كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي
ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ تِلْكَ الصِّفَاتِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَنْفِيَ عَنْهُ الْجَهَالَةَ أَوْ لَا يَنْفِيهَا عَنْهُ ، فَإِنِ انْتَفَتْ عَنْهُ الْجَهَالَةُ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ وَهُوَ أَنْ يَصِفَهُ بِالصِّفَاتِ الْمُسْتَحَقَّةِ فِي السَّلَمِ الَّتِي يَصِحُّ بِهَا ثُبُوتُهُ فِي الذِّمَّةِ بِأَنْ يَذْكُرَ جِنْسَهُ وَسِنَّهُ وَقَدْرَهُ وَحِلْيَتَهُ ، فَإِذَا اسْتَكْمَلَتْ هَذِهِ الصِّفَاتِ طُلِّقَتْ بِهِ ، وَمَلَكَهُ الزَّوْجُ : وَإِنِ الْجَهَالَةَ قَدِ انْتَفَتْ عَنْهُ فَصَارَ مَعْلُومًا بِهَا فَصَحَّ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا ، فَإِنْ وَجَدَهُ مَعِيبًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُبَدِّلَهُ بِمِثْلِهِ سَلِيمًا : لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ مَعَ انْتِفَاءِ الْجَهَالَةِ عَنْهُ مُتَعَيَّنًا بِالدَّفْعِ ، فَصَارَ كَالْمُعَيَّنِ بِالْعَقْدِ ، وَلَوْ تَعَيَّنَ بِالْعَقْدِ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِبْدَالُهُ ، كَذَلِكَ إِذَا تَعَيَّنَ بِالدَّفْعِ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ بَدَلُهُ فَبِمَاذَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ فِي الْقَدِيمِ بِقِيمَتِهِ لَوْ كَانَ سَلِيمًا . وَالثَّانِي : وَهُوَ فِي الْجَدِيدِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ ، وَلَوْ كَانَ قَدْ طَلَّقَهَا عَلَى غَيْرِ مَوْصُوفٍ فِي ذِمَّتِهَا فَسَلَّمَتْ إِلَيْهِ الْعَبْدَ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ فَوَجَدَهُ مَعِيبًا كَانَ لَهُ إِبْدَالُهُ بِسَلِيمٍ لَا عَيْبَ فِيهِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَوْصُوفًا فِي الذِّمَّةِ فَقَدْ تَقَدَّمَهُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ فَلَمْ يَتَعَيَّنْ بِالْعَقْدِ وَلَا صَارَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ بِهِ مُعَيَّنًا بِالدَّفْعِ ، فَجَرَى مَجْرَى الْمَالِ الْمَوْصُوفِ فِي الذِّمَّةِ إِذَا وَجَدَهُ مَعِيبًا أَبْدَلَهُ بِسَلِيمٍ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ : لِأَنَّهُ عَلَّقَ وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِهِ فَصَارَ مُعَيَّنًا بِالدَّفْعِ ، فَجَرَى مَجْرَى الْمُعَيَّنِ بِالْعَقْدِ ، وَإِنْ وَصَفَ الْعَبْدَ بِمَا لَا يَنْفِي عَنْهُ الْجَهَالَةَ ، وَلَا يَجْرِي فِي السَّلَمِ ، فَإِذَا وُجِدَتْ فِيهِ هَذِهِ الصِّفَاتُ طُلِّقَتْ بِدَفْعِهِ وَلَا يَمْلِكُهُ الزَّوْجُ بِجَهَالَتِهِ ، وَيَرْجِعُ عَلَيْهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ قَوْلًا وَاحِدًا .
فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يُطْلِقَ ذِكْرَ الْعَبْدِ وَلَا يَصِفَهُ ، في الطلاق وَيَقْتَصِرَ عَلَى قَوْلِهِ : إِنْ أَعْطَيْتِنِي عَبْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَأَيُّ عَبْدٍ أَعْطَتْهُ طُلِّقَتْ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا : لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بِالشُّرُوطِ الْمَجْهُولَةِ ، وَلَا يَمْلِكُهُ الزَّوْجُ لِجَهَالَتِهِ ، وَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَمْلِكَ بِالْعُقُودِ أَعْوَاضًا مَجْهُولَةً وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تُعْطِيَهُ عَبْدًا صَغِيرًا ، أَوْ كَبِيرًا صَحِيحًا أَوْ ذِمِّيًّا فِي وُقُوعِ طَلَاقِهَا بِهِ ، وَلَا تُطَلَّقُ لَوْ أَعْطَتْهُ أَمَةً ، لِأَنَّ اسْمَ الْعَبْدِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا ، وَلَا لَوْ أَعْطَتْهُ خُنْثَى لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ أَمَةً ، وَلَوْ أَعْطَتْهُ عَبْدًا مُدَبَّرًا أَوْ مُعْتَقًا بِصِفَةٍ ، طُلِّقَتْ بِهِ لِانْطِلَاقِ اسْمِ الْعَبْدِ عَلَيْهِ ، وَلَوْ أَعْطَتْهُ مُكَاتَبًا لَمْ تُطَلَّقْ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ قَدْ أَخْرَجَتْهُ مِنْ حُكْمِ الْعَبِيدِ فَزَالَ عَنْهُ اسْمُ الْعَبْدِ . وَلَوْ أَعْطَتْهُ عَبْدًا لَهَا مَغْصُوبًا في الطلاق المشروط قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرِايِنِيُّ : لَا تُطَلَّقُ : لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُمْلَكَ بِالْعَقْدِ فَأَجْرَاهُ مَجْرَى الْمُكَاتَبِ . وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّهَا تُطَلَّقُ بِدَفْعِهِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الصِّفَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ حُكْمِ الْعَبِيدِ فَلَمْ يَزُلْ عَنْهُ اسْمُ الْعَبْدِ ، وَقَدْ يَجُوزُ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهِ مِنْ غَاصِبِهِ وَعَلَى أَنَّ الْمَغْصُوبَ يَخْرُجُ بِالدَّفْعِ أَنْ يَكُونَ مَغْصُوبًا ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا تُطَلَّقُ مَعَ جَهَالَةِ الْعَبْدِ بِأَيِّ عَبْدٍ دَفَعَتْهُ وَلَا تَمْلِكُهُ فَلَهُ عَلَيْهَا مَهْرُ الْمِثْلِ ، وَلَمْ يَكُنْ إِغْفَالُ الشَّافِعِيِّ لِذِكْرِهِ إِسْقَاطًا مِنْهُ لِإِيجَابِهِ كَمَا تَوَهَّمَهُ الْمُزَنِيُّ فَاحْتَجَّ بِمَا ذَكَرَهُ مِنَ الشَّوَاهِدِ الصَّحِيحَةِ وَإِنَّمَا أَغْفَلَهُ اكْتِفَاءً بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ بَيَانِهِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِذَا أَطْلَقَ ذِكْرَ الْعَبْدِ فِي خُلْعِهِ تَنَاوَلَ عَبْدًا وَسَطًا سِنْدِيًّا بَيْنَ الْأَبْيَضِ وَالْأَسْوَدِ ، فَجُعِلَ ذَلِكَ شَرْطًا فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ . وَتَمَلَّكَ الْعَبْدَ بِهِ ، وَبَنَاهُ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي الصَّدَاقِ إِذَا أَصْدَقَهَا عَبْدًا مُطْلَقًا صَحَّ ، وَتَنَاوَلَ عَبْدًا وَسَطًا سِنْدِيًّا بَيْنَ الْأَسْوَدِ وَالْأَبْيَضِ ، وَنَحْنُ نُخَالِفُهُ فِي الْأَصْلَيْنِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ خَلَعَهَا بِعَبْدٍ بِعَيْنِهِ ثَمَّ أَصَابَ بِهِ عَيْبًا رَدَّهُ وَكَانَ لَهُ عَلَيْهَا مَهْرُ مِثْلِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا خَالَعَهَا عَلَى عَبْدٍ بِعَيْنِهِ في الطلاق المشروط فَذَلِكَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُعَجِّلَ طَلَاقَهَا بِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَجْعَلَهُ مُعَلَّقًا بِدَفْعِهِ . فَإِنْ عَجَّلَ طَلَاقَهَا بِهِ كَأَنَّهُ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ بِهَذَا الْعَبْدِ ، فَقَدْ طُلِّقَتْ ، لِأَنَّهُ جَعَلَ الْعَبْدَ عِوَضًا ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ شَرْطًا ، فَإِنْ صَحَّ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا لِكَوْنِهِ مِلْكًا لَهَا وَجَارِيًا فِي تَصَرُّفِهَا صَحَّ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا ، وَمَلَكَ الْعَبْدَ عَلَيْهَا : لِأَنَّهُ بِالتَّعْيِينِ مَعْلُومٌ ، فَإِنْ وُجِدَ بِهِ عَيْبٌ سَمَحَ بِهِ فَلَا رَدَّ ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَحْ بِهِ وَأَرَادَ رَدَّهُ فَلَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ مَا مُلِكَ بِالْأَعْوَاضِ رُدَّ بِالْعُيُوبِ كَالْبَيْعِ ثُمَّ بِمَاذَا يَرْجِعُ بَعْدَ رَدِّهِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : بِقِيمَتِهِ لَوْ كَانَ سَلِيمًا . وَالثَّانِي : بِمَهْرِ الْمِثْلِ . وَإِنْ كَانَتْ لَا تَمْلِكُ هَذَا الْعَبْدَ أَوْ كَانَتْ تَمْلِكُهُ وَلَكِنْ لَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهَا فِيهِ ، إِمَّا لِكَوْنِهِ مَوْهُوبًا أَوْ لِكَوْنِهِ مَغْصُوبًا ، بَطَلَ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا فِي الْخُلْعِ ، كَمَا بَطَلَ أَنْ يَكُونَ مَبِيعًا ، وَفِيمَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : بِقِيمَتِهِ . وَالثَّانِي : بِمَهْرِ الْمِثْلِ .
فَصْلٌ : وَإِنْ جَعَلَ طَلَاقَهَا مُعَلَّقًا بِدَفْعِهِ كَأَنَّهُ قَالَ : إِنْ أَعْطَيْتِنِي هَذَا الْعَبْدَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، في الطلاق المشروط فَلَا يَخْلُو حَالُ الْعَبْدِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ فِي مِلْكِهَا وَتَصَرُّفِهَا فَمَتَى أَعْطَتْهُ الْعَبْدَ طُلِّقَتْ بِدَفْعِهِ وَمَلَكَهُ الزَّوْجُ : لِأَنَّهُ بِالتَّعْيِينِ مَعْلُومٌ ، فَإِنْ ظَهَرَ بِهِ عَيْبٌ ، فَلَهُ رَدُّهُ وَفِيمَا يَرْجِعُ بِهِ قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى " . أَحَدُهُمَا : بِقِيمَتِهِ . وَالثَّانِي : بِمَهْرِ الْمِثْلِ .
فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِهِ مَعِيبًا وَيَرْجِعَ بِأَرْشِهِ فَإِنْ قِيلَ : لَوْ رَدَّهُ رَجَعَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ دُونَ قِيمَتِهِ فَلَيْسَ لَهُ ذَاكَ ، وَإِنْ قِيلَ : يَرْجِعُ بِقِيمَتِهِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَيْسَ لَهُ ذَاكَ : لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الرَّدِّ بِالْعَيْبِ تَمْنَعُ مِنَ الرُّجُوعِ بِالْأَرْشِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَهُ ذَاكَ : لِأَنَّ أَخْذَهُ مَعَ أَرْشِ عَيْنِهِ أَقْرَبُ مِنَ الرُّجُوعِ بِقِيمَتِهِ جَمِيعِهِ ، وَخَالَفَ الْبَيْعَ الَّذِي لَا يُوجِبُ رَدُّهُ بِالْعَيْبِ اسْتِرْجَاعَ قِيمَتِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِ مِلْكِهَا ، لِأَنَّهُ عَبْدٌ لِغَيْرِهَا فَلَا تُطَلَّقُ بِدَفْعِهِ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَشْرُوطًا فِي مُعَاوَضَةٍ صَارَ حُكْمُ الْمُعَاوَضَةِ شَرْطًا فِيهِ ، وَمِنْ حُكْمِ الْمُعَاوَضَةِ أَنْ يَكُونَ فِي مِلْكِهَا فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ : إِنْ أَعْطَيْتِنِي هَذَا الْعَبْدَ الَّذِي تَمْلِكِينَهُ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَإِذَا دَفَعَتِ الْعَبْدَ ، وَلَمْ تَكُنْ مَالِكَةً لَهُ فُقِدَ أَحَدُ الشَّرْطَيْنِ فَلَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ فِي مِلْكِهَا لَكِنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِيهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مِنْهُ بِحَقِّ الرَّهْنِ فَلَا يَصِحُّ بِهِ الْخُلْعُ ، وَلَا يَقَعُ بِدَفْعِهِ الطَّلَاقُ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْمُعَاوَضَةِ ، وَأَنَّ الْمَرْهُونَ لَا يُمْلَكُ قَبْلَ فِكَاكِهِ بِالْمُعَاوَضَةِ فَصَارَ كَغَيْرِ الْمَمْلُوكِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ مَمْنُوعَةً مِنْهُ بِغَيْرِ حَقٍّ كَالْغَصْبِ وَالْإِبَاقِ فَفِي صِحَّةِ الْخُلْعِ بِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الْخُلْعَ عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ بَيْعَهُ لَا يَصِحُّ فَجَرَى مَجْرَى الْمَرْهُونِ ، فَعَلَى هَذَا ، إِنْ أَعْطَتْهُ إِيَّاهُ لَمْ تُطَلَّقْ : لِأَنَّ تَمَلُّكَهُ بِالْعَطِيَّةِ كَالْمَشْرُوطِ فِي الْعِتْقِ بِالصِّفَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْخُلْعَ عَلَيْهِ جَائِزٌ ، لِأَنَّ الْيَدَ الْغَاصِبَةَ يُسْتَحَقُّ رَفْعُهَا ، فَقَصُرَتْ عَنْ حُكْمِ الْيَدِ الْمُرْتَهِنَةِ الَّتِي لَا يُسْتَحَقُّ رَفْعُهَا ، فَعَلَى هَذَا إِنْ أَعْطَتْهُ إِيَّاهُ طُلِّقَتْ : لِأَنَّهُ قَدِ ارْتَفَعَتْ بِهِ يَدُ الْغَصْبِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ : إِنْ أَعْطَيْتِنِي عَبْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَتُطَلَّقُ بِالْعَبْدِ الْمَغْصُوبِ وَبَيْنَ إِنْ أَعْطَيْتِنِي هَذَا الْعَبْدَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَيَكُونُ مَغْصُوبًا فَلَا تُطَلَّقُ ، هُوَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ مُطْلَقًا لَمْ يُمْلَكْ بِالدَّفْعِ فَغَلَبَ فِيهِ حُكْمُ الْعِتْقِ بِالصِّفَةِ ، وَإِذَا كَانَ مُعَيَّنًا مُلِكَ بِالدَّفْعِ فَغَلَبَ فِيهِ حُكْمُ الْمُعَاوَضَةِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا خَالَعَهَا عَلَى حَمْلِ جَارِيَتِهَا أَوْ عَلَى مَا فِي جَوْفِهَا ، فَالْخُلْعُ بَاطِلٌ ، وَسَوَاءٌ وَضَعَتْ وَلَدًا أَوْ لَمْ تَضَعْ ، وَالطَّلَاقُ يَقَعُ بَائِنًا ، وَلَهُ عَلَيْهَا مَهْرُ الْمِثْلِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْخُلْعُ صَحِيحٌ فَإِنْ وَضَعَتْ وَلَدًا كَانَ لِلزَّوْجِ ، وَإِنْ لَمْ تَضَعْ شَيْئًا فَلَا شَيْءَ لِلزَّوْجِ اعْتِبَارًا بِالْوَصِيَّةِ أَنَّهَا تَصِحُّ بِالْحَمْلِ فَكَذَلِكَ الْخُلْعُ .
وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا فِي النِّكَاحِ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا فِي الْخُلْعِ كَالْمُحَرَّمَاتِ ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ عَلَى حَمْلٍ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فَاسِدًا كَالنِّكَاحِ وَالْبَيْعِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ : " وَقَدْ قَالَ لَوْ قَالَ لَهَا إِنْ أَعْطَيْتِنِي شَاةً مَيِّتَةً أَوْ خِنْزِيرًا أَوْ زِقَّ خَمْرٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَفَعَلَتْ طُلِّقَتْ وَيَرْجِعُ عَلَيْهَا بِمَهْرِ مِثْلِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا قَالَ لَهَا : إِنْ أَعْطَيْتِنِي خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا أَوْ شَاةً مَيِّتَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَأَعْطَتْهُ ذَلِكَ ، طُلِّقَتْ ، وَإِنْ لَمْ تَمْلِكِ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ لِوُجُودِ الصِّفَةِ بِدَفْعِهِ ، فَإِنْ قِيلَ : أَفَلَيْسَ لَوْ قَالَ لَهَا : إِنْ أَعْطَيْتِنِي هَذَا الْعَبْدَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَأَعْطَتْهُ إِيَّاهُ ، وَهُوَ مَغْصُوبٌ لَمْ تُطَلَّقْ ، وَإِنْ كَانَتِ الصِّفَةُ مَوْجُودَةً ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَمْلِكَهُ عَنْهَا فَهَلَّا كَانَ فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ لَا تُطَلَّقُ بِدَفْعِهِ ، وَإِنْ كَانَتِ الصِّفَةُ مَوْجُودَةً ، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ عَنْهَا . قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْعَبْدَ مَالٌ يَجُوزُ أَنْ يُمْلَكَ فَصَارَ التَّمْلِيكُ فِيهِ مَقْصُودًا ، فَجَازَ أَنْ يَصِيرَ فِي الْحُكْمِ مَشْرُوطًا ، وَإِنْ مَنَعَ الشَّرْعُ مِنْ تَمَلُّكِهِ بِالْجَهَالَةِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْخَمْرُ وَالْخِنْزِيرُ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَمْ يَصِرِ التَّمَلُّكُ فِيهِ مَقْصُودًا ، فَقَوِيَ فِيهِ حُكْمُ الطَّلَاقِ بِالصِّفَةِ ، فَإِذَا ثَبَتَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ بِدَفْعِهِ وَقَعَ بَائِنًا ، وَلَهُ عَلَيْهَا مَهْرُ مِثْلِهَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَقَعُ رَجْعِيًّا ، وَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَيْهَا اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْخَمْرَ لَيْسَ بِعِوَضٍ فَصَارَ مُطَلِّقًا لَهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ ، وَالطَّلَاقُ بِغَيْرِ عِوَضٍ يَكُونُ رَجْعِيًّا ، فَكَذَلِكَ بِمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا . وَلِأَنَّ خُرُوجَ الْبُضْعِ مِنْ مِلْكِ الزَّوْجِ غَيْرُ مُقَوَّمٍ وَلَا يَكُونُ اسْتِهْلَاكًا لِمَالٍ يَسْتَحِقُّ قِيمَتَهُ لِثَلَاثَةِ أُمُورٍ : أَحَدُهَا : جَوَازُ طَلَاقِهِ فِي الْمَرَضِ الَّذِي يُمْنَعُ فِيهِ مِنَ اسْتِهْلَاكِ مَالِهِ ، وَلَا تَكُونُ قِيمَةُ الْبُضْعِ مُعْتَبَرَةً مِنْ ثَلَاثَةٍ كَالْعَطَايَا ، وَالْهِبَاتِ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا لَوْ قَتَلَتْ نَفْسًا فَاسْتَهْلَكَتْ عَلَى الزَّوْجِ بُضْعَهَا لَمْ يَسْتَحِقَّ الزَّوْجُ عَلَيْهَا قِيمَتَهُ ، وَلَوْ كَانَ مَالًا لَوَجَبَ لَهُ عَلَيْهَا مَهْرُ الْمِثْلِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَبِ الصَّغِيرَةِ أَنْ يُخَالِعَ عَنْهَا بِمَالِهَا ، وَلَوْ كَانَ الْبُضْعُ مَالًا لَجَازَ أَنْ يَتَمَلَّكَهُ لَهَا بِمَالِهَا كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهَا عَقَارًا . وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهُ خُلْعٌ عَلَى عِوَضٍ فَاسِدٍ فَاقْتَضَى وُقُوعُ الطَّلَاقِ فِيهِ أَنْ يُوجِبَ الرُّجُوعَ بِبَدَلِ الْبُضْعِ . أَصْلُهُ إِذَا خَالَعَهَا عَلَى عَصِيرٍ فَوَجَدَهُ خَمْرًا .
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِالْمَهْرِ الَّذِي دَفَعَهُ إِلَيْهَا فِي النِّكَاحِ . فَإِنْ قِيلَ : فَالْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ أَنَّ الزَّوْجَ لَمْ يَرْضَ بِخُرُوجِ الْبُضْعِ مِنْ مِلْكِهِ بِغَيْرِ بَدَلٍ ، لِأَنَّهُ ظَنَّهُ عَصِيرًا ، فَجَازَ أَنْ يَسْتَحِقَّ فِيهِ الْبَدَلَ وَفِي الْفَرْعِ قَدْ عَلِمَهُ خَمْرًا فَرْضِيَ بِخُرُوجِ الْبُضْعِ بِغَيْرِ بَدَلٍ فَلَمْ يَسْتَحِقَّ فِيهِ الْبَدَلَ . فَالْجَوَابُ : أَنَّهُ مُنْتَقَضٌ بِالنِّكَاحِ فَإِنَّهَا إِذَا تَزَوَّجَتْ بِرَجُلٍ عَلَى خَمْرٍ كَانَ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ ، وَإِنْ عَلِمَتْ أَنَّهُ خَمْرٌ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَتْهُ عَلَى عَصِيرٍ فَكَانَ خَمْرًا لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فَكَذَلِكَ فِي الْخُلْعِ . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا فَنَقُولُ : لِأَنَّهُ بُضْعٌ مُلِكَ بِخَمْرٍ لَا يُمْلَكُ فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إِلَى مَهْرِ الْمِثْلِ كَالنِّكَاحِ . فَإِنْ قِيلَ الْبُضْعُ مُقَوَّمٌ فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ وَغَيْرُ مُقَوَّمٍ فِي حَقِّ الزَّوْجِ لِأَنَّهَا لَوْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ لَكَانَ مَهْرُ الْمِثْلِ لَهَا دُونَ الزَّوْجِ . قِيلَ لِأَنَّ هَذَا الْوَطْءَ مَا حَرَّمَهَا عَلَيْهِ فَلَمْ يَصِرِ الْبُضْعُ مُسْتَهْلَكًا عَلَيْهِ فَلِذَلِكَ لَمْ يُضْمَنْ فِي حَقِّهِ وَلَوْ حَرَّمَهَا عَلَيْهِ وَطَئِهَا أَبُوهُ أَوِ ابْنُهُ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ ، لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَهْلَكًا عَلَيْهِ وَلَكَ تَحْرِيرُ هَذَا قِيَاسًا ثَالِثًا فَنَقُولُ : مَا تَقَوَّمَ فِي انْتِقَالِهِ إِلَيْهِ بِبَدَلٍ تَقَوَّمَ فِي انْتِقَالِهِ عَنْهُ بِذَلِكَ الْبَدَلِ كَالْمُثَمَّنَاتِ يَسْتَوِي فِي اسْتِحْقَاقِهِ الْمُسَمَّى فِي الْجِهَتَيْنِ إِذَا صَحَّ وَفِي الْقِيمَةِ إِذَا فَسَدَ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِأَنَّ خُلْعَهَا بِالْخَمْرِ الَّذِي لَا يَكُونُ عِوَضًا رَضِيَ مِنْهُ بِخُلْعِهَا عَلَى غَيْرِ عِوَضٍ ، فَهُوَ أَنَّهُ قَدْ يَمْلِكُ الْعِوَضَ الْفَاسِدَ كَمَا يَمْلِكُ الْخَمْرَ فَلَمَّا وَجَبَ لَهُ فِي الْعِوَضِ الْفَاسِدِ مَهْرُ الْمِثْلِ مَعَ عِلْمِهِ وَجَهْلِهِ وَجَبَ لَهُ فِي الْخَمْرِ مَهْرُ الْمِثْلِ مَعَ عِلْمِهِ وَجَهْلِهِ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ الْبُضْعَ لَا يُقَوَّمُ فِي حَقِّ الزَّوْجِ لِإِمْضَاءِ طَلَاقِهِ فِي الْمَرَضِ فَفَاسِدٌ بِتَقْوِيمِهِ فِي حَقِّهِ إِذَا خَالَعَ عَلَى عِوَضٍ فَاسِدٍ ، وَإِنَّ مَا لَمْ يُقَوَّمْ فِي حُقُوقِ الْوَرَثَةِ إِذَا طَلَّقَ فِي الْمَرَضِ وَإِنْ قُوِّمَ عِتْقُهُ وَهِبَاتُهُ لِأَنَّهُمْ لَا يَرِثُونَ الزَّوْجَةَ لَوْ لَمْ يُطَلِّقْهَا وَيَرِثُونَ الْأَعْيَانَ الَّتِي وَهَبَهَا وَأَعْتَقَهَا . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّهَا لَوْ قَتَلَتْ نَفْسًا لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا بِمَهْرِ مِثْلِهَا . فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْأَطْرَافَ تَدْخُلُ فِي حُكْمِ النَّفْسِ ، لِأَنَّ مَنْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ ثُمَّ قَتَلَهُ دَخَلَتْ دِيَةُ يَدِهِ فِي دِيَةِ نَفْسِهِ ، وَالْبُضْعُ كَالطَّرَفِ فَإِذَا اقْتَرَنَ بِهِ تَلَفُ النَّفْسِ دَخَلَ فِي حُكْمِهِ ، وَهُوَ لَاحِقٌ بِهِ فِي دِيَةِ النَّفْسِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقٌّ فِي قِيمَةِ الْبُضْعِ ، وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ مُقَوَّمَةٌ
فِي حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ ، وَلَوِ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا فَقُتِلَ ضَمِنَ الْقَاتِلُ قِيمَتَهُ لِسَيِّدِهِ ، وَلَمْ يَضْمَنْ مَنْفَعَتَهُ لِمُسْتَأْجِرِهِ ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَنَافِعُ مُقَوَّمَةً فِي حَقِّهِ كَذَلِكَ فِي قِيمَةِ الْبُضْعِ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ الْأَبَ لَا يُخَالِعُ عَنْ بِنْتِهِ الصَّغِيرَةِ فَلِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يَقْدِرُ أَنْ يَتَمَلَّكَ لَهَا بِالْمَالِ مِنَ الْعَقَارِ مَا هُوَ أَنْفَعُ لَهَا ، وَلِأَنَّهُ بِالْخُلْعِ وَإِنْ مَلَّكَهَا بَعْضَهَا فَقَدْ أَسْقَطَ بِهِ نَفَقَتَهَا فَلِذَلِكَ يُمْنَعُ .
فَصْلٌ : وَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الْخُلْعِ بِالْخَمْرِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُعَيَّنٍ فَهُوَ مَا مَضَى ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : إِنْ أَعْطَيْتِنِي خَمْرًا فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَإِذَا أَعْطَتْهُ الْخَمْرَ طُلِّقَتْ وَوَجَبَ لَهُ عَلَيْهَا مَهْرُ الْمِثْلِ ، وَإِنْ كَانَ الْخَمْرُ عَيْنًا فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُعَجِّلَ بِهِ الطَّلَاقَ وَكَأَنَّهُ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي هَذَا الْخَمْرَ فَقَدْ طُلِّقَتْ وَلَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا ذَلِكَ الْخَمْرَ ، وَهَلْ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا مَهْرَ مِثْلِهَا أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَسْتَحِقُّهُ كَمَا كَانَ الْخَمْرُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ فَعَلَى هَذَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بَائِنًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ مَعَ تَعْيِينِ الْخَمْرِ مَهْرَ الْمِثْلِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا عَيَّنَ تَمَلُّكَ ذَلِكَ الْخَمْرِ فَقَدْ عَيَّنَ أَلَّا يَتَمَلَّكَ مَا سِوَى الْخَمْرِ فَلِذَلِكَ سَقَطَ حَقُّهُ مِنْ بَدَلِهِ ، وَلَمْ يَسْقُطْ مَعَ تَرْكِ التَّعْيِينِ حَقُّهُ مِنَ الْبَدَلِ ، فَعَلَى هَذَا يَقَعُ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا ، لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ بَدَلًا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَجْعَلَ الطَّلَاقَ مُعَلَّقًا بِدَفْعِهِ . مِثَالُهُ أَنْ يَقُولَ : إِنْ أَعْطَيْتِنِي هَذَا الْخَمْرَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَإِذَا أَعْطَتْهُ ذَلِكَ فَفِي وُقُوعِ طَلَاقِهِ بِهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تُطَلَّقُ بِهِ إِذَا قِيلَ : إِنَّهُ لَوْ عَجَّلَ طَلَاقَهَا بِهِ رَجَعَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ كَذَلِكَ هَاهُنَا تُطَلَّقُ بِدَفْعِهِ وَتَرْجِعُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا تُطَلَّقُ بِدَفْعِهِ إِذَا قِيلَ : إِنَّهُ لَوْ عَجَّلَ طَلَاقَهَا بِهِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَلَّا يُعَيِّنَ الْخَمْرَ فَتُطَلَّقَ وَبَيْنَ أَنْ يُعَيِّنَ الْخَمْرَ فَلَا تُطَلَّقَ إذا خالع الزوج زوجته على خمر أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالتَّعْيِينِ التَّمْلِيكُ وَبِالْإِطْلَاقِ الصِّفَةُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَعَلَيْكِ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَهِيَ طَالِقٌ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَعَلَيْكِ حِجَّةٌ وَلَوْ تَصَادَقَا أَنَّهَا سَأَلَتْهُ الطَّلَاقَ فَطَلَّقَهَا عَلَى ذَلِكَ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ قَالَ لِزَوْجَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ وَعَلَيْكِ أَلْفٌ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ عَنْ طَلَبٍ مِنْهَا كَأَنَّهَا سَأَلَتْهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا عَلَى أَلْفٍ فَقَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ وَعَلَيْكِ أَلْفٌ ، فَقَدْ طُلِّقَتْ ، وَلَزِمَهَا الْأَلْفُ ، لِأَنَّهُ جَوَابٌ عَنْ طَلَبٍ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَبْتَدِئَهُ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ فَهِيَ طَالِقٌ ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا ، لِأَنَّهُ أَرْسَلَ الطَّلَاقَ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِشَرْطٍ فَوَقَعَ نَاجِزًا ثُمَّ ابْتَدَأَ بَعْدَ وُقُوعِهِ فَقَالَ : " وَعَلَيْكِ أَلْفٌ " فَلَمْ تَلْزَمْهَا الْأَلْفُ بِقَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ ، وَجَرَى مَجْرَى قَوْلِهِ : وَعَلَيْكِ حَجٌّ ، فَلَا يَلْزَمُهَا الْحَجُّ ، وَإِذَا كَانَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَلَا أَلْفَ عَلَيْهَا ، فَلَهُ الرَّجْعَةُ ، لِأَنَّ الرَّجْعَةَ تَسْقُطُ مَعَ اسْتِحْقَاقِ الْبَدَلِ ، وَتَثْبُتُ مَعَ سُقُوطِ الْبَدَلِ ، فَلَوْ أَعْطَتْهُ الْأَلْفَ لَمْ تَسْقُطِ الرَّجْعَةُ ، لِأَنَّهَا ابْتِدَاءُ هِبَةٍ مِنْهَا ، يُرَاعَى فِيهَا حُكْمُ الْهِبَاتِ مِنَ الْبَدَلِ وَالْقَبُولِ وَالْقَبْضِ ، فَعَلَى هَذَا لَوِ اخْتَلَفَا فَقَالَ : طَلَّقْتُكِ عَنْ طَلَبٍ ، فَلِي عَلَيْكِ الْأَلْفُ ، وَقَالَتْ : بَلْ طَلَّقْتَنِي ابْتِدَاءً ، مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ ، فَلَا شَيْءَ لَكَ عَلَيَّ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا ، لِأَنَّهَا مُنْكِرَةٌ وَقَدْ لَزِمَهُ الطَّلَاقُ بَائِنًا لِإِقْرَارِهِ بِهِ .
فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَنَّ عَلَيْكِ أَلْفاً ، لَمْ تُطَلَّقْ إِلَّا أَنْ تَضْمَنَ لَهُ أَلْفًا عَلَى الْفَوْرِ فِي وَقْتِ الْقَبُولِ ، لِأَنَّ عَلَى مِنْ حُرُوفِ الشَّرْطِ ، فَصَارَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ مُعَلَّقًا بِهِ ، وَلَا يُرَاعَى فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ دَفْعُ الْأَلْفِ ، كَمَا وَهِمَ فِيهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا ، وَإِنَّمَا يُرَاعَى فِيهِ ضَمَانُ الْأَلْفِ ، لِأَنَّهُ بِالضَّمَانِ قَدْ صَارَ عَلَيْهَا أَلْفٌ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفٍ ، كَانَ وُقُوعُ طَلَاقِهَا مُعَلَّقًا بِضَمَانِ الْأَلْفِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَالْخُلْعُ فِيمَا وَصَفْتُ كَالْبَيْعِ الْمُسْتَهْلَكِ " . يُرِيدُ بِهِ أَنَّ الرُّجُوعَ عِنْدَ فَسَادِ الْعِوَضِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ كَمَا يَرْجِعُ فِي الْمَبِيعِ الْمُسْتَهْلَكِ بِقِيمَةِ الْمَبِيعِ وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْبَدَلِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ خَلَعَهَا عَلَى ثَوْبٍ عَلَى أَنَّهُ هَرَوِيٌ فَرَدَّهُ كَانَ لَهُ عَلَيْهَا مَهْرُ مِثْلِهَا وَالْخُلْعُ فِيمَا وَصَفْتُ كَالْبَيْعِ الْمُسْتَهْلَكِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا خَالَعَهَا عَلَى ثَوْبٍ مَرَوِيٍّ ، فَإِذَا هُوَ هَرَوِيٌّ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الثَّوْبُ مُعَيَّنًا . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُعَيَّنٍ ، فَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ مُعَيَّنًا كَأَنَّهُ قَالَ : خَالَعْتُكِ عَلَى هَذَا الثَّوْبِ بِعَيْنِهِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَشْرُطَ أَنَّهُ مَرْوِيٌّ أَوْ لَا يَشْتَرِطُ ، فَإِنْ لَمْ يَشْرُطْ أَنَّهُ مَرْوِيٌّ وَلَكِنْ ظَنَّهُ مَرَوِيًّا ، فَكَانَ هَرَوِيًّا ، فَلَا رَدَّ لَهُ ، وَكَذَلِكَ لَوِ اشْتَرَاهُ بِظَنِّهِ مَرَوِيًّا فَكَانَ هَرَوِيًّا ، لِأَنَّ هَذِهِ
جَهَالَةٌ مِنْهُ بِصِفَتِهِ ، وَلَيْسَ بِعَيْبٍ يَخْتَصُّ بِذَاتِهِ ، وَإِنْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا غَيْرَ ذَلِكَ رَدَّهُ بِهِ ، وَبِمَاذَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : بِمَهْرِ الْمِثْلِ . وَالثَّانِي : بِقِيمَتِهِ مَرَوِيًّا سَلِيمًا مِنْ هَذَا الْعَيْبِ ، وَلَا يَرْجِعُ بِقِيمَتِهِ لَوْ كَانَ مَرَوِيًّا وَإِنْ شَرَطَ فِي الْخُلْعِ أَنَّهُ مَرَوِيٌّ ، فَقَالَ : وَقَدْ خَالَعْتُكِ عَلَى هَذَا الثَّوْبِ عَلَى أَنَّهُ مَرَوِيٌّ فَإِذَا بِهِ هَرَوِيٌّ ، فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ ، وَلَا يَكُونُ خِلَافُ الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ مَانِعًا مِنْ وُقُوعِهِ ، لِأَنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى عَيْنِهِ أَقْوَى مِنْ ذِكْرِ صِفَتِهِ ، فَصَارَ اعْتِبَارُ الْعَيْنِ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ أَغْلَبَ مِنِ اعْتِبَارِ الصِّفَةِ ، وَإِذَا كَانَ هَكَذَا نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ هَرَوِيًّا كَقِيمَتِهِ مَرَوِيًّا فَلَا خِيَارَ لَهُ ، لِأَنَّهُ لَا نَقْصَ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ مَرَوِيًّا أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ هَرَوِيًّا فَهُوَ عَيْبٌ وَلَهُ الْخِيَارُ فَيَرُدُّهُ ، وَفِيمَا يَرْجِعُ بِهِ بَعْدَ رَدِّهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : بِمَهْرِ الْمِثْلِ . وَالثَّانِي : بِقِيمَتِهِ لَوْ كَانَ مَرَوِيًّا .
فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ في حالة إذا ما خالع الزوج زوجته على ثوب فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَصِفَهُ . وَالثَّانِي : أَلَّا يَصِفَهُ . فَإِنْ لَمْ يَصِفْهُ وَقَالَ : إِنْ أَعْطَيْتِنِي ثَوْبًا فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ : إِنْ أَعْطَيْتِنِي عَبْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَأَيُّ ثَوْبٍ أَعْطَتْهُ طُلِّقَتْ بِهِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الطَّلَاقِ بِلَا صِفَةٍ ، وَلَا يَمْلِكُهُ بِالْجَهَالَةِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْمُعَاوَضَةِ وَيَرْجِعُ عَلَيْهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ قَوْلًا وَاحِدًا . وَإِنْ وَصَفَهُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُعَلِّقَ وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِدَفْعِهِ كَأَنَّهُ قَالَ : إِنْ أَعْطَيْتِنِي ثَوْبًا مَرَوِيًّا فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَأَعْطَتْهُ ثَوْبًا فَكَانَ هَرَوِيًّا قول الزوج لزوجته لَمْ تُطَلَّقْ ، لِأَنَّ صِفَتَهُ بِأَنَّهُ مَرَوِيٌّ صَارَتْ شَرْطًا فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ ، فَإِذَا عُدِمَتْ لَمْ يَكْمُلْ شَرْطُ الطَّلَاقِ فَلَمْ يَقَعْ ، وَلَيْسَ كَالْمُعَيَّنِ الَّذِي يُغَلِّبُ حُكْمَ الْعَيْنِ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَى حُكْمِ الصِّفَةِ ، فَإِذَا دَفَعَتْ إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ ثَوْبًا مَرَوِيًّا طُلِّقَتْ بِهِ ، ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ قَدْ وَصَفَهُ مَعَ كَوْنِهِ مَرَوِيًّا فَجَمِيعُ صِفَاتِهِ الْمُسْتَحَقَّةِ فِي السَّلَمِ مِلْكُهُ ، فَإِنْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا رَدَّهُ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ اسْتِرْجَاعُ مِثْلِهِ ، لِأَنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي الذِّمَّةِ ، وَقَدْ صَارَ مُعَيَّنًا بِالدَّفْعِ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ فَصَارَ كَالْمُعَيَّنِ بِالْعَقْدِ فَإِذَا رَدَّهُ فَفِيمَا يَرْجِعُ بِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : بِمَهْرِ الْمِثْلِ . وَالثَّانِي : بِقِيمَتِهِ مَرَوِيًّا سَلِيمًا مِنَ الْعَيْبِ ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ جَمِيعَ صِفَاتِهِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي السَّلَمِ بَلْ قَالَ : إِنْ أَعْطَيْتِنِي ثَوْبًا مَرَوِيًّا فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَأَيُّ ثَوْبٍ أَعْطَتْهُ إِنْ كَانَ مَرَوِيًّا طُلِّقَتْ
بِدَفْعِهِ لِوُجُودِ الصِّفَةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الطَّلَاقِ ، وَلَا يَمْلِكُهُ لِجَهَالَتِهِ ، وَيَرْجِعُ عَلَيْهَا بِمَهْرِ مِثْلِهَا قَوْلًا وَاحِدًا ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ بِالْعَقْدِ وَلَا مَعْلُومٍ بِالصِّفَةِ .
فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يُعَجِّلَ وُقُوعَ الطَّلَاقِ عَلَى ثَوْبٍ مَرَوِيٍّ مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ ، كَأَنَّهُ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى ثَوْبٍ مَرَوِيٍّ ، فَالطَّلَاقُ قَدْ وَقَعَ سَوَاءً اسْتَوْفَى جَمِيعَ صِفَاتِهِ أَمْ لَا ؟ لَكِنْ إِنْ لَمْ يَسْتَوْفِ جَمِيعَ صِفَاتِهِ فَسَدَ فِيهِ الْخُلْعُ ، وَإِنْ وَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ وَكَانَ لَهُ عَلَيْهَا مَهْرُ الْمِثْلِ قَوْلًا وَاحِدًا ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِتَرْكِ صِفَاتِهِ مَجْهُولًا ، وَإِنِ اسْتَوْفَى جَمِيعَ صِفَاتِهِ صَحَّ فِيهِ الْخُلْعُ ، وَكَانَ لَهُ عَلَيْهَا ثَوْبٌ مَرَوِيٌّ عَلَى تِلْكَ الصِّفَاتِ ، فَإِنْ دَفَعَتْ إِلَيْهِ ثَوْبًا بِتِلْكَ الصِّفَاتِ فَكَانَ مَعِيبًا ، فَلَهُ رَدُّهُ وَإِبْدَالُهُ بِثَوْبٍ عَلَى تِلْكَ الصِّفَاتِ سَلِيمًا مِنْ عَيْبٍ لِثُبُوتِهِ فِي الذِّمَّةِ كَالسَّلَمِ إِذَا وَجَدَهُ بَعْدَ الْقَبْضِ مَعِيبًا رَجَعَ بِمِثْلِهِ سَلِيمًا .
فَصْلٌ : فَإِذَا خَالَعَهَا عَلَى ثَوْبٍ بِعَيْنِهِ عَلَى أَنَّهُ قُطْنٌ ، فَإِذَا هُوَ كَتَّانٌ فَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : قَدْ وَقَعَ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْعَيْنِ ، وَلَا يَكُونُ خِلَافُ الْجِنْسِ مَانِعًا مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ ، كَمَا لَا يَكُونُ خِلَافُ الصِّفَةِ مَانِعًا مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ ، فَعَلَى هَذَا يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ كَتَّانًا كَقِيمَتِهِ قُطْنًا ، فَلَا رَدَّ لَهُ ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ فَلَهُ رَدُّهُ وَفِيمَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : بِمَهْرِ الْمِثْلِ . وَالثَّانِي : بِقِيمَتِهِ لَوْ كَانَ قُطْنًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ بِهِ ، لِأَنَّ خِلَافَ الْجِنْسِ يَجْرِي فِي الْمُعَاوَضَةِ مَجْرَى خِلَافِ الْعَيْنِ ، لِأَنَّهُ لَوِ ابْتَاعَهُ عَلَى أَنَّهُ قُطْنٌ ، فَإِذَا هُوَ كَتَّانٌ ، فَالْبَيْعُ فِيهِ بَاطِلٌ ، وَلَوِ ابْتَاعَهُ عَلَى أَنَّهُ مَرَوِيٌّ فَكَانَ هَرَوِيًّا فَالْبَيْعُ فِيهِ جَائِزٌ ، كَذَلِكَ الْخُلْعُ إِذَا خَالَعَهَا عَلَى ثَوْبٍ عَلَى أَنَّهُ مَرَوِيٌّ فَكَانَ هَرَوِيًّا ، وَقَعَ الطَّلَاقُ ، وَلَوْ كَانَ كَتَّانًا لَمْ يَقَعْ . قَالَ صَاحِبُ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنْ أَصْحَابِنَا أَقُولُ فِي الْبَيْعِ مِثْلَ قَوْلِي فِي الْخُلْعِ أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَبْطُلُ كَمَا أَقُولُ إِنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْعَيْنِ عَلَى الْجِنْسِ كَمَا غَلَّبْنَا حُكْمَ الْعَيْنِ عَلَى الصِّفَةِ ، وَلِقَوْلِهِ إِذَا سَوَّى بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَجْهٌ وَإِنْ خَالَفَ الْجُمْهُورَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ خَلَعَهَا عَلَى أَنْ تُرْضِعَ وَلَدَهُ وَقْتًا مَعْلُومًا فَمَاتَ الْمَوْلُودُ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِمَهْرِ مِثْلِهَا لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تُدِرُّ عَلَى الْمَوْلُودِ وَلَا تُدِرُّ عَلَى غَيْرِهِ وَيَقْبَلُ ثَدْيَهَا وَلَا يَقْبَلُ غَيْرَهُ وَيَتَرَأَّمُهَا فَتَسْتَمْرِيهِ وَلَا يَسْتَمْرِي غَيْرَهَا وَلَا يَتَرَأَّمُهُ وَلَا تَطِيبُ نَفْسًا لَهُ " .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي جَوَازِ الْخُلْعِ عَلَى الرَّضَاعِ وَالْكَفَالَةِ ، لِأَنَّ مَا جَازَتِ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ الْخُلْعِ جَازَ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا فِي الْخُلْعِ . وَالرَّضَاعُ تَصِحُّ الْإِجَارَةُ عَلَيْهِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [ الطَّلَاقِ : ] . فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَهَا عَلَى رَضَاعِ وَلَدِهَا وَيُخَالِعَهَا عَلَيْهِ ، الزوج لزوجته وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَثَلُ الَّذِي يُقَاتِلُ عَنْ غَيْرِهِ وَيَأْخُذُ عَلَيْهِ أَجْرًا كَمَثَلِ أُمِّ مُوسَى تُرْضِعُ وَلَدَهَا وَتَأْخُذُ عَلَيْهِ أَجْرًا ، فَضَرَبَ لَكَ مَثَلًا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَاتِلَ عَنْ غَيْرِهِ بِأَجْرٍ كَمَا لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُرْضِعَ وَلَدَهَا بِأَجْرٍ . قِيلَ : رَضَاعُ الْوَلَدِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْأَبِ إِذَا كَانَ بَاقِيًا دُونَ الْأُمِّ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [ الْبَقَرَةِ : ] . فَكَذَلِكَ الرَّضَاعُ ، لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَإِنْ عُدِمَ الْأَبُ وَجَبَ الرَّضَاعُ عَلَى الْأُمِّ كَمَا يَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَيْهَا إِذَا مَاتَ الْأَبُ ، فَلَيْسَ لَهَا بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ أَنْ تَأْخُذَ عَلَى رَضَاعِهِ أَجْرًا لِوُجُوبِهِ عَلَيْهَا ، فَأَمَّا مَعَ بَقَاءِ الْأَبِ وَوُجُوبِ رَضَاعِهِ عَلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَا عَلَى الزَّوْجِيَّةِ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تُرْضِعَهُ بِأَجْرٍ ، لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَ بِالِاسْتِمْتَاعِ بِهَا مَا اسْتَحَقَّ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ إِجَارَةِ نَفْسِهَا لِلرَّضَاعِ فَلَمْ يَكُنْ لَهَا مُعَاوَضَةٌ عَلَى الرَّضَاعِ . فَأَمَّا إِذَا ارْتَفَعَتِ الزَّوْجِيَّةُ فَقَدْ زَالَ مَا اسْتَحَقَّهُ مِنْ مَنْعِهَا ، وَجَازَ أَنْ تُرْضِعَ غَيْرَ وَلَدِهَا بِأَجْرٍ ، فَجَازَ أَنْ تُرْضِعَ وَلَدَهَا بِأَجْرٍ ، لِأَنَّ رَضَاعَ وَلَدِهَا مَعَ بَقَاءِ الْأَبِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ دُونَهَا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَحَّ الْخُلْعُ عَلَى الرَّضَاعِ ، لِأَنَّهَا تُرْضِعُهُ بَعْدَ الْفِرَاقِ ، وَإِذَا صَحَّ فَلَابُدَّ مِنْ تَقْدِيرِهِ بِالْمُدَّةِ لِيَصِيرَ مَعْلُومًا يَنْتَفِي عَنْهُ الْجَهَالَةُ ، فَإِذَا شَرَطَ عَلَيْهَا فِي الْخُلْعِ رَضَاعَ وَلَدِهِ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لَمْ تَخْلُ حَالُهُمَا مِنْ حَضَانَةِ الْوَلَدِ وَكَفَالَتِهِ وَالْقِيَامِ بِتَرْبِيَتِهِ وَغَسْلِ خِرَقِهِ وَحَمْلِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَشْتَرِطَ دُخُولَهَا فِي الْخُلْعِ ، أَوْ فِي الْإِجَارَةِ فَيَدْخُلَ فِيهِ وَتُؤْخَذَ الْأُمُّ الْمُسْتَأْجَرَةُ بِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَشْتَرِطَا خُرُوجَهَا مِنَ الْخُلْعِ ، أَوْ مِنَ الْإِجَارَةِ فَتَخْرُجَ مِنْهُ ، وَلَا يَلْزَمُ الْأُمَّ أَنْ تُؤْخَذَ بِهِ ، وَعَلَى الْأَبِ أَنْ يُقِيمَ لَهُ مَنْ يَخْدُمُهُ ، وَيَقُومُ بِحَمْلِهِ وَتَنْظِيفِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يُطْلَقَ عَقْدُ الْخُلْعِ ، أَوِ الْإِجَارَةِ فِي الرَّضَاعِ فَلَا يُشْتَرَطُ دُخُولُ الْقِيَامِ بِخِدْمَتِهِ فِيهِ ، وَلَا خُرُوجُهُ مِنْهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ وَجْهَيْ أَصْحَابِنَا فِي الْمَقْصُودِ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ . فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ : أَنَّ الْمَقْصُودَ الرَّضَاعُ وَالْقِيَامُ بِالْخِدْمَةِ تَبَعٌ فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهَا الْقِيَامُ بِخِدْمَتِهِ تَبَعًا ، لِمَا اسْتَحَقَّ عَلَيْهَا مِنْ رَضَاعِهِ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْإِجَارَةِ الْخِدْمَةُ ، لِأَنَّ لَبَنَ الرَّضَاعِ غَيْرُ مَجْهُولَةٍ لَا تَصِحُّ الْإِجَارَةُ عَلَيْهَا مِنَ الْقِيَامِ بِالْخِدْمَةِ فَصَارَ الرَّضَاعُ تَبَعًا لِمَا تَصِحُّ الْإِجَارَةُ عَلَيْهِ مِنَ الْقِيَامِ بِالْخِدْمَةِ فَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُهَا فِي اسْتِحْقَاقِ الرَّضَاعِ عَلَيْهَا الْقِيَامُ بِخِدْمَتِهِ إِلَّا بِشَرْطٍ ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ مَعْلُولٌ ، لِأَنَّهُ لَوْ صَارَ لِهَذَا الْمَعْنَى الرَّضَاعُ تَبَعًا لِلْقِيَامِ بِالْخِدْمَةِ لَمَا جَازَ إِفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ إِذَا شَرَطَ فِيهِ إِسْقَاطَ الْقِيَامِ بِالْخِدْمَةِ وَمَا أَحْسَبُ أَحَدًا يَمْنَعُ مِنْهُ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ جَوَازِ الْخُلْعِ عَلَى رَضَاعِ وَلَدِهِ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ فَمَاتَ الْوَلَدُ فَفِي بُطْلَانِ الْخُلْعِ بِمَوْتِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : رَوَاهُ الْمُزَنِيُّ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ أَنَّ الْخُلْعَ لَا يَبْطُلُ وَلِلْأَبِ أَنْ يَأْتِيَهَا بِغَيْرِهِ لِتُرْضِعَهُ حَوْلَيْنِ ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْوَلَدَ فِي الرَّضَاعِ مُسْتَوْفٍ لِمَا تَضَمَّنَهُ الْعَقْدُ وَمَوْتُ الْمُسْتَوْفِي لِمَا تَضَمَّنَهُ الْعَقْدُ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ ، كَمَنِ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا فَمَاتَ لَمْ تَبْطُلِ الْإِجَارَةُ بِمَوْتِهِ وَقَامَ غَيْرُهُ فِي الرُّكُوبِ مَقَامَهُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ أَظْهَرُهُمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ وَالْإِمْلَاءِ وَنَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا أَنَّ الْخُلْعَ قَدْ بَطَلَ بِمَوْتِهِ لِعِلَّتَيْنِ : إِحْدَاهُمَا : أَنَّهَا لَا تَدُرُّ عَلَى غَيْرِ وَلَدِهَا وَلَا يَسْتَمْرِي غَيْرُ وَلَدِهَا لَبَنَهَا كَمَا يَسْتَمْرِيهِ وَلَدُهَا وَلَا يَتَرَأَّمُهُ غَيْرُ وَلَدِهَا كَمَا يَتَرَأَّمُهُ وَلَدُهَا هَكَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَمَعْنَى : يَتَرَأَّمُهَا أَيْ : يَسْتَلِذُّهُ . وَالْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ : أَنَّ مَا يَرْوِي كُلَّ طِفْلٍ مِنَ اللَّبَنِ مُخْتَلِفٌ فَبَعْضُهُمْ يَرْتَوِي بِالْقَلِيلِ ، وَبَعْضُهُمْ لَا يَرْتَوِي إِلَّا بِالْكَثِيرِ ، وَبَعْضُهُمْ يَرْتَوِي بِسُهُولَةٍ ، وَبَعْضُهُمْ بِعُنْفٍ فَذَلِكَ لَمْ يَقُمْ فِيهِ وَاحِدٌ مَقَامَ وَاحِدٍ وَكَانَ الْمُعَيَّنُ فِيهِ مُتَعَيَّنًا بِالْعَقْدِ فَعَلَى اخْتِلَافِ هَذَيْنِ التَّعْلِيلَيْنِ لَوْ خَالَعَهَا عَلَى وَلَدِهِ مِنْ غَيْرِهَا فَمَاتَ كَانَ لَهُ عَلَى التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ إِبْدَالُهُ بِغَيْرِهِ ، وَلَيْسَ لَهُ عَلَى التَّعْلِيلِ الثَّانِي أَنْ يُبَدِّلَهُ ، وَهَكَذَا لَوْ خَالَعَهَا عَلَى وَلَدِهِ مِنْهَا ، وَلَهُ مِنْهَا وَلَدٌ آخَرُ فَلَهُ عَلَى التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ أَنْ يُقِيمَهُ مَقَامَ الْمَيِّتِ ، وَلَيْسَ لَهُ عَلَى التَّعْلِيلِ الثَّانِي أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فَإِنْ قُلْنَا بِبُطْلَانِ الْخُلْعِ وَأَنْ لَيْسَ لَهُ إِبْدَالُ الْوَلَدِ إِذَا مَاتَ بِغَيْرِهِ فَفِيمَا يَرْجِعُ بِهِ على الزوجة عَلَيْهَا قَوْلَانِ مَضَيَا : أَحَدُهُمَا : بِمَهْرِ الْمِثْلِ . وَالثَّانِي : بِأُجْرَةِ رَضَاعِ الْحَوْلَيْنِ . وَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الْخُلْعَ لَا يَبْطُلُ وَإِنَّ لَهُ أَنْ يَأْتِيَهَا بِغَيْرِهِ فَإِنْ أَتَاهَا بِغَيْرِهِ أَرْضَعَتْهُ تَمَامَ الْحَوْلَيْنِ ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِهَا بِغَيْرِهِ حَتَّى مَضَى الْحَوْلَانِ فَفِيهِ وَجْهَانِ :
أَحَدُهُمَا : لَا شَيْءَ لَهُ عَلَيْهَا ، لِأَنَّهَا بَذَلَتْ لَهُ الرَّضَاعَ فَكَانَ التَّفْرِيطُ مِنْهُ ، فَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى مَنِ اسْتَأْجَرَ دَارًا فَمُكِّنَ مِنْهَا فَلَمْ يَسْكُنْهَا حَتَّى انْقَضَتِ الْمُدَّةُ فَقَدِ اسْتَوْفَى حَقَّهُ وَلَا شَيْءَ لَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ حَقَّهُ بَاقٍ لَا يَسْقُطُ بِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ عَيْنٌ وَالْأَعْيَانُ إِذَا قُلْتَ تَسْلِيمُهَا بِتَرْكِ مُسْتَحِقِّهَا لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُ مِنْهَا كَمَنِ ابْتَاعَ عَيْنًا فَلَمْ يَقْبِضْهَا حَتَّى هَلَكَتْ كَانَتْ مَضْمُونَةً عَلَى بَائِعِهَا ، كَذَلِكَ فَوَاتُ اللَّبَنِ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهَا ، وَلَيْسَ لَهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ زَمَانِهِ أَنْ يَسْتَرْضِعَهَا وَلَدًا وَيَصِيرُ كَالْخُلْعِ عَلَى فَائِتٍ فَفِيمَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : مَهْرُ الْمِثْلِ . وَالثَّانِي : أُجْرَةُ رَضَاعِ الْحَوْلَيْنِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا مَاتَتِ الْمُرْضِعَةُ في حالة الْخُلْعِ عَلَى رَضَاعِ وَلَدِهِ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ فَقَدْ بَطَلَ الْخُلْعُ بِمَوْتِهَا ، وَلَا يَقُومُ غَيْرُهَا مَقَامَهَا ، لِأَنَّ الْعَقْدَ مُعَيَّنٌ فِي لَبَنِهَا ، وَهَكَذَا لَوْ لَمْ تَمُتْ ، وَلَكِنْ جَفَّ لَبَنُهَا وَانْقَطَعَ ، وَلَمْ يَثْبُتْ لَهَا فَالْخُلْعُ بَاطِلٌ ، لِأَنَّ اللَّبَنَ هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ وَقَدْ فَاتَ بِذَهَابِهِ ، كَمَا فَاتَ بِمَوْتِهَا فَيَكُونُ فِيمَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهَا قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى . فَأَمَّا إِنْ قَلَّ لَبَنُهَا وَلَمْ يَنْقَطِعْ ، فَإِنْ كَانَ الْبَاقِي مِنْهُ بَعْدَ قِلَّتِهِ يَرْوِي الْوَلَدَ ، فَالْخُلْعُ بِحَالِهِ ، وَلَا خِيَارَ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَرْوِيهِ لَمْ يَبْطُلْ فِيهِ الْخُلْعُ ، لَكِنَّ الزَّوْجَ فِيهِ بِالْخِيَارِ ، لِأَنَّ نَقْصَهُ عَيْبٌ بَيْنَ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهِ ، وَيُكْمِلَ إِرْضَاعَ وَلَدِهِ مِنْ لَبَنِ غَيْرِهَا ، وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ ، وَفِيمَا يَرْجِعُ بِهِ بَعْدَ فَسْخِهِ قَوْلَانِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ لَهُ أَبُو امْرَأَتِهِ طَلِّقْهَا وَأَنْتَ بَرِيءٌ مِنْ صَدَاقِهَا فَطَلَّقَهَا فَمَهْرُهَا عَلَيْهِ وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْأَبِ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَضْمَنْ لَهُ شَيْئًا وَلَهُ عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ مُخَالَفَةَ الزَّوْجِ مَعَ أَبِي الزَّوْجَةِ في الخلع يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُخَالِعَهُ عَنْهَا بِمَالِهِ فَيَقُولُ لَهُ : طَلِّقْ بِنْتِي بِأَلْفٍ لَكَ عَلَيَّ أَوْ بِهَذَا الْعَبْدِ الَّذِي لِي ، فَهَذَا خُلْعٌ جَائِزٌ لَوْ فَعَلَهُ الزَّوْجُ مِنْ غَيْرِ الْأَبِ مِنَ الْأَجَانِبِ جَازِ فَكَانَ الْأَبُ أَجْوَزَ ، فَإِذَا طَلَّقَهَا وَجَبَ لَهُ عَلَى الْأَبِ مَا بَذَلَهُ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يُخَالِعَهُ الْأَبُ عَلَى مَالِهَا ، كَأَنَّهُ قَالَ لِلزَّوْجِ : طَلِّقْهَا بِأَلْفٍ عَلَيْهَا أَوْ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ الَّذِي لَهَا ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِأَمْرِهَا وَهِيَ جَائِزَةُ الْأَمْرِ ، كَانَ الْأَبُ وَكِيلًا فِي الْخُلْعِ ، صَحَّ خُلْعُهُ ، كَمَا يَصِحُّ خُلْعُ الْوَكِيلِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ . وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِغَيْرِ أَمْرِهَا فَالْخُلْعُ بَاطِلٌ ، سَوَاءٌ كَانَتْ جَائِزَةَ الْأَمْرِ أَوْ مَحْجُورًا عَلَيْهَا : لِأَنَّهُ مَعَ رُشْدِهَا لَا يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي مَالِهَا ، وَمَعَ الْحَجْرِ عَلَيْهَا يَتَصَرَّفُ فِي حِفْظِهِ دُونَ
إِتْلَافِهِ فِي الْخُلْعِ بِمَالِهَا فَرُدَّ كَمَا تُرَدُّ هِبَاتُهُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ طَلَاقُ الزَّوْجِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ . إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَاجِزًا أَوْ مُقَيَّدًا ، فَإِنْ كَانَ نَاجِزًا وَقَعَ رَجْعِيًّا وَلَا شَيْءَ عَلَى الزَّوْجَةِ ، لِأَنَّهَا لَمْ تُخَالِعْهُ وَلَا عَلَى الْأَبِ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَضْمَنْهُ ، وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ مُقَيَّدًا كَأَنَّهُ قَالَ : قَدْ طَلَّقْتُهَا عَلَى هَذَا الْعَبْدِ الَّذِي لَهَا فَطَلَاقُهُ لَا يَقَعُ ، لِأَنَّهُ جَعَلَ وُقُوعَهُ مُقَابِلًا لِتَمَلُّكِ الْعَبْدِ ، فَإِذَا لَمْ يَمْلِكِ الْعَبْدَ لَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الطَّلَاقِ فَلَمْ يَقَعْ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يُخَالِعَهُ الْأَبُ عَلَى صَدَاقِهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَالْخُلْعُ عَلَيْهِ بَاطِلٌ ، لِأَنَّ صَدَاقَهَا كَسَائِرِ أَمْوَالِهَا لَيْسَ لِلْأَبِ أَنْ يُبَرِّئَ مِنْهُ ، كَمَا لَا يُبَرِّئُ مِنْ غَيْرِهِ سَوَاءً قِيلَ إِنَّهُ الَّذِي بِيَدِهِ عَقْدُ النِّكَاحِ أَمْ لَا ، لِأَنَّ الْأَبَ وَإِنْ جَعَلَ بِيَدِهِ عُقْدَةَ النِّكَاحِ ، فَلَيْسَ لَهُ الْإِبْرَاءُ مِنَ الصَّدَاقِ بَعْدَ الدُّخُولِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يُخَالِعَهُ بِصَدَاقِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ لَا يَمْلِكُ عُقْدَةَ النِّكَاحِ ، فَالْخُلْعُ بَاطِلٌ ، وَالْكَلَامُ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَى مَا مَضَى مِنْ كَوْنِهِ نَاجِزًا أَوْ مُقَيَّدًا . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ، وَإِنَّهُ يَمْلِكُ إِبْرَاءَ الزَّوْجِ مِنْ صَدَاقِ بِنْتِهِ الْبِكْرِ إِذَا طُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ فَفِي جَوَازِ مُخَالَعَتِهِ لِلزَّوْجِ عَلَى صَدَاقِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُبْرِئَهُ بِغَيْرِ خُلْعٍ وَلَا مُعَاوَضَةٍ كَانَ أَوْلَى أَنْ يُبْرِئَهُ بِخُلْعٍ وَمُعَاوَضَةٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ خُلْعُهُ وَإِنْ جَازَ إِبْرَاؤُهُ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ جَوَّزَ لَهُ الْإِبْرَاءَ بَعْدَ الطَّلَاقِ ، وَهَذَا قَبْلَ الطَّلَاقِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْإِبْرَاءَ لَا يَسْقُطُ بِهِ حَقُّهَا مِنَ السُّكْنَى وَالنَّفَقَةِ وَالْخُلْعَ مُسْقِطٌ لِحَقِّهَا مِنْ نَفَقَةِ الزَّوْجِيَّةِ وَسُكْنَاهَا . وَالثَّالِثُ : أَنَّ الْإِبْرَاءَ نُدِبَ إِلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْغِيبِ الْخُطَّابِ فِيهَا ، وَالْخُلْعَ مُنَفِّرٌ عَنْهَا فَافْتَرَقَ الْإِبْرَاءُ وَالْخُلْعُ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ ، فَلِذَلِكَ جَازَ إِبْرَاؤُهُ وَلَمْ يَجُزْ خُلْعُهُ .
فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ نُظِرَ فِي إِبْرَاءِ الْأَبِ لَهُ فِي الْخُلْعِ ، فَإِنَّ فِيهِ ثَلَاثَةَ مَسَائِلَ : أَحَدُهَا : أَنْ يَقُولَ لَهُ : طَلِّقْهَا وَأَنْتَ بَرِيءٌ مِنْ صَدَاقِهَا ، إبراء الزوج فَطَلَّقَهَا الزَّوْجُ وَقَعَ طَلَاقُهُ : لِأَنَّهُ أَوْقَعَهُ نَاجِزًا وَلَا يَبْرَأُ مِنَ الصَّدَاقِ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَلَا يَلْزَمُ الْأَبَ الضَّمَانُ : لِأَنَّهُ لَمْ يَضْمَنْ وَيَكُونُ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا : لِأَنَّ الزَّوْجَ لَمْ يَمْلِكْ فِيهِ عِوَضًا .
وَالثَّانِيَةُ : أَنْ يَقُولَ الْأَبُ : طَلِّقْهَا عَلَى أَنَّكَ بَرِيءٌ مِنْ صَدَاقِهَا ، إبراء الزوج فَطَلَّقَهَا الزَّوْجُ عَلَى هَذَا لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ ، لِأَنَّهُ أَوْقَعَهُ مُقَيَّدًا فَإِذَا لَمْ يَبْرَأْ لَمْ يَقَعْ . وَالثَّالِثَةُ : أَنْ يَقُولَ الْأَبُ : طَلِّقْهَا عَلَى صَدَاقِهَا عَلَى أَنَّنِي ضَامِنُهُ لَكَ إبراء الزوج فَطَلَّقَهَا الزَّوْجُ عَلَى ذَلِكَ فَلَا يَخْلُو صَدَاقُهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ عَيْنًا أَوْ فِي الذِّمَّةِ ، فَإِنْ كَانَ عَيْنًا لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ ، لِأَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِتَمَلُّكِ تِلْكَ الْعَيْنِ ، وَهِيَ لَا تُمَلَّكُ بِضَمَانِ الْأَبِ فَلَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ ، لِعَدَمِ شَرْطِهِ وَإِنْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ وَقَعَ الطَّلَاقُ ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ مِنَ الصَّدَاقِ ، وَالْأَبُ قَدْ يَقْدِرُ عَلَى إِبْرَائِهِ مِنْهُ بِالْغُرْمِ عَنْهُ ، لَكِنْ يَكُونُ بِالْخُلْعِ فَاسِدًا ، لِأَنَّهُ لَيْسَ يَبْرَأُ بِهَذَا الْقَوْلِ ، وَلَا يَلْزَمُ الْأَبَ ضَمَانُ الصَّدَاقِ ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَيْهَا ، لَمْ يَصِحَّ ضَمَانُهُ عَنْهَا ، لِأَنَّ الضَّمَانَ يَصِحُّ فِيمَا كَانَ مَضْمُونَ الْأَصْلِ فَيَقُومُ الضَّامِنُ فِي لُزُومِ الضَّمَانِ مَقَامَ الْمَضْمُونِ عَنْهُ ، وَإِذَا لَمْ يَلْزَمِ الْأَبَ ذَلِكَ الضَّمَانُ فَقَدْ خَالَعَ الزَّوْجَ عَلَى مَا قَدْ فَسَدَ فِيهِ الْخُلْعُ فَلَزِمَهُ الْبَدَلُ وَفِيمَا يَلْزَمُهُ قَوْلَانِ كَمَا لَوْ خُولِعَ عَلَى فَائِتٍ : أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ : يَلْزَمُهُ مَهْرُ الْمِثْلِ . وَالثَّانِي : مِثْلُ تِلْكَ الْأَلْفِ فَهَذِهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ تَخْتَلِفُ أَجْوِبَتُهَا لِاخْتِلَافِ مَعَانِيهَا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ أَخَذَ مِنْهَا أَلْفًا عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا إِلَى شَهْرٍ فَطَلَّقَهَا فَالطَّلَاقُ ثَابِتٌ وَلَهَا الْأَلْفُ وَعَلَيْهَا مَهْرُ مِثْلِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَلَامٌ مُحْتَمَلٌ قَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِهِ وَيَتَضَمَّنُ أَرْبَعَ مَسَائِلَ تَسْتَوْفِي جَمِيعَ تَأْوِيلَاتِهِ : إِحْدَاهُنَّ : أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَلْفًا عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ شَهْرٍ ، فَهَذَا خُلْعٌ فَاسِدٌ لِمَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ سَلَمٌ فِي طَلَاقٍ وَالسَّلَمُ فِيهِ لَا يَصِحُّ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ عُقِدَ عَلَى غَيْرِ شَرْطٍ فِيهِ التَّأْخِيرُ ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ ، فَإِذَا فَعَلَ هَذَا وَطَلَّقَهَا بَعْدَ شَهْرٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ رَدِّ الْأَلْفِ عَلَيْهَا بَعْدَ التَّنَازُعِ وَفَسَادِ الْخُلْعِ ، وَالْحُكْمُ يَرُدُّ الْأَلْفَ فَالطَّلَاقُ رَجْعِيٌّ ، وَلَا شَيْءَ لَهُ ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِرَدِّ الْأَلْفِ يَرْفَعُ حُكْمَ الْعَقْدِ فَصَارَ كَالْمُطَلِّقِ بِغَيْرِ عَقْدٍ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَلَّا يُسْتَرْجَعَ مِنْهُ الْأَلْفُ ، وَلَا يُقْضَى عَلَيْهِ بِرَدِّهَا حَتَّى يُطَلِّقَهَا فَيُنَظَرُ فِي زَمَانِ طَلَاقِهِ ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ مُضِيِّ شَهْرٍ فَهُوَ طَلَاقٌ فِي غَيْرِ خُلْعٍ ، لِأَنَّ عَقْدَ الْخُلْعِ كَانَ عَلَى إِيقَاعِ الطَّلَاقِ فِيهِ بَعْدَ شَهْرٍ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ رَجْعِيًّا لَا يُسْتَحَقُّ فِيهِ عِوَضٌ ، وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَعْدَ مُضِيِّ شَهْرٍ ، فَهُوَ طَلَاقٌ فِي خُلْعٍ فَاسِدٍ ، فَيَكُونُ الطَّلَاقُ بَائِنًا لَا رَجْعَةَ فِيهِ ،
لِبَقَاءِ الْعَقْدِ عَلَى فَسَادِهِ ، وَيَسْتَحِقُّ فِيهِ الْبَدَلَ ، فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَصِيرُ الْعِوَضُ بِهَذَا الْفَسَادِ مَجْهُولًا أَمْ لَا ؟ . فَقَالَ الْبَغْدَادِيُّونَ : قَدْ أَفْضَى ذَلِكَ إِلَى جَهَالَتِهِ لِأَنَّ الْأَجَلَ الْمَشْرُوطَ فِيهِ يَأْخُذُ مِنْهُ حَظًّا مَجْهُولًا فَصَارَ الْبَاقِي مِنْهُ مَجْهُولًا فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لَهُ عَلَيْهَا مَهْرُ الْمِثْلِ قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّ الْعِوَضَ الْمَجْهُولَ لَا مِثْلَ لَهُ وَلَا قِيمَةَ . وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ الْعِوَضُ مَعْلُومٌ لَا جَهَالَةَ فِيهِ لِأَنَّ الطَّلَاقَ قَدْ وَقَعَ فِي أَجَلِهِ الْمَشْرُوطِ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى سُقُوطِ مَا قَابَلَهُ مِنَ الْعِوَضِ فَكَانَ مَعْلُومًا فَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِيمَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : مَهْرُ الْمِثْلِ . وَالثَّانِي : مِثْلُ الْأَلْفِ .
فَصْلٌ : وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَلْفًا عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي الْحَالِ طَلَاقًا يَسْتَدِيمُ تَحْرِيمَهُ إِلَى شَهْرٍ ، فَإِذَا مَضَى الشَّهْرُ عَادَتْ إِلَى إِبَاحَتِهِ ، فَهَذَا فَاسِدٌ ، لِمَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ تَحْرِيمَ الطَّلَاقِ لَا يَتَقَدَّرُ وَزَمَانَهُ لَا يَنْحَصِرُ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْخُلْعَ مَا مَلَكَتْ بِهِ نَفْسَهَا ، وَهَذِهِ لَمْ تَمْلِكْ نَفْسَهَا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالطَّلَاقُ قَدْ وَقَعَ مُؤَبَّدًا ، لِأَنَّ حُكْمَهُ لَا يَتَغَيَّرُ بِالشَّرْطِ ، وَهُوَ عَنْ بَدَلٍ فَاسِدٍ . فَعَلَى قَوْلِ الْبَغْدَادِيِّينَ هُوَ مَعَ الْفَسَادِ مَجْهُولٌ ، فَيَكُونُ لَهُ مَهْرُ الْمِثْلِ قَوْلًا وَاحِدًا . وَعَلَى قَوْلِ الْبَصْرِيِّينَ هُوَ مَعَ الْفَسَادِ مَعْلُومٌ فَيَكُونُ فِيمَا يَرْجِعُ بِهِ قَوْلَانِ .
فَصْلٌ : وَالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَلْفًا عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا مِنْ وَقْتِهِ إِلَى شَهْرٍ ، فَأَيُّ وَقْتٍ طَلَّقَهَا فِيهِ قَبْلَ الشَّهْرِ وَقَعَ طَلَاقُهُ فِي الْخُلْعِ ، وَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الشَّهْرِ لَمْ يَكُنْ خُلْعًا فَجَعَلَ الشَّهْرَ أَجَلًا لِصِحَّةِ الْخُلْعِ فِيهِ وَرَفْعًا لَهُ بَعْدَ تَقَضِّيهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْخُلْعَ صَحِيحٌ ، لِأَنَّ الْأَجَلَ لَمْ يَدْخُلْ فِي عَقْدِهِ ، وَإِنَّمَا دَخَلَ فِي رَفْعِهِ وَأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى قَوْلِهِ : مَتَى أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فِي هَذَا الشَّهْرِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَيَكُونُ خُلْعًا جَائِزًا ، فَعَلَى هَذَا إِنْ طَلَّقَهَا فِي الشَّهْرِ ، فَهُوَ طَلَاقٌ فِي خُلْعٍ صَحِيحٍ يَقَعُ بَائِنًا ، وَيَسْتَحِقُّ الْأَلْفَ ، وَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الشَّهْرِ فَهُوَ طَلَاقٌ فِي غَيْرِ خُلْعٍ يَقَعُ رَجْعِيًّا ، وَلَا شَيْءَ لَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْخُلْعَ بَاطِلٌ ، لِأَنَّ دُخُولَ الْأَجَلِ فِيهِ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ قَبْلَ انْقِضَائِهِ كَدُخُولِهِ فِيهِ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ بَعْدَ انْقِضَائِهِ فِي أَنَّهُ مُؤَجَّلٌ غَيْرُ مُطْلَقٍ ، فَعَلَى هَذَا ، إِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الشَّهْرِ فَهُوَ طَلَاقٌ فِي خُلْعٍ فَاسِدٍ ، يَقَعُ بَائِنًا وَيَصِيرُ الْبَدَلُ فِيهِ مَجْهُولًا عَلَى قَوْلِ الْبَغْدَادِيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ جَمِيعًا ، فَيَكُونُ لَهَا الْمِثْلُ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الشَّهْرِ فَهُوَ طَلَاقٌ فِي غَيْرِ خُلْعٍ يَكُونُ رَجْعِيًّا وَلَاشَيْءَ لَهُ .
فَصْلٌ : وَالْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَلْفًا عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي الْحَالِ طَلَاقًا تَعَلَّقَ وُقُوعُهُ بِرَأْسِ الشَّهْرِ ، فَيَقُولُ : إِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ فَأَنْتِ طَالِقٌ عَلَى هَذَا الْأَلْفِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِحَّةِ هَذَا الْخُلْعِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ خُلْعٌ صَحِيحٌ ، لِأَنَّ عَقْدَ الطَّلَاقِ مُعَجَّلٌ ، وَإِنْ كَانَ وُقُوعُهُ مُؤَجَّلًا ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ قَبْلَ الشَّهْرِ زَوْجَةً يَسْتَبِيحُ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا ، فَإِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ ، طُلِّقَتْ طَلَاقًا بَائِنًا بِالْعَقْدِ الْمُتَقَدِّمِ ، وَاسْتَحَقَّ جَمِيعَ الْأَلْفِ بِصِحَّةِ الْخُلْعِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَظْهَرُ أَنَّهُ خُلْعٌ فَاسِدٌ لِمَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُعْتَبَرَ بِالطَّلَاقِ حَالُ وُقُوعِهِ دُونَ عَقْدِهِ ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ حَلَفَ لَا يُطَلِّقُ امْرَأَةً فَقَالَ لَهَا : إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ لَمْ يَحْنَثْ بِقَوْلِهِ ، فَإِذَا دَخَلَتِ الدَّارَ حَنِثَ ، وَوَقَعَ الطَّلَاقُ مُؤَجَّلًا فَصَارَ طَلَاقًا إِلَى أَجَلٍ . وَالْمَعْنَى الثَّانِي : أَنَّهُ يَصِيرُ مَالِكًا لِلْأَلْفِ قَبْلَ أَنْ تَمْلِكَ نَفْسَهَا بِالطَّلَاقِ ، فَعَلَى هَذَا إِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ طُلِّقَتْ طَلَاقًا بَائِنًا ، سَوَاءً قُضِيَ عَلَيْهِ بِرَدِّ الْأَلْفِ أَمْ لَا ، لِأَنَّهُ طَلَاقٌ قَدِ انْعَقَدَتْ صِفَتُهُ بِالْبَدَلِ فَلَمْ يَجِدْ سَبِيلًا إِلَى رَدِّهِ فَوَقَعَ ، وَالْبَدَلُ فِيهِ مَعْلُومٌ عَلَى قَوْلِ الْبَغْدَادِيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ فَفِيمَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِمَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : مَهْرُ الْمِثْلِ . وَالثَّانِي : مِثْلُ الْأَلْفِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَتَا طَلِّقْنَا بِأَلْفٍ ثُمَّ ارْتَدَّتَا فَطَلَّقَهُمَا بَعْدَ الرِّدَّةِ وَقَفَ الطَّلَاقُ فَإِنْ رَجَعَتَا فِي الْعِدَّةِ لَزِمَهُمَا وَالْعِدَّةُ مِنْ يَوْمِ الطَّلَاقِ وَإِنْ لَمْ يَرْجِعَا حَتَّى انْقَضَتِ الْعِدَّةُ لَمْ يَلْزَمْهُمَا شَيْءٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا كَانَ لَهُ زَوْجَتَانِ فَقَالَتَا لَهُ طَلِّقْنَا بِأَلْفٍ ، فَمِنْ تَمَامِ هَذَا الطَّلَبِ مِنْهُمَا أَنْ يَكُونَ طَلَاقُهُ عَلَى الْفَوْرِ جَوَابًا لَهُمَا ، لِأَنَّهَا إِجَابَةٌ يُرَاعَى فِيهَا الْفَوْرُ ، وَإِنْ لَمْ يُطَلِّقْهُمَا حَتَّى تَرَاخَى الزَّمَانُ ، بَطَلَ حُكْمُ الطَّلَبِ ، وَصَارَ مُبْتَدِئًا بِالطَّلَاقِ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ تَقَدَّمَ ، فَإِنْ لَمْ يَشْرُطْ فِيهِ الْعِوَضَ بَلْ قَالَ : أَنْتُمَا طَالِقَتَانِ وَقَعَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا سَوَاءً قَبِلَتَاهُ أَمْ لَا ، وَسَوَاءً بَذَلَتَا عَلَيْهِ عِوَضًا أَمْ لَا ، لِأَنَّهُ طَلَاقٌ مُجَرَّدٌ عَنْ غَيْرِ عِوَضٍ فِيهِ ، أَوْ طَلَبٍ تَقَدَّمَهُ ، وَيَكُونُ مَا بَذَلَتَاهُ مِنَ الْعِوَضِ بَعْدَهُ هِبَةً مِنْهُمَا يُرَاعَى فِيهَا حُكْمُ الْهِبَاتِ وَلَا يَرْتَفِعُ بِهَا الرَّجْعَةُ ، وَإِنْ شَرَطَ فِيهِ الْعِوَضَ فَقَالَ : أَنْتُمَا طَالِقَتَانِ عَلَى أَلْفٍ فَإِنْ قَبِلَتَا ذَلِكَ مِنْهُ فِي الْحَالِ وَقَعَ الطَّلَاقُ بَائِنًا بِالْبَذْلِ وَالْقَبُولِ ، فَاسْتَحَقَّ فِيهِ الْبَدَلَ ، وَإِنْ لَمْ يَقْبَلَاهُ لَمْ يَقَعْ ، لِأَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِشَرْطٍ لَمْ يُوجَدْ ، فَإِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَسَأَلَتَاهُ أَنْ يُطَلِّقَهُمَا عَلَى الْأَلْفِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ :
أَحَدُهَا : أَنْ يُطَلِّقَهُمَا مَعًا فِي الْحَالِ فَقَدْ أَجَابَهُمَا إِلَى مَا سَأَلَتَاهُ وَوَقَعَ طَلَاقُهُمَا بَائِنًا ثُمَّ لَا تَخْلُو حَالُهُمَا فِي الْأَلْفِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يُبَيِّنَا مَا عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِنَ الْأَلْفِ ، وَإِمَّا أَنْ يُطْلِقَاهُ ، فَإِنْ بَيَّنَتَاهُ مِنْ تَسَاوٍ أَوْ تَفَاضُلٍ فَجَعَلَتَا الْأَلْفَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ أَوِ الْتَزَمَتْ مِنَ الْأَلْفِ بِمِائَةٍ وَالْأُخْرَى تِسْعِمِائَةٍ صَحَّ الْعِوَضُ ، وَلَزِمَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَا سَمَّتْهُ مِنَ الْأَلْفِ ، وَإِنْ أَطْلَقَتَا الْأَلْفَ بَيْنَهُمَا وَلَمْ يُفَصِّلَا مَا يَخُصُّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فَفِيهِ قَوْلَانِ كَمَنْ أَصْدَقَ زَوْجَتَيْنِ أَلْفًا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ ، وَلَمْ يُفَصِّلْ مَهْرَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْأَلْفِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْخُلْعَ بِالْأَلْفِ بَاطِلٌ ، إِذَا قِيلَ : إِنَّ الصَّدَاقَ بَاطِلٌ ، لِأَنَّ قِسْطَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِنَ الْأَلْفِ مَجْهُولٌ ، فَيَكُونُ لَهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي الْخُلْعِ مَهْرُ مِثْلِهَا كَمَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِ فِي الصَّدَاقِ مَهْرُ مِثْلِهَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْخُلْعَ بِالْأَلْفِ صَحِيحٌ ، وَإِذَا قِيلَ : إِنَّ الصَّدَاقَ صَحِيحٌ ، لِأَنَّ مَا جَمَعَتْهُ الصَّفْقَةُ مِنَ الْأَعْيَانِ الْمُخْتَلِفَةِ ، يَسْقُطُ الْبَدَلُ فِيهِ عَلَى الْقِيَمِ كَمَنِ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ بِأَلْفٍ فَعَلَى هَذَا يُقَسِّطُ الْأَلْفَ بَيْنَهُمَا فِي الْخُلْعِ عَلَى مُهُورِ أَمْثَالِهِمَا فَيَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِنَ الْأَلْفِ قِسْطُهَا مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ ، كَمَا قُسِّطَتِ الْأَلْفُ بَيْنَهُمَا فِي الصَّدَاقِ عَلَى مُهُورِ أَمْثَالِهِمَا ، فَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِنَ الْأَلْفِ بِقِسْطِهَا مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ . وَمِثَالُ ذَلِكَ : أَنْ يَكُونَ مَهْرُ مِثْلِ إِحْدَاهُمَا أَلْفًا ، وَمَهْرُ الْأُخْرَى خَمْسَمِائَةٍ ، فَتَكُونُ الْأَلْفُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا يَخُصُّ الَّتِي مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفٌ ثُلُثَا الْأَلْفِ ، وَالَّتِي مَهْرُ مِثْلِهَا خَمْسُمِائَةٍ ثُلُثُ الْأَلْفِ فَهَذَا حُكْمُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ إِذَا طَلَّقَهُمَا فِي الْحَالِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يُطَلِّقَ إِحْدَاهُمَا فِي الْحَالِ ، دُونَ الْأُخْرَى فَقَدْ طُلِّقَتْ بَائِنًا ، وَعَلَيْهَا مِنَ الْأَلْفِ إِنْ سَمَّتْ شَيْئًا مَا سَمَّتْهُ وَإِنْ لَمْ تُسَمِّ شَيْئًا كَانَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَهْرُ مِثْلِهَا . وَالثَّانِي : بِقِسْطِهِ مِنَ الْأَلْفِ . فَأَمَّا الْأُخْرَى فَلَا طَلَاقَ عَلَيْهَا وَلَا شَيْءَ لَهُ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَلَّا يُطَلِّقَهُمَا فِي الْحَالِ فَلَا طَلَاقَ وَلَا عِوَضَ ، فَإِنِ اسْتَأْنَفَ طَلَاقًا كَانَ كَالْمُبْتَدِئِ فَيَكُونُ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَمَسْأَلَةُ الْكِتَابِ أَنْ يُطَلِّقَهُمَا بِالْأَلْفِ بَعْدَ مَسْأَلَتِهِمَا ، وَيَكُونَ مِنْهُمَا بَعْدَ الْمَسْأَلَةِ ارْتِدَادٌ الزَوْجَتَانِ إذا قَالَتَا لزوجهماُ طَلِّقْنَا بِأَلْفٍ عَنِ الْإِسْلَامِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ رِدَّتُهُمَا بَعْدَ الطَّلَاقِ فَقَدْ وَقَعَ الطَّلَاقُ نَاجِزًا بِالْبَدَلِ الْمُسَمَّى عَلَى مَا مَضَى وَمَا حَدَثَ مِنْ رِدَّتِهِمَا بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهِمَا غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِيهِ ، وَعِدَّتُهُمَا مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ .
وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَرْتَدَّا عَنِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ سُؤَالِهِمَا فِي الْحَالِ ، وَقَبْلَ الطَّلَاقِ فَيُطَلِّقَهُمَا الزَّوْجُ فِي الْحَالِ بَعْدَ الرِّدَّةِ مِنْ غَيْرِ تَرَاخٍ لِسُؤَالِهِمَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَتَانِ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهِمَا ، فَقَدْ بَانَتَا بِالرِّدَّةِ وَالطَّلَاقُ بَعْدَهَا غَيْرُ وَاقِعٍ عَلَيْهِمَا ، فَلَا يَلْزَمُهُمَا شَيْءٌ أَقَامَتَا عَلَى الرِّدَّةِ أَوْ عَادَتَا إِلَى الْإِسْلَامِ ، لِأَنَّ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا تَبِينُ بِالرِّدَّةِ فِي الْحَالِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَا مَدْخُولًا بِهِمَا فَوُقُوعُ الطَّلَاقِ عَلَيْهِمَا مَوْقُوفٌ عَلَى مَا يَكُونُ مِنْ إِسْلَامِهِمَا فِي الْعِدَّةِ ، وَلِأَنَّ نِكَاحَ الْمُرْتَدَّةِ مَوْقُوفٌ عَلَى إِسْلَامِهَا فِي الْعِدَّةِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُمَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُسْلِمَا مَعًا قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهِمَا فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ عَلَيْهِمَا ، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ فِي الْعِدَّةِ قَدْ رَفَعَ سَابِقَ الرِّدَّةِ ، وَصَادَفَ الطَّلَاقُ نِكَاحًا ثَابِتًا فَوَقَعَ بَائِنًا ، وَكَانَ لَهُ عَلَيْهِمَا الْأَلْفُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَتَأَخَّرَ إِسْلَامُهُمَا مِنَ الرِّدَّةِ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ ، فَالطَّلَاقُ غَيْرُ وَاقِعٍ لِارْتِفَاعِ النِّكَاحِ بِالرِّدَّةِ ، فَصَادَفَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ غَيْرَ زَوْجَةٍ ، فَلَمْ يَقَعْ ، وَإِذَا لَمْ يَقَعْ فَالْأَلْفُ مَرْدُودَةٌ عَلَيْهِمَا . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ تُسْلِمَ إِحْدَاهُمَا قَبْلَ الْعِدَّةِ ، وَتُقِيمَ الْأُخْرَى عَلَى رِدَّتِهَا إِلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، فَالَّتِي أَسْلَمَتْ قَبْلَ الْعِدَّةِ يَقَعُ الطَّلَاقُ بَائِنًا عَلَيْهَا وَيَلْزَمُهَا مِنَ الْأَلْفِ مَا بَيَّنَّاهُ إِنْ سَمَّتْ مِنْهَا قَدْرًا لَزِمَهَا الْمُسَمَّى ، وَإِنْ لَمْ تُسَمِّ مِنْهَا شَيْئًا فَعَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قِسْطُ مَهْرِ مِثْلِهَا مِنَ الْأَلْفِ . وَالثَّانِي : مَهْرُ مِثْلِهَا ، وَتَكُونُ عِدَّتُهَا مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ . فَأَمَّا الْمُقِيمَةُ عَلَى الرِّدَّةِ إِلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ حكم طلاقها فَلَا طَلَاقَ عَلَيْهَا ، وَلَا شَيْءَ لَهُ ، وَعِدَّتُهَا مِنْ وَقْتِ الرِّدَّةِ ، فَلَوِ اخْتَلَفَا مَعَ الزَّوْجِ فِي إِسْلَامِهِمَا مِنَ الرِّدَّةِ هَلْ كَانَ قَبْلَ الْعِدَّةِ أَوْ بَعْدَهَا : فَادَّعَاهُ الزَّوْجُ قَبْلَ الْعِدَّةِ لِيَقَعَ طَلَاقُهُ ، وَيَسْتَحِقَّ الْأَلْفَ ، وَادَّعَتَاهُ بَعْدَ الْعِدَّةِ إِنْكَارًا لِطَلَاقِهِ وَاسْتِحْقَاقِ الْأَلْفِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمَا مَعَ أَيْمَانِهِمَا ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا ، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْعِدَّةَ مِنْهُمَا ، فَكَانَ الْمَرْجُوعُ فِيهِمَا إِلَى قَوْلِهِمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ لَهُمَا أَنْتُمَا طَالِقَتَانِ إِنْ شِئْتُمَا بِأَلْفٍ لَمْ يُطَلَّقَا وَلَا وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا حَتَّى يَشَاءَا مَعًا فِي وَقْتِ الْخِيَارِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِزَوْجَتَيْهِ : أَنْتُمَا طَالِقَتَانِ عَلَى إِنْ شِئْتُمَا ، كَانَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ عَلَيْهِمَا مُعَلَّقًا بِوُجُودِ الْمَشِيئَةِ مِنْهُمَا ، وَمَشِيئَتُهُمَا مُعْتَبَرَةٌ عَلَى الْفَوْرِ فِي وَقْتِ الْخِيَارِ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : خِيَارُ الْقَبُولِ . وَالثَّانِي : خِيَارُ الْجَوَابِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ يَسِيرِ الْمُهْلَةِ الْمُعْتَبَرَةِ بِالْعُرْفِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَشَاءَا مَعًا فِي الْحَالِ ، فَقَدْ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهِمَا ، وَصَارَ الْخُلْعُ لَازِمًا لَهُمَا ، لِأَنَّ الْمَشِيئَةَ وَإِنْ كَانَتْ صِفَةً لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ فَهِيَ قَبُولٌ لِلْخُلْعِ فَلَا يُحْتَاجُ مَعَهَا إِلَى تَصْرِيحٍ بِالْقَبُولِ ، وَإِذَا صَحَّ الْخُلْعُ بِالْمَشِيئَةِ الذي يترتب عليه مِنَ الْعِوَضِ وَلَزِمَ فَفِيمَا يَلْزَمُهُمَا مِنَ الْعِوَضِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : الْأَلْفُ مُقَسَّطَةٌ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ مُهُورِ أَمْثَالِهِمَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : تَسْقُطُ الْأَلْفُ ، وَيَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَهْرُ مِثْلِهَا . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَلَّا يَشَاءَا أَوْ لَا وَاحِدَةَ مِنْهُمَا فَلَا طَلَاقَ وَلَا خُلْعَ ، لِأَنَّ صِفَةَ الطَّلَاقِ لَمْ تُوجَدْ فَلَوْ تَمَادَى بِهِمَا زَمَانُ الْمَشِيئَةِ ثُمَّ شَاءَتَا مِنْ بَعْدُ لَمْ تُؤَثِّرْ مَشِيئَتُهُمَا لِاسْتِحْقَاقِهَا عَلَى الْفَوْرِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا فِيهَا مِنْ قَبُولِ الْعَقْدِ . وَالثَّانِي : مَا فِيهَا مِنْ قَبُولِ التَّمْلِيكِ فَصَارَتِ الْمَشِيئَةُ وَاقِعَةً فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا شَرْعًا فَجَرَتْ مَجْرَى وُقُوعِهَا فِي مَوْضِعِهَا شَرْطًا . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ تَشَاءَ إِحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى فَلَا طَلَاقَ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ، لِأَنَّ شَرْطَ الطَّلَاقِ وُجُودُ الْمَشِيئَةِ مِنْهُمَا ، فَإِذَا وُجِدَتْ مِنْ إِحْدَاهُمَا لَمْ تَكْمُلِ الصِّفَةَ فَلَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ ، وَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى قَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو ، فَشَاءَ أَحَدُهُمَا لَمْ تُطَلَّقْ . فَإِنْ قِيلَ : أَفَلَيْسَ لَوْ قَالَ لَهُمَا أَنْتُمَا طَالِقَتَانِ عَلَى أَلْفٍ فَقَبِلَتْ إِحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى طُلِّقَتِ الْقَابِلَةُ وَلَمْ تُطَلَّقِ الْأُخْرَى فَهَلَّا طُلِّقَتِ الَّتِي شَاءَتْ وَلَمْ تُطَلَّقِ الْأُخْرَى . قِيلَ : لِأَنَّهُ جَعَلَ مَشِيئَتَهُمَا شَرْطًا فَلَمْ يُوجَدْ بِمَشِيئَةِ إِحْدَاهُمَا فَلَمْ تُطَلَّقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا طَلَّقَهُمَا بِأَلْفٍ فَقَبِلَتْ إِحْدَاهُمَا ، لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ صِفَةً لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ ، وَلَا اجْتِمَاعُ قَبُولِ الْمُشْتَرِكِينَ فِي الْعَقْدِ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهِ ، بَلْ قَبُولُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ لِرَجُلَيْنِ : قَدْ بِعْتُكُمَا عَبْدِي بِأَلْفٍ فَقَبِلَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ لَزِمَ الْقَابِلَ ابْتِيَاعُ نِصْفِ الْعَبْدِ بِنِصْفِ الْأَلْفِ ، وَإِنْ لَمْ يَلْزَمِ ابْتِيَاعُ نِصْفِهِ الْآخَرَ . فَلَوْ قَالَتِ الزَّوْجَتَانِ فِي الْحَالِ : قَدْ شِئْنَا فَكَذَّبَهُمَا فِي الْمَشِيئَةِ ، وَقَعَ الطَّلَاقُ مَعَ تَكْذِيبِهِ لَهُمَا .
فَإِنْ قِيلَ : أَفَلَيْسَ لَوْ قَالَ لَهُمَا : إِذَا حِضْتُمَا فَأَنْتُمَا طَالِقَتَانِ . فَقَالَتَا : قَدْ حِضْنَا ، فَكَذَّبَهُمَا لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا . قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ مَشِيئَتَهُمَا إِنَّمَا هِيَ وُجُودُ الْقَوْلِ مِنْهُمَا ، وَقَدْ وُجِدَ مَعَ التَّكْذِيبِ فَوَقَعَ الطَّلَاقُ ، وَلَا يَكُونُ حَيْضُهَا وُجُودَ الْقَوْلِ مِنْهُمَا فَإِذَا أَكْذَبَهُمَا فِيهِ وَلَمْ يَعْلَمْ وَجُودَهُ فَلَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا مَحْجُورًا عَلَيْهَا وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهِمَا وَطَلَاقُ غَيْرِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهَا بَائِنٌ وَعَلَيْهَا مَهْرُ مِثْلِهَا وَلَا شَيْءَ عَلَى الْأُخْرَى وَيَمْلِكُ رَجْعَتَهَا ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا عِنْدِي يَقْضِي عَلَى فَسَادِ تَجْوِيزِهِ مَهْرَ أَرْبَعٍ فِي عُقْدَةٍ بِأَلْفٍ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَهْرِ أَرْبَعٍ فِي عُقْدَةٍ بِأَلْفٍ وَخَلْعِ أَرْبَعٍ فِي عُقْدَةٍ بِأَلْفٍ فَإِذَا أَفْسَدَهُ فِي إِحْدَاهُمَا لِلْجَهْلِ بِمَا يُصِيبُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَسَدَ فِي الْأُخْرَى وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ وَعَلَيْهَا مَهْرُ مِثْلِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ يَقُولُ لِزَوْجَتَيْهِ ، وَإِحْدَاهُمَا مَحْجُورٌ عَلَيْهَا : أَنْتُمَا طَالِقَتَانِ عَلَى الْأَلْفِ إِنْ شِئْتُمَا فَشَاءَتَا مَعًا ، طُلِّقَتَا ، لِأَنَّهُ عَلَّقَ طَلَاقَهُمَا بِوُجُودِ مَشِيئَتَيْنِ ، وَقَدْ وُجِدَتَا ، فَأَوْجَبَ ذَلِكَ وُقُوعَ طَلَاقِهِمَا ، وَيَكُونُ طَلَاقُ غَيْرِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهَا بَائِنًا ، وَفِيمَا يَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : مَهْرُ الْمِثْلِ . وَالثَّانِي : بِقِسْطِ مَهْرِ مِثْلِهَا مِنَ الْأَلْفِ . فَأَمَّا طَلَاقُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهَا فَيَكُونُ رَجْعِيًّا ، لِأَنَّ الْخُلْعَ عَقْدٌ يَصِحُّ مَعَ الْحَجْرِ . فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ خُلْعُهَا فَيَنْبَغِي أَلَّا تَصِحَّ مَشِيئَتُهَا . قِيلَ : الْمُعْتَبَرُ فِي الْمَشِيئَةِ التَّمْيِيزُ وَفِي الْخُلْعِ جَوَازُ التَّصَرُّفِ ، وَلِلْمَحْجُورِ عَلَيْهَا تَمْيِيزٌ فَصَحَّتْ مَشِيئَتُهَا ، وَلَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهَا فَلَمْ يَصِحَّ خُلْعُهَا ، فَلَوْ كَانَتْ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا إِحْدَاهُمَا مَجْنُونَةً فَشَاءَتَا لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُمَا ، لِأَنَّ الْمَجْنُونَةَ لَا تَمْيِيزَ لَهَا ، فَلَمْ تَصِحَّ مَشِيئَتُهَا ، وَكَانَتْ كَمَنْ لَمْ تَشَأْ ، وَلَوْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا صَغِيرَةً فَشَاءَتَا ، تُطْرَحُ الصَّغِيرَةُ فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُمَيِّزَةٍ لَمْ تَصِحَّ مَشِيئَتُهَا ، كَالْمَجْنُونَةِ ، فَلَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ ، وَإِنْ كَانَتْ مُمَيِّزَةً صَحَّتْ مَشِيئَتُهَا كَالْمَحْجُورِ عَلَيْهَا ، وَوَقَعَ طَلَاقُهَا ، وَكَانَ طَلَاقُ الْكَبِيرَةِ بَائِنًا ، وَطَلَاقُ الصَّغِيرَةِ رَجْعِيًّا . فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ رَأَى الشَّافِعِيَّ قَدْ أَوْجَبَ عَلَى الْجَائِزَةِ الْأَمْرَ مَهْرَ مِثْلِهَا فَقَالَ : " هَذَا يَقْضِي عَلَى فَسَادِ تَجْوِيزِهِ مَهْرَ أَرْبَعٍ فِي عُقْدَةٍ بِأَلْفٍ ، لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَهْرِ أَرْبَعٍ فِي عُقْدَةٍ بِأَلْفٍ ، وَخُلْعِ أَرْبَعٍ فِي عُقْدَةٍ بِأَلْفٍ .
وَالْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَهُ الْمُزَنِيُّ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ ، وَفِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ مَسْأَلَةِ الْخُلْعِ وَالصَّدَاقِ قَوْلَانِ فَهُمَا سَوَاءٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَلَوْ قَالَ لَهُ أَجْنَبِيٌّ طَلِّقْ فُلَانَةَ عَلَى أَنَّ لَكَ عَلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَفَعَلَ فَالْأَلْفُ لَهُ لَازِمَةٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا خَالَعَهُ أَجْنَبِيٌّ عَلَى طَلَاقِ زَوْجَتِهِ ، فَإِنْ كَانَ بِإِذْنِهَا صَحَّ ، وَكَانَ وَكِيلًا لَهَا عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ ، وَإِنْ كَانَ الْأَجْنَبِيُّ قَدْ خَالَعَ بِغَيْرِ إِذْنِ الزَّوْجَةِ بِمَالٍ فِي ذِمَّتِهِ فَقَالَ لَهُ : طَلِّقْ زَوْجَتَكَ فُلَانَةَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لَكَ عَلَيَّ ، صَحَّ الْخُلْعُ وَوَقَعَ الطَّلَاقُ ، وَلَزِمَ الْأَجْنَبِيَّ الْأَلْفُ الَّتِي بَذَلَهَا ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ . وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ : الْخُلْعُ بَاطِلٌ ، وَالطَّلَاقُ غَيْرُ وَاقِعٍ فِيهِ ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْخُلْعَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يَمْلِكُ بِهِ الْبُضْعَ ، وَالْبُضْعُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَهُ بِالْعِوَضِ إِلَّا زَوْجٌ بِنِكَاحٍ أَوْ زَوْجَةٌ بِخُلْعٍ ، فَلَمَّا لَمْ يَمْلِكْهُ الْأَجْنَبِيُّ كَالْخُلْعِ وَلَا الزَّوْجَةُ بِغَيْرِ إِذْنِهَا اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ فَاسِدًا ، وَلِأَنَّ الْأَعْوَاضَ إِنَّمَا تُبْذَلُ فِي الْأَغْرَاضِ الصَّحِيحَةِ ، وَإِلَّا كَانَتْ سَفَهًا ، وَمِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ ، وَلَا غَرَضَ لِلْأَجْنَبِيِّ فِي هَذَا الْخُلْعِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَرْدُودًا ، وَهَذَا خَطَأٌ . وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهُ لَمَّا جَازَ لِلزَّوْجِ أَنْ يُطَلِّقَ بِغَيْرِ بَذْلٍ ، وَجَازَ لِلْأَجْنَبِيِّ أَنْ يَبْذُلَ لَهُ مَالَهُ بِغَيْرِ طَلَاقٍ جَازَ أَنْ يُطَلِّقَ الزَّوْجُ عَلَى الْمَالِ الَّذِي بَذَلَهُ الْأَجْنَبِيُّ ، فَنَقُولُ : كُلُّ مَنْ صَحَّ مِنْهُ بَذْلُ الْمَالِ بِغَيْرِ طَلَاقٍ صَحَّ بَذْلُهُ عَلَى الطَّلَاقِ كَالزَّوْجَةِ طَرْدًا ، وَالصَّغِيرَةِ عَكْسًا ، وَلِأَنَّ الْعِتْقَ كَالطَّلَاقِ ، يَتَنَوَّعُ تَارَةً بِعِوَضٍ ، وَتَارَةً بِغَيْرِ عِوَضٍ ، فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَبْذُلَ الْأَجْنَبِيُّ مَالًا فِي الْعِتْقِ ، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ بِهِ شَيْئًا جَازَ أَنْ يَبْذُلَ مَالًا فِي الطَّلَاقِ وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ بِهِ شَيْئًا . فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ الْخُلْعَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ كَالْبَيْعِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ مُفَارِقٌ لِلْبَيْعِ فِي أَحْكَامٍ وَإِنْ وَافَقَهُ فِي أَحْكَامٍ ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْبَيْعِ تَمَلُّكُ الْمَبِيعِ ، وَالْمَقْصُودَ بِالْخُلْعِ إِزَالَةُ مِلْكِ الزَّوْجِ ، فَجَازَ أَنْ يَزُولَ إِلَى غَيْرِ مُتَمَلِّكٍ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُزِيلَهُ بِالطَّلَاقِ الْمُجَرَّدِ إِلَى غَيْرِ مُتَمَلِّكٍ بِخِلَافِ الْبَيْعِ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِعَدَمِ الْغَرَضِ فِيهِ ، فَخَطَأٌ ، لِأَنَّ الْغَرَضَ فِيهِ مَوْجُودٌ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَرَاهُمَا الْأَجْنَبِيُّ مُقِيمَيْنِ عَلَى نِكَاحِ شُبْهَةٍ يَؤُولُ إِلَى مَأْثَمٍ فَأَحَبَّ أَنْ يَسْتَنْقِذَهُمَا مِنْهُ . وَالثَّانِي : أَنْ يَرَاهُمَا قَدْ خَرَجَا فِي الزَّوْجِيَّةِ إِلَى أَنْ صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرَ مُؤَدٍّ لِلْحَقِّ فِيهَا . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ لِرَغْبَةِ الْأَجْنَبِيِّ فِي نِكَاحِهَا فَيَسْتَنْزِلَ بِالْخُلْعِ الزَّوْجَ عَنْهَا .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ خُلْعِ الْأَجْنَبِيِّ ، فَلَوْ كَانَ لِلزَّوْجِ امْرَأَتَانِ فَخَالَعَهُ الْأَجْنَبِيُّ عَنْهُمَا بِأَلْفٍ مِنْ مَالِهِ صَحَّ الْخُلْعُ بِالْأَلْفِ ، وَإِنْ لَمْ يُفَصِّلْ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِنَ الْأَلْفِ قَوْلًا وَاحِدًا ، لِأَنَّ الْأَلْفَ لَازِمَةٌ لِلْأَجْنَبِيِّ وَحْدَهُ ، وَمُسْتَحَقَّةٌ لِلزَّوْجِ وَحْدَهُ ، فَجَازَ أَلَّا يَنْفَصِلَ ، وَلَيْسَ كَبَذْلِ الزَّوْجَتَيْنِ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَنْفَصِلَ مَا تَلْتَزِمُهُ كُلُّ وَاحِدَةٍ ، فَلَوْ خَالَعَهُ الْأَجْنَبِيُّ عَلَى طَلَاقِ إِحْدَاهُمَا مُبْهَمَةً مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ وَلَا تَسْمِيَةٍ لَمْ يَجُزْ ، وَكَانَ خُلْعًا فَاسِدًا ، لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ لَا يَصِحُّ إِلَّا عَلَى مُعَيَّنٍ كَالْبَيْعِ .
فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ لَهُ زَوْجَتَانِ فَقَالَتْ لَهُ إِحْدَاهُمَا : طَلِّقْنِي وَضَرَّتِي بِأَلْفٍ لَكَ عَلَيَّ ، فَإِنْ طَلَّقَهُمَا صَحَّ الْخُلْعُ ، وَكَانَ لَهُ عَلَيْهَا أَلْفٌ عَنْهَا ، وَعَنْ ضَرَّتِهَا قَوْلًا وَاحِدًا ، وَإِنْ طَلَّقَهَا دُونَ ضَرَّتِهَا كَانَ فِيمَا يَلْزَمُهَا قَوْلَانِ ، لِأَنَّ الْأَلْفَ قَدْ تَفَصَّلَتْ : إِحْدَاهُمَا : مَهْرُ مِثْلِهَا . وَالثَّانِيةُ : بِقِسْطِ مَهْرِ مِثْلِهَا مِنَ الْأَلْفِ . وَلَوْ طَلَّقَ ضَرَّتَهَا دُونَهَا طُلِّقَتْ ، وَكَانَ فِيمَا يَلْزَمُ الْبَاذِلَةَ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : مَهْرُ مِثْلِ الضَّرَّةِ الْمُطَلَّقَةِ . وَالثَّانِي : بِقِسْطِ مَهْرِ مِثْلِهَا مِنَ الْأَلْفِ .
فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَتْ لَهُ إِحْدَى زَوْجَتَيْهِ : طَلِّقْنِي بِأَلْفٍ لَكَ عَلَيَّ عَلَى أَنْ تُطَلِّقَ ضَرَّتِي ، أَوْ قَالَتْ : طَلِّقْ ضَرَّتِي بِأَلْفٍ لَكَ عَلَى أَلَّا تُطَلِّقَنِي . فَأَجَابَهَا إِلَى مَا سَأَلَتْ وَقَعَ الطَّلَاقُ ، وَلَزِمَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ ، لِأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَنَ بِالْخُلْعِ شَرْطٌ فَاسِدٌ بِسُقُوطِهِ مِنَ الْعِوَضِ مَا صَارَ بِهِ مَجْهُولًا فَلَزِمَ فِيهِ مَهْرُ مِثْلِ الْمُطَلَّقَةِ قَوْلًا وَاحِدًا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا يَجُوزُ مَا اخْتَلَعَتْ بِهِ الْأَمَةُ إِلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا خَالَعَتِ الْأَمَةُ زَوْجَهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِ السَّيِّدِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ . فَإِنْ كَانَ بِإِذْنِ السَّيِّدِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَأْذَنَ لَهَا أَنْ تُخَالِعَهُ بِمَالٍ فِي ذِمَّتِهَا ، إِذَا خَالَعَتِ الْأَمَةُ زَوْجَهَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُخَالِعَهُ عَلَى مَا بِيَدِهَا مِنَ الْأَعْيَانِ ، لِأَنَّ الْإِذْنَ لَمْ يَتَنَاوَلْهَا ، فَإِنْ خَالَعَتْهُ عَلَى غَيْرِ مَالٍ بِيَدِهَا لِلسَّيِّدِ لَمْ يَجُزْ وَنُظِرَ فِي طَلَاقِ الزَّوْجِ ، فَإِنْ كَانَ مُقَيَّدًا بِتِلْكَ الْعَيْنِ لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ ، وَإِنْ كَانَ نَاجِزًا وَقَعَ الطَّلَاقُ ، وَكَانَ لَهُ عَلَيْهَا بَذْلُ الْخُلْعِ فِي ذِمَّتِهَا يُؤَدِّيهِ بَعْدَ عِتْقِهَا وَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : مَهْرُ مِثْلِهَا .
وَالثَّانِي : مِثْلُ مَا خَالَعَتْ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ ، أَوْ قِيمَتُهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ ، وَإِنْ خَالَعَتْهُ عَلَى مَالٍ فِي ذِمَّتِهَا صَحَّ الْخُلْعُ وَاسْتَفَادَتْ بِالْإِذْنِ أَنْ تُؤَدِّيَهُ مِنْ كَسْبِهَا ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُؤَدِّيَهُ مِنَ الْأَعْيَانِ الَّتِي بِيَدِهَا ، فَإِنْ كَانَ مَا خَالَعَتْ بِهِ قَدْرَ مَهْرِ مِثْلِهَا أَدَّتْ جَمِيعَهُ مِنْ كَسْبِهَا ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ أَدَّتْ مِنْ كَسْبِهَا قَدْرَ مَهْرِ الْمِثْلِ ، وَكَانَ الْفَاضِلُ عَلَيْهِ بَاقِيًا فِي ذِمَّتِهَا تُؤَدِّيهِ بَعْدَ عِتْقِهَا فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهَا كَسْبٌ تُؤَدِّي مِنْهُ قَدْرَ مَا خَالَعَتْ عَلَيْهِ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ لَمْ يَلْزَمِ السَّيِّدَ غُرْمُهُ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَضْمَنْهُ فِي ذِمَّتِهِ ، وَلَا فِي رَقَبَةِ أَمَتِهِ ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي ذِمَّتِهَا إِلَى أَنْ تُؤَدِّيَهُ مِنْ كَسْبٍ إِنْ حَدَثَ لَهَا ، فِي الرِّقِّ أَوْ بَعْدَ عِتْقِهَا . وَهَكَذَا لَوْ قَتَلَهَا السَّيِّدُ أَوْ بَاعَهَا بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُ الزَّوْجُ عَلَى مُطَالَبَتِهَا ، لَمْ يَضْمَنِ السَّيِّدُ ذَلِكَ عَنْهَا ، وَإِنْ أَذِنَ السيد لأمته أن تخالع زوجها عَلَى عَيْنٍ فِي يَدِهَا لَهَا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَأْذَنَ لَهَا أَنْ تُخَالِعَهُ عَلَى عَيْنٍ فِي يَدِهَا كَأَنَّهُ قَالَ لَهَا : خَالِعِيهِ عَلَى هَذَا الثَّوْبِ ، أَوْ عَلَى هَذَا الْخَاتَمِ ، فَإِنْ خَالَعَتْهُ عَلَيْهِ جَازَ ، وَإِنْ خَالَعَتْهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَعْيَانِ لَمْ يَجُزْ ، وَإِنْ خَالَعَتْهُ عَلَى مَالٍ فِي ذِمَّتِهَا جَازَ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تُؤَدِّيَهُ مِنْ كَسْبِهَا لِعَدَمِ الْإِذْنِ فِيهِ ، وَكَانَ بَاقِيًا فِي ذِمَّتِهَا إِلَى أَنْ تُؤَدِّيَهُ بَعْدَ عِتْقِهَا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَأْذَنَ لَهَا إِذْنًا مُطْلَقًا ، وَلَا يَذْكُرَ عَيْنًا وَلَا ذِمَّةً يأذن السيد لأمته في خلع زوجها فَإِنْ خَالَعَتْهُ عَلَى مَالٍ فِي ذِمَّتِهَا جَازَ ، وَكَانَ لَهَا أَنْ تُؤَدِّيَهُ مِنْ كَسْبِهَا إِنْ كَانَ بِقَدْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ فَمَا دُونَ ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْهُ كَانَتِ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ بَاقِيَةً فِي ذِمَّتِهَا إِلَى وَقْتِ الْعِتْقِ ، وَإِنْ خَالَعَتْهُ عَلَى عَيْنٍ فِي يَدِهَا نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ أُذِنَ لَهَا بِالتَّصَرُّفِ فِي تِلْكَ الْعَيْنِ صَحَّ خُلْعُهَا عَلَيْهَا ، إِنْ كَانَ بِقَدْرِ مَهْرِ مِثْلِهَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ أُذِنَ لَهَا بِالتَّصَرُّفِ فِيهَا لَمْ يَصِحَّ خُلْعُهَا بِهَا ، وَكَانَ فِيمَا يَرْجِعُ بِهِ الزَّوْجُ عَلَيْهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : مَهْرُ الْمِثْلِ . وَالثَّانِي : مِثْلُ تِلْكَ الْعَيْنِ إِنْ كَانَ لَهَا مِثْلٌ ، وَقِيمَتُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مِثْلٌ ، وَلَهَا أَنْ تُؤَدِّيَ مِنْ كَسْبِهَا لِإِذْنِ السَّيِّدِ لَهَا .
فَصْلٌ : وَإِنْ خَالَعَتْهُ بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ الأمة إذا خالعت زوجها فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تُخَالِعَهُ عَلَى عَيْنٍ فِي يَدِهَا ، فَالْخُلْعُ بَاطِلٌ ، سَوَاءً مَلَّكَهَا السَّيِّدُ تِلْكَ الْعَيْنَ أَوْ لَمْ يُمَلِّكْهَا ، لِأَنَّهُ قَدْ مَلَّكَهَا فَمَلَكَتْ عَلَى قَوْلِهِ الْقَدِيمِ لَكَانَ لَهُ عَلَيْهَا حَجْرٌ فِيهَا يَمْنَعُ مِنَ التَّصَرُّفِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ نُظِرَ فِي طَلَاقِ الزَّوْجِ ، فَإِنْ كَانَ مُقَيَّدًا بِتَمَلُّكِ تِلْكَ الْعَيْنِ فَهُوَ غَيْرُ وَاقِعٍ ، وَإِنْ كَانَ نَاجِزًا وَقَعَ ، وَفِيمَا يَرْجِعُهُ عَلَيْهِمَا بَعْدَ عِتْقِهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : مَهْرُ مِثْلِهَا . وَالثَّانِي : مِثْلُ تِلْكَ الْعَيْنِ ، أَوْ قِيمَتُهَا ، فَلَوْ أَنَّ السَّيِّدَ بَعْدَ أَنْ خَالَعَتْ عَلَى تِلْكَ
الْعَيْنِ أَجَازَ خُلْعَهَا لَمْ يَصِحَّ لِوُقُوعِهِ فَاسِدًا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تُخَالِعَهُ عَلَى مَالٍ فِي ذِمَّتِهَا ، فَالْخُلْعُ جَائِزٌ وَلَيْسَ لَهَا دَفْعُ الْمَالِ مِنْ كَسْبِهَا ، لِعَدَمِ إِذْنِ السَّيِّدِ فِيهِ ، وَيَكُونُ فِي ذِمَّتِهَا إِلَى أَنْ تُؤَدِّيَهُ بَعْدَ عِتْقِهَا . فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُؤَجَّلًا إِلَى وَقْتِ الْعِتْقِ وَهُوَ أَجَلٌ مَجْهُولٌ . قِيلَ : إِنَّمَا تَكُونُ جَهَالَةُ الْأَجَلِ مُوجِبَةً لِفَسَادِ الْعَقْدِ ، إِذَا كَانَ الْأَجَلُ مُعَلَّقًا بِالشَّرْطِ دُونَ الشَّرْعِ ، وَلَا يَبْطُلُ إِذَا كَانَ وَاجِبًا بِالشَّرْعِ إِلَّا أَنْ تَرَى إِعْسَارَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ يُوجِبُ إِنْظَارَهُ إِلَى وَقْتِ يَسَارِهِ ، وَلَوْ شَرَطْتَهُ فِي الْعَقْدِ لَمْ يَجُزْ . كَذَلِكَ الْأَمَةُ إِذَا خَالَعَتْهُ بِمَالٍ أَوْجَبَ الشَّرْعُ إِنْظَارَهَا بِهِ إِلَى وَقْتِ الْعِتْقِ جَازَ ، وَلَوْ شَرَطَتْهُ إِلَى وَقْتِ الْعِتْقِ لَمْ يَجُزْ ، وَكَانَ فَاسِدًا يَرْجِعُ عَلَيْهَا فِيهِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ بَعْدَ الْعِتْقِ ، وَهَكَذَا خُلْعُ الْمُدَبَّرَةِ ، وَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُعْتَقَةِ بِصِفَةٍ لَمْ تَأْتِ . فَأَمَّا الَّتِي نِصْفُهَا حُرٌّ ، وَنِصْفُهَا مَمْلُوكٌ ، فَإِنْ خَالَعَتْهُ عَلَى مَا يَمْلِكُهُ بِنِصْفِهَا الْحُرِّ جَازَ ، وَكَانَتْ فِيهِ كَالْحُرَّةِ وَإِنْ خَالَعَتْهُ عَلَى مَا يَمْلِكُهُ السَّيِّدُ لَمْ يَجُزْ ، وَكَانَتْ فِيهِ كَالْأَمَةِ ، وَإِنْ خَالَعَتْهُ عَلَى الْأَمْرَيْنِ صَارَتِ الصِّفَةُ فِيهِ جَامِعَةً لِأَمْرَيْنِ يَخْتَلِفُ حُكْمُهُمَا فَيَكُونُ عَلَى مَا يُوجِبُهُ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ بَعْدَ جَمْعِهَا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا الْمُكَاتَبَةُ وَلَوْ أَذِنَ لَهَا سَيِّدُهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ لِلسَّيِّدِ فَيَجُوزُ إِذْنُهُ فِيهِ وَلَا لَهَا فَيَجُوزُ مَا صَنَعَتْ فِي مَالِهَا وَطَلَاقُهُمَا بِذَلِكَ بَائِنٌ فَإِذَا أُعْتِقَتَا اتَّبِعُ كُلَّ وَاحِدَةٍ بِمَهْرِ مِثْلِهَا كَمَا لَا أَحْكُمُ عَلَى الْمُفْلِسِ حَتَّى يُوسِرَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا خَالَعَتِ الْمُكَاتَبَةُ زَوْجَهَا لَمْ يَخْلُ خُلْعُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِ السَّيِّدِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ ، فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَهِيَ فِيهِ كَالْأَمَةِ إِذَا خَالَعَتْ زَوْجَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهَا ، الْمُكَاتَبَةُ لِأَنَّهَا وَإِنْ خَالَفَتِ الْأَمَةَ فِي التَّمَلُّكِ وَالتَّصَرُّفِ فَهُوَ مَقْصُودٌ عَلَى أَدَائِهِ فِي مَالِ الْكِتَابَةِ دُونَ غَيْرِهِ ، وَهِيَ كَالْأَمَةِ فِيمَا سِوَاهُ ، وَإِنْ خَالَعَتْهُ بِإِذْنِ السَّيِّدِ الْمُكَاتَبَةُ إذا خالعت زوجها فَهُوَ إِذْنٌ مِنْهُ بِاسْتِهْلَاكِ مَالٍ فِي غَيْرِ الْأَدَاءِ ، وَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي السَّيِّدِ إِذَا أَذِنَ لِمُكَاتَبِهِ فِي الْهِبَةِ هَلْ يَصِحُّ إِذْنُهُ فِيهِ ، وَيَجُوزُ هِبَتُهُ لَهُ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَصِحُّ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ أَقْوَى تَصَرُّفًا مِنَ الْعَبْدِ ، فَلَمَّا صَحَّتْ هِبَةُ الْعَبْدِ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ كَانَ أَوْلَى أَنْ تَصِحَّ هِبَةُ الْمُكَاتَبِ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَصِحُّ هِبَتُهُ بِإِذْنِ السَّيِّدِ ، وَإِنْ صَحَّتْ هِبَةُ الْعَبْدِ ، لِأَنَّ السَّيِّدَ يَمْلِكُ مَا فِي يَدِ عَبْدِهِ ، فَصَحَّ إِذْنُهُ فِيهِ ، وَلَا يَمْلِكُ مَا فِي يَدِ مُكَاتَبِهِ ، فَلَمْ يَصِحَّ إِذْنُهُ فِيهِ ، فَإِذَا ثَبَتَ الْقَوْلَانِ فِي هِبَةِ الْمُكَاتَبِ بِإِذْنِ السَّيِّدِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي خُلْعِ الْمُكَاتَبَةِ
بِإِذْنِ السَّيِّدِ : فَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إِلَى أَنَّهُ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْهِبَةِ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ الِاسْتِهْلَاكُ بِالْخُلْعِ أَغْلَظَ مِنَ الِاسْتِهْلَاكِ بِالْهِبَةِ ، بَلْ هُوَ أَحْسَنُ حَالًا ، لِأَنَّهَا قَدْ تَمْلِكُ بِهِ الْبُضْعَ ، وَلَا تَمْلِكُ بِالْهِبَةِ شَيْئًا عَلَى أَصَحِّ قَوْلَيْهِ فِي سُقُوطِ الْمُكَافَأَةِ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ : إِنَّ خُلْعَهَا بَاطِلٌ مَعَ إِذْنِ السَّيِّدِ وَإِنْ كَانَتْ هِبَتُهَا بِإِذْنِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا بِأَنَّ مَا يَعُودُ مِنْ مُكَافَأَةِ الْهِبَةِ وَامْتِنَانِهَا رَاجِعٌ إِلَى السَّيِّدِ ، وَمَا يَعُودُ بِالْخُلْعِ مِنْ مِلْكِ الْبُضْعِ يَكُونُ لِلْمُكَاتَبَةِ فَافْتَرَقَ إِذْنُ السَّيِّدِ فِيهِمَا لِافْتِرَاقِهِمَا فِي عَوْدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَالطَّرِيقَةُ الْأُولَى أَصَحُّ ، وَلَيْسَ لِهَذَا الْفَرْقِ وَجْهٌ ، وَلَوْ قُلِبَ كَانَ أَوْلَى لِمَا ذَكَرْنَا .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَإِنْ قُلْنَا بِجَوَازِ الْخُلْعِ بِإِذْنِهِ صَحَّ إِذَا كَانَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ الخلع بإذن سيدها فَمَا دُونَهُ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَأْذَنَ لَهَا أَنْ تُخَالِعَهُ بِمَالِهِ فِي ذِمَّتِهَا فَتَعْدِلَ إِلَى الْخُلْعِ بِمَالٍ فِي يَدِهَا أَوْ يَأْذَنَ لَهَا أَنْ تُخَالِعَهُ بِمَالٍ فِي يَدِهَا فَتَعْدِلَ عَنْهُ إِلَى مَالٍ فِي ذِمَّتِهَا ، أَوْ يَأْذَنَ لَهَا فِي عَيْنٍ ، فَتَعْدِلَ إِلَى غَيْرِهَا إِذَا كَانَتْ قِيمَتُهَا سَوَاءً ، بِخِلَافِ الْأَمَةِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْحَجْرَ عَلَى الْمُكَاتَبَةِ فِي قَدْرِ الْمَالِ ، وَلَيْسَ عَلَيْهَا حَجْرٌ فِي أَعْيَانِهِ ، لِأَنَّ لَهَا نَقْلَ الْأَعْيَانِ مِنْ عَيْنٍ إِلَى عَيْنٍ ، فَلِذَلِكَ جَازَ خُلْعُهَا بَعْدَ الْإِذْنِ بِكُلِّ عَيْنِ ، وَالْحَجْرُ عَلَى الْأَمَةِ وَاقِعٌ فِي قَدْرِ الْمَالِ ، وَفِي أَعْيَانِهِ ، وَلَيْسَ لَهَا نَقْلُ عَيْنٍ إِلَى عَيْنٍ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَعْدِلَ فِي الْخُلْعِ مِنْ عَيْنٍ إِلَى عَيْنٍ . وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ الْخُلْعَ لَا يَصِحُّ مِنَ الْمُكَاتَبَةِ بِإِذْنِ السَّيِّدِ وَغَيْرِ إِذْنِهِ كَانَتْ فِيهِ كَالْأَمَةِ إِنْ خَالَعَتْهُ عَلَى مَالٍ فِي ذِمَّتِهَا أَدَّتْهُ بَعْدَ عِتْقِهَا ، وَإِنْ خَالَعَتْهُ عَلَى عَيْنٍ بِيَدِهَا ، نُظِرَ فِي طَلَاقِ الزَّوْجِ لَهَا فَإِنْ كَانَ مُقَيَّدًا بِهَا لَمْ تُطَلَّقْ ، وَإِنْ كَانَ نَاجِزًا طُلِّقَتْ ، وَكَانَ فِيمَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بَعْدَ الْعِتْقِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : مَهْرُ الْمِثْلِ . وَالثَّانِي : مِثْلُ مَا خَالَعَتْ بِهِ إِذَا كَانَ لَهُ مِثْلٌ وَقِيمَتُهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِذَا أَجَزْتُ طَلَاقَ السَّفِيهِ بِلَا شَيْءٍ كَانَ مَا أَخَذَ عَلَيْهِ جُعْلًا أَوْلَى وَلِوَلِيِّهِ أَنْ يَلِيَ عَلَى مَا أَخَذَ بِالْخُلْعِ لِأَنَّهُ مَالُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، طَلَاقُ السَّفِيهِ وَخُلْعُهُ وَاقِعٌ ، وَخُلْعُهُ جَائِزٌ . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ وَلَا يَصِحُّ خُلْعُهُ ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهَا عَلَى وُقُوعِ طَلَاقِهِ فِي كِتَابِ الْحَجْرِ وَإِذَا صَحَّ وُقُوعُ طَلَاقِهِ صَحَّ جَوَازُ خُلْعِهِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ طَلَاقُهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ كَانَ بِالْعِوَضِ أَجْوَزَ ، وَإِذَا كَانَ خُلْعُهُ جَائِزًا فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ عَلَى طَلَاقٍ نَاجِزٍ بِعِوَضِ الذِّمَّةِ ، كَأَنَّهُ طَلَّقَ زَوْجَةً وَاحِدَةً عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فِي ذِمَّتِهَا ، فَقَدْ صَارَتِ الْأَلْفُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهَا بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ ، وَعَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَدْفَعَ الْأَلْفَ إِلَيْهِ ، لِأَنَّهُ بِالْحَجْرِ مَمْنُوعٌ مِنْ قَبْضِ مَالِهِ ، وَيَدْفَعُهَا إِلَى وَلِيِّهِ لِقَبْضِ مَالِهِ ، فَإِنْ دَفَعَتِ الْأَلْفَ إِلَيْهِ لَمْ تَبْرَأْ مِنْهَا إِلَّا أَنْ يُبَادِرَ الْوَلِيُّ إِلَى قَبْضِهَا سُنَّةً فَتَبْرَأَ حِينَئِذٍ مِنْهَا ، بِأَخْذِ الْوَلِيِّ لَهَا فَإِنْ لَمْ يَأْخُذْهَا الْوَلِيُّ مِنْهُ حَتَّى تَلِفَتْ مِنْ يَدِهِ كَانَتْ تَالِفَةً مِنْ مَالِ الزَّوْجَةِ ، وَعَلَيْهَا أَنْ تَدْفَعَ إِلَى الْوَلِيِّ أَلْفًا ثَانِيَةً ، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَرْجِعَ عَلَى السَّفِيهِ خلعه بِالْأَلْفِ الَّتِي اسْتَهْلَكَهَا مَا كَانَ الْحَجْرُ بَاقِيًا عَلَيْهَا ، فَإِنْ فُكَّ حَجْرُهُ بِحُدُوثِ رُشْدِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ غُرْمُهَا حُكْمًا ، وَفِي وُجُوبِ غُرْمِهَا عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَجْهَانِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي كِتَابِ الْحَجْرِ .
فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي مِنْ خُلْعِهِ أَنْ يَكُونَ عَلَى طَلَاقٍ مُقَيَّدٍ بِالدَّفْعِ مِثْلِ أَنْ يَقُولَ لِزَوْجَتِهِ : إِنْ دَفَعْتِ إِلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ خلع السفيه فَيَجُوزُ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تَدْفَعَ ذَلِكَ إِلَيْهِ ، وَلَا تَدْفَعَهُ لِوَلِيِّهِ بِخِلَافِ مَا كَانَ فِي الذِّمَّةِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَدْ كَانَ مَالِكًا لِمَا فِي الذِّمَّةِ قَبْلَ الدَّفْعِ لَا يَمْلِكُ هَذَا إِلَّا بِالدَّفْعِ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا لَوْ دَفَعَتْ هَذَا إِلَى الْوَلِيِّ لَمْ تُطَلَّقْ ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ مُعَلَّقٌ بِالدَّفْعِ إِلَيْهِ ، وَمَا فِي الذِّمَّةِ قَدْ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ وُقُوعُ الطَّلَاقِ ، فَافْتَرَقَا مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ وَدَفَعَتْ إِلَيْهِ مَا طَلَّقَهَا عَلَيْهِ لَمْ تَضْمَنْهُ ، لِأَنَّهُ مَا تَعَلَّقَ بِذِمَّتِهَا ، وَلَا مَلَكَهُ إِلَّا بِأَخْذِهِ مِنْهَا ، وَعَلَى الْوَلِيِّ أَنْ يُبَادِرَ إِلَى أَخْذِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَأْخُذْهُ حَتَّى تَلِفَ فَلَا غُرْمَ فِيهِ وَلَا رُجُوعَ بِبَدَلِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَمَا أَخَذَ الْعَبْدُ بِالْخُلْعِ فَهُوَ لِسَيِّدِهِ فَإِنِ اسْتَهْلَكَا مَا أَخَذَا رَجَعَ الْوَلِيُّ وَالسَّيِّدُ عَلَى الْمُخْتَلِعَةِ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ حَقٌّ لَزِمَهَا فَدَفَعَتْهُ إِلَى مَنْ لَا يَجُوزُ لَهَا دَفْعُهُ إِلَيْهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : هَذَا صَحِيحٌ ، وَخُلْعُ الْعَبْدِ جَائِزٌ ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ طَلَاقُهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ كَانَ خُلْعُهُ أَجْوَزَ وَهُوَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ فِيهِ مُقَيَّدًا بِالدَّفْعِ إِلَيْهِ كَقَوْلِهِ : إِنْ دَفَعْتِ إِلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَيَجُوزُ أَنْ تَدْفَعَ إِلَيْهِ أَلْفًا لِيُطَلِّقَ بِهَا ، وَيَجُوزُ لَهُ قَبْضُهَا ، لِأَنْ يَمْلِكَهَا وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهَا ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِذِمَّتِهَا وَلِلسَّيِّدِ أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْ عَبْدِهِ ، لِأَنَّهَا مِنْ كَسْبِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَأْخُذْهَا مِنْهُ حَتَّى تَلِفَتْ فِي يَدِهِ فَهِيَ تَالِفَةٌ مِنْ مَالِ السَّيِّدِ وَلَا رُجُوعَ لَهُ بِبَدَلِهَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ طَلَاقُ خُلْعِهِ نَاجِزًا بِمَالٍ فِي ذِمَّتِهَا كَقَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَيْكِ ، قول العبد لزوجته فَلَا يَخْلُو حَالُ الْعَبْدِ فِي ذَلِكَ مَعَ سَيِّدِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي قَبْضِهَا فَيَجُوزَ لَهُ قَبْضُهَا ، وَتَبْرَأَ الزَّوْجَةُ مِنْهَا بِدَفْعِهَا إِلَيْهِ .
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَنْهَاهُ عَنْ قَبْضِهَا فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْبِضَهَا ، وَلَا تَبْرَأُ الزَّوْجَةُ مِنْهَا بِدَفْعِهَا إِلَيْهِ إِلَّا أَنْ يُبَادِرَ السَّيِّدُ بِأَخْذِهَا مِنْهُ فَتَبْرَأَ حِينَئِذٍ الزَّوْجَةُ مِنْهَا ، فَلَوْ لَمْ يَأْخُذْهَا السَّيِّدُ مِنَ الْعَبْدِ حَتَّى تَلِفَتْ فِي يَدِهِ كَانَ لَهُ مُطَالَبَةُ الزَّوْجَةِ بِهَا ، وَإِغْرَامُهَا إِيَّاهَا ، فَإِذَا غَرِمَتْهَا رَجَعَتْ بِهَا عَلَى الْعَبْدِ إِذَا أُعْتِقَ ، وَلَيْسَ رُجُوعُ حُكْمٍ بُتَّ بِخِلَافِ السَّفِيهِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ لِلْعَبْدِ ذِمَّةً وَلَيْسَ لِلسَّفِيهِ ذِمَّةٌ . وَالثَّانِي : أَنَّ عَجْزَ الْعَبْدِ بِحَقِّ سَيِّدِهِ يَزُولُ بِعِتْقِهِ ، وَحَجْرَ السَّفِيهِ بِحِفْظِ مَالِهِ وَلَا يَنْحَفِظُ بِغُرْمِهِ بَعْدَ رُشْدِهِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَلَّا يَأْذَنَ لَهُ السَّيِّدُ فِي الْقَبْضِ ، وَلَا يَنْهَاهُ عَنْهُ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْعَبْدِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ ، أَوْ غَيْرَ مَأْذُونٍ لَهُ ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْذُونٍ لَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْضُهَا مِنَ الزَّوْجَةِ وَكَانَ حُكْمُهُ لَوْ قَبَضَهَا كَحُكْمِهِ لَوْ نَهَاهُ عَنْ قَبْضِهَا وَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَفِي جَوَازِ قَبْضِهِ لَهَا بِإِذْنِ التِّجَارَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ لَهُ قَبْضُهَا بِمُطْلَقِ ذَلِكَ الْإِذْنِ لِجَوَازِ تَصَرُّفِهِ ، وَأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَقْبِضَ مِنْ مَالِ سَيِّدِهِ مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ كَسْبِهِ كَانَ قَبْضُهُ لِمَا هُوَ مِنْ كَسْبِهِ أَوْلَى . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَيْسَ لَهُ قَبْضُهَا بِإِذْنِ التِّجَارَةِ ، لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ مَقْصُورٌ عَلَى مَا تَعَلَّقَ بِالتِّجَارَةِ ، وَمَالَ الْخُلْعِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ إِذَا قَبَضَهَا بَرِئَتِ الزَّوْجَةُ مِنْهَا ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي لَا تَبْرَأُ مِنْهَا .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُكَاتَبُ خلعه فَخُلْعُهُ جَائِزٌ ، لِأَنَّ طَلَاقَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ جَائِزٌ ، فَكَانَ بِالْعِوَضِ أَجْوَزَ ، وَلَهُ قَبْضُ مَالِ الْخُلْعِ مِنْ زَوْجَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ السَّيِّدُ ، سَوَاءٌ كَانَ الْخُلْعُ نَاجِزًا أَوْ مُقَيَّدًا ، لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَ بِالْكِتَابَةِ أَكْسَابَهُ ، وَجَازَ تَصَرُّفُهُ بِخِلَافِ الْعَبْدِ ، وَإِنَّمَا الْحَجْرُ عَلَيْهِ فِي الِاسْتِهْلَاكِ لَا فِي الْأَكْسَابِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوِ اخْتَلَفَا فَهُوَ كَاخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ فَإِنْ قَالَتْ خَلَعْتَنِي بِأَلْفٍ وَقَالَ بِأَلْفَيْنِ أَوْ قَالَتْ عَلَى أَنْ تُطَلِّقَنِي ثَلَاثًا فَطَلَّقْتَنِي وَاحِدَةً تَحَالَفَا وَلَهُ صَدَاقُ مِثْلِهَا وَلَا يُرَدُّ الطَّلَاقُ وَلَا يَلْزَمُهُ مِنْهُ إِلَّا مَا أَقَرَّ بِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا تَخَالَعَ الزَّوْجَانِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الْعِوَضِ تَحَالَفَا كَمَا يَتَحَالَفُ الْمُتَبَايِعَانِ إِذَا اخْتَلَفَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَتَحَالَفَانِ ، وَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الزَّوْجَةِ مَعَ يَمِينِهَا اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُمَا قَدِ اتَّفَقَا عَلَى انْتِقَالِ الْبُضْعِ إِلَيْهَا ، وَاخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الْعِوَضِ الَّذِي فِي ذِمَّتِهَا فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ فِيهَا قَوْلَهَا مَعَ يَمِينِهَا ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ كَسَائِرِ الدَّعَاوَى .
وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهُ اخْتِلَافٌ فِي مِقْدَارِ عِوَضِ مِلْكٍ بِعَقْدِ مُعَاوَضَةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَدَمُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ مُوجِبًا لِتَحَالُفِ الْمُخْتَلِفَيْنِ فِيهِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ قَدْ صَارَ بِالِاخْتِلَافِ مُدَّعِيًا وَمُدَّعًى عَلَيْهِ ، فَلَمْ تَكُنِ الْيَمِينُ فِي جَنَبَةِ أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنْهَا فِي جَنَبَةِ الْآخَرِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الْيَمِينِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْإِنْكَارِ . فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِالِاتِّفَاقِ عَلَى مِلْكِ الْبُضْعِ وَالِاخْتِلَافِ فِي مِقْدَارِ الْعِوَضِ فَهُوَ فَاسِدٌ بِاخْتِلَافِ الزَّوْجَيْنِ فِي قَدْرِ الصَّدَاقِ فَإِنَّهُمَا قَدِ اتَّفَقَا فِيهِ عَلَى مِلْكِ الزَّوْجِ لَهُ وَاخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الصَّدَاقِ الَّذِي فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ ، وَهُمَا يَتَحَالَفَانِ فِيهِ ، وَلَا يَكُونُ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ الزَّوْجِ اعْتِبَارًا بِهَذَا الْمَعْنَى فِي بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ كَذَلِكَ فِي الْخُلْعِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ مَعَ اخْتِلَافٍ إِذَا تَخَالَعَ الزَّوْجَانِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الْعِوَضِ لَمْ يَخْلُ اخْتِلَافُهُمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَخْتَلِفَا فِي الْعِوَضِ وَيَتَّفِقَا فِي عَدَدِ الطَّلَاقِ ، وَاخْتِلَافُهُمَا فِي الْعِوَضِ قَدْ يَكُونُ تَارَةً فِي الْجِنْسِ كَقَوْلِ الزَّوْجِ : خَالَعْتُكِ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ ، وَتَقُولُ الزَّوْجَةُ : عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ . وَيَكُونُ تَارَةً فِي الْمِقْدَارِ فَيَقُولُ الزَّوْجُ : عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَتَقُولُ الزَّوْجَةُ : عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ . وَيَكُونُ تَارَةً فِي الصِّفَةِ فَيَقُولُ الزَّوْجُ : عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ بِيضٍ ، وَتَقُولُ الزَّوْجَةُ : عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ سُودٍ . وَيَكُونُ تَارَةً فِي الْأَجَلِ فَيَقُولُ الزَّوْجُ : عَلَى أَلْفُ حَالَّةٍ ، وَتَقُولُ الزَّوْجَةُ عَلَى أَلْفٍ مُؤَجَّلَةٍ ، أَوْ يَقُولُ الزَّوْجُ عَلَى أَلْفٍ إِلَى شَهْرٍ ، وَتَقُولُ الزَّوْجَةُ : عَلَى أَلْفٍ إِلَى شَهْرَيْنِ . فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ كُلِّهِ إِذَا عَدِمَا الْبَيِّنَةَ فِيهِمْ وَالْبَيِّنَةُ شَاهِدَانِ أَوْ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ أَوْ شَاهِدٌ وَيَمِينٌ ، لِأَنَّهَا لِإِثْبَاتِ مَالٍ مَحْضٍ ، فَإِذَا تَحَالَفَا مَعَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ فَهُوَ كَتَحَالُفِهِمَا فِي اخْتِلَافِهِمَا فِي الْمَبِيعِ ، وَكَاخْتِلَافِهِمَا فِي الصَّدَاقِ ، فَيَكُونُ صِفَةُ التَّحَالُفِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ ، فَإِذَا تَحَالَفَا فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ وَهُوَ لَا يَرْتَفِعُ بَعْدَ وُقُوعِ التَّحَالُفِ ، فَيَصِيرُ كَتَحَالُفِهِمَا فِي الْبَيْعِ بَعْدَ تَلَفِ الْمَبِيعِ الْمُوجِبِ لِلرُّجُوعِ بِقِيمَةِ الْمَبِيعِ ، كَذَلِكَ هَاهُنَا يُوجِبُ الرُّجُوعَ بِقِيمَةِ الْبُضْعِ ، وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَسَوَاءٌ كَانَ مَهْرُ الْمِثْلِ أَقَلَّ مِمَّا أَقَرَّتْ بِهِ الزَّوْجَةُ أَوْ أَكَثَرَ مِمَّا ادَّعَاهُ الزَّوْجُ ، لِأَنَّهُ قِيمَةُ مُتْلَفٍ قَدْ سَقَطَ مَعَهُ الْمُسَمَّى ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ الْقِلَّةُ وَلَا الْكَثْرَةُ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَخْتَلِفَا فِي عَدَدِ الطَّلَاقِ ، وَيَتَّفِقَا عَلَى مِقْدَارِ الْعِوَضِ . فَيَقُولُ الزَّوْجُ : خَالَعْتُكِ عَلَى طَلْقَةٍ بِأَلْفٍ ، وَتَقُولُ الزَّوْجَةُ : خَالَعْتُكَ عَلَى ثَلَاثِ
طَلْقَاتٍ بِأَلْفٍ ، فَإِنَّمَا يَتَحَالَفَانِ أَيْضًا كَمَا يَتَحَالَفُ الْمُتَبَايِعَانِ إِذَا اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الثَّمَنِ فَإِذَا تَحَالَفَا لَمْ يَلْزَمِ الزَّوْجَ مِنَ الطَّلَاقِ إِلَّا مَا أَقَرَّ بِهِ مِنَ الْوَاحِدَةِ وَلَهُ فِيهَا مَهْرُ الْمِثْلِ ، فَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا بَيِّنَةً عَلَى مَا ادَّعَاهُ مِنْ عَدَدِ الطَّلَاقِ سُمِعَ فِيهَا شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ أَوْ شَاهِدٌ وَيَمِينٌ لِأَنَّهُمَا لِاسْتِحْقَاقِ الْمَالِ بِالطَّلَاقِ ، وَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ : خَالَعْتُكِ عَلَى ثَلَاثِ طَلْقَاتٍ بِأَلْفٍ ، وَقَالَتِ الزَّوْجَةُ : بَلْ عَلَى طَلْقَةٍ بِأَلْفٍ فَلَا تَحَالُفَ بَيْنَهُمَا لِحُصُولِ مَا ادَّعَتْ وَزِيَادَةٍ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَخْتَلِفَا فِي قَدْرِ الْعِوَضِ ، وَعَدَدِ الطَّلَاقِ فَيَقُولُ الزَّوْجُ : خَالَعْتُكِ عَلَى طَلْقَةٍ بِأَلْفٍ ، وَتَقُولُ الزَّوْجَةُ : خَالَعْتَنِي عَلَى ثَلَاثٍ بِمِائَةٍ ، فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ أَيْضًا ، وَلَا يَلْزَمُ الزَّوْجَ مِنَ الطَّلَاقِ إِلَّا مَا اعْتَرَفَ بِهِ ، وَلَهُ مَهْرُ الْمِثْلِ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ الزَّوْجُ : خَالَعْتُكِ عَلَى ثَلَاثٍ بِمِائَةٍ ، وَقَالَتِ الزَّوْجَةُ : خَالَعْتَنِي عَلَى وَاحِدَةٍ بِأَلْفٍ ، فَلَا تَحَالُفَ بَيْنَهُمَا ، لِأَنَّهُ قَدْ زَادَهَا عَلَى مَا ذَكَرَتْ مِنَ الطَّلَاقِ ، وَنَقَصَهَا فِيمَا اعْتَرَفَتْ بِهِ مِنَ الْعِوَضِ . فَلَوْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ وُجُوبِ التَّحَالُفِ بِالِاخْتِلَافِ وَنَكَلَ الْآخَرُ قُضِيَ بِقَوْلِ الْحَالِفِ مِنْهُمَا عَلَى النَّاكِلِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَلَوْ قَالَ طَلَّقْتُكِ بِأَلْفٍ وَقَالَتْ بَلْ عَلَى غَيْرِ شَيْءٍ فَهُوَ مُقِرٌ بِطَلَاقٍ لَا يَمْلِكُ فِيهِ الرَّجْعَةَ فَيَلْزَمُهُ وَهُوَ مُدَّعِي مَا لَا يَمْلِكُهُ بِدَعْوَاهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى الْكَلَامُ إِذَا اتَّفَقَا عَلَى أَصْلِ الْخُلْعِ وَاخْتَلَفَا فِي صِفَتِهِ أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ . فَأَمَّا إِذَا اخْتَلَفَا فِي أَصْلِ الْخُلْعِ ، فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا ، وَأَنْكَرَهُ الْآخَرُ ، فَلَا تَحَالُفَ فِيهِ ، وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ مُنْكِرِهِ مَعَ يَمِينِهِ ، كَمَا لَوِ اخْتَلَفَا فِي أَصْلِ الْبَيْعِ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا وَأَنْكَرَهُ الْآخَرُ لَمْ يَتَحَالَفَا ، وَكَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ ، كَذَلِكَ هَاهُنَا ، لِأَنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَ أَحَدُهُمَا بِالدَّعْوَى ، وَتَعَيَّنَ الْآخَرُ بِالْإِنْكَارِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ اخْتِلَافُهُمَا فِي أَصْلِ الْخُلْعِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَدَّعِيَهُ الزَّوْجُ ، وَتُنْكِرَهُ الزَّوْجَةُ أَوْ تَدَّعِيَهُ الزَّوْجَةُ ، وَيُنْكِرَهُ الزَّوْجُ . فَإِنِ ادَّعَاهُ الزَّوْجُ وَأَنْكَرَتْهُ الزَّوْجَةُ فَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ الزَّوْجُ : قَدْ طَلَّقْتُكِ وَاحِدَةً عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فِي ذِمَّتِكِ ، أَوْ عَلَى عَبْدِكِ هَذَا ، فَتَقُولُ : بَلْ طَلَّقْتَنِي مُتَبَرِّعًا بِغَيْرِ بَذْلٍ ، فَإِنْ كَانَ لِلزَّوْجِ بَيِّنَةٌ سُمِعَتْ هِيَ وَشَاهِدَانِ ، أَوْ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ ، أَوْ شَاهِدٌ وَيَمِينٌ ، لِأَنَّهَا بَيِّنَةُ إِثْبَاتِ مَالٍ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الزَّوْجَةِ مَعَ يَمِينِهَا ، لِأَنَّهَا مُنْكِرَةٌ ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا ، إِذَا حَلَفَتْ وَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ بَائِنًا لَا رَجْعَةَ لَهُ فِيهِ لِاعْتِرَافِهِ بِسُقُوطِ رَجْعَتِهِ ، وَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَيْهَا .
فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا كَانَ إِنْكَارُ الزَّوْجَةِ لِلْخُلْعِ مَانِعًا مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا ، كَمَا كَانَ إِنْكَارُ الْمُشْتَرِي لِلشِّرَاءِ مَانِعًا مِنْ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ ، وَالْبَائِعُ مُقِرٌّ لَهُ بِالْمِلْكِ ، كَمَا أَنَّ الزَّوْجَ مُقِرٌّ لَهَا بِالطَّلَاقِ . قِيلَ : لِأَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ فَلَزِمَهُ الطَّلَاقُ بِإِقْرَارِهِ ، وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِتَمْلِيكِ الْمُشْتَرِي ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ التَّمْلِيكُ بِإِقْرَارِهِ ، فَلَوْ عَادَتِ الزَّوْجَةُ بَعْدَ الْإِنْكَارِ وَالْيَمِينِ فَاعْتَرَفَتْ لِلزَّوْجِ بِمَا ادَّعَاهُ مِنَ الْعِوَضِ لَزِمَهَا دَفْعُهُ إِلَيْهِ ، وَلَوْ عَادَ الزَّوْجُ فَصَدَّقَهَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ خَالَعَهَا وَلَا طَلَّقَهَا ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي رَفْعِ الطَّلَاقِ ، وَلَا فِي سُقُوطِ الرَّجْعَةِ ، لِأَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِالتَّحْرِيمِ قُبِلَ مِنْهُ ، وَمَنْ رَجَعَ عَنْهُ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ .
فَصْلٌ : وَإِنِ ادَّعَتْهُ الزَّوْجَةُ وَأَنْكَرَهُ الزَّوْجُ فَصُورَتُهُ أَنْ تَقُولَ الزَّوْجَةُ : قَدْ خَالَعْتَنِي عَلَى طَلْقَةٍ بِأَلْفٍ ، فَيَقُولُ الزَّوْجُ : مَا خَالَعْتُكِ وَلَا طَلَّقْتُكِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ مَا لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجَةِ بَيِّنَةٌ ، فَإِذَا حَلَفَ فَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ ، وَلَا أَلْفَ لَهُ ، وَإِنِ اعْتَرَفَتْ لَهُ الزَّوْجَةُ بِهَا ، لِأَنَّهُ لَمْ يَدَّعِهَا فَإِنْ أَقَامَتِ الزَّوْجَةُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ قُبِلَ يَمِينُهُ أَوْ بَعْدَهَا سُمِعَتْ ، وَبَيِّنَتُهَا شَاهِدَانِ لَا غَيْرَ ، لِأَنَّهَا بَيِّنَةُ إِثْبَاتِ طَلَاقٍ لَا تَثْبُتُ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ ، فَإِنْ عَادَ الزَّوْجُ فَاعْتَرَفَ بِالْخُلْعِ قَبْلَ الْبَيِّنَةِ أَوْ بَعْدَهَا قُضِيَ لَهُ بِالْأَلْفِ ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ قَدْ لَزِمَهُ ، وَالزَّوْجَةُ مُعْتَرِفَةٌ لَهُ بِالْأَلْفِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِي الْخُلْعِ حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا أَوْ مَحْجُورًا عَلَيْهِ أَوْ ذِمِّيًّا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : التَّوْكِيلُ فِي الْخُلْعِ جَائِزٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا [ النِّسَاءِ : ] . وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ لِلْحَكَمَيْنِ أَنْ يُخَالِعَا فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ التَّوْكِيلِ فِي الْخُلْعِ . وَلِأَنَّ عَقْدَ الْخُلْعِ جَامِعٌ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْبَيْعِ ، وَالتَّوْكِيلَ جَائِزٌ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَجَازَ فِيمَا جَمَعَهُمَا . وَلِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ أَغْلَظُ مِنْ رَفْعِهِ بِالْخُلْعِ وَالتَّوْكِيلُ فِي النِّكَاحِ جَائِزٌ فَأَوْلَى أَنْ يَجُوزَ فِي الْخُلْعِ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا جَازَ أَنْ تُوَكِّلَ الزَّوْجَةُ دُونَ الزَّوْجِ ، وَأَنْ يُوَكِّلَ الزَّوْجُ دُونَ الزَّوْجَةِ ، لِأَنَّ الزَّوْجَةَ فِي الْخُلْعِ بِمَنْزِلَةِ الْمُشْتَرِي فِي الْبَيْعِ ، وَالزَّوْجَ بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ وَيَجُوزُ فِي الْبَيْعِ أَنْ يُوَكِّلَ الْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ وَيُوَكِّلَ الْبَائِعُ دُونَ الْمُشْتَرِي ، فَإِذَا تَقَرَّرَ جَوَازُ تَوْكِيلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ فِي الْخُلْعِ فَصِفَةُ الْوَكِيلَيْنِ تَخْتَلِفُ ، لِأَنَّ وَكَالَةَ الزَّوْجَةِ فِي مُعَاوَضَةٍ مَحْضَةٍ ، الشروط المعتبرة في ذلك وَوَكَالَةَ الزَّوْجِ فِي مُعَاوَضَةٍ وَطَلَاقٍ وَالشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ في ذلك فِي وَكَالَتِهِمَا تَنْقَسِمُ فِي حَقِّ الْوَكِيلَيْنِ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ :
أَحَدُهَا : مَا يُعْتَبَرُ فِي حَقِّ الْوَكِيلَيْنِ مَعًا ، وَهُوَ الْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُمَا عَقْدٌ ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِمَا حُكْمٌ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا لَا يُعْتَبَرُ فِي حَقِّ الْوَكِيلَيْنِ مَعًا ، وَهُوَ الْحُرِّيَّةُ وَالْإِسْلَامُ ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا عَبْدَيْنِ وَكَافِرَيْنِ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا حُرَّيْنِ وَمُسْلِمَيْنِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَصِحُّ تَوْكِيلُهُمَا فِي الطَّلَاقِ وَالْبَيْعِ ، فَصَحَّ فِيمَا جَمَعَهُمَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَصِحُّ مِنْهُمَا خُلْعُ أَنْفُسِهِمَا ، فَصَحَّ فِيهِ تَوْكِيلُهُمَا لِغَيْرِهِمَا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا يَكُونُ اعْتِبَارُهُ فِي وَكِيلِ الزَّوْجَةِ أَقْوَى مِنِ اعْتِبَارِهِ فِي وَكِيلِ الزَّوْجِ ، وَهُوَ الرُّشْدُ فَإِنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِي وَكِيلِ الزَّوْجِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِالسَّفَهِ ، لِأَنَّهُ لَوْ خَالَعَ لِنَفْسِهِ جَازَ ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا فِي خُلْعِ غَيْرِهِ ، وَهَلْ يُعْتَبَرُ فِي وَكِيلِ الزَّوْجَةِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُعْتَبَرُ فِي وَكِيلِهَا ، وَإِنْ وَكَّلَتْ سَفِيهًا جَازَ اعْتِبَارًا بِوَكِيلِ الزَّوْجِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُعْتَبَرُ الرُّشْدُ فِي وَكِيلِ الزَّوْجَةِ ، وَإِنْ لَمْ يُعْتَبَرْ فِي وَكِيلِ الزَّوْجِ كَمَا يُعْتَبَرُ رُشْدُ الزَّوْجَةِ فِي الْخُلْعِ ، وَلَا يُعْتَبَرُ رُشْدُ الزَّوْجِ ، فَلِذَلِكَ إِنْ وَكَّلَتِ الزَّوْجَةُ سَفِيهًا لَمْ يَجُزْ ، وَإِنْ وَكَّلَ الزَّوْجُ سَفِيهًا في الخلع جَازَ . : فَإِنْ قِيلَ فَوَكَالَةُ الزَّوْجَةِ مُخْتَصَّةٌ بِمُعَاوَضَةٍ مَحْضَةٍ ثُمَّ الرُّشْدُ فِيهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُعْتَبَرٌ فَوَكَالَةُ الزَّوْجِ الْمُشْتَرِكَةُ فِي طَلَاقٍ وَمُعَاوَضَةٍ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ الرُّشْدُ فِيهَا مُعْتَبَرًا . قِيلَ : لَمَّا تَفَرَّدَتْ وَكَالَةُ الزَّوْجَةِ سفيها في الخلع بِالْمُعَاوَضَةِ تَفَرَّدَتْ بِحُكْمِهَا وَالرُّشْدُ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ مُعْتَبَرٌ فَاعْتُبِرَ فِي وَكَالَتِهَا ، وَلَمَّا كَانَتِ الْمُعَاوَضَةُ فِي وَكَالَةِ الزَّوْجِ تَبَعًا لِلطَّلَاقِ الَّذِي لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الرُّشْدُ ، وَكَانَ التَّبَعُ دَاخِلًا فِي حُكْمِ الْمَتْبُوعِ لَمْ يَكُنِ الرُّشْدُ فِي وَكَالَتِهِ مُعْتَبَرًا . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : مَا يَكُونُ اعْتِبَارُهُ فِي وَكِيلِ الزَّوْجِ أَقْوَى مِنِ اعْتِبَارِهِ فِي وَكِيلِ الزَّوْجَةِ في الخلع امرأة وَهُوَ الذُّكُورِيَّةُ لَا تُعْتَبَرُ فِي وَكَالَةِ الزَّوْجَةِ ، فَإِنْ وَكَّلَتِ امْرَأَةً جَازَ ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ تَتَوَلَّاهُ بِنَفْسِهَا مَعَ أُنُوثَتِهَا جَازَ أَنْ تُوَكَّلَ فِيهِ مِنْ مِثْلِهَا ، وَكَمَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ وَكِيلًا فِي الْبَيْعِ ، وَهَلْ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي وَكِيلِ الزَّوْجِ في الخلع امرأة أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي جَوَازِ تَوْكِيلِ الْمَرْأَةِ فِي الطَّلَاقِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ ، لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ الطَّلَاقَ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ وَكِيلًا فِيهِ ، فَعَلَى هَذَا يُعْتَبَرُ فِي وَكِيلِ الزَّوْجِ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا فِي الطَّلَاقِ ، لِأَنَّهُ لَوْ مَلَّكَهَا الزَّوْجُ طَلَاقَ نَفْسِهَا مَلَكَتْ ، فَجَازَ أَنْ تَكُونَ وَكِيلًا فِي طَلَاقِ غَيْرِهَا ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُوَكِّلَ الزَّوْجُ امْرَأَةً فَصَارَتِ الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي وَكِيلِ الزَّوْجَةِ الْبُلُوغَ وَالْعَقْلَ دُونَ الذُّكُورِيَّةِ ، وَهَلْ يُعْتَبَرُ فِيهِ الرُّشْدُ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ، وَالشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي وَكِيلِ الزَّوْجِ الْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ دُونَ الرُّشْدِ ، وَهَلْ يُعْتَبَرُ فِيهِ الذُّكُورِيَّةُ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِنْ خَلَعَ عَنْهَا بِمَا لَا يَجُوزُ فَالطَّلَاقُ لَا يُرَدُّ وَهُوَ كَشَيْءٍ اشْتَرَاهُ لَهَا فَقَبَضَتْهُ وَاسْتَهْلَكَتْهُ فَعَلَيْهَا قِيمَتُهُ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْوَكِيلِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ضَمِنَ ذَلِكَ لَهُ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ هَذَا عِنْدِي بِشَيْءٍ وَالْخُلْعُ عِنْدَهُ كَالْبَيْعِ فِي أَكْثَرِ مَعَانِيهِ وَإِذَا بَاعَ الْوَكِيلُ مَا وَكَّلَهُ بِهِ صَاحِبُهُ بِمَا لَا يَجُوزُ مِنَ الثَّمَنِ بَطَلَ الْبَيْعُ فَكَذَلِكَ لَمَّا طَلَّقَهَا عَلَيْهِ بِمَا لَا يَجُوزُ مِنَ الْبَدَلِ بَطَلَ الطَّلَاقُ عَنْهُ كَمَا بَطَلَ الْبَيْعُ عَنْهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَقْصُورَةٌ عَلَى وَكَالَةِ الزَّوْجَةِ فَإِذَا وَكَّلَتْ فِي الْخُلْعِ عَنْهَا مَنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا لَهَا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ الْوَكَالَةُ مُطْلَقَةً وكالة المرأة في الخلع . وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ مُقَيَّدَةً . فَإِنْ كَانَتِ الْوَكَالَةُ مُطْلَقَةً فَقَالَتْ لَهُ : خَالِعْ عَنِّي ، وَلَمْ تَذْكُرْ لَهُ مِنَ الْمَالِ جِنْسًا وَلَا قَدْرًا ، فَعَلَى الْوَكِيلِ أَنْ يُخَالِعَ عَنْهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ حَالًّا مِنْ غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الَّتِي هِيَ أَثْمَانٌ وَقِيَمٌ دُونَ الْعُرُوضِ وَالسِّلَعِ ، فَيُعْتَبَرُ فِي إِطْلَاقِهَا جِنْسًا ، وَهُوَ غَالِبُ نَقْدِ الْبَلَدِ ، وَقَدْرًا وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ ، كَمَا يُعْتَبَرُ إِطْلَاقُ الْوَكَالَةِ فِي الشِّرَاءِ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مِنْ غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ ، بِثَمَنِ الْمِثْلِ ، وَالْحُلُولُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مُعْتَبَرٌ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْوَكِيلِ مِنْ أَحَدِ قِسْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُخَالِعَ عَنْهَا بِمَا كَانَ مَأْمُورًا بِهِ فِي إِطْلَاقِ الْوَكَالَةِ مِنْ غَيْرِ مُجَاوَزَةٍ ، وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ حَالًّا مِنْ غَالِبِ النَّقْدِ ، فَخُلْعُهُ لَازِمٌ لِلزَّوْجَةِ ، وَمَضْمُونٌ عَلَيْهَا وَلِلْوَكِيلِ فِي الْعَقْدِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ في الخلع : أَحَدُهَا : أَنْ يَعْقِدَهُ عَلَى مَالٍ مَضْمُونٍ فِي ذِمَّتِهَا . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : عَلَى مَالٍ مَضْمُونٍ فِي ذِمَّتِهِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يُطْلِقَ فَلَا يَشْتَرِطَ أَنْ يَكُونَ فِي ذِمَّتِهَا ، وَلَا فِي ذِمَّتِهِ ، فَإِنْ شَرَطَ أَنْ يَكُونَ فِي ذِمَّتِهَا كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهَا دُونَ الْوَكِيلِ ، وَهَلْ يَكُونُ الْوَكِيلُ مَأْخُوذًا بِاسْتِيفَائِهِ مِنْهَا أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : - وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - أَنَّهُ غَيْرُ مَأْخُوذٍ بِاسْتِيفَائِهِ مِنْهَا ، لِأَنَّ وَكَالَتَهُ مَقْصُورَةٌ عَلَى الْعَقْدِ دُونَ غَيْرِهِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ جَحَدَتْ وَكَالَتَهُ لَمْ يُؤْخَذِ الْوَكِيلُ بِالْغُرْمِ وَلِلزَّوْجِ إِحْلَافُهَا دُونَ الْوَكِيلِ ، وَيَقَعُ طَلَاقُهُ بَائِنًا ، إِنْ أَكْذَبَهَا فِي الْجُحُودِ ، وَرَجْعِيًّا إِنْ صَدَّقَهَا عَلَيْهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : - وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ - أَنَّ الْوَكِيلَ مَأْخُوذٌ بِاسْتِيفَاءِ الْمَالِ مِنْهَا : لِأَنَّهُ مِنْ لَوَازِمِ عَقْدِهِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ جَحَدَتْهُ الْوَكَالَةَ لَزِمَهُ حِينَئِذٍ ذَلِكَ لِلزَّوْجِ لِجُحُودِهَا لَهُ ، وَكَانَ لَهُ إِحْلَافُ الزَّوْجَةِ وَوَقَعَ الطَّلَاقُ بَائِنًا سَوَاءً أَكْذَبَهَا الزَّوْجُ عَلَى الْجُحُودِ أَوْ صَدَّقَهَا ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ إِلَى الْمَالِ مِنْ جِهَةِ الْوَكِيلِ ، وَإِنْ شَرَطَ الْوَكِيلُ فِي الْعَقْدِ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ فِي ذِمَّتِهِ كَانَ ضَامِنًا بِالْعَقْدِ ، وَهَلْ تَضْمَنُهُ الزَّوْجَةُ بِالْعَقْدِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ : أَحَدُهُمَا : تَكُونُ ضَامِنَةً لَهُ بِالْعَقْدِ لِأَجْلِ إِذْنِهَا فِيهِ ، فَعَلَى هَذَا لَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُطَالِبَهَا بِالْمَالِ قَبْلَ غُرْمِهِ وَإِنْ أَبْرَأَهُ الزَّوْجُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا ، وَإِنْ أَخَذَ الزَّوْجُ بِهِ عِوَضًا مِنَ الْوَكِيلِ رَجَعَ الْوَكِيلُ عَلَيْهَا بِالْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ دُونَ قِيمَةِ الْعِوَضِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا لَا تَكُونُ ضَامِنَةً لَهُ بِالْعَقْدِ لِانْقِضَاءِ حَدِّهِ فِي ذِمَّةِ غَيْرِهَا فَعَلَى هَذَا لَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُطَالِبَهَا بِالْمَالِ قَبْلَ غُرْمِهِ وَإِنْ أَبْرَأَهُ الزَّوْجُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا وَإِنْ أَخَذَ الزَّوْجُ بِهِ عِوَضًا مِنَ الْوَكِيلِ رَجَعَ عَلَيْهَا الْوَكِيلُ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَةِ الْعِوَضِ أَوِ الْمُسَمَّى . فَأَمَّا إِذَا أَطْلَقَ الْوَكِيلُ الْعَقْدَ فَلَمْ يَشْتَرِطْ فِي ذِمَّتِهَا وَلَا فِي ذِمَّتِهِ ، في الخلع فَإِنَّهُ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى الْوَكِيلِ فِي حَقِّ الزَّوْجِ لِإِطْلَاقِهِ بِعَقْدٍ قَدْ تَفَرَّدَ بِهِ مَضْمُونًا عَلَى الزَّوْجَةِ فِي حَقِّ الْوَكِيلِ ، لِتَقَدُّمِ إِذْنِهَا لَهُ بِمَا أَوْجَبَ ضَمَانَهُ ، وَهَلْ يَكُونُ ضَامِنَهُ فِي حَقِّ الزَّوْجِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ : أَحَدُهُمَا : يَضْمَنُهُ لِلزَّوْجِ لِنِيَابَةِ الْوَكِيلِ عَنْهَا فِيهِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الزَّوْجُ مُخَيَّرًا بَيْنَ مُطَالَبَتِهَا ، وَمُطَالَبَةِ الْوَكِيلِ ، وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهَا بِذَلِكَ قَبْلَ غُرْمِهِ لِارْتِهَانِ ذِمَّتِهَا بِهِ فِي حَقِّ الزَّوْجِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا غَيْرُ ضَامِنَةٍ لَهُ فِي حَقِّ الزَّوْجِ ، لِأَنَّهَا لَمْ تَتَوَلَّ الْعَقْدَ ، وَلَا سُمِّيَتْ فِيهِ فَعَلَى هَذَا لِلزَّوْجِ مُطَالَبَةُ الْوَكِيلِ وَحْدَهُ ، وَلَيْسَ لَهُ مُطَالَبَتُهَا وَلِلْوَكِيلِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ ذَلِكَ مِنْهَا قَبْلَ الْغُرْمِ ، فَهَذَا حُكْمُ الْخُلْعِ عَنْهَا مُعَجَّلًا بِمَهْرِ الْمِثْلِ مِنْ غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ وَهَذَا الْحُكْمُ لَوْ خَالَعَ عَنْهَا بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ مِنْ غَالِبِ النَّقْدِ لِأَنَّهُ إِذَا لَزِمَهَا الْخُلْعُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ كَانَ بِمَا دُونَهُ أَلْزَمَ ، وَهَكَذَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ مُؤَجَّلًا جَازَ ، وَلَزِمَهَا ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَلْزَمَهَا بِالْمُعَجَّلِ كَانَ بِالْمُؤَجَّلِ أَلْزَمَ ، وَلِأَنَّ لَهَا تَعْجِيلَ الْمُؤَجَّلِ .
فَصْلٌ : وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَعْدِلَ عَمَّا كَانَ يَقْتَضِيهِ إِطْلَاقُ الْعَقْدِ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ إِلَى غَيْرِهِ الوكيل في خلع الزوجة فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَعْدِلَ إِلَى الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ مِنْ جِنْسِهِ كَأَنَّهُ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفًا فَخَالَعَ عَنْهَا بِأَلْفَيْنِ فَالْأَلْفُ الَّتِي هِيَ مَهْرُ الْمِثْلِ لَازِمَةٌ لِلزَّوْجَةِ ، وَفِي الْأَلْفِ الزَّائِدَةِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا بَاطِلَةٌ فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ سَاقِطَةٌ عَنْهَا لِتَعَدِّي الْوَكِيلِ بِهَا ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الْوَكِيلِ فَإِنْ كَانَ قَدْ ضَمِنَ الْعِوَضَ إِمَّا بِالشَّرْطِ أَوْ بِإِطْلَاقِ الْعَقْدِ غَرِمَ الْأَلْفَ الزَّائِدَةَ لِلزَّوْجِ لِدُخُولِهَا فِي ضَمَانِهَا وَإِنْ لَمْ يَضْمَنِ الْعِوَضَ لِاشْتِرَاطِهِ لَهُ فِي ذِمَّةِ الزَّوْجَةِ فِي غُرْمِهِ لِلْأَلْفِ الزَّائِدَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ لَا يَغْرَمُهَا ، لِأَنَّهُ لَمْ يَضْمَنْهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ يَغْرَمُهَا عَلَى قَوْلَيْهِ أَنَّ الْوَكِيلَ مَأْخُوذٌ بِاسْتِيفَاءِ الْعِوَضِ ، وَإِنْ لَمْ يَضْمَنْهَا فِي الِابْتِدَاءِ فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَوِ الْتَزَمَتِ الزَّوْجَةُ الْأَلْفَ الزَّائِدَةَ لِلزَّوْجِ كَانَتْ هِبَةً مِنْهَا لَهُ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِبَذْلِهَا وَقَبُولِهِ وَقَبْضِهِ وَلَا يَبْرَأُ الْوَكِيلُ مِنْ غُرْمِهَا لِلزَّوْجِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْخُلْعَ فِي الْأَلْفِ الزَّائِدَةِ مَوْقُوفٌ عَلَى إِجَازَتِهَا لَا يَبْطُلُ إِلَّا أَنْ تَخْتَارَ الزَّوْجَةُ إِبْطَالَهَا ، لِأَنَّهَا كَالْعَيْبِ الدَّاخِلِ عَلَيْهَا فَأَوْجَبَ خِيَارَهَا كَسَائِرِ الْعُيُوبِ فَإِنِ اخْتَارَتْ فَسْخَ الْأَلْفِ الزَّائِدَةِ سَقَطَتْ عَنْهَا ، وَالْكَلَامُ فِي غُرْمِ الْوَكِيلِ عَلَى مَا مَضَى ، فَإِنِ اخْتَارَتِ الْتِزَامَهَا لَزِمَتْهَا الْأَلْفَانِ بِالْعَقْدِ ، وَلَمْ يَلْزَمِ الْوَكِيلَ غُرْمُهَا . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا فِيهِمَا إِلَّا الْأَلْفُ الَّتِي هِيَ مَهْرُ الْمِثْلِ أَنَّهَا إِذَا الْتَزَمَتِ الْأَلْفَ الزَّائِدَةَ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لِلزَّوْجِ كَانَتْ هِبَةَ تَبَرُّعٍ لَا يَسْقُطُ عَنِ الْوَكِيلِ غُرْمُهَا ، وَإِذَا الْتَزَمَهَا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي كَانَتْ عِوَضًا فِي خُلْعٍ يُسْقِطُ غُرْمَهَا عَنِ الْوَكِيلِ .
فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَعْدِلَ الْوَكِيلُ عَنْ جِنْسِ الْمَهْرِ إِلَى غَيْرِهِ في خلع الزوجة كَأَنَّهُ كَانَ مَهْرُ الْمِثْلِ دَرَاهِمَ فَخَالَعَ عَنْهَا بِغَيْرِ دَرَاهِمَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَعْدِلَ عَنِ الدَّرَاهِمِ إِلَى مَا لَا يُسْتَبَاحُ مِنْ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ فَيُخَالِعَ بِهِ عَنْهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَجْعَلَ الزَّوْجُ طَلَاقَهَا نَاجِزًا عَلَى خَمْرٍ فِي الذِّمَّةِ فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ وَالْخُلْعُ فَاسِدٌ ، وَلِلزَّوْجِ مَهْرُ الْمِثْلِ قَوْلًا وَاحِدًا وَلَا خِيَارَ لِلزَّوْجَةِ فِيهِ وَلَا يَضْمَنُ الْوَكِيلُ إِنْ لَزِمَهُ الضَّمَانُ سِوَاهُ . وَالثَّانِي : أَنْ يَجْعَلَ الطَّلَاقَ مُعَلَّقًا عَلَى خَمْرٍ بِعَيْنِهِ فَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِهِ مَذْهَبَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَقَعُ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْمِلْكِ الْمَفْقُودِ فَعَلَى هَذَا لَا شَيْءَ لِلزَّوْجِ .
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : أَنَّ الطَّلَاقَ وَاقِعٌ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الصِّفَةِ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَسْتَحِقُّ الزَّوْجُ الْخَمْرَ ، لِأَنَّهَا لَا تُمْلَكُ ، وَلَا قِيمَتُهَا ، لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهَا ، وَفِي اسْتِحْقَاقِهِ لِمَهْرِ الْمِثْلِ بَدَلًا مِنْهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا مَهْرَ لَهُ ، لِأَنَّهُ لَا بَدَلَ لِلْخَمْرِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ طَلَاقُهُ رَجْعِيًّا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَهُ مَهْرُ الْمِثْلِ بَدَلًا مِنِ اسْتِهْلَاكِ الْبُضْعِ عَلَيْهِ بِعِوَضٍ فَاسِدٍ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ طَلَاقُهُ بَائِنًا ، وَعَلَى الزَّوْجَةِ غُرْمُ الْمَهْرِ وَضَمَانُ الْوَكِيلِ لَهُ عَلَى مَا مَضَى .
فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَعْدِلَ الْوَكِيلُ عَنِ الدَّرَاهِمِ الَّتِي هِيَ الْغَالِبُ مِنْ نُقُودِ الْمَهْرِ إِلَى غَيْرِهَا مِنَ الْأَمْوَالِ الْمُسْتَبَاحَةِ كَالدَّنَانِيرِ أَوْ كَالْحُلِيِّ وَالثِّيَابِ في خلع الزوجة فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ نَاجِزًا عَلَى مَالٍ فِي الذِّمَّةِ فَلَا يَخْلُو مَا طَلَّقَهَا عَلَيْهِ فِي الذِّمَّةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولًا ، فَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا كَأَنَّهُ طَلَّقَهَا عَلَى ثَوْبٍ أَوْ عَبْدٍ ، وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ مِنْهُ إِلَّا مَهْرُ الْمِثْلِ قَوْلًا وَاحِدًا ، لِأَنَّ الْمَجْهُولَ لَا قِيمَةَ لَهُ ، فَعَلَى هَذَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَلَا خِيَارَ لَهَا ، وَالْكَلَامُ فِي ضَمَانِ الْوَكِيلِ لِمَهْرِ الْمِثْلِ في الخلع إذا كان فِي الذِّمَّةِ مَعْلُومًا عَلَى مَا مَضَى ، وَإِنْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ مَعْلُومًا كَأَنْ خَالَعَهَا عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ وَمَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ فَفِي بُطْلَانِ الْخُلْعِ عَلَى الدَّنَانِيرِ فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْخُلْعَ عَلَيْهَا بَاطِلٌ فِي حَقِّهَا سَوَاءٌ كَانَتْ بِقِيمَةِ الْأَلْفِ الَّتِي هِيَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَوْ أَكْثَرَ وَلَا يَلْزَمُهَا إِلَّا الْأَلْفُ دِرْهَمٍ الَّتِي هِيَ مَهْرُ الْمِثْلِ فَإِنْ رَضِيَ بِهَا الزَّوْجُ لَمْ يَرْجِعْ بِغَيْرِهَا عَلَى الْوَكِيلِ ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ كَانَ لَهُ رَدُّهَا عَلَى الْوَكِيلِ إِنْ كَانَ الْوَكِيلُ ضَامِنًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَمُطَالَبَةُ الْوَكِيلِ بِالْمِائَةِ دِينَارٍ الَّتِي خَالَعَهُ بِهَا فَإِنِ امْتَنَعَ الزَّوْجُ مِنْ قَبْضِ الدَّرَاهِمِ مِنْهَا لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهَا ، وَرَجَعَ عَلَى الْوَكِيلِ بِالدَّنَانِيرِ ، وَرَجَعَ الْوَكِيلُ بِالدَّرَاهِمِ عَلَى الزَّوْجَةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْخُلْعَ عَلَى الدَّنَانِيرِ لَا يَبْطُلُ فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ ، وَيَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَتِهَا ، فَإِنْ أَجَازَتِ الْخُلْعَ بِهَا دَفَعَتْهَا إِلَى الزَّوْجِ وَبَرِئَ مِنْهَا الْوَكِيلُ وَإِنْ فَسَخَتِ الْخُلْعَ وَرَجَعَتْ إِلَى مَهْرِ الْمِثْلِ غَرِمَتِ الْأَلْفَ دِرْهَمٍ ، وَكَانَ الْكَلَامُ فِي رُجُوعِ الزَّوْجِ عَلَى الْوَكِيلِ بِالدَّنَانِيرِ إِنْ كَانَ ضَامِنًا لَهَا عَلَى مَا مَضَى .
فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ مُقَيَّدًا بِعَيْنِ الْمَالِ في خلع الوكيل الزوجة كَأَنَّهُ قَالَ : قَدْ طَلَّقْتُهَا عَلَى هَذَا الْعَبْدِ بِعَيْنِهِ ، فَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِهِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الطَّلَاقِ إِذَا كَانَ عَلَى عِوَضٍ فِي الذِّمَّةِ مِمَّا لَا يَلْزَمُهَا ، هَلْ يَكُونُ الْخُلْعُ بِهِ بَاطِلًا فِي حَقِّهَا أَوْ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَتِهَا ؟ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ بَاطِلٌ لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ هَاهُنَا ، لِأَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِتَمَلُّكِ عَيْنٍ لَمْ تُمَلَّكْ .
وَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى إِجَازَتِهَا وَقَعَ الطَّلَاقُ بَائِنًا ، وَكَانَتْ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْخُلْعِ وَفَسْخِهِ ، فَإِنْ أَمْضَتِ الْخُلْعَ عَلَى ذَلِكَ الْعَبْدِ بِعَيْنِهِ سَلَّمَتْهُ إِلَى الزَّوْجِ وَبَرِئَ الْوَكِيلُ مِنْ ضَمَانِهِ إِنْ لَزِمَهُ الضَّمَانُ ، وَإِنْ فَسَخَتْهُ لَزِمَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ ، فَإِذَا أَخَذَهُ الزَّوْجُ فَإِنْ كَانَ بِقَدْرِ قِيمَةِ الْعَبْدِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْوَكِيلِ بِشَيْءٍ وَلَمْ يَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةَ بِعَيْنِ الْعَبْدِ ، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ ، وَلَيْسَ لَهُ عَلَيْهِ إِلَّا قِيمَتُهُ ، وَقَدْ أَخَذَهَا مِنَ الزَّوْجَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ رَجَعَ الزَّوْجُ عَلَى الْوَكِيلِ إِنْ كَانَ ضَامِنًا بِالْفَاضِلِ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ فَهَذَا حُكْمُ الْوَكَالَةِ إِذَا كَانَتْ مُطْلَقَةً في الخلع .
فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ الْوَكَالَةُ مُقَيَّدَةً في الخلع كَأَنَّهَا ذَكَرَتْ لَهُ جِنْسًا مِنَ الْمَالِ مُقَدَّرًا تَخَالَعَ بِهِ عَنْهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ مَا عَيَّنَتْ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ الْمُخَالَعَةُ بِهِ ، إذا كانت الوكالة مقيدة في خلع الزوجة وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مِنْ وُجُوهٍ إِمَّا لِكَوْنِهِ مَغْصُوبًا ، أَوْ لِكَوْنِهِ مَرْهُونًا ، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ مُحَرَّمًا مِنْ وَقْفٍ أَوْ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُخَالِعَ عَنْهَا مَعَ هَذَا النَّصِّ إِلَّا بِمَهْرِ الْمِثْلِ ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ أَطْلَقَتْ مِنْ غَيْرِ نَصٍّ فَيَكُونُ الْحُكْمُ فِيمَا يَفْعَلُهُ الْوَكِيلُ عَلَى مَا مَضَى مِنَ التَّقْسِيمِ ، لِأَنَّ النَّصَّ غَيْرُ مُقَيَّدٍ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَا نَصَّتْ عَلَيْهِ يَجُوزُ الْخُلْعُ بِهِ إذا كانت الوكالة مقيدة في خلع الزوجة كَأَنَّهَا أَمَرَتْهُ أَنْ يُخَالِعَ عَنْهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ أَوْ بِعَبْدٍ بِعَيْنِهِ فَلِلْوَكِيلِ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يُخَالِعَ بِمَا أَمَرَتْ بِهِ ، وَلَا يَعْدِلَ عَنْهُ ، فَالْخُلْعُ جَائِزٌ ، فَإِنْ كَانَ عَلَى عَبْدٍ بِعَيْنِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ الْوَكِيلُ ، لِأَنَّ الْأَعْيَانَ لَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَمِ ، وَكَانَ مُسَلَّطًا عَلَى تَسْلِيمِ الْعَبْدِ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ ، لِأَنَّ التَّسْلِيمَ مِنْ لَوَازِمِ الْإِذْنِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى مَالٍ فِي الذِّمَّةِ كَانَ ضَمَانُهُ عَلَى الْوَكِيلِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ ، وَهَلْ يَكُونُ الْوَكِيلُ مُسَلَّطًا عَلَى تَسْلِيمِهِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدِ إِذْنٍ أَمْ لَا إذا كانت الوكالة مقيدة في خلع الزوجة عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مُسَلَّطٌ عَلَى تَسْلِيمِهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ كَالْمُعَيَّنِ لِاسْتِحْقَاقِهِمَا مَعًا بِالْإِذْنِ الْمُتَقَدِّمِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إِلَّا بِإِذْنِهَا بِخِلَافِ الْمُعَيَّنِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُعَيَّنَ لَا خِيَارَ لَهَا فِي الْعُدُولِ عَنْهُ فَجَازَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُسَلَّطَ عَلَى أَخْذِهِ ، وَلَهَا فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ أَنْ تَعْدِلَ إِلَى مَا شَاءَتْ مِنْ جِنْسِهِ ، فَلَمْ يَتَسَلَّطِ الْوَكِيلُ عَلَى أَخْذِهِ وَقُطِعَ خِيَارُهَا فِيهِ ، فَلَوْ أَذِنَتْ أَنْ يُخَالِعَ عَنْهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ فَخَالَعَ عَنْهَا بِخَمْسِينَ أَوْ أَذِنَتْ أَنْ يُخَالِعَ عَنْهَا بِعَبْدٍ فَخَالَعَ عَنْهَا بِبَعْضِهِ الوكيل في خلع الزوجة لَزِمَ فِي الْحَالَيْنِ ، لِأَنَّهُ إِذَا لَزِمَهَا بِالْأَكْثَرِ كَانَ الْأَقَلُّ أَلْزَمَ .
فَصْلٌ : وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَعْدِلَ الْوَكِيلُ عَمَّا أَذِنَتْ فِيهِ وَنَصَّتْ عَلَيْهِ إِلَى غَيْرِهِ ، إذا كانت الوكالة مقيدة في خلع الزوجة فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ أَنْ يَعْدِلَ عَنْهُ إِلَى مَهْرِ الْمِثْلِ ، فَالْخُلْعُ جَائِزٌ ، وَمَهْرُ الْمِثْلِ لَازِمٌ لَهَا : لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهَا بِالْمُخَالَفَةِ إِلَّا مَهْرُ الْمِثْلِ ، فَإِذَا عَدَلَ عَنْهُ وَهُوَ مُوجِبٌ مُخَالَفَتَهُ صَارَ فِي اسْتِحْقَاقٍ عَلَيْهَا كَالْمُسْتَحَقِّ فِي مُوَافَقَتِهِ فَتَصِيرُ الْمُخَالَفَةُ فِي حُكْمِ الْمُوَافَقَةِ ، وَقَلَّ أَنْ يَكُونَ هَذَا إِلَّا فِي مَوَاضِعَ نَادِرَةٍ ، فَلَوْ خَالَعَ عَنْهَا بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ كَانَ أَجْوَزَ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَعْدِلَ عَنْ مَهْرِ الْمِثْلِ وَعَمَّا سَمَّتْ إِلَى غَيْرِهِمَا مِمَّا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْأَقْسَامِ فَفِي بُطْلَانِ الْعَقْدِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ بَاطِلٌ ، وَإِنْ وَقَعَ فِيهِ الطَّلَاقُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى خِيَارِهَا فَيَكُونُ فِيهِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَائِهِ وَفَسْخِهِ فَإِذَا قُلْنَا إِنَّهُ بَاطِلٌ فَفِيمَا يَلْزَمُهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : مَهْرُ الْمِثْلِ سَوَاءٌ كَانَ أَكْثَرَ مِمَّا بَذَلَتْ أَوْ أَقَلَّ : لِأَنَّ فَسَادَ الْعَقْدِ يُوجِبُ قِيمَةَ الْمُسْتَهْلَكِ فِيهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : عَلَيْهِمَا أَكْثَرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ مَا بَذَلَتْ : لِأَنَّهَا قَدْ طَابَتْ بِهِ نَفْسًا . مِثَالُهُ : أَنْ تَكُونَ أَذِنَتْ لَهُ أَنْ يُخَالِعَ عَنْهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَخَالَعَ عَنْهَا بِأَلْفَيْنِ ، فَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا خَمْسُمِائَةٍ ، لَزِمَهَا الْأَلْفُ الَّتِي بَذَلَتْ : لِأَنَّهَا أَكْثَرُ وَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ لَزِمَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ . وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ الْعَقْدَ مَوْقُوفٌ عَلَى خِيَارِهَا فَإِنِ اخْتَارَتِ الْإِمْضَاءَ لَزِمَهَا الْمُسَمَّى ، وَإِنِ اخْتَارَتِ الْفَسْخَ فَفِيمَا يَلْزَمُهَا قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى : أَحَدُهُمَا : مَهْرُ الْمِثْلِ لَا غَيْرَ . وَالثَّانِي : أَكْثَرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ مَا بَذَلَتْ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ مُخَالَفَةَ الْوَكِيلِ إذا كانت الوكالة مقيدة في خلع الزوجة مُوجِبَةٌ لَفَسَادِ الْعَقْدِ وَرَفْعِ الطَّلَاقِ ، وَاعْتِبَارًا بِمُخَالَفَةِ وَكِيلِ الزَّوْجِ . قُلْنَا : أَمَّا فَسَادُ الْعَقْدِ بِالْمُخَالَفَةِ فَصَحِيحٌ ، وَأَمَّا رَفْعُ الطَّلَاقِ فِيهِ اعْتِبَارًا بِوَكِيلِ الزَّوْجِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ إِشَارَةً مِنْهُ إِلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، فَهُوَ خَطَأٌ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَذْهَبًا لِنَفْسِهِ ، فَهُوَ مُخْطِئٌ فِيهِ ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ مَعَ فَسَادِ الْخُلْعِ كَمَا يَقَعُ مَعَ صِحَّتِهِ ، وَخَالَفَ الْبَيْعَ فِيهِ وَإِنْ وَافَقَهُ فِي بَعْضِ أَحْكَامِهِ ، وَخَالَفَ وَكِيلُ الزَّوْجِ بِمَا سَنَذْكُرُهُ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَمَا ذَكَرَهُ مِنَ الِاسْتِشْهَادِ بِوَكِيلِ الْبَائِعِ إِذَا خَالَفَ مُوَكِّلَهُ فَوَهْمٌ مِنْهُ : لِأَنَّ
وَكِيلَ الْبَائِعِ يَقُومُ فِي الْخُلْعِ مَقَامَ وَكِيلِ الزَّوْجِ ، وَلَا يَقُومُ مَقَامَ وَكِيلِ الزَّوْجَةِ كَمَا أَنَّ وَكِيلَ الْمُشْتَرِي يَقُومُ مَقَامَ وَكِيلِ الزَّوْجَةِ دُونَ الزَّوْجِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَلَوْ وَكَّلَ مَنْ يُخَالِعُهَا بِمِائَةٍ فَخَالَعَهَا بِخَمْسِينَ فَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ بِمِائَةٍ فَأَعْطَتْهُ خَمْسِينَ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ وَهَذَا بَيَانٌ لِمَا قُلْتُ فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَالَ الْمُزَنِيُّ : هَذَا بَيَانٌ لِمَا قُلْتُ فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا . وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَقْصُورَةٌ عَلَى تَوْكِيلِ الزَّوْجِ فِي الْخُلْعِ عَنْهُ مَنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا لَهُ فِيهِ بِالْوَكَالَةِ لِوَكِيلِهِ عَلَى مَا يُخَالِعُهَا بِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مَا نَصَّ عَلَيْهِ مَعْلُومًا فَيَقُولُ لَهُ : خَالِعْهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ يَقُولُ لَهُ : خَالِعْهَا عَلَى عَبْدِهَا الْفُلَانِيِّ فَعَلَيْهِ أَنْ يُخَالِعَهَا بِمَا سَمَّى مِنْ غَيْرِ مُخَالَفَةٍ فِيهِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الْمُسَمَّى مِنْ غَيْرِ تَجَاوُزٍ عَنْهُ وَلَا تَقْصِيرٍ فِيهِ فَيُخَالِعُ عَنْهُ بِالْأَلْفِ إِنْ كَانَتْ هِيَ الْمُسَمَّاةَ أَوْ بِالْعَبْدِ الْمُعَيَّنِ إِنْ كَانَ هُوَ الْمُسَمَّى ، فَالْخُلْعُ لَازِمٌ ، وَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ ، وَلَهُ قَبْضُ مَا خَالَعَ بِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ الزَّوْجُ مَا لَمْ يَنْهَهُ عَنْ قَبْضِهِ كَالْوَكِيلِ فِي الْبَيْعِ يَجُوزُ لَهُ قَبْضُ الثَّمَنِ ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ مَا لَمْ يَنْهَهُ عَنْهُ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يُخَالِعَ عَنْهُ بِالْمُسَمَّى وَزِيَادَةٍ عَلَيْهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ مِنَ الْجِنْسِ كَأَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يُخَالِعَهَا بِأَلْفٍ ، فَخَالَعَهَا بِأَلْفَيْنِ ، فَالْخُلْعُ صَحِيحٌ ، وَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ : لِأَنَّهُ إِذَا رَضِيَ بِالْأَلْفِ كَانَ بِهَا وَبِالزِّيَادَةِ عَلَيْهَا أَرْضَى ، وَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى رَجُلٍ قَالَ لِزَوْجَتِهِ : إِنْ دَفَعْتِ إِلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَدَفَعَتْ إِلَيْهِ أَلْفَيْنِ طُلِّقَتْ ، وَلَا تَكُونُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا مَانِعَةً مِنْ حُصُولِ الصِّفَةِ بِهَا لِدُخُولِ الْأَلْفِ فِي الْأَلْفَيْنِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْمُسَمَّى مِثْلِ أَنْ يَقُولَ لَهُ : خَالِعْهَا عَلَى أَلْفٍ فَيُخَالِعَهَا عَلَى أَلْفٍ وَعَبْدٍ أَوْ يَقُولَ لَهُ : خَالِعْهَا عَلَى عَبْدٍ فَيُخَالِعَهَا عَلَى عَبْدٍ وَأَلِفٍ فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّ الْخُلْعَ صَحِيحٌ ، وَالطَّلَاقَ وَاقِعٌ لِوُجُودِ الْمُسَمَّى مَعَ هَذِهِ الزِّيَادَةِ لِوُجُودِهِ مَعَ الزِّيَادَةِ مِنَ الْجِنْسِ ، وَكَمَا لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ : إِنْ دَفَعْتِ إِلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَدَفَعَتْ إِلَيْهِ أَلْفًا وَعَبْدًا .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْخُلْعَ بَاطِلٌ ، وَالطَّلَاقَ غَيْرُ وَاقِعٍ ، بِخِلَافِ زِيَادَةِ الْجِنْسِ : لِأَنَّ زِيَادَةَ الْجِنْسِ تَكُونُ تَبَعًا ، فَدَخَلَتْ فِي حُكْمِ الْمَتْبُوعِ ، وَزِيَادَةَ غَيْرِ الْجِنْسِ لَا تَكُونُ تَبَعًا : لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدُ الْجِنْسَيْنِ بِأَنْ يَكُونَ تَبَعًا بِأَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ مَتْبُوعًا ، وَمُخَالَفَةُ الْجِنْسِ تُفْسِدُ الْخُلْعَ كَذَلِكَ الزِّيَادَةُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَقْتَصِرَ مِنَ الْمُسَمَّى عَلَى بَعْضِهِ كَأَنَّهُ سَمَّى لَهُ أَلْفًا فَخَالَعَهَا عَلَى تِسْعِمِائَةٍ أَوْ عَلَى أَلْفٍ إِلَّا دِرْهَمًا أَوْ سَمَّى لَهُ عَبْدًا فَخَالَعَهَا عَلَيْهِ إِلَّا جُزْءًا مِنْهُ وَإِنْ قَلَّ فَالطَّلَاقُ غَيْرُ وَاقِعٍ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يَعْدِلَ عَنْ جِنْسِ الْمُسَمَّى إِلَى غَيْرِهِ ، كَأَنَّهُ سَمَّى لَهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَخَالَعَهَا عَلَى عَبْدٍ ، أَوْ سَمَّى لَهُ عَبْدًا فَخَالَعَهَا عَلَى ثَوْبٍ ، فَالطَّلَاقُ غَيْرُ وَاقِعٍ . وَهَذَانِ الْقِسْمَانِ سَوَاءٌ خَالَفَ فِي الْجِنْسِ أَوْ فِي نُقْصَانِ الْقَدْرِ : لِأَنَّ الصِّفَةَ الَّتِي جُعِلَ الطَّلَاقُ مُعَلَّقًا بِهَا لَمْ تُؤْخَذْ فِي الْحَالَيْنِ فَجَرَى مَجْرَى قَوْلِهِ لَهَا إِنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَأَعْطَتْهُ أَقَلَّ مِنْهَا ، لَمْ تُطَلَّقْ ، وَكَقَوْلِهِ إِنْ أَعْطَيْتِنِي عَبْدًا فَأَعْطَتْهُ ثَوْبًا ، لَمْ تُطَلَّقْ ، وَسَوَاءٌ كَانَ مَا أَعْطَتْهُ بِقِيمَةِ مَا قَالَهُ ، أَوْ أَكَثَرَ : لِأَنَّ الطَّلَاقَ مُعَلَّقٌ بِالصِّفَةِ لَا بِالْقِيمَةِ ، كَذَلِكَ الْوَكِيلُ ، وَفَارَقَ وَكِيلَ الزَّوْجَةِ حَيْثُ وَقَعَ الطَّلَاقُ بِمُخَالَفَتِهِ وَلَمْ يَقَعْ بِمُخَالَفَةِ وَكِيلِ الزَّوْجِ : لِأَنَّ الطَّلَاقَ وَاقِعٌ مِنْ جِهَةِ وَكِيلِ الزَّوْجِ دُونَ الزَّوْجَةِ .
فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَا نَصَّ عَلَيْهِ الزَّوْجُ وَسَمَّاهُ لِوَكِيلِهِ مَجْهُولًا في تَوْكِيلِ الزَّوْجِ فِي الْخُلْعِ عَنْهُ مَنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا لَهُ كَأَنَّهُ قَالَ لَهُ : خَالِعْهَا عَلَى عَبْدٍ ، أَوْ قَالَ عَلَى ثَوْبٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَذْكُرَ نَوْعَ الْعَبْدِ فَيَقُولَ : عَلَى عَبْدٍ هِنْدِيٍّ أَوْ سِنْدِيٍّ ، فَيَجُوزُ وَيَصِحُّ خُلْعُ الْوَكِيلِ ، وَإِنْ لَمْ يَصِفْهُ بِالصِّفَاتِ الْمُسْتَحَقَّةِ فِي السَّلَمِ : لِأَنَّ تِلْكَ الصِّفَاتِ تُسْتَحَقُّ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ لَا فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَلَّا يَذْكُرَ نَوْعَهُ فَفِي صِحَّةِ الْوَكَالَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلَةٌ : لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْعَبِيدِ يُوقِعُ جَهَالَةً فِي التَّوْكِيلِ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَصِحُّ خُلْعُ الْوَكِيلِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : تَصِحُّ الْوَكَالَةُ : لِأَنَّه لَمَّا لَمْ يَلْزَمْ فِي الْوَكَالَةِ ذِكْرُ صِفَاتِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ ذِكْرُ نَوْعِهِ ، فَعَلَى هَذَا إِذَا صَحَّتِ الْوَكَالَةُ ، فَعَلَى الْوَكِيلِ أَنْ يُخَالِعَهَا عَلَى عَبْدٍ مُعَيَّنٍ تَكُونُ قِيمَتُهُ بِقَدْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ فَمَا زَادَ ، فَإِنْ خَالَعَهَا عَلَى عَبْدٍ مَوْصُوفٍ فِي ذِمَّتِهَا بِصِفَاتِ السَّلَمِ فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ تَوْكِيلِ الزَّوْجِ فِي الْخُلْعِ عَنْهُ مَنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا لَهُ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ ، لِأَنَّهُ يَكُونُ مَعْلُومًا بِالصِّفَةِ كَمَا يَكُونُ مَعْلُومًا بِالتَّعْيِينِ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ فِي الذِّمَّةِ مُسَلَّمٌ ، وَفِي السَّلَمِ عُذْرٌ لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْوَكِيلِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ ، إِمَّا أَنْ يُخَالِعَهَا عَلَى عَبْدٍ أَوْ عَلَى غَيْرِ عَبْدٍ ، فَإِنْ خَالَعَهَا عَلَى غَيْرِ عَبْدٍ لَمْ يَجُزْ ، وَلَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ سَوَاءً خَالَعَ بِقَدْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ أَقَلَّ ، وَإِنْ خَالَعَهَا عَلَى عَبْدٍ في تَوْكِيلِ الزَّوْجِ فِي الْخُلْعِ عَنْهُ مَنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا لَهُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهُ بِقَدْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ فَصَاعِدًا فَخُلْعُهُ جَائِزٌ ، وَطَلَاقُهُ وَاقِعٌ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ فَيَكُونُ الْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ أَطْلَقَ الزَّوْجُ الْوَكَالَةَ ، فَخَالَعَ الْوَكِيلُ بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ الْآتِي .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي مِنْ ضَرْبَيِ الْوَكَالَةِ أَنْ تَكُونَ وَكَالَةُ الزَّوْجِ مُطْلَقَةً فَيَقُولُ لِوَكِيلِهِ : خَالِعْ زَوْجَتِي ، وَلَا يَذْكُرُ لَهُ جِنْسًا وَلَا قَدْرًا ، فَالْوَكَالَةُ جَائِزَةٌ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُخَالِعَهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ فَمَا زَادَ . فَإِنْ قِيلَ : أَفَلَيْسَ قَدْ قُلْتُمْ إِنَّهُ إِذَا قَيَّدَ الْوَكَالَةَ بِعَبْدٍ لَمْ يَذْكُرْ نَوْعَهُ لَمْ تَصِحَّ الْوَكَالَةُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْجَهَالَةِ فَأَوْلَى إِذَا أَطْلَقَ الْوَكَالَةَ أَلَّا تَصِحَّ : لِأَنَّهُ أَعْظَمُ جَهَالَةً . قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ فِي تَسْمِيَةِ الْعَبْدِ تَمَلُّكُ مَالٍ مَخْصُوصٍ لَا يُعْلَمُ مَعَ الْجَهَالَةِ فَلَمْ يَصِحَّ ، وَالْمَقْصُودُ فِي الْإِطْلَاقِ مِلْكُ الْبَدَلِ عَنِ الْبُضْعِ وَهُوَ مَعْلُومٌ بِالشَّرْعِ أَنْ يَكُونَ بِقَدْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ مِنْ غَالِبِ النَّقْدِ ، فَلَمْ تُؤَثِّرْ فِيهِ جَهَالَةُ الْعَقْدِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْوَكِيلِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُخَالِعَهَا عَنْهُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ حَالًّا مِنْ نَقْدِ غَالِبِ النَّقْدِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ فَهَذَا الْخُلْعُ مَاضٍ وَالطَّلَاقُ فِيهِ وَاقِعٌ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يُخَالِعَهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ تَوْكِيلِ الزَّوْجِ فِي الْخُلْعِ عَنْهُ مَنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا لَهُ وَزِيَادَةٍ ، فَالْخُلْعُ جَائِزٌ ، سَوَاءٌ كَانَتِ الزِّيَادَةُ مِنْ جِنْسِ الْمَهْرِ ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِ وَجْهًا وَاحِدًا ، بِخِلَافِ الْعَيْنِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُغَلَّبَ فِي التَّعْيِينِ حُكْمُ الطَّلَاقِ بِالصِّفَةِ ، وَمَعَ الْإِطْلَاقِ حُكْمُ الْمُعَاوَضَةِ ، وَالزِّيَادَةُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ أَبَلَغُ فِي الِاحْتِيَاطِ . الْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يُخَالِعَهَا بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ ، وَيَعْدِلَ إِلَى غَيْرِ جِنْسِ مَهْرِ الْمِثْلِ تَوْكِيلِ الزَّوْجِ فِي الْخُلْعِ عَنْهُ مَنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا لَهُ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ . أَحَدُهَا : أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ : لِأَنَّ الْمُخَالَفَةَ لِمَا أَوْجَبَهُ الْإِطْلَاقُ كَمُخَالَفَتِهِ لِمَا أَوْجَبَهُ التَّقْيِيدُ نَصًّا ، وَقَدْ مَنَعَ مُخَالَفَةُ النَّصِّ مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ فَوَجَبَ أَنْ تَمْنَعَ مُخَالَفَةُ الْحُكْمِ مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بَائِنًا ، وَلَهُ مَهْرُ الْمِثْلِ : لِأَنَّ مُخَالَفَةَ مَا تَقَدَّرَ بِالْحُكْمِ اجْتِهَادًا يَقْصُرُ عَنْ حُكْمِ النَّصِّ ، فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَاكِمَ لَوْ أَمْضَى حُكْمًا خَالَفَ فِيهِ نَصًّا بَطَلَ حُكْمُهُ ، وَلَوْ خَالَفَ فِيهِ اجْتِهَادًا لَمْ يَبْطُلْ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّ الزَّوْجَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَاءِ مَا خَالَعَ بِهِ الْوَكِيلُ ، وَأَخْذِ الْعِوَضِ الَّذِي خَالَعَهَا بِهِ ، وَيَقَعُ الطَّلَاقُ بَائِنًا ، وَبَيْنَ فَسْخِهِ وَيَقَعُ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا بِغَيْرِ بَدَلٍ ، وَلَا يَسْتَحِقُّ مَهْرَ الْمِثْلِ : لِأَنَّ الزَّوْجَةَ لَمْ تَبْذُلْهُ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْفَعَ الطَّلَاقَ بَعْدَ وُقُوعِهِ ، لَكِنْ يَرْفَعُ الْبَيْنُونَةَ بِرَدِّ الْعِوَضِ وَبِمِلْكِ الرَّجْعَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ الْخُلْعِ فِي الْمَرَضِ
بَابُ الْخُلْعِ فِي الْمَرَضِ مِنْ كِتَابِ نُشُوزِ الرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَيَجُوزُ الْخُلْعُ فِي الْمَرَضِ كَمَا يَجُوزُ الْبَيْعُ فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الْمَرِيضَ فَخَالَعَهَا بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِهَا ثُمَّ مَاتَ فَجَائِزٌ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : الْخُلْعُ فِي الْمَرَضِ جَائِزٌ ، كَالصِّحَّةِ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَصَحَّ فِي الْمَرَضِ كَالْبَيْعِ ، وَلِأَنَّ الْمَرِيضَ يَصِحُّ طَلَاقُهُ بِغَيْرِ بَدَلٍ ، فَصَحَّ بِالْبَدَلِ كَالصَّحِيحِ ، فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُهُ فِي الْمَرَضِ ، كَجَوَازِهِ فِي الصِّحَّةِ ، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ مَرِيضًا صَحَّ خُلْعُهُ سَوَاءٌ خَالَعَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ أَقَلَّ ، لِأَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ صَحَّ ، فَإِذَا خَالَعَهَا بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ فَأَوْلَى أَنْ يَصِحَّ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا الْخُلْعُ كَالْبَيْعِ إِذَا خَالَعَ بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ أَنْ يَكُونَ مُحَابَاةً فِي الثُّلُثِ كَالْمُحَابَاةِ فِي الْبَيْعِ . قِيلَ : لِأَنَّهُ لَوْ أَزَالَ مِلْكَهُ عَنِ الْبُضْعِ بِالطَّلَاقِ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ صَحَّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا فِي الثُّلُثِ ، فَإِذَا أَزَالَهُ بِقَلِيلِ الْبَدَلِ فَأَوْلَى أَنْ يَصِحَّ ، وَلَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا فِي الثُّلُثِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمَالُ : لِأَنَّهُ لَوْ أَزَالَ مِلْكَهُ عَنْهُ بِالْهِبَةِ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ كَانَ مُعْتَبَرًا مِنَ الثُّلُثِ ، فَكَذَلِكَ إِذَا حَابَى فِيهِ وَاقْتَصَرَ عَلَى قَلِيلِ الْبَدَلِ كَانَ مُعْتَبَرًا مِنَ الثُّلُثِ . فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ كَانَ إِزَالَةُ الْمِلْكِ عَنِ الْمَالِ فِي الْمَرَضِ مُعْتَبَرًا مِنَ الثُّلُثِ ، وَلَمْ يَكُنْ إِزَالَةُ الْمِلْكِ عَنِ الْبُضْعِ مُعْتَبَرًا مِنَ الثُّلُثِ . قِيلَ : إِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي الثُّلُثِ مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْوَرَثَةِ وَمُنْتَقِلًا إِلَيْهِمْ إِرْثًا بِالْمَوْتِ ، وَالْمَالُ مُنْتَقِلٌ إِلَيْهِمْ بِالْإِرْثِ فَكَانَ مُعْتَبَرًا فِي الثُّلُثِ ، وَبُضْعُ الزَّوْجَةِ غَيْرُ مَوْرُوثٍ ، وَلَا مُنْتَقِلٍ إِلَيْهِمْ ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِي الثُّلُثِ ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا فِي مَرَضِهِ ، كَانَ مِنْ ثُلُثِهِ ، لِأَنَّهُ كَانَ مُنْتَقِلًا إِلَيْهِمْ بِمَوْتِهِ ، وَلَوْ أَعْتَقَ أُمَّ وَلَدِهِ فِي مَرَضِهِ كَانَتْ مِنْ أَصْلِ مَالِهِ لَا مِنْ ثُلُثِهِ : لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مُنْتَقِلَةً إِلَيْهِمْ بِمَوْتِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْمَرِيضَةَ فَخَالَعَتْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا ثُمَّ مَاتَتْ مِنْ مَرَضِهَا فما الحكم جَازَ لَهُ مَهْرُ مِثْلِهَا وَكَانَ الْفَضْلُ وَصِيَّةً يُحَاصُّ أَهْلُ الْوَصَايَا بِهَا فِي ثُلُثِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا خَالَعَتِ الْمَرِيضَةُ زَوْجَهَا صَحَّ خُلْعُهَا فَإِنْ خَالَعَتْ بِمَهْرِ الْمِثْلِ فَمَا دُونَ كَانَ مِنْ رَأْسِ مَالِهَا ، وَأَصْلِ تَرِكَتِهَا وَإِنْ خَالَعَتْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ كَانَ الزِّيَادَةُ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ مُحَابَاةً تُعْتَبَرُ مِنَ الثُّلُثِ كَالْوَصَايَا ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ جَمِيعُ مَا تُخَالِعُ بِهِ الْمَرِيضَةُ مُعْتَبَرٌ فِي الثُّلُثِ كَالْوَصَايَا قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ خُرُوجَ الْبُضْعِ مِنْ مِلْكِ الزَّوْجِ لَا قِيمَةَ لَهُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ فِي مَرَضِهِ لَمْ يُعْتَبَرْ مِنْ ثُلُثِهِ ، فَإِذَا بَذَلَتْ لَهُ الزَّوْجَةُ مَالًا فِي مَرَضِهَا عَلَى مَا لَا قِيمَةَ لَهُ فِي خُرُوجِهِ مِنْ مِلْكِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا مِنْ ثُلُثِهَا كَالْهِبَةِ ، وَلِأَنَّ أَجْنَبِيًّا لَوْ خَالَعَ عَنْهَا مِنْ مَالِهِ كَانَ جَمِيعُ مَا بَذَلَهُ مِنْ ثُلُثِهِ ، وَلَوْ كَانَ فِي مُقَابَلَةِ مَالٍ لَكَانَ مِنْ أَصْلِ مَالِهِ كَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ هِيَ الْبَاذِلَةَ وَلِأَنَّ فِي الْخُلْعِ ضَرَرًا يَدْخُلُ عَلَيْهَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا بَذَلَتْهُ مِنْ مَالِهَا . وَالثَّانِي : مَا أَسْقَطَتْهُ مِنْ نَفَقَتِهَا فَكَانَ أَضَرَّ مِنَ الْعَطَايَا وَأَحَقَّ أَنْ يُعْتَبَرَ مِنَ الثُّلُثِ . وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهُ مَالٌ بَذَلَهُ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ فِي مُقَابَلَةِ الْبُضْعِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَهْرُ الْمِثْلِ فِيهِ مُعْتَبَرًا مِنْ أَصْلِ الْمَالِ كَالنِّكَاحِ ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يَصِحُّ مُؤَجَّلًا وَمُعَجَّلًا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عِوَضُ الْمِثْلِ مِنْ أَصْلِ الْمَالِ كَالْبَيْعِ . وَقُلْنَا يَصِحُّ مُعَجَّلًا وَمُؤَجَّلًا احْتِرَازًا مِنَ الْكِتَابَةِ ، وَلِأَنَّ خُلْعَ الزَّوْجِ تَوْفِيرًا عَلَى الْوَرَثَةِ فِي سُقُوطِ مِيرَاثِهِ ، وَهُوَ فِي الْأَغْلَبِ أَكْثَرُ مِمَّا بَذَلَتْ فَكَانَ مَا أَفَادَهُمْ سُقُوطَ مِيرَاثِهِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِأَنَّ الْبُضْعَ لَا قِيمَةَ لَهُ فِي مِلْكِ الزَّوْجِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَا لَا قِيمَةَ لَهُ لَا تَجُوزُ الْمُعَاوَضَةُ فِيهِ كَالْحَشَرَاتِ ، وَلَمَّا جَازَتِ الْمُعَاوَضَةُ عَلَى الْبُضْعِ فِي مِلْكِ الزَّوْجِ بِالْخُلْعِ دَلَّ عَلَى أَنَّ لَهُ قِيمَةً كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ زَوْجَةٌ صَغِيرَةٌ أَرْضَعَتْهَا زَوْجَةٌ لَهُ كَبِيرَةٌ حَتَّى حَرُمَتْ عَلَيْهِ لَزِمَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ عِنْدَنَا سَوَاءٌ قَصَدَتِ التَّحْرِيمَ أَوْ لَمْ تَقْصِدْ ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إِنْ قَصَدَتِ التَّحْرِيمَ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْبُضْعُ مَالًا لِلزَّوْجِ لَمَا لَزِمَهَا لَهُ غُرْمُ قِيمَتِهِ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِالْأَجْنَبِيِّ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَمْلِكِ الْبُضْعَ الَّذِي فِي مُقَابَلَةِ مَا بَذَلَهُ
مِنَ الْمَالِ : فَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ ثُلُثِهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الزَّوْجَةُ : لِأَنَّهَا قَدْ مَلَكَتِ الْبُضْعَ فِي مُقَابَلَةِ مَا بَذَلَتْ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّهَا قَدِ اسْتَضَرَّتْ مِنْ وَجْهَيْنِ : بِمَا بَذَلَتْ مِنْ مَالِهَا وَأَسْقَطَتْهُ مِنْ نَفَقَتِهَا فَالْجَوَابُ أَنَّهَا تَنْتَفِعُ بِذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا قَدْ تَسْتَفِيدُ بِذَلِكَ نِكَاحَ غَيْرِهِ ، وَنَفَقَةً أَكْثَرَ مِنْ نَفَقَتِهِ إِنْ عَاشَتْ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا تُوَفِّرُ عَلَى وَرَثَتِهَا قَدْرَ مِيرَاثِهِ إِنْ مَاتَتْ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ مَا خَالَعَتْ بِهِ فِي مَرَضِهَا مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ يَكُونُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ ، وَمَا زَادَ عَلَيْهِ مِنَ الثُّلُثِ ، فَخَالَعَتْهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ ، في مرض موتها فَإِنْ كَانَتِ الْأَلْفُ قَدْرَ مَهْرِ الْمِثْلِ ، صَحَّ الْخُلْعُ بِهَا سَوَاءٌ تَرَكَتْ غَيْرَ الْأَلْفِ أَمْ لَا ، وَسَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ يُحِيطُ بِالْأَلْفِ أَمْ لَا ، وَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا مِنَ الْأَلْفِ أَرْبَعَمِائَةٍ كَانَ الْبَاقِي مِنَ الْأَلْفِ وَهُوَ سِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ مُحَابَاةً تَكُونُ وَصِيَّةً فِي الثُّلُثِ ، فَإِنِ احْتَمَلَهَا الثُّلُثُ مَضَتْ ، وَهُوَ أَنْ تُخَلِّفَ سِوَى أَلْفِ الْخُلْعِ أَلْفًا وَمِائَتَيْ دِرْهَمٍ ، فَيَأْخُذُ الزَّوْجُ الْأَلْفَ : أَرْبَعُمِائَةٍ مِنْهَا فِي قَدْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ وَسِتُّمِائَةٍ وَصِيَّةً قَدْ خَرَجَتْ مِنَ الثُّلُثِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ إِلَى الْوَرَثَةِ أَلْفٌ وَمِائَتَانِ وَذَلِكَ السِّتُّمِائَةٍ الْخَارِجَةُ بِالْوَصِيَّةِ وَإِنْ لَمْ تُخَلِّفِ الزَّوْجَةُ سِوَى الْأَلْفِ الَّتِي خَالَعَتْ بِهَا كَانَ لِلزَّوْجِ مِنْهَا مَهْرُ الْمِثْلِ وَهُوَ أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَثُلُثُ السِّتِّمِائَةٍ الْبَاقِيَةِ مِنَ الْأَلْفِ وَهُوَ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَصِيَّةً لَهُ فَيَصِيرُ لَهُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَبِالْوَصِيَّةِ سِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ ، وَيَكُونُ الْبَاقِي وَهُوَ أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ لِلْوَرَثَةِ وَهُوَ مِثْلُ مَا خَرَجَ بِالْوَصِيَّةِ فَلَوْ كَانَ عَلَى الزَّوْجَةِ ثَلَاثُمِائَةِ دِرْهَمٍ دَيْنًا ، أَخَذَ الزَّوْجُ مِنَ الْأَلْفِ مَهْرَ الْمِثْلِ ، وَهُوَ أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ ، وَدَفَعَ مِنَ الْبَاقِي قَدْرَ الدَّيْنِ ، وَهُوَ ثَلَاثُمِائَةِ دِرْهَمٍ ، وَأَخَذَ الزَّوْجُ ثُلُثَ مَا بَقِيَ ، وَهُوَ مِائَةُ دِرْهَمٍ ، وَأَخَذَ الْوَرَثَةُ الْبَاقِيَ وَهُوَ مِائَتَا دِرْهَمٍ ، وَهُوَ مِثْلُ مَا خَرَجَ بِالْوَصِيَّةِ ، وَلَوْ كَانَ دَيْنُهَا سِتَّمِائَةِ دِرْهَمٍ وَصَاعِدًا صُرِفَ بَاقِي الْأَلْفِ بَعْدَ مَهْرِ الْمِثْلِ فِي الدَّيْنِ : لِأَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ ، وَلَوْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ قَدْ وَصَّتْ بِثُلُثِ مَالِهَا لِغَيْرِهِ ، كَانَ الزَّوْجُ أَحَقَّ بِالثُّلُثِ فِي بَقِيَّةِ الْأَلْفِ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِ الْوَصَايَا ، لِأَنَّ وَصِيَّتَهَا عَطِيَّةٌ فِي الْمَرَضِ فَقُدِّمَتْ عَلَى الْوَصَايَا بَعْدَ الْمَوْتِ سَوَاءٌ قَبَضَهَا الزَّوْجُ فِي الْحَيَاةِ أَوْ بَعْدَ الْمَوْتِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ كَانَ خُلْعُهَا بِعَبْدٍ يُسَاوِي مِائَةً وَمَهْرُ مِثْلِهَا خَمْسُونَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَخَذَ نِصْفَ الْعَبْدِ وَنِصْفَ مَهْرِ مِثْلِهَا أَوْ يَرُدَّ وَيَرْجِعَ بِمَهْرِ مِثْلِهَا كَمَا لَوِ اشْتَرَاهُ فَاسْتَحَقَّ نِصْفَهُ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ هَذَا عِنْدِي بِشَيْءٍ وَلَكِنْ لَهُ مِنَ الْعَبْدِ مَهْرُ مِثْلِهَا وَمَا بَقِيَ مِنَ الْعَبْدِ بَعْدَ مَهْرِ مِثْلِهَا وَصِيَةٌ لَهُ إِنْ خَرَجَ مِنَ الثُّلُثِ فَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مَا بَقِيَ مِنَ الْعَبْدِ مِنَ الثُّلُثِ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا غَيْرُهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ قَبِلَ وَصِيَّتَهُ وَهُوَ الثُّلُثُ
مِنْ نِصْفِ الْعَبْدِ وَكَانَ مَا بَقِيَ لِلْوَرَثَةِ وَإِنْ شَاءَ رَدَّ الْعَبْدَ وَأَخَذَ مِثْلَهَا لِأَنَّهُ إِذَا صَارَ فِي الْعَبْدِ شِرْكٌ لِغَيْرِهِ فَهُوَ عَيْبٌ يَكُونُ فِيهِ الْخِيَارُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ خَالَعَ زَوْجَتَهُ فِي مَرَضِهَا عَلَى عَبْدٍ يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ ، وَمَهْرُ مِثْلِهَا خَمْسُونَ دِرْهَمًا ، فَإِنْ صَحَّتِ الزَّوْجَةُ مَنْ مَرَضِهَا كَانَ لِلزَّوْجِ جَمِيعُ الْعَبْدِ سَوَاءٌ كَانَ لِلزَّوْجَةِ غَيْرُهُ أَمْ لَا ؛ لِأَنَّ مُحَابَاةَ الْمَرِيضِ إِذَا صَحَّ مَاضِيَةٌ ، وَإِنْ مَاتَتْ مِنْ مَرَضِهَا فَنِصْفُ الْعَبْدِ ، وَهُوَ قَدْرُ مَهْرِ مِثْلِهَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ ، وَنِصْفُهُ الْبَاقِي مُحَابَاةٌ فِي الثُّلُثِ ، وَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَخْرُجَ مِنْ ثُلُثِهَـا . وَالثَّانِي : أَلَّا يَخْرُجَ مِنْ ثُلُثِهَا . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَخْرُجَ بَعْضُهُ مِنَ الثُّلُثِ وَلَا يَخْرُجَ بَاقِيهِ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَخْرُجَ جَمِيعُ النِّصْفِ مِنَ الثُّلُثِ ، وَهُوَ أَنْ تُخَلِّفَ الزَّوْجَةُ مَعَ الْعَبْدِ مِائَةَ دِرْهَمٍ أُخْرَى فَيَأْخُذَ الزَّوْجُ جَمِيعَ الْعَبْدِ ، نِصْفَهُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ ، وَنِصْفَهُ بِالْمُحَابَاةِ ، وَقِيمَتُهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا قَدْ حَصَلَ لِلْوَرَثَةِ مِثْلَاهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ ، وَلَا خِيَارَ لِلزَّوْجِ : لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ جَمِيعَ الْعَبْدِ ، فَلَمْ تَتَفَرَّقْ صَفْقَتُهُ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَعَلَ لَهُ الْخِيَارَ ، لِأَنَّهُ عَاقَدَهَا لِيَكُونَ لَهُ جَمِيعُ الْعَبْدِ عِوَضًا ، وَقَدْ صَارَ لَهُ نِصْفُ الْعَبْدِ عِوَضًا وَنِصْفُهُ وَصِيَّةً فَقَدْ تَفَرَّقَتْ صَفْقَتُهُ فِي الْعَبْدِ حُكْمًا وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ يُوجِبُ الْخِيَارَ لِسُوءِ الْمُشَارَكَةِ فِي التَّفْرِيقِ ، وَلَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِ فِي الْعَبْدِ سُوءُ الْمُشَارَكَةِ ، لِأَنَّهُ صَارَ لَهُ جَمِيعُهُ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ الْخِيَارُ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ أَلَّا يَخْرُجَ مِنْ نِصْفِ الْعَبْدِ الْبَاقِي شَيْءٌ مِنَ الثُّلُثِ : لِأَنَّ عَلَيْهَا دَيْنٌ قَدْ أَحَاطَ بِمَالِهَا ، أحوال من خالعها زوجها على عبد في مرض موتها فَلَا يَمْلِكُ الزَّوْجُ مِنَ الْعَبْدِ إِلَّا نِصْفَهُ ، وَهُوَ قَدْرُ مَهْرِ الْمِثْلِ وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ إِحَاطَةُ الدَّيْنِ بِهِ ، لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَهُ بِعَقْدِ مُعَاوَضَةٍ وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَقَدْ تَفَرَّقَتِ الصَّفْقَةُ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ خَالَعَ بِجَمِيعِ الْعَبْدِ فَحَصَلَ لَهُ نَصِفُهُ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِالْخِيَارِ لِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُقَامِ أَوِ الْفَسْخِ فَإِنْ أَقَامَ عَلَيْهِ فَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرَ النِّصْفِ مِنْهُ ، وَإِنْ فَسَخَ كَانَ لَهُ مَهْرُ الْمِثْلِ ، وَذَلِكَ خَمْسُونَ دِرْهَمًا ، فَإِنْ قِيلَ : مَا اسْتَفَادَ بِالْفَسْخِ زِيَادَةً قِيلَ : قَدِ اسْتَفَادَ أَنْ أَخَذَ نَقْدًا وَأَزَالَ عَنْ نَفْسِهِ سُوءَ الْمُشَارَكَةِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ النِّصْفِ خَارِجًا مِنَ الثُّلُثِ ، وَبَاقِيهِ غَيْرُ خَارِجٍ مِنْهُ ، أحوال من خالعها زوجها على عبد في مرض موتها وَذَلِكَ فِي إِحْدَى حَالَتَيْنِ . إِمَّا أَلَّا يُخَلِّفَ غَيْرَ نِصْفِهِ الْبَاقِي .
وَإِمَّا أَنْ يُخَلِّفَ غَيْرَهُ أَقَلَّ مِنْ مِائَةِ دِرْهَمٍ ، فَإِنْ لَمْ يُخَلِّفْ غَيْرَ النِّصْفِ الْبَاقِي مِنَ الْعَبْدِ كَانَ لِلزَّوْجِ ثُلُثُهُ وَهُوَ السُّدُسُ مِنْ جَمِيعِهِ يُضَافُ إِلَى النِّصْفِ الَّذِي أَخَذَهُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ فَيَصِيرُ لَهُ ثُلُثَا الْعَبْدِ نِصْفُهُ عِوَضًا وَسُدُسُهُ وَصِيَّةً ، وَلَهُ الْخِيَارُ لِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فِيهِ ، فَإِنْ فَسَخَ رَجَعَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ ، فَإِنْ قَالَ آخُذُ السُّدُسَ وَصِيَّةً وَأَفْسَخُ فِي النِّصْفِ لَا رَجْعَ فِي بَدَلِهِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ . قِيلَ : لَيْسَ لَكَ ذَلِكَ لِأَنَّهَا مُحَابَاةٌ فِي مُعَارَضَةٍ لَا تُسْتَحَقُّ إِلَّا مَعَهَا كَالْمُحَابَاةِ فِي الْبَيْعِ وَإِنْ تَرَكَتِ الزَّوْجَةُ مَعَ نِصْفِ الْعَبْدِ أَقَلَّ مِنْ مِائَةِ دِرْهَمٍ ضُمَّ إِلَى نِصْفِ الْعَبْدِ ، وَأُمْضِيَ لِلزَّوْجِ مِنَ الْعَبْدِ مَا احْتَمَلَهُ ثُلُثُ الْجَمِيعِ . مِثَالُهُ : أَنْ تَكُونَ قَدْ خَلَّفَتْ مَعَ الْبَاقِي مِنْ نِصْفِ الْعَبْدِ خَمْسِينَ دِرْهَمًا ، فَإِذَا ضُمَّتْ إِلَى قِيمَةِ النِّصْفِ صَارَتْ مِائَةَ دِرْهَمٍ ، فَيَكُونُ لِلزَّوْجِ ثُلُثُهَا ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ دِرْهَمًا وَثُلُثُ دِرْهَمٍ فَيَأْخُذُ بِهَا ثُلُثَيِ النِّصْفِ الْبَاقِي مِنَ الْعَبْدِ ، وَهُوَ ثُلُثُ الْجَمِيعِ فَيَصِيرُ لِلزَّوْجِ خَمْسَةُ أَسْدَاسِهِ بِالْعِوَضِ وَالْوَصِيَّةِ فَيَكُونُ الزَّوْجُ لِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ بِالسُّدُسِ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْمُقَامِ عَلَيْهِ ، أَوِ الْفَسْخِ وَالرُّجُوعِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَحْدَهُ ، وَلَوْ كَانَتْ خَلَّفَتْ غَيْرَ النِّصْفِ مِنَ الْعَبْدِ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا ضُمَّتْ إِلَى النِّصْفِ فَصَارَتْ تَرِكَتُهَا خَمْسَةً وَسَبْعِينَ دِرْهَمًا لِلزَّوْجِ ثُلُثُهَا خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا ، يَأْخُذُ بِهَا نِصْفَ الْبَاقِي مِنَ الْعَبْدِ وَهُوَ رُبُعُ جَمِيعِهِ فَيَحْصُلُ لَهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ بِالْعِوَضِ وَالْوَصِيَّةِ ، وَهُوَ لِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ بِرُبُعِهِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْمُقَامِ أَوِ الْفَسْخِ وَالرُّجُوعِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ اعْتَرَضَ عَلَى الشَّافِعِيِّ اعْتِرَاضًا تَعْلِيلُهُ فِيهِ صَحِيحٌ وَوَهْمُهُ فِي تَأْوِيلِهِ فَسْخٌ ، وَهُوَ أَنَّهُ نَقَلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِذَا خَالَعَهَا عَلَى عَبْدٍ يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ لَا مَالَ لَهَا غَيْرُهُ ، وَمَهْرُ مِثْلِهَا خَمْسُونَ أَنَّ لَهُ نِصْفَ الْعَبْدِ وَنِصْفَ مَهْرِ مِثْلِهَا : هُوَ رُبُعُ الْعَبْدِ فَيَكُونُ لَهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْعَبْدِ فَقَالَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهُ ثُلُثُ مَهْرِ مِثْلِهَا وَهُوَ سُدُسُ الْعَبْدِ فَيَصِيرُ لِلزَّوْجِ ثُلُثَا الْعَبْدِ : وَهَذَا صَحِيحٌ فِي التَّعْلِيلِ وَلِمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ تَأْوِيلٌ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ : لَهُ نِصْفُ الْعَبْدِ وَنَصِفُهُ مَهْرُ مِثْلِهَا تَعْلِيلًا لِلنِّصْفِ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ الزَّوْجُ : لِأَنَّهُ مَهْرُ مِثْلِهَا ، وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الشَّافِعِيُّ لِمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ نِصْفِهِ الْبَاقِي بِالْوَصِيَّةِ : لِأَنَّهُ ثُلُثٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ ، فَحَذَفَ الْكَاتِبُ الْهَاءَ مِنْ ( نِصْفُهُ ) وَنَقَلَ ( لَهُ نِصْفُ الْعَبْدِ وَنِصْفُ مَهْرِ مِثْلِهَا ) وَلِحَذْفِ الْهَاءِ مَا تَوَجَّهَ اعْتِرَاضُ الْمُزَنِيِّ . وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي : أَنَّ مَسْأَلَةَ الشَّافِعِيِّ مُصَوَّرَةٌ عَلَى أَنَّهَا خَلَّفَتْ مَعَ الْعَبْدِ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا فَصَارَتْ تَرِكَتُهَا مَعَ نِصْفِ الْعَبْدِ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ لِلزَّوْجِ ثُلُثُهَا وَهُوَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا ، يَدْخُلُ بِهَا نِصْفُ النِّصْفِ الْبَاقِي مِنَ الْعَبْدِ ، وَهُوَ نِصْفُ مَهْرِ مِثْلِهَا وَقَدْ
نَقَلَهَا الرَّبِيعُ فِي كِتَابِ الْأُمِّ ، إِذَا خَالَعَهَا عَلَى دَارٍ قِيمَتُهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ ، وَتَرَكَتْ مَعَهَا خَمْسَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا ، وَكَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا خَمْسِينَ دِرْهَمًا ، فَلَهُ نِصْفُ الدَّارِ ، وَنِصْفُ مَهْرِ مِثْلِهَا فَجُعِلَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الدَّارِ ، فَنَقَلَ الْمُزَنِيُّ خُلْعَ الدَّارِ إِلَى الْعَبْدِ ، وَغَفَلَ عَنْ نَقْلِ مَا خَلَّفَتْهُ مَعَهُ وَهُوَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا ، وَنَقَلَ الْجَوَابَ عَلَى حَالِهِ فَتَوَجَّهَ لَهُ الِاعْتِرَاضُ الَّذِي ذَكَرَهُ لِسِعَتِهِ فِي النَّقْلِ وَوَهْمِهِ فِي التَّأْوِيلِ . وَالتَّأْوِيلُ الثَّالِثُ : أَنَّ مَسْأَلَةَ الشَّافِعِيِّ مُصَوَّرَةٌ فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَتَهُ عَلَى مَهْرٍ فَاسِدٍ ، فَوَجَبَ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ ، ثُمَّ خَالَعَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فِي مَرَضِهَا عَلَى عَبْدٍ قِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ لَا مَالَ لَهَا غَيْرُهُ ، وَمَهْرُ مِثْلِهَا خَمْسُونَ دِرْهَمًا ، فَلَهُ نِصْفُ الْعَبْدِ بِالْخُلْعِ عِوَضًا ، وَنِصْفُ مَهْرِ مِثْلِهَا بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ ، فَذَكَرَ مَا مَلَكَهُ بِالْخُلْعِ وَمَا مَلَكَهُ بِالطَّلَاقِ وَلَمْ يَعْرِضْ لِمَا مَلَكَهُ بِالْوَصِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَبَرٌ مِنَ الثُّلُثِ ، وَقَدْ أَفْصَحَ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا فِي بَعْضِ كُتُبِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ خُلْعِ الْمُشْرِكِينَ
بَابُ خُلْعِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ كِتَابِ نُشُوزِ الرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " إِنِ اخْتَلَعَتِ الذِّمِّيَّةُ بِخَمْرٍ أَوْ بِخَنْزِيرٍ فَدَفَعَتْهُ ثُمَّ تَرَافَعَا إِلَيْنَا أَجَزْنَا الْخُلْعَ وَالْقَبْضَ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ دَفَعَتْهُ جَعَلْنَا لَهُ عَلَيْهَا مَهْرَ مِثْلِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ كَمَا قَالَ خُلْعُ الْمُشْرِكِينَ جَائِزٌ كَالْمُسْلِمِينَ ، لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ كَالْبَيْعِ ، وَلِأَنَّهُ حِلُّ نِكَاحٍ كَالطَّلَاقِ ، وَلَا يَخْلُو حَالُ الْعِوَضِ فِيهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ حَلَالًا أَوْ حَرَامًا ، فَإِنْ كَانَ حَلَالًا يَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِعَ بِهِ الزَّوْجَانِ الْمُسْلِمَانِ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ ، وَمَا كَانَ مَعْلُومًا مِنَ الْعُرُوضِ وَالسِّلَعِ صَحَّ خُلْعُهُمَا بِهِ ، فَإِنْ تَرَافَعَا إِلَيْنَا أَمْضَيْنَاهُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ ، وَإِنْ كَانَ حَرَامًا مِنْ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ ، فَإِنْ لَمْ يَتَرَافَعَا إِلَيْنَا فِيهِ أُقِرَّا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِرَاضٍ عَلَيْهِمَا لِاسْتِهْلَاكِهِمَا ذَلِكَ فِي شِرْكِهِمَا ، فَكَانَ عَفْوًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا [ الْبَقَرَةِ : ] ، فَعَفَا عَمَّا مَضَى ، وَحَرَّمَ مَا بَقِيَ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ لَزِمَهُ الطَّلَاقُ بَائِنًا وَبَرِئَتْ مِنَ الْعِوَضِ بِالْقَبْضِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَتَرَافَعَا إِلَيْنَا قَبْلَ قَبْضِهِ ، فَلَا يَجُوزُ لِحَاكِمِنَا أَنْ يَحْكُمَ فِي خُلْعِهِمَا بِإِقْبَاضِ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ [ الشُّورَى : ] وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أُوقِعُ الطَّلَاقُ بَائِنًا ، وَأُبْطِلَ الْخَمْرُ وَالْخِنْزِيرُ ، وَحُكِمَ عَلَيْهَا لِلزَّوْجِ بِمَهْرِ مِثْلِهَا ، لِأَنَّ فَسَادَ الْخُلْعِ بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ يُوجِبُ الطَّلَاقَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَتَرَافَعَا إِلَيْنَا بَعْدَ أَنْ تَقَابَضَا بَعْضَهُ ، وَبَقِيَ بَعْضُهُ ، فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ بَائِنًا ، وَيَمْضِي مِنَ الْخُلْعِ مَا تَقَابَضَاهُ ، وَيَبْطُلُ مِنْهُ مَا بَقِيَ ، وَيُحْكَمُ فِيهِ بِقِسْطِهِ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ ، كَأَنَّهُ خَالَعَهَا عَلَى عَشَرَةِ خَنَازِيرَ ، فَأَقْبَضَتْهُ مِنْهَا خَمْسَةً ، وَبَقِيَ مِنْهَا خَمْسَةٌ ، فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْ نِصْفِ الْبَدَلِ ، وَبَقِيَ عَلَيْهَا نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ ، فَلَوْ كَانَ قَدْ خَالَعَهَا عَلَى عَشَرَةِ خَنَازِيرَ وَعِشْرِينَ زِقًّا مِنْ خَمْرٍ ، وَتَقَابَضَا الْخَنَازِيرَ وَبَقِيَ الْخَمْرُ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَمْيِيزِ الْجِنْسَيْنِ وَتَسَاوِيهِمَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمَا يَتَمَيَّزَانِ فِي الْحُكْمِ لِتَمَيُّزِهِمَا فِي الْجِنْسِ ، فَعَلَى هَذَا يَغْلِبُ اعْتِبَارُ
الْجِنْسَيْنِ ، وَيَتَقَسَّطُ الْمَهْرُ عَلَيْهِمَا فَتَكُونُ الْخَنَازِيرُ فِي مُقَابَلَةِ النِّصْفِ ، فَتَبْرَأُ مِنْ نِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ وَتَكُونُ الْخَمْرُ فِي مُقَابَلَةِ النِّصْفِ فَيَلْزَمُهَا نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْجِنْسَيْنِ لَا يَتَمَيَّزَانِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي التَّحْرِيمِ ، وَيَتَقَسَّطُ مَهْرُ الْمِثْلِ عَلَى أَعْدَادِهِمَا وَهُمَا ثَلَاثُونَ فَتَكُونُ الْعَشَرَةُ خَنَازِيرَ فِي مُقَابَلَةِ ثُلُثِ مَهْرِ الْمِثْلِ فَيَبْرَأُ مِنْ ثُلُثِهِ ، وَتَبْقَى الْعِشْرُونَ زِقًّا فِي مُقَابَلَةِ ثُلُثَيِ الْمَهْرِ ، فَيَلْزَمُهَا ثُلُثَانِ . فَلَوْ تَقَابَضَا قَبْلَ التَّرَافُعِ إِلَيْنَا خَمْسَةَ خَنَازِيرَ ، وَخَمْسَةَ أَزْقَاقِ خَمْرٍ ، فَإِنْ قُلْنَا بِاعْتِبَارِ الْجِنْسَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ بَرِئَتْ مِنْ ثَلَاثَةِ أَثْمَانِ مَهْرِ الْمِثْلِ ، وَبَقِيَ عَلَيْهَا خَمْسَةُ أَثْمَانِهِ : لِأَنَّ الْخَمْسَةَ خَنَازِيرَ مِنَ الْعَشْرَةِ فِي مُقَابَلَةِ الرُّبُعِ ، وَالْخَمْسَةَ الْأَزْقَاقِ مِنَ الْعِشْرِينَ فِي مُقَابَلَةِ الثُّمُنِ ، فَصَارَتْ ثَلَاثَةُ أَثْمَانٍ ، وَإِنْ قُلْنَا بِاعْتِبَارِ الْعَدَدَيْنِ دُونَ الْجِنْسَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي بَرِئَتْ مِنْ ثُلُثِ مَهْرِ الْمِثْلِ : لِأَنَّهَا أَقَبَضَتْهُ عَشَرَةً مِنْ ثَلَاثِينَ وَيَبْقَى عَلَيْهَا ثُلُثَا مَهْرِ الْمِثْلِ ، وَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الصَّدَاقِ سَوَاءً .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَهَكَذَا أَهْلُ الْحَرْبِ إِلَّا أَنَّا لَا نَحْكُمُ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَجْتَمِعُوا عَلَى الرِّضَا وَنَحْكُمُ عَلَى الذِّمِّيَّيْنِ إِذَا جَاءَانَا أَوْ أَحَدُهُمَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : لَا فَرْقَ بَيْنَ خُلْعِ الذِّمِّيَّيْنِ وَخُلْعِ الْمُعَاهَدَيْنِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ إِذَا تَرَافَعَا إِلَيْنَا ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي الْتِزَامِ أَحْكَامِنَا فَإِنْ كَانَا مُعَاهَدَيْنِ لَمْ يُؤْخْذَا بِالْتِزَامِ أَحْكَامِنَا وَلَا يَلْزَمُنَا الْحُكْمُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ دَارٍ لَا تَجْرِي عَلَيْهَا أَحْكَامُنَا ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [ الْمَائِدَةِ : ] ، فَخَيَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ ، أي أهل الذمة هل يجب لِأَنَّ أَحْكَامَهُ لَا تَلْزَمُهُمْ ، وَإِنْ كَانَا ذِمِّيَّيْنِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَا عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ كَيَهُودِيَّيْن أَوْ نَصْرَانِيَّيْنِ فَفِي وُجُوبِ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ مَضَتْ : أَحَدُهَا : يَجِبُ عَلَى حَاكِمِنَا أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ، وَعَلَيْهِمْ إِذَا حَكَمَ أَنْ يَلْتَزِمُوا حُكْمَهُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [ التَّوْبَةِ : ] ، وَالصَّغَارُ أَنْ تَجْرِيَ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ وَلِأَنَّهُمْ فِي دَارٍ تَنْفُذُ فِيهَا أَحْكَامُنَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ حَاكِمَنَا بِالْخِيَارِ فِي الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ وَهُمْ إِذَا حَكَمَ بَيْنَهُمْ بِالْخِيَارِ فِي الْتِزَامِ حُكْمِهِ كَأَهْلِ الْعَهْدِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْكُفْرِ ، وَإِقْرَارِنَا لَهُمَا جَمِيعًا عَلَيْهِ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثِ : أَنَّهُ إِنْ كَانَ فِي حَقٍّ لِآدَمِيٍّ لَزِمَنَا أَنْ نَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ، وَأُخِذُوا جَبْرًا بِالْتِزَامِهِ ، لِأَنَّ دَارَنَا تَمْنَعُ مِنَ التَّظَالُمِ ، وَإِنْ كَانَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ حَاكِمُنَا مُخَيَّرًا فِي الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ ، وَكَانُوا مُخَيَّرِينَ فِي الْتِزَامِ حُكْمِهِ لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ فِي كُفْرِهِمْ أَعْظَمُ ، وَقَدْ أُقِرُّوا عَلَيْهِ فَكَانَ مَا سِوَاهُ أَوْلَى ، وَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَحَقُّ الْخُلْعِ مِنَ الْحُقُوقِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ
حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي التَّحْرِيمِ بِالطَّلَاقِ ، وَبَيْنَ حَقِّ الْآدَمِيِّينَ فِي اسْتِحْقَاقِ الْعِوَضِ ، فَيَكُونُ فِي وُجُوبِ الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا وَالْتِزَامِهِمَا قَوْلَانِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَا عَلَى دِينَيْنِ أَحَدُهُمَا يَهُودِيٌّ ، وَالْآخَرُ نَصْرَانِيٌّ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ كَالدِّينِ الْوَاحِدِ ، لِأَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ ، فَيَكُونُ لُزُومُ الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْأَقَاوِيلِ الثَّلَاثَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُمَا يَتَمَيَّزَانِ بِاخْتِلَافِ الدِّينَيْنِ عَنِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ فِيهِ : لِأَنَّهُمَا فِي التَّسَاوِي مُتَّفِقَانِ عَلَى حُكْمِ دِينِهِمَا ، فَأُقِرَّا عَلَيْهِ ، وَفَى الِاخْتِلَافِ غَيْرُ مُتَّفِقَيْنِ فَوَجَبَ الْعُدُولُ بِهِمَا إِلَى دِينِ الْحَقِّ وَهُوَ الْإِسْلَامُ ، قَطْعًا لِلتَّنَازُعِ فِي الْبَاطِلِ ، فَعَلَى هَذَا يَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمَا وَيُؤْخَذَا جَبْرًا بِالْتِزَامِ حُكْمِهِ ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْحُكْمُ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَبَيْنَ ذِمِّيَّةٍ أَوْ مُعَاهَدٍ فَوَاجِبٌ عَلَى حَاكِمِنَا أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمَا وَيَأْخُذَهَا جَبْرًا بِالْتِزَامِ حُكْمِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْلِمُ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْصُرُهُ مَظْلُومًا فَكَيْفَ أَنْصُرُهُ ظَالِمًا قَالَ تَرُدُّهُ عَنْ ظُلْمِهِ .
فَصْلٌ : لَا يَجُوزُ لِوَلِيِّ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ مِنْ أَبٍ وَلَا غَيْرِهِ أَنْ يُطَلِّقَ عَنْهُ ، وَلَا يُخَالِعَ فَإِنْ طَلَّقَ لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ ، وَلَمْ يَصِحَّ خُلْعُهُ . وَقَالَ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ : يَجُوزُ أَنْ يُطَلِّقَ عَنْهُ بِعِوَضٍ وَغَيْرِ عِوَضٍ ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لِوَلِيِّهِ أَنْ يُمَلِّكَهُ لِلْبُضْعِ بِالنِّكَاحِ جَازَ لَهُ أَنْ يُزِيلَ مِلْكَهُ عَنْهُ بِالطَّلَاقِ كَالْمَالِ . وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَمَالِكٌ : يَجُوزُ أَنْ يُطَلِّقَ عَنْهُ بِعِوَضٍ ، وَلَا يَجُوزَ أَنْ يُطَلِّقَ عَنْهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ : لِأَنَّ طَلَاقَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ كَالْبَيْعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ كَالْهِبَةِ ، وَلِوَلِيِّهِ أَنْ يَبِيعَ مَالَهُ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَهَبَهُ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّلَاقُ لِمَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ مَعْنَاهُ إِنَّمَا يَمْلِكُ الطَّلَاقَ مَنْ مَلَكَ الْأَخْذَ بِالسَّاقِ ، يَعْنِي الْبُضْعَ ، وَالْوَلِيُّ لَا يَمْلِكُ الْبُضْعَ ، فَلَمْ يَمْلِكِ الطَّلَاقَ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَمْلِكِ الْبُضْعَ لَمْ يَمْلِكْ بِنَفْسِهِ الطَّلَاقَ كَالْأَجْنَبِيِّ وَالْوَكِيلِ فِي الطَّلَاقِ لَا يَمْلِكُ بِنَفْسِهِ ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُ إِيقَاعَهُ مُوَكِّلُهُ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ بِالنِّكَاحِ فَهُوَ أَنَّ النِّكَاحَ تَمْلِيكٌ فَصَحَّ مِنَ الْوَلِيِّ ، كَمَا يَصِحُّ مِنْهُ قَبُولُ الْهِبَةِ ، وَالطَّلَاقُ إِزَالَةُ مِلْكٍ فَلَمْ يَصِحَّ مِنَ الْوَلِيِّ كَمَا لَا يَصِحُّ مِنْهُ بَذْلُ الْهِبَةِ .
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ الزُّهْرِيِّ وَمَالِكٍ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ فَهُوَ أَنَّ الْمُغَلَّبَ فِي الْخُلْعِ حُكْمُ الطَّلَاقِ دُونَ الْعِوَضِ ، وَالطَّلَاقُ لَا يَمْلِكُهُ الْوَلِيُّ مُنْفَرِدًا كَالْأَجْنَبِيِّ فَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُهُ مَعَ غَيْرِهِ كَالْأَجْنَبِيِّ .
فَصْلٌ : إِذَا خَالَعَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ عَلَى أَلْفٍ وَأَعْطَاهَا عَبْدًا فما الحكم فَقَدْ صَارَ بَائِعًا لِلْعَبْدِ وَمُخَالِعًا عَنِ الْبُضْعِ بِأَلْفٍ فَصَارَ عَقْدُهُ قَدْ جَمَعَ بَيْعًا وَخُلْعًا فَكَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ بَاطِلٌ فِيهِمَا وَيَقَعُ طَلَاقُهُ بَائِنًا ، وَيَكُونُ لَهُ عَلَيْهَا مَهْرُ مِثْلِهَا ، وَيَرُدُّ الْأَلْفَ عَلَيْهَا ، وَتَرُدُّ الْعَبْدَ عَلَيْهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ جَائِزٌ فِيهِمَا ، وَيَكُونُ مَا قَابَلَ الْعَبْدَ مِنَ الْأَلْفِ ثَمَنًا ، وَمَا قَابَلَ الْبُضْعَ مِنَ الْأَلْفِ خُلْعًا ، فَيُقَالُ : كَمْ قِيمَةُ الْعَبْدِ ؟ فَإِذَا قِيلَ : أَلْفٌ . قِيلَ : وَكَمْ مَهْرُ الْمِثْلِ ؟ فَإِذَا قِيلَ : خَمْسُمِائَةٍ كَانَ ثُلُثَا الْأَلْفِ ثَمَنًا وَثُلُثُهَا خُلْعًا ، فَإِذَا رَدَّتِ الْعَبْدَ بِعَيْبٍ رَجَعَتْ عَلَيْهِ بِثُلُثَيِ الْأَلْفِ سِتِّمِائَةٍ وَسِتَّةٍ وَسِتِّينَ دِرْهَمًا وَثُلُثَيْ دِرْهَمٍ . وَلَوْ خَالَعَهَا عَلَى عَبْدٍ وَأَعْطَاهَا أَلْفًا صَارَ مُتَمَلِّكًا لِلْعَبْدِ بِبُضْعِهَا وَبِأَلْفٍ فَيَكُونُ مَا قَابَلَ الْأَلْفَ مِنَ الْعَبْدِ مَبِيعًا ، وَمَا قَابَلَ مَهْرَ الْمِثْلِ مِنَ الْعَبْدِ خُلْعًا ، فَيُقَالُ : كَمْ مَهْرُ الْمِثْلِ ، فَإِذَا قِيلَ : أَلْفٌ ضُمَّتْ إِلَى الْأَلْفِ الَّتِي بَذَلَهَا الزَّوْجُ فَصَارَتْ أَلْفَيْنِ فِي مُقَابَلَةِ الْعَبْدِ ، فَيَكُونُ نِصْفُ الْعَبْدِ مَبِيعًا بِأَلْفٍ ، وَنِصْفُهُ عِوَضًا عَنِ الْبُضْعِ ، فَإِنْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَأَرَادَ رَدَّ جَمِيعِهِ فِي الْبَيْعِ وَالْخُلْعِ جَازَ وَرَجَعَ عَلَيْهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ الَّذِي هُوَ أَلْفٌ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَرُدَّ مِنْهُ الْمَبِيعَ دُونَ الْخُلْعِ أَوِ الْخُلْعَ دُونَ الْمَبِيعِ فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهَا . وَقِيلَ : إِمَّا أَنْ يَرُدَّ جَمِيعَهُ ، أَوْ يُمْسِكَ جَمِيعَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَهُ ذَلِكَ ، لِأَنَّهُمَا عَقْدَانِ يَنْفَرِدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحُكْمِهِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ رَدَّ الْمَبِيعَ مِنْهُ رَجَعَ بِالْأَلْفِ وَإِنْ رَدَّ الْخُلْعَ مِنْهُ رَجَعَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
_____كِتَابُ الطَّلَاقِ _____
بَابُ إِبَاحَةِ الطَّلَاقِ وَوَجْهِهِ وَتَفْرِيَعِهِ
بيان الأصل في إِبَاحَةِ الطَّلَاقِ
كِتَابُ الطَّلَاقِ بَابُ إِبَاحَةِ الطَّلَاقِ وَوَجْهِهِ وَتَفْرِيَعِهِ مِنَ الْجَامِعِ مِنْ كِتَابِ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ وَمِنْ إِبَاحَةِ الطَّلَاقِ وَمِنْ جِمَاعِ عِشْرَةِ النِّسَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَقَدْ قُرِئَتْ : لِقَبْلِ " عِدَّتِهِنَّ " ( قَالَ ) وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : الْأَصْلُ فِي إِبَاحَةِ الطَّلَاقِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ حكم الطلاق . أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [ الطَّلَاقِ : ] ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ خِطَابًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ عَامُّ الْحُكْمِ فِيهِ وَفِي جَمِيعِ أُمَّتِهِ . فَهُوَ مِنَ الْخَاصِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْعُمُومُ . فَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَفْصَةَ فَأَتَتْ أَهْلَهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ فَقِيلَ لَهُ : رَاجِعْهَا فَإِنَّهَا صَوَّامَةٌ قَوَّامَةٌ وَهِيَ مِنْ أَزْوَاجِكَ فِي الْجَنَّةِ . وَقَوْلُهُ تَعَالَى : لِعِدَّتِهِنَّ أَيْ فِي طُهْرِهِنَّ إِذَا لَمْ يُجَامَعْنَ فِيهِ . وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فَطَلِّقُوهُنَ لِقَبْلِ عِدَّتِهِنَّ . قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَقَالَ تَعَالَى : الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [ الْبَقَرَةِ : ] ، وَفِي قَوْلِهِ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ بَيَانٌ لِعَدَدِ الطَّلَاقِ وَتَقْدِيرِهِ بِالثَّلَاثِ وَأَنَّهُ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ فِي الِاثْنَتَيْنِ وَلَا يَمْلِكُهَا فِي الثَّالِثَةِ ، وَهُوَ قَوْلُ عُرْوَةَ وَقَتَادَةَ .
رَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ . قَالَ : كَانَ الرَّجُلُ يُطَلِّقُ مَا شَاءَ ثُمَّ إِنْ رَاجَعَ امْرَأَتَهُ قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا كَانَتْ زَوْجَتَهُ ، فَغَضِبَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ عَلَى امْرَأَتِهِ فَقَالَ لَهَا : لَا أَقْرَبُكِ وَلَا تَخْلُصِينَ مِنِّي ، قَالَتْ لَهُ : وَكَيْفَ ؟ قَالَ أُطَلِّقُكِ فَإِذَا دَنَا أَجَلُكِ رَاجَعْتُكِ . ثُمَّ أُطَلِّقُكِ فَإِذَا دَنَا أَجَلُكِ رَاجَعْتُكِ . قَالَ : فَشَكَتْ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ الْآيَةَ . فَقَدَّرَهُ بِالثَّلَاثِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ عُرْوَةُ نَزَلَ الطَّلَاقُ مُوَافِقًا لِطَلَاقِ الْأَعْشَى فِي تَقْدِيرِهِ بِالثَّلَاثِ حِينَ يَقُولُ : أَجَارَتَنَا بِينِي فَإِنَّكِ طَالِقَهْ وَمَوْمُوقَةٌ مَا أَنْتِ فِينَا وَوَامِقَهْ أَجَارَتَنَا بِينِي فَإِنَّكِ طَالِقَهْ كَذَاكِ أُمُورُ النَّاسِ تَغْدُو وَطَارِقَهْ وَبِينِي فَإِنَّ الْبَيْنَ خَيْرٌ مِنَ الْعَصَا وَأَلَّا تَزَالَ فَوْقَ رَأْسِكِ بَارِقَهْ وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي : أَنَّهُ بَيَانٌ لِسُنَّةِ الطَّلَاقِ أَنْ يُوقِعَ فِي كُلِّ قُرْءٍ وَاحِدَةً وَأَلَّا يَجْمَعَ بَيْنَهُنَّ فِي قُرْءٍ وَاحِدٍ ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ . وَفِي قَوْلِهِ : فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [ الْبَقَرَةِ ] ، تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الَإِمْسَاكَ بِالْمَعْرُوفِ الرَّجْعَةُ بَعْدَ الثَّانِيَةِ وَالتَّسْرِيحَ بِالْإِحْسَانِ الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ . رَوَى سُفْيَانُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سُمَيْعٍ عَنْ أَبِي رَزِينٍ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : الطَّلَاقُ مَرَتَانِ فَأَيْنَ الثَالِثَةُ ؟ قَالَ : فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ . وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ . وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي : فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ الرَّجْعَةُ بَعْدَ الثَّانِيَةِ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ رَجْعَتِهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا . وَهَذَا قَوْلُ السُّدِّيِّ وَالضَّحَّاكِ . وَقَالَ تَعَالَى : فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَقَالَ تَعَالَى : لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ [ الْبَقَرَةِ : ] ، الْآيَةَ . فَأَمَّا السُّنَّةُ : فَرَوَى حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ أَحَدُكُمْ لِامْرَأَتِهِ قَدْ طَلَّقْتُكِ قَدْ رَاجَعْتُكِ لَيْسَ هَذَا طَلَاقُ الْمُسْلِمِينَ . تُطَلَّقُ الْمَرْأَةُ فِي قَبْلِ عِدَّتِهَا
وَرَوَى مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَبْغَضُ الْحَلَالِ إِلَى اللَّهِ الطَّلَاقُ . وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ثَلَاثٌ جَدُّهُنَّ جَدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جَدٌّ : النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالْعِتَاقُ . وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَّقَ حَفْصَةَ وَاحِدَةً ثُمَّ رَاجَعَهَا . وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ تَزَوَّجَ الْعَالِيَةَ بِنْتَ ظِبْيَانَ فَمَكَثَتْ عِنْدَهُ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا . فَإِذَا ثَبَتَ إِبَاحَةُ الطَّلَاقِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَا تَعَقَّبَهُمَا مِنْ إِجْمَاعِ الْأُمَّةِ فَالطَّلَاقُ فِي اللُّغَةِ هُوَ التَّخْلِيَةُ ، مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ نَعْجَةٌ طَالِقٌ إِذَا خُلِّيَتْ مُهْمَلَةً بِغَيْرِ رَاعٍ . وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ : تَنَاذَرَهَا الرَّاقُونَ مِنْ سُوءِ سَمِّهَا تُطَلَّقُ طَوْرًا وَطَوْرًا تُرَاجَعُ
فَصْلٌ : وَالطَّلَاقُ لَا يَصِحُّ إِلَّا مِنْ زَوْجٍ وَلَا يَقَعُ إِلَّا عَلَى زَوْجَةٍ . فَيَخْتَصُّ الزَّوْجُ بِالطَّلَاقِ وَإِنِ اشْتَرَكَ الزَّوْجَانِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ ، وَهُوَ أَحَدُ التَّأْوِيلَاتِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [ الْبَقَرَةِ : ] ، أَنَّ الرَّجُلَ يَمْلِكُ الطَّلَاقَ وَلَا تَمْلِكُهُ الزَّوْجَةُ . فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ اشْتَرَكَ الزَّوْجَانِ فِي النِّكَاحِ وَتَفَرَّدَ الزَّوْجُ بِالطَّلَاقِ . قِيلَ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا اشْتَرَكَ الزَّوْجَانِ فِي الِاسْتِمْتَاعِ جَازَ أَنْ يَشْتَرِكَا فِي عَقْدِ النِّكَاحِ ، وَلَمَّا اخْتُصَّ الزَّوْجُ بِالْتِزَامِ الْمَؤُونَةِ جَازَ أَنْ يُخْتَصَّ الزَّوْجُ بِإِيقَاعِ الْفُرْقَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمَرْأَةَ لَمْ يُجْعَلِ الطَّلَاقُ إِلَيْهَا ، لِأَنَّ شَهْوَتَهَا تَغْلِبُهَا فَلَمْ تُؤْمَنْ مِنْهَا مُعَاجَلَةُ الطَّلَاقِ عِنْدَ التَّنَافُرِ وَالرَّجُلُ أَغْلَبُ لِشَهْوَتِهِ مِنْهَا . وَأَنَّهُ يُؤْمَنُ مِنْهُ مُعَاجَلَةُ الطَّلَاقِ عِنْدَ التَّنَافُرِ .
مَسْأَلَةٌ الطَّلَاقُ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَطَلَّقَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عُمَرُ فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا بَعْدُ وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ ( قَالَ ) وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَيُونُسُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ يُخَالِفُونَ نَافِعًا فِي شَيْءٍ مِنْهُ قَالُوا كُلُّهُمْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ وَلَمْ يَقُولُوا ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ( قَالَ ) وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ عَلَى الْحَائِضِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُرْ بِالْمُرَاجَعَةِ إِلَّا مَنْ لَزِمَهُ الطَّلَاقُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : الطَّلَاقُ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : طَلَاقُ سُنَّةٍ ، وَطَلَاقُ بِدْعَةٍ ، وَطَلَاقٌ لَا سُنَّةَ فِيهِ وَلَا بِدْعَةَ . [ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فِي طَلَاقِ السُّنَّةِ ] فَأَمَّا طَلَاقُ السُّنَّةِ فَهُوَ : طَلَاقُ الْمَدْخُولِ بِهَا فِي طُهْرٍ لَمْ تُجَامَعْ فِيهِ . [ الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ طَلَاقُ الْبِدْعَةِ ] وَأَمَّا طَلَاقُ الْبِدْعَةِ فَطَلَاقُ اثْنَتَيْنِ : الْحَائِضِ وَالطَّاهِرِ الَّتِي قَدْ جُومِعَتْ فِي طُهْرِهَا أَمَّا الْحَائِضُ فَكَانَ طَلَاقُهَا بِدْعَةً : لِأَنَّهَا طُلِّقَتْ فِي زَمَانٍ لَا يُحْتَسَبُ بِهِ مِنْ عِدَّتِهَا وَأَمَّا الْمُجَامَعَةُ فِي طُهْرِهَا . فَلِإِشْكَالِ أَمْرِهَا هَلْ عَلَقَتْ مِنْهُ فَلَا يُعْتَبَرُ بِالطُّهْرِ وَتَعْتَدُّ بِوَضْعِ الْحَمْلِ . أَوْ لَمْ تَعْلَقْ مِنْهُ فَتَعْتَدُّ بِالطُّهْرِ .
[ الْقِسْمُ الثَّالِثُ فِي الطَّلَاقِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ سُنَّةٌ وَلَا بِدْعَةٌ ] وَأَمَّا الَّتِي لَا سُنَّةَ فِي طَلَاقِهَا وَلَا بِدْعَةَ فَخَمْسٌ : الصَّغِيرَةُ وَالْمُويِسَةُ وَالْحَامِلُ وَغَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا وَالْمُخْتَلِعَةُ . أَمَّا الصَّغِيرَةُ وَالْمُويِسَةُ فَلِاعْتِدَادِهِمَا بِالشُّهُورِ الَّتِي لَا تَخْتَلِفُ بِحَيْضٍ وَلَا طُهْرٍ . وَأَمَّا الْحَامِلُ فَلِاعْتِدَادِهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ الَّذِي لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ حَيْضٌ وَلَا طُهْرٌ . وَأَمَّا غَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا فَلِأَنَّهُ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا فَيُؤَثِّرُ فِيهَا حَيْضٌ أَوْ طُهْرٌ . وَأَمَّا الْمُخْتَلِعَةُ فَلِأَنَّ خَوْفَهُمَا مِنْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ يَقْتَضِي تَعْجِيلَ الطَّلَاقِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ سُنَّةٍ وَلَا بِدْعَةٍ . وَإِذَا انْقَسَمَ الطَّلَاقُ عَلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ فَقِسْمَانِ مِنْهُمَا مُجْمَعٌ عَلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ فِيهِمَا : أَحَدُهُمَا : طَلَاقُ السُّنَّةِ . مُجْمَعٌ عَلَى وُقُوعِهِ . وَالثَّانِي : مَا لَا سُنَّةَ فِيهِ وَلَا بِدْعَةَ مُجْمَعٌ عَلَى وُقُوعِهِ . وَالثَّالِثُ : مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَهُوَ طَلَاقُ الْبِدْعَةِ فِي حَيْضٍ أَوْ فِي طُهْرٍ مُجَامَعٍ فِيهِ . فَهُوَ مَحْظُورٌ مُحَرَّمٌ بِوِفَاقٍ . وَاخْتُلِفَ فِي وُقُوعِهِ مَعَ تَحْرِيمِهِ . فَمَذْهَبُنَا أَنَّهُ وَاقِعٌ وَإِنْ كَانَ مُحَرَّمًا . وَهُوَ قَوْلُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ . وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ وَالسَّبْعَةِ وَبَعْضِ أَهْلِ الظَّاهِرِ أَنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [ الطَّلَاقِ ] فَاقْتَضَى ذَلِكَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَأْمُورِ بِهِ وَالْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي الْوُقُوعِ كَمَا اقْتَضَى الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي التَّحْرِيمِ . وَبِمَا رَوَى ابْنُ جُرَيْحٍ عَنْ أَبَى الزُّبَيْرِ : قَالَ : سَأَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَيْمَنَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ وَأَبُو الزُّبَيْرِ يَسْمَعُ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ طَلَّقْتُ زَوْجَتِي وَهِيَ حَائِضٌ فَسَأَلَ عُمَرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَرَدَّهَا عَلَيَّ وَلَمْ يَرَهُ شَيْئًا وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّهُ لَا يَقَعُ . وَلَوْ وَقَعَ لَرَآهُ شَيْئًا . وَلِأَنَّ النِّكَاحَ قَدْ يَحْرُمُ فِي وَقْتٍ وَهُوَ فِي الْعِدَّةِ وَالْإِحْرَامِ كَمَا يَحْرُمُ الطَّلَاقُ فِي وَقْتٍ وَهُوَ الْحَيْضُ وَالطُّهْرُ الْمُجَامَعُ فِيهِ . ثُمَّ كَانَ عَقْدُ النِّكَاحِ فِي وَقْتِ تَحْرِيمِهِ بَاطِلًا . وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ بِمَثَابَةِ إِذَا وَقَعَ فِي وَقْتِ تَحْرِيمِهِ .
وَلِأَنَّهُ لَوْ وَكَّلَ وَكِيلًا فِي طَلَاقِ زَوْجَتِهِ فِي الطُّهْرِ وَطَلَّقَهَا فِي الْحَيْضِ لَمْ تُطَلَّقْ : لِأَجْلِ مُخَالَفَتِهِ ، وَإِيقَاعُ الطَّلَاقِ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ مُخَالَفَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى فِي وَقْتِ الطَّلَاقِ أَوْلَى أَلَّا تَقَعَ بِهَا طَلَاقٌ ، وَهَذَا خَطَأٌ . وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ . أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ يُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ . فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ . فَمَوْضِعُ الدَّلِيلِ مِنْهُ أَنَّ أَمْرَهُ بِالرَّجْعَةِ مُوجِبٌ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ ، لِأَنَّ الرَّجْعَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الطَّلَاقِ . فَإِنْ قِيلَ أَمْرُهُ بِالرَّجْعَةِ إِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ بِرَدِّهَا إِلَيْهِ . قُلْنَا : هَذَا تَأْوِيلٌ فَاسِدٌ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الرَّجْعَةَ بَعْدَ ذِكْرِ الطَّلَاقِ تَنْصَرِفُ إِلَى رَجْعَةِ الطَّلَاقِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَا ذَكَرَ إِخْرَاجَهَا فَيُؤْمَرُ بِرَدِّهَا ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الطَّلَاقَ فَكَانَ مُنْصَرِفًا إِلَى رَجْعَتِهَا . وَالثَّالِثُ : أَنَّ الْمُسْلِمِينَ جَعَلُوا طَلَاقَ ابْنِ عُمَرَ هَذَا أَصْلًا فِي طَلَاقِ الرَّجْعَةِ وَحُكْمِ الْعِدَّةِ وَوُقُوعِ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ وَلَمْ يَتَأَوَّلُوا هَذَا التَّأْوِيلَ فَبَطَلَ بِالْإِجْمَاعِ . وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ : طَلَّقْتُ امْرَأَتِي وَهِيَ حَائِضٌ طَلْقَةً وَأَرَدْتُ أَنْ أُتْبِعَهَا طَلْقَتَيْنِ فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : رَاجِعْهَا . قُلْتُ أَرَأَيْتَ لَوْ طَلَّقْتُهَا ثَلَاثًا ؟ قَالَ كُنْتَ قَدْ أَبَنْتَ زَوْجَتَكَ وَعَصَيْتَ رَبَّكَ . وَهَذَا نَصٌّ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ لَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ ذَلِكَ التَّأْوِيلُ الْمَعْلُولُ وَمِنَ الْقِيَاسِ أَنَّهُ طَلَاقُ مُكَلَّفٍ صَادَفَ مِلْكًا فَوَجَبَ أَنْ يَنْعَقِدَ كَالطَّاهِرِ . وَلِأَنَّ رَفْعَ الطَّلَاقِ تَخْفِيفٌ وَوُقُوعَهُ تَغْلِيظٌ ، لِأَنَّ طَلَاقَ الْمَجْنُونِ لَا يَقَعُ تَخْفِيفًا وَطَلَاقَ السَّكْرَانِ يَقَعُ تَغْلِيظًا ؛ لِأَنَّ الْمَجْنُونَ لَيْسَ بِعَاصٍ وَالسَّكْرَانَ عَاصٍ . فَكَانَ الْمُطَلِّقُ فِي الْحَيْضِ أَوْلَى بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ تَغْلِيظًا مِنْ رَفْعِهِ عَنْهُ تَخْفِيفًا ، وَلِأَنَّ النَّهْيَ إِذَا كَانَ لِمَعْنًى وَلَا يَعُودُ إِلَى الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لَمْ يَكُنِ النَّهْيُ مُوجِبًا لِفَسَادِ مَا نُهِيَ عَنْهُ ، كَالنَّهْيِ عَنِ الْبَيْعِ عِنْدَ نِدَاءِ الْجُمُعَةِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْبَيْعِ .
كَذَلِكَ النَّهْيُ عَنِ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ ، إِنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ لَا لِأَجْلِ الْحَيْضِ ، فَلَمْ يَمْنَعِ النَّهْيُ عَنْهُ مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ فِيهِ . فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِالْآيَةِ فَنَصُّهَا يُوجِبُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ فِي الْعِدَّةِ ، وَدَلِيلُهَا يَقْتَضِي أَلَّا يَقَعَ فِي الْعِدَّةِ ، لَكِنْ إِذَا عَارَضَ دَلِيلٌ الْخِطَابَ بَعْدَ صَرْفِهِ عَنْ مُوجِبِهِ ، وَقَدْ عَارَضَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَا يُوجِبُ صَرْفَهُ عَنْ مُوجِبِهِ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ : فَرَدَّهَا عَلَيَّ وَلَمْ يَرَهُ شَيْئًا فَضَعِيفٌ لِتَفَرُّدِ أَبِي الزُّبَيْرِ بِهِ وَمُخَالَفَةِ جَمِيعِ الرُّوَاةِ فِيهِ مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ لَمْ يَرَهُ شَيْئًا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ إِثْمًا ، وَلَمْ يَرَهُ شَيْئًا لَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِدْرَاكِهِ ، لِأَنَّهُ قَدْ بَيَّنَ أَنَّهُ يُسْتَدْرَكُ بِالرَّجْعَةِ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالنِّكَاحِ ، فَالْفَرْقُ بَيْنَ النِّكَاحِ حَيْثُ بَطَلَ بِعَقْدِهِ فِي حَالِ التَّحْرِيمِ وَبَيْنَ الطَّلَاقِ حَيْثُ أَمَرَهُ بِإِيقَاعِهِ فِي حَالِ التَّحْرِيمِ ، أَنَّ الطَّلَاقَ أَوْسَعُ حُكْمًا وَأَقْوَى نُفُوذًا مِنَ النِّكَاحِ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ مُبَاشَرَةً وَسَرَايَةً ، وَمُعَجَّلًا وَمُؤَجَّلًا . وَعَلَى غَرَرٍ لَا يَصِحُّ النِّكَاحُ عَلَى مِثْلِهِ ، فَجَازَ أَنْ يَقَعَ فِي وَقْتِ تَحْرِيمِهِ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ عَقْدُ النِّكَاحِ فِي وَقْتِ تَحْرِيمِهِ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْوَكِيلِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْوَكِيلَ إِذَا خَالَفَ الْإِذْنَ زَالَتْ وَكَالَتُهُ وَلَيْسَ يَرْجِعُ بَعْدَ زَوَالِهَا إِلَى مِلْكٍ فَرُدَّ تَصَرُّفُهُ . وَالزَّوْجُ إِذَا خَالَفَ رَجَعَ بَعْدَ الْمُخَالَفَةِ إِلَى مِلْكٍ فَجَازَ تَصَرُّفُهُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَأُحِبُّ أَنْ يُطَلِّقَ وَاحِدَةً لِتَكُونَ لَهُ الرَّجْعَةُ لِلْمَدْخُولِ بِهَا وَخَاطِبًا لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ الطَّلَاقَ فَلَيْسَ بِمَحْظُورٍ وَعَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَ عُمَرَ مَوْضِعَ الطَّلَاقِ فَلَوْ كَانَ فِي عَدَدِهِ مَحْظُورٌ وَمُبَاحٌ لَعَلَّمَهُ إِيَّاهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ . وَطَلَّقَ الْعَجْلَانِيُّ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثًا فَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِ وَسَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُكَانَةُ لَمَّا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ الْبَتَّةَ مَا أَرَدْتَ ؟ وَلَمْ يَنْهَهُ أَنْ يَزِيدَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا يَمْلِكُ مِنْ عَدَدِ الطَّلَاقِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ ، لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ . فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَ ثَلَاثًا فَالْأَوْلَى وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُفَرِّقَهَا فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ ، فَيُطَلِّقَ فِي كُلِّ طُهْرٍ وَاحِدَةً . وَلَا يَجْمَعُهُنَّ فِي طُهْرٍ لِيَخْرُجَ بِذَلِكَ مِنَ الْخِلَافِ وَلِيَأْمَنَ بِهِ مَا يَخَافُهُ
مِنْ نَدَمِهِ فَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَقَعَتِ الثَّلَاثُ وَلَمْ تَكُنْ مُحَرَّمَةً وَلَا بِدْعَةً وَالسُّنَّةُ وَالْبِدْعَةُ فِي زَمَانِ الطَّلَاقِ لَا فِي عَدَدِهِ . وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ . وَمِنَ التَّابِعِينَ ابْنُ سِيرِينَ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ . وَحُكِيَ عَنِ السَّبْعَةِ وَعَنْ دَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ أَنَّ طَلَاقَ الثَّلَاثِ لَا يَقَعُ . فَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا هَلْ يَكُونُ وَاحِدَةً أَمْ لَا ؟ أي طلاق الثلاث فَقَالَ الْمَغْرِبِيُّ : تَكُونُ وَاحِدَةً ، وَقَالَ آخَرُونَ : لَا يَقَعُ مِنْهُنَّ شَيْءٌ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاقِعٌ لَكِنَّهُ حَرَامٌ مُبْتَدَعٌ . وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ وَالْعِرَاقِيُّونَ . وَاسْتَدَلَّ مَنْ مَنَعَ مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَّقَ طَلَاقَ الثَّلَاثِ بِقَوْلِهِ : الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْمَعَ مَا أُمِرَ بِتَفْرِيقِهِ : لِأَنَّهُ ارْتِكَابُ مَا نُهِيَ عَنْهُ . وَمَا حَرُمَ مِنَ الطَّلَاقِ لَا يَقَعُ كَالْمُرَاجَعَةِ . وَبِمَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانَ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَيَّامِ أَبِي بَكْرٍ وَصَدْرٍ مِنْ أَيَامِ عُمَرَ وَاحِدَةً . فَقَالَ عُمَرُ : قَدِ اسْتَعْجَلْتُمْ فِي أَمْرٍ كَانَ لَكُمْ فِيهِ أَنَاةٌ . وَجَعَلَهُ ثَلَاثًا . فَلَا يَجُوزُ لِعُمَرَ أَنْ يُخَالِفَ شَرْعًا ثَبَتَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَدِ ارْتَفَعَ النَّسْخُ بِمَوْتِهِ . وَبِمَا رَوَوْهُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي الْحَيْضِ ، فَاسْتَفْتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا . فَإِذَا طَهُرَتْ فَلْيَسْتَقْبِلْ بِهَا الْعِدَّةَ إِنْ شَاءَ طَلَّقَ وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ . وَهَذَا نَصٌّ .
فَصْلٌ : وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَنَّ طَلَاقَ الثَّلَاثِ مُحَرَّمٌ وَإِنْ كَانَ وَاقِعًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ [ الطَّلَاقِ : ] . فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَفْرِيقَ الطَّلَاقِ فِي الْأَطْهَارِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَوْلُهُ تَعَالَى : وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَإِحْصَاؤُهَا إِنَّمَا يَكُونُ انْتِظَارًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ فِيهَا .
وَالثَّانِي : قَوْلُهُ تَعَالَى فِيهَا لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا يُرِيدُ بِهِ الرَّجْعَةَ وَالرَّجْعَةُ لَا تَكُونُ فِي الثَّلَاثِ . وَإِنَّمَا تَكُونُ فِيمَا دُونَ الثَّلَاثِ . وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ [ الْبَقَرَةِ : ] ، . فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَرَّةً . وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : طَلَّقْتُ امْرَأَتِي وَهِيَ حَائِضٌ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَكَذَا أَمَرَكَ رَبُّكَ إِنَّمَا السُّنَّةُ أَنْ تَسْتَقْبِلَ بِهَا الطُّهْرَ ثُمَّ تُطَلِّقَهَا فِي كُلِّ قُرْءٍ طَلْقَةً وَبِمَا رَوَاهُ الْحَسَنُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : طَلَّقْتُ امْرَأَتِي وَهِيَ حَائِضٌ طَلْقَةً وَأَرَدْتُ أَنْ أُتْبِعَهَا طَلْقَتَيْنِ فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : رَاجِعْهَا فَقُلْتُ أَرَأَيْتَ لَوْ طَلَّقْتُهَا ثَلَاثًا ؟ فَقَالَ : كُنْتَ قَدْ أَبَنْتَ زَوْجَتَكَ وَعَصَيْتَ رَبَّكَ . فَلَوْلَا أَنَّ جَمْعَ الثَّلَاثِ مُحَرَّمٌ مَا كَانَ بِهِ عَاصِيًا . وَبِمَا رَوَاهُ إِبْرَاهِيمُ عَنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ قَالَ : طَلَّقَ بَعْضُ آبَائِي امْرَأَتَهُ أَلْفًا . فَانْطَلَقَ بَنُوهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا إِنَّ أَبَانَا طَلَّقَ أُمَّنَا أَلْفًا فَهَلْ لَهُ مِنْ مَخْرَجٍ ؟ فَقَالَ : إِنَّ أَبَاكُمْ لَمْ يَتَّقِ اللَّهَ فِي مَا فَعَلَ فَيَجْعَلَ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ مَخْرَجًا بَانَتْ مِنْهُ بِثَلَاثٍ عَلَى غَيْرِ السُّنَّةِ وَتِسْعُمِائَةٍ وَسَبْعَةٌ وَتِسْعُونَ إِثْمٌ فِي عُنُقِهِ . قَالَ : وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ . رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابَ كَانَ إِذَا أُتِيَ بِرَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا أَوْجَعَ ظَهْرَهُ . وَأَنَّ رَجُلًا أَتَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ : إِنَّ عَمِّي طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِنَّ عَمَّكَ عَصَى اللَّهَ فَأَنْدَمَهُ . وَأَطَاعَ الشَّيْطَانَ فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَأَنَّ عَلِيًّا وَابْنَ عَبَّاسٍ أَنْكَرَاهُ فَكَانَ إِجْمَاعًا ، لِعَدَمِ الْمُخَالِفِ فِيهِ . وَلِأَنَّهُ عَدَدٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْبَيْنُونَةُ فَوَجَبَ أَنْ يَتَكَرَّرَ كَاللِّعَانِ . وَدَلِيلُنَا عَلَى الْفَرِيقَيْنِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً [] . فَكَانَ رَفْعُ الْجُنَاحِ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ لِعَدَدٍ يُوجِبُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْأَعْدَادِ .
وَرَوَى سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا لَاعَنَ بَيْنَ عُوَيْمِرٍ الْعَجْلَانِيِّ وَامْرَأَتِهِ قَالَ : كَذَبْتَ عَلَيْهَا إِنْ أَمْسَكْتَهَا ، هِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا . فَلَوْ كَانَ الْجَمْعُ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالثَّلَاثِ مُحَرَّمًا لَأَبَانَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْكَرَهُ ، لِأَنَّهُ لَا يُقِرُّ عَلَى مُنْكَرٍ . وَرُوِيَ أَنَّ رُكَانَةَ بْنَ عَبْدِ يَزِيدَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ الْبَتَّةَ . فَأَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَقَالَ : مَا أَرَدْتَ بِالْبَتَّةِ قَالَ وَاحِدَةً فَأَحْلَفَهُ أَنَّهُ مَا أَرَادَ أَكْثَرَ مِنْهَا فَدَلَّ عَلَى وُقُوعِ الثَّلَاثِ لَوْ أَرَادَهَا مِنْ غَيْرِ تَحْرِيمٍ . وَرَوَى سَلَمَةُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ حَفْصَ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْمُغِيرَةِ طَلَّقَ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ ثَلَاثًا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ . فَلَمْ يُنْكِرْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَأَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ طَلَّقَ تُمَاضِرَ بِنْتَ الْأَصْبَغِ الْكَلْبِيَّةَ ثَلَاثًا فِي مَرَضِهِ فَلَمْ يُنْكِرْهُ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ ، وَتُمَاضِرُ هِيَ أُمُّ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنَ الصَّحَابَةِ بَعْدَهُ عَلَى إِبَاحَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الثَّلَاثِ ، وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ أَنَّ امْرَأَتَهُ عَائِشَةَ الْخَثْعَمِيَّةَ قَالَتْ لَهُ بَعْدَ قَتْلِ أَبِيهِ : لِتَهْنِكَ الْخِلَافَةُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ لَهَا : أَوَيُقْتَلُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَتَشْمَتِينَ اذْهَبِي فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا ، فَلَمْ يُنْكِرْ ذَاكَ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فَدَلَّ عَلَى إِبَاحَتِهِ عِنْدَهُمْ . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ مِائَةَ طَلْقَةٍ فَقَالَ : ثَلَاثَةٌ لَهَا وَأَقْسَمَ الْبَاقِي عَلَى نِسَائِهَا . وَمِنَ الْقِيَاسِ أَنَّهُ طَلَاقٌ وَقَعَ فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا كَالطَّلْقَةِ الْأُولَى ، وَلِأَنَّ كُلَّ طَلَاقٍ جَازَ تَفْرِيقُهُ جَازَ جَمْعُهُ . أَصْلُهُ طَلَاقُ الزَّوْجَاتِ يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَهُنَّ فِي الطَّلَاقِ وَأَنْ يُفَرِّقَهُنَّ . وَلِأَنَّ كُلَّ طَلَاقٍ جَازَ تَفْرِيقُهُ فِي الْأَطْهَارِ جَازَ إِيقَاعُهُ فِي طُهْرٍ . أَصْلُهُ إِذَا طَلَّقَ فِي طُهْرٍ ثُمَّ رَاجَعَ فِيهِ ثُمَّ طَلَّقَهَا فِيهِ ثُمَّ رَاجَعَ ثُمَّ طَلَّقَهَا فِيهِ ثُمَّ رَاجَعَ .
وَلِأَنَّ الثَّلَاثَ لَفْظٌ يَقْطَعُ الرَّجْعَةَ فَجَازَ إِيقَاعُهُ فِي طُهْرٍ جَامَعَ فِيهِ كَالْوَاحِدَةِ بَعْدَ اثْنَتَيْنِ أَوْ كَالْخُلْعِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ عَدَدُ الطَّلَاقِ ، وَأَنَّهُ ثَلَاثٌ وَأَنَّهُ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ بَعْدَ اثْنَتَيْنِ وَلَا يَمْلِكُهَا بَعْدَ الثَّالِثَةِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ تَفْرِيقَ الطَّلَاقِ أَوْ جَمْعَهُ . وَالثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُ : الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ يَقْتَضِي فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ لَا فِي وَقْتَيْنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ [ الْأَحْزَابِ : ] يَعْنِي أَجْرَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ . لَا فِي وَقْتَيْنِ . وَهُمْ يُحَرِّمُونَ وُقُوعَ الطَّلْقَتَيْنِ فِي وَقْتٍ كَمَا يُحَرِّمُونَ وُقُوعَ الثَّلَاثِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ . فَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يُطَلِّقْ إِلَّا وَاحِدَةً فِي الْحَيْضِ وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَوْ طَلَّقْتَهَا ثَلَاثًا كُنْتَ قَدْ أَبَنْتَ امْرَأَتَكَ وَعَصَيْتَ رَبَّكَ . يَعْنِي بِإِيقَاعِهِنَّ فِي الْحَيْضِ لَا بِالْجَمْعِ بَيْنَهُنَّ . وَأَمَّا أَمْرُهُ لَهُ فِي الْخَبَرِ الثَّانِي أَنْ يُطَلِّقَ فِي كُلِّ طُهْرٍ وَاحِدَةً فَعَلَى طَرِيقِ الِاسْتِحْبَابِ وَالنَّدْبِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الدَّارَقُطْنِيَّ رَوَاهُ وَذَكَرَ أَنَّهُ ضَعِيفٌ مَجْهُولُ الرَّاوِي . وَالثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُ : طَلَّقَهَا عَلَى غَيْرِ السُّنَّةِ : لِأَنَّهُ طَلَّقَهَا أَلْفًا وَهُوَ لَا يَمْلِكُ إِلَّا ثَلَاثًا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْإِجْمَاعِ فَهُوَ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ بِمَنْ ذَكَرْنَا خِلَافَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَنَّ رَجُلًا أَتَى ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ : إِنِّي طَلَّقْتُ امْرَأَتِي أَلْفًا فَقَالَ : أَمَّا ثَلَاثٌ فَتَحْرُمُ عَلَيْكَ امْرَأَتُكَ ، وَبَقِيَّتُهُنَّ وِزْرًا اتَّخَذْتَ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى اللِّعَانِ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْفُرْقَةَ لَا تَقَعُ عَلَى قَوْلِهِمْ بِاللِّعَانِ حَتَّى يُوقِعَهَا الْحَاكِمُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ أَصْلًا لِمَا يُوقِعُ الْفُرْقَةَ . وَالثَّانِي : أَنَّ عَدَدَ اللِّعَانِ لَا يَصِحُّ مَجْمُوعُهُ فَوَجَبَ تَفْرِيقُهُ . وَالطَّلَاقُ يَصِحُّ مَجْمُوعُهُ فَلَمْ يَجِبْ تَفْرِيقُهُ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ لَمَّا جَازَ عَدَدُ اللِّعَانِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ اقْتَضَى أَنْ يَجُوزَ عَدَدُ الطَّلَاقِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ مَنْ أَنْكَرَ وُقُوعَ الثَّلَاثِ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ : فَهُوَ ضَعِيفٌ لَا يَعْرِفُهُ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ . وَلَوْ سَلَّمْنَاهُ لَاحْتَمَلَ قَوْلُهُ : كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَيَّامِ أَبِي بَكْرٍ وَصَدْرٍ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ وَاحِدَةً فَقَالَ عُمَرُ : قَدِ اسْتَعْجَلْتُمْ فِي أَمْرٍ كَانَ لَكُمْ فِيهِ أَنَاةٌ . وَجَعَلَهُ ثَلَاثًا . فَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ فَإِنَّهُ إِنْ أَرَادَ بِالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ طُلِّقَتْ وَاحِدَةً . وَإِنْ أَرَادَ الِاسْتِئْنَافَ طُلِّقَتْ ثَلَاثًا . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِرَادَةٌ فَعَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَالَهُ فِي الْإِمْلَاءِ تُطَلَّقُ وَاحِدَةً . وَالثَّانِي : قَالَهُ فِي " الْأُمِّ " تُطَلَّقُ ثَلَاثًا . فَعَلِمَ عُمَرُ أَنَّهُمْ كَانُوا يُرِيدُونَ بِهِ التَّأْكِيدَ فَتَكُونُ وَاحِدَةً ، ثُمَّ صَارُوا يُرِيدُونَ بِهِ التَّأْكِيدَ فَجَعَلَهَا ثَلَاثًا . وَإِنَّمَا حَمَلْنَاهُ عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ مَعَ بُعْدِهِ : لِأَنَّ عُمَرَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخَالِفَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَيْءٍ عَمِلَهُ مِنْ دِينِهِ . وَلَوْ خَالَفَهُ لَمَا أَقَرَّتْهُ الصَّحَابَةُ عَلَى خِلَافِهِ . أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ : لَا تُغَالُوا فِي صَدُقَاتِ النِّسَاءِ فَلَوْ كَانَتْ مَكْرُمَةً لَكَانَ أَوْلَاكُمْ بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَامَتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ : يُعْطِينَا اللَّهُ وَتَمْنَعُنَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا [ النِّسَاءِ : ] ، فَقَالَ عُمَرُ : كُلُّ النَّاسِ أَفْقَهُ مِنْ عُمَرَ حَتَّى امْرَأَةٌ لِيَفْعَلِ الرَّجُلُ بِمَالِهِ مَا شَاءَ . وَهَمَّ أَنْ يُخَالِفَ بَيْنَ دِيَاتِ الْأَصَابِعِ حَتَّى ذُكِرَ لَهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : فِي الْيَدَيْنِ الدِّيَةُ وَفِي إِحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ وَفِي كُلِّ إِصْبَعٍ مِمَّا هُنَالِكَ عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ . فَرَجَعَ . عَمَّا هَمَّ بِهِ وَسَوَّى بَيْنِ دِيَاتِهَا . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِمَا رَوَوْهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمُرَاجَعَتِهَا فَلَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ . وَإِنَّمَا الْخَبَرُ أَنَّهُ قَالَ أَرَأَيْتَ لَوْ طَلَّقْتُهَا ثَلَاثًا ؟ فَقَالَ كُنْتَ قَدْ أَبَنْتَ امْرَأَتَكَ وَعَصَيْتَ رَبَّكَ . وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فِي ثَلَاثَةِ أَوْقَاتٍ . فَأَمَرَهُ بِالرَّجْعَةِ فِي إِحْدَاهُنَّ بَلْ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَانِيَةً عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ ، ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَالِثَةً فِي زَمَنِ عُمَرَ . فَضَبَطَ الرُّوَاةُ طَلَاقَهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا . فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ رِوَايَةُ مَنْ أَطْلَقَ مَحْمُولَةً عَلَى هَذَا الْبَيَانِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : ( وَلَوْ طَلَّقَهَا طَاهِرًا بَعْدَ جِمَاعٍ فما الحكم أَحْبَبْتُ أَنْ يَرْتَجِعَهَا ثُمَّ يُمْهَلَ لِيُطَلِّقَ كَمَا أُمِرَ وَإِنْ كَانَتْ فِي طُهْرٍ بَعْدَ جِمَاعٍ فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ بِهِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ طَلَاقَ الْبِدْعَةِ طَلَاقَانِ : أَحَدُهُمَا : الطَّلَاقُ فِي الْحَيْضِ .
وَالثَّانِي : الطَّلَاقُ فِي طُهْرٍ قَدْ جُومِعَتْ فِيهِ . أَمَّا طَلَاقُ الْحَيْضِ فَلِتَحْرِيمِهِ عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ ، وَهُوَ أَنَّ بَقِيَّةَ حَيْضِهَا غَيْرُ مُحْتَسَبٍ بِهِ مِنْ عِدَّتِهَا عِنْدَ مَنْ جَعَلَ الْأَقْرَاءَ الْأَطْهَارَ ، وَعِنْدَ مَنْ جَعَلَهَا الْحَيْضَ ، فَصَارَتْ بِالطَّلَاقِ فِيهِ غَيْرَ زَوْجَةٍ وَلَا مُعْتَدَّةٍ . وَأَمَّا الْمُطَلَّقَةُ فِي الطُّهْرِ الْمُجَامَعِ فِيهِ فَلِتَحْرِيمِهِ عِلَّتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنَّهَا رُبَّمَا عَلَقَتْ مِنْ وَطْئِهِ فَصَارَتْ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ فَلَحِقَهُ نَدَمٌ مِنْ طَلَاقِ أُمِّ وَلَدِهِ . وَالثَّانِيَةُ : أَنَّهَا تَصِيرُ مُرْتَابَةً فِي عِدَّتِهَا هَلْ عَلَقَتْ مِنْ وَطْئِهِ فَتَكُونَ عِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ ؟ أَوْ لَمْ تَعْلَقْ فَتَكُونَ بِالْأَقْرَاءِ : لَكِنَّهَا تَعْتَدُّ بِبَقِيَّةِ طُهْرِهَا قُرْءًا فَإِذَا طَلَّقَ إِحْدَى هَاتَيْنِ إِمَّا فِي حَالِ الْحَيْضِ أَوْ فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ فَقَدْ طَلَّقَهَا طَلَاقًا بِدْعِيًّا مُحَرَّمًا . وَاسْتَحْبَبْنَا لَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا : لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَ عُمَرَ حِينَ طَلَّقَ فِي الْحَيْضِ أَنْ يُرَاجِعَ ، وَاسْتِدْرَاكًا لِمُوَاقَعَةِ الْمَحْظُورِ بِالْإِقْلَاعِ عَنْهُ وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الرَّجْعَةُ . وَأَوْجَبَهَا مَالِكٌ فِي طَلَاقِ الْحَائِضِ اسْتِدْلَالًا بِهَذَيْنِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الرَّجْعَةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَإِنِ اسْتُحِبَّتْ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ فَخَيَّرَهُ بَيْنَ الرَّجْعَةِ وَالتَّرْكِ وَقَالَ تَعَالَى : وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا [ الْبَقَرَةِ : ] ، فَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ الرَّجْعَةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ جَعَلَهَا حَقًّا لِلْأَزْوَاجِ لَا عَلَيْهِمْ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ قَرَنَهَا بِإِرَادَةِ الْإِصْلَاحِ . وَلِأَنَّ الرَّجْعَةَ إِمَّا أَنْ تُرَادَ لِاسْتِدَامَةِ الْعَقْدِ أَوْ إِعَادَتِهِ . فَإِنْ أُرِيدَتْ لِإِعَادَتِهِ لَمْ تَجِبْ ، لِأَنَّ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ لَا يَجِبُ ، فَإِنْ أُرِيدَتْ لِاسْتِدَامَتِهِ لَمْ تَجِبْ : لِأَنَّ لَهُ رَفْعَهُ بِالطَّلَاقِ ، وَلِأَنَّ تَحْرِيمَ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ كَتَحْرِيمِهِ فِي طُهْرٍ مُجَامَعٍ فِيهِ ، ثُمَّ لَمْ تَجِبِ الرَّجْعَةُ فِي طُهْرِ الْجِمَاعِ كَذَلِكَ فِي الْحَيْضِ . فَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْهُ فَلَيُرَاجِعْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ثُمَّ إِنْ شَاءَ طَلَّقَ بَعْدُ وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ . فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِنَفْسِهِ وَجَعَلَ عُمَرَ هُوَ الْآمِرَ لَهُ بِقَوْلِهِ : مُرْهُ فَلَيُرَاجِعْهَا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ مَعْدُولٌ بِهِ عَنِ الْوُجُوبِ إِلَى الِاسْتِحْبَابِ ، لِأَنَّهُ عَدَلَ بِهِ عَمَّنْ تَجِبُ أَوَامِرُهُ إِلَى مَنْ لَا تَجِبُ أَوَامِرُهُ .
وَالثَّانِي أَنَّ قَوْلَهُ : ثُمَّ إِنْ شَاءَ طَلَّقَ وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ تَرْجِعُ الْمَشِيئَةُ إِلَى جَمِيعِ الْمَذْكُورِ مِنَ الرَّجْعَةِ وَالطَّلَاقِ . وَمَا رُدَّ إِلَى مَشِيئَةِ فَاعِلِهِ لَمْ يَجِبْ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ فِيهِ اسْتِدْرَاكًا لِمُوَاقَعَةِ الْمَحْظُورِ . فَالْمَحْظُورُ هُوَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ . وَالطَّلَاقُ الْوَاقِعُ لَا يُسْتَدْرَكُ بِالرَّجْعَةِ وَإِنَّمَا يَقْطَعُ تَحْرِيمَهُ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الرَّجْعَةَ مُسْتَحَبَّةٌ غَيْرُ وَاجِبَةٍ فَهِيَ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا إِذَا طُلِّقَتْ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ ، الرجعة لِأَنَّ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا لَا رَجْعَةَ لَهَا وَالثَّلَاثُ لَا رَجْعَةَ مَعَهَا فَتَكُونُ الرَّجْعَةُ مَعَ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ . ثُمَّ الزَّمَانُ الَّذِي يُسْتَحَقُّ فِيهِ الرَّجْعَةُ مُقَدَّرٌ ، وَإِنْ كَانَ الشَّافِعِيُّ قَدْ أَطْلَقَهُ . فَإِنْ طُلِّقَتْ فِي الْحَيْضِ كَانَ الْأَمْرُ بِارْتِجَاعِهَا مَا كَانَ حَيْضُهَا بَاقِيًا ، فَإِنْ طَهُرَتْ مِنْ تِلْكَ الْحَيْضَةِ الَّتِي طُلِّقَتْ فِيهَا سَقَطَ اسْتِحْبَابُ الرَّجْعَةِ وَكَانَتْ إِلَى خِيَارِهِ ، لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ فِي طُهْرٍ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ طَلَاقُهَا فِيهِ فَلَمْ يُؤْمَرْ بِارْتِجَاعِهَا فِيهِ . وَإِنْ طُلِّقَتْ فِي طُهْرٍ قَدْ جُومِعَتْ فِيهِ كَانَ مَأْمُورًا بِارْتِجَاعِهَا فِي بَقِيَّةِ طُهْرِهَا وَفِي الْحَيْضَةِ الَّتِي بَعْدَ طُهْرِهَا ، فَإِنْ رَاجَعَهَا فِي هَذَا الْحَالِ فَقَدْ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ وَنُدِبَ إِلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يُرَاجِعْهَا حَتَّى دَخَلَتْ فِي الطُّهْرِ الثَّانِي الَّذِي لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ طَلَاقُهَا فِيهِ سَقَطَ مَا كَانَ مَنْدُوبًا إِلَيْهِ مِنَ الرَّجْعَةِ وَكَانَتْ إِلَى خِيَارِهِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَقَدْ رَوَاهُ نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مُرْهُ فَلَيُرَاجِعْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ثُمَّ إِنْ شَاءَ طَلَّقَ بَعْدُ وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ . وَرَوَاهُ سَالِمٌ وَيُونُسُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مُرْهُ فَلَيُرَاجِعْهَا حَتَّى تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ثُمَّ إِنْ شَاءَ طَلَّقَ بَعْدُ وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ . فَخَالَفَ نَافِعٌ لِسَالِمٍ وَلِيُونُسَ فِي زِيَادَةِ طُهْرٍ : لِأَنَّ رِوَايَةَ سَالِمٍ حَتَّى تَحِيضَ ثُمَّ إِنْ شَاءَ طَلَّقَ فَأَذِنَ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَ فِي الطُّهْرِ الْأَوَّلِ بَعْدَ الْحَيْضَةِ الَّتِي طَلَّقَ فِيهَا وَهَذَا صَحِيحٌ . وَفِي رِوَايَةِ نَافِعٍ : حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ثُمَّ إِنْ شَاءَ طَلَّقَ . فَأَذِنَ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَ فِي الطُّهْرِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ . وَالطَّلَاقُ فِي الطُّهْرِ الْأَوَّلِ كَالطَّلَاقِ فِي الطُّهْرِ الثَّانِي فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي أَيِّ الرِّوَايَتَيْنِ أَثْبَتُ وَأَصَحُّ . فَقَالَ بَعْضُهُمْ : الْأَصَحُّ رِوَايَةُ سَالِمٍ وَيُونُسَ . فَأَمَّا نَافِعٌ فَوَهِمَ فِي زِيَادَةِ الطُّهْرِ الثَّانِي : لِأَنَّ حُكْمَ الطَّلَاقِ فِي الطُّهْرِ الْأَوَّلِ كَحُكْمِ الطَّلَاقِ فِي الطُّهْرِ الثَّانِي .
وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا : إِنَّ رِوَايَةَ نَافِعٍ أَصَحُّ وَأَثْبَتُ ، وَإِنَّمَا حَذَفَ سَالِمٌ وَيُونُسُ ذِكْرَ الطُّهْرِ الثَّانِي اخْتِصَارًا . فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا كَانَتْ رِوَايَةُ نَافِعٍ أَصَحَّ فَلِمَ أَذِنَ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَ فِي الطُّهْرِ الثَّانِي وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَ فِي الطُّهْرِ الْأَوَّلِ وَهُمَا فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ . قِيلَ : قَدْ أَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْ هَذَا بِأَرْبَعَةِ أَجْوِبَةٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ طَلَاقُ ابْنِ عُمَرَ فِي الْحَيْضِ مُوجِبًا لِتَطْوِيلِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا قَابَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى طَرِيقِ الْعُقُوبَةِ لَهُ بِتَطْوِيلِ الرَّجْعَةِ إِلَى الطُّهْرِ الثَّانِي وَإِنْ جَازَتْ فِي الطُّهْرِ الْأَوَّلِ . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا أَوْقَعَ ابْنُ عُمَرَ الطَّلَاقَ فِي غَيْرِ زَمَانِهِ قَابَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاسْتِدَامَةِ الرَّجْعَةِ بَعْدَ زَمَانِهَا . وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبَّ أَنْ تَتَحَقَّقَ رَجْعَتُهُ وَيَقْوَى حُكْمُهَا بِالْوَطْءِ فِيهَا . وَزَمَانُ الْوَطْءِ بَعْدَهَا هُوَ الطُّهْرُ الْأَوَّلُ . فَإِذَا وَطِئَ فِيهِ خَرَجَ إِيقَاعُ الطَّلَاقِ فِيهِ . وَكَانَ طَلَاقَ بِدْعَةٍ فَلِذَلِكَ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَ فِيهِ ، وَأَذِنَ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَ فِي الطُّهْرِ الثَّانِي . وَالْجَوَابُ الرَّابِعُ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبَّ أَنْ يَكْمُلَ الِاسْتِبْرَاءُ بَعْدَ الرَّجْعَةِ وَكَمَالُهُ يَكُونُ بِطُهْرٍ بَعْدَ حَيْضَةٍ كَامِلَةٍ . وَالطُّهْرُ الْأَوَّلُ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ حَيْضَةٍ كَامِلَةٍ : لِأَنَّ الطَّلَاقَ كَانَ فِي بُضَاعَتِهَا وَإِنَّمَا الطُّهْرُ الثَّانِي بَعْدَ حَيْضَةٍ كَامِلَةٍ فَلِذَلِكَ جَعَلَ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَ فِيهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَلَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا أَوْ دَخَلَ بِهَا وَكَانَتْ حَامِلًا أَوْ لَا تَحِيضُ مِنْ صِغَرٍ أَوْ كِبَرٍ فَقَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ أَوِ الْبِدْعَةِ فما الحكم طُلِّقَتْ مَكَانَهَا لِأَنَّهَا لَا سُنَّةَ فِي طَلَاقِهَا وَلَا بِدْعَةَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ النِّسَاءَ ضَرْبَانِ : ضَرْبٌ لَا سُنَّةَ فِي طَلَاقِهِنَّ وَلَا بِدْعَةَ وَضَرْبٌ يَتَعَلَّقُ بِطَلَاقِهِنَّ حُكْمُ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ . فَأَمَّا اللَّاتِي لَا سُنَّةَ فِي طَلَاقِهِنَّ وَلَا بِدْعَةَ فَأَرْبَعٌ . إِحْدَاهُنَّ : الصَّغِيرَةُ الَّتِي لَمْ تَحِضْ . وَالثَّانِيَةُ الَّتِي قَدْ يَئِسَتْ مِنَ الْحَيْضِ . وَالثَّالِثَةُ الْحَامِلُ . وَالرَّابِعَةُ غَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَعْنَى فِي أَلَّا سُنَّةَ فِي طَلَاقِهِنَّ وَلَا بِدْعَةَ مَعَ الْمُخْتَلِعَةِ الَّتِي وَإِنْ كَانَتْ بِالْحَيْضِ وَالطُّهْرِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ ، فَقَدْ صَرَفَ الْخُلْعُ طَلَاقَهَا عَنْ أَنْ تَكُونَ لِسُنَّةٍ أَوْ بِدْعَةٍ .
وَأَمَّا الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِحُكْمِ طَلَاقِهَا حُكْمُ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ فَهِيَ الْمَدْخُولُ بِهَا إِذَا كَانَتْ حَامِلًا مِنْ ذَوَاتِ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ ، فَتَصِيرُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ فِي الطَّلَاقِ بِاجْتِمَاعِ ثَلَاثَةِ شُرُوطٍ . أَنْ تَكُونَ مَدْخُولًا بِهَا . وَأَنْ تَكُونَ حَائِلًا . وَأَنْ تَكُونَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ بِالْحَيْضِ وَالطُّهْرِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُصَوَّرَةٌ عَلَى طَلَاقِ مَنْ لَا سُنَّةَ فِي طَلَاقِهَا وَلَا بِدْعَةَ مِنَ النِّسَاءِ الْأَرْبَعِ : الصَّغِيرَةِ ، وَالْمُؤَيَّسَةِ ، وَالْحَامِلِ ، وَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا فَإِذَا قَالَ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ فما الحكم طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ وَلَمْ يَكُنْ طَلَاقَ سُنَّةٍ : لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ فَيُرَاعَى ذَلِكَ فِيهَا وَهَكَذَا لَوْ قَالَ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ وَلَمْ يَكُنْ طَلَاقَ بِدْعَةٍ : لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْبِدْعَةِ حَتَّى يُرَاعَى ذَلِكَ فِيهَا . فَإِنْ قِيلَ فَهَلَّا انْتُظِرَ بِهَا حَتَّى تَصِيرَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ فَتُطَلَّقَ لِلسُّنَّةِ أَوِ الْبِدْعَةِ . كَمَا انْتُظِرَ بِالْحَائِضِ إِذَا قِيلَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ أَنْ تَطْهُرَ فَتَصِيرَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ قِيلَ ؛ لِأَنَّ ذَاتَ الْحَيْضِ فِي الطُّهْرِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ ، فَانْتُظِرَ بِطَلَاقِهَا أَنْ تَكُونَ لِلسُّنَّةِ أَوِ الْبِدْعَةِ . وَهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعُ لَسْنَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ فَلَمْ يُنْتَظَرْ بِطَلَاقِهِنَّ مَا لَا يَتَّصِفْنَ بِهِ مِنْ سُنَّةٍ وَلَا بِدْعَةٍ كَمَا أَنَّ الْأَجْنَبِيَّةَ مَا لَمْ تَكُنْ مِنْ أَهْلِ الطَّلَاقِ لَمْ يُنْتَظَرْ بِهَا عَقْدُ النِّكَاحِ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ .
فَصْلٌ : فَلَوْ قَالَ لِإِحْدَى الْأَرْبَعِ أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ إِذَا صِرْتِ فِي الطَّلَاقِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ الصغيرة أو الميؤسة أو الحامل أو غير المدخول بها . رَوْعِي ذَلِكَ فِيمَنْ أَمْكَنَ مُرَاعَاتُهُ فِيهَا ، وَانْتُظِرَ بِهَا أَنْ تَصِيرَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ : لِأَنَّهُ طَلَاقٌ مُقَيَّدٌ بِشَرْطٍ فَلَمْ يَقَعْ قَبْلَ رُجُوعِ الشَّرْطِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ أَنَّ هَذَا شَرْطٌ لِلطَّلَاقِ فَانْتُظِرَ . وَذَلِكَ صِفَةٌ لِلطَّلَاقِ فَلَمْ يُنْتَظَرْ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً انْتُظِرَ بِهَا أَنْ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ فَتُطَلَّقَ ، وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا انْتُظِرَ بِهَا أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا وَيَنْقَضِيَ نِفَاسُهَا وَتَطْهُرَ فَتُطَلَّقَ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا انْتُظِرَ بِهَا أَنْ يُجَامِعَهَا وَيَنْقَضِيَ طُهْرُ الْمُجَامَعَةِ وَالْحَيْضُ الَّذِي بَعْدَهُ ثُمَّ تَطْهُرَ فَتُطَلَّقَ . فَأَمَّا الْمُؤَيَّسَةُ فَلَا يُنْتَظَرُ بِهَا ذَلِكَ ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ فِيهَا ، فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ لِإِحْدَى هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعِ أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ ، إِذَا صِرْتِ فِي الطَّلَاقِ مِنْ أَهْلِ الْبِدْعَةِ رُوعِي ذَلِكَ . فَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً انْتَظَرَ بِهَا أَنْ تَحِيضَ فَتُطَلَّقَ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا انْتَظَرَ بِهَا أَنْ يُجَامِعَهَا فَتُطَلَّقَ سَوَاءٌ جَامَعَهَا فِي طُهْرٍ أَوْ حَيْضٍ ، لِأَنَّهَا تَصِيرُ بَعْدَ جِمَاعِهِ مِنْ أَهْلِ الْبِدْعَةِ فِي الْحَالَيْنِ . وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا انْتَظَرَ بِهَا أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا ثُمَّ تُطَلَّقُ فِي أَوَّلِ
نِفَاسِهَا . فَإِنْ لَمْ تَرَ بَعْدَ وِلَادَتِهَا دَمَ نِفَاسٍ لَمْ تُطَلَّقْ حَتَّى يُجَامِعَهَا فِي طُهْرِهَا ، سَوَاءٌ قِيلَ بِوُجُوبِ الْغُسْلِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ أَوْ بِسُقُوطِهِ عَنْهَا فِي الْوَجْهِ الثَّانِي ؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ إِنْ وَجَبَ فَلِوَضْعِ الْحَمْلِ الْجَارِي مَجْرَى الْإِنْزَالِ لَا أَنَّهُ لِأَجْلِ النِّفَاسِ .
فَصْلٌ : فَلَوْ قَالَ لِإِحْدَى هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعِ أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ ، وَقَالَ : أَرَدْتُ بِنِيَّتِي أَنَّهَا تُطَلَّقُ إِذَا صَارَتْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ الصغيرة أو الميؤسة أو الحامل أو غير المدخول بها لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ ، وَلَزِمَهُ الطَّلَاقُ مُعَجَّلًا لِغَيْرِ السُّنَّةِ ، وَدِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا نَوَى . فَلَمْ يُلْزِمْهُ الطَّلَاقُ أَنْ تَصِيرَ فِيهِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَجَرَى ذَلِكَ فِي مَجْرَى قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَقَالَ : أَرَدْتُ بِذَلِكَ إِنْ دَخَلَتِ الدَّارَ . لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ ، وَدِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْبَاطِنِ ، فَلَمْ تُطَلَّقْ إِلَّا بِدُخُولِ الدَّارِ . وَهَكَذَا لَوْ قَالَ لِإِحْدَاهُنَّ أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ وَقَالَ : أَرَدْتُ بِنِيَّتِي أَنَّهَا تُطَلَّقُ إِذَا صَارَتْ مِنْ أَهْلِ الْبِدْعَةِ الصغيرة أو الميؤسة أو الحامل أو غير المدخول بها لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ وَأُلْزِمَ تَعْجِيلَ الطَّلَاقِ . وَدِينَ فِي الْبَاطِنِ وَلَمْ يُلْزِمْهُ الطَّلَاقُ إِلَّا أَنْ تَصِيرَ إِلَى تِلْكَ الْحَالِ . وَلَوْ قَالَ لِإِحْدَى هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعِ أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ إِنْ كَانَ يَقَعُ طَلَاقُ السُّنَّةِ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ مَعَ الشَّكِّ فِي حَالِهَا : لِأَنَّهُ شَكٌّ فِي الصَّغِيرَةِ هَلْ حَاضَتْ أَوْ لَمْ تَحِضْ ؟ أَوْ شَكٌّ فِي الْحَمْلِ هَلْ هُوَ حَمْلٌ أَوْ غَلَطٌ أَوْ شَكٌّ فِي الْمُؤَيَّسَةِ هَلِ انْقَطَعَ حَيْضُهَا أَوْ تَأَخَّرَ أَوْ شَكٌّ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا هَلْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ ؟ . فَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ وَلَا إِذَا صَارَتْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي ثَانِي حَالٍ : لِأَنَّهُ عَلَّقَ ذَلِكَ بِوُجُودِ الشَّرْطِ فِي الْحَالِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ وَهُوَ عَلَى يَقِينٍ أَنَّهَا لَيْسَتْ فِي الطَّلَاقِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ شَرْطٌ مَلْغِيٌّ لِاسْتِحَالَتِهِ وَيَقَعُ الطَّلَاقُ فِي الْحَالِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ مَعَ اسْتِحَالَتِهِ فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي الْحَالِ وَلَا إِنْ صَارَتْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي ثَانِي حَالٍ كَمَا لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ صَعِدْتِ السَّمَاءَ لَمْ تُطَلَّقْ وَإِنْ عُلِّقَ بِشَرْطٍ مُسْتَحِيلٍ . وَهَكَذَا لَوْ قَالَ لِإِحْدَاهُنَّ : أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ إِنْ كَانَ يَقَعُ عَلَيْكِ طَلَاقُ الْبِدْعَةِ ، فَإِنْ كَانَ مَعَ الشَّكِّ فِيهِنَّ لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ ، وَإِنْ كَانَ مَعَ الْيَقِينِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ .
فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ لِإِحْدَى هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعِ أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ فِي الْحَالِ الصغيرة أو الميؤسة أو الحامل أو غير المدخول بها : لِأَنَّهُ قَدْ جَمَعَ بَيْنَ صِفَتَيْنِ مُتَضَادَّتَيْنِ يَسْتَحِيلُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي النِّسَاءِ عُمُومًا وَانْفِرَادُهُمَا فِي هَؤُلَاءِ خُصُوصًا فَأُلْغِيَتِ الصِّفَتَانِ وَعُجِّلَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ . وَلَوْ قَالَ لِإِحْدَاهُنَّ : أَنْتِ طَالِقٌ لَا
لِلسُّنَّةِ وَلَا لِلْبِدْعَةِ الصغيرة أو الميؤسة أو الحامل أو غير المدخول بها طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ وَهِيَ مُنْصَفَةٌ بِهَذَا الْحُكْمِ لِأَنَّهُ لَا سُنَّةَ فِي طَلَاقِهَا وَلَا بِدْعَةَ .
فَصْلٌ : وَإِذَا رَأَتِ الْحَامِلُ دَمًا يُضَارِعُ الْحَيْضَ صِفَةً وَقَدْرًا . فَقَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ أَوْ قَالَ : لِلْبِدْعَةِ . فَهُوَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الدَّمِ عَلَى الْحَمْلِ . هَلْ يَكُونُ حَيْضًا أَمْ لَا ؟ فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ ، لَا يَكُونُ حَيْضًا وَيَكُونُ دَمَ فَسَاٍدٍ . فَعَلَى هَذَا يَكُونُ كَطَلَاقِ الْحَامِلِ ذَاتِ النَّقَاءِ ، إِنْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ ، طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ ، سَوَاءٌ كَانَتْ فِي حَالِ الدَّمِ أَوْ فِي وَقْتِ انْقِطَاعِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ طَلَاقَ سُنَّةٍ . وَإِنْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ وَلَمْ يَكُنْ طَلَاقَ بِدْعَةٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ : أَنَّ دَمَ الْحَامِلِ إِذَا ضَارَعَ الْحَيْضَ فِي الصِّفَةِ وَالْقَدْرِ كَانَ حَيْضًا . فَعَلَى هَذَا إِنْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ انْقِطَاعِ حَيْضِهَا طُلِّقَتْ ، وَإِنْ كَانَ فِي وَقْتِ حَيْضِهَا فَفِي وُقُوعِ طَلَاقِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : أَنَّهَا لَا تُطَلَّقُ فِيهِ لِكَوْنِهِ حَيْضًا فَصَارَ كَحَيْضِ الْحَائِلِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا : أَنَّهَا تُطَلَّقُ فِيهِ بِخِلَافِ حَيْضِ الْحَائِلِ : لِأَنَّ الْحَائِلَ تَعْتَدُّ بِالطُّهْرِ دُونَ الْحَيْضِ فَلِذَلِكَ صَارَ طَلَاقُهَا فِي الْحَيْضِ بِدْعَةً . وَالْحَامِلُ تَعْتَدُّ بِوَضْعِ الْحَمْلِ دُونَ الطُّهْرِ وَالْحَيْضِ فَلَمْ يَكُنْ طَلَاقُهَا فِي الْحَيْضِ بِدْعَةً ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ لَهَا وَهِيَ تَحِيضُ عَلَى الْحَمْلِ أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ . فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي حَالِ حَيْضِهَا طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ وَإِنْ كَانَ فِي حَالِ طُهْرِهَا فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا تُطَلَّقُ فِي الْحَالِ إِذَا قِيلَ : إِنَّ طَلَاقَهَا فِي الْحَيْضِ لَيْسَ بِبِدْعَةٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا لَا تُطَلَّقُ إِلَّا فِي الْحَيْضِ ، إِذَا قِيلَ : إِنَّ طَلَاقَهَا فِي الْحَيْضِ بِدْعَةٌ فَعَلَى هَذَا لَوْ لَمْ تَرَ بَعْدَ طَلَاقِهِ حَيْضًا حَتَّى وَلَدَتْ طُلِّقَتْ فِي نِفَاسِهَا بَعْدَ الْوِلَادَةِ . لِأَنَّنَا قَدْ أَثْبَتْنَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ حُكْمَ هَذِهِ الصِّفَةِ فَلِذَلِكَ وَجَبَ انْتِظَارُهَا ، وَلَكِنْ لَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا إِنْ وَطِئَهَا فِي طُهْرِهَا عَلَى الْحَمْلِ لَا يَكُونُ الطَّلَاقُ فِيهِ طَلَاقَ بِدْعَةٍ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ طَلَاقُهَا فِي الْحَيْضِ لَا يَكُونُ طَلَاقَ بِدْعَةٍ .
فَصْلٌ : وَإِذَا تَزَوَّجَ حَامِلًا مِنْ زِنًا صَحَّ نِكَاحُهَا عِنْدَنَا ، وَجَازَ لَهُ وَطْؤُهَا فِي حَمْلِهَا وَإِنْ خَالَفَنَا فِيهِ مَالِكٌ فَإِنَّ طَلَاقَهَا لِلسُّنَّةِ . فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ دَخَلَ بِهَا تَعَجَّلَ طَلَاقَهَا ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا لَا سُنَّةَ فِي طَلَاقِهَا وَلَا بِدْعَةَ ، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا لَمْ يَتَعَجَّلْ طَلَاقَهَا وَانْتَظَرَ بِهَا أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا وَيَنْقَضِيَ نِفَاسُهَا ، فَتُطَلَّقَ فِي أَوَّلِ طُهْرِهَا بَعْدَ النِّفَاسِ ، بِخِلَافِ الْحَامِلِ مِنْهُ .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحَامِلِ مِنْهُ وَبَيْنَ الْحَامِلِ مِنْ زِنًا حَيْثُ لَمْ يَكُنْ فِي طَلَاقِ الْحَامِلِ سُنَّةٌ وَلَا بِدْعَةٌ وَكَانَ فِي طَلَاقِ الْحَامِلِ مِنْ زِنًا سُنَّةٌ وَبِدْعَةٌ لِأَنَّهُ إِذَا طَلَّقَ الْحَامِلَ مِنْهُ اعْتَدَّتْ بِوَضْعِهِ فَارْتَفَعَتِ السُّنَّةُ وَالْبِدْعَةُ فِي طَلَاقِهَا . وَإِذَا طَلَّقَ الْحَامِلَ مِنْ زِنًا لَمْ تَعْتَدَّ بِوَضْعِهِ وَاعْتَدَّتْ بِالْأَقْرَاءِ فَتَثْبُتُ السُّنَّةُ وَالْبِدْعَةُ فِي طَلَاقِهَا . فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتْ تَحِيضُ عَلَى الْحَمْلِ ، فَإِنْ لَمْ نَجْعَلْهُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ حَيْضًا لَمْ نَعْتَبِرْهُ . وَإِنْ جَعَلْنَاهُ حَيْضًا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ اعْتَبَرْنَاهُ ، فَإِذَا طَهُرَتْ مِنْهُ عَلَى الْحَمْلِ طُلِّقَتْ لِلسُّنَّةِ . وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ ، وَقَدْ جَامَعَهَا عَلَى حَمْلِهَا ، أي الحامل من الزنا وَقَعَ عَلَيْهَا فِي الْحَالِ طَلَاقُ الْبِدْعَةِ ، لِأَنَّ حُكْمَ هَذَا الْحَمْلِ مُلْغًى . وَهُوَ طُهْرٌ قَدْ جُومِعَتْ فِيهِ ، فَكَانَ الطَّلَاقُ فِيهِ طَلَاقَ بِدْعَةٍ . وَلَوْ حَاضَتْ عَلَيْهِ بَعْدَ جِمَاعِهِ ، وَجَعَلْنَاهُ حَيْضًا ، وَطَهُرَتْ مِنْهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا لِلْبِدْعَةِ لَمْ تُطَلَّقْ إِلَّا أَنْ تَحِيضَ عَلَى الْحَمْلِ فَتُطَلَّقَ أَوْ يَطَأُهَا فِي هَذَا الطُّهْرِ فَتُطَلَّقُ ، أَوْ تَضَعُ حَمْلَهَا وَتَصِيرُ فِي نِفَاسِهَا فَتُطَلَّقُ : لِأَنَّ الطَّلَاقَ فِي الْحَيْضِ بِدْعَةٌ ، وَفِي طُهْرِ الْجِمَاعِ بِدْعَةٌ ، وَفِي النِّفَاسِ بِدْعَةٌ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ وَهِيَ حَامِلٌ مِنْهُ إِذَا وَلَدْتِ وَلَدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ فما الحكم فَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْوِلَادَةِ ، فَإِذَا وَلَدَتْ لَمْ تُطَلَّقْ حَتَّى يَنْقَضِيَ نِفَاسُهَا ، لِأَنَّهُ جَعَلَهُ بِالْوِلَادَةِ وَاقِعًا لِلسُّنَّةِ فَلِذَلِكَ رُوعِيَ انْقِضَاءُ نِفَاسِهَا ، فَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَوَلَدَتْ وَلَدَيْنِ طُلِّقَتْ بَعْدَ الْأَوَّلِ وَقَبْلَ وَضْعِ الثَّانِي ، لِأَنَّهَا بِوَضْعِ الْأَوَّلِ قَدْ وُجِدَ شَرْطُ طَلَاقِهَا ، وَصَارَتْ مَعَ بَقَاءِ الثَّانِي حَامِلًا ، وَالْحَامِلُ إِذَا طُلِّقَتْ لِلسُّنَّةِ وَقَعَ طَلَاقُهَا فِي الْحَالِ ، لِأَنَّهُ لَا سُنَّةَ فِي طَلَاقِهَا وَلَا بِدْعَةَ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ كَانَتْ تَحِيضُ فَقَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ فما الحكم فَإِنْ كَانَتْ طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ طُلِّقَتْ ثَلَاثًا مَعًا وَإِنْ كَانَتْ مُجَامَعَةً أَوْ حَائِضًا أَوْ نُفَسَاءَ وَقَعَ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ حِينَ تَطْهُرُ مِنَ الْحَيْضِ أَوِ النِّفَاسِ وَحِينَ تَطْهُرُ الْمُجَامَعَةُ مِنْ أَوَّلِ حَيْضٍ بَعْدَ قَوْلِهِ وَقَبْلَ الْغُسْلِ وَإِنْ قَالَ نَوَيْتُ أَنْ تَقَعَ فِي كُلِّ طُهْرٍ طَلْقَةٌ وَقَعْنَ مَعًا فِي الْحُكْمِ وَعَلَى مَا نَوَى فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَإِذَا قَدْ مَضَى طَلَاقُ مَنْ لَا سُنَّةَ فِي طَلَاقِهَا وَلَا بِدْعَةَ ، فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَقْصُورَةٌ عَلَى طَلَاقِ ذَاتِ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ مِنْ ذَوَاتِ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ ، وَهُوَ الضَّرْبُ الثَّانِي مِنَ النِّسَاءِ وَهُوَ أَنْ يَجْتَمِعَ فِيهَا مَا قَدَّمْنَا مِنَ الشُّرُوطِ الثَّلَاثَةِ . أَنْ تَكُونَ مَدْخُولًا بِهَا ، وَأَنْ تَكُونَ حَائِلًا ، وَأَنْ تَكُونَ مِنْ ذَوَاتِ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ .
فَإِذَا قَالَ لِهَذِهِ الَّتِي قَدْ تَكَامَلَ فِيهَا شُرُوطُ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ فما الحكم لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ فِي طُهْرٍ لَمْ تُجَامَعْ فِيهِ ، فَيَقَعُ طَلَاقُهَا فِي الْحَالِ : لِأَنَّهُ طَلَاقٌ لِلسُّنَّةِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ حَائِضًا فَلَا طَلَاقَ عَلَيْهَا فِي حَالِ الْحَيْضِ فَإِذَا انْقَضَى بَقِيَّةُ حَيْضِهَا طُلِّقَتْ بِدُخُولِهَا فِي أَوَّلِ الطُّهْرِ قَبْلَ الْغُسْلِ ، سَوَاءٌ انْقَطَعَ الْحَيْضُ لِأَقَلِّهِ أَوْ لِأَكْثَرِهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إِنِ انْقَطَعَ حَيْضُهَا لِأَكْثَرِهِ طُلِّقَتْ قَبْلَ الْغُسْلِ ، وَإِنِ انْقَطَعَ حَيْضُهَا لِأَقَلِّهِ لَمْ تُطَلَّقْ إِلَّا بَعْدَ الْغُسْلِ ، وَهَذَا خَطَأٌ ، لِأَنَّ مَا وَقَعَ فِيهِ طَلَاقُ السُّنَّةِ بَعْدَ الْغُسْلِ وَقَعَ فِيهِ طَلَاقُ السُّنَّةِ قَبْلَ الْغُسْلِ قِيَاسًا عَلَى أَكْثَرِ الْحَيْضِ . وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ نُفَسَاءَ لَمْ تُطَلَّقْ فِي نِفَاسِهَا ، لِأَنَّ النِّفَاسَ فِي حُكْمِ الْحَيْضِ . فَإِذَا طَهُرَتْ مِنْهُ طُلِّقَتْ قَبْلَ الْغُسْلِ مِثْلَ الْحَيْضِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ فِي طُهْرٍ قَدْ جَامَعَهَا فِيهِ فَلَا طَلَاقَ عَلَيْهَا فِي الْحَالِ : لِأَنَّهَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي الطَّلَاقِ ، فَإِذَا انْقَضَى بَقِيَّةُ طُهْرِهَا الَّذِي جَامَعَهَا فِيهِ وَحَاضَتْ بَعْدَهُ حَيْضَةً كَامِلَةً وَدَخَلَتْ فِي أَوَّلِ الطُّهْرِ الثَّانِي طُلِّقَتْ ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ طَلَاقُ السُّنَّةِ إِلَّا أَنْ يُجَامِعَهَا فِي آخِرِ الْحَيْضِ وَأَوَّلِ الطُّهْرِ فَلَا تُطَلَّقُ فِيهِ : لِأَنَّهُ بَدَأَهَا وَهِيَ مُجَامَعَةٌ وَصَارَ طُهْرًا جَامَعَهَا فِيهِ لَا يَقَعُ فِيهِ طَلَاقُ السُّنَّةِ ، وَهَكَذَا لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ مَعَ أَوَّلِ كُلِّ طُهْرٍ لَمْ تُطَلَّقْ .
فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ فما الحكم لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنَ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ حَائِضًا فَتُطَلَّقَ فِي الْحَالِ ، لِأَنَّ الْحَيْضَ زَمَانُ الْبِدْعَةِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ نُفَسَاءَ طُلِّقَتْ : لِأَنَّ النِّفَاسَ كَالْحَيْضِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ فَتُطَلَّقَ ، لِأَنَّ طُهْرَ الْمُجَامَعَةِ زَمَانُ الْبِدْعَةِ وَسَوَاءٌ أَنْزَلَ مِنْ جِمَاعِهِ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ إِذَا الْتَقَى خِتَانَاهُمَا : لِأَنَّهُ حُكْمٌ يَسْتَقِرُّ بِهِ الدُّخُولُ وَيَكْمُلُ بِهِ الْمَهْرُ وَتَجِبُ بِهِ الْعِدَّةُ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ فَلَا طَلَاقَ حَتَّى تَحِيضَ فَتُطَلَّقَ ، لِأَنَّ الْحَيْضَ زَمَانُ الْبِدْعَةِ ، أَوْ يُجَامِعُهَا فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ فَتُطَلَّقُ : لِأَنَّ طُهْرَ الْمُجَامَعَةِ زَمَانٌ لِطَلَاقِ الْبِدْعَةِ ثُمَّ يُعْتَبَرُ حَالُ جِمَاعِهِ فِيهِ ، فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ حِينَ أَوْلَجَ ذَكَرَهُ نَزَعَ وَأَقْلَعَ فَقَدْ طُلِّقَتْ بِالْإِيلَاجِ وَلَمْ يَلْزَمْهُ بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ مَهْرًا بِالْإِخْرَاجِ : لِأَنَّهُ تَرَكَ .
وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ قَدْ نَزَعَ بَعْدَ إِيلَاجِهِ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ الْإِيلَاجَ بَعْدَهُ ، فَعَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا بِالْإِيلَاجِ الثَّانِي : لِأَنَّهَا طُلِّقَتْ بِالْإِيلَاجِ الْأَوَّلِ فَصَارَ مُسْتَأْنِفًا لِلْإِيلَاجِ الثَّانِي بَعْدَ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ فَلَزِمَهُ فِيهِ مَهْرُ الْمِثْلِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ حِينَ أَوْلَجَ اسْتَدَامَ الْإِيلَاجَ وَلَمْ يَنْزَعْ حَتَّى أَنْهَى جِمَاعَهُ فَفِي وُجُوبِ مَهْرِ الْمِثْلِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا مَهْرَ عَلَيْهِ اعْتِبَارًا بِأَوَّلِهِ فَإِنَّهُ كَانَ وَهِيَ زَوْجَةٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي عَلَيْهِ مَهْرُ الْمِثْلِ اعْتِبَارًا بِآخِرِهِ : لِأَنَّهُ كَانَ وَهِيَ مُطَلَّقَةٌ .
فَصْلٌ : وَإِذَا قَدْ مَضَى مَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ السُّنَّةُ فِي زَمَانِهِ . وَمَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقُ الْبِدْعَةِ فِي زَمَانِهِ . فَقَدِ اسْتَقَرَّ لَكَ زَمَانُ الطَّلَاقَيْنِ فَاعْتَبِرْهُمَا فِيمَا تَفَرَّعَ مِنْهُمَا . فَإِنْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ لَا لِلسُّنَّةِ فما الحكم كَانَتْ طَالِقًا لِلْبِدْعَةِ ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَخْلُ هَذَا الطَّلَاقُ مِنْ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ كَانَ نَفْيُ إِحْدَاهُمَا إِثْبَاتًا لِلْأُخْرَى . وَهَكَذَا لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ لَا لِلْبِدْعَةِ ، فما الحكم كَانَتْ طَالِقًا لِلسُّنَّةِ : لِأَنَّ فِي نَفْيِ الْبِدْعَةِ إِثْبَاتًا لِضِدِّهَا وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ أَوِ الْبِدْعَةِ . رَجَعَ إِلَى خِيَارِهِ لِيُوقِعَ مَا شَاءَ مِنْ طَلَاقِ السُّنَّةِ أَوِ الْبِدْعَةِ : لِأَنَّ لَفْظَةَ " أَوْ " مَوْضُوعَةٌ لِلتَّخْيِيرِ . وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ لِتَعَارُضِ الصِّفَتَيْنِ وَتَنَافِي اجْتِمَاعِهِمَا فَأُلْغِيَتَا . ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الْحَالِ : فَإِنْ كَانَ زَمَانَ الْبِدْعَةِ كَانَ طَلَاقَ بِدْعَةٍ ، وَإِنْ كَانَ زَمَانَ السُّنَّةِ كَانَ طَلَاقَ سُنَّةٍ ، وَهَذَا لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ لَا لِلسُّنَّةِ وَلَا لِلْبِدْعَةِ طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ ، لِأَنَّهُ قَدْ جَمَعَ فِي النَّفْيِ بَيْنَ صِفَتَيْنِ لَابُدَّ مِنْ وُجُودِ إِحْدَاهُمَا فَسَقَطَ حُكْمُ نَفْيِهِ وَتَعَجَّلَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ فَإِنْ كَانَ زَمَانَ السُّنَّةِ كَانَ طَلَاقَ سُنَّةٍ ، وَإِنْ كَانَ زَمَانَ الْبِدْعَةِ كَانَ طَلَاقَ بِدْعَةٍ . وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ فِي السُّنَّةِ وَأَنْتِ طَالِقٌ بِالسُّنَّةِ فما الحكم كَانَ كَقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ ، فَيَقَعُ عَلَيْهَا طَلَاقَ السُّنَّةِ ، وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ بِالْبِدْعَةِ أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ فِي الْبِدْعَةِ فما الحكم كَانَ كَقَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ فَيَقَعُ عَلَيْهَا طَلَاقُ الْبِدْعَةِ . وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقَ الْحَرَجِ فما الحكم فَقَدْ حَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ طَلَاقُ الثَّلَاثِ . وَلَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ فِيهِ نَصٌّ ، لَكِنْ قِيَاسُ مَذْهَبِهِ أَنْ يَكُونَ طَلَاقَ بِدْعَةٍ . فَيَقَعُ عَلَيْهَا طَلَاقُ الْبِدْعَةِ ، وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ لِلسَّاعَةِ وَقَعَ عَلَيْهَا طَلَاقُ السُّنَّةِ .
فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا لِلسُّنَّةِ وَالْأُخْرَى لِلْبِدْعَةِ ، وَقَعَتْ إِحْدَى الطَّلْقَتَيْنِ فِي الْحَالِ ، لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ حَالَ سُنَّةٍ أَوْ بِدْعَةٍ . فَإِنْ كَانَتْ حَالَ سُنِّيَّةٍ كَانَتِ الْأُولَى سُنِّيَّةً فَوَقَعَتِ الثَّانِيَةُ فِي زَمَانِ الْبِدْعَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ حَالَ بِدْعَةٍ كَانَتِ الْأُولَى بِدْعِيَّةً فَوَقَعَتِ الثَّانِيَةُ فِي زَمَانِ السُّنَّةِ .
وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَتَانِ لِلسُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُجْعَلَ إِحْدَاهُمَا لِلسُّنَّةِ وَالْأُخْرَى لِلْبِدْعَةِ إِثْبَاتًا لِحُكْمِ الصِّفَتَيْنِ ، لِأَنَّهُ إِذَا أَمْكَنَ اجْتِمَاعُهُمَا لَمْ يَسْقُطَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ تُلْغَى الصِّفَتَانِ وَيُعَجَّلَ إِيقَاعُ الطَّلْقَتَيْنِ ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنَ الصِّفَتَيْنِ عَوْدُهُمَا إِلَى جَمِيعِ الطَّلْقَتَيْنِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَيَّدَ الْمُطْلَقُ كَمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُطْلَقَ الْمُقَيَّدُ .
فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ فما الحكم فَهِيَ مَسْطُورُ الْمَسْأَلَةِ فَتَقَعُ الثَّلَاثُ مَعًا فِي زَمَانِ السُّنَّةِ وَلَا يَتَفَرَّقْنَ فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ : لِأَنَّ السُّنَّةَ وَالْبِدْعَةَ عِنْدَنَا فِي زَمَانِ الطَّلَاقِ لَا فِي عَدَدِهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ بِتَفَرُّقِ الثَّلَاثِ فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ ، وَلَا يَقَعْنَ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ ، لِأَنَّ السُّنَّةَ وَالْبِدْعَةَ عِنْدَهُمَا فِي الطَّلَاقِ وَفِي عَدَدِهِ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُمَا . فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ : أَرَدْتُ أَنْ يَتَفَرَّقْنَ فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ فَيَقَعُ فِي كُلِّ طُهْرٍ وَاحِدَةٌ لِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ ، فَهَذَا مُحْتَمَلٌ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ ، فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ وَيُقْبَلُ مِنْهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ، فَيَدِينُ فِيهِ فَلَا يَقَعُ فِي بَاطِنِ الْحُكْمِ إِلَّا عَلَى مَا نَوَى ، وَإِنْ وَقَعَ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ مُعَجَّلًا ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ : أَرَدْتُ لِلسُّنَّةِ ، فما الحكم فَإِنْ كَانَتِ الْحَالُ وَقْتًا لِطَلَاقِ السُّنَّةِ طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ . فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ وَبَاطِنِهِ ، وَإِنْ كَانَتِ الْحَالُ وَقْتًا لِطَلَاقِ الْبِدْعَةِ . فَقَدْ ذَكَرَ مُحْتَمَلًا يُخَالِفُ ظَاهِرَ الْإِطْلَاقِ ، فَيَقَعُ الطَّلَاقُ مُعَجَّلًا فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ اعْتِبَارًا بِظَاهِرِ الطَّلَاقِ ، وَلَا يَقَعُ فِي بَاطِنِ الْحُكْمِ وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا عَلَى مَا نَوَى مِنْ طَلَاقِ السُّنَّةِ إِذَا جَاءَ زَمَانُ السُّنَّةِ ، وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ ثُمَّ قَالَ سَبَقَ لِسَانِي بِقَوْلِ السُّنَّةِ وَإِنَّمَا أَرَدْتُ طَلَاقَ الثَّلَاثِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فما الحكم قُبِلَ مِنْهُ وَوَقَعَ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ سَوَاءٌ كَانَ لِلسُّنَّةِ أَوْ لِلْبِدْعَةِ ، لِأَنَّهُ وَإِنْ خَالَفَ ظَاهِرَ لَفْظِهِ فَهُوَ أَغْلَظُ عَلَيْهِ وَأَضَرُّ بِهِ . وَمَنْ يُبَيِّنُ الْأَخَفَّ بِالْأَغْلَظِ قُبِلَ مِنْهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا ، وَمَنْ بَيَّنَ الْأَغْلَظَ بِالْأَخَفِّ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ فِي الظَّاهِرِ . وَإِنْ قُبِلَ مِنْهُ فِي الْبَاطِنِ إِذَا كَانَ مُحْتَمَلًا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَافِعِيُّ : " وَلَوْ كَانَ قَالَ فِي كُلِّ قُرْءٍ وَاحِدَةٌ فَإِنْ كَانَتْ طَاهِرًا حُبْلَى وَقَعَتِ الْأُولَى وَلَمْ تَقَعِ الثِّنْتَانِ إِنْ كَانَتْ تَحِيضُ عَلَى الْحَبَلِ أَوْ لَا تَحِيضُ حَتَّى تَلِدَ ثُمَّ تَطْهُرَ فَإِنْ لَمْ يُحْدِثْ لَهَا رَجْعَةً حَتَّى تَلِدَ بَانَتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَلَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا غَيْرُ الْأُولَى " .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فِي كُلِّ قُرْءٍ وَاحِدَةٌ فما الحكم فَقَدْ صَرَّحَ بِتَفْرِيقِ الثَّلَاثِ فِي ثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ ، فَلَا يَقَعْنَ إِلَّا هَكَذَا ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمَرْأَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ . إِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ ، أَوْ لَا تَكُونُ مِنْهُنَّ . فَإِنْ كَانَتْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ حَائِضًا أَوْ طَاهِرًا ، فَإِنْ كَانَتْ حَائِضًا لَمْ تُطَلَّقْ فِي حَالِ حَيْضِهَا حَتَّى إِذَا طَهُرَتْ طُلِّقَتْ فِي أَوَّلِ طُهْرِهَا : لِأَنَّهُ أَوَّلُ زَمَانِ السُّنَّةِ . فَإِذَا حَاضَتِ الْحَيْضَةَ الثَّانِيَةَ وَدَخَلَتْ فِي أَوَّلِ الطُّهْرِ الثَّانِي طُلِّقَتْ طَلْقَةً ثَانِيَةً ، سَوَاءٌ رَاجَعَ بَعْدَ الْأُولَى أَوْ لَمْ يُرَاجِعْ . فَإِذَا حَاضَتِ الْحَيْضَةَ الثَّالِثَةَ وَدَخَلَتْ فِي أَوَّلِ الطُّهْرِ الثَّالِثِ ، طُلِّقَتْ طَلْقَةً ثَالِثَةً ، سَوَاءٌ رَاجَعَ بَعْدَ الثَّانِيَةِ أَوْ لَمْ يُرَاجِعْ . فَأَمَّا الْعِدَّةُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ رَاجَعَهَا بَنَتْ عَلَى عِدَّةِ الطَّلْقَةِ الْأُولَى ، فَإِذَا انْقَضَى الطُّهْرُ الثَّالِثُ بِدُخُولِ الْحَيْضَةِ الرَّابِعَةِ فَقَدِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَحَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ ، وَإِنْ رَاجَعَهَا لَمْ يَخْلُ حَالُهُ بَعْدَ الرَّجْعَةِ مِنْ أَنْ يَطَأَهَا فَإِنْ وَطِئَهَا اسْتَأْنَفَتِ الْعِدَّةَ بَعْدَ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ الَّتِي بَعْدَ رَجْعَتِهِ وَوَطْئِهِ وَيَكُونُ ذَلِكَ الطُّهْرُ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ قُرْءًا وَاحِدًا فَتَأْتِي بَعْدَهُ بِقُرْئَيْنِ ، وَإِنْ لَمْ يَطَأْهَا بَعْدَ رَجْعَتِهِ ، فَهَلْ تَبْنِي عَلَى الْعِدَّةِ أَوْ تَسْتَأْنِفُهَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا تَبْنِي عَلَى عِدَّةِ الطَّلْقَةِ الْأُولَى ، لِأَنَّ الرَّجْعَةَ قَدْ بَطَلَتْ بِمَا تَعَقَّبَهَا مِنَ الطَّلَاقِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهَا تَسْتَأْنِفُ الْعِدَّةَ مِنَ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ ؛ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ قَدْ أَبْطَلَتْ مَا تَقَدَّمَهَا مِنَ الطَّلَاقِ . فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ عِنْدَ الطَّلَاقِ طَاهِرًا طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ وَاحِدَةً ، لِأَنَّ بَقِيَّةَ هَذَا الطُّهْرِ قُرْءٌ . وَسَوَاءٌ كَانَ قَدْ وَطِئَهَا فِي هَذَا الطُّهْرِ أَمْ لَا ، لِأَنَّ طُهْرَ الْجِمَاعِ قُرْءٌ يَقَعُ بِهِ الِاعْتِدَادُ كَمَا تَعْتَدُّ بِطُهْرٍ لَيْسَ فِيهِ جِمَاعٌ . إِلَّا أَنَّ الطَّلْقَةَ فِي طُهْرِ الْجِمَاعِ تَكُونُ بِدْعِيَّةً . وَفِي طُهْرِ غَيْرِ الْجِمَاعِ تَكُونُ سُنِّيَّةً ، وَهُوَ إِنَّمَا عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِالْقُرْءِ لَا بِالسُّنَّةِ فَلِذَلِكَ رُوعِيَ مَا يَكُونُ قُرْءًا وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الطَّلَاقُ فِيهِ لِلسُّنَّةِ ، فَإِذَا وَقَعَتِ الطَّلْقَةُ الْأُولَى فِي الطُّهْرِ الْأَوَّلِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ جِمَاعُهَا إِنْ لَمْ يُرَاجِعْهَا وَإِنْ رَاجَعَهَا فِيهِ حَلَّ لَهُ جِمَاعُهَا فِي بَقِيَّةِ طُهْرِهَا فَإِذَا حَاضَتْ حَرُمَ عَلَيْهِ جِمَاعُهَا فِي الْحَيْضِ ، فَإِذَا دَخَلَتْ فِي أَوَّلِ الطُّهْرِ الثَّانِي طَلْقَةٌ ثَانِيَةٌ وَحَرُمَ عَلَيْهِ جِمَاعُهَا فِيهِ إِنْ لَمْ يُرَاجِعْهَا ، وَإِنْ رَاجَعَهَا فِيهِ حَلَّ لَهُ جِمَاعُهَا فِي بَقِيَّتِهِ فَإِذَا حَاضَتِ الْحَيْضَةَ الثَّانِيَةَ ، حَرُمَ عَلَيْهِ جِمَاعُهَا فِي حَيْضِهَا ، فَإِذَا دَخَلَتْ فِي الطُّهْرِ الثَّانِي طُلِّقَتْ ثَالِثَةً وَحَرُمَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ .
فَأَمَّا الْعِدَّةُ فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا . فَإِنْ لَمْ تُرَاجَعْ بَنَتْ عَلَى عِدَّةِ الطَّلْقَةِ الْأُولَى وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِانْقِضَاءِ الطُّهْرِ الثَّالِثِ . وَإِنْ رَاجَعَهَا فَإِنْ جَامَعَهَا بَعْدَ الرَّجْعَةِ اسْتَأْنَفَ الْعِدَّةَ مِنْ وَقْتِ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ ، وَإِنْ لَمْ يُجَامِعْهَا فَعَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَبْنِي عَلَى عِدَّةِ الطَّلْقَةِ الْأُولَى وَالْقَوْلُ الثَّانِي يَسْتَأْنِفُ الْعِدَّةَ مِنْ وَقْتِ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ . فَلَوْ قَالَ لَهَا فِي آخِرِ طُهْرِهَا : أَنْتِ طَالِقٌ فِي كُلِّ قُرْءٍ وَاحِدَةٌ ثُمَّ حَاضَتْ قَبْلَ تَمَامِ كَلَامِهِ أَوْ مَعَ تَمَامِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُتَصَوَّرَ فِيهِمَا طُهْرٌ مُنْفَصِلٌ فما الحكم . قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ : تُطَلَّقُ فِيهِ وَتَعْتَدُّ بِهِ قُرْءًا لِوُجُودِ الطَّلَاقِ فِيهِ ، وَهَذَا خَطَأٌ ، بَلْ لَا يَقَعُ فِيهِ طَلَاقٌ وَلَا يَقَعُ بِهِ اعْتِدَادٌ : لِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِالْكَلَامِ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ تَمَامِ الْكَلَامِ لَا بِأَوَّلِهِ أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَيَّدَهُ بَقِيَّةَ كَلَامِهِ بِشَرْطٍ كَانَ الطَّلَاقُ مَحْمُولًا عَلَى ذَلِكَ الشَّرْطِ وَلَوْ وَقَعَ بِأَوَّلِهِ مَا حُمِلَ عَلَى شَرْطِ آخِرِهِ ، وَلَمْ يَجِدْ بَعْدَ تَمَامِ كَلَامِهِ طُهْرًا يَكُونُ قُرْءًا ، فَيَكُونُ شَرْطًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ وَلِذَلِكَ لَمْ تُطَلَّقْ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْحَالُ الثَّانِيَةُ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ وَذَلِكَ بِأَنْ تَكُونَ وَاحِدَةً مِنْ أَرْبَعٍ : إِحْدَاهُنَّ : أَنْ تَكُونَ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا فَتُطَلَّقَ وَاحِدَةً فِي الْحَالِ طَاهِرًا كَانَتْ أَوْ حَائِضًا . وَقَدْ بَانَتْ بِهَا لِأَنَّهُ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا وَمَنْ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا فَلَا قُرْءَ لَهَا فَتَجْرِي مَجْرَى طَلَاقِهَا لِلسُّنَّةِ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا فِي الْحَالِ . وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لِلسُّنَّةِ ، فَإِنْ لَمْ يَتَزَوَّجْهَا حَتَّى مَضَى لَهَا بَعْدَ الطَّلْقَةِ الْأُولَى طُهْرَانِ انْحَلَّ طَلَاقُهُ فِيمَا بَقِيَ مِنَ الطَّلْقَتَيْنِ ، وَإِنْ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ مُضِيِ الطُّهْرَيْنِ فَعَادَ طَلَاقُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ : لِأَنَّهُ عَقْدُ طَلَاقٍ فِي نِكَاحٍ وُجِدَ شَرْطُهُ فِي غَيْرِهِ . وَالثَّانِيَةُ : أَنْ تَكُونَ حَامِلًا فَتَقَعَ عَلَيْهَا فِي الْحَالِ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ ، لِأَنَّ الْحَمْلَ قُرْءٌ مُعْتَدٌّ بِهِ وَتَكُونُ طَلْقَةً لَا سُنَّةَ فِيهَا وَلَا بِدْعَةَ ، فَلَوْ كَانَتْ تَحِيضُ عَلَى حَمْلِهَا لَمْ تُطَلَّقْ فِي الْأَطْهَارِ الَّتِي بَيْنَ حَيْضِهَا سِوَى الطَّلْقَةِ الَّتِي وَقَعَتْ بِحَمْلِهَا ، سَوَاءٌ حُكِمَ لَهُ بِحُكْمِ الْحَيْضِ أَمْ لَا ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ حَيْضًا فَلَيْسَتْ أَطْهَارُهُ أَقْرَاءً يُعْتَدُّ بِهَا ، وَإِذَا لَمْ تُطَلَّقْ إِلَّا وَاحِدَةً بِالْحَمْلِ فَإِنْ لَمْ يُرَاجِعْهَا حَتَّى وَضَعَتْ فَقَدِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَبَانَتْ ، فَإِنِ اسْتَأْنَفَ نِكَاحَهَا بَعْدَ مُضِيِ طُهْرَيْنِ مِنْ حَمْلِهَا لَمْ يَعُدْ عَلَيْهَا طَلَاقٌ ، وَإِنِ اسْتَأْنَفَهُ قَبْلَ مُضِيِ الطُّهْرَيْنِ فَفِي عَوْدِ طَلَاقِهِ قَوْلَانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا . وَإِنْ رَاجَعَهَا قَبْلَ وَضْعِهَا فَإِذَا طَهُرَتْ بَعْدَ نِفَاسِهَا طُلِّقَتْ ثَانِيَةً ، فَإِذَا حَاضَتْ وَدَخَلَتْ فِي الطُّهْرِ الثَّانِي طُلِّقَتْ ثَالِثَةً ، فَإِنْ لَمْ يُرَاجِعِ اعْتَدَّتْ مِنَ الطَّلْقَةِ الثَّانِيَةِ ، وَإِنْ رَاجَعَ وَوَطِئَ اعْتَدَّتْ مِنَ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ ، وَإِنَّ رَاجَعَ وَلَمْ يَطَأْ فَعَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ .
وَالثَّالِثَةُ : أَنْ تَكُونَ صَغِيرَةً قَدْ دَخَلَ بِهَا فَتُطَلَّقُ فِي الْحَالِ وَاحِدَةً ، فَإِنْ لَمْ يُرَاجِعْهَا حَتَّى مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَقَدْ بَانَتْ بِهَا ، وَإِنْ رَاجَعَ قَبْلَ مُضِيِّ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ حَلَّتْ وَلَمْ تُطَلَّقْ بَعْدَ رَجْعَتِهِ مَا لَمْ تَحِضْ : لِأَنَّهُ قَدْ وَقَعَ طَلَاقُهَا فِيهِ ، فَإِذَا حَاضَتْ ثُمَّ طَهُرَتْ طُلِّقَتْ ثَانِيَةً ، فَإِذَا حَاضَتْ وَدَخَلَتْ فِي الطُّهْرِ الثَّانِي طُلِّقَتْ طَلْقَةً ثَالِثَةً وَحَرُمَتْ عَلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ . وَالْكَلَامُ فِي الْعِدَّةِ عَلَيْهَا مَضَى . وَالرَّابِعَةُ : أَنْ تَكُونَ مُؤَيَّسَةً فَتُطَلَّقَ فِي الْحَالِ وَاحِدَةً كَالصَّغِيرَةِ ، فَإِنْ لَمْ يُرَاجِعْهَا حَتَّى مَضَتْ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ فَقَدِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَبَانَتْ ، وَلَوْ تَزَوَّجَهَا لَمْ يَعُدِ الطَّلَاقُ ، قَوْلًا وَاحِدًا : لِأَنَّهَا فِي طُهْرٍ قَدْ وَقَعَ طَلَاقُهَا فِيهِ ، وَإِنْ رَاجَعَهَا كَانَا عَلَى النِّكَاحِ وَلَا تُطَلَّقُ بِالطُّهْرِ بَعْدَ الرَّجْعَةِ : لِأَنَّهُ هُوَ الطُّهْرُ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الطَّلَاقُ الْأَوَّلُ وَلَا يُتَصَوَّرُ مَعَ الْإِيَاسِ أَنْ تَحِيضَ ، فَإِنْ حَاضَتْ فَهِيَ غَيْرُ مُؤَيَّسَةٍ فَتُطَلَّقُ إِذَا طَهُرَتْ مِنْ حَيْضِهَا طَلْقَةً ثَانِيَةً ، ثُمَّ تُطَلَّقُ ثَالِثَةً فِي طُهْرٍ إِنْ كَانَ لَهَا بَعْدُ حَيْضَةٌ أُخْرَى .
فَصْلٌ فِي تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِالطُّهْرِ
فَصْلٌ : فِي تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِالطُّهْرِ وَإِذَا قَالَ لَهَا وَهِيَ حَائِضٌ : إِذَا طَهُرْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ طُلِّقَتْ بَعْدَ انْقِطَاعِ دَمِهَا بِدُخُولِهَا فِي أَوَّلِ الطُّهْرِ ، سَوَاءٌ انْقَطَعَ دَمُهَا لِأَقَلِّ الْحَيْضِ أَوْ لِأَكْثَرِهِ ، وَسَوَاءٌ اغْتَسَلَتْ أَوْ لَمْ تَغْتَسِلْ ، وَيَكُونُ طَلَاقَ سُنَّةٍ ، وَلَوْ قَالَ لَهَا وَهِيَ طَاهِرٌ إِذَا طَهُرْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فما الحكم لَمْ تُطَلَّقْ فِي هَذَا الطُّهْرِ حَتَّى تَدْخُلَ فِي طُهْرٍ مُسْتَقْبَلٍ ، وَذَلِكَ بِأَنْ تَحِيضَ بَعْدَ الطُّهْرِ ثُمَّ تَطْهُرَ فَتُطَلَّقَ بِدُخُولِهَا فِي أَوَّلِ الطُّهْرِ الثَّانِي : لِأَنَّ لَفْظَةَ " إِذَا " مَوْضُوعَةٌ لِلْمُسْتَقْبَلِ . أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ يَا زَيْدُ إِذَا جِئْتَنِي فَلَكَ دِينَارٌ وَهُوَ عِنْدَهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ الدِّينَارَ حَتَّى يَسْتَأْنِفَ الْمَجِيءَ إِلَيْهِ بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ لَهَا إِنْ كُنْتِ طَاهِرًا فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فما الحكم فَإِنْ كَانَتْ فِي الْحَالِ طَاهِرًا طُلِّقَتْ ، وَإِنْ كَانَتْ حَائِضًا لَمْ تُطَلَّقْ فِي الْحَالِ إِلَّا إِذَا طَهُرَتْ : لِأَنَّهُ جَعَلَ وُجُودَ طُهْرِهَا فِي الْحَالِ شَرْطًا فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ لَهَا : إِنْ كُنْتِ فِي الدَّارِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَكَانَتْ فِي غَيْرِ الدَّارِ لَمْ تُطَلَّقْ فما الحكم بِدُخُولِ الدَّارِ ، وَلَوْ قَالَ لَهَا : إِذَا طَهُرْتِ طُهْرًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فما الحكم فَإِنْ كَانَتْ فِي الْحَالِ حَائِضًا ، فَإِذَا مَضَى عَلَيْهَا بَعْدَ هَذَا الْحَيْضِ طُهْرٌ كَامِلٌ وَدَخَلَتْ فِي أَوَّلِ الْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ طُلِّقَتْ وَكَانَ طَلَاقَ بِدْعَةٍ لِوُقُوعِهِ فِي الْحَيْضِ وَإِنْ كَانَتْ فِي الْحَالِ طَاهِرًا فَإِذَا مَضَى بَقِيَّةُ طُهْرِهَا وَحَيْضَةٌ بَعْدَهَا ثُمَّ طُهْرٌ كَامِلٌ وَدَخَلَتْ فِي أَوَّلِ الْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ طُلِّقَتْ وَكَانَ طَلَاقَ بِدْعَةٍ . وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ، لِأَنَّ قَوْلَهُ : إِذَا طَهُرْتِ طُهْرًا . يَقْتَضِي كَمَالَ طُهْرٍ مُسْتَقْبَلٍ ، وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ فِي طُهْرِكِ ، فما الحكم فَإِنْ كَانَتْ فِي تِلْكَ الْحَالِ طَاهِرًا طُلِّقَتْ ، وَإِنْ كَانَتْ حَائِضًا طُلِّقَتْ إِذَا طَهُرَتْ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ فِي هَذَا بِالطُّهْرِ فِي الْحَالِ
وَبِالطُّهْرِ الْمُسْتَقْبَلِ وَإِذَا وَقَعَ الطَّلَاقُ بِالطُّهْرِ فِي الْحَالِ لَمْ يَقَعْ بِالطُّهْرِ الْمُسْتَقْبَلِ : لِأَنَّ وُجُودَ الشَّرْطِ قَدِ اسْتَوْفَى حُكْمَهُ .
فَصْلٌ : فِي تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِالْحَيْضِ وَإِذَا قَالَ لَهَا وَإِذْ هِيَ طَاهِرٌ إِذَا حِضْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فما الحكم طُلِّقَتْ بِدُخُولِهَا فِي أَوَّلِ الْحَيْضِ وَيَكُونُ طَلَاقَ بِدْعَةٍ ، فَإِذَا رَأَتِ الدَّمَ فِي زَمَانِ الْعَادَةِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَوَّلُ الْحَيْضِ فَيُحْكَمُ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ ، فَإِنِ اسْتَدَامَ يَوْمًا وَلَيْلَةً تَحَقَّقَ وُقُوعُهُ ، وَإِنِ انْقَطَعَ لِأَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ بَانَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حَيْضًا وَأَنَّ الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ ، وَإِنْ رَأَتِ الدَّمَ قَبْلَ وَقْتِ الْعَادَةِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَيْضٍ ، وَأَنَّ الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ ، وَإِنِ اسْتَدَامَ يَوْمًا وَلَيْلَةً بَانَ أَنَّهُ كَانَ حَيْضًا وَأَنَّ الطَّلَاقَ وَقَعَ بِأَوَّلِ الدَّمِ ، وَلَوْ قَالَ لَهَا وَهِيَ حَائِضٌ : إِذَا حِضْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فما الحكم لَمْ تُطَلَّقْ فِي بَقِيَّةِ حَيْضِهَا حَتَّى تَطْهُرَ مِنْهَا ثُمَّ تَحِيضَ بَعْدَ طُهْرِهَا فَتُطَلَّقُ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الطُّهْرِ ، وَيَكُونُ طَلَاقَ بِدْعَةٍ ، لَوْ قَالَ لَهَا : إِذَا حِضْتِ حَيْضَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فما الحكم فَإِنْ كَانَتْ طَاهِرًا فَإِذَا مَضَى بَقِيَّةُ طُهْرِهَا ثُمَّ حَيْضَةٌ كَامِلَةٌ بَعْدَهَا ثُمَّ دَخَلَتْ فِي أَوَّلِ الطُّهْرِ الثَّانِي طُلِّقَتْ وَكَانَ طَلَاقَ سُنَّةٍ . وَلَوْ كَانَتْ حَائِضًا فَإِذَا مَضَى بَقِيَّةُ حَيْضِهَا ثُمَّ طُهْرٌ كَامِلٌ ثُمَّ حَيْضَةٌ كَامِلَةٌ ثُمَّ دَخَلَتْ فِي أَوَّلِ الطُّهْرِ الثَّانِي طُلِّقَتْ ، وَكَانَ طَلَاقَ سُنَّةٍ . وَلَوْ قَالَ لَهَا : إِنْ كُنْتِ حَائِضًا فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَكَانَتْ طَاهِرًا لَمْ تُطَلَّقْ فِي الْحَالِ وَلَا إِذَا حَاضَتْ فِي ثَانِي حَالٍ . وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ فِي حَيْضِكِ فما الحكم طُلِّقَتْ بِالْحَيْضِ فِي الْحَالِ . فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَبِالْحَيْضِ الْمُسْتَقْبَلِ مِمَّا قُلْنَا فِي الطُّهْرِ ، فَلَوْ قَالَ : كُلَّمَا حِضْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فما الحكم طُلِّقَتْ بِدُخُولِهَا فِي الْحَيْضَةِ الْأُولَى طَلْقَةً وَاحِدَةً ، وَبِدُخُولِهَا فِي الْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ طَلْقَةً ثَانِيَةً ، وَبِدُخُولِهَا فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ طَلْقَةً ثَالِثَةً ، لِأَنَّ لَفْظَ " كُلَّمَا " مَوْضُوعٌ لِلتَّكْرَارِ ، وَيَكُونُ الثَّلَاثُ كُلُّهُنَّ طَلَاقَ بِدْعَةٍ وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِدُخُولِهَا فِي الْحَيْضَةِ الرَّابِعَةِ ، لِأَنَّ لَهَا فِي الثَّلَاثِ حِيَضٍ طُهْرَيْنِ فَتَأْتِي بِالطُّهْرِ الثَّالِثِ وَانْقِضَاؤُهُ يَكُونُ بِدُخُولِهَا فِي الْحَيْضَةِ الرَّابِعَةِ ، وَلَوْ كَانَ قَالَ لَهَا كُلَّمَا حِضْتِ حَيْضَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ ، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا بِدُخُولِهَا فِي الطُّهْرِ الثَّالِثِ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِدُخُولِهَا فِي الْحَيْضَةِ الرَّابِعَةِ ، وَيَكُونُ هَذَا طَلَاقَ سُنَّةٍ ، لِأَنَّهُ يَقَعُ فِي أَوَّلِ كُلِّ طُهْرٍ . فَصْلٌ آخَرُ مِنْهُ : وَإِذَا قَالَ لَهَا : إِذَا حِضْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَقَالَتْ : قَدْ حِضْتُ فما الحكم فَإِنْ صَدَّقَهَا فِيهِ طُلِّقَتْ ، وَإِنْ أَكْذَبَهَا فَقَوْلُهَا فِيهِ مَقْبُولٌ عَلَى نَفْسِهَا ، وَلَهُ إِحْلَافُهَا ، وَقَدْ طُلِّقَتْ . وَلَوْ قَالَ لَهَا : قَدْ حِضْتِ . فَقَالَتْ : لَمْ أَحِضْ طُلِّقَتْ بِإِقْرَارِهِ . وَلَوْ قَالَ لَهَا : إِذَا حِضْتِ فَضَرَّتُكِ عَمْرَةُ طَالِقٌ ، فَقَالَتْ : قَدْ حِضْتُ فما الحكم . فَإِنْ صَدَّقَهَا طُلِّقَتْ ضَرَّتُهَا ، وَإِنْ أَكْذَبَهَا لَمْ تُطَلَّقْ ضَرَّتُهَا ، لِأَنَّ قَوْلَهَا فِي حَيْضِهَا وَإِنْ كَانَ مَقْبُولًا عَلَى نَفْسِهَا ، مَعَ تَكْذِيبِ الزَّوْجِ فَهُوَ غَيْرُ مَقْبُولٍ عَلَى غَيْرِهَا إِلَّا بِتَصْدِيقِ الزَّوْجِ . كَالْمُودِعِ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الْوَدِيعَةِ
عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي رَدِّهَا عَلَى غَيْرِهِ . فَلَوْ قَالَ لَهَا : إِذَا حِضْتِ فَأَنْتِ وَضَرَّتُكِ طَالِقَتَانِ فَقَالَتْ قَدْ حِضْتُ فما الحكم فَإِنْ صَدَّقَهَا طُلِّقَتْ هِيَ وَضَرَّتُهَا ، وَإِنْ أَكْذَبَهَا طُلِّقَتْ هِيَ ، وَلَمْ تُطَلَّقْ ضَرَّتُهَا لِأَنَّ قَوْلَهَا عَلَى نَفْسِهَا مَقْبُولٌ وَعَلَى ضَرَّتِهَا غَيْرُ مَقْبُولٍ ، فَإِنْ صَدَّقَتْهَا الضَّرَّةُ عَلَى الْحَيْضِ لَا يُؤَثِّرُ تَصْدِيقُهَا ، لَكِنْ لَهَا إِحْلَافُ الزَّوْجِ عَلَى تَكْذِيبِهَا ، وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي يَمِينِهِ بَيْنَ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّ تِلْكَ لَمْ تَحِضْ أَوْ يَحْلِفَ أَنَّ الضَّرَّةَ لَمْ تُطَلَّقْ : لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْحَيْضِ وُقُوعُ الطَّلَاقِ فِي أَنْ تَكُونَ الْيَمِينُ مَعْقُودَةً عَلَيْهِ . فَصْلٌ آخَرُ مِنْهُ : وَلَوْ قَالَ وَلَهُ زَوْجَتَانِ : إِذَا حِضْتُمَا فَأَنْتُمَا طَالِقَتَانِ ، فما الحكم فَإِنْ حَاضَتْ إِحْدَاهُمَا لَمْ تُطَلَّقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا ، وَإِنْ حَاضَتَا طُلِّقَتَا . فَلَوْ قَالَتَا قَدْ حِضْنَا ، فَإِنْ صَدَّقَهُمَا طُلِّقَتَا ، وَإِنْ أَكْذَبَهُمَا لَمْ يُطَلَّقَا : لِأَنَّ طَلَاقَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِحَيْضِهَا فَحَيْضِ ضَرَّتِهَا ، وَقَوْلُهَا وَإِنْ كَانَ مَقْبُولًا عَلَى نَفْسِهَا فَقَوْلُ ضَرَّتِهَا غَيْرُ مَقْبُولٍ عَلَيْهَا ، فَلَوْ صَدَّقَ إِحْدَاهُمَا وَكَذَّبَ الْأُخْرَى ، طُلِّقَتِ الْمُكَذَّبَةُ دُونَ الْمُصَدَّقَةُ : لِأَنَّ الْمُكَذَّبَةَ قَوْلُهَا مَقْبُولٌ عَلَى نَفْسِهَا ، وَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهَا ضَرَّتَهَا فَطُلِّقَتْ ، فَضَرَّةُ الْمُصَدَّقَةِ مُكَذَّبَةٌ عَلَيْهَا فَلَمْ تُطَلَّقْ . فَلَوْ قَالَ وَهُنَّ ثَلَاثٌ إِذَا حِضْتُنَّ فَأَنْتُنَّ طَوَالِقُ ، فما الحكم فَإِذَا حَاضَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ أَوِ اثْنَتَانِ لَمْ تُطَلَّقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ . فَإِذَا حِضْنَ مَعًا طُلِّقْنَ كُلُّهُنَّ ، فَلَوْ قُلْنَ : قَدْ حِضْنَ فَإِنْ صَدَّقَهُنَّ طُلِّقْنَ وَإِنْ كَذَّبَهُنَّ لَمْ يُطَلَّقْنَ ، وَإِنْ صَدَّقَ وَاحِدَةً وَكَذَّبَ اثْنَتَيْنِ لَمْ تُطَلَّقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ : لِأَنَّ فِي طَلَاقِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مُكَذَّبَةً عَلَيْهَا . وَلَوْ صَدَّقَ اثْنَتَيْنِ وَكَذَّبَ وَاحِدَةً طُلِّقَتِ الْمُكَذَّبَةُ وَحْدَهَا : لِأَنَّهُ قَدْ صَدَّقَ ضَرَّتَيْهَا عَلَيْهَا ، وَلَا تُطَلَّقُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمُصَدَّقَتَيْنِ : لِأَنَّ فِي إِحْدَى ضَرَّتَيْهَا مُكَذَّبَةً . وَلَوْ كُنَّ أَرْبَعًا فَقَالَ : إِذَا حِضْتُنَّ فَأَنْتُنَّ طَوَالِقُ فما الحكم فَقُلْنَ : قَدْ حِضْنَا فَإِنْ صَدَّقَهُنَّ طُلِّقْنَ وَإِنْ كَذَّبَهُنَّ لَمْ يُطَلَّقْنَ ، وَإِنْ صَدَّقَ وَاحِدَةً وَكَذَّبَ ثَلَاثًا لَمْ يُطَلَّقْنَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَدَّقَ اثْنَتَيْنِ وَكَذَّبَ اثْنَتَيْنِ لَمْ تُطَلَّقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ : لِأَنَّ طَلَاقَ كُلِّ وَاحِدَةٍ يَكُونُ بِحَيْضِهَا وَحَيْضِ ضَرَائِرِهَا الثَّلَاثِ وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمُصَدَّقَتَيْنِ قَدْ كَذَّبَ عَلَيْهَا ضَرَّتَيْنِ ، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمُكَذَّبَتَيْنِ قَدْ كَذَّبَ عَلَيْهَا ضَرَّةً ، فَلَوْ صَدَّقَ ثَلَاثًا وَكَذَّبَ وَاحِدَةً طُلِّقَتِ الْمُكَذَّبَةُ وَحْدَهَا دُونَ الْمُصَدَّقَاتِ : لِأَنَّ قَوْلَ الْمُكَذَّبَةِ مَقْبُولٌ عَلَى نَفْسِهَا وَقَدْ صَدَّقَ ضَرَائِرَهَا عَلَيْهَا فَطُلِّقَتْ . وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمُصَدَّقَاتِ قَدْ كَذَّبَ عَلَيْهَا وَاحِدَةً مِنْ ضَرَائِرِهَا فَلَمْ تُطَلَّقْ . فَصْلٌ آخَرُ مِنْهُ : وَإِذَا كَانَ لَهُ أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ فَقَالَ : أَيَّتُكُنَّ حَاضَتْ فَضَرَائِرُهَا طَوَالِقُ فما الحكم فَإِنْ حَاضَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ لَمْ تُطَلَّقْ ، وَطَلَّقَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ ضَرَائِرِهَا وَاحِدَةً : لِأَنَّ حَيْضَ كُلِّ وَاحِدَةٍ شَرْطٌ فِي طَلَاقِ غَيْرِهَا . فَإِنْ حَاضَتْ ثَانِيَةً لَمْ تُطَلَّقْ هِيَ ، وَطُلِّقَتِ الْحَائِضُ الْأُولَى وَاحِدَةً ، وَطُلِّقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ فِي الْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ ثَانِيَةً ثَانِيَةً ، فَإِنْ حَاضَتْ ثَالِثَةً