كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي
تَأْخِيرَ الْقَبْضِ فِي مُعَيَّنٍ بِعَقْدِ إِجَارَةٍ أَوْ بَيْعٍ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يُؤَجِّرَهَا مِنْ مُسْتَأْجِرِهَا مِثْلَ أَنْ يُؤَجِّرَهُ إِيَّاهَا سَنَةً ثُمَّ يُؤَجِّرَهُ سَنَةً ثَانِيَةً قَبْلَ مُضِيِّ تِلْكَ السَّنَةِ قَالَ الشَّافِعِيُّ : صَحَّ الْعَقْدُ : لِأَنَّ الْيَدَ لَهُ وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ يَدٌ تَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا اسْتَأْجَرَهُ ، وَلِأَنَّ سُكْنَاهُ فِي السَّنَتَيْنِ مُتَّصِلٌ فَصَارَ الْقَبْضُ مُعَجَّلَا كَمَا لَوْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي عَقْدٍ . وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى خِلَافِ مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فَأَبْطَلَ الْإِجَارَةَ كَمَا لَوْ عُقِدَتْ مَعَ غَيْرِ الْمُسْتَأْجِرِ وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ فَسَادُ قَوْلِهِ وَفَرَّقَ بَيْنَ الْمُسْتَأْجِرِ وَغَيْرِهِ .
فَصْلٌ : وَإِذَا أَجَّرَ الرَّجُلُ عَبْدَهُ ثُمَّ أَعْتَقَهُ صَحَّ الْعِتْقُ ، وَالْإِجَارَةُ عَلَى لُزُومِهَا إِلَى انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ ، وَالْأُجْرَةُ لِلسَّيِّدِ دُونَ الْعَبْدِ : لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَهَا بِعَقْدٍ ، وَهَلْ لِلْعَبْدِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى سَيِّدِهِ بِأُجْرَةِ مِثْلِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَرْجِعُ بِهَا : لِأَنَّهُ قَدْ فَوَّتَ عَلَيْهِ بِعَقْدِهِ مَا قَدْ مَلَكَهُ مِنْ مَنَافِعِ نَفْسِهِ بِالْعِتْقِ ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ نَفَقَةُ الْعَبْدِ بَعْدَ عِتْقِهِ عَلَى نَفْسِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا رُجُوعَ لَهُ لِاسْتِحْقَاقِ ذَلِكَ عَلَيْهِ قَبْلَ عِتْقِهِ . فَعَلَى هَذَا فِي نَفَقَتِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : عَلَى سَيِّدِهِ اسْتِيفَاءٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حُكْمَيِ الْإِجَارَةِ وَالنَّفَقَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : فِي بَيْتِ الْمَالِ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ : لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَتِهَا وَلَكِنْ لَوْ أَجَّرَ دَارًا ثُمَّ وُقِفَتْ صَحَّ الْوَقْفُ ، وَالْإِجَارَةُ بِحَالِهَا ، وَلَمْ يَرْجِعْ مَنْ وُقِفَتْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْ أُجْرَةِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ قَوْلًا وَاحِدًا وَاخْتَصَّ الْوَاقِفُ بِهَا إِلَى انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ : لِأَنَّ الْوَقْفَ مَقْصُورُ الْحُكْمِ عَلَى شُرُوطِ وَاقِفِهِ بِخِلَافِ الْعِتْقِ . وَأَمَّا إِذَا أَجَّرَ عَبْدَهُ ثُمَّ كَاتَبَهُ فَالْكِتَابَةُ بَاطِلَةٌ : لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ بِهَا مَنَافِعَ نَفْسِهِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ إِجَارَتِهِ وَلَوْ كَانَ قَدِ ابْتَدَأَ بِكِتَابَتِهِ ثُمَّ أَجَّرَهُ صَحَّتِ الْكِتَابَةُ وَبَطَلَتِ الْإِجَارَةُ : لِأَنَّ السَّيِّدَ لَا يَمْلِكُ مَنَافِعَهُ بَعْدَ الْكِتَابَةِ وَلَكِنْ لَوْ أَجَّرَهُ ثُمَّ دَبَّرَهُ ، أَوْ دَبَّرَهُ ثُمَّ أَجَّرَهُ صَحَّ التَّدْبِيرُ ، وَالْإِجَارَةُ جَمِيعًا بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ : لِأَنَّ السَّيِّدَ يَمْلِكُ مَنَافِعَ مُدَبِّرِهِ بِتَدْبِيرِهِ ، وَلَا يَمْلِكُ مَنَافِعَ مُكَاتِبِهِ . وَلَوْ أَجَّرَ أَمَتَهُ ثُمَّ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ فَالْإِجَارَةُ بِحَالِهَا وَكَذَلِكَ لَوْ أَجَّرَهَا بَعْدَ أَنْ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ صَحَّتِ الْإِجَارَةُ : لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِمَنَافِعِهَا .
فَصْلٌ : وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ دَارًا فَوَجَدَ مَاءَ بِئْرِهَا مُتَغَيِّرًا ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ أَمْكَنَ الْوُضُوءُ بِهِ فَلَا خِيَارَ لِلْمُسْتَأْجِرِ ، وَعِنْدَنَا أَنَّهُ إِنْ خَالَفَ مَعْهُودَ آبَارِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ فَلَهُ الْخِيَارُ ، فَإِنْ كَانَ مَعْهُودُهُمُ الشُّرْبَ مِنْ آبَارِهِمْ ، فَإِذَا كَانَ تَغَيُّرُهُ يَمْنَعُ مِنْ شُرْبِهِ فَلَهُ الْخِيَارُ وَإِنْ أَمْكَنَ الْوُضُوءُ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ مَعْهُودُهُمُ أَنْ لَا يَشْرَبُوا مِنْهَا فَلَا خِيَارَ إِلَّا أَنْ لَا يُسْتَطَاعَ الْوُضُوءُ مِنْهَا ، وَلَوْ نَقَصَ مَاءُ الْبِئْرِ فَإِنْ كَانَ مَعْهُودًا فِي وَقْتِهِ فَلَا خِيَارَ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْهُودٍ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ، فَإِنْ كَانَ مَعَ نُقْصَانِهِ كَافِيًا لِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ شُرْبٍ أَوْ طَهُورٍ فَلَا خِيَارَ لَهُ وَإِنْ كَانَ مُقَصِّرًا فَلَهُ الْخِيَارُ . فَأَمَّا رَحَى الْمَاءِ إِذَا تَغَيَّرَ مَاؤُهُ فَلَا خِيَارَ لِمُسْتَأْجِرِهِ : لِأَنَّهُ لَا يُوهَنُ فِي عَمَلِهِ . وَلَوْ نَقَصَ مَاؤُهُ فَلَهُ الْخِيَارُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْهُودًا فِي وَقْتِهِ فَلَا خِيَارَ فِيهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ كِرَاءِ الْإِبِلِ وَغَيْرِهَا
مَسْأَلَةٌ كِرَاءُ الْإِبِلِ جَائِزٌ لِلْمَحَامِلِ وَالزَّوَامِلِ وَالرِّجَالِ وَكَذَلِكَ الدَّوَابُّ لِلسُّرُوجِ
بَابُ كِرَاءِ الْإِبِلِ وَغَيْرِهَا مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَكِرَاءُ الْإِبِلِ جَائِزٌ لِلْمَحَامِلِ ، وَالزَّوَامِلِ ، وَالرِّجَالِ ، وَكَذَلِكَ الدَّوَابُّ لِلسُّرُوجِ ، وَالْأَكُفِّ ، وَالْحَمُولَةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِي الْإِجَارَاتِ ثَلَاثَةَ كُتُبٍ : أَحَدُهُمَا : إِجَارَةُ الدُّورِ وَالْأَرَضِينَ ، وَقَدْ مَضَى . وَالثَّانِي : إِجَارَةُ الْإِبِلِ وَالْبَهَائِمِ وَهُوَ هَذَا . وَالثَّالِثُ : تَضْمِينُ الْأُجَرَاءِ وَيَأْتِي . وَرَوَوْا وَإِجَارَةُ الْبَهَائِمِ جَائِزَةٌ لِرِوَايَةِ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ : قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ : إِنِّي رَجُلٌ أُكْرِي إِبِلِي أَفَتُجْزِئُ عَنِّي مِنْ حَجَّتِي ؟ فَقَالَ : أَلَسْتَ تُلَبِّي وَتَقِفُ وَتَرْمِي ؟ قُلْتُ : بَلَى . قَالَ ابْنُ عُمَرَ : سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمَّا سَأَلْتَنِي عَنْهُ فَلَمْ يُجِبْهُ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [ الْبَقَرَةِ : 198 ] ، وَقَالَ تَعَالَى : وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا [ النَّحْلِ : 8 ] ، فَكَانَ عَلَى عُمُومِ الْإِبَاحَةِ فِي رُكُوبِهَا بِالْمِلْكِ وَالْإِجَارَةِ ؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ شَاهَدَ النَّاسَ عَلَى هَذَا فَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ فَصَارَ شَرْعَا . وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ عَمِلَتِ بِهِ ، وَلَمْ يُخْتَلَفْ فِيهِ فَصَارَ إِجْمَاعًا ؛ وَلِأَنَّ الضَّرُورَةَ دَاعِيَةٌ إِلَيْهِ ، وَالْحَاجَةَ بَاعِثَةٌ عَلَيْهِ فَكَانَ مُبَاحًا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالْحَيَوَانُ ضَرْبَانِ : مُنْتَفَعٌ بِهِ ، وَغَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ فَمَا كَانَ غَيْرَ مُنْتَفَعٍ بِهِ لَمْ تَجُزْ إِجَارَتُهُ الحيوان لِعَدَمِ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي يَتَوَجَّهُ الْعَقْدُ إِلَيْهَا ، وَمَا كَانَ مُنْتَفَعًا بِهِ ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا كَانَتْ مَنْفَعَتُهُ أَعْيَانًا كَالدَّرِّ وَالنَّسْلِ فَإِجَارَتُهُ لَا تَجُوزُ الحيوان كَمَا لَا تَجُوزُ فِي النَّخْلِ وَالشَّجَرِ : لِأَنَّ الْأَعْيَانَ يُمْكِنُ الْعَقْدُ عَلَيْهَا بَعْدَ حُدُوثِهَا فَلَمْ يَجُزْ قَبْلَهُ بِخِلَافِ مَنَافِعِ الْآثَارِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا كَانَتْ مَنْفَعَتُهُ آثَارًا وَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : ظَهْرٌ وَعَمَلٌ . فَأَمَّا الظَّهْرُ فَكَالْخَيْلِ ، وَالْبِغَالِ ، وَالْحَمِيرِ ، وَالْإِبِلِ ، وَبَعْضِ الْبَقَرِ . فَإِجَارَةُ ظَهْرِهَا جَائِزَةٌ لِلرُّكُوبِ وَالْحَمُولَةِ عَلَى مَا سَنَصِفُهُ . وَأَمَّا الْعَمَلُ فَكَالْحَرْثِ وَإِدَارَةِ الدَّوَالِيبِ وَالِاصْطِيَادِ ، فَإِجَارَةُ عَمَلِهَا جَائِزَةٌ وَسَوَاءٌ فِيهِ
الْآدَمِيُّونَ وَالْبَهَائِمُ لِإِبَاحَةِ مَنَافِعِهِمْ مَا لَمْ يَكُنْ حَيَوَانًا نَجِسًا ، فَإِنْ كَانَ نَجِسًا كَالْكَلْبِ يُنْتَفَعُ بِهِ فِي صَيْدٍ أَوْ حَرْثٍ أَوْ مَاشِيَةٍ ، فَفِي جَوَازِ إِجَارَتِهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي مَنْفَعَةِ الْكَلْبِ إِجَارَتُهُ : هَلْ هِيَ مَمْلُوكَةٌ أَوْ مُسْتَبَاحَةٌ فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ : أَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لِجَوَازِ التَّصَرُّفِ فِيهَا كَالتَّصَرُّفِ فِي مَنَافِعِ سَائِرِ الْمَمْلُوكَاتِ ، فَعَلَى هَذَا تَجُوزُ إِجَارَتُهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا مُسْتَبَاحَةٌ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ : لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَصِحَّ مِلْكُ الرَّقَبَةِ ، وَلَا الْمُعَاوَضَةِ عَلَيْهَا لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ فِي مَنَافِعِهَا الَّتِي هِيَ تَبَعٌ لَهَا ، فَعَلَى هَذَا لَا تَجُوزُ إِجَارَتُهُ .
مَسْأَلَةٌ كِرَاءُ الْبَهَائِمِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَا يَجُوزُ مِنْ ذَلِكَ مَغِيبٌ حَتَّى يَرَى الرَّاكِبِينَ وَظُوفَ الْمَحْمَلِ وَالْوِطَاءِ وَالظِّلِّ إِنْ شَرَطَهُ : لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ فَيَتَبَايَنُ ، وَالْحَمُولَةُ بِوَزْنٍ مَعْلُومٍ أَوْ كَيْلٍ مَعْلُومٍ فِي ظُرُوفٍ تُرَى ، أَوْ تَكُونُ إِذَا شُرِطَتْ عُرِفَتْ مِثْلَ غَرَائِرَ جَبَلِيَّةٍ وَمَا أَشْبَهَ هَذَا ، وَإِنْ ذَكَرَ مَحْمَلًا أَوْ مَرْكَبًا أَوْ زَامِلَةً بِغَيْرِ رُؤْيَةٍ وَلَا صِفَةٍ فَهُوَ مَفْسُوخٌ لِلْجَهْلِ بِذَلِكَ ، وَإِنْ أَكْرَاهُ مَحْمَلًا وَأَرَاهُ إِيَّاهُ وَقَالَ مَعَهُ مَعَالِيقُ ، أَوْ قَالَ مَا يُصْلِحُهُ فَالْقِيَاسُ أَنَّهُ فَاسِدٌ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ لَهُ بِقَدْرِ مَا يَرَاهُ النَّاسُ وَسَطًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : كِرَاءُ الْبَهَائِمِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا يُكْتَرَى لِلرُّكُوبِ . وَالثَّانِي : مَا يُكْتَرَى لِلْحَمُولَةِ . وَالثَّالِثُ : مَا يُكْتَرَى لِلْعَمَلِ . فَأَمَّا مَا يُكْتَرَى لِلرُّكُوبِ فَيَحْتَاجُ إِلَى ثَلَاثَةِ شُرُوطٍ كِرَاءُ الْبَهَائِمِ : أَحَدُهَا : ذِكْرُ جِنْسِ الْمَرْكُوبِ مِنْ فَرَسٍ ، أَوْ بَغْلٍ ، أَوْ حِمَارٍ ، أَوْ بَعِيرٍ : لِأَنَّ أَغْرَاضَ النَّاسِ فِيهَا مُخْتَلِفَةٌ لِمَا فِيهَا مِنَ الْجَمَالِ وَالْقُبْحِ وَلِأَنَّ وَطَاءَ ظَهْرِهَا مُتَبَايِنٌ وَسَيْرَهَا مُخْتَلِفٌ ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ جِنْسَ الْمَرْكُوبِ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ ، فَأَمَّا ذِكْرُ نَوْعِهِ وَصِفَتِهِ فَلَا يَلْزَمُ : لِأَنَّ تَأْثِيرَ ذَلِكَ فِي الْقِيَمِ . فَإِنْ أَرْكَبَهُ خَطْمًا أَوْ قَحْمًا أَوْ ضَرْعًا فَذَلِكَ مَعِيبٌ فَلَهُ الرَّدُّ ، فَأَمَّا صِفَةُ مَشْيِهِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَخْتَلِفُ مَشْيُ جِنْسِهِ كَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَالْإِبِلِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى ذِكْرِهِ فِي الْعَقْدِ . وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَخْتَلِفُ مَشْيُهُ كَالْخَيْلِ وُصِفَ مَشْيُ الْمَرْكُوبِ مِنْ مُهَمْلَجٍ ، أَوْ قَطُوفٍ فَإِنْ أَخَلَّ بِذَلِكَ احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : صِحَّةُ الْإِجَارَةِ وَرَكِبَ الْأَغْلَبَ مِنْ خَيْلِ النَّاسِ . وَالثَّانِي : بُطْلَانُهَا لِمَا فِيهِ مِنَ التَّبَايُنِ وَاخْتِلَافِ الْأَغْرَاضِ ، هَذَا فِيمَا وُصِفَ بِالْعَقْدِ وَلَمْ يُعَيَّنْ ، فَأَمَّا مَا عُيِّنَ بِالْعَقْدِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ فِيهِ فَيَصِيرُ الْمَرْكُوبُ مَعْلُومًا بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ : إِمَّا بِالتَّعْيِينِ وَالْإِشَارَةِ وَإِمَّا بِالذِّكْرِ وَالصِّفَةِ ، وَيَصِحُّ الْعَقْدُ فِيهِمَا وَهُمَا فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ . وَالشَّرْطُ الثَّانِي : تَعْيِينُ الرَّاكِبِ بِالْمُشَاهَدَةِ دُونَ الصِّفَةِ من شروط المكترى للركوب ، فَإِنْ وُصِفَ الرَّاكِبُ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ وَلَا مُشَاهَدَةٍ لَمْ يَجُزْ لِاخْتِلَافِ حَالِ الرَّاكِبِ فِي بَدَنِهِ وَحَرَكَاتِهِ الَّتِي لَا تُضْبَطُ بِالصِّفَةِ .
فَإِنْ أَرَادَ بَعْدَ تَعْيِينِهِ بِالْعَقْدِ أَنْ يُبَدِّلَ نَفْسَهُ بِغَيْرِهِ لِيَرْكَبَ فِي مَوْضِعِهِ فَإِنِ اسْتُبْدِلَ بِمَنْ كَانَ مِثْلَهُ فِي الثِّقَلِ وَالْحَرَكَةِ أَوْ أَخَفَّ جَازَ ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْتَبْدَلَ بِمَنْ هُوَ أَثْقَلُ . وَلَوْ أَرَادَ الْجَمَّالُ الْمُكْرِي أَنْ يُبَدِّلَ الْبَعِيرَ الَّذِي وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ مُعَيَّنًا لَمْ يَجُزْ بِخِلَافِ الرَّاكِبِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ حَقَّ الرُّكُوبِ لِلرَّاكِبِ فَجَازَ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ فَصَارَ وَإِنْ تَعَيَّنَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ فِي الِاسْتِيفَاءِ ، وَلَيْسَ كَالْبَعِيرِ الَّذِي قَدْ تَعَيَّنَ اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ مِنْهُ . وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ : ذِكْرُ مَا يُرَكَبُ فِيهِ مِنْ سَرْجٍ أَوْ قَتَبٍ أَوْ عَلَى زَامِلَةٍ أَوْ فِي مَحْمَلٍ شروط المكترى للركوب : لِأَنَّهَا تَخْتَلِفُ عَلَى الْبَهِيمَةِ وَالرَّاكِبِ ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى سَرْجٍ أَوْ قَتَبٍ أَوْ زَامِلَةٍ صَحَّ أَنْ يَكُونَ مُشَاهِدًا وَمَوْصُوفًا فَيَصِيرُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ مَعْلُومًا ، فَإِنْ لَمْ يُشَاهِدْهُ وَلَمْ يُوصَفْ صَحَّ إِنْ كَانَ مَشْرُوطًا عَلَى الْجَمَّالِ ، وَبَطَلَ إِنْ كَانَ مَشْرُوطًا عَلَى الرَّاكِبِ : لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَشْرُوطًا عَلَى الْجَمَّالِ فَهُوَ مُسْتَأْجَرٌ مَعَ الْبَعِيرِ فَصَحَّ أَنْ لَا يُوصَفَ كَمَا يَصِحُّ أَنْ لَا يُوصَفَ الْبَعِيرُ ، وَإِذَا كَانَ مَشْرُوطًا عَلَى الرَّاكِبِ فَهُوَ مَحْمُولٌ بِأُجْرَةٍ فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ لَا يُوصَفَ كَمَا لَا يَصِحُّ أَنْ لَا يُوصَفَ كُلُّ مَحْمُولٍ . وَأَمَّا الْمَحْمَلُ فَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا عَلَى الْجَمَّالِ صَحَّ وَإِنْ أَشَارَ إِلَى الْجِنْسِ الْمَعْهُودِ مِنْهَا صَحَّ أَنْ لَا يُشَاهَدَ وَلَا يُوصَفَ وَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا عَلَى الرَّاكِبِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا بِالْمُشَاهَدَةِ . فَأَمَّا بِالصِّفَةِ فَلَا يَصِيرُ مَعْلُومًا لِاخْتِلَافِهَا مَعَ السَّعَةِ وَالضِّيقِ بِالثِّقَلِ وَالْخِفَّةِ ؛ لِاخْتِلَافِ أَغْرَاضِ النَّاسِ فِيهَا وَتَبَايُنِ مَقَاصِدِهِمْ ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ عُرْفٌ يُقْصَدُ وَلَا صِفَةٌ تُضْبَطُ ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يَصِيرُ مَعْلُومًا بِالصِّفَةِ ، وَيَصِحُّ الْعَقْدُ فِيهِ كَمَا يَصِحُّ فِي الْمُشَاهَدَةِ ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ مِنْ مَحَامِلِ بَلَدٍ لَا تَخْتَلِفُ كَالْبَغْدَادِيَّةِ جَازَ ، وَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً كَالْخُرَاسَانِيَّةِ لَمْ يَجُزْ ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ يَفْسُدُ بِمَا ذَكَرْنَا ، فَإِنْ شَرَطَ عَلَى الْمَحْمَلِ ظِلًّا احْتَاجَ فِيهِ إِلَى شَرْطَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الظِّلُّ مَعْلُومًا ، وَالْعِلْمُ بِهِ قَدْ يَكُونُ بِالْمُشَاهَدَةِ تَارَةً وَبِالصِّفَةِ أُخْرَى بِخِلَافِ الْمَحْمَلِ . وَالثَّانِي : ذِكْرُ ارْتِفَاعِهِ وَانْخِفَاضِهِ لِاخْتِلَافِ ذَلِكَ عَلَى الْبَعِيرِ وَالرَّاكِبِ . فَأَمَّا الْمَعَالِيقُ فَهِيَ مَا يَتَعَلَّقُ عَلَى الْمَحْمَلِ مِنْ تَوَابِعِهِ وَأَدَوَاتِ رَاكِبِهِ كَالْقِرْبَةِ وَالسَّطْحِيَّةِ وَالزِّنْبِيلِ وَالْقِدْرِ وَكَذَا الْمِضْرَبَةِ وَالْمِخَدَّةِ ، فَإِنْ شُوهِدَ ذَلِكَ مَعَ الْمَحْمَلِ أَوْ وُصِفَ مَعَ مُشَاهَدَةِ الْمَحْمَلِ صَارَ بِكِلَا الْأَمْرَيْنِ مَعْلُومًا وَصَحَّ الْعَقْدُ ، وَإِنْ أُطْلِقَ ذِكْرُهَا مِنْ غَيْرِ مُشَاهِدَةٍ وَلَا صِفَةٍ ؛ فَإِنْ كَانَتْ مَعَالِيقُ النَّاسِ بِذَلِكَ الْبَلَدِ مُخْتَلِفَةً بَطَلَ الْعَقْدُ ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَقَارِبَةً فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الْقِيَاسُ بُطْلَانُ الْإِجَارَةِ : لِأَنَّ التَّمَاثُلَ فِيهَا مُتَعَذَّرٌ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : جَوَازُهَا لِضِيقِ الْأَمْرِ فِي مُشَاهَدَتِهَا أَوْ صِفَتِهَا ، وَأَنَّ الْعَمَلَ بِإِطْلَاقِهَا جَائِزٌ ، وَعُرْفَ النَّاسِ فِيهَا مَقْصُودٌ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا مَا يُكْتَرَى لِلْحَمُولَةِ كِرَاءُ الْبَهَائِمِ فَيَحْتَاجُ إِلَى شَرْطٍ وَاحِدٍ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَتَاعُ الْمَحْمُولُ مَعْلُومًا ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى ذِكْرِ جِنْسِ الْمَرْكُوبِ وَصِفَتِهِ بِخِلَافِ الرُّكُوبِ : لِأَنَّ أَغْرَاضَ النَّاسِ فِي
رُكُوبِهِمْ مُخْتَلِفَةٌ ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَقْبِحُ رُكُوبَ الْحَمِيرِ مِنَ الدَّوَابِّ وَالْعِرَابِ مِنَ الْإِبِلِ ، وَلَا يَرْضَى إِلَّا بِرُكُوبِ الْخَيْلِ مِنَ الدَّوَابِّ وَالْبَخَاتِيِّ مِنَ الْإِبِلِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَسْتَقْبِحُ ذَلِكَ وَلَا يَرْضَاهُ فَاحْتَاجَ إِلَى ذِكْرِ جِنْسِ الْمَرْكُوبِ . وَأَمَّا الْحَمُولَةُ فَالْقَصْدُ مِنْهَا إِيصَالُهَا إِلَى الْبَلَدِ الْمَقْصُودِ ، وَلَيْسَ لَهُ غَرَضٌ يَصِحُّ فِي اخْتِلَافِ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى ذِكْرِ جِنْسِهِ . وَإِذَا كَانَ الشَّرْطُ الْمُعْتَبَرُ بَعْدَ ذِكْرِ الْبَلَدِ الْمَقْصُودِ أَنْ تَكُونَ الْحَمُولَةُ مَعْلُومَةً فَقَدْ تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِوَاحِدٍ مِنْ أَمْرَيْنِ : هُمَا الْمُشَاهَدَةُ أَوِ الصِّفَةُ ، فَإِنْ شَاهَدَ الْحَمُولَةَ صَارَتْ مَعْلُومَةً وَإِنْ لَمْ يَقِفْ عَلَى قَدْرِ وَزْنِهَا ، كَمَا لَوْ شَاهَدَ الصُّبْرَةَ الْمَبِيعَةَ صَحَّ الْبَيْعُ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ قَدْرَ كَيْلِهَا . وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ الْإِجَارَةُ حَتَّى تَكُونَ مَعْلُومَةَ الْقَدْرِ وَالْوَزْنِ عِنْدَهُمَا مَعَ الْمُشَاهَدَةِ مَخْرَجَ مَنْ دَفَعَ الدَّرَاهِمَ جُزَافًا فِي السَّلَمِ هَلْ يَصِحُّ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . كَذَلِكَ هَذَا : لِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ وَالسَّلَمِ جَمِيعًا غَيْرُ مُنْبَرِمٍ بِخِلَافِ الْبَيْعِ . وَإِنْ لَمْ يُشَاهِدِ الْحَمُولَةَ وَوُصِفَتْ صَحَّ ، وَاحْتَاجَتْ فِي الصِّفَةِ إِلَى شَرْطَيْنِ : أَحَدُهُمَا : ذِكْرُ الْجِنْسَ مَنْ قُطْنٍ ، أَوْ حَدِيدٍ ، أَوْ حِنْطَةٍ ، أَوْ ثِيَابٍ . وَالثَّانِي : ذِكْرُ الْوَزْنِ وَأَنَّهُ مِائَةُ رِطْلٍ وَإِنْ كَانَ مَكِيلًا جَازَ أَنْ يُذْكَرَ قَدْرُهُ كَيْلًا كَالْبَيْعِ وَإِنْ كَانَ الْوَزْنُ فِيهِ أَحْوَطَ وَالْعُرْفُ فِيهِ أَكْثَرَ ، فَلَوْ كَانَ الْمَحْمُولُ زَادًا فَذُكِرَ وَزَنُهُ وَلَمْ يُذْكَرْ أَجْنَاسُهُ لَمْ يَجُزْ لِاخْتِلَافِ كُلِّ جِنْسٍ ، فَإِنْ ذُكِرَ كُلُّ جِنْسٍ وَقَدْرُهُ مِنْ كَعْكٍ وَدَقِيقٍ وَتَمْرٍ وَسَوِيقٍ جَازَ ، ثُمَّ إِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَسْتَغْنِي عَنْ ظُرُوفٍ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ الظُّرُوفُ مَعْلُومَةً إِلَّا أَنْ تَكُونَ دَاخِلَةً فِي وَزْنِ الْمَتَاعِ الْمَحْمُولِ فَيَجُوزَ أَنْ تُجْهَلَ . وَإِنْ تَمَيَّزَتْ عَنْهُ فَلَا بُدَّ مِنَ الْعِلْمِ بِهَا ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِالْمُشَاهَدَةِ تَارَةً وَبِالصِّفَةِ أُخْرَى ، فَإِنْ أَطْلَقَهَا وَلَمْ يَذْكُرِ الْجِنْسَ لَمْ يَجُزْ ، وَإِنْ ذَكَرَ الْجِنْسَ مِنْ غَيْرِ صِفَةٍ فَإِنْ كَانَ الْجِنْسُ مُخْتَلِفًا لَمْ يَجُزْ وَإِنْ كَانَ الْجِنْسُ مُتَّفِقًا مُتَقَارِبًا كَالْغَرَائِزِ الْجَبَلِيَّةِ جَازَ ، فَإِنِ اسْتَأْجَرَهُ لِحَمْلِ قُطْنٍ فَأَرَادَ أَنْ يَحْمِلَ مَكَانَهُ حَدِيدًا لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّ الْحَدِيدَ يَجْتَمِعُ عَلَى جَنْبِ الْبَعِيرِ فَيَضْغَطُهُ ، وَالْقُطْنُ يَتَجَافَى عَنْهُ وَهَكَذَا لَوِ اسْتَأْجَرَهُ لَحَمْلِ حَدِيدٍ فَأَرَادَ أَنْ يَحْمِلَ مَكَانَهُ قُطْنًا لَمْ يَجُزْ : لَأَنَّ الْقُطْنَ لِتَجَافِيهِ تَسْتَقْبِلُهُ الرِّيَاحُ فَيَشُقُّ عَلَى الْبَعِيرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْحَدِيدُ لِاجْتِمَاعِهِ وَصِغَرِهِ وَلَكِنْ لَوِ اسْتَأْجَرَ لِحَمْلِ حِنْطَةٍ جَازَ أَنْ يَحْمِلَ غَيْرَهَا مِنَ الْحُبُوبِ الَّتِي تُقَارِبُ الْحِنْطَةَ كَالشَّعِيرِ وَالْعَدَسِ كَمَا جَازَ فِي الرُّكُوبِ أَنْ يُبَدِّلَ الرَّاكِبُ مِثْلَهُ ، وَعَلَى هَذَا لَوِ اسْتَأْجَرَ لِيَرْكَبَ عَلَى سَرْجٍ فَرَكِبَ عَرِيًّا لَمْ يَجُزْ : لَأَنَّ رُكُوبَ الْبَهِيمَةِ عَرِيًّا يَضُرُّ بِهَا وَلَوِ اسْتَأْجَرَ لِيَرْكَبَ عَرِيًّا فَرَكِبَ عَلَى سَرْجٍ لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّهُ زِيَادَةُ حَمُولَةٍ لَمْ يَشْتَرِطْهَا .
فَصْلٌ : وَأَمَّا مَا يُكْتَرَى لِلْعَمَلِ فَقَدْ يُكْرَى لِأَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الْعَمَلِ كِرَاءُ الْبَهَائِمِ ، فَإِنْ شَاءَ غَيْرَهَا كَانَ مُلْحَقًا بِأَحَدِهَا ، فَأَحَدُ أَنْوَاعِ الْعَمَلِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ لِحَرْثِ الْأَرْضِ مما يكترى من البهائم للعمل فَيُعْتَبَرُ فِي صِحَّةِ الْإِجَارَةِ عَلَى ذَلِكَ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ جِنْسُ الْبَهِيمَةِ الْمُسْتَأْجَرَةِ لِلْحَرْثِ مَعْلُومًا إِمَّا بِالْمُشَاهَدَةِ ، أَوْ بِالذَّكَرِ مِنْ
ثَوْرٍ ، أَوْ بَقَرَةٍ ، أَوْ جَامُوسٍ ، أَوْ بَغْلٍ : لِأَنَّ عَمَلَ كُلِّ جِنْسٍ مِنْهَا مُخْتَلِفٌ . وَالشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ نَاحِيَةُ الْأَرْضِ الْمَحْرُوثَةِ مَعْلُومَةً وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْأَرْضُ مَعْلُومَةً : لِأَنَّ النَّوَاحِيَ قَدْ تَخْتَلِفُ أَرْضُهَا فِي الصَّلَابَةِ وَالرَّخَاوَةِ . وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مَعْلُومًا ، وَالْعِلْمُ بِهِ قَدْ يَكُونُ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إِمَّا بِتَقْدِيرِ الْعَمَلِ مَعَ الْجَهْلِ بِالْمُدَّةِ كَاشْتِرَاطِهِ حَرْثَ عَشْرَةِ أَجْرِبَةٍ فَيَصِحُّ مَعَ الْجَهْلِ بِالْمُدَّةِ ، وَإِمَّا بِتَقْدِيرِ الْمُدَّةِ مَعَ الْجَهْلِ بِقَدْرِ الْعَمَلِ كَاشْتِرَاطِ حَرْثِ شَهْرٍ فَيَصِحُّ مَعَ الْجَهْلِ بِقَدْرِ الْعَمَلِ فَيَصِيرُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ مَعْلُومًا . وَالنَّوْعُ الثَّانِي مِنْ أَنْوَاعِ الْعَمَلِ : أَنْ يُسْتَأْجَرَ لِدِيَاسِ الزَّرْعِ مِنَ الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ مما يكترى من البهائم للعمل فَيَحْتَاجَ إِلَى شَرْطَيْنِ : أَحَدُهُمَا : ذِكْرُ جِنْسِ الزَّرْعِ مَنْ بُرٍّ أَوْ شَعِيرٍ لِاخْتِلَافِهِ . وَالثَّانِي : الْعِلْمُ بِقَدْرِ الْعَمَلِ ، وَقَدْ يَتَقَدَّرُ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : بِمُشَاهَدَةِ الزَّرْعِ وَرُؤْيَتِهِ فَيَصِيرُ الْعَمَلُ مَعْلُومًا وَتَصِحُّ الْإِجَارَةُ عَلَيْهِ بِهَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ جِنْسُ مَا يُدْرَسُ بِهِ مِنَ الْبَهَائِمِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يُقَدَّرَ الْعَمَلُ بِالْبَاقَاتِ وَالْحُزَمِ فَلَا تَصِحُّ لِاخْتِلَافِ ذَلِكَ فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنْ يُقَدَّرَ بِالزَّمَانِ كَاشْتِرَاطِهِ أَنْ يَدُوسَ زَرْعَهُ شَهْرًا فَيَصِحَّ وَيَصِيرَ الْعَمَلُ بِالزَّمَانِ مَعْلُومًا ، وَتَحْتَاجُ صِحَّةُ الْعَقْدِ مَعَ الشَّرْطَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ إِلَى شَرْطٍ ثَالِثٍ وَهُوَ ذِكْرُ جِنْسِ مَا يَدُوسُ بِهِ مِنَ الْبَهَائِمِ مَعَ ذِكْرِ الْعَدَدِ : لِأَنَّ لِكُلِّ جِنْسٍ مِنَ الْبَهَائِمِ فِي الدِّيَاسِ أَثَرًا يُخَالِفُ غَيْرَهُ مِنَ الْأَجْنَاسِ . وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَمَلِ أَنْ يُسْتَأْجَرَ لِإِدَارَةِ الدَّوَالِيبِ مما يكترى من البهائم للعمل فَتُعْتَبَرُ صِحَّةُ الْإِجَارَةِ فِيهِ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ الْبَهِيمَةُ مَعْلُومَةً إِمَّا بِالْمُشَاهَدَةِ وَالتَّعْيِينِ وَإِمَّا بِذِكْرِ الْجِنْسِ مِنْ بَقَرَةٍ أَوْ بَعِيرٍ : لِأَنَّ عَمَلَ كُلِّ جِنْسٍ يُخَالِفُ غَيْرَهُ ، وَالثَّانِي : يَعْتَبِرُ الدُّولَابَ الدَّارَ ، وَلَا تَقَعُ فِيهِ الصِّفَةُ : لِأَنَّهَا لَا تَضْبُطُهُ ، وَلَا تَقُومُ مَقَامَ الْمُشَاهِدَةِ لِاخْتِلَافِ الدَّوَالِيبِ بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ فِي خِفَّةِ الْخَشَبِ وَثِقَلِهِ وَضِيقِ الْكُوزِ وَسَعَتِهِ وَكَثْرَتِهِ . قُلْتُ فَإِنْ لَمْ يُشَاهِدِ الدُّولَابَ لَمْ يَجُزْ ، وَالثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ قَدْرُ الْعَمَلِ مَعْلُومًا ، وَالْعِلْمُ بِهِ يَتَقَدَّرُ بِالْمُدَّةِ وَلَا يَتَقَدَّرُ بِالْعَمَلِ : لِأَنَّهُ إِذَا قُدِّرَ ذَلِكَ بِسَقْيِ عَشْرَةِ أَجْرِبَةٍ فَقَدْ يُرْوَى بِقَلِيلِ الْمَاءِ ، وَقَدْ لَا يُرْوَى إِلَّا بِكَثِيرِهِ ، فَلَا يَصِيرُ تَقْدِيرُ الْعَمَلِ مَعْلُومًا فَاحْتِيجَ إِلَى تَقْدِيرِهِ بِالْمُدَّةِ فَيُسْتَأْجَرُ لِسَقْيِ شَهْرٍ فَيَصِيرُ الْعَمَلُ بِالْمُدَّةِ مَعْلُومًا . فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ تَخْرُجُ مِنَ الْمُدَّةِ أَوْقَاتُ الِاسْتِرَاحَةِ وَزَمَانُ الْعُلُوفَةِ فَيُصِيرُ الْعَمَلُ بِذِكْرِ الْمُدَّةِ مَجْهُولًا قِيلَ هَذِهِ أَوْقَاتٌ اسْتَثْنَاهَا الْعُرْفُ ، وَالشَّرْعُ فَهِيَ وَإِنْ لَمْ تَتَقَدَّرْ شَرْطًا تَقَدَّرَتْ عُرْفًا وَكَانَ تَفَاوُتُ الْعُرْفِ فِيهَا يَسِيرًا يُعْفَى عَنْهُ لِعَدَمِ التَّحَرُّرِ مِنْهُ . وَالنَّوْعُ الرَّابِعُ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَمَلِ : أَنْ يُسْتَأْجَرَ لِاصْطِيَادِ صَيْدٍ مما يكترى من البهائم للعمل فَيَحْتَاجُ إِلَى ثَلَاثَةِ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : ذِكْرُ جِنْسِ الْجَارِحِ مِنْ فَهْدٍ ، أَوْ نَمِرٍ ، أَوْ بَازٍ ، أَوْ صَقْرٍ ، وَأَمَّا الْكَلْبُ ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ
ذَكَرْنَاهُمَا . وَلَوْ عَيَّنَ الْجَارِحَ فِي الْعَقْدِ كَانَ أَوْلَى لِاخْتِلَافِهَا فِي الضَّرَاوَةِ وَالتَّعْلِيمِ ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْهُ وَأَطْلَقَ ذِكْرَ الْجِنْسِ بَعْدَ وَصْفِهِ بِالتَّعْلِيمِ صَحَّ . وَالشَّرْطُ الثَّانِي : ذِكْرُ مَا يُرْسَلُ عَلَيْهِ مِنَ الصَّيْدِ مِنْ غَزَالٍ ، أَوْ ثَعْلَبٍ ، أَوْ حِمَارِ وَحْشٍ : لِأَنَّ لِكُلِّ صَيْدٍ مِنْ ذَلِكَ أَثَرًا فِي إِتْعَابِ الْجَارِحِ ، فَإِنْ شَرَطَا جِنْسًا فَأَرْسَلَهُ عَلَى غَيْرِهِ جَازَ إِنْ كَانَ مِثْلَهُ أَوْ أَقْرَبَ ، وَإِنْ كَانَ أَصْعَبَ صَارَ مُتَعَدِّيًا وَضَمِنَ الْجَارِحَ إِنْ هَلَكَ ، وَأُجْرَةُ تَعَدِّيهِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ . وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مَعْلُومَ الْقَدْرِ ، وَلَا يَتَقَدَّرُ ذَلِكَ إِلَّا بِالزَّمَانِ كَاشْتِرَاطِهِ اصْطِيَادَ شَهْرٍ ، فَأَمَّا تَقْدِيرُهُ بِأَعْدَادِ مَا يَصْطَادُ فَلَا يَصِحُّ : لِأَنَّهُ قَدْ يَعِنُّ لَهُ الصَّيْدُ وَلَا يَعِنُّ ، وَقَدْ يَصِيدُ إِذَا عَنَّ وَقَدْ لَا يَصِيدُ ، فَهَذَا تَفْصِيلُ مَا تُكْرَى لَهُ الْبَهَائِمُ مِنَ الْمَنَافِعِ الْمَأْلُوفَةِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا آلَةُ الرُّكُوبِ وَالْحَمُولَةِ إِذَا أَطْلَقَ اشْتِرَاطَهَا عَلَى أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مِنَ الْمُكْرِي وَالْمُكْتَرِي ، فَيَنْظُرُ فِيهَا فَمَا كَانَ مِنْهَا لِلتَّمْكِينِ مِنَ الرُّكُوبِ ، وَالْحَمْلِ كَالْحَوِيَّةِ ، وَالْقَتَبِ ، وَالْأُكَافِ ، وَالْخِطَامِ فَكُلُّهُ عَلَى الْجَمَّالِ الْمُكْرِي : لِأَنَّ الرُّكُوبَ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِهِ فَكَانَ مِنْ حُقُوقِ التَّمْكِينِ اللَّازِمَةِ لَهُ ، وَمَا كَانَ مِنْهَا لِتَوْطِيَةِ الْمَرْكُوبِ كَالْمَحْمَلِ ، وَالْوِطَاءِ ، وَالظِّلِّ ، وَمَا يُعَلَّقُ بِهِ الْمَحْمَلُ عَلَى ظَهْرِ الْبَعِيرِ مِنْ بَرْدَعَةٍ زَائِدَةٍ ، فَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى الرَّاكِبِ الْمُكْتَرِي ، فَأَمَّا الْحَبْلُ الَّذِي يُشَدُّ بَيْنَ الْمَحْمَلَيْنِ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ عَلَى الْجَمَّالِ الْمُكْرِي : لِأَنَّهُ مِنْ آلَةِ التَّمْكِينِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ عَلَى الرَّاكِبِ الْمُكْتَرِي : لِأَنَّهُ مِنْ آلَةِ الْمَحْمَلِ اللَّازِمِ لَهُ ؟ فَأَمَّا الْحَبْلُ الَّذِي يُشَدُّ بِهِ الْمَحْمَلُ عَلَى الْبَعِيرِ ، فَعَلَى الْجَمَّالِ الْمُكْرِي بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا : لِأَنَّهُ مِنْ آلَةِ التَّمْكِينِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَإِنْ أَكْرَاهُ إِلَى مَكَّةَ فَشَرَطَ سَيْرًا مَعْلُومًا البعير فَهُوَ أَصَحُّ ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ فَالَذِي أَحْفَظُهُ أَنَّ السَّيْرَ مَعْلُومٌ عَلَى الْمَرَاحِلِ : لِأَنَّهَا الْأَغَلْبُ مِنْ سَيْرِ النَّاسِ كَمَا أَنَّ لَهُ مِنَ الْكِرَاءِ الْأَغْلَبَ مِنْ نَقْدِ الْبَلَدِ وَأَيُّهُمَا أَرَادَ الْمُجَاوَزَةَ ، أَوِ التَّقْصِيرَ لَمْ يَكُنْ لَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ : لِأَنَّ السَّيْرَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَّصِلَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا ، فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ وَقْتِ اسْتِرَاحَةِ وَوَقْتِ سَيْرٍ ، فَإِنْ شَرَطَا فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ قَدْرَ سَيْرِهَا فِي كُلِّ مَرْحَلَةٍ بِفَرَاسِخَ مَعْلُومَةٍ وَفِي وَقْتٍ مِنَ الزَّمَانِ مَعْلُومٍ البعير كَأَوَّلِ النَّهَارِ أَوْ آخِرِهِ ، أَوْ أَوَّلِ اللَّيْلِ أَوْ آخِرِهِ ، أَوْ طَرَفَيِ النَّهَارِ صَحَّ الْعَقْدُ وَحُمِلَا عَلَى شَرْطِهِمَا سَوَاءٌ وَافَقَا فِيهِ عُرْفَ النَّاسِ ، أَوْ خَالَفَاهُ كَمَا لَوْ شَرَطَا فِي الْأُجْرَةِ نَقْدًا سَمَّيَاهُ صَحَّ بِهِ الْعَقْدُ سَوَاءٌ وَافَقَا فِيهِ الْأَغْلَبُ مِنْ نُقُودِ النَّاسِ ، أَوْ خَالَفَاهُ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطَا سَيْرًا مَعْلُومًا فِي زَمَانٍ مَعْلُومٍ نُظِرَ ؛ فَإِنْ كَانَ سَيْرُ النَّاسِ فِي طَرِيقِهِمْ مَعْلُومًا بِمَنَازِلَ قَدْ تَقَدَّرَتْ لَهُمْ عُرْفًا وَفِي زَمَانٍ قَدْ صَارَ لَهُمْ إِلْفًا كَمَنَازِلِ طَرِيقِ مَكَّةَ فِي وَقْتِنَا ، وَسَيْرُ الْحَاجِّ فِيهَا فِي أَوْقَاتٍ رَاتِبَةٍ صَحَّتِ الْإِجَارَةُ مَعَ إِطْلَاقِ السَّيْرِ وَحُمِلَا عَلَى عُرْفِ النَّاسِ فِي سَيْرِهِمْ قَدْرًا وَوَقْتًا ، وَإِنْ كَانَ سَيْرُ النَّاسِ مُخْتَلِفًا بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ كَمَا أَنَّ إِطْلَاقَ النَّقْدِ فِي الْأُجْرَةِ يُوجِبُ حَمْلَهَا عَلَى الْأَغْلَبِ مِنْ نَقْدِ الْبَلَدِ فَإِنْ كَانَ نَقْدُ النَّاسِ مُخْتَلِفًا بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ .
فَصْلٌ : وَإِذَا أَرَادَ أَحَدُ الْمُتَكَارِيَيْنِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْمَسِيرِ بَيْنَهُمَا فِي قَدْرِهِ وَزَمَانِهِ إِمَّا بِالشَّرْطِ أَوِ الْعُرْفِ أَنْ يُخَالِفَ فِي زِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ مَا يُكْتَرَى لِلرُّكُوبِ ، وَإِنْ تَخَالَفَتْ زَمَانُهُ فِي تَقْدِيمٍ أَوْ تَأْخِيرٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ، وَحُمِلَ مِنْ فَارِقِ الشَّرْطِ أَوِ الْعُرْفِ عَلَى مَا الْتَزَمَاهُ شَرْطًا أَوْ عُرْفًا ، مِثْلَ أَنْ تَكُونَ الْمَرْحَلَةُ خَمْسَ فَرَاسِخَ فَأَرَادَ الْمُكْتَرِي أَنْ يَسْتَزِيدَ لِيُعَجِّلَ الْمَسِيرَ ، أَوْ أَرَادَ الْمُكْرِي أَنْ يَنْقُصَ لِتَرْفِيهِ الْبَعِيرِ . أَوْ كَانَ فِي اللَّيْلِ فَأَرَادَ الْمُكْتَرِي أَنْ يَسِيرَ نَهَارًا ، أَوْ كَانَ فِي النَّهَارِ فَأَرَادَ الْمُكْتَرِي أَنْ يَسِيرَ لَيْلًا : لِأَنَّ سَيْرَ اللَّيْلِ أَرْفَقُ بِالْبَعِيرِ وَأَشَقُّ عَلَى الرَّاكِبِ وَسَيْرَ النَّهَارِ أَرْفَقُ بِالرَّاكِبِ وَأَشَقُّ عَلَى الْبَعِيرِ لَمْ يَجُزْ ، وَحَمَلَ الْمُخَالِفُ مِنْهُمَا حَقَّهُ عَلَى مِمَّا يَسْتَحِقُّهُ بِالشَّرْطِ وَالْعُرْفِ ، وَهَكَذَا لَوْ طَلَبَ الْجَمَّالُ أَنْ يَخْرُجَ عَنِ الْقَافِلَةِ فِي مَسِيرِهِ طَلَبًا لِلْكَلَأِ أَوِ السِّعَةِ ، أَوْ طَلَبَ ذَلِكَ الرَّاكِبُ لَمْ يَجُزْ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا نُزُولُ الرَّاكِبِ لِلرَّوَاحِ لِيَمْشِيَ تَخْفِيفًا عَلَى الْبَعِيرِ مَا يُكْتَرَى لِلرُّكُوبِ ، فَإِنْ شَرَطَهُ الْجَمَّالُ عَلَى الرَّاكِبِ وَكَانَ مَعْلُومًا صَحَّ وَلَزِمَ وَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى أَوْقَاتِ الِاسْتِرَاحَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَشْرُطْهُ الْجَمَّالُ عَلَى الرَّاكِبِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ فِي سَفَرِهِمْ ذَلِكَ عُرْفٌ فِي الرَّوَاحِ لَمْ يَجِبْ عَلَى الرَّاكِبِ وَكَانَ لَهُ اسْتِدَامَةُ الرُّكُوبِ مَا كَانُوا عَلَى السَّيْرِ ، وَإِنْ كَانَ لَهُمْ عُرْفٌ فِي الرَّوَاحِ كَعُرْفِهِمْ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجِبُ عَلَى الرَّاكِبِ أَنْ يَمْشِيَ لِلرَّوَاحِ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ . وَالثَّانِي : لَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْعَقْدِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا اكْتَرَى لِنَفْسِهِ أَوْ لِعَبْدِهِ عَقَبَةً لِيَمْشِيَ وَقْتًا وَيَرْكَبَ وَقْتًا فَيَمْشِي بِقَدْرِ مَا رَكِبَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَشْتَرِكَ فِيهَا اثْنَانِ فَيَسْتَأْجِرَا بَعِيرًا لِيَتَعَاقَبَاهُ فَهَذَا جَائِزٌ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى بَعِيرٍ مُعَيَّنٍ أَوْ غَيْرِ مُعَيَّنٍ ، ثُمَّ يُحْمَلُ الشَّرِيكَانِ فِي تَعَاقُبِهِمَا عَلَى عُرْفِ النَّاسَ . وَهُوَ أَنْ يَرْكَبَ أَحَدُهُمَا سِتَّةَ أَمْيَالٍ ثُمَّ يَنْزِلَ فَيَمْشِيَ حَتَّى يَرْكَبَ شَرِيكُهُ مِثْلَهَا ، فَإِنْ تَنَازَعَا فِي الْأَسْبَقِ مِنْهُمَا بِالرُّكُوبِ جَازَ أَنْ يَقْتَرِعَا : لِأَنَّهَا فِي الْقَسْمِ الَّذِي تَدْخُلُهُ الْقُرْعَةُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْجِرُ الْعَقَبَةِ وَاحِدًا يَرْكَبُ فِي وَقْتٍ وَيَمْشِي فِي وَقْتٍ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْبَعِيرِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا ، أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُعَيَّنٍ صَحَّتِ الْإِجَارَةُ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَهُ عَقَبَةٌ عَلَى مَا يَعْرِفُ النَّاسُ ثُمَّ يَنْزِلُ فَيَمْشِي بِقَدْرِ مَا رَكِبَ ، وَلَا يُتَابِعِ الْمَشْيَ فَيَقْدَحَ ، وَلَا الرُّكُوبَ فَيَضُرَّ بِبَعِيرِهِ . يَعْنِي أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى عُرْفِ النَّاسِ فِي الْوَقْتِ فِي رُكُوبِهِ وَمَشْيِهِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَمْيَالِ السِّتَّةِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَا أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ ، فَهُوَ عَلَى شَرْطِهِمَا وَإِنْ كَانَ الْبَعِيرُ مُعَيَّنًا ، فَفِي صِحَّةِ الْإِجَارَةِ عَلَيْهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : صَحِيحَةٌ كَالرَّوَاحِ الَّذِي يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ مَعَ تَعَيُّنِ الْبَعِيرِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : قَالَهُ الْمُزَنِيُّ وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّ الْإِجَارَةَ عَلَيْهَا بَاطِلَةٌ : لِأَنَّ الْعَقْدَ فِيهَا وَقَعَ عَلَى عَيْنِ شَرْطٍ فِيهَا تَأْخِيرُ الْقَبْضِ وَخَالَفَ اشْتِرَاطَ الرَّوَاحِ الَّذِي هُوَ يَسِيرُ كَالِاسْتِرَاحَةِ .
مَسْأَلَةٌ إِنْ تَكَارَى إِبِلًا بِأَعْيَانِهَا
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " فَإِنْ تَكَارَى إِبِلًا بِأَعْيَانِهَا رَكِبَهَا ، وَإِنْ ذَكَرَ حَمُولَةً مَضْمُونَةً وَلَمْ تَكُنْ بِأَعْيَانِهَا رَكِبَ مَا يَحْمِلُهُ غَيْرَ مُضِرٍّ بِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ كِرَاءَ الْإِبِلِ مُعَيَّنٌ وَمَضْمُونٌ ، فَالْمُعَيَّنُ أَنْ يَكْتَرِيَ بَعِيرًا بِعَيْنِهِ قَدْ رَآهُ فَيُوقِعَ الْعَقْدَ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ لِلرَّاكِبِ أَنْ يَسْتَبْدِلَ بِهِ وَلَا لِلْجَمَّالِ إِلَّا عَنْ مُرَاضَاةٍ ، فَإِنْ ظَهَرَ بِالْبَعِيرِ عَيْبٌ مِنْ صُعُوبَةِ ظَهْرٍ ، أَوْ خُشُونَةِ سَيْرٍ بعد كرائه كَانَ لَهُ الْخِيَارُ فِي الْمُقَامِ أَوِ الْفَسْخُ كَمَا يَفْسَخُ بِظُهُورِ الْعَيْبِ فِي بُيُوعِ الْأَعْيَانِ . فَإِنْ هَلَكَ الْبَعِيرُ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ وَصَارَ كَانْهِدَامِ الدَّارِ وَمَوْتِ الْعَبْدِ فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى . وَأَمَّا الْمَضْمُونُ فَهُوَ أَنْ يَكْتَرِيَ مِنْهُ رَكُوبَةَ بَعِيرٍ لَا يُعَيِّنُهُ ، أَوْ حَمُولَةً مَضْمُونَةً فِي ذِمَّتِهِ وَيَخْتَارَ أَنْ يَقُولَ فِي الْعَقْدِ بَعِيرًا مِنَ الْإِبِلِ السِّمَانِ الْمَسَانِّ الْمُذَلَّلِ تَأْكِيدًا ، فَإِنْ أَغْفَلَهُ صَحَّ الْعَقْدُ وَعَلَى الْجَمَّالِ أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى بَعِيرٍ وَطِيءِ الظَّهْرِ سَهْلِ السَّيْرِ ، فَإِنْ أَرْكَبَهُ بَعِيرًا خَشِنَ الظَّهْرِ صَعْبَ السَّيْرِ فَلَهُ مُطَالَبَةُ الْجَمَّالِ بِبَدَلِهِ مِمَّا لَا عَيْبَ فِي سَيْرِهِ كَمَا يَسْتَبْدِلُ بِالسَّلَمِ الْمَضْمُونِ إِذَا وَجَدَ بِهِ عَيْبًا ، وَهَكَذَا لَوْ مَاتَ الْبَعِيرُ طَالَبَ بِغَيْرِهِ ، وَلَوْ أَرَادَ الرَّاكِبُ وَالْبَعِيرُ وَطِيءُ الظَّهْرِ سَهْلُ السَّيْرِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِأَوْطَأَ مِنْهُ وَأَسْهَلَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي السَّلَمِ إِذَا دَفَعَ إِلَيْهِ عَلَى صِفَتِهِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِمَا هُوَ أَجْوَدُ فَلَوْ أَرَادَ الْجَمَّالُ أَنْ يُبَدِّلَ الْبَعِيرَ الَّذِي قَدِ اسْتَوْطَأَهُ الرَّاكِبُ بِغَيْرِهِ مِنَ الْإِبِلِ الْوَطِيئَةِ ، فَإِنِ انْزَعَجَ بِهِ الرَّاكِبُ أَوِ اسْتَضَرَّ لَمْ يَكُنْ لَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَنْزَعِجْ بِهِ جَازَ وَلَمْ يَكُنْ لِلرَّاكِبِ عَلَيْهِ اعْتِرَاضٌ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَعَلَيْهِ أَنْ يُرْكِبَ الْمَرْأَةَ وَيُنْزِلَهَا عَنِ الْبَعِيرِ بَارِكًا : لِأَنَّهُ رُكُوبُ النِّسَاءِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الْقِيَامَ بِالْبَعِيرِ الْمُكْرَى فِي قَوْدِهِ وَتَسْيِيرِهِ وَنُزُولِهِ وَرَحِيلِهِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْجَمَّالِ الْمُكْرِي دُونَ الرَّاكِبِ الْمُكْتَرِي ، سَوَاءٌ وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى مُعَيَّنٍ أَوْ مَضْمُونٍ لِمَا عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقِ التَّمْكِينِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَعَلَيْهِ إِذَا كَانَ الرَّاكِبُ امْرَأَةً أَنْ يُنِيخَ لَهَا الْبَعِيرَ إِذَا أَرَادَتِ الرُّكُوبَ أَوِ النُّزُولَ لِتَرْكَبَ وَتَنْزِلَ وَالْبَعِيرُ بَارَكًا البعير المكرى ، سَوَاءٌ قَدَرَتْ عَلَى الرُّكُوبِ وَالنُّزُولِ مَعَ قِيَامِ الْبَعِيرِ أَوْ لَا : لِأَنَّهُ الْمَعْهُودُ مِنْ رُكُوبِ النِّسَاءِ فَحَمَلَتْ عَلَيْهِ وَلِأَنَّ فِي رُكُوبِهَا وَالْبَعِيرُ قَائِمٌ هَتْكًا وَتَبَرُّجًا فَمُنِعَ مِنْهُ . فَأَمَّا الرَّجُلُ فَإِنْ كَانَ شَيْخًا ، أَوْ مَرِيضًا ، أَوْ ثَقِيلَ الْبَدَنِ ، أَوْ مِمَّنْ لَا يُحْسِنُ رُكُوبَ الْبَعِيرِ الْقَائِمِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُنِيخَ لَهُ الْبَعِيرَ فِي رُكُوبِهِ وَنُزُولِهِ كَالْمَرْأَةِ . وَإِنْ كَانَ شَابًّا سَرِيعَ النَّهْضَةِ يُحْسِنُ رُكُوبَ الْبَعِيرِ الْقَائِمِ وَقَفَ لَهُ الْبَعِيرُ حَتَّى يَرْكَبَهُ ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُنِيخَهُ لَهُ بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ وَالشَّيْخِ ، فَإِنْ كَانَ عَلَى الْبَعِيرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ لِرُكُوبِهِ عَلَيْهِ تَعَلَّقَ بِهِ وَرَكِبَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَبَّكَ لَهُ الْجَمَّالُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ لِيَرْقَى عَلَيْهَا فَيَتَمَكَّنَ مِنْ رُكُوبِ الْبَعِيرِ عَلَى مَا جَرَى بِهِ الْعُرْفُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَيُنْزِلَ الرَّجُلَ لِلصَّلَاةِ وَيَنْتَظِرَهُ حَتَّى يُصَلِّيَهَا غَيْرَ مُعَجِّلٍ لَهُ وَلِمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ مِنَ الْوُضُوءِ " .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَا لَا يَقْدِرُ الرَّاكِبُ أَنْ يَفْعَلَهُ عَلَى الْبَعِيرِ فَعَلَى الْجَمَّالِ أَنْ يُنْزِلَهُ لِأَجْلِهِ البعير المكرى ، وَمَا قَدَرَ عَلَى فِعْلِهِ لَمْ يُنْزِلْهُ ؟ فَمِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَى فِعْلِهِ رَاكِبًا كَحَاجَتِهِ إِلَى الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ ، وَكَذَلِكَ الْوُضُوءُ لِمَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ مَحْمَلًا وَصَلَاةُ الْفَرْضِ : لِأَنَّهُ وَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهَا رَاكِبًا فَالشَّرْعُ يَمْنَعُ مِنْ أَدَائِهَا إِلَّا نَازَلَا فَإِذَا نَزَلَ لِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَبَاطَّأَ ، وَلَا لِلْجَمَّالِ أَنْ يُعَجِّلَهُ ، وَيُمَكِّنُهُ مِنْ قَضَاءِ حَاجَتِهِ وَطَهَارَتِهِ وَمِنْ أَدَاءِ صَلَاتِهِ بِفُرُوضِهَا وَسُنَنِهَا ، فَإِنْ تَثَاقَلَ فِي الْحَاجَةِ وَتَبَاطَأَ عَنِ الْعَادَةِ مُنِعَ ، فَإِنْ كَانَ طَبْعًا فِيهِ وَعَادَةً لَهُ كَانَ عَيْبًا ، وَالْجَمَّالُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الصَّبْرِ لَهُ عَلَى ذَلِكَ أَوْ فَسْخِ الْإِجَارَةِ . هَكَذَا لَوْ كَانَ غَيْرَ الرُّكُوبِ خُيِّرَ الْجَمَّالُ بَيْنَ الْمُقَامِ أَوِ الْفَسْخِ إِلَّا أَنْ يَسْتَبْدِلَ الرَّاكِبُ بِنَفْسِهِ مَنْ لَا يَكُونُ عَسُوفًا فَلَا خِيَارَ لِلْجَمَّالِ ، فَأَمَّا مَا يُمْكِنُ الرَّاكِبُ أَنْ يَفْعَلَهُ رَاكِبًا كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَصَلَاةِ النَّافِلَةِ فَلَيْسَ عَلَى الْجَمَّالِ أَنْ يُنْزِلَهُ لِذَلِكَ ، وَسَوَاءٌ كَانَتِ النَّافِلَةُ مِنَ السُّنَنِ الْمُوَظَّفَاتِ أَوْ كَانَتْ تَطَوُّعًا : لِأَنَّ فِعْلَ الْجَمِيعِ عَلَى الْبَعِيرِ جَائِزٌ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَكَارَى بَعِيرًا بِعَيْنِهِ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ إِلَّا عِنْدَ خُرُوجِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ إِجَارَةَ الظَّهْرِ لِلرُّكُوبِ أَوِ الْحَمُولَةِ ضَرْبَانِ مُعَيَّنَةٌ وَمَضْمُونَةٌ : فَإِنْ كَانَتْ مُعَيَّنَةً عَلَى بَعِيرٍ بِعَيْنِهِ جَازَ أَنْ يَتَقَدَّرَ رُكُوبُهُ بِالْمُدَّةِ فَيَسْتَأْجِرَهُ لِيَرْكَبَهُ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى مَكَّةَ ، فَيَصِيرُ الرُّكُوبُ مَعْلُومًا بِكِلَا الْأَمْرَيْنِ بِالْمُدَّةِ وَالْمَسَافَةِ ، وَتَصِحُّ الْإِجَارَةُ عَلَيْهِ ، فَإِنْ شَرَطَ فِي هَذَا الْعَقْدِ الْمُعَيَّنِ أَجَلًا جُعِلَ مَحَلًّا لِلْقَبْضِ وَالتَّسَلُّمِ كَقَوْلِهِ أَجَّرْتُكَ هَذَا الْبَعِيرَ لِتَرْكَبَهُ إِلَى مَكَّةَ عَلَى أَنْ أُسَلِّمَهُ إِلَيْكَ بَعْدَ شَهْرٍ أَوْ بَعْدَ يَوْمٍ لَمْ يَجُزْ وَكَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا سَوَاءٌ قَلَّ الْأَجَلُ أَوْ كَثُرَ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ الْعَقْدُ سَوَاءٌ قَلَّ الْأَجَلُ أَوْ كَثُرَ وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ قَلَّ الْأَجَلُ صَحَّ الْعَقْدُ وَإِنْ كَثُرَ فَسَدَ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ قَبْضَ الْمَنَافِعِ فِي الْإِجَارَاتِ يَتَأَخَّرُ حُكْمًا فِي الْمَضْمُونِ وَالْمُعَيَّنِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ إِقْبَاضُ الرَّقَبَةِ مُتَأَخِّرًا شَرْطًا فِي الْمَضْمُونِ وَالْمُعَيَّنِ . وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ مَا تَعَيَّنَ بِعُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ لَمْ يَجُزْ تَأْجِيلُ قَبْضِهِ كَالْبَيْعِ ، وَلِأَنَّ عُقُودَ الْمَنَافِعِ إِذَا تَعَيَّنَتْ رِقَابُهَا بَطَلَتْ بِتَأْجِيلِ إِقْبَاضِهَا كَالزَّوْجَةِ إِذَا شَرَطَ تَأْجِيلَ تَسْلِيمِهَا ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَةِ عَيْنٍ يَتَخَلَّلُ بَيْنَ الْعَقْدِ وَالتَّسْلِيمِ مَنْفَعَةٌ يَسْتَحِقُّهَا غَيْرُ الْعَاقِدِ فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ الْعَقْدُ كَالْعَقْدِ عَلَى امْرَأَةٍ ذَاتِ زَوْجٍ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الْمَنَافِعَ يَتَأَخَّرُ قَبْضُهَا حُكْمًا فَجَازَ أَنْ يَتَأَخَّرَ شَرْطًا ، فَهُوَ أَنَّ قَبْضَ الْمَنَافِعِ مُتَعَجَّلٌ وَإِنَّمَا الِاسْتِيفَاءُ مُتَأَخَّرٌ لِتَعَذُّرِ التَّعْجِيلِ فِيهِ وَلَيْسَ كَالرَّقَبَةِ الَّتِي لَا يَتَعَذَّرُ تَعْجِيلُ قَبْضِهَا ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ تَأْخِيرَ الْقَبْضِ بِشَرْطٍ لَا يَصِحُّ فَإِنْ وَقَعَ الْعَقْدُ مُطْلَقًا ثُمَّ تَأَخَّرَ الْقَبْضُ فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ كَالْعَيْنِ الْمَبِيعَةِ إِذَا تَأَخَّرَ قَبْضُهَا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمَضْمُونُ فِي الذِّمَّةِ فَيَجُوزُ تَقْدِيرُ الرُّكُوبِ فِيهِ بِالْمُدَّةِ وَالْمَسَافَةِ كَالْمُعَيَّنِ ، وَيَجُوزُ تَعْجِيلُهُ وَتَأْجِيلُهُ بِخِلَافِ الْمُعَيَّنِ : لِأَنَّ مَا ضُمِنَ فِي الذِّمَّةِ لَمْ يَمْتَنِعْ فِيهِ تَأْجِيلُ الْقَبْضِ
كَالسَّلَمِ فَإِنْ عُقِدَ حَالًا جَازَ أَنْ تَكُونَ الْأُجْرَةُ فِيهِ حَالَةً وَمُؤَجَّلَةً ، وَإِنْ عُقِدَ مُؤَجَّلًا كَاسْتِئْجَارِهِ رُكُوبَ بَعِيرٍ فِي ذِمَّتِهِ يَرْكَبُهُ إِلَى مَكَّةَ بَعْدَ شَهْرٍ مِنْ وَقْتِهِ لَمْ يَجُزْ تَأْجِيلُ الْأُجْرَةِ فِيهِ : لِأَنَّهَا تَصِيرُ دَيْنًا بِدَيْنٍ ، وَهَلْ يَلْزَمُ تَعْجِيلُ قَبْضِهَا قَبْلَ الِافْتِرَاقِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَلْزَمُ كَالسَّلَمِ الْمَضْمُونِ فَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الْعَقْدُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَلْزَمُ وَيَجُوزُ أَنْ يَتَفَرَّقَا قَبْلَ الْقَبْضِ كَمَا يَجُوزُ فِي الْعَقْدِ الْمُعَجَّلِ وَإِنْ كَانَ مَضْمُونًا .
مَسْأَلَةٌ مَوْتَ الْبَعِيرِ الْمُكْتَرَى يُوجِبُ فَسْخَ الْإِجَارَةِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَإِنْ مَاتَ الْبَعِيرُ رَدَّ الْجَمَّالُ مِنَ الْكِرَاءِ مِمَّا أَخَذَ بِحِسَابِ مَا بَقِيَ ، وَإِنْ كَانَتِ الْحَمُولَةُ مَضْمُونَةً كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِإِبِلٍ غَيْرِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَوْتَ الْبَعِيرِ الْمُكْتَرَى يُوجِبُ فَسْخَ الْإِجَارَةِ إِنْ كَانَ الْعَقْدُ مُعَيَّنًا ، وَلَا يُوجِبُ الْفَسْخَ إِنْ كَانَ الْعَقْدُ مَضْمُونًا ، وَإِذَا انْفَسَخَ فِي الْمُعَيَّنِ كَانَ فِي حُكْمِ الدَّارِ إِذَا انْهَدَمَتْ وَالْعَبْدِ إِذَا مَاتَ . وَإِذَا لَمْ يَنْفَسِخْ فِي الْمَضْمُونِ طُولِبَ الْجَمَّالُ بِبَدَلِهِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنْ لَمْ يَمُتِ الْبَعِيرُ وَلَكِنْ شَرَدَ الْبَعِيرُ مِنْ رَاكِبِهِ الْبَعِيرِ الْمُكْتَرَى فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فَهُوَ كَمَا لَوْ مَاتَ غَيْرَ أَنَّهُ إِنْ نُسِبَ شُرُودُ الْبَعِيرِ إِلَى تَفْرِيطِ الرَّاكِبِ ، أَوْ تَعَدِّيهِ ضَمِنَهُ ، وَإِنْ لَمْ يُنْسَبْ إِلَى تَفْرِيطِهِ أَوْ تَعَدِّيهِ لَمْ يَضْمَنْهُ ، وَإِنْ وُجِدَ الْبَعِيرُ بَعْدَ تَقَضِّي مُدَّةِ الْمَسِيرِ فَإِنْ نُسِبَ إِلَى تَفْرِيطِ الرَّاكِبِ فَقَدِ اسْتَوْفَى حَقَّهُ وَلَا رُجُوعَ عَلَيْهِ بِالْأُجْرَةِ : لِأَنَّهَا بِالتَّفْرِيطِ مَضْمُونَةٌ عَلَيْهِ كَالرَّقَبَةِ وَإِنْ لَمْ يُنْسَبْ إِلَى تَفْرِيطِهِ فَهُوَ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ فَإِنْ كَانَ الرُّكُوبُ فِيهِ مُقَدَّرًا بِالْمُدَّةِ فَإِذَا انْقَضَتْ وَالْبَعِيرُ شَارِدٌ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ سَوَاءٌ كَانَ الْبَعِيرُ مُعَيَّنًا أَوْ مَضْمُونًا : لِأَنَّ بِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ يَفُوتُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ كَمَنِ اسْتَأْجَرَ دَارًا شَهْرًا فَلَمْ يَقْبِضْهَا حَتَّى انْقَضَى الشَّهْرُ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ ، وَإِنْ كَانَ الرُّكُوبُ مُقَدَّرًا بِالْمَسَافَةِ لَمْ تَبْطُلِ الْإِجَارَةُ لِبَقَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ تَأَخَّرَ قَبْضُهُ فَصَارَ كَمَنِ اسْتُؤْجِرَ لِعَمَلٍ فَأَخَّرَهُ لَمْ تَبْطُلِ الْإِجَارَةُ ، ثُمَّ الرَّاكِبُ بِالْخِيَارِ لِلضَّرَرِ الدَّاخِلِ عَلَيْهِ بِتَأْخِيرِ السَّيْرِ بَيْنَ الْمُقَامِ أَوِ الْفَسْخِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا غُصِبَ الْبَعِيرُ حَتَّى انْقَضَتْ مُدَّةُ السَّيْرِ الْبَعِيرِ الْمُكْتَرَى ؛ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَنْسُوبًا إِلَى مَنْعِ الْمُكْرَى مِنْهُ فَهُوَ فِي الْحُكْمِ كَمَا لَوْ شَرَدَ ، وَإِنْ كَانَ غَصْبًا مِنْ أَجْنَبِيٍّ حَالَ بَيْنَ الْبَعِيرِ وَبَيْنَ رَبِّهِ وَرَاكِبِهِ وَصَارَ ضَامِنًا لِرَقَبَتِهِ وَأُجْرَةِ مَنَافِعِهِ ، فَفِي الْعَقْدِ قَوْلَانِ : بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْمَبِيعِ : إِذَا اسْتَهْلَكَهُ أَجْنَبِيٌّ قَبْلَ قَبْضِ مُشْتَرِيهِ . فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ : أَنَّ الْبَيْعَ قَدْ بَطَلَ وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ ، وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالرُّجُوعِ عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ وَبَيْنَ الْمُقَامِ وَالرُّجُوعِ بِقِيمَةِ الْمَبِيعِ عَلَى مُسْتَهْلِكِهِ ، كَذَلِكَ الْإِجَارَةُ كَالْبَيْعِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا قَدْ بَطَلَتْ إِنْ كَانَ الرُّكُوبُ مُقَدَّرًا بِالْمُدَّةِ فَهُوَ عَلَى مَا مَضَى فِي شُرُودِ الْبَعِيرِ وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ مَعًا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَبْطُلُ وَهُوَ فِيهَا بِالْخِيَارِ ؛ فَإِنْ كَانَ الرُّكُوبُ مُقَدَّرًا بِالْمُدَّةِ كَانَ
خِيَارُهُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ : بَيْنَ الْمُقَامِ عَلَى الْإِجَارَةِ وَالرُّجُوعِ عَلَى الْغَاصِبِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ ، وَبَيْنَ الْفَسْخِ وَالرُّجُوعِ عَلَى الْمُكْرِي بِالْأُجْرَةِ الْمُسَمَّاةِ ، وَإِنْ كَانَ الرُّكُوبُ مُقَدَّرًا بِالْمَسَافَةِ كَانَ خِيَارُهُ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : الْفَسْخُ وَالرُّجُوعُ بِالْمُسَمَّى . وَالثَّانِي : الْمُقَامُ وَأَخْذُ أُجْرَةِ الْمِثْلِ مِنَ الْغَاصِبِ ، وَقَدِ اسْتُوفِيَ . وَالثَّالِثُ : الْمُقَامُ وَرُكُوبُ الْبَعِيرِ وَيَرْجِعُ الْجَمَّالُ الْمَالِكُ عَلَى الْغَاصِبِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ فَأَيُّ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ اخْتَارَهُ الرَّاكِبُ فَهُوَ لَهُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الرِّحْلَةِ رَحَلَ لَا مَكْبُوبًا وَلَا مُسْتَلْقِيًا على البعير المكترى " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذِهِ الرِّحْلَةِ فَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : تَأْوِيلُهُ أَنْ يَدْعُوَ الرَّاكِبُ إِلَى تَقْدِيمِ الْمَحْمَلِ إِلَى مُقَدِّمَةِ الْبَعِيرِ لِيَكُونَ أَوْطَأَ لِرُكُوبِهِ ، وَيَدْعُوَ الْجَمَّالُ إِلَى تَأْخِيرِ الْمَحْمَلِ إِلَى مُؤَخِّرِ الْبَعِيرِ لِيَكُونَ أَسْهَلَ عَلَى الْبَعِيرِ ، وَإِنْ شَقَّ عَلَى الرَّاكِبِ فَلَا يَرْجِعْ إِلَى قَوْلِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَيُرَاعَى عُرْفُ النَّاسِ فِيهِ فَيُجْعَلُ الْمَحْمَلُ وَسَطًا لَا يُقَدَّمُ وَلَا يُؤَخَّرُ حَتَّى لَا يَنْكَبَّ وَلَا يَسْتَلْقِيَ ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ تَأْوِيلَهُ أَنْ يَدْعُوَ الرَّاكِبُ إِلَى أَنْ يُوَسَّعَ قَيْدُ الْمَحْمَلِ الْمُقَدَّمِ حَتَّى يَنْزِلَ ، وَيُضَيَّقَ قَيْدُ الْمُؤَخَّرِ حَتَّى يَعْلُوَ لِيَسْتَلْقِيَ الرَّاكِبُ عَلَى ظَهْرِهِ فَلَا يَنْكَبُّ لِمَا فِيهِ مِنْ رَفَاهِيَتِهِ ، وَيَدْعُو الْجَمَّالُ إِلَى تَوْسِيعِ الْمُؤَخَّرِ لِيَنْزِلَ ، وَيُضَيِّقُ الْمُقَدَّمَ لِيَعْلُوَ لِيَنْكَبَّ الرَّاكِبُ عَلَى وَجْهِهِ فَيَكُونَ أَرْفَهَ عَلَى الْبَعِيرِ لِيَصِيرَ الْحِمْلُ عَلَى عَجُزِهِ فَلَا يُقْبَلُ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَيُرَاعَى عُرْفُ النَّاسِ فِيهِ فَيُسَوَّى بَيْنَ قَيْدِ الْمُقَدَّمِ وَالْمُؤَخَّرِ حَتَّى لَا يَنْكَبَّ وَلَا يَسْتَلْقِيَ . وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ : تَأْوِيلُهُ أَنْ يَدْعُوَ الرَّاكِبُ إِلَى تَضْيِيقِ قَيْدَيِ الْمَحْمَلِ لِيَعْلُوَ عَلَى ظَهْرِ الْبَعِيرِ وَيَدْعُوَ الْجَمَّالُ إِلَى تَوْسِيعِهِمَا لِيَسْتَلْقِيَ عَلَى جَنْبِ الْبَعِيرِ فَيُمْنَعَا وَيُشَدَّ وَسَطًا لَا عَالِيًا وَلَا مُسْتَلْقِيًا .
مَسْأَلَةٌ الْقِيَاسُ أَنْ يُبَدِّلَ مَا يَبْقَى مِنَ الزَّادِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَالْقِيَاسُ أَنْ يُبَدِّلَ مَا يَبْقَى مِنَ الزَّادِ وَلَوْ قِيلَ : إِنَّ الْمَعْرُوفَ مِنَ الزَّادِ يَنْقُصُ فَلَا يُبَدَّلُ كَانَ مَذْهَبًا ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : الْأُوَلُ أَقْيَسُهُمَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي مُسَافِرٍ اكْتَرَى مِنْ جَمَّالٍ جَمَلًا لِيَرْكَبَهُ وَيَحْمِلَ مِائَةَ رِطْلٍ مِنْ زَادٍ لِيَأْكُلَهُ فِي سَفَرِهِ فَفَنِيَ بِالْأَكْلِ أَوْ فَنِيَ بَعْضُهُ ، فَهَلْ لِلْمُكْتَرِي أَنْ يُبَدِّلَ مَا فَنِيَ مِنَ الزَّادِ بِمِثْلِهِ أَمْ لَا ؟ فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَهُ أَنْ يُبَدِّلَ مَا فَنِيَ مِنْهُ كَمَا يُبَدِّلُ مَا سُرِقَ مِنْهُ وَكَمَا يُبَدِّلُ الْمَتَاعَ لَوْ تَلِفَ بِغَيْرِهِ وَكَمَا يَحْمِلُ بَدَلَ الْمَاءِ الَّذِي يَشْرَبُهُ وَهَذَا اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ : لِأَنَّهُ أَقْيَسُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يُبَدِّلُ مَا فَنِيَ مِنْهُ بِالْأَكْلِ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ الْمَعْهُودِ فِيهِ أَنَّ الزَّادَ إِذَا فَنِيَ
بِالْأَكْلِ لَمْ يُبَدَّلْ ، فَكَانَ الْعُرْفُ فِيهِ أَوْلَى أَنْ يُعْتَبَرَ ؛ وَلِأَنَّ أُجْرَةَ الزَّادِ فِي الْعُرْفِ أَقَلُّ مِنْ أُجْرَةِ الْمَتَاعِ لِمَا أَسْفَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنْ إِبْدَالِ الْمَتَاعِ دُونَ الزَّادِ . وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ : إِنْ كَانَتْ أَسْعَارُ الزَّادِ فِي الْمَنَازِلِ مُتَقَارِبَةً فِي الرُّخْصِ وَالْغَلَاءِ وَكَانَ انْقِطَاعُهُ مَأْمُونًا لَمْ يَكُنْ لَهُ إِبْدَالُهُ : لِأَنَّهُ لَا غَرَضَ فِي حَمْلِ زَادٍ إِلَى مَنْزِلٍ يَقْدِرُ فِيهِ عَلَى مِثْلِهِ بِمِثْلِ ثَمَنِهِ ، وَإِنْ كَانَ يَنْتَقِلُ إِلَى مَنَازِلَ تَغْلُو فِيهَا أَثْمَانُ الزَّادِ فَيُبَدِّلُ مَا فَنِيَ مِنْهُ لَا يَخْتَلِفُ الْقَوْلُ فِيهِ : لِأَنَّ الْعُرْفَ جَارٍ بِهِ وَالْقِيَاسَ دَالٌّ عَلَيْهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ إِنْ هَرَبَ الْجَمَّالُ فَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَكْتَرِيَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " فَإِنْ هَرَبَ الْجَمَّالُ ، فَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَكْتَرِيَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ اكْتَرَى جَمَلًا مِنْ جَمَّالٍ لِيَرْكَبَهُ إِلَى مَكَّةَ أَوْ يَرْكَبَهُ مُدَّةً مَعْلُومَةً أَوِ اكْتَرَاهُ لِحَمُولَةٍ فَهَرَبَ الْجَمَّالُ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْجَمَلِ الْمُكْتَرَى مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَخْلُفَهُ مَعَ الرَّاكِبِ أَوْ يَهْرُبَ بِهِ مَعَهُ ، فَإِنْ خَلَفَهُ مَعَ الرَّاكِبِ فَلِلرَّاكِبِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ فِي رُكُوبِهِ إِلَى مَكَّةَ ، وَالْجَمَلُ لَا يَسْتَغْنِي فِي مُدَّةِ الرُّكُوبِ عَنْ خَادِمٍ وَعُلُوفَةٍ . وَذَلِكَ حَقٌّ لِلرَّاكِبِ عَلَى الْجَمَّالِ ، فَإِنْ وُجِدَ الرَّاكِبُ حَاكِمًا رَفَعَ أَمْرَهُ إِلَيْهِ حَتَّى يَحْكُمَ فِي مَالِ الْجَمَّالِ إِنْ وَجَدَ لَهُ مَالًا بِأُجْرَةِ خَادِمٍ وَثَمَنِ عُلُوفَةٍ ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ لَهُ مَالًا اقْتَرَضَ عَلَيْهِ مِنْ أَجْنَبِيٍّ أَوْ مِنَ الرَّاكِبِ قَدْرَ مَا يَصْرِفُهُ فِي أُجْرَةِ خَادِمٍ وَثَمَنِ عُلُوفَةٍ ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَى الْجَمَّالِ يَرْجِعُ بِهِ الْمُقْرِضُ عَلَيْهِ مَتَى وَجَدَهُ ، أَوْ فِي مَالِهِ أَيْنَ وُجِدَ ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَدِّرَ الْحَاكِمُ أُجْرَةَ الْخَادِمِ وَثَمَنَ الْعُلُوفَةِ لِيُسْقِطَ التَّنَازُعَ ، فَإِنْ أَنْفَقَ الرَّاكِبُ زِيَادَةً عَلَى تَقْدِيرِ الْحَاكِمِ فَهِيَ تَطَوُّعٌ لَا يَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْجَمَّالِ ، وَإِنْ لَمْ يُقَدِّرِ الْحَاكِمُ أُجْرَةَ الْخَادِمِ وَثَمَنَ الْعُلُوفَةِ لِاخْتِلَافِ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْمَنَازِلِ جَازَ تَوَسُّطُ الرَّاكِبِ فِيهَا بِالْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا تَقْصِيرٍ . فَإِنِ اخْتَلَفَ الرَّاكِبُ وَالْجَمَّالُ فِي قَدْرِ النَّفَقَةِ للبعير المكترى ، فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ قَدْ أَشَارَ إِلَيْهَا الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْقَوْلَ فِيهِ قَوْلُ الرَّاكِبِ الْمُنْفِقِ : لِأَنَّهُ أَمِينٌ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْجَمَّالِ : لِأَنَّهُ غَارِمٌ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ يَرْجِعُ فِيهِ إِلَى عُرْفِ النَّاسِ وَعَادَتِهِمْ فِي عَلَفٍ مِثْلِهَا ، فَإِذَا وَافَقَ ذَلِكَ قَوْلَ أَحَدِهِمَا فَهُوَ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ سَوَاءٌ وَافَقَ قَوْلَ الْجَمَّالِ أَوِ الرَّاكِبِ أَوْ خَالَفَهُمَا ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَإِنْ خَالَفَ قِيَاسَ الْأُصُولِ الْمُوجِبَةِ لِأَحَدِ الْمَذْهَبَيْنِ فَقَدْ يُتْرَكُ الْقِيَاسُ إِذَا تَفَاحَشَ إِلَى مَا يَكُونُ عَدْلًا بَيْنَ النَّاسِ . فَأَمَّا إِنْ أَنْفَقَ الرَّاكِبُ بِغَيْرِ حُكْمِ الْحَاكِمِ ، وَلَا اسْتِئْذَانِهِ ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْحَاكِمِ كَانَ مُتَطَوِّعًا لَا يَرْجِعُ بِمَا أَنْفَقَ . وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِتَعَذُّرِ الْحَاكِمِ ، أَوْ عَدِمَهُ فَإِنْ لَمْ يُشْهَدْ بِالرُّجُوعِ لَمْ يَرْجِعْ ، وَإِنْ أُشْهِدَ أَنَّهُ يُنْفِقُ لِيَرْجِعَ فَفِي رُجُوعِهِ وَجْهَانِ :
أَحَدُهُمَا : لَا يَرْجِعُ : لِأَنَّهُ يَصِيرُ حَاكِمًا لِنَفْسِهِ لِيَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ بِمَالِ غَيْرِهِ ، وَكَمَا لَا يَرْجِعُ مُسْتَوْدَعُ الدَّابَّةِ عَلَى رَبِّهَا بِثَمَنِ عُلُوفَتِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَرْجِعُ بِمَا أَنْفَقَ : لِأَنَّهُ حَقٌّ عَلَى غَائِبٍ فَجَازَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ أَنْ يَتَوَصَّلَ صَاحِبُهُ إِلَيْهِ بِحَسَبِ الْمُكْنَةِ ، كَمَا يَجُوزُ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ الْمَمْنُوعِ أَنْ يَتَوَصَّلَ إِلَى أَخْذِهِ مِنْ مَالِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ جَهْرًا وَسِرًّا بِحُكْمٍ وَغَيْرِ حُكْمٍ ، وَخَالَفَ ذَلِكَ حَالَ مُسْتَوْدَعِ الدَّابَّةِ لِتَطَوُّعِهِ بِاسْتِيدَاعِهَا فَصَارَ مُتَطَوِّعًا بِنَفَقَتِهَا ، فَهَذَا حُكْمُ الْجَمَّالِ إِذَا هَرَبَ وَخَلَفَ الْجَمَلَ مَعَ الرَّاكِبِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا هَرَبَ الْجَمَّالُ بِالْجَمَلِ مَعَهُ في الإجارة ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْإِجَارَةِ مِنْ أَنْ تَكُونَ مُعَيَّنَةً أَوْ فِي الذِّمَّةِ ، فَإِنْ كَانَتْ فِي الذِّمَّةِ فَإِنَّ الْحَاكِمَ يَسْتَأْجِرُ عَلَى الْجَمَّالِ جَمَلًا يُحْمَلُ عَلَيْهِ الرَّاكِبُ وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي مَالِ الْجَمَّالِ إِنْ كَانَ مَوْجُودًا أَوْ قَرْضًا عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مَعْدُومًا ، فَلَوْ دَفَعَ الْحَاكِمُ الْمَالَ إِلَى الرَّاكِبِ لِيَكْتَرِيَ لِنَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ كَمَا لَا يَجُوزُ لِبَائِعِ السَّلَمِ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى مُشْتَرِيهِ مَالًا يَشْتَرِي لِنَفْسِهِ بِمَالِ غَيْرِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْحَاكِمُ لِلْجَمَّالِ مَالًا وَلَا مُقْرِضًا نَظَرَ فِي الْإِجَارَةِ ؛ فَإِنْ كَانَتْ عَلَى مُدَّةٍ تَنْقَضِي بَطَلَتْ بِالْفَوَاتِ وَكَانَتِ الْأُجْرَةُ الْمُسَمَّاةُ دَيْنًا عَلَى الْجَمَّالِ يَتْبَعُهُ بِهَا الرَّاكِبُ مَتَى وَجَدَهُ أَوْ وَجَدَ لَهُ مَالًا ، وَإِنْ كَانَتْ إِلَى بَلَدٍ بِعَيْنِهِ لَمْ تَبْطُلْ بِالتَّأْخِيرِ وَكَانَ الرَّاكِبُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْفَسْخِ وَاتِّبَاعِ الْجَمَّالِ بِالْأُجْرَةِ وَبَيْنَ الْمُقَامِ عَلَى الْإِجَارَةِ وَأَخْذِ الْجَمَّالِ بِهَا مَتَى وُجِدَ ، وَإِنْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ مُعَيَّنَةً عَلَى بَعِيرٍ بِعَيْنِهِ لَمْ يَجُزْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ عَلَى الْجَمَّالِ بَعِيرًا غَيْرَهُ : لِأَنَّ مَا تَعَيَّنَ بِالْعَقْدِ لَمْ يَصِحَّ فِيهِ الْبَدَلُ كَمَنِ اسْتَأْجَرَ بَعِيرًا بِعَيْنِهِ فَشَرَدَ لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْتَأْجِرِ بَدَلَهُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ نُظِرَ فِي الْإِجَارَةِ ؛ فَإِنْ كَانَتْ عَلَى مُدَّةٍ مُسَمَّاةٍ بَطَلَتْ بِانْقِضَائِهَا وَكَانَ الْمُسَمَّى مِنَ الْأُجْرَةِ دَيْنًا عَلَى الْجَمَّالِ إِنْ قَبَضَهُ ، وَإِنْ كَانَتْ إِلَى بَلَدٍ بِعَيْنِهِ لَمْ تَبْطُلْ بِالتَّأْخِيرِ وَكَانَ الْمُسْتَأْجِرُ بِالْخِيَارِ لِاسْتِضْرَارِهِ بِالتَّأْخِيرِ بَيْنَ الْمُقَامِ وَالْفَسْخِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .
فَصْلٌ : وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ بَعِيرًا لِيَرْكَبَهُ فَأَرَادَ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهِ مَتَاعًا بَدَلًا مِنْ رُكُوبِهِ لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّ الرَّاكِبَ يَتَحَرَّكُ بِحَرَكَةِ الْبَعِيرِ فِي مَسِيرِهِ مُتَقَدِّمًا وَمُتَأَخِّرًا فَصَارَ بِذَلِكَ أَسْهَلَ عَلَى الْبَعِيرِ مِنَ الْمَتَاعِ . وَلَوْ كَانَ قَدِ اسْتَأْجَرَهُ لِحَمْلِ مَتَاعٍ فَأَرَادَ أَنْ يَرْكَبَ بَدَلًا مِنَ الْمَتَاعِ إجارة البعير لَمْ يَجُزْ أَيْضًا : لِأَنَّ الْمَتَاعَ يَتَفَرَّقُ فِي جَنْبَيِ الْبَعِيرِ فَصَارَ بِذَلِكَ أَسْهَلَ عَلَى الْبَعِيرِ مِنَ الرَّاكِبِ الَّذِي يَرْكَبُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ مِنْ ظَهْرِهِ . وَلَوِ اسْتَأْجَرَهُ وَلَمْ يُسَمِّ رُكُوبًا وَلَا حِمْلًا البعير ، كَانَتِ الْإِجَارَةُ بَاطِلَةً . وَهَكَذَا لَوْ ذَكَرَ رُكُوبًا وَلَمْ يُعَيِّنْ رَاكِبَهُ ، أَوْ ذَكَرَ حِمْلًا وَلَمْ يَذْكُرْ قَدْرَهُ ، أَوْ ذَكَرَ قَدْرَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ جِنْسَهُ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ لِلْجَهْلِ بِهَا .
فَصْلٌ : وَإِذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا شَهْرًا اعْتُبِرَ فِي صِحَّةِ إِجَارَتِهَا شَرْطَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَذْكُرَ النَّاحِيَةَ الَّتِي يَرْكَبُهَا فِيهَا : لِأَنَّ الْأَرْضَ تَخْتَلِفُ بِالْحُزُونَةِ وَالسُّهُولَةِ . فَإِنْ أَغْفَلَ ذِكْرَ النَّاحِيَةِ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ . وَالشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ يَذْكُرَ الْمَكَانَ الَّذِي يُسَلِّمُهَا فِيهِ : لِأَنَّهُ قَدْ يَرْكَبُهَا مُسَافِرًا إِلَى بَلَدٍ تَكُونُ مُسَافَتُهُ شَهْرًا فَيَكُونُ تَسْلِيمُهُ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ ، وَقَدْ يَرْكَبُهَا ذَاهِبًا وَعَائِدًا مُدَّةَ شَهْرٍ فَيَكُونُ تَسْلِيمُهُ
فِي بَلَدِهِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ مُخْتَلِفًا مَعَ إِطْلَاقِ الشَّهْرِ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ ذِكْرِ مَوْضِعِ التَّسْلِيمِ ، فَإِنْ أَغْفَلَهُ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ فَلَوِ اسْتَأْجَرَهَا لِيَرْكَبَهَا مَسَافَةَ شَهْرٍ إِلَى مَكَّةَ لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّ مَا تَقَدَّرَ الْعَمَلُ فِيهِ لَمْ يَجُزِ اشْتِرَاطُ الْمَدَّةِ فِيهِ ، وَمَا شُرِطَ فِيهِ الْمُدَّةُ لَمْ يُجْزِ تَقْدِيرُ الْعَمَلِ فِيهِ لِمَا ذَكَرْنَا قَبْلَ ذَلِكَ مِنَ التَّعْلِيلِ : وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُجِيزُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ التَّأْكِيدِ ، وَكَانَ أَبُو الْفَيَّاضِ يَقُولُ : إِنْ كَانَ الْعَمَلُ مُمْكِنًا فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ صَحَّ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُمْكِنٍ لَمْ يَصِحَّ ، وَالتَّعْلِيلُ الْمَاضِي يُفْسِدُ هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ .
فَصْلٌ : وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا إِلَى بَلَدٍ بِعَيْنِهِ فَأَرَادَ أَنْ يَرْكَبَهَا إِلَى غَيْرِهِ ، فَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهِ تَسْلِيمَهَا فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْكَبَ إِلَى غَيْرِهِ . وَإِنْ لَمْ يَشْرُطْ عَلَيْهِ تَسْلِيمَهَا فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ لِاسْتِئْجَارِهِ إِيَّاهَا ذَاهِبًا وَعَائِدًا ، جَازَ أَنْ يَرْكَبَهَا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ الْبَلَدِ إِذَا كَانَ عَلَى مِثْلِ مَسَافَتِهِ وَكَانَ طَرِيقُهُ مُسَاوِيًا لِطَرِيقِهِ فِي السُّهُولَةِ وَالْحَزُونَةِ أَوْ أَسْهَلَ مِنْهُ ، وَلَمْ يَجُزْ إِنْ كَانَ أَبْعَدَ أَوْ أَحْزَنَ .
فَصْلٌ : وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الْيَهُودِيُّ عَبْدًا مُسْلِمًا أَوْ حُرًّا مُسْلِمًا ، فَإِنْ كَانَ عَلَى عَمَلٍ مَضْمُونٍ فِي ذِمَّتِهِ جَازَ . وَقَدْ كَانَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ يَسْتَقِي الْمَاءَ لِامْرَأَةٍ يَهُودِيَّةٍ كُلُّ دَلْوٍ بِتَمْرَةٍ ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى خِدْمَةٍ تَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ فَفِي الْإِجَارَةِ قَوْلَانِ كَمَا لَوِ ابْتَاعَ الْيَهُودِيُّ عَبْدًا مُسْلِمًا : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا بَاطِلَةٌ . وَالثَّانِي : جَائِزَةٌ . فَإِنْ نَقَلَهَا الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ نَفْسِهِ إِلَى مُسْلِمٍ ، وَإِلَّا فَسَخَهَا الْحَاكِمُ عَلَيْهِ .
فَصْلٌ : وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الْمُسْلِمُ أَجِيرًا فَوَجَدَهُ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا تَبْطُلُ فِيهِ الْإِجَارَةُ وَهُوَ مَا كَانَ اخْتِلَافُ الدِّينِ مَانِعًا مِنْهُ وَهُوَ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا يَمْنَعُ مِنْهُ حُكْمًا كَالْحَجِّ فَتَبْطُلُ الْإِجَارَةُ فِيهِ وَإِنْ حَجَّ لَمْ يَكُنْ لَهُ أُجْرَةٌ : لِأَنَّهُ هُوَ الْمُفَوِّتُ لِعَمَلِ نَفْسِهِ بِمَا كَتَمَهُ مِنْ كُفْرِهِ . وَالنَّوْعُ الثَّانِي : مَا مَنَعَ مِنْهُ حَظْرًا مِثْلُ كَتْبِ الْمَصَاحِفِ : لِأَنَّ الْكَافِرَ مَمْنُوعٌ مِنْ مَسِّ الْمُصْحَفِ فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِحَالِهِ حَتَّى كَتَبَهُ فَلَهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ دُونَ الْمُسَمَّى : لِأَنَّ الْعَمَلَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ قَدْ كَمُلَ لِمُسْتَأْجِرِهِ عَنْ عَقْدٍ حُكِمَ بِفَسَادِهِ فَهَذَا قِسْمٌ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا تَصِحُّ فِيهِ الْإِجَارَةُ وَلَا خِيَارَ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِيهِ ؛ وَهُوَ أَعْمَالُ الصِّنَاعَاتِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا طَاعَةٌ مَقْصُودَةٌ كَبِنَاءِ دَارٍ ، أَوْ عِمَارَةِ أَرْضٍ ، أَوْ رَعْيِ مَاشِيَةٍ : لِأَنَّ هَذِهِ أَعْمَالٌ يَسْتَوِي فِيهَا الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا تَصِحُّ فِيهِ الْإِجَارَةُ وَيَثْبُتُ فِيهِ الْخِيَارُ ، وَهُوَ مَا كَانَ مِنَ الْأَعْمَالِ طَاعَةً مَقْصُودَةً كَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَنَحْرِ الْأَضَاحِي ، فَإِنْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ مُعَيَّنَةً فَلِلْمُسْتَأْجِرِ الْخِيَارُ فِي الْمُقَامِ أَوِ الْفَسْخِ : لِأَنَّ قِيَامَ الْمُسْلِمِ بِهِ أَعْظَمُ ثَوَابًا . وَإِنْ كَانَتْ فِي الذِّمَّةِ قِيلَ لِلْأَجِيرِ : إِنِ اسْتَنَبْتَ فِيهَا مُسْلِمًا فَلَا خِيَارَ لِلْمُسْتَأْجِرِ ، وَإِنْ تَوَلَّيْتَهَا بِنَفْسِكِ فَلِلْمُسْتَأْجِرِ الْخِيَارُ .
فَصْلٌ : وَإِذَا اسْتَأْجَرَ امْرَأَةً لِرَضَاعِ طِفْلٍ جَازَ إِذَا عَرَفَتْ سِنَّهُ مُشَاهَدَةً أَوْ خَبَرًا وَكَانَ زَمَانُ رَضَاعِهِ مَعْلُومًا ، فَإِنْ لَمْ تُشَاهِدْهُ وَلَا أَخْبَرَتْ بِسِنِّهِ لَمْ يَجُزْ لِاخْتِلَافِ شُرْبِهِ بِاخْتِلَافِ سِنِّهِ ثُمَّ عَلَيْهَا
أَنْ تَسْقِيَهُ قَدْرَ رَيِّهِ وَفِي أَوْقَاتِ حَاجَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَجْهُولًا فَهِيَ جَهَالَةٌ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهَا فَعُفِيَ عَنْهَا ، فَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهَا مَعَ الرَّضَاعِ حَضَانَةَ الطِّفْلِ وَخِدْمَتَهُ لَزِمَهَا ، وَإِنْ أَغْفَلَا ذَلِكَ فَفِي لُزُومِهِ لَهَا وَجْهَانِ مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي الْحَضَانَةِ ، هَلْ مَقْصُودُهَا الرَّضَاعُ وَالْخِدْمَةُ ، أَمِ الْخِدْمَةُ ، وَالرِّضَاعُ تَبَعٌ ؟ وأثر ذلك في الاجارة . فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ : أَنَّ الْخِدْمَةَ تَبَعٌ لِلرَّضَاعِ فِي الْحَضَانَةِ ، فَعَلَى هَذَا لَا تُجْبَرُ عَلَى خِدْمَتِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الرِّضَاعَ تَبَعٌ لِلْخِدْمَةِ ، فَعَلَى هَذَا تُجْبَرُ عَلَى خِدْمَتِهِ وَلَيْسَ عَلَى الْمُرْضِعَةِ أَنْ تَأْتِيَ إِلَى الطِّفْلِ فَتُرْضِعَهُ بَلْ عَلَى وَلِيِّ الطِّفْلِ إِذَا أَرَادَ إِرْضَاعَهُ أَنْ يَحْمِلَهُ إِلَيْهَا لِيَرْتَضِعَ ، وَلِوَلِيِّ الطِّفْلِ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ أَكْلِ مَا يَضُرُّ بِلَبَنِهَا : فَإِنْ كَانَ الطِّفْلُ لَا يَسْتَمْرِئُ لَبَنَهَا لِعِلَّةٍ فِي اللَّبَنِ ، فَهَذَا عَيْبٌ وَلِلْمُسْتَأْجِرِ الْفَسْخُ ، وَلَوْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ لَمْ يَمْنَعِ الزَّوْجَ مِنْ وَطْئِهَا ؛ فَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْمُسْتَأْجِرُ أَنَّهَا ذَاتُ زَوْجٍ ، فَلَهُ الْفَسْخُ وَلِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَ زَوْجَتَهُ مِنْ إِجَارَةِ نَفْسِهَا مُرْضِعًا ، فَإِنْ أَجَّرَتْ نَفْسَهَا فَلَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ عَلَيْهَا ، وَإِذَا سَقَتِ الْمُرْضِعَةُ الطِّفْلَ مِنْ لَبَنِ غَيْرِهَا ؛ فَإِنْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ فِي الذِّمَّةِ فَلَهَا الْأُجْرَةُ ، وَإِنْ كَانَتْ مُعَيَّنَةً فَلَا أُجْرَةَ لَهَا . وَقَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ : لَهَا الْأُجْرَةُ . وَلَوْ مَاتَتِ الْمُرْضِعَةُ في الإجارة بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ ، وَلَوْ مَاتَ الطِّفْلُ فَفِي بُطْلَانِ الْإِجَارَةِ قَوْلَانِ إجارة المرضعة : أَحَدُهُمَا : قَدْ بَطَلَتْ . وَالثَّانِي : لَا تَبْطُلُ وَيَأْتِي الْمُسْتَأْجِرُ بِبَدَلِهِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي الْخُلْعِ وَإِذَا ضَاعَ حُلِيُّ الطِّفْلِ لَمْ تَضْمَنْهُ إِنْ قِيلَ إِنِ الْعِوَضَ لِلرَّضَاعِ وَالْخِدْمَةَ تَبَعٌ ، فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْعِوَضَ أُجْرَةٌ لِلْخِدْمَةِ وَالْحِفْظِ فَهِيَ كَالْأَجِيرِ لَا يَضْمَنُ إِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا وَيَضْمَنُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ إِنْ كَانَ مُشْتَرِكًا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
تَضْمِينُ الْأُجَرَاءِ مِنَ الْإِجَارَةِ
تَضْمِينُ الْأُجَرَاءِ مِنَ الْإِجَارَةِ مِنْ كِتَابِ اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " الْأُجَرَاءُ كُلُّهُمْ سَوَاءٌ ، وَمَا تَلِفَ فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ غَيْرِ جِنَايَتِهِمْ فَفِيهِ وَاحِدٌ مِنْ قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا الضَّمَانُ : لِأَنَّهُ أَخَذَ الْأَجْرَ ، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لَا ضَمَانَ إِلَّا بِالْعُدْوَانِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) هَذَا أَوْلَاهُمَا بِهِ : لِأَنَّهُ قَطَعَ بِأَنْ لَا ضَمَانَ عَلَى الْحَجَّامِ يَأْمُرُهُ الرَّجُلُ أَنْ يُحَجِّمَهُ ، أَوْ يَخْتِنَ غُلَامَهُ ، أَوْ يُبَيْطِرَ دَابَّتَهُ ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : إِذَا أَلْقَوْا عَنْ هَؤُلَاءِ الضَّمَانَ لَزِمَهُمْ إِلْقَاؤُهُ عَنِ الصُّنَّاعِ وَقَالَ مَا عَلِمْتُ أَنِّي سَأَلْتُ وَاحِدًا مِنْهُمْ فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا مِنْهُمْ . وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ قَالَ : لَا ضَمَانَ عَلَى صَانِعٍ ، وَلَا أَجِيرٍ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : وَلَا أَعْرِفُ أَحَدًا مِنَ الْعُلَمَاءِ ضَمِنَ الرَّاعِيَ الْمُنْفَرِدَ بِالْأُجْرَةِ . عِنْدِي فِي الْقِيَاسِ مِثْلُهُ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : وَإِذَا اسْتَأْجَرَ مَنْ يَخْبِزُ لَهُ خُبْزَا مَعْلُومًا فِي تَنُّورٍ أَوْ فُرْنٍ فَاحْتَرَقَ ، فَإِنْ كَانَ خُبْزُهُ فِي حَالٍ لَا يُخْبَزُ فِي مِثْلِهَا لِاسْتِعَارِ التَّنُّورِ ، أَوْ شِدَّةِ حَمْوِهِ ، أَوْ تَرْكِهِ تَرْكًا لَا يَجُوزُ فِي مِثْلِهِ ، فَهُوَ ضَامِنٌ وَإِنْ كَانَ مَا فَعَلَ صَلَاحًا لِمِثْلِهِ لَمْ يَضْمَنْ عِنْدَ مَنْ لَا يَضْمَنُ الْأَجِيرَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَجُمْلَةُ الْأُجَرَاءِ وَالصُّنَّاعِ ضَرْبَانِ : مُنْفَرِدٌ وَمُشْتَرِكٌ وَحُكْمُهُمَا يَخْتَلِفُ . وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ : إِنَّ الْأُجَرَاءَ كُلَّهُمْ سَوَاءٌ ؛ يَعْنِي بِهِ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرِكَ مَعَ اخْتِلَافِ صَنَائِعِهِمْ . فَأَمَّا الْأَجِيرُ الْمُنْفَرِدُ فَهُوَ الَّذِي يَكُونُ عَمَلُهُ فِي يَدِ مُسْتَأْجِرِهِ ؛ كَرَجُلٍ دَعَا صَانِعًا إِلَى مَنْزِلِهِ لِيَصُوغَ لَهُ حُلِيًّا ، أَوْ يَخِيطَ لَهُ ثُوبًا ، أَوْ يَخْبِزَ لَهُ خُبْزًا ، أَوْ يُبَيْطِرَ لَهُ فَرَسًا ، أَوْ يَخْتِنَ لَهُ عَبْدًا ، فَيَنْفَرِدُ الْأَجِيرُ بِعَمَلِهِ فِي مَنْزِلِ الْمُسْتَأْجِرِ ، فَهَذَا أَجِيرٌ مُنْفَرِدٌ سَوَاءٌ حَضَرَ الْمُسْتَأْجِرُ عَمَلَهُ أَوْ لَمْ يَحْضُرْ ، وَهَكَذَا لَوْ حَمَلَ الْمُسْتَأْجِرُ ثَوْبَهُ إِلَى دُكَّانِ الْأَجِيرِ لِيَخِيطَهُ أَوْ حَمَلَ إِلَيْهِ حُلِيَّهُ لِيَصُوغَهُ وَهُوَ حَاضِرٌ وَيَدُهُ عَلَى مَالِهِ ، فَهَذَا أَجِيرٌ مُنْفَرِدٌ ، وَسَوَاءٌ كَانَ فِي دُكَّانِهِ عَمَلٌ لِغَيْرِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ فَهَذَانِ النَّوْعَانِ عَلَى سَوَاءٍ فِي حُكْمِ الْأَجِيرِ الْمُنْفَرِدِ ، وَأَمَّا الْأَجِيرُ الْمُشْتَرِكُ فَهُوَ الَّذِي يَكُونُ عَمَلُهُ فِي يَدِ نَفْسِهِ لِمُسْتَأْجِرِهِ مَعَ عَمَلِهِ لِمُسْتَأْجِرٍ آخَرَ كَالْقَصَّابِينَ وَالْخَيَّاطِينَ فِي حَوَانِيتِهِمْ ، فَأَمَّا الْأَجِيرُ الَّذِي يَكُونُ عَمَلُهُ فِي يَدِ نَفْسِهِ مُنْفَرِدًا لِمُسْتَأْجِرٍ وَاحِدٍ لَا يُشْرِكُهُ بِغَيْرِهِ كَصَانِعٍ أَوْ خَيَّاطٍ يَعْمَلُ فِي دُكَّانِهِ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ وَلَا يَعْمَلُ لِغَيْرِهِ وَمُسْتَأْجِرُهُ غَائِبٌ عَنْ عَمَلِهِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْأَجِيرِ الْمُنْفَرِدِ ، أَوْ حُكْمَ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرِكِ ؟ فَحُكِيَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ : أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْأَجِيرِ الْمُنْفَرِدِ لِاخْتِصَاصِهِ بِمُسْتَأْجِرٍ وَاحِدٍ وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَغْدَادِيِّينَ : إِنَّهُ فِي حُكْمِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرِكِ إن تلف المال لِاخْتِصَاصِهِ بِالْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ دُونَ الْمُسْتَأْجِرِ .
فَصْلٌ : وَإِذْ قَدْ وَضَحَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حَالِ الْأَجِيرِ الْمُنْفَرِدِ وَالْمُشْتَرِكِ ، فَسَنَذْكُرُ حُكْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ أَمَّا الْمُنْفَرِدُ إِذَا تَلِفَ الْمَالُ مِنْ يَدِهِ الأجير المنفرد فَلَا يَخْلُو تَلَفُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِجِنَايَتِهِ وَعُدْوَانِهِ أَوْ لَا ، فَإِنْ تَلِفَ بِجِنَايَتِهِ وَعُدْوَانِهِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ مَالِكِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ جَنَى عَلَى دَابَّةِ رَجُلٍ هُوَ رَاكِبُهَا أَوْ عَلَى ثِيَابِ رَجُلٍ هُوَ لَابِسُهَا الأجير الخاص وَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُهَا كَذَلِكَ هَذَا الْأَجِيرُ . وَإِنْ تَلِفَ ذَلِكَ بِغَيْرِ جِنَايَةِ الْأَجِيرِ وَلَا عُدْوَانِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ : لِأَنَّ مَا تَلِفَ فِي يَدِ أَرْبَابِهِ لَمْ يَضْمَنْ بِغَيْرِ جِنَايَةٍ وَلَا عُدْوَانٍ ، فَإِنِ اخْتَلَفَ رَبُّ الْمَالِ وَالْأَجِيرُ فِي الْعُدْوَانِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَجِيرِ مَعَ يَمِينِهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ خِلَافَ قَوْلِهِ : لِإِنْكَارِهِ وَبَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ . فَأَمَّا أُجْرَةُ الْأَجِيرِ فَإِنْ كَانَ تَلَفُ ذَلِكَ قَبْلَ عَمَلِهِ فَلَا أُجْرَةَ لَهُ ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الْإِجَارَةِ فَإِنْ كَانَتْ مَعْقُودَةً عَلَى عَيْنِ ذَلِكَ الْمَالِ بَطَلَتْ بِتَلَفِهِ وَإِنْ كَانَتْ مُطَلَّقَةً لَمْ تَبْطُلْ وَاسْتَعْمَلَهُ الْمُسْتَأْجِرُ فِي غَيْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ تَلَفُ ذَلِكَ بَعْدَ عَمَلِهِ فَلَهُ الْأُجْرَةُ : لِأَنَّ عَمَلَهُ إِذَا كَانَ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ فَقَدْ حَصَلَ قَبْضُهُ فَلَزِمَهُ الْأُجْرَةُ ، وَسَوَاءٌ كَانَ التَّلَفُ بِعُدْوَانِ الْأَجِيرِ أَمْ لَا ، إِلَّا أَنَّهُ تَلِفَ بِعُدْوَانِهِ بَعْدَ الْعَمَلِ لَزِمَهُ قِيمَتُهُ مَعْمُولًا ، وَلَوْ تَلِفَ قَبْلَ الْعَمَلِ لَزِمَهُ قِيمَتُهُ غَيْرَ مَعْمُولٍ . فَلَوِ اخْتَلَفَ الْأَجِيرُ وَرَبُّ الْمَالِ فِي الْعَمَلِ فَادَّعَاهُ الْأَجِيرُ وَأَنْكَرَهُ الْمُسْتَأْجِرُ فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ مَعَ يَمِينِهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ خِلَافَ قَوْلِهِ : لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا عَمَلَ ، فَهَذَا حُكْمُ الْأَجِيرِ الْمُنْفَرِدِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْأَجِيرُ الْمُشْتَرِكُ فَإِنْ تَلِفَ الْمَالُ فِي يَدِهِ بِجِنَايَتِهِ وَعُدْوَانِهِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ : لِأَنَّ الْأَمَانَاتِ تُضْمَنُ بِالْجِنَايَاتِ وَإِنْ تَلِفَ بِغَيْرِ جِنَايَتِهِ وَلَا عُدْوَانِهِ ، فَفِي وُجُوبِ ضَمَانِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ ضَامِنٌ وَقَبْضُهُ قَبْضُ ضَمَانٍ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَأَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَلِيٍّ ، وَعُمَرَ ، وَوَجَّهَهُ مِمَّا رَوَى خِلَاسُ بْنُ عَمْرٍو وَقَالَ : كَانَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ يَضْمَنُ الْأَجِيرَ وَيَقُولُ : هَذَا يُصْلِحُ النَّاسَ ، وَلِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ ضَمَانِهِ كَالْمُسْتَعِيرِ ؛ وَلِأَنَّ الْأُجْرَةَ تُرْجَعُ إِلَيْهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ كَالْمُؤَجِّرِ الْمُسْتَحِقِّ لِأُجْرَتِهَا ، كَذَلِكَ الْأَجِيرُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْمَالِ : لِأَنَّ الْأُجْرَةَ صَائِرَةٌ إِلَيْهِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ كَالْعَارِيَةِ وَفِي كَيْفِيَّةِ ضَمَانِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَضْمَنُ قِيمَتَهُ وَقْتَ التَّلَفِ . وَالثَّانِي : أَكْثَرَ مَا كَانَ قِيمَتُهُ مِنْ وَقْتِ الْقَبْضِ إِلَى وَقْتِ التَّلَفِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَقَبْضُهُ قَبْضُ أَمَانَةٍ . وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ ، وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ تَلِفَ بِغَيْرِ فِعْلِ الْأَجِيرِ لَمْ يَضْمَنْهُ ، وَإِنْ تَلِفَ بِفِعْلِهِ ضَمِنَهُ ، سَوَاءٌ كَانَ فِعْلُهُ عُدْوَانًا أَمْ لَا ، فَأَمَّا الْأُجْرَةُ فَلَا يَسْتَحِقُّهَا الْأَجِيرُ وَإِنْ عَمِلَ ، سَوَاءٌ ضَمِنَ أَوْ لَمْ يَضْمَنْ : لِأَنَّ عَمَلَهُ تَلِفَ فِي يَدِ نَفْسِهِ لَا فِي يَدِ مُسْتَأْجِرِهِ بِخِلَافِ الْمُنْفَرِدِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى سُقُوطِ الضَّمَانِ عَنْهُ
هُوَ أَنَّ الْأُصُولَ مَوْضُوعَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ أَخَذَ مَالَ غَيْرِهِ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ ضَمِنَهُ كَالْمُقْتَرِضِ ، وَالْمُسْتَعِيرُ أَخَذَهُ لِمَنْفَعَةِ مَالِكِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ كَالْمُودِعِ ، وَمَنْ أَخَذَهُ لِمَنْفَعَةٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَالِكِهِ كَالْمُضَارِبِ وَالْمُرْتَهِنِ فَلَا يَضْمَنُ إِلَّا بِالتَّعَدِّي ، كَذَلِكَ الْأَجِيرُ أَخَذَ الْمَالَ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ وَمَنْفَعَةِ مَالِكِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَضْمَنَهُ . وَلِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ لَمَّا جَعَلَ يَدَ الْمُسْتَأْجِرِ يَدَ أَمَانَةٍ وَجَبَ أَنْ يَجْعَلَ يَدَ الْأَجِيرِ يَدَ أَمَانَةٍ ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَحَدُ الْأَجِيرَيْنِ وَهُوَ الْمُنْفَرِدَ مُؤْتَمَنًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَجِيرُ الْمُشْتَرِكُ مُؤْتَمَنًا .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ اخْتَارَ سُقُوطَ الضَّمَانِ عن الأجير إذا تلف المال بغير فعله وَهُوَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ غَيْرَ أَنَّهُ تَعَلَّقَ بِمَا لَا حُجَّةَ فِيهِ ، وَسَنُوَضِّحُ مِنْ حُكْمِ مَا احْتَجَّ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ حُجَّتِهِ ، فَأَوَّلُ مَا ذَكَرَهُ الْحَجَّامُ يُحَجِّمُ أَوْ يَخْتِنُ ، فَإِنْ ظَهَرَتْ مِنْهُ جِنَايَةٌ عَنْ عَمْدٍ أَوْ خَطَأٍ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا حَدَثَ بِجِنَايَتِهِ وَإِنْ لَمْ تَظْهَرْ مِنْهُ جِنَايَةٌ ، فَإِنْ حَجَّمَ أَوْ خَتَنَ حُرًّا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ . سَوَاءٌ كَانَ الْحَجَّامُ مُنْفَرِدًا أَوْ مُشْتَرِكًا : لِأَنَّ الْحُرَّ فِي يَدِ نَفْسِهِ ، وَلَيْسَتْ عَلَيْهِ يَدٌ فَصَارَ الْمُنْفَرِدُ وَالْمُشْتَرِكُ مَعَهُ عَلَى سَوَاءٍ ، وَإِنْ حَجَّمَ عَبْدًا فَإِنْ كَانَ مَعَ سَيِّدِهِ أَوْ فِي مَنْزِلِ سَيِّدِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْحَجَّامِ : لِأَنَّ يَدَ سَيِّدِهِ لَمْ تَزَلْ عَنْهُ فَلَمْ يَضْمَنْ إِلَّا بِالْجِنَايَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ سَيِّدِهِ وَلَا مَنْزِلِهِ فَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ قَوْلَانِ : لِأَنَّ الْحَجَّامَ أَجِيرٌ مُشْتَرِكٌ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الرَّاعِي فَإِنْ نُسِبَ إِلَى التَّعَدِّي بِالرَّعْيِ فِي مَكَانٍ مُسَبَّعٍ ، أَوْ جَدْبٍ ، أَوْ مَخُوفٍ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ وَإِنْ لَمْ يُنْسَبْ إِلَى التَّعَدِّي نُظِرَ ، فَإِنْ رَعَى فِي مِلْكِ الْمَالِكِ فَهُوَ مُنْفَرِدٌ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ رَعَى فِي غَيْرِ مَالِهِ لَكِنْ كَانَ الْمَالِكُ مَعَهُ فَكَذَلِكَ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ الْمَالِكُ وَلَا رَعَى فِي مِلْكِ الْمَالِكِ نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ مَعَ غَنَمِ جَمَاعَةٍ فَهُوَ مُشْتَرِكٌ وَفِي ضَمَانِهِ قَوْلَانِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ سِوَى غَنَمِهِ فَعَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا : هَلْ يَكُونُ فِي حُكْمِ الْمُشْتَرِكِ أَوِ الْمُنْفَرِدِ ؟ فَمِنْ جَعَلَهُ كَالْمُنْفَرِدِ أَسْقَطَ الضَّمَانَ عَنْهُ ، وَمِنْ جَعَلَهُ كَالْمُشْتَرِكِ أَخْرَجَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْبَيْطَارُ فَإِنْ ظَهَرَ مِنْهُ عُدْوَانٌ عَمْدًا أَوْ خَطَأٌ ضَمِنَ بِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ عُدْوَانٌ فَإِنْ كَانَتِ الدَّابَّةُ مَعَ صَاحِبِهَا أَوْ فِي مَنْزِلِهِ لَمْ يَضْمَنْ ، وَإِنْ كَانَتْ مَعَ الْبَيْطَارِ فِي جُمْلَةِ غَيْرِهَا فَعَلَى قَوْلَيْنِ ، وَإِنْ كَانَتْ مَعَهُ مُفْرَدَةً وَحْدَهَا فَعَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْأَجِيرُ لِحِفْظِ الدُّكَّانِ فَيُؤْخَذُ مَا فِيهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ لَا يَدَ لَهُ عَلَى الْمَالِ ؛ وَلِأَنَّ يَدَ الْمَالِكِ عَنْهُ لَمْ تَزَلْ . فَأَمَّا الْحَمَّامُ إِنْ تَلِفَتْ ثِيَابُ النَّاسِ عِنْدَهُ ضمان الأجير الثياب ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا يَأْخُذُهُ مِنَ الْعِوَضِ : هَلْ هُوَ ثَمَنُ الْمَاءِ أَوْ أُجْرَةُ الْحِفْظِ وَالدُّخُولِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ ثَمَنُ الْمَاءِ وَيَكُونُ مُتَطَوِّعًا بِحِفْظِ الثِّيَابِ وَمُعِيرًا لِلسَّطْلِ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَضْمَنُ الثِّيَابَ إِنْ تَلِفَتْ ، وَلَهُ غُرْمُ السَّطْلِ إِنْ هَلَكَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ مَا يَأْخُذُهُ أُجْرَةُ الدُّخُولِ وَالسَّطْلِ وَحِفْظِ الثِّيَابِ ، فَعَلَى هَذَا لَا غُرْمَ فِي السَّطْلِ إِنْ هَلَكَ ، وَيَكُونُ فِي ضَمَانِ الثِّيَابِ كَالْأَجِيرِ الْمُشْتَرِكِ ، وَهَكَذَا حُكْمُ الثِّيَابِ فِيمَا يَأْخُذُهُ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْخَبَّازُ إِذَا اسْتُؤْجِرَ لِخُبْزٍ فِي تَنُّورٍ أَوْ فُرْنٍ فَاحْتَرَقَ في الضمان ؛ فَإِنْ نُسِبَ إِلَى الْعُدْوَانِ فِي عَمَلِهِ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ يَظْهَرُ عُدْوَانُهُ فِيهَا :
أَحَدُهَا : أَنْ يَخْبِزَ فِي شِدَّةِ حُمَّى التَّنُّورِ وَالْتِهَابِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَخْبِزَ فِي حَالِ سُكُونِهِ وَبَرْدِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يُطَوِّلَ مَكْثَ الْخُبْزِ فِي التَّنُّورِ عَنْ حَدِّهِ ، فَيَلْزَمُهُ الضَّمَانُ وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ عُدْوَانٌ بِأَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ ، فَإِنْ كَانَ الْخُبْزُ مَعَ الْمَالِكِ أَوْ فِي مَنْزِلِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْخَبَّازِ ، وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْخَبَّازِ مَعَ غَيْرِهِ فَفِي ضَمَانِهِ قَوْلَانِ ، وَإِنْ كَانَ مَعَ الْخَبَّازِ مُنْفَرِدًا فَعَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا . فَلَمْ يَكُنْ فِيمَا اسْتَشْهَدَ بِهِ الْمُزَنِيُّ مِنْ ذَلِكَ دَلِيلٌ لِمَا اخْتَارَهُ مِنْ سُقُوطِ الضَّمَانِ . فَأَمَّا إِنِ اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ حَمَّالًا أَوْ مَلَّاحًا لِحَمْلِ مَتَاعٍ فَهَلَكَ ؛ فَإِنْ ظَهَرَ مِنْهُ تَعَدٍّ بِالْمَسِيرِ فِي مَسْلَكٍ مَخُوفٍ ، أَوْ زَمَانٍ مَخُوفٍ ، أَوْ تَقْصِيرٌ فِي آلَةٍ ، أَوْ أَعْوَانٌ ضَمِنَ ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ تَعَدٍّ وَلَا تَقْصِيرٌ ؛ فَإِنْ كَانَ الْمَالِكُ مَعَهُ لَمْ يَضْمَنْ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ فَإِنْ حَمَلَ ذَلِكَ مَعَ غَيْرِهِ فَضَمَانُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَإِنْ حَمَلَهُ مُنْفَرِدًا فَعَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا ، وَهَكَذَا لَوِ اسْتَأْجَرَ الْمَلَّاحُ مَلَّاحًا لِمَدِّ السَّفِينَةِ فَهَلَكَتْ فِي يَدِهِ ، فَإِنْ نُسِبَ إِلَى تَعَدٍّ أَوْ تَفْرِيطٍ ضَمِنَ ، وَإِنْ لَمْ يُنْسَبْ إِلَى ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ الْمَلَّاحُ حَاضِرًا لَمْ يَضْمَنْ ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا فَعَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا : هَلْ يَكُونُ مُنْفَرِدًا أَوْ مُشْتَرِكًا ؟ وَعَلَى قِيَاسِ هَذَا يَكُونُ جَمِيعُ نَظَائِرِهِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْوَكِيلُ فَإِنْ كَانَ مُتَطَوِّعًا فَلَا أُجْرَةَ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إِلَّا بِالْعُدْوَانِ ، وَإِنْ كَانَ بِأُجْرَةٍ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ . أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ مُوَكَّلًا فِي اقْتِضَاءِ دُيُونٍ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا قَبَضَهُ مِنْهَا : لِأَنَّ الْعَمَلَ الَّذِي اسْتُؤْجِرَ عَلَيْهِ هُوَ الْقَضَاءُ وَحْدَهُ ، وَالْقَبْضُ مَأْذُونٌ فِيهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ أُجْرَتَهُ إِذَا اقْتَضَى وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يُوَكَّلَ فِي بَيْعِ مَتَاعٍ فَيَكُونَ أَجِيرًا فَيِ الْبَيْعِ وَمَأْذُونًا لَهُ فِي قَبْضِ الثَّمَنِ ، فَإِنْ تَلِفَ الثَّمَنُ لَمْ يَضْمَنْهُ ، وَإِنْ تَلِفَ الْمَتَاعُ فَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا لَمْ يَضْمَنْهُ ، وَإِنْ كَانَ مُشْتَرِكًا فَعَلَى قَوْلَيْنِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يُوَكَّلَ فِي شِرَاءِ مَتَاعٍ فَيَكُونَ أَجِيرًا فِي الشِّرَاءِ مَأْذُونًا لَهُ فِي قَبْضِ الْمَتَاعِ ، فَإِنْ تَلِفَ الْمَتَاعُ لَمْ يَضْمَنْهُ ، وَإِنْ تَلِفَ الثَّمَنُ فَعَلَى قَوْلَيْنِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَإِنِ اكْتَرَى دَابَّةً فَضَرَبَهَا ، أَوْ كَبَحَهَا بِاللِّجَامِ فَمَاتَتْ ، فَإِنْ كَانَ مَا فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ مَا يَفْعَلُ الْعَامَّةُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ فَعَلَ مَا لَا يَفْعَلُ الْعَامَّةُ ضَمِنَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . لَا يَجُوزُ لِمُسْتَأْجِرِ الدَّابَّةِ أَنْ يَضْرِبَهَا عِنْدَ تَقْصِيرِ الْمَسِيرِ ضَرْبَ اسْتِصْلَاحٍ لَا يَخْرُجُ بِهِ عَنْ عَادَةِ النَّاسِ ، وَكَذَلِكَ كَبْحُهَا بِاللِّجَامِ وَرَكْضُهَا بِالرِّجْلِ ، فَإِنْ فَعَلَ فَتَلِفَتْ لَمْ يَضْمَنْ إِلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ عُرْفَ النَّاسِ فَيَضْمَنَ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَيْسَ لِمُسْتَأْجِرِ الدَّابَّةِ أَنْ يَضْرِبَهَا مَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْمَالِكُ فِي ضَرْبِهَا ، فَإِنْ ضَرَبَهَا ضَمِنَ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى إِبَاحَةِ
ضَرْبِهَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : اضْرِبُوهَا عَلَى الْعِثَارِ ، وَلَا تَضْرِبُوهَا عَلَى النِّفَارِ يَعْنِي أَنَّهَا فِي الْعِثَارِ سَاهِيَةٌ فَالضَّرْبُ يُوقِظُهَا ، وَفِي النِّفَارِ تَزْدَادُ بِالضَّرْبِ نُفُورًا فَكَانَ ذَلِكَ عَلَى عُمُومِهِ . وَرَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : سَافَرْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَطَلَعَ بَعِيرِي فَاشْتَرَاهُ مِنِّي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ وَحَمَلَنِي عَلَيْهِ إِلَى الْمَدِينَةِ ، فَكَانَ يَسُوقُهُ وَأَنَا رَاكِبُهُ وَإِنَّهُ لَيَضْرِبُهُ بِالْعَصَا ؛ وَلِأَنَّ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ إِذَا كَانَ مَعْهُودًا ، فَإِذَا لَمْ يُتَوَصَّلْ إِلَى اسْتِيفَاءِ الْمَسِيرِ إِلَّا بِالضَّرْبِ فَذَلِكَ مُبَاحٌ . فَعَلَى هَذَا لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ قَوْلًا وَاحِدًا إِذَا لَمْ يَتَعَدَّ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَجِيرٍ وَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَأْجِرٌ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " فَأَمَّا الرُّوَّاضُ فَإِنَّ شَأْنَهُمُ اسْتِصْلَاحُ الدَّوَابِّ وَحَمْلُهَا عَلَى السَّيْرِ ، وَالْحَمْلُ عَلَيْهَا بِالضَّرْبِ عَلَى أَكْثَرِ مَا يَفْعَلُ الرَّاكِبُ غِيرَهُمْ ، فَإِنْ فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ مَا يَرَاهُ الرُّوَّاضُ صَلَاحًا بِلَا إِعْنَاتٍ بَيِّنٍ لَمْ يَضْمَنْ ، فَإِنْ فَعَلَ خِلَافَ ذَلِكَ فَهُوَ مُتَعَدٍّ وَضَمِنَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ مَا يَسْتَبِيحُهُ الرَّائِضُ مِنْ ضَرْبِ الدَّابَّةِ فَهُوَ أَكْثَرُ مِمَّا يَسْتَبِيحُهُ الرَّاكِبُ : لِأَنَّ الرَّائِضَ يَحْتَاجُ إِلَى زِيَادَةِ ضَرْبٍ فِي تَذْلِيلِ الدَّابَّةِ وَاسْتِصْلَاحِهَا لَا يَحْتَاجُ الرَّاكِبُ إِلَيْهِ : لِأَنَّ الدَّابَّةَ عِنْدَ التَّذْلِيلِ أَنْفَرُ مِنْهَا عِنْدَ الْمَسِيرِ . فَلَوْ تَجَاوَزَ الرَّاكِبُ ضَرْبَ الرُّكَّابِ إِلَى ضَرْبِ الرَّائِضِ ضَمِنَ لِتَعَدِّيهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الرَّائِضُ فِيهِ مُتَعَدِّيًا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنْ تَجَاوَزَ الرَّائِضُ عَادَةً الرُّوَّاضَ صَارَ مُتَعَدِّيًا وَلَزِمَهُ الضَّمَانُ ، وَإِنْ لَمْ يَتَجَاوَزْ عَادَةَ الرُّوَّاضِ صَارَ غَيْرَ مُتَعَدٍّ وَلَمْ يَلْزَمْهُ الضَّمَانُ . فَإِنْ رَاضَهَا فِي يَدِ صَاحِبِهَا لَمْ يَضْمَنْ وَإِنْ رَاضَهَا فِي غَيْرِ يَدِهِ وَلَا مَعَهُ ضَمِنَ ، فَإِنْ رَاضَهَا مَعَ غَيْرِهِ فَفِي ضَمَانِهِ قَوْلَانِ ، وَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا بِهَا فَعَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فَصَارَ الرَّاكِبُ بِخِلَافِ الرَّائِضِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَدْرُ الضَّرْبِ الَّذِي يَسْتَبِيحُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا . وَالثَّانِي : الضَّمَانُ : لِأَنَّ الرَّاكِبَ مُسْتَأْجِرٌ لَا يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ إِلَّا بِالْعُدْوَانِ ، وَالرَّائِضَ أَجِيرٌ وَفِي ضَمَانِهِ إِذَا كَانَ مُشْتَرِكًا قَوْلَانِ ( وَاللَّهُ أَعْلَمُ ) .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَالرَّاعِي إِذَا فَعَلَ مَا لِلرُّعَاةِ فَعْلُهُ مِمَّا فِيهِ صَلَاحٌ لَمْ يَضْمَنْ ، وَإِنْ فَعَلَ غَيْرَ ذَلِكَ ضَمِنَ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهَذَا يُفْضِي لِأَحَدِ قَوْلَيْهِ بِطَرْحِ الضَّمَانِ كَمَا وَصَفْتُ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَ الرَّاعِي فِي انْفِرَادِهِ وَاشْتِرَاكِهِ في الضمان وَأَنَّهُ كَغَيْرِهِ مِنَ الْأُجَرَاءِ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ بِالتَّعَدِّي وَسُقُوطِهِ عَنْهُ بِالِانْفِرَادِ وَاخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الِاشْتِرَاكِ ، وَلَيْسَ تَفْرِيعُ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ إِبْطَالًا لِلْقَوْلِ الْآخَرِ فَيَصِحُّ احْتِجَاجُ الْمُزَنِيِّ وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ
أَرْجَحُ الْقَوْلَيْنِ فِي نَفْسِهِ وَهَذَا صَحِيحٌ مِنْ مَذْهَبِهِ ، بَلْ قَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَوْلَا خَوْفِي مِنْ خِيَانَةِ الْأُجَرَاءِ لَقَطَعْتُ الْقَوْلَ بِسُقُوطِ الضَّمَانِ عَنْهُمْ .
مَسْأَلَةٌ لَوْ أَكْرَى حَمْلَ مَكِيلَةٍ وَمَا زَادَ فَبِحِسَابِهِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَوْ أَكْرَى حَمْلَ مَكِيلَةٍ وَمَا زَادَ فَبِحِسَابِهِ فَهُوَ الْمَكِيلَةُ جَائِزٌ وَفِي الزَّائِدِ فَاسِدٌ وَلَهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِنَّ لِتَصْوِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَحَمْلِ الْجَوَابِ عَلَيْهَا مُقَدِّمَةً ، وَهِيَ فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ سَوَاءٌ . فَإِذَا اسْتَأْجَرَ لِحَمْلِ صُبْرَةٍ إِلَى بَلَدٍ مُسَمًّى بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، وَالصُّبْرَةُ مُشَاهَدَةٌ وَهُمَا لَا يَعْلَمَانِ مَبْلَغَ كَيْلِهَا جَازَ كَمَا لَوْ قَالَ بِعْتُكَهَا بِمِائَةٍ ، وَلَا يَضُرُّ الْجَهْلُ بِتَقْسِيطِ الْأُجْرَةِ عَلَى أَجْزَاءِ الصُّبْرَةِ كَمَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الْبَيْعِ : لِأَنَّ جُمْلَةَ الْأُجْرَةِ مَعْلُومَةٌ وَلَوْ قَالَ : قَدِ اسْتَأْجَرْتُكَ لِحَمْلِهَا كُلَّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ جَازَ وَإِنْ جَهَلَا فِي الْحَالِ مَبْلَغَ جَمِيعِ الْأُجْرَةِ : لِأَنَّ أُجْرَةَ الْأَجْزَاءِ مَعْلُومَةٌ تُفْضِي إِلَى الْعِلْمِ بِجَمِيعِ الْأُجْرَةِ كَمَا لَوْ قَالَ : بِعْتُكَهَا كُلَّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ ، وَلَوْ قَالَ : اسْتَأْجَرْتُكَ لِحَمْلِ هَذِهِ الصُّبْرَةَ قَفِيزًا مِنْهَا بِدِرْهَمٍ ، وَمَا زَادَ فَبِحِسَابِهِ جَازَ أَيْضًا ( لِأَنَّهُ قَدْ عَقَدَ عَلَى الْجُمْلَةِ ) وَذِكْرُ أُجْرَةِ قَفِيزٍ مِنْهَا تَسْعِيرٌ لِجَمِيعِهَا وَتَكُونُ فِي حُكْمِ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ وَإِنِ اخْتَلَفَ اللَّفْظُ فِيهِمَا ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْبَيْعِ صَحَّ ، وَسَوَاءٌ أَخْرَجَ الزِّيَادَةَ مَخْرَجَ الشَّرْطِ فَقَالَ عَلَى أَنَّ مَا زَادَ فَبِحِسَابِهِ أَوْ لَمْ يَقِلْ . فَهَذِهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ لَا يَخْتَلِفُ الْجَوَابُ فِيهَا . فَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَوِ اكْتَرَى حَمْلَ مَكِيلَةٍ وَمَا زَادَ فَبِحِسَابِهِ بِهِ ، فَهُوَ فِي الْمَكِيلَةِ جَائِزٌ ، وَفِي الزِّيَادَةِ فَاسِدٌ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صُورَتِهَا . فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : صُورُتُهَا أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ لِحَمْلِ عَشَرَةِ أَقْفِزَةٍ حَاضِرَةٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ ، وَبِحَمْلِ مَا حَضَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ طَعَامٍ لَهُ غَائِبٍ بِحِسَابِ ذَلِكَ ، فَتَصِحَّ الْإِجَارَةُ فِي الْعَشَرَةِ الْأَقْفِزَةِ الْحَاضِرَةِ وَتَبْطُلُ فِي الزِّيَادَةِ الْغَائِبَةِ : لِأَنَّهَا قَدْ تَحْضُرُ أَوْ لَا تَحْضُرُ ، وَقَدْ تَقِلُّ وَتَكْثُرُ ، وَهَكَذَا فِي الْبَيْعِ أَيْضًا وَلَوْ أَخْرَجَ ذَلِكَ مَخْرَجَ الشَّرْطِ فَقَالَ عَلَى أَنْ تَحْمِلَ مَا زَادَ بِحِسَابِهِ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ فِي الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ . وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا : بَلْ صُورَتُهَا فِي صُبْرَةٍ حَاضِرَةٍ يَعْلَمُ أَنَّ فِيهَا عَشَرَةَ أَقْفِزَةٍ وَيَشُكُّ فِي الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا ، فَيَسْتَأْجِرُهُ لِحَمْلِ الْعَشَرَةِ الْأَقْفِزَةِ الْمَعْلُومَةِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ ، وَالزِّيَادَةُ الْمَشْكُوكُ فِيهَا بِحِسَابِ ذَلِكَ فَتَصِحُّ الْإِجَارَةُ فِي الْعَشْرِ لِلْعِلْمِ بِهَا وَتَبْطُلُ فِي الزِّيَادَةِ لِلشَّكِّ فِيهَا : لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَقَعَ الشَّكُّ فِي وُجُودِهِ ، فَبَطَلَ الْعَقْدُ فِيهِ كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ فِي مَنْزِلِهِ طَعَامٌ يَشُكُّ فِي بَقَائِهِ أَوْ أَكْلِ عِيَالِهِ لَهُ فَاسْتَأْجَرَ لِحَمْلِهِ كَانَ فَاسِدًا ، فَعَلَى هَذَا لَوْ جَعَلَ الْإِجَارَةَ فِي الزِّيَادَةِ الْمَشْكُوكِ فِيهَا شَرَطًا فِي الْعَشَرَةِ الْمَعْلُومَةِ ، فَقَالَ عَلَى أَنَّ مَا زَادَ فَبِحِسَابِهِ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ فِي الْجَمِيعِ ، وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا : بَلْ صُورَتُهَا فِي صُبْرَةٍ
حَاضِرَةٍ يَعْلَمُ أَنَّهَا تَزِيدُ عَلَى عَشْرَةِ أَقْفِزَةٍ . فَيَسْتَأْجِرُ لِعَشَرَةِ أَقْفِزَةٍ مِنْهَا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ ، وَمَا زَادَ فَبِحِسَابِهِ ، فَتَبْطُلُ الْإِجَارَةُ فِي الزِّيَادَةِ وَإِنْ صَحَّتْ فِي الْعَشْرِ : لِأَنَّهَا لَمْ تَدْخُلْ فِي الْعَقْدِ : لِأَنَّ الْإِجَارَةَ لَمْ تُعْقَدْ عَلَى جَمِيعِ الصُّبْرَةِ ، وَإِنَّمَا عُقِدَتْ عَلَى عَشْرَةِ أَقْفِزَةٍ مِنْهَا وَأُضِيفَ إِلَى الْعَقْدِ زِيَادَةٌ لَمْ تَدْخُلْ فِيهِ ؛ فَلِذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ فِيهَا . وَلَوْ جَعَلَ الزِّيَادَةَ شَرَطًا فِي الْعَقْدِ ، فَقَالَ : عَلَى أَنَّ مَا زَادَ فَبِحِسَابِهِ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ فِي الْجَمِيعِ ، وَلَهُ إِنْ حَمَلَ شَيْئًا أُجْرَةُ مِثْلِهِ ، وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ فِي تَصْوِيرِ الْمَسْأَلَةِ أَشْبَهُ الطُّرُقِ بِلَفْظِ الشَّافِعِيِّ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَوْ حَمَلَ لَهُ مَكِيلَةً فَوُجِدَتْ زَائِدَةً ، فَلَهُ أَجْرُ مَا حَمَلَ مِنَ الزِّيَادَةِ ، وَإِنْ كَانَ الْجَمَّالُ هُوَ الْكَيَّالَ ، فَلَا كِرَاءَ لَهُ فِي الزِّيَادَةِ ، وَلِصَاحِبِهِ الْخِيَارُ فِي أَخْذِ الزِّيَادَةِ فِي مَوْضِعِهِ ، أَوْ يَضْمَنُ قَمْحَهُ بِبَلَدِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ اكْتَرَى مِنْ جَمَّالٍ حِمْلَ عَشَرَةِ أَقْفِزَةٍ مِنْ صُبْرَةِ طَعَامٍ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى الْكُوفَةِ بِدِينَارٍ ، فَحَمَلَهَا وَوَجَدَ قَدْرَهَا بِخِلَافِ مَا شَرَطَ ، فَفِي الْمَسْأَلَةِ فَصْلَانِ : أَحَدُهُمَا : ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ أَنْ يُوجَدَ ذَلِكَ زَائِدًا . وَالثَّانِي : لَمْ يَذْكُرْهُ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ أَنْ يُوجَدَ ذَلِكَ نَاقِصًا . فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يُوجَدَ الطَّعَامُ زَائِدًا عَلَى الْعَشَرَةِ ، فَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ يَسِيرَةً قَدْ تَكُونُ بَيْنَ الْمَكَايِيلِ فَلَا اعْتِبَارَ بِهَا وَيَأْخُذُهَا رَبُّ الطَّعَامِ وَلَا أُجْرَةَ لِلْجَمَّالِ فِيهَا ، وَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ كَثِيرَةً لَا تَكُونُ بَيْنَ الْمَكَايِيلِ ؛ مِثْلَ أَنْ تُكَالَ الْعَشَرَةُ فَوُجِدَتْ خَمْسَةَ عَشَرَ قَفِيزًا ، فَيُنْظَرُ فِي مِكْيَالِ مِثْلِهَا بِالْبَصْرَةِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ رَبَّ الطَّعَامِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْجَمَّالَ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ أَجْنَبِيًّا ، فَإِنْ كَانَ الْكَيَّالُ رَبَّ الطَّعَامِ ، أَخَذَ طَعَامَهُ ، وَلَزِمَهُ الْأُجْرَةُ الْمُسَمَّاةُ فِي الْعَشَرَةِ ، وَأُجْرَةُ الْمِثْلِ فِي الزِّيَادَةِ ، فَإِنْ تَلِفَ الْبَعِيرُ لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْجَمَّالِ ، أَوْ مَعَ رَبِّ الطَّعَامِ ، أَوْ مَعَ أَجْنَبِيٍّ ؛ فَإِنْ كَانَ مَعَ رَبِّ الطَّعَامِ ضَمِنَ جَمِيعَ قِيمَتِهِ : لِأَنَّهُ قَدْ جَمَعَ بَيْنَ ضَمَانِ الْجِنَايَةِ وَالْعُدْوَانِ ، وَإِنْ كَانَ مَعَ الْجَمَّالِ فَقَدْ تَفَرَّدَ بِضَمَانِ الْجِنَايَةِ وَحْدَهَا ، فَلَمْ يَلْزَمْ جَمِيعُ الْقِيمَةِ لِحُدُوثِ التَّلَفِ مِنْ مُبَاحٍ وَمَحْظُورٍ وَفِي قَدْرِ مَا يَلْزَمُهُ قَوْلَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْجَلَّادِ . أَحَدُهُمَا : يَلْزَمُهُ نِصْفُ الْقِيمَةِ . وَالثَّانِي : يَلْزَمُهُ ثُلُثُ الْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ ثُلُثُ الْجُمْلَةِ وَإِنْ كَانَ مَعَ أَجْنَبِيٍّ نُظِرَ فِيهِ ، فَإِنْ
نَابَ عَنِ الْجَمَّالِ فَهُوَ كَانَ لَوْ كَمَا بِيَدِ الْجَمَّالِ ، وَإِنْ نَابَ عَنْ رَبِّ الطَّعَامِ فَهُوَ كَمَا لَوْ كَانَ بِيَدِ رَبِّ الطَّعَامِ .
فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الْكَيَّالُ هُوَ الْجَمَّالَ فَلَا أُجْرَةَ لَهُ فِي الزِّيَادَةِ وَيَأْخُذُ الْمُسَمَّى فِي الْعَشَرَةِ ، وَلَا رُجُوعَ لَهُ بِقَدْرِ الْبَعِيرِ إِنْ تَلِفَ سَوَاءٌ كَانَ بِيَدِهِ أَوْ بِيَدِ رَبِّ الطَّعَامِ : لِأَنَّهُ الْجَانِي عَلَى مَالِهِ ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الْخَمْسَةِ الزَّائِدَةِ فَلِرَبِّهَا وَالْجَمَّالِ فِيهَا أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ : حَالٌ يَتَّفِقَانِ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ رَبُّهَا بِالْكُوفَةِ فَيَجُوزُ ، وَحَالٌ يَتَّفِقَانِ عَلَى تَضْمِينِ الْجَمَّالِ لَهَا لِيَرُدَّ مِثْلَهَا بِالْبَصْرَةِ فَيَجُوزُ ، وَحَالٌ يَتَّفِقَانِ عَلَى رَدِّهَا بِعَيْنِهَا إِلَى الْبَصْرَةِ فَيَجُوزُ ، وَحَالٌ يَخْتَلِفَانِ فَيَدْعُو رَبُّهَا إِلَى رَدِّهَا بِعَيْنِهَا إِلَى الْبَصْرَةِ وَيَدْعُو الْجَمَّالُ إِلَى تَضْمِينِهَا لَهُ لِيَرُدَّ مِثْلَهَا بِالْبَصْرَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ رَبِّ الطَّعَامِ ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْجَمَّالُ بِرَدِّهَا إِلَى الْبَصْرَةِ بِعَيْنِهَا كَالْغَاصِبِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْجَمَّالِ ، وَيَأْخُذُ الزِّيَادَةَ مَضْمُونَةً لِيَرُدَّ مِثْلَهَا بِالْبَصْرَةِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّ الطَّعَامِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالْكُوفَةِ : لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَمَّا اتَّصَلَتْ فَارَقَتْ حُكْمَ الْغَصْبِ وَصَارَتْ كَالْغَرْسِ . فَإِنْ كَانَ الْمَحْمُولُ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ مِنْ دَقِيقٍ أَوْ سَوِيقٍ ، لَزِمَ الْجَمَّالَ رَدُّ الزِّيَادَةِ بِعَيْنِهَا إِلَى الْبَصْرَةِ فِي الْوَجْهَيْنِ مَعًا ، فَلَوْ هَلَكَ الطَّعَامُ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَى رَبِّهِ ضَمِنَ الْجَمَّالُ الْخَمْسَةَ الزَّائِدَةَ : لِأَنَّهُ صَارَ مُتَعَدِّيًا بِهَا دُونَ الْعَشَرَةِ الَّتِي لَا عُدْوَانَ فِيهَا . فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا صَارَ ضَامِنًا لِجَمِيعِ ذَلِكَ لِاخْتِلَاطٍ مَا تَعَدَّى فِيهِ بِغَيْرِهِ كَمَنْ تَعَدَّى فِي دِرْهَمٍ مِنْ دَرَاهِمَ عِنْدَهُ وَدَفَعَهُ ثُمَّ رَدَّ الدِّرْهَمَ مِنْهَا وَاخْتَلَطَ بِهَا صَارَ ضَامِنًا لِجَمِيعِهَا ؟ قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الدَّرَاهِمَ لَمَّا تَعَيَّنَ بِالتَّعَدِّي جَازَ إِذَا اخْتَلَطَ بِغَيْرِهِ أَنْ يَصِيرَ ضَامِنًا لِغَيْرِهِ لَا لِجَمِيعِهِ ، وَالزِّيَادَةُ الَّتِي تَعَدَّى فِيهَا مِنَ الطَّعَامِ مُشَاعَةٌ فِيمَا لَمْ يَتَعَدَّ فِيهِ ، فَلَمْ يَضْمَنْ إِلَّا السَّهْمَ الشَّائِعَ بِالتَّعَدِّي . فَلَوِ اخْتَلَفَا فِي الزِّيَادَةِ فَادَّعَاهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ رَبِّ الطَّعَامِ وَالْجَمَّالِ فَالْقَوْلُ فِيهَا قَوْلُ مَنْ يَدُهُ عَلَيْهَا ، فَإِنْ كَانَتْ فِي يَدِ رَبِّ الطَّعَامِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ فِي يَدِ الْجَمَّالِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَيَصِيرُ ضَامِنًا لِجَمِيعِ الطَّعَامِ إِنْ هَلَكَ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَى رَبِّهِ . لِأَنَّهُ بِادِّعَاءِ الزِّيَادَةِ قَدْ صَارَ مُقِرًّا بِالتَّعَدِّي فِي خَلْطِهِمَا ، فَعَلَى هَذَا لَوِ اخْتَلَفَ مُسْتَأْجِرُ الدَّارِ وَمَالِكُهَا فِي قُمَاشِهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ . وَلَوِ اخْتَلَفَا فِي الْأَبْوَابِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُؤَجِّرِ : لِأَنَّ يَدَ الْمُسْتَأْجِرِ عَلَى الْقُمَاشِ وَيَدَ الْمَالِكِ عَلَى الْأَبْوَابِ .
فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الْكَيَّالُ أَجْنَبِيًّا وزاد المحمول على ما اتفقا عليه فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ بَعْدَ كَيْلِ الطَّعَامِ قَدْ حَمَلَهُ عَلَى الْبَعِيرِ وَسَارَ مَعَهُ فَيَضْمَنُ الْجَمَّالُ مَا كَانَ يَضْمَنُهُ رَبُّ الطَّعَامِ لَوْ كَانَ هُوَ الْكَيَّالَ وَأُجْرَةَ مِثْلِ الزِّيَادَةِ وَقِيمَةَ الْبَعِيرِ إِنْ هَلَكَ . وَيَضْمَنُ لِرَبِّ الطَّعَامِ مَا كَانَ يَضْمَنُهُ الْجَمَّالُ لَوْ كَانَ هُوَ الْكَيَّالَ مِنْ عِوَضِ الزِّيَادَةِ حَتَّى يَصِلَ إِلَيْهِ ، وَتَخْيِيرُهُ بَيْنَ قَبْضِهَا مِنْهُ أَوْ تَضْمِينِهِ إِيَّاهَا أَخْذُ مِثْلِهَا مِنْهُ ، فَإِنْ أَرَادَ رَدَّ عَيْنِهَا كَانَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ .
وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ بَعْدَ كَيْلِ الطَّعَامِ قَدْ حَمَلَهُ عَلَى الْبَعِيرِ وَلَمْ يَسِرْ مَعَهُ ، فَيَضْمَنُ لِرَبِّ الطَّعَامِ مَا كَانَ يَضْمَنُهُ لَوْ سَارَ مَعَهُ ، وَيَضْمَنُ لِلْجَمَّالِ أُجْرَةَ الزِّيَادَةِ . وَفِي قَدْرِ مَا يَضْمَنُهُ مِنْ قِيمَةِ الْبَعِيرِ إِنْ تَلِفَ قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكِيلَ الطَّعَامَ وَلَا يَحْمِلَهُ وَلَا يَسِيرَ مَعَهُ ، فَلَا يَضْمَنُ لِلْجَمَّالِ شَيْئًا لَا مِنْ أُجْرَةِ الزِّيَادَةِ ، وَلَا مِنْ قِيمَةِ الْبَعِيرِ : لِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ فِي الْجَمَلِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ضَمَانٌ . وَأَمَّا ضَمَانُ الطَّعَامِ لِرَبِّهِ ؛ فَإِنْ كَانَ عِنْدَ كَيْلِهِ لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ حِرْزِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِرَبِّ الطَّعَامِ أَيْضًا : لِأَنَّ يَدَ مَالِكِهِ لَمْ تَزُلْ عَنْهُ بِفِعْلِهِ ، وَإِنْ أَخْرَجَهُ مِنْ حِرْزِهِ ضَمِنَهُ بِالْغُرْمِ إِنْ تَلِفَ ، وَلَمْ يَضْمَنْهُ بِالرَّدِّ إِلَى الْبَلَدِ الَّذِي حَمَلَ مِنْهُ : لِأَنَّ غَيْرَهُ حَمَلَهُ فَهَذَا حُكْمُ الزِّيَادَةِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا النُّقْصَانُ فَإِنْ كَانَ يَسِيرًا قَدْ يَكُونُ مِثْلَهُ بَيْنَ الْمَكَايِيلِ ، فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ وَيَأْخُذُهُ رَبُّهُ نَاقِصًا ، وَلَا رُجُوعَ لَهُ بِغُرْمِ النَّقْصِ وَلَا بِأُجْرَتِهِ . وَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ كَثِيرًا مِثْلَ أَنْ يُوجَدَ الْعَشَرَةُ الْأَقْفِزَةُ سَبْعَةً ، فَلَا يَخْلُو حَالُ رَبِّهِ وَالْجَمَّالِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى أَنَّهُ نُقْصَانٌ لَمْ يُحْمَلْ . وَالثَّانِي : أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى أَنَّهُ نُقْصَانٌ قَدْ هَلَكَ بَعْدَ أَنْ حُمِلَ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَدَّعِيَ رَبُّهُ أَنَّهُ نُقْصَانٌ لَمْ يُحْمَلْ ، وَيَدَّعِيَ الْجَمَّالُ أَنَّهُ نُقْصَانٌ قَدْ هَلَكَ بَعْدَ أَنْ حُمِلَ . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَدَّعِيَ رَبُّهُ أَنَّهُ نُقْصَانٌ قَدْ هَلَكَ بَعْدَ أَنْ حُمِلَ ، وَيَدَّعِيَ الْجَمَّالُ أَنَّهُ نُقْصَانٌ لَمْ يُحْمَلْ . فَأَمَّا الْقَسَمُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى أَنَّهُ نُقْصَانٌ لَمْ يُحْمَلْ لَهُ ضمان إن نقص المحمول على ما اتفقا عليه ، فَيُنْظَرُ فِي الْكَيَّالِ ؛ فَإِنْ كَانَ هُوَ الْجَمَّالَ أَوْ أَجْنَبِيًّا ، فَأُجْرَةُ النُّقْصَانِ مَضْمُونَةٌ عَلَى الْجَمَّالِ . وَرَبُّهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْهُ فَتَنْفَسِخَ الْإِجَارَةُ فِي النُّقْصَانِ ، وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذَهُ بِحَمْلِهَا فَتَكُونَ الْإِجَارَةُ بَاقِيَةٌ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ الْكَيَّالُ هُوَ رَبَّ الطَّعَامِ نُظِرَ ؛ فَإِنْ قَصَدَ بِذَلِكَ مُسَامَحَةَ الْجَمَّالِ ، فَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَى الْجَمَّالِ بِحَمْلِ النُّقْصَانِ وَلَا بِأُجْرَتِهِ . وَإِنْ قَالَ سَهَوْتُ فَلَهُ الرُّجُوعُ بِمَا شَاءَ مِنْ حَمْلِ النُّقْصَانِ أَوْ أُجْرَتِهِ . فَإِنِ اخْتَلَفَا فَادَّعَى الْجَمَّالُ أَنَّ رَبَّ الطَّعَامِ قَصَدَ بِالنُّقْصَانِ الْمُسَامَحَةَ ، وَادَّعَى رَبُّ الطَّعَامِ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ سَهْوًا ، فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ رَبِّ الطَّعَامِ مَعَ يَمِينِهِ : لِأَنَّ قَصْدَهُ لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقَسَمُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى أَنَّهُ نُقْصَانٌ قَدْ هَلَكَ بَعْدَ أَنْ حُمِلَ ضمان إن نقص المحمول على ما اتفقا عليه ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَهْلَكَ ذَلِكَ بِتَعَدِّي الْجَمَّالِ أَوْ غَيْرِ تَعَدِّيهِ ، فَإِنْ هَلَكَ بِتَعَدِّي الْجَمَّالِ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ . وَلَهُ الْأُجْرَةُ إِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا ، وَلَا أُجْرَةَ لَهُ فِيمَا هَلَكَ إِنْ كَانَ مُشْتَرِكًا ، وَإِنْ هَلَكَ بِغَيْرِ تَعَدِّيهِ نُظِرَ فِي الطَّعَامِ ؛ فَإِنْ كَانَ مَعَ رَبِّهِ أَوْ مَعَهُ وَمَعَ الْجَمَّالِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْجَمَّالِ وَلَهُ الْأُجْرَةُ ، وَإِنْ كَانَ مَعَ الْجَمَّالِ وَحْدَهُ فَهُوَ الْأَجِيرُ الْمُشْتَرِكُ ، وَلَا أُجْرَةَ لَهُ فِي النُّقْصَانِ ، وَهَلْ لَهُ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَلَيْسَ لِرَبِّ الطَّعَامِ أَنْ يُكَلِّفَهُ حَمْلُ النُّقْصَانِ : لِأَنَّهُ قَدْ حَمَلَهُ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنْ يَدَّعِيَ رَبُّهُ أَنَّهُ نُقْصَانٌ لَمْ يُحْمَلْ وَيَدَّعِي الْجَمَّالُ أَنَّهُ
نُقْصَانٌ قَدْ هَلَكَ بَعْدَ أَنْ حُمِلَ ضمان إن نقص المحمول على ما اتفقا عليه ، فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ رَبِّهِ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ لَمْ يُحْمَلْ : لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِمَا يَدَّعِيهِ الْجَمَّالُ مِنَ الْحَمْلِ ، ثُمَّ هُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ بِأُجْرَةِ النُّقْصَانِ أَوْ بِحَمْلِهِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ وَهُوَ أَنْ يَدَّعِيَ رَبُّهُ أَنَّهُ نُقْصَانٌ قَدْ هَلَكَ بَعْدَ أَنْ حُمِلَ لِيَرْجِعَ عَلَى الْجَمَّالِ بِغُرْمِهِ ، وَيَدَّعِيَ الْجَمَّالُ أَنَّهُ نُقْصَانٌ لَمْ يُحْمَلْ ضمان إن نقص المحمول على ما اتفقا عليه ، فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْجَمَّالِ مَعَ يَمِينِهِ : لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِمَا يَدَّعِيهِ رَبُّ الطَّعَامِ مِنَ الْغُرْمِ ، وَلَا رُجُوعَ لِرَبِّ الطَّعَامِ عَلَيْهِ بِأُجْرَةٍ وَلَا حَمْلٍ : لِأَنَّهُ بِادِّعَاءِ التَّلَفِ مُقِرٌّ بِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ مِنَ الْحَمْلِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَمُعَلِّمُ الْكِتَابِ وَالْآدَمِيِّينَ مُخَالِفٌ لِرَاعِي الْبَهَائِمِ وَصُنَّاعِ الْأَعْمَالِ : لِأَنَّ الْآدَمِيِّينَ يُؤَدَّبُونَ بِالْكَلَامِ فَيَتَعَلَّمُونَ ، وَلَيْسَ هَكَذَا مُؤَدِّبُ الْبَهَائِمِ ، فَإِذَا ضَرَبَ أَحَدًا مِنَ الْآدَمِيِّينَ لِاسْتِصْلَاحِ الْمَضْرُوبِ أَوْ غَيْرِ اسْتِصْلَاحِهِ فَتَلَفَ ، كَانَتْ فِيهِ دِيَةٌ عَلَى عَاقِلَتِهِ ، وَالْكَفَّارَةُ فِي مَالِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . يَجُوزُ لِمُعَلِّمِ الصِّبْيَانِ أَنْ يُؤَدِّبَهُمْ بِالضَّرْبِ اسْتِصْلَاحًا لَهُمْ وَهَكَذَا الْأَبُ فِي وَلَدِهِ ، وَالزَّوْجُ عِنْدَ نُشُوزِ امْرَأَتِهِ ، فَإِنْ تَعَدَّى أَحَدُ هَؤُلَاءِ فِي الضَّرْبِ إِلَى أَنْ خَرَجَ فِيهِ إِلَى حَدِّ التَّلَفِ فَهُوَ قَاتِلٌ عَمْدًا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَوْدُ ، إِلَّا الْوَالِدَ فِي وَلَدِهِ فَتَلْزَمُهُ الدِّيَةُ دُونَ الْقَوْدِ ، وَلَمْ يَتَجَاوَزْ وَاحِدٌ الِاسْتِصْلَاحَ فَحَدَثَ مِنْهُ التَّلَفُ فَلَا قَوْدَ : لِأَنَّهُ خَطَأٌ شِبْهُ الْعَمْدِ ، وَالضَّارِبُ ضَامِنٌ لِدِيَةِ الْمَضْرُوبِ عَلَى عَاقِلَتِهِ ، وَالْكَفَّارَةُ فِي مَالِهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِذَا ضَرَبَ الْمُعَلِّمُ الصَّبِيَّ بِأَمْرِ أَبِيهِ لَمْ يَضْمَنْ ، وَلَوْ ضَرَبَهُ الْأَبُ بِنَفْسِهِ ضَمِنَ . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : الْأَبُ لَا يَضْمَنُ ، وَالْمُعَلِّمُ يَضْمَنُ . وَهَذَا مِنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَإِنْ كَانَ كِلَا الْقَوْلَيْنِ فَاسِدًا لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ يَضْمَنُ مَا حَدَثَ مِنَ اسْتِصْلَاحِ زَوْجَتِهِ بِالضَّرْبِ الْمُبَاحِ ، وَكَذَلِكَ الْأَبُ وَالْمُعَلِّمُ ، فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ ضَمِنَ مَنْ هُوَ مُبَاحُ الضَّرْبِ ، وَمَا حَدَثَ عَنِ الْمُبَاحِ صَارَ كَالرَّائِضِ لَا يَضْمَنُ الدَّابَّةَ إِذَا ضَرَبَهَا ، قِيلَ : الْمُبَاحُ مِنْ ضَرْبِ الْآدَمِيِّينَ فِي اسْتِصْلَاحِهِمْ مَا لَمْ يُفْضِ إِلَى التَّلَفِ ، فَإِذَا أَفْضَى إِلَى التَّلَفِ صَارَ غَيْرَ مُبَاحٍ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَائِضِ الْبَهَائِمِ مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الْآدَمِيِّينَ قَدْ يُؤَدَّبُونَ بِالْكَلَامِ ، فَكَانَ لَهُ إِلَى اسْتِصْلَاحِهِمْ سَبِيلٌ بِغَيْرِ الضَّرْبِ ؛ فَلِذَلِكَ لَزِمَ الضَّمَانُ إِنْ حَدَثَ مِنْ ضَرْبِهِمْ تَلَفٌ ، وَالْبَهَائِمُ لَا سَبِيلَ إِلَى اسْتِصْلَاحِهَا إِلَّا بِالضَّرْبِ فَلَمْ يَجِدِ الرَّائِضُ إِلَى تَرْكِهِ سَبِيلًا فَلَمْ يَضْمَنْ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَالتَّعْزِيرُ لَيْسَ بِحَدٍّ يَجِبُ بِكُلِّ حَالٍ ، وَقَدْ يَجُوزُ تَرْكُهُ ، وَلَا يَأْثَمُ مَنْ تَرَكَهُ . قَدْ فَعَلَ غَيْرَ شَيْءٍ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيْرَ حَدٍّ ، فَلَمْ يَضْرِبْ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ الْغُلُولُ وَغَيْرُهُ ، وَلَمْ يُؤْتَ بِحَدٍّ قَطُّ فَعَفَاهُ ، وَبَعَثَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِلَى امْرَأَةٍ فِي شَيْءٍ بَلَغَهُ عَنْهَا فَأَسْقَطَتْ ، فَقِيلَ لَهُ : إِنَّكَ مُؤَدِّبٌ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إِنْ كَانَ اجْتَهَدَ فَقَدْ أَخْطَأَ ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَجْتَهِدْ فَقَدْ غَشَّ . عَلَيْكَ الدِّيَةُ فَقَالَ عُمَرُ : عَزَمْتُ عَلَيْكَ أَنْ لَا تَجْلِسَ حَتَّى تَضْرِبَهَا عَلَى قَوْمِكَ ، فَبِهَذَا قُلْنَا خَطَأُ الْإِمَامِ عَلَى عَاقِلَتِهِ دُونَ بَيْتِ الْمَالِ " .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . تَعْزِيرُ الْإِمَامِ لِمُسْتَحِقِّ التَّعْزِيرِ مُبَاحٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ ، فَإِنْ حَدَثَ عَنْهُ تَلَفٌ كَانَ مَضْمُونًا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : التَّعْزِيرُ وَاجِبٌ لَا يَضْمَنُ مَا حَدَثَ عَنْهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : جَنْبُ الْمُؤْمِنِ حِمًى فَلَمْ يَجُزِ اسْتِبَاحَةُ مَا حَظَرَ مِنْهُ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ . قَالَ : وَلِأَنَّهُ انْتِهَاكُ عِرْضٍ مَحْظُورٍ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا كَالْحُدُودِ ، وَدَلِيلُنَا عَفْوُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ كَثِيرٍ مِنْ مُسْتَحِقِّيهِ ، وَلَمْ يَعْفُ عَنْ وَاجِبٍ مِنَ الْحُدُودِ ، وَقَالَ حِينَ سُئِلَ الْعَفْوَ عَنْ حَدٍّ : لَا عَفَا اللَّهُ عَنِّي إِنْ عَفَوْتُ فَمِمَّا عَفَا عَنْهُ مِنَ التَّعْزِيرِ أَنَّهُ أَتَى ، وَقَدْ حَظَرَ الْغُلُولَ بِرَجُلٍ قَدْ غَلَّ مِنَ الْغَنِيمَةِ ، فَلَمْ يُعَزِّرْهُ وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ وَهُوَ يُقَسِّمُ الصَّدَقَاتِ : اعْدِلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَتَمَعَّرَ وَجْهُهُ وَقَالَ : ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ فَمَنْ يَعْدِلُ ، وَلَمْ يُعَزِّرْهُ ، وَفِيهِ أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ : وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ [ التَّوْبَةِ : 58 ] . وَتَنَازَعَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ وَرَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ شِرْبًا فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : اسْقِ يَا زُبَيْرُ ، ثُمَّ أَرْسِلْ إِلَى جَارِكَ . فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ : إِنَّهُ ابْنُ عَمَّتِكَ فَنَسَبَهُ إِلَى الْمَيْلِ وَالتَّحَيُّفِ ، فَلَمْ يُعَزِّرْهُ وَفِيهِ أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ : فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [ النِّسَاءِ : 65 ] ، فَفَارَقَ بِعَفْوِهِ عَنِ التَّعْزِيرِ مَا حَظَرَهُ مِنَ الْعَفْوِ عَنِ الْحُدُودِ ، فَدَلَّ عَلَى افْتِرَاقِهِمَا فِي الْوُجُوبِ ، وَلِأَنَّهُ ضَرْبٌ غَيْرُ مَحْدُودِ الطَّرَفَيْنِ فَلَمْ يَكُنْ وَاجِبًا كَضَرْبِ الْمُعَلِّمِ وَالزَّوْجِ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : جَنْبُ الْمُؤْمِنِ حِمًى فَهُوَ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهِ عَلَى إِسْقَاطِ الْوُجُوبِ أَصَحُّ : لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي حِمَى جَنْبِهِ مِنْ وُجُوبِهِ . وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَبَاطِلٌ بِضَرْبِ الزَّوْجِ ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْحَدِّ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَصِحَّ الْعَفْوُ عَنْهُ وَجَبَ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّعْزِيرَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ فَحَدَثَ عَنْهُ التَّلَفُ فَالْإِمَامُ ضَامِنٌ لَهُ وَقَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ : لَا ضَمَانَ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ زَوَاجِرَ الْإِمَامِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ عَلَيْهِ كَالْحُدُودِ . وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَعَثَ إِلَى امْرَأَةٍ فِي شَيْءٍ بَلَغَهُ عَنْهَا رَسُولًا فَأَسْقَطَتْ . فَقَالَ لِعُثْمَانَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا تَقُولَانِ ؟ فَقَالَا : لَا شَيْءَ عَلَيْكَ ، وَإِنَّمَا أَنْتَ مُؤَدِّبٌ ، فَأَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ : مَا تَقُولُ ؟ فَقَالَ : إِنْ كَانَا مَا اجْتَهَدَا فَقَدْ غَشَّا ، وَإِنْ كَانَا قَدِ اجْتَهَدَا فَقَدْ أَخْطَآ . عَلَيْكَ الدِّيَةُ ، فَقَالَ : عَزَمْتُ عَلَيْكَ لَا تَبْرَحْ حَتَّى تَضْرِبَهَا عَلَى قَوْمِكَ يَعْنِي عَلَى قُرَيْشٍ : لِأَنَّهُمْ عَاقِلَتُهُ . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : مَا أَحَدٌ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ فَيَمُوِتُ فَأَجِدُ فِي نَفْسِي مِنْهُ شَيْئًا أَلْحَقَ قَتْلَهُ ، إِلَّا شَارِبُ الْخَمْرِ ، إِنَّهُ رَأْيٌ رَأَيْنَاهُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَنْ مَاتَ مِنْهُ فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الْإِمَامِ ، أَوْ قَالَ : فِي بَيْتِ الْمَالِ يَعْنِي فِيمَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ الَّذِي رَآهُ لِلْمَصْلَحَةِ اخْتِيَارًا ، وَتِلْكَ الزِّيَادَةُ تَعْزِيرٌ . وَلِأَنَّهُ ضَرْبٌ غَيْرُ مَحْدُودِ الطَّرَفَيْنِ عَلَى فِعْلٍ مُتَقَدِّمٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ الضَّمَانُ عِنْدَ
التَّلَفِ كَضَرْبِ الزَّوْجِ وَالْمُعَلِّمِ ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ مَنْ دَفَعَ إِنْسَانًا عَنْ نَفْسِهِ أَوْ مَالِهُ : لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى فِعْلٍ مُتَقَدِّمٍ ، فَأَمَّا الْحُدُودُ الْوَاجِبَةُ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا ضَمَانٌ لِمَا عَلَيْهِ مِنَ اسْتِيفَائِهَا ، وَأَنَّ الضَّمَانَ يَمْنَعُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهَا . فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الضَّمَانِ مِنَ التَّعْزِيرِ فعلى من تَكُونَ الدِّيَةُ ، فَأَنْ تَكُونَ الدِّيَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : عَلَى عَاقِلَةِ الْإِمَامِ لِحَدِيثِ عُمَرَ وَقَوْلِهِ لِعَلِيٍّ : عَزَمْتُ عَلَيْكَ لَا تَبْرَحْ حَتَّى تَضْرِبَهَا عَلَى قَوْمِكَ ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْكَفَّارَةُ فِي مَالِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الدِّيَةَ فِي بَيْتِ الْمَالِ : لِأَنَّهُ نَائِبٌ فِيهِ عَنْ كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مَا حَدَثَ عَنْهُ مِنَ الضَّمَانِ فِي بَيْتِ مَالِهِمْ ، فَعَلَى هَذَا فِي الْكَفَّارَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : فِي بَيْتِ الْمَالِ أَيْضًا . وَالثَّانِي : فِي مَالِهِ وَيَكُونُ تَأْوِيلُ فِعْلِ عُمَرَ فِي تَحْصِيلِ الدِّيَةِ لِعَاقِلَتِهِ ؛ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَالٌ فَعَادَ إِلَى عَاقِلَتِهِ كَمَا أَنَّ مَنْ وَجَبَتِ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ إِذَا عَدِمُوا جُعِلَتْ فِي بَيْتِ الْمَالِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَوِ اخْتَلَفَا فِي ثَوْبٍ فَقَالَ رَبُّهُ : أَمَرْتُكَ أَنْ تَقْطَعَهُ قَمِيصًا . وَقَالَ الْخَيَّاطُ : بَلْ قُبَاءً بَعْدَ أَنْ وَصَفَ قَوْلَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَ الْقَوْلَ قَوْلُ الْخَيَّاطِ لِاجْتِمَاعِهِمَا عَلَى الْقَطْعِ ، وَقَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ رَبِّ الثَّوْبِ كَمَا لَوْ دَفَعَهُ إِلَى رَجُلٍ فَقَالَ : رَهْنٌ . وَقَالَ رَبُّهُ : وَدِيعَةٌ . وَلَعَلَّ مِنْ حُجَّتِهِ أَنْ يَقُولَ : وَإِنِ اجْتَمَعَا عَلَى أَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْقَطْعِ فَلَمْ يَعْمَلْ لَهُ عَمَلَهُ كَمَا لَوِ اسْتَأْجَرَهُ عَلَى حَمْلٍ بِإِجَارَةٍ فَقَالَ قَدْ حَمَلْتُهُ ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُ إِلَّا بِإِقْرَارِ صَاحِبِهِ ، وَهَذَا أَشْبَهُ الْقَوْلَيْنِ ، وَكِلَاهُمَا مَدْخُولٌ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْقَوْلُ مَا شَبَّهَ الشَّافِعِيُّ بِالْحَقِّ : لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَعْلَمُهُ بَيْنَهُمْ أَنَّ مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ ، أَنَّهُ مَأْخُوذٌ بِحَدَثِهِ ، وَأَنَّ الدَّعْوَى لَا تَنْفَعُهُ ، فَالْخَيَّاطُ مُقِرٌّ بِأَنَّ الثَّوْبَ لِرَبِّهِ وَأَنَّهُ أَحْدَثَ فِيهِ حَدَثَا ، وَادَّعَى إِذْنَهُ وَإِجَارَةً عَلَيْهِ ، فَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى دَعْوَاهُ ، وَإِلَّا حَلَفَ صَاحِبُهُ وَضَمِنَهُ مَا أَحْدَثَ فِي ثَوْبِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي رَجُلٍ دَفَعَ إِلَى خَيَّاطٍ ثَوْبًا فَقَطَعَهُ الْخَيَّاطُ قَبَاءً ثُمَّ اخْتَلَفَ رَبُّهُ وَالْخَيَّاطُ ، فَقَالَ رَبُّ الثَّوْبِ : أَمَرْتُكَ أَنْ تَقْطَعَهُ قَمِيصًا فَتَعَدَّيْتَ بِقَطْعِهِ قَبَاءً فَعَلَيْكَ الضَّمَانُ . وَقَالَ الْخَيَّاطُ : بَلْ أَنْتَ أَمَرْتَنِي أَنْ أَقْطَعَهُ قَبَاءً فَلَا ضَمَانَ عَلَيَّ وَلِي الْأُجْرَةُ . فَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ عُمِلَ عَلَيْهَا وَحُكِمَ بِمُوجِبِهَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ فَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ ، وَقَدْ ذَكَرَهَا الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى ، وَحَكَى مَذْهَبَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْخَيَّاطِ ، وَمَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ رَبِّ الثَّوْبِ . قَالَ : وَهَذَا أَشْبَهُ الْقَوْلَيْنِ وَكِلَاهُمَا مَدْخُولٌ ، فَنَقَلَ الْمُزَنِيُّ ذَلِكَ إِلَى مُخْتَصَرِهِ هَذَا وَحَكَى فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ قَوْلًا ثَالِثًا أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأَجِيرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ : إِذَا دَفَعَ إِلَيْهِ ثَوْبًا لِيَصْبُغَهُ أَحْمَرَ فَقَالَ الصَّبَّاغُ : بَلْ أَخْضَرَ ، أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ ، فَهَذَا نَقْلُ مَا حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ مِنْ هَذَا الِاخْتِلَافِ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ طُرُقٍ :
أَحَدُهَا : وَهِيَ طَرِيقَةُ ابْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَرُوذِيِّ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْخَيَّاطِ وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى . وَالثَّانِي : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ رَبِّ الثَّوْبِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَحَمَلُوا قَوْلَ الشَّافِعِيِّ ، وَكِلَاهُمَا مَدْخُولٌ بِمَعْنًى مُحْتَمَلٍ لَا يُقْطَعُ بِصِحَّتِهِ لِمَا يَعْتَرِضُهُ مِنَ الشُّبَهِ الَّتِي لَا يَخْلُو مِنْهَا قَوْلُ مُجْتَهِدٍ ، ثُمَّ مَالَ إِلَى تَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا لِقُوَّتِهِ عَلَى الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ رَبِّ الثَّوْبِ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ . وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ لِأَصْحَابِنَا وَلَعَلَّهَا طَرِيقَةُ أَبِي الطَّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ وَأَبِي حَفْصِ بْنِ الْوَكِيلِ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ ، عَلَى مَا حَكَاهُ الْمُزَنِيُّ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ مِنْهُمَا هَذَانِ الْقَوْلَانِ ، وَالثَّالِثُ : أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ . وَالطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ وَهِيَ طَرِيقَةُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ ، أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ : لِأَنَّهُ وَإِنْ ذَكَرَ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى ، فَقَدْ رَغِبَ عَنْهُمَا بِقَوْلِهِ ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مَدْخُولٌ ثُمَّ أَمْسَكَ عَنِ التَّصْرِيحِ بِمَذْهَبِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ اكْتِفَاءً بِمَا تَقَرَّرَ مِنْ مَذْهَبِهِ فِي اخْتِلَافِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَمِنَ التَّحَالُفِ ، وَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي كِتَابِ الْأَجِيرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا قِيلَ بِمَذْهَبِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْخَيَّاطِ فَوَجْهُهُ فِي الْمَصَالِحِ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِأَنَّ الْخَيَّاطَ يَعْمَلُ فِي الثَّوْبِ مَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ ، وَلَا يَقْصِدُ خِلَافَهُ وَإِنْ جَرَى غَيْرُ ذَلِكَ فَنَادِرٌ فَصَارَتِ الْعَادَةُ مُصَدِّقَةً لِقَوْلِ الْخَيَّاطِ دُونَ رَبِّ الثَّوْبِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْخَيَّاطَ لَمَّا صَدَّقَ عَلَى الْإِذْنِ الْمُبِيحِ لِتَصَرُّفِهِ صَارَ مُؤْتَمَنًا ، فَلَمْ يُقْبَلِ ادِّعَاءُ رَبِّ الثَّوْبِ عَلَيْهِ فِيمَا يُوجِبُ غُرْمًا ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْإِفْضَاءِ إِلَى أَنْ لَا يَشَاءَ مُسْتَأْجِرٌ أَنْ يُثْبِتَ غُرْمًا وَيُسْقِطَ أَجْرًا إِلَّا ادِّعَاءً خِلَافًا ، وَهَذَا يُدْخِلُ عَلَى النَّاسِ ضَرَرًا ، فَعَلَى هَذَا يَحْلِفُ الْخَيَّاطُ إذا اختلف هو وصاحب الثوب بِاللَّهِ تَعَالَى : لَقَدْ أَمَرَهُ أَنْ يَقْطَعَهُ قَبَاءً ، وَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ لَهُ الْأُجْرَةُ أَمْ لَا ؟ الخياط إن فعل في الثوب ما لم يؤذن له فيه عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ لَا أُجْرَةَ لَهُ : لِأَنَّ قَوْلَهُ إِنَّمَا قُبِلَ فِي سُقُوطِ الْغُرْمِ : لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ ، وَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي الْأُجْرَةِ : لِأَنَّهُ فِيهَا مُدَّعٍ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَتِ الْخُيُوطُ لِرَبِّ الثَّوْبِ لَمْ يَكُنْ لِلْخَيَّاطِ نَقْضُ الْخِيَاطَةِ : لِأَنَّهَا آثَارٌ مُسْتَهْلَكَةٌ وَيَصِيرُ الثَّوْبُ قَبَاءً مَخِيطًا لِرَبِّهِ ، وَإِنْ كَانَتِ الْخُيُوطُ لِلْخَيَّاطِ فَلَهُ اسْتِرْجَاعُهَا وَضَمَانُ مَا نَقَصَ مِنَ الثَّوْبِ بِأَخْذِهَا إِلَّا أَنْ يَتَرَاضَيَا عَلَى دَفْعِ قِيمَتِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَطَائِفَةٍ أَنَّ لَهُ الْأُجْرَةَ : لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مَحْكُومًا بِقَبُولِ قَوْلِهِ فِي الْإِذْنِ ، فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفُوا هَلْ يَسْتَحِقُّ الْمُسَمَّى أَوْ أُجْرَةَ الْمِثْلِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الْمُسَمَّى مِنَ الْأُجْرَةِ بِتَحْقِيقِ مَا حُكِمَ بِهِ مِنْ قَبُولِ قَوْلِهِ .
وَالثَّانِي : أُجْرَةُ الْمِثْلِ لِئَلَّا يَصِيرَ مَقْبُولَ الْقَوْلِ فِي الْعَقْدِ .
فَصْلٌ : وَإِذَا قِيلَ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ رَبِّ الثَّوْبِ فَوَجْهُهُ فِي الْقِيَاسِ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ اخْتِلَافٌ فِي مِلْكِ أَحَدِهِمَا ، فَكَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ الْمَالِكِ كَمَا لَوْ قَالَ صَاحِبُ الثَّوْبِ : دَفَعْتُهُ إِلَيْكَ وَدِيعَةً ، وَقَالَ صَاحِبُ الْيَدِ : بَلْ دَفَعْتَهُ إِلَيَّ رَهْنًا فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْمَالِكِ كَذَلِكَ هَذَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُمَا لَوْ كَانَا اخْتَلَفَا فِي أَصْلِ الْإِذْنِ الخياط ورب الثوب كَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ رَبِّ الثَّوْبِ دُونَ الْخَيَّاطِ : لِأَنَّ كُلَّ مَنْ قُبِلَ قَوْلُهُ فِي الْإِذْنِ قُبِلَ قَوْلُهُ فِي صِفَةِ ذَلِكَ الْإِذْنِ ، كَالْوَكِيلِ إِذَا ادَّعَى عَلَى مُوَكِّلِهِ الْإِذْنَ فِي بَيْعِ دَارٍ فَأَنْكَرَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُوَكِّلِ ، كَذَلِكَ الْخَيَّاطُ وَرَبُّ الثَّوْبِ يَجِبُ أَنْ يُرْجَعَ فِيهِ إِلَى رَبِّ الثَّوْبِ فِي صِفَةِ الْإِذْنِ كَمَا يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي أَصْلِ الْإِذْنِ . وَهَذَا يَدْفَعُ قَوْلَ مَنِ اعْتَبَرَ الْمَصَالِحَ ، فَعَلَى هَذَا يَحْلِفُ رَبُّ الثَّوْبِ بِاللَّهِ تَعَالَى مَا أَمَرَهُ بِقَطْعِهِ قَبَاءً نَفْيًا لِمَا ادَّعَاهُ الْخَيَّاطُ ، وَلَا يَحْلِفُ لِإِثْبَاتِ مَا ادَّعَاهُ مِنَ الْإِذْنِ فِي الْقَمِيصِ ، بِخِلَافِ الْخَيَّاطِ الَّذِي يَكُونُ يَمِينُهُ لِإِثْبَاتِ مَا ادَّعَاهُ مِنَ الْإِذْنِ فِي الْقَبَاءِ : لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَحْلِفُ عَلَى مَا يُطَالِبُ بِهِ ، فَالْخَيَّاطُ يُطَالِبُ بِالْأُجْرَةِ فَيَحْلِفُ عَلَى مَا ادَّعَى مِنَ الْإِذْنِ فِي الْقَبَاءِ ، وَتَبِعَهُ سُقُوطُ الضَّمَانِ وَرَبُّ الثَّوْبِ يُطَالِبُ بِمَا جَنَاهُ الْخَيَّاطُ وَيُنْكِرُ الْأُجْرَةَ ، فَيَحْلِفُ عَلَى مَا يُطَالِبُ بِهِ مِنْ جِنَايَةِ الْخَيَّاطِ . وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : يَنْبَغِي أَنْ يَحْلِفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ ، فَيَحْلِفُ الْخَيَّاطُ بِاللَّهِ تَعَالَى مَا أَمَرَهُ أَنْ يَقْطَعَهُ قَمِيصًا وَلَقَدْ أَمَرَهُ أَنْ يَقْطَعَهُ قَبَاءً وَيُحْكَمُ لَهُ بِمَا ذَكَرْنَا ، وَإِذَا جُعِلَ الْقَوْلُ قَوْلَ رَبِّ الثَّوْبِ حَلَفَ بِاللَّهِ تَعَالَى مَا أَمَرَهُ أَنْ يَقْطَعَهُ قَبَاءً وَلَقَدْ أَمَرَهُ أَنْ يَقْطَعَهُ قَمِيصًا وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ : لِأَنَّ الْيَمِينَ الْجَامِعَةَ لِلنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ إِنَّمَا تَكُونُ عِنْدَ التَّحَالُفِ الَّذِي يَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهِ مُنْكِرًا وَمُدَّعِيًا ، فَاحْتَاجَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ النَّفْيِ لِمَا أَنْكَرَهُ ، وَالْإِثْبَاتِ لِمَا ادَّعَاهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ هُنَا ، فَإِذَا صَحَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ يَمِينَ الْخَيَّاطِ عَلَى الْإِثْبَاتِ وَيَمِينَ رَبِّ الثَّوْبِ عَلَى النَّفْيِ وَحَلَفَ رَبُّ الثَّوْبِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ ، فَلَا أُجْرَةَ لِلْخَيَّاطِ لِتَعَدِّيهِ فِي الْخِيَاطَةِ ، وَلَهُ اسْتِرْجَاعُ الْخُيُوطِ إِنْ كَانَتْ لَهُ ، وَلَيْسَ لَهُ اسْتِرْجَاعُهَا إِنْ كَانَتْ لِرَبِّ الثَّوْبِ ثُمَّ عَلَى الْخَيَّاطِ الضَّمَانُ وَفِيمَا يَضْمَنُهُ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ إن فعل في الثوب ما لم يؤذن له فيه : أَحَدُهَا : يَضْمَنُ مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ قَبَاءً وَقَمِيصًا : لِأَنَّ قَطْعَ الْقَمِيصِ مَأْذُونٌ فِيهِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ قَبَاءً مِثْلَ قِيمَتِهِ قَمِيصًا أَوْ أَكْثَرَ ، فَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ يَغْرَمُ مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ ثَوْبًا صَحِيحًا ، وَمَا بَيْنَ قِيمَتِهِ قَبَاءً : لِأَنَّهُ بِالْعُدُولِ عَنِ الْقَمِيصِ مُتَعَدٍّ فِي ثَوْبٍ صَحِيحٍ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ مَا صَلَحَ مِنَ الْقَبَاءِ لِلْقَمِيصِ لَمْ يَضْمَنْهُ ، وَمَا لَمْ يَصْلُحْ لِلْقَمِيصِ ضَمِنَ مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ صَحِيحًا وَمَقْطُوعًا لِاخْتِصَاصِ ذَلِكَ بِالتَّعَدِّي .
فَصْلٌ : وَإِذَا قِيلَ بِالصَّحِيحِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ فَوَجْهُهُ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اخْتِلَافَهُمَا فِي صِفَةِ الْعَقْدِ مَعَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى أَصْلِهِ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَتَحَالَفَا كَالْبَيْعِ : لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصِيرُ مُنْكِرًا وَمُدَّعِيًا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا كَانَا لَوِ اخْتَلَفَا وَالثَّوْبُ صَحِيحٌ الخياط ورب الثوب ، فَقَالَ رَبُّهُ : اسْتَأْجَرْتُكَ لِتَخِيطَهُ قَمِيصًا ، وَقَالَ الْخَيَّاطُ : بَلِ اسْتَأْجَرْتَنِي لِأَخِيطَهُ قَبَاءً ، لَمْ يُعْمَلْ عَلَى قَوْلِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَتَحَالَفَا عَلَيْهِ ، لَا يَخْتَلِفُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ وَجَبَ إِذَا اخْتَلَفَا بَعْدَ قَطْعِ الثَّوْبِ أَنْ يَتَحَالَفَا عَلَيْهِ : لِأَنَّ مَا أَوْجَبَ التَّحَالُفَ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى حَالِهِ أَوْجَبَ التَّحَالُفَ مَعَ تَغَيُّرِ أَحْوَالِهِ ، فَعَلَى هَذَا يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ ، وَهَلْ يَقْتَصِرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى يَمِينٍ وَاحِدَةٍ تَجْمَعُ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ ، أَوْ عَلَى يَمِينَيْنِ إِحْدَاهُمَا لِلنَّفْيِ ، وَالْأُخْرَى لِلْإِثْبَاتِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ، فَإِذَا تَحَالَفَا سَقَطَ الْغُرْمُ عَنِ الْخَيَّاطِ بِيَمِينِهِ وَسَقَطَتِ الْأُجْرَةُ عَنْ رَبِّ الثَّوْبِ بِيَمِينِهِ . فَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا وَنَكَلَ الْآخَرُ قُضِيَ لِلْحَالِفِ مِنْهُمَا عَلَى النَّاكِلِ ، فَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ هُوَ الْخَيَّاطَ قُضِيَ لَهُ بِالْأُجْرَةِ وَسُقُوطِ الْغُرْمِ ، وَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ هُوَ رَبَّ الثَّوْبِ قُضِيَ لَهُ بِالْغُرْمِ عَلَى مَا مَضَى وَسُقُوطِ الْأُجْرَةِ .
فَصْلٌ : فَلَوْ قَالَ رَجُلٌ لِخَيَّاطٍ : إِنْ كَانَ يَكْفِينِي هَذَا الثَّوْبُ قَمِيصًا فَاقْطَعْهُ فَقَطَعَهُ فَلَمْ يَكْفِهِ كَانَ ضَامِنًا ، وَلَوْ قَالَ : أَيَكْفِينِي هَذَا الثَّوْبُ قَمِيصًا فَقَالَ : نَعَمْ . قَالَ : فَاقْطَعْهُ ، فَقَطَعَهُ فَلَمْ يَكْفِهِ لَمْ يَضْمَنْ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ اللَّفْظَ الْأَوَّلَ شَرْطٌ ، وَالثَّانِيَ اسْتِفْهَامٌ .
مَسْأَلَةٌ لَوِ اكْتَرَى دَابَّةً فَحَبَسَهَا قَدْرَ الْمَسِيرِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَوِ اكْتَرَى دَابَّةً فَحَبَسَهَا قَدْرَ الْمَسِيرِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ حَبَسَهَا أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ ذَلِكَ ضَمِنَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا شَهْرًا ، أَوْ لِيَرْكَبَهَا مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى الْكُوفَةِ فَأَمْسَكَهَا شَهْرًا ، أَوْ قَدْرَ مِسِيرِهِ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى الْكُوفَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرْكَبَهَا ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ لِعُذْرٍ مَانِعٍ مِنْ رُكُوبِهَا . وَالثَّانِي : أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ لِغَيْرِ عُذْرٍ ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِغَيْرِ عُذْرٍ فَقَدِ اسْتَوْفَى مَا اسْتَحَقَّهُ بِالْإِجَارَةِ وَإِنْ لَمْ يَرْكَبْ وَضَمِنَ جَمِيعَ الْأُجْرَةِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ إِذَا أَمْسَكَهَا وَلَمْ يَرْكَبْهَا ، إِلَّا أَنْ يَرْكَبَهَا مُتَوَجِّهًا إِلَى سَفَرِهِ ثُمَّ يَرْجِعُ فَيُمْسِكُهَا مُقِيمًا فَتَلْزَمُهُ الْأُجْرَةُ . وَهَذَا خَطَأٌ لِاتِّفَاقِنَا وَإِيَّاهُ عَلَى أَنَّ مَنِ اسْتَأْجَرَ دَارًا فَتَسَلَّمَهَا وَلَمْ يَسْكُنْهَا مُدَّةَ إِجَارَتِهِ فِيهَا ، فَقَدِ اسْتَوْفَى حَقَّهُ وَعَلَيْهِ الْأُجْرَةُ وَكَذَا الدَّابَّةُ : لِأَنَّ السُّكْنَى وَالرُّكُوبَ حَقٌّ لَهُ وَلَيْسَ بِحَقٍّ عَلَيْهِ ؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ فَوَّتَ مَنَافِعَهَا عَلَى الْمُؤَجِّرِ وَسَوَاءٌ كَانَ بِرُكُوبٍ أَوْ غَيْرِ رُكُوبٍ ، فَلَوْ تَلِفَتِ الدَّابَّةُ بِيَدِهِ مَعَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ لَمْ يَضْمَنْ : لِأَنَّهَا لَوْ تَلِفَتْ مَعَ الرُّكُوبِ الْمُضِرِّ لَمْ يَضْمَنْ ، فَلِأَنْ لَا يَضْمَنَ مَعَ الْكَفِّ عَنِ الرُّكُوبِ أَوْلَى . وَإِنْ أَمْسَكَ عَنْ رُكُوبِهَا لِعُذْرٍ الدابة المكتراه فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ لِعُذْرٍ يَعُودُ إِلَى الدَّابَّةِ .
وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ لِعُذْرٍ يَعُودُ إِلَى الْمُسْتَأْجِرِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ لِعُذْرٍ فِي الطَّرِيقِ . فَإِنْ كَانَ الْعُذْرُ عَائِدًا إِلَى الْمُسْتَأْجِرِ لِمَرَضٍ حَابِسٍ أَوْ أَمْرٍ عَائِقٍ ، فَقَدِ اسْتَوْفَى حَقَّهُ وَعَلَيْهِ الْأُجْرَةُ : لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ عَجْزُهُ عَنِ اسْتِيفَاءِ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ مَانِعًا مِنِ اسْتِيفَائِهِ بِغَيْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْعُذْرُ عَائِدًا إِلَى الدَّابَّةِ لِمَرَضِهَا فَلَا أُجْرَةَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ : لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنِ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ . ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الْإِجَارَةِ ، فَإِنْ كَانَتْ عَلَى مُدَّةٍ قَدِ انْقَضَتْ فَقَدْ بَطَلَتْ ، وَإِنْ كَانَتْ إِلَى مَسَافَةٍ مَعْلُومَةٍ فَهِيَ بِحَالِهَا . وَإِنْ كَانَ الْعُذْرُ فِي الطَّرِيقِ مِنْ جَدْبٍ أَوْ خَوْفٍ ، فَهُوَ كَمَا لَوْ كَانَ لِعُذْرٍ فِي الدَّابَّةِ لَكَوْنِ الْعُذْرِ فِي الْحَالَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْتَأْجِرِ فَصَارَ مَمْنُوعًا مِنِ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ .
فَصْلٌ : وَلَوْ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّتِهِ أَمْسَكَهَا مُدَّةَ شَهْرٍ الدابة ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ إِمْسَاكُهَا لِعُذْرٍ مَانِعٍ مِنَ الرَّدِّ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الرَّقَبَةِ ، وَلَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ فِيمَا بَعْدَ الْمُدَّةِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يُمْسِكَهَا لِغَيْرِ عُذْرٍ ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُطَالِبَهُ الْمُؤَجِّرُ بِهَا فَيَمْنَعَهُ مِنْهَا ، فَهَذَا غَاصِبٌ ، عَلَيْهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ فِي مُدَّةِ حَبْسِهَا ، وَضَمَانُهَا إِنْ تَلِفَتْ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يُطَالِبَهُ الْمُؤَجِّرُ بِهَا فَيَسْتَنْظِرَهُ فِيهَا فَيُنْظِرَهُ مُخْتَارًا ، فَهَذَا فِي حُكْمِ الْمُسْتَعِيرِ يَضْمَنُ الرَّقَبَةَ ضَمَانَ الْعَارِيَةِ ، وَلَا يَضْمَنُ الْأُجْرَةَ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَبْذُلَهَا الْمُسْتَأْجِرُ فَلَا يَقْبَلَهَا الْمُؤَجِّرُ ، فَهَذَا فِي حُكْمِ الْوَدِيعَةِ ، لَا يَضْمَنُ الرَّقَبَةَ وَلَا الْأُجْرَةَ ، إِلَّا أَنْ يَرْكَبَهَا فَيَصِيرَ مُتَعَدِّيًا فَيَضْمَنَ الْأَمْرَيْنِ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ لَا يَكُونَ مِنَ الْمُسْتَأْجِرِ رَدٌّ ، وَلَا مِنَ الْمُؤَجِّرِ طَلَبٌ . فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ عِنْدَ نَقْضِ الْإِجَارَةِ أَنْ يُخَلِّيَ بَيْنَ الْمُؤَجِّرِ وَبَيْنَهَا ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ رَدُّهَا بِنَفْسِهِ كَالْوَدِيعَةِ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَضْمَنُ الرَّقَبَةَ وَلَا الْأُجْرَةَ مَا لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُؤَجِّرِ طَلَبٌ وَمِنَ الْمُسْتَأْجِرِ مَنْعٌ ، وَلَا وَجْهَ لِمَنْ خَرَّجَ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي الْإِجَارَةِ مِنَ الرَّهْنِ وَجْهًا آخَرَ أَنَّ الرَّدَّ وَاجِبٌ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ : لِأَنَّ الرَّهْنَ يَتَغَلَّبُ فِيهِ نَفْعُ الْمُرْتَهِنِ ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ وُجُوبُ رَدِّهِ عَلَى وَجْهَيْنِ . وَفِي الْإِجَارَةِ يَسْتَوِيَانِ فَاخْتَصَّ بِهَا الْمَالِكُ لِحَقِّ الْمِلْكِ . فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْمُخَرَّجِ يَكُونُ الْمُسْتَأْجِرُ عِنْدَ امْتِنَاعِهِ مِنَ الرَّدِّ بَعْدَ تَقَضِّي مُدَّتِهِ غَاصِبًا يَضْمَنُ الرَّقَبَةَ وَالْأُجْرَةَ . فَلَوِ اخْتَلَفَا فَقَالَ الْمُؤَجِّرُ : حَبَسْتَهَا مَانِعًا لَهَا فَعَلَيْكَ الْأُجْرَةُ وَالضَّمَانُ : وَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ : بَلْ بَذَلْتُهَا لَكَ فَتَرَكْتَهَا عَلَيَّ فَلَا أُجْرَةَ عَلَيَّ وَلَا ضَمَانَ : فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ مَعَ يَمِينِهِ فِي ضَمَانِ الرَّقَبَةِ أَنَّهُ مَا حَبَسَهَا مَانِعًا ، وَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ ، وَأَمَّا الْأُجْرَةُ فَإِنْ قِيلَ بِالصَّحِيحِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ : أَنَّ حَقَّ الرَّدِّ مُخْتَصٌّ بِالْمُؤَجِّرِ ، فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ أَيْضًا كَالضَّمَانِ : لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ مِنْهُمَا ، وَإِنْ قِيلَ بِالْوَجْهِ الْآخَرِ الْمُخَرَّجِ : إِنَّ حَقَّ الرَّدِّ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ ، فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْمُؤَجِّرِ مَعَ يَمِينِهِ مَا لَمْ يَظْهَرْ تَأْدِيَةُ حَقِّهِ مِنَ الرَّدِّ .
فَصْلٌ : وَإِذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى بَلَدٍ مُسَمًّى ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ أَرَادَ أَنْ يَسِيرَ عَلَيْهَا رَاكِبًا إِلَى مَنْزِلِهِ مِنْ ذَلِكَ الْبَلَدِ نُظِرَ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ ، فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا تَتَقَارَبُ أَقْطَارُهُ جَازَ أَنْ يَرْكَبَهَا إِلَى مَنْزِلِهِ ، كَمَا لَوْ نَزَلَ فِي طَرِيقِهِ مَنْزِلًا جَازَ أَنْ يَنْزِلَ حَيْثُ شَاءَ مِنْ أَوَّلِ الْمَنْزِلِ وَآخِرِهِ . وَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ وَاسِعًا مُتَبَاعِدَ الْأَقْطَارِ ، فَلَيْسَ لَهُ إِذَا وَصَلَ إِلَى الْبَلَدِ أَنْ يَرْكَبَهَا إِلَى مَنْزِلِهِ إِلَّا بِشَرْطٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَهُ أَنْ يَسْتَدِيمَ رُكُوبَهَا إِلَى مَنْزِلِهِ بِغَيْرِ شَرْطٍ ، فَإِنْ نَزَلَ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْبَلَدِ ثُمَّ قَالَ : أَخْطَأْتُ مَنْزِلِي مِنْ غَيْرِهِ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْكَبَهَا إِلَى مَنْزِلِهِ وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ حَقًّا لَوْ لَمْ يَنْزِلْ لَكَانَ حَقًّا ، وَإِنْ نَزَلَ فَلَوْ شَرَطَ الْمُسْتَأْجِرُ أَنْ يَرْكَبَهَا إِلَى مَنْزِلِهِ مِنَ الْبَلَدِ ، فَإِنْ كَانَ الْمُؤَجِّرُ عَارِفًا بِمَكَانِ مَنْزِلِهِ مِنَ الْبَلَدِ أَوْ لَمْ يَعْرِفْهُ فَسَمَّاهُ لَهُ جَازَ ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ وَلَا سَمَّى لَهُ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ .
فَصْلٌ : وَإِذَا اسْتَأْجَرَ بَعِيرًا إِلَى مَكَّةَ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِذَا وَصَلَ إِلَيْهَا أَنْ يَحُجَّ عَلَيْهِ ، وَلَوِ اسْتَأْجَرَهُ لِيَحُجَّ عَلَيْهِ كَانَ لَهُ بَعْدَ وُصُولِهِ إِلَى مَكَّةَ أَنْ يَرْكَبَهُ إِلَى مِنًى . ثُمَّ إِلَى عَرَفَةَ ثُمَّ يَرْكَبُهُ مِنْ عَرَفَةَ إِلَى مُزْدَلِفَةَ ثُمَّ إِلَى مِنًى ثُمَّ مِنْ مِنًى إِلَى مَكَّةَ لِطَوَافِ الْإِفَاضَةِ ، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا : هَلْ لَهُ أَنْ يَرْكَبَهُ مِنْ مَكَّةَ عَائِدًا إِلَى مِنًى لِيَبِيتَ بِهَا وَيَرْمِيَ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَهُ ذَاكَ : لِأَنَّهُ مِنْ بَقَايَا الْحَجِّ . وَالثَّانِي : لَيْسَ لَهُ ذَاكَ ؛ لِإِحْلَالِهِ مِنَ الْحَجِّ .
فَصْلٌ : وَإِذَا تَعَادَلَ رَجُلَانِ عَلَى بَعِيرٍ اسْتَأْجَرَاهُ فَارْتَدَفَ مَعَهُمَا ثَالِثٌ رَكِبَ بَغَيْرِ أَمْرِهِمَا ضَمَانُ الْبَعِيرِ ، لَزِمَهُ أَجْرُ الْمِثْلِ لِمَالِكِهِ دُونَ مُسْتَأْجِرَيْهِ ، وَلَزِمَهُ ضَمَانُ الْبَعِيرِ إِنْ تَلِفَ ، وَفِي قَدْرِ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ قِيمَتِهِ ثَلَاثُ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : النِّصْفُ اعْتِبَارًا بِجِنْسِ الْإِبَاحَةِ وَالْحَظْرِ . وَالثَّانِي : الثُّلُثُ اعْتِبَارًا بِأَعْدَادِهِمْ دُونَ وَزْنِهِمْ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ : لِأَنَّ الرِّجَالَ لَا يُوزَنُونَ . وَالثَّالِثُ : بِقَدْرِ ثِقَلِهِ مِنْ ثِقَلِ الْجَمَاعَةِ تَقْسِيطًا عَلَى وَزْنِهِمْ : لِأَنَّ الرِّجَالَ لَا يُوزَنُونَ فِيمَا لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الثِّقَلُ وَالْخِفَّةُ وَالْحِمْلُ ، مِمَّا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِيهِ تَقْسِيطُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ فَجَازَ أَنْ يُوزَنُوا وَإِنْ كَانُوا رِجَالًا . وَلَوْ كَانَ الرَّاكِبَانِ أَذِنَا لِلرَّدِيفِ أَنْ يَرْكَبَ مَعَهُمَا ضَمِنُوا جَمِيعًا - أَعْنِي الْآخَرَيْنِ وَالرَّدِيفَ - الْبَعِيرَ إِنْ تَلِفَ لِتَعَدِّي الرَّاكِبِينَ بِالْإِذْنِ وَتَعَدِّي الرَّدِيفِ بِالرُّكُوبِ ، وَرَبُّ الْبَعِيرِ بِالْخِيَارِ فِي الرُّجُوعِ عَلَى أَيِّهِمْ شَاءَ ، فَإِنْ رَجَعَ عَلَى الرَّدِيفِ رَجَعَ عَلَيْهِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ ، وَإِنْ رَجَعَ عَلَى أَحَدِ الرَّاكِبَيْنِ نُظِرَ . فَإِنْ كَانَ الْبَعِيرُ مَعَ الْجَمَّالِ فَفِي قَدْرِ مَا يَضْمَنُهُ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ كَالرَّدِيفِ وَيَرْجِعُ بِهَا الْغَارِمُ عَلَى الرَّدِيفِ بَعْدَ غُرْمِهَا ، وَإِنْ كَانَ الْبَعِيرُ مَعَهُمَا دُونَ الْجَمَّالِ
ضَمِنَهُمَا جَمِيعَ الْقِيمَةِ فِي الْبَعِيرِ ، وَلَمْ يَرْجِعِ الْغَارِمُ مِنْهُمَا عَلَى الرَّدِيفِ بَعْدَ غُرْمِهَا إِلَّا بِقَدْرِ مَا كَانَ يَلْزَمُ الرَّدِيفُ مِنْهَا عَلَى الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ .
فَصْلٌ : وَإِذَا اسْتَأْجَرَ طَحَّانًا لِيَطْحَنَ لَهُ عَشَرَةَ أَقْفِزَةٍ بِقَفِيزٍ مِنْهَا مَطْحُونًا لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّهُ جَعَلَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَعْقُودًا بِهِ . وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ قَفِيزِ الطَّحَّانِ يَعْنِي بِهِ مَا اكْتَرَاهُ ، وَلَكِنْ لَوِ اسْتَأْجَرَ لِطَحْنِ تِسْعَةِ أَقْفِزَةٍ بِالْقَفِيزِ الْعَاشِرِ مِنْهَا جَازَ : لِأَنَّهُ جَعَلَ تِسْعَةَ أَعْشَارِهِ مَعْقُودًا عَلَيْهِ وَعَشَرَةً مَعْقُودًا بِهِ .
فَصْلٌ : وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ ثَوْبَهُ إِلَى غَسَّالٍ فَغَسَلَهُ ، أَوْ إِلَى قَصَّارٍ فَقَصَّرَهُ ، أَوْ إِلَى خَيَّاطٍ فَخَاطَهُ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَذْكُرَ لَهُ أُجْرَةً مَعْلُومَةً . وَالثَّانِي : أَنْ يَذْكُرَ لَهُ أُجْرَةً مَجْهُولَةً . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَذْكُرَ لَهُ أُجْرَةً ، فَإِنْ ذَكَرَ لَهُ أُجْرَةً مَعْلُومَةً كَقَوْلِهِ : اغْسِلْ هَذَا الثَّوْبَ بِدِرْهَمٍ ، فَهَذِهِ إِجَارَةٌ صَحِيحَةٌ ، وَلِلْغَسَّالِ الدِّرْهَمُ الْمُسَمَّى ، وَإِنْ ذَكَرَ لَهُ أُجْرَةً مَجْهُولَةً كَقَوْلِهِ : اغْسِلْهُ لِأُرْضِيَكَ أَوْ لِأُقَاطِعَكَ أَوْ لِأُعْطِيَكَ مَا شِئْتَ ، فَهَذِهِ إِجَارَةٌ فَاسِدَةٌ ، وَلِلْغَسَّالِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ : لِأَنَّهُ لَمْ يَبْذُلْ عَمَلَهُ إِلَّا فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٍ . وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ لَهُ أُجْرَةً مَعْلُومَةً وَلَا مَجْهُولَةً . مِثْلَ أَنْ يُعْطِيَهُ لِغَسَّالٍ فَيَغْسِلَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَذْكُرَ لَهُ أَجْرًا صَحِيحًا وَلَا فَاسِدًا قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَلَا أُجْرَةَ لَهُ : لِأَنَّهُ صَارَ بَاذِلًا لِعَمَلِهِ عَلَى غَيْرِ بَدَلٍ فَلَمْ يَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ أَجْرًا ، كَمَا لَوْ بَذَلَ طَعَامَهُ عَلَى غَيْرِ بَدَلٍ لَمْ يَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ ثَمَنًا ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ قَالَ : أَسْكِنِّي دَارَكَ شَهْرًا فَأَسْكَنَهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ أَجْرًا ، فَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ : اغْسِلْ ثَوْبِي فَغَسَلَهُ . وَقَالَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيُّ : لَهُ الْأُجْرَةُ : لِأَنَّ رَبَّ الثَّوْبِ قَدْ صَارَ مُسْتَهْلِكًا لِعَمَلِهِ فِي مِلْكِهِ فَصَارَ كَالْغَاصِبِ ، وَهَذَا يَفْسَدُ بِبَاذِلِ الطَّعَامِ وَدَافَعِ الدَّارِ . وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ : إِنْ كَانَ رَبُّ الثَّوْبِ سَأَلَ الْغَسَّالَ مُبْتَدِئًا فَقَالَ : اغْسِلْ ثَوْبِي هَذَا فَلَهُ الْأُجْرَةُ ، وَإِنْ كَانَ الْغَسَّالُ طَلَبَهُ مُبْتَدِئًا مِنْ رَبِّهِ فَقَالَ : أَعْطِنِي ثَوْبَكَ لِأَغْسِلَهُ فَلَا أُجْرَةَ لَهُ . وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ : إِنْ كَانَ الْغَسَّالُ مَعْرُوفًا أَنْ يَغْسِلَ بِأَجْرٍ فَلَهُ الْأُجْرَةُ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُ مَعْرُوفٍ بِذَلِكَ فَلَا أُجْرَةَ لَهُ ، وَكُلُّ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ فَاسِدَةٌ بِبَاذِلِ الطَّعَامِ وَدَافِعِ الدَّارِ ؛ حَيْثُ لَمْ يَقَعِ الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ سَائِلًا ، أَوْ مَسْئُولًا وَمَعْرُوفًا بِالْمُعَاوَضَةِ أَوْ غَيْرَ مَعْرُوفٍ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا نَزَلَ رَجُلٌ فِي سَفِينَةِ مَلَّاحٍ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِ فَحَمَلَهُ فِيهَا إِلَى بَلَدٍ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ : لِأَنَّ الرَّاكِبَ صَارَ مُسْتَهْلِكًا لِمَنْفَعَةِ مَوْضِعِهِ مِنَ السَّفِينَةِ عَلَى مَالِكِهَا فَضَمِنَ الْأُجْرَةَ وَهَكَذَا الْجَمَّالُ . وَإِنْ نَزَلَ فِيهَا عَنْ إِذْنِهِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ عِوَضٍ ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ : لَا أُجْرَةَ لَهُ ، وَعَلَى قَوْلِ
الْمُزَنِيِّ : لَهُ الْأُجْرَةُ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ : وَإِنِ ابْتَدَأَ الرَّاكِبُ فَسَأَلَهُ فَلَهُ الْأُجْرَةُ ، وَإِنِ ابْتَدَأَ الْمَلَّاحُ فَطَلَبَهُ فَلَا أُجْرَةَ لَهُ ، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ سُرَيْجٍ : إِنْ كَانَ الْمَلَّاحُ مَعْرُوفًا أَنْ يَحْمِلَ بِأُجْرَةٍ فَلَهُ الْأُجْرَةُ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْرُوفٍ بِذَلِكَ فَلَا أُجْرَةَ لَهُ ، وَهَكَذَا لَوْ دَخَلَ حَمَّامًا بِغَيْرِ إِذْنٍ فَعَلَيْهِ الْأُجْرَةُ وَإِنْ دَخَلَهُ بِإِذْنٍ ، فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الِاخْتِلَافِ . وَلَوْ أَخَذَ مِنْ سِقَاءٍ مَاءً مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ فَعَلَيْهِ ثَمَنُهُ ، وَإِنْ أَخَذَهُ بِطَلَبٍ ، فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الِاخْتِلَافِ .
فَصْلٌ : وَإِذَا اسْتَأْجَرَ قَمِيصًا لِيَلْبَسَهُ فَأْتَزَرَ بِهِ ضَمِنَ لِتَعَدِّيهِ : لِأَنَّ لِبْسَهُ أَصْوَنُ ، وَلَوْ أَلْقَاهُ عَلَى كَتِفِهِ مُرْتَدِيًا بِهِ لَمْ يَضْمَنْ بِالتَّعَدِّي : لِأَنَّ ذَلِكَ أَصْوَنُ ، وَهَلْ يَضْمَنُ بِالتَّفْرِيطِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَضْمَنُ : لِأَنَّ لِبْسَهُ أَحْرَزُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَضْمَنُ : لِأَنَّ ذَلِكَ أَصْوَنُ .
فَصْلٌ : وَلَوِ اسْتَأْجَرَ قَمِيصًا لِيَلْبَسَهُ فَنَامَ فِيهِ نُظِرَ ، فَإِنْ نَامَ فِيهِ لَيْلًا فَقَدْ تَعَدَّى وَعَلَيْهِ الضَّمَانُ ، وَإِنْ نَامَ فِيهِ نَهَارًا لِلْقَائِلَةِ لَمْ يَتَعَدَّ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ : لِأَنَّ الْعَادَةَ لَمْ تَجْرِ بِنَوْمِ النَّاسِ لَيْلًا فِي لِبَاسِ نَهَارِهِمْ ، وَجَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ فِي نَوْمِ نَهَارِهِمْ .
فَصْلٌ : وَإِذَا اسْتَأْجَرَ حَائِكًا لِيَنْسِجَ لَهُ ثُوبًا عَلَى أَنَّ أُجْرَتَهُ نِصْفُ قِيمَتِهِ كَانَتِ الْإِجَارَةُ فَاسِدَةً لِلْجَهْلِ بِمَبْلَغِ قِيمَتِهِ ، فَإِنْ نَسْجَهُ فَلَهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ ، وَلَا تُؤْخَذُ قَبْلَ عَمَلِهِ بِنَسْجِهِ : لِأَنَّ فَسَادَ الْإِجَارَةِ يَمْنَعُ مِنْ لُزُومِهَا ، فَلَوْ قَالَ : إِنْ نَسَجْتَهُ فِي الْحَفِّ فَأُجْرَتُكَ دِينَارٌ ، وَإِنْ نَسَجْتَهُ فِي السَّاذَجِ فَأُجْرُتُكَ نِصْفُ دِينَارٍ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ : لِأَنَّهَا لَمْ تُعْقَدْ عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ ، وَلَهُ فِي كِلَا الْأَمْرَيْنِ مِنْ نِسَاجَتِهِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ مَا لَمْ يَنْهَ عَنْهُ .
فَصْلٌ : وَإِذَا أَجَّرَ الرَّجُلُ حَمَّامًا بِالنِّصْفِ مِنْ كَسْبِهِ فَسَدَتِ الْإِجَارَةُ لِلْجَهْلِ بِهَا ، وَلَوْ أَجَرَّهُ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ صَحَّتْ ، وَكَانَتِ الْعِمَارَةُ عَلَى الْمُؤَجِّرِ ، وَمُؤْنَةُ الْحَطَبِ وَالْوَقُودِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ : لِأَنَّ الْعِمَارَةَ مِنْ حُقُوقِ التَّمْكِينِ فَاخْتَصَّ بِهَا الْمُؤَجِّرُ فَلَوْ شُرِطَتْ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ ، وَمُؤْنَةُ الْحَطَبِ وَالْوَقُودِ مِنْ حُقُوقِ الِاسْتِيفَاءِ فَاخْتَصَّ بِهَا الْمُسْتَأْجِرُ ، فَلَوْ شُرِطَتْ عَلَى الْمُؤَجِّرِ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ ، وَقَدْ يَشْتَرِطُ النَّاسُ فِي وَقْتِنَا هَذَا فِي إِجَارَةِ الْحَمَّامَاتِ ثَلَاثَةَ شُرُوطٍ ، كُلٌّ مِنْهَا يُفْسِدُ الْعَقْدَ . أَحَدُهَا : أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ مَا احْتَاجَ الْحَمَّامُ إِلَيْهِ مِنْ بَيَاضٍ وَسَوَادٍ لِيَنْفَرِدَ الْمُؤَجِّرُ بِمَا احْتَاجَ إِلَيْهِ مِنْ هَدْمٍ وَبِنَاءٍ ، وَهَذَا يَبْطُلُ الْإِجَارَةَ . وَالثَّانِي : أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ تَعْجِيلَ سَلَفٍ لَا يَقَعُ بِهِ الْقَضَاءُ لِيُرَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ إِنْ لَمْ يَسْتَأْجِرْ ثَانِيَةً ، وَهَذَا يُبْطِلُ الْإِجَارَةَ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُؤَجِّرُ دُخُولَ الْحَمَّامِ هُوَ وَعِيَالُهُ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ ، وَهَذَا يُبْطِلُ الْإِجَارَةَ ، فَلَوْ صَحَّتِ الْإِجَارَةُ لِخِلُوِّهَا مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فَقَلَّ دُخُولُ النَّاسِ إِلَيْهِ ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ :
أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ لِأَمْرٍ يَعُودُ إِلَى الْمُؤَجِّرِ مِنْ خَرَابِ الْحَمَّامِ وَشَعَثِهِ ، فَعَلَى الْمُؤَجِّرِ عِمَارَةُ مَا خَرَّبَ وَإِصْلَاحُ مَا تَشَعَّثَ ، وَلَا يُؤْخَذُ بِهِ جَبْرًا ، فَإِنْ بَادَرَ إِلَى عِمَارَتِهِ فَلَا خِيَارَ لِلْمُسْتَأْجِرِ ، وَإِنْ لَمْ يُبَادِرْ إِلَى عِمَارَتِهِ فَالْمُسْتَأْجِرُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْمُقَامِ وَالْفَسْخِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ لِأَمْرٍ يَعُودُ إِلَى الْمُسْتَأْجِرِ مِنْ قِلَّةِ الْحَطَبِ وَالْمَاءِ وَمُرَاعَاةِ الْوَقُودِ ، فَلَا خِيَارَ لِلْمُسْتَأْجِرِ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْتِزَامِ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ لَا يُنْسَبَ ذَلِكَ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهَا ، فَذَلِكَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ لِمَانِعٍ مِنْهُ لِفِتْنَةٍ حَادِثَةٍ أَوْ لِخَرَابِ النَّاحِيَةِ ، فَهَذَا عَيْبٌ ، وَلِلْمُسْتَأْجِرِ الْخِيَارُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ لِرَغْبَةٍ عَنْهُ لِحُدُوثِ مَا هُوَ أَعْمَرُ مِنْهُ ، فَهَذَا لَيْسَ بِعَيْبٍ ، وَلَا خِيَارَ لِلْمُسْتَأْجِرِ .
فَصْلٌ : إِجَارَةُ دُورِ مَكَّةَ جَائِزَةٌ ، وَمَنَعَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ مِنْ إِجَارَتِهَا اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ فِي مَكَّةَ : إِنَّهَا سَوَائِبُ . وَرَوَى الْأَعْمَشُ ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ لَا يَحِلُّ بَيْعُ رِبَاعِهَا ، وَلَا أُجُورُ بُيُوتِهَا ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ إِجَارَتِهَا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهَا مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ دَخَلَ مَكَّةَ ، وَقَدْ قِيلَ لَهُ : هَلَّا نَزَلْتَ فِي دُورِكَ فَقَالَ : وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رَبْعٍ . فَلَوْلَا جَوَازُ بَيْعِهَا مَا أَمْضَى بَيْعَ عَقِيلٍ وَجَعَلَ مُشْتَرِيَهَا مِنْهُ أَحَقَّ بِهَا مِنْهُ ، وَقَدِ اشْتَرَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دَارًا بِمَكَّةَ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ ، فَلَمْ يُنْكِرْ شِرَاءَهُ أَحَدٌ ، فَصَارَ كَالْإِجْمَاعِ ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَضَافَ إِلَيْهِمْ دُورَهُمْ فَقَالَ تَعَالَى : لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ [ الْحَشْرِ : 28 ] فَاقْتَضَتْ هَذِهِ الْإِضَافَةُ بَقَاءَ مِلْكِهِمْ عَلَيْهَا ؛ وَإِذًا لَمَّا ذَكَرْنَا مِلْكَهَا وَجَوَازَ بَيْعِهَا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ إِجَارَتِهَا . لِأَنَّ مَا جَازَ بَيْعُهُ مِنَ الدُّورِ جَازَتْ إِجَارَتُهُ كَسَائِرِ الْبِلَادِ . وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ تُمْلَكْ رِقَابُهَا وَتُسْتَحَقَّ سُكْنَاهَا لَمَا جَازَ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَوْطِنَ بِهَا دَارًا وَلَاسْتَهَمَ النَّاسُ عَلَيْهَا لِاسْتِوَائِهِمْ فِيهَا ، فَأَمَّا مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنَ الْخَبَرَيْنِ فَقَدْ قَدَّمْنَا الْجَوَابَ عَنْهُمَا فِي الْبُيُوعِ .
فَصْلٌ : تَجُوزُ الْإِجَارَةُ عَلَى كَتْبِ الْمَصَاحِفِ ، وَمَنَعَ مِنْهَا بَعْضُ الْعِرَاقِيِّينَ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ ، وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ مَا أُبِيحَ مِنَ الْأَعْمَالِ الْمَعْلُومَةِ جَازَ لِمَنْ لَمْ يَتَعَيَّنِ الْفَرْضُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَاضَ عَنْهُ كَالْإِجَارَةِ عَلَى كَتْبِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ .
فَصْلٌ : إِجَارَةُ الْمُشَاعِ تَجُوزُ مِنَ الشَّرِيكِ وَغَيْرِهِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَجُوزُ مِنَ الشَّرِيكِ ، وَلَا تَجُوزُ مِنْ غَيْرِهِ ، وَفِيمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى رَهْنِ الْمُشَاعِ دَلِيلٌ عَلَى إِجَارَتِهِ ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ صَحَّ مَعَ الشَّرِيكِ صَحَّ مَعَ غَيْرِهِ كَالْبَيْعِ .
فَصْلٌ : فِي إِجَارَةِ الْحَفَائِرِ وَالْبِنَاءِ ، وَهَذَا الْفَصْلُ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَسْأَلَتَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي حَفَائِرِ الْآبَارِ ، وَالْأُخْرَى فِي الْبِنَاءِ . فَأَمَّا حَفَائِرُ الْآبَارِ ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَعْقِدَ الْإِجَارَةَ فِيهِ عَلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ ؛ كَرَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا عَشَرَةَ أَيَّامٍ لِحَفْرِ بِئْرٍ عَلَى أَنَّ أُجْرَةَ كُلِّ يَوْمٍ دِرْهَمٌ فَيَصِحُّ ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ عُمْقَ الْبِئْرِ وَدُورَهَا إِذَا أَشَارَ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي يَحْفِرُ فِيهَا ، وَتَكُونُ أُجْرَتُهُ فِي الْيَوْمِ الْأَخِيرِ مِنْ عَمَلِهِ كَأُجْرَتِهِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ ، وَهَكَذَا لَوِ اسْتَأْجَرَهُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ كَانَ قِسْطُ كُلِّ يَوْمٍ مِنْ عَمَلِهِ دِرْهَمًا ، يَسْتَوِي فِيهِ الْيَوْمُ الْأَوَّلُ فِي حَفْرِ أَعْلَى الْبِئْرِ وَالْيَوْمُ الْأَخِيرُ فِي حَفْرِ أَسْفَلِهَا ، وَهَذَا مِمَّا لَيْسَ يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِيهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ عَقْدُ الْإِجَارَةِ عَلَى حَفْرٍ مُقَدَّرٍ بِالْعَمَلِ دُونَ الْمُدَّةِ ؛ كَرَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا لِيَحْفِرَ لَهُ بِئْرًا فِي عُمْقٍ وَدُورٍ مَعْلُومَيْنِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ ، فَيَصِحُّ مَضْمُونًا وَمُعَيَّنًا ، وَقَالَ قَوْمٌ : لَا يَصِحُّ هَذَا الْعَقْدُ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ بَاطِنَ الْأَرْضِ قَدْ يَخْتَلِفُ بِالصَّلَابَةِ وَالرَّخَاوَةِ ، فَتَخْتَلِفُ أُجْرَتُهُ بِاخْتِلَافِ صَلَابَتِهِ وَرَخَاوَتِهِ . وَذَلِكَ لَا يُعْلَمُ إِلَّا بَعْدَ مُشَاهَدَةِ ذَلِكَ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَا يُخْرِجُهُ مِنْ تُرَابِ الْبِئْرِ غَيْرُ مَعْلُومٍ ، فَصَارَ الْعَمَلُ بِهَذَيْنِ مَجْهُولًا فَبَطَلَتْ فِيهِ الْإِجَارَةُ حَتَّى تَكُونَ مَعْقُودَةً عَلَى الْأَيَّامِ ، وَهَذَا قَوْلٌ شَذَّ قَائِلُهُ عَنِ الْكَافَّةِ وَخَالَفَ فِيهِ الْجَمَاعَةُ : لِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ عَلَى أَعْمَالٍ مَعْلُومَةٍ كَعَقْدِهَا عَلَى أَيَّامٍ مَعْلُومَةٍ فِي الْجَوَازِ وَالصِّحَّةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ سَائِرَ الصَّنَائِعِ يَصِحُّ فِيهَا الْأَمْرَانِ عَلَى مَا وَصَفْنَا ، فَهَكَذَا حَفْرُ الْآبَارِ يَصِحُّ فِيهِ الْأَمْرَانِ ؛ فَإِنْ قُدِّرَ بِالْأَيَّامِ كَانَ الْعَقْدُ عَلَى مَعْلُومٍ ، وَإِنْ قُدِّرَ بِالْعَمَلِ كَانَ عُمْقًا وَدُورًا فَهُوَ عَلَى مَعْلُومٍ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْأَمْرَانِ فِي الصِّحَّةِ عَلَى السَّوَاءِ ، وَقَوْلُهُمْ : إِنَّ بَاطِنَ الْأَرْضِ قَدْ يَخْتَلِفُ ، فَهُوَ وَإِنْ كَانَ مُخْتَلِفًا فَقَدْ عَرَفَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ بَاطِنَ الْأَرْضِ كُلَّ تُرْبَةٍ بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ ، فَصَارَ بَاطِنُهَا بِمُشَاهَدَةِ الظَّاهِرِ مَعْلُومًا كَالْمُشَاهَدِ ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ كَمَا يَصِيرُ بَاطِنُ الصُّبْرَةِ مِنَ الطَّعَامِ مَعْلُومًا لِمُشَاهَدَةِ الظَّاهِرِ ، فَيَصِحُّ فِيهِ الْبَيْعُ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ مُتَغَيِّرًا : لِأَنَّهُ إِنْ وُجِدَ نَقْصًا وَتَغَيُّرًا فُسِخَ ، فَكَذَا الْإِجَارَةُ وَقَوْلُهُمْ : إِنَّ التُّرَابَ مَجْهُولُ الْقَدْرِ فَخَطَأٌ : لِأَنَّ مَا تَقَدَّرَ حَفْرُهُ بِالْعُمْقِ وَالدُّورِ تَقَدَّرَ تُرَابُهُ وَصَارَتِ الْبِئْرُ مِكْيَالًا لِتُرَابِهَا الْمَحْفُورِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَخْرَجَ تُرَابَ مَا اسْتُؤْجِرَ عَلَى حَفْرِهِ فَانْهَارَ التُّرَابُ فِيهَا وَعَادَ إِلَيْهَا لَا يَلْزَمُهُ إِخْرَاجُهُ ثَانِيَةً : لِأَنَّ مَا اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ مِنْ إِخْرَاجِ التُّرَابِ قَدْ وَفَّاهُ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ جَوَازُ الْإِجَارَةِ عَلَى حَفْرِ بِئْرٍ مَعْلُومَةِ الْعُمْقِ وَالدُّورِ بِأُجْرَةٍ مُسَمَّاةٍ ، فَعَلَى الْأَجِيرِ أَنْ يَحْفِرَ مَا اسْتُؤْجِرَ عَلَيْهِ وَيَأْخُذَ مَا سُمِّيَ لَهُ ، فَإِنْ حَفَرَ بَعْضَهَا ثُمَّ مَاتَ ، أَوْ ظَهَرَتْ صَخْرَةٌ
لَا يَقْدِرُ عَلَى حَفْرِهَا ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَدْرِ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ أُجْرَتِهَا : بِمَاذَا يَكُونُ مُعْتَبِرًا ؟ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهُ يُقَوَّمُ أُجْرَةُ مَا حَفَرَ وَأُجْرَةُ مَا تَرَكَ ، ثُمَّ تُقَسَّطُ الْأُجْرَةُ الْمُسَمَّاةُ عَلَيْهَا ، فَمَا قَابَلَ الْمَحْفُورَ فَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ ، وَلَا يَتَقَسَّطُ عَلَى عَدَدِ الْأَذْرُعِ لَا خِلَافَ مَا بَيْنَ الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ . مِثَالُهُ : أَنْ يُسْتَأْجَرَ عَلَى حَفْرِ عَشَرَةِ أَذْرُعٍ فِي دُورٍ مَعْلُومٍ بِثَلَاثِينَ دِرْهَمًا ، فَيَحْفِرَ خَمْسَ أَذْرُعٍ وَيَتْرُكَ خَمْسًا ، فَيُقَالُ : كَمْ تُسَاوِي أُجْرَةُ الْخَمْسِ الْمَحْفُورَةِ ؟ فَإِنْ قِيلَ : خَمْسَةُ دَرَاهِمَ . قِيلَ : وَكَمْ تُسَاوِي أُجْرَةُ الْخَمْسِ الْمَتْرُوكَةِ ؟ فَإِنْ قِيلَ : خَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا ، جَمَعْتُهُمَا وَجَعَلْتُ كُلَّ خَمْسَةٍ سَهْمًا فَيَكُونُ جَمِيعُ السِّهَامِ أَرْبَعَةً ، ثُمَّ قَسَّمْتُ الثَّلَاثِينَ الَّتِي هِيَ الْأُجْرَةُ الْمُسَمَّاةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ ، يَخْرُجُ لِلسَّهْمِ الْوَاحِدِ سَبْعَةُ دَرَاهِمَ وَنِصْفٌ وَهُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ بِالْخَمْسِ الْمَحْفُورَةِ . فَإِنْ قِيلَ : تُسَاوِي أُجْرَةُ الْخَمْسِ الْمَحْفُورَةِ عَشَرَةً ، وَتُسَاوِي أُجْرَةُ الْخَمْسِ الْمَتْرُوكَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا ، جَعَلْتُ كُلَّ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ سَهْمًا فَتَكُونُ السِّهَامُ كُلُّهَا خَمْسَةً ، ثُمَّ قَسَّمْتُ الثَّلَاثِينَ الْمُسَمَّاةَ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ يُخْرِجُهُ لِكُلِّ سَهْمٍ سِتَّةَ دَرَاهِمَ ، فَيَسْتَحِقُّ بِالْخَمْسَةِ الْمَحْفُورَةِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا : لِأَنَّ قِسْطَ مَا حُفِرَ سَهْمَانِ . فَإِنْ قِيلَ : تُسَاوِي أُجْرَةُ الْخَمْسِ الْمَحْفُورَةِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَأُجْرَةُ الْخَمْسِ الْمَتْرُوكَةِ خَمْسِينَ دِرْهَمًا ، جَعَلْتُ كُلَّ عَشَرَةٍ سَهْمًا فَتَكُونُ السِّهَامُ كُلُّهَا سِتَّةً ، ثُمَّ قَسَّمْتُ الثَّلَاثِينَ عَلَيْهَا يُخْرِجُ لِكُلِّ سَهْمٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ وَهُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ بِالْخَمْسَةِ الْمَحْفُورَةِ . لِأَنَّ قِسْطَ عَمَلِهِ سَهْمٌ وَاحِدٌ ، ثُمَّ عَلَى هَذِهِ الْمَبَرَّةِ ، فَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ قِيَاسُ أُصُولِهِ فِيمَا لَا يَتَسَاوَى أَجْزَاؤُهُ .
فَصْلٌ : وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَضَاعُفُ الْأَذْرُعِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا بِعَدَدِ مَسَافَتِهَا ، ثَمَّ تُقَسَّمُ الْأُجْرَةُ عَلَى مَا اجْتَمَعَ مِنْهَا ، فَمَا خَرَجَ لِكُلِّ ذِرَاعٍ فَهُوَ قَدْرُ أُجْرِتِهِ . مِثَالُهُ : أَنْ يَسْتَأْجِرَ عَلَى حَفْرِ خَمْسَةِ أَذْرُعٍ بِخَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا ، فَيَجْعَلَ الذِّرَاعَ الْأُولَى ذِرَاعًا وَاحِدًا : لِأَنَّ نَقْلَ تُرَابِهَا مِنْ ذِرَاعٍ وَاحِدٍ ، وَيَجْعَلَ الذِّرَاعَ الثَّانِيَةَ ذِرَاعَيْنِ : لِأَنَّ نَقْلَ تُرَابِهَا مِنْ ذِرَاعَيْنِ ، وَيَجْعَلَ الذِّرَاعَ الثَّالِثَةَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ : لِأَنَّ نَقْلَ تُرَابِهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ ، وَيَجْعَلَ الذِّرَاعَ الرَّابِعَةَ أَرْبَعَةَ أَذْرُعٍ : لِأَنَّ نَقْلَ تُرَابِهَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَذْرُعٍ ، وَيَجْعَلَ الذِّرَاعَ الْخَامِسَةَ خَمْسَةَ أَذْرُعٍ : لِأَنَّ نَقْلَ تُرَابِهَا مِنْ خَمْسَةِ أَذْرُعٍ ، ثُمَّ يَجْعَلَ ذِرَاعًا وَذِرَاعَيْنِ وَثَلَاثًا وَأَرْبَعًا وَخَمْسًا ، فَتَكُونُ خَمْسَ عَشْرَةَ ذِرَاعًا وَهِيَ مَسَافَةُ مَا اسْتُؤْجِرَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَذْرُعِ الْخَمْسِ ، ثُمَّ يُقَسِّمُ الْأُجْرَةَ الْمُسَمَّاةَ عَلَيْهَا وَهِيَ خَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا يَكُونُ قِسْطُ كُلِّ ذِرَاعٍ دِرْهَمًا ، فَإِنْ حَفَرَ ذِرَاعًا وَاحِدًا اسْتَحَقَّ دِرْهَمًا وَاحِدًا . ثُمَّ إِنْ حَفَرَ ذِرَاعَيْنِ اسْتَحَقَّ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ : لِأَنَّ الْأُولَى ذِرَاعٌ ، وَالثَّانِيَةَ ذِرَاعَانِ صَارَا ثَلَاثًا ، وَإِنْ حَفَرَ ثَلَاثَ أَذْرُعٍ اسْتَحَقَّ سِتَّةَ دَرَاهِمَ : لِأَنَّ الْأُولَى ذِرَاعٌ ، وَالثَّانِيَةَ ذِرَاعَانِ ، وَالثَّالِثَةَ ثَلَاثٌ صَارَ الْجَمِيعُ سِتًّا ، فَإِنْ حَفَرَ أَرْبَعَ أَذْرُعٍ اسْتَحَقَّ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ : لِأَنَّ الْأُولَى ذِرَاعٌ ، وَالثَّانِيَةَ ذِرَاعَانِ ، وَالثَّالِثَةَ ثَلَاثٌ ، وَالرَّابِعَةَ أَرْبَعٌ صَارَ الْجَمِيعُ عَشْرًا ، فَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ : لِأَنَّ مَسَافَةَ الْأَذْرُعِ إِذَا ضُوعِفَتْ مُتَسَاوِيَةً ، فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ الْأُجْرَةُ عَلَى مَبْلَغِ عَدَدِهَا مُقَسَّطَةً .
فَصْلٌ : وَقَالَ بَعْضُ مُحَقِّقِي أَصْحَابِنَا فِي الْفِقْهِ وَمُجَوِّدِيهِمْ فِي الْحِسَابِ بِمَذْهَبِ تَوَسُّطٍ ، فِيهِ بَيْنَ مَذْهَبِي الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ : لِأَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ وَإِنْ كَانَ فِي الْقِيَاسِ مُطَّرِدًا وَعَلَى الْأُصُولِ مُسْتَمِرًّا ، فَإِنَّ فِيهِ اطِّرَاحًا لِعَمَلٍ يَصِحُّ فِيهِ وَيَنْحَصِرُ مِنْهُ ، وَمَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنْ كَانَ فِي الْعَمَلِ مُطَّرِدًا وَفِي الْحِسَابِ صَحِيحًا ، فَإِنَّ فِيهِ حُكْمًا يَفْسُدُ فِي الْقِيَاسِ وَيَبْطُلُ عَلَى الْأُصُولِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ حَفْرَ الْآبَارِ يَشْتَمِلُ عَلَى حَفْرِ وَنَقْلِ تُرَابٍ ، فَالْحَفْرُ يَتَمَاثَلُ فِي الْأَذْرُعِ كُلِّهَا وَلَيْسَ فِي حَفْرِ الذِّرَاعِ الْأَخِيرِ عَمَلٌ يَزِيدُ عَلَى حَفْرِ الذِّرَاعِ الْأُولَى ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُفَاضِلَ بَيْنَ أُجُورِهَا لِتَسَاوِي الْعَمَلِ فِيهَا ، فَصَارَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَاسِدًا ، فَأَمَّا نَقْلُ التُّرَابِ الْمَحْفُورِ فَإِنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَسَافَةِ وَيَتَضَاعَفُ بِأَعْدَادِ الْأَذْرُعِ : لِأَنَّ مَسَافَةَ الذِّرَاعِ الثَّانِيَةِ مَثَلًا مَسَافَةُ الذِّرَاعِ الْأُولَى وَمَسَافَةُ الثَّالِثَةِ ثَلَاثَةُ أَمْثَالِهَا وَمَسَافَةُ الرَّابِعَةِ أَرْبَعَةُ أَمْثَالِهَا وَمَسَافَةُ الْعَاشِرَةِ عَشَرَةُ أَمْثَالِهَا وَمَسَافَةُ النَّقْلِ مَحْفُورَةٌ بِاخْتِلَافِ الْأَذْرُعِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْدِلَ عَنْ تَقْسِيطِ الْأُجْرَةِ عَلَيْهَا وَتَحْقِيقِ الْمُسْتَحَقِّ بِهَا إِلَى تَقْوِيمٍ مَعْمُولٍ أَوْ مَتْرُوكٍ يُسْتَعْمَلُ فِيهِ غَلَبَةُ الظَّنِّ فِي تَقْسِيطِ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِمَا ، فَصَارَ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ اطِّرَاحٌ لِعَمَلٍ هُوَ أَصَحُّ تَحْقِيقًا وَأَخْصَرُ تَقْسِيطًا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ تُقَسَّطَ الْأُجْرَةُ الْمُسَمَّاةُ عَلَى الْحَفْرِ وَالنَّقْلِ ، فَمَا قَابَلَ الْحَفْرَ قُسِّمَ عَلَى أَعْدَادِ الْأَذْرُعِ مِنْ غَيْرِ تَفَاضُلٍ : لِأَنَّ الْعَمَلَ فِي جَمِيعِهَا مُتَمَاثِلٌ ، وَمَا قَابَلَ النَّقْلَ قِسْمَةٌ عَلَى مَا تَنْتَهِي إِلَيْهِ مَسَافَةُ الْأَذْرُعِ : لِأَنَّ الْعَمَلَ فِيهَا مُتَضَاعِفٌ مُتَفَاضِلٌ . فَإِنْ قِيلَ : لَا يَجُوزُ أَنْ يُفَضَّلَ بَيْنَ أُجْرَةِ الْحَفْرِ وَالنَّقْلِ : لِأَنَّ أَحَدَهُمَا تَبَعٌ لِلْآخَرِ ، قِيلَ : هَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَيْسَ جَعْلُ النَّقْلِ تَبَعًا لِلْحَفْرِ بِأَوْلَى مِنْ جَعْلِ الْحَفْرِ تَبَعًا لِلنَّقْلِ ، وَإِذَا لَمْ يَتَمَيَّزِ التَّابِعُ مِنَ الْمَتْبُوعِ صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُودًا . وَالثَّانِي : أَنَّ مَا كَانَ تَبَعًا لِغَيْرِهِ مِنَ الْعَقْدِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُفْرَدَ بِالْعَقْدِ ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوِ اسْتَأْجَرَ عَلَى الْحَفْرِ أَجِيرًا يحفر له بئرا معينة وبأجر معين لَا يَنْقُلُ ، وَعَلَى النَّقْلِ أَجِيرًا لَا يَحْفِرُ صَحَّ ، فَلَمْ يَكُنِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْعَقْدِ بِمَانِعٍ مِنْ تَمَيُّزِهَا فِي أَحْكَامٍ .
فَصْلٌ : فَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ الْعَمَلُ ، فَلِلْعَمَلِ عَلَيْهِ مُقَدِّمَةٌ ، وَهُوَ أَنَّكَ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْلَمَ مَبْلَغَ مَسَافَةِ نَقْلِ التُّرَابِ مِنْ عَشْرِ أَذْرُعٍ وَشَقَّ عَلَيْكَ أَنْ تَجْمَعَ مِنَ الْوَاحِدِ إِلَى الْعَشَرَةِ عَلَى الْوَلَاءِ ، فَبَابُهُ الْمُخْتَصَرُ أَنْ تَزِيدَ عَلَى الْعَشَرَةِ وَاحِدًا يَكُونُ أَحَدَ عَشَرَ ، ثُمَّ تَضْرِبُهَا فِي نِصْفِ الْعَشَرَةِ تَكُونُ خَمْسَةً وَخَمْسِينَ ، وَأَنْ تَضْرِبَ نِصْفَ أَحَدَ عَشَرَ فِي عَشَرَةٍ تَكُنْ خَمْسَةً وَخَمْسِينَ ، وَهُوَ مَبْلَغُ الْعَدَدِ الْمَجْمُوعِ مِنْ وَاحِدٍ إِلَى عَشَرَةٍ عَلَى الْوَلَاءِ . وَالْعِلَّةُ فِي ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ شُجَاعُ بْنُ نَصْرٍ أَنَّ الْوَاحِدَ وَالْعَشَرَةَ يَكُونُ أَحَدَ عَشَرَ ، وَالِاثْنَانِ وَالتِّسْعَةُ يَكُونُ أَحَدَ عَشَرَ ، وَالثَّلَاثَةُ وَالثَّمَانِيَةُ أَحَدَ عَشَرَ ، وَالْأَرْبَعَةُ وَالسَّبْعَةُ أَحَدَ عَشَرَ ، وَالْخَمْسَةُ وَالسِّتَّةُ أَحَدَ عَشَرٍ ، فَتَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي مَعَكَ مِنْ جُمْلَةِ أَعْدَادِ الْعَشْرِ خَمْسَ مَرَّاتٍ أَحَدَ عَشَرَ ؛ فَلِذَلِكَ ضَرَبْتَ فِي نِصْفِ الْعَشَرَةِ وَهُوَ خَمْسَةٌ فِي أَحَدَ عَشَرَ ، فَعَلَى هَذَا إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَجْمَعَ مِنْ وَاحِدٍ إِلَى خَمْسَةَ عَشَرَ عَلَى الْوَلَاءِ فَزِدِ الْوَاحِدَ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ يَكُنْ سِتَّةَ عَشَرَ .
ثُمَّ اضْرِبْهَا فِي نِصْفِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَكُنْ مِائَةً وَعِشْرِينَ ، وَإِنْ شِئْتَ ضَرَبْتَ نِصْفَ سِتَّةَ عَشَرَ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ يَكُنْ مِائَةً وَعِشْرِينَ ، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ صِرْنَا إِلَى الْعَمَلِ ، فَإِذَا قِيلَ : رَجُلٌ اسْتُؤْجِرَ عَلَى حَفْرِ بِئْرٍ ، عُمْقُهَا خَمْسُ أَذْرُعٍ فِي دُورٍ مَعْلُومٍ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا ، فَإِنَّهُ يُقَالُ : كَمْ تُسَاوِي أُجْرَةُ الْحَفْرِ ؟ فَإِذَا قِيلَ : خَمْسَةُ دَرَاهِمَ . قِيلَ : وَكَمْ تُسَاوِي أُجْرَةُ النَّقْلِ ؟ فَإِذَا قِيلَ : خَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا ، فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مُحَابَاةٌ ، فَاجْعَلْ أُجْرَةَ الْحَفْرِ الَّتِي هِيَ خَمْسَةٌ مَقْسُومَةٌ عَلَى عَدَدِ الْأَذْرُعِ الْخَمْسِ بِالسَّوِيَّةِ . لِأَنَّهُ لَيْسَ لِبَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْحَفْرِ فَضْلٌ ، فَيَكُونُ قِسْطُ كُلِّ ذِرَاعٍ بِالْحَفْرِ وَحْدَهُ دِرْهَمًا وَاحِدًا ، ثُمَّ اجْعَلْ أُجْرَةَ النَّقْلِ الَّتِي هِيَ خَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا مَقْسُومَةً عَلَى مَبْلَغِ مَسَافَةِ الْأَذْرُعِ الْخَمْسِ وَهُوَ خَمْسَ عَشَرَةَ ذِرَاعًا : لِأَنَّهُ ذِرَاعٌ وَذِرَاعَانِ وَثَلَاثٌ وَأَرْبَعٌ وَخَمْسٌ ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَعْمَلَهُ بِالْبَابِ الْمُخْتَصَرِ زِدْتَ عَلَى الْخَمْسَةِ وَاحِدًا يَكُنْ سِتَّةً ثُمَّ تَضْرِبُهَا فِي نِصْفِ الْخَمْسَةِ يَكُنْ خَمْسَةَ عَشَرَ ، أَوْ ضَرَبْتَ نِصْفَ السِّتَّةِ فِي خَمْسَةٍ تَكُنْ خَمْسَةَ عَشَرَ . وَهِيَ مَبْلَغُ مَسَافَةِ النَّقْلِ مِنْ خَمْسِ أَذْرُعٍ ، فَإِذَا قُسِّمَتْ عَلَيْهَا قُسِّطَتْ مِنَ الْأُجْرَةِ وَهِيَ خَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا كَانَ أُجْرَةُ كُلِّ ذِرَاعٍ دِرْهَمًا ، فَإِذَا حَفَرَ وَنَقَلَ ذِرَاعًا وَاحِدًا اسْتَحَقَّ دِرْهَمَيْنِ : لِأَنَّ لَهُ بِالْحَفْرِ دِرْهَمًا وَبِالنَّقْلِ دِرْهَمًا وَلَوْ حَفَرَ وَنَقَلَ ذِرَاعَيْنِ اسْتَحَقَّ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ : لِأَنَّ لَهُ بِحَفْرِ ذِرَاعَيْنِ دِرْهَمَيْنِ وَبِنَقْلِ ذِرَاعَيْنِ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ : لِأَنَّ الْأُولَى ذِرَاعٌ ، وَالثَّانِيَةَ ذِرَاعَانِ ، وَلَوْ حَفَرَ وَنَقَلَ ثَلَاثَ أَذْرُعٍ اسْتَحَقَّ تِسْعَةَ دَرَاهِمَ : لِأَنَّ لَهُ بِحَفْرِ الْأَذْرُعِ الثَّلَاثِ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ وَلَهُ بِالنَّقْلِ مِنْ ثَلَاثِ أَذْرُعٍ مَسَافَةَ سِتِّ أَذْرُعٍ سِتَّةُ دَرَاهِمَ . وَلَوْ حَفَرَ وَنَقَلَ أَرْبَعَ أَذْرُعٍ اسْتَحَقَّ أَرْبَعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا : لِأَنَّ بِحَفْرِ الْأَذْرُعِ الْأَرْبَعَةِ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ ، وَلَهُ بِالنَّقْلِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَذْرُعٍ مَسَافَةَ عَشَرَةِ أَذْرُعٍ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ ، فَلَوِ اسْتُؤْجِرَ عَلَى حَفْرِ بِئْرٍ عُمْقُهَا ( خَمْسَ عَشَرَةَ ذِرَاعًا ) فَيَ دُورٍ مَعْلُومٍ بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا ، قِيلَ : كَمْ تُسَاوِي أُجْرَةُ الْحَفْرِ بِلَا نَقْلٍ ؟ فَإِنْ قِيلَ : عِشْرُونَ دِرْهَمًا ، قِيلَ : وَكَمْ تُسَاوِي أُجْرَةُ النَّقْلِ بِلَا حَفْرٍ ؟ فَإِنْ قِيلَ : ثَمَانُونَ دِرْهَمًا ، فَفِي الْأُجْرَةِ مُحَابَاةٌ ، فَاجْمَعْ أُجْرَةَ الْحَفْرِ وَالنَّقْلِ تَكُنْ مِائَةَ دِرْهَمٍ . وَاجْعَلْ كُلَّ عِشْرِينَ سَهْمًا تَكُنْ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ : سَهْمٌ مِنْهَا لِلْحَفْرِ ، وَأَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ لِلنَّقْلِ ، ثُمَّ اقْسِمِ الْأُجْرَةَ الْمُسَمَّاةَ وَهِيَ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ يَكُنْ قِسْطُ كُلِّ سَهْمٍ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا ، فَتَجْعَلُ أُجْرَةَ الْحَفْرِ وَحْدَهُ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا : لِأَنَّ قِسْطَ الْحَفْرِ سَهْمٌ وَاحِدٌ وَتَحْصُلُ أُجْرَةُ النَّقْلِ وَحْدَهُ مِائَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا : لِأَنَّ قِسْطَ النَّقْلِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ ، ثُمَّ اقْسِمْ أُجْرَةَ الْحَفْرِ وَهِيَ ثَلَاثُونَ دِرْهَمًا عَلَى أَعْدَادِ الْأَذْرُعِ وَهِيَ خَمْسَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا تَكُنْ أُجْرَةُ كُلِّ ذِرَاعٍ دِرْهَمَيْنِ . وَاقْسِمْ أُجْرَةَ النَّقْلِ وَهِيَ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا عَلَى مَسَافَةِ خَمْسَ عَشَرَةَ ذِرَاعًا وَهِيَ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا : لِأَنَّكَ إِذَا زِدْتَ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ وَاحِدًا ثُمَّ ضَرَبْتَ نِصْفَهَا فِي خَمْسَةَ عَشَرَ كَانَتْ مِائَةً وَعِشْرِينَ فَيَكُونُ أُجْرَةُ نَقْلِ كُلِّ ذِرَاعٍ وَاحِدَةٍ دِرْهَمًا وَاحِدًا ، فَإِذَا حَفَرَ وَنَقَلَ خَمْسَ أَذْرُعٍ وَاسْتَحَقَّ بِالْحَفْرِ وَحْدَهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ كَانَ لَهُ بِكُلِّ ذِرَاعٍ دِرْهَمَانِ وَاسْتَحَقَّ بِالنَّقْلِ وَحْدَهُ
خَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا : لِأَنَّ مَسَافَةَ خَمْسِ أَذْرُعٍ خَمْسَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا لَهُ بِكُلِّ ذِرَاعٍ دِرْهَمٌ ، فَيَصِيرُ جَمِيعَ مَا يَسْتَحِقُّهُ بِالْحَفْرِ وَالنَّقْلِ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا . وَلَوْ حَفَرَ وَنَقَلَ عَشْرَ أَذْرُعٍ اسْتَحَقَّ بِالْحَفْرِ وَحْدَهُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا : لِأَنَّ لَهُ بِكُلِّ ذِرَاعٍ دِرْهَمَيْنِ وَاسْتَحَقَّ بِالنَّقْلِ وَحْدَهُ خَمْسَةً وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا : لِأَنَّ مَسَافَةَ عَشْرِ أَذْرُعٍ خَمْسٌ وَخَمْسُونَ ذِرَاعًا لَهُ بِكُلِّ ذِرَاعٍ دِرْهَمٌ ، فَيَصِيرُ مَا يَسْتَحِقُّهُ بِالْحَفْرِ وَالنَّقْلِ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ دِرْهَمًا ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْبِنَاءُ فَالْإِجَارَةُ عَلَيْهِ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ مَعْقُودَةً عَلَى الْأَيَّامِ ، فَيَصِحُّ فَيُسَاوِي أُجُورَ الْأَيَّامِ مِمَّا سُمِّيَ لَهَا مِنْ سُفْلِ الْبِنَاءِ وَعُلُوِّهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ مَعْقُودَةً عَلَى بِنَاءٍ مُقَدَّرٍ بِالْعَمَلِ ، فَتَصِحُّ إِذَا اجْتَمَعَ فِي الْعَقْدِ شَرْطَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْبِنَاءُ مَعْلُومَ الْقَدْرِ فِي الطُّولِ وَالْعَرْضِ وَالْعُلُوِّ . وَالشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ آلَةُ الْبِنَاءِ مَوْصُوفَةً مِنْ حَجَرٍ أَوْ آجُرٍّ أَوْ لَبَنٍ بِجِصٍّ وَطِينٍ . فَإِنْ أَغْفَلَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لِاخْتِلَافِ الْعَمَلِ بِاخْتِلَافِهِ وَلَوْ شَرَطَ الْآلَةَ عَلَى الْأَجِيرِ لَمْ يَجُزْ وَإِنْ وَصَفَهَا : لِأَنَّهُ يَصِيرُ عَقْدَيْنِ مِنْ إِجَارَةٍ وَبَيْعٍ فِي عَقْدٍ : فَإِذَا عَقَدَ الْإِجَارَةَ بِاجْتِمَاعِ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ صَحَّتْ بِوِفَاقِ مَنْ خَالَفَ فِي إِجَارَةِ الْآبَارِ وَيُؤْخَذُ الْأَجِيرُ بِإِتْمَامِ الْبِنَاءِ : فَإِنْ بَنَى بَعْضَهُ ثُمَّ قَطَعَهُ عَنْ إِتْمَامِهِ قَاطِعٌ وَأَرَادَ أُجْرَةَ مَا عَمِلَ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْبِنَاءِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَمَاثِلَ الْمِسَاحَةِ فِي عُلُوِّهِ وَسُفْلِهِ كَالْمَنَارِ ، وَالسَّوَارِي . فَيَكُونُ حُكْمُهَا كَحُكْمِ الْآبَارِ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُخْتَلِفَ الْمِسَاحَةِ كَالْمَخْرُوطَاتِ فَيَقُومُ الْمَعْمُولُ وَالْمَتْرُوكُ ، ثُمَّ تُقَسَّطُ الْأُجْرَةُ عَلَيْهِمَا ، فَمَا قَابَلَ الْمَعْمُولَ مِنْهَا فَهُوَ حَقُّ الْأَجِيرِ فِيمَا عَمِلَ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .
_____مُخْتَصَرٌ مِنَ الْجَامِعِ مِنْ كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ وَكِرَاءِ الْأَرْضِ وَالشَّرِكَةِ فِي الزَّرْعِ وَمَا دَخَلَ فِيهِ _____
مَسْأَلَةٌ الْمُخَابَرَةُ هِيَ الْمُزَارِعَةُ وهي اسْتِكْرَاءُ الْأَرْضِ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا
مُخْتَصَرٌ مِنَ الْجَامِعِ مِنْ كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ وَكِرَاءِ الْأَرْضِ وَالشَّرِكَةِ فِي الزَّرْعِ وَمَا دَخَلَ فِيهِ مِنْ كِتَابِ اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَمَسَائِلَ سَمِعْتُهَا مِنْهُ لَفْظًا مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ قَالَ : سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ يَقُولُ : سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ : كُنَّا نُخَابِرُ ، وَلَا نَرَى بِذَلِكَ بِأَسًا حَتَى أَخْبَرَنَا رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنِ الْمُخَابَرَةِ فَتَرَكْنَاهَا لِقَوْلِ رَافِعٍ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : - رَحِمَهُ اللَّهُ - ، وَالْمُخَابَرَةُ حكم اسْتِكْرَاءُ الْأَرْضِ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَدَلَّتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نَهْيِهِ عَنِ الْمُخَابَرَةِ عَلَى أَنْ لَا تَجُوزَ الْمُزَارَعَةُ عَلَى الثُّلُثِ ، وَلَا عَلَى الرُّبُعِ ، وَلَا عَلَى جُزْءٍ مِنَ الْأَجْزَاءِ : لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ ، وَلَا يَجُوزُ الْكِرَاءُ إِلَّا مَعْلُومًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : الْمُخَابَرَةُ هِيَ الْمُزَارِعَةُ وَهِيَ مَا وَصَفَهَا الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ أَنَّهَا اسْتِكْرَاءُ الْأَرْضِ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا ، وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَسْمِيَتِهَا بِالْمُخَابَرَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ ذَكَرَهُمَا ابْنُ قُتَيْبَةَ . أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ مُعَامَلَةِ خَيْبَرَ حِينَ أَقَرَّهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : خَابِرُوهُمْ . أَيْ : عَامِلُوهُمْ عَلَى خَيْبَرَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْخُبْرَةِ وَهِيَ النَّصِيبُ . قَالَ عُرْوَةُ بْنُ الْوَرْدِ : إِذَا مَا جَعَلْتِ الشَّاةَ لِلْقَوْمِ خُبْرَةً فَشَأْنُكِ أَنِّي ذَاهِبٌ لِشُئُونِ وَالْخُبْرَةُ : أَنْ يَشْتَرِيَ الشَّاةَ جَمَاعَةٌ فَيَقْتَسِمُونَهَا . وَإِذَا كَانَتِ الْمُخَابَرَةُ هِيَ اسْتِكْرَاءَ الْأَرْضِ لِزِرَاعَتِهَا بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا فَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ ، ضَرْبٌ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى فَسَادِهِ ، وَضَرْبٌ اخْتَلَفُوا فِيهِ . فَأَمَّا الضَّرْبُ الَّذِي أَجْمَعُوا عَلَى فَسَادِهِ ، فَهُوَ أَنْ تَكُونَ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ زَرْعِ الْأَرْضِ مُفْرِدَةً عَنْ حِصَّةِ صَاحِبِهِ ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : قَدْ زَارَعْتُكَ عَلَى هَذِهِ الْأَرْضِ عَلَى أَنَّ مَا زَرَعْتَ مِنْ هَرْنٍ كَانَ لِي ، وَمَا زَرَعْتَ مِنْ أَفْلٍ كَانَ لَكَ ، أَوْ عَلَى مَا نَبَتَ مِنَ الْمَاذِيَانَاتِ كَانَ لِي ، وَمَا نَبَتَ عَلَى السَّوَاقِي وَالْجَدَاوِلِ كَانَ لَكَ ، أَوْ عَلَى أَنَّ مَا سُقِيَ بِالسَّمَاءِ فَهُوَ لِي ، وَمَا سُقِيَ بِالرِّشَاءِ فَهُوَ لَكَ ، فَهَذِهِ مُزَارِعَةٌ بَاطِلَةٌ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى فَسَادِهَا لِرِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ، عَنْ سَعْدٍ قَالَ : كُنَّا نُكْرِي الْأَرْضَ بِمَا عَلَى السَّوَاقِي ، وَمَا سُقِيَ بِالْمَاءِ مِنْهَا فَنَهَانَا رَسُولُ اللِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ
ذَلِكَ وَأَمَرَنَا أَنْ نُكْرِيَهَا بِذَهَبٍ أَوْ وَرِقٍ ، وَلِأَنَّ تَمَيُّزَ مَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمْنَعُ مِنْ إِلْحَاقِهِ بِالْمُسَاقَاةِ الْمُشَاعَةِ ، وَيَخْرُجُ بِالْجَهَالَةِ عَنْ حُكْمِ الْإِجَارَةِ الْجَائِزَةِ فَصَارَ بَاطِلًا .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الضَّرْبُ الَّذِي اخْتَلَفَتِ الْفُقَهَاءُ فِيهِ فَهُوَ أَنْ يُزَارِعَهُ عَلَى أَرْضِهِ لِيَكُونَ الْعَمَلُ عَلَى الْأَجِيرِ ، وَالْأَرْضُ لِرَبِّهَا ، وَالْبَذْرُ مِنْهُمَا ، أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا بِحَسَبِ شَرْطِهِمَا عَلَى أَنَّ مَا أَخْرَجَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ زَرْعٍ كَانَ بَيْنَهُمَا عَلَى سَهْمٍ مَعْلُومٍ مِنْ نِصْفٍ أَوْ ثُلُثٍ أَوْ رُبُعٍ ، لِيَأْخُذَ الزَّارِعُ سَهْمَهُ بِعَمَلِهِ ، وَيَأْخُذَ رَبُّ الْأَرْضِ سَهْمَهُ بِأَرْضِهِ فَهَذِهِ هِيَ الْمُخَابَرَةُ ، وَالْمُزَارِعَةُ الَّتِي اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهَا بَاطِلَةٌ سَوَاءٌ شَرَطَ الْبَذْرَ عَلَى الزَّارِعِ ، أَوْ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ : عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، وَرَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ، وَمِنَ التَّابِعَيْنَ : سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ : الشَّافِعِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : أَنَّهَا جَائِزَةٌ سَوَاءٌ شَرَطَ الْبَذْرَ عَلَى الزَّارِعِ ، أَوْ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ : عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ ، وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ، وَمِنَ التَّابِعِينَ : سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ : سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ إِنْ شَرَطَ الْبَذْرَ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ لَمْ يَجُزْ ، وَإِنْ شَرَطَهُ عَلَى الزَّارِعِ جَازَ ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ . وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ بِرِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ عَلَى شَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْ ثَمَرٍ وَزَرْعٍ . وَرَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ : قُلْتُ لِطَاوُسٍ : يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، لَوْ تَرَكْتَ الْمُخَابَرَةَ ، فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْهَا فَقَالَ : يَا عَمْرُو ، أَخْبَرَنِي أَعْلَمُهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمْ يَنْهَ عَنْهَا وَلَكِنْ قَالَ : لِأَنْ يَمْنَحَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهَا خَرْجًا مَعْلُومًا . وَرَوَى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، قَالَ : " رَحِمَ اللَّهُ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ ، أَنَا أَعْلَمُ بِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْهُ " - يَعْنِي مَا رَوَاهُ عَنِ الْمُخَابَرَةِ - قَالَ زَيْدٌ : " أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلَانِ مِنَ الْأَنْصَارِ ، وَكَانَا قَدِ اقْتَتَلَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : إِنْ كَانَ هَذَا شَأْنَكُمَا فَلَا تُكْرُوا الْمَزَارِعَ . قَالُوا : وَلِأَنَّ الْمُعَامَلَةَ عَلَى الْأُصُولِ بِبَعْضِ نَمَائِهَا يَجُوزُ كَالْمُسَاقَاةِ عَلَى النَّخْلِ ، وَالْمُضَارَبَةِ بِالْمَالِ ، وَكَذَلِكَ الْمُخَابَرَةُ عَلَى الْأَرْضِ . قَالُوا : وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَتِ الْمُخَابَرَةُ إِذَا اقْتَرَنَتْ بِالْمُسَاقَاةِ جَازَتْ بِانْفِرَادِهَا .
وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِهَا مَعَ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي صَدْرِ الْبَابِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ سُفْيَانِ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنْ عَطَاءٍ ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْمُخَابَرَةِ . وَالْمُخَابَرَةُ كِرَاءُ الْأَرْضِ بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ ، وَرَوَى يَعْلَى بْنُ حَكِيمٍ ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ قَالَ : كُنَّا نُخَابِرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَإِنَّ بَعْضَ عُمُومَتِي أَتَانِي فَقَالَ : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَمْرٍ كَانَ لَنَا نَافِعًا ، وَطَوَاعِيةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْفَعُ لَنَا وَأَنْفَعُ ، قَالَ : فَقُلْنَا : " وَمَا ذَاكَ " قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا ، أَوْ لِيُزْرِعْهَا أَخَاهُ ، وَلَا يُكَارِيهَا بِثُلُثٍ وَلَا رُبُعٍ ، وَلَا طَعَامٍ مُسَمًّى ، وَرَوَى ابْنُ خُثَيْمٍ ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : مَنْ لَمْ يَذَرِ الْمُخَابَرَةَ فَلْيُؤْذَنْ بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَلِأَنَّ الْأُصُولَ الَّتِي تَصِحُّ إِجَارَتُهَا ، وَلَا تَصِحُّ الْمُعَامَلَةُ عَلَيْهَا يَعْنَى كَسْبَهَا ، وَكَذَا الْأَرَضُ لَمَّا جَازَتْ إِجَارَتُهَا لَمْ تَجُزِ الْمُخَابَرَةُ عَلَيْهَا . فَهَذِهِ دَلَائِلُ الْفَرِيقَيْنِ فِي صِحَّةِ الْمُخَابَرَةِ وَفَسَادِهَا ، وَلَمَّا اقْتَرَنَ بِدَلَائِلِ الصِّحَّةِ عَمَلَ أَهْلُ الْأَمْصَارِ مَعَ الضَّرُورَةِ الْمَاسَّةِ إِلَيْهَا ، وَكَانَ مَا عَارَضَهَا مُحْتَمَلًا أَنْ يَكُونَ جَارِيًا عَلَى مَا فَسَّرَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ : كَانَ صِحَّةُ الْمُخَابَرَةِ أَوْلَى مِنْ فَسَادِهَا مَعَ صِحَّةِ شَهَادَةِ الْأُصُولِ لَهَا فِي الْمُسَاقَاةِ وَالْمُضَارَبَةِ .
فَصْلٌ : فَإِنْ قِيلَ بِجَوَازِ الْمُخَابَرَةِ حَمْلًا فِيهَا عَلَى مَا شَرَطَاهُ مِنْ بَذْرٍ وَسَهْمٍ ، وَإِنْ قِيلَ بِفَسَادِهَا فَالزَّرْعُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ ، فَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ لِمَالِكِ الْأَرْضِ فَالزَّرْعُ لَهُ ، وَعَلَيْهِ لِلْعَامِلِ أُجْرَةُ مِثْلِ عَمَلِهِ وَبَقَرِهِ وَآلَتِهِ : لِأَنَّهُ بَذَلَ ذَلِكَ فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٍ فَوَّتَهُ عَلَيْهِ فَسَادُ الْعَقْدِ فَرَجَعَ بِقِيمَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ لِلزَّارِعِ فَالزَّرْعُ لَهُ وَعَلَيْهِ لِرَبِّ الْأَرْضِ أُجْرَةُ مِثْلِ أَرْضِهِ : لِأَنَّهُ بَذَلَهَا فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٍ فَوَّتَهُ عَلَيْهِ فَسَادُ الْعَقْدِ ، فَرَجَعَ بِقِيمَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ لَهُمَا فَالزَّرْعُ بَيْنَهُمَا ، وَعَلَى رَبِّ الْأَرْضِ لِلْعَامِلِ نِصْفُ أُجْرَةِ عَمَلِهِ وَبَقَرِهِ وَآلَتِهِ ، وَعَلَى الْعَامِلِ لِرَبِّ الْأَرْضِ نِصْفُ أُجْرَةِ أَرْضِهِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : فَلَوِ اشْتَرَكَ أَرْبَعَةٌ فِي زِرَاعَةِ الْأَرْضِ فَكَانَتِ الْأَرْضُ لِأَحَدِهِمْ ، وَالْبَذْرُ لِلْآخَرِ ، وَالْآلَةُ لِلْآخَرِ ، وَمِنَ الرَّابِعِ الْعَمَلُ ، عَلَى أَنَّ الزَّرْعَ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا كَانَ الزَّرْعُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ ، وَعَلَيْهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ لِشُرَكَائِهِ . وَقَدْ رَوَى الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ وَاصِلِ بْنِ أَبِي جَمِيلٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ : اشْتَرَكَ أَرْبَعَةُ رَهْطٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي زَرْعٍ فَقَالِ أَحَدُهُمْ : قِبَلِيَ الْأَرْضُ ، وَقَالَ الْآخَرُ : قِبَلِيَ الْبَذْرُ ، وَقَالَ الْآخَرُ : قِبَلِيَ الْعَمَلُ ، وَقَالَ الْآخَرُ : قِبَلِي الْفَدَّانُ ، فَلَمَّا اسْتُحْصِدَ الزَّرْعُ صَارُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَعَلَ الزَّرْعَ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ ، وَأَلْغَى صَاحِبَ الْأَرْضِ ، وَجَعَلَ لِصَاحِبِ الْفَدَّانِ شَيْئَا مَعْلُومًا ، وَجَعَلَ لِصَاحِبِ الْعَمَلِ دِرْهَمًا كُلَّ يَوْمٍ .
فَصْلٌ : وَلِمَنْ قَالَ بِفَسَادِ الْمُخَابَرَةِ ثَلَاثَةُ وُجُوهٍ يُتَوَصَّلُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا إِلَى صِحَّةِ الشَّرِكَةِ فِي الزَّرْعِ حكمها : أَحَدُهَا : أَنْ يَشْتَرِكَا فِي مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ إِمَّا بِمِلْكِ رَقَبَتِهَا ، أَوْ بِإِجَارَتِهَا ، أَوِ اسْتِعَارَتِهَا ، أَوْ تَكُونُ لِأَحَدِهِمَا فَيُؤَجِّرُ صَاحِبُهُ أَوْ لِغَيْرِهِ نِصْفَهَا مَشَاعًا ، فَتَصِيرُ مَنْفَعَةُ الْأَرْضِ لَهُمَا ثُمَّ يَشْتَرِكَانِ فِي الْبَذْرِ وَالْعَمَلِ ، فَيَصِيرُ الزَّرْعُ بَيْنَهُمَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَقُولَ صَاحِبُ الْأَرْضِ لِلْعَامِلِ : قَدْ أَجَّرْتُكَ نِصْفَ أَرْضِي مَشَاعًا سَنَةً بِدِينَارٍ ، وَاسْتَأْجَرْتُ نِصْفَ عَمِلْكَ وَنِصْفَ عَمَلِ مَا قَدْ شَاهَدْتُهُ مِنْ بَقَرِكَ وَآلَتِكَ سَنَةً بِدِينَارٍ ، ثُمَّ يَقَعُ الْقِصَاصُ وَالْإِبْرَاءُ ، وَيُخْرِجَانِ الْبَذْرَ بَيْنَهُمَا فَيَصِيرَانِ شَرِيكَيْنِ فِي الزَّرْعِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنْ يَقُولَ صَاحِبُ الْأَرْضِ لِلْعَامِلِ : قَدْ أَجَّرْتُكَ نِصْفَ أَرْضِي مَشَاعًا بِنِصْفِ عَمَلِكَ وَنِصْفِ عَمَلِ مَا شَاهَدْتُهُ مِنْ بَقَرِكِ وَآلَتِكِ سَنَةً ، فَيَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَأْجِرًا لِنِصْفِ مَا لِصَاحِبِهِ سَنَةً ، بِنِصْفِ مَا لِلْآخَرِ سَنَةً ، أَوْ يَعْقِدَانِ ذَلِكَ سِنِينَ مَعْلُومَةً ، ثُمَّ يُخْرِجَانِ الْبَذْرَ بَيْنَهُمَا ، فَيَصِيرَانِ شَرِيكَيْنِ فِي الْأَرْضِ وَالْبَذْرِ وَالْعَمَلِ ، فَيَصِيرُ الزَّرْعُ بَيْنَهُمَا . فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ الثُّلُثُ وَلِلْعَامِلِ الثُّلُثَانِ ، قَالَ صَاحِبُ الْأَرْضِ : قَدْ أَجَّرْتُكَ ثُلُثَيْ أَرْضِي بِثُلُثِ عَمَلِكَ ، وَيُخْرِجُ صَاحِبُ الْأَرْضِ ثُلُثَ الْبَذْرِ ، فَيَصِيرُ ثُلُثُ الزَّرْعِ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ ، وَثُلُثَاهُ لِلْعَامِلِ . وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ لِرَبِّ الْأَرْضِ ثُلُثَا الزَّرْعِ وَلِلْعَامِلِ الثُّلُثُ ، قَالَ رَبُّ الْأَرْضِ : قَدْ أَجَّرْتُكَ ثُلُثَ أَرْضِي بِثُلُثَيْ عَمَلِكَ وَيُخْرِجُ ثُلُثَيِ الْبَذْرِ ، فَيَصِيرُ لِرَبِّ الْأَرْضِ ثُلُثَا الزَّرْعِ ، وَلِلْعَامِلِ الثُّلُثُ . وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ وَالزَّرْعُ بَيْنَهُمَا ، قَالَ رَبُّ الْأَرْضِ : قَدِ اسْتَأْجَرْتُ نِصْفَ عَمَلِكَ بِنِصْفِ هَذَا الْبَذْرِ وَنِصْفِ مَنْفَعَةِ هَذَا الْبَذْرَ ، فَيَصِيرُ الزَّرْعُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ . وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنَ الْعَامِلِ ، قَالَ رَبُّ الْأَرْضِ : قَدْ أَجَّرْتُكَ نِصْفَ أَرْضِي بِنِصْفِ عَمَلِكَ وَنِصْفِ هَذَا الْبَذْرِ ، فَيَصِيرُ الزَّرْعُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ . وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ : إِذَا عَقَدَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَكُونُ الْبَذْرُ فِيهِ مِنْ أَحَدِهِمَا فَهُوَ بَيْعٌ وَإِجَارَةٌ ، فَيُخَرَّجُ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَلَيْسَ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى مَا قَالَهُ ، بَلْ هُوَ عَقْدُ إِجَارَةٍ مَحْضَةٍ ، وَالْأُجْرَةُ فِيهَا نِصْفُ الْبَذْرِ وَنِصْفُ الْعَمَلِ ، فَيَصِحُّ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَيَجُوزُ كِرَاءُ الْأَرْضِ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ وَالْعَرْضِ وَمَا نَبَتَ مِنَ الْأَرْضِ ، أَوْ عَلَى صِفَةٍ تُسَمِّيهِ كَمَا يَجُوزُ كِرَاءُ الْمَنَازِلِ وَإِجَارَةُ الْعَبِيدِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي إِجَارَةِ الْأَرَضِينَ حكمه عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ :
أَحَدُهَا : مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ، وَطَاوُسٌ إِلَى أَنَّ إِجَارَةَ الْأَرَضِينَ بَاطِلَةٌ لَا تَجُوزُ بِحَالٍ . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : مَا قَالَهُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ أَنَّ إِجَارَتَهَا جَائِزَةٌ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ ، وَلَا يَجُوزُ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ ، وَلَا بِمَا يَنْبُتُ مِنَ الْأَرْضِ . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَبُو حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةُ الْفُقَهَاءِ : أَنَّهَا تَجُوزُ بِكُلِّ مَعْلُومٍ مَنْ ذَهَبٍ أَوْ وَرِقٍ أَوْ عَرْضٍ ، أَوْ بِمَا يَنْبُتُ مِنَ الْأَرْضِ مَنْ بُرٍّ أَوْ شَعِيرٍ أَوْ غَيْرِهِ . وَاسْتَدَلَّ الْحَسَنُ وَطَاوُسٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ إِجَارَتِهَا بِحَدِيثٍ رَوَاهُ ابْنُ شِهَابٍ ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُكْرِي أَرْضَهُ حَتَّى بَلَغَهُ أَنَّ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ الْأَنْصَارِيَّ كَانَ يَنْهَى عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ ، فَلَقِيَهُ عَبْدُ اللَّهِ فَقَالَ ابْنُ خَدِيجٍ : مَاذَا تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كِرَاءِ الْأَرْضِ فَقَالَ رَافِعٌ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ : سَمِعْتُ عَمَّيَ وَكَانَا قَدْ شَهِدَا بَدْرًا يُحَدِّثَانِ أَهْلَ الدَّارِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْأَرْضَ تُكْرَى ، ثُمَّ خَشِيَ عَبْدُ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحْدَثَ فِي ذَلِكَ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ ، فَتَرَكَ كِرَاءَ الْأَرْضِ . وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ ، عَنْ سَعِيدٍ أَبِي شُجَاعٍ ، عَنْ عِيسَى بْنِ سَهْلٍ ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ : إِنِّي لَيَتِيمٌ فِي حِجْرِ رَافِعٍ ، وَحَجَجْتُ مَعَهُ وَجَاءَهُ أَخِي عِمْرَانُ بْنُ سَهْلٍ فَقَالَ : أَكْرَيْنَا أَرْضَنَا فُلَانَةً بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ ، فَقَالَ : دَعْهُ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ . قَالَ : وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَجُزْ إِجَارَةُ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ ؛ لِكَوْنِهِمَا أَصْلًا لِكُلِّ ثَمَرٍ فَكَذَلِكَ الْأَرْضُ : لِأَنَّهَا تَجْمَعُ الْأَصْلَ وَالْفَرْعَ .
فَصْلٌ : وَاسْتَدَلَّ مَالِكٌ عَلَى أَنَّ إِجَارَتَهَا بِالطَّعَامِ كراء الأرض وَبِمَا يَنْبُتُ مِنَ الْأَرْضِ لَا يَجُوزُ ، بِحَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ ، عَنْ بَعْضِ عُمُومَتِهِ ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا ، أَوْ لِيُزْرِعْهَا أَخَاهُ ، وَلَا يُكَارِيهَا بِثُلُثٍ وَلَا رُبُعٍ وَلَا بِطَعَامٍ مُسَمًّى وَرَوَى طَارِقُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ وَقَالَ : إِنَمَا يَزْرَعُ ثَلَاثَةٌ : رَجُلٌ لَهُ أَرْضٌ فَهُوَ يَزْرَعُهَا ، وَرَجُلٌ مَنَحَ أَرْضًا فَهُوَ يَزْرَعُ مَا مُنِحَ ، وَرَجُلٌ اسْتَكْرَى أَرْضًا بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ . وَلِأَنَّ اسْتِكْرَاءَ الْأَرْضِ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا حكمه بَاطِلٌ كَالْمُخَابَرَةِ . وَدَلِيلُنَا عَلَى مَالِكٍ رِوَايَةُ الْأَوْزَاعِيِّ ، عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ قَيْسٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ : سَأَلْتُ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ ، فَقَالَ : لَا بَأْسَ بِهَا ، إِنَّمَا كَانَ النَّاسُ يُؤَاجِرُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا عَلَى الْمَاذِيَانَاتِ ، وَأَقْبَالِ الْجَدَاوِلِ ، وَأَشْيَاءَ مِنَ الزَّرْعِ ، فَيَهْلَكُ هَذَا وَيَسْلَمُ هَذَا ، وَيَسْلَمُ هَذَا وَيَهْلَكُ هَذَا ، وَلَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ كِرَاءٌ إِلَّا هَذَا فَلِذَلِكَ زَجَرَ عَنْهُ ، فَأَمَّا شَيْءٌ مَضْمُونٌ مَعْلُومٌ فَلَا بَأْسَ بِهِ فَكَانَ هَذَا عَلَى عُمُومِهِ مَعَ شَبِيهِهِ عَلَى مَعْنَى النَّهْيِ ، فَصَارَ هَذَا تَفْسِيرًا لِمَا أَجْمَلَهُ مِنَ النَّهْيِ .
وَلِأَنَّ مَا صَحَّ أَنْ يُؤَاجَرَ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ ، صَحَّ أَنْ يُؤَاجَرَ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ ؛ كَالدُّورِ وَالْعَقَارِ ، وَلِأَنَّ مَا صَحَّ أَنْ تُؤَاجَرَ بِهِ الدُّورُ وَالْعَقَارُ ، صَحَّ أَنْ تُؤَاجَرَ بِهِ الْأَرْضُونَ كَالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الْحَسَنُ مِنْ حَدِيثَيْ رَافِعٍ فِي النَّهْيِ عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ فَمَحْمُولٌ عَلَى مَا فَسَّرَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ كِرَائِهَا بِمَا عَلَى الْمَاذِيَانَاتِ : لِأَنَّ الرِّوَايَاتِ عَنْ رَافِعٍ مُخْتَلِفَةٌ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ جَمْعِهِ بَيْنَ الْأَرْضِ ، وَبَيْنَ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ فَهُوَ أَنَّ الْمُسْتَفَادَ مِنَ النَّخْلِ أَعْيَانٌ ، وَمِنَ الْأَرْضِ آثَارٌ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ مَالِكٌ مِنْ حَدِيثَيْ رَافِعٍ فَهُوَ مَا ذَكَرْنَا ، وَنَهْيُهُ عَنْ إِجَارَتِهَا بِطَعَامٍ مُسَمًّى يَعْنِي مِنَ الْأَرْضِ الْمُؤَاجَرَةِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْمُخَابَرَةِ ، فَهُوَ أَنَّ الْعِوَضَ فِي الْمُخَابَرَةِ لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ ، وَفِي الْإِجَارَةِ يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ لَا يَجُوزُ الْكِرَاءُ إِلَّا عَلَى سَنَةٍ مَعْرُوفَةٍ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَا يَجُوزُ الْكِرَاءُ إِلَّا عَلَى سَنَةٍ مَعْرُوفَةٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي مُدَّةِ الْإِجَارَةِ ، وَأَنْ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً ، وَأَنَّهَا تَجُوزُ سَنَةً ، وَفِي جَوَازِهَا سِنِينَ قَوْلَانِ . فَإِذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِلزِّرَاعَةِ سَنَةً ، فَعَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَشْتَرِطَ سَنَةً هِلَالِيَّةً ، فَيَصِحُّ وَيَكُونُ الْعَقْدُ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا بِالْأَهِلَّةِ يُحْتَسَبُ بِكُلِّ شَهْرٍ مَا بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ ، كَامِلًا كَانَ أَوْ نَاقِصًا ، وَيَكُونُ قَدْرُ السَّنَةِ الْهِلَالِيَّةِ ثَلَاثَمِائَةٍ وَأَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ يَوْمًا ، وَهَذَا أَخَصُّ الْآجَالِ بِالشَّرْعِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [ الْبَقَرَةِ : 189 ] . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَشْتَرِطَ سَنَةً عَدَدِيَّةً ، فَيَصِحُّ وَيَكُونُ الْعَقْدُ عَلَى ثَلَاثِمِائَةٍ وَسِتِّينَ يَوْمًا كَامِلَةً : لِأَنَّ عَدَدَ الشَّهْرِ مُسْتَوْفًى بِكَمَالِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَشْتَرِطَ سَنَةً شَمْسِيَّةً وَهِيَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَخَمْسَةٌ وَسِتُّونَ يَوْمًا وَرُبُعُ يَوْمٍ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِحَّةِ الْإِجَارَةِ بِهَذَا الْأَجَلِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَصِحُّ لِلْعِلْمِ بِالْمُدَّةِ فِيهَا . وَالثَّانِي : بَاطِلَةٌ : لِأَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ بِحِسَابٍ تُنْسَأُ فِيهِ أَيَّامٌ ، وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى النَّسِيءَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ [ التَّوْبَةِ : 37 ] . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يُطْلِقَ ذِكْرَ السَّنَةِ ، فَلَا يَشْتَرِطُهَا هِلَالِيَّةً وَلَا عَدَدِيَّةً وَلَا شَمْسِيَّةً ، فَتَصِحُّ الْإِجَارَةُ حَمُلًا عَلَى السَّنَةِ الْهِلَالِيَّةِ : لِأَنَّهُ الزَّمَانُ الْمُقَدَّرُ فِي الْآجَالِ الشَّرْعِيَّةِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَإِذَا تَكَارَى الرَّجُلُ الْأَرْضَ ذَاتَ الْمَاءِ مِنَ الْعَيْنِ أَوِ النَّهْرِ أَوْ عَثَرِيًّا أَوْ غَيْلًا أَوِ الْآبَارِ ، عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا غَلَّةَ شِتَاءٍ وَصَيْفٍ فَزَرَعَهَا إِحْدَى
الْغَلَّتَيْنِ ، وَالْمَاءُ قَائِمٌ ثُمَّ نَضَبَ الْمَاءُ فَذَهَبَ قَبْلَ الْغَلَّةِ الثَّانِيَةِ فَأَرَادَ رَدَّ الْأَرْضِ لِذَهَابِ الْمَاءِ عَنْهَا ، فَذَلِكَ لَهُ وَيَكُونُ عَلَيْهِ مِنَ الْكِرَاءِ بِحِصَّةِ مَا زَرَعَ إِنْ كَانَ الثُّلُثُ أَوْ أَكْثَرُ أَوْ أَقَلُّ ، وَسَقَطَتْ عَنْهُ حِصَةُ مَا لَمْ يَزْرَعْ : لِأَنَّهُ لَا صَلَاحَ لِلزَّرْعِ إِلَّا بِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ مَا قَدِ اسْتَأْجَرَهَا لَهُ مِنْ زَرْعٍ أَوْ غَرْسٍ أَوْ بِنَاءٍ ، فَإِنْ أَغْفَلَ ذِكْرَ مَا يَسْتَأْجِرُهَا لَهُ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ لِاخْتِلَافِهِ ، ثُمَّ لَا يَذْكُرُ ذَلِكَ بِلَفْظِ الشَّرْطِ بَلْ يَقُولُ : " لِتَزْرَعَ " فَإِنْ أَخْرَجَهَا مَخْرَجَ الشَّرْطِ ، فَقَالَ : " عَلَى أَنْ تَزْرَعَهَا " بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ : لِأَنَّهُ إِذَا جَعَلَهُ شَرْطًا لَزِمَهُ ، وَالْمُسْتَأْجِرُ لَا يَلْزَمُهُ اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ ، وَإِنَّمَا هُوَ إِذَا مُكِّنَ مِنْهَا مُخَيَّرٌ بَيْنَ اسْتِيفَائِهَا أَوْ تَرْكِهَا ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنِ اسْتَأْجَرَ دَارًا لِلسُّكْنَى كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ سُكْنَاهَا وَتَرْكِهَا ، فَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهِ سُكْنَاهَا فِي الْعَقْدِ فَقِيلَ فِيهِ : " عَلَى أَنْ يَسْكُنَهَا " بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ . فَإِذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا سَنَةً لِزَرْعِهَا غَلَّةَ شِتَاءٍ وَصَيْفٍ ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهَا وَقْتَ الْعَقْدِ مَاءٌ قَائِمٌ يُسْقِي بِهِ الزَّرْعَ مِنْ عَيْنٍ ، أَوْ نَهْرٍ ، أَوْ نِيلٍ ، أَوْ عَثَرِيٍّ ، وَهُوَ : الْمَاءُ الْمُجْتَمِعُ فِي أُصُولِ الْجِبَالِ ، أَوْ عَلَى رُؤُوسِهَا ، أَوْ غَيْلًا ، وَهُوَ : السَّيْحُ الْجَارِي ، سُمِّي سَيْحًا : لِأَنَّهُ يَسِيحُ فِي الْأَرْضِ ، أَوْ غَلَلًا وَهُوَ : الْمَاءُ بَيْنَ الشَّجَرِ . وَإِنَّمَا افْتَقَرَ عَقْدُ الْإِجَارَةِ عَلَيْهَا إِلَى وُجُودِ الْمَاءِ لِزَرْعِهَا : لِأَنَّ الزَّرْعَ لَا يَنْبُتُ فِي جَارِي الْعَادَةِ إِلَّا بِمَاءٍ يَسْقِيهِ ، فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ لَهَا مَاءٌ يُمْكِنُ مَعَهُ اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ مِنْهَا : لِأَنَّ عَلَى الْمُؤَجِّرِ تَمْكِينَ الْمُسْتَأْجِرِ مِنَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ فَبَطَلَتِ الْإِجَارَةُ ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ سَقَى زَرْعَهَ بَعْلًا ، أَوْ عِذْيًا ، وَالْبَعْلُ : مَا شَرِبَ بِعُرُوقِهِ ، وَالْعِذْيُ : مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ ، فَهِيَ كَالْأَرْضِ الَّتِي لَا مَاءَ لَهَا : لِأَنَّهُ غَيْرُ قَائِمٍ فِيهَا ، وَقَدْ يَكُونُ وَلَا يَكُونُ ، فَلَا يَصِحُّ إِجَارَتُهَا لِلزَّرْعِ . فَإِذَا اسْتَأْجَرَهَا وَلَهَا مَاءٌ قَائِمٌ فَزَرَعَهَا إِحْدَى الْغَلَّتَيْنِ ، ثُمَّ نَضَبَ الْمَاءُ ، أَوْ نَقَصَ ، أَوْ مَلَحَ وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ لِأَجْلِ ذَلِكَ زَرْعُ الْغَلَّةِ الثَّانِيَةِ نُظِرَ ، فَإِنْ تَوَصَّلَ الْمُؤَجِّرُ إِلَى إِعَادَةِ الْمَاءِ بِحَفْرِ نَهْرٍ ، أَوْ بِئْرٍ ، أَوِ اسْتِنْبَاضِ عَيْنٍ فَالْإِجَارَةُ بِحَالِهَا ، وَلَا خِيَارَ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِيهَا . وَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ إِعَادَةُ الْمَاءِ ، أَوْ أَمْكَنَهُ فَلَمْ يَفْعَلْ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ ، كَمَا لَا يُجْبَرُ عَلَى بِنَاءِ الدَّارِ إِذَا انْهَدَمَتْ ، وَلَا يُجْبَرُ الْبَائِعُ عَلَى مُدَاوَاةِ الْعَبْدِ الْمَبِيعِ إِذَا ظَهَرَ بِهِ مَرَضٌ . ثُمَّ لِلْمُسْتَأْجِرِ الْخِيَارُ مَعَ بَقَاءِ الْعَقْدِ بَيْنَ الْمُقَامِ عَلَيْهِ أَوِ الْفَسْخِ ، لِمَا حَدَثَ مِنَ النَّقْصِ بِتَعَذُّرِ التَّمْكِينِ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ بِانْقِطَاعِ الْمَاءِ عَنْهَا كَمَا لَوِ انْهَدَمَتِ الدَّارُ ، أَوْ مَاتَ الْعَبْدُ ، قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَرْضَ الْمُسْتَأْجَرَةَ بَاقِيَةٌ مَعَ انْقِطَاعِ الْمَاءِ عَنْهَا ، وَالدَّارُ تَالِفَةٌ بِانْهِدَامِهَا ، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ بِمَوْتِهِ ، فَلَمْ تَبْطُلِ الْإِجَارَةُ بِانْقِطَاعِ الْمَاءِ عَنِ الْأَرْضِ ، وَإِنْ بَطَلَتْ بِانْهِدَامِ الدَّارِ وَمَوْتِ الْعَبْدِ ، وَاسْتَحَقَّ الْمُسْتَأْجِرُ الْخِيَارَ لِلنَّقْصِ الدَّاخِلِ عَلَيْهِ ، فَإِنْ أَقَامَ فَعَلَيْهِ الْأُجْرَةُ الْمُسَمَّاةُ ، وَإِنْ فَسَخَ فَلَهُ فَسْخُ الْإِجَارَةِ فِيمَا بَقِيَ مِنَ الْمُدَّةِ ، وَفِي جَوَازِ فَسْخِهَا فِيمَا مَضَى وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَيْسَ لَهُ ذَاكَ : لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مُسْتَهْلِكًا لِمَا مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ بِاسْتِيفَائِهَا ، وَمَنِ اسْتَهْلَكَ مَعْقُودًا عَلَيْهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ خِيَارًا فِي فَسْخِهِ ، فَعَلَى هَذَا يُقِيمُ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الْأُجْرَةِ ، وَيَرْجِعُ لِبَاقِي الْمُدَّةِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الْأُجْرَةِ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ مَا مَضَى كَمَا كَانَ لَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ مَا بَقِيَ : لِأَنَّهَا صَفْقَةٌ فَلَمْ يَفْتَرِقْ حُكْمُهَا فِي الْخِيَارِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ فَسَخَ فِي الْجَمِيعِ رَجَعَ بِالْمُسَمَّى ، وَكَانَ عَلَيْهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ فِيمَا مَضَى ، وَإِنْ أَقَامَ عَلَى مَا مَضَى وَفَسَخَ فِيمَا بَقِيَ ، لَزِمَهُ مِنَ الْأُجْرَةِ بِقِسْطِ مَا مَضَى ، وَرَجَعَ مِنْهَا بِقِسْطِ مَا بَقِيَ ، وَقَدْ خَرَجَ قَوْلٌ آخَرُ : أَنَّهُ يُقِيمُ عَلَى مَا مَضَى بِكُلِّ الْأُجْرَةِ ، وَإِلَّا فَسَخَ وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ . فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ بِحِصَّةِ مَا بَقِيَ لَمْ يُقَسِّطْ ذَلِكَ عَلَى الْمُدَّةِ ، وَإِنَّمَا يُقَسِّطُ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ ، فَإِذَا كَانَ الْمَاضِي مِنَ الْمُدَّةِ نِصْفَهَا لَمْ يَرْجِعْ بِنِصْفِ الْأُجْرَةِ ، وَقِيلَ : كَمْ تُسَاوِي أُجْرَةُ مِثْلِ الْمُدَّةِ الْمَاضِيَةِ ؟ فَإِذَا قِيلَ : عِشْرُونَ دِينَارًا ، قِيلَ : وَكَمْ تُسَاوِي أُجْرَةُ مِثْلِ الْمُدَّةِ الْبَاقِيَةِ ؟ فَإِذَا قِيلَ : عَشَرَةُ دَنَانِيرَ ، رَجَعَ بِثُلُثِ الْأُجْرَةِ ، وَلَوْ كَانَ أُجْرَةُ مَا مَضَى عَشَرَةً وَأُجْرَةُ مَا بَقِيَ عِشْرِينَ ، رَجَعَ بِثُلُثَيِ الْأُجْرَةِ : لِأَنَّهُ قَدْ تَخْتَلِفُ أُجْرَةُ مِثْلِ الْمُدَّتَيْنِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَسِّطَ عَلَى أَعْدَادِهَا ، وَلَزِمَ أَنْ يُقَسِّطَ عَلَى أُجُورِ أَمْثَالِهَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَوْ تَكَارَاهَا سَنَةً فَزَرَعَهَا فَانْقَضَتِ السَّنَةُ ، وَالزَّرْعُ فِيهَا لَمْ يَبْلُغْ أَنْ يُحْصَدَ ؛ فَإِنْ كَانَتِ السَّنَةُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَزْرَعَ فِيهَا زَرْعَا يُحْصَدُ قَبْلَهَا ، فَالْكِرَاءُ جَائِزٌ وَلَيْسَ لِرَبِّ الزَّرْعِ أَنْ يُثَبِّتَ زَرْعَهُ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَنْقُلَهُ عَنِ الْأَرْضِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّ الْأَرْضِ تَرْكَهُ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : وَإِذَا شَرَطَ أَنْ يَزْرَعَهَا صِنْفًا مِنَ الزَّرْعِ يُسْتَحْصَدُ ، أَوْ يُسْتَقْصَلُ قَبْلَ السَّنَةِ فَأَخَّرَهُ إِلَى وَقْتٍ مِنَ السَّنَةِ وَانْقَضَتِ السَّنَةُ قَبْلَ بُلُوغِهِ فَكَذَلِكَ أَيْضًا ، وَإِنْ تَكَارَاهَا لِمُدَّةٍ أَقَلَّ مِنْ سَنَةٍ وَشَرَطَ أَنْ يَزْرَعَهَا شَيْئَا بِعَيْنِهِ وَيَتْرُكَهُ حَتَى يُسْتَحْصَدَ ، وَكَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُسْتَحْصَدَ فِي مِثْلِ الْمُدَّةِ الَّتِي تَكَارَاهَا ، فَالْكِرَاءُ فِيهِ فَاسِدٌ مِنْ قِبَلِ أَنِّي إِنْ أُثْبِتْ بَيْنَهُمَا شَرْطَهُمَا ، وَلَمْ أُثْبِتْ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ أَنْ يُبْقِيَ زَرْعَهُ فِيهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ أَبْطَلْتُ شَرْطَ الزَّارِعِ أَنْ يَتْرُكَهُ حَتَّى يُسْتَحْصَدَ ، وَإِنْ أُثْبِتْ لَهُ زَرْعَهُ حَتَّى يُسْتَحْصَدَ أَبْطَلْتُ شَرْطَ رَبِّ الْأَرْضِ ، فَكَانَ هَذَا كِرَاءً فَاسِدًا ، وَلِرَبِّ الْأَرْضِ كِرَاءُ مِثْلِ أَرْضِهِ إِذَا زَرَعَهُ ، وَعَلْيِهِ تَرْكُهُ حَتَّى يُسْتَحْصَدَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : أَنْ يَسْتَأْجِرَ الرَّجُلُ أَرْضًا مُدَّةً مَعْلُومَةً لِيَزْرَعَهَا زَرْعًا مَوْصُوفًا ، فَزَرَعَهَا ، ثُمَّ انْقَضَتِ الْمُدَّةُ قَبْلَ اسْتِحْصَادِ زَرْعِهَا ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُدَّةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ الزَّرْعَ يُسْتَحْصَدُ فِي مِثْلِهَا ، وَالثَّانِي : أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يُسْتَحْصَدُ فِي مِثْلِهَا ، وَالثَّالِثُ : أَنْ يَقَعَ الشَّكُّ فِيهِ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ بِجَارِي الْعَادَةِ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ الزَّرْعِ يُسْتَحْصَدُ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْمُدَّةِ فَانْقَضَتِ الْمُدَّةُ قَبْلَ اسْتِحْصَادِهِ ، فَلَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ تَأَخُّرُ اسْتِحْصَادِهِ لِعُدُولِهِ عَنِ الْجِنْسِ الَّذِي شَرَطَهُ إِلَى غَيْرِهِ ؛ مِثْلَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ خَمْسَةَ أَشْهُرٍ لِزَرْعِ الْبَاقِلَّا ، فَيَزْرَعُهَا بُرًّا ، فَتَنْقَضِي الْمُدَّةُ ، وَالزَّرْعُ غَيْرُ مُسْتَحْصَدٍ ، فَهَذَا يُؤْخَذُ بِقَلْعِ زَرْعِهِ قَبْلَ اسْتِحْصَادِهِ : لِأَنَّهُ بِعُدُولِهِ عَنِ الْبَاقِلَّا إِلَى الْبُرِّ يَصِيرُ مُتَعَدِّيًا فَلَمْ
يَسْتَحِقَّ اسْتِيفَاءَ زَرْعٍ تَعَدَّى فِيهِ ، فَإِنْ تَرَاضَى الْمُؤَجِّرُ وَالْمُسْتَأْجِرُ عَلَى تَرْكِهِ إِلَى أَوَانِ حَصَادِهِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ فِيمَا زَادَ عَلَى الْمُدَّةِ أَقَرَّ ، وَإِنْ رَضِيَ الْمُسْتَأْجِرُ وَأَبَى الْمُؤَجِّرُ ، أَوْ رَضِيَ الْمُؤَجِّرُ وَأَبَى الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ بَذْلِ أُجْرَةِ الْمِثْلِ قُلِعَ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ تَأْخِيرُ اسْتِحْصَادِهِ لِتَأْخِيرِ بَذْرِهِ مِنْ غَيْرِ عُدُولٍ عَنْ جِنْسِهِ ، فَهَذَا مُفَرِّطٌ ، وَيُؤْخَذُ بِقَلْعِ زَرْعِهِ قَبْلَ اسْتِحْصَادِهِ : لِأَنَّ تَفْرِيطَهُ لَا يُلْزِمُ غَيْرَهُ ، فَإِنْ بَذَلَ أُجْرَةَ مِثْلِ الْمُدَّةِ الزَّائِدَةِ وَرَضِيَ الْمُؤَجِّرُ بِقَبُولِهَا تُرِكَ ، وَإِلَّا قُلِعَ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ تَأْخِيرُ اسْتِحْصَادِهِ لِأَمْرٍ سَمَائِيٍّ مِنَ اسْتِدَامَةِ بَرْدٍ ، أَوْ تَأْخِيرِ مَطَرٍ ، أَوْ دَوَامِ ثَلْجٍ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُتْرَكُ إِلَى وَقْتِ اسْتِحْصَادِهِ : لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُسْتَأْجِرِ عُدْوَانٌ وَلَا تَفْرِيطٌ ، فَإِذَا تُرِكَ إِلَى وَقْتِ الْحَصَادِ ضَمِنَ الْمُسْتَأْجِرُ أُجْرَةً مِثْلَ الْمُدَّةِ الزَّائِدَةِ عَلَى عَقْدِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يُؤْخَذَ بِقَلْعِ زَرْعِهِ وَلَا يُتْرَكَ : لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِظْهَارِ لِنَفْسِهِ فِي اسْتِزَادَةِ الْمُدَّةِ خَوْفًا مِنْ حَادِثِ سَمَاءٍ ، فَلَمَّا لَمْ يَسْتَظْهِرْ صَارَ مُفْرِطًا .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ أَقْسَامِ الْأَصْلِ ، وَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ بِجَارِي الْعَادَةِ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ الزَّرْعِ لَا يُسْتَحْصَدُ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْمُدَّةِ ، مِثْلَ أَنْ يَسْتَأْجِرَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ لِزَرْعٍ مِنْ بُرٍّ ، أَوْ شَعِيرٍ ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَشْرُطَ قَلْعَهُ عِنْدَ تَقَضِّي الْمُدَّةِ ، فَهَذِهِ إِجَارَةٌ جَائِزَةٌ : لِأَنَّهُ قَدْ يُرِيدُ زَرْعَهُ قَصِيلًا ، وَلَا يُرِيدُهُ حَبًّا ، فَإِذَا انْقَضَتِ الْمُدَّةُ أُخِذَ بِقَلْعِ زَرْعِهِ وَقَطْعِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَشْرُطَ تَرْكَهُ إِلَى وَقْتِ حَصَادِهِ ، فَهَذِهِ إِجَارَةٌ فَاسِدَةٌ : لِأَنَّ اشْتِرَاطَ اسْتِيفَاءِ الزَّرْعِ بَعْدَ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ يُنَافِي مُوجِبَهَا ، فَبَطَلَتْ ثُمَّ لِلزَّارِعِ اسْتِيفَاءُ زَرْعِهِ إِلَى وَقْتِ حَصَادٍ ، وَإِنْ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ ، فَلَا يُؤْخَذُ بِقَلْعِ زَرْعٍ : لِأَنَّهُ زَرَعَ عَنْ إِذْنٍ اشْتَرَطَ فِيهِ التَّرْكَ ، وَعَلَيْهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي اسْتِيفَاءِ الزَّرْعِ مَعَ فَسَادِ الْإِجَارَةِ ، وَبَيْنَ أَنْ يُؤْخَذَ بِقَلْعِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَقْسَامِ مَعَ صِحَّةِ الْإِجَارَةِ : أَنَّ الْإِجَارَةَ إِذَا بَطَلَتْ رُوعِيَ الْإِذْنُ دُونَ الْمُدَّةِ ، وَإِذَا صَحَّتْ رُوعِيَتِ الْمُدَّةُ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ : أَنْ يُطْلِقَ الْعَقْدَ ، فَلَا يَشْتَرِطُ فِيهِ قَلْعًا وَلَا تَرْكًا ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا : هَلْ إِطْلَاقُهُ يَقْتَضِي الْقَلْعَ أَوِ التَّرْكَ ، عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ يَقْتَضِي الْقَلْعَ اعْتِبَارًا بِمُوجِبِ الْعَقْدِ ، فَعَلَى هَذَا الْإِجَارَةُ صَحِيحَةٌ ، وَيُؤْخَذُ الْمُسْتَأْجِرُ بِقَلْعِ زَرْعِهِ عِنْدَ تَقَضِّي الْمُدَّةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْإِطْلَاقَ يَقْتَضِي التَّرْكَ إِلَى أَوَانِ الْحَصَادِ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ فِيهِ ، كَمَا أَنَّ مَا لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ مِنَ الثِّمَارِ يَقْتَضِي إِطْلَاقَ بَيْعِهِ لِلتَّرْكِ إِلَى وَقْتِ الصِّرَامِ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ فِيهِ ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ ، وَيَكُونُ لِلْمُسْتَأْجِرِ تَرْكُ زَرْعِهِ إِلَى وَقْتِ حَصَادِهِ ، وَعَلَيْهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ كَمَا لَوْ شَرَطَ التَّرْكَ .
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنْ أَقْسَامِ الْأَصْلِ : وَهُوَ أَنْ يَقَعَ الشَّكُّ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ ، هَلْ يُسْتَحْصَدُ الزَّرْعُ فِيهَا كَأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهَا خَمْسَةَ أَشْهُرٍ لِزَرْعِ الْبُرِّ أَوِ الشَّعِيرِ ، فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَحْصَدَ الزَّرْعُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ وَبَعْضِ السِّنِينَ ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يُسْتَحْصَدَ ، فَيَكُونُ حُكْمُ هَذَا الْقِسْمِ حُكْمَ مَا عُلِمَ أَنَّهُ يُسْتَحْصَدُ فِيهِ ، وَيَكُونُ حُكْمُ هَذَا الْقِسْمِ حُكْمَ مَا عُلِمَ أَنَّهُ لَا يُسْتَحْصَدُ فِيهِ عَلَى مَا مَضَى إِسْقَاطًا لِلشَّكِّ وَاعْتِبَارًا بِالْيَقِينِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَإِذَا تَكَارَى الْأَرْضَ الَّتِي لَا مَاءَ لَهَا إِنَّمَا يُسْقَى بِنُطَفِ سَمَاءٍ ، أَوْ بِسَيْلٍ إِنْ جَاءَ ، فَلَا يَصِحُّ كِرَاؤُهَا إِلَّا عَلَى أَنْ يُكْرِيَهُ إِيَّاهَا أَرْضًا بَيْضَاءَ لَا مَاءَ لَهَا يَصْنَعُ بِهَا الْمُسْتَكْرِي مَا شَاءَ فِي سَنَتِهِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَبْنِي وَلَا يَغْرِسُ ؛ فَإِذَا وَقَعَ عَلَى هَذَا صَحَّ الْكِرَاءُ وَلَزِمَهُ زَرَعَ أَوْ لَمْ يَزْرَعْ ؛ فَإِنْ أَكْرَاهُ إِيَّاهَا عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا ، وَلَمْ يَقُلْ : أَرْضًا بَيْضَاءَ لَا مَاءَ لَهَا وَهُمَا يَعْلَمَانِ أَنَّهَا لَا تُزْرَعُ إِلَّا بِمَطَرٍ أَوْ سَيْلٍ يَحْدُثُ ، فَالْكِرَاءُ فَاسِدٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ إِجَارَةَ الْأَرْضِ لِلزَّرْعِ لَا تَجُوزُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهَا مَاءٌ قَائِمٌ يَغْتَذِي بِهِ الزَّرْعُ ، فَإِذَا كَانَتِ الْأَرْضُ بَيْضَاءَ لَا مَاءَ لَهَا ، وَإِنَّمَا تُسْقَى بِمَا يَحْدُثُ مِنْ نُطَفِ سَمَاءٍ مِنْ مَطَرٍ ، أَوْ طَلٍّ ، أَوْ بِحُدُوثِ سَيْلٍ مِنْ زِيَادَةِ وَادٍ أَو نَهْرٍ ، فَلَا تَصِحُّ إِجَارَتُهَا لِلزَّرْعِ إِلَّا أَنْ يَقُولَ : أُجَّرْتُهَا عَلَى أَنَّهَا أَرْضٌ بَيْضَاءُ لَا مَاءَ لَهَا لِتَصْنَعَ بِهَا مَا شِئْتَ عَلَى أَنْ لَا تَبْنِيَ ، وَلَا تَغْرِسَ : لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَشْرُطْ هَذَا - وَقَدِ اسْتَأْجَرَهَا لِلزَّرْعِ - تَوَهَّمَ الْمُسْتَأْجِرُ أَنَّ الْمُؤَجِّرَ مُلْتَزِمٌ بِحَفْرِ بِئْرٍ أَوْ نَهْرٍ لِمَا عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقِ التَّمْكِينِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ لَهُ فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ شَرْطٍ يَنْفِي هَذَا التَّوَهُّمَ ، وَيُزِيلُ هَذَا الِاحْتِمَالَ ، وَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الْعَقْدِ في إجارة الأرض البيضاء التى لاماء لها مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُشْتَرَطَ أَنْ لَا مَاءَ لَهَا ، فَالْإِجَارَةُ صَحِيحَةٌ عَلَى مَا وَصَفْنَا وَلِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَزْرَعَهَا وَلَا يَغْرِسَهَا ، وَيَحْفِرَ فِيهَا لِلزَّرْعِ بِئْرًا إِنْ شَاءَ ، وَعَلَيْهِ طَمُّهَا عِنْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يُشْتَرَطَ أَنَّ لَهَا مَاءً ، وَهُوَ مَا يَحْدُثُ مِنْ سَيْلٍ ، أَوْ مَطَرٍ فَالْإِجَارَةُ بَاطِلَةٌ : لِأَنَّ السَّيْلَ وَالْمَطَرَ قَدْ يَحْدُثُ ، وَقَدْ لَا يَحْدُثُ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يُطْلِقَ الْعَقْدَ ، فَلَا يَشْرُطُ أَنَّهَا بَيْضَاءُ لَا مَاءَ لَهَا ، وَلَا يَشْرُطُ أَنَّ لَهَا مَاءً يَحْدُثُ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْأَرْضِ مِنْ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ رَخْوَةً يُمْكِنُ حَفْرُ بِئْرٍ فِيهَا ، أَوْ شُقُّ نَهْرٍ إِلَيْهَا ، فَالْإِجَارَةُ بَاطِلَةٌ لِمَا فِيهَا مِنَ احْتِمَالِ الْتِزَامِ الْمُؤَجِّرِ لِذَلِكَ . وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ صُلْبَةً لَا يُمْكِنُ حَفْرُ بِئْرٍ فِيهَا ، وَلَا شِقُّ نَهْرٍ إِلَيْهَا كَأَرَاضِي الْجِبَالِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ اخْتِيَارُهُ أَنَّ إِجَارَتَهَا مَعَ عَدَمِ الشَّرْطِ وَإِطْلَاقِ الْعَقْدِ جَائِزَةٌ : لِأَنَّ اسْتِحَالَةَ ذَلِكَ فِيهَا يُغْنِي عَنِ الشَّرْطِ ، وَيَقُومُ مَقَامَهُ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ إِجَارَتَهَا مَعَ الْإِطْلَاقِ بَاطِلَةٌ مَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِهَا شَرْطٌ : لِأَنَّهُ مَعَ اسْتِحَالَةِ حَفْرِهَا قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَنْصَرِفَ إِلَى زَرْعِهَا بِمَا يَحْدُثُ مِنْ سَيْلٍ أَوْ سَمَاءٍ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَوْ كَانَتِ الْأَرْضُ ذَاتَ نَهْرٍ مِثْلِ النِّيلِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يَعْلُو الْأَرْضَ عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا زَرْعًا لَا يَصْلُحُ إِلَّا بِأَنْ يُرْوَى بِالنِّيلِ لَا بِئْرَ لَهَا ، وَلَا مَشْرَبَ غَيْرُهُ فَالْكِرَاءُ فَاسِدٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي أَرْضٍ عَلَى نَهْرٍ يَعْلُو عَلَى مَاءِ الْبِئْرِ ، فَلَا يَقْدِرُ عَلَى سَقْيِهَا إِلَّا بِأَنْ يَزِيدَ مَاءُ ذَلِكَ النَّهْرِ حَتَّى يَعْلُوَ فَيَسْقُطَ فما حكم إجارتها كَأَرْضِ النِّيلِ ، وَالْفُرَاتِ ، وَمَا انْحَدَرَ مِنْ أَرْضِ دِجْلَةَ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُؤَجِّرَهَا عِنْدَ زِيَادَةِ الْمَاءِ وَعُلُوِّهِ ، وَإِمْكَانِ سَقْيِ الْأَرْضِ بِهِ ، فَالْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ لِوُجُودِ الْمَاءِ وَإِمْكَانِ الزَّرْعِ ، وَلَيْسَ مَا يُخَافُ مِنْ صُدُورِ نُقْصَانِهِ بِمَانِعٍ مِنْ صِحَّةِ الْإِجَارَةِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَا يُظَنُّ مِنْ حُدُوثِ الْأَسْبَابِ الْمُفْسِدَةِ لِلْعَقْدِ لَا يَمْنَعُ فِي الْحَالِ مِنْ صِحَّتِهِ ، كَمَوْتِ الْعَبْدِ ، وَانْهِدَامِ الدَّارِ . وَالثَّانِي : أَنَّ حُدُوثَ النُّقْصَانِ إِنَّمَا يَكُونُ عُرْفًا بَعْدَ اكْتِفَاءِ الْأَرْضِ وَارْتِوَاءِ الزَّرْعِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْثِيرٌ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يُؤَجِّرَهَا عِنْدَ نُقْصَانِ الْمَاءِ وَقَبْلَ زِيَادَتِهِ ؛ فَالْإِجَارَةُ بَاطِلَةٌ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ زَرْعَهَا بَعْدَ الْعَقْدِ غَيْرُ مُمْكِنٍ ، فَصَارَ اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ مُتَعَذِّرًا . وَالثَّانِي : أَنَّ حُدُوثَ الزِّيَادَةِ مَظْنُونٌ قَدْ يَحْدُثُ وَلَا يَحْدُثُ ، وَقَدْ يَحْدُثُ مِنْهَا مَا يَكْفِي وَمَا لَا يَكْفِي ، فَلِهَذَيْنِ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا أَرْضُ الْبَصْرَةِ ذَاتُ الْمَدِّ وَالْجَزْرِ حكم إجارتها ، فَإِجَارَتُهَا لِلزَّرْعِ جَائِزَةٌ فِي وَقْتِ الْمَدِّ وَالْجَزْرِ : لِأَنَّهُ مُعْتَادٌ لَا يَتَغَيَّرُ الْمَدُّ عَنْ وَقْتِهِ وَلَا الْجَزْرُ عَنْ وَقْتِهِ عَلَى حَسَبِ أَيَّامِ الشُّهُورِ وَأَحْوَالِ الْقَمَرِ لَا تَخْتَلِفُ عَادَتُهُ ، وَلَا يَخْتَلِفُ وَقْتُهُ .
فَصْلٌ : فَإِذَا كَانَتْ أَرْضٌ مَنْ أُرَاضِي الْجِبَالِ قَدِ اسْتَقَرَّتْ فِيهَا نَدَاوَةُ الْمَطَرِ حَتَّى يُمْكِنَ زَرْعُهَا بِهِ مِنْ غَيْرِ مَطَرٍ يَأْتِي ، وَلَا سَيْلٍ يَحْدُثُ فهل يجوز تأجيرها ، جَازَ أَنْ تُؤَاجَرَ لِلزَّرْعِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَاءٌ مُشَاهَدٌ : لِأَنَّ زَرْعَهَا عَلَى حَالِهَا هَذِهِ مُمْكِنٌ ، فَصَارَتْ كَالْأَرْضِ ذَاتِ الْمَاءِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَإِذَا تَكَارَاهَا ، وَالْمَاءُ قَائِمٌ عَلَيْهَا ، وَقَدْ يَنْحَسِرُ لَا مَحَالَةَ فِي وَقْتٍ يُمْكِنُ فِيهِ الزَّرْعُ ، فَالْكِرَاءُ جَائِزٌ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَنْحَسِرُ وَلَا يَنْحَسِرُ كَرِهْتُ الْكِرَاءَ إِلَّا بَعْدَ انْحِسَارِهِ " .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي أَرْضٍ دَخَلَهَا الْمَاءُ حَتَّى عَلَا عَلَيْهَا ، وَأَقَامَ فِيهَا فَاسْتُؤْجِرَتْ لِلزَّرْعِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ كَثِيرًا يَمْنَعُ مِنْ مُشَاهَدَتِهَا لِكَدَرِهِ وَكَثْرَتِهِ ، وَلَمْ تَتَقَدَّمْ رُؤْيَةُ الْمُسْتَأْجِرِ لَهَا قَبْلَ عُلُوِّهِ ، فَالْإِجَارَةُ بَاطِلَةٌ لِلْجَهْلِ بِحَالِ مَا تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ صَافِيًا لَا يَمْنَعُ مِنْ مُشَاهَدَتِهَا ، أَوْ يَكُونَ قَدْ تَقَدَّمَ رُؤْيَةُ الْمُسْتَأْجِرِ لَهَا قَبْلَ عُلُوِّ الْمَاءِ عَلَيْهَا ، وَإِنْ كَانَ مَانِعًا مِنْ مُشَاهَدَتِهَا فَهُمَا فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَسْتَأْجِرَهَا لِمَا يُمْكِنُ زَرْعُهُ مَعَ بَقَاءِ الْمَاءِ عَلَيْهَا كَالْأُرْزِ فَالْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يُمْكِنَ زَرْعُهُ مَعَ بَقَاءِ الْمَاءِ عَلَيْهِ كَالْحِنْطَةِ ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَعْلَمَ بِجَارِي الْعَادَةِ أَنَّ الْمَاءَ لَا يَنْحَسِرُ عَنْهَا قَبْلَ وَقْتِ الزِّرَاعَةِ فَالْإِجَارَةُ بَاطِلَةٌ : لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ مَا اسْتُؤْجِرَتْ لَهُ مُتَعَذَّرٌ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَشُكَّ فِي انْحِسَارِ الْمَاءِ عَنْهَا قَبْلَ وَقْتِ الزِّرَاعَةِ فَالْإِجَارَةُ بَاطِلَةٌ ؛ إِسْقَاطًا لِلشَّكِّ وَاعْتِبَارًا بِالْيَقِينِ فِي بَقَاءِ الْمَاءِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْمَاءَ يَنْحَسِرُ عَنْهَا يَقِينًا قَبْلَ وَقْتِ الزِّرَاعَةِ ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ : لِأَنَّ لَهَا مَغِيضًا يُمْكِنُ إِذَا فُتِحَ الْمَاءُ أَنْ يَغِيضَ فِيهِ ، فَالْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ لِلْقُدْرَةِ عَلَى إِرْسَالِ مَائِهَا ، وَالْمُكْنَةِ مِنْ زِرَاعَتِهَا ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِلْعَادَةِ الْجَارِيَةِ فِيهَا فَإِنَّهَا تَشْرَبُ مَاءَهَا ، وَتُنَشِّفُهُ الْأَرْضُ وَالرِّيَاحُ عُرْفًا قَائِمًا فِيهَا ، وَعَادَةً جَارِيَةً لَا يُخْتَلَفُ فِيهَا ، فَفِي صِحَّةِ إِجَارَتِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ، وَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْإِجَارَةَ جَائِزَةٌ لِمَا اسْتَقَرَّ مِنَ الْعُرْفِ فِيهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : حَكَاهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّ الْإِجَارَةَ بَاطِلَةٌ : لِأَنَّ زَرْعَهَا فِي الْحَالِ غَيْرُ مُمْكِنٍ ، وَارْتِقَاءَ الْمَاءِ عَلَيْهَا يَقِينٌ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَإِنْ غَرَّقَهَا بَعْدَ أَنْ صَحَّ كِرَاؤُهَا نِيلٌ ، أَوْ سَيْلٌ ، أَوْ شَيْءٌ يُذْهِبُ الْأَرْضَ ، أَوْ غُصِبَتِ انْتَقَضَ الْكِرَاءُ بَيْنَهُمَا مِنْ يَوْمِ تَلِفَتِ الْأَرْضُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي أَرْضٍ اسْتُؤْجِرَتْ لِلزَّرْعِ فَغَرِقَتْ ، أَوْ غُصِبَتْ حكم إجارتها ، فَلَا يَخْلُو حَالُ غَرَقِهَا أَوْ غَصْبِهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ زَمَانًا يَسِيرًا كَالثَّلَاثِ فَمَا دُونَ ، فَالْإِجَارَةُ صَحِيحَةٌ لَا تَبْطُلُ بِمَا حَدَثَ مِنْ غَرَقِهَا أَوْ غَصْبِهَا ، فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ الْيَسِيرَةِ ، لَكِنَّهُ عَيْبٌ قَدْ طَرَأَ ، وَالْمُسْتَأْجِرُ لِأَجْلِهِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْمُقَامِ أَوِ الْفَسْخِ ، وَإِنْ كَانَ الزَّمَانُ كَثِيرًا ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ فِي ابْتِدَاءِ الْمُدَّةِ مِنْ حِينِ الْإِجَارَةِ ، فَقَدْ بَطَلَتْ لِلْحَائِلِ بَيْنَ
الْمُسْتَأْجِرِ وَمَا اسْتَأْجَرَهُ ، كَمَا لَوْ مَاتَ الْعَبْدُ ، أَوِ انْهَدَمَتِ الدَّارُ ، ثُمَّ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَرْجِعَ بِالْأُجْرَةِ كُلِّهَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ بَعْدَ مُضِيِّ بَعْضِ الْمُدَّةِ ، كَأَنَّهُ مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ نِصْفُهَا ، وَبَقِيَ نِصْفُهَا ، فَالْإِجَارَةُ فِيمَا بَقِيَ مِنْهَا بَاطِلَةٌ ، ثُمَّ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَوَازُهَا فِيمَا مَضَى ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خَرَّجَ قَوْلًا ثَانِيًا : أَنَّهَا بَاطِلَةٌ فِيمَا مَضَى لِبُطْلَانِهَا فِيمَا بَقِيَ ؛ جَمْعًا لِلصَّفْقَةِ وَمَنْعًا مِنْ تَفْرِيقِهَا فِي الْحُكْمِ ، وَهُوَ تَخْرِيجٌ فَاسِدٌ ، لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ تَعْلِيلِ فَسَادِهِ . فَإِذَا قِيلَ بِهَذَا التَّخْرِيجِ فِي بُطْلَانِ مَا مَضَى ، وَمَا بَقِيَ رَجَعَ الْمُسْتَأْجِرُ بِجَمِيعِ الْمُسَمَّى ، وَرَجَعَ الْمُؤَجِّرُ بِأُجْرَةِ مِثْلِ مَا مَضَى ، وَإِذَا قِيلَ بِصِحَّتِهَا فِيمَا مَضَى وَأَنْ تَبْطُلَ فِيمَا بَقِيَ ، فَالْمَذْهَبُ لُزُومُهُ وَسُقُوطُ خِيَارِ الْمُسْتَأْجِرِ فِيهِ ، فَعَلَى هَذَا يُقِيمُ عَلَيْهِ بِقِسْطِهِ مِنَ الْأُجْرَةِ ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّ لَهُ فِيهِ الْخِيَارَ لِمَا حَدَثَ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ بَيْنَ الْمُقَامِ أَوِ الْفَسْخِ . فَإِنْ فَسَخَ الْتَزَمَ أُجْرَةَ مِثْلِ مَا مَضَى وَرَجَعَ بِالْمُسَمَّى ، وَإِنْ أَقَامَ فَأَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ يُقِيمُ بِقِسْطِهِ مِنَ الْأُجْرَةِ ، وَالثَّانِي - وَهُوَ مُخَرَّجٌ - : أَنَّهُ يُقِيمُ بِكُلِّ الْأُجْرَةِ ، وَإِلَّا فَسَخَ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " فَإِنْ تَلِفَ بَعْضُهَا وَبَقِيَ بَعْضٌ ، وَلَمْ يَزْرَعْ فَرَبُّ الزِّرْعِ بِالْخِيَارِ ؛ إِنْ شَاءَ أَخَذَ مَا بَقِيَ بِحِصَّتِهِ مِنَ الْكِرَاءِ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا : لِأَنَّ الْأَرْضَ لَمْ تُسَلَّمْ لَهُ كُلُّهَا ، وَإِنْ كَانَ زَرَعَ بَطَلَ عَنْهُ مَا تَلِفَ وَلَزِمَهُ حِصَّةُ مَا زَرَعَ مِنَ الْكِرَاءِ ، وَكَذَا إِذَا جَمَعَتِ الصَّفْقَةُ مِائَةَ صَاعٍ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ فَتَلِفَ خَمْسُونَ صَاعًا ، فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ فِي أَنْ يَأْخُذَ الْخَمْسِينَ بِحِصَّتِهَا مِنَ الثَّمَنِ ، أَوْ يَرُدَّ الْبَيْعَ : لِأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ كُلَّ مَا اشْتَرَى ، وَكَذَلِكَ لَوِ اكْتَرَى دَارًا فَانْهَدَمَ بَعْضُهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ مِنْهَا مَا بَقِيَ بِحِصَّتِهِ مِنَ الْكِرَاءِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَا يَتَبَعَّضُ مِنْ عَبْدٍ اشْتَرَاهُ فَلَمْ يَقْبِضْهُ حَتَّى حَدَثَ بِهِ عَيْبٌ ، فَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ أَخْذِهِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ أَوْ رَدِّهِ : لِأَنَّهُ لَمْ يَسْلَمْ لَهُ مَا هُوَ غَيْرُ مَعِيبٍ ، وَالْمَسْكَنُ يَتَبَعَّضُ مِنَ الْمَسْكَنِ مِنَ الدَّارِ وَالْأَرْضِ كَذَلِكَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا فَغَرَّقَ السَّيْلُ بَعْضَهَا وَبَقِيَ بَعْضُهَا فما حكم إجارتها ، فَالْإِجَارَةُ فِي الَّذِي غَرِقَ مِنْهَا بَاطِلَةٌ ، ثُمَّ الْمَذْهَبُ أَنَّهَا فِي الْبَاقِي مِنْهَا جَائِزَةٌ ، وَهُوَ بِالْخِيَارِ فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ فِيهِ ، أَوْ أَخْذِهِ بِقِسْطِهِ مِنَ الْأُجْرَةِ لِتَقْسِيطِ الْأُجْرَةِ عَلَى أَجْزَاءِ الْأَرْضِ ؛ كَتَقْسِيطِ ثَمَنِ الصُّبْرَةِ عَلَى أَجْزَاءِ الصُّبْرَةِ ، وَلَيْسَ كَالْعَبْدِ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ يَدُهُ لَمْ يَتَقَسَّطْ عَلَيْهِ الثَّمَنُ ، كَانَ ذَلِكَ عَيْبًا يُوجِبُ خِيَارَ الْمُشْتَرِي فِي أَخْذِهِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ ، أَوْ فَسْخِ الْبَيْعِ فِيهِ ، وَقَدْ خَرَّجَ قَوْلَ أَنَّ الْإِجَارَةَ بَاطِلَةٌ فِيمَا بَقِيَ لِبُطْلَانِهَا فِيمَا غَرِقَ ، وَيَمْنَعُ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ زَرْعِ الْبَاقِي ، فَإِنْ زَرَعَهُ ضَمِنَ أُجْرَةَ مِثْلِهِ دُونَ الْمُسَمَّى وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَإِنْ مَرَّ بِالْأَرْضِ مَاءٌ فَأَفْسَدَ زَرْعَهُ ، أَوْ أَصَابَهُ حَرِيقٌ ، أَوْ جَرَادٌ ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ ؛ فَهَذَا كُلُّهُ جَائِحَةٌ عَلَى الزَّرْعِ لَا عَلَى الْأَرْضِ ، كَمَا لَوِ اكْتَرَى مِنْهُ دَارًا لِلْبَزِّ فَاحْتَرَقَ الْبَزُّ " .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ أَرْضًا ، فَزَرَعَهَا ، ثُمَّ هَلَكَ الزَّرْعُ بِزِيَادَةِ مَاءٍ ، أَوْ لِشِدَّةِ بَرْدٍّ ، أَوْ دَوَامِ ثَلْجٍ ، أَوْ أَكْلِ جَرَادٍ ، فَالْإِجَارَةُ بِحَالِهَا ، وَلَا خِيَارَ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِيهَا : لِأَنَّ الْأَرْضَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهَا سَلِيمَةٌ يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ مَنَافِعِهَا ، وَإِنَّمَا حَدَثَتِ الْجَائِحَةُ فِي مَالِ الْمُسْتَأْجِرِ لَا فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ ، كَمَا لَوْ أَجَّرَهُ دُكَّانًا لِلْبَزِّ ، فَاحْتَرَقَ الْبَزُّ لَمْ تَبْطُلِ الْإِجَارَةُ لِسَلَامَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، وَلَوِ احْتَرَقَ الدُّكَّانُ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ لِتَلَفِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَوِ اكْتَرَاهَا لِيَزْرَعَهَا قَمْحًا ، فَلَهُ أَنْ يَزْرَعَهَا مَا لَا يَضُرُّ بِالْأَرْضِ إِلَّا إِضْرَارَ الْقَمْحِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِيَزْرَعَهَا حِنْطَةً فهل يزرعها غير الحنطة ؟ ، فَلَهُ أَنْ يَزْرَعَ الْحِنْطَةَ وَغَيْرَ الْحِنْطَةِ ؛ مِمَّا يَكُونُ ضَرَرُهُ مِثْلَ ضَرَرِ الْحِنْطَةِ أَوْ أَقَلَّ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَزْرَعَهَا مَا ضَرَرُهُ أَكْثَرَ مِنْ ضَرَرِ الْحِنْطَةِ ، وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ : " لَا يَجُوزُ إِذَا اسْتَأْجَرَهَا لِزَرْعِ الْحِنْطَةِ أَنْ يَزْرَعَهَا غَيْرَ الْحِنْطَةِ ، وَإِنْ كَانَ ضَرَرُهُ أَقَلَّ مِنْ ضَرَرِ الْحِنْطَةِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [ الْمَائِدَةِ : 1 ] ، فَلَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ عَمَّا تَضَمَّنَهُ الْعَقْدُ ، قَالَ : وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ إِذَا اشْتَرَى بِدَرَاهِمَ بِأَعْيَانِهَا أَنْ يَدْفَعَ غَيْرَهَا مِنَ الدَّرَاهِمِ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَهَا لِمَا فِيهِ مِنَ الْعُدُولِ عَمَّا اقْتَضَاهُ الْعَقْدُ ، كَذَلِكَ فِي إِجَارَةِ الْأَرْضِ لِزَرْعِ الْحِنْطَةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْدِلَ فِيهَا عَنْ زَرْعِ الْحِنْطَةِ . وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّ ذِكْرَ الْحِنْطَةِ فِي إِجَارَةِ الْأَرْضِ إِنَّمَا هُوَ لِتَقْدِيرِ الْمَنْفَعَةِ بِهِ لَا لِتَعْيِينِ اسْتِيفَائِهِ ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ تَسَلَّمَ الْأَرْضَ ، وَلَمْ يَزْرَعْهَا لَزِمَتْهُ الْأُجْرَةُ : لَأَنَّ مَا تَقَدَّرَتْ بِهِ الْمَنْفَعَةُ الْمُسْتَحَقَّةُ قَدْ كَانَ مُمْكِنًا مِنَ اسْتِيفَائِهِ ، وَلَوْ تَعَيَّنَ الِاسْتِيفَاءُ بِالْعَقْدِ مَا لَزِمَتْهُ الْأُجْرَةُ . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ ذِكْرَ الْحِنْطَةِ لِتَقْدِيرِ الْمَنْفَعَةِ ، فَهُوَ إِذَا اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ بِمَا تَقَدَّرَتْ بِهِ فِي الْعَقْدِ وَبِغَيْرِهِ جَازَ ، كَمَا لَوِ اسْتَأْجَرَ لِحَمْلِ قَفِيزٍ مِنْ حِنْطَةٍ فَحَمَلَ قَفِيزًا غَيْرَهُ ، وَكَمَا لَوِ اسْتَأْجَرَهَا لِيَزْرَعَ حِنْطَةً بِعَيْنِهَا فَزَرَعَ غَيْرَهَا ، وَلِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ يَتَضَمَّنُ أُجْرَةً يَمْلِكُهَا الْمُؤَجِّرُ وَمَنْفَعَةً يَمْلِكُهَا الْمُسْتَأْجِرُ ، فَلَمَّا جَازَ لِلْمُؤَجِّرِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ مِنَ الْأُجْرَةِ كَيْفَ شَاءَ بِنَفْسِهِ وَبِوَكِيلِهِ وَبِمَنْ يُحِيلُهُ ، جَازَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ مِنَ الْمَنْفَعَةِ كَيْفَ شَاءَ بِزَرْعِ الْحِنْطَةِ وَغَيْرِ الْحِنْطَةِ ، وَبِإِعَارَتِهَا لِمَنْ يَزْرَعُهَا وَبِتَرْكِهَا وَتَعْطِيلِهَا . فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [ الْمَائِدَةِ : 1 ] ، فَمِثْلُ الْحِنْطَةِ مِمَّا تَضَمَّنَهُ الْعَقْدُ بِمَا دَلَّلْنَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ تَعْيِينِ الْأَثْمَانِ بِالْعَقْدِ فَكَذَا فِي الْإِجَارَةِ ، فَهُوَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي التَّعْيِينِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ : لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ تَتَعَيَّنُ بِالْعَقْدِ حَتَّى لَا يَجُوزَ الْعُدُولُ إِلَى جِنْسِهَا ، وَالْحِنْطَةُ لَا تَتَعَيَّنُ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي تَعْيِينِ جِنْسِهَا ، أَلَا تَرَاهُ لَوِ اسْتَأْجَرَهَا لِزَرْعِ حِنْطَةٍ بِعَيْنِهَا جَازَ لَهُ الْعُقُودُ إِلَى غَيْرِهَا مِنَ الْحِنْطَةِ ، فَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَعْدِلَ إِلَى غَيْرِ الْحِنْطَةِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا لَمْ يَخْلُ حَالُ مَنِ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِزَرْعِ الْحِنْطَةِ وحكم كل حالة مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَسْتَأْجِرَهَا لِزَرْعِ الْحِنْطَةِ ، وَمَا أَشْبَهَهَا فَيَجُوزُ لَهُ - بِوِفَاقِ دَاوُدَ - أَنْ يَزْرَعَهَا الْحِنْطَةَ وَغَيْرَ الْحِنْطَةِ ؛ مِمَّا يَكُونُ ضَرَرُهُ مِثْلَ ضَرَرِ الْحِنْطَةِ أَوْ أَقَلَّ ، إِلَّا أَنَّ دَاوُدَ يُجِيزُهُ بِالشَّرْطِ ، وَنَحْنُ نُجِيزُهُ بِالْعَقْدِ ، وَالشَّرْطُ تَأْكِيدٌ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَسْتَأْجِرَهَا لِزَرْعِ الْحِنْطَةِ ، وَيُغْفِلَ ذِكْرَ مَا سِوَى الْحِنْطَةِ ، فَهَذَا الْقِسْمُ الَّذِي خَالَفَ فِيهِ دَاوُدُ ، فَمَنَعَهُ مِنْ زَرْعِ غَيْرِ الْحِنْطَةِ ، وَيَجُوزُ لَهُ عِنْدَنَا أَنْ يَزْرَعَهَا غَيْرَ الْحِنْطَةِ مِمَّا ضَرَرُهُ كَضَرَرِ الْحِنْطَةِ أَوْ أَقَلُّ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَسْتَأْجِرَهَا لِزَرْعِ الْحِنْطَةِ عَلَى أَنْ لَا يَزْرَعَ مَا سِوَاهَا ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ حَكَاهَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْإِجَارَةَ بَاطِلَةٌ : لِأَنَّهُ شَرَطَ فِيهَا مَا يُنَافِي مُوجِبَهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْإِجَارَةَ جَائِزَةٌ ، وَالشَّرْطَ بَاطِلٌ ، وَلَهُ أَنْ يَزْرَعَهَا الْحِنْطَةَ وَغَيْرَ الْحِنْطَةِ : لِأَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي حَقِّ الْمُؤَجِّرِ فَأُلْغِيَ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْإِجَارَةَ جَائِزَةٌ ، وَالشَّرْطَ لَازِمٌ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَزْرَعَهَا غَيْرَ الْحِنْطَةِ : لِأَنَّ مَنَافِعَ الْإِجَارَةِ إِنَّمَا تُمْلَكُ بِالْعَقْدِ عَلَى مَا سُمِّيَ فِيهِ ، أَلَا تَرَاهُ لَوِ اسْتَأْجَرَهَا لِلزَّرْعِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْغَرْسُ ، فَكَذَلِكَ إِذَا اسْتَأْجَرَهَا لِنَوْعٍ مِنَ الزَّرْعِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَإِنْ كَانَ يَضُرُّ بِهَا مِثْلَ عُرُوقٍ تَبْقَى فِيهَا فَلَيْسَ ذَلِكَ ، فَإِنْ فَعَلَ فَهُوَ مُتَعَدٍّ وَرَبُّ الْأَرْضِ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَخَذَ الْكِرَاءَ ، وَمَا نَقَصَتِ الْأَرْضُ عَمَّا يُنْقِصُهَا زَرْعُ الْقَمْحِ ، أَوْ يَأْخُذُ مِنْهُ كِرَاءَ مِثْلِهَا ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - تُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ أَوْلَى : لِأَنَّهُ أَخَذَ مَا اكْتَرَى وَزَادَ عَلَى الْمُكْرِي ضَرَرًا كَرَجُلٍ اكْتَرَى مَنْزِلًا يُدْخِلُ فِيهِ مَا يَحْمِلُ سَقْفُهُ ، فَحَمَلَ فِيهِ أَكْثَرَ ، فَأَضَرَّ ذَلِكَ بِالْمَنْزِلِ ، فَقَدِ اسْتَوْفَى سُكْنَاهُ وَعَلَيْهِ قِيمَةُ ضَرَرِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوِ اكْتَرَى مَنْزِلًا سُفْلًا فَجَعَلَ فِيهِ الْقَصَّارِينَ أَوِ الْحَدَّادِينَ ، فَتَقَلَّعَ الْبِنَاءُ ، فَقَدِ اسْتَوْفَى مَا اكْتَرَاهُ وَعَلَيْهِ بِالتَّعَدِّي مَا نَقَصَ بِالْمَنْزِلِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِزَرْعِ الْحِنْطَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَغْرِسَهَا ، وَلَا أَنْ يَزْرَعَهَا مَا هُوَ أَكْثَرُ ضَرَرًا مِنَ الْحِنْطَةِ فما الحكم لو زرعها بما هو أكثر ضررا هل يضمن ؟ كَالدَّخَنِ وَالْكَتَّانِ وَالذُّرَةِ ، فَإِنْ فَعَلَ فَقَدْ تَعَدَّى ، وَيُؤْخَذُ بِقَلْعِ زَرْعِهِ : لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ فَصَارَ كَالْغَاصِبِ ، وَهَلْ يَصِيرُ بِذَلِكَ ضَامِنًا لِرَقَبَةِ الْأَرْضِ حَتَّى يَضْمَنَ قِيمَتَهَا إِنْ غُصِبَتْ ، أَوْ تَلِفَتْ بِسَيْلٍ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ : أَنَّهُ يَضْمَنُهَا : لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ - بِالْعُدُولِ عَمَّا اسْتَحَقَّهُ - غَاصِبًا ، وَالْغَاصِبُ ضَامِنٌ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ الْأَصَحُّ - أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ رَقَبَةَ الْأَرْضِ : لِأَنَّ تَعَدِّيَهُ فِي الْمَنْفَعَةِ لَا فِي الرَّقَبَةِ . فَإِنْ تَمَادَى الْأَمْرُ بِمُسْتَأُجِرِهَا حَتَّى حَصَدَ زَرْعَهُ ثُمَّ طُولِبَ بِالْأُجْرَةِ ، فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ أَنَّ رَبَّ الْأَرْضِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ الْمُسَمَّى ، وَمَا نَقَصَتِ الْأَرْضُ ، وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ أُجْرَةَ الْمِثْلِ . فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ الْمُزَنِيُّ ، وَأَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ ، وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : يُخَرِّجُونَ تَخْيِيرَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ رَبَّ الْأَرْضِ يَرْجِعُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى : لِأَنَّ تَعَدِّيَ الزَّارِعِ بِعُدُولِهِ عَنِ الْحِنْطَةِ إِلَى مَا هُوَ أَضَرُّ مِنْهَا كَتَعَدِّيهِ بِعُدُولِهِ عَنِ الْأَرْضِ إِلَى غَيْرِهَا ، فَلَمَّا كَانَ بِعُدُولِهِ إِلَى غَيْرِ الْأَرْضِ مُلْتَزِمًا لِأُجْرَةِ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى ، فَكَذَلِكَ بِعُدُولِهِ إِلَى غَيْرِ الْحِنْطَةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَرْجِعُ بِالْمُسَمَّى مِنَ الْأُجْرَةِ وَيَنْقُصُ الضَّرَرُ الزَّائِدُ عَلَى الْحِنْطَةِ : لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَوْفَى مَا اسْتَحَقَّهُ وَزَادَ ، فَصَارَ كَمَنِ اسْتَأْجَرَ بَعِيرًا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَتَجَاوَزَ بِهِ إِلَى الْبَصْرَةِ ، فَعَلَيْهِ الْمُسَمَّى وَأُجْرَةُ الْمِثْلِ فِي الزِّيَادَةِ . وَقَالَ الرَّبِيعُ ، وَأَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ ، وَأَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ : إِنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ ، وَلَيْسَ التَّخْيِيرُ مِنْهُ اخْتِلَافًا لِلْقَوْلِ فِيهَا فَيَكُونُ رَبُّ الْأَرْضِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ بِالْمُسَمَّى ، وَمَا نَقَصَتِ الْأَرْضُ بِالزِّيَادَةِ كَالْمُتَجَاوِزِ بِرُكُوبِ الدَّابَّةِ ، وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ وَيَرْجِعَ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ : لِأَنَّهُ عَيْبٌ قَدْ دَخَلَ عَلَيْهِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ بِهِ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْمُقَامِ أَوِ الْفَسْخِ . فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ اخْتَارَ أَنْ يَرْجِعَ بِالْمُسَمَّى ، وَمَا نَقَصَتِ الْأَرْضُ ، وَاسْتَدَلَّ بِمَسْأَلَتَيْنِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَسْتَأْجِرَ بَيْتًا لِحَمُولَةٍ مُسَمَّاةٍ فَيَعْدِلَ إِلَى غَيْرِهَا ، فَهَذَا يُنْظَرُ ، فَإِنِ اسْتَأْجَرَ سُفْلَ بَيْتٍ لِيُحْرِزَ فِيهِ مِائَةَ رِطْلٍ حَدِيدٍ فَأَحْرَزَ فِيهِ مِائَةً وَخَمْسِينَ رِطْلًا ، أَوْ عَدَلَ عَنِ الْحَدِيدِ إِلَى الْقُطْنِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ : لِأَنَّ سُفْلَ الْبَيْتِ لَا تُؤَثِّرُ فِيهِ هَذِهِ الزِّيَادَةُ ، وَلَا الْعُدُولُ عَنِ الْجِنْسِ ، وَإِنْ كَانَ عُلُوُّ بَيْتٍ تَكُونُ الْحَمُولَةُ عَلَى سَقْفِهِ ، فَإِنْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ لِمِائَةِ رِطْلٍ مِنْ حَدِيدٍ فَوَضَعَ عَلَيْهِ مِائَةً وَخَمْسِينَ رِطْلًا ، فَهَذِهِ زِيَادَةٌ مُتَمَيِّزَةٌ فَيَلْزَمُهُ الْمُسَمَّى مِنَ الْأُجْرَةِ وَأُجْرَةُ مِثْلِ الزِّيَادَةِ ، وَإِنْ كَانَ قَدِ اسْتَأْجَرَهُ لِمِائَةِ رِطْلٍ قُطْنًا فَوَضَعَ فِيهِ مِائَةَ رِطْلٍ مِنْ حَدِيدٍ فَهَذَا ضَرَرٌ لَا يَتَمَيَّزُ : لِأَنَّ الْقُطْنَ يَتَفَرَّقُ عَلَى السَّقْفِ ، وَالْحَدِيدَ يَجْتَمِعُ فِي مَوْضِعٍ مِنْهُ ، فَكَانَ أَضَرَّ ، فَيَكُونُ رُجُوعُ الْمُؤَجِّرِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي الْقَوْلَيْنِ . وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ دَلِيلِ الْمُزَنِيِّ عَلَى اخْتِيَارِهِ : أَنْ يَسْتَأْجِرَ دَارًا لِلسُّكْنَى فَيُسْكِنُ فِيهَا حَدَّادِينَ ، أَوْ قَصَّارِينَ ، أَوْ يَنْصَبُّ فِيهَا رَحًى ، فَهَذِهِ زِيَادَةُ ضَرَرٍ لَا يَتَمَيَّزُ ، فَيَكُونُ رُجُوعُ الْمُؤَجِّرِ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي الْقَوْلَيْنِ فَلَمْ يَكُنْ لِلْمُزَنِيِّ فِيمَا اسْتَشْهَدَ بِهِ دَلِيلٌ مِنْ مَذْهَبٍ ، وَلَا حِجَاجٍ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَإِنْ قَالَ لَهُ : ازْرَعْهَا مَا شِئْتَ ، فَلَا يُمْنَعُ مِنْ زَرْعِ مَا شَاءَ وَلَوْ أَرَادَ الْغِرَاسَ فَهُوَ غَيْرُ الزَّرْعِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا اسْتَأْجَرَهَا لِيَزْرَعَهَا مَا شَاءَ حكم الكراء صَحَّ الْكِرَاءُ وَلَهُ أَنْ يَزْرَعَهَا جَمِيعَ أَصْنَافِ الزَّرْعِ مِمَّا يَكْثُرُ ضَرَرُهُ أَوْ يَقِلُّ ، فَإِنْ زَرَعَهَا مَا يَكْثُرُ ضَرَرُهُ فَقَدِ اسْتَوْفَى جَمِيعَ حَقِّهِ ، وَإِنْ زَرَعَ مَا يَقِلُّ ضَرَرُهُ فَقَدِ اسْتَوْفَى بَعْضَ حَقِّهِ وَسَامَحَ بِبَعْضِهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ كَمَا لَوِ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا مَا شَاءَ قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ قَدْ يَشَاءُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَى الدَّابَّةِ مَا لَا تَحْتَمِلُهُ فَتَهْلَكُ ، وَلَيْسَ يَشَاءُ أَنْ يَزْرَعَ الْأَرْضَ مَا لَا تَحْتَمِلُهُ : لِأَنَّهُ إِنْ شَاءَ أَنْ يَزْرَعَ مَا تَضْعُفُ الْأَرْضُ عَنِ احْتِمَالِهِ هَلَكَ الزَّرْعُ دُونَ الْأَرْضِ . فَأَمَّا إِذَا اسْتَأْجَرَهَا لِلزَّرْعِ فَأَرَادَ الْغَرْسَ هل له ذلك لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَاكَ : لِأَنَّ ضَرَرَ الْغَرْسِ أَكْثَرُ مِنْ ضَرَرِ الزَّرْعِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَدْوَمُ بَقَاءً مِنَ الزَّرْعِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَنْشَرُ عُرُوقًا فِي الْأَرْضِ مِنْ عُرُوقِ الزَّرْعِ . وَلَكِنْ لَوِ اسْتَأْجَرَهَا لِلْغَرْسِ فَأَرَادَ الزَّرْعَ كَانَ لَهُ : لِأَنَّ ضَرَرَ الزَّرْعِ أَقَلُّ ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ بَعْضَ حَقِّهِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى حَقِّهِ . فَلَوِ اسْتَأْجَرَهَا لِلْغَرْسِ ، فَأَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ فِيهَا لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّ ضَرَرَ الْبِنَاءِ قَدْ يَزِيدُ عَلَى ضَرَرِ الْغَرْسِ فِي صَلَابَةِ الْأَرْضِ وَخُشُونَتِهَا ، وَلَوِ اسْتَأْجَرَهَا لِلْبِنَاءِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَزْرَعَ وَلَا يَغْرِسَ : لِأَنَّ الزَّرْعَ وَالْغَرْسَ يُفْسِدُهَا وَيُرْخِيهَا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَإِنْ قَالَ : ازْرَعْهَا أَوِ اغْرِسْهَا مَا شِئْتَ ، فَالْكِرَاءُ جَائِزٌ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : أَوْلَى بِقَوْلِهِ أَنْ لَا يَجُوزَ هَذَا : لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي يَغْرِسُ أَكْثَرَ الْأَرْضِ فَيَكْثُرُ الضَّرَرُ عَلَى صَاحِبِهَا ، أَوْ لَا يَغْرِسُ فَتَسْلَمُ أَرْضُهُ مِنَ النُّقْصَانِ بِالْغَرْسِ فَهَذَا فِي مَعْنَى الْمَجْهُولِ ، وَمَا لَا يَجُوزُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا الْفَصْلُ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثِ مَسَائِلَ : إِحْدَاهُنَّ : أَنْ يَقُولَ قَدْ أَجَّرْتُكَهَا لِتَزْرَعَهَا إِنْ شِئْتَ ، أَوْ تَغْرِسَهَا إِنْ شِئْتَ ، فَالْإِجَارَةُ صَحِيحَةٌ وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ زَرْعِهَا إِنْ شَاءَ ، وَبَيْنَ غَرْسِهَا ، فَإِنْ زَرَعَ بَعْضَهَا وَغَرَسَ بَعْضَهَا جَازَ : لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لَهُ غَرْسُ الْجَمِيعِ كَانَ غَرْسُ الْبَعْضِ أَوْلَى بِالْجَوَازِ . وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَقُولَ قَدْ أَجَّرْتُكَهَا لِتَزْرَعَهَا أَوْ تَغْرِسَهَا ، فَالْإِجَارَةُ بَاطِلَةٌ : لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ الْأَمْرَيْنِ مَعًا ، وَلَا أَحَدَهُمَا مُعَيَّنًا ، فَصَارَ مَا أَجَّرَهُ لَهُ مَجْهُولًا . وَالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَقُولَ قَدْ أَجَّرْتُكَهَا لِتَزْرَعَهَا وَتَغْرِسَهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ :
أَحَدُهُمَا : وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ : أَنَّ الْإِجَارَةَ بَاطِلَةٌ : لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُخَيِّرْهُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا صَارَ مَا يَزْرَعُ مِنْهَا وَيَغْرِسُ مَجْهُولًا ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ ، وَقَالَهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الْإِجَارَةَ صَحِيحَةٌ ، وَلَهُ أَنْ يَزْرَعَ النِّصْفَ ، وَيَغْرِسَ النِّصْفَ : لِأَنَّ جَمْعَهُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ يَقْتَضِي التَّسْوِيةَ بَيْنَهُمَا ، فَلَوْ زَرَعَ جَمِيعَهَا جَازَ : لِأَنَّ زَرْعَ النِّصْفِ الْمَأْذُونِ فِي غَرْسِهِ أَقَلُّ ضَرَرًا ، وَلَوْ غَرَسَ جَمِيعَهَا لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّ غَرْسَ النِّصْفِ الْمَأْذُونِ فِي زَرْعِهِ أَكْثَرُ ضَرَرًا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَإِنِ انْقَضَتْ سِنُوهُ لَمْ يَكُنْ لِرَبَّ الْأَرْضِ أَنْ يَقْلَعَ غَرْسَهُ حَتَّى يُعْطِيَهُ قِيمَتَهُ وَقِيمَةَ ثَمَرَتِهِ إِنْ كَانَتْ فِيهِ يَوْمَ يَقْلَعُهُ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : وَلِرَبِّ الْغِرَاسِ إِنْ شَاءَ أَنْ يَقْلَعَهُ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ مَا نَقَصَ الْأَرْضَ ، وَالْغِرَاسُ كَالْبِنَاءِ إِذَا كَانَ بِإِذْنِ مَالِكِ الْأَرْضِ مُطْلَقًا " . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - : الْقِيَاسُ عِنْدِي وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ أَنَّهُ إِذَا أَجَّلَ لَهُ أَجَّلَ لَهُ أَجَلًا يَغْرِسُ فِيهِ ، فَانْقَضَى الْأَجَلُ أَوْ أَذِنَ لَهُ بِبِنَاءٍ فِي عَرْصَةٍ لَهُ سِنِينَ وَانْقَضَى الْأَجَلُ أَنَّ الْأَرْضَ وَالْعَرْصَةَ مَرْدُودَتَانِ : لِأَنَّهُ لَمْ يُعِرْهُ شَيْئًا ، فَعَلَيْهِ رَدُّ مَا لَيْسَ لَهُ فِيهِ حَقٌّ عَلَى أَهْلِهِ ، وَلَا يُجْبَرُ صَاحِبُ الْأَرْضِ عَلَى غِرَاسٍ وَلَا بِنَاءٍ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَ يَقُولُ : إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَهَذَا قَدْ مَنَعَ مَالَهُ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِيَ مَا لَا يَرْضَى شِرَاءَهُ ، فَأَيْنَ التَّرَاضِي ؟ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِيمَنِ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِيَبْنِيَ فِيهَا وَيَغْرِسَ فَانْقَضَى الْأَجَلُ ، وَالْبِنَاءُ وَالْغِرَاسُ قَائِمٌ فِي الْأَرْضِ ، فَلَيْسَ لَهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْأَجَلِ أَنْ يُحْدِثَ بِنَاءً وَلَا غَرْسًا ، فَإِنْ فَعَلَ كَانَ مُتَعَدِّيًا وَأَخَذَ بِقَلْعِ مَا أَحْدَثَهُ بَعْدَ الْأَجَلِ مِنْ غَرْسٍ وَبِنَاءٍ ، فَأَمَّا الْقَائِمُ فِي الْأَرْضِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْأَجَلِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُمَا فِيهِ عِنْدَ الْعَقْدِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَشْتَرِطَا قَلْعَهُ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ ، فَيُؤْخَذُ الْمُسْتَأْجِرُ بِقَلْعِ غَرْسِهِ وَبِنَائِهِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ شَرْطِهِ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ تَسْوِيَةُ مَا حَدَثَ مِنْ حَفْرِ الْأَرْضِ : لِأَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ بِالْعَقْدِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَشْتَرِطَا تَرْكَهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ أي الزرع فهل يفسد العقد بهذا الشرط ؟ فَيُقِرُّ ، وَلَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ بِهَذَا الشَّرْطِ : لِأَنَّهُ مِنْ مُوجِبَاتِهِ لَوْ أَخَلَّ بِالشَّرْطِ ، وَيَصِيرُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ مُسْتَعِيرًا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَلَا تَلْزَمُهُ أُجْرَةٌ ، وَعَلَى مَذْهَبِ الْمُزَنِيِّ : عَلَيْهِ أُجْرَةٌ مَا لَمْ يُصَرَّحْ لَهُ بِالْعَارِيَةِ ، فَإِنْ قَلَعَ الْمُسْتَأْجِرُ غَرْسَهُ وَبِنَاءَهُ لَزِمَهُ تَسْوِيَةُ مَا حَدَثَ مِنْ حَفْرِ الْأَرْضِ : لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَحِقَّهُ بِالْعَقْدِ ، وَإِنَّمَا اسْتَحَقَّهُ بِالْمِلْكِ . وَهَذَا قَوْلُ جَمِيعِ أَصْحَابِنَا ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي تَعْلِيلِهِ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : الْعِلَّةُ فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَحِقَّهُ بِالْعَقْدِ ، وَهُوَ التَّعْلِيلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ قَلَعَهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ لَمْ يَلْزَمْهُ تَسْوِيَةُ الْأَرْضِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يُطْلِقَا الْعَقْدَ فَلَا يُشْتَرَطَانِ فِيهِ قَلْعَهُ ، وَلَا تَرْكَهُ فَيُنْظَرُ ، فَإِنْ كَانَ قِيمَةُ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ مَقْلُوعًا كَقِيمَتِهِ قَائِمًا ، أَخَذَ الْمُسْتَأْجِرُ بِقَلْعِهِ : لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ يَلْحَقُهُ فِيهِ وَلَا نَقْصَ
وَإِنْ كَانَ قِيمَتُهُ مَقْلُوعًا أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ قَائِمًا - وَهُوَ الْأَغْلَبُ - نُظِرَ ، فَإِنْ بَذَلَ رَبُّ الْأَرْضِ قِيمَةَ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ قَائِمًا ، أَوْ مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ قَائِمًا أَوْ مَقْلُوعًا فما الحكم لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْتَأْجِرِ تَرْكُهُ : لِأَنَّ مَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنَ الضَّرَرِ بِقَلْعِهِ يَزُولُ بِبَذْلِ الْقِيمَةِ أَوِ النَّقْصِ ، وَقِيلَ : لَا نَجْبُرُكَ عَلَى أَخْذِ الْقِيمَةِ ، وَلَكِنْ نُخَيِّرُكَ بَيْنَ أَنْ تَقْلَعَهُ ، أَوْ تَأْخُذَ قِيمَتَهُ ، وَلَيْسَ لَكَ إِقْرَارُهُ وَتَرْكُهُ . وَإِنْ لَمْ يَبْذُلْ رَبُّ الْأَرْضِ قِيمَةَ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ ، وَلَا قَدْرَ النَّقْصِ فما الحكم نُظِرَ فِي الْمُسْتَأْجِرِ ، فَإِنِ امْتَنَعَ مِنْ بَذْلِ أُجْرَةِ الْمِثْلِ بَعْدَ تَقَضِّي الْمُدَّةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِقْرَارُ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ وَأُخِذَ بِقَلْعِهِ ، وَإِنْ بَذَلَ أُجْرَةَ الْمِثْلِ مَعَ امْتِنَاعِ رَبِّ الْأَرْضِ مِنْ بَذْلِ الْقِيمَةِ أَوِ النَّقْصِ ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ أَنَّ الْغَرْسَ وَالْبِنَاءَ مَقَرٌّ لَا يُؤْخَذُ الْمُسْتَأْجِرُ بِقَلْعِهِمَا ، وَيُؤْخَذُ أُجْرَةُ مِثْلِهِمَا ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالْمُزَنِيُّ : وَيُؤْخَذُ الْمُسْتَأْجِرُ بِقَلْعِهِمَا ، وَلَا يُجْبَرُ رَبُّ الْأَرْضِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ عَلَى تَرْكِهِمَا اسْتِدْلَالًا بِمَا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [ النِّسَاءِ : 29 ] . وَلَيْسَ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ رِضًى بِالتَّرْكِ فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا أَخَذَ بِقَلْعِ زَرْعِهِ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ لَمْ يَقَرَّ إِلَى أَوَانِ حَصَادِهِ مَعَ أَنَّ زَمَانَ حَصَادِهِ مَحْدُودٌ ، فَلِأَنْ يُؤْخَذَ بِقَلْعِ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ مَعَ الْجَهْلِ بِزَمَانِهِمَا أَوْلَى ، وَلِأَنَّ تَحْدِيدَ الْمُدَّةِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْحُكْمِ فِي الِاسْتِيفَاءِ كَمَا أَوْجَبَ اخْتِلَافَ الْحُكْمِ فِي إِحْدَاثِ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ . وَهَذَا الْمَذْهَبُ أَظْهَرُ حِجَاجًا وَأَصَحُّ اجْتِهَادًا ، وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُنَا عَلَى تَرْكِهِ وَإِقْرَارِهِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ . فَاقْتَضَى ذَلِكَ وُقُوعَ الْفَرْقِ بَيْنَ الظَّالِمِ وَالْمُحِقِّ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُسَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الْأَخْذِ بِالْقَلْعِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّ مَنْ أَذِنَ لِغَيْرِهِ فِي إِحْدَاثِ حَقٍّ فِي مِلْكِهِ كَانَ مَحْمُولًا فِيهِ عَلَى الْعُرْفِ الْمَعْهُودِ فِي مِثْلِهِ ، كَمَنْ أَذِنَ لِجَارِهِ فِي وَضْعِ أَجْذَاعِهِ فِي جِدَارِهِ كَانَ عَلَيْهِ تَرْكُهُ عَلَى الْأَبَدِ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَخْذُهُ بِقَلْعِهَا : لِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِاسْتِدَامَةِ تَرْكِهَا ، كَذَلِكَ الْغَرْسُ وَالْبِنَاءُ ، الْعَادَةُ فِيهِمَا جَارِيَةٌ بِالتَّرْكِ وَالِاسْتِيفَاءِ دُونَ الْقَلْعِ وَالتَّنَاوُلِ ، فَحُمِلَا عَلَى الْعَادَةِ فِيهِمَا ، وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ يَفْسُدُ بِالزَّرْعِ : لِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِتَرْكِهِ إِلَى أَوَانِ حَصَادِهِ ، ثُمَّ هِيَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ حِينَ يُؤْخَذُ بِقَلْعِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَتِ الْإِجَارَةُ فَاسِدَةً ، فَبَنَى الْمُسْتَأْجِرُ فِيهَا وَغَرَسَ فَهُوَ فِي الْإِقْرَارِ وَالتَّرْكِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْإِجَارَةِ الصَّحِيحَةِ : لِأَنَّ الْفَاسِدَ مِنْ كُلِّ عَقْدٍ حُكْمُهُ حُكْمُ الصَّحِيحِ فِي الْأَمَانَةِ وَالضَّمَانِ .
فَصْلٌ : وَإِذَا أَرَادَ الْمُسْتَأْجِرُ بَيْعَ بِنَائِهِ وَغَرْسِهِ قَائِمًا فِي الْأَرْضِ ، فَإِنْ بَاعَهُ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ جَازِ ، وَإِنْ بَاعَهُ عَلَى غَيْرِهِ فَفِي الْبَيْعِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ : لِأَنَّ مِلْكَ الْمُسْتَأْجِرِ عَلَيْهِ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ : لِأَنَّ رَبَّ الْأَرْضِ مَتَى بَذَلَ لَهُ قِيمَتَهُ أُجْبِرَ عَلَى أَخْذِهَا أَوْ قَلْعِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ : لِأَنَّ مَا يُخَافُ مِنْ زَوَالِ مِلْكِهِ فِي الثَّانِي لَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ بَيْعِهِ فِي الْحَالِ كَالْمَبِيعِ إِذَا اسْتُحِقَّتْ فِيهِ الشُّفْعَةُ .
وَهَكَذَا رَبُّ الْأَرْضِ إِذَا أَرَادَ بَيْعَهَا ؛ فَإِنْ بَاعَهَا عَلَى مَالِكِ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ جَازَ ، وَإِنْ بَاعَهَا عَلَى غَيْرِهِ كَانَ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ . وَلَكِنْ لَوِ اجْتَمَعَ رَبُّ الْأَرْضِ وَصَاحِبُ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ عَلَى الْبَيْعِ ، جَازَ وَكَانَ الثَّمَنُ مُقَسَّطًا عَلَى الْقِيمَتَيْنِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا أَرَادَ الْمُزَارِعُ بَيْعَ الْأَكَّارَةِ وَالْعِمَارَةِ فما الحكم ؟ ، فَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ كَانَتْ لَهُ إِثَارَةٌ جَازَ لَهُ بَيْعُهَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِثَارَةٌ لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّهُ يَصِيرُ إِدْخَالُ يَدٍ بَدَلًا مِنْ يَدِهِ بِثَمَنٍ . وَقَالَ مَالِكٌ : يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهَا فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا وَيُجْعَلُ الْأَكَّارُ شَرِيكًا لِرَبِّ الْأَرْضِ بِعِمَارَتِهِ ، وَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْعِمَارَةِ مَا لَمْ تَكُنْ أَعْيَانًا : لِأَنَّ عِمَارَةَ الْأَرْضِ تَبَعٌ لَهَا .
فَصْلٌ : وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ أَرْضَهُ إِلَى رَجُلٍ لِيَبْنِيَ فِيهَا وَيَغْرِسَ عَلَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فما الحكم لَمْ يَجُزْ ، وَكَانَتِ الْأَرْضُ عَلَى مِلْكِ رَبِّهَا ، وَالْغِرَاسُ وَالْبِنَاءُ عَلَى مِلْكِ رَبِّهِ ، وَلَهُ إِقْرَارُهُ مَا بَقِيَ . وَعَلَيْهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ ، وَقَالَ مَالِكٌ : يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ الرَّجُلُ أَرْضَهُ إِلَى رَجُلٍ لِيَغْرِسَهَا فَسِيلًا ، فَإِذَا صَارَتِ الْفَسِيلَةُ عَلَى ثَلَاثِ سَعَفَاتٍ كَانَتِ الْأَرْضُ وَالنَّخْلُ بَيْنَهُمَا ، وَهَذَا مَذْهَبٌ يُغْنِي ظُهُورُ فَسَادِهِ عَنْ إِقَامَةِ دَلِيلٍ عَلَيْهِ .
فَصْلٌ : وَإِذَا وَقَفَ صَاحِبُ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ غَرْسَهُ وَبِنَاءَهُ قَائِمًا فهل يصح صَحَّ لِلْوَقْفِ ، وَلَمْ يَكُنْ لِرَبِّ الْأَرْضِ أَنْ يَبْذُلَ لَهُ قِيمَةَ ذَلِكَ قَائِمًا : لِأَنَّهُ وَقْفٌ لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْوَاقِفُ بِقَلْعِهِ إِنْ بَذَلَ لَهُ أَرْشَ نَقْصِهِ ، فَإِذَا قَلَعَهُ لَزِمَهُ أَنْ يَنْقُلَهُ إِلَى أَرْضٍ أُخْرَى يَكُونُ وَقْفًا فِيهَا جَارِيًا عَلَى سَبِيلِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَمَا اكْتَرَى فَاسِدًا وَقَبَضَهُ ، وَلَمْ يَزْرَعْ وَلَمْ يَسْكُنْ حَتَى انْقَضَتِ السَّنَةُ ، فَعَلَيْهِ كِرَاءُ الْمِثْلِ " . قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَا قَبَضَهُ الْمُسْتَأْجِرُ عَنْ عَقْدٍ صَحِيحٍ فَمَنَافِعُهُ مَضْمُونَةٌ عَلَيْهِ ، سَوَاءٌ تَصَرَّفَ فِيهِ أَوْ لَمْ يَتَصَرَّفْ ، فَأَمَّا مَا قَبَضَهُ عَنْ عَقْدٍ فَاسِدٍ مِنْ أَرْضٍ أَوْ دَارٍ هل يضمن أجرة مثلها ؟ ، فَهُوَ أَيْضًا ضَامِنٌ لِأُجْرَةِ مِثْلِهَا سَوَاءٌ سَكَنَ وَتَصَرَّفَ ، أَوْ لَمْ يَسْكُنْ وَلَمْ يَتَصَرَّفْ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ تَصَرَّفَ ضَمِنَ الْأُجْرَةَ ، وَإِنْ لَمْ يَتَصَرَّفْ لَمْ يَضْمَنْهَا اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ عَقْدٌ لَا يَسْتَحِقُّ فِيهِ التَّسْلِيمَ فَلَمْ يَسْتَحِقَّ فِيهِ الْعِوَضَ إِلَّا بِالِانْتِفَاعِ ، كَالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ طَرْدًا ، وَالصَّحِيحِ عَكَسًا . وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهَا مَنَافِعُ يَضْمَنُهَا فِي الْعَقْدِ الصَّحِيحِ فَوَجَبَ أَنْ يَضْمَنَهَا فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ وَإِنْ تَصَرَّفَ ، وَلِأَنَّ مَا ضَمِنَهُ مِنَ الْمَنَافِعِ بِالتَّصَرُّفِ ضَمِنَهَا بِالتَّلَفِ عَلَى يَدِهِ مِنْ غَيْرِ تَصَرُّفٍ كَالْعَقْدِ الصَّحِيحِ ، وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ جَارِيَةٌ مَجْرَى الْأَعْيَانِ فِي الْمُعَاوَضَةِ وَالْإِبَاحَةِ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ مَا قَبَضَ مِنَ الْأَعْيَانِ عَنْ عَقْدٍ فَاسِدٍ فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ ، سَوَاءٌ تَلِفَ بِتَصَرُّفِهِ ، أَوْ غَيْرِ تَصَرُّفِهِ كَالْعَقْدِ
الصَّحِيحِ ، وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْمَنَافِعُ إِذَا تَلِفَتْ مَضْمُونَةً فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ كَضَمَانِهَا فِي الْعَقْدِ الصَّحِيحِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى النِّكَاحِ الْفَاسِدِ ، فَهُوَ أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْمَنْكُوحَةُ حُرَّةً ، فَالْحُرَّةُ لَمْ تَزَلْ يَدُهَا عَنْ نَفْسِهَا وَلَا عَنْ بِضْعِهَا ؛ فَلِذَلِكَ لَمْ يَضْمَنْ مَهْرَ بِضْعِهَا إِلَّا بِالتَّصَرُّفِ ، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَإِنَّهُ وَإِنِ اسْتَقَرَّ الْغَصْبُ عَلَى مَنَافِعِهَا فَهُوَ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ عَلَى بِضْعِهَا بَلْ يَدُهَا عَلَيْهِ أَثْبَتُ ، وَلِذَلِكَ وَجَبَ عَلَى الْغَاصِبِ أُجْرَةُ مِثْلِهَا ، اسْتَخْدَمَ أَوْ لَمْ يَسْتَخْدِمْ ، وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا مَا لَمْ يَسْتَمْتِعْ بِهَا ، وَلِذَلِكَ مَنَعَ سَيِّدُ الْأَمَةِ مِنْ بَيْعِهَا إِذَا غُصِبَتْ : لِأَنَّ يَدَ الْغَاصِبِ حَائِلَةٌ ، وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ تَزْوِيجِهَا إِذَا غُصِبَتْ : لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْغَاصِبِ عَلَى الْبِضْعِ يَدٌ حَائِلَةٌ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " فَإِذَا اكْتَرَى دَارًا سَنَةً فَغَصَبَهَا رَجُلٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ كِرَاءٌ : لِأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ مَا اكْتَرَى " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا غُصِبَتِ الْأَرْضُ الْمُسْتَأْجَرَةُ مِنْ يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ فَلَهُ الْفَسْخُ ، وَهَلْ تَبْطُلُ الْإِجَارَةُ بِالْغَصْبِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَصَحُّهُمَا : بَاطِلَةٌ ، وَالْمُسْتَأْجِرُ بَرِيءٌ مِنْ أُجْرَةِ مُدَّةِ الْغَصْبِ ، وَلَا يَكُونُ الْمُسْتَأْجِرُ خَصْمًا لِلْغَاصِبِ فِيهَا : لِأَنَّ خَصْمَ الْغَاصِبِ إِنَّمَا هُوَ الْمَالِكُ ، أَوْ وَكِيلُهُ ، وَلَيْسَ الْمُسْتَأْجِرُ مَالِكًا وَلَا وَكِيلًا ، فَلَمْ يَكُنْ خَصْمًا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَبْطُلُ : لِأَنَّ غَاصِبَهَا ضَامِنٌ لِمَنَافِعِهَا ، لَكِنْ يَكُونُ الْمُسْتَأْجِرُ بِحُدُوثِ الْغَصْبِ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْمُقَامِ وَالْفَسْخِ ، فَإِنْ فَسَخَ سَقَطَتْ عَنْهُ الْأُجْرَةُ ، وَلَمْ يَكُنْ خَصْمًا لِلْغَاصِبِ فِيهَا ، وَإِنْ أَقَامَ فَعَلَيْهِ الْمُسَمَّى ، وَيَرْجِعُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ عَلَى الْغَاصِبِ ، وَيَصِيرُ خَصْمًا لَهُ فِي الْأُجْرَةِ دُونَ الرَّقَبَةِ ، إِلَّا أَنْ يَبْقَى مِنْ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ شَيْءٌ ، فَيَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ خَصْمًا فِي الرَّقَبَةِ لِيَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ مِنَ الْمَنْفَعَةِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَإِذَا اكْتَرَى أَرْضًا مِنْ أَرْضِ الْعُشْرِ أَوِ الْخَرَاجِ ، فَعَلَيْهِ فِيمَا أُخْرِجَتِ الصَّدَقَةُ خَاطَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ : وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَهَذَا مَالُ مُسْلِمٍ وَحَصَادُ مُسْلِمٍ ، فَالزَّكَاةُ فِيهِ وَاجِبَةٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَجُمْلَةُ الْأَرَضِينَ ضَرْبَانِ ، أَرْضُ عُشْرٍ ، وَأَرْضُ خَرَاجٍ ، فَأَمَّا أَرْضُ الْعُشْرِ معنها ومتى يخرج منها العشر فَهُوَ مَا أَحْيَاهُ الْمُسْلِمُونَ ، أَوْ غَنِمُوهُ فَاقْتَسَمُوهُ ، أَوْ أَسْلَمُوا عَلَيْهِ فَمَلَكُوهُ ، فَالْعُشْرُ فِي زَرْعِهَا وَاجِبٌ إِنْ زَرَعَهَا مُسْلِمٌ ، وَلَا عُشْرَ فِيهِ إِنْ كَانَ الزَّرْعُ لِمُشْرِكٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِذَا اشْتَرَى الذِّمِّيُّ أَرْضَ عُشْرٍ صَارَتْ أَرْضَ خَرَاجٍ ، وَلَا تَعُودُ إِلَى الْعُشْرِ أَبَدًا .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى : يُضَاعَفُ عَلَيْهِ الْعُشْرُ وَيَكُونُ فَيْئًا ، فَإِنْ عَادَتْ إِلَى مُسْلِمٍ حُوِّلَتْ إِلَى الْعُشْرِ . وَقَالَ مَالِكٌ : يُجْبَرُ الذِّمِّيُّ عَلَى بَيْعِهَا ، وَلَا تَقَرُّ فِي يَدِهِ ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ عُشْرٌ . وَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ أَرْضَ الْعُشْرِ لَا تَنْتَقِلُ إِلَى الْخَرَاجِ أَبَدًا ، فَإِنْ مَلَكَهَا ذِمِّيٌّ أَقَرَّتْ فِي يَدِهِ ، وَلَا عُشْرَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ مَلَكَهَا مُسْلِمٌ أُخِذَ مِنْهُ الْعُشْرُ عَنْ زَرْعِهَا . فَلَوْ أَجَّرَهَا الْمَالِكُ وَزَرَعَهَا الْمُسْتَأْجِرُ فمن يخرج العشر ؟ كَانَ عُشْرُ زَرْعِهَا وَاجِبًا عَلَى الزَّارِعِ الْمُسْتَأْجِرِ دُونَ الْمُؤَجِّرِ الْمَالِكِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْعُشْرُ عَلَى الْمُؤَجِّرِ دُونَ الْمُسْتَأْجِرِ : لِأَنَّهُ قَدْ عَاوَضَ عَلَى الْأَرْضِ فَانْتَقَلَ الْحَقُّ إِلَيْهِ ، وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [ الْأَنْعَامِ : 141 ] وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ . وَلِأَنَّ مَنْ مَلَكَ زَرَعًا الْتَزَمَ عُشْرَهُ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِهِ كَالْمُسْتَعِيرِ ، وَلِأَنَّ اعْتِيَاضَ الْمُؤَجِّرِ عَنْ مَنَافِعِ الْأَرْضِ لَا يُوجِبُ الْتِزَامَ حُقُوقِ الزَّرْعِ كَالنَّفَقَةِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا أَرْضُ الْخَرَاجِ فَضَرْبَانِ : خَرَاجٌ يَكُونُ جِزْيَةً ، وَخَرَاجٌ يَكُونُ أُجْرَةً ، فَالْخَرَاجُ الَّذِي يَكُونُ جِزْيَةً هُوَ مَا ضَرَبَهُ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَرْضِ أَهْلِ الْعَهْدِ مَعَ إِقْرَارِهَا عَلَى مِلْكِهِمْ ، فَهَذِهِ الْأَرْضُ إِنْ زَرَعَهَا أَهْلُ الْعَهْدِ وَجَبَ عَلَيْهِمِ الْخَرَاجُ دُونَ الْعُشْرِ ، وَإِنْ أَسْلَمُوا أَوِ انْتَقَلَتْ عَنْهُمْ إِلَى مُسْلِمٍ وَجَبَ الْعُشْرُ فِي زَرْعِهَا وَسَقَطَ الْخَرَاجُ ، فَإِنِ اسْتَأْجَرَهَا مِنْهُ مُسْلِمٌ وَجَبَ الْخَرَاجُ عَلَيْهِمْ لِبَقَاءِ مِلْكِهِمْ عَلَيْهَا ، وَوَجَبَ الْعُشْرُ عَلَى الْمُسْلِمِ لِمِلْكِهِ لِلزَّرْعِ ، وَأَمَّا الْخَرَاجُ الَّذِي يَكُونُ أُجْرَةً كَأَرْضِ السَّوَادِ الَّتِي ضَرَبَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَيْهَا خَرَاجًا جَعَلَهُ إِمَّا ثَمَنًا وَإِمَّا أُجْرَةً عَلَى اخْتِلَافِ النَّاسِ فِيهِ ، فَلَا يَسْقُطُ عَنْ رِقَابِ الْأَرْضِ بِإِسْلَامِ أَهْلِهَا ، فَإِنْ زَرَعَهَا مُسْلِمٌ هِيَ بِيَدِهِ لَزِمَهُ الْحَقَّانِ : الْخَرَاجُ عَنِ الرَّقَبَةِ ، وَالْعُشْرُ عَنِ الزَّرْعِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : عَلَيْهِ الْخَرَاجُ وَحْدَهُ دُونَ الْعُشْرِ : لِأَنْ لَا يَجْتَمِعَ فِيهَا حَقَّانِ ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ فِي إِيجَابِ الْحَقَّيْنِ مَعًا بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ ، وَلَوْ كَانَ إِسْقَاطُ أَحَدِ الْحَقَّيْنِ بِالْآخَرِ لَكَانَ الْعُشْرُ الْمُسْتَحَقُّ بِالنَّصِّ أَثْبَتَ وُجُوبًا مِنَ الْخَرَاجِ الْمَضْرُوبِ عَنِ اجْتِهَادٍ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَوِ اخْتَلَفَا فِي اكْتِرَاءِ دَابَّةٍ إِلَى مَوْضِعٍ ، أَوْ فِي كِرَائِهَا ، أَوْ فِي إِجَارَةِ الْأَرْضِ تَحَالَفَا ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الرُّكُوبِ وَالزَّرْعِ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ عَلَيْهِ كِرَاءُ الْمِثْلِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا اخْتَلَفَ الْمُتَكَارِيَانِ فِي قَدْرِ الْأُجْرَةِ ، أَوْ فِي قَدْرِ الْمُدَّةِ ، أَوْ فِي قَدْرِ الْمَسَافَةِ الحكم ، تَحَالَفَا كَمَا يَتَحَالَفُ الْمُتَبَايِعَانِ إِذَا اخْتَلَفَا ، فَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِبَيِّنَتِهِ تَعَارَضَتَا ، وَفِيهِمَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : تَسْقُطُ الْبَيِّنَتَانِ وَيَتَحَالَفَانِ .
وَالثَّانِي : يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا فَأَيُّهُمَا قَرَعَتْ يَحْكُمُ بِهَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنِ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْمَسَافَةِ فَقَالَ رَبُّ الدَّابَّةِ : اكْتَرَيْتُهَا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْكُوفَةِ ، فَقَالَ الرَّاكِبُ : إِلَى بَغْدَادَ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الدَّابَّةِ مَعَ يَمِينِهِ ، وَلَوْ أَقَامَا عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الرَّاكِبِ : لِأَنَّهَا أَزْيَدُ ، وَلَوْ قَالَ رَبُّ الدَّابَّةِ : اكْتَرَيْتُهَا بِعِشْرِينَ ، وَقَالَ الرَّاكِبُ : بِعَشَرَةٍ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاكِبِ ، فَإِنْ أَقَامَا بَيِّنَةً فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الدَّابَّةِ : لِأَنَّهَا أَزْيَدُ . وَهَذَا مَرْدُودٌ بِاخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ : لِأَنَّهُمَا مَعًا اخْتَلَفَا فِي صِفَةِ عَقْدِ مُعَاوَضَةٍ فَاقْتَضَى أَنْ يَسْتَوِيَا فِي التَّحَالُفِ . فَإِذَا اخْتَلَفَا وَفُسِخَ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا الْمُتَكَارِيَان ؛ إِمَّا بِالتَّحَالُفِ أَوْ بِالْفَسْخِ الْوَاقِعِ بَعْدَ التَّحَالُفِ عَلَى مَا مَضَى فِي الْبُيُوعِ نُظِرَ ، فَإِنْ لَمْ يَمْضِ مِنَ الْمُدَّةِ شَيْءٌ تَرَادَّا الْكِرَاءَ وَالْمُكْرَى ، وَإِنْ مَضَتِ الْمُدَّةُ الْتَزَمَ الْمُكْتَرِي أُجْرَةَ الْمِثْلِ وَاسْتَرْجَعَ الْمُسَمَّى ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ أُجْرَةُ الْمِثْلِ أَقَلَّ مِمَّا ادَّعَاهُ الْمُكْرِي أَوْ أَكْثَرَ : لِأَنَّهَا قِيمَةُ مُتْلِفٍ .
فَصْلٌ : وَلَيْسَ لِمُؤَجَّرِ الْأَرْضِ أَنْ يَحْتَبِسَ الْأَرْضَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ عَلَى دَفْعِ الْأُجْرَةِ ، وَلَا لِلْحَمَّالِ أَنْ يَحْبِسَ مَا اسْتُؤْجِرَ عَلَى حَمْلِهِ مِنَ الْمَتَاعِ لِيَأْخُذَ الْأُجْرَةَ : لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ أَمَانَةٌ وَلَيْسَ بِرَهْنٍ ، فَأَمَّا الصَّانِعُ الْمُسْتَأْجَرُ عَلَى عَمَلٍ مِنْ خِيَاطَةٍ ، أَوْ صِيَاغَةٍ ، أَوْ صَبْغٍ ، هَلْ لَهُ احْتِبَاسُ مَا بِيَدِهِ مِنَ الْعَمَلِ عَلَى أُجْرَتِهِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَيْسَ لَهُ ذَاكَ قِيَاسًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا . وَالثَّانِي : لَهُ ذَاكَ : لِأَنَّ عَمَلَهُ مِلْكٌ لَهُ كَالْبَائِعِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوْ قَالَ رَبُّ الْأَرْضِ بِكِرَاءٍ ، وَقَالَ الْمُزَارِعُ عَارِيَةٌ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْأَرْضِ مَعَ يَمِينِهِ وَيَقْلَعُ الزَّارِعُ زَرْعَهُ ، وَعَلَى الزَّارِعِ كِرَاءُ مِثْلِهِ إِلَى يَوْمِ قَلْعِ زَرْعِهِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ فِي إِبَانِ الزَّرْعِ أَوْ غَيْرِهِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : هَذَا خِلَافُ قَوْلِهِ فِي كِتَابِ الْعَارِيَةِ فِي رَاكِبِ الدَّابَّةِ يَقُولُ : أَعَرْتَنِيهَا ، وَيَقُولُ : بَلْ أَكْرَيْتُكَهَا ، أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاكِبِ مَعَ يَمِينِهِ ، وَخِلَافُ قَوْلِهِ فِي الْغَسَّالِ يَقُولُ صَاحِبُ الثَّوْبِ : بِغَيْرِ أُجْرَةٍ ، وَيَقُولُ الْغَّسَالُ : بِأُجْرَةٍ : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ صَاحِبِ الثَّوْبِ وَأَوْلَى بِقَوْلِهِ الَّذِي قَطَعَ بِهِ فِي كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ . وَقَدْ بَيَّنْتُهُ فِي كِتَابِ الْعَارِيَةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ الْعَارِيَةِ مُسْتَوْفَاةً وَلَكِنْ نُشِيرُ إِلَيْهَا لِمَكَانِ إِعَادَتِهَا ، فَإِذَا اخْتَلَفَ رَبُّ الْأَرْضِ وَزَارِعُهَا ، فَقَالَ رَبُّهَا : بِأُجْرَةٍ ، وَقَالَ زَارِعُهَا : عَارِيَةٌ فلمن القول . قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : الْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْأَرْضِ دُونَ الزَّارِعِ ، وَقَالَ فِي الدَّابَّةِ : إِذَا اخْتَلَفَ رَبُّهَا وَالرَّاكِبُ ، فَقَالَ رَبُّهَا : بِأُجْرَةٍ ، وَقَالَ رَاكِبُهَا : عَارِيَةٌ ، أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاكِبِ دُونَ رَبِّهَا ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِنَا يَنْقُلُونَ جَوَابَ