةِ الْمُعْتَكِفَةِ ] وَأَمَّا اعْتِكَافُهَا الزوجة وحكم نفقتها فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ فِي مَنْزِلِهَا إِذَا قِيلَ بِجَوَازِ اعْتِكَافِهَا فِيهِ فَلَهَا نَفَقَتُهَا إِذَا كَانَ تَطَوُّعًا ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَبْعُدْ عَنْهُ وَيَقْدِرْ عَلَى إِخْرَاجِهَا مِنْهُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ اعْتِكَافُهَا فِي مَسْجِدٍ خَارِجَ مِنْ مَنْزِلِهَا . فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ عَنْ إِذْنِهِ أَوْ غَيْرِ إِذْنِهِ ؛ فَإِنْ كَانَ عَنْ غَيْرِ إِذْنِهِ سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا ، وَإِنْ كَانَ عَنْ إِذْنِهِ وَهُوَ مَعَهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا فَعَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ فِي الْحَجِّ : أَحَدُهُمَا : تَسْقُطُ نَفَقَتُهَا . وَالثَّانِي : لَا تَسْقُطُ لِمَا قَدَّمْنَا مِنَ التَّعْلِيلَيْنِ .
الْقَوْلُ فِي نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ الصَّائِمَةِ
[ الْقَوْلُ فِي نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ الصَّائِمَةِ ] فَصْلٌ : وَأَمَّا صَوْمُهَا فَيَنْقَسِمُ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ من الزوجة هل يسقط النفقة ؟ ؛ فَهَذَا مِنَ الْفُرُوضِ الْمَشْرُوعَةِ ، فَإِذَا تَعَيَّنَ عَلَيْهَا كَانَ مُسْتَثْنًى مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجِ فَكَانَتْ فِيهِ عَلَى حَقِّهَا مِنَ النَّفَقَةِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : قَضَاءُ رَمَضَانَ من الزوجة هل يسقط النفقة ؟ . فَزَمَانُهُ مَا بَيْنَ رَمَضَانِهَا الَّذِي أَفْطَرَتْهُ وَرَمَضَانِهَا الَّذِي تَسْتَقْبِلُهُ ، فَإِنْ كَانَ فِي آخِرِ زَمَانِهِ وَعِنْدَ تَعْيِينِ وَقْتِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُهَا مِنْهُ ، وَكَانَتْ عَلَى حَقِّهَا مِنَ النَّفَقَةِ لِصَوْمِهَا فِي رَمَضَانَ ، وَإِنْ كَانَ فِي أَوَّلِ زَمَانِهِ وَقَبْلَ تَعَيُّنِ وَقْتِهِ فَلَهُ مَنْعُهَا مِنْ تَقْدِيمِهِ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا عَلَى الْفَوْرِ وَهَذَا الصَّوْمَ عَلَى التَّرَاخِي ، فَإِنْ دَخَلَتْ فِيهِ فَفِي جَوَازِ إِجْبَارِهِ لَهَا عَلَى الْفِطْرِ وَجْهَانِ : مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي إِجْبَارِهَا عَلَى إِحْلَالِهَا مِنَ الْحَجِّ : أَحَدُهُمَا : لَهُ أَنْ يُجْبِرَهَا عَلَى الْفِطْرِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ أَفْطَرَتْ كَانَتْ عَلَى حَقِّهَا مِنَ النَّفَقَةِ ، وَإِنِ امْتَنَعَتْ سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا بَعْدَ الِامْتِنَاعِ كَالنَّاشِزِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَيْسَ لَهُ إِجْبَارُهَا عَلَى الْفِطْرِ تَغْلِيبًا لِحُرْمَةِ الْعِبَادَةِ ، فَعَلَى هَذَا فِي سُقُوطِ نَفَقَتِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : تَسْقُطُ بِهِ نَفَقَتُهَا كَالْحَجِّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا تَسْقُطُ بِهِ النَّفَقَةُ لِأَمْرَيْنِ مِمَّا فَرَّقَ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْحَجِّ . أَحَدُهُمَا : لِقُرْبِ زَمَانِهِ وَقُدْرَتِهِ عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فِي لَيْلِهِ . وَالثَّانِي : لِمَقَامِهَا فِي مَنْزِلِهِ فَخَالَفَ الْحَجَّ فِي خُرُوجِهَا مِنْهُ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : صَوْمُ التَّطَوُّعِ من الزوجة هل يسقط النفقة ؟ فَلَهُ مَنْعُهَا مِنْهُ لِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَا تَصُومُ الْمَرْأَةُ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ يَوْمًا مِنْ غَيْرِ رَمَضَانَ إِلَّا بِإِذْنِهِ لِأَنَّ صَوْمَهَا يَمْنَعُ مِمَّا اسْتَحَقَّهُ الزَّوْجُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فَصَارَتْ مَانِعَةً مِنْ وَاجِبٍ بِتَطَوُّعٍ ، فَإِنْ صَامَتْ وَلَمْ يَدْعُهَا الزَّوْجُ إِلَى الْخُرُوجِ مِنْهُ بِالِاسْتِمْتَاعِ هل لها نفقة ؟ فَهِيَ عَلَى حَقِّهَا مِنَ النَّفَقَةِ ، وَإِنْ دَعَاهَا إِلَى الْخُرُوجِ مِنْهُ فَإِنْ خَرَجَتْ مِنْهُ بِالِاسْتِمْتَاعِ كَانَتْ عَلَى حَقِّهَا مِنَ النَّفَقَةِ ، وَإِنِ امْتَنَعَتْ صَارَتْ نَاشِزًا وَسَقَطَتْ نَفَقَتُهَا إِنْ كَانَ فِي صَدْرِ النَّهَارِ وَكَانَتْ عَلَى حَقِّهَا مِنَ النَّفَقَةِ إِنْ كَانَ الِامْتِنَاعُ فِي آخِرِهِ ، لِقُرْبِهِ مِنْ زَمَانِ التَّمْكِينِ فَصَارَ مُلْحَقًا بِوَقْتِ الْأَكْلِ وَالطَّهَارَةِ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : صَوْمُ الْكَفَّارَةِ من الزوجة هل يسقط النفقة ؟ . فَهُوَ فِي الذِّمَّةِ غَيْرُ مُعَيَّنِ الْوَقْتِ ؛ فَلَهُ مَنْعُهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فِيهِ ، فَإِنْ دَخَلَتْ فِيهِ بَعْدَ مَنْعِهِ صَارَتْ نَاشِزًا وَسَقَطَتْ نَفَقَتُهَا ، وَإِنْ لَمْ يَمْنَعْهَا مِنْهُ حَتَّى دَخَلَتْ فِيهِ فَفِي إِجْبَارِهِ لَهَا عَلَى الْخُرُوجِ مِنْهُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَهُ إِجْبَارُهَا وَتَسْقُطُ نَفَقَتُهَا إِنْ أَقَامَتْ عَلَيْهِ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَيْسَ لَهُ إِجْبَارُهَا . فَعَلَى هَذَا يَنْظُرُ . فَإِنْ كَانَ التَّتَابُعُ فِيهِ مُسْتَحَقًّا بَطَلَتْ بِهِ نَفَقَتُهَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقَّ التَّتَابُعِ فَفِي سُقُوطِ نَفَقَتِهَا بِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : تَسْقُطُ فِي أَيَّامِ الصَّوْمِ كَالْمُتَتَابِعِ . وَالثَّانِي : لَا تَسْقُطُ لِقُوَّتِهِ ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مِنَ اخْتِلَافِ وَجْهَيْ أَصْحَابِنَا فِي نَفَقَةِ الْأَمَةِ عَلَى زَوْجِهَا إِذَا مُكِّنَ مِنْهَا لَيْلًا وَمُنِعَ مِنْهَا نَهَارًا : هَلْ تَجِبُ نَفَقَتُهَا أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ . وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ : صَوْمُ النَّذْرِ من الزوجة هل يسقط النفقة ؟ ، وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ فِي الذِّمَّةِ غَيْرَ مُعَيَّنِ الزَّمَنِ فَهُوَ كَصَوْمِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنَ الزَّمَانِ ، فَلَهَا فِيهِ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَتَقَدَّمَ عَقْدُ نَذْرِهَا عَلَى عَقْدِ نِكَاحِهَا فَلَا يَمْنَعُ صَوْمُهُ مِنْ وُجُوبِ نَفَقَتِهَا : لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِالتَّقْدِيمِ مُسْتَثْنًى مِنَ الْعَقْدِ كَالَّذِي اسْتَثْنَاهُ الشَّرْعُ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ نَذْرُهَا بَعْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مَعْقُودًا بِإِذْنِ الزَّوْجِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ ، فَإِنْ كَانَ مَعْقُودًا بِإِذْنِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُهَا وَكَانَتْ عَلَى حَقِّهَا مِنَ النَّفَقَةِ ؛ لِأَنَّ فِي إِذْنِهِ تَرْكًا لَحَقِّهِ ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَلَهُ مَنْعُهَا وَتَسْقُطُ بِهِ نَفَقَتُهَا لِتَقَدُّمِ حَقِّهِ عَلَى نَذْرِهَا .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَتَنْقَسِمُ سِتَّةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهُمَا : مَا كَانَ مِنَ الْفُرُوضِ الْمُوَقَّتَةِ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ من الزوجة هل تسقط النفقة ؟ ؛ فَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا مِنْهَا لِاسْتِثْنَاءِ الشَّرْعِ لَهَا ، وَمِنْهَا تَعْجِيلُهَا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَإِنْ جَازَ تَأْخِيرُهَا إِلَى آخِرِهِ ، بِخِلَافِ فَرَضِ الْحَجِّ الَّذِي يَجُوزُ لَهُ مَنْعُهَا مِنْ تَقْدِيمِهِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ تَعْجِيلَ الصَّلَاةِ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا فَضِيلَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْوَقْتِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ تَفْوِيتُ الْفَضِيلَةِ عَلَيْهَا ، وَتَعْجِيلُ الْحَجِّ احْتِيَاطٌ لَا يَخْتَصُّ فَضِيلَةَ تَفْوِيتٍ فَافْتَرَقَا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا سَنَّهُ الشَّرْعُ مِنْ تَوَابِعِ الْفُرُوضِ الْمُؤَقَّتَةِ هل للزوج حق منع الزوجة منه ، فَإِنْ دَخَلَتْ فِيهَا فَعَلَيْهِ تَمْكِينُهَا مِنْهَا عَلَى الْعَادَةِ الْمَعْرُوفَةِ مِنْ غَيْرِ تَقْصِيرٍ وَلَا إِطَالَةٍ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : قَضَاءُ الْفُرُوضِ الْمُؤَقَّتَةِ هل للزوج حق منع الزوجة منه . فَإِنْ دَخَلَتْ فِيهَا فَأَحْرَمَتْ بِهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ قَطْعُهَا عَلَيْهَا . لِاسْتِحْقَاقِهَا بِالشَّرْعِ وَقُرْبِ زَمَانِهَا بِالْخُرُوجِ مِنْهَا ، وَإِنْ لَمْ تُحْرِمْ بِهَا وَتَدْخُلْ فِيهَا فَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا مِنْهَا عَلَى الدَّوَامِ ؛ لِاسْتِحْقَاقِ الْقَضَاءِ لَهَا مَعَ الْإِمْكَانِ . فَإِنْ أَرَادَتِ الْإِحْرَامَ بِالْقَضَاءِ . وَأَرَادَ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ :
أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ : يُقَدَّمُ حَقُّهُ عَلَى حَقِّ الْقَضَاءِ ؛ لِثُبُوتِهِ فِي الذِّمَّةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدِي : أَنَّهُ يُقَدَّمُ حَقُّ الْقَضَاءِ عَلَى حَقِّهِ ؛ لِأَنَّ فَرْضَ الْقَضَاءِ مُسْتَحَقٌّ فِي أَوَّلِ زَمَانِ الْمُكْنَةِ فَصَارَتْ كَالْمُؤَقَّتَةِ شَرْعًا . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : مَا كَانَ مِنَ السُّنَنِ الْمَشْرُوعَةِ فِي الْجَمَاعَةِ كَالْعِيدَيْنِ هل للزوج حق منع الزوجة منه ، وَكَذَا الِاسْتِسْقَاءُ وَالْخَسُوفَيْنِ ؛ فَلَهُ مَنْعُهَا مِنَ الْخُرُوجِ لِلْجَمَاعَةِ ، وَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا مِنْ فِعْلِهَا فِي مَنْزِلِهَا لِمُسَاوَاتِهَا لَهُ فِي الْأَمْرِ بِهَا وَالنَّدْبِ إِلَيْهَا وَإِنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِوَقْتٍ يَفُوتُ بِالتَّأْخِيرِ فَأَشْبَهَتِ الْفُرُوضَ وَإِنْ لَمْ تُفْرَضْ . وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ : أَنْ تَكُونَ نَذْرًا فَتَكُونَ كَالصَّوْمِ الْمَنْذُورِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي التَّقْسِيمِ . وَالْقِسْمُ السَّادِسُ : أَنْ تَكُونَ تَطَوُّعًا مُبْتَدَأً ؛ فَلَهُ مَنْعُهَا مِنْهُ إِذَا دَعَاهَا إِلَى الِاسْتِمْتَاعِ وَلَهُ قَطْعُهَا بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهَا كَمَا يَقْطَعُ عَلَيْهَا صَوْمَ التَّطَوُّعِ لِوُجُوبِ حَقِّهِ فَلَمْ يَجُزْ إِسْقَاطُهُ بِتَطَوُّعِهَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
الْقَوْلُ فِي النَّفَقَةِ إِذَا هَرَبَتِ الزَّوْجَةُ أَوِ امْتَنَعَتْ
[ الْقَوْلُ فِي النَّفَقَةِ إِذَا هَرَبَتِ الزَّوْجَةُ أَوِ امْتَنَعَتْ ] مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ هَرَبَتْ أَوِ امْتَنَعَتْ أَوْ كَانَتْ أَمَةً فَمَنَعَهَا سَيِّدُهَا حكم نقتها فَلَا نَفَقَةَ لَهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا هَرَبُهَا أَوْ نُشُوزُهَا عَلَيْهِ مَعَ الْمَقَامِ مَعَهُ فَهُمَا سَوَاءٌ فِي سُقُوطِ نَفَقَتِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ بِالْهَرَبِ أَعْظَمَ مَأْثَمًا وَعِصْيَانًا . وَقَالَ الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ : لَا تَسْقُطُ عَنْهُ بِالنُّشُوزِ ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِمِلْكِ الِاسْتِمْتَاعِ وَلَا يَزُولُ مِلْكُهُ عَنِ الِاسْتِمْتَاعِ بِالنُّشُوزِ فَلَمْ تَسْقُطْ بِهِ النَّفَقَةُ ، وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ النَّفَقَةِ بِالتَّمْكِينِ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ كَمَا تَجِبُ أُجْرَةَ الدَّارِ بِالتَّمْكِينِ مِنَ السُّكْنَى ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمُؤَجِّرَ إِذَا مَنَعَ الْمُسْتَأْجِرَ مِنَ السُّكْنَى سَقَطَتْ عَنْهُ الْأُجْرَةُ . كَذَلِكَ الزَّوْجَةُ إِذَا امْتَنَعَتْ مِنَ التَّمْكِينِ سَقَطَتِ النَّفَقَةُ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْأَمَةُ إِذَا زَوَّجَهَا سَيِّدُهَا فَهِيَ مُخَالِفَةٌ لِلْحُرَّةِ فِي التَّمْكِينِ ؛ لِأَنَّ الْحُرَّةَ يَلْزَمُهَا تَمْكِينُ الزَّوْجِ مِنْ نَفْسِهَا لَيْلًا وَنَهَارًا ، وَالْأَمَةَ يَلْزَمُ السَّيِّدَ أَنْ يُمَكِّنَ زَوْجَهَا مِنْهَا لَيْلًا وَلَا يَلْزَمَهُ تَمْكِينُهُ مِنْهَا نَهَارًا . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ الْأَمَةَ مَمْلُوكَةُ الِاسْتِخْدَامِ فِي حَقِّ السَّيِّدِ ، وَمَمْلُوكَةُ الِاسْتِمْتَاعِ فِي حَقِّ الزَّوْجِ فَلَمْ يَسْقُطْ أَحَدُ الْحَقَّيْنِ بِالْآخَرِ مَعَ تَغَايُرِهِمَا وَتَمَيُّزِ زَمَانِهِمَا ، وَالِاسْتِخْدَامُ أَخَصُّ بِالنَّهَارِ مِنَ اللَّيْلِ فَاخْتَصَّ بِهِ السَّيِّدُ فَلَمْ يَلْزَمْهُ تَسْلِيمُهَا بِالنَّهَارِ ، وَاللَّيْلُ أَخَصُّ
بِالِاسْتِمْتَاعِ مِنَ النَّهَارِ فَاخْتَصَّ بِهِ الزَّوْجُ وَلَزِمَ السَّيِّدَ تَسْلِيمُهَا فِيهِ ، وَالْحُرَّةُ بِخِلَافِهَا : لِأَنَّهُ لَمْ يُشَارِكِ الزَّوْجَ مُسْتَحِقٌّ لِلْخِدْمَةِ فَلِذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْهَا تَسْلِيمُ نَفْسِهَا لَيْلًا وَنَهَارًا . فَإِنْ قِيلَ : فَهِيَ مَالِكَةٌ لِخِدْمَةِ نَفْسِهَا فَهَلَّا اسْتَحَقَّتْ مَنْعَ الزَّوْجِ مِنْ نَفْسِهَا فِي زَمَانِ الْخِدْمَةِ وَهُوَ النَّهَارُ كَالْأَمَةِ ؟ قِيلَ : لِأَنَّ الْخِدْمَةَ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ عَلَيْهَا ، فَصَارَ فَى تَزْوِيجِهَا تَفْوِيتٌ لِحَقِّهَا مِنَ الْخِدْمَةِ ، فَخَالَفَتِ الْأَمَةَ الَّتِي قَدْ مَلَكَ مِنْهَا الْخِدْمَةَ ، فَإِنْ قِيلَ : فَإِنْ كَانَتِ الْحُرَّةُ قَدْ أَجَّرَتْ نَفْسَهَا لِلْخِدْمَةِ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ أَيَكُونُ نَهَارُ الْخِدْمَةِ خَارِجًا مِنَ اسْتِمْتَاعِ الزَّوْجِ وَيَخْتَصُّ اسْتِمْتَاعُهُ بِاللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ _ قِيلَ : نَعَمْ ، وَلَوْ رَامَتِ الزَّوْجَةُ أَنْ تُؤَجِّرَ نَفْسَهَا بَعْدَ التَّزْوِيجِ لَمْ يَجُزْ لَهَا : لِأَنَّهَا قَبْلَ التَّزْوِيجِ مَمْلُوكَةُ الِاسْتِخْدَامِ وَهِيَ بَعْدَ التَّزْوِيجِ مُفَوِّتَةٌ لِحَقِّهَا مِنْهُ ، وَإِذَا تَقَدَّمَتِ الْإِجَارَةُ وَكَانَ الزَّوْجُ عَالِمًا بِهَا فَلَا خِيَارَ لَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا فَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ قِيَامِهِ عَلَى النِّكَاحِ وَبَيْنَ فَسْخِهِ : لِأَنَّ تَفْوِيتَ الِاسْتِمْتَاعِ فِي النَّهَارِ عَيْبٌ فَاسْتَحَقَّ بِهِ الْفَسْخَ ، فَلَوْ مُكِّنَ الْمُسْتَأْجِرُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فِي النَّهَارِ لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُ مِنَ الْخِيَارِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ مُتَطَوِّعٌ بِالتَّمْكِينِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِتَطَوُّعِهِ خِيَارٌ مُسْتَحَقٌّ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّمْكِينَ مِنَ الْأَمَةِ مُسْتَحَقٌّ فِي اللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ بِخِلَافِ الْحُرَّةِ مَا لَمْ تَتَقَدَّمْ إِجَارَتُهَا فَلِلسَّيِّدِ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنْهَا لَيْلًا وَنَهَارًا فَيَلْزَمُهُ نَفَقَتُهَا لِكَمَالِ اسْتِمْتَاعِهِ بِهَا . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنْهَا لَيْلًا فِي زَمَانِ الِاسْتِمْتَاعِ وَيَمْنَعُهُ مِنْهَا نَهَارًا فِي زَمَانِ الِاسْتِخْدَامِ . فَلَا خِيَارَ لِلزَّوْجِ فِي فَسْخِ نِكَاحِهَا إِذَا كَانَ عَالِمًا بِرِقِّهَا : لِأَنَّهُ حُكْمٌ مُسْتَقِرٌّ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ ، وَفِي نَفَقَتِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا : أَنَّهُ لَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ لِقُصُورِ اسْتِمْتَاعِهِ عَنْ حَالِ الْكَمَالِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي : أَنَّ عَلَيْهِ مِنْ نَفَقَتِهَا بِقِسْطِهِ مِنْ زَمَانِ الِاسْتِمْتَاعِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عَلَى الزَّوْجِ عَشَاؤُهَا وَعَلَى السَّيِّدِ غَدَاؤُهَا لِأَنَّ الْعَشَاءَ يُرَادُ لِزَمَانِ اللَّيْلِ وَالْغَدَاءَ يُرَادُ لِزَمَانِ النَّهَارِ ، وَعَلَيْهِ مِنَ الْكِسْوَةِ مَا تَتَدَثَّرُ بِهِ لَيْلًا وَعَلَى السَّيِّدِ مِنْهُ مَا تَلْبَسُهُ نَهَارًا ، وَإِنَّمَا تُقَسَّطُ النَّفَقَةُ عَلَيْهِ وَلَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ مَعَ وُجُودِ الِاسْتِمْتَاعِ لِئَلَّا يَخْلُوَ اسْتِمْتَاعٌ بِزَوْجَةٍ مِنَ اسْتِحْقَاقِ نَفَقَةٍ . كَالْحُرَّةِ إِذَا مَكَّنَتْ فِي يَوْمٍ وَنَشَزَتْ فِي يَوْمٍ .
الْقَوْلُ فِي اخْتِلَافِ الزَّوْجَيْنِ فِي قَبْضِ النَّفَقَةِ
[ الْقَوْلُ فِي اخْتِلَافِ الزَّوْجَيْنِ فِي قَبْضِ النَّفَقَةِ ] مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يُبْرِئُهُ مِمَّا وَجَبَ لَهَا مِنْ نَفَقَتِهَا وَإِنْ كَانَ حَاضِرًا مَعَهَا إِلَّا إِقْرَارُهَا أَوْ بَيِّنَةٌ تَقُومُ عَلَيْهَا " .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي قَبْضِ مَا يُسْتَحَقُّ بِالزَّوْجِيَّةِ مِنْ مَهْرٍ وَنَفَقَةٍ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ ؛ فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الزَّوْجَةِ الْمُنْكِرَةِ إِجْمَاعًا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الدُّخُولِ ؛ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجَةِ أَيْضًا مَعَ يَمِينِهَا كَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا ، وَقَالَ مَالِكٌ : الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ : لِأَنَّ ظَاهِرَ الْعُرْفِ فِي أَنَّ الْأَغْلَبَ مِنْ حَالِهَا أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَدْفَعْ صَدَاقَهَا لَمْ تُسَلِّمْ نَفْسَهَا وَلَوْ لَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهَا لَمْ تُقِمْ مَعَهُ فَشَهِدَ بِصِحَّةِ قَوْلِ الزَّوْجِ دُونَهَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ كَالْمُتَنَازِعَيْنِ دَارًا هِيَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا يَكُونُ الْقَوْلُ فِيهَا قَوْلُ صَاحِبِ الْيَدِ ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْعُرْفِ يَشْهَدُ لَهُ بِالْمِلْكِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَالزَّوْجُ مُدَّعٍ فَلَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُ : وَلِأَنَّ اخْتِلَافَ الزَّوْجَيْنِ فِي قَبْضِ حُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ يُوجِبُ قَبُولَ قَوْلِ الزَّوْجَةِ الْمُنْكِرَةِ كَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوَى إِنْكَارُ الْبَائِعِ لِقَبْضِ الثَّمَنِ فِيمَا قَبْلَ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ وَبَعْدَهُ وَإِنْ كَانَ الْعُرْفُ فِي التَّسْلِيمِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ قَبْضِ الثَّمَنِ . كَذَلِكَ الزَّوْجَةُ فِي إِنْكَارِهَا قَبَضَ الصَّدَاقِ وَالنَّفَقَةِ يَجِبُ أَنْ يَسْتَوِيَا فِيمَا قَبِلَ التَّمْكِينِ وَبَعْدَهُ ، وَبِهَذَا يَقَعُ الِانْفِصَالُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ إِذَا سَلَّمَ لَهُ الْعُرْفُ فِيهِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ فِيهِ قَوْلُ الزَّوْجَةِ فِي الْحَالَيْنِ مَعَ يَمِينِهَا فَلَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ حُرَّةً أَوْ أَمَةً ، فَإِنْ كَانَتْ حُرَّةً فَالرُّجُوعُ فِيهِ إِلَى قَوْلِهَا مَعَ يَمِينِهَا مَا لَمْ تَقُمْ عَلَيْهَا بَيِّنَةٌ بِقَبْضِهِ أَوْ عَلَى إِقْرَارِهَا بِالْقَبْضِ ، وَالْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ مَعًا ، وَسَوَاءٌ فِيهِ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ وُجُوبُ النَّفَقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ إِذَا سَلَّمَتْ نَفْسَهَا فَامْتَنَعَ مِنَ الدُّخُولِ عَلَيْهَا تَجِبُ لَهَا النَّفَقَةُ مَعَ عَدَمِ الدُّخُولِ ، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً نُظِرَ ؛ فَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي قَبْضِ الصَّدَاقِ رُجِعَ فِيهِ إِلَى قَوْلِ سَيِّدِهَا دُونَهَا ؛ لِأَنَّ الصَّدَاقَ مَلِكٌ لَهُ لَا لَهَا . فَإِنْ أَنْكَرَ قَبْضَهُ حَلَفَ وَلَمْ تَحْلِفِ الْأَمَةُ ، وَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي قَبْضِ النَّفَقَةِ رُجِعَ فِيهِ إِلَى قَوْلِهَا دُونَ سَيِّدِهَا ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ حَقٌّ لَهَا دُونَ سَيِّدِهَا فَكَانَتْ هِيَ الْحَالِفَةَ دُونَهُ . فَصْلٌ : فَإِنِ ادَّعَى الْإِعْسَارَ وَدَفَعَ نَفَقَةَ مُعْسِرٍ وَادَّعَتِ الزَّوْجَةُ يَسَارَهُ وَطَالِبَتْهُ بِنَفَقَةِ مُوسِرٍ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ يَسَارُهُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي النَّاسِ الْعَدَمُ حَتَّى يُوجَدَ الْيَسَارُ ؛ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ حَتَّى يُعْلَمَ الِاسْتِحْقَاقُ ، فَلِهَذَيْنِ قُبِلَ قَوْلُهُ فِي الْإِعْسَارِ وَأُحْلِفَ عَلَيْهِ لِجَوَازِ أَنْ يَطْرَأَ عَلَيْهِ الْيَسَارُ .
الْقَوْلُ فِي النَّفَقَةِ إِذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ
[ الْقَوْلُ فِي النَّفَقَةِ إِذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ ] مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ أَسْلَمَتْ وَثَنِيَّةٌ وَأَسْلَمَ زَوْجُهَا فِي الْعِدَّةِ
أَوْ بَعْدَهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ ؛ لِأَنَّهَا مَحْبُوسَةٌ عَلَيْهِ مَتَى شَاءَ أَسْلَمَ وَكَانَتِ امْرَأَتَهُ ، وَلَوْ كَانَ هُوَ الْمُسْلِمَ لَمْ يَكُنْ لَهَا نَفَقَةٌ فِي أَيَّامِ كُفْرِهَا وَإِنْ دَفَعَهَا إِلَيْهَا فَلَمْ تَسْلَمْ حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَلَا حَقَّ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ تَطَوَّعَ بِهَا ، وَقَالَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ الْقَدِيمِ : فَإِنْ أَسْلَمَ ثُمَّ أَسْلَمَتْ فَهُمَا عَلَى النِّكَاحَ ، وَلَهَا النَّفَقَةُ فِي حَالِ الْوَقْفِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَنْفَسِخْ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : الْأَوَّلُ أَوْلَى بِقَوْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ تُمْنَعُ الْمُسْلِمَةُ النَّفَقَةَ بِامْتِنَاعِهَا فَكَيْفَ لَا تُمْنَعُ الْوَثَنِيَّةُ بِامْتِنَاعِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي زَوْجَيْنِ وَثَنِيَّيْنِ أَوْ مَجُوسِيَّيْنِ أَسْلَمَ أَحَدَهُمَا ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُسْلِمِ مِنْهُمَا مِنْ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجَ أَوِ الزَّوْجَةَ ؛ فَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُ هُوَ الزَّوْجَةَ لَمْ يَخْلُ إِسْلَامُهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ ؛ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ يَبْطُلُ نِكَاحُهَا وَسَقَطَ مَهْرُهَا ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ جَاءَ مِنْ قِبَلِهَا ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَالنِّكَاحُ مَوْقُوفٌ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، وَالْمَهْرُ قَدِ اسْتَكْمَلَتْهُ بِالدُّخُولِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْإِسْلَامِ وَالنَّفَقَةُ وَاجِبَةٌ لَهَا فِي زَمَانِ الْعِدَّةِ سَوَاءٌ اجْتَمَعَا عَلَى النِّكَاحِ بِإِسْلَامِ الزَّوْجِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَوِ افْتَرَقَا فِيهِ بِمُقَامِ الزَّوْجِ عَلَى كُفْرِهِ إِلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ : لِأَنَّ الْفَسْخَ وَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِهَا فَقَدْ كَانَ مُمْكِنًا مِنْ تَلَافِيهِ بِإِسْلَامِهِ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتْهَا فَصَارَتِ الْفُرْقَةُ مَنْسُوبَةً إِلَى اخْتِيَارِهِ . وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُ مِنْهُمَا هُوَ الزَّوْجَ لَمْ يَخْلُ إِسْلَامُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ بَطَلَ نِكَاحُهَا وَكَانَ عَلَيْهِ نِصْفُ مَهْرِهَا ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ كَانَ النِّكَاحُ مَوْقُوفًا عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ . فَإِنْ لَمْ تُسْلِمْ حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بَطَلَ نِكَاحُهَا وَلَهَا الْمَهْرُ كَامِلًا ؛ لِاسْتِقْرَارِهِ بِالدُّخُولِ وَلَا نَفَقَةَ لَهَا ؛ لِأَنَّهَا بِمُقَامِهَا عَلَى الشِّرْكِ الَّذِي يُوجِبُ تَحْرِيمَهَا عَلَيْهِ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ النَّاشِزِ فَكَانَتْ بِسُقُوطِ النَّفَقَةِ أَحَقَّ ، وَلَئِنْ كَانَ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ وَوَاجِبٌ عَلَيْهِ ، وَلَهَا تَلَافِي التَّحْرِيمِ بِالْإِسْلَامِ الَّذِي هِيَ مَأْمُورَةٌ بِهِ أَيْضًا ، وَإِنْ أَسْلَمَتْ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ كَانَا عَلَى النِّكَاحِ ، وَفِي اسْتِحْقَاقِهَا النَّفَقَةَ فِي زَمَانِ وَقْفِهَا فِي الشِّرْكِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ : لَهَا النَّفَقَةُ : لِأَنَّ إِسْلَامَ الزَّوْجِ قَدْ شَعَّثَ الْعَقْدَ وَأَحْدَثَ فِيهِ خَلَلًا ، فَإِذَا اسْتَدْرَكَتْهُ الزَّوْجَةُ بِإِسْلَامِهَا زَالَ حُكْمُهُ فَاسْتَحَقَّتِ النَّفَقَةَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ : لَا نَفَقَةَ لَهَا ؛ لِأَنَّ مَقَامَهَا عَلَى الْكُفْرِ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ النُّشُوزِ الَّذِي لَا يُوجِبُ الْإِقْلَاعُ مِنْهُ اسْتِحْقَاقَ النَّفَقَةِ فِيهِ فَكَانَ الْإِسْلَامُ بَعْدَ الْكُفْرِ أَوْلَى أَنْ لَا تَسْتَحِقَّ النَّفَقَةَ فِيهِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ الزَّوْجُ قَدْ عَجَّلَ لَهَا نَفَقَةَ شَهْرٍ لَمْ يَسْتَرْجِعْهَا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لِاسْتِحْقَاقِهَا فِيهِ . فَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي : إِنَّهُ لَا نَفَقَةَ لَهَا يُنْظَرُ فِي زَمَانِ التَّعْجِيلِ ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ
إِسْلَامِ الزَّوْجِ اسْتَرْجَعَهُ : لِأَنَّهُ كَانَ تَعْجِيلًا عَنْ ظَاهِرِ اسْتِحْقَاقٍ وَإِنْ عَجَّلَهُ بَعْدَ إِسْلَامِهِ لَمْ يَسْتَرْجِعْهُ : لِأَنَّهُ تَطَوُّعٌ .
فَصْلٌ : وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَرْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ . فَإِنْ كَانَ الْمُرْتَدُّ مِنْهُمَا هُوَ الزَّوْجَ وَكَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ ، فَقَدْ بَانَتْ مِنْهُ وَلَزِمَهُ نِصْفُ الْمَهْرِ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ فَعَلَيْهِ جَمِيعُ الْمَهْرِ وَالنِّكَاحُ مَوْقُوفٌ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، وَلَهَا النَّفَقَةُ فِي زَمَانِ عَدَّتِهَا : لِأَنَّهَا عَلَى دِينِهَا الْمَأْمُورَةِ بِهِ ، وَالتَّحْرِيمُ مِنْ قِبَلَ الزَّوْجِ وَيُقْدَرُ عَلَى تَلَافِيهِ وَاسْتِدْرَاكِهِ بِالْإِسْلَامِ ، وَإِنِ ارْتَدَّتِ الزَّوْجَةُ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا مَهْرَ لَهَا ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَلَهَا جَمِيعُ الْمَهْرِ وَلَا نَفَقَةَ لَهَا فِي زَمَانِ الرِّدَّةِ قَوْلًا وَاحِدًا : لِأَنَّ التَّحْرِيمَ مِنْ قِبَلِهَا بِمَا لَا يَقْدِرُ الزَّوْجُ عَلَى تَلَافِيهِ ، فَكَانَ أَسْوَأَ حَالًا مِنَ النُّشُوزِ فَإِنْ لَمْ تُسْلِمْ حَتَّى مَضَتِ الْعِدَّةُ بَطَلَ النِّكَاحُ ، وَإِنْ أَسْلَمَتْ قَبْلَ انْقِضَائِهَا كَانَا عَلَى النِّكَاحِ وَاسْتَحَقَّتْ نَفَقَةَ الْمُسْتَقْبَلِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ . فَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ غَائِبًا عَنْهَا وَقْتَ إِسْلَامِهَا وَجَبَتِ النَّفَقَةُ عَلَيْهِ بِإِسْلَامِهَا وَلَوْ كَانَتْ نَاشِزًا وَغَابَ الزَّوْجُ عَنْهَا ثُمَّ أَطَاعَتْ بِالْإِقْلَاعِ عَنِ النُّشُوزِ لَمْ تَسْتَحِقَّ النَّفَقَةَ إِلَّا بَعْدَ إِعْلَامِ الزَّوْجِ لِتَسْلِيمِهِ وَقُدُومِهِ أَوْ قُدُومِ وَكِيلِهِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُرْتَدَّةِ وَالنَّاشِزِ أَنَّ نَفَقَةَ الْمُرْتَدَّةِ سَقَطَتْ بِالرِّدَّةِ ، فَإِذَا زَالَتِ الرِّدَّةُ عَادَتِ النَّفَقَةُ ، وَنَفَقَةَ النَّاشِزِ سَقَطَتْ بِالِامْتِنَاعِ فَلَمْ تَعُدْ إِلَّا بِالتَّسْلِيمِ .
الْقَوْلُ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ لِزَوْجَةِ الْعَبْدِ
[ الْقَوْلُ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ لِزَوْجَةِ الْعَبْدِ ] مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَعَلَى الْعَبْدِ نَفَقَةُ امْرَأَتِهِ الْحُرَّةِ وَالْكِتَابِيَّةِ وَالْأَمَةِ إِذَا بُوِّئَتْ مَعَهُ بَيْتًا وَإِذَا احْتَاجَ سَيَّدُهَا إِلَى خِدْمَتِهَا فَذَلِكَ لَهُ وَلَا نَفَقَةَ لَهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ عَلَى الْعَبْدِ نَفَقَةُ زَوْجَتِهِ وَإِنْ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ نَفَقَةُ أَقَارِبِهِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ مُعَاوَضَةٌ ، وَالْعَبْدُ مِنْ أَهْلِ الْمُعَاوَضَاتِ ، وَنَفَقَةَ الْأَقَارِبِ مُوَاسَاةٌ وَلَيْسَ الْعَبْدُ مِنْ أَهْلِ الْمُوَاسَاةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ تَجِبُ فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ فَوَجَبَتْ عَلَى الْعَبْدِ مَعَ إِعْسَارِهِ ، وَنَفَقَةَ الْأَقَارِبِ تَجِبُ فِي الْيَسَارِ دُونَ الْإِعْسَارِ فَسَقَطَتْ عَنِ الْعَبْدِ لِإِعْسَارِهِ . فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ نَظَرَ فِي زَوْجَتِهِ فَإِنْ كَانَتْ حُرَّةً أَوْ مُكَاتَبَةً لَزِمَهَا تَمْكِينُهُ مِنْ نَفْسِهَا لَيْلًا وَنَهَارًا ، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً نَظَرَ فَإِنْ كَانَ بَوَّأَهَا مَعَهُ السَّيِّدُ مَنْزِلًا لَيْلًا وَنَهَارًا وَجَبَتْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا ، وَإِنْ مَنَعَهُ مِنْهَا لَيْلًا وَنَهَارًا سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا وَكَانَ السَّيِّدُ مُتَعَدِّيًا بِمَنْعِهَا مِنْهُ فِي اللَّيْلِ
دُونَ النَّهَارِ ، وَإِنْ بَوَّأَهَا مَعَهُ لَيْلًا وَاسْتَخْدَمَهَا نَهَارًا لَمْ يَتَعَدَّ ، وَفِي نَفَقَتِهَا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ الْمَرْوَزِيِّ وَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ جَمِيعُهُ . وَالثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ النَّفَقَةِ بِقِسْطِهَا مِنْ زَمَانِ اللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ وَهُوَ مَا قَابَلَ الْعَشَاءَ دُونَ الْغَدَاءِ . فَإِذَا تَقَرَّرَ اسْتِحْقَاقُهَا عَلَى مَا وَصَفْنَاهُ كَانَتْ مُسْتَحَقَّةً فِي كَسْبِهِ وَلَا تَعَلُّقَ لَهَا بِذِمَّتِهِ وَلَا بِرَقَبَتِهِ مَعَ وُجُودِ كَسْبِهِ : لِأَنَّ إِذْنَ السَّيِّدِ لَهُ بِالنِّكَاحِ إِذْنٌ بِاكْتِسَابِ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ مُوجِبَاتِ إِذْنِهِ ، وَيُنْظَرُ فِي كَسْبِهِ ؛ فَإِنْ كَانَ وَفْقَ النَّفَقَةِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ صُرِفَ جَمِيعُهُ فِي نَفَقَتِهِ وَنَفَقَةَ زَوْجَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ زَائِدًا عَلَى نَفَقَتِهِمَا أَخَذَ السَّيِّدُ فَاضِلَهُ وَإِنْ نَقَصَ عَنِ النَّفَقَةِ نُظِرَ فِيهِ ؛ فَإِنْ كَانَ وَفْقَ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ دُونَ الزَّوْجِ صَرَفَهُ الْعَبْدُ فِي نَفَقَةِ زَوْجَتِهِ وَكَانَ عَلَى السَّيِّدِ نَفَقَةِ الْعَبْدِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَإِنْ قَصَرَ كَسْبُهُ عَنْ نَفَقَةِ زَوْجَتِهِ الْتَزَمَ السَّيِّدُ النَّفَقَةَ لِلْعَبْدِ وَكُمِّلَ الْبَاقِي مِنْ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ كَمَا لَوْ كَانَ الْعَبْدُ غَيْرَ مُكْتَسِبٍ ، وَلَا يَخْلُو حَالُهُ إِذَا كَانَ غَيْرَ مُكْتَسِبٍ مِنْ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ لِعَجْزِهِ عَنِ الِاكْتِسَابِ مَعَ تَخْلِيَةِ السَّبِيلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَسْبِ ، فَعَلَى السَّيِّدِ نَفَقَةُ الْعَبْدِ ، وَفِي نَفَقَةِ زَوْجَتِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ : أَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ فَيُبَاعُ مِنْهُ بِقَدْرِهَا إِلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ السَّيِّدُ بِالْتِزَامِهَا ، لِأَنَّ وَطْأَهُ كَالْجِنَايَةِ مِنْهُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ : أَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِذِمَّةِ الْعَبْدِ لِاسْتِحْقَاقِهَا عَنْ مُعَاوَضَةٍ . فَيُقَالُ لِزَوْجَتِهِ : قَدْ أَعْسَرَ زَوْجُكِ بِنَفَقَتِكِ فَأَنْتِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْمُقَامِ مَعَهُ وَالصَّبْرِ بِالنَّفَقَةِ إِلَى حِينِ اكْتِسَابِهِ فِي رِقِّهِ أَوْ بَعْدَ عِتْقِهِ وَبَيْنَ فَسْخِ نِكَاحِهِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ عَجْزُهُ عَنِ النَّفَقَةِ لِاسْتِخْدَامِ السَّيِّدِ لَهُ أَوْ لِسَفَرِهِ بِهِ فَيَكُونُ السَّيِّدُ ضَامِنًا لِنَفَقَةِ زَوْجَتِهِ ، وَفِي قَدْرِ مَا يَضْمَنُهُ لَهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَضْمَنُ لَهَا جَمِيعَ نَفَقَتِهَا وَإِنْ زَادَتْ عَلَى كَسْبِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يَحْدُثَ لَهُ مِنْ زِيَادَةِ الْكَسْبِ مَا يَفِي بِنَفَقَتِهَا ، وَإِنْ زَادَتْ عَلَى كَسْبِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَضْمَنُ لَهَا أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ نَفَقَتِهَا أَوْ مِنْ كَسْبِ زَوْجِهَا فَإِنْ كَانَتْ نَفَقَتُهَا أَقَلَّ ضَمِنَ لَهَا جَمِيعَهَا ، وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ ضَمِنَ لَهَا قَدْرَ كَسْبِهِ ، وَكَانَ فِي الْبَاقِي مِنْهَا قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى .
أَحَدُهُمَا : فِي رَقَبَتِهِ . وَالثَّانِي : فِي ذِمَّتِهِ وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ الشَّافِعِيِّ فِي الْعَبْدِ الْجَانِي إِذَا مَنَعَ السَّيِّدُ مِنْ بِيعِهِ وَكَانَ أَرْشُ جِنَايَتِهِ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ فَفِي ضَمَانِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَضْمَنُ جَمِيعَ أَرْشِهَا . وَالثَّانِي : يَضْمَنُ أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ أَرْشَ جِنَايَتِهِ .
الْقَوْلُ فِي قَدْرِ نَفَقَةِ زَوْجَةِ الْعَبْدِ
[ الْقَوْلُ فِي قَدْرِ نَفَقَةِ زَوْجَةِ الْعَبْدِ ] مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَنَفَقَتُهُ نَفَقَةُ الْمُقْتِرِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَبْدٍ إِلَّا وَهُوَ فَقِيرٌ ؛ لِأَنَّ مَا بِيَدِهِ وَإِنِ اتَّسَعَ لِسَيِّدٍ ، وَمَنْ لَمْ تَكْمُلْ فِيهِ الْحُرِّيَّةُ فَكَالْمَمْلُوكِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : إِذَا كَانَ تِسْعَةُ أَعْشَارِهِ حُرًّا فَهُوَ يَجْعَلُ لَهُ تِسْعَةَ أَعْشَارِ مَا يَمْلِكُ وَيَرِثُهُ مَوْلَاهُ الَّذِي أَعْتَقَ تِسْعَةَ أَعْشَارِهِ فَكَيْفَ لَا يُنْفِقُ عَلَى قَدْرِ سَعَتِهِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : قَدْ جَعَلَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ مَنْ لَمْ تَكْمُلْ فِيهِ الْحَرِيَّةُ كَالْمَمْلُوكِ وَقَالَ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ : إِذَا كَانَ نِصْفُهُ حُرًّا وَنِصْفُهُ عَبْدًا كَفَّرَ بِالْإِطْعَامِ فَجَعَلَهُ كَالْحُرِّ بِبَعْضِ الْحُرِّيَّةِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ بِبَعْضِ الْحُرِّيَّةِ هَاهُنَا كَالْحُرِّ بَلْ جَعَلَهُ كَالْعَبْدِ ، فَالْقِيَاسُ عَلَى أَصْلِهِ مَا قُلْنَا مِنْ أَنَّ الْحُرَّ مِنْهُ يُنْفِقُ قَدْرَ سَعَتِهِ وَالْعَبْدُ مِنْهُ بِقَدْرِهِ وَكَذَا قَالَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ : إِنَّ عَلَى الْحُرِّ مِنْهُ بِقَدْرِهِ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ وَعَلَى سَيِّدِ الْعَبْدِ بِقَدْرِ الرِّقِّ مِنْهُ ، فَالْقِيَاسُ مَا قُلْنَا فَتَفَهَّمُوهُ تَجِدُوهُ كَذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا نَفَقَةُ الْعَبْدِ عَلَى زَوْجَتِهِ قدرها فَنَفَقَةُ الْمُعْسِرِينَ مُدٌّ وَاحِدٌ مِنَ الطَّعَامِ وَسَوَاءٌ كَانَتْ حُرَّةً أَوْ أَمَةً وَسَوَاءٌ كَانَتْ مُوسِرَةً أَوْ مُعْسِرَةً ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ تَخْتَلِفُ بِيَسَارِ الزَّوْجِ وَإِعْسَارِهِ دُونَ الزَّوْجَةِ ، وَالْعَبْدُ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْحُرِّ الْمُعْسِرِ ، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ كَسْبَهُ وَالْحَرُّ يَمْلِكُ كَسْبَهُ فَكَانَ بِنَفَقَةِ الْمُعْسِرِ أَخَصَّ ، وَهَكَذَا نَفَقَةُ الْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ نَفَقَةُ مِعْسَرٍ ، وَلَئِنْ مَلَكَ الْمُكَاتَبُ مَا بِيَدِهِ فَمِلْكُهُ لَهُ ضَعِيفٌ لِمَا يَسْتَحِقُّهُ السَّيِّدُ مِنَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ حَتَّى يُؤَدِّيَهُ فِي كِتَابَتِهِ وَلِأَنَّهُ مُعَرَّضٌ لِزَوَالِ مِلْكِهِ عِنْدَ عَجْزِهِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا نَفَقَةُ مَنْ تَبَعَّضَتْ فِيهِ الْحُرِّيَّةُ وَالرِّقُّ مقدارها لزوجته فَكَانَ نِصْفُهُ حُرًّا وَنِصْفُهُ مَمْلُوكًا فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ نَفَقَتَهُ نَفَقَةُ الْمُعْسِرِ مَا لَمْ تَكْمُلْ حُرِّيَّتُهُ فَيَلْزَمُهُ لِزَوْجَتِهِ مُدٌّ وَاحِدٌ ، وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا بِمَا فِيهِ مِنَ الْحُرِّيَّةِ . وَقَالَ الْمُزَنِيُّ : إِذَا كَانَ مُوسِرًا بِمَا فِيهِ مِنَ الْحُرِّيَّةِ تَبَعَّضَتِ النَّفَقَةُ بِقَدْرِ الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ فَيَلْزَمُهُ بِنِصْفِهِ الْمَمْلُوكِ نِصْفُ نَفَقَةِ مُعْسِرٍ وَذَلِكَ نِصْفُ مُدٍّ وَبِنِصْفِهِ الْحُرِّ نِصْفُ نَفَقَةِ