كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي
وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِأَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ، إِذَا قِيلَ : إِنَّ صِيَامَ مِنًى لَا يَجُوزُ وَإِنَّ صِيَامَ السَّبْعَةِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْحَجِّ ، فَتَكُونُ التَّفْرِقَةُ بِيَوْمِ النَّحْرِ ، وَأَيَّامِ مِنًى الثَّلَاثَةِ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِيَوْمٍ ، وَقَدْرُ مَسَافَةِ الطَّرِيقِ ، إِذَا قِيلَ إِنَّ صِيَامَ أَيَّامِ مِنًى يَجُوزُ ، وَصِيَامُ السَّبْعَةِ بَعْدَ الرُّجُوعِ إِلَى الْوَطَنِ . وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ : يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِالْأَرْبَعَةِ أَيَّامٍ وَقَدْرِ مَسَافَةِ الطَّرِيقِ إِذَا قِيلَ الَّذِي لَا يَصُومُ أَيَّامَ مِنًى ، وَلَا يَصُومُ السَّبْعَةَ إِلَّا بَعْدَ رُجُوعِهِ إِلَى بَلَدِهِ .
فَصْلٌ : إِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّفْرِقَةَ بَيْنَهُمَا بِمَا ذَكَرْنَا وَاجِبَةٌ ، فَتَابَعَ بَيْنَ صِيَامِهَا وَوَصَلَ السَّبْعَةَ بِالثَّلَاثَةِ ، أَجْزَأَهُ مِنْ ذَلِكَ صِيَامُ الثَّلَاثَةِ ، فَأَمَّا صِيَامُ من حج متمتعا وعجز عن الهدي السَّبْعَةِ فَلَا يُجْزِئُهُ : لِأَنَّ فِيهَا مَا اسْتَحَقَّ فِطْرَهُ عَنْهَا ، وَالْحُكْمُ فِيهَا أَنْ يُسْقِطَ مِنْهَا قَدْرَ مَا يَسْتَحِقُّ مِنَ التَّفْرِقَةِ ، عَلَى الْأَقَاوِيلِ الْمَاضِيَةِ ، فَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنَ السَّبْعَةِ شَيْءٌ لَمْ يُحْسَبْ لَهُ شَيْءٌ مِنْهَا ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ صِيَامَ سَبْعَةِ أَيَّامٍ بَعْدَ أَنْ يَكْمُلَ زَمَانُ التَّفْرِقَةِ ، وَإِنْ بَقِيَ مِنْهَا شَيْءٌ أَمَّا سِتَّةُ أَيَّامٍ إِذَا قِيلَ : إِنَّ الْوَاجِبَ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهَا بِيَوْمٍ أَوْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، إِذَا قِيلَ : إِنَّ الْوَاجِبَ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهَا بِأَرْبَعَةِ أَيَّامٍ فِطْرٍ فِي حَالِهِ ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يُفْطِرِ احْتُسِبَ لَهُ مَا بَقِيَ مِنَ السَّبْعَةِ بَعْدَ التَّفْرِقَةِ ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُتَمِّمَ صِيَامَ مَا بَقِيَ مِنَ السَّبْعَةِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَفْطَرَ ، فَهَلْ يُحْتَسَبُ لَهُ بِصِيَامِ مَا بَقِيَ مِنَ السَّبْعَةِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي وُجُوبِ الْمُتَابَعَةِ مِنْ صِيَامِهَا : أَحَدُهُمَا : يُحْتَسَبُ لَهُ مَا بَقِيَ مِنْهَا ، إِذَا قِيلَ : إِنَّ الْمُتَابَعَةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ ، وَيَتِمُّ صِيَامُ السَّبْعَةِ وَيُجْزِئُهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يُحْتَسَبُ لَهُ بِمَا بَقِيَ إِذَا قِيلَ إِنَّ الْمُتَابَعَةَ وَاجِبَةٌ وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ صِيَامَ السَّبْعَةِ ، وَهَذَا الْكَلَامُ فِي السَّبْعَةِ ، فَأَمَّا الثَّلَاثَةُ : فَتُجْزِئُهُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ أَصْحَابِهِ ، إِلَّا أَبَا سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيَّ فَإِنَّهُ قَالَ : إِنْ نَوَى التَّتَابُعَ بَعْدَ صِيَامِ الثَّلَاثَةِ أَجْزَأَتْهُ الثَّلَاثَةُ ؟ لِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ ، وَيَكُونُ الْكَلَامُ فِي السَّبْعَةِ عَلَى مَا مَضَى ، وَإِنَّ نَوَى التَّتَابُعَ فِي صِيَامِ الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ دُخُولِهِ فِيهَا ، لَمْ تُجْزِهِ الثَّلَاثَةُ وَلَا السَّبْعَةُ ، وَلَزِمَهُ اسْتِئْنَافُ الْجَمِيعِ ، وَيَكُونُ فَسَادُ نِيَّتِهِ قَادِحًا فِي صَوْمِهِ ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ غَلَطٌ فَاحِشٌ ؟ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ تَفْرِيقَ الصَّوْمِ وَمُتَابَعَتَهُ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْفِعْلِ لَا بِالنِّيَّةِ ، فَلَوْ فَرَّقَ صِيَامَهُ وَلَمْ يَنْوِ كَانَ مُفَرَّقًا ، وَلَوْ تَابَعَ وَلَمْ يَنْوِ كَانَ مُتَابِعًا ، وَإِذَا لَمْ تَكُنِ النِّيَّةُ شَرْطًا فِي صِحَّةِ التَّفْرِقَةِ ، لَمْ تَكُنْ نِيَّةُ الْمُتَابَعَةِ قَادِحَةٌ فِي صِحَّةِ الصَّوْمِ مَعَ وُجُودِ التَّفْرِقَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ طُرُوءَ الْفَسَادِ عَلَى صَوْمِ بَعْضِ الْأَيَّامِ ، لَا يَقْتَضِي فَسَادَ الصَّوْمِ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَيَّامِ ، فَصَوْمُ رَمَضَانَ ، إِذَا أَفْطَرَ فِي بَعْضِهِ ، لِأَنَّ لِكُلِّ يَوْمٍ حُكْمُ نَفْسِهِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ، لَمْ يَكُنْ فَسَادُ صَوْمِ السَّبْعَةِ قَادِحًا فِي صِحَّةِ صَوْمِ الثَّلَاثَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : فِي الْأَيَّامِ الَّتِي أَسْقَطْتُمُوهَا مِنْ صَوْمِهِ لِأَجْلِ التَّفْرِيقِ ، لَمْ يَكُنْ فِيهَا مُفْطِرًا وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الصَّوْمَيْنِ مُفَرَّقًا ؟ قِيلَ الْوَاجِبُ هُوَ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الصَّوْمَيْنِ لَا الْفِطْرُ بَيْنَهُمَا ، فَإِذَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا أَجْزَأَهُ ، سَوَاءٌ كَانَ فِي زَمَانِ التَّفْرِقَةِ صَائِمًا أَوْ مُفْطِرًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُؤَدِّيًا لِهَذَا الصَّوْمِ فِي زَمَانِهِ فَصَامَ الثَّلَاثَةَ فِي الْحَجِّ وَأَرَادَ أَنْ يَصُومَ السَّبْعَةَ إِذَا رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ ، فَصَامَ فِي طَرِيقِهِ فَرْضًا أَوْ تَطَوُّعًا . حَتَّى وَصَلَ إِلَى بَلَدِهِ ، ثُمَّ عَقَّبَهُ بِصَوْمِ السَّبْعَةِ عَنْ تَمَتُّعِهِ أَجْزَأَهُ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مُجَزَّءًا فِي الْأَدَاءِ كَانَ مُجَزَّءًا فِي الْقَضَاءِ .
مَسْأَلَةٌ إِنْ لَمْ يَصُمْ حَتَى مَاتَ تَصَدَّقَ عَمَّا أَمْكَنَهُ فَلَمْ يَصُمْهُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ لَمْ يَصُمْ حَتَى مَاتَ تَصَدَّقَ عَمَّا أَمْكَنَهُ فَلَمْ يَصُمْهُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ إِذَا مَاتَ قَبْلَ تَكْفِيرِهِ فَلَمْ يَخْلُ حَالُ مَوْتِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ ، أَوْ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا ، فَإِنْ كَانَ مَوْتُهُ قَبْلَ فَرَاغِهِ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مُعْسِرًا ، فَإِنْ مَاتَ مُعْسِرًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ دَمٍ وَلَا صَوْمٍ ، أَمَّا الدَّمُ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَلْزَمْهُ ، وَأَمَّا الصَّوْمُ فَلِأَنَّهُ لَمْ يُمْكِنْهُ ، وَإِنْ مَاتَ مُوسِرًا فَفِي وُجُوبِ الدَّمِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا دَمَ عَلَيْهِ : لِأَنَّ الدَّمَ إِنَّمَا وَجَبَ لِتَمَتُّعِهِ بِالْحَجِّ ، وَإِذَا مَاتَ قَبْلَ كَمَالِ أَرْكَانِهِ لَمْ يَكْتَمِلْ لَهُ الْحَجُّ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الدَّمُ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ غَيْرَ وَاجِبٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ ، أَنَّ الدَّمَ وَاجِبٌ ، وَهُوَ فِي مَالِهِ لَازِمٌ : لِأَنَّ الدَّمَ إِنَّمَا وَجَبَ بِدُخُولِهِ فِي الْحَجِّ ، وَالدَّمُ إِذَا وَجَبَ فِي الْحَجِّ لَمْ يَسْقُطْ بِمَوْتِهِ قَبْلَ كَمَالِ الْحَجِّ كَدَمِ الْوَطْءِ وَكَفَّارَةِ الْأَدَاءِ .
فَصْلٌ إن مَاتَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ
فَصْلٌ : وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ المتمتع ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا يُكَفِّرُ بِالدَّمِ ، فَالدَّمُ فِي مَالِهِ وَاجِبٌ ، قَوْلًا وَاحِدًا : لِأَنَّ وُجُوبَ الدَّمِ قَدِ اسْتَقَرَّ بِكَمَالِ الْحَجِّ وَمَا اسْتَقَرَّ وُجُوبُهُ مِنْ حُقُوقِ الْأَمْوَالِ لَمْ يَسْقُطْ بِالْمَوْتِ كَالدُّيُونِ وَالزَّكَوَاتِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مُعْسِرًا ، يُكَفِّرُ بِالصَّوْمِ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُ قَبْلَ دُخُولِ زَمَانِ الصَّوْمِ ، كَأَنَّهُ مَاتَ قَبْلَ رُجُوعِهِ إِلَى وَطَنِهِ ، عَلَى قَوْلِهِ الْجَدِيدِ ، أَوْ قَبْلَ خُرُوجِهِ مِنْ مَكَّةَ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ فَفِيهِمَا قَوْلَانِ حَكَاهُمَا الرَّبِيعُ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الدَّمَ دَيْنٌ عَلَيْهِ : لِأَنَّ بِتَمَتُّعِهِ قَدْ وَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ ، وَبِمَوْتِهِ قَبْلَ زَمَانِ الصَّوْمِ بِطَلَ أَنْ يَكُونَ الصَّوْمُ وَاجِبًا عَلَيْهِ فِي الْكَفَّارَةِ ، فَثَبَتَ أَنَّ الدَّمَ هُوَ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ ، فَيُقْضَى عَنْهُ الدَّمُ بَعْدَ مَوْتِهِ مِنْ بَيْعِ عَرُوضِهِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ يَلْزَمُهُ بَيْعُهَا فِي حَيَاتِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ أَصَحُّ : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ : لِأَنَّ الدَّمَ بِاعْتِبَارِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ ، وَالصَّوْمُ بِمَوْتِهِ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَلْزَمَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ مَا لَمْ يَكُنْ لَازِمًا لَهُ فِي حَيَاتِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُ بَعْدَ دُخُولِهِ زَمَانَ الصَّوْمِ ، كَأَنْ مَاتَ بَعْدَ رُجُوعِهِ إِلَى وَطَنِهِ ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ ، لَا يَخْتَلِفُ : لِأَنَّ وُجُوبَ الصَّوْمِ قَدِ اسْتَقَرَّ بِدُخُولِهِ زَمَانَهُ ، وَالدَّمُ لَمْ يَجِبْ لِتَعَذُّرِ إِمْكَانِهِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجِبْ أَنْ يُصَامَ عَنْهُ ، لِأَنَّهُ النِّيَابَةُ فِي الصَّوْمِ ، لَا تَصِحُّ ، لَكِنْ يُنْظَرُ فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ إِمْكَانِ الصَّوْمِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، كَمَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ أَيَّامًا مِنْ رَمَضَانَ ، فَمَاتَ قَبْلَ إِمْكَانِ صِيَامِهَا ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ إِمْكَانِ الصِّيَامِ ، فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ بَدَلًا عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مُدٌّ مِنْ حِنْطَةٍ ، كَمَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ أَيَّامًا مِنْ رَمَضَانَ ، فَمَاتَ بَعْدَ إِمْكَانِ قَضَائِهَا ، وَلِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ أَطْعَمَ عَنْهُ وَلِيُّهُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مُدًّا ، فَلَوْ مَاتَ وَقَدْ أَمْكَنَهُ صِيَامُ بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ المتمتع ، لَزِمَ عَمَّا أَمْكَنَ صِيَامُهُ مُدٌّ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ عَمَّا لَمْ يَكُنْ صِيَامُهُ شَيْءٌ ، فَإِذَا وَجَبَتْ هَذِهِ الْأَمْدَادُ بَدَلًا عَمَّا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنَ الصِّيَامِ ، فَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْوَاجِبَ أَنْ يُفَرَّقَ فِي مَسَاكِينِ الْحَرَمِ ، فَإِنْ فُرِّقَ فِي مَسَاكِينِ غَيْرِ الْحَرَمِ لَمْ يُجْزِهِ ، لِأَنَّهُ مَالٌ وَجَبَ بِالْإِحْرَامِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَحِقَّهُ أَهْلُ الْحَرَمِ كَالدَّمِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يُفَرَّقَ فِي مَسَاكِينِ الْحَرَمِ ، فَإِنْ فُرِّقَ فِي غَيْرِهِمْ جَازَ ، لِأَنَّ الْإِطْعَامَ بَدَلٌ مِنَ الصَّوْمِ الَّذِي لَا يَخْتَصُّ بِالْحَرَمِ دُونَ غَيْرِهِ .
مَسْأَلَةٌ إِنْ لَمْ يَمُتْ وَدَخَلَ فِي الصَّوْمِ ثُمَّ وَجَدَ الْهَدْيَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْهَدْيُ وَإِنْ أَهْدَى فَحَسَنٌ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ لَمْ يَمُتْ وَدَخَلَ فِي الصَّوْمِ ثُمَّ وَجَدَ الْهَدْيَ ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْهَدْيُ المتمتع ، وَإِنْ أَهْدَى فَحَسَنٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ إِذَا تَمَتَّعَ وَهُوَ مُعْسِرٌ فَيَدْخُلُ فِي الصَّوْمِ ثُمَّ أَيْسَرَ أَنَّهُ يَمْضِي فِي صَوْمِهِ وَيُجْزِئُهُ ، وَسَوَاءٌ كَانَ يَسَارُهُ فِي صَوْمِ الثَّلَاثَةِ ، أَوْ فِي صَوْمِ السَّبْعَةِ ، وَذَكَرْنَا خِلَافَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهَلِ الْمُرَاعَى بِإِيسَارِهِ حَالُ الْوُجُوبِ أَوْ حَالُ الْأَدَاءِ ؟ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَحَاضِرُو الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِينَ لَا مُتْعَةَ
عَلَيْهِمْ مَنْ كَانَ أَهْلُهُ دُونَ لَيْلَتَيْنِ وَهُوَ حِينَئِذٍ أَقْرَبُ الْمَوَاقِيتِ وَمَنْ سَافَرَ إِلَيْهِ صَلَى صَلَاةَ الْحَضَرِ وَمِنْهُ يَرْجِعُ مَنْ لَمْ يَكُنْ آخِرُ عَهْدِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ حَتَّى يَطُوفَ فَإِنْ جَاوَزَ ذَلِكَ إِلَى أَنْ يَصِيرَ مُسَافِرًا أَجْزَأَهُ دَمٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ أَهْلَ الْحَرَمِ وَحَاضِرِيهِ لَا دَمَ عَلَيْهِمْ فِي مُتَعِهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، [ الْبَقَرَةِ : ] ، فَاسْتَثْنَى أَهْلَ الْحَرَمِ وَحَاضِرِيهِ فِي سُقُوطِ الدَّمِ عَنْهُمْ إِذَا تَمَتَّعُوا ، وَهُمْ كَغَيْرِهِمْ فِي أَخْذِ التَّمَتُّعِ لَهُمْ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنَّمَا اسْتَثْنَاهُمْ فِي أَنَّهُ يُكْرَهُ لَهُمْ إِذَا تَمَتَّعُوا ، وَهُمْ كَغَيْرِهِمْ فِي وُجُوبِ الدَّمِ عَلَيْهِمْ ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعْرِفَةُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِمْ أَرْبَعَةُ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ : أَنَّ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مَنْ كَانَ مِنْ جَوَانِبِ الْحَرَمِ عَلَى مَسَافَةٍ لَا يُقْصَرُ فِي مِثْلِهَا الصَّلَاةُ ، وَقَدْرُهُ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ مِيلًا ، وَهُوَ بِسَيْرِ النَّقَلِ وَدَبِيبِ الْقَدَمِ مَسَافَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّهُمْ مَنْ كَانَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَوَاقِيتِ ، وَبِهِ قَالَ مَكْحُولٌ . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّهُمْ أَهْلُ الْحَرَمِ ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ . وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ : أَنَّهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ وَذِي طُوًى اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [ الْبَقَرَةِ : ] ، وَحَاضِرُو الشَّيْءِ مَنْ كَانُوا مُجَاوِرِينَ لَهُ وَقَرِيبًا مِنْهُ ، دُونَ مَنْ كَانَ مُنْقَطِعًا عَنْهُ وَبَعِيدًا مِنْهُ ، قَالَ : وَلِأَنَّ مِيقَاتَ أَهْلِ مَكَّةَ مِنْهَا ، وَمِيقَاتُ مَنْ كَانَ مِنْهَا عَلَى دُونَ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مِنْ مَوْضِعِهِمْ ، وَلَوْ أَحْرَمُوا مِنْ مَكَّةَ كَانَ دَمُ قِرَانِ الْمِيقَاتِ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ ، فَلَوْ كَانُوا مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَأَهْلِ مَكَّةَ فِي سُقُوطِ التَّمَتُّعِ عَنْهُمْ ، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونُوا كَأَهْلِ مَكَّةَ فِي سُقُوطِ دَمِ الْمِيقَاتِ عَنْهُمْ ، فَلَمَّا لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فِي الْمِيقَاتِ ، لَمْ يَكُونُوا كَأَهْلِ مَكَّةَ فِي التَّمَتُّعِ ، فَهَذَانِ دَلِيلَا مَالِكٍ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ : لِأَنَّ مَذْهَبَيْهِمَا يَتَدَاخَلَانِ ، وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَنْ قَالَ : الْمِيقَاتُ مَحَلُّ النُّسُكِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَهْلُهُ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، كَأَهْلِ مِنًى وَعَرَفَاتٍ . قَالَ : وَلِأَنَّ الْمَوَاقِيتَ جُعِلَتْ حَدًّا بَيْنَ مَا قَرُبَ مِنَ الْحَرَمِ ، وَبَيْنَ مَا بَعُدَ عَنْهُ ، فَوَجَبَ أَنْ يُحْكَمَ لِمَنْ فِيهِ وَدُونَهُ بِأَنَّهُ مِنْ حَاضِرِيهِ ، وَلِمَنْ وَرَاءَهُ بِأَنَّهُ مِنْ غَيْرِ حَاضِرِيهِ .
فَصْلٌ : وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ : قَوْلُهُ تَعَالَى : ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [ الْبَقَرَةِ : ] . وَالْمُرَادُ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ : الْحَرَمُ قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى : سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [ الْإِسْرَاءِ : ] ، يَعْنِي : الْحَرَمَ : لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حِينَ أُسْرِيَ بِهِ فِي الْمَسْجِدِ ، وَإِنَّمَا كَانَ فِي مَنْزِلِ خَدِيجَةَ ، وَقَالَ تَعَالَى : هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [ الْفَتْحِ : ] ، يَعْنِي : الْحَرَمَ . وَقَالَ تَعَالَى : فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ [ التَّوْبَةِ : ] ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْحَرَامِ فَإِنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْحَرَمَ عَلَى مَا دَلَّلْنَا إِلَّا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [ الْبَقَرَةِ : ] ، إِنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْكَعْبَةَ ، وَإِذَا ثَبَتَ بِمَا دَلَّلْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ : الْحَرَمُ ، فَحَاضِرُو الْحَرَمِ غَيْرُ مَنْ فِي الْحَرَمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ [ الْأَعْرَافِ : ] ، قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ : هِيَ " أُبُلَّةُ " وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا لَيْسَتْ فِي الْبَحْرِ ، وَإِنَّمَا هِيَ مُقَارِبَةٌ لِلْبَحْرِ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُمْ غَيْرُ أَهْلِ الْحَرَمِ ، بَطُلَ قَوْلُ مَالِكٍ وَمَنْ قَارَبَ قَوْلَهُ ، وَانْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ ، فَيُقَالُ لَهُ : حَاضِرُو الْحَرَمِ مَنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ دُونَ مَنْ كَانَ بَعِيدًا ، كَمَا يُقَالُ : كُنْتُ بِحَضْرَةِ فُلَانٍ ، أَيْ قَرِيبًا مِنْهُ ، وَهَذِهِ حَضْرَةُ الْمَلِكِ لِلْبَلَدِ الَّذِي مُتَوَلِّيهِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ الْبِلَادِ إِلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَاعْتِبَارُ الْقُرْبِ بِمَا لَا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ أَوْلَى مِنَ اعْتِبَارِهِ بِالْمِيقَاتِ : لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَنْ فِيهِ فِي حُكْمِ الْمُقِيمِ بِمَكَّةَ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَسْتَبِيحُ رُخَصَ السَّفَرِ ، فَكَانُوا بِالْقُرْبِ أَوْلَى مِنْ أَهْلِ الْمِيقَاتِ الَّذِينَ قَدْ يَسْتَبِيحُونَ رُخَصَ السَّفَرِ كَالْأَبَاعِدِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْجِهَاتِ ، وَالْأَمْكِنَةِ ، وَمَوَاقِيتِ الْبِلَادِ مُخْتَلِفَةٌ ، فَمِيقَاتُ الْمَشْرِقِ ذَاتُ عِرْقٍ ، وَهِيَ عَلَى مَسَافَةِ يَوْمٍ ، وَمِيقَاتُ الْمَدِينَةِ ذُو الْحُلَيْفَةِ ، وَهِيَ عَلَى مَسِيرَةِ عَشَرَةِ أَيَّامٍ ، فَيُؤَدِّي إِلَى أَنَّ مَنْ كَانَ فَوْقَ ذَاتِ عِرْقٍ بِذِرَاعٍ فَهُوَ بَعِيدٌ مِنَ الْحَرَمِ ، وَلَيْسَ مِنْ حَاضِرِيهِ ، وَبَيْنَهُمَا مَسَافَةُ يَوْمٍ ، وَمَنْ كَانَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ فَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْحَرَمِ وَمِنْ جُمْلَةِ حَاضِرِيهِ ، وَبَيْنَهُمَا عَشَرَةُ أَيَّامٍ ، وَهَذَا بَعِيدٌ فِي الْمَعْقُولِ فَاسِدٌ فِي الْعِبْرَةِ . وَيَدُلُّ عَلَى مَالِكٍ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ أَنْ يُقَالَ : كُلٌّ مَنْ لَمْ يَسْتَبِحْ رُخَصَ السَّفَرِ فَهُوَ مِنْ حَاضِرِي الْحَرَمِ ، وَكَأَهْلِ ذِي طُوًى . فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ ، فَالْخِلَافُ مَعَهُ يَتَقَرَّرُ فِي مَوْضِعَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَنْ كَانَ فَوْقَ الْمِيقَاتِ عَلَى مَسَافَةٍ لَا تُقْصَرُ فِي مِثْلِهَا الصَّلَاةُ ، فَعِنْدَهُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ حَاضِرِي الْحَرَمِ ، وَعِنْدَنَا أَنَّهُ مِنْ حَاضِرِيهِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ ، أَنَّ مَنِ اسْتَبَاحَ رُخَصَ السَّفَرِ لَمْ يَكُنْ مِنْ حَاضِرِي الْحَرَمِ ، كَمَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ مَالِكٌ مِنَ الْآيَةِ ، فَقَدْ مَضَى فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَيْهِ .
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ مِنْ وُجُوبِ دَمِ الْفَوَاتِ مُخَالَفَةً لِأَهْلِ الْحَرَمِ : وَهُوَ أَنَّ الْحَرَمَ مِيقَاتٌ لِأَهْلِهِ دُونَ غَيْرِهِمْ ، وَلَيْسَ مَنْ كَانَ مِنْ حَاضِرِي الْحَرَمِ مِنْ أَهْلِ الْحَرَمِ ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُمُ الْإِحْرَامُ مِنَ الْمَحْرَمِ ، فَلَزِمَهُمُ الدَّمُ لِإِخْلَالِهِمْ بِالْإِحْرَامِ مِنْ مِيقَاتِهِمْ ، وَأَمَّا قِيَاسُ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مِنًى وَعَرَفَاتٍ ، فَالْمَعْنَى فِيهِمَا أَنَّهُمَا عَلَى مَسَافَةٍ لَا تُقْصَرُ فِي مِثْلِهَا الصَّلَاةُ . وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّهَا جُعِلَتْ حَدًّا بَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ : لِأَنَّهَا جُعِلَتْ حَدًّا لِلْإِحْرَامِ ، وَلَمْ تُجْعَلْ حَدًّا لِلْقُرْبِ وَالْبُعْدِ ، وَلَوْ جُعِلَتْ حَدًّا لِلْقُرْبِ وَالْبُعْدِ لَاسْتَوَتِ الْمَوَاقِيتُ كُلُّهَا فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ حَاضِرِي الْحَرَمِ مَنْ كَانَ عَلَى مَسَافَةٍ لَا تُقْصَرُ فِي مِثْلِهَا الصَّلَاةُ ، فَكُلُّ مَنْ تَمَتَّعَ مِنْ أَهْلِ الْحَرَمَ أَوْ حَاضِرِيهِ ، فَلَا دَمَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْحَرَمِ وَحَاضِرِيهِ فَعَلَيْهِ إِذَا تَمَتَّعَ أَوْ قَرَنَ دَمٌ ، لِتَمَتُّعِهِ أَوْ قِرَانِهِ : لِأَنَّهُ قَدْ تَمَّ بِهِ سُقُوطُ أَحَدِ الْمِيقَاتَيْنِ ، لِأَنَّهُ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ مِنَ الْحَرَمِ ، وَقَدْ كَانَ يَلْزَمُهُ أَنْ يُحْرِمَ بِهِ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ ، فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا تَمَتَّعَ وَلَهُ وَطَنَانِ ، أَحَدُهُمَا بِالْحَرَمِ أَوْ حَاضِرِيهِ ، وَالثَّانِي بِغَيْرِهِ ، اعْتُبِرَ أَكْثَرُ مُقَامِهِ ، فَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ مُقَامِهِ بِالْحَرَمِ فَهُوَ فِي حُكْمِ أَهْلِهِ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ فِي تَمَتُّعِهِ ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ مُقَامِهِ بِغَيْرِ الْحَرَمِ وَحَاضِرِيهِ وَجَبَ تَغْلِيبُ حُكْمِهِ وَلَزِمَهُ الدَّمُ : لِتَمَتُّعِهِ ، وَإِنِ اسْتَوَى مُقَامُهُ فِيهِمَا اعْتُبِرَ حَالُ مَآلِهِ ، فَإِنْ كَانَ فِي أَحَدِهِمَا ، أَوْ كَانَ فِيهِمَا ، أَوْ فِي أَحَدِهِمَا أَكْثَرُ ، غَلَبَ حُكْمُ الْوَطَنِ الَّذِي فِيهِ جَمِيعُ مَآلِهِ أَوْ أَكْثَرُهُ ، فَإِنِ اسْتَوَى مَآلُهُ فِي الْوَطَنَيْنِ اعْتُبِرَتْ نِيَّتُهُ فِي الْعَوْدِ إِلَى أَحَدِ الْوَطَنَيْنِ ، وَغَلَبَ حُكْمُهُ ، فَإِنِ اسْتَوَى مَآلُهُ مِنَ الْوَطَنَيْنِ قَالَ أَصْحَابُنَا : غَلَبَ حُكْمُ الْبَلَدِ الَّذِي خَرَجَ بِهِ .
فَصْلٌ : فَلَوْ أَنَّ عِرَاقِيًّا دَخَلَ مَكَّةَ وَنَوَى الْمُقَامَ بِهَا ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ التَّمَتُّعَ بَعْدَ مُقَامِهِ ، لَمْ يَلْزَمْهُ دَمٌ : لِأَنَّهُ تَمَتَّعَ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ ، وَلَوْ أَنَّ مَكِّيًّا دَخَلَ الْعِرَاقَ وَنَوَى بِهَا الْمُقَامَ ثُمَّ تَمَتَّعَ لَزِمَهُ الدَّمُ لِتَمَتُّعِهِ : لِأَنَّهُ تَمَتَّعَ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ ، وَلَكِنْ لَوْ تَمَتَّعَ الْعِرَاقِيُّ ، ثُمَّ نَوَى الْمُقَامَ بِمَكَّةَ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ دَمُ التَّمَتُّعِ فَوُجُوبُهُ عَلَيْهِ قَبْلَ مُقَامِهِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْإِمْلَاءِ : فَلَوْ تَمَتَّعَ الْعِرَاقِيُّ فَحِينَ فَرَغَ مِنْ عُمْرَتِهِ نَوَى الْمُقَامَ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ دَمُ التَّمَتُّعِ ، وَهَذَا صَحِيحٌ : لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُقِيمًا لِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ ، إِلَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا فِعْلُ الْإِقَامَةِ ، وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى فِعْلِ الْإِقَامَةِ قَبْلَ حَجِّهِ لِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى مِنًى وَعَرَفَاتٍ ، فَكَانَ يُعَدُّ فِي حُكْمِ الْمُسَافِرِ وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ دَمُ التَّمَتُّعِ .
فَصْلٌ إِذَا فَرَغَ الْمُتَمَتِّعُ مِنْ عُمْرَتِهِ وَأَحَلَّ مِنْهَا فَهُوَ حَلَالٌ كَغَيْرِهِ
فَصْلٌ : فَإِذَا فَرَغَ الْمُتَمَتِّعُ مِنْ عُمْرَتِهِ وَأَحَلَّ مِنْهَا ، فَهُوَ حَلَالٌ كَغَيْرِهِ ، وَلَهُ أَنْ يَتَطَيَّبَ وَيَسْتَمْتِعَ بِالنِّسَاءِ ، مَا لَمْ يُحْرِمْ بِالْحَجِّ ، سَوَاءٌ سَاقَ هَدْيًا أَوْ لَمْ يَسُقْ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ لَمْ يَسُقْ هَدْيًا جَازَ ، وَإِنْ سَاقَ هَدْيًا لَمْ يَجُزِ احْتِجَاجًا مِمَّا رُوِيَ عَنْ حَفْصَةَ : أَنَّهَا قَالَتْ : " يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا بَالُ النَّاسِ حَلُّوا مِنْ عُمْرَتِهِمْ وَلَمْ تَحِلَّ مِنْ عُمْرَتِكَ قَالَ : " لِأَنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي فَقَلَّدْتُ الْهَدْيَ ، وَلَا أُحِلُّ حَتَّى انْحَرَ " فَأَخْبَرَ أَنَّ سَوْقَ الْهَدْيِ مَنَعَهُ مِنَ التَّحَلُّلِ مِنْ عُمْرَتِهِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ " مَانِعٌ لَهُ وَلِغَيْرِهِ . وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ ، فَأَحْرَمْنَا بِعُمْرَةٍ ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهِلَّ بِالْحَجِّ ، ثُمَّ لَا يُحِلُّ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُمَا جَمِيعًا . وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ رِوَايَةُ مَالِكٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ ، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ، فَأَمَّا الَّذِينَ أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ ، فَطَافُوا وَسَعَوْا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَأَحَلُّوا ، فَأُخْبِرْتُ أَنَّ مَنْ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ أَحَلَّ مِنْهَا ، وَقَدْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ سَاقَ هَدْيًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ سَوْقَ الْهَدْيِ غَيْرُ مَانِعٍ مِنَ الْإِحْلَالِ ، وَلِأَنَّهُ مُتَمَتِّعٌ أَكْمَلَ أَفْعَالَ عُمْرَتِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَجُوزَ لَهُ التَّحَلُّلُ مِنْهَا كَمَنْ لَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ وَقْتًا لِلْإِحْلَالِ لِمَنْ لَا هَدْيَ مَعَهُ ، كَانَ وَقْتًا لِإِحْلَالِ مَنْ مَعَهُ الْهَدْيُ ، كَالْمُفْرِدِ وَالْقَارِنِ ، يُحِلُّ إِذَا كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ ، فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَحِلُّ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ ، كَذَلِكَ الْمُتَمَتِّعُ ، وَلِأَنَّهُ سُمِّيَ مُتَمَتِّعًا لِتَمَتُّعِهِ بَيْنَ الْإِحْرَامَيْنِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ ، لِأَنَّ الِاسْمَ يَزُولُ عَنْهُ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ لَا يُثْبِتُونَهُ ، لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُتَمَتِّعًا ، وَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّهُ كَانَ قَارِنًا ، وَنَحْنُ نَرَى أَنَّهُ كَانَ مُفْرِدًا ، فَلَمْ يَصِحَّ لَنَا وَلَهُمُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ ، لِاعْتِقَادِنَا خِلَافَهُ . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : تَسْلِيمُ الْحَدِيثِ لَهُمْ ، وَتَرْكُ مَنْعِهِمْ مِنْهُ ، وَتَأَوُّلُهُ عَلَى مَا يَصِحُّ فَيَقُولُ : إِنَّ مَعْنَى قَوْلِ حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : مَا بَالُ النَّاسِ قَدْ حَلُّوا مِنْ عُمْرَتِهِمْ وَلَمْ تَحِلَّ مِنْ عُمْرَتِكَ ، أَيْ مَا بَالُ النَّاسِ حَلُّوا مِنْ حَجِّهِمْ بِعَمَلِ عُمْرَتِهِمْ وَلَمْ تَحِلَّ أَنْتَ مِنْ حَجِّكَ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ ، لَا أَنَّهُمْ كَانُوا أَحْرَمُوا مَعَهُ ابْتِدَاءً بِعُمْرَةٍ أَحَلُّوا مِنْهَا دُونَهُ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَدْ أَحْرَمَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِالْحَجِّ عَلَى مَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ ، ثُمَّ أَمَرَ مَنْ لَا هَدْيَ مَعَهُ أَنْ يَفْسَخَ حَجَّهُ إِلَى عُمْرَةٍ ، وَمَنْ مَعَهُ هَدْيٌ أَنْ يُقِيمَ عَلَى حَجِّهِ ، وَقِيلَ : بَلْ كَانَ إِحْرَامُهُ وَإِحْرَامُهُمْ مَوْقُوفًا ، فَأَمَرَ مَنْ لَا هَدْيَ مَعَهُ أَنْ يَصْرِفَ إِحْرَامَهُ إِلَى عُمْرَةٍ ، وَمَنْ مَعَهُ هَدْيٌ أَنْ يَصْرِفَهُ إِلَى الْحَجِّ ، فَلَمَّا رَأَتْ حَفْصَةُ أَنَّهُمْ قَدْ أَحَلُّوا مِنْ إِحْرَامِهِمْ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ ، وَهُوَ بَاقٍ عَلَى إِحْرَامِهِ لَمْ يَتَحَلَّلْ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ ، سَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي وَقَلَّدْتُ الْهَدْيَ فَلَا أُحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ فَأَخْبَرَهَا عَنِ السَّبَبِ الَّذِي مَنَعَهُ مِنَ التَّحَلُّلِ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ لِأَبِي حَنِيفَةَ دَلَالَةٌ .
وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَالْمَرْوِيُّ عَنْهَا خِلَافُهُ ، عَلَى أَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِيهِ أَيْضًا : لِأَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " وَمَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهِلَّ بِالْحَجِّ " . إِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِمَنْ كَانَ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ أَنْ يُهِلَّ بِالْحَجِّ فَيَصِيرُ قَارِنًا ، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ لَا يُحِلَّ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهَا جَمِيعًا ، وَكَذَا نَقُولُ فِي الْقَارِنِ : إِنَّهُ لَا يُحِلَّ حَتَّى يَفْرُغَ مِنَ النُّسُكَيْنِ جَمِيعًا .
فَصْلٌ : فَأَمَّا فَسْخُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَجَّ عَلَى أَصْحَابِهِ ، وَأَمْرُهُ لَهُمْ أَنْ يُحِلُّوا بِالْعُمْرَةِ فَالَّذِي يُومِئُ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فَسْخًا ، وَإِنَّمَا أَحْرَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ إِحْرَامًا مَوْقُوفًا ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ لَا هَدْيَ مَعَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنْ يَصْرِفَ إِحْرَامَهُ إِلَى عُمْرَةٍ ، وَمَنْ مَعَهُ هَدْيٌ أَنْ يَصْرِفَ إِحْرَامَهُ إِلَى الْحَجِّ ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ طَاوُسٍ ، وَقَالَ غَيْرُ الشَّافِعِيِّ : إِنَّهُ كَانَ فَسْخًا وَإِنَّهُمْ كَانُوا قَدْ أَحْرَمُوا بِالْحَجِّ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ لَا هَدْيَ مَعَهُ أَنْ يَفْسَخَ حَجَّهُ وَيَتَحَلَّلَ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ ، الرِّوَايَةُ بِهَذَا أَشْهَرُ ، وَقَدْ رَوَى أَبُو نَضْرَةَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى مَا أَوْمَأَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ ، جَازَ فِعْلُ مِثْلِهِ فِي وَقْتِنَا هَذَا : لِأَنَّ الْإِحْرَامَ الْمَوْقُوفَ جَائِزٌ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى مَا قَالَهُ غَيْرُ الشَّافِعِيِّ : مِنْ فَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ لَمْ يَجُزْ فَسْخُ الْحَجِّ لَنَا خَاصَّةً ، وَلَا لِمَنْ بَعْدَنَا ، فَقَالَ : بَلْ لَكُمْ خَاصَّةً ، فِعْلُ مِثْلِهِ فِي وَقْتِنَا هُنَا ، لِمَا رَوَى بِلَالُ بْنُ الْحَارِثِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : " قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَسْخُ الْحَجِّ لَنَا خَاصَّةً أَوْ لَنَا وَلِمَنْ بَعْدَنَا فَقَالَ : بَلْ لَكُمْ خَاصَّةً . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ قَالَ : إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ الرَّهْطُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
بَابُ مَوَاقِيتِ الْحَجِّ
مَوَاقِيتُ الْحَجِّ خَمْسَةٌ
بَابُ مَوَاقِيتِ الْحَجِّ قَالَ الشَّافِعِيُّ : " مِيقَاتُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ ، وَأَهْلِ الشَّامِ وَمِصْرَ وَالْمَغْرِبِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْجُحْفَةِ ، وَأَهْلِ تِهَامَةِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمُ وَأَهْلِ نَجْدِ الْيَمَنِ قَرْنُ وَأَهْلِ الْمَشْرِقِ ذَاتُ عِرْقٍ وَلَوْ أَهَلُّوا مِنَ الْعَقِيقِ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْمِيقَاتُ فِي لِسَانِهِمْ فَهُوَ الْحَدُّ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [ الْبَقَرَةِ : ] ، يَعْنِي أَنَّهَا حَدٌّ لِإِحْلَالِ دُيُونِهِمْ ، وَأَوْقَاتِ حَجِّهِمْ وَعِبَادَاتِهِمْ فَمَوَاقِيتُ الْحَجِّ خَمْسَةٌ : أَحَدُهَا : ذُو الْحُلَيْفَةِ ؟ وَهُوَ مِيقَاتُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ . وَالثَّانِي : الْجُحْفَةُ وَهُوَ مِيقَاتُ أَهْلِ الشَّامِ وَمِصْرَ وَالْمَغْرِبِ . وَالثَّالِثُ : يَلَمْلَمُ ، وَقِيلَ : الْمُسَلَّمُ ، وَهُوَ مِيقَاتُ أَهْلِ تِهَامَةَ وَالْيَمَنِ . وَالرَّابِعُ : قَرْنُ وَهُوَ مِيقَاتُ أَهْلِ نَجْدٍ . وَالْخَامِسُ : ذَاتُ عِرْقٍ وَهُوَ مِيقَاتُ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَالْمَشْرِقِ ، فَهَذِهِ خَمْسَةُ مَوَاقِيتَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَرْبَعَةٍ مِنْهَا مُقَدَّرَةٍ بِنَصِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ ذُو الْحُلَيْفَةِ وَالْجُحْفَةُ وَيَلَمْلَمُ وَقَرْنُ ، لِرِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " يُهِلُّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ وَأَهْلُ الشَّامِ مِنَ الْجُحْفَةِ وَأَهْلُ نَجْدٍ مِنْ قَرْنَ " . هَذِهِ الثَّلَاثَةُ سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأُخْبِرْتُ أَنَّهُ قَالَ : " وَيُهِلُّ أَهْلُ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ " . وَرَوَى طَاوُسٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ ، وَلِأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ ، وَلِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ ، وَلِأَهْلِ ، الْيَمَنِ يَلَمْلَمُ فَهُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ لِمَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ ، فَمَنْ كَانَ دُونَهُنَّ فَمِنْ حَيْثُ يَبْدَأُ " فَأَمَّا الْمِيقَاتُ الْخَامِسُ : وَهُوَ ذَاتُ عِرْقٍ ، فَهُوَ
مِيقَاتُ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَالْمَشْرِقِ ، وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ : هَلْ ثَبَتَ مُقَدَّرًا بِنَصِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ قِيَاسًا بِاجْتِهَادِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ : فَحُكِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ وَطَاوُسٍ أَنَّ ذَاتَ عِرْقٍ مُؤَقَّتَةٌ بِاجْتِهَادٍ لَا بِنَصٍّ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَمَا أَرَاهُ إِلَّا كَمَا قَالَ طَاوُسٌ . وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَعَطَاءٍ أَنَّهَا مُؤَقَّتَةٌ بِنَصٍّ كَغَيْرِهَا مِنَ الْمَوَاقِيتِ ، فَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ ذَاتَ عِرْقٍ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهَا ، اسْتَدَلَّ بِرِوَايَةِ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قِيلَ لَهُ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُؤَقِّتْ لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ سُنَنًا ، فَقَالَ : انْظُرُوا مَا حَالُ طَرِيقِهِمْ ، قَالُوا : قَرَنُ ، قَالَ : اجْعَلُوا مِيقَاتَهُمْ ذَاتَ عِرْقٍ . قَالُوا : وَلِأَنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ وَالْمَشْرِقِ كَانُوا كُفَّارًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَنُصَّ عَلَى مِيقَاتِهِمْ وَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ ؟ وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ ذَاتَ عِرْقٍ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا ، اسْتَدَلَّ عَلَى مَا رَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَّتَ لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ ذَاتَ عِرْقٍ " . وَرَوَى ابْنُ لَهِيعَةٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَّتَ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتَ عِرْقٍ " . وَرَوَى هِلَالُ بْنُ زَيْدِ بْنِ يَسَارٍ عَنَ أَنَسٍ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَّتَ لِأَهْلِ الْبَصْرَةِ ذَاتَ عِرْقٍ " وَهَذَا أَصَحُّ الْمَذْهَبَيْنِ لِهَذِهِ النُّصُوصِ الثَّابِتَةِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّافِعِيُّ لَمْ تَبْلُغْهُ هَذِهِ الْأَخْبَارُ ، فَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَغَيْرُ ثَابِتٍ عَنْهُ ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ كُفْرِ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَالْمَشْرِقِ ، فَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْمَغْرِبِ أَيْضًا كُفَّارًا ، وَكَانَ بِالشَّامِ قَيْصَرُ ، وَبِمِصْرَ الْمُقَوْقِسُ ، وَنَصَّ عَلَى مِيقَاتِهِمْ مَعَ كُفْرِهِمْ ، فَكَذَلِكَ أَهْلُ الْعِرَاقِ وَالْمَشْرِقِ ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَطْلَعَهُ عَلَى إِسْلَامِهِمْ أَلَا تَرَى مَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . أَنَّهُ قَالَ : زُوِيَتْ لِيَ الْأَرْضُ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا ، وَسَيَبْلُغُ مُلْكُ أُمَّتِي مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا . وَقَالَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ : يُوشِكُ أَنْ تَخْرُجَ الظَّعِينَةُ مِنَ الْحِيرَةِ تَؤُمُّ الْبَيْتَ لَا جِوَارَ مَعَهَا لَا تَخَافُ إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى . عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ بِمُشْرِقِ مَكَّةَ مِمَّا يَلِي أَرْضَ نَجْدٍ خَلْقٌ مِنَ الْعَرَبِ قَدْ أَسْلَمُوا مِنْ بَنِي عَامِرٍ وَبَنِي سُلَيْمٍ وَغَيْرِهِمْ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَقَّتَهُ لَهُمْ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ ذَاتَ عِرْقٍ مِيقَاتُ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَالْمَشْرِقِ ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَوْ أَحْرَمُوا مِنَ الْعَقِيقِ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ ؟ وَالْعَقِيقُ هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي عَنْ يَسَارِ الذَّاهِبِ مِنْ نَاحِيَةِ الْعِرَاقِ إِلَى مَكَّةَ مِمَّا يَلِي قَرْنَ مِنْ وَرَاءِ الْمَقَابِرِ وَسَيْلِ الْوَادِي عِنْدَ النَّخَلَاتِ الْمُفْتَرِقَةِ : وَقَدْ قَالَ
قَوْمٌ : إِنَّ حَدَّ الْعَقِيقِ حد ميقات أهل المشرق مَا بَيْنَ بَرِيدِ النُّقْرَةِ إِلَى الْعَرَمَةِ وَعِرْقٍ هُوَ الْجَبَلُ الْمُشْرِفُ عَلَى الْعَقِيقِ ، وَهَذِهِ الْقَرْيَةُ الْمُحْدَثَةُ بِهَا ، أَحْدَثَهَا طَلْحَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرِ الصِّدِّيقِ فِي عَهْدِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ ، حِينَ أَقْطَعَهُ إِيَّاهَا ، وَإِنَّمَا اسْتَحَبَّ الشَّافِعِيُّ الْإِحْرَامَ مِنَ الْعَقِيقِ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ يَرْوِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَّتَ لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ الْعَتِيقِ ، وَرَوَى الشَّافِعِيُّ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ رَأَى رَجُلًا يُرِيدُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ فَيَأْخُذُ بِيَدِهِ حَتَّى خَرَجَ مِنَ الْبُيُوتِ ، وَقَطَعَ بِهِ الْوَادِيَ وَأَتَى بِهِ الْمَقَابِرَ ، وَقَالَ : هَذِهِ ذَاتُ عِرْقٍ الْأُولَى ، فَأَحْرِمْ مِنْهَا يَا ابْنَ أَخِي وَرُوِيَ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ قَالَ : أَخَذَ بِيَدِي أَبُو هُرَيْرَةَ فَأَخْرَجَنِي إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ ، وَقَالَ : مِنْ هَاهُنَا فَأَحْرِمُ . فَلِذَلِكَ مَا اسْتَحَبَّ الْإِحْرَامَ مِنَ الْعَقِيقِ لِيَكُونَ مُحْتَاطًا ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ : لِأَنَّ ذَاتَ عِرْقٍ أَثْبَتُ فِي الرِّوَايَةِ مِنَ الْعَقِيقِ مَعَ مَا اقْتَرَنَ بِهَا مِنَ الْعَمَلِ الْجَارِي فِي السَّلَفِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ كُلِّ عَصْرٍ .
فَصْلٌ إِذَا كَانَ الْمِيقَاتُ فِي مَوْضِعٍ أَوْ قَرْيَةٍ فَخَرِبَ وَأَحْدَثَ النَّاسُ بَعْدَهُ قَرْيَةً ، فَالْمِيقَاتُ مِنَ الْمَوْضِعِ الْأَوَّلِ
فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : إِذَا كَانَ الْمِيقَاتُ فِي مَوْضِعٍ أَوْ قَرْيَةٍ فَخَرِبَ وَأَحْدَثَ النَّاسُ بَعْدَهُ قَرْيَةً ، فَالْمِيقَاتُ مِنَ الْمَوْضِعِ الْأَوَّلِ الَّذِي خَرِبَ ، لَا الْمَوْضِعِ الْمُخْلَفِ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَإِذَا كَانَ الْمِيقَاتُ قَرْيَةً أَهَلَّ مِنْ أَقْصَاهُمَا مِمَّا يَلِي بَلَدَهُ الَّذِي هُوَ أَبْعَدُ مِنَ الْحَرَمِ ، وَأَقَلُّ مَا عَلَيْهِ فِيهِ أَنْ يُهِلَّ مِنَ الْقَرْيَةِ وَلَا يَخْرُجُ مِنْ بُيُوتِهَا ، أَوْ مِنَ الْوَادِي أَوْ مِنَ الْجَبَلِ إِلَّا مُحْرِمًا ، وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ أَقْصَاهَا لِيَكُونَ فِي جَمِيعِ مِيقَاتِهِ مُحْرِمًا ، وَيَجُوزُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ أَدْنَاهَا : لِأَنَّ حُكْمَ جَمِيعِ الْمِيقَاتِ وَاحِدٌ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ تَحْدِيدُ الْمَوَاقِيتِ بِمَا ذَكَرْنَا ، فَلَا يَجُوزُ مُجَاوَزَتُهَا بِالْإِحْرَامِ ، وَيَجُوزُ التَّقَدُّمُ عَلَيْهَا بِالْإِحْرَامِ ، وَفِي الْأُولَى قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْإِمْلَاءِ أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يُحْرِمَ الرَّجُلُ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ بَعْدَ أَخْذِهِ فِي السَّيْرِ ، فَأَمَّا قَبْلَ أَخْذِهِ فَلَا ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [ الْبَقَرَةِ : ] ، وَقَدْ قَالَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا : إِتْمَامُهُمَا أَنْ تُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَالْإِتْمَامُ أَفْضَلُ ، وَرَوَتْ أَمُّ سَلَمَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ أَحْرَمَ مِنَ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى غُفِرَ لَهُ ، وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَحْرَمَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَحْرَمَ مِنَ الشَّامِ ، وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرِ بْنِ
كُرَيْزٍ أَحْرَمَ مِنْ هَرَاةِ خُرَاسَانَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَلَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ إِنْكَارُ ذَلِكَ عَلَيْهِ ، وَعَدُّوهُ مِنْ فَضَائِلِهِ ، مَعَ أَنَّهُ كَانَ وَالِيًا تُحْصَى آثَارُهُ ، وَتُعَدُّ هَفَوَاتُهُ : وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ نُسُكٌ ، وَقَطْعُ الْمَسَافَةِ طَاعَةٌ ، فَكَانَ فِعْلُهُ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : إِنَّ الْإِحْرَامَ مِنَ الْمِيقَاتِ أَوْلَى : وَبِهِ قَالَ مِنَ التَّابِعِينَ عَطَاءٌ ، وَالْحَسَنُ . وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّ مَرَّةً وَاعْتَمَرَ ثَلَاثًا ، فَأَحْرَمَ فِي جَمِيعِهَا مِنَ الْمِيقَاتِ ، وَلَمْ يُحْرِمْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا قَبْلَ الْمِيقَاتِ ، وَلَوْ كَانَ الْإِحْرَامُ قَبْلَ الْمِيقَاتِ أَفْضَلَ ، وَهُوَ لَا يَعْدِلُ عَنِ الْأَفْضَلِ لِاخْتِيَارِهِ لِنَفْسِهِ وَلِفِعْلِهِ وَلَوْ مَرَّةً يُنَبِّهُ النَّاسَ عَلَى فَضْلِهِ ، وَرُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّهُ أَحْرَمَ مِنَ الْبَصْرَةِ ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، وَأَغْلَظَ لَهُ ، وَقَالَ : يُحَدِّثُ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْرَمَ مِنْ مِصْرٍ مِنَ الْأَمْصَارِ ، وَلِأَنَّ تَرْكَ الْإِحْرَامِ قَبْلَ الْمِيقَاتِ مُبَاحٌ ، وَفِعْلَ الْمُحْرِمِ ، مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنَ الطِّيبِ ، وَاللِّبَاسِ ، وَإِتْيَانِ النِّسَاءِ مَعْصِيَةٌ ، وَهُوَ إِذَا أَحْرَمَ لَمْ يَأْمَنْ مُوَاقَعَةَ الْمَعْصِيَةِ بِاللِّبَاسِ وَالْجِمَاعِ الْمُقْتَضِي إِلَى الْإِفْسَادِ ، فَكَانَ تَرْكُ مَا هُوَ مُبَاحٌ مِنَ الْإِحْرَامِ لِأَجْلِ مَا هُوَ مَعْصِيَةٌ مِنَ اللِّبَاسِ وَالْجِمَاعِ أَوْلَى وَمِنَ الْغَرَرِ أَبْعَدُ .
مَسْأَلَةٌ الْمَوَاقِيتُ لِأَهْلِهَا وَلِكُلِّ مَنْ يَمُرُّ بِهَا مِمَّنْ أَرَادَ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " وَالْمَوَاقِيتُ لِأَهْلِهَا ، وَلِكُلِّ مَنْ يَمُرُّ بِهَا مِمَّنْ أَرَادَ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً ، وَأَيُّهُمْ مَرَّ بِمِيقَاتِ غَيْرِهِ ، وَلَمْ يَأْتِ مِنْ بَلَدِهِ ، كَانَ مِيقَاتُهُ مِيقَاتُ ذَلِكَ الْبَلَدِ الَّذِي مَرَّ بِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، أَمَّا قَوْلُهُ وَهَذِهِ الْمَوَاقِيتُ لِأَهْلِهَا ، أَيْ لِسُكَّانِهَا وَالْمُقِيمِينَ بِهَا ، كَأَهْلِ ذَاتِ عِرْقٍ ، وَقَوْلُهُ : " وَلِكُلِّ مَنْ يَمُرُّ بِهَا يُرِيدُ مَنْ كَانَ وَرَاءَ الْمِيقَاتِ كَأَهْلِ الْعِرَاقِ إِذَا مَرُّوا بِذَاتِ عِرْقٍ " ، وَقَوْلُهُ : " مِمَّنْ أَرَادَ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً " يُرِيدُ أَنَّ مِيقَاتَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ لِأَهْلِ الْمَوَاقِيتِ وَاحِدٌ ، وَهَذِهِ جُمْلَةٌ لَيْسَ يُعْرَفُ فِيهَا مُخَالِفٌ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهَا رِوَايَةُ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَّتَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ ، الْخَبَرَ ، إِلَى أَنْ قَالَ : " هَذِهِ الْمَوَاقِيتُ لِأَهْلِهَا وَلَكُلِّ مَنْ أَتَى عَلَيْهَا مِمَّنْ أَرَادَ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً ، وَمَنْ كَانَ دُونَ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ " . وَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا .
فَصْلٌ : وَأَمَّا قَوْلُهُ : وَأَيُّهُمْ مَرَّ بِمِيقَاتِ غَيْرِهِ وَلَمْ يَأْتِ مِنْ بَلَدِهِ ، كَانَ مِيقَاتُهُ مِيقَاتَ ذَلِكَ الْبَلَدِ الَّذِي مَرَّ بِهِ ، يُرِيدُ أَنَّ الْعِرَاقِيَّ إِذَا عَرَّجَ فِي طَرِيقِهِ حَتَّى مَرَّ بِذِي الْحَلِيفَةِ صَارَ فِي حُكْمِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، وَلَزِمَهُ الْإِحْرَامُ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ ، وَالْمَدَنِيُّ إِذَا عَرَّجَ فِي طَرِيقٍ حَتَّى مَرَّ ،
بِذَاتِ عِرْقٍ صَارَ فِي حُكْمِ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَلَزِمَهُ الْإِحْرَامُ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ ، وَقَوْلُهُ : " وَلَمْ يَأْتِ مِنْ بَلَدِهِ " لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْمَسْأَلَةِ ، كَمَا وَهِمَ فِيهِ الْمُزَنِيُّ ، فَجَعَلَهُ شَرْطًا ، بَلْ حُكْمُهُ إِنْ أَتَى مِنْ بَلَدِهِ أَوْ لَمْ يَأْتِ مِنْهُ إِذَا مَرَّ بِمِيقَاتِ غَيْرِهِ سَوَاءٌ فِي أَنَّهُ يَصِيرُ مِيقَاتًا لَهُ ، لِأَنَّنَا نُجْرِي الْمَوَاقِيتَ مَجْرَى الْقِبَلِ وَإِنَّ كُلَّ مَنْ حَصَلَ فَيَ قِبْلَةِ قَوْمٍ ، اسْتَقْبَلَهَا وَصَلَّى إِلَيْهَا ، كَالْمَشْرِقِيِّ إِذَا حَصَّلَ بِالْمَغْرِبِ أَوِ الْمَغْرِبِيِّ إِذَا حَصَّلَ بِالْمَشْرِقِ .
فَصْلٌ : فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مَرَّ بِمِيقَاتِ بَلَدِهِ وَلَمْ يُحْرِمْ مِنْهُ ، وَأَحْرَمَ مِنْ مِيقَاتِ غَيْرِ بَلَدِهِ ، نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ الْمِيقَاتُ الَّذِي أَحْرَمَ مِنْهُ مِثْلَ مِيقَاتِ بَلَدِهِ أَوْ أَبْعَدَ مِنْهُ ، كَالْعِرَاقِيِّ إِذَا مَرَّ بِذَاتِ عِرْقٍ فَلَمْ يُحْرِمْ بِهَا ، حَتَّى عَرَّجَ عَلَى ذِي الْحُلَيْفَةِ ، فَأَحْرَمَ مِنْهَا أَجْزَأَهُ ، وَلَا دَمَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ الْمِيقَاتُ الَّذِي أَحْرَمَ مِنْهُ أَقْرَبَ ، وَمِيقَاتُ بَلَدِهِ أَبْعَدَ مِنْهُ ، كَالْمَدَنِيِّ إِذَا مَرَّ بِذِي الْحُلَيْفَةِ ، فَلَمْ يُحْرِمْ مِنْهَا حَتَّى عَرَّجَ عَلَى ذَاتِ عِرْقٍ ، فَأَحْرَمَ مِنْهَا ، فَعَلَيْهِ دَمٌ ، كَمَنْ أَحْرَمَ بَعْدَ مِيقَاتِهِ إِلَى أَنْ يَعُودَ إِلَى مِيقَاتِ بَلَدِهِ مُحْرِمًا ، فَسَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ .
مَسْأَلَةٌ الْمَوَاقِيتُ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالْقِرَانِ سَوَاءٌ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَالْمَوَاقِيتُ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالْقِرَانِ سَوَاءٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ ، وَدَلَّلْنَا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فَمَنْ أَرَادَ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً " وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ فِي أَصْحَابِهِ عَامَ حَجِّهِ وَكَانُوا زُهَاءَ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ أَلْفًا فَأَحْرَمَ جَمِيعُهُمْ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ ، وَفِيهِمْ حَاجٌّ وَمُعْتَمِرٌ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَنْ سَلَكَ بَرًّا أَوْ بَحْرًا تَوَخَّى حَتَّى يُهِلَّ مِنْ حَذْوِ الْمَوَاقِيتِ أَوْ مِنْ وَرَائِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . إِذَا سَلَكَ الرَّجُلُ طَرِيقًا لَا مِيقَاتَ لَهُ مِنْ بَرٍّ أَوْ بَحْرٍ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَوَخَّى فِي الْمِيقَاتِ ، وَيَجْتَهِدَ حَتَّى يُحْرِمَ بِإِزَائِهِ أَوْ مِنْ وَرَائِهِ ، كَمَا يَتَوَخَّى فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ ، وَكَمَا يَتَوَخَّى النَّاسُ فِي ذَاتِ عِرْقٍ ، عَلَى مَا رُوِّينَا عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَإِنْ سَلَكَ مِنْ مِيقَاتَيْنِ المحرم فَلَهُمَا حَالَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَقْرَبَ إِلَيْهِ مِنَ الْآخَرِ ، فَهَذَا يَتَوَخَّى فِي الَّذِي هُوَ أَقْرَبُ إِلَيْهِ دُونَ الْآخَرِ ، سَوَاءٌ كَانَ أَبْعَدَ مِنَ الْحَرَمِ أَوْ أَقْرَبَ : لِأَنَّ حُكْمَ الْمِيقَاتَيْنِ سَوَاءٌ ، وَقَدِ اخْتَصَّ هَذَا بِالْقُرْبِ مِنْهُ ، فَكَانَ أَوْلَى مِمَّا هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرْبِ إِلَيْهِ عَلَى سَوَاءٍ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَا إِلَى الْحَرَمِ أَيْضًا وَعَلَى سَوَاءٍ ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدِ اسْتَوَتْ حَالُهُمَا فِي الْقُرْبِ إِلَيْهِ وَإِلَى الْحَرَمِ ، فَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ ، فَيَكُونُ فِيهِمَا بِالْخِيَارِ ، وَيَتَوَخَّى فِي أَيِّهِمَا شَاءَ حَتَّى يُحْرِمَ بِإِزَائِهِ أَوْ مِنْ وَرَائِهِ .
وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَا إِلَيْهِ سَوَاءً ، وَأَحَدُهُمَا أَبْعَدُ مِنَ الْحَرَمِ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَتَوَخَّى فِي الَّذِي هُوَ أَبْعَدُ مِنَ الْحَرَمِ لِمَا فِيهِ مِنَ الِاحْتِيَاطِ وَكَثْرَةِ الْعَمَلِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ الصَّحِيحُ ، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا : أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِيهِمَا يَتَوَخَّى فِي أَيِّهِمَا يَشَاءُ ، لِأَنَّ حُكْمَ الْمِيقَاتَيْنِ وَاحِدٌ ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَبْعَدُ مِنَ الْآخَرِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ اجْتِهَادِهِ فِيهِمَا وَاحِدًا ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَبْعَدُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ أَتَى عَلَى مِيقَاتٍ لَا يُرِيدُ حَجًّا وَلَا عُمْرَةً ، فَجَاوَزَهُ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يُحْرِمَ ، أَحْرَمَ مِنْهُ ، وَذَلِكَ مِيقَاتُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : هَذَا صَحِيحٌ ، وَجُمْلَةُ ذَلِكَ ، أَنَّ مَنْ مَرَّ مِيقَاتُ بَلَدِهِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُرِيدَ الْإِحْرَامَ بِنُسُكٍ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ . وَالثَّانِي : أَنْ لَا يُرِيدَ الْإِحْرَامَ بِنُسُكٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ دُخُولَ مَكَّةَ . وَالثَّالِثُ : أَنْ لَا يُرِيدَ الْإِحْرَامَ بِنُسُكٍ وَلَا يُرِيدُ دُخُولَ مَكَّةَ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يُرِيدَ الْإِحْرَامَ بِنُسُكٍ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ ، فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ بِهِ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ ، وَهُوَ قَوْلُ الْجَمَاعَةِ إِلَّا الْحَسَنَ الْبَصَرِيَّ ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيَّ ، فَإِنَّهُمَا قَالَا : الْإِحْرَامُ مِنَ الْمِيقَاتِ مُسْتَحَبٌّ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ ، وَمَنْ تَرَكَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَهَذَا مَذْهَبٌ شَاذٌّ وَاضِحُ الْفَسَادِ ، يَبْطُلُ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِعْلِهِ : لِأَنَّ الْإِحْرَامَ رُكْنٌ لَا يَصِحُّ الْحَجُّ إِلَّا بِهِ ، وَأَرْكَانُ الْحَجِّ مُقَدَّرَةٌ بِالشَّرْعِ ، وَالشَّرْعُ قَدْ وَرَدَ بِتَقْدِيرِ الْإِحْرَامِ فِي الْمِيقَاتِ ، فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِهِ لِتَقْدِيرِ الْإِحْرَامِ بِهِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِحْرَامَ مِنَ الْمِيقَاتِ وَاجِبٌ ، فَعَلَيْهِ إِذَا جَاوَزَهُ غَيْرَ مُحْرِمٍ أَنْ يَعُودَ إِلَيْهِ فَيُحْرِمُ مِنْهُ ، فَإِنْ عَادَ إِلَيْهِ ، فَابْتَدَأَ إِحْرَامَهُ مِنْهُ أَجْزَأَهُ ، وَلَا دَمَ عَلَيْهِ بِإِجْمَاعٍ ، وَإِنْ أَحْرَمَ بَعْدَهُ وَلَمْ يَبْدَأْ بِالْإِحْرَامِ مِنْهُ ، فَإِحْرَامُهُ مُنْعَقِدٌ ، وَحَجُّهُ تَامٌّ عَلَى قَوْلِ الْفُقَهَاءِ ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : لَا إِحْرَامَ لَهُ وَلَا حَجَّ ، إِلْحَاقًا بِإِحْرَامِ الصَّلَاةِ إِذَا وَقَعَ فَاسِدًا لَمْ تَنْعَقِدْ بِهِ الصَّلَاةُ ، وَهَذَا غَلَطٌ ، وَكَفَى بِإِلْحَاقِهِ بِالصَّلَاةِ حُجَّةً ، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ يَنْعَقِدُ لِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ ، كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ تَنْعَقِدُ بِالتَّكْبِيرِ مَعَ النِّيَّةِ ، وَالْمِيقَاتُ فِي الْحَجِّ كَالْوَقْتِ لِلصَّلَاةِ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا لَمْ يَبْطُلْ إِحْرَامُهُ ، فَكَذَلِكَ إِذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ بَعْدَ مُجَاوَزَةِ مِيقَاتِهِ لَمْ يَبْطُلْ إِحْرَامُهُ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ إِحْرَامَهُ يَنْعَقِدُ ، فَإِنْ مَضَى فِي حَجِّهِ وَلَمْ يَعُدْ إِلَى مِيقَاتِهِ ، فَعَلَيْهِ دَمٌ لِمُجَاوَزَةِ مِيقَاتِهِ وَهُوَ إِجْمَاعُ الْفُقَهَاءِ سِوَى مَنْ تَقَدَّمَ خِلَافُهُ وَإِنْ عَادَ إِلَى مِيقَاتِهِ قَبْلَ التَّلَبُّسِ بِشَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ حَجِّهِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، أَنَّهُ لَا دَمَ عَلَيْهِ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْعِبَارَةِ عَنْهُ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : قَدْ كَانَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ الدَّمُ لِمُجَاوَزَتِهِ ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ بِعَوْدِهِ . وَقَالَ آخَرُونَ : لَمْ يَكُنْ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ فَيَسْقُطُ ، وَإِنَّمَا يَجِبُ بِفَوَاتِ الْعَوْدِ ، وَهَذَا أَصَحُّ ، وَبِمَذْهَبِنَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ ، وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي أَنَّ عَلَيْهِ دَمًا سَوَاءٌ عَادَ أَوْ لَمْ يَعُدْ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَزُفَرٌ . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ إِنْ عَادَ إِلَى مِيقَاتِهِ مُلَبِّيًا ، فَلَا دَمَ عَلَيْهِ ، وَإِنَّ عَادَ وَلَمْ يُلَبِّ فَعَلَيْهِ دَمٌ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ مَالِكٍ وَزُفَرٍ ، فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَالْكَلَامُ مَعَهُ فِي وُجُوبِ التَّلْبِيَةِ ، وَلَهُ مَوْضِعٌ ، فَمِنْ حُجَّةِ مَالِكٍ ، مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنْ تَرَكَ نُسُكًا فَعَلَيْهِ دَمٌ " ، وَهَذَا تَارِكُ نُسُكٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ دَمٌ . قَالَ : وَلِأَنَّهُ دَمٌ وَجَبَ لِمُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ بِالْعُودِ إِلَى الْمِيقَاتِ ، كَالْعَوْدِ بَعْدَ الطَّوَافِ . قَالَ : وَلِأَنَّ دَمَ مُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ كَدَمِ الطِّيبِ وَاللِّبَاسِ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ دَمَ الطِّيبِ لَا يَسْقُطُ لِغَسْلِهِ ، وَدَمَ اللِّبَاسِ لَا يَسْقُطُ لِخَلْعِهِ ، فَكَذَلِكَ دَمُ الْمِيقَاتِ لَا يَسْقُطُ بِعُودِهِ . قَالَ : وَلِأَنَّ وُجُوبَ الدَّمِ بِمُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ جُبْرَانٌ كَسُجُودِ السَّهْوِ فِي الصَّلَاةِ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ التَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ فَلَزِمَهُ سُجُودُ السَّهْوِ ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ السَّهْوُ ، فَكَذَلِكَ إِذَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ فَلَزِمَهُ الدَّمُ ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ ، لَمْ يَسْقُطْ عِنْدَ الدَّمِ ، وَلِأَنَّ ضَمَانَ الْوَدِيعَةِ يَجِبُ بِالتَّعَدِّي فِيهَا ، كَمَا أَنَّ دَمَ الْمِيقَاتِ يَجِبُ بِمُجَاوَزَتِهِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ كُفَّ عَنِ التَّعَدِّي لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الضَّمَانُ ، فَكَذَلِكَ إِذَا عَادَ إِلَى الْمِيقَاتِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الدَّمُ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنْ لَا دَمَ عَلَيْهِ هُوَ أَنَّ الْمَأْخُوذَ عَلَيْهِ حُصُولُهُ بِالْمِيقَاتِ مُحْرِمًا ، وَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ مِنْ مِيقَاتِهِ مُبْتَدِأً ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ أَجْزَأَهُ وَقَدْ حَصَلَ مِنْهُ مَا أُخِذَ عَلَيْهِ ، فَنَقُولُ : لِأَنَّهُ حَصَلَ مُحْرَمًا فِي مِيقَاتِهِ قَبْلَ التَّلَبُّسِ بِشَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ حَجِّهِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ دَمٌ لِأَجْلِهِ ، قِيَاسًا عَلَيْهِ إِذَا ابْتَدَأَ إِحْرَامَهُ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ ، وَلِأَنَّ دَمَ مُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ ، إِنَّمَا وَجَبَ لِأَجْلِ التَّفْرِقَةِ بِتَرْكِ الْإِحْرَامِ مِنَ الْمِيقَاتِ ، وَأَنَّهُ أَحَلَّ بِقَطْعِ مَسَافَةٍ كَانَ يَلْزَمُهُ قَطْعُهَا بِالْإِحْرَامِ ، وَهُوَ إِذَا أَحْرَمَ دُونَ الْمِيقَاتِ ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ مُحْرِمًا ، لَمْ يَكُنْ بِتَرْكِ الْإِحْرَامِ مُتَرَفِّهًا ، بَلْ زَادَ نَفْسَهُ مَشَقَّةً ، وَصَارَ كَمَنْ أَحْرَمَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ الدَّمُ ، لِعَدَمِ مُوجِبِهِ ، وَلِأَنَّ مَنْ يُجَاوِزُ الْمِيقَاتَ ، ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ مُحِلًّا فَأَحْرَمَ مِنْهُ مُبْتَدِئًا ، لَمْ يَلْزَمْهُ عَلَيْهِ الدَّمُ وِفَاقًا فَلِأَنْ لَا يَلْزَمَ الدَّمُ مَنْ عَادَ إِلَيْهِ
مُحْرِمًا [ فَأَحْرَمَ مِنْهُ مُبْتَدِئًا لَمْ يَلْزَمْهُ الدَّمُ مُحْرِمًا ] ، أَوْلَى ، لِأَنَّهُ أَكْثَرُ عَمَلًا ، وَلِأَنَّ الدَّمَ يَتَعَلَّقُ بِمُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ ، كَمَا يَتَعَلَّقُ بِالدَّفْعِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ عَرَفَاتٍ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ عَادَ إِلَى عَرَفَةَ لَيْلًا سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ إِذَا عَادَ إِلَى الْمِيقَاتِ مُحْرِمًا أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ الدَّمُ ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : " مَنْ تَرَكَ نُسُكًا فَعَلَيْهِ دَمٌ " ، فَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَلَوْ صَحَّ مُسْنَدًا لَمْ يَكُنْ دَلِيلًا ، لِأَنَّهُ مَا تَرَكَ نُسُكًا ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى مَنْ عَادَ بَعْدَ الطَّوَافِ ، فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ عَادَ بَعْدَ فَوَاتِ الْوَقْتِ ، فَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الدَّمُ كَمَنْ عَادَ إِلَى عَرَفَةَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ ، وَهُوَ إِذَا عَادَ بَعْدَ الطَّوَافِ ، فَقَدْ عَادَ قَبْلَ فَوَاتِ الْوَقْتِ ، فَلِذَلِكَ سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ كَمَنْ عَادَ إِلَى عَرَفَةَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ ، وَأَمَّا اعْتِبَارُهُمْ ذَلِكَ بِدَمِ الطِّيبِ وَاللِّبَاسِ ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ . لِأَنَّ التَّرَفُّهُ بِاللِّبَاسِ مَوْجُودٌ وَإِنْ خَلَعَهُ ، وَالِاسْتِمْتَاعُ بِالطِّيبِ حَاصِلٌ وَإِنْ غَسَلَهُ فَالْتَزَمَهُ بِالْعَوْدِ إِلَى الْمِيقَاتِ ، غَيْرُ مَوْجُودٍ فَلِذَلِكَ يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ وَأَمَّا سُجُودُ السَّهْوِ ، فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ يَلْزَمُ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَسْقُطُ بِالْعَوْدِ ، وَدَمُ الْمِيقَاتِ لَا يَجِبُ بِالزِّيَادَةِ ، فَلِذَلِكَ سَقَطَ بِالْعَوْدِ ، وَأَمَّا الْوَدِيعَةُ ، إِذَا تَعَدَّى فِيهَا فَنَحْنُ وَمَالِكٌ مُجْمِعُونَ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْوَدِيعَةِ وَالْمِيقَاتِ ، لِأَنَّ مَالِكًا يَقُولُ يَسْقُطُ ضَمَانُ الْوَدِيعَةِ بِالْكَفِّ عَنِ التَّعَدِّي ، وَلَا يَسْقُطُ الدَّمُ بِالْعَودِ إِلَى الْمِيقَاتِ ، وَنَحْنُ نَقُولُ : لَا يَسْقُطُ ضَمَانُ الْوَدِيعَةِ بِالْكَفِّ عَنِ التَّعَدِّي ، وَسَقَطَ الدَّمُ بِالْعَوْدِ إِلَى الْمِيقَاتِ ، فَلَمْ يَسْلَمْ لَهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ ضَمَانَ الْوَدِيعَةِ وَجَبَ لِآدَمِيٍّ ، وَدَمُ الْمِيقَاتِ وَجَبَ لِلَّهِ تَعَالَى وَفَرَّقَ فِي الشَّرْعِ بَيْنَ إِبْدَاءِ مَا وَجَبَ لِلْآدَمِيِّينَ وَبَيْنَ إِبْرَاءِ مَا وَجَبَ لِلَّهِ تَعَالَى . أَلَا تَرَى أَنَّ الْغَاصِبَ إِذَا تَنَاوَلَ مَالَ غَيْرِهِ ثُمَّ أَرْسلَهُ لَمْ يَبْرَأْ مِنْ ضَمَانِهِ ، وَالْمُحْرِمُ إِذَا أَمْسَكَ صَيْدًا ثُمَّ أَرْسَلَهُ بَرِئَ مِنْ ضَمَانِهِ .
فَصْلٌ فِي دُخُولِ مَكَّةَ بِغَيْرِ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ
فَصْلٌ : فِي دُخُولِ مَكَّةَ بِغَيْرِ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يُرِيدَ دُخُولَ مَكَّةَ لَا لَحْجٍ وَلَا لِعُمْرَةٍ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، فِيمَنْ أَرَادَ دُخُولَ الْحَرَمِ ، هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُدْخُلَهُ حَلَالًا بِغَيْرِ نُسُكٍ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ بِأَنْ يُدْخُلَهُ بِغَيْرِ نُسُكٍ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُ الْإِحْرَامُ مِنَ الْمِيقَاتِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ أَنْ يُدْخُلَهُ إِلَّا مُحْرِمًا بِنُسُكٍ إِمَّا لِحَجٍّ أَوْ لِعُمْرَةٍ ، فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُ الْإِحْرَامُ مِنَ الْمِيقَاتِ ، فَإِنْ جَاوَزَهُ غَيْرَ مُحْرِمٍ : نُظِرَ فِي حَالِهِ ، فَإِنْ دَخَلَ مَكَّةَ غَيْرَ مُحْرِمٍ لَمْ يَلْزَمْهُ الدَّمُ لِمُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ ، لِأَنَّ الدَّمَ إِنَّمَا يُجْبَرُ بِهِ نَقْصُ النُّسُكِ ، وَلَا يَجِبُ بَدَلًا مِنْ تَرْكِ النُّسُكِ . وَإِنْ أَحْرَمَ بَعْدَ مُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ ، نُظِرَ ، فَإِنْ عَادَ إِلَى الْمِيقَاتِ مُحْرِمًا سَقَطَ عِنْدَ الدَّمُ ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ إِلَيْهِ مُحْرِمًا ، وَجَبَ عَلَيْهِ الدَّمُ لِمُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ لَا يُرِيدَ دُخُولَ مَكَّةَ ، وَلَا شَيْءَ مِنَ الْحَرَمِ ، فَلَا حُكْمَ لِاجْتِيَازِهِ بِالْمِيقَاتِ ، وَهُوَ كَسَائِرِ الْمَنَازِلِ ، لَا يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ مِنْهُ ، فَإِنْ جَاوَزَهُ ، ثُمَّ أَرَادَ الْإِحْرَامَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ بعد مجاوزة الميقات ، أَحْرَمَ مِنْ مَوْضِعِهِ الَّذِي حَدَثَتْ إِرَادَتُهُ فِيهِ ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ الْعَوْدُ إِلَى مِيقَاتِ بَلَدِهِ ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : عَلَيْهِ الْعُودُ إِلَى مِيقَاتِ بَلَدِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَعُدْ فَعَلَيْهِ دَمٌ ، كَمَنْ مَرَّ مُرِيدًا لِمِيقَاتِ بَلَدِهِ ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ ، لِأَنَّ الْعَوْدَ إِلَى الْمِيقَاتِ إِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مَنْ لَزِمَهُ الْإِحْرَامُ مِنَ الْمِيقَاتِ ، وَهَذَا لَمْ يَكُنِ الْإِحْرَامُ مِنَ الْمِيقَاتِ وَاجِبًا عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَكُنِ الْعَوْدُ وَاجِبًا عَلَيْهِ .
مَسْأَلَةٌ مَنْ كَانَ أَهْلُهُ دُونَ الْمِيقَاتِ فَمِيقَاتُهُ مِنْ حَيْثُ يُحْرِمُ مِنْ أَهْلِهِ لَا يُجَاوِزُهُ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَنْ كَانَ أَهْلُهُ دُونَ الْمِيقَاتِ ، فَمِيقَاتُهُ مِنْ حَيْثُ يُحْرِمُ مِنْ أَهْلِهِ لَا يُجَاوِزُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : هَذَا صَحِيحٌ ، مَنْ كَانَ أَهْلُهُ وَمَسْكَنُهُ بَيْنَ الْمِيقَاتِ وَمَكَّةَ كَأَهْلِ جُدَّةَ وَوَجَّ وَعُسْفَانَ ، وَالطَّائِفِ ، فَمِيقَاتُهُ مِنْ بَلَدِهِ وَدُوَيْرَةِ أَهْلِهِ فِي حَجِّهِ أَوْ عُمْرَتِهِ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يُحْرِمَ مِنَ الْمِيقَاتِ الَّذِي وَرَاءَهُ لِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنْ كَانَ أَهْلُهُ دُونَ الْمِيقَاتِ ، أَهَلَّ مِنْ حَيْثُ يُنْشِئُ يَعْنِي مِنْ حَيْثُ يَبْتَدِئُ السَّفَرَ ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا : فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [ الْبَقَرَةِ : ] . إِنَّ إِتْمَامَهُمَا أَنْ تُحْرِمَ بِهَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ ، وَلِأَنَّ الْمَوَاقِيتَ قُدِّرَتْ لِمَنْ كَانَ وَرَاءَهَا ، وَلَمْ تُقَدَّرْ لِمَنْ كَانَ دُونَهَا . أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ لَا يَلْزَمُهُمُ الْخُرُوجُ إِلَى الْمِيقَاتِ وَكَذَا مَنْ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى مَكَّةَ مِنَ الْمِيقَاتِ . فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنْ كَانَ مَنْزِلُهُ فِي قَرْيَةٍ فَهِيَ مِيقَاتُهُ ، وَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ أَبْعَدِ طَرَفَيْهَا إِلَى الْحَرَمِ ، وَأَقَلُّ مَا عَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ أَقْرَبِ طَرَفَيْهَا إِلَى الْحَرَمِ ، وَإِنْ كَانَ مُنْزِلُهُ فِي خِيَامٍ ، فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ أَبْعَدِ طَرَفَيِ الْخِيَامِ إِلَى الْحَرَمِ ، وَأَقَلُّ مَا عَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ أَقْرَبِ طَرَفَيْهَا إِلَى الْحَرَمِ وَإِنْ كَانَ مَنْزِلُهُ مُنْفَرِدًا ، فَمِنْهُ يُحْرِمُ : لِأَنَّهُ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ وَلَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ ، فَإِنْ جَاوَزَ هَؤُلَاءِ غَيْرَ مُحْرِمِينَ كَانُوا كَمَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ مِنْ أَهْلِهِ غَيْرَ مُحْرِمٍ فَعَلَيْهِمْ دَمٌ إِلَّا أَنْ يَعُودُوا مُحْرِمِينَ قَبْلَ الطَّوَافِ ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ فَأَمَّا مَنْ كَانَ مَسْكَنُهُ فِي طَرَفٍ مِنْ أَطْرَافِ الْحَرَمِ ، فَهُمْ كَأَهْلِ مَكَّةَ لِمِيقَاتِهِمْ فِي الْحَجِّ مِنْ مَوْضِعِهِمْ ، وَفِي الْعُمْرَةِ مِنْ أَقْرَبِ الْحِلِّ إِلَيْهِمْ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا مَنْ كَانَ مَسْكَنُهُ بَيْنَ مِيقَاتَيْنِ المحرم : أَحَدُهُمَا : أَمَامَهُ ، وَالْآخَرُ وَرَاءَهُ ، كَأَهْلِ الْأَبْوَاءِ وَالْعَرَجِ وَالسُقْيَا ، وَالرَّوْحَاءِ وَبَدْرٍ وَالصَّفْرَاءِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ مَسْكَنَهُمْ بَيْنَ ذِي الْحُلَيْفَةِ وَالْجُحْفَةِ ، وَهُمَا مِيقَاتَانِ ، فَذُو الْحُلَيْفَةِ وَرَاءَهُمَا ، وَالْجُحْفَةُ أَمَامَهُمْ ، فَيَنْظُرَ فِي حَالِهِمْ ، فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي جَادَّةِ الْمَغْرِبِ وَالشَّامِ الَّذِينَ
هُمْ عَلَى طَرِيقِ الْجُحْفَةِ ، كَأَهْلِ بَدْرٍ وَالصَّفْرَاءِ ، فَمِيقَاتُهُمْ مِنَ الْجُحْفَةِ الَّتِي هِيَ أَمَامَهُمْ ، لِأَنَّ الْجُحْفَةَ لَمَّا كَانَتْ مِيقَاتًا لِأَهْلِ الْمَغْرِبِ وَالشَّامِ الَّذِينَ هُمْ أَبْعَدُ دَارًا مِنْهُمْ ، فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مِيقَاتًا لَهُمْ ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي جَادَّةِ الْمَدِينَةِ ، وَعَلَى طَرِيقِ ذِي الْحُلَيْفَةِ ، كَأَهْلِ الْأَبْوَاءِ وَالْعَرَجِ ، فَمِيقَاتُهُمْ مِنْ مَوْضِعِهِمُ اعْتِبَارًا بِذِي الْحُلَيْفَةِ ، لِكَوْنِهِمْ عَلَى جَادَّتْهَا ، وَانْفِصَالِهِمْ عَنِ الْجَحْفَةِ يُبْعِدُهُمْ عَنْهَا ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ بَيْنَ الْجَادَّتَيْنِ كَأَهْلِ بَنِي حَرْبٍ ، فَإِنْ كَانُوا إِلَى جَادَّةِ الْمَدِينَةِ أَقْرَبَ ، أَحْرَمُوا مِنْ مَوْضِعِهِمْ ، وَإِنْ كَانُوا إِلَى جَادَّةِ الشَّامَ أَقْرَبَ ، أَحْرَمُوا مِنَ الْجُحْفَةِ ، وَلَيْسَ الِاعْتِبَارُ بِالْقُرْبِ مِنَ الْمِيقَاتَيْنِ ، وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِالْقُرْبِ مِنَ الْجَادَّتَيْنِ ، وَإِنْ كَانُوا بَيْنَ الْجَادَّتَيْنِ عَلَى سَوَاءٍ ، وَلَمْ تَكُنْ إِحْدَى الْجَادَّتَيْنِ أَقَرِبَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْأُخْرَى ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ يُحْرِمُونَ مِنْ مَوْضِعِهِمْ ، كَمَنْ هُوَ إِلَى جَادَّةِ الْمَدِينَةِ أَقْرَبُ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الِاحْتِيَاطِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُمْ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْإِحْرَامِ مِنْ مَوْضِعِهِمْ ، وَبَيْنَ الْإِحْرَامِ مِنَ الْجُحْفَةِ : لِأَنَّ تَسَاوِيَ الْحَالَيْنِ يُوجِبُ تَسَاوِيَ الْحُكْمَيْنِ .
فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَهَلَّ مِنَ الْفَرْعِ وَهَذَا عِنْدَنَا أَنَهٍ مَرَّ بِمِيقَاتِهِ لَا يُرِيدُ إِحْرَامًا ثُمَّ بَدَا لَهُ فَأَهَّلَ مَنْهُ أَوْ جَاءَ إِلَى الْفَرْعِ مِنْ مَكَةَ أَوْ غَيْرِهَا ثُمَّ بَدَأَ فَأَهَلَّ مِنْهُ ، وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُهِلُّ حَتَّى تَنْبَعِثَ بِهِ رَاحِلَتُهْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَإِنَّمَا ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ هَذَا سُؤَالًا عَلَى نَفْسِهِ ، لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْإِحْرَامَ مِنَ الْمِيقَاتِ غَيْرُ وَاجِبٍ ، وَهُوَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ وَهُوَ رَاوِي الْمَوَاقِيتِ مَرَّ بِذِي الْحَلِيفَةِ مِيقَاتِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، فَلَمْ يُحْرِمْ مِنْهَا وَأَحْرَمَ بَعْدَهَا مِنَ الْفَرْعِ فَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ بِجَوَابَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَرَّ بِذِي الْحُلَيْفَةِ غَيْرَ مُرِيدٍ لِدُخُولِهِ مَكَّةَ ، فَلَمَّا حَصَّلَ فِي ضَيْعَتِهِ بِالْفَرْعِ حَدَثَتْ لَهُ إِرَادَةٌ لِدُخُولِ مَكَّةَ ، وَأَحْرَمَ مِنْ مَوْضِعِهِ بِالْعُمْرَةِ . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّهُ كَانَ جَائِيًا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ ، فَلَمَّا حَصَّلَ بِالْفَرْعِ بَدَا لَهُ مِنْ دُخُولِ الْمَدِينَةِ ، وَأَرَادَ الْعَوْدَ إِلَى مَكَّةَ فَأَحْرَمَ مِنْ مَوْضِعِهِ بِالْعُمْرَةِ ، وَقَدْ نَقَلَ هَذَا بَعْضُ الرُّوَاةِ ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ جَاءَ مِنْ مَكَّةَ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْمَدِينَةِ ، فَلَمَّا صَارَ بِالْفَرْعِ بَلَغَهُ أَمْرُ الْمَدِينَةِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْفِتْنَةِ وَأَمْرُ الْحَرَمِ ، وَمَا كَانَ مِنْ مُسْلِمِ بْنِ عُقْبَةَ الْمِزِّيِّ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، فَرَجَعَ إِلَى مَكَّةَ ، فَأَحْرَمَ مِنْ مَوْضِعِهِ بِالْعُمْرَةِ .
بَابُ الْإِحْرَامِ وَالتَّلْبِيَةِ
بَابُ الْإِحْرَامِ وَالتَّلْبِيَةِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ الْإِحْرَامَ اغْتَسَلَ لِإِحْرَامِهِ مِنْ مِيقَاتِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، يُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَرَادَ الْإِحْرَامَ لِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ ، أَنْ يَغْتَسِلَ مِنْ مِيقَاتِهِ ، لِرِوَايَةِ جَابِرِ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " اغْتَسَلَ لِإِهْلَالِهِ " . وَرَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : " لَمَّا صِرْنَا بِذِي الْحُلَيْفَةِ نَفِسَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ بِمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ ، فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَغْسِلَ لِلْإِهْلَالِ " وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الرَّجُلُ ، وَالْمَرْأَةُ ، وَالطَّاهِرُ وَالْحَائِضُ : لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَسْمَاءَ بِالْغُسْلِ وَهِيَ نُفَسَاءُ ، وَلَيْسَ الْغُسْلُ فَرْضًا يَأْثَمُ بِتَرْكِهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِحْبَابٌ وَاخْتِيَارٌ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَمَا تَرَكْتُ الْغُسْلَ لِلْإِهْلَالِ قَطُّ وَلَقَدْ كُنْتُ أَغْتَسِلُ لَهُ مَرِيضًا فِي السَّفَرِ ، وَإِنِّي أَخَافُ ضَرَرَ الْمَاءِ وَمَا صَحِبْتُ أَحَدًا أَقْتَدِي بِهِ فَرَأَيْتُهُ تَرَكَهُ وَلَا رَأَيْتُ أَحَدًا عَدَا بِهِ أَنْ رَآهُ اخْتِيَارًا . فَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ اخْتَرْنَا لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ ، فَإِنْ تَرَكَ ذَلِكَ كُلَّهُ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ تَرَكَ اخْتِيَارًا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ فِعْلُهُ ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَالْغُسْلُ مُسْتَحَبٌّ فِي الْحَجِّ فِي سَبْعَةِ مَوَاضِعَ ، الْغُسْلُ المستحب في الحج لِلْإِحْرَامِ ، وَالْغُسْلُ لِدُخُولِ مَكَّةَ ، وَالْغُسْلُ لِوُقُوفِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ ، وَالْغُسْلِ لِلْوُقُوفِ بِمُزْدَلِفَةَ ، وَالْغُسْلِ لِرَمْيِ الْجِمَارِ فِي أَيَّامِ مِنًى الثَّلَاثَةِ ، وَلَا يَغْتَسِلُ لِرَمْيِ يَوْمِ النَّحْرِ : لِأَنَّهُ رَمَى أَيَّامَ مِنًى ، لَا يَفْعَلُ إِلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ فِي وَقْتِ اشْتِدَادِ الْحَرِّ وَانْصِبَابِ الْعَرَقِ ، فَكَانَ فِي الْغُسْلِ تَنْظِيفٌ لَهُ ، وَجَمْرَةُ يَوْمِ النَّحْرِ ، تُفْعَلْ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ ، وَقَبْلَ الزَّوَالِ ، فِي وَقْتٍ لَا يُتَأَذَّى بِحَرِّهِ ، فَلَمْ يُؤْمَرْ بِالْغُسْلِ لَهُ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَاسْتُحِبَّ الْغُسْلُ مِنْ هَذَا عِنْدَ تَغْيِيرِ الْبَدَنِ بِالْعَرَقِ وَغَيْرِهِ تَنْظِيفًا لِلْبَدَنِ ، وَزَادَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ الْغُسْلَ لِزِيَارَةِ الْبَيْتِ وَحَلْقِ الشَّعْرِ وَلِطَوَافِ الصَّدْرِ ، فَجَعَلَ الْغُسْلَ مُسْتَحَبًّا عَلَى الْقَدِيمِ عَلَى عَشَرَةِ مَوَاضِعَ .
فَصْلٌ : وَيُخْتَارُ لِمَنْ أَرَادَ الْإِحْرَامَ سنن أَنْ يَتَأَهَّبَ لِحَلْقِ شَعْرِهِ ، وَتَنْظِيفِ جَسَدِهِ ، لِرِوَايَةِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَتَأَهَّبُوا لِلْإِحْرَامِ بِحَلْقِ الْعَانَةِ وَنَتْفِ الْإِبْطِ ،
وَقَصِّ الشَّارِبِ ، وَالْأَظَافِرِ ، وَغَسْلِ رُءُوسِهِمْ . وَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ غَسَلَ رَأْسَهُ بِأُشْنَانٍ وَخَطْمِيٍّ " .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَتَجَرَّدَ وَلَبِسَ إِزَارًا وَرِدَاءً أَبْيَضَيْنِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : هَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا اغْتَسَلَ لِإِحْرَامِهِ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَجَنَّبَ لِبَاسَ مَا أَلِفَهُ مِنَ الثِّيَابِ الْمَخِيطَةِ الحاج ، لِرِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا نَادَى فَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا الَّذِي يَتَجَنَّبُهُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ ؟ فَقَالَ : " لَا يَلْبَسُ السَّرَاوِيلَ ، وَلَا الْقَمِيصَ وَلَا الْبُرْنُسَ ، وَلَا الْعِمَامَةَ وَلَا الْخُفَّيْنِ وَلَا ثَوْبًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ أَوْ وَرْسٌ " . فَإِذَا نَزَعَ ثِيَابَهُ الْمَعْهُودَةَ ، وَاغْتَسَلَ وَلَبِسَ إِزَارًا وَرِدَاءً ، وَنَعْلَيْنِ ، لِرِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لِيُحْرِمْ أَحَدُكُمْ فِي إِزَارٍ وَرِدَاءٍ وَنَعْلَيْنِ " وَيُخْتَارُ أَنْ يَكُونَا جَدِيدَيْنِ اقْتِدَاءً بِفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْ يَكُونَا أَبْيَضَيْنِ ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " خَيْرُ ثِيَابِكُمُ الْبِيضُ ، فَلْيَلْبَسُهَا أَحْيَاؤُكُمْ ، وَلْيُكَفَّنْ فِيهَا مَوْتَاكُمْ " فَإِنْ عَدَلَ عَنِ الْبَيَاضِ إِلَى الْمَصْبُوغِ ، فَمَا صُبِغَ غَزْلًا قَبْلَ نَسْجِهِ ، كَعُصُبِ الْيَمَنِ وَالْأَبْرَادِ وَالْحِبَرَةِ ، لِأَنَّهُ بِالرِّجَالِ أَشْبَهُ ، فَإِنْ لَبِسَ مَا صُبِغَ بَعْدَ نَسْجِهِ ، كَانَ عَادِلًا عَنِ الِاخْتِيَارِ وَأَجْزَأَهُ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَحْرَمَ فِي ثَوْبٍ مُعَصْفَرٍ ، وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ أَحْرَمَ فِي ثَوْبَيْنِ مُضَرَّجَيْنِ وَأَنَّ عَقِيلَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَحْرَمَ فِي رِدَائَيْنِ فَإِنْ أَحْرَمَ جُنُبًا وَلَبِسَ ثَوْبًا نَجِسًا كَانَ بِذَلِكَ مُسِيئًا ، وَكَانَ إِحْرَامُهُ مُنْعَقِدًا ، لِأَنَّ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى طَهَارَةٍ مِنْ حَدَثٍ وَلَا نَجَسٍ .
مَسْأَلَةٌ يَتَطَيَّبُ لِإِحْرَامِهِ إِنْ أَحَبَّ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيَتَطَيَّبُ لِإِحْرَامِهِ إِنْ أَحَبَّ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، أَنْ يَتَطَيَّبَ لِإِحْرَامِهِ بِمَا لَا يَبْقَى أَثَرُهُ المحرم ، كَالْبَخُورِ وَمَاءِ الْوَرْدِ فَجَائِزٌ ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الْجَمَاعَةِ ، فَأَمَّا أَنْ يَتَطَيَّبَ لِإِحْرَامِهِ بِمَا يَبْقَى أَثَرُهُ بَعْدَ إِحْرَامِهِ ، كَالْمِسْكِ وَالْغَالِيَةِ ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ جَائِزٌ وَلَيْسَ مُحَرَّمٌ وَلَا مَكْرُوهٌ ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ ، وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ ، وَعَائِشَةُ ، وَمِنَ التَّابِعِينَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ .
وَقَالَ مَالِكٌ : يُمْنَعُ مِنَ الطِّيبِ ، فَإِنْ تَطَيَّبَ أُمِرَ بِغَسْلِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَغْسِلْهُ حَتَّى أَحْرَمَ وَالطِّيبُ عَلَيْهِ لَمْ يُقْبَلْ وَبِتَحْرِيمِهِ فِي الصَّحَابَةِ قَالَ عَمْرُو ابْنُ عُمَرَ ، وَفِي التَّابِعِينَ الْحَسَنُ ، وَابْنُ سِيرِينَ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَعَطَاءٌ ، وَفِي الْفُقَهَاءِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ ، اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْمُحْرِمِ فَقَالَ : " أَشْعَثُ أَغْبَرُ " فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ صِفَةُ الْمُحْرِمِ وَجَبَ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنَ الطِّيبِ المحرم : لِأَنَّهُ يُزِيلُ هَذِهِ الصِّفَةَ : وَرُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ : " يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحْرَمْتُ وَعَلَيَّ جُبَّةٌ مُضَمَّخَةٌ بِالْخَلُوقِ ، فَقَالَ : انْزَعِ الْجُبَّةَ ، وَاغْسِلِ الصُّفْرَةَ " . فَكَانَ أَمْرُهُ بِغَسْلِهِ دَلِيلًا عَلَى تَحْرِيمِ اسْتَدَامَتْهُ . وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَأَى مُعَاوِيَةَ مُحْرِمًا ، وَعَلَيْهِ طِيبٌ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ ، وَقَالَ : مَنْ طَيَّبَكَ ، فَقَالَ : أَمُّ حَبِيبَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، فَقَالَ : عَزَمْتُ عَلَيْكَ لَتَرْجِعَنَّ إِلَيْهَا لِتَغْسِلَهُ عَنْكَ كَمَا طَيَّبَتْكَ . وَرَوَى بِشْرُ بْنُ يَسَارٍ قَالَ : لَمَّا أَحْرَمْنَا ، وَجَدَ عُمَرُ رِيحَ طِيبٍ ، فَقَالَ : مِمَّنْ هَذَا الرِّيحُ ؟ فَقَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ : مِنِّي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، فَقَالَ : قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ امْرَأَتَكَ عَطَّرَتْكَ أَوْ عَطَّارَةٌ ، إِنَّمَا الْحَاجُّ الْأَذْفَرُ الْأَغْبَرُ ، وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يَتْرَفَّهُ بِهِ الْمُحْرِمُ ، فَوَجَبَ إِذَا مَنَعَ الْإِحْرَامُ مِنَ ابْتِدَائِهِ ، أَنْ يَمْنَعَ مِنَ اسْتِدَامَتِهِ ، كَاللِّبَاسِ وَلِأَنَّ الْمُحْرِمَ إِنَّمَا يُمْنَعُ مِنَ الطِّيبِ : لِأَنَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجِمَاعِ ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي اسْتِدَامَتِهِ كَوُجُودِهِ فِي ابْتِدَائِهِ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ ، رِوَايَةُ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ فِي عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ وَلِحَلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ وَرَوَى عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدَيَّ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ لِلْحِلِّ وَالْإِحْرَامِ . وَرَوَتْ عَائِشَةُ بِنْتُ طَلْحَةَ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ : كُنَّا إِذَا سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَكَّةَ نُضَمِّخُ جِبَاهَنَا بِالْمِسْكِ ، فَكُنَّا إِذَا عَرِقْنَا سَالَ عَلَى وُجُوهِنَا ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إِلَيْنَا وَنَحْنُ مُحْرِمَاتٌ ، فَلَا يَنْهَانَا . وَرَوَى الْأَسْوَدُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : رَأَيْتُ وَبِيصَ الطِّيبِ فِي مَفَارِقَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ثَلَاثٍ مِنْ إِحْرَامِهِ وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يُرَادُ لِلْبَقَاءِ وَالِاسْتِقَامَةِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَمْنَعَ الْإِحْرَامُ مَنَ اسْتَدَامَتْهُ كَالنِّكَاحِ .
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَلَى قَوْلِهِ : " الْمُحْرِمُ أَشْعَثُ أَغْبَرُ " فَهُوَ أَنَّ تَطَيُّبَهُ قَبْلَ إِحْرَامِهِ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ عَلَى أَنَّ الشَّعَثَ إِنَّمَا يَزُولُ بِالْغُسْلِ وَالتَّنْظِيفِ . وَالْمُحْرِمُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الْمُؤْمِنُ نَظِيفٌ " . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ ، فَالْأَمْرُ إِنَّمَا كَانَ نَزْعَ اللِّبَاسِ وَغَسْلَ أَثَرِ التَّزَعْفُرِ عَنْهُ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُبَاحٌ . لِرِوَايَةِ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، نَهَى الرِّجَالَ عَنِ التَّزَعْفُرِ " . وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ التَّطَيُّبِ ، أَلَا تَرَاهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِغَسْلِ الطِّيبِ عَنْ جَسَدِهِ . وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ وَإِنْكَارُهُ عَلَى مُعَاوِيَةَ وَالْبَرَاءِ ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ النَّدْبِ ، أَلَا تَرَاهُ قَالَ حِينَ رَاجَعَهُ مُعَاوِيَةُ قَالَ : قَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ يَجُوزُ وَإِنَّمَا أَنْتُمْ صَحَابَةٌ وَقُدْوَةٌ ، فَخَشِيتُ أَنْ يَرَاكُمُ الْجَاهِلُ فَيَقْتَدِيَ بِكُمْ ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّ طِيبَكُمْ قَبْلَ الْإِحْرَامِ أَوْ بَعْدَهُ ، عَلَى أَنَّ عُمَرَ صَحَابِيٌّ ، وَقَدْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ . حَتَّى رَوَى الْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ وَإِنَّ عَلَى رَأْسِهِ ، مِثْلَ الرُّبِّ مِنَ الْغَالِيَةِ : فَلَمْ يَكُنْ إِنْكَارُ عُمَرَ مَعَ خِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ حُجَّةً . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى اللِّبَاسِ : فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ عَلَى وَجْهِ الْإِتْلَافِ ، وَإِنَّمَا يُلْبَسُ لِيُنْزَعَ ، فَكَانَتِ الِاسْتِدَامَةُ فِيهِ كَالِابْتِدَاءِ . وَالطِّيبُ يُسْتَعْمَلُ لِلْإِتْلَافِ فَلَمْ تَكُنِ الِاسْتِدَامَةُ كَالِابْتِدَاءِ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجِمَاعِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ الْإِحْرَامُ مَنَ اسْتِدَامَتِهِ . فَبَاطِلٌ بِالنِّكَاحِ ، لِأَنَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجِمَاعِ ، وَلَا يَمْنَعُ الْإِحْرَامُ مِنَ اسْتِدَامَتِهُ . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ غَيْرُ مَكْرُوهٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ ، اقْتِدَاءً بِفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالثَّانِي : وَهُوَ أَشْبَهُ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، أَنَّهُ مُبَاحٌ لِأَنَّهُ فَعَلَهُ ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ يَرْكَبُ فَإِذَا تَوَجَّهَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ لَبَّى " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُحْرِمَ الرَّجُلَ عُقَيْبَ صَلَاةٍ ، فَإِنْ كَانَ وَقْتُ صَلَاةٍ مَفْرُوضَةٍ ، صَلَّى الْفَرْضَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَقْتُ صَلَاةٍ مَفْرُوضَةٍ ، صَلَّى ، رَكْعَتَيْنِ . لِرِوَايَةِ جَابِرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ " النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى ذَا الْحُلَيْفَةِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ بِبَطْحَائِهَا ثُمَّ رَكِبَ " .
فَصْلٌ وَقْتُ الْإِهْلَالِ بِالتَّلْبِيَةِ فِي الِاخْتِيَارِ أَنْ تَنْبَعِثَ بِهِ رَاحِلَتُهُ إِنْ كَانَ رَاكِبًا أَوْ يَتَوَجَّهُ فِي السَّيْرِ إِنْ كَانَ مَاشِيًا
فَصْلٌ : فَأَمَّا وَقْتُ الْإِهْلَالِ بِالتَّلْبِيَةِ فِي الِاخْتِيَارِ ، فَهُوَ أَنْ تَنْبَعِثَ بِهِ رَاحِلَتُهُ ، إِنْ كَانَ رَاكِبًا ، أَوْ يَتَوَجَّهُ فِي السَّيْرِ إِنْ كَانَ مَاشِيًا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يُمْهَلُ إِذَا صَلَّى وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ ، اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ : قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ إِنِّي لِأَعْجَبِ مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِهْلَالِهِ ، فَبَعْضُهُمْ يَقُولُ : إِنَّهُ أَهَّلَ فِي مَحَلَّتِهِ ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ : إِنَّهُ أَهَلَّ حِينَ انْبَعَثَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ : أَهَّلَ حِينَ أَشْرَفَ عَلَى الْبَيْدَاءِ . فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَنَا أَعْلَمُ النَّاسِ بِهَذَا : أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَا الْحُلَيْفَةِ ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ أَوْجَبَ فِي مَحَلَّتِهِ ، فَلَمَّا انْبَعَثَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ أَهَلَّ ، فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ . وَكَانَ النَّاسُ يَأْتُونَهُ أَرْسَالًا ، فَأَدْرَكَهُ قَوْمٌ فَقَالُوا : أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَحَلَّتِهِ أَهَلَّ حِينَ انْبَعَثَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ ، أَهَلَّ حِينَ أَشْرَفَ عَلَى الْبَيْدَاءِ " . وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ ، أَوْلَى ، وَهُوَ نَصُّهُ فِي الْجَدِيدِ ، وَالْإِمْلَاءُ رِوَايَةُ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُهِلُّ إِلَّا حِينَ تَنْبَعِثُ بِهِ رَاحِلَتُهُ . فَنَفَى وَأَثْبَتَ ، وَالنَّفْيُ مَعَ الْإِثْبَاتِ لَا الْإِثْبَاتُ الْمُجَرَّدُ ، بَلْ هُوَ أَوْكَدُ ، وَهَذَا إِخْبَارٌ عَنْ دَوَامِ فِعْلِهِ وَرَوَى سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَخَذَ فِي طَرِيقِ الْفَرْعِ أَهَلَّ حِينَ تَنْبَعِثُ بِهِ رَاحِلَتُهُ وَفِي طَرِيقِ إِحْرَامِهِ حِينَ أَشْرَفَ عَلَى الْبَيْدَاءِ . وَهُوَ إِخْبَارٌ عَنِ فِعْلِهِ ، وَرَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِذَا تَوَجَّهْتُمْ إِلَى مِنًى ، فَأَهِلُّوا بِالْحَجِّ . فَدَلَّ مَا رَوَيْنَا مِنْ فِعْلِهِ وَقَوْلِهِ ، عَلَى أَنَّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ أَوْلَى . وَلَمْ يَكُنْ خَبَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ مُعَارِضًا لِهَذِهِ الْأَخْبَارِ ، لِأَنَّهَا أَكْثَرُ رُوَاةً ، وَلِأَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى قَوْلٍ وَفِعْلٍ . وَابْنُ عَبَّاسٍ نَقَلَ فِعْلًا مُجَرَّدًا وَلِأَنَّهُمَا إِخْبَارٌ عَنْ دَوَامِ فِعْلٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ فِعْلٍ مَرَّةً ، عَلَى أَنَّ خَبَرَ ابْنِ عَبَّاسٍ يُحْمَلُ عَلَى الْجَوَازِ ، لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْفِعْلِ يَدُلُّ عَلَيْهِ ، وَأَخْبَارُنَا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ ، لِأَنَّ الْأَمْرَ وَدَوَامَ الْفِعْلِ يَدُلُّ عَلَيْهِ .
مَسْأَلَةٌ الْإِحْرَامُ يَنْعَقِدُ لِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيَكْفِيهِ أَنْ يَنْوِيَ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً عِنْدَ دُخُولِهِ فِيهِ وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِالْغُسْلِ وَتَطَيَّبَ لِإِحْرَامِهِ وَتَطَيَّبَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : الْإِحْرَامُ يَنْعَقِدُ لِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَنْعَقِدُ الْإِحْرَامُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ حَتَّى يُضَمَّ إِلَيْهِ أَحَدُ شَيْئَيْنِ ، إِمَّا التَّلْبِيَةُ ، أَوْ سَوْقُ الْهَدْيِ . فَإِنْ سَاقَ الْهَدْيَ انْعَقَدَ إِحْرَامُهُ ، وَإِنْ لَمْ يُلَبِّ وَلَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ لَمْ يَنْعَقِدْ إِحْرَامُهُ ، إِلَّا أَنْ يُلَبِّيَ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ عَائِشَةَ أَنَّ " النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيُهِلَّ " . وَهَذَا أَمْرٌ وَبِرِوَايَةِ
جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُمْ : " إِذَا تَوَجَّهْتُمْ إِلَى مِنًى فَأَهِلُّوا " . وَحَقِيقَةُ الْإِهْلَالِ ، إِظْهَارُ الْحَالَةِ بِالتَّلْبِيَةِ ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يَتَعَلَّقُ بِإِفْسَادِهَا الْكَفَّارَةُ ، فَوَجَبَ أَلَّا يَصِحَّ الدُّخُولُ فِيهَا بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ ، كَالصَّلَاةِ ، لَا يُدْخَلُ فِيهَا بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ حَتَّى يُضَمَّ إِلَيْهَا دُخُولُ الْوَقْتِ ، : لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ شُرِعَ فِي انْتِهَائِهَا ذِكْرٌ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَجِبَ فِي ابْتِدَائِهَا ذِكْرٌ كَالصَّلَاةِ . وَالدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ ، وَرِوَايَةُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ : " خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَنْوِي إِلَّا الْحَجَّ فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنْ مَكَّةَ قَالَ : مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً " . فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ أَحْرَمُوا بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ دُونَ التَّلْبِيَةِ ، وَمَعْلُومٌ بِرِوَايَةِ جَابِرٍ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ إِلَّا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ . فَثَبُتَ أَنَّ الْإِحْرَامَ يَنْعَقِدُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ ، وَإِنْ لَمْ يُضَمَّ إِلَيْهِ سَوْقُ الْهَدْيِ ، وَلَا التَّلْبِيَةُ . وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَرْبُوعٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ - يَعْنِي فِي الْحَجِّ - فَقَالَ : " الْعَجُّ وَالثَّجُّ " . فَالْعَجُّ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ ، وَالثَّجُّ إِرَاقَةُ دَمِ الْهَدْيِ . فَأَخْرَجَهُمَا مَخْرَجَ الْفَضْلِ ، وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ ، وَمِنْ حُكْمِ الْإِرَاقَةِ أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَلِأَنَّ انْعِقَادَ الْإِحْرَامِ لَا يَقِفُ عَلَيْهَا فَكَذَلِكَ التَّلْبِيَةُ ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يَصِحُّ الْخُرُوجُ مِنْهَا بِغَيْرِ ذِكْرٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يَصِحَّ . الدُّخُولُ فِيهَا بِغَيْرِ ذِكْرٍ كَالصَّوْمِ ، وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ ، فَوَجَبَ أَلَّا يَكُونَ الذِّكْرُ فِيهِ شَرْطًا ، كَالْوُقُوفِ وَالطَّوَافِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرَيْنِ ، فَهُوَ أَنَّ الْإِهْلَالَ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِحْرَامِ لَا عَنِ التَّلْبِيَةِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إِهْلَالٌ كَإِهْلَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَيْ إِحْرَامٌ كَإِحْرَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الصَّوْمِ ، فَمُوجِبُهُ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِيهِ بِالنِّيَّةِ وَالْوَقْتِ ، وَكَذَا يَقُولُ فِي الْإِحْرَامِ : إِنَّهُ يَكُونُ دَاخِلًا فِيهِ بِالنِّيَّةِ وَالْوَقْتِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ فَالْمَعْنَى فِيهِ ، أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَصِحُّ خُرُوجُهُ مِنْهَا إِلَّا بِذِكْرٍ وَاجِبٍ ، لَمْ يَصِحَّ دُخُولُهُ فِيهَا إِلَّا بِذِكْرٍ وَاجِبٍ ، وَلَمَّا لَمْ يَفْتَقِرْ خُرُوجُهُ مِنَ الْحَجِّ إِلَى ذِكْرٍ وَاجِبٍ لَمْ يَفْتَقِرْ دُخُولُهُ فِيهِ إِلَى ذِكْرٍ وَاجِبٍ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِحْرَامَ يَنْعَقِدُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ ، فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ إِحْرَامِهِ : اللَّهُمَّ أَحْرَمَ لَكَ شَعْرِي وَبَشَرِي وَعَظْمِي وَدَمِيَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ : وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ السَّلَفِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ .
مَسْأَلَةٌ لَبَّى بِحَجٍّ وَهُوَ يُرِيدُ عُمْرَةً فَهِيَ عُمْرَةٌ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ لَبَّى بِحَجٍّ وَهُوَ يُرِيدُ عُمْرَةً ، فَهِيَ عُمْرَةٌ ، وَإِنَ لَبَّى بِعُمْرَةٍ وَهُوَ يُرِيدُ حَجًّا فَهُوَ حَجٌّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ الْمُعَوَّلَ فِي إِحْرَامِهِ عَلَى نِيَّتِهِ دُونَ تَلْبِيَتِهِ فَإِذَا نَوَى حَجًّا وَلَبَّى بِعُمْرَةٍ كَانَ حَجًّا ، وَلَوْ نَوَى عُمْرَةً وَلَبَّى بِحَجٍّ كَانَتْ عُمْرَةً ، وَلَوْ نَوَى أَحَدَهُمَا ، وَلَبَّى بِهِمَا انْعَقَدَ مَا نَوَى ، وَهُوَ قَوْلُ كَافَّةِ الْفُقَهَاءِ ، إِلَّا دَاوُدَ فَإِنَّهُ شَذَّ بِمَذْهَبِهِ ، وَقَالَ : الْمُعَوَّلُ عَلَى لَفْظِهِ دُونَ نِيَّتِهِ ، وَهَذَا خَطَأٌ : لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى " . فَلِأَنَّ الْمُعَوَّلَ فِي الْإِحْرَامِ عَلَى النِّيَّةِ دُونَ اللَّفْظِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ تَلَفَّظَ وَلَمْ يَنْوِ لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا ، وَلَوْ نَوَى وَلَمْ يَتَلَفَّظْ كَانَ مُحْرِمًا ، فَوَجَبَ ، إِذَا اخْتَلَفَتْ نِيَّتُهُ وَلَفْظُهُ أَنْ يَحْكُمَ بِنِيَّتِهِ دُونَ لَفْظِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ لِمْ يُرِدْ حَجًّا وَلَا عُمْرَةً فَلَيْسَ بِشَيْءٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . لِأَنَّ الْإِحْرَامَ يَنْعَقِدُ بِالنِّيَّةِ فَإِذَا لَمْ يَنْوِ حَجًّا وَلَا عُمْرَةً وَلَا إِحْرَامًا لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا لِفَقْدِ مَا انْعَقَدَ بِهِ الْإِحْرَامُ وَهُوَ النِّيَّةُ ، وَحَتَّى عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَرِهَ التَّلْبِيَةَ لِلْإِحْلَالِ : لِأَنَّهُ مِنْ شَعَائِرِ الْإِحْرَامِ ، كَرَمْيِ الْجِمَارِ ، وَلَمْ يَكْرَهِ الشَّافِعِيُّ ذَلِكَ ، لِأَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى حَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَضِقْ عَلَى أَحَدٍ أَنْ يَقُولَهُ . رُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ لَقِيَ رُكْبَانًا لِسَالِحِينَ مُحْرِمِينَ فَلَبَّوْا فَلَبَّى ابْنُ مَسْعُودٍ وَهُوَ دَاخِلُ الْكُوفَةِ .
مَسْأَلَةٌ لَبَّى يُرِيدُ الْإِحْرَامَ وَلَمْ يَنْوِ حَجًّا وَلَا عُمْرَةً فَلَهُ الْخَيَارُ أَيُّهُمَا شَاءَ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ لَبَّى يُرِيدُ الْإِحْرَامَ وَلَمْ يَنْوِ حَجًّا وَلَا عُمْرَةً فَلَهُ الْخَيَارُ أَيُّهُمَا شَاءَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، لِلْإِحْرَامِ حَالَانِ ، حَالُ تَقْيِيدٍ وَحَالُ إِطْلَاقٍ . فَأَمَّا الْمُقَيَّدُ فَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ الْإِحْرَامَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ بِهِمَا جَمِيعًا ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْصَرِفَ عَمَّا أَحْرَمَ بِهِ ، وَلَا أَنْ يُبَدِّلَ نُسُكًا بِغَيْرِهِ . وَأَمَّا الْمُطْلَقُ فَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ إِحْرَامًا مَوْقُوفًا لَا يُقَيِّدَهُ بِحَجٍّ وَلَا بِعُمْرَةٍ ، ثُمَّ يَصْرِفُهُ فِيمَا بَعْدُ فِيمَا شَاءَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ ، فَهَذَا جَائِزٌ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ وَأَصْحَابُهُ مُهِلِّينَ يَنْتَظِرُونَ الْقَضَاءَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَمَرَ مَنْ لَا هَدْيَ مَعَهُ أَنْ يَجْعَلْ إِحْرَامَهُ عُمْرَةً ، وَمَنْ مَعَهُ هَدْيٌ أَنْ يَجْعَلَهُ حَجًّا ، وَلَبَّى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِالْيَمِينِ وَقَالَا عِنْدَ تَلْبِيَتِهِمَا : إِهْلَالٌ كَإِهْلَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهُمَا بِالْمُقَامِ عَلَى إِحْرَامِهِمَا وَرَوَى عَطَاءٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : قَدِمَ عَلِيٌّ مِنْ سِقَايَتِهِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَ أَهْلَلْتَ يَا عَلِيُّ ؟ قَالَ : بِمَا أَهَلَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
فَاهْدِ وَامْكُثْ حَرَامًا كَمَا أَنْتَ قَالَ : فَأَهْدَى لَهُ عَلِيٌّ هَدْيًا ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى جَوَازِ الْإِحْرَامِ الْمَوْقُوفِ ، وَلِأَنَّ مَنْ أَحْرَمَ عَنْ غَيْرِهِ وَلَمْ يَكُنْ قَدْ أَحْرَمَ عَنْ نَفْسِهِ فَإِنَّ إِحْرَامَهُ يَصِيرُ عَنْ نَفْسِهِ وَلَوْ أَحْرَمَ تَطَوُّعًا ، أَوْ نَذْرًا ، وَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ ، كَانَتْ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ، فَثَبَتَ أَنَّ الْإِحْرَامَ يَنْعَقِدُ بِاعْتِقَادِهِ ، وَإِنْ لَمْ يُقَيِّدْهُ بِنُسُكٍ ، لِأَنَّهُ قَدْ يَنْوِي مَا لَا يَحْصُلُ لَهُ ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ خَالَفَ الصَّلَاةَ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْإِحْرَامِ الْمَوْقُوفِ ، فَهُوَ جَائِزٌ فِي شُهُورِ الْحَجِّ فِي الزَّمَانِ الَّذِي يَكُونُ مُخَيَّرًا فِيهِ مِنْ نُسُكَيِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ، لِيَصْرِفَ إِحْرَامَهُ الْمَوْقُوفَ إِلَى مَا يَشَاءُ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ ، فَأَمَّا فِي غَيْرِ شُهُورِ الْحَجِّ فَلَا يَصِحُّ الْإِحْرَامُ الْمَوْقُوفُ ، لِأَنَّهُ زَمَانٌ لَا يَصْلُحُ لِغَيْرِ الْعُمْرَةِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْإِحْرَامُ مَوْقُوفًا عَلَى غَيْرِ الْعُمْرَةِ ، وَيَصِيرُ الْإِحْرَامُ الْمَوْقُوفُ مُنْعَقِدًا بِالْعُمْرَةِ ، وَإِذَا صَحَّ الْإِحْرَامُ الْمَوْقُوفُ فِي شَهْرِ الْحَجِّ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا ، هَلِ الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ إِحْرَامُهُ مَوْقُوفًا ، لِيَصْرِفَهُ فِيمَا بَعْدُ إِلَى مَا شَاءَ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ ؟ أَوْ يَكُونُ مُعَيَّنًا بِنُسُكٍ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ ؟ عَلَى مَذْهَبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَوْقُوفَ أَوْلَى ، لِأَنَّهُ فِعْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ ، وَلِأَنَّهُ أَحْرَى أَنْ يَقْدِرَ عَلَى صَرْفِهِ إِلَى مَا يَخَافُ فَوْتَهُ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْوَقْتُ وَاسِعًا ، أَمْكَنَهُ تَقْدِيمُ الْعُمْرَةِ وَإِدْرَاكُ الْحَجِّ وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا قُدِّمَ الْحَجُّ : لِأَنْ لَا يَفُوتَهُ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ . الْمَذْهَبُ الثَّانِي : أَنَّ الْإِحْرَامَ الْمُعَيَّنَ أَوْلَى ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ ، لِرِوَايَةِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ لِسَبْعِ سِنِينَ لَمْ يَحُجَّ ثُمَّ أَذَّنَ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْطَلَقْنَا لَا نَعْرِفُ إِلَّا الْحَجَّ لَهُ خَرَجْنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَهُوَ يَفْعَلُ مَا أُمِرَ بِهِ ، فَقَدِمْنَا مَكَّةَ ، فَلَمَّا طَافَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَيْتِ ، وَالصَّفَا ، وَالْمَرْوَةِ قَالَ : مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً ، فَلَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ إِحْرَامَهُمْ كَانَ مَعْنِيًّا بِالْحَجِّ ، وَلِأَنَّهُ إِذَا عَيَّنَهُ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ كَانَ مَاضِيًا فِي نُسُكِهِ وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْهُ كَانَ مُنْتَظِرًا لَهُ ، وَالدَّاخِلُ فِي نُسُكِهِ أَوْلَى مِنَ الْمُنْتَظِرِ لَهُ ، فَلَوْ نَوَى إِحْرَامًا مَوْقُوفًا لَزِمَهُ أَنْ يَصْرِفَهُ إِلَى حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ ، فَلَوْ طَافَ وَسَعَى قَبْلَ أَنْ يَصْرِفَهُ إِلَى حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ ، لَمْ يُجْزِهِ عَنْ حَجٍّ وَلَا عُمْرَةٍ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا فِي أَحَدِهِمَا .
فَصْلٌ : فَإِذَا أَحْرَمَ إِحْرَامًا مُعَيَّنًا لِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ ، أَوْ أَحْرَمَ مَوْقُوفًا ، ثُمَّ صَرَفَهُ إِلَى حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ ، فَهَلْ يُسْتَحَبُّ لَهُ إِظْهَارُ مَا أَحْرَمَ بِهِ فِي تَلْبِيَتِهِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْأَوْلَى إِظْهَارُهُ فِي تَلْبِيَتِهِ ، فَيَقُولُ : لَبَّيْكَ بِحَجٍّ ، إِنْ كَانَ مُفْرِدًا ، أَوْ بِعُمْرَةٍ إِنْ كَانَ مُعْتَمِرًا ، أَوْ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ إِنْ كَانَ قَارِنَا ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَتَانِي آتٍ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ ، فَقَالَ : قُلْ لَبَّيْكَ بِحَجٍّ وَبِعُمْرَةٍ وَرَوَى ابْنُ سِيرِينَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : لَبَّيْكَ حَجًّا حَقًّا تَعَبُّدًا وَرِقًّا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : إِنَّ الْأَوْلَى الْإِمْسَاكُ عَنْ ذِكْرِهِ ، لِرِوَايَةِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : " مَا سَمَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَلْبِيَتِهِ قَطُّ لَا حَجًّا وَلَا عُمْرَةً " . وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ أَيُسَمِّي أَحَدُنَا حَجًّا أَوْ عُمْرَةً ؟ فَقَالَ : أَتُنْبِئُونَ إِلَيْهِ بِمَا فِي قُلُوبِكُمْ إِنَّمَا هِيَ نِيَّةُ أَحَدِكُمْ " .
مَسْأَلَةٌ لَبَّى بِأَحَدِهِمَا فَنَسِيَهُ فَهُوَ قَارِنٌ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنَّ لَبَّى بِأَحَدِهِمَا فَنَسِيَهُ ، فَهُوَ قَارِنٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : هَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا أَحْرَمَ بِأَحَدِ نُسُكَيْنِ ، ثُمَّ نَسِيَهُ فَلَمْ يَدْرِ بِعُمْرَةٍ كَانَ إِحْرَامُهُ أَمْ بِحَجٍّ ؟ فَالصَّحِيحُ فِي مَذْهَبِهِ وَالْمَشْهُورُ مِنْ قَوْلِهِ ، وَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي أَكْثَرِ كُتُبِهِ أَنَّهُ يَكُونُ قَارِنًا ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّحَرِّي . وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ فِي بَابِ وَجْهِ الْإِهْلَالِ وَمَنْ لَبَّى يَنْوِي شَيْئًا ، فَنَسِيَ مَا نَوَى ، فَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَقْرِنَ : لِأَنَّ الْقِرَانَ بَاقٍ عَلَى مَا نَوَى ، وَإِنْ تَحَرَّى رَجَوْتُ أَنْ يُجَزِّئَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، فَاسْتَحَبَّ لَهُ أَنْ يَقْرِنَ ، وَجَوَّزَ لَهُ أَنْ يَتَحَرَّى فَخَرَّجَهُ أَصْحَابُنَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ : يَجُوزُ أَنْ يَتَحَرَّى فِيهِمَا وَيَجْتَهِدَ ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَتَحَرَّى فِي الْإِنَائَيْنِ ، وَيَجْتَهِدَ فِي الْقِبْلَةِ عِنْدَ اشْتِبَاهِ الْجِهَتَيْنِ ، وَفِي الصَّوْمِ عِنْدَ اشْتِبَاهِ الزَّمَانَيْنِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ قَارِنًا ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَحَرَّى ، لِأَنَّ التَّحَرِّيَ إِنَّمَا يَجُوزُ عِنْدَ اشْتِبَاهِ مَا لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ ، كَالْإِنَائَيْنِ وَالْجِهَتَيْنِ ، فَأَمَّا عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ فِي فِعْلِهِ فَالتَّحَرِّي غَيْرُ جَائِزٍ فِيهِ ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ فِيهِ إِلَى الْعِلْمِ وَيَبْنِي فِيهِ عَلَى الْيَقِينِ كَمَا لَوِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ أَدَاءُ صَلَاةٍ وَأَعْدَادُ رَكَعَاتِ عَمَلٍ فِيهِ عَلَى الْيَقِينِ ، وَلَمْ يَجُزِ الِاجْتِهَادُ ، فَكَذَا الْإِحْرَامُ ، لَمَّا كَانَ مِنْ فِعْلِهِ وَجَبَ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ عَلَى الْيَقِينِ ، فَيَنْوِيَ الْقِرَانَ وَلَا يُسَوَّغُ لَهُ الِاجْتِهَادُ : لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ وَالتَّحَرِّيَ إِنَّمَا يَجُوزُ فِيمَا عَلَيْهِ دَلَالَةٌ تَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ ، كَجِهَاتِ الْقِبْلَةِ وَالْأَوَانِي : لِأَنَّ عَلَى الْقِبْلَةِ دَلَائِلَ ، وَعَلَى تَنْجِيسِ الْأَوَانِي دَلَائِلَ يُمْكِنُ الرُّجُوعُ إِلَيْهَا ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَا ، فَجَازَ الِاجْتِهَادُ فِيهَا ، وَلَيْسَ عَلَى النُّسُكِ الَّذِي أَحْرَمَ بِهِ دَلَالَةٌ ، يُعْمَلُ عَلَيْهَا ، وَلَا أَمَارَةَ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الِاجْتِهَادُ ، وَلَزِمَهُ الْأَخْذُ بِالْيَقِينِ ، وَأَمَّا إِذَا شَكَّ ، هَلْ كَانَ قَارِنًا أَوْ مُفْرِدًا أَوْ مُعْتَمِرًا : فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا ، فَعَلَى قَوْلِ الْبَصْرِيِّينَ : يَكُونُ قَارِنًا وَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّحَرِّي ، قَوْلًا وَاحِدًا ، وَعَلَى قَوْلِ الْبَغْدَادِيِّينَ : يَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا مَضَى ، وَكَلَامُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ مُحْتَمَلٌ .
فَصْلٌ : وَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ ، فَإِذَا قُلْنَا بِجَوَازِ التَّحَرِّي ، عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ يَتَحَرَّى فِي إِحْرَامِهِ عند الشك ، فَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ ، [ أَنَّهُ كَانَ يَحُجُّ مَضَى فِيهِ وَأَجْزَأَهُ وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ إِنْ كَانَ ] بِعُمْرَةٍ مَضَى فِيهَا وَأَجْزَأَتْهُ ، وَإِنِ اسْتَوَى الْأَمْرَانِ عِنْدَهُ وَلَمْ يَغْلِبْ أَحَدُهُمَا ، اعْتَقَدَ الْقِرَانَ حِينَئِذٍ . وَإِذَا قُلْنَا : إِنَّ التَّحَرِّيَ لَا يَجُوزُ ، عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْتَقِدَ الْقِرَانَ ، وَيَنْوِيَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ : لِأَنَّ إِحْرَامَهُ قَدْ كَانَ بِأَحَدِهِمَا ، فَلَا يَصِيرُ قَارِنًا إِلَّا أَنْ يَنْوِيَهُمَا ، فَإِنْ نَوَى الْقِرَانَ ، انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى الْأَجْزَاءِ ، فَنَقُولُ : أَمَّا الْحَجُّ ، فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ وَيَسْقُطُ عَنْهُ فَرْضُهُ ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ إِحْرَامُهُ بِحَجٍّ فَقَدْ أَدَّاهُ ، وَلَا يَضُرُّهُ إِدْخَالُ الْعُمْرَةِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ بِعُمْرَةٍ فَقَدْ أَدْخَلَ عَلَيْهَا حَجًّا وَإِدْخَالُ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ جَائِزٌ ، فَلِذَلِكَ أَجْزَأَهُ ، وَإِنْ كَانَ قَارِنًا فَهُوَ أَحَدُ نُسُكَيْهِ ، فَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَإِجْزَاؤُهَا يَتَرَتَّبُ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي جَوَازِ إِدْخَالِ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ ، فَأَحَدُ قَوْلَيْهِ يَجُوزُ إِدْخَالُهَا عَلَى الْحَجِّ ، فَعَلَى هَذَا تُجْزِئُهُ الْعُمْرَةُ ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي لَا يَجُوزُ إِدْخَالُهَا عَلَى الْحَجِّ ، فَعَلَى هَذَا : هَلْ تُجْزِئُهُ الْعُمْرَةُ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا تُجْزِئُهُ ، لِأَنَّهَا قَدْ تَتَرَدَّدُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَدْخَلَ عَلَيْهَا حَجًّا فَيُجْزِئُ ، أَوْ أَدْخَلَهَا عَلَى الْحَجِّ فَلَا تُجْزِئُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : تُجْزِئُهُ ، لِأَنَّ إِدْخَالَ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ ، لَا يَجُوزُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِزَوَالِ الْإِشْكَالِ وَارْتِفَاعِ الضَّرُورَةِ ، فَأَمَّا مَعَ حُدُوثِ الْإِشْكَالِ وَحُصُولِ الضَّرُورَةِ فَجَائِزٌ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا وُجُوبُ الدَّمِ على القارن عَلَيْهِ ، فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ مَعًا يُجْزِئَانِهِ عَنْ فَرْضِهِ ، فَعَلَيْهِ دَمٌ لِقِرَانِهِ ، وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ الْحَجَّ يُجْزِئُ وَإِنَّ الْعُمْرَةَ لَا تُجْزِئُ ، فَفِي وُجُوبِ الدَّمِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا دَمَ عَلَيْهِ : لِأَنَّ الْعُمْرَةَ إِذَا لَمْ تُجْزِهِ فَالْقِرَانُ لَا يُحْكَمُ بِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ دَمٌ لِأَجْلِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ الصَّحِيحُ ، عَلَيْهِ دَمٌ ، لِأَنَّنَا لَمْ نُسْقِطْ فَرْضَ الْعُمْرَةِ عَنْ ذِمَّتِهِ احْتِيَاطًا لِلْفَرْضِ ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ فَرْضُهَا قَدْ يَسْقُطُ ، فَكَذَا يَجِبُ أَنْ يَلْزَمَ الدَّمُ احْتِيَاطًا وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ لَمْ يَجِبْ ، فَكَذَا حُكْمُ شَكِّهِ إِذَا كَانَ قَبْلَ إِحْرَامِهِ وَقَبْلَ الْأَخْذِ فِي نُسُكِهِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا طَرَأَ عَلَيْهِ الشَّكُّ بَعْدَ وُقُوفِهِ بِعَرَفَةَ القارن ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَمْضِيَ فِي أَفْعَالِ الْحَجِّ ، فَيَطُوفَ وَيَسْعَى ، وَيَحْلِقَ ، وَيَرْمِيَ ، وَقَدْ حَلَّ مِنْ إِحْرَامِهِ بِيَقِينٍ لِإِتْيَانِهِ بِأَفْعَالِ النُّسُكَيْنِ ، كَمَالًا ، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ فَرْضُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِحَالٍ : لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ حَاجًّا ، فَقَدْ أَدْخَلَ الْعُمْرَةَ
عَلَيْهَا بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ ، فَلَمْ تُجْزِهِ الْعُمْرَةُ وَإِنْ كَانَ مُعْتَمِرًا فَقَدْ أَدْخَلَ الْحَجَّ بَعْدَ فَوَاتِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَلَمْ يُجْزِهِ الْحَجُّ ، وَكَذَا لَوْ طَرَأَ عَلَيْهِ الشَّكُّ بَعْدَ طَوَافِهِ وَسَعْيِهِ ، أَتَى مَا بَقِيَ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَلَمْ يُجْزِهِ عَنْ حَجٍّ وَلَا عُمْرَةٍ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا قَالَ : إِحْرَامًا كَإِحْرَامِ زَيْدٍ المحرم ، فَهُوَ جَائِزٌ وَمُحْرِمٌ بِمَا أَحْرَمَ بِهِ زَيْدٌ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ قِرَانٍ ، لِأَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ ، وَأَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَحْرَمَا بِالْيَمَنِ ، وَقَالَا : إِهْلَالًا كَإِهْلَالِ رَسُولِ اللَّهِ نية المحرم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ ، لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ سَاقَ هَدْيًا ، فَأَمَرَ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ : لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ سَاقَ هَدْيًا ، وَأَمَرَ أَبَا مُوسَى أَنْ يُحْرِمَ بَعُمْرَةٍ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَدْ سَاقَ هَدْيًا ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَلَا يَخْلُو حَالُ زَيْدٍ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُحْرِمًا ، أَوْ حَلَالًا . وَإِنْ كَانَ زَيْدٌ حَلَالًا ، قِيلَ لِهَذَا الْمُحْرِمِ : لَكَ أَنْ تَصْرِفَ إِحْرَامَكَ إِلَى مَا شِئْتَ مِنْ حَجٍّ ، أَوْ عُمْرَةٍ ، أَوْ قِرَانٍ . فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا كَانَ زَيْدٌ حَلَالًا ، فَهَلَّا كَانَ هَذَا حَلَالًا : لِأَنَّهُ مِثْلُهُ ، وَقَدْ جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ مِثْلَ مَا جَعَلَ زَيْدٌ عَلَى نَفْسِهِ . قِيلَ هَذَا ، قَدْ عَقَدَ إِحْرَامَ نَفْسِهِ ، وَلَمْ يُقَلْ أَنَا مُحْرِمٌ إِنْ كَانَ زَيْدٌ مُحْرِمًا ، وَإِنَّمَا جَعَلَ صِفَةَ إِحْرَامِهِ كَصِفَةِ إِحْرَامِ زَيْدٍ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ زَيْدٌ مُحْرِمًا لَمْ يَكُنْ إِحْرَامُ هَذَا مَوْصُوفًا ، وَكَانَ مَوْقُوفًا ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَصْرِفَهُ إِلَى مَا شَاءَ مِنْ حَجٍّ ، أَوْ عُمْرَةٍ ، أَوْ قِرَانٍ ، وَإِنْ كَانَ زَيْدٌ مُحْرِمًا ، فَلَا يَخْلُو حَالُ هَذَا الْمُحْرِمِ ، كَإِحْرَامِهِ مِنْ إِحْرَامَيْنِ ، وَإِمَّا أَنْ يَعْلَمَ بِمَاذَا أَحْرَمَ زَيْدٌ أَوْ لَا يَعْلَمَ ، فَإِنْ عَلِمَ بِمَاذَا أَحْرَمَ زَيْدٌ أَحْرَمَ بِمِثْلِهِ ، فَإِنْ كَانَ زَيْدٌ حَاجًّا ، أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَمِرًا أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ ، وَإِنْ كَانَ قَارِنًا قَرَنَ وَالْعِلْمُ بِإِحْرَامِهِ قَدْ يَكُونُ بِإِخْبَارِهِ وَقَوْلِهِ ، إِذْ لَا سَبِيلَ إِلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ ، بِمَاذَا أَحْرَمَ زَيْدٌ ، لِأَنَّ زَيْدًا قَدْ مَاتَ ، أَوْ غَابَ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْوِيَ الْقِرَانَ . نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ وَالْقَدِيمِ ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ زَيْدٌ قَارِنًا ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا شَكَّ فِي إِحْرَامِ نَفْسِهِ ، هَلْ كَانَ قَارِنًا أَوْ مُفْرِدًا من احرم بمثل ما أحرم به غيره : يَكُونُ قَارِنًا ، قَوْلًا وَاحِدًا : لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَرَنَ ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ زَيْدٌ قَدْ قَرَنَ ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا . وَلَوْ قَالَ : إِحْرَامِي كَإِحْرَامِ زَيْدٍ وَعَمْرٍو ، فَكَانَ أَحَدُهُمَا مُحْرِمًا بِحَجٍّ ، وَالْآخَرُ بِعُمْرَةٍ كَانَ هَذَا قَارِنًا ، وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا قَارِنًا وَالْآخَرُ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا كَانَ قَارِنًا وَلَوْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحْرِمًا بِحَجٍّ كَانَ حَاجًّا لَا غَيْرَ ، وَلَوْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحْرِمًا بِعُمْرَةٍ كَانَ هَذَا مُعْتَمِرًا ، كَمَنْ أَحْرَمَ بِحَجَّتَيْنِ أَوْ عُمْرَتَيْنِ لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا وَاحِدَةٌ .
مَسْأَلَةٌ بيان مما التَّلْبِيَةُ مَأْخُوذَةٌ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ المحرم لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَمَرَنِي أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي أَوْ مَنْ مَعِي أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بالتَلْبِيَةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا التَّلْبِيَةُ معنى ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَا هِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْهُ عَلَى خَمْسَةِ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : أَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَوْلِهِمْ ، أَلَبَّ فُلَانٌ بِالْمَكَانِ وَلَبَّ إِذَا أَقَامَ فِيهِ ، وَمَعْنَى لَبَّيْكَ ، أَيْ أَنَا مُقِيمٌ عِنْدَ طَاعَتِكَ ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ : مَحَلُّ الْفَخْرِ أَنْتَ بِهِ مُلَبٍّ مَا مَا تَزُولُ وَلَا تَرِيمُ وَقَالَ آخَرُ : لَبِّ بِأَرْضٍ مَا تَخَطَّاهَا الْغَنَمْ وَهَذَا قَوْلُ الْخَلِيلِ وَثَعْلَبٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْإِجَابَةِ ، وَمَعْنَاهَا : إِجَابَتِي لَكَ ، وَمِنْهُ قَوْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ : لَبَّيْكُمَا لَبَّيْكُمَا هَأَنَا ذَا لَدَيْكُمَا وَهَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنَ اللَّبِّ ، وَاللُّبَابُ الَّذِي يَكُونُ خَالِصَ الشَّيْءِ ، وَمَعْنَاهَا : الْإِخْلَاصُ أَيْ أَخْلَصْتُ لَكَ الطَّاعَةَ . وَالرَّابِعُ : أَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ لُبِّ الْعَقْلِ ، مِنْ قَوْلِهِمْ : رَجُلٌ لِبَيْتٍ ، وَيَكُونُ مَعْنَاهَا : أَيْ مُنْصَرِفٌ إِلَيْكَ وَقَلْبِي مُقْبِلٌ عَلَيْكَ . وَالْخَامِسُ : أَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْمَحَبَّةِ ، مِنْ قَوْلِهِمُ : امْرَأَةٌ لَبَّةٌ ، إِذَا كَانَتْ لِوَلَدِهَا مُحِبَّةً ، وَيَكُونُ مَعْنَاهَا : مَحَبَّتِي لَكَ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ : وَكُنْتُمْ كَأُمٍّ لَبَّةٍ ظَعَنَ ابْنُهَا إِلَيْهَا فَمَا دَرَّتْ عَلَيْهِ بِسَاعِدِ وَالتَّلْبِيَةُ سُنَّةٌ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ، وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : الْحُجَّاجُ وَالْعُمَّارُ وَفْدُ اللَّهِ ، وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي الْقَاسِمِ بِيَدِهِ ، مَا أَهَلَّ
مُهِلٌّ ، وَلَا كَبَّرَ مُكَبِّرٌ عَلَى شَرَفٍ مِنَ الْأَشْرَافِ إِلَّا أَهَلَّ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَكَبَّرَ تَكْبِيرَهُ حَتَى يَنْقَطِعَ بِهِمْ مُنْقَطَعُ التُّرَابِ " . وَرَوَى خَلَّادُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي الْآنَ فَقَالَ : قُلْ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ ، فَإِنَّهُ مِنْ شِعَارِ الْحَجِّ " وَحُكِيَ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ التَّلْبِيَةَ فِي أَثْنَاءِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَاجِبَةٌ وَزَعَمَا أَنَّهُمَا وَجَدَا لِلشَّافِعِيِّ نَصًّا يَدُلُّ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ يُعْرَفُ لِلشَّافِعِيِّ فِي كُتُبِهِ نَصٌّ يَدُلُّ عَلَيْهِ .
فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ
فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَتَانِي جِبْرِيلُ وَأَمَرَنِي أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي أَوْ مَنْ مَعِي أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ " . قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ - يَعْنِي فِي الْحَجِّ - فَقَالَ : الْعَجُّ وَالثَّجُّ وَرَوَى عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ : أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، كَانُوا يَبْلُغُونَ الرَّوْحَاءَ حَتَّى تُبَحُّ حُلُوقُهُمْ مِنَ التَّلْبِيَةِ .
مَسْأَلَةٌ يُسْتَحَبُّ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يُلَبِّيَ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيُلَبِّي الْمُحْرِمُ قَائِمًا وَقَاعِدًا وَرَاكِبًا وَنَازِلًا وَجُنُبًا وَمُتَطَهِّرًا وَعَلَى كُلِ حَالٍ رَافِعًا صَوْتَهُ فِي جَمِيعِ مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَكَانَ السَّلَفُ يَسْتَحِبُّونَ التَّلْبِيَةَ عِنْدَ اضْطِمَامِ الرِّفَاقِ وَعِنْدَ الْإِشْرَافِ وَالْهُبُوطِ وَخَلْفَ الصَّلَوَاتِ وَفِي اسْتِقْبَالِ اللَّيْلِ والنَّهَارِ وَبِالْأَسْحَارِ وَنُحِبُّهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، يُسْتَحَبُّ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يُلَبِّيَ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ ، قَائِمًا ، وَقَاعِدًا ، وَرَاكِبًا ، وَنَازِلًا ، وَجُنُبًا ، وَمُتَطَهِّرًا ، وَعِنْدَ اضْطِمَامِ الرِّفَاقِ ، وَعِنْدَ الْإِشْرَافِ ، وَالْهُبُوطِ ، وَبِالْأَسْحَارِ ، وَخَلْفَ الصَّلَوَاتِ ، وَفِي اسْتِقْبَالِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ : لِأَنَّهُ فِعْلُ السَّلَفِ . وَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَذْكُرُ اللَّهَ فِي كُلِ أَحْيَانِهِ " . فَأَمَّا التَّلْبِيَةُ فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ ، فَلَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ ، أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِهَا فِي ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ مِنْهَا مَسْنُونٌ : أَحَدُهُمَا : الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ . وَالثَّانِي : الْمُصَلَّى بِعَرَفَةَ وَهُوَ مَسْجِدُ إِبْرَاهِيمَ . وَالثَّالِثُ : مَسْجِدُ الْخَيْفِ بِمِنًى ، فَهَذِهِ الْمَسَاجِدُ الثَّلَاثَةُ قَدْ جَرَتِ الْعَادَةُ أَنْ يَرْفَعَ النَّاسُ أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ فِيهَا ، فَأَمَّا مَا عَدَاهَا مِنْ مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ كَرِهَ فِي الْقَدِيمِ
رَفْعَ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ فِيهَا : لِأَنَّهُ يُؤْذِي بِهِ الْمُصَلِّينَ وَالْمُرَابِطِينَ ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ هَذَا فِي الْجَدِيدِ ، وَاسْتَحَبَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِهَا فِي كُلِّ مَسْجِدٍ : لِأَنَّهُ ذِكْرٌ لِلَّهِ تَعَالَى فَكَانَتِ الْمَسَاجِدُ أَوْلَى الْبِقَاعِ بِهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّمَا بُنِيَتِ الْمَسَاجِدُ لِذِكْرِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ . وَرُوِيَ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ كَانَ يُوقِظُ النَّاسَ فِي الْمَسْجِدِ ، وَيَقُولُ : لَبُّوا فَإِنِّي سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ : " التَّلْبِيَةُ زِينَةُ الْحَجِّ " . فَأَمَّا التَّلْبِيَةُ فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ مُسْتَحَبَّةٌ ، وَكَذَا النَّوَافِلُ بِخِلَافِ مَا قُلْنَا فِي تَكْبِيرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، فَأَمَّا التَّلْبِيَةُ فِي الطَّوَافِ ، فَقَدْ كَرِهَهَا الشَّافِعِيُّ فِي الْإِمْلَاءِ لِلْأَثَرِ مِنَ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : لَا يُلَبِّي حَوَالَيِ الْبَيْتِ ، إِلَّا عَطَاءٌ وَالسَّائِبُ [ ورُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ ، أَنَّهُ قَالَ : مَا رَأَيْتُ أَحَدًا يُلَبِّي طَائِفًا حَوْلَ الْبَيْتِ ، إِلَّا عَطَاءً وَالسَّائِبَ ، وَلِأَنَّ فِي الطَّوَافِ أَذْكَارٌ مَسْنُونَةٌ إِنْ لَبَّى فِيهَا تَرَكَهَا . فَإِنْ قِيلَ : مَا الْأَصْلُ فِي التَّلْبِيَةِ مشروعيتها ؟ قِيلَ : الِاقْتِدَاءُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَإِجَابَةُ دَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ : وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ [ الْحَجِّ : ] ، . فَأَجَابَهُ مَنْ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ وَأَرْحَامِ النِّسَاءِ : لَبَّيْكَ دَاعِيَ رَبِّنَا لَبَّيْكَ ، قَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ : فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ أَجَابَ إِبْرَاهِيمَ حِينَ أَذَّنَ فِي الْحَجِّ بِالتَّلْبِيَةِ ، أَهْلُ الْيَمَنِ فَكَانَ هَذَا أَصْلُهَا ، ثُمَّ جَرَى النَّاسُ عَلَيْهَا ، وَوَرَدَتِ السُّنَّةُ بِهَا .
مَسْأَلَةٌ بيان لَفْظُ التَّلْبِيَةِ وَصِفَتُهَا
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَالتَّلْبِيَةُ أَنْ يَقُولَ " لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ " لِأَنَّهَا تَلْبِيَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَضِيقُ أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهِ وَأَخْتَارُ أَنْ يُفْرِدَ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُقَصِّرَ عَنْهَا وَلَا يُجَاوِزُهَا إِلَّا أَنْ يَرَى شَيْئًا يُعْجِبُهُ فَيَقُولُ : " لَبَّيْكَ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَةِ " فَإِنَهُ لَا يُرْوَى عَنْهُ مِنْ وَجْهٍ يَثْبُتُ أَنَّهُ زَادَ غَيْرَ هَذَا فَإِذَا فَرَغَ مِنَ التَّلْبِيَةِ صَلَى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَأَلَ اللَّهَ رِضَاهُ وَالْجَنَّةَ وَاسْتَعَاذَ بِرَحْمَتِهِ مِنَ النَّارِ فَإِنَّهُ يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا لَفْظُ التَّلْبِيَةِ وَصِفَتُهَا ، وَمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا فَهُوَ مَا حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ ، وَجَابِرٌ ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَعَائِشَةُ ، وَأَبُو
هُرَيْرَةَ فَبَعْضُهُمْ رَوَى : " لَبَّيْكَ أَنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ " بِفَتْحِ الْأَلْفِ مِنْ ( أَنَّ ) - عَلَى مَعْنَى - لِأَنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ ، وَبَعْضُهُمْ رَوَى بِكَسْرِ الْأَلْفِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالِاسْتِئْنَافِ ، وَيُخْتَارُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى تَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَا يُقَصِّرَ عَنْهَا ، وَلَا يُجَاوِزُهَا ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ سَمِعَ بَعْضَ بَنِي أَخِيهِ يَقُولُ : لَبَّيْكَ يَا ذَا الْمَعَارِجِ ، فَقَالَ سَعْدٌ : إِنَّهُ لَذُو الْمَعَارِجِ ، وَمَا هَكَذَا كُنَّا نُلَبِّي عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي التَّلْبِيَةِ زِيَادَاتٌ ، فَرَوَى نَافِعٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَزِيدُ فِيهَا : لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ ، وَالْخَيْرُ بِيَدَيْكَ ، لَبَّيْكَ وَالرَّغْبَةُ إِلَيْكَ وَالْعَمَلُ . وَرَوَى الْمِسْوِرُ بْنُ مَخْرَمَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّهُ كَانَ إِذَا بَلَغَ إِلَى قَوْلِهِ : وَالْمُلْكُ لَا شَرِيكَ لَكَ ، قَالَ " لَبَّيْكَ مَرْهُوبًا وَمَرْغُوبًا إِلَيْكَ لَبَّيْكَ ذَا النَّعْمَاءِ وَالْفَضْلِ الْحَسَنِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَا ضُيِّقَ عَلَى أَحَدٍ فِي مِثْلِ مَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ ، وَلَا غَيْرُهُ مِنْ تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى وَدُعَائِهِ مَعَ التَّلْبِيَةِ ، غَيْرَ أَنَّ الِاخْتِيَارَ عِنْدِي أَنْ يُفْرِدَ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُقَصِّرُ عَنْهُ وَلَا يُجَاوِزُهُ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّلْبِيَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا زِيَادَاتٌ . فَرَوَى الْأَعْرَجُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : " كَانَ مِنْ تَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَبَّيْكَ إِلَهَ الْحَقِّ لَبَّيْكَ " وَرَوَى ابْنُ سِيرِينَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ : " سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُلَبِّي لَبَّيْكَ حَجًّا حَقًّا تَعَبُّدًا وَرِقًّا . فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُفْرِدَ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَإِنْ زَادَ عَلَيْهَا ، زَادَ مَا رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ ، لَا يُجَاوِزُهُ ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ صُلَحَاءِ السَّلَفِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي التَّلْبِيَةِ : لَبَّيْكَ أَنْتَ مَلِيكُ مَنْ مَلَكَ مَا خَافَ عَبْدٌ أَمَّلَكَ . فَهَذَا وَإِنْ كَانَ حَسَنًا ، فَلَيْسَ بِمَسْنُونٍ عَنِ الرَّسُولِ ، وَلَا مَأْثُورٍ عَنِ الصَّحَابَةِ ، فَإِنْ رَأَى شَيْئًا يُعْجِبُهُ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا ، قَالَ فِي تَلْبِيَتِهِ : لَبَّيْكَ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَةِ . فَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ اللُّغَةِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِمْ : سَعْدَيْكَ ، عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَعْنَاهُ : أَيْ مَعَكَ أَسْعَدُ بِكَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْمُسَاعَدَةِ ، وَاخْتُلِفَ أَيْضًا فِي لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ ، هَلْ هُوَ عَلَى مَعْنَى التَّلْبِيَةِ ، أَوِ الْإِفْرَادِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا مُوَحَّدَةٌ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ ، وَهُوَ قَوْلُ الْخَلِيلِ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا عَلَى التَّثْنِيَةِ ، وَلَيْسَ لَهَا وَاحِدٌ ، وَهَذَا قَوْلُ خَلْفٍ الْأَحْمَرِ .
فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ : إِذَا لَبَّى ، فَاسْتَحَبَّ أَنْ يُلَبِّيَ ثَلَاثًا المحرم فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ :
أَحَدُهَا : أَنْ يُكَرِّرَ قَوْلَ : لَبَّيْكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ . وَالثَّانِي : أَنْ يُكَرِّرَ قَوْلَهُ : لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ . وَالثَّالِثُ : يُكَرِّرُ جَمِيعَ التَّلْبِيَةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ .
فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَإِذَا فَرَغَ مِنَ التَّلْبِيَةِ ، صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَسَأَلَ اللَّهَ رِضَاهُ وَالْجَنَّةَ وَاسْتَعَاذَ بِرَحْمَتِهِ مِنَ النَّارِ . أَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَمُسْتَحَبَّةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [ الشَّرْحِ : ] ، قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ : لَا أُذْكَرُ إِلَّا وَتُذْكَرُ مَعِي ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ كَانَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى وَاجِبًا فِيهِ ، كَانَتِ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاجِبَةً فِيهِ كَالصَّلَاةِ ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ كَانَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى مُسْتَحَبًّا فِيهِ ، كَانَ ذِكْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَحَبًّا فِيهِ ، كَالْأَذَانِ ، وَأَمَّا الِاسْتِعَاذَةُ مِنَ النَّارِ وَالِاسْتِغْفَارُ فَلِرِوَايَةِ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ : " كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا فَرَغَ مِنْ تَلْبِيَتِهِ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ ، سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى رِضْوَانَهُ وَالْجَنَّةَ ، وَاسْتَعَاذَ بِرَحْمَتِهِ مِنَ النَّارِ " .
مَسْأَلَةٌ أَرْكَانُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَمَنَاسِكُهِمَا الْمَرْأَةْ وَالرَّجُلُ فِيهِمَا سَوَاءٌ وإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي شَيْءٍ مِنْ هَيْئَاتِ الْأَرْكَانِ الْأَرْبَعَةِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَالْمَرْأَةُ إحرام فِي ذَلِكَ كَالرَّجُلِ إِلَّا مَا أُمِرَتْ بِهِ مِنَ السِّتْرِ ، وَأَسْتَرُ لَهَا أَنْ تَخْفِضَ صَوْتَهَا بِالتَّلْبِيَةِ وَإِنَّ لَهَا أَنْ تَلْبِسَ الْقَمِيصَ وَالْقَبَاءَ وَالدِّرْعَ وَالسَّرَاوِيلَ وَالْخِمَارَ والْخُفَّيْنِ وَالْقُفَّازَيْنِ ، وَإِحْرَامُهَا فِي وَجْهِهَا فَلَا تُخَمِّرُهُ وَتَسْدِلُ عَلَيْهِ الثَّوْبَ وَتُجَافِيهِ عَنْهُ وَلَا تَمَسُّهُ وَتُخَمِّرُ رَأْسَهَا فَإِنْ خَمَّرَتْ وَجْهَهَا عَامِدَةً افْتَدَتْ وَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ تَخْتَضِبَ لِلْإِحْرَامِ المراة قَبْلَ أَنْ تُحْرِمَ ، وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ : مِنَ السُّنَّةِ أَنْ تَمْسَحَ الْمَرْأَةُ بِيَدَيْهَا شَيْئًا مِنَ الْحِنَاءِ وَلَا تُحْرِمُ وَهِيَ غَفْلٌ وَأُحِبُّ لَهَا أَنْ تَطُوفَ لَيْلًا وَلَا رَمَلَ عَلَيْهَا وَلَكِنْ تَطُوفُ عَلَى هَيْنَتِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا أَرْكَانُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَمَنَاسِكُهِمَا ، فَالْمَرْأَةْ وَالرَّجُلُ فِيهِمَا سَوَاءٌ ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي شَيْءٍ مِنْ هَيْئَاتِ الْأَرْكَانِ الْأَرْبَعَةِ ، الْإِحْرَامِ ، وَالْوُقُوفِ ، وَالطَّوَافِ ، وَالسَّعْيِ ، فَأَمَّا هَيْئَاتُ الْإِحْرَامِ ، فَالْمَرْأَةُ فِيهَا مُخَالِفَةٌ لِلرَّجُلِ فِي خَمْسَةِ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْمَرْأَةَ مَأْمُورَةٌ بِلُبْسِ الثِّيَابِ الْمَخِيطَةِ ، كَالْقَمِيصِ ، وَالْقَبَاءِ ، وَالسَّرَاوِيلِ ، وَالْخُفَّيْنِ ، وَلُبْسِ مَا هُوَ أَسْتَرُ لَهَا : لِأَنَّ عَلَيْهَا سَتْرَ جَمِيعِ بَدَنِهَا ، إِلَّا وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهَا ، وَالرَّجُلُ مَنْهِيٌّ عَنْ لُبْسِ ذَلِكَ مَأْمُورٌ بِالْفِدْيَةِ فِيهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمَرْأَةَ مَأْمُورَةٌ ، بِخَفْضِ صَوْتِهَا بِالتَّلْبِيَةِ ، وَالرَّجُلِ مَأْمُورٌ بِرَفْعِ صَوْتِهِ بِالتَّلْبِيَةِ ، لِأَنَّ صَوْتَ الْمَرْأَةِ يَفْتِنُ سَامِعَهُ ، وَرُبَّمَا كَانَ أَفْتَنَ مِنَ النَّظَرِ ، قَالَ الشَّاعِرُ :
يَا قَوْمُ أُذْنِي لِبَعْضِ الْحَجِّ عَاشِقَةٌ وَالْأُذُنُ تَعْشَقُ قَبْلَ الْعَيْنِ أَحْيَانًا وَالثَّالِثُ : أَنَّ حُرْمَ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا فَلَا تُغَطِّيهِ ، كَمَا كَانَ حُرْمُ الرَّجُلِ فِي رَأْسِهِ فَلَا يُغَطِّيهِ ، لِرِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ تَنْتَقِبَ الْمَرْأَةُ وَهِيَ مُحْرِمَةٌ وَتَلْبَسَ الْقُفَّازَيْنِ " . وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَوْقُوفًا ، وَبَعْضُهُمْ يَرْوِيهِ مُسْنَدًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا فَلَا تُغَطِّيهِ " . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَلَى الْمَرْأَةِ كَشْفَ وَجْهِهَا فِي الْإِحْرَامِ ، فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُغَطِّيَ شَيْئًا مِنْهُ ، إِلَّا مَا اسْتَعْلَى مِنَ الْجَبْهَةِ وَاتَّصَلَ بِقُصَاصِ الشَّعْرِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ لِلْمَرْأَةِ سَتْرُ رَأْسِهَا بِالْقِنَاعِ إِلَّا بِشَدِّهِ : لِأَنَّ مَا لَمْ يُمْكِنْ سَتْرُ الْعَوْرَةِ إِلَّا بِهِ فَهُوَ كَالْعَوْرَةِ فِي وُجُوبِ سَتْرِهِ ، فَإِنْ سَتَرَتْ سِوَى ذَلِكَ مِنْ وَجْهِهَا ، بِمَا يَمَاسُّ الْبَشَرَةَ ، فَعَلَيْهَا الْفِدْيَةُ ، قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا ، وَلَوْ غَطَّتْهُ بِكَفَّيْهَا ، لَمْ تَفْتَدِ ، كَالرَّجُلِ يَفْتَدِي إِذَا غَطَّى رَأْسَهُ ، وَلَا يَفْتَدِي إِذَا غَطَّاهُ بِكَفَّيْهِ ، فَإِنْ أَسْدَلَتْ عَلَى وَجْهِهَا ثَوْبًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَاسَّ الْبَشَرَةَ ، جَازَ ذَلِكَ أَنْ تَأْخُذَ ثَوْبًا فَتَشُدَّهُ عِنْدَ قُصَاصِ الشَّعْرِ ، كَالْكَوْرِ ، وَتُسْدِلُ عَلَيْهِ الثَّوْبَ وَتُمْسِكُهُ بِيَدَيْهَا حَتَّى لَا يَمَاسَّ وَجْهَهَا ، فَإِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ لِمَا رَوَى مُجَاهِدٌ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَقْبَلَ الرَّاكِبُ يَأْمُرُنَا أَنْ نُسْدِلَ عَلَى وُجُوهِنَا سَدْلًا " وَلِأَنَّ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يُظَلِّلَ فَوْقَ رَأْسِهِ وَيُغَطِّيَهُ ، كَذَلِكَ الْمُحْرِمَةُ فِي وَجْهِهَا . وَالرَّابِعُ : لُبْسُ الْقُفَّازَيْنِ فِي كَفَّيْهَا ، فِيهِ قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ : أَحَدُهُمَا : قَالَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ، فَلَهَا لَبْسُهُمَا ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهَا فِيهَا ، وَبِهِ قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ : لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا جَعَلَ حُرْمَ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا ، دَلَّ عَلَى انْتِفَائِهِ عَنْ سَائِرِ بَدَنِهَا . وَلِأَنَّهُ شَخْصٌ مُحْرِمٌ ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ حُرْمُهُ بِمَوْضِعٍ وَاحِدٍ مِنْ بَدَنِهِ كَالرَّجُلِ ، وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ لَوْ مَنَعَ مِنْ تَغْطِيَةِ كَفَّيْهَا بِالْقُفَّازَيْنِ ، لَمَنَعَ مِنْ تَغْطِيَتِهَا بِالْكُمَّيْنِ ، كَالْوَجْهِ الَّذِي لَا يَحْرُمُ بِتَغْطِيَتِهِ بِشَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ ، فَلَمَّا جَازَ تَغْطِيَةُ كَفَّيْهَا بِالْكُمَّيْنِ ، جَازَ بِالْقُفَّازَيْنِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ وَالْأُمِّ : لَيْسَ لَهَا لُبْسُهُمَا ، فَإِنْ لَبِسَتْهُمَا أَوْ أَحَدَهُمَا فَعَلَيْهَا الْفِدْيَةُ ، وَبِهِ قَالَتْ عَائِشَةُ ، وَابْنُ عُمَرَ لِرِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ تَنْتَقِبَ الْمَرْأَةُ وَهِيَ مُحْرِمَةٌ وَتَلْبِسَ الْقُفَّازَيْنِ " . وَلِأَنَّ مَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ مِنَ الْحُرَّةِ ، يَقْتَضِي أَنْ يَتَعَلَّقَ الْإِحْرَامُ بِهِ كَالْوَجْهِ : لِأَنَّ الرَّجُلَ لَمَّا لَمْ يَتَعَلَّقْ حُكْمُ الْإِحْرَامِ بِرَأْسِهِ فِي وُجُوبِ كَشْفِهِ تَعَلَّقَ بِسَائِرِ بَدَنِهِ فِي الْمَنْعِ مِنْ لُبْسِ الْمَخِيطِ فِيهِ ، مَعَ جَوَازِ تَغْطِيَتِهِ ، كَذَلِكَ الْمَرْأَةُ لَمَّا
تَعَلَّقَ حُكْمُ الْإِحْرَامِ بِوَجْهِهَا فِي وُجُوبِ كَشَفِهِ وَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ حُكْمُهُ بِمَوْضِعٍ مِنْ بَدَنِهَا فِي الْمَنْعِ مِنْ لُبْسِ الْمَخِيطِ فِيهِ مَعَ جَوَازِ تَغْطِيَتِهِ . وَالْخَامِسُ : أَنَّ مِنَ الْمُسْتَحَبِّ لَهَا أَنْ تَخْتَضِبَ لِإِحْرَامِهَا بِالْحِنَّاءِ ، وَلَا يَكُونُ عَسْفًا لِرِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : الْمَرْأَةُ الْمُحْرِمَةُ فَلْتُلَطِّخْ بَدَنَهَا بِالْحِنَّاءِ . وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً أَخْرَجَتْ يَدَهَا لِتُبَايِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَرَآهَا بَيْضَاءَ ، فَقَالَ : هَذَا كَفُّ سَبُعٍ أَيْنَ الْحِنَّاءُ ؟ وَلِأَنَّ فِيهِ مُبَايَنَةً لِلرِّجَالِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ لَعَنَ الْمُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ وَالْمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ . فَأَمَّا الْخِضَابُ فِي حَالِ إِحْرَامِهَا ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : كَرِهْتُ ذَلِكَ لَهَا ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهَا فِيهِ ، وَإِنْ خَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ فِيهِ ، عَلَى مَا سَيَأْتِي الْكَلَامُ مَعَهُ . ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ طَلَتْ يَدَهَا بِالْحِنَّاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَلُفَّ عَلَيْهَا الْخِرَقَ ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا ، وَإِنْ لَفَّتْ عَلَيْهَا الْخِرَقَ وَشَدَّتْهَا بِالْعَصَائِبِ ، فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ لُبْسَ الْقُفَّازَيْنِ جَائِزٌ ، فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهَا ، وَإِنْ قُلْنَا : إِنْ لُبْسَ الْقُفَّازَيْنِ غَيْرُ جَائِزٍ ، وَأَنَّ الْفِدْيَةَ فِي لُبْسِهِمَا وَاجِبَةٌ ، فَهَلْ عَلَيْهَا الْفِدْيَةُ فِي الْخِرَقِ وَالْعَصَائِبِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : عَلَيْهَا الْفِدْيَةُ تَشَبُّهًا بِالْقُفَّازَيْنِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا فِدْيَةَ عَلَيْهَا تَشَبُّهًا بِالْكُمَّيْنِ .
فَصْلٌ مَا تُخَالِفُ فِيهِ الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ فِي الْوُقُوفِ
فَصْلٌ : مَا تُخَالِفُ فِيهِ الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ فِي الْوُقُوفِ فَأَمَّا مَا تُخَالِفُهُ فِيهِ مِنْ هَيْئَاتِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ ، فَثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : أَنَّ الرَّجُلَ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَقِفَ بِعَرَفَةَ رَاكِبًا ، وَالْمَرْأَةُ نَازِلَةٌ عَلَى الْأَرْضِ ، لِأَنَّهُ أَصْوَنُ لَهَا وَأَسْتَرُ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمَرْأَةَ يُخْتَارُ لَهَا أَنْ تَكُونَ بِعَرَفَةَ جَالِسَةً وَالرَّجُلِ قَائِمًا . وَالثَّالِثُ : أَنَّ الْمَرْأَةَ يُخْتَارُ لَهَا أَنْ تَكُونَ فِي حَاشِيَةِ الْمَوْقِفِ وَأَطْرَافِ عَرَفَةَ ، وَالرَّجُلَ عِنْدَ الصَّخَرَاتِ السُّودِ .
فَصْلٌ مَا تُخَالِفُ فِيهِ الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ فِي الطَّوَافِ
فَصْلٌ : مَا تُخَالِفُ فِيهِ الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ فِي الطَّوَافِ فَأَمَّا مَا تُخَالِفُهُ فِي هَيْئَاتِ الطَّوَافِ فَثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : أَنَّ الرَّجُلَ مَأْمُورٌ بِالِاضْطِبَاعِ فِيهِ ، وَالرَّمَلِ ، وَالْمَرْأَةُ مَنْهِيَّةٌ عَنْ ذَلِكَ ، بَلْ تَمْشِي عَلَى هَيْئَتِهَا وَسَتْرِ جَمِيعِ بَدَنِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَطُوفَ لَيْلًا ، لِأَنَّهُ أَسْتَرُ لَهَا ، وَالرَّجُلُ يَطُوفُ لَيْلًا وَنَهَارًا .
وَالثَّالِثُ : أَنَّ الْمَرْأَةَ يُسْتَحَبُّ لَهَا أَنْ لَا تَدْنُوَ مِنَ الْبَيْتِ فِي الطَّوَافِ ، وَتَطُوفُ فِي حَاشِيَةِ النَّاسِ ، وَالرَّجُلُ بِخِلَافِهَا . فَصْلٌ : مَا تُخَالِفُهُ فِي السَّعْيِ وَأَمَّا مَا تُخَالِفُهُ فِيهِ مِنْ هَيْئَاتِ السَّعْيِ فَثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْمَرْأَةَ تُمْنَعُ مِنَ السَّعْيِ رَاكِبَةً ، وَالرَّجُلُ لَا يُمْنَعُ مِنْهُ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمَرْأَةَ تُمْنَعُ مِنْ صُعُودِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مِنْ غَيْرِ سَعْيٍ ، وَالرَّجُلُ يُؤْمَرُ بِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ الْمَرْأَةَ تَمْشِي بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مِنْ غَيْرِ سَعْيٍ وَالرَّجُلُ بِالسَّعْيِ الشَّدِيدِ بَيْنَ الْعَلَمَيْنِ . فَصْلٌ : وَأَمَّا مَا تُخَالِفُهُ فِيهِ مِنْ هَيْئَاتِ الْمَنَاسِكِ فَثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : أَنَّ الرَّجُلَ مَأْمُورٌ بِرَفْعِ يَدَيْهِ فِي رَمْيِ الْجِمَارِ ، وَالْمَرْأَةُ لَا تُؤْمَرُ بِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الرَّجُلَ مَأْمُورٌ أَنْ يَتَوَلَّى ذَبِيحَةَ نُسُكِهِ ، وَالْمَرْأَةُ لَا تُؤْمَرُ بِذَلِكَ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ حَلْقَ الرَّجُلِ أَفْضَلُ مِنْ تَقْصِيرِهِ ، وَتَقْصِيرُ الْمَرْأَةِ أَفْضَلُ ، وَحِلَاقُهَا مَكْرُوهٌ . وَمَا سِوَى مَا ذَكَرْنَاهُ فَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ فِيهِ سَوَاءٌ .
بَابُ مَا يَجْتَنِبُهُ الْمُحْرِمُ مِنَ الطِّيبِ وَلُبْسِ الثِّيَابِ
لَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ قَمِيصًا وَلَا عِمَامَةً وَلَا بُرْنُسًا وَلَا خُفَّيْنِ
بَابُ مَا يَجْتَنِبُهُ الْمُحْرِمُ مِنَ الطِّيبِ وَلُبْسِ الثِّيَابِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ قَمِيصًا وَلَا عِمَامَةً وَلَا بُرْنُسًا وَلَا خُفَّيْنِ إِلَّا أَنْ لَا يَجِدَ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ إِزَارًا لَبِسَ سَرَاوِيلَ . لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلِّهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَرَادَ الْإِحْرَامَ خَالَفَ مَعْهُودَهُ فِي لُبْسِهِ . فَسُئِلَ عَمَّا يَلْبَسُهُ الْمُحْرِمُ ، فَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا يَلْبَسُهُ الْمُحْرِمُ فَقَالَ : " لَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ الْقَمِيصَ ، وَلَا السَّرَاوِيلَ ، وَلَا الْعِمَامَةَ ، وَلَا الْبُرْنُسَ ، وَلَا الْخُفَّيْنِ ، إِلَّا أَنْ لَا يَجِدَ النَّعْلَيْنِ ، فَمَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ ، فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ وَيَقْطَعْهُمَا ، حَتَى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ " . وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَلْبَسَ الْمُحْرِمُ الْقَمِيصَ ، وَالْأَقْبِيَةَ ، وَالْخُفَّيْنِ ، وَالسَّرَاوِيلَاتِ ، أَوْ يَلْبَسُ ثَوْبًا فِيهِ وَرَسٌ ، أَوْ زَعْفَرَانٌ " . فَإِنْ قِيلَ : فَلَمَّا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ ؟ فَأَجَابَ بِمَا لَا يَلْبَسُ ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ جَوَابًا لِسُؤَالِهِمْ . قِيلَ : عَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ السَّائِلَ أَخْطَأَ فِي سُؤَالِهِ لِأَنَّ أَصْلَ اللِّبَاسِ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَإِنَّمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَسْأَلَهُ عَمَّا لَا يَلْبَسُ : لِأَنَّ الْحَظْرَ طَارِئٌ ، فَأَجَابَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُ لِيُعْلِمَهُ أَنَّهُ قَدْ أَخْطَأَ فِي سُؤَالِهِ ، وَيُخْبِرَهُ حُكْمَ مَا جَهِلَهُ . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّ مَا يَجُوزُ لَهُ لُبْسُهُ أَكْثَرُ فَمَا حُظِرَ عَلَيْهِ ، وَفِي ذِكْرِ جَمِيعِهِ إِطَالَةٌ ، فَذَكَرَ مَا حُظِرَ عَلَيْهِ ، لِيُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى إِبَاحَةِ مَا سِوَاهُ . فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَقَدْ نَصَّ عَلَى الْقَمِيصِ وَالْقَبَاءِ وَنَبَّهَ عَلَى الْجُبَّةِ ، وَالدُّرَّاعَةِ ، وَنَصَّ عَلَى السَّرَاوِيلِ ، وَنَبَّهَ عَلَى التُّبَّانِ ، وَنَصَّ عَلَى الْبُرْنُسِ ، وَنَبَّهَ عَلَى الْعِمَامَةِ ، وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَلْبَسَ فِي رَأْسِهِ مَخِيطًا ، وَلَا غَيْرَهُ مِنْ عِمَامَةٍ ، أَوْ مِنْدِيلٍ ، وَلَا ثَوْبٍ ، وَلَا رِدَاءٍ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَلْبَسَ فِي بَدَنِهِ مَا يلْبَسُ مَخِيطًا ، كَالْقَمِيصِ ، وَالْجُبَّةِ ، وَالْقَبَاءِ ، وَالصُّدْرَةِ ،
وَالسَّرَاوِيلِ ، وَالتُّبَّانِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَلْبَسَ فِي بَدَنِهِ مَا يَلْبَسُ غَيْرَ مَخِيطٍ ، كَالْمِئْزَرِ وَالرِّدَاءِ وَالْإِزَارِ وَالْكِسَاءِ لِأَنَّ الْمَخِيطَ يَحْفَظُ نَفْسَهُ فَمُنِعَ مِنْهُ ، وَغَيْرُ الْمَخِيطِ لَا يَحْفَظُ نَفْسَهُ فَلَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ . فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ يُمْنَعُ مِنْ لُبْسِ مَا يَحْفَظُ نَفْسَهُ مِنَ الْمَخِيطِ وَلِمَ يُمْنَعَ مِنْ لَبِسَ مَا لَا يَحْفَظُ نَفْسَهُ مِنْ غَيْرِ الْمَخِيطِ . قِيلَ : لِأَنَّ مَا لَا يَحْفَظُ نَفْسَهُ يَبْعَثُهُ عَلَى مُرَاعَاتِهِ ، فَيَتَذَكَّرُ بِذَلِكَ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ إِحْرَامِهِ ، فَيَتَجَنَّبُ مَا أُمِرَ بِاجْتِنَابِهِ ، فَعَلَى هَذَا لَوِ ارْتَدَى بِالْقَمِيصِ ، وَاتَّزَرَ بِالسَّرَاوِيلِ ، جَازَ : لِأَنَّهُ لَا يَحْفَظُ نَفْسَهُ ، وَكَذَا الطَّيْلَسَانُ ، لَهُ أَنْ يَلْبَسَهُ مَا لَمْ يَزِرَّهُ ، لِأَنَّهُ لَا يَحْفَظُ نَفْسَهُ ، فَإِنْ زَرَّهُ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَلْبَسَهُ لِأَنَّهُ يَحْفَظُ نَفْسَهُ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْقَبَاءُ لبسه الرجال فى الحج ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَلْبَسَهُ ، فَإِنْ لَبِسَهُ ، وَأَدْخَلَ يَدَيْهِ فِي كُمَّيْهِ ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ . فَإِنْ أَسْدَلَهُ عَلَى كَتِفَيْهِ ، وَلَمْ يُدْخِلْ يَدَيْهِ فِي كُمَّيْهِ ، نُظِرَ فِيهِ . فَإِنْ كَانَ مِنْ أَقْبِيَةِ خُرَاسَانَ ، قَصِيرَةِ الذَّيْلِ ضَيِّقَةِ الْأَكْمَامِ ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ : لِأَنَّهُ يُلْبَسُ هَكَذَا . وَإِنْ كَانَ مِنْ أَقْبِيَةِ الْعِرَاقِ ، طَوِيلَةِ الذَّيْلِ وَاسِعَةِ الْأَكْمَامِ ، فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ لَا يُتَحَفَّظُ بِهَذَا اللُّبْسِ ، وَلَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا لُبْسُ الْخُفَّيْنِ حال الحج فَغَيْرُ جَائِزٍ مَعَ وُجُودِ النَّعْلَيْنِ ، وَإِنْ أَجَازَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ، لِنَصِّ الْخَبَرِ فَإِذَا عَدِمَ النَّعْلَيْنِ ، جَازَ أَنْ يَلْبَسَ الْخُفَّيْنِ إِذَا قَطَعَهُمَا مِنْ دُونِ الْكَعْبَيْنِ ، فَإِنْ لَمْ يَقْطَعْهُمَا ، لَمْ يَجُزْ ، وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ إِنْ لَبِسَهُمَا ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : يَجُوزُ أَنْ يَلْبَسَهُمَا غَيْرَ مَقْطُوعَيْنِ ، عِنْدَ عَدَمِ النَّعْلَيْنِ ، وَبِهِ قَالَ مِنَ التَّابِعِينَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ ، وَسَعِيدُ بْنُ سَالِمٍ الْقَدَّاحُ ، اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ أَبِي الشَّعْثَاءِ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ ، وَهُوَ يَقُولُ : مَنْ لَمْ يَجِدْ إِزَارًا ، فَلْيَلْبَسْ سَرَاوِيلَ ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ ، فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ " . وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا قُلْنَا . رِوَايَةُ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ ، وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ " . فَكَانَ هَذَا أَوْلَى مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِزِيَادَتِهِ ، فَأَمَّا إِنْ لَبِسَهُمَا مَقْطُوعَيْنِ مَعَ وُجُودِ النَّعْلَيْنِ ، أَوْ لَبِسَ شمشكينَ مَعَ وُجُودِ النَّعْلَيْنِ ، فَهَلْ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَمَرَ بِقَطْعِهِمَا عِنْدَ عَدَمِ النَّعْلَيْنِ ، لِيَصِيرَ فِي مَعْنَى النَّعْلَيْنِ ، فَلَا يُتَرَفَّهُ بِالْمَسْحِ عَلَيْهِمَا ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِيهِمَا مَعَ النَّعْلَيْنِ وَعَدَمِهِمَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ الصَّحِيحُ - وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ - : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَلْبَسَهُمَا مَقْطُوعَيْنِ ، إِلَّا عِنْدَ عَدَمِ النَّعْلَيْنِ ، فَأَمَّا مَعَ وُجُودِهِمَا فَلَا ، وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ إِنْ لَبِسَهُمَا ،
لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَاحَ لُبْسَهُمَا مَقْطُوعَيْنِ ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ عَادِمًا لِلنَّعْلَيْنِ ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدِ الشَّرْطُ لَمْ تُوجَدِ الْإِبَاحَةُ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا السَّرَاوِيلُ لبسها للمحرم فَلَا يَجُوزُ لُبْسُهُ مَعَ وُجُودِ الْإِزَارِ فَإِنْ لُبِسَتْ مَعَ وُجُودِ الْإِزَارِ افْتَدَى ، وَإِنْ عَدِمَ الْإِزَارَ ، جَازَ أَنْ يَلْبَسَ السَّرَاوِيلَ ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ . وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَجُوزُ أَنْ يَلْبَسَ السَّرَاوِيلَ ؟ لَا مَعَ وُجُودِ الْإِزَارِ ، وَلَا مَعَ عَدَمِهِ ، فَإِنْ لَبِسَهُ افْتَدَى . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَجُوزُ أَنْ يَلْبَسَ السَّرَاوِيلَ مَعَ عَدَمِ الْإِزَارِ ، وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ مَعَ إِبَاحَتِهِ عِنْدَهُ ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ مَا لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ بِلُبْسِهِ غَيْرُ مَعْذُورٍ ، لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ بِلُبْسِهِ وَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا كَالْقَمِيصِ ، وَلِأَنَّ مَنْ لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ بِلُبْسِ الْقَمِيصِ ، لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ بِلُبْسِ السَّرَاوِيلِ ، كَغَيْرِ الْمَعْذُورِ : لِأَنَّ أُصُولَ الْحَجِّ مَوْضُوعَةٌ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمَعْذُورِ ، وَغَيْرِ الْمَعْذُورِ ، فَمَا يُوجِبُ الْفِدْيَةَ ، كَالْحَلْقِ ، وَقَتْلِ الصَّيْدِ ، كَذَلِكَ هُنَا . وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا رِوَايَةُ أَبِي الشَّعْثَاءِ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ وَهُوَ يَقُولُ : " مَنْ لَمْ يَجِدْ إِزَارًا فَلْيَلْبَسْ سَرَاوِيلَ ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ " . فَنَصُّ الْخَبَرِ . دَلِيلٌ عَلَى مَالِكٍ فِي جَوَازِ لُبْسِهِ ، وَفِيهِ دَلِيلَانِ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فِي سُقُوطِ الْفِدْيَةِ فِي لُبْسِهِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ جَعَلَ السَّرَاوِيلَ مَعَ عَدَمِ الْإِزَارِ ، فِي حُكْمِ الْمُبَاحَاتِ مِنَ الْمَلْبُوسَاتِ الَّتِي أَضْرَبَ عَنِ النَّهْيِ عَنْهَا ، وَلَمْ يُوجِبِ الْفِدْيَةَ فِي لُبْسِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ جَعَلَهُ بَدَلًا مِنَ الْإِزَارِ عِنْدَ عَدَمِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي حُكْمِ مُبْدَلِهِ ، وَلِأَنَّهُ لُبْسٌ أُبِيحَ بِالشَّرْعِ لَفْظًا ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمُ فِيهِ الْفِدْيَةُ ، كَالْإِزَارِ ، وَلِأَنَّهُ لُبْسٌ لَا يُمْكِنُ سَتْرُ الْعَوْرَةِ إِلَّا بِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَ فِيهِ الْفِدْيَةُ ، كَالْقَمِيصِ لِلْمَرْأَةِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى لُبْسِ الْقَمِيصِ ، وَاسْتِشْهَادِهِمْ بِالْأُصُولِ ، فَالْجَوَابُ عَنْهَا وَاحِدٌ ، وَهُوَ أَنَّ لُبْسَ السَّرَاوِيلِ أُبِيحَ لِسَتْرِ الْعَوْرَةِ ، وَذَلِكَ لِأَجْلِ الْغَيْرِ ، وَلُبْسُ الْقَمِيصِ ، وَحَلْقُ الشَّعْرِ ، وَإِنْ أُبِيحَ لَهُ إِذَا اضْطُرَّ إِلَيْهِ لِأَجْلِ نَفْسِهِ ، وَالْأُصُولُ فِي الْحَجِّ ، مَوْضُوعَةٌ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ مَا أُبِيحَ لِمَعْنًى فِيهِ وَبَيْنَ مَا أُبِيحَ لِمَعْنَى غَيْرِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُحْرِمَ لَوِ اضْطُرَّ إِلَى أَكْلِ الصَّيْدِ لِمَجَاعَةٍ نَالَتْهُ فَقَتَلَهُ افْتَدَى ، وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا لَهُ : لِأَنَّهُ اسْتَبَاحَهُ لِأَجْلِ نَفْسِهِ ، وَلَوْ صَالَ عَلَيْهِ الصَّيْدُ فَخَافَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَقَتَلَهُ لَمْ يَفْتَدِ : لِأَنَّهُ اسْتَبَاحَ قَتْلَهُ لِأَجْلِ الصَّيْدِ . ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَ الْقَمِيصِ وَالسَّرَاوِيلِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ، وَهُوَ أَنَّ السَّرَاوِيلَ إِذَا اتَّزَرَ بِهِ ضَاقَ عَنْ سَتْرِ عَوْرَتِهِ ، فَاضْطُرَّ إِلَى لُبْسِهِ لِيَسْتُرَ عَوْرَتَهُ وَالْقَمِيصُ إِنِ اتَّزَرَ بِهِ اتَّسَعَ لِسَتْرِ جَمِيعِ عَوْرَتِهِ فَلَمْ يُضْطَرَّ إِلَى لُبْسِهِ لِسَتْرِ عَوْرَتِهِ .
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى غَيْرِ الْمَعْذُورِ ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ ، لِأَنَّ الْمَعْذُورَ لَيْسَ مُبَاحًا ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ الْفِدْيَةُ ، وَغَيْرُ الْمَعْذُورِ لَيْسَ مَحْظُورًا فَلَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمِئْزَرُ إِذَا عَقَدَهُ عَلَى وَسَطِهِ حال الحج فَلَا بَأْسَ بِهِ ، لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ إِلَّا مَعْقُودًا وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْتَزِرَ ذَيْلَيْنِ ، ثُمَّ يَعْقِدَ الذَّيْلَيْنِ مِنْ وَرَائِهِ ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَالسَّرَاوِيلِ ، فَإِنْ فَعَلَ افْتَدَى ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَا يَعْقِدُ رِدَاءَهُ عَلَيْهِ ، وَلَكِنْ يَغْرِزُ طَرَفَيْ رِدَائِهِ إِنْ شَاءَ فِي إِزَارِهِ ، وَإِنْ شَاءَ فِي سَرَاوِيلِهِ ، إِذَا كَانَ الرِّدَاءُ مَنْشُورًا ، فَإِنْ خَالَفَ مَا وَصَفَ الشَّافِعِيُّ ، وَعَقَدَ رِدَاءَهُ مِنْ وَرَائِهِ افْتَدَى : لِأَنَّ الْإِزَارَ يَثْبُتُ غَيْرَ مَعْقُودٍ ، فَإِذَا عُقِدَ صَارَ كَالْقَمِيصِ يَحْفَظُ نَفْسَهُ .
مَسْأَلَةٌ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ وَلَا وَرَسٌ وَلَا شَيْءٌ مِنَ الطِّيبِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَا يَلْبَسُ ثَوْبًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ ، وَلَا وَرَسٌ ، وَلَا شَيْءٌ مِنَ الطِّيبِ المحرم " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَصْلُ هَذَا ، رِوَايَةُ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى الْمُحْرِمَ أَنْ يَلْبَسَ ثَوْبًا فِيهِ وَرْسٌ أَوْ زَعْفَرَانٌ " فَنَصَّ عَلَى الْوَرَسِ وَالزَّعْفَرَانِ ، وَنَبَّهَ عَلَى الْكَافُورِ وَالْمِسْكِ وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا مِنَ الطِّيبِ : لِأَنَّهُ إِذَا مَنَعَ مِنْ أَدْوَنِ الطِّيبِ ، فَأَعْلَاهُ بِالْمَنْعِ أَوْلَى ، وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ طِيبٍ مُنِعَ مِنْهُ الْمُحْرِمُ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَلْبَسَ ثَوْبًا قَدْ صُبِغَ بِهِ أَوْ مَسَّهُ شَيْءٌ مِنَ الطِّيبِ ، كَالْوَرَسِ ، وَالزَّعْفَرَانِ ، وَالْمَاوَرْدِ وَالْغَالِيَةِ ، وَالْكَافُورِ ، وَالْمِسْكِ ، وَالْعَنْبَرِ ، وَالرَّيْحَانِ الْفَارِسِيِّ ، إِذَا قِيلَ : إِنَّ فِيهِ الْفِدْيَةَ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، وَكُلُّ مَا لَمْ يُمْنَعِ الْمُحْرِمُ مِنْ شَمِّهِ : وَاسْتِعْمَالِهِ ، جَازَ أَنْ يَلْبَسَ ثَوْبًا قَدْ صُبِغَ بِهِ ، كَالشِّيحِ وَالْعَيْصُومِ ، وَالْأُتْرُجِّ ، وَالْعَنْبَرَانِ ، لِأَنَّ هَذِهِ كُلَّهَا وَإِنْ كَانَتْ ذَكِيَّةَ الرِّيحِ ، فَلَيْسَتْ طِيبًا تَجِبُ بِشَمِّهَا الْفِدْيَةُ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُمْنَعُ الْمُحْرِمُ مِنْ لُبْسِ الثَّوْبِ الْمُطَيَّبِ ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ إِنْ لَبِسَهُ ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ لَمْ يُسْتَعْمَلْ غَيْرُ الطِّيبِ فِي بَلَدِهِ ، وَإِنَّمَا وَصَلَتْ إِلَيْهِ رَائِحَتُهُ ، فَأَشْبَهَ جُلُوسَهُ فِي الْعَطَّارِينَ ، وَدَلِيلُنَا مَعَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمُقَدَّمِ ، أَنَّهُ نَوْعٌ يُطَيَّبُ بِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَفْتَدِيَ بِهِ الْمُحْرِمُ كَاسْتِعْمَالِهِ فِي جَسَدِهِ ، وَخَالَفَ جُلُوسَهُ فِي الْعَطَّارِينَ : لِأَنَّهُ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ التَّطَّيُبِ ، فَلَمْ يَتَعَلَّقْ عَلَيْهِ حُكْمُهُ .
فَصْلٌ كَانَ الثَّوْبُ مَصْبُوغًا بِطِيبٍ قَدْ أَثَّرَ فِيهِ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ، وَكَانَ الثَّوْبُ مَصْبُوغًا بِطِيبٍ حكمه للحاج قَدْ أَثَّرَ فِيهِ ، فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَظْهَرَ فِيهِ رَائِحَةُ الطِّيبِ وَلَوْنُهُ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ تَظْهَرَ فِيهِ رَائِحَةُ الطِّيبِ دُونَ لَوْنِهِ . وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَظْهَرَ فِيهِ لَوْنُ الطِّيبِ دُونَ رَائِحَتِهِ ، فَإِنْ ظَهَرَ فِيهِ الْأَمْرَانِ مَعًا ؟ اللَّوْنُ وَالرَّائِحَةُ ، مُنِعَ مِنْهُ الْمُحْرِمُ ، رَجُلًا كَانَ أَوِ امْرَأَةً ، فَإِنْ لَبِسَهُ الْمُحْرِمُ إذا لبس الثوب المصبوغ بطيب هل عليه شئ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ ، فَإِنْ غَسَلَهُ
حَتَّى زَالَ لَوْنُ الطِّيبِ وَرَائِحَتُهُ ، جَازَ أَنْ يَلْبَسَهُ ، وَإِنْ صَبَغَهُ بِسَوَادٍ أَوْ غَيْرِهِ ، حَتَّى زَالَ لَوْنُهُ وَرَائِحَتُهُ ، نُظِرَ فِيهِ ، فَإِنْ ثَارَتْ لَهُ رَائِحَةٌ بِرَشِّ الْمَاءِ عَلَيْهِ ، لَمْ يَجُزْ لَهُ لُبْسُهُ ، وَفِيهِ الْفِدْيَةُ ، وَإِنْ لَمْ تَبِنْ لَهُ رَائِحَةٌ بِرَشٍّ عَلَيْهِ ، جَازَ لَهُ لُبْسُهُ ، وَلَا فِدْيَةَ فِيهِ وَإِنْ ظَهَرَ بِالصَّبْغِ رَائِحَةُ الطِّيبِ دُونَ لَوْنِهِ ، مُنِعَ الْمُحْرِمُ مِنْ لُبْسِهِ ، وَوَجَبَ فِيهِ الْفِدْيَةُ ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الطِّيبِ رَائِحَتُهُ . وَإِنْ ظَهَرَ بِالصَّبْغِ لَوْنُهُ دُونَ رَائِحَتِهِ بلبس المحرم فما الحكم جَازَ لُبْسُهُ ، وَلَا فِدْيَةَ فِيهِ : لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ مَفْقُودٌ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَوْ صُبِغَ ثَوْبٌ بِوَرْسٍ أَوْ زَعْفَرَانٍ ، فَذَهَبَ رِيحُ الْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ لِطُولِ لُبْسٍ أَوْ غَيْرِهِ ، فَإِنْ كَانَ إِذَا أَصَابَهُ الْمَاءُ حَرَّكَ رِيحَهُ وَإِنْ قَلَّ ، لَمْ يَلْبَسْهُ الْمُحْرِمُ ، وَإِنْ لَمْ يُحَرِّكْ رِيحَهُ ، فَإِنْ غُسِلَ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ ، وَإِنْ لَمْ يُغْسَلْ رَجَوْتُ أَنْ يَسَعَهُ لُبْسُهُ : لِأَنَّ الصَّبْغَ لَيْسَ بِنَجَسٍ وَلَا أُرِيدُ بِالْغَسْلِ ذَهَابَ الرِّيحِ ، فَإِذَا ذَهَبَ بِغَيْرِ غَسْلٍ رَجَوْتُ أَنْ يُجْزِئَ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا ، وَلَبِسَ الْمُحْرِمُ ثَوْبًا مُطَيَّبًا فما الحكم ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ سَوَاءٌ أَفْضَى بِجِلْدِهِ إِلَيْهِ أَمْ لَا لِأَنَّهُ لَا لُبْسَ لَهُ ، فَأَمَّا إِنِ افْتَرَشَهُ وَنَامَ عَلَيْهِ الثوب المصبوغ بطيب للمحرم ، فَإِنْ أَفْضَى بِجِلْدِهِ إِلَيْهِ افْتَدَى : لِأَنَّهُ مُتَطَيِّبٌ ، وَإِنْ لَمْ يُفْضِ بِجِلْدِهِ إِلَيْهِ ، فَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ثَوْبِهِ فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ لَيْسَ بِلَابِسٍ وَلَا مُتَطَيِّبٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ لِلطِّيبِ مُجَاوِرٌ ، وَلَكِنْ إِنْ كَانَ الثَّوْبُ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ يَشِفُّ ، كَرِهنَا ذَلِكَ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَشِفُّ لَمْ يُكْرَهْ لَهُ ، وَهَذَا نَصُّ الشَّافِعِيِّ . وَجُمْلَتُهُ أَنْ تَكُونَ هَيْئَةُ الْمُحْرِمِ مُخَالِفَةً لِهَيْئَةِ الْمَحَلِّ . رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَأَى قَوْمًا فِي الْحَجِّ لَهُمْ هَيْئَةٌ أَنْكَرَهَا فَقَالَ : هَؤُلَاءِ الدَّاجُّ فَأَيْنَ الْحَاجُّ ؟ وَفِي الْحَاجِّ وَالدَّاجِّ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْحَاجَّ إِذَا أَقْبَلُوا ، وَالدَّاجَّ إِذَا رَجَعُوا ، وَهَذَا قَوْلُ مَيْسَرَةَ بْنِ عُبَيْدٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْحَاجَّ الْقَاصِدُونَ الْحَجَّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّأْنِ ، وَالدَّاجَّ الْأَتْبَاعُ ، مِنْ تَاجِرٍ وَمُكَارٍ ، وَقَالَ ثَعْلَبٌ : هُمُ الْحَاجُّ وَالدَّاجُّ وَالزَّاجُّ فَالْحَاجُّ أَصْحَابُ الشَّأْنِ وَالدَّاجُّ الْأَتْبَاعُ وَالزَّاجُّ الْمُرَاؤُونَ قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : عِصَابَةٌ إِنْ حَجَّ مُوسَى حَجُّوا وَإِنْ أَقَامَ بِالْعِرَاقِ دَجُّوا مَا هَكَذَا كَانَ يَكُونُ الْحَجُّ يَعْنِي مُوسَى بْنَ عِيسَى الْهَاشِمِيَّ .
فَصْلٌ إِذَا لَبِسَ الْحَلَالُ ثَوْبًا مُطَيَّبًا ثُمَّ أَحْرَمَ فِيهِ وَاسْتَدَامَ لُبْسُهُ جَازَ وَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ
فَصْلٌ : إِذَا لَبِسَ الْحَلَالُ ثَوْبًا مُطَيَّبًا ، ثُمَّ أَحْرَمَ فِيهِ فما الحكم وَاسْتَدَامَ لُبْسُهُ جَازَ ، وَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ : لِأَنَّهُ لَوْ تَطَيَّبَ وَهُوَ حَلَالٌ ، ثُمَّ أَحْرَمَ وَاسْتَدَامَ الطِّيبُ ، جَازَ وَإِنْ لَمْ يَغْسِلْهُ ، فَكَذَلِكَ الثَّوْبُ ، وَلَكِنْ لَوْ أَحْرَمَ فِي ثَوْبٍ مُطَيَّبٍ ، ثُمَّ نَزَعَهُ وَأَعَادَ لُبْسَهُ فِي حَالِ إِحْرَامِهِ افْتَدَى : لِأَنَّهُ كَالْمُبْتَدِئِ لِاسْتِعْمَالِ الطِّيبِ بَعْدَ إِحْرَامِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يُغَطِّي رَأْسَهُ ، وَلَهُ أَنْ يُغَطِّيَ وَجْهَهُ المحرم " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : فَعَلَيْهِ كَشْفُ رَأْسِهِ إِجْمَاعًا ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ كَشْفُ وَجْهِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ، وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ عُثْمَانَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، وَجَابِرٍ ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ ، وَقَالَ مَالِكٌ : وَيُحْكَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ عَلَى الْمُحْرِمِ كَشْفَ وَجْهِهِ ، كَمَا عَلَيْهِ كَشْفُ رَأْسِهِ ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ تَعَلُّقًا بِرِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي مُحْرِمٍ خَرَّ مِنْ رَاحِلَتِهِ ، فَوُقِصَ فَمَاتَ : لَا تُخْفِرُوا رَأْسَهُ ، وَلَا وَجْهَهُ . وَلِأَنَّهُ شَخْصٌ مُحْرِمٌ ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ كَشْفُ وَجْهِهِ ، كَالْمَرْأَةِ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ ، رِوَايَةُ أَبِي الشَّعْثَاءِ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : فِي مُحْرِمٍ خَرَّ مِنْ رَاحِلَتِهِ ، فَوَقَصَتْهُ فَمَاتَ : " لَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ ، وَخَمِّرُوا وَجْهَهُ " . وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ ، لِأَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَمَّنْ ذَكَرْنَا مِنْهُمْ ، وَلَيْسَ يُعْرَفُ لَهُمْ مُخَالِفٌ ، وَمَا حُكِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، فَلَيْسَ مُخَالِفًا لَهُمْ : لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ مَا فَوْقَ الذَّقْنِ مِنَ الرَّأْسِ فَهُوَ إِنَّمَا أَوْجَبَ كَشْفَهُ لِوُجُوبِ كَشْفِ الرَّأْسِ : وَلِأَنَّهُ شَخْصٌ مُحْرِمٌ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ كَشْفُ عُضْوَيْنِ كَالْمَرْأَةِ . فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْخَبَرِ ، فَخَبَرُنَا أَوْلَى لِزِيَادَتِهِ ، ثُمَّ يَكُونُ مُسْتَعْمَلًا فِي كَشْفِ مَا لَا يُمْكِنُ كَشْفُ الرَّأْسِ إِلَّا بِهِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمَرْأَةِ ، فَالْمَعْنَى فِيهَا : أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا كَشْفُ غَيْرِ الْوَجْهِ ، وَجَبَ عَلَيْهَا كَشْفُ الْوَجْهِ . وَالرَّجُلُ لَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ كَشْفُ غَيْرِ الْوَجْهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ كَشْفُ الْوَجْهِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَلَيْهِ كَشْفَ رَأْسِهِ دُونَ وَجْهِهِ ، فَإِنْ غَطَّى رَأْسَهُ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ ، وَإِنْ قَلَّ بِمَخِيطٍ ، وَغَيْرِ مَخِيطٍ ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ ، وَلَكِنْ لَوْ غَطَّى رَأْسَهُ بِكَفِّهِ المحرم فما الحكم ، لَمْ يَفْتَدِ : لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُغَطِّيًا لِرَأْسِهِ بِنَفْسِهِ ، وَلَوْ غَطَّى رَأْسَهُ بِكَفِّ غَيْرِهِ المحرم فما الحكم ، كَانَ فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ : لِأَنَّ مَا تَجِبُ بِهِ الْفِدْيَةُ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا يَكُونُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ ، كَالثَّوْبِ ، فَلَمَّا لَمْ تَجِبِ الْفِدْيَةُ فِي تَغْطِيَتِهِ بِكَفِّ نَفْسِهِ ، فَكَذَلِكَ لَا تَجِبُ فِي تَغْطِيَتِهِ بِكَفِّ غَيْرِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ ، لِأَنَّ كَفَّهُ بَعْضٌ مِنْ أَبْعَاضِهِ ، وَلَيْسَ كَفُّ غَيْرِهِ بَعْضًا مِنْ أَبْعَاضِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ سَجَدَ عَلَى كَفِّ نَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ ، وَلَوْ سَجَدَ عَلَى كَفِّ غَيْرِهِ جَازَ ، فَافْتَرَقَ حُكْمُهُمَا .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا حَمَلَ عَلَى رَأْسِهِ مِكْتَلًا ، أَوْ زِنْبِيلًا المحرم فما الحكم ، فَإِنْ قَصَدَ بِهِ تَغْطِيَةَ رَأْسِهِ ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ ، فَفِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ مَعَ قَصْدٍ وَقَدْ حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الشَّافِعِيِّ ، لِأَنَّ مَا أَوْجَبَ الْفِدْيَةَ التَّغْطِيَةُ ، أَوْجَبَ الْفِدْيَةَ ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ التَّغْطِيَةَ كَالْمَوْتِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا فِدْيَةَ فِيهِ ، لِأَنَّ وُجُوبَ الْفِدْيَةِ فِي تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ ، لِأَجْلِ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الرَّفَاهِيَةِ بِهِ ، وَحَامِلُ الْمِكْتَلِ لَا يَتَرَفُّهُ بِتَغْطِيَةِ رَأْسِهِ بِهِ ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ الْفِدْيَةُ لِأَجْلِهِ .
فَصْلٌ كَانَ الْمُحْرِمُ مُصَدَّعًا فَشَدَّ رَأْسَهُ بِعِصَابَةٍ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ
فَصْلٌ : إِذَا كَانَ الْمُحْرِمُ مُصَدَّعًا ، فَشَدَّ رَأْسَهُ بِعِصَابَةٍ فما الحكم ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ : لِأَنَّهُ قَدْ سَتَرَ بِهَا رَأْسَهُ ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ فِي رَأْسِهِ جُرْحٌ فَوَضَعَ فِيهِ دَوَاءً المحرم فما الحكم ، فَإِنْ شَدَّهُ بِخِرْقَةٍ أَوْ وَضَعَ عَلَيْهِ قِرْطَاسًا ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ ، وَإِنْ لَمْ يَسْتُرْهُ بِشَيْءٍ ، اعْتُبِرَ حَالُهُ ، فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يَمْنَعُ مِنْ مُشَاهَدَةِ الرَّأْسِ ، فَفِيهِ الْفِدْيَةُ : لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ : وَإِذَا خَضَّبَ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ بِالْحِنَّاءِ فما الحكم ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ ، وَإِنْ كَانَ رَقِيقًا لَا يَمْنَعُ مِنْ مُشَاهَدَةِ الرَّأْسِ ، فَلَا فِدْيَةَ فِيهِ : لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ : وَإِذَا غَسَلَ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ بِالْخِطْمِيِّ ، وَالسِّدْرِ فما الحكم فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنِ احْتَاجَ إِلَى تَغْطِيَةِ رَأْسِهِ وَلُبْسِ ثَوْبٍ مَخِيطٍ وَخُفَّيْنِ المحرم فما الحكم فَفَعَلَ ذَلِكَ مِنْ شِدَّةِ بَرْدٍ أَوْ حَرٍّ إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي مَكَانِهِ كَانَتْ عَلَيْهِ فِدْيَةٌ وَاحَدَةٌ وَإِنْ فَرَّقَ ذَلِكَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ كَانَ عَلَيْهِ لِكُلِّ لُبْسِهِ فِدْيَةٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي أَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ لُبْسِ الثِّيَابِ الْمَخِيطَةِ ، وَالْخُفَّيْنِ ، وَتَغْطِيَةِ الرَّأْسِ ، وَاسْتِعْمَالِ الطِّيبِ ، فَإِنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ ، مَعْذُورًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَعْذُورٍ ، لَكِنَّهُ إِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْذُورٍ فَقَدْ أَقْدَمَ عَلَى مَحْظُورٍ وَهُوَ بِذَلِكَ مَأْثُومٌ ، وَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا كَانَ مَا فَعَلَهُ مُبَاحًا ، وَلَمْ يَكُنْ يَفْعَلُهُ دَائِمًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [ الْحَجِّ : ] وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ فِي الْحَالَيْنِ ، لِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى الْفِدْيَةَ عَلَى الْمَرِيضِ ، إِذَا حَلَقَ شَعْرَهُ مَعْذُورًا ، وَالْجَزَاءَ عَلَى قَاتِلِ الصَّيْدِ وَإِنْ كَانَ فِي قَتْلِهِ مَعْذُورًا وَإِذَا كَانَ هَذَا ثَابِتًا ، لَمْ تَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَتَكَرَّرَ مِنْهُ فِعْلُ مَا يُوجِبُ الْفِدْيَةَ ، أَوْ لَا يَتَكَرَّرُ ، فَإِنْ لَمْ يَتَكَرَّرْ مِنْهُ الْفِعْلُ ، فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَإِنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ الْفِعْلُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ فِي جِنْسٍ وَاحِدٍ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ فِي أَجْنَاسٍ مُخْتَلِفَةٍ ، فَإِنْ كَانَتْ أَجْنَاسًا مُخْتَلِفَةً كَاللِّبَاسِ ، وَالطِّيبِ ، وَحَلْقِ الشَّعْرِ ، وَتَقْلِيمِ الظُّفْرِ ، فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ كُلُّهُ إِتْلَافًا ، كَأَنَّهُ حَلَقَ شَعْرَهُ المحرم ، وَقَلَّمَ ظُفْرَهُ المحرم ، وَقَتَلَ صَيْدًا المحرم ، فَعَلَيْهِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ فِدْيَةٌ ، سَوَاءٌ فَعَلَ ذَلِكَ مُتَوَالِيًا ، أَوْ مُتَفَرِّقًا ، كَفَّرَ عَنِ الْأَوَّلِ ، وَلَمْ يُكَفِّرْ .
وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ كُلُّهُ اسْتِمْتَاعًا ، كَأَنَّهُ لُبْسٌ ، وَتَطَيُّبٌ . فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَنْصُوصُهُ ، أَنَّ عَلَيْهِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ فِدْيَةً ، لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ قَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : عَلَيْهِ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ ، لِذَا فَعَلَهُ فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ : لِأَنَّهُ اسْتِمْتَاعٌ ، فَكَانَ جِنْسًا وَاحِدًا ، وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ مَا كَانَ إِتْلَافًا ، فَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُ كَفَّارَةٌ ، وَإِنْ كَانَ الْإِتْلَافُ جِنْسًا وَاحِدًا ، فَكَذَا الِاسْتِمْتَاعُ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ إِتْلَافًا ، وَبَعْضُهُ اسْتِمْتَاعًا كَأَنَّهُ حَلَقَ ، وَتَطَيَّبَ ، فَعَلَيْهِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ فِدْيَةٌ لَا يَخْتَلِفُ .
فَصْلٌ : إِنْ كَانَ مَا تَكَرَّرَ مِنَ الْفِعْلِ ، جِنْسًا وَاحِدًا ، كَأَنَّهُ لَبِسَ ثُمَّ لَبِسَ ، أَوْ تَطَيَّبَ ، ثُمَّ تَطَيَّبَ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مُتَوَالِيًا فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ ، كَأَنَّهُ لَبِسَ قَمِيصًا ، ثُمَّ سَرَاوِيلَ ، ثُمَّ عِمَامَةً ، فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ ، فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ : لِأَنَّ الْفِعْلَ إِذَا كَانَ مُتَّصِلًا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ ، كَانَ فِعْلًا وَاحِدًا ، وَإِنْ تَكَرَّرَ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ : وَاللَّهِ لَا أَكَلْتُ الْيَوْمَ إِلَّا مَرَّةً ، فَابْتَدَأَ بِالْأَكْلِ ، ثُمَّ اسْتَدْامَهُ إِلَى آخِرِ الْيَوْمِ لَمْ يَحْنَثْ سِوَى قَطْعِ ذَلِكَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي أَوْقَاتٍ شَتَّى : لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ بِاللِّبَاسِ ، لَا بِالْخَلْعِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُتَفَرِّقًا فِي أَزْمَانٍ شَتَّى ، كَأَنَّهُ لَبِسَ قَمِيصًا ، فَصَبَرَ زَمَانًا طَوِيلًا ، أَوْ فِي يَوْمٍ غَيْرِهِ ، ثُمَّ لَبِسَ سَرَاوِيلَ ، ثُمَّ لَبِسَ بَعْدَهُ بِزَمَانٍ طَوِيلٍ عِمَامَةً ، ثُمَّ لَبِسَ بَعْدَ ذَلِكَ خُفَّيْنِ ، فَإِنْ لَبِسَ الثَّانِيَ بَعْدَ أَنْ كَفَّرَ عَنِ الْأَوَّلِ ، فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ ثَانِيَةٌ ، لَا يَخْتَلِفُ ، وَكَذَلِكَ فِي اللُّبْسِ الثَّالِثِ ، وَالرَّابِعِ ، وَإِنْ لَبِسَ الثَّانِيَ قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ عَنِ الْأَوَّلِ ، ثُمَّ كَذَلِكَ فِي الثَّالِثِ ، وَالرَّابِعِ ، فَهَلْ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ كَفَارَّةٌ وَاحِدَةٌ ، أَوْ فِي كُلِّ لُبْسَةٍ مِنْ ذَلِكَ كَفَّارَةٌ عَلَى قَوْلَيْنِ مَنْصُوصَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ : عَلَيْهِ لِكُلِّ ذَلِكَ كَفَارَّةٌ وَاحِدَةٌ : لِأَنَّ الْكَفَّارَاتِ كَالْحُدُودِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْحُدُودُ كَفَّارَاتٌ لِأَهْلِهَا ، ثُمَّ يُثْبِتُ أَنَّ الْحُدُودَ تَتَدَاخَلُ ، وَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ فِي أَوْقَاتٍ ، فَكَذَا الْكَفَّارَةُ تَجِبُ أَنْ تَتَدَاخَلَ ، وَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ فِي أَوْقَاتٍ وَلِأَنَّهُ جِنْسُ اسْتِمْتَاعٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَدَاخَلَ كَمَا لَوْ كَانَ مُتَوَالِيًا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ : وَأَنَّ عَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ كَفَّارَةٌ : لِأَنَّهَا أَفْعَالٌ ، لَوْ كَفَّرَ عَمَّا قَبْلَهَا لَزِمَهُ التَّكْفِيرُ عَنْهَا ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ التَّكْفِيرُ عَنْهَا ، وَإِنْ لَمْ يُكَفِّرْ عَمَّا قَبْلَهَا ، كَالْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ ، وَلِأَنَّهَا أَفْعَالٌ ، لَوْ كَانَتْ أَجْنَاسًا لَزِمَهُ التَّكْفِيرُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا ، فَوَجَبَ لَمَّا كَانَتْ جِنْسًا وَاحِدًا أَنْ يَلْزَمَهُ التَّكْفِيرُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا كَمَا لَوْ كَفَّرَ عَمَّا قَبْلَهَا .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ ، فَإِنْ قُلْنَا بِقَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ : إِنَّ عَلَيْهِ لِكُلِّ لُبْسَةٍ فِدْيَةً وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَتَّفِقَ أَسْبَابُ اللُّبْسِ ، أَوْ تَخْتَلِفَ .
وَإِنْ قُلْنَا بِقَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ : إِنَّ عَلَيْهِ لِجَمِيعِ ذَلِكَ فِدْيَةً وَاحِدَةً ، فَعَلَى هَذَا . لَا يَخْلُو حَالُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَتَّفِقَ أَسْبَابُهَا ، أَوْ تَخْتَلِفَ ، فَإِنِ اتَّفَقَتْ أَسْبَابُهَا كَأَنْ لَبِسَ هَذِهِ اللُّبْسَاتِ كُلَّهَا لِأَجْلِ الْبَرْدِ ، أَوْ لِأَجْلِ الْحَرِّ ، فَتَكُونُ عَلَيْهِ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَسْبَابُهَا ، فَلَبِسَ قَمِيصًا لِأَجْلِ الْحَرِّ وَعِمَامَةً ، لِجِرَاحَةٍ بِرَأْسِهِ ، وَخُفَّيْنِ لِأَجْلِ الْحَفَاءِ ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : عَلَيْهِ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ لِجَمِيعِهَا كَالْأَسْبَابِ الْمُتَّفِقَةِ . وَالثَّانِي : عَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ فِدْيَةٌ : لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْأَسْبَابِ كَاخْتِلَافِ الْأَجْنَاسِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ احْتَاجَ إِلَى حَلْقِ رَأْسِهِ فَحَلَقَهُ فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنِ احْتَاجَ إِلَى حَلْقِ رَأْسِهِ فَحَلَقَهُ المحرم فماذا عليه فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْمُحْرِمُ فَمَمْنُوعٌ مِنْ حَلْقِ رَأْسِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [ الْبَقَرَةِ : ] . فَإِنْ قِيلَ : لِمَ مَنَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُحْرِمَ مِنْ حَلْقِ رَأْسِهِ ؟ . قِيلَ لِمَصْلَحَةٍ عَلِمَهَا ، وَإِنْ لَمْ يُعْقَلْ مَعْنَاهَا ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّذَكُّرُ بِطُولِ شَعْرِهِ ، وَشَعَثِ بَدَنِهِ ، مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ إِحْرَامِهِ ، فَيُمْنَعُ مِنَ الْوَطْءِ وَدَوَاعِيهِ . وَقِيلَ : إِنَّمَا نَهَى عَنْ حَلْقِهِ : لِأَنَّهُ يَكُونُ مُحْرِمًا بِشَعْرِهِ ، وَلِذَلِكَ يَقُولُ عِنْدَ إِحْرَامِهِ أَحْرَمَ لَكَ شَعْرِي ، وَبَشَرِي ، وَلَحْمِي ، وَعَظْمِي ، وَدَمِي فَإِنْ قِيلَ : مَا الْأَوْلَى لِلرَّجُلِ إِذَا أَرَادَ الْإِحْرَامَ أَنْ يَحْلِقَ شَعْرَهُ أَوْ يُلَبِّدَهُ وَلَا يَمَسَّهُ . قِيلَ : يَجُوزُ أَنْ يَحْلِقَهُ ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُلَبِّدَهُ وَلَا يَمَسَّهُ وَيَعْقِصَهُ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجِّهِ ، وَإِنْ حَلَقَ قَبْلَ إِحْرَامِهِ ، وَلَمْ يُلَبِّدْ ، كَانَ لَهُ إِذَا حَلَّ أَنْ يَحْلِقَ أَوْ يُقَصِّرَ ، وَإِنْ لَبَّدَهُ وَعَقَصَهُ ، فَعَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ : عَلَيْهِ أَنْ يَحْلِقَ ، وَلَا يُقَصِّرَ ، وَذَلِكَ فَائِدَةُ التَّلْبِيدِ ، وَالْإِطَالَةِ . وَالثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ - وَهُوَ الصَّحِيحُ - أَنَّهُ إِنْ شَاءَ حَلَقَ ، وَإِنْ شَاءَ قَصَّرَ ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى : مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ [ الْفَتْحِ : ] .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنْ لَيْسَ لِلْمُحْرِمِ حَلْقُ رَأْسِهِ ، فَإِنْ أَرَادَ حَلْقَهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ أَثِمَ ، وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ ، وَإِنْ أَرَادَ حَلْقَهُ لِعُذْرٍ ، لَمْ يَأْثَمْ ، وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ [ الْبَقَرَةِ : ] ، وَأَمَّا الْأَذَى فَهُوَ الْقَمْلُ ، وَأَمَّا الْمَرَضُ فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ :
أَحَدُهُمَا : الْبُثُورُ . وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي : الصُّدَاعُ . وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ ، فَأَوْجَبَ الْفِدْيَةَ عَلَى الْمَعْذُورِ ، لِيَدُلَّ أَنَّ غَيْرَ الْمَعْذُورِ بِالْفِدْيَةِ أَوْلَى . وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَيَ ذَلِكَ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ فِي عَامِ الْحُدَيْبِيَةِ ، وَأَنَا أَرْقُدُ تَحْتَ بَدَنَةٍ لِي ، وَالْقَمْلُ يَتَهَافَتْ عَلَيَّ ، فَقَالَ : يَا كَعْبُ أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ ؟ قُلْتُ : نَعَمْ . قَالَ : احْلِقْ ثُمَّ انْسُكْ نَسِيكَةً ، أَوْ أَطْعِمْ ثَلَاثَةَ آصُعٍ سِتَّةً مِنَ الْمَسَاكِينِ ، أَوْ صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ " . فَكَانَ هَذَا الْحَدِيثُ مُعَاضِدًا لِلْآيَةِ فِي جَوَازِ الْحَلْقِ وَوُجُوبِ الْفِدْيَةِ وَمُفَسِّرًا لِمَا فِيهَا مِنْ إِجْمَالِ الْفِدْيَةِ فَإِنْ حَلَقَ مِرَارًا ، كَانَ كَمَا لَوْ لَبِسَ مِرَارًا أَوْ تَطَيَّبَ مِرَارًا فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى .
مَسْأَلَةٌ إِذَا فَعَلَ الْمُحْرِمُ مَا نُهِيَ عَنْهُ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ تَطَيَّبَ نَاسِيًا المحرم فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَإِنْ تَطَيَّبَ عَامِدًا فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ وَالْفَرْقُ فِي الْمُتَطَيِّبِ بَيْنَ الْجَاهِلِ وَالْعَالِمِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الْأَعْرَابِيَّ وَقَدْ أَحْرَمَ وَعَلَيْهِ خَلُوقٌ بِنَزْعِ الْجُبَّةِ وَغَسْلِ الصُّفْرَةِ وَلَمْ يَأْمُرْهُ فِي الْخَبَرِ بِفِدْيَةٍ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) فِي هَذَا دَلِيلٌ أَنْ لَيْسَ عَلَيْهِ فِدْيَةٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْخَبَرِ وَهَكَذَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّائِمِ يَقَعُ عَلَى امْرَأَتِهِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَعْتِقَ وَافْعَلْ " وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ وَأَجْمَعُوا أَنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ كَمَا قَالَ إِذَا فَعَلَ الْمُحْرِمُ مَا نُهِيَ عَنْهُ ، فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : مَا اسْتَوَى حُكْمُ عَامِدِهِ وَنَاسِيهِ فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ فِيهِ . وَالثَّانِي : مَا اخْتَلَفَ حُكْمُ عَامِدِهِ وَنَاسِيهِ . وَالثَّالِثُ : مَا اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ . فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ الَّذِي يَسْتَوِي حُكْمُ الْعَامِدِ فِيهِ وَالنَّاسِي ، فَهُوَ مَا كَانَ إِتْلَافًا كَحَلْقِ الشَّعْرِ ، وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ ، وَقَتْلِ الصَّيْدِ . وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي الَّذِي يَخْتَلِفُ فِيهِ حُكْمُ الْعَامِدِ وَالنَّاسِي : فَهُوَ مَا كَانَ اسْتِمْتَاعًا سِوَى الْوَطْءِ ، كَالطِّيبِ ، وَاللِّبَاسِ ، وَتَغْطِيَةِ الرَّأْسِ . فَإِنْ كَانَ عَامِدًا ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ ، وَإِنْ كَانَ نَاسِيًا فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ ، وَكَذَا لَوْ كَانَ ذَاكِرًا لِلْإِحْرَامِ ، جَاهِلًا بِالتَّحْرِيمِ ، فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٌ ، وَالْمُزَنِيُّ : النَّاسِي كَالْعَامِدِ ، وَالْجَاهِلُ بِالتَّحْرِيمِ كَالْعَالِمِ ، فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ عَلَيْهِ ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ اسْتِمْتَاعٌ تَجِبُ الْفِدْيَةُ بِعَمْدِهِ فَوَجَبَ أَنْ تَجِبَ بِسَهْوِهِ كَالْوَطْءِ وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يَمْنَعُ مِنَ الْإِحْرَامِ : فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُ عَمْدِهِ وَسَهْوِهِ ، كَالْحَلْقِ ،
وَالتَّقْلِيمِ : وَلِأَنَّ النِّسْيَانَ عُذْرٌ ، وَالْعُذْرُ إِنَّمَا يُبِيحُ الْفِعْلَ وَلَا يُسْقِطُ الْفِدْيَةَ ، كَالْمَعْذُورِ فِي الطِّيبِ ، وَاللِّبَاسِ ، إِذَا اضْطُرَّ إِلَيْهِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " عُفِيَ عَنْ أُمَّتِيَ الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ " . وَرَوَى عَطَاءُ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : " رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا بِالْجِعْرَانَةِ ، وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ مُتَضَمِّخًا بِالْخَلُوقِ ، وَهُوَ تَصْفَرُّ لِحْيَتِهِ وَرَأْسُهُ ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ : إِنِّي أَحْرَمْتُ بِعُمْرَةٍ ، وَأَنَا كَمَا تَرَى فَقَالَ : اغْسِلِ الصُّفْرَةَ ، وَانْزَعْ عَنْكَ الْجُبَّةَ ، وَمَا كُنْتَ صَانِعًا فِي حَجِّكَ ، فَاصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ . فَلَمَّا أَمَرَهُ بِنَزْعِ الْجُبَّةِ ، وَغَسْلِ الصُّفْرَةِ ، وَسَكَتَ عَنِ الْفِدْيَةِ ، دَلَّ عَلَى أَنَّ سُكُوتَهُ عَنْهَا ، سُكُوتُ إِسْقَاطٍ لَا سُكُوتَ اكْتِفَاءٍ : لِأَنَّهُ بَيَّنَ لَهُ حُكْمَ فِعْلٍ هُوَ بِهِ جَاهِلٌ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّمَا كَانَ هَذَا قَبْلَ تَحْرِيمِ الطِّيبِ ، وَاللِّبَاسِ للمحرم : لِأَنَّ الْأَعْرَابِيَّ حِينَ سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ وَقَفَ يَنْتَظِرُ الْقَضَاءَ ، حَتَّى نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ ، فَدَعَاهُ وَقَالَ لَهُ : اغْسِلِ الصُّفْرَةَ ، وَانْزَعِ الْجُبَّةَ . وَقِيلَ : هَذَا التَّأْوِيلُ غَيْرُ صَحِيحٍ : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ بِنَزْعِ الْجُبَّةِ وَغَسْلِ الصُّفْرَةِ ، وَفِعْلُ ذَلِكَ غَيْرُ وَاجِبٍ قَبْلَ نُزُولِ التَّحْرِيمِ ، عَلَى أَنَّ إِنْكَارَهُ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ ، وَاخْتِيَارَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَسُؤَالَهُ عَنْ حُكْمِهِ ، وَمَا رُوِيَ مِنْ إِسْرَارِ الصَّحَابَةِ بِهِ ، دَلِيلٌ عَلَى تَقْدِيمِ تَحَرُّمِهِ . فَإِنْ قِيلَ : وَهُوَ سُؤَالُ الْمُزَنِيِّ : لَيْسَ سُكُوتُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْفِدْيَةِ دَلِيَلًا عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ ، كَمَا لَمْ يَكُنْ سُكُوتُهُ عَنْ إِيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَى الْوَاطِئِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ، دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ غَيْرُ وَاجِبٍ . قِيلَ : لَوْ تَرَكْنَا سُكُوتَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى إِيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَى الْوَاطِئِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ غَيْرُ وَاجِبٍ كَالْفِدْيَةِ هَا هُنَا ، وَلَكِنْ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ إِيجَابُ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ ، مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [ الْبَقَرَةِ : ] عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ قَالَ لِلْوَاطِئِ : " وَاقْضِ يَوْمًا مَكَانَهُ . وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَجِبُ فِي إِفْسَادِهَا الْكَفَّارَةُ ، فَوَجَبَ أَنْ يُفَرَّقَ فِيهَا بَيْنَ عَمْدِ الِاسْتِمْتَاعِ ، وَسَهْوِهِ ، كَالْأَكْلِ ، وَالْوَطْءِ فِي رَمَضَانَ ، فَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْوَاطِئِ فِي الْحَجِّ نَاسِيًا قُلْنَا : فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ سُؤَالُهُمْ . وَالثَّانِي : عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ فَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْإِتْلَافِ : لِأَنَّ وَطْءَ الْمَجْنُونَ كَوَطْءِ الْعَاقِلِ فِي لُزُومِ الْمَهْرِ ، وَالطِّيبُ اسْتِمْتَاعٌ مَحْضٌ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْحَلْقِ وَالتَّقْلِيمِ ، فَالْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّهُ إِتْلَافٌ . وَحُكْمُ الْإِتْلَافِ أَغْلَظُ مِنْ حُكْمِ الِاسْتِمْتَاعِ ، فَاسْتَوَى حُكْمُ ، عَمْدِهِ وَسَهْوِهِ : لِغِلَظِ حُكْمِهِ ، وَفَرَّقَ بَيْنَ عَمْدِ الِاسْتِمْتَاعِ وَسَهْوِهِ : لِحَقَّةِ حُكْمِهِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّ النَّاسِيَ مَعْذُورٌ ، وَالْعُذْرُ لَا يُسْقِطُ الْفِدْيَةَ كَالْمُضْطَرِّ . قِيلَ : هَذَا غَلَطٌ : لِأَنَّ الشَّرْعَ قَدْ فَرَّقَ بَيْنَ عُذْرِ النَّاسِي وَعُذْرِ الْمُضْطَرِّ للمحرم . أَلَا تَرَى أَنَّ الْآكِلَ فِي الصَّوْمِ نَاسِيًا ، مَعْذُورٌ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ ، الْآكِلَ فِي الصَّوْمِ مُضْطَرًّا فِي الصَّوْمِ مَعْذُورٌ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ . وَأَمَّا الضَّرْبُ الَّذِي اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ ، فَهُوَ الْوَطْءُ ، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ النَّاسِيَ فِي الطِّيبِ وَاللِّبَاسِ لَا فِدْيَةَ فِيهِ أَوْ أَنَّ الْعَامِدَ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَلِيلِ الزَّمَانِ وَكَثِيرِهِ فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ فِيهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : اسْتَدَامَ اللِّبَاسَ جَمِيعَ النَّهَارِ المحرم فماذا عليه فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ وَإِنْ لَمْ يُسْنَدْ بِهِ جَمِيعَ النَّهَارِ فَلَا فِدْيَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ إِنِ اسْتَدَامَهُ ، إِنْ نِصْفَ النَّهَارِ فَأَكْثَرَ ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ ، وَإِلَّا فَلَا فِدْيَةَ . وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ كُلَّمَا وَجَبَتِ الْفِدْيَةُ بِاسْتِدَامَتِهِ فِي النَّهَارِ كُلِّهِ ، وَجَبَتِ الْفِدْيَةُ بِوِجُودِهِ فِي بَعْضِهِ كَالطِّيبِ . وَلِأَنَّ مَا حَرَّمَهُ الْإِحْرَامُ مِنَ الْأَفْعَالِ ، لَمْ تَنْقَدِرْ فِدْيَتُهُ بِالزَّمَانِ ، قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ ، وَلِأَنَّ مَا حُرِّمَ مِنْ جِهَةِ الِاسْتِمْتَاعِ ، اسْتَوَى حُكْمُ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ ، كَالْوَطْءِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوَى حُكْمُ قَلِيلِ اللِّبَاسِ وَكَثِيرِهِ فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ فِيهِ ، وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُ كَثِيرِ الزَّمَانِ وَقَلِيلِهِ فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ فِيهِ ، لِأَنَّ كَثِيرَ اللِّبَاسِ فِي الزَّمَانِ الْقَلِيلِ كَقَلِيلِ اللِّبَاسِ فِي الزَّمَانِ الْكَثِيرِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا لَبِسَ الْمُحْرِمُ ، أَوْ تَطَيَّبَ نَاسِيًا ، ثُمَّ ذَكَرَ بَادَرَ إِلَى إِزَالَتِهِ عَنْ نَفْسِهِ ، فَإِنْ أَزَالَهُ حِينَ ذَكَرَ . فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يُزِلْهُ فِي الْحَالِ ، حَتَّى تَطَاوُلَ الزَّمَانُ ، فَلَهُ حَالَانِ : أَحْلَاهُمَا : أَنْ يُمْكِنَهُ إِزَالَتُهُ ، فَلَا يَفْعَلُ . فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ ، لِأَنَّ بَعْدَ الذِّكْرِ كَالْمُبْتَدِئِ . فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ لَوْ تَطَيَّبَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ ، وَاسْتَدَامَهُ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ ، لَمْ تَلْزَمْهُ الْفِدْيَةُ . فَهَلَّا قُلْتُمْ : إِذَا تَطَيَّبَ نَاسِيًا بَعْدَ الْإِحْرَامِ ثُمَّ اسْتَدَامَهُ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ ، أَنْ لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ . قُلْنَا : لِأَنَّ الطِّيبَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ مُبَاحٌ مَعَ النِّسْيَانِ ، فَلِذَلِكَ لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ مَعَ الِاسْتِدَامَةِ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ لَا يُمْكِنَهُ إِزَالَةُ الطِّيبِ وَاللِّبَاسِ عَنْ نَفْسِهِ ، لِزَمَانَةٍ بِهِ ، وَلَيْسَ يَجِدُ مَنْ يُزِيلُهُ عَنْهُ ، فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ ، مَا كَانَ هَكَذَا : لِأَنَّهُ أَسْوَأُ مِنَ النَّاسِي .
فَصْلٌ أَرَادَ الْمُحْرِمُ إِزَالَةَ مَا عَلَى جَسَدِهِ مِنَ الطِّيبِ فَلَهُ حَالَانِ
فَصْلٌ : فَإِذَا أَرَادَ الْمُحْرِمُ إِزَالَةَ مَا عَلَى جَسَدِهِ مِنَ الطِّيبِ ، فَلَهُ حَالَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُمْكِنَهُ إِزَالَتُهُ بِغَيْرِ الْمَاءِ مِنَ الْمَائِعَاتِ الطَّاهِرَاتِ ، كَالْخَلِّ أَوِ الْيَابِسَاتِ كَالتُّرَابِ : وَالْحَشِيشِ . فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي إِزَالَتِهِ بَيْنَ الْمَاءِ وَغَيْرِهِ : لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنَجِسٍ ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مِنْهُ ، إِزَالَةُ رَائِحَتِهِ فَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ أَزَالَهُ أَجْزَأَهُ ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُزِيلَهُ بِالْمَاءِ .
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ لَا يُمْكِنَ إِزَالَتُهُ إِلَّا بِالْمَاءِ : لِتَعَذُّرِ غَيْرِهِ مِمَّا يُمْكِنُ إِزَالَتُهُ بِهِ ، فَعَلَيْهِ إِزَالَتُهُ بِالْمَاءِ ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَوَلَّى إِزَالَةَ ذَلِكَ عَنْهُ غَيْرُهُ : لِأَنْ لَا يَمَسَّ الطِّيبَ بِيَدِهِ ، فَإِنْ تَوَلَّاهُ بِنَفْسِهِ جَازَ : لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَمَسُّهُ لِلتَّرْكِ لَا لِلِاسْتِعْمَالِ .
فَصْلٌ : فَلَوْ وَجَدَ مِنَ الْمَاءِ مَا يَكْفِيهِ لِإِزَالَةِ الطِّيبِ عَنْ جَسَدِهِ ، أَوِ الْوُضُوءِ مِنْ حَدَثِهِ فماذا يفعل المحرم ، قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ نَصًّا : أَزَالَ بِهِ الطِّيبَ ، وَتَيَمَّمَ لِلْحَدَثِ ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ : لِأَنَّ لِلْوُضُوءِ بِالْمَاءِ بَدَلًا يُرْجَعُ إِلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِهِ وَهُوَ التَّيَمُّمُ ، وَلَيْسَ لِإِزَالَةِ الطِّيبِ بَدَلٌ . فَعَلَى هَذَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْدَأَ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِي إِزَالَةِ الطِّيبِ ، ثُمَّ يَتَيَمَّمُ ، لِيَكُونَ تَيَمُّمُهُ بَعْدَ عَدَمِ الْمَاءِ . فَإِنْ قَدَّمَ التَّيَمُّمَ قَبْلَ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِي إِزَالَةِ الطِّيبِ جَازَ : لِأَنَّ مَا مَعَهُ مِنَ الْمَاءِ لَا يَلْزَمُهُ اسْتِعْمَالُهُ فِي حَدَثِهِ ، فَجَازَ أَنْ يَتَيَمَّمَ مَعَ وُجُودِهِ ، كَالَّذِي مَعَهُ الْمَاءُ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى شُرْبِهِ .
مَسْأَلَةٌ مَا شَمَّ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ مِمَّا لَا يُتَّخَذُ طِيبًا أَوْ أَكَلَ تُفَّاحًا أَوْ أُتْرُجًّا أَوْ دَهَنَ جَسَدَهُ بِغَيْرِ طِيبٍ فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَا شَمَّ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ مِمَّا لَا يُتَّخَذُ طِيبًا ، أَوْ أَكَلَ تُفَّاحًا ، أَوْ أُتْرُجًّا فهل على المحرم من فدية ، أَوْ دَهَنَ جَسَدَهُ بِغَيْرِ طِيبٍ فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَجُمْلَةُ النَّبَاتِ الذَّكِيِّ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : مَا كَانَ طِيبًا وَيُتَّخَذُ بَعْدَ يُبْسِهِ طِيبًا ، مِثْلَ الزَّعْفَرَانِ ، وَالْوَرْسِ ، وَالْكَافُورِ ، وَالْعُودِ ، وَالْوَرْدِ ، وَالْيَاسَمِينِ ، وَالنَّرْجِسِ ، وَالْخَيْرِيِّ ، وَالزَّنْبَقِ ، وَالْكَاذِيِّ ، فَهَذَا كُلُّ طِيبٍ مَتَى اسْتَعْمَلَهُ الْمُحْرِمُ بِشَمٍّ ، أَوْ غَيْرِهِ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا لَيْسَ بِطِيبٍ ، وَلَا يُتَّخَذُ طِيبًا وَإِنْ كَانَ طَيِّبَ الرِّيحِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ : أَحَدُهَا : مَا يُعَدُّ مَأْكُولًا كَالتُّفَّاحِ ، وَالنَّارِنْجِ ، وَاللَّيْمُونِ ، وَالْمَصْطَلْكِيِّ ، والدَّارَصِينِيِّ ، وَالزَّنْجَبِيلِ . وَالنَّوْعُ الثَّانِي : مَا كَانَ يُعَدُّ مَعْلُومًا أَوْ حَطَبًا ، مِثْلَ الشِّيحِ ، وَالْقَيْصُومِ وَالْإِذْخِرِ . وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ : مَا يُعَدُّ لِزَهْرَتِهِ وَحُسْنِ مَنْظَرِهِ ، لَا لِرَائِحَتِهِ كَالْبَهَارِ ، وَالْأَدْرَيُونِ وَالْخَزَّامِيِّ ، وَالشَّقَائِقِ ، وَالْمَنْثُورِ سِوَى الْخِيرِيِّ ، وَكَذَلِكَ وَرْدُ الْأُتْرُجِّ ، وَالنَّارِنْجِ ، وَالتُّفَّاحِ ، وَالْمِشْمِشِ ، هَذَا كُلُّهُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ لَيْسَ بِطِيبٍ ، فَإِنْ شَفَّهُ أَوْ أَكَلَهُ أَوْ دقَّهُ وَلَطَّخَ بِهِ جَسَدَهُ فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ لَيْسَ بِطِيبٍ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : مَا كَانَ طِيبًا . لَكِنْ لَا يُتَّخَذُ بَعْدَ يُبْسِهِ طِيبًا ، مِثْلَ الرَّيْحَانِ ، والْمَرْزَنْجُوشِ ، وَالشَّاهِينِ ، وَالْحَمَاحِمِ ، فَهَذَا كُلُّهُ يُتَّخَذُ لِلشَّمِّ ، لَكِنْ لَا يُتَّخَذُ بَعْدَ يُبْسِهِ طِيبًا ، وَلَا يُرَادُ بِهِ دَهْنٌ فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ اسْتِعْمَالُهُ وَلَا فِدْيَةَ فِيهِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ فِي بَعْضِ الْقَدِيمِ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُثْمَانُ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الْمُحْرِمِ يَدْخُلُ الْبُسْتَانَ ، وَيَشُمُّ الرَّيْحَانَ فَأَجَازَ ذَلِكَ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : إِلَّا أَنَّ فِي إِسْنَادِهِ ضَعْفًا . وَلِأَنَّهُ نَبْتٌ لَا يُتَّخَذُ طِيبًا ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَفْتَدِيَ لِأَجْلِهِ الْمُحْرِمُ ، كَالشِّيحِ ، وَالْقَيْصُومِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : نَصَّ عَلَيْهِ " فِي الْإِمْلَاءِ وَالْأُمِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ اسْتِعْمَالُهُ وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ جَابِرٌ وَابْنُ عُمَرَ : لِأَنَّهُ نَبْتٌ يُشَمُّ طِيبًا ، فَوَجَبَ أَنْ يَفْتَدِيَ لِأَجْلِهِ الْمُحْرِمُ ، كَالْوَرْدِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْبَنَفْسَجُ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ : لَيْسَ بِطِيبٍ ، وَإِنَّمَا يُرِيبُ لِلْمَنْفَعَةِ لَا لِلطِّيبِ . فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَيْسَ بِطِيبٍ عَلَى ظَاهِرِ نَصِّهِ : لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ لِلْمَنْفَعَةِ وَالتَّدَاوِي . وَالثَّانِي : إِنَّهُ طِيبٌ كَالْوَرْدِ : لِأَنَّ لَهُ دَهْنًا طَيِّبًا ، وَتَأَوَّلُوا قَوْلَ الشَّافِعِيِّ عَلَى تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْبَنَفْسَجِ الْمُرَبَّى إِذَا ذَهَبَتْ رَائِحَتُهُ . وَالثَّانِي : مَحْمُولٌ عَلَى الْبَنَفْسَجِ الْبَرِّيِّ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ كَالرَّيْحَانِ فَيَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ ، فَأَمَّا النَّيْلَوْفَرُ فَهُوَ كَالْبَنَفْسَجِ : لِأَنَّهُ فِي مَعَنَاهُ فَأَمَّا الْحُلَيْحَتِينُ الْمُرَبَّى بِالْوَرْدِ ، فَإِنَّهُ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَتْ رَائِحَةُ الْوَرْدِ ظَاهِرَةً فِيهِ ، مُنِعَ مِنْهُ الْمُحْرِمُ ، وَلَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَتْ رَائِحَتُهُ مُسْتَهْلَكَةً فِيهِ ، لَمْ يُمْنَعْ وَلَا فِدْيَةَ فِيهِ .
مَسْأَلَةٌ الدُّهْنُ ضَرْبَانِ طِيبٌ وَغَيْرُ طِيبٍ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ دَهَنَ رَأْسَهُ أَوْ لِحْيَتَهُ بِدُهْنٍ غَيْرِ طِيبٍ فهل على المحرم من فدية فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الدَّهْنِ وَتَرْجِيلِ الشَّعْرِ ، ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) وَيَدْهُنُ الْمُحْرِمُ الشِّجَاجَ فِي مَوَاضِعَ لَيْسَ فِيهَا شَعْرٌ مِنَ الرَّأْسِ وَلَا فِدْيَةَ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) وَالْقِيَاسُ عِنْدِي أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الزَّيْتُ بِكُلِ حَالٍ يَدْهُنُ بِهِ الْمُحْرِمُ الشَّعْرَ بَغَيْرِ طِيبٍ وَلَوْ كَانَ فِيهِ طِيبٌ مَا أَكَلَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : الدُّهْنُ ضَرْبَانِ : طِيبٌ ، وَغَيْرُ طِيبٍ ، فَأَمَّا الطِّيبُ فَالْأَدْهَانُ الْمُرِيبَةُ ، بِكُلِّ طِيبٍ مُنِعَ مِنْهُ الْمُحْرِمُ ، كَدُهْنِ الْوَرْدِ ، وَالزَّنْبَقِ ، وَالْبَانِ ، وَالْخَيْرِيِّ . وَأَمَّا الَّذِي لَيْسَ بِطِيبٍ كَالزَّيْتِ ، وَالشَّيْرَجِ ، وَالسَّمْنِ ، وَالزُّبْدِ وَالْخِرْوَعِ ، وَالْآسِي . فَأَمَّا دُهْنُ الْبَنَفْسَجِ ، وَالرَّيْحَانِ ، فَهُوَ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَذْهَبِ فِي مَنْعِ الْمُحْرِمِ مِنْهُ . فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّهُ طِيبٌ يُمْنَعُ مِنْهُ الْمُحْرِمُ ، كَانَ دُهْنُهُ كَذَلِكَ . وَإِنْ قُلْنَا : لَيْسَ بِطِيبٍ ، لَا يُمْنَعُ مِنْهُ الْمُحْرِمُ ، كَانَ دُهْنُهُ كَذَلِكَ ، فَأَمَّا دُهْنُ الْأُتْرُجِّ : فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَيْسَ بِطِيبٍ : لِأَنَّ الْأُتْرُجَّ لَيْسَ بِطِيبٍ ، وَلَا الْمُحْرِمُ مَمْنُوعٌ مِنْهُ ، وَإِنَّمَا هُوَ مَأْكُولٌ .
وَالثَّانِي : هُوَ طِيبٌ ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ مَأْكُولًا : لِأَنَّ قِشْرَهُ يَرْتَابُهُ كَالدُّهْنِ ، كَالْوَرْدِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا . فَالْمُحْرِمُ مَمْنُوعٌ مِنَ اسْتِعْمَالِ الدُّهْنِ الطِّيبِ حكمه للمحرم فِي شَعْرِهِ وَجَسَدِهِ ، فَإِنِ اسْتَعْمَلَ شَيْئًا مِنْهُ فِي شَعْرِهِ ، أَوْ جَسَدِهِ ، فَالْفِدْيَةُ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ : لِأَنَّهُ مُتَطَيِّبٌ ، وَأَمَّا الدُّهْنُ غَيْرُ الطِّيبِ . فَإِنْ رَجَّلَ بِهِ شَعْرَهُ ، أَوْ لِحْيَتَهُ ، جَازَ وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ ، مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَنَّهُ نَهَى الْمُحْرِمَ عَنْ تَرْجِيلِ شَعْرِهِ " . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْمُحْرِمُ أَشْعَثُ أَغْبَرُ . وَالتَّرْجِيلُ مَا مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ . وَقَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ : إِنِ اسْتَعْمَلَ الدُّهْنَ فِي جَسَدِهِ ، لَمْ يَجُزْ ، وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ رِوَايَةُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ادَّهَنَ بِزَيْتٍ غَيْرِ مُطَبٍّ وَهُوَ مُحْرِمٌ " . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : غَيْرُ مُطَبٍّ أَيْ : غَيْرُ مُطَيَّبٍ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَلَا بَأْسَ أَنْ يَسْتَعْمِلَ الْمُحْرِمُ الدُّهْنَ ، إِذَا لَمْ يَكُنْ طِيبًا ، فِي جَسَدِهِ دُونَ شَعْرِ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ ، فَلَوْ دَهَنَ رَأَسَهُ وَكَانَ مَحْلُوقَ الشَّعْرِ فهل على المحرم من فدية ، لَمْ يَجُزْ ، وَلَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ : لِأَنَّ فِي تَدْهِينِ رَأْسِهِ وَإِنْ كَانَ مَحْلُوقًا تَحْسِينَ الشَّعْرِ إِذَا ثَبَتَ فَصَارَ مُرَجَّلًا لَهُ ، وَلَكِنْ لَوْ كَانَ أَصْلَعَ الرَّأْسِ فهل يجوز للمحرم أن يدهن رأسه ، جَازَ أَنْ يَدْهُنَهُ ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ ، كَمَا يَجُوزُ لِلْأَمْرَدِ أَنْ يَدْهُنَ بَشَرَةَ وَجْهِهِ الَّتِي لَا شَعْرَ عَلَيْهَا المحرم : لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُرَجَّلًا وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي رَأْسِهِ شِجَاجٌ قَدْ ذَهَبَ الشَّعْرُ عَنْ مَوْضِعِهَا ، جَازَ أَنْ يَسْتَعْمِلَ فِيهَا دُهْنًا ، إِذَا لَمْ يَكُنْ طِيبًا ، وَلَا يَفْتَدِي .
فَصْلٌ إِذَا طَلَى الْمُحْرِمُ شَعْرَ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ بِاللَّبَنِ جَازَ وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ
فَصْلٌ : إِذَا طَلَى الْمُحْرِمُ شَعْرَ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ بِاللَّبَنِ فهل عليه من فدية ، جَازَ ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ السَّمْنُ مُسْتَخْرَجًا مِنْهُ : لِأَنَّهُ لَيْسَ بِدُهْنٍ ، وَلَا يَحْصُلُ بِهِ تَرْجِيلُ الشَّعْرِ ، الشَّحْمُ وَالشَّمْعُ إِذَا أُذِيبَا كَالدُّهْنِ ، يُمْنَعُ الْمُحْرِمُ مِنْ تَرْجِيلِ الشَّعْرِ بِهِمَا .
مَسْأَلَةٌ مَا أَكَلَ مِنْ خَبِيصٍ فِيهِ زَعْفَرَانٌ فَصَبَغَ اللِّسَانَ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ وَإِنْ كَانَ مُسْتَهْلَكًا فَلَا فِدْيَةَ فِيهِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَا أَكَلَ مِنْ خَبِيصٍ فِيهِ زَعْفَرَانٌ ، فَصَبَغَ اللِّسَانَ فهل على المحرم من فدية ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ وَإِنْ كَانَ مُسْتَهْلَكًا ، فَلَا فِدْيَةَ فِيهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . إِذَا أَكَلَ الْمُحْرِمُ خَبِيصًا ، أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الْحَلْوَاءِ وَالطَّبِيخِ ، وَفِيهِ زَعْفَرَانٌ ، أَوْ غَيْرُهُ مِنَ الطِّيبِ ، فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ طَعْمُهُ وَلَا لَوْنُهُ وَلَا رَائِحَتُهُ فَلَا فِدْيَةَ فِيهِ لِأَنَّ الطِّيبَ مُسْتَهْلَكٌ فِيهِ وَإِنْ ظَهَرَ بِأَحَدِ أَوْصَافِهِ ، نَظَرْتَ ، فَإِنْ ظَهَرَتْ فِيهِ رَائِحَةٌ ، فَفِيهِ الْفِدْيَةُ : لِأَنَّ رَائِحَةَ الطِّيبِ هِيَ الْمَقْصُودَةُ ، وَإِنْ ظَهَرَ فِيهِ طَعْمٌ فَفِيهِ الْفِدْيَةُ أَيْضًا : لِأَنَّ طَعْمَهُ فِي الْمَأْكُولِ مَقْصُودٌ ، وَإِنْ ظَهَرَ فِيهِ لَوْنُهُ لَا غَيْرَ . فَنَصَّ الشَّافِعِيُّ هَا هُنَا ، وَفِي مُخْتَصَرِ الْحَجِّ ، أَنَّ فِيهِ الْفِدْيَةَ . فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ ، وَأَبُو الطَّيِّبِ بْنُ سَلَمَةَ ، يُخَرِّجَانِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِيهِ الْفِدْيَةُ : لِأَنَّ لَوْنَ الزَّعْفَرَانِ مَقْصُودٌ كَطَعْمِهِ ، وَلِأَنَّ بَقَاءَ لَوْنِهِ دَلِيلٌ عَلَى بَقَاءِ رَائِحَتِهِ ، وَإِنْ خَفِيَ .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا فِدْيَةَ فِيهِ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ . وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ جَابِرٌ ، وَابْنُ عُمَرَ ، وَمِنَ التَّابِعِينَ عَطَاءٌ ، وَطَاوُسٌ ، وَمُجَاهِدٌ : لِأَنَّ رَائِحَةَ الطِّيبِ مَقْصُودَةٌ دُونَ لَوْنِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعُصْفُرَ أَشْهَرُ لَوْنًا مِنْهُ وَلَا فِدْيَةَ فِيهِ ، وَلِأَنَّ رَائِحَةَ الطِّيبِ لَوْ زَالَتْ مِنَ الثَّوْبِ ، وَبَقِيَ لَوْنُهُ لَمْ تَجِبْ فِيهِ الْفِدْيَةُ ، فَكَذَلِكَ الطَّعَامُ ، الْمَأْكُولُ ، إِذَا بَقِيَ فِيهِ لَوْنُ الطِّيبِ لَمْ تَجِبِ الْفِدْيَةُ ، وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يَمْنَعُ مِنْ تَخْرِيجِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَيَحْمِلُ اخْتِلَافَ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ ، فَالْمَوْضِعُ الَّذِي أَوْجَبَ الْفِدْيَةَ ، إِذَا بَقِيَ مَعَ لَوْنِ الطِّيبِ ، إِمَّا رِيحُهُ ، أَوْ طَعْمُهُ ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي أَسْقَطَ الْفِدْيَةَ إِذَا لَمْ يَبْقَ غَيْرُ لَوْنِهِ ، وَسَوَاءٌ مَا مَسَّهُ النَّارُ أَوْ غَيْرُهُ .
فَصْلٌ إِذَا أَكَلَ الْمُحْرِمُ طِيبًا افْتَدَى إِلَّا أَنْ يَكُونَ عُودًا فَلَا يَفْتَدِي بِأَكْلِهِ
فَصْلٌ : إِذَا أَكَلَ الْمُحْرِمُ طِيبًا فهل على المحرم من فدية ، افْتَدَى ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ عُودًا فَلَا يَفْتَدِي بِأَكْلِهِ : لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُتَطَيِّبًا بِهِ ، إِلَّا أَنْ يَتَخَيَّرَ بِهِ وَمَا سِوَاهُ مِنَ الطِّيبِ يَكُونُ مُتَطَيِّبًا بِهِ بِمُلَاقَاةِ بَشَرِهِ وَكَذَلِكَ لَوِ اسْتِعَاطَ الطِّيبَ ، أَوِ احْتَقَنَ بِهِ ، أَوِ اقْتَصَرَ عَلَى شَمِّهِ ، افْتَدَى . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَفْتَدِي بِشَمِّ الطِّيبِ ، حَتَّى يَسْتَعْمِلَ فِي جَسَدِهِ ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى شَمِّ الرَّائِحَةِ لَا يُوجِبُ الْفِدْيَةَ ، كَمَا لَوْ شَمَّهَا مِنَ الْعَطَّارِينَ . وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ بِالطِّيبِ ، يَكُونُ تَارَةً بِالشَّمِّ ، وَتَارَةً بِالِاسْتِعْمَالِ فِي الْبَشَرَةِ ثُمَّ شَمَّهُ فَكَانَ بِالْفِدْيَةِ أَوْلَى ، وَلَيْسَ شَمُّهَا مِنْ غَيْرِهِ اسْتِمْتَاعًا كَامِلًا ، وَلَا يُسَمَّى بِهِ مُتَطَيِّبًا فَافْتَرَقَا .
مَسْأَلَةٌ الْعُصْفُرُ لَيْسَ مِنَ الطِّيبِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَالْعُصْفُرُ لَيْسَ مِنَ الطِّيبِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : الْعُصْفُرُ لَيْسَ مِنَ الطِّيبِ ، وَلَا فِي حُكْمِ الطِّيبِ ، وَإِنْ لَبِسَ الْمُحْرِمُ أَوِ الْمُحْرِمَةُ ثَوْبًا مُعَصْفَرًا جَازَ ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِمَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْعُصْفُرُ لَيْسَ مِنَ الطِّيبِ ، وَلَكِنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الطِّيبِ ، فَلَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ وَلَا الْمُحْرِمَةِ لُبْسُ الْمُعَصْفَرِ ، سَوَاءٌ كَانَ يُنْفَضُ أَوْ لَمْ يُنْفَضْ ، فَإِنْ لَبِسَ الْمُحْرِمُ أَوِ الْمُحْرِمَةُ مُعَصْفَرًا ، فَإِنْ كَانَ يُنْفَضُ فَعَلَيْهِمَا الْفِدْيَةُ . وَإِنْ كَانَ لَا يُنْفَضُ ، فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِمَا ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْمُعَصْفَرَ لَوْنًا وَرَائِحَةً ، كَالزَّعْفَرَانِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةٍ مَا ذَكَرْنَا : رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى النِّسَاءَ فِي إِحْرَامِهِمْ عَنِ الْقُفَّازَيْنِ ، النِّقَابِ ، وَيَلْبَسْنَ مَا شِئْنَ مِنْ أَلْوَانِ الثِّيَابِ مِنْ مُعَصْفَرٍ وَخَزٍّ وَحُلِيٍّ وَرَوَى أَبُو جَعْفَرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ : " أَبْصَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ ثَوْبَيْنِ مُضَرَّجَيْنِ وَهُوَ مُحْرِمٌ . فَقَالَ : " مَا هَذِهِ الثِّيَابُ ، فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ : مَا إِخَالُ أَحَدًا يُعَلِّمُنَا السُّنَّةَ فَسَكَتَ عُمَرُ " . وَرُوِيَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ : مَاذَا تَلْبَسُ الْمُحْرِمَةُ مِنَ الثِّيَابِ : قَالَتْ عَائِشَةُ : كَلُبْسِ مُعَصْفَرِهَا ، وَحَرِيرِهَا ، وَحُلِيِّهَا " . فَعَلِيٌّ إِنَّمَا أَشَارَ إِلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَعَائِشَةُ إِنَّمَا
أَقَرَّتْ بِمَا شَاهَدَتْ مِنْ إِقْرَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَلِأَنَّهُ مَصْنُوعٌ بِمَا لَا يُتَّخَذُ طِيبًا ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُمْنَعَ مِنْهُ الْمُحْرِمُ ، كَالْمَصْنُوعِ بِالْحُمْرَةِ وَالصُّفْرَةِ ، وَلِأَنَّهُ مُعَصْفَرٌ ، فَوَجَبَ أَلَا يُلْزَمَ بِلُبْسِهِ الْفِدْيَةَ ، قِيَاسًا عَلَى مَا لَا يَنْقُصُ وَأَمَّا جَمْعُهُمْ بَيْنَ الْمُعَصْفَرِ وَالْمُزَعْفَرِ ، فَغَيْرُهُ صَحِيحٌ : لِأَنَّ الزَّعْفَرَانَ طِيبٌ فِي الْغَالِبِ ، وَالْعُصْفُرَ لَيْسَ بِطِيبٍ .
فَصْلٌ : وَهَكَذَا إِذَا اخْتَضَبَ الْمُحْرِمُ ، وَالْمُحْرِمَةُ بِالْحِنَّاءِ فما الحكم ، لَمْ يَفْتَدِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : عَلَيْهِمَا الْفِدْيَةُ . اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ مُسْتَلَذُّ الرَّائِحَةِ ، فَأَشْبَهَ الْوَرْسَ . وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عِكْرِمَةَ أَنَّ عَائِشَةَ وَأَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُنَّ يَخْتَضِبْنَ بِالْحِنَّاءِ ، وَهُنَّ حُرُمٌ . وَهَذَا نَصٌّ لِأَنَّهُنَّ لَا يَفْعَلْنَهُ إِلَّا عَنْ تَوْقِيفٍ ، وَلِأَنَّ مَقْصُودَهُ اللَّوْنُ دُونَ الرَّائِحَةِ ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْأَلْوَانِ . وَاسْتِدْلَالُ أَبِي حَنِيفَةَ بِاسْتِلْذَاذِ رَائِحَتِهِ ، مُنْتَقَضٌ بِالتُّفَّاحِ وَالْأُتْرُجِّ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ سَبَقَ طِيبًا يَابِسًا لَا يَبْقَى لَهُ أَثَرٌ ، وَإِنْ بَقِيَ لَهُ رِيحٌ فهل على المحرم من فدية ، فَلَا فِدْيَةَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا مَسَّ الْمُحْرِمُ طِيبًا يَابِسًا بِيَدِهِ عَامِدًا فَإِنْ لَمْ يَبْقَ لَهُ أَثَرٌ ، وَلَا رَائِحَةٌ ، فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ بَقِيَ لَهُ أَثَرٌ وَرَائِحَةٌ ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ وَكَذَلِكَ لَوْ بَقِيَ أَثَرُهُ دُونَ رَائِحَةٍ ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ . فَأَمَّا إِذَا بَقِيَتْ رَائِحَتُهُ دُونَ أَثَرِهِ ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ هَا هُنَا : لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ . وَنَقْلَهُ الْمُزَنِيُّ مِنْ كِتَابِ الْأَوْسَطِ . وَقَالَ فِي الْأُمِّ : فَإِنْ مَسَّ طِيبًا يَابِسًا لَا يَبْقَى لَهُ أَثَرٌ فِي يَدِهِ ، وَلَا رَائِحَةٌ ، كَرِهْتُهُ وَلَمْ أَرَ عَلَيْهِ الْفِدْيَةَ . فَظَاهِرُ ذَلِكَ : أَنَّهُ إِذَا بَقِيَتِ الرَّائِحَةُ ، فَفِيهِ الْفِدْيَةُ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا . فَكَانَ أَكْثَرُهُمْ يُخَرِّجُونَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الرَّائِحَةُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ : لِأَنَّ الرَّائِحَةَ عَنْ مُجَاوَرَةٍ ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ : لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ فِي الرَّائِحَةِ قَوْلًا وَاحِدًا عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ، لِأَنَّ مَا قَالَهُ فِي الْأُمِّ مُحْتَمَلٌ .
مَسْأَلَةٌ لَهُ أَنْ يَجْلِسَ عِنْدَ الْعَطَّارِ وَيَشْتَرِيَ الطِّيبَ مَا لَمْ يَمَسَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَهُ أَنْ يَجْلِسَ عِنْدَ الْعَطَّارِ ، وَيَشْتَرِيَ الطِّيبَ مَا لَمْ يَمَسَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . لَا بَأْسَ أَنْ يَجْلِسَ الْمُحْرِمُ عِنْدَ الْعَطَّارِ ، أَوْ يَشْتَرِيَ الطِّيبَ هل يجوز له ذلك ، وَيَبِيعَهُ ، لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ اسْتِعْمَالِهِ ، وَلَيْسَ بِمَمْنُوعٍ مِنْ تَمَلُّكِهِ ، فَلَوْ وَصَلَتْ رَائِحَةُ الطِّيبِ إِلَى أَنْفِهِ لَمْ يَفْتَدِ ، مَا لَمْ يَمَسَّهُ شَيْءٌ مِنْ جَسَدِهِ ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُتَطَيِّبًا .
فَصْلٌ : وَلَوْ شَدَّ الْمُحْرِمُ طِيبًا فِي خِرْقَةٍ ، فَأَمْسَكَهُ بِيَدِهِ فهل عليه من فدية ، لَمْ يَفْتَدِ ، وَلَوْ شَمَّهُ فِي الْخِرْقَةِ كَانَ فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ :
أَحَدُهُمَا : عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ ، لِاسْتِمْتَاعِهِ بِرَائِحَتِهِ ، وَإِنَّ عَادَةَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ جَارِيَةٌ بِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ ، أَنَّهُ لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ : لِأَنَّهَا رَائِحَةٌ مُجَاوِرَةٌ مِنْ غَيْرِ مُبَاشَرَةٍ ، فَصَارَ كَشَمِّ الرَّائِحَةِ مِنْ دُكَّانِ الْعَطَّارِ .
فَصْلٌ إِذَا وَطِئَ الطِّيبَ بِقَدَمِهِ فَعَلِقَ بِهَا فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ
فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : إِذَا وَطِئَ الطِّيبَ بِقَدَمِهِ فَعَلِقَ بِهَا فهل على المحرم من فدية ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ : لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَعْمِلًا لِلطِّيبِ فِي بَدَنِهِ . فَلَوْ وَطِئَ الطِّيبَ بِنَعْلِهِ عَامِدًا ، حَتَّى عَلِقَ بِهَا فهل على المحرم من فدية ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ أَيْضًا . فَإِنْ قِيلَ : إِذَا عَلِقَ الطِّيبُ بِنَبْلِهِ صَارَ حَامِلًا لِلطِّيبِ ، وَالْمُحْرِمُ إِذَا حَمَلَ الطِّيبَ لَمْ يَفْتَدِ . قِيلِ : إِنَّمَا لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ ، إِذَا عَلِقَ الطِّيبُ بِنَعْلِهِ لِأَنَّهُ لَابِسٌ لَهَا ، فَإِذَا عَلِقَ بِهَا الطِّيبُ ، صَارَ لَابِسًا لِمُطَيَّبٍ ، فَلَزِمَهُ الْفِدْيَةُ ، كَمَا لَوْ لَبِسَ قَمِيصًا مُطَيَّبًا فهل على المحرم من فدية ، وَإِذَا كَانَ حَامِلًا لِلطِّيبِ ، لَمْ يَكُنْ لَابِسًا لِطِيبٍ فَلَمْ يَفْتَدِ .
مَسْأَلَةٌ جُلُوسُهُ عِنْدَ الْكَعْبَةِ وَهِيَ تُجْمَرُ فَمُبَاحٌ كَجُلُوسِهِ عِنْدَ الْعَطَّارِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيَجْلِسُ عِنْدَ الْكَعْبَةِ وَهِيَ تُجْمَرُ وَإِنْ مَسَّهَا وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهَا رَطْبَةٌ فَعَلِقَ بِيَدِهِ طِيبٌ غَسَلَهُ فَإِنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ افْتَدَى " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَمَّا جُلُوسُهُ عِنْدَ الْكَعْبَةِ وَهِيَ تُجْمَرُ المحرم فَمُبَاحٌ ، كَجُلُوسِهِ عِنْدَ الْعَطَّارِ ، وَحُضُورِهِ بَيْعَ الطِّيبِ ، فَأَمَّا إِذَا مَسَّ خَلُوقَ الْكَعْبَةِ : وَكَانَ رَطْبًا ، أَوْ مَسَّ طِيبًا ، رَطْبًا المحرم فَعَلَى بِيَدِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ نَاسِيًا لِإِحْرَامِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، سَوَاءٌ عَلِمَ أَنَّ الطِّيبَ رَطْبٌ أَوْ لَا : لِأَنَّ الْمُتَطَيِّبَ نَاسِيًا لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ ، وَيُبَادِرُ إِلَى إِزَالَةِ الطِّيبِ . مِنْ يَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَتِمَّ لَهُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى إِزَالَتِهِ ، افْتَدَى حِينَئِذٍ لِاسْتِدَامَتِهِ لَا لِمَسِّهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ عَالِمًا فَلَهُ حَالَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الطِّيبَ رَطْبٌ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ لِأَنَّهُ قَاصِدٌ إِلَى اسْتِعْمَالِ الطِّيبِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَظُنَّ أَنَّ الطِّيبَ يَابِسٌ ، فَفِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ : عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ لِأَنَّهُ قَاصِدٌ إِلَيْهِ ، وَتَارِكٌ لِلتَّحَرُّزِ بِمَا هُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ - وَهُوَ الصَّحِيحُ - لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ إِلَى مَا تَجِبُ فِيهِ الْفِدْيَةُ ، وَلَا إِلَى مَا لَا يَجُوزُ لَهُ لِأَنَّ مَسَّ الطِّيبِ الْيَابِسِ جَائِزٌ لَهُ فَصَارَ كَالنَّاسِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ إِنْ حَلَقَ وَتَطَيَّبَ عَامِدًا فَعَلَيْهِ فِدْيَتَانِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ حَلَقَ وَتَطَيَّبَ عَامِدًا فما يجب على المحرم حينئذ ، فَعَلَيْهِ فِدْيَتَانِ " .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْحِلَاقَ إِتْلَافٌ ، يَسْتَوِي حُكْمُ الْعَامِدِ وَالنَّاسِي فِي إِيجَابِ الْفِدْيَةِ فِيهِ . وَالطِّيبُ ، اسْتِمْتَاعٌ ، يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْعَامِدِ وَالنَّاسِي فِي إِيجَابِ الْفِدْيَةِ فِيهِ ، فَإِذَا حَلَقَ الْمُحْرِمُ وَتَطَيَّبَ فَلَهُ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ عَامِدًا ، فِيهِمَا جَمِيعًا ، فَعَلَيْهِ فِدْيَتَانِ ، لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ لَا يَتَدَخَّلَانِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ نَاسِيًا ، فِيهِمَا جَمِيعًا ، فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ فِي الْحَلْقِ ، دُونَ التَّطَيُّبِ . الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ عَامِدًا فِي الطِّيبِ ، نَاسِيًا فِي الْحَلْقِ ، فَعَلَيْهِ فِدْيَتَانِ : لِأَنَّ عَمْدَهُ فِي الطِّيبِ ، يُوجِبُ الْفِدْيَةَ ، وَنِسْيَانُهُ فِي الْحَلْقِ لَا يُسْقِطُ الْفِدْيَةَ . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ عَامِدًا فِي الْحَلْقِ ، نَاسِيًا فِي الطِّيبِ ، فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ ، لِأَنَّ نِسْيَانَهُ فِي الطِّيبِ يُسْقِطُ الْفِدْيَةَ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ حَلَقَ شَعْرَةً فَعَلَيْهِ مُدٌّ وَإِنْ حَلَقَ شَعْرَتَيْنِ فَمُدَّانِ وَإِنْ حَلَقَ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ فَدَمٌ وَإِنْ كَانَتْ مُتَفَرِّقَةً فَفِي كُلِّ شَعْرَةٍ مُدٌّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي أَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ حَلْقِ رَأْسِهِ إِجْمَاعًا . فَإِنْ حَلَقَ جَمِيعَ رَأْسِهِ ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ بِنَصِّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَإِنْ حَلَقَ بَعْضَ رَأْسِهِ ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي قَدْرِ مَا يُوجِبُ الْفِدْيَةَ ، وَيَقَعُ بِهِ التَّحَلُّلُ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الدَّمَ يَجِبُ فِي حَلْقِ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ فَصَاعِدًا فما الذي يجب على المحرم ، وَبِهِ يَقَعُ التَّحَلُّلُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجِبُ الدَّمُ فِي حَلْقِ رُبْعِ الرَّأْسِ ، وَلَا يَجِبُ فِيمَا دُونَهُ ، وَبِهِ يَقَعُ التَّحَلُّلُ ، وَلَا يَقَعُ فِيمَا دُونَهُ . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَجِبُ الدَّمُ فِي حَلْقِ نِصْفِ الرَّأْسِ ، وَلَا يَجِبُ فِيمَا دُونَهُ ، وَبِهِ يَقَعُ التَّحَلُّلُ ، وَلَا يَقَعُ فِيمَا دُونَهُ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِ الدَّمِ بِحَلْقِ ثَلَاثَةِ شَعَرَاتٍ . قَوْلُهُ تَعَالَى : فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ [ الْبَقَرَةِ : ] ، تَقْدِيرُهُ فَحَلَقَ شَعْرَ رَأْسِهِ ، فَفِدْيَةٌ : لِأَنَّ الرَّأْسَ لَا يُحْلَقُ ، وَإِنَّمَا يُحْلَقُ الشَّعْرُ فَإِذَا حَلَقَ مِنْ رَأْسِهِ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ جَمْعٍ مُطْلَقٍ ، كَانَ حَالِقًا لِرَأْسِهِ وَثَلَاثُ شَعَرَاتٍ يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا اسْمُ الْجَمْعِ : فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ وُجُوبُ الدَّمِ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ التَّحَلُّلَ يَقَعُ بِحَلْقِ ثَلَاثَةِ شَعَرَاتٍ ، أَوْ بِقَصْرِهَا . قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِذَا رَمَيْتُمْ وَحَلَقْتُمْ فَقَدْ حَلَّ لَكُمْ كُلُّ شَيْءٍ . وَالِاسْتِدْلَالُ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ ، كَالِاسْتِدْلَالِ مِنَ الْآيَةِ ، وَلِأَنَّهُ مُحْرِمٌ حَلَقَ مِنْ رَأْسِهِ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ : فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ بِهِ الدَّمُ ، وَيَقَعَ بِهِ التَّحَلُّلُ كَالرُّبُعِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنْ حَلَقَ مِنْ شَعْرِ رَأْسِهِ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ المحرم فما الحكم ، فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ بِالْفِدْيَةِ ،
وَقَالَ مُجَاهِدٌ : هُوَ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَقَالَ : هَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ كَانَ مَمْنُوعًا مِنْ إِتْلَافِهَا ، كَانَ مَمْنُوعًا مِنْ إِتْلَافِ أَبْعَاضِهَا ، كَالصَّيْدِ ، إِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْهُ ثَبَتَ وُجُوبُ الْفِدْيَةِ فِيهِ ، وَإِذَا كَانَتِ الْفِدْيَةُ فِيهِ وَاجِبَةً ، فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : رِوَايَةُ الْحُمَيْدِيِّ . عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ عَلَيْهِ فِي الشَّعْرَةِ الْوَاحِدَةِ ثُلُثَ دَمٍ ، وَفِي الشَّعْرَتَيْنِ ثُلُثَيْ دَمٍ ، وَفِي الثَّلَاثِ دَمًا ، وَاخْتَارَهُ الْمَرْوَزِيُّ : لِأَنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ وَجَبَ فِيهَا دَمٌ فَفِي أَبْعَاضِهَا أَبْعَاضُ ذَلِكَ الدَّمِ كَالصَّيْدِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : مُخَرَّجٌ مِنَ الْأُمِّ ، فِيمَنْ تَرَكَ حَصَاةً ، أَنَّ عَلَيْهِ فِيهَا دِرْهَمًا ، فَكَذَلِكَ عَلَيْهِ فِي الشَّعْرَةِ الْوَاحِدَةِ دِرْهَمٌ ، وَفِي الشَّعْرَتَيْنِ دِرْهَمَانِ ، وَفِي الثَّلَاثَةِ الْمُجْتَمِعَةِ دَمٌ . وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ : لِأَنَّهُ أَيْسَرُ عَلَى الْمُكَفِّرِ وَأَنْفَعُ لِلْآخِذِ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : وَهُوَ الصَّحِيحُ . نَصَّ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَالْبُوَيْطِيُّ ، وَعَلَيْهِ يَقُولُ سَائِرُ أَصْحَابِهِ : أَنَّ عَلَيْهِ فِي الشَّعْرَةِ الْوَاحِدَةِ مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ ، وَفِي الشَّعْرَتَيْنِ مُدَّيْنِ ، وَفِي الثَّلَاثَةِ الْمُجْتَمِعَةِ دَمًا ، لِأَنَّ فِي تَبْعِيضِ الدَّمِ مَشَقَّةً تَلْحَقُ الدَّافِعَ ، وَضَرَرًا يَلْحَقُ الْآخِذَ ، فَوَجَبَ أَنْ يَعْدِلَ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ جِنْسٍ ، يَجِبُ فِي الْكَفَّارَاتِ ، وَهُوَ الْإِطْعَامُ وَأَقَلُّ الْإِطْعَامِ فِي الشَّرْعِ مُدٌّ ، فَأَوْجَبَاهُ . فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَوْ حَلَقَ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ فِي ثَلَاثَةِ أَوْقَاتٍ فَفِيهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَمْدَادٍ ، اعْتِبَارًا بِالْآحَادِ . الثَّانِي : عَلَيْهِ دَمٌ اعْتِبَارًا بِالْجُمْلَةِ ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي اللِّبَاسِ إِذَا تَكَرَّرَ ، هَلْ يَتَدَاخَلُ حُكْمُهُ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَوْ حَلَقَ أَرْبَعَ شَعَرَاتٍ فِي أَرْبَعَةِ أَوْقَاتٍ ؟ فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ ، عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ ، إِذَا رُوعِيَ حُكْمُ الِانْفِرَادِ . وَالثَّانِي : عَلَيْهِ دَمٌ إِذَا رُوِيَ حُكْمُ الِاجْتِمَاعِ وَكَذَلِكَ فِيمَا زَادَ .
فَصْلٌ حُكْمُ شَعْرِ اللِّحْيَةِ وَسَائِرِ الْجَسَدِ
فَصْلٌ : حُكْمُ شَعْرِ اللِّحْيَةِ وَسَائِرِ الْجَسَدِ للمحرم فَأَمَّا شَعْرُ اللِّحْيَةِ ، وَسَائِرِ الْجَسَدِ ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ شَعْرِ الرَّأْسِ فِي الْمَنْعِ مِنْهُ ، وَوُجُوبِ الْفِدْيَةِ فِيهِ ، إِذَا لَمْ يَتَعَلَّقِ الْإِحْلَالُ بِهِ وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ ، وَأَهْلُ الظَّاهِرِ : لَا فِدْيَةَ فِيهِ وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ ، تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [ الْبَقَرَةِ : ] ، فَخَصَّ شَعْرَ رَأْسِهِ بِالْمَنْعِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُخْتَصَّ بِالْفِدْيَةِ : وَلِأَنَّهُ لَمَّا تَعَلَّقَ الْإِحْلَالُ بِشَعْرِ الرَّأْسِ دُونَ غَيْرِهِ ، وَجَبَ أَنْ تُخْتَصَّ الْفِدْيَةُ بِشَعْرِ الرَّأْسِ دُونَ غَيْرِهِ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا يَمَسُّ الْمُحْرِمُ مِنْ شَعْرِهِ وَلَا مِنْ بَشَرِهِ شَيْئًا وَلِأَنَّ شَعْرَ الرَّأْسِ يَتَعَلَّقُ بِحَلْقِهِ تَرْفِيهٌ ، وَشَعْرُ الْجَسَدِ يَتَعَلَّقُ بِحَلْقِهِ تَرْفِيهٌ وَتَنْظِيفٌ ، فَكَانَ بِوُجُوبِ الْفِدْيَةِ أَوْلَى .
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَإِنَّمَا نَصَّ عَلَى شَعْرِ الرَّأْسِ : لِيُنَبِّهَ بِهِ عَلَى شَعْرِ الْجَسَدِ : لِوُجُودِ مَعْنَى الرَّأْسِ فِيهِ وَزِيَادَةٍ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّهُ لَمَّا اخْتُصَّ شَعْرُ الرَّأْسِ بِالْإِحْلَالِ ، وَجَبَ أَنْ يُخْتَصَّ بِالْفِدْيَةِ . قُلْنَا : الْإِحْلَالُ نُسُكٌ مَأْمُورٌ بِهِ ، وَالْحَلْقُ كَغَيْرِهِ حَظْرٌ يَأْثَمُ بِهِ ، ثُمَّ إِنَّمَا لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ فِيهِ : لِأَجْلِ التَّرْفِيهِ ، فَاسْتَوَى شَعْرُ الرَّأْسِ وَالْجَسَدِ فِي التَّرْفِيهِ بِحَلْقِهِ فَاسْتَوَيَا فِي الْفِدْيَةِ ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْإِحْلَالِ .
فَصْلٌ : إِذَا ثَبَتَ أَنَّ حُكْمَ شَعْرِ الْجَسَدِ ، كَحُكْمِ شَعْرِ الرَّأْسِ فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ فِيهِ ، فَسَوَاءٌ أَخَذَهُ حَلْقًا ، أَوْ نَتْفًا ، أَوْ قَصًّا . قَالَ الشَّافِعِيُّ نَصًّا : فَلَوْ حَلَقَ شَعْرَ رَأْسِهِ وَجَسَدِهِ دَفْعَةٌ وَاحِدَةً فما الحكم للمحرم حينئذ فَذَهَبُ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ ، نَصَّ عَلَيْهِ . وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيُّ : عَلَيْهِ فِدْيَتَانِ ، إِحْدَاهُمَا لِشَعْرِ رَأْسِهِ ، وَالْأُخْرَى لِشَعْرِ جَسَدِهِ : لِأَنَّ شَعْرَ الرَّأْسِ مُخَالِفٌ لِشَعْرِ الْجَسَدِ ، لِتَعَلُّقِ الْإِحْلَالِ بِهِ ، وَإِذَا اخْتَلَفَا ، لَمْ يَتَدَاخَلَا كَالْجِنْسَيْنِ مِنْ حَلْقٍ وَتَقْلِيمٍ وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ الْحَلْقَ كُلَّهُ جِنْسٌ وَاحِدٌ ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَحْكَامُهُ ، كَاللِّبَاسِ الَّذِي هُوَ جِنْسٌ ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَحْكَامُهُ ، فَلَوْ لَبِسَ قَمِيصًا ، وَعِمَامَةً ، وَخُفَّيْنِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ ، لَزِمَتْهُ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَإِنْ كَانَ حُكْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ مُخَالِفًا لِحُكْمِ صَاحِبِهِ ، كَذَلِكَ شَعْرُ الرَّأْسِ وَالْجَسَدِ ، جِنْسٌ وَاحِدٌ ، وَإِنِ اخْتَلَفَ حُكْمُهُمَا ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَ فِيهِمَا فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَهَذَا انْفِصَالٌ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ .
فَصْلٌ : وَإِذَا قَطَعَ نِصْفَ شَعْرَةٍ مِنْ رَأْسِهِ ، أَوْ جَسَدِهِ المحرم فما الحكم فَفِيهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : عَلَيْهِ مِنَ الْفِدْيَةِ كَقِسْطٍ أَخَذَهُ مِنَ الشَّعْرَةِ ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ نِصْفُ مُدٍّ عَلَى أَصَحِّ الْأَقَاوِيلِ ، فَرْقًا بَيْنَ الْجُمْلَةِ وَالْأَبْعَاضِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : عَلَيْهِ مُدٌّ كَامِلٌ : لِأَنَّ الْإِحْلَالَ يَقَعُ ، لِنَقْصِ بَعْضِ الشَّعْرِ ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَأْصِلْهُ كَمَا يَقَعُ بِحَلْقِهِ إِذَا اسْتَأْصَلَهُ ، فَوَجَبَ أَنْ تَلْزَمَ الْفِدْيَةُ الْكَامِلَةُ بِقَطْعِ بَعْضِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَأْصِلْهُ كَمَا يَلْزَمُ بِحَلْقِهِ ، إِذَا اسْتَأْصَلَهُ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ .
فَصْلٌ : إِذَا نَبَتَ فِي غَيْرِ الْمُحْرِمِ شَعْرٌ ، فَتَأَذَّى بِهِ وَاضْطُرَّ إِلَى قَلْعِهِ فهل على المحرم من فدية فَلَهُ قَلْعُهُ ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ ، لِأَنَّ قَلْعَهُ لِمَعْنًى فِي الشَّعْرِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمَهُ الْفِدْيَةُ ، كَمَا لَوْ صَالَ عَلَيْهِ صَيْدٌ فَقَتَلَهُ ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْجَزَاءُ وَكَذَلِكَ لَوْ طَالَ شَعْرُ رَأْسِهِ أَوْ حَاجِبَيْهِ ، فَاسْتَرْسَلَ عَلَى عَيْنَيْهِ وَمَنَعَهُ النَّظَرَ فما الحكم للمحرم حينئذ ، قَالَ أَصْحَابُنَا : قَطَعَهُ وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ ، فَأَمَّا إِذَا اضْطُرَّ إِلَى حَلْقِهِ لِأَجْلِ الْهَوَامِّ الْحَاصِلَةِ فِيهِ ، أَوْ لِحَمْيِ رَأْسِهِ بِهِ ، فَلَهُ حَلْقُهُ وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ ، لِأَنَّهُ حَلَقَهُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الشَّعْرِ ، وَهُوَ الْهَوَامُّ وَشِدَّةُ الْحَرِّ ، فَلَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ . كَمَا لَوِ اضْطُرَّ إِلَى قَتْلِ الصَّيْدِ لِأَكْلِهِ ، وَقَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَعْبًا بِالْفِدْيَةِ مَعَ ضَرُورَتِهِ إِلَى الْحَلْقِ " .
فَصْلٌ : إِذَا قَطَعَ الْمُحْرِمُ عُضْوًا مِنْ بَدَنِهِ وَعَلَيْهِ شَعْرٌ فهل عليه من فدية ، أَوْ كَشَطَ جِلْدَةً مِنْ بَدَنِهِ وَعَلَيْهَا شَعْرٌ ، فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ : لِأَنَّ فِدْيَةَ الشَّعْرِ وَجَبَتْ : لِأَجْلِ التَّرْفِيهِ بِهِ وَهَذَا غَيْرُ مُتَرَفَّهٍ بِذَلِكَ ، وَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَضَرٌّ بِهِ ، وَلِأَنَّ الشَّعْرَ تَابِعٌ ، وَالْعُضْوَ مَتْبُوعٌ ، فَلَمَّا لَمْ تَجِبِ الْفِدْيَةُ فِي الْمَتْبُوعِ فَأَوْلَى أَنْ لَا تَجِبَ فِي التَّابِعِ . فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا وَجَبَتِ الْفِدْيَةُ فِي أَخْذِ الشَّعْرِ مُنْفَرِدًا ، فَأَوْلَى أَنْ تَجِبَ فِي أَخْذِهِ مَعَ غَيْرِهِ . قِيلَ : لَيْسَ بِصَحِيحٍ : لِأَنَّ حُكْمَ الِانْفِرَادِ فِي الشَّيْءِ ، مُخَالِفٌ لِحُكْمِ تَبَعِهِ لِغَيْرِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ امْرَأَةً لَوْ حَرَّمَتْ زَوْجَةَ رَجُلٍ بِرَضَاعٍ ، لَزِمَهَا الْمَهْرُ ، وَلَوْ قَتَلَتْهَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا الْمَهْرُ ، وَإِنْ كَانَ فِي الْقَتْلِ تَحْرِيمٌ وَإِتْلَافٌ .
مَسْأَلَةٌ الْأَظْفَارُ فَحُكْمُهَا حُكْمُ الشَّعْرِ وَالْعَمْدُ فِيهَا وَالْخَطَأُ سَوَاءٌ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَكَذَلِكَ الْأَظْفَارُ ، وَالْعَمْدُ فِيهَا وَالْخَطَأُ سَوَاءٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْأَظْفَارُ فَحُكْمُهَا حُكْمُ الشَّعْرِ ، يُمْنَعُ الْمُحْرِمُ مِنْهَا ، وَيَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ لِتَقْلِيمِهَا : لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُحْرِمُ أَشَعْثُ أَغَبَرُ وَتَقْلِيمُهَا مَا يُزِيلُ الشَّعَثَ ، وَيُحْدِثُ التَّرْفِيهَ ، وَلِأَنَّهُ نَامٍ يُتَخَلَّفُ يَتَرَفَّهُ الْمُحْرِمُ بِإِزَالَتِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ تَلْزَمَهُ الْفِدْيَةُ فِيهِ كَالشَّعْرِ ، فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْفِدْيَةِ فِيهِ ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الشَّعْرِ ، وَإِنْ قَلَّمَ أَظْفَارَهُ ، فَعَلَيْهِ دَمٌ كَمَا لَوْ حَلَقَ جَمِيعَ شَعْرِهِ ، وَلَوْ قَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَظَافِرَ فَصَاعِدًا فِي مَقَامٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ يَدِهِ أَوْ رِجْلِهِ مِنْ عُضْوٍ وَاحِدٍ أَوْ عُضْوَيْنِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ الْكَامِلَةُ ، وَهِيَ الدَّمُ ، إِلَّا لِتَقْلِيمِ خَمْسَةِ أَظَافِرَ مِنْ عُضْوٍ وَاحِدٍ ، فَإِنْ قَلَّمَ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ أَظَافِرَ مِنْ عُضْوٍ وَاحِدٍ ، أَوْ قَلَّمَ خَمْسَةَ أَظَافِرَ مِنْ عُضْوَيْنِ ، لَمْ يَلْزَمْهُ دَمٌ وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْهُ ، فَمَا دُونَ الدَّمِ ، هَلْ يَلْزَمُهُ أَمْ لَا ؟ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ قَالَ : لِأَنَّ الْفِدْيَةَ الْكَامِلَةَ لَا تَلْزَمُهُ ، إِلَّا بِتَرْفِيهٍ كَامِلٍ . وَكَمَالُ التَّرْفِيهِ بِتَقْلِيمِ خَمْسَةِ أَظْفَارٍ . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ : لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَعْتَبِرَ كَمَالَ التَّرْفِيهِ ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِتَقْلِيمِ جَمِيعِ الْأَظَافِرِ ، وَهُوَ لَا يَعْتَبِرُهُ ، أَوْ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ جَمِيعٍ مُطْلَقٍ وَهُوَ مَقُوَلُنَا ثُمَّ نَقُولُ : لِأَنَّهُ قَلَّمَ مِنْ أَظَافِرِهِ مَا يَقَعُ عَلَى اسْمِ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ ، فَوَجَبَ أَنْ تَلْزَمَهُ الْفِدْيَةُ الْكَامِلَةُ ، كَالْخَمْسَةِ مِنْ يَدٍ وَاحِدَةٍ ، فَإِنْ قَلَّمَ ظُفْرًا وَاحِدًا ، كَانَ كَمَا لَوْ حَلَقَ شَعْرَةً ، فَيَكُونُ فِيمَا يَلْزَمُهُ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : ثُلُثُ دَمٍ . وَالثَّانِي : دِرْهَمٌ .
وَالثَّالِثُ : مُدٌّ ، فَإِنْ قَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَظَافِرَ فِي مَقَامٍ ، ثُمَّ قَلَّمَ بَعْدَهَا ثَلَاثَةَ أَظَافِرَ أُخَرَ ، فِي مَقَامٍ آخَرَ ، فَعَلَيْهِ دَمَانِ : لِأَنَّ هَذَا إِتْلَافٌ لَا يَتَدَاخَلُ بِحَالٍ ، فَلَوِ انْكَسَرَ ظُفْرُهُ وَتَعَلَّقَ وَكَانَ تَأَذَّى بِهِ ، وَكَانَ لَهُ قَلْعُهُ ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ كَالشَّعْرَةِ إِذَا نَبَتَتْ فِي عَيْنِهِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَالْعَمْدُ ، وَالْخَطَأُ فِيهِمَا سَوَاءٌ ، وَإِنَّمَا اسْتَوَى حُكْمُ الْعَامِدِ وَالْخَاطِئِ : لِأَنَّهُ إِتْلَافٌ فَشَابَهَ قَتْلَ الصَّيْدِ ، وَقَدْ مَضَى ذَلِكَ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ لَا يُمْنَعُ الْمُحْرِمُ مِنْ حَلْقِ شَعْرِ الْمَحَلِّ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيَحْلِقُ الْمُحْرِمُ شَعْرَ الْمَحَلِّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، لَا يُمْنَعُ الْمُحْرِمُ مِنْ حَلْقِ شَعْرِ الْمَحَلِّ هل يجوز للمحرم وَلَا مِنْ تَقْلِيمِ أَظَافِرِهِ ، فَإِنْ حَلَقَ شَعْرَهُ ، أَوْ قَلَّمَ ظُفْرَهُ فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ ، سَوَاءٌ فَعَلَهُ بِأَمْرِهِ ، أَوْ غَيْرِ أَمْرِهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْمُحْرِمُ مَمْنُوعٌ مِنْ حَلْقِ شَعْرِ الْمَحَلِّ ، وَتَقْلِيمِ أَظَافِرِهِ ، كَمَا هُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ ، فَإِنْ فَعَلَ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ كُلَّ مَا أَوْجَبَ عَلَى الْمُحْرِمِ الْفِدْيَةَ بِفِعْلِهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، أَوْجَبَ الْفِدْيَةَ بِفِعْلِهِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ كَالصَّيْدِ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ الْجَزَاءُ فِي قَتْلِهِ ، إِذَا كَانَ لِغَيْرِهِ ، كَمَا يَلْزَمُهُ فِي قَتْلِهِ إِذَا كَانَ لِنَفْسِهِ . قَالُوا : وَلِأَنَّهُ مُحْرِمٌ حَلَقَ شَعْرَ آدَمِيٍّ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ الْفِدْيَةُ ، كَمَا لَوْ حَلَقَ شَعْرَ نَفْسِهِ . قَالُوا : وَلِأَنَّ هَذَا أَلْزَمُ لَكُمْ ، لِأَنَّكُمْ مَنَعْتُمُ الْمُحْرِمَ تَزْوِيجَ نَفْسِهِ وَمِنْ تَزْوِيجِ غَيْرِهِ ، فَلَزِمَكُمْ أَنْ تَمْنَعُوهُ مِنْ حَلْقِ شَعْرِهِ وَمِنْ حَلْقِ شَعْرِ غَيْرِهِ وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا قُلْنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ [ الْبَقَرَةِ : ] وَهَذَا خِطَابُ الْمُحْرِمِينَ ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْحَلْقَ جَائِزٌ لِلْمُحِلِّينِ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْمُحِلُّ مَمْنُوعًا لَمْ يُوجَبْ فِي شَعْرِهِ الْفِدْيَةُ سَوَاءٌ حَلَقَهُ مُحْرِمٌ أَوْ مُحِلٌّ ، كَمَا أَنَّ الْمُحْرِمَ لَمَّا كَانَ مَمْنُوعًا ، وَجَبَ فِي شَعْرِهِ الْفِدْيَةُ ، سَوَاءٌ حَلَقَهُ مُحِلٌّ أَوْ مُحْرِمٌ . وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ لَوْ أُفْرِدَ عَنِ الْآيَةِ ، صَحَّ ، الِاحْتِجَاجُ بِهِ ، وَقَدْ يَتَحَرَّرُ قِيَاسًا ، فَيُقَالُ : لِأَنَّهُ شَعْرُ مُحِلٍّ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ فِيهِ بِحَلْقِهِ الْفِدْيَةُ ، كَمَا لَوْ حَلَقَهُ مُحِلٌّ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَوْ فَعَلَهُ الْمُحْرِمُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ : لِأَجْلِ التَّرْفِيهِ بِهِ ، فَإِذَا فَعَلَهُ بِالْمُحِلِّ لَمْ يَلْزَمْهُ الْفِدْيَةُ ، كَمَا لَوْ أَلْبَسَهُ أَوْ طَيَّبَهُ ، وَلِأَنَّهُ شَعْرٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَحَلِّهِ حُرْمَةُ الْإِحْرَامِ ، فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُرْمَةُ الْإِحْرَامِ ، كَالْبَهَائِمِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى قَتْلِ الصَّيْدِ ، فَمُنْتَقَضٌ بِالطِّيبِ وَاللِّبَاسِ ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الصَّيْدِ ، أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ لِي حُرْمَةُ الْإِحْرَامِ بِنَفْسِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ يَلْزَمُهُ الْحَلَالُ الْجَزَاءَ فِي قَتْلِهِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْمُحْرِمِ إِذَا حَلَقَ شَعْرَ نَفْسِهِ : فَغَيْرُ صَحِيحٍ : لِأَنَّهُ إِنْ قَالُوا : لِأَنَّهُ مُحْرِمٌ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي الْأَصْلِ لِأَنَّ الْمُحْرِمَ تَجِبُ فِي شَعْرِهِ الْفِدْيَةُ سَوَاءٌ حَلَقَهُ مُحِلٍّ أَوْ مُحْرِمٌ ، وَإِنْ لَمْ يَقُولُوا لِأَنَّهُ مُحْرِمٌ انْتَقَضَ بِشَعْرِ الْمُحِلِّ إِذَا حَلَقَهُ مُحِلٌّ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي شَعْرِ الْمُحْرِمِ إِنْ ثَبَتَ لَهُ حُرْمَةُ الْإِحْرَامِ ، فَوَجَبَتِ الْفِدْيَةُ بِحَلْقِهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ شَعْرُ الْمُحِلِّ ، وَأَمَّا مَا أَلْزَمُوهُ مِنَ النِّكَاحِ فَغَيْرُ
لَازِمٍ : لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِوِلَايَةٍ وَالْإِحْرَامَ يَمْنَعُ مِنَ الْوِلَايَةِ فَبَطَلَ النِّكَاحُ ، وَالشَّعْرُ وَجَبَتْ فِيهِ الْفِدْيَةُ ، لِتَرَفُّهِ الْمُحْرِمِ بِهِ ، وَالْحَالِقُ الْمُحْرِمُ لَا يَتْرَفَّهُ بِهِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ الْفِدْيَةُ .
مَسْأَلَةٌ لَيْسَ لِلْمُحِلِّ أَنْ يَحْلِقَ شَعْرَ الْمُحْرِمِ
مَسْأَلَةٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَيْسَ لِلْمُحِلِّ أَنْ يَحْلِقَ شَعْرَ الْمُحْرِمِ فَإِنْ فَعَلَ بِأَمْرِ الْمُحْرِمِ فَالْفِدْيَةُ عَلَى الْمُحْرِمِ وَإِنْ فَعَلَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ مُكْرَهًا كَانَ أَوْ نَائِمًا رَجَعَ عَلَى الْحَلَالِ بِفِدْيَةٍ وَتَصَدَّقَ بِهَا فَإِنْ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) وَأَصَبْتُ فِي سَمَاعِي مِنْهُ ثُمَّ خَطَّ عَلَيْهِ أَنْ يَفْتَدِيَ وَيَرْجِعَ بِالْفِدْيَةِ عَلَى الْمُحِلِّ وَهَذَا أَشْبَهُ بِمَعْنَاهُ عِنْدِي . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا شَعْرُ الْمُحْرِمِ هل يجوز أن يحلقه له حلال أو محرم فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْلِقَهُ حَلَالٌ وَلَا مُحْرِمٌ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ بِالْبَقَرَةِ : ] ، فَمَنَعَ الْمُحْرِمَ مِنْ حَلْقِ شَعْرِهِ ، وَأَرَادَ بِذَلِكَ مَنْعَهُ وَمَنْعَ غَيْرِهِ ، لِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ أَنْ يَتَوَلَّى غَيْرُهُ حَلْقَ شَعْرِهِ ، فَوَرَدَ الْمَنْعُ عَلَى حَسْمِ الْعَادَةِ فِيهِ ، لِأَنَّ حُرْمَةَ الْإِحْرَامِ تَعَلَّقَتْ بِعَيْنِ الشَّعْرِ ، فَاسْتَوَى فِي الْمَنْعِ مِنْهُ الْمُحِلُّ وَالْمُحْرِمُ ، كَالصَّيْدِ فِي الْمُحْرِمِ . فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ، وَحَلَقَ مَحَلَّ شَعْرِ الْمُحْرِمِ ، فَلَهُ حَالَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَحْلِقَهُ بِأَمْرِ الْمُحْرِمِ . الثَّانِي : بِغَيْرِ أَمْرِهِ ، فَإِنْ حَلَقَهُ بِأَمْرِ الْمُحْرِمِ ، فَالْفِدْيَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى الْمُحْرِمِ : لِأَنَّ حَلْقَ شَعْرِهِ إِذَا كَانَ عَنْ أَمْرِهِ ، فَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى فِعْلِهِ ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ، فَلَهُ حَالَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى مَنْعِهِ . الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى مَنْعِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى مَنْعِهِ ، إِمَّا لِكَوْنِهِ نَائِمًا أَوْ مَكْرُوهًا ، فَالْفِدْيَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى الْحَالِقِ الْمُحِلِّ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَلِأَنَّ الْمُحْرِمَ لَا صُنْعَ لَهُ فِي حَلْقِ رَأْسِهِ ، فَلَمْ تَلْزَمْهُ الْفِدْيَةُ بِهَا ، فَإِنْ أَعْسَرَ بِهَا الْحَالِقُ الْمُحِلُّ ، أَوْ غَابَ ، فَهَلْ يَتَحَمَّلُهَا الْمُحْرِمُ عَنْهُ لِيَرْجِعَ بِهَا عَلَيْهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَمَّلَهَا ، لِأَنَّهُ شَعْرٌ زَالَ عَنْهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ ، فَلَمْ يَلْزَمُهُ ضَمَانُ فِدْيَتِهِ ، كَمَا لَوْ تَمَعَّطَ عَنْهُ بِمَرَضٍ ، أَوِ احْتِرَاقٍ بِنَارٍ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِي ذِمَّةِ الْحَالِقِ الْمُحِلِّ ، وَهَذَا أَصَحُّ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَمَّلَهَا ، ثُمَّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ شَعْرٌ أُزِيلَ عَنْهُ بِوَجْهٍ هُوَ مُضْطَرٌّ فِيهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ضَمَانُ فِدْيَتِهِ عَلَيْهِ ، كَمَا لَوِ اضْطُرَّ إِلَى حَلْقِهِ لِهَوَامَّ فِي رَأْسِهِ قَالَ الْمُزَنِيُّ : " وَأَصَبْتُ فِي سَمَاعِي مِنْهُ ، ثُمَّ خَطَّ عَلَيْهِ " ، يَعْنِي أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَجَعَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْمُزَنِيُّ لَيْسَ بِشَيْءٍ : لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي مُخْتَصَرِ الْحَجِّ الْكَبِيرِ ، وَلَمْ يَخُطَّ عَلَيْهِ ، فَهَذَا شَرْحُ الْمَذْهَبِ ، وَهُوَ أَصَحُّ طَرِيقَيْ أَصْحَابِنَا وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يُخْرِجُ الْقَوْلَيْنِ فِي أَصْلِ الْوُجُوبِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا وَجَبَتْ عَلَى الْحَالِقِ الْمُحِلِّ ، وَلَا يَلْزَمُ الْمُحْرِمَ تَحَمُّلُهَا .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي : إِنَّهَا وَجَبَتْ عَلَى الْمُحْرِمِ ثُمَّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الْحَالِقِ ، وَجَعَلَ ذَلِكَ مَبْنِيًّا عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي شَعْرِ الْمُحْرِمِ ، وَهِيَ تَجْرِي عِنْدَهُ مَجْرَى الْوَدِيعَةِ فِي يَدِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ إِلَّا بِالتَّعَدِّي ، أَوْ مَجْرَى الْعَارِيَةِ فَيَلْزَمُهُ الضَّمَانُ بِكُلِّ حَالٍ ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ شَرْحُ الْمَذْهَبِ وَتَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ ، انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى التَّفْرِيعِ عَلَيْهِمَا فِي صِفَةِ الْكَفَّارَةِ ، وَكَيْفِيَّةِ التَّرَاجُعِ ، فَنَبْدَأُ أَوَّلًا بِالْحَالِقِ ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَفْتَدِيَ ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الدَّمِ ، أَوِ الْإِطْعَامِ ، فَأَمَّا الصِّيَامُ فَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَصَحُّهُمَا : يُجْزِئُهُ : لِأَنَّ الْوُجُوبَ مُسْتَقَرٌّ عَلَيْهِ فَكَانَ مُخَيَّرًا فِيهِ . وَالثَّانِي : لَا يُجْزِئُهُ ، مُخَرَّجٌ مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ لَوْ أَعْسَرَ بِهَا تَحَمَّلَهَا الْمُحْرِمُ عَنْهُ ، فَأَمَّا الْمُحْرِمُ ، إِذَا أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ تَحَمُّلَ الْفِدْيَةِ عِنْدَ إِعْسَارِ الْحَالِقِ ، أَوْ غَيْبَتِهِ ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الدَّمِ ، وَالْإِطْعَامِ ، فَأَمَّا الصِّيَامُ ، فَإِنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ : لِأَنَّهُ يَتَحَمَّلُ عَنْ غَيْرِهِ ، وَأَعْمَالُ الْأَبْدَانِ لَا يَجُوزُ تَحَمُّلُهَا عَنِ الْغَيْرِ ، بِأَنِ افْتَدَى بِالدَّمِ ، أَوِ الْإِطْعَامِ ، ثُمَّ أَيْسَرَ الْحَالِقُ بَعْدَ إِعْسَارِهِ ، أَوْ قَدِمَ بَعْدَ غَيْبَتِهِ ، نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ افْتَدَى بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ ثَمَنًا ، فَلَهُ الرُّجُوعُ عَلَى الْحَالِقِ ، لِأَنَّهُ تَحَمَّلَ عَنْهُ ، وَإِنْ كَانَ قَدِ افْتَدَى بِأَكْثَرِ الْأَمْرَيْنِ ثَمَنًا ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا رُجُوعَ لَهُ بِشَيْءٍ : لِأَنَّهُ غَارِمٌ عَنْ غَيْرِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِي إِسْقَاطِ الْحَقِّ شَيْءٌ يَقْدِرُ عَلَى إِسْقَاطِهِ بِدُونِهِ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ صَارَ كَالْمُتَطَوِّعِ بِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ ثَمَنًا : لِأَنَّهُ الْقَدْرُ الْوَاجِبُ ، وَالزِّيَادَةُ تَطَوُّعٌ : فَسَقَطَ رُجُوعُهُ بِالتَّطَوُّعِ ، وَلَمْ يَسْقُطْ رُجُوعُهُ بِالْوَاجِبِ .
فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى مَنْعِهِ ، وَصُورَةُ ذَلِكَ أَنْ يَأْتِيَ الْحَلَالُ إِلَى الْمُحْرِمِ ، فَيَحْلِقُ رَأْسَهُ ، وَالْمُحْرِمُ سَاكِتٌ يَنْظُرُ إِلَيْهِ ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى مَنْعِهِ ، فَيَكُفُّ عَنْهُ ، فَهَلْ يَكُونُ سُكُوتُهُ رِضًى بِالْحَلْقِ ؟ يَجْرِي مَجْرَى إِذْنِهِ فِيهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ سُكُوتَهُ رِضًى يَجْرِي مَجْرَى إِذْنِهِ ، فَتَكُونُ الْفِدْيَةُ عَلَيْهِ : لِأَنَّ السُّكُوتَ قَدْ جُعِلَ فِي الشَّرْعِ رِضًا يَقُومُ مَقَامَ الْإِذْنِ فِي الْبِكْرِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ سُكُوتَهُ لَيْسَ بِرِضًى ، وَلَا يَقُومُ مَقَامَ الْإِذْنِ : لِأَنَّهُ لَوْ جُنِيَ عَلَى مَالِهِ وَهُوَ سَاكِتٌ ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ رِضًى مِنْهُ يَجْرِي مَجْرَى إِذْنِهِ ، لِمَنْعِهِ مِنْ مُطَالَبَةِ الْجَانِي يَقُومُ مَقَامَهُ ، كَذَلِكَ هُنَا ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْجِنَايَةُ عَلَى الْحَالِقِ عَلَى مَا مَضَى .
فَصْلٌ : فَلَوْ أَمَرَ حَلَالٌ حَلَالًا أَنْ يَحْلِقَ شَعْرَ مُحْرِمٍ فعلى من تكون الدية ، كَانَتِ الْفِدْيَةُ عَلَى الْآمِرِ دُونَ الْحَالِقِ : لِأَنَّ الْحَلْقَ مَنْسُوبٌ إِلَى الْآمِرِ ، وَإِنَّمَا الْحَالِقُ كَالْآلَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُحْرِمَ لَوْ كَانَ هُوَ الْآمِرَ ، كَانَتِ الْفِدْيَةُ عَلَيْهِ دُونَ الْحَالِقِ ، فَكَذَا إِذَا كَانَ الْآمِرُ أَجْنَبِيًّا .
فَإِنْ قِيلَ : فَلَوْ أَمَرَهُ بِقَتْلِ صَيْدٍ ، كَانَ الْجَزَاءُ عَلَى الْقَاتِلِ دُونَ الْآمِرِ ، فَهَلْ كَانَ الْحَالِقُ مِثْلَهُ . قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ قَتْلَ الصَّيْدِ اسْتِهْلَاكٌ لَا يَعُودُ عَلَى الْآمِرِ بِهِ نَفْعٌ ، فَاخْتُصَّ الْقَاتِلُ الْمُتْلِفُ بِوُجُوبِ الْجَزَاءِ دُونَ الْآمِرِ ، وَالْحَلْقُ اسْتِمْتَاعٌ يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى الْآمِرِ ، فَاخْتُصَّ بِوُجُوبِ الْفِدْيَةِ دُونَ الْحَالِقِ .
مَسْأَلَةٌ لَا بَأْسَ بِالْكُحْلِ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ طِيبٌ فَإِنْ كَانَ فِيهِ طِيبٌ افْتَدَى
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا بَأْسَ بِالْكُحْلِ ، مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ طِيبٌ المحرم ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ طِيبٌ افْتَدَى . أَمَّا الْكُحْلُ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ فِيهِ طِيبٌ ، فَلَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ الِاكْتِحَالُ بِهِ : لِأَجْلِ طِيبِهِ ، فَإِنِ اكْتَحَلَ بِهِ افْتَدَى . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ طِيبٌ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ زِينَةٌ كَالتُّوتِيَا وَالْأَنْزَرُوتِ ، كَانَ لِلْمُحْرِمِ الِاكْتِحَالُ بِهِ إِجْمَاعًا ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ زِينَةٌ وَتَحْسِينٌ ، كَالصَّبْرِ وَالْإِثْمِدِ ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ : أَنَّ الْمُحْرِمَ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ تَرْكُهُ أَفْضَلَ لَهُ ، وَخَاصَّةً الْمَرْأَةَ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِحَاجَةٍ وَلَيْسَ بِمَكْرُوهٍ عَلَى كُلِّ حَالٍ . وَحُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ : أَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ : لِأَنَّ الْإِحْرَامَ عِبَادَةٌ تَمْنَعُ مِنَ الطِّيبِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِنَ الْكُحْلِ ، كَالْعِدَّةِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ : مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ قَالَ : اشْتَكَيْتُ عَيْنِي وَأَنَا مُحْرِمٌ فَسَأَلْتُ أَبَانَ بْنَ عُثْمَانَ ، فَقَالَ : اضْمِدْهُمَا بِالصَّبْرِ ، فَإِنِّي سَمِعْتُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُخْبِرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَمِدَتْ عَيْنُهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ ، فَأَمَرَ أَنْ يُقَطَّرَ الصَّبْرُ فِي عَيْنِهِ إِقْطَارًا وَلِأَنَّ الْكُحْلَ ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ زِينَةً ، أَوْ دَوَاءً وَالْمُحْرِمُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْهُمَا ، فَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْعِدَّةِ فَإِنَّمَا مَنَعَتْ مِنَ الْكُحْلِ : لِأَنَّهَا تَمْنَعُ مِنَ الزِّينَةِ ، وَالْإِحْرَامُ لَا يَمْنَعُ مِنْهَا .
مَسْأَلَةٌ اغْتِسَالُ الْمُحْرِمِ بِالْمَاءِ وَالِانْغِمَاسُ فِيهِ جَائِزٌ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا بَأْسَ بِالِاغْتِسَالِ وَدُخُولِ الْحَمَّامِ اغْتَسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَدَخَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ حَمَّامَ الْجُحْفَةِ فَقَالَ مَا يَعْبَأُ اللَّهُ بِأَوْسَاخِكُمْ شَيْئًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا اغْتِسَالُ الْمُحْرِمِ بِالْمَاءِ وَالِانْغِمَاسُ فِيهِ حكمه ، فَجَائِزٌ ، وَلَا يُعْرَفُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ خِلَافٌ فِيهِ ، لِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ ، اخْتَلَفَا
بِالْأَبْوَاءِ فِي غَسْلِ الْمُحْرِمِ ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَقَالَ الْمِسْوَرُ لَا يَغْسِلُ رَأْسَهُ قَالَ : فَبَعَثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ : لِأَسْأَلَهُ عَنِ اغْتِسَالِ الْمُحْرِمِ ، فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ يَغْتَسِلُ مِنَ الْقَرْنَيْنِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيَّ ، وَقَالَ : مَنْ أَنْتَ فَقُلْتُ : عَبْدُ اللَّهِ بَعَثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ ، أَتَيْتُ إِلَيْكَ لِأَسْأَلَكَ عَنِ اغْتِسَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ ، قَالَ : " فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى ثَوْبٍ مُسْتَتِرًا بِهِ فَطَأْطَأَ حَتَّى بَدَا رَأْسُهُ ثُمَّ أَقْبَلَ بِهِمَا وَقَالَ لِمَنْ كَانَ يَصُبُّ عَلَيْهِ اصْبُبْ فَصَبَّ عَلَيْهِ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ ثُمَّ أَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ ، وَقَالَ هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَنَعَ وَهُوَ مُحْرِمٌ " وَرَوَى يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اغْتَسَلَ إِلَى بَعِيرِهِ وَأَنَا أَسْتُرُهُ بِثَوْبٍ ، فَقَالَ : اصْبُبْ عَلَى رَأْسِي ، فَقُلْتُ : أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَعْلَمُ ، فَقَالَ : وَاللَّهِ مَا يَزِيدُ الْمَاءُ الشَّعْرَ إِلَّا شَعَثًا ، فَسَمَّى اللَّهَ ثُمَّ أَفَاضَ عَلَى رَأْسِهِ رَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : رُبَّمَا قَالَ لِي عُمَرُ : تَعَالَ أُبَاقِيكَ فِي الْمَاءِ ، إِنَّنَا أَطْوَلُ نَفَسًا ، وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ اغْتِسَالِ الْمُحْرِمِ ، فَلَهُ غَسْلُ جَسَدِهِ ، وَدَلْكُهُ ، فَأَمَّا رَأْسُهُ ، فَيَفِيضُ عَلَيْهِ الْمَاءَ ، وَلَا يُدَلِّكُهُ ، لِأَنْ لَا يَسْقُطَ شَيْءٌ مِنْ شَعْرِ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ جُنُبًا ، فَيَغْسِلُهُ بِبُطُونِ أَنَامِلِهِ بِرِفْقٍ ، وَلَا يَحُكُّهُ بِأَظَافِرِهِ ، فَإِنْ حَكَّهُ فَسَقَطَ شَيْءٌ مِنْ شَعْرِهِ ، فَالِاحْتِيَاطُ أَنْ يَفْتَدِيَهُ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَسْتَيْقِنَ أَنَّهُ قَطَعَهُ أَوْ نَتَفَهُ بِفِعْلِهِ فَيَفْتَدِيَ وَاجِبًا .
فَصْلٌ دُخُولُ المحرمُ الْحَمَّامَ وَإِزَالَةُ الْوَسَخِ عَنْ نَفْسِهِ جَائِزٌ
فَصْلٌ : فَأَمَّا دُخُولُهُ الْحَمَّامَ ، وَإِزَالَةُ الْوَسَخِ عَنْ نَفْسِهِ بالنسبة للمحرم فما الحكم ، فَجَائِزٌ نَصًّا ، وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ أَزَالَ الْوَسَخَ عَنْ نَفْسِهِ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْمُحْرِمُ أَشْعَثُ أَغْبَرُ . وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ دَخَلَ حَمَّامَ الْجُحْفَةِ مُحْرِمًا وَقَالَ : مَا يَعْبَأُ اللَّهُ بِأَوْسَاخِكُمْ شَيْئًا . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَيْسَ فِي الْوَسَخِ نُسُكٌ وَلَا أَمَرَ نُهِيَ عَنْهُ وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : الْمُؤْمِنُ نَظِيفٌ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : نِعْمَ الْبَيْتُ يُنَقِّي الدَّرَنَ وَيُذَكِّرُ النَّارَ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا غَسْلُ رَأْسِهِ بِالْخِطْمِيِّ وَالسِّدْرِ ، فَغَيْرُ مُخْتَارٍ لَهُ فَإِنْ فَعَلَهُ فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إِنْ غَسَلَ رَأْسَهُ بِالْخِطْمِيِّ ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ وَهَذَا خَطَأٌ ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُحْرِمٍ وَقَصَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ : اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا ، فَأَمَرَ بِغَسْلِ رَأْسِهِ بِالسِّدْرِ ، وَأَخْبَرَ بِنَقَاءِ إِحْرَامِهِ ، وَالسِّدْرُ وَالْخِطْمِيُّ سَوَاءٌ فَدَلَّ عَلَى سُقُوطِ الْفِدْيَةِ فِيهِ .
مَسْأَلَةٌ لَا بَأْسَ أَنْ يَقْطَعَ الْعِرْقَ وَيَحْتَجِمَ مَا لَمْ يَقْطَعْ شَعْرًا
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا بَأْسَ أَنْ يَقْطَعَ الْعِرْقَ وَيَحْتَجِمَ مَا لَمْ يَقْطَعْ شَعْرًا وَاحْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْرِمًا " .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ مَنَعَ الْمُحْرِمَ مِنَ الْحِجَامَةِ : لِأَنَّهُ يَقْطَعُ الشَّعْرَ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ : ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَمِنَ التَّابِعِينَ الْحَسَنُ وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ الْحِجَامَةِ ، رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ بِالْقَاحَةِ وَهُوَ صَائِمٌ ، مُحْرِمٌ بِالْقَرَنِ . وَرَوَى حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ بِلَحْيِ جَمَلٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ فِي وَسَطِ رَأْسِهِ وَرَوَى جَابِرٌ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ مِنْ وَنًى كَانِ بِهِ " . وَكَذَلِكَ لَا بَأْسَ أَنْ يَفْتَصِدَ وَيَبُطَّ جُرْحًا : لِأَنَّ الْفِصَادَ شُرْطَةٌ مِنْ شِرْطَانِ الْحِجَامَةِ . فَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّ الْحِجَامَةَ تَقْطَعُ الشَّعْرَ . قُلْنَا : إِنْ قَطَعَ الشَّعْرِ ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ .
مَسْأَلَةٌ نِكَاحُ الْمُحْرِمِ وَإِنْكَاحِهِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكَحُ : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ فَإِنْ نَكَحَ أَوْ أَنْكَحَ فَالنِّكَاحُ فَاسِدٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي نِكَاحِ الْمُحْرِمِ وَإِنْكَاحِهِ ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ نِكَاحَهُ وَإِنْكَاحَهُ بَاطِلٌ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ : جَائِزٌ اسْتِدْلَالًا ، بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى : فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [ النِّسَاءِ : ] ، وَقَوْلُهُ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [ النِّسَاءِ : ] ، وَبِرَاوِيَةِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَكَحَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ . وَلِأَنَّهُ قَوْلٌ يُسْتَبَاحُ بِهِ الْبُضْعُ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُمْنَعَ مِنْهُ الْإِحْرَامُ كَالرَّجْعَةِ ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ يُمْلَكُ بِهِ الْبُضْعُ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنَ الْإِحْرَامِ ، كَشِرَاءِ الْإِمَاءِ وَلِأَنَّهُ لَوْ مَنَعَ الْإِحْرَامُ مِنَ ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ ، مُنِعَ مِنَ اسْتَدَامَتِهِ كَاللِّبَاسِ ، فَلَمَّا جَازَ اسْتَدَامَتُهُ ، جَازَ ابْتِدَاؤُهُ . وَلِأَنَّ مَا مُنِعَ مِنْهُ الْإِحْرَامُ ، تَعَلَّقَتْ بِهِ الْفِدْيَةُ ، كَسَائِرِ النَّوَاهِي ، فَلَمَّا لَمْ تَجِبِ الْفِدْيَةُ فِيهِ لَمْ يُمْنَعِ الْإِحْرَامُ مِنْهُ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ نُبَيْهِ بْنِ وَهْبٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ أَرَادَ تَزْوِيجَ ابْنَتِهِ طَلْحَةَ بِنْتِ بْنِ جُبَيْرٍ ، فَبَعَثَ إِلَى أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ وَكَانَ أَمِيرَ الْحَاجِّ وَكَانَا مُحْرِمَيْنِ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَبَانٌ وَقَالَ : سَمِعْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ يَقُولُ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكَحُ " . فَإِنْ قِيلَ : نُبَيْهُ بْنُ وَهْبٍ ضَعِيفٌ قِيلَ : قَدْ رَوَى عَنْهُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ ، وَأَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ ، وَحَسْبُكَ بِهِمَا ، ثُمَّ رَوَى عَنْهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ، وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ ، مِنْ بَعْدِهِمَا عَلَى أَنَّ الْقِصَّةَ مَشْهُورَةٌ ، قَدْ حَكَاهَا عَنْ أَبَانٍ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَغَيْرُهُ .
فَإِنْ قِيلَ : يُحْمَلُ نَهْيُهُ عَلَى الْوَطْءِ دُونَ الْعَقْدِ . قِيلَ : غَيْرُ صَحِيحٍ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ أَبَانَ بْنَ عُثْمَانَ وَمَنْ حَضَرَهُ قَدْ عَقِلُوا مَعْنَاهُ ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْعَقْدُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ قَالَ : " لَا يَنْكِحُ وَلَا يُنْكَحُ " فَلَمْ يَصِحَّ حَمْلُهُ عَلَى الْوَطْءِ : لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُوَطِئُ غَيْرَهُ ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ جَازَ مَا قَالُوا ، لَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى الْعَقْدِ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَعَمُّ لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْأَمْرَيْنِ . الثَّانِي : أَنَّهُ يُعْلَمُ بِهِ حُكْمٌ فَيُسْتَفَادُ ، لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْوَطْءِ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ [ الْبَقَرَةِ : ] ، وَرَوَى عِكْرِمَةُ سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ امْرَأَةٌ تَتَزَوَّجُ وَهِيَ خَارِجَةٌ مِنْ مَكَّةَ : يَعْنِي أَنَّهَا أَحْرَمَتْ وَخَرَجَتْ إِلَى مِنًى فَقَالَ : " لَا يُعْقَلُ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْهُ وَهُنَا نَصٌّ فِي الْعَقْدِ ، وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا يَتَزَوَّجُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُزَوَّجُ . وَهَذَا نَصٌّ أَيْضًا ، وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ ، وَعُثْمَانَ ، وَعَلِيٍّ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَزَيْدِ بْنِ زِيَادٍ ، وَلَيْسَ يُعْرَفُ لَهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ ، وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يَثْبُتُ بِهِ الْفِرَاشُ ، فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ الْإِحْرَامُ ، كَالْوَطْءِ ، وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يَثْبُتُ بِهِ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ الْإِحْرَامُ ، كَالْوَطْءِ ، وَلَا يُنْتَقَضُ بِالرَّضَاعِ ، وَلِأَنَّهُ يَثْبُتُ تَحْرِيمُ النَّسَبِ دُونَ الْمُصَاهَرَةِ ، وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ مَعْنًى يَمْنَعُ مِنَ الْوَطْءِ وَدَوَاعِيهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ مِنَ النِّكَاحِ ، كَالْعِدَّةِ ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ مِنْ دَوَاعِي الْجِمَاعِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِحْرَامُ مَانِعًا مِنْهُ ، كَالطِّيبِ ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ نِكَاحٍ عَلَى مَنْ لَا يَسْتَبِيحُ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا مَعَ الْقُدْرَةِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا كَذَاتِ الْمُحْرِمِ وَالْمُرْتَدِّ . فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِعُمُومِ الْآيَتَيْنِ ، فَمَخْصُوصٌ بِمَا ذَكَرْنَا ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِحَدِيثِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَكَحَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ " فَفِيهِ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الطَّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخْصُوصٌ بِجَوَازِ النِّكَاحِ فِي الْإِحْرَامِ لَمَّا كَانَ مَخْصُوصًا بِغَيْرِهِ فِي الْمَنَاكِحِ . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرَهُ فِي النِّكَاحِ فِي الْإِحْرَامِ سَوَاءٌ ، لَكِنَّ خَبَرَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَاهٍ : لِأَنَّهُ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ ثَلَاثِ طُرُقٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَكَحَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ حَلَالٌ .
فَأَحَدُهُمَا : مَا رَوَاهُ أَيُّوبُ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ : كُتِبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمَيْمُونٌ يَوْمَئِذٍ عَلَى الْجَزِيرَةِ إِذْ سَأَلَ يَزِيدَ بْنَ الْأَصَمِّ ، وَكَانَ ابْنَ أُخْتِ مَيْمُونَةَ كَيْفَ تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَيْمُونَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ ، فَقَالَ تَزَوَّجَهَا حَلَالًا وَبَنَى بِهَا بِسَرِفَ حَلَالًا وَمَاتَتْ بِسَرِفَ فَهُوَ ذَاكَ قَبْرُهَا بِسَرِفَ تَحْتَ السَّقِيفَةِ أَوْ تَحْتَ الْعَقَبَةِ . وَالطَّرِيقُ الثَّانِي : مَا رَوَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْفَذَ أَبَا رَافِعٍ وَرَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ ، وَقِيلَ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ إِلَى مَيْمُونَةَ فَتَزَوَّجَهَا ، وَكَانَتْ جَعَلَتْ أَمْرَهَا إِلَى الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، وَهُوَ زَوْجُ أُخْتِهَا أُمِّ الْفَضْلِ ، فَزَوَّجَهَا ، ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مُعْتَمِرًا فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ الْعَصِيبَةَ ، فَأَخَذَهَا بِمَكَّةَ وَبَنَى بِهَا بِسَرِفَ . وَالطَّرِيقُ الثَّالِثُ : مَا رَوَى مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ قَالَ كُنْتُ جَالِسًا إِلَى عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ ، فَسَمِعْتُهُ يُخْبِرُ رَجُلًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ وَهُوَ حَرَامٌ وَمَلَكَهَا وَهُوَ حَرَامٌ . فَلَمَّا تَصَدَّعَ مَنْ عِنْدَهُ وَحَوْلَهُ ، حَدَّثَهُ حَدِيثَ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ قَالَ : فَانْطَلِقْ بِنَا إِلَى صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ ، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى دَخَلْنَا عَلَيْهَا فَإِذَا عَجُوزٌ كَبِيرٌ ، فَسَأَلَهَا عَطَاءٌ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَتْ : خَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ حَلَالٌ أَوْ نَكَحَهَا وَهُوَ حَلَالٌ وَدَخَلَ بِهَا وَهُوَ حَلَالٌ . فَكَانَتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ أَوْلَى مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِأَنَّ يَزِيدَ بْنَ الْأَصَمِّ ابْنُ أُخْتِهَا ، وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ عَتِيقُهَا ، وَابْنُ عَبَّاسٍ إِذْ ذَاكَ طِفْلٌ لَا يَضْبُطُ مَا شَاهَدَ ، وَلَا يَعِي مَا سَمِعَ ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاتَ وَلِابْنِ عَبَّاسٍ تِسْعُ سِنِينَ ، وَكَانَ تَزْوِيجُ مَيْمُونَةَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثِ سِنِينَ ، عَلَى أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَرَى أَنَّ مَنْ قَلَّ هَدْيُهُ أَوْ أَشْعَرَ صَارَ مُحْرِمًا فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِرِوَايَتِهِ أَنَّهُ نَكَحَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ بَعْدَ تَقْلِيدِ هَدْيِهِ وَإِشْعَارِهِ ، وَقِيلَ عَقَدَ الْإِحْرَامَ عَلَى نَفْسِهِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الرَّجْعَةِ ، فَلَا يَصِحُّ عَلَى أَصْلِهِمْ ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا : اسْتِبَاحَةُ بُضْعٍ ، وَالرَّجْعَةُ غَيْرُ مُحَرَّمَةٍ عِنْدَهُمْ عَلَى أَنَّ الرَّجْعَةَ أَخَفُّ حَالًا مِنِ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ : لِأَنَّهُ اسْتِصْلَاحُ خَلَلٍ فِي الْعَقْدِ ، أَلَا تَرَاهُ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى وَلِيٍّ وَلَا إِلَى إِيجَابٍ وَقَبُولٍ وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى شِرَاءِ الْإِمَاءِ ، فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ ، الِاسْتِمْتَاعَ ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مِنْهُ التِّجَارَةُ وَطَلَبُ الرِّبْحِ أَوِ الِاسْتِخْدَامُ فَلِذَلِكَ جَازَ شِرَاءُ مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ مِنْ أَخَوَاتِهِ وَعَمَّاتِهِ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ الْإِحْرَامُ : لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ مِنْ مَقْصُودِهِ وَعَقْدُ النِّكَاحِ مَقْصُودُهُ الِاسْتِمْتَاعُ فَمَنَعَ مِنْهُ الْإِحْرَامُ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ مَقْصُودِهِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّ مَا مَنَعَ الْإِحْرَامُ مِنَ ابْتِدَائِهِ مَنَعَ مِنَ اسْتَدَامَتِهِ ، فَبَاطِلٌ بِالطِّيبِ : لِأَنَّ الْإِحْرَامَ يَمْنَعُ مِنَ ابْتِدَائِهِ وَلَا يَمْنَعُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مِنِ اسْتَدَامَتِهِ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّ مَا مَنَعَ مِنْهُ الْإِحْرَامُ تُعَلَّقُ بِهِ الْفِدْيَةُ ، فَبَاطِلٌ بِالصَّيْدِ : لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ قَتْلِهِ
وَمِنْ تَمَلُّكِهِ وَلَوْ تَمَلَّكَهُ لَمْ يَفْتَدِ عَلَى أَنَّ الْفِدْيَةَ إِنَّمَا تَجِبُ فِي الْحَجِّ ، إِمَّا بِإِتْلَافٍ أَوْ تَرْفِيهٍ ، وَالنِّكَاحُ لَيْسَ بِثَابِتٍ ، فَيَحْصُلُ فِيهِ إِتْلَافٌ أَوْ تَرْفِيهٌ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ نِكَاحَ الْمُحْرِمِ لَا يَصِحُّ ، فَسَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ مُحْرِمًا ، أَوِ الزَّوْجَةُ ، أَوِ الْوَلِيُّ ، فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ . وَقَالَ مَالِكٌ : هُوَ فَاسِدٌ يُفْسَخُ بِطَلْقَةٍ . وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ الطَّلَاقَ حُكْمٌ يَخْتَصُّ بِالنِّكَاحِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَقَعَ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ ، كَالظِّهَارِ وَاللِّعَانِ ، وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ النِّكَاحُ صَحِيحًا ، فَلَا مَعْنَى لِإِجْبَارِهِ عَلَى الطَّلَاقِ ، أَوْ فَاسِدًا فَلَا مَعْنَى فِيهِ لِلطَّلَاقِ .
فَصْلٌ : إِذَا وَكَّلَ الرَّجُلُ الْمُحْرِمُ حَلَالًا ، فَزَوَّجَهُ فِي حَالِ إِحْرَامِهِ فما الحكم ، كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا : لِأَنَّ وَكِيلَهُ نَائِبٌ عَنْهُ ، وَهُوَ لِأَجْلِ إِحْرَامِهِ لَا يَصِحُّ نِكَاحُهُ ، فَكَذَلِكَ وَكِيلُهُ . وَكَذَا لَوْ وَكَّلَ الْحَلَالُ مُحْرِمًا ، فَزَوَّجَهُ فِي حَالِ إِحْرَامِهِ فما الحكم ، كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا ، لِأَنَّهُ قَدْ أَقَامَ وَكِيلَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ . وَكَذَا لَوْ كَانَتِ الْوِكَالَةُ مِنْ جِهَةِ الْوَلِيِّ ، وَكَانَ الْوَلِيُّ أَوْ وَكِيلُهُ مُحْرِمًا ، كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا .
فَصْلٌ : إِذَا كَانَ شَاهِدُ النِّكَاحِ مُحْرِمًا فما الحكم ، كَانَ النِّكَاحُ جَائِزًا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ النِّكَاحُ غَيْرُ جَائِزٍ . " وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكَحُ وَلَا يَشْهَدُ " . قَالَ : وَلِأَنَّهُ شَرْطٌ فِي النِّكَاحِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مُحْرِمًا كَالْوَلِيِّ ، وَهَذَا غَلَطٌ ، أَمَّا الْخَبَرُ فَغَيْرُ ثَابِتٍ فِي الشُّهُودِ وَأَمَّا الْوَلِيُّ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّاهِدِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الْوَلِيُّ يَتَعَيَّنُ فِي النِّكَاحِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مُحْرِمًا كَالزَّوْجِ ، وَالشَّاهِدُ لَا يَتَعَيَّنُ فِي النِّكَاحِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مُحْرِمًا كَالْخَاطِبِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْوَلِيَّ لَهُ فِعْلٌ فِي النِّكَاحِ كَالزَّوْجِ ، وَالشَّاهِدُ لَا فِعْلَ لَهُ كَالْخَاطِبِ .
فَصْلٌ : فَلَوْ وَكَّلَ الْمُحْرِمُ حَلَالًا فِي التَّزْوِيجِ ، فَزَوَّجَهُ الْوَكِيلُ بَعْدَ إِحْلَالِهِ فما الحكم ، قَالَ الشَّافِعِيُّ نَصًّا فِي الْأُمِّ : صَحَّ النِّكَاحُ : لِأَنَّهُ تَوَلَّى عَقْدَهُ وَكِيلٌ حَلَالٌ لِمُوَكِّلٍ حَلَالٍ ، وَإِنَّمَا كَانَ الْمُوَكِّلُ مُحْرِمًا حَالَ الْإِذْنِ ، وَالِاعْتِبَارُ بِحَالِ الْعَقْدِ لَا حَالِ الْإِذْنِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ إِذْنِ الْمُحْرِمِ فِي التَّزْوِيجِ ، فَيُزَوَّجُ بَعْدَ إِحْلَالِهِ ، فَيَجُوزُ ، وَبَيْنَ إِذْنِ الصَّبِيِّ فِي التَّزْوِيجِ ، فَيُزَوَّجُ بَعْدَ بُلُوغِهِ ، فَلَا يَجُوزُ : لِأَنَّ الصَّبِيَّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْإِذْنِ ، وَالْمُحْرِمُ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْإِذْنِ .
فَصْلٌ : إِذَا كَانَ الْإِمَامُ أَوْ قَاضِي الْبَلَدِ مُحْرِمًا ، فَهَلْ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ فِي حَالِ إِحْرَامِهِ بِوِلَايَتِهِ الْحُكْمَ ، عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ لِأَصْحَابِنَا : أَحَدُهَا : لَا يَجُوزُ كَالْوَالِي الْخَاصِّ ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكَحُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ لَهُمَا ذَلِكَ ، كَمَا يَجُوزُ لَهُمَا بِوِلَايَةِ الْحُكْمِ تَزْوِيجُ الْكَافِرَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْوَلِيِّ الْخَاصِّ ذَلِكَ .
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ ، وَلَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي : لِأَنَّ وِلَايَةَ الْإِمَامِ أَعَمُّ ، وَجَمِيعَ الْقُضَاةِ خُلَفَاؤُهُ ، وَفِي مَنْعِهِ عَنْ ذَلِكَ ذَرِيعَةٌ إِلَى مَنْعِ سَائِرِ خُلَفَائِهِ .
فَصْلٌ : إِذَا كَانَ الْمُحْرِمُ خَاطِبًا فِي النِّكَاحِ جَازَ ، وَإِنْ لَمْ يُسْتَحَبَّ لَهُ ذَلِكَ ، وَيُكْرَهُ لِلْمُحِلِّ أَنْ يَخْطُبَ مُحْرِمَةً لِيَتَزَوَّجَهَا بَعْدَ إِحْلَالِهَا ، كَمَا يُكْرَهُ لَهُ خِطْبَةُ الْمُعْتَدَّةِ لِتَزْوِيجِهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا ، وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ خِطْبَةُ الْمُحْرِمَةِ للمحرم ( حكمها ) ، كَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ خِطْبَةُ الْمُعْتَدَّةِ للمحرم ( حكمها ) ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ إِحْلَالَ الْمُحْرِمَةِ مِنْ فِعْلِهَا يُمْكِنُهَا تَعْجِيلُهُ ، وَالْعِدَّةُ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهَا ، فَرُبَّمَا عَلَيْهَا شِدَّةُ الْمَيْلِ إِلَيْهِ عَلَى الْإِخْبَارِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ قَبْلَ الْأَجَلِ لِتَتَعَجَّلَ تَزْوِيجَهُ .
فَصْلٌ : إِذَا تَزَوَّجَ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ ثُمَّ اخْتَلَفَا ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا عَقَدْنَا النِّكَاحَ ، وَأَحَدُنَا مُحْرِمٌ ، وَقَالَ الْآخَرُ عَقَدْنَاهُ وَنَحْنُ حَلَالَانِ فما الحكم ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنِ ادَّعَى عَقْدَهُ وَهُمَا حَلَالَانِ مَعَ يَمِينِهِ : لِأَنَّ النِّكَاحَ قَدْ ظَهَرَ صَحِيحًا ، وَحُدُوثُ الْإِحْرَامِ مُجَوَّزٌ ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي مُدَّعِي الْإِحْرَامِ ، فَإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ مُدَّعِيَةً ، فَالنِّكَاحُ ثَابِتٌ وَهُمَا عَلَى الزَّوْجِيَّةِ ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ مُدَّعِيَهُ ، حَرُمَتْ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ ، لِأَنَّهُ يَمْلِكُ النَّسْخَ ، وَهُوَ مُقِرٌّ بِهِ ، لَكِنَّ عَلَيْهِ الْمَهْرَ ، إِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَنِصْفُهُ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَجَمِيعُهُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا بَأْسَ أَنْ يُرَاجِعَ امْرَأَتَهُ إِذَا طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً ، مَا لَمْ تَنْقَضِ الْعِدَّةُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : هَذَا كَمَا قَالَ يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يُرَاجِعَ زَوْجَتَهُ ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ لَا يَجُوزُ : لِأَنَّهُ اسْتِبَاحَةُ بُضْعٍ مَقْصُودٍ فِي عَيْنِهِ كَالنِّكَاحِ ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ : لِأَنَّ الرَّجْعَةَ لَيْسَتْ عَقْدًا ابْتِدَاءً ، وَإِنَّمَا هِيَ اسْتِصْلَاحُ خَلَلٍ فِيهِ ، وَرَفْعُ تَحْرِيمٍ طَرَأَ عَلَيْهِ ، يَرْتَفِعُ بِالرَّجْعَةِ مَعَ حُصُولِ الْعَقْدِ ، كَمَا أَنَّ الظِّهَارَ وَالْعَوْدَةَ ، قَدْ أَوْقَعَا فِي الزَّوْجِيَّةِ تَحْرِيمًا يَرْفَعُهُ التَّكْفِيرُ ، وَلَمْ يَكُنِ الْمُحْرِمُ الْمُظَاهِرُ مَمْنُوعًا مِنَ التَّكْفِيرِ الَّذِي يَرْتَفِعُ بِهِ مَا طَرَأَ عَلَى الْعَقْدِ مِنَ التَّحْرِيمِ ، فَأَمَّا النِّكَاحُ ، فَمُفَارِقٌ لَهُ : لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ عَقْدٍ مُفْتَقِرٍ إِلَى وَلِيٍّ ، وَشُهُودٍ ، وَرِضًا ، وَبَذْلٍ ، وَقَبُولٍ وَالرَّجْعَةُ لَا تَفْتَقِرُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ .
مَسْأَلَةٌ لُبْسُ الْمِنْطَقَةِ لِلْمُحْرِمِ جَائِزٌ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيَلْبَسُ الْمُحْرِمُ الْمِنْطَقَةَ لِلنَّفَقَةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ لُبْسُ الْمِنْطَقَةِ لِلْمُحْرِمِ حكمه جَائِزٌ احْتَاجَ إِلَى لُبْسِهَا ، أَوْ لَمْ يَحْتَجْ ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَدَّ فِي وَسَطِهِ حَبْلًا ، أَوِ احْتَزَمَ بِعِمَامَةٍ . وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا مِنْ حَاجَةٍ مَاسَّةٍ احْتِجَاجًا بِرِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا مُحْتَزِمًا بِحَبْلٍ أَبْرَقَ فَقَالَ : انْزَعِ الْحَبْلَ مَرَّتَيْنِ وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِهِ : مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَهٍ كَانَ يَحْتَزِمُ لِإِحْرَامِهِ . وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ الْمُحْرِمِ هَلْ يَشُدُّ الْهِمْيَانَ عَلَى وَسَطِهِ ؟ فَقَالَتْ : نَعَمْ وَيَسْتَوْثِقُ مِنْ نَفَقَتِهِ . وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ . وَلَيْسَ يُعْرَفُ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ ، فَكَانَ إِجْمَاعًا ، وَلِأَنَّ مَا مُنِعَ الْمُحْرِمُ مِنْ لِبَاسِهِ ، وَجَبَتِ الْفِدْيَةُ فِيهِ ، فَمَا لَمْ تَجِبِ الْفِدْيَةُ فِيهِ ، لَمْ يَكُنْ مُتَبَرِّعًا مِنْهُ ، وَأَمَّا الْخَبَرُ فَمُرْسَلٌ ، وَإِنْ صَحَّ كَانَ مَحْمُولًا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ .
مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَسْتَظِلَّ سَائِرًا وَنَازِلًا
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيَسْتَظِلُّ الْمُحْرِمُ فِي الْمَحْمَلِ ، وَنَازِلًا فِي الْأَرْضِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَسْتَظِلَّ سَائِرًا وَنَازِلًا ، وَقَالَ مَالِكٌ يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَسْتَظِلَّ نَازِلًا ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَظِلَّ سَائِرًا ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا يَطْلُبُ الْفَيَافِيَ وَالظِّلَّ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَضْحِ لِمَنْ أَحْرَمْتَ لَهُ أَيِ اخْرُجْ إِلَى الشَّمْسِ لِأَنَّ الضِّحَّ الشَّمْسُ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ رِوَايَةُ يَحْيَى بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ أُمِّ الْحُصَيْنِ قَالَتْ : حَجَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ فَرَأَيْتُ أُسَامَةَ وَبِلَالًا أَحَدُهُمَا آخِذٌ بِخِطَامِ نَاقَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْآخَرُ يَسْتُرُهُ مِنَ الْحَرِّ حَتَى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنَ الْحُمْسِ مِنْ قُرَيْشٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يُشَدِّدُونَ فِي ذَلِكَ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ ، حَتَّى كَانُوا إِذَا رَأَوْا دُخُولَ دَارٍ أَتَوُا الْجِدَارَ وَلَمْ يَدْخُلُوا الْبَابَ ، وَيَرَوْنَ ذَلِكَ عِبَادَةً وَبِرًّا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالِي : وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا [ الْبَقَرَةِ : ] ، فَكَانَتِ الْإِبَاحَةُ فِي ذَلِكَ عَامَّةً ، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدِيمًا فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ وَفِيمَا يَلِيهِ مِنَ الْأَعْصَارِ لَمْ يَزَالُوا يُحْرِمُونَ وَهُمْ فِي الْعَمَّارِيَّاتِ وَالْقِبَابِ ، لَا يَتَنَاكَرُونَ ذَلِكَ وَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِمْ ، فَثَبَتَ أَنَّهُ إِجْمَاعُ أَهْلِ الْأَعْصَارِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا جَازَ أَنْ يَسْتَظِلَّ بِهِ الْمُحْرِمُ نَازِلًا جَازَ أَنْ يَسْتَظِلَّ بِهِ سَائِرًا كَالْيَدَيْنِ ، فَأَمَّا قَوْلُهُ : أَضْحِ لِمَنْ أَحْرَمْتَ لَهُ ، فَفِيهِ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ نَهَاهُ عَنْ تَغْطِيَةِ رَأْسِهِ ، وَلَمْ يَنْهَهُ عَنِ الِاسْتِظْلَالِ . وَالثَّانِي : أَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِحْبَابِ ، لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضُرِبَتْ لَهُ قُبَّةٌ بِبَطْنِ نَمِرَةَ فَدَخَلَهَا وَاسْتَظَلَّ ، وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا وَافَى عَرَفَةَ أَقَامَ فِي لَحْفِ الْجَبَلِ
قَدْ ظُلِّلَ عَلَى رَأْسِهِ بِثَوْبٍ مِنَ الشَّمْسِ إِلَى أَنْ زَالَتِ الشَّمْسُ وَحَانَتِ الصَّلَاةُ ، فَدَلَّ أَنَّ نَهْيَهُ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِحْبَابِ لَا عَلَى طَرِيقِ التَّحْرِيمِ . فَإِنْ قِيلَ : فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ نَازِلًا . قِيلَ : وَنَهْيُهُ إِنَّمَا كَانَ لِمُحْرِمٍ نَازِلٍ .
فَصْلٌ لَا بَأْسَ لِلْمُحْرِمِ وَالْمُحْرِمَةِ أَنْ يَنْظُرَا فِي الْمِرْآةِ لِحَاجَةٍ وَغَيْرِ حَاجَةٍ
فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَا بَأْسَ لِلْمُحْرِمِ وَالْمُحْرِمَةِ أَنْ يَنْظُرَا فِي الْمِرْآةِ لِحَاجَةٍ وَغَيْرِ حَاجَةٍ هل يجوز للمحرم أم لا ، وَحُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ أَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ لِحَاجَةٍ وَغَيْرِ حَاجَةٍ ، وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ إِلَّا لِحَاجَةٍ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا : مَا رُوِيَ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْظُرُ فِي الْمِرْآةِ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
بَابُ دُخُولِ مَكَّةَ
مِنَ السُّنَّةِ لِمَنْ أَرَادَ دُخُولَ مَكَّةَ لِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَنْ يَغْتَسِلَ لِدُخُولِهَا مِنْ بَيْنِ ذِي طُوًى إِذَا كَانَ طَرِيقُهُ عَلَيْهَا
بَابُ دُخُولِ مَكَّةَ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَأُحِبُّ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَغْتَسِلَ مِنْ ذِي طُوًى لِدُخُولِ مَكَّةَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ مِنَ السُّنَّةِ لِمَنْ أَرَادَ دُخُولَ مَكَّةَ لِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ ما الذي يسن له ، أَنْ يَغْتَسِلَ لِدُخُولِهَا مِنْ بَيْنِ ذِي طُوًى ، إِذَا كَانَ طَرِيقُهُ عَلَيْهَا . لِرِوَايَةِ عَائِشَةَ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَرَادَ دُخُولَ مَكَّةَ اغْتَسَلَ بِذِي طُوًى " . وَلِأَنَّهُ يَدْخُلُ إِلَى مَجْمَعِ النَّاسِ لِأَدَاءِ عِبَادَتِهِمْ ، وَاسْتَحَبَّ لَهُ الْغُسْلَ كَالْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ ، فَإِنْ كَانَ طَرِيقُهُ عَلَى غَيْرِ ذِي طُوًى ، اغْتَسَلَ مِنْ حَيْثُ وَرَدَ مِنْ طَرِيقِهِ لِدُخُولِ مَكَّةَ ، لِأَنَّ الْغَرَضَ الِاغْتِسَالُ لَا الْبُقْعَةُ ، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَغْتَسِلُ لِدُخوِلِ مَكَّةَ مِنْ بِئْرِ مَيْمُونٍ : لِأَنَّ طَرِيقَهُ كَانَ عَلَيْهَا ، وَإِنَّمَا اسْتَحَبَّ الشَّافِعِيُّ بَيْنَ ذَوِي طُوًى ، اتِّبَاعًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ سَلَكَ طَرِيقَهُ ، وَقِيلَ : سُمِّيَتْ ذِي طُوًى ، لِبِئْرٍ بِهَا كَانَتْ مَطْوِيَّةً بِالْحِجَارَةِ ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ غَيْرُهَا ، فَنُسِبَ الْوَادِي إِلَيْهَا ، فَأَمَّا مَنْ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ لِيُحْرِمَ بِعُمْرَةٍ ، فَاغْتَسَلَ لِإِحْرَامِهِ ، ثُمَّ أَرَادَ دُخُولَ مَكَّةَ ، نُظِرَ ، فَإِنْ أَحْرَمَ مِنْ مَوْضِعٍ بَعِيدٍ عَنْ مَكَّةَ كَالْجِعْرَانَةِ وَالْحُدَيْبِيَةِ ، فَنَخْتَارُ أَنْ يَغْتَسِلَ ثَانِيَةً لِدُخُولِهِ مَكَّةَ ، كَمَا قُلْنَا فِي الدَّاخِلِ إِلَيْهَا مِنْ غَيْرِهَا ، وَإِنْ أَحْرَمَ مِنْ مَوْضِعٍ يَقْرُبُ مِنْ مَكَّةَ كَالتَّنْعِيمِ أَوْ أَدْنَى الْحِلِّ ، لَمْ يَغْتَسِلْ ثَانِيَةً : لِأَنَّ الْغُسْلَ إِنَّمَا يُرَادُ لِلتَّنْظِيفِ وَإِزَالَةِ الْوَسَخِ عِنْدَ دُخُولِهِ ، وَهُوَ بَاقٍ فِي النَّظَافَةِ بِغُسْلِهِ الْمُتَقَدِّمِ ، مَعَ قُرْبِ الزَّمَانَيْنِ وَدُنُوِّ الْمَسَافَةِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْحَائِضُ هل عليها أن تغتسل لدخول مكة ، فَهِيَ كَالطَّاهِرِ ، مَأْمُورَةٌ بِالْغُسْلِ لِدُخُولِ مَكَّةَ : لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَسْمَاءَ بِالْغُسْلِ وَكَانَتْ نُفَسَاءَ ، وَقَالَ : الْحَائِضُ تَفْعَلُ مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنَّهَا لَا تَطُوفُ بِالْبَيْتِ . فَإِنْ قِيلَ : فَأَسْمَاءُ إِنَّمَا أَمَرَهَا بِالْغُسْلِ لِلْإِحْرَامِ . قِيلَ : مَنْ أُمِرَ بِالْغُسْلِ لِلْإِحْرَامِ ، أُمِرَ بِالْغُسْلِ لِدُخُولِ مَكَّةَ كَالطَّاهِرِ ، وَلِأَنَّهُ غُسْلٌ قُصِدَ بِهِ تَنْظِيفُ الْجَسَدِ ، لَا رَفْعُ الْحَدَثِ ، فَاسْتَوَى فِيهِ الْحَائِضُ وَالطَّاهِرُ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْغُسْلَ لِدُخُولِ