كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي
دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ وَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ لَتَحْفَظُ مَنْ وَرَاءَهُمْ ، فَلِذَلِكَ مَا اخْتَرْنَا لِأَهْلِ النَّوَاحِي الْخِصْبَةِ أَنْ يَسْتَسْقُوا لِأَهْلِ النَّوَاحِي الْجَدْبَةِ ، رَجَاءً لِإِجَابَةِ دَعْوَتِهِمْ ، وَرَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ أَحْوَالِهِمْ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيَسْتَسْقِي حَيْثُ لَا يُجَمَّعُ مِنْ بَادِيَةٍ وَقَرْيَةٍ وَيَفْعَلُهُ الْمُسَافِرُونَ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِإِحَالَةِ فَرْضٍ وَيَفْعَلُونَ مَا يَفْعَلُ أَهْلُ الْأَمْصَارِ مِنْ صَلَاةٍ وَخُطْبَةٍ وَيُجْزِئُ أَنْ يَسْتَسْقِيَ الْإِمَامُ بِغَيْرِ صَلَاةٍ وَخَلْفَ صَلَوَاتِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : صَلَاةُ الِاسْتِسْقَاءِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ لمن تكون ، وَالْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ ، وَالْحَاضِرِ وَالْبَادِي ، لِاشْتِرَاكِ جَمِيعِهِمْ فِي الْإِضْرَارِ بِامْتِنَاعِ الْقَطْرِ وَنُزُولِ الْغَيْثِ ، فَلَمْ يَخْتَصَّ بِذَلِكَ فَرِيقٌ دُونَ فَرِيقٍ ، وَلَا مَكَانٌ دُونَ مَكَانٍ ، فَكَانَ النَّاسُ فِيهِ شُرَكَاءَ وَالْبِقَاعُ فِيهِ سَوَاءً ، وَيُخْتَارُ لِلْإِمَامِ إِذَا رَأَى مِنَ النَّاسِ كَسَلًا وَافْتِرَاقًا وَقِلَّةَ رَغْبَةٍ فِي الْخُرُوجِ ( الإمام ) لصلاة الإستسقاء أَنْ يَخْرُجَ بِنَفْسِهِ فَيَسْتَسْقِي وَحْدَهُ ، لِأَنَّ الْغَرَضَ فِيهِ الدُّعَاءُ وَالِابْتِهَالُ ، فَلَوِ اسْتَسْقَى الْإِمَامُ بِغَيْرِ صَلَاةٍ وَدُعَاءٍ فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ أَجْزَأَهُ ، قَدِ اسْتَسْقَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَةِ الْجُمْعَةِ وَدَعَا فَسُقِيَ .
فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ جَدْبٌ أَوْ قِلَّةُ مَاءٍ فِي نَهْرٍ أَوْ عَيْنٍ فِي حَاضِرٍ أَوْ بَادٍ هل يجوز الإستسقاء أم لا ؟ لَمْ أُحِبَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْ أَنْ يَعْمَلَ عَمَلَ الِاسْتِسْقَاءِ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ أَسَاءَ وَتَرَكَ السُّنَّةَ ، فَجَعَلَ قِلَّةَ مَاءِ الْعَيْنِ وَالنَّهْرِ كَامْتِنَاعِ الْقَطْرِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ لَهُمَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ مَلُحَ الْمَاءُ فَمُنِعَ شُرْبُهُ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ هل يجوز الإستسقاء أم لا ؟ اسْتَسْقَى لِذَلِكَ كُلِّهِ ، لِأَجْلِ الضَّرَرِ بِهِ وَخَوْفِ الْجَدْبِ مِنْهُ .
فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا تَهَيَّأَ الْإِمَامُ لِلْخُرُوجِ فَمُطِرُوا مَطَرًا قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا فهل يصلون للإستسقاء أَحْبَبْتُ أَنْ يَمْضِيَ النَّاسُ حَتَّى يَشْكُرُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ، عَلَى سُقِيَاهُ ، وَيَسْأَلُونَهُ الزِّيَادَةَ مِنَ الْغَيْثِ لِسَائِرِ الْخَلْقِ ، وَلَا يَتَخَلَّفُوا وَيُصَلُّوا كَمَا يُصَلُّونَ لِلِاسْتِسْقَاءِ ، وَإِنْ كَانُوا يُمْطَرُونَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُرِيدُ بِهِمُ الْخُرُوجَ ( للإستسقاء ) اجْتَمَعُوا فِي الْمَسْجِدِ لِلِاسْتِسْقَاءِ إِنِ احْتَاجُوا إِلَى الزِّيَادَةِ ، وَأَخَّرُوا الْخُرُوجَ لِلشُّكْرِ إِلَى أَنْ يُقْلِعَ الْمَطَرُ " . قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنِ اسْتَسْقَى الْإِمَامُ فَسُقُوا هل يخرجوا بعد ذلك ؟ لَمْ يَخْرُجُوا بَعْدَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا اسْتَسْقَى وَأُجِيبُ لَمْ يَخْرُجْ ثَانِيًا . قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِذَا خَافُوا الْغَرَقَ مِنْ سَيْلٍ أَوْ نَهْرٍ ، أَوْ خَافُوا انْهِدَامَ الدُّورِ دَعَوُا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَكُفَّ الضَّرَرَ عَنْهُمْ ، وَأَنْ يَصْرِفَ الْمَطَرَ عَمَّا يَضُرُّ إِلَى مَا يَنْفَعُ مِنْ رُءُوسِ الْجِبَالِ ،
وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ وَالْآكَامِ مِنْ غَيْرِ صَلَاةٍ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَأَلَهُ الرَّجُلُ أَنْ يَدْعُوَ بِكَفِّ الْمَطَرِ عَنْهُمْ قَالَ : اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا ، فَدَعَا وَلَمْ يُصَلِّ " وَقَالَ : حَوَالَيْنَا يَعْنِي : الْجِبَالَ وَمَنَابِتَ الشَّجَرِ ، حَيْثُ يَنْفَعُ فِيهِ دَوَامُ الْمَطَرِ ، وَكَذَلِكَ نَازِلَةٌ تَنْزِلُ بِالْمُسْلِمِينَ أَوْ بِوَاحِدٍ مِنْهُمْ ، مِثْلَ تَعَذُّرِ الْأَقْوَاتِ وَغَلَاءِ الْأَسْعَارِ وَضِيقِ الْمَكَاسِبِ ، فَيَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَدْعُوا اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِكَشْفِهَا مُجْتَمِعِينَ أَوْ مُفْتَرِقِينَ ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَلِحُّوا فِي الدُّعَاءِ بِيَاذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ " . قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَإِنْ نَذَرَ الْإِمَامُ أَنْ يَسْتَسْقِيَ بِنَفْسِهِ فما الحكم وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ فَإِنْ نَذَرَ أَنْ يَسْتَسْقِيَ بِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فما الحكم اسْتَسْقَى وَحْدَهُ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُطَالِبَهُمْ بِالْخُرُوجِ مَعَهُ : لِأَنَّهُمْ لَا يُمْكِنُهُمْ وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ لَوْ خَرَجَ بِمَنْ أَطَاعَهُ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ أَهْلِهِ وَقَرَابَتِهِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِنْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ الِاسْتِسْقَاءَ وَيَخْطُبَ صَلَّى وَخَطَبَ جَالِسًا " . لِأَنَّهُ لَيْسَ الْقِيَامُ لِلْخُطْبَةِ ، وَلَا فِي رُكُوبِ الْمِنْبَرِ بِهِ ، إِلَّا إِذَا كَانَ هُنَاكَ جَمَاعَةٌ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ جَمَاعَةٌ ذَكَرَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَالِسًا وَسَقَطَ عَنْهُ مَا سِوَى ذَلِكَ ، وَكَيْفَ خَطَبَ ، أَجْزَأَهُ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ نَذَرَ الْإِمَامُ أَنْ يَسْتَسْقِيَ فَسُقِيَ قَبْلَ خُرُوجِهِمْ ، وَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُوَفِّيَ بِنَذْرِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ ، وَيَخْرُجُ مَنْ أَطَاعَهُ ، وَإِذَا نَذَرَ أَنْ يَسْتَسْقِيَ أَحْبَبْتُ أَنْ يَسْتَسْقِيَ فِي الْمَسْجِدِ ، وَيُجْزِئُهُ أَنْ يَسْتَسْقِيَ فِي بَيْتِهِ ، فَلَوْ خَرَجَ وَالنَّاسُ مَعَهُ لَمْ يَفِ بِنَذْرِهِ إِلَّا بِالْخُطْبَةِ قَائِمًا " لِأَنَّ الطَّاعَةَ إِذَا كَانَ مَعَهُ نَاسٌ أَنْ يَخْطُبَ قَائِمًا ، وَلَوْ خَطَبَ رَاكِبًا لِبَعِيرٍ ( خطبة الإستسقاء ) جَازَ .
بَابُ الدُّعَاءِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ
بَابُ الدُّعَاءِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ رَبَاحٍ ، عَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ حَنْطَبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اسْتَسْقَى قَالَ : " اللَّهُمَّ سُقْيَا رَحْمَةٍ وَلَا سُقْيَا عَذَابٍ وَلَا مَحْقَ وَلَا بَلَاءَ وَلَا هَدْمَ وَلَا غَرَقَ اللَّهُمَّ عَلَى الظِّرَابِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا " ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : وَرُوِيَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اسْتَسْقَى قَالَ اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا مَرِيئًا هَنِيئًا مَرِيعًا غَدَقًا مُجَلَّلًا عَامَّا طَبَقًا سَحًّا دَائِمًا اللَّهُمَّ اسْقِنَا الْغَيْثَ وَلَا تَجْعَلْنَا مِنَ الْقَانِطِينَ اللَّهُمَّ إِنَّ بِالْعِبَادِ وَالْبِلَادِ وَالْبَهَائِمِ وَالْخَلْقِ مِنَ الْبَلَاءِ وَالْجَهْدِ وَالضَّنْكِ مَا لَا نَشْكُو إِلَّا إِلَيْكَ ، اللَّهُمَّ أَنْبِتْ لَنَا الزَّرْعَ وَأَدِرَّ لَنَا الضَّرْعَ وَاسْقِنَا مِنْ بَرَكَاتِ الْمَاءِ وَأَنْبِتْ لَنَا مِنْ بَرَكَاتِ الْأَرْضِ ، اللَّهُمَّ ارْفَعْ عَنَّا الْجَهْدَ وَالْجُوعَ وَالْعُرْيَ وَاكْشِفْ عَنَّا مِنَ الْبَلَاءِ مَا لَا يَكْشِفُهُ غَيْرُكَ ، اللَّهُمَّ إِنَا نَسْتَغْفِرُكَ إِنَّكَ كُنْتَ غَفَّارًا فَأَرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْنَا مِدْرَارًا وَأُحِبُّ أَنْ يَفْعَلَ هَذَا كُلَّهُ وَلَا وَقْتَ فِي الدُّعَاءِ لَا يُجَاوِزَ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : وَذَلِكَ هُوَ الْمُخْتَارُ ؛ لِأَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْقُولٌ عَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ حَدٌّ لَا يَجُوزُ مُجَاوَزَتُهُ وَلَا التَّقْصِيرُ عَنْهُ ، وَبِمَا دَعَا جَازَ .
فَصْلٌ : حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَقُولَ الْمُسْتَسْقِي فِي دُعَائِهِ اللَّهُمَّ أَمْطِرْنَا ( حكمه ) ، وَزَعَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرِ الْمَطَرَ فِي كِتَابِهِ إِلَّا لِلْعَذَابِ ، فَقَالَ تَعَالَى : وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ [ الشُّعَرَاءِ : ] . وَهَذَا عِنْدَنَا غَيْرُ مَكْرُوهٍ لِرِوَايَةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ وَمَدَّ يَدَيْهِ بَسْطًا : اللَّهُمَّ أَمْطِرْنَا .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ بِالْحُدَيْبِيَةِ فِي أَثَرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ : " أَتَدْرُونَ مَا قَالَ رَبُّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ ؟ " قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : يَقُولُ : أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِالْكَوَاكِبِ ، وَمُؤْمِنٌ بِالْكَوَاكِبِ وَكَافِرٌ بِي ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ : مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِالْكَوَاكِبِ ، وَمَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا فِي دَرِّكُمْ مُؤْمِنٌ بِالْكَوَاكِبِ وَكَافِرٌ بِي . قَالَ الشَّافِعِيُّ : مَعْنَاهُ عَلَى مَا كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَعْتَقِدُ أَنَّ النَّوْءَ هُوَ الْمَطَرُ فَكَانُوا كُفَّارًا بِذَلِكَ ، وَالنَّوْءُ : هُوَ النَّجْمُ الَّذِي يَسْقُطُ فِي الْمَغْرِبِ وَيَطْلُعُ مَكَانَهُ فِي الْمَشْرِقِ ، فَعَلَى هَذَا إِذَا قَالَ : الْعَبْدُ مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ إِيمَانٌ بِاللَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْطَرُ وَلَا يُفْعَلُ إِلَّا بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا عَلَى مَا كَانَ أَهْلُ الشِّرْكِ يَعْتَقِدُونَهُ مِنْ إِضَافَةِ الْمَطَرِ إِلَيْهِ وَأَنَّهُ هُوَ الْمَاطِرُ ، فَهَذَا كَافِرٌ ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ النَّوْءَ وَقْتٌ أَوْ نَجْمٌ ، وَهُوَ مَخْلُوقٌ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ وَلَا غَيْرِهِ شَيْئًا مِنْ ضَرَرٍ أَوْ نَفْعٍ ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا يَعْنِي : أَنَّا مُطِرْنَا فِي وَقْتِ نَوْءِ كَذَا ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ كُفْرًا ، كَقَوْلِهِ مُطِرْنَا فِي شَهْرِ كَذَا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ الْعَادَةَ أَنَّ يُمْطَرَ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ ، كَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : إِذَا أَنْشَأَتْ نَجْدِيَّةٌ ثُمَّ اسْتَحَالَتْ شَامِيَّةً فَذَلِكَ عَيْنٌ عَذِيقَةٌ يَعْنِي فِيمَا أَجْرَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْعَادَةِ .
فَصْلٌ : يُخْتَارُ لِلنَّاسِ أَنْ يَسْتَمْطِرُوا الْغَيْثَ أَوَّلَ نُزُولِهِ ، فَيَبْرُزُونَ لَهُ حَتَّى يُصِيبَ ثِيَابَهُمْ وَأَبْدَانَهُمْ لِرِوَايَةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْزِعُ ثِيَابَهُ فِي أَوَّلِ مَطْرَةِ ، إِلَّا الْإِزَارَ يَئْتَزِرُ بِهِ . وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أَمَرَ جَارِيَتَهُ بِإِخْرَاجِ رَحْلِهِ إِلَى الْمَطَرِ ، وَقَالَ : إِنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : تَوَقَّعُوا الْإِجَابَةَ عِنْدَ الْتِقَاءِ الْجُيُوشِ ، وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ ، وَنُزُولِ الْغَيْثِ وَكَانَ السَّلَفُ يَكْرَهُونَ الْإِشَارَةَ إِلَى الرَّعْدِ ، وَيَقُولُونَ عِنْدَ ذَاكَ : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ ، فَيُخْتَارُ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِي ذَلِكَ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ الْحُكْمِ فِي تَارِكِ الصَّلَاةِ مُتَعَمِّدًا
بَابُ الْحُكْمِ فِي تَارِكِ الصَّلَاةِ مُتَعَمِّدًا . قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " يُقَالُ لِمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ حَتَى يَخْرُجَ وَقْتُهَا بِلَا عُذْرٍ : لَا يُصَلِّيهَا غَيْرُكَ فَإِنْ صَلَّيْتَ وَإِلَّا اسْتَتَبْنَاكَ فَإِنْ تُبْتَ وَإِلَّا قَتَلْنَاكَ كَمَا يَكْفُرُ فَنَقُولُ : إِنْ آمَنْتَ وَإِلَّا قَتَلْنَاكَ ، وَقَدْ قِيلَ يُسْتَتَابُ ثَلَاثًا فَإِنْ صَلَّى فِيهَا ، وَإِلَّا قُتِلَ وَذَلِكَ حَسَنٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : قَدْ قَالَ فِي الْمُرْتَدِّ حكمه : إِنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ وَلَمْ يُنْتَظَرْ بِهِ ثَلَاثًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ : مَنْ تَرَكَ دِينَهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ وَقَدْ جُعِلَ تَارِكُ الصَّلَاةِ بِلَا عُذْرٍ كَتَارِكِ الْإِيمَانِ فَلَهُ حُكْمُهُ فِي قِيَاسِ قَوْلِهِ لِأَنَّهُ عِنْدَهُ مِثْلُهُ وَلَا يُنْتَظَرُ بِهِ ثَلَاثًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ تَارِكُ الصَّلَاةِ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَتْرُكَهَا جَاحِدًا لِوُجُوبِهَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَتْرُكَهَا مُعْتَقِدًا لِوُجُوبِهَا ، فَإِنْ تَرَكَهَا جَاحِدًا ( الصلاة ) كَانَ كَافِرًا ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الرِّدَّةِ إِجْمَاعًا ، وَإِنْ تَرَكَهَا مُعْتَقِدًا لِوُجُوبِهَا ( الصلاة ) ، قِيلَ لَهُ : لِمَ لَا تُصَلِّي : فَإِنْ قَالَ : أَنَا مَرِيضٌ ، قِيلَ لَهُ : صَلِّ كَيْفَ أَمْكَنَكَ ، قَائِمًا أَوْ قَاعِدًا أَوْ مُضْطَجِعًا ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ لَا تَسْقُطُ عَمَّنْ عَقَلَهَا ، وَإِنْ قَالَ : لَسْتُ مَرِيضًا وَلَكِنْ نَسِيتُهَا ، قِيلَ لَهُ : صَلِّهَا فِي الْحَالِ فَقَدْ ذَكَرْتَهَا ، وَإِنْ قَالَ : لَسْتُ أُصَلِّيهَا كَسَلًا وَلَا أَفْعَلُهَا تَوَانِيًا فَهَذَا هُوَ التَّارِكُ لَهَا غَيْرُ مَعْذُورٍ ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يُسْتَتَابَ فَإِنْ تَابَ وَأَجَابَ إِلَى فِعْلِهَا تُرِكَ ، فَلَوْ قَالَ : أَنَا أَفْعَلُهَا فِي مَنْزِلِي وُكِّلَ إِلَى أَمَانَتِهِ ، وَرُدَّ إِلَى دِيَانَتِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَتُبْ وَأَقَامَ عَلَى امْتِنَاعِهِ مِنْ فِعْلِهَا تارك الصلاة مُعْتَقِدًا لِوُجُوبِهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ أَنَّ دَمَهُ مُبَاحٌ وَقَتْلَهُ وَاجِبٌ ، وَلَا يَكُونُ بِذَلِكَ كَافِرًا . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمُزَنِيِّ أَنَّهُ مَحْقُونُ الدَّمِ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ ، لَكِنْ يُضْرَبُ عِنْدَ صَلَاةِ كُلِّ فَرِيضَةٍ أَدَبًا وَتَعْزِيرًا . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا كَالْجَاحِدِ ، تَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الرِّدَّةِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ تَابَعَهُ فَإِنَّهُمُ اسْتَدَلُّوا عَلَى حَقْنِ دَمِهِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ فَإِنْ قَالُوا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ ، عَزَّ وَجَلَّ وَهَذَا قَدْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ دَمُهُ مَحْقُونًا ، وَأَيْضًا وَمَا رَوَاهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ : كُفْرٌ بَعْدَ إِيمَانٍ ، أَوْ زِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ أَوْ قَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ وَهَذَا لَمْ يَفْعَلْ أَحَدَ هَذِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحْقُونَ الدَّمِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تُؤَدَّى وَتُقْضَى ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُقْتَلَ بِتَرْكِهَا كَالصَّوْمِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ شَرْعِيَّةٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ الْقَتْلَ بِتَرْكِهَا كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى إِبَاحَةِ دَمِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [ التَّوْبَةِ : ] إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [ التَّوْبَةِ : ] . فَأَمَرَ بِقَتْلِهِمْ ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْهُمْ مَنْ جَمَعَ شَرْطَيْنِ : التَّوْبَةُ ، وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ ، فَعُلِمَ أَنَّ مَنْ أَتَى بِأَحَدِهِمَا وَهُوَ التَّوْبَةُ دُونَ الصَّلَاةِ كَانَ الْأَمْرُ بِقَتْلِهِ بَاقِيًا . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : أَلَا إِنِّي نُهِيتُ عَنْ قَتْلِ الْمُصَلِّينَ فَلَمَّا كَانَ فِعْلُهَا سَبَبًا لِحَقْنِ دَمِهِ كَانَ تَرْكُهَا سَبَبًا لِإِرَاقَتِهِ ، وَلِأَنَّهَا أَحَدُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ الَّذِي لَا يَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ بِبَدَلٍ وَلَا مَالٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يُقْتَلَ بِتَرْكِهَا كَالْإِيمَانِ ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ وَالْإِيمَانَ يَشْتَرِكَانِ فِي الِاسْمِ وَالْمَعْنَى ، فَأَمَّا اشْتِرَاكُهُمَا فِي الِاسْمِ فَهُوَ أَنَّ الصَّلَاةَ تُسَمَّى إِيمَانًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [ الْبَقَرَةِ : ] . يَعْنِي : صَلَاتَكُمْ ، وَأَمَّا اشْتِرَاكُهُمَا فِي الْمَعْنَى فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَنْ لَزِمَهُ الْإِيمَانُ لَزِمَهُ فِعْلُ الصَّلَاةِ ، وَقَدْ لَا يَلْزَمُهُ الصِّيَامُ إِذَا كَانَ شَيْخًا هَرِمًا ، وَمَنْ لَمْ يَلْزَمْهُ فِعْلُ الصَّلَاةِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِيمَانُ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مِنْ هَيْئَاتِ الصَّلَاةِ مَا لَا يَقَعُ إِلَّا طَاعَةً لِلَّهِ سُبْحَانَهُ كَالْإِيمَانِ الَّذِي لَا يَقَعُ إِلَّا لِلَّهِ ، عَزَّ وَجَلَّ ، فَلَمَّا وَجَبَ اشْتِرَاكُهُمَا فِي الِاسْمِ وَالْمَعْنَى وَجَبَ اشْتِرَاكُهُمَا فِي الْحُكْمِ ؛ وَلِأَنَّ الشَّرْعَ يَشْتَمِلُ عَلَى أَوَامِرَ وَنَوَاهِي ، فَلَمَّا قُتِلَ بِفِعْلِ مَا نُهِيَ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ مُعْتَقِدًا لِتَحْرِيمِهِ اقْتَضَى أَنْ يُقْتَلَ بِتَرْكِ مَا أُمِرَ بِهِ وَإِنْ كَانَ مُعْتَقِدًا لِوُجُوبِهِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ الْأَوَّلِ فَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ " إِلَّا بِحَقِّهَا " ، وَالصَّلَاةُ مِنْ حَقِّهَا ، كَمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مَانِعِي الزَّكَاةِ .
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ الثَّانِي وَقَوْلِهِ : " لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ : كُفْرٌ بَعْدَ إِيمَانٍ " فَأَبَاحَ دَمَهُ بِالْكُفْرِ مَعَ الْإِسْلَامِ ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بِتَرْكِ الصَّلَاةِ ، لِأَنَّهُ يَكُونُ مُسْلِمًا وَأَحْكَامُ الْكُفْرِ جَارِيَةٌ عَلَيْهِ فِي إِبَاحَةِ الدَّمِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الصَّوْمِ وَالْعِبَادَاتِ فَالْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّ اسْتِيفَاءَ ذَلِكَ مُمْكِنٌ مِنْهُ ، وَاسْتِيفَاءَ الصَّلَاةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ كَالْإِيمَانِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَمَنْ تَابَعَهُ فَاسْتَدَلُّوا عَلَى إِثْبَاتِ كُفْرِهِ بِرِوَايَةِ جَابِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيْمَانِ تَرْكُ الصَّلَاةِ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى إِسْلَامِهِ أَنَّ الشَّرْعَ يَشْتَمِلُ عَلَى أَوَامِرَ وَنَوَاهِي ، فَلَمَّا لَمْ يَكْفُرْ بِفِعْلِ مَا نُهِيَ عَنْهُ إِذَا كَانَ مُعْتَقِدًا لِتَحْرِيمِهِ ، لَمْ يَكْفُرْ بِتَرْكِ مَا أُمِرَ بِهِ إِذَا كَانَ مُعْتَقِدًا لِوُجُوبِهِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَافِرًا بِتَرْكِهَا لَكَانَ مُسْلِمًا بِفِعْلِهَا ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا بِفِعْلِهَا لَمْ يَكُنْ كَافِرًا بِتَرْكِهَا . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ " فَفِيهِ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الزَّجْرِ ، كَمَا قَالَ : " لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ " . وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْكُفَّارِ فِي إِبَاحَةِ الدَّمِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ إِسْلَامُهُ وَتَقَرَّرَ وُجُوبُ قَتْلِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا بَعْدَ ذَلِكَ فِي فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي زَمَانِ وَجُوبِهِ . وَالثَّانِي : فِي صِفَةِ قَتْلِهِ . فَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي زَمَانِ وُجُوبِهِ ( القتل ) لتارك الصلاة مُعْتَقِدًا لِوُجُوبِهَا فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَصْحَابِنَا أَنَّ قَتْلَهُ يَجِبُ إِذَا تَرَكَ صَلَاةً وَاحِدَةً وَدَخَلَ وَقْتُ الْأُخْرَى وَضَاقَ حَتَّى لَمْ يُمْكِنْ إِيقَاعُ غَيْرِهَا فِيهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ أَنَّ قَتْلَهُ يَجِبُ إِذَا تَرَكَ ثَلَاثَ صَلَوَاتٍ وَدَخَلَ وَقْتُ الرَّابِعَةِ ، وَضَاقَ حَتَّى لَمْ يُمْكِنْ إِيقَاعُ غَيْرِهَا فِيهِ ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَانِ الْوَجْهَانِ فَهَلْ يُقْتَلُ لِمَا فَاتَ أَمْ لِصَلَاةِ الْوَقْتِ إِذَا ضَاقَ وَقْتُهَا ؟ تارك الصلاة مُعْتَقِدًا لِوُجُوبِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا ، يُقْتَلُ لِمَا فَاتَ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ نَسِيَ صَلَوَاتٍ ثُمَّ ذَكَرَهَا فَامْتَنَعَ مِنْ فِعْلِهَا قُتِلَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُقْتَلُ لِصَلَاةِ الْوَقْتِ إِذَا ضَاقَ وَيُعْلَمُ فَوَاتُهَا ، اسْتِدْلَالًا بِمَا تَرَكَ مِنَ الصَّلَوَاتِ وَعَلَى هَذَا إِنْ نَسِيَ صَلَوَاتٍ فَوَائِتَ ثُمَّ ذَكَرَهَا فَامْتَنَعَ مِنْ فِعْلِهَا لَمْ يُقْتَلْ
فَصْلٌ : وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي صِفَةِ قَتْلِهِ تارك الصلاة مُعْتَقِدًا لِوُجُوبِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يُقْتَلُ صَبْرًا بِضَرْبِ الْعُنُقِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ وَاخْتِيَارُ أَبِي حَامِدٍ أَنَّهُ يُضْرَبُ بِالْخَشَبِ حَتَّى يَمُوتَ طَمَعًا فِي عَوْدِهِ ، ثُمَّ إِذَا أُرِيدَ قَتْلُهُ فَهَلْ يُقْتَلُ فِي الْحَالِ أَوْ يُنْتَظَرُ ثَلَاثًا ؟ تارك الصلاة مُعْتَقِدًا لِوُجُوبِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْمُرْتَدِّ ، فَإِذَا قُتِلَ كَانَ ذَلِكَ حَدًّا لَا يَمْنَعُ مِنْ غُسْلِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
_____كِتَابُ الْجَنَائِزِ_____
بَابُ إِغْمَاضِ الْمَيِّتِ بَابُ إِغْمَاضِ الْمَيِّتِ
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " أَوَّلُ مَا يَبْدَأُ بِهِ أَوْلِيَاءُ الْمَيِّتِ أَنْ يَتَوَلَّى أَرْفَقُهُمْ بِهِ إِغْمَاضَ عَيْنَيْهِ بِأَسْهَلِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ ، وَأَنْ يَشُدَّ لَحْيَهُ الْأَسْفَلَ بِعِصَابَةٍ عَرِيضَةٍ وَيَرْبِطُهَا مِنْ فَوْقِ رَأْسِهِ ؛ لَئِلَّا يَسْتَرْخِيَ لَحْيُهُ الْأَسْفَلُ فَيَنْفَتِحُ فُوهُ فَلَا يَنْطَبِقُ ، وَيَرُدُّ ذِرَاعَيْهِ حَتَى يُلْصِقَهُمَا ثُمَّ يَمُدُّهُمَا بِعَضُدَيْهِ أَوْ يَرُدُّهُمَا إِلَى فَخِذَيْهِ ، وَيَفْعَلُ ذَلِكَ بِمَفَاصِلِ رُكْبَتَيْهِ ، وَيَرُدُّ فَخِذَيْهِ إِلَى بَطْنِهِ ثُمَّ يَمُدُّهُمَا ، وَيُلَيِّنُ أَصَابِعَهُ ؛ حَتَّى يَتَبَاقَى لِينُهُ عَلَى غَاسِلِهِ ، وَيَخْلَعُ عَنْهُ ثِيَابَهُ ، وَيُجْعَلُ عَلَى بَطْنِهِ سَيْفٌ أَوْ حَدِيدٌ ، وَيُسَجَّى بِثَوْبٍ يُغَطَّى بِهِ جَمِيعُ جَسَدِهِ ، وَيُجْعَلُ عَلَى لَوْحٍ أَوْ سَرِيرٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الْمَوْتَ حَتْمًا عَلَى عِبَادِهِ ، وَمَصِيرًا لِجَمِيعِ خَلْقِهِ ، خَتَمَ بِهِ أَعْمَالَ الدُّنْيَا ، وَافْتَتَحَ بِهِ جَزَاءَ الْآخِرَةِ ، وَسَوَّى فِيهِ بَيْنَ مَنْ أَطَاعَهُ وَمَنْ عَصَاهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ، [ النَّجْمِ : ] ، فَيَنْبَغِي لِمَنْ يُقِرُّ بِالْمَوْتِ أَنْ يَتَّعِظَ بِهِ ، وَلِمَنِ اعْتَرَفَ بِالْآخِرَةِ أَنْ يَعْمَلَ لَهَا فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ، [ الزَّلْزَلَةِ : ، ] . وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَقَّ الْحَيَاءِ " قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نَسْتَحْيِي مِنَ اللَّهِ عَزَ وَجَلَّ حَقَّ الْحَيَاءِ ؟ قَالَ : " مَنْ حَفِظَ الرَّأْسَ وَمَا حَوَى ، وَالْبَطْنَ وَمَا وَعَى ، وَتَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا ، وَذَكَرَ الْمَوْتَ وَالْبِلَى ، فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ " . وَيَخْتَارُ الْإِكْثَارَ مِنْ ذِكْرِ الْمَوْتِ ؛ لِأَنَّهُ أَبْعَثُ عَلَى الطَّاعَاتِ ، وَأَمْنَعُ مِنَ الْمَعَاصِي .
فَصْلٌ الْقَوْلُ فِي عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَثَوَابِهَا
فَصْلٌ : الْقَوْلُ فِي عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَثَوَابِهَا يُسْتَحَبُّ عِيَادَةُ الْمَرِيضِ ، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " عَائِدُ الْمَرِيضِ فِي مَخْرَفٍ مِنْ مَخَارِفِ الْخَيْرِ إِلَى أَنْ يَعُودَ " .
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " مَنْ عَادَ مَرِيضًا شَيَّعَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ إِلَى أَنْ يَعُودَ " . وَقَدْ عَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعْدًا وَجَابِرًا وَعَادَ غُلَامًا يَهُودِيًّا . وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَعُودَ لِعِيَادَتِهِ جَمِيعَ الْمَرْضَى ، وَلَا يَخُصَّ بِهَا قَرِيبًا مِنْ بَعِيدٍ ، وَلَا صَدِيقًا مِنْ عَدُوٍّ لِيُحْرِزَ بِهَا ثَوَابَ جَمِيعِهِمْ . وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْعِيَادَةُ غِبًّا وَلَا يُوَاصِلُهَا فِي جَمِيعِ الْأَيَّامِ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " أَغِبُّوا عِيَادَةَ الْمَرِيضِ ، أَوْ أَرْبِعُوا إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَغْلُوبًا " . وَيُكْرَهُ إِطَالَةُ الْعِيَادَةِ للمريض وحكمها ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ إِضْجَارِ الْمَرِيضِ ، فَإِنْ رَأَى فِي الْمَرِيضِ أَمَارَاتِ الصِّحَّةِ وَعَلَامَاتِ الْبُرْءِ فما يقول له دَعَا لَهُ بِتَعْجِيلِ الْعَافِيَةِ ؛ لِتَقْوَى بِذَلِكَ نَفْسُهُ ، فَقَدْ عَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعْدًا ، وَوَعَدَهُ بِالْعَافِيَةِ وَالْعُمْرِ وَإِنَّ اللَّهَ سَيَفْتَحُ عَلَى يَدَيْهِ . وَإِنْ رَأَى فِيهِ عَلَامَاتِ الْمَوْتِ فما يقول له ذَكَّرَهُ الْوَصِيَّةَ وَأَمَرَهُ بِالتَّوْبَةِ ، وَحَثَّهُ عَلَى الْخُرُوجِ مِنَ الْمَظَالِمِ ، بِالرِّفْقِ وَالْكَلَامِ اللَّطِيفِ ، ثُمَّ يُعَجِّلُ الِانْصِرَافَ . فَإِذَا قَارَبَ أَنْ يَقْضِيَ أي المريض فما الذي يفعله أهله ؟ ، حَضَرَهُ أَقْوَى أَهْلِهِ نَفْسًا وَأَثْبَتُهُمْ عَقْلًا ، وَلَقَّنَهُ الشَّهَادَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ وَلَا إِضْجَارٍ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " . وَرَوَى مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " مَنْ كَانَ آخِرَ كَلَامِهِ قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُخْلِصًا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ " . ثُمَّ يُوَجِّهُهُ نَحْوَ الْقِبْلَةِ المحتضر ، وَفِي كَيْفِيَّةِ تَوَجُّهِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يُلْقَى عَلَى ظَهْرِهِ ، وَتَكُونُ رِجْلَاهُ فِي الْقِبْلَةِ . وَالثَّانِي : أَنْ يُضْجَعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ مُسْتَقْبِلًا بِوَجْهِهِ الْقِبْلَةَ ، فَإِذَا مَاتَ تَوَلَّى مِنْهُ سَبْعَ خِصَالٍ مايفعل بالمحتضر إذا مات : أَوَّلُهَا : إِغْمَاضُ عَيْنَيْهِ مايفعل بالمحتضر إذا مات ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . " أَغْمَضَ عَيْنَ ابْنِ سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ . وَقَالَ : " إِنَّ الْبَصَرَ يَتْبَعُ الرُّوحَ " . وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَحْسَنُ فِي كَرَامَتِهِ وَأَبْلَغُ فِي جَمَالِ عِشْرَتِهِ ؛ وَلِأَنْ لَا يُسْرِعَ إِلَيْهَا الْفَسَادُ ، فَقَدْ قِيلَ إِنَّهَا آخِرُ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ الرُّوحُ وَأَوَّلُ مَا يُسْرِعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ . وَالثَّانِي : أَنْ يُطَبِّقَ فَاهُ وَيَشُدَّ لَحْيَهُ الْأَسْفَلَ بِعِصَابَةٍ عَرِيضَةٍ وَيَرْبُطَهَا مِنْ فَوْقِ رَأْسِهِ مايفعل بالمحتضر إذا مات ؛ لِأَنْ لَا يَفْتَحَ فَاهُ فَيَقْبُحَ فِي عَيْنِ النَّاظِرِ إِلَيْهِ ، وَلِأَنْ لَا يَلِجَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْهَوَامِ .
وَالثَّالِثُ : أَنْ يُلَيِّنَ مَفَاصِلَهُ مِنْ يَدَيْهِ وَعَضُدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ وَفَخِذَيْهِ ما يفعل بالميت فَيَمُدَّهَا وَيَرُدَّهَا مَنْ لَهُ رِفْقٌ وَسُهُولَةٌ ؛ لِئَلَّا تَجْسُوَ فَتُقَبَّحَ ، وَلِأَنْ تَبْقَى لَيِّنَةً عَلَى غَاسِلِهِ . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَخْلَعَ عَنْهُ ثِيَابَهُ ما يفعل بالميت ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا خَرَجَتْ مِنْهُ نَجَاسَةٌ ، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا جَمَرَ فِيهَا فَتُغَيَّرُ . وَالْخَامِسُ : أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى نَشَزٍ مِنَ الْأَرْضِ ما يفعل بالميت ، وَمَوْضِعٍ مُرْتَفِعٍ مِنْ لَوْحٍ أَوْ سَرِيرٍ ؛ لِأَنْ لَا تُسْرِعَ إِلَيْهِ عُفُونَةُ الْأَرْضِ وَيَبْعُدَ عَنِ الْهَوَامِ . وَالسَّادِسُ : أَنْ يُسَجَّى بِثَوْبٍ يُغَطَّى بِهِ جَمِيعُ بَدَنِهِ ما يفعل بالميت ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُجِّيَ بِثَوْبِ حِبَرَةٍ " ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَصْوَنُ لِجَسَدِهِ ، وَأَبْلَغُ فِي كَرَامَتِهِ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَعْطِفَ مَا فَضَلَ مِنْ طَرَفَيْهِ تَحْتَ رَأْسِهِ وَرِجْلَيْهِ ؛ لِكَيْ لَا يَنْكَشِفَ عَنْهُ إِنْ هَبَّتْ رِيحٌ . وَالسَّابِعُ : أَنْ يُوضَعَ عَلَى بَطْنِهِ سَيْفٌ أَوْ حَدِيدَةٌ الميت أَوْ طِينٌ مَبْلُولٌ ؛ لِأَنْ لَا يَرْبُوَ فَيُنْفَخَ بَطْنُهُ فَيُقَبَّحَ . وَيُخْتَارُ أَنْ يَتَوَلَّى الرِّجَالُ أَمْرَ الرِّجَالِ ، وَالنِّسَاءُ أَمْرَ النِّسَاءِ عند الموت ، فَإِنْ تَوَلَّى خِلَافَ ذَلِكَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مِنْ ذَوِي الْمَحَارِمِ جَازَ .
فَصْلٌ : اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا ، هَلْ يُسْتَحَبُّ الْإِنْذَارُ بِالْمَيِّتِ وَإِشَاعَةُ مَوْتِهِ فِي النَّاسِ بِالنِّدَاءِ وَالْإِعْلَامِ ؟ فَاسْتَحَبَّ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ ؛ لِمَا فِي إِنْذَارِهِمْ مِنْ كَثْرَةِ الْمُصَلِّينَ عَلَيْهِ وَالدَّاعِينَ لَهُ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ ؛ إِخْفَاءً لِأَمْرِهِ وَمُبَادَرَةً بِهِ . وَقَالَ آخَرُونَ : يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ لِلْغَرِيبِ وَلَا يُسْتَحَبُّ لِغَيْرِهِ ، وَبِهِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ؛ لِأَنَّ الْغَرِيِبَ إِذَا لَمْ يُنْذَرِ النَّاسُ بِهِ لَمْ يُعْلَمْ بِهِ .
بَابُ غُسْلِ الْمَيِّتِ وَغَسْلِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَالْمَرْأَةِ زَوْجَهَا
بَابُ غُسْلِ الْمَيِّتِ وَغَسْلِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَالْمَرْأَةِ زَوْجَهَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيُفْضِي بِالْمَيِّتِ إِلَى مُغْتَسَلِهِ ، وَيَكُونُ كَالْمُنْحَدَرِ قَلِيلًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . أَمَّا غُسْلُ الْمَوْتَى وَتَكْفِينُهُمْ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِمْ وَدَفْنُهُمْ حكمه ، فَفَرْضٌ عَلَى كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُلُّ بِهِ مُخَاطَبُونَ ، فَإِذَا قَامَ بِهِ بَعْضُهُمْ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْ بَاقِيهِمْ ، وَإِنْ لَمْ يَقُمِ الْبَعْضُ حَرِجَ الْكُلُّ ؛ لِأَنَّ فُرُوضَ الْكِفَايَاتِ وَفُرُوضَ الْأَعْيَانِ قَدْ يَشْتَرِكَانِ فِي الِابْتِدَاءِ وَيَفْتَرِقَانِ فِي الْفِعْلِ ، فَمَا كَانَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ لَمْ يَلْزَمِ الْكُلَّ ، وَسَقَطَ عَنْهُمْ بِفِعْلِ الْبَعْضِ ، وَمَا كَانَ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ يَلْزَمُ الْكُلَّ ، فَإِذَا فَعَلَهُ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ فَاعِلِهِ دُونَ غَيْرِهِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى إِيجَابِ غُسْلِهِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " فُرِضَ عَلَى أُمَّتِي غَسْلُ مَوْتَاهَا وَالصَّلَاةُ عَلَيْهَا وَدَفْنُهَا " .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ غُسْلَ الْمَوْتَى فَرْضٌ عَلَى كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ ، فَالْفَضْلُ لِمَنْ قَامَ بِهِ دُونَ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَلَوْ أَنَّ رُفْقَةً فِي طَرِيقٍ مِنْ سَفَرٍ فَمَاتَ مِنْهُمْ مَيِّتٌ فَلَمْ يُوَارُوهُ نُظِرَ ؛ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي طَرِيقٍ آهِلٍ يَخْتَرِقُهُ النَّاسُ وَالْمَارَّةُ ، أَوْ بِقُرْبِ قَرْيَةٍ أَوْ حِصْنٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنَّهُمْ قَدْ أَسَاءُوا بِتَرْكِهِمُ الْفَضْلَ وَتَضْيِيعِ حَقِّ أَخِيهِمْ ، وَكَانَ عَلَى مَا يَقْرُبُ مِنْهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُوَارُوهُ ، وَإِنْ كَانُوا لَمْ يُوَارُوهُ وَتَرَكُوهُ فِي صَحْرَاءَ ، أَوْ مَوْضِعٍ لَا يَمُرُّ بِهِ أَحَدٌ وَلَا يَجْتَازُ بِهِ أَهْلُ قَرْيَةٍ ، فَقَدْ أَثِمُوا وَعَصَوُا اللَّهَ تَعَالَى ، وَعَلَى السُّلْطَانِ أَنْ يُعَاقِبَهُمْ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِتَضْيِيعِهِمْ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى وَاسْتِخْفَافِهِمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ أَخِيهِمُ الْمُسْلِمِ ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونُوا فِي مَخَافَةٍ مِنْ عَدُوٍّ ، وَيَخَافُونَ إِنِ اشْتَغَلُوا بِالْمَيِّتِ أَظَلَّهُمْ ، فَالَّذِي يُخْتَارُ أَنْ يُوَارُوهُ مَا أَمْكَنَهُمْ ، فَإِنْ تَرَكُوهُ لَمْ يَحْرَجُوا ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ .
فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَوْ أَنَّ مُجْتَازِينَ مَرُّوا عَلَى مَيِّتٍ فِي الصَّحْرَاءِ فَقَدْ لَزِمَهُمُ الْقِيَامُ بِهِ ، رَجُلًا كَانَ الْمَيِّتُ أَوِ امْرَأَةً ، فَإِنْ تَرَكُوهُ حَرِجُوا أَوْ أَثِمُوا . ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الْمَيِّتِ فَإِنْ كَانَ بِثِيَابِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَثَرُ غُسْلٍ وَلَا كَفَنٍ ، فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُغَسِّلُوهُ وَيُكَفِّنُوهُ وَيُصَلُّوا
عَلَيْهِ ، وَيَدْفِنُوهُ مَا أَمْكَنَ ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ أَثَرُ الْغُسْلِ وَالْكَفَنِ وَالْحَنُوطِ فَإِنَّهُمْ يَدْفِنُوهُ ، فَإِنِ اخْتَارُوا الصَّلَاةَ عَلَيْهِ صَلَّوْا عَلَى قَبْرِهِ بَعْدَ دَفْنِهِ ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ أَنْ قَدْ صُلِّيَ عَلَيْهِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا أُرِيدَ غُسْلُهُ لَمْ يُعَجَّلْ بِهِ حَتَّى يُتَحَقَّقَ مَوْتُهُ بِعَلَامَاتٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ ؛ افْتِرَاقُ الزَّنْدَيْنِ ، وَاسْتِرْخَاءُ الْعَضُدَيْنِ وَمَيْلُ الْأَنْفِ وَتَغْيِيرُ الرَّائِحَةِ ، وَإِنْ كَانَ غَرِيقًا أَوْ حَرِيقًا أَوْ تَحْتَ هَدْمٍ ، أَوْ مُتَرَدِّيًا مِنْ عُلُوٍّ فَأُحِبُّ أَنْ يُنْتَظَرَ بِهِ الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَكُونَ قَدْ زَالَ مِنْهُ عَقْلُهُ فَيَثُوبُ ، فَإِذَا عُلِمَ مَوْتُهُ عَلَى الْيَقِينِ بُودِرَ بِغُسْلِهِ ، وَأُفْضِيَ بِهِ إِلَى مُغْتَسَلِهِ ، وَلَا يُنْتَظَرُ بِهِ قُدُومُ غَائِبٍ تعجيل الميت ، وَيُخْتَارُ أَنْ يَكُونَ أَسْفَلُ الْمُغْتَسَلِ مُنْحَدِرًا وَرَأْسُهُ أَعْلَى ؛ لِكَيْ يَنْفَصِلَ عَنْهُ الْمَاءُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " ثُمَّ يُعَادُ تَلْيِينُ مَفَاصِلِهِ ، وَيُطْرَحُ عَلَيْهِ مَا يُوَارِي مَا بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى سُرَّتِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . أَمَّا إِعَادَةُ تَلْيِينِ مَفَاصِلِهِ ؛ فَلَمْ يُوجَدْ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِهِ ، إِلَّا فِيمَا حَكَاهُ الْمُزَنِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ، وَهَذَا دُونَ جَامِعِهِ ، وَتَرْكُ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ فِعْلِهِ ؛ لِتَمَاسُكِ أَعْضَائِهِ . وَإِنَّمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ : أَعَادَ تَلْيِينَ مَفَاصِلِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ لَا وَقْتَ غُسْلِهِ ، لِتَبْقَى لَيِّنَةً عَلَى غَاسِلِهِ ، فَإِنْ أَعَادَ تَلْيِينَ مَفَاصِلِهِ وَقْتَ غُسْلِهِ جَازَ ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُغَسَّلَ فِي قَمِيصٍ رَقِيقٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَصْوَنُ لَهُ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : " لَمَّا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي غُسْلِهِ ؛ فَقَالَ قَوْمٌ : يُغَسَّلُ فِي ثِيَابِهِ ، وَقَالَ قَوْمٌ : لَا يُغَسَّلُ فِيهَا ، فَغَشِيَنَا النُّعَاسُ فَسَمِعْنَا هَاتِفًا يَهْتِفُ فِي الْبَيْتِ وَلَا نَرَاهُ ، يَقُولُ : أَلَا غَسِّلُوهُ فِي قَمِيصِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ ، فَغُسِّلَ فِي الْقَمِيصِ . فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ غُسْلُهُ فِي الْقَمِيِصِ لِصَفَاقَتِهِ سُتِرَ مِنْهُ قَدْرُ عَوْرَتِهِ ؛ وَذَلِكَ مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ وَرُكْبَتِهِ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ عَوْرَتِهِ الميت بَعْدَ وَفَاتِهِ كَحُكْمِ عَوْرَتِهِ فِي حَيَاتِهِ . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ : " لَا تَنْظُرْ لِفَخِذِ حَيٍّ وَلَا مَيِّتٍ " . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " حُرْمَةُ الْمُسْلِمِ بَعْدَ مَوْتِهِ كَحُرْمَتِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ، وَكَسْرُ عَظْمِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ كَكَسْرِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ " .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيُسْتَرُ مَوْضِعُهُ الَّذِي يُغَسَّلُ فِيهِ ، فَلَا يَرَاهُ أَحَدٌ إِلَّا غَاسِلُهُ وَمَنْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَعُونَتِهِ عَلَيْهِ ، وَيَغُضُّونَ أَبْصَارَهُمْ عَنْهُ ، إِلَّا فِيمَا لَا يُمْكِنُ غَيْرُهُ لِيَعْرِفَ الْغَاسِلُ مَا غُسِلَ وَمَا بَقِيَ " .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . يَنْبَغِي أَنْ يُرْتَادَ لِغُسْلِ الْمَيِّتِ مَوْضِعٌ مَسْتُورٌ لِيَخْفَى عَنْ أَبْصَارِ النَّاسِ فَلَا يُشَاهِدُوهُ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يُخْتَارُ غُسْلُهُ تَحْتَ سَقْفٍ أَوْ سَمَاءٍ ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : تَحْتَ سَقْفٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَصْوَنُ لَهُ وَأَحْرَى . وَقَالَ آخَرُونَ : تَحْتَ السَّمَاءِ ؛ لِتَنْزِلَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ ، وَيُسْتَحَبُّ لِلْغَاسِلِ إِنْ أَمْكَنَهُ تَرْكُ الِاسْتِعَانَةِ بِغَيْرِهِ تغسيل الميت أَنْ يَفْعَلَ ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ اسْتَعَانَ بِمَنْ يَثِقُ بِدِينِهِ وَأَمَانَتِهِ ، وَيَقِفُ حَيْثُ لَا يَرَى الْمَيِّتَ ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ إِلَّا الدُّنُوُّ مِنْهُ دَنَا وَغَضَّ طَرْفَهُ وَبَصَرَهُ ، فَأَمَّا الْغَاسِلُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَوْثُوقًا بِدِينِهِ وَأَمَانَتِهِ ، عَارِفًا بِغُسْلِهِ وَنَظَافَتِهِ ، غَاضًّا طَرْفَهُ وَبَصَرَهُ للميت حَسَبَ طَاقَتِهِ وَإِمْكَانِهِ ، لِكَيْمَا يُشَاهِدَ مِنْ أَحْوَالِ الْمَيِّتِ سَاتِرًا عَلَيْهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيَتَّخِذُ إِنَاءَيْنِ : إِنَاءً يَغْرِفُ بِهِ مِنَ الْمَاءِ الْمَجْمُوعِ فَيَصُبُّ فِي الْإِنَاءِ الَّذِي يَلِي الْمَيِّتَ ، فَمَا تَطَايَرَ مِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ إِلَى الْإِنَاءِ الَّذِي يَلِيهِ لَمْ يُصِبِ الْآخَرَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ يُخْتَارُ اتِّخَاذُ إِنَاءَيْنِ : كَبِيرٌ بِالْبُعْدِ وَصَغِيرٌ بِالْقُرْبِ ، وَإِنَاءٌ يَغْتَرِفُ بِهِ مِنَ الْكَبِيرِ وَيَصُبُّهُ فِي الصَّغِيرِ ؛ حَتَّى لَا يَفْسُدَ الْمَاءُ بِمَا يَتَطَايَرُ مِنْ غُسْلِهِ ، وَوَجْهُ فَسَادِهِ : إِمَّا بِكَثْرَةِ مَا يَتَطَايَرُ مِمَّا يَنْفَصِلُ مِنْ غُسْلِهِ حَتَّى يَصِيرَ مُسْتَعْمَلًا ، وَإِمَّا لِنَجَاسَةٍ تَخْرُجُ مِنْهُ تُنَجِّسُ مَا انْفَصَلَ عَنْهُ . وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيُّ وَأَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ : بَلْ ذَلِكَ لِنَجَاسَةِ الْمَيِّتِ . فَذَهَبَا إِلَى تَنْجِيسِهِ اسْتِدْلَالًا بِذَلِكَ مِنْ مَذْهَبِهِ ، وَلِأَنَّ مَا انْفَصَلَ مِنْ أَعْضَائِهِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ نَجِسٌ لِفَقْدِ الْحَيَاةِ ؛ فَكَذَلِكَ جُمْلَتُهُ بَعْدَ الْوَفَاةِ . وَذَهَبَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَسَائِرُ أَصْحَابِنَا : إِلَى طَهَارَةِ الْمَيِّتِ كَطَهَارَةِ الْحَيِّ ، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ، [ الْإِسْرَاءِ : ] ، فَلَمَّا طُهِّرُوا أَحْيَاءً لِأَجْلِ الْكَرَامَةِ ، وَجَبَ أَنْ يُخَصُّوا بِهَا أَمْوَاتًا لِأَجْلِ الْكَرَامَةِ ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا تُنَجِّسُوا مَوْتَاكُمْ " . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الْمُؤْمِنُ لَا يَنْجُسُ " وَقَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ بَعْدَ مَوْتِهِ وَدُمُوعُهُ تَجْرِي عَلَى خَدِّهِ . فَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَمَا قَبَّلَهُ مَعَ رُطُوبَتِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ نَجِسًا لَمَا تَعَبَّدْنَا بِغَسْلِهِ ؛ لَأَنَّ غَسْلَ مَا هُوَ نَجِسُ الْعَيْنِ يَزِيدُ تَنْجِيسًا وَلَا يُفِيدُهُ الْغُسْلُ تَطْهِيرًا ، فَأَمَّا مَا انْفَصَلَ مِنْ أَعْضَائِهِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ أي الميت فَقَدْ كَانَ الصَّيْرَفِيُّ يَحْكُمُ بِطَهَارَتِهِ أَيْضًا ،
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ نَجِسٌ ، وَلَا يَصِحُّ اعْتِبَارُ الْمَيِّتِ بِهِ ؛ لِضَعْفِهِ عَنْ حُرْمَةِ الْمَيِّتِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ إِذَا انْفَصَلَ مِنَ الْحَيِّ ، وَلَوْ وُجِدَ لِلْمَيِّتِ طَرَفٌ مُنْفَصِلٌ صُلِّيَ عَلَيْهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَغَيْرُ الْمُسَخَّنِ مِنَ الْمَاءِ استعماله لغسل الميت أَحَبُّ إِلَيَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَرْدٌ أَوْ يَكُونَ بِالْمَيِّتِ مَا لَا يُنَقِّيهِ إِلَّا الْمُسَخَّنُ فَيُغَسَّلُ بِهِ ، وَيُغَسَّلُ فِي قَمِيصٍ ، وَلَا يَمَسُّ عَوْرَةَ الْمَيِّتِ بِيَدِهِ ، وَيُعِدُّ خِرْقَتَيْنِ نَظِيفَتَيْنِ لِذَلِكَ قَبْلَ غَسْلِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِنَّمَا اخْتَرْنَا الْمُسَخَّنَ اتِّبَاعًا لِلسَّلَفِ ، وَلِأَنَّ الْمُسَخَّنَ يُرْخِي لَحْمَ الْمَيِّتِ ، وَالْبَارِدَ يَشُدُّ لَحْمَهُ وَيُقَوِّيهِ ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ بِهِ ضَرُورَةٌ لِتَسْخِينِهِ ، لِشِدَّةِ الْبَرْدِ الْمَانِعِ مِنَ اسْتِعْمَالِهِ ، أَوْ يَكُونُ بِالْمَيِّتِ مِنَ الْوَسَخِ مَا لَا يَعْمَلُ الْبَارِدُ فِي إِزَالَتِهِ ، فَلَا بَأْسَ بِتَسْخِينِ الْمَاءِ في غسل الميت وَتَغْيِيرِهِ . وَيُخْتَارُ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ مِلْحًا في غسل الميت مِنْ مَوْضِعٍ وَاسِعٍ كَثِيرِ الْحَرَكَةِ وَالْجَرَيَانِ ، وَيُغَسَّلَ فِي قَمِيصٍ الميت لِمَا ذَكَرْنَا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ سُتِرَ مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ وَرُكْبَتِهِ ، وَلَا يَمَسُّ الْغَاسِلُ عَوْرَتَهُ بِيَدِهِ ، وَيَغْسِلُهَا بِالْخِرْقَةِ الَّتِي يَلُفُّهَا عَلَى يَدِهِ ، وَيُعِدُّ خِرْقَتَيْنِ نَظِيفَتَيْنِ قَبْلَ غَسْلِهِ المغسل ، إِحْدَاهُمَا لِعَوْرَتِهِ وَالْأُخْرَى لِجَمِيعِ بَدَنِهِ ، وَقِيلَ بَلِ الرُّقْعَتَانِ مَعًا لِعَوْرَتِهِ ؛ لِيَكُونَ إِذَا أَلْقَى أَحَدَيْهِمَا وَاتَّخَذَ الْأُخْرَى غَسَلَ الْأُولَى ؛ لِيَعُودَ إِلَى اسْتِعْمَالِهَا وَلَا يَنْتَظِرَ غَسْلَهَا فَيَطُولُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيُلْقِي الْمَيِّتَ عَلَى ظَهْرِهِ ثُمَّ يَبْدَأُ غَاسِلُهُ فَيُجْلِسُهُ إِجْلَاسًا رَفِيقًا وَيُمِرُّ يَدَهُ عَلَى بَطْنِهِ إِمْرَارًا بَلِيغًا وَالْمَاءُ يُصَبُّ عَلَيْهِ ؛ لِيَخْفَى شَيْءٌ إِنْ خَرَجَ مِنْهُ ، وَعَلَى يَدِهِ إِحْدَى الْخِرْقَتَيْنِ حَتَى يُنَقِّيَ مَا هُنَالِكَ ثُمَّ يُلْقِيهَا لِتُغْسَلَ ثُمَّ يَأْخُذُ الْأُخْرَى ، ثُمَّ يَبْدَأُ فَيُدْخِلُ إِصْبَعَهُ فِي فِيهِ بَيْنَ شَفَتَيْهِ وَلَا يَفْغَرُ فَاهُ فَيُمِرُّهَا عَلَى أَسْنَانِهِ بِالْمَاءِ وَيُدْخِلُ طَرَفَ إِصْبَعَيْهِ فِي مِنْخَرَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْ مَاءٍ فَيُنَقِّي شَيْئًا إِنْ كَانَ هُنَاكَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : أَوَّلُ مَا يَبْدَأُ بِهِ الْغَاسِلُ بَعْدَ إِلْقَاءِ الْمَيِّتِ عَلَى ظَهْرِهِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ . أَوَّلُهَا : أَنْ يُجْلِسَهُ إِجْلَاسًا رَفِيقًا مِنْ غَيْرِ عَجَلَةٍ وَلَا عُنْفٍ وَيَكُونُ جُلُوسًا مَائِلًا إِلَى ظَهْرِهِ ، وَلَا يَكُونَ مُعْتَدِلًا فَيَحْتَبِسَ الْخَارِجُ مِنْهُ ، ثُمَّ يُمِرُّ يَدَهُ عَلَى بَطْنِهِ إِمْرَارًا بَلِيغًا فِي التَّكْرَارِ لَا فِي شِدَّةِ الِاجْتِهَادِ ، وَالْمَاءُ يُصَبُّ مِنْ خَلْفِهِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : لِيَخْفَى شَيْءٌ إِنْ خَرَجَ مِنْهُ ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : مَعْنَى قَوْلِهِ " لِيَخْفَى " لِيَظْهَرَ شَيْءٌ إِنْ خَرَجَ مِنْهُ ، وَهَذَا تَكَلُّفٌ وَعُدُولٌ عَنْ مَعْنَى الظَّاهِرِ ، ثُمَّ يَأْخُذُ إِحْدَى الْخِرْقَتَيْنِ فَيُنْجِيهِ بِهَا مِنْ قُبُلِهِ وَدُبُرِهِ ، فَإِنْ أَنْقَى ذَلِكَ أَلْقَى الْخِرْقَةَ تُغْسَلُ وَأَخَذَ الْأُخْرَى وَاسْتَعْمَلَهَا عَلَى
أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فِي إِنْقَاءِ أَسْفَلِهِ ، وَأَنْجَى قُبُلَهُ وَدُبُرَهُ وَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَلْقَى عَلَى يَدِهِ ، وَيَسْتَعْمِلُهُمَا فِي فَمِهِ وَأَعْلَى جَسَدِهِ ، وَيُمِرُّهَا عَلَى أَسْنَانِهِ لِيُزِيلَ أَذًى إِنْ كَانَ بِهَا الخرقتين ، وَلَا يَفْغَرُ فَاهُ لِمَا لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَكْسِرَ لَهُ عَظْمًا أَوْ يُفْسِدَ لَهُ عُضْوًا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيُوَضِّئُهُ وُضُوءَ الصَّلَاةِ ، وَيَغْسِلُ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ غسل الميت حَتَّى يُنَقِّيَهُمَا وَيُسَرِّحَهُمَا تَسْرِيحًا رَقِيقًا " وَهَذَا يَتَضَمَّنُ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءٍ أَيْضًا : فَأَحَدُهَا : وَهُوَ أَوَّلُ مَا يَبْدَأُ بِهِ بَعْدَ مَا ذَكَرْنَا أَنْ يُوَضِّئَهُ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ فَيُمَضْمِضَهُ وَيُنَشِّقَهُ مِنْ غَيْرِ مُبَالَغَةٍ فِيهِمَا جَمِيعًا ، وَيَغْسِلَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ وَيَمْسَحَ بِرَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ وَيَغْسِلَ رِجْلَيْهِ ؛ اقْتِدَاءً بِالسَّلَفِ وَتَشْبِيهًا بِالْحَيِّ ، ثُمَّ يَغْسِلُ شَعْرَ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ ؛ لِأَنَّ رَأْسَهُ أَشْرَفُ جَسَدِهِ وَأَوْلَى مَا ابْتُدِئَ بِهِ ، ثُمَّ يُسَرِّحُ لِحْيَتَهُ تَسْرِيحًا رَفِيقًا بِمُشْطٍ وَاسِعِ الْأَسْنَانِ ، وَإِنْ كَانَ شَعْرُ رَأْسِهِ مُلَبَّدًا سَرَّحَهُ أَيْضًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " اصْنَعُوا بِمَيِّتِكُمْ مَا تَصْنَعُونَ بِعَرُوسِكُمْ " .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " ثُمَّ يُغَسِّلُهُ مِنْ صَفْحَةِ عُنُقِهِ الْيُمْنَى وَشِقِّ صَدْرِهِ وَجَنْبِهِ وَفَخِذِهِ وَسَاقِهِ ، ثُمَّ يَعُودُ إِلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ فَيَصْنَعُ بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ ، ثُمَّ يَحْرِفُهُ إِلَى جَنْبِهِ الْأَيْسَرِ فَيَغْسِلُ ظَهْرَهُ وَقَفَاهُ وَفَخِذَهُ وَسَاقَهُ الْيُمْنَى وَهُوَ يَرَاهُ مُتَمَكِّنًا ، ثُمَّ يَحْرِفُهُ إِلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ فَيَصْنَعُ بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ وَيَغْسِلُ مَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ وَمَا بَيْنَ فَخِذَيْهِ وَإِلْيَتَيْهِ بِالْخِرْقَةِ وَيَسْتَقْصِي ذَلِكَ ، ثُمَّ يَصُبُّ عَلَى جَمِيعِهِ الْمَاءَ الْقَرَاحَ ، وَأُحِبُّ أَنْ يَكُونَ فِيهِ كَافُورٌ ( قَالَ ) وَأَقَلُّ غُسْلِ الْمَيِّتِ كيفيته وعدده فِيمَا أُحِبُّ ثَلَاثًا ، فَإِنْ لَمْ يَبْلُغِ الْإِنْقَاءَ فَخَمْسًا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمَنْ غَسَّلَ ابْنَتَهُ " اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ ، وَاجْعَلْنَ فِي الْآخِرَةِ كَافُورًا أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ " . ( قَالَ ) : وَيَجْعَلُ فِي كُلِّ مَاءٍ قَرَاحٍ كَافُورًا ، وَإِنْ لَمْ يَجْعَلْ إِلَّا فِي الْآخِرَةِ أَجْزَأَهُ ، وَيَتَتَبَّعُ مَا بَيْنَ أَظَافِرِهِ بِعُودٍ غسل الميت ، وَلَا يَخْرُجُ حَتَّى يَخْرُجَ مَا تَحْتَهَا مِنَ الْوَسَخِ ، وَكُلَّمَا صَبَّ عَلَيْهِ الْمَاءَ الْقَرَاحَ بَعْدَ السِّدْرِ حَسَبَهُ غُسْلًا وَاحِدًا ، وَيَتَعَاهَدُ مَسْحَ بَطْنِهِ فِي كُلِّ غَسْلَةٍ وَيُقْعِدُهُ عِنْدَ آخِرِ غَسْلَةٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ فِي غُسْلِهِ بَعْدَ تَسْرِيحِ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْدَأَ بِمَيَامِنِ جَسَدِهِ مستحبات غسل الميت ، لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِأُمِّ عَطِيَّةَ حِينَ غَسَّلَتْ بِنْتَهُ : " ابْدَئِي بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا " .
وَيُلْقِيهِ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْسَرِ وَيَغْسِلُ الْأَيْمَنَ وَيَبْدَأُ بِصَفْحَةِ عُنُقِهِ الْيُمْنَى وَيَدِهِ وَشِقِّ صَدْرِهِ وَجَنْبِهِ وَفَخِذِهِ وَسَاقِهِ ، وَيَغْسِلُ مَا تَحْتَ قَدَمِهِ ، ثُمَّ يُلْقِيهِ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ وَيَغْسِلُ شِقَّهُ الْأَيْسَرَ عَلَى مَا وَصَفْتُ ، وَيَغْسِلُ مَا بَيْنَ إِلْيَتَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى جَمِيعِ جَسَدِهِ ، وَمَا كَانَ يَغْسِلُهُ حَيًّا فِي جَنَابَتِهِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِمَاءِ السِّدْرِ ، وَهُوَ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنَ الْخِطْمِيِّ ، لِأَنَّهُ أَمْسَكُ لِلْبَدَنِ وَأَقْوَى لِلْجَسَدِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَإِنْ كَانَ بِهِ وَسَخٌ مُتَلَبِّدٌ رَأَيْتُ أَنْ يُغَسَّلَ بِأُشْنَانٍ ، وَيَرْفُقَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ ، فَإِذَا غَسَّلَهُ بِالسِّدْرِ الميت صَبَّ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ الْمَاءَ الْقَرَاحَ ، وَكَانَ الِاجْتِنَابُ بِمَاءِ الْقَرَاحِ دُونَ مَاءِ السِّدْرِ ، فَإِنِ احْتَاجَ إِلَى غَسْلِهِ ثَانِيًا بِالسِّدْرِ أي الميت فَعَلَ ، وَإِنِ اكْتَفَى بِالْأَوَّلِ لَمْ يَعُدْ إِلَيْهِ وَاقْتَصَرَ عَلَى غَسْلِهِ بِالْمَاءِ الْقَرَاحِ ، فَإِنْ غَسَّلَهُ بِالسِّدْرِ فِي كُلِّ دُفْعَةٍ وَأَفَاضَ بَعْدَهُ مَاءَ الْقَرَاحِ جَازَ ، وَكَانَ الِاجْتِنَابُ بِمَاءِ الْقَرَاحِ دُونَ مَاءِ السِّدْرِ ، وَالْوَاجِبُ غَسْلُهُ مَرَّةً وَاحِدَةً ، وَأَدْنَى كَمَالِهِ ثَلَاثًا ، وَأَوْسَطُهُ خَمْسًا ، وَأَكْثَرُهُ سَبْعًا ، وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهَا سَرَفٌ .
فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَعْمِلَ فِي الْمَاءِ الْقَرَاحِ كَافُورًا يَسِيرًا لَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ فَيَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ ، فَإِنْ غَلَبَ عَلَيْهِ لَمْ يُحْتَسَبْ بِهِ فِي عِدَادِ غَسْلَاتِهِ . وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنَ اسْتِعْمَالِ الْكَافُورِ في غسل الميت . وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِأُمِّ عَطِيَّةَ الْخَفَّاضِيَّةِ حِينَ غَسَّلَتْ بِنْتَهُ " اغْسِلِيهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ ، وَاجْعَلِي فِي الْآخِرَةِ كَافُورًا أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ " . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَيُتْبِعُ مَا بَيْنَ أَظْفَارِهِ بِعُودٍ غسل الميت لَا يَجْرَحُ ؛ حَتَّى يُخْرِجَ مَا تَحْتَهَا مِنَ الْوَسَخِ ، وَإِنَّمَا اسْتُحِبَّ هَذَا ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ تَنْظِيفِ الْمَيِّتِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " اصْنَعُوا بِمَيِّتِكُمْ مَا تَصْنَعُونَ بِعَرُوسِكُمْ " . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَيَتَعَاهَدُ مَسْحَ بَطْنِهِ فِي كُلِّ غَسْلَةٍ غسل الميت ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ حَمَلَ هَذَا عَلَى ظَاهِرِهِ وَأَمَرَ أَنْ يَتَعَاهَدَ مَسْحَ بَطْنِهِ بِيَدِهِ وَهُوَ غَيْرُ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ فِي وَقْتِنَا ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالتَّعَاهُدِ تَفَقُّدَ الْمَوْضِعِ الْمَمْسُوسِ ؛ لِأَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْهُ شَيْءٌ فَيُفْسِدَهُ ، وَلَمْ يُرِدْ مُعَاهَدَةَ مَسْحِهِ بِيَدِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ أَنْقَاهُ بِالْخِرْقَةِ كَمَا وَصَفْتُ ، وَأَعَادَ عَلَيْهِ غَسْلَهُ ثُمَّ يُنَشَّفُ فِي ثَوْبٍ ثَمَّ يَصِيرُ فِي أَكْفَانِهِ الميت بعد غسله وَإِنْ غَسَلَ بِالْمَاءِ الْقَرَاحِ مَرَّةً أَجْزَأَهُ " .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَةُ ذَلِكَ : أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ بَعْدَ كَمَالِ غَسْلِهِ خَارِجٌ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : يُعِيدُ غُسْلَهُ ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ؛ لِأَنَّ الْخَارِجَ نَاقِضٌ لِحُكْمِ غَسْلِهِ ، وَلَيْسَ لِلْمَيِّتِ طَهَارَةٌ غَيْرَ غُسْلِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَغْسِلَ النَّجَاسَةَ وَيُوَضِّئَهُ كَالْحَيِّ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : يَغْسِلُ مَوْضِعَ النَّجَاسَةِ لَا غَيْرَ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِاسْتِقْرَارِ غُسْلِهِ وَاسْتِحَالَةِ الْحَدَثِ فِيهِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : " ثُمَّ يُنَشِّفُهُ فِي ثَوْبٍ ثُمَّ يَصِيرُ فِي أَكْفَانِهِ " وَإِنَّمَا أُمِرَ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُشِّفَ فِي ثَوْبٍ ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَمْسَكُ لِبَدَنِهِ وَأَوْفَى لِكَفَنِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ رَأَى حَلْقَ الشَّعْرِ وَتَقْلِيمَ الْأَظْفَارِ للميت وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَرَهُ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) وَتَرْكُهُ أَعْجَبُ إِلَيَّ لِأَنَّهُ يَصِيرُ إِلَى بِلًى عَنْ قَلِيلٍ ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ حُسْنَ ذَلِكَ الْمَصِيرِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا أَخْذُ شَعْرِهِ وَتَقْلِيمُ ظُفُرِهِ فَغَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ إِذَا كَانَ يَسِيرًا ، وَإِنْ طَالَ ذَلِكَ وَفَحُشَ فَأَخْذُهُ غَيْرُ وَاجِبٍ ، وَفِي اسْتِحْبَابِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ : إِنَّ أَخْذَهُ مَكْرُوهٌ وَتَرْكَهُ أَوْلَى ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالْمُزَنِيِّ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْخِتَانُ الْوَاجِبُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ لَا يُفْعَلُ بَعْدَ الْوَفَاةِ كَانَ هَذَا أَوْلَى ، وَلِأَنَّهُ لَوْ وَصَلَ عَظْمَهُ بِعَظْمٍ نَجِسٍ كَانَ مَأْخُوذًا بِقَلْعِهِ فِي الْحَيَاةِ وَلَا يُؤْمَرُ بِقَلْعِهِ بَعْدَ الْوَفَاةِ فَهَذَا أَوْلَى ، قَالَ الْمُزَنِيُّ : لِأَنَّهُ يَصِيرُ إِلَى بِلًى عَنْ قَلِيلٍ ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ خَيْرَ ذَلِكَ الْمَصِيرِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ أَنَّ أَخْذَهُ مُسْتَحَبٌّ وَتَرْكَهُ مَكْرُوهٌ ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " اصْنَعُوا بِمَيِّتِكُمْ مَا تَصْنَعُونَ بِعَرُوسِكُمْ " وَلِأَنَّ تَنْظِيفَ سِنٍّ فِي حَالِ الْحَيَاةِ مِنْ غَيْرِ أَلَمٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَحَبَّ بَعْدَ الْوَفَاةِ كَإِزَالَةِ الْأَنْجَاسِ ، فَعَلَى هَذَا يُخْتَارُ أَنْ يُؤْخَذَ شَعْرُ عَانَتِهِ وَإِبِطَيْهِ بِالنَّوْرَةِ لَا بِالْمُوسَى الميت ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَرْفَقُ بِهِ ، وَيُقَصِّرُ شَعْرَ شَارِبِهِ وَلَا يَحْلِقُ ، وَيَتْرُكُ لِحْيَتَهُ وَلَا يَمَسَّهَا ، فَأَمَّا شَعْرُ رَأْسِهِ فَإِنْ كَانَ ذَا جُمَّةٍ فِي حَيَاتِهِ تُرِكَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَا جُمَّةٍ حُلِقَ ، وَيُقَلِّمُ أَظْفَارَ أَطْرَافِهِ ، ثُمَّ حُكِيَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّ ذَلِكَ يُدْفَنُ مَعَهُ ، وَالِاخْتِيَارُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ خَبَرٌ يُعْمَلُ عَلَيْهِ وَلَا أَثَرٌ يُسْتَنَدُ إِلَيْهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يُقَرِّبُ الْمُحْرِمَ الطِّيبَ فِي غُسْلِهِ وَلَا حَنُوطِهِ وَلَا يُخَمِّرُ رَأْسَهُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " كَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ اللَّذَيْنَ مَاتَ فِيهِمَا وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ "
وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا " وَإِنَّ ابْنًا لِعُثْمَانَ تُوفِيِّ مُحْرِمًا فَلَمْ يُخَمِّرْ رَأْسَهُ وَلَمْ يُقَرِّبْهُ طِيبًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ كَمَا قَالَ : الْإِحْرَامُ لَا يَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ ، فَإِذَا مَاتَ الْمُحْرِمُ تغسيله لَمْ يُغَطَّ رَأْسُهُ ، وَلَمْ يُمَسَّ طِيبًا ، وَلَمْ يُلْبَسْ مَخِيطًا ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ : عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ . وَمِنَ التَّابِعِينَ : عَطَاءٌ . وَمِنَ الْفُقَهَاءِ : سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٌ : قَدِ انْقَطَعَ عَنْهُ إِحْرَامُهُ بِالْمَوْتِ ، وَجَازَ تَطْيِيبُهُ وَتَغْطِيَةُ رَأْسِهِ . وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " خَمِّرُوا مَوْتَاكُمْ وَلَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ " . وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ " إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ : صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ ، وَعِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ ، وَوَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ " . فَدَلَّ عَلَى انْقِطَاعِ إِحْرَامِهِ . قَالُوا : وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ شَرْعِيَّةٌ فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ حُكْمُهَا بِالْمَوْتِ كَالصَّلَاةِ ، قَالُوا وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يَتَعَلَّقُ بِهَا تَحْرِيمُ الطِّيبِ فَوَجَبَ أَنْ يَنْقَطِعَ حُكْمُهَا بِالْمَوْتِ كَالْعِدَّةِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حُكْمُ إِحْرَامِهِ بَاقِيًا بَعْدَ مَوْتِهِ لَوَجَبَتِ الْفِدْيَةُ فِي تَطْيِيبِهِ وَتَغْطِيَةِ رَأْسِهِ ، كَمَنْ طَيَّبَ مَجْنُونًا مُحْرِمًا ، فَلَمَّا لَمْ تَجِبِ الْفِدْيَةُ عَلَى مَنْ فَعَلَ بِهِ دَلَّ عَلَى انْقِطَاعِ إِحْرَامِهِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا قُلْنَا : رِوَايَةُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : " كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَّ رَجُلٌ عَنْ بَعِيرِهِ فَوُقِصَ فَمَاتَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ اللَّذَيْنِ مَاتَ فِيهِمَا ، وَلَا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا فَإِنَهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا " . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ عَلَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ قَالَ : " يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا " وَعَلَّقَ الْحُكْمَ بِهِ ، وَلَيْسَ يُعْلَمُ هَلْ يُبْعَثُ غَيْرُهُ مُلَبِّيًا أَمْ لَا ؟ قُلْنَا : إِنَّمَا عَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْحُكْمَ بِمَوْتِهِ مُحْرِمًا لَا لِأَنَّهُ يُبْعَثُ مُلَبِّيًا ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " مَنْ مَاتَ مُحْرِمًا يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا " وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ " حُرْمَةٌ الْمُسْلِمِ بَعْدَ مَوْتِهِ كَحُرْمَتِهِ قَبْلَ
مَوْتِهِ ، وَكَسْرُ عَظْمِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ كَكَسْرِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ " . فَسَوَّى بَيْنَ حُرْمَتِهِمَا فَاقْتَضَى تَسَاوِي حُكْمِهِمَا . وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " يُحْشَرُ الْمَرْءُ فِي ثَوْبَيْهِ الَّذَيْنِ مَاتَ فِيهِمَا " . قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ : يُحْشَرُ فِي عَمَلِهِ الصَّالِحِ وَالطَّالِحِ ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى ثُبُوتِ إِحْرَامِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ لَا يَخْرُجُ مِنْهُ بِالْجُنُونِ فَجَازَ أَنْ يَبْقَى بَعْضُ أَحْكَامِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ كَالنِّكَاحِ ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ ثَبَتَتْ حُكْمًا ، يَفْعَلُهُ تَارَةً وَيَفْعَلُ غَيْرَهُ أُخْرَى ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَبْطُلَ حُكْمُهَا بِالْمَوْتِ كَالْإِيمَانِ ، وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يُزِيلُ التَّكْلِيفَ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَبْطُلَ حُكْمُ الْإِحْرَامِ كَالْإِغْمَاءِ وَالْجُنُونِ ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ مُحَرَّمًا فِي حَيَاتِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَزُولَ تَحْرِيمُهُ بِوَفَاتِهِ كَالْحَرِيرِ وَالثَّوْبِ الْمَغْصُوبِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " خَمِّرُوا رُءُوسَ مَوْتَاكُمْ " فَالْمُرَادُ بِهِ مَنْ سِوَى الْمُحْرِمِ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ : " وَلَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ " وَلَيْسَ فِي الْيَهُودِ مُحْرِمٌ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ " . فَهُوَ أَنَّ هَذَا لَوْ لَزِمَنَا فِي سَائِرِ الْمُحْرِمِينَ لَلَزِمَهُمْ فِي الْمُحْرِمِ الَّذِي حَكَمَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يُغَطَّى رَأْسُهُ ، فَلَمَّا لَمْ يَمْتَنِعْ لَهُمْ تَخْصِيصُ ذَلِكَ الْمُحْرِمِ لَمْ يَمْتَنِعْ لَنَا تَخْصِيصُ سَائِرِ الْمُحْرِمِينَ ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ فِي خَبَرٍ " انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ خَمْسٍ " ذَكَرَ فِيهَا " حَجٍّ يُؤَدَّى وَدِينٍ يُقْضَى " فَثَبَتَ بِنَصِّ الْخَبَرِ تَخْصِيصُ الْمُحْرِمِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ ، فَالْمَعْنَى فِي الصَّلَاةِ : أَنَّهَا تَبْطُلُ بِالْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ فَلَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ فِيهَا نَصٌّ ، وَلِأَصْحَابِنَا فِيهَا اخْتِلَافٌ ، عَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ : إِنَّ حُكْمَ الْعِدَّةِ بَاقٍ ، فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ سُؤَالُهُمْ ، وَعَلَى قَوْلِ غَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا قَدِ انْقَطَعَ حُكْمُ الْعِدَّةِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْإِحْرَامِ أَنَّ الْعِدَّةَ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ عَلَى بَدَنٍ فَانْقَطَعَ حُكْمُهُ بِالْمَوْتِ وَالْإِسْلَامِ ، وَأَمَّا سُقُوطُ الْعِدَّةِ فَلِأَجْلِ عَدَمِ الِاسْتِمْتَاعِ ، وَتَحْرِيمُ الطِّيبِ بَاقٍ لِأَجْلِ الْإِحْرَامِ ، كَالْمَيِّتِ يَحْرُمُ تَكْسِيرُ عَظْمِهِ لِبَقَاءِ حُرْمَتِهِ ، وَسَقَطَ أَرْشُهُ لِزَوَالِ مَنْفَعَتِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَأُحِبُّ أَنْ يَكُونَ بِقُرْبِ الْمَيِّتِ مِجْمَرَةٌ لَا تَنْقَطِعُ حَتَى يَفْرُغَ مِنْ غَسْلِهِ ، فَإِذَا رَأَى مِنَ الْمَيِّتِ شَيْئًا لَا يَتَحَدَّثُ بِهِ لِمَا عَلَيْهِ مِنْ سِتْرِ أَخِيهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا اسْتِحْدَاثُ الْمِجْمَرِ مِنْ حِينِ غَسْلِهِ إِلَى وَقْتِ الْفَرَاغِ مِنْهُ ؛ فَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " اصْنَعُوا بِمَيِّتِكُمْ مَا تَصْنَعُونَ بِعَرُوسِكُمْ " وَلِيَقْطَعَ رَائِحَةً إِنْ نَدَرَتْ مِنْهُ ؛ صِيَانَةً لَهُ وَمَنْعًا مِنْ أَذَى مَنْ حَضَرَهُ ، وَأَمَّا كِتْمَانُهُ لِمَا يَرَى مِنْ تَغْيِيرِ الْمَيِّتِ وَسُوءِ أَمَارَةٍ فَمَأْمُورٌ بِهِ لَا يَحِلُّ لِلْغَاسِلِ أَنْ يَتَحَدَّثَ بِهِ ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ " مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا فَكَتَمَ عَلَيْهِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ أَرْبَعِينَ
مَرَّةً " . فَأَمَّا مَا يَرَى مِنْ مَحَاسِنِهِ فَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا ، يَأْمُرُ بِسِتْرِهَا وَيَمْنَعُ مِنَ الْإِخْبَارِ بِهَا ، لِأَنَّهَا رُبَّمَا كَانَتْ عِنْدَهُ مَحَاسِنَ وَعِنْدَ غَيْرِهِ مَسَاوِئَ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِإِذَاعَتِهَا وَمَنْدُوبٌ إِلَى الْإِخْبَارِ بِهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَبْعَثُ عَلَى كَثْرَةِ الدُّعَاءِ لَهُ وَالتَّرَحُّمِ عَلَيْهِ ، وَقَدْ كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ يَذْكُرُ مِنْ أَحْوَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غُسْلِهِ مَا رَآهُ مِنَ النُّورِ وَشَمَّهُ مِنْ رَوَائِحِ الْجَنَّةِ وَمَا كَانَ مِنْ مَعُونَةِ الْمَلَائِكَةِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَأَوْلَاهُمْ بِغُسْلِهِ أَوْلَاهُمْ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَيِّتُ رَجُلًا فَأَوْلَى أَهْلِهِ أَنْ يُغَسِّلَهُ أَوْلَاهُمْ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ ، فَيَكُونُ أَقْرَبُ عِصَابَتِهِ أَوْلَى بِغُسْلِهِ مِنْ زَوْجَاتِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ امْرَأَةً : فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ ذَاتِ زَوْجٍ فَأَحَقُّ عِصَابَتِهَا بِغَسْلِهَا أَحَقُّ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهَا ، وَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ أي المرأة فمن يتولى غسلها فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْعَصَبَةَ مِنْ ذَوِي مَحَارِمِهَا أَوْلَى بِغَسْلِهَا مِنَ الزَّوْجِ لِأَنَّهُمْ أَوْلَى بِالصَّلَاةِ عَلَيْهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ وَبِهِ قَالَ : إِنَّ الزَّوْجَ أَحَقُّ بِغَسْلِهَا وَإِنْ كَانَ عَصَبَتُهَا أَحَقَّ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَنْظُرَ مِنْهَا مَا لَيْسَ لِلْعَصَبَاتِ النَّظَرُ إِلَيْهِ .
مَسْأَلَةٌ : الْمَرْأَةُ تُغَسِّلُ زَوْجَهَا الْمَيِّتَ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيُغَسِّلُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ وَالْمَرْأَةُ زَوْجَهَا ، غَسَّلَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ زَوْجَهَا أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَعَلِيٌّ امْرَأَتَهُ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ : لَوِ اسْتَقْبَلْنَا مِنْ أَمْرِنَا مَا اسْتَدْبَرْنَا مَا غَسَّلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا نَسَاؤُهُ ( قَالَ ) وَلَيْسَ لِلْعِدَّةِ مَعْنًى ، يَحِلُّ لِأَحَدِهِمَا فِيهَا مَا لَا يَحِلُّ لَهُ مِنْ صَاحِبِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ : أَمَّا الزَّوْجَةُ فَلَهَا أَنْ تُغَسِّلَ زَوْجَهَا إِذَا مَاتَ ، لَا يُعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ ، لِمَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ : أَوْصَى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يُغَسِّلَهُ زَوْجَتُهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ ، وَقَالَ : " إِنْ كُنْتِ صَائِمَةً فَأَفْطِرِي ، وَيُعِينُكِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي
بِكْرٍ " ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : فَغَسَّلَتْهُ وَهِيَ صَائِمَةٌ ثُمَّ ذَكَرَتْ عَزْمَةَ أَبِي بَكْرٍ فَدَعَتْ بِمَاءٍ فَشَرِبَتْهُ وَقَالَتْ : كِدْتُ أُتْبِعُهُ مَعْصِيَةً . وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : " لَوِ اسْتَقْبَلْنَا مِنْ أَمْرِنَا مَا اسْتَدْبَرْنَا مَا غَسَّلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا نِسَاؤُهُ " فَأَمَّا إِذَا مَاتَتِ الزَّوْجَةُ فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ لِزَوْجِهَا أَنْ يُغَسِّلَهَا أَمْ لَا ؟ . فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ : لَا يَجُوزُ لَهُ غُسْلُهَا اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى امْرِئٍ يَنْظُرُ إِلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ وَبِنْتِهَا " . ، قَالُوا : فَلَمَّا جَازَ لَهُ الْعَقْدُ عَلَى بِنْتِ امْرَأَتِهِ إِذَا مَاتَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ وَاسْتَبَاحَ بِالْعَقْدِ النَّظَرَ إِلَى فَرْجِهَا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ قَدْ حَرُمَ عَلَيْهِ النَّظَرُ إِلَيْهَا ؛ لِأَنْ لَا يَكُونَ نَاظِرًا إِلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ وَبِنْتِهَا ، قَالُوا : وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ لَهُ الْعَقْدُ عَلَى أُخْتِ زَوْجَتِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ النَّظَرُ إِلَى زَوْجَتِهِ ، كَالْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّهُ لَمَّا حَلَّ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ غَيْرَهَا لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يُغَسِّلَهَا ، وَلَمَّا لَمْ يَحِلَّ لَهَا أَنْ تَنْكِحَ غَيْرَهُ حَلَّ لَهَا أَنْ تُغَسِّلَهُ لِارْتِفَاعِ الْعِصْمَةِ بِمَوْتِهَا وَبَقَاءِ الْعِصْمَةِ بِمَوْتِهِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ : مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : " وَارَأْسَاهُ " فَقُلْتُ : لَا بَلْ وَارَأْسَاهُ فَقَالَ : " مَا عَلَيْكِ لَوْ مِتِّ قَبْلِي لَغَسَّلْتُكِ وَكَفَّنْتُكِ " . فَلَمَّا أَخْبَرَهَا أَنَّهَا لَوْ مَاتَتْ قَبْلَهُ لَغَسَّلَهَا ، وَقَدْ أَخْبَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ سَيَمُوتُ : دَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ بِذَلِكَ بَيَانَ حُكْمِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَزْوَاجِ مَعَ غَيْرِهَا مِنَ الزَّوْجَاتِ ، وَرَوَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ أَنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَامُ أَوْصَتْ أَنْ يُغَسِّلَهَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَتْ أَسْمَاءُ : فَغَسَّلَهَا عَلِيٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنَا مَعَهُ ثُمَّ لَمْ يَكُنْ مِنَ الصَّحَابَةِ مُنْكِرًا فِعْلَهُ ، فَدَلَّ أَنَّهُ إِجْمَاعٌ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّمَا جَازَ لَهُ أَنْ يُغَسِّلَهَا لِبَقَاءِ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " كُلُّ سَبَبٍ وَنَسَبٍ يَنْقَطِعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا سَبَبِي وَنَسَبِي " . قُلْنَا : قَدْ بَيَّنَ مَعْنَى ذَلِكَ ، وَأَنَّهُ فِي الْآخِرَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ،
وَالنِّكَاحُ فِي الدُّنْيَا مُرْتَفِعٌ بِالْمَوْتِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَزَوَّجَ أُمَامَةَ بِنْتَ أَبِي الْعَاصِي بَعْدَ فَاطِمَةَ وَهِيَ بِنْتُ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَتَزَوَّجَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِنْتَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحِدَةً بَعْدَ أُخْرَى ، فَلَوْ كَانَ سَبَبُ النِّكَاحِ بَاقِيًا ؛ لَحَرُمَ عَلَى عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَزْوِيجُ أُمَامَةَ ، وَعَلَى عُثْمَانَ تَزْوِيجُ أُمِّ كُلْثُومٍ بَعْدَ رُقَيَّةَ ، وَلِأَنَّهَا زَوْجِيَّةٌ زَالَتْ بِالْوَفَاةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِهَا تَحْرِيمُ النَّظَرِ قِيَاسًا عَلَى مَوْتِ الزَّوْجِ ، وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يُزِيلُ التَّكْلِيفَ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْرُمَ كَالْجُنُونِ ، وَلِأَنَّ أُصُولَ النِّكَاحِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ أَوْجَبَ تَحْرِيمَ نَظَرِ أَحَدِهِمَا لَمْ يُوجِبْ تَحْرِيمَ نَظَرِ الْآخَرِ كَالْإِيلَاءِ وَالظِّهَارِ ، فَلَمَّا كَانَ الْمَوْتُ لَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ نَظَرِ الزَّوْجِ اقْتَضَى أَنْ لَا يُوجِبَ تَحْرِيمَ نَظَرِ الزَّوْجَةِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى امْرِئٍ يَنْظُرُ إِلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ وَبِنْتِهَا " فَقَدْ قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ : الْمُرَادُ بِهِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فِي النِّكَاحِ ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُمْنَعُ مِنَ النَّظَرِ إِلَى فَرْجِهَا ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الطَّلَاقِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ لَهَا النَّظَرُ إِلَيْهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهَا ، وَلَمَّا جَازَ لَهَا النَّظَرُ فِي الْمَوْتِ إِلَيْهِ جَازَ لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : إِنَّهُ لَمَّا كَانَ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ غَيْرَهَا لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يُغَسِّلَهَا : فَدَعْوَى لَا بُرْهَانَ عَلَيْهَا ، وَلَيْسَ تَفَرُّدُهَا بِالْعِدَّةِ مُوجِبًا لِتَفَرُّدِهَا لِعِصْمَةِ الزَّوْجِيَّةِ ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي إِبَاحَةِ النَّظَرِ وَحَظْرِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا وَمَاتَ فِي عِدَّتِهَا لَمْ يَحِلَّ لَهَا النَّظَرُ إِلَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ فِي عِدَّةٍ مِنْهُ ، وَلَوْ مَاتَ مِنْهَا وَهِيَ حَامِلٌ فَوَضَعَتْ قَبْلَ غُسْلِهِ جَازَ لَهَا النَّظَرُ إِلَيْهِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي عِدَّةٍ مِنْهُ ، فَعَلِمَ أَنَّ ثُبُوتَ الْعِدَّةِ كَعَدَمِهَا فِي إِبَاحَةِ النَّظَرِ وَحَظْرِهِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يُغَسِّلَ زَوْجَتَهُ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُغَسِّلَهَا ذَاتُ مَحْرَمٍ مِنْ نِسَاءِ أَهْلِهَا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَذَاتُ رَحِمٍ مِنْهُنَّ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَامْرَأَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ أَوْلَى بِالنِّسَاءِ ، وَالزَّوْجُ أَوْلَى الرِّجَالِ بِزَوْجَتِهِ ، فَلَوْ أَنَّ مُسْلِمًا مَاتَتْ لَهُ زَوْجَةٌ ذِمِّيَّةٌ جَازَ لَهُ أَنْ يُغَسِّلَهَا إِنْ رَضِيَ أَوْلِيَاؤُهَا مِنْ أَهْلِ مِلَّتِهَا ، وَلَوْ أَنَّ مُسْلِمًا مَاتَ وَلَهُ زَوْجَةٌ ذِمِّيَّةٌ فهل لها غسله ؟ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : كَرِهْتُ أَنْ تُغَسِّلَهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فَرْضٌ عَلَى أَهْلِ دِينِهِ الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنْ غَسَّلَتْهُ جَازَ ؛ لِحُصُولِ الْغُسْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَلَوْ أَنَّ مَيِّتًا غَسَّلَهُ السَّيْلُ أَوِ الْمَطَرُ فهل يجزه ؟ لَمْ يُجْزِهِ وَإِنْ كَانَ الْغُسْلُ مَوْجُودًا ، قُلْنَا : لِأَنَّ الْغُسْلَ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَيِّتِ وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْنَا فِي الْمَيِّتِ ، فَإِذَا غَسَّلَهُ السَّيْلُ وَالْمَطَرُ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ مِنَّا لَمْ يُوجَدْ ، وَكَذَا الْغَرِيقُ غُسْلُهُ وَاجِبٌ لِمَا ذَكَرْنَا ، فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا وَجَبَتِ النِّيَّةُ فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ لِأَنَّهَا طَهَارَةٌ وَاجِبَةٌ ، قُلْنَا : فِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ النِّيَّةَ وَاجِبَةٌ لِأَنَّهَا طَهَارَةٌ وَاجِبَةٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ النِّيَّةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَهُوَ أَشْبَهُ بِنَصِّ الشَّافِعِيِّ ، لِأَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ لَا يَتَعَيَّنُ عَلَى شَخْصٍ دُونَ شَخْصٍ ، فَلَمَّا لَمْ تَجِبْ فِيهِ النِّيَّةُ وَإِنْ وَجَبَتْ فِي غَيْرِهِ .
فَصْلٌ : يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ أَنْ يُغَسِّلَ أُمَّ وَلَدِهِ إِذَا مَاتَتْ ، وَكَذَلِكَ أَمَتَهُ وَمُدَبَّرَتَهُ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الرِّقِّ فِي جَمِيعِهِمْ بَاقٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ مُؤْنَةُ دَفْنِهِمْ بَعْدَ الْوَفَاةِ كَمَا كَانَ يَلْزَمُهُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِمْ فِي الْحَيَاةِ ، فَإِذَا مَاتَ السَّيِّدُ لَمْ يَكُنْ لِأَمَتِهِ وَلَا لِمُدَبَّرَتِهِ وَلَا لِأُمِّ وَلَدِهِ أَنْ تُغَسِّلَهُ ، أَمَّا الْأَمَةُ فَلِأَنَّهَا صَارَتْ مِلْكًا لِوَرَثَتِهِ ، وَأَمَّا الْمُدَبَّرَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ فَلِزَوَالِ الرِّقِّ عَنْهُمَا ، وَارْتِفَاعِ الْعَصَبَةِ بَيْنَ السَّيِّدِ وَبَيْنَهُمَا . فَإِنْ قِيلَ : فَالنِّكَاحُ يَرْتَفِعُ بِالْمَوْتِ كَمَا أَنَّ الرِّقَّ يَرْتَفِعُ بِالْمَوْتِ ثُمَّ لَمْ يَكُنِ ارْتِفَاعُ النِّكَاحِ مَانِعًا مِنْ جَوَازِ الْغُسْلِ ، كَذَلِكَ أَيْضًا لَا يَكُونُ ارْتِفَاعُ الرِّقِّ مَانِعًا مِنْ جَوَازِ الْغُسْلِ ؟ قُلْنَا : وُجُودُ النِّكَاحِ مُوجِبٌ لِلِاسْتِبَاحَةِ ، فَإِذَا اتَّصَلَتِ الِاسْتِبَاحَةُ بِالْمَوْتِ جَازَ أَنْ يَبْقَى لَهَا حُكْمٌ بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَلَيْسَ دَوَامُ الْوَالِدَةِ وَالْمُدَبَّرَةِ مُوجِبٌ لِاسْتِبَاحَتِهَا ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرِّقُّ فِيهَا مَوْجُودًا وَهُمَا فِي إِبَاحَةِ زَوْجٍ ، فَضَعُفَ الرِّقُّ عَنْ مَعْنَى النِّكَاحِ وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِ فِي بَقَاءِ الِاسْتِبَاحَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْخُنْثَى الْمُشْكَلُ هل يغسل فَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا : إِنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ التَّيَمُّمُ دُونَ الْغُسْلِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْعِرَاقِ ، وَلِأَنَّ الْوَجْهَ وَالْيَدَيْنِ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ فِي الرِّجَالِ وَلَا فِي النِّسَاءِ فَجَازَ لِكِلَا الْفَرِيقَيْنِ النَّظَرُ إِلَيْهِ ، وَلَمْ يَجُزْ لَهَا النَّظَرُ إِلَى جَسَدِهِ ، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ رَجُلًا فَيَحْرُمُ عَلَى النِّسَاءِ ، وَقَدْ يَكُونُ امْرَأَةً فَيَحْرُمُ عَلَى الرِّجَالِ . وَهَذَا غَلَطٌ ، وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فُرِضَ عَلَى أُمَّتِي غُسْلُ مَوْتَاهَا " وَلَوْ جَازَ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ غُسْلِهِ لِإِشْكَالِ عَوْرَتِهِ لَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ بِذَلِكَ مِنْ تَيَمُّمِهِ ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ فِي الْوَجْهِ وَالذِّرَاعَيْنِ ، وَعَوْرَةُ الْمَرْأَةِ فِي ذِرَاعَيْهَا كَعَوْرَتِهَا فِي سَائِرِ جَسَدِهَا ، وَإِنَّمَا الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ لَيْسَا بِعَوْرَةٍ ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مُبَاشَرَتَهُ بِحَرَامٍ كَمُبَاشَرَةِ سَائِرِ الْجَسَدِ ، فَكَانَ التَّيَمُّمُ فِي تَحْرِيمِ الْمُبَاشَرَةِ مُسَاوِيًا لِلْغُسْلِ ، فَإِذَا تَسَاوَيَا فَاسْتِعْمَالُ الْغُسْلِ الْوَاجِبِ أَوْلَى ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ غُسْلَ الْخُنْثَى وَاجِبٌ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُغَسَّلَ فِي قَمِيصٍ ، وَيَكُونَ مَوْضِعُ غُسْلِهِ مُظْلِمًا ، وَيَتَوَلَّى غُسْلَهُ أَوْثَقُ مَنْ يُقْدَرُ عَلَيْهِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمَرْأَةُ إِذَا مَاتَتْ فِي مَوْضِعٍ لَيْسَ بِهِ إِلَّا الرِّجَالُ الْأَجَانِبُ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ وَكَثِيرٍ مِنْهُمْ ، تُيَمَّمُ وَلَا تُغَسَّلُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : تُغَسَّلُ فِي قَمِيصٍ ، وَيَلُفُّ عَلَى يَدِهِ خِرْقَةً كَيْ لَا يَمَسَّهَا ، وَيَغُضُّ بَصَرَهُ وَهَذَا أَصَحُّهُمَا عِنْدِي . وَلَوْ كَانَ الْمَيِّتُ رَجُلًا فِي مَوْضِعٍ لَيْسَ بِهِ إِلَّا النِّسَاءُ الْأَجَانِبُ فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّهُنَّ يُغَسِّلْنَهُ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُيَمَّمَ ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ إِيجَابَ غُسْلِ الْمَرْأَةِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيُغَسِّلُ الْمُسْلِمُ قَرَابَتَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَيَتْبَعُ جِنَازَتَهُ وَلَا يُصَلِّي عَلَيْهِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ عَلِيًّا فَغَسَّلَ أَبَا طَالِبٍ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : " إِذَا مَاتَ الْمُشْرِكُ وَلَهُ قَرَابَةٌ مُسْلِمُونَ فهل يغسلونه فَلَهُمْ أَنْ يُغَسِّلُوهُ وَيُكَفِّنُوهُ وَيَتْبَعُوا جِنَازَتَهُ " وَكَرِهَ مَالِكٌ ذَلِكَ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا . [ لُقْمَانَ : ] ، وَرُوِيَ عَنْ نَاجِيَةَ بْنِ كَعْبٍ ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : لَمَّا مَاتَ أَبُو طَالِبٍ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ مَاتَ عَمُّكَ الضَّالُّ . فَقَالَ : " غَسِّلْهُ وَكَفِّنْهُ وَوَارِهِ وَلَا تُصَلِّ عَلَيْهِ " فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ غَسْلِهِ وَدَفْنِهِ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا عَلَيْهِ وَلَا يَزُورُوا قَبْرَهُ ، وَلَا يَدْعُوا لَهُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ ، [ التَّوْبَةِ : ] ، وَقَالَ تَعَالَى : مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى ، [ التَّوْبَةِ : ] فَأَمَّا إِنْ تَرَكَ الْمُشْرِكُ قَرَابَةً مُشْرِكِينَ وَمُسْلِمِينَ فمن أولى بتغسيله ، فَالْمُشْرِكُونَ أَوْلَى بِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، لِاسْتِوَائِهِمْ فِي الْقَرَابَةِ وَزِيَادَتِهِمْ بِالْمِلَّةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ عَدَدِ الْكَفَنِ وَكَيْفَ الْحَنُوطُ
بَابُ عَدَدِ الْكَفَنِ وَكَيْفَ الْحَنُوطُ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَأَحَبُّ عَدَدِ الْكَفَنِ إِلَيَّ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ بِيضٍ رِيَاطٍ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سُحُولِيَّةٍ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ صَحِيحٌ . أَمَّا تَكْفِينُ الْمَوْتَى حكمه وَاجِبٌ إِجْمَاعًا ، بِهِ وَرَدَتِ السُّنَّةُ وَعَلَيْهِ جَرَى الْعَمَلُ ، إِذَا كَانَ وَاجِبًا انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى عَدَدِهِ وَصِفَتِهِ ، فَأَمَّا عَدَدُهُ فَالْمُخْتَارُ فِيهِ وَمَا جَرَى الْعَمَلُ بِهِ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ ، لِرِوَايَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : كُفِّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سُحُولِيَّةٍ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَإِنْ كُفِّنَ فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ جَازَ وَلَا يُزَادُ عَلَى الْخَمْسَةِ ؛ لِرِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَا تُغَالُوا فِي الْكَفَنِ فَإِنَهُ يُسْلَبُ سَلْبًا سَرِيعًا " فَإِنْ كُفِّنَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ يَسْتُرُ جَمِيعَ بَدَنِهِ جَازَ ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ ، وَكَانَتْ لَهُ نَمِرَةٌ وَاحِدَةٌ إِنْ غَطَّى بِهَا رَأْسَهُ بَدَتْ رِجْلَاهُ ، وَإِنْ غَطَّى بِهَا رِجْلَاهُ بَدَا رَأْسُهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " غَطُّوا رَأْسَهُ وَاطْرَحُوا عَلَى قَدَمَيْهِ شَيْئًا مِنَ الْإِذْخِرِ " . فَإِنْ غَطَّى مِنَ الْمَيِّتِ قَدْرَ عَوْرَتِهِ فهل يجزىء هذا ، وَذَلِكَ مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ وَرُكْبَتِهِ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَقَدْ أَسْقَطَ الْفَرْضَ ، وَلَكِنْ أَخَلَّ بِحَقِّ الْمَيِّتِ ، وَإِنَّمَا أُجِيزَ ؛ لِأَنَّ نَمِرَةَ مُصْعَبٍ لَمْ تَسْتُرْ جَمِيعَ بَدَنِهِ فَلَمْ يَأْمُرْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُكَفَّنَ فِي غَيْرِهِ ، وَلِأَنَّهُ يَجِبُ مِنْ سِتْرِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ مَا كَانَ يَجِبُ مِنْ سِتْرِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ، وَذَلِكَ قَدْرُ عَوْرَتِهِ .
فَصْلٌ في صِفَة الْأَكْفَانِ
فَصْلٌ : فَأَمَّا صِفَةُ الْأَكْفَانِ فَيُخْتَارُ أَنْ تَكُونَ بِيضًا ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " خَيْرُ ثِيَابِكُمُ الْبَيَاضُ فَأَلْبِسُوهَا أَحْيَاءَكُمْ وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ " . وَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ رِيَاطٍ سُحُولِيَّةٍ ، فَالرِّيَاطُ هِيَ الْأُزُرُ الْبِيضُ الْخِفَافُ الَّتِي لَا فَقَّ فِيهَا وَلَا خِيَاطَةَ ، وَالسُّحُولِيَّةُ الْمَنْسُوبَةُ إِلَى قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الْيَمَنِ يُقَالُ لَهَا سُحُولُ ، وَيُخْتَارُ أَنْ تَكُونَ الثِّيَابُ الْبَيَاضُ جُدُدًا لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ ، وَاخْتَارَ مَالِكٌ الْعِمَامَةَ لِلْمَيِّتِ رَجُلًا كَانَتْ أَوِ امْرَأَةً ، وَاخْتَارَ أَبُو حَنِيفَةَ الْقَمِيصَ للميت . فَأَمَّا مَالِكٌ فَإِنَّهُ عَوَّلَ عَلَى أَنَّهُ فِعْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ عُمِّمَ فِي كَفَنِهِ . وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ اسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كُفِّنَ فِي قَمِيصٍ ، وَلِأَنَّهُ أَجْمَلُ زِيِّ الْأَحْيَاءِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ سُنَّةً فِي الْمَوْتَى كَالْإِزَارِ . وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ غَيْرُ صَحِيحٍ ، لِرِوَايَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " كُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ " وَلِأَنَّهُ مَلْبُوسٌ مُنِعَ مِنْهُ الْمُحْرِمُ فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ الْمَيِّتُ كَالسَّرَاوِيلِ ، فَأَمَّا تَعْمِيمُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَغَيْرُ صَحِيحٍ ، وَإِنَّمَا كَانَتْ عِصَابَةً شَدَّ بِهَا رَأْسَهُ لِأَجْلِ الضَّرْبَةِ الَّتِي كَانَتْ بِهِ ، وَأَمَّا مَا رُوِيَ أَنَّهُ كُفِّنَ فِي قَمِيصٍ فَأَمَّا الرِّوَايَةُ أَنَّهُ غُسِّلَ فِي قَمِيصٍ ؛ لِأَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَخْبَرَتْ بِخِلَافِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيُجَمَّرُ بِالْعُودِ الميت حَتَى يَعْبَقَ بِهَا ثُمَّ يَبْسُطُ أَحْسَنَهَا وَأَوْسَعَهَا ثُمَّ الثَّانِيَةُ عَلَيْهَا ثُمَّ الَّتِي تَلِي الْمَيِّتَ وَيَذَرُ فِيمَا بَيْنَهَا الْحَنُوطَ ، ثُمَّ يُحْمَلُ الْمَيِّتُ فَيُوضَعُ فَوْقَ الْعُلْيَا مِنْهَا مُسْتَلْقِيًا ، ثُمَّ يَأْخُذُ شَيْئًا مِنْ قُطْنٍ مَنْزُوعِ الْحَبِّ فَيَجْعَلُ فِيهِ الْحَنُوطَ وَالْكَافُورَ ثُمَّ
يُدْخِلُهُ بَيْنَ إِلْيَتَيْهِ إِدْخَالًا بَلِيغًا وَيُكْثِرُ ؛ لِيَرُدَّ شَيْئًا إِنْ جَاءَ مِنْهُ عِنْدَ تَحْرِيكِهِ إِذَا حُمِلَ وَزُعْزِعَ ، وَيَشُدُّ عَلَيْهِ خِرْقَةً مَشْقُوقَةَ الطَّرَفِ تَأْخُذُ إِلْيَتَيْهِ وَعَانَتَهُ ثُمَّ يَشُدُّ عَلَيْهِ كَمَا يُشَدُّ التُّبَّانُ الْوَاسِعُ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) لَا أُحِبُّ مَا قَالَ مِنْ إِبْلَاغِ الْحَشْوِ للميت حكمه وما يجوز منه ومالايجوز ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ قُبْحًا يَتَنَاوَلُ بِهِ حُرْمَتَهُ ، وَلَكِنْ يُجْعَلُ كَالْمَوْزَةِ مِنَ الْقُطْنِ فِيمَا بَيْنَ إِلْيَتَيْهِ وَسُفْرَةُ قُطْنٍ تَحْتَهَا ، ثُمَّ يُضَمُّ إِلَى إِلْيَتَيْهِ وَالشَّدَادُ مِنْ فَوْقِ ذَلِكَ كَالتُّبَّانِ يُشَدُّ عَلَيْهِ ، فَإِنْ جَاءَ مِنْهُ شَيْءٌ يَمْنَعُهُ ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَظْهَرَ مِنْهُ ، فَهَذَا أَحْسَنُ فِي كَرَامَتِهِ مِنَ انْتِهَاكِ حُرْمَتِهِ . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَيَأْخُذُ الْقُطْنَ فَيَضَعُ عَلَيْهِ الْحَنُوطَ وَالْكَافُورَ فَيَضَعُهُ عَلَى فِيهِ وَمِنْخَرَيْهِ وَعَيْنَيْهِ وَأُذُنَيْهِ للميت وَمَوْضِعِ سُجُودِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ بِهِ جِرَاحٌ نَافِذَةٌ الميت وُضِعَ عَلَيْهَا وَيُحَنِّطُ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ بِالْكَافُورِ الميت وَعَلَى مَسَاجِدِهِ ، وَيُوضَعُ الْمَيِّتُ مِنَ الْكَفَنِ بِالْمَوْضِعِ الَّذِي يَبْقَى مِنْهُ مِنْ عِنْدِ رِجْلَيْهِ أَقَلَّ مِمَّا يَبْقَى مِنْ عِنْدِ رَأْسِهِ ، ثُمَّ يَثْنِي عَلَيْهِ ضِيقَ الثَّوْبِ الَّذِي يَلِيهِ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ ثُمَّ يَثْنِي ضِيقَ الثَّوْبِ الْآخَرِ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ كَمَا وَصَفْتُ ، كَمَا يَشْتَمِلُ الْحَيُّ بِالسِّيَاجِ ثُمَّ يَصْنَعُ بِالْأَثْوَابِ كُلِّهَا كَذَلِكَ ، ثُمَّ يَجْمَعُ مَا عِنْدَ رَأْسِهِ مِنَ الثِّيَابِ جَمْعَ الْعِمَامَةِ ثُمَّ يَرُدُّهُ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ يَرُدُّ مَا عَلَى رِجْلَيْهِ عَلَى ظُهُورِ رِجْلَيْهِ إِلَى حَيْثُ بَلَغَ ، فَإِنْ خَافُوا أَنْ تَنْتَشِرَ الْأَكْفَانُ من على الميت عَقَدُوهَا عَلَيْهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الرَّبِيعِ : " وَيُجَمَّرُ بِالنَّدِّ " وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا ذَلِكَ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " اصْنَعُوا بِمَوْتَاكُمْ مَا تَصْنَعُونَ بِعَرُوسِكُمْ " وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي كَرَامَةِ الْمَيِّتِ ، وَأَجْمَلُ فِي عِشْرَةِ الْحَاضِرِينَ ، ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَيَبْسُطُ أَحْسَنَ الْأَثْوَابِ الثَّلَاثَةِ وَأَوْسَعَهَا ، ثُمَّ يَبْسُطُ فَوْقَهُ الَّذِي يَلِيهِ فِي الْحُسْنِ ، ثُمَّ يَبْسُطُ فَوْقَهُ الَّذِي هُوَ دُونَهَا ، وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا أَنْ يَكُونَ أَحْسَنُهَا أَظْهَرَهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي جَمَالِهِ ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَيًّا لَاخْتَارَ لَهُ ذَلِكَ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَيَذُرُّ بَيْنَهَا الْحَنُوطَ الأكفان ، وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يَذْكُرْهُ غَيْرُ الشَّافِعِيِّ مِنَ الْفُقَهَاءِ ، وَإِنَّمَا اخْتَارَهُ ؛ لِأَنْ لَا يُسْرِعَ بِلَى الْأَكْفَانِ ، وَلِيَقِيَهَا عَنْ بَلَلٍ يَمَسُّهَا . قَالَ الشَّافِعِيُّ : " ثُمَّ يُحْمَلُ الْمَيِّتُ فَيُوضَعُ فَوْقَ الْعُلْيَا مِنْهَا مُسْتَلْقِيًا ، وَيَأْخُذُ شَيْئًا مِنْ قُطْنٍ مَنْزُوعِ الْحَبِّ فَيَجْعَلُ فِيهِ الْحَنُوطَ وَالْكَافُورَ ، ثُمَّ يُدْخِلُ بَيْنَ إِلْيَتَيْهِ إِدْخَالًا بَلِيغًا ، وَيُكْثِرُ لِيَرُدَّ شَيْئًا إِنْ جَاءَ مِنْهُ عِنْدَ تَحْرِيكِهِ إِذَا حُمِلَ وَرُغْرِغَ ، وَيُشَدُّ عَلَيْهِ كَمَا يُشَدُّ التُّبَّانُ الْوَاسِعُ ، فَإِنْ كَانَ بِهِ إِنْزَالٌ يُخْشَى عَلَى الثَّوْبِ مِنْهُ فَاحْتَاجَ أَنْ يَجْعَلَ فَوْقَ الْخِرْقَةِ مِثْلَ السُّفْرَةِ مِنْ لُبُودٍ فَعَلَ ذَاكَ " وَإِنَّمَا اخْتَارَ هَذَا كُلَّهُ اتِّبَاعًا لِلسَّلَفِ ، وَإِكْرَامًا لِلْمَيِّتِ ، وَحِفْظًا لِلْأَكْفَانِ . وَلَمْ يُرِدِ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ : وَيُدْخِلُهُ إِدْخَالًا بَلِيغًا فِي الْحَلْقَةِ كَمَا تَوَهَّمَ الْمُزَنِيُّ ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ انْتِهَاكَ حُرْمَتِهِ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ إِدْخَالًا بَلِيغًا بَيْنَ الْإِلْيَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ انْتِهَاكِ حُرْمَتِهِ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَيَأْخُذُ الْقُطْنَ فَيَضَعُهُ عَلَى الْحَنُوطِ وَالْكَافُورِ فَيَضَعُهُ عَلَى فِيهِ وَمَنْخَرَيْهِ وَعَيْنَيْهِ وَأُذُنَيْهِ وَمَوْضِعِ سُجُودِهِ وَجَمِيعِ مَنَافِذِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ بِهِ جِرَاحٌ أَوْ قُرُوحٌ وَضَعَ عَلَيْهَا ، وَيَحْفَظُ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ بِالْكَافُورِ ، وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِمَسَاجِدِهِ وَهِيَ أَعْضَاؤُهُ السَّبْعَةُ لِمَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُوكِلُ بِهِ مَنْ يَذُبُّ عَنْ مَوْضِعِ سُجُودِهِ النَّارَ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ، [ الْفَتْحِ : ] ، وَاخْتَرْنَا أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي مَنَافِذِهِ وَجِرَاحِهِ حِفَاظًا لِلْخَارِجِ مِنْهُ وَصِيَانَةً لِلْأَكْفَانِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الطِّرَازُ للميت : وَهُوَ طِيبٌ وَمِسْكٌ يُخْلَطُ وَيُدَافُ فَيُوضَعُ عَلَى جَبِينِهِ فَلَا يَخْتَارُهُ ، لِأَنَّهُ لَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَلَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْأَحْيَاءِ مِنْ أَهْلِ الصِّيَانَةِ مَعَ مَا فِيهِ مَنْ تَشْوِيهِ الْبَشَرَةِ ، وَتَغْيِيرِ اللَّوْنِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ : " وَأَكْرَهُ أَنْ يَجْعَلَ فِي عَيْنَيْهِ الزَّاوُوقَ الميت ، وَأَنْ يَجْعَلَ عَلَى بَدَنِهِ الْمُرْدَاسَنْجَ الميت ، وَالزَّاوُوقُ هُوَ شَيْءٌ لَزِجٌ كَالصَّمْغِ يُمْسِكُهُ وَيَحْفَظُهُ ، وَإِنَّمَا كَرِهْتُهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَنْقُولٍ عَنْ أَحَدٍ يُتَّبَعُ " . وَكَذَلِكَ يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُ الصَّبْرِ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ : " وَلَا يُجْعَلُ الْمَيِّتُ فِي صُنْدُوقٍ وَهُوَ التَّابُوتُ ، وَإِنَّمَا نَهَى عَنْهُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَمْ يَفْعَلُوهُ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ أَوْصَى فَقَالَ : لَا تَجْعَلُونِي فِي الصُّنْدُوقِ .
فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَيُوضَعُ الْمَيِّتُ مِنَ الْكَفَنِ بِالْمَوْضِعِ الَّذِي يَبْقَى مِنْ عِنْدِ رِجْلَيْهِ أَوْلَى مِمَّا يَبْقَى عِنْدَ رَأْسِهِ ، وَإِنَّمَا اخْتَارَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ نَمِرَةَ مُصْعَبٍ لَمَّا قَصُرَتْ عَنْهُ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرُهَا مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ لِيُغَطَّى بِهَا جَمِيعُ وَجْهِهِ ، وَلِأَنَّ الرَّأْسَ أَشْرَفُ مِنْ جَمِيعِ الْجَسَدِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : ثُمَّ يُثْنِي عَلَيْهِ ضَفَّةَ الثَّوْبِ الَّذِي يَلِيهِ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ ، ثُمَّ يُثْنِي ضَفَّةَ الثَّوْبِ الْآخَرِ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ كَمَا يَشْتَمِلُ الْحَيُّ " وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا أَرَادَ أَنْ يُدْرِجَهُ فِي أَكْفَانِهِ كيفيته بَدَأَ بِمَا يَلِي شِقَّهُ الْأَيْسَرَ فَأَلْقَاهُ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ ، وَمَا يَلِي شِقَّهُ الْأَيْمَنَ فَأَلْقَاهُ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ ، ثُمَّ يَفْعَلُ بِالثَّانِي وَالثَّالِثِ مِثْلَ ذَلِكَ ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ أَخَذَ مَا عِنْدَ رَأْسِهِ فَأَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ ؛ لِأَنْ لَا يَكْشِفَهُ الرِّيحُ وَأَخَذَ مَا عِنْدَ رِجْلَيْهِ فَأَلْقَاهُ عَلَى رِجْلَيْهِ ، ثُمَّ يَنْظُرُ فَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ بَعِيدًا يَخَافُ أَنْ يَكْشِفَهُ الرِّيحُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَخْرِقَ مِنْهُ ضَفَّةً دَقِيقَةً فَيَشُدَّهَا عَلَيْهِ ، فَإِذَا أُدْخِلَ قَبْرَهُ حُلَّتْ ، وَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ قَرِيبًا لَمْ يَشُدَّ ؛ لِأَنَّ عَادَةَ السَّلَفِ بِالْحَرَمَيْنِ لَمْ تَجْرِ بِمِثْلِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِذَا أَدْخَلُوهُ الْقَبْرَ فما الذي يفعل معه عند إدخاله في القبر حَلُّوهَا وَأَضْجَعُوهُ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ ، وَوَسَّدُوا رَأْسَهُ بِلَبِنَةٍ وَأَسْنَدُوهُ ؛ لِئَلَّا يَسْتَلْقِيَ عَلَى ظَهْرِهِ وَأَدْنَوْهُ إِلَى اللَّحْدِ مِنْ مُقَدَّمِهِ ؛ لِئَلَّا
يَنْكَبَّ عَلَى وَجْهِهِ ، وَيُنْصَبُ اللَّبِنُ عَلَى اللَّحْدِ وَيُسَدُّ فَرْجُ اللَّبِنِ ثُمَّ يُهَالُ التُّرَابُ عَلَيْهِ ، وَالْإِهَالَةُ أَنْ يَطْرَحَ مِنْ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ التُّرَابَ بِيَدَيْهِ جَمِيعًا ثُمَّ يُهَالُ بِالْمَسَاحِي ، وَلَا أُحِبُّ أَنْ يُرَدَّ فِي الْقَبْرِ أَكْثَرُ مِنْ تُرَابِهِ لِئَلَّا يَرْتَفِعَ جِدًّا ، وَيَشْخَصَ عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ قَدْرَ شِبْرٍ ، وَيُرَشُّ عَلَيْهِ الْمَاءُ ، وَيُوضَعُ عَلَيْهِ الْحَصْبَاءُ وَيُوضَعُ عِنْدَ رَأْسِهِ صَخْرَةٌ دفن الميت أَوْ عَلَامَةٌ مَا كَانَتْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا دَفْنُ الْمَوْتَى فَوَاجِبٌ ، وَهُوَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ ، وَكَانَ أَصْلُهُ أَنَّ قَابِيلَ لَمَّا قَتَلَ أَخَاهُ هَابِيلَ لَمْ يَدْرِ مَا يَصْنَعُ بِهِ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي ، [ الْمَائِدَةِ : ] ، فَتَنَبَّهَ قَابِيلُ بِفِعْلِ الْغُرَابِ عَلَى دَفْنِ أَخِيهِ فَدَفَنَهُ ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا [ الْمُرْسَلَاتِ : ] ، يَعْنِي تَجْمَعُهُمْ أَحْيَاءً وَتَضُمُّهُمْ أَمْوَاتًا ، وَقَالَ تَعَالَى : مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى [ طه : ] ، فَإِذَا دُفِنَ الْمَيِّتُ حكمه وَاجِبًا فَيُخْتَارُ تَعْمِيقُ الْقُبُورِ ، وَأَنْ يَكُونَ نَحْوَ الْقَامَةِ وَالْبَسْطَةِ ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " عَمِّقُوا قُبُورَ مَوْتَاكُمْ لِأَنْ لَا تُرِيحَ عَلَيْكُمْ " .
فَصْلٌ اللَّحْدُ فِي الْقُبُورِ أفضل مِنَ الشَّقِّ
فَصْلٌ : اللَّحْدُ فِي الْقُبُورِ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنَ الشَّقِّ الضَّرِيحِ فِي وَسَطِهِ ، بِخِلَافِ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ ، لِمَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " اللَّحْدُ لَنَا وَالشَّقُّ لِغَيْرِنَا " . وَقَدْ كَانَتْ عَادَةُ أَهْلِ مَكَّةَ الضَّرِيحَ ، وَكَانَ يَتَوَلَّى ذَلِكَ لَهُمْ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ ، وَكَانَتْ عَادَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ اللَّحْدَ ، وَكَانَ يَتَوَلَّى ذَلِكَ لَهُمْ أَبُو طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيُّ فَلَمَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قَوْمٌ : اجْعَلُوا لَهُ ضَرِيحًا وَقَالَ آخَرُونَ : لَحْدًا ، فَأَنْفَذَ الْعَبَّاسُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَسُولًا إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ وَرَسُولًا إِلَى أَبِي طَلْحَةَ وَقَالَ الْعَبَّاسُ : اللَّهُمَّ خِرْ لِنَبِيِّكَ . فَسَبَقَ الرَّسُولُ إِلَى أَبِي طَلْحَةَ فَجَاءَ بِهِ ، فَأَلْحَدَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا أُدْخِلَ الْمَيِّتُ قَبْرَهُ أَضْجَعُوهُ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ ، اتِّبَاعًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَيُوَسَّدُ رَأْسُهُ بِلَبِنَةٍ وَيُكْرَهُ الْمِخَدَّةُ وَالْمُضْرِبَةُ للميت عند الدفن ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَفَاخُرِ الْأَحْيَاءِ وَفِعْلِ الْمُتَنَعِّمِينَ ، فَإِذَا انْصَبَّ فِي اللَّحْدِ قُرِّبَ مِنْهُ ؛ لِأَنْ لَا يَنْكَبَّ ، وَأُسْنِدَ مِنْ وَرَائِهِ لِئَلَّا يَسْتَلْقِيَ ، ثُمَّ يُنْصَبُ عَلَيْهِ اللَّبِنُ نَصْبًا قَائِمًا لَا بَسْطًا ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَلِكَ فُعِلَ بِهِ ، وَلِأَنَّهُ
أَحْكَمُ فِي عِمَارَةٍ ، وَأَبْعَدُ فِي بِلَى أَكْفَانِهِ ، فَإِنْ كَانَ فِي اللَّحْدِ فُرُجٌ سَدُّوهَا بِقِطَعِ اللَّبِنِ ، ثُمَّ يُهَالُ عَلَيْهِ التُّرَابُ ، وَالْإِهَالَةُ أَنْ يَطْرَحَ مِنْ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ التُّرَابَ بِيَدَيْهِ جَمِيعًا ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا ، لِرِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهَالَ عَلَى قَبْرِ مَيِّتٍ بِكَفَّيْهِ ثَلَاثًا . ثُمَّ يُهَالُ عَلَيْهِ بِالْمِسَاحِي ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَسْرَعُ فِي عَمَلِهِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا أُحِبُّ أَنْ يُزَادَ فِي الْقَبْرِ أَكْثَرُ مِنْ تُرَابِهِ ؛ لِأَنْ لَا يَعْلُوَ جِدًّا ، وَيَخْتَارُ أَنْ يُرْفَعَ الْقَبْرُ عَنِ الْأَرْضِ قَدْرَ شِبْرٍ أَوْ نَحْوَهُ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ قَبْرٌ ؛ فَيُتَرَحَّمُ عَلَيْهِ وَلِأَنْ لَا يَنْسَاهُ مَنْ يَجْهَلُ أَمْرَهُ " .
فَصْلٌ : الْمُخْتَارُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنْ تُسْطَحَ الْقُبُورُ وَلَا تُسْنَمَ ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ تُسْنَمَ وَلَا تُسْطَحَ ، وَاخْتِيَارُ الشَّافِعِيِّ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَطَحَ قَبْرَ ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَرُوِيَ أَنْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبَرَ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ فَسَطَحَ قَبْرَهُ ؛ وَرُوِيَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ : " دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقُلْتُ لَهَا : يَا أُمَّهْ اكْشِفِي عَنْ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَكَشَفَتْ فَرَأَيْتُ قَبْرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مُسَطَّحَةً .
فَصْلٌ : فَإِذَا سَطَحَ الْقَبْرَ وَفَرَغَ مِنْهُ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَرُشَّ عَلَيْهِ الْمَاءَ القبر ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَشَّ عَلَى قَبْرِ ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمَاءَ وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ نَقَاءً ، وَلَا يُبَرِّكُهُ الْمَاءَ ، وَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُبَرِّدُ عَلَيْهِ مَضْجَعَهُ ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَحْفَظُ لِلْقَبْرِ وَأَبْقَى لِأَثَرِهِ ، ثُمَّ يُوضَعُ عَلَى الْقَبْرِ حَصًا ، وَهُوَ الْحَصَا الصِّغَارُ ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَعَ عَلَى قَبْرِ ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ حَصْبَاءِ الْعَرْصَةِ ، ثُمَّ يُوضَعُ عِنْدَ رَأْسِ الْمَيِّتِ صَخْرَةً أَوْ عَلَامَةً يُعْرَفُ بِهَا ، وَعِنْدَ رِجْلَيْهِ أَيْضًا مِثْلَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَبَرَ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ وَضَعَ عِنْدَ قَبْرِهِ حَجَرَيْنِ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِهِ وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيْهِ ، فَقَالَ : " أَجْعَلُ لِقَبْرِ أَخِي عَلَامَةً أَدْفِنُ عِنْدَهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِهِ " .
فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَأُحِبُّ أَنْ يَكُونَ الدَّفْنُ فِي الصَّحْرَاءِ لَا فِي الْبُيُوتِ وَالْمَسَاكِنِ ، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِكَثْرَةِ الدَّاعِي لَهُ إِذَا دَرَسَ قَبْرُهُ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَهْلِ الْقُبُورِ الدَّارِسَةِ " " وَيُخْتَارُ لِمَنْ مَرَّ بِالْقُبُورِ فماذا يفعل ؟ أَنْ يَدْعُوَ لِأَهْلِهَا بِالرَّحْمَةِ وَيُسَلِّمَ
عَلَيْهِمْ وَيَقُولَ : أَنْتُمْ لَنَا سَابِقُونَ وَنَحْنُ بِكُمْ لَاحِقُونَ ، فَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَأَمَّا الْقِرَاءَةُ عِنْدَ الْقَبْرِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَرَأَيْتُ مَنْ أَوْصَى بِالْقِرَاءَةِ عِنْدَ قَبْرِهِ وَهُوَ عِنْدَنَا حَسَنٌ " .
فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَا أُحِبُّ إِذَا مَاتَ الْمَيِّتُ فِي بَلْدَةٍ فهل ينقل إلى غيرها ؟ أَنْ يُنْقَلَ إِلَى غَيْرِهَا وَبِخَاصَّةٍ إِنْ كَانَ مَاتَ بِمَكَّةَ أَوِ الْمَدِينَةِ أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِالْقُرْبِ مِنْ مَكَّةَ أَوِ الْمَدِينَةِ أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَيَخْتَارُ أَنْ يُنْقَلَ إِلَيْهَا ؛ لِفَضْلِ الدَّفْنِ فِيهَا ، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " مَنْ مَاتَ فِي أَحَدِ الْحَرَمَيْنِ بُعِثَ مِنَ الْآمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَسٌ وَزَادَ الزُّهْرِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنْ قُبِرَ بِالْمَدِينَةِ كُنْتُ عَلَيْهِ شَاهِدًا وَلَهِ شَافِعًا ، وَمَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ فَكَأَنَّمَا مَاتَ بِسَمَاءِ الدُّنْيَا " .
فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَلَا بَأْسَ أَنْ يُدْفَنَ الْمَيِّتُ لَيْلًا ، وَقَدْ كَرِهَ الْحَسَنُ ذَلِكَ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُفِنَتْ لَيْلًا وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دُفِنَ لَيْلًا ، وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دُفِنَ لَيْلًا .
فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ أَنَّ قَوْمًا فِي مَرْكَبٍ مَاتَ مِنْهُمْ مَيِّتٌ كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُغَسِّلُوهُ وَيُكَفِّنُوهُ وَيُصَلُّوا عَلَيْهِ ، ثُمَّ يَنْظُرُونَ فَإِنْ كَانُوا بِالْقُرْبِ مِنَ الْأَرْضِ ، وَلَمْ يَكُنْ فِي صُعُودِهِمْ مَخَافَةٌ مِنْ عَدُوٍّ وَلَا سَبُعٍ ، كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُقَدِّمُوهُ إِلَى قَبْرِهِ فِي الْأَرْضِ ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَرْضِ بُعْدٌ يُخَافُ أَنْ يَفْسُدَ الْمَيِّتُ إِلَى الْبُلُوغِ ، أَوْ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَرْضِ قُرْبٌ وَلَكِنَّهُمْ يَخْشَوْنَ مِنْ صُعُودِهِمْ أَنْ يَظْفَرَ بِهِمْ عَدُوٌّ أَوْ سَبُعٌ ، فَإِنَّهُمْ يَشُدُّونَهُ بَيْنَ لَوْحَيْنِ وَيُلْقُونَهُ فِي الْبَحْرِ بَعْدَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ ، فَإِنْ أَلْقَوْهُ فِي الْبَحْرِ رَجَوْتُ أَنْ يَسَعَهُمْ " .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِذَا فَرَغَ مِنَ الْقَبْرِ فَقَدْ أَكْمَلَ وَيَنْصَرِفُ مَنْ شَاءَ وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْصَرِفَ إِذَا وُورِيَ فَذَلِكَ لَهُ وَاسِعٌ ( قَالَ ) وَبَلَغَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَطَحَ قَبْرَ ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَوَضَعَ عَلَيْهِ حَصْبَاءَ مِنْ حَصْبَاءِ الْعَرْصَةِ ، وَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَشَّ عَلَى قَبْرِهِ وَرُوِيَ عَنِ الْقَاسِمِ قَالَ : رَأَيْتُ قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مُسَطَّحَةً . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وُورِيَ ، فَذَلِكَ لَهُ وَاسِعٌ ( وَهَذَا صَحِيحٌ ) ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " مَنْ شَيَّعَ جِنَازَةً وَصَلَّى عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ ، وَمَنِ انْتَظَرَهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ ، فَلَا
يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ إِذَا صَلَّى عَلَيْهِ فَقَدِ اسْتَحَقَّ قِيرَاطًا ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْقِيرَاطِ الْآخَرِ مَتَى يَسْتَحِقُّهُ القرآن عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إِذَا وُورِيَ فِي لَحْدِهِ . وَالثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ إِذَا فَرَغَ مِنْ قَبْرِهِ ، وَيَخْتَارُ لِمَنْ يَحْضُرُ دَفْنَهُ أَنْ يَقْرَأَ سُورَةَ يس عند القبر وَيَدْعُوَ لَهُ وَيَتَرَحَّمَ عَلَيْهِ ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَرَّ بِقَوْمٍ يَدْفِنُونَ مَيِّتًا فَقَالَ : تَرَحَّمُوا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا تُبْنَى الْقُبُورُ وَلَا تُجَصَّصُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا تَجْصِيصُ الْقُبُورِ حكمه فَمَمْنُوعٌ مِنْهُ فِي مِلْكِهِ وَغَيْرِ مِلْكِهِ ؛ لِرِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ تَجْصِيصِ الْقُبُورِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : يَعْنِي تَجْصِيصَهَا ، وَأَمَّا الْبِنَاءُ عَلَى الْقُبُورِ كَالْبُيُوتِ وَالْقِبَابِ ، فَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بِنَاءِ الْقُبُورِ ، وَلِأَنَّ فِيهِ تَضْيِيقًا عَلَى غَيْرِهِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَرَأَيْتُ الْوُلَاةَ عِنْدَنَا بِمَكَّةَ يَأْمُرُونَ بِهَدْمِ مَا يَبْنُونَ مِنْهَا ، وَلَمْ أَرَ الْفُقَهَاءَ يَعِيبُونَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي مِلْكِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَحْظُورًا لَمْ يَكُنْ مُخْتَارًا " .
فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ كَانَتِ الْمَقْبَرَةُ مُسَبَّلَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَتَنَازَعَ اثْنَانِ فِي مَوْضِعٍ مِنْهَا لِدَفْنِ مَيِّتٍ فما الحكم ؟ فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا سَابِقًا فَهُوَ أَوْلَى ، وَإِنْ تَسَاوَيَا أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا . قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِذَا دُفِنَ مَيِّتٌ فِي أَرْضٍ مُسَبَّلَةٍ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَنْبِشَهُ وَيُنْزِلَ عَلَيْهِ مَيِّتَهُ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ بَلِيَ وَصَارَ رَمِيمًا ، فَإِنِ اسْتَعْجَلَ فِي نَبْشِهِ وَكَانَ أَثَرُ الْمَيِّتِ بَاقِيًا فَعَلَيْهِ رَدُّ تُرَابِهِ وَعِظَامِهِ إِلَيْهِ ، وَإِعَادَةُ الْقَبْرِ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ " .
فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِذَا أَعَارَهُ بُقْعَةً لِلدَّفْنِ فَدُفِنَ فِيهَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي إِعَارَتِهَا ، مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ أَنَّهُ قَدْ بَلِيَ وَصَارَ رَمِيمًا ، فَإِذَا تَحَقَّقَ ذَلِكَ كَانَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهَا ، وَإِنْ دُفِنَ فِي مِلْكِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَمَوْضِعُ الدَّفْنِ غَصْبٌ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَأَكْرَهُ أَنْ يَنْقُلَهُ ، لِأَنَّهُ نَهْكُ حُرْمَتِهِ ، فَإِنْ نَقَلَهُ جَازَ ، فَلَوْ غَصَبَ كَفَنًا وَكَفَّنَ لَهُ مَيِّتًا وَدُفِنَ قَالَ أَبُو حَامِدٍ : " لَمْ يُخْرَجْ ، وَكَانَ عَلَى غَاصِبِ الْكَفَنِ قِيمَتُهُ " . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ حُرْمَةَ الْأَرْضِ أَوْكَدُ ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهَا مُؤَبَّدٌ ، وَالِانْتِفَاعَ بِالثَّوْبِ غَيْرُ مُؤَبَّدٍ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْكَفَنَ رُبَّمَا تَعَيَّنَ عَلَى صَاحِبِهِ بِتَكْفِينِ الْمَيِّتِ بِهِ إِذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ ، وَالْأَرْضُ الْمَمْلُوكَةُ لَا يَتَعَيَّنُ الدَّفْنُ فِيهَا لِوُجُودِ غَيْرِهَا مِنَ الْمُبَاحِ ، فَكَانَ حُكْمُ الْأَرْضِ أَغْلَظَ ، وَيَحْتَمِلُ غَيْرَ هَذَا الْقَوْلِ ، وَيُمْكِنُ قَلْبُ الْفُرُوقِ بِمَا هُوَ أَوْلَى مِنْهَا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَالْمَرْأَةُ فِي غُسْلِهَا كَالرَّجُلِ وَتُتَعَهَّدُ بِأَكْثَرِ مَا يُتَعَهَّدُ بِهِ الرَّجُلُ ، وَأَنْ يُضَفَّرَ شَعْرُ رَأْسِهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ غسل المرأة فَيُلْقَيْنَ خَلْفَهَا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِذَلِكَ أُمَّ عَطِيَّةَ فِي ابْنَتِهِ وَبِأَمْرِهِ غَسَّلَتْهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ لِأَنَّهُمَا لَمَّا اسْتَوَيَا فِي غُسْلِهِمَا حَيَّيْنِ اسْتَوَيَا فِي غُسْلِهِمَا مَيِّتَيْنِ ، لَكِنْ يَنْبَغِي لِغَاسِلِ الْمَرْأَةِ أَنْ يَزِيدَ فِي تَفَقُّدِ بَدَنِهَا وَتَعَاهُدِ جَسَدِهَا لِمَا لَهَا مِنَ الْعُكَنِ الَّتِي يَعْدِلُ الْمَاءُ عَنْهَا ، ثُمَّ يَجْعَلُ شَعْرَ رَأْسِهَا ثَلَاثَ ضَفَائِرَ خَلْفَهَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجْعَلُ ضَفِيرَتَيْنِ تَلْتَقِيَانِ عَلَى صَدْرِهَا ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى : لِمَا رُوِيَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : ضَفَّرْنَا شَعْرَ أُمِّ كُلْثُومٍ ابْنَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ قُرُونٍ وَأَلْقَيْنَاهَا خَلْفَهَا وَأُمُّ عَطِيَّةَ لَمْ تَفْعَلْ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ أَمْرٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَتُكَفَّنُ بِخَمْسَةِ أَثْوَابٍ : خِمَارٌ وَإِزَارٌ وَثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) وَأُحِبُّ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهَا دِرْعًا ؛ لِمَا رَأَيْتُ فِيهِ مِنَ قَوْلِ الْعُلَمَاءِ ، وَقَدْ قَالَ بِهِ الشَّافِعِيُّ مَرَّةً مَعَهَا ثُمَّ خَطَّ عَلَيْهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْوَاجِبُ مِنْ كَفَنِ الْمَرْأَةِ فَهُوَ ثَوْبٌ يَسْتُرُ جَمِيعَ بَدَنِهَا إِلَّا وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا ، أَمَّا الْمَسْنُونُ مِنْهُ وَمَا جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُ السَّلَفِ الصَّالِحِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَخَمْسَةُ أَثْوَابٍ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ عَوْرَتِهَا أَغْلَظُ وَلِبَاسَهَا فِي الْحَيَاةِ أَكْمَلُ ، وَقَدْ رَوَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ فِي غَسْلِهَا بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يُنَاوِلُهَا بِيَدِهِ ثَوْبًا ثَوْبًا حَتَّى دَفَعَ إِلَيْهَا خَمْسَةً . فَأَمَّا صِفَةُ هَذِهِ الْأَثْوَابِ الْخَمْسَةِ فَهِيَ مِئْزَرٌ ، وَخِمَارٌ وَإِزَارَانِ ، وَفِي الْخَامِسِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : إِزَارٌ ثَانٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ أَنَّهُ دِرْعٌ لِمَا رَوَتْ لَيْلَى الثَّقَفِيَّةُ أَنَّهَا قَالَتْ : كُنْتُ فِيمَنْ غَسَّلَ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَوَّلُ مَا نَاوَلَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِزَارَ ثُمَّ الدِّرْعَ ، ثُمَّ الْخِمَارَ ، ثُمَّ الْمِلْحَفَةَ ، ثُمَّ الثَّوْبَ الَّذِي أَدْرَجْنَاهَا فِيهِ ، فَعَلَى هَذَا تُؤَزَّرُ أَوَّلًا ثُمَّ تُدْرَعُ ثُمَّ تُخَمَّرُ ثُمَّ تُلَفُّ فِي ثَوْبَيْنِ ، وَقَدْ حَكَى الْمُزَنِيُّ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُشَدُّ عَلَى صَدْرِهَا بِثَوْبٍ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ هَذَا الثَّوْبُ مِنْ جُمْلَةِ الْخَمْسَةِ أَوْ زَائِدٍ عَلَيْهَا كفن المرأة ، فَقَالَ
أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ : هُوَ ثَوْبٌ مِنْ جُمْلَةِ الْخَمْسَةِ يُشَدُّ عَلَى صَدْرِهَا وَيُدْفَنُ مَعَهَا . وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا : أَنَّهُ ثَوْبٌ سَادِسٌ غَيْرُ الْخَمْسَةِ يُشَدُّ عَلَى صَدْرِهَا . فَمَنْ قَالَ بِهَذَا اخْتَلَفُوا هَلْ يُحَلُّ عِنْدَ دَفْنِهَا أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ ؟ أَصَحُّهُمَا يُحَلُّ عَنْهَا وَيُؤْخَذُ عِنْدَ دَفْنِهَا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمُؤْنَةُ الْمَيِّتِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ دُونَ وَرَثَتِهِ وَغُرَمَائِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ وَإِنَّمَا كَانَتْ مِنْ أَصْلِ تَرِكَتِهِ مُقَدَّمَةً عَلَى غُرَمَائِهِ وَوَرَثَتِهِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَوْلَى مِنْهُمْ بِنَفَقَتِهِ فِي حَيَاتِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَوْلَى مِنْهُمْ بِمَئُونَتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا لَزِمَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ نَفَقَتُهُ إِذَا مَاتَ مُعْدِمًا لَزِمَ ذَلِكَ فِي مَالِهِ إِذَا كَانَ مُوسِرًا ، فَأَمَّا الزَّوْجَةُ إِذَا مَاتَتْ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي نَفَقَتِهَا : فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ : إِنَّهَا عَلَى الزَّوْجِ ؟ لِأَنَّهُ مِمَّنْ يَلْزَمُهُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهَا فِي الْحَيَاةِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهَا بَعْدَ الْوَفَاةِ ، كَالْمُنَاسِبِينَ مِنَ الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ . وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنَّ مَؤُونَتَهَا وَاجِبَةٌ فِي تَرِكَتِهَا كفن الزوجة دُونَ زَوْجِهَا ؛ لِأَنَّ نَفَقَتَهَا مُسْتَحَقَّةٌ بِالنِّكَاحِ لِأَجْلِ التَّمَكُّنِ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ ، وَبِمَوْتِهَا قَدِ ارْتَفَعَ النِّكَاحُ ، وَزَالَ التَّمَكُّنُ ، فَوَجَبَ أَنْ يَزُولَ مُوجِبُهَا مِنَ النَّفَقَةِ ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُنَاسِبِينَ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ تَكْفِينِ الْمَيِّتِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْكَفَنِ هَلْ يَكُونُ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِهِ أَوْ عَلَى مِلْكِ وَارِثِهِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ ، لِأَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى وَرَثَتِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ قَدِ انْتَقَلَ إِلَى مِلْكِ وَارِثِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ لَمَّا مَنَعَ مِنَ ابْتِدَاءِ الْمِلْكِ مَنَعَ مِنَ اسْتِدَامَةِ الْمِلْكِ .
فَصْلٌ : أَمَّا إِذَا كُفِّنَ الْمَيِّتُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ وَدُفِنَ وَأَقْسَمَ الْوَرَثَةُ تَرِكَتَهُ ثُمَّ نُبِشَ وَسُرِقَتْ أَكْفَانُهُ وَتُرِكَ عُرْيَانًا فَالْمُسْتَحَبُّ لِوَرَثَتِهِ أَنْ يُكَفِّنُوهُ ثَانِيَةً ، وَلَا يَلْزَمُهُمْ ذَلِكَ ، لِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَهُمْ ذَلِكَ ثَانِيَةً لَلَزِمَهُمْ إِلَى مَا لَا يَتَنَاهَى فَيُؤَدِّي إِلَى اسْتِيعَابِ التَّرِكَةِ ، وَإِلَى الْخُرُوجِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ، وَمَا أَدَّى إِلَى هَذَا فَغَيْرُ لَازِمٍ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنِ اشْتَجَرُوا فِي الْكَفَنِ فَثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ إِنْ كَانَ وَسَطًا لَا مُوسِرًا وَلَا مُقِلًّا ، وَمِنَ الْحَنُوطِ بِالْمَعْرُوفِ لَا سَرَفًا وَلَا تَقْصِيرًا " .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا مَاتَ رَجُلٌ وَتَرَكَ مَالًا يَضِيقُ عَنْ قَضَاءِ دَيْنِهِ فَاخْتَلَفَ الْوَرَثَةُ وَالْغُرَمَاءُ فِي كَفَنِهِ وَمَؤُونَةِ دَفْنِهِ فَلَا يَخْلُو حَالُ اخْتِلَافِهِمْ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي صِفَةِ الْأَكْفَانِ أَوْ فِي عَدَدِهَا ، فَإِنْ كَانَ فِي صِفَةِ الْأَكْفَانِ فَدَعَا الْوَرَثَةُ إِلَى تَكْفِينِهِ بِأَرْفَعِ الثِّيَابِ وَأَعْلَاهَا كَالسَّرْبِ وَالدِّيبَقِيِّ ، وَدَعَا الْغُرَمَاءُ إِلَى تَكْفِينِهِ بِأَدْوَنِ الثِّيَابِ كَالنَّافِّ وَغَلِيظِ الْبَصْرِيِّ ، فَيَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يُلْزِمَ الْفَرِيقَيْنِ التَّعَارُفَ لِمِثْلِ الْمَيِّتِ فِي مِثْلِ حَالِهِ مِنْ يَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ وَسَطًا لَا مَا دَعَا إِلَيْهِ السَّرَفُ ، وَلَا مَا صَنَعَ مِنْهُ الشَّحِيحُ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ، [ الْفُرْقَانِ : ] ، وَقَالَ تَعَالَى : وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ [ الْإِسْرَاءِ : ] ، فَذَمَّ الْحَالَيْنِ ، وَمَدَحَ التَّوَسُّطَ بَيْنَهُمَا . وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ الْأَكْفَانِ فَقَالَ الْوَرَثَةُ : نُكَفِّنُهُ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ ، وَقَالَ الْغُرَمَاءُ : مَا نُكَفِّنُهُ إِلَّا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُصَارُ إِلَى قَوْلِ الْغُرَمَاءِ وَيُكَفَّنُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَا يُزَادُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ الْقَدْرُ الْوَاجِبُ وَمَا زَادَ عَلَيْهِ تَطَوُّعٌ ، وَلِلْغُرَمَاءِ مَنْعُ الْوَرَثَةِ مِنْ إِخْرَاجِ الْمَالِ فِي التَّطَوُّعِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : يُصَارُ إِلَى قَوْلِ الْوَرَثَةِ وَيُكَفَّنُ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ لَا يُنْقَصُ مِنْهَا اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ ، وَرُجُوعًا إِلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَيًّا مُفْلِسًا لَقَدَّمَ ثَلَاثَةَ أَثْوَابٍ عَلَى الْغُرَمَاءِ ، فَكَذَلِكَ يُقَدَّمُ بِهَا مَيِّتًا ، وَلَوْ قَالَ الْوَرَثَةُ : فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ ، وَقَالَ الْغُرَمَاءُ : فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغُرَمَاءِ لَا يُخْتَلَفُ ، وَلَوْ قَالَ الْوَارِثُ : فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ، وَقَالَ الْغُرَمَاءُ : فِي خِرْقَةٍ تَسْتُرُ عَوْرَتَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَرَثَةِ لَا يُخْتَلَفُ . فَأَمَّا الْحَنُوطُ للميت المدين فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَاجِبٌ كَالْكَفَنِ ، فَعَلَى هَذَا لَيْسَ لِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَمْنَعُوا مِنْهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ ؛ لِأَنَّ طِيبَ الْحَيِّ غَيْرُ وَاجِبٍ فَكَذَلِكَ طِيبُ الْمَيِّتِ ، فَعَلَى هَذَا لِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَمْنَعُوا مِنْهُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيُغَسَّلُ السَّقْطُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ إِنِ اسْتَهَلَّ ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَهِلَّ غُسِّلَ وَكُفِّنَ وَدُفِنَ السقط وَالْخِرْقَةُ الَّتِي تُوَارِيهِ لِفَافَةُ تَكْفِينِهِ السقط " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا يَخْلُو حَالُ السَّقْطِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَسْتَهِلَّ صَارِخًا أَوْ يَسْقُطَ مَيِّتًا ، فَإِنِ اسْتَهَلَّ صَارِخًا غُسِّلَ وَكُفِّنَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ وَدُفِنَ ، وَبِهِ قَالَ كَافَّةُ الْفُقَهَاءِ . وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُصَلِّ
عَلَى ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَانَ لَهُ حِينَ مَاتَ سِتَّةَ عَشَرَ وَقِيلَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا ، قَالَ : وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ شَفَاعَةٌ وَدُعَاءٌ لِأَهْلِ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا ، وَالطِّفْلُ لَا ذَنْبَ لَهُ وَهُوَ مَغْفُورٌ لَهُ . وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ مَعَ الظَّاهِرِ الْعَامَّةِ مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِذَا اسْتَهَلَّ الْمَوْلُودُ وَرِثَ وَوُرِّثَ ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ " ، وَرَوَى أَنَسٌ وَالْمُغِيرَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِذَا اسْتَهَلَّ الْمَوْلُودُ صُلِّيَ عَلَيْهِ " وَلِأَنَّهُ كَالْكَبِيرِ فِي مِيرَاثِهِ وَإِيجَابِ الْقَوَدِ عَلَى قَاتِلِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَالْكَبِيرِ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ . وَمَا اسْتُدِلَّ بِهِ مِنْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَمْ يُصَلِّ عَلَى ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى ابْنِهِ وَكِلَا الرِّوَايَتَيْنِ صَحِيحَةٌ ، فَمَنْ رَوَى أَنَّهُ صَلَّى يَعْنِي أَنَّهُ أَمَرَ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ ، وَمَنْ رَوَى أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ فَعَنَى بِنَفْسِهِ لِاشْتِغَالِهِ بِصَلَاةِ الْخُسُوفِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : إِنَّ الصَّلَاةَ شَفَاعَةٌ لِأَهْلِ الْخَطَايَا فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمَ لَكَانَ الْمَجْنُونُ وَالْأَبْلَهُ وَمَنْ لَا عَقْلَ لَهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُصَلِّيَ ، لِأَنَّهُ مِمَّنْ لَا ذَنْبَ عَلَيْهِ ، وَلَكَانَ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ غَفَرَ لَهُمْ ، فَلَمَّا قَالَ الْجَمِيعُ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ أَفْوَاجًا وَزُمَرًا بِغَيْرِ إِمَامٍ دَلَّ عَلَى بُطْلَانِ مَا قَالَهُ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا سَقَطَ الْجَنِينُ مَيِّتًا مِنْ غَيْرِ حَرَكَةٍ وَلَا اسْتِهْلَالٍ دفن السقط فَلَهُ حَالَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَسْقُطَ لِدُونِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ ، فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ ، بَلْ يُلَفُّ فِي خِرْقَةٍ وَيُدْفَنُ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَسْقُطَ وَقَدْ بَلَغَ الزَّمَانَ الَّذِي يَنْفُخُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِيهِ الرُّوحَ وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ ، لِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : يُخْلَقُ أَحَدُكُمْ فَيَبْقَى فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً ، ثُمَّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا عَلَقَةً ، ثُمَّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا مُضْغَةً ، ثُمَّ يَأْتِي مَلَكٌ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ وَيَكْتُبُ أَجَلَهُ وَعَمَلَهُ وَأَنَّهُ شَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ ، وَإِذَا بَلَغَ الْحَدَّ الَّذِي يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ فَفِي إِيجَابِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : حَكَاهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ تَخْرِيجًا عَنِ الشَّافِعِيِّ مِنَ الْقَدِيمِ أَنَّهُ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ لَهُ حُكْمُ الْحَيَاةِ قَبْلَ وَضْعِهِ فَصَارَ كَثُبُوتِ الْحَيَاةِ لَهُ بَعْدَ وَضْعِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ الصَّحِيحُ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَجْرِ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْحَيَاةِ فِي الصَّلَاةِ ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يَجِبُ غُسْلُهُ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ :
فَصْلٌ : إِذَا وُجِدَ بَعْضُ الْمَيِّتِ أَوْ عُضْوٌ مِنْ أَعْضَائِهِ غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُصَلِّي عَلَى أَكْثَرِهِ وَلَا يُصَلِّي عَلَى أَقَلِّهِ ، وَالِاعْتِبَارُ بِالرَّأْسِ قِيَاسًا عَلَى مَا قُطِعَ مِنْ أَعْضَاءِ الْحَيِّ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا قُلْنَا أَنَّ طَائِرًا أَلْقَى يَدًا بِمَكَّةَ مِنْ وَقْعَةِ الْجَمَلِ ، فَعُرِفَتْ بِالْخَاتَمِ ، فَصَلَّى عَلَيْهِ النَّاسُ ، وَكَانَتْ يَدَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ ، وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ صَلَّى عَلَى رُءُوسِ الْقَتْلَى بِالشَّامِ ، وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَّى عَلَى عِظَامٍ بِالشَّامِ ، وَلَيْسَ لِمَنْ ذَكَرْنَا مُخَالِفٌ فَثَبَتَ أَنَّهُ إِجْمَاعٌ ، فَأَمَّا الْعُضْوُ الْمَقْطُوعُ مِنَ الْإِنْسَانِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِ غُسْلِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا : يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ كَالْعُضْوِ الْمَقْطُوعِ مِنَ الْمَيِّتِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ ، وَهُوَ أَصَحُّ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ عُضْوَ الْحَيِّ إِنَّمَا لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَى جُمْلَتِهِ الْبَاقِيَةِ ، وَلَمَّا صَلَّى عَلَى الْمَيِّتِ صَلَّى عَلَى بَعْضِهِ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يُصَلِّي عَلَى مَا وَجَدَ مِنْ أَعْضَاءِ الْمَيِّتِ وَأَبْعَاضِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَنْوِي الصَّلَاةَ جُمْلَةَ الْمَيِّتِ أَوْ مَا وُجِدَ مِنْهُ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَنْوِي بِالصَّلَاةِ مَا وُجِدَ مِنْ أَعْضَائِهِ لَا غَيْرَ بَعْدِ غُسْلِ الْعُضْوِ وَتَكْفِينِهِ ، فَإِنْ لَمْ يُكَفِّنْهُ جَازَ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْعُضْوُ مِنْ عَوْرَةِ الْمَيِّتِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَكْفِينِهِ وَدَفْنِهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَنْوِي بِالصَّلَاةِ جُمْلَةَ الْمَيِّتِ ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْعُضْوِ لَزِمَتْهُ لِحُرْمَةِ جُمْلَتِهِ ، إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ جُمْلَةَ الْمَيِّتِ قَدْ صَلَّى عَلَيْهِ ، فَيَخُصُّ بِالصَّلَاةِ الْعُضْوَ الْمَوْجُودَ وَجْهًا وَاحِدًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ الشَّهِيدِ وَمَنْ يُصَلِّي عَلَيْهِ وَيُغَسَّلُ
بَابُ الشَّهِيدِ وَمَنْ يُصَلِّي عَلَيْهِ وَيُغَسَّلُ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَالشُّهَدَاءُ الَّذِينَ عَاشُوا وَأَكَلُوا الطَّعَامَ أَوْ بَقَوْا مُدَّةً يَنْقَطِعُ فِيهَا الْحَرْبُ وَإِنْ لَمْ يَطْعَمُوا كَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمَوْتَى وَالَّذِينَ قَتَلَهُمُ الْمُشْرِكُونَ فِي الْمُعْتَرَكِ يُكَفَّنُونَ بِثِيَابِهِمُ الَّتِي قُتِلُوا بِهَا إِنْ شَاءَ أَوْلِيَاؤُهُمْ وَتُنْزَعُ عَنْهُمُ الْخِفَافُ وَالْفِرَاءُ وَالْجُلُودُ وَمَا لَمْ يَكُنْ مِنْ عَامِّ لِبَاسِ النَّاسِ وَلَا يُغَسَّلُونَ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ . وَرُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُغَسِّلْهُمْ ( قَالَ ) وَعُمَرُ شَهِيدٌ غَيْرَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُقْتَلْ فِي الْمُعْتَرَكِ غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ ، وَالْغُسْلُ وَالصَّلَاةُ سُنَّةٌ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا إِلَّا مَنْ أَخْرَجَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، الشُّهَدَاءُ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي مُعْتَرَكِ الْمُشْرِكِينَ لَيْسَ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُغَسَّلُوا ، وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ ، هَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ . وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : يُغَسَّلُونَ وَيُصَلَّى عَلَيْهِمْ كَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمَوْتَى ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ بِقَوْلِنَا فِي تَرْكِ غُسْلِهِمْ ، وَبِقَوْلِ سَعِيدٍ فِي إِيجَابِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ ، اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ ، وَكَانَ يُصَلِّي عَلَى عَشَرَةٍ عَشَرَةٍ ، وَحَمْزَةُ مَعَهُمْ ، حَتَّى كَبَّرَ عَلَى حَمْزَةَ سَبْعِينَ تَكْبِيرَةً وَرَوَى عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ بَعْدَ ثَمَانِي سِنِينَ . وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ أَنَّ " أَعْرَابِيًّا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَايَعَهُ وَآمَنَ بِهِ ، وَقَالَ : إِنِّي مُهَاجِرٌ مَعَكَ ، ثُمَّ غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَنِمَ فَقَسَمَ لَهُ ، فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ فَقَالَ : هَذَا حَظُّكَ مِنَ
الْغَنِيمَةِ . فَقَالَ : مَا عَلَى هَذَا بَايَعْتُكَ ، إِنِّمَا بَايَعْتُكَ عَلَى أَنْ أُدْمِيَ هَذَا وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ ، ثُمَّ نَهَضُوا فَأَصَابَهُ سَهْمٌ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ فَمَاتَ ، فَكَفَّنَهُ وَصَلَى عَلَيْهِ " قَالَ : وَلِأَنَّهُ قُتِلَ ظُلْمًا فَوَجَبَ أَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ كَمَنْ قُتِلَ فِي غَيْرِ الْمُعْتَرَكِ ، قَالَ : وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ اسْتِغْفَارٌ لَهُ وَتَرَحُّمٌ عَلَيْهِ ، وَالشَّهِيدُ بِذَلِكَ أَوْلَى . وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يُغَسَّلُونَ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [ آلِ عِمْرَانَ : ] فَأَخْبَرَ بِحَيَاتِهِمْ ، وَالْحَيُّ لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ ، وَرَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ قَتْلَى أُحُدٍ وَقَالَ : زَمِّلُوهُمْ بِكُلُومِهِمْ ، فَإِنَّهُمْ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَوْدَاجُهُمْ تَشْخُبُ دَمًا ، اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ " . قَالَ جَابِرٌ وَأَنَسٌ : ثُمَّ لَمْ يُغَسِّلْهُمْ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ . وَفِي رِوَايَةِ بَعْضِهِمْ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَدِيثِ " وَلَا تُغَسِّلُوهُمْ وَلَا تُصَلُّوا عَلَيْهِمْ " وَلِأَنَّهُ مَيِّتٌ لَا يَجِبُ غُسْلُهُ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَجِبَ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ كَالسَّقْطِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَا يَلْزَمُ فِعْلُهُ فِي السَّقْطِ لَا يَلْزَمُ فِعْلُهُ فِي الشَّهِيدِ ، كَالْغُسْلِ فَلَا تَجِبُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ كَالسَّقْطِ ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ قُرِنَتْ بِطَهَارَةٍ فَوَجَبَ إِذَا سَقَطَ فَرْضُ الطَّهَارَةِ أَنْ يَسْقُطَ فَرْضُ الصَّلَاةِ كَالْحَائِضِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ لَا أَصْلَ لَهُ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ ، لِأَنَّهُ رِوَايَةُ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُقْبَةَ ، عَنْ مِقْسَمٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ : قَالَ لِي شُعْبَةُ : أَلَا تَرَى إِلَى هَذَا الْمَجْنُونِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ جَاءَنِي يَسْأَلُنِي أَنْ لَا أَتَكَلَّمَ فِي الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ وَهُوَ يَرْوِي عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُيَيْنَةَ ، عَنْ مِقْسَمٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ " . هَذَا حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ حَدَّثَنِي عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ ، عَنْ عَلْقَمَةَ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُصَلِّ عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَكَانَ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تَرْجِيحٌ .
وَالثَّانِي : اسْتِعْمَالٌ ، فَأَمَّا التَّرْجِيحُ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ رَاوِي خَبَرِنَا شَاهَدَ الْحَالَ ، وَهُوَ جَابِرٌ وَأَنَسٌ ، وَرَاوِي خَبَرِهِمُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَلَمْ يُشَاهِدِ الْحَالَ ، لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ عَامَ أُحُدٍ سَنَتَانِ ، وَمَاتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَهُ تِسْعُ سِنِينَ . وَالثَّانِي : مُتَّفَقٌ عَلَى اسْتِعْمَالِ بَعْضِهِ وَهُوَ الصَّلَاةُ ، وَخَبَرُهُمْ مُخْتَلَفٌ فِي اسْتِعْمَالِ جَمِيعِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ خَبَرَنَا نَاقِلٌ لِمَا ثَبَتَ مِنْ حُكْمِ الصَّلَاةِ ، وَخَبَرَهُمْ مُبْقٍ لِحُكْمِ الصَّلَاةِ ، فَكَانَ خَبَرُنَا أَوْلَى لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ التَّرْجِيحِ ، وَأَمَّا الِاسْتِعْمَالُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ نَحْمِلَ رِوَايَتَهُمْ عَلَى الدُّعَاءِ لَهُمْ دُونَ الصَّلَاةِ الَّتِي يَدْخُلُهَا بِإِحْرَامٍ وَيَخْرُجُ مِنْهَا بِسَلَامٍ . وَالثَّانِي : أَنْ نَحْمِلَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ فِي غَيْرِ الْمُعْتَرَكِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ فَمَحْمُولٌ عَلَى الدُّعَاءِ لَهُمْ بِإِجْمَاعِنَا وَإِيَّاهُمْ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ ثَمَانِ سِنِينَ غَيْرُ جَائِزَةٍ ، وَأَمَّا حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ فَلِأَنَّهُ قُتِلَ فِي غَيْرِ الْمُعْتَرَكِ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ فَمُنْتَقِضٌ بِالَّذِي إِذَا قَتَلَهُ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ هُوَ مَقْتُولٌ ظُلْمًا ثُمَّ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ ، عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِيمَنْ قُتِلَ فِي قَلْبِ الْمُعْتَرَكِ أَنَّهُ يُغَسَّلُ ، فَلِذَلِكَ صَلَّى عَلَيْهِ وَلَمَّا كَانَ الْمَقْتُولُ فِي الْمُعْتَرَكِ لَا يُغَسَّلُ فَلِذَلِكَ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهَا اسْتِغْفَارٌ فَيَفْسُدُ بِالسَّقْطِ .
فَصْلٌ : إِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْمَقْتُولَ فِي الْمُعْتَرَكِ تكفينه وهل يغسل ويصلى عليه ؟ لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ فَتَكْفِينُهُ وَدَفْنُهُ وَاجِبٌ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ ، وَثِيَابُهُ الَّتِي مَاتَ فِيهَا حَقٌّ لِوَلِيِّهِ ، إِنْ شَاءَ نَزَعَهَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ كَفَّنَهُ فِيهَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجُوزُ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَنْزِعَ عَنْهُ ثِيَابَهُ ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : زَمِّلُوهُمْ فِي كُلُومِهِمْ وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَحَلِيفًا لَهُ لَمَّا قُتِلَا يَوْمَ أُحُدٍ هَمَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَدْفِنَهُمَا بِثِيَابِهِمَا فَمَنَعَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطْلِبِ مِنْ ذَلِكَ وَجَاءَتْ بِثَوْبَيْنِ أَبْيَضَيْنِ فَكَفَّنَهُمَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمَا وَدَفَنَهُمَا مَعًا فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لِوَلِيِّهِمَا الْخِيَارَ فِي تَرْكِهَا أَوْ أَنْ يَنْزِعَهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يُكَفِّنَهُ فِي غَيْرِهَا وَيَدْفِنَهَا ، وَإِنْ تَرَكَهَا كَانَ أَوْلَى إِلَّا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَنْزِعَ عَنْهُ الْخِفَافَ وَالْفِرَاءَ وَمَا لَيْسَ مِنْ لِبَاسِ النَّاسِ غَالِبًا عَامًّا ، وَيَتْرُكَ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ غَالِبِ اللِّبَاسِ مَخِيطًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَخِيطٍ .
فَصْلٌ : قَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَ الْقَتِيلِ فِي مُعْتَرَكِ الْمُشْرِكِينَ ، وَسَوَاءٌ قُتِلَ بِالْحَدِيدِ أَوْ بِحَجَرِ الْمَنْجَنِيقِ ، أَوْ رَفْسِ حَيَوَانٍ ، أَوْ تَرَدِّي مِنْ جَبَلٍ ، أَوْ سَقَطَ فِي بِئْرٍ ، أَوْ عُصِرَ فِي زَحْمٍ ، عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ ، أَوْ مَاتَ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ بِسَبَبٍ مِنْ مُشْرِكٍ أَوْ غَيْرِهِ فَهُوَ قَتْلُ شَهَادَةٍ لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ ، إِلَّا أَنْ يَمُوتَ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ حَتْفَ أَنْفِهِ فَهُوَ كَغَيْرِهِ مِنْ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ يُغَسَّلُ وَيُكَفَّنُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ ، فَأَمَّا مَنْ جُرِحَ فِي حَرْبٍ ثُمَّ خَلَصَ حَيًّا فَمَاتَ مِنْ جِرَاحَتِهِ وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ ، أَوْ
مَاتَ بَعْدَ تَقَضِّي الْحَرْبِ بِزَمَانٍ قَرِيبٍ هل يغسل ويصلى عليه ؟ لَمْ يُغَسَّلْ وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ كَالْقَتِيلِ فِي الْمُعْتَرَكِ ، سَوَاءٌ أَكَلَ الطَّعَامَ أَمْ لَا ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ تَقَضِّي الْحَرْبِ وَانْكِشَافِهَا هل يغسل ويصلى عليه ؟ بِزَمَانٍ بَعِيدٍ غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ مَاتَ قَبْلَ أَكْلِ الطَّعَامِ لَمْ يُغَسَّلْ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ أَكْلِ الطَّعَامِ غُسِّلَ ، وَالِاعْتِبَارُ بِقُرْبِ الزَّمَانِ وَبُعْدِهِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّ عُبَيْدَةَ بْنَ الْحَارِثِ أُصِيبَتْ رِجْلُهُ بِبَدْرٍ فَحُمِلَ وَعَاشَ حَتَّى مَاتَ بِالصَّفْرَاءِ ، فَغَسَّلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَلَّى عَلَيْهِ فَلَوْ أَسَرَ الْمُشْرِكُونَ رَجُلًا وَقَتَلُوهُ بِأَيْدِيهِمْ صَبْرًا هل يغسل ويصلى عليه ؟ فَفِي غُسْلِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ كَالْجَرِيحِ إِذَا خَلَصَ حَيًّا وَمَاتَ ؛ لِأَنَّ خُرُوجَ رُوحِهِ فِي غَيْرِ الْمُعْتَرَكِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قُتِلَ ظُلْمًا بِيَدِ مُشْرِكٍ حَرْبِيٍّ كَالْقَتِيلِ فِي الْمُعْتَرَكِ ، فَأَمَّا مَنْ مَاتَ شَهِيدًا بِغَرَقٍ أَوْ حَرْقٍ أَوْ تَحْتَ هَدْمٍ أَوْ قُتِلَ غِيلَةً أَوْ قَتَلَهُ اللُّصُوصُ وَقُطَّاعُ الطَّرِيقِ فَكُلُّ هَؤُلَاءِ يُغَسَّلُونَ وَيُصَلَّى عَلَيْهِمْ ، فَقَدْ قُتِلَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ شُهَدَاءَ فَغُسِّلُوا وَصُلِّيَ عَلَيْهِمْ .
فَصْلٌ : إِذَا قُتِلَ الصَّبِيُّ أَوِ الْمَرْأَةُ فِي مُعْتَرَكِ الْمُشْرِكِينَ هل يغسلا ويصلى عليهما ؟ لَمْ يُغَسَّلُوا وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ كَغَيْرِهِمْ مِنَ الرِّجَالِ الْبَالِغِينَ ، وَوَافَقَنَا أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْمَرْأَةِ ، وَخَالَفَنَا فِي الصَّبِيِّ ، فَقَالَ : يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْغُسْلِ تَطْهِيرٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ، وَالصَّبِيُّ لَا ذَنْبَ لَهُ فَلَا يَلْحَقُهُ التَّطْهِيرُ ، فَوَجَبَ أَنْ يُغَسَّلَ ، وَهَذَا غَلَطٌ ؛ لِأَنَّ الْبَالِغَ مُخَاطَبٌ فِي حَيَاتِهِ بِطَهَارَتَيِ الْحَدَثِ وَإِزَالَةِ النَّجَسِ ، وَلَا يَلْزَمُ الصَّبِيُّ وَاحِدًا مِنْهُمَا ، فَلَمَّا سَقَطَ لِلشَّهَادَةِ الْغُسْلُ فِيمَنْ تَلْزَمُهُ الطَّهَارَتَانِ فِي حَيَاتِهِ فَلَأَنْ تَسْقُطَ بِهَا عَمَّنْ لَا تَلْزَمُهُ فِي حَيَاتِهِ أَوْلَى ، وَلِأَنَّ حُكْمَ الصَّلَاةِ وَالْغُسْلِ يَجْرِيَانِ فِي الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ عَلَى سَوَاءٍ كَالْمَوْتَى ، وَأَمَّا قَوْلُهُ : تَرْكُ الْغُسْلِ تَطْهِيرٌ فَلَيْسَ كَذَلِكَ ، وَإِنَّمَا تُرِكَ لِأَنَّهُ اسْتَغْنَى بِكَرَامَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَنْهُ .
فَصْلٌ : إِذَا كَانَ قَبْلَ الْمَعْرَكَةِ جُنُبًا حكم غسله ولما يكون الغسل ؟ فَلَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ نَصٌّ فِي إِيجَابِ غُسْلِهِ ، لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ ، فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ : يَجِبُ غُسْلُهُ لِلْجَنَابَةِ لَا لِلْمَوْتِ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ . فَمَنْ أَوْجَبَ غُسْلَهُ اسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ حَنْظَلَةَ بْنَ الرَّاهِبِ قُتِلَ يَوْمَ
أُحُدٍ فَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَلَائِكَةَ تُغَسِّلُهُ فَبَعَثَ إِلَى أَهْلِهِ فَسَأَلَ عَنْ شَأْنِهِ فَقَالُوا : لَا عِلْمَ لَنَا بِهِ غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ وَاقَعَ أَهْلَهُ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْحَرْبِ جُنُبًا " ، فَلَمَّا غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ ، وَالْمَلَائِكَةُ لَا تُغَسِّلُهُ إِلَّا عَنْ أَمْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ غُسْلَهُ مَأْمُورٌ بِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَزِمَهُ غُسْلُ جَمِيعِ بَدَنِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ بِالْقَتْلِ ، كَمَا إِذَا كَانَ عَلَى جَمِيعِ بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ ثُمَّ قُتِلَ شَهِيدًا . وَمَنْ قَالَ لَا يَجِبُ غُسْلُهُ اسْتَدَلَّ بِأَنَّهَا طَهَارَةٌ عَنْ حَدَثٍ فَوَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ بِالْقَتْلِ كَالطَّهَارَةِ الصُّغْرَى ، وَلِأَنَّ الْحَيَّ الْجُنُبَ إِنَّمَا يُغَسَّلُ ؛ لِأَنْ يُصَلِّيَ ، وَالْمَيِّتَ إِنَّمَا يُغَسَّلُ ؛ لِأَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ ، وَإِذَا كَانَ هَذَا الْقَتِيلُ الْجُنُبُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ فَلَا مَعْنَى لِغُسْلِهِ ، فَأَمَّا إِزَالَةُ النَّجَاسَةِ مِنْ بَدَنِهِ الميت فَإِنْ كَانَتْ مِنْ جِهَةِ الشَّهَادَةِ لَمْ يَجِبْ إِزَالَتُهَا ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الشَّهَادَةِ كَالْبَوْلِ وَالْخَمْرِ وَجَبَ إِزَالَتُهَا ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجَنَابَةِ أَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ إِزَالَةُ قَلِيلِ النَّجَاسَةِ وَجَبَ إِزَالَةُ كَثِيرِهَا ، وَلَمَّا لَمْ يَجِبْ إِزَالَةُ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ لَمْ يَجِبْ إِزَالَةُ الْأَكْبَرِ .
فَصْلٌ : قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيمَنْ قُتِلَ فِي مَعْرَكَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ ، فَأَمَّا مَنْ قُتِلَ فِي مَعْرَكَةِ أَهْلِ الْبَغْيِ غسل الميت والصلاة عليه فَلَهُ حَالَانِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَاغِيًا أَوْ عَادِلًا ، فَإِنْ كَانَ بَاغِيًا غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : " لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ اسْتِهَانَةً بِهِ ، لِأَنَّهُ بَايَنَ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِفِعْلِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُغَسَّلَ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ كَالْحَرْبِيِّ " . وَالدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِ غُسْلِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ صَلُّوا عَلَى مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَخَلْفَ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ " لَا تُكَفِّرُوا أَحَدًا مِنْ أَهْلِ مِلَّتِكُمْ وَإِنْ عَمِلُوا الْكَبَائِرَ ، وَجَاهِدُوا مَعَ كُلِّ أَمِيرٍ ، وَصَلُّوا عَلَى كُلِّ مَيِّتٍ " وَلِأَنَّهُ مُسْلِمٌ مَقْتُولٌ فَوَجَبَ أَنْ يُغَسَّلَ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ كَالزَّانِي الْمُحْصَنِ ، وَالْقَاتِلِ الْعَامِدِ ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ اسْتِغْفَارٌ وَرَحْمَةٌ وَالْبَاغِي إِلَيْهَا أَحْوَجُ ، فَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ فَغَلَطٌ لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا .
فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ عَادِلًا فَفِي غُسْلِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ :
أَحَدُهُمَا : يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ صَلَّى عَلَى قَتْلَاهُ ، وَلِأَنَّهُ مُسْلِمٌ قَتَلَهُ مُسْلِمٌ فَوَجَبَ أَنْ يُغَسَّلَ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ كَالْمَقْتُولِ غِيلَةً . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ لَمَّا قُتِلَ بِصِفِّينَ لَمْ يُغَسَّلْ وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ بِوَصِيَّةِ عَمَّارٍ ، وَأَمْرِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَلِأَنَّهُ مُسْلِمٌ قُتِلَ فِي الْمَعْرَكَةِ ظُلْمًا فَوَجَبَ أَنْ لَا يُغَسَّلَ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ كَالْقَتِيلِ فِي مَعْرَكَةِ الْمُشْرِكِينَ .
فَصْلٌ : إِذَا اخْتَلَطَ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ بِمَوْتَى الْمُشْرِكِينَ فكيف يصلي عليهم صَلَّى عَلَى جَمَاعَتِهِمْ وَاحِدًا وَاحِدًا ، وَنَوَى بِالصَّلَاةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ ، وَسَوَاءٌ اخْتَلَطَ مُسْلِمٌ بِمِائَةِ مُشْرِكٍ ، أَوْ مُشْرِكٌ بِمِائَةِ مُسْلِمٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ أَكْثَرَ صَلَّى عَلَيْهِمْ ، وَإِنْ كَانُوا أَقَلَّ أَوْ كَانُوا سَوَاءً لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ ، اعْتِبَارًا بِحُكْمِ الْأَغْلَبِ ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ يُصَلَّى عَلَيْهِمْ إِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ أَكَثُرَ رَجَاءَ أَنْ تَكُونَ صَلَاةً عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ إِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ أَقَلَّ ، وَإِنْ كَانَ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ إِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ أَقَلَّ خَوْفًا مِنْ أَنْ تَكُونَ صَلَاةً عَلَى كُلِّ كَافِرٍ فَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ إِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ أَكَثَرَ ، فَعُلِمَ فَسَادُ مَا اعْتَبَرُوهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ حَمْلِ الْجِنَازَةِ
بَابُ حَمْلِ الْجِنَازَةِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ حَمَلَ فِي جِنَازَةِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ حَمَلَ سَرِيرَ ابْنَ عَوْفٍ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ عَلَى كَاهِلِهِ ، وَأَنَّ عُثْمَانَ حَمَلَ بَيْنَ عَمُودَيْ سَرِيرِ أُمِّهِ فَلَمْ يُفَارِقْهُ حَتَّى وُضِعَ . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ حَمَلَ بَيْنَ عَمُودَيْ سَرِيرِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ ، وَأَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ حَمَلَ بَيْنَ عَمُودَيْ سَرِيرِ الْمِسْوَرِ ( قَالَ ) وَوَجْهُ حَمْلِهَا مِنَ الْجَوَانِبِ أَنْ يَضَعَ يَاسِرَةَ السَّرِيرِ الْمُقَدَّمَةَ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْمَنِ ثَمَّ يَاسِرَتَهُ الْمُؤَخَّرَةَ ثُمَّ يَامِنَةَ السَّرِيرِ الْمُقَدَّمَةَ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْسَرِ ثُمَّ يَامِنَتَهُ الْمُؤَخَّرَةَ ، فَإِنْ كَثُرَ النَّاسُ أَحْبَبْتُ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرُ حَمْلِهِ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ وَمِنْ أَيْنَ حُمِلَ فَحَسَنٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : السُّنَّةُ فِي حَمْلِ الْجِنَازَةِ أَنْ يَحْمِلَهَا خَمْسَةٌ ، أَرْبَعَةٌ فِي جَوَانِبِهَا وَوَاحِدٌ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : السُّنَّةُ أَنْ يَحْمِلَهَا أَرْبَعَةٌ فِي جَوَانِبِهَا ، وَلَيْسَ مِنَ السُّنَّةِ حَمْلُهَا بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ . وَدَلِيلُنَا فِي ذَلِكَ : مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ حَمَلَ جِنَازَةَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ وَرُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ حَمَلَ سَرِيرَ ابْنِ عَوْفٍ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ عَلَى كَاهِلِهِ ، وَأَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَمَلَ بَيْنَ عَمُودَيْ سَرِيرِ أُمِّهِ فَلَمْ يُفَارِقْهُ حَتَّى وُضِعَ ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ حَمَلَ بَيْنَ عَمُودَيْ سَرِيرِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ ، وَأَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ حَمَلَ بَيْنَ عَمُودَيْ سَرِيرِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَمْكَنُ وَأَحْصَرُ لِلْمَحْمُولِ ، فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَوَجْهُ حَمْلِهَا مِنَ الْجَوَانِبِ ، أَنْ يُوضَعَ بِأَسِرَّةِ السَّرِيرِ مِنْ مُقَدَّمِهِ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْمَنِ وَيَتَأَخَّرَ ، وَيُوضَعَ بِأَسِرَّةِ
السَّرِيرِ مِنْ مُؤَخَّرِهِ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْمَنِ ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ وَيَضَعُ السَّرِيرَ مِنْ مُقَدَّمِهِ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْسَرِ ، ثُمَّ يَتَأَخَّرُ وَيَضَعُ ثَامِنَةَ السَّرِيرِ مِنْ مُؤَخَّرِهِ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْسَرِ ، ثُمَّ يَتَقَدَّمَ ، ثُمَّ يَحْمِلَ الْخَامِسُ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْمُقَدَّمَيْنِ عَلَى كَاهِلِهِ ، فَإِنْ ثَقُلَتِ الْجِنَازَةُ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَحْمِلَهَا سِتَّةٌ وَثَمَانٍ وَعَشْرٌ ، وَأَنْ يُجْعَلَ تَحْتَهَا أَعْمِدَةٌ مُعَارَضَةٌ تَمْنَعُ الْجِنَازَةَ ، كَذَا حُمِلَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُبَدَّنًا ثَقِيلًا ، فَأَمَّا النِّسَاءُ فَيُخْتَارُ لَهُنَّ إِصْلَاحُ النَّعْشِ كَالْقُبَّةِ عَلَى السَّرِيرِ لِمَا فِيهِ مِنَ الصِّيَانَةِ ، وَكَانَ الْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاتَتْ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَكَانَتْ خَلِيقَةً ذَاتَ جِسْمٍ ، فَلَمَّا أَخْرَجُوهَا رَأَى النَّاسُ جُثَّتَهَا فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ : قَدْ رَأَيْتُ فِي بِلَادِ الْحَبَشَةِ نُعُوشًا لِمَوْتَاهُمْ ، فَعَمِلَتْ نَعْشًا لِزَيْنَبَ فَلَمَّا عُمِلَ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : نِعْمَ خِبَا الظَّعِينَةِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَيْسَ فِي حَمْلِ الْجِنَازَةِ دَنَاءَةٌ وَلَا إِسْقَاطُ مُرُوءَةٍ ، بَلْ ذَلِكَ مَكْرُمَةٌ وَثَوَابٌ وَبِرٌّ ، وَفِعَالُ أَهْلِ الْخَيْرِ ، قَدْ فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ ، وَيَتَوَلَّى حَمْلَ الْجِنَازَةِ الرِّجَالُ دُونَ النِّسَاءِ مَا كَانُوا مَوْجُودِينَ ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَيِّتُ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً ، وَكَيْفَمَا حُمِلَتِ الْجِنَازَةُ جَازَ .
بَابُ الْمَشْيِ بِالْجِنَازَةِ
بَابُ الْمَشْيِ بِالْجِنَازَةِ
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَالْمَشْيُ بِالْجِنَازَةِ الْإِسْرَاعُ وَهُوَ فَوْقَ سَجِيَّةِ الْمَشْيِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ كَمَا قَالَ . الْمُخْتَارُ لِحَامِلِ الْجِنَازَةِ أَنْ يَزِيدَ عَلَى سَجِيَّةِ مَشْيِهِ كَالْمُسْرِعِ ، وَلَا يَسْعَى ؛ لِرِوَايَةِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " أَسْرِعُوا بِالْجِنَازَةِ ، فَإِنْ كَانَ خَيْرًا تُقَدِّمُونَهَا إِلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَشَرٌّ وَضَعْتُمُوهُ عَنْ رِقَابِكُمْ " . وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ سَأَلْنَا نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْإِسْرَاعِ بِالْجِنَازَةِ فَقَالَ : " دُونَ الْخَبَبِ فَإِنْ كَانَ خَيْرًا تُعَجَّلُ إِلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَبُعْدًا لِأَهْلِ النَّارِ " . قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَإِنْ كَانَ بِالْمَيِّتِ عِلَّةٌ يَخَافُ النَّجَاسَةَ يَعْنِي انْفِجَارَهُ تَرَفَّقَ بِهِ فِي الْمَشْيِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَالْمَشْيُ أَمَامَهَا أَفْضَلُ الجنازة ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ كَانُوا يَمْشُونَ أَمَامَ الْجِنَازَةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . وَبِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْمَشْيُ خَلْفَهَا أَفْضَلُ ، وَرَوَاهُ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . وَقَالَ الثَّوْرِيُّ : إِنْ كَانَ رَاكِبًا فَالْمَشْيُ أَمَامَهَا أَفْضَلُ ، وَإِنْ كَانَ مَاشِيًا كَانَ بِالْخِيَارِ ، وَرَوَاهُ عَنْ أَنَسٍ . وَاسْتَدَلُّوا عَلَى فَضْلِ الْمَشْيِ خَلْفَهَا الجنازة بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
الْجِنَازَةُ مَتْبُوعَةٌ لَا تَتْبَعُ ، لَيْسَ مِنْهَا مَنْ تَقَدَّمَهَا " . وَبِمَا رَوَاهُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ : " فَضْلُ الْمَشْيِ خَلْفَ الْجِنَازَةِ عَلَى الْمَشْيِ أَمَامَ الْجِنَازَةِ كَفَضْلِ الْمَكْتُوبَةِ عَلَى النَّافِلَةِ ، سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَمْشِي خَلْفَهَا ، وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَمَامَهَا ، فَقَالَ : إِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ يَعْلَمَانِ أَنَّ الْمَشْيَ خَلْفَهَا أَفْضَلُ ، وَلَكِنَّهُمَا يُسَهِّلَانِ عَلَى النَّاسِ . قَالُوا : وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " إِنَّ الْجِنَازَةَ تَقُولُ قَدِّمُونِي قَدِّمُونِي " . وَدَلِيلُنَا عَلَى فَضْلِ الْمَشْيِ أَمَامَهَا الجنازة رِوَايَةُ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا يَمْشُونَ أَمَامَ الْجِنَازَةِ ، وَلَفْظَةُ كَانَ عِبَارَةٌ عَنْ دَوَامِ الْفِعْلِ وَالْمُقَامِ عَلَيْهِ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ الْجَائِزَ مَرَّةً وَلَا يَدُومُ إِلَّا عَلَى الْأَفْضَلِ ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَشَى خَلْفَ الْجِنَازَةِ . وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّاسِ فِي جِنَازَةِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ : امْشُوا أَمَامَ أُمِّكُمْ . وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَنْهَى بِفِعْلِ الشَّيْءِ إِلَى غَيْرِهِ إِلَّا لِفَضْلِ مَا أَمَرَ بِهِ عَلَى مَا نَهَى عَنْهُ ، وَلِأَنَّ أَفْضَلَ مَنْ مَشَى مَعَ الْجِنَازَةِ حَامِلُهَا ؛ لِأَنَّ لَهُ أَجْرَيْنِ ، وَالْمَاشِي مَعَ الْجِنَازَةِ أَجْرٌ ، ثُمَّ كَانَ مَنْ حَمَلَ قُدَّامَ الْجِنَازَةِ أَفْضَلَ مِمَّنْ حَمَلَ مِنْ مُؤَخَّرِهَا ، كَذَلِكَ مَنْ مَشَى أَمَامَ الْجِنَازَةِ أَفْضَلُ مِمَّنْ مَشَى خَلْفَهَا . فَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَضَعِيفُ الْإِسْنَادِ ، عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَيْسَ مَعَهَا مَنْ تَقَدَّمَهَا " يُحْمَلُ عَلَى مَنْ تَبَاعَدَ عَنْهَا وَانْقَطَعَ مِنْهَا . وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ فَأَضْعَفُ مِنَ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ رِوَايَةُ مُطَرِّفِ بْنِ يَزِيدَ ، وَكَانَ كَذَّابًا يَضَعُ الْحَدِيثَ ، عَلَى أَنَّ خَبَرَنَا أَوْلَى مِنْهُ ، لِأَنَّهُ يَفْعَلُ فِعْلًا دَاوَمَ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ، وَقَوْلُهُ : إِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَعْلَمَانِ فَضْلَ الْمَشْيِ خَلْفَهَا وَلَكِنَّهُمَا يُسَهِّلَانِ عَلَى النَّاسِ ، فَحَدِيثٌ غَيْرُ ثَابِتٍ ، لِأَنَّهُ رِوَايَةُ بَحْرِ بْنِ جَابِرٍ وَكَانَ ضَعِيفًا ، وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ بَحْرًا قِيلَ لَهُ : مَنْ حَدَّثَكَ ؟ فَقَالَ : طَائِرٌ مَرَّ بِنَا . وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الْجِنَازَةُ تَقُولُ : قَدِّمُونِي " فَمَعْنَاهُ : أَسْرِعُوا بِي .
فَصْلٌ : يُكْرَهُ لِمَنْ تَبِعَ الْجِنَازَةَ ، أَنْ يَرْكَبَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ضَعِيفًا ، أَوْ يَكُونَ الطَّرِيقُ بَعِيدًا ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَا رَكِبَ فِي عِيدٍ وَلَا جِنَازَةٍ قَطُّ " .
وَرَوَى ذَلِكَ الزُّهْرِيُّ ، فَإِذَا عَادَ مِنَ الدَّفْنِ جَازَ أَنْ يَرْكَبَ ، وَلَمْ يُكْرَهْ ذَلِكَ لَهُ ، وَرَوَى سَمُرَةَ بْنُ جُنْدُبٍ لَمَّا مَاتَ ثَابِتُ بْنُ الدَّحْدَاحِ تَبِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِنَازَتَهُ مَاشِيًا ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ دَفْنِهِ أُتِيَ بِفَرَسٍ فَرَكِبَهُ ، وَرَجَعَ عَلَيْهِ " .
بَابُ مَنْ هُوَ أَوْلَى بِالصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ
بَابُ مَنْ هُوَ أَوْلَى بِالصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَالْوَلِيُّ أَحَقُّ بِالصَّلَاةِ مِنَ الْوَالِي ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنَ الْأُمُورِ الْخَاصَّةِ " . مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ : أَنَّ الْوَلِيَّ الْمُنَاسِبَ أَوْلَى بِالصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ وَالِي الْبَلَدِ وَسُلْطَانِهِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : وَالِي الْبَلَدِ وَسُلْطَانُهُ أَوْلَى بِالصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ سَائِرِ أَوْلِيَائِهِ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ . اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَا يَؤُمَّنَّ رَجُلٌ رَجُلًا فِي سُلْطَانِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ " . وَرُوِيَ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - قَدَّمَ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ حَتَّى صَلَّى عَلَى أَخِيهِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَقَالَ : " لَوْلَا السُّنَّةُ لَمَا قَدَّمْتُكَ " . وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ سُنَّ لَهَا الْجَمَاعَةُ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْوَالِي بِإِقَامَتِهَا أَوْلَى مِنَ الْوَلِيِّ ، كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ وَوَجَّهَ فِي الْجَدِيدِ عُمُومَ قَوْلِهِ تَعَالَى : " وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ " ، [ الْأَنْفَالِ : ] ، وَلِأَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ بِالنَّسَبِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ أَحَقَّ مِنَ الْوَالِي كَالنِّكَاحِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ تَقَدَّمَ عَلَى غَيْرِهِ فِي النِّكَاحِ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ ، كَالْقَرِيبِ عَلَى الْبَعِيدِ ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ الِاسْتِغْفَارُ وَالتَّرَحُّمُ وَالِاسْتِكْثَارُ مِنَ الدُّعَاءِ . وَلِهَذَا كَانَ الْأَبُ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ ، لِأَنَّهُ أَشْفَقُ وَأَحْنَى وَأَرَقُّهُمْ عَلَيْهِ ، قُلْنَا : فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ أَوْلَى لِاخْتِصَاصِهِ بِهَذَا الْمَعْنَى . فَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَحْمُولٌ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ . وَأَمَّا تَقْدِيمُ الْحُسَيْنِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِسَعِيدٍ ، وَقَوْلُهُ : لَوْلَا السُّنَّةُ لَمَا قَدَّمْتُكَ ، يَعْنِي : إِنَّ مِنَ السُّنَّةِ تَقْدِيمَ الْوُلَاةِ عَلَى طَرِيقِ الْأَدَبِ لَا الْوَاجِبُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ سَعِيدًا اسْتَأْذَنَ الْحُسَيْنَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ ، وَلَوْ كَانَ حَقًّا لَهُ لَمَا اسْتَأْذَنَ فِيهِ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى سَائِرِ الصَّلَوَاتِ ، فَالْمَعْنَى فِيهَا ثُبُوتُ الْحَقِّ فِيهَا ، بِالْوِلَايَةِ دُونَ النَّسَبِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَأَحَقُّ قَرَابَتِهِ الْأَبُ ثُمَّ الْجَدُّ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ ثَمَّ الْوَلَدُ وَوَلَدُ الْوَلَدِ ثُمَّ الْأَخُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ ثُمَّ الْأَخُ لِلْأَبِ ثُمَّ أَقْرَبُهُمْ بِهِ عَصَبَةً " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ أَوْلِيَاءَ الْمَيِّتِ أَحَقُّ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ مِنَ الْوَالِي ، فَأَحَقُّ الْأَوْلِيَاءِ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ الْأَبُ ، لِأَنَّهُ قَدْ شَارَكَ الِابْنَ فِي الْبَعْضِيَّةِ ، وَاخْتُصَّ بِفَضْلِ الْحُنُوِّ وَالشَّفَقَةِ ، ثُمَّ الْجَدُّ أَبُو الْأَبِ ، وَمَنْ عَلَا مِنْهُمْ لِمُشَارَكَتِهِمُ الْأَبَ فِي هَذَا الْمَعْنَى ، ثُمَّ الْأَبُ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْبَعْضِيَّةِ وَقُرْبِهِ بِالتَّعْصِيبِ ، ثُمَّ بَنُو الِابْنِ وَإِنْ سَفُلُوا لِمُشَارَكَتِهِمُ الِابْنَ فِي هَذَا لِاخْتِصَاصِهِمُ الْمَعْنَى ، ثُمَّ الْإِخْوَةُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ تَتَقَدَّمُ عَلَى الْإِخْوَةِ لِلْأَبِ ، بِالرَّحِمِ مَعَ مُشَارَكَتِهِمْ فِي التَّعْصِيبِ ، وَلَا وَجْهَ لِمَنْ خَرَّجَ مِنْ أَصْحَابِنَا قَوْلًا ثَانِيًا ، أَنَّهُمْ سَوَاءٌ مِنْ وِلَايَةِ النِّكَاحِ ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ أَصْحَابِنَا امْتَنَعُوا مِنْ تَخْرِيجِهِ فِي الصَّلَاةِ ، احْتِجَاجًا بِمَا ذَكَرْتُ ، وَأَنَّ لِلْإِمَامِ مَدْخَلًا فِي الْوِلَايَةِ عَلَى الْمَيِّتِ فِي غُسْلِهِ ، فَقَوِيَ الْأَخُ بِهَا وَلَا مَدْخَلَ لَهَا فِي النِّكَاحِ ، فَلَمْ يَزْدَدِ الْأَخُ بِهَا قُوَّةً ، فَهُنَاكَ ثُمَّ الْإِخْوَةُ لِلْأَبِ ، ثُمَّ بَنُو الْإِخْوَةِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ ، ثُمَّ بَنُو الْإِخْوَةِ لِلْأَبِ ، ثُمَّ الْأَعْمَامُ ثُمَّ بَنُوهُمْ يَتَرَتَّبُونَ عَلَى تَرْتِيبِ الْعَصَبَاتِ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَصَبَةٌ ، فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنِ اجْتَمَعَ لَهُ أَوْلِيَاءٌ فِي دَرَجَةٍ فمن أولى بالصلاة على الميت ؟ ، فَأَحَبُّهُمْ إِلَيَّ أَسَنُّهُمْ ، فَإِنْ لَمْ يُحْمَدْ حَالُهُ فَأَفْضَلُهُمْ وَأَوْفَقُهُمُ ، فَإِنِ اسْتَوَوْا أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ ، وَالْوَلِيُّ الْحُرُّ أَوْلَى مِنَ الْوَلِيِّ الْمَمْلُوكِ " ، وَهُوَ كَمَا قَالَ إِذَا كَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَوْلِيَاءَ قَدِ اسْتَوَوْا فِي الدَّرَجِ كَالْبَنِينَ وَالْإِخْوَةِ ، فَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ يُحْسِنُ الصَّلَاةَ ، وَبَعْضُهُمْ لَا يُحْسِنُهَا ، فَالَّذِي يُحْسِنُهَا مِنْهُمْ أَوْلَى بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ مِنْ بَاقِيهِمْ ، وَإِنْ كَانَ جَمِيعُهُمْ يُحْسِنُهَا ، فَأَسَنُّهُمْ إِذَا كَانَ مَحْمُودًا أَوْلَى بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ أَفْقَهُ مِنْهُ ، وَإِنَّمَا كَانَ الْمُسِنُّ أَوْلَى مِنَ الْفَقِيهِ بِخِلَافِ إِمَامَةِ الصَّلَوَاتِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ الِاسْتِغْفَارُ لَهُ وَالتَّرَحُّمُ عَلَيْهِ وَالدُّعَاءُ لَهُ ، وَذَلِكَ مِنَ الْمُسِنِّ أَقْرَبُ إِلَى الْإِجَابَةِ ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ إِكْرَامُ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ " فَإِنِ اسْتَوَتْ أَحْوَالُهُمْ فِي السِّنِّ ، وَتَشَاحَنُوا أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ ، فَمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ كَانَ أَوْلَى ، فَأَمَّا الْعَبْدُ الْمُنَاسِبُ ، فَلَا وِلَايَةَ لَهُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ يَمْنَعُ مِنْ ثُبُوتِ الْوِلَايَاتِ .
فَصْلٌ : لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَوْصَى قَبْلَ مَوْتِهِ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ رَجُلٌ بِعَيْنِهِ مِنْ غَيْرِ أَوْلِيَائِهِ ، فَقَدْ حُكِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، وَأُمِّ سَلَمَةَ ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَابْنِ سِيرِينَ ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ : أَنَّهُ أَحَقُّ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ مِنْ جَمِيعِ الْأَوْلِيَاءِ ، وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ مَالِكٍ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْأَوْلِيَاءَ أَوْلَى بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُمْ فَلَمْ تُنَفَّذْ فِيهِ وَصِيَّةُ الْمَيِّتِ لِانْقِطَاعِ وِلَايَتِهِ ، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ دُخُولِ النَّقْصِ عَلَى أَوْلِيَائِهِ ، وَمِثَالُ هَذَا : وَصِيَّةُ الْمَيِّتِ لِتَزْوِيجِ بَنَاتِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ وَقْتِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ
بَابُ وَقْتِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيُصَلَّى عَلَى الْجَنَائِزِ فِي كُلِّ وَقْتٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، الصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ لَا يَخْتَصُّ بِهَا وَقْتٌ دُونَ وَقْتٍ ، وَلَا تُكْرَهُ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ ، وَيَجُوزُ فِعْلُهَا فِي الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا ، وَكَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ فِعْلَهَا فِي الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا ؛ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي الصَّلَوَاتِ الَّتِي لَهَا أَسْبَابٌ ، وَاسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ : نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُصَلِّيَ ثَلَاثَ سَاعَاتٍ ، وَأَنْ نَقْبُرَ فِيهَا مَوْتَانَا : حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ بَازِغَةً حَتَى تَرْتَفِعَ ، وَحِينَ تَقُومُ الظَّهِيرَةُ حَتَّى تَمِيلَ الشَّمْسُ ، وَحِينَ تَصْفَرُّ لِلْغُرُوبِ حَتَّى تَغْرُبُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ مَا قَدَّمْنَاهُ مَعَهُ مِنَ الْكَلَامِ فِي أَصْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، ثُمَّ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى عَيْنِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : مَا رُوِيَ أَنَّ عَقِيلَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَاتَ فَصَلَّى عَلَيْهِ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ عِنْدَ اصْفِرَارِ الشَّمْسِ ، فَلَمْ يُعْلَمْ أَحَدٌ أَنْكَرَ ذَلِكَ فَكَانَ إِجْمَاعًا ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ لَهَا سَبَبٌ ، فَجَازَ فِعْلُهَا فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ كَالْمَفْرُوضَاتِ ، فَأَمَّا حَدِيثُ عُقْبَةَ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ ، لِأَنَّهُ نَهَى عَنْ قَبْرِ الْمَوْتَى فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْهُ إِجْمَاعًا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنِ اجْتَمَعَتْ جَنَائِزُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ فكيف يوضعوا للصلاة عليهم ؟ وَأَرَادُوا الْمُبَادَرَةَ جَعَلُوا النِّسَاءَ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةِ ثَمَّ الصِّبْيَانُ يَلُونَهُمْ ثَمَّ الرِّجَالُ مِمَا يَلِي الْإِمَامَ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) قُلْتُ أَنَا : وَالْخَنَاثَى فِي مَعْنَاهُ يَكُونُ النِّسَاءُ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ الصِّبْيَانِ كَمَا جَعَلَهُمْ فِي الصَّلَاةِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ " .
بَابُ هَلْ يُسَنُّ الْقِيَامُ عِنْدَ وُرُودِ الْجِنَازَةِ لِلصَّلَاةِ وَفِي كَيْفِيَّةِ الصَّلَاةِ وَالدَّفْنِ
بَابُ هَلْ يُسَنُّ الْقِيَامُ عِنْدَ وُرُودِ الْجِنَازَةِ لِلصَّلَاةِ وَفِي كَيْفِيَّةِ الصَّلَاةِ وَالدَّفْنِ ؟ ( قَالَ ) حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ : حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ ، عَنِ الشَّافِعِيِّ قَالَ : " الْقِيَامُ فِي الْجَنَائِزِ مَنْسُوخٌ ، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . قَالَ إِبْرَاهِيمُ : قَالَ حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُسْلِمٍ الْمِصِّيصِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَدٍ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ : أَخْبِرَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ الْحَكَمِ ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ شَهِدَ جِنَازَةً مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَرَأَى النَّاسَ قِيَامًا يَنْتَظِرُونَ أَيْنَ تُوضَعُ ، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ بِدِرَّةٍ أَوْ سَوْطٍ : اجْلِسُوا فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَلَسَ بَعْدَ مَا كَانَ يَقُومُ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ : وَأَخْبَرَنِي نَافِعُ بْنُ جُبَيْرٍ ، عَنْ مَسْعُودٍ ، عَنْ عَلِيٍّ مِثْلَهُ " . ثُمَّ إِذَا اجْتَمَعَتْ عِدَّةُ جَنَائِزَ فكيف يصلي عليها ؟ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَخُصَّ كُلَّ جِنَازَةٍ بِصَلَاةٍ مُنْفَرِدَةٍ ، وَتُقَدَّمَ الصَّلَاةُ عَلَى السَّابِقِ ، فَإِذَا جَاءُوا عَلَى سَوَاءٍ وَلَمْ يَتَشَاحَنُوا فَالصَّلَاةُ عَلَى أَفْضَلِهِمْ نَسَبًا وَدِينًا ، إِلَّا أَنْ يُخَافَ مِنْ غَيْرِهِ الْفَسَادُ ، فَيُبْدَأَ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ ، فَإِنْ تَشَاحَنُوا فِي التَّقْدِيمِ أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ ، وَبَدَأَ بِمَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ ، وَإِنْ كَانَ أَنْقَصَهُمْ ، فَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ مُنْفَرِدِينَ ، جَازَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِمْ مُجْتَمِعِينَ ، فَإِنْ كَانُوا جِنْسًا وَاحِدًا رِجَالًا لَا غَيْرَ أَوْ نِسَاءً كَذَلِكَ ، فَالْمُخْتَارُ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلُهُمْ أَقْرَبَ إِلَى الْإِمَامِ ، ثُمَّ بَعْدَهُ مَنْ يَلِيهِ فِي الْفَضْلِ ، حَتَّى يَكُونَ أَقَلُّهُمْ فَضْلًا أَبْعَدَهُمْ مِنَ الْإِمَامِ وَأَقْرَبَهُمْ إِلَى الْقِبْلَةِ ، كَمَا يَخْتَارُ أَنْ يَكُونَ أَقْرَبُ الْأَحْيَاءِ أَقْرَبَ إِلَى الْإِمَامِ ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لِيَلِيَنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى " هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ قَدْ سَبَقَتْ إِلَى الْمَوْضِعِ جِنَازَةُ غَيْرِهِ ، فَأَمَّا إِنْ سَبَقَتْ جِنَازَةُ غَيْرِهِ مِمَّنْ لَيْسَ بِأَفْضَلَ وَوُضِعَتْ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ تُؤَخَّرَ لِجِنَازَةِ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ ، كَالْحَيِّ إِذَا سَبَقَ إِلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ ، لَمْ يَكُنْ لِمَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ أَنْ يُؤَخِّرَهُ عَنْ مَوْضِعِهِ ، فَأَمَّا إِنْ كَانُوا أَجْنَاسًا الصلاة على الجنائز بَدَأَ فَقَدَّمَ الرِّجَالَ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ ، ثُمَّ بَعْدَهُمُ الصِّبْيَانَ ، ثُمَّ بَعْدَهُمُ الْخَنَاثَى ثُمَّ بَعْدَهُمُ النِّسَاءَ ، وَهُوَ أَقْرَبُ الْجَمَاعَةِ إِلَى الْقِبْلَةِ ، وَأَبْعَدُهُمْ مِنَ الْإِمَامِ ، وَاخْتَارَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ضِدَّ هَذَا ، فَقَالَ : يَكُونُ الرِّجَالُ أَقْرَبَ إِلَى الْقِبْلَةِ ، وَالنِّسَاءُ أَقْرَبَ إِلَى الْإِمَامِ كَالدَّفْنِ ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى فِي الِاخْتِيَارِ ، لِمَا رَوَاهُ نَافِعٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ صَلَّى عَلَى تِسْعِ جَنَائِزَ ، فَجَعَلَ الرِّجَالَ مِمَّا يَلِيهِ ، وَالنِّسَاءَ صُفُوفًا وَرَاءَ الرِّجَالِ .
وَرَوَى عَمَّارٌ مَوْلَى الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ أَنَّهُ شَهِدَ جِنَازَةَ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا امْرَأَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، وَابْنِهَا زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَكَانَا مَاتَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ ، فَوُضِعَا جَمِيعًا فِي الْمُصَلَّى ، وَالْإِمَامُ يَوْمَئِذٍ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ وَهُوَ الْأَمِيرُ ، وَفِي النَّاسِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَأَبُو قَتَادَةَ ، فَوَضَعَ الْغُلَامَ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ ، قَالَ : فَأَنْكَرْتُ ذَلِكَ ، فَنَظَرْتُ إِلَى هَؤُلَاءِ فَقُلْتُ : مَا هَذَا ؟ فَقَالُوا : هَذِهِ السُّنَّةُ . وَلِأَنَّهُمْ إِذَا صَلَّوْا خَلْفَ الْإِمَامِ ، كَانَ الرِّجَالُ أَقْرَبَهُمْ إِلَى الْإِمَامِ ، كَذَلِكَ إِذَا صَلَّى عَلَيْهِ الْإِمَامُ ، فَأَمَّا الدَّفْنُ فَيُخْتَارُ أَنْ يَكُونَ الرِّجَالُ أَقْرَبَ إِلَى الْقِبْلَةِ ، ثُمَّ الصِّبْيَانُ ، ثُمَّ الْخَنَاثَى ، ثُمَّ النِّسَاءُ أَبْعَدَ الْجَمَاعَةِ مِنْهَا ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَخِّرُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ " وَكَانَ هَذَا بِخِلَافِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ الْفَضْلَ فِي الْقُرْبِ مِنَ الْإِمَامِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ إِمَامٌ كَانَ الْفَضْلُ فِي الْقُرْبِ مِنَ الْقِبْلَةِ ، فَإِنْ خُولِفَ مَا اخْتَرْنَاهُ أَجْزَأَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا مَوْقِفُ الْإِمَامِ مِنَ الْمَيِّتِ ؛ فَلَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ فِيهِ نَصٌّ ، لَكِنْ قَالَ أَصْحَابُنَا الْبَصْرِيُّونَ : يَقِفُ عِنْدَ صَدْرِ الرَّجُلِ ، وَعِنْدَ عَجُزِ الْمَرْأَةِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ . وَقَالَ الْبَغْدَادِيُّونَ : يَقِفُ عِنْدَ رَأْسِ الرَّجُلِ وَعَجُزِ الْمَرْأَةِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَقِفُ عِنْدَ صَدْرِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ جَمِيعًا ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى ؛ لِرِوَايَةِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ : صَلَّيْتُ وَرَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى امْرَأَةٍ مَاتَتْ بِالنِّفَاسِ يُقَالُ لَهَا أُمُّ كَعْبٍ ، فَوَقَفَ عِنْدَ وَسَطِهَا ، وَكَبَّرَ أَرْبَعًا . وَلِأَنَّ عَجُزَهَا أَعْظَمُ عَوْرَتِهَا فَاخْتَرْنَا أَنْ يَقِفَ عِنْدَهُ لِيَسْتُرَهُ .
فَصْلٌ الْقَوْلُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ فِي الْمَسْجِدِ
فَصْلٌ : الْقَوْلُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ فِي الْمَسْجِدِ كَرِهَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ أَنْ يُدْخَلَ الْمَيِّتُ الْمَسْجِدَ ، وَأَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ فِيهِ ، وَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ غَيْرُ مَكْرُوهٍ ، بَلْ مُسْتَحَبٌّ ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ حِينَ مَاتَ ، أُدْخِلَ الْمَسْجِدَ لِيُصَلَّى عَلَيْهِ ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ بَعْضُ النَّاسِ ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : وَاللَّهِ مَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي سُهَيْلٍ وَاجِبًا إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ " . وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَّى عَلَى صُهَيْبٍ فِي الْمَسْجِدِ ، وَكَانَ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ .
فَصْلٌ الْقَوْلُ فِي صَلَاةِ الْغَائِبِ
فَصْلٌ : الْقَوْلُ فِي صَلَاةِ الْغَائِبِ يَجُوزُ لِأَهْلِ الْبَلَدِ أَنْ يُصَلُّوا عَلَى مَيِّتٍ مَاتَ بِبَلَدٍ آخَرَ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجُوزُ ذَلِكَ ، وَذَلِكَ رَدٌّ لِلسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَى النَّجَاشِيَّ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ مَاتَ ، وَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى الْمُصَلَّى وَكَبَّرَ أَرْبَعًا .
فَصْلٌ الْقَوْلُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَقْتُولِ فِي حَدٍّ
فَصْلٌ : الْقَوْلُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَقْتُولِ فِي حَدٍّ الْمَقْتُولُ فِي حَدٍّ وَقِصَاصٍ الصلاة عليه يَجِبُ غُسْلُهُ ، وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ : الْمَقْتُولُ حَدًّا بِالرَّجْمِ ، لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ ، وَالْمَقْتُولُ قَوَدًا لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ ، وَقَالَ مَالِكٌ : كُلُّ مَقْتُولٍ بِحَدٍّ فِي قَوَدٍ أَوْ حَدٍّ ، لَا يُصَلِّي عَلَيْهِ الْإِمَامُ وَيُصَلِّي عَلَيْهِ أَوْلِيَاؤُهُ وَقَالَ الْحَسَنُ : إِذَا مَاتَتِ الْمَرْأَةُ فِي نِفَاسٍ مِنْ زِنًا الصلاة عليها لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهَا وَلَا عَلَى وَلَدِهَا ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : لَا يُصَلَّى عَلَى مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ . وَالدَّلِيلُ عَلَى جَمِيعِهِمْ فِي وُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ : قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فُرِضَ عَلَى أُمَّتِي غُسْلُ مَوْتَاهَا وَالصَّلَاةُ عَلَيْهَا " .
بَابُ التَّكْبِيرِ عَلَى الْجَنَائِزِ وَمَنْ أَوْلَى بِأَنْ يُدْخِلَهُ الْقَبْرَ
بَابُ التَّكْبِيرِ عَلَى الْجَنَائِزِ وَمَنْ أَوْلَى بِأَنْ يُدْخِلَهُ الْقَبْرَ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَبَّرَ أَرْبَعًا وَقَرَأَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَجَهَرَ بِهَا وَقَالَ : إِنَّمَا فَعَلْتُ لِتَعْلَمُوا أَنَّهَا سُنَّةٌ . وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ كُلَّمَا كَبَّرَ عَلَى الْجِنَازَةِ . وَعَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةَ مِثْلُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى الْمَوْتَى : فَمِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ ، لِقَوْلِهِ : " فُرِضَ عَلَى أُمَّتِي غُسْلُ مَوْتَاهَا ، وَالصَّلَاةُ عَلَيْهَا " فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُهَا فَهِيَ صَلَاةٌ شَرْعِيَّةٌ يَجِبُ فِيهَا طَهَارَةُ الْأَعْضَاءِ ، وَسِتْرُ الْعَوْرَةِ وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ ، وَهُوَ قَوْلُ الْكَافَّةِ ، إِلَّا أَنَّ الشَّعْبِيَّ وَابْنَ جَرِيرٍ الطَّبَرِيَّ ، فَإِنَّهُمَا قَالَا : لَيْسَتْ صَلَاةً شَرْعِيَّةً وَإِنَّمَا دُعَاءٌ وَاسْتِغْفَارٌ ، يَجُوزُ فِعْلُهَا بِغَيْرِ طَهَارَةٍ ، هَذَا قَوْلٌ خَرَقَا فِيهِ الْإِجْمَاعَ ، وَخَالَفَا فِيهِ الْكَافَّةَ ، مَعَ مَا وَرَدَ بِهِ الْكِتَابُ مِنْ تَسْمِيَتِهَا صَلَاةً فِي الشَّرْعِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ [ التَّوْبَةِ : ] ، وَإِذَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِأَنَّهَا صَلَاةٌ لَمْ تَجُزْ إِلَّا بِطَهَارَةٍ الجنازة ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طُهُورٍ " وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَفْتَقِرُ إِلَى إِحْرَامٍ وَسَلَامٍ ، فَوَجَبَ أَنْ تَفْتَقِرَ إِلَى الطَّهَارَةِ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ ، وَلِأَنَّهَا لَمَّا اعْتُبِرَ فِيهَا شُرُوطُ الصَّلَاةِ ، كَسِتْرِ الْعَوْرَةِ ، وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ ، وَجَبَ اعْتِبَارُ الطَّهَارَةِ فِيهَا .
فَصْلٌ : فَأَمَّا مَا يَتَضَمَّنُهَا فَشَيْئَانِ : تَكْبِيرٌ وَأَذْكَارٌ ، فَأَمَّا عَدَدُ تَكْبِيرِهَا : فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ ، وَجُمْهُورِ التَّابِعِينَ ، وَمَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ أَجْمَعِينَ ، أَنَّهَا أَرْبَعُ تَكْبِيرَاتٍ . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَأَنَسٍ ، وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ ، يُكَبِّرُ ثَلَاثًا . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ : يُكَبِّرُ خَمْسًا . وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ : وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ : يُكَبِّرُ مَا شَاءَ مِنْ غَيْرِ عَدَدٍ مَحْصُورٍ ، وَلَكِنْ مَذْهَبُ مَنْ هُوَ خَبَرٌ مَرْوِيٌّ ، وَالْأَرْبَعُ أَصَحُّهَا وَأَوْلَاهَا ؛ لِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ :
أَحَدُهَا : أَكْثَرُ رِوَايَةٍ فِي أَمْوَاتٍ شَتَّى ، فَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَبَّرَ عَلَى النَّجَاشِيِّ أَرْبَعًا وَرَوَى سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَبَّرَ عَلَى قَبْرِ سُكَيْنَةَ أَرْبَعًا . وَرَوَى أَنَسٌ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَبَّرَ عَلَى ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَرْبَعًا آخِرَ فِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ نَاسِخًا لِمُتَقَدِّمِهِ . وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ أَبِي أَوْفَى أَنَّ آخِرَ مَا كَبَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْجَنَائِزِ أَرْبَعًا ، جِنَازَةَ سُهَيْلِ ابْنِ بَيْضَاءَ .
وَالثَّالِثُ : عَمَلُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَهُ وَانْعِقَادُ إِجْمَاعِهِمْ عَلَيْهِ ، فَأَمَّا عَمَلُ الصَّحَابَةِ ، فَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَبَّرَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعًا ، وَكَبَّرَ عَلِيٌّ عَلَى أَبِي بَكْرٍ أَرْبَعًا ، وَكَبَّرَ صُهَيْبٌ عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَرْبَعًا ، وَكَبَّرَ الْحَسَنُ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَرْبَعًا .
فَأَمَّا انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ ، فَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيَّ قَالَ : اخْتَلَفَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي التَّكْبِيرِ عَلَى الْجِنَازَةِ عدد التكبيرات فيها ، فَقَالَ قَوْمٌ : يُكَبِّرُ أَرْبَعًا ، وَقَالَ قَوْمٌ : ثَلَاثًا ، وَقَالَ قَوْمٌ : خَمْسًا ، فَجَمَعَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، فَاسْتَشَارَهُمْ فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنْ يُكَبِّرَ فِيهَا أَرْبَعًا ، فَكَانَ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ مُزِيلًا لِحُكْمِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْخِلَافِ ، وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ يَجْعَلُ ذَلِكَ مِنَ الِاخْتِلَافِ الْمُبَاحِ ، وَلَيْسَ بَعْضُهُ بِأَوْلَى مِنْ بَعْضٍ ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ مَذْهَبِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَمَا ذَكَرْنَا مِنَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ يُبْطِلُ هَذَا الْمَذْهَبَ ، فَهَذَا جُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي أَعْدَادِ التَّكْبِيرِ ، فَأَمَّا الْأَذْكَارُ فَيَأْتِي فِيمَا بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ تَكْبِيرَاتِ الْجِنَازَةِ أَرْبَعٌ لَا يُزَادُ عَلَيْهَا ، وَلَا يُنْقَصُ مِنْهَا ، وَكَبَّرَ الْإِمَامُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ فى صلاة الجنازة ، لَمْ يَجُزْ لِلْمَأْمُومِينَ اتِّبَاعُهُ فِيمَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ ، وَهَلْ يُسَلِّمُونَ أَوْ يَنْتَظِرُونَ سَلَامَهُ ، عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُسَلِّمُونَ ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ يَفْعَلُ مَا لَيْسَ مِنْ صَلَاتِهِمْ . وَالثَّانِي : يَنْتَظِرُونَ فَرَاغَهُ لِيُسَلِّمُوا مَعَهُ ، حَتَّى يَكُونَ خُرُوجُهُمْ بِخُرُوجِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيُكَبِّرُ الْمُصَلِّي عَلَى الْمَيِّتِ وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . أَوَّلُ مَا يَبْدَأُ بِهِ الْمُصَلِّي أَنْ يَفْتَتِحَ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرَةِ الْأُولَى ، نَاوِيًا الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ ، فَإِنْ لَمْ يَنْوِ لَمْ تُجْزِهِ ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى " وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ كُلَّمَا كَبَّرَ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى رفع اليدين فى تكبيرات الجنازة لَا غَيْرَ ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى ؛ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ مَعَ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عُمَرَ ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَمِنَ التَّابِعِينَ عُرْوَةُ ، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ ، ثُمَّ مِنَ الدَّلِيلِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى : أَنَّهَا تَكْبِيرَةٌ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَحَبَّ فِيهَا رَفْعُ الْيَدَيْنِ ، كَالتَّكْبِيرَةِ الْأُولَى ، وَلِأَنَّ مَا سُنَّ فِي التَّكْبِيرَةِ الْأَوْلَى سُنَّ فِي الثَّانِيَةِ ، كَمَا يَجْهَرُ بِالتَّكْبِيرِ فى الجنازة ، وَلِأَنَّ التَّكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدَ فِي الْقِيَامِ مِنْ سُنَنِهَا رَفْعُ الْيَدَيْنِ كَتَكْبِيرَاتِ الْعِيدَيْنِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " ثَمَّ يَقْرَأُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : يَبْتَدِأُهَا بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَهِيَ وَاجِبَةٌ فِيهَا ، وَبِهِ قَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ : لَيْسَتْ وَاجِبَةً وَلَا مُسْتَحَبَّةً ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ ، إِلْحَاقًا بِالسُّجُودِ وَالرُّكُوعِ وَإِنَّ ذَلِكَ إِنْ كَانَ وَاجِبًا لِيَكُونَ مَعَ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِهَا : رِوَايَةُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَبَّرَ عَلَى الْجِنَازَةِ أَرْبَعًا وَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الْأَوْلَى وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ جَهَرَ بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَقَالَ : إِنَّمَا جَهَرْتُ لِتَعْلَمُوا أَنَّ فِيهَا قِرَاءَةً . وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ تَتَضَمَّنُ الْقِيَامَ فَوَجَبَ أَنْ تَتَضَمَّنَ الْقِرَاءَةَ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ فى الجنازة فِيهَا وَاجِبَةٌ فَيَبْتَدِئُ بِالتَّعَوُّذِ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ ، فَأَمَّا قَوْلُهُ : " وَجَّهْتُ وَجْهِي " فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مُسْتَحَبٌّ كَالتَّعَوُّذِ . وَالثَّانِي : لَيْسَ بِمُسْتَحَبٍّ كَالسُّورَةِ ، ثُمَّ إِنْ صَلَّى عَلَى الْجِنَازَةِ نَهَارًا ، أَسَرَّ بِالْقِرَاءَةِ ، وَإِنْ صَلَّى عَلَيْهَا لَيْلًا ، فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجْهَرُ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ . وَالثَّانِي : يُسِرُّ بِهَا وَلَا يَجْهَرُ ، كَمَا يُسِرُّ لِلدُّعَاءِ وَلَا يَجْهَرُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " ثَمَّ يُكَبِّرُ الثَّانِيَةَ ، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ كَذَلِكَ ، ثُمَّ يَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ كيفيتها " . ذَكَرَ الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا : وَإِذَا كَبَّرَ الثَّانِيَةَ ذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى ، وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَدَعَا لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ، فَذَكَرَ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ فَأَمَّا التَّحْمِيدُ : فَلَمْ يَحْكِ عَنِ الشَّافِعِيِّ غَيْرُ الْمُزَنِيِّ ذَكَرَهُ فِي الْمُخْتَصَرِ ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ نَسَبَ الْمُزَنِيَّ إِلَى الْغَلَطِ فِيمَا نَقَلَهُ مِنَ التَّحْمِيدِ ، وَلَمْ يُخَيِّرْهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هَذِهِ الزِّيَادَةُ مِنَ التَّحْمِيدِ مَأْخُوذٌ بِهَا ، وَالْمُزَنِيُّ لَمْ يَنْقُلْهَا مِنْ كِتَابٍ ، وَإِنَّمَا رَوَاهَا سَمَاعًا مِنْ لَفْظِهِ ، فَحَصَلَ مِنْ هَذَا أَنَّهُمْ لَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّ التَّحْمِيدَ فِي الثَّانِيَةِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ . وَاخْتَلَفُوا فِي اسْتِحْبَابِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ ، وَلَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الجنازة وَاجِبَةٌ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ فِيهَا " وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ دُعَاءٌ يُرْجَى إِجَابَتُهُ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " كُلُّ دُعَاءٍ فَهُوَ مَحْجُوبٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَى يُصَلَّى عَلَى مُحَمَدٍ وَعَلَى آلِهِ " وَلَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّ الدُّعَاءَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ فى الجنازة اسْتِحْبَابٌ ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ فِيهِ ، وَيَحْمَدُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَوَّلًا ، وَبِالصَّلَاةِ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَانِيًا ،
وَبِالدُّعَاءِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثَالِثًا ، فَيَقُولُ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْأَمْوَاتِ ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا وَقُلُوبِهِمْ عَلَى الْخَيْرَاتِ ، وَاجْعَلْ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَالْحِكْمَةَ ، وَثَبِّتْهُمْ عَلَى مِلَّةِ نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا الدُّعَاءَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ عُقَيْبَ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لِيَكُونَ أَسْرَعَ إِلَى الْإِجَابَةِ ، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : إِذَا سَأَلَ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ فِي حَاجَتِهِ فَلْيَبْدَأْ بِالصَّلَاةِ عَلَيَّ ؛ فَإِنَّ الْكَرِيمَ إِذَا سُئِلَ فِي حَاجَتَيْنِ لَمْ يُجِبْ فِي أَحَدِهِا وَتَرَكَ الْأُخْرَى " . فَلَوْ قَدَّمَ بَعْضَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ عَلَى بَعْضٍ جَازَ ، وَلَوِ اقْتَصَرَ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَازَ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " ثُمَّ يُكَبِّرُ الثَّالِثَةَ وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ كَذَلِكَ وَيَدْعُو لِلْمَيِّتِ فَيَقُولُ : اللَّهُمَّ عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ خَرَجَ مِنْ رُوحِ الدُّنْيَا وَسَعَتِهَا ما يدعوا به للميت ، وَمَحْبُوبُهُ وَأَحِبَّاؤُهُ فِيهَا إِلَى ظُلْمَةِ الْقَبْرِ وَمَا هُوَ لَاقِيهِ ، وَكَانَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ ، اللَّهُمَّ نَزَلَ بِكَ وَأَنْتَ خَيْرُ مَنْزُولٍ بِهِ ، وَأَصْبَحَ فَقِيرًا إِلَى رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ غَنِيٌّ عَنْ عَذَابِهِ ، وَقَدْ جِئْنَاكَ رَاغِبِينَ إِلَيْكَ شُفَعَاءَ لَهُ ، اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ مُحْسِنًا فَزِدْ فِي إِحْسَانِهِ ، وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا فَتَجَاوَزْ عَنْهُ ، وَلَقِّهِ بِرَحْمَتِكَ رِضَاكَ ، وَقِهِ فِتْنَةَ الْقَبْرِ وَعَذَابَهُ ، وَافْسَحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ ، وَجَافِ الْأَرْضَ عَنْ جَنْبَيْهِ ، وَلَقِّهِ بِرَحْمَتِكَ الْأَمْنَ مِنْ عَذَابِكَ حَتَّى تَبْعَثَهُ إِلَى جَنَّتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ " ثُمَّ يُكَبِّرُ الرَّابِعَةَ ثُمَّ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ وَيُخْفِي الْقِرَاءَةَ وَالدُّعَاءَ وَيَجْهَرُ بِالسَّلَامِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ امْرَأَةً قَالَ : اللَّهُمَّ أَمَتُكَ وَابْنَةُ عَبْدِكَ ، وَأَتَى بِجَمِيعِ الدُّعَاءِ بِلَفْظِ التَّأْنِيثِ ، وَلَوْ كَانَ الْمَيِّتُ طِفْلًا دَعَا لِأَبَوَيْهِ فَقَالَ : اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لَهُمَا فَرَطًا وَسَلَفًا وَذُخْرًا وَعِظَةً وَاعْتِبَارًا ، وَثَقِّلْ بِهِ مُوَازِينَهُمَا ، وَأَفْرِغِ الصَّبْرَ عَلَى قُلُوبِهِمَا ، وَلَا تَفْتِنْهُمَا بَعْدَهُ ، وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا هَذَا الدُّعَاءَ ، لِأَنَّهُ مَأْثُورٌ عَنِ السَّلَفِ . وَبِأَيِّ شَيْءٍ دَعَا وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى أَنْ قَالَ : اللَّهُمَّ ارْحَمْ جَازَ . ثُمَّ يُكَبِّرُ الرَّابِعَةَ وَيُسَلِّمُ ، وَلَمْ يُحْكَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الرَّابِعَةِ ذِكْرٌ غَيْرُ السَّلَامِ . وَقَالَ الْبُوَيْطِيُّ : إِذَا كَبَّرَ الرَّابِعَةَ قَالَ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا وَشَاهِدِنَا وَغَائِبِنَا . وَحَكَى أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ كَانُوا يَقُولُونَ فِي الرَّابِعَةِ : رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً ، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ . وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَحْكِيٍّ عَنِ الشَّافِعِيِّ ، فَإِنْ فَعَلَ كَانَ حَسَنًا وَسَلَّمَ تَسْلِيمَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا عَنْ يَمِينِهِ وَالثَّانِيَةُ عَنْ شِمَالِهِ ، وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ الْقَدِيمِ : إِنْ كَانَ الْجَمْعُ يَسِيرًا سَلَّمَ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً عَنْ يَمِينِهِ وَتِلْقَاءَ وَجْهِهِ .
فَصْلٌ شُرُوطُ صِحَّةِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ
فَصْلٌ : شُرُوطُ صِحَّةِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ شُرُوطَ الصَّلَاةِ مُعْتَبَرَةٌ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ ، وَهِيَ : طَهَارَةُ الْأَعْضَاءِ مِنْ حَدَثٍ وَنَجَسٍ ، وَسِتْرُ الْعَوْرَةِ بِلِبَاسٍ طَاهِرٍ ، وَالْوُقُوفُ عَلَى مَكَانٍ طَاهِرٍ ، وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ ، فَمَنْ أَخَلَّ بِشَرْطٍ مِنْهَا لَمْ يَكُنْ مُصَلِّيًا عَلَيْهَا ، فَلَوْ أَنَّ قَوْمًا صَلَّوْا عَلَى جِنَازَةٍ ، وَكُلُّهُمْ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ لَمْ تُجْزِهِمْ ، وَأَعَادُوا الصَّلَاةَ عَلَيْهِ بِطَهَارَةٍ كَامِلَةٍ ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَلَّوْا قُعُودًا أَجْمَعِينَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ فى الجنازة ، فَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ عَلَى طَهَارَةٍ وَبَعْضُهُمْ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ فى صلاة الجنازة ، أَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ قِيَامًا وَبَعْضُهُمْ قُعُودًا فى صلاة الجنازة ، فَإِنْ كَانَ الْقَائِمُ وَالْمُتَطَهِّرُ مِنْهُمْ ثَلَاثَةً وَأَكْثَرَ أَجْزَأَ وَلَمْ يُحْتَجْ إِلَى إِعَادَةِ الصَّلَاةِ ، لِوُقُوعِ الْكِفَايَةِ بِهِمْ ، وَإِنْ كَانَ الْقَائِمُ الْمُتَطَهِّرُ وَاحِدًا أَوِ اثْنَيْنِ ، لَمْ يَجْزِهِمْ وَأَعَادُوا الصَّلَاةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْكِفَايَةَ لَا تَقَعُ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ إِذَا وُجِدُوا .
فَصْلٌ : إِذَا مَاتَ رَجُلٌ بِمَوْضِعٍ لَيْسَ بِهِ إِلَّا النِّسَاءُ هل يصلين عليه صَلَّيْنَ عَلَيْهِ فُرَادَى بِغَيْرِ إِمَامٍ ؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمْنَ عَلَى الرِّجَالِ ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ . فَإِنْ صَلَّيْنَ جَمَاعَةً جَازَ ، فَلَوْ حَضَرَ الرِّجَالُ فِيمَا بَعْدُ ، لَمْ تَلْزَمْهُمْ إِعَادَةُ الصَّلَاةِ ، وَلَوْ كَانَتِ الْمَيِّتُ امْرَأَةً ، وَلَيْسَ هُنَاكَ مَنْ يُصَلِّي عَلَيْهَا إِلَّا النِّسَاءُ صَلَّيْنَ عَلَيْهَا ، لِأَنَّ النِّسَاءَ يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمْنَ عَلَى النِّسَاءِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَنْ فَاتَهُ بَعْضُ الصَّلَاةِ فى الجنازة افْتَتَحَ وَلَمْ يَنْتَظِرْ تَكْبِيرَ الْإِمَامِ ثُمَّ قَضَى مَكَانَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي يُوسُفَ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ : يَنْتَظِرُ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ وَلَا يُكَبِّرُ قَبْلَهُ ، فَإِذَا كَبَّرَ الْإِمَامُ كَبَّرَ مَعَهُ ، فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ قَضَى مَا فَاتَهُ ، احْتِجَاجًا بِأَنَّ تَكْبِيرَاتِ الْجِنَازَةِ جَارِيَةٌ مَجْرَى رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ ، فَلَمَّا كَانَ الرَّجُلُ إِذَا سَبَقَهُ الْإِمَامُ بِرَكْعَةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلِّيَهَا ثُمَّ يَدْخُلَ مَعَهُ ، كَذَلِكَ إِذَا فَاتَهُ تَكْبِيرَةٌ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْتَدِأَهَا ثُمَّ يُكَبِّرَ مَعَهُ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا قُلْنَا : قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا " وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُصَلِّيَ مَا أَدْرَكَ مَعَهُ إِلَّا بِتَقْدِيمِ التَّكْبِيرِ ، وَلِأَنَّهُ أَدْرَكَ جُزْءًا مَعَ الْإِمَامِ بِتَقَدُّمِ التَّكْبِيرِ ، فَجَازَ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ كَمَا يَأْتِي بِالتَّكْبِيرِ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الصَّلَوَاتِ . فَأَمَّا مَا احْتَجَّ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ فَلَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى أَنْ يَلْزَمَ الْمَأْمُومُ أَنْ يَكُونَ تَكْبِيرُهُ مُقَارِنًا لِتَكْبِيرِ الْإِمَامِ ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَبَّرَ بَعْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِمَامِ جَازَ ، وَإِذَا جَازَ جَازَ لِمَنْ أَتَى بَعْدَهُ . فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنْ يُكَبِّرَ وَلَا يَنْتَظِرَ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ ، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ قَدْ سَبَقَهُ بِتَكْبِيرَةٍ وَاحِدَةٍ ، افْتَتَحَ الصَّلَاةَ وَقَرَأَ الْفَاتِحَةَ ، فَإِنْ أَدْرَكَ قِرَاءَةَ جَمِيعِهَا قَبْلَ التَّكْبِيرَةِ الثَّانِيَةِ فَذَلِكَ جَائِزٌ ، وَإِنْ قَرَأَ
بَعْضَهَا ثُمَّ كَبَّرَ الْإِمَامُ قَطَعَ الْقِرَاءَةَ وَكَبَّرَ الثَّانِيَةَ مَعَهُ ، وَقَدْ يَحْمِلُ الْإِمَامُ عَنْهُ مَا بَقِيَ مِنَ الْقِرَاءَةِ ، وَإِنْ كَانَ أَدْرَكَهُ فِي التَّكْبِيرَةِ الثَّانِيَةِ فَدَخَلَ مَعَهُ ، كَانَتْ لَهُ أُولَةٌ يَقْرَأُ فِيهَا الْفَاتِحَةَ ، وَيَبْنِي عَلَى صَلَاةِ نَفْسِهِ وَهِيَ لِلْإِمَامِ ثَانِيَةٌ يُصَلِّي فِيهَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ أَتَمَّ الصَّلَاةَ سَوَاءً كَانَتِ الْجِنَازَةُ مَوْضُوعَةً أَوْ مَرْفُوعَةً .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَنْ لَمْ يُدْرِكْ صَلَّى عَلَى الْقَبْرِ . وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ صَلَّى عَلَى الْقَبْرِ وَعَنْ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ مِثْلُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . أَمَّا مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ مَرَّةً ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ ثَانِيَةً ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ مِنْ أَوْلِيَائِهِ وَغَيْرِ أَوْلِيَائِهِ ، فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ ثَانِيَةً قَبْلَ الدَّفْنِ عَلَى جِنَازَتِهِ ، وَبَعْدَ الدَّفْنِ عَلَى قَبْرِهِ ، وَهُوَ أَوْلَى ، بَلْ قَدْ كَرِهَ الشَّافِعِيُّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ قَبْلَ الدَّفْنِ لِمَا يُخَافُ مِنَ انْفِجَارِهِ ، وَاسْتَحَبَّهَا بَعْدَ الدَّفْنِ . وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيٌّ وَعُمَرُ وَابْنُ عُمَرَ وَأَبُو مُوسَى وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ . وَمِنَ التَّابِعِينَ الزُّهْرِيُّ وَغَيْرُهُ ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ : إِذَا صَلَّى عَلَى الْمَيِّتِ وَلِيُّهُ مَرَّةً لَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ ثَانِيَةً سَوَاءً دُفِنَ أَوْ لَمْ يُدْفَنْ تَعَلُّقًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ . وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَنَعَ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ وَغَلَّظَ الْأَمْرَ فِيهِ وَقَالَ : " لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ " ، قَالُوا : وَلَوْ جَازَتِ الصَّلَاةُ عَلَى الْقَبْرِ ، لَجَازَتْ عَلَى قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّهُ إِذَا صُلِّيَ عَلَيْهِ مَرَّةً فَقَطْ سَقَطَ الْغَرَضُ وَصَارَتِ الثَّانِيَةُ نَفْلًا ، وَالتَّنَفُّلُ عَلَى الْمَيِّتِ لَا يَجُوزُ ، بِدَلَالَةِ أَنَّ مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ مَرَّةً لَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ ثَانِيَةً . وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ ، ثُبُوتُ الرِّوَايَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ مِنْ سِتَّةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : رِوَايَةُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى قَبْرِ مِسْكِينَةٍ . وَثَانِيهَا : رِوَايَةُ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى قَبْرِ رَجُلٍ أَسْوَدَ كَانَ يُنَظِّفُ الْمَسْجِدَ فَدُفِنَ لَيْلًا .
وَثَالِثُهَا : رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِقَبْرٍ دُفِنَ حَدِيثًا فَصَلَّى عَلَيْهِ وَكَبَّرَ أَرْبَعًا فَقِيلَ لِلشَّعْبِيِّ مِمَّنْ سَمِعْتَ هَذَا ؟ فَقَالَ : مِنَ الثِّقَةِ مِمَّنْ شَهِدَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ . وَرَابِعُهَا : رِوَايَةُ الشَّعْبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى قَبْرٍ مَنْبُوذٍ ، وَكَبَّرَ أَرْبَعًا . وَخَامِسُهَا : رِوَايَةُ الشَّعْبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى قَبْرٍ حَدَثٍ بَعْدَ ثَلَاثٍ . وَسَادِسُهَا : رِوَايَةُ الشَّعْبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى قَبْرٍ بَعْدَ شَهْرٍ . فَكَانَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْأَوْجُهِ ، فَمَنْ أَنْكَرَهَا كَانَ مُبَاهِتًا ، وَلِأَنَّهُ مَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَى الْمَيِّتِ جَازَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الْقَبْرِ مَا لَمْ يُبْلَ ، كَالْوَلِيِّ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ نَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ ، فَالْمَقْصُودُ بِهِ بَيَانُ الطَّهَارَةِ لِلْمَكَانِ . وَأَمَّا رِوَايَتُهُمْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ ، فَغَيْرُ ثَابِتٍ بِوَجْهٍ ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ " فَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ ؛ خَوْفًا مِنَ الِافْتِتَانِ بِقَبْرِهِ ، وَأَنْ يُؤَدِّيَهُمْ تَعْظِيمُهُ إِلَى عِبَادَتِهِ ، وَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالصَّحِيحُ مِنْ مَذَاهِبِ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ وَأَمَّا قَبْرُ غَيْرِهِ فَأَصَحُّ مَذَاهِبِهِمْ أَيْضًا أَنَّهُ يُصَلَّى عَلَيْهِ مَا لَمْ يَصِرْ رَمِيمًا ، وَقِيلَ : بَلْ يُصَلِّي عَلَيْهِ مَنْ عَاصَرَهُ ، وَقِيلَ : بَلْ يُصَلِّي عَلَيْهِ أَبَدًا وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّ التَّنَفُّلَ عَلَى الْمَيِّتِ لَا يَجُوزُ ، فَيَفْسُدُ بِصَلَاةِ الْمَرْأَةِ لِأَنَّهَا نَافِلَةٌ ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ مَمْنُوعَةً .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يُدْخِلُ الْمَيِّتَ قَبْرَهُ إِلَّا الرِّجَالُ مَا كَانُوا مَوْجُودِينَ وَيُدْخِلُهُ مِنْهُمْ أَفْقَهُهُمْ وَأَقْرَبُهُمْ بِهِ رَحِمًا ، وَيُدْخِلُ الْمَرْأَةَ زَوْجُهَا وَأَقْرَبُهُمْ بِهَا رَحِمًا وَيُسْتَرُ عَلَيْهَا بِثَوْبٍ إِذَا أُنْزِلَتِ الْقَبْرَ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَأُحِبُّ أَنْ يَكُونُوا وِتْرًا ثَلَاثَةً أَوْ خَمْسَةً " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَوَلَّى إِدْخَالَ الْمَيِّتِ قَبْرَهُ إِلَّا الرِّجَالُ رَجُلًا كَانَ الْمَيِّتُ أَوِ امْرَأَةً ؛ لِأَنَّ الرِّجَالَ بِذَلِكَ أَعْرَفُ وَعَلَيْهِ أَقْدَرُ ، وَتَنَزُّلَهُمْ فِيهِ أَهْوَنُ ، وَقَرَابَاتِ الْمَيِّتِ وَأَهْلَ رَحِمِهِ أَحَقُّ بِهِ مِنَ الْأَجَانِبِ ، كَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ ، فَإِنِ اسْتَوَوْا فِي النَّسَبِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : قُدِّمَ أَفْقَهُهُمْ ، يُرِيدُ أَعْلَمَهُمْ بِإِدْخَالِهِ الْقَبْرَ ، وَلَيْسَ يُرِيدُ أَعْلَمَهُمْ بِأَحْكَامِ الشَّرْعِ ، فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ امْرَأَةً . قَالَ الشَّافِعِيُّ : يَتَوَلَّى إِدْخَالَهَا الْقَبْرَ زَوْجُهَا ، ثُمَّ أَبُوهَا وَهَذَا عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : الْأَبُ أَحَقُّ مِنَ الزَّوْجِ كَالْغُسْلِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَابْنُهَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَأَخُوهَا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَخَادِمٌ لَهَا مَمْلُوكٌ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَخِصْيَانٌ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَرِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونُوا وِتْرًا ثَلَاثًا ، فَإِنْ زَادُوا فَخَمْسَةً ؛ لِأَنَّ الَّذِي تَوَلَّى إِدْخَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةٌ : الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَاخْتَلَفُوا فِي الثَّالِثِ فَقَالُوا : الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ ، وَقِيلَ : أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ ، ثُمَّ جَاءَتْ بَنُو زُهْرَةَ فَسَأَلُوا إِدْخَالَ رَجُلٍ مِنْهُمْ ، فَقِيلَ : إِنَّهُ لَمْ يُدْخِلُوا أَحَدًا مِنْهُمْ ، وَقِيلَ : بَلْ أَدْخَلُوا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ ، فَصَارُوا أَرْبَعَةً ، فَدَعَوْا مَوْلًى لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَالُ لَهُ شُقْرَانُ فَأَدْخَلُوهُ مَعَهُمْ حَتَّى صَارُوا خَمْسَةً ، وَيُخْتَارُ أَنْ يُسْتَرَ الْمَيِّتُ بِثَوْبٍ عِنْدَ إِدْخَالِهِ الْقَبْرَ ، لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَتِ امْرَأَةً لِمَا فِيهِ مِنَ الصِّيَانَةِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيُسَلُّ الْمَيِّتُ سَلًّا مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُلَّ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ ( قَالَ ) حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ : حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ أَبِي الصَّبَّاحِ قَالَ : حَدَّثَنَا يَحْيَى ، عَنِ الْمِنْهَالِ ، عَنْ خَلِيفَةَ ، عَنْ حَجَّاجٍ ، عَنْ عَطَاءٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ قَبْرًا لَيْلًا فَأُسْرِجَ لَهُ وَأَخَذَهُ مِنَ قِبَلِ الْقِبْلَةِ ( قَالَ ) حَدَّثْنَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ : حَدَّثَنَا ابْنُ مَنِيعٍ ، عَنْ هُشَيْمٍ ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ ، أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ مَاتَ فَشَهِدَهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ فَأَدْخَلَهُ مِنْ قِبَلِ رِجْلِ الْقَبْرِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . وَهُوَ : أَنْ تُوضَعَ الْجِنَازَةُ عِنْدَ رِجْلِ الْقَبْرِ ، ثُمَّ يُسَلُّ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ سَلًّا ، وَاخْتَارَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنْ تُوضَعَ بَعِيدًا مِنَ الْقَبْرِ عِنْدَ نَاحِيَةِ الْقِبْلَةِ ، ثُمَّ تُحَطُّ عَرْضًا . رُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُدِّمَ إِلَى الْقَبْرِ مُعْتَرِضًا . وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ : لَا بَأْسَ أَنْ يُسَلَّ مِنْ قِبَلِ رِجْلِهِ ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى فِي الِاخْتِيَارِ ، لِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُلَّ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ سَلًّا ، وَلِأَنَّ الْحَائِطَ فِي قَبْرِهِ قِبْلَةٌ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَمَنْ شَاهَدَ الْمَوْضِعَ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَقْدِيمُ الْجِنَازَةِ إِلَيْهِ عَرْضًا . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ حُكْمُ نَبْشِ الْقَبْرِ
فَصْلٌ : حُكْمُ نَبْشِ الْقَبْرِ قَالَ الشَّافِعِيُّ : إِنْ دُفِنَ الْمَيِّتُ وَلَمْ يُغَسَّلْ وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يُمَاطَ عَنْهُ التُّرَابُ وَيُغَسَّلَ وَيُكَفَّنَ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ وَاجِبٌ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ ، فَإِنْ تَغَيَّرَ وَرَاحَ لَمْ يُنْبَشْ وَتُرِكَ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : يُنْبَشُ وَإِنْ تَغَيَّرَ ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ . فَإِنْ كَانَ قَدْ غُسِّلَ وَكُفِّنَ وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَمْ يُنْبَشْ وَصَلَّى عَلَى قَبْرِهِ قَبْلَ الثَّلَاثِ وَبَعْدَهَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُصَلَّى عَلَى قَبْرِهِ قَبْلَ الثَّلَاثِ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ بَعْدَهَا ، وَهَذَا خَطَأٌ لِرِوَايَةِ الشَّعْبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى قَبْرٍ مِنْ بَعْدِ شَهْرٍ " . فَأَمَّا إِذَا غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ وَدُفِنَ قَبْلَ أَنْ يُكَفَّنَ فَهَلْ يُنْبَشُ وَيُكَفَّنُ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُنْبَشُ كَمَا يُنْبَشُ لِلْغُسْلِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُتْرَكُ وَلَا يُنْبَشُ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْكَفَنِ الْمُدَارَاةُ وَقَدْ حَصَلَتْ ، فَإِنْ دُفِنَ بَعْدَ غُسْلِهِ وَتَكْفِينِهِ إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا بَأْسَ أَنْ يُنْبَشُ وَيُوَجَّهَ إِلَى الْقِبْلَةِ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ وَيُرِيحُ ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ وُجِّهَ إِلَى الْقِبْلَةِ فِي قَبْرِهِ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ أَوْصَى بِذَلِكَ ثُمَّ صَارَ سُنَّةً .
فَصْلٌ : الْقَوْلُ فِي اسْتِخْرَاجِ الْجَنِينِ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ وَهِيَ مَيِّتَةٌ إِذَا مَاتَتِ امْرَأَةٌ وَفِي جَوْفِهَا وَلَدٌ حَيٌّ ، فَلَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ فِيهِ نَصٌّ ، لَكِنْ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ : يُخْرَجُ جَوْفُهَا وَيُخْرَجُ وَلَدُهَا ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْحَيِّ أَوْكَدُ مِنْ حُرْمَةِ الْمَيِّتِ . وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا : إِنْ كَانَ الْوَلَدُ لِمُدَّةٍ يَجُوزُ أَنْ يَعِيشَ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ وَصَاعِدًا شُقَّ جَوْفُهَا وَأُخْرِجَ ، وَإِنْ كَانَ لِمُدَّةٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعِيشَ فِيهَا تُرِكَ .
فَصْلٌ : إِذَا ابْتَلَعَ الْمَيِّتُ جَوْهَرَةً فِي حَيَاتِهِ ، فَإِنْ كَانَتْ لِغَيْرِهِ أُخْرِجَتْ مِنْ جَوْفِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا تُخْرَجُ وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي حُكْمِ مَا قَدْ أَتْلَفَهُ فِي حَاجَاتِهِ وَشَهَوَاتِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : تُخْرَجُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِلْكٌ لِوَرَثَتِهِ لِبَقَاءِ عَيْنِهِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى أَخْذِهِ .
فَصْلٌ : فَإِنْ مَاتَتِ امْرَأَةٌ نَصْرَانِيَّةٌ وَفِي جَوْفِهَا وَلَدٌ مُسْلِمٌ ، فَقَدْ حَكَى الشَّافِعِيُّ أَنَّهَا تُدْفَعُ إِلَى أَهْلِ دِينِهَا لِيَتَوَلَّوْا غُسْلَهَا وَدَفْنَهَا ، وَحُكِيَ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا تُدْفَنُ بَيْنَ مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ
وَالْمُشْرِكِينَ ، وَكَذَلِكَ إِذَا اخْتَلَطَ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ بِمَوْتَى الْمُشْرِكِينَ ، لَكِنْ قَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ نَصْرَانِيَّةً مَاتَتْ وَفِي جَوْفِهَا وَلَدٌ مُسْلِمٌ فَأَمَرَ بِدَفْنِهَا فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ
بَابُ مَا يُقَالُ إِذَا أُدْخِلَ الْمَيِّتُ قَبْرَهُ
بَابُ مَا يُقَالُ إِذَا أُدْخِلَ الْمَيِّتُ قَبْرَهُ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا أُدْخِلَ الْمَيِّتُ قَبْرَهُ قَالَ الَّذِينَ يُدْخِلُونَهُ ( بِسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ، اللَّهُمَّ سَلَّمَهُ إِلَيْكَ الْأَشِحَّاءُ مِنْ وَلَدِهِ وَأَهْلِهِ وَقَرَابَتِهِ وَإِخْوَانِهِ ، وَفَارَقَ مَنْ كَانَ يُحِبُّ قُرْبَهُ وَخَرَجَ مِنْ سَعَةِ الدُّنْيَا وَالْحَيَاةِ إِلَى ظُلْمَةِ الْقَبْرِ وَضِيقِهِ ، وَنَزَلَ بِكَ وَأَنْتَ خَيْرُ مَنْزُولٍ بِهِ ، إِنْ عَاقَبْتَهُ فَبِذَنْبِهِ وَإِنْ عَفَوْتَ فَأَنْتَ أَهْلُ الْعَفْوِ ، أَنْتَ غَنِيٌّ عَنْ عَذَابِهِ وَهُوَ فَقِيرٌ إِلَى رَحْمَتِكَ ، اللَّهُمَّ اشْكُرْ حَسَنَاتِهِ وَاغْفِرْ سَيِّئَاتِهِ وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَاجْمَعْ لَهُ بِرَحْمَتِكَ الْأَمْنَ مِنْ عَذَابِكَ وَاكْفِهِ كُلَّ هَوْلٍ دُونَ الْجَنَّةِ ، اللَّهُمَّ اخْلُفْهُ فِي تَرِكَتِهِ فِي الْغَابِرِينَ ، وَارْفَعْهُ فِي عِلِّيِّينَ ، وَعُدْ عَلَيْهِ بِفَضْلِ رَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا هَذَا الدُّعَاءَ ؛ لِأَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنِ السَّلَفِ وَمُوَافِقٌ لِلْحَالِ ، وَلَيْسَ فِيهِ حَدٌّ لَا يَتَجَاوَزُ وَلَا نَقْصٌ عَنْهُ وَبِأَيِّ شَيْءٍ دَعَا جَازَ .
بَابُ التَّعْزِيَةِ وَمَا يُهَيَّأُ لِأَهْلِ الْمَيِّتِ
بَابُ التَّعْزِيَةِ وَمَا يُهَيَّأُ لِأَهْلِ الْمَيِّتِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَأُحِبُّ تَعْزِيَةَ أَهْلِ الْمَيِّتِ رَجَاءَ الْأَجْرِ بِتَعْزِيَتِهِمْ وَأَنْ يُخَصَّ بِهَا خِيَارُهُمْ وَضُعَفَاؤُهُمْ عَنِ احْتِمَالِ مُصِيبَتِهِمْ ، وَيُعَزَّى الْمُسْلِمُ بِمَوْتِ أَبِيهِ النَّصْرَانِيِّ فَيَقُولُ : " أَعْظَمَ اللَّهُ أَجْرَكَ وَأَخْلَفَ عَلَيْكَ " وَيَقُولُ فِي تَعْزِيَةِ النَّصْرَانِيِّ لِقَرَابَتِهِ " أَخْلَفَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَلَا نَقَصَ عَدَدَكَ " . وَهَذَا صَحِيحٌ وَإِنَّمَا اسْتَحَبَّ التَّعْزِيَةَ اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ وَالْتِمَاسًا لِلْأَجْرِ ، فَقَدْ رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " مَنْ عَزَّى مُصَابًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ " . وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : لَمَّا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعْنَا هَاتِفًا فِي الْبَيْتِ يُسْمَعُ صَوْتُهُ ، وَلَا يُرَى شَخْصُهُ : أَلَا إِنَّ فِي اللَّهِ عَزَاءً عَنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ ، وَخَلَفًا مَنْ كُلِّ هَالِكٍ ، وَدَرْكًا مِنْ كُلِّ فَائِتٍ ، فَبِاللَّهِ ثِقُوا وَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا ، فَإِنَّ الْمُصَابَ مَنْ حُرِمَ الثَّوَابَ . فَقِيلَ : هَذَا الْخَضِرُ جَاءَ يُعَزِّي زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَيُسْتَحَبُّ تَعْزِيَةُ أَهْلِ الْبَيْتِ وَقَرَابَتِهِ مدة العزاء ، ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَمَنْ شَيَّعَ الْجِنَازَةَ وَأَرَادَ الِانْصِرَافَ قَبْلَ الدَّفْنِ عَزَّى وَانْصَرَفَ ، وَمَنْ صَبَرَ حَتَّى يُدْفَنَ عَزَّى بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ دَفْنِهِ ، إِلَّا أَنْ يَرَى مِنْ أَهْلِهِ جَزَعًا شَدِيدًا وَقِلَّةَ صَبْرٍ ، فَتُقَدَّمُ تَعْزِيَتُهُمْ لِيُسَلُّوا ، وَيَخُصُّ التَّعْزِيَةَ أَقَلَّهُمْ صَبْرًا وَأَشَدَّهُمْ جَزَعًا ، وَيَخُصُّ أَكْثَرَهُمْ فَضْلًا وَدِينًا ، أَمَّا الْقَلِيلُ الصَّبْرِ فَلْيُسَلُّوا ، وَأَمَّا الْكَثِيرُ الْفَضْلِ فَإِنَّمَا يُرْجَى مِنْ إِجَابَةِ رَدِّهِ وَدُعَائِهِ .
فَصْلٌ الْقَوْلُ فِي أَلْفَاظِ التَّعْزِيَةِ
فَصْلٌ : الْقَوْلُ فِي أَلْفَاظِ التَّعْزِيَةِ فَأَمَّا أَلْفَاظُ التَّعْزِيَةِ ، فَإِنْ كَانَ الْمُعَزَّى مُسْلِمًا عَلَى مُسْلِمٍ قَالَ : أَعْظَمَ اللَّهُ أَجْرَكَ وَأَحْسَنَ عَزَاكَ ، وَغَفَرَ لِمَيِّتِكَ . وَإِنْ كَانَ الْمُعَزَّى كَافِرًا عَلَى كَافِرٍ قَالَ : أَخْلَفَ اللَّهُ عَلَيْكَ ، وَلَا نَقَصَ عَدَدَكَ ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَيِّتَ بِخَيْرٍ وَلَا شَرٍّ ، أَمَّا الْخَيْرُ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ ، وَأَمَّا الشَّرُّ : فَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَدِّ عَنْ ذِي قَبْرٍ ، وَلِأَنَّهُ يُؤْذِي الْحَيَّ .
رُوِيَ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَسُبُّونَ أَبَا جَهْلٍ بِحَضْرَةِ ابْنِهِ عِكْرِمَةَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا تَسُبُّوا الْمَوْتَى لِتُؤْذُوا بِهِ الْأَحْيَاءَ " . وَإِنْ كَانَ الْمُعَزَّى مُسْلِمًا عَلَى كَافِرٍ قَالَ : أَعْظَمَ اللَّهُ أَجْرَكَ ، وَأَحْسَنَ عَزَاكَ ، وَأَخْلَفَ عَلَيْكَ ، وَإِنْ كَانَ الْمُعَزَّى كَافِرًا عَلَى مُسْلِمٍ قَالَ : أَخْلَفَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَلَا نَقَصَ عَدَدَكَ وَغَفَرَ لِمَيِّتِكَ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَأُحِبُّ لِقَرَابَةِ الْمَيِّتِ وَجِيرَانِهِ أَنْ يَعْمَلُوا لِأَهْلِ الْمَيِّتِ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ طَعَامًا يَسَعُهُمْ ؛ فَإِنَّهُ سُنَّةٌ وَفِعْلُ أَهْلِ الْخَيْرِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَكَرِهَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ ذَلِكَ وَقَالَ : هُوَ فِعْلُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا جَاءَ نَعْيُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ حِينَ مَوْتِهِ قَالَ لِأَهْلِهِ : " اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا فَقَدْ جَاءَهُمْ أَمْرٌ شَغَلَهُمْ " ، ثُمَّ اسْتَدْعَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ إِلَى مَنْزِلِهِ فَأَقَامَ عِنْدَهُ ثَلَاثَةً إِلَى انْقِضَاءِ الْمُصِيبَةِ ، وَحَلَقَ رَأْسَهُ ، قَالَ الرَّاوِي : وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ حُلِقَ رَأْسُهُ فِي الْإِسْلَامِ .
بَابُ الْبُكَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ
بَابُ الْبُكَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَأُرَخِّصُ فِي الْبُكَاءِ بِلَا نَدْبٍ وَلَا نِيَاحَةٍ ؛ لِمَا فِي النَّوْحِ مِنْ تَجْدِيدِ الْحُزْنِ وَمَنْعِ الصَّبْرِ وَعَظِيمِ الْإِثْمِ . وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ " وَذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِعَائِشَةَ فَقَالَتْ : رَحِمَ اللَّهُ عُمَرَ ، وَاللَّهِ مَا حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِنَّ اللَّهَ لَيُعَذِّبُ الْمَيِّتَ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ " وَلَكِنْ قَالَ " إِنَّ اللَّهَ يَزِيدُ الْكَافِرَ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ " ( قَالَ ) وَقَالَتْ عَائِشَةُ : حَسْبُكُمُ الْقُرْآنُ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ عِنْدَ ذَلِكَ : اللَّهُ أَضْحَكَ وَأَبْكَى ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) مَا رَوَتْ عَائِشَةُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْبَهُ بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ، وَقَالَ لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِرَجُلٍ فِي ابْنِهِ إِنَّهُ لَا يَجْنِي عَلَيْكَ وَلَا تَجْنِي عَلَيْهِ وَمَا زِيدَ فِي عَذَابِ الْكَافِرِ فَبِاسْتِيجَابِهِ لَهُ لَا بِذَنْبِ غَيْرِهِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : بَلَغَنِي أَنَّهُمْ كَانُوا يُوصُونَ بِالْبُكَاءِ عَلَيْهِ وَبِالنِّيَاحَةِ أَوْ بِهِمَا وَهِيَ مَعْصِيَةٌ ، وَمَنْ أَمَرَ بِهَا فَعُمِلَتْ بَعْدَهُ كَانَتْ لَهُ ذَنْبًا ، فَيَجُوزُ أَنْ يُزَادَ بِذَنْبِهِ عَذَابًا - كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - لَا بِذَنْبِ غَيْرِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ صَحِيحٌ . أَمَّا النَّوْحُ وَالتَّعْدِيدُ ، وَلَطْمُ الْخُدُودِ ، وَالدُّعَاءُ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ فَكُلُّ ذَلِكَ مَحْظُورٌ حَرَامٌ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَعَنَ النَّائِحَةَ وَالْمُسْتَمِعَةَ ، وَنَهَى عَنِ الصِّيَاحِ وَالْمَأْتَمِ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " أَنْهَاكُمْ عَنْ صَوْتَيْنِ فَاجِرَيْنِ : صَوْتٍ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ ، وَصَوْتٍ عِنْدَ نَغْمَةٍ " ، قِيلَ : الْمُرَادُ بِهِ النِّيَاحَةُ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ ، وَالْمِزْمَارُ عِنْدَ النَّغْمَةِ . وَرَوَتِ امْرَأَةُ أَبِي مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَيْسَ مِنَّا مَنْ حَلَقَ أَوْ سَلَقَ " ، فَالْحَلْقُ هُوَ
حَلْقُ الشَّعْرِ ، وَالسَّلْقُ هُوَ أَنْ تَنُوحَ بِلِسَانِهَا ، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ : سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ ، [ الْأَحْزَابِ : ] . وَرَوَى قُتَيْبَةُ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ مِنَ النِّسَاءِ السَّالِقَةَ وَالْحَالِقَةَ ، وَالْخَارِقَةَ وَالْمُمْتَهِشَةَ . فَالسَّالِقَةُ : الَّتِي تَرْفَعُ صَوْتَهَا بِالصُّرَاخِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ ، وَالْحَالِقَةُ : الَّتِي تَحْلِقُ شَعْرَهَا ، وَالْخَارِقَةُ : الَّتِي تَخْرِقُ ثَوْبَهَا ، وَالْمُمْتَهِشَةُ : الَّتِي تَخْمُشُ وَجْهَهَا فَتَأْخُذُ لَحْمَهُ بِأَظْفَارِهَا مِنْهُ ، وَقِيلَ نَهْشَةُ الْكِلَابِ ، وَالْمُمَهِّشَةُ : الَّتِي تَحْلِقُ وَجْهَهَا بِالْمُوسَى لِلتَّزَيُّنِ .
فَصْلٌ : الْبُكَاءُ عَلَى الْمَيِّتِ فَأَمَّا الْبُكَاءُ بِلَا نَدْبٍ وَلَا نِيَاحَةٍ فَمُبَاحٌ ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَخْفِيفِ الْحُزْنِ وَتَعْجِيلِ السُّلُوِّ ، وَقَدْ رَوَى ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَعَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي حِجْرِهِ وَهُوَ يَجُودُ بِنَفْسِهِ فَقَالَ : " لَوْلَا أَنَّهُ مَوْعِدٌ صَادِقٌ ، وَوَعْدٌ جَامِعٌ ، وَأَنَّ الْمَاضِيَ فَرَطٌ لِلْبَاقِي ، وَأَنَّ الْآخِرَ لَاحِقٌ بِالْأَوَّلِ ، لَحَزِنَّا عَلَيْكَ يَا إِبْرَاهِيمُ " ثُمَّ دَمَعَتْ عَيْنَاهُ ، فَقَالَ : " تَدْمَعُ الْعَيْنُ ، وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَاهُ الرَّبُّ ، وَإِنَّا بِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ مَحْزُونُونَ ، الْحَقْ بِالسَّلَفِ الصَّالِحِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ " . وَرَوَى أَبُو أُمَامَةَ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ مَاتَ ابْنُهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَعَيْنَاهُ تَدْمَعَانِ ، فَقَالَ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ تَبْكِي عَلَى هَذَا السَّخْلِ ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَقَدْ دَفَنْتُ اثْنَيْ عَشَرَ وَلَدًا كُلُّهُمْ أَشَفُّ مِنْهُ ، كُلُّهُمْ أَدْفِنُهُمْ فِي التُّرَابِ أَحْيَاءً . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فَمَا ذَنْبِي إِنْ كَانَتِ الرَّحْمَةُ ذَهَبَتْ مِنْكَ " ، وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ : " لَمَّا مَاتَتْ رُقَيَّةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَجَّهَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ بِالْحَصْبَةِ " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْحَقِي بِسَلَفِنَا الْخَيْرِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ . قَالَ : وَبَكَى النِّسَاءُ " فَجَعَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَضْرِبُهُنَّ بِسَوْطِهِ ، فَأَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ ، وَقَالَ : " دَعْهُنَّ يَا عُمَرُ ، قَالَ : إِيَّاكُنَّ وَنَعِيقَ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ مَهْمَا يَكُنْ مِنَ الْعَيْنِ وَالْقَلْبِ فَمِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمِنَ الرَّحْمَةِ ، وَمَهْمَا يَكُنْ مِنَ اللِّسَانِ وَالْيَدِ فَمِنَ الشَّيْطَانِ " قَالَ : وَبَكَتْ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ ، فَجَعَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ الدُّمُوعَ عَنْ عَيْنِهَا بِطَرَفِ ثَوْبِهِ ، وَقِيلَ إِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَوَّجَ عُثْمَانَ ابْنَتَهُ أُمَّ كُلْثُومٍ عَلَى شَفِيرِ قَبْرِ رُقَيَّةَ .
فَأَمَّا رِوَايَةُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ اللَّهَ لَيُعَذِّبُ الْمَيِّتَ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ " فَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بَعْدَ مَوْتِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَتْ : رَحِمَ اللَّهُ عُمَرَ ، وَاللَّهِ مَا حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ لَيُعَذِّبُ الْمَيِّتَ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ " حَسْبُكُمُ الْقُرْآنُ " وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ، [ فَاطِرٍ ] ، وَكِلَا الْحَدِيثَيْنِ يَفْتَقِرُ إِلَى تَأْوِيلٍ ، وَلَيْسَ يُمْكِنُ حَمْلُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى ظَاهِرِهِ ، فَلِأَصْحَابِنَا ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا : مَا رَوَتْهُ عَمْرَةُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اجْتَازَ عَلَى قَبْرِ يَهُودِيٍّ ، وَأَهْلُهُ يَبْكُونَ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : إِنَّهُ لَيُبْكَى عَلَيْهِ ، وَإِنَهُ لَيُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ فَقَالَ ذَلِكَ إِخْبَارًا عَنْ حَالِهِ . وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي : أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ مَا يُبْكَى بِهِ الْجَاهِلِيُّ مِنْ حُرُوبِهِ وَقَتْلِهِ وَغَارَاتِهِ ، فَيَظُنُّونَ أَنَّ ذِكْرَ ذَلِكَ رَحْمَةٌ لَهُ فَيَكُونُ عَذَابًا عَلَيْهِ . وَالتَّأْوِيلُ الثَّالِثُ : ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ : أَنَّهُ وَارِدٌ فِيمَنْ وَصَّى بِالْبُكَاءِ ، فَقَدْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَقَالَ شَاعِرٌ مِنْهُمْ : . فَإِنْ مِتُّ فَانْعَيْنِي بِمَا أَنَا أَهْلُهُ وَشُقِّي عَلَيَّ الْجَيْبَ يَا ابْنَةَ مَعْبَدِ فَإِذَا عُمِلَ بِذَلِكَ بَعْدَهُ كَانَ زَائِدًا فِي عَذَابِهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا ، وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " .
فَصْلٌ : يُكْرَهُ الْوَطْءُ عَلَى الْقَبْرِ ، وَالِاسْتِنَادُ إِلَيْهِ ، وَالْجُلُوسُ عَلَيْهِ ، وَإِيقَادُ النَّارِ عِنْدَهُ لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ لَهُ مِنَ الْمَشْيِ عَلَيْهِ ، خَلَعَ نَعْلَهُ مِنْ رِجْلِهِ ، وَمَشَى مَا أَمْكَنَ ، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمْشِي بَيْنَ الْقُبُورِ ، فَرَأَى رَجُلًا يَمْشِي بَيْنَ الْمَقَابِرِ بِنَعْلَيْهِ ، فَقَالَ : " يَا صَاحِبَ السِّبْتَيْنِ اخْلَعْ سِبْتَيْكَ " قَالَ : فَنَظَرَ الرَّجُلُ فَإِذَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَلَعَهُمَا فَرَمَى بِهِمَا . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَأَكْرَهُ الْمَبِيتَ عِنْدَ الْقُبُورِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْوَحْشَةِ وَإِزْعَاجِ الْقَلْبِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا زِيَارَةُ الْقُبُورِ فَقَدْ كَرِهَهَا مَالِكٌ ، وَهِيَ عِنْدَنَا مُسْتَحَبَّةٌ ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " إِنِّي نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَلَا فَزُورُوهَا ، وَلَا تَقُولُوا هُجْرًا " . قَالَ الشَّافِعِيُّ : الْهُجْرُ فِي هَذَا الدُّعَاءِ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " زُورُوا قُبُورَ مَوْتَاكُمْ فَإِنَّ لَكُمْ فِيهَا اعْتِبَارًا " ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
_____كِتَابُ الزَّكَاةِ_____
الأصل في وجوب الزكاة الكتاب والسنة والإجماع
كِتَابُ الزَّكَاةِ أَمَّا الزَّكَاةُ فِي اللُّغَةِ فَهِيَ النَّمَاءُ وَالزِّيَادَةُ ، يُقَالُ : زَكَا الْمَالُ إِذَا نَمَا وَزَادَ ، وَزَكَا الزَّرْعُ إِذَا زَادَ رِيعُهُ وَيُقَالُ : رَجُلٌ زَاكٍ ، إِذَا كَانَ كَثِيرَ الْخَيْرِ وَالْمَعْرُوفِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ ، [ الْكَهْفِ : ] ، أَيْ نَامِيَةً كَثِيرَةَ الْخَيْرِ وَقَالَ الشَّاعِرُ : قَبَائِلُنَا سَبْعٌ وَأَنْتُمْ ثَلَاثَةٌ وَلَسَبْعٌ أَزْكَى مِنْ ثَلَاثٍ وَأَكْثَرُ وَقَالَ الرَّاجِزُ الْمِنْقَرِيُّ : فَلَا زَكَا عَدِيدُهُ وَلَا خَسَا كَمَا شِرَارُ الْبَقْلِ أَطْرَافُ السَّفَا غَيْرَ أَنَّ الزَّكَاةَ فِي الشَّرْعِ ، اسْمٌ صَرِيحٌ لِأَخْذِ شَيْءٍ مَخْصُوصٍ ، مِنْ مَالٍ مَخْصُوصٍ ، عَلَى أَوْصَافٍ مَخْصُوصَةٍ لِطَائِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ ، وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ : الزَّكَاةُ ، اسْمٌ مَا عُرِفَ إِلَّا بِالشَّرْعِ وَلَيْسَ لَهُ فِي اللُّغَةِ أَصْلٌ ، وَهَذَا الْقَوْلُ وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا بِمَا ذَكَرْنَاهُ ، فَلَيْسَ الْخِلَافُ فِيهِ مُؤَثِّرًا فِي أَحْكَامِ الزَّكَاةِ .
فَصْلٌ : وَالْأَصْلُ فِي وُجُوبِهَا الْكِتَابُ ، وَالسُّنَّةُ ، وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ . فَأَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ، [ الْبَيِّنَةِ : ] ، وَقَالَ تَعَالَى : وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ، [ النُّورِ : ] ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَلْ هِيَ مُجْمَلَةٌ أَمْ لَا ؟ فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ : مُجْمَلَةٌ ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَجِبُ إِلَّا فِي مَالٍ مَخْصُوصٍ إِذَا بَلَغَ قَدْرًا مَخْصُوصًا ، وَالْآيَةُ لَا تَتَضَمَّنُ شَيْئًا مِنْ هَذَا ، فَعُلِمَ أَنَّهَا مُجْمَلَةٌ ، وَبَيَانُهَا مَأْخُوذٌ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ ، إِلَّا أَنَّهَا تَقْتَضِي الْوُجُوبَ ، وَقَالَ عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا : لَيْسَتْ مُجْمَلَةً ، وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الزَّكَاةِ فَلِأَنَّهُ يَقْتَضِي وُجُوبَهُ ، فَإِذَا أَخْرَجَ مِنَ الْمَالِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الزَّكَاةِ فَقَدِ امْتَثَلَ الْأَمْرَ ، وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ مَأْخُوذَةٌ مِنَ السُّنَّةِ ، وَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ أدلة وجوب الذكاة أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ
، [ الذَّارِيَاتِ : ] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ، [ التَّوْبَةِ : ] ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى ( خُذْ ) صَرِيحٌ فِي الْأَخْذِ ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى الْوُجُوبِ ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ، [ الْمَعَارِجِ : ] ، صَرِيحٌ فِي الْوُجُوبِ ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى الْأَخْذِ ، وَقَالَ تَعَالَى : وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ، [ التَّوْبَةِ : ] ، وَالْكَنْزُ مِنَ الْأَمْوَالِ مَا لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ ، سَوَاءٌ كَانَ مَدْفُونًا أَوْ ظَاهِرًا ، وَمَا أُدِّيَ زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ ، سَوَاءٌ كَانَ مَدْفُونًا أَوْ ظَاهِرًا هَكَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَقَدِ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ فِي هَذَا التَّأْوِيلِ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ ، وَابْنُ دَاوُدَ الْأَصْبَهَانِيُّ ، فَأَمَّا ابْنُ دَاوُدَ فَقَالَ : الْكَنْزُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْمَالُ الْمَدْفُونُ ، سَوَاءٌ أَدَّيْتَ زَكَاتَهُ أَمْ لَا ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ . وَأَمَّا ابْنُ جَرِيرٍ فَقَالَ : الْكَنْزُ الْمُحَرَّمُ بِالْآيَةِ ، هُوَ مَا لَمْ يُنْفَقْ مِنْهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ، فِي الْغَزْوِ وَالْجِهَادِ ، وَكِلَا التَّأْوِيلَيْنِ غَلَطٌ ، وَمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ يَشْهَدُ لَهُ وَالسُّنَّةَ تَدُلُّ عَلَيْهِ ، وَقَوْلُ الصَّحَابَةِ يُعَضِّدُهُ ، فَأَمَّا مَا يَشْهَدُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ، فَمَا وَرَدَ فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ، [ التَّوْبَةِ : ] ، إِلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ ، [ التَّوْبَةِ : ] ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْوَعِيدُ وَارِدًا فِي حِرْزِ الْأَمْوَالِ وَدَفْنِهَا ، كَمَا قَالَ ابْنُ دَاوُدَ لِإِبَاحَتِهِ ذَلِكَ ، وَلَا فِي إِنْفَاقِهَا فِي الْغَزْوِ وَالْجِهَادِ ، وَكَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ ؛ لِأَنَّ فَرْضَهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ ، وَلَيْسَ فِي الْأَمْوَالِ حَقٌّ يَجِبُ أَدَاؤُهُ إِلَّا الزَّكَاةَ فَعُلِمَ أَنَّهُ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ . وَأَمَّا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ السُّنَّةِ ، فَمَا رَوَى عَطَاءٌ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي أَوْضَاحًا مِنْ ذَهَبٍ أَكْنُزُهَا ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " كُلُّ مَالٍ بَلَغَ الزَّكَاةَ فَزُكِّيَ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ ، وَمَا لَمْ يُزَكِّهِ فَهُوَ كَنْزٌ " . وَأَمَّا مَا يُعَضِّدُهُ مِنْ قَوْلِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهِ عَنْهُمْ ، فَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : كُلُّ مَالٍ لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ فَهُوَ كَنْزٌ وَإِنْ لَمْ يُدْفَنْ ، وَكُلُّ مَالٍ أَدَّى زَكَاتَهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ وَإِنْ دُفِنَ . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : أَيُّمَا رَجُلٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِهِ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعٌ أَقْرَعُ ، يَطْلُبُ صَاحِبَهُ ، فَيَقُولُ : أَنَا كَنْزُكَ ، أَنَا كَنْزُكَ ، وَلَيْسَ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ ، فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنَ الْكِتَابِ دَالٌّ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ ، وَإِنْ كَانَ مَا وَرَدَ بِهِ الْكِتَابُ أَكْثَرَ مِمَّا ذَكَرْنَا . وَأَمَّا الدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِهَا مِنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ الذكاة : فَمَا رَوَى عُمَرُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ ؛ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ، وَصَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ ، وَحَجِّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا " .
وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " صَلُّوا خَمْسَكُمْ ، وَصُومُوا شَهْرَكُمْ ، وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ ، وَحُجُّوا بَيْتَ رَبِّكُمْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ " . وَرَوَى أَبُو وَائِلٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : مَا مِنْ رَجُلٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِهِ ، إِلَّا مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ يَتْبَعُهُ وَهُوَ يَفِرُّ مِنْهُ ، حَتَّى يُطَوِّقَهُ فِي عُنُقِهِ ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، [ آلِ عِمْرَانَ : ] ، وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ فَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ " . وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " أُمِرْتُ بِثَلَاثٍ : أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ " . وَرُوِيَ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْيَمَنِ قَالَ : " ادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةٍ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ " . وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " أَيُّمَا صَاحِبِ إِبَلٍ أَوْ بَقَرٍ وَغَنَمٍ لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا طُرِحَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقَاعٍ قَرْقَرٍ تَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا وَتَكَأَهُ بِأَظْلَافِهَا ، كُلَّمَا بَعُدَتْ أُخْرَاهَا عَادَتْ عَلَيْهِ أُولَاهَا " . فَهَذَا مِنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ . فَأَمَّا طَرِيقُ وُجُوبِهَا مِنْ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ الذكاة ، فَهُوَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قُبِرَ ، وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ كَفَرَ ، وَامْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ مَنِ امْتَنَعَ ، فَهَمَّ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِقِتَالِهِمْ ، وَاسْتَشَارَ الصَّحَابَةَ فِيهِمْ ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : كَيْفَ تُقَاتِلُهُمْ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ ، قَالَ : فَوَكَزَ أَبُو بَكْرٍ فِي صَدْرِي وَقَالَ : وَهَلْ هَذَا إِلَّا حَقُّ حَقِّهَا ، وَاللَّهِ لَا فَرَّقْتُ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَيْنَهُمَا فِي كِتَابِهِ ، ثُمَّ قَالَ وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا أَوْ عَنَاقًا مِمَّا أَعْطَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ ، قَالَ عُمَرُ : وَشَرَحَ اللَّهُ تَعَالَى صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ ، فَأَجْمَعَتِ الصَّحَابَةُ مَعَهُ عَلَى وُجُوبِهَا بَعْدَ مُخَالَفَتِهِمْ لَهُ ، وَأَطَاعُوهُ عَلَى قِتَالِ مَانِعِيهَا بَعْدَ إِنْكَارِهِمْ عَلَيْهِ ، فَثَبَتَ وُجُوبُهَا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ .
بَابُ فَرْضِ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ
بَابُ فَرْضِ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " أَخْبَرَنَا الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، عَنِ الْمُثَنَّى بْنِ أَنَسٍ أَوِ ابْنِ فُلَانِ بْنِ أَنَسٍ - شَكَّ الشَّافِعِيُّ - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : هَذِهِ الصَّدَقَةُ " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ بِهَا فَمَنْ سُئِلَهَا عَلَى وَجْهِهَا فَلْيُعْطِهَا وَمَنْ سُئِلَ فَوْقَهَا فَلَا يُعْطِهِ : فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الْإِبِلِ فَمَا دُونَهَا الْغَنَمُ فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ ، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ إِلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِنْتَ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَثَلَاثِينَ إِلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ أُنْثَى ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ إِلَى سِتِّينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ طَرُوقَةَ الْجَمَلِ ، فَإِذَا بَلَغَتْ إِحْدَى وَسِتِّينَ إِلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ فَفِيهَا جَذَعَةٌ ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَسَبْعِينَ إِلَى تِسْعِينَ فَفِيهَا ابْنَتَا لَبُونٍ ، فَإِذَا بَلَغَتْ إِحْدَى وَسَبْعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِيهَا حِقَّتَانِ طَرُوقَتَا الْجَمَلِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِنَّمَا بَدَأَ الشَّافِعِيُّ بِزَكَاةِ الْإِبِلِ لِأَمْرَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا غَالِبُ أَمْوَالِهِمْ ، فَبَدَأَ بِهَا لِعُمُومِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا . وَالثَّانِي : أَنَّ أَعْدَادَ نُصُبِهَا أَسْنَانُ الْوَاجِبِ فِيهَا فَصَعُبَ ضَبْطُهُ ، فَبَدَأَ بِذِكْرِهِ لِتَقَعَ الْعِنَايَةُ بِمَعْرِفَتِهِ ، ثُمَّ رَوَى الشَّافِعِيُّ مَا قَدَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نُصُبِهَا ، وَأَبَانَهُ مِنْ فَرْضِهَا ، وَأَثْبَتَهُ فِي صَحِيفَةٍ ، وَأَخَذَ بِهَا عُمَّالُهُ فِي حَيَاتِهِ ، وَاقْتَدَى بِهَا خُلَفَاؤُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ بَعْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَجُمْلَةُ مَنْ رَوَى فَرِيضَةَ الصَّدَقَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَوْفَاةً أَرْبَعَةٌ : عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ، وَعَمْرُو بْنُ حَزْمٍ ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، فَأَخَذَ الشَّافِعِيُّ بِرِوَايَةِ أَنَسٍ وَابْنِ عُمَرَ ، دُونَ حَدِيثِ عَلِيٍّ وَعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ لِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ . أَحَدُهَا : أَنَّ حَدِيثَ أَنَسٍ وَابْنِ عُمَرَ أَصَحُّ سَنَدًا مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ وَابْنِ حَزْمٍ ، وَلِأَنَّ حَدِيثَ أَنَسٍ وَارِدٌ مِنْ طَرِيقَيْنِ .
أَحَدُهُمَا : مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي صَدْرِ الْبَابِ عَنِ الْمُثَنَّى بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَالثَّانِي : رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَوَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقَيْنِ ثَابِتَيْنِ . أَحَدُهُمَا : عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ . وَالثَّانِي : عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَوَارِدٌ مِنْ طَرِيقَيْنِ ضَعِيفَيْنِ . أَحَدُهُمَا : عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَكَانَ عَاصِمٌ ضَعِيفًا ، وَالْآخَرُ الْحَارِثُ الْأَعْوَرُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَكَانَ الْحَارِثُ ضَعِيفًا ، وَكَانَ الشَّعْبِيُّ إِذَا رَوَى عَنِ الْحَارِثِ قَالَ : أَخْبَرَنِي الْحَارِثُ الْأَعْوَرُ وَكَانَ وَاللَّهِ كَذَّابًا . وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَارِدٌ مِنْ طَرِيقَيْنِ غَيْرِ ثَابِتَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَبُو بَكْرِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ . وَالثَّانِي : يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ الْأَيْلِيُّ قَالَ : أَقْرَأَنِي سَالِمٌ كِتَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي عِنْدَ آلِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فِي ذَلِكَ ، فَلَمَّا كَانَ حَدِيثُ أَنَسٍ وَابْنِ عُمَرَ أَصَحَّ سَنَدًا مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَابْنِ حَزْمٍ ، كَانَ الْأَخْذُ بِهِمَا ، وَالْعَمَلُ عَلَيْهِمَا أَوْلَى .
وَالثَّانِي : أَنَّ حَدِيثَ أَنَسٍ وَابْنِ عُمَرَ عَمِلَ عَلَيْهِ إِمَامَانِ ، أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَيْهِمَا ، وَلَمْ يَعْمَلْ عَلَى رِوَايَةِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَابْنِ حَزْمٍ أَحَدٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا اتُّفِقَ عَلَى تَرْكِهِ ، وَهُوَ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ : خَمْسُ شِيَاهٍ ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ وَابْنِ عُمَرَ مُجْمَعٌ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ . فَإِنْ قِيلَ : لِمَ خَصَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزَّكَاةَ بِأَنْ كَتَبَهَا فِي صَحِيفَةٍ دُونَ سَائِرِهَا مِنَ الْفُرُوضِ ؛ مِنَ الصَّلَاةِ وَمَوَاقِيتِهَا ، وَالصِّيَامِ وَأَحْكَامِهِ ، وَالْحَجِّ وَمَنَاسِكِهِ ، وَلَا اقْتَصَرَ عَلَى الْقَوْلِ كَمَا اقْتَصَرَ عَلَى الْقَوْلِ فِي غَيْرِهِ ؟ قِيلَ : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَعَلَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ وَنُصُبَهَا وَمَقَادِيرَهَا الْوَاجِبَ فِيهَا وَأَسْنَانَ الْمَأْخُوذِ مِنْهَا ، لَمَّا طَالَ وَصَعُبَ احْتَاجَ إِلَيْهِ بَعْضُ النَّاسِ دُونَ سَائِرِهِمْ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً ، بِخِلَافِ الْفُرُوضِ الْمُتَرَادِفَةِ عَلَى الْكَافَّةِ ، أَوْدَعَ ذَلِكَ كِتَابًا لِيَكُونَ أَحْفَظَ لَهُ وَأَضْبَطَ ، فَكَانَتْ نُسْخَةُ ذَلِكَ فِي قِرَابِ سَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَلَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَخَذَهَا مِنْ قِرَابِ سَيْفِهِ فَكَانَ يَعْمَلُ عَلَيْهَا مُدَّةَ حَيَاتِهِ ، ثُمَّ مَاتَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَعَمِلَ بِهَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مُدَّةَ حَيَاتِهِ .
فَصْلٌ : أَوَّلُ مَا ابْتَدَأَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نُسْخَتِهِ أَنْ كَتَبَ " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى إِثْبَاتِ التَّسْمِيَةِ فِي ابْتِدَاءِ الْكُتُبِ ، وَدَلَّ عَلَى نَسْخِ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ ، مِنْ قَوْلِهِمْ بِاسْمِكِ اللَّهُمَّ ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِابْتِدَاءَ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ بِوَاجِبٍ فِي ابْتِدَاءِ الْكُتُبِ ، وَأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَمْ يُبْدَأْ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ أَبْتَرُ " يُرِيدُ لِمَنْ يَبْدَأُ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ، ثُمَّ قَالَ " هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ " ، فَبَدَأَ بِإِشَارَةِ التَّأْنِيثِ ، لِأَنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهَا مُؤَنَّثًا ، وَقَوْلُهُ " فَرِيضَةُ " ، يَعْنِي نُسْخَةُ فَرِيضَةِ الصَّدَقَةِ ، فَحَذَفَ ذِكْرَ النُّسْخَةِ وَأَقَامَ الْفَرِيضَةَ مَقَامَهَا ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اسْمَ الصَّدَقَةِ وَالزَّكَاةِ وَاحِدٌ ، بِخِلَافِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ . ثُمَّ قَالَ : " الَّتِي فَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ " ، يَعْنِي : الَّتِي قَدَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، كَمَا يُقَالُ : فَرَضَ الْقَاضِي النَّفَقَةَ أَيْ قَدَّرَهَا ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ : " الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهَا " ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ بَيَانٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَوْجَبَهَا ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَّرَهَا ، ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ أَنَّهُ قَامَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، اللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَأْخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا فَتَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِنَا ؟ فَقَالَ : اللَّهُ أَمَرَنِي بِذَلِكَ وَقَوْلُهُ " عَلَى الْمُسْلِمِينَ " ، دَلَّ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِمْ ، ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فَمَنْ يُسْأَلْهَا فَلْيُعْطِهَا " ، يُرِيدُ مَنْ سَأَلَكُمُ الزَّكَاةَ مِنَ الْوُلَاةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَثْبَتُّهُ ، وَكَانَ عَدْلًا ، فَأَعْطُوهُ . ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " وَمَنْ سُئِلَ فَوْقَهَا فَلَا يُعْطِهِ " يُرِيدُ مَنْ
سُئِلَ فَوْقَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ ، وَالْحُكْمُ فِيهِ أَنْ يُنْظَرَ ، فَإِنْ كَانَ طَالِبُ الزِّيَادَةِ مُتَأَوِّلًا بِطَلَبِهَا ، كَالْمَالِكِيِّ الَّذِي يَرَى أَخْذَ الْكَبِيرَةِ مِنَ الصِّغَارِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَمْنَعَهُ الْقَدْرَ الْوَاجِبَ ، وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " فَلَا يُعْطِهِ " رَاجِعًا إِلَى الزِّيَادَةِ ، وَإِنْ كَانَ طَالِبُ الزِّيَادَةِ غَيْرَ مُتَأَوِّلٍ فِيهَا وَالزِّيَادَةُ لَا وَجْهَ لَهَا فِي الِاجْتِهَادِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " فَلَا يُعْطِهِ " فِيهِ لِأَصْحَابِنَا جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الزِّيَادَةِ ، فَعَلَى هَذَا يُعْطِيهِ الْقَدْرَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ ، لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ وُلِّيَ عَلَيْكُمْ فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا مَا أَقَامَ فِيكُمْ كِتَابَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْجُمْلَةِ مِنَ الْوَاجِبِ وَالزِّيَادَةِ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ الْوَاجِبَ وَلَا الزِّيَادَةَ ، لِأَنَّهُ بِطَلَبِ الزِّيَادَةِ فَاسِقٌ ، وَالْفَاسِقُ لَا وِلَايَةَ لَهُ ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَطِيعُوهُمْ مَا أَطَاعُوا اللَّهَ سُبْحَانَهُ ، فَإِذَا عَصَوُا اللَّهَ تَعَالَى فَلَا طَاعَةَ لَهُمْ عَلَيْكُمْ " ثُمَّ ابْتَدَأَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِكْرِ الْإِبِلِ فَقَالَ : " فِي أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الْإِبِلِ فَمَا دُونَهَا الْغَنَمُ " ، فَكَانَ هَذَا تَفْسِيرًا مِنْ وَجْهٍ ، وَإِجْمَالًا مِنْ وَجْهٍ ، فَالتَّفْسِيرُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ فَمَا دُونَهَا إِلَّا الْغَنَمُ ، وَالْإِجْمَالُ أَنَّهُ لَا يَدْرِي قَدْرَ الْوَاجِبِ فِيهَا ، ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ مُفَسِّرًا لِهَذَا الْإِجْمَالِ ، " فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ " فَكَانَ هَذَا بَيَانًا لِابْتِدَاءِ النِّصَابِ ، وَقَدْرِ الْوَاجِبِ فِيهِ .
فَصْلٌ : لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ أَوَّلَ النِّصَابِ فِي الْإِبِلِ خَمْسٌ ، وَأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهَا شَاةٌ ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ " وَلِرِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسٍ ذَوْدٍ مِنَ الْإِبِلِ صَدَقَةٌ " ، وَالذَّوْدُ مِنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى التِّسْعَةِ ، فَإِذَا صَارَتْ عَشْرًا فَمَا فَوْقَ صَرَّةٌ مِنَ الْإِبِلِ ، فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَةً قِيلَ هُنَيْدَةٌ ، وَيُقَالُ هُنَيْدِيَّةٌ ، فَإِذَا نَقَصَتْ إِبِلُ الرَّجُلِ عَنْ خَمْسٍ فَلَا شَيْءَ فِيهَا ، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا فَفِيهَا شَاةٌ إِلَى تِسْعٍ ، فَإِذَا بَلَغَتْ عَشْرًا إِلَى أَرْبَعَ عَشْرَةَ فَفِيهَا شَاتَانِ ، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسَ عَشْرَةَ فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ ، إِلَى تِسْعَ عَشْرَةَ ، فَإِذَا بَلَغَتْ عِشْرِينَ فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ ، إِلَى أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ ، وَهِيَ غَايَةُ الْعَدَدِ الَّذِي يَجِبُ فِي فَرِيضَةِ الْغَنَمِ . فَأَمَّا صِفَةُ هَذِهِ الشِّيَاهِ ، وَهِيَ كُلُّ شَاةٍ يَجُوزُ أُضْحِيَّتُهَا إِمَّا جَذَعَةٌ مِنَ الضَّأْنِ أَوْ ثَنِيَّةٌ مِنَ الْمَعْزِ ، وَلَا وَجْهَ لِمَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا : كُلُّ مَا انْطَلَقَ عَلَيْهِ اسْمُ شَاةٍ أَجْزَأَتْ وَإِنْ لَمْ تُجْزِ فِي الضَّحَايَا ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ هَذَا الِاسْمِ فِي الشَّرْعِ يَتَنَاوَلُ مَا قُيِّدَ وَصْفُهُ مِنَ الضَّحَايَا كَالدِّمَاءِ الْوَاجِبَةِ فِي الْحَجِّ ، ثُمَّ لِأَصْحَابِنَا فِي هَذِهِ الشَّاةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهَا تُجْزِي ذَكَرًا وَأُنْثَى كَالضَّحَايَا ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ .
وَالثَّانِي : أَنَّهَا لَا تُجْزِي إِلَّا أُنْثَى كَالْوَاجِبَةِ فِي الزَّكَاةِ . وَالثَّالِثُ : وَبِهِ قَالَ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ ، أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْإِبِلُ إِنَاثًا لَمْ تُجْزِ الشَّاةُ إِلَّا أُنْثَى ، وَإِنْ كَانَتْ ذُكُورًا أَجْزَأَ ذَكَرًا وَأُنْثَى ، اعْتِبَارًا بِوَصْفِ الْمَالِ ، كَمَا يُؤْخَذُ مِنَ الْكِرَامِ كَرِيمٌ وَمِنَ اللِّئَامِ لَئِيمٌ ، فَأَمَّا الْوَقْصُ فَهُوَ مَا بَيْنَ النِّصَابَيْنِ كَالْأَرْبَعَةِ إِلَى الْخَمْسِ وَالْعَشَرَةِ ، فَفِيهِ قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ : أَحَدُهُمَا : وَبِهِ قَالَ الْبُوَيْطِيُّ ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ ، أَنَّ الْفَرْضَ مَأْخُوذٌ مِنْ جَمِيعِهِ ، فَتَكُونُ الشَّاةُ مَأْخُوذَةً مِنَ التِّسْعَةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ ، أَنَّ الشَّاةَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْخَمْسِ ، وَالْوَقْصَ الزَّائِدَ عَلَى ذَلِكَ عَفْوٌ ، وَسَنَذْكُرُ تَوْجِيهَ الْقَوْلَيْنِ ، وَمَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِمَا فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ، وَإِذَا صَارَتِ الْإِبِلُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ ، انْتَقَلَ الْفَرْضُ مِنَ الْغَنَمِ إِلَى الْإِبِلِ ، وَوَجَبَ فِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ ، وَبِهِ قَالَ كَافَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ ، إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَامِرٍ الشَّعْبِيِّ ، أَنَّ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ خَمْسُ شِيَاهٍ ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَعِشْرِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ ؛ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ شُعْبَةَ وَزُهَيْرٍ ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ ، عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الْإِبِلِ خَمْسُ شِيَاهٍ ، وَفِي سِتَّةٍ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ " وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ ثَابِتَةٍ ، وَالْحِكَايَةُ عَنْ عَلِيٍّ وَالشَّعْبِيِّ غَيْرُ صَحِيحَةٍ ، وَلَوْ سَلَّمْنَا هَذِهِ الرِّوَايَةَ لَكَانَتْ رِوَايَةُ أَنَسٍ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ " أَوْلَى مِنْ وُجُوهٍ . أَحَدُهَا : ثِقَةُ الرُّوَاةِ ، وَصِحَّةُ الْإِسْنَادِ . وَالثَّانِي : اتِّفَاقُهُمْ عَلَى أَنَّ حَدِيثَ أَنَسٍ وَابْنِ عُمَرَ مُتَّصِلٌ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَكُّهُمْ فِي حَدِيثٍ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَلْ هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ أَوْ مُتَّصِلٌ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لِأَنَّ زُهَيْرًا يَقُولُ : أَجَبْتُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَكَانَ الْحَدِيثُ الْمُتَّصِلُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِجْمَاعًا أَوْلَى . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ رِوَايَةُ أَنَسٍ وَابْنِ عُمَرَ مُعَوَّلٌ عَلَى جَمِيعِهَا ، وَحَدِيثُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُتَّفَقٌ عَلَى تَرْكِ بَعْضِهِ . وَالرَّابِعُ : أَنَّ حَدِيثَ أَنَسٍ أَشْبَهُ بِأُصُولِ الزَّكَاةِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ؛ لِأَنَّ سَائِرَ النُّصُبِ لَا تَقْتَرِنُ حَتَّى يَتَخَلَّلَهَا وَقْصٌ لَا يُؤَثِّرُ فِي الزَّكَاةِ ، فَأَمَّا صِفَةُ بِنْتِ مَخَاضٍ ، فَهِيَ : الَّتِي لَهَا سَنَةٌ كَامِلَةٌ وَقَدْ دَخَلَتْ فِي الثَّانِيَةِ ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ بِنْتَ مَخَاضٍ ؛ لِأَنَّ أُمَّهَا قَدْ مَخَضَتْ
بِغَيْرِهَا أَيْ : حَمَلَتْ ، وَالْمَاخِضُ : الْحَامِلُ ، وَهَذَا السِّنُّ هُوَ أَوْلَى لِلِانْتِفَاعِ بِالْإِبِلِ ؛ لِأَنَّ مَا دُونُ ذَلِكَ لَا انْتِفَاعَ بِهِ فِي الْغَالِبِ ، وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ النَّاقَةَ إِذَا وَضَعَتْ وَلَدَهَا لِدُونِ وَقْتِهِ وَأَوَانِهِ قِيلَ : خَدَجَتِ النَّاقَةُ وَقِيلَ : سُمِّيَ خَدِيجٌ إِذَا وَضَعَتْهُ لِوَقْتِهِ وَزَمَانِهِ ، غَيْرَ أَنَّهُ نَاقِصُ الْخَلْقِ فِي نَفْسِهِ ، قِيلَ : أَخْدَجَتِ النَّاقَةُ ، وَسُمِّيَ مَخْدُوجٌ ، فَإِذَا وَضَعَتْهُ تَامًا قِيلَ لَهُ هُبَعٌ وَرُبَعٌ ثُمَّ فَصِيلٌ ثُمَّ مَلِيلٌ ثُمَّ حُوَارٌ ثُمَّ جَاسِرٌ ، فَإِذَا تَمَّ سَنَةً قِيلَ ابْنُ مَخَاضٍ لِلذَّكَرِ وَبِنْتُ مَخَاضٍ لِلْأُنْثَى .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ بِنْتِ مَخَاضٍ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ فى نصاب الإبل فَهِيَ فَرْضُهَا إِلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي إِبِلِهِ بِنْتُ مَخَاضٍ وَكَانَ فِي إِبِلِهِ ابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ أُخِذَ مِنْهُ ابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ مَعَ وُجُودِ بِنْتِ مَخَاضٍ ، وَهَذَا غَلَطٌ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا ابْنَ لَبُونٍ مَعَ وُجُودِ بِنْتِ مَخَاضٍ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ ابْنُ لَبُونٍ مَعَ وُجُودِ بِنْتِ مَخَاضٍ فِي مَالِهِ ، قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ إِلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ " فَشَرْطُ أَخْذِ ابْنِ لَبُونٍ مَعَ عَدَمِ وُجُودِ بِنْتِ مَخَاضٍ ، فَاقْتَضَى أَنْ لَا يُؤْخَذُ مَعَ وُجُودِهَا ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي مَالِهِ بِنْتُ مَخَاضٍ ، وَلَا ابْنُ لَبُونٍ فَابْتَاعَ ابْنَ لَبُونٍ ، جَازَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ ، وَقَالَ مَالِكٌ : يَلْزَمُهُ أَنْ يَبْتَاعَ بِنْتَ مَخَاضٍ ، فَإِنِ ابْتَاعَ ابْنَ لَبُونٍ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ ، وَهَذَا غَلَطٌ ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ يَجُوزُ إِخْرَاجُهُ إِذَا كَانَ لَهُ مَالِكًا يَجُوزُ إِخْرَاجُهُ إِذَا ابْتَاعَهُ ، قِيَاسًا عَلَى ابْنِ مَخَاضٍ ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي مَالِهِ جَمِيعًا ، وَأَرَادَ السَّاعِي مُطَالَبَتَهُ بِالْوَاجِبِ عَلَيْهِ ، فَفِي كَيْفِيَّةِ مُطَالَبَتِهِ بِالْوَاجِبِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُخَيَّرُ فِي الْمُطَالَبَةِ بَيْنَ بِنْتِ مَخَاضٍ وَابْنِ لَبُونٍ ذَكَرٍ ، لِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي الْأَدَاءِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُطَالِبُهُ بِبِنْتِ مَخَاضٍ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ ، فَإِنْ جَاءَ بِابْنِ لَبُونٍ أُخِذَ مِنْهُ ، فَلَوْ أَعْطَى حِقًّا ذَكَرًا بَدَلًا مِنْ بِنْتِ مَخَاضٍ عِنْدَ عَدَمِهَا ، فَفِي جَوَازِ قَبُولِهِ مِنْهُ وَجْهَانِ : أَصَحُّهُمَا : يُقْبَلُ مِنْهُ ، لِأَنَّهُ أَعْلَى سِنًّا مِنَ ابْنِ لَبُونٍ وَأَنْفَعُ ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبٌ ضَعِيفٌ ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الزَّكَاةِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا زَادَتِ الْإِبِلُ وَاحِدَةً وَبَلَغَتْ سِتًّا وَثَلَاثِينَ ، فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ فى نصاب الإبل إِلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ ، وَهِيَ الَّتِي لَهَا سَنَتَانِ كَامِلَتَانِ وَدَخَلَتْ فِي الثَّالِثَةِ ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ أُمَّهَا قَدْ وَضَعَتْ وَدَرَّ لَبَنُهَا ، وَلَيْسَ ذَلِكَ شَرْطًا فِيهَا ، وَلَا فِي بِنْتِ مَخَاضٍ ، بَلْ الِاسْمُ وَاقِعٌ عَلَيْهِمَا وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْأُمُّ مَاخِضًا وَلَا لَبُونًا ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي مَالِهِ بِنْتُ لَبُونٍ فَأَعْطَى بَدَلَهَا حِقًّا لَمْ يَجُزْ ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : يَجُوزُ إِخْرَاجُهُ قِيَاسًا عَلَى ابْنِ لَبُونٍ ، وَهَذَا خَطَأٌ .
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ الْحِقَّ مُقَارِبٌ لِبِنْتِ اللَّبُونِ فِي الْمَنْفَعَةِ وَالْحَمْلِ ، ثُمَّ يَخْتَصُّ بِبَعْضِ الزَّكَاةِ فَلَمْ يَجُزْ أَخْذُهُ بَدَلًا مِنْهَا لِنَقْصِهِ ، وَابْنُ اللَّبُونِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ بَعْضُ الذُّكُورَةِ فَفِيهِ مِنَ الْقُوَّةِ وَالْمَنْفَعَةِ وَالِامْتِنَاعِ مِنْ صِغَارِ السِّبَاعِ مَا لَيْسَ فِي بِنْتِ مَخَاضٍ ، فَجَازَ أَخْذُهُ بَدَلًا مِنْهَا .
فَصْلٌ : فَإِذَا زَادَتِ الْإِبِلُ وَاحِدَةً ، فَبَلَغَتْ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ فِيهَا حِقَّةٌ فى نصاب الإبل إِلَى السِّتِّينَ ، وَالْحِقَّةُ : الَّتِي لَهَا ثَلَاثُ سِنِينَ وَقَدْ دَخَلَتْ فِي الرَّابِعَةِ وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا قَدِ اسْتَحَقَّتْ أَنْ يَطْرُقَهَا الْفَحْلُ ، وَقِيلَ بَلْ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا قَدِ اسْتَحَقَّتْ أَنْ تُرْكَبَ وَيُحْمَلَ عَلَيْهَا الْحُمُولَةُ ، فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً فَبَلَغَتْ إِحْدَى وَسِتِّينَ فَفِيهَا جَذَعَةٌ إِلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ . . وَالْجَذَعَةُ صفتها : الَّتِي مَا لَهَا أَرْبَعُ سِنِينَ وَقَدْ دَخَلَتْ فِي الْخَامِسَةِ وَقَدْ خَرَجَ جَمِيعُ أَسْنَانِهَا . قَالَ الْأَصْمَعِيُّ : وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ جَذَعَةً ؛ لِأَنَّ أَسْنَانَهَا لَمْ تَسْقُطْ فَيُبَدَّلُ عَلَيْهَا ، وَالْجَذَعَةُ أَعْلَى الْأَسْنَانِ الْوَاجِبَةِ عَلَى الزَّكَاةِ ، وَيُقَالُ لِمَا زَادَ عَلَى الْجَذَعِ ثَنِيٌّ ، ثُمَّ رُبَاعٌ ثُمَّ سَدِيسٌ ثُمَّ بَازِلٌ ثُمَّ مُخَلَّفُ عَامٍ وَمُخَلَّفُ عَامَيْنِ ، وَالْجَذَعُ هُوَ نِهَايَةُ الْإِبِلِ فِي الْحُسْنِ وَالدَّرِّ وَالنَّسْلِ وَالْقُوَّةِ ، وَمَا زَادَ عَلَيْهِ وَجُوعٌ كَالْكِبَرِ وَالْهَرَمِ ، فَإِذَا زَادَتِ الْإِبِلُ وَاحِدَةً فَبَلَغَتْ سِتًّا وَسَبْعِينَ ، فَفِيهَا بِنْتَا لَبُونٍ إِلَى تِسْعِينَ ، فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً فَبَلَغَتْ إِحْدَى وَتِسْعِينَ ، فَفِيهَا حِقَّتَانِ طَرُوقَتَا الْفَحْلِ ، ثُمَّ لَا يَزَالُ ذَلِكَ فَرْضُهَا إِلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى الْمِائَةِ وَعِشْرِينَ ، تَغَيَّرَ هَذَا الِاعْتِبَارُ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فَهِيَ نَصُّ الْخَبَرِ وَإِجْمَاعُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ ، فَحَصَلَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ إِلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ إِلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ إِلَى سِتِّينَ ، فَإِذَا بَلَغَتْ إِحْدَى وَسِتِّينَ فَفِيهَا جَذَعَةٌ إِلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتَّةً وَسَبْعِينَ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ إِلَى تِسْعِينَ ، فَإِذَا بَلَغَتْ إِحْدَى وَتِسْعِينَ فَفِيهَا حِقَّتَانِ إِلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ ، ثُمَّ يَسْتَقِرُّ الْفَرْضُ لِمَا زَادَ عَلَى الْحِقَاقِ وَبَنَاتِ اللَّبُونِ .
فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ فى نصاب الإبل . وَهُوَ صَحِيحٌ . وَهُوَ نَصُّ الْحَدِيثِ ، فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ ، فَفِيهَا ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ . وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ ، وَالْحَكَمُ بْنُ عُيَيْنَةَ : لَا اعْتِبَارَ بِالزِّيَادَةِ حَتَّى تَكُونَ خَمْسًا ، فَتَبْلُغُ مِائَةً وَخَمْسًا وَعِشْرِينَ ، فَيَكُونَ فِيهَا حِقَّتَانِ وَبِنْتُ مَخَاضٍ ، فَالْحِقَّتَانِ فِي مِائَةٍ ، وَبِنْتُ
مَخَاضٍ فِي خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ . وَقَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ الْقَاسِمِ عَنْهُ : لَا اعْتِبَارَ بِالزِّيَادَةِ حَتَّى تَكُونَ عَشْرًا فَتَبْلُغَ مِائَةً وَثَلَاثِينَ ، فَيَكُونَ فِيهَا حِقَّتَانِ وَبِنْتُ لَبُونٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ : يَسْتَأْنِفُ الْفَرْضَ بَعْدَ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ ، فَيَكُونُ فِي مِائَةٍ وَخَمْسٍ وَعِشْرِينَ حِقَّتَانِ وَشَاةٌ ، وَفِي مِائَةٍ وَثَلَاثِينَ حِقَّتَانِ وَشَاتَانِ ، وَفِي مِائَةٍ وَخَمْسٍ وَثَلَاثِينَ حِقَّتَانِ وَثَلَاثُ شِيَاهٍ ، وَفِي مِائَةٍ وَأَرْبَعِينَ حِقَّتَانِ وَأَرْبَعُ شِيَاهٍ ، وَفِي مِائَةٍ وَخَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ حِقَّتَانِ وَبِنْتُ مَخَاضٍ ، وَفِي مِائَةٍ وَخَمْسِينَ ثَلَاثُ حِقَاقٍ ، كَقَوْلِنَا ، ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ فَرْضَ الشِّيَاهِ بَعْدَ ذَلِكَ . وَاسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِرِوَايَةِ زُهَيْرٍ ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ ، عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : فَإِذَا زَادَتِ الْإِبِلُ عَلَى الْمِائَةِ وَعِشْرِينَ اسْتُؤْنِفَتِ الْفَرِيضَةُ ، فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ وَلِرِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَيْهِ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ إِلَى الْيَمَنِ : وَفِيهِ الْعَقْلُ وَالْأَسْنَانُ وَنُصُبُ الزَّكَوَاتِ ، فَإِذَا زَادَتِ الْإِبِلُ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ فَفِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ ، قَالُوا : وَلِأَنَّ الشَّاةَ فَرْضٌ يَتَكَرَّرُ قَبْلَ الْمِائَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَتَكَرَّرَ بَعْدَهَا كَالْحِقَاقِ وَبَنَاتِ اللَّبُونِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّكُمْ إِذَا أَوْجَبْتُمْ بِالْوَاحِدَةِ الزَّائِدَةِ عَلَى الْمِائَةِ وَعِشْرِينَ ثَلَاثَ بَنَاتِ لَبُونٍ لَمْ تَنْفَكُّوا مِنْ مُخَالَفَةِ الْخَبَرِ وَمُخَالَفَةِ أُصُولِ الزَّكَوَاتِ ، لِأَنَّكُمْ إِنْ قُلْتُمْ : إِنَّ ثَلَاثَ بَنَاتِ لَبُونٍ تَجِبُ فِي مِائَةٍ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ فَقَدْ خَالَفْتُمُ الْخَبَرَ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ " وَأَنْتُمْ أَوْجَبْتُمْ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ وَثُلُثٍ ، وَإِنْ قُلْتُمْ : إِنَّ بَنَاتِ اللَّبُونِ مَأْخُوذَةٌ مِنْ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ وَأَنَّ الْوَاحِدَةَ الزَّائِدَةَ وَقْصٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا الْفَرْضُ ، خَالَفْتُمْ أُصُولَ الزَّكَوَاتِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ مُغَيِّرٍ لِلْفَرْضِ فِي أُصُولِ الزَّكَوَاتِ يَتَعَلَّقُ الْفَرْضُ بِهِ ، وَيَكُونُ الْفَرْضُ مَأْخُوذًا مِنْهُ وَمِنَ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ ، كَالسَّادِسِ وَالثَّلَاثِينَ وَالسَّادِسِ وَالْأَرْبَعِينَ وَالْوَاحِدِ الزَّائِدِ عَلَى السِّتِّينَ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ رِوَايَةُ أَنَسٍ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : فَإِذَا بَلَغَتْ إِحْدَى وَتِسْعِينَ فَفِيهَا حِقَّتَانِ إِلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ ، فَإِذَا زَادَتِ الْإِبِلُ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ ، وَالدَّلَالَةُ فِي هَذَا الْخَبَرِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَوْلُهُ " حِقَّتَانِ إِلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ " ، وَإِلَى غَايَةٍ وَحَدٍّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ بَعْدَ الْحَدِّ وَالْغَايَةِ بِخِلَافِهِ قَبْلَهُ . وَالثَّانِي : قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ " فَاقْتَضَى ظَاهِرُ هَذَا اللَّفْظِ أَنْ يَكُونَ قَلِيلُ الزِّيَادَةِ وَكَثِيرُهَا مُغَيِّرًا لِلْفَرْضِ عَلَى مَا أَبَانَهُ مِنْ وُجُوبِ بِنْتِ لَبُونٍ فِي أَرْبَعِينَ وَحِقَّةٍ فِي خَمْسِينَ ، فَإِنْ قِيلَ : الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فَإِذَا زَادَتْ عَلَى الْمِائَةِ وَعِشْرِينَ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ " ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الزِّيَادَةِ عَلَى الْمِائَةِ وَالْعِشْرِينَ إِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ ، وَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسِينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ ، لِأَنَّهُ
أَرَادَ بِذَلِكَ جُمْلَتَهَا مِنَ الزِّيَادَةِ ، وَالْمَزِيدُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مِنْهَا بِنْتُ لَبُونٍ ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ ، فَالْجَوَابُ : أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ يَبْطُلُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ بِخِلَافِهِ ، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ فِي مِائَةٍ وَسِتِّينَ حِقَّتَانِ وَبِنْتُ لَبُونٍ ، فَالْحِقَّتَانِ فِي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ ، وَبِنْتُ اللَّبُونِ فِي الْأَرْبَعِينَ الزَّائِدَةِ ، وَفِي الْمِائَةِ وَسَبْعِينَ ثَلَاثُ حِقَاقٍ ، هَذَا قَوْلٌ قَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى خِلَافِهِ ، فَكَانَ التَّأْوِيلُ الْمُؤَدِّي إِلَيْهِ بَاطِلًا بِالْإِجْمَاعِ . وَالثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " فَإِذَا زَادَتْ " شَرْطٌ ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ " حُكْمٌ ، وَالْحُكْمُ رَاجِعٌ إِلَى الْجُمْلَةِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ ، وَلَيْسَ لَهُ اخْتِصَاصٌ بِبَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ رِوَايَةُ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ وَسُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ سَالِمٍ ، عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " فَإِذَا زَادَتِ الْإِبِلُ عَلَى الْمِائَةِ وَعِشْرِينَ وَاحِدَةً فَفِيهَا ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ " فَكَانَ هَذَا نَصًّا يُبْطِلُ كُلَّ تَأْوِيلٍ ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ ، هُوَ أَنَّ الشَّاةَ أَحَدُ طَرَفَيِ الْإِيجَابِ فِي الْإِبِلِ قَبْلَ الْمِائَةِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ كَالْجَذَعَةِ ، وَلِأَنَّ بِنْتَ مَخَاضٍ سِنٌّ لَا يَتَكَرَّرُ قَبْلَ الْمِائَةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَعُودَ بَعْدَ الْمِائَةِ كَالْجَذَعَةِ ، فَثَبَتَ بِهَذَيْنِ الْقِيَاسَيْنِ انْتِفَاءُ وُجُوبِ الشَّاةِ وَبِنْتِ الْمَخَاضِ بَعْدَ الْمِائَةِ ، ثُمَّ نَقُولُ بِابْتِدَاءٍ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَلِأَنَّهَا نُصُبٌ مُخْتَلِفَةُ التَّرْتِيبِ فِي اسْتِفْتَاحِ الْفَرِيضَةِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَعُودَ تَرْتِيبُهَا الْأَوَّلُ فِيمَا بَعْدُ كَالْغَنَمِ ، وَلِأَنَّا وَجَدْنَا النُّصُبَ الَّتِي قَبْلَ الْمِائَةِ أَقْرَبَ إِلَى فَرْضِ الْغَنَمِ مِنَ النُّصُبِ الَّتِي بَعْدَ الْمِائَةِ ، فَلَمَّا لَمْ تَعُدِ الشَّاةُ إِلَى النُّصُبِ الَّتِي هِيَ أَقْرَبُ إِلَيْهَا ، فَالَّتِي لَا تَعُودُ إِلَى النُّصُبِ الَّتِي هِيَ أَبْعَدُ مِنْهَا أَوْلَى ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَلَى مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنَ الْخَبَرِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تَرْجِيحٌ . وَالثَّانِي : اسْتِعْمَالٌ ، فَأَمَّا التَّرْجِيحُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ مَا رَوَيْنَا مِنَ الْأَخْبَارِ فَمِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ مَا رَوَيْنَاهُ أَصَحُّ إِسْنَادًا وَأَوْثَقُ رِجَالًا . وَالثَّانِي : أَنَّ بِهِ عَمِلَ الْإِمَامَانِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا . وَالثَّالِثُ : أَنَّ خَبَرَنَا مُتَّفَقٌ عَلَى اسْتِعْمَالِ بَعْضِهِ ، فَالْمُتَّفَقُ عَلَى مَا اسْتُعْمِلَ مِنْهُ فِيمَا دُونَ الْمِائَةِ وَالْعِشْرِينَ ، وَالْمُخْتَلَفُ مِنْهُ فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ ، وَغَيْرُهُمْ مُتَّفَقٌ عَلَى تَرْكِ بَعْضِهِ ، مُخْتَلَفٌ فِي اسْتِعْمَالِ بَعْضِهِ ، فَمَا اتُّفِقَ عَلَى تَرْكِهِ مِنْهُ : إِيجَابُ خَمْسِ شِيَاهٍ ، وَمَا اخْتُلِفَ فِي اسْتِعْمَالِهِ مِنْهُ فَمَا زَادَ عَلَى الْمِائَةِ وَعِشْرِينَ .