كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي

سَكِرَ مِنْهَا لَمْ تُقْبَلْ صَلَاتُهُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا . وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَى الشَّافِعِيُّ ، عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : كُنْتُ قَائِمًا عَلَى عُمُومَةٍ لِي مِنَ الْأَنْصَارِ أَسْقِيهِمْ فَضِيخًا لَهُمْ ، فَأَتَى رَجُلٌ مِنْ قِبَلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَذْعُورٌ ، فَقُلْنَا : مَا وَرَاءَكَ ؟ فَقَالَ : حُرِّمَتِ الْخَمْرُ . فَقَالُوا لِي : اكْفِئْهَا . فَكَفَأْتُهَا . قَالَ : وَهُوَ كَانَ خَمْرَهُمْ يَوْمَئِذٍ . وَرَوَى الشَّافِعِيُّ ، عَنْ مَالِكٍ ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : كُنْتُ أَسْقِي عُمُومَتِي أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجِرَّاحِ ، وَأَبَا طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيَّ ، وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ ، شَرَابًا لَهُمْ مِنْ فَضِيخٍ وَتَمْرٍ ، فَجَاءَهُمْ آتٍ ، فَقَالَ : إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ . فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ : يَا أَنَسُ قُمْ إِلَى هَذِهِ الْجِرَارِ فَاكْسِرْهَا . قَالَ : فَقُمْتُ إِلَى مِهْرَاسٍ لَنَا فَضَرَبْتُهَا بِأَسْفَلِهِ حَتَّى تَكَسَّرَتْ . وَالْفَضِيخُ مِنَ الْبُسْرِ ، فَجَعَلُوهُ خَمْرًا مُحَرَّمًا . وَالْمِهْرَاسُ الْفَأْسُ . وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ بِإِسْنَادِهِ ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ : سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَرَابٍ مِنَ الْعَسَلِ . فَقَالَ : ذَلِكَ الْبِتْعُ . قُلْتُ : وَيَنْبِذُونَ مِنَ الشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ . فَقَالَ : ذَلِكَ الْمِزْرُ . ثُمَّ قَالَ : أَخْبِرْ قَوْمَكَ أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ . وَرَوَى إِسْرَائِيلُ ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَمُعَاذٌ إِلَى الْيَمَنِ ، فَقَالَ : بَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا ، وَيَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا ، وَتَطَاوَعَا وَلَا تَعَاصَيَا . فَقَالَ مُعَاذٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ تَبْعَثُنَا إِلَى بِلَادٍ كَثِيرٍ شَرَابُ أَهْلِهَا فَمَا نَشْرَبُ ؟ قَالَ : اشْرَبُوا ، وَلَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا . وَرَوَى أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ، وَالْحُمَيْدِيُّ فِي كِتَابِهِمَا فِي الْأَشْرِبَةِ ، عَنْ مَرْثَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْيَزَنِيِّ ، عَنْ دَيْلَمٍ الْحِمْيَرِيِّ ، قَالَ : سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا بِأَرْضٍ بَارِدَةٍ نُعَالِجُ بِهَا عَمَلًا شَدِيدًا ، وَإِنَّا نَتَّخِذُ شَرَابًا مِنْ هَذَا الْفَضِيخِ ، فَنَقْوَى بِهِ عَلَى أَعْمَالِنَا وَعَلَى بَرْدِ بِلَادِنَا . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَلْ يُسْكِرُ ؟ قُلْتُ : نَعَمْ . قَالَ : فَاجْتَنِبُوهُ . فَقُلْتُ : إِنَّ النَّاسَ غَيْرُ تَارِكِيهِ . قَالَ : فَإِنْ لَمْ يَتْرُكُوهُ فَاقْتُلُوهُمْ .

وَرَوَى الْحُمَيْدِيُّ فِي كِتَابِهِ ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ نَفَرًا مِنْ حُبْشَانِ أَهْلِ الْيَمَنِ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَرْضَنَا أَرْضٌ بَارِدَةٌ ، وَإِنَّا نَعْمَلُ بِأَنْفُسِنَا ، وَلَيْسَ لَنَا مِنْ مُمْتَهَنٍ دُونَ أَنْفُسِنَا ، وَلَنَا شَرَابٌ نَشْرَبُهُ بِأَرْضِنَا يُقَالُ لَهُ الْمِذْرُ ، فَإِذَا شَرِبْنَاهُ نَفَى عَنَّا الْبَرْدَ . فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمُسْكِرٌ هُوَ ؟ قَالُوا : نَعَمْ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَهِدَ إِلَيَّ أَنَّ كُلَّ مَنْ شَرِبَ مُسْكِرًا أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ ؟ قَالَ : عَرَقُ أَهْلِ النَّارِ ، أَوْ عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ . رَوَى أَبُو سَعِيدٍ السُّحَيْتِيُّ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ النَّخْلَةِ وَالْعِنَبَةِ . فَإِنْ قَالُوا : يُسَمَّى مَا يُعْمَلُ مِنَ النَّخْلَةِ خَمْرًا ، عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ . لَا يَصِحُّ هَذَا : لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْعِنَبَةِ وَالنَّخْلَةِ ، وَهُوَ مِنَ الْعِنَبِ خَمْرٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ ، فَكَذَلِكَ مِنَ النَّخْلَةِ . فَإِنْ قِيلَ : فَنَحْمِلُهُ فِي الْعِنَبِ عَلَى الْحَقِيقَةِ ، وَفِي النَّخْلِ عَلَى الْمَجَازِ . قِيلَ : لَا يَصِحُّ هَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ : لِأَنَّ اللَّفْظَةَ الْوَاحِدَةَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ عَلَى قَوْلِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ تَأْوِيلُهُ عَلَيْهِ ، عَلَى أَنَّ الْمَجَازَ إِذَا وَافَقَهُ عُرْفُ الشَّرْعِ صَارَ حَقِيقَةً تُقَدَّمُ عَلَى حَقِيقَةِ اللُّغَةِ إِذَا خَالَفَهَا . وَقَدْ رَوَى الْأَعْمَشُ ، عَنْ مُحَارِبٍ ، عَنْ جَابِرٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : الزَّبِيبُ وَالتَّمْرُ هِيَ الْخَمْرُ وَهَذَا نَصٌّ فِي حَقِيقَةِ الِاسْمِ دُونَ مَجَازِهِ . وَرَوَى الشَّعْبِيُّ ، عَنْ نُعْمَانَ بْنِ بَشِيرٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ مِنَ الْعِنَبِ خَمْرًا ، وَإِنَّ مِنَ التَّمْرِ خَمْرًا ، وَإِنَّ مِنَ الْعَسَلِ خَمْرًا ، وَإِنَّ مِنَ الْبُسْرِ خَمْرًا ، وَإِنَّ مِنَ الشَّعِيرِ خَمْرًا . وَهَذَا نَصٌّ لَا يَعْتَرِضُهُ تَأْوِيلٌ ، فَهَذِهِ نُصُوصُ السُّنَّةِ . وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَا يُعَاضِدُهَا . فَمِنْ ذَلِكَ : مَا رَوَى الشَّعْبِيُّ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ يَوْمَ نَزَلَ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ : مِنَ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالْعَسَلِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ ، وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ .

فَدَلَّ عَلَى أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إِطْلَاقُ اسْمِ الْخَمْرِ عَلَى النَّبِيذِ . وَالثَّانِي : تَعْلِيلُ الْخَمْرِ : لِأَنَّهُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ . وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي الِاسْمِ : مَا رَوَاهُ صَفْوَانُ بْنُ مُحْرِزٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ وَهُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ عَلَى مِنْبَرِ الْبَصْرَةِ ، وَهُوَ يَقُولُ : أَلَا إِنَّ خَمْرَ الْمَدِينَةِ الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ ، وَخَمْرُ أَهْلِ فَارِسَ الْعِنَبُ ، وَخَمْرُ أَهْلِ الْيَمَنِ الْبِتْعُ ، وَخَمْرُ الْحَبَشَةِ السُّكْرُكَةُ : وَهِيَ الْأُرْزُ . وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ زَيْدٍ ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَرَجَ يُصَلِّي عَلَى جِنَازَةٍ ، فَشَمَّ مِنَ ابْنِهِ عُبَيْدِ اللَّهِ رَائِحَةَ شَارِبٍ ، فَسَأَلَهُ ، فَقَالَ : إِنِّي شَرِبْتُ الطِّلَا . فَقَالَ : إِنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ ابْنِي شَرِبَ شَرَابًا ، وَإِنِّي سَائِلٌ عَنْهُ ، فَإِنْ كَانَ مُسْكِرًا حَدَدْتُهُ . فَسَأَلَ عَنْهُ فَكَانَ مُسْكِرًا فَحَدَّهُ . وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا سَأَلَ عَنْهُ ، أَنْشَدَ قَوْلَ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْأَبْرَصِ : هِيَ الْخَمْرُ لَا شَكَّ تُكْنَى الطِّلَا كَمَا الذِّئْبُ يُكْنَى أَبَا جَعْدَةِ وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، أَنَّهُ قَالَ : لَا أُوتَى بِأَحَدٍ شَرِبَ خَمْرًا أَوْ نَبِيذًا مُسْكِرًا إِلَّا حَدَدْتُهُ . وَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " خَمْرُ الْبِتْعِ مِنَ الْعَسَلِ ، وَخَمْرُ الْمِزْرِ مِنَ الذُّرَةِ " . وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُجَاهِدٌ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَرَجُلٍ سَأَلَهُ عَنِ الْفَضِيخِ ، فَقَالَ : وَمَا الْفَضِيخُ ؟ قَالَ : بُسْرٌ وَتَمْرٌ . قَالَ : ذَاكَ الْفَضُوخُ ، لَقَدْ حُرِّمَتِ الْخَمْرُ وَهِيَ شَرَابُنَا وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ ، عَنْ سُفْيَانَ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا الْجُوَيْرِيَةِ الْجَرْمِيَّ يَقُولُ : سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ وَهُوَ مُسْنِدٌ ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ ، وَأَنَا وَاللَّهِ أَوَّلُ الْعَرَبِ سَأَلْتُهُ عَنِ الْبَاذِقِ . فَقَالَ : سَبَقَ مُحَمَّدٌ الْبَاذِقَ ، فَمَا أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ . والْبَاذِقُ الْمَطْبُوخُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : هِيَ كَلِمَةٌ فَارِسِيَّةٌ عُرِّبَتْ . فَهَذَا قَوْلُ : مَنْ ذَكَرْنَا مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ ، وَلَيْسَ لَهُ مُخَالِفٌ ، فَكَانَ إِجْمَاعًا . ثُمَّ نُتْبِعُ مَا ذَكَرْنَا مِنَ السُّنَنِ وَالْآثَارِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ النَّهْيِ عَنْ أَوَانِيهَا .

وَذَلِكَ مَا رَوَى الشَّافِعِيُّ ، عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ شَرِيكٍ ، عَنْ مُعَاذٍ ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، قَالَتْ : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الدُّبَّاءِ وَالْمُزَفَّتِ وَالْحَنْتَمِ وَالنَّقِيرِ . وَتَفْسِيرُ هَذِهِ الْأَوَانِي مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ الثَّقَفِيِّ ، قَالَ : أَمَّا الدُّبَّاءُ : فَإِنَّا مَعَاشِرَ ثَقِيفٍ كُنَّا بِالطَّائِفِ نَأْخُذُ الدُّبَّاءَ يَعْنِي الْيَقْطِينَةَ مِنَ الْقَرْعِ ، فَنَخْرُطُ فِيهَا عَنَاقِيدَ الْعِنَبِ ، ثُمَّ نَدْفِنُهَا حَتَّى تَهْدِرَ ، ثُمَّ تَمُوتَ . وَأَمَّا النَّقِيرُ : فَإِنَّ أَهْلَ الْيَمَامَةِ كَانُوا يَنْقُرُونَ أَصْلَ النَّخْلَةِ ، ثُمَّ يُشْرِفُونَ فِيهَا الرُّطَبَ أَوِ الْبُسْرَ حَتَّى تَهْدِرَ أَوْ تَمُوتَ . وَأَمَّا الْمُزَفَّتُ : فَالْأَوْعِيَةُ الَّتِي تُطْلَى بِالزِّفْتِ . وَأَمَّا الْحَنْتَمُ : فَجِرَارٌ حُمْرٌ كَانَتْ تُحْمَلُ إِلَيْنَا فِيهَا الْخَمْرُ . وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ : هِيَ الْجِرَارُ الْخُضْرُ خَاصَّةً . وَقَالَ آخَرُونَ : كُلُّ نَوْعٍ مِنَ الْجِرَارِ حَنْتَمٌ ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَلْوَانُهَا . وَهُوَ الْأَصَحُّ لِرِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ ، عَنِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى ، قَالَ : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَبِيذِ الْجَرِّ الْأَخْضَرِ وَالْأَبْيَضِ وَالْأَحْمَرِ وَفِي نَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الِانْتِبَاذِ فِي هَذِهِ الْأَوَانِي وَإِنْ كَانَ حُكْمُ جَمِيعِهَا وَاحِدًا ، تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ ، فَجُعِلَ النَّهْيُ عَنْ هَذِهِ الْأَوَانِي مُقَدَّمَةً يَنُوطُونَ بِهَا عَلَى مَا يَرِدُ بَعْدَهَا مِنْ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ : لِأَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا أَلْغَوْهَا فَوَاطَأَهُمْ لِتَحْرِيمِهَا . وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي : أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ التَّحْرِيمِ : لِأَنَّهُ حَرَّمَ عَلَيْهِمُ الْمُسْكِرَ وَأَبَاحَهُمْ غَيْرَ الْمُسْكِرِ ، وَهَذِهِ الْأَوَانِي يُتَعَجَّلُ إِسْكَارُ شَارِبِهَا ، فَنَهَى عَنْهَا : لِيَطُولَ مُكْثُ مَا لَا يُسْكِرُ فِي غَيْرِهَا : وَلِذَلِكَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِرَاقَةِ مَا نَشَّ مِنَ الشَرَابِ ، وَأُتِيَ بِشَرَابٍ قَدْ نَشَّ فَضَرَبَ بِهِ عُرْضَ الْحَائِطِ ، وَقَالَ : إِنَّمَا يَشْرَبُ هَذَا مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ . وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ ، عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنْ عَطَاءٍ ، قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا تَجْمَعُوا بَيْنَ الرُّطَبِ وَالْبُسْرِ ، وَبَيْنَ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ نَبِيذًا وَفِي نَهْيِهِ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا مَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّأْوِيلَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ حُكْمُهَا فِي الِانْفِرَادِ وَالْجَمْعِ سَوَاءً . أَحَدُ التَّأْوِيلَيْنِ : أَنَّ ذَلِكَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ : تَوْطِئَةً لَهُمْ فِي التَّحْرِيمِ : لِأَنَّهُمْ كَانُوا

يَجْمَعُونَ بَيْنَهَا لِقُوَّةِ شِدَّتِهَا وَكَثْرَةِ لَذَّتِهَا ، وَيُسَمُّونَهُ نَبِيذَ الْخَلِيطَيْنِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ بَعْدَ التَّحْرِيمِ : لِأَنَّ جَمْعَهَا يُعَجِّلُ حُدُوثَ السُّكْرِ مِنْهَا لِيَدُومَ عَلَيْهِمْ مُكْثُ مَا لَا يُسْكِرُ إِنِ انْفَرَدَ ، وَلَا يُتَعَجَّلُ إِسْكَارُهُ إِذَا اجْتَمَعَ . فَهَذِهِ دَلَائِلُ النُّصُوصِ وَالظَّوَاهِرِ مِنَ السُّنَنِ وَالْآثَارِ . فَأَمَّا دَلَائِلُ مَا يُوجِبُهُ الِاعْتِبَارُ مِنَ الْمَعَانِي وَالْعِلَلِ ، فَمِنْ وُجُوهٍ : مِنْهَا : الِاشْتِقَاقُ : وَهُوَ أَنَّ الْخَمْرَ سُمِّيَ خَمْرًا لِأَحَدِ وَجْهَيْنِ : إِمَّا لِأَنَّهُ خَامَرَ الْعَقْلَ ، أَيْ : غَطَّاهُ . وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ . أَوْ لِأَنَّهُ يُخَمِّرُ ، أَيْ : يُغَطِّي ، وَمِنْ أَيِّهِمَا اشْتُقَّ فَهُوَ فِي النَّبِيذِ ، كَوُجُودِهِ فِي الْخَمْرِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَشْتَرِكَ فِي الِاسْمِ : وَلِذَلِكَ قَالُوا لِمَنْ بَقِيَتْ فِيهِ نَشْوَةُ السُّكْرِ : مَخْمُورًا . اشْتِقَاقًا مِنَ اسْمِ الْخَمْرِ ، سَوَاءٌ كَانَ سُكْرُهُ مِنْ نَبِيذٍ أَوْ خَمْرٍ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ ، وَلَوِ افْتَرَقَا فِي الِاسْمِ لَافْتَرَقَا فِي الصِّفَةِ ، فَقِيلَ لَهُ فِي نَشْوَةِ النَّبِيذِ : مَنْبُوذًا . كَمَا قِيلَ لَهُ فِي نَشْوَةِ الْخَمْرِ : مَخْمُورًا . فَإِنْ قِيلَ : فَهَذَا مُعَارَضٌ بِمِثْلِهِ ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا : فِي خَلِّ الْعِنَبِ : خَلَّ الْخَمْرِ ، وَلَمْ يَقُولُوا فِي خَلِّ التَّمْرَ : خَلَّ الْخَمْرِ . فَإِنْ دَلَّ مَا نُصَّ عَلَى اشْتِرَاكِهِمَا فِي الِاسْمِ ، دَلَّ هَذَا عَلَى افْتِرَاقِهِمَا فِيهِ . قِيلَ : هَذِهِ التَّسْمِيَةُ مَجَازٌ ، وَلَيْسَتْ بِحَقِيقَةٍ يَسْتَمِرُّ فِيهَا قِيَاسٌ ، وَيَصِحُّ فِيهَا اشْتِقَاقٌ : وَلِأَنَّ خَلَّ الْعِنَبِ لَا يُسَمَّى خَمْرًا ، وَإِنْ حَدَثَ عَنِ الْعِنَبِ ، كَمَا لَا يُسَمَّى التَّمْرُ نَبِيذًا ، وَإِنْ حَدَثَ عَنِ التَّمْرِ . وَلَوْ كَانَ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ سُمِّيَ خَمْرُ الْعِنَبِ : خَلَّ الْخَمْرِ لَوَجَبَ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ أَنْ يُسَمَّى خَلُّ التَّمْرِ خَلَّ النَّبِيذِ . وَفِي فَسَادِ هَذَا التَّعْلِيلِ بُطْلَانُ هَذَا التَّعَارُضِ . وَمِنْهَا الْمَعْنَى : وَهُوَ أَنَّ الْخَمْرَ مُخْتَصٌّ بِمَعْنَيَيْنِ ، صِفَةٍ بِخَلِّهِ : وَهِيَ الشِّدَّةُ الْمُطْرِبَةُ . وَتَأْثِيرٍ يَحْدُثُ عَنْهُ : وَهُوَ السُّكْرُ يَثْبُتُ بِهَا اسْمُ الْخَمْرِ وَتَحْرِيمُهُ ، وَيَزُولُ بِارْتِفَاعِهَا اسْمُ الْخَمْرِ وَتَحْرِيمُهُ : لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ عَصِيرًا لَيْسَ فِيهِ شِدَّةٌ ، وَلَا يَحْدُثُ عَنْهُ إِسْكَارٌ ، وَلَمْ يَنْطَلِقْ عَلَيْهِ اسْمُ الْخَمْرِ ، وَلَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ حُكْمُهُ فِي التَّحْرِيمِ ، وَإِذَا حَدَثَتْ فِيهِ الشِّدَّةُ الْمُطْرِبَةُ ، وَصَارَ مُسْكِرًا انْطَلَقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْخَمْرِ ، وَجَرَى عَلَيْهِ حُكْمُهُ فِي التَّحْرِيمِ . فَإِذَا ارْتَفَعَتِ الشِّدَّةُ وَزَالَ عَنْهُ الْإِسْكَارُ ، ارْتَفَعَ عَنْهُ اسْمُ الْخَمْرِ ، وَزَالَ عَنْهُ حُكْمُ التَّحْرِيمِ ، فَدَلَّ عَلَى تَعَلُّقِ الِاسْمِ وَالْحُكْمِ بِالصِّفَةِ وَالتَّأْثِيرِ دُونَ الْجِنْسِ ، وَقَدْ وُجِدَتْ صِفَةُ الشِّدَّةِ وَتَأْثِيرُ السُّكْرِ فِي النَّبِيذِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ اسْمُ الْخَمْرِ وَحُكْمُهُ فِي التَّحْرِيمِ : وَلِأَنَّ مَا زَالَتْ عَنْهُ الشِّدَّةُ لَمْ يَخْتَلِفْ بِاخْتِلَافِ أَجْنَاسِهِ ، كَذَلِكَ مَا جَلَبَتْهُ الشِّدَّةُ لَمْ يَخْتَلِفْ بِاخْتِلَافِ أَجْنَاسِهِ .

فَإِنْ قِيلَ : فَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ حَامِضٍ خَلًّا : لِأَنَّا نَرَاهُ خَلَّا إِذَا حَدَثَتْ فِيهِ الْحُمُوضَةُ ، وَغَيْرَ خَلٍّ إِذَا ارْتَفَعَتْ عَنْهُ الْحُمُوضَةُ . فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كُلُّ حَامِضٍ خَلًّا ، لَمْ يَكُنْ كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرًا . قِيلَ : صِحَّةُ التَّعْلِيلِ مَوْقُوفٌ عَلَى اطِّرَادِهِ ، وَهُوَ فِي الْخَمْرِ مُطَّرِدٌ ، فَصَحَّ . وَفِي الْخَلِّ غَيْرُ مُطَّرِدٍ ، فَبَطَلَ . وَمِنْهَا : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ قَلِيلُ الْخَمْرِ مِثْلَ كَثِيرِهِ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَلِيلُ النَّبِيذِ مِثْلَ كَثِيرِهِ : لِأَنَّهُمَا قَدِ اجْتَمَعَا فِي حُكْمِ الْكَثِيرِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي حُكْمِ الْقَلِيلِ . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا : أَنَّهُ شَرَابٌ مُسْكِرٌ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ كَالْخَمْرِ . فَإِنْ قِيلَ : لَا يَصِحُّ اعْتِبَارُ الْقَلِيلِ بِالْكَثِيرِ فِي التَّحْرِيمِ : لِأَنَّ كَثِيرَ السَّقَمُونِيَا وَمَا أَشْبَهَهُ مِنَ الْأَدْوِيَةِ حَرَامٌ ، وَقَلِيلُهُ غَيْرُ حَرَامٍ . قِيلَ : لِأَنَّ تَحْرِيمَ السَّقَمُونِيَا لِضَرَرٍ هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْكَثِيرِ دُونَ الْقَلِيلِ ، وَتَحْرِيمَ الْخَمْرِ لِشِدَّتِهِ ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي الْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ . فَإِنْ مَنَعُوا مِنَ التَّعْلِيلِ فَقَدْ تَقَدَّمَ الدَّلِيلُ ، ثُمَّ يُقَالُ : لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ هَذَا مِنَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ قَلِيلِ الْخَمْرِ وَكَثِيرِهِ لَمْ يَمْنَعْ مِنَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ قَلِيلِ النَّبِيذِ وَكَثِيرِهِ . وَمِنْهَا أَنَّ دَوَاعِيَ الْحَرَامِ يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمُ التَّحْرِيمِ لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْمُسَبَّبِ يُوجِبُ تَحْرِيمَ السَّبَبِ ، وَشُرْبَ الْمُسْكِرِ يَدْعُو إِلَى السُّكْرِ ، وَشُرْبُ الْقَلِيلِ يَدْعُو إِلَى شُرْبِ الْكَثِيرِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُحَرَّمَ الْمُسْكِرُ لِتَحْرِيمِ السُّكْرِ وَيُحَرَّمَ الْقَلِيلُ لِتَحْرِيمِ الْكَثِيرِ . فَإِنْ مَنَعُوا مِنْ هَذَا بِقُبْلَةِ الصَّائِمِ تَدْعُو إِلَى الْوَطْءِ ، وَلَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ لِتَحْرِيمِ الْوَطْءِ . قِيلَ : إِذَا دَعَتْ إِلَى الْوَطْءِ حَرُمَتْ . وَإِنَّمَا يُبَاحُ مِنْهَا مَا لَمْ يَدْعُ إِلَى الْوَطْءِ . وَمِنْهَا : أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ عَلَّقَ عَلَى طَبْخِ الْأَشْرِبَةِ حُكْمَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ ، فَجَعَلَهُ مُحِلًّا لِلْحَرَامِ ، وَمُحَرِّمًا لِلْحَلَالِ : لِأَنَّهُ يَقُولُ : إِذَا طُبِخَ الْخَمْرُ حَلَّ ، وَإِذَا طُبِخَ النَّبِيذُ حَرُمَ . وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ عَلَّقَ عَلَيْهِ حُكْمَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ جَعَلَ لَهُ تَأْثِيرًا فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا حَلَّ مِنْ لَحْمِ الْجَمَلِ لَمْ يَحْرُمْ بِالطَّبْخِ ، وَمَا حَرُمَ مِنْ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ لَمْ يَحِلَّ بِالطَّبْخِ ، فَوَجَبَ إِسْقَاطُ تَأْثِيرِهِ . وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ نِيءَ الْخَمْرِ حَرَامٌ ، فَكَذَلِكَ مَطْبُوخُهُ ، وَأَنَّ مَطْبُوخَ النَّبِيذِ حَرَامٌ ، فَكَذَلِكَ نَيِّئُهُ .

وَمِنْهَا : أَنَّ تَأْثِيرَ الشَّمْسِ فِي الْأَشْرِبَةِ كَتَأْثِيرِ الطَّبْخِ ، وَإِنْ كَانَتْ أَبْطَأَ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالشَّمْسِ حُدُوثُ الشِّدَّةِ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الِاعْتِبَارُ بِالطَّبْخِ حُدُوثَ الشِّدَّةِ : لِأَنَّهُمَا لَمَّا اسْتَوَيَا فِي التَّأْثِيرِ ، وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الْحُكْمِ . وَمِنْهَا : مَا احْتَجَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِمْ فِي كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ مِنَ " الْأُمِّ " فَقَالَ لَهُمْ : مَا تَقُولُونَ إِذَا شَرِبَ أَقْدَاحًا فَلَمْ يَسْكَرْ . قَالُوا : حَلَالٌ . قَالَ : فَإِنْ خَرَجَ إِلَى الْهَوَاءِ فَضَرَبَتْهُ الرِّيحُ فَسَكِرَ . قَالُوا : يَكُونُ حَرَامًا . قَالَ : يَا عَجَبًا يُنْزِلُ الشَّرَابَ إِلَى جَوْفِهِ حَلَالًا ، وَيَصِيرُ بِالرِّيحِ حَرَامًا . قَالُوا : يَكُونُ التَّحْرِيمُ مُرَاعًى . قِيلَ لَهُمْ : إِنَّمَا يَكُونُ مُرَاعًى مَعَ بَقَائِهِ : لِأَنَّ الْمُرَاعَى مَوْقُوفٌ وَالْمَوْقُوفُ مَمْنُوعٌ ، وَالْمَمْنُوعُ مُحَرَّمٌ ، وَأَنَّ مَا رَاعَيْتُمُوهُ بَعْدَ شُرْبِهِ أَبَحْتُمُوهُ مَشْكُوكًا فِيهِ ، وَالشَّكُّ يَمْنَعُ مِنَ الْإِبَاحَةِ ، وَغُرِّرْتُمْ بِهِ فِي إِبَاحَةِ مَا تُحَرِّمُونَهُ عَلَيْهِ ، وَمَا أَفْضَى إِلَى هَذَا كَانَ حَرَامًا . وَمِنْهَا : مَا احْتَجَّ بِهِ الْمُزَنِيُّ عَلَيْهِمْ : أَنَّ جَمِيعَ الْأَشْرِبَةِ إِذَا كَانَتْ حُلْوَةً فَهِيَ حَلَالٌ ، وَلَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهَا بِاخْتِلَافِ أَجْنَاسِهَا ، فَإِذَا حَمُضَتْ وَصَارَتْ خَلَّا فَهِيَ حَلَالٌ ، وَلَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهَا بِاخْتِلَافِ أَجْنَاسِهَا وَجَبَ إِذَا اشْتَدَّتْ وَأَسْكَرَتْ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهَا وَاحِدًا ، وَلَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهَا بِاخْتِلَافِ أَجْنَاسِهَا ، فَلَمَّا لَمْ يَحِلَّ جَمِيعُهَا وَجَبَ أَنْ يَحْرُمَ جَمِيعُهَا . وَلَمَّا لَمْ يَحِلَّ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا وَجَبَ أَنْ يَحْرُمَ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا . وَمِنْهَا : أَنَّ الْخَمْرَ قَدِ اخْتَلَفَتْ أَسْمَاؤُهَا وَلَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُهَا ، وَالنَّبِيذُ قَدِ اخْتَلَفَتْ أَسْمَاؤُهُ وَلَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُهُ . فَمِنْ أَسْمَاءِ الْخَمْرِ : الْعُقَارُ ، سُمِّيَتْ بِهِ لِأَنَّهَا تُعَاقِرُ الْإِنَاءَ ، أَيْ : تُقِيمُ فِيهِ . وَمِنْ أَسْمَائِهَا : الْمُدَامُ : لِأَنَّهَا تَدُومُ فِي الْإِنَاءِ . وَمِنْ أَسْمَائِهَا : الْقَهْوَةُ وَسُمِّيَتْ بِهِ : لِأَنَّهَا تُقْهِي عَنِ الطَّعَامِ ، أَيْ : يُقْطَعُ شَهْوَتُهُ . وَمِنْ أَسْمَائِهَا السُّلَافُ : وَهُوَ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ عَيْنِهِ بِغَيْرِ اعْتِصَارٍ ، وَلَهَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْمَاءِ . وَمِنْ أَسْمَاءِ النَّبِيذِ : السَّكَرُ سُمِّيَ بِذَلِكَ : لِأَنَّهُ يُسْكِرُ ، وَهُوَ الَّذِي لَمْ يُطْبَخْ . وَمِنْ أَسْمَائِهِ : الْبَاذِقُ ، وَهُوَ الْمَطْبُوخُ . وَمِنْ أَسْمَائِهِ : الْفَضِيخُ ، وَهُوَ مِنَ الْبُسْرِ ، سُمِّيَ بِذَلِكَ : لِافْتِضَاخِ الْبُسْرِ مِنْهُ . وَيُسَمِّيهِ أَهْلُ الْبَصْرَةِ الْعِرْيُ . وَمِنْهُ الْبِتْعُ مِنَ الْعَسَلِ لِأَهْلِ الْيَمَنِ وَمِنْهُ الْمِزْرُ ، وَهُوَ مِنَ الذُّرَةِ لِأَهْلِ الْحَبَشَةِ .

وَمِنْهُ : الْمُزَّاءُ : وَهُوَ مِنْ أَشْرِبَةِ أَهْلِ الشَّامِ . وَمِنْهُ : السَّكَرُ : وَهُوَ نَقِيعُ التَّمْرِ الَّذِي لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ . وَمِنْهُ : السُّكْرُكَةُ : وَهُوَ مِنَ الْأُرْزِ لِأَهْلِ الْحَبَشَةِ . وَمِنْهُ : الْجِعَةُ : وَهُوَ مِنَ الشَّعِيرِ . وَمِنْهُ الضُّعْفُ : وَهُوَ مِنْ عِنَبِ شَرْخٍ ، كَالْفَضِيخِ مِنَ الْبُسْرِ يُتْرَكُ فِي أَوْعِيَتِهِ حَتَّى يَغْلِيَ . وَمِنْهُ الْخَلِيطَانِ : وَهُوَ مَا جُمِعَ فِيهِ بَيْنَ بُسْرٍ وَعِنَبٍ ، أَوْ بَيْنَ تَمْرٍ وَزَبِيبٍ . وَمِنْهُ الْمُغَذَّى اسْتُخْرِجَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بِالشَّامِ مِنْ مَاءِ الرُّمَّانِ وَمَاءِ الْعِنَبِ . وَمِنْهُ مَا يَتَغَيَّرُ بِالطَّبْخِ ، فَمِنْهُ : الْمُنَصَّفُ : وَهُوَ مَا ذَهَبَ بِالنَّارِ نِصْفُهُ وَبَقِيَ نِصْفُهُ . وَمِنْهُ : الْمُثَلَّثُ : وَهُوَ مَا ذَهَبَ ثُلُثُهُ ، وَبَقِيَ ثُلُثَاهُ . وَمِنْهُ : الْكُلَّا : وَهُوَ مَا ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ . وَمِنْهُ الْجَهْوَرِيُّ : وَهُوَ مَا يَجْمُدُ ، فَإِذَا أُرِيدَ شُرْبُهُ حُلَّ بِالْمَاءِ وَالنَّارِ ، وَعَلَيْهِ يُسَمِّيهِ أَهْلُ فَارِسَ الْبَحْتَحُ . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي لَا تُحْصَى ، فَلَمَّا اخْتَلَفَتْ أَسْمَاءُ الْخَمْرِ وَاتَّفَقَتْ أَحْكَامُهَا لِلِاشْتِرَاكِ فِي مَعْنَى الشِّدَّةَ ، وَاخْتَلَفَتْ أَسْمَاءُ النَّبِيذِ ، وَاتَّفَقَتْ أَحْكَامُهُ مَعَ الشِّدَّةِ ، وَجَبَ إِذَا اخْتَلَفَ اسْمُ الْخَمْرِ وَالنَّبِيذِ أَنْ تَتَّفِقَ أَحْكَامُهَا : لِأَجْلِ الشِّدَّةِ ، وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ فِي سَائِرِ اخْتِلَافِ الْأَسْمَاءِ ، وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ، وَتَأْثِيرُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَطْلَقَ عَلَى النَّبِيذِ اسْمَ الْخَمْرِ حَرَّمَهُ بِالنَّصِّ ، وَمَنْ لَمْ يُطْلِقْ عَلَيْهِ اسْمَ الْخَمْرِ حَرَّمَهُ بِالْقِيَاسِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْجَوَابُ ، عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا [ النَّحْلِ : 67 ] فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ اخْتِلَافَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي تَأْوِيلِ السَكَرِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ ، يَمْنَعُ مِنَ الِاحْتِجَاجِ بِبَعْضِهِ : لِأَنَّ فِيهِ سَبْعَةَ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ الْخَمْرُ ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ النَّبِيذُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ مَا طَابَ وَلَمْ يُسْكِرْ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ . وَالرَّابِعُ : أَنَّهُ الْمُسْكِرُ ، وَهُوَ الظَّاهِرُ . وَالْخَامِسُ : أَنَّهُ الْحَرَامُ ، قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ . وَالسَّادِسُ : أَنَّهُ الطَّعَامُ ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ . وَالسَّابِعُ : أَنَّهُ الْخَلُّ . وَمَعَ اخْتِلَافِ هَذَا التَّأْوِيلِ لَنْ يَصِحَّ فِي أَحَدِهَا دَلِيلٌ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْعُمُومِ فِي أَسْمَاءِ السُّكْرِ الْمَذْكُورَةِ : لِأَنَّ أَصْحَابَنَا قَدِ اخْتَلَفُوا فِي الِاسْمِ الْمُشْتَرِكِ .

إِذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَحَدِهِمْ ، هَلْ يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى عُمُومِهَا ؟ فَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إِلَى جَوَازِ حَمْلِهِ عَلَى عُمُومِ الْأَعْيَانِ الْمُشْتَرِكَةِ فِي اسْمِ اللَّوْنِ وَالْعَيْنِ ، كَمَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى عُمُومِ الْأَجْنَاسِ الْمُتَمَاثِلَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي [ النُّورِ : 2 ] وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ [ الْمَائِدَةِ : 38 ] فِي حَمْلِهِ عَلَى كُلِّ زَانٍ وَسَارِقٍ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى عُمُومِ الْأَعْيَانِ ، وَإِنْ جَازَ حَمْلُهُ عَلَى عُمُومِ الْأَجْنَاسِ لِتَغَايُرِ الْأَعْيَانِ وَتَمَاثُلِ الْأَجْنَاسِ . قَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ : يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى عُمُومِ الْأَعْيَانِ وَالْأَجْنَاسِ إِذَا دَخَلَهُمَا الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْعَيْنِ وَاللَّوْنِ ، وَفِي الزَّانِي وَالسَّارِقِ لَا يَجُوزُ حَمْلُهَا عَلَى الْعُمُومِ مَعَ حَذْفِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ ، إِذَا قِيلَ : اقْطَعْ سَارِقًا ، وَاجْلِدْ زَانِيًا فَهَذَا وَاجِبٌ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا قَبْلَ التَّحْرِيمِ : اسْتِعْمَالًا لِلنَّصَّيْنِ فِيهِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ اتِّخَاذِهِ دُونَ إِبَاحَتِهِ : لِأَنَّهُ قَالَ : تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ، فَكَأَنَّهُ قَالَ : تَتَّخِذُونَ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ : " حُرِّمَتِ الْخَمْرُ بِعَيْنِهَا وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ " فَمِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ رَاوِيَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ ، وَلَمْ يَلْقَ ابْنَ عَبَّاسٍ : فَكَانَ مُنْقَطِعًا لَا يُلْزَمُ الْعَمَلُ بِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ رَوَاهُ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ غَيْرَ مُسْنَدٍ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ الرِّوَايَةَ : " وَالْمُسْكِرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ " ، فَمِنْهَا الرَّاوِي ، فَأَسْقَطَ الْمُسْكِرَ مِنْهَا ، فَرَوَى : " وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ " . وَالرَّابِعُ : أَنَّهُ لَوْ كَانَتِ الرِّوَايَةُ السُّكْرُ ، لَكَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْمُسْكِرَ : لَأَنَّ السُّكْرَ لَيْسَ مِنْ فِعْلِ الشَّارِبِ فَيُنْهَى عَنْهُ ، وَإِنَّمَا شُرْبُ الْمُسْكِرِ فِعْلُهُ ، فَصَارَ النَّهْيُ مُتَوَجِّهًا إِلَيْهِ . الْخَامِسُ : أَنَّ تَحْرِيمَ السُّكْرِ فِي هَذَا الْخَبَرِ لَا يَمْنَعُ مِنْ تَحْرِيمِ الْمُسْكِرِ فِيمَا رَوَيْنَاهُ مِنَ الْأَخْبَارِ ، فَيَحْرُمُ السُّكْرُ وَالْمُسْكِرُ جَمِيعًا ، وَتَكُونُ أَخْبَارُنَا أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا أَعَمُّ حُكْمًا : لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْمُسْكِرِ يُوجِبُ تَحْرِيمَ السُّكْرِ ، وَتَحْرِيمُ السُّكْرِ لَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْمُسْكِرِ . وَالثَّانِي : أَنَّ السُّكْرَ مُحَرَّمٌ بِالْعَقْلِ : لِاسْتِقْبَاحِهِ فِيهِ ، وَالْمُسْكِرَ مُحَرَّمٌ بِالشَّرْعِ : لِزِيَادَتِهِ عَلَى مُقْتَضَى الْعَقْلِ .

وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرِبَ فِي طَوَافِهِ مِنَ السِّقَايَةِ نَبِيذًا فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ ، تَفَرَّدَ بِرِوَايَتِهِ يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ ، وَلَمْ يُتَابِعْهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ سُفْيَانَ ، وَقَدْ سُئِلَ سُفْيَانُ عَنِ الْمِزْرِ ، فَقَالَ : ذَلِكَ شَرَابُ الْفَاسِقِينَ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : يَسْتَحِلُّ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّ نَبِيذَ السِّقَايَةِ كَانَ غَيْرَ مُسْكِرٍ : لِأَنَّهُ كَانَ يُصْنَعُ لِلْحُجَّاجِ إِذَا صَدَرُوا مِنْ مِنًى لِطَوَافِ الْإِفَاضَةِ ، لِيَسْتَطِيبُوا بِهِ شُرْبَ مَاءِ زَمْزَمَ وَكَانَ ثَقِيلًا ، لَا يُسْتَسْقَى أَكْثَرَ مِنْ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُسْكِرٍ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَطَّبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ شَرِبَهُ فَدَعَى بِمَاءٍ فَصَبَّهُ عَلَيْهِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ نَبِيذًا مُشْتَدًّا . قِيلَ : الْجَوَابُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَطَّبَ لِحُمُوضَتِهِ ، وَصَبَّ عَلَيْهِ الْمَاءَ لِغِلْظَتِهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ الثَّالِثُ : أَنَّ نَبِيذَ السِّقَايَةِ كَانَ نَقْعَ الزَّبِيبِ ، غَيْرَ مَطْبُوخٍ ، وَهُوَ إِذَا أَسْكَرَ حَرُمَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، فَلَمْ يَصِحَّ لَهُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ ، وَبَطَلَ اسْتِدْلَالُهُ بِهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كَانَ يُنْبَذُ لَهُ إِلَى ثَلَاثٍ فَيَشْرَبُهُ ثُمَّ يَسْقِيهِ الْخَدَمَ ثُمَّ يُهْرَاقُ . هُوَ أَنَّهُ كَانَ يَشْرَبُهُ وَيَسْقِيهِ الْخَدَمَ إِذَا لِمَ يَشْتَدَّ ثُمَّ يُهْرَاقُ إِذَا اشْتَدَّ : لِأَنَّ النَّبِيذَ لَا يَشْتَدُّ لِثَلَاثٍ حَتَّى تَطُولَ مُدَّتُهُ ، وَلِذَلِكَ كَانَ يَأْمُرُ بِإِرَاقَةِ مَا نَشَّ . كَذَلِكَ الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَاحَ النَّبِيذَ مَعَ ضَعْفِهِ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ . وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الدَّيْلَمِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " انْبِذُوهُ عَلَى عَشَائِكُمْ وَاشْرَبُوهُ عَلَى غَدَائِكُمْ " . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : اشْرَبُوا وَلَا تَسْكَرُوا فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ ، تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو الْأَحْوَصِ ، وَوَهِنَ فِيهِ ، وَقَدْ رُوِيَ فِي الصَّحِيحَيْنِ اشْرَبُوا وَلَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا . وَالثَّانِي : أَنَّ السُّكْرَ لَيْسَ مِنْ فِعْلِ الشَّارِبِ ، فَيَتَوَجَّهُ النَّهْيُ إِلَيْهِ ، فَلَمْ يَجُزْ حَمْلُهُ عَلَيْهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عُمَرَ : " إِذَا اغْتَلَمَتْ عَلَيْكُمْ فَاقْطَعُوا مُتُونَهَا بِالْمَاءِ " فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ ضَعِيفٌ : لِأَنَّ رَاوِيَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ ابْنُ أَخِي الْقَعْقَاعِ وَهُوَ ضَعِيفٌ .

وَالثَّانِي : أَنَّ اغْتِلَامَهَا هُوَ تَغَيُّرُهَا ، إِمَّا إِلَى حُمُوضَةٍ أَوْ قُوَّةٍ ، وَلَيْسَ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا سُكْرٌ ، وَلِذَلِكَ كُسِرَتْ بِالْمَاءِ لِتَزُولَ حُمُوضَتُهَا أَوْ قُوَّتُهَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ السَّكْرَانَ أَشَرِبْتَ خَمْرًا ؟ قَالَ : لَا شَرِبْتُ الْخَلِيطَيْنِ . فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ لَا يُعُرَفُ إِسْنَادُهُ ، وَلَا يُحْفَظُ لَفْظُهُ ، فَلَمْ يَثْبُتْ بِهِ حُكْمٌ . الثَّانِي : أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ جَوَابٌ مِنْ إِبَاحَةٍ وَلَا حَظْرٍ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ الْإِمْسَاكَ مِنْهُ لَا يَمْنَعُ مِنَ اسْتِعْمَالِ قَوْلِهِ : " كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ " . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ : " شَهِدْتُ تَحْرِيمَ النَّبِيذِ كَمَا شَهِدْتُمْ ، ثُمَّ شَهِدْتُ تَحْلِيلَهُ ، فَحَفِظْتُ وَنَسِيتُمْ " . فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَنْ أَحَلَّ النَّبِيذَ لَمْ يَعْتَرِفْ بِتَحْرِيمِهِ قَبْلَهُ ، وَمَنْ حَرَّمَهُ لَمْ يَدَعْ إِحْلَالَهُ بَعْدَهُ ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّهْيُ عَنِ الْأَوْعِيَةِ ، قَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْأَوْعِيَةِ إِلَّا وِعَاءً بِوِكَاءٍ . وَمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالنَّقِيرِ وَالْمُزَّفَتِ ، وَأَبَاحَ مَا يُوكَأُ مِنْ أَوْعِيَةِ الْأَدِيمِ ، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ عَنِ النَّهْيِ فِي هَذِهِ الظُّرُوفِ بَعْدَ تَحْرِيمِ الْمُسْكِرِ ، هَلْ نُسِخَ أَمْ لَا ؟ فَذَهَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَائِشَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ إِلَى بَقَائِهَا عَلَى التَّحْرِيمِ فِيمَا لَمْ تُسْكِرْ ، وَقَالَ عُمَرُ : لَأَنْ تَخْتَلِفَ الْأَسِنَّةُ فِي جَوْفِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَشْرَبَ نَبِيذَ الْجَرِّ . وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : " اجْتَنِبُوا الْحَنَاتِمَ وَالنَّقِيرَ " . وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : أَشْرَبُ فِي سِقَا ثَلَاثٍ عَلَى خَمْسَةٍ . أَيْ : يُشَدُّ . وَذَهَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَجُمْهُورُ الصَّحَابَةِ إِلَى إِبَاحَتِهَا فِيمَا لَمْ يُسْكِرْ . وَنَسْخِ تَحْرِيمِهَا ، وَهُوَ الصَّحِيحُ : لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : إِنِ الظُّرُوفَ لَا تُحَرِّمُ شَيْئًا فَاشْرَبُوا فِي كُلِّ وِعَاءٍ وَلَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا . وَقَدْ رَوَى مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ ، عَنْ أَبِي بُرَيْدَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : نَهَيْتُكُمْ عَنْ ثَلَاثٍ ، وَأَنَا آمُرُكُمْ بِهِنَّ : نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا فَإِنَّ زِيَارَتَهَا تَذْكِرَةٌ . وَنَهَيْتُكُمْ عَنِ الْأَشْرِبَةِ أَنْ تَشْرَبُوا إِلَّا فِي ظَرْفِ الْأَدَمِ ، فَاشْرَبُوا فِي كُلِّ وِعَاءٍ غَيْرَ أَلَّا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا . وَنَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ أَنْ تَأْكُلُوهَا بَعْدَ ثَلَاثٍ فَكُلُوا وَاسْتَمْتِعُوا .

وَتَأْثِيرُ نَسْخِ الشُّرْبِ فِي هَذِهِ الْأَوْعِيَةِ فِي الْكَرَاهَةِ دُونَ التَّحْرِيمِ ، فَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ كَرِهَ أَنْ يُشْرَبَ مِنْهَا إِلَّا مَا يُسْكِرُ ، وَمَنْ قَالَ : هِيَ مَنْسُوخَةٌ . لَمْ يَكْرَهْ شُرْبَ مَا لَا يُسْكِرُ مِنْهَا ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ ، وَالْأَوَّلُ مَذْهَبُهُ فِي الْقَدِيمِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ آثَارِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَقَدْ رَوَيْنَا عَنْهُمْ مَا يُخَالِفُهُ . وَهُوَ أَصَحُّ إِسْنَادًا ، وَأَشْبَهُ بِأَفْعَالِهِمْ وَتَشَدُّدِهِمْ فِي دِينِ اللَّهِ ، وَاجْتِنَابِ مَحْظُورَاتِهِ ، وَشَرِبَ عُمَرُ مِنْ إِدَاوَةٍ حُدَّ شَارِبُهَا ، فَلِأَنَّ عُمَرَ شَرِبَ قَبْلَ إِسْكَارِهَا ، وَشَرِبَ الرَّجُلُ بَعْدَ إِسْكَارِهَا . وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ شُرْبِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عِنْدَ عَلِيٍّ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْكَى مِثْلُهُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْمَعَانِي : بِأَنَّهُ لَمَّا انْتَفَى عَنِ النَّبِيذِ حُكْمُ الْخَمْرِ فِي تَكْفِيرِ مُسْتَحِلِّهِ ، انْتَفَى عَنْهُ حُكْمُ الْخَمْرِ فِي الِاسْمِ وَالتَّحْرِيمِ ، فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ إِذَا افْتَرَقَا فِي حُكْمٍ يَجِبُ أَنْ يَفْتَرِقَا فِي كُلِّ حُكْمٍ . أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا قَدِ اسْتَوَيَا فِي تَحْرِيمِ الْكَثِيرِ وَافْتَرَقَا عِنْدَهُ فِي تَحْرِيمِ الْيَسِيرِ ، وَلَمْ يَكُنِ الْفَرْقُ فِي الْيَسِيرِ مَانِعًا مِنَ التَّسَاوِي فِي الْكَثِيرِ . كَذَلِكَ لَا يَكُونُ افْتِرَاقُهُمَا فِي التَّكْفِيرِ مُوجِبًا لِافْتِرَاقِهِمَا فِي التَّحْرِيمِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَقَعَ التَّسَاوِي فِي التَّحْرِيمِ مَعَ الِافْتِرَاقِ فِي التَّكْفِيرِ . أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَبَائِرَ وَالصَّغَائِرَ يَسْتَوِيَانِ فِي التَّحْرِيمِ وَيَفْتَرِقَانِ فِي التَّكْفِيرِ ، فَيُكَفَّرُ بِاسْتِحْلَالِ الْكَبَائِرِ وَلَا يُكَفَّرُ بِاسْتِحْلَالِ الصَّغَائِرِ ، كَذَلِكَ الْخَمْرُ وَالنَّبِيذُ لَا يَمْنَعُ افْتِرَاقُهُمَا فِي التَّكْفِيرِ اسْتِوَاءَهُمَا فِي التَّحْرِيمِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ لَيْسَ التَّكْفِيرُ عِلَّةَ التَّحْرِيمِ ، حَتَّى يُسْتَدَلَّ بِزَوَالِ التَّكْفِيرِ فِي اسْتِحْلَالِ النَّبِيذِ عَلَى إِبَاحَتِهِ ، كَمَا دَلَّ التَّكْفِيرُ فِي اسْتِبَاحَةِ الْخَمْرِ عَلَى تَحْرِيمِهِ ، وَإِنَّمَا الْعِلَّةُ فِي التَّكْفِيرِ ارْتِفَاعُ الشُّبْهَةِ عَمَّا اسْتُحِلَّ مِنَ الْحَرَامِ ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الْخَمْرِ ، مَعْدُومٌ فِي النَّبِيذِ كَمَا يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنَّ النَّبِيذَ النِّيءَ مُحَرَّمٌ ، وَلَا يَكْفُرُ مُسْتَحِلُّهُ . وَالْجَوَابُ عَلَى أَنَّ مَا عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَفِيضًا : فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الِاسْتِفَاضَةَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ فِي الْبَيَانِ لَا فِي النَّقْلِ ، وَقَدِ اسْتَفَاضَ الْبَيَانُ : لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ مُنَادِيَهُ فَنَادَى بِهِ ، وَقَدْ أَخْبَرَ أَبُو طَلْحَةَ بِالنِّدَاءِ وَهُوَ عَلَى شَرَابٍ ، فَأَمَرَ أَنَسًا بِإِرَاقَتِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ النَّقْلَ وَالْبَيَانَ مَعًا مُسْتَفِيضَانِ ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي التَّأْوِيلِ فِي الْبَيَانِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ بَيَانَهُ مَأْخُوذٌ مِنْ نَصِّ الْكِتَابِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ .

فَأُخِّرَ بَيَانُ الْكِتَابِ عَنِ الِاسْتِفَاضَةِ فِي بَيَانِ السُّنَّةِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ تَحْرِيمَ مَا ثَبَتَ تَحْلِيلُهُ نَسْخٌ ، وَالنَّسْخُ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِالنَّصِّ الْمُسْتَفِيضِ الْمُتَوَاتِرِ : فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ تَحْرِيمَ النَّبِيذِ ابْتِدَاءً شَرْعٌ ، وَلَيْسَ بِنَسْخٍ : لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ مُسْتَدْرِجِينَ لِاسْتِبَاحَتِهَا مِنْ قَبْلُ ، فَجَاءَ الشَّرْعُ بِتَحْرِيمِهَا ، وَمَا هَذِهِ سَبِيلُهُ يَجُوزُ إِثْبَاتُ حُكْمِهِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ . كَمَا نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ ، وَيَجُوزُ إِثْبَاتُهُ بِالْقِيَاسِ كَمَا جَازَ إِثْبَاتُ الرِّبَا فِي الْأُرْزِ قِيَاسًا عَلَى الْبُرِّ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ كَانَ نَسْخًا ، لَكَانَ مَأْخُوذًا مِنْ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ فِي الْقُرْآنِ ، وَهُوَ نَصٌّ مُسْتَفِيضٌ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي آيَةِ الْخَمْرِ ، أَنْ يُنْسَخَ بِمَا يَسْتَفِيضُ بَيَانُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَفِضْ نَقْلُهُ ، كَمَا حُوِّلَتِ الْقِبْلَةُ إِلَى الْكَعْبَةِ وَأَهْلُ قُبَاءَ فِي الصَّلَاةِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ . فَأَتَاهُمْ مَنْ أَخْبَرَهُمْ بِنَسْخِهَا وَتَحْوِيلِهَا إِلَى الْكَعْبَةِ فَاسْتَدَارُوا إِلَيْهَا وَعَمِلُوا عَلَى قَوْلِهِ وَاحِدٍ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ مَا عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى يَجِبُ أَنْ يَعُمَّ بَيَانُهُ ، فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ هَذَا أَصْلٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ ، فَلَا نُسَلِّمُهُ . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيَانُ مَا يَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى خَاصًّا مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ ، كَمَا أَنَّ تَحْرِيمَ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ مَا يَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى ، وَهُوَ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُلْحَقًا بِالْخَمْرِ صَارَ إِمَّا دَاخِلًا فِي اسْمِهِ فَهُوَ نَصٌّ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُشَارِكًا لَهُ فِي الْمَعْنَى فَهُوَ فَرْعٌ لِأَصْلٍ عَمَّ بَيَانُهُ ، فَصَارَ بَيَانُ الْفَرْعِ عَامًّا كَأَصْلِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ يَمْنَعُ هَذَا مِنْ تَحْرِيمِ النَّبِيذِ الَّتِي عِنْدَهُ ، لَمْ يَمْنَعْ مِنْ تَحْرِيمِ الْمَطْبُوخِ عِنْدَنَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِأَنَّ النَّبِيذَ بِالْمَدِينَةِ أَكْثَرُ ، وَهُمْ إِلَى بَيَانِ تَحْرِيمِهِ أَحْوَجُ : فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ مَنْ جَعَلَ النَّبِيذَ دَاخِلًا فِي اسْمِ الْخَمْرِ فَقَدْ جَعَلَ الْعُمُومَ مُشْتَمِلًا عَلَيْهِمَا ، وَهُوَ أَصَحُّ وَجْهَيْ أَصْحَابِنَا ، فَزَالَ بِهِ الِاسْتِدْلَالُ . وَالثَّانِي : أَنَّ بَيَانَ تَحْرِيمِهَا لَمْ يَكُنْ مَقْصُورًا عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، بَلْ هُوَ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ الخمر . وَلَئِنْ كَانَ النَّبِيذُ بِالْمَدِينَةِ أَكْثَرَ مِنَ الْخَمْرِ ، فَإِنَّ الْخَمْرَ بِالشَّامِ وَفَارِسَ أَكْثَرُ مِنَ

النَّبِيذِ . وَالْبَعِيدُ أَحْوَجُ إِلَى عُمُومِ الْبَيَانِ مِنَ الْقَرِيبِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ فِي تَحْرِيمِ الْقَلِيلِ تَنْبِيهًا عَلَى الْكَثِيرِ ، فَجَازِ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُحَرِّمْ شَيْئًا إِلَّا وَأَغْنَى عَنْهُ بِمُبَاحٍ مِنْ جِنْسِهِ : فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا حَرَّمَ السُّكْرَ ، وَإِنْ لَمْ يُغْنِ عَنْهُ بِمُبَاحٍ مِنْ جِنْسِهِ جَازَ أَنْ يُحَرِّمَ الْمُسْكِرَ ، وَإِنْ لَمْ يُغْنِ عَنْهُ بِمُبَاحٍ مِنْ جِنْسِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَبَاحَ مِنْ جِنْسِهِ مَا لَا يُسْكِرُ ، فَأَغْنَى عَنِ الْمُسْكِرِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالتَّرْغِيبِ بِهَا فِي الْجَنَّةِ : فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ قَدْ عَرَفُوا لَذَّتَهَا قَبْلَ التَّحْرِيمِ ، فَاسْتَغْنَوْا بِهَا عَنِ الْمَعْرِفَةِ بَعْدَ التَّحْرِيمِ . وَالثَّانِي : أَنَّ خَمْرَ الْجَنَّةِ غَيْرُ مُسْكِرٍ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ وَصَفَهَا بِأَنْ لَا غَوْلَ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمَ . أَيْ : لَا تَغْتَالُ عُقُولَهُمْ بِالسُّكْرِ ، وَلَا يَأْثَمُونَ بِارْتِكَابِ الْحَظْرِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَفِيهِ الْحَدُّ قِيَاسًا عَلَى الْخَمْرِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا شَارِبُ الْخَمْرِ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ سَكِرَ مِنْهُ أَوْ لَمْ يَسْكَرْ . وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَيْهِ . وَأَمَّا شَارِبُ النَّبِيذِ فَإِنْ سَكِرَ مِنْهُ حُدَّ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ ، وَإِنْ لَمْ يَسْكَرْ مِنْهُ حُدَّ فِي قَوْلِ مَنْ حَرَّمَهُ ، وَلَمْ يُحَدَّ فِي قَوْلِ مَنْ أَحَلَّهُ . وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى تَحْرِيمِهِ فَوَجَبَ فِيهِ الْحَدُّ كَالْخَمْرِ ، وَهُمَا فِي الْحَدِّ سَوَاءٌ . وَإِنْ كَانَ الْخَمْرُ أَغْلَظَ مَأْثَمًا كَمَا أَنَّ الْحَدَ فِي الْخَمْرِ يَسْتَوِي فِيهِ مَنْ سَكِرَ مِنْهُ وَمَنْ لَمْ يَسْكَرْ ، وَإِنْ كَانَ السُّكْرُ أَغْلَظَ مَأْثَمًا ، فَهَذَا حُكْمُ الْحَدِّ . فَأَمَّا التَّكْفِيرُ فَلَا يَكْفُرُ مُسْتَحِلُّ النَّبِيذِ ، وَيَكْفُرُ مُسْتَحِلُّ الْخَمْرِ . وَقَدْ مَضَى وَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا . وَأَمَّا التَّفْسِيقُ : فَيَفْسُقُ شَارِبُ الْخَمْرِ فِي قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا . وَأَمَّا شَرَابُ النَّبِيذِ فَيَفْسُقُ فِي كَثِيرِ الْمُسْكِرِ ، وَالتَّفْسِيقُ فِي قَلِيلِهِ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ شَارِبِهِ . فَإِنْ تَأَوَّلَهُ فِي شُرْبِهِ ، إِمَّا بِاجْتِهَادِ نَفْسِهِ ، إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ ، أَوْ بِفُتْيَا فَقِيهٍ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ ، لَمْ يَفْسُقْ وَإِنْ حُدَّ . وَإِنْ شَرِبَهُ غَيْرَ مُتَأَوِّلٍ فُسِّقَ وَحُدَّ ، فَاسْتَوَى حَدُّهُ فِي الْحَالَيْنِ . وَإِنِ افْتَرَقَ بِفِسْقِهِ فِيهِمَا . وَقَالَ مَالِكٌ : يَفْسُقُ فِي الْحَالَيْنِ ، كَمَا يُحَدُّ فِيهِمَا ، وَلَا تَبْقَى مَعَ وُجُوبِ حَدِّهِ عَدَالَةٌ .

وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّ شُرْبَ مَا اخْتُلِفَ فِيهِ لَا يُوجِبُ الْفِسْقَ إِذَا تَأَوَّلَهُ ، كَشَارِبِ لَبَنِ الْأُتُنِ ، وَلِأَنَّ الْعَدَالَةَ لَا تَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ إِذَا تَابَ بَعْدَ شُرْبِهِ وَقَبْلَ حَدِّهِ . فَإِنَّهُ يُحَدُّ وَهُوَ عَدْلٌ ، كَذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَجِبَ الْحَدُّ عَلَيْهِ وَهُوَ عَدْلٌ : لِتَسْوِيَةٍ بَيْنَ حَالِ الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحَدِّ وَالتَّفْسِيقِ فِي التَّأْوِيلِ : لِأَنَّ الْحَدَّ مَوْضُوعٌ لِلزَّجْرِ ، فَاسْتَوَى فِيهِ حَالُ الْمُتَأَوِّلِ وَغَيْرِ الْمُتَأَوِّلِ . وَالتَّفْسِيقُ : مُخْتَصٌّ بِالْحَظْرِ ، فَافْتَرَقَ فِيهِ حُكْمُ الْمُتَأَوِّلِ وَغَيْرِ الْمُتَأَوِّلِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا يُحَدُّ إِلَّا بِأَنْ يَقُولَ : شَرِبْتُ الْخَمْرَ . أَوْ يُشْهَدَ عَلَيْهِ بِهِ ، أَوْ يَقُولَ : شَرِبْتُ مَا يُسْكِرُ . أَوْ يَشْرَبَ مِنْ إِنَاءٍ هُوَ وَنَفَرٌ فَيَسْكَرُ بَعْضُهُمْ ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّرَابَ مُسْكِرٌ . وَاحْتُجَّ بِأَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ : لَا أُوتَى بِأَحَدٍ شَرِبَ خَمْرًا أَوْ نَبِيذًا مُسْكِرًا إِلَّا جَلَدْتُهُ الْحَدَّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْحَدِّ فِي شُرْبِ كُلِّ مُسْكِرٍ مِنْ خَمْرٍ أَوْ نَبِيذٍ ، فَثُبُوتُ شُرْبِهِ لِلْمُسْكِرِ يَكُونُ بِأَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ ، ذَكَرَهَا الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا : أَحَدُهَا : أَنْ يَعْتَرِفَ بِشُرْبِ الْمُسْكِرِ ، فَيَلْزَمُهُ حُكْمُ اعْتِرَافِهِ . وَالثَّانِي : يَشْهَدُ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ أَنَّهُ شَرِبَ الْمُسْكِرَ ، فَيُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالشَّهَادَةِ ، وَلَا يَلْزَمُ سُؤَالُ الشَّاهِدَيْنِ عَنْ وَصْفِهِمَا لِلشَّهَادَةِ فِي شُرْبِ الْمُسْكِرِ ، وَإِنْ لَزِمَ شُهُودَ الزِّنَا سُؤَالُهُمْ عَنْ صِفَةِ الزِّنَا ، لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الزِّنَا يَنْطَلِقُ عَلَى مَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَمَا لَا يُوجِبُهُ ، وَالشُّرْبُ الْمُسْكِرُ لَا يَنْطَلِقُ عَلَى مَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَشْرَبَ شَرَابًا يَسْكَرُ مِنْهُ ، فَيُعْلَمُ أَنَّهُ شَرِبَ مُسْكِرًا . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَشْرَبَ هُوَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ شَرَابٍ يَسْكَرُ مِنْهُ بَعْضُهُمْ ، فَيُعْلَمُ بِسُكْرِ بَعْضِهِمْ أَنَّ جَمِيعَهُمْ شَرِبَ مُسْكِرًا . فَإِذَا ثَبَتَ شُرْبُهُ لِلْمُسْكِرِ بِأَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ ، كَانَ وُجُوبُ حَدِّهِ بَعْدَ شُرْبِهِ مُعْتَبَرًا بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الشَّرَابَ مُسْكِرٌ ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَشْرَبَهُ مُخْتَارًا ، فَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى شُرْبِهِ فَلَا حدَّ عَلَيْهِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِتَحْرِيمِ الْمُسْكِرِ ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ لْقُرْبِ عَهْدِهِ بِالْإِسْلَامِ ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ . وَالرَّابِعُ : أَلَّا تَدْعُوَهُ ضَرُورَةٌ إِلَى شُرْبِهِ ، فَإِنِ اضْطُرَّ إِلَيْهِ ، لِشِدَّةِ عَطَشٍ ، أَوْ تَدَاوِي مَرَضٍ ، لَا يُوجِدُ الطِّبُّ مِنْ شُرْبِهِ بُدًّا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ شُرْبُهُ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ

مُخْتَلَفًا فِيهِ . فَإِذَا اسْتُكْمِلَتْ فِيهِ هَذِهِ الشُّرُوطُ الْأَرْبَعَةُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ .

فَصْلٌ : وَلَا يُحَدُّ بِرَائِحَةِ الْمُسْكِرِ مِنْ فَمِهِ ، وَلَا إِذَا تَقَيَّأَ مُسْكِرًا . وَقَالَ مَالِكٌ : أَحُدُّهُ بِرَائِحَةِ الْمُسْكِرِ ، وَبِقَيْءِ الْمُسْكِرِ ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي مَاعِزٍ : اسَتَنْكِهُوهُ ، فَجَعَلَ لِلرَّائِحَةِ حُكْمًا ، وَلِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حَدَّ ابْنَهُ عُبَيْدَ اللَّهِ بِالرَّائِحَةِ . وَلِأَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ فِي الْخَمْرِ بِشَاهِدَيْنِ ، شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ شَرِبَهَا ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ تَقَيَّأَهَا ، فَقَالَ عُثْمَانُ : مَا تَقَيَّأَهَا حَتَّى شَرِبَهَا . وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُسْتَدْرَكَ بِرَائِحَةِ الْخَمْرِ عِنْدَ مُشَاهَدَتِهَا فَيُعْلَمُ بِالرَّائِحَةِ أَنَّهَا خَمْرٌ ، جَازَ أَنْ تُسْتَدْرَكَ بِالرَّائِحَةِ بَعْدَ شُرْبِهَا . وَدَلِيلُنَا : قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [ الْإِسْرَاءِ : 34 ] وَلَيْسَ لَهُ بِالرَّائِحَةِ عِلْمٌ مُتَحَقِّقٌ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ . وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَمَضْمَضَ بِالْخَمْرِ ثُمَّ مَجَّهَا ، وَلَمْ يَشْرَبْهَا فَلَمْ تُدْرَكْ رَائِحَتُهَا مِنْ فَمِهِ عَلَى شُرْبِهَا ، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا أُكْرِهَ عَلَى شُرْبِهَا ، وَلِأَنَّ رَائِحَةَ الْخَمْرِ مُشْتَرَكَةٌ ، يَجُوزُ أَنْ يُوجَدَ مِثْلُهَا فِي أَكْلِ النَّبْقِ ، وَبَعْضِ الْفَوَاكِهِ فَلَمْ يُقْطَعْ بِهِ عَلَيْهَا ، وَلِأَنَّ رَائِحَةَ الْخَمْرِ قَدْ تُوجَدُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَشْرِبَةِ الْمُبَاحَةِ كَشَرَابِ التُّفَّاحِ وَالسَّفَرْجَلِ وَرُبُوبِ الْفَوَاكِهِ . فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقْطَعَ بِالرَّائِحَةِ عَلَيْهَا إِذَا شُوهِدَتْ : لِأَنَّ مُشَاهَدَةَ جِسْمِهَا يَنْفِي عَنْهَا ظُنُونَ الِاشْتِبَاهِ ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ وَانْفِصَالٌ . فَأَمَّا أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاسْتِنْكَاهِ مَاعِزٍ ، فَلِأَنَّهُ رَآهُ ثَائِرَ الشَّعْرِ ، مُتَغَيِّرَ اللَّوْنِ ، مُقِرًّا بِالزِّنَا . فَاشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ حَالَتُهُ فِي ثَبَاتِ عَقْلِهِ أَوْ زَوَالِهِ ، فَأَرَادَ اخْتِبَارَ حَالِهِ بِاسْتِنْكَاهِهِ ، وَلَمْ يُعَلِّقْ بِالِاسْتِنْكَاهِ حُكْمًا . وَأَمَّا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : فَإِنَّهُ سَأَلَ ابْنَهُ حِينَ شَمِّ مِنْهُ الرَّائِحَةَ ، فَاعْتَرَفَ بِشُرْبِ الطِّلَا ، فَحَدَّهُ بِاعْتِرَافِهِ . وَأَمَّا عُثْمَانُ : فَلِأَنَّهُ لَمَّا اقْتَرَنَ بِشَهَادَةِ الْقَيْءِ شَهَادَةُ الشُّرْبِ ، جَازَ أَنْ يَعْمَلَ عَلَيْهَا ، وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا .

فَصْلٌ : وَلَا يُحَدُّ السَّكْرَانُ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ سُكْرِهِ ، فَيَعْتَرِفَ بِشُرْبِ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ . وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَحُدُّهُ بِالسُّكْرِ ، إِلَّا أَنْ يَدَّعِيَ مَا يُسْقِطُ الْحَدَّ . وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ الْمُسْكِرَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مُوجِبٌ لِلْحَدِّ ، وَهُوَ أَنْ يَشْرَبَ الْخَمْرَ مُخْتَارًا مَعَ الْعِلْمِ بِهَا . وَالثَّانِي : غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْحَدِّ ، وَهُوَ أَنْ يَشْرَبَهَا غَيْرَ عَالِمٍ بِهَا ، أَوْ مُكْرَهًا عَلَيْهَا ، فَكَانَ إِدْرَاءُ الْحَدِّ عَنْهُ بِالشُّبْهَةِ أَوْلَى مِنْ إِثْبَاتِهِ بِهَا . لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبْهَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ عَدَدِ حَدِّ الْخَمْرِ وَمَنْ يَمُوتُ مِنْ ضَرْبِ الْإِمَامِ وَخَطَأِ السُّلْطَانِ

بَابُ عَدَدِ حَدِّ الْخَمْرِ وَمَنْ يَمُوتُ مِنْ ضَرْبِ الْإِمَامِ وَخَطَأِ السُّلْطَانِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ ، عَنْ مَعْمَرٍ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَزْهَرَ ، قَالَ : أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَارِبٍ ، فَقَالَ : اضْرِبُوهُ . فَضَرَبُوهُ بِالْأَيْدِي وَالنِّعَالِ وَأَطْرَافِ الثِّيَابِ ، وَحَثَوْا عَلَيْهِ التُّرَابَ . ثُمَّ قَالَ : نَكِّبُوهُ . فَنَكَّبُوهُ ثُمَّ أَرْسَلَهُ . قَالَ : فَلَمَّا كَانَ أَبُو بَكْرٍ سَأَلَ مَنْ حَضَرَ ذَلِكَ الضَّرْبَ فَقَوَّمَهُ أَرْبَعِينَ . فَضَرَبَ أَبُو بَكْرٍ فِي الْخَمْرِ أَرْبَعِينَ حَيَاتَهُ ، ثُمَّ عُمَرُ ، ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ فِي الْخَمْرِ ، فَاسْتَشَارَ فَضَرَبَ ثَمَانِينَ . وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَشَارَ ، فَقَالَ عَلِيٌّ : نَرَى أَنْ يُجْلَدَ ثَمَانِينَ : لِأَنَّهُ إِذَا شَرِبَ سَكِرَ ، وَإِذَا سَكِرَ هَذَى ، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى ، أَوْ كَمَا قَالَ : فَجَلَدَهُ عُمَرُ ثَمَانِينَ فِي الْخَمْرِ . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَيْسَ أَحَدٌ نُقِيمُ عَلَيْهِ حَدًّا فَيَمُوتُ ، فَأَجِدُ فِي نَفْسِي شَيْئًا الْحَقُّ قَتْلُهُ ، إِلَّا حَدَّ الْخَمْرِ فَإِنَّهُ شَيْءٌ رَأَيْنَاهُ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَمَنْ مَاتَ مِنْهُ فَدِيَتُهُ ، إِمَّا قَالَ فِي بَيْتِ الْمَالِ ، وَإِمَّا قَالَ عَلَى عَاقِلَةِ الْإِمَامِ " الشَّكُّ مِنَ الشَّافِعِيِّ " " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا وُجُوبَ الْحَدِّ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ وَشُرْبِ كُلِّ مُسْكِرٍ ، سَكِرَ الشَّارِبُ مِنْهُ أَوْ لَمْ يَسْكَرْ . فَأَمَّا صِفَةُ الْحَدِّ فَأَصْلُهُ : مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ بِإِسْنَادِهِ ، عِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَزْهَرَ ، قَالَ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ عَنْ رَحْلِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ ، فَجَرَيْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ أَسْأَلُ عَنْ رَحْلِ خَالِدٍ حَتَّى أَتَاهُ ، وَقَدْ خَرَجَ فَأُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَارِبٍ فَقَالَ : اضْرِبُوهُ . فَضَرَبُوهُ بِالْأَيْدِي وَالنِّعَالِ وَأَطْرَافِ الثِّيَابِ ، وَحَثَوْا عَلَيْهِ التُّرَابَ . ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : نَكِّبُوهُ . فَنَكَّبُوهُ ثُمَّ أَرْسَلَهُ . قَالَ : فَلَمَّا كَانَ أَبُو بَكْرٍ سَأَلَ مَنْ حَضَرَ ذَلِكَ الضَّرْبَ فَقَوَّمَهُ أَرْبَعِينَ . فَضَرَبَ أَبُو بَكْرٍ فِي الْخَمْرِ أَرْبَعِينَ حَيَاتَهُ ، ثُمَّ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ فِي الْخَمْرِ ، فَاسْتَشَارَ فَضَرَبَ ثَمَانِينَ . وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ لَمَّا اسْتَشَارَ الصَّحَابَةَ فِي حَدِّ الْخَمْرِ

فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ : إِنَّهُ إِذَا شَرِبَ سَكِرَ ، وَإِذَا سَكِرَ هَذَى ، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى ، وَحَدُّ الْمُفْتَرِي ثَمَانُونَ . وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ : أَخَفُّ الْحُدُودِ ثَمَانُونَ ، فَأَخَذَ بِهَا عُمَرُ ، وَجَلَدَ فِي بَقِيَّةِ أَيَّامِهِ ثَمَانِينَ . وَجَلَدَ عُثْمَانُ فِي أَيَّامِهِ أَرْبَعِينَ وَثَمَانِينَ . وَجَلَدَ عَلِيٌّ ثَمَانِينَ . فَرَوَى سُفْيَانُ ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ ، عَنْ عُمَيْرِ بْنِ سَعِيدٍ ، عَنْ عَلِيٍّ ، قَالَ : مَا كُنْتُ لِأُقِيمَ حَدًّا عَلَى إِنْسَانٍ فَيَمُوتُ صَاحِبُهُ فَأَجِدَ فِي نَفْسِي مِنْهُ شَيْئًا ، إِلَّا الْخَمْرَ ، فَإِنِّي كُنْتُ أَدِيهِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسُنَّهُ ، فَكَانَ عُمَرُ أَوَّلَ مَنْ حَدَّ فِي الْخَمْرِ ثَمَانِينَ . وَأَوَّلُ مَنْ حَدَّهُ عُمَرُ فِي الْخَمْرِ ثَمَانِينَ قُدَامَةُ بْنُ مَظْعُونٍ الْجُمَحِيُّ ، ثُمَّ حَدَّ عُمَرُ بَعْدَهُ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ فِي الْخَمْرِ ثَمَانِينَ . وَحَدَّ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ فِي الْخَمْرِ ، وَقَدْ صَلَّى بِالنَّاسِ بِالْكُوفَةِ ، فَقَالَ : أَزِيدُكُمْ . فَاخْتُلِفَ فِي مِقْدَارِ حَدِّهِ ، فَرَوَى عَنْهُ قَوْمٌ أَنَّهُ حَدَّهُ أَرْبَعِينَ . وَرَوَى آخَرُونَ : أَنَّهُ حَدَّهُ ثَمَانِينَ . وَحَدَّ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ النَّجَاشِيَّ الْحَادِيَ بِالْكُوفَةِ ، وَقَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي رَمَضَانَ فَحَدَّهُ ثَمَانِينَ ، ثُمَّ عِشْرِينَ . فَقَالَ النَّجَاشِيُّ : أَمَّا الثَّمَانُونَ قَدْ عَرَفْتُهَا فَمَا هَذِهِ الْعِلَاوَةُ ؟ فَقَالَ : عَلَى تَجَرُّئِكَ عَلَى اللَّهِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مِقْدَارِ حَدِّهِ . فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ حَدَّ الْخَمْرِ أَربَعُونَ ، لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْقَصَ مِنْهَا ، وَمَا زَادَ عَلَيْهَا إِلَى الثَّمَانِينَ تَعْزِيرٌ ، يَقِفُ عَلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ لَا يَزِيدُ عَلَيْهَا ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْقُصَ مِنْهَا . وَقَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ : حَدُّ الْخَمْرِ ثَمَانُونَ كَالْقَذْفِ ، وَلَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا وَلَا النُّقْصَانُ مِنْهَا : اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ سَعِيدٍ ، عَنْ قَتَادَةَ ، عَنْ أَنَسٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَجَلَدَهُ بِجَرِيدَتَيْنِ نَحْوَ الْأَرْبَعِينَ . وَفَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ اسْتَشَارَ النَّاسَ ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ : أَخَفُّ الْحُدُودِ ثَمَانُونَ . فَأَخَذَ بِهَا عُمَرُ . فَصَارَ اجْتِهَادُ الصَّحَابَةِ مُوَافِقًا لِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لِأَنَّ الْأَرْبَعِينَ بِالْجَرِيدَتَيْنِ ثَمَانُونَ . وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَدَ فِي الْخَمْرِ بِنَعْلَيْنِ أَرْبَعِينَ ، فَلَمَّا كَانَ زَمَنُ عُمَرَ جَلَدَ بَدَلَ كُلِّ نَعْلٍ سَوْطًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ اجْتِهَادَ الصَّحَابَةِ كَانَ فِي صِفَةِ الْحَدِّ لَا فِي عَدَدِهِ . وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ ، عَنْ أَبِيهِ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَدَ شَارِبَ الْخَمْرِ ثَمَانِينَ وَهَذَا نَصٌّ .

وَمِنَ الِاعْتِبَارِ أَنَّهُ حَدٌّ يَجِبُ عَلَى الْحُرِّ ، فَلَمْ يَتَقَدَّرْ بِالْأَرْبَعِينَ كَالْقَذْفِ ، وَلِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ أَخَفُّ ، وَحَدَّ الشُّرْبِ أَغْلَظُ لِمَا فِي النُّفُوسِ مِنَ الدَّاعِي إِلَيْهِ ، وَغَلَبَةِ الشَّهْوَةِ عَلَيْهِ ، فَكَانَ إِنْ لَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَنْقُصَ عَنْهُ ، وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ لَوْ كَانَتْ تَعْزِيرًا لَمْ يَجُزْ أَنْ تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ حد السكر ، لَأَنَّ التَّعْزِيرَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِلْحَدِّ . وَدَلِيلُنَا : مَعَ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي صَدْرِ الْبَابِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَزْهَرَ ، مَا رَوَاهُ حُصَيْنُ بْنُ الْمُنْذِرِ أَبُو سَاسَانَ الرَّقَاشِيُّ ، قَالَ : شَهِدْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ ، وَقَدْ أُتِيَ بِالْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ ، فَشَهِدَ عَلَيْهِ حُمْرَانُ وَرَجُلٌ آخَرُ . شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ شَرِبَ الْخَمْرَ ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ تَقَيَّأَهَا . فَقَالَ عُثْمَانُ : مَا تَقَيَّأَهَا حَتَّى شَرِبَهَا . فَقَالَ لَعَلِيٍّ : أَقِمْ عَلَيْهِ الْحَدَّ . فَقَالَ عَلِيٌّ لِلْحَسَنِ : أَقِمْ عَلَيْهِ الْحَدَّ . فَقَالَ الْحَسَنُ : وَلِّ حَارَّهَا مَنْ تَوَلَّى قَارَّهَا . أَيْ : وَلِيَ صَعْبَهَا مَنْ تَوَلَّى سَهْلَهَا . فَقَالَ عَلِيٌّ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ : أَقِمْ عَلَيْهِ الْحَدَّ . فَجَلَدَهُ عَبْدُ اللَّهِ بِالسَّوْطِ وَعَلِيٌّ يَعُدُّ ، فَلَمَّا بَلَغَ أَرْبَعِينَ قَالَ : حَسْبُكَ جَلَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعِينَ ، وَجَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ ، وَجَلَدَ عُمَرُ ثَمَانِينَ ، وَكُلُّ سُنَّةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ . وَهَذَا نَصٌّ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ اقْتِصَارِهِ عَلَى الْأَرْبَعِينَ . وَالثَّانِي : إِخْبَارُهُ بِأَنَّ كِلَا الْعَدَدَيْنِ سُنَّةٌ يُعْمَلُ بِهَا وَيَصِحُّ التَّخْيِيرُ فِيهَا . وَمِنَ الْقِيَاسِ : أَنَّهُ سَبَبٌ يُوجِبُ الْحَدَّ فَوَجَبَ أَنْ يَخْتَصَّ بِعَدَدٍ لَا يُشَارِكُهُ غَيْرُهُ ، كَالزِّنَا وَالْقَذْفِ . فَإِنْ قِيلَ : فَوَجَبَ أَلَّا يُقَدَّرَ بِأَرْبَعِينَ كَالزِّنَا وَالْقَذْفِ . قِيلَ : الْحُدُودُ مَوْضُوعَةٌ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الْمِقْدَارِ : لِاخْتِلَافِهَا فِي الْأَسْبَابِ ، فَجَازَ لَنَا اعْتِبَارُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ فِي التَّفَاضُلِ ، وَلَمْ يَجُزِ اعْتِبَارُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ فِي التَّمَاثُلِ . وَلِأَنَّ الْحُدُودَ تَتَرَتَّبُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْإِجْرَامِ ، فَمَا كَانَ جُرْمُهُ أَغْلَظَ كَانَ حَدُّهُ أَكْثَرَ . وَلِأَنَّ الزِّنَا لَمَّا غَلُظَ جُرْمُهُ لِلِاشْتِرَاكِ فِيهِ غَلُظَ حَدُّهُ . وَالْقَذْفُ لَمَّا اخْتَصَّ كَانَ حَدُّهُ أَكْثَرَ بِالتَّعَدِّي إِلَى وَاحِدٍ كَانَ أَخَفَّ مِنَ الزِّنَا . وَالْخَمْرُ لَمَّا اخْتَصَّ بِوَاحِدٍ لَمْ يَتَعَدَّ عَنْهُ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَخَفَّ مِنَ الْقَذْفِ ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثَيْ أَنَسٍ وَأَبِي سَعِيدٍ فَمِنْ وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : اضْطِرَابُ الْحَدِيثَيْنِ : لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي حَدِّ الْخَمْرِ نَصٌّ مَا اجْتَهَدَ فِيهِ الصَّحَابَةُ ، وَلَعَمِلُوا فِيهِ عَلَى النَّقْلِ . وَالثَّانِي : تُحْمَلُ الرِّوَايَةُ بِجَرِيدَتَيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ ، عَلَى أَنَّ إِحْدَاهُمَا بَعْدَ الْأُخْرَى : لِأَنَّ الْأُولَى تَقَطَّعَتْ فَأَخَذَ الثَّانِيَةَ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ : فَهُوَ مُرْسَلٌ ، لَا يَلْزَمُ ، وَفِيهِ نَصٌّ لَمْ يُعْمَلْ بِهِ لِاجْتِهَادِ الصَّحَابَةِ فِيهِ ، فَصَارَ الْإِجْمَاعُ مَانِعًا مِنَ الْعَمَلِ بِهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ أَضْعَفُ : فَهُوَ أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ أَغْلَظُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقَذْفَ مُتَعَدٍّ وَالشُّرْبَ غَيْرُ مُتَعَدٍّ . وَالثَّانِي : أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ ، وَحَدَّ الشُّرْبِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَمَا تَعَلَّقَ بِالْعِبَادِ أَغْلَظُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : لَوْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ عَلَى الْأَرْبَعِينَ تَعْزِيرًا مَا جَازَ أَنْ يُسَاوِيَ حَدًّا حد السكر ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يُبْلَغُ بِالتَّعْزِيرِ إِذَا كَانَ سَبَبُهُ وَاحِدًا ، فَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الْأَسْبَابُ مُخْتَلِفَةً جَازَ : لِأَنَّ لِكُلٍّ حُكْمًا ، وَتَعْزِيرُهُ فِي الْخَمْرِ لِأَسْبَابٍ : لِأَنَّهُ إِذَا شَرِبَ سَكِرَ ، وَإِذَا سَكِرَ هَذَى وَإِذَا هَذَى افْتَرَى . وَالثَّانِي : أَنَّ هَذَا تَعْزِيرٌ ، بِعَقْدِ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ فِي الْأَرْبَعِينَ ، فَصَارَ مَخْصُوصًا مِنْ غَيْرِهِ . ثُمَّ يُقَالُ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَلَسْتَ تَقُولُ : إِنَّ أَكْثَرَ التَّعْزِيرِ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْلُغَ بِهِ الْأَرْبَعِينَ : لِأَنَّهُ لَا يُسَاوِي أَقَلَّ الْحُدُودِ ؟ فَلِذَلِكَ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْأَرْبَعُونَ حَدًّا .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا ، مِنْ أَنَّ الثَّمَانِينَ فِي الْخَمْرِ حَدٌّ وَتَعْزِيرٌ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْقُصَ مِنَ الْأَرْبَعِينَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى الثَّمَانِينَ . وَيَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ . وَهُوَ بِمَا زَادَ عَلَيْهَا إِلَى الثَّمَانِينَ مَوْقُوفٌ عَلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ . فَإِنْ رَآهُ عَمِلَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَرَهُ كَفَّ عَنْهُ . فَأَمَّا صِفَةُ حَدِّهِ شارب الخمر : فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ حَدَّهُ بِالثِّيَابِ وَالنِّعَالِ ، وَأَمَرَ بِتَبْكِيتِهِ

وَحَثْوِ التُّرَابِ عَلَيْهِ . وَرُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ : أَنَّهُمْ حَدُّوهُ بِالسِّيَاطِ . فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي حَدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالثِّيَابِ وَالنِّعَالِ ، هَلْ كَانَ بِعُذْرٍ أَوْ شَرْعٍ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ ، وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ كَانَ لِعُذْرٍ فِي الشَّارِبِ مِنْ مَرَضٍ ، أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ نِضْوًا ، كَمَا حَدَّ مُقْعَدًا بَأَثْكَالِ النَّخْلِ . فَعَلَى هَذَا : يَكُونُ حَدُّ الصَّحَابَةِ بِالسِّيَاطِ نَصًّا فِي غَيْرِ الْمَعْذُورِ : لِأَنَّهُ جِنْسُ مَا يُسْتَوْفَى بِهِ الْحُدُودُ ، فَيُحَدُّ بِالسِّيَاطِ . وَيَكُونُ حَدُّ الْخَمْرِ مُخَفَّفًا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ : وَهُوَ مِقْدَارُ الْعَدَدِ دُونَ صِفَةِ الْحَدِّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ أَنَّ حَدَّهُ بِالثِّيَابِ وَالنِّعَالِ كَانَ شَرْعًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شارب الخمر خَفَّفَ بِهِ حَدَّ الْخَمْرِ كَمَا خَفَّفَهُ فِي الْعَدَدِ . فَعَلَى هَذَا : يَكُونُ عُدُولُ الصَّحَابَةِ عَنْهُ إِلَى السِّيَاطِ عَنِ اجْتِهَادٍ مِنْهُمْ فِيهِ ، حِينَ تَهَافَتُوا فِي الْخَمْرِ ، وَاسْتَهَانُوا بِحَدِّهِ ، كَمَا اجْتَهَدُوا فِي زِيَادَةِ الْعَدَدِ إِلَى الثَّمَانِينَ . وَيَكُونُ حَدُّ الْخَمْرِ مُخَفَّفًا مِنْ وَجْهَيْنِ : فِي مِقْدَارِ الْعَدَدِ ، وَصِفَةِ الْحَدِّ ، وَيَكُونُ الْعُدُولُ إِلَى السِّيَاطِ اجْتِهَادًا . كَمَا كَانَتِ الزِّيَادَةُ إِلَى الثَّمَانِينَ اجْتِهَادًا . فَأَمَّا التَّبْكِيتُ وَحَثْوُ التُّرَابِ ، فَزِيَادَةٌ فِي التَّعْزِيرِ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْحَدِّ ، وَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ فِي فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِذَا ضَرَبَ الْإِمَامُ فِي خَمْرٍ أَوْ مَا يُسْكِرُ مِنْ شَرَابٍ بِنَعْلَيْنِ أَوْ طَرَفِ ثَوْبٍ أَوْ رِدَاءٍ أَوْ مَا أَشْبَهَهُ ضَرْبًا يُحِيطُ الْعِلْمُ أَنَّهُ لَمْ يُجَاوِزْ أَرْبَعِينَ ، فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَالْحَقُّ قَتَلَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا جَلَدَ الْإِمَامُ فِي الْخَمْرِ أَرْبَعِينَ اقْتِصَارًا عَلَى الْحُدُودِ دُونَ التَّعْزِيرِ ، فَمَاتَ الْمَحْدُودُ فما الحكم فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ ضَرْبُهُ بِالنِّعَالِ ، وَأَطْرَافِ الثِّيَابِ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْإِمَامِ فِي مَوْتِهِ : لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ بِجَلْدِ ابْنِهِ فِي الشَّرَابِ قَالَ لَهُ ابْنُهُ : يَا أَبَتِي قَتَلْتَنِي . فَقَالَ لَهُ : الْحَقُّ قَتَلَكَ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَتْلَ الْحَقِّ غَيْرُ مَضْمُونٍ . وَلِأَنَّ حُدُوثَ التَّلَفِ عَنِ الْحُدُودِ الْوَاجِبَةِ هَدْرٌ لَا يُضْمَنُ كَجَلْدِ الزَّانِي ، وَحَدِّ الْقَاذِفِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَحُدَّهُ الْأَرْبَعِينَ بِالسِّيَاطِ فَيَمُوتُ ، فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ مِنَ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي حَدِّهِ بِالنِّعَالِ وَالثِّيَابِ ، ( قِيلَ ) : هَلْ كَانَ لِعُذْرٍ أَوْ شَرْعٍ ؟

أَحَدُهُمَا : لَا يَضْمَنُ ، وَتَكُونُ نَفْسُهُ هَدْرًا ، إِذَا قِيلَ : إِنَّ حَدَّهُ بِالثِّيَابِ كَانَ شَرْعًا ، وَأَنَّ السِّيَاطَ فِيهِ اجْتِهَادٌ ، فَعَلَى هَذَا : فِي قَدْرِ مَا يَضْمَنُهُ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : جَمِيعُ دِيَتِهِ ، وَلَا يَضْمَنُ بَعْضَهَا : لِأَنَّ الْعُدُولَ عَنْ جِنْسِ الْحَدِّ إِلَى غَيْرِهِ يَجْعَلُ الْكُلَّ غَيْرَ مُسْتَحَقٍّ . وَالثَّانِي : يَضْمَنُ نِصْفَ دِيَتِهِ : لِتَلَفِهِ مِنْ وَاجِبٍ وَمَحْظُورٍ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ ضُرِبَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ بِالنِّعَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَمَاتَ المحدودفي الخمر ، فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الْإِمَامِ دُونَ بَيْتِ الْمَالِ : لِأَنَّ عُمَرَ أَرْسَلَ إِلَى امْرَأَةٍ فَفَزِعَتْ فَأَجْهَضَتْ ذَا بَطْنِهَا فَاسْتَشَارَ عَلِيًّا ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ أَنْ يَدِيَهُ ، فَأَمَرَ عُمَرُ عَلِيًّا ، فَقَالَ عُمَرُ : عَزَمْتُ عَلَيْكَ لَتَقْسِمَنَّهَا عَلَى قَوْمِكَ . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : هَذَا غَلَطٌ فِي قَوْلِهِ : إِذَا ضُرِبَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ فَمَاتَ فَلَمْ يَمُتْ مِنَ الزِّيَادَةِ وَحْدَهَا . وَإِنَّمَا مَاتَ مِنَ الْأَرْبَعِينَ وَغَيْرِهَا فَكَيْفَ تَكُونُ الدِّيَةُ عَلَى الْإِمَامِ كُلُّهَا وَإِنَّمَا مَاتَ الْمَضْرُوبُ مِنْ مُبَاحٍ وَغَيْرِ مُبَاحٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ : لَوْ ضَرَبَ الْإِمَامُ رَجُلًا فِي الْقَذْفِ إِحْدَى وَثَمَانِينَ فَمَاتَ ، أَنَّ فِيهَا قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ عَلَيْهِ نِصْفَ الدِّيَةِ . وَالْآخَرُ : أَنَّ عَلَيْهِ جُزْءًا مِنْ أَحَدٍ وَثَمَانِينَ جُزْءًا مِنَ الدِّيَةِ . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقُولُ : لَوْ جَرَحَ رَجُلًا جُرْحًا ، فَخَاطَهُ الْمَجْرُوحُ فَمَاتَ فَإِنْ كَانَ خَاطَهُ فِي لَحْمٍ حَيٍّ ، فَعَلَى الْجَارِحِ نِصْفُ الدِّيَةِ : لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ جُرْحِهِ ، وَالْجُرْحِ الَّذِي أَحْدَثَهُ فِي نَفْسِهِ . فَكُلُّ هَذَا يَدُلُّكَ إِذَا مَاتَ الْمَضْرُوبُ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ فَمَاتَ : أَنَّهُ بِهِمَا مَاتَ ، فَلَا تَكُونُ الدِّيَةُ كُلُّهَا عَلَى الْإِمَامِ : لِأَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْهُ بِالزِّيَادَةِ وَحْدِهَا ، حَتَّى كَانَ مَعَهَا مُبَاحٌ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقُولُ فِيمَنْ جُرِحَ مُرْتَدًّا ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ جُرِحَ جُرْحًا آخَرَ فَمَاتَ : أَنَّ عَلَيْهِ نِصْفَ الدِّيَةِ : لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ مُبَاحٍ وَغَيْرِ مُبَاحٍ . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : وَكَذَلِكَ إِنْ مَاتَ الْمَضْرُوبُ بِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ مِنْ مُبَاحٍ وَغَيْرِ مُبَاحٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَجُمْلَتُهُ : أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا جَلَدَ فِي الْخَمْرِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ ، فَمَاتَ الْمَحْدُودُ لَمْ تَخْلُ حَالُهُ فِيهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَسْتَكْمِلَ فِيهِ الْحَدَّ وَالتَّعْزِيرَ ، فَيَجْلِدُهُ ثَمَانِينَ ، لَا يَزِيدُ عَلَيْهَا وَلَا يَنْقُصُ مِنْهَا ، فَيَضْمَنُ نِصْفَ دِيَتِهِ : لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ حَدٍّ وَاجِبٍ ، وَتَعْزِيرٍ مُبَاحٍ يَسْقُطُ مِنْ دِيَتِهِ النِّصْفُ : لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ الْحَدِّ الْوَاجِبِ . وَلَزِمَ مِنْ دِيَتِهِ النِّصْفُ : لِأَنَّهُ مِنْ مُقَابَلَةِ التَّعْزِيرِ الْمُبَاحِ . فَإِنْ قِيلَ : لِمَ ضَمِنَ مَا قَابَلَ التَّعْزِيرَ مَعَ إِبَاحَتِهِ ؟ قِيلَ : لِأَنَّ الْمُبَاحَ مِنْهُ مَا لَمْ يُفْضِ إِلَى التَّلَفِ ، فَإِذَا أَفْضَى إِلَيْهِ صَارَ غَيْرَ مُبَاحٍ ، فَضَرْبُ الزَّوْجِ امْرَأَتَهُ حكمه مُبَاحٌ لَهُ مَا لَمْ يُفْضِ

الضَّرْبُ إِلَى تَلَفِهَا ، فَإِنْ أَتْلَفَهَا ضَمِنَهَا ، كَذَلِكَ ضَرْبُ التَّعْزِيرِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَسْتَكْمِلَ الْحَدَّ وَبَعْضَ التَّعْزِيرِ ، فَيَجْلِدُهُ فَوْقَ الْأَرْبَعِينَ وَدُونَ الثَّمَانِينَ ، فَإِنْ جَلَدَهُ خَمْسِينَ فَمَاتَ ، فَفِي قَدْرِ مَا يَضْمَنُهُ مِنْ دِيَتِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَضْمَنُ نِصْفَ دِيَتِهِ اعْتِبَارًا بِالنَّوْعِ : لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ وَاجِبٍ وَغَيْرِ وَاجِبٍ ، وَلَمْ يُعْتَبَرِ الْعَدَدُ كَمَا لَا يُعْتَبَرُ فِي الْجِرَاحِ . فَإِنَّ رَجُلًا لَوْ جَرَحَ رَجُلًا جُرْحًا ، وَجَرَحَهُ الْآخَرُ عَشْرًا ، كَانَ فِي الدِّيَةِ سَوَاءً ، وَلَا يُقَسَّطُ عَلَى أَعْدَادِ الْجِرَاحِ اعْتِبَارًا بِعَدَدِ الْجُنَاةِ ، كَذَلِكَ فِي الضَّرْبِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَضْمَنُ خُمْسَ دِيَتِهِ اعْتِبَارًا بِعَدَدِ الضَّرْبِ : لِتَعَلُّقِ الضَّمَانِ بِعَشَرَةٍ مِنْ خَمْسِينَ : لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَدَدِ تَأْثِيرًا فِي تَلَفِهِ ، وَالضَّرْبُ مُتَشَابِهٌ فَسَقَطَتِ الدِّيَةُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ تَتَقَسَّطْ عَلَى عَدَدِ الْجِرَاحِ : لِأَنَّ لِلْجِرَاحِ مَوْرًا فِي اللَّحْمِ يَخْتَلِفُ وَلَا يَتَشَابَهُ ، وَلِذَلِكَ مَا جَازَ أَنْ يَمُوتَ مِنْ جِرَاحِهِ وَيَعِيشَ مِنْ عَشَرَةٍ ، فَافْتَرَقَ لِذَلِكَ ضَمَانُ الضَّرْبِ وَضَمَانُ الْجِرَاحِ . فَعَلَى هَذَا : لَوْ ضَرَبَهُ سِتِّينَ فَمَاتَ ضَمِنَ نِصْفَ دِيَتِهِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ إِذَا قِيلَ بِاعْتِبَارِ النَّوْعِ ، وَضَمِنَ ثُلُثَ دِيَتِهِ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي إِذَا قِيلَ بِاعْتِبَارِ الْعَدَدِ ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ فِي السَّبْعِينَ إِذَا مَاتَ الثَّمَانِينَ ضَمِنَ نِصْفِ دِيَتِهِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ ، وَثَلَاثَةَ أَسْبَاعِهَا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي . أَمَّا إِذَا مَاتَ مِنَ الثَّمَانِينَ شارب الخمر فَيَضْمَنُ نِصْفَ دِيَتِهِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا : لِأَنَّهُ قَدْ تَسَاوَى فِيهِ ضَمَانُ النَّوْعِ وَضَمَانُ الْعَدَدِ . الْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَزِيدَ فِي جَلْدِهِ ، عَلَى الِاسْتِكْمَالِ لِلْحَدِّ وَالتَّعْزِيرِ ، فَيَجْلِدُهُ تِسْعِينَ فَيَمُوتُ ، فَفِي قَدْرِ مَا يَضْمَنُهُ مِنْ دِيَتِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَضْمَنُ نِصْفَ دِيَتِهِ اعْتِبَارًا بِعَدَدِ النَّوْعِ : لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ وَاجِبٍ وَغَيْرِ وَاجِبٍ ، وَلَمْ يَقَعِ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا أُبِيحُ مِنْ ضَرْبِ التَّعْزِيرِ ، وَمَا لَمْ يَكُنْ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ . الْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَضْمَنُ خَمْسَةَ أَتْسَاعِ دِيَتِهِ اعْتِبَارًا بِعَدَدِ الضَّرْبِ ، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْمَصِيرُ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ . وَلَا يَضْمَنُ فِي الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ جَمِيعَ دِيَتِهِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا . فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الْإِمَامِ ، تَوَهَّمَ أَنَّهُ أَرَادَ جَمِيعَ الدِّيَةِ فَقَالَ : لَمْ يَمُتْ مِنَ الزِّيَادَةِ وَحْدَهَا ، وَإِنَّمَا مَاتَ مِنَ الْأَرْبَعِينَ وَغَيْرِهَا ، فَكَيْفَ تَكُونُ الدِّيَةُ عَلَى الْإِمَامِ كُلُّهَا .

فَصْلٌ : وَهَذَا مِنَ الْمُزَنِيِّ صَحِيحٌ فِي الْحُكْمِ ، وَخَطَأٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي التَّأْوِيلِ : لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ جَمِيعَ الدِّيَةِ إِنَّمَا أَرَادَ الْقَدْرَ الَّذِي يُوَفِّي ، وَأَطْلَقَهُ اكْتِفَاءً بِمَا أَوْضَحَهُ مِنْ مَذْهَبِهِ

وَقَدَّمَهُ مِنْ أُصُولِهِ . وَقَالَ : أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الشَّافِعِيُّ أَرَادَ جَمِيعَ الدِّيَةِ إِذَا عَدَلَ عَنْ ضَرْبِهِ بِالثِّيَابِ إِلَى السِّيَاطِ فمات شارب الخمر فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِهِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ فِي كِتَابِ الْأُمِّ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَدْرِ الْمَضْمُونِ مِنَ الدِّيَةِ ، لَمْ يَخْلُ حَالُ الزِّيَادَةِ الَّتِي تَعَلَّقَ الضَّمَانُ بِهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ الزيادة على الحد : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ قَدْ أَمَرَ بِهَا فَيَكُونُ الضَّمَانُ عَلَى الْإِمَامِ دُونَ الْجَلَّادِ ، وَأَيْنَ يَكُونُ ضَمَانُهُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ ضَمَانُهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ : لِأَنَّهُ مِنْ خَطَئِهِ ، قَدْ أَمَرَ عُمَرُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي الَّتِي أُجْهِضَتْ بِإِرْهَابِهَا جَنِينَهَا أَنْ يُقَسِّمَ دِيَةَ جَنِينِهَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ قُرَيْشٍ : لِأَنَّهُمْ عَاقِلَةُ عُمَرَ . فَعَلَى هَذَا : تَكُونُ الْكَفَّارَةُ فِي مَالِهِ : لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَحْمِلُ الْكَفَّارَةَ ، وَإِنْ حَمَلَتِ الدِّيَةَ . الْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ مَا لَزِمَهُ مِنَ الدِّيَةِ يَكُونُ فِي بَيْتِ الْمَالِ : لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْ كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ ضَمَانُهُ فِي بَيْتِ مَالِهِمْ ، كَالْوَكِيلِ الَّذِي يُضْمَنُ مَا فَعَلَهُ عَنْ مُوَكِّلِهِ فِي مَالِ مُوَكِّلِهِ ، وَإِنَّمَا ضَمِنَ عُمَرُ جَنِينَ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ : لِأَنَّهُ أَرْهَبَهَا فِي تُهْمَةٍ لَمْ تَتَحَقَّقْ عِنْدَهُ ، فَعَدَلَ بِالضَّمَانِ لِأَجْلِ ذَلِكَ عَنْ بَيْتِ الْمَالِ إِلَى عَاقِلَتِهِ ، فَعَلَى هَذَا : فِي الْكَفَّارَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : فِي بَيْتِ الْمَالِ ، تَعْلِيلًا بِمَا ذَكَرْنَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : فِي مَالِهِ : لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تُحْتَمَلُ ، وَكَذَلِكَ إِذَا تَحَمَّلَتِ الْعَاقِلَةُ الدِّيَةَ لَمْ تَتَحَمَّلِ الْكَفَّارَةَ ، وَقَدْ حَكَى ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا فِي ضَمَانِ الْإِمَامِ وَجْهًا ثَالِثًا : أَنَّهُ يَضْمَنُ فِيمَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى الْمَضْمُونِ ، كَتَعْزِيرِ مَنْ عَزَّرَ نَفْسَهُ أَوْ قَدَحَ فِي عِرْضِهِ ، فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الْإِمَامِ دُونَ بَيْتِ الْمَالِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ مِنْ فِعْلِ الْجَلَّادِ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ قَدْ فَوَّضَهُ إِلَى رَأْيِهِ ، وَوَكَّلَهُ إِلَى اجْتِهَادِهِ ، فَيَكُونُ خَطَؤُهُ فِيهِ كَخَطَأِ الْإِمَامِ ، فَيَكُونُ فِيمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الدِّيَةِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : عَلَى عَاقِلَتِهِ . وَالثَّانِي : فِي بَيْتِ الْمَالِ : لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِالتَّفْوِيضِ فِي حُكْمِ الْإِمَامِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ قَدْ أَمَرَهُ بِالْحَدِّ وَحَدَّدَهُ ، فَزَادَ الْجَلَّادُ عَلَيْهِ ،

فَيَضْمَنُهُ الْجَلَّادُ عَلَى عَاقِلَتِهِ قَوْلًا وَاحِدًا : لِحُدُوثِهَا عَنْ تَعَدِّيهِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْجَلَّادِ ، كَأَنْ أَمَرَهُ بِأَنْ يَحُدَّهُ ثَمَانِينَ فَحَدَّهُ مِائَةً ، فَمَاتَ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الضَّمَانَ مُقَسَّطٌ عَلَى أَعْدَادِ الضَّرْبِ في الحد ، ضَمِنَ الْإِمَامُ خُمُسَ الدِّيَةِ : لِأَنَّ ضَمَانَ الْإِمَامِ تَعَلَّقَ بِأَرْبَعِينَ مِنْ جُمْلَةِ مِائَةٍ . وَضَمِنَ الْجَلَّادُ خُمُسَ الدِّيَةِ : لِأَنَّ ضَمَانَهُ بِعِشْرِينَ مِنْ مِائَةٍ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الضَّمَانَ مُقَسَّطٌ عَلَى النَّوْعِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي زِيَادَةِ الْإِمَامِ وَالْجَلَّادِ ، هَلْ تَتَنَوَّعُ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تَتَنَوَّعُ ، فَيَكُونُ الْحَدُّ نَوْعًا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ضَمَانٌ ، وَزِيَادَةُ الْإِمَامِ نَوْعًا يَتَعَلَّقُ بِهِ الضَّمَانُ ، وَزِيَادَةُ الْجَلَّادِ نَوْعًا يَتَعَلَّقُ بِهِ الضَّمَانُ ، فَتُسْقِطُ ثُلُثَ الدِّيَةِ ، وَيَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ ثُلُثُهَا ، وَعَلَى الْجَلَّادِ ثُلُثُهَا : لِاخْتِلَافِ الْإِمَامِ وَالْجَلَّادِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا تَتَنَوَّعُ الزِّيَادَةُ ، وَإِنِ اخْتَلَفَ فَاعِلُهَا لِتَسَاوِيهَا فِي تَعَلُّقِ الضَّمَانِ بِهَا ، فَتُسْقِطُ نِصْفُ الدِّيَةِ وَيَضْمَنُ الْإِمَامُ رُبُعَهَا ، وَالْجَلَّادُ رُبُعَهَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ ضَرَبَ امْرَأَةً حَدًّا ، فَأُجْهِضَتْ لَمْ يَضْمَنْهَا وَضَمِنَ مَا فِي بَطْنِهَا : لِأَنَّهُ قَتَلَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا وَجَبَ الْحَدُّ عَلَى حَامِلٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ تُحَدَّ حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا ، وَيَسْكُنَ أَلَمُ نِفَاسِهَا : لْأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْغَامِدِيَّةِ ، حِينَ أَقَرَّتْ عِنْدَهُ بِالزِّنَا ، وَكَانَتْ حَامِلًا : " اذْهَبِي حَتَّى تَضَعِي حَمْلَكِ " ، وَلِأَنَّهُ إِذَا حَدَّهَا فِي حَالِ الْحَمْلِ أَفْضَى إِلَى تَلَفِهَا وَإِجْهَاضِ حَمْلِهَا ، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ مَحْظُورٌ . وَالْإِجْهَاضُ : أَنْ تُلْقِيَ جَنِينَهَا مَيْتًا . فَإِنْ أَلْقَتْهُ حَيًّا لَمْ يُسَمَّ إِجْهَاضًا . فَإِنْ حَدَّهَا فِي حَمْلِهَا ، فَلَهَا أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَبْقَى عَلَى حَالِ السَّلَامَةِ فِي نَفْسِهَا وَحَمْلِهَا ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الْإِمَامِ فِي حَدِّهَا ، وَهُوَ مُسِيءٌ إِنْ عَلِمَ بِحَمْلِهَا ، وَغَيْرُ مُسِيءٍ إِنْ لَمْ يَعْلَمْ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُجْهَضَ مَا فِي بَطْنِهَا وَتَسْلَمَ مِنَ التَّلَفِ ، فَيَضْمَنُ جَنِينَهَا بِغُرَّةِ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ : لِأَنَّ عُمَرَ ضَمِنَ جَنِينَ الْمَرْأَةِ الَّتِي أَرْهَبَهَا ، فَإِنْ عَلِمَ بِحَمْلِهَا ضَمِنَ جَنِينَهَا فِي مَالِهِ : لِأَنَّهُ مِنْ عَمْدِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِحَمْلِهَا فَهُوَ مِنْ خَطَئِهِ ، وَفِي دِيَةِ جَنِينِهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : عَلَى عَاقِلَتِهِ . وَالثَّانِي : فِي بَيْتِ الْمَالِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ تَمُوتَ مِنْ غَيْرِ إِجْهَاضٍ ، فَيُنْظَرُ فِي سَبَبِ مَوْتِهَا ، فَإِنْ كَانَ مِنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ حَامِلًا لَمْ يَضْمَنْهَا . وَإِنْ كَانَ مِنَ الْحَمْلِ الَّذِي يُتْلَفُ بِهِ

الْحُدُودُ ضَمِنَ دِيَتَهَا ، كَمَا يَضْمَنُهَا إِذَا جَلَدَهَا فِي شِدَّةِ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ . ثُمَّ إِنْ عَلِمَ بِحَمْلِهَا ، فَدِيَتُهَا عَلَى عَاقِلَتِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَعَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : عَلَى عَاقِلَتِهِ . وَالثَّانِي : فِي بَيْتِ الْمَالِ . وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يُجْهَضَ جَنِينُهَا وَتَمُوتَ ، فَيَضْمَنُ دِيَةَ جَنِينِهَا . فَأَمَّا دِيَةُ نَفْسِهَا فَمُعْتَبَرٌ بِسَبَبِ مَوْتِهَا ، فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ لِأَجْلِ الْحَدِّ ، فَلَا يَضْمَنُ دِيَتَهَا : لِحُدُوثِ تَلَفِهَا عَنْ وَاجِبٍ عَلَيْهَا . الْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ مِنْ إِجْهَاضِهَا فَيَضْمَنُ دِيَتَهَا : لِأَنَّهُ مِنْ عُدْوَانٍ عَلَيْهَا . الْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ مَوْتُهَا مِنَ الْحَدِّ وَالْإِجْهَاضِ مَعًا ، فَيَضْمَنُ نِصْفَ دِيَتِهَا : لِحُدُوثِ التَّلَفِ عَنْ سَبَبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَاجِبٌ ، وَالْآخَرُ : عُدْوَانٌ .

فَصْلٌ : وَإِذَا ذُكِرَتِ امْرَأَةٌ عِنْدَ الْإِمَامِ بِسُوءٍ ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا فَأَرْهَبَهَا ، فَأَجْهَضَتْ ذَا بَطْنِهَا فَمِنْ دِيَةِ جَنِينِهَا ، وَلَوْ مَاتَتْ هِيَ لَمْ يَضْمَنْهَا : لِأَنَّ الْإِرْهَابَ مُؤَثِّرٌ فِي إِجْهَاضِهَا ، وَغَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي تَلَفِهَا . وَلَوْ أَرْهَبَهَا الرَّسُولُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْإِمَامِ كَانَ الرَّسُولُ ضَامِنًا دُونَ الْإِمَامِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ حَدَّهُ بِشَهَادَةِ عَبْدَيْنِ أَوْ غَيْرِ عَدْلَيْنِ فِي أَنْفُسِهِمَا فَمَاتَ حد الإمام المحدود ، ضَمِنَتْهُ عَاقِلَتُهُ : لِأَنَّ كُلَّ هَذَا خَطَأٌ مِنْهُ فِي الْحُكْمِ ، وَلَيْسَ عَلَى الْجَانِي شَيْءٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا أَقَامَ الْإِمَامُ حَدًّا بِشَهَادَةِ عَبْدَيْنِ أَوْ فَاسِقَيْنِ أَوْ كَافِرَيْنِ فَمَاتَ الْمَحْدُودُ ، ضَمِنَ الْإِمَامُ دِيَتَهُ دُونَ الشُّهُودِ . وَلَوْ شَهِدَ عَدْلَانِ بِزُورٍ ، ضَمِنَ الشَّاهِدَانِ دِيَتَهُ دُونَ الْإِمَامِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ كَشْفَ الْعَدَالَةِ عَلَى الْإِمَامِ دُونَ الشُّهُودِ في الحدود ، فَصَارَ الْإِمَامُ ضَامِنًا لِتَقْصِيرِهِ . وَالصِّدْقُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشُّهُودِ ، دُونَ الْإِمَامِ في الشهادات فَضَمِنَ الشُّهُودَ لِكَذِبِهِمْ . وَالثَّانِي : أَنَّ غَيْرَ الْعَدْلِ لَيْسَ بِمُعْتَرِفٍ بِالتَّعَدِّي فَلَمْ يَضْمَنْ ، وَشَاهِدَ الزُّورِ مُعْتَرِفٌ بِالتَّعَدِّي فَضَمِنَ . فَأَمَّا الْجَالِدُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، سَوَاءٌ عَلِمَ بِرِقِّ الشَّاهِدَيْنِ أَوْ فِسْقِهِمَا أَوْ لَمْ يَعْلَمْ : لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِحُكْمِ الْإِمَامِ وَالْإِمَامُ آمِرُهُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ الْإِمَامُ لِلْجَالِدِ : إِنَّمَا أَضْرِبُ هَذَا ظُلْمًا ضَمِنَ الْجَالِدُ وَالْإِمَامُ مَعًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ قَدِ اسْتُوفِيَتْ فِي كِتَابِ الْجِنَايَاتِ . فَإِذَا أَمَرَ الْإِمَامُ

بِضَرْبِ رَجُلٍ أَوْ بِقَتْلِهِ ظُلْمًا ، فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَلَّا يَعْلَمَ الْجَلَّادُ بِظُلْمِ الْإِمَامِ ، أَوْ يَعْتَقِدَ فِيهِ أَنَّهُ بِحَقٍّ : لِأَنَّ الْإِمَامَ الْعَادِلَ لَا يُقْدِمُ عَلَى الْقَتْلِ إِلَّا بِحَقٍّ . فَالضَّمَانُ عَلَى الْإِمَامِ دُونَ الْجَلَّادِ : لِأَنَّهُ مُلْتَزِمٌ لِلطَّاعَةِ ، فَقَامَ أَمْرُهُ مَقَامَ فِعْلِهِ لِنُفُوذِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَعْلَمَ الْجَلَّادُ بِظُلْمِ الْإِمَامِ ، إِمَّا بِأَنْ يَقُولَ لَهُ : الْإِمَامُ أَنِ اضْرِبْ هَذَا ظُلْمًا بِغَيْرِ حَدٍّ . أَوْ يَعْلَمَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ الْإِمَامِ ، وَلَا يَكُونُ مِنَ الْإِمَامِ إِكْرَاهٌ لِلْجَلَّادِ ، فَالضَّمَانُ هُنَا عَلَى الْجَلَّادِ دُونَ الْإِمَامِ فِي الْقَوَدِ وَالدِّيَةِ : لِأَنَّهُ مُخْتَارٌ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَعْلَمَ الْجَلَّادُ بِظُلْمِ الْإِمَامِ ، وَالْإِمَامُ مُكْرِهٌ لَهُ عَلَيْهِ ، فَلَا قَوَدَ عَلَى الْإِمَامِ إِلَّا مِنْ وَاجِبٍ ، وَفِي وُجُوبِهِ عَلَى الْجَلَّادِ الْمُبَاشِرِ قَوْلَانِ . فَإِنْ سَقَطَ الْقَوَدُ ، فَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ لَوْ وَجَبَ كَانَ عَلَيْهِ مَعَ سُقُوطِ الْقَوَدِ عَنْهُمَا . وَإِنْ قِيلَ : لَوْ وَجَبَ كَانَ عَلَى الْإِمَامِ دُونَ الْجَلَّادِ . فَفِي الدِّيَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : عَلَى الْإِمَامِ وَحْدَهُ ، اعْتِبَارًا بِالْقَوَدِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ عَنِ الْجَلَّادِ بِأَيِّ عِلَّةٍ سَقَطَ . فَعَلَى تَعْلِيلِ الْبَغْدَادِيِّينَ أَنَّ سُقُوطَ الْقَوَدِ لِشُبْهَةِ الْإِكْرَاهِ ، فَعَلَى هَذَا : تَكُونُ الدِّيَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ . وَعَلَى تَعْلِيلِ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ سُقُوطَ الْقَوَدِ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ نَقْلُ حُكْمِ الْفِعْلِ إِلَى الْمُكْرَهِ ، فَعَلَى هَذَا : تَكُونُ الدِّيَةُ كُلُّهَا عَلَى الْإِمَامِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ الْجَالِدُ : قَدْ ضَرَبْتُهُ وَأَنَا أَرَى الْإِمَامَ مُخْطِئًا ، وَعَلِمْتُ أَنَّ ذَلِكَ رَأْيُ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ . ضَمِنَ إِلَّا مَا غَابَ عَنْهُ بِسَبَبِ ضَرْبِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا أَمَرَ الْجَلَّادَ بِقَتْلٍ أَوْ جَلْدٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ ، كَقَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ ، وَالْحُرِّ بِالْعَبْدِ ، وَحَدِّ الزِّنَا بِشَهَادَةِ الرَّاوِيَيْنِ وَحَدِّ الْقَذْفِ فِي التَّعْرِيضِ ، لَمْ يَخْلُ حَالُهُمَا فِيهِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَعْتَقِدَ الْإِمَامُ وَالْجَلَّادُ وُجُوبَهُ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَوَدًا وَلَا دِيَةً ، وَلَا تَكُونُ مُخَالَفَةُ غَيْرِهَا مَانِعًا مِنْ نُفُوذِ الْحُكْمِ بِالِاجْتِهَادِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَعْتَقِدَاهُ غَيْرَ وَاجِبٍ ، فَالضَّمَانُ فِيهِ وَاجِبٌ وَلَا تَكُونُ مُخَالَفَةُ غَيْرِهَا مُسْقِطَةٌ لِلضَّمَانِ ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ : لِأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى قَتْلٍ يَعْتَقِدُ حَظْرَهُ ، لِأَنَّ غَيْرَهُ أَبَاحَهُ ، وَإِذَا وَجَبَ الضَّمَانُ فَإِنْ كَانَ الْجَلَّادُ غَيْرَ مُكْرَهٍ ، فَالضَّمَانُ عَلَى الْجَلَّادِ دُونَ الْإِمَامِ . وَإِنْ كَانَ مُكْرَهًا ، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ . وَإِذَا وَجَبَ الضَّمَانُ لَمْ يَخْلُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ نَصٌّ أَوْ لَا نَصَّ فِيهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ

فِيهِ نَصٌّ كَحَدِّ الزِّنَا بِشَهَادَةِ الرَّاوِيَيْنِ وَحَدِّ الْقَذْفِ بِالتَّعْرِيضِ ، فَالضَّمَانُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الدِّيَةِ دُونَ الْقَوَدِ . وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَصٌّ كَقَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الْقَوَدَ فِيهِ وَاجِبٌ : لِأَجْلِ النَّصِّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا قَوَدَ فِيهِ : لِشُبْهَةِ الِاخْتِلَافِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَعْتَقِدَ الْإِمَامُ وُجُوبَهُ ، وَيَعْتَقِدَ الْجَلَّادُ حَظْرَهُ ، فَإِنْ أُكْرِهَ الْجَلَّادُ عَلَى اسْتِيفَائِهِ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْإِمَامِ لِاجْتِهَادِهِ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْجَلَّادِ لِإِكْرَاهِهِ ، وَإِنْ لَمْ يُكْرَهِ الْجَلَّادُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْإِمَامِ ، وَفِي ضَمَانِهِ عَلَى الْجَلَّادِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ مُنَفِّذٌ لِحُكْمٍ نَفَذَ بِاجْتِهَادٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : عَلَيْهِ الضَّمَانُ لِإِقْدَامِهِ مُخْتَارًا عَلَى اسْتِهْلَاكِ مَا يَعْتَقِدُ وُجُوبَ ضَمَانِهِ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يَعْتَقِدَ الْإِمَامُ حَظْرَهُ ، وَيَعْتَقِدَ الْجَلَّادُ وُجُوبَهُ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَرُدَّهُ الْإِمَامُ إِلَى اجْتِهَادِ الْجَلَّادِ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، أَمَّا الْإِمَامُ فَلِعَدَمِ فِعْلِهِ ، وَأَمَّا الْجَلَّادُ فَلِنُفُوذِ اجْتِهَادِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَأْمُرَ الْإِمَامُ بِهِ ، وَلَا يَرُدَّهُ إِلَى اجْتِهَادِهِ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْجَلَّادِ ، سَوَاءٌ كَانَ مُكْرَهًا أَوْ غَيْرَ مُكْرَهٍ : لِأَنَّهُ اسْتَوْفَاهُ بِإِذْنٍ مُطَاعٍ مَا يَرَاهُ مُسَوَّغًا فِي الِاجْتِهَادِ . فَأَمَّا الْإِمَامُ فَإِنْ لَمْ يُكْرِهِ الْجَلَّادَ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ أَكْرَهَهُ ضَمِنَ : لِأَنَّهُ اتِّجَاهٌ إِلَى مَا لَا يُسَوَّغُ فِي اجْتِهَادِهِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ : اضْرِبْهُ ثَمَانِينَ . فَزَادَ سَوْطًا ، فَمَاتَ فَلَا يَجُوزُ فِيهِ إِلَّا وَاحِدٌ مِنْ قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ ، كَمَا لَوْ جَنَى رَجُلَانِ عَلَيْهِ ، أَحَدُهُمَا بِضَرْبَةٍ وَالْآخَرُ بِثَمَانِينَ ، ضَمِنَا الدِّيَةَ نِصْفَيْنِ . أَوْ سَهْمًا مِنْ وَاحِدٍ وَثَمَانِينَ سَهْمًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي نَظَائِرِهَا : وَهُوَ أَنْ يَأْمُرَ الْإِمَامُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ وَهُوَ ثَمَانُونَ فَيَضْرِبُهُ الْجَلَّادُ أَحَدًا وَثَمَانِينَ فَيَمُوتُ ، فَهَذَا مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ ، وَفِي قَدْرِ مَا يَضْمَنُ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : نِصْفُ الدِّيَةِ : لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ نَوْعَيْ إِبَاحَةٍ وَحَظْرٍ ، وَقَدْ شَبَّهَهُ الشَّافِعِيُّ بِالْجِنَايَاتِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنْ يَضْمَنَ جُزْءًا مِنْ وَاحِدٍ وَثَمَانِينَ جُزْءًا مِنَ الدِّيَةِ اعْتِبَارًا بِعَدَدِ

الضَّرْبِ ، وَإِذَا وَجَبَ الضَّمَانُ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : أَنْ يَكُونَ عَنْ أَمْرِ الْإِمَامِ ، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِ دُونَ الْجَلَّادِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مِنْ فِعْلِ الْجَلَّادِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً ، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِ دُونَ الْإِمَامِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَضْرِبَ الْجَلَّادُ وَالْإِمَامُ يَعُدُّ ، فَأَخْطَأَ الْإِمَامُ فِي عَدَدِهِ ، فَالضَّمَانُ عَلَى الْإِمَامِ دُونَ الْجَلَّادِ : لِأَنَّ الزِّيَادَةَ مَنْسُوبَةٌ إِلَى الْعَدَدِ ، فَصَارَ الضَّمَانُ عَلَى الْعَادِّ دُونَ الْجَلَّادِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِذَا خَافَ رَجُلٌ نُشُوزَ امْرَأَتِهِ فَضَرَبَهَا فَمَاتَتْ ، فَالْعَقْلُ عَلَى الْعَاقِلَةِ : لِأَنَّ ذَلِكَ إِبَاحَةٌ وَلَيْسَ بِفَرْضٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، يَجُوزُ لِلرَّجُلِ إِذَا خَافَ نُشُوزَ امْرَأَتِهِ أَنْ يَضْرِبَهَا : لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ . وَهَذَا الضَّرْبُ مُبَاحٌ عَلَى وَجْهِ التَّأْدِيبِ ، وَالِاسْتِصْلَاحِ ضرب الزوج زوجته ، لَمْ يَرِدِ الشَّرْعُ بِتَقْدِيرِهِ ، وَلَمْ يُجِزْ أَنْ يَبْلُغَ بِهِ أَدْنَى الْحَدِّ ، فَصَارَ أَكْثَرُهُ تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ كَالتَّعْزِيرِ . فَأَمَّا جِنْسُ مَا يُضْرَبُ بِهِ فَهُوَ الثَّوْبُ وَالنَّعْلُ ، وَأَكْثَرُهُ الْعَصَا ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِالسَّوْطِ : لِخُرُوجِهِ عَنِ الْعُرْفِ وَلِنَقْصِهِ عَنْ أَحْكَامِ الْحُدُودِ . فَإِنْ ضَرْبَهَا فَأَفْضَى الضَّرْبُ إِلَى تَلَفِهَا . . . . رُوعِيَ الضَّرْبُ ، فَإِنْ كَانَ خَارِجًا عَنِ الْعُرْفِ مُتْلِفًا مِثْلُهُ فِي الْغَالِبِ ، فَالْقَوَدُ عَلَيْهِ وَاجِبٌ ، وَإِنْ كَانَ جَارِيًا عَلَى الْعُرْفِ غَيْرَ مُتْلِفٍ فِي الْغَالِبِ ، كَانَتْ عَلَيْهِ الدِّيَةُ ، تَتَحَمَّلُهَا عَنْهُ الْعَاقِلَةُ : لِأَنَّهُ ضَرْبٌ أُبِيحَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِصْلَاحِ يُتَوَصَّلُ إِلَيْهِ بِالِاجْتِهَادِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّلَفُ بِهِ مَضْمُونًا ، كَمَا ضَمِنَ عُمَرُ جَنِينَ الْمُجْهَضَةِ : لِأَنَّ الِاسْتِصْلَاحَ يَكُونُ مَعَ بَقَاءِ النَّفْسِ ، فَإِذَا صَارَ مُتْلِفًا لَمْ يَكُنِ اسْتِصْلَاحًا . فَإِنْ قِيلَ : فَيَقْتَصِرُ عَلَى اعْتِبَارِ هَذَا التَّعْلِيلِ ، أَنْ يَكُونَ الرَّامِي لِمَنِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنْ شِقَّ بَابٍ فَقَلَعَ عَيْنَهُ أَنْ يَضْمَنَهَا : لِأَنَّهُ اسْتَبَاحَ الرَّمْيَ اسْتِصْلَاحًا . قِيلَ : لَا يَضْمَنُ عَيْنَهُ : لِأَنَّ مَحَلَّ الرَّمْيِ قَدْ تَعَيَّنَ فِي الْعَيْنِ ، فَلَمْ يَضْمَنْهَا ، وَلَيْسَ كَالضَّرْبِ الَّذِي لَا يَتَعَيَّنُ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْبَدَنِ . فَإِنْ قِيلَ : عَلَى اعْتِبَارِ هَذَا التَّعْلِيلِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَنْ دَفَعَ رَجُلًا عَنْ نَفْسِهِ بِضَرْبٍ أَفْضَى إِلَى تَلَفِهِ ، أَنْ يَكُونَ ضَامِنًا لِنَفْسِهِ : لِأَنَّ ضَرْبَهُ يَتَعَيَّنُ فِي مَوْضِعٍ مِنْ بَدَنِهِ . قِيلَ : لَا يَضْمَنُهُ : لِأَنَّ قَتْلَهُ مُبَاحٌ لَهُ إِذَا كَانَ لَا يَنْدَفِعُ عَنْهُ إِلَّا بِالْقَتْلِ ، فَلَمْ يَكُنْ كَغَيْرِهِ مِنْ ضَرْبِ التَّأْدِيبِ الْمَقْصُورِ عَلَى الِاسْتِصْلَاحِ ، وَهَكَذَا ضَرْبُ الْمُعَلِّمِ وَالْأَبِ لِلصَّبِيِّ : لِأَنَّ

الْمَقْصُودَ بِهِ الِاسْتِصْلَاحُ وَالتَّأْدِيبُ ، فَإِذَا أَفْضَى إِلَى التَّلَفِ كَانَ مَضْمُونًا بِالدِّيَةِ . فَإِنْ قِيلَ : فَيَقْتَضِي عَلَى اعْتِبَارِ هَذَا التَّعْلِيلِ أَنْ يَكُونَ ضَرْبُ الضَّارِبِ إِذَا أَفْضَى إِلَى تَلَفِ الدَّابَّةِ أَنْ يَضْمَنَهَا . قِيلَ : لَا يَضْمَنُهَا : لِأَنَّهُ لَا يُسْتَغْنَى عَنْ ضَرْبِهَا بِغَيْرِهِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ زَجْرٍ ، وَقَدْ يُسْتَغْنَى عَنْ ضَرْبِ الصَّبِيِّ بِالْقَوْلِ وَالزَّجْرِ ، فَتَعَيَّنَ ضَرْبُ الدَّابَّةِ فَلَمْ يَضْمَنْهَا ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ ضَرْبُ الصَّبِيِّ فَضَمِنَهُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ عَزَّرَ الْإِمَامُ رَجُلًا فَمَاتَ ، فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ ، وَالْكَفَّارَةُ فِي مَالِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا التَّعْزِيرُ : فَتَأْدِيبٌ عَلَى ذُنُوبٍ لَمْ تُشْرَعْ فِيهَا الْحُدُودُ . وَالْكَلَامُ فِيهِ مُشْتَمِلٌ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي صِفَتِهِ . وَالثَّانِي : فِي حُكْمِهِ . فَأَمَّا صِفَتُهُ : فَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الذَّنْبِ ، وَاخْتِلَافِ فَاعِلِهِ ، فَيُوَافِقُ الْحُدُودَ فِي اخْتِلَافِهِ بِاخْتِلَافِ الذُّنُوبِ . وَيُخَالِفُ الْحُدُودَ فِي الْفَاعِلِ ، فَيَخْتَلِفُ التَّعْزِيرُ بِاخْتِلَافِ الْفَاعِلِ ، فَيَكُونُ تَعْزِيرُ ذِي الْهَيْئَةِ أَخَفَّ مِنْ تَعْزِيرِ ذِي السَّفَاهَةِ . وَيَسْتَوِي فِي الْحُدُودِ ذُو الْهَيْئَةِ وَذُو السَّفَاهَةِ : لِأَنَّ الْحُدُودَ نُصُوصٌ فَاسْتَوَى الْكَافَّةُ فِيهَا . وَالتَّعْزِيرُ اجْتِهَادٌ فِي الِاسْتِصْلَاحِ ، فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ . رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : تَجَافَوْا لِذَوِي الْهَيْئَاتِ عَنْ عَثَرَاتِهِمْ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ نَزَلَ التَّعْزِيرُ بِاخْتِلَافِ الذُّنُوبِ وَاخْتِلَافِ فَاعِلِيهَا ، عَلَى أَرْبَعِ مَرَاتِبَ : فَالْمَرْتَبَةُ الْأُولَى : التَّعْزِيرُ بِالْكَلَامِ . وَالْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ : التَّعْزِيرُ بِالْحَبْسِ . وَالْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ : التَّعْزِيرُ بِالنَّفْيِ . ثُمَّ الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ : التَّعْزِيرُ بِالضَّرْبِ ، يَنْدَرِجُ ذَلِكَ فِي النَّاسِ حَسَبَ مَنَازِلِهِمْ . فَيَكُونُ تَعْزِيرُ مَنْ جَلَّ قَدْرُهُ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ . وَتَعْزِيرُ مَنْ دُونَهُ بِالتَّعْنِيفِ لَهُ . وَتَعْزِيرُ مَنْ

دُونَهُ بِزَوَاجِرِ الْكَلَامِ . وَغَايَتُهُ الِاسْتِخْفَافُ الَّذِي لَا قَذْفَ فِيهِ وَلَا سَبَّ . ثُمَّ يَعْدِلُ عَنْ ذَلِكَ إِلَى الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ ، وَهُوَ الْحَبْسُ يُنْزَلُونَ فِيهِ عَلَى حَسَبِ مَنَازِلِهِمْ ، وَبِحَسَبِ ذُنُوبِهِمْ . فَمِنْهُمْ مَنْ يُحْبَسُ يَوْمًا ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُحْبَسُ أَكْثَرَ مِنْهُ إِلَى غَايَةٍ غَيْرِ مُقَدَّرَةٍ ، بِقَدْرِ مَا يُؤَدِّي الِاجْتِهَادُ إِلَيْهَا ، وَيَرَى الْمَصْلَحَةَ فِيهَا . وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ يَتَقَدَّرُ غَايَتُهُ بِشَهْرٍ لِلِاسْتِبْرَاءِ وَالْكَشْفِ ، وَبِسِتَّةِ أَشْهُرٍ لِلتَّأْدِيبِ وَالتَّقْوِيمِ . ثُمَّ يَعْدِلُ بِمَنْ دُونَ ذَلِكَ إِلَى الرُّتْبَةِ الثَّالِثَةِ ، وَهِيَ النَّفْيُ وَالْإِبْعَادُ . وَهَذَا وَالْحَبْسُ فِيمَنْ تَعَدَّتْ ذُنُوبُهُ إِلَى اجْتِذَابِ غَيْرِهِ إِلَيْهَا ، وَاسْتِضْرَارِهِ بِهَا التعزير بالحبس ، وَاخْتُلِفَ فِي غَايَةِ نَفْيِهِ وَإِبْعَادِهِ . فَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهُ يُقَدَّرُ الْأَكْثَرُ بِمَا دُونَ السَّنَةِ وَلَوْ بِيَوْمٍ : لِئَلَّا يَصِيرَ مُسَاوِيًا لِتَغْرِيبِ السَّنَةِ فِي الزِّنَا . وَظَاهِرُ مَذْهَبِ مَالِكٍ : أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُزَادَ فِيهِ عَلَى السَّنَةِ ، بِمَا يَرَى أَسْبَابَ الِاسْتِقَامَةِ ، ثُمَّ يَعْدِلُ عَنْ دُونِ ذَلِكَ إِلَى الضَّرْبِ ، يَنْزِلُونَ فِيهِ عَلَى حَسَبِ ذُنُوبِهِمْ . وَاخْتُلِفَ فِي أَكْثَرِ مَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ ضَرْبُ التَّعْزِيرِ . فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ : أَنَّ أَكْثَرَهُ فِي الْحُرِّ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ ، وَفِي الْعَبْدِ تِسْعَةَ عَشْرَةَ ، يَنْتَقِصُ لِيَنْقُصَ عَنْ أَقَلِّ الْحُدُودِ فِي الْخَمْرِ ، وَهُوَ أَرْبَعُونَ فِي الْحُرِّ ، وَعِشْرُونَ فِي الْعَبْدِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : أَكْثَرُهُ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ فِي الْحُرِّ وَالْعَبْدِ . وَقَالَ مَالِكٌ : لَا حَدَّ لِأَكْثَرِهِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى أَكْثَرِ الْحُدُودِ . وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ : تَعْزِيرُ كُلِّ ذَنْبٍ مُسْتَنْبَطٌ مِنَ الْمَشْرُوعِ فِي جِنْسِهِ ، فَأَعْلَاهُ فِيمَنْ تَعَرَّضَ لِشُرْبِ الْخَمْرِ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ : لِأَنَّ حَدَّ الْخَمْرِ أَرْبَعُونَ . وَأَعْلَاهُ فِيمَنْ يُعَرِّضُ بِالزِّنَا خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ : لِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ ثَمَانُونَ ، ثُمَّ جَعَلَهُ مُعْتَبَرًا بِاخْتِلَافِ الْأَسْبَابِ فِي التَّعْرِيضِ بِالزِّنَا ، فَإِنْ وَجَدَهُ يَنَالُ مِنْهَا مَا دُونَ الْفَرْجِ ضَرَبَهُ أَكْثَرَ لِلتَّعْزِيرِ وَهُوَ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ سَوْطًا ، وَإِنْ وُجِدَا عُرْيَانَيْنِ فِي إِزَارٍ قَدْ تَضَامَّا أَنَّهُمَا لَا حَائِلَ بَيْنَهُمَا ، ضُرِبَا سِتِّينَ سَوْطًا . فَإِنْ وُجِدَا عُرْيَانَيْنِ فِي إِزَارٍ غَيْرَ مُتَضَامَّيْنِ : ضُرِبَا خَمْسِينَ سَوْطًا ، وَإِنْ وُجِدَا فِي بَيْتٍ مُبْتَذَلَيْنِ قَدْ كَشَفَا سَوْءَاتِهِمَا ضُرِبَا أَرْبَعِينَ سَوْطًا ، وَإِنْ وُجِدَا فِيهِ مَسْتُورَيِ السَّوْءَةِ ضُرِبَا ثَلَاثِينَ سَوْطًا ، وَإِنْ وُجِدَا فِي طَرِيقٍ مُتَحَادِثَيْنِ بِفُجُورِهِمَا ضُرِبَا عِشْرِينَ سَوْطًا ، وَإِنْ وُجِدَا فِيهِ يُشِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى الْآخَرِ بِالرِّيبَةِ ضُرِبَا عَشَرَةَ أَسْوَاطٍ . وَإِنْ وُجِدَا فِيهِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَتْبَعُ صَاحِبَهُ ضُرِبَا خَفَقَاتٍ ، عَلَى غَيْرِ هَذَا فِيمَا عَدَاهُ .

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : أَكْثَرُ التَّعْزِيرِ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ وَلَا اسْتِنْبَاطٍ مِنْ ذُنُوبِ الْحُدُودِ . وَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ : أَظْهَرُ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ بَلَغَ بِمَا لَيْسَ بِحَدٍّ حَدًّا ، فَهُوَ مِنَ الْمُعْتَدِينَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَقَلُّ مَا قِيلَ فِيهِ . وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : جَنْبُ الْمُؤْمِنِ حِمًى . وَأَمَّا إِشْهَارُ الْمُعَزَّرِ فِي النَّاسِ حكمه فَجَائِزٌ إِذَا أَدَّى الِاجْتِهَادُ إِلَيْهِ : لِيَكُونَ زِيَادَةً فِي نَكَالِ التَّعْزِيرِ ، وَأَنْ يُجَرَّدَ مِنْ ثِيَابِهِ إِلَّا قَدْرَ مَا يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ ، وَيُنَادَى عَلَيْهِ بِذَنْبِهِ إِذَا تَكَرَّرَ مِنْهُ ، وَلَمْ يُقْلِعْ عَنْهُ . وَيَجُوزُ أَنْ يُحْلَقَ شَعْرُ رَأْسِهِ ، وَلَا يَجُوزَ أَنْ يُحْلَقَ شَعْرُ لِحْيَتِهِ . وَاخْتُلِفَ فِي جَوَازِ تَسْوِيدِ وَجْهِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : يُجَوِّزُ أَحَدُهُمَا ، وَيُمْنَعُ مِنْهُ فِي الْآخَرِ . وَيَجُوزُ أَنْ يُصْلَبَ فِي التَّعْزِيرِ حَيًّا : قَدْ صَلَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا عَلَى جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ أَبُو نَابٍ ، وَلَا يُمْنَعُ إِذَا صُلِبَ مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ ، وَلَا يُمْنَعُ مِنَ الْوُضُوءِ لِلصَّلَاةِ ، وَيُصَلِّي مُومِئًا ، وَيُعِيدُ إِذَا أَرْسَلَ ، وَلَا يَتَجَاوَزُ صَلْبُهُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا حُكْمُ التَّعْزِيرِ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الْحُدُودِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي الْوُجُوبِ وَالْإِبَاحَةِ . وَالثَّانِي : فِي حُدُوثِ التَّلَفِ عَنْهُ . فَأَمَّا الْحُكْمُ الْأَوَّلُ فِي الْوُجُوبِ وَالْإِبَاحَةِ : فَالتَّعْزِيرُ مُبَاحٌ يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ ، وَالْحُدُودُ وَاجِبَةٌ لَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ كَانَ لَا يَرْتَدِعُ بِغَيْرِ التَّعْزِيرِ ، وَجَبَ تَعْزِيرُهُ وَلَمْ يَجُزِ الْعَفْوُ عَنْهُ ، وَإِنْ كَانَ يَرْتَدِعُ بِغَيْرِهِ كَانَ عَلَى خِيَارِ الْإِمَامِ فِي تَعْزِيرِهِ وَالْعَفْوِ عَنْهُ . وَدَلِيلُنَا : مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اعْدِلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ . فَقَالَ : لْقَدْ شَقِيتَ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ وَلَمْ يُعَزِّرْهُ ، وَإِنْ كَانَ مَا قَالَهُ يَقْتَضِيهِ ، وَحَكَمَ بَيْنَ الزُّبَيْرِ وَرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي شِرْبٍ بَيْنَهُمَا ، فَقَالَ لِلزُّبَيْرِ : اسْقِ أَنْتَ ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَيْهِ . فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّهُ ابْنُ عَمَّتِكَ ، أَيْ : قَدَّمْتَهُ لْقَرَابَتِهِ لَا بِحَقِّهِ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَالَ لِلزُّبَيْرِ : احْبِسِ الْمَاءَ فِي أَرْضِكَ إِلَى الْكَعْبَيْنِ .

وَفِيهِ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [ النِّسَاءِ : 65 ] وَلَمْ يُعَزِّرْهُ وَإِنْ كَانَ مَا قَالَهُ يَقْتَضِيهِ . وَلِأَنَّ التَّعْزِيرَ تَأْدِيبٌ ، فَأَشْبَهَ تَأْدِيبَ الْأَبِ وَالْمُعَلِّمِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ عُثْمَانُ ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ ، لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي إِجْهَاضِ الْمَرْأَةِ : لَا شَيْءَ عَلَيْكَ ، إِنَّمَا أَنْتَ مُعَلِّمٌ . فَإِذَا صَحَّ جَوَازُ الْعَفْوِ عَنْهُ ، فَهُوَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا تَعَلَّقَ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى . وَالثَّانِي : مَا تَعَلَّقَ بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ . فَأَمَّا الْمُتَعَلِّقُ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى : فَكَالتَّعْزِيرِ بِأَسْبَابِ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ مما يتعلق بحق الله ، فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالْعَفْوِ عَنْهُ إِذَا رَأَى ذَلِكَ صَلَاحًا لَهُ ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ وَيَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى خِيَارِهِ فِي الصُّلْحِ . وَأَمَّا الْمُتَعَلِّقُ بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ : فَكَالْمُوَاثَبَةِ وَالْمُشَاتَمَةِ ، فَفِيهِ حَقٌّ لِلْمَشْتُومِ وَالْمَضْرُوبِ ، وَحَقُّ الْإِمَامِ فِي التَّقْوِيمِ وَالتَّهْذِيبِ ، فَلَا يَصِحُّ الْعَفْوُ عَنِ التَّعْزِيرِ فِيهِ إِلَّا بِاجْتِمَاعِهِمَا عَلَيْهِ . فَإِنْ عَفَا الْإِمَامُ عَنْهُ لَمْ يَسْقُطْ حَقُّ الْمَضْرُوبِ مِنْهُ ، وَكَانَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ . وَإِنْ عَفَا عَنْهُ الْمَضْرُوبُ وَالْمَشْتُومُ نُظِرَ فِي عَفْوِهِ ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ التَّرَافُعِ إِلَى الْإِمَامِ لَمْ يَسْقُطْ حَقُّ الْإِمَامِ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِتَعْزِيرِهِ إلَّا أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ . وَإِنْ كَانَ قَبْلَ التَّرَافُعِ إِلَى الْإِمَامِ ، فَفِي سُقُوطِ حَقِّ الْإِمَامِ مِنْهُ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيِّ قَدْ سَقَطَ حَقُّهُ مِنْهُ ، وَلَيْسَ لَهُ التَّعْزِيرُ فِيهِ ، كَالْعَفْوِ عَنْ حَدِّ الْقَذْفِ يَمْنَعُ الْإِمَامَ مِنَ اسْتِيفَائِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَظْهَرُ لَا يَسْقُطُ حَقُّ الْإِمَامِ مِنْهُ : لِأَنَّ التَّقْوِيمَ فِيهِ مِنْ حُقُوقِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ ، فَلَوْ تَشَاتَمَا ، وَتَوَاثَبَ وَالِدٌ مَعَ وَلَدِهِ ، سَقَطَ تَعْزِيرُ الْوَالِدِ فِي حَقِّ وَلَدِهِ ، وَلَمْ يَسْقُطْ تَعْزِيرُ الْوَلَدِ فِي حَقِّ وَالِدِهِ : لِأَنَّ الْوَالِدَ لَا يُحَدُّ لِوَلَدِهِ ، وَيُحَدُّ الْوَلَدُ لِوَالِدِهِ . وَلَا يَسْقُطُ حَقُّ الْإِمَامِ فِي تَعْزِيرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، فَيَكُونُ تَعْزِيرُ الْوَالِدِ مُخْتَصًّا بِالْإِمَامِ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْوَالِدِ وَالْإِمَامِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّانِي فِي حُدُوثِ التَّلَفِ عَنْهُ أي التعزير فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَى الْإِمَامِ ، سَوَاءٌ اسْتَوْفَاهُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى ، أَوْ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَضْمَنُهُ فِي الْحَالَيْنِ ، سَوَاءٌ أَوْجَبَهُ أَوْ أَبَاحَهُ كَالْحُدُودِ : لِحُدُوثِهِ عَنْ تَأْدِيبٍ مُسْتَحَقٍّ . وَدَلِيلُنَا : قَضِيَّةُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي إِجْهَاضِ الْمَرْأَةِ جَنِينَهَا حِينَ بَعَثَ إِلَيْهَا رَسُولًا

أَرْهَبَهَا ، فَشَاوَرَ عُثْمَانَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ فَقَالَا : لَا شَيْءَ عَلَيْكَ ، إِنَّمَا أَنْتَ مُعَلِّمٌ . فَشَاوَرَ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَ : إِنْ كَانَ صَاحِبَاكَ مَا اجْتَهَدَا فَقَدْ غَشَّا ، وَإِنْ كَانَ قَدِ اجْتَهَدَا فَقَدْ أَخْطَآ ، عَلَيْكَ الدِّيَةُ . فَقَالَ عُمَرُ لَعَلِيٍّ : عَزَمْتُ عَلَيْكَ أَلَّا تَبْرَحَ حَتَّى تَضْرِبَهَا عَلَى قَوْمِكَ . فَكَانَ سُكُوتُ عُثْمَانَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ الْجَوَابِ رُجُوعًا مِنْهُمَا إِلَى قَوْلِ عَلِيٍّ ، فَصَارَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا مِنْ جَمِيعِهِمْ . وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ : مَا أَحَدٌ يَمُوتُ فِي حَدٍّ يُقَامُ عَلَيْهِ فَأَجِدُ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ، إِلَّا شَارِبَ الْخَمْرِ فَإِنَّهُ شَيْءٌ رَأَيْنَاهُ ، فَإِنْ مَاتَ فَدِيَتُهُ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ . أَوْ قَالَ : عَلَى عَاقِلَةِ الْإِمَامِ . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّعْزِيرَ مَضْمُونٌ : وَلِأَنَّ التَّعْزِيرَ لَمَّا نَقَصَ عَنْ قَدْرِ الْحُدُودِ خَالَفَ حُكْمَهَا فِي الضَّمَانِ ، كَضَرْبِ الْأَبِ وَالْمُعَلِّمِ ، فَإِذَا ضَمِنَ الْإِمَامُ دِيَةَ التَّالِفِ بِالتَّعْزِيرِ ، فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي مَحَلِّهَا قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : عَلَى عَاقِلَةِ الْإِمَامِ ، وَتَكُونُ الْكَفَّارَةُ فِي مَالِهِ . وَالثَّانِي : فِي بَيْتِ الْمَالِ ، وَفِي الْكَفَّارَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : فِي مَالِهِ . وَالثَّانِي : فِي بَيْتِ الْمَالِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِذَا كَانَتْ بِرَجُلٍ سِلْعَةٌ فَأَمَرَ السُّلْطَانُ بِقَطْعِهَا ، أَوْ أَكَلَةٌ فَأَمَرَ بِقَطْعِ عُضْوٍ مِنْهُ فَمَاتَ ، فَعَلَى السُّلْطَانِ الْقَوَدُ فِي الْمُكْرَهِ . وَقَدْ قِيلَ : عَلَيْهِ الْقَوَدُ فِي الَّذِي لَا يَعْقِلُ . وَقِيلَ : لَا قَوَدَ عَلَيْهِ فِي الَّذِي لَا يَعْقِلُ وَعَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ ، وَأَمَّا غَيْرُ السُّلْطَانِ يَفْعَلُ هَذَا فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا السِّلْعَةُ : بِكَسْرِ السِّينِ ، فَهِيَ الْعُقْدَةُ الْبَارِزَةُ مِنَ الْبَدَنِ . وَأَمَّا السَّلْعَةُ : بِفَتْحِ السِّينِ ، فَهِيَ الشَّجَّةُ الدَّاخِلَةُ فِي الرَّأْسِ . وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ فِي إِنْسَانٍ بِهِ سِلْعَةٌ أَوْ أَكَلَةٌ ، فَقُطِعَتْ مِنْهُ السِّلْعَةُ ، أَوْ عُضْوُ الْأَكَلَةِ فَمَاتَ ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ جَائِزَ الْأَمْرِ أَوْ مُوَلًّى عَلَيْهِ . فَإِنْ كَانَ جَائِزَ الْأَمْرِ بِالْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ لَمْ يَخْلُ أَنْ تُقْطَعَ بِإِذْنِهِ ، أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ . فَإِنْ قُطِعَتْ بِإِذْنِهِ ، فَلَا قَوَدَ عَلَى قَاطِعِهَا سَوَاءٌ كَانَ قَطْعُهَا مُخَوِّفًا ، أَوْ غَيْرَ مُخَوِّفٍ : لِأَنَّ فِي الْإِذْنِ إِبْرَاءً . وَفِي وُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ ، بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي دِيَةِ الْقَتِيلِ ، هَلْ تَجِبُ لَهُ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ أَوْ تَجِبُ ابْتِدَاءً لِلْوَرَثَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ ؟ فَإِنْ قِيلَ : تَجِبُ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ ، فَلَا دِيَةَ عَلَى الْقَاطِعِ لِإِبْرَائِهِ مِنْهَا بِالْإِذْنِ . وَإِنْ قِيلَ : تَجِبُ لِوَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ ، فَعَلَى الْقَاطِعِ الدِّيَةُ ، لِأَنَّ الْمُسْتَبْرِئَ مِنْهَا غَيْرُ

الْمُسْتَحِقِّ لَهَا . وَإِنْ قَطَعَهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ ، سَوَاءٌ كَانَ الْقَاطِعُ لَهَا سُلْطَانًا أَوْ نَائِبًا ، كَانَ فِي قَطْعِهَا صَلَاحٌ ، أَوْ لَمْ يَكُنْ : لِأَنَّ جَوَازَ أَمْرِهِ يَمْنَعُ مِنَ الْوِلَايَةِ عَلَى بَدَنِهِ ، وَهُوَ أَحَقُّ بِمَصَالِحِ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِهِ ، فَصَارَ قَطْعُهَا مِنْهُ تَعَدِّيًا عَلَيْهِ . فَإِنْ عَفَا عَنِ الْقَوَدِ كَانَتِ الدِّيَةُ حَالَّةً فِي مَالِ الْقَاطِعِ : لِأَنَّهَا دِيَةٌ عِنْدَ مُحْصَنٍ .

فَصْلٌ : فَإِذَا كَانَ الْمَقْطُوعُ مُوَلًّى عَلَيْهِ بِصِغَرٍ أَوْ جُنُونٍ ممن أمر السلطان بقطع عضو منه ، فَلَا اعْتِبَارَ بِإِذْنِهِ : لِارْتِفَاعِ حُكْمِهِ . وَلِلْقَاطِعِ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَا وِلَايَةَ عَلَيْهِ بِنَسَبٍ وَلَا حُكْمٍ ، فَالْقَوَدُ عَلَيْهِ وَاجِبٌ لِتَعَدِّيهِ ، سَوَاءٌ كَانَ فِي قَطْعِهَا صَلَاحٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ . وَإِنْ عَفَا عَنِ الْقَوَدِ كَانَتِ الدِّيَةُ حَالَّةً فِي مَالِهِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ لِلْقَاطِعِ وِلَايَةٌ عَلَيْهِ ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ وِلَايَتُهُ بِسَلْطَنَةٍ . وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ وِلَايَتُهُ بِنَسَبٍ . وَالثَّالِثُ : بِاسْتِنَابَةٍ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْوَالِي سُلْطَانًا ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ قَطْعُهَا أَخْوَفَ مِنْ تَرْكِهَا ، فَالْقَوَدُ فِيهَا عَلَى السُّلْطَانِ وَاجِبٌ : لِأَنَّهَا جِنَايَةٌ مِنْهُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ تَرْكُهَا أَخْوَفَ مِنْ قَطْعِهَا ، فَفِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا قَوَدَ عَلَيْهِ : لِأَنَّهَا مِنْ مَصَالِحِهِ ، وَعَلَيْهِ الدِّيَةُ : لِأَنَّهَا مِنْ خَطَئِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : عَلَيْهِ الْقَوَدُ : لِأَنَّهُ عَجَّلَ مِنْ تَلَفِهِ مَا كَانَ مُؤَخَّرًا ، فَهَذَا حُكْمُ السُّلْطَانِ إِنْ لَمْ يَكُنْ إِمَامًا كَالْأَمِيرِ وَالْقَاضِي . وَإِنْ كَانَ إِمَامًا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَيْهِ كَغَيْرِهِ ، مِنْ أَمِيرٍ وَقَاضٍ : لِعُمُومِ وِلَايَةِ جَمِيعِهِمْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَأَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ أَنَّهُ لَا قَوَدَ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مِنَ التُّهْمَةِ أَبْعَدُ . وَالثَّانِي : أَنَّ وِلَايَتَهُ أَعَمُّ .

وَإِذَا وَجَبَتِ الدِّيَةُ ، فَإِنْ قِيلَ : بِاسْتِحْقَاقِ الْقَوَدِ عَلَيْهِ ، كَانَتْ دِيَةَ عَمْدٍ تَجِبُ فِي مَالِهِ حَالَّةً ، وَلَا تَكُونُ عَلَى عَاقِلَتِهِ ، وَلَا فِي بَيْتِ الْمَالِ . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْقَوَدَ لَا يُسْتَحَقُّ كَانَ دِيَةَ عَمْدٍ شِبْهَ الْخَطَأِ : لِأَنَّهُ عَامِدٌ فِي فِعْلِهِ مُخْطِئٌ فِي قَصْدِهِ ، وَأَيْنَ تَكُونُ الدِّيَةُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : عَلَى عَاقِلَتِهِ . وَالثَّانِي : فِي بَيْتِ الْمَالِ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْوَالِي عَلَيْهِ مُنَاسِبًا لَهُ كَالْأَبِ وَالْجَدِّ ، فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ لَا يُقَادُ وَالِدٌ بِوَلَدِهِ ، وَيُنْظَرُ فِي قَطْعِهَا فَإِنْ كَانَ تَرْكُهَا أَخْوَفَ مِنْ قَطْعِهَا ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ السُّلْطَانِ : لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مِنَ التُّهْمَةِ أَبْعَدُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لِمَصَالِحِهِ أَخَصُّ . وَإِنْ كَانَ قَطْعُهَا أَخْوَفَ مِنْ تَرْكِهَا ، فَفِي ضَمَانِهِ لِلدِّيَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَضْمَنُهَا : لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَمْرَيْنِ . وَالثَّانِي : يَضْمَنُهَا : لِظُهُورِ الْمَصْلَحَةِ فِي تَرْكِهَا . وَهَلْ تَكُونُ دِيَةَ عَمْدٍ تُتَعَجَّلُ فِي مَالِهِ ، أَوْ دِيَةَ خَطَأٍ شِبْهِ الْعَمْدِ تُؤَجَّلُ عَلَى عَاقِلَتِهِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ الْوَالِي عَلَيْهِ مُسْتَنَابًا ، وَهُمْ صِنْفَانِ وَصِيُّ أَبٍ ، وَأَمِينُ حَاكِمٍ ، وَفِيهِمَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقَوَدَ عَلَيْهِمَا فِي الْأَحْوَالِ وَاجِبٌ : لِاخْتِصَاصِ وِلَايَتِهِمَا بِمَالِهِ دُونَ بَدَنِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ مَنِ اسْتَنَابَهُمَا : لِقِيَامِهِمَا بِالِاسْتِنَابَةِ مَقَامَهُ ، فَإِنْ كَانَ وَصِيَّ أَبٍ أُجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْأَبِ إِذَا قَطَعَهَا ، وَإِنْ كَانَ أَمِينَ حَاكِمٍ أُجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْحَاكِمِ إِذَا قَطَعَهَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ كَانَ رَجُلٌ أَغْلَفُ أَوِ امْرَأَةٌ لَمْ تَخْفِضْ ، فَأَمَرَ السُّلْطَانُ فَعُزِّرَا فَمَاتَا ، لَمْ يَضْمَنِ السُّلْطَانُ : لِأَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَفْعَلَا ، إِلَّا أَنْ يُعَزِّرَهُمَا فِي حَرٍّ شَدِيدٍ أَوْ بَرْدٍ مُفْرِطٍ ، الْأَغْلَبُ أَنَّهُ لَا يَسْلَمُ مَنْ عُزِّرَ فِي مِثْلِهِ ، فَيَضْمَنُ عَاقِلَتُهُ الدِّيَةَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْخِتَانُ فَفَرْضٌ وَاجِبٌ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ .

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هُوَ سُنَّةٌ يُأْثَمُ بِتَرْكِهِ . عَلَى قَوْلِ الْعِرَاقِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِهِ . وَقَالَ الْخُرَاسَانِيُّونَ مِنْهُمْ : هُوَ وَاجِبٌ وَلَيْسَ بِفَرْضٍ . كَمَا قَالُوهُ فِي الْوِتْرِ وَالْأُضْحِيَّةِ ، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ . وَاسْتِدْلَالًا بِمَا رَوَى قَتَادَةُ ، عَنْ أَبِي الْمُلَيْحِ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ : الْمَضْمَضَةُ ، وَالِاسْتِنْشَاقُ ، وَالسِّوَاكُ ، وَإِحْفَاءُ الشَّارِبِ ، وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ ، وَقَلْمُ الْأَظْفَارِ ، وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ ، وَنَتْفُ الْإِبْطِ ، وَالْخِتَانُ فَلَمَّا جَعَلَهُ مِنَ الْفِطْرَةِ ، وَالظَّاهِرُ مِنَ الْفِطْرَةِ أَنَّهُ السُّنَّةُ ، وَقَرَنَهُ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ . قَالَ : وَلِأَنَّهُ قَطْعُ الشَّيْءِ مِنَ الْجَسَدِ يُقْصَدُ بِهِ التَّنْظِيفُ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحَبًّا كَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ وَحَلْقِ الشَّعْرِ . وَقَالَ : وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْخِتَانِ إِزَالَةُ الْقُلْفَةِ الَّتِي تَغْشَى الْحَشَفَةَ : لِيُمْكِنَ إِزَالَةُ الْبَوْلِ عَنْهَا ، وَهُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ عِنْدَهُمْ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ . وَدَلِيلُنَا : قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [ النَّحْلِ : 123 ] ، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ أَوَّلَ مَنِ اخْتَتَنَ بِالْقَدُومِ ، رُوِيَ مُخَفَّفًا وَمُشَدَّدًا ، فَمَنْ رَوَاهُ مُخَفَّفًا جَعَلَهُ اسْمَ الْمَكَانِ الَّذِي اخْتَتَنَ فِيهِ ، وَمَنْ رَوَاهُ مُشَدَّدًا جَعَلَهُ اسْمَ الْفَأْسِ الَّذِي اخْتَتَنَ بِهِ . وَقِيلَ : اخْتَتَنَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِينَ سَنَةً . وَقِيلَ : ثَمَانِينَ سَنَةً ، وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ بِهَذِهِ السِّنِّ إِلَّا عَنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَوَحْيِهِ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ أَسْلَمَ : أَلْقِ عَنْكَ شَعْرَ الْكُفْرِ وَاخْتَتِنْ فَهَذَا أَمْرٌ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : أَيُّمَا رَجُلٍ حَجَّ قَبْلَ أَنْ يَخْتَتِنَ لَمْ يُقْبَلْ حَجُّهُ . قَالَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ تَأْكِيدًا لِإِيجَابِهِ .

وَمِنَ الِاعْتِبَارِ : أَنَّهُ قَطْعُ تَعَبُّدٍ مِنْ جَسَدِهِ مَا لَا يُسْتَخْلَفُ بَعْدَ قَطْعِهِ : فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فَرْضًا كَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ . وَقَوْلُنَا : تَعَبُّدًا . احْتِرَازًا عَنْ قَطْعِ الْأَكَلِ مِنَ الْجَسَدِ ، فَإِنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ . وَقَوْلُنَا : مَا لَا يُسْتَخْلَفُ احْتِرَازًا مِنَ الشَّعْرِ وَالْأَظْفَارِ : وَلِأَنَّ فِي الْخِتَانِ قَطْعَ عُضْوٍ وَإِدْخَالَ أَلَمٍ عَلَى النَّفْسِ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي وَاحِدٍ مِنْ ثَلَاثَةٍ : إِمَّا الْمَصْلَحَةُ ، أَوْ عُقُوبَةٌ ، أَوْ وَاجِبٌ ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي الْخِتَانِ مَصْلَحَةٌ وَلَا عُقُوبَةٌ ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : الْخِتَانُ سُنَّةٌ مَعَ ضَعْفِ طَرِيقِهِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ السُّنَّةَ هِيَ الطَّرِيقَةُ الْمُتَّبَعَةُ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ وَاجِبًا وَمُسْتَحَبًّا ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي . وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَشَارَ بِالسُّنَّةِ إِلَى مَا قَبْلَ الْبُلُوغِ : لِأَنَّ وُجُوبَهُ يَكُونُ بَعْدَ الْبُلُوغِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ ، فَهُوَ أَنَّ الْفِطْرَةَ الدِّينُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [ الرُّومِ : 30 ] يَعْنِي دِينَهُمُ الَّذِي فَطَرَهُمْ عَلَيْهِ . وَمَا قَرَنَ بِهِ مِنْ غَيْرِ الْوَاجِبَاتِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فِي حُكْمِهَا : لِأَنَّهُ قَدْ يَقْتَرِنُ الْوَاجِبُ بِغَيْرِ وَاجِبٍ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [ الْأَنْعَامِ : 141 ] . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَنِ الْحَلْقِ وَالتَّقْلِيمِ ، فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ قَوْلَهُمْ : يُقْصَدُ بِهِ التَّنْظِيفَ غَيْرَ مُسَلَّمٍ : لِأَنَّهُ يُقْصَدُ بِهِ تَأْدِيَةُ الْفَرْضِ دُونَ التَّنْظِيفِ : لِأَنَّ مَقْصُودَ التَّنْظِيفِ بِالْمَاءِ دُونَ غَيْرِهِ ، وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ غَسْلُ الْبَوْلِ مَعَ بَقَائِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ وَإِنْ قَصَدَ بِهِ التَّنْظِيفَ أَنْ يَكُونَ فَرْضًا كَالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَأْثَمْ بِتَرْكِ الشَّعْرِ وَأَثِمَ بِتَرْكِ الْخِتَانِ ، دَلَّ عَلَى افْتِرَاقِهِمَا فِي حُكْمِ الْوُجُوبِ ، وَفِي هَذَا جَوَابُ اسْتِدْلَالِهِمْ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْخِتَانِ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ، فَهُوَ مِنَ الرِّجَالِ يُسَمَّى إِعْذَارًا

وَفِي النِّسَاءِ يُسَمَّى خَفْضًا الختان ، وَيُسَمَّى غَيْرُ الْمَعْذُورِ مِنَ الرِّجَالِ أَغْلَفَ وَأَقْلَفَ . وَإِعْذَارُ الرَّجُلِ : هُوَ قَطْعُ الْقُلْفَةِ الَّتِي تَغْشَى الْحَشَفَةَ ، وَالسُّنَّةُ أَنْ تُسْتَوْعَبَ مِنْ أَصْلِهَا ، وَأَقَلُّ مَا يُجْزِي فِيهِ الختان أَلَّا يَتَغَيَّرَ بِهَا شَيْءٌ مِنَ الْحَشَفَةِ . وَأَمَّا خَفْضُ الْمَرْأَةِ : فَهُوَ قَطْعُ جِلْدَةٍ تَكُونُ فِي الْفَرْجِ ، فَوْقَ مَدْخَلِ الذَّكَرِ وَمَخْرَجِ الْبَوْلِ عَلَى أَصْلٍ كَالنَّوَاةِ ، تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِلْدَةُ الْمُسْتَعْلِيَةُ دُونَ أَصْلِهَا ، رَوَى ثَابِتٌ ، عَنْ أَنَسٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : يَا أُمَّ عَطِيَّةَ إِذَا خَفَضْتِ فَأَشِمِّي ، وَلَا تُنْهِكِي فَإِنَّهُ أَسْرَى لِلْوَجْهِ ، وَأَحْظَى عِنْدَ الزَّوَاجِ . وَقَوْلُهُ : " أَشِمِّي " أَيْ : لَا تُبَالِغِي . وَفِي قَوْلِهِ : " أَسْرَى لِلْوَجْهِ ، وَأَحْظَى عِنْدَ الزَّوَاجِ " تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَصْفَى لِلَّوْنِ . وَالثَّانِي : مَا يَحْصُلُ لَهَا فِي نَفْسِ الزَّوْجِ مِنَ الْحَظْوَةِ بِهَا . وَلِلْخِتَانِ وَقْتَانِ : وَقْتُ اسْتِحْبَابٍ ، وَوَقْتُ وُجُوبٍ . فَأَمَّا وَقْتُ الِاسْتِحْبَابِ : فَمَا قَبْلَ الْبُلُوغِ . وَالِاخْتِتَانُ : أَنْ يَخْتَتِنَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ : لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَّ اخْتِتَانَ الْمَوْلُودِ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ ، وَفِيهِ يَعِقُّ عَنْهُ ، وَخَتَنَ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا ، هَلْ يَحْتَسِبُ فِيهَا يَوْمُ الْوِلَادَةِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَحْتَسِبُ يَوْمَ الْوِلَادَةِ ، وَيَخْتَتِنُ فِي السَّابِعِ مِنْهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ لَا يَحْتَسِبُ بِهِ ، وَيَخْتَتِنُ فِي السَّابِعِ بَعْدَ يَوْمِ الْوِلَادَةِ . وَهَكَذَا رُوِيَ خِتَانُ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ ، أَنَّهُ كَانَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ بَعْدَ يَوْمِ الْوِلَادَةِ ، فَإِنِ اخْتَتَنَ قَبْلَ السَّابِعِ كَرِهْنَاهُ ، وَإِنْ أَجْزَأَ لِضَعْفِ الْمَوْلُودِ عَنِ احْتِمَالِهِ ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْغُلَامُ أَوِ الْجَارِيَةُ . فَإِنْ أَخَّرَ عَنِ الْيَوْمِ السَّابِعِ الْمُسْتَحَبُّ بَعْدَهُ أَنْ يَخْتَتِنَ فِي الْأَرْبَعِينَ يَوْمًا : لِأَنَّ فِيهِ أَثَرًا . فَإِنْ أَخَّرَ عَنْهُ فَالْمُسْتَحَبُّ بَعْدَهُ أَنْ يَخْتَتِنَ فِي السَّنَةِ السَّابِعَةِ : لِأَنَّهُ الْوَقْتُ الَّذِي يُؤْمَرُ فِيهِ بِالطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ ، وَيُمَيِّزُ بَيْنَ أَبَوَيْهِ . فَإِنْ لَمْ يَخْتَتِنْ حَتَّى بَلَغَ ، صَارَ وَقْتُ الْخِتَانِ فَرْضًا ، يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ فِي نَفْسِهِ ، وَيُؤْخَذُ بِهِ جَبْرًا فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِ إِمْكَانِهِ .

وَلَا يُؤَخِّرُ عَمَّا ذَكَرْنَاهُ مِنْ وَقْتِ الِاسْتِحْبَابِ أَوْ وَقْتِ الْإِيجَابِ ، إِلَّا لِعُذْرٍ فِي الزَّمَانِ مِنْ شِدَّةِ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ ، أَوْ لِعُذْرٍ فِي بَدَنِهِ مِنْ شِدَّةِ مَرَضٍ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ إِنْ خُتِنَ ، فَيُؤَخِّرُ إِلَى زَوَالِ الْعُذْرِ . فَلَوْ كَانَ نِضْوَ الْخَلْقِ وَعُلِمَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ إِنْ خُتِنَ تَلِفَ ، سَقَطَ فَرْضُ الْخِتَانِ عَنْهُ : لِأَنَّهُ لَا تَعَبُّدَ فِيمَا أَفْضَى إِلَى التَّلَفِ : لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [ الْبَقَرَةِ : 286 ] ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّى خِتَانَ الْمَوْلُودِ إِلَّا مَنْ كَانَ ذَا وِلَايَةٍ عَلَيْهِ بِأُبُوَّةٍ ، أَوْ وَصِيَّةٍ ، أَوْ حُكْمٍ ، فَإِنْ خَتَنَهُ مَنْ لَا وِلَايَةَ عَلَيْهِ ، فَأَفْضَى إِلَى تَلَفِهِ ضَمِنَ نَفْسَهُ . وَإِنْ خَتَنَهُ ذُو وِلَايَةٍ عَلَيْهِ كَالْأَبِ أَوِ الْوَصِيِّ أَوِ السُّلْطَانِ فَتَلِفَ نُظِرَ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي زَمَانِ عُذْرٍ ، لَمْ يَضْمَنْ نَفْسَهُ : لِأَنَّهُ تَلِفَ مِنْ فِعْلٍ وَاجِبٍ . وَإِنْ كَانَ فِي زَمَانِ عُذْرٍ مِنْ مَرَضٍ أَوْ شَدَّةِ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : ضَمِنَ نَفْسَهُ . وَقَالَ فِي الْمَحْدُودِ فِي حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ أَوْ مَرَضٍ : إِنَّهُ إِذَا مَاتَ لَمْ يَضْمَنْهُ . اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى طَرِيقَتَيْنِ : إِحْدَاهُمَا : الْجَمْعُ بَيْنَ الْجَوَابَيْنِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ ، وَنُخْرِجُهُمَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُضْمَنُ فِي الْمَحْدُودِ وَالْمَخْتُونِ عَلَى مَا نُصَّ عَلَيْهِ فِي الْمَخْتُونِ لِلتَّقْدِيرِ بِالزَّمَانِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا ضَمَانَ فِي الْمَخْتُونِ وَالْمَحْدُودِ عَلَى مَا نُصَّ عَلَيْهِ فِي الْمَحْدُودِ . وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ : أَنَّ الْجَوَابَ عَلَى ظَاهِرِ نَصِّهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ ، فَيُضْمَنُ الْمَخْتُونُ وَلَا يُضْمَنُ الْمَحْدُودُ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْخِتَانَ أَخْوَفُ : لِمَا فِيهِ مِنْ قَطْعِ عُضْوٍ وَإِرَاقَةِ دَمٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ وَقْتَ الْخِتَانِ مُتَّسِعٌ ، وَوَقْتَ الْحَدِّ يَضِيقُ . فَإِذَا وَجَبَ الضَّمَانُ ، فَفِي قَدْرِ مَا يَضْمَنُهُ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ يَضْمَنُ جَمِيعَ الدِّيَةِ : لِأَنَّهَا جِنَايَةٌ مِنْهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : حَكَاهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ : يَضْمَنُ نِصْفَ الدِّيَةِ : لِحُدُوثِ التَّلَفِ عَنْ وَاجِبٍ وَمَحْظُورٍ ، فَإِنْ ضَمِنَ ذَلِكَ غَيْرُ السُّلْطَانِ كَانَ عَلَى عَاقِلَتِهِ ، وَإِنْ ضَمِنَ السُّلْطَانُ فَعَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : عَلَى عَاقِلَتِهِ . وَالثَّانِي : فِي بَيْتِ الْمَالِ ، وَتَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ سَوَاءٌ ضَمِنَ جَمِيعَ الدِّيَةِ أَوْ نِصْفَهَا : لِأَنَّهُ ضَمِنَ تَلَفَ نَفْسٍ وَإِنْ تَبَعَّضَتْ فِيهِ الدِّيَةُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ صِفَةِ السَّوْطِ

بَابُ صِفَةِ السَّوْطِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " يُضْرَبُ الْمَحْدُودُ بِسَوْطٍ بَيْنَ السَّوْطَيْنِ لَا جَدِيدٍ وَلَا خَلَقٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَمَّا الضَّرْبُ الْمَشْرُوعُ فَيُسْتَحَقُّ مِنْ وَجْهَيْنِ : حَدٌّ وَتَعْزِيرٌ . فَأَمَّا الْحَدُّ الْمَشْرُوعُ فَثَلَاثَةُ حُدُودٍ : حَدُّ الزِّنَا مِائَةُ جَلْدَةٍ . وَحَدُّ الْقَذْفِ ثَمَانُونَ جَلْدَةً . وَحَدُّ الْخَمْرِ أَرْبَعُونَ . وَأَمَّا حَدُّ الزِّنَا وَالْقَذْفِ : فَيُسْتَوْفَى بِالسَّوْطِ ، وَبِهِ وَرَدَ الشَّرْعُ . وَأَمَّا حَدُّ الْخَمْرِ : فَقَدْ ذَكَرْنَا فِيهِ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : بِالسَّوْطِ . وَالثَّانِي : بِالثِّيَابِ وَالنِّعَالِ وَالْأَيْدِي . وَأَمَّا ضَرْبُ التَّعْزِيرِ : فَمَوْقُوفٌ عَلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ : لِأَنَّ تَعْزِيرَهُ عَنِ اجْتِهَادٍ ، فَيَجُوزُ أَنْ يَضْرِبَ بِالثِّيَابِ وَالنِّعَالِ ، وَيَجُوزَ أَنْ يَضْرِبَ بِالسَّوْطِ . فَأَمَّا صِفَةُ السَّوْطِ الَّذِي تُقَامُ بِهِ الْحُدُودُ : فَهُوَ بَيْنَ السَّوْطَيْنِ لَا جَدِيدَ فَيُتْلِفُ ، وَلَا خَلَقَ لَا يُؤْلِمُ : لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِزَانٍ فَدَعَا بالسَّوْطِ ، فَأُتِيَ بِسَوْطٍ جَدِيدٍ لَمْ تُكْسَرْ ثَمَرَتُهُ ، فَقَالَ : دُونَ هَذَا . فَأُتِيَ بِسَوْطٍ قَدْ لَانَ وَانْكَسَرَ . فَقَالَ : فَوْقَ هَذَا . فَأُتِيَ بِسَوْطٍ بَيْنَ السَّوْطَيْنِ لَا جَدِيدَ وَلَا خَلَقَ ، فَحَدَّهُ بِهِ ، ثُمَّ قَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ آنَ لَكُمْ أَنْ تَنْتَهُوا عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ ، فَمَنْ أَتَى مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ : فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ حَدَّ اللَّهِ عَلَيْهِ . رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : ضَرْبٌ بَيْنَ ضَرْبَيْنِ ، وَسَوْطٌ بَيْنَ سَوْطَيْنِ . فَأَمَّا صِفَةُ الضَّرْبِ : فَلَا يَكُونُ شَدِيدًا قَاتِلًا ، وَلَا ضَعِيفًا لَا يَرْدَعُ الضرب في الحد ، فَلَا يَرْفَعُ بَاعَهُ

فَيَنْزِلُ مِنْ عَلٍ ، وَلَا يَخْفِضُ ذِرَاعَهُ فَيَقَعُ مِنْ أَسْفَلَ ، فَيَمُدُّ عَضُدَهُ وَيَرْفَعُ ذِرَاعَهُ : لِيَقَعَ الضَّرْبُ مُعْتَدِلًا . قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : لَا يَرْفَعُ ذِرَاعَهُ فِي الضَّرْبِ فَيُرَى بَيَاضُ إِبْطِهِ . فَأَمَّا السَّوْطُ فِي ضَرْبِ التَّعْزِيرِ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ دُونَ سَوْطِ الْحَدِّ لَمْ يَكُنْ فَوْقَهُ . وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ : يَجُوزُ أَنْ يَضْرِبَ فِي التَّعْزِيرِ بِسَوْطٍ لَمْ تُكْسَرْ ثَمَرَتُهُ فَوْقَ سَوْطِ الْحَدِّ ، وَيَكُونُ صِفَةُ الضَّرْبِ فِيهِ أَعْلَى مِنْ صِفَتِهِ فِي الْحَدِّ : لِأَنَّ ذُنُوبَ التَّعْزِيزِ مُخْتَلِفَةٌ ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الضَّرْبُ مُخْتَلِفًا . وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ الْحُدُودَ أَغْلَظُ ، فَلَمَّا كَانَ التَّعْزِيرُ دُونَهَا فِي الْقَدْرِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ فَوْقَهَا فِي الصِّفَةِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَيُضْرَبُ الرَّجُلُ فِي الْحَدِّ وَالتَّعْزِيرِ قَائِمًا ، وَتُتْرَكُ لَهُ يَدُهُ يَتَّقِي بِهَا ، وَلَا يُرْبَطُ وَلَا يُمَدُّ . وَالْمَرْأَةُ جَالِسَةً وَتُضَمُّ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا ضربها في الحد ، وَتُرْبَطُ لِئَلَّا تَنْكَشِفَ ، وَيَلِي ذَلِكَ مِنْهَا امْرَأَةٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي صِفَةِ السَّوْطِ وَالضَّرْبِ . فَأَمَّا صِفَةُ الْمَضْرُوبِ : فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً . فَإِنْ كَانَ رَجُلًا ضُرِبَ قَائِمًا وَلَمْ يُصْرَعْ إِلَى الْأَرْضِ ، وَوَقَفَ مُرْسَلًا غَيْرَ مَشْدُودٍ وَلَا مَرْبُوطٍ ، وَتُرْسَلُ يَدُهُ لِيَتَوَقَّى بِهَا أَلَمَ الضَّرْبِ إِنِ اشْتَدَّ بِهِ : لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَدَ مَنْ حَدَّهُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ . فَأَمَّا ثِيَابُهُ فَلَا يُجَرَّدُ مِنْهَا ، وَتُتْرَكُ عَلَيْهِ : لِتُوَارِيَ جَسَدَهُ ، وَتَسْتُرَ عَوْرَتَهُ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهَا مَا يَمْنَعُ مِنْ أَلَمِ الضَّرْبِ ، كَالْفِرَاءِ والْجِيَابِ الْحَشِوَةِ ، فَتُنْزَعُ عَنْهُ وَيُتْرَكُ مَا عَدَاهَا مِمَّا لَا يَمْنَعُ أَلَمَ الضَّرْبِ . وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، أَنَّهُ قَالَ : لَيْسَ فِي دِينِنَا مَدٌّ وَلَا قَيْدٌ وَلَا غَلٌّ وَلَا تَجْرِيدٌ . فَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَتُضْرَبُ جَالِسَةً : لِأَنَّهَا عَوْرَةٌ ، وَجُلُوسُهَا أَسْتَرُ لَهَا ، وَتُرْبَطُ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا : لِئَلَّا تَنْكَشِفَ فَتَبْدُوَ عَوْرَتُهَا ، وَتَقِفُ عِنْدَهَا امْرَأَةٌ تَتَوَلَّى رَبْطَ ثِيَابِهَا ، وَتَسْتُرُ مَا بَدَا ظُهُورُهُ مِنْ جَسَدِهَا ، وَيَتَوَلَّى الرِّجَالُ ضَرْبَهَا دُونَ النِّسَاءِ : لِأَنَّ فِي مُبَاشَرَةِ النِّسَاءِ لَهُ هَتْكَهُ . قَدْ أَحْدَثَ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ وُلَاةِ الْعِرَاقِ ضَرْبَ النِّسَاءِ فِي صُفَّةٍ مِنْ خُوصٍ أَوْ غِرَارَةٍ مِنْ شَعْرٍ لِيَسْتُرَهَا ، وَذَلِكَ حَسَنٌ ، وَالْغِرَارَةُ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنَ الصُّفَّةِ : لِأَنَّ الصُّفَّةَ تَدْفَعُ مِنْ أَلَمِ الضَّرْبِ مَا لَا تَدْفَعُهُ الْغِرَارَةُ . فَلَوْ خَالَفَ الْجَلَّادُ مَا وَصَفْنَا ، وَضَرَبَ الرَّجُلَ جَالِسًا أَوْ

مَبْطُوحًا ، وَضَرَبَ الْمَرْأَةَ قَائِمَةً أَوْ نَائِمَةً ، أَسَاءَ وَأَجْزَأَهُ الضَّرْبُ وَلَا يَضْمَنُهُ ، وَإِنْ أَفْضَى إِلَى التَّلَفِ : لِأَنَّهَا تَغْيِيرُ حَالٍ لَا زِيَادَةُ ضَرْبٍ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا يَبْلُغُ فِي الْحَدِّ أَنْ يُنْهِرَ الدَّمَ : لِأَنَّهُ سَبَبُ التَّلَفِ ، وَإِنَّمَا يُرَادُ بِالْحَدِّ النَّكَالُ أَوِ الْكَفَّارَةُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ : لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ فِي الْعُدُولِ بِهِ عَنِ الْحَدِيدِ إِلَى السَّوْطِ تَنْبِيهًا عَلَى الْمَنْعِ مِنْ أَثَرِ الْحَدِيدِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمَقْصُودَ بِضَرْبِهِ أَلَمُهُ الَّذِي يَرْتَدِعُ بِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَزِيدَ عَلَى أَلَمِهِ بِإِنْهَارِ دَمِهِ الْمُفْضِي إِلَى تَلَفِهِ ، فَإِنْ أَنْهَرَ دَمَهُ بِالضَّرْبِ فَلَمْ يَتْلَفْ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ أَنْهَرَ دَمَهُ فَتَلِفَ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا يَضْرِبَهُ بَعْدَ إِنْهَارِ دَمِهِ لِاسْتِكْمَالِ حَدِّهِ قَبْلَ إِنْهَارِهِ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ : لِأَنَّ إِنْهَارَ دَمِهِ قَدْ يَكُونُ مِنْ رِقَّةِ لَحْمِهِ ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ شِدَّةِ ضَرْبِهِ ، فَلَمْ يَتَعَيَّنْ مِنْهُمَا مَا يُوجِبُ الضَّمَانَ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَضْرِبَهُ بَعْدَ إِنْهَارِ دَمِهِ اسْتِكْمَالًا لِحَدِّهِ ، فَإِنْ ضَرَبَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ إِنْهَارِهِ لَمْ يَضْمَنْ : لِأَنَّ مُوَالَاةَ الْحَدِّ مُسْتَحَقَّةٌ . وَإِنْ ضَرَبَهُ فِي مَوْضِعِ إِنْهَارِهِ ، فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَضْمَنُ : لِأَنَّ إِنْهَارَهُ مِنْ غَيْرِ وَاجِبٍ . ثَانِيهِمَا : يَضْمَنُ : لِتَعَدِّيهِ بِإِعَادَةِ الضَّرْبِ فِيهِ ، فَعَلَى هَذَا : فِي قَدْرِ ضَمَانِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : جَمِيعُ الدِّيَةِ . وَالثَّانِي : نِصْفُهَا ، عَلَى مَا مَضَى فِي ضَمَانِ الْمَخْتُونِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَيَتَّقِي الْجَلَّادُ الْوَجْهَ وَالْفَرْجَ ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، يَجِبُ فِي جَلْدِ الْحُدُودِ أَنْ يُفَرِّقَ الضَّرْبَ فِي جَمِيعِ الْبَدَنِ : لِيَأْخُذَ كُلُّ عُضْوٍ حَظَّهُ مِنَ الْأَلَمِ ، وَلَا يَجْمَعُهُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ فَيُفْضِي إِلَى تَلَفِهِ ، إِلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ عَلَيْهِ أَنْ يَتَّقِيَ ضَرْبَهُمَا : أَحَدُهُمَا : الْمَوَاضِعُ الْقَاتِلَةُ كَالرَّأْسِ وَالْخَاصِرَةِ وَالْقَوَّادِ ، وَالنَّحْرِ ، وَالذَّكَرِ ، وَالْأُنْثَيَيْنِ .

وَالثَّانِي : مَا شَانَهُ الضَّرْبُ وَقَبَّحَهُ كَالْوَجْهِ : لِرِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : إِذَا جَلَدَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْهَ وَالْفَرْجَ . وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلْجَلَّادِ : اضْرِبْ وَأَوْجِعْ ، وَاتَّقِ الرَّأْسَ وَالْفَرْجَ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ تَقْبِيحِ الْوَجْهِ ، وَعَنْ ضَرْبِهِ ، وَعَنِ الْوَشْمِ فِيهِ . وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ رَجُلًا يَسُبُّ رَجُلًا ، وَهُوَ يَقُولُ : قَبَّحَ اللَّهُ وَجْهَكَ ، وَوَجْهَ مَنْ أَشْبَهَكَ . فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا تَسُبُّوا الْوَجْهَ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ . يَعْنِي عَلَى صُورَةِ هَذَا الرَّجُلِ ، فَلَمَّا نَهَى عَنْ سَبِّ الْوَجْهِ كَانَ النَّهْيُ عَنْ ضَرْبِهِ أَوْلَى . فَأَمَّا ضَرْبُ التَّعْزِيرِ ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يُفَرَّقُ فِي جَمِيعِ الْجَسَدِ كَالْحَدِّ . وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ : يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَهُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ مِنَ الْجَسَدِ . وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَدِّ : بِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزِ الْعَفْوُ عَنِ الْحَدِّ لَمْ يَجُزِ الْعَفْوُ عَنْ بَعْضِ الْجَسَدِ ، وَلَمَّا جَازَ الْعَفْوُ عَنِ التَّعْزِيرِ جَازَ الْعَفْوُ عَنْ ضَرْبِ بَعْضِ الْجَسَدِ . وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ : لِأَنَّ جَمْعَ الضَّرْبِ مُفْضٍ إِلَى التَّلَفِ ، فَلَمَّا مَنَعَ مِنْهُ فِي الْحُدُودِ الْوَاجِبَةِ كَانَ الْمَنْعُ مِنْهُ فِي التَّعْزِيرِ الْمُبَاحِ أَوْلَى .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَلَا يَبْلُغُ بِعُقُوبَةٍ أَرْبَعِينَ : تَقْصِيرًا عَنْ مُسَاوَاةِ عُقُوبَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي حُدُودِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ التَّعْزِيرَ مُبَاحٌ ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُبْلَغَ بِأَكْثَرِهِ أَدْنَى الْحُدُودِ التعزير ، وَغَايَتُهُ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ : لِأَنَّ أَدْنَى الْحُدُودِ حَدُّ الْخَمْرِ وَهُوَ أَرْبَعُونَ . رَوَى النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ ضَرَبَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ ، فَهُوَ مِنَ الْمُعْتَدِينَ . فَإِنْ قَالَ أَصْحَابُ مَالِكٍ فِي تَجْوِيزِهِمُ الزِّيَادَةَ فِي ضَرْبِ التَّعْزِيرِ عَلَى أَكْثَرِ الْحُدُودِ : لَيْسَ مَعَ هَذَا الْخَبَرِ مِنْ مُسَاوَاةِ التَّعْزِيرِ فِي الْحُدُودِ . رَوَى أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَا جَلْدَ فَوَقَ عَشْرِ جَلْدَاتٍ ، إِلَّا فِي حُدُودِ اللَّهِ فَهَلَّا مَنَعَكُمْ هَذَا الْخَبَرُ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى الْعَشَرَةِ فِي التَّعْزِيرِ ، وَأَنْتُمْ لَا

تَمْنَعُونَ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا مَعَ مَا رُوِيَ فِيهَا . قِيلَ : هَذَا الْحَدِيثُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ مِنْ وَجْهٍ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ ، فَإِنْ صَحَّ وَثَبَتَ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّ الْعَمَلَ بِهِ وَاجِبٌ ، وَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِي ضَرْبِ التَّعْزِيرِ عَلَى عَشْرِ جَلْدَاتٍ ، وَيَكُونُ هَذَا مَذْهَبًا لِلشَّافِعِيِّ : لِأَنَّ مِنْ مَذْهَبِهِ ، أَنَّ كُلَّ مَا قَالَهُ وَثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِلَافُهُ ، فَهُوَ أَوَّلُ رَاجِعٍ عَنْهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ وَإِنْ صَحَّ : لِجَوَازِ أَنْ يَرِدَ فِي ذَنْبٍ بِعَيْنِهِ أَوْ فِي رَجُلٍ بِعَيْنِهِ ، فَلَا يَجِبُ حَمْلُهُ فِي عُمُومِ الذُّنُوبِ وَلَا عَلَى عُمُومِ النَّاسِ .

فَصْلٌ : لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ الْعَفْوُ عَنِ الْحُدُودِ إِذَا وَجَبَتْ ، وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَشْفَعَ إِلَى الْإِمَامِ فِيهَا الحدود ، وَإِنْ جَازَ الْعَفْوُ عَنِ التَّعْزِيرِ وَجَازَتِ الشَّفَاعَةُ فِيهِ . رَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : تَعَافَوْا عَنِ الْحُدُودِ فِيمَا بَيْنَكُمْ ، فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَعَنَ اللَّهُ الشَّافِعَ وَالْمُشَفِّعَ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَدَ رَجُلًا فِي شَرَابٍ ، فَقَالَ شِعْرًا : أَلَا أَبْلِغْ رَسُولَ اللَّهِ أَنِّي بِحَقٍّ مَا سَرَقْتُ وَلَا زَنَيْتُ شَرِبْتُ شَرْبَةً لَا عِرْضَ أَبْقَتْ وَلَا مَا لَذَّةٌ فِيهَا قَضَيْتُ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : لَوْ بَلَغَنِي قَبْلَ أَنْ أَجْلِدَهُ لَمْ أَجْلِدْهُ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الْعَفْوِ عَنِ الْحُدُودِ . قِيلَ : هَذَا حَدِيثٌ مُرْسَلٌ لَا يُعَارَضُ بِهِ مَا كَانَ مُتَّصِلًا ثَابِتًا ، وَلَوْ ثَبَتَ وَصَحَّ لَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إِمَّا لِأَنَّهُ اسْتَدَلَّ بِشِعْرِهِ عَلَى تَقَدُّمِ تَوْبَتِهِ . وَإِمَّا أَنَّ حَدَّ الْخَمْرِ لَمْ يَكُنْ مُسْتَقِرًّا ، وَكَانَ تَعْزِيرًا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ .

ثُمَّ اسْتَقَرَّ حَدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ فَلَمْ يَجُزِ الْعَفْوُ عَنْهُ .

فَصْلٌ : رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : تَجَافُوا لِذَوِي الْهَيْئَاتِ عَنْ عَثَرَاتِهِمْ . وَرُوِيَ أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ . وَفِي ذَوِي الْهَيْئَاتِ هَاهُنَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الصَّغَائِرِ دُونَ الْكَبَائِرِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُمُ الَّذِينَ إِذَا أَلَمُّوا بِالذَّنْبِ نَدِمُوا عَلَيْهِ ، وَتَابُوا مِنْهُ . وَفِي عَثَرَاتِهِمْ هَاهُنَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا صَغَائِرُ الذُّنُوبِ الَّتِي لَا تُوجِبُ الْحُدُودَ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا أَوَّلُ مَعْصِيَةٍ زَلَّ فِيهَا مُطِيعٌ . فَأَمَّا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ [ النَّجْمِ : 32 ] . فَفِي كَبَائِرِ الْإِثْمِ ثَلَاثُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهَا الشِّرْكُ بِاللَّهِ . وَالثَّانِي : مَا لَا يُكَفَّرُ إِلَّا بِالتَّوْبَةِ . وَالثَّالِثُ : مَا زَجَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِالْحَدِّ . وَفِي الْفَوَاحِشِ هَاهُنَا تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : الزِّنَا خَاصَّةً . وَالثَّانِي : جَمِيعُ الْمَعَاصِي . وَفِي اللَّمَمِ الْمُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ خَمْسَةُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ مَا هَمَّ بِهِ وَلَمْ يَفْعَلْهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَا يَأْتِ مِنْهُ وَلَمْ يُعَاوِدْهُ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهَا الصَّغَائِرُ مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِي لَا تُوجِبُ حَدًّا وَلَا وَعِيدًا . وَالرَّابِعُ : أَنَّهَا النَّظْرَةُ الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ . وَالْخَامِسُ : أَنَّهُ النِّكَاحُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْمَسَاجِدِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ : لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [ النُّورِ : 36 ]

يُرِيدُ بِالْبُيُوتِ : الْمَسَاجِدَ . فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : تُعَظَّمَ . وَالثَّانِي : تُصَانَ . وَفِي قَوْلِهِ : وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ التَّعَبُّدُ لَهُ بِالصَّلَاةِ فِيهَا . وَالثَّانِي : طَاعَتُهُ بِتِلَاوَةِ كِتَابِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ ، فَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ إِقَامَةِ الْحُدُودِ فِيهَا . وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ مِنَ السُّنَّةِ نَصٌّ لِرِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْمَسَاجِدِ ، وَلَا يُقْتَلُ بِالْوَلَدِ الْوَالِدُ . وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ رَجُلًا يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ ، فَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاشِدُ غَيْرُكَ الْوَاجِدُ ، إِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا ، إِنَّمَا بُنِيَتْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَلِلصَّلَاةِ . وَرَوَى حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُسْتَقَادَ فِي الْمَسَاجِدِ ، وَأَنْ تُنْشَدَ فِيهَا الْأَشْعَارُ ، وَأَنْ تُقَامَ فِيهَا الْحُدُودُ . وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْأَشْعَارِ مَا كَانَ هِجَاءً ، أَوْ غَزَلًا ، أَوْ مَدْحًا كَاذِبًا : لِأَنَّ الشِّعْرَ قَلَّ مَا يَخْلُو مِنْهُ . فَأَمَّا مَا تَجَرَّدَ عَنْ ذَلِكَ مِنَ الْأَشْعَارِ فَغَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْ إِنْشَادِهَا فِيهِ . وَقَدْ أَنْشَدَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ قَصِيدَتَهُ الَّتِي مَدَحَ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ . وَلِأَنَّ إِقَامَةَ الْحُدُودِ فِي الْمَسَاجِدِ مُؤْذٍ لِلْمُصَلِّينَ فِيهَا : وَلِأَنَّ الْمَحْدُودَ رُبَّمَا نَجَّسَ الْمَسْجِدَ بِدَمِهِ ، أَوْ حَدَثِهِ . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْحُدُودَ تُقَامُ فِي غَيْرِ الْمَسَاجِدِ ، نُظِرَ فِي الْمَحْدُودِ ، فَإِنْ كَانَ مُتَهَافِتًا فِي ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي أُظْهِرَ حَدُّهُ فِي مَجَامِعِ النَّاسِ وَمَحَافِلِهِمْ : لِيَزْدَادَ بِهِ نَكَالًا وَارْتِدَاعًا ، وَإِنْ كَانَ مِنْ ذَوِي الْهَيْئَاتِ حُدَّ فِي الْخَلَوَاتِ حِفْظًا لِصِيَانَتِهِ المحدود . وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .

بَابُ قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ وَمَا أُصِيبَ فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ مَتَاعِ الْمُسْلِمِينَ

بَابُ قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ وَمَا أُصِيبَ فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ مَتَاعِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كِتَابِ قَتْلِ الْخَطَأِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَإِذَا أَسْلَمَ الْقَوْمُ ثُمَّ ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ إِلَى أَيِّ كُفْرٍ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ دَارِ الْحَرْبِ ، وَهُمْ مَقْهُورُونَ أَوْ قَاهِرُونَ فِي مَوْضِعِهِمُ الَّذِي ارْتَدُّوا فِيهِ ، فَعَلَى الْمُسْلِمِينَ : أَنْ يَبْدَءُوا بِجِهَادِهِمْ قَبْلَ جِهَادِ أَهْلِ الْحَرْبِ الَّذِينَ لَمْ يُسْلِمُوا قَطُّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَدْيَانِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَرَّ عَلَى دِينِهِ ، سَوَاءٌ وُلِدَ عَلَى الْإِسْلَامِ ثُمَّ ارْتَدَّ ، أَوْ أَسَلَمَ عَنْ كُفْرٍ ثُمَّ ارْتَدَّ ، وَسَوَاءٌ ارْتَدَّ إِلَى دِينٍ يُقَرُّ عَلَيْهِ أَهْلُهُ أَمْ لَا ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [ آلِ عِمْرَانَ : 85 ] ، وَقَالَ تَعَالَى : وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ [ الْبَقَرَةِ : 217 ] . وَرَوَى الشَّافِعِيُّ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ أَيُّوبَ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، قَالَ : لَمَّا بَلَغَ ابْنَ عَبَّاسٍ أَنَّ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَحْرَقَ الْمُرْتَدِّينَ قَالَ : لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحْرِقْهُمْ وَلَقَتَلْتُهُمْ : لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُعَذِّبَ بِعَذَابِ اللَّهِ . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَى رِدَّتِهِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا مَقْهُورًا فَقَدْ مَضَى حُكْمُهُ فِي وُجُوبِ قَتْلِهِ إِنْ لَمْ يَتُبْ . وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا جَمَاعَةً قَاهِرِينَ ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يُبْدَأَ بِقِتَالِهِمْ قَبْلَ قِتَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ : لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ [ التَّوْبَةِ : 123 ] فَكَانَ مَنْ عَدَلَ عَنْ دِينِنَا أَقْرَبَ إِلَيْنَا ، وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ أَجْمَعُوا عَلَى الِابْتِدَاءِ بِقِتَالِهِمْ حِينَ ارْتَدُّوا بِمَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنِ ارْتَدَّ ، وَكَانَ قَدْ جَهَّزَ جَيْشَ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ إِلَى الرُّومِ فَقَالَ لَهُ الصَّحَابَةُ : لَوْ صَرَفْتَ الْجَيْشَ إِلَى قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ . فَقَالَ : وَاللَّهِ لَوِ انْثَالَتِ الْمَدِينَةُ سِبَاعًا عَلَيَّ مَا رَدَدْتُ جَيْشًا جَهَّزَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَدَلَّ احْتِجَاجُ أَبِي بَكْرٍ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ لَمْ يَرُدَّهُمْ : لِأَنَّ رَسُولَ

اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَهَّزَهُمْ عَلَى إِجْمَاعِهِمْ أَنَّ الْبِدَايَةَ بِالْمُرْتَدِّينَ أَوْلَى ، وَلِأَنَّ الرِّدَّةَ عَنِ الْإِسْلَامِ أَغْلَظُ مِنَ الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ : لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَى رِدَّتِهِ ، وَإِنْ أُقِرَّ الْكَافِرُ عَلَى كُفْرِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ بِتَقَدُّمِ إِسْلَامِهِ قَدْ أَقَرَّ بِبُطْلَانِ الدِّينِ الَّذِي ارْتَدَّ إِلَيْهِ ، وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْكَافِرِ إِقْرَارٌ بِبُطْلَانِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ يُفْسِدُ قُلُوبَ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ ، وَيُقَوِّي نُفُوسَ الْمُشْرِكِينَ ، فَوَجَبَ لِغِلَظِ حَالِهِ أَنْ يُبْدَأَ بِقِتَالِ أَهْلِهِ . فَإِذَا أَرَادَ قِتَالَهُمْ لَمْ يَبْدَأْ بِهِ إِلَّا بَعْدَ إِنْذَارِهِمْ وَسُؤَالِهِمْ عَنْ سَبَبِ رِدَّتِهِمْ ، فَإِنْ ذَكَرُوا شُبْهَةً أَزَالَهَا ، وَإِنْ ذَكَرُوا مَظْلَمَةً رَفَعَهَا ، فَإِنْ أَصَرُّوا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الرِّدَّةِ قَاتَلَهُمْ ، وَأَجْرَى عَلَى قِتَالِهِمْ حُكْمَ قِتَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ مِنْ وَجْهٍ ، وَحُكْمَ قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ مِنْ وَجْهٍ . فَأَمَّا مَا يُسَاوُونَ فِيهِ أَهْلَ الْحَرْبِ مِنْ أَحْكَامِ قِتَالِهِمْ وَيُخَالِفُونَ فِيهِ أَهْلَ الْبَغْيِ ، فَمِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَاتَلُوا مُدْبِرِينَ وَمُقْبِلِينَ المرتدين ، وَلَا يُقَاتَلُ أَهْلُ الْبَغْيِ إِلَّا مُقْبِلِينَ . وَالثَّانِي : يَجُوزُ أَنْ يُوضَعَ عَلَيْهِمُ الْبَيَانُ وَالتَّحْرِيقُ ، وَيُرْمَوْا بِالْقَرَادَةِ وَالْمَنْجَنِيقِ المرتدين ، وَلَا يَجُوزَ ذَلِكَ فِي أَهْلِ الْبَغْيِ . وَالثَّالِثُ : إِبَاحَةُ دِمَائِهِمْ أَسْرَى وَمُمْتَنِعِينَ المرتدين ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي أَهْلِ الْبَغْيِ . وَالرَّابِعُ : مَصِيرُ أَمْوَالِهِمْ فَيْئًا لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ المرتدين ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي أَمْوَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ . وَأَمَّا مَا يُوَافِقُونَ فِيهِ أَهْلَ الْبَغْيِ ، وَيُخَالِفُونَ فِيهِ أَهْلَ الْحَرْبِ فَمِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُمْ لَا يُهَادَنُوا عَلَى الْمُوَادَعَةِ إِقْرَارًا عَلَى الرِّدَّةِ المرتدين ، وَإِنْ جَازَ مُهَادَنَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ . وَالثَّانِي : إِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تُؤْخَذَ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ وَلَا أَنْ يُصَالَحُوا عَلَى مَالٍ يُقَرُّوا بِهِ عَلَى الرِّدَّةِ المرتدين ، وَإِنْ جَازَ ذَلِكَ فِي أَهْلِ الْحَرْبِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَرَقُّوا المرتدين ، وَإِنْ جَازَ اسْتِرْقَاقُ أَهْلِ الْحَرْبِ . وَالرَّابِعُ : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ وَلَا تُغْنَمَ أَمْوَالُهُمْ المرتدين ، وَإِنْ جَازَ ذَلِكَ فِي أَهْلِ الْحَرْبِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِذَا ظَفِرُوا بِهِمُ اسْتَتَابُوهُمْ ظفروا بالمرتدين ، فَمَنْ تَابَ حُقِنَ دَمُهُ ، وَمَنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ بِالرِّدَّةِ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا ظُفِرَ بِأَهْلِ الرِّدَّةِ لَمْ يَجُزْ تَعْجِيلُ قَتْلِهِمْ قَبْلَ اسْتِتَابَتِهِمْ ، فَإِنْ تَابُوا حَقَنُوا دِمَاءَهُمْ بِالتَّوْبَةِ ، وَوَجَبَ تَخْلِيَةُ سَبِيلِهِمْ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ قَبُولِ تَوْبَةِ الْمُرْتَدِّ ، وَإِنْ لَمْ يَتُوبُوا وَجَبَ قَتْلُهُمْ بِالسَّيْفِ صَبْرًا : لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ وَفِي الثَّانِي بِهِمْ ثَلَاثًا قَوْلَانِ مَضَيَا . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَرُّوا عَلَى الرِّدَّةِ بِجِزْيَةٍ وَلَا بِعَهْدٍ ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يُقَرَّ أَهْلُ الْحَرْبِ عَلَى دِينِهِمْ بِجِزْيَةٍ وَعَهْدٍ : لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ قَدْ تَقَدَّمَ إِقْرَارُهُ فِي حَالِ إِسْلَامِهِ بِبُطْلَانِ مَا ارْتَدَّ إِلَيْهِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَرَّ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ إِقْرَارُ الْحَرْبِيِّ بِبُطْلَانِ دِينِهِ فَجَازَ أَنْ يُقَرَّ عَلَيْهِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا أَمْوَالُ الْمُرْتَدِّ فَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا مَقْهُورًا حُجِرَ عَلَيْهِ فِيهَا ، وَمُنِعَ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهَا مَا كَانَ حَيًّا ، وَلَمْ يُمْلَكْ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ ، فَإِنْ قُتِلَ بِالرِّدَّةِ أَوْ مَاتَ عَلَيْهَا صَارَتْ فَيْئًا لِأَهْلِ الْفَيْءِ لَا حَقَّ فِيهَا لِوَرَثَتِهِ المرتد ، وَقَدْ قَدَّمْتُ ذِكْرَ الْخِلَافِ فِيهِ وَالدَّلَالَةِ عَلَيْهِ . وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً مُمْتَنِعِينَ وَظَفِرَ الْمُسْلِمُونَ فِي مُحَارَبَتِهِمْ بِأَمْوَالِهِمْ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَمْتَلِكَهَا الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ مَا بَقُوا أَحْيَاءً عَلَى رِدَّتِهِمْ : لِجَوَازِ اسْتِحْقَاقِهِمْ لَهَا إِنْ أَسْلَمُوا ، وَكَانَتْ مَوْقُوفَةً عَلَيْهِمْ ، فَإِنْ مَاتُوا عَلَى رِدَّتِهِمْ صَارَتْ أَمْوَالُهُمْ فَيْئًا ، فَإِنْ طَلَبَهُ الْغَانِمُونَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَسَّمَ فِيهِمْ مَا مَلَكَهُ الْمُرْتَدُّونَ قَبْلَ رِدَّتِهِمْ ، وَفِي قَسْمِ مَا مَلَكُوهُ بَعْدَ الرِّدَّةِ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ فِي اسْتِرْقَاقِ الْمَوْلُودِينَ مِنْ ذَرَارِيِّهِمْ بَعْدَ الرِّدَّةِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا أَوْلَادُ الْمُرْتَدِّينَ حكمهم فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ بَالِغًا وَقْتَ الرِّدَّةِ ، لَمْ يَصِرْ مُرْتَدًّا بِرِدَّةِ أَبِيهِ ، كَمَا لَا يَصِيرُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِهِ ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ غَيْرَ بَالِغٍ نُظِرَ ، فِي أُمِّهِ فَإِنْ كَانَتْ مُسْلِمَةً كَانَ الْوَلَدُ مُسْلِمًا : لِإِجْرَاءِ حُكْمِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ بِإِسْلَامِ أَحَدِ أَبَوَيْهِ : لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى وَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ مُرْتَدَّةً كَأَبِيهِ جَرَى عَلَى الْوَلَدِ حُكْمُ الرِّدَّةِ : لِأَنَّ غَيْرَ الْبَالِغِ مُلْحَقٌ بِأَبَوَيْهِ فِي الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ . فَأَمَّا اسْتِرْقَاقُهُ فَإِنْ وُلِدَ فِي حَالِ إِسْلَامِهِمَا أَوْ إِسْلَامِ أَحَدِهِمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْتَرَقَّ ، كَمَا لَمْ يَجُزِ اسْتِرْقَاقُ أَبَوَيْهِ : لِمَا ثَبَتَ لَهُمَا مِنْ حُرْمَةِ الْإِسْلَامِ الْمُتَقَدِّمِ . وَإِنْ وُلِدَ بَعْدَ رِدَّتِهِمَا ، فَفِي جَوَازِ اسْتِرْقَاقِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ : لِأَنَّهُ كَافِرٌ وَوَلَدُهُ كَافِرٌ كَالْحَرْبِيِّ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ : لِأَنَّ الْوَلَدَ تَبَعٌ لِأَبَوَيْهِ ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمَا ، فَلَمْ يَجُزِ اسْتِرْقَاقُهُ ، وَلَا فَرْقَ فِي الْقَوْلَيْنِ بَيْنَ وِلَادَتِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَدَارِ الْحَرْبِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ إِذَا وُلِدَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ إِذَا

وُلِدَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ : لِأَنَّ حُكْمَ الدَّارِ جَارٍ عَلَى أَهْلِهَا : لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنَعَتْ دَارُ الْإِسْلَامِ مَا فِيهَا ، وَأَبَاحَتْ دَارُ الشِّرْكِ مَا فِيهَا . وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّ الدَّارَ لَا تُبِيحُ مَحْظُورًا وَلَا تَحْظُرُ مُبَاحًا : لِأَنَّ مُسْلِمًا لَوْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ لَمْ يُسْتَبَحِ اسْتِرْقَاقُهُ وَقَتْلُهُ ، وَلَوْ دَخَلَ حَرْبِيٌّ دَارَ الْإِسْلَامِ لَمْ يَحْرُمِ اسْتِرْقَاقُهُ وَقَتْلُهُ ، فَنَقُولُ : كُلُّ مَنْ جَازَ اسْتِرْقَاقُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ جَازَ اسْتِرْقَاقُهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَالْحَرْبِيِّ ، وَكُلُّ مَنْ حَرُمَ اسْتِرْقَاقُهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ حَرُمَ اسْتِرْقَاقُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَالْمُسْلِمِ ، فَيَدُلُّ الْقِيَاسُ الْأَوَّلُ عَلَى جَوَازِ اسْتِرْقَاقِهِ فِي الدَّارَيْنِ ، وَيَدُلُّ الْقِيَاسُ الثَّانِي عَلَى الْمَنْعِ مِنَ اسْتِرْقَاقِهِ فِي الدَّارَيْنِ ، وَبَطَلَ بِهِمَا فُرْقَةُ بَيْنَ الدَّارَيْنِ .

فَصْلٌ : وَيُجْبَرُ وَلَدُ الْمُرْتَدَّةِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَلَا يُقَرُّ عَلَى الْكُفْرِ غُلَامًا كَانَ أَوْ جَارِيَةً ، وَكَذَلِكَ وَلَدُ وَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلَ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُجْبَرُ الْغُلَامُ عَلَى الْإِسْلَامِ دُونَ الْجَارِيَةِ ، وَيُجْبَرُ الْوَلَدُ عَلَى الْإِسْلَامِ دُونَ وَلَدِ الْوَلَدِ ، إِلَّا أَنْ يُولَدَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَا يُجْبَرُ الْوَلَدُ وَلَا وَلَدُ الْوَلَدِ غُلَامًا كَانَ أَوْ جَارِيَةً . وَفَرَّقَ بَيْنَ الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ : بِأَنَّ الْجَارِيَةَ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهَا وَالْغُلَامَ لَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ ، وَبَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ فِي عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ . وَفَرَّقَ بَيْنَ الْوَلَدِ وَوَلَدِ الْوَلَدِ : بِأَنَّ الْوَلَدَ تَبِعَ أَبَاهُ فِي الْإِسْلَامِ ، وَوَلَدُ الْوَلَدِ لَا يَتْبَعُ جَدَّهُ فِي الْإِسْلَامِ عِنْدَهُ . وَفَرَّقَ بَيْنَ دَارِ الْحَرْبِ وَدَارِ الْإِسْلَامِ : بِأَنَّ دَارَ الْحَرْبِ مُبِيحَةٌ وَدَارَ الْإِسْلَامِ حَاظِرَةٌ . وَكُلُّ هَذِهِ الْفُرُوقِ بَنَاهَا عَلَى أُصُولٍ يُخَالَفُ فِيهَا ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي بَعْضِهَا ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي بَاقِيهَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَأَرَادَ بِذَلِكَ اسْتِوَاءَ الْمُرْتَدِّ وَالْمُرْتَدَّةِ فِي أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَرْأَةَ تُقْتَلُ بِالرِّدَّةِ كَالرَّجُلِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا تُقْتَلُ الْمَرْأَةُ بِالرِّدَّةِ ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهَا بِالرِّدَّةِ ، وَتُؤْخَذُ بِالْإِسْلَامِ جَبْرًا ، سَوَاءٌ أَقَامَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهَا إِذَا لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ وَلَا تُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ الِاسْتِرْقَاقِ . وَهَذَا فَاسِدٌ : لِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَجُزِ اسْتِرْقَاقُهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَجُزِ اسْتِرْقَاقُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، كَالْمُسْلِمِ طَرْدًا ، وَالْحَرْبِيِّ عَكْسًا ، وَلِأَنَّ مَنْ جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ حَرُمَ اسْتِرْقَاقُهُ بِالرِّدَّةِ كَالرَّجُلِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَمَا أَصَابَ أَهْلُ الرِّدَّةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي حَالِ الرِّدَّةِ وَبَعْدَ إِظْهَارِ التَّوْبَةِ فِي قِتَالٍ وَهُمْ مُمْتَنِعُونَ ، أَوْ غَيْرِ قِتَالٍ ، أَوْ عَلَى نَائِرَةٍ ، أَوْ غَيْرِهَا سَوَاءٌ وَالْحُكْمُ

عَلَيْهِمْ كَالْحُكْمِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لَا يَخْتَلِفُ فِي الْقَوَدِ وَالْعَقْلِ وَضَمَانِ مَا يُصِيبُونَ . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : هَذَا خِلَافُ قَوْلِهِ فِي بَابِ قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : فَإِنْ قِيلَ : فَمَا صَنَعَ أَبُو بَكْرٍ فِي أَهْلِ الرِّدَّةِ ؟ قِيلَ : قَالَ لِقَوْمٍ جَاءُوهُ تَائِبِينَ : تَدُونَ قَتْلَانَا ، وَلَا نَدِي قَتْلَاكُمْ . فَقَالَ عُمَرُ : لَا نَأْخُذُ لِقَتْلَانَا دِيَةً . فَإِنْ قِيلَ : فَمَا قَوْلُهُ : تَدُونَ ؟ قِيلَ : إِنْ كَانُوا يُصِيبُونَ غَيْرَ مُتَعَمِّدِينَ وَدَوْا ، وَإِذَا ضَمِنُوا الدِّيَةَ فِي قَتْلٍ غَيْرِ عَمْدٍ كَانَ عَلَيْهِمُ الْقِصَاصُ فِي قَتْلِهِمْ مُتَعَمِّدِينَ . وَهَذَا خِلَافُ حُكْمِ أَهْلِ الْحَرْبِ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَإِنْ قِيلَ : فَلَا نَعْلَمُ مِنْهُمْ أَحَدًا أُقِيدَ بِأَحَدٍ . قِيلَ : وَلَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ قَتْلُ أَحَدٍ بِشَهَادَةٍ ، وَلَوْ ثَبَتَ لَمْ نَعْلَمْ حَاكِمًا أَبْطَلَ لِوَلِيٍّ دَمًا طَلَبَهُ ، وَالرِّدَّةُ لَا تَدْفَعُ عَنْهُمْ قَوَدًا وَلَا عَقْلًا عن المرتدين ، وَلَا تَزِيدُهُمْ خَيْرًا إِنْ لَمْ تَزِدْهُمْ شَرًّا . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : هَذَا عِنْدِي أَقْيَسُ مِنْ قَوْلِهِ فِي كِتَابِ قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ يَطْرَحُ ذَلِكَ كُلَّهُ : لِأَنَّ حُكْمَ أَهْلِ الرِّدَّةِ أَنْ نَرُدَّهُمْ إِلَى حُكْمِ الْإِسْلَامِ ، وَلَا يُرَقُّونَ وَلَا يُغْنَمُونَ كَأَهْلِ الْحَرْبِ المرتدين ، فَكَذَلِكَ يُقَادُ مِنْهُمْ وَيَضْمَنُونَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا مَا أَتْلَفَهُ الْمُرْتَدُّونَ وَأَهْلُ الْبَغْيِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ دَمٍ وَمَالٍ وَهُمْ فِي غَيْرِ مَنَعَةٍ حكمه ، فَمَضْمُونٌ عَلَيْهِمْ بِالْقَوَدِ فِي الدِّمَاءِ ، وَالْغُرْمِ فِي الْأَمْوَالِ . وَمَا أَتْلَفُوهُ وَهُمْ فِي مَنَعَةٍ وَالْمَنَعَةُ : أَنْ لَا يَقْدِرَ الْإِمَامُ عَلَيْهِ حَتَّى يَسْتَعِدَّ لِقِتَالِهِمْ فَفِي ضَمَانِهِ عَلَى أَهْلِ الْبَغْيِ قَوْلَانِ مَضَيَا فِي قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ . فَأَمَّا ضَمَانُهُ عَلَى أَهْلِ الرِّدَّةِ : فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَأَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ ، وَأَكْثَرِ الْبَغْدَادِيِّينَ أَنَّ فِي وُجُوبِ ضَمَانِهِ عَلَيْهِمْ قَوْلَيْنِ كَأَهْلِ الْبَغْيِ سَوَاءٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ ، وَأَبِي الْقَاسِمِ الصَّيْمَرِيِّ ، وَأَكْثَرِ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَاخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ . وَإِنْ كَانَ ضَمَانُ أَهْلِ الْبَغْيِ عَلَى قَوْلَيْنِ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ لِأَهْلِ الْبَغْيِ تَأْوِيلًا مُحْتَمِلًا ، وَلَيْسَ لِأَهْلِ الرِّدَّةِ تَأْوِيلٌ مُحْتَمِلٌ . وَالثَّانِي : أَنَّ لِأَهْلِ الْبَغْيِ إِمَامًا تُنَفَّذُ أَحْكَامُهُ ، وَلَيْسَ لِأَهْلِ الرِّدَّةِ إِمَامٌ تُنَفَّذُ أَحْكَامُهُ . فَإِنْ قِيلَ : بِسُقُوطِ ضَمَانِهِ عَنْهُمْ وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي سِيَرِ الْأَوْزَاعِيِّ فَوَجْهُهُ : قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَهْلِ الرِّدَّةِ : تَدُونَ قَتْلَانَا وَلَا نَدِي قَتْلَاكُمْ . فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَا نَأْخُذُ لِقَتْلَانَا دِيَةً . فَسَكَتَ أَبُو بَكْرٍ رِضًا بِقَوْلِهِ ، وَرُجُوعًا إِلَيْهِ : لِأَنَّهُ عَمِلَ عَلَيْهِ . وَلِأَنَّ طُلَيْحَةَ قَتَلَ فِي رِدَّتِهِ عُكَّاشَةَ بْنَ مِحْصَنٍ وَثَابِتَ بْنَ أَقْرَمَ ، وَفِيهِمَا يَقُولُ طُلَيْحَةُ الْأَسَدِيُّ حِينَ قَتَلَهُمَا :

عَشِيَّةَ غَادَرْتُ ابْنَ أَقْرَمَ ثَاوِيًا وَعُكَّاشَةَ الْغَنْمِيِّ تَحْتَ مَجَالِ أَقَمْتُ لَهُ صَدْرَ الْجَمَالَةِ إِنَّهَا مُعَوَّدَةٌ قَبْلَ الْكُمَاةِ نِزَالِ فَيَوْمًا تَرَاهَا فِي الْجِلَالِ مَصُونَةً وَيَوْمًا تَرَاهَا فِي ظِلَالِ عَوَالِ ثُمَّ أَسْلَمَ ، فَلَمْ يُؤْخَذْ بِدَمِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَلِأَنَّهُ إِسْلَامٌ عَنْ كُفْرٍ فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ ضَمَانُ مَا اسْتَهْلَكَ فِي الْكُفْرِ ، كَأَهْلِ الْحَرْبِ ، وَلِأَنَّ فِي تَضْمِينِهِمْ مَا اسْتَهْلَكُوهُ تَنْفِيرًا لَهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ وَهُمْ مُرَغَّبُونَ فِيهِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُؤْخَذُوا بِمَا يَمْنَعُهُمْ مِنَ الدُّخُولِ فِيهِ . وَإِذَا قِيلَ بِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِمْ وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي أَكْثَرِ الْكُتُبِ فَوَجْهُهُ : قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَهْلِ الرِّدَّةِ : تَدُونَ قَتْلَانَا وَلَا نَدِي قَتْلَاكُمْ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ عَارَضَهُ عُمَرُ ، فَقَالَ : لَا نَأْخُذُ لِقَتْلَانَا دِيَةً . قِيلَ : يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ ذَلِكَ تَفَضُّلًا عَلَيْهِمْ كَعَفْوِ الْأَوْلِيَاءِ ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مُخَالِفًا لِحُكْمِ أَبِي بَكْرٍ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ عَمِلَ بِقَوْلِهِ : لِأَنَّهُ لَمْ يَقْتَصَّ مِنْهُمْ وَلَمْ يُغَرِّمْهُمْ . قِيلَ : الْقِصَاصُ وَالْغُرْمُ حَقٌّ لِغَيْرِهِ وَلَمْ يَأْتِهِ مُطَالِبٌ بِحَقِّهِ مِنْهُ فَمَنَعَهُ ، فَلَمْ يَكُنْ فِي الشِّرْكِ إِسْقَاطٌ لِلْوُجُوبِ . وَمِنَ الِاعْتِبَارِ : أَنَّ كُلَّ مَنْ ضَمِنَ مَا أَتْلَفَهُ ، إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي مَنَعَةٍ ضَمِنَ ، وَإِنْ كَانَ فِي مَنَعَةٍ كَالْمُسْلِمِ طَرْدًا وَالْحَرْبِيِّ عَكْسًا ، وَلِأَنَّ الرِّدَّةَ إِنْ لَمْ تَزِدْهُ شَرًّا ، لَمْ تُفِدْهُ خَيْرًا ، وَهُوَ يَضْمَنُ قَبْلَ الرِّدَّةِ ، فَكَانَ ضَمَانُهُ بَعْدَهَا أَوْلَى .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَإِذَا قَامَتْ لِمُرْتَدٍّ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ أَظْهَرَ الْقَوْلَ بِالْإِيمَانِ ، ثُمَّ قَتَلَهُ رَجُلٌ يَعْلَمُ تَوْبَتَهُ أَوْ لَا يَعْلَمُهَا ، فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْمُرْتَدُّ إِذَا كَانَ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْتُلَهُ إِلَّا الْإِمَامُ : لِأَنَّ قَتْلَهُ حَدٌّ فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْحُدُودِ الَّتِي تَخْتَصُّ الْأَئِمَّةُ بِإِقَامَتِهَا ، وَإِنْ كَانَ الْمُرْتَدُّ مُحَارِبًا فِي مَنَعَةٍ جَازَ أَنْ يَقْتُلَهُ كُلُّ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَخْتَصَّ الْإِمَامُ بِقَتْلِهِ كَمَا يَجُوزُ قَتْلُ أَهْلِ الْحَرْبِ . فَإِذَا قَتَلَ مُسْلِمٌ مُرْتَدًّا فَادَّعَى وَلِيُّهُ أَنَّهُ قَدْ كَانَ أَسْلَمَ ، وَأَنْكَرَ الْقَاتِلُ إِسْلَامَهُ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِوَلِيِّهِ بَيِّنَةٌ عَلَى إِسْلَامِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاتِلِ فِي بَقَاءِ رِدَّتِهِ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي قَتْلِهِ ، سَوَاءٌ كَانَ فِي مَنَعَةٍ أَوْ غَيْرِ مَنَعَةٍ . فَإِنْ أَقَامَ وَلِيُّهُ الْبَيِّنَةَ عَلَى إِسْلَامِهِ ، فَإِنْ عَلِمَ الْقَاتِلُ بِإِسْلَامِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِإِسْلَامِهِ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا وَفِي كِتَابِ " الْأُمِّ " : أَنَّ عَلَيْهِ الْقَوَدَ . وَقَالَ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ : لَا قَوَدَ عَلَيْهِ . فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اخْتِلَافِ ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اخْتِلَافَ نَصِّهِ مُوجِبٌ لِاخْتِلَافِ قَوْلِهِ ، فَيَكُونُ وُجُوبُ الْقَوَدِ عَلَى قَوْلَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : لَا قَوْدَ عَلَيْهِ : لِأَنَّ تَقَدُّمَ الرِّدَّةِ شُبْهَةٌ فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ ، فَأَشْبَهَ الْحَرْبِيَّ إِذَا أَسْلَمَ ، وَقَتَلَهُ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِإِسْلَامِهِ حكمه سَقَطَ عَنْهُ الْقَوَدُ وَضَمِنَهُ بِالدِّيَةِ ، كَذَلِكَ إِسْلَامُ الْمُرْتَدِّ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ : أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ : لِأَنَّ نَفْسَهُ فِي الطَّرَفَيْنِ مَحْظُورَةٌ وَإِبَاحَتُهَا مَخْصُوصَةٌ ، فَاقْتَضَى عُمُومُ الْحَظْرِ وُجُوبَ الْقَوَدِ ، وَلَا يَسْقُطُ بِخُصُوصِ الْإِبَاحَةِ ، وَبِذَلِكَ خَالَفَ حُكْمَ الْحَرْبِيِّ الَّذِي هُوَ عَلَى عُمُومِ الْإِبَاحَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ اخْتِلَافَ نَصِّهِ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ ، وَمَنْ قَالَ بِهَذَا اخْتَلَفُوا فِيهَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي أَسْقَطَ فِيهِ الْقَوَدَ : إِذَا كَانَتْ آثَارُ الرِّدَّةِ عَلَيْهِ بَاقِيَةً مِنْ قَيْدٍ أَوْ حَبْسٍ . وَالْمَوْضِعُ الَّذِي أَوْجَبَ فِيهِ الْقَوَدَ : إِذَا زَالَتْ عَنْهُ آثَارُ الرِّدَّةِ ، فَلَمْ يَبْقَ فِيهِ قَيْدٌ وَلَا حَبْسٌ ، وَلَا اعْتِبَارَ بِشَاهِدِ حَالِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي : أَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي أُسْقِطَ فِيهِ الْقَوَدُ : إِذَا كَانَ فِي مَنَعَةٍ . وَالْمَوْضِعَ الَّذِي أُوجِبَ فِيهِ الْقَوَدُ : إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي مَنَعَةٍ . لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ قَتْلِ غَيْرِ الْمُمْتَنِعِ ، وَغَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْ قَتْلِ الْمُمْتَنِعِ ، فَأُجْرِيَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَمْكِينٍ وَمَنْعٍ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا قَتَلَ مُسْلِمٌ ذِمِّيًّا قَدْ أَسْلَمَ وَلَمْ يَعْلَمْ بِإِسْلَامِهِ ، أَوْ قَتَلَ حُرٌّ عَبْدًا قَدْ أُعْتِقَ وَلَمْ يَعْلَمْ بِعِتْقِهِ ، فَفِي وُجُوبِ الْقَوَدِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَسْقُطُ الْقَوَدُ بِالشُّبْهَةِ وَتَكْمُلُ الدِّيَةُ حَالَّةً . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجِبُ الْقَوَدُ لِمُصَادَفَةِ الْقَتْلِ الْمَحْظُورِ شُرُوطَ الْقَوَدِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا أُكْرِهَ الْمُسْلِمُ عَلَى كَلِمَةِ الْكُفْرِ حكمه لَمْ يَصِرْ بِهَا كَافِرًا ، وَكَانَ عَلَى إِسْلَامِهِ بَاقِيًا ، وَلَمْ تَبِنْ زَوْجَتُهُ . وَوَافَقَ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى بَقَائِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ ، وَخَالَفَ فِي نِكَاحِ زَوْجَتِهِ فَأَبْطَلَهُ اسْتِحْسَانًا لَا قِيَاسًا . وَالدَّلِيلُ عَلَى بَقَائِهِ عَلَى إِسْلَامِهِ : قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا [ النَّحْلِ : 106 ] الْآيَةَ وَفِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ ، فَتَرْتِيبُهَا : مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ وَشَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرَهُ فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ، فَاسْتِثْنَاءُ الْمُكْرَهِ عَلَى الْكُفْرِ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ حُكِمَ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ عَلَى إِيمَانِهِ . وَقِيلَ : إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ حِينَ أَكْرَهَتْهُ قُرَيْشٌ بِمَكَّةَ مَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْكُفْرِ ، فَامْتَنَعَ أَبَوَاهُ فَقُتِلَا ، وَأَجَابَ إِلَيْهِ عَمَّارٌ فَأُطْلِقَ . وَالدَّلِيلُ عَلَى بَقَاءِ نِكَاحِهِ عَلَى

الصِّحَّةِ : أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُؤَثِّرِ الْإِكْرَاهُ فِي إِيمَانِهِ وَهُوَ أَصْلٌ ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يُؤَثِّرَ فِي نِكَاحِهِ وَهُوَ فَرْعٌ . فَأَمَّا إِذَا أَظْهَرَ الْمُسْلِمُ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَلَمْ يُعْلَمْ إِكْرَاهُهُ عَلَيْهَا وَلَا اعْتِقَادُهُ لَهَا حكمه : فَإِنْ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ حُكِمَ بِكُفْرِهِ وَرِدَّتِهِ : لِأَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ لَا إِكْرَاهَ فِيهَا ، وَإِنْ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ رُوعِيَتْ حَالُهُ : فَإِنْ تَلَفَّظَ بِهَا وَهُوَ عَلَى صِفَةِ الْإِكْرَاهِ فِي قَيْدٍ أَوْ حَبْسٍ ، فَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ : أَنَّهُ تَلَفَّظَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ مُكْرَهًا ، فَلَا يُحْكَمُ بِرِدَّتِهِ إِلَّا أَنْ يُعْلَمَ اعْتِقَادُهُ لِلْكُفْرِ . وَإِنْ كَانَ عَلَى صِفَةِ الِاخْتِيَارِ مُخْلَى السَّبِيلِ ، فَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ : أَنَّهُ تَلَفَّظَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ مُخْتَارًا ، فَيُحْكَمُ بِرِدَّتِهِ إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ قَالَهَا مُكْرَهًا .

فَصْلٌ : وَإِذَا أُكْرِهَ الْكَافِرُ عَلَى الْإِسْلَامِ فَتَلَفَّظَ بِالشَّهَادَتَيْنِ مُكْرَهًا ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ لِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ ، وَذَلِكَ فِيمَنْ يَجُوزُ إِقْرَارُهُ عَلَى كُفْرِهِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَأَصْحَابِ الْعَهْدِ ، فَلَا يَصِيرُ بِالْإِكْرَاهِ مُسْلِمًا لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ التَّعَدِّي بِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْإِكْرَاهُ عَلَيْهِ بِاسْتِحْقَاقٍ ، كَإِكْرَاهِ الْمُرْتَدِّ وَإِكْرَاهِ مَنْ جَازَ قَتْلُهُ مِنْ أَسْرَى أَهْلِ الْحَرْبِ ، فَيَصِيرُ بِالْإِكْرَاهِ مُسْلِمًا لِخُرُوجِهِ عَنِ التَّعَدِّي . وَمِثَالُهُ : الْإِكْرَاهُ عَلَى الطَّلَاقِ ، فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ ، وَإِنْ كَانَ بِاسْتِحْقَاقٍ فِي الْمَوْلَى وَقَعَ الطَّلَاقُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : وَإِذَا ارْتَدَّ الْمُسْلِمُ ثُمَّ تَابَ ، ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ تَابَ ، وَكَثُرَ ذَلِكَ مِنْهُ ، قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ وَلَوِ ارْتَدَّ مِائَةَ مَرَّةٍ ، وَهُوَ قَوْلُ الْجَمَاعَةِ . وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ : لَا أَقْبَلُ تَوْبَتَهُ فِي الثَّالِثَةِ : لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ [ النِّسَاءِ : 137 ] وَقَوْلُهُ : ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا [ النِّسَاءِ : 137 ] يُرِيدُ بِهَ الْكُفْرَ الثَّالِثَ . وَدَلِيلُنَا : قَوْلُهُ تَعَالَى : قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [ الْأَنْفَالِ : 38 ] فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ . وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ وَلِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْإِسْلَامِ وَإِنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ الْكُفْرُ ، فَوَجَبَ أَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ مَا أَقَرَّ بِهِ كَقَبُولِهِ مِنْ غَيْرِهِ . فَأَمَّا الْآيَةُ فَهِيَ فِيمَنْ أَرَادَ كُفْرًا وَلَمْ يُحْدِثْ إِيمَانًا ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهَا دَلِيلٌ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ إِسْلَامَهُ مَقْبُولٌ وَإِنْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ بَعْدَ الرِّدَّةِ الثَّانِيَةِ ، وَمَا يَلِيهَا مِنْ كُلِّ رِدَّةٍ وَلَا يُحْبَسُ .

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا أُعَزِّرُهُ فِي الثَّانِيَةِ وَأَحْبِسُهُ فِي الثَّالِثَةِ وَمَا بَعْدَهَا . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ لَا وَجْهَ لَهُ : لِأَنَّ الْحَبْسَ لَا يَكُفُّهُ عَنِ الرِّدَّةِ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْثِيرٌ ، وَهُوَ فِي الثَّانِيَةِ مُتَهَاوِنٌ بِالدِّينِ كَهُوَ فِي الثَّالِثَةِ ، فَاقْتَضَى التَّعْزِيرَ فِيهَا كَمَا يُعَزَّرُ فِي الثَّالِثَةِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
_____كِتَابُ صَوْلِ الْفَحْلِ _____

بَابُ دَفْعِ الرَّجُلِ عَنْ نَفْسِهِ وَحَرِيمِهِ وَمَنْ يَتَطَلَّعُ فِي بَيْتِهِ

كِتَابُ صَوْلِ الْفَحْلِ بَابُ دَفْعِ الرَّجُلِ عَنْ نَفْسِهِ وَحَرِيمِهِ وَمَنْ يَتَطَلَّعُ فِي بَيْتِهِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " إِذَا طَلَبَ الْفَحْلُ رَجُلًا وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى دَفْعِهِ إِلَّا بِقَتْلِهِ ، فَقَتَلَهُ دفع الصائل بالقتل لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ غُرْمٌ ، كَمَا لَوْ حَمَلَ عَلَيْهِ مُسْلِمٌ بِالسَّيْفِ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى دَفْعِهِ إِلَّا بِضَرْبِهِ ، فَقَتَلَهُ بِالضَّرْبِ أَنَّهُ هَدَرٌ . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ فَإِذَا سَقَطَ عَنْهُ الْأَكْثَرُ : لِأَنَّهُ دَفَعَهُ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا يَجُوزُ لَهُ كَانَ الْأَقَلُّ أَسْقَطَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا خَافَ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ طَالِبٍ لِقَتْلِهِ ، أَوْ قَاطِعٍ لِطُرُقِهِ ، أَوْ جَارِحٍ لِبَدَنِهِ ، أَوْ خَافَهُ عَلَى وَلَدِهِ أَوْ زَوْجَتِهِ ، فَلَهُ دَفْعُ الطَّالِبِ عَلَى مَا سَنَصِفُهُ وَإِنْ أَفْضَى الدَّفْعُ إِلَى قَتْلِهِ ، سَوَاءٌ كَانَ الطَّالِبُ آدَمِيًّا مُكَلَّفًا كَالْبَالِغِ الْعَاقِلِ ، أَوْ كَانَ غَيْرَ مُكَلَّفٍ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ ، أَوْ كَانَ بَهِيمَةً كَالْفَحْلِ الصَّائِلِ وَالْبَعِيرِ الْهَائِجِ ، لِمَا هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ مِنْ إِحْيَاءِ نَفْسِهِ : لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [ النِّسَاءِ : 29 ] وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مِنَ الْمُسْلِمِ مَالَهُ وَدَمَهُ . وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ جَارِيَةً خَرَجَتْ مِنَ الْمَدِينَةِ تَحْتَطِبُ ، فَتَبِعَهَا رَجُلٌ فَرَاوَدَهَا عَنْ نَفْسِهَا ، فَرَمَتْهُ بِفِهْرٍ فَقَتَلَتْهُ ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ : هَذَا قَتِيلُ اللَّهِ ، وَاللَّهِ لَا يُودَى أَبَدًا . وَمَعْنَى " قَتِيلُ اللَّهِ " : أَيْ : أَبَاحَ اللَّهُ قَتْلَهُ . وَفِي قَوْلِهِ : " وَاللَّهِ لَا يُودَى أَبَدًا " تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ خَارِجٌ مَخْرَجَ الْقَسَمِ بِاللَّهِ أَنَّهُ لَا يُغَرَّمُ دِيَتَهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ مَنْ أَبَاحَ قَتْلَهُ لَمْ يُغَرَّمْ دِيَتُهُ ، وَلِأَنَّ الطَّلَبَ جِنَايَةٌ وَعُقُوبَةُ الْجَانِي مُبَاحَةٌ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ دَفْعِهِ بِالْقَتْلِ وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، كَانَتْ نَفْسُهُ هَدَرًا مُكَلَّفًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُكَلَّفٍ .

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ كَانَ آدَمِيًّا صيال الأدمي كَالْبَالِغِ الْعَاقِلِ كَانَتْ نَفْسُهُ هَدَرًا ، حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا . وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُكَلَّفٍ كَالصَّبِيِّ صيال الصبي وَالْمَجْنُونِ صيال المجنون ، أَوْ كَانَ بَهِيمَةً صيال البهيمة كَالْفَحْلِ الصَّائِلِ ، كَانَتْ نَفْسُهُ مَعَ إِبَاحَةِ قَتْلِهِ مَضْمُونَةً بِدِيَةِ الْأَذَى ، وَقِيمَةِ الْبَهِيمَةِ : اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ . وَهَذَا الْمَالُ مُسْتَهْلَكٌ عَلَى مَالِكِهِ بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا عَلَى مُسْتَهْلِكِهِ ، قَالَ : وَلِأَنَّهُ اسْتَهْلَكَ مِلْكَ غَيْرِهِ لِإِحْيَاءِ نَفْسِهِ ، فَوَجَبَ إِذَا كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِ مَالِكِهِ أَنْ يَكُونَ مُلْتَزِمًا لِضَمَانِهِ ، كَالْمُضْطَرِّ إِلَى طَعَامِ غَيْرِهِ ، وَهَذَا أَوْلَى بِالضَّمَانِ : لِأَنَّهُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ إِحْيَاءِ نَفْسِهِ بِأَكْلِ الطَّعَامِ ، وَعَلَى غَيْرِ يَقِينٍ مِنْ إِحْيَاءِ نَفْسِهِ بِهَذَا الْقَتْلِ : لِجَوَازِ أَنْ يَنْدَفِعَ عَنْهُ بِغَيْرِ قَتْلٍ ، فَلَمَّا ضَمِنَ مَا يَتَيَقَّنُ بِهِ الْحَيَاةَ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَضْمَنَ مَا لَا يَتَيَقَّنُ بِهِ الْحَيَاةَ ، قَالَ : وَلِأَنَّ الْبَهِيمَةَ لَا قَصْدَ لَهَا : لِأَنَّهَا لَوْ أَتْلَفَتْ شَيْئًا وَلَيْسَ صَاحِبُهَا مَعَهَا كَانَ هَدَرًا : لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : جَرْحُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ فَإِذَا بَطَلَ قَصْدُهَا سَقَطَ حُكْمُ الصَّوْلِ ، فَصَارَ كَالْقَاتِلِ لَهَا بِغَيْرِ صَوْلٍ ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ . وَدَلِيلُنَا : قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ التَّوْبَةِ : 91 ] وَهَذَا بِالدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ مُحْسِنٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهِ سَبِيلٌ فِي الْغُرْمِ ، وَقَالَ تَعَالَى : وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ [ الشُّورَى : 41 ] . فَإِنْ قِيلَ : لَا يُنْسَبُ إِلَى غَيْرِ الْمُكَلَّفِ ظُلْمٌ . قِيلَ : الظُّلْمُ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ ، فَصَارَ الدَّافِعُ مَظْلُومًا ، وَإِنْ لَمْ يُنْسَبْ إِلَى الْمَدْفُوعِ بِرَفْعِ الْقَلَمِ عَنْهُ ظُلِمَ ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ فَاقْتَضَى ظَاهِرُهُ : أَنْ لَا يُؤْخَذَ مِنْهُ غُرْمٌ مَا لَمْ تَطِبْ نَفْسُهُ بِهِ . وَمِنَ الِاعْتِبَارِ : أَنَّهُ إِتْلَافٌ بِدَفْعٍ مُبَاحٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ فِيهِ الضَّمَانُ قِيَاسًا عَلَى قَتْلِ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ الْمُكَلَّفِ . فَإِنْ قِيلَ : الْمَعْنَى فِي الْمُكَلَّفِ : أَنَّهُ قَدْ أَبَاحَ قَتْلَ نَفْسِهِ بِالطَّلَبِ ، وَلَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ الْمُكَلَّفِ إِبَاحَةُ نَفْسِهِ بِالطَّلَبِ : لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لِقَصْدِهِ .

قِيلَ : افْتِرَاقُهُمَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ مِنَ اسْتِوَائِهِمَا فِي إِبَاحَةِ الْقَتْلِ ، لَمْ يَمْنَعْ مِنَ اسْتِوَائِهِمَا فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ . وَلِأَنَّهُ قَتْلٌ مُبَاحٌ بِسَبَبٍ كَانَ مِنَ الصَّوْلِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَدْرًا كَالْقَتْلِ بِالرِّدَّةِ وَالزِّنَا ، وَلِأَنَّ مَا سَقَطَ بِهِ ضَمَانُ الْآدَمِيِّ سَقَطَ بِهِ ضَمَانُ الْبَهِيمَةِ ، قِيَاسًا عَلَى قَتْلِ الصَّيْدِ إِذَا صَالَ عَلَى مُحْرِمٍ لَمْ يُضْمَنْ بِالْجَزَاءِ ، كَذَلِكَ الْبَهِيمَةُ الْمَمْلُوكَةُ لَا تُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَتْلُ الصَّيْدِ فِي الْإِحْرَامِ مَضْمُونٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ أَخَفَّ حُكْمًا مِنَ الْمَضْمُونِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ . قِيلَ : لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ هَذَا مِنَ اسْتِوَائِهِمَا فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ إِذَا اضْطُرَّ إِلَى إِتْلَافِهَا لِشِدَّةِ جُوعِهِ ، لَمْ يَمْنَعْ مِنَ اسْتِوَائِهِمَا فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ إِذَا قَتَلَهَا لِلدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ ، وَلِأَنَّ حُرْمَةَ الْآدَمِيِّ أَغْلَظُ مِنْ حُرْمَةِ الْبَهِيمَةِ : لِضَمَانِ نَفْسِهِ بِالْكَفَّارَةِ وَالدِّيَةِ ، وَانْفِرَادِ ضَمَانِ الْبَهِيمَةِ بِالْقِيمَةِ ، فَلَمَّا سَقَطَ بِالدَّفْعِ ضَمَانُ الْأَغْلَظِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَسْقُطَ بِهِ ضَمَانُ الْأَخَفِّ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى أَكْلِ الْمُضْطَرِّ : فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : انْتِقَاضُهُ بِالْعَبْدِ إِذَا قَتَلَهُ دِفَاعًا عَنْ نَفْسِهِ : لِأَنَّهُ قَدْ أَحْيَا نَفْسَهُ بِقَتْلِ مَالِ غَيْرِهِ وَلَا يَضْمَنُهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ سَلِمَ مِنْ هَذَا النَّقْصِ لَكَانَ لِهَذَا الْمَعْنَى فِي الطَّعَامِ أَنَّهُ أَتْلَفَهُ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ : وَهُوَ ضَرُورَةُ جُوعِهِ . وَالْمَعْنَى فِي صَوْلِ الْفَحْلِ : أَنَّهُ قَتَلَهُ لِمَعْنًى فِي الْفَحْلِ وَهُوَ مَخَافَةُ صَوْلِهِ ، فَافْتَرَقَا فِي الْمَعْنَى مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ، فَوَجَبَ افْتِرَاقُهُمَا فِي الضَّمَانِ ، كَالْعَبْدِ إِذَا قَتَلَهُ لِلْجُوعِ ضَمِنَهُ ، وَلَوْ قَتَلَهُ لِلدَّفْعِ لَمْ يَضْمَنْهُ ، وَكَالصَّيْدِ إِذَا قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ لِجُوعِهِ ضَمِنَهُ ، وَلَوْ قَتَلَهُ لِلدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ قَصْدَ الْبَهِيمَةِ لَا حُكْمَ لَهُ : فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : انْتِقَاضُهُ بِصَوْلِ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ يَسْقُطُ بِهِ الْجَزَاءُ ، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ لَوْ لَمْ يَصُلْ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا حَلَّ قَتْلُهُ بِصَوْلِهِ وَلَمْ يَحِلَّ إِذَا لَمْ يَصُلْ دَلَّ عَلَى سُقُوطِ الضَّمَانِ بِصَوْلِهِ إِذَا لَمْ يَصُلْ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ سُقُوطُ الضَّمَانِ فِي تَلَفِ الْمَدْفُوعِ مِنْ آدَمِيٍّ وَبَهِيمَةٍ ، فَالْكَلَامُ فِيهِ يَشْتَمِلُ عَلَى بَيَانِ أَرْبَعَةِ أَحْكَامٍ : أَحَدُهَا : صِفَةُ الْحَالِ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا الدَّفْعُ حال دفع الصائل : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الطَّالِبُ قَادِرًا عَلَى

الْمَطْلُوبِ يَصِلُ إِلَيْهِ إِذَا أَرَادَهُ ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْهُ فَلَيْسَ لِلْمَطْلُوبِ أَنْ يَدْفَعَ : لِأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلطَّلَبِ ، وَالْعَجْزُ يَكُونُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : خَوْفُ السُّلْطَانِ مِنَ الْمُجَاهَرَةِ بِالطَّلَبِ فَيَسْتَخْفِي تَوَقُّعًا لِاخْتِلَاسِهِ ، فَلَيْسَ لِلْمَطْلُوبِ الدَّفْعُ وَيَكِلُهُ إِلَى السُّلْطَانِ فِيمَا يَخَافُهُ مِنَ اخْتِلَاسِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَعْجَزَ عَنْهُ لِامْتِنَاعِهِ مِنْهُ بِحِصْنٍ يَأْوِي إِلَيْهِ أَوْ جَبَلٍ يَرْقَاهُ أَوْ عَشِيرَةٍ يَنْضَمُّ إِلَيْهَا ، فَلَيْسَ لَهُ الدَّفْعُ : لِأَنَّهُ مَدْفُوعٌ عَنْهُ . فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا نَهْرٌ مَانِعٌ نُظِرَ فِيهِ ، فَإِنْ كَانَ وَاسِعًا لَا تَصِلُ إِلَيْهِ سِهَامُهُ إِلَّا بِالْعُبُورِ إِلَيْهِ كَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ ، لَمْ يَتَعَرَّضْ لِدَفْعِهِ مَا لَمْ يَعْبُرْ إِلَيْهِ إِذَا لَمْ يَقْدِرِ الْمَطْلُوبُ أَنْ يَبْعُدَ عَنْ سِهَامِ الطَّالِبِ ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْبُعْدِ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ كَفَّ عَنْهُ وَبَعُدَ مِنْهُ .

فَصْلٌ : وَالْحُكْمُ الثَّانِي : فِي الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَهُ عَنْهُ ، وَهُوَ أَنْ يَدْفَعَهُ إِذَا أَرَادَ نَفْسَهُ أقسام الصيال من حيث المصول عليه أَوْ وَلَدَهُ أَوْ زَوْجَتَهُ لِقَتْلٍ أَوْ فَاحِشَةٍ أقسام الصيال من حيث المصول عليه أَوْ أَذًى ، أَوْ أَرَادَ مَالَهُ أقسام الصيال من حيث المصول عليه أَوْ حَرِيمَهُ أَوْ مَا هُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْهُ ، فَيَكُونُ حُكْمُ دَفْعِهِ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِهِ وَذُرِّيَّتِهِ : كَحُكْمِ دَفْعِهِ عَنْ نَفْسِهِ . وَحُكْمُ دَفْعِهِ عَنِ الْمَالِ وَالْحَرِيمِ : كَحُكْمِ دَفْعِهِ عَنِ النُّفُوسِ : لِرِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ . وَالشَّهِيدُ : مَنْ كَانَ لَهُ الْقِتَالُ . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَلَا إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا ، فَجَمَعَ بَيْنَ الدَّمِ وَالْمَالِ وَالْعِرْضِ ، فَدَلَّ عَلَى اشْتِرَاكِهِمْ فِي حُكْمِ الدَّفْعِ ، فَإِنْ كَانَ الطَّالِبُ يَقْصِدُهُ بِالْقَذْفِ وَالسَّبِّ وَلَا يَتَعَدَّاهُ إِلَى نَفْسٍ وَلَا مَالٍ ، فَلَيْسَ لَهُ دَفْعُهُ بِجُرْحٍ وَلَا ضَرْبٍ ، وَلَا مُقَاتَلَتُهُ عَلَيْهِ بِقَذْفٍ وَلَا سَبٍّ : لِأَنَّهُ مَدْفُوعٌ عَنِ الْقَذْفِ بِالْحَدِّ ، وَعَنِ السَّبِّ بِالتَّعْزِيرِ ، وَكِلَاهُمَا مِمَّا يَقُومُ السُّلْطَانُ بِهِمَا ، فَإِنْ بَعُدَا عَنِ السُّلْطَانِ فِي بَادِيَةٍ نَائِيَةٍ فَقَدَرَ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْحَدِّ وَالتَّعْزِيرِ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ مُجَاوَزَةٍ فِيهِ جَازَ : لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُ ، فَصَارَ كَالدَّيْنِ الَّذِي يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَوَصَّلَ إِلَى أَخْذِهِ إِذَا مُنِعَ مِنْهُ .

فَصْلٌ : وَالْحُكْمُ الثَّالِثُ فِي صِفَةِ الدَّفْعِ دفع الصائل وَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِأَقَلِّ مَا يَنْدَفِعُ بِهِ وَأَقَلُّهُ الْكَلَامُ ، فَإِنْ كَانَ يَنْدَفِعُ بِالْكَلَامِ بِالنَّهْيِ وَالْوَعِيدِ وَلَمْ يَتَجَاوَزْهُ إِلَى ضَرْبٍ وَلَا جِرَاحٍ ، فَإِنْ تَجَاوَزَهُ كَانَ مَأْخُوذًا بِهِ . وَإِنْ لَمْ يَنْدَفِعْ بِالْكَلَامِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَتَجَاوَزَهُ إِلَى الضَّرْبِ دُونَ الْجِرَاحِ ، وَيُعْتَبَرُ مِنْ عَدَدِ الضَّرْبِ وَصِفَتِهِ قَدْرُ مَا يَنْدَفِعُ بِهِ ، فَإِنْ تَجَاوَزَهُ إِلَى زِيَادَةٍ أَوِ الْجِرَاحِ

بِالْحَدِيدِ ، وَيُعْتَبَرُ فِيهِ قَدْرُ مَا يَنْدَفِعُ بِهِ ، فَإِنْ تَجَاوَزَهُ إِلَى زِيَادَةٍ فِي الْجِرَاحِ أَوْ إِلَى الْقَتْلِ كَانَ مَأْخُوذًا بِهِ . وَإِنْ كَانَ لَا يَنْدَفِعُ إِلَّا بِالْقَتْلِ كَانَ لَهُ قَتْلُهُ . وَإِنْ كَانَ يَنْدَفِعُ عَنْهُ بِجِرَاحَةٍ وَاحِدَةٍ فَجَرَحَهُ جِرَاحَتَيْنِ فَمَاتَ مِنْهَا ، فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ فِي النَّفْسِ ، وَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ : لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ جِرَاحَتَيْنِ : إِحْدَاهُمَا : مُبَاحَةٌ لَا تُضْمَنُ ، وَالثَّانِيَةُ : مَحْظُورَةٌ تُضْمَنُ . وَكَذَلِكَ لَوِ انْدَفَعَ بِجِرَاحِهِ فَجَرَحَهُ ثَلَاثَ جِرَاحَاتٍ ، ضَمِنَ نِصْفَ الدِّيَةِ ، وَكَذَلِكَ لَوِ انْدَفَعَ بِجِرَاحَتَيْنِ فَجَرَحَهُ ثَلَاثًا ضَمِنَ نِصْفَ الدِّيَةِ ، وَلَا تَتَقَسَّطُ الدِّيَةُ عَلَى أَعْدَادِ الْجِرَاحِ ، إِنَّمَا تَتَقَسَّطُ عَلَى أَحْكَامِهَا فِي الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ كَالْمُرْتَدِّ إِذَا جُرِحَ فِي حَالِ الرِّدَّةِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ ، وَكَالشَّرِيكَيْنِ فِي الْجِرَاحِ إِذَا جُرِحَ أَحَدُهُمَا جِرَاحَةً وَجُرِحَ الْآخَرُ عَشْرًا ، كَانَا فِي الدِّيَةِ سَوَاءً . وَهَكَذَا لَوِ انْدَفَعَ بِقَطْعِ إِحْدَى يَدَيْهِ فَعَادَ بَعْدَ قَطْعِهَا وَقَطَعَ الْيَدَ الْأُخْرَى ضَمِنَهَا ، فَإِنْ سَرَى الْقَطْعُ إِلَى نَفْسِهِ فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ فِي النَّفْسِ ، وَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ ، وَإِنِ انْدَمَلَ الْقَطْعُ كَانَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ فِي الْيَدِ الثَّانِيَةِ أَوْ دِيَتُهَا . وَلَا يَجُوزُ إِذَا وَلَّى الطَّالِبُ مُدْبِرًا أَنْ يُتْبَعَ بِجِرَاحٍ وَلَا قَتْلٍ ، وَيَكُونُ مَا فَعَلَهُ الْمَطْلُوبُ بَعْدَ إِدْلَائِهِ عَنْهُ الطَّالِبَ مِنْ جِرَاحٍ وَقَتْلٍ مَضْمُونًا عَلَيْهِ ، كَالْمُحَارِبِينَ إِذَا وَلَّوْا عَنْ قَطْعِ الطَّرِيقِ ، وَالْبُغَاةِ إِذَا أَدْبَرُوا عَنِ الْقِتَالِ .

فَصْلٌ : وَالْحُكْمُ الرَّابِعُ فِي جَوَازِ الدَّفْعِ وَوُجُوبِهِ ، وَهُوَ يَخْتَلِفُ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَطْلُوبِ ، وَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا جَازَ وَلَمْ يَجِبْ ، وَهُوَ طَلَبُ الْمَالِ ، فَالْمَطْلُوبُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ مَالِهِ مايجوز فيه دفع الصائل وَبَيْنَ أَنْ يُمَكَّنَ مِنْهُ وَلَا يَدْفَعَ عَنْهُ : لِأَنَّ بَذْلَ الْمَالِ مُبَاحٌ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا وَجَبَ الدَّفْعُ عَنْهُ ، وَهُوَ مَنْ أُرِيدَ مِنْهُ قَتْلُ غَيْرِهِ مِنْ وَلَدٍ أَوْ زَوْجَةٍ أَوْ أُرِيدَ مِنْ أَحَدِهِمُ الْفَاحِشَةُ ما يجوز فيه دفع الصائل ، فَالدَّفْعُ عَنْهُ وَاجِبٌ ، وَفِي الْإِمْسَاكِ عَنْهُ مَأْثَمٌ : لِأَنَّ إِبَاحَةَ ذَلِكَ مَحْظُورٌ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا اخْتُلِفَ فِي وُجُوبِهِ وَجَوَازِهِ : وَهُوَ إِذَا أُرِيدَتْ نَفْسُهُ ، وَهَذَا مُعْتَبَرٌ بِالطَّالِبِ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ زَاجِرٌ مِنْ نَفْسِهِ كَالْبَهِيمَةِ وَالْمَجْنُونِ ، فَوَاجِبٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ ، وَيَكُونُ فِي الْكَفِّ كَالْأُذُنِ فِي قَتْلِ نَفْسِهِ . وَإِنْ كَانَ الطَّالِبُ مَنْ يَزْجُرُهُ عَنِ الْقَتْلِ عَقْلٌ وَدِينٌ كَالْمُكَلَّفِ مِنَ الْآدَمِيِّينَ ، فَفِي وُجُوبِ الدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ وَجْهَانِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي كِتَابِ الْجِنَايَاتِ : أَحَدُهُمَا : يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّفْعُ عَنْ نَفْسِهِ ، وَيَكُونُ آثِمًا بِالْكَفِّ : لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [ النِّسَاءِ : 29 ] وَلِأَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ قَتْلُ نَفْسِهِ وَإِبَاحَةُ قَتْلِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ لَهُ الدَّفْعُ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَفَّ لَمْ يَأْثَمْ : لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِي ابْنَيْ آدَمَ : لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ [ الْمَائِدَةِ : 28 ]

وَلِأَنَّ لِلطَّالِبِ زَاجِرٌ مِنْ نَفْسِهِ ، وَلِذَلِكَ امْتَنَعَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ عَضَّ يَدَهُ رَجُلٌ فَانْتَزَعَ يَدَهُ فَنَدَرَتْ ثَنِيَّتَا الْعَاضِّ ، كَانَ ذَلِكَ هَدَرًا ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَيَدَعُ يَدَهُ فِي فِيكَ تَقْضِمُهَا كَأَنَّهَا فِي فِي فَحْلٍ وَأَهْدَرَ ثَنِيَّتَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَحُكْمُ الدَّفْعِ عَنِ الْأَطْرَافِ كَحُكْمِ الدَّفْعِ عَنِ النَّفْسِ ، فَإِذَا عَضَّ يَدَهُ فَلَهُ أَنْ يَنْتَزِعَهَا مِنْ فِيهِ ، وَإِنْ سَقَطَ بِنَزْعِهَا أَسْنَانُ الْعَاضِّ كَانَتْ هَدَرًا ، وَلَا يَلْزَمُهُ زَجْرُهُ بِالْقَوْلِ قَبْلَ النَّزْعِ . فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى خَلَاصِهَا بِالنَّزْعِ تَجَاوَزَهُ إِلَى أَقَلِّ مَا يُمَكِنُ ، وَلَا يَتَجَاوَزُهُ مِنَ الْأَقَلِّ إِلَى الْأَكْثَرِ ، وَتَنْهَدِرُ بِالْجَذْبِ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا أَسْنَانُ الْعَاضِّ . وَيُقَالُ لِلْعَضِّ بِالْأَسْنَانِ الْقَضْمُ ، وَلِلْعَضِّ بِالْأَضْرَاسِ الْخَضْمُ ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ : يَا ابْنَ آدَمَ تَخْضِمُ وَتَقْضِمُ ، وَالْحِسَابُ فِي الْبَيْدَرِ . فَإِذَا سَقَطَتْ أَسْنَانُ الْعَاضِّ سَقَطَ ضَمَانُهَا عَنِ الْمَعْضُوضِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ . وَقَالَ مَالِكٌ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى : يَضْمَنُهَا الْمَعْضُوضُ وَإِنْ لَمْ يَضْمَنِ النَّفْسَ . وَالدَّلِيلُ عَلَى سُقُوطِ الضَّمَانِ فِي الْأَسْنَانِ وَالْأَطْرَافِ كَسُقُوطِهِ فِي النَّفْسِ : مَا رَوَاهُ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ ، عَنْ عَمَّيْهِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ ، وَسَلَمَةَ بْنِ أُمَيَّةَ ، قَالَا : خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ ، وَمَعَنَا صَاحِبٌ لَنَا ، فَقَاتَلَ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، فَعَضَّ الرَّجُلُ ذِرَاعَهُ فَجَذَبَهَا مِنْ فِيهِ ، فَطَرَحَ ثَنِيَّتَهُ ، فَأَتَى الرَّجُلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْتَمِسُ الْعَقْلَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَنْطَلِقُ أَحَدُكُمْ لِأَخِيهِ فَيَعَضُّهُ عَضِيضَ الْفَحْلِ ، ثُمَّ يَأْتِي يَطْلُبُ الْعَقْلَ ، لَا عَقْلَ لَهُ فَأَبْطَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَلِأَنَّ حُرْمَةَ النَّفْسِ أَغْلَظُ ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْخَلَاصِ مِنْهُ إِلَّا بِالْقَتْلِ لَمْ يَضْمَنْ ، فَكَانَ بِأَنْ لَا يَضْمَنَ مَا دُونَهَا أَجْدَرُ ، وَلِأَنَّ تَرْكَ يَدِهِ فِي فِيهِ حَتَّى يَزْجُرَهُ بِالْقَوْلِ اسْتِصْحَابُ أَلَمٍ وَزِيَادَةُ ضَرَرٍ ، فَلَمْ يَلْزَمِ الصَّبْرُ عَلَيْهِ رِفْقًا بِالْعَاضِّ فِي زَجْرِهِ وَوَعْظِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ عَضَّهُ كَانَ لَهُ فَكُّ لَحْيَيْهِ بِيَدِهِ الْأُخْرَى . فَإِنْ عَضَّ قَفَاهُ فَلَمْ تَنَلْهُ يَدَاهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَنْزِعَ رَأْسَهُ مِنْ فِيهِ . فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَلَهُ التَّحَامُلُ عَلَيْهِ بِرَأْسِهِ إِلَى وَرَائِهِ الترتيب فى دفع الصائل ، وَمُصَعِدًا وَمُنْحَدِرًا . وَإِنْ غَلَبَهُ ضَبْطًا بِفِيهِ كَانَ لَهُ ضَرْبُ فِيهِ بِيَدِهِ حَتَّى يُرْسِلَهُ . فَإِنْ بَعَجَ بَطْنَهُ بِسِكِّينٍ أَوْ فَقَأَ عَيْنَهُ بِيَدِهِ أَوْ ضَرَبَهُ فِي بَعْضِ جَسَدِهِ ضَمِنَ . وَرُفِعَ إِلَى عُمَرَ بْنِ

الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَارِيَةٌ كَانَتْ تَحْتَطِبُ فَاتَّبَعَهَا رَجُلٌ فَرَاوَدَهَا عَنْ نَفْسِهَا ، فَرَمَتْهُ بِفِهْرٍ أَوْ صَخْرٍ فَقَتَلَتْهُ ، فَقَالَ عُمَرُ : هَذَا قَتِيلُ اللَّهِ ، وَاللَّهِ لَا يُودَى أَبَدًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا عَضَّ قَفَاهُ فَلَهُ أَنْ يَتَوَصَّلَ إِلَى خَلَاصِهِ مِنْهُ بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ ، كَمَا وَصَفَهُ الشَّافِعِيُّ فِي التَّرْتِيبِ أَنْ يَبْدَأَ بِبَدَنِهِ فِي فَكِّ لَحْيَيْهِ ، فَإِنْ تَخَلَّى بِذَلِكَ لَمْ يَتَجَاوَزْهُ إِلَى غَيْرِهِ ، فَإِنْ تَجَاوَزَهُ ضَمِنَ . فَإِنْ لَمْ يَتَخَلَّصْ مِنْهُ بِيَدِهِ فَلَهُ التَّحَامُلُ عَلَيْهِ بِرَأْسِهِ مِنْ وَرَائِهِ ، فَإِنْ تَخَلَّصَ مِنْهُ لَمْ يَتَجَاوَزْهُ ، فَإِنْ تَجَاوَزَ ضَمِنَ . فَإِنْ لَمْ يَتَخَلَّصْ مِنْهُ نَتَرَ قَفَاهُ وَلَمْ يَضْمَنْ أَسْنَانَهُ إِنْ ذَهَبَتْ ، فَإِنْ تَجَاوَزَهُ ضَمِنَ . وَإِنْ لَمْ يَتَخَلَّصْ مِنْهُ فَلَهُ أَنْ يَعْدِلَ إِلَى أَقْرَبِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ بَعْجِ بَطْنِهِ أَوْ فَقْءِ عَيْنِهِ ، وَلَا يَضْمَنُ أَقْرَبَهُمَا وَيَضْمَنُ أَبْعَدَهُمَا ، إِلَّا أَنْ لَا يَتَخَلَّصَ مِنْهُ إِلَّا بِأَبْعَدِهِمَا وَأَغْلَظِهِمَا فَلَا يَضْمَنُ . فَإِنْ لَمْ يَتَخَلَّصْ مِنْهُ إِلَّا بِقَتْلِهِ لَمْ يَضْمَنْ قَتْلَهُ ، وَالَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا : أَنَّهُ إِنْ بَعَجَ بَطْنَهُ أَوْ فَقَأَ عَيْنَهُ ضَمِنَ . مَحْمُولٌ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنَ التَّرْتِيبِ فِي الْقُدْرَةِ عَلَى خَلَاصِهِ بِغَيْرِ فَقْءٍ وَلَا بَعْجٍ ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْخَلَاصِ إِلَّا بِالْبَعْجِ وَالْفَقْءِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، وَهَذَا أَصْلٌ مُسْتَمِرٌّ . فَلَوْ قَتَلَهُ وَاخْتَلَفَ وَلِيُّ الْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ ، فَقَالَ الْقَاتِلُ : قَتَلْتُهُ دَفْعًا عَنِّي : لِأَنِّي لَمْ أَقْدِرْ عَلَى الْخَلَاصِ مِنْهُ إِلَّا بِالْقَتْلِ . وَقَالَ وَلِيُّهُ : بَلْ كُنْتَ قَادِرًا عَلَى الْخَلَاصِ مِنْهُ بِغَيْرِ الْقَتْلِ . فَتَعَدَّيْتَ بِقَتْلِهِ ، فَإِنْ كَانَ لِلْقَاتِلِ بَيِّنَةٌ تَشْهَدُ بِمَا ادَّعَاهُ سُمِعَتْ ، وَلَمْ يَضْمَنِ النَّفْسَ . وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَلِيِّ ، وَالْقَاتِلُ ضَامِنٌ لِلنَّفْسِ . وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ إِذَا رَاوَدَ جَارِيَةً عَلَى نَفْسِهَا أَوْ رَاوَدَ غُلَامًا عَلَى نَفْسِهِ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى دَفْعِهِ إِلَّا بِقَتْلِهِ ، لَمْ يَضْمَنَاهُ : لِحَدِيثِ عُمَرَ ، وَلَوْ قَدَرَا عَلَى دَفْعِهِ بِغَيْرِ قَتْلٍ ضَمِنَاهُ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَتَلَ رَجُلٌ رَجُلًا ، فَقَالَ : وَجَدْتُهُ عَلَى امْرَأَتِي . فَقَدْ أَقَرَّ بِالْقَوَدِ وَادَّعَى . فَإِنْ لَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً قُتِلَ . قَالَ سَعْدٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَرَأَيْتَ إِنْ وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا أُمْهِلُهُ حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : نَعَمْ . وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إِنْ لَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَلْيُعْطِ بُرْمَتَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا إِذَا وَجَدَ الرَّجُلُ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا يَزْنِي بِهَا أَوْ مَعَ بِنْتِهِ أَوْ أُخْتِهِ أَوْ مَعَ ابْنِهِ يَلُوطُ بِهِ دفع الصائل ، فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَهُ عَنْهُ وَيَمْنَعَهُ مِنْهُ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنَّهُ لَعَنَ الرَّكَانَةَ وَهُوَ الَّذِي لَا يَغَارُ عَلَى أَهْلِهِ . وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَغَارُ لِلْمُسْلِمِ فَلْيَغِرْ .

وَلِأَنَّ مَنْعَهُ مِنَ الْفَاحِشَةِ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَحَقُّ نَفْسِهِ فِي أَهْلِهِ وَحَقُّ امْرَأَتِهِ إِنْ كَانَتْ مُكْرَهَةً ، فَلَمْ يَسَعْهُ إِضَاعَةُ هَذِهِ الْحُقُوقِ بِالْكَفِّ وَالْإِمْسَاكِ . فَأَمَّا إِنْ كَانَ وَجَدَهُ يَزْنِي بِأَجْنَبِيَّةٍ لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِهِ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْهَا وَيَكُفَّهُ عَنْهَا ، فَإِنْ كَانَتْ مُكْرَهَةً تَفَرَّدَ الْمَنْعُ بِهِ دُونَهَا ، وَإِنْ كَانَتْ مُطَاوِعَةً تَوَجَّهَ الْمَنْعُ إِلَيْهِمَا وَالْإِنْكَارُ عَلَيْهِمَا : لِمَا يَلْزَمُ مِنْ صِيَانَةِ مَحَارِمِ اللَّهِ تَعَالَى وَحِفْظِ حُقُوقِهِ وَالْكَفِّ عَنْ مَعَاصِيهِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَرَى ذَلِكَ فِي أَهْلِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَرَاهُ فِي غَيْرِ أَهْلِهِ : أَنَّ فَرْضَهُ فِي أَهْلِهِ مُتَعَيِّنٌ عَلَيْهِ ، وَفِي غَيْرِ أَهْلِهِ عَلَى الْكِفَايَةِ . فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوبِ الدَّفْعِ نَظَرَ حَالَ الرَّجُلِ الزَّانِي فى ترتيب دفع صياله : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَوْلَجَ ، فَعَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَدْفَعَهُ بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى الْقَتْلِ ، إِلَّا أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى دَفْعِهِ بِغَيْرِ الْقَتْلِ ، كَمَا قُلْنَا فِي دَفْعِهِ عَنْ طَلَبِ النَّفْسِ وَالْمَالِ ، وَيَنْظُرُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ وَقَعَ عَلَيْهَا فَفِي الدَّفْعِ أَنَاةٌ ، وَإِنْ وَقَعَ عَلَيْهَا تَعَجَّلَ الدَّفْعُ وَتَغَلَّظَ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَوْلَجَ جَازَ أَنْ يَبْدَأَ فِي دَفْعِهِ بِالْقَتْلِ ، وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ : لِأَنَّهُ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ تَمُرُّ عَلَيْهِ مُوَاقِعًا لَهُ بِالزِّنَا لَا يَسْتَدْرِكُ بِالْأَنَاةِ ، فَجَازَ لِأَجْلِهَا أَنْ يُعَجِّلَ الْقَتْلَ . رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ : إِنَّنِي وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا فَلَمْ أَقْتُلْهُ . فَقَالَ عَلِيٌّ : أَمَا إِنَّهُ لَوْ كَانَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لَقَتَلْتُهُ . يَعْنِي الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ ، فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَى وُجُوبِ قَتْلِهِ ، وَفِي هَذَا الْقَتْلِ وَجْهَانِ مُحْتَمَلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَتْلُ دَفْعٍ ، فَعَلَى هَذَا يَخْتَصُّ بِالرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْبِكْرُ وَالثَّيِّبُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ قَتْلُ حَدٍّ ، يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ دُونَ السُّلْطَانِ : لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِتَفَرُّدِهِ بِالْمُشَاهَدَةِ الَّتِي لَا تَتَعَدَّاهُ . وَالثَّانِي : لِاخْتِصَاصِهِ فِيهِ بِحَقِّ نَفْسِهِ فِي إِفْسَادِ فِرَاشِهِ عَلَيْهِ فِي الزِّنَا بِزَوْجَتِهِ . فَعَلَى هَذَا : يَجُوزُ فِيهِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ إِنْ كَانَتْ مُطَاوِعَةً ، إِلَّا أَنَّ الْمَرْأَةَ يُفَرَّقُ فِيهَا بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ ، فَتُقْتَلُ إِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا ، وَتُجْلَدُ إِنْ كَانَتْ بِكْرًا . وَأَمَّا الرَّجُلُ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يُفَرَّقُ فِيهِ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ : لِأَنَّهُ حَدُّ زِنًا كَالْمَرْأَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يُفَرَّقُ فِيهِ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ ، وَيُقْتَلُ فِي الْحَالَيْنِ : لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ قَتْلَهُ حَدًّا أَغْلَظُ مِنْ قَتْلِهِ دَفْعًا ، وَيَجُوزُ لِتَغْلِيظِ حَالِهِ أَنْ يُقْتَلَ دَفْعًا ، فَجَازَ أَنْ يُقْتَلَ حَدًّا .

وَالثَّانِي : أَنَّ السُّنَّةَ لَمْ تُفَرِّقْ فِي إِبَاحَتِهِ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ لِتَغْلِيظِ حُكْمِهِ فِي حَقِّ الْمُسْتَوْفِي .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا وَادَّعَى الْقَاتِلُ أَنَّهُ قَتَلَهُ لِأَنَّهُ وَجَدَهُ عَلَى امْرَأَتِهِ ، وَأَنْكَرَ وَلِيُّهُ ذَلِكَ ، وَادَّعَى قَتْلَهُ لِغَيْرِ سَبَبٍ ، وَجَبَ عَلَى الْقَاتِلِ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى مَا ادَّعَاهُ مِنْ وُجُودِهِ عَلَى امْرَأَتِهِ ، فَإِنْ أَقَامَهَا بَرِئَ ، وَإِنْ لَمْ يُقِمْهَا أُحْلِفَ الْوَلِيُّ وَأُقِيدَ مِنَ الْقَاتِلِ : لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِالْقَتْلِ وَمُدَّعٍ سُقُوطَ الْقَوَدِ . وَرُوِيَ أَنَّ سَعْدَ بْنَ عَبَادَةَ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنْ وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا أَقْتُلُهُ أَوْ لَا ، حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ؟ قَالَ : لَا حَتَّى تَأْتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ، كَفَى بِالسَّيْفِ شَاهِدًا يَعْنِي شَاهِدًا عَلَيْكَ ، وَمَعْنَى هَذَا السُّؤَالِ أَنَّهُ سَأَلَ عَنْ سُقُوطِ الْقَوَدِ . وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ خَيْرِيٍّ ، وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَقَتَلَهُ وَقَتَلَهَا ، فَرُفِعَ إِلَى مُعَاوِيَةَ فَأُشْكِلَ عَلَيْهِ ، فَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ لِيَسْأَلَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ ذَلِكَ ، فَسَأَلَهُ فَقَالَ عَلِيٌّ : لَيْسَ هَذَا بِأَرْضِنَا ، عَزَمْتُ عَلَيْكَ لَتُخْبِرْنِي . فَأَخْبَرَهُ ، فَقَالَ عَلِيٌّ : يَرْضَوْنَ بِحُكْمِنَا وَيَنْقِمُونَ عَلَيْنَا ، إِنْ لَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَلْيُعْطَ بُرْمَتَهُ . وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : مَعْنَاهُ فَلْيُضْرَبْ عَلَى رُمَّتِهِ قَوَدًا . وَالثَّانِي : مَعْنَاهُ فَلْتُبْذَلْ رُمَّتُهُ لِلْقَوَدِ اسْتِسْلَامًا . فَإِنْ قِيلَ : فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يُكَلِّفْ فِي مِثْلِ هَذَا الْبَيِّنَةِ ، وَأَهْدَرَ الدَّمَ بِشَاهِدِ الْحَالِ ، فِيمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا خَرَجَ فِي الْجِهَادِ وَخَلَفَ زَوْجَتَهُ وَأَخَاهُ ، وَكَانَ لَهُ جَارٌ يَهُودِيٌّ ، فَمَرَّ الْأَخُ بِبَابِ أَخِيهِ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَسَمِعَ مِنْهَا كَلَامَ الْيَهُودِيِّ وَهُوَ يُنْشِدُ : وَأَشْعَثَ غَرَّهُ الْإِسْلَامُ مِنِّي خَلَوْتُ بِعِرْسِهِ لَيْلَ التَّمَامِ أَبِيتُ عَلَى تَرَائِبِهَا وَيُمْسِي عَلَى جَرْدَاءَ لَاحِقَةِ الْخِزَامِ كَأَنَّ مَوَاضِعَ الرَّبَلَاتِ مِنْهَا فِئَامٌ يَنْهَضُونَ إِلَى فِئَامِ فَدَخَلَ الدَّارَ فَوَجَدَهُ مَعَهَا فَقَتَلَهُ ، فَرُفِعَ إِلَى عُمَرَ فَأَهْدَرَ دَمَهُ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ . فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اشْتِهَارَ الْحَالِ بِالِاسْتِفَاضَةِ أَغْنَى عَنِ الْبَيِّنَةِ الْخَاصَّةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ مَوْقُوفٌ عَلَى طَلَبِ الْوَلِيِّ ، فَإِذَا لَمْ يَطْلُبْ سَقَطَ لُزُومُهَا .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ تَطَلَّعَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ ثُقْبٍ فَطَعَنَهُ بِعُودٍ أَوْ رَمَاهُ بِحَصَاةٍ أَوْ مَا أَشْبَهَهَا فَذَهَبَتْ عَيْنُهُ ، فَهِيَ هَدَرٌ . وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَظَرَ إِلَى رَجُلٍ يَنْظُرُ إِلَى بَيْتِهِ مِنْ حُجْرٍ وَبِيَدِهِ مِدْرًى يَحُكُّ بِهِ رَأْسَهُ ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْظُرُ لِي ، أَوْ تَنْظُرُنِي لَطَعَنْتُ بِهِ فِي عَيْنِكَ ، إِنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الْمَنَازِلَ سَاتِرَةٌ لِعَوْرَاتِ أَهْلِهَا ، يَحْرُمُ انْتِهَاكُهَا بِالنَّظَرِ إِلَى مَنْ فِيهَا ، فَإِذَا تَطَلَّعَ رَجُلٌ عَلَى مَنْزِلِ رَجُلٍ لَمْ يَخْلُ حَالُ مَا تَطَلَّعَ مِنْهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ سَاتِرًا لِأَبْصَارِ الْمَارَّةِ ، أَوْ غَيْرَ سَاتِرٍ لَهَا . فَإِنْ كَانَ سَاتِرًا لِأَبْصَارِ الْمَارَّةِ كَالْمُتَطَلِّعِ مِنْ ثُقْبٍ فِي بَابٍ أَوْ كُوَّةٍ صَغِيرَةٍ فِي حَائِطٍ أَوْ شُبَّاكٍ ضَيِّقِ الْأَعْيُنِ ، فَلِصَاحِبِ الدَّارِ أَنْ يَرْمِيَ عَيْنَ الْمُتَطَلِّعِ بِمَا يَجُوزُ أَنْ يُفْضِيَ إِلَى فَقْءِ عَيْنِهِ ، وَلَا يُفْضِيَ إِلَى تَلَفِ نَفْسِهِ كَالْحَصَاةِ وَالْعُودِ اللَّطِيفِ وَالْمِدْرَى وَإِنْ كَانَ مِنْ حَدِيدٍ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْمِيَهُ بِسَهْمٍ وَلَا أَنْ يَطْعَنَهُ بِرُمْحٍ : لِأَنَّ ذَلِكَ يَصِلُ إِلَى الدِّمَاغِ فَتَتْلَفُ بِهِ النَّفْسُ ، وَالْمَقْصُودُ كَفُّ الْعَيْنِ مِنَ النَّظَرِ ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ تَلَفَ النَّفْسِ ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ ضَمِنَ نَفْسَهُ وَلَا يَضْمَنُ بِإِفْقَاءِ عَيْنِهِ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلِ اسْتَبَاحَ فَقْءَ عَيْنِهِ بِابْتِدَاءِ التَّطَلُّعِ أَوْ بَعْدَ زَجْرِهِ بِالْكَلَامِ إِذَا لَمْ يَمْتَنِعْ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ ، وَأَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ ، وَجُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ أَنْ يَسْتَبِيحَهُ بَعْدَ زَجْرِهِ بِالْكَلَامِ ، فَإِنِ امْتَنَعَ بِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَعَدَّاهُ ، وَإِنِ ابْتَدَأَ بِفَقْءِ عَيْنِهِ ضَمِنَ . فَعَلَى هَذَا : يَكُونُ مُوَافِقًا لِلْأُصُولِ فِي صَوْلِ الْفَحْلِ وَطَلَبِ النَّفْسِ وَالْمَالِ فِي تَرْتِيبِ الدَّفْعِ حَالًا بَعْدَ حَالٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَكْثَرِ الْبَغْدَادِيِّينَ أَنَّهُ يَسْتَبِيحُ فَقْءَ عَيْنِهِ بِابْتِدَاءِ التَّطَلُّعِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ تَقْدِيمُ زَجْرِهِ بِالْكَلَامِ . فَعَلَى هَذَا : يَكُونُ مُخَالِفًا لِلْأُصُولِ فِي صَوْلِ الْفَحْلِ وَطَلَبِ الْمَالِ وَالنَّفْسِ ، وَمُوَافِقًا لِنَزْعِ الْيَدِ الْمَعْضُوضَةِ إِذَا سَقَطَ بِهَا أَسْنَانُ الْعَاضِّ ابْتِدَاءً . وَاخْتَلَفَ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ مِنَ الْوَجْهَيْنِ ، فَحَكَى عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبْدَأَ بِفَقْءٍ إِلَّا بَعْدَ زَجْرِهِ بِالْكَلَامِ ، وَهُوَ ضَامِنٌ إِنِ ابْتَدَأَ بِهِ . وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ احْتِجَاجًا بِأَنَّ دُخُولَ الدَّارِ أَغْلَظُ مِنَ التَّطَلُّعِ عَلَيْهِ فِي دَارِهِ ، فَلَوْ دَخَلَهَا لَمْ يَسْتَبِحْ أَنْ يَبْتَدِئَ بِفَقْءِ عَيْنِهِ ، فَكَانَ بِأَنْ لَا يَسْتَبِيحَهُ بِالتَّطَلُّعِ أَوْلَى وَحَكَى عَنْهُ الطَّحَاوِيُّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَسْتَبِيحُ بِالتَّطَلُّعِ أَنْ يَبْتَدِئَهُ بِفَقْءِ الْعَيْنِ وَلَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُهَا ، وَهُوَ الَّذِي يَنْصُرُهُ الْبَغْدَادِيُّونَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَيَجْعَلُونَهُ خِلَافًا مَعَ أَبَى حَنِيفَةَ : احْتِجَاجًا بِالْخَبَرِ الْمُتَقَدِّمِ

فِي الْمُتَطَلِّعِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْلِهِ لِلرَّجُلِ : لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْظُرُنِي لَطَعَنْتُ بِهَا فِي عَيْنِكَ ، إِنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ لِأَجْلِ الْبَصَرِ فَاحْتَمَلَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ أَنْ يَكُونَ لِتَغْلِيظِ حُرْمَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حُرْمَةِ سَائِرِ أُمَّتِهِ ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِشَرْعٍ يَعُمُّ جَمِيعَ الْأُمَّةِ ، وَهُوَ أَشْبَهُ بِتَعْلِيلِهِ كَقَوْلِهِ : " إِنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ لِأَجْلِ الْبَصَرِ " ، وَقَدْ رُوِيَ بِمَا هُوَ عَامُّ الْحُكْمِ لَا يَدْخُلُهُ احْتِمَالٌ ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ ، عَنْ مَالِكٍ ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ ، عَنِ الْأَعْرَجِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّهُ قَالَ : لَوْ أَنَّ امْرَءًا اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنِكَ فَحَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ ، فَلَيْسَ عَلَيْكَ جُنَاحٌ وَهَذَا نَصٌّ ، فَإِنْ قِيلَ : فَهَذَا خَبَرُ وَاحِدٍ مُخَالِفٌ الْأُصُولَ ، فَلَمْ يُعْمَلْ عَلَيْهِ . قِيلَ : الْأُصُولُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ النُّصُوصِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُدْفَعَ بِهَا النَّصُّ ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُلْحَقُ بِأَصْلٍ فِي هَدْرِ أَسْنَانِ الْعَاضِّ بِابْتِدَاءِ نَزْعِ الْيَدِ مِنْ فِيهِ ، وَقَدْ رُوِيَ فِي خَبَرٍ آخَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنِ اطَّلَعَ مِنْ صِيرَةِ بَابٍ فَفُقِئَتْ عَيْنُهُ فَهِيَ هَدَرٌ . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : الصِّيرُ : الشِّقُّ . فَأَمَّا تَوْجِيهُ الْأَوَّلِ بِأَنَّ دَاخِلَ الدَّارِ لَا يُبْتَدَأُ بِفَقْءِ عَيْنِهِ ، فَقَدْ حَكَى ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي جَوَازِ الِابْتِدَاءِ بِفَقْئِهَا وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ : لِأَنَّهُ أَغْلَظُ حَالًا مِنَ الْمُتَطَلِّعِ . وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ : لِأَنَّهُ إِذَا دَخَلَ بِجَمِيعِ بَدَنِهِ سَقَطَ الْحُكْمُ فِي تَفْضِيلِ الْأَعْضَاءِ ، كَالْجِنَايَاتِ يَلْزَمُ فِيهَا دِيَةٌ لِأَعْضَاءٍ إِذَا فُصِلَتْ ، وَلَا يَلْزَمُ فِي الْقَتْلِ دِيَاتُهَا وَإِنْ بَطَلَتْ .

فَصْلٌ : وَإِنِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ مِمَّا لَا يَسْتُرُ أَبْصَارَ الْمَارَّةِ كَالْبَابِ الْمَفْتُوحِ وَالْكُوَّةِ الْوَاسِعَةِ وَالشُّبَّاكِ الْوَاسِعِ الْأَعْيُنِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ وَهُوَ عَلَى اجْتِيَازِهِ مَارًّا ، لَا يَقِفُ عَلَيْهِ ، فَلَا إِنْكَارَ عَلَيْهِ .

وَلَوْ غَضَّ بَصَرَهُ عَنْهُ كَانَ أَوْلَى : لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّارِ لَوْ أَرَادَ الِاسْتِتَارَ عَنِ الْأَبْصَارِ لَغَلَّقَ بَابَهُ ، وَسَدَّ كُوَّتَهُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَقِفَ الْمُتَطَلِّعُ عَلَيْهِ ، وَيَسْتَدِيمَ النَّظَرَ إِلَيْهِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ لَهُ رَمْيُهُ وَفَقْءُ عَيْنِهِ كَالْمُتَطَلِّعِ مِمَّا يَسْتُرُ أَبْصَارَ الْمَارَّةِ لِلتَّعَدِّي بِهِمَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْقَاسِمِ الصَّيْمَرِيِّ لَيْسَ لَهُ رَمْيُهُ وَلَا فَقْءُ عَيْنِهِ ، وَهُوَ ضَامِنٌ إِنْ فَعَلَ : لِأَنَّهُ قَدْ أَبَاحَ النَّظَرَ إِلَيْهِ بِفَتْحِ بَابِهِ ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَتِرَ لَغَلَّقَهُ ، وَيَصِيرُ كَالْوَاقِفِ عَلَيْهِ فِي طَرِيقٍ ثُمَّ يَنْظُرُ ، فَإِنْ وَقَفَ الْمُتَطَلِّعُ فِي حَرِيمِ الدَّارِ كَانَ لِصَاحِبِهَا مَنْعُهُ مِنَ الْوُقُوفِ عَلَيْهِ . وَإِنْ وَقَفَ فِي بَاحَةِ الطَّرِيقِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُهُ مِنَ الْوُقُوفِ ، وَيَمْنَعُهُ مِنَ النَّظَرِ ، وَبَاحَةُ الطَّرِيقِ وَسَطُهُ ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَيْسَ لِلنِّسَاءِ بَاحَةُ الطَّرِيقِ ، وَلَكِنْ لَهُنَّ حُجْرَتَاهُ وَبَاحَتُهُ وَسَطُهُ ، وَحُجْرَتَاهُ جَانِبَاهُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي حَظْرِ التَّطَلُّعِ وَرَمْيِ الْمُتَطَلِّعِ ، فَالْحَظْرُ عَامٌّ وَالرَّمْيُ خَاصٌّ ، فَيَحْرُمُ التَّطَلُّعُ عَلَى الْمُنَاسِبِينَ مِنَ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ ، كَمَا يَحْرُمُ عَلَى الْأَجَانِبِ : لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ ، أَوْ كَانَ مَعَ حُرْمَتِهِ عَلَى حَلَالِهِ ، فَلَا يَحِلُّ لِذِي بَصَرٍ أَنْ يَرَاهُ . وَأَمَّا الرَّمْيُ فَخَاصٌّ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمُتَطَلِّعِ ، وَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مِنْ وَالِدَيْهِ الَّذِينَ لَا يَثْبُتُ لَهُ عَلَيْهِمْ قِصَاصٌ فِي جِنَايَةٍ ، وَلَا حَدٌّ فِي قَذْفٍ أحوال المتطلع ورميه ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ رَمْيُهُمْ ، وَلَا فَقْؤُهُمْ : لِأَنَّهُ نَوْعُ حَدٍّ فَسَقَطَ عَنْهُ كَالْقَذْفِ . فَإِنْ رَمَاهُمْ وَفَقَأَهُمْ ضَمِنَ ، وَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ أَمْ لَا ؟ مُعْتَبَرًا بِحَالِهِ فَإِنْ كَانَ عِنْدَ التَّطَلُّعِ عَلَيْهِ مَسْتُورَ الْعَوْرَةِ فَلَا شُبْهَةَ لَهُ ، وَعَلَيْهِ الْقَوَدُ ، وَإِنْ كَانَ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ ، فَهِيَ شُبْهَةٌ لَهُ فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ عَنْهُ ، وَيَضْمَنُ الدِّيَةَ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْمُتَطَلِّعُ أَجْنَبِيًّا أَوْ مِنْ مُنَاسِبِيهِ وَذَوِي رَحِمِهِ الَّذِينَ لَيْسُوا مِنْ ذَوِي مَحَارِمِهِ ، كَبَنِي الْأَعْمَامِ ، وَبَنِي الْأَخْوَالِ ، فَهُمْ فِي حَظْرِ التَّطَلُّعِ كَالْأَجَانِبِ فِي إِبَاحَةِ رَمْيِهِمْ وَفَقْءِ أَعْيُنِهِمْ : لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي تَحْرِيمِ النَّظَرِ . وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُتَطَلِّعُ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي الدَّارِ رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ فِي تَحْرِيمِ التَّطَلُّعِ وَرَمْيِ الْمُتَطَلِّعِ . وَإِنْ كَانَ تَطَلُّعُ الرَّجُلِ عَلَى الرَّجُلِ وَتَطَلُّعُ الْمَرْأَةِ عَلَى الْمَرْأَةِ ، أَخَفَّ حَظْرًا مِنْ تَطَلُّعِ الرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ ، وَتَطَلُّعِ الْمَرْأَةِ عَلَى الرَّجُلِ . وَلَكِنْ لَوْ كَانَ

التَّطَلُّعُ عَلَى دَارٍ لَا سَاكِنَ فِيهَا ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُرْمَى الْمُتَطَلِّعُ سَوَاءٌ كَانَ فِيهَا مَتَاعٌ ، أَوْ لَمْ يَكُنْ : لِارْتِفَاعِ الْعَوْرَةِ . فَإِنْ رُمِيَ الْمُتَطَلِّعُ ضَمِنَهُ رَامِيهِ . وَهَكَذَا الْأَعْمَى لَا يَجُوزُ أَنْ يُرْمَى إِذَا تَطَلَّعَ عَلَى الْمَنَازِلِ الْمَسْكُونَةِ : لِأَنَّهُ لَا يَنْهَتِكُ بِتَطَلُّعِهِ عَوْرَةٌ ، فَإِنْ رُمِيَ ضَمِنَهُ الرَّامِي . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ الْمُتَطَلِّعُ مِنْ ذَوِي الْمَحَارِمِ الَّذِينَ يَجْرِي بَيْنَهُمُ الْقِصَاصُ فِي الْجِنَايَةِ ، وَالْحَدُّ فِي الْقَذْفِ ، كَالْأَبْنَاءِ وَالْبَنَاتِ ، وَالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ ، وَالْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ ، وَالْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ ، فَفِي جَوَازِ رَمْيِهِمْ وَفَقْءِ أَعْيُنِهِمْ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ لَهُ رَمْيُهُمْ كَالْأَجَانِبِ : لِجَرَيَانِ الْقِصَاصِ وَالْحُدُودِ بَيْنَهُمْ . رِوَى صَفْوَانُ ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : إِنِّي أَخْدُمُهَا . قَالَ : اسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا . فَعَاوَدَهُ ثَلَاثًا ، فَقَالَ : أَتُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً ؟ قَالَ : لَا . قَالَ فَاسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَيْسَ لَهُ رَمْيُهُمْ ، وَيَضْمَنُ إِنْ رَمَاهُمْ كَالْآبَاءِ : لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ [ النُّورِ : 31 ] الْآيَةَ فَشَرَكَ بَيْنَ جَمِيعِهِمْ فِي إِبَاحَةِ النَّظَرِ إِلَى الزِّينَةِ الْبَاطِنَةِ : لِأَنَّ الزِّينَةَ الظَّاهِرَةَ لَا تَحْرُمُ عَلَى الْأَجَانِبِ ، فَسَوَّى بَيْنَ الزَّوْجِ وَبَيْنَ ذَوِي الْمَحَارِمِ فِيهَا ، وَإِنْ خَالَفَهُمْ فِي التَّلَذُّذِ بِهَا دُونَهُمْ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ دَخَلَ بَيْتَهُ فَأَمَرَهُ بِالْخُرُوجِ فَلَمْ يَخْرُجْ ، فَلَهُ ضَرْبُهُ وَإِنْ أَتَى عَلَى نَفْسِهِ . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : الَّذِي عُضَّ رَأْسُهُ فَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَتَخَلَّصَ مِنَ الْعَاضِّ ، أَوْلَى بِضَرْبِهِ وَدَفْعِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنْ أَتَى ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الْمَسَاكِنَ حِمَى سَاكِنِيهَا سَوَاءٌ مَلَكُوهَا أَوِ اسْتَأْجَرُوهَا ، وَلَهُمْ مَنْعُ غَيْرِهِمْ مِنْ دُخُولِهَا إِلَّا بِإِذْنِهِمْ : لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِاخْتِصَاصِهِمْ بِالتَّصَرُّفِ فِيهَا . وَالثَّانِي : لِأَنَّهَا سَاتِرَةٌ لِعَوْرَاتِهِمْ وَلِحُرَمِهِمْ . فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَهَا أَجْنَبِيٌّ ، أَوْ مُنَاسِبٌ لَيْسَ بِذِي مَحْرَمٍ ، لَمْ يَجُزْ إِلَّا بِإِذْنٍ صَرِيحٍ ، سَوَاءٌ كَانَ الْبَابُ مُغَلَّقًا ، أَوْ مَفْتُوحًا : لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا [ النُّورِ : 127 ] وَقَرَأَ ابْنُ

عَبَّاسٍ : " حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا " فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَهَا ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ فَلَهُ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَكُونَ سَاكِنًا فِيهَا مَعَ مَالِكِهَا ، فَلَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِئْذَانُ ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ إِذَا أَرَادَ الدُّخُولَ أَنْ يُشْعِرَ بِدُخُولِهِ ، بِالنَّحْنَحَةِ ، وَشِدَّةِ الْوَطْءِ ، وَتَثْقِيلِ الْخُطُوَاتِ : لِيَسْتَتِرَ الْعُرْيَانُ ، وَيَفْتَرِقَ الْمُجْتَمِعَانِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ لَا يَكُونَ ذُو الْمَحْرَمِ سَاكِنًا فِيهَا ، فَيَنْظُرُ فِي الْبَابِ ، فَإِنْ كَانَ مُغَلَّقًا لَمْ يَجُزِ الدُّخُولُ إِلَّا بِإِذْنٍ ، وَإِنْ كَانَ مَفْتُوحًا فَفِي وُجُوبِ الِاسْتِئْذَانِ وَانْتِظَارِ الْإِذْنِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجِبُ عَلَيْهِمُ الِاسْتِئْذَانُ ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِمُ الدُّخُولُ بِغَيْرِ إِذِنٍ : لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ رَبُّ الدَّارِ عَلَى عَوْرَةٍ ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ لِأَجْلِ الْبَصَرِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَلْتَزِمُ الِاسْتِئْذَانُ ، وَيَلْزَمُ الْإِشْعَارُ بِالدُّخُولِ بِالنَّحْنَحَةِ وَالْحَرَكَةِ : لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ [ النُّورِ : 61 ] الْآيَةَ فَفَرَّقَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ ذَوِي الْمَحَارِمِ وَغَيْرِهِمْ فِي الْإِبَاحَةِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حُكْمِ الدُّخُولِ بِإِذْنٍ وَغَيْرِ إِذْنٍ ، فَدَخَلَهَا مَنْ هُوَ مَمْنُوعٌ مِنَ الدُّخُولِ بِغَيْرِ إِذْنٍ : فَلَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبْتَدِئَهُ بِالْقَتْلِ ، وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَبْتَدِئَهُ بِفَقْءِ الْعَيْنِ أَمْ لَا ؟ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ . وَيَسْتَحِقُّ إِخْرَاجُهُ مِنْهَا بِالْقَوْلِ ، وَلَا يَتَجَاوَزُهُ إِنْ خَرَجَ بِهِ . فَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ بِالْقَوْلِ تَجَاوَزَهُ إِلَى الدَّفْعِ وَالْجَرِّ . فَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ تَجَاوَزَهُ إِلَى الضَّرْبِ بِالْعَصَا . فَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ تَجَاوَزَهُ إِلَى الْجَرْحِ بِالسَّيْفِ . فَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ إِلَّا بِالْقَتْلِ فَقَتَلَهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، كَطَالِبِ النَّفْسِ وَالْمَالِ ، يَتَرَتَّبُ الْأَمْرُ فِيهِمَا بِأَقْرَبِ مَا يُمْكِنُ إِلَى أَنْ تَنْتَهِيَ غَايَتُهُ إِلَى الْقَتْلِ . فَإِنْ وُجِدَ هَذَا الدَّاخِلُ قَتِيلًا فِي الدَّارِ فَادَّعَى صَاحِبُهَا أَنَّهُ قَتَلَهُ دَفْعًا عَنْ دَارِهِ ، وَتَوَصُلًا إِلَى إِخْرَاجِهِ ، وَادَّعَى وَلِيُّهُ أَنَّهُ قَتَلَهُ لِغَيْرِ ذَلِكَ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَلِيِّ مَعَ يَمِينِهِ ، وَعَلَى الْقَاتِلِ الْقَوَدُ ، كَمَنْ قَتَلَ رَجُلًا وَادَّعَى أَنَّهُ وَجَدَهُ مَعَ امْرَأَتِهِ ، لَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُ وَأُقِيدَ مِنْهُ . فَلَوْ أَقَامَ صَاحِبُ الدَّارِ بَيِّنَتَهُ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ بِسَيْفٍ مَشْهُورٍ ، أَوْ قَوْسٍ مَوْتُورٍ ، أَوْ رَهْبٍ مَخْرُوطٍ ، نُظِرَ فِي الْبَيِّنَةِ ، فَإِنْ أُكْمِلَتِ الشَّهَادَةُ بِأَنْ قَالُوا : وَأَرَادَهُ بِذَلِكَ ، سَقَطَ عَنْهُ الْقَوَدُ . وَإِنْ لَمْ يَقُولُوا لَهُ ذَلِكَ ، فَقَدْ ذَكَرَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ : أَنَّهُ تُقْبَلُ مِنْهُ هَذِهِ الدَّعْوَى ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْقَوَدُ وَالدِّيَةُ : لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ هَذِهِ الْحَالِ تَشْهَدُ بِصِدْقِ الْمُدَّعِي ، فَقُبِلَ بِهَا قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ . وَعِنْدِي : أَنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ تُوجِبُ سُقُوطَ الْقَوَدِ : لِأَنَّهَا شُبْهَةٌ فِيهِ ، وَلَا تُوجِبُ سُقُوطَ الدِّيَةِ : لِاحْتِمَالِ دُخُولِهِ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ أَنْ يَكُونَ لِهَرَبٍ مِنْ طَلَبٍ ، وَلَكِنْ لَوْ شَهِدَتِ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ

بِسَيْفٍ غَيْرِ مَشْهُورٍ ، وَقَوْسٍ غَيْرِ مَوْتُورٍ ، لَمْ يَسْقُطْ بِهَا قَوَدٌ وَلَا دِيَةٌ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : وَإِذَا الْتَقَى رَجُلَانِ أَوْ زَحِفَانِ فَتَقَاتَلَا ظُلْمًا عَلَى عَصَبِيَّةٍ ، وَطَلَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَفْسَ الْآخَرِ وَمَالَهُ ، فَكُلُّ قَاتِلٍ مِنْهُمَا ظَالِمٌ ، وَكُلُّ مَقْتُولٍ مِنْهُمَا مَظْلُومٌ ، يُقَادُ مِنْ قَاتِلِهِ وَيَكُونَانِ مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الظُّلْمِ قَبْلَ الْقَتْلِ : لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي التَّعَدِّي بِالْقِتَالِ ، وَمُخْتَلِفَيْنِ بَعْدَ الْقَتْلِ فَيَصِيرُ الْقَاتِلُ ظَالِمًا وَالْمَقْتُولُ مَظْلُومًا : لِأَنَّ التَّعَدِّيَ صَارَ بِالْقَتْلِ مُتَعَيِّنًا فِي الْقَاتِلِ دُونَ الْمَقْتُولِ . وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى : يُحْمَلُ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفِهِمَا ، فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ يَعْنِي لِظُلْمِهِمَا بِالْقِتَالِ ، ثُمَّ صَارَ الْقَاتِلُ أَكْثَرَ ظُلْمًا بَالْقَتْلِ فَصَارَ وَعِيدُهُ أَغْلَظَ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ . فَأَمَّا كَلَامُ الْمُزَنِيِّ فَقَدْ أَصَابَ فِي جَوَابِهِ ، وَوَهِمَ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي تَأْوِيلِهِ ، وَالْحُكْمُ فِيهِ عَلَى مَا مَضَى ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .

بَابُ الضَّمَانِ عَلَى الْبَهَائِمِ

بَابُ الضَّمَانِ عَلَى الْبَهَائِمِ قَالَ الشَّافِعِيُّ : " أَخْبَرَنَا مَالِكٌ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ حَرَامِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مُحَيِّصَةَ ، أَنَّ نَاقَةً لِلْبَرَاءِ دَخَلَتْ حَائِطًا فَأَفْسَدَتْ فِيهِ ، فَقَضَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ عَلَى أَهْلِ الْأَمْوَالِ حِفْظَهَا بِالنَّهَارِ ، وَمَا أَفْسَدَتِ الْمَوَاشِي بِاللَّيْلِ فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى أَهْلِهَا . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : وَالضَّمَانُ عَلَى الْبَهَائِمِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا أَفْسَدَتْ مِنَ الزَّرْعِ بِاللَّيْلِ ضَمِنَهُ أَهْلُهَا ، وَمَا أَفْسَدَتْ بِالنَّهَارِ لَمْ يَضْمَنُوهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : هَذَا الْبَابُ مَقْصُورٌ عَلَى جِنَايَاتِ الْبَهَائِمِ الْمَضْمُونَةِ عَلَى أَرْبَابِهَا ، بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ جِنَايَاتِ الْآدَمِيِّينَ الْمَضْمُونَةِ عَلَيْهِمْ ، وَهِيَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ سَارِحَةً فِي مَرَاعِيهَا وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَتُعْدَلُ مِنْ مَرَاعِيهَا إِلَى زُرُوعٍ تَرْعَاهَا ، وَأَشْجَارٍ تُفْسِدُهَا ، أَوْ تُفْسِدُ ثَمَرَهَا ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مَعَهَا أَرْبَابُهَا ، فَيَضْمَنُوا مَا أَفْسَدَتْهُ لَيْلًا وَنَهَارًا : لِأَنَّ فِعْلَ الْبَهِيمَةِ إِذَا كَانَتْ مَعَ صَاحِبِهَا مَنْسُوبٌ إِلَيْهِ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا مَنْسُوبٌ إِلَيْهَا ، كَالْكَلْبِ إِذَا أَرْسَلَهُ صَاحِبُهُ أَكَلَ مَا صَادَهُ ، وَإِذَا اسْتُرْسِلَ بِنَفْسِهِ لَمْ يُؤْكَلْ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَنْفَرِدَ الْبَهَائِمُ عَنْ أَرْبَابِهَا ، وَلَا يَكُونُوا مَعَهَا ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُنْسَبَ أَرْبَابُهَا إِلَى التَّفْرِيطِ : لِإِرْسَالِهِمْ لَهَا فِيمَا لَا يَسْتَبِيحُونَ رَعْيَهُ ، أَوْ فِيمَا يَضِيقُ عَنْ كِفَايَاتِهِمْ ، كَحَرِيمِ الْأَنْهَارِ وَطُرُقِ الضِّبَاعِ ، فَعَلَيْهِمْ ضَمَانُ مَا أَفْسَدَتْهُ لَيْلًا وَنَهَارًا : لِأَنَّ التَّفْرِيطَ عُدْوَانٌ يُوجِبُ الضَّمَانَ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يُنْسَبَ أَرْبَابُهَا إِلَى التَّفْرِيطِ : لِإِرْسَالِهِمْ لَهَا نَهَارًا فِي مَوَاتٍ يَتَّسِعُ لَهَا ، وَحَبْسِهَا لَيْلًا فِي مُرَاحِهَا وَعَطَنِهَا ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ فِيمَا رَعَتْهُ نَهَارًا ، وَعَلَيْهِمْ ضَمَانُ مَا رَعَتْهُ لَيْلًا ، وَفَرَّقَ بَيْنَ رَعْيِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ بِالسُّنَّةِ وَالِاعْتِبَارِ .

وَسَوَّى أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَ رَعْيِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي مَذْهَبِهِ الَّذِي سَوَّى فِيهِ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، فَحَكَى الْبَغْدَادِيُّونَ مِنْهُمْ عَنْهُ : سُقُوطَ الضَّمَانِ فِي الزَّمَانَيْنِ . وَحَكَى الْخُرَاسَانِيُّونَ عَنْهُ : وُجُوبَ الضَّمَانِ فِي الزَّمَانَيْنِ . وَاسْتَدَلَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى سُقُوطِ الضَّمَانِ فِيهِمَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ . وَرُوِيَ : جَرْحُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ . وَالْعَجْمَاءُ : الْبَهِيمَةُ . وَالْجُبَارُ : الْهَدَرُ الَّذِي لَا يُضْمَنُ . وَلِأَنَّ مَا سَقَطَ ضَمَانُهُ نَهَارًا سَقَطَ ضَمَانُهُ لَيْلًا ، كَالْوَدَائِعِ طَرْدًا وَالْغُصُوبِ عَكْسًا . وَاسْتَدَلَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى وُجُوبِ الضَّمَانِ فِي الزَّمَانَيْنِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ وَلِأَنَّ مَا وَجَبَ ضَمَانُهُ لَيْلًا وَجَبَ ضَمَانُهُ نَهَارًا ، كالْغُصُوبِ طَرْدًا وَالْوَدَائِعِ عَكْسًا . وَدَلِيلُنَا عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الزَّمَانَيْنِ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ لَيْلًا وَسُقُوطِهِ نَهَارًا : سُنَّةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَا وَرَدَ بِهِ التَّنْزِيلُ فِي قِصَّةِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا [ الْأَنْبِيَاءِ : 78 - 79 ] وَفِي الْحَرْثِ الَّذِي حَكَمَا فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ زَرْعٌ وَقَعَتْ فِيهِ الْغَنَمُ لَيْلًا ، قَالَهُ قَتَادَةُ ، وَهُوَ الْأَشْبَهُ بِلَفْظِ الْحَرْثِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ كَرْمٌ وَقَعَتْ فِيهِ الْغَنَمُ ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَهُوَ أَشْهَرُ فِي النَّقْلِ . إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ [ الْأَنْبِيَاءِ : 78 ] وَالنَّفْشُ : رَعْيُ اللَّيْلِ . وَالْهَمْلُ : رَعْيُ النَّهَارِ . قَالَهُ قَتَادَةُ . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ كَانَ فِي رَعْيِ اللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ . وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ [ الْأَنْبِيَاءِ : 78 ] يَعْنِي : حُكْمَ دَاوُدَ وَحُكْمَ سُلَيْمَانَ ، وَالَّذِي حَكَمَ بِهِ دَاوُدُ عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ النَّقْلُ وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ الْقُرْآنُ عَلَيْهِ ، أَنَّهُ جَعَلَ الْغَنَمَ مِلْكًا لِصَاحِبِ الْحَرْثِ عِوَضًا عَنْ فَسَادِهِ ، وَكَانَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَاضِرَ الْحِكْمَةِ ، فَقَالَ : أَرَى أَنْ تُدْفَعَ الْغَنَمُ إِلَى صَاحِبِ الْكَرْمِ : لِيَنْتَفِعَ بِهَا ، وَيُدْفَعَ الْكَرْمُ إِلَى صَاحِبِ الْغَنَمِ : لِيُعَمِّرَهُ ، فَإِذَا عَادَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ رَدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ وَاسْتَرْجَعَ غَنَمَهُ ، فَصَوَّبَ اللَّهُ تَعَالَى حُكْمَ سُلَيْمَانَ وَبَيَّنَ خَطَأَ دَاوُدَ فَقَالَ : فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ [ الْأَنْبِيَاءِ : 79 ] فَرَدَّ دَاوُدُ حُكْمَهُ ، وَأَمْضَى حُكْمَ سُلَيْمَانَ ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا [ الْأَنْبِيَاءِ : 79 ] يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ آتَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمًا وَعِلْمًا فِي وُجُوبِ ذَلِكَ الضَّمَانِ لَيْلًا ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي صِفَتِهِ : لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى وُجُوبِ الضَّمَانِ ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الصِّفَةِ .

وَالثَّانِي : مَعْنَاهُ أَنْ خَصَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعِلْمٍ أَفْرَدَهُ بِهِ دُونَ الْآخَرِ ، فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ أُوتِيَ حُكْمًا وَعِلْمًا . فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ نَقَضَ دَاوُدُ حُكْمَهُ بِاجْتِهَادِ غَيْرِهِ ؟ فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ ذَكَرَ الْحُكْمَ وَلَمْ يُمْضِهِ ، حَتَّى بَانَ لَهُ صَوَابُ مَا حَكَمَ بِهِ سُلَيْمَانُ فَعَدَلَ إِلَيْهِ ، وَحَكَمَ بِهِ . وَهَذَا جَائِزٌ . وَالثَّانِي : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى صَوَّبَ قَضَاءَ سُلَيْمَانَ ، فَصَارَ نَصًّا ، وَحُكْمُ مَا خَالَفَ النَّصَّ مَرْدُودٌ . وَالدَّلِيلُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَنْ سَوَّى بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ . وَفِي سُقُوطِ الضَّمَانِ نَصٌّ صَرِيحٌ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَوْجَبَهُ فِي رَعْيِ الْغَنَمِ فِي اللَّيْلِ . وَعَلَى مَنْ سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ مِنْ طَرِيقِ التَّنْبِيهِ : لِأَنَّهُ حُكْمٌ عَلَى صِفَةٍ تَقْتَضِي انْتِفَاءً عِنْدَ عَدَمِهَا ، ثُمَّ جَاءَتِ السُّنَّةُ بِنَصٍّ صَرِيحٍ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، وَهُوَ الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ ، عَنْ مَالِكٍ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ حَرَامِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مُحَيِّصَةَ أَنَّ نَاقَةً لِلْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ دَخَلَتْ حَائِطًا فَأَفْسَدَتْ ، فَإِنْ قِيلَ : حَرَامُ بْنُ سَعْدٍ لَا صُحْبَةَ لَهُ ، فَكَانَ مُرْسَلًا . قِيلَ . قَدْ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ مُسْنَدًا ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ سُوَيْدٍ ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ حَرَامِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مُحَيِّصَةَ ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ نَاقَةٌ ضَارِيَةٌ دَخَلَتْ حَائِطَ قَوْمٍ ، فَأَفْسَدَتْ فِيهِ فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ عَلَى أَهْلِ الْأَمْوَالِ حِفْظَهَا بِالنَّهَارِ ، وَمَا أَفْسَدَتِ الْمَوَاشِي بِاللَّيْلِ فَهُوَ ضَمَانٌ عَلَى أَهْلِهَا . فَقَدْ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ ، عَنْ مَالِكٍ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، مُرْسَلًا ، وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ ، عَنْ أَيُّوبَ ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، مُسْنَدًا فَتَأَكَّدَ . وَهُوَ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ بِاللَّيْلِ ، وَسُقُوطِهِ بِالنَّهَارِ ضمان ماأفسدت البهائم لَا تَأْوِيلَ فِيهِ بِصَرْفِهِ عَنْ ظَاهِرِ نَصِّهِ ، ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَوَاشِيَ وَالزُّرُوعَ مَرْصَدَانِ لِطَلَبِ الْفَضْلِ فِيهِمَا ، وَاسْتِمْدَادِ الرِّزْقِ مِنْهُمَا ، وَالْفَضْلُ فِي الْمَوَاشِي بِإِرْسَالِهَا نَهَارًا فِي مَرَاعِيهَا ، فَسَقَطَ حِفْظُهَا فِيهِ . وَالْفَضْلُ فِي الزُّرُوعِ بِعَمَلِ أَهْلِهَا نَهَارًا فِيهَا ، فَوَجَبَ عَلَيْهِمْ حِفْظُهَا فِيهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ اللَّيْلَ زَمَانُ النَّوْمِ وَالدَّعَةِ ، فَلَزِمَ أَرْبَابَ الْمَوَاشِي فِيهِ حِفْظُهَا فِي أَفْنِيَتِهِمْ وَمَسَاكِنِهِمْ ، وَسَقَطَ فِيهِ عَنْ أَرْبَابِ الزُّرُوعِ حِفْظُهَا لِإِيوَائِهِمْ فِيهِ إِلَى مَسَاكِنِهِمْ ، فَثَبَتَ بِهَذَيْنِ حِفْظُ الزُّرُوعِ عَلَى أَهْلِهَا فِي النَّهَارِ دُونَ اللَّيْلِ ، وَحِفْظُ الْمَوَاشِي عَلَى أَهْلِهَا

بِاللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ ، فَلِذَلِكَ صَارَ رَعْيُ النَّهَارِ هَدَرًا : لِوُجُوبِ الْحِفْظِ فِيهِ عَلَى أَرْبَابِ الزُّرُوعِ ، وَرَعْيُ اللَّيْلِ مَضْمُونًا بِالْوُجُوبِ : لِلْحِفْظِ فِيهِ عَلَى أَرْبَابِ الْمَوَاشِي . وَالدَّلِيلُ مِنَ الْقِيَاسِ عَلَى مَنْ سَوَّى بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ : أَنَّ النَّهَارَ زَمَانٌ لَا يُنْسَبُ أَرْبَابُ الْمَوَاشِي فِيهِ إِلَى التَّفْرِيطِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُمْ ضَمَانُ مَا أَفْسَدَتْهُ قِيَاسًا عَلَى غَيْرِ الزُّرُوعِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى مَنْ سَوَّى بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ : أَنَّ اللَّيْلَ زَمَانٌ يُنْسَبُ أَرْبَابُ الْمَوَاشِي فِيهِ إِلَى التَّفْرِيطِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُمُ الضَّمَانُ مَا أَفْسَدَتْ ، قِيَاسًا عَلَى غَيْرِ الزُّرُوعِ . وَالدَّلِيلُ مِنَ الْقِيَاسِ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ : أَنَّهَا بَهَائِمُ أَفْسَدَتْ مَالًا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الضَّمَانُ مُعْتَبَرًا بِجِهَةِ التَّفْرِيطِ قِيَاسًا عَلَى غَيْرِ الزُّرُوعِ مِنْ سَائِرِ الْأَمْوَالِ . فَأَمَّا جَوَابُ مَنْ أَسْقَطَ الضَّمَانَ لِقَوْلِهِ الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الرِّوَايَةَ : " جَرْحُ الْعَجْمَاءِ " ، وَالْجَرْحُ لَا يَكُونُ فِي رَعْيِ الزُّرُوعِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى رَعْيِ النَّهَارِ . وَالْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى رَعْيِ النَّهَارِ : فَالْمَعْنَى فِي النَّهَارِ عَدَمُ التَّفْرِيطِ ، وَفِي اللَّيْلِ وُجُودُ التَّفْرِيطِ فَافْتَرَقَا . وَأَمَّا جَوَابُ مَنْ أَوْجَبَ الضَّمَانَ لِقَوْلِهِ : " لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ " ، فَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ اسْتِعْمَالُهُ فِي حِفْظِ أَمْوَالِ أَرْبَابِ الزُّرُوعِ بِأَوْلَى مِنَ اسْتِعْمَالِهِ فِي حِفْظِ أَمْوَالِ أَرْبَابِ الْمَوَاشِي ، فَسَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ لِتَكَافُؤِ الْأَمْرَيْنِ فِيهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى رَعْيِ اللَّيْلِ ، فَالْمَعْنَى فِي اللَّيْلِ وُجُودُ التَّفْرِيطِ ، وَفِي النَّهَارِ عَدَمُهُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ سُقُوطِ الضَّمَانِ فِي النَّهَارِ وَوُجُوبِهِ فِي اللَّيْلِ ، فَتَكَاثَرَتِ الْمَوَاشِي بِالنَّهَارِ حَتَّى عَجَزَ أَرْبَابُ الزُّرُوعِ عَنْ حِفْظِهَا ، فَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجِبُ : لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَرْبَابِ الزُّرُوعِ تَقْصِيرٌ فِي الْحِفْظِ . وَالثَّانِي : لَا يَجِبُ : لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَرْبَابِ الْمَوَاشِي تَفْرِيطٌ فِي الْحِفْظِ . وَعَلَى هَذَا : لَوْ أَحْرَزَ أَرْبَابُ الْمَوَاشِي مَوَاشِيَهُمْ فِي اللَّيْلِ ، فَغَلَبَتْهُمْ وَنَفَرَتْ فَرَعَتْ فِي اللَّيْلِ زَرْعًا ، فَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجِبُ : لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَرْبَابِ الْمَوَاشِي تَفْرِيطٌ . وَالثَّانِي : يَجِبُ : لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَرْبَابِ الزُّرُوعِ تَقْصِيرٌ .



فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ هِرٌّ فَأَكَلَتْ حَمَامَ قَوْمٍ ، أَوْ أَفْسَدَتْ طَعَامَهُمْ ، أَوْ كَانَ لَهُ كَلْبٌ فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ بِهِمْ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْكَلْبُ وَالْهِرُّ ضَعِيفَيْنِ غَيْرَ ضَارِيَيْنِ ، فَلَا يَلْزَمُ أَرْبَابَهُمَا حِفْظُهُمَا لَيْلًا وَلَا نَهَارًا ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ ضَمَانُ مَا أَفْسَدَاهُ فِي لَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْهِرُّ قَوِيًّا ضَارِيًا ، وَالْكَلْبُ شَدِيدًا عَقُورًا ، فَعَلَى أَرْبَابِهِمَا حِفْظُهُمَا فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، وَيَجِبُ عَلَيْهِمْ ضَمَانُ مَا أَفْسَدَاهُ لَيْلًا وَنَهَارًا ، فَيَسْتَوِي فِيهِمَا حُكْمُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ وَسُقُوطِهِ ، وَإِنِ اخْتَلَفَ حُكْمُ الْمَوَاشِي فِي ضَمَانِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : السُّنَّةُ الَّتِي فَرَّقَتْ فِي الْمَوَاشِي بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، وَأَطْلَقَتْ فِي غَيْرِ الْمَوَاشِي حُكْمَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ . وَالثَّانِي : الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ فِي رَعْيِ الْمَوَاشِي بِالنَّهَارِ وَحَبْسِهَا فِي اللَّيْلِ ، وَالتَّسْوِيَةُ فِي الْهِرِّ وَالْكَلْبِ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَالْوَجْهُ الثَّانِي : إِنْ كَانَ الرَّجُلُ رَاكِبًا فَمَا أَصَابَتْ بِيَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا أَوْ فِيهَا أَوْ ذَنَبِهَا مِنْ نَفْسٍ أَوْ جُرْحٍ دابته ، فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ : لِأَنَّ عَلَيْهِ مَنْعَهَا فِي تِلْكَ الْحَالِ مِنْ كُلِّ مَا أَتْلَفَتْ بِهِ أَحَدًا . وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ سَائِقًا أَوْ قَائِدًا ، وَكَذَلِكَ الْإِبِلُ الْمَقْطُورَةُ بِالْبَعِيرِ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ قَائِدٌ لَهَا . وَكَذَلِكَ الْإِبِلُ يَسُوقُهَا وَلَا يَجُوزُ إِلَّا ضَمَانُ مَا أَصَابَتِ الدَّابَّةُ تَحْتَ الرَّجُلِ ، وَلَا يَضْمَنُ إِلَّا مَا حَمَلَهَا عَلَيْهِ فَوَطِئَتْهُ ، فَأَمَّا مَنْ ضَمِنَ عَنْ يَدِهَا وَلَمْ يَضْمَنْ عَنْ رِجْلِهَا فَهَذَا تَحَكُّمٌ . وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنَّ الرِّجْلَ جُبَارٌ فَهُوَ خَطَأٌ : لِأَنَّ الْحُفَّاظَ لَمْ يَحْفَظُوهُ هَكَذَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَهُوَ الضَّرْبُ الثَّانِي مِنْ ضَمَانِ الْبَهَائِمِ أَنْ تَكُونَ سَائِرَةً وَلَا تَكُونُ رَاعِيَةً وَلَهَا حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَكُونَ مَعَهَا صَاحِبُهَا . وَالثَّانِيَةُ : أَنْ لَا يَكُونَ مَعَهَا . فَإِنْ كَانَ مَعَهَا صَاحِبُهَا ضَمِنَ جَمِيعَ مَا أَتْلَفَتْهُ بِرَأْسِهَا وَيَدِهَا وَرِجْلِهَا وَذَنَبِهَا سَوَاءٌ كَانَ رَاكِبًا أَوْ قَائِدًا أَوْ سَائِقًا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ كَانَ سَائِقًا ضَمِنَ جَمِيعَ ذَلِكَ كُلِّهِ ، كَقَوْلِنَا ، وَإِنْ كَانَ قَائِدًا أَوْ رَاكِبًا ضَمِنَ مَا أَتْلَفَتْهُ بِرَأْسِهَا وَيَدِهَا ، وَلَمْ يَضْمَنْ مَا أَتْلَفَتْهُ بِرِجْلِهَا وَذَنَبِهَا :

اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الرِّجْلُ جُبَارٌ وَلِأَنَّهُ إِذَا كَانَ رَاكِبًا أَوْ قَائِدًا لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَحْفَظَ مِنْهَا إِلَّا رَأْسَهَا وَيَدَهَا فَضَمِنَ مَا تَلِفَ بِهِمَا ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَحْفَظَ مِنْهَا رِجْلَهَا وَذَنَبَهَا ، فَلَمْ يَضْمَنْ مَا تَلِفَ بِهِمَا ، وَيُمْكِنُ السَّائِقُ حِفْظَ جَمِيعِهِ ، فَضَمِنَ مَا تَلِفَ بِجَمِيعِهِ . وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّهَا بَهِيمَةٌ مَعَهَا صَاحِبُهَا ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ضَامِنًا لِجِنَايَتِهَا كَالسَّائِقِ ، وَلِأَنَّهَا جِنَايَةٌ يَضْمَنُهَا سَائِقُهَا ، فَوَجَبَ أَنْ يَضْمَنَهَا رَاكِبُهَا وَقَائِدُهَا ، كَالْجِنَايَةِ بِرَأْسِهَا وَيَدِهَا . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : الرِّجْلُ جُبَارٌ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ ، قَدْ أَنْكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ . وَالثَّانِي : أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ : الرِّجْلُ جُبَارٌ عَلَى مَعْنَى : " ذِي الرِّجْلِ جُبَارٌ " كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا سَبْقَ إِلَّا فِي نَصْلٍ أَوْ خُفٍّ أَوْ حَافِرٍ مَعْنَاهُ : فِي ذِي خُفٍّ وَذِي حَافِرٍ ، وَيَكُونُ مُوَافِقًا لِقَوْلِهِ : الْعَجْمَاءُ جُرْحُهَا جُبَارٌ وَهُوَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا صَاحِبُهَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : إِنَّ رَاكِبَهَا وَقَائِدَهَا لَا يَقْدِرُ عَلَى حِفْظِ يَدِهَا وَذَنَبِهَا ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ رَاكِبَهَا وَقَائِدَهَا أَضْبَطُ بِهَا وَأَقْدَرُ عَلَى تَصَرُّفِهَا بِاخْتِيَارٍ مِنْ سَائِقِهَا : فَكَانَ أَوْلَى بِالضَّمَانِ مِنْهُ . وَالثَّانِي : أَنَّ رَأْسَهَا وَيَدَهَا فِي حَقِّ سَائِقِهَا كَرِجْلِهَا وَذَنَبِهَا فِي حَقِّ قَائِدِهَا ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَا فِي الْحُكْمِ سَوَاءً .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْحَالُ الثَّانِيَةُ : إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا صَاحِبُهَا ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ قَدْ أَرْسَلَهَا صَاحِبُهَا بِاخْتِيَارِهِ ، أَوْ فَرَّطَ فِي رَبْطِهَا وَحِفْظِهَا فَاسْتَرْسَلَتْ ضمان ما أتلفت البهائم ، فَيَكُونُ ضَامِنًا لِمَا أَتَلَفَتْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا : لِأَنَّ مَا حَدَثَ بِتَفْرِيطِهِ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يُقَصِّرَ صَاحِبُهَا بَعْدَ رَبْطِهَا وَضَبْطِهَا ، وَيَسْتَرْسِلَ فَتُتْلِفُ مَالًا أَوْ إِنْسَانًا ضمان ما أتلفت الدابة ، فَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنْ لَا ضَمَانَ : لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : جَرْحُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ ، وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُفَرِّطٍ فِي الْحِفْظِ ، فَكَانَ كَرَعْيِ الْمَوَاشِي بِالنَّهَارِ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : عَلَيْهِ الضَّمَانُ : لِأَنَّهُ قَلَّ مَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا مِنْ تَفْرِيطٍ خَفِيٍّ ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي اصْطِدَامِ السَّفِينَتَيْنِ إِذَا كَانَ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ ، فَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ قَوْلَانِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ أَنَّهُ أَوْقَفَهَا فِي مَوْضِعٍ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقِفَهَا فِيهِ ضَمِنَ ، وَلَوْ وَقَفَهَا فِي مِلْكِهِ لَمْ يَضْمَنْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ : لِأَنَّ وُقُوفَ الدَّابَّةِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي مِلْكِهِ أَوْ غَيْرِ مِلْكِهِ . فَإِنْ وَقَفَهَا فِي مِلْكِهِ لَمْ يَضْمَنْ مَا أَتْلَفَتْهُ مِنْ نَفْسٍ وَمَالٍ : لِخُرُوجِهِ عَنْ حُكْمِ التَّعَدِّي . وَإِنْ وَقَفَهَا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَقِفَهَا فِي مِلْكِ غَيْرِهِ ، فَيَضْمَنُ مَا أَتْلَفَتْ لِتَعَدِّيهِ بِوَقْفِهَا فِيهِ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَنْ إِذَنِ الْمَالِكِ ، فَلَا يَضْمَنُ كَمَا لَا يَضْمَنُ إِذَا وَقَفَهَا فِي مِلْكِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَقِفَهَا فِي طَرِيقٍ سَابِلٍ ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُنْسَبَ إِلَى التَّفْرِيطِ ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ : إِمَّا أَنْ تَكُونَ الطَّرِيقُ ضَيِّقَةً . وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الدَّابَّةُ شَغِبَةً . وَإِمَّا أَنْ يَقِفَهَا فِي وَسَطِ طَرِيقٍ فَسِيحَةٍ ، فَيَكُونُ ضَامِنًا لِمَا أَتْلَفَتْ لِتَعَدِّيهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يُنْسَبَ إِلَى تَفْرِيطٍ : لِأَنَّهُ وَقَفَهَا بِفِنَاءِ دَارِهِ فِي طَرِيقٍ وَاسِعَةٍ ، وَالدَّابَّةُ غَيْرُ شَغِبَةٍ ، فَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ وَجْهَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي حَفْرِ الْبِئْرِ بِفِنَاءِ دَارِهِ ، هَلْ يَضْمَنُ مَا تَلِفَ بِهَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . فَلَوْ مَرَّ بِهَذِهِ الدَّابَّةِ الْوَاقِفَةِ مِنْ تَحْتِهَا وَبَعَجَ بَطْنَهَا حَتَّى نَفَرَتْ وَأَتْلَفَتْ ، ضَمِنَ الَّذِي بَعَجَهَا مَا أَتْلَفَتْهُ وَجْهًا وَاحِدًا ، وَلَمْ يَضْمَنْهُ وَاقِفُهَا : لِأَنَّهُ تَعَدٍّ بِمُبَاشَرَةٍ يَسْقُطُ بِهِ حُكْمُ السَّبَبِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا مَرَّتْ بَهِيمَةٌ لِرَجُلٍ بِجَوْهَرَةٍ لِآخَرَ فَابْتَلَعَتْهَا ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مَعَ الْبَهِيمَةِ صَاحِبُهَا فَيَضْمَنُ الْجَوْهَرَةَ : لِأَنَّ فِعْلَ الْبَهِيمَةِ مَنْسُوبٌ إِلَيْهِ وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْبَهِيمَةُ شَاةً أَوْ بَعِيرًا . وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : إِنْ كَانَتِ الْبَهِيمَةُ شَاةً يَضْمَنُ الْجَوْهَرَةَ ، وَإِنْ كَانَتْ بَعِيرًا ضَمِنَهَا : لِأَنَّ الْعَادَةَ فِي الْبَعِيرِ أَنْ تُضْبَطَ ، وَفِي الشَّاةِ أَنْ تُرْسَلَ . وَهَذَا فَرْقٌ فَاسِدٌ : لِاسْتِوَائِهِمَا فِي ضَمَانِ الزَّرْعِ وَسُقُوطِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَكُونَ مَعَ الْبَهِيمَةِ صَاحِبُهَا ، فَقَدْ قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ

لَا يَضْمَنُ الْجَوْهَرَةَ إِنْ كَانَ ذَلِكَ نَهَارًا ، وَيَضْمَنُهَا إِنْ كَانَ لَيْلًا كَالزُّرُوعِ . وَالَّذِي أَرَاهُ : أَنَّهُ يَضْمَنُهَا لَيْلًا وَنَهَارًا بِخِلَافِ الزَّرْعِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ رَعْيَ الزَّرْعِ مَأْلُوفٌ ، فَلَزِمَ حِفْظُهُ مِنْهَا ، وَابْتِلَاعَ الْجَوْهَرَةِ غَيْرُ مَأْلُوفٍ فَلَمْ يَلْزَمْ حِفْظُهَا مِنْهَا . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ ضَامِنُهَا فَإِنْ طَلَبَ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ ذَبْحَ الْبَهِيمَةِ لِيَسْتَرْجِعَ جَوْهَرَتَهُ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْبَهِيمَةِ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَأْكُولَةً ، أَوْ غَيْرَ مَأْكُولَةٍ ، فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَأْكُولَةٍ : لَمْ تُذْبَحْ وَغَرِمَ صَاحِبُهَا قِيمَةَ الْجَوْهَرَةِ ، فَإِنْ دُفِعَتِ الْقِيمَةُ ثُمَّ مَاتْتِ الْبَهِيمَةُ وَأُخْرِجَتِ الْجَوْهَرَةُ مِنْ جَوْفِهَا ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَمْلِكُهَا صَاحِبُ الْبَهِيمَةِ بِدَفْعِ الْقِيمَةِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ رَدُّهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : تُعَادُ إِلَى صَاحِبِهَا وَتُسْتَرْجَعُ قِيمَةُ الْبَهِيمَةِ : لِأَنَّهَا عَيْنُ مَالِهِ . فَإِنْ نَقَصَتْ قِيمَتُهَا بِالِابْتِلَاعِ ضَمِنَ صَاحِبُ الْبَهِيمَةِ قَدْرَ نَقْصِهَا . فَإِنْ كَانَتِ الْبَهِيمَةُ مَأْكُولَةً فَفِي ذَبْحِهَا لِاسْتِرْجَاعِ الْجَوْهَرَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : تُذْبَحُ لِأَجْلِ الرَّدِّ : لِأَنَّهُ قَدْ يُتَوَصَّلُ إِلَى رَدِّهَا بِوَجْهٍ مُبَاحٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا تُذْبَحُ وَتَكُونُ كَغَيْرِ الْمَأْكُولَةِ : لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَبْحِ الْبَهَائِمِ إِلَّا لِمَأْكَلَةٍ .

فَصْلٌ : وَإِذَا أَدْخَلَتِ الْبَهِيمَةُ رَأْسَهَا فِي إِنَاءٍ لِرَجُلٍ ، وَلَمْ يُمْكِنْ خَلَاصُهَا إِلَّا بِذَبْحِهَا أَوْ كَسْرِ الْإِنَاءِ ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُمَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الْبَهِيمَةِ غَيْرَ مُتَعَدٍّ لِوَضْعِهَا فِي حَقِّهِ ، وَصَاحِبُ الْإِنَاءِ مُتَعَدٍّ لِوَضْعِهِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ ، فَالْإِنَاءُ غَيْرُ مَضْمُونٍ : لِتَعَدِّي صَاحِبِهِ فَيُكْسَرُ لِخَلَاصِ الْبَهِيمَةِ ، وَيَكُونُ مَا لَا يُمْكِنُ خَلَاصُ الْبَهِيمَةِ إِلَّا بِكَسْرِهِ فَكَسْرُهُ هَدَرٌ ، وَمَا زَادَ عَلَيْهِ مَضْمُونًا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الْبَهِيمَةِ مُتَعَدِّيًا وَصَاحِبُ الْإِنَاءِ غَيْرَ مُتَعَدٍّ ، فَيَكُونُ الْإِنَاءُ مَضْمُونًا عَلَى صَاحِبِ الْبَهِيمَةِ : لِتَعَدِّيهِ بِهَا . وَيُنْظَرُ فِي الْبَهِيمَةِ فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَأْكُولَةٍ كُسِرَ الْإِنَاءُ : لِاسْتِخْلَاصِهَا وَضَمِنَهُ صَاحِبُهَا . وَإِنْ كَانَتْ مَأْكُولَةً ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تُذْبَحُ الْبَهِيمَةُ وَيُسْتَخْلَصُ الْإِنَاءُ . وَالثَّانِي : يُكْسَرُ الْإِنَاءُ وَيُضْمَنُ لِصَاحِبِهِ كَغَيْرِ الْمَأْكُولَةِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَعَدِّيًا ، فَيَكُونُ الضَّمَانُ بِصَاحِبِ الْبَهِيمَةِ أَخَصَّ : لِأَنَّ لَهَا فِعْلًا اخْتَصَّ بِزِيَادَةِ التَّعَدِّي ، فَيَكُونُ كَمَا لَوْ تَعَدَّى صَاحِبُ الْبَهِيمَةِ ، وَلَمْ يَتَعَدَّ صَاحِبُ الْإِنَاءِ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرَ مُتَعَدٍّ ، فَهَذَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ :

أَحَدُهَا : أَنْ يَعْلَمَ صَاحِبُ الْإِنَاءِ بِالْبَهِيمَةِ ، وَلَا يَعْلَمَ صَاحِبُ الْبَهِيمَةِ بِالْإِنَاءِ ، فَيَخْتَصُّ الْحِفْظُ بِصَاحِبِ الْإِنَاءِ ، وَيَكُونُ إِنَاؤُهُ هَدَرًا كَالْقِسْمِ الْأَوَّلِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَعْلَمَ صَاحِبُ الْبَهِيمَةِ بِالْإِنَاءِ ، وَلَا يَعْلَمَ صَاحِبُ الْإِنَاءِ بِالْبَهِيمَةِ ، فَيَخْتَصُّ الْحِفْظُ بِصَاحِبِ الْبَهِيمَةِ ، وَيَكُونُ الْإِنَاءُ مَضْمُونًا كَالْقِسْمِ الثَّانِي . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ يَعْلَمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِذَلِكَ : فَيَصِيرُ الْحِفْظُ عَلَيْهِمَا ، وَيَكُونُ الضَّمَانُ بِصَاحِبِ الْبَهِيمَةِ أَخَصَّ : لِزِيَادَةِ فِعْلِهَا كَالْقِسْمِ الثَّالِثِ . وَالضَّرْبُ الرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرَ عَالِمٍ بِالْآخَرِ ، فَفِي ضَمَانِ الْإِنَاءِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ مِنْ ضَمَانِ الْبَهِيمَةِ إِذَا وُقِفَتْ بِفِنَاءِ دَارِهِ فَأَتْلَفَتْ . أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ : أَنَّ الْإِنَاءَ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى صَاحِبِ الْبَهِيمَةِ ، فَيَكُونُ كَالْقِسْمِ الْأَوَّلِ فِي كَسْرِهِ لِخَلَاصِ الْبَهِيمَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا عَلَى صَاحِبِ الْبَهِيمَةِ ، فَيَكُونُ كَالْقِسْمِ الثَّانِي فِي اعْتِبَارِ حَالِ الْبَهِيمَةِ ، فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَأْكُولَةٍ لَمْ تُذْبَحْ وَكُسِرَ الْإِنَاءُ لِخَلَاصِهَا وَضُمِنَ . وَإِنْ كَانَتْ مَأْكُولَةً فَفِي ذَبْحِهَا وَجْهَانِ ، بِنَاءً عَلَى مَا مَضَى .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ جَعَلَ فِي دَارِهِ كَلْبًا عَقُورًا أَوْ حِبَالَةً ، فَدَخَلَ إِنْسَانٌ فَقَتَلَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : وَسَوَاءٌ عِنْدِي أَذِنَ لَهُ فِي الدُّخُولِ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : فَقَدْ مَضَتْ مِثْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي حَفْرِ الْبِئْرِ فِي دَارِهِ ، فَإِذَا رَبَطَ فِي دَارِهِ سَبُعًا أَوْ كَلْبًا عَقُورًا ، أَوْ نَصَبَ فِيهَا أُحْبُولَةً أَوْ شَرَكًا ، فَدَخَلَ إِلَيْهَا مَنْ هَلَكَ بِهَا فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَدْخُلَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ مَالِكِهَا ، فَنَفْسُهُ هَدَرٌ لِتَعَدِّيهِ بِالدُّخُولِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُكْرِهَهُ رَبُّ الدَّارِ عَلَى الدُّخُولِ فِيهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَتَّصِلَ الْإِكْرَاهُ بِالتَّلَفِ فَيَكُونُ مَضْمُونًا بِالدِّيَةِ عَلَى الْمُكْرِهِ : لِتَعَدِّيهِ بِالْإِكْرَاهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَتَّصِلَ الْإِكْرَاهُ بِالتَّلَفِ ، فَفِي اسْتِصْحَابِ حُكْمِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مُسْتَصْحِبٌ الْحُكْمَ إِلَى التَّلَفِ ، فَعَلَى هَذَا : يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى الْمُكْرِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : قَدْ زَالَ حُكْمُهُ بِانْقِطَاعِهِ ، فَيَكُونُ كَغَيْرِ الْمُكْرَهِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَأْذَنَ وَلَا يُكْرِهَ ، فَإِنْ عَلِمَ الدَّاخِلُ بِالْحَالِ ، أَوْ كَانَ الْمَوْضِعُ مُضِيئًا وَالدَّاخِلُ بَصِيرًا ، أَوْ كَانَ التَّحَرُّزُ مِنْ ذَلِكَ مُمْكِنًا ، فَلَا ضَمَانَ فِيهِ ، وَنَفْسُ الدَّاخِلِ

هَدَرٌ ، وَإِنْ لَمْ يُعْلِمْهُ بِالْحَالِ ، وَكَانَ الْمَوْضِعُ مُظْلِمًا ، أَوْ كَانَ الدَّاخِلُ ضَرِيرًا ، فَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ بِالسَّبَبِ ، وَلَا مُبَاشِرٍ لِلتَّلَفِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : عَلَيْهِ الضَّمَانُ ، فَخَرَجَ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَنْ سَمَّ طَعَامًا وَأُذِنَ فِي أَكْلِهِ : لِأَنَّهُ مُتَسَبِّبٌ لِمَا يَخْفَى تَلَفُهُ .

فَصْلٌ : وَإِذَا أَوْقَدَ نَارًا فِي دَارِهِ ، أَوْ سَجَّرَ بِهَا تَنُّورًا ، فَطَارَ مِنْ شَرَرِ النَّارِ مَا أَتْلَفَ وَأَحْرَقَ ، فَلَا ضَمَانَ فِيهِ : لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّعَدٍّ . وَقَدْ رَوَى مَعْمَرٌ ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : النَّارُ جُبَارٌ وَفِي تَأْوِيلِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ إِبَاحَةُ النَّارِ ، وَأَنَّ مَنِ اقْتَبَسَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهَا لَمْ يَلْزَمْهُ لَهُ قِيمَةٌ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ مَنْ أَوْقَدَهَا فِي حَقِّهِ ، فَتَعَدَّتْ إِلَى غَيْرِهِ لَمْ يَغْرَمْ مُوقِدُهَا مَا أَتْلَفَتْهُ . وَأَمَّا إِذَا أَحْرَقَ بِهَا حَشِيشًا فِي أَرْضِهِ ، فَتَعَدَّتِ النَّارُ إِلَى زَرْعِ جَارِهِ فَأَحْرَقَتْهُ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ زَرْعُ الْجَارِ غَيْرَ مُتَّصِلٍ بِحَشِيشِ صَاحِبِ النَّارِ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، كَمَا لَا يَضْمَنُ صَاحِبُ التَّنُّورِ مَا أَطَارَتْهُ الرِّيحُ مِنْ شَرَرِ نَارِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الزَّرْعُ النَّابِتُ مُتَّصِلًا بِالْحَشِيشِ الْمَحْرُوقِ ، فَيَنْظُرُ فِي صِفَةِ الرِّيحِ وَقْتَ إِلْقَاءِ النَّارِ ، فَإِنْ كَانَتْ مَصْرُوفَةً عَنْ جِهَةِ الزَّرْعِ بِهُبُوبِهَا إِلَى غَيْرِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى صَاحِبِ النَّارِ ، وَإِنْ كَانَ هُبُوبُهَا إِلَى جِهَةِ الزَّرْعِ ، فَفِي الضَّمَانِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجِبُ : لِأَنَّ مِنْ طَبْعِ النَّارِ أَنْ تَسْرِيَ إِلَى جِهَةِ الرِّيحِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجِبُ : لِأَنَّ هُبُوبَ الرِّيحِ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا أَرْسَلَ الْمَاءَ فِي أَرْضِهِ فَخَرَجَ إِلَى أَرْضِ غَيْرِهِ فَأَفْسَدَهَا ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مَا أَرْسَلَهُ فِيهَا مِنَ الْمَاءِ بِقَدْرِ حَاجَتِهَا ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا خَرَجَ مِنْهُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الْحَاجَةِ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَعْجَزَ عَنْ حَبْسِ الزِّيَادَةِ : لِطُغْيَانِ الْمَاءِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِعَدَمِ تَعَدِّيهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَقْدِرَ عَلَى حَبْسِهِ ، فَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : يَجِبُ : لِأَنَّ مِنْ طَبْعِ الْمَاءِ أَنْ يَجْرِيَ وَيَفِيضَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجِبُ : لِأَنَّ الْجَارَ قَدْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الِاحْتِرَازِ مِنْهُ بِحَظِيرَةٍ تَصُدُّ عَنْهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

_____كِتَابُ السِّيَرِ _____

اختار الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم لرسالته
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابُ السِّيَرِ مِنْ خَمْسَةِ كُتُبٍ : الْجِزْيَةِ ، وَالْحُكْمِ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَإِمْلَاءٍ عَلَى كِتَابِ الْوَاقِدِيِّ وَإِمْلَاءٍ عَلَى غَزْوَةِ بَدْرٍ ، وَإِمْلَاءٍ عَلَى كِتَابِ اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْأَوْزَاعِيِّ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى اخْتَارَ لِرِسَالَتِهِ ، وَاصْطَفَى لِنُبُوَّتِهِ محمد صلى الله عليه وسلم مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضِرِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ ، فَبَعَثَهُ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ ، حِينَ وَهَتِ الْأَدْيَانُ ، وَعُبِدَتِ الْأَوْثَانُ ، وَغَلَبَ الْبَاطِلُ عَلَى الْحَقِّ ، وَعَمَّ الْفَسَادُ فِي الْخَلْقِ : لِيَخْتِمَ بِهِ رُسُلَهُ ، وَيُوَضِّحَ بِهِ سُبُلَهُ ، وَيَسْتَكْمِلَ بِهِ دِينَهُ ، وَيَحْسِمَ بِهِ مِنَ الْفَسَادِ مَا عَمَّ ، وَمِنَ الْبَاطِلِ مَا تَمَّ ، فَاخْتَارَهُ مِنْ بَيْتٍ اشْتُهِرَ فِيهِمْ مَبَادِئُ طَاعَتِهِ ، وَقَوَاعِدُ عِبَادَتِهِ ، بِالْبَيْتِ الَّذِي جَعَلَهُ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا ، وَالْحَجِّ الَّذِي جَعَلَهُ فِي أُصُولِ الدِّينِ رُكْنًا : لِيَكُونُوا مُسْتَأْنِسِينَ بِتَدَيُّنٍ سَهْلٍ تَسْهُلُ بِهِ إِجَابَتُهُمْ ، وَلَا يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ مَلِكٍ قَدِ اسْتَحْكَمَ مُعْتَقَدَهُمْ : فَتَصْعُبَ إِجَابَتُهُمْ ، لُطْفًا تَسْهُلُ بِهِ الْمَبَادِئُ ، وَأَحْكَمَ بِهِ الْعَوَاقِبَ ، فَكَانَ مِنْ أَوَائِلِ التَّأْسِيسِ لِنُبُوَّتِهِ أَنْ كَثَّرَ اللَّهُ قُرَيْشًا بَعْدَ الْقِلَّةِ ، وَأَعَزَّهُمْ بَعْدَ الذِّلَّةِ ، وَجَعَلَهُمْ دَيَّانِينَ الْعَرَبِ ، وَوُلَاةَ الْحَرَمِ ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ هَجَسَ فِي نَفْسِهِ لِظُهُورِ النُّبُوَّةِ مِنْهُمْ " كَعْبُ بْنُ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ " فَكَانَ يَجْمَعُ النَّاسَ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ ، وَهُوَ سَمَّاهُ لِجَمْعِ النَّاسِ فِيهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَكَانَ يُسَمَّى : عُرُوبَةَ . وَكَانَ يَخْطُبُ فِيهِ عَلَى قُرَيْشٍ ، وَيَقُولُ بَعْدَ خُطْبَتِهِ : حَرَمُكُمْ عَظِّمُوهُ ، وَتَمَسَّكُوا بِهِ ، فَسَيَأْتِي لَهُ بِنَاءٌ عَظِيمٌ ، وَسَيَخْرُجُ بِهِ نَبِيٌّ كَرِيمٌ ، وَاللَّهِ لَوْ كُنْتُ فِيهِ ذَا سَمْعٍ وَبَصَرٍ ، وَيَدٍ وَرِجْلٍ ، لَتَنَصَّبْتُ تَنَصُّبَ الْجَمَلِ ، وَلَأَرْقَلْتُ إِرْقَالَ الْفَحْلِ ، ثُمَّ يَقُولُ : يَا لَيْتَنِي شَاهِدٌ فَحْوَاءَ دَعْوَتِهِ إِذَا قُرَيْشٌ تُبَقِّي الْحَقَّ خِذْلَانَا وَهَذَا مِنْ فِطَرِ الْإِلْهَامِ ، وَمَخَائِلِ الْعُقُولِ . ثُمَّ انْتَقَلَتِ الرِّئَاسَةُ بَعْدَهُ إِلَى " قُصَيِّ بْنِ كِلَابِ " فَجَدَّدَ بِنَاءَ الْكَعْبَةِ ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ بَنَاهَا بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ ، وَإِسْمَاعِيلَ ، وَبَنَى دَارَ النَّدْوَةِ لِلتَّحَاكُمِ ، وَالتَّشَاجُرِ ، وَالتَّشَاوُرِ ، وَعَقْدِ الْأَلْوِيَةِ ، وَهِيَ أَوَّلُ دَارٍ بُنِيَتْ بِمَكَّةَ ، وَكَانُوا يُخَيِّمُونَ فِي جِبَالِهَا ثُمَّ بَنَى الْقَوْمُ دُورَهُمْ بِهَا ،

فَزَادَتِ الرِّئَاسَةُ ، وَقَوِيَ تَأْسِيسُ النُّبُوَّةِ ، ثُمَّ أُمِّرَتْ قُرَيْشٌ وَكَثُرَتْ حَتَّى قَصَدَهُمْ صَاحِبُ الْفِيلِ ؛ لِهَتْكِ الْحَرَمِ ، وَهَدْمِ الْكَعْبَةِ ، وَسَبْيِ قُرَيْشٍ ، فَأَخَذَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بِحَلْقَةِ الْبَابِ وَقَالَ : يَا رَبِّ لَا نَرْجُو لَهُمْ سِوَاكَا يَا رَبِّ فَامْنَعْ مِنْهُمْ حِمَاكَا إِنَّ عَدُوَّ الْبَيْتِ مَنْ عَادَاكَا امْنَعْهُمْ أَنْ يُخَرِّبُوا قُرَاكَا فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِمَا حَكَاهُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ : طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ، فَهَلَكُوا جَمِيعًا ، فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ : أَنْتِ مَنَعْتَ الْحَبَشَ وَالْأَفَيْالَا وَقَدْ رَعَوْا بِمَكَّةَ الْأَجْبَالَا وَقَدْ خَشِينَا مِنْهُمُ الْقَتَالَا وَكُلَّ أَمْرٍ لَهُمْ مِعْضَالَا حَمْدًا وَشُكْرًا لَكَ ذَا الْجَلَالَا قَدْ شَهِدَ بِذَلِكَ تَأْسِيسُ النُّبُوَّةِ فِيهِمْ ، وَبَقِيَ تَعْيِينُهَا فِي الْمَخْصُوصِ بِهَا مِنْهُمْ .

فَصْلٌ : وَكَانَ مِنْ مَبَادِئِ أَمَارَاتِ النُّبُوَّةِ فِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِجَابَةُ دَعْوَةِ جَدِّهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، حَتَّى هَلَكَ أَصْحَابُ الْفِيلِ ، تَخْصِيصًا لَهُ بِالْكَرَامَةِ حِينَ خُصَّ بِالنُّبُوَّةِ فِي وَلَدِهِ ، ثُمَّ ظَهَرَ نُورُ النُّبُوَّةِ فِي وَجْهِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ ، حَتَّى مَرَّ بِكَاهِنَةٍ مَنْ كَوَاهِنِ الْعَرَبِ ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " آمِنَةَ بِنْتَ وَهْبٍ " فَرَأَتِ الْكَاهِنَةُ نُورَ النُّبُوَّةِ بَيْنَ عَيْنَيْهِ فَقَالَتْ لَهُ : هَلْ لَكَ أَنْ تَقَعَ عَلَيَّ ، وَلَكَ مِائَةُ نَاقَةٍ مِنَ الْإِبِلِ فَقَالَ : أَمَّا الْحَرَامُ فَالْمَمَاتُ دُونَهْ وَالْحِلُّ لَا حِلَّ فَأَسْتَبِينَهْ فَكَيْفَ بِالْأَمْرِ الَّذِي تَبْغِينَهْ يَحْمِي الْكَرِيمُ عِرْضَهُ وَدِينَهْ وَمَضَى لِشَأْنِهِ ، وَنَكَحَ آمِنَةَ ، فَعَلَقَتْ مِنْهُ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَادَ فَمَرَّ بِالْكَاهِنَةِ فَعَرَضَ لَهَا ، فَلَمْ تَرَ ذَلِكَ النُّورَ ، فَقَالَتْ : قَدْ كَانَ هَذَا مَرَّةً فَالْيَوْمَ لَا ، فَأُرْسِلَتْ مَثَلًا . قَالَ : ثُمَّ وُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ الْفِيلِ ، عَلَى مَا رَوَاهُ أَكْثَرُ النَّاسِ فِي شِعْبِ بَنِي هَاشِمٍ ، فِي جِوَاءِ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، وَتَرَكُوا عَلَيْهِ لَيْلَةَ وِلَادَتِهِ جَفْنَةً كَبِيرَةً ، فَانْفَلَقَتْ عَنْهُ فَلْقَتَيْنِ ،

فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ مَبَادِئِ أَمَارَاتِ النُّبُوَّةِ فِي نَفْسِهِ ، ثُمَّ مَاتَ أَبُوهُ عَبْدُ اللَّهِ وَأُمُّهُ حَامِلٌ بِهِ ، فَكَفَلَهُ جَدُّهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ ، فَكَانَ يَرَى مِنْ شَأْنِهِ مَا يَسُرُّهُ ، وَمَاتَ بَعْدَ ثَمَانِي سِنِينَ مِنْ وِلَادَتِهِ ، فَوَصَّى بِهِ إِلَى عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ : لِأَنَّهُ كَانَ أَخَا عَبْدِ اللَّهِ لِأُمِّهِ ، فَخَرَجَ بِهِ أَبُو طَالِبٍ إِلَى الشَّامِ بِتِجَارَةٍ ، وَهُوَ ابْنُ تِسْعِ سِنِينَ ، فَنَزَلَ تَحْتَ صَوْمَعَةٍ بِالشَّامِ عِنْدَ بُصْرَى ، وَكَانَ فِي الصَّوْمَعَةِ رَاهِبٌ يُقَالُ لَهُ " بَحِيرَا " قَدْ قَرَأَ كُتُبَ أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَعَرَفَ مَا فِيهَا ، مِنَ الْأَنْبَاءِ وَالْأَمَارَاتِ ، فَرَأَى بَحِيرَا مِنْ صَوْمَعَتِهِ غَمَامَةً قَدْ أَظَلَّتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الشَّمْسِ فَنَزَلَ إِلَيْهِ وَجَعَلَ يَتَفَقَّدُ جَسَدَهُ ، حَتَّى رَأَى خَاتَمَ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ ، وَسَأَلَهُ عَنْ حَالِهِ فِي مَنَامِهِ ، وَيَقَظَتِهِ فَأَخْبَرَهُ ، بِهَا ، فَوَافَقَتْ مَا عِنْدَهُ فِي الْكُتُبِ ، وَسَأَلَ أَبَا طَالِبٍ عَنْهُ فَقَالَ : ابْنِي فَقَالَ : كَلَّا ، قَالَ : ابْنُ أَخِي : مَاتَ أَبُوهُ ، وَهُوَ حَمْلٌ قَالَ : صَدَقْتَ ، وَعَمِلَ لَهُمْ وَلِمَنْ مَعَهُمْ مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ طَعَامًا لَمْ يَكُنْ يَعْمَلُهُ لَهُمْ مِنْ قَبْلُ . وَقَالَ : احْفَظُوا هَذَا مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ، فَإِنَّهُ سَيِّدُ الْعَالَمِينَ ، وَسَيُبْعَثُ إِلَيْنَا وَإِلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ ، فَإِنْ عَرَفُوهُ مَعَكُمْ قَتَلُوهُ ، فَقَالُوا كَيْفَ عَرَفْتَ هَذَا ؟ قَالَ : بِالسَّحَابَةِ الَّتِي أَظَلَّتْهُ ، وَرَأَيْتُ خَاتَمَ النُّبُوَّةِ أَسْفَلَ مِنْ غُضْرُوفِ كَتِفِهِ مِثْلَ التُّفَّاحَةِ عَلَى النَّعْتِ الْمَذْكُورِ ، فَكَانَتْ هَذِهِ أَوَّلَ بُشْرَى نُبُوَّتِهِ ، وَهُوَ لِصِغَرِهِ غَيْرُ دَاعٍ إِلَيْهَا وَلَا مُتَأَهِّبٌ لَهَا .

فَصْلٌ : ثُمَّ نَشَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قُرَيْشٍ نشأة رسول الله عَلَى أَحْسَنِ هَدْيٍ وَطَرِيقَةٍ ، وَأَشْرَفِ خُلُقٍ وَطَبِيعَةٍ ، وَأَصْدَقِ لِسَانٍ وَلَهْجَةٍ ، وَكَانَتْ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ ذَاتَ شَرَفٍ وَيَسَارٍ ، وَكَانَتْ لَهَا مَتَاجِرُ وَمُضَارِبَاتٌ ، فَلَمَّا عَرَفَتْ أَمَانَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصِدْقَ لَهْجَتِهِ أَبَضْعَتْهُ مَالًا يَتَّجِرُ لَهَا بِهِ إِلَى الشَّامِ مُضَارِبًا ، وَأَنْفَذَتْ مَعَهُ مَوْلَاهَا " مَيْسَرَةَ " لِيَخْدِمَهُ فِي طَرِيقِهِ ، فَنَزَلَ ذَاتَ يَوْمٍ تَحْتَ صَوْمَعَةِ رَاهِبٍ ، فَرَأَى الرَّاهِبُ مِنْ ظُهُورِ كَرَامَاتِ اللَّهِ مَا عَلِمَ ، أَنَّهَا لَا تَكُونُ إِلَّا لِنَبِيٍّ مُنْزَلٍ ، وَقَالَ لِمَيْسَرَةَ : مَنْ هَذَا الرَّجُلُ ؟ فَقَالَ : رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرَمِ . فَقَالَ : إِنَّهُ نَبِيٌّ : وَكَانَ مَيْسَرَةُ يَرَاهُ إِذَا رَكِبَ تُظِلُّهُ غَمَامَةٌ تَقِيهِ حَرَّ الشَّمْسِ ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى " خَدِيجَةَ " قَصَّ مَيْسَرَةُ عَلَيْهَا حَدِيثَ الرَّاهِبِ ، وَمَا شَاهَدَهُ مِنْ ظِلِّ الْغَمَامَةِ ، وَتَضَاعَفَ لَهَا رِبْحُ التِّجَارَةِ ، فَكَانَتْ هَذِهِ بُشْرَى ثَانِيَةً بِنُبُوَّتِهِ ، فَرَغِبَتْ خَدِيجَةُ فِي نِكَاحِهِ ، وَكَانَ قَدْ خَطَبَهَا أَشْرَافُ قُرَيْشٍ ، فَامْتَنَعَتْ ، وَسَفَرَ بَيْنَهُمَا فِي النِّكَاحِ " مَيْسَرَةُ " . وَقِيلَ : مَوْلَاةٌ مُوَلَّدَةٌ [ مِنْ مُوَلَّدَاتِ مَكَّةَ ] . وَخَافَتِ امْتِنَاعَ أَبِيهَا عَلَيْهِ : لِفَقْرِهِ ، فَعَقَرَتْ لَهُ ذَبِيحَةً وَأَلْبَسَتْهُ حِبَرَةً ، بِطِيبٍ وَعَقِيرٍ ، وَسَقَتْهُ خَمْرًا حَتَّى سَكِرَ ، وَحَضَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعَهُ عَمُّهُ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، وَاخْتُلِفَ فِي حُضُورِ أَبِي طَالِبٍ مَعَهُ ، وَخَطَبَهَا مِنْ أَبِيهَا فَأَجَابَهُ ، وَزَوَّجَهُ بِهَا ، وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً ، وَخَدِيجَةُ ابْنَةُ أَرْبَعِينَ سَنَةً ، وَدَخَلَ بِهَا مِنْ لَيْلَتِهِ فَلَمَّا أَصْبَحَ خُوَيْلِدٌ وَصَحَا ، رَأَى آثَارَ مَا عَلَيْهِ فَقَالَ : مَا هَذَا الْعَقِيرُ وَالْعَبِيرُ وَالْحَبِيرُ ؟ قِيلَ لَهُ : زَوَّجْتَ خَدِيجَةَ بِمُحَمَّدٍ . قَالَ : مَا فَعَلْتُ : قِيلَ لَهُ : قَبُحَ بِكَ هَذَا وَقَدْ دَخَلَ بِهَا ، فَرَضِيَ ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ ظُهُورِ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110