كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي
بَابُ مِيسَمِ الصَّدَقَاتِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : يَنْبَغِي لِوَالِي الصَّدَقَاتِ أَنْ يَسِمَ كُلَّ مَا أَخَذَ مِنْهَا مِنْ بَقَرٍ أَوْ إِبِلٍ فِي أَفْخَاذِهَا وَيَسِمَ الْغَنَمَ فِي أُصُولِ آذَانِهَا ، وَمِيسَمُ الْغَنَمِ أَلْطَفُ مِنْ مِيسَمِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ ، وَيَجْعَلَ الْمِيسَمَ مَكْتُوبًا للَّهِ ؛ لِأَنَّ مَالِكَهَا أَدَّاهَا لِلَّهِ تَعَالَى فَكَتَبَ لِلَّهِ ، وَمِيسَمُ الْجِزْيَةِ مُخَالِفٌ لِمِيسَمِ الصَّدَقَةِ : لِأَنَّهَا أُدِّيَتْ صِغَارًا لَا أَجْرَ لِصَاحِبِهَا فِيهَا ، وَكَذَلِكَ بَلَغَنَا عَنْ عُمَّالِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُمْ كَانُوا يَسِمُونَ وَقَالَ أَسْلَمُ لِعُمَرَ إِنَّ فِي الظَّهْرِ نَاقَةً عَمْيَاءَ ، فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " نَدْفَعُهَا إِلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَنْتَفِعُونَ بِهَا يُقَطِّرُونَهَا بِالْإِبِلِ . قَالَ قُلْتُ كَيْفَ تَأْكُلُ مِنَ الْأَرْضِ ؟ قَالَ عُمَرُ أَمِنْ نَعَمِ الْجِزْيَةِ أَوْ مِنْ نَعَمِ الصَّدَقَةِ ؟ قُلْتُ لَا ، بَلْ مِنْ نَعَمِ الْجِزْيَةِ . فَقَالَ عُمَرُ أَرَدْتُمْ وَاللَّهِ أَكْلَهَا ، فَقُلْتُ إِنَّ عَلَيْهَا مِيسَمَ الْجِزْيَةِ ، قَالَ فَأَمَرَ بِهَا عُمَرُ فَنُحِرَتْ ، قَالَ فَكَانَتْ عِنْدَهُ صِحَافٌ تِسْعٌ ، فَلَا تَكُونُ فَاكِهَةً وَلَا طَرِيفَةً إِلَّا وَجَعَلَ مِنْهَا فِي تِلْكَ الصِّحَافِ ، فِيَبعَثُ بِهَا إِلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَكُونُ الَّذِي يَبْعَثُ بِهِ إِلَى حَفْصَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مِنْ آخِرِ ذَلِكَ ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ نُقْصَانٌ كَانَ فِي حَظِّهَا ، قَالَ فَجَعَلَ فِي تِلْكَ الصِّحَافِ مِنْ لَحْمِ تِلْكَ الْجَزُورِ فَبَعَثَ بِهِ إِلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمَرَ بِمَا بَقِيَ مِنَ اللَّحْمِ فَصُنِعَ فَدَعَا عَلَيْهِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ . ( قَالَ ) وَلَا أَعْلَمُ فِي الْمِيسَمِ عِلَّةً إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَا أُخِذَ مِنَ الصَّدَقَةِ مَعْلُومًا ، فَلَا يَشْتَرِيهِ الَّذِي أَعْطَاهُ : لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْهُ لِلَّهِ كَمَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي فَرَسٍ حُمِلَ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَرَآهُ يُبَاعُ أَنْ لَا يَشْتَرِيَهُ ، وَكَمَا تَرَكَ الْمُهَاجِرُونَ نُزُولَ مَنَازِلِهِمْ بِمَكَّةَ لِأَنَّهُمْ تَرَكُوهَا لِلَّهِ تَعَالَى " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ الْمِيسَمُ عِنْدَنَا مُسْتَحَبٌّ فِي مَوَاشِي الزَّكَاةِ وَالْجِزْيَةِ ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ كَرَاهِيَتُهُ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ ، وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَسِمُ إِبِلَ الصَّدَقَةِ . وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى الْعَبَّاسَ وَهُوَ يَسِمُ إِبِلَهُ فِي وُجُوهِهَا فَقَالَ : يَا عَبَّاسُ ، لَا تَسِمْ فِي الْوَجْهِ ، فَقَالَ : الْعَبَّاسُ ، وَاللَّهِ لَا وَسَمْتُهَا بَعْدَ هَذَا إِلَّا فِي الْجَاعِرَتَيْنِ . وَرَوَى ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ مُسْعَدِ بْنِ نُقَادَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ نُقَادَةَ الْأَسَدِيِّ أَنَّهُ قَالَ :
يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنِّي رَجُلٌ مُغَفَّلٌ فَأَيْنَ أَسِمُ ؟ قَالَ : فِي مَوْضِعِ الْجِرْمِ مِنَ السَّالِفَةِ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، اطْلُبْ لِي طِلْبَةً ، قَالَ : ابْغِنِي حَلْبَانَةً رَكْبَانَةً غَيْرَ أَلَّا تُولَدَ ذَاتَ وَلَدٍ عَنْ وَلَدِهَا . الْمُغَفَّلُ : صَاحِبُ الْإِبِلِ الْغُفْلِ الَّتِي لَا سِمَةَ عَلَيْهَا ، وَالْجِرْمُ : الزِّمَامُ . وَالسَّالِفَةُ : مُقَدَّمُ صَفْحَةِ الْعُنُقِ ، وَالْحَلْبَانَةُ : ذَاتُ لَبَنٍ يُحْلَبُ ، وَالرَّكْبَانَةُ : ذَاتُ ظَهْرٍ يُرْكَبُ . وَرَوَى زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ : إِنَّ فِي الظَّهْرِ نَاقَةً عَمْيَاءَ ، فَقَالَ عُمَرُ ادْفَعْهَا إِلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَنْتَفِعُونَ بِهَا يَقْطُرُونَهَا بِالْإِبِلِ ، قُلْتُ : فَكَيْفَ تَأْكُلُ مِنَ الْأَرْضِ ، قَالَ عُمَرُ : مِنْ نَعَمِ الْجِزْيَةِ أَمْ مِنْ نَعَمِ الصَّدَقَةِ ؟ فَقُلْتُ : الْإِبِلُ هِيَ مِنْ نَعَمِ الْجِزْيَةِ ، فَقَالَ : عُمَرُ أَرَدْتُمْ وَاللَّهِ أَكْلَهَا ، فَقُلْتُ : إِنَّ عَلَيْهَا وَسْمَ الْجِزْيَةِ ، قَالَ : فَأَمَرَ بِهَا فَنُحِرَتْ . . . الْحَدِيثَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمِيسَمَ فِعْلُ الْأَئِمَّةِ وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ ، وَلِأَنَّ بِهِ تَمْتَازُ الْأَمْوَالُ مَعَ تَمَيُّزِ مُسْتَحِقِّهَا ، وَلِيَكُونَ إِذَا ضَلَّتْ سَبَبًا لِرَدِّهَا ، فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْوَسْمِ ، فَالْكَلَامُ فِيهِ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْمِيسَمُ مِنْهَا . وَالثَّانِي : فَالَّذِي يُكْتَبُ عَلَيْهِ . فَأَمَّا مَكَانُهُ فَهُوَ كُلُّ مَوْضِعٍ صَلُبَ مِنَ الْبَدَنِ وَقَلَّ شَعْرُهُ ، فَإِنْ كَانَ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ فَعَلَى أَفْخَاذِهَا ، وَإِنْ كَانَ فِي الْغَنَمِ فَعَلَى أُصُولِ آذَانِهَا وَيَكُونُ مِيسَمُ الْغَنَمِ أَلْطَفَ لِأَنَّهَا ضَعِيفَةٌ لَا تَصْبِرُ مِنَ الْأَلَمِ عَلَى مَا يَصْبِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهَا . فَأَمَّا مَا يُكْتَبُ فَإِنْ كَانَتْ مِنْ نَعَمِ الصَّدَقَةِ كَانَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَسْمَاءٍ ، إِمَّا أَنْ يَكْتُبَ عَلَيْهَا صَدَقَةً ، أَوْ طُهْرَةً ، أَوْ لِلَّهِ ، وَهَذَا أَحَبُّهَا إِلَى الشَّافِعِيِّ تَبَرُّكًا بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَاقْتِدَاءً بِالسَّلَفِ ، وَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْجِزْيَةِ كَانَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكْتُبَ جِزْيَةً ، أَوْ يَكْتُبَ صِغَارًا ، وَهَذَا اجْتِهَادُ الشَّافِعِيِّ اتِّبَاعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [ التَّوْبَةِ : 29 ] ، فَأَمَّا تَمْيِيزُهَا بِجَدْعِ الْأُنُوفِ وَقَطْعِ الْآذَانِ فَمَكْرُوهٌ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْمُثْلَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ الِاخْتِلَافِ فِي الْمُؤَلَّفَةِ
بَابُ الِاخْتِلَافِ فِي الْمُؤَلَّفَةِ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : " قَالَ بَعْضُ النَّاسِ لَا مُؤَلَّفَةَ . فَيَجْعَلُ سَهْمَهُمْ وَسَهْمَ سَبِيلِ اللَّهِ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ فِي ثُغُورِ الْمُسْلِمِينَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَتْ مَسَائِلُ هَذَا الْبَابِ مَشْرُوحَةً بِدَلَائِلِهَا ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَهُ الشَّافِعِيُّ مَقْصُورًا عَلَى ذِكْرِ الِاخْتِلَافِ فِيهَا وَالِاحْتِجَاجِ عَلَيْهَا فَاقْتَصَرْنَا مِنْهُ عَلَى الْإِشَارَةِ إِلَى تَفْصِيلِ مَا أَوْرَدَهُ ، فَمِنْ ذَلِكَ مَسْأَلَتَانِ قَدَّمَهُمَا فِي هَذَا الْفَصْلِ : إِحْدَاهُمَا : فِي سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ . وَالثَّانِيَةُ : فِي سَهْمِ سَبِيلِ اللَّهِ . فَأَمَّا سَهْمُ الْمُؤَلَّفَةِ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ أَسْقَطَهُ وَزَعَمَ أَنْ لَا مُؤَلَّفَةَ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُمْ بِقُوَّةِ الدِّينِ وَإِعْزَازِ الْمُسْلِمِينَ ، وَهُوَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ثَابِتٌ عَلَى الشَّرْحِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْبَتَ لَهُمْ فِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ سَهْمًا فَلَمْ يَجُزْ نَسْخُهُ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْوَحْيِ ، وَلِأَنَّ مَا بَقِيَ لِلْإِسْلَامِ أَعْدَاءٌ يَلْزَمُ جِهَادُهُمْ بَقِيَ مُؤَلَّفَةٌ يُتَأَلَّفُ قُلُوبُهُمْ كَالْعَصْرِ الْأَوَّلِ . وَأَمَّا سَهْمُ سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ زَعَمَ أَنَّهُ مَصْرُوفٌ مَعَ سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ فِي ثَغْرِ الْمُسْلِمِينَ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ مَصْرُوفٌ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْغُزَاةِ وَالْمُجَاهِدِينَ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ كُرَاعًا وَلَا سِلَاحًا لِمَنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ مِنْهُمْ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ مَالَ الصَّدَقَاتِ مَصْرُوفًا إِلَى مَالِكِينَ ، فَإِنْ تَعَيَّنَ الْغُزَاةُ الَّذِينَ يُعْطَوْنَ تِلْكَ الصَّدَقَاتِ وَاحْتَاجُوا إِلَى كُرَاعٍ وَسِلَاحٍ ، فَإِنْ كَانَ قَاسِمُ الصَّدَقَةِ رَبَّ الْمَالِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُمْ بِسَهْمِهِمْ كُرَاعًا وَسِلَاحًا وَدَفَعَ إِلَيْهِمْ عَيْنَ مَالِهِ لِيَتَوَلَّوْا بِأَنْفُسِهِمْ شِرَاءَ مَا احْتَاجُوا إِلَيْهِ مَنْ كُرَاعٍ وَسِلَاحٍ لِئَلَّا يَصِيرَ رَبُّ الْمَالِ دَافِعَهَا قِيمَةَ زَكَاةٍ ؛ إِذْ يَمْنَعُ الشَّافِعِيُّ مِنْهَا ، وَإِنْ كَانَ قَاسِمُ الصَّدَقَةِ وَالِيًا فَفِي جَوَازِ اتِّبَاعِهِ ذَلِكَ لَهُمْ وَجْهَانِ مَضَيَا .
فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَقَالَ بَعْضُهُمُ ابْنُ السَّبِيلِ مَنْ مَرَّ يُقَاسِمُ فِي الْبَلَدِ الَّذِي بِهِ الصَّدقَاتُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ ثَالِثَةٌ أَرَادَ بِهَا أَبَا حَنِيفَةَ ؛ حَيْثُ يَقُولُ إِنَّ ابْنَ السَّبِيلِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ سَهْمَهُ مِنَ الصَّدَقَاتِ هُوَ الْمُجْتَازُ بِبَلَدِ الصَّدَقَةِ دُونَ الْمُنْشِئِ لِسَفَرِهِ مِنْهُ لِيَكُونَ مَصْرُوفًا إِلَى مَنْ تَنَاوَلَهُ حَقِيقَةُ الِاسْمِ . وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ مَصْرُوفٌ إِلَى الْمُجْتَازِ وَالْمُنْشِئِ اعْتِبَارًا
بِالْعُمُومِ ، وَلِأَنَّ الْمُنْشِئَ جَارٌ لِلْمَالِ ، فَكَانَ أَوْلَى مِنَ الْمُجْتَازِ الْغَرِيبِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُعَانَ الْمُجْتَازُ عَلَى بَعْضِ سَفَرِهِ فَأَوْلَى أَنْ يُعَانَ الْمُنْشِئُ عَلَى جَمِيعِ سَفَرِهِ .
فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَقَالَ أَيْضًا حَيْثُ كَانَتِ الْحَاجَةُ أَكْثَرَ ، فَهِيَ وَاسِعَةٌ كَأَنَّهُ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّهُ فَوْضَى بَيْنَهُمْ يُقَسِّمُونَهُ عَلَى الْعَدَدِ وَالْحَاجَةِ : لِأَنَّ لِكُلِّ أَهْلِ صِنْفٍ مِنْهُمْ سَهْمًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ رَابِعَةٌ أَرَادَ بِهَا أَبَا حَنِيفَةَ ؛ حَيْثُ يَقُولُ : إِنَّ مَالَ الصَّدَقَاتِ لَا يَلْزَمُ صَرْفُهُ فِي جَمِيعِ الْأَصْنَافِ ، وَلَكِنْ يَصْرِفُ فِي أَمَسِّهِمْ حَاجَةً وَيَعْدِلُ عَنِ الْبَاقِينَ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهُ يَصْرِفُ فِي جَمِيعِ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ الْمُسَمَّاةِ فِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى لِكُلِّ صِنْفٍ مِنْهُمْ حَقًّا ، فَلَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ عَنْ بَعْضِهِمْ كَمَا لَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ عَنْ جَمِيعِهِمْ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ عَطَايَا الْآدَمِيِّينَ مِنَ الْوَصَايَا إِذَا سَمَّى فِيهَا أَصْنَافًا لَمْ يَجُزِ الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِهَا كَانَتْ عَطَايَا اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَتِ الْحَاجَةُ مُعْتَبَرَةً لَبَطَلَ حُكْمُ التَّصَرُّفِ وَالتَّسْمِيَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ إِذَا تَمَاسَكَ أَهْلُ الصَّدَقَةِ وَأَجْدَبَ آخَرُونَ نُقِلَتْ إِلَى الْمُجدِبِينَ إِذَا كَانُوا يُخَافُ عَلَيْهِمُ الْمَوْتُ كَأَنَّهُ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ هَذَا مَالٌ مِنْ مَالِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْهُ لِأَهْلِ السُّهْمَانِ لِمَعْنَى صَلَاحِ عِبَادِ اللَّهِ عَلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ خَامِسَةٌ أَرَادَ بِهَا أَبَا حَنِيفَةَ ، فَإِنَّهُ جَوَّزَ نَقْلَ الصَّدَقَةِ عَنْ بَلَدِ الْمَالِ إِلَى غَيْرِهِ بِحَسَبِ مَا يُؤَدِّي اجْتِهَادُ الْإِمَامِ إِلَيْهِ فِي شِدَّةِ الْحَاجَةِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَقْلُ الصَّدَقَةِ عَنْ بَلَدِ الْمَالِ إِلَى غَيْرِهِ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ نَقَلَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ وَالزِّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ صَدَقَاتِ قَومِهِمَا إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالْمَدِينَةِ ، قِيلَ أَجَابَ الشَّافِعِيُّ عَنْهُ بِأَرْبَعَةِ أَجْوِبَةٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَقَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ مَا فَضَلَ مِنِ جِيرَانِ الْمَالِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ كَانَ مَنْ بِالْمَدِينَةِ أَقْرَبَ النَّاسِ بِهِمْ نَسَبًا وَدَارًا فَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَنْ حَوْلَهُمُ ارْتَدُّوا : لِأَنَّهُ كَانَ وَقْتَ الرِّدَّةِ فَلَمْ يَسْتَحِقُّوهَا مَعَ الرِّدَّةِ فَنُقِلَتْ إِلَى الْمَدِينَةِ . وَالرَّابِعُ : أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ حُمِلَتْ إِلَى أَبِي بَكْرٍ إِظْهَارًا لِطَاعَتِهِ : لِأَنَّ النَّاسَ قَدْ كَانُوا مَنَعُوا الزَّكَاةَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ، فَلَمَّا أَظْهَرُوا الطَّاعَةَ بِنَقْلِ الزَّكَاةِ رَدَّهَا عَلَيْهِمْ لِيَتَوَلَّوْا قَسْمَهَا فِي جِيرَانِهِمْ .
فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَأَحْسَبُهُ يَقُولُ وَتُنْقَلُ سُهْمَانُ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ إِلَى أَهْلِ الْفَيْءِ إِنْ جَهِدُوا وَضَاقَ الْفَيْءُ وَيُنْقَلُ الْفَيْءُ إِلَى أَهْلِ الصَّدَقَاتِ إِنْ جَهِدُوا وَضَاقَتِ الصَّدَقَاتُ عَلَى مَعْنَى إِرَادَةِ صَلَاحِ عِبَادِ اللَّهِ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَإِنَّمَا قُلْتُ بِخِلَافِ هَذَا الْقَوْلِ لِأَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَزَّ -
جَعَلَ الْمَالَ قِسْمَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي قَسْمِ الصَّدَقَاتِ الَّتِي هِيَ طُهْرَةٌ فَسَمَّاهَا اللَّهُ لِثَمَانِيَةِ أَصْنَافٍ وَوَكَّدَهَا ، وَجَاءَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنْ تُؤْخَذَ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ لَا فُقَرَاءِ غَيْرِهِمْ ، وَلِغَيْرِهِمْ فُقَرَاءُ ، فَلَا يَجُوزُ فِيهَا عِنْدِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا غَيْرُ مَا قُلْتُ مِنْ أَلَّا تُنْقَلَ عَنْ قَوْمٍ وَفِيهِمْ مَنْ يَسْتَحِقُّهَا وَلَا يُخْرَقُ سَهْمُ ذِي سَهْمٍ مِنْهُمْ إِلَى غَيْرِهِ وَهُوَ يَستَحِقُّهُ ، وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُسَمِّيَ اللَّهُ تَعَالَى أَصْنَافًا فَيَكُونُوا مَوْجُودِينَ مَعًا فَيُعْطِي أَحَدًا سَهْمَهُ وَسَهْمَ غَيْرِهِ ، وَلَوْ جَازَ هَذَا عِنْدِي جَازَ أَنْ يَجْعَلَ فِي سَهْمٍ وَاحِدٍ جَمِيعَ سِهَامِ سَبْعَةٍ مَا فُرِضَ لَهُمْ ، وَيُعْطَى وَاحِدٌ مَا لَمْ يُفْرَضْ لَهُ ، وَالَّذِي يُخَالِفُنَا يَقُولُ لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِهِ لِفُقَرَاءِ بَنِي فُلَانٍ وَغَارِمِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلٍ آخَرَ وَبَنِي سَبِيلٍ وبَنِي فُلَانٍ رَجُلٍ آخَرَ . إِنَّ كُلَّ صِنْفٍ مِنْ هَؤُلَاءِ يُعْطَوْنَ مِنْ ثُلُثِهِ ، وَأَنْ لَيْسَ لِوَصِيٍّ وَلَا وَالٍ أَنْ يُعْطِيَ الثُّلُثَ صِنْفًا دُونَ صِنْفٍ وَإِنْ كَانَ أَحْوَجَ وَأَفْقَرَ مِنْ صِنْفٍ : لِأَنَّ كُلًّا ذُو حَقٍّ بِمَا سُمِّيَ لَهُ . وَإِذَا كَانَ هَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ قَائِلِ هَذَا الْقَوْلِ فِيمَا أُعْطِيَ الْآدَمِيُّونَ أَنْ لَا يَجُوزَ أَنْ يَمْضِيَ إِلَّا عَلَى مَا أُعْطُوا ، فَعَطَاءُ اللَّهِ أَوْلَى أَلَّا يَجُوزَ أَنْ يَمْضِيَ إِلَّا عَلَى مَا أَعْطَى . ( قَالَ ) وَإِذَا قَسَمَ اللَّهُ الْفَيْءَ وَسَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ لِمَنْ أَوْجَفَ عَلَى الْغَنِيمَةِ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ ، وَلَمْ نَعْلَمْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَضَّلَ ذَا غَنَاءٍ عَلَى مَنْ دُونَهُ وَلَمْ يُفَضِّلِ الْمُسْلِمُونَ الْفَارِسَ أَعْظَمَ النَّاسِ غَنَاءً عَلَى جَبَانٍ فِي الْقَسْمِ ، وَكَيْفَ جَازَ لِمُخَالِفِنَا فِي قَسْمِ الصَّدَقَاتِ وَقَدْ قَسَمَهَا اللَّهُ تَعَالَى أَمِينِ الْقَسْمِ بَعْضًا دُونَ بَعْضٍ وَيَنْقُلُهَا عَنْ أَهْلِهَا الْمُحْتَاجِينَ إِلَيْهَا إِلَى غَيْرِهِمْ ؛ لِأَنْ كَانُوا أَحْوَجَ مِنْهُمْ ، أَوْ يُشْرِكَهُمْ مَعَهُمْ ، أَوْ يَنْقُلَهَا عَنْ صِنْفٍ مِنْهُمْ إِلَى صِنْفٍ غَيْرِهِ ، ( أَرَأَيْتَ ) لَوْ قَالَ قَائِلٌ لِقَوْمٍ أَهْلِ غَزْوٍ كَثِيرٍ أَوجِفُوا عَلَى عَدُوٍّ أَنْتُمْ أَغْنِيَاءُ ، فَآخُذُ مَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ فَأُقَسِّمُهُ عَلَى أَهْلِ الصَّدَقَاتِ الْمُحْتَاجِينَ إِذَا كَانَ عَامًا سَنَةً لِأَنَّهُمْ مِنْ عِيَالِ اللَّهِ تَعَالَى ، هَلِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ ، إِلَّا أَنَّ مَنْ قَسَمَ اللَّهُ لَهُ بِحَقٍّ فَهُوَ أَوْلَى بِهِ وَإِنْ كَانَ مَنْ لَمْ يَقْسِمْ لَهُ أَحْوَجَ مِنْهُ ؟ وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ فِي أَهْلِ الصَّدَقَاتِ ، وَهَكَذَا لِأَهْلِ الْمَوَارِيثِ لَا يُعْطَى أَحَدٌ مِنْهُمْ سَهْمَ غَيْرِهِ وَلَا يُمْنَعُ مِنْ سَهْمِهِ لِفَقْرٍ وَلَا لِغِنًى ، وَقَضَى مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَيُّمَا رَجُلٍ انْتَقَلَ مِنْ مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ إِلَى غَيْرِ مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ فَعُشْرُهُ وَصَدَقَتُهُ إِلَى مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ . فَفِي هَذَا مَعْنَيَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ جَعَلَ صَدَقَتَهُ وَعُشْرَهُ لِأَهْلِ مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ ، لَمْ يَقُلْ لِقَرَابَتِهِ دُونَ أَهْلِ الْمِخْلَافِ ، وَالْآخَرُ أنَهُ رَأَى أَنَّ الصَّدَقَةَ إِذَا ثَبَتَتْ لِأَهْلِ مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ لَمْ تُحَوَّلْ عَنْهُمْ صَدَقَتُهُ وَعُشْرُهُ بِتَحَوُّلِهِ عَنْهُمْ وَكَانَتْ كَمَا يَثْبُتُ بَدْءًا ، فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ جَاءَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِصَدَقَاتٍ وَالزِّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ ، فَهُمَا وَإِنْ جَاءَا بِهَا فَقَدْ تَكُونُ فَضْلًا عَنْ أَهْلِهَا ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِالْمَدِينَةِ أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِمْ نَسَبًا وَدَارًا مِمَّنْ يَحْتَاجُ إِلَى سَعَةٍ مِنْ مُضَرَ وَطَيِّءٍ مِنَ الْيَمَنِ
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَنْ حَوْلَهُمُ ارْتَدُّوا فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهَا حَقٌّ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُؤْتَى بِهَا أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثُمَّ يَرُدَّهَا إِلَى غَيْرِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ خَبَرٌ عَنْ أَبِي بَكْرٍ نَصِيرُ إِلَيْهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَإِنَّهُ بَلَغَنَا أنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يُؤْتَى بِنَعَمٍ مِنَ الصَّدَقَةِ فَبِالْمَدِينَةِ صَدَقَاتُ النَّخْلِ وَالزَّرْعِ وَالنَّاسِ وَالْمَاشِيَةِ ، وَلِلْمَدِينَةِ سَاكِنٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ، وَحُلَفَاءُ لَهُمْ وَأَشْجَعُ وَجُهَيْنَةُ وَمُزَيْنَةُ بِهَا وَبِأَطْرَافِهَا وَغَيْرُهُمْ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ ، فَعِيَالُ سَاكِنِي الْمَدِينَةِ بِالْمَدِينَةِ ، وَعِيَالُ عَشَائِرِهِمْ وَجِيرَانِهِمْ وَقَدْ يَكُونُ عِيَالُ سَاكِنِي أَطْرَافِهَا بِهَا وَعِيَالُ جِيرَانِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ فَيُؤْتَوْنَ بِهَا وَتَكُونُ مَجْمَعًا لِأَهْلِ السُّهْمَانِ كَمَا تَكُونُ الْمِيَاهُ وَالْقُرَى مَجْمَعًا لِأَهْلِ السُّهْمَانِ مِنَ الْعَرَبِ ، وَلَعَلَّهُمُ اسْتَغْنَوْا فَنَقَلَهَا إِلَى أَقْرَبِ النَّاسِ بِهِمْ وَكَانُوا بِالْمَدِينَةِ ، ( فَإِنْ قِيلَ ) فَإِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَحْمِلُ عَلَى إِبِلٍ كَثِيرَةٍ إِلَى الشَّامِ وَالْعِرَاقِ ، فَإِنَّمَا هِيَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - مِنْ نَعَمِ الْجِزْيَةِ : لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَحْمِلُ عَلَى مَا يَحْتَمِلُ مِنَ الْإِبِلِ ، وَأَكْثَرُ فَرَائِضِ الْإِبِلِ لَا تَحْمِلُ أَحَدًا . وَقَدْ كَانَ يَبْعَثُ إِلَى عُمَرَ بِنَعَمِ الْجِزْيَةِ فَيَبْعَثُ فَيَبْتَاعُ بِهَا إِبِلًا جَلَّةً فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا ( وَقَالَ ) بَعْضُ النَّاسِ مِثْلَ قَوْلِنَا فِي أَنَّ مَا أُخِذَ مِنْهُمْ فَسَبِيلُهُ سَبِيلُ الصَّدَقَاتِ ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ سَادِسَةٌ أَرَادَ بِهَا أَهْلَ الْعِرَاقِ ، وَلَعَلَّ أَبَا حَنِيفَةَ مَعَهُمْ فَإِنَّهُمْ جَوَّزُوا نَقْلَ الصَّدَقَاتِ إِلَى أَهْلِ الْفَيْءِ وَنَقْلَ الْفَيْءِ إِلَى أَهْلِ الصَّدَقَاتِ اعْتِبَارًا بِشِدَّةِ الْحَاجَةِ ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ النَّقْلِ هَلْ يُقْضَى مَنْ نُقِلَ عَنْهُ سَهْمُهُ إِذَا اتَّسَعَ مَالُ الْمَنْقُولِ إِلَيْهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ الْقَضَاءَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَسْقَطَهُ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ نَقْلُ الصَّدَقَةِ إِلَى أَهْلِ الْفَيْءِ وَإِنْ جَهِدُوا ، وَلَا نَقْلُ الْفَيْءِ إِلَى أَهْلِ الصَّدَقَاتِ وَإِنْ جَهِدُوا . وَيُقَسَّمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْحَالَيْنِ فِي أَهْلِهِ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى لِكُلِّ مَالٍ مَالِكًا ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْدَلَ بِهِ عَنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْطَالِ النَّصِّ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْدَلَ بِالْغَنِيمَةِ عَمَّنْ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا انْقِيَادًا لِحُكْمِ النَّصِّ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمْ أَشَدَّ ضَرُورَةً وَأَمَسَّ حَاجَةً لَمْ يَجُزْ فِي مَالِ الْفَيْءِ وَالصَّدَقَاتِ أَنْ يُعْدَلَ بِهِ عَنْ حُكْمِ النَّصِّ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ عَطَايَا الْآدَمِيِّينَ مِنَ الْوَصَايَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْدَلَ بِهَا عَمَّنْ سُمِّيَتْ لَهُ فَعَطَايَا اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْدَلَ بِالْمَوَارِيثِ عَمَّنْ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مَنْ هُوَ آثَرُ وَأَحْوَجُ ، فَكَذَلِكَ مَالُ الْفَيْءِ وَالصَّدَقَاتِ ، وَلِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَسِمُ إِبِلَ الصَّدَقَةِ مِيسَمًا وَإِبِلَ الْجِزْيَةِ مِيسَمًا ؛ فَلَوْلَا تَمَيُّزُ الْمُسْتَحَقِّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمِثَالَيْنِ لَمَا مَيَّزَ بِالْمِيسَمِ . فَإِنْ قِيلَ : فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَحْمِلُ عَلَى إِبِلٍ كَثِيرَةٍ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ إِلَى الشَّامِ وَالْعِرَاقِ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ دَفْعِ الصَّدَقَةِ إِلَى أَهْلِ الْفَيْءِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ جَوَابًا عَنْ هَذَا : إِنَّ عُمَرَ إِنَّمَا كَانَ يَحْمِلُ عَلَى إِبِلِ الْجِزْيَةِ لَا عَلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ : لِأَنَّ أَكْثَرَ فَرَائِضِ الْإِبِلِ فِي الصَّدَقَاتِ لَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يُبْعَثُ إِلَيْهِ بِنَعَمِ الْجِزْيَةِ فَيَبْعَثُ بِهَا فَيَبْتَاعُ بِهَا إِبِلًا يَحْمِلُ عَلَيْهَا .
فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَقَالُوا وَالرَّكَازُ سَبِيلُ الصَّدَقَاتِ وَرَوَوْا مَا رُوِّينَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : وَفِي الرَّكَازِ الْخُمُسُ وَقَالَ : الْمَعَادِنُ مِنَ الرِّكَازِ وَكُلُّ مَا أُصِيبَ مِنْ دَفْنِ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ رِكَازٌ ، ثُمَّ عَادَ لَمَّا شَدَّدَ فِيهِ فَأَبْطَلَهُ فَزَعَمَ أَنَّهُ إِذَا وَجَدَ رِكَازًا فَوَسَّعَ لَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وبَينَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَكْتُمَهُ ، وَلِلْوَالِي أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِ بَعْدَمَا يَأْخُذُهُ مِنْهُ أَوْ يَدَعُهُ لَهُ فَقَدْ أَبْطَلَ بِهَذَا الْقَوْلِ السُّنَّةَ فِي أَخْذِهِ ، وَحَقَّ اللَّهِ فِي قَسْمِهِ لِمَنْ جَعَلَهُ اللَّهُ لَهُ ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ جَازَ فِي جَمِيعِ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ لِمَنْ جَعَلَهُ لَهُ ( قَالَ ) فَإِنَّا رَوَيْنَا عَنِ الشِّعْبِيِّ أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ أَرْبَعَةَ أَوْ خَمْسَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ ، فَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : لِأَقْضِيَنَّ فِيهَا قَضَاءً بَيِّنًا : أَمَّا أَرْبَعَةُ أَخْمَاسٍ فَلَكَ وَخُمُسٌ لِلْمُسْلِمِينَ ، ثُمَّ قَالَ الْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكَ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - : فَهَذَا الْحَدِيثُ يَنْقُضُ بَعْضُهُ بَعْضًا : إِذْ زَعَمَ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ : وَالْخُمُسُ لِلْمُسْلِمِينَ ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَرَى لِلْمُسْلِمِينَ فِي مَالِ رَجُلٍ شَيْئًا ثُمَّ يَرُدَّهُ عَلَيْهِ أَوْ يَدَعَهُ لَهُ ؟ ! وَهَذَا عَنْ عَلِيٍّ مُسْتَنْكَرٌ ، وَقَدْ رَوَوْا عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِإِسْنَادٍ مَوْصُولٍ أَنَّهُ قَالَ : أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لَكَ ، وَاقْسِمِ الْخُمُسَ فِي فُقَرَاءِ أَهْلِكَ . فَهَذَا الْحَدِيثُ أَشْبَهُ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ، لَعَلَّ عَلِيًّا عَلِمَهُ أَمِينًا وَعَلِمَ فِي أَهْلِهِ فُقَرَاءَ مِنْ أَهْلِ السُّهْمَانِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَقْسِمَهُ فِيهِمْ ، ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - : وَهُمْ يُخَالِفُونَ مَا رَوَوْا عَنِ الشِّعْبِيِّ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُمْ يَزعُمُونَ أَنَّ مَنْ كَانَتْ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَلَيْسَ لِلْوَالِي أَنْ يُعْطِيَهُ وَلَا لَهُ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنَ السُّهْمَانَ الْمَقْسُومَةِ بَيْنَ مَنْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى وَلَا مِنَ الصَّدَقَاتِ تَطَوُّعًا ، وَالَّذِي يَزعُمُونَ أَنَّ عَلِيًّا تَرَكَ لَهُ خُمُسَ رِكَازِهِ رَجُلٌ لَهُ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ وَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَا سِوَاهَا ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ إِذَا أَخَذَ الْوَالِي مِنْهُ وَاجِبًا فِي مَالِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَعُودَ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى أَحَدٍ يَعُولُهُ ، وَيَزْعُمُونَ أَنْ لَوْ وَلِيَهَا هُوَ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَبْسُهَا وَلَا دَفْعُهَا إِلَى أَحَدٍ يَعُولُهُ . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَكْتُمَهَا وَلِلْوَالِي أَنْ يَرُدَّهَا إِلَيْهِ فَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ عَلَيْهِ ، وَتَرْكُهَا وَأَخْذُهَا سَوَاءٌ . وَقَدْ أَبْطَلُوا بِهَذَا الْقَوْلِ السُّنَّةَ فِي أَنَّ فِي الرِّكَازِ الْخُمُسَ وَأَبْطَلُوا حَقَّ مَنْ قَسَمَ اللَّهُ لَهُ مِنْ أَهْلِ السُّهْمَانِ الثَّمَانِيَةِ ، فَإِنْ قَالَ لَا يَصْلُحُ هَذَا إِلَّا فِي الرِّكَازِ ، قِيلَ : فَإِنْ قِيلَ لَكَ لَا يَصْلُحُ فِي الرِّكَازِ وَيَصْلُحُ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ صَدَقَةٍ وَمَاشِيَةٍ وَعُشْرِ زَرْعٍ وَوَرِقٍ ، فَمَا الْحُجَّةُ عَلَيْهِ إِلَّا كَهِيَ عَلَيْكَ ؟ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ تَعَالَى أَعْلَمُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ سَابِقَةٌ أَرَادَ بِهَا أَبَا حَنِيفَةَ ، فَإِنَّهُ جَعَلَ فِي الرِّكَازِ الْخُمُسَ لِلْخَبَرِ الْمَرْوِيِّ فِيهِ ، ثُمَّ نَاقَضَ فِي قَوْلِهِ بَعْدَ وُجُوبِ الْخُمُسِ فِيهِ ، فَجَعَلَ وَاجِدَ الرَّكَازِ مُخَيَّرًا بَيْنَ إِظْهَارِهِ لِلْإِمَامِ وَبَيْنَ كَتْمِهِ ، ثُمَّ جَعَلَ لِلْإِمَامِ إِذَا ظَهَرَ لَهُ الرِّكَازُ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَخْذِ خُمُسِهِ مِنْهُ وَبَيْنَ رَدِّهِ عَلَيْهِ ، وَعَوَّلَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ ضَعِيفٌ رَوَاهُ الشِّعْبِيُّ مُنْقَطِعًا : أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ أَرْبَعَةَ أَوْ خَمْسَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ ، فَقَالَ عَلِيٌّ : لِأَقْضِيَنَّ فِيهَا قَضَاءً بَيِّنًا ، أَمَّا أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ فَلَكَ وَخُمُسٌ لِلْمُسْلِمِينَ ، ثُمَّ
قَالَ : وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكَ . وَهَذَا خَطَأٌ ، بَلِ الْخُمُسُ مُسْتَحَقٌّ لِأَهْلِ الصَّدَقَاتِ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : فِي الرَّكَائِزِ الْخُمُسُ ، وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا ، فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ أَوْ غَيْرَ وَاجِبٍ فَلَا يَجُوزُ أَخْذُهُ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ غَنِيًّا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَبْسُ الْخُمُسِ عَلَى نَفْسِهِ بِوِفَاقِ أَبِي حَنِيفَةَ ، فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ فَقِيرًا كَالْعُشْرِ . فَأَمَّا حَدِيثُ الشِّعْبِيِّ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : بَعْضُهُ يَنْقُضُ بَعْضًا ؛ إِذْ زَعَمَ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ : إِنَّ الْخُمُسَ لِلْمُسْلِمِينَ . فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَرَى لِلْمُسْلِمِينَ فِي مَالِ رَجُلٍ شَيْئًا ثُمَّ يَرُدُّهُ عَلَيْهِ ؟ ! وَهَذَا عَنْ عَلِيٍّ مُسْتَنْكَرٌ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِإِسْنَادٍ مَوْصُولٍ أَنَّهُ قَالَ : أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لَكَ وَاقْسِمِ الْخُمُسَ فِي فُقَرَاءِ أَهْلِكَ . وَهَلِ الْحَدِيثُ أَشْبَهُ بِعَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِمَّا رَوَاهُ الشِّعْبِيُّ ؟ وَلِأَنَّ رَدَّ الصَّدَقَةِ عَلَى الْفَيْءِ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ ، وَمَنْ وَجَدَ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ كَانَ غَنِيًّا عِنْدَهُ بِبَعْضِهَا ، وَلَعَلَّهُ قَدْ كَانَ يَمْلِكُ غَيْرَهَا ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ صَدَقَةً هُوَ عِنْدَهُ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لَهَا ، وَلَوْ جَازَ مِثْلُ هَذَا فِي الرِّكَازِ لَجَازَ فِي غَيْرِهِ مِنَ الصَّدَقَاتِ ، فَدَلَّ عَلَى فَسَادِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ وَتَنَاقُضِ مَا عَوَّلَ عَلَيْهِ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ وَهُوَ الْهَادِي إِلَى سَوَاءِ الطَّرِيقِ . تَمَّ كِتَابُ الصَّدَقَاتِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا وَصَلَوَاتُهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ ، يَتْلُوهُ بِحَوْلِ اللَّهِ وَعَوْنِهِ كِتَابُ النِّكَاحِ ، وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ .
_____مُخْتَصَرٌ فِي النِّكَاحِ الْجَامِعِ مِنْ كِتَابِ النِّكَاحِ _____
إباحة النكاح نصا في الكتاب والسنة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مُخْتَصَرٌ فِي النِّكَاحِ الْجَامِعِ مِنْ كِتَابِ النِّكَاحِ أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى النِّكَاحَ نَصًّا فِي كِتَابِهِ ، وَصَرِيحًا فِي سُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَانْعَقَدَ بِهَا سَالِفُ إِجْمَاعِ الْأُمَّةِ ، وَتَأَكَّدَ بِهَا سَالِفُ الْعِتْرَةِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً [ النِّسَاءِ : 1 ] قَوْلُهُ : مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ يَعْنِي آدَمَ . وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا يَعْنِي حَوَّاءَ : لِأَنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ حَيٍّ ، وَقِيلَ : لِأَنَّهَا مِنْ ضِلْعٍ أَيْسَرَ . وَقَالَ الضَّحَّاكُ : خَلَقَهَا مِنْ ضِلْعِ الْخَلْفِ وَهُوَ مِنْ أَسْفَلِ الْأَضْلَاعِ ، وَلِذَلِكَ قِيلَ لِلْمَرْأَةِ : ضِلْعٌ أَعْوَجُ ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : خُلِقَتِ الْمَرْأَةُ مِنَ الرَّجُلِ فَهَمُّهَا فِي الرَّجُلِ ، وَخُلِقَ الرَّجُلُ مِنَ التُّرَابِ فَهَمُّهُ فِي التُّرَابِ . وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا [ الرُّومِ : 21 ] فِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا حَوَّاءُ خَلَقَهَا مِنْ ضِلْعِ آدَمَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ خَلَقَ سَائِرَ الْأَزْوَاجِ مِنْ أَمْثَالِهِمْ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ لِيَسْتَأْنِسُوا إِلَيْهَا : لِأَنَّهُ جَعَلَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِنَ الْأَنَسَةِ مَا لَمْ يَجْعَلْ مِنْ غَيْرِهِمَا . وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [ الرُّومِ : 21 ] فِيهِمَا تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا الْمَوَدَّةُ وَالْمَحَبَّةُ وَالرَّحْمَةُ وَالشَّفَقَةُ ، قَالَهُ السُّدِّيُّ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمَوَدَّةَ الْجِمَاعُ ، وَالرَّحْمَةَ الْوَلَدُ ، قَالَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ . وَقَالَ تَعَالَى : وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا [ الْفُرْقَانِ : 154 ] يَعْنِي : الْمَاءَ النُّطْفَةَ ، وَالْبَشَرَ الْإِنْسَانَ .
وَالنَّسَبُ : مَنْ تَنَاسَبَ بِوَالِدٍ وَوَلَدٍ ، وَكُلُّ شَيْءٍ أَضَفْتَهُ إِلَى شَيْءٍ عَرَفْتَهُ بِهِ فَهُوَ مُنَاسَبُهُ ، وَفِي الصِّهْرِ هَاهُنَا تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ الرَّضَاعُ ، قَالَهُ طَاوُسٌ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ الْمَنَاكِحُ ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ . وَأَصْلُ الصِّهْرِ الِاخْتِلَاطُ ، فَسُمِّيَتِ الْمَنَاكِحُ صِهْرًا لِاخْتِلَاطِ النَّاسِ بِهَا ، وَقَالَ تَعَالَى : وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ [ النُّورِ : 32 ] الْآيَةُ ، وَالْأَيَامَى جَمْعُ أَيِّمٍ ، وَهِيَ الَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا ، وَمِنْهُ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْأَيْمَةِ يَعْنِي الْعُزْبَةَ . وَفِي هَذَا الْخِطَابِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ يُنْكِحُوا أَيَامَاهُنَّ مِنْ أَكْفَائِهِنَّ إِذَا دَعَوْنَ إِلَيْهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْأَزْوَاجِ أَنْ يَتَزَوَّجُوا الْأَيَامَى عِنْدَ الْحَاجَةِ . وَفِي قَوْلِهِ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ إِلَى النِّكَاحِ يُغْنِهِمُ اللَّهُ بِهِ عَنِ السِّفَاحِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ إِلَى الْمَالِ يُغْنِهِمُ اللَّهُ إِمَّا بِقَنَاعَةِ الصَّالِحِينَ ، وَإِمَّا بِاجْتِمَاعِ الرِّزْقَيْنِ إِلَيْهِ . رَوَى عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ دَاوُدَ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : اطْلُبُوا الْغِنَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ : إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [ النُّورِ : 32 ] . قَالَ تَعَالَى : كَبِيرًا وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ [ النِّسَاءِ : 3 ] وَفِي هَذَا الشَّرْطِ أَرْبَعُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا : يَعْنِي إِنْ خِفْتُمْ أَنْ لَا تَعْدِلُوا فِي نِكَاحِ الْيَتَامَى ، وَلَا تَخَافُونَ أَنْ لَا تَعْدِلُوا فِي النِّسَاءِ ، فَقَالَ : كَمَا خِفْتُمْ أَنْ لَا تَعْدِلُوا فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى ، فَهَكَذَا خَافُوا أَنْ لَا تَعْدِلُوا فِي النِّسَاءِ ، وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ . الثَّانِي : يَعْنِي إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فِي نِكَاحِ الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا حَلَّ لَكُمْ مِنْ غَيْرِهِنَّ مِنَ النِّسَاءِ . وَهُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا .
وَالثَّالِثُ : أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَقُّونَ أَمْوَالَ الْأَيْتَامِ وَلَا يَتَوَقُّونَ الزِّنَا ، فَقَالَ : كَمَا خِفْتُمْ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى فَخَافُوا الزِّنَا ، وَانْكِحُوا مَا حَلَّ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ . فَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ . وَالرَّابِعُ : أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا أَنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تُكْثِرُ التَّزْوِيجَ بِغَيْرِ عَدَدٍ مَحْصُورٍ ، فَإِذَا كَثُرَ عَلَى الْوَاحِدِ مِنْهُمْ مُؤَنُ زَوْجَاتِهِ ، وَقَلَّ مَا بِيَدِهِ مَدَّ يَدَهُ إِلَى مَا عِنْدَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ لِلْأَيْتَامِ ، فَقَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَةِ عَدَدَ الْمَنْكُوحَاتِ حَتَّى لَا يَتَجَاوَزَهُ فَيَحْتَاجُ إِلَى التَّعَدِّي فِي أَمْوَالِ الْأَيْتَامِ ، وَهَذَا قَوْلُ عِكْرِمَةَ . وَفِي قَوْلِهِ : فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى النِّكَاحِ ، وَتَقْدِيرُهُ : فَانْكِحُوا النِّسَاءَ نِكَاحًا طَيِّبًا ، يَعْنِي حَلَالًا . وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى النِّسَاءِ ، وَتَقْدِيرُهُ : فَانْكِحُوا مِنَ النِّسَاءِ مَا حَلَّ . وَهَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ . فَهَذَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَدَالٌّ عَلَى إِبَاحَةِ النِّكَاحِ . أَمَّا السُّنَّةُ فَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ . وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : تَنَاكَحُوا تَكَاثَرُوا فَإِنِّي أُبَاهِي بِكُمُ الْأُمَمَ حَتَى بِالسَّقْطِ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ أَحَبَّ فِطْرَتِي فَلْيَسْتَنَّ بِسُنَّتِي أَلَا وَهِيَ النِّكَاحُ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَكَّافِ بْنِ وَدَاعَةَ الْهِلَالِيِّ : أَتَزَوَّجْتَ ؟ قَالَ : لَا ، قَالَ : أَمِنْ إِخْوَانِ الشَّيَاطِينِ أَنْتَ إِنْ كُنْتَ مِنْ رُهْبَانِ النَّصَارَى فَالْحَقْ بِهِمْ ، وَإِنْ كُنْتَ مِنَّا فَمِنْ سُنَّتِنَا النِّكَاحُ . وَرُوِيَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَزَمُوا عَلَى جَبِّ أَنْفُسِهِمْ وَالتَّخَلِّي لِعِبَادَةِ رَبِّهِمْ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَهَاهُمْ وَقَالَ : لَا زِمَامَ وَلَا خِزَامَ وَلَا رَهْبَانِيَّةَ وَلَا سِيَاحَةَ وَلَا تَبَتُّلَ فِي الْإِسْلَامِ .
أَمَّا الزِّمَامُ وَالْخِزَامُ : فَهُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ زَمِّ الْأُنُوفِ ، وَخَزْمِ التُّرَابِيِّ ، وَأَمَّا الرَّهْبَانِيَّةُ فَهُوَ اجْتِنَابُ النِّسَاءِ وَتَرْكُ اللَّحْمِ . وَأَمَّا السِّيَاحَةُ : فَهِيَ تَرْكُ الْأَمْصَارِ وَلُزُومُ الصَّحَارِي . وَأَمَّا التَّبَتُّلُ : فَهُوَ الْوَحْدَةُ وَالِانْقِطَاعُ عَنِ النَّاسِ : وَلِأَنَّ سَائِرَ الْأُمَمِ عَلَيْهِ مُجْمِعَةٌ ، وَالضَّرُورَةُ إِلَيْهِ دَاعِيَةٌ لِمَا فِيهِ مِنْ غَضِّ الطَّرْفِ وَتَحْصِينِ الْفَرَجِ وَبَقَاءِ النَّسْلِ وَحِفْظِ النَّسَبِ . وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : كَانَتْ مَنَاكِحُ الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ : نِكَاحُ الرَّايَاتِ ، وَنِكَاحُ الرَّهْطِ ، وَنِكَاحُ الِاسْتِنْجَادِ ، وَنِكَاحُ الْوِلَادَةِ . فَأَمَّا نِكَاحُ الرَّايَاتِ حكمه : فَهُوَ أَنَّ الْعَاهِرَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَتْ تَنْصِبُ عَلَى بَابِهَا رَايَةً : لِيَعْلَمَ الْمَارُّ بِهَا عُهْرَهَا فَيَزْنِي بِهَا ، فَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ [ الْأَنْعَامِ : 120 ] تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ ظَاهِرَ الْإِثْمِ أُولَاتُ الرَّايَاتِ مِنَ الزَّوَانِي ، وَبَاطِنَهُ ذَوَاتُ الْأَخْدَانِ ( لِأَنَّهُنَّ كُنَّ يَسْتَحْلِلْنَهُ سِرًّا ) . وَهُوَ قَوْلُ السُّدِّيِّ وَالضَّحَّاكِ . وَالثَّانِي : أَنَّ ظَاهِرَهُ مَا حُظِرَ مِنْ نِكَاحِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ ، وَبَاطِنَهُ الزِّنَا . وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ . وَأَمَّا نِكَاحُ الرَّهْطِ حكمه : فَهُوَ أَنَّ الْقَبِيلَةَ أَوِ الْقَبَائِلَ كَانُوا يَشْتَرِكُونَ فِي إِصَابَةِ الْمَرْأَةِ ، فَإِذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ أُلْحِقَ بِأَشْبَهِهِمْ بِهِ . وَأَمَّا النِّكَاحُ الِاسْتِنْجَادُ حكمه : فَهُوَ أَنَّ الْمَرْأَةَ كَانَتْ إِذَا أَرَادَتْ وَلَدًا نَجْدًا تَحَسُّبًا ، بَذَلَتْ نَفْسَهَا لِنَجِيبِ كُلِّ قَبِيلَةٍ وَسَيِّدِهَا ، فَلَا تَلِدُ إِلَّا تَحَسُّبًا بِأَيِّهِمْ شَاءَتْ . وَأَمَّا نِكَاحُ الْوِلَادَةِ حكمه : فَهُوَ النِّكَاحُ الصَّحِيحُ الْمَقْصُودُ لِلتَّنَاسُلِ الَّذِي قَالَ فِيهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وُلِدْتُ مِنْ نِكَاحٍ لَا مِنْ سِفَاحٍ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَزَلْ يَنْقُلُ نَبِيَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنَ الْأَصْلَابِ الزَّاكِيَةِ إِلَى الْأَرْحَامِ الطَّاهِرَةِ ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ [ الشُّعَرَاءِ : 219 ] قَالَ : مِنْ نَبِيٍّ إِلَى نَبِيٍّ ، حَتَّى جَعَلَكَ نَبِيًّا ، وَكَانَ نُورُ النُّبُوَّةِ فِي أَيَّامِهِ ظَاهِرًا ، حَتَّى حُكِيَ أَنَّ كَاهِنَةً بِمَكَّةَ يُقَالُ لَهَا فَاطِمَةُ بِنْتُ الْهَرَمِ قَرَأَتِ الْكُتُبَ ، فَمَرَّ بِهَا عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَمَعَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ يُرِيدُ أَنْ يُزَوِّجَهُ آمِنَةَ بِنْتَ وَهْبٍ ، فَرَأَتْ نُورَ النُّبُوَّةِ فِي وَجْهِ عَبْدِ اللَّهِ ، فَقَالَتْ : هَلْ لَكَ أَنْ تَغْشَانِي وَتَأْخُذَ مِثْلَ الْإِبِلِ ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : أَمَّا الْحَرَامُ فَالْمَمَاتُ دُونَهُ وَالْحِلُّ لَا حِلَّ فَأَسْتَبِينُهُ
فَكَيْفَ بِالْأَمْرِ الَّذِي تَبْغِينَهُ يَحْمِي الْكَرِيمُ عِرْضَهُ وَدِينَهُ ؟ ! فَلَمَّا تَزَوَّجَ آمِنَةَ ، وَحَمَلَتْ مِنْهُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، مَرَّ فِي عَوْدِهِ بِفَاطِمَةَ ، فَقَالَ : هَلْ لَكِ فِيمَا قُلْتِ : قَدْ كَانَ مَرَّةً فَالْيَوْمَ لَا ، فَإِذَا سَبِعْتَ ، فَقَالَ : زَوَّجَنِي أَبِي بِآمِنَةَ بِنْتِ وَهْبٍ الزُّهْرِيَّةِ ، فَقَالَتْ : قَدْ أَخَذَتِ النُّورَ الَّذِي قَدْ كَانَ فِي وَجْهِكَ ، وَأَنْشَأَتْ تَقُولُ : إِنِّي رَأَيْتُ مَخِيلَةً نَشَأَتْ فَتَلَأْلَأَتْ بِحَنَاتِمِ الْقِطْرِ فَلَمَحْتُهَا نُورًا يُضِيءُ بِهِ مَا حَوْلَهُ كَإِضَاءَةِ الْفَجْرِ وَرَأَيْتُ سُقِيَاهَا حَيَّا بَلَدًا وَقَعَتْ بِهِ وَعِمَارَةُ الْقَفْرِ وَرَأَيْتُهُ شَرَفًا أَبُوءُ بِهِ مَا كُلُّ قَادِحِ زَنْدِهِ يُورِي لِلَّهِ مَا زُهْرِيَّةً سَلَبَتْ مِنْكَ الَّذِي اسْتَلَبَتْ وَمَا تَدْرِي
فَصْلٌ : فَأَمَّا اسْمُ النِّكَاحِ فَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْعَقْدِ ، فَجَازَ فِي الْوَطْءِ عِنْدَنَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْوَطْءِ ، فَجَازَ فِي الْعَقْدِ ، وَتَأْثِيرُ هَذَا الْخِلَافِ أَنَّ مَنْ جَعَلَ اسْمَ النِّكَاحِ حَقِيقَةَ الْوَطْءِ حَرَّمَ بِوَطْءِ الزِّنَا مَا حُرِّمَ بِالنِّكَاحِ ، وَمَنْ جَعَلَهُ حَقِيقَةً فِي الْعَقْدِ لَمْ يُحَرِّمْ بِوَطْءِ الزِّنَا مَا حُرِّمَ بِالنِّكَاحِ عَلَى مَا سَيَأْتِي شَرْحُهُ وَدَلِيلُهُ ، لَكِنَّ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ قِي الْعَقْدِ أَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى النِّكَاحَ فِي كِتَابِهِ ، فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْعَقْدَ دُونَ الْوَطْءِ : وَلِأَنَّ التَّزْوِيجَ لَمَّا كَانَ بِالْإِجْمَاعِ اسْمًا لِلْعَقْدِ حَقِيقَةً كَانَ النِّكَاحُ بِمَثَابَتِهِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمَعْنَى ، وَلِأَنَّ اسْتِعْمَالَ النِّكَاحِ فِي الْعَقْدِ أَكْثَرُ ، وَهُوَ بِهِ أَخَصُّ وَأَشْهَرُ وَهُوَ فِي أَشْعَارِ الْعَرَبِ أَظْهَرُ ، قَالَ الشَّاعِرُ : بَنُو دَارِمٍ أَكْفَاؤُهُمْ آلُ مِسْمَعٍ وَتَنْكِحُ فِي أَكْفَائِهَا الْحَبِطَاتُ
بَابُ مَا جَاءَ فِي أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَزْوَاجِهِ
بَابُ مَا جَاءَ فِي أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَزْوَاجِهِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " إِنَّ اللَّهَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - لِمَا خَصَّ بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَحْيِهِ ، وَأَبَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ بِمَا فَرَضَ عَلَيْهِمْ مِنْ طَاعَتِهِ ، افْتَرَضَ عَلَيْهِ أَشْيَاءَ خَفَّفَهَا عَنْ خَلْقِهِ : لِيَزِيدَهُ بِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ قُرْبَةً ، وَأَبَاحَ لَهُ أَشْيَاءَ حَظَرَهَا عَلَى خَلْقِهِ : زِيَادَةً فِي كَرَامَتِهِ وَتَبْيِينًا لِفَضِيلَتِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا فَصْلٌ نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ مَعَ بَقِيَّةِ الْبَابِ مِنْ " أَحْكَامِ الْقُرْآنِ " لِلشَّافِعِيِّ ، فَأَنْكَرَ بَعْضُ الْمُعْتَرِضِينَ عَلَيْهِ إِيرَادَ ذَلِكَ فِي مُخْتَصَرِهِ لِسُقُوطِ التَّكْلِيفِ عَنَّا فِيمَا خُصَّ بِهِ الرَّسُولُ في النكاح مِنْ تَخْفِيفٍ وَلِوَفَاةِ زَوْجَاتِهِ الْمَخْصُوصَاتِ بِالْأَحْكَامِ ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ إِلَّا التَّشَاغُلُ بِمَا لَا يَلْزَمُ عَمَّا يَجِبُ وَيَلْزَمُ ، فَصَوَّبَ أَصْحَابُنَا مَا أَوْرَدَهُ الْمُزَنِيُّ ، وَرَدُّوا عَلَى هَذَا الْمُعْتَرِضِ بِمَا ذَكَرُوهُ مِنْ فَرْضِ الْمُزَنِيِّ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَدَّمَ مَنَاكِحَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ : تَبَرُّكًا بِهَا ، وَالتَّبَرُّكُ فِي الْمَنَاكَحِ مَقْصُودٌ كَالتَّبَرُّكِ فِيهَا بِالْخُطَبِ . وَالثَّانِي : أَنَّ سَبْقَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْأُمَّةَ لَا تُسَاوِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُنَاكَحَتِهِ ، وَإِنْ سَاوَتْهُ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْأَحْكَامِ حَتَّى لَا يَقْدَمَ أَحَدٌ عَلَى مَا حُظِرَ عَلَيْهِ ، ابْتَدَأَ بِهِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لِمَا خَصَّ بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَحْيِهِ . فَفِيهِ رِوَايَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : لِمَا خَصَّ بِكَسْرِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ ، وَالْأُخْرَى : لَمَّا خَصَّ : بِفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ . فَمَنْ رَوَى بِكَسْرِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ حَمَلَهَا عَلَى مَعْنَى الشَّرْطِ ، وَجَعَلَ " مَا " بِمَعْنَى الَّذِي ، وَاللَّامَ قَبْلَهَا لِلْإِضَافَةِ ، فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لِأَجْلِ الَّذِي خَصَّ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من وحي الله تعالى مِنْ وَحْيِهِ . وَمَنْ رَوَى بِفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ حَمَلَهَا عَلَى مَعْنَى الْخَبَرِ وَجَعَلَ " مَا " بِمَعْنَى بَعْدَ فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَحْيِهِ . وَكِلَا الرِّوَايَتَيْنِ جَائِزَةٌ ، وَالْأُولَى أَظْهَرُ . وَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ جَعَلَ الشَّافِعِيُّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخْصُوصًا بِالْوَحْيِ ، وَقَدْ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ [ النِّسَاءِ : 163 ] فَعَنْ ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ خُصَّ بِالْوَحْيِ مِنْ بَيْنِ أَهْلِ عَصْرِهِ حَتَّى بُعِثَ رَسُولًا إِلَى جَمِيعِهِمْ فَكَانَ مَخْصُوصًا بِالْوَحْيِ مِنْ بَيْنِهِمْ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ خُصَّ بِانْتِهَاءِ الْوَحْيِ وَخَتْمِ النُّبُوَّةَ ، حَتَّى لَا يَنْزِلَ بَعْدَهُ وَحَيٌّ ، وَلَا يُبْعَثَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ ، فَصَارَ خَاتَمًا لِلنُّبُوَّةِ ، مَبْعُوثًا إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً ، حَتَّى بُعِثَ إِلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ . وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : إِلَى الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ ، وَالثَّانِي : إِلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ خُصَّ بِالْوَحْيِ الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ الْمُعْجِزُ الَّذِي يَبْقَى إِعْجَازُهُ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ ، وَيَعْجَزُ عَنْ مُعَارَضَتِهِ أَهْلُ كُلِّ عَصْرِهِ ، وَلَيْسَ فِيمَا أُوحِيَ إِلَى مَنْ قَبْلِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِعْجَازٌ يَبْقَى ، فَصَارَ بِهَذَا الْوَحْيِ مَخْصُوصًا .
فَصْلٌ : وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ : " وَأَبَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ بِمَا فَرَضَ عَلَيْهِمْ مِنْ طَاعَتِهِ " ، وَطَاعَةُ أُولِي الْأَمْرِ وَاجِبَةٌ لِوُجُوبِ طَاعَتِهِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [ النِّسَاءِ : 59 ] وَفِي أُولِي الْأَمْرِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : أَنَّهُمُ الْأُمَرَاءُ . وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي : هُمُ الْعُلَمَاءُ . وَهُوَ قَوْلُ جَابِرٍ . وَالثَّالِثُ : هُمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ . فَأَوْجَبَ طَاعَةَ أُولِي الْأَمْرِ كَمَا أَوْجَبَ طَاعَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَيْنَ مَوْضِعُ الْإِبَانَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ بِمَا فَرَضَ عَلَيْهِمْ مِنْ طَاعَتِهِ ؟ وَعَنْ ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ طَاعَةَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْ طَاعَةِ الرَّسُولِ لِتَبَايُنِهِمْ عَنْهُ ، وَقِيَامِهِمْ مَقَامَهُ ، فَصَارَ هُوَ الْمَخْصُوصَ بِهَا دُونَهُمْ . وَالثَّانِي : أَنَّ طَاعَةَ الرَّسُولِ وَاجِبَةٌ فِي أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا ، وَطَاعَةُ أُولِي الْأَمْرِ مُخْتَصَّةٌ بِأُمُورِ الدُّنْيَا دُونَ الدِّينِ ، فَتَمَيَّزَ عَنْهُمْ بِوُجُوبِ الطَّاعَةِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ طَاعَةَ الرَّسُولِ بَاقِيَةٌ فِي أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ ، وَطَاعَةَ أُولِي الْأَمْرِ مُخْتَصَّةٌ بِمُدَّةِ حَيَاتِهِمْ وَبَقَاءِ نَظَرِهِمْ ، فَكَانَ هَذَا مَوْضِعَ الْإِبَانَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ : " افْتَرَضَ عَلَيْهِ أَشْيَاءَ خَفَّفَهَا عَنْ خَلْقِهِ لِيَزِيدَهُ بِهَا - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - قُرْبَةً ، وَأَبَاحَ لَهُ أَشْيَاءَ حَظَرَهَا عَلَى خَلْقِهِ زِيَادَةً فِي كَرَامَتِهِ وَتَبْيِينًا لِفَضِيلَتِهِ " . وَهَذَا صَحِيحٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرِّسَالَةِ ، وَفَرَضَ الطَّاعَةَ : حَتَّى يُمَيَّزَ بِهِمَا عَلَى جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ ، وَمَيَّزَهُ عَنْهُمْ فِي أَحْكَامِ الدِّينِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تَغْلِيظٌ . وَالْآخَرُ : تَخْفِيفٌ . فَأَمَّا التَّغْلِيظُ : فَهُوَ أَنْ فَرْضُ عَلَيْهِ أَشْيَاءَ خَفَّفَهَا عَنْ خَلْقِهِ ، وَذَلِكَ لِأَمْرَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ أَقْوَمُ بِهَا مِنْهُمْ وَأَصْبِرُ عَلَيْهَا مِنْهُمْ . وَالثَّانِي : لِيَجْعَلَ أَجْرَهُ بِهَا أَعْظَمَ مِنْ أُجُورِهِمْ وَقُرْبَهُ بِهَا أَزْيَدَ مِنْ قُرْبِهِمْ . وَأَمَّا التَّخْفِيفُ : فَهُوَ أَنَّهُ أَبَاحَهُ أَشْيَاءَ حَظَرَهَا عَلَيْهِمْ ، وَذَلِكَ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِتَظْهَرَ بِهَا كَرَامَتُهُ وَتَبِينَ بِهَا اخْتِصَاصُهُ وَمَنْزِلَتُهُ . وَالثَّانِي : لِعِلْمِهِ بِأَنَّ مَا خَصَّهُ مِنَ الْإِبَاحَةِ لَا يُلْهِيهِ عَنْ طَاعَتِهِ ، وَإِنْ أَلْهَاهُمْ وَلَا يُعْجِزُهُ عَنِ الْقِيَامِ بِحَقِّهِ ، وَإِنْ أَعْجَزَهُمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَقْدَرُ وَبِحَقِّهِ أَقُومُ ، فَإِنْ قِيلَ : فَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ " لِيَزِيدَهُ بِهَا - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - قُرْبَةً إِلَيْهِ " كَانَ عَلَى شَكٍّ فِيهِ حَتَّى اسْتَثْنَى بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى . قِيلَ : لَيْسَتْ شَكًّا وَفِيهَا لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا تَحْقِيقٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [ الصَّافَّاتِ : 102 ] . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا بِمَعْنَى إِذَا شَاءَ اللَّهُ ، وَتَكُونُ بِمَعْنَى إِذْ كَمَا قَالَ تَعَالَى : لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [ الْفَتْحِ : 27 ] .
مَسْأَلَةٌ كُلَّ مَنْ مَلَكَ زَوْجَةً فَلَيْسَ عَلَيْهِ تَخْيِيرُهَا
مَسْأَلَةٌ : " فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَنْ مَلَكَ زَوْجَةً فَلَيْسَ عَلَيْهِ تَخْيِيرُهَا وَأُمِرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يُخَيِّرَ نَسَاءَهُ فَاخْتَرْنَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ مَا خُصَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنَاكِحِهِ دُونَ غَيْرِهِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ كِتَابُ النِّكَاحِ فَأَوْرَدَ مَا اخْتُصَّ بِالنِّكَاحِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَنْقُولٌ عَنْهُ مِنْ " أَحْكَامِ الْقُرْآنِ " فَأَوْرَدَ مِنْهُ مَا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ ، فَمِنْ ذَلِكَ وَهُوَ مَا خُصَّ بِهِ تَغْلِيظًا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَيْهِ تَخْيِيرَ نِسَائِهِ ، وَلَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ ، فَقَالَ تَعَالَى : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ، وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا [ الْأَحْزَابِ : 28 ، 29 ] فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَا خَيَّرَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ ، عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ خَيَّرَهُنَّ بَيْنَ اخْتِيَارِ الدُّنْيَا فَيُفَارِقُهُنَّ وَبَيْنَ اخْتِيَارِ الْآخِرَةِ فَيُمْسِكُهُنَّ ، وَلَمْ يُخَيِّرْهُنَّ الطَّلَاقَ . وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ خَيَّرَهُنَّ بَيْنَ الطَّلَاقِ أَوِ الْمُقَامِ . وَهَذَا قَوْلُ عَائِشَةَ وَمُجَاهِدٍ ، وَهُوَ الْأَشْبَهُ بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ . وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي سَبَبِ هَذَا التَّخْيِيرِ النبي لنسائه عَلَى خَمْسَةِ أَقَاوِيلَ :
أَحَدُهَا : أَنَّ نِسَاءَهُ تَغَايَرْنَ عَلَيْهِ ، فَحَلَفَ أَنْ لَا يُكَلِّمَهُنَّ شَهْرًا ، فَأُمِرَ بِتَخْيِيرِهِنَّ . وَهَذَا قَوْلُ عَائِشَةَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُنَّ اجْتَمَعْنَ يَوْمًا ، وَقُلْنَ : نُرِيدُ مَا تُرِيدُ النِّسَاءَ مِنَ الثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ وَطَالَبْنَهُ وَكَانَ غَيْرَ مُسْتَطِيعٍ ، فَأُمِرَ بِتَخْيِيرِهِنَّ ( حَكَاهُ النَّقَّاشُ ) . وَالثَّالِثُ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ امْتِحَانَ قُلُوبِهِنَّ لِيَرْتَضِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرَ نِسَاءِ خَلْقِهِ ، فَخَيَّرَهُنَّ . وَالرَّابِعُ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى صَانَ خَلْوَةَ نَبِيِّهِ ، فَخَيَّرَهُنَّ عَلَى أَنْ لَا يَتَزَوَّجْنَ بَعْدَهُ ، فَلَمَّا أَجَبْنَ إِلَى ذَلِكَ أَمْسَكَهُنَّ ، وَهَذَا قَوْلُ مُقَاتِلٍ . وَالْخَامِسُ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَيَّرَ نَبِيَّهُ بَيْنَ الْغِنَى وَبَيْنَ الْفَقْرِ ، فَنَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ ، وَقَالَ : إِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يُقْرِئُكَ السَّلَامَ ، وَيَقُولُ : إِنْ شِئْتَ يَا مُحَمَّدُ جَعَلْتُ لَكَ جِبَالًا ذَهَبًا . فَقَالَ : صِفْ لِي الدُّنْيَا . فَقَالَ حَلَالُهَا حِسَابٌ ، وَحَرَامُهَا عَذَابٌ . فَاخْتَارَ الْفَقْرَ عَلَى الْغِنَى وَالْآخِرَةَ عَلَى الدُّنْيَا ، وَقَالَ : لِأَنْ أَجُوعَ يَوْمًا فَأَصْبِرُ وَأَشْبِعُ يَوْمًا فَأَشْكُرُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ، اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ . فَحِينَئِذٍ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِتَخْيِيرِ نِسَائِهِ ، لِمَا فِي طِبَاعِ النِّسَاءِ مِنْ حُبِّ الدُّنْيَا ، فَلَمَّا نَزَلَ عَلَيْهِ التَّخْيِيرُ بَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَائِشَةَ - وَكَانَتْ أَحَبَّ نِسَائِهِ إِلَيْهِ وَأَحْدَثَهُنَّ سِنًّا - فَتَلَا عَلَيْهَا آيَةَ التَّخْيِيرِ ، حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ : لِأَنَّهُ خَافَ مَعَ حُبِّهِ لَهَا أَنْ تُعَجِّلَ لِحَدَاثَةِ سِنِّهَا فَتَخْتَارُ الدُّنْيَا ، فَقَالَتْ : أَفَيَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ ؟ ! قَدِ اخْتَرْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ ، وَسَأَلَتْهُ أَنْ يَكْتُمَ عَلَيْهَا اخْتِيَارَهَا عِنْدَ أَزْوَاجِهِ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا كَانَ النَّبِيُّ أَنْ يَغُلَّ ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَى أَزْوَاجِهِ ، فَكَانَ إِذَا دَخَلَ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ تَلَا عَلَيْهَا الْآيَةَ ، تَقُولُ : مَا اخْتَارَتْ عَائِشَةُ ؟ فَيَقُولُ : اخْتَارَتِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ ، حَتَّى دَخَلَ عَلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ الضَّحَّاكِ الْكِلَابِيَّةِ وَكَانَتْ مِنْ أَزْوَاجِهِ ، فَلَمَّا تَلَا عَلَيْهَا الْآيَةَ فَقَالَتْ : قَدِ اخْتَرْتُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا ، فَسَرَّحَهَا ، فَلَمَّا كَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ وُجِدَتْ تَلْقُطُ الْبَعْرَ ، وَهِيَ تَقُولُ : اخْتَرْتُ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ ، فَلَا دُنْيَا وَلَا آخِرَةَ .
فَصْلٌ حُكْمِ الِاخْتِيَارِ
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ تَخْيِيرِهِنَّ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى حُكْمِ الِاخْتِيَارِ تخيير الزوجة . فَإِنْ قِيلَ : عَلَيْهِ السَّلَامُ خَيَّرَهُنَّ بَيْنَ اخْتِيَارِ الدُّنْيَا فَيُفَارِقُهُنَّ وَبَيْنَ اخْتِيَارِ الْآخِرَةِ فَيُمْسِكُهُنَّ ، لَمْ يَقَعْ بِهَذَا الِاخْتِيَارِ طَلَاقٌ حَتَّى يُطَلِّقَهُنَّ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُطَلِّقَهُنَّ إِنِ اخْتَرْنَ الدُّنْيَا كَمَا طَلَّقَ فَاطِمَةَ بِنْتَ الضَّحَّاكِ : لِقَوْلِهِ تَعَالَى : إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا [ الْأَحْزَابِ : 28 ] . وَالسَّرَاحُ الْجَمِيلُ معناه يَحْتِمَلُ ثَلَاثَةَ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ الصَّرِيحُ مِنَ الطَّلَاقِ دُونَ الْكِنَايَةِ لِئَلَّا يُرَاعَى فِيهِ النِّيَّةُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثٍ لِتُمْكِنَ فِيهِ الرَّجْعَةُ .
وَالثَّالِثُ : أَنْ يُوَفِّيَ فِيهِ الصَّدَاقَ وَيَدْفَعَ فِيهِ الْمُتْعَةَ ، فَإِنْ طَلَّقَ الْمُخْتَارَةَ مِنْهُنَّ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ ، فَهَلْ يَقَعُ طَلَاقُهَا بَائِنًا لَا يَمْلِكُ فِيهِ الرَّجْعَةَ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَكُونُ كَطَلَاقِ غَيْرِهِ مِنْ أُمَّتِهِ رَجْعِيًّا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَكُونَ بَائِنًا لَا رَجْعَةَ فِيهِ ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَلَّظَ عَلَيْهِ فِي التَّخْيِيرِ ، فَيُغَلَّظُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ ، وَفِي تَحْرِيمِهِنَّ بِذَلِكَ عَلَى التَّأْبِيدِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَحْرُمْنَ عَلَى التَّأْبِيدِ يَكُونُ سَرَاحًا جَمِيلًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : قَدْ حَرُمْنَ عَلَى الْأَبَدِ ، لِأَنَّهُنَّ اخْتَرْنَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ ، فَلَمْ يَكُنَّ مِنْ أَزْوَاجِهِ فِي الْآخِرَةِ ، فَهَذَا حُكْمُهُنَّ إِذَا قِيلَ إِنَّ تَخْيِيرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا كَانَ تَخْيِيرًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، فَأَمَّا إِذَا قِيلَ - وَهُوَ الْأَظْهَرُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ - : أَنَّهُ خَيَّرَهُنَّ بَيْنَ الطَّلَاقِ أَوِ الْمُقَامِ ، فَتَخْيِيرُ غَيْرِهِ مَنْ أُمَّتِهِ يَكُونُ كِنَايَةً يَرْجِعُ فِيهِ إِلَى نِيَّةِ الزَّوْجِ فِي تَخْيِيرِهَا ، وَإِلَى نِيَّةِ الزَّوْجَةِ فِي اخْتِيَارِهَا . وَقَالَ مَالِكٌ : وَهُوَ صَرِيحٌ ، فَإِنْ لَمْ تَخْتَرْ نَفْسَهَا كَانَ صَرِيحًا فِي طَلْقِهِ بَائِنٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ لَمْ تَخْتَرْ نَفْسَهَا لَمْ تُطَلَّقْ ، وَإِنِ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا كَانَ صَرِيحًا فِي طَلْقِهِ بَائِنٍ لَا يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى نِيَّةِ أَحَدٍ مِنْهُمَا ، وَلِلْكَلَامِ عَلَيْهِمَا مَوْضِعٌ يَأْتِي . وَأَمَّا تَخْيِيرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زوجاته فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ كِنَايَةٌ لِتَخْيِيرِ غَيْرِهِ يَرْجِعُ فِيهِ إِلَى نِيَّتِهِمَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ صَرِيحٌ فِي الطَّلَاقِ ، لَا يُرَاعَى فِيهِ النِّيَّةُ : لِخُرُوجِهِ مَخْرَجَ التَّغْلِيظِ عَلَى نَبِيِّهِ ، ثُمَّ هَلْ يَكُونُ بَائِنًا يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْأَبَدِ أَمْ لَا ؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ ، ثُمَّ تَخْيِيرُ غَيْرِهِ مِنْ أُمَّتِهِ يُرَاعَى فِي اخْتِيَارِ الزَّوْجَةِ عَلَى الْفَوْرِ فَمَتَى تَرَاخَى اخْتِيَارُهَا بَطُلَ ، لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْهِبَةِ فِي تَعْجِيلِ قَبُولِهَا عَلَى الْفَوْرِ ، فَأَمَّا تَخْيِيرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُنَّ فِي هَذِهِ الْحَالِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُرَاعَى فِيهِ تَعْجِيلُ الِاخْتِيَارِ عَلَى الْفَوْرِ ، فَإِنْ تَرَاخَى بَطُلَ حُكْمُهُ ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنِ اعْتِبَارِهِ بِقَبُولِ الْهِبَةِ الَّتِي هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ أُمَّتِهِ فِيهَا سَوَاءٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ اخْتِيَارَهُنَّ عَلَى التَّرَاخِي لِمَا اخْتَصَصْنَ بِهِ مِنَ النَّظَرِ لِأَنْفُسِهِنَّ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَائِشَةَ : - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - حِينَ خَيَّرَهَا : " اسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ " فَلَوْلَا أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي لَكَانَ بِالِاسْتِئْمَارِ يَبْطُلُ الِاخْتِيَارُ .
فَصْلٌ أَمَّا أَنَّهُ التَّخْيِيرُ فَفِيهَا دَلَائِلُ عَلَى خَمْسَةِ أَحْكَامٍ
فَصْلٌ : فَأَمَّا أَنَّهُ التَّخْيِيرُ فَفِيهَا دَلَائِلُ عَلَى خَمْسَةِ أَحْكَامٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا أُعْسِرَ بِنَفَقَةِ زَوْجَتِهِ فَلَهَا خِيَارُ الْفَسْخِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمُتْعَةَ تَجِبُ لِلْمَدْخُولِ بِهَا إِذَا طُلِّقَتْ . وَالثَّالِثُ : جَوَازُ تَعْجِيلِهَا قَبْلَ الطَّلَاقِ النفقة ، وَكَذَلِكَ تَعْجِيلُ حُقُوقِ الْأَمْوَالِ قَبْلَ الْوُجُوبِ . وَالرَّابِعُ : أَنَّ السَّرَاحَ صَرِيحٌ فِي الطَّلَاقِ . وَالْخَامِسُ : أَنَّ الْمُتْعَةَ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ شَرْعًا للمطلقة ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ في قول الله تعالى لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَقَالَ تَعَالَى : لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ [ الْأَحْزَابِ : 52 ] . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَوْجَبَ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَخْيِيرَ نِسَائِهِ فَاخْتَرْنَهُ ، حَظَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ طَلَاقَهُنَّ ، وَحَظَرَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ عَلَيْهِنَّ اسْتِبْدَالًا بِهِنَّ ، فَخَصَّهُ بِتَحْرِيمِ طَلَاقِهِنَّ وَتَحْرِيمِ التَّزْوِيجِ عَلَيْهِنَّ تَغْلِيظًا عَلَيْهِ ، وَمُكَافَأَةً لَهُنَّ عَلَى صَبْرِهِنَّ مَعَهُ عَلَى مَا كَانَ فِيهِ مِنْ ضِيقٍ وَشِدَّةٍ ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدِ نِسَائِكَ اللَّاتِي خَيَّرْتَهُنَّ فَاخْتَرْنَ اللَّهَ وِرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ ، وَهُنَّ التِّسْعُ اللَّاتِي مَاتَ عَنْهُنَّ بَعْدَ الْعَاشِرَةِ الَّتِي فَارَقَهَا ، فَصَارَ مَقْصُورًا عَلَيْهِنَّ ، وَمَمْنُوعًا مِنْ غَيْرِهِنَّ وَإِنَّ أَعْجَبَهُ حُسْنُهُنَّ . وَقِيلَ : إِنَّ الَّتِي أَعْجَبَهُ حُسْنُهَا أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ بَعْدَ قَتْلِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنْهَا ، فَجَازَاهُنَّ اللَّهُ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا بِتَحْرِيمِ طَلَاقِهِنَّ وَالتَّزْوِيجِ عَلَيْهِنَّ ، لِأَنَّهُ أَحَبُّ الْأَشْيَاءِ إِلَى النِّسَاءِ إِذَا اخْتَرْنَ أَزْوَاجَهُنَّ بَعْدَ أَنْ جَازَاهُنَّ بِالْجَنَّةِ فِي الْآخِرَةِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا [ الْأَحْزَابِ : 29 ] . وَالْمُحْسِنَاتُ هُنَّ الْمُخْتَارَاتُ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالْأَجْرُ الْعَظِيمُ هِيَ الْجَنَّةُ ، وَأْنَ اللَّهَ تَعَالَى أَكْرَمَهُنِ فِي الدُّنْيَا ، وَفَضَّلَهُنَّ عَلَى غَيْرِهِنَّ مِنَ النِّسَاءِ بِتِسْعِ خِصَالٍ ، نَذْكُرُ تَفْصِيلَهَا مِنْ بَعْدُ مَشْرُوحَةً ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
مَسْأَلَةٌ في قول عائشة مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَى أُحِلَّ لَهُ النِّسَاءُ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - : مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَى أُحِلَّ لَهُ النِّسَاءُ ، قَالَ : كَأَنَّهَا تَعْنِي اللَّاتِي حَظَرَهُنَّ عَلَيْهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرَنَا فِي حَظْرِ اللَّهِ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَلَاقِ نِسَائِهِ بَعْدَ تَخْيِيرِهِنَّ ، وَتَحْرِيمِ النِّكَاحِ عَلَيْهِنَّ ، فَأَمَّا تَحْرِيمُ طَلَاقِهِنَّ فَقَدْ كَانَ بَاقِيًا عَلَيْهِ إِلَى أَنْ قَبَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ ، وَمَا كَانَ مِنْ طَلَاقِهِ لِحَفْصَةَ وَاسْتِرْجَاعِهَا وَإِزْمَاعِهِ طَلَاقُ سَوْدَةَ حَتَّى وَهَبَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ ، فَإِنَّمَا كَانَ قَبْلَ التَّخْيِيرِ ، وَأَمَّا تَحْرِيمُ النِّكَاحِ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي ثُبُوتِ حُكْمِهِ وَنَسْخِهِ ، فَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِرَاقِ : أَنَّ تَحْرِيمَ النِّكَاحِ عَلَيْهِ كَانَ ثَابِتًا إِلَى أَنْ قَبَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ بِدَلَالَةِ أَشْيَاءَ . أَحَدُهُمَا : قَوْلُهُ تَعَالَى : لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ [ الْأَحْزَابِ : 52 ] وَكَانَ هَذَا عَلَى الْأَبَدِ . وَالثَّانِي : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعْلَهُ مُقَابَلَةً عَلَى اخْتِيَارِهِنَّ عَلَى طَرِيقِ الْجَزَاءِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَعَقَّبَهُ رُجُوعٌ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ تَحْرِيمُ طَلَاقِهِنَّ بَاقِيًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمُ النِّكَاحِ عَلَيْهِنَّ بَاقِيًا : لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا جَزَاءٌ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ تَحْرِيمَ النِّكَاحِ عَلَيْهِنَّ نُسِخَ حِينَ اتَّسَعَتِ الْفُتُوحُ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مَاتَ حَتَّى أُحِلَّ لَهُ النِّسَاءُ ، وَهَذَا قَوْلُ عَائِشَةَ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ
تَعَالَى : يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْآيَةَ [ الْأَحْزَابِ : 50 ] . وَالْإِحْلَالُ يَقْضِي عَدَمَ الْحَظْرِ ، وَلَمْ يُحْظَرْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النِّكَاحُ قَبْلَ التَّخْيِيرِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِحْلَالَ وَالْإِبَاحَةَ بَعْدَ حَظْرِ التَّخْيِيرِ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَذَا الْإِحْلَالُ إِنَّمَا يُوَجِّهُ إِلَى نِسَائِهِ اللَّاتِي خَيَّرَهُنَّ وَاخْتَرْنَهُ - وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ - قِيلَ : لَا يَصِحُّ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُنَّ قَدْ كُنَّ حَلَالَهُ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ بِإِحْلَالِهِنَّ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ قَالَ فِيهَا : وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ [ الْأَحْزَابِ : 50 ] وَلَمْ يَكُنْ فِي نِسَائِهِ الْمُتَخَيَّرَاتِ أَحَدٌ مِنْ بَنَاتِ عَمِّهِ وَلَا مِنْ بَنَاتِ عَمَّاتِهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَذِهِ الْآيَةُ مُتَقَدِّمَةٌ فِي التِّلَاوَةِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُتَقَدِّمُ نَاسِخًا لِلْمُتَأَخِّرِ . قِيلَ : هِيَ وَإِنْ كَانَتْ مُتَقَدِّمَةً فِي التِّلَاوَةِ فَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ فِي التَّنْزِيلِ ، فَجَازَ النُّسَخُ بِهَا كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [ الْبَقَرَةِ : 234 ] نَاسِخٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ [ الْبَقَرَةِ : 240 ] وَهِيَ مُتَقَدِّمَةٌ فِي التِّلَاوَةِ ، لَكِنَّهَا مُتَأَخِّرَةٌ فِي التَّنْزِيلِ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا قُدِّمَتْ تِلَاوَةُ مَا تَأَخَّرَ تَنْزِيلُهُ ؟ . قِيلَ : لِأَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَى رَسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِآيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ أَمْرَهُ أَنْ يَضَعَهَا فِي مَوْضِعِ كَذَا . فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ أَمَرَهُ بِتَقْدِيمِ تِلَاوَةِ مَا تَأَخَّرَ تَنْزِيلُهُ . قِيلَ : لَسَبْقِ الْقَارِئِ إِلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِهِ حَتَّى إِنْ لَمْ يَعْرِفْ حُكْمَ مَا بَعْدَهُ مِنَ الْمَنْسُوخِ أَجَزَأَهُ . وَيَدُلُّ عَلَى نَسْخِ الْحَظْرِ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اصْطَفَى صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ مِنْ سَبْيِ خَيْبَرَ سَنَةَ ثَمَانٍ ، فَأَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا ، وَذَلِكَ بَعْدَ التَّخْيِيرِ ، فَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ : مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أُبِيحَ لَهُ النِّسَاءُ ، وَهُمَا بِذَلِكَ أَعْرَفُ : وَلِأَنَّ عِلَّةَ الْحَظْرِ الضِّيقُ وَالشِّدَّةُ ، فَإِذَا زَالَتْ زَالَ مُوجِبُهَا ، وَقَدْ فَتَحَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ حَتَّى وَسَّعَ عَلَى نِسَائِهِ ، وَأَجْرَى لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ثَمَانِينَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ وَأَرْبَعِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ سِوَى الْهَدَايَا وَالْأَلْطَافِ ، وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ فَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ نَسْخِهَا ، وَأَمَّا الْجَزَاءُ وَهُوَ مَشْرُوطٌ بِحَالِ الضِّيقِ وَالشِّدَّةِ ، وَأَمَّا الطَّلَاقُ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّزْوِيجِ عَلَيْهِنَّ أَنَّ فِي طَلَاقِهِنَّ قَطْعًا لِعِصْمَتِهِنَّ ، وَيَخْرُجْنَ بِهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَزْوَاجِهِ فِي الْآخِرَةِ ، وَلَيْسَ فِي التَّزْوِيجِ عَلَيْهِنَّ قَطْعٌ لِعِصْمَتِهِنَّ فَافْتَرَقَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ . فَإِذَا ثَبَتَ نَسْخُ الْحَظْرِ مِمَّا ذَكَرْنَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْإِبَاحَةِ ، هَلْ هِيَ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ النِّسَاءِ أَوْ مَقْصُورَةٌ عَلَى الْمُسَمَّيَاتِ فِي الْآيَةِ . إِذَا هَاجَرْنَ مَعَهُ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْإِبَاحَةَ مَقْصُورَةٌ عَلَى الْمُسَمَّيَاتِ مِنْ بَنَاتِ عَمِّهِ وَبَنَاتِ عَمَّاتِهِ وَبَنَاتِ خَالِهِ
وَبَنَاتُ خَالَاتِهِ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَهُ ، وَهَذَا قَوْلُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ لِرِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ ، قَالَتْ : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَأَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَزَوَّجَنِي فَنُهِيَ عَنِّي : لِأَنِّي لَمْ أُهَاجِرْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَظْهَرُهُمَا أَنَّ الْإِبَاحَةَ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ النِّسَاءِ : لِأَنَّهُ تَزَوَّجَ بَعْدَهَا صَفِيَّةَ ، وَلَيْسَتْ مِنَ الْمُسَمَّيَاتِ فِيهَا ، وَلِأَنَّ الْإِبَاحَةَ رَفَعَتْ مَا تَقَدَّمَهَا مِنَ الْحَظْرِ ، وَلِأَنَّهُ فِي اسْتِبَاحَةِ النِّسَاءِ أَوْسَعُ حُكْمًا مِنْ جَمِيعِ أُمَّتِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَصِّرَ عَنْهُمْ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [ الْأَحْزَابِ : 50 ] . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا مِمَّا خُصَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النِّكَاحِ تَخْفِيفًا أَنْ يَنْكِحَ بِلَفْظِ الْهِبَةِ : لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ بَدَأَ بِذِكْرِ مَا خُصَّ بِهِ فِي النِّكَاحِ تَغْلِيظًا ، وَذَلِكَ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : وُجُوبِ التَّخْيِيرِ ، وَتَحْرِيمِ الطَّلَاقِ ، وَتَحْرِيمِ الِاسْتِبْدَالِ بِهِنَّ مِمَّا خُصَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النِّكَاحِ . ثُمَّ عَقَّبَهُ بِذِكْرِ مَا خُصَّ بِهِ تَخْفِيفًا ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ إِبَاحَةَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُمَلِّكَهُ نِكَاحَ الْحُرَّةِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ يُذْكَرُ مَعَ الْعَقْدِ ، وَلَا يَجِبُ مِنْ بَعْدُ فَيَكُونُ مَخْصُوصًا بِهِ مِنْ بَيْنِ أُمَّتِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَمْلِكَ نِكَاحَ الْحُرَّةِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ ، وَلَا يَجُوزَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ مِنْ أُمَّتِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَسْقُطَ مِنْهُ الْمَهْرُ ابْتِدَاءً مَعَ الْعَقْدِ ، وَانْتِهَاءً فِيمَا بَعْدَهُ ، وَغَيْرُهُ مِنْ أُمَّتِهِ يَلْزَمُهُ الْمَهْرُ فِيمَا بَعْدُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنَّمَا اخْتُصَّ بِسُقُوطِ الْمَهْرِ وَحْدَهُ ، وَهُوَ وَأُمَّتُهُ سَوَاءٌ فِي جَوَازِ الْعَقْدِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ . وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ : إِنَّمَا خُصَّ بِسُقُوطِ الْمَهْرِ ، وَلَيْسَ لَهُ وَلَا لِغَيْرِهِ مِنْ أُمَّتِهِ أَنْ يَعْقِدَ بِلَفْظِ الْهِبَةِ ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ ، وَذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى تَخْصِيصِهِ بِالْأَمْرَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ لِلْكَلَامِ مَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مَوْضِعٌ يَأْتِي ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [ الْأَحْزَابِ : 50 ] وَالْهِبَةُ تَتَمَيَّزُ بِلَفْظِهَا عَقْدًا وَسُقُوطِ الْمَهْرِ فِيهَا بَدَلًا ، وَقَدْ جَعَلَهَا خَالِصَةً لَهُ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ، فَلَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ مِنْ أُمَّتِهِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي وَاحِدٍ مِنَ الْحُكْمَيْنِ . وَفِي الْآيَةِ قِرَاءَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : " أَنْ وَهَبَتْ " بِالْفَتْحِ وَهُوَ خَبَرٌ عَمَّا مَضَى ، وَالْقِرَاءَةُ الْأُخْرَى بِالْكَسْرِ ، وَهُوَ شُرُوطٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ ، هَلْ كَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةٌ وَهَبَتْ لَهُ نَفْسَهَا بِحَسَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ ، فَمَنْ قَرَأَ بِالْكَسْرِ وَجَعَلَهُ شَرْطًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، قَالَ : لَمْ يَكُنْ
عِنْدَهُ امْرَأَةٌ مَوْهُوبَةٌ ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ ، وَمَنْ قَرَأَ بِالْفَتْحِ جَعَلَهُ خَبَرًا عَنْ مَاضٍ ، قَالَ : قَدْ كَانَتْ عِنْدَهُ امْرَأَةٌ وَهَبَتْ لَهُ نَفْسَهَا هبة المرأة نفسها ، وَاخْتَلَفُوا فِيهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : أَنَّهَا أُمُّ شَرِيكٍ بِنْتُ جَابِرِ بْنِ ضَبَابٍ ، وَكَانَتِ امْرَأَةً صَالِحَةً . وَهَذَا قَوْلُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ . وَهَذَا قَوْلُ عَائِشَةَ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهَا مَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ . وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالرَّابِعُ : أَنَّهَا زَيْنَبُ بِنْتُ خُزَيْمَةَ أُمُّ الْمَسَاكِينِ ، امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ . وَهَذَا قَوْلُ الشَّعْبِيِّ ، وَإِذَا كَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ وَهَبَتْ لَهُ نَفْسَهَا ، أَوْ شُرِطَ لَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَنَّ تُقْبَلَ مَنْ وَهَبَتْ لَهُ نَفْسَهَا خَالِصَةً مَنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ، كَانَ دَلِيلًا قَاطِعًا عَلَى مَنْ خَالَفَ . وَرُوِيَ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ : أَنَّ امْرَأَةً أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ وَهَبْتُ نَفْسِي مِنْكَ ، فَقَالَ : مَا لِي فِي النِّسَاءِ مِنْ حَاجَةٍ ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْبَلَهَا لَأَنْكَرَ عَلَيْهَا هِبَتَهَا .
فَصْلٌ مِمَّا خُصَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنَاكِحِهِ تَخْفِيفَانِ
فَصْلٌ : وَمِمَّا خُصَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنَاكِحِهِ تَخْفِيفَانِ : أَنْ يَنْكِحَ أَيَّ عَدَدٍ شَاءَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ مِنْ أُمَّتِهِ أَنْ يَنْكِحَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ الْآيَةُ [ الْأَحْزَابِ : 50 ] وَأُحِلَّ لَهُ مِنَ الْأَزْوَاجِ مَنْ أَتَاهَا أَجْرَهَا مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ بِعَدَدٍ ثُمَّ ذَكَرَ بَنَاتِ عَمِّهِ وَعَمَّاتِهِ وَخَالِهِ وَخَالَاتِهِ مَنْ يَزِيدُ عَلَى الْأَرْبَعِ ، فَدَلَّ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِالْإِبَاحَةِ مِنْ غَيْرِ عَدَدٍ ، وَقَدْ جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ إِحْدَى عَشْرَةَ وَمَاتَ عَنْ تِسْعٍ وَكَانَ يَقْسِمُ لِثَمَانٍ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْحُرُّ لِفَضْلِهِ عَلَى الْعَبْدِ يَسْتَبِيحُ مِنْ نِكَاحِ النِّسَاءِ أَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَبِيحُهُ الْعَبْدُ : وَجَبَ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَضْلِهِ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ يَسْتَبِيحُ مِنَ النِّسَاءِ أَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَبِيحُهُ جَمِيعُ الْأُمَّةِ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ ثَلَاثٌ : النِّسَاءُ وَالطِّيبُ ، وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ . فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مَعْنَى تَحْبِيبِ النِّسَاءِ إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إِنَّهُ زِيَادَةٌ فِي الِابْتِلَاءِ وَالتَّكْلِيفِ حَتَّى لَا يَلْهُوَ بِمَا حُبِّبَ إِلَيْهِ مِنَ النِّسَاءِ عَمَّا
كُلِّفَ بِهِ مِنْ أَدَاءِ الرِّسَالَةِ ، وَلَا يَعْجَزَ عَنْ تَحَمُّلِ أَثْقَالِ النُّبُوَّةِ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَكْثَرَ لِمَشَاقِّهِ وَأَعْظَمَ لِأَجْرِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لِيَكُونَ خَلْوَاتُهُ مَعَهُنَّ يُشَاهِدُهَا مِنْ نِسَائِهِ : فَيَزُولُ عَنْهُ مَا يَرْمِيهِ الْمُشْرِكُونَ بِهِ مِنْ أَنَّهُ سَاحِرٌ أَوْ شَاعِرٌ ، فَيَكُونُ تَحْبِيبُهُنَّ إِلَيْهِ عَلَى وَجْهِ اللُّطْفِ بِهِ . وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ عَلَى وَجْهِ الِابْتِلَاءِ لَهُ ، وَعَلَى أَيِّ الْقَوْلَيْنِ كَانَ فَهُوَ لَهُ فَضِيلَةٌ ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِهِ نَقْصًا ، وَهَذَا مِمَّا هُوَ بِهِ مَخْصُوصٌ أَيْضًا .
مَسْأَلَةٌ مِمَّا خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ رَسُولَهُ مِنَ الْكَرَامَاتِ أَنْ فَضَّلَ نِسَاءَهُ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَقَالَ تَعَالَى : يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ [ الْأَحْزَابِ : 32 ] فَأَبَانَهُنَّ بِهِ مِنْ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا مِمَّا خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ رَسُولَهُ مِنَ الْكَرَامَاتِ أَنْ فَضَّلَ نِسَاءَهُ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ، فَقَالَ تَعَالَى : لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ [ الْأَحْزَابِ : 32 ] وَذَلِكَ لِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : لِمَا خَصَّهُنَّ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ خَلْوَةِ رَسُولِهِ وَنُزُولِ الْوَحْيِ بَيْنَهُنَّ . وَالثَّانِي : لِاصْطِفَائِهِنَّ لِرَسُولِهِ أَزْوَاجًا فِي الدُّنْيَا وَأَزْوَاجًا فِي الْآخِرَةِ . وَالثَّالِثُ : لِمَا ضَاعَفَهُ لَهُنَّ مِنْ ثَوَابِ الْحَسَنَاتِ وَعِقَابِ السَّيِّئَاتِ . وَالرَّابِعُ : لِمَا جَعَلَهُنَّ لِلْمُؤْمِنِينَ أُمَّهَاتٍ مُحَرَّمَاتٍ ، فَصِرْنَ بِذَلِكَ مِنْ أَفْضَلِ النِّسَاءِ ، وَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : مِنْ أَفْضَلِ نِسَاءِ زَمَانِهِنَّ . وَالثَّانِي : أَفْضَلُ النِّسَاءِ كُلِّهِنَّ . وَفِي قَوْلِهِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ تَأْوِيلَانِ مُحْتَمَلَانِ : أَحَدُهُمَا : مَعْنَاهُ إِنِ اسْتَدَمْتُنَّ التَّقْوَى فَلَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ . وَالثَّانِي : مَعْنَاهُ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ ، فَكُنَّ أَخَصَّهُنَّ بِالتَّقْوَى . فَعَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ مَعْنَاهُ مَعْنَى الشَّرْطِ ، وَعَلَى التَّأْوِيلِ الثَّانِي مَعْنَاهُ مَعْنَى الْأَمْرِ ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [ الْأَحْزَابِ : 32 ] وَفِي خُضُوعِهِنَّ بِالْقَوْلِ خَمْسَةُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا : فَلَا تَرْفَعْنَ بِالْقَوْلِ . وَهُوَ قَوْلُ السُّدِّيِّ . وَالثَّانِي : فَلَا تُرَخِّصْنَ بِالْقَوْلِ . وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّالِثُ : فَلَا تُكَلِّمْنَ بِالرَّفَثِ . وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ . وَالرَّابِعُ : هُوَ الْكَلَامُ الَّذِي فِيهِ مَا يَهْوَى الْمُرِيبُ . وَهُوَ قَوْلُ الْكَلْبِيِّ .
وَالْخَامِسُ : هُوَ مَا يَدْخُلُ مِنْ قَوْلِ النِّسَاءِ فِي قُلُوبِ الرِّجَالِ . وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ ، وَفِي قَوْلِهِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ الْفُجُورُ . وَهُوَ قَوْلُ السُّدِّيِّ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ النِّفَاقُ . وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ . وَكَانَ أَكْثَرَ مَا يُصِيبُ الْحُدُودَ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُنَافِقُونَ ،
مَسْأَلَةٌ خَصَّهُ تعالى بأن جعله عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَخَصَّهُ بِأَنْ جَعَلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ لِمَا اخْتَصَّ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ بِكَرَامَتِهِ وَفَضْلِهِ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فَقَالَ تَعَالَى : النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [ الْأَحْزَابِ : 6 ] ، وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ ( وَهُوَ أَبُوهُمْ ) ، وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ ( وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ ) ، وَقِيلَ : إِنَّهَا قِرَاءَةُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، وَفِيهِ أَرْبَعَةُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا . أَنَّهُ أَوْلَى بِهِمْ فِيمَا يَرَاهُ لَهُمْ مِنْهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ . وَهَذَا قَوْلُ عِكْرِمَةَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَوْلَى بِهِمْ فِيمَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ مِنْ آبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ أَوْلَى بِهِمْ فِي دِفَاعِهِمْ عَنْهُ ، وَمَنْعِهِمْ مِنْهُ مِنْ دِفَاعِهِمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ ، حَتَّى لَوْ عَطِشَ وَرَأَى مَعَ عَطْشَانَ مَا كَانَ أَحَقَّ بِهِ مِنْهُ ، وَلَوْ رَأَوْا سُوءًا يَصِلُ إِلَيْهِ ، لَزِمَهُمْ أَنْ يَقُوهُ بِأَنْفُسِهِمْ ، كَمَا وَقَاهُ طَلْحَةُ بْنُ عَبِيدِ اللَّهِ بِنَفْسِهِ يَوْمَ أُحُدٍ . وَالرَّابِعُ : أَنَّهُ أَوْلَى بِهِمْ مِنْ قَضَاءِ دُيُونِهِمْ وَإِسْعَافِهِمْ فِي نَوَائِبِهِمْ . وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [ الْأَحْزَابِ : 6 ] فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ ، وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَلْيَأْتِنِي فَأَنَا مَوْلَاهُ . فَكَانَ هَذَا مِمَّا خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ مِنَ الْكَرَامَاتِ ، وَكَانَ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ قَضَاءِ الدُّيُونِ تَفَضُّلًا مِنْهُ لَا وَاجِبًا عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَقَامَ بِهِ الْأَئِمَّةُ بَعْدَهُ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ فَيَكُونُ وَاجِبًا فِي سَهْمٍ مِنَ الصَّدَقَاتِ إِنِ احْتَمَلَهُ .
مَسْأَلَةٌ ومِمَّا خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ رَسُولَهُ مِنَ الْكَرَامَةِ أن جعل أَزْوَاجَهُ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ قَالَ : أُمَّهَاتُهُمْ فِي مَعْنًى دُونَ مَعْنًى ، وَذَلِكَ أَنَّهُ
لَا يَحِلُّ نِكَاحُهُنَّ بِحَالٍ ، وَلَمْ تَحْرُمْ بَنَاتٌ لَوْ كُنَّ لَهُنَّ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ زَوَّجَ بَنَاتِهِ وَهُنَّ أَخَوَاتُ الْمُؤْمِنِينَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا مِمَّا خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ رَسُولَهُ مِنَ الْكَرَامَةِ ، وَخَصَّ بِهِ أَزْوَاجَهُ مِنَ الْفَضِيلَةِ أَنَّ جَعْلَهُنَّ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ : وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ [ الْأَحْزَابِ : 6 ] يَعْنِي اللَّاتِي مَاتَ عَنْهُنَّ ، وَهُنَّ تِسْعٌ ، فَيَجْرِي عَلَيْهِنَّ أَحْكَامُ الْأُمَّهَاتِ فِي شَيْئَيْنِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا ، وَثَالِثٍ مُخْتَلِفٍ فِيهِ ، أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ : تَعْظِيمُ حَقِّهِنَّ وَالِاعْتِرَافُ بِفَضْلِهِنَّ ، كَمَا يَلْزَمُ تَعْظِيمُ حُقُوقِ الْأُمَّهَاتِ ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ [ الْأَحْزَابِ : 32 ] . وَالثَّانِي : تَحْرِيمُ نِكَاحِهِنَّ حَتَّى لَا يَحْلِلْنَ لِأَحَدٍ بَعْدَهُ مِنَ الْخَلْقِ ، كَمَا يَحْرُمُ نِكَاحُ الْأُمَّهَاتِ : لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا [ الْأَحْزَابِ : 53 ] وَسَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا حَكَاهُ السُّدِّيُّ أَنَّ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ عِنْدَ نُزُولِ آيَةِ الْحِجَابِ : أَيَحْجِبُنَا رَسُولُ اللَّهِ عَنْ بَنَاتِ عَمِّنَا وَيَتَزَوَّجُ نِسَاءَنَا مِنْ بَعْدِنَا ، لَئِنْ حَدَثَ بِهِ حَدَثٌ لِنَتَزَوَّجُنَّ نِسَاءَهُ مِنْ بَعْدِهِ . فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : وَلِأَنَّ حُكْمَ نِكَاحِهِنَّ لَا يَنْقَضِي بِمَوْتِهِ لِكَوْنِهِنَّ أَزْوَاجَهُ فِي الْآخِرَةِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمُهُنَّ بَعْدَ مَوْتِهِ كَتَحْرِيمِهِنَّ فِي حَيَاتِهِ . فَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّالِثُ : اخْتُلِفَ فِيهِ فَهُوَ الْمُحَرَّمُ هَلْ يَصِرْنَ كَالْأُمَّهَاتِ فِي الْمُحَرَّمِ حَتَّى لَا يَحْرُمَ النَّظَرُ إِلَيْهِنَّ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَيْهِنَّ لِتَحْرِيمِهِنَّ كَالْأُمَّهَاتِ نَسَبًا وَرَضَاعًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَيْهِنَّ حِفْظًا لِحُرْمَةِ رَسُولِهِ فِيهِنَّ ، وَقَدْ كَانَتْ عَائِشَةُ إِذَا أَرَادَتْ دُخُولَ رَجُلٍ عَلَيْهَا أَمَرَتْ أُخْتَهَا أَسْمَاءَ أَنْ تُرْضِعَهُ حَتَّى يَصِيرَ ابْنَ أُخْتِهَا : فَيَصِيرُ مَحْرَمًا لَهَا ، وَلَا يَجْرِي عَلَيْهِنَّ أَحْكَامُ الْأُمَّهَاتِ فِي النَّفَقَةِ بِالْمِيرَاثِ : فَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ : " أُمَّهَاتُهُمْ فِي مَعْنًى دُونَ مَعْنًى " وَإِذَا كُنَّ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فَفِي كَوْنِهِنَّ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُنَّ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ تَعْظِيمًا لِحَقِّهِنَّ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ حُكْمَ التَّحْرِيمِ مُخْتَصٌّ بِالرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ ، فَكُنَّ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ دُونَ الْمُؤْمِنَاتِ ، وَقَدْ رَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ : أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ لَهَا : يَا أُمَّهْ ، فَقَالَتْ : لَسْتُ لَكِ بِأُمٍّ ، وَإِنَّمَا أَنَا أُمُّ رِجَالِكُمْ .
اختلاف الشافعية في وجوب العدة على زوجات الرسول بوفاته عنهن وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِ الْعِدَّةِ عَلَيْهِنَّ بِوَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زوجات النبي عَنْهُنَّ ، عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَيْسَ عَلَيْهِنَّ عِدَّةٌ : لِأَنَّهُنَّ حُرِّمْنَ كَانَ كُلُّ زَمَانِهِنَّ عِدَّةً . وَالثَّانِي : يَجِبُ عَلَيْهِنَّ - تَعَبُّدًا - أَنْ يَعْتَدِدْنَ عِدَّةَ الْوَفَاةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ، لِمَا فِي الْعِدَّةِ مِنَ الْإِحْدَادِ وَلُزُومِ الْمَنْزِلِ ، ثُمَّ نَفَقَاتُهُنَّ تَجِبُ بَعْدَ وَفَاتِهِ فِي سَهْمِهِ مِنْ خُمْسِ الْخُمُسِ مِنَ
الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ ، لِبَقَاءِ تَحْرِيمِهِنَّ ، وَقَدْ أَنْفَقَ عَلَيْهِنَّ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَجْرَى لَهُنَّ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَطَاءً فَائِضًا ، فَهَذَا حُكْمُ مَنْ مَاتَ عَنْهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ زَوْجَاتِهِ .
فَصْلٌ اللَّاتِي فَارَقَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ فِي حَيَاتِهِ فَلَيْسَ لَهُنَّ مِنْ حُرْمَةِ التَّعْظِيمِ مَا لِلْمُتَوَفَّى عَنْهُنَّ
فَصْلٌ : فَأَمَّا اللَّاتِي فَارَقَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ ، فَلَيْسَ لَهُنَّ مِنْ حُرْمَةِ التَّعْظِيمِ مَا لِلْمُتَوَفَّى عَنْهُنَّ وَفِي تَحْرِيمِهِنَّ عَلَى الْأُمَّةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : لَا يَحْرُمْنَ سَوَاءٌ دَخَلَ بِهِنَّ أَوْ لَمْ يِدْخُلْ : لِقَوْلِهِ تَعَالَى : إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا [ الْأَحْزَابِ : 28 ] وَإِرَادَةُ الدُّنْيَا مِنْهُنَّ هِيَ طَلَبُ الْأَزْوَاجِ لَهُنَّ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَزْوَاجِي فِي الدُّنْيَا هُنَ أَزْوَاجِي فِي الْآخِرَةِ ، وَلَيْسَ الْمُطَلَّقَاتُ مِنْ أَزْوَاجِهِ فَيَ الْآخِرَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُنَّ يَحْرُمْنَ سَوَاءٌ دَخَلَ بِهِنَّ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهِنَّ : تَعْظِيمًا لِحُرْمَةِ الرَّسُولِ فِيهِنَّ : لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كُلُّ سَبَبٍ وَنَسَبٍ يَنْقَطِعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا سَبَبِي وَنَسَبِي ، وَلِيَحْفَظَ اللَّهُ تَعَالَى مَحَبَّةَ رَسُولِهِ فِي قُلُوبِ أُمَّتِهِ ، فَإِنَّ الْعَادَةَ أَنَّ زَوْجَ الْمَرْأَةِ يَبْغَضُ مِنْ تَقَدَّمَهُ مِنْ أَزْوَاجِهَا ، وَالتَّعَرُّضِ لِبُغْضِ الرَّسُولِ كُفْرٌ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ - وَهُوَ الْأَصَحُّ - : أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهِنَّ لَمْ يَحْرُمْنَ ، وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهِنَّ حَرُمْنَ صِيَانَةً لِخَلْوَةِ الرَّسُولِ أَنْ تَبْدُوَ ، فَإِنَّ مِنْ عَادَةِ الْمَرْأَةِ إِنْ تَزَوَّجَتْ ثَانِيًا بَعْدَ الْأَوَّلِ أَنْ تَذُمَّ عِنْدَهُ الْأَوَّلَ إِنْ حَمِدَتْهُ ، وَتَحْمَدُ عِنْدَهُ الْأَوَّلَ إِنْ ذَمَّتْهُ ، وَلِأَنَّهُ كَالْإِجْمَاعِ مِنْ جِهَةِ الصَّحَابَةِ . رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ فِي سَنَةِ عَشْرٍ الَّتِي مَاتَ فِيهَا فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ قُتَيْلَةَ أُخْتَ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ الْكِنْدِيِّ ، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا ، فَأَوْصَى فِي مَرَضِهِ أَنْ تُخَيَّرَ إِنْ شَاءَتْ ، وَأَنْ يُضْرَبَ عَلَيْهَا الْحِجَابُ ، وَتَحْرُمَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ، وَيَحْرُمَ عَلَيْهَا مَا يُجْرَى عَلَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَإِنْ شَاءَتْ أَنْ تَنْكِحَ مَنْ شَاءَتْ نَكَحَتْ ، فَاخْتَارَتِ النِّكَاحَ فَتَزَوَّجَهَا عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ بِحَضْرَمَوْتَ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا بَكْرٍ ، فَقَالَ : هَمَمْتُ أَنْ أُحَرِّقَ عَلَيْكُمَا ، فَقَالَ عُمَرُ : مَا هِيَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ ، مَا دَخَلَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَا ضَرَبَ عَلَيْهَا حِجَابًا ، فَكَفَّ عَنْهَا أَبُو بَكْرٍ . وَرُوِيَ أَنَّ الْأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ تَزَوُّجَ امْرَأَةً كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَهَا وَفَارَقَهَا ، فَهَمَّ عُمَرُ بِرَجْمِهِمَا ، حَتَّى بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا ، فَكَفَّ عَنْهُمَا ، فَصَارَ ذَلِكَ كَالْإِجْمَاعِ . فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّهَا لَا تَحْرُمُ لَمْ تَجِبْ نَفَقَتُهَا ، وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ ، فَفِي وُجُوبِ نَفَقَتِهَا فِي سَهْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْخُمُسِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : تَجِبُ كَمَا تَجِبُ نَفَقَاتُ مَنْ مَاتَ عَنْهُنَّ لِتَحْرِيمِهِنَّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا تَجِبُ : لِأَنَّهَا لَمْ تَجِبْ قَبْلَ الْوَفَاةِ ، فَأَوْلَى أَنْ لَا تَجِبَ بَعْدَهَا : وَلِأَنَّهَا مَبْتُوتَةُ الْعِصْمَةِ بِالطَّلَاقِ .
فَصْلٌ حكم مِنْ وَطِئَهَا مِنْ إِمَائِهِ
فَصْلٌ : فَأَمَّا مِنْ وَطِئَهَا مِنْ إِمَائِهِ النبي ، فَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً عَلَى مِلْكِهِ إِلَى حِينِ وَفَاتِهِ مِثْلُ مَارِيَةَ أُمِّ ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ حَرُمَ نِكَاحُهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَإِنْ لَمْ تَصِرْ كَالزَّوْجَاتِ أَمًّا لِلْمُؤْمِنِينَ لِنَقْصِهَا بِالرِّقِّ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ بَاعَهَا وَمَلَكَهَا مُشْتَرِيهَا بَقِيَ تَحْرِيمُهَا عَلَيْهِ وَعَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ ، وَجْهَانِ كَالْمُطَلَّقَةِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا مَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ زَوَّجَ بَنَاتِهِ وَهُنَّ أَخَوَاتُ الْمُؤْمِنِينَ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الشَّافِعِيُّ : أَنَّهُمْ - وَإِنْ كُنَّ كَالْأُمَّهَاتِ فِي تَحْرِيمِهِنَّ - فَلَسْنَ كَالْأُمَّهَاتِ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِنَّ ، أَنْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا زَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدًا مِنْ بَنَاتِهِ مِنْهُنَّ : لِأَنَّهُنَّ أَخَوَاتُ الْمُؤْمِنِينَ ، وَقَدْ زَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعًا مِنْ بَنَاتِهِ ، فَزَوَّجَ - قَبْلَ النُّبُوَّةِ - زَيْنَبَ بِأَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ . وَزَوَّجَ - قَبْلَ النُّبُوَّةِ - رُقْيَةَ بِعُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ ، وَطَلَّقَهَا بَعْدَ النُّبُوَّةِ ، فَزَوَّجَهَا بَعْدَهُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِمَكَّةَ ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ اللَّهِ ، وَبَلَغَ سِتَّ سِنِينَ ، ثُمَّ مَاتَ هُوَ وَأُمُّهُ ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَدْرٍ ، ثُمَّ زَوَّجَهُ بَعْدَهَا بِأُمِّ كُلْثُومَ ، فَمَاتَتْ عِنْدَهُ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : لَوْ كَانَ لَنَا ثَالِثَةٌ لَزَوَّجْنَاكَ . وَزَوَّجَ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَاطِمَةَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ . فَلَمَّا زَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ بَنَاتِهِ ، عُلِمَ اخْتِصَاصُ نِسَائِهِ مَنْ حُكْمِ الْأُمَّهَاتِ بِالتَّعْظِيمِ وَالتَّحْرِيمِ ، إِلَّا أَنَّ الْمُزَنِيَّ نَقَلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ : مَا زَوَّجَ بَنَاتِهِ وَهُنَّ أَخَوَاتُ الْمُؤْمِنِينَ ، فَذَهَبَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُ غَلَطٌ مِنْهُ فِي النَّقْلِ ، وَإِنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ مِنَ الْأُمِّ : قَدْ زَوَّجَ بَنَاتِهِ ، وَهُنَّ غَيْرُ أَخَوَاتِ الْمُؤْمِنِينَ . فَغَلِطَ فِي النَّقْلِ . وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى صِحَّةِ نَقْلِ الْمُزَنِيِّ ، وَأَنَّهُ عَلَى مَعْنَى النَّفْيِ وَالتَّقْرِيرِ ، وَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ قَدْ زَوَّجَ بَنَاتِهِ أَوْ يُزَوِّجُهُنَّ وَهُنَّ أَخَوَاتُ الْمُؤْمِنِينَ .
فَصْلٌ : وَمِمَّا خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ نِسَاءَ رَسُولِ اللَّهِ ضَاعَفَ عَلَيْهِنَّ عِقَابَ السَّيِّئَاتِ ، وَضَاعَفَ عَلَيْهِنَّ ثَوَابَ الْحَسَنَاتِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَفْضِيلًا لَهُنَّ وَإِكْرَامًا لِرَسُولِهِ ، أَنْ ضَاعَفَ عَلَيْهِنَّ عِقَابَ السَّيِّئَاتِ ، وَضَاعَفَ عَلَيْهِنَّ ثَوَابَ الْحَسَنَاتِ ، فَقَالَ تَعَالَى : يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ [ الْأَحْزَابِ : 30 ] وَفِي الْفَاحِشَةِ الْمُبَيِّنَةِ هَاهُنَا تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : الزِّنَا . وَهُوَ قَوْلُ السُّدِّيِّ . وَالثَّانِي : النُّشُوزُ وَسُوءُ الْخُلُقِ . وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَفِي مُضَاعَفَةِ الْعَذَابِ لَهُمَا ضِعْفَيْنِ قَوْلَانِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ عَذَابُ الدُّنْيَا وَعَذَابُ الْآخِرَةِ . وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ عَذَابَانِ فِي الدُّنْيَا لِعِظَمِ جُرْمِهِنَّ بِأَذِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ مُقَاتِلٌ : حَدَّانِ فِي الدُّنْيَا غَيْرُ السَّرِقَةِ .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فَجُعِلَ عَذَابَهُنَّ ضِعْفَيْنِ ، وَعَلَى مَنْ قَذَفَهُنَّ الْحَدَّ ضِعْفَيْنِ ، وَلَمْ أَرَ لِلشَّافِعِيِّ نَصًّا فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، غَيْرَ أَنَّ الْأَشْبَهَ بِظَاهِرِ كَلَامِهِ إِنَّمَا حَدَّانِ فِي الدُّنْيَا ، فَإِنْ قِيلَ فِي أَمْرِ مُضَاعَفَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِنَّ مِنْ تَفْضِيلِهِنَّ . قِيلَ : لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ حَدُّ الْعَبْدِ نِصْفَ حَدِّ الْحَرِّ لِنَقْصِهِ عَنْ كَمَالِ الْحُرِّ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُضَاعَفَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِنَّ مِنْ تَفْضِيلِهِنَّ عَلَى غَيْرِهِنَّ ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ [ الْأَحْزَابِ : 31 ] أَيْ يُطِيعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، وَالْقُنُوتُ الطَّاعَةُ ثُمَّ قَالَ : وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا [ الْأَحْزَابِ : 31 ] فَضُوعِفَ لَهُنَّ الْأَجْرُ مَرَّتَيْنِ ، كَمَا ضُوعِفَ عَلَيْهِنَّ الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ، فَصَارَ كِلَا الْأَمْرَيْنِ تَفْضِيلًا لَهُنَّ وَزِيَادَةً فِي كَرَامَتِهِنَّ ، وَفِي أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ قَوْلَانِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ : أَحَدُهَا : أَنَّ كِلَا الْأَجْرَيْنِ فِي الْآخِرَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ أَحَدَهُمَا فِي الدُّنْيَا ، وَالثَّانِي فِي الْآخِرَةِ . وَيُحْتَمَلُ قَوْلُهُ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا تَأْوِيلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : حَلَالًا فَقَدْ كَانَ رِزْقُهُنَّ مِنْ أَجَلِّ الْأَرْزَاقِ . وَالثَّانِي : وَاسِعًا : فَقَدْ صَارَ رِزْقُهُنَّ بَعْدَ وَفَاتِهِ وَفِي أَيَّامِ عُمَرَ مِنْ أَوْسَعِ الْأَرْزَاقِ .
فَصْلٌ : وَصَارَ مَا خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنَاكِحِهِ ، مِمَّا جَاءَ فِيهِ نَصٌّ ، وَاتَّصَلَ بِهِ نَقْلٌ عَشْرُ خِصَالٍ ، تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ ، مِنْهَا ثَلَاثُ خِصَالٍ تَغْلِيظٌ ، وَثَلَاثُ خِصَالٍ تَخْفِيفٌ ، وَأَرْبَعُ خِصَالٍ كَرَامَةٌ . فَأَمَّا الثَّلَاثُ التَّغْلِيظُ : فَإِحْدَاهُنَّ : مَا أَوْجَبَهُ عَلَيْهِ مِنْ تَخْيِيرِ نِسَائِهِ تخيير النبي نساءه . وَالثَّانِيَةُ : مَا حُظِرَ عَلَيْهِ مِنْ طَلَاقِهِنَّ طلاق النبي نساءه . وَالثَّالِثَةُ : مَا مَنَعَهُ مِنَ الِاسْتِبْدَالِ بِهِنَّ تبدل أزواج النبي . وَأَمَّا الثَّلَاثُ التَّخْفِيفُ : فَإِحْدَاهُنَّ : مَا أَبَاحَهُ لَهُ مِنَ النِّكَاحِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ مَحْصُورٍ نكاح النبي أكثر من اربعة . وَالثَّانِيَةُ : أَنْ يَمْلِكَ النِّكَاحَ بِلَفْظِ الْهِبَةِ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ نكاح الرسول بلفظ الهبة . وَالثَّالِثَةُ : أَنَّهُ إِذَا أَعْتَقَ أَمَةً عَلَى أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فعل النبي ذلك كَانَ عِتْقُهَا نِكَاحًا عَلَيْهَا وَصَدَاقًا لَهَا : لِأَنَّهُ أَعْتَقَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ ، فَصَارَتْ بِالْعِتْقِ زَوْجَةً وَصَارَ الْعِتْقُ لَهَا صَدَاقًا . فَأَمَّا الْأَرْبَعُ الْكَرَامَةُ :
فَإِحْدَاهُنَّ : أَنَّهُ فَضَّلَ نِسَاءَهُ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ . وَالثَّانِيَةُ : أَنَّهُ جَعَلَهُنَّ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ . وَالثَّالِثَةُ : حَرَّمَهُنَّ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ . وَالرَّابِعَةُ : مَا ضَاعَفَ مِنْ ثَوَابِهِنَّ وَعِقَابِهِنَّ .
فَصْلٌ : وَإِذْ قَدْ مَضَى مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخْصُوصًا بِهِ فِي مَنَاكِحِهِ نَصًّا : فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ فِيمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِهِ فِي مَنَاكِحِهِ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَالنَّصِّ صلى الله عليه وسلم ، فَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ يَمْتَنِعُ مِنْ جَوَازِ الِاجْتِهَادِ لِنَقْصِهِ وَكَذَلِكَ فِي الْإِمَامَةِ : لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ إِنَّمَا يَجُوزُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ فِي النَّوَازِلِ الْحَادِثَةِ ، وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ فِي ذَلِكَ : لِيُتَوَصَّلَ بِهِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ ، وَإِنْ لَمْ تَدْعُ إِلَيْهَا ضَرُورَةٌ ، كَمَا اجْتَهَدُوا فِيمَا لَمْ يَحْدُثْ مِنَ النَّوَازِلِ ، فَاجْتَهَدُوا فِي سَبْعِ مَسَائِلَ أَفْضَى بِهِمُ الِاجْتِهَادُ إِلَى الِاخْتِلَافِ فِيهَا : فَأَحَدُهَا : أَنِ اخْتَلَفُوا هَلْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْكِحَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ، وَهُوَ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ فِي أَلَّا يَنْكِحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ : لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كُلُّ نِكَاحٍ لَمْ يَحْضُرْهُ أَرْبَعَةٌ فَهُوَ سِفَاحٌ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَوَجَّهَ ذَلِكَ إِلَى مَنَاكِحِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَجُوزَ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ وَلَا شَاهِدِينَ : لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [ الْأَحْزَابِ : 6 ] وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ أُمَّ سَلَمَةَ فَقَالَتْ : مَا لِي وَلِيٌّ حَاضِرٌ ، فَقَالَ مَا يَكْرَهُنِي مِنْ أَوْلِيَائِكِ حَاضِرٌ وَلَا غَائِبٌ ، ثُمَّ قَالَ لِابْنِهَا عُمَرَ - وَكَانَ غَيْرَ بَالِغٍ - : قُمْ زَوِّجْ أُمَّكَ . وَقَدْ أَنْكَرَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلَ عَلَى مَنْ قَالَ غَيْرَ بَالِغٍ ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ ، وَلِأَنَّ الْوَلِيَّ إِنَّمَا يُرَادُ لِالْتِمَاسِ الْأَكْفَاءِ ، وَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ الْأَكْفَاءِ ، وَالشُّهُودُ إِنَّمَا يُرَادُونَ حَذَرَ التَّنَاكُرِ ، وَهَذَا غَيْرُ مَوْهُومٍ فِي الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ أَوْ لَهُ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَفْتَقِرْ نِكَاحُهُ إِلَى وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ .
فَصْلٌ اخْتَلَفُوا هَلْ لَهُ نِكَاحُ الْكِتَابِيَّةِ أَمْ لَا
فَصْلٌ : وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ أَنِ اخْتَلَفُوا : هَلْ لَهُ نِكَاحُ الْكِتَابِيَّةِ أَمْ لَا ؟ للنبي صلى الله عليه وسلم عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ [ الْأَحْزَابِ : 6 ] وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَزْوَاجِي فِي الدُّنْيَا هُنَّ أَزْوَاجِي فِي الْآخِرَةِ وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ مُنْتَفِيَانِ عَنْ غَيْرِ الْمُسْلِمَاتِ : وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ فِيمَا أَبَاحَهُ لِرَسُولِهِ مِنْ بَنَاتِ عَمِّهِ وَعَمَّاتِهِ الْهِجْرَةَ ، فَقَالَ : اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ [ الْأَحْزَابِ : 50 ] فَلَمَّا حُظِرَ عَلَيْهِ مِنَ الْمُسْلِمَاتِ مَنْ لَمْ تُهَاجِرْ ، فَكَيْفَ يَسْتَبِيحُ مَنْ لَمْ تُسْلِمْ وَلَمْ تُهَاجِرْ ؟ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ الْكِتَابِيَّةِ : لِأَنَّ حُكْمَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النِّكَاحِ أَوْسَعُ مِنْ
حُكْمِ أُمَّتِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْرُمَ عَلَيْهِ مَا يَحِلُّ لِأُمَّتِهِ : وَلِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَمْتَعَ بِأَمَتِهِ رَيْحَانَةَ بِنْتِ عَمْرٍو بِمِلْكِ يَمِينِهِ ، وَكَانَتْ يَهُودِيَّةً مِنْ سَبْيِ بَنِي قُرَيْظَةَ ، وَعَرَضَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامَ فَأَبَتْ ، ثُمَّ أَسْلَمَتْ مِنْ بَعْدُ ، فَلَمَّا بُشِّرَ بِإِسْلَامِهَا سُرَّ بِهِ ، وَالْكُفْرُ فِي الْأَمَةِ أَغْلَظُ مِنْهُ فِي الْحُرَّةِ : لِأَنَّ نِكَاحَ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ حَرَامٌ ، وَنِكَاحَ الْحُرَّةِ الْكِتَابِيَّةِ مُبَاحٌ ، فَلَمَّا لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ الْأَمَةُ الْكِتَابِيَّةُ ، فَأَوْلَى أَنْ لَا تَحْرُمَ عَلَيْهِ الْحُرَّةُ الْكِتَابِيَّةُ ، فَعَلَى هَذَا إِذَا نَكَحَ الْكِتَابِيَّةَ ، فَهَلْ عَلَيْهِ تَخْيِيرُهَا أَنْ تُسْلِمَ فَيُمْسِكَهَا ، أَوْ تُقِيمَ عَلَى دِينِهَا فَيُفَارِقَهَا ؟ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : عَلَيْهِ تَخْيِيرُهَا ، فَإِنْ أَسْلَمَتْ ثَبَتَ نِكَاحُهَا ، وَإِنْ أَقَامَتْ عَلَى دِينِهَا فَارَقَهَا ، لِيَصِحَّ أَنْ تَكُونَ مِنْ أَزْوَاجِهِ فِي الْآخِرَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَيْسَ ذَلِكَ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ مَا خَيَّرَ رَيْحَانَةَ ، وَقَدْ عَرَضَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامَ فَأَبَتْ ، وَأَقَامَ عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا . فَأَمَّا الْأَمَةُ فَلَمْ يَخْتَلِفْ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِهَا لِمِلْكِ يَمِينِهِ : لِأَنَّ نِكَاحَ الْأَمَةِ مَشْرُوطٌ بِخَوْفِ الْعَنَتِ ، وَهَذَا غَيْرُ مُجَوَّزٍ عَلَيْهِ .
فَصْلٌ اخْتَلَفُوا هَلْ كَانَ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ فِي إِحْرَامِهِ
فَصْلٌ : وَالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : أَنِ اخْتَلَفُوا : هَلْ كَانَ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ فِي إِحْرَامِهِ للنبي صلى الله عليه وسلم ، فَذَهَبَ أَبُو الطِّيبِ بْنُ سَلَمَةَ إِلَى جَوَازِهِ لَهُ خُصُوصًا : لِرِوَايَتِهِ أَنَّهُ تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ مُحْرِمًا ، وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ النِّكَاحِ فِي الْإِحْرَامِ كَغَيْرِهِ مِنْ أُمَّتِهِ : لِأَنَّهُ وَإِيَّاهُمْ فِي مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ سَوَاءٌ وَمَا نَكَحَ مَيْمُونَةَ إِلَّا حَلَالًا .
اخْتَلَفُوا فِي الَّتِي خَطَبَهَا هَلْ يَلْزَمُهَا إِجَابَتُهُ
وَالْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : أَنِ اخْتَلَفُوا فِي الَّتِي خَطَبَهَا هَلْ يَلْزَمُهَا إِجَابَتُهُ ؟ الرسول صلى الله عليه وسلم عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَلْزَمُهَا إِجَابَتُهُ : لِقَوْلِهِ تَعَالَى : اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [ الْأَنْفَالِ : 24 ] . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَلْزَمُهَا إِجَابَتُهُ كَمَا لَا يَلْزَمُهَا إِجَابَةُ غَيْرِهِ ؟ لِأَنَّ عُقُودَ الْمَنَاكِحِ لَا تَصِحُّ إِلَّا عَنْ مُرَاضَاةٍ . وَالْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : أَنِ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ لَمْ يُسَمِّ لَهَا فِي عَقْدِ نِكَاحِهَا مَهْرًا ، هَلْ يَلْزَمُهُ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ : عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَلْزَمُهُ كَمَا يَلْزَمُ غَيْرَهُ : لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَلْزَمُهُ : لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ التَّوَصُّلُ إِلَى ثَوَابِ اللَّهِ تَعَالَى .
اخْتَلَفُوا فِيمَا يَمْلِكُهُ مِنَ الطَّلَاقِ هَلْ هُوَ مَحْصُورٌ بِعَدَدٍ أَمْ مُرْسَلٌ بِغَيْرِ أَمَدٍ
وَالْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : أَنِ اخْتَلَفُوا فِيمَا يَمْلِكُهُ مِنَ الطَّلَاقِ ، هَلْ هُوَ مَحْصُورٌ بِعَدَدٍ أَمْ مُرْسَلٌ بِغَيْرِ أَمَدٍ ؟ الرسول صلى الله عليه وسلم عَلَى وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : مُرْسَلٌ بِغَيْرِ أَمَدٍ وَلَا مَحْصُورٍ بِعَدَدٍ ، وَمَهْمَا طَلَّقَ كَانَ لَهُ بَعْدَ الطَّلَاقِ أَنْ يُرَاجِعَ : لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَنْحَصِرْ عَدَدُ نِسَائِهِ ، لَمْ يَنْحَصِرْ طَلَاقُهُنَّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ مَحْصُورٌ بِالثَّلَاثِ ، وَإِنْ لَمْ يَنْحَصِرْ عَدَدُ الْمَنْكُوحَاتِ : لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ عَلَيْهِ مِنْ أَسْبَابِ التَّحْرِيمِ أَغْلَظُ : فَعَلَى هَذَا إِذَا اسْتَكْمَلَ طَلَاقَ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ثَلَاثًا ، هَلْ تَحِلُّ لَهُ بَعْدَ زَوْجٍ أَمْ لَا ؟ الرسول صلى الله عليه وسلم عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تَحِلُّ لِمَا خُصَّ بِهِ مِنْ تَحْرِيمِ نِسَائِهِ عَلَى غَيْرِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا تَحِلُّ لَهُ أَبَدًا : لِمَا عَلَيْهِ مِنَ التَّغْلِيظِ فِي أَسْبَابِ التَّحْرِيمِ . وَالْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : أَنِ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْقَسْمِ عَلَيْهِ بَيْنَ أَزْوَاجِهِ الرسول صلى الله عليه وسلم ، عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ كَانَ يَقْسِمُ بَيْنَهُنَّ ، وَيَقُولُ اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تُؤَاخِذْنِي فِيمَا لَا أَمْلِكُ يَعْنِي : قَلْبَهُ وَطَيْفَهُ عَلَى نِسَائِهِ مَحْمُولًا فِي مَرَضِهِ حَتَّى حَلَلْنَهُ فِي الْمُقَامِ عِنْدَ عَائِشَةَ . وَهَمَّ بِطَلَاقِ سَوْدَةَ ، فَقَالَتْ : قَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ أُحْشَرَ فِي جُمْلَةِ نِسَائِكَ ، وَقَدْ وَهَبْتُ يَوْمِي مِنْكَ لِعَائِشَةَ ، فَكَفَّ عَنْ طَلَاقِهَا ، وَكَانَ يَقْسِمُ لِنِسَائِهِ يَوْمًا يَوِمًا ، وَلِعَائِشَةَ يَوْمَيْنِ ، يَوْمَهَا ، وَيَوْمَ سَوْدَةَ ، وَقِيلَ : فِي ذَلِكَ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [ النِّسَاءِ : 128 ] . وَهُوَ قَوْلُ السُّدِّيِّ .
اختلفوا في وجوب القسم عليه بين أزواجه وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْقَسْمَ بَيْنَهُنَّ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا ، وَإِنَّمَا كَانَ يَتَطَوَّعُ بِهِ . وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ وَطَائِفَةٍ : لِمَا فِي وُجُوبِهِ عَلَيْهِ مِنَ التَّشَاغُلِ عَنْ لَوَازِمَ الرِّسَالَةِ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ [ الْأَحْزَابِ : 51 ] وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : مَعْنَاهُ تَعْزِلُ مَنْ شِئْتَ مِنْ أَزْوَاجِكَ فَلَا تَأْتِيهَا وَتَأْتِي مَنْ شِئْتَ مِنْ أَزْوَاجِكَ فَلَا تَعْزِلُهَا ، هَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ . وَالثَّانِي : مَعْنَاهُ تُؤَخِّرُ مَنْ شِئْتَ مِنْ أَزْوَاجِكَ ، وَتَضُمَّ إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ مِنْ أَزْوَاجِكَ . وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ . وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ [ الْأَحْزَابِ : 51 ] أَيْ مَنِ ابْتَغَيْتَ فَآوَيْتَهُ إِلَيْكَ مِمَّنْ عَزَلْتَ أَنْ تُؤْوِيَهُ إِلَيْكَ ، فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ فِيهِ تَأْوِيلَانِ :
أَحَدُهُمَا : فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ فِيمَنِ ابْتَغَيْتَ وَفِيمَنْ عَزَلْتَ . وَهُوَ قَوْلُ يَحْيَى بْنِ سَلَامٍ . وَالثَّانِي : فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ فِيمَنْ عَزَلْتَ أَنْ تُؤْوِيَهُ إِلَيْكَ . وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ . ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ [ الْأَحْزَابِ : 51 ] فِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : إِذَا عَلِمْنَ أَنَّ لَهُ رَدَّهُنَّ إِلَى فِرَاشِهِ إِذَا اعْتَزَلَهُنَّ قَرَّتْ أَعْيُنُهُنَّ فَلَمْ يَحْزَنَّ . وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ . وَالثَّانِي : إِذَا عَلِمْنَ أَنَّ هَذَا مِنْ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِنَّ قَرَّتْ أَعْيُنُهُنَّ وَ لَمْ يَحْزَنَّ . وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ . فَاخْتَلَفُوا : هَلْ أَرْجَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَحَدًا مِنْ نِسَائِهِ أَمْ لَا ؟ فَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّهُ لَمْ يُرْجِ مِنْهُنَّ أَحَدًا ، وَأَنَّهُ مَاتَ عَنْ تِسْعٍ ، فَكَانَ يَقْسِمُ مِنْهُنَّ لِثَمَانٍ ، لِأَنَّ سَوْدَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ ، رَوَى مَنْصُورٌ عَنِ ابْنِ رُزَيْنٍ قَالَ : بَلَغَ بَعْضَ نِسْوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُخَلِّيَ سَبِيلَهُنَّ ، فَأَتَيْنَهُ ، فَقُلْنَ : لَا تُخَلِّ سَبِيلَنَا وَأَنْتَ فِي حِلٍّ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ ، فَأَرْجَأَ مِنْهُنَّ نِسْوَةً وَآوَى نِسْوَةً ، فَكَانَ مِمَّنْ أَرْجَأَ مَيْمُونَةُ وَجُوَيْرِيَةُ وَأُمُّ حَبِيبَةَ وَصْفِيَّةُ وَسَوْدَةُ ، وَكَانَ يَقْسِمُ بَيْنَهُنَّ مِنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ مَا شَاءَ ، وَكَانَ مِمَّنْ آوَى عَائِشَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ وَزَيْنَبُ وَحَفْصَةُ ، فَكَانَ قَسْمُهُ مِنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ فِيهِنَّ سَوَاءً ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : وَإِذَا قَدْ مَضَى مَا قَدْ خُصَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنَاكِحِهِ نَصًّا وَاجْتِهَادًا ، وَمَا خُصَّ بِهِ أَزْوَاجُهُ تَفْضِيلًا وَحُكْمًا . فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ أَزْوَاجِهِ صلى الله عليه وسلم ، لِيَعْلَمَ مَنْ يُمَيَّزُ مِنْ نِسَاءِ الْأُمَّةِ بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ الْمَخْصُوصَةِ ، وَهُنَّ ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ امْرَأَةً ، مِنْهُنَّ سِتٌّ مِتْنَ قَبْلَهُ ، وَتِسْعٌ مَاتَ قَبْلَهُنَّ ، وَثَمَانٍ فَارَقَهُنَّ . فَأَمَّا السِّتُّ اللَّاتِي مِتْنَ قَبْلَهُ : فَإِحْدَاهُنَّ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ ، وَهِيَ أَوَّلُ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ النُّبُوَّةِ عِنْدَ مَرْجِعِهِ مِنَ الشَّامِ ، وَهِيَ أُمُّ بَنِيهِ وَبَنَاتِهِ إِلَّا إِبْرَاهِيمَ ، فَإِنَّهُ مِنْ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةَ ، كَانَ الْمُقَوْقِسُ أَهْدَاهَا إِلَيْهِ ، وَلَمْ يَتَزَوَّجْ عَلَى خَدِيجَةَ أَحَدًا حَتَّى مَاتَتْ . وَالثَّانِيَةُ : زَيْنَبُ بِنْتُ خُزَيْمَةَ الْهِلَالِيَّةُ أُمُّ الْمَسَاكِينِ ، وَدَخَلَ بِهَا ، وَأَقَامَتْ عِنْدَهُ شُهُورًا ، ثُمَّ مَاتَتْ ، وَكَانَتْ أُخْتَ مَيْمُونَةَ مِنْ أُمِّهَا . وَالثَّالِثَةُ : سَنَا بِنْتُ الصَّلْتِ ، مَاتَتْ قَبْلَ أَنْ تَصِلَ إِلَيْهِ . وَالرَّابِعَةُ : شَرَاقٌ أُخْتُ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ ، مَاتَتْ قَبْلَ أَنْ تَصِلَ إِلَيْهِ . وَالْخَامِسَةُ : خَوْلَةُ بِنْتُ الْهُذَيْلِ ، مَاتَتْ قَبْلَ أَنْ تَصِلَ إِلَيْهِ . وَالسَّادِسَةُ : خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ السُّلَمِيَّةُ ، مَاتَتْ قَبْلَ دُخُولِهِ بِهَا ، وَقِيلَ : إِنَّهَا هِيَ الَّتِي وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَهَؤُلَاءِ سِتٌّ مِتْنَ قَبْلَهُ ، دَخَلَ مِنْهُنَّ بِاثْنَتَيْنِ ، وَلَمْ يَدْخُلْ بِأَرْبَعٍ .
وَأَمَّا التِّسْعُ اللَّاتِي مَاتَ عَنْهُنَّ : فَإِحْدَاهُنَّ عَائِشَةُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ ، وَهِيَ أَوَّلُ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ مَوْتِ خَدِيجَةَ ، وَلَمْ يَتَزَوَّجْ بِكْرًا غَيْرَهَا ، عَقَدَ عَلَيْهَا بِمَكَّةَ وَهِيَ ابْنَةُ سَبْعٍ ، وَدَخَلَ بِهَا بِالْمَدِينَةِ وَهِيَ ابْنَةُ تِسْعٍ ، وَمَاتَ عَنْهَا وَهِيَ ابْنَةُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ . وَالثَّانِيَةُ : سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ ، تَزَوَّجَهَا بَعْدَ عَائِشَةَ ، وَكَانَتْ أُمَّ خَمْسِ صِبْيَةٍ ، فَلَمَّا عَرَفَ أَخُوهَا عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ أَنَّهَا تَزَوَّجَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَثَا التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهِ ، فَلَمَّا أَسْلَمَ قَالَ : إِنِّي لِسَفِيهٌ لَمَّا حَثَوْتُ التُّرَابَ عَلَى رَأْسِي ، حِينَ تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُخْتِي . وَالثَّالِثَةُ : حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ ، تَزَوَّجَهَا بَعْدَ سَوْدَةَ ، وَكَانَ عُثْمَانُ قَدْ خَطَبَهَا ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَلَّا أَدُلُّكَ عَلَى مَنْ هُوَ خَيْرٌ لَهَا مِنْ عُثْمَانَ وَأَدُلُّ عُثْمَانَ عَلَى مَنْ هُوَ خَيْرٌ لَهُ مِنْهَا ، فَتَزَوَّجَهَا ، وَزَوَّجَ بِنْتَهُ أُمَّ كُلْثُومٍ بِعُثْمَانَ . وَالرَّابِعَةُ : أُمُّ حَبِيبَةَ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ ، وَقِيلَ : إِنَّهُ نَزَلَ فِي تَزْوِيجِهَا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً [ الْمُمْتَحَنَةِ : 7 ] ، وَلَمَّا تَنَازَعَ أَزْوَاجُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَضَانَةِ ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ ، قَالَ : ادْفَعُوهُ إِلَى أُمِّ حَبِيبَةَ : فَإِنَّهَا أَقْرَبُهُنَّ مِنْهُ رَحِمًا . وَالْخَامِسَةُ : أُمُّ سَلَمَةَ بِنْتُ أَبِي أُمَّيَّةَ . وَالسَّادِسَةُ : زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ ، نَزَلَ عَنْهَا زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ ، فَتَزَوَّجَهَا ، وَفِيهَا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى : فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا [ الْأَحْزَابِ : 37 ] وَكَانَتْ بِنْتَ عَمَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأُمُّهَا أُمَيْمَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمَطَّلِبَ . وَالسَّابِعَةُ : مَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ ، وَكَانَ بِالْمَدِينَةِ فَوَكَّلَ أُمَّ رَافِعٍ فِي تَزْوِيجِهِ بِهَا وَبَقِيَ بِمَكَّةَ ، وَدَخْلٍ بِهَا عَامَ الْفَتْحِ بِسَرِفَ ، وَقَضَى اللَّهُ تَعَالَى أَنْ مَاتَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِسَرِفَ . وَالثَّامِنَةُ : جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ ، مَنْ بَنِي الْمُصْطَلِقِ مِنْ خُزَاعَةَ ، سَبَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ الَّتِي هَدَمَ فِيهَا مَنَاةَ ، ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا . وَقَالَ الشَّعْبِيُّ : وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا ، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَبْقَى أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَبْدًا مِنْ قَوْمِهَا إِلَّا أَعْتَقُهُ لِمَكَانَتِهَا ، فَقِيلَ : إِنَّهَا كَانَتْ أَبْرَكَ امْرَأَةٍ عَلَى قَوْمِهَا . وَالتَّاسِعَةُ : صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ بْنِ أَخْطَبَ ، اصْطَفَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ سَبْيِ النَّضِيرِ ، ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا ، وَهِيَ الَّتِي أَهْدَتْ إِلَيْهَا زَيْنَبُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْيَهُودِيَّةُ شَاةً مَسْمُومَةً ، فَأَكَلَ مِنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَهَؤُلَاءِ تِسَعٌ مَاتَ عَنْهُنَّ ، وَكَانَ يَقْسِمُ لِثَمَانٍ مِنْهُنَّ . وَأَمَّا الثَّمَانِي اللَّاتِي فَارَقَهُنَّ فِي حَيَاتِهِ : فَإِحْدَاهُنَّ أَسْمَاءُ بِنْتُ النُّعْمَانِ الْكِنْدِيَّةُ ، دَخَلَ عَلَيْهَا ، فَقَالَ لَهَا : تَعَالَيْ ، فَقَالَتْ : أَنَا مِنْ قَوْمٍ نُؤْتَى وَلَا نَأْتِي ، فَقَامَ إِلَيْهَا فَأَخَذَ بِيَدِهَا ، فَقَالَ : مَلِكَةٌ تَحْتَ سُوقَةٍ ، فَغَضِبَ وَقَالَ : لَوْ رَضِيَكِ اللَّهُ لِي لَأَمْسَكْتُكِ وَطَلَّقَهَا . وَالثَّانِيَةُ : لَيْلَى بِنْتُ الْحَطِيمِ أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهُوَ غَافِلٌ ، فَضَرَبَتْ ظَهْرَهُ ، فَقَالَ : مَنْ
هَذَا ؟ أَكَلَهُ الْأُسُودُ ، فَقَالَتْ : أَنَا لَيْلَى قَدْ جِئْتُكَ أَعْرِضُ نَفْسِي عَلَيْكَ ، فَقَالَ : قَدْ قَبِلْتُكِ ، ثُمَّ عَلِمَتْ كَثْرَةَ ضَرَائِرِهَا ، فَاسْتَقَالَتْهُ فَأَقَالَهَا ، فَدَخَلَتْ حَائِطًا بِالْمَدِينَةِ ، فَأَكَلَهَا الذِّئْبُ . وَالثَّالِثَةُ : عَمْرَةُ بِنْتُ يَزِيدَ الْكِلَابِيَّةُ دَخَلَ بِهَا ثُمَّ رَآهَا تَتَطَلَّعُ فَطَلَّقَهَا . وَالرَّابِعَةُ : الْعَالِيَةُ بِنْتُ ظَبْيَانَ ، دَخَلَ بِهَا وَمَكَثَتْ عِنْدَهُ مَا شَاءَ اللَّهُ ، ثُمَّ طَلَّقَهَا . وَالْخَامِسَةُ : فَاطِمَةُ بِنْتُ الضَّحَّاكِ الْكِلَابِيَّةُ ، لَمَّا خَيَّرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ ، اخْتَارَتْ فِرَاقَهُ ، فَفَارَقَهَا بَعْدَ دُخُولِهِ بِهَا . وَالسَّادِسَةُ : قُتَيْلَةُ بِنْتُ قَيْسٍ أُخْتُ الْأَشْعَثِ ، وَصَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَخْيِيرِهَا فِي مَرَضِهِ ، فَاخْتَارَتْ فِرَاقَهُ ، فَفَارَقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ . وَالسَّابِعَةُ : مُلَيْكَةُ بِنْتُ كَعْبٍ اللَّيْثِيَّةُ ، كَانَتْ مَذْكُورَةً بِالْجَمَالِ ، فَدَخَلَتْ إِلَيْهَا عَائِشَةُ ، فَقَالَتْ : أَلَّا تَسْتَحِينَ أَنْ تَتَزَوَّجِي قَاتِلَ أَبِيكِ يَوْمَ الْفَتْحِ ، فَاسْتَعِيذِي مِنْهُ فَإِنَّهُ يُعِيذُكِ ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ ، فَأَعْرَضَ عَنْهَا ، وَقَالَ : قَدْ أَعَاذَكِ اللَّهُ مِنِّي وَطَلَّقَهَا . وَالثَّامِنَةُ : امْرَأَةٌ مِنْ عَفَّانَ ، تَزَوَّجَهَا ، وَرَأَى بِكَشْحِهَا لَطْخًا فَقَالَ : ضُمِّي إِلَيْكِ ثِيَابَكِ وَالْحَقِي بِأَهْلِكِ ، فَهَؤُلَاءِ ثَمَانٍ فَارَقَهُنَّ فِي حَيَاتِهِ ، دَخْلَ مِنْهُنَّ بِثَلَاثٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ الكلام فيما خُصَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غير مَنَاكِحِهِ
فَصْلٌ : وَإِذْ قَدْ مَضَى مَا خُصَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنَاكِحِهِ ، فَالْكَلَامُ فِيمَا خُصَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَيْرِ مَنَاكِحِهِ ، وَهُوَ يَنْقَسِمُ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا خُصَّ بِهِ مِنْ فَرْضٍ . وَالثَّانِي : مَا خُصَّ بِهِ مِنْ حَظْرٍ . وَالثَّالِثُ : مَا خُصَّ بِهِ مِنْ إِبَاحَةٍ . وَالرَّابِعُ : مَا خُصَّ بِهِ مِنْ مَعُونَةٍ . وَالْخَامِسُ : مَا خُصَّ بِهِ مِنْ كَرَامَةٍ . فَأَمَّا مَا خُصَّ بِهِ مِنْ فَرْضٍ الرسول صلى الله عليه وسلم فَثَمَانِي خِصَالٍ : مِنْهَا قَوْلُهُ : " فُرِضَ عَلَيَّ الْوِتَرُ وَلَمْ يُفْرَضْ عَلَيْكُمْ الرسول صلى الله عليه وسلم " . وَمِنْهَا قَوْلُهُ : " فُرِضَ عَلَيَّ السِّوَاكُ وَلَمْ يُفْرَضْ عَلَيْكُمْ الرسول صلى الله عليه وسلم " . وَمِنْهَا قَوْلُهُ : " فُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُضْحِيَّةُ وَلَمْ تُفْرَضْ عَلَيْكُمْ الرسول صلى الله عليه وسلم " . وَمِنْهَا : أَنَّ فَرْضَهُ فِي الصَّلَاةِ كَامِلٌ لَا خَلَلَ فِيهِ . وَمِنْهَا : مَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ ، هَلْ كَانَ مَخْصُوصًا بِهِ ؟ صلى الله عليه وسلم عَلَى وَجْهَيْنِ .
وَمِنْهَا : أَنَّهُ إِذَا لَبِسَ لَأْمَةَ سِلَاحِهِ ، فَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ قَبْلَ لِقَاءِ عَدُوِّهِ الرسول صلى الله عليه وسلم . وَمِنْهَا : أَنَّهُ كَانَ إِذَا بَارَزَ فِي الْحَرْبِ رَجُلًا لَمْ يَنْكِفْ عَنْهُ حَتَّى يَقْتُلَهُ . وَمِنْهَا : أَنَّهُ لَا يَفِرُّ مِنَ الزَّحْفِ وَيَقِفُ بَارِزًا عَدُوَّهُ وَإِنْ كَثُرُوا الرسول صلى الله عليه وسلم .
فَصْلٌ بيان مَا خُصَّ بِهِ مِنْ حَظْرٍ
فَصْلٌ : فَأَمَّا مَا خُصَّ بِهِ مِنْ حَظْرٍ صلى الله عليه وسلم فَخَمْسَةُ خِصَالٍ : مِنْهَا : قَوْلُ الشِّعْرِ للرسول صلى الله عليه وسلم ، وَرِوَايَتُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ [ يَس : 69 ] . وَمِنْهَا الْكِتَابَةُ وَالْقِرَاءَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ [ الْعَنْكَبُوتِ : 49 ] . وَمِنْهَا : أَنْ لَيْسَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ الرسول صلى الله عليه وسلم : لِأَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ عَامَ الْفَتْحِ بِقَتْلِ سِتَّةٍ ، وَإِنْ تَعَلَّقُوا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ أَتَاهُ عُثْمَانُ بِأَحَدِهِمْ - وَكَانَ قَرِيبَهُ - لِيَأْخُذَ لَهُ أَمَانًا مِنْهُ ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ ، ثُمَّ عَاوَدَهُ فَأَمَّنَهُ ، فَلَمَّا وَلِيَ قَالَ لِمَنْ حَضَرَ مِنْ أَصْحَابِهِ : هَلَّا قَتَلْتُمُوهُ ، فَقَالَ : هَلَّا أَوْمَأْتَ إِلَيْنَا بِعَيْنَيْكَ ، فَقَالَ : مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ . وَمِنْهَا : مَنْعُهُ مِنَ الصَّدَقَاتِ الرسول صلى الله عليه وسلم . وَمِنْهَا : مَنْعُهُ مِنْ أَكْلِ مَا تُؤْذِي رَائِحَتُهُ مِنَ الْبُقُولِ لِهُبُوطِ الْوَحْيِ عَلَيْهِ الرسول صلى الله عليه وسلم .
فَصْلٌ بيان مَا خُصَّ بِهِ مِنْ إِبَاحَةٍ
فَصْلٌ : فَأَمَّا مَا خُصَّ بِهِ مِنْ إِبَاحَةٍ صلى الله عليه وسلم فَأَرْبَعُ خِصَالٍ : مِنْهَا : الْوِصَالُ بَيْنَ صَوْمِ الْيَوْمَيْنِ للنبي صلى الله عليه وسلم بِالْإِمْسَاكِ : لِأَنَّهُ لَمَّا نَهَى عَنِ الْوِصَالِ وَوَاصَلَ قَالَ : إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ إِنِّي أَظَلُّ عِنْدَ رَبِّي فَيُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي . وَمِنْهَا : الصَّفِيُّ يَصْطَفِي مِنَ الْمَغَانِمِ مَا شَاءَ الرسول صلى الله عليه وسلم . وَمِنْهَا : أَنَّهُ يُحْيِي نَفْسَهُ بِمَالِ غَيْرِهِ وَنَفْسِهِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ ضَرُورَتِهِ . وَمِنْهَا : أَنَّهُ خُصَّ بِحِمَى الْمَوَاتِ الرسول صلى الله عليه وسلم فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا مَا خُصَّ بِهِ مِنْ مَعُونَةٍ الرسول صلى الله عليه وسلم فَسَبْعُ خِصَالٍ : مِنْهَا : مَا جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ مِنَ الْفَيْءِ وَالْغَنَائِمِ الرسول صلى الله عليه وسلم . وَمِنْهَا : مَا مَلَّكَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِيَّاهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ الرسول صلى الله عليه وسلم . وَمِنْهَا : أَنْ لَا يُقِرَّهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى خَطَأٍ الرسول صلى الله عليه وسلم . وَمِنْهَا : مَا أَمَدَّهُ بِهِ مِنْ مَلَائِكَةٍ الرسول صلى الله عليه وسلم . وَمِنْهَا : مَا تَكَفَّلَ بِهِ مِنْ عِصْمَتِهِ فِي قَوْلِهِ : وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ الرسول صلى الله عليه وسلم . وَمِنْهَا : مَا وَعَدَهُ بِهِ مِنْ نُصْرَتِهِ الرسول صلى الله عليه وسلم .
وَمِنْهَا : مَا أَلْقَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ رَهْبَتِهِ ، حَتَّى قَالَ نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ الرسول صلى الله عليه وسلم .
فَصْلٌ : فَأَمَّا مَا خُصَّ بِهِ مِنْ كَرَامَةٍ صلى الله عليه وسلم فَعَشْرُ خِصَالٍ : مِنْهَا : أَنْ بَعَثَهُ إِلَى كَافَّةِ الْخَلْقِ . وَمِنْهَا : أَنْ جَعَلَهُ خَاتَمَ الْأَنْبِيَاءِ ما خص الله به الرسول صلى الله عليه وسلم . وَمِنْهَا : أَنْ جَعَلَهُ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ما خص الله به الرسول صلى الله عليه وسلم . وَمِنْهَا : أَنْ جَعَلَ أُمَّتَهُ خَيْرَ الْأُمَمِ ما خص الله به الرسول صلى الله عليه وسلم . وَمِنْهَا : أَنْ تَنَامَ عَيْنَاهُ وَلَا يَنَامَ قَلْبُهُ ما خص الله به الرسول صلى الله عليه وسلم . وَمِنْهَا : أَنْ يَرَى مَنْ وَرَائَهُ كَمَا يَرَى مَنْ أَمَامَهُ ما خص الله به الرسول صلى الله عليه وسلم . وَمِنْهَا : أَنْ يُبَلَّغَ السَّلَامَ بَعْدَ الْمَوْتِ ما خص الله به الرسول صلى الله عليه وسلم . وَمِنْهَا : أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ ما خص الله به الرسول صلى الله عليه وسلم . وَمِنْهَا : أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ ما خص الله به الرسول صلى الله عليه وسلم . وَمِنْهَا : أَنَّهُ يَشْهَدُ لِجَمِيعِ النَّبِيِّينَ بِالْأَدَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ما خص الله به الرسول صلى الله عليه وسلم .
التَّرْغِيبُ فِي النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْجَامِعِ
النِّكَاحُ مُبَاحٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ
التَّرْغِيبُ فِي النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْجَامِعِ وَمِنْ كِتَابِ النِّكَاحِ جَدِيدٍ وَقَدِيمٍ ، وَمِنَ الْإِمْلَاءِ عَلَى مَسَائِلِ مَالِكٍ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : " وَأُحِبُّ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ أَنْ يَتَزَوَّجَا إِذَا تَاقَتْ أَنْفُسُهُمَا إِلَيْهِ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِهِ وَرَضِيَهُ ، وَنَدَبَ إِلَيْهِ ، وَبَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : تَنَاكَحُوا تَكْثُرُوا فَإِنِّي أُبَاهِي بِكُمُ الْأُمَمَ حَتَّى بِالسَّقْطِ . وَأَنَّهُ قَالَ : مَنْ أَحَبَّ فِطْرَتِي فَلْيَسْتَنَّ بِسُنَّتِي وَمِنْ سُنَّتِي النِّكَاحُ ، وَيُقَالُ : إِنَّ الرَّجُلَ لَيُرْفَعُ بِدَعَاءِ وَلَدِهِ مِنْ بَعْدِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ النِّكَاحُ مُبَاحٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ حكمه . وَقَالَ دَاوُدُ : النِّكَاحُ وَاجِبٌ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [ النِّسَاءِ : 3 ] وَهَذَا أَمْرٌ ، وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : تَنَاكَحُوا تَكْثُرُوا قَالَ : وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعٌ بِقَوْلِ صَحَابِيَّيْنِ لَمْ يَظْهَرْ خِلَافُهُمَا : أَحَدُهُمَا : قَوْلُ عُمَرَ لِأَبِي الزَّوَائِدِ : لَا يَمْنَعُكَ مِنَ النِّكَاحِ إِلَّا عَجْزٌ أَوْ فُجُورٌ . وَالثَّانِي : قَوْلُ مُعَاذٍ فِي مَرَضِهِ : زَوِّجُونِي لَا أَلْقَى اللَّهَ عَزَبًا . لِأَنَّ فِي النِّكَاحِ مِنْ تَحْصِينِ النَّفْسِ مِثْلَ مَا فِي الْغِذَاءِ ، فَلَمَّا لَزِمَ تَحْصِينُهَا بِالْغِذَاءِ ، لَزِمَ تَحْصِينُهَا بِالنِّكَاحِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَزِمَهُ إِعْفَافُ أَبِيهِ كَانَ إِعْفَافُ نَفْسِهِ أَوْلَى . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [ النِّسَاءِ : 3 ] وَمِنْهُ دَلِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ عُلِّقَ بِطِيبِ النَّفْسِ ، وَلَوْ كَانَ لَازِمًا وَاجِبًا لَلَزِمَ بِكُلِّ حَالٍ . وَالثَّانِي : قَوْلُهُ : فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَخَيَّرَهُ بَيْنَ النِّكَاحِ وَمِلْكِ الْيَمِينِ ، وَالتَّخْيِيرُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ يَقْتَضِي تَسَاوِي حُكْمِهِمَا ، فَلَمَّا كَانَ مِلْكُ الْيَمِينِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ ، كَانَ النِّكَاحُ بِمَثَابَتِهِ ، وَقَالَ تَعَالَى : ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ فَأَبَاحَ نِكَاحَ الْأَمَةِ لِمَنْ خَشِيَ الزِّنَا ، وَجَعَلَ الصَّبْرَ خَيْرًا لَهُ ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَكَانَ الصَّبْرُ شَرًّا لَهُ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : خِيَارُكُمْ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ كُلُّ خَفِيفٍ حَاذٍّ ، قِيلَ : وَمَنِ الْخَفِيفُ الْحَاذُّ ، قَالَ : الَّذِي لَا أَهْلَ لَهُ وَلَا وَلَدَ .
وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّهُ قَالَ : الصَّبْرُ عَنِ النِّسَاءِ خَيْرٌ مِنَ الصَّبْرِ عَلَيْهِنَّ ، وَالصَّبْرُ عَلَيْهِنَّ خَيْرٌ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى النَّارِ . وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّهُ قَالَ : مِسْكِينٌ مِسْكِينٌ رَجُلٌ لَا امْرَأَةَ لَهُ ، وَمِسْكِينَةٌ مِسْكِينَةٌ امْرَأَةٌ لَا رَجُلَ لَهَا . فَأَخْرَجَ ذَلِكَ مَخْرَجَ الرَّحْمَةِ ، وَتَارِكُ الْوَاجِبِ لَا يَرْحَمُ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِبْ مَقْصُودُ النِّكَاحِ وَهُوَ الْوَطْءُ ، كَانَ النِّكَاحُ بِأَنْ لَا يَجِبَ أَوْلَى ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي النِّكَاحِ أَكْثَرُ مِنْ نَيْلِ شَهْوَةٍ وَإِدْرَاكِ لَذَّةٍ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِوَاجِبٍ كَسَائِرِ الشَّهَوَاتِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ قَطْعُ شَهْوَتِهِ بِالنِّكَاحِ لَوَجَبَ قَطْعُهَا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُ بِمَا قَامَ مَقَامَهُ مِنْ دَوَاءٍ وَعِلَاجٍ ، وَلِأَنَّ مَا دَعَتْ إِلَيْهِ الشَّهَوَاتُ خَارِجٌ مِنْ جُمْلَةِ الْوَاجِبَاتِ : لِأَنَّ مِنْ صِفَاتِ الْوَاجِبَاتِ تَكَلَّفُ الْمَشَاقِّ فِيهَا وَتَحَمَّلُ الْأَثْقَالِ لَهَا ، فَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ جَعَلْنَاهَا دَلِيلًا . وَأَمَّا الْخَبَرُ فَهُوَ أَمْرٌ بِالنِّكَاحِ لِلْمُكَاثَرَةِ بِالْأَوْلَادِ : لِأَنَّهُ قَالَ تَنَاكَحُوا تَكْثُرُوا فَإِنِّي أُبَاهِي بِكُمُ الْأُمَمَ حَتَّى بِالسَّقْطِ وَلَيْسَتِ الْمُكَاثَرَةُ وَاجِبَةً ، وَكَذَلِكَ مَا جُعِلَ طَرِيقًا إِلَيْهَا . أَمَّا قَوْلُهُ : أَنَّ فِيهِ تَحْصِينَ النَّفْسِ ، فَإِنَّمَا يَجِبُ مِنْ تَحْصِينِ النَّفْسِ مَا خِيفَ مِنْهُ التَّلَفُ ، وَلَيْسَ فِي تَرْكِ النِّكَاحِ خَوْفُ التَّلَفِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ لَمَّا لَزِمَهُ إِعْفَافُ أَبِيهِ لَزِمَهُ إِعْفَافُ نَفْسِهِ ، فَقَدْ كَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ يَقُولُ : إِنَّ إِعْفَافَ أَمَتِهِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ كَمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِعْفَافُ ابْنِهِ . وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وُجُوبُهُ ، وَلَا يَجُبْ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ كَمَا يَلْزَمُهُ فِي حَقِّ أَبِيهِ الْقِيَامُ بِكِفَايَتِهِ مِنَ الْقُوتِ وَالْكِسْوَةِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، فَكَذَلِكَ النِّكَاحُ . فَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ لِأَبِي الزَّوَائِدِ : مَا مَنَعَكَ مِنَ النِّكَاحِ إِلَّا عَجْزٌ أَوْ فُجُورٌ ، فَهُوَ عَلَى طَرِيقِ التَّرْغِيبِ دُونَ الْوُجُوبِ ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَزِمَهُ . وَأَمَّا قَوْلُ مُعَاذٍ : زَوِّجُونِي لَا أَلْقَى اللَّهَ عَزَبًا ، فَقَدْ قِيلَ : إِنَّهُ كَانَ ذَا أَوْلَادٍ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اخْتَارَ ذَلِكَ نَدْبًا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَمَنْ لَمْ تَتُقْ نَفْسُهُ إِلَى ذَلِكَ فَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَتَخَلَّى لِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى ( قَالَ ) : وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ [ النُّورِ : 60 ] وَذَكَرَ عَبْدًا أَكْرَمَهُ فَقَالَ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَالْحَصُورُ الَّذِي لَا يَأْتِي النِّسَاءَ وَلَمْ يَنْدُبْهُنَّ إِلَى النِّكَاحِ ، فَدَلَّ أَنَّ الْمَنْدُوبَ إِلَيْهِ مَنْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ الْإِنْسَانِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ تَائِقَ النَّفْسِ إِلَى النِّكَاحِ أحوال النفس في الزواج ، شَدِيدَ الشَّهْوَةِ لَهُ ، تُنَازِعُهُ نَفْسُهُ إِلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يُحَدِّثْهَا بِهِ ، فَهَذَا مَنْدُوبٌ إِلَى النِّكَاحِ وَمَأْمُورٌ بِهِ ، وَنِكَاحُهُ أَفْضَلُ مِنْ تَرْكِهِ : لِئَلَّا تَدْعُوَهُ شِدَّةُ الشَّهْوَةِ إِلَى مُوَاقَعَةِ الْفُجُورِ ، وَفِي مِثْلِهِ وَرَدَتْ أَخْبَارُ النَّدْبِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَصْرُوفَ الشَّهْوَةِ عَنْهُ ، غَيْرَ تَائِقٍ إِلَيْهِ أحوال النفس في الزواج ، وَمَتَى حَدَّثَ نَفْسَهُ بِهِ لَمْ تُرِدْهُ ، فَالْأَفْضَلُ لِمِثْلِ هَذَا أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لَهُ ، وَتَرَكُهُ أَفْضَلُ لَهُ مِنْ فِعْلِهِ ، لِئَلَّا يَدْعُوَهُ الدُّخُولُ فِيهِ
إِلَى الْعَجْزِ عَمَّا يَلْزَمُهُ مِنْ حُقُوقٍ ، وَفِي مِثْلِهِ وَرَدَتْ أَخْبَارُ الْكَرَاهَةِ ، وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَى يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا فِي تَرْكِ النِّسَاءِ فَقَالَ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا [ آلِ عِمْرَانَ : 39 ] وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ السَّيِّدَ الْخَلِيفَةُ ، وَالْحَصُورَ الَّذِي لَا يَأْتِي النِّسَاءَ . وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ . وَالثَّانِي : أَنَّ السَّيِّدَ الْفَقِيهُ ، وَالْحَصُورَ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى إِتْيَانِ النِّسَاءِ . وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ . وَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا [ النُّورِ : 60 ] وَالْقَوَاعِدُ : هُنَّ اللَّاتِي قَعَدْنَ بِالْكِبَرِ عَنِ الْحَيْضِ وَالْحَمْلِ فَلَا يُرِدْنَ الرِّجَالَ وَلَا يُرِيدُهُنَّ الرِّجَالُ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ مُعْتَدِلَ الشَّهْوَةِ إِنْ صَبَرَتْ نَفْسُهُ عَنْهُ صَبَرَ ، وَإِنْ حَدَّثَهَا بِهِ فَسَدَتْ أحوال النفس في الزواج ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُشْتَغِلًا بِالطَّاعَةِ ، أَوْ مُشْتَغِلًا بِالدُّنْيَا ، فَإِنْ كَانَ مُشْتَغِلًا بِطَاعَةٍ مِنْ عِبَادَةٍ أَوْ عِلْمٍ ، فَتَرْكُهُ لِلنِّكَاحِ تَشَاغُلًا بِالطَّاعَةِ أَفْضَلُ لَهُ وَأَوْلَى بِهِ ، وَإِنْ كَانَ مُتَشَاغِلًا بِالدُّنْيَا فَالنِّكَاحُ أَوْلَى بِهِ مِنْ تَرْكِهِ : لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِلتَّشَاغُلِ بِهِ عَنِ الْحِرْصِ فِي الدُّنْيَا . وَالثَّانِي : لِطَلَبِ الْوَلَدِ ، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ الرَّجُلَ لَيُرْفَعُ بِدُعَاءِ وَلَدِهِ مِنْ بَعْدِهِ . وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : سَبْعٌ يَجْرِي عَلَى الْعَبْدِ أَجْرُهُنَّ بَعْدَ مَوْتِهِ مَنْ كَرَى نَهْرًا ، أَوْ حَفَرَ بِئْرًا ، أَوْ وَقَفَ وَقْفًا ، أَوْ وَرَّقَ مُصْحَفًا ، أَوْ بَنَى مَسْجِدًا ، أَوْ عَلَّمَ عِلْمًا ، أَوْ خَلَّفَ وَلَدًا صَالِحًا يَدْعُو لَهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا حَاسِرَةً
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ موضع النظر فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا حَاسِرَةً ، وَيَنْظُرُ إِلَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا وَهِيَ مُتَغَطِّيَةٌ ، بَإِذْنِهَا وَبِغَيْرِ إِذْنِهَا ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا [ النُّورِ : 31 ] قَالَ : الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى الْكَلَامُ أَنَّ وَجْهَ الْمَرْأَةِ وَكَفَّيْهَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ : لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا [ النُّورِ : 31 ] . قَالَ الشَّافِعِيُّ : الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ . وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٍ . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ : هُوَ الْكُحْلُ ، وَالْخَاتَمُ ، عِبَارَةً عَنِ الْوَجْهِ بِالْكُحْلِ
وَعَنِ الْيَدَيْنِ بِالْخَاتَمِ ، فَإِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ ، جَازَ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا لَا غَيْرُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَنْظُرُ مَعَ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ إِلَى رُبُعِ السَّاقِ . وَقَالَ دَاوُدُ : يَنْظُرُ مِنْهَا إِلَى مَا يَنْظُرُ مِنَ الْأَمَةِ إِذَا أَرَادَ شِرَاءَهَا ، وَرَوَاهُ الْأَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ . وَرُوِيَ عَنِ الْأَشْهَبِ مِثْلُ قَوْلِنَا . وَقَالَ الْمَغْرِبِيُّ : لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا ، فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ ، فَإِنَّهُ اعْتَبَرَ الْقَدَمَيْنِ بِالْكَفَّيْنِ : لِأَنَّهُ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ ، فَلَمْ يَجْعَلْهَا عَوْرَةً ، وَالْكَلَامُ مَعَهُ فِي حَدِّ الْعَوْرَةِ قَدْ مَضَى ، وَأَمَّا دَاوُدُ : فَاسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ خِطْبَةَ امْرَأَةٍ فَلْيُولِجْ بَصَرَهُ فِيهَا فِإِنَّمَا هُوَ مُسِرٌّ . وَأَمَّا الْمَغْرِبِيُّ فَإِنَّهُ اسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : يَا عَلِيُّ لَا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّ الْأُولَى لَكَ وَالثَّانِيَةَ عَلَيْكَ . وَدَلِيلُنَا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ [ النُّورِ : 31 ] يَعْنِي السَّاقَيْنِ . وَدَلِيلُنَا عَلَى دَاوُدَ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا يَعْنِي الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنَّ أَسْمَاءَ دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَةَ - وَعَلَيْهَا ثَوْبٌ رَقِيقٌ - فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمَا عَلِمْتِ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا حَاضَتْ حَرُمَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْهَا إِلَّا هَذَا وَهَذَا ، وَأَشَارَ إِلَى وَجْهِهِ وَكَفَّيْهِ . وَدَلِيلُنَا عَلَى الْمَغْرِبِيِّ رِوَايَةُ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ خِطْبَةَ امْرَأَةٍ فَلْيَنْظُرْ إِلَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا ، فَإِنَّ فِي أَعْيُنِ الْأَنْصَارِ شَيْئًا ، أَوْ قَالَ : سُوءًا . وَرَوَى أَبُو الدَّرْدَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِذَا قَذَفَ اللَّهُ فِي قَلْبِ أَحَدِكُمْ خِطْبَةَ امْرَأَةٍ فَلْيَتَأَمَّلْ خِلْقَتَهَا . وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّمَا النِّسَاءُ لُعَبٌ ، فَإِذَا اتَّخَذَ أَحَدُكُمْ لُعْبَةً فَلْيَسْتَحْسِنْهَا . وَرَوَى بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّهُ خَطَبَ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اذْهَبْ فَانْظُرَ إِلَيْهَا ، فَإِنَهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا .
وَفِي يُؤْدَمُ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا - وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ - : أَنَّهُ يَعْنِي يَدُومُ ، فَقَدَّمَ الْوَاوَ عَلَى الدَّالِ ، كَمَا قَالَ فِي ثَمَرِ الْأَرَاكَةِ : " كُلُوا مِنْهُ الْأَسْوَدَ فَإِنَّهُ أَيْطَبُ " بِمَعْنَى أَطْيَبَ ، فَيَكُونُ مَأْخُوذًا مِنَ الدَّوَامِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي - وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ اللُّغَةِ - : أَنَّهُ الْمُحَابَّةُ ، وَأَنْ لَا يَتَنَافَرُوا مَأْخُوذًا مِنْ إِدَامِ الطَّعَامِ ، لِأَنَّهُ يَطِيبُ بِهِ فَيَكُونُ مَأْخُوذًا مِنَ إِدَامٍ لَا مِنَ الدَّوَامِ ، ثُمَّ مَنْ مَرَّ الدَّلِيلَ عَلَى جَوَازِ أَنْ يُنْظَرَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ أَبْلَغُ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ مِنْ فَقْدِهِ ، فَاقْتَصَرَ عَلَى نَظَرِ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ : لِخُرُوجِهِمَا عَنْ حُكْمِ الْعَوْرَةِ ، وَإِنَّ فِي الْوَجْهِ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْجَمَالِ ، وَفِي الْكَفَّيْنِ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى خِصْبِ الْبَدَنِ وَنِعْمَتِهِ فَأَغْنَاهُ ذَلِكَ عَنِ النَّظَرِ إِلَى غَيْرِهِ .
فَصْلٌ الْقَوْلُ فِي النَّظَرِ إِلَى الْمَرْأَةِ بِلَا إِذْنٍ
فَصْلٌ : [ الْقَوْلُ فِي /1 L10836 L19329 L19357 النَّظَرِ إِلَى الْمَرْأَةِ بِلَا إِذْنٍ /2 المخطوبة /2 /1 ] فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ جَازَ نَظَرُهُ بِإِذْنِهَا وَغَيْرِ إِذْنِهَا . وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَّا بِإِذْنِهَا ، وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ جَابِرٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنْ خَطَبَ أَحَدُكُمُ امْرَأَةً فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَا يَدْعُوهُ إِلَى نِكَاحِهَا فَلْيَفْعَلْ ، قَالَ : فَخَطَبْتُ جَارِيَةً فَكُنْتُ أَتَخَبَّأُ لَهَا حَتَّى رَأَيْتُ مَا دَعَانِي إِلَى نِكَاحِهَا ، وَلِأَنَّهُ إِنْ كَانَ النَّظَرُ مُبَاحًا لَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى إِذْنٍ ، وَإِنْ كَانَ مَحْظُورًا لَمْ يُسْتَبَحْ بِالْإِذْنِ .
فَصْلٌ الْقَوْلُ فِي حَالَاتِ جَوَازِ النَّظَرِ إِلَى الْأَجْنَبِيَّةِ
فَصْلٌ : [ الْقَوْلُ فِي حَالَاتِ جَوَازِ النَّظَرِ إِلَى الْأَجْنَبِيَّةِ ] فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا لَمْ يَخْلُ نَظَرُ الرَّجُلِ الْأَجْنَبِيِّ إِلَى الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِسَبَبٍ أَوْ لِغَيْرِ سَبَبٍ ، فَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ سَبَبٍ مُنِعَ مِنْهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ [ النُّورِ : 31 ] ، وَمُنِعَتْ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ [ النُّورِ : 31 ] ، وَلِأَنَّ نَظَرَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ دَاعِيَةٌ إِلَى الِافْتِتَانِ بِهِ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَرَفَ وَجْهَ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ وَكَانَ رَدِيفَهُ بِمِنَى عَنِ النَّظَرِ إِلَى الْخَثْعَمِيَّةِ ، وَكَانَتْ ذَاتَ جَمَالٍ ، وَقَالَ : شَابٌّ وَشَابَّةٌ ، وَأَخَافُ أَنْ يَدْخُلَ الشَّيْطَانُ بَيْنَهُمَا . فَإِنْ نَظَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى عَوْرَةِ صَاحِبِهِ كَانَ حَرَامًا ، وَإِنْ نَظَرَ إِلَى غَيْرِ الْعَوْرَةِ كَانَ مَكْرُوهًا . فَإِنْ كَانَ النَّظَرُ لِسَبَبٍ فَضَرْبَانِ : مَحْظُورٌ وَمُبَاحٌ ، فَالْمَحْظُورُ كَالنَّظَرِ بِمَعْصِيَةٍ وَفُجُورٍ ، فَهُوَ أَغْلَظُ تَحْرِيمًا ، وَأَشَدُّ مَأْثَمًا مِنَ النَّظَرِ بِغَيْرِ سَبَبٍ ، وَالْمُبَاحُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ النظر المباح إلى المرأة الأجنبية : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ لِضَرُورَةٍ كَالطَّبِيبِ يُعَالِجُ مَوْضِعًا مِنْ جَسَدِ الْمَرْأَةِ النظر المباح إلى المرأة الأجنبية ، فَيَجُوزُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَا دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى عِلَاجِهِ مِنْ عَوْرَةٍ وَغَيْرِهَا ، إِذَا أَمِنَ الِافْتِتَانَ بِهَا ، وَلَا يَتَعَدَّى بِنَظَرِهِ إِلَى مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى عِلَاجِهِ .
وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ لِتَحَمُّلِ شَهَادَةٍ أَوْ حُدُوثِ مُعَامَلَةٍ ، فَيَجُوزُ أَنْ يَعْمِدَ النَّظَرَ إِلَى وَجْهِهَا دُونَ كَفَّيْهَا نظر الرجل إلى المرأة الأجنبية عند تَحَمُّلِ شَهَادَةٍ أَوْ حُدُوثِ مُعَامَلَةٍ : لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ شَاهِدًا فَلْيَعْرِفْهَا فِي تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ عَنْهَا ، وَفِي أَدَائِهَا عَلَيْهَا ، وَإِنْ كَانَ مُبَايِعًا فَلْيَعْرِفْ مَنْ يُعَاقِدُهُ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يُرِيدَ خِطْبَتَهَا فَهُوَ الَّذِي جَوَّزْنَا لَهُ تَعَمُّدَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا بِإِذْنِهَا وَغَيْرِ إِذْنِهَا ، وَلَا يَتَجَاوَزُ النَّظَرَ إِلَى مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ جَسَدِهَا ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .
بَابُ مَا عَلَى الْأَوْلِيَاءِ وَإِنْكَاحُ الْأَبِ الْبِكْرَ بِغَيْرِ إِذْنِهَا
بَابُ مَا عَلَى الْأَوْلِيَاءِ ، وَإِنْكَاحُ الْأَبِ الْبِكْرَ بِغَيْرِ إِذْنِهَا ، وَوَجْهُ النِّكَاحِ ، وَالرَّجُلُ يَتَزَوَّجُ أَمَتَهُ وَيَجْعَلُ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا مِنْ جَامِعِ كِتَابِ النِّكَاحِ وَأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَكِتَابِ النِّكَاحِ إِمْلَاءً عَلَى مَسَائِلِ مَالِكٍ ، وَاخْتِلَافِ الْحَدِيثِ وَالرِّسَالَةِ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : فَدَلَّ كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَسُنَّةُ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى أَنَّ حَقًّا عَلَى الْأَوْلِيَاءِ أَنْ يُزَوِّجُوا الْحَرَائِرَ الْبَوَالِغَ إِذَا أَرَدْنَ النِّكَاحَ وَدَعَوْنَ إِلَى رِضًا ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ( قَالَ ) وَهَذِهِ أَبَيْنُ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى دَلَالَةً عَلَى أَنْ لَيْسَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ ( قَالَ ) وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : نَزَلَتْ فِي مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ زَوَّجَ أُخْتَهُ رَجُلًا فَطَلَّقَهَا ، فَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا ، ثُمَّ طَلَبَ نِكَاحَهَا وَطَلَبَتْهُ ، فَقَالَ : زَوَّجْتُكَ أُخْتِي دُونَ غَيْرِكَ ، ثُمَّ طَلَّقْتَهَا لَا أُنْكِحُكَهَا أَبَدًا . فَنَزَلَتْ هِذِهِ الْآيَةُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : بَدَأَ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا الْفَصْلِ بِمَا عَلَى الْأَوْلِيَاءِ مِنْ نِكَاحِ الْأَيَامَى إِذَا دَعَوْنَ إِلَى رِضًى الشروط المعتبرة في ذلك ، وَوُجُوبُهُ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ مُعْتَبَرٌ بِخَمْسِ شَرَائِطَ ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ حُرَّةً بَالِغَةً عَاقِلَةً ، تَدْعُو إِلَى كُفْءٍ عَنْ تَرَاضٍ ، فَيَلْزَمُهُ إِنْكَاحُهَا ، وَلَا يُسَوَّغُ لَهُ مَنْعُهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزَوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ [ الْبَقَرَةِ : 232 ] وَفِي الْعَضْلِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ الْمَنْعُ . وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ : دَاءٌ عُضَالٌ إِذَا امْتَنَعَ مِنْ أَنْ يُدَاوَى . وَفُلَانٌ عَضْلَةٌ دَاهِيَةٌ : لِأَنَّهُ امْتَنَعَ بِدَهَائِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ الضَّيِّقُ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ قَدْ أَعْضَلَ بِالْجَيْشِ الْفَضَاءُ إِذَا ضَاقَ بِهِمْ ، وَقَوْلُ عُمَرَ قَدْ أُعْضِلَ بِي أَهْلُ الْعِرَاقِ لَا يَرْضَوْنَ عَنْ وَالٍ وَلَا يَرْضَى عَنْهُمْ وَالٍ ، وَفِي قَوْلِهِ : إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : إِذَا تَرَاضَا الزَّوْجَانِ بِالْمَهْرِ . وَالثَّانِي : إِذَا رَضِيَتِ الْمَرْأَةُ بِالزَّوَاجِ الْمُكَافِئِ ، وَفِيمَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَوْلَانِ : أَحَدُهَا - وَهُوَ الْأَشْهَرُ - : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ زَوَّجَ أُخْتَهُ رَجُلًا ثُمَّ طَلَّقَهَا وَتَرَاضَيَا بَعْدَ الْعِدَّةِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَعَضَلَهَا وَحَلَفَ أَنْ لَا يُزَوِّجَهَا ، فَنَهَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ عَضَلِهَا ، وَأَمْرَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا فَفَعَلَ . وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالشَّافِعِيِّ .
وَالثَّانِي : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مَعَ بِنْتِ عَمٍّ لَهُ ، وَقَدْ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا ثُمَّ خَطَبَهَا فَعَضَلَهَا . وَهَذَا قَوْلُ السُّدِّيِّ .
فَصْلٌ : [ الْقَوْلُ فِي /1 L11152 اشْتِرَاطِ الْوَلِيِّ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ /1 ] فَإِنْ أَرَادَتِ الْمَرْأَةُ أَنْ تَنْفَرِدَ بِالْعَقْدِ عَلَى نَفْسِهَا مِنْ غَيْرِ وَلِيٍّ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ عَلَى سِتَّةِ مَذَاهِبَ . مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ مِنْهَا : أَنَّ الْوَلِيَّ شَرْطٌ فِي نِكَاحِهَا لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ إِلَّا بِهِ وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَنْفَرِدَ بِالْعَقْدِ عَلَى نَفْسِهَا ، وَإِنْ أَذِنَ لَهَا وَلِيُّهَا ، سَوَاءٌ كَانَتْ صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً ، شَرِيفَةً أَوْ دَنِيَّةً ، بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا . وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ ، وَعَلَيُّ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَابْنُ عُمَرَ ، وَعَائِشَةُ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ . وَمِنَ التَّابِعِينَ : الْحَسَنُ ، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزَ ، وَشُرَيْحٌ ، وَالنَّخَعِيُّ . وَمِنَ الْفُقَهَاءِ : الْأَوْزَاعِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى ، وَأَحْمَدُ ، وَإِسْحَاقُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا فِي مَالِهَا وِلَايَةٌ لِبُلُوغِهَا وَعَقْلِهَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا فِي نِكَاحِهَا وِلَايَةٌ ، وَجَازَ أَنْ تَنْفَرِدَ بِالْعَقْدِ عَلَى نَفْسِهَا وَتَرُدَّهُ إِلَى مَنْ شَاءَتْ مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ ، وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهَا مِنَ الْوَالِي إِلَّا أَنْ تَضَعَ نَفْسَهَا فِي غَيْرِ كُفْءٍ ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا فِي مَالِهَا وِلَايَةٌ لِجُنُونٍ أَوْ صِغَرٍ لَمْ تَنْكِحْ نَفْسَهَا إِلَّا بِوَلِيٍّ . قَالَ مَالِكٌ : إِنْ كَانَتْ ذَاتَ شَرَفٍ أَوْ جَمَالٍ أَوْ مَالٍ صَحَّ نِكَاحُهَا بِغَيْرِ وَلِيٍّ . وَقَالَ دَاوُدُ : إِنْ كَانَتْ بِكْرًا لَمْ يَصِحَّ نِكَاحُهَا إِلَّا بِوَلِيٍّ ، وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا صَحَّ بِغَيْرِ وَلِيٍّ . وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ : إِنْ أَذِنَ لَهَا وَلِيُّهَا جَازَ أَنْ تَعْقِدَ عَلَى نَفْسِهَا ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهَا لَمْ يَجُزْ . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : تَأْذَنُ لِمَنْ شَاءَتْ مِنَ الرِّجَالِ فِي تَزْوِيجِهَا دُونَ النِّسَاءِ ، وَيَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ وَلِيِّهَا . فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [ الْبَقَرَةِ : 234 ] فَنَسَبَ النِّكَاحَ إِلَيْهِنَّ وَرَفْعَ الِاعْتِرَاضَ عَنْهُنَّ ، وَبِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا ، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا وَإِذْنُهَا صِمَاتُهَا . وَبِرِوَايَةِ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَيْسَ لِوَلِيٍّ مَعَ الثَّيِّبِ أَمْرٌ .
وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : إِنْ أَبِي وَنِعْمَ الْأَبُ هُوَ زَوَّجَنِي بِابْنِ أَخٍ لَهُ لِيَرْفَعَ بِي خَسِيسَتَهُ ، فَرَدَّ نِكَاحَهَا . فَقَالَتْ : قَدِ اخْتَرْتُ مَا فَعَلَ أَبِي ، وَإِنَّمَا أَرَدْتُ لِيَعْلَمَ النِّسَاءُ أَنْ لَيْسَ إِلَى الْآبَاءِ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي مَالِهِ جَازَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي نِكَاحِهِ ، كَالرَّجُلِ طَرْدًا وَالصَّغِيرِ عَكْسًا . وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ يَجُوزُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ الرَّجُلُ ، فَجَازَ أَنْ تَتَصَرَّفَ فِيهِ الْمَرْأَةُ كَالْبَيْعِ ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَةٍ فَجَازَ أَنْ تَتَوَلَّاهُ الْمَرْأَةُ كَالْإِجَارَةِ ، وَلِأَنَّ لَمَّا جَازَ تَصَرُّفُهَا فِي الْمَهْرِ وَهُوَ بَدَلٌ مِنَ الْعَقْدِ جَازَ تَصَرُّفُهَا فِي الْعَقْدِ . وَتَحْرِيرُهُ : أَنَّ مَنْ جَازَ تَصَرُّفُهُ فِي الْبَدَلِ جَازَ تَصَرُّفُهُ فِي الْمُبْدَلِ ، كَالْبَالِغِ فِي الْأَمْوَالِ طَرْدًا وَكَالصَّغِيرِ عَكْسًا . وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى : فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ [ الْبَقَرَةِ : 232 ] فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : نَهْيُ الْأَوْلِيَاءِ عَنْ عَضْلِهِنَّ ، وَالْعَضْلُ الْمَنْعُ فِي أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ ، وَالتَّضْيِيقُ فِي التَّأْوِيلِ الْآخَرِ ، فَلَوْ جَازَ لَهُنَّ التَّفَرُّدُ بِالْعَقْدِ لَمَا أَثَّرَ عَضْلُ الْأَوْلِيَاءِ ، وَلَمَا تَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ نَهْيٌ . وَالثَّانِي : قَوْلُهُ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ : إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ [ الْبَقَرَةِ : 232 ] . وَالْمَعْرُوفُ مَا تَنَاوَلَهُ الْعُرْفُ بِالِاخْتِيَارِ وَهُوَ الْوَلِيُّ وَشَاهِدَانِ . فَإِنْ قِيلَ : فَالْمَنْعُ مِنَ الْعَضْلِ إِنَّمَا تَوَجَّهَ إِلَى الْأَزْوَاجِ لِتَقْدِيمِ ذِكْرِهِمْ دُونَ الْأَوْلِيَاءِ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآيَةِ ذِكْرٌ ، فَمِنْ ذَلِكَ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَوْجِيهُ النَّهْيِ إِلَى الْأَزْوَاجِ ، لِأَنَّهُ إِنْ عَضَلَ الزَّوْجُ قَبْلَ الْعِدَّةِ فَحَقٌّ لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْهَى عَنْهُ ، وَإِنْ عَضَلَ بَعْدَ الْعِدَّةِ فَهُوَ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَا رُوِيَ مِنْ سَبَبِ نُزُولِهَا فِي مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ فِي أَشْهَرِ الْقَوْلَيْنِ ، أَوْ جَابِرٍ فِي أَضْعَفِهِمَا ، يُوجِبُ حَمْلَهُ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ دُونَ الْأَزْوَاجِ ، وَلَيْسَ يُنْكَرُ أَنْ يَعُودَ الْخِطَابُ إِلَيْهِمْ ، وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُمْ ذِكْرٌ إِذًا دَلَّ الْخِطَابُ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ : إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ [ الْعَادِيَّاتِ : 6 ، 7 ] يَعْنِي اللَّهَ تَعَالَى : وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [ الْعَادِيَّاتِ : 8 ] . يَعْنِي الْإِنْسَانَ ، وَقَالَ تَعَالَى : فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ [ النِّسَاءِ : 25 ] أَيْ أَوْلِيَائِهِنَّ ، فَجَعَلَ إِذَنَ الْأَوْلِيَاءِ شَرْطًا فِي نِكَاحِهِنَّ ، فَدَلَّ عَلَى بُطْلَانِهِ لِعَدَمِهِ . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنَ السُّنَّةِ مَا رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَابْنُ عُمَرَ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ ، وَعَائِشَةُ ، وَأَنَسٌ ، وَعِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ ، وَأَبُو مُوسَى ، وَأَثْبَتُ الرِّوَايَاتِ رِوَايَةُ أَبِي مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ .
وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ : لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي كُلِّ نِكَاحٍ مِنْ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ وَشَرِيفَةٍ وَدَنِيَّةٍ وَبِكْرٍ وَثَيِّبٍ . فَإِنْ قَالُوا : نَحْنُ نَقُولُ بِمُوجِبِهِ ، لِأَنَّ الْمَرْأَةَ وَلِيَّةُ نَفْسِهَا فَإِذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا كَانَ نِكَاحُهَا بِوَلِيٍّ . فَعَنْ ذَلِكَ جَوَابَانِ : أَنَّهُ خِطَابٌ لَا يُفِيدُ ، لِعِلْمِنَا أَنَّهُ لَا نِكَاحَ إِلَّا بِمَنْكُوحَةٍ وَلَا يَتَمَيَّزُ عَنْ سَائِرِ الْعُقُودِ ، وَقَدْ خُصَّ النِّكَاحُ بِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُ : لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ رَجُلًا ، وَلَوْ كَانَتْ هِيَ الْمُرَادُ لَقَالَ : لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيَّةٍ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ خَالِدِ الزَّنْجِيِّ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى ، عَنِ الزَّهْرِيِّ ، عَنْ عُرْوَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ بِغَيْرِ إِذَنْ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ ، وَإِنْ مَسَّهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا فَإِنِ اشْتَجَرُوا - أَوْ قَالَ : اخْتَلَفُوا - فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ . وَهَذَا نَصٌّ فِي إِبْطَالِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ وَلَا تَمْيِيزٍ ، وَاعْتَرَضُوا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ بِثَلَاثَةِ أَسْئِلَةٍ : أَحَدُهَا : أَنْ قَالُوا : مَدَارُ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ عُلَيَّةَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ قَالَ : لَقِيتُ الزُّهْرِيَّ فَسَأَلْتُهُ عَنْهُ قَالَ : لَا أَعْرِفُهُ . وَعَنْهُ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ قَدْ رَوَاهُ عَنِ الزَّهْرِيِّ أَرْبَعَةٌ : سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ ، وَجَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ ، وَالْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ ، وَرَوَاهُ عَنْ عُرْوَةَ ثَلَاثَةٌ : الزُّهْرِيُّ ، وَهُشَامُ بْنُ عُرْوَةَ ، وَأَبُو الْغُصْنِ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ ، فَلَمْ يَصِحَّ إِضَافَةُ إِنْكَارِهِ إِلَى الزُّهْرِيِّ مَعَ الْعَدَدِ الَّذِي رَوَوْهُ عَنْهُ ، وَلَوْ صَحَّ إِنْكَارُهُ لَهُ لَمَا أَثَّرَ فِيهِ مَعَ رِوَايَةِ غَيْرِ الزُّهْرِيِّ لَهُ عَنْ عُرْوَةَ . وَالثَّانِي : مَا قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ : أَنَّ الزُّهْرِيَّ أَنْكَرَ سُلَيْمَانَ بْنَ مُوسَى ، وَقَالَ : لَا أَعْرِفُهُ ، وَإِلَّا فَالْحَدِيثُ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يُنْكِرَهُ الزُّهْرِيُّ وَلَا يَعْرِفَهُ ، وَلَيْسَ جَهْلُ الْمُحَدِّثِ بِالرَّاوِي عَنْهُ مَانِعًا مِنْ قَبُولِ رِوَايَتِهِ عَنْهُ ، وَلَا مَعْرِفَتُهُ شَرْطًا فِي صِحَّةِ حَدِيثِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِإِنْكَارِ الْمُحَدِّثِ لِلْحَدِيثِ بَعْدَ رِوَايَتِهِ عَنْهُ ، وَلَيْسَ اسْتِدَامَةُ ذِكْرِ
الْمُحَدِّثِ شَرْطًا فِي صِحَّةِ حَدِيثِهِ ، فَإِنَّ رَبِيعَةَ رَوَى عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ ثُمَّ نَسِيَ سُهَيْلٌ الْحَدِيثَ ، فَحَدَّثَ بِهِ رَبِيعَةَ ، وَكَانَ سُهَيْلٌ إِذَا حَدَّثَ بِهِ قَالَ : أَخْبَرَنِي عَلِيٌّ عَنْ أَبِي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ . السُّؤَالُ الثَّانِي : إِنْ قَالُوا : هَذَا الْحَدِيثُ لَا يَصِحُّ عَنْ عَائِشَةَ فَقَدْ رَوَيْتُمُوهُ عَنْهَا ، لِأَنَّهَا زَوَّجَتْ بِنْتَ أَخِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَكَانَ غَائِبًا بِالشَّامِ ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ : أَمِثْلِي يُقْتَاتُ عَلَيْهِ فِي بَنَاتِهِ ، فَأَمْضَى النِّكَاحَ . وَقِيلَ : إِنَّ مَا رَوَتْهُ مِنَ الْحَدِيثِ أَثْبَتُ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ مِمَّا رُوِيَ عَنْهَا مِنْ نِكَاحِ ابْنَةِ أَخِيهَا ، وَقَدْ ذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ لِإِبْطَالِهِ وُجُوهًا ، عَلَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ أَفْرَدَ لِلْجَوَابِ عَنْهُ بَابًا فَنَحْنُ نَذْكُرُهُ فِيهِ . السُّؤَالُ الثَّالِثُ : إِنْ قَالُوا : هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ عَلَيْهَا مِنَ النِّسَاءِ وِلَايَةٌ بِصِغَرٍ أَوْ رِقٍّ ، وَتِلْكَ لَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا إِلَّا بِوَلِيٍّ ، وَقَدْ رُوِيَ فِي الْخَبَرِ : إِنِ امْرَأَةٌ نُكِحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهَا ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ . فَاقْتَضَى صَرِيحُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ حَمْلَهَا عَلَى الْأَمَةِ ، وَدَلِيلُ تِلْكَ آكَدُ ، وَأَنَّ حَمْلَهُ عَلَى الصَّغِيرَةِ ، وَخَرَجَتِ الْحُرَّةُ الْكَبِيرَةُ فِي الرِّوَايَتَيْنِ . وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ عَلَى جَمِيعِ النِّسَاءِ فِي النِّكَاحِ وِلَايَةً ، لِجَوَازِ اعْتِرَاضِ الْأَوْلِيَاءِ عَلَى جَمِيعِهِنَّ . وَالثَّانِي : أَنَّ حَمْلَهُ عَلَى الصَّغِيرِ لَا يَجُوزُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِاسْتِوَاءِ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ فِيهِ ، وَلِانْتِفَاءِ تَخْصِيصِ النِّسَاءِ بِالذِّكْرِ تَأْثِيرٌ . وَالثَّانِي : لِاسْتِوَاءِ النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعُقُودِ ، فَلَا يَبْقَى لِتَخْصِيصِ النِّكَاحِ بِالذِّكْرِ تَأْثِيرٌ ، وَحَمْلُهُ عَلَى الْأَمَةِ لَا يَجُوزُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِاسْتِوَاءِ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ فِيهِ لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ الْأَمَةِ تَأْثِيرٌ . وَالثَّانِي : لِقَوْلِهِ فِي آخِرِ الْخَبَرِ : فَإِنِ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلَيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ وَالسُّلْطَانُ لَا يَكُونُ وَلِيًّا لِلْأَمَةِ ، وَإِنْ عَضَلَهَا مَوَالِيهَا ، وَرِوَايَتُهُمْ أَنَّهُ قَالَ : أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ . وَالْمَوْلَى يُطْلَقُ عَلَى الْوَلِيِّ كَمَا قَالَ تَعَالَى : وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي [ مَرْيَمَ : 5 ] . يَعْنِي الْأَوْلِيَاءَ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ رِقٌّ فَيَكُونُ لَهُ مَوْلَى ، عَلَى أَنَّنَا نَسْتَعْمِلُ الرِّوَايَتَيْنِ فَتَكُونُ رِوَايَتُنَا مُسْتَعْمَلَةً فِي الْحُرَّةِ ، وَرِوَايَتُهُمْ مُسْتَعْمَلَةً فِي الْأَمَةِ ، فَلَا
يَتَعَارَضَانِ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ ابْنُ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَا تُنْكِحُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ ، وَلَا تُنْكِحُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا وَالَّتِي تُنْكِحُ نَفْسَهَا هِيَ الزَّانِيَةُ " . وَرُوِي عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : كُلُّ نِكَاحٍ لَمْ يَحْضُرْهُ أَرْبَعَةٌ فَهُوَ سِفَاحٌ : الزَّوْجُ وَالْوَلِيُّ وَشَاهِدَانِ . وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ : لِأَنَّهُ قَوْلُ مِنْ ذَكَرْنَا مِنَ الرُّوَاةِ الثَّمَانِيَةِ ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَمَّا عَلَيٌّ فَرَوَى عَنِ الشَّعْبِيِّ ، أَنَّهُ قَالَ : لَمْ يَكُنْ فِي الصَّحَابَةِ أَشَدُّ فِي النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ مِنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، وَأَمَّا عُمَرُ فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ إِلَّا بِإِذْنِ وَلِيِّهَا ، أَوْ ذِي الرَّأْيِ مِنْ أَهْلِهَا ، أَوِ السُّلْطَانِ . وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : إِلَّا بِإِذْنِ وَلِيِّهَا إِنْ كَانَ وَاحِدًا ، أَوْ ذِي الرَّأْيِ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانُوا جَمَاعَةً ، أَوِ السُّلْطَانِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلِيٌّ . الثَّانِي : بِإِذْنِ وَلِيِّهَا إِنْ كَانَ لَهَا وَلِيٌّ ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلِيٌّ زَوَّجَهَا السُّلْطَانُ بِمَشُورَةِ ذِي الرَّأْيِ مَنْ أَهْلِهَا وَذَوِي أَرْحَامِهَا ، فَهَذَا قَوْلُ مَنْ ذَكَرْنَا مِنَ الصَّحَابَةِ ، وَلَيْسَ فِي التَّابِعَيْنِ مُخَالِفٌ فَثَبَتَ أَنَّهُ إِجْمَاعٌ . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْقِيَاسِ هُوَ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مِنْ زَوَائِدِ عَقْدِ النِّكَاحِ كَانَ شَرْطًا فِيهِ كَالشُّهُودِ ، وَلِأَنَّ مَا اخْتُصَّ مِنْ بَيْنِ جِنْسِهِ بِزِيَادَةِ عَدَدٍ كَانَتِ الزِّيَادَةُ شَرْطًا فِيهِ ، كَالشَّهَادَةِ فِي الزِّنَا ، وَلِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ صَارَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ فِرَاشًا لَمْ يُمَلِّكْهُ الْمُفْتَرَشَةَ كَالْأَمَةِ ، وَلِأَنَّ مَنْ عَقَدَ عَلَى نَفْسِهِ وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ فِي فَسْخِهِ دَلَّ عَلَى فَسَادِ عَقْدِهِ كَالْأَمَةِ وَالْعَبْدِ إِذَا زَوَّجَا أَنْفُسَهُمَا ، وَلِأَنَّ مَنْ مُنِعَ مِنَ الْوَفَاءِ مَعْقُودُ الْعَقْدِ خَرَجَ مِنَ الْعَقْدِ كَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ طَرَفَيِ الِاسْتِبَاحَةِ فِلَمْ تَمْلِكُهُ الْمَرْأَةُ كَالطَّلَاقِ ، وَلِأَنَّ لِوَلِيِّ الْمَرْأَةِ قَبْلَ بُلُوغِهَا حَقَّيْنِ : حَقًا فِي طَلَبِ الْكَفَاءَةِ ، وَحَقًّا فِي طَلَبِ الْعَقْدِ ، فَلَمَّا كَانَ بُلُوغُهَا غَيْرَ مُسْقِطٍ لِحَقِّهِ فِي طَلَبِ الْكَفَاءَةِ كَانَ غَيْرَ مُسْقِطٍ لِحَقِّهِ فِي مُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ . وَيَتَحَرَّرُ مِنَ اعْتِلَالِهِ قِيَاسَانِ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ أَحَدُ حَقَّيِ الْوَلِيِّ ، فَلَمْ يُسْقِطْهُ بُلُوغُهَا كَطَلَبِ الْكَفَاءَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ كُلَّ مِنْ ثَبَتَ عَلَيْهَا حَقُّ الْوَلِيِّ فِي طَلَبِ الْكَفَاءَةِ ثَبَتَ عَلَيْهِ حَقُّهُ فِي مُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ كَالصَّغِيرَةِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْآيَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُرَادَ بِرَفْعِ الْجَنَاحِ عَنْهُنَّ : أَنْ لَا يُمْنَعْنَ مِنَ النِّكَاحِ ، فَإِذَا أَرَدْنَهُ فَلَا يَدُلُّ عَلَى تَفَرُّدِهِنَّ بِغَيْرِ وَلِيٍّ ، كَمَا لَمْ يَدُلَّ عَلَى تَفَرُّدِهِنَّ بِغَيْرِ شُهُودٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُ : فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [ الْبَقَرَةِ : 234 ] . يَقْتَضِي
فِعْلُهُ عَلَى مَا جَرَى بِهِ الْعُرْفُ مِنَ الْمَعْرُوفِ الْحَسَنِ ، وَلَيْسَ مِنَ الْمَعْرُوفِ الْحَسَنِ أَنْ تُنْكِحَ نَفْسَهَا بِغَيْرِ وَلِيٍّ . وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا فَقَدْ مَرَّ الْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ لِأَهْلِ اللُّغَةِ فِي الْأَيِّمِ قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا ، وَإِنْ لَمْ تُنْكَحْ قَطُّ . يُقَالُ : امْرَأَةٌ أَيِّمٌ ، إِذَا كَانَتْ خَلِيَّةً مِنْ زَوْجٍ ، وَرَجُلٌ أَيِّمٌ إِذَا كَانَ خَلِيًّا مِنْ زَوْجَةٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهَا لَا يُقَالُ لَهَا أَيِّمٌ إِلَّا إِذَا نَكَحَتْ ، ثُمَّ حَلَّتْ بِمَوْتٍ أَوْ طَلَاقٍ ، بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ : فَإِنْ تَنْكِحِي أَنْكِحْ وَإِنْ تَتَأَيَّمِي يَدَ الدَّهْرِ مَا لَمْ تَنْكِحِي أَتَأَيَّمِ فَأَمَّا الْأَيِّمُ فِي هَذَا الْخَبَرِ فَالْمُرَادُ بِهَا الثَّيِّبُ مِنَ الْخَالِيَاتِ الْأَيَامَى دُونَ الْأَبْكَارِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ : الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا قَابَلَ الْأَيِّمَ بِالْبِكْرِ اقْتَضَى أَنْ تَكُونَ الْبِكْرُ غَيْرَ الْأَيِّمِ ، لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ غَيْرُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ غَيْرُ الْبِكْرِ إِلَّا الثَّيِّبُ ، فَلِهَذَا عَدَلَ بِالْأَيِّمِ عَنْ حَقِيقَةِ اللُّغَةِ إِلَى مُوجِبِ الْخَبَرِ . فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ ، فَعَنِ الْخَبَرِ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهَا أَحَقُّ بِنَفْسِهَا فِي أَنَّهَا لَا تُجْبَرُ إِنْ أَبَتْ وَلَا تُمْنَعُ إِنْ طَلَبَتْ تَفَرُّدَهَا بِالْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ شُهُودٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ جَعَلَ لَهَا وَلِيًّا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي جَعَلَهَا أَحَقَّ بِنَفْسِهَا مُوجِبَ أَنْ لَا يُسْقِطَ وِلَايَتَهُ عَنْ عَقْدِهَا ، لِيَكُونَ حَقُّهَا فِي نَفْسِهَا ، وَحَقُّ الْوَلِيِّ فِي عَقْدِهَا ، فَيَجْمَعُ بَيْنَ هَذَا الْخَبَرِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ فِي الْعَقْدِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ لَفْظَةَ " أَحَقُّ " مَوْضُوعَةٌ فِي اللُّغَةِ لِلِاشْتِرَاكِ فِي الْمُسْتَحَقِّ إِذَا كَانَ حَقُّ أَحَدِهِمَا فِيهِ أَغْلَبَ ، كَمَا يُقَالُ : زَيْدٌ أَعْلَمُ مِنْ عَمْرٍو إِذَا كَانَا عَالِمَيْنِ وَأَحَدُهُمَا أَفْضَلُ وَأَعْلَمُ ، وَلَوْ كَانَ زَيْدٌ عَالِمًا وَعَمْرٌو جَالِسًا لَكَانَ كَلَامًا مَرْدُودًا : لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ بِمَثَابَةِ قَوْلِهِ الْعَالِمُ أَعْلَمُ مِنَ الْجَاهِلِ ، وَهَذَا الْفَرْدُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ مُوجِبًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقٌّ ، وَحَقُّ الثَّيِّبِ أَغْلَبُ ، فَالْأَغْلَبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِهَتِهَا الْإِذْنُ وَالِاخْتِيَارُ مِنْ جِهَةِ قَبُولِ الْإِذْنِ فِي مُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : لَيْسَ لِلْوَلِيِّ مَعَ الثَّيِّبِ أَمْرٌ :
فَالْأَمْرُ هُوَ الْإِجْبَارُ وَالْإِلْزَامُ ، وَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ إِجْبَارُ الثَّيِّبِ وَإِلْزَامُهَا وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالْعَقْدِ دُونَ وَلِيِّهَا ، كَمَا لَا تَنْفَرِدُ بِهِ دُونَ الشُّهُودِ . فَأَمَّا حَدِيثُ الْمَرْأَةِ الَّتِي زَوَّجَهَا أَبُوهَا ، فَرِوَايَةُ عِكْرِمَةَ بْنِ فُلَانٍ ، فَإِنْ كَانَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَهُوَ مُرْسَلُ الْحَدِيثِ ، لِأَنَّهُ تَابِعِيٌّ وَلَمْ يُسْنِدْهُ ، وَالْمُرْسَلُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ الحديث المرسل ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ فَهُوَ مَجْهُولٌ ، وَجَهَالَةُ الرَّاوِي تَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ حَدِيثِهِ ، ثُمَّ لَا حُجَّةَ فِيهِ لَوْ صَحَّ : لِأَنَّهُ رَدَّ نِكَاحًا انْفَرَدَ بِهِ الْوَلِيُّ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً لَوْ أَجَازَ نِكَاحًا تَفَرَّدَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الرَّجُلِ ، فَالْمَعْنَى فِي الرَّجُلِ ، أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْوَلِيِّ عَلَيْهِ اعْتِرَاضٌ فِي الْكَفَاءَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْعَقْدِ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ ، وَلَمَّا كَانَ لِلْوَلِيِّ عَلَى الْمَرْأَةِ اعْتِرَاضٌ فِي الْكَفَاءَةِ لَمْ تَكُنْ لَهُ فِي الْعَقْدِ عَلَيْهَا وِلَايَةٌ ، وَكَذَا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى عَقْدِ الْإِجَارَةِ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَلِيِّ اعْتِرَاضٌ فِيهِ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ عَقْدُ نِكَاحِهَا . وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْمَهْرِ فَعِنْدَهُمْ أَنَّ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَيْهَا فِيهِ وَيَمْنَعَهَا بِأَنْ تَتَزَوَّجَ بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِهَا ثُمَّ هُوَ مُنْتَقَضٌ بِقَطْعِ الْأَطْرَافِ فِي إِبْدَالِهَا مِنَ الدِّيَةِ ، وَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهَا بِالْقَطْعِ وَالْإِبَاحَةِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا مَالِكٌ فَفَرَّقَ بَيْنَ الشَّرِيفَةِ وَالدَّنِيَّةِ بِأَنَّ الْوَلِيَّ يُرَادُ لِحِفْظِ الْمَرْأَةِ أَنْ تَضَعَ نَفْسَهَا فِي غَيْرِ كُفْءٍ ، وَالدَّنِيَّةُ مُكَافِئَةٌ لِكُلِّ الْأَدْنِيَاءِ ، فَلَمْ يَبْقَ لِوَلِيِّهَا نَظَرٌ وَاحْتِيَاطٌ فِي طَلَبِ الْأَكْفَاءِ ، فَجَازَ عَقْدُهَا بِغَيْرِ وَلِيٍّ وَلَمْ يَجُزْ عَقْدُ الشَّرِيفَةِ إِلَّا بِوَلِيٍّ ، وَهَذَا الْقَوْلُ غَيْرُ صَحِيحٍ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ دَنِيَّةٍ إِلَّا وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الرِّجَالِ مَنْ هُوَ أَدْنَى مِنْهَا ، فَاحْتِيجَ إِلَى احْتِيَاطِ الْوَلِيِّ فِيهَا ، ثُمَّ لَوْ غَلَبَ عَلَيْهِ فَرْقٌ فَقِيلَ : الشَّرِيفَةُ يَمْنَعُهَا كَرَمُ أَصْلِهَا مِنْ وَضْعِ نَفْسِهَا فِي غَيْرِ كُفْءٍ ، فَلَمْ يُحْتَجْ إِلَى احْتِيَاطِ الْوَلِيِّ ، وَالدَّنِيَّةُ يَمْنَعُهَا لُؤْمُ أَصْلِهَا عَلَى وَضْعِ نَفْسِهَا فِي غَيْرِ كُفْءٍ لَكَانَ مُسَاوِيًا لِقَوْلِهِ ، فَوَجَبَ إِسْقَاطُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ : لَمَّا لَمْ يَكُنْ هَذَا الْفَرْقُ مَانِعًا مِنِ اسْتِوَائِهِمَا فِي الشَّهَادَةِ ، فَهَلَّا كَانَ غَيْرَ مَانِعٍ مِنَ اسْتِوَائِهِمَا فِي الْوَلِيِّ مَعَ كَوْنِ النُّصُوصِ فِي الْوَلِيِّ عَامَّةً لَا تُخَصُّ بِمِثْلِ هَذَا الْفَرْقِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا دَاوُدُ فَخَصَّ الثَّيِّبَ بِالْوِلَايَةِ دُونَ الْبِكْرِ : لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَيْسَ لِلْوَلِيِّ مَعَ الثَّيِّبِ أَمْرٌ لِيُطَابِقَ بَيْنَ الْإِخْبَارِ فِي الِاسْتِعْمَالِ ، وَقَدْ قَدَّمْنَا وَجْهَ اسْتِعْمَالِهِمَا ، وَأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا وَاقِعٌ فِي الْإِخْبَارِ فَكَانَ جَوَابًا ، ثُمَّ فَرَّقَ دَاوُدُ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ ، بِأَنَّ الثَّيِّبَ قَدْ خَبَرَتِ الرِّجَالَ فَاكْتَفَتْ بِخِبْرَتِهَا عَنِ اخْتِيَارِ وَلِيِّهَا ، وَالْبِكْرُ لَمْ تُخْبَرْ فَافْتَقَرَتْ إِلَى اخْتِيَارِ وَلِيِّهَا ، وَهَذَا فَرْقٌ فَاسِدٌ وَعَكْسُهُ عَلَيْهِ أَوْلَى : لِأَنَّ خِبْرَةَ الثَّيِّبِ بِالرِّجَالِ تَبْعَثُهَا عَلَى فَرْطِ الشَّهْوَةِ فِي وَضْعِ نَفْسِهَا فِيمَنْ قَوِيَتْ فِيهِ شَهْوَتُهَا ، وَالْبِكْرُ لِعَدَمِ الْخِبْرَةِ أَقَلُّ شَهْوَةً فَكَانَتْ لِنَفْسِهَا أَحْفَظَ عَلَى أَنَّ الشَّهْوَةَ مَذْكُورَةٌ فِي طِبَاعِ النِّسَاءِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : خُلِقَتِ الْمَرْأَةُ مِنَ الرَّجُلِ فَهُمَا فِي الرَّجُلِ فَغَلَبَ حُكْمُ الشَّهْوَةِ فِي
جَمِيعِهِنَّ ثَيِّبًا وَأَبْكَارًا حَتَّى يُمْنَعْنَ مِنَ الْعَقْدِ إِلَّا بِوَلِيٍّ يُحْتَاطُ لِئَلَّا تَغْلِبَهَا فَرْطُ الشَّهْوَةِ عَلَى وَضْعِ نَفْسِهَا فِي غَيْرِ كُفْءٍ فَيَدْخُلُ بِهِ الْعَارُ عَلَى أَهْلِهَا .
فَصْلٌ : وَأَمَّا أَبُو ثَوْرٍ : فَرَاعَى إِذْنَ الْوَلِيِّ دُونَ عَقْدِهِ في النكاح : لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَكَمَا يُرَاعَى فِي نِكَاحِ السَّفِيهِ إِذْنُ الْوَلِيِّ دُونَ عَقْدِهِ كَذَلِكَ هَذَا ، وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ صَرِيحَ الْخَبَرِ يَقْتَضِي بُطْلَانَ النِّكَاحِ لِعَدَمِ إِذْنِهِ ، وَدَلِيلُ خَطَئِهِ نَقِيضُ صِحَّةِ النِّكَاحِ بِوُجُودِ إِذْنِهِ ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِمَا رَوَاهُ مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ بِإِسْنَادِهِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُمَا : أَيُّمَا امْرَأَةٍ لَمْ يُنْكِحْهَا وَلِيُّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ . وَالثَّانِي : أَنَّ إِذْنَ الْوَلِيِّ الَّذِي يَصِحُّ بِهِ النِّكَاحُ هُوَ إِذْنٌ لِمَنْ يَنُوبُ عَنْهُ ، وَهُوَ الْوَكِيلُ ، وَالْمَرْأَةُ لَا تَصِحُّ أَنْ تَكُونَ نَائِبًا عَنْهُ : لِأَنَّ الْحَقَّ عَلَيْهَا ، فَلَمْ تَكُنْ هِيَ النَّائِبَةُ فِيهِ : لِاخْتِلَافِ الْعَرْضَيْنِ ، فَجَرَى مَجْرَى الْوَكِيلِ فِي الْبَيْعِ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ عَلَى نَفْسِهِ لِاخْتِلَافِ عَرْضِهِ وَعَرَضِ مُوَكِّلِهِ ، وَلَيْسَ لِاعْتِبَارِهِ بِالْإِذْنِ لِلسَّفِيهِ وَجْهٌ : لِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَى السَّفِيهِ فِي حُقِّ نَفْسِهِ ، وَالْحَجْرَ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي حُقُوقِ الْأَوْلِيَاءِ ، فَافْتَرَقَا .
فَصْلٌ : وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَاعْتَبَرَ أَنْ يَعْقِدَ رَجُلٌ عَنْ إِذْنِهَا لِقُصُورِهَا عَنْ مُبَاشَرَةِ الْعَقْدَ بِنَفْسِهَا ، وَجَعَلَهُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ وَلِيِّهَا لِمَا فِيهِ مِنْ حَقِّهِ فِي طَلَبِ الْأَكْفَاءِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : هُوَ أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ مَالِكَةً لِلْعَقْدِ لَمْ تَحْتَجْ إِلَى الِاسْتِنَابَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَالِكَةٍ لَمْ يَصِحَّ مِنْهَا الِاسْتِنَابَةُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الِاسْتِنَابَةُ شَرْطًا لَمْ تَحْتَجْ إِلَى إِجَازَةٍ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ شَرْطًا لَمْ تَحْتَجْ إِلَيْهَا ، فَصَارَ مَذْهَبُهُ فَاسِدًا مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَرَوَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ ثَلَاثًا ، فَإِنْ مَسَّهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا ، فَإِنِ اشْتَجَرُوا - أَوْ قَالَ اخْتَلَفُوا - فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ ( قَالَ ) وَفِي ذَلِكَ دَلَالَاتٌ ، مِنْهَا أَنَّ لِلْوَلِيِّ شِرْكًا فِي بُضْعِهَا لَا يَتِمُّ النِّكَاحُ إِلَّا بِهِ مَا لَمْ يَعْضِلْهَا الولي في النكاح وَلَا نَجِدُ لِشِرْكِهِ فِي بُضْعِهَا مَعْنًى إِلَّا فَضْلَ نَظَرِهِ لِحِيَاطَةِ الْمَوْضِعِ أَنْ يَنَالَهَا مَنْ لَا يُكَافِئُهَا نَسَبُهُ ، وَفِي ذَلِكَ عَارٌ عَلْيِهِ ، وَأَنَّ الْعَقْدَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ بَاطِلٌ لَا يَجُوزُ بِإِجَازَتِهِ ، وَأَنَّ الْإِصَابَةَ إِذَا كَانَتْ بِشُبْهَةٍ فَفِيهَا الْمَهْرُ وَدَرْءُ الْحَدِّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ بَعْدَ اسْتِدْلَالِهِ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَا تَضَمَّنَهُ ، وَدَلَّ عَلَيْهِ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالْأَحْكَامِ نَصًّا وَاسْتِنْبَاطًا مِنْهَا فِي قَوْلِهِ : " أَيُّمَا امْرَأَةٍ " فَذَكَرَ خَمْسَةَ أَحْكَامٍ ، وَذَكَرَ أَصْحَابُهُ ثَلَاثِينَ حُكْمًا سِوَاهَا ، فَصَارَتْ خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ حُكْمًا ، أَخَذَتْ دَلَائِلَهَا مِنَ الْخَبَرِ بِنَصٍّ وَاسْتِنْبَاطٍ .
مِنْهَا فِي قَوْلِهِ : أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَرْبَعَةُ دَلَائِلَ : أَحَدُهَا : أَنَّ " أَيُّ " لَفْظَةُ عُمُومٍ ، لَهُ صِيغَةٌ لِتَنَاوُلِهِ جَمِيعَ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ ، فَخَالَفَ قَوْلَ دَاوُدَ أَنَّهُ لَا صِيغَةَ لِلْعُمُومِ . وَالثَّانِي : أَنْ " مَا " الْمُتَّصِلَةَ بِأَيِّ صِلَةٌ زَائِدَةٌ : لِأَنَّهَا لَوْ حُذِفَتْ فَقِيلَ : أَيُّ امْرَأَةٍ صَحَّ ، مِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ [ آلِ عِمْرَانَ : 159 ] ، أَيْ فَبِرَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ ، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الصِّلَةِ الزَّائِدَةِ فِي الْكَلَامِ ، وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِهِ أَحْكَامٌ . وَالثَّالِثُ : اشْتِمَالُهُ عَلَى جَمِيعِ النِّسَاءِ مِنْ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ يُخَالِفُ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَشَرِيفَةٍ وَدَنِيَّةٍ يُخَالِفُ قَوْلَ مَالِكٍ ، وَبِكْرٍ وَثَيِّبٍ يُخَالِفُ قَوْلَ دَاوُدَ . وَالرَّابِعُ : خُرُوجُ الرِّجَالِ عَنْ حُكْمِ النِّسَاءِ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ لِتَخْصِيصِهِمْ بِالذِّكْرِ . وَمِنْهَا فِي قَوْلِهِ : نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا خَمْسَةُ دَلَائِلَ : أَحَدُهَا : أَنَّ اسْمَ النِّكَاحِ حَقِيقَةٌ فِي الْعَقْدِ ، مَجَازٌ فِي الْوَطْءِ ، فَخَالَفَ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ . وَالثَّانِي : ثُبُوتُ الْوِلَايَةِ عَلَى جَمِيعِ النِّسَاءِ فِي نِكَاحِهِنَّ ، قَوْلُ مَنْ قَدَّمْنَا خِلَافَهُ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُوكِّلَ غيره في عقد النكاح : لِأَنَّ إِذْنَهُ لَا يَصِحُّ إِلَّا لِوَكِيلٍ يَنُوبُ عَنْهُ . وَالرَّابِعُ : أَنْ لَا وِلَايَةَ لِوَصِيٍّ ولاية الوصي في النكاح : لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَلِيٍّ وَلَا نَائِبٍ عَمَّنْ هُوَ فِي الْحَالِ وَلِيٌّ . وَالْخَامِسُ : أَنَّ الْعَقْدَ فَاسِدٌ ، قَدْ يُضَافُ إِلَى عَاقِدِهِ وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهُ في النكاح . وَمِنْهَا فِي قَوْلِهِ : فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ سِتَّةُ دَلَائِلَ : أَحَدُهَا : بُطْلَانُ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ بِخِلَافِ قَوْلِ مَنْ أَجَازَهُ بِغَيْرِ وَلِيٍّ . وَالثَّانِي : لَا يَكُونُ إِذَا بَطَلَ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْوَلِيِّ بِخِلَافِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ كيفية فسخه لَا يُفْسَخُ بِطَلْقَةٍ إِنْ كَانَ مُخْتَلِفًا فِيهِ بِخِلَافِ قَوْلِ مَالِكٍ . وَالرَّابِعُ : أَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ يُسَمَّى نِكَاحًا . وَالْخَامِسُ : أَنَّ الْإِضَافَةَ قَدْ تَكُونُ حَقِيقَةً ، وَمَجَازًا . وَالسَّادِسُ : جَوَازُ تَكْرَارِ اللَّفْظِ وَزِيَادَةٌ فِي الْبَيَانِ وَتَوْكِيدٌ لِلْحُكْمِ : لِأَنَّهُ قَالَ : فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ ثَلَاثًا . وَمِنْهَا فِي قَوْلِهِ : وَإِنْ مَسَّهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا في النكاح الفاسد خَمْسَةَ عَشَرَ دَلِيلًا : أَحَدُهَا : أَنَّ الْمَسِيسَ عِبَارَةٌ عَنِ الْوَطْءِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْوَطْءَ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ مُوجِبٌ لِلْمَهْرِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ مَعَ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ من آثار النكاح الفاسد . وَالرَّابِعُ : أَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ المهر فيه إِذَا خَلَا مِنَ الْإِنَابَةِ لَمْ يَجِبْ فِيهِ الْمَهْرُ . وَالْخَامِسُ : أَنَّ الْخَلْوَةَ لَا تَكْمُلُ بِهَا الْمَهْرُ بِخِلَافِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَالسَّادِسُ : أَنَّ الْمُسْتَكْرَهَةَ عَلَى الزِّنَا يَجِبُ لَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا ، بِخِلَافِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ . وَالسَّابِعُ : أَنَّ الْإِصَابَةَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرْجَيْنِ مِنْ قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ يُوجِبُ الْمَهْرَ : لِأَنَّهُ فَرْجٌ . وَالثَّامِنُ : أَنَّ ذَاتَ الزَّوْجِ إِذَا أُصِيبَتْ بِشُبْهَةٍ ، فَلَهَا الْمَهْرُ دُونَ الزَّوْجِ ، بِخِلَافِ قَوْلِ مَنْ جَعَلَهُ لِلزَّوْجِ . وَالتَّاسِعُ : أَنَّ الْمَوْطُوءَةَ بِشُبْهَةٍ استحقاق المهر في هذه الحالة يَكُونُ لَهَا الْمَهْرُ لَا فِي بَيْتِ الْمَالِ ، بِخِلَافِ قَوْلِ مَنْ جَعَلَهُ لِبَيْتِ الْمَالِ . وَالْعَاشِرُ : أَنَّ تَكْرَارَ الْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ لَا يَجِبُ بِهِ إِلَّا مَهْرٌ وَاحِدٌ ، مَا لَمْ تُغْرَمِ الْمَهْرُ عَمَّا تُقُدِّمَ بِهِ . وَالْحَادِيَ عَشَرَ : أَنَّ الْإِصَابَةَ دُونَ الْفَرْجِ في النكاح غير الصحيح هل توجب المهر لَا تُوجِبُ الْمَهْرَ . وَالثَّانِي عَشَرَ : أَنَّ الْغَارَّةَ لِلزَّوْجِ يَسْقُطُ عَنْهُ مَهْرُهُ بِالْغَرُورِ . وَالثَّالِثَ عَشَرَ : أَنَّ الْمَوْطُوءَةَ فِي الْعِدَّةِ بِشُبْهَةٍ المهر في هذه الحالة أَوْ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ كَالْمَوْطُوءَةِ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ ، فِي لُحُوقِ النَّسَبِ وَوُجُوبِ الْعِدَّةِ وَتَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ ، لِاسْتِوَائِهِمَا فِي وُجُوبِ الْمَهْرِ وَلُحُوقِ النَّسَبِ وَالْعِدَّةِ وَتَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ . وَالْخَامِسَ عَشَرَ : أَنَّ الْمَهْرَ إِذَا اسْتُحِقَّ بِالْإِصَابَةِ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ فَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى ، سَوَاءٌ كَانَ أَقَلَّ مِنْهُ أَوْ أَكْثَرَ ، بِخِلَافِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّهُ يُوجِبُ أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ أَوِ الْمُسَمَّى . وَأَمَّا قَوْلُهُ : فَإِنِ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ التنازع في ولاية النكاح خَمْسَةُ دَلَائِلَ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْعَصَبَةَ أَحَقُّ بِالْوِلَايَةِ عَلَيْهَا مِنَ السُّلْطَانِ في ولاية النكاح . وَالثَّانِيَةُ : أَنَّهُمْ إِذَا عَدِمُوا انْتَقَلَتِ الْوِلَايَةُ عَلَيْهَا إِلَى السُّلْطَانِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ الْأَقْرَبَ مِنْ عَصَبَتِهَا أَوْلَى مِنَ الْأَبْعَدِ ، كَمَا أَنَّ الْعَصَبَةَ لِقُرْبِهِمْ أَوْلَى مِنَ السُّلْطَانِ . وَالرَّابِعُ : أَنَّ الْأَوْلِيَاءَ إِذَا كَانُوا فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ في النكاح لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمْ إِذَا اشْتَجَرُوا أَحَقَّ مِنَ الْبَاقِينَ إِلَّا بِقُرْعَةٍ أَوْ تَسْلِيمٍ . وَالْخَامِسُ : أَنَّهُمْ إِذَا اشْتَرَكُوا فِي نِكَاحِهَا عَضْلًا لَهَا لَا تَنَازُعًا فِيهَا زَوَّجَهَا السُّلْطَانُ . وَالِاشْتِجَارُ عَضْلًا : أَنْ يَقُولَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ : زَوِّجْهَا أَنْتَ ، لِيَصِيرُوا جَمِيعًا عَضْلَةً ، فَزَوَّجَهَا السُّلْطَانُ . وَالِاشْتِجَارُ إِنْ تَنَازَعَا : أَنْ يَقُولَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ : أَنَا أُزَوِّجُهَا ، فَلَا تُنْقَلُ الْوِلَايَةُ إِلَى السُّلْطَانِ : لِأَنَّهُمْ غَيْرُ عَضْلَةٍ بَلْ يُقْرَعُ بَيْنَهُمْ وَيُزَوِّجُهَا مِنْ قُرِعِ مِنْهُمْ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَجَمَعَتِ الطَّرِيقُ رُفْقَةً فِيهِمُ امْرَأَةٌ ثَيِّبٌ فَوَلَّتْ أَمْرَهَا رَجُلًا مِنْهُمْ فَزَوَّجَهَا ، فَجَلَدَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - النَّاكِحَ وَالْمُنْكَحَ وَرَدَّ نِكَاحَهُمَا " .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا الْأَمْرُ الْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ ، وَإِنْ كَانَ دَلِيلًا عَلَى إِبْطَالِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ فَالْمَقْصُودُ بِهِ يَتَعَلَّقُ عَلَى الْمُتَنَاكِحَيْنِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ مِنَ الْأَحْكَامِ ، فَإِذَا تَنَاكَحَ الزَّوْجَانِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ فَلَا يَخْلُو حَالُهُمَا مِنْ أَنْ يَتَرَافَعَا فِيهِ إِلَى حَاكِمٍ أَمْ لَا ، فَإِنْ تَرَافَعَا فِيهِ إِلَى حَاكِمٍ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْحَاكِمِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ شَافِعِيًّا يَرَى إِبْطَالَ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ ، أَوْ يَكُونُ حَنَفِيًّا يَرَى جَوَازَ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ ، فَإِنْ كَانَ شَافِعِيًّا يَرَى إِبْطَالَ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ ، حَكَمَ بِإِبْطَالِهِ ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا ، فَإِنِ اجْتَمَعَا حَكَمَ فِيهِ بِمَذْهَبِهِ ، وَقَضَى بَيْنَهُمَا عَلَى الْإِصَابَةِ بَعْدَ تَفْرِيقِ الْحَاكِمِ بَيْنَهُمَا كَانَا زَانِيَيْنِ عَلَيْهِمَا الْحَدُّ : لِأَنَّ شُبْهَةَ الْعَقْدِ قَدِ ارْتَفَعَتْ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ بَيْنَهُمَا بِالْفُرْقَةِ ، فَلَوْ تَرَافَعَا بَعْدَ إِبْطَالِ الْحَاكِمِ الشَّافِعِيِّ إِلَى حَاكِمٍ حَنَفِيٍّ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِجَوَازِهِ لِنُفُوذِ الْحُكْمِ بِإِبْطَالِهِ . وَإِنْ كَانَا فِي الِابْتِدَاءِ قَدْ تَرَافَعَا إِلَى حَاكِمٍ حَنَفِيٍّ يَرَى صِحَّةَ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ ، فَحَكَمَ بَيْنَهُمَا بِصِحَّتِهِ ، وَأَذِنَ لَهُمَا بِالِاجْتِمَاعِ فِيهِ ، فَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمَا فِي الْإِصَابَةِ حَدٌّ لِنُفُوذِ الْحُكْمِ بِالْإِبَاحَةِ ، فَلَوْ تَرَافَعَا بَعْدَ حُكْمِ الْحَنَفِيِّ بِصِحَّةٍ إِلَى حَاكِمٍ شَافِعِيٍّ فَهَلْ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِإِبْطَالِهِ وَيَنْقُضَ حَكَمَ الْحَنَفِيِّ بِصِحَّتِهِ وَإِمْضَائِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَهُ الْحُكْمُ بِإِبْطَالِهِ وَنَقْضِ حُكْمِ الْحَنَفِيِّ بِإِمْضَائِهِ ، لِمَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ النَّصِّ فِي قَوْلِهِ : فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ ثَلَاثًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ حُكْمًا قَدْ نَفَذَ بِاجْتِهَادٍ ، وَالنَّصُّ فِيهِ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ .
فَصْلٌ : وَإِذَا لَمْ يَتَرَافَعَا فِيهِ إِلَى حَاكِمٍ وَلَا حُكِمَ فِيهِ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ صِحَّةٍ أَوْ إِبْطَالٍ ، فَإِنْ لَمْ يَجْتَمِعَا فِيهِ عَلَى الْإِصَابَةِ حَتَّى افْتَرَقَا فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهِمَا ، وَلَا مَهْرَ لَهَا ، وَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا لَمْ يَتَوَارَثَا ، وَإِنِ اجْتَمَعَا فِيهِ عَلَى الْإِصَابَةِ لَمْ تَخْلُ حَالُهُمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَعْتَقِدَا الْإِبَاحَةَ . وَالثَّانِي : أَنْ يَعْتَقِدَا تَحْرِيمَهُ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَجْهَلَا حُكْمَهُ . فَإِنِ اعْتَقَدَا الْإِبَاحَةَ : لِاعْتِقَادِهِمَا مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِمَا : لِاسْتِبَاحَتِهِمَا لَهُ مِنِ اجْتِهَادٍ مُسَوَّغٍ . فَإِنْ قِيلَ : أَفَلَيِسَ لَوْ شَرِبَ النَّبِيذَ مَنِ اعْتَقَدَ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي إِبَاحَتِهِ حَدَدْتُمُوهُ ، فَهَلَّا حَدَدْتُمْ هَذَا مَعَ اعْتِقَادِهِ إِبَاحَتَهُ ؟ قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الشُّبْهَةَ فِي النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ أَقْوَى : لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ أَصْلَيْ حَظْرٍ مِنْ زِنَا وَإِبَاحَةٍ مِنْ نِكَاحٍ ، وَإِبَاحَةُ الشُّبْهَةِ فِي النَّبِيذِ الَّذِي لَا يَرْجِعُ إِلَّا إِلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ فِي الْحَظْرِ وَالتَّحْرِيمِ ، وَهُوَ الْخَمْرُ . وَالثَّانِي : أَنَّ النِّكَاحَ الَّذِي عَقَدَهُ وَلِيٌّ قَدْ جُعِلَ لَهُ سَبِيلٌ إِلَى اسْتِبَاحَتِهِ بِوَلِيٍّ ، فَاقْتُصِرَ فِي الزَّجْرِ عَنْهُ عَلَى مُجَرَّدِ النَّهْيِ ، وَلَيْسَ كَالنَّبِيذِ الَّذِي لَا سَبِيلَ إِلَى اسْتِبَاحَتِهِ ، فَلَمْ يَقْتَصِرْ فِي الزَّجْرِ عَنْهُ عَلَى مُجَرَّدِ النَّهْيِ حَتَّى يُضَمَّ إِلَيْهِ حُكَمٌ هُوَ أَبْلَغُ فِي الزَّجْرِ ، لِيَكُونَ أَمْنَعَ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ .
فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَا جَاهِلَيْنِ بِتَحْرِيمِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ الحد في هذه الحالة فَلَا حَدَّ عَلَيْهِمَا : لِأَنَّ الْجَهْلَ بِالتَّحْرِيمِ أَقْوَى شُبْهَةً ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ ، وَلِأَنَّ مَنْ جَهِلَ تَحْرِيمَ الزِّنَا لِحُدُوثِ إِسْلَامِهِ لَمْ يُجْلَدْ ، فَكَانَ هَذَا بِدَرْءِ الْحَدِّ أَوْلَى ، أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَ سَلْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي أَمَةٍ أَقَرَّتْ بِالزِّنَا إِقْرَارَ جَاهِلٍ بِتَحْرِيمِهِ : أَرَاهَا تَشْهَدُ بِهِ كَأَنَّهَا لَمْ تَعْلَمْ ، وَإِنَّمَا الْحَدُّ عَلَى مَنْ عَلِمَ . ثُمَّ يَتَعَلَّقُ عَلَى هَذِهِ الْإِصَابَةِ مِنَ الْأَحْكَامِ مَا يَتَعَلَّقُ عَلَى النِّكَاحِ الصَّحِيحِ إِلَّا فِي الْمُقَامِ عَلَيْهِ فَيُوجِبُ الْعِدَّةَ ، وَيُلْحِقُ بِالنَّسَبِ ، وَيَثْبُتُ بِهِ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ في النكاح غير الصحيح ، وَلَكِنْ فِي ثُبُوتِ الْمَحْرَمِيَّةِ بِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : تَثْبُتُ بِهَا الْمَحْرَمُ كَمَا تَثْبُتُ بِهَا تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ ، فَلَا تُحْجَبُ عَنْ أَبِيهِ وَابْنِهِ وَلَا يُحْجَبُ عَنْهُ أُمُّهَا وَبِنْتُهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَثَبُتَ الْمَحْرَمُ وَإِنْ ثَبَتَ بِهِ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ : لِأَنَّنَا أَثْبَتْنَا تَحْرِيمَ الْمُصَاهَرَةِ تَغْلِيظًا ، فَاقْتَضَى أَنْ يَنْتَفِيَ عَنْهُ ثُبُوتُ الْمَحْرَمِ تَغْلِيظًا .
فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَا مُعْتَقِدَيْنِ لِتَحْرِيمِهِ يَرَيَانِ فِيهِ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ مِنْ إِبْطَالِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ ، فَمَحْظُورٌ عَلَيْهِمَا الْإِصَابَةُ ، فَإِنِ اجْتَمَعَا عَلَيْهَا وَوَطِئَهَا ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِمَا ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ - مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ - وَهُوَ مَذْهَبُ الزُّهْرِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ : الْحَدُّ عَلَيْهِمَا وَاجِبٌ : لِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الْبَغِيُّ مَنْ نَكَحَتْ بِغَيْرِ وَلِيٍّ . وَالْأَثَرُ الْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ فِي الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ جَمَعَتْهُمَا رُفْقَةٌ فَوَلَّتْ أَمْرَهَا رَجُلًا مِنْهُمْ فَزَوَّجَهَا ، فَجَلَدَ النَّاكِحَ وَالْمُنْكَحَ . وَالدَّلِيلُ عَلَى سُقُوطِ الْحَدِّ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَبَرِ الْمَاضِي : أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَأُبْطِلَ النِّكَاحُ وَأُوجِبَ الْمَهْرُ دُونَ الْحَدِّ : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ وَأَقْوَى الشُّبَهَاتِ عَقْدٌ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِبَاحَتِهِ ، فَكَانَ بِإِدْرَاءِ الْحَدِّ أَوْلَى . فَأَمَّا قَوْلُهُ : الْبَغِيُّ مَنْ نَكَحَتْ بِغَيْرِ وَلِيٍّ فَهِيَ لَا تَكُونُ بَغِيًّا بِالنِّكَاحِ إِجْمَاعًا ، وَإِنَّمَا يَقُولُ مَنْ يُوجِبُ الْحَدَّ : إِنَّهَا تَكُونُ بِالْوَطْءِ بَغِيًّا . فَلَمْ يَكُنْ فِي التَّعَلُّقِ بِهِ دَلِيلٌ ، ثُمَّ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ عَلَيْهَا بَعْضُ أَحْكَامِ الْبَغِيِّ وَهُوَ تَحْرِيمُ الْوَطْءِ ، وَلَا يُمْتَنَعُ أَنْ يُسَمَّى بَعْضُ أَحْكَامِ الْبَغْيِ بَغْيًا ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مِنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فَقَدْ كَفَرَ فَسَمَّاهُ بِبَعْضِ أَحْكَامِ الْكُفْرِ كَافِرًا ، وَأَمَّا الْأَثَرُ عَنْ عُمَرَ فَالْجَلْدُ فِيهِ عِبَارَةٌ عَنِ التَّعْزِيرِ ، أَلَّا تَرَاهُ جَلَدَ النَّاكِحَ وَالْمُنْكَحَ وَالْحَدُّ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُنْكِحِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ عَزَّرَهُمَا .
فَصْلٌ : وَإِذَا تَنَاكَوحَ الزَّوْجَانِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ ، ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَفِي حُكْمِ طَلَاقِهِ وَحُكْمِ تَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا : أَحَدُهُمَا : يُجِيزُ عَلَيْهِ حُكْمَ الطَّلَاقِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ . وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ ، وَأَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ ، اعْتِبَارًا بِأَغْلَظِ الْأَمْرَيْنِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ وَمَنْ عَاضَدَهُ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ ، وَرُبَّمَا كَانَ لَهُمْ فِيهِ سَلَفٌ أَنَّ حُكْمَ الطَّلَاقِ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ لِلْحُكْمٍ بِإِبْطَالِهِ ، وَإِنَّمَا تَحِلُّ لَهُ قَبْلَ زَوْجٍ : لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ إِلَّا فِي نِكَاحٍ ، وَقَدْ بَطَلَ أَنْ يَكُونَ نِكَاحًا . فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَانِ الْوَجْهَانِ ، فَإِنْ قِيلَ بِهَذَا الْوَجْهِ : إِنَّهُ إِذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ أَنْ يَنْكِحَهَا ، قَبْلَ زَوْجٍ ، فَإِنَّهُ إِذَا أَصَابَهَا لَمْ تَحِلَّ بِإِصَابَتِهِ لَهَا لِلزَّوْجِ إِنْ كَانَ طَلَّقَهَا قَبْلَهُ ثَلَاثًا . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّهَا قَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ بِطَلَاقِهِ لَهَا ثَلَاثًا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ، فَهَلْ تَحِلُّ بِإِصَابَتِهِ لَهَا لِلزَّوْجِ إِنْ كَانَ قَدْ طَلَّقَهَا قَبْلَهُ ثَلَاثًا أَمْ لَا ، فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : تَحِلُّ لَهُ لِإِجْرَائِنَا عَلَى طَلَاقِهِ حُكْمَ الطَّلَاقِ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا لَا تَحِلُّ لَهُ لِأَنَّنَا أَلْزَمْنَاهُ حُكْمَ طَلَاقِهِ تَغْلِيظًا عَلَيْهِمَا ، فَكَانَ مِنَ التَّغْلِيظِ أَنْ لَا تَحِلَّ لِغَيْرِهِ بِإِصَابَتِهِ .
فَصْلٌ : وَإِذَا عَدِمَتِ الْمَرْأَةُ وَلِيًّا مُنَاسِبًا وَكَانَتْ فِي بَلَدٍ لَا حَاكِمَ فِيهِ وَأَرَادَتْ نِكَاحَ زَوْجٍ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَيْسَ لَهَا أَنْ تَنْكِحَ حَتَّى تَجِدَ وَلِيًّا بِحُكْمٍ أَوْ بِنَسَبٍ : كَمَا عَدِمَتِ الشُّهُودَ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَتَزَوَّجَ حَتَّى تَجِدَ الشُّهُودَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَجُوزَ لِلضَّرُورَةِ أَنْ تَتَزَوَّجَ : لِأَنَّ الْوَلِيَّ يُرَادُ لِنَفْيِ الْعَارِ عَنْهُ بِتَزْوِيجِ غَيْرِ الْكُفْءِ ، فَإِذَا عُدِمَ زَالَ مَعْنَاهُ وَخَالَفَ الشُّهُودُ الْمَعْقُودُ بِهِمُ الِاسْتِيثَاقَ لِحِفْظِ الْأَنْسَابِ ، فَعَلَى هَذَا إِذَا جَوَّزَ لَهَا التَّزْوِيجَ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا تَتَوَلَّاهُ بِنَفْسِهَا : لِأَنَّ فَقْدَ الْوَلِيِّ قَدْ أَسْقَطَ حُكْمَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا تُوَلِّي أَمْرَهَا رَجُلًا يَكُونُ بَدَلًا مِنْ وَلِيِّهَا حَتَّى لَا يَخْلُوَ الْعَقْدُ مَنْ عَدَدِهِ ، وَيُحْتَمَلُ تَخْرِيجُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْخَصْمَيْنِ إِذَا حَكَّمَا رَجُلًا هَلْ يَلْزَمُهُمَا حُكْمُهُ كَلُزُومِ الْحَاكِمِ ؟ وَاللَّهُ أَعْلَمُ . مَسْأَلَةُ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا وِلَايَةَ لِوَصِيٍّ لِأَنَّ عَارَهَا لَا يَلْحَقُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ :
إِذَا وَصَّى الْأَبُ بِتَزْوِيجِ بِنْتِهِ لَمْ يَكُنْ لِوَصِيِّهِ أَنْ يُزَوِّجَهَا ، صَغِيرَةً كَانَتْ أَمْ كَبِيرَةً ، عُيِّنَ لَهُ عَلَى الزَّوْجِ أَوْ لَمْ يُعَيَّنْ ، وَلَا يُزَوِّجْهَا إِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً إِلَّا أَنْ يُعَيَّنَ لَهُ عَلَى الزَّوْجِ . وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ : يُزَوِّجُهَا الْوَصِيُّ بِكُلِّ حَالٍ اسْتِدْلَالًا عَلَى ذَلِكَ بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ لِلْأَبِ وِلَايَةً عَلَى مَالِهَا وَنِكَاحِهَا فَلَمَّا جَازَ أَنْ يُوصِيَ بِالْوِلَايَةِ عَلَى مَالِهَا ، جَازَ أَنْ يُوصِيَ بِالْوِلَايَةِ عَلَى نِكَاحِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا جَازَ لِلْأَبِ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِي حَيَاتِهِ وَكِيْلًا جَازَ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ بَعْدَ مَوْتِهِ وَصِيًّا كَالْمَالِ ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ : لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ وَلَيْسَ الْوَصِيُّ وَلِيًّا ، وَلِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ : زَوَّجَنِي خَالِيَ قُدَامَةُ بْنُ مَظْعُونٍ بِابْنَةِ أَخِيهِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ ، فَمَضَى الْمُغِيرَةُ إِلَى أُمِّهَا وَأَرْغَبَهَا فِي الْمَالِ فَمَالَتْ إِلَيْهِ وَزَهِدَتْ فِيَّ ، فَأَتَى قُدَامَةُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : أَنَا عَمُّهَا وَوَصِيُّ أَبِيهَا وَمَا نَقَمُوا مِنِ ابْنِ عُمَرَ إِلَّا أَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّهَا يَتِيمَةٌ وَإِنَّهَا لَا تُنْكَحُ إِلَّا بِإِذْنِهَا " ، فَرَدَّ نِكَاحَهُ مَعَ كَوْنِهِ وَصِيًّا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَبْرِئَ حَالَ صِغَرِهَا وَكِبَرِهَا وَلَا هَلْ عَيَّنَ الْأَبُ عَلَى الزَّوْجِ أَمْ لَا ؟ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ إِنَّمَا يُجَازُ لَهُ : لِأَنَّ الْوَصِيَّ لَا وِلَايَةَ لَهُ ، وَلِأَنَّ وِلَايَةَ النِّكَاحِ قَدِ انْتَقَلَتْ بِمَوْتِ الْأَبِ إِلَى مَنْ يَسْتَحِقُّهَا بِنَفْسِهِ مِنَ الْعَصَبَاتِ ، فَصَارَ مُوصًى فِيمَا غَيْرُهُ أَحَقُّ بِهِ ، فَكَانَ مَرْدُودَ الْوَصِيَّةِ كَمَا وَصَّى بِالْوِلَايَةِ عَلَى مَالِ أَطْفَالِهِ وَلَهُمْ جَدٌّ إِلَى غَيْرِهِ بَطَلَتْ وَصِيَّتُهُ ، كَذَلِكَ هَذَا . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا : أَنَّهَا وِلَايَةٌ قَدِ انْتَقَلَتْ مِنْ غَيْرِ تَوْلِيَةٍ ، فَلَمْ يَجُزْ نَقْلُهَا بِالْوَصِيَّةِ كَالْوِلَايَةِ عَلَى الْمَالِ مَعَ وُجُودِ الْجَدِّ ، وَفِي هَذَا انْفِصَالٌ عَمَّا ذَكَرَهُ مِنَ الْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ : وَلِأَنَّ الْعَصَبَةَ إِنَّمَا اخْتُصُّوا بِالْوِلَايَةِ فِي نِكَاحِهَا لِمَا يَلْحَقُهُمْ مِنْ عَارِهَا بِنِكَاحِهَا غَيْرَ كُفْءٍ ، فَصَارَ حَقُّ الْوِلَايَةِ بَيْنَهُمْ مُشْتَرَكًا لِرَفْعِ الْعَارِ عَنْهُمْ وَعَنْهَا ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْدُومٌ فِي الْوَصِيِّ الَّذِي لَا يَلْحَقُهُ عَارُهَا ، فَلَمْ نُثْبِتْ وِلَايَتَهُ لِفَقْدِ مَعْنَاهَا ، وَلَيْسَ كَالْوَكِيلِ الَّذِي هُوَ نَائِبٌ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لَهَا وَهُوَ مِنْ وَرَائِهِ مُرَاعٍ لِنَفْيِ الْعَارِ عَنْهُ وَعَنْهَا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا وَإِذْنُهَا صِمَاتُهَا دَلَّالَةٌ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الثَّيِّبِ وَالْبِكْرِ فِي أَمْرَيْنِ ، أَحَدُهُمَا : أَنَّ إِذْنَ الْبِكْرِ الصَّمْتُ وَالَّتِي تُخَالِفُهَا الْكَلَامُ ، وَالْآخَرُ : أَنَّ أَمْرَهُمَا فِي وِلَايَةِ أَنْفُسِهِمَا مُخْتَلَفٌ ، فَوِلَايَةُ الثَّيِّبِ أَنَّهَا أَحَقٌ مِنَ الْوَلِيِّ ، وَالْوَلِيُّ هَاهُنَا الْأَبُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - دُونَ الْأَوْلِيَاءِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَيِّمِ هَاهُنَا الثَّيِّبُ لِمَا قَدَّمْنَا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدِ اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا الْخَبَرِ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ فِي كَلِمَتَيْنِ :
إِحْدَاهُمَا : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي صِفَةِ الْإِذْنِ . وَالثَّانِي : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي الْإِجْبَارِ عَلَى الْعَقْدِ ، وَنَحْنُ نُقَدِّمُ الْكَلَامَ فِي الْإِجْبَارِ عَلَى الْعَقْدِ : لِأَنَّهُ أَصْلٌ لَمْ يُعَقِّبْهُ بِصِفَةِ الْإِذْنِ فِي مَوْضِعِهِ ، فَنَقُولُ : النِّسَاءُ ضَرْبَانِ : أَبْكَارٌ ، وَثَيِّبٌ . فَأَمَّا الثَّيِّبُ فَيَأْتِي حُكْمُهُنَّ . وَأَمَّا الْأَبْكَارُ فَلَهُنَّ حَالَتَانِ : حَالَةٌ مَعَ الْأَبَاءِ ، وَحَالَةٌ مَعَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ . فَأَمَّا حَالُهُنَّ مَعَ الْآبَاءِ فَهُنَّ ضَرْبَانِ : صِغَارٌ ، وَكِبَارٌ . فَأَمَّا صِغَارُ الْأَبْكَارِ فَلِلْآبَاءِ إِجْبَارُهُنَّ عَلَى النِّكَاحِ فَيُزَوِّجُ الْأَبُ ابْنَتَهُ الْبِكْرَ الصَّغِيرَةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُرَاعِيَ فِيهِ اخْتِيَارَهَا ، وَيَكُونُ الْعَقْدُ لَازِمًا لَهَا فِي صِغَرِهَا وَبَعْدَ كِبَرِهَا ، وَكَذَلِكَ الْجَدُّ وَإِنْ عَلَا يَقُومُ فِي تَزْوِيجِ الْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ مَقَامَ الْأَبِ إِذَا فُقِدَ الْأَبُ . وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ - وَإِنْ كَانَ وِفَاقًا - قَوْلُهُ تَعَالَى : وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ [ الطَّلَاقِ : 4 ] يَعْنِي الصِّغَارَ ، وَالصَّغِيرَةُ تَجِبُ الْعِدَّةُ عَلَيْهَا مِنْ طَلَاقِ الزَّوْجِ ، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا فِي الصِّغَرِ . وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا ابْنَةُ سَبْعٍ ، وَدَخَلَ بِي وَأَنَا ابْنَةُ تِسْعٍ ، وَمَاتَ عَنِّي وَأَنَا ابْنَةُ ثَمَانِي عَشْرَ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْبِكْرُ الْكَبِيرَةُ فَلِلْأَبِ - أَوْ لِلْجَدِّ عِنْدَ فَقْدِ الْأَبِ - أَنْ يُزَوِّجَهَا جَبْرًا كَالصَّغِيرَةِ ، وَإِنَّمَا يَسْتَأْذِنُهَا عَلَى اسْتِطَابَةِ النَّفْسِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِي جَوَازِ الْعَقْدِ . وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى ، وَأَحْمَدُ ، وَإِسْحَاقُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَيْسَ لِلْأَبِ إِجْبَارُ الْبِكْرِ الْبَالِغِ عَلَى الْعَقْدِ إِلَّا عَنْ إِذْنٍ . وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ : فَجُعِلَ الْإِجْبَارُ مُعْتَبَرًا بِالصَّغِيرَةِ دُونَ الْبَكَارَةِ ، وَجَعَلَ الشَّافِعِيُّ الْإِجْبَارَ مُعْتَبَرًا بِالْبَكَارَةِ دُونَ الصِّغَرِ ، وَاسْتَدَلَّ مِنْ نَصِّ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بِرِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ : أَنَّ رَجُلًا زَوَّجَ ابْنَتَهُ - وَهِيَ بِكْرٌ - فَمَاتَ ، فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا . وَبِرِوَايَةِ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : اسْتَأْمِرُوا النِّسَاءَ فِي أَبْضَاعِهِنَّ ، فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ ، وَلِأَنَّهَا مُتَصَرِّفَةٌ فِي مَالِهَا ، فَلَا يَجُوزُ إِجْبَارُهَا عَلَى النِّكَاحِ كَالثَّيِّبِ : وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ زَالَ عَنْهُ الْحَجْرُ فِي مَالِهِ ، زَالَ عَنْهُ الْحَجْرُ فِي نِكَاحِهِ كَالرَّجُلِ . وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا ، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا ، وَإِذْنُهَا صِمَاتُهَا فَلَمَّا جَعَلَ الثَّيِّبَ أَحَقَّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا عُلِمَ أَنَّ وَلِيَّ الْبِكْرِ أَحَقُّ بِهَا مِنْ نَفْسِهَا ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ : وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا مَحْمُولًا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ دُونَ الْوُجُوبِ اسْتِطَابَةً لِلنَّفْسِ : لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَحْمُولًا عَلَى الْوُجُوبِ لَصَارَتْ أَحَقَّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا كَالثَّيِّبِ .
وَمِنَ الْقِيَاسِ : أَنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ لَهُ قَبْضُ صَدَاقِهَا بَعْدَ رِضَاهَا جَازَ لَهُ عَقْدُ نِكَاحِهَا بِغَيْرِ رِضَاهَا كَالْأَمَةِ وَكَالْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ : وَلِأَنَّ مَا اسْتُحِقَّ بِالْوِلَايَةِ فِي نِكَاحِ الصَّغِيرَةِ اسْتُحِقَّ بِالْوِلَايَةِ فِي نِكَاحِ الْكَبِيرَةِ قِيَاسًا عَلَى طَلَبِ الْكَفَاءَةِ ، وَلِمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ أَنَّهُ : لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَزْوِيجُهَا جَبْرًا فِي الْكِبَرِ ، لَمَا كَانَ لَهُ تَفْوِيتُ بُضْعِهَا فِي الصِّغَرِ ، كَالطِّفْلِ يُقْتَلُ أَبُوهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لِوَلِيِّهِ تَفْوِيتُ خِيَارِهِ عَلَيْهِ فِي الْقَوْدِ وَالدِّيَةِ بَعْدَ الْبُلُوغِ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَفْوِيتُهُ عَلَيْهِ قَبْلَ الْبُلُوغِ ، وَكَانَ الْقَاتِلُ مَحْبُوسًا حَتَّى يَبْلُغَ ، فَيَخْتَارُ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَذَا يَبْطُلُ بِالصَّبِيِّ ، فَإِنَّ لِلْأَبِ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَى النِّكَاحِ قَبْلَ الْبُلُوغِ ، وَلَيْسَ لَهُ إِجْبَارُهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ . قُلْنَا : لَيْسَ فِي تَزْوِيجِ الِابْنِ تَفْوِيتٌ لِمَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِدْرَاكِهِ : لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الطَّلَاقِ إِنْ شَاءَ ، وَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ غَيْرَهَا مِنَ النِّسَاءِ ، وَالثَّيِّبُ لَا تَقْدِرُ عَلَى خَلَاصِ نَفْسِهَا مِنْ عَقْدِ الْأَبِ إِنْ لَمْ يَشَأْ . وَأَمَّا خَبَرُ عَائِشَةَ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الثَّيِّبِ دُونَ الْبِكْرِ تَخْصِيصًا بِمَا ذَكَرْنَاهُ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الثَّيِّبِ فَالْمَعْنَى فِيهَا : أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ لِلْأَبِ قَبْضُ صَدَاقِهَا إِلَّا بِإِذْنِهَا لَمْ يَجُزْ لَهُ عَقْدُ نِكَاحِهَا إِلَّا بِإِذْنِهَا ، وَلَمَّا جَازَ لِلْأَبِ قَبْضُ صَدَاقِ الْبِكْرِ بِغَيْرِ رِضَاهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ ، جَازَ لَهُ أَنْ يَعْقِدَ نِكَاحَهَا بِغَيْرِ رِضَاهَا : لِأَنَّ التَّصَرُّفَ فِي الْمُبَدَلِ مُعْتَبَرٌ بِالتَّصَرُّفِ فِي الْبَدَلِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الرَّجُلِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْأَبِ أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَيْهِ فِي نِكَاحِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَيْهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْبِكْرُ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لِلْأَبِ إِجْبَارَ الْبِكْرِ عَلَى النِّكَاحِ صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً ، وَكَذَلِكَ الْجَدُّ وَإِنْ عَلَا ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلَ : لَيْسَ الْإِجْبَارُ إِلَّا لِلْأَبِ دُونَ الْجَدِّ . وَقَالَ مَالِكٌ : لِلْجَدِّ إِجْبَارُ الصَّغِيرَةِ كَالْأَبِ وَلَيْسَ لَهُ إِجْبَارُ الْكَبِيرَةِ بِخِلَافِ الْأَبِ . وَفَرَّقَ بَيْنَ الْأَبِ وَالْجَدِّ ، بِأَنَّ الْجَدَّ يَمْلِكُ الْوِلَايَةَ بِوَسِيطٍ كَالْإِخْوَةِ ، وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ [ الْحَجِّ : 78 ] فَسَمَّاهُ أَبَا إِجْرَاءً لِحُكْمِ الْأَبِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ خَالَفَهُ فِي الِاسْمِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ وِلَايَةُ الْجَدِّ عَلَى الْأَبِ فَأَوْلَى أَنْ يَثْبُتَ عَلَى مَنْ يَلِي عَلَيْهِ الْأَبُ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا سَاوَى الْجَدُّ الْأَبَ فِي الْوِلَايَةِ عَلَى مَالِهَا سَاوَاهُ فِي الْوِلَايَةِ عَلَى نِكَاحِهَا ، وَبِهَذَا فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ الْعَصَبَاتِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا حَالُ الْبِكْرِ مَعَ غَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ كَالْإِخْوَةِ وَالْأَعْمَامِ فَلَا تَخْلُو حَالُهَا مَعَهُمْ مِنْ أَنْ تَكُونَ صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً ، فَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً لَمْ يَكُنْ لَهُمْ إِجْبَارُهَا إِجْمَاعًا ، وَلَيْسَ لَهُمْ تَزْوِيجُهَا إِلَّا بِإِذْنِهَا . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْآبَاءِ وَالْعَصَبَاتِ : أَنَّ فِي الْآبَاءِ بَعْضِيَّةً لَيْسَتْ فِي الْعَصَبَاتِ فَقَوِيَتْ بِهَا
وِلَايَتُهُمْ حَتَّى تَجَاوَزَتْ وِلَايَةَ النِّكَاحِ إِلَى وِلَايَةِ الْمَالِ ، فَصَارُوا بِذَلِكَ أَعْجَزَ ، وَلِأَنَّهُ مِنَ الْعَصَبَاتِ ، وَإِنْ كَانَتِ الْبِكْرُ صَغِيرَةً فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الْعَصَبَاتِ تَزْوِيجُهَا بِحَالٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لِجَمِيعِ الْعَصَبَاتِ تَزْوِيجُهَا صَغِيرَةً كَالْأَبِ ، وَلَهَا الْخِيَارُ إِذَا بَلَغَتْ بِخِلَافِهَا مَعَ الْأَبِ . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَهُمْ تَزْوِيجُهَا وَلَا خِيَارَ لَهَا كَهِيَ مَعَ الْأَبِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ إِلَى قَوْلِهِ : وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ [ النِّسَاءِ : 127 ] . قَالَ : وَالْيَتِيمَةُ مَنْ لَا أَبَ لَهَا مِنَ الصِّغَارِ وَالَّذِي كُتِبَ لَهَا صَدَاقُهَا ، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ غَيْرِ الْأَبِ لَهَا ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ لَهُ تَزْوِيجُهَا فِي الْكِبَرِ جَازَ لَهُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِتَزْوِيجِهَا فِي الصِّغَرِ كَالْأَبِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوَى الْآبَاءُ وَالْعَصَبَاتُ فِي إِنْكَاحِ الثَّيِّبِ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوُوا فِي إِنْكَاحِ الْبِكْرِ ، وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ قُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ أَنَّهُ زَوَّجَ ابْنَةَ أَخِيهِ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، فَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِكَاحَهُ ، فَقَالَ : إِنَّنِي عَمُّهَا وَوَصِيُّ أَبِيهَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّهَا يَتِيمَةٌ وَإِنَّهَا لَا تَتَزَوَّجُ إِلَّا بِإِذْنِهَا " فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ تَزْوِيجَهَا إِلَّا بَعْدَ الْبُلُوغِ . وَمِنَ الْقِيَاسِ : أَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَمْلِكْ قَبْضَ صَدَاقِهَا لَمْ يَمْلِكْ عَقْدَ نِكَاحِهَا كَالْعَمِّ مَعَ الثَّيِّبِ طَرْدًا ، أَوْ كَالسَّيِّدِ مَعَ أَمَتِهِ عَكْسًا ، وَلِأَنَّهَا ثَبَتَتْ لِلْأَبِ فِي الصَّغِيرَةِ مِنْ غَيْرِ تَوَلِّيهِ فَوَجَبَ أَنْ يُخْتَصَّ بِهَا مِنْ بَيْنِ الْعَصَبَاتِ كَوِلَايَةِ الْمَالِ ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ إِذَا لَمْ يَنْعَقِدُ لِأَنَّ مَا كَانَ فَاسِدًا كَالْمَنْكُوحَةِ فِي الْعِدَّةِ ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَنْعَقِدُ بِخِيَارِ التَّحَكُّمِ وَالِاقْتِرَاعِ قِيَاسًا عَلَى خِيَارِ الثَّيِّبِ . فَأَمَّا الْآيَةُ فَتُحْمَلُ عَلَى إِنْكَاحِهَا قَبْلَ الْيُتْمِ أَوْ عَلَى إِنْكَاحِ الْجَدِّ : لِأَنَّ الْيُتْمَ يَكُونُ بِمَوْتِ الْأَبِ ، وَإِنْ كَانَ الْجَدُّ بَاقِيًا ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْأَبِ ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي الْوِلَايَةِ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْإِجْبَارِ ، وَأَمَّا جَمْعُهُمْ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ فَمَرْدُودٌ بِافْتِرَاقِهِمَا فِي قَبْضِ الصَّدَاقِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَمِثْلُ هَذَا حَدِيثُ خَنْسَاءَ ؛ زَوَّجَهَا أَبُوهَا وَهِيَ ثَيِّبٌ ، فَكَرِهَتْ ذَلِكَ ، فَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِكَاحَهُ ، وَفِي تَرْكِهِ أَنْ يَقُولَ لِخَنْسَاءَ " إِلَّا أَنْ تَشَائِي أَنْ تُجِيزِي مَا فَعَلَ أَبُوكِ " دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهَا لَوْ أَجَازَتْهُ مَا جَازَ ، وَالْبِكْرُ مُخَالِفَةٌ لَهَا لِاخْتِلَافِهِمَا فِي لَفْظِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَوْ كَانَا سَوَاءً كَانَ لَفْظُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمَا أَحَقُّ بِأَنْفُسِهِمَا . وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - : تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا ابْنَةُ سَبْعِ سِنِينَ ، وَدَخَلَ بِي وَأَنَا ابْنَةُ تِسْعٍ - وَهِيَ لَا أَمْرَ لَهَا - وَكَذَلِكَ إِذَا بَلَغَتْ وَلَوْ كَانَتْ أَحَقَّ بِنَفْسِهَا أَشْبَهُ أَنْ لَا يَجُوزَ ذَلِكَ عَلَيْهَا قَبْلَ بُلُوغِهَا ، كَمَا قُلْنَا فِي الْمَوْلُودِ يُقْتَلُ أَبُوهُ وَيُحْبَسُ قَاتِلُهُ حَتَّى يَبْلُغَ فَيَقْتُلُ أَوْ يَعْفُو " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : النِّكَاحُ الْمَوْقُوفُ لَا يَصْحُ وَلَا يَقَعُ إِلَّا عَلَى إِحْدَى حَالَتَيْنِ مِنْ صِحَّةٍ أَوْ فَسَادٍ ، سَوَاءً كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الزَّوْجَةِ أَوِ الزَّوْجِ أَوِ الْوَلِيِّ ، وَكَذَلِكَ الْبَيْعُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُعْقَدَ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْبَائِعِ أَوِ الْمُشْتَرِي . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَصِحُّ النِّكَاحُ الْمَوْقُوفُ عَلَى إِجَازَةِ الزَّوْجَةِ ، أَوِ الزَّوْجِ ، أَوِ الْوَلِيِّ ،
وَيَصِحُّ الْبَيْعُ الْمَوْقُوفُ عَلَى إِجَازَةِ الْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي ، وَاسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ : إِنَّ أَبِي وَنِعْمَ الْأَبُ هُوَ زَوَّجَنِي بِابْنِ أَخٍ لَهُ ؛ أَرَادَ أَنْ يَرْفَعَ بِي خَسِيسَتَهُ ، فَخَيَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَتْ : قَدِ اخْتَرْتُ مَا فَعَلَ أَبِي ، وَإِنَّمَا أَرَدْتُ لِتَعْلَمَ النِّسَاءُ أَنْ لَيْسَ إِلَى الْآبَاءِ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ . فَلَمَّا خَيَّرَهَا وَالْخِيَارُ لَا يَثْبُتُ فِي اللَّازِمِ وَلَا فِي الْفَاسِدِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى خِيَارِهَا وَإِجَازَتِهَا ، قَالَ : لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ مَوْقُوفَةً عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ ، وَاللُّقَطَةُ إِذَا تَصَدَّقَ بِهَا الْوَاحِدُ مَوْقُوفَةً عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ : لِكَوْنِ الْمُجِيزِ لَهُمَا مَوْجُودًا جَازَ أَنْ يَكُونَ النِّكَاحُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ مَنْ يَكُونُ فِي حَالِ الْوَقْفِ مَوْجُودًا . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا : أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مُجِيزُهُ مَوْجُودًا جَازَ أَنْ يَكُونَ عَلَى إِجَازَتِهِ مَوْقُوفًا ، كَاللُّقَطَةِ وَالْوَصِيَّةِ . قَالَ : وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى الْفَسْخِ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى الْإِجَازَةِ . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا : أَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ الِاخْتِيَارِ ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ كَالْفَسْخِ ، قَالَ : وَلِأَنَّ حَالَ الْعَقْدِ بَعْدَ كَمَالِهِ أَقْوَى مِنْ حَالِهِ قَبْلَ كَمَالِهِ ، فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ كَمَالِهِ مَوْقُوفًا بَعْدَ الْبَذْلِ عَلَى إِجَازَةِ الْقَبُولِ ، فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ بَعْدَ كَمَالِهِ مَوْقُوفًا عَلَى الْإِجَازَةِ . وَتَحْرِيرُهُ : أَنَّهُ أَحَدُ حَالَتَيِ الْعَقْدِ ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى الْإِجَازَةِ كَالْحَالِ الْأُولَى . وَدَلِيلُنَا : حَدِيثُ عَائِشَةَ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَلَوْ صَحَّ بِالْإِجَازَةِ لَوَقَفَهُ عَلَى إِجَازَةِ الْوَلِيِّ وَلَمَا حَكَمَ بِإِبْطَالِهِ ، وَحَدِيثُ خَنْسَاءَ بِنْتِ خِذَامٍ أَنْ أَبَاهَا زَوَّجَهَا وَهِيَ ثَيِّبٌ ، فَكَرِهَتْ ، فَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِكَاحَهَا ، وَلَمْ يَقُلْ : إِلَّا أَنْ تَشَاءَ أَنْ تُجِيزِي مَا فَعَلَ أَبُوكِ ، مَعَ حَثِّهِ عَلَى طَاعَةِ الْآبَاءِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَوْ أَجَازَتْهُ لَمْ يَجُزْ ، وَلِأَنَّ عَقْدَ الْمَنْكُوحَةِ إِذَا لَمْ تَصِرِ الْمَرْأَةُ بِهِ فِرَاشًا كَانَ فَاسِدًا كَالْمَنْكُوحَةِ فِي رِدَّةٍ أَوْ عِدَّةٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنَّهَا لَوْ جَاءَتْ فِي النِّكَاحِ الْمَوْقُوفِ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ لَمِ يَلْحَقْ بِهِ ، وَلِأَنَّ مَا انْتَفَتْ عَنْهُ أَحْكَامُ النِّكَاحِ مِنَ الطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ وَالتَّوَارُثِ لَمْ يَكُنْ نِكَاحًا كَالْمُتْعَةِ . وَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : أَنَّهُ لَا يَلْحَقُهَا فِي زَمَانِ الْوَقْفِ طَلَاقٌ ، وَلَا ظِهَارٌ ، وَلَا تَوَارُثٌ : وَلِأَنَّ مَا افْتَقَرَ إِلَيْهِ عَقْدُ النِّكَاحِ كَانَ تَأَخُّرُهُ عَنِ الْعَقْدِ مُبْطِلًا لِلنِّكَاحِ كَالشَّهَادَةِ : وَلِأَنَّ اشْتِرَاطَ لُزُومِ النِّكَاحِ إِلَى مُدَّةٍ أَقْوَى مِنِ اشْتِرَاطِ لُزُومِهِ بَعْدَ مُدَّةٍ : لِأَنَّ مِنَ الْعُقُودِ مَا يَنْعَقِدُ إِلَى مُدَّةٍ كَالْإِجَارَةِ ، وَلَيْسَ مِنْهَا مَا يَنْعَقِدُ بَعْدَ مُدَّةٍ ، فَلَمَّا بَطَلَ بِاشْتِرَاطِ لُزُومِهِ بَعْدَ مُدَّةٍ كَقَوْلِهِ : تَزَوَّجْتُهَا شَهْرًا ، كَانَ أَوْلَى أَنْ يَبْطُلَ بِاشْتِرَاطِ لُزُومِهِ ، كَقَوْلِهِ : تَزَوَّجْتُهَا عَلَى إِجَازَتِهَا : لِأَنَّهُ إِذَا بَطَلَ بِمَا لَهُ فِي الصِّحَّةِ نَظِيرٌ ، فَأَوْلَى أَنْ يَبْطُلَ بِمَا لَيْسَ لَهُ فِي الصِّحَّةِ نَظِيرٌ : لِأَنَّ النِّكَاحَ إِذَا اعْتُبِرَ لُزُومُهُ بِشَرْطٍ مُتَيَقَّنٍ بَعْدَ الْعَقْدِ كَانَ أَقْوَى وَأَوْكَدَ مِنِ اعْتِبَارِ لُزُومِهِ بِشَرْطٍ مُجَوِّزٍ بَعْدَ الْعَقْدِ ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ : قَدْ
تَزَوَّجْتُكِ الْآنَ إِذَا أَهَلَّ شَهْرُ رَمَضَانَ كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا ، فَأَوْلَى إِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى مُدَّةِ إِجَازَتِهَا أَنْ يَكُونَ فَاسِدًا ، إِلَّا أَنَّهُ إِذَا بَطَلَ فِي أَقْوَى الْحَالَيْنِ ، كَانَ بُطْلَانُهُ فِي أَضْعَفِهِمَا أَوْلَى . فَأَمَّا الْخَبَرُ الَّذِي اسْتَدَلُّوا بِهِ فَضَعِيفٌ ، وَالْمَشْهُورُ مِنَ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ رَدَّ نِكَاحَهَا وَلَمْ يُخَيِّرْهَا ، وَلَوْ سَلَّمَنَا أَنَّهُ خَيَّرَهَا لَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى وَقْتِ الْفَسْخِ لَا وَقْتَ الْإِمْضَاءِ : لِأَنَّ أَبَاهَا قَدْ كَانَ زَوَّجَهَا بِغَيْرِ كُفْءٍ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِوَقْفِ الْوَصِيَّةِ ، وَالتَّصَدُّقِ بِاللُّقَطَةِ ، فَالْوَصِيَّةُ يَجُوزُ وَقْفُهَا لِجَوَازِهَا بِالْمَجْهُولِ وَالْمَعْدُومِ وَلَيْسَ كَالنِّكَاحِ وَالْبَيْعِ الْبَاطِلَيْنِ عَلَى الْمَجْهُولِ وَالْمَعْدُومِ ، وَأَمَّا التَّصَدُّقُ بِاللُّقَطَةِ فَلَا يَجُوزُ وَقْفُهُ بَلْ إِنْ لَمْ يَتَمَلَّكِ اللُّقَطَةَ كَانَتْ فِي يَدِهِ أَمَانَةً لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا ، وَإِنْ تَمَلَّكَهَا فَتَصَدَّقَ بِهَا كَانَتْ عَنْ نَفْسِهِ وَإِذَا لَمْ يَعْلَمِ الْأَجَلَ بَطَلَ الْقِيَاسُ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِجَوَازِ وَقْفِ النِّكَاحِ عَلَى الْفَسْخِ فَكَذَلِكَ عَلَى الْإِجَازَةِ بَاطِلٌ : لِأَنَّ الْمَوْقُوفَ عَلَى الْفَسْخِ قَدْ تَعَلَّقَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ النِّكَاحِ ، فَصَحَّ الْمَوْقُوفُ عَلَى الْإِجَازَةِ ، وَقَدِ انْتَفَتْ عَنْهُ أَحْكَامُ النِّكَاحِ فَبَطَلَ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِوَقْفِهِ بَعْدَ الْبَذْلِ وَقَبْلَ الْقَبُولِ ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّا نَمْنَعُ مِنْ وَقْفِ الْعَقْدِ ، وَهُوَ قَبْلَ تَمَامِهِ بِالْبَذْلِ وَالْقَبُولِ لَيْسَ بِعَقْدٍ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِوَقْفِ مَا لَيْسَ يَلْزَمُ عَلَى وَقْفِ عَقْدٍ يَلْزَمُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ الِاسْتِئْمَارُ لِلْبِكْرِ عَلَى اسْتِطَابَةِ النَّفْسِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَالِاسْتِئْمَارُ لِلْبِكْرِ عَلَى اسْتِطَابَةِ النَّفْسِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ لَا عَلَى أَنَّ لِأَحَدٍ رَدَّ مَا رَأَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَكِنْ لِاسْتِطَابَةِ أَنْفُسِهِمْ ، وَلِيُقْتَدَى بِسُنَّتِهِ فِيهِمْ ، وَقَدْ أَمَرَ نُعَيْمًا أَنْ يُؤَامِرَ أُمَّ بِنْتِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الثَّيِّبُ فَاسْتِئْذَانُهَا وَاجِبٌ : لِأَنَّهَا أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا وَإِذْنُهَا يَكُونُ بِالْقَوْلِ الصَّرِيحِ ، وَأَمَّا الْبِكْرُ فَيَلْزَمُ غَيْرَ الْأَبِ وَالْجَدِّ أَنْ يَسْتَأْذِنَهَا سَوَاءً كَانَتْ صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً : لِأَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ إِجْبَارُهَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَدَاوُدُ : يَلْزَمُهُ اسْتِئْذَانُهَا : اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا وَإِذْنُهَا صِمَاتُهَا . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ اسْتِئْذَانَ الْأَبِ لَهَا لَا يَجِبُ وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ جَوَازِ إِجْبَارِهَا عَلَى النِّكَاحِ صَغِيرَةً وَكَبِيرَةً : وَمَا رَوَاهُ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَيْسَ لِلْوَلِيِّ مَعَ الثَّيِّبِ أَمْرٌ ، وَالْيَتِيمَةُ وَصَمْتُهَا إِقْرَارُهَا ، فَلَمَّا خَصَّ الْيَتِيمَةَ بِالِاسْتِئْمَارِ - وَهِيَ الَّتِي لَا أَبَ لَهَا - دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَاتَ الْأَبِ لَا يَلْزَمُ اسْتِئْمَارَهَا . فَأَمَّا قَوْلُهُ : وَالْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ فِي نَفْسِهَا فَيُحْمَلُ مَعَ غَيْرِ الْأَبِ عَلَى الْإِيجَابِ وَمَعَ الْأَبِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمُشَاوَرَةِ أُمَّتِهِ فَقَالَ تَعَالَى : وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [ آلِ عِمْرَانَ : 159 ] لَا عَلَى أَنَّ لِأَحَدٍ رَدَّ مَا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَكِنْ عَلَى اسْتِطَابَةِ أَنْفُسِهِمْ وَلِيَقْتَدُوا بِسُنَّتِهِ فِيهِمْ . وَاخْتُلِفَ فِيمَا أُمِرَ بِمُشَاوَرَتِهِمْ فِيهِ ، فَقَالَ قَوْمٌ : فَيَ الْحَرْبِ وَمَكَائِدِ الْعَدُوِّ خَاصَّةً . وَقَالَ آخَرُونَ : فِي أُمُورِ الدُّنْيَا دُونَ الدِّينِ . وَقَالَ آخَرُونَ : فِي أُمُورِ الدِّينِ تَنْبِيهًا لَهُمْ عَلَى عِلَلِ الْأَحْكَامِ وَطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَمَرَ نُعَيْمًا أَنْ يُؤَامِرَ أُمَّ ابْنَتِهِ ، وَقَالَ : وَأَمِّرُوا الْأُمَّهَاتِ فِي بَنَاتِهِنَّ " ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى اسْتِطَابَةِ أَنْفُسِهِنَّ لَا عَلَى وُجُوبِ اسْتِئْمَارِهِنَّ ، وَكَذَلِكَ اسْتِئْمَارُ الْأَبِ لِلْبِكْرِ عَلَى اسْتِطَابَةِ النَّفْسِ لَا عَلَى الْوُجُوبِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ اسْتِئْمَارَ الْأَبِ لِابْنَتِهِ الْبِكْرِ اسْتِحْبَابًا ، فَإِذْنُهَا يَكُونُ بِالصَّمْتِ دُونَ النُّطْقِ ، بِخِلَافِ الثَّيِّبِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " وَصَمْتُهَا إِقْرَارُهَا " . وَرَوَى ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا خُطِبَ إِلَيْهِ إِحْدَى بَنَاتِهِ دَنَا مِنَ الْخُدُورِ ، وَقَالَ : إِنَّ فُلَانًا خَطَبَ فُلَانَةَ ، فَإِنْ هِيَ رَضِيَتْ سَكَتَتْ ، فَكَانَ سُكُوتُهَا رِضَاهَا ، وَإِنْ هِيَ أَنْكَرَتْ طَعَنَتْ فِي الْخِدْرِ ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهَا إِنْكَارًا فَلَا يُزَوِّجُهَا وَلِأَنَّ الْبِكْرَ أَكْثَرُ خَفَرًا وَتَحَذُّرًا مِنَ الثَّيِّبِ فَهِيَ تَسْتَحِي مِمَّا لَا تَسْتَحِي مِنْهُ الثَّيِّبُ مِنَ التَّصْرِيحِ بِالرَّغْبَةِ فِي الْأَزْوَاجِ ، فَجُعِلَ سُكُوتُهَا إِذْنًا وَرِضًا ، وَلَمْ يُجْعَلْ إِذْنُ الثَّيِّبِ إِلَّا نُطْقًا ، فَأَمَّا مَنْ عَدَا الْآبَاءَ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ مَعَ الْبِكْرِ فَعَلَيْهِمُ اسْتِئْمَارُهَا : لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُمْ إِجْبَارُهَا وَإِذْنُهَا مَعَهُمُ الصَّمْتُ كَإِذْنِهَا مَعَ الْأَبِ . وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : إِذْنُهَا مَعَهُمُ بِالنُّطْقِ الصَّرِيحِ كَالثَّيِّبِ بِخِلَافِهَا مَعَ الْأَبِ : لِأَنَّهَا كَانَتْ مَعَهُمْ فِي وُجُوبِ الِاسْتِئْمَارِ كَالثَّيِّبِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِذْنُهَا نُطْقًا صَرِيحًا كَالثَّيِّبِ . وَهَذَا خَطَأٌ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ عُمُومِ الْأَخْبَارِ ، وَلِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ كَثْرَةِ الِاسْتِحْيَاءِ وَلَعَلَّ حَيَاءَهَا مَعَ غَيْرِ الْأَبِ أَكْثَرُ لِقِلَّةِ مُخَالَطَتِهِ ، فَكَانَ إِذْنُهَا مَعَهُمْ بِأَنْ يَكُونَ صَمْتُهَا أَوْلَى ، وَهَكَذَا السُّلْطَانُ مَعَ الْبِكْرِ كَالْعَصَبَاتِ إِذَا فُقِدُوا لَا يُزَوِّجُوهَا إِلَّا بَعْدَ بُلُوغِهَا بِإِذْنِهَا ، وَإِذْنُهَا مَعَهُ الصَّمْتُ ، وَسَوَاءً كَانَتِ الْبِكْرُ مِمَّنْ قَدْ تَزَوَّجَتْ مَرَّةً وَطُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ ، أَوْ لَمْ تَتَزَوَّجْ قَطُّ ، إِذَا كَانَتِ الْبَكَارَةُ بَاقِيَةً ، فِي أَنَّ حُكْمَهَا مَا ذَكَرْنَاهُ مَعَ الْأَبِ وَالْعَصَبَاتِ .
الْقَوْلُ فِي الشَّهَادَةِ فِي النِّكَاحِ
[ الْقَوْلُ فِي الشَّهَادَةِ فِي النِّكَاحِ ] مَسْأَلَةٌ : ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - : وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنِ الْحَسَنِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ وَرَوَاهُ غَيْرُ الشَّافِعِيِّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، الشَّهَادَةُ فِي النِّكَاحِ وَاجِبَةٌ . وَقَالَ دَاوُدُ : غَيْرُ وَاجِبَةٍ ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ : عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ ، وَعُمَرُ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ . وَمِنَ التَّابِعِينَ : سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ، وَالنَّخَعِيُّ .
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ : أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلَ ، وَمَالِكٌ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، غَيْرَ أَنَّ مَالِكًا جَعَلَ الْإِشْهَادَ بِهِ وَتَرْكَ التَّرَاخِي بِكَتْمِهِ شَرْطًا فِي صِحَّتِهِ ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [ النِّسَاءِ : 3 ] فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ ، وَكَمَا رَوَاهُ عَبَّادُ بْنُ سِنَانٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَلَا أُنْكِحَكَ أُمَامَةَ بِنْتَ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ ؟ قَالَ : بَلَى ، قَدْ أُنْكِحْتَهَا ، وَلَمْ يُشْهِدْ ، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا زَوَّجَ بِنْتَهُ أُمَّ كُلْثُومٍ مِنْ عُمَرَ وَلَمْ يُشْهِدْ . قَالُوا : وَلِأَنَّ الْعُقُودَ نَوْعَانِ : عَقْدٌ عَلَى عَيْنٍ كَالْبَيْعِ ، وَعَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَةٍ كَالْإِجَارَةِ ، وَلَيْسَتِ الشَّهَادَةُ شَرْطًا فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَكَانَ النِّكَاحُ مُلْحَقًا بِأَحَدِهِمَا . وَاسْتَدَلَّ مَالِكٌ خُصُوصًا فِي وُجُوبِ الْإِشْهَادِ بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَعْلِنُوا هَذَا النِّكَاحَ وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفِّ ، وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ نِكَاحِ السِّرِّ . وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ الْحَسَنُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ عَنِ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ : لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ . وَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ . وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا بُدَّ فِي النِّكَاحِ مِنْ أَرْبَعَةٍ : زَوْجٍ ، وَوَلِيٍّ ، وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ . وَلِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ لَمَّا خَالَفَ سَائِرَ الْعُقُودِ فِي تَجَاوُزِهِ عَنِ الْمُتَعَاقِدِينَ إِلَى ثَالِثٍ هُوَ الْوَلَدُ الَّذِي يَلْزَمُ حِفْظُ نَسَبِهِ ، خَالَفَهَا فِي وُجُوبِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ حِفْظًا لِنَسَبِ الْوَلَدِ الْغَائِبِ : لِئَلَّا يَبْطُلَ نَسَبُهُ فَيُجَاهِدُ الزَّوْجَيْنِ ، وَفِي هَذَا انْفِصَالٌ عَمَّا ذَكَرُوهُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ فِي إِلْحَاقِهِ إِمَّا بِعُقُودِ الْأَعْيَانِ ، أَوْ بِعُقُودِ الْمَنَافِعِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ : فَهُوَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا مَنْ يُسْتَبَاحُ مِنَ الْمَنْكُوحَاتِ ، وَلَمْ يَرِدْ فِي صِفَاتِ النِّكَاحِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ تَزْوِيجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَامَةَ بِنْتَ رَبِيعَةَ وَلَمْ يُشْهِدْ ، وَتَزْوِيجِ عَلِيٍّ بِنْتَهُ أُمَّ كُلْثُومٍ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَلَمْ يُشْهِدْ ، فَهَذَا جَوَابٌ وَاحِدٌ ، وَهُوَ أَنَّهُ حَضَرَ الْعَقْدَ شُهُودٌ لَمْ يَقُلْ لَهُمُ اشْهَدُوا : إِذْ يَبْعُدُ أَنْ يَخْلُوَ مَجْلِسُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَالِ بُرُوزِهِ مِنْ حُضُورِ نَفْسَيْنِ فَصَاعِدًا ، وَكَذَلِكَ حَالُ عُمَرَ مَعَ عَلَيٍّ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ ، لَا يَخْلُو أَنْ يَحْضُرَهُ نَفْسَانِ ، وَإِذَا حَضَرَ الْعَقْدَ شَاهِدَانِ بِقَصْدٍ أَوِ اتِّفَاقٍ صَحَّ الْعَقْدُ بِهِمَا ، وَإِنْ لَمْ يُقَلْ لَهُمَا اشْهَدَا ، فَلَمْ يَكُنْ فِي الْخَبَرِ دَلِيلٌ : لِأَنَّ قَوْلَ الرَّاوِي : وَلَمْ يُشْهِدْ ، أَيْ لَمْ يَقُلْ لِمَنْ حَضَرَ اشْهَدُوا ، وَكَيْفَ يَصِحُّ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ رَدَّ نِكَاحًا حَضَرَهُ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ ، فَقَالَ : هَذَا نِكَاحُ السِّرِّ وَلَا أُجِيزُهُ ، وَلَوْ تَقَدَّمْتُ فِيهِ لَرَجَمْتُ . وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ :
أَحَدُهُمَا : يَعْنِي لَوْ تَقَدَّمْتُ فِيهِ فَخُولِفْتُ . وَالثَّانِي : يَعْنِي لَوْ تَقَدَّمْتُ بِالْوَاجِبِ وَتَعَدَّيْتُ إِلَى مَا لَيْسَ بِجَائِزٍ لَرُجِمْتُ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ مَالِكٍ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : وَأَعْلِنُوا هَذَا النِّكَاحَ وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفِّ فَفِيهِ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ إِعْلَانَهُ يَكُونُ بِالشَّهَادَةِ ، وَكَيْفَ يَكُونُ مَكْتُومًا مَا شَهِدَهُ الشُّهُودُ ، أَمْ كَيْفَ يَكُونُ مُعْلَنًا مَا خَلَا مِنْ بَيِّنَةٍ وَشُهُودٍ . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنْ يُحْمَلَ إِعْلَانُهُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ ، كَمَا حَصَلَ ضَرْبُ الدُّفِّ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ دُونَ الْإِيجَابِ لِمَنْ كَانَ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ ، وَإِنْ كَانَ فِي عَصْرِنَا غَيْرَ مَحْمُولٍ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَلَا عَلَى الْإِيجَابِ . وَأَمَّا نَهْيُهُ عَنْ نِكَاحِ السِّرِّ ، فَهُوَ النِّكَاحُ الَّذِي لَمْ يَشْهَدُهُ الشُّهُودُ ، أَلَّا تَرَى أَنَّ عُمَرَ رَدَّ نِكَاحًا حَضَرَهُ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ ، وَقَالَ : هَذَا نِكَاحُ السِّرِّ وَلَا أُجِيزُهُ ، وَقَالَ الشَّاعِرُ : وَسِرُّكَ مَا كَانَ عِنْدَ امْرِئٍ وَسِرُّ الثَّلَاثَةِ غَيْرُ الْخَفِيِّ
فَصْلٌ لَا يَنْعَقِدُ النكاح إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ وَلَا يَنْعَقِدُ بِشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الشَّهَادَةِ فِي النِّكَاحِ حكمها وَأَنَّهَا شَرْطٌ فِي صِحَّتِهِ ، فَلَا يَنْعَقِدُ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ ، وَلَا يَنْعَقِدُ بِشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَنْعَقِدُ بِشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ : اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ [ الْبَقَرَةِ : 282 ] فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ : وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ ، فَصَحَّ بِشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ كَسَائِرِ الْعُقُودِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [ الطَّلَاقِ : 2 ] فَلَمَّا أَمَرَ بِالرَّجْعَةِ بِشَاهِدِينَ ، وَهِيَ أَخَفُّ حَالًا مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ ، كَانَ ذَلِكَ فِي النِّكَاحِ أَوْلَى . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ . فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا جُمِعَ بَيْنَ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ غَلَبَ فِي اللُّغَةِ اللَّفْظُ الْمُذَكَّرُ عَلَى الْمُؤَنَّثِ ، فَلَمْ يَمْنَعْ جَمْعُ الشَّاهِدَيْنَ مِنْ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا وَامْرَأَتَيْنِ . قِيلَ : وَهَذَا وَإِنْ صَحَّ فِي الْجَمْعِ : لِأَنَّ الْمُذَكَّرَ وَالْمُؤَنَّثَ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ يُمْنَعُ مَنْ حَمْلِهِ عَلَى الْجَمْعِ : لِأَنَّ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ مَنْ يَحْمِلُ الْجَمْعَ عَلَى التَّثْنِيَةِ ، وَلَيْسَ فِيهِمْ وَلَا فِي الْفُقَهَاءِ مَنْ يَحْمِلُ التَّثْنِيَةَ عَلَى الْجَمْعِ ، فَإِنْ حَمْلَهُ عَلَى شَاهِدٍ وَامْرَأَةٍ خَالَفَ مَذْهَبَهُ وَقَوْلَ الْأُمَّةِ ، وَإِنْ حَمْلَهُ عَلَى شَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ خَالَفَ لَفْظَ التَّثْنِيَةِ إِلَى الْجَمْعِ ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ : رَأَيْتُ رَجُلَيْنِ وَقَدْ رَأَى رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ ، لَمْ يُصَدَّقْ فِي خَبَرِهِ ، فَبَطَلَ مَا تَأَوَّلُوهُ . مِنَ الْقِيَاسِ : أَنَّ الْفُرُوجَ لَا يُسَوَّغُ فِيهَا الْبَذْلُ وَالْإِبَاحَةُ ، فَلَمْ يُسْتَبَحْ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ
كَالْقَصَاصِ ، وَلِأَنَّ مَا خُصَّ مِنْ بَيْنِ جِنْسِهِ بِشَاهِدِينَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ وَلَا أَحَدُهُمَا امْرَأَةً كَالشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا ، وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ شُهُودِ النِّكَاحِ بِانْفِرَادِهِمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ شُهُودِهِ مَعَ غَيْرِهِمْ كَالْعَبِيدِ وَالْكُفَّارِ . فَأَمَّا الْآيَةُ فَمَحْمُولَةٌ عَلَى الْأَمْوَالِ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهَا وَلِتَخْصِيصِ عُمُومِهَا بِمَا ذَكَرْنَاهُ ، فَأَمَّا الْقِيَاسُ عَلَى سَائِرِ الْعُقُودِ فَمَرْدُودٌ بِمَا فَرَّقَ الشَّرْعُ بَيْنَهُمَا فِي وُجُوبِ الشَّهَادَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ مِنَ الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ ، فَلَا يَصِحُّ حَتَّى يَكُونَا عَدْلَيْنِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَصِحُّ بِفَاسِقَيْنَ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ حُضُورَهُمَا لِلْعَقْدِ إِنَّمَا هُوَ حَالٌ ، فَحَمْلُ الشَّهَادَةِ وَعَدَالَةُ الشُّهُودِ إِنَّمَا يُرَاعَى وَقْتَ الْأَدَاءِ لَا وَقْتَ التَّحَمُّلِ ، أَلَا تَرَى لَوْ تَحَمَّلَ شَهَادَةً صَبِيٌّ ثُمَّ بَلَغَ ، أَوْ عَبَدٌ ثُمَّ أُعْتِقَ ، أَوْ كَافِرٌ ثُمَّ أَسْلَمَ ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمُ اعْتِبَارًا بِحَالِهِمْ وَقْتَ الْأَدَاءِ ، لَا وَقْتَ التَّحَمُّلِ كَذَلِكَ شَهَادَةُ الْفَاسِقِينَ فِي النِّكَاحِ . وَتَحْرِيرُهُ : أَنَّهُ تَحَمَّلَ شَهَادَةً عَلَى عَقْدٍ ، فَجَازَ أَنْ يَصِحَّ مِنَ الْفَاسِقِينَ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْعُقُودِ : وَلِأَنَّ مَنْ كَانَ شَرْطًا فِي عَقْدِ النِّكَاحِ لَمْ يُرَاعَ فِيهِ الْعَدَالَةُ كَالزَّوْجَيْنِ ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ بِشَهَادَةِ عَدُوَّيْنِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا عَلَى الزَّوْجَيْنِ صَحَّ أَنْ تَنْعَقِدَ بِشَهَادَةِ فَاسِقِينَ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ [ الطَّلَاقِ : 2 ] فَلَمَّا شَرَطَ الْعَدَالَةَ فِي الشَّهَادَةِ على النكاح عَلَى الرَّجْعَةِ - وَهِيَ أَخَفُّ - كَانَ اشْتِرَاطُهَا فِي النِّكَاحِ الْمُغَلَّطِ أَوْلَى ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ وَرَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ وَجَبَتْ فِيهِ الشَّهَادَةُ اعْتُبِرَتْ فِيهِ الْعَدَالَةُ كَالْحُقُوقِ : وَلِأَنَّ كُلَّ نَقْصٍ يَمْنَعُ مِنَ الشَّهَادَةِ فِي الْأَدَاءِ وَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ انْعِقَادُ النِّكَاحِ بِهَا كَالرِّقِّ وَالْكُفْرِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَثْبُتْ بِشَهَادَةِ الْعَبْدَيْنِ لَمْ يَثْبُتْ بِشَهَادَةِ الْفَاسِقَيْنِ كَالْأَدَاءِ . فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ حُضُورَ الْعَقْدِ حَالُ تَحَمُّلٍ لَا يُرَاعَى فِيهِ الْعَدَالَةُ فَخَطَأٌ : لِأَنَّ الشَّهَادَةَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ إِنْ كَانَتْ تَحَمُّلًا فَهِيَ تَجْرِي مَجْرَى الْأَدَاءِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَجُوبُهَا فِي الْعَقْدِ كَوُجُوبِهَا فِي الْأَدَاءِ . وَالثَّانِي : أَنْ يُرَاعَى فِيهِ حُرِّيَّةُ الشُّهُودِ وَإِسْلَامُهُمْ وَبُلُوغُهُمْ ، كَمَا يُرَاعَى فِي الْأَدَاءِ وَإِنْ لَمْ تُرَاعَ فِي تَحَمُّلِ غَيْرِهِ مِنَ الشَّهَادَاتِ ، فَكَذَلِكَ الْفِسْقُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى فِسْقِ الزَّوْجَيْنِ : فَهُوَ أَنَّ الْعَدَالَةَ تُرَاعَى فِي الشَّاهِدَيْنِ ، وَإِنْ لَمْ تُرَاعَ فِي الْعَاقِدَيْنِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا رُوعِيَ حُرِّيَّةُ الشَّاهِدَيْنِ على عقد النكاح ، وَإِنْ لَمْ يُرَاعَ حُرِّيَّةُ الزَّوْجَيْنِ ، كَذَلِكَ فِسْقُ الشَّاهِدِينَ . وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى شَهَادَةِ الْعَدُوَّيْنِ : فَمَذْهَبُنَا فِي انْعِقَادِ النِّكَاحِ بِهِمَا مَا نَذْكُرُهُ مِنِ اعْتِدَادِ حَالِهِمَا ، فَإِنْ كَانَا عَدُوَّيْنِ لِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ دُونَ الْآخَرِ انْعَقَدَ النِّكَاحُ بِهِمَا : لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا
فِي الْأَدَاءِ قَدْ تُقْبِلُ عَلَى مَنْ لَيْسَ لَهُ عَدُوَّانِ خِلَافَ الْفَاسِقَيْنَ ، إِذْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا لِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ بِحَالٍ ، وَإِنْ كَانَا عَدُوَّيْنِ لِلزَّوْجَيْنِ مَعًا ، فَفِي انْعِقَادِ النِّكَاحِ بِهِمَا وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا : أَحَدُهُمَا : لَا تَنْعَقِدُ كَالْفَاسِقَيْنِ : لِأَنَّ الْأَدَاءَ لَا يَصِحُّ مِنْهُمَا عَلَى أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ بِحَالٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : هُوَ ظَاهِرُ مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ : أَنَّ النِّكَاحَ بِهِمَا مُنْعَقِدٌ ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُمَا أَدَاؤُهُ بِخِلَافِ الْفَاسِقَيْنِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ الْفَاسِقَيْنِ لَا يَصِحُّ مِنْهُمَا أَدَاءُ هَذِهِ الشَّهَادَةِ ، صَحَّ مِنْهُمَا أَدَاءُ غَيْرِهَا مِنَ الشَّهَادَاتِ ، وَهَذَا لَوْ كَانَ الشَّاهِدَانِ ابْنَيِ الزَّوْجَيْنِ كَانَا كَالْعَدُوَّيْنِ : لَأَنَّ شَهَادَةَ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ مَرْدُودَةٌ ، كَمَا أَنَّ شَهَادَةَ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ مَرْدُودَةٌ ، فَإِنْ كَانَا ابْنِي أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ انْعَقَدَ النِّكَاحُ بِهِمَا : لِإِمْكَانِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ لِأَحَدِهِمَا ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا ابْنَ الزَّوْجِ ، وَالْآخَرُ ابْنَ الزَّوْجَةِ ، فَفِي انْعِقَادِ النِّكَاحِ بِهِمَا الْوَجْهَانِ الْمَاضِيَانِ . وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ مَنَعَ مِنِ انْعِقَادِ النِّكَاحِ بِكُلِّ حَالٍ ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْعَدُوَّيْنِ بِأَنَّ فِيهِمَا بُغْضِيَّةً لَا تَزُولُ ، وَلَيْسَتْ كَالْعَدَاوَةِ الَّتِي قَدْ تَزُولُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
مَسْأَلَةٌ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ مُرْشِدٍ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ
مَسْأَلَةٌ : ( وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ ) بِابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ " لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ مُرْشِدٍ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ " وَأَنَّ عُمَرَ رَدَّ نِكَاحًا لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ إِلَّا رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ ، فَقَالَ : هَذَا نِكَاحُ السِّرِّ وَلَا أُجِيزُهُ ، وَلَوْ تَقَدَّمْتُ فِيهِ لَرَجَمْتُ . وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ إِلَّا بِإِذْنِ وَلِيِّهَا أَوْ ذِي الرَّأْيِ مِنْ أَهْلِهَا أَوِ السُّلْطَانِ . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَالنِّسَاءُ مُحَرَّمَاتُ الْفُرُوجِ ، فَلَا يَحْلُلْنَ إِلَّا بِمَا بَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَيَّنَ : وَلِيًّا وَشُهُودًا ، وَإِقْرَارَ الْمَنْكُوحَةِ الثَّيِّبِ ، وَصَمْتَ الْبِكْرِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ رُشْدُ الْوَلِيِّ فِي النِّكَاحِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ عَقْدِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ فَاسِقًا في عقد النكاح بَطَلَ عَقْدُهُ عَلَى الظَّاهِرِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، وَالْمَشْهُورُ مِنْ قَوْلِهِ سَوَاءً كَانَ الْوَلِيُّ مِمَّنْ يُجْبِرُ عَلَى النِّكَاحِ كَالْأَبِ أَوْ مِمَّنْ لَا يُجْبِرُ كَالْعَصِبَاتِ . وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ : إِنْ كَانَ الْوَلِيُّ مِمَّنْ يُجْبِرُ كَالْأَبِ بَطَلَ عَقْدُهُ بِالْفِسْقِ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُجْبِرُ كَالْعَصِبَاتِ لَمْ يَبْطُلْ عَقْدُهُ بِالْفِسْقِ : لِأَنَّهُ يَكُونُ مَأْمُورًا كَالْوَكِيلِ .
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِسْقُ الْوَالِي لَا يُبْطِلُ عَقْدَهُ
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : فِسْقُ الْوَالِي في النكاح هل يبطل عقده لَا يُبْطِلُ عَقْدَهُ ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ، وَحَكَاهُ قَوْلًا عَنْهُ : اسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ [ النُّورِ : 32 ] وَلِأَنَّ مَنْ تَعَيَّنَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ لَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ الْعَدَالَةُ كَالزَّوْجِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ أَنْ يَقْبَلَ النِّكَاحَ لِنَفْسِهِ ، جَازَ أَنْ يَلِيَ عَلَى النِّكَاحِ غَيْرَهُ كَالْعَدْلِ : وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لِلْفَاسِقِ تَزْوِيجُ أَمَتِهِ جَازَ لَهُ تَزْوِيجُ وَلِيَّتِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْكَافِرُ وَلِيًّا فِي نِكَاحِ ابْنَتِهِ ، فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْفَاسِقُ وَلِيًّا فِي نِكَاحِ ابْنَتِهِ .
وَدَلِيلُنَا : مَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ مُرْشِدٍ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ ، وَ أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَهَا وَلِيٌّ مَسْخُوطٌ عَلَيْهِ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ ، وَرَوَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَوْلُهُ : " مُرْشِدٍ " وَلَمْ يَقُلْ رَشِيدٍ يَقْتَضِي أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ فِعْلُ الرُّشْدِ فِي غَيْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَوْجُودٍ فِي نَفْسِهِ ، وَهُوَ إِذَا زَوَّجَهَا بِكُفْءٍ كَانَ مُرْشِدًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَشِيدًا . قِيلَ : هَذَا تَأْوِيلٌ يَفْسُدُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا صِفَةُ مَدْحٍ تَتَعَدَّى عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ وَمَنْ لَيْسَ بِرَشِيدٍ لَا يُتَوَجَّهُ إِلَيْهِ مَذَمَّةٌ ، وَلَا يَتَعَدَّى عَنْهُ رُشْدٌ . وَالثَّانِي : أَنَّ فِي الْخَبَرِ الْآخَرِ فِي قَوْلِهِ : وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ أَنْكَحَهَا وَلِيٌّ مَسْخُوطٌ عَلَيْهِ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ ، مَا يُبْطِلُ هَذَا التَّأْوِيلَ ، وَلِأَنَّهُ نَقْصٌ يَمْنَعُ مِنَ الشَّهَادَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ مِنَ الْوِلَايَةِ كَالرِّقِّ : وَلِأَنَّهَا وِلَايَةٌ تَمْنَعُ مِنْهَا الرِّقَّ فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِنْهَا الْفِسْقُ كَالْوِلَايَةِ عَلَى الْمَالِ ، وَلِأَنَّ مَنْ تَوَلَّى عَقْدَ النِّكَاحِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ مُنِعَ الْفِسْقُ مَنْ عَقْدِهِ كَالْحَاكِمِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَهُوَ : أَنَّهَا خِطَابٌ إِمَّا لِلْأَزْوَاجِ ، فَلَا يَكُونُ فِيهَا دَلِيلٌ ، أَوْ لِلْأَوْلِيَاءِ ، وَلَيْسَ الْفَاسِقُ بِوَلِيٍّ . فَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الزَّوْجِ فَالْمَعْنَى فِي الزَّوْجِ : أَنَّهُ يَتَوَلَّى فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ رُشْدُهُ ، كَمَا لَمْ تُعْتَبَرْ حُرِّيَّتُهُ وَإِسْلَامُهُ ، وَالْوَلِيُّ يَتَوَلَّاهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ فَاعْتُبِرَ رُشْدُهُ كَمَا اعْتُبِرَتْ حُرِّيَّتُهُ وَإِسْلَامُهُ . وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْعَدْلِ ، فَالْمَعْنَى فِي الْعَدْلِ : أَنَّهُ لَمَّا صَحَّتْ وِلَايَتُهُ عَلَى الْمَالِ ، صَحَّتْ وِلَايَتُهُ عَلَى النِّكَاحِ ، وَالْفَاسِقُ لَمَّا بَطَلَتْ وِلَايَتُهُ عَلَى الْمَالِ ، بَطَلَتْ وِلَايَتُهُ عَلَى النِّكَاحِ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِعَقْدِ الْفَاسِقِ عَلَى أَمَتِهِ ، فَالْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّهُ يَعْقِدُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، أَلَا تَرَاهُ يَمْلِكُ الْمَهْرَ دُونَهَا ، فَلَمْ تُعْتَبَرْ فِيهِ الْعَدَالَةُ كَالزَّوْجَيْنِ ، وَالْوَلِيُّ يَعْقِدُهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ ، فَاعْتُبِرَتْ فِيهِ الْعَدَالَةُ كَالْحَاكِمِ . وَأَمَّا وِلَايَةُ الْكَافِرِ فَلِأَنَّهُ عَدْلٌ فِي دِينِهِ وَلَوْ كَانَ فَاسِقًا فِي دِينِهِ وَبَيْنَ أَهْلِ مِلَّةٍ أَبْطَلْنَا وِلَايَتَهُ ، وَكَذَا كَالْفَاسِقِ فِي دِينِنَا .
فَصْلٌ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ وِلَايَةَ الْفَاسِقِ فِي النِّكَاحِ بَاطِلَةٌ ، فَالْوِلَايَةُ تُنْقَلُ عَنْهُ إِلَى مَنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ وِلَايَةَ الْفَاسِقِ فِي النِّكَاحِ بَاطِلَةٌ ، فَالْوِلَايَةُ تُنْقَلُ عَنْهُ إِلَى مَنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ ، فَإِنْ زَالَ فِسْقُهُ عَادَتِ الْوِلَايَةُ إِلَيْهِ ، وَانْتَقَلَتْ عَمَّنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ ، فَلَوْ زَوَّجَّهَا الْأَبْعَدُ بَعْدَ عَدَالَةِ الْأَقْرَبِ ، فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِعَدَالَةِ الْأَقْرَبِ أَوْ عَلِمَتِ الزَّوْجَةُ بِهَا أَوِ الزَّوْجُ ، كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِعَدَالَةِ الْآخَرِ حَتَّى عُقِدَ الْعَقْدُ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ . وَالثَّانِي : جَائِزٌ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي الْوَكِيلِ إِذَا عَقَدَ بَعْدَ عَزْلِ مُوَكِّلِهِ قَبْلَ عِلْمِهِ .
فَصْلٌ : فَلَوْ أَنَّ هَذَا الْوَلِيَّ الْفَاسِقَ وَكَّلَ وَكِيلًا عَدْلًا كَانَتْ وَكَالَتُهُ بَاطِلَةً : لِأَنَّ بالْفِسْقِ قَدْ زَالَتْ عَنْهُ الْوِلَايَةُ ، فَلَمْ يَصِحَّ مِنْهُ الْوَكَالَةُ ، وَلَكِنْ لَوْ كَانَ الْوَلِيُّ عَدْلًا فَوَكَّلَ وَكِيلًا فَاسِقًا ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : لَا يَجُوزُ : لِأَنَّهُ لَمَّا أَبْطَلَ الْفِسْقُ وِلَايَةَ الْوَلِيِّ مَعَ قُوَّتِهَا ، كَانَ أَوْلَى أَنْ يُبْطِلَ وِلَايَةَ الْوَكِيلِ مَعَ ضَعْفِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ وَيَصِحُّ عَقْدُهُ : لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ ، وَالْوَلِيُّ مِنْ وَرَائِهِ لِاسْتِدْرَاكِ ذَلِكَ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ إِنْ كَانَ وَكِيلًا لِوَلِيِّ غَيْرِهَا عَلَى النِّكَاحِ كَالْأَبِ ، بَطَلَتْ وَكَالَتُهُ بِفِسْقِهِ : لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ اسْتِئْذَانُهَا ، فَصَارَتْ وِلَايَةَ تَفْوِيضٍ ، وَإِنْ كَانَ وَكِيلًا لِمَنْ لَا يُجْبِرُهَا عَلَى النِّكَاحِ صَحَّتْ وَكَالَتُهُ : لِأَنَّهُ لَا يَعْقِدُ إِلَّا عَنِ اسْتِئْذَانِهَا .
فَصْلٌ : فَلَوْ كَانَ الْوَلِيُّ أَعْمَى في النكاح ، فَفِي صِحَّةِ وِلَايَتِهِ وَجَوَازِ عَقْدِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا - وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ - : لَا تَصِحُّ وِلَايَتُهُ : لِأَنَّ الْعَمَى يَمْنَعُهُ مِنْ طَلَبِ الْحَظِّ لِوَلِيَّتِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ وِلَايَتَهُ ثَابِتَةٌ وَعَقْدَهُ صَحِيحٌ : لِأَنَّ شُعَيْبًا زَوَّجَ مُوسَى بِابْنَتِهِ ، وَكَانَ ضَرِيرًا ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَصِلُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحَظِّ بِالْبَحْثِ وَالسُّؤَالِ : لِأَنَّ مَعْرِفَةَ الْحَظِّ لَا تُوصَلُ إِلَيْهِ بِالْمُشَاهَدَةِ وَالْعِيَانِ . فَإِنْ قِيلَ بِهَذَا الْوَجْهِ صَحَّ عَقْدُهُ وَتَوْكِيلُهُ . وَإِنْ قِيلَ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ : إِنَّهُ لَا يَصِحُّ عَقْدُهُ فَهَلْ يَصِحُّ تَوْكِيلُهُ فِيهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَصِحُّ تَوْكِيلُهُ : لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَصِحَّ مِنْهُ مُبَاشَرَتُهُ كَانَ بِأَنْ لَا تَصِحَّ عَنْهُ الِاسْتِنَابَةُ أَوْلَى . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَصِحُّ مِنْهُ التَّوْكِيلُ فِيهِ ، وَإِنْ لَمْ تَصِحَّ مِنْهُ الْمُبَاشَرَةُ لَهُ بِنَفْسِهِ كَبَيْعِهِ وَشِرَائِهِ لَا يَصِحُّ مِنْهُ أَنْ يَتَوَلَّاهُ بِنَفْسِهِ وَيَصِحُّ أَنْ يُوَكِّلَ فِيهِ .
فَصْلٌ لَوْ كَانَ الْوَلِيُّ أَخَرَسًا فَفِي صِحَّةِ وِلَايَتِهِ وَجَوَازِ عَقْدِهِ وَجْهَانِ
فَصْلٌ : وَلَوْ كَانَ الْوَلِيُّ أَخَرَسًا في النكاح ، فَفِي صِحَّةِ وِلَايَتِهِ وَجَوَازِ عَقْدِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ وِلَايَتَهُ بَاقِيَةٌ وَعَقْدَهُ صَحِيحٌ : لِأَنَّهُ قَدْ يَصِلُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحَظِّ ، وَقَدْ تَقُومُ إِشَارَتُهُ فِيهِ مَقَامَ النُّطْقِ كَمَا يَقُومُ مَقَامُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ مِنْهُ أَنْ يَتَوَلَّاهُ بِنَفْسِهِ وَأَنْ يُوكِّلَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَصِحُّ مِنْهُ الْعَقْدُ : لِأَنَّ إِشَارَتَهُ مُحْتَمَلَةٌ ، وَإِذَا أُقِيمَتْ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لِضَرُورَةٍ مَقَامَ نُطْقِهِ لَمْ تَدْعُ الضَّرُورَةُ إِلَى ذَلِكَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَصِحُّ مِنْهُ التَّوْكِيلُ وَجْهًا وَاحِدًا : لِأَنَّ الْمَعْنَى فِي احْتِمَالِ الْإِشَارَةِ مَوْجُودٌ فِي تَوْكِيلِهِ لِوُجُودِهِ فِي عَقْدِهِ ، فَلَمْ يَصِحَّ مِنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْوَلِيُّ عَدُوًّا لِلزَّوْجَةِ ، أَوِ الزَّوْجِ ، أَوْ لَهُمَا في النكاح ، فَهُوَ عَلَى وِلَايَتِهِ وَعَقْدُهُ صَحِيحٌ ، بِخِلَافِ الشُّهُودِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ : لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْوَلِيِّ مُبَاشَرَةُ الْعَقْدِ ، وَمِنَ الشُّهُودِ الْأَدَاءُ ، وَالْعَدَاوَةُ تَمْنَعُ مِنَ الْأَدَاءِ ، وَلَا تَمْنَعُ مِنَ الْعَقْدِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا كَانَ عَدُوًّا لَهُمَا وَضَعَهَا فِي غَيْرِ كُفْءٍ . قِيلَ : رُشْدُهُ وَمَا يَخَافُهُ مِنْ لُحُوقِ الْعَارِ بِهِ يَمْنَعُ مِنْ هَذَا التَّوَهُّمِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا كَانَ الْوَلِيُّ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِالْفَلَسِ في النكاح . فَإِنْ قِيلَ : أَنَّ حَجْرَهُ جَارٍ مَجْرَى الْمَرَضِ كَانَ عَلَى وِلَايَتِهِ . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى حَجْرِ السَّفَهِ ، فَفِي وِلَايَتِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا وِلَايَةَ لَهُ كَالسَّفِيهِ . وَالثَّانِي - وَهُوَ الْأَصَحُّ - : أَنَّهُ عَلَى وِلَايَتِهِ : لِأَنَّ حَجْرَهُ وَإِنْ جَرَى مَجْرَى حَجْرِ السَّفَهِ فِي مَالِهِ لَمْ يَجْرِ مَجْرَاهُ فِي عَدَالَتِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ الشُّهُودُ عَلَى الْعَدْلِ حَتَّى يُعْلَمَ الْجَرْحُ يَوْمَ وَقْعِ النِّكَاحِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَالشُّهُودُ عَلَى الْعَدْلِ حَتَّى يُعْلَمَ الْجَرْحُ يَوْمَ وَقْعِ النِّكَاحِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَالْعَدَالَةُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي شُهُودِ النِّكَاحِ عِنْدَ عَقْدِهِ هِيَ عَدَالَةُ الظَّاهِرِ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ فِي إِثْبَاتِ الْحُقُوقِ عِنْدَ الْحَاكِمِ الَّتِي يُرَاعَى فِيهَا عَدَالَةُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ فِي إِثْبَاتِ الْحُقُوقِ عِنْدَ الْحُكَّامِ خَصْمًا جَاحِدًا ، فَاسْتُكْشِفَ لِأَجْلِهِ عَنْ عَدَالَةِ الْبَاطِنِ ، وَلَيْسَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ هَذَا الْمَعْنَى ، فَلَمْ تُعْتَبَرْ إِلَّا عَدَالَةُ الظَّاهِرَ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْحَاكِمَ يَقْدِرُ مِنِ اسْتَبْرَاءِ الْعَدَالَةِ فِي الْبَاطِنِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الزَّوْجَانِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ ذَلِكَ عَنْهُمَا ، وَإِنْ لَمْ يَسْقُطْ عَنِ الْحَاكِمِ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَعَدَالَةُ الظَّاهِرِ في الشاهدين في النكاح اجْتِنَابُ الْكَبَائِرِ وَالْإِقْلَالُ مِنَ الصَّغَائِرِ . فَإِذَا عَقَدَ الزَّوْجَانِ نِكَاحًا بِشَاهِدِينَ لَمْ يَخْلُ حَالُهُمَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَا عَدْلَيْنِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ ، فَعَقْدُ النِّكَاحِ بِهِمَا صَحِيحٌ لِعَدَالَةِ ظَاهِرِهِمَا ، وَإِثْبَاتُهُ عِنْدَ الْحُكَّامِ جَائِزٌ لِعَدَالَةِ بَاطِنِهِمَا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَا عَدْلَيْنِ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ ، فَعَقْدُ النِّكَاحِ بِهِمَا صَحِيحٌ لِعَدَالَةِ ظَاهِرِهِمَا ، لَكِنَّ إِثْبَاتَهُ عِنْدَ الْحُكَّامِ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِاسْتِبْرَاءِ عَدَالَةِ بَاطِنِهِمَا ، فَيَكْشِفُ عَنْ عَدَالَةِ الْبَاطِنِ وَقْتَ الْأَدَاءِ لَا وَقْتَ الْعَقْدِ . فَإِنْ صَحَّتْ لِلْحَاكِمِ ، حَكَمَ بِشَهَادَتِهِمَا فِي الْأَدَاءِ ، وَإِنْ لَمْ تَصِحَّ ، لَمْ يَحْكُمْ بِشَهَادَتِهِمَا فِي الْأَدَاءِ ، وَالنِّكَاحُ عَلَى حَالِهِ مِنَ الصِّحَّةِ مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمَا تَقَدُّمُ الْفِسْقِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَا فَاسِقَيْنِ ، فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ ، فَلَوْ ظَهَرَتْ عَدَالَتُهُمَا بَعْدَ الْعَقْدِ مَعَ تَقَدُّمِ الْفِسْقِ وَقْتَ الْعَقْدِ ، كَانَ الْعَقْدُ عَلَى فَسَادِهِ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَا مَجْهُولَيِ الْحَالِ ، لَا يُعْرَفُ فِيهِمَا عَدَالَةٌ وَلَا فِسْقٌ ، فَهُمَا عَلَى ظَاهِرِ الْعَدَالَةِ وَالنِّكَاحُ بِهِمَا جَائِزٌ : لِأَنَّ الْأَصْلَ الْعَدَالَةُ وَالْفِسْقُ طَارِئٌ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ : وَالشُّهُودُ عَلَى الْعَدْلِ حَتَّى يُعْلَمَ الْجَرْحُ يَوْمَ وَقْعِ النِّكَاحِ ، وَإِذَا صَحَّ الْعَقْدُ بِهِمَا مَعَ الْجَهَالَةِ بِحَالِهِمَا لَمْ يَحْكُمِ الْحَاكِمُ بِهِمَا مِنْ إِثْبَاتِ الْعَقْدِ عِنْدَهُ إِلَّا بَعْدَ اسْتِبْرَاءِ حَالِهِمَا فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ ، فَإِذَا اسْتَبْرَأَهُمَا لَمْ يَخْلُ حَالُهُمَا بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ :
أَحَدُهَا : أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ عَدَالَةُ ظَاهِرِهِمَا وَبَاطِنِهِمَا فَيَحْكُمُ بِهَا فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ وَفِي ثُبُوتِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ عَدَالَةُ ظَاهِرِهِمَا دُونَ بَاطِنِهِمَا ، فَلَا يَحْكُمُ بِهِمَا فِي ثُبُوتِ الْعَقْدِ ، فَإِنْ شَهِدَ بِعَقْدِ النِّكَاحِ بِهِمَا شَاهِدُ عَدْلٍ حَكَمَ حِينَئِذٍ بِثُبُوتِ الْعَقْدِ وَصِحَّتِهِ ، فَيَكُونُ صِحَّةُ الْعَقْدِ بِهِمَا بِعَدَالَةِ ظَاهِرِهِمَا ، وَثُبُوتُهُ بِشَهَادَةِ غَيْرِهِمَا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ فِسْقُهُمَا ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْفِسْقِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ وُجُودُ الْفِسْقِ وَقْتَ عقد النكاح في الشهود الْعَقْدِ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ حُدُوثُ الْفِسْقِ بَعْدَ الْعَقْدِ فَالْعَقْدُ عَلَى الصِّحَّةِ ، وَلَا يَفْسُدُ بِحُدُوثِ فِسْقِهِمَا ، لَكِنْ لَا يَحْكُمُ بِثُبُوتِهِ عِنْدَهُ إِلَّا أَنْ يَشْهَدَ بِهِ عَدْلَانِ أَنَّهُ عُقِدَ بِهِمَا ، فَيَحْكُمُ حِينَئِذٍ بِثُبُوتِهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ يَشْهَدُ بِعَقْدِ النِّكَاحِ بِهِمَا عَدْلَانِ غَيْرُهُمَا ؟ وَلَوْ حَضَرَهُ عَدْلَانِ غَيْرُهُمَا لَاسْتُغْنِيَ بِهِمَا عَنْ غَيْرِهِمَا . قِيلَ : قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُقِرَّ الزَّوْجَانِ عِنْدَ عَدْلَيْنِ أَنَّهُمَا عَقَدَا النِّكَاحَ بِهَذَيْنِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ فِسْقُهُمَا فِي الْحَالِ ، وَلَا يَعْلَمُ تَقَدُّمَهُ وَلَا حُدُوثَهُ ، وَالنِّكَاحُ عَلَى الصِّحَّةِ لَا يَحْكُمُ بِفَسَادِهِ : لِجَوَازِ حُدُوثِ الْفِسْقِ مَعَ سَلَامَةِ الظَّاهِرِ وَقْتَ الْعَقْدِ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ " حَتَّى يُعْلَمَ الْجَرْحُ وَقْتَ الْعَقْدِ " ، وَإِذَا لَمْ يَحْكُمُ بِفَسَادِهِ لَمْ يَحْكُمْ بِإِثْبَاتِهِ إِلَّا بِشَهَادَةِ غَيْرِهِمَا .
فَصْلٌ : فَإِذَا أَقَرَّ الزَّوْجَانِ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَنَّهُمَا عَقَدَا النِّكَاحَ بِوَلِيٍّ مُرْشِدٍ ، وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ ، حَكَمَ عَلَيْهِمَا بِصِحَّةِ النِّكَاحِ ، بِنَاءً عَلَى إِقْرَارِهِمَا ، وَلَمْ يَسْأَلْ عَنْ عَدَالَةِ الشَّاهِدِينَ وَرُشْدِ الْوَلِيِّ الاختلاف في ذلك بعد عقد النكاح . فَلَوْ تَنَاكَرَ الزَّوْجَانِ مِنْ بَعْدُ ، أَوِ ادَّعَى أَحَدُهُمَا سَفَهَ الْوَلِيِّ وَفِسْقَ الشَّاهِدِينَ ، أَلْزَمَهُ صِحَّةُ النِّكَاحِ بِسَابِقِ إِقْرَارِهِ ، وَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ حُدُوثُ إِنْكَارِهِ . فَلَوْ قَالَ : أَنَا أُقِيمُ الْبَيِّنَةَ بِمَا ادَّعَيْتُ مِنْ سَفَهِ الْوَلِيِّ وَفِسْقِ الشَّاهِدِينَ ، لَمْ يَسْمَعْهُمَا مِنْهُ : لِأَنَّ إِقْرَارَهُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْلَى مِنْ بَيِّنَةٍ أُكَذِّبُهَا بِهِ .
فَصْلٌ : وَإِذَا تَصَادَقَ الزَّوْجَانِ أَنَّهُمَا عَقَدَاهُ بَوْلِيٍّ وَشَاهِدِي عَدْلٍ ، وَقَالَ الشَّاهِدَانِ : بَلْ كُنَّا وَقْتَ الْعَقْدِ فَاسْقِينَ ، حَكَمَ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ بِإِقْرَارِ الزَّوْجَيْنِ ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى قَوْلِ الشَّاهِدِينَ ، فَلَوِ اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فَقَالَتِ الزَّوْجَةُ : عَقَدْنَاهُ بِشَاهِدِينَ فَاسِقِينَ ، وَقَالَ الزَّوْجُ : عَقَدْنَاهُ بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجِ أَنَّهُمَا عَدْلَانِ ، وَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ : لِأَنَّهُ مُسْتَصْحِبٌ لِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجَةِ إِنَّهُمَا فَاسِقَانِ ، وَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ : لِأَنَّهَا مُسْتَصْحِبَةٌ أَنْ لَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا . وَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ : كَانَ الشَّاهِدَانِ فَاسِقِينَ ، وَقَالَتِ الزَّوْجَةُ : كَانَا عَدْلَيْنِ بعد انعقاد عقد النكاح ، فَالنِّكَاحُ قَدِ ارْتَفَعَ بَيْنَهُمَا بِإِقْرَارِ الزَّوْجِ ، وَلَكِنْ فِي سُقُوطِ الْمَهْرِ وَجْهَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَهْرَ لَا يَسْقُطُ : تَغْلِيبًا لِقَوْلِ الزَّوْجَةِ لِاسْتِصْحَابِهَا ظَاهِرَ الْعَدَالَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : قَدْ سَقَطَ الْمَهْرُ : تَغْلِيبًا لِقَوْلِ الزَّوْجِ لِاسْتِصْحَابِهِ أَنْ لَا عَقْدَ بَيْنَهُمَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَصَادَقَ الزَّوْجَانِ أَنَّهُمَا تَنَاكَحَا بِوِلَايَةِ الْأَبِ ، وَأَنَّ الْأَبَ زَوَّجَهَا مِنْهُ ، وَأَنْكَرَ الْأَبُ أَنْ يَكُونَ زَوَّجَهَا ، فَالنِّكَاحُ ثَابِتٌ بِتَصَادُقِهِمَا ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ إِنْكَارُ الْأَبِ أَنَّهُ مَا عَقَدَ بَيْنَهُمَا : لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا لَا لِلْأَبِ ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ إِنْكَارُ الْأَبِ . وَهَكَذَا لَوْ تَصَادَقَا أَنَّهُمَا عَقَدَاهُ بِشَاهِدَيْنِ ، هُمَا زَيْدٌ وَعَمْرٌو ، فَأَنْكَرَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو أَنْ يَكُونَا حَضَرَاهُ ، فَالنِّكَاحُ ثَابِتٌ بِتَصَادُقِ الزَّوْجَيْنِ ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ إِنْكَارُ الشَّاهِدِينَ : لِأَنَّ الْحَقَّ فِيهِ لِلزَّوْجَيْنِ دُونَ الشَّاهِدَيْنِ .
فَصْلٌ : وَلَا يَصِحُّ النِّكَاحُ بِحُضُورِ الشَّاهِدِينَ حَتَّى يَسْمَعَا لَفْظَ الْوَلِيِّ بِالْبَذْلِ وَلَفْظَ الزَّوْجِ بِالْقَبُولِ ، فَيَصِحُّ الْعَقْدُ ، فَإِنْ سَمِعَا مَعَ الْبَذْلِ وَالْقَبُولِ ذِكْرَ الصَّدَاقِ شَهِدَا بِهِ وَبِالْعَقْدِ ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعَا ذِكْرَ الصَّدَاقِ شَهِدَا بِالْعَقْدِ دُونَ الصَّدَاقِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَا بِالصَّدَاقِ بِظَاهِرِ الْأَخْبَارِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ .
مَسْأَلَةٌ لَوْ كَانَتْ صَغِيرَةً ثَيِّبًا أُصِيْبَتْ بِنِكَاحٍ أَوْ غَيْرِهِ فَلَا تُزَوَّجُ إِلَّا بِإِذْنِهَا
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ كَانَتْ صَغِيرَةً ثَيِّبًا أُصِيْبَتْ بِنِكَاحٍ أَوْ غَيْرِهِ ، فَلَا تُزَوَّجُ إِلَّا بِإِذْنِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . وَالنِّسَّاءُ ضَرْبَانِ : أَبْكَارٌ ، وَثَيِّبٌ . فَأَمَّا الْأَبْكَارُ : فَقَدْ مَضَى حُكْمُهُنَّ ، وَسَنَذْكُرُهُ مِنْ بَعْدُ . وَأَمَّا الثَّيِّبُ فَضَرْبَانِ : عَاقِلَةٌ ، وَمَجْنُونَةٌ . فَأَمَّا الْعَاقِلَةُ فَضَرْبَانِ : صَغِيرَةٌ ، وَكَبِيرَةٌ . فَأَمَّا الْكَبِيرَةُ : فَلَا يَجُوزُ إِجْبَارُهَا ، وَلَا تَزْوِيجُهَا إِلَّا بِاخْتِيَارِهَا الثيب في النكاح ، وَعَنْ إِذْنِهَا سَوَاءً كَانَ وَلِيِّهُا أَبًا أَوْ عُصْبَةً ، وَإِذْنُهَا النُّطْقُ الصَّرِيحُ ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَأَمَّا الثَّيِّبُ الصَّغِيرَةُ زَوَّجَهَا وليها قَبْلَ الْبُلُوغِ بِإِذْنٍ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنٍ : فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ أَوْلِيَائِهَا - أَبًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ - أَنْ يُزَوِّجَهَا إِلَّا بَعْدَ بُلُوغِهَا وَإِذْنِهَا ، فَإِنْ زَوَّجَهَا قَبْلَ الْبُلُوغِ بِإِذْنٍ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنٍ ، كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ أَنْ يُزَوِّجَهَا جَمِيعُ أَوْلِيَائِهَا قَبْلَ الْبُلُوغِ ، فَإِنْ زَوَّجَهَا أَبُوهَا ، فَلَا خِيَارَ لَهَا إِذَا بَلَغَتْ ، وَإِنْ زَوَّجَهَا غَيْرُ أَبِيهَا مِنَ الْعَصَبَاتِ ، كَانَتْ بِالْخِيَارِ إِذَا بَلَغَتْ بَيْنَ الْمُقَامِ وَالْفَسْخِ . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا خِيَارَ لَهَا فِي تَزْوِيجِ الْعَصَبَاتِ ، كَمَا لَمْ يَكُنْ لَهَا الْخِيَارُ فِي تَزْوِيجِ الْأَبِ ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى جَوَازِ تَزْوِيجِهَا قَبْلَ الْبُلُوغِ بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ [ النُّورِ : 32 ] وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ ثَبَتَتْ عَلَيْهِ الْوِلَايَةُ فِي مَالِهِ جَازَ إِجْبَارُهُ عَلَى النِّكَاحِ كَالْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ وَكَالْغُلَامِ ، وَلِأَنَّ لَهَا مَنْفَعَتَيْنِ : اسْتِخْدَامٌ ، وَاسْتِمْتَاعٌ ، فَلَمَّا كَانَ لِوَلِيِّ الْعَقْدِ عَلَى اسْتِخْدَامِ مَنْفَعَتِهَا بِالْإِجَازَةِ ، جَازِ لَهُ الْعَقْدُ عَلَى مَنْفَعَةِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا بِالنِّكَاحِ . وَتَحْرِيرُهُ : أَنَّهَا إِحْدَى مَنَفَعَتَيْهَا ، فَجَازِ الْعَقْدُ عَلَيْهَا قَبْلَ بُلُوغِهَا كَالْإِجَازَةِ .
وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مَنْ وَلِيِّهَا فَلَمْ يَكُنْ لَهُ إِجْبَارُهَا : لِأَنَّهُ يَصِيرُ أَحَقَّ بِهَا مِنْ نَفْسِهَا ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَيْسَ لِلْوَلِيِّ مَعَ الثَّيِّبِ أَمْرٌ " فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ : وَلِأَنَّ كُلَّ صِفَةٍ خَرَجَ بِهَا الْوَلِيُّ عَنْ كَمَالِ الْوِلَايَةِ قَبْلَ الْبُلُوغِ قِيَاسًا عَلَى عِتْقِ الْأَمَةِ ، لَمَّا كَانَ حُدُوثُهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ مَانِعًا مِنْ إِجْبَارِهَا عَلَى النِّكَاحِ ، كَانَ حُدُوثُهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ مَانِعًا مِنْ إِجْبَارِهَا وَعَلَيْهِ ، وَلِأَنَّهَا حُرَّةٌ سَلِيمَةٌ ذَهَبَتْ عِدَّتُهَا بِجِمَاعٍ ، فَلَمْ يَجُزْ إِجْبَارُهَا عَلَى النِّكَاحِ كَالْكَبِيرَةِ . فَأَمَّا الْآيَةُ إِنْ حُمِلَتْ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ فَمَخْصُوصَةٌ بِمَا ذَكَرْنَا . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْبِكْرِ وَالْغُلَامَ اعْتِبَارًا بِالْوِلَايَةِ عَلَى الْمَالِ ، فَلَا يَجُوزُ اعْتِبَارُ الْوِلَايَةِ بِالْوِلَايَةِ عَلَى النِّكَاحِ : لِأَنَّ وِلَايَةَ الْمَالِ أَوْسَعُ لِثُبُوتِهَا لِلْوَصِيِّ الَّذِي لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى النِّكَاحِ ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْبِكْرِ وَالْغُلَامِ ، أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَثْبُتْ لَهُمَا خِيَارٌ جَازَ إِجْبَارُهُمْ ، وَلَيْسَ كَالثَّيِّبِ لِثُبُوتِ الْخِيَارِ لَهَا عِنْدَهُمْ ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِمَنْفَعَةِ الِاسْتِخْدَامِ ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الِاسْتِمْتَاعِ : أَنْ مُدَّةَ الِاسْتِخْدَامِ مُقَرَّرَةٌ بِأَمَدٍ يَنْقَضِي يَصِلُ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْعَقْدِ بَعْدَ بُلُوغِهَا ، وَمُدَّةُ الِاسْتِمْتَاعِ مُؤَيَّدَةٌ ، وَهِيَ لَا تَصِلُ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْعَقْدِ بَعْدَ بُلُوغِهَا ، فَافْتَرَقَا .
فَصْلٌ الثَّيِّبُ الْمَجْنُونَةُ لَهَا حَالَتَانِ صَغِيرَةٌ وَكَبِيرَةٌ
فَصْلٌ : فَأَمَّا الثَّيِّبُ الْمَجْنُونَةُ أحوالها في النكاح ، فَلَهَا حَالَتَانِ : صَغِيرَةٌ ، وَكَبِيرَةٌ ، فَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً ، جَازَ لِأَبِيهَا إِجْبَارُهَا عَلَى النِّكَاحِ لِلْإِيَاسِ مِنْ صِحَّةِ إِذْنِهَا ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ تُجَنُّ فِي زَمَانٍ وَتُفِيقُ فِي زَمَانٍ ، فَلَا يَجُوزُ إِجْبَارُهَا : لِإِمْكَانِ اسْتِئْذَانِهَا فِي زَمَانِ إِفَاقَتِهَا ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ إِجْبَارُهَا إِذَا طَبَقَ الْجُنُونُ بِهَا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِهَذِهِ أَبٌ زَوَّجَهَا الْحَاكِمُ ، وَلَا يَكُونُ لِأَحَدٍ مِنْ عَصَبَتِهَا تَزْوِيجُهَا : لِأَنَّهَا مُلْحَقَةٌ بِوِلَايَةِ الْمَالِ الثَّابِتَةِ بَعْدَ الْأَبِ وَالْجَدِّ وَلِلْحَاكِمِ دُونَ الْعَصَبَةِ ، فَإِنْ كَانَتِ الثَّيِّبُ الْمَجْنُونَةُ صَغِيرَةً لَمْ يَجُزْ لِغَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ إِجْبَارُهَا مِنْ حَاكِمٍ وَلَا عَصَبَةٍ ، وَهَلْ لِلْأَبِ وَالْجَدِّ إِجْبَارُهَا إِذَا كَانَ مَا يُؤِسَ الْبُرْءُ : عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَهُ إِجْبَارُهَا قِيَاسًا عَلَى مَا بَعْدَ الْبُلُوغِ وَإِنَّهُ رُبَّمَا كَانَ لَهَا الزَّوْجُ عَفَافًا وَشِفَاءً . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَيْسَ لَهُ إِجْبَارُهَا قَبْلَ الْبُلُوغِ ، وَإِنْ جَازَ لَهُ إِجْبَارُهَا بَعْدَ الْبُلُوغِ : لِأَنَّ بُرْءَهَا قَبْلَ الْبُلُوغِ إِرْجَاءٌ وَالْإِيَاسُ مِنْهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ أَقْوَى فَمُنِعَ مِنْ إِجْبَارِهَا لِيَقَعَ الْإِيَاسُ مِنْ بُرْئِهَا .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حُكْمِ الثَّيِّبِ ، وَإِنَّهَا مُفَارَقَةٌ لِلْبِكْرِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْبِكْرَ تُجْبَرُ ، وَالثَّيِّبَ لَا تُجْبَرُ . وَالثَّانِي : أَنَّ إِذَنَ الْبِكْرِ الصَّمْتُ ، وَإِذْنَ الثَّيِّبِ النُّطْقُ ، وَجَبَ أَنْ نَصِفَ الثَّيِّبَ بِمَا تَمْتَازُ بِهِ عَنِ الْبِكْرِ . وَالثَّيِّبُ : هِيَ الَّتِي زَالَتْ عُذْرَتُهَا ، وَزَوَالُ الْعُذْرَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَزُولَ بِوَطْءٍ . وَالثَّانِي : أَنْ تَزُولَ بِظُفْرَةٍ أَوْ جِنَايَةٍ . وَالثَّالِثُ : أَنْ تَزُولَ خِلْقَةً وَهِيَ أَنَّ تُخْلَقَ لَا عُذْرَةَ لَهَا .
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ تَزُولَ عُذْرَتُهَا بِوَطْءٍ ، فَالْوَطْءُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ حَلَالًا إِمَّا فِي عَقْدِ نِكَاحٍ ، أَوْ بِمِلْكِ يَمِينٍ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ شُبْهَةً . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ زِنًا حَرَامًا . وَجَمِيعُ ذَلِكَ يَزُولُ بِهِ الْبَكَارَةُ سَوَاءً كَانَ الْوَطْءُ بِنِكَاحٍ أَوْ سِفَاحٍ ، وَيَجْرِي عَلَيْهَا حُكْمُ الثَّيِّبِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِذَا زَالَتْ عُذْرَتُهَا بِزِنًا ، كَانَتْ فِي حُكْمِ الْبِكْرِ إِلَّا أَنْ يَتَكَرَّرَ مِنْهَا اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الزَّانِيَةَ إِذَا تَذَكَّرَتْ مَا فَعَلَتْ مِنَ الزِّنَا خَجِلَتْ وَاسْتَحَتْ مِنَ التَّصْرِيحِ بِطَلَبِ الْأَزْوَاجِ ، فَكَانَ حَالُهَا أَسْوَأَ حَالًا مِنَ الْبِكْرِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ وَطْءٍ لَا يُبِيحُ الرَّجْعَةَ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ لَمْ يَزُلْ بِهِ حُكْمُ الْبَكَارَةِ كَالْوَطْءِ فِي غَيْرِ الْقُبُلِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَيْسَ لِلْوَلِيِّ مَعَ الثَّيِّبِ أَمْرٌ فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ : وَلِأَنَّ بَكَارَتَهَا زَالَتْ بِوَطْءٍ ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ فِي حُكْمِ الثَّيِّبِ كَالْمَوْطُوءَةِ فِي نِكَاحٍ ، وَلِأَنَّ كُلَّ وَطْءٍ زَالَتْ بِهِ الْبَكَارَةُ ، إِذَا كَانَ حَلَالًا زَالَتْ بِهِ الْبَكَارَةُ وَإِنْ كَانَ مَحْظُورًا كَوَطْءِ الشُّبْهَةِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ وَطْءٍ زَالَتْ بِهِ الْبَكَارَةُ إِذَا تَكَرَّرَ زَالَتْ بِهِ الْبَكَارَةُ وَإِنْ لَمْ يَتَكَرَّرْ كَالْمَنْكُوحَةِ ، وَقَدْ قَالَ : إِنَّهُ لَوْ تَكَرَّرَ مِنْهَا الزِّنَا صَارَتْ ثَيِّبًا ، وَكَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَتَكَرَّرُ ، وَلِأَنَّ صَمْتَ الْبِكْرِ إِنَّمَا صَارَ إِذْنًا لِاسْتِحْيَائِهَا بِدَوَامِ الْخَفُرِ وَقِلَّةِ اخْتِيَارِهَا لِلرِّجَالِ ، فَتَمَيَّزَتْ عَنِ الثَّيِّبِ الَّتِي قَدْ ظَهَرَ خَفْرُهَا وَخَبَرَتِ الرِّجَالَ ، فَصَارَتْ أَقَلَّ حَيَاءً مِنَ الْبِكْرِ ، وَالزَّانِيَةُ لَمْ تُقْدِمْ عَلَى الزِّنَا إِلَّا لِزَوَالِ الْحَيَاءِ وَارْتِفَاعِ الْخَفْرِ ، فَصَارَتْ أَجْرَأَ عَلَى الْقَوْلِ وَأَخْبَرَ بِالرِّجَالِ مِنْ ذَاتِ الزَّوْجِ . وَفِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ انْفِصَالٌ عَمَّا أَوْرَدَهُ ، فَأَمَّا قِيَاسُهُ مَعَ انْتِقَاضِهِ بِتَكْرَارِ الزِّنَا ، فَالْمَعْنَى فِي الْوَطْءِ فِي غَيْرِ الْقُبُلِ بَقَاءُ الْعُذْرَةِ مُفَارِقٌ الزِّنَا الَّذِي زَالَتْ بِهِ الْعُذْرَةُ فِي الْوَطْءِ فِي غَيْرِ الْقُبُلِ .
فَصْلٌ في زَوَالُ الْعُذْرَةِ بِإِصْبَعٍ أَوْ ظُفْرَةٍ أَوْ جِنَايَةٍ غَيْرِ الْوَطْءِ
فَصْلٌ : وَأَمَّا زَوَالُ الْعُذْرَةِ بِإِصْبَعٍ أَوْ ظُفْرَةٍ أَوْ جِنَايَةٍ غَيْرِ الْوَطْءِ ، فَقَدْ ذَهَبَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ مِنْ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُ رُفِعَ حُكْمُ الْبَكَارَةِ اسْتِدْلَالًا بِمَذْهَبٍ وَحِجَاجٍ . فَالْمَذْهَبُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ : أُصِيبَتْ بِنِكَاحٍ أَوْ غَيْرِهِ . وَأَمَّا الْحِجَاجُ فَهُوَ : أَنَّ الْحُكْمَ تَابِعٌ لِلِاسْمِ ، فَلِمَّا زَالَ بِذَلِكَ اسْمُ الْبَكَارَةِ وَجَبَ أَنْ يَزُولَ بِهِ حُكْمُ الْبَكَارَةِ . وَهَذَا خَطَأٌ بَلْ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ أَصْحَابِهِ أَنَّ حُكْمِ الْبَكَارَةِ جَارٍ عَلَيْهَا : لِأَنَّ صَمْتَ الْبِكْرِ إِنَّمَا كَانَ نُطْقًا لِمَا هِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَيَاءِ وَعَدَمِ الْخِبْرَةِ بِالرِّجَالِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي هَذِهِ الَّتِي زَالَتْ عُذْرَتُهَا بِغَيْرِ وَطْءٍ ، فَلَمَّا وُجِدَ مَعْنَى الْبِكْرِ فِيهَا وَجَبَ أَنْ يُعَلَّقَ بِهَا حُكْمُ الْبِكْرِ ، أَحْكَامُ الْبِكْرِ بِمَعَانِي الْأَسْمَاءِ أَوْلَى مِنْ تَعْلِيقِهَا بِمُجَرَّدِ الْأَسْمَاءِ ، وَفِيهِ انْفِصَالٌ ، وَمَا ادَّعَاهُ مِنَ الْمَذْهَبِ فَقَدْ زَالَ فِيهِ : لِأَنَّ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ : " أُصِيبَتْ بِنِكَاحٍ أَوْ غَيْرِهِ " يَعْنِي أَوْ غَيْرِ نِكَاحٍ مِنْ شُبْهَةٍ أَوْ زِنًا ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " . وَأَمَّا الَّتِي زَالَتْ عَنْهَا عُذْرَتُهَا خِلْقَةً ، فَلَا خِلَافَ أَنَّهَا فِي حُكْمِ الْبِكْرِ ، وَهَذَا مِمَّا يُوَضِّحُ فَسَادَ قَوْلِ ابْنِ خَيْرَانَ ، حَيْثُ اعْتَبَرَ الْحُكْمَ بِمُجَرَّدِ الِاسْمِ .