كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي
يَدَيْهِ ، فَمَا بَالَى بِذَلِكَ وَمَا رَوَوْهُ مِنَ الْحَدِيثِ فَمَنْسُوخٌ ، أَوْ أَرَادَ بِهِ قَطْعَ الْفَضِيلَةِ .
فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ صَلَّى إِلَى قِبْلَةٍ مقدار ما بينه وبين القبلة ، أَوْ كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ أَنْ يَدْنُوَ مِنْهَا : لِرِوَايَةِ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى سُتْرَةٍ فَلْيَدْنُ مِنْهَا لَا يَقْطَعُ الشَّيْطَانُ صَلَاتَهُ وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ نَحْوُ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ لِرِوَايَةِ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : سَأَلْتُ بِلَالًا : مَاذَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ دَخَلَ الْبَيْتَ ؟ قَالَ : صَلَّى وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ ثَلَاثَةُ أَذْرُعٍ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيَقْضِي الْمُرْتَدُّ كُلَّ مَا تَرَكَ فِي الرِّدَّةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا ارْتَدَّ الْمُسْلِمُ عَنِ الْإِسْلَامِ زَمَانًا ثُمَّ عَادَ حكم العبادات الفائتة إِلَى إِسْلَامِهِ لَزِمَهُ قَضَاءُ مَا تَرَكَهُ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ ، وَمَا فَعَلَهُ قَبْلَ الرِّدَّةِ مِنَ الصَّلَاةِ ، وَالصِّيَامِ ، وَالْحَجِّ مُجْزِئٌ عَنْهُ لَا تَلْزَمُهُ إِعَادَتُهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : قَدْ أَحْبَطَتِ الرِّدَّةُ جَمِيعَ عَمَلِهِ ، فَإِنْ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ اسْتَأْنَفَ الصَّلَاةَ ، وَالصِّيَامَ ، وَالْحَجَّ ، وَلَمْ يَقْضِ مَا تَرَكَهُ فِي زَمَانِ رِدَّتِهِ كَالْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ حَجَّ قَبْلَ رِدَّتِهِ أَعَادَ ذَلِكَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ ، لِأَنَّ الرِّدَّةَ قَدْ أَحْبَطَتْ جَمِيعَ مَا عَمِلَهُ . وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [ الزُّمَرِ : ] . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الرِّدَّةَ قَدْ أَحْبَطَتْ عَمَلَهُ ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَاقْتَضَى الظَّاهِرُ غُفْرَانَ عَمَلِهِ بِالِانْتِهَاءِ عَنِ الْكُفْرِ ، وَتَرْكِ مُؤَاخَذَتِهِ بِإِثْمٍ ، أَوْ قَضَاءٍ . وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ . قَالَ : وَلِأَنَّهُ أَسْلَمَ بَعْدَ كُفْرٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ قَضَاءُ ذَلِكَ كَالْحَرْبِيِّ ، وَالذِّمِّيِّ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ ، أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا . وَفِيهِ دَلِيلَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ النَّاسِي وَهُوَ التَّارِكُ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ : نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [ التَّوْبَةِ : ] أَيْ : تَرَكَهُمْ ، وَالْمُرْتَدُّ تَارِكٌ ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ الْقَضَاءُ بِحَقِّ هَذَا الظَّاهِرِ . وَالدَّلَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنَّهُ أَوْجَبَ الْقَضَاءَ عَلَى النَّاسِي وَنَبَّهَ بِإِيجَابِهِ عَلَى الْعَامِدِ ، لِأَنَّهُ أَغْلَظُ حَالًا مِنَ النَّاسِي ، وَلِأَنَّهُ تَارِكُ صَلَاةٍ بِمَعْصِيَةٍ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ قَضَاؤُهَا كَالْمُسْلِمِ ، وَلِأَنَّ مَا الْتَزَمَهُ بِإِسْلَامِهِ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِسْقَاطِهِ بِرِدَّتِهِ ، كَغَرَامَةِ الْأَمْوَالِ ، وَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ إِلَّا شَرْطٌ هُوَ مُطَالَبٌ بِالْإِتْيَانِ بِهِ ، فَإِنَّهُ مُطَالَبٌ بِالصَّلَاةِ كَالْمُحْدِثِ ، وَيُخَالِفُ الْكَافِرُ الْأَصْلِيُّ ، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُكَلَّفًا فَهُوَ غَيْرُ مُطَالَبٍ بِهِ ، وَالْمُرْتَدُّ مُخَالِفٌ لِلْإِسْلَامِ وَمُطَالَبٌ بِهِ ، وَلِأَنَّ لِلْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ حُكْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُفَارِقُ بِهِمَا الْإِسْلَامَ ، وَهُمَا مُفَارَقَةُ الْإِيمَانِ وَتَرْكُ الشَّرْعِيَّاتِ ، وَلِلْإِسْلَامِ حُكْمَيْنِ يُفَارِقُ بِهِمَا الْكُفْرَ وَهُمَا مُفَارَقَةُ الْكُفْرِ وَفِعْلُ الشَّرْعِيَّاتِ ، ثُمَّ كَانَتِ الرِّدَّةُ تَقْتَضِي الْتِزَامَ أَحَدِهِمَا وَهُوَ مُفَارَقَةُ الْكُفْرِ وَفِعْلُ الشَّرْعِيَّاتِ فَوَجَبَ أَنْ تَقْتَضِيَ الِالْتِزَامَ الْآخَرَ وَهُوَ فِعْلُ الشَّرْعِيَّاتِ . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا : أَنَّهُ أَحَدُ حُكْمَيِ الْإِسْلَامِ الْمُخْتَصِّ بِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَ الْمُرْتَدَّ كَالْإِيمَانِ ، وَلِأَنَّ مَنْ كُلِّفَ تَصْدِيقَ الْغَيْرِ ، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَكْذِيبِهِ ، كُلِّفَ الْمَصِيرَ إِلَى مُقْتَضَى تَصْدِيقِهِ . أَصْلُهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذَا شَهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ بِالْحَقِّ لَمَّا كُلِّفَ تَصْدِيقَ الشُّهُودِ كُلِّفَ الْمَصِيرَ إِلَى مُقْتَضَى تَصْدِيقِهِمَا ، وَهُوَ الْغُرْمُ لِمَا شَهِدَا بِهِ ، وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْمُرْتَدَّ مُكَلَّفٌ لِتَصْدِيقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَبَ أَنْ يُكَلَّفَ مُقْتَضَى تَصْدِيقِهِ وَمُقْتَضَاهُ قَضَاءُ مَا تَرَكَ مِنْ صَلَاتِهِ ، وَلِأَنَّهُ مُسْلِمٌ أَحْدَثَ مَا اسْتُبِيحَ بِهِ دَمُهُ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَسْقُطَ عَنْهُ الصَّلَاةُ كَالْقَاتِلِ ، وَالزَّانِي ، وَالْمُحَارِبِ ، وَلِأَنَّ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ جَارِيَةٌ عَلَيْهِ فِي حَالِ رِدَّتِهِ فِي الْمَنْعِ مِنَ اسْتِرْقَاقِهِ ، وَقَبُولِ جِزْيَتِهِ ، وَهُدْنَتِهِ ، وَمُؤَاخَذَتِهِ بِجِنَايَاتِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُجْرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ فِي قَضَاءِ صَلَوَاتِهِ ، وَلِأَنَّهُ قَدِ اعْتَرَفَ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ ، وَالْتَزَمَ الْقِيَامَ بِهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ عِصْيَانُهُ بِالرِّدَّةِ عُذْرًا لَهُ فِي إِسْقَاطِ مَا لَزِمَهُ ، وَقَضَاءِ مَا تَرَكَهُ كَالْعَاصِي بِشُرْبِ الْخَمْرِ ، أَوْ فِعْلِ الزِّنَا فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ فَالْمُرَادُ بِهِ مَنْ مَاتَ عَلَى رِدَّتِهِ ، لِأَنَّهُ عَقَّبَهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [ الزُّمَرِ : ] ، وَذَلِكَ مَعَ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ : سِيَّمَا وَقَدْ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ [ الْبَقَرَةِ : ] . وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [ الْأَنْفَالِ : ] ، فَالْمُرَادُ بِهِ غُفْرَانُ الْمَآثِمِ دُونَ الْقَضَاءِ ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ فَرْضٌ مُسْتَأْنَفٌ عَلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ مَخْصُوصٌ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَاهُ ؟ وَكَذَا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ .
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْحَرْبِيِّ حكم قضائه للفوائت إذا أسلم فَالْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّهُ لَمْ يَعْتَرِفْ بِوُجُوبِ الصَّلَوَاتِ فَلِأَجْلِ ذَلِكَ سَقَطَ عَنْهُ الْقَضَاءُ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُرْتَدَّ يَقْضِي مَا تَرَكَ مِنَ الصَّلَوَاتِ فَجُنَّ زَمَانًا فِي رِدَّتِهِ ، أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ حِينًا لَزِمَهُ قَضَاءُ مَا تَرَكَ مِنَ الصَّلَوَاتِ فِي زَمَانِ جُنُونِهِ وَإِغْمَائِهِ ، وَلَوْ كَانَتِ امْرَأَةً فَحَاضَتْ فِي رِدَّتِهَا زَمَانًا لَمْ تَقْضِي مَا تَرَكَتْ مِنَ الصَّلَوَاتِ فِي زَمَانِ حَيْضِهَا . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ الْجُنُونَ ، وَالْإِغْمَاءَ سَقَطَ بِهِمَا الْقَضَاءُ تَرْفِيهًا وَرَحْمَةً ، وَلَوِ اقْتَرَنَ بِهِ مَعْصِيَةٌ لَمْ يَسْقُطِ الْقَضَاءُ كَالسَّكْرَانِ فَلَمَّا اقْتَرَنَ بِجُنُونِ الْمُرْتَدِّ وَإِغْمَائِهِ مَعْصِيَةٌ ، وَهِيَ الرِّدَّةُ ثَبَتَ الْقَضَاءُ ، لِأَنَّ الْعَاصِيَ لَا يَتَرَخَّصُ ، وَالْحَيْضُ إِنَّمَا أَسْقَطَ وُجُوبَ الصَّلَاةِ لَا عَلَى وَجْهِ الرُّخْصَةِ ، بَلْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِثْنَاءِ ، فَلَمْ يَكُنْ لِاقْتِرَانِ الْمَعْصِيَةِ بِهِ تَأْثِيرٌ فِي ثُبُوتِ الْقَضَاءِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ صَلَاةَ الْحَائِضِ مَعْصِيَةٌ ، وَصَلَاةَ الْمَجْنُونِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ طَاعَةٌ فَمِنْ حَيْثُ مَا ذَكَرْنَا افْتَرَقَ حُكْمُهُمَا فِي الْقَضَاءِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - .
بَابُ سُجُودِ السَّهْوِ وَسُجُودِ الشُّكْرِ
بَابُ سُجُودِ السَّهْوِ وَسُجُودِ الشُّكْرِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَنْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ أَثَلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا ؟ فَعَلَيْهِ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ ، وَكَذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ ثُمَّ شَكَّ فِي رَكَعَاتِهَا فَلَمْ يَدْرِ أَرَكْعَةً صَلَّى ، أَوْ رَكْعَتَيْنِ بَنَى عَلَى الْيَقِينِ وَحَسَبَهَا رَكْعَةً ، وَلَوْ كَانَ الشَّكُّ بَيْنَ رَكْعَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ بَنَى عَلَى رَكْعَتَيْنِ ، وَلَوْ كَانَ الشَّكُّ بَيْنَ ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ بَنَى عَلَى ثَلَاثٍ وَهُوَ الْيَقِينُ ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ شَكِّهِ ، أَوْ كَانَ يَعْتَادُهُ ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ كَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ شَكِّهِ أَوْ كَانَ يَشُكُّ فِي أَقَلِّ أَوْقَاتِهِ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ ، وَإِنْ كَانَ شَاكًّا وَيَعْتَادُهُ الشَّكُّ كَثِيرًا تَحَرَّى فِي صَلَاتِهِ وَاجْتَهَدَ ، وَعَمِلَ عَلَى غَالِبِ ظَنِّهِ بِالِاجْتِهَادِ ، فَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ بَنَى عَلَى الْيَقِينِ حِينَئِذٍ وَاسْتَدَلَّ لِبُطْلَانِ صَلَاتِهِ بِأَوَّلِ شَكِّهِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا غِرَارَ فِي الصَّلَاةِ قَالَ : وَمَعْنَاهُ : لَا شَكَّ فِيهَا فَدَلَّ عَلَى بُطْلَانِهَا بِحُدُوثِ الشَّكِّ فِيهَا ، وَاسْتَدَلَّ فِي جَوَازِ التَّحَرِّي فِيمَنِ اعْتَادَهُ الشَّكُّ في صلاته بِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ أَثَلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا ؟ فَلْيَتَحَرَّ أَقْرَبَ ذَلِكَ إِلَى الصَّوَابِ . وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ أَثَلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا وَكَانَ أَكْثَرُ ظَنِّهِ أَنَّهُ صَلَّى أَرْبَعًا ، قَعَدَ وَتَشَهَّدَ ، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ . قَالَ : وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ التَّحَرِّي فِي الْقِبْلَتَيْنِ ، وَالثَّوْبَيْنِ ، وَالْإِنَاءَيْنِ ، وَالْوَقْتَيْنِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ جَازَ التَّحَرِّي فِي إِعْدَادِ رَكَعَاتِهَا ، لِأَنَّهُ أَمْرٌ مُشْتَبِهٌ قَدْ جُعِلَ لَهُ طَرِيقٌ إِلَى التَّخَلُّصِ مِنْهُ ، وَهَذَا خَطَأٌ . وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ رِوَايَةُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، عَنْ عَطَاءٍ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ أَثَلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا ، فَلْيُلْغِ الشَّكَّ ، وَلْيَبْنِ عَلَى الْيَقِينِ وَيَسْجُدْ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ وَهُوَ جَالِسٌ .
وَرُوِيَ أَيْضًا : فَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ وَيَسْجُدْ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ . وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ أَثْلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا فَلْيُتِمَّ رَكْعَةً ، وَلْيَقْعُدْ وَيَتَشَهَّدْ ، وَيَسْجُدْ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ ، فَإِنْ كَانَتْ خَمْسًا شَفَعَتْهَا السَّجْدَتَانِ ، وَإِنْ كَانَتْ أَرْبَعًا كَانَتِ السَّجْدَتَانِ تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ . وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ بَيْنَ وَاحِدَةٍ وَاثْنَتَيْنِ بَنَى عَلَى وَاحِدَةٍ ، وَإِنْ شَكَّ بَيْنَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثٍ بَنَى عَلَى اثْنَتَيْنِ ، وَإِنْ شَكَّ بَيْنَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعٍ بَنَى عَلَى ثَلَاثٍ ، فَإِنَّ الزِّيَادَةَ فِي الصَّلَاةِ جَمِيعًا خَيْرٌ مِنَ النُّقْصَانِ . قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : وَأَصَحُّ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الثَّلَاثَةِ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ وَجَبَ عَلَيْهِ فِعْلُهَا فَوَجَبَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّحَرِّي فِي أَدَائِهَا . أَصْلُهُ إِذَا تَرَكَ صَلَاةً مِنْ خَمْسِ صَلَوَاتٍ لَا يَعْرِفُهَا ، وَلِأَنَّ أَرْكَانَ الْعِبَادَاتِ الْمَفْرُوضَةِ لَا تَسْقُطُ بِالتَّحَرِّي كَأَرْكَانِ الْحَجِّ وَالْوُضُوءِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا شُرِطَ الْيَقِينُ فِي أَصْلِهِ شُرِطَ الْيَقِينُ فِي بَعْضِهِ ، كَالطَّهَارَةِ ، وَالطَّلَاقِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يُؤَدَّ مِنَ الطَّهَارَةِ بِالتَّحَرِّي لَمْ يُؤَدَّ مِنَ الصَّلَاةِ بِالتَّحَرِّي كَأَصْلِ الْعِبَادَةِ ، وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَفْسُدُ بِالشَّكِّ أَوَّلَ مَرَّةٍ مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ شَكَّ طَرَأَ فِي عَدَدِ مَا صَلَّى فَلَمْ تَفْسُدْ بِهِ الصَّلَاةُ كَالْمُعْتَادِ الشَّكَّ ، وَلِأَنَّ مَا يُؤَثِّرُ فِي الصَّلَاةِ فَحُكْمُ الِابْتِدَاءِ وَالْعَادَةِ فِيهِ عَلَى سَوَاءٍ كَالْحَدَثِ طَرْدًا ، وَالْعَمَلِ الْيَسِيرِ عَكْسًا ، وَلِأَنَّ مَا لَا يُبْطِلُ كَثِيرُهُ الصَّلَاةَ لَا يُبْطِلُ قَلِيلُهُ الصَّلَاةَ كَالتَّسْبِيحِ . فَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا غِرَارَ فِي الصَّلَاةِ فَمَعْنَاهُ : لَا نُقْصَانَ فِيهَا وَهُوَ إِذَا بَنَى عَلَى الْيَقِينِ فَقَدْ أَزَالَ النُّقْصَانَ مِنْهَا . وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فَلْيَتَحَرَّ أَقْرَبَ ذَلِكَ إِلَى الصَّوَابِ " . فَالْجَوَابُ عَنْهُ : أَنَّ تَحَرِّيَ الصَّوَابِ يُبَيِّنُ لَهُ يَقِينَ الشَّكِّ ، أَوْ يَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ مَعَ بَقَاءِ الشَّكِّ . فَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ إِنْ صَحَّ فَكَانَ مُعَارَضًا بِمَا رَوَيْنَاهُ فَرِوَايَتُنَا أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : كَثْرَةُ الرُّوَاةِ ، وَالْبِنَاءُ عَلَى الِاحْتِيَاطِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَأْمَنُ بِهَذَا النُّقْصَانِ وَيَخَافُ الزِّيَادَةَ ، وَرِوَايَتُهُمْ تَتَرَدَّدُ بَيْنَ النُّقْصَانِ وَالزِّيَادَةِ ، فَكَانَتْ رِوَايَتُنَا أَوْلَى لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فَإِنَّ الزِّيَادَةَ فِي الصَّلَاةِ خَيْرٌ مِنَ النُّقْصَانِ " .
وَأَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ جَوَازِ التَّحَرِّي فِي الْقِبْلَةِ وَالْإِنَاءَيْنِ وَالثَّوْبَيْنِ فَيُفَارِقُ أَفْعَالَ الصَّلَاةِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الرُّجُوعَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِلَى الْيَقِينِ مُتَعَذَّرٌ ، وَفِي أَفْعَالِ الصَّلَوَاتِ غَيْرُ مُتَعَذَّرٍ ، فَجَازَ التَّحَرِّي فِيمَا تَعَذَّرَ الْيَقِينُ فِيهِ وَلَمْ يَجُزْ فِيمَا لَمْ يَتَعَذَّرِ الْيَقِينُ فِيهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ دَلَائِلَ وَعَلَامَاتٍ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي التَّحَرِّي ، وَالِاجْتِهَادِ ، وَلَيْسَ لِمَا يُقْضَى مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ دَلَالَةٌ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي التَّحَرِّي فَافْتَرَقَا مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ سَجَدَ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ ، وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَبِحَدِيثِ ابْنِ بُحَيْنَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَجَدَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ جَائِزٌ قَبْلَ السَّلَامِ ، وَبَعْدَهُ ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْمَسْنُونِ وَالْأَوْلَى فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ ، وَالْجَدِيدِ : أَنَّ الْأَوْلَى فِعْلُهُ قَبْلَ السَّلَامِ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ، أَبُو هُرَيْرَةَ ، وَمِنَ التَّابِعِينَ : سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ رَبِيعَةُ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالثَّوْرِيُّ : الْأَوْلَى فِعْلُهُ بَعْدَ السَّلَامِ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ ، وَبِهِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ ، وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ . وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ كَانَ عَنْ نُقْصَانٍ فَالْأَوْلَى فِعْلُهُ قَبْلَ السَّلَامِ ، وَإِنْ كَانَ عَنْ زِيَادَةٍ فَالْأَوْلَى فِعْلُهُ بَعْدَ السَّلَامِ ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ " اخْتِلَافُهُ مَعَ مَالِكٍ " ، وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِهِ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ مَا حَكَيْنَاهُ فِي فِعْلِ ذَلِكَ قَبْلَ السَّلَامِ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ . فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَاسْتَدَلَّ بِرِوَايَةِ ثَوْبَانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ بَعْدَ السَّلَامِ . وَبِمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ ذِي الْيَدَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ . قَالَ : وَلِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ إِنَّمَا أُخِّرَ فِعْلُهُ عَنْ سَبَبِهِ لِكَيْ يَنُوبَ عَنْ جَمِيعِ السَّهْوِ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ بَعْدَ السَّلَامِ أَوْلَى لِتَصِحَّ نِيَابَتُهُ عَنْ جَمِيعِ السَّهْوِ ، لِأَنَّهُ إِذَا فَعَلَهُ قَبْلَ السَّلَامِ لَمْ يَخْلُ هَذَا السَّهْوُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ ، إِمَّا أَنْ يَقْتَضِيَ سُجُودًا ثَانِيًا ، أَوْ لَا يَقْتَضِيَ ، فَإِنِ اقْتَضَى سُجُودًا ثَانِيًا لَمْ يَكُنِ الْأَوَّلُ نَائِبًا عَنْ جَمِيعِ السَّهْوِ .
وَأَمَّا مَالِكٌ فَاسْتَدَلَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَ فِي قِصَّةِ ذِي الْيَدَيْنِ بَعْدَ السَّلَامِ ، وَكَانَ سَبَبُهُ زِيَادَةَ الْكَلَامِ ، وَسَجَدَ فِي حَدِيثِ ابْنِ بُحَيْنَةَ عِنْدَمَا تَرَكَ التَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ قَبْلَ السَّلَامِ ، وَكَانَ سَبَبَهُ النُّقْصَانُ ، فَدَلَّ عَلَى اخْتِلَافِ مَحَلِّهِ لِاخْتِلَافِ سَبَبِهِ ، قَالَ : وَلِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ جُبْرَانٌ ، فَإِذَا كَانَ لِنُقْصَانٍ اقْتَضَى فِعْلُهُ قَبْلَ السَّلَامِ لِتَكْمُلَ بِهِ الصَّلَاةُ ، وَإِنْ كَانَ لِزِيَادَةٍ أَوْقَعَهُ بَعْدَ السَّلَامِ لِكَمَالِ الصَّلَاةِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا رِوَايَةُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ ، فَلَمْ يَدْرِ أَثَلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا ، فَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ ، وَيَسْجُدْ لِسَجْدَتَيِ السَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ . وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِذَا سَهَا أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ ، فَلَمْ يَدْرِ أَثَلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا فَلْيُتِمَّ رُكُوعَهُ ، وَيَقْعُدْ وَيَتَشَهَّدْ وَيَسْجُدْ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ ثُمَّ يُسَلِّمْ فَإِنْ كَانَتْ خَمْسًا شَفَعَتْهَا السَّجْدَتَانِ ، وَإِنْ كَانَتْ أَرْبَعًا كَانَتِ السَّجْدَتَانِ تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ . وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ هُرْمُزَ الْأَعْرَجُ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ بُحَيْنَةَ الْأَسَدِيِّ حَلِيفِ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ الْجُلُوسَ الْأَوَّلَ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ ، أَوْ قَالَ : الْعَصْرِ ، إِلَى أَنْ قَامَ فَمَضَى فِي صَلَاتِهِ فَلَمَّا جَلَسَ وَتَشَهَّدَ سَجَدَ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ وَلِأَنَّهُ سُجُودٌ عَنْ سَبَبٍ وَقَعَ فِي صَلَاتِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّهُ فِي الصَّلَاةِ قِيَاسًا عَلَى سُجُودِ التِّلَاوَةِ ، وَلِأَنَّهُ سُجُودٌ لَوْ فَعَلَهُ فِي الصَّلَاةِ سَجَدَ عِنْدَ مُوجِبِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّهُ فِي الصَّلَاةِ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ سَجَدَاتِ الصَّلَاةِ ، وَلِأَنَّهُ جُبْرَانٌ لِلصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّهُ فِي الصَّلَاةِ كَمَنْ نَسِيَ سَجْدَةً ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ شَرْطًا فِي سُجُودِ الصَّلَاةِ كَانَ شَرْطًا فِي سُجُودِ السَّهْوِ محله كَالطَّهَارَةِ وَالْمُبَاشَرَةِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَحَلُّهُ بَعْدَ السَّلَامِ لَوَجَبَ إِنْ فَعَلَهُ نَاسِيًا قَبْلَ السَّلَامِ أَنْ يَسْجُدَ لِأَجْلِهِ بَعْدَ السَّلَامِ ، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى تَرْكِ السُّجُودِ لَهُ بَعْدَ السَّلَامِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَحَلَّهُ قَبْلَ السَّلَامِ ، وَلِأَنَّهُ سُجُودٌ لِلسَّهْوِ وَجُبْرَانٌ لِلصَّلَاةِ ، وَمَا كَانَ جُبْرَانًا لِلشَّيْءِ كَانَ وَاقِعًا فِيهِ . وَأَمَّا مَا رَوَوْهُ مِنَ الْأَخْبَارِ فَفِيهِ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ . وَالثَّانِي : مُسْتَعْمَلَةٌ . فَأَمَّا نَسْخُهَا فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَ لِلسَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ ، وَسَجَدَ لَهُ بَعْدَ السَّلَامِ ، وَكَانَ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُجُودَ السَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ . وَالثَّانِي : تَأَخُّرُ أَخْبَارِنَا وَتَقَدُّمُ أَخْبَارِهِمْ ، لِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَوَى سُجُودَ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ وَهُوَ مُتَقَدِّمُ الْإِسْلَامِ قَدْ هَاجَرَ الْهِجْرَتَيْنِ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَوَيَا سُجُودَ السَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ ، وَكَانَ لِابْنِ عَبَّاسٍ حِينَ قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً ، وَقِيلَ : سَبْعُ سِنِينَ وَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ مِنْ أَحْدَاثِ الْأَنْصَارِ ، وَأَصَاغِرِهِمْ .
وَأَمَّا اسْتِعْمَالُهَا فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا مُسْتَعْمَلَةٌ عَلَى مَا بَعْدَ السَّلَامِ فِي التَّشَهُّدِ وَهُوَ قَوْلُ : سَلَامٌ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّهُ نَسِيَ السَّهْوَ ثُمَّ ذَكَرَهُ بَعْدَ سَلَامِهِ فَأَتَى بِهِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ أَنَّهُ إِذَا فَعَلَهُ قَبْلَ السَّلَامِ ثُمَّ سَهَا بَعْدَهُ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : قُلْنَا : فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ سُجُودٌ وَاقِعٌ عَنِ السَّهْوِ الَّذِي قَبْلَهُ ، وَالَّذِي بَعْدَهُ . وَالثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ إِنَّهُ يَسْجُدُ لِهَذَا السَّهْوِ ، وَلَا يُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَّا أَنَّ السُّجُودَ الْأَوَّلَ لَا يَنُوبُ عَنْ جَمِيعِ السَّهْوِ ، لِأَنَّا نَقُولُ : إِنَّ سَجْدَتِيِ السَّهْوِ تَنُوبُ عَنْ جَمِيعِ السَّهْوِ فِي الْغَالِبِ ، وَوُقُوعُ السَّهْوِ بَعْدَ السُّجُودِ وَقَبْلَ السَّلَامِ نَادِرٌ فَجَازَ السُّجُودُ لَهُ ، وَأَمَّا اسْتِعْمَالُ مَالِكٍ فَلَا يَصِحُّ ، لِأَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ يُوجِبُ سُجُودَ السَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ مَعَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ الزِّيَادَةَ تَمْنَعُ مِنْ سُجُودِ السَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ فَغَلَطٌ ، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِيهَا نُقْصَانٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ مِنْهَا رَكْعَةً عَامِدًا أَوْ زَادَ عَلَيْهَا رَكْعَةً عَامِدًا أَبْطَلَتْ صَلَاتَهُ فِيهَا ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ نُقَصَانًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ السُّجُودُ لَهُ فِي الصَّلَاةِ جَبْرًا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ ذَكَرَ أَنَّهُ فِي الْخَامِسَةِ سَجَدَ أَوْ لَمْ يَسْجُدْ قَعَدَ فِي الرَّابِعَةِ أَوْ لَمْ يَقْعُدْ ، فَإِنَّهُ يَجْلِسُ لِلرَّابِعَةِ ، وَيَتَشَهَّدُ ، وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : صُورَتُهَا فِي رَجُلٍ قَامَ إِلَى خَامِسَةٍ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ يَظُنُّهَا رَابِعَةً ثُمَّ ذَكَرَ سَهْوَهُ وَعَلِمَ أَنَّهُ فِي خَامِسَةٍ في سجود السهو فَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ إِلَى جُلُوسِهِ فِي الرَّابِعَةِ سَوَاءٌ جَلَسَ فِيهَا أَمْ لَا ، سَجَدَ فِي الْخَامِسَةِ أَوْ لَمَ يَسْجُدْ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ كَانَ لَمْ يَسْجُدْ يَجْلِسُ فِي الرَّابِعَةِ وَلَمْ يَسْجُدْ فِي الْخَامِسَةِ عَادَ إِلَى جُلُوسِهِ فِي الرَّابِعَةِ بِنَاءً عَلَى صَلَاتِهِ ، وَإِنْ سَجَدَ فِي الْخَامِسَةِ قَبْلَ جُلُوسِهِ فِي الرَّابِعَةِ الساهي في الصلاة فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ لِبُطْلَانِ عَمَلِهِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ جَلَسَ فِي الرَّابِعَةِ وَلَمْ يَسْجُدْ فِي الْخَامِسَةِ الساهي في الصلاة فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ وَهُوَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ خَرَجَ مِنَ الْخَامِسَةِ ، وَإِنْ شَاءَ بَنَى عَلَيْهَا ، وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ، وَإِنْ جَلَسَ فِي الرَّابِعَةِ وَسَجَدَ فِي الْخَامِسَةِ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَضُمَّ إِلَى هَذِهِ الرَّكْعَةِ رَكْعَةً ثَانِيَةً يَكُونَانِ لَهُ نَافِلَةً بِنَاءً عَلَى أَصْلَيْنِ لَهُ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْجُلُوسَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ هُوَ الْوَاجِبُ فِي الصَّلَاةِ دُونَ التَّشَهُّدِ وَالسَّلَامِ ، فَإِذَا فَعَلَهُ وَقَامَ إِلَى خَامِسَةٍ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ إِذَا سَجَدَ فِي الْخَامِسَةِ صَارَ دَاخِلًا فِي نَافِلَةٍ وَمَكَّنَ .
أَصْلُهُ أَنَّ مَنْ يَدْخُلُ فِي نَافِلَةٍ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّهَا رَكْعَتَيْنِ وَهَذَا خَطَأٌ . وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ سَعِيدٍ ، عَنِ الْحَكَمِ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ ، عَنْ عَلْقَمَةَ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، قَالَ : صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ فَسَهَا فَصَلَّاهَا خَمْسًا ، فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَزِيدَ مِنَ الصَّلَاةِ ؟ قَالَ : وَمَا ذَاكَ ؟ فَقَالُوا : صَلَّيْتَ خَمْسًا ، فَسَجَدَ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ذِكْرُ السَّلَامِ . وَرَوَى إِبْرَاهِيمُ ، عَنْ سُوَيْدٍ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا ، فَلَمَّا انْفَتَلَ تَوَسْوَسَ الْقَوْمُ ، فَقَالَ : مَا بَالُكُمْ ؟ فَقَالُوا : صَلَّيْتَ خَمْسًا ، فَسَجَدَ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ ، وَقَالَ : " إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ فَلَا يَخْلُو حَالُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَعَدَ فِي الرَّابِعَةِ ، أَوْ لَمْ يَقْعُدْ ، فَإِنْ كَانَ قَعَدَ فَلَمْ يُضِفْ إِلَيْهَا أُخْرَى كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَقْعُدْ فَلَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، فَإِنْ قَالُوا : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعَادَ صَلَاتَهُ . فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ الْإِعَادَةُ ، وَلَوْ أَعَادَهَا لَأَمَرَ مَنْ خَلْفَهُ بِالْإِعَادَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ صَلَاتُهُ بَاطِلَةً لَمْ يَسْجُدْ لَهَا سُجُودَ السَّهْوِ ، لِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ لَا يَجْبُرُ الصَّلَاةَ الْبَاطِلَةَ ، فَإِنْ قَالُوا : فَيَجُوزُ أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ فِي الْخَامِسَةِ قَبْلَ سُجُودِهِ فِيهَا . قِيلَ : هَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا وَانْفَتَلَ مِنْ صَلَاتِهِ ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ سُجُودِهِ وَسَلَامِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ تَكَلَّمَ فَقَالَ مَا بَالُكُمْ ، وَكَلَّمَهُ النَّاسُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي حَالِ الصَّلَاةِ وَقَبْلَ السُّجُودِ ، وَلِأَنَّهَا زِيَادَةٌ فِي الصَّلَاةِ مِنْ جِنْسِهَا عَلَى وَجْهِ السَّهْوِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُبْطِلَهَا . أَصْلُهُ إِذَا ذَكَرَ سَهْوَهُ قَبْلَ سُجُودِهِ ، وَلِأَنَّ مَا كَانَ مِنْ أَعْدَادِ الصَّلَاةِ لَا يُبْطِلُ سَهْوُهُ الصَّلَاةَ كَمَنْ سَجَدَ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ ، أَوْ رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ ، فَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ بِنَائِهِ عَلَى أَصْلِهِ فَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي أَحَدِهِمَا ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ مَعَهُ فِي الثَّانِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ صِحَّةُ صَلَاتِهِ ، وَأَنَّهُ يَعُودُ فِي الرَّابِعَةِ إِلَى جُلُوسِهِ لَمْ تَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ تَشَهَّدَ فِي الرَّابِعَةِ ، أَوْ لَمْ يَتَشَهَّدْ ، فَإِنْ لَمْ يَتَشَهَّدْ فِي الرَّابِعَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَشَهَّدَ وَسَجَدَ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ وَسَلَّمَ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَشَهَّدَ فِي الرَّابِعَةِ قَبْلَ قِيَامِهِ فَفِي وُجُوبِ إِعَادَةِ التَّشَهُّدِ بَعْدَ جُلُوسِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ : عَلَيْهِ إِعَادَةُ التَّشَهُّدِ ، ثُمَّ سُجُودُ السَّهْوِ ، ثُمَّ السَّلَامُ ، لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ هَذَا السَّلَامِ أَنْ يَتَعَقَّبَ أَمْرَيْنِ : الْقُعُودُ ، وَالتَّشَهُّدُ ، فَلَمَّا لَزِمَهُ إِعَادَةُ الْقُعُودِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَتَى بِهِ لَزِمَهُ إِعَادَةُ التَّشَهُّدِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَتَى بِهِ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ أَصْحَابِنَا : لَيْسَ عَلَيْهِ إِعَادَةُ التَّشَهُّدِ ، بَلْ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ ثُمَّ يُسَلِّمُ ، لِأَنَّ أُصُولَ الصَّلَاةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الِاعْتِدَادِ بِمَا فَعَلَهُ قَبْلَ السَّهْوِ وَتَرَكَ إِعَادَتَهُ كَالسُّجُودِ وَغَيْرِهِ فَكَذَلِكَ التَّشَهُّدُ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا إِذَا صَلَّى نَافِلَةً فَقَامَ إِلَى ثَالِثَةٍ نَاسِيًا في سجود السهو فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُتِمَّهَا أَرْبَعًا ، وَيَجُوزَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الثَّانِيَةِ وَيَجُوزَ أَنْ يُكْمِلَ الثَّالِثَةَ ، وَيُسَلِّمَ ، وَأَيَّ ذَلِكَ فَعَلَ سَجَدَ مَعَهُ سُجُودَ السَّهْوِ ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ لَا يَمْضِيَ فِي الثَّالِثَةِ وَيَرْجِعَ إِلَى الثَّانِيَةِ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ وَيُسَلِّمُ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ ، أَوْ صَلَاةِ النَّهَارِ ، وَاخْتَارَ غَيْرُ الشَّافِعِيِّ أَنْ يُتِمَّهَا أَرْبَعًا . وَقَالَ آخَرُونَ : إِنْ كَانَتْ صَلَاةَ نَهَارٍ فَالْأَوْلَى أَنْ يُتِمَّهَا أَرْبَعًا ، وَإِنْ كَانَتْ صَلَاةَ لَيْلٍ فَالْأَوْلَى أَنْ يَعُودَ إِلَى الثَّانِيَةِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ نَسِيَ الْجُلُوسَ مِنَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَذَكَرَ فِي ارْتِفَاعِهِ ، وَقَبْلَ انْتِصَابِهِ ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى الْجُلُوسِ ، ثُمَّ يَبْنِي عَلَى صَلَاتِهِ ، وَإِنْ ذَكَرَ بَعْدَ اعْتِدَالِهِ فَإِنَّهُ يَمْضِي " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي أَنَّ التَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ السهو عنه سُنَّةٌ ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ فَإِنْ تَرَكَهُ نَاسِيًا وَقَامَ إِلَى الثَّالِثَةِ التشهد الأول ، ثُمَّ ذَكَرَهُ نَظَرَ فِي حَالِهِ ، فَإِنْ ذَكَرَهُ قَبْلَ انْتِصَابِهِ عَادَ فَأَتَى بِهِ ثُمَّ سَجَدَ لِلسَّهْوِ قَبْلَ سَلَامِهِ ، وَإِنْ ذَكَرَهُ بَعْدَ انْتِصَابِهِ مَضَى فِي صَلَاتِهِ ، وَلَمْ يَعُدْ إِلَيْهِ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ . وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ : يَعُودُ إِلَيْهِ فِي الْحَالَتَيْنِ . وَقَالَ آخَرُونَ : لَا يَعُودُ إِلَيْهِ فِي الْحَالَتَيْنِ ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَصَحُّ ؟ لِرِوَايَةِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ فِي الثَّانِيَةِ إِلَى الثَّالِثَةِ ، وَذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يَجْلِسْ قَبْلَ أَنْ يَسْتَوِيَ قَائِمًا رَجَعَ ، وَجَلَسَ ، وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ ، وَإِنْ ذَكَرَ بَعْدَ أَنِ اسْتَوَى قَائِمًا لَمْ يَرْجِعْ ، وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ وَلِأَنَّهُ إِذَا اعْتَدَلَ قَائِمًا فَقَدْ حَصَلَ فِي فَرْضٍ فَلَمْ يَجُزْ تَرْكُهُ لِمَسْنُونٍ ، وَمَا لَمْ يَعْتَدِلْ فَلَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي فَرْضٍ فَجَازَ لَهُ الرُّجُوعُ إِلَى الْمَسْنُونِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا صَحَّ أَنَّهُ يَعُودُ إِلَيْهِ قَبْلَ انْتِصَابِهِ وَلَا يَعُودُ إِلَيْهِ بَعْدَ انْتِصَابِهِ ، فَانْتَصَبَ قَائِمًا ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ التشهد الأول فَذَلِكَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ نَاسِيًا فَصَلَاتُهُ مُجْزِئَةٌ وَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ عَامِدًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ .
وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ مِقْدَارَ جَوَازِهِ فَفِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ صَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ ، لِأَنَّهُ أَتَى بِعَمَلٍ طَوِيلٍ فِي الصَّلَاةِ عَلَى وَجْهِ الْعَمْدِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ ، صَلَاتُهُ جَائِزَةٌ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِعَمَلِهِ مُنَافَاةَ الصَّلَاةِ فَصَارَ كَمَنْ قَامَ إِلَى خَامِسَةٍ ، فَلَوْ كَانَ الْمُصَلِّي إِمَامًا فَعَادَ إِلَى الْجُلُوسِ بَعْدَ انْتِصَابِهِ حكم الصلاة لَمْ يَجُزْ لِلْمَأْمُومِينَ اتِّبَاعُهُ ، لِأَنَّهُمْ يَتْبَعُونَهُ فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ أَفْعَالِهَا ، فَلَوِ اتَّبَعُوهُ مَعَ الْعِلْمِ بِحَالِهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُمْ ، فَلَوْ ذَكَرَ الْإِمَامُ ذَلِكَ قَبْلَ انْتِصَابِهِ فَعَادَ إِلَى جُلُوسِهِ وَجَبَ عَلَى الْمَأْمُومِينَ اتِّبَاعُهُ مَا لَمْ يَنْتَصِبُوا ، فَإِنْ كَانُوا قَدِ انْتَصَبُوا فِي الْقِيَامِ قَبْلَ انْتِصَابِ الْإِمَامِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَتْبَعُونَهُ فِي الْجُلُوسِ ، لِأَنَّهُ يَتَقَابَلُ عَلَيْهِمْ فَرْضَانِ فَرْضُ أَنْفُسِهِمْ ، وَمُتَابَعَةُ إِمَامِهِمْ ، فَلَمْ يَجُزْ تَرْكُ فَرْضِهِمْ لِمُتَابَعَةِ إِمَامِهِمْ . وَالْوَجْهِ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ عَلَيْهِمُ اتِّبَاعُ إِمَامِهِمْ فِي الْجُلُوسِ لِمَا عَلَيْهِمْ مِنَ اتِّبَاعِهِ فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ لِاقْتِدَائِهِمْ بِهِ : كَمَا لَوْ أَدْرَكُوهُ فِي الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ لَزِمَهُمُ الْجُلُوسُ مَعَهُ فِي التَّشَهُّدِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ فَرْضِهِمُ اتِّبَاعٌ لِإِمَامِهِمْ كَذَلِكَ فِي تَرْكِ الْقِيَامِ وَمُتَابَعَتِهِ فِي الْجُلُوسِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ جَلَسَ فِي الْأُولَى فَذَكَرَ قَامَ وَبَنَى وَعَلَيْهِ سَجْدَتَا السَّهْوِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا جَلَسَ فِي الْأُولَى مُسْتَرِيحًا أَوْ لِعَارِضٍ مِنْ مَرَضٍ سجود السهو فَصَلَاتُهُ مُجْزِئَةٌ وَلَا سُجُودَ لِلسَّهْوِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ جَلَسَ فِيهَا لِلتَّشَهُّدِ نَاسِيًا في الركعة الأولى يَظُنُّهَا ثَانِيَةً فَلْيَقُمْ إِلَى الثَّانِيَةِ ، وَيَجْلِسْ فِيهَا لِلتَّشَهُّدِ ، وَيَبْنِي عَلَى صَلَاتِهِ ، وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ قَبْلَ سَلَامِهِ ، لِأَنَّهُ نَقَلَ سُنَّةً عَلَى الْبَدَنِ مِنْ مَحَلٍّ إِلَى مَحَلٍّ فَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنْ صِحَّةِ الْبِنَاءِ وَلَزِمَهُ سُجُودُ السَّهْوِ لِمَا أَوْقَعَهُ مِنَ الزِّيَادَةِ فِي صَلَاتِهِ . وَأَصْلُ ذَلِكَ قِصَّةُ ذِي الْيَدَيْنِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ ذَكَرَ فِي الثَّانِيَةِ أَنَّهُ نَاسٍ لِسَجْدَةٍ مِنَ الْأُولَى بَعْدَمَا اعْتَدَلَ قَائِمًا فَلْيَسْجُدْ لِلْأُولَى حَتَّى تَتِمَّ قَبْلَ الثَّانِيَةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ قَامَ إِلَى رَكْعَةٍ ثَانِيَةٍ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ تَرَكَ مِنَ الرَّكْعَةِ الْأُولَى سَجْدَةً نَاسِيًا حكم صلاته ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ فَيَأْتِيَ بِالسَّجْدَةِ الَّتِي نَسِيَهَا سَوَاءٌ كَانَ قَائِمًا فِي الثَّانِيَةِ ، أَوْ رَاكِعًا لِمَا عَلَيْهِ مِنْ تَرْتِيبِ الْأَفْعَالِ ، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا صَلَاةَ لِمَنْ عَلَيْهِ صَلَاةٌ فَإِذَا أَرَادَ السُّجُودَ فَهَلْ يَجْلِسُ قَبْلَ سُجُودِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ : عَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ ، فَيَجْلِسَ ، ثُمَّ يَسْجُدَ ، سَوَاءٌ جَلَسَ قَبْلَ قِيَامِهِ
أَمْ لَا ، لِأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِالسُّجُودِ عُقَيْبَ الْجُلُوسِ ، فَإِذَا عَقَّبَ جُلُوسَهُ بِالْقِيَامِ لَمْ يُجْزِهِ الِاعْتِدَادُ بِهِ ، وَلَزِمَهُ فِعْلُهُ لِيَكُونَ السُّجُودُ عُقَيْبَهُ ، كَالسَّعْيِ لَا يَجُوزُ إِلَّا عَلَى عُقَيْبِ الطَّوَافِ ، فَلَوْ طَافَ وَصَبَرَ زَمَانًا ، ثُمَّ أَرَادَ السَّعْيَ لَمْ يَجُزْ حَتَّى يَسْتَأْنِفَ الطَّوَافَ ، ثُمَّ يُعْقِبُهُ السَّعْيَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَجْلِسَ بَلْ يَنْحَطَّ مِنْ فَوْرِهِ سَاجِدًا سَوَاءٌ جَلَسَ قَبْلَ قِيَامِهِ أَمْ لَا ، لِأَنَّ الْجِلْسَةَ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ فِي نَفْسِهَا ، وَإِنَّمَا أُزِيدَتْ لِلْفَصْلِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ ، وَالْقِيَامُ فَاصِلٌ بَيْنَهُمَا وَنَائِبٌ عَنِ الْجِلْسَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَعَلَيْهِ أَصْحَابُنَا : أَنَّهُ إِنْ كَانَ قَدْ جَلَسَ قَبْلَ قِيَامِهِ انْحَطَّ سَاجِدًا مِنْ فَوْرِهِ مِنْ غَيْرِ جُلُوسٍ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ جَلَسَ عَادَ فَجَلَسَ ثُمَّ سَجَدَ ، لِأَنَّ هَذِهِ الْجِلْسَةَ رُكْنٌ فِي الصَّلَاةِ مَقْصُودٌ : لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ثُمَّ اجْلِسْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا فَإِذَا فَعَلَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ إِعَادَتُهُ كَسَائِرِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ ، وَمَا قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ مِنْ وُجُوبِ تَعَقُّبِ السَّجْدَةِ بِالْجُلُوسِ فَفَاسِدٌ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرْ سَهْوَهُ عَنِ السَّجْدَةِ حَتَّى يَسْجُدَ فِي الثَّانِيَةِ ، لِأَنَّ هَذِهِ السَّجْدَةَ تُجْزِئُهُ عَنِ الْأُولَى ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عُقَيْبَ جُلُوسٍ ، وَإِنْ ذَكَرَ فَرَقًا ، فَإِنَّ الْفَرَقَ اعْتِذَارٌ بَعْدَ وُجُودِ النَّقْصِ ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَأَصَحُّ الْوُجُوهِ : أَنَّهُ إِنْ كَانَ جَلَسَ قَبْلَ قِيَامِهِ لَمْ يَأْتِ بِهِ ، وَانْحَطَّ سَاجِدًا مِنْ فَوْرِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَجْلِسْ قَبْلَ قِيَامِهِ عَادَ فَجَلَسَ ثُمَّ سَجَدَ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ قَدْ جَلَسَ قَبْلَ قِيَامِهِ جِلْسَةَ الِاسْتِرَاحَةِ غَيْرَ قَاصِدٍ بِهَا الْجِلْسَةَ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ فَهَلْ يَنُوبُ ذَلِكَ مَنَابَ الْجِلْسَةِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ : لَا تَنُوبُ مَنَابَ الْجِلْسَةِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ ، لِأَنَّ هَذِهِ فَرِيضَةٌ وَجِلْسَةُ الِاسْتِرَاحَةِ وَالنَّفْلِ سُنَّةٌ ، وَالنَّفْلُ لَا تَنُوبُ مَنَابَ الْفَرْضِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَسِيَ سَجْدَةً وَسَجَدَ سَجْدَةَ التِّلَاوَةِ لَمْ تَنُبْ عَنْ سَجْدَةِ الْفَرْضِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ جِلْسَةَ الِاسْتِرَاحَةِ تَنُوبُ مَنَابَ الْجِلْسَةِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ ، لِأَنَّ نِيَّةَ الصَّلَاةِ تُبْسَطُ عَلَى أَفْعَالِهَا ، وَلَيْسَ يَلْزَمُهُ تَحْدِيدُ النِّيَّةِ عِنْدَ كُلِّ فِعْلٍ مِنْهَا ، فَإِذَا وَجَدَ الْفِعْلَ عَلَى صِفَةِ الْفِعْلِ الْوَاجِبِ وَهَيْئَتِهِ قَامَ مَقَامَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَشَهَّدَ التَّشَهُّدَ الْأَخِيرَ وَعِنْدَهُ أَنَّهُ التَّشَهُّدُ الْأَوَّلُ أَجْزَأَهُ عَنْ فَرْضِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ لِوُجُودِ ذَلِكَ عَلَى صِفَتِهِ ، وَمَنْ قَالَ هَذَا الْوَجْهَ فَرَّقَ بَيْنَ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ فِي أَنَّهَا لَا تَنُوبُ عَنْ سَجْدَةِ الْفَرْضِ ، وَبَيْنَ جِلْسَةِ الِاسْتِرَاحَةِ فِي أَنَّهَا تَنُوبُ عَنْ جُلُوسِ الْفَرْضِ بِأَنْ قَالَ : سُجُودُ التِّلَاوَةِ عَارَضٌ ، وَالْعَارِضُ لَا يَنُوبُ عَنِ الرَّاتِبِ ، وَجِلْسَةُ الِاسْتِرَاحَةِ رَاتِبَةٌ فَجَازَ أَنْ تَنُوبَ عَنِ الرَّاتِبِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ ذَكَرَ بَعْدَ أَنْ يَفْرُغَ مِنَ الثَّانِيَةِ أَنَّهُ نَسِيَ سَجْدَةً مِنَ الْأُولَى ، فَإِنَّ عَمَلَهُ فِي الثَّانِيَةِ كَلَا عَمَلٍ ، فَإِذَا سَجَدَ فِيهَا كَانَتْ مِنْ حُكْمِ الْأُولَى وَتَمَّتِ الْأُولَى بِهَذِهِ السَّجْدَةِ ، وَسَقَطَتِ الثَّانِيَةُ " .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : صُورَتُهَا فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ وَصَلَّى الرَّكْعَةَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةَ ، ثُمَّ جَلَسَ فِيهَا مُتَشَهِّدًا ، وَذَكَرَ أَنَّهُ تَرَكَ مِنَ الرَّكْعَةِ الْأُولَى سَجْدَةً نَاسِيًا حكم صلاته ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ عَمَلَهُ فِي الثَّانِيَةِ مُلْغًى كَلَا عَمَلٍ إِلَّا سَجْدَةً يَجْبُرُ بِهَا الْأُولَى ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَأْتِي بِبَاقِي صَلَاتِهِ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ قَبْلَ سَلَامِهِ . وَقَالَ مَالِكٌ : يُلْغِي مَا فَعَلَهُ فِي الْأُولَى وَيَكُونُ عَمَلُهُ فِيهَا كَلَا عَمَلٍ لِتَكُونَ الثَّانِيَةُ لَهُ أُولَى ، وَهَذَا خَطَأٌ ، لِأَنَّ قِيَامَهُ إِلَى الثَّانِيَةِ قَبْلَ كَمَالِ الْأُولَى يُبْطِلُ مَا فَعَلَهُ فِيهَا مِنْ قِيَامٍ وَرُكُوعٍ وَلَا يُحْتَسَبُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْهُ حَتَّى يَأْتِيَ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ سُجُودِ الرَّكْعَةِ الْأُولَى ، فَوَجَبَ إِذَا سَجَدَ فِي الثَّانِيَةِ أَنْ يَكُونَ سُجُودُهُ فِيهَا مَصْرُوفًا إِلَى الرَّكْعَةِ الْأُولَى : لِبُطْلَانِ مَا سِوَاهُ مِنَ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأُولَى مَجْبُورَةٌ بِسَجْدَةٍ مِنَ الثَّانِيَةِ فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهَا مَجْبُورَةٌ بِالسَّجْدَةِ الْأُولَى مِنَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ السَّجْدَةَ فِي قِيَامِهِ انْحَطَّ مِنْ فَوْرِهِ سَاجِدًا مِنْ غَيْرِ جُلُوسٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا مَجْبُورَةٌ بِالسَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ السَّجْدَةَ فِي قِيَامِهِ انْحَطَّ مِنْ فَوْرِهِ سَاجِدًا مِنْهَا فِي قِيَامِهِ وَعَادَ جَالِسًا ، ثُمَّ سَجَدَ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ إِنْ كَانَ قَدْ جَلَسَ قَبْلَ قِيَامِهِ إِلَى الثَّانِيَةِ فَهِيَ مَجْبُورَةٌ بِالسَّجْدَةِ الْأُولَى ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَجْلِسْ فَهِيَ مَجْبُورَةٌ بِالسَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ ، وَهَذَا عَلَى الْمَذْهَبِ الثَّالِثِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ ذَكَرَ فِي الرَّابِعَةِ أَنَّهُ نَسِيَ سَجْدَةً مِنْ كُلِّ رَكْعَةٍ فَإِنَّ الْأُولَى صَحِيحَةٌ إِلَّا سَجْدَةً وَعَمَلُهُ فِي الثَّانِيَةِ كَلَا عَمَلٍ ، فَلَمَّا سَجَدَ فِيهَا لِسَجْدَةٍ كَانَتْ مِنْ حُكْمِ الْأُولَى وَتَمَّتِ الْأُولَى ، وَبَطَلَتِ الثَّانِيَةُ ، وَكَانَتِ الثَّالِثَةُ ثَانِيَةً ، فَلَمَّا قَامَ فِي الثَّالِثَةِ قَبْلَ أَنْ يُتِمَّ الثَّانِيَةَ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُ ثَالِثَةً كَانَ عَمَلُهُ كَلَا عَمَلٍ ، فَلَمَّا سَجَدَ فِيهَا سَجْدَةً كَانَتْ مِنْ حُكْمِ الثَّانِيَةِ فَتَمَّتِ الثَّانِيَةُ ، وَبَطَلَتِ الثَّالِثَةُ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُ رَابِعَةً ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَأْتِي بِرَكْعَتَيْنِ وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ ، وَقَبْلَ السَّلَامِ ، وَعَلَى هَذَا الْبَابِ كُلِّهِ وَقِيَاسِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَجَلَسَ لِلتَّشَهُّدِ ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ تَرَكَ مِنْ كُلِّ رَكْعَةٍ سَجْدَةً حكم صلاته ، فَالَّذِي يَحْصُلُ لَهُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَكْعَتَانِ : رَكْعَةٌ مِنَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ ، وَرَكْعَةٌ مِنَ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ ، وَاعْتِبَارُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّكْعَةَ الْأُولَى صَحِيحَةٌ إِلَّا سَجْدَةً ، ، وَعَمَلُهُ فِي الثَّانِيَةِ بَاطِلٌ إِلَّا سَجْدَةً تُضَمُّ إِلَى الْأُولَى فَيَتِمُّ لَهُ رَكْعَةٌ ، وَعَمَلُهُ فِي الثَّالِثَةِ صَحِيحٌ إِلَّا سَجْدَةً وَهِيَ فِي التَّقْدِيرِ ثَانِيَةٌ ، وَعَمَلُهُ فِي الرَّابِعَةِ بَاطِلٌ إِلَّا سَجْدَةً تُضَمُّ إِلَى الثَّالِثَةِ الَّتِي هِيَ الثَّانِيَةُ فَيَتِمُّ لَهَا الرَّكْعَةُ الثَّانِيَةُ ، فَيَصِيرُ لَهُ رَكْعَتَانِ ، ثُمَّ يَنْظُرُ فَإِنْ كَانَ قَدْ تَشَهَّدَ فِي الرَّابِعَةِ قَامَ مَقَامَ تَشَهُّدِهِ فِي الثَّانِيَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَشَهَّدَ فِي الرَّابِعَةِ تَشَهَّدَ فِي الثَّانِيَةِ ، وَقَامَ فَيَأْتِي بِالرَّكْعَتَيْنِ تَمَامَ صَلَاتِهِ وَتَشَهَّدَ فَسَجَدَ لِلسَّهْوِ وَسَلَّمَ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَأْتِي بِأَرْبَعِ سَجَدَاتٍ مُتَوَالِيَاتٍ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ ، وَيُجْزِئُهُ : تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا ، وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا قَالَ : وَهَذَا قَدْ أَدْرَكَ جَمِيعَ الصَّلَاةِ إِلَّا أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ قَضَاؤُهَا لَا غَيْرَ . قَالَ : وَلِأَنَّ كُلَّ مَا يَفْعَلُ عَلَى وَجْهِ التَّكْرَارِ لَا يُعْتَبَرُ التَّرْتِيبُ فِي فِعْلِهِ ، كَصَوْمِ رَمَضَانَ إِذَا تَرَكَ صَوْمَ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مِنْهُ وَصَامَ الثَّانِيَ لَمْ يَقَعْ عَنِ الْأَوَّلِ مِنْهُ ، وَوَقَعَ عَنِ الثَّانِي : كَذَلِكَ الصَّلَاةُ قَالَ : وَلِأَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ خَلْفَ الْإِمَامِ ، ثُمَّ سَهَا عَنِ اتِّبَاعِهِ فِي الْأُولَى حَتَّى دَخَلَ فِي الثَّانِيَةِ صَلَّاهَا مَعَهُ وَصَحَّتْ هَذِهِ الرَّكْعَةُ لَهُ وَإِنْ حَصَلَتْ لَهُ الْأُولَى ، كَذَلِكَ إِذَا تَرَكَ مِنْهَا سَجْدَةً جَازَ أَنْ تَصِحَّ لَهُ الثَّانِيَةُ مَعَ بَقَاءِ سَجْدَةٍ مِنَ الْأُولَى . وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا صَلَاةَ لِمَنْ عَلَيْهِ صَلَاةٌ " وَمَعْنَاهُ : لَا رَكْعَةَ ثَانِيَةً لِمَنْ عَلَيْهِ أُولَى ، وَلِأَنَّهُ شَرَعَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ قَبْلَ كَمَالِ الْأُولَى ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُعْتَدَّ لَهُ بِالثَّانِيَةِ قَبْلَ كَمَالِ الْأُولَى . أَصْلُهُ إِذَا تَرَكَ مِنَ الرَّكْعَةِ الْأُولَى سَجْدَتَيْنِ ، لِأَنَّهُ وَافَقَنَا أَنْ يَجْبُرَ سَجْدَتَيْنِ مِنَ الثَّانِيَةِ ، وَكَذَلِكَ فِي السَّجْدَةِ الْوَاحِدَةِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ تَرْتِيبٍ إِذَا تَرَكَهُ عَامِدًا لَمْ يُعْتَدَّ بِمَا فَعَلَهُ بَعْدَهُ ، فَكَذَلِكَ إِذَا تَرَكَهُ نَاسِيًا . أَصْلُهُ إِذَا تَقَدَّمَ الرُّكُوعُ عَلَى السُّجُودِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا شُرِطَ فِعْلُهُ فِي الصَّلَاةِ مَعَ الذِّكْرِ لَمْ يَسْقُطْ بِالسَّهْوِ كَالطَّهَارَةِ . فَأَمَّا تَعَلُّقُهُ بِالْخَبَرِ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ ، لِأَنَّهُ يُوجِبُ قَضَاءَ مَا فَاتَ ، وَالَّذِي فَاتَهُ عِنْدَنَا رَكْعَتَانِ فَيَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُمَا ، وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ مَا يَفْعَلُ عَلَى وَجْهِ التَّكْرَارِ يَسْقُطُ فِيهِ التَّرْتِيبُ كَصَوْمِ رَمَضَانَ ، فَفَاسِدٌ بِالرُّكُوعِ يَتَكَرَّرُ فِي الرَّكَعَاتِ ، ثُمَّ التَّرْتِيبُ فِيهِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي صَوْمِ رَمَضَانَ أَنَّهُ لَوْ تُرِكَ تَرْتِيبُهُ عَامِدًا لَمْ يَبْطُلْ مَا صَامَهُ ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي صَلَاتِهِ عَامِدًا بَطَلَتْ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَسْقُطْ بِالنِّسْيَانِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : إِنَّ الرَّكْعَةَ أَوْكَدُ مِنَ السَّجْدَةِ فَمُنْكَسِرٌ بِهِ إِذَا تَرَكَ سَجْدَتَيْنِ عَلَى أَنَّ هَذَا لَا يَصِحُّ عَلَى مَذْهَبِنَا ، لِأَنَّنَا نَقُولُ : إِنَّهَا تَكُونُ لَهُ أُولَى ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ عَلَى مَذْهَبِهِمْ .
فَصْلٌ : وَإِذَا صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ، ثُمَّ ذَكَرَ قَبْلَ سَلَامِهِ أَنَّهُ تَرَكَ مِنْهَا سَجْدَةً حكم صلاته لَا يَدْرِي كَيْفَ تَرَكَهَا ، فَإِنَّهُ يُنْزِلُ ذَلِكَ عَلَى أَسْوَإِ أَحْوَالِهِ وَيَعْمَلُ عَلَى الِاحْتِيَاطِ فِيهِ ، فَأَحْسَنُ حَالَتِهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَرَكَهَا مِنَ الرَّكْعَةِ الرَّابِعَةِ فَتَصِحُّ لَهُ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ إِلَّا سَجْدَةً ، فَأَسْوَأُ حَالَتِهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَرَكَهَا مِنْ أَحَدِ الرَّكَعَاتِ الثَّلَاثِ ، إِمَّا الْأُولَى ، أَوِ الثَّانِيَةُ ، أَوِ الثَّالِثَةُ ، فَتَصِحُّ لَهُ عَلَى الْعِبْرَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ فَيَبْنِي عَلَيْهَا ، وَيُتِمُّ صَلَاتَهُ ، وَلَوْ ذَكَرَ أَنَّهُ تَرَكَ سَجْدَتَيْنِ لَا يَدْرِي كَيْفَ تَرَكَهَا ، فَأَحْسَنُ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَرَكَهَا مِنَ الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ فَتَصِحُّ لَهُ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ إِلَّا سَجْدَتَيْنِ يَأْتِي بِهِمَا وَيَبْنِي عَلَى صَلَاتِهِ ، وَأَسْوَأُ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَرَكَ مِنَ الْأُولَى سَجْدَةً ، وَأَتَى بِالثَّانِيَةِ كَامِلًا وَتَرَكَ
مِنَ الثَّالِثَةِ سَجْدَةً ، وَأَتَى بِالرَّابِعَةِ كَامِلًا فَيَحْصُلُ لَهُ رَكْعَتَانِ الْأُولَى مَجْبُورَةٌ بِالثَّانِيَةِ ، وَالثَّالِثَةُ مَجْبُورَةٌ بِالرَّابِعَةِ ، فَيَأْتِي بِرَكْعَتَيْنِ تَمَامِ صَلَاتِهِ ، وَلَوْ تَرَكَ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ لَا يَدْرِي كَيْفَ تَرَكَهُنَّ حكم صلاته فَأَحْسَنُ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَرَكَ مِنَ الثَّالِثَةِ سَجْدَةً وَمِنَ الرَّابِعَةِ سَجْدَتَيْنِ ، فَيَحْصُلُ لَهُ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ إِلَّا سَجْدَةً ، وَأَسْوَأُ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَرَكَ مِنَ الْأُولَى سَجْدَةً ، وَأَتَى بِالثَّالِثَةِ كَامِلًا وَتَرَكَ مِنَ الثَّالِثَةِ سَجْدَةً وَمِنَ الرَّابِعَةِ سَجْدَةً ؟ فَتَحْصُلُ لَهُ رَكْعَتَانِ : الْأُولَى مَجْبُورَةٌ بِالثَّانِيَةِ ، وَالثَّالِثَةِ بِالرَّابِعَةِ ، فَيَأْتِي بِرَكْعَتَيْنِ تَمَامِ صَلَاتِهِ . فَلَوْ تَرَكَ أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ لَا يَدْرِي كَيْفَ تَرَكَهُنَّ في سجود السهو ، فَأَحْسَنُ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَرَكَ مِنَ الثَّالِثَةِ سَجْدَتَيْنِ ، وَمِنَ الرَّابِعَةِ سَجْدَتَيْنِ فَيَحْصُلُ لَهُ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ إِلَّا سَجْدَتَيْنِ ، وَأَسْوَأُ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَرَكَ مِنَ الْأُولَى سَجْدَةً وَأَتَى بِالثَّانِيَةِ كَامِلًا ، وَلَمْ يَأْتِ فِي الثَّالِثَةِ بِسُجُودٍ أَصْلًا وَتَرَكَ مِنَ الرَّابِعَةِ سَجْدَةً ، فَيَحْصُلُ لَهُ رَكْعَتَانِ إِلَّا سَجْدَةً ، الْأُولَى مَجْبُورَةٌ بِالثَّانِيَةِ وَرُكُوعِ الثَّالِثَةِ مَعَ سَجْدَةٍ مِنْ سَجْدَتَيِ الرَّابِعَةِ ، فَيَأْتِي بِسَجْدَةٍ تَمَامِ الرَّكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ يَتَشَهَّدُ وَيَأْتِي بِرَكْعَتَيْنِ تَمَامِ صَلَاتِهِ ، ثُمَّ عَلَى قِيَاسِ هَذَا وَغَيْرِهِ فِي الْخَمْسِ وَالسِّتِّ وَمَا زَادَ . وَلَوْ صَلَّى الْمَغْرِبَ أَرْبَعًا نَاسِيًا ، ثُمَّ ذَكَرَ قَبْلَ سَلَامِهِ أَنَّهُ تَرَكَ مِنْ كُلِّ رَكْعَةٍ سَجْدَةً لُفِّقَ لَهُ مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ : الْأُولَى مَجْبُورَةٌ بِالثَّانِيَةِ ، وَالثَّالِثَةُ مَجْبُورَةٌ بِالرَّابِعَةِ ، وَإِنَّمَا احْتُسِبَ لَهُ بِسُجُودِ الرَّابِعَةِ ، وَإِنْ فَعَلَهَا نَاسِيًا ، لِأَنَّهُ فَعَلَهَا قَاصِدًا بِهَا الْفَرِيضَةَ نَاسِيًا أَنَّهَا رَابِعَةٌ ، فَلِذَلِكَ مَا حُسِبَتْ لَهُ مِنْ فَرِيضَةٍ ، وَكَانَتْ عَمَّا تَرَكَهُ بِسَهْوِهِ ، وَلَكِنْ لَوْ ذَكَرَ أَنَّهُ تَرَكَ مِنْ صَلَاتِهِ سَجْدَةً وَكَانَ قَدْ سَجَدَ لِلتِّلَاوَةِ سَجْدَةً لَمْ تَنُبْ سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ عَنْ سَجْدَةِ الْفَرْضِ ، لِأَنَّ سَجْدَةَ التِّلَاوَةِ سُنَّةٌ غَيْرُ رَاتِبَةٍ فِي الصَّلَاةِ ، فَلِذَلِكَ لَمْ تَنُبْ عَنِ الْفَرْضِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ فِي صَلَاتِهِ سَجْدَتَيْنِ ، وَكَانَ قَدْ سَجَدَ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ لِلسَّهْوِ سَجْدَتَيْنِ لَمْ تَنُبْ عَنْ فَرْضِهِ ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ كَوْنِ سُجُودِ السَّهْوِ سُنَّةً مَقْصُودَةً فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَنُوبَ عَنِ الْفَرْضِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ شَكَّ هَلْ سَهَا أَمْ لَا في صلاته ؟ فَلَا سَهْوَ عَلَيْهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا شَكَّ : هَلْ سَهَا فِي الصَّلَاةِ سَهْوًا زَائِدًا مِثْلَ كَلَامٍ ، أَوْ سَلَامٍ ، أَوْ رَكَعَ رُكُوعَيْنِ ، أَوْ سَجَدَ سَجْدَةً زَائِدَةً أَوْ قَامَ إِلَى خَامِسَةٍ ؟ فَشَكُّهُ مُطْرَحٌ ، وَمَا تَوَهَّمَهُ مِنَ السَّهْوِ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ ، وَصَلَاتُهُ مُجْزِئَةٌ ، وَلَا سُجُودَ لِلسَّهْوِ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْتِي أَحَدَكُمْ فَيَنْفُخُ بَيْنَ إِلْيَتَيْهِ فَلَا يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا ، أَوْ يَجِدَ رِيحًا فَأَمَرَهُ بِالْبِنَاءِ عَلَى يَقِينِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ شَكَّ فِي الْحَدَثِ في الصلاة ، أَوْ فِي الطَّلَاقِ شَكَّ فِيه ، أَوْ فِي الْعِتْقِ شَكَّ فِيه طُرِحَ شَكُّهُ ، وَبُنِيَ عَلَى الْيَقِينِ أَمْرُهُ ، كَذَلِكَ إِذَا شَكَّ فِي السَّهْوِ في الصلاة ، فَعَلَى هَذَا لَوْ سَجَدَ لِلسَّهْوِ نَظَرَ فِي حَالِهِ ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ ، وَإِنْ جَهِلَ جَوَازَهُ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ ، وَيَسْجُدُ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ لِأَجْلِ مَا فَعَلَهُ مِنْ سُجُودِ السَّهْوِ ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ الشَّكُّ هَلْ أَتَى بِالتَّشَهُّدِ الْأُولَى ، أَوْ هَلْ قَنَتَ فِي الصُّبْحِ ؟ أَوْ هَلْ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ أَمْ لَا ؟ أَوْ هَلْ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ؟
فَإِنَّهُ يَطْرَحُ الشَّكَّ وَيَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ وَيَأْتِي بِمَا شَكَّ فِي فِعْلِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الشَّكُّ مُطْرَحًا ، وَالْبِنَاءُ عَلَى الْيَقِينِ وَاجِبٌ ، وَالْيَقِينُ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِمَا شَكَّ بِالْإِتْيَانِ بِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنِ اسْتَيْقَنَ السَّهْوَ ، ثُمَّ شَكَّ هَلْ سَجَدَ لِلسَّهْوِ أَمْ لَا ؟ سَجَدَهُمَا وَإِنْ شَكَّ هَلْ سَجَدَ سَجْدَةً ، أَوْ سَجْدَتَيْنِ سَجَدَ أُخْرَى " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : صُورَتُهَا فِي رَجُلٍ تَيَقَّنَ أَنَّهُ أَتَى فِي صَلَاتِهِ بِمَا يُوجِبُ سُجُودَ السَّهْوِ ، مِثْلُ سَلَامٍ ، أَوْ كَلَامٍ ، أَوْ تَرْكِ تَشَهُّدٍ ، أَوْ قُنُوتٍ ، ثُمَّ شَكَّ : هَلْ أَتَى بِسُجُودِ السَّهْوِ لِأَجْلِهِ أَمْ لَا ؟ فَهَذَا شَكٌّ حَصَلَ فِي نُقْصَانٍ فَعَلَيْهِ الْإِتْيَانُ بِهِ لِيَكُونَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ فِعْلِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَيَقَّنَ أَنَّهُ سَجَدَ إِحْدَى السَّجْدَتَيْنِ ، ثُمَّ شَكَّ فِي الثَّانِيَةِ فَعَلَيْهِ الْإِتْيَانُ بِهَا لِيَكُونَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ فِعْلِهَا .
فَصْلٌ : وَلَوْ سَهَا فِي سُجُودِ السَّهْوِ كَأَنْ سَجَدَ إِحْدَى السَّجْدَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ أَوْ قَامَ سَاهِيًا قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ بِالسَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ ، فَلَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ نَصٌّ فِي حُكْمِ هَذَا السَّهْوِ ، وَلَكِنْ مَذْهَبُ سَائِرِ أَصْحَابِنَا وَهُوَ قَوْلُ كَافَّةِ الْفُقَهَاءِ إِنَّهُ لَا حُكْمَ لِهَذَا السَّهْوِ : بَلْ يَأْتِي بِالسَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ وَيُسَلِّمُ ، لِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ نَفْسَهُ جُبْرَانٌ فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى جُبْرَانٍ كَصَوْمِ الْمُتَمَتِّعِ لَمَّا كَانَ جُبْرَانًا لَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى جُبْرَانٍ فِي تَأْخِيرِهِ ، وَلَزِمَهُ ذَلِكَ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِجُبْرَانٍ . وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ وَحْدَهُ : يَسْجُدُ لِهَذَا السَّهْوِ سَجْدَتَيْنِ ، وَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمُ السَّهْوِ فِي غَيْرِهِ ، فَتَكُونُ السَّجْدَةُ الْأُولَى مِنْ هَاتَيْنِ السَّجْدَتَيْنِ نَائِبَةً عَنِ السَّهْوِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي سُجِدَتِ الثَّانِيَةُ نَائِبَةً عَنِ السَّهْوِ الثَّانِي ، وَنَظِيرُهُ الْمُعْتَدَّةُ إِذَا وَطِئَهَا الزَّوْجُ بِشُبْهَةٍ وَقَدْ بَقِيَ مِنْ عِدَّتِهَا قُرْءٌ فَعَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ مِنْ هَذَا الْوَطْءِ ، فَالْقُرْءُ الْأَوَّلُ نَائِبٌ عَنِ الْعِدَّةِ الْأُولَى ، وَالثَّانِي نَائِبٌ عَنِ الْعِدَّةِ الثَّانِيَةِ مِنْ وَطْءِ الشُّبْهَةِ ، وَهَذَا التَّشْبِيهُ يَصِحُّ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْحُكْمِ ، فَأَمَّا مَعَ فَسَادِ مَا ذَكَرْنَا فَلَا ، فَأَمَّا إِذَا سَهَا بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ سُجُودِ السَّهْوِ قَبْلَ سَلَامِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا مُحْتَمَلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا سُجُودَ لِلسَّهْوِ عَلَيْهِ لِلْمَعْنَى الْمُتَقَدِّمِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ ، لِأَنَّ السَّهْوَ لَمْ يَقَعْ فِي الْجُبْرَانِ فَيَمْتَنِعُ مِنْ جُبْرَانِهِ ، وَإِنَّمَا وَقَعَ فِي نَفْسِ الصَّلَاةِ فَكَانَ بِالسَّاهِي قَبْلَ سُجُودِهِ أَشْبَهُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ سَهَا سَهْوَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ في الصلاة فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا سَجْدَتَا السَّهْوِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا كَثُرَ سَهْوُهُ فِي صَلَاتِهِ فَسَجْدَتَا السَّهْوِ تَنُوبُ عَنْ جَمِيعِ سَهْوِهِ وَهُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ . وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : عَلَيْهِ لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ .
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : إِنْ كَانَ السَّهْوُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ نَابَتِ السَّجْدَتَانِ عَنْ جَمِيعِهِ ، وَإِنِ اخْتَلَفَ كَانَ عَلَيْهِ لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ : وَاسْتَدَلُّوا بِرِوَايَةِ ثَوْبَانَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ بَعْدَ السَّلَامِ وَلِأَنَّهُ جُبْرَانٌ لَمْ يَتَدَاخَلْ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَدَاخَلَ جُبْرَانُهُ كَالنَّقْصِ الْمَجْبُورِ فِي الْحَجِّ ، وَهَذَا خَطَأٌ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ قِصَّةُ ذِي الْيَدَيْنِ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَلَّمَ مِنَ اثْنَتَيْنِ نَاسِيًا ، وَتَكَلَّمَ نَاسِيًا ، وَمَشَى نَاسِيًا ، ثَمَّ سَجَدَ لِكُلِّ ذَلِكَ سَجْدَتَيْنِ ، وَلِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ لَمَّا أُخِّرَ عَنْ سَبَبِهِ ، وَجُعِلَ مَحَلُّهُ آخِرَ الصَّلَاةِ دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ نِيَابَتِهِ عَنْ جَمِيعِ السَّهْوِ الْمُتَقَدِّمِ ، وَلَوْ وَجَبَ لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ لَوَجَبَ أَنْ يُفْعَلَا عُقَيْبَ السَّهْوِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ سُجُودَ التِّلَاوَةِ لَمَّا تَكَرَّرَ جُعِلَ مَحَلُّهُ عُقَيْبَ سَبَبِهِ ، فَلَمَّا كَانَ سُجُودُ السَّهْوِ مُخَالِفًا لَهُ فِي مَحَلِّهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لَهُ فِي حُكْمِهِ . وَأَمَّا حَدِيثُ ثَوْبَانَ فَفِيهِ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَعْنَاهُ لِكُلِّ سَهْوٍ وَقَعَ فِي الصَّلَاةِ سَجْدَتَانِ ، لِأَنَّ " كُلَّ " لَفْظَةٍ تَسْتَغْرِقُ الْجِنْسَ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ تَسْوِيَةُ الْحُكْمِ بَيْنَ قَلِيلِ السَّهْوِ وَكَثِيرِهِ ، وَصِغَرِهِ وَكِبَرِهِ فِي أَنَّ فِيهِ سُجُودَ السَّهْوِ ، وَأَمَّا الْحَجُّ فَإِنَّمَا تَكَرَّرَ جُبْرَانُهُ ، لِأَنَّ مَحَلَّهُ عُقَيْبَ سَبَبِهِ ، فَكَذَلِكَ لَمْ يَكُنِ الْجَبْرُ أَنَّ الْوَاحِدَ نَائِبٌ عَنْ جَمِيعِهِ ، وَلَمَّا كَانَ سُجُودُ السَّهْوِ مُؤَخَّرًا عَنْ سَبَبِهِ كَانَ نَائِبًا عَنْ جَمِيعِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَا سَهَا عَنْهُ مِنْ تَكْبِيرٍ سِوَى تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ ، أَوْ ذِكْرٍ فِي رُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ ، أَوْ فِي جَهْرٍ فِيمَا يُسِرُّ بِالْقِرَاءَةِ ، أَوْ أَسَرَّ فِيمَا يَجْهَرُ فَلَا سُجُودَ لِلسَّهْوِ إِلَّا فِي عَمَلِ الْبَدَنِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ كَمَا قَالَ ، أَمَّا قَصْدُ الشَّافِعِيِّ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيَانَ مَا يَجِبُ لَهُ سُجُودُ السَّهْوِ ، وَجُمْلَتُهُ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا وَجَبَ لِزِيَادَةٍ سُجُودُ السَّهْوِ ، فَمِثْلُ أَنْ يَتَكَلَّمَ نَاسِيًا ، أَوْ يَرْكَعَ رُكُوعَيْنِ ، أَوْ يَقُومَ إِلَى خَامِسَةٍ ، أَوْ يَتَشَهَّدَ فِي ثَالِثَةٍ نَاسِيًا فِي كُلِّ ذَلِكَ ، فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ ، وَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ . أَصْلُهُ قِصَّةُ ذِي الْيَدَيْنِ . وَأَمَّا مَا وَجَبَ لِنُقْصَانٍ فَهُوَ أَنْ يَتْرُكَ مَا أُمِرَ بِفِعْلِهِ ، وَذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةٍ أَضْرُبٍ : أَحَدُهُمَا : مَا كَانَ رُكْنًا مَفْرُوضًا . " قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ " ، وَالرُّكُوعُ ، وَالسُّجُودُ ، وَالتَّشَهُّدُ الْأَخِيرُ فَيَلْزَمُهُ الْإِتْيَانُ بِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، ثُمَّ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ ، فَأَمَّا تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ لو تركها ناسيا فَرُكْنٌ مَفْرُوضٌ غَيْرَ أَنَّهُ إِنْ تَرَكَهَا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ ، وَلَزِمَهُ اسْتِئْنَافُ النِّيَّةِ وَالْإِحْرَامُ ، لِأَنَّ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ تَمْنَعُ مِنَ انْعِقَادِ الصَّلَاةِ .
وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا كَانَ مَسْنُونًا مَقْصُودًا فِي نَفْسِهِ تركه في الصلاة ناسيا ، وَلَيْسَ يُمْنَعُ لِمَحَلِّهِ ، وَذَلِكَ التَّشَهُّدُ الْأَوَّلُ ، وَالْقُنُوتُ فِي الصُّبْحِ ، وَالْقُنُوتُ فِي الْوِتْرِ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ ، فَإِنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ ، وَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ ، فَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّشَهُّدِ الْأُولَى فَعَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : سُنَّةٌ فَيَسْجُدُ لِتَرْكِهَا سُجُودَ السَّهْوِ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَيْسَ بِسُنَّةٍ فَلَا سُجُودَ لِتَرْكِهَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا كَانَ هَيْئَةً لِفِعْلٍ ، أَوْ تَبَعًا لِمَحَلٍّ تركه في الصلاة ناسيا ، فَأَمَّا مَا كَانَ تَبَعًا لِمَحَلٍّ ، كَالتَّوَجُّهِ ، وَالِاسْتِعَاذَةِ ، وَقِرَاءَةِ السُّورَةِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ ، وَتَكْبِيرَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ، وَالدُّعَاءِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ ، فَهَذَا كُلُّهُ تَبَعٌ لِمَحَلِّهِ ، وَلَيْسَ بِمَقْصُودٍ فِي نَفْسِهِ ، وَمَا كَانَ هَيْئَةً لِفِعْلٍ كَرَفْعِ الْيَدَيْنِ ، وَوَضْعِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى ، وَالِافْتِرَاشِ فِي الْجُلُوسِ الْأَوَّلِ ، وَالتَّوَرُّكِ فِي الْجُلُوسِ الثَّانِي ، وَالْجَهْرِ فِيمَا يُسَرُّ ، وَالْإِخْفَاءِ فِيمَا يُجْهَرُ ، وَهَذَا كُلُّهُ وَنَظَائِرُهُ لَا يُوجِبُ سُجُودَ السَّهْوِ ، وَوَافَقَنَا أَبُو حَنِيفَةَ فِي جَمِيعِهِ إِلَّا فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ أَوْجَبَ فِيهَا سُجُودَ السَّهْوِ ، وَهِيَ قِرَاءَةُ السُّورَةِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ تركه ناسيا ، وَالْجَهْرُ فِيمَا يُسَرُّ ، وَالْإِسْرَارُ فِيمَا يُجْهَرُ إِذَا كَانَ الْمُصَلِّي إِمَامًا ، وَتَكْبِيرَاتُ الْعِيدَيْنِ تركه ناسيا . وَقَالَ مَالِكٌ : يَجِبُ سُجُودُ السَّهْوِ فِي تَرْكِ تَكْبِيرَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ تَعَلُّقًا بِرِوَايَةِ ثَوْبَانَ : " لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ " . وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنْ لَا سُجُودَ فِي الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ رِوَايَةُ أَبِي قَتَادَةَ ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ فِي الْأُولَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ ، وَسُورَةٍ ، وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ ، وَكَانَ يُسْمَعُ أَحْيَانًا لِلْآيَةِ وَالْآيَتَيْنِ . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْجَهْرَ فِيمَا يُسَرُّ لَا يُوجِبُ سُجُودَ السَّهْوِ . وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّهُ أَسَرَّ بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ فَلَمَّا فَرَغَ قِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ ، قَالَ : " فَلَا بَأْسَ إِذًا " ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِسْرَارَ فِيمَا يُجْهَرُ لَا يُوجِبُ سُجُودَ السَّهْوِ ، وَلِأَنَّهُ صِفَةٌ لِلْقِرَاءَةِ فَاقْتَضَى أَنْ لَا يُوجِبَ سُجُودَ السَّهْوِ كَالْمُنْفَرِدِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنْ لَا سُجُودَ فِي تَكْبِيرَاتِ الْعِيدَيْنِ هُوَ أَنَّهُ تَكْبِيرٌ فِي الصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَ فِيهِ سُجُودُ السَّهْوِ ، وَقِيَاسًا عَلَى تَكْبِيرَاتِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنْ لَا سُجُودَ فِي قِرَاءَةِ السُّورَةِ هُوَ أَنَّهُ ذَكَرَ مَفْعُولًا فِي حَالِ الِانْتِصَابِ عَلَى وَجْهِ التَّبَعِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَ فِيهِ سُجُودُ السَّهْوِ كَالتَّوَجُّهِ وَالِاسْتِعَاذَةِ ، فَأَمَّا حَدِيثُ ثَوْبَانَ فَمَخْصُوصٌ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى سَهْوٍ دُونَ سَهْوٍ ، فَلَمْ يَصِحَّ الِاحْتِجَاجُ بِظَاهِرِهِ سِيَّمَا مَعَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ : " وَلَا سُجُودَ إِلَّا فِي عَمَلِ الْبَدَنِ " : أَرَادَ بِهِ لَا سُجُودَ فِي
الذِّكْرِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الذِّكْرُ مَقْصُودًا بِهِ عَمَلُ الْبَدَنِ كَالتَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ ، لِأَنَّ الْقُعُودَ فِيهِ مِنْ أَجْلِهِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ ذَكَرَ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ بَعْدَ أَنْ سَلَّمَ فَإِنْ ذَكَرَ قَرِيبًا أَعَادَهَا وَسَلَّمَ وَإِنْ تَطَاوَلَ لَمْ يُعِدْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَصْلُهُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ : أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ حكمه عِنْدَنَا سُنَّةٌ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : وَاجِبٌ ، لَكِنْ لَا يَقْدَحُ تَرْكُهُ فِي الصَّلَاةِ . وَقَالَ دَاوُدُ ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ سُجُودُ السَّهْوِ وَاجِبٌ ، فَإِنْ تَرَكَهُ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ . وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " وَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ " ، وَهَذَا أَمْرٌ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ قَالُوا : وَلِأَنَّهُ جُبْرَانُ نَقْصٍ فِي عِبَادَةٍ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا كَالْحَجِّ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ أَثْلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا فَلْيَبْنِ عَلَى الْيَقِينِ ، وَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ ، فَإِنْ كَانَتْ صَلَاتُهُ تَامَّةً كَانَتِ الرَّكْعَةُ وَالسَّجْدَتَانِ نَافِلَتَيْنِ ، وَإِنْ كَانَتْ نَاقِصَةً كَانَتْ تَمَامًا لِصَلَاتِهِ وَكَانَتِ السَّجْدَتَانِ تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ . وَلِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ يَنُوبُ عَنِ الْمَسْنُونِ دُونَ الْمَفْرُوضِ ، وَالْبَدَلُ فِي الْأُصُولِ عَلَى حَكْمِ مُبْدَلِهِ أَوْ أَخَفُّ ، فَلَمَّا كَانَ الْمُبْدَلُ مَسْنُونًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْبَدَلُ مُسَنُونًا ، وَلِأَنَّهُ سُجُودٌ ثَبَتَ فِعْلُهُ بِسَبَبٍ حَادِثٍ فِي الصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَسْنُونًا كَسُجُودِ التِّلَاوَةِ ، فَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " وَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ " فَظَاهِرُهُ الْأَمْرُ ، لَكِنَّ صَرْفَنَا عَنْهُ بِصَرِيحِ مَا رَوَيْنَاهُ مِنْ كَوْنِهِ نَفْلًا . وَأَمَّا الْحَجُّ فَلَمَّا وَجَبَ جُبْرَانُهُ لِكَوْنِهِ نَائِبًا عَنْ وَاجِبٍ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ سُجُودُ السَّهْوِ ، فَإِذَا تَمَهَّدَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ كَوْنِ سُجُودِ السَّهْوِ مَسْنُونًا فَمَحَلُّهُ فِي الِاخْتِيَارِ قَبْلَ السَّلَامِ ، فَإِنْ سَلَّمَ قَبْلَ فِعْلِهِ عَامِدًا ، أَوْ نَاسَيًا ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ السَّلَامِ ، فَإِنْ كَانَ الزَّمَانُ قَرِيبًا نسي سجود السهو وسلّم سَجَدَهُمَا ، وَإِنْ كَانَ الزَّمَانُ بَعِيدًا نسي سجود السهو وسلّم فَعَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ ، وَأَحَدُ قَوْلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ : لَا يَسْجُدُهُمَا ، وَصَلَاتُهُ مُجْزِئَةٌ ، لِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ جُبْرَانٌ لِلصَّلَاةِ ، وَمَا كَانَ مِنْ أَحْكَامِ الصَّلَاةِ لَا يَصِحُّ فِعْلُهُ بَعْدَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ صُلْبِ صَلَاتِهِ ثُمَّ ذَكَرَهُ بَعْدَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ لَمْ يَصِحَّ الْبِنَاءُ عَلَيْهِ فَلِأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي سُجُودِ السَّهْوِ أَوْلَى . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ يَسْجُدُهُمَا ، وَإِنْ تَطَاوَلَ الزَّمَانُ قِيَاسًا عَلَى جُبْرَانِ الْحَجِّ وَرَكْعَتِيِ الطَّوَافِ ، لِأَنَّ الدِّمَاءَ الْوَاجِبَةَ فِي الْحَجِّ زَمَانُهَا يَوْمُ النَّحْرِ ، ثُمَّ لَمْ تَسْقُطْ بِالتَّأْخِيرِ ، كَذَلِكَ سُجُودُ السَّهْوِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَنْ سَهَا خَلْفَ إِمَامِهِ فَلَا سُجُودَ عَلَيْهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَإِنَّمَا سَقَطَ حُكْمُ سَهْوِهِ خَلْفَ إِمَامِهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْأَئِمَّةُ ضُمَنَاءُ يُرِيدُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - ضُمَنَاءُ السَّهْوِ : وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ الْحَكَمِ شَمَّتَ عَاطِسًا خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِسُجُودِ السَّهْوِ ، لِأَنَّهُ ضَامِنٌ لِسَهْوِهِ ، وَلِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ مَسْنُونٌ ، وَالْإِمَامُ قَدْ يَتَحَمَّلُ عَنِ الْمَأْمُومِ الْمَسْنُونَ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَأْمُومَ لَوْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَصَلَّى بَعْدَ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ كَانَتْ لَهُ ثَانِيَةً ، ثُمَّ عَلَيْهِ تَرْكُ التَّشَهُّدِ وَاتِّبَاعُ إِمَامِهِ ، وَيَكُونُ الْإِمَامُ قَدْ يَحْمِلُ عَنْهُ التَّشَهُّدَ ، فَكَذَلِكَ فِي السَّهْوِ ، وَلِأَنَّ الْإِمَامَ لَمَّا لَمْ يَحْمِلْ عَنْهُ الْقِيَامَ وَالْقِرَاءَةَ إِذَا أَدْرَكَهُ رَاكِعًا مَعَ كَوْنِ ذَلِكَ رُكْنًا وَاجِبًا كَانَ بِتَحَمُّلِ السَّهْوِ أَوْلَى .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ سَهَا إِمَامُهُ سَجَدَ مَعَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . وَهُوَ إِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا سَهَا تَعَلَّقَ سَهْوُهُ بِصَلَاةِ الْمَأْمُومِ وَلَزِمَهُ السُّجُودُ مَعَهُ . وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْإِمَامُ ضَامِنٌ فَمَا صَنَعَ فَاصْنَعُوا . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا ، وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي سُجُودِ الْفَرْضِ وَغَيْرِهِ ، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهَا فِي صَلَاةٍ ، فَسَجَدَ لِسَهْوِهِ ، وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ سَهْوُهُ بِالْإِمَامِ جَازَ أَنْ يُلْحِقَهُ سَهْوَ الْإِمَامِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ عَنْهُ الْقِيَامُ وَالْقِرَاءَةُ بِالِائْتِمَامِ لَزِمَهُ بِالِائْتِمَامِ مَا لَا يَلْزَمُهُ فِي حَالِ الِانْفِرَادِ ، وَهُوَ أَنْ يُدْرِكَهُ سَاجِدًا ، وَلِأَنَّ صَلَاةَ الْمَأْمُومِ مَحْمُولَةٌ عَلَى صَلَاةِ الْإِمَامِ فِي حُكْمِهِ ، لِأَنَّهُ لَوْ سَهَا خَلْفَ إِمَامِهِ سَقَطَ عَنْهُ حُكْمُ السَّهْوِ لِكَمَالِ صَلَاةِ إِمَامِهِ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَدْخُلَ النَّقْصُ فِي صَلَاتِهِ بِدُخُولِ النَّقْصِ فِي صَلَاةِ إِمَامِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ لَمْ يَسْجُدْ إِمَامُهُ سَجَدَ مِنْ خَلْفِهِ " . وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا سَهَا الْإِمَامُ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَسْجُدْ لِسَهْوِهِ إِمَّا عَامِدًا ، أَوْ نَاسِيًا ، فَعَلَى الْمَأْمُومِينَ سُجُودُ السَّهْوِ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَسْجُدُ الْمَأْمُومُ إِذَا لَمْ يَسْجُدِ الْإِمَامُ ، وَبِهِ قَالَ الْمُزَنِيُّ ، وَأَبُو حَفْصِ بْنُ الْوَكِيلِ مِنْ أَصْحَابِنَا . وَاسْتَدَلَّ الْمُزَنِيُّ بِأَنْ قَالَ الْمَأْمُومُ لَمْ يَسْهُ فِي صَلَاتِهِ ، وَإِنَّمَا سَجَدَ تَبَعًا لِإِمَامِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَسْجُدِ الْإِمَامُ سَقَطَ حُكْمُ الِاتِّبَاعِ .
وَاسْتَدَلَّ ابْنُ الْوَكِيلِ بِأَنْ قَالَ : الْمَأْمُومُ قَدْ تَرَكَ الْمَسْنُونَ إِذَا تَرَكَهُ الْإِمَامُ أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّ الْإِمَامَ قَامَ إِلَى الثَّالِثَةِ قَبْلَ التَّشَهُّدِ قَامَ الْمَأْمُومُ مَعَهُ وَلَمْ يَتَشَهَّدْ ، فَكَذَلِكَ يَتْرُكُ سُجُودَ السَّهْوِ لِتَرْكِ الْإِمَامِ لَهُ ، وَهَذَا خَطَأٌ . وَالدَّلِيلُ عَلَى خَطَئِهِ أَنَّ صَلَاةَ الْمَأْمُومِ مُتَعَلِّقَةٌ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ ، وَمُتَّصِلَةٌ بِهَا فِي إِدْرَاكِ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ ، وَسُقُوطِ سَهْوِهِ بِكَمَالِ صَلَاةِ الْإِمَامِ ، فَكَذَلِكَ إِنَّمَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ النَّقْصُ الدَّاخِلُ فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ دَاخِلًا فِي صَلَاةِ الْمَأْمُومِ ، وَإِذَا كَانَ النَّقْصُ دَاخِلًا فِي صَلَاتِهِ وَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ جُبْرَانُهُ بِسُجُودِ السَّهْوِ كَمَا يَلْزَمُهُ جُبْرَانُهُ لَوْ كَانَ مُنْفَرِدًا ، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِتَرْكِ الْإِمَامِ لَهُ ، فَأَمَّا قَوْلُ الْمُزَنِيِّ أَنَّهُ يَسْجُدُ مَعَ إِمَامِهِ عَلَى وَجْهِ التَّبَعِ فَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّهُ يَسْجُدُ مَعَهُ لِجُبْرَانِ صَلَاتِهِ مِنَ النَّقْصِ الدَّاخِلِ عَلَيْهَا مِنْ صَلَاةِ إِمَامِهِ فَسَقَطَ اسْتِدْلَالُهُ بِهَا . وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ الْوَكِيلِ أَنَّهُ يَتْرُكُ التَّشَهُّدَ اتِّبَاعًا لِإِمَامِهِ فَكَذَلِكَ سُجُودُ السَّهْوِ . فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنْ يُقَالَ : إِنَّمَا تَرَكَ التَّشَهُّدَ لِأَنَّ اتِّبَاعَهُ فِيمَا بَقِيَ مِنَ الصَّلَاةِ فَرْضٌ ، وَالتَّشَهُّدَ نَفْلٌ ، فَلَمْ يَجُزِ الْفَرْضُ بِالنَّفْلِ ، وَلِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ قَدْ سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ الِاتِّبَاعِ بِسَلَامِ الْإِمَامِ فَلَمْ يَكُنْ فِيمَا يَأْتِي بِهِ مِنْ جُبْرَانِ صَلَاتِهِ تَرْكٌ لِفَرْضِ اتِّبَاعِهِ فَلِذَلِكَ أَتَى بِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ كَانَ قَدْ سَبَقَهُ إِمَامُهُ بِبَعْضِ صَلَاتِهِ سَجَدَهُمَا بَعْدَ الْقَضَاءِ اتِّبَاعًا لِإِمَامِهِ لَا لِمَا يَبْقَى مِنْ صَلَاتِهِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : الْقِيَاسُ عَلَى أَصْلِهِ أَنَّهُ إِنَّمَا أَسْجُدُ مَعَهُ مَا لَيْسَ مِنْ فَرْضِي فِيمَا أَدْرَكْتُ مَعَهُ اتِّبَاعًا لِفِعْلِهِ ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ سَقَطَ عَنِّي اتِّبَاعُهُ ، وَكُلٌّ يُصَلِّي عَنْ نَفْسِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ خَلْفَ إِمَامٍ ، أَوْ كَانَ الْإِمَامُ قَدْ سَبَقَهُ بِبَعْضِ الصَّلَاةِ ، فَسَهَا الْإِمَامُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ صَلَاتِهِ حكمه في سجود السهو ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ هَذَا السَّهْوُ مُتَعَلِّقًا بِصَلَاةِ الْمَأْمُومِ ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْإِمَامُ حِينَ تَمَّمَ صَلَاتَهُ مِمَّنْ يَرَى سُجُودَ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ قَامَ الْمَأْمُومُ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ فَأَتَى بِهِ فِي صَلَاتِهِ وَلَمْ يَتْبَعِ الْإِمَامَ فِي سُجُودِهِ بَعْدَ السَّلَامِ ، فَإِنْ تَبِعَهُ فَسَجَدَ مَعَهُ عَالِمًا بِتَحْرِيمِهِ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ ، وَإِنْ سَجَدَ مَعَهُ جَاهِلًا بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَأْتِي بِبَاقِي صَلَاتِهِ ، فَإِذَا تَمَّمَ صَلَاتَهُ سَجَدَ حِينَئِذٍ لِلسَّهْوِ قَبْلَ سَلَامِهِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ الْمَأْمُومُ قَدْ سَهَا فِيمَا قَضَاهُ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ سَجْدَتِيِ السَّهْوِ تُجْزِئُهُ عَنْ سَهْوِهِ وَسَهْوِ إِمَامِهِ ، لِأَنَّ جَمِيعَ السَّهْوِ يُجْبَرُ بِسَجْدَتَيْنِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ عَلَيْهِ لِسَهْوِ إِمَامِهِ سَجْدَتَيْنِ فَيَأْتِي بِأَرْبَعِ سَجَدَاتٍ مُتَوَالِيَاتٍ ، لِأَنَّهُمَا سَهْوَانِ مُخْتَلِفَانِ ، فَلَمْ يَتَدَاخَلَا كَالْحُدُودِ إِذَا كَانَتْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ تَدَاخَلَتْ ، وَإِذَا كَانَتْ مِنْ جِنْسَيْنِ لَمْ تَتَدَاخَلْ ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ اخْتِلَافُهُمَا يَمْنَعُ مِنْ تَدَاخُلِهِمَا فَوَجَبَ أَنْ
يَكُونَ تَغَايُرُهُمَا يَمْنَعُ مِنْ تَدَاخُلِهِمَا ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا لِزِيَادَةٍ ، وَالْآخَرُ لِنُقْصَانٍ ، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى تَدَاخُلِ السَّهْوِ مَعَ التَّغَايُرِ دَلِيلٌ عَلَى تَدَاخُلِهِ مَعَ الِاخْتِلَافِ ، وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ الْإِمَامُ يَرَى سُجُودَ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِمَّنْ يَرَى سُجُودَ السَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ فَعَلَى الْمَأْمُومِ أَنْ يَتْبَعَهُ فِي السُّجُودِ فَيَسْجُدَ مَعَهُ ، فَإِذَا سَجَدَ وَسَلَّمَ الْإِمَامُ قَامَ الْمَأْمُومُ فَقَضَى مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ صَلَاتِهِ ، ثُمَّ هَلْ يُعِيدُ سُجُودَ السَّهْوِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ : لَا يَقْضِي ، لِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ إِنَّمَا لَزِمَهُ بِاتِّبَاعِ إِمَامِهِ ، فَإِذَا سَجَدَ مَعَهُ سَقَطَ عَنْهُ حُكْمُهُ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَعَادَ السُّجُودَ كَأَنْ قَدْ جَبَرَ التَّشَهُّدَ بِأَرْبَعِ سَجَدَاتٍ ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ ، لَأَنَّ جُبْرَانَ السَّهْوِ سَجْدَتَانِ لَا غَيْرَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ الصَّحِيحُ ، عَلَيْهِ إِعَادَةُ سُجُودِ السَّهْوِ بَعْدَ تَشَهُّدِهِ ، وَقَبْلَ سَلَامِهِ ، لِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ قَدْ لَزِمَهُ بِسَهْوِ إِمَامِهِ ، وَمَحَلُّهُ آخِرَ الصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ فِعْلُهُ فِي مَحَلِّهِ ، وَمَا فَعَلَهُ خَلْفَ إِمَامِهِ ، وَإِنَّمَا فِعْلُهُ عَلَى وَجْهِ التَّبَعِ لَهُ ، وَقَدْ يَتْبَعُ إِمَامَهُ فِيمَا لَا يَحْتَسِبُ لَهُ كَمَا لَوْ أَدْرَكَهُ سَاجِدًا ، فَعَلَى هَذَا لَوْ سَهَا الْمَأْمُومُ فِيمَا قَضَاهُ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ ، فَإِنْ قِيلَ : لَا يُعِيدُ سُجُودَ السَّهْوِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَ لِسَهْوِهِ سَجْدَتَيْنِ ، وَإِنْ قِيلَ يُعِيدُ سُجُودَ السَّهْوِ كَانَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ السَّابِقَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَسْجُدُ أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ . وَالثَّانِي : سَجْدَتَيْنِ .
فَصْلٌ : وَإِذَا سَبَقَهُ الْإِمَامُ بِرَكْعَةٍ فَسَهَا فِيهَا ثُمَّ عَلَّقَ الْمَأْمُومُ صَلَاتَهُ بِصَلَاتِهِ فَهَلْ يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ حُكْمُ سَهْوِ الْإِمَامِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ حُكْمُ هَذَا السَّهْوِ ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَلْزَمُهُ حُكْمُ سَهْوِ الْإِمَامِ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَسْقُطُ عَنْهُ السَّهْوُ بِالِائْتِمَامِ ، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَوِ اسْتَفْتَحَ الصَّلَاةَ فَصَلَّى رَكْعَةً وَسَهَا فِيهَا ثُمَّ عَلَّقَ صَلَاتَهُ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ ، وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ حُكْمُ هَذَا السَّهْوِ بِاتِّبَاعِ إِمَامِهِ ، فَكَذَلِكَ لَا يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ سَهْوُ إِمَامِهِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ سَجَدَ الْإِمَامُ قَبْلَ السَّلَامِ سَجَدَ مَعَهُ اتِّبَاعًا لَهُ ، فَإِذَا قَامَ مَعَهُ لِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ لَمْ يُعِدْ ، وَإِنْ سَجَدَ الْإِمَامُ بَعْدَ السَّلَامِ لَمْ يَسْجُدْ مَعَهُ فِي الْحَالِ وَلَا فِي آخِرِ الصَّلَاةِ بِحَالٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ حُكْمُ هَذَا السَّهْوِ ، لِأَنَّهُ إِذَا عَلَّقَ صَلَاتَهُ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ فَقَدْ تَعَلَّقَ بِصَلَاتِهِ الْحُكْمُ الَّذِي تَعَلَّقَ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ ، فَلَمَّا كَانَ النَّقْصُ دَاخِلًا فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي صَلَاةِ الْمَأْمُومِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ سَهْوِ الْإِمَامِ فِيمَا أَدْرَكَ مَعَهُ ، فَإِنْ سَجَدَ الْإِمَامُ بَعْدَ السَّلَامِ سَجَدَ الْمَأْمُومُ بَعْدَ قَضَاءِ مَا عَلَيْهِ سجود السهو ، وَإِنْ سَجَدَ قَبْلَ السَّلَامِ سَجَدَ مَعَهُ ، ثُمَّ فِي الْإِعَادَةِ قَوْلَانِ : فَأَمَّا إِذَا دَخَلَ مَعَ الْإِمَامِ وَقَدْ سَبَقَهُ بِرَكْعَةٍ فَصَلَّى الْإِمَامُ خَمْسًا سَاهِيًا فَتَبِعَهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِسَهْوِهِ أَجْزَأَتِ الْمَأْمُومَ صَلَاتُهُ ، فَإِنْ تَبِعَهُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ سَهَا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ ،
وَلَوْ أَنَّ إِمَامًا مُسَافِرًا أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ يَنْوِي الْقَصْرَ فَصَلَّى أَرْبَعًا سَاهِيًا حكمه في سجود السهو لَزِمَهُ سُجُودُ السَّهْوِ ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الزَّائِدِ فِي صَلَاتِهِ ، وَلَوْ ذَكَرَ سَهْوَهُ وَهُوَ فِي الثَّالِثَةِ عَادَ جَالِسًا وَتَشَهَّدَ ، وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ ، وَسَلَّمَ ، فَأَمَّا مَنْ خَلْفَهُ مِنَ الْمَأْمُومِينَ فَعَلَيْهِمُ اتِّبَاعُهُ إِذَا قَامَ إِلَى الثَّالِثَةِ مَا لَمْ يَعْلَمُوا بِخِلَافِ قِيَامِهِ إِلَى الْخَامِسَةِ ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ قِيَامِهِ إِلَى الثَّالِثَةِ أَنَّهُ أَحْدَثَ فِيهِ الِائْتِمَامَ ، فَإِنْ عَلِمُوا أَنَّهُ قَامَ سَاهِيًا غَيْرُنَا وَإِتْمَامُ صَلَاتِهِ لَمْ يَتْبَعُوهُ ، فَإِنْ تَبِعُوهُ مَعَ الْعِلْمِ بِحَالِهِ فَصَلَاتُهُمْ بَاطِلَةٌ سَوَاءٌ كَانُوا مُسَافِرِينَ فَرْضُهُمْ رَكْعَتَيْنِ ، أَوْ مُقِيمِينَ فَرْضُهُمْ أَرْبَعًا ، وَصَارُوا فِي اتِّبَاعِهِمْ لَهُ فِي الثَّالِثَةِ كَاتِّبَاعِهِمْ لَهُ لَوْ قَامَ إِلَى الْخَامِسَةِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ : " سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ إِذَا كَانَتْ سَجْدَتَا السَّهْوِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ تَشَهَّدَ لَهُمَا ، وَإِذَا كَانَتَا قَبْلَ التَّسْلِيمِ أَجْزَأَهُ التَّشَهُّدُ الْأَوَّلُ سجدتي السهو ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : فَإِذَا تَكَلَّمَ عَامِدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ تَكَلَّمِ سَاهِيًا بَنَى وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ : لِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ سَاهِيًا فَبَنَى ، وَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى مَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ مِنْ نَهْيِهِ عَنِ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ بِمَكَّةَ لَمَّا قَدِمَ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ وَذَلِكَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَأَنَّ ذَلِكَ عَلَى الْعَمْدِ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : وَأُحِبُّ سُجُودَ الشُّكْرِ وَيَسْجُدُ الرَّاكِبُ إِيمَاءً وَالْمَاشِي عَلَى الْأَرْضِ ، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ إِذَا كَبَّرَ وَلَا يَسْجُدُ إِلَّا طَاهِرًا ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَأَى نُغَاشًا فَسَجَدَ شُكْرًا لِلَّهِ وَسَجَدَ أَبُو بَكْرٍ حِينَ بَلَغَهُ فَتْحُ الْيَمَامَةِ شُكْرًا ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : النُّغَاشُ النَّاقِصُ الْخَلْقِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : هَذَا صَحِيحٌ ، لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ إِنْ سَجَدَ لِلسَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ أَجْزَأَهُ التَّشَهُّدُ الْأَوَّلُ ، فَأَمَّا إِنْ سَجَدَ لَهُ بَعْدَ السَّلَامِ سجود السهو فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَجَمَاعَةِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يَتَشَهَّدُ بَعْدَ سُجُودِهِ وَيُسَلِّمُ ، سَوَاءٌ كَانَ مِمَّنْ يَرَى سُجُودَ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ ، أَوْ كَانَ يَرَاهُ قَبْلَ السَّلَامِ فَأَخَّرَهُ سَاهِيًا . وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : إِنْ كَانَ يَرَى سُجُودَ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ تَشَهَّدَ وَسَلَّمَ ، وَإِنْ كَانَ يَرَاهُ قَبْلَ السَّلَامِ فَأَخَّرَهُ سَاهِيًا لَمْ يَتَشَهَّدْ وَلَمْ يُسَلِّمْ ، بَلْ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ لَا غَيْرَ ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِرِوَايَةِ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، سَلَّمَ فِي ثَلَاثٍ مِنَ الْعَصْرِ نَاسِيًا حَتَى أَخْبَرَهُ " الْخِرْبَاقُ " فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، وَسَلَّمَ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وَتَشَهَّدَ ، ثُمَ يُسَلِّمُ ، وَلِأَنَّ مِنْ حُكْمِ سُجُودِ السَّهْوِ أَنْ يَكُونَ بِتَشَهُّدٍ وَسَلَامٍ فَوَجَبَ أَنْ يَصِلَهُ بِذَلِكَ إِذَا فَعَلَهُ بَعْدَ السَّلَامِ ، فَأَمَّا الْكَلَامُ فِي الصَّلَاةِ فَقَدْ مَضَى حُكْمُهُ ، وَأَمَّا سُجُودُ الشُّكْرِ فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - .
بَابُ أَقَلِّ مَا يُجْزِئُ مِنْ عَمَلِ الصَّلَاةِ
بَابُ أَقَلِّ مَا يُجْزِئُ مِنْ عَمَلِ الصَّلَاةِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَأَقَلُّ مَا يُجْزِئُ مِنْ عَمَلِ الصَّلَاةِ أَنْ يُحْرِمَ ، وَيَقْرَأَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ يَبْتَدِئُهَا بِ " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " إِنْ أَحْسَنَهَا ، وَيَرْكَعَ حَتَى يَطْمَئِنَّ رَاكِعًا ، وَيَرْفَعَ حَتَّى يَعْتَدِلَ قَائِمًا ، وَيَسْجُدَ حَتَّى يَطْمَئِنَّ سَاجِدًا عَلَى الْجَبْهَةِ ، ثَمَّ يَرْفَعَ حَتَّى يَعْتَدِلَ جَالِسًا ، ثُمَّ يَسْجُدَ الْأُخْرَى كَمَا وَصَفْتُ ، ثُمَّ يَقُومَ حَتَّى يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ ، وَيَجْلِسَ فِي الرَّابِعَةِ ، وَيَتَشَهَّدَ وَيُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَيُسَلِّمَ تَسْلِيمَةً يَقُولُ : " السَّلَامُ عَلَيْكُمْ " فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ وَضَيَّعَ حَظَّ نَفْسِهِ فِيمَا تَرَكَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِنَّمَا أَفْرَدَ الشَّافِعِيُّ فُرُوضَ الصَّلَاةِ فِي هَذَا الْبَابِ ، وَإِنْ ذَكَرَهَا فِيمَا تَقَدَّمَ ، لِأَنَّهُ ذَكَرَهَا فِي جُمْلَةِ سُنَنٍ ، وَهَيْئَاتٍ فَأَحَبَّ إِفْرَادَهَا بِاخْتِصَارٍ ، وَإِحْصَاءٍ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي الِاحْتِيَاطِ وَالتَّعْرِيفِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ أَغْفَلَ ذِكْرَ النِّيَّةِ فِي الْفُرُوضِ وَهِيَ الْعُمْدَةُ وَالْمَدَارُ ؟ قِيلَ : لِأَصْحَابِنَا عَنْ ذَلِكَ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَصَدَ أَعْمَالَ الصَّلَاةِ الَّتِي تُفْعَلُ بِجَوَارِحِ الْبَدَنِ لَا جَارِحَةِ الْقَلْبِ أَلَا تَرَاهُ قَالَ : وَأَقَلُّ مَا يُجَزِئُ مِنْ عَمَلِ الصَّلَاةِ . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّ النِّيَّةَ مَذْكُورَةٌ فِيمَا أَوْرَدَهُ لِأَنَّهُ قَالَ : وَأَقَلُّ مَا يُجْزِئُ مِنْ عَمَلِ الصَّلَاةِ أَنْ يُحْرِمَ ، وَلَا يَكُونُ مُحْرِمًا قَطُّ إِلَّا بِالنِّيَّةِ ، وَجُمْلَتُهُ أَنَّ فُرُوضَ الصَّلَاةِ ضَرْبَانِ : شَرَائِطُ وَأَفْعَالٌ . فَالشَّرَائِطُ مَا يَتَقَدَّمُ الصَّلَاةَ ، وَالْأَفْعَالُ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الصَّلَاةِ .
شُرُوطُ صِحَّةِ الصَّلَاةِ
شُرُوطُ صِحَّةِ الصَّلَاةِ فَأَمَّا الشَّرَائِطُ فَخَمْسَةٌ : الْأَوَّلُ : طَهَارَةُ الْأَعْضَاءِ
شروط صحة الصلاة
مِنْ نَجَسٍ وَحَدَثٍ . الثَّانِي : سَتْرُ الْعَوْرَةِ شروط صحة الصلاة بِلِبَاسٍ طَاهِرٍ . الثَّالِثُ : فِعْلُ الصَّلَاةِ عَلَى مَكَانٍ طَاهِرٍ شروط صحة الصلاة . الرَّابِعُ : الْعِلْمُ بِدُخُولِ الْوَقْتِ شروط صحة الصلاة . الْخَامِسُ : اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ شروط صحة الصلاة .أَفْعَالُ الصَّلَاةِ وَفَرَائِضُهَا
وَأَمَّا أَفْعَالُ الصَّلَاةِ وَفَرَائِضُهَا خَمْسَ عَشْرَةَ : الْأَوَّلُ وَالثَّانِي : تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ فرائض الصلاة مَعَ النِّيَّةِ فرائض الصلاة . الثَّالِثُ : الْقِيَامُ فرائض الصلاة . الرَّابِعُ : قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فرائض الصلاة يَبْتَدِئُهَا بِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . الْخَامِسُ : الرُّكُوعُ فرائض الصلاة . السَّادِسُ : الطُّمَأْنِينَةُ في الركوع فرائض الصلاة فِيهِ . السَّابِعُ : الرَّفْعُ مِنَ الرُّكُوعِ فرائض الصلاة . الثَّامِنُ : الِاعْتِدَالُ في الرفع من الركوع فرائض الصلاة فِيهِ . التَّاسِعُ : السُّجُودُ فرائض الصلاة . الْعَاشِرُ : الطُّمَأْنِينَةُ في السجود فرائض الصلاة فِيهِ . الْحَادِي عَشَرَ : الْجِلْسَةُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ فرائض الصلاة . الثَّانِي عَشَرَ : الطُّمَأْنِينَةُ فرائض الصلاة فِيهَا . الثَّالِثَ عَشَرَ : التَّشَهُّدُ الْأَخِيرُ وَالْقُعُودُ فِيهِ فرائض الصلاة . الرَّابِعَ عَشَرَ : الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ فرائض الصلاة صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . الْخَامِسَ عَشَرَ : التَّسْلِيمَةُ الْأُولَى فرائض الصلاة ، وَمَا سِوَى هَذِهِ الْأَفْعَالِ فَسُنَنٌ وَهَيْئَاتٌ ، فَمَنْ أَتَى بِهَا فَقَدْ فَعَلَ فَضْلًا وَحَازَ أَجْرًا ، وَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ ضَيَّعَ حَظَّ نَفْسِهِ فِي رَغْبَتِهِ مِنْ طَلَبِ الْفَضْلِ ، وَصَلَاتُهُ مُجْزِئَةٌ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ كَانَ لَا يُحْسِنُ أُمَّ الْقُرْآنِ حكم صلاته فَيَحْمَدُ اللَّهَ وَيُكَبِّرُهُ مَكَانَ أُمِّ الْقُرْآنِ لَا يُجْزِئُهُ غَيْرُهُ وَإِنْ كَانَ يُحْسِنُ غَيْرَ أُمِّ الْقُرْآنِ قَرَأَ بِقَدْرِهَا سَبْعَ آيَاتٍ لَا يُجْزِئُهُ دُونَ ذَلِكِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، مَضَى الْكَلَامُ فِي وُجُوبِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ في الصلاة إِذَا كَانَ يُحْسِنُهَا ، فَإِنْ كَانَ لَا يُحْسِنُهَا قَرَأَ غَيْرَهَا مِنَ الْقُرْآنِ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْفَاتِحَةَ ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْرَأَ فِي صَلَاتِهِ بَدَلًا مِنَ الْفَاتِحَةِ قَبْلَ أَنْ يَتَعَلَّمَهَا قَرَأَ سَبْعَ آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ ، وَفِيهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : سَبْعُ آيَاتٍ مِثْلُ آيَاتِ الْفَاتِحَةِ ، وَأَعْدَادِ حُرُوفِهَا لِيَكُونَ الْبَدَلُ مُسَاوِيًا لِمُبْدَلِهِ ، وَلِأَنَّ الْفَاتِحَةَ تَشْتَمِلُ عَلَى أَعْدَادِ الْآيَةِ وَأَعْدَادِ الْحُرُوفِ ، فَلَمَّا لَمَّ يَجُزِ النُّقْصَانُ مِنْ عَدَدِ الْآيِ لَمْ يَجُزِ النُّقْصَانُ مِنْ عَدَدِ الْحُرُوفِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِعَدَدِ الْآيِ دُونَ الْحُرُوفِ ، فَإِذَا قَرَأَ سَبْعَ آيَاتٍ طِوَالًا كُنَّ أَوْ قِصَارًا أَجْزَأَتْهُ ، لِأَنَّهُ لَوْ قَرَأَ آيَةً عَدَدُ حُرُوفِهَا كَعَدَدِ حُرُوفِ الْفَاتِحَةِ لَمْ يَجُزْ فَعُلِمَ أَنَّ عَدَدَ الْآيِ مُعْتَبَرٌ دُونَ عَدَدِ الْأَحْرُفِ ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ، لِأَنَّ الِاعْتِدَادَ بِهِمَا جَمِيعًا .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَاسْتُحِبَّ أَنْ يَقْرَأَ ثَمَانِيَ آيَاتٍ لِتَكُونَ الْآيَةُ الثَّامِنَةُ بَدَلًا مِنَ السُّورَةِ " ، فَلَوْ كَانَ يُحْسِنُ آيَةً مِنَ الْفَاتِحَةِ في الصلاة فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُكَرِّرُهَا سَبْعَ مَرَّاتٍ ، لِأَنَّ حُرْمَةَ الْفَاتِحَةِ أَوْكَدُ مِنْ غَيْرِهَا ، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَاتِحَةُ الْكِتَابِ عِوَضٌ عَنِ الْقُرْآنِ فَلَمَّا جَعَلَهَا عَلَيْهِ السَّلَامُ عِوَضًا عَنِ الْقُرْآنِ ، وَلَمْ يَجْعَلِ الْقُرْآنَ عِوَضًا عَنْهَا دَلَّ عَلَى أَنَّ تَكْرَارَهَا أَفْضَلُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَقْرَأُ الْآيَةَ مِنَ الْفَاتِحَةِ وَيَقْرَأُ مَعَهَا سِتَّ آيَاتٍ مِنْ غَيْرِهَا . وَهَذَا صَحِيحٌ ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ بَدَلٌ مِنَ الْفَاتِحَةِ إِذَا لَمْ يُحْسِنْهَا ، فَوَجَبَ إِذَا كَانَ يُحْسِنُ بَعْضَهَا أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِمَّا يُحْسِنُهُ مِنْهَا .
فَصْلٌ : فَإِذَا لَمْ يُحْسِنِ الْفَاتِحَةَ وَلَا شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ في الصلاة فَعَلَيْهِ أَنْ يُسَبِّحَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَيَحْمَدَهُ بَدَلًا مِنَ الْقِرَاءَةِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : قَدْ سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ الذِّكْرِ ، وَهَذَا خَطَأٌ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ رِوَايَةُ رِفَاعَةَ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَلْيَتَوَضَّأْ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، ثُمَّ لِيُكَبِّرْ ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ فَلْيَقْرَأْ بِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ ، فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ سُبْحَانَهُ ، وَلْيُكَبِّرْهُ ، وَلْيَرْكَعْ حَتَى يَطْمَئِنَّ رَاكِعًا وَذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَوْفَى أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَجِدَ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ ، فَعَلِّمْنِي مَا يَجْزِينِي مِنَ الْقِرَاءَةِ فَقَالَ : " قُلْ : سُبْحَانَ اللَّهِ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ " ، فَقَالَ : هَذَا لِلَّهِ فَمَا لِي ، فَقَالَ : قُلْ : اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَارْزُقْنِي وَعَافِنِي ، فَانْصَرَفَ الرَّجُلُ وَهُوَ يُشِيرُ إِلَى يَدَيْهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَمَّا هَذَا فَقَدْ مَلَأَ يَدَيْهِ خَيْرًا . فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ بَدَلًا مِنَ الْقِرَاءَةِ مَا عَلَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَعْرَابِيَّ ، ثُمَّ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَقُولُ ذَلِكَ بَعْدَ كَلِمَاتِ الْفَاتِحَةِ وَحُرُوفِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ مِنْ ذَلِكَ تَقُومُ مَقَامَ آيَةٍ وَهِيَ خَمْسُ كَلِمَاتٍ تَقُومُ مَقَامَ خَمْسِ آيَاتٍ ، فَيَأْتِي بِكَلِمَتَيْنِ وَيُجْزِئُهُ ، فَلَوْ كَانَ يُحْسِنُ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ في الصلاة فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يُكَرِّرُهَا سَبْعَ مَرَّاتٍ . وَالثَّانِي : يَقْرَأُ الْآيَةَ ، ثُمَّ يُتَمِّمُ ذَلِكَ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ ، فَلَوْ لَمْ يُحْسِنِ التَّكْبِيرَ بِالْعَرَبِيَّةِ جَازَ لَهُ أَنْ يُسَبِّحَ وَيُكَبِّرَ بِالْفَارِسِيَّةِ ، وَعَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا تَعْلِيمُ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ للصلاة ، وَإِنْ أَمْكَنَهُ تَعْلِيمُ الْفَاتِحَةِ وَلَمْ يَتَعَلَّمْ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ ، لِأَنَّ الْقَادِرَ عَلَى التَّوَصُّلِ إِلَى الشَّيْءِ فِي حُكْمِ الْقَادِرِ عَلَيْهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى التَّوَصُّلِ إِلَى الْمَاءِ لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّيَمُّمُ ، وَمَنْ قَدَرَ عَلَى ثَمَنِ الرَّقَبَةِ لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّكْفِيرُ بِالصِّيَامِ ، وَمَنْ قَدَرَ عَلَى ثَمَنِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ لَزِمَهُ الْحَجُّ فَكَذَلِكَ إِذَا قَدَرَ
عَلَى تَعْلِيمِ الْفَاتِحَةِ كَانَ فِي حُكْمِ الْقَادِرِ عَلَيْهَا فَوَجَبَ عَلَيْهِ إِعَادَةُ الصَّلَاةِ إِذَا تَعَلَّمَ الْفَاتِحَةَ سَوَاءٌ طَالَ الزَّمَانُ أَوْ قَصُرَ وَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُعِيدُ كُلَّ صَلَاةٍ صَلَّاهَا مِنْ وَقْتِ قُدْرَتِهِ عَلَى التَّعْلِيمِ إِلَى أَنْ تَعَلَّمَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يُعِيدَ مَا صَلَّى مِنْ وَقْتِ قُدْرَتِهِ إِلَى أَنْ تَعَاطَى التَّعْلِيمَ وَأَخَذَ فِيهِ ، لِأَنَّ أَخْذَهُ فِي التَّعْلِيمِ قَدْ أَزَالَ عَنْهُ حُكْمَ التَّفْرِيطِ فَسَقَطَ عَنْهُ إِعَادَةُ مَا صَلَّى فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ : " فَإِنْ تَرَكَ مِنْ أُمِّ الْقُرْآنِ حَرْفًا وَهُوَ فِي الرَّكْعَةِ رَجَعَ إِلَيْهِ وَأَتَمَّهَا وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ حَتَّى خَرَجَ مِنَ الصَّلَاةِ وَتَطَاوَلَ ذَلِكَ أَعَادَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ مَضَيْتُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَاسْتَوْفَيْنَا الْكَلَامَ وَاسْتَوْفَيْنَا فُرُوعَهَا ، فَنَقُولُ : إِذَا تَرَكَ آيَةً مِنَ الْفَاتِحَةِ نَاسِيًا في الصلاة ثُمَّ ذَكَرَهَا قَرِيبًا أَعَادَ ، وَأَتَى بِهَا وَبِمَا بَعْدَهَا لِمَا عَلَيْهِ مِنْ مُوَالَاةِ الْقِرَاءَةِ ، فَلَوْ شَكَّ فِي الْآيَةِ الَّتِي تَرَكَهَا من الفاتحة ناسيا في الصلاة اسْتَأْنَفَ الْقِرَاءَةَ مِنْ أَوَّلِهَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمَتْرُوكُ أَوَّلَ آيَةٍ مِنْهَا ، فَلَوْ ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْدَ الرُّكُوعِ فَإِنَّهُ يَأْتِي بِالْآيَةِ الَّتِي تَرَكَهَا وَمَا بَعْدَهَا ثُمَّ يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ ، فَلَوْ ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْدَ سَلَامِهِ مِنَ الصَّلَاةِ ، فَإِنْ كَانَ الزَّمَانُ قَرِيبًا أَتَى بِمَا تَرَكَ وَصَلَّى رَكْعَةً كَامِلَةً وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ ، وَإِنْ كَانَ الزَّمَانُ بَعِيدًا كَانَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا نَوَى قَطْعَ الْقِرَاءَةِ للفاتحة في الصلاة فَعَلَيْهِ اسْتِئْنَافُهَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَخَذَ فِي غَيْرِهَا لَزِمَهُ اسْتِئْنَافُهَا ، وَلَكِنْ لَوْ نَوَى قَطْعًا وَهُوَ يَقْرَؤُهَا أَجَزْأَهُ ، لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ لَا تَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ فَلَمْ يَكُنْ تَغْيِيرُ النِّيَّةِ مُؤَثِّرًا فِيهَا ، فَأَمَّا إِذَا سَكَتَ عَنْهَا غَيْرَ نَاوٍ قَطْعَ الْقِرَاءَةِ فَإِنْ طَالَ سُكُوتُهُ اسْتَأْنَفَ الْقِرَاءَةَ وَإِنْ لَمْ يَطُلْ بَنَى عَلَى قِرَاءَتِهِ . فَأَمَّا تَشْدِيدُ آيَاتِ الْفَاتِحَةِ في الصلاة فَهِيَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ تَشْدِيدَةً فَإِنْ تَرْكَ التَّشْدِيدَ لَمْ يَجُزْ ، لِأَنَّ الْحُرُوفَ الْمُشَدَّدَةَ تَقُومُ مَقَامَ حَرْفَيْنِ فَإِذَا تَرَكَ التَّشْدِيدَ صَارَ كَأَنَّهُ قَدْ تَرَكَ حَرْفًا ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ ، فَإِنْ حُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ غَيْرُ هَذَا فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ، وَلَكِنْ لَوْ شَدَّدَ الْمُخَفَّفَ جَازَ وَإِنْ أَسَاءَ - وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ - .
بَابُ طُولِ الْقِرَاءَةِ وَقِصَرِهَا
بَابُ طُولِ الْقِرَاءَةِ وَقِصَرِهَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَأُحِبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي الصُّبْحِ مَعَ أُمِّ الْقُرْآنِ بِطِوَالِ الْمُفَصَّلِ ، وَفِي الظُّهْرِ القراءة فيه شَبِيهًا بِقِرَاءَةِ الصُّبْحِ وَفِي الْعَصْرِ القراءة فيه نَحْوًا مِمَّا يَقْرَؤُهُ فِي الْعِشَاءِ ، وَأُحِبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي الْعِشَاءِ القراءة فيها بِسُورَةِ الْجُمُعَةِ وَ " إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ " ، وَمَا أَشْبَهَهَا فِي الطُّولِ ، وَفِي الْمَغْرِبِ القراءة فيه بِالْعَادِيَاتِ وَمَا أَشْبَهَهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ قِرَاءَةَ السُّورَةِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ حكمها سُنَّةٌ فِي الْأُولَيَيْنِ ، وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالِاخْتِيَارُ لَهُ أَنْ يَقْرَأَ فِي الصُّبْحِ بِطِوَالِ الْمُفَصَّلِ . " الطُّورِ " وَ " الذَّارِيَاتِ " ، وَ " قَافْ " وَ " الْمُرْسَلَاتِ " ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ؟ فَقَدْ رَوَى سَمُرَةُ بْنُ جُنْدَبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ فِيهَا بِالْوَاقِعَةِ . وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ بِسُورَةِ قَافْ . وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ بِالْمُرْسَلَاتِ . وَرَوَى قُطْبَةُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ فِي الصُّبْحِ بِسُورَةِ " قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ " ، فَلَمَّا بَلَغَ إِلَى قِصَّةِ مُوسَى ، وَعِيسَى أَخَذَ بِرُسْغَيْهِ فَرَكَعَ لِأَنَّ وَقْتَ الصُّبْحِ مُتَّسِعٌ ، فَاحْتِيجَ فِيهِ إِلَى سُوَرٍ طِوَالٍ لِيُدْرِكَ النَّاسُ الصَّلَاةَ ، فَأَمَّا الظُّهْرُ فَيَقْرَأُ فِيهَا قَرِيبًا مِمَّا هُوَ فِي الصُّبْحِ لَكِنْ دُونَهُ فِي الطُّولِ قَلِيلًا . فَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الظُّهْرَ فَسَجَدَ فِيهَا فَقَدَّرْنَا تَرْكَ السَّجْدَةِ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ " إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ " وَنَحْوَهَا فَأَمَّا الْعَصْرُ فَيَخْتَارُ أَنْ يَقْرَأَ فِيهَا بِأَوْسَطِ الْمُفَصَّلِ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا يَقْرَأُ فِي عِشَاءِ الْآخِرَةِ . فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، أَنْ يَقْرَأَ فِي الظُّهْرِ بِطِوَالِ الْمُفَصَّلِ ، وَفَى الْعَصْرِ بِأَوْسَطِهَا . فَأَمَّا الْمَغْرِبُ فَيَخْتَارُ أَنْ يَقْرَأَ فِيهَا بِقِصَارِ الْمُفَصَّلِ ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ بِالْعَادِيَاتِ ، وَلِأَنَّ وَقْتَهَا أَضْيَقُ الْأَوْقَاتِ فَلِذَلِكَ اخْتُصَّتْ بِقِصَارِ السُّوَرِ . فَأَمَّا عِشَاءُ الْآخِرَةِ فَيَخْتَارُ فِيهَا أَوْسَطَ الْمُفَصَّلِ نَحْوَ سُورَةِ الْجُمُعَةِ ، وَإِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَرَأَ فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ مِنْ لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ بِسُورَةِ الْجُمُعَةِ . وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ فِيهَا بِالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى . وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى طَرِيقِ الِاخْتِيَارِ وَكَيْفَ مَا قَرَأَ جَازَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَرَأَ أَوَاخِرَ السُّوَرِ الطِّوَالِ جَازَ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَرَأَ فِي الْمَغْرِبِ بِسُورَةِ الْأَعْرَافِ فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : قَرَأَ جَمِيعَ السُّورَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِالْآيِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الْأَعْرَافِ ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
بَابُ الصَّلَاةِ بِالنَّجَاسَةِ وَمَوَاضِعِ الصَّلَاةِ مِنْ مَسْجِدٍ وَغَيْرِهِ
بَابُ الصَّلَاةِ بِالنَّجَاسَةِ وَمَوَاضِعِ الصَّلَاةِ مِنْ مَسْجِدٍ وَغَيْرِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ : رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَإِذَا صَلَّى الْجُنُبُ بِقَوْمٍ أَعَادَ وَلَمْ يُعِيدُوا ، وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَالْعَبَّاسِ . " قَالَ الْمُزَنِيُّ " : يَقُولُ : كَمَا لَا يُجْزِئُ عَنِّي فِعْلُ إِمَامِي فَكَذَلِكَ لَا يُفْسِدُ عَلَيَّ فَسَادُ إِمَامِي ، وَلَوْ كَانَ مَعْنَايَ فِي إِفْسَادِهِ مَعْنَاهُ لَمَا جَازَ أَنْ يُحْدِثَ فَيَنْصَرِفَ ، وَأَبْنِي وَلَا أَنْصَرِفُ ، وَقَدْ بَطَلَتْ إِمَامَتُهُ وَاتِّبَاعِي لَهُ ، وَلَمْ تَبْطُلْ صَلَاتِي وَلَا طَهَارَتِي بِانْتِقَاضِ طُهْرِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا : فِي إِمَامٍ صَلَّى بِقَوْمٍ ثُمَّ عَلِمَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الصَّلَاةِ أَنَّهُ جُنُبٌ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ وَحْدَهُ ، فَأَمَّا الْمَأْمُومُونَ فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِمْ إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا بِحَالِهِ قَبْلَ صَلَاتِهِمْ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : عَلَيْهِمُ الْإِعَادَةُ بِكُلِّ حَالٍ كَالْإِمَامِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَحْدَثَ الْإِمَامُ فِي تَضَاعِيفِ صَلَاتِهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ ، وَصَلَاةُ الْمَأْمُومِينَ مَعَهُ ، وَغَلَّظَ عَلَيْهِ فَأَلْزَمَهُ حَدَثَ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ . وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ عَمَدَ الْإِمَامُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ جُنُبًا فَعَلَيْهِمُ الْإِعَادَةُ ، وَإِنْ صَلَّى بِهِمْ نَاسِيًا فَصَلَاتُهُمْ جَائِزَةٌ ، وَعَلَى الْإِمَامِ الْإِعَادَةُ ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الْأَئِمَّةُ ضُمَنَاءُ " . وَالضَّمَانُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لِلْحَقِّ الْمَضْمُونِ تَعَلُّقًا بِالضَّامِنِ ، وَالضَّامِنِ تَعَلُّقًا بِالْحَقِّ الْمَضْمُونِ وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا فَجَعَلَ صَلَاتَهُمْ تَابِعَةً لِصَلَاةِ الْإِمَامِ ، فَعُلِمَ أَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِهَا . قَالُوا : وَلِأَنَّهُ صَلَّى خَلْفَهُ مَنْ لَوْ كَانَ عَالِمًا بِحَالِهِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ فَوَجَبَ إِذَا كَانَ جَاهِلًا بِحَالِهِ أَنْ لَا تَصِحَّ صَلَاتُهُ قِيَاسًا عَلَيْهِ إِذَا صَلَّى خَلْفَ امْرَأَةٍ ، وَهَذَا خَطَأٌ ، وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ الْحَسَنِ ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ ، وَأَوْمَأَ إِلَى الْقَوْمِ أَنْ مَكَانَكُمْ ، ثُمَّ جَاءَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ مَاءً ، وَصَلَّى بِهِمْ . وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَبَّرَ فِي صَلَاةٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ ، وَذَكَرَ أَنَّهُ جُنُبٌ ، فَقَالَ لِلْقَوْمِ : امْكُثُوا . ثُمَّ رَجَعَ ، وَاغْتَسَلَ ، وَجَاءَ رَأْسُهُ يَقْطُرُ مَاءً . فَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ فِيهِمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا تَقُومُوا حَتَى تَرَوْنِي . وَالثَّانِي : أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَارَ إِلَيْهِمْ بِالْوُقُوفِ ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ إِحْرَامِهِمْ لَأَمْرَهُمْ بِالْقُعُودِ ، فَدَلَّ أَمْرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْوُقُوفِ عَلَى تَقْدِيمِ إِحْرَامِهِمْ ، فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رَوَى جَابِرٌ الْبَيَاضِيُّ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيَّبِ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِقَوْمٍ وَهُوَ جُنُبٌ فَأَعَادَ وَأَعَادُوا قِيلَ : هَذَا مَتْرُوكٌ ، وَجَابِرٌ الْبَيَاضِيُّ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْحَدِيثِ ، عَلَى أَنَّ الْإِعَادَةَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ ، لِأَنَّا نَقَلْنَا صِحَّةَ صَلَاةِ الْمَأْمُومِينَ مَعَ بُطْلَانِ صَلَاةِ الْإِمَامِ . وَرَوَى جُوَيْبِرٌ ، عَنِ الضَّحَّاكِ ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَيُّمَا إِمَامٍ سَهَا فَصَلَّى بِقَوْمٍ وَهُوَ جُنُبٌ ، فَإِنَّ صَلَاةَ الْقَوْمِ مَاضِيَةٌ وَلْيَغْتَسِلْ هُوَ وَيُعِيدُ صَلَاتَهُ وَهَذَا نَصٌّ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْإِمَامِ : إِنْ أَتَمَّ فَلَهُ وَلَكُمْ ، وَإِنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهِ دُونَكُمْ فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي كُلِّ حَالٍ . وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ نَظَرَ إِلَى كِسَائِهِ ، وَفِيهِ شَيْءٌ مِنْ دَمٍ فَبَعَثَ بِهِ إِلَى عَائِشَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، وَأَمَرَ بِغَسْلِهِ وَأَعَادَ الصَّلَاةَ ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِعَادَةِ . وَرَوَى كَثِيرُ بْنُ الصَّلْتِ قَالَ : صَلَّيْتُ مَعَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَاةَ الصُّبْحِ ، فَلَمَّا فَرَغَ أَخَذَ بِيَدِي فَخَرَجْنَا نَحْوَ الصَّحْرَاءِ ، فَلَمَّا صَارَ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ نَظَرَ إِلَى ثَوْبِهِ ، وَفِيهِ شَيْءٌ مِنْ مَنِيٍّ ، فَقَالَ : إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ، إِنَّا أَكَلْنَا وَدَكًا ، فَلَانَتْ مَفَاصِلُنَا ، فَأَجْنَبْنَا ، ثُمَّ غَسَلَهُ ، وَرَجَعَ فَأَعَادَ الصَّلَاةَ وَحْدَهُ ، وَلَمْ يُعِيدُوا ، وَفِي الْخَبَرِ : أَنَّهُ هَمَّ بَعْضُهُمْ بِالْإِعَادَةِ فَمَنَعَهُ . وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّهُ صَلَّى بِالنَّاسِ فَرَأَى فِي ثَوْبِهِ أَثَرَ الِاحْتِلَامِ ، فَقَالَ : " أُرَانِي قَدْ كَبِرْتُ ، أَحْتَلِمُ وَلَا أَعْلَمُ . فَأَعَادَ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِعَادَةِ ، وَلَيْسَ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إِجْمَاعٌ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ لِمَعْنًى انْفَرَدَ بِهِ وَجَبَ أَنْ لَا تَبْطُلَ صَلَاةُ غَيْرِهِ بِبُطْلَانِ صَلَاتِهِ ، أَصْلُهُ إِذَا كَانَ الْمَأْمُومُ جُنُبًا لَمْ تَبْطُلْ صَلَاةُ الْإِمَامِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بُطْلَانُ صَلَاةِ الْإِمَامِ بِالْحَدَثِ يُوجِبُ بُطْلَانَ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ لَوَجَبَ إِذَا طَرَأَ عَلَيْهِ الْحَدَثُ فِي تَضَاعِيفِ صَلَاتِهِ فَأَبْطَلَهَا أَنْ تَبْطُلَ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ لِبُطْلَانِ صَلَاةِ الْإِمَامِ بِالْحَدَثِ ، وَفِي إِجْمَاعِهِ عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ ، وَإِنَّ بُطْلَانَ صَلَاةِ الْإِمَامِ بِالْحَدَثِ الطَّارِئِ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ صَلَاتِهِ بِالْحَدَثِ الْمُتَقَدِّمِ لَا يُبْطِلُ صَلَاةَ الْمَأْمُومِ . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا : أَنَّ بُطْلَانَ طَهَارَةِ الْإِمَامِ لَا تُوجِبُ فَسَادَ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِحَدَثِهِ عِنْدَ مُتَابَعَتِهِ كَمَنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ عَمِلَ عَلَى طُهْرٍ بِقَوْلِهِ لَمْ يَبْطُلْ حُكْمُ الطُّهْرِ بِرُجُوعِهِ ، كَالْمَرْأَةِ إِذَا تَزَوَّجَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا ، ثُمَّ رَجَعَتْ . فَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْأَئِمَّةُ ضُمَنَاءُ فَالْمُرَادُ بِهِ ضَمَانُ الْإِمَامَةِ لَا ضَمَانُ الِائْتِمَامِ ، أَلَا تَرَاهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَبَرِ " فَإِنْ أَتَمَّ فَلَهُ وَلَكُمْ ، وَإِنْ نَقَصَ فَعَلَيْهِ دُونَكُمْ " فَكَانَ هَذَا الْخَبَرُ دَلَالَةٌ لَهُ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ .
وَأَمَّا تَعَلُّقُهُمْ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ " ، فَالْمُرَادُ مَا ظَهَرَ مِنْ أَفْعَالِهِ دُونَ طَهَارَتِهِ لِتَعَذُّرِ مَعْرِفَتِهَا عَلَى أَنَّهُ قَدْ أَبَانَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا ، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا " . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمَرْأَةِ فَلَا يَصِحُّ ، لِأَنَّهُ قَدْ كُلِّفَ مَعْرِفَةَ حَالِ الْإِمَامِ فِي كَوْنِهِ رَجُلًا ، أَوِ امْرَأَةً لِقُدْرَتِهِ عَلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ بِظَاهِرِ الزِّيِّ وَالْهَيْئَةِ ، وَلَمْ يُكَلَّفْ مَعْرِفَةَ طَهَارَةِ إِمَامِهِ لِتَعَذُّرِ مَعْرِفَتِهَا ، وَعَدَمِ إِمَارَةٍ تَدُلُّ عَلَيْهَا ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَاكِمَ لَوْ حَكَمَ بِشَهَادَةِ نَفْسَيْنِ ، ثُمَّ بَانَ لَهُ أَنَّهُمَا فَاسِقَانِ بَعْدَ الْقَضَاءِ لَمْ يَنْقُضْ حُكْمَهُ ، وَلَوْ بَانَ أَنَّهُمَا امْرَأَتَانِ نَقَضَ حُكْمَهُ ، وَإِذَا فَرَّقَ مَالِكٌ بَيْنَ عَمْدِ الْإِمَامِ وَنِسْيَانِهِ فَغَلَطٌ ، لِأَنَّ مَا نَقَضَ الطُّهْرَ فَحُكْمُ الْعَمْدِ وَالسَّهْوِ فِيهِ سَوَاءٌ . فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْإِعَادَةَ عَلَى الْمَأْمُومِينَ ، وَإِنْ كَانَ إِمَامُهُمْ مُحْدِثًا فَبَانَ حَدَثُ الْإِمَامِ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ العدد الذي تنعقد به الصلاة ، فَإِنْ كَانُوا أَرْبَعِينَ مَعَ إِمَامِهِمْ لَمْ تَصِحَّ الْجُمُعَةُ لِنُقْصَانِ عَدَدِهِمْ ، وَلَهُمُ الْبِنَاءُ عَلَى الظُّهْرِ ، وَإِنْ كَانُوا أَرْبَعِينَ سِوَى الْإِمَامِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا تَصِحُّ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ تَصِحَّ لَهُمْ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ ، وَأَنْ تَصِحَّ لِإِمَامِهِمْ جَازَ أَنْ تَصِحَّ لَهُمُ الْجُمُعَةُ وَيَبْنُونَ عَلَى الظُّهْرِ ، لِأَنَّ انْعِقَادَ الْجُمُعَةِ بِالْإِمَامِ فَإِذَا لَمْ تَصِحَّ الْجُمُعَةُ لَهُ لَمْ تَصِحَّ لَهُمْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : تَصِحُّ لَهُمُ الْجُمُعَةُ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ تَصِحَّ لَهُمْ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ ، وَإِنْ تَصِحَّ لِإِمَامِهِمْ جَازَ أَنْ تَصِحَّ لَهُمُ الْجُمُعَةُ وَإِنْ لَمْ تَصِحَّ لِإِمَامِهِمْ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ صَلَّى رَجُلٌ وَفِي ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ مِنْ دَمٍ أَوْ قَيْحٍ وَكَانَ قَلِيلًا مِثْلَ دَمِ الْبَرَاغِيثِ ، وَمَا يَتَعَافَاهُ النَّاسُ لَمْ يُعِدْ ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا أَوْ قَلِيلًا بَوْلًا أَوْ عَذِرَةً أَوْ خَمْرًا وَمَا كَانَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ أَعَادَ فِي الْوَقْتِ وَغَيْرِ الْوَقْتِ . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) . وَلَا يَعْدُو مَنْ صَلَّى بِنَجَاسَةٍ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُؤَدِّيًا فَرْضَهُ أَوْ غَيْرَ مُؤَدٍّ وَلَيْسَ ذَهَابُ الْوَقْتِ بِمُزِيلٍ مِنْهُ فَرْضًا لَمْ يُؤَدِّهِ ، وَلَا إِمْكَانُ الْوَقْتِ بِمُوجِبٍ عَلَيْهِ إِعَادَةَ فَرْضٍ قَدْ أَدَّاهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : هَذَا صَحِيحٌ ، تَوَقِّي الْأَنْجَاسِ وَاجِبٌ فِي الصَّلَاةِ ، وَبِهِ قَالَ الْفُقَهَاءُ ، وَإِنْ صَلَّى بِالنَّجَاسَةِ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَابْنُ مَسْعُودٍ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى : إِنْ صَلَّى وَعَلَى ثَوْبِهِ أَوْ بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ ، فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ ، قَلَّتِ النَّجَاسَةُ أَوْ كَثُرَتْ أَيُّ نَجَاسَةٍ كَانَتْ . وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ نَحَرَ جَزُورًا وَأَصَابَ ثِيَابُهُ مِنْ فَرْثِهَا ، وَدَمِهَا ، فَقَامَ ، وَصَلَّى . وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : لَيْسَ عَلَى الثَّوْبِ جَنَابَةٌ . وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، اتْلُوا عَلَيَّ الْآيَةَ الَّتِي فِيهَا غَسْلُ الثَّوْبِ مِنَ النَّجَاسَةِ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [ الْمُدَّثِّرِ : ، ] . وَالرِّجْزُ : النَّجَاسَةُ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ :
أَحَدُهُمَا : قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، أَنَّ تَأْوِيلَهُ لَا تَلْبَسْ ثِيَابَكَ عَلَى الْغَدْرِ وَالْمَعَاصِي ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِمَنْ غَدَرَ دَنِسَ الثَّوْبِ ، وَلِمَنْ وَفَّى بِعَهْدِهِ طَاهِرَ الثَّوْبِ وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسَ : ثِيَابُ بَنِي عَوْفٍ طَهَارَى نَقِيَّةٌ وَأَوْجُهُهُمْ عِنْدَ الْمَشَاهِدِ غُرَّانُ وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَرَادَ وَثِيَابَكَ فَقَصِّرْ كَيْ لَا تَنْجَرَّ كِبْرًا ، أَوْ خُيَلَاءَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِزْرَةُ الْمُؤْمِنِ إِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ ، وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ إِلَى الْكَعْبَيْنِ فَمُبَاحٌ وَمَا فَوْقَ الْكَعْبَيْنِ فِي النَّارِ . وَالتَّأْوِيلُ الثَّالِثُ : قَالَهُ الْحَكَمُ ، وَمُجَاهِدٌ : أَنَّ مَعْنَاهُ وَعَمَلَكَ فَأَصْلِحْ . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يُحْشَرُ الْمَرْءُ فِي ثَوْبَيْهِ اللَّذَيْنِ مَاتَ فِيهِمَا يَعْنِي : عَمَلَهُ الصَّالِحَ ، وَالطَّالِحَ . وَالتَّأْوِيلُ الرَّابِعُ : قَالَ الْحَسَنُ مَعْنَاهُ : أَنَّ خُلُقَكَ فَحَسِّنْ . وَالتَّأْوِيلُ الْخَامِسُ : أَنَّ مَعْنَاهُ وَقَلْبَكَ فَطَهِّرْ قَالَ الشَّاعِرُ : وَإِنْ تَكُ قَدْ سَاءَتْكَ مِنِّي خَلِيقَةٌ فُسُلِّي ثِيَابِي مِنْ ثَيَابِكِ تَنْسَلِي يَعْنِي : قَلْبِي مِنْ قَلْبِكِ . وَالتَّأْوِيلُ السَّادِسُ : وَهُوَ الصَّحِيحُ ، وَبِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ ، وَالْفُقَهَاءُ : إِنَّ مَعْنَاهُ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [ الْمُدَّثِّرِ : ] . مِنَ النَّجَاسَةِ بِالْمَاءِ ، وَهُوَ الْمَعْمُولُ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الثِّيَابِ مَا لُبِسَتْ ، وَحَقِيقَةُ الطَّهَارَةِ عَنِ النَّجَاسَةِ فَلَا وَجْهَ لِحَمْلِهِ عَلَى غَيْرِ الظَّاهِرِ إِذَا كَانَ الظَّاهِرُ جَلِيًّا ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ : وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ فِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : مِنَ الْأَصْنَامِ . وَالثَّانِي : مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، فَإِذَا وَجَبَ تَطْهِيرُهُ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْمُشْرِكِينَ مَعَ طَهَارَتِهِمْ كَانَ تَطْهِيرُهُ مِنَ الْأَنْجَاسِ أَوْلَى . وَرَوَى الْأَعْمَشُ ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَكْثَرُ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنَ الْبَوْلِ وَمَا وَجَبَ الْعَذَابُ مِنْ أَجْلِهِ فَاجْتِنَابُهُ وَاجِبٌ . وَرَوَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي دَمِ الْحَيْضِ : حُتِّيهِ ، ثُمَّ اقْرُضِيهِ ، ثُمَّ اغْسِلِيهِ بِالْمَاءِ وَرَوَتْ أُمُّ قَيْسٍ بِنْتُ مِحْصَنٍ أَنَّهَا سَأَلَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ دَمِ الْحَيْضِ يُصِيبُ الثَّوْبَ فَقَالَ : اقْرُضِيهِ ، وَاغْسِلِيهِ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ فَدَلَّ أَمْرُهُ بِغَسْلِهِ عَلَى وُجُوبِ إِزَالَتِهِ .
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَالنَّجَاسَةُ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا اسْتَوَى حُكْمُ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ فِي الْمَنْعِ مِنْهُ وَبُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِهِ من النجاسة وَهُوَ الْغَائِطُ ، وَالْبَوْلُ ، وَالْخَمْرُ ، وَمَا لَا يَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَعْنِي عَنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ الْبَغْلِيِّ ، فَمَا دُوَنَهُ قَالَ : لِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ يَسِيرَةٌ فَوَجَبَ أَنْ يُعْفَى عَنْهَا قِيَاسًا عَلَى أَثَرِ الِاسْتِنْجَاءِ . وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ كَانَ وَقْتُ الصَّلَاةِ بَاقِيًا أَعَادَ الصَّلَاةَ فِي قَلِيلِ النَّجَاسَةِ ، وَكَثِيرِهَا وَإِنْ فَاتَ لَمْ يُعِدْ فِي قَلِيلِ النَّجَاسَةِ وَكَثِيرِهَا . وَاسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فَرَأَى فِي ثَوْبِهِ لُمَعًا مِنْ نَجَاسَةٍ فَبَعَثَ بِهِ إِلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِتَغْسِلَهُ ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَعَادَ صَلَاتَهُ . وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى : عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الظَّوَاهِرِ هُوَ أَنَّهَا نَجَاسَةٌ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهَا فَوَجَبَ أَنْ لَا يُعْفَى عَنْهَا . أَصْلُهُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ مَا زَادَ عَلَى الدِّرْهَمِ وَمَعَ مَالِكٍ مَا لَمْ يَخْرُجِ الْوَقْتُ ، وَلِأَنَّ التَّطْهِيرَ إِذَا أَمْكَنَ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ فِي مَحَلٍّ لَمْ يَجُزِ الْعَفْوُ عَنْهُ عَنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ كَأَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ فِي الْحَدَثِ . فَأَمَّا قِيَاسُ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى أَثَرِ الِاسْتِنْجَاءِ فَغَيْرُ جَائِزٍ ، لِأَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ عِنْدَهُ غَيْرُ وَاجِبٍ ، فَكَيْفَ يَكُونُ أَصْلًا لِوَاجِبٍ ، لِأَنَّ الْحَرَامَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْنِصَ مِنْ أَصْلِ حَلَالٍ ، وَلَا الْحَلَالُ مِنْ أَصْلِ حَرَامٍ عَلَى أَنَّ مَوْضِعَ الِاسْتِنْجَاءِ مَخْصُوصٌ بِالرُّخْصَةِ مَعْدُولٌ عَنْ حُكْمِ النَّجَاسَةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَاسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَكَيْفَ قَدَّرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ بِالدِّرْهَمِ ، وَقَدْ يَخْتَلِفُ عَلَى اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي خِلْقَتِهِمْ ، وَأَمَّا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مَالِكٌ مِنَ الْخَبَرِ فَفِيهِ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَقْضِ الصَّلَاةَ فِي الْحَالِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَضَاهَا بَعْدَ زَمَانٍ ، لِأَنَّ تَعْجِيلَ الْقَضَاءِ عَلَى الْفَوْرِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمْ يُعِدْ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمِ النَّجَاسَةَ إِلَّا بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الصَّلَاةِ ، وَالْإِعَادَةُ عِنْدَنَا فِي مَثْلِهِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، ثُمَّ أَفْسَدَ مَذْهَبَهُ بِمَا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ مِنْ أَنْ لَا يَعْدُوَ مَنْ صَلَّى بِنَجَاسَتِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُؤَدِّيًا فَرْضَهُ ، أَوْ غَيْرَ مُؤَدٍّ وَلَيْسَ ذَهَابُ الْوَقْتِ بِمُزِيلٍ عَنْهُ فَرْضًا لَمْ يُؤَدِّهِ ، وَلَا إِمْكَانُ الْوَقْتِ بِمُوجِبٍ عَلَيْهِ إِعَادَةَ فَرْضٍ قَدْ أَدَّاهُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مِنَ النَّجَاسَةِ مَا عُفِيَ عَنْ قَلِيلِهِ ، وَلَمْ يُعْفَ عَنْ كَثِيرِهِ ، وَذَلِكَ مِثْلُ دَمِ الْبَرَاغِيثِ ، وَمَاءِ الْقُرُوحِ ، وَالْبُثُورِ ، وَالْمِدَّةِ إِذَا لَمْ يَخْتَلِطْ كُلُّ ذَلِكَ بِدَمٍ ، لِأَنَّ فِي التَّحَرُّزِ مِنْ قَلِيلِ ذَلِكَ مَشَقَّةٌ غَالِبَةٌ ، فَأَمَّا سَائِرُ الدِّمَاءِ سِوَى دَمِ الْبَرَاغِيثِ فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ لِأَصْحَابِنَا : أَحَدُهَا كَالْأَبْوَالِ لَا يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا لِدَفْعِ الْمَشَقَّةِ فِي التَّحَرُّزِ مِنْهَا .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : كَدَمِ الْبَرَاغِيثِ يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهَا دُونَ كَثِيرِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ ، وَكَأَنَّهُ أَصَحُّ : يُعْفَى عَنْ قَلِيلِ دَمِ الْإِنْسَانِ مِنْ فِصَادِهِ ، أَوْ حِجَامِهِ ، أَوْ رُعَافِهِ ، أَوْ جُرْحِهِ ، وَلَا يُعْفَى عَنْ دَمِ غَيْرِهِ مِنْ بَهِيمَةٍ ، أَوْ آدَمِيٍّ ، فَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ قَلِيلِ ذَلِكَ وَكَثِيرِهِ فَلَا حَدَّ لَهُ إِلَّا مَا يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ مِنَ الْقَلِيلِ ، وَالْكَثِيرِ ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي مَوْضِعٍ مِنَ " الْمَبْسُوطِ " : إِذَا كَانَ مَاءُ الْقُرُوحِ لُمْعَةً وَجَبَ إِزَالَتُهُ . وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ : إِذَا كَانَ كَقَدْرِ الْكَفِّ وَجَبَتْ إِزَالَتُهُ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مُخْتَلِفًا بَلْ هُوَ تَقْرِيبٌ عَلَى مَعْنَى الْفَرْقِ وَالْعَادَةِ ، فَإِنْ فَحُشَ وَجَبَتْ إِزَالَتُهُ ، وَإِنْ قَلَّ عُفِيَ عَنْهُ .
فَصْلٌ : إِذَا سَلَّمَ الرَّجُلُ مِنْ صَلَاتِهِ ثُمَّ رَأَى عَلَى ثَوْبِهِ نَجَاسَةً ، أَوْ بَدَنِهِ نَجَاسَةً ، فَذَلِكَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يُمْكِنُ حُدُوثُهَا بَعْدَ السَّلَامِ فَالصَّلَاةُ مُجْزِئَةٌ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِاسْتِقْرَارِ الْأَدَاءِ ، وَعَدَمِ مَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَتَيَقَّنَ تَقَدُّمَ النَّجَاسَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ ، وَفِي الصَّلَاةِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ أَيْضًا : أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ عَلِمَ بِهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ وَلَا شَاهَدَهَا إِلَّا بَعْدَ السَّلَامِ النجاسة ، فَفِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ : لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ لِرِوَايَةِ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي نَعْلَيْهِ ، ثُمَّ خَلَعَهُمَا فَخَلَعَ النَّاسُ نِعَالَهُمْ ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ : مَا حَمَلَكُمْ عَلَى أَنْ خَلَعْتُمْ نِعَالَكُمْ ؟ قَالُوا : خَلَعْتَ ، فَخَلَعْنَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ بِهَا قَذَرًا . وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّ فِيهَا دَمَ حِلْمَةٍ ، وَلِأَنَّ الْمُصَلِّيَ مَأْمُورٌ بِفِعْلِ أَشْيَاءَ ، كَالرُّكُوعِ ، وَالسُّجُودِ ، وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ ، وَبِتَرْكِ أَشْيَاءَ كَالنَّجَاسَةِ ، وَالْكَلَامِ ، ثُمَّ كَانَ مَا أُمِرَ بِفِعْلِهِ تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِتَرْكِهِ عَمْدًا ، أَوْ نِسْيَانًا ، وَمَا أُمِرَ بِتَرْكِهِ وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ عَمْدِهِ ، وَنِسْيَانِهِ كَالْكَلَامِ ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ النَّجَاسَةُ الْمَأْمُورُ بِتَرْكِهَا يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَ عَمْدِهَا وَنِسْيَانِهَا كَالْكَلَامِ فَتَبْطُلُ الصَّلَاةُ مَعَ الْعَمْدِ ، وَتَصِحُّ مَعَ النِّسْيَانِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ ، وَبِهِ قَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ : عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ ، لِأَنَّهَا طَهَارَةٌ لَوْ تَرَكَهَا عَامِدًا لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ ، فَوَجَبَ إِذَا تَرَكَهَا سَاهِيًا أَنْ لَا تَصِحَّ صَلَاتُهُ قِيَاسًا عَلَى رَفْعِ الْحَدَثِ ، وَلِأَنَّهُ حَامِلٌ نَجَاسَةً لَوْ كَانَ عَالِمًا بِهَا لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ ، فَوَجَبَ إِذَا كَانَ سَاهِيًا لَهَا أَنْ لَا تَصِحَّ صَلَاتُهُ .
أَصْلُهُ إِذَا تَطَهَّرَ بِالْمَاءِ النَّجِسِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ قَدْ عَلِمَ بِالنَّجَاسَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ ، ثُمَّ يَسْهُو عِنْدَ دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ ، فَعَلَى قَوْلَيْنِ فِي الْجَدِيدِ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ ، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ ؟ لِتَفْرِيطِهِ فِي إِزَالَتِهَا . وَالثَّانِي : خَرَّجَهُ الْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَجِدْ إِلَّا ثَوْبًا نَجِسًا وَلَمْ يَجِدْ مَا يَغْسِلُهُ صَلَّى عُرْيَانًا ، وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ نَجِسًا كُلُّهُ ، أَوْ بَعْضُهُ ، وَإِنْ صَلَّى فِيهِ أَعَادَ . وَقَالَ مَالِكٌ وَالْمُزَنِيُّ : صَلَّى فِيهِ ، وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ كَانَ بَعْضُهُ نَجِسًا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ ، وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ جَمِيعُهُ نَجِسًا كَانَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ ، وَبَيْنَ أَنْ يُصَلِّيَ عُرْيَانًا وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ أَيْضًا ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمْ هُوَ : أَنَّهُ مَعْنَى يَتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى أَدَاءِ شَرْطٍ مِنْ شَرَائِطِ الصَّلَاةِ فَوَجَبَ إِذَا كَانَ نَجِسًا أَنْ لَا يَسْقُطَ مَعَهُ ، أَصْلُهُ الطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ النَّجِسِ وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ دَمُ الْبَرَاغِيثِ ، لِأَنَّ قَوْلَنَا نَجِسٌ يَقْتَضِي تَنْجِيسَ جَمِيعِ الْبَدَنِ ، وَدَمُ الْبَرَاغِيثِ لَا يُنَجِّسُ جَمِيعُهُ ، وَلِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ عَلَى شَيْءٍ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهَا فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ فَرْضُ الصَّلَاةِ مَعَهَا أَصْلُهُ : إِذَا كَانَ الثَّوْبُ طَاهِرًا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ كَانَ مَعَهُ ثَوْبَانِ أَحَدُهُمَا طَاهِرٌ ، وَالْآخَرُ نَجِسٌ ، وَلَا يَعْرِفُهُ فَإِنَّهُ يَتَحَرَّى أَحَدَ الثَّوْبَيْنِ ، فَيُصَلِّي فِيهِ وَيُجْزِئُهُ ، وَكَذَلِكَ إِنَاءَانِ مِنْ مَاءٍ أَحَدُهُمَا طَاهِرٌ وَالْآخَرُ نَجِسٌ فَإِنَّهُ يَتَوَضَّأُ بِأَحَدِهِمَا عَلَى التَّحَرِّي وَيُجْزِئُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الِاجْتِهَادُ فِي الْإِنَاءَيْنِ فَقَدْ مَضَى فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ ، وَأَمَّا الِاجْتِهَادُ فِي الثَّوْبَيْنِ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا طَاهِرًا وَالْآخَرُ نَجِسًا فَجَائِزٌ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ ، فَإِذَا بَانَ لَهُ طَهَارَةُ أَحَدِهِمَا بِالِاجْتِهَادِ صَلَّى فِيهِ وَأَجْزَأَهُ . وَقَالَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيُّ : لَا يَجُوزُ الِاجْتِهَادُ فِيهِمَا ؟ بَلْ يُصَلِّي فِي أَحَدِهِمَا وَيُعِيدُ فِي الْآخَرِ . قَالَ : لِأَنَّهُ قَدْ يَقْدِرُ عَلَى أَدَاءِ فَرْضِهِ بِيَقِينٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤَدِّيَهُ مُجْتَهِدًا بِالشَّكِّ كَمَنْ تَرَكَ صَلَاةً مِنْ جُمْلَةِ خَمْسِ صَلَوَاتٍ لَا يَعْرِفُهَا بِعَيْنِهَا لَمَا لَزِمَهُ إِعَادَةُ الْخَمْسِ صَلَوَاتٍ لِيَكُونَ مُؤَدِّيًا لِفَرْضِهِ بِيَقِينٍ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الثَّوْبَيْنِ كَذَلِكَ قَالَ : وَيُفَارِقُ هَذَا الْإِنَاءَيْنِ حَيْثُ جَازَ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِيهِمَا أَنَّهُ لَوْ أُمِرَ أَنْ يَتَطَهَّرَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَكَانَ حَامِلًا لِنَجَاسَةٍ بِيَقِينٍ ، وَهَذَا خَطَأٌ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى فَسَادِهِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ عِبَادَةٌ تُؤَدَّى بِالْيَقِينِ وَالظَّاهِرِ ،
فَجَازَ دُخُولُ التَّحَرِّي فِيهَا عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ قِيَاسًا عَلَى الْقِبْلَةِ وَالْأَوَانِي ، وَمَعْنَى قَوْلِنَا : تُؤَدَّى بِالْيَقِينِ هُوَ : أَنْ يُصَلِّيَ فِي ثَوْبٍ قَدْ غَسَلَهُ . وَقَوْلُنَا : تُؤَدَّى بِالظَّاهِرِ هُوَ : جَوَازُ الصَّلَاةِ فِي ثِيَابِ الْمُشْرِكِينَ ، وَالْيَقِينُ فِي الْقِبْلَةِ أَنْ يُعَايِنَهَا ، وَالظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ غَائِبًا عَنْهَا ، وَالْيَقِينُ فِي الْمَاءِ أَنْ يَتَوَضَّأَ بِمَاءِ النَّهْرِ ، وَالظَّاهِرُ بِمَاءِ الْأَوَانِي ، فَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ وُصُولِهِ إِلَى أَدَاءِ فَرْضِهِ بِيَقِينٍ فَمُنْتَقَضٌ عَلَيْهِ بِجِهَاتِ الْقِبْلَةِ يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِيهَا ، وَلَا يَلْزَمُهُ الصَّلَاةُ إِلَى جَمِيعِهَا ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ أَدَاءُ فَرْضَيْنِ بِيَقِينٍ ، ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ تَرْكِهِ لِصَلَاةٍ مِنْ خَمْسِ صَلَوَاتٍ وَبَيْنَ الثَّوْبَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ مَا سِوَى فَرْضِهِ مِنَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ نَافِلَةٌ وَفِعْلُهَا عَلَى وَجْهِ الْعَمْدِ طَاعَةٌ ، وَفِعْلُ الصَّلَاةِ عَلَى وَجْهِ الْعَمْدِ فِي ثَوْبٍ نَجِسٍ مَعْصِيَةٌ ، فَافْتَرَقَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : هُوَ أَنَّ عَلَيْهِ تَعْيِينُ النِّيَّةِ فِي الصَّلَاةِ الْمَتْرُوكَةِ مِنَ الْخَمْسِ ، فَلَا يُمْكِنُهُ تَعْيِينُ النِّيَّةِ لَهَا إِلَّا بِقَضَاءِ الْخَمْسِ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ تَعْيِينُ النِّيَّةِ فِي الظَّاهِرِ مِنَ الثَّوْبَيْنِ فَافْتَرَقَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا . وَالْفَرْقُ الثَّالِثُ : عَدَمُ الْمَشَقَّةِ فِي إِعَادَةِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ إِذَا تَرَكَ أَحَدَهَا ، لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا يَلْزَمُهُ إِعَادَةُ خَمْسٍ سَوَاءٌ تَرَكَ صَلَاةً ، أَوْ صَلَاتَيْنِ ، أَوْ ثَلَاثًا ، أَوْ أَرْبَعًا ، وَإِذَا نَالَ الْمَشَقَّةَ فِي إِعَادَةِ الصَّلَاةِ فِي الثِّيَابِ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مَعَهُ ثَوْبٌ نَجِسٌ فِي جُمْلَةِ أَلْفِ ثَوْبٍ طَاهِرٍ لَا يَعْرِفُهُ بِعَيْنِهِ ، فَلَوْ كُلِّفَ إِعَادَةَ الصَّلَاةِ فِي كُلِّ ثَوْبٍ مَرَّةً لَلَزِمَهُ إِعَادَةُ تِلْكَ الصَّلَاةِ أَلْفَ مَرَّةٍ ، وَهَذَا أَعْظَمُ مَشَقَّةً .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ التَّحَرِّي فِي ثَوْبَيْنِ ، فَكَذَلِكَ فِي الْكَثِيرِ مِنَ الثِّيَابِ سَوَاءٌ كَانَ الطَّاهِرُ أَكْثَرَ مِنَ النَّجَسِ ، أَوِ النَّجِسُ أَكْثَرَ مِنَ الطَّاهِرِ ، فَإِذَا بَانَ لَهُ بِالِاجْتِهَادِ وَالتَّحَرِّي في الثياب النجسة طَهَارَةُ أَحَدِهِمَا صَلَّى فِيهِ مَا شَاءَ مِنَ الصَّلَوَاتِ ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ إِعَادَةُ الِاجْتِهَادِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ ، فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا وَجَبَ عَلَيْهِ إِعَادَةُ الِاجْتِهَادِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ كَالْقِبْلَةِ ؟ قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْقِبْلَةَ فِي مَوْضِعِهَا لَا تَنْتَقِلُ فِي أَحْوَالِهَا وَيَكُونُ مَهَبُّ الشَّمَالِ فِي وَقْتٍ قِبْلَةً لَهُ ، وَمَهَبُّ الْجَنُوبِ فِي وَقْتٍ قِبْلَةً لَهُ ، وَقَدْ يَكُونُ ضِدَّهُمَا فِي وَقْتٍ قِبْلَةً لَهُ لِتَغْيِيرِ أَحْوَالِهِ وَتَنَقُّلِ أَمَاكِنِهِ فَلِأَجْلِ ذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْهِ تَكْرَارُ الِاجْتِهَادِ في القبلة علته لِتَكُونَ الصَّلَاةُ وَالثَّوْبُ الطَّاهِرُ مَحْكُومٌ لَهُ بِالنَّجَاسَةِ فِي كُلِّ زَمَانٍ ، فَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَمْ تَلْزَمْهُ إِعَادَةُ الِاجْتِهَادِ ، فَلَوْ أَعَادَ الِاجْتِهَادَ عِنْدَ صَلَاتِهِ فِي الثَّوْبَيْنِ ثَانِيَةً فَبَانَ لَهُ نَجَاسَةُ مَا صَلَّى فِيهِ ، وَطَهَارَةُ مَا تَرَكَهُ ، فَإِنْ بَانَ لَهُ عِلْمُ ذَلِكَ قَطْعًا مِنْ طَرِيقِ الْيَقِينِ أَعَادَ صَلَاتَهُ الْأُولَى ، لِأَنَّ الْعِلْمَ الْقَاطِعَ قَاضٍ عَلَى الْعِلْمِ الظَّاهِرِ فَجُوِّزَ لَهُ الصَّلَاةُ فِي الثَّوْبِ الثَّانِي لِيَقِينِ طَهَارَتِهِ ، وَإِنْ عَلِمَ نَجَاسَتَهُ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ ، وَالتَّحَرِّي لَمْ يُعِدْ مَا صَلَّى فِيهِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الصَّلَاةَ فِيهِ ، لِأَنَّ اجْتِهَادَهُ الثَّانِيَ قَدْ أَثْبَتَ لَهُ حُكْمَ النَّجَاسَةِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهُ يُصَلِّي عُرْيَانًا ، وَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ ، وَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ يُصَلِّي فِي الثَّانِي ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِعَادَةٌ عَلَى نَحْوِ مَا قَالَهُ فِي الْإِنَاءَيْنِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ ، وَعَلَى مَذْهَبِ
الْمُزَنِيِّ : يُصَلِّي فِي أَحَدِهِمَا وَيُعِيدُ فِي الْآخَرِ عَلَى أَصْلِهِ الْمُتَقَدِّمِ ، فَلَوْ لَمْ يَبِنْ لَهُ بِاجْتِهَادِهِ الطَّاهِرُ مِنَ النَّجَسِ من الثياب التي يريد الصلاة فيها ، وَكَانَ الشَّكُّ بَاقِيًا فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُصَلِّي عُرْيَانًا وَيُعِيدُ إِذَا وَجَدَ ثَوْبًا طَاهِرًا ، وَمَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ ، وَقَدْ سَاعَدَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عِنْدَ بَقَاءِ الْإِشْكَالِ أَنَّهُ يُصَلِّي فِي أَحَدِهِمَا ، وَيُعِيدُ فِي الْآخَرِ ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَأَجْزَاهُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ لَا يُوجِبُهُ عَلَيْهِ .
فَصْلٌ : إِذَا كَانَ مَعَهُ ثَوْبٌ طَاهِرٌ بِيَقِينٍ ، وَثَوْبَانِ أَحَدُهُمَا طَاهِرٌ ، وَالْآخَرُ نَجِسٌ ، وَقَدْ أَشْكَلَا عَلَيْهِ فَفِي جَوَازِ التَّحَرِّي فِيهِمَا مَعَ وُجُودِ الثَّوْبِ الطَّاهِرِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ ، لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ مَتْرُوكٌ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ ، وَالْيَقِينِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ أَصَحُّ : يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِيهِمَا ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ الطَّاهِرِ مَعَ وُجُودِ الْيَقِينِ ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ وَجَدَ إِنَاءَ مَاءٍ عَلَى شَاطِئِ دِجْلَةَ جَازَ لَهُ اسْتِعْمَالُهُ ، وَتَرْكُ مَاءَ دِجْلَةَ ، وَإِنْ كَانَتْ طَهَارَةُ الْإِنَاءِ مِنْ طَرِيقِ الظَّاهِرِ ، وَطَهَارَةُ دِجْلَةَ مِنْ طَرِيقِ الْيَقِينِ ، كَذَلِكَ فِي الثَّوْبَيْنِ الْمُشَكِلَيْنِ مَعَ وُجُودِ ثَوْبٍ طَاهِرٍ فَلَوْ كَانَ مَعَهُ ثَوْبَانِ أَحَدُهُمَا طَاهِرٌ ، وَالْآخَرُ نَجِسٌ وَقَدْ أَشْكَلَا عَلَيْهِ فَتَحَرَّى فِيهِمَا ، وَغَسَلَ مَا غَلَبَ قَلْبُهُ أَنَّهُ نَجِسٌ ، جَازَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ ، فَإِنْ لَبِسَهُمَا وَصَلَّى فِيهِمَا جَمِيعًا فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ يَجُوزُ ، لِأَنَّ أَحَدَهُمَا طَاهِرٌ بِغَسْلِهِ ، وَالْآخَرَ طَاهِرٌ بِاجْتِهَادِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ لَا يَجُوزُ لَهُ ، لِأَنَّهُ قَدْ تَيَقَّنَ حُلُولَ النَّجَاسَةِ فِي أَحَدِهِمَا وَهُوَ شَاكٌّ فِي زَوَالِهَا فَلَمْ يَجُزْ أَدَاءُ الصَّلَاةِ فِيهِمَا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ خَفِيَ مَوْضِعُ النَّجَاسَةِ مِنَ الثَّوْبِ غَسَلَهُ كُلَّهُ لَا يُجْزِئُهُ غَيْرُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا كَانَ مَعَهُ ثَوْبٌ وَاحِدٌ أَصَابَتْهُ نَجَاسَةٌ لَا يَعْرِفُ مَوْضِعَهَا فَعَلَيْهِ غَسْلُهَا ، وَلَيْسَ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِيهِ ، لِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ مِنَ الثَّوْبِ مُسَاوٍ لِغَيْرِهِ فِي جَوَازِ طَهَارَتِهِ ، وَحُلُولِ النَّجَاسَةِ فِيهِ ، وَلِأَنَّ الْحَظْرَ ، وَالْإِبَاحَةَ إِذَا اخْتَلَطَا غَلَبَ حُكْمُ الْحَظْرِ ، وَلَمْ يَسَعْ فِيهِ الِاجْتِهَادُ ، وَإِذَا تَمَيَّزَا ، وَأَشْكَلَا سَاغَ فِيهِمَا الِاجْتِهَادُ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ شَقَّ الثَّوْبَ لَمْ يَجُزْ لَهُ الِاجْتِهَادُ لِجَوَازِ أَنْ يُصَادِفَ الثَّوْبُ مَحَلَّ النَّجَاسَةِ فَتَحْصُلُ النَّجَاسَةُ فِيهِمَا جَمِيعًا ، فَلَوْ كَانَ الثَّوْبُ قَمِيصًا فَعَلِمَ أَنَّ النَّجَاسَةَ فِي أَحَدِ كُمَّيْهِ فَأَرَادَ الِاجْتِهَادَ بَيْنَهُمَا وَغَسَلَ مَا يُؤَدِّيهِ الِاجْتِهَادُ إِلَى نَجَاسَتِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ يَجُوزُ ، لِأَنَّ أَحَدَ الْكُمَّيْنِ طَاهِرٌ بِالِاجْتِهَادِ ، وَالْآخَرُ طَاهِرٌ بِالْغَسْلِ عَلَى مَعْنَى مَا قَالَهُ فِي الثَّوْبَيْنِ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ لَا يَجُوزُ ، لِأَنَّهُ قَدْ تَيَقَّنَ حُلُولَ النَّجَاسَةِ فِي أَحَدِهِمَا وَهُوَ شَاكٌّ فِي زَوَالِهَا ، فَلَوْ أَخْبَرَهُ ثِقَةٌ بِحُلُولِ النَّجَاسَةِ فِي أَحَدِهِمَا فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ قَبُولُ خَبَرِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ إِذَا قِيلَ : إِنَّ الِاجْتِهَادَ فِيهِمَا لَا يَجُوزُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ إِذَا قِيلَ إِنَّ الِاجْتِهَادَ فِيهِمَا يَجُوزُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ أَصَابَ ثَوْبَ الْمَرْأَةِ مِنْ دَمِ حَيْضِهَا قَرَضَتْهُ بِالْمَاءِ حَتَى تُنَقِّيَهُ ثُمَّ تُصَلِّي فِيهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا أَصَابَ ثَوْبَ الْمَرْأَةِ مِنْ دَمِ حَيْضِهَا فَعَلَيْهَا غَسْلُهُ لِلصَّلَاةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ ، وَقَدْ سَأَلَتْهُ عَنْ دَمِ الْحَيْضِ ، حُتِّيهِ ، ثُمَّ اقْرُضِيهِ ، ثُمَّ اغْسِلِيهِ بِالْمَاءِ ، فَإِنْ غَسَلَتْهُ ، وَأَزَالَتْهُ بِلَا حَتٍّ ، وَلَا قَرْضٍ جَازَ . وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ : لَا يَجُوزُ لِلْخَبَرِ ، وَهَذَا خَطَأٌ ، لِأَنَّ أَمْرَهُ بِالْحَتِّ وَالْقَرْضِ مِنْ صِفَاتِ الْغَسْلِ ، وَمُخَالَفَةُ الصِّفَةِ لَا تُبْطِلُ الْحُكْمَ مَعَ وُجُودِ الْإِزَالَةِ الْمَقْصُودَةِ بِالْغَسْلِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِأُمِّ قَيْسٍ بِنْتِ مِحْصَنٍ : نَدِّيهِ بِالْمَاءِ ، وَحُكِّيهِ بِصَلْعٍ ، وَاغْسِلِيهِ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَلَيْسَ هَذَا شَرْطٌ لَازِمٌ فِي الْغَسْلِ ، كَذَلِكَ الْحَتُّ وَالْقَرْضُ ، فَإِذَا غَسَلَتْهُ بِالْمَاءِ فَزَالَ لَوْنُهُ وَأَثَرُهُ وَرِيحُهُ ثوب المرأة أصابه الحيض فَقَدْ طَهُرَ ، وَجَازَ لَهَا الصَّلَاةُ فِيهِ ، وَإِنْ بَقِيَ لَوْنُهُ ، أَوْ رِيحُهُ لَمْ يَطْهُرْ ، وَإِنْ بَقِيَ أَثَرُهُ دُونَ لَوْنِهِ ، وَرِيحِهِ وَلَمْ يُمْكِنْ إِزَالَتُهُ فَقَدَ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ فِيهِ لِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ مَيْمُونَةَ بِنْتَ يَسَارٍ سَأَلَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ دَمِ الْحَيْضِ إِذَا لَمْ يَخْرُجْ مِنَ الثَّوْبِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " اغْسِلِيهِ بِالْمَاءِ ، وَلَا يَضُرُّكِ أَثَرُهُ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَعْضِ النِّسَاءِ فِي مِثْلِ هَذَا : لَطِّخِيهِ بِوَرْسٍ وَلِأَنَّ مَا لَا يُقْدَرُ عَلَى إِزَالَتِهِ فِي حُكْمِ مَا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ مِنْ دَمِ الْبَرَاغِيثِ ، وَأَثَرِ الِاسْتِنْجَاءِ فِي كَوْنِهِ مَعْفُوًّا عَنْهُ ، وَمَنْ غَلِطَ مِنْ أَصْحَابِنَا ، وَمَنَعَ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهِ فَقَدْ خَالَفَ مَنْصُوصَ الشَّافِعِيِّ مَعَ السُّنَّةِ الْوَارِدَةِ فِيهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيَجُوزُ أَنْ يُصَلَّى بِثَوْبِ الْحَائِضِ ، وَالثَّوْبِ الَّذِي جَامَعَ فِيهِ الرَّجُلُ أَهْلَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَمَّا ثَوْبُ الْحَائِضِ ، وَالنُّفَسَاءِ حكم الصلاة فيهما فَطَاهِرَانِ إِنْ لَمْ يُعْلَمْ فِيهِمَا نَجَاسَةٌ ، وَالصَّلَاةُ فِيهِ جَائِزَةٌ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ : نَاوِلِينِي الْخُمْرَةَ ، فَقَالَتْ : أَنَا حَائِضٌ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَيْسَتِ الْحَيْضَةُ فِي يَدِكِ فَأَمَّا ثَوْبُ الْجُنُبِ الَّذِي جَامَعَ فِيهِ أَهْلَهُ طهارته والصلاة فيه فَطَاهِرٌ أَيْضًا ، وَالصَّلَاةُ فِيهِ جَائِزَةٌ مَا لَمْ يُعْلَمْ فِيهِ نَجَاسَةٌ لِرِوَايَةِ مَيْمُونَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي فِي الثَّوْبِ الَّذِي يُجَامِعُ أَهْلَهُ فِيهِ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَقِيَ بَعْضَ الصَّحَابَةِ فَمَدَّ إِلَيْهِ يَدَهُ لِيُصَافِحَهُ فَامْتَنَعَ الرَّجُلُ مِنْ
مُصَافَحَتِهِ ، وَقَالَ إِنِّي جُنُبٌ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الْمُؤْمِنُ لَيْسَ بِنَجِسٍ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ " وَإِنْ صَلَّى فِي ثَوْبِ نَصْرَانِيٍّ أَجْزَأَهُ مَا لَمْ يَعْلَمْ فِيهِ قَذَرًا ، وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ " أَمَّا الْيَهُودُ ، وَالنَّصَارَى فَيَجُوزُ الصَّلَاةُ فِي ثِيَابِهِمْ ، وَالطَّهَارَةُ بِمَائِهِمْ ، لِأَنَّ الْكُفْرَ وَالْإِيمَانَ إِنَّمَا هُوَ مُعْتَقَدَاتُ الْقُلُوبِ ، وَهُمْ فِي الْأَبْدَانِ سَوَاءٌ ، وَالِاعْتِقَادَاتُ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي التَّطْهِيرِ ، وَالتَّنْجِيسِ ، وَكَذَا الْكَلَامُ فِي الْمَجُوسِ ، وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ الَّذِينَ لَا يَسْتَعْمِلُونَ الْأَبْوَالَ ، فَأَمَّا مَنْ يَعْتَقِدُ مِنْهُمُ اسْتِعْمَالَ الْأَبْوَالِ فَفِي جَوَازِ الصَّلَاةِ فِي ثِيَابِهِمْ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : هُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ حَكَاهُ حَرْمَلَةُ عَنْهُ نَصًّا أَنَّ الصَّلَاةَ فِي ثِيَابِهِمْ جَائِزَةٌ مَا لَمْ يُعْلَمْ فِيهَا نَجَاسَةٌ ، لِأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ مَا لَمْ يُعْلَمْ بَعْضُ النَّجَاسَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِي ثِيَابِهِمْ ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْهَا حُلُولُ النَّجَاسَةِ فِيهَا ، وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ لَوْ تَنَزَّهَ عَنْ لُبْسِ ثِيَابِهِمْ وَالصَّلَاةِ فِيهَا كَانَ أَوْلَى .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَأَصْلُ الْأَبْوَالَ وَمَا خَرَجَ مِنْ مَخْرَجِ حَيٍّ مِمَّا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ ، أَوْ لَا تُؤْكَلُ لَحْمُهُ فَكُلُّ ذَلِكَ نَجِسٌ إِلَّا مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ مِنَ الرَّشِّ عَلَى بَوْلِ الصَّبِيِّ مَا لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ وَلَا يَتَبَيَّنُ لِي فَرْقٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَوْلِ الصَّبِيَّةِ وَلَوْ غُسِلَ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، أَمَّا بَوْلُ الْآدَمِيِّينَ فَنَجِسٌّ إِجْمَاعًا صَغِيرًا كَانَ ، أَوْ كَبِيرًا ، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى ، لِرِوَايَةِ الْأَعْمَشِ ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَكْثَرُ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنَ الْبَوْلِ وَلَوْلَا أَنَّهُ نَجِسٌ يَلْزَمُهُ اجْتِنَابُهُ مَا اسْتَحَقَّ عَذَابَ الْقَبْرِ عَلَيْهِ . وَرَوَى الشَّافِعِيُّ ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ أَعْرَابِيًّا دَخَلَ الْمَسْجِدَ ، فَقَالَ : اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي ، وَمُحَمَّدًا وَلَا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَقَدْ تَحَجَّرْتَ وَاسِعًا فَمَا لَبِثَ أَنْ بَالَ فَعَجِلَ النَّاسُ عَلَيْهِ ، فَنَهَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَالَ : يَسِّرُوا ، وَلَا تُعَسِّرُوا ، صُبُّوا عَلَيْهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ فَإِذَا ثَبَتَ نَجَاسَةُ بَوْلِ الْآدَمِيِّينَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ السُّنَّةِ ، وَالْإِجْمَاعِ فَالْوَاجِبُ غَسْلُهُ بِالْمَاءِ إِلَّا بَوْلَ الصَّبِيِّ قَبْلَ الطَّعَامِ ، فَإِنَّهُ يُطَهَّرُ بِرَشِّ الْمَاءِ عَلَيْهِ ، فَأَمَّا بَوْلُ الصَّبِيَّةِ فَلَا يَطْهُرُ إِلَّا بِالْغَسْلِ قَبْلَ أَكْلِ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ . وَقَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَطْهُرُ بَوْلُهُمَا جَمِيعًا إِلَّا بِالْغَسْلِ . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : يُطَهَّرُ بَوْلُهُمَا جَمِيعًا بِالرَّشِّ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ فِي جَوَازِ الرَّشِّ
عَلَى بَوْلِ الْغُلَامِ ، وَوُجُوبِ غَسْلِ بَوْلِ الْجَارِيَةِ رِوَايَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : يُغْسَلُ بَوْلُ الْجَارِيَةِ وَيُنْضَحُ عَلَى بَوْلِ الْغُلَامِ مَا لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ . وَهَذَا نَصٌّ ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ . وَرَوَتْ لُبَابَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَسَ الْحَسَنُ فِي حِجْرِهِ فَبَالَ عَلَيْهِ ، فَقَالَتْ : قُلْتُ لَهُ : لَوْ أَخَذْتَ ثَوْبًا ، وَأَعْطَيْتَنِي إِزَارَكَ لِأَغْسِلَهُ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّمَا يُغْسَلُ مِنْ بَوْلِ الْأُنْثَى ، وَيُنْضَحُ عَلَى بَوْلِ الذَّكَرِ وَهَذَا نَصٌّ أَيْضًا ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ . وَرُوِيَ عَنْ أُمِّ قَيْسٍ بِنْتِ مِحْصَنٍ أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطِفْلٍ لَهَا لِيُحَنِّكَهُ فَبَالَ فِي حِجْرِهِ فَنَضَحَ عَلَيْهِ الْمَاءَ فَثَبَتَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلًا ، وَفِعْلًا بِصِحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ جَوَازِ الرَّشِّ عَلَى بَوْلِ الصَّبِيِّ مَا لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ ، وَغَسْلِ بَوْلِ الصَّبِيَّةِ قَبْلَ الطَّعَامِ ، وَبَعْدَهُ ، ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ بَوْلَ الْجَارِيَةِ أَحَرُّ مِنْ بَوْلِ الْغُلَامِ ، وَمَنِيَّ الْغُلَامِ أَحَرُّ مِنْ مَنِيِّ الْمَرْأَةِ عَلَى مَا تَعَارَفَهُ النَّاسُ فِي غَالِبِ الْعَادَةِ ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ خَفَّ الْحُكْمُ فِي بَوْلِ الْغُلَامِ ، وَغَلُظَ فِي بَوْلِ الْجَارِيَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا جَازَ بُلُوغُ الْغُلَامِ بِمَائِعٍ طَاهِرٍ ، وَهُوَ الْمَنِيُّ ، وَبُلُوغُ الْجَارِيَةِ بِمَائِعٍ نَجِسٍ وَهُوَ الْحَيْضُ جَازَ أَنْ يَفْتَرِقَا فِي حُكْمِ طَهَارَةِ الْبَوْلِ عَلَى أَنَّ الْغُلَامَ كَثِيرًا مَا يَتَدَاوَلُهُ النَّاسُ ، فَكَانَ حُكْمُ بِوْلِهِ أَخَفَّ ، فَإِنْ قِيلَ : فَمَا مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ : " وَلَا يَبِينُ لِي فَرْقٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّبِيَّةِ " ، وَقَدْ فَرَّقْتُمْ بَيْنَهُمَا ، قِيلَ : يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ السُّنَّةَ قَدْ فَرَّقَتْ بَيْنَهُمَا ، وَلَا يَبِينُ لِي مَعْنَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ فَرْقَ الْمُشَاهَدَةِ بَيْنَهُمَا فِي كَوْنِ بَوْلِ الصَّبِيِّ أَبْيَضَ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ ، وَبَوْلِ الصَّبِيَّةِ بِضِدِّهِ لَا يَبِينُ لِي الْمَعْنَى فِيهِ ، فَأَمَّا أَبْوَالُ مَا عَدَا الْآدَمِيِّينَ ، وَأَرْوَاثُهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ أَبْوَالَ جَمِيعِهَا ، وَأَرْوَاثَهَا نَجِسَةٌ بِكُلِّ حَالٍ ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عُمَرَ ، وَمِنَ التَّابِعِينَ الْحَسَنُ ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ أَبُو ثَوْرٍ .
وَالثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُ النَّخَعِيِّ : أَنَّ أَبْوَالَهَا وَأَرْوَاثَهَا كُلَّهَا طَاهِرَةٌ . وَالثَّالِثُ : وَهُوَ مَذْهَبُ عَطَاءٍ ، وَمَالِكٍ ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ ، أَنَّ بَوْلَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَرَوْثَهُ طَاهِرٌ ، وَبَوْلَ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَرَوْثَهُ نَجِسٌ . وَالرَّابِعُ : وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ أَبْوَالَ جَمِيعِهَا ، وَأَرْوَاثَهَا نَجِسَةٌ إِلَّا مَا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ مِنْ ذَرْقِ الْخُفَّاشِ ، وَالطَّيْرِ ، وَغَيْرِهِ ، فَأَمَّا مَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْكُولِ اللَّحْمِ فَهُوَ كَالْعَذِرَةِ يُعْفَى عَنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ مِنْهُ فِي الصَّلَاةِ ، وَإِنْ كَانَ مَأْكُولَ اللَّحْمِ فَذَرَقَهُ كَالْعَذِرَةِ أَيْضًا يُعْفَى عَنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ مِنه . وَقَوْلُهُ : يُعْتَبَرُ فِيهِ التَّفَاحُشُ ، وَقَدْرُ التَّفَاحُشِ رُبْعُ الثَّوْبِ ، فَفَرَّقَ بَيْنَ بَوْلِهِ وَرَوْثِهِ ، وَسَوَّى أَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ بَيْنَ بَوْلِهِ وَرَوْثِهِ فِي اعْتِبَارِ التَّفَاحُشِ فِيهِمَا جَمِيعًا ، وَقَدْرُ ذَلِكَ الرُّبْعُ ، وَاسْتَدَلُّوا فِي الْجُمْلَةِ عَلَى طَهَارَةِ ذَلِكَ مَعَ اخْتِلَافِ مَذَاهِبِهِمْ بِرِوَايَةِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَا أُكِلَ لَحْمُهُ فَلَا بَأْسَ بِبَوْلِهِ وَبِرِوَايَةِ حُمَيْدٍ ، عَنْ أَنَسٍ : أَنَّ قَوْمًا مِنْ عُرَنَةَ قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ ، فَاسْتَوْخَمُوا الْمَدِينَةَ ، فَانْتَفَخَتْ أَجْوَافُهُمْ ، فَبَعَثَهُمْ إِلَى لِقَاحِ الصَّدَقَةِ لِيَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا . قَالُوا : وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ بِالْبَيْتِ رَاكِبًا عَلَى رَاحِلَتِهِ يَوْمَيْنِ إِلَى الْبَيْتِ بِمِحْجَنِهِ ، وَمَعْلُومٌ مِنْ حَالِ الرَّاحِلَةِ أَنَّهَا لَا تَخْلُو مِنَ الْبَوْلِ ، وَالرَّوْثِ ، فَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَامْتَنَعَ مِنْ تَنْجِيسِ الْمَسْجِدِ بِهِ قَالُوا : وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ لَا يَمْتَنِعُونَ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى ذَرْقِ الْحَمَامِ مَعَ كَثْرَتِهِ ، فَدَلَّ هَذَا الْفِعْلُ عَلَى طَهَارَتِهِ . قَالُوا : وَلِأَنَّ عَسَلَ النَّحْلِ مِنَ الْمَخْرَجِ ، وَلَيْسَ بِنَجِسٍ ، وَلِأَنَّ الْإِنْفَحَةَ كَرِشٌ ، وَهِيَ طَاهِرَةٌ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى تَنْجِيسِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةٌ نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ [ النَّحْلِ : ] . فَامْتَنَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْنَا بِإِخْرَاجِ اللَّبَنِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ . وَفَائِدَةُ الِامْتِنَانِ إِخْرَاجُ طَاهِرٍ مِنْ بَيْنِ نَجِسَيْنِ . وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِقَبْرَيْنِ ، فَقَالَ إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ ، أَمَّا أَحَدُهُمَا يَسْعَى بِالنَّمِيمَةِ ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ لَا يَتَنَزَّهُ مِنَ الْبَوْلِ .
فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي جَمِيعِ الْأَبْوَالِ ، وَلِأَنَّهُ نَجِسٌ مِنَ الْآدَمِيِّ فَكَانَ نَجِسًا مِنَ الْبَهَائِمِ . أَصْلُهُ : الدَّمُ وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ دَمُهُ نَجِسٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَوْلُهُ نَجِسًا كَالْآدَمِيِّ ، فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِحَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ ، فَرَاوِيهِ أَبُو جَهْمٍ ، وَهُوَ مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا بَأْسَ بِهِ " يَدُلُّ عَلَى طَهَارَتِهِ ، بَلْ فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى نَجَاسَتِهِ ، وَأَنَّهُ أَخَفُّ حَالًا مِنْ غَيْرِهِ . وَفَائِدَتُهُ جَوَازُ الِانْتِفَاعِ بِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ فَرْقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَمْرِ ، وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَى مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ ، لِأَنَّهُ أَنْفَعُ فِي التَّدَاوِي مِنْ بَوْلِ غَيْرِ الْمَأْكُولِ ، فَأَمَّا حَدِيثُ الْعُرَنِيِّينَ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ ، لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ شُرْبِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ ، فَإِنْ قِيلَ : جَوَازُ شُرْبِهِ دَلِيلٌ عَلَى طَهَارَتِهِ . قِيلَ : بَاطِلٌ بِالْمَيِّتَةِ ، وَأَمَّا طَوَافُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَيْتِ عَلَى رَاحِلَتِهِ فَلَا دَلِيلَ فِيهِ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ مِنْهَا النَّجَاسَةُ ، وَمَا لَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ النَّجَاسَةُ فَلَا بَأْسَ بِفِعْلِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَحْمِلُ أُمَامَةَ بِنْتَ الْعَاصِ فِي الصَّلَاةِ . وَالطِّفْلُ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْبَهِيمَةِ فِي إِرْسَالِ النَّجَاسَةِ عَلَى أَنَّ عَادَةَ الْإِبِلِ أَنَّهَا لَا تُرْسِلُ النَّجَاسَةَ فِي سَيْرِهَا ، وَأَمَّا إِجْمَاعُ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ فَلَا دَلِيلَ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ هَذَا لَيْسَ فِعْلُ جَمِيعِهِمْ فَيَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِعْلُ جَمِيعِهِمْ لَمْ يَلْزَمْ ، لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا كُلَّ الْأُمَّةِ ، وَلَوْ كَانُوا كُلَّ الْأُمَّةِ لَمْ يَكُنْ إِجْمَاعًا ، لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ ، وَالْحَسَنَ يُخَالِفَانِ فِي الْمَسْأَلَةِ ، وَأَمَّا الْعَسَلُ فَخَارِجٌ مِنْ فَمِ النَّحْلِ لَا مِنْ دُبُرِهَا عَلَى أَنَّ النَّحْلَ حَيَوَانٌ لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ ، وَمَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ فَبَوْلُهُ وَرَوْثُهُ نَجِسٌ بِإِجْمَاعِنَا ، وَإِيَّاهُمْ ، وَأَمَّا الْإِنْفَحَةُ فَلَبَنٌ جَامِدٌ ، وَلِذَلِكَ حَلَّ أَكْلُهُ وَسَاغَتْ طَهَارَتُهُ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : هُوَ نَجِسٌ ، لِأَنَّهُ كَرِشٌ ، فَأَمَّا جَرَّةُ الْبَعِيرِ الَّتِي يُخْرِجُهَا مِنْ جَوْفِهِ ، ثُمَّ يَجْتَرُّهَا فَلَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِي نَجَاسَتِهَا كَالْقَيْءِ سَوَاءً .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيَفْرُكُ الْمَنِيَّ فَإِنْ صَلَّى بِهِ ، وَلَمْ يْفَرُكْهُ فَلَا بَأْسَ لِأَنَّ عَائِشَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، قَالَتْ : " كُنْتُ أَفْرُكُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ يُصَلِّي فِيهِ " وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : أَمِطْهُ عَنْكَ بِإِذْخِرَةٍ ، فَإِنَّمَا هُوَ كَبُصَاقٍ ، أَوْ مُخَاطٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ الْمَنِيُّ طَاهِرٌ فِي أَصْلِ خَلْقِهِ ، وَعَلَى كُلِّ أَحْوَالِهِ ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَائِشَةُ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ ، وَعَطَاءٌ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْمَنِيُّ نَجِسٌ فِي جَمِيعِ حَالَاتِهِ إِلَّا أَنَّهُ إِنْ كَانَ يَابِسًا طُهِّرَ بِالْفَرْكِ وَإِنْ كَانَ رَطْبًا طُهِّرَ بِالْغَسْلِ . وَقَالَ مَالِكٌ : الْمَنِيُّ طَاهِرٌ فِي أَصْلِ خَلْقِهِ ، وَإِنَّمَا تَنَجَّسَ فِي ظُهُورِهِ بِمُرُورِهِ فِي الذَّكَرِ بِمَرِّ الْأَنْجَاسِ ، وَلَا يُطَهَّرُ إِلَّا بِالْغَسْلِ رَطْبًا كَانَ أَوْ يَابِسًا .
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : إِنَّمَا يُغْسَلُ الْمَنِيُّ ، وَالدَّمُ ، وَالْبَوْلُ فَدَلَّ جَمْعُهُ بَيْنَهُمْ فِي الْحُكْمِ عَلَى إِجْمَاعِهِ فِي النَّجَاسَةِ ؟ وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : اغْسِلِيهِ رَطْبًا ، وَافْرُكِيهِ يَابِسًا . وَلِأَنَّهُ مَائِعٌ يَنْقُضُ الطَّهَارَةَ فَأَشْبَهَ الْبَوْلَ ، وَلِأَنَّهُ خَارِجٌ يُوجِبُ الْغَسْلَ ، فَأَشْبَهَ دَمَ الْحَيْضِ ، وَلِأَنَّهُ مَائِعٌ يَخْرُجُ عَلَى وَجْهِ اللَّذَّةِ فَأَشْبَهَ الْمَذْيَ ، وَلِأَنَّ الْمَنِيَّ فِي الْأَصْلِ دَمٌ اسْتَحَالَ ، وَيَسْتَحِيلُ دَمًا فِي ثَانِي حَالٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا إِلْحَاقًا بِأَحَدِ طَرَفَيْهِ ، وَهَذَا خَطَأٌ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا [ الْفُرْقَانِ : ] . فَأَطْلَقَ عَلَى الْمَنِيِّ اسْمَ الْمَاءِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَنْطَلِقَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ فِي الطَّهَارَةِ . وَرَوَى شَرِيكٌ ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى ، عَنْ عَطَاءٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الْمَنِيِّ : أَمِطْهُ عَنْكَ بِإِذْخِرَةٍ ، فَإِنَّمَا هُوَ كَبُصَاقٍ ، أَوْ مُخَاطٍ فَشَبَّهَهُ بِالْبُصَاقِ الطَّاهِرِ فِي حُكْمِهِ ، وَأَمَرَ بِإِمَاطَتِهِ بِالْإِذْخِرَةِ ، وَالْأَنْجَاسُ لَا تَطْهُرُ بِالْحَشَائِشِ ، فَدَلَّ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ عَلَى طَهَارَتِهِ . وَرَوَى الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ عَائِشَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : كُنْتُ أَفْرُكُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ يُصَلِّي فِيهِ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى مَالِكٍ ، لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يُجِيزُ فَرْكَهُ يَابِسًا ، وَرَوَى مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنْ عَائِشَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، قَالَتْ : كُنْتُ أَفْرُكُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِيهِ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَيْهِمَا ، لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَرَى أَنَّ فَرْكَ الْمَنِيِّ بَعْدَ الْإِحْرَامِ يَمْنَعُ مِنَ انْعِقَادِ الصَّلَاةِ .
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيُّ ، عَنْ عَائِشَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْلِتُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِهِ بِعِرْقِ الْإِذْخِرِ ، ثُمَّ يُصَلِّي فِيهِ ، وَيَحِتُّهُ مِنْ ثَوْبِهِ يَابِسًا ، ثُمَّ يُصَلِّي فِيهِ وَهَذَا آخِرُ دَلَالَةٍ عَلَيْهِمَا ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَا يَجِبُ غَسْلُهُ يَابِسًا لَا يَجِبُ غَسْلُهُ رَطْبًا . أَصْلُهُ : سَائِرُ الطَّاهِرَاتِ ، وَلِأَنَّهُ أَصْلُ خَلْقِ الْإِنْسَانِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا كَالطِّينِ ، وَلِأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ حَيَوَانٍ طَاهِرٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا كَالْبَيْضِ ، وَلِأَنَّهُ مَائِعٌ يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا كَاللَّبَنِ " ، فَإِنْ قِيلَ : الْمَنِيُّ لَا يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ ، قِيلَ : إِذَا اسْتَدْخَلَتِ الْمَاءَ لَزِمَتْهَا الْعِدَّةُ ، وَحَرَّمَهَا مَا بَقِيَتْ فِي عِدَّتِهَا ، فَأَمَّا أَخْبَارُهُمْ إِنْ صَحَّتْ فَمَحْمُولَةٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْبَوْلِ ، فَالْمَعْنَى فِيهِ : كَوْنُهُ نَجِسًا ، وَوُجُوبُ غَسْلِ يَابِسِهِ كَوُجُوبِ غَسْلِ رَطْبِهِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى غَسْلِ دَمِ الْحَيْضِ ، بِعِلَّةِ أَنَّهُ مُوجِبٌ لِلْغَسْلِ فَلَيْسَ الدَّمُ مُوجِبًا لِلْغَسْلِ ، وَإِنَّمَا انْقِطَاعُ الدَّمِ يُوجِبُهُ ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّهُ دَمٌ اسْتَحَالَ فَغَيْرُ مُنْكَرٍ أَنْ يَسْتَحِيلَ مَنِيًّا كَمَا يَسْتَحِيلُ لَبَنًا طَاهِرًا ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ [ النَّحْلِ : ] .
فَصْلٌ : فَإِذَا وَضَحَ طَهَارَةُ الْمَنِيِّ بِمَا ذَكَرْنَا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَنِيِّ الرَّجُلِ ، وَمَنِيِّ الْمَرْأَةِ ، وَحَكَى ابْنُ الْقَاصِّ فِي كِتَابِ " الْمِفْتَاحِ " ، عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ فِي مَنِيِّ الْمَرْأَةِ حكم طهارته قَوْلَيْنِ ، وَحَكَى الْكَرَابِيسِيُّ ، عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ : نَجَاسَةُ الْمَنِيِّ ، وَكُلُّ هَذَا غَلَطٌ ، أَوْ وَهْمٌ لَيْسَ يُعْرَفُ عَنِ الشَّافِعِيِّ نَصٌّ عَلَيْهِ ، وَلَا إِشَارَةٌ إِلَيْهِ ، بَلْ صَحَّ بِطَهَارَةِ جَمِيعِهِ فِي الْقَدِيمِ ، وَالْجَدِيدِ إِلَّا إِنَّا نَسْتَحِبُّ غَسْلَهُ إِنْ كَانَ رَطْبًا ، وَفَرْكَهُ إِنْ كَانَ يَابِسًا لِلْخَبَرِ . فَأَمَّا الْعَلَقَةُ طهارتها فَفِيهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : طَاهِرَةٌ وَهُوَ الصَّحِيحُ ، وَقَدْ حَكَاهُ الرَّبِيعُ ، عَنِ الشَّافِعِيِّ ، عَنِ الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِطَهَارَةِ الْمَنِيِّ مَوْجُودٌ فِيهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ : إِنَّهَا نَجِسَةٌ : لِأَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَكُونُ طَاهِرًا ، ثُمَّ يَسْتَحِيلُ نَجِسًا ، ثُمَّ يَعُودُ طَاهِرًا كَالْعَصِيرِ إِذَا اشْتَدَّ ، فَصَارَ خَمْرًا ، ثُمَّ انْقَلَبَ فَصَارَ خَلًّا قَالَ : وَكَذَلِكَ الْبَيْضُ إِذَا صَارَ عَلَقَةً ، وَأَمَّا مَنِيِّ مَا سِوَى الْآدَمِيِّينَ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الطَّاهِرَاتِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّ مَنِيَّهَا طَاهِرٌ ، لِأَنَّهُ يَتَوَلَّدُ مِنْ حَيَوَانٍ طَاهِرٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ مَنِيَّهَا نَجِسٌ ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ نَجِسًا إِذَا مَاتَ بَعْدَ حَيَاتِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا فِي حَالِ مَوْتِهِ قَبْلَ حَيَاتِهِ ، لِأَنَّ حُكْمَ الْمَوَاتِ الْأَوَّلِ كَ ( حُكْمِ ) الْمَوَاتِ الثَّانِي ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ [ غَافِرٍ : ] . أَلَا تَرَى ابْنَ آدَمَ لَمَّا كَانَ طَاهِرًا بَعْدَ مَوْتِهِ حُكِمَ لَهُ بِالطَّهَارَةِ قَبْلَ حَيَاتِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ مَنِيَّ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ طَاهِرٌ ، وَمَنِيَّ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ نَجِسٌ اعْتِبَارًا بِلَبَنِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيُصَلِّي عَلَى جِلْدِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ إِذَا ذَكَّى ، وَفِي صُوفِهِ ، وَشَعْرِهِ ، وَرِيشِهِ إِذَا أَخَذَ مِنْهُ ، وَهُوَ حَيٌّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ فِي جُلُودِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ إِذَا كَانَ مُذَكًّى ، وَإِنْ لَمْ يُدْبَغْ ، لِأَنَّ الذَّكَاةَ أَبْلَغُ مِمَّا يُعْمَلُ فِيهِ مِنَ الدِّبَاغَةِ لِتَطْهِيرِهَا جَمِيعَ أَجْزَاءِ الْحَيَوَانَاتِ ، وَاخْتِصَاصِ الدِّبَاغَةِ بِتَطْهِيرِ الْجِلْدِ وَحْدَهُ ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ فِي دِبَاغِهِ طَهَارَتَهُ ، وَإِنَّمَا يُقْصَدُ مِنْهَا تَنْشِيفُهُ وَامْتِنَاعُ فَسَادِهِ ، فَأَمَّا الطَّاهِرُ مِنَ الصُّوفِ ، وَالشَّعْرِ ، وَالرِّيشِ ، وَالْوَبَرِ طهارته والصلاة فيه فَلَا بَأْسَ بِلُبْسِهِ ، وَالصَّلَاةِ فِيهِ ، وَعَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ [ النَّحْلِ : ] . وَرَوَى الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَلَيْهِ فِي غَزَاةِ تَبُوكَ جُبَّةٌ شَامِيَّةٌ ضَيِّقَةُ الْكِمَامِ يَعْنِي صُوفًا . وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : كَانَ إِذَا جَاءَ الشِّتَاءُ شُمَّ لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَوَائِحُ كَرَوَائِحِ الضَّأْنِ مِنْ لِبَاسِهِمُ الصُّوفَ ، وَلِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِمَّا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ لِنَفْعِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا كَـ " اللَّبَنِ " . وَقَوْلُنَا : لِنَفْعِهِ احْتِرَازٌ مِمَّا قُطِعَ مِنْ أَعْضَائِهِ .
مَسْأَلَةٌ : " وَلَا تَصِلْ مَا انْكَسَرَ مِنْ عَظْمِهِ إِلَّا بِعَظْمِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ ذَكِيًّا ، فَإِنْ رَقَعَهُ بِعَظْمِ مَيْتَةٍ أَجْبَرَهُ السُّلْطَانُ عَلَى قَلْعِهِ ، فَإِنْ مَاتَ صَارَ مَيِّتًا كُلَّهُ وَاللَّهُ حَسِيبُهُ " .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا أُنْدِرَتْ سِنُّ إِنْسَانٍ ، وَانْفَصَلَتْ مِنْ جَسَدِهِ فَذَلِكَ نَجِسٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا سَقَطَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ نَجِسٌ . فَأَمَّا مَوْضِعُ الْعَظْمِ مِنْ جَسَدِهِ ، وَمَوْضِعُ السِّنِّ مِنْ فِيهِ طهارته فَطَاهِرٌ بِإِجْمَاعٍ ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَصِلَ عَظْمَهُ أَوْ يَرُدَّ سِنَّهُ لَمْ يَجُزْ إِلَّا بِعَظْمٍ طَاهِرٍ قَدْ أُخِذَ مِنْ مَأْكُولِ اللَّحْمِ بَعْدَ ذَكَاتِهِ ، فَأَمَّا بِعَظْمِهِ النَّجِسِ ، وَسِنِّهِ النَّجِسِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ : لِمَا عَلَيْهِ مِنْ تَرْكِ النَّجَاسَةِ فِي صَلَاتِهِ ، فَإِنْ وَصَلَهُ بِعَظْمٍ نَجِسٍ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِفِعْلِهِ ، ثُمَّ نَظَرَ فِي حَالِهِ ، فَإِنْ كَانَ يَأْمَنُ التَّلَفَ مِنْ قَلْعِهِ ، أَوْ زَمَانِهِ عُضْوٌ مِنْ أَعْضَائِهِ أُمِرَ بِقَلْعِهِ وَاجِبًا ، فَإِنْ أَبَى أَجْبَرَهُ السُّلْطَانُ عَلَيْهِ سَوَاءٌ رَكِبَهُ اللَّحْمُ وَتَغْشَّاهُ أَمْ لَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٌ : إِنْ رَكِبَهُ اللَّحْمُ لَمْ يُقْلَعْ كَـ " شَارِبِ الْخَمْرِ " ، لَا يُؤْمَرُ بِاسْتِقَاءِ مَا شَرِبَهُ ، وَهَذَا خَطَأٌ ، بَلْ عَلَيْهِ قَلْعُهُ : لِأَنَّهُ حَامِلٌ لِنَجَاسَةٍ فِي غَيْرِ مَعْدِنِهَا لَيْسَ بِهِ ضَرُورَةٌ إِلَى تَنْقِيَتِهَا ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ إِزَالَتُهَا كَمَا كَانَتْ عَلَى ثَوْبِهِ ، أَوْ بَدَنِهِ ، وَفَارَقَ شَارِبَ الْخَمْرِ لِحُصُولِ الْخَمْرِ فِي مَعْدِنِ الْأَنْجَاسِ ، وَمَحَلِّ الْمُسْتَقْذَرَاتِ مَعَ اسْتِهْلَاكِهِ ، وَسُرْعَةِ زَوَالِهِ عَلَى أَنَّنَا نَأْمُرُهُ بِاسْتِقَاءِ الْخَمْرِ اسْتِحْبَابًا ، هَذَا الْكَلَامُ فِيهِ إِذَا أَمْكَنَهُ فِعْلُهُ مِنْ غَيْرِ تَلَفٍ ، أَوْ زَمَانَةٍ ، فَأَمَّا إِنْ خَافَ مِنْ فِعْلِهِ تَلَفَ نَفْسِهِ ، أَوْ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ أُقِرَّ عَلَى حَالِهِ ، وَلَمْ يُؤْمَرْ بِقَلْعِهِ لِحِرَاسَةِ نَفْسِهِ الَّتِي هِيَ أَوْلَى مِنْ تَطْهِيرِ جَسَدِهِ : لِأَنَّ حِرَاسَةَ النَّفْسِ وَاجِبٌ وَاسْتِعْمَالَ النَّجَاسَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ جَائِزٌ . وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : يُجْبَرُ عَلَى قَلْعِهِ ، وَإِنْ تَلِفَ مِنْ أَجْلِهِ : لِأَنَّ الْجَانِيَ بِفِعْلِ الْمَعَاصِي مُؤَاخَذٌ بِهَا وَإِنْ تَلِفَ ، كَالْقَاتِلِ ، وَالزَّانِي ، وَهَذَا غَلَطٌ : لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجِدْ فِي الِابْتِدَاءِ عَظْمًا طَاهِرًا ، وَخَافَ التَّلَفَ إِنْ لَمْ يَصِلْهُ بِعَظْمٍ نَجِسٍ جَازَ لَهُ أَنْ يَصِلَهُ بِهِ فَوَجَبَ إِذَا خَافَ التَّلَفَ أَنْ يُقَرَّ عَلَى حَالِهِ لِحِرَاسَةِ نَفْسِهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِعْلُ الزِّنَا ، وَقَتْلُ النُّفُوسِ : لِأَنَّهُمَا لَا يُحَلَّانِ فِي ضَرُورَةٍ وَلَا غَيْرِهَا عَلَى أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا : أَنَّ حَدَّ الزِّنَا ، وَالْقِصَاصِ رَدْعٌ لَهُ إِنْ عَاشَ وَزَجْرٌ لِغَيْرِهِ إِنْ مَاتَ ، وَقَلَعَ مَا وَصَلَ مِنْ نَجَاسَةٍ لِأَجْلِ صَلَاتِهِ وَتَبَلُّغِهِ تَسْقُطُ عَنْهُ الصَّلَاةُ فَكَانَ تَرْكُهُ حَيًّا يُؤَدِّي الصَّلَاةَ حَسَبَ إِمْكَانِهِ أَوْلَى . فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَرْكِ ذَلِكَ إِذَا خَافَ التَّلَفَ ، وَقَلَعَهُ إِذَا أَمِنَ مِنَ التَّلَفِ فَلَمْ يَفْعَلْهُ حَتَّى مَاتَ قَالَ الشَّافِعِيُّ : " صَارَ مَيِّتًا كُلُّهُ وَاللَّهُ حَسْبُهُ " . يَعْنِي : يُحَاسِبُهُ عَلَى مَا ضَيَّعَ مِنْ صَلَوَاتِهِ بِالنَّجَاسَةِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْلَعَ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ لِسُقُوطِ فَرْضِ الصَّلَاةِ ، وَزَوَالِ التَّكْلِيفِ لِيَلْقَى اللَّهَ تَعَالَى بِغَيْرِ مَعْصِيَةٍ ، فَأَمَّا مَنْ تَحَرَّكَتْ أَسْنَانُهُ وَلَمْ تُفَارِقْ مَوْضِعَهَا ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يُقِرَّهَا عَلَى حَالِهَا ، أَوْ يَشُدَّهَا بِحَسَبِ إِمْكَانِهِ ، وَيَرْبِطَهَا بِفِضَّةٍ ، أَوْ ذَهَبٍ ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ رَبَطَ أَسْنَانَهُ بِالذَّهَبِ .
الْقَوْلُ فِي وَصْلِ الشَّعْرِ بِشَعْرٍ نَجِسٍ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا تَصِلُ الْمَرْأَةُ شَعْرَهَا بِشَعْرِ إِنْسَانٍ ، وَلَا شَعْرِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ بِحَالٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . [ الْقَوْلُ فِي وَصْلِ الشَّعْرِ بِشَعْرٍ نَجِسٍ ] لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصِلَ شَعْرَهَا بِشَعْرٍ نَجِسٍ بِحَالٍ ، وَسَوَاءٌ فِي النَّهْيِ شُعُورُ الْآدَمِيِّينَ ، وَشُعُورُ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ الْحَيَوَانِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الشُّعُورِ النَّجِسَةِ لِمَا عَلَى الْمُصَلِّي مِنَ اجْتِنَابِ الْأَنْجَاسِ . وَقَدْ رَوَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْمُنْذِرِ ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ ابْنَتِي أَصَابَهَا الْحَصْبَاءُ فَتَمَزَّقَ شَعْرُهَا أَفَأَصِلْهُ ؟ قَالَ : " لَا ، لُعِنَتِ الْوَاصِلَةُ وَالْمَوْصُولَةُ . وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَعَنَ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ ، وَالْوَاشِمَةَ ، وَالْمُسْتَوْشِمَةَ ، وَالْوَاشِرَةَ ، وَالْمُسْتَوْشِرَةَ ، وَالنَّامِصَةَ ، وَالْمُتَنَمِّصَةَ ، وَالْعَاضِهَةَ ، وَالْمُسْتَعْضِهَةَ . فَأَمَّا الْوَاصِلَةُ وَالْمُسْتَوْصِلَةُ فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا الَّتِي تَصِلُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ بِالْفَاحِشَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا الَّتِي تَصِلُ شَعْرَهَا بِشَعْرٍ نَجِسٍ ، فَأَمَّا الَّتِي تَصِلُ شَعْرَهَا بِشَعْرٍ طَاهِرٍ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ أَمَةً مَبِيعَةً تَقْصِدُ بِهِ غُرُورَ الْمُشْتَرِي ، أَوْ حُرَّةٌ تَخْطُبُ الْأَزْوَاجَ تَقْصِدُ بِهِ تَدْلِيسَ نَفْسِهَا عَلَيْهِمْ ، فَهَذَا حَرَامٌ لِعُمُومِ النَّهْيِ ، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَيْسَ مِنَّا مَنْ غَشَّ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ ذَاتَ زَوْجٍ تَفْعَلُ ذَلِكَ لِلزِّينَةِ عِنْدَ زَوْجِهَا ، أَوْ أَمَةً تَفْعَلُ ذَلِكَ لِسَيِّدِهَا ، فَهَذَا غَيْرُ حَرَامٍ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ مَأْمُورَةٌ بِأَخْذِ الزِّينَةِ لِزَوْجِهَا مِنَ الْكُحْلِ ، وَالْخِضَابِ ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لُعِنَ السَّلْتَاءُ وَالْمَرْهَاءُ فَالسَّلْتَاءُ الَّتِي لَا تَخْتَضِبُ ، وَالْمَرْهَاءُ الَّتِي لَا تَكْتَحِلُ ، يُرِيدُ مَنْ فَعَلَتْ ذَلِكَ كَرَاهَةً لِزَوْجِهَا ، فَأَمَرَهَا بِذَلِكَ زِينَةً لَهُ فَكَذَلِكَ
صِلَةُ الشَّعْرِ لِاجْتِمَاعِ ذَلِكَ فِي الزِّينَةِ ، وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ : أَنَّهُ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ بِكُلِّ حَالٍ : لِأَنَّ النَّهْيَ عَامٌّ ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَصَحُّ . وَأَمَّا الْوَاشِرَةُ ، وَالْمُسْتَوْشِرَةُ : هِيَ الَّتِي تَبْرُدُ الْأَسْنَانَ بِحَدِيدَةٍ لِتَجْدِيدِهَا وَزِينَتِهَا . وَأَمَّا الْوَاشِمَةُ : وَهِيَ الَّتِي تَنْقُشُ بَدَنَهَا وَتَشِمُهُ بِمَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَفْعَلُهُ مِنَ الْخُضْرَةِ فِي غَرْزِ الْإِبَرِ فَيَبْقَى لَوْنَهُ عَلَى الْإِبَرِ . وَأَمَّا الْوَشْمُ بِالْحِنَّاءِ ، وَالْخِضَابِ فَمُبَاحٌ ، وَلَيْسَ مِمَّا تَنَاوَلَهُ النَّهْيُ . فَأَمَّا النَّامِصَةُ ، وَالْمُتَنَمِّصَةُ : فَهِيَ الَّتِي تَأْخُذُ الشَّعْرَ مِنْ حَوْلِ الْحَاجِبَيْنِ وَأَعَالِي الْجَبْهَةِ ، وَالنَّهْيُ فِي هَذَا كُلِّهِ عَلَى مَعْنَى النَّهْيِ فِي الْوَاصِلَةِ ، وَالْمُسْتَوْصِلَةِ . وَأَمَّا الْعَاضِهَةُ ، وَالْمُسْتَعْضِهَةُ : فَهِيَ الَّتِي تَقَعُ فِي النَّاسِ . قَالَ الشَّاعِرُ : إِنَّ الْعَيْضَهَةَ لَيْسَتْ فِعْلَ أَحْرَارِ وَأَمَّا خِضَابُ الشَّعْرِ فَمُبَاحٌ بِالْحِنَّاءِ ، وَالْكَتَمِ وَمَحْظُورٌ بِالسَّوَادِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ ؟ وَلِرِوَايَةِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْخِضَابِ بِالسَّوَادِ ، وَقَالَ : إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مُبْغِضٌ لِلشَّيْخِ الْغِرْبِيبِ أَلَا لَا تُغَيِّرُوا هَذَا الشَّيْبَ ، فَإِنَّهُ نُورُ الْمُسْلِمِ ، فَمَنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ فَاعِلًا فَبِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ .
مَسْأَلَةٌ : [ الْقَوْلُ فِي تَطْهِيرِ الْأَرْضِ إِذَا أَصَابَهَا نَجَاسَةٌ ] قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ بَالَ رَجُلٌ فِي مَسْجِدٍ أَوْ أَرْضٍ يُطَهَّرُ بِأَنْ يُصَبَّ عَلَيْهِ ذَنُوبٌ مِنْ مَاءٍ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَوْلِ الْأَعْرَابِيَّ حِينَ بَالَ فِي الْمَسْجِدِ : صُبُّوا عَلَيْهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَهُوَ " الدَّلْوُ الْعَظِيمُ " ، وَإِنْ بَالَ اثْنَانِ لَمْ يُطَهِّرْهُ إِلَّا دَلْوَانِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : هَذَا صَحِيحٌ إِذَا أَصَابَ الْأَرْضَ بَوْلٌ صُبَّ عَلَيْهِ مَا يَغْمُرُهُ حَتَّى أَزَالَ لَوْنَهُ أَوْ رِيحَهُ فَقَدْ طَهُرَ الْمَكَانُ وَالْمَاءُ جَمِيعًا لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ أَصْحَابُنَا ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي طَهَارَةِ الْمَاءِ الْمُنْفَصِلِ عَنِ الثَّوْبِ النَّجِسِ إِذَا زَالَ عَنْهُ النَّجَاسَةُ ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهُ طَاهِرٌ أَيْضًا كَالْأَرْضِ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ حَكَمَ بِتَنْجِيسِهِ ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ بِأَنْ قَالَ يُطَهَّرُ الثَّوْبُ مَعَ الْحُكْمِ بِنَجَاسَةِ مَا انْفَصَلَ عَنْهَا ، لِأَنَّ الْمَاءَ إِذَا انْدَفَعَ عَنْ مَحَلِّ النَّجَاسَةِ نَجِسَ الْمَحَلُّ الثَّانِي ، فَكَانَتِ الضَّرُورَةُ دَاعِيَةً إِلَى تَطْهِيرِ مَا انْفَصَلَ عَنْهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : كُلُّ مَا انْفَصَلَ عَنِ النَّجَاسَةِ وَأُزِيلَ بِهَا فَهُوَ نَجِسٌ بِكُلِّ حَالٍ ، فَإِذَا أَصَابَ الْأَرْضَ بَوْلٌ لَمْ تَطْهُرْ إِلَّا بِكَشْطِ مَا أَصَابَ الْبَوْلُ مِنْهَا ، فَإِنْ صُبَّ عَلَيْهِ الْمَاءُ حَتَّى غَمَرَهُ
لَمْ تَطْهُرْ إِلَّا أَنْ يَنْدَفِعَ الْمَاءُ عَنْهَا إِلَى بَحْرٍ ، أَوْ نَهْرٍ ، وَبُنِيَ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الْمَاءَ الْمُزَالَ بِهِ النَّجَاسَةُ نَجِسٌ ، وَهُوَ عِنْدَنَا طَاهِرٌ . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِيهِ الْكَلَامُ فِي كِتَابِ " الطَّهَارَةِ " وَمِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ : رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ فِي بَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ بِكَشْطِ الْمَوْضِعِ وَإِزَالَةِ الْمَكَانِ ، وَهَذَا نَصٌّ ، قَالَ : وَلِأَنَّهُ لَمَّا نَجِسَ الْمَاءُ بِوُرُودِ النَّجَاسَةِ عَلَيْهِ وَجَبَ أَنْ يَنْجَسَ بِوُرُودِهِ عَلَى النَّجَاسَةِ ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَاءٌ قَلِيلٌ حَلَّتْهُ نَجَاسَةٌ ، وَإِذَا ثَبَتَ تَنْجِيسُهُ بِمَا ذَكَرْنَا ثَبَتَ تَنْجِيسُ الْمَكَانِ أَيْضًا . وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مِنْ طَهَارَةِ الْمَكَانِ بِصَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهِ : رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا دَخَلَ الْمَسْجِدَ ، فَقَالَ : اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا ، وَلَا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَدْ حَجَّرْتَ وَاسِعًا فَمَا لَبِثَ أَنْ بَالَ فِي الْمَسْجِدِ فَعَجِلَ النَّاسُ عَلَيْهِ ، فَنَهَاهُمْ عَنْهُ ، وَقَالَ : صُبُّوا عَلَيْهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِصَبِّ الذَّنُوبِ عَلَيْهِ لِأَجْلِ طَهَارَةِ الْمَكَانِ ، وَزَوَالِ النَّجَاسَةِ بِمَا وَرَدَ عَلَيْهَا مِنَ الْمَاءِ ، فَعُلِمَ بِذَلِكَ طَهَارَةُ مَا انْفَصَلَ عَنْهَا مِنَ الْمَاءِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَاءُ الْمُنْفَصِلُ عَنِ الثَّوْبِ نَجِسًا لَكَانَ مَا بَقِيَ مِنْ بَلَلِهِ نَجِسًا ، وَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَوَجَبَ غَسْلُهُ ، وَلَوْ وَجَبَ غَسْلُهُ لَتَعَذَّرَتْ طَهَارَتُهُ لِبَقَاءِ بَلَلِهِ فِي الْغَسْلَةِ الثَّانِيَةِ ، وَالثَّالِثَةِ ، فَدَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى طَهَارَةِ بَلَلِهِ ، وَإِذَا كَانَ الْبَلَلُ طَاهِرًا كَانَ الْمُنْفَصِلُ عَنْهُ طَاهِرًا ، لِأَنَّ الْمَاءَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ بَعْضُهُ طَاهِرًا وَبَعْضُهُ نَجِسًا ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى فَرَّقْنَا بَيْنَ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ وُرُودِ الْمَاءِ عَلَى النَّجَاسَةِ ، وَوُرُودِ النَّجَاسَةِ عَلَى الْمَاءِ . فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِكَشْطِ الْمَكَانِ فَحَدِيثٌ ضَعِيفٌ وَإِنْ صَحَّ اسْتِعْمَالُ الْحَدِيثَيْنِ جَمِيعًا لِوُرُودِهِمَا فِي زَمَانَيْنِ ، وَذَلِكَ أَوْلَى مِنْ إِطْرَاحِ أَحَدِهِمَا ، وَاسْتِعْمَالِ الْآخَرِ ، وَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَاهُ فَالذَّنُوبُ هُوَ : الدَّلْوُ الْكَبِيرُ قَالَ الشَّاعِرُ : لَنَا ذَنُوبٌ وَلَكُمْ ذَنُوبُ فَإِنْ أَبَيْتُمْ فَلَنَا الْقَلِيبُ وَقَدْ يُعَبَّرُ بِالذَّنُوبِ عَنِ النَّصِيبِ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ [ الذَّارِيَاتِ : ] يَعْنِي : نَصِيبًا . وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ : لَعَمْرُكَ وَالْمَنَايَا غَالِبَاتٌ لِكُلِّ بَنِي أَبٍ مِنْهَا ذَنُوبُ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الذَّنُوبِ مِنَ الْمَاءِ هَلْ هُوَ حَدٌّ فِي طَهَارَةِ الْبَوْلِ أَمْ لَا ؟ فَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيُّ ، وَأَبُو سَعِيدٍ الِاصْطَخْرِيُّ : الذَّنُوبُ حَدٌّ فِي طَهَارَةِ الْبَوْلِ لِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ كُوثِرَ الْبَوْلُ بِدُونِ الذَّنُوبِ لَمْ يَطْهُرْ ، وَإِنْ بَالَ اثْنَانِ لَمْ يُطَهِّرْهُ إِلَّا دَلْوَانِ .
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ ، وَأَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ : لَيْسَ الذَّنُوبُ حَدًّا ، وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِالْمُكَاثَرَةِ ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ ، وَمَنُصُوصِهِ أَلَا تَرَاهُ قَالَ : " وَيُشْبِهُ الْمَاءُ أَنْ يَكُونَ سَبْعَةَ أَمْثَالِ النَّجَاسَةِ " ، وَلَيْسَ سَبْعَةُ أَمْثَالِهَا حَدًّا فِي طَهَارَتِهِ أَيْضًا ، وَإِنَّمَا هُوَ تَمْثِيلٌ عَلَى طَرِيقِ التَّقْرِيبِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الذَّنُوبَ لَيْسَ بِحَدٍّ فِي طَهَارَتِهِ هُوَ أَنَّ اعْتِبَارَ طَهَارَةِ الْبَوْلَةِ بِالذَّنُوبِ تُؤَدِّي إِلَى تَطْهِيرِ كَثِيرِ النَّجَاسَةِ بِقَلِيلِ الْمَاءِ وَقَلِيلِ النَّجَاسَةِ بِكَثِيرِ الْمَاءِ : لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ بَوْلُ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ مُمَاثِلًا لِبَوْلِ ثَلَاثَةِ رِجَالٍ فَمُتَّفَقٌ عَلَى قَدْرِ نَجَاسَتِهَا ، وَيَخْتَلِفُ قَدْرُ الْمَاءِ فِي طَهَارَتِهَا ، وَهَذَا يُخَالِفُ مَا تَقَرَّرَ مِنَ الْحُكْمِ فِي إِزَالَةِ الْأَنْجَاسِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا لَمْ يُغْسَلِ الْبَوْلُ عَنِ الْأَرْضِ حَتَّى تَقَادَمَ عَهْدُهُ ، وَزَالَتْ رَائِحَتُهُ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ ، وَهُبُوبِ الرِّيَاحِ ، فَنَجَاسَةُ الْأَرْضِ بَاقِيَةٌ ، وَالصَّلَاةُ عَلَيْهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : قَدْ طَهُرَتِ الْأَرْضُ وَجَازَتِ الصَّلَاةُ عَلَيْهَا ، وَلَمْ يَجُزِ التَّيَمُّمُ بِتُرَابِهَا ، وَقَدْ حَكَى ابْنُ جَرِيرٍ هَذَا الْقَوْلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ ، وَلَيْسَ يُعْرَفُ لَهُ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ نَجَاسَةِ الْأَرْضِ هُوَ أَنَّهُ مَحَلٌّ نَجِسٌ ، فَوَجَبَ أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ ، وَطُولِ الْمُكْثِ قِيَاسًا عَلَى الثَّوْبِ وَالْبِسَاطِ . فَإِنْ قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَرْضِ ، وَالْبِسَاطِ أَنَّ الْأَرْضَ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ عَلَيْهَا تَجْذِبُ النَّجَاسَةَ الرَّطْبَةَ إِلَى قَرَارِهَا فَيُطَهَّرُ ظَاهِرُهَا ، وَلَيْسَ لِلثَّوْبِ قَرَارٌ تَنْزِلُ إِلَيْهِ نَدَاوَةُ النَّجَاسَةِ . قِيلَ : هَذَا يَفْسُدُ بِالْبِسَاطِ النَّجِسِ إِذَا جَفَّ وَجْهُهُ ، وَنَزَلَتِ النَّجَاسَةُ إِلَى أَسْفَلِهِ هُوَ نَجِسٌ ، وَإِنْ كَانَ مَعْنَى الْأَرْضِ فِيهِ مَوْجُودًا ، وَلِأَنَّهُ تُرَابٌ لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ لِأَجْلِ النَّجَاسَةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَجُوزَ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ قِيَاسًا عَلَى مَا قَرُبَ عَهْدُ نَجَاسَتِهِ ، فَإِنْ قِيلَ : إِنَّمَا لَمْ يَجُزِ التَّيَمُّمُ ، لِأَنَّ الطَّبَقَةَ الثَّانِيَةَ نَجِسَةٌ لِنُزُولِ النَّجَاسَةِ إِلَيْهَا وَبِإِثَارَةِ التُّرَابِ فِي التَّيَمُّمِ تَصِلُ إِلَيْهَا . قُلْنَا : فَيَجِبُ عَلَى هَذَا إِذَا كَشَطَ وَجْهَ الْأَرْضِ وَأَخَذَ أَعْلَى التُّرَابِ أَنْ يَجُوزَ التَّيَمُّمُ بِهِ ، وَفِي إِجْمَاعِنَا عَلَى الْمَنْعِ مِنْهُ دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ هَذَا التَّعْلِيلِ ، وَتَسْوِيَةِ الْحَالِ فِي الْمَنْعِ مِنَ التَّيَمُّمِ بِهِ ، وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَالْخَمْرُ فِي الْأَرْضِ كَالْبَوْلِ ، وَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ رِيحُهُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : فَأَمَّا الْخَمْرُ فَنَجِسٌ بِالِاسْتِحَالَةِ ، وَهُوَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ . وَقَالَ الْحَسَنُ لَيْسَ بِنَجِسٍ ، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَعَدَّهُ فِي الْجَنَّةِ لِخَلْقِهِ ، فَقَالَ تَعَالَى : وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ [ مُحَمَّدٍ : ] وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يَعُدُّ لِخَلْقِهِ نَجِسًا .
وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ مَعَ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ قَوْلُهُ تَعَالَى : إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ [ الْمَائِدَةِ : ] . وَالْأَرْجَاسُ : أَنْجَاسٌ إِلَّا مَا قَامَتِ الدَّلَالَةُ عَلَى طَهَارَتِهَا ، وَلِأَنَّهُ مَائِعٌ وَرَدَ الشَّرْعُ بِإِرَاقَتِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا كَالسَّمْنِ الذَّائِبِ إِذَا وَقَعَتْ فِيهِ فَأْرَةٌ فَأَمَّا الْآيَةُ فَتَقْتَضِي طَهَارَةَ الْخَمْرِ فِي الْجَنَّةِ ، وَهَذَا مُسَلَّمٌ ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ مَعَهُ فِي طَهَارَتِهَا وَنَجَاسَتِهَا فِي الدُّنْيَا ، وَغَيْرُ مُنْكَرٍ أَنْ تَكُونَ فِي الدُّنْيَا نَجِسَةً وَيَقْلِبُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَيْنَهَا فِي الْآخِرَةِ ، وَيُغَيِّرُ حُكْمَهَا ، فَإِذَا ثَبَتَتْ نَجَاسَةُ الْخَمْرِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ فَمَتَى أَصَابَتِ الْأَرْضَ فَقَدْ نَجِسَتْ فَإِنْ كَشَطَ الطَّبَقَةَ الَّتِي لَاقَاهَا الْخَمْرُ فَقَدْ طَهَّرَ الْمَكَانَ أَيْضًا ، وَإِنْ زَالَ رِيحُهُ وَبَقِيَ لَوْنُهُ فَالْمَكَانُ نَجِسٌ : لِأَنَّ اللَّوْنَ عَرَضٌ ، وَالْعَرَضُ لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ ، فَكَانَ بَقَاؤُهُ دَلِيلًا عَلَى بَقَاءِ عَيْنِهِ ، فَلَوْ ذَهَبَ لَوْنُهُ ، وَبَقِيَ رِيحُهُ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِتَقْصِيرِ الْغَاسِلِ لِغَسْلِهِ ، وَيَعْلَمُ أَنَّهُ إِنْ أُعِيدَ غَسْلُهُ زَالَتِ الرَّائِحَةُ ، فَالْمَكَانُ نَجِسٌ ، وَإِنْ كَانَ بَقَاءُ الرَّائِحَةِ مِنْ غَيْرِ تَقْصِيرٍ فِي الْغَسْلِ فَفِي طَهَارَةِ الْمَكَانِ قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ : أَحَدُهُمَا : نَجِسٌ ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : خُلِقَ الْمَاءُ طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ إِلَّا مَا غَيَّرَ لَوْنَهُ ، أَوْ طَعْمَهُ ، أَوْ رِيحَهُ فَجَعَلَ الرَّائِحَةَ كَاللَّوْنِ فِي التَّنْجِيسِ لِلْمَاءِ ، كَذَلِكَ رَائِحَةُ الْخَمْرِ كَلَوْنِهِ فِي تَنْجِيسِ الْأَرْضِ بِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : إِنَّ الْمَكَانَ طَاهِرٌ مَعَ بَقَاءِ الرَّائِحَةِ : لِأَنَّ الْخَمْرَ ذَكِيُّ الرِّيحِ ، فَإِذَا جَاوَزَ أَرْضًا تَعَدَّى رِيحُهُ لِقُوَّةِ ذَكَائِهِ فِيمَا جَاوَرَهُ وَاتَّصَلَ بِهِ مِنْ غَيْرِ حُلُولِ جُزْءٍ مِنَ الْعَيْنِ فِيهِ : فَصَارَ ذَلِكَ كَـ " الْمَيْتَةِ " عَلَى حَافَّةِ بِئْرٍ طَالَ مُكْثُهَا ، وَرَاحَ الْمَاءُ بِهَا لِتَعَدِّي رَائِحَتِهَا ، فَلَمَّا كَانَ الْمَاءُ طَاهِرًا ، أَوْ تَغَيَّرَ رِيحُهُ ، لِأَنَّ التَّغْيِيرَ بِمُجَاوَرَةِ الْمَيْتَةِ وَتَعَدِّي الرَّائِحَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَقَاءُ رِيحِ الْخَمْرِ لَا يُوجِبُ تَنْجِيسَ الْمَحَلِّ ، وَكَانَ اللَّوْنُ مُفَارِقًا لَهُ ، لِأَنَّ اللَّوْنَ لَا يَتَعَدَّى إِلَى مَا جَاوَرَهُ ، وَالرَّائِحَةَ مُتَعَدِّيَةٌ . فَأَمَّا الثَّوْبُ إِذَا بَقِيَتْ فِيهِ رَائِحَةُ الْخَمْرِ فَهُوَ عَلَى نَجَاسَتِهِ حَتَّى تَزُولَ الرَّائِحَةُ عَنْهُ بِخِلَافِ الْأَرْضِ : لِأَنَّ حُكْمَ النَّجَاسَةِ فِيهَا أَخَفُّ لِكَوْنِهَا مُعْتَدِيَةً لِلْأَنْجَاسِ ، وَلِأَنَّ رَائِحَةَ الْخَمْرِ لَا تَتَعَدَّى إِلَى الثَّوْبِ إِلَّا بِحُلُولِ أَجْزَاءِ الْخَمْرِ فِيهِ لِبُعْدِهِ مِنْهُ ، فَشَابَهُ لَوْنُ الْخَمْرِ فِي الْأَرْضِ ، فَأَمَّا الْإِنَاءُ إِذَا بَقِيَتْ فِيهِ رَائِحَةُ الْخَمْرِ ، فَلَمْ تَزُلْ بِالْغَسْلِ فَهُوَ أَخَفُّ حُكْمًا مِنَ الْأَرْضِ ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : يَطْهُرُ قَوْلًا وَاحِدًا : لِأَنَّ بَقَاءَ الرَّائِحَةِ فِيهِ لِطُولِ الْمُكْثِ وَكَثْرَةِ الْمُجَاوَرَةِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هُوَ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْأَرْضِ سَوَاءٌ ، فَأَمَّا النَّيْلُ وَالْحِنَّاءُ إِذَا بُلَّا بِبَوْلٍ ، وَخُضِبَ بِهِ الْيَدُ أَوْ ثَوْبٌ ، ثُمَّ غُسِلَ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا لَوْنُهُ فَقَدْ حُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ طَهَارَتُهُ ، لِأَنَّ اللَّوْنَ عَرَضٌ ، وَالنَّجَاسَةَ لَا تُخَالِطُ الْعَرَضَ ، وَإِنَّمَا تُخَالِطُ الْعَيْنَ ، فَإِذَا زَالَتِ الْعَيْنُ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ النَّجَاسَةِ زَالَتِ النَّجَاسَةُ بِزَوَالِ مَحَلِّهَا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَلَوْ صَلَّى فَوْقَ قَبْرٍ ، أَوْ إِلَى جَنْبِهِ ، وَلَمْ يَنْبِشْ أَجْزَأَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : فَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى الْمَقْبَرَةِ ، أَوْ عَلَى قَبْرٍ مَكْرُوهَةٌ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى أَنْ تُجْعَلَ الْقُبُورُ مَحَارِيبَ ، فَإِنْ صَلَّى فَوْقَ قَبْرٍ لَمْ يَخْلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَتَحَقَّقَ نَبْشُهُ فَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ بَاطِلَةٌ . وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ : جَائِزَةٌ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ رِوَايَةُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إِلَّا الْحَمَّامَ وَالْمَقْبَرَةَ ، وَلِأَنَّ تُرَابَ الْمَقْبَرَةِ قَدْ خَالَطَتْهُ النَّجَاسَةُ إِذَا نُبِشَ رَمِيمُ الْمَيِّتِ ، فَلَوْ قِيلَ : فَالْمَيِّتُ عِنْدَكُمْ طَاهِرٌ ، قِيلَ : هُوَ وَإِنْ كَانَ طَاهِرًا فَمَا فِي جَوْفِهِ لَيْسَ بِطَاهِرٍ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَتَحَقَّقَ أَنَّهُ لَمْ يُنْبَشْ فَالصَّلَاةُ فِيهِ جَائِزَةٌ . وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ : بَاطِلَةٌ لِعُمُومِ النَّهْيِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى قَبْرِ سُكَيْنَةَ ، وَلِأَنَّهَا بُقْعَةٌ طَاهِرَةٌ فَجَازَتِ الصَّلَاةُ عَلَيْهَا كَسَائِرِ الْبِقَاعِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : " لَا يُعْلَمُ هَلْ نُبِشَ أَمْ لَا ، وَالشَّكُّ فِيهِ مُحْتَمَلٌ فَفِي جَوَازِ الصَّلَاةِ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : غَيْرُ جَائِزَةٍ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ لِعُمُومِ النَّهْيِ ، وَلِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْهَا النَّبْشُ فَكَانَ الْحُكْمُ لَهُ . وَالثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : إِنَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ جَائِزَةٌ مَا لَمْ يُعْلَمْ يَقِينُ نَبْشِهِ : لِأَنَّ الْأَصْلَ طَهَارَةُ الْمَكَانِ ، وَالنَّبْشُ مَشْكُوكٌ فِيهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْتَرِضَ شَكُّ النَّجَاسَةِ عَلَى يَقِينِ الطَّهَارَةِ .
فَصْلٌ : رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْحَمَّامِ ، وَنَهَى عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْمَجْزَرَةِ ، وَنَهَى عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ ، فَأَمَّا نَهْيُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْحَمَّامِ ، وَالْمَجْزَرَةِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَعْنَى النَّهْيِ عَنْهَا عَلَى وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : خَوْفُ النَّجَاسَةِ ، لِأَنَّ دَاخِلَ الْحَمَّامِ مَحَلُّ الْأَقْذَارِ ، وَالْمَجْزَرَةَ مَعْدِنُ الْأَنْجَاسِ ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الصَّلَاةُ فِي ذَلِكَ كَالصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ فِي التَّقْسِيمِ ، وَالْجَوَازِ سِيَّمَا إِنْ تَيَقَّنَ نَجَاسَةَ الْمَكَانِ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ ، وَإِنْ تَيَقَّنَ طَهَارَتَهُ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ [ مَعَ الْكَرَاهَةِ وَإِنْ شَكَّ فَعَلَى وَجْهَيْنِ ] . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ نَهْيَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْحَمَّامِ لِأَجْلِ مَأْوَى الشَّيَاطِينِ ، وَفِي الْمَجْزَرَةِ خَوْفُ نُفُورِ الذَّبَائِحِ فَعَلَى هَذَا الصَّلَاةُ فِيهَا مَكْرُوهَةٌ لِأَجْلِ النَّهْيِ ، وَهِيَ جَائِزَةٌ مَا لَمْ يُعْلَمْ يَقِينُ النَّجَاسَةِ . فَأَمَّا نَهْيُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ ، فَالْمَعْنَى فِيهِ : إِيذَاءُ الْمَارَّةِ وَالْمُجْتَازِينَ ، وَإِيذَاءُ الْمُصَلَّى بِهِمْ ، وَقِلَّةُ خُشُوعِهِ بِاجْتِيَازِهِمْ ، فَعَلَى هَذَا الصَّلَاةُ جَائِزَةٌ مَعَ مَا فِيهَا مِنَ الْكَرَاهَةِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَا خَالَطَ التُّرَابَ مِنْ نَجِسٍ لَا تُنَشِّفُهُ الْأَرْضُ إِنَّمَا يَتَفَرَّقُ فِيهِ فَلَا يُطَهِّرُهُ إِلَّا الْمَاءُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : هَذَا صَحِيحٌ وَجُمْلَةُ النَّجَاسَةِ ضَرْبَانِ مَائِعَةٌ كَالْبَوْلِ ، وَالْخَمْرِ ، وَالْمَاءِ النَّجِسِ ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي طَهَارَةِ الْأَرْضِ مِنْهَا ، وَمُسْتَجْسِدَةٌ ، وَهِيَ كُلُّ عَيْنٍ قَائِمَةٍ ، وَجَسَدٍ مُشَاهَدٍ كَالْمَيْتَةِ ، وَالْعَذْرَةِ ، وَالْعَظْمِ النَّجِسِ ، وَفِي مَعْنَى ذَلِكَ الدَّمُ ، لِأَنَّهُ يَجْمُدُ ، فَيَسْتَجْسِدُ ، فَإِذَا حَصَلَ فِي الْأَرْضِ مِنْهَا شَيْءٌ فَلَهَا حَالَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ نُظِرَ فِيهِ ، فَإِنْ كَانَ يَابِسًا أُزِيلَ عَنْهَا ، وَالْأَرْضُ طَاهِرَةٌ ، وَلَمْ يُغْسَلِ الْمَكَانُ ، وَإِنْ كَانَ رَطْبًا أُزِيلَ عَنْهَا وَغُسِلَ الْمَكَانُ بِمِثْلِ مَا يُغْسَلُ بِهِ الْبَوْلُ مِنَ الْمُكَاثَرَةِ بِالْمَاءِ ، فَإِنْ غُسِلَ الْمَكَانُ قَبْلَ إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ لَمْ يُطَهَّرْ ، وَإِنْ كَانَ النَّجَاسَةُ مُخْتَلِطَةً بِالتُّرَابِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَلَا طَرِيقَ إِلَى طَهَارَةِ الْمَكَانِ بِإِيرَادِ الْمَاءِ عَلَيْهِ لِاخْتِلَاطِ عَيْنِ النَّجَاسَةِ بِهِ وَإِنَّمَا تُطَهَّرُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا بِمَنْعِ التُّرَابِ عَنْ مَحَلِّ النَّجَاسَةِ حَتَّى يَتَحَقَّقَ ذَهَابُ جَمِيعِهَا ، وَظُهُورُ مَا لَمْ يُلَاقِهِ شَيْءٌ مِنْهَا ، وَهَذَا أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ . وَالثَّانِي : أَنْ يُطَيِّنَ الْمَكَانَ بِمَا يَمْنَعُ مَسِيسَ النَّجَاسَةِ وَمُلَاقَاتِهَا ، وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ طَهُرَ ظَاهِرُ الْمَكَانِ وَجَازَتِ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَأَكْرَهُهَا " ، كَأَنَّهُ جَعَلَهَا كَالْمَقْبَرَةِ إِذَا تَحَقَّقَ أَنَّهَا لَمْ تُنْبَشْ .
فَصْلٌ : وَإِذَا نَجِسَ مَوْضِعٌ مِنَ الْأَرْضِ فَأَشْكَلَ الطَّاهِرُ مِنَ النَّجَسِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي صَحْرَاءَ ، أَوْ فَضَاءٍ صَلَّى فِي أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ مَا لَمْ يُعْلَمْ يَقِينُ النَّجَاسَةِ فِي مَوْضِعِ صَلَاتِهِ ، وَإِنْ عُلِمَ أَنَّ النَّجَاسَةَ فِي أَحَدِ بَيْتَيْهِ ، وَقَدْ أَشْكَلَا عَلَيْهِ اجْتَهَدَ فِيهِمَا كَالثَّوْبَيْنِ ، وَإِنْ كَانَتْ فِي بَيْتٍ قَدْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ مَوْضِعُهَا مِنْهُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ كَالصَّحْرَاءِ يُصَلِّي فِي أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ مَا لَمْ يُعْلَمْ يَقِينُ نَجَاسَتِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ كَالثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَا يَجُوزُ لَهُ الصَّلَاةُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا إِلَّا بَعْدَ غَسْلِ جَمِيعِهِ ، قَالُوا : كَمَنِ اخْتَلَطَتْ أُخْتُهُ فِي عَدَدٍ مِنَ النِّسَاءِ يَسِيرٍ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ التَّزْوِيجُ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ إِلَّا بَعْدَ عِلْمِهِ أَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ ، وَلَوِ اخْتَلَطَتْ أُخْتُهُ بِعَدَدٍ مِنَ النِّسَاءِ كَثِيرٍ وَجَمٍّ غَفِيرٍ مِنْهُنَّ جَازَ لَهُ التَّزْوِيجُ بِأَيَّتِهِنَّ شَاءَ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا أُخْتُهُ ، وَكَانَ هَذَا مِثَالَ الْأَرْضِ إِذَا اتَّسَعَتْ ، أَوْ ضَاقَتْ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا ضَرَبَ لَبِنًا فِيهِ نَجَاسَةُ بَوْلٍ لَمْ يَطْهُرْ إِلَّا بِمَا تَطْهُرُ بِهِ الْأَرْضُ مِنَ الْبَوْلِ ، وَالنَّارُ لَا تُطَهِّرُ شَيْئًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ كَمَا قَالَ . إِذَا نُجِّسَ التُّرَابُ بِبَوْلٍ ، أَوْ خَمْرٍ ، أَوْ دَمٍ ، أَوْ أَيِّ نَجَاسَةٍ كَانَتْ ، ثُمَّ ضَرَبَهُ لَبِنًا فَهُوَ عَلَى نَجَاسَتِهِ لَا يُطَهَّرُ بِمَا خَالَطَهُ مِنَ الْمَاءِ ، لِأَنَّ الْمَاءَ لَمْ يَقْهَرْهُ وَلَا يَغْلِبْ عَلَيْهِ ، فَإِذَا جَفَّ لَمْ تَجُزِ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ إِلَّا بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ ، إِمَّا أَنْ يَبْسُطَ عَلَيْهِ بِسَاطًا طَاهِرًا وَإِلَّا بِأَنْ يُرِيقَ عَلَيْهِ مَاءً يُكَاثِرُهُ فَيَعْلَمُ أَنَّ الْمَاءَ قَدْ غَمَرَ ظَاهِرَ النَّجَاسَةِ فَيَطْهُرُ ظَاهِرَهُ دُونَ بَاطِنِهِ ، وَتَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ ، وَلَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ وَهُوَ حَامِلُهُ لِنَجَاسَةٍ بَاطِنَةٍ . وَالطَّرِيقُ إِلَى طَهَارَةِ بَاطِنِهِ أَنْ يَقَعَ فِي الْمَاءِ حَتَّى يَتَمَاتَّ فِيهِ وَيَغْلِبَ الْمَاءُ عَلَى أَجْزَاءِ نَجَاسَتِهِ ، ثُمَّ يَضْرِبُ لَبِنًا فَيَطْهُرُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا إِذَا كَانَتِ النَّجَاسَةُ مَائِعَةً ، وَإِذَا كَانَتْ مُسْتَجْسِدَةً كَالرَّوْثِ ، وَالْعَذْرَةِ ، فَلَا طَرِيقَ إِلَى طَهَارَتِهِ بِالْمَاءِ ، فَإِنْ طُبِخَ آجُرًّا فَهُوَ عَلَى نَجَاسَتِهِ ، وَالنَّارُ لَا تُطَهِّرُهُ . وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ : إِذَا ضُرِبَ اللَّبِنُ ، وَفِيهِ الرَّوْثُ ، ثُمَّ طُبِخَ بِالنَّارِ طَهُرَ ، لِأَنَّ النَّارَ تَأْكُلُ الرَّوْثَ ، وَيَبْقَى الطِّينُ فَيَصِيرُ خَزَفًا ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِمِصْرَ ، فَقَالَ : " إِذَا ضَاقَ الشَّيْءُ اتَّسَعَ " . وَلَيْسَ يُرِيدُ بِذَلِكَ الطَّهَارَةَ ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - إِبَاحَةَ اسْتِعْمَالِهِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ إِذَا لَمْ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَطْهُرْ ذَلِكَ بِالطَّبْخِ : لِأَنَّ النَّارَ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي طَهَارَةِ الْأَنْجَاسِ ، وَلَيْسَ وَإِنْ أَكَلَتِ النَّارُ مَا فِيهِ مِنَ الرَّوْثِ مَا يَدُلُّ عَلَى طَهَارَتِهِ ، لِأَنَّ التُّرَابَ قَدْ نَجِسَ بِمُجَاوَرَةِ الرَّوْثِ عِنْدَ حُلُولِ الْمَاءِ فِيهِ ، فَإِذَا زَالَ الرَّوْثُ بِالنَّارِ الْمُحْرِقَةِ لَهُ بَقِيَتْ نَجَاسَةُ التُّرَابِ الْحَادِثَةُ عَنْ مُجَاوَرَةِ الرَّوْثِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ بِالطَّهَارَةِ قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَوْ فُرِشَ الْمَسْجِدُ بِلَبِنٍ مَضْرُوبٍ بِبَوْلٍ ، أَوْ نَجَاسَةٍ لَمْ تَصِحَّ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ مُصَلًّى عَلَى نَجَاسَةٍ ، وَلَوْ بَنَى بِهِ حَائِطًا فِي الْمَسْجِدِ وَصَلَّى إِلَيْهِ جَازَتْ صَلَاتُهُ ، وَإِنْ كَرِهْنَا ذَلِكَ كُلَّهُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَالْبِسَاطُ كَالْأَرْضِ ، فَإِنْ صَلَّى فِي مَوْضِعٍ مِنْهُ طَاهِرٍ ، وَالْبَاقِي نَجِسٌ لَمْ تَسْقُطْ عَلَيْهِ ثِيَابُهُ أَجْزَأَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا صَلَّى عَلَى بِسَاطٍ بَعْضُهُ طَاهِرٌ ، وَبَعْضُهُ نَجِسٌ وَكَانَتْ صَلَاتُهُ عَلَى الْمَكَانِ الطَّاهِرِ وَلَمْ يُمَاسِّ النَّجَاسَةَ بِشَيْءٍ مِنْ بَدَنِهِ ، أَوْ ثِيَابِهِ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُصَلٍّ عَلَى نَجَاسَةٍ ، وَلَا بِحَامِلٍ لَهَا فَشَابَهَ مَنْ صَلَّى عَلَى مَكَانٍ طَاهِرٍ مِنْ أَرْضٍ نَجِسَةٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : وَإِنْ كَانَ الْبِسَاطُ مُتَحَرِّكًا بِحَرَكَتِهِ لَمْ يَجُزْ ، وَهَذَا خَطَأٌ ، لِأَنَّهُ مَحَلٌّ لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ مَعَ سُكُونِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنْ صِحَّتِهَا مَعَ حَرَكَتِهِ كَالْبِسَاطِ الطَّاهِرِ ، وَلِأَنَّهَا حَرَكَةٌ لَا تَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ إِذَا كَانَ الْمُتَّصِلُ بِمَحَلِّهَا طَاهِرًا فَوَجَبَ أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ ، وَإِنْ كَانَ الْمُتَّصِلُ بِمَحَلِّهَا نَجِسًا كَالسَّرِيرِ ، وَالسَّفِينَةِ ، فَأَمَّا إِذَا صَلَّى فِي ثَوْبٍ عَلَيْهِ أَحَدُ طَرَفَيْهِ ، وَالطَّرَفُ الْآخَرُ عَلَيْهِ نَجَاسَتُهُ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْبِسَاطِ وَالثَّوْبِ أَنَّهُ حَامِلٌ لِلثَّوْبِ فَصَارَ حَامِلًا لِنَجَاسَةٍ : أَلَا تَرَى أَنَّ الثَّوْبَ يَتْبَعُهُ وَيَنْجَرُّ مَعَهُ ، وَالْبِسَاطَ لَا يَتْبَعُهُ وَلَا يَنْجَرُّ مَعَهُ .
فَصْلٌ : لَا بُدَّ لِلْمُصَلِّي مِنْ طَهَارَةِ مَوْضِعِ صَلَاتِهِ وَمَا يَقَعُ عَلَيْهِ جَمِيعُ أَعْضَائِهِ وَثِيَابِهِ ، فَإِنْ أَصَابَ فِي صَلَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ بَدَنِهِ ، أَوْ ثِيَابِهِ مَوْضِعًا نَجِسًا فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ . قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ : فَإِنْ كَانَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُحَازِي صَدْرَهُ نَجِسًا ، وَلَا يَقَعُ عَلَيْهِ بَدَنُهُ وَلَا ثَوْبُهُ إِذَا هَوَى فِي صَلَاتِهِ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ عَنْهُ : تَفْتَقِرُ الصَّلَاةُ إِلَى طَهَارَةِ مَوْضِعِ الْقَدَمَيْنِ وَالْجَبْهَةِ حَسْبُ ، وَلَا يَضُرُّ نَجَاسَةُ مَا يُلَاقِيهِ بَاقِي الْجَسَدِ . وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ عَنْهُ : يَفْتَقِرُ إِلَى طَهَارَةِ مَوْضِعِ قَدَمَيْهِ دُونَ جَبْهَتِهِ وَسَائِرِ بَدَنِهِ فَجَعَلَ عَنْهُ رِوَايَتَانِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ : هُوَ أَنَّهُ مَوْضِعٌ مِنْ جَسَدِهِ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ ، فَوَجَبَ إِذَا كَانَ عَلَى نَجَاسَةٍ أَنْ لَا تَصِحَّ صَلَاتُهُ كَالْقَدَمَيْنِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ طَهَارَةٍ وَجَبَ اعْتِبَارُهَا فِي الْقَدَمَيْنِ وَجَبَ اعْتِبَارُهَا فِي الْكَفَّيْنِ كَالنَّجَاسَةِ وَالْحَدَثِ ، وَلِأَنَّهُ مَحَلٌّ نَجِسٌ يُلَاقِي بَدَنَ الْمُصَلِّي فَوَجَبَ أَنْ تَبْطُلَ صَلَاتَهُ كَالْقَدَمَيْنِ ، وَإِذَا صَلَّى وَمَعَهُ عَلَاقَةُ كَلْبٍ ، أَوْ خِنْزِيرٍ ، فَإِنْ كَانَتِ الْعَلَاقَةُ تَحْتَ قَدَمِهِ أَجَزَأْتُهُ صَلَاتُهُ كَالْبِسَاطِ ، وَإِنْ كَانَتْ بِيَدِهِ ، أَوْ مَشْدُودَةً بِيَدَيْهِ فَفِي صَلَاتِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : جَائِزَةٌ ، لِأَنَّ لِلْكَلْبِ اخْتِيَارًا يَنْصَرِفُ بِهِ فَلَمْ يَكُنْ مُضَافًا إِلَى نَجَاسَةٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ صَلَاتَهُ بَاطِلَةٌ لِاتِّصَالِ النَّجَاسَةِ بِهِ . فَأَمَّا إِذَا أَخَذَ فِي صَلَاتِهِ رِبَاطَ مَيْتَةٍ : فَإِنْ تَرَكَهُ تَحْتَ قَدَمِهِ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ وَإِنْ أَخَذَهُ بِيَدِهِ ،
أَوْ رَبَطَهُ بِيَدَيْهِ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ وَجْهًا وَاحِدًا بِخِلَافِ الْكَلْبِ الَّذِي لَهُ اخْتِيَارٌ يَنْصَرِفُ بِهِ ، فَلَوْ أَمْسَكَ بِيَدِهِ رِبَاطَ سَفِينَةٍ فِيهَا نَجَاسَةٌ وَكَانَتْ صَغِيرَةً تَنْصَرِفُ بِإِرَادَتِهِ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ كَمَا لَوْ أَمْسَكَ رِبَاطَ مَيْتَةٍ ، وَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً لَا يَقْدِرُ عَلَى تَصْرِيفِهَا نَظَرَ فِي رِبَاطِهَا ، فَإِنْ كَانَ مُلْقًى عَلَى النَّجَاسَةِ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ : لِاتِّصَالِ النَّجَاسَةِ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ طَرَفُ رِبَاطِهَا مَشْدُودًا بِمَكَانٍ طَاهِرٍ مِنْهَا فَفِي صَلَاتِهِ وَجْهَانِ ، أَصَحُّهُمَا : جَائِزَةٌ .
فَصْلٌ الْقَوْلُ فِي حَمْلِ الْمُسْتَقْذَرِ فِي الصَّلَاةِ
فَصْلٌ : الْقَوْلُ فِي حَمْلِ الْمُسْتَقْذَرِ فِي الصَّلَاةِ إِذَا حَمَلَ فِي صَلَاتِهِ طَائِرًا ، أَوْ حَيَوَانًا طَاهِرًا فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ ، وَلَوْ حَمَلَ قَارُورَةً فِيهَا نَجَاسَةٌ في الصلاة ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَأْسُهَا مَضْمُومًا أَوْ كَانَ ضَمًّا ضَعِيفًا فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ : لِأَنَّهُ حَامِلٌ لِنَجَاسَةٍ ظَاهِرَةٍ ، وَإِنْ كَانَ رَأْسُهَا مَضْمُومًا ضَمًّا وَثِيقًا بِرَصَاصٍ وَمَا فِي مَعْنَاهُ ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ صَلَاتَهُ أَيْضًا بَاطِلَةٌ . وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : صَلَاتُهُ جَائِزَةٌ ، كَمَا لَوْ حَمَلَ طَائِرًا مَعَ عِلْمِنَا أَنَّ فِيهِ نَجَاسَةً مُسْتَبْطِنَةً فَكَذَلِكَ إِذَا حَمَلَ قَارُورَةً فِيهَا نَجَاسَةٌ ، وَهَذَا غَلَطٌ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ نَجَاسَةَ الطَّيْرِ فِي مَعِدَتِهَا ، فَجَرَتْ مَجْرَى النَّجَاسَةِ فِي جَوْفِ الْمُصَلِّي ، وَنَجَاسَةُ الْقَارُورَةِ مُسْتَوْدَعَةٌ ، فَجَرَتْ مَجْرَى النَّجَاسَةِ الظَّاهِرَةِ .
مَسْأَلَةٌ : الْقَوْلُ فِي دُخُولِ الْجُنُبِ الْمَسْجِدِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا بَأْسَ أَنْ يَمُرَّ الْجُنُبُ فِي الْمَسْجِدِ مَارًّا ، وَلَا يُقِيمُ فِيهِ ، وَتَأَوَّلَ قَوْلَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا قَالَ : وَذَلِكَ عِنْدِي مَوْضِعُ الصَّلَاةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . الْجُنُبُ مَمْنُوعٌ مِنَ الْمُقَامِ فِي الْمَسْجِدِ ، وَيَجُوزُ لَهُ الِاجْتِيَازُ فِيهِ مَارًّا ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ جَابِرٌ ، وَمِنَ التَّابِعِينَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ ، وَالْحَسَنُ ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجُوزُ لِلْجُنُبِ دُخُولُ الْمَسْجِدِ لَا مُقِيمًا ، وَلَا مَارًّا تَعَلُّقًا بِرِوَايَةِ عَائِشَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لَا لِجُنُبٍ ، وَلَا لِحَائِضٍ قَالَ : وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَا يَجُوزُ لَهُ اللُّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ لَا يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِيَازُ فِيهِ كَالْحَائِضِ ، وَمَنْ عَلَى رِجْلِهِ نَجَاسَةٌ ، وَلِأَنَّهُ جُنُبٌ حَلَّ مَسْجِدًا فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَى تَعْلَمُوا
مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا [ النِّسَاءِ : ] . يَعْنِي : بِالصَّلَاةِ مَوْضِعَ الصَّلَاةِ ، لِأَنَّهُ يُسَمَّى صَلَاةً . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ [ الْحَجِّ : ] . وَالصَّلَاةُ لَا تُهْدَمُ وَإِنَّمَا يُهْدَمُ مَكَانُهَا ، وَإِنْ كَانَ الِاسْمُ وَاقِعًا عَلَيْهِ كَانَ النَّهْيُ مَصْرُوفًا إِلَيْهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ : إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ [ النِّسَاءِ : ] ، وَالْعُبُورُ عَلَى فِعْلِ الصَّلَاةِ لَا يَصِحُّ ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ الْعُبُورُ عَلَى مَكَانِهَا فَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ : لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى [ النِّسَاءِ : ] وَلَا مَوْضِعَ الصَّلَاةِ وَأَنْتُمْ جُنُبٌ إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ فَاسْتَثْنَى الِاجْتِيَازَ مِنْ جُمْلَةِ النَّهْيِ ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ قَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَابْنِ عَبَّاسٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، فَإِنْ قِيلَ : يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ [ النِّسَاءِ : ] . مُسَافِرًا عَادِمًا لِلْمَاءِ فَيَتَيَمَّمُ ، وَيُصَلِّي ، فَيُحْمَلُ أَوَّلُ الْآيَةِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَآخِرُهَا عَلَى الِائْتِمَارِ ، وَأَنْتُمْ حَمَلْتُمْ آخِرَ الْآيَةِ عَلَى الْحَقِيقَةِ ، وَأَوَّلَهَا عَلَى الْمَجَازِ فَيَسْتَوِي التَّأْوِيلَانِ ، وَيَتَقَابَلَا ، وَكَانَ هَذَا التَّأْوِيلُ أَشْبَهَ بِالْحَالِ ، وَهُوَ أَيْضًا مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَابْنِ عَبَّاسٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، قُلْنَا : إِذَا تَقَابَلَ التَّأْوِيلَانِ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ ، وَاحْتِيجَ إِلَى التَّرْجِيحِ ، فَتَأْوِيلُنَا أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ إِذَا حَمَلُوا إِضْمَارَ الصَّلَاةِ عَلَى فِعْلِهَا لَمْ يَسْتَفِيدُوا بِالْآيَةِ إِلَّا إِبَاحَةَ الصَّلَاةِ لِلْجُنُبِ الْمُتَيَمِّمِ ، وَإِبَاحَةُ الصَّلَاةِ لِلْجُنُبِ إِذَا تَيَمَّمَ مُسْتَفَادٌ بِآيَةٍ أُخْرَى ، وَحَمْلُ الْآيَتَيْنِ عَلَى حُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِمَا عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَكُونُ مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ ، فَلَمَّا كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَا جُنُبًا الْجُنُبُ الَّذِي لَمْ يَسْتَبِحْ فِعْلَ الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ وَهُوَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى : إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ [ النِّسَاءِ : ] الْمُرَادُ بِهِ : جُنُبًا لَمْ يَسْتَبِحْ فِعْلَ الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ ، لِأَنَّهُ الِاسْتِثْنَاءُ ، فَكَانَ تَأْوِيلُنَا أَوْلَى بِهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مِنَ التَّرْجِيحِ . فَإِنْ قِيلَ : لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ مَوْضِعَ الصَّلَاةِ بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى : حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [ النِّسَاءِ : ] وَهَذَا مِمَّا لَا يُوصَفُ بِهِ الْمُجْتَازُ ، وَإِنَّمَا يُوصَفُ بِهِ الْمُصَلِّي قِيلَ : قَدْ يُوصَفُ بِهِ الْمُجْتَازُ بِمَوْضِعِ الصَّلَاةِ ، لِأَنَّهُ إِذَا سَكِرَ لَمْ يُؤْمَنْ مِنْهُ تَنْجِيسُ الْمَسْجِدِ إِذَا دَخَلَهُ فَنَهَى عَنْهُ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ أَطْفَالَكُمْ وَمَحَارِيبَكُمْ لِأَنَّهُمْ يُرْسِلُونَ الْبَوْلَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِمْ كَالسَّكْرَانِ الَّذِي رُبَّمَا نَجَّسَ الْمَسْجِدَ بِغَيْرِ قَصْدِهِ . ثُمَّ الدَّلِيلُ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى : هُوَ أَنَّهُ مُكَلَّفٌ آمَنُ مِنْهُ تَنْجِيسَ الْمَسْجِدِ فَجَازَ لَهُ الْعُبُورُ فِيهِ كَالْمُحْدِثِ ، وَهَذَا خَيْرُ قِيَاسٍ فِي الْمَسْأَلَةِ . وَقَوْلُنَا : مُكَلَّفٌ ، احْتِرَازٌ مِنَ الصِّغَارِ ، وَالْمَجَانِينِ . وَقَوْلُنَا : آمَنُ مِنْهُ تَنْجِيسَ الْمَسْجِدِ احْتِرَازًا مِنَ الْحَائِضِ ، وَصَاحِبِ النَّجَاسَةِ فَأَمَّا تَعَلُّقُهُمْ
بِالْحَدِيثِ فَضَعِيفٌ ، لِأَنَّ رَاوِيَهُ ابْنُ خَلِيفَةَ ، عَنْ جَسْرَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَالْأَفْلَتُ بْنُ خَلِيفَةَ ضَعِيفٌ مَتْرُوكٌ ، عَلَى أَنَّهُ إِنْ صَحَّ كَانَ مَحْمُولًا عَلَى الْمُقَامِ وَاللُّبْثِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْحَائِضِ ، وَصَاحِبِ النَّجَاسَةِ فَمُنْتَقَضٌ بِمَنِ احْتَلَمَ فِي الْمَسْجِدِ حكم اجتيازه المسجد يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِيَازُ فِيهِ إِجْمَاعًا ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِيهِ : مَا يَخَافُ عَلَى الْمَسْجِدِ الَّتِي هِيَ مِنَ الْجُنُبِ مَأْمُونَةٌ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُقِيمِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إِنَّ أَمْرَ الِاجْتِيَازِ أَخَفُّ حُكْمًا مِنْ أَمْرِ الْمُقَامِ بِدَلِيلِ الْمُحْتَلِمِ فِي الْمَسْجِدِ فَلَمْ يَصِحَّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا ، وَرُدَّ الْأَخَفُّ مِنْهُمَا إِلَى الْأَصْلِ . وَالثَّانِي : أَنَّ اللُّبْثَ فِي الْمَسْجِدِ إِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ الْقُرْبَةُ ، وَالْجُنُبُ لَا تَصِحُّ مِنْهُ أَفْعَالُ الْقُرْبِ فِي الْمَسْجِدِ : لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِرَاءَةِ وَالصَّلَاةِ ، وَإِنَّمَا يُمْكِنُهُ الذِّكْرُ فِي نَفْسِهِ ، وَذَلِكَ مُمْكِنٌ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ ، فَمِنْ أَجْلِ هَذَا لَمْ يُبَحْ لَهُ الْمُقَامُ فِيهِ ، وَالْعُبُورُ فِي الْمَسْجِدِ نَصًّا يَكُونُ لِغَرَضٍ ، أَوْ لِحَاجَةٍ ، وَالْجُنُبُ فِيهِمَا كَالْمُحْدِثِ فَاسْتَوَيَا فِي حُكْمِ الِاجْتِيَازِ .
الْقَوْلُ فِي دُخُولِ الْحَائِضِ الْمَسْجِدَ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَأَكْرَهُ مَمَرَّ الْحَائِضِ فِيهِ " . [ الْقَوْلُ فِي دُخُولِ الْحَائِضِ الْمَسْجِدَ ] قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ أَمَّا مُقَامُ الْحَائِضِ فِي الْمَسْجِدِ وَلُبْثُهَا فِيهِ فَغَيْرُ جَائِزٍ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا أُحِلُّهُ لِجُنُبٍ وَلَا حَائِضٍ فَأَمَّا مُرُورُهَا فِيهِ وَعُبُورُهَا مِنْهُ فَعَلَى حَسَبِ حَالِهَا إِنْ لَمْ يَأْمَنْ مِنْ تَنْجِيسِ الْمَسْجِدِ لِغَلَبَةِ دَمِهَا وَسَيَلَانِهِ ، وَضَعْفِ شِدَادِهَا وَاسْتِرْخَائِهِ مُنِعَتْ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ ، وَحَرُمَ عَلَيْهَا الْعُبُورُ فِيهِ ، وَإِنْ أَمِنَتْ سَيَلَانَ الدَّمِ لِضَعْفِهِ وَقُوَّةِ شِدَادِهِ جَازَ لَهَا الْعُبُورُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ كَالْجُنُبِ ، لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْمُقَامِ عَلَيْهِمَا سَوَاءٌ ، وَإِنَّمَا اخْتَصَّتِ الْحَائِضُ بِتَحْرِيمِ الِاجْتِيَازِ فِيهِ لِمَا يُخَافُ مِنْ تَنْجِيسِ الْمَسْجِدِ بِدَمِهَا ، فَإِذَا أَمِنَتْهُ زَالَ مَا اخْتَصَّتْ بِهِ مِنْ تَحْرِيمِ الِاجْتِيَازِ فِيهِ لِزَوَالِ الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لَهُ ، وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُنَا الْبَصْرِيُّونَ يُطْلِقُونَ الْقَوْلَ فِيهَا وَيَمْنَعُونَهَا مِنَ اجْتِيَازِهَا ، وَإِطْلَاقُهُمْ مَحْمُولٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّفْصِيلِ فِي اعْتِبَارِهَا حَالَهَا ، لِأَنَّ الْحِجَاجَ يَقْتَضِيهِ مَعَ تَصْرِيحٍ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا بِهِ .
دُخُولُ الْمُسْتَحَاضَةِ الْمَسْجِدَ
دُخُولُ الْمُسْتَحَاضَةِ الْمَسْجِدَ . فَأَمَّا الْمُسْتَحَاضَةُ إِذَا أَمِنَتْ سَيَلَانَ الدَّمِ جَازَ لَهَا دُخُولُ الْمَسْجِدِ وَالْمُقَامُ فِيهِ كَالْمُحْدِثِ ، وَإِنْ لَمْ يَأْمَنْ مِنْ سَيَلَانِهِ مُنِعَتْ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالِاجْتِيَازِ خَوْفًا مِنْ تَنْجِيسِ الْمَسْجِدِ بِدَمِهَا ، كَالْأَطْفَالِ وَالْمَجَانِينِ الَّذِينَ لَا يُؤْمَنُ مِنْهُمْ تَنْجِيسُ الْمَسْجِدِ لِإِرْسَالِهِمُ النَّجَاسَةَ . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ مَجَانِينَكُمْ ، وَأَطْفَالَكُمْ .
دخول المشرك المسجد
دُخُولُ الْمُشْرِكِ الْمَسْجِدَ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا بَأْسَ أَنْ يَبِيتَ الْمُشْرِكُ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ لِقَوْلِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ : فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [ التَّوْبَةِ : ] . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : فَإِذَا بَاتَ فِيهِ الْمُشْرِكُ فَالْمُسْلِمُ الْجُنُبُ أَوْلَى أَنْ يَجْلِسَ فِيهِ ، وَيَبِيتَ ، وَأُحِبُّ إِعْظَامَ الْمَسْجِدِ عَنْ أَنْ يَبِيتَ فِيهِ الْمُشْرِكُ أَوْ يَقْعُدَ فِيهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . وَجُمْلَةُ الْمُشْرِكِينَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونُوا مِمَّنْ قَدْ شَرَطَ عَلَيْهِمْ فِي عَقْدِ ذِمَّتِهِمْ وَقَبُولِ حُرِّيَّتِهِمْ أَنْ لَا يَدْخُلُوا مَسَاجِدَنَا فَهَؤُلَاءِ لَيْسَ لَهُمْ دُخُولُ مَسْجِدٍ بِحَالٍ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَكُونُوا مِمَّنْ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا مَسَاجِدَنَا بِإِذْنِنَا إِلَّا الْحَرَمَ ، وَمَسَاجِدَهُ ، فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ دُخُولُهُ . وَالثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ لَا يَجُوزُ لَهُمْ دُخُولُ مَسْجِدٍ بِحَالٍ لَا الْحَرَمُ وَلَا غَيْرَهُ . وَالثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ : يَجُوزُ لَهُمْ دُخُولُ الْمَسْجِدِ كُلِّهَا فِي الْحَرَمِ وَغَيْرِهِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا قَوْلُهُ تَعَالَى : فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [ التَّوْبَةِ : ] فَسَقَطَ بِصَرِيحِ الْآيَةِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَنَعَهُمْ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ أَجَازَهُ لَهُمْ ، وَسَقَطَ بِدَلِيلِهَا قَوْلُ مَالِكٍ ، لِأَنَّهُ خَصَّ مَنْعَهُمْ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ يَعْنِي : الْحَرَمَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْحَرَمِ مُخَالِفٌ لَهُ فِي الْحُكْمِ الْمُعَلَّقِ بِهِ ، وَلَيْسَ نَصُّهُ عَلَى الْحَرَمِ تَنْبِيهًا عَلَى غَيْرِهِ ، لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ ذَلِكَ لَنَصَّ عَلَى مَا دُونَهُ فِي الْحَرَمِ ، ثُمَّ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى مَالِكٍ رِوَايَةُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْزَلَ وَفْدَ ثَقِيفٍ فِي الْمَسْجِدِ " وَرُوِيَ أَنَّ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ لَمَّا قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فَدْيِ أَسْرَاهُمْ أَنْزَلَهُمْ فِي الْمَسْجِدِ . قَالَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ : فَكُنْتُ فِيهِمْ حَيْثُ أَسْمَعُ قِرَاءَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَدَّ ثُمَامَةَ بْنَ أُثَالٍ عَلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ " ، فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ : فَإِنَّهُ مَنَعَ الْمُشْرِكَ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ ، وَالْمَبِيتِ فِيهِ بِكُلٍّ قَالَ : لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ ذَلِكَ لَهُ لَكَانَ الْجُنُبُ الْمُسْلِمُ أَوْلَى بِهِ لِمَوْضِعِ حُرْمَتِهِ وَتَشْرِيفِهِ فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ لِلْمُسْلِمِ الْمَبِيتُ فِيهِ كَانَ الْمُشْرِكُ أَوْلَى .
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، الْوَارِدُ بِالْفَرْقِ بَيْنَ حَالَيْهِمَا . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا [ النِّسَاءِ : ] وَقَالَ تَعَالَى : وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ [ التَّوْبَةِ : ] فَفَرَّقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَيْنَهُمَا فَلَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا . وَالثَّانِي : أَنَّ مَعْنَى الْمُشْرِكِ الَّذِي هُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ أَجْلِهِ يُرْجَى زَوَالُهُ بِدُخُولِ الْمَسْجِدِ وَمُقَامِهِ فِيهِ إِذَا سَمِعَ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى وَظُهُورَ حُجَّتِهِ ، فَرُبَّمَا أَسْلَمَ مِنْ شِرْكِهِ وَلَا يُرْجَى لِمُقَامِ الْجُنُبِ فِيهِ زَوَالُ جَنَابَتِهِ ، وَارْتِفَاعُ حَدَثِهِ إِلَّا بِالْغُسْلِ ، وَالْمَسَاجِدُ لَمْ تُبْنَ لِلْغُسْلِ ، وَإِنَّمَا بُنِيَتْ لِذِكْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَالصَّلَاةِ .
الْقَوْلُ فِي الصَّلَاةِ فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ وَمُرَاحِ الْغَنَمِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَالنَّهْيُ عَنِ الصَّلَاةِ فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ اخْتِيَارٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهَا جِنٌّ مِنْ جِنٍّ خُلِقَتْ وَكَمَا قَالَ حِينَ نَامُوا عَنِ الصَّلَاةِ : اخْرُجُوا بِنَا مِنْ هَذَا الْوَادِي فَإِنَّ بِهِ شَيْطَانًا فَكُرِهَ قُرْبُهُ لَا لِنَجَاسَةِ الْإِبِلِ لَا مَوْضِعًا فِيهِ شَيْطَانٌ ، وَقَدْ مَرَّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْطَانٌ فَخَنَقَهُ ، وَلَمْ تَفْسُدْ عَلَيْهِ صَلَاتُهُ ، وَمَرَاحُ الْغَنَمِ الَّذِي تَجُوزُ فِيهِ الصَّلَاةُ الَّذِي لَا بَوْلَ فِيهِ ، وَلَا بَعْرَ ، وَالْعَطَنُ مَوْضِعٌ قُرْبَ الْبِئْرِ الَّذِي يَتَنَحَّى إِلَيْهِ الْإِبِلُ لِيَرِدَ غَيْرُهَا الْمَاءَ لَا الْمُرَاحُ الَّذِي تَبِيتُ فِيهِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ وَأَبَاحَ الصَّلَاةَ فِي مَرَاحِ الْغَنَمِ ، فَأَمَّا الْعَطَنُ ، فَهُوَ : مَوْضِعٌ يَكُونُ قَرِيبَ الْبِئْرِ تَنَحَّى إِلَيْهِ الْإِبِلُ إِذَا صَدَرَتْ مِنَ الْمَاءِ لِتَرِدَ غَيْرُهَا وَأَمَّا مَرَاحُ الْغَنَمِ فَهُوَ : مَوْضِعٌ عَالٍ يَقْرُبُ مِنَ الْغَنَمِ يَأْوِي إِلَيْهِ الرَّاعِي لِحِرَاسَتِهَا وَمَنَعَ الْوَحْشَ مِنْهَا ، فَإِنْ كَانَ الْعَطَنُ وَالْمُرَاحُ قَدْ نَجِسَا بِالْبَوْلِ ، وَالْبَعْرِ ، فَالصَّلَاةُ فِيهَا بَاطِلَةٌ ، وَإِنْ كَانَا طَاهِرَيْنِ فَالصَّلَاةُ جَائِزَةٌ غَيْرَ أَنَّهَا فِي الْعَطَنِ مَكْرُوهَةٌ ، وَفِي الْمُرَاحِ مُبَاحَةٌ . وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ رِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِذَا أَدْرَكْتُمُ الصَّلَاةَ فِي مَرَاحِ الْغَنَمِ فَصَلُّوهَا ، فَإِنَّهَا سَكِينَةٌ وَبَرَكَةٌ ، وَإِذَا أَدْرَكْتُمُ الصَّلَاةَ فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ فَاخْرُجُوا ، ثُمَّ صَلُّوا ، فَإِنَّهَا جِنٌّ مِنْ جِنٍّ خُلِقَتْ ، أَلَا تَرَوْنَهَا كَيْفَ تَشْمَخُ بِأَنْفِهَا إِذَا نَفَرَتْ " .
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى : مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ أَعْطَانَ الْإِبِلِ مَأْوَى الشَّيَاطِينِ : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَبَّهَ الْإِبِلَ بِهَا ، وَلَيْسَ مَرَاحُ الْغَنَمِ مَأْوَى الشَّيَاطِينِ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ أَنَّهَا مِنْ دَوَابِّ الْجَنَّةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْأَعْطَانِ تُعَرِّي عَنِ الْخُشُوعِ لِمَا يَخْشَى الْمُصَلِّي عَلَى نَفْسِهِ مِنْ نُفُورِ الْإِبِلِ ، وَلَيْسَ لِلْغَنَمِ نُفُورٌ فَيَخَافُهُ الْمُصَلِّي فَيَسْقُطُ بِهِ خُضُوعُهُ ، أَلَا تَرَاهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَبَّهَ قَوْمًا بِالْإِبِلِ فَذَمَّهُمْ ، وَشَبَّهَ آخَرِينَ بِالْغَنَمِ فَمَدَحَهُمْ ، وَقَالَ : مَثَلُ الْمُؤْمِنِ مَثَلُ الْغَنَمِ لَيِّنٌ مَشْيُهَا لَا تُؤْذِي مَنْ جَاوَرَهَا . وَالثَّالِثُ : أَنَّ أَعْطَانَ الْإِبِلِ لَيْسَتْ عَلَى اسْتِوَاءٍ مِنَ الْأَرْضِ بَلْ يُرْتَادُ لَهَا الرَّفْعُ وَالْوَسَخُ وَالْمَكَانُ الْحَزَزُ ، لِأَنَّهَا عَلَيْهِ أَصْلَحُ ، وَلَا يُرْتَادُ لِلْغَنَمِ مِنَ الْأَرْضِ إِلَّا أَجْلَسَهَا تُرْبَةً وَأَعْلَاهَا بُقْعَةً ، وَأَسَوَاهَا مَوْضِعًا ، وَأَلْطَفَهَا مَرْبَعًا : لِأَنَّهَا لَا تَصْلُحُ إِلَّا فِيهِ وَلَا تُنْجِبُ إِلَّا عَلَيْهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ الصَّلَاةِ فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ ، فَلِمَ جَوَّزْتُمُ الصَّلَاةَ فِيهَا ؟ وَهَلْ أَوْجَبَ النَّهْيُ بُطْلَانَ الصَّلَاةِ فِيهَا ؟ قِيلَ : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ فِي أَعْطَانِهَا : لِأَنَّهُ شَبَّهَهَا بِالشَّيَاطِينِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مَرَّ بِهِ فِي صَلَاةٍ شَيْطَانٌ وَلَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
بَابُ الْأَوْقَاتُ الَّتِي يُكْرَهُ فِيهَا صَلَاةُ التَّطَوُّعِ وَيَجُوزُ فِيهَا الْفَرِيضَةُ وَالْقَضَاءُ وَالْجِنَازَةُ وَغَيْرُهَا
بَابُ الْأَوْقَاتُ الَّتِي يُكْرَهُ فِيهَا صَلَاةُ التَّطَوُّعِ وَيَجُوزُ فِيهَا الْفَرِيضَةُ وَالْقَضَاءُ وَالْجِنَازَةُ وَغَيْرُهَا . قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " أَخْبَرَنَا مَالِكٌ ، عَنْ مُحْمَدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ ، عَنِ الْأَعْرَجِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا صَلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ وَلَا صَلَاةَ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ ذَلِكَ ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِلَّا بِمَكَّةَ إِلَّا بِمَكَّةَ إِلَّا بِمَكَّةَ وَعَنِ الصُّنَابِحِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ وَمَعَهَا قَرْنُ الشَّيْطَانِ فَإِذَا ارْتَفَعَتْ فَارَقَهَا ، فَإِذَا اسْتَوَتْ قَارَنَهَا ، فَإِذَا زَالَتْ فَارَقَهَا ، فَإِذَا دَنَتْ لِلْغُرُوبِ قَارَنَهَا ، فَإِذَا غَرَبَتْ فَارَقَهَا وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي تِلْكَ السَّاعَاتِ . وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ نِصْفَ النَّهَارِ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ إِلَّا يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ مَنْ وَلِيَ مِنْكُمْ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ شَيْئًا فَلَا يَمْنَعَنَّ أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ أَوْ صَلَّى أَيَّةَ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : وَبِهَذَا أَقُولُ وَالنَّهْيُ عَنِ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ عَنِ التَّطَوُّعِ إِلَّا يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِلتَّهْجِيرِ حَتَّى يَخْرُجَ الْإِمَامُ ، فَأَمَّا صَلَاةُ فَرْضٍ ، أَوْ جِنَازَةٍ ، أَوْ مَأْمُورٍ بِهَا مُوَكَّدَةٍ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَرْضًا أَوْ كَانَ يُصَلِّيهَا فَأَغْفَلَهَا فَتُصَلَّى فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ بِالدَّلَالَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ : مَنْ نَسِيَ صَلَاةً ، أَوْ نَامَ عَنْهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا وَبِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَأَى قَيْسًا يُصَلِّي بَعْدَ الصُّبْحِ فَقَالَ : مَا هَاتَانِ الرَّكْعَتَانِ ؟ قَالَ رَكْعَتَا الْفَجْرِ فَلَمْ يُنْكِرْهُ وَبِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ فَسَأَلَتْهُ عَنْهُمَا أُمُّ سَلَمَةَ فَقَالَ : " فَمَا رَكْعَتَانِ كُنْتُ أُصَلِّيهِمَا فَشَغَلَنِي عَنْهُمَا الْوَفْدُ وَثَبَتَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ فَأَحَبَّ فَضْلَ الدَّوَامِ ، وَصَلَّى النَّاسُ عَلَى جَنَائِزِهِمْ بَعْدَ الْعَصْرِ وَبَعْدَ الصُّبْحِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَهْيُهُ عَنِ الصَّلَاةِ فِي السَّاعَاتِ الَّتِي نَهَى فِيهَا عَنْهَا إِلَّا عَلَى مَا وَصَفْتُ ، وَالنَّهْيُ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ ثَابِتٌ إِلَّا بِمَكَّةَ ، وَلَيْسَ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيتِ شَيْءٌ مُخْتَلِفٌ . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : قُلْتُ أَنَا هَذَا خِلَافُ قَوْلِهِ فِيمَنْ نَسِيَ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ حَتَّى صَلَّى الظُّهْرَ ، وَالْوِتْرَ حَتَى صَلَّى الصُّبْحَ أَنَّهُ لَا يُعِيدُ وَالَّذِي قَبْلَ هَذَا أَوْلَى بِقَوْلِهِ وَأَشْبَهُ عِنْدِي بِأَصْلِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ فِي خَمْسَةِ أَوْقَاتٍ ، مِنْهَا : وَقْتَانِ نَهَى عَنِ
الصَّلَاةِ فِيهِمَا لِأَجْلِ فِعْلِ الصَّلَاةِ لَا لِلْوَقْتِ ، وَثَلَاثَةُ أَوْقَاتٍ نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا لِأَجْلِ الْوَقْتِ لَا لِفِعْلِ الصَّلَاةِ . فَأَمَّا الْوَقْتَانِ اللَّذَانِ نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ فِيهِمَا لِأَجْلِ فِعْلِ الصَّلَاةِ لَا لِلْوَقْتِ ، فَهُمَا بَعْدَ فِعْلِ صَلَاةِ الْعَصْرِ ، وَبَعْدَ فِعْلِ صَلَاةِ الصُّبْحِ ، وَذَلِكَ أَنَّ وَقْتَ الْعَصْرِ إِذَا دَخَلَ فَالتَّنَفُّلُ فِيهِ جَائِزٌ مَا لَمْ يُصَلِّ الْعَصْرَ النهي عن التنفل بعد العصر فَإِذَا صَلَّى الْعَصْرَ مُنِعَ مِنَ التَّنَفُّلِ بَعْدَهَا . وَالدَّلَالَةُ عَلَى النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ رِوَايَةٌ ، بِالْإِسْنَادِ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَى تَغْرُبَ الشَّمْسُ . وَرَوَى الزُّهْرِيُّ ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ الْجُنْدَعِيِّ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا صَلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ وَلَا صَلَاةَ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَى تَطْلُعَ الشَّمْسُ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى النَّهْيِ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ لِأَجْلِ فِعْلِ الصَّلَاةِ لَا لِأَجْلِ الْوَقْتِ : أَنَّ رَجُلَيْنِ لَوْ صَلَّى أَحَدُهُمَا الْعَصْرَ ، وَلَمْ يُصَلِّ الْآخَرُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِمَنْ لَمْ يُصَلِّ أَنْ يَتَنَفَّلَ ، وَلَا يَجُوزُ لِمَنْ صَلَّى أَنْ يَتَنَفَّلَ ، فَعُلِمَ أَنَّ النَّهْيَ لِلْفِعْلِ لَا لِلْوَقْتِ : لِأَنَّ الْوَقْتَ مَوْجُودٌ فِيمَنْ لَمْ يُصَلِّ الْعَصْرَ وَهُوَ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنَ التَّنَفُّلِ . وَأَمَّا الْأَوْقَاتُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا لِأَجْلِ الْوَقْتِ ، فَهِيَ مِنْ حِينِ تَطْلُعُ الشَّمْسُ إِلَى أَنْ تَرْفَعَ وَتَنْبَسِطَ ، وَإِذَا اسْتَوَتْ لِلزَّوَالِ إِلَى أَنْ تَزُولَ ، وَإِذَا دَنَتْ إِلَى الْغُرُوبِ إِلَى أَنْ تَغْرُبَ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى ذَلِكَ رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ ، عَنْ مَالِكٍ ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ ، عَنِ الصُّنَابِحِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ وَمَعَهَا قَرْنُ الشَّيْطَانِ فَإِذَا ارْتَفَعَتْ فَارَقَهَا ، وَإِذَا اسْتَوَتْ فَارَقَهَا ، فَإِذَا دَنَتْ لِلْغُرُوبِ قَارَنَهَا ، فَإِذَا غَرَبَتْ قَارَنَهَا " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ .
وَرَوَى عَامِرُ بْنُ عُقْبَةَ الْجُهَنِيُّ أَنَّهُ قَالَ : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي ثَلَاثَةِ أَوْقَاتٍ وَأَنْ نَدْفِنَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا ، حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ بَازِغَةً حَتَّى تَرْتَفِعَ ، وَحِينَ تَقُومُ الظَّهِيرَةُ حَتَّى تَزُولَ ، وَحِينَ تَضَيَّفُ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ حَتَّى تَغْرُبَ . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ قَوْلُهُ : حِينَ تَضَيَّفُ مَالَتْ لِلْمَغِيبِ ، وَقَدْ سُمِّيَ الضَّيْفُ ضَيْفًا ، لِأَنَّهُ مَالَ إِلَيْكَ وَنَزَلَ عَلَيْكَ . فَإِنْ قِيلَ : فَمَا مَعْنَى نَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ قِيلَ : فِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ نَهْيَهُ عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ التنفل المنهي عنه لِيَكُونَ أَقْوَى لَهُمْ عَلَى صَلَاةِ الضُّحَى ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ لِيَكُونَ أَقْوَى لَهُمْ عَلَى صَلَاةِ اللَّيْلِ ، وَعِنْدَ نِصْفِ النَّهَارِ لِأَجْلِ الْقَائِلَةِ وَالِاسْتِرَاحَةِ . وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي : أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا : لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَجْلِسُ فِيهَا لِمَعَالِمِ دِينِهِمْ وَتِلَاوَةِ الْوَحْيِ عَلَيْهِمْ ، فَكَانُوا يَنْقَطِعُونَ عَنْ ذَلِكَ بِالصَّلَاةِ ، فَنَهَاهُمْ عَنْهَا وَعِنْدَ قِيَامِ الظَّهِيرَةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قِيلُوا فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَا تَقِيلُ . وَالتَّأْوِيلُ الثَّالِثُ : إِنَّ الْمَعْنَى فِيهِ مَا صَرَّحَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مُقَارَنَةِ الشَّيْطَانِ لِلشَّمْسِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ . فَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهَا قَرْنُ الشَّيْطَانِ فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : قَرْنُ الشَّيْطَانِ مِنَ الْإِنْسِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الشَّمْسَ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ كَالْمَجُوسِ ، وَغَيْرِهِمْ . وَالثَّانِي : جُنْدُ الشَّيْطَانِ مِنَ الْجِنِّ الَّذِينَ يَصْرِفُهُمْ فِي أَعْمَالِهِ وَيُنْهِضُهُمْ فِي مَرْضَاتِهِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ الشَّيْطَانَ يَسْتَقْبِلُ الشَّمْسَ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ فَيَبْرُزُ بِبُرُوزِهَا ، وَعِنْدَ قِيَامِهَا ، وَعِنْدَ غُرُوبِهَا لِيُظْهِرَ مَكْرَهُ ، وَمَكَائِدَهُ فَيَكُونُ كُلُّ مَنْ يَسْجُدُ لَهَا سُجَّدًا لَهُ ، وَالْقَرْنُ : عِبَارَةٌ عَنِ الِارْتِفَاعِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ النَّهْيِ ، عَنِ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الْخَمْسَةِ ، فَالْمُرَادُ بِالنَّهْيِ بَعْضُ الْبُلْدَانِ دُونَ بَعْضٍ ، وَبَعْضُ الْأَيَّامِ دُونَ بَعْضٍ ، وَبَعْضُ الصَّلَوَاتِ دُونَ بَعْضٍ ، فَأَمَّا تَخْصِيصُ بَعْضِ الْبُلْدَانِ فَمَكَّةُ مَخْصُوصَةٌ مِنْ سَائِرِ الْبُلْدَانِ بِجَوَازِ الصَّلَاةِ فِيهَا فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ تَخْصِيصُ بَعْضِ الْبُلْدَانِ بصحة الصلاه فيها مطلقا الْمَنْهِيِّ عَنْهَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : مَكَّةُ فِي النَّهْيِ كَغَيْرِهَا لِعُمُومِ الْأَخْبَارِ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهَا .
وَالدَّلَالَةُ عَلَى تَخْصِيصِهَا مِنَ النَّهْيِ رِوَايَةُ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ : أَنَّهُ قَالَ : مَنْ عَرَفَنِي فَقَدْ عَرَفَنِي ، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْنِي فَأَنَا جُنْدُبٌ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا إِلَّا بِمَكَّةَ . وَرَوَى جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ ، مَنْ وَلِيَ مِنْكُمْ مِنْ أُمُورِ النَّاسِ شَيْئًا فَلَا يَمْنَعَنَّ أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ وَصَلَّى أَيَّةَ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ . فَإِذَا ثَبَتَ تَخْصِيصُ مَكَّةَ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَخْصِيصِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الْقَفَّالِ : إِنَّهَا مَخْصُوصَةٌ بِرَكْعَتَيِ الطَّوَافِ ، وَجَوَازِ فِعْلِهَا فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ دُونَ سَائِرِ النَّوَافِلِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ ، وَجُمْهُورُ أَصْحَابِنَا إِنَّهَا مَخْصُوصَةٌ بِجَوَازِ فِعْلِ النَّوَافِلِ كُلِّهَا فِي الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا لِعُمُومِ التَّخْصِيصِ ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ اخْتَلَفُوا فِي تَنَفُّلِ الرَّجُلِ فِي مَنْزِلِهِ بِمَكَّةَ وَسَائِرِ الْحَرَمِ ، فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الْقَفَّالِ لَا يَجُوزُ . وَالثَّانِي : هُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ يَجُوزُ ، فَإِنْ قِيلَ : فَمَا الْمَعْنَى فِي تَخْصِيصِ مَكَّةَ مِنْ سَائِرِ الْبِلَادِ وَتَمْيِيزِهَا مِنْ غَيْرِهَا . قِيلَ : حِرَاسَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَهَا مِنْ أَنْ يَخْتَطِفَهَا شَيْطَانٌ فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : وَكَّلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِأَطْرَافِ الْحَرَمِ سَبْعِينَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَحْرُسُونَهُ مِنَ الشَّيَاطِينِ . وَأَمَّا تَخْصِيصُ بَعْضِ الْأَيَّامِ فَيَوْمُ الْجُمُعَةِ عِنْدَ قِيَامِ الظَّهِيرَةِ ، وَانْتِصَافِ النَّهَارِ مَخْصُوصٌ بِجَوَازِ التَّنَفُّلِ فِيهِ تَخْصِيصُ بَعْضِ الْأَيَّامِ بجواز التنفل فيها مطلقا دُونَ بَاقِي الْأَوْقَاتِ الْأَرْبَعَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا : لِرِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ نِصْفَ النَّهَارِ إِلَّا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلِأَنَّ اشْتِغَالَهُ بِالصَّلَاةِ يَطْرُدُ عَنْهُ النَّوْمَ الْمُفْضِيَ إِلَى نَقْضِ الطَّهَارَةِ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا تَخْصِيصُ بَعْضِ الصَّلَاةِ بِالنَّهْيِ فَهِيَ صَلَاةُ نَافِلَةٍ ، ابْتَدَأَ بِهَا الْمُصَلِّي مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ ، فَأَمَّا ذَوَاتُ الْأَسْبَابِ مِنَ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ ، وَالْمَسْنُونَاتِ فَيَجُوزُ فِعْلُهَا فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ كَالْفَائِتَةِ ، وَالْوِتْرِ ، وَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ ، وَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ ، وَصَلَاةِ الْجُمُعَةِ ، وَالْعِيدَيْنِ ، وَالِاسْتِسْقَاءِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْأَوْقَاتُ الثَّلَاثَةُ الْمَنْهِيُّ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا لِأَجْلِ الْوَقْتِ لَا يَجُوزُ فِيهَا صَلَاةُ فَرْضٍ ، وَلَا نَفْلٍ إِلَّا عَصْرَ يَوْمِهِ ، فَأَمَّا صُبْحُ يَوْمِهِ فَلَا يَجُوزُ : لِأَنَّهَا تَبْطُلُ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ . وَأَمَّا الْوَقْتَانِ اللَّذَانِ نُهِيَ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهِمَا لِأَجْلِ الْفِعْلِ فَلَا يَجُوزُ فِيهِمَا فِعْلُ النَّوَافِلِ كُلِّهَا سَوَاءٌ كَانَ لَهَا أَسْبَابٌ ، أَمْ لَا ، وَتَجُوزُ فِيهِمَا الْفَرِيضَةُ اسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ النَّهْيِ فِي الْأَخْبَارِ الْأَرْبَعَةِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَأَبِي سَعِيدٍ الصُّنَابِحِيِّ ، وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ . قَالَ : وَلِأَنَّ كُلَّ وَقْتٍ مُنِعَ مِنْ نَوَافِلِ عِبَادَةٍ مُنِعَ مِنْ فَرَائِضِهَا قِيَاسًا عَلَى يَوْمِ الْفِطْرِ ، وَيَوْمِ النَّحْرِ لَمَّا لَمْ يَجُزْ فِيهِمَا صَوْمُ التَّطَوُّعِ لَمْ يَجُزْ فِيهِمَا صَوْمُ الْفَرْضِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ رِوَايَةُ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ ، أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا ، فَذَلِكَ وَقْتُهَا وَكَانَ هَذَا عَلَى عُمُومِهِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ ، فَإِنْ قَابَلُوا هَذَا الْخَبَرَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا صَلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ " ، وَلَا صَلَاةَ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَقَالُوا : خَبَرُكُمْ عَامٌّ فِي الْأَوْقَاتِ ، وَخَاصٌّ فِي الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ ، وَخَبَرُنَا عَامٌّ فِي الصَّلَوَاتِ ، خَاصٌّ فِي الْأَوْقَاتِ فَتَسَاوَى الْخَبَرَانِ . قُلْنَا : خَبَرُنَا أَوْلَى : لِأَنَّ عُمُومَنَا لَمْ يَدْخُلْهُ التَّخْصِيصُ ، وَعُمُومُ خَبَرِكُمْ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ ، لِأَنَّكُمْ تَقُولُونَ إِلَّا عَصْرَ يَوْمِهِ ، وَالْفَرَائِضُ كُلُّهَا فِي الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا لِأَجْلِ الْفِعْلِ ، ثُمَّ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ مَا رُوِيَ عَنْ قَيْسِ بْنِ قَهْدٍ قَالَ : صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصُّبْحَ ، فَلَمَّا فَرَغْنَا قُمْتُ وَصَلَّيْتُ رَكْعَتَيِ الصَّلَوَاتِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَا هَاتَانِ الرَّكْعَتَانِ يَا قَيْسُ ؟ فَقُلْتُ : رَكْعَتَيِ الصُّبْحِ فَلَمْ يُنْكِرْهُ . وَرَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ قَالَتْ : دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الْعَصْرِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، فَقُلْتُ : مَا هَاتَانِ الرَّكْعَتَانِ ؟ فَقَالَ : رَكْعَتَانِ كُنْتُ أُصَلِّيهِمَا بَعْدَ الظُّهْرِ فَشَغَلَنِي عَنْهُمَا وَفْدُ تَمِيمٍ فَنَسِيتُهُمَا وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ رَكْعَةً مِنَ الصُّبْحِ فَطَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ . وَهَذَا نَصٌّ بَطَلَ بِهِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ لَهَا سَبَبٌ فَجَازَ فِعْلُهَا فِي الْوَقْتِ الْمَنْهِيِّ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهِ . أَصْلُهُ عَصْرُ يَوْمِهِ . فَأَمَّا اسْتِدْلَالُ أَبِي حَنِيفَةَ بِظَاهِرِ الْأَخْبَارِ وَعُمُومِهَا فَفِيهَا جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى النَّوَافِلِ الَّتِي لَا أَسْبَابَ لَهَا بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَاهُ .
وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى مَنْ قَصَدَ تَأْخِيرَهَا ، وَإِيقَاعَهَا فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا تَعْمِدُوا بِالصَّلَاةِ طُلُوعَ الشَّمْسِ وَغُرُوبَهَا وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى يَوْمِ الْفِطْرِ وَالنَّحْرِ فَمُنْتَقَضٌ بِشَهْرِ رَمَضَانَ يَجُوزُ فِيهِ صَوْمُ الْفَرْضِ ، وَلَا يَجُوزُ فِيهِ صَوْمُ النَّفْلِ ، وَيَنْتَقِضُ أَيْضًا بِعَصْرِ يَوْمِهِ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي يَوْمِ النَّحْرِ ، وَيَوْمِ الْفِطْرِ أَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَنْعَقِدُ فِيهِمَا بِحَالٍ ، وَقَدْ تَنْعَقِدُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ بَعْضُ الصَّلَوَاتِ إِجْمَاعًا وَهِيَ عَصْرُ يَوْمِهِ ، وَسَائِرُ الْفَرَائِضِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا لِأَجْلِ الْفَصْلِ ، فَلَمْ يَصِحَّ اعْتِبَارُ الْأَصْلِ بِالْفَرْعِ ، وَأَمَّا اعْتِرَاضُ الْمُزَنِيِّ بِالْوِتْرِ ، وَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ فَسَنَشْرَحُ الْمَذْهَبَ فِيهِمَا ، وَنُوَضِّحُ الْحُجَّةَ عَلَيْهِ فِي اعْتِرَاضِهِ عِنْدَ وُرُودِ ذَلِكَ فِي بَابِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَنْ ذَكَرَ صَلَاةً وَهُوَ فِي أُخْرَى أَتَمَّهَا ، ثُمَّ قَضَى ، وَإِنْ ذَكَرَ خَارِجَ الصَّلَاةِ بَدَأَ بِهَا فَإِنْ خَافَ فَوْتَ وَقْتِ الَّتِي حَضَرَتْ بَدَأَ بِهَا ثُمَّ قَضَى . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : قَالَ أَصْحَابُنَا يَقُولُ الشَّافِعِيُّ : التَّطَوُّعُ وَجْهَانِ ، أَحَدُهُمَا : صَلَاةُ جَمَاعَةٍ مُوَكَّدَةٍ لَا أُجِيزُ تَرْكَهَا لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهَا ، وَهِيَ صَلَاةُ الْعِيدَيْنِ ، وَكُسُوفُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ ، وَالِاسْتِسْقَاءِ ، وَصَلَاةُ مُنْفَرِدٍ ، وَصَلَاةٌ بَعْضُهَا أَوْكَدُ مِنْ بَعْضٍ ، فَأَوْكَدُ ذَلِكَ الْوِتْرُ ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ صَلَاةُ التَّهَجُّدِ ، ثُمَّ رَكْعَتَا الْفَجْرِ ، وَمَنْ تَرَكَ وَاحِدَةً مِنْهُمَا أَسْوَأَ حَالًا مِمَّنْ تَرَكَ جَمِيعَ النَّوَافِلِ ، وَقَالُوا : إِنْ فَاتَهُ الْوِتْرُ حَتَّى تُقَامَ الصُّبْحُ لَمْ يَقْضِ ، وَإِنْ فَاتَتْهُ رَكْعَتَا الْفَجْرِ حَتَّى تُقَامَ الظُّهْرُ لَمْ يَقْضِ ، وَلَا أُرَخِّصُ لِمُسْلِمٍ فَيَ تَرْكِ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ، وَإِنْ لَمْ أُوجِبْهُمَا . ( وَقَالَ ) : إِنْ فَاتَهُ الْوِتْرُ لَمْ يَقْضِ ، وَإِنْ فَاتَهُ رَكْعَتَا الْفَجْرِ حَتَّى تُقَامَ صَلَاةُ الظُّهْرِ لَمْ يَقْضِ ، وَقَالُوا : فَأَمَّا صَلَاةُ فَرِيضَةٍ ، أَوْ جِنَازَةٍ ، أَوْ مَأْمُورٍ بِهَا مُؤَكَّدَةٍ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَرْضًا ، أَوْ كَانَ يُصَلِّيهَا فَأَغْفَلَهَا ، فَلْيُصَلِّ فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالدَّلَالَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ : مَنْ نَسِيَ صَلَاةً أَوْ نَامَ عَنْهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا وَبِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَأَى قَيْسًا يُصَلِّي بَعْدَ الصُّبْحِ ، فَقَالَ : " مَا هَاتَانِ الرَّكْعَتَانِ ؟ فَقَالَ : رَكْعَتَا الْفَجْرِ . فَلَمْ يُنْكِرْهُ ، وَبِأَنَّهُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ ، فَسَأَلَتْهُ عَنْهُمَا أُمُّ سَلَمَةَ ، فَقَالَ : هُمَا رَكْعَتَانِ كُنْتُ أُصَلِّيهِمَا ، فَشَغَلَنِي عَنْهُمَا الْوَفْدُ وَثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ وَأُحِبُّ فَضْلَ الدَّوَامِ . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : يُقَالُ لَهُمْ فَإِذَا سَوَّيْتُمْ فِي الْقَضَاءِ بَيْنَ التَّطَوُّعِ الَّذِي لَيْسَ بِأَوْكَدَ وَبَيْنَ الْفَرْضِ لِدَوَامِ التَّطَوُّعِ الَّذِي لَيْسَ بِأَوْكَدَ ، فَلِمَ أَبَيْتُمْ قَضَاءَ الْوِتْرِ الَّذِي هُوَ أَوْكَدُ ، ثُمَّ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ اللَّتَيْنِ تَلِيَانِ فِي التَّأْكِيدِ اللَّتَيْنِ هُمَا أَوْكَدُ ؟ أَفَتَقْضُونَ الَّذِي لَيْسَ بِأَوْكَدَ ، وَلَا تَقْضُونَ الَّذِي هُوَ أَوْكَدُ ؟ وَهَذَا مِنَ الْقَوْلِ غَيْرُ مُشْكِلٍ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ ، وَمِنَ احْتِجَاجِكُمْ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَضَاءِ التَّطَوُّعِ : " مَنْ نَسِيَ صَلَاةً أَوْ نَامَ عَنْهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا " فَقَدْ خَالَفْتُمْ مَا احْتَجَجْتُمْ
بِهِ فِي هَذَا ، فَإِنْ قَالُوا فَيَكُونُ الْقَضَاءُ عَلَى الْقُرْبِ لَا عَلَى الْبُعْدِ ، قِيلَ لَهُمْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ يَنْبَغِي عَلَى مَعْنَى مَا قُلْتُمْ أَنْ لَا يَقْضِيَ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ نِصْفَ النَّهَارِ لِبُعْدِ قَضَائِهِمَا مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ ، وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ يَقْضِي مَا لَمْ يُصَلِّ الظُّهْرَ ، وَهَذَا مُتَبَاعِدٌ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَقُولُوا : إِنْ صَلَّى الصُّبْحَ عِنْدَ الْفَجْرِ أَنَّ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ الْوِتْرَ : لِأَنَّ وَقْتَهَا إِلَى الْفَجْرِ أَقْرَبُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ فَلْيُوتِرْ فَهَذَا قَرِيبٌ مِنَ الْوَقْتِ وَأَنْتُمْ لَا تَقُولُونَهُ وَفِي ذَلِكَ إِبْطَالُ مَا اعْتَلَلْتُمْ بِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ ، وَذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الْفُقَهَاءِ فِيهَا ، وَأَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّ تَرْتِيبَ الْفَوَائِتِ مِنَ الصَّلَوَاتِ غَيْرُ وَاجِبٍ فِي الْقَضَاءِ ، وَأَنَّ مَنْ ذَكَرَ صَلَاةً فَائِتَةً وَهُوَ فِي فَرْضِ وَقْتِهِ ، فَجَائِزٌ أَنْ يَمْضِيَ فِي صَلَاتِهِ وَيَقْضِيَ مَا فَاتَهُ ، وَدَلَّلْنَا عَلَى جَمِيعِهِ بِمَا لَيْسَ لَنَا حَاجَةٌ إِلَى إِعَادَتِهِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .
بَابُ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ وَقِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ
بَابُ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ وَقِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " الْفَرْضُ خَمْسٌ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَعْرَابِيِّ حِينَ قَالَ : هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا ؟ قَالَ : لَا إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ يَتَضَمَّنُ هَذَا الْفَصْلُ الْخِلَافَ فِي صَلَاةِ الْوِتْرِ حكمها فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا سُنَّةٌ ، وَبِهِ قَالَ الْفُقَهَاءُ كَافَّةً . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْوِتْرُ وَاجِبٌ . قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَلَمْ يَذْهَبْ إِلَى هَذَا غَيْرُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَاسْتَدَلَّ مَنْ نَصَرَ قَوْلَهُ بِرِوَايَةِ خَارِجَةَ بْنِ حُذَافَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَكُمْ بِصَلَاةٍ هِيَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ وَهِيَ الْوِتْرُ جَعَلَهَا بَيْنَ الْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ . وَبِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ زَادَكُمْ صَلَاةً هِيَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ أَلَا وَهِيَ الْوِتْرُ حَافِظُوا عَلَيْهَا . قَالُوا : وَفِيهِ دَلِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : إِخْبَارُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الزِّيَادَةَ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَالْوَارِدُ مِنْ جِهَتِهِ وَاجِبٌ . وَالثَّانِي : أَنَّ الزِّيَادَةَ تُضَافُ إِلَى شَيْءٍ مَحْصُورٍ ، وَالنَّوَافِلَ غَيْرُ مَحْصُورَةٍ فَدَلَّ أَنَّهَا مُضَافَةٌ إِلَى الْفَرَائِضِ الْمَحْصُورَةِ .
وَبِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الْوِتْرُ حَقٌّ ، فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا ، مَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا ، مَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا . قَالُوا : فَنَفَى تَارِكَ الْوِتْرِ عَنِ الْمِلَّةِ ، فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِهِ لِيَسْتَحِقَّ هَذِهِ الصِّفَةَ بِتَرْكِهِ . وَبِرِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، عَلَيْهِ السَّلَامُ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ فَأَوْتِرُوا يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ . وَهَذَا أَمْرٌ . وَبِرِوَايَةِ أَبِي أَيُّوبَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الْوِتْرُ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ " وَلَفْظُهُ عَلَى لَفْظَةِ وُجُوبٍ . وَبِرِوَايَةٍ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ : " الْوِتْرُ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ " ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةُ وِتْرٍ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ وَاجِبَةً كَالْمَغْرِبِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ سُنَّةٌ قَوْلُهُ تَعَالَى : حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى [ الْبَقَرَةِ : ] ، فَلَوْ كَانَتِ الْوِتْرُ وَاجِبَةً لَكَانَتْ سِتًّا ، وَالسِّتُّ لَا تَصِحُّ أَنْ يَكُونَ لَهَا وُسْطَى ، فَعُلِمَ أَنَّهَا خَمْسٌ وَرَوَى الشَّافِعِيُّ ، عَنْ مَالِكٍ ، عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَالَ : مَا الْإِسْلَامُ قَالَ : خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ ، قَالَ : فَهَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا ؟ قَالَ : لَا ، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ . فَقَالَ : وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَيْهَا وَلَا أَنْقُصُ مِنْهَا ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ فَكَانَ فِي هَذَا الْخَبَرِ ثَلَاثَةُ أَدِلَّةٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنِ الْفَرْضِ الَّذِي عَلَيْهِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " خَمْسٌ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ " ، وَلَمْ يَقُلْ : سِتٌّ . وَالثَّانِي : قَوْلُهُ : " هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا ؟ " . فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا " ، فَنَفَى عَنْهُ وُجُوبَ غَيْرِهَا ، ثُمَّ أَكَّدَ النَّفْيَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ " . وَالثَّالِثُ : قَوْلُ الْأَعْرَابِيِّ : " وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَيْهَا ، وَلَا أَنْقُصُ مِنْهَا " ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ " ، فَلَوْ كَانَ الْوِتْرُ وَاجِبًا لَمْ يَكُنْ بِتَرْكِهِ مُفْلِحًا .
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ ، فَأَوْتِرُوا يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ ، فَقَامَ أَعْرَابِيٌّ ، فَقَالَ : هَلْ تَجِبُ عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : إِنَّهَا لَيْسَتْ لَكَ وَلَا لِقَوْمِكَ فَلَوْ كَانَ الْوِتْرُ وَاجِبًا لَعَمَّ وُجُوبُهُ جَمِيعَ النَّاسِ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ . وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَيْرِيزٍ أَنَّ الْمُخْدِجِيَّ سَمِعَ رَجُلًا بِالشَّامِ يُدْعَى بِأَبِي مُحَمَّدٍ يَقُولُ : إِنَّ الْوِتْرَ وَاجِبٌ ، قَالَ الْمُخْدِجِيُّ : فَوَجَدْتُ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ ، فَقُلْتُ : إِنَّ أَبَا مُحَمَّدٍ الْأَنْصَارِيَّ يَزْعُمُ أَنَّ الْوِتْرَ وَاجِبٌ فَقَالَ : كَذَبَ أَبُوِ مُحَمَّدٍ ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " خَمْسٌ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ ، فَمَنْ أَتَى بِهِنَّ ، وَلَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا اسْتِخْفَافًا بِهِنَّ كَانَتْ لَهُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَهْدٌ ، فَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ وَرَوَى الزُّهْرِيُّ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ حَدِيثَ الْمِعْرَاجِ قَالَ : لَمَّا عَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فُرِضَ عَلَى أُمَّتِهِ خَمْسُونَ صَلَاةً ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى ، عَلَيْهِ السَّلَامُ : سَلْ رَبَّكَ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ قَالَ : فَتَرَدَّدْتُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، حَتَّى رَدَّهَا إِلَى خَمْسٍ ، وَسَمِعْتُ مُنَادِيًا يُنَادِي إِلَّا أَنِّي قَدْ مَضَيْتُ فَرِيضَتِي ، وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي ، وَجَعَلْتُ لَهُمْ بِكُلِّ حَسَنَةٍ أَمْثَالَهَا : مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [ ق : ] . ورَوَى عِكْرِمَةُ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : كُتِبَ عَلَيَّ الْوِتْرُ وَلَمْ تُكْتَبْ عَلَيْكُمْ ، وَكُتِبَتْ عَلَيَّ الْأُضْحِيَةُ ، وَلَمْ تُكْتَبْ عَلَيْكُمْ وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ لَمْ يُسَنَّ لَهَا الْأَذَانُ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ وَاجِبَةً عَلَى الْكَافَّةِ ابْتِدَاءً بِأَصْلِ الشَّرْعِ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ النَّوَافِلِ ، وَلِأَنَّ الصَّلَوَاتِ ضَرْبَانِ فَرْضٌ ، وَنَفْلٌ ، فَلَمَّا كَانَ فِي جِنْسِ الْفَرْضِ وِتْرٌ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي جِنْسِ النَّفْلِ وِتْرٌ كَالْفَرَائِضِ . وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا : أَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ الصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي جِنْسِهِ وِتْرٌ كَالْفَرَائِضِ ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ مِنْ سُنَنِهَا أَنْ تَكُونَ تَبَعًا لِغَيْرِهَا فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ نَفْلًا قِيَاسًا عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ لَا يَكْفُرُ جَاحِدُهَا ، وَلَا يَفْسُقُ تَارِكُهَا ، وَلَا يُقْتَلُ مَنْ تَوَانَى عَنْهَا ، فَكَانَتْ بِالنَّوَافِلِ أَشْبَهَ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِيمَا ذَكَرْنَا . فَأَمَّا الِاحْتِجَاجُ عَنْ جَوَابِهِمْ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَكُمْ " فَهُوَ أَنْ يُقَالَ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ : لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَنَا بِصَلَاةِ النَّفْلِ كَمَا أَمَرَنَا بِالْوَاجِبِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " زَادَكُمْ " فَهُوَ دَلِيلُنَا ، لِأَنَّهُ زَادَ لَنَا لَا عَلَيْنَا ، وَقَوْلُهُمُ الزِّيَادَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا عَلَى مَحْصُورٍ ، فَيُقَالُ لَهُمُ : النَّوَافِلُ ضَرْبَانِ : مُؤَكَّدَةٌ ، وَغَيْرُ مُؤَكَّدَةٍ ، فَالْمُؤَكَّدَةُ مَحْصُورَةُ الْقَدْرِ ، كَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ ، وَالنَّوَافِلِ الْمُوَظَّفَاتِ قَبْلَ الصَّلَوَاتِ وَبَعْدَهَا عَلَى أَنَّ مِنْ أَصِلِهِمْ أَنَّهَا غَيْرُ مَزِيدَةٍ عَلَى شَيْءٍ ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ عِنْدَهُمْ فَرْضًا تُزَادُ عَلَى الْوَظَائِفِ ، وَلَا نَفْلًا تُزَادُ عَلَى النَّوَافِلِ فَسَقَطَ مِنْ حَيْثُ أَوْرَدُوهُ . وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ بُرَيْدَةَ ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا " فَمَتْرُوكُ الظَّاهِرِ بِإِجْمَاعٍ : لِأَنَّ تَارِكَ الْوِتْرِ لَا يَكُونُ كَافِرًا خَارِجًا عَنِ الْمِلَّةِ ، فَاحْتَجْنَا وَإِيَّاهُمْ إِلَى تَأْوِيلٍ يُحْمَلُ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ ، وَنَحْنُ أَقْدَرُ عَلَى تَأْوِيلِهِ مِنْهُمْ ، فَنَقُولُ : مَعْنَاهُ مَنْ لَمْ يُوتِرْ مُعْتَقِدًا أَنَّهَا غَيْرُ سُنَّةٍ ، فَلَيْسَ مِنَّا عَلَى أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ قَدْ تُسْتَعْمَلُ فِي تَرْكِ الْمَنْدُوبِ إِلَيْهِ ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا فَلَيْسَ مِنَّا وَتَوْقِيرُ الْكَبِيرِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ . وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَفِيهِ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ " فَلَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهِ ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى فِعْلِهِ وَاسْتِحْبَابِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ فِي تَخْصِيصِ أَهْلِ الْقُرْآنِ بِهِ . وَقَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَعْرَابِيِّ : " إِنَّهَا لَيْسَتْ لَكَ ، وَلَا لِقَوْمِكَ " دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِهِ سُنَّةً وَنَدْبًا . وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ فَقَدْ رُوِّينَا عَنْهُ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " الْوِتْرُ حَقٌّ مَسْنُونٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ " ، فَسَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمَغْرِبِ ، فَالْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّهَا صَلَاةٌ سُنَّ لَهَا أَذَانٌ ، وَإِقَامَةٌ ، ثُمَّ يُقَالُ لِأَبِي حَنِيفَةَ : مَا تَعُمُّ الْبَلْوَى بِهِ لَا يَثْبُتُ عَلَى أَصْلِكَ بِالْقِيَاسِ ، وَلَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَلَيْسَ مَعَكَ فِيهِ تَوَاتُرٌ ، فَلِمَ أَثْبَتَّ وُجُوبَهُ ، وَفِيهِ مُخَالَفَةُ أَصْلِكَ ، فَإِنْ ذَكَرَ جَوَابًا كَانَ تَوْقِيفًا وَاعْتِذَارًا تَفْضَحُهُ السِّيَرُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَصَلَاةُ التَّطَوُّعِ ضَرْبَانِ . أَحَدُهُمَا : صَلَاةُ جَمَاعَةٍ مُؤَكَّدَةٍ ، لَا أُجِيزُ تَرْكَهَا لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهَا ، وَهِيَ صَلَاةُ الْعِيدَيْنِ ، وَكُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ ، وَالِاسْتِسْقَاءِ ، وَصَلَاةُ مُنْفَرِدٍ ؟ وَبَعْضُهَا أَوْكَدُ مِنْ بَعْضٍ ، فَأَوْكَدُ ذَلِكَ الْوِتْرُ وَيُشَبِهُ أَنْ يَكُونَ صَلَاةُ التَّهَجُّدِ ، ثُمَّ رَكْعَتَا الْفَجْرِ ، وَلَا أُرَخِّصُ لِمُسْلِمٍ فِي تَرْكِ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ، وَإِنْ لَمْ أُوجِبْهُمَا ، وَمَنْ تَرَكَ وَاحِدَةً مِنْهُمَا أَسْوَأُ حَالًا مِنْ تَرْكِ جَمِيعِ النَّوَافِلِ " .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ وَالصَّلَاةُ عَلَى ضَرْبَيْنِ : فَرْضٌ . وَتَطَوُّعٌ . فَالْفَرْضُ : خَمْسٌ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ ، مَنْ جَحَدَهُنَّ فَقَدْ كَفَرَ ، وَمَنْ تَرَكَهُنَّ غَيْرَ جَاحِدٍ فَقَدْ فَسَقَ ، فَأَمَّا التَّطَوُّعُ أقسامه فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا سُنَّ فِعْلُهُ فِي جَمَاعَةٍ ، وَهُوَ خَمْسُ صَلَوَاتٍ : الْعِيدَانِ ، وَالْخُسُوفَانِ ، وَالِاسْتِسْقَاءُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا سُنَّ فِعْلُهُ مُفْرَدًا ، وَهُوَ الْوِتْرُ ، وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ ، وَصَلَاةُ الضُّحَى ، وَالسُّنَنُ الْمُوَظَّفَاتُ مَعَ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ . فَأَمَّا مَا سُنَّ فِي جَمَاعَةٍ فَهُوَ آكَدُ ، وَأَفْضَلُ مِمَّا سُنَّ مُنْفَرِدًا لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهَا أَشْبَهُ بِالْفَرَائِضِ ، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْجَمَاعَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الْفَرَائِضُ ضَرْبَيْنِ ، ضَرْبٌ فُرِضَ فِي جَمَاعَةٍ ، وَهُوَ الْجُمُعَةُ ، وَضَرْبٌ لَمْ يُفْرَضْ فِي جَمَاعَةٍ . وَالسُّنَّةُ ضَرْبَانِ . ضَرْبٌ فِي جَمَاعَةٍ . وَضَرْبٌ لَمْ يُسَنَّ فِي جَمَاعَةٍ ، ثُمَّ وَجَدْنَا مَا سُنَّ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْمَفْرُوضِ أَوْكَدَ وَأَفْضَلَ ، وَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا سُنَّ فِي الْجَمَاعَةِ مِنَ الْمَسْنُونِ أَوْكَدَ وَأَفْضَلَ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الَّتِي سُنَّ لَهَا الْجُمُعَةُ أَدَاؤُهَا جَمَاعَةً أَفْضَلَ مِنْ أَدَائِهَا فُرَادَى وَجَبَ أَنْ تَكُونَ النَّوَافِلُ الَّتِي سُنَّ لَهَا الْجَمَاعَةُ أَفْضَلَ مِنَ النَّوَافِلِ الَّتِي لَمْ تُسَنَّ فِي جَمَاعَةٍ . فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْمَسْنُونَ فِي جَمَاعَةٍ أَفْضَلُ وَآكَدُ فَفِيهَا لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ لِقُوَّةِ سَبَبِهَا ، وَظُهُورِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ بِهَا ، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَسْتَوِي حُكْمُ جَمِيعِهَا فِي الْفَضْلِ وَلَيْسَ بَعْضُهَا أَوْكَدَ مِنْ بَعْضٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ ؟ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ فَجَعَلَ مَا سِوَى الْخَمْسِ تَطَوُّعًا ، فَعَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ فِيهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ جَمِيعَهَا فِي الْفَضْلِ سَوَاءٌ ، وَلَيْسَ بَعْضُهَا أَوَكْدَ مِنْ بَعْضٍ لِاسْتِوَاءِ أَمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَفِعْلِهِ لَهَا ، وَحَمْلِهِ عَلَيْهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَظْهَرُ أَنَّ بَعْضَهَا أَوْكَدُ مِنْ بَعْضٍ : لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَا سُنَّ فِعْلُهُ مُفْرَدًا بَعْضُهُ أَوْكَدُ مِنْ بَعْضٍ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا سُنَّ فِي الْجَمَاعَةِ بَعْضُهُ أَوْكَدُ مِنْ بَعْضٍ ، فَعَلَى هَذَا
أَوْكَدُ ذَلِكَ صَلَاةُ الْعِيدَيْنِ : لِأَنَّ لَهَا وَقْتًا رَاتِبًا فِي السَّنَةِ مُعَيَّنًا فِي الْيَوْمِ ، فَشَابَهَتِ الْفَرَائِضَ ، ثُمَّ يَلِيهَا فِي التَّأْكِيدِ صَلَاةُ كُسُوفِ الشَّمْسِ ، ثُمَّ خُسُوفِ الْقَمَرِ : لِوُرُودِ الْقُرْآنِ بِهِمَا ، ثُمَّ يَلِي ذَلِكَ صَلَاةُ الِاسْتِسْقَاءِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا النَّوَافِلُ الَّتِي سُنَّ فِعْلُهَا مُنْفَرِدًا ، فَأَوْكَدُهَا صَلَاتَانِ : الْوِتْرُ وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ ، وَفِي أَوْكَدِهِمَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ رَكْعَتَا الْفَجْرِ أَوْكَدُ مِنَ الْوِتْرِ . وَالثَّانِي : هُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ : الْوِتْرُ أَوْكَدُ مِنْ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ . " وَوَجْهُ قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ أَنَّ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ أَوْكَدُ ؟ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا فَكَانَ ظَاهِرًا يَقْتَضِي تَفْضِيلَهَا عَلَى جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ ، لَكِنْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْفَرَائِضَ أَفْضَلُ . وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ حَثَّ عَلَيْهَا وَأَمَرَ بِفِعْلِهَا . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا تَتْرُكُوهَا وَلَوْ دَهَمْتُمُ الْخَيْلَ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ حِينَ نَامَ عَنِ الصَّلَاةِ حَتَّى طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ بِالْوَادِي خَرَجَ مِنْهُ ، فَابْتَدَأَ بِرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ ، وَقَدَّمَهَا عَلَى صَلَاةِ الْفَرْضِ . فَدَلَّ عَلَى تَأْكِيدِهَا ، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَوْتَرَ عَلَى رَاحِلَتِهِ ، وَلَمْ يُصَلِّ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ إِلَّا عَلَى الْأَرْضِ ، وَجَعَلَهَا فِي حَيِّزِ الْفَرْضِ ، فَدَلَّ عَلَى تَفْضِيلِهَا : وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ مَحْصُورَةٌ بِالْعَدَدِ لَا يُزَادُ عَلَيْهَا ، وَلَا يُنْقَصُ مِنْهَا ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ أَوْكَدَ مِنَ الْوِتْرِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا عَدَدٌ مَحْصُورٌ ، وَكَانَتْ أَوْكَدَ مِنَ النَّوَافِلِ الَّتِي لَهَا عَدَدٌ مَحْصُورٌ ، وَلِأَنَّ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ تَتْبَعُ الصُّبْحَ ، وَالْوِتْرَ يَتْبَعُ الْعِشَاءَ ، وَالصُّبْحُ أَوْكَدُ مِنَ الْعِشَاءِ لِأَنَّهَا صَلَاةُ الْوُسْطَى عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَتْبُوعُهَا أَوْكَدَ مِنْ مَتْبُوعِ الْعِشَاءِ . وَوَجْهُ قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ : أَنَّ الْوِتْرَ أَوْكَدُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى وُجُوبِهَا مِنَ الْأَخْبَارِ الْمُقَدَّمَةِ فِي صَدْرِ الْبَابِ ، وَلِأَنَّ الْوِتْرَ مَشْرُوعَةٌ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ مَأْخُوذَةٌ مِنْ فِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْكَدُ مِنْ فِعْلِهِ ، وَلِأَنَّ الْوِتْرَ مُخْتَلَفٌ فِي وُجُوبِهَا وَرَكْعَتِي الْفَجْرِ مُجْمَعٌ
عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مَا اخْتُلِفَ فِي وُجُوبِهِ أَوْكَدَ ، فَمَنْ قَالَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ
انْفَصَلَ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِأَنَّ الْوِتْرَ مَشْرُوعَةٌ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ مَأْخُوذَةٌ مِنْ فِعْلِهِ ، فَإِنْ قَالَ :
فِعْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَوَيَا عَلَى أَنَّا قَدْ رَوَيْنَا فِيهِ قَوْلًا وَلَمْ يَكُنْ لِهَذَا الِاسْتِدْلَالِ وَجْهٌ ، وَانْفَصَلَ عَنِ التَّرْجِيحِ بِالِاخْتِلَافِ فِي وُجُوبِهَا ، فَإِنْ قَالَ : قَدْ قَامَتِ الدَّلَالَةُ عِنْدَنَا عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ فَلَمْ يَصِحَّ التَّرْجِيحُ عَلَيْنَا بِمَذْهَبِ غَيْرِنَا .
فَصْلٌ : فَإِذَا أَوْضَحَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَوَجُّهِ الْقَوْلَيْنِ ، فَصَلَاةُ الْوِتْرِ مشروعيتها عَلَى قَوْلِهِ الْجَدِيدِ أَوْكَدُ مِنْ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ ، فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ : " وَيُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ صَلَاةُ التَّهَجُّدِ " فَلِأَصْحَابِنَا فِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ صَلَاةَ التَّهَجُّدِ هِيَ الْوِتْرُ نَفْسُهَا ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيُّ فِي " الْأُمِّ " وَقَالَ الْمُزَنِيُّ فِي " جَامِعِهِ الْكَبِيرِ " : وَأَوْكَدُ ذَلِكَ الْوِتْرُ ، وَيُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ هِيَ صَلَاةَ التَّهَجُّدِ . وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي : أَنَّ صَلَاةَ التَّهَجُّدِ غَيْرُ الْوِتْرِ ، وَهِيَ صَلَاةٌ يُصَلِّيهَا الْإِنْسَانُ فِي اللَّيْلِ وِرْدًا لَهُ . وَأَصْلُ التَّهَجُّدِ فِي اللِّسَانِ مِنَ الْأَضْدَادِ يُقَالُ : تَهَجَّدْتُ إِذَا نِمْتَ قَالَ لَبِيدٌ : قَدْ هَجَدْنَا فَقَدْ طَالَ السُّرَى وَقَدَرْنَا إِنْ خَنَا الدَّهْرُ غَفَلْ وَيُقَالُ : تَهَجَّدْتُ إِذَا سَهِرْتَ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ [ الْإِسْرَاءِ : ] . فَالتَّهَجُّدُ عَلَى هَذَا أَنْ يُصَلِّيَ وَقْتَ يَكُونُ النَّاسُ فِيهِ نِيَامًا ، فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ هَلْ تَكُونُ صَلَاةُ التَّهَجُّدِ عَلَى قَوْلِهِ الْجَدِيدِ أَوْكَدَ مِنْ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ صَلَاةَ التَّهَجُّدِ أَوْكَدُ ، لِأَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ قَدْ كَانَ نَائِبًا عَنِ الْفَرَائِضِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَوْكَدَ مِنْ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ الَّتِي لَمْ تَنُبْ عَنْ فَرْضٍ قَطُّ ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ " وَيُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ صَلَاةُ التَّهَجُّدِ " مَعْنَاهُ : وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي يَتْبَعُ الْوِتْرَ فِي التَّأْكِيدِ صَلَاةُ التَّهَجُّدِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَعَلَيْهِ أَصْحَابُنَا : أَنَّ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ أَوْكَدُ مِنْ صَلَاةِ التَّهَجُّدِ لِمَا تَقَدَّمَ . وَالدَّلِيلُ فِي تَأْكِيدِهَا عَلَى الْوِتْرِ ، فَأَمَّا مَا عَدَا الْوِتْرَ ، وَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ مِنَ النَّوَافِلِ الْمُوَظَّفَاتِ مِنَ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ ، فَقَدْ حَكَى الْبُوَيْطِيُّ ، عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الظُّهْرِ رَكْعَتَيْنِ ، وَبَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْعَصْرِ ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْعِشَاءِ ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا .
الْقَوْلُ فِي صَلَاةِ الضُّحَى
فَصْلٌ : الْقَوْلُ فِي صَلَاةِ الضُّحَى وَأَمَّا صَلَاةُ الضُّحَى حكمها ومشروعيتها فَسُنَّةٌ مُخْتَارَةٌ قَدْ فَعَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَاوَمَ عَلَيْهَا ، وَاقْتَدَى بِهِ السَّلَفُ فِيهَا ، وَرُوِيَ أَنَّ أَقَلَّ مَا كَانَ يُصَلِّيهَا أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ ، وَأَكْثَرَ مَا كَانَ يُصَلِّيهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَمَانِي رَكَعَاتٍ ، وَرُوِيَ