كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي
أَحَدُهُمَا : أَنْ يُصَدِّقَهُ عَلَى التَّوْكِيلِ فَيَكُونُ قَوْلُ الْوَكِيلِ فِي هَذَا مَقْبُولًا عَلَى رَبِّ الْوَدِيعَةِ فِي رَدِّهَا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ صَارَ وَكِيلًا لَهُ وَقَوْلُ الْوَكِيلِ مَقْبُولٌ عَلَى مُوَكِّلِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يُكَذِّبَهُ فِي التَّوْكِيلِ مَعَ اعْتِرَافِهِ بِالْإِذْنِ فِيهِ ، فَهَلْ يُقْبَلُ قَوْلُ الْمُودَعِ فِي الْوَكَالَةِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُقْبَلُ قَوْلُهُ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ مِنْ جِهَتِهِ فَعَلَى هَذَا تَصِحُّ وَكَالَةُ الْوَكِيلِ عَنْ رَبِّ الْوَدِيعَةِ وَيَصِيرُ قَوْلُ الْوَكِيلِ مَقْبُولًا عَلَيْهِ فِي الرَّدِّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ قَوْلَ الْمُودَعِ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي الْوَكَالَةِ لِأَنَّهُ مُدَّعٍ عَقْدَ تَوْكِيلٍ عَلَى غَيْرِهِ ، فَعَلَى هَذَا لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ فِي الرَّدِّ وَيَصِيرُ الْمُودَعُ ضَامِنًا ، وَلَيْسَ لَهُ إِذَا غَرِمَ الْوَدِيعَةَ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الْوَكِيلِ لِأَنَّ الْمُودَعَ مُفَرِّطٌ بِتَرْكِ الْإِشْهَادِ فِي التَّوْكِيلِ فَصَارَ ضَامِنًا لِتَفْرِيطِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ .
فَصْلٌ : الْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَدِيعَةً لِلْمُوَكِّلِ وَيَأْمُرَ وَكَيْلَهُ بِإِيدَاعِهَا عِنْدَ رَجُلٍ فَيَدَّعِيَ الْوَكِيلُ تَسْلِيمَهَا إِلَيْهِ فَيُكَذَّبَ فِي دَعْوَاهُ فَلَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُكَذِّبَهُ الْمَالِكُ الْمُوَكِّلُ فِي الدَّفْعِ ، وَيُكَذِّبَهُ الْمُودَعُ فِي الْقَبْضِ فَفِيهِ وَجْهَانِ مِنَ اخْتِلَافِهِمْ فِي وُجُوبِ الْإِشْهَادِ عَلَيْهِ عِنْدَ الدَّفْعِ : أَحَدُهُمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِشْهَادُ كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْوَكِيلُ بِتُرْكِ الْإِشْهَادِ مُفَرِّطًا ، وَقَوْلُهُ فِي الدَّفْعِ بَعْدَ ضَمَانِهِ بِالتَّفْرِيطِ غَيْرُ مَقْبُولٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْإِشْهَادَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي دَفْعِ الْوَدِيعَةِ لِأَنَّ الْمُودَعَ عِنْدَهُ لَوِ ادَّعَى تَلَفَهَا بَعْدَ الْإِشْهَادِ عَلَيْهِ كَانَ مَقْبُولَ الْقَوْلِ فِيهِ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ مُفَرِّطًا ، وَقَوْلُهُ فِي الدَّفْعِ مَقْبُولٌ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يُصَدِّقَهُ الْمَالِكُ الْمُوَكِّلُ وَيُكَذِّبَهُ الْمُودَعُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْوَكِيلِ ، وَقَوْلُهُ بِتَصْدِيقِ الْمُوَكِّلِ مَقْبُولٌ عَلَيْهِ فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ عَنْهُ وَغَيْرُ مَقْبُولٍ عَلَى الْمُودَعِ ، فَإِذَا حَلَفَ الْمُودَعُ مَا تَسَلَّمَ مِنْهُ الْوَدِيعَةَ بَرِئَ مِنَ الدَّعْوَى . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يُصَدِّقَهُ الْمُودَعُ عَلَى قَبْضِهَا مِنْهُ ، وَيَدَّعِيَ تَلَفَهَا وَيُكَذِّبَهُ الْمَالِكُ الْمُوَكِّلُ ، فَقَوْلُ الْوَكِيلِ مَقْبُولٌ ، وَهُوَ مِنْ ضَمَانِهَا بَرِيءٌ لِأَنَّ إِقْرَارَ الْمُودَعِ بِالْقَبْضِ أَقْوَى مِنَ الْإِشْهَادِ عَلَيْهِ ، فَلَمَّا بَرِئَ بِالْإِشْهَادِ عَلَيْهِ فَأَوْلَى أَنْ يَبْرَأَ بِالْإِقْرَارِ . فَصْلٌ : فَأَمَّا وَلِيُّ الطِّفْلِ فِيمَا يَدَّعِيهِ عَلَيْهِ مِنْ مَالٍ صَرَفَهُ إِلَيْهِ فَلَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ أَبًا أَوْ أَمِينَ حَاكِمٍ أَوْ وَصِيَّ أَبٍ ، فَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ أَبًا يَلِي بِنَفْسِهِ فَهُوَ
مَقْبُولُ الْقَوْلِ عَلَى وَلَدِهِ إِذَا بَلَغَ رَشِيدًا فِيمَا أَنْفَقَهُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ ، وَفِيمَا دَفَعَهُ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ عَنْهُ ، فَكَانَ بِقَبُولِ قَوْلِهِ عَلَى وَلَدِهِ أَوْلَى مِنْ وَكِيلِ الْحَيِّ . وَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ أَمِينَ حَاكِمٍ فَقَوْلُهُ فِيمَا أَنْفَقَهُ عَلَيْهِ مَقْبُولٌ ، وَفِيمَا رَدَّهُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ لِمَا نُدِبَ إِلَيْهِ مِنَ الْإِشْهَادِ عَلَيْهِ . وَقَالَ ابْنُ الْمَرْزُبَانِ مِنْ أَصْحَابِنَا الْبَغْدَادِيِّينَ : إِنَّ قَوْلَهُ فِي رَدِّ مَالِهِ عَلَيْهِ مَقْبُولٌ كَقَبُولِهِ فِي النَّفَقَةِ ، وَهَذَا خَطَأٌ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّفَقَةِ وَرَدِّ الْمَالِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ النَّفَقَةَ عَلَيْهِ فِي حَالِ الصِّغَرِ وَحِينَ الْوَلَايَةِ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهَا وَرَدَّ مَالِهِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالرُّشْدِ فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِيهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْإِشْهَادَ عَلَى النَّفَقَةِ مُتَعَذِّرٌ ، فَكَانَ قَوْلُهُ فِيهَا مَقْبُولًا ، وَالْإِشْهَادُ عَلَى رَدِّ الْمَالِ مُمْكِنٌ فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِيهِ ، وَهَكَذَا حَالُ وَلِيِّ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِالسَّفَهِ يَسْتَوِي فِيهِ مَالُ الْأَبِ وَوَلِيِّ الْحَاكِمِ ، يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي النَّفَقَةِ وَلَا يُقْبَلُ فِي رَدِّ الْمَالِ بَعْدَ الرُّشْدِ . وَإِنْ كَانَ وَلِيُّ الطِّفْلِ وَصِيًّا فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبَى هُرَيْرَةَ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ كَأَمِينِ الْحَاكِمِ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي النَّفَقَةِ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي رَدِّ الْمَالِ لِأَنَّ وَلَايَتَهُ بِغَيْرِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ كَالْأَبِ مَقْبُولُ الْقَوْلِ فِي النَّفَقَةِ وَرَدِّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ الْأَبَ قَدْ أَقَامَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ ، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ أَمِينَ الْحَاكِمِ قَائِمٌ مَقَامَ الْحَاكِمِ وَقَوْلَهُ فِي رَدِّ الْمَالِ غَيْرُ مَقْبُولٍ بِخِلَافِ الْحَاكِمِ فَكَذَا الْوَصِيُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ لَوْ جَعَلَ لِلْوَكِيلِ فِيمَا وَكَّلَهُ جُعْلًا
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَلَوْ جَعَلَ لِلْوَكِيلِ فِيمَا وَكَّلَهُ جُعْلًا فَقَالَ لِلْمُوَكِّلِ : جُعْلِي قِبَلَكَ وَقَدْ دَفَعْتُ إِلَيْكَ مَالَكَ فَقَالَ بَلْ خُنْتَنِي فَالْجُعْلُ مَضْمُونٌ لَا تُبَرِّئُهُ مِنْهُ دَعْوَاهُ الْخِيَانَةَ عَلَيْهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَكَالَةَ تَجُوزُ بِجُعْلِ وَبِغَيْرِ جُعْلٍ وَلَا يَصِحُّ الْجُعْلُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا ، فَلَوْ قَالَ : قَدْ وَكَّلْتُكَ فِي بَيْعِ هَذَا الثَّوْبِ عَلَى أَنَّ جُعْلَكَ عُشْرُ ثَمَنِهِ أَوْ مِنْ كُلِّ مِائَةِ دِرْهَمٍ فِي ثَمَنِهِ دِرْهَمٌ لَمْ يَصِحَّ لِلْجَهْلِ بِمَبْلَغِ الثَّمَنِ وَلَهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ . فَلَوْ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ ثَوْبٍ بِجُعْلٍ مَعْلُومٍ فَبَاعَهُ بَيْعًا فَاسِدًا فَلَا جُعْلَ لَهُ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْإِذْنِ بِالْبَيْعِ يَقْتَضِي مَا صَحَّ مِنْهُ ، فَصَارَ الْفَاسِدُ غَيْرَ مَأْذُونٍ فِيهِ فَلَمْ يَسْتَحِقَّ جُعْلًا عَلَيْهِ .
فَلَوْ بَاعَهُ بَيْعًا صَحِيحًا وَقَبَضَ ثَمَنَهُ وَتَلِفَ الثَّمَنُ فِي يَدِهِ فَلَهُ الْأُجْرَةُ لِوُجُودِ الْعَمَلِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الصَّانِعِ إِذَا اسْتُؤْجِرَ عَلَى خِيَاطَةِ ثَوْبٍ أَوْ قُصَارَتِهِ فَتَلِفَ فِي يَدِهِ بَعْدَ عَمَلِهِ فَلَا أُجْرَةَ لَهُ إِنْ كَانَ مُشْتَرَكًا . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْأَجِيرِ تَسْلِيمُهُ الْعَمَلَ الْمُسْتَحَقَّ فِي مُقَابَلَةِ الْعِوَضِ فَمَا لَمْ يَحْصُلِ التَّسْلِيمُ لَمْ يَجِبْ مَا فِي مُقَابَلَتِهِ مِنَ الْعِوَضِ . وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْوَكِيلِ وُجُودُ الْعَمَلِ الْمَأْذُونِ فِيهِ ، فَلَوْ بَاعَ الْوَكِيلُ الثَّوْبَ فَتَلِفَ الثَّوْبُ فِي يَدِهِ قَبْلَ تَسْلِيمِهِ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ بَطَلَ الْبَيْعُ وَلَمْ يَبْطُلْ جُعْلُ الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّ بُطْلَانَهُ بِمَعْنًى حَادِثٍ بَعْدَ صِحَّتِهِ فَصَارَ بِالْعَمَلِ مَوْجُودًا مِنْهُ وَكَانَ بِخِلَافِ وُقُوعِ الْبَيْعِ فَاسِدًا . فَلَوْ سَلَّمَ الثَّوْبَ إِلَى مُشْتَرِيهِ وَقَبَضَ ثَمَنَهُ فَتَلِفَ فِي يَدِهِ ثُمَّ اسْتَحَقَّ الثَّوْبَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي الوكيل كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا وَلِلْوَكِيلِ جُعْلُهُ لِأَنَّ بُطْلَانَهُ لَيْسَ مِنْ جِهَةِ الْوَكِيلِ ، فَصَارَ مَقْصُودُهُ بِالْإِذْنِ مُجَرَّدَ الْعَمَلِ عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ دُونَ الصِّحَّةِ وَقَدْ وَجَدَ مِنَ الْوَكِيلِ ذَلِكَ الْعَمَلَ . أَمَّا رُجُوعُ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ بِالْوَكَالَةِ فَلَهُ الرُّجُوعُ عَلَى الْوَكِيلِ ، وَيَرْجِعُ الْوَكِيلُ بِهِ عَلَى الْمُوَكِّلِ ، وَإِنْ عَلِمَ بِالْوَكَالَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ ذَكَرَهُ فِي جَامِعِهِ : أَنَّهُ يُرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُوَكِّلَ دُونَ الْوَكِيلِ : لِأَنَّهُ مَبِيعٌ عَلَيْهِ كَالْمَبِيعِ عَلَى الْمُفْلِسِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى مَنْ شَاءَ مِنَ الْمُوَكِّلِ وَالْوَكِيلِ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْعَقْدِ تَأْثِيرًا .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا مِنْ جَوَازِ الْوَكَالَةِ بِالْجُعْلِ وَاسْتِحْقَاقِهِ بَعْدَ الْعَمَلِ فَطَالَبَ الْوَكِيلُ الْمُوَكِّلَ بِجُعْلِهِ وَاسْتِحْقَاقِهِ بَعْدَ الْعَمَلِ وَادَّعَى أَنَّهُ قَدْ بَاعَ مَا وُكِّلَ فِي بَيْعِهِ وَأَنَّهُ قَدْ رَدَّ ثَمَنَهُ عَلَى مُوَكِّلِهِ فَلِلْمُوَكِّلِ حَالَتَانِ : حَالَةٌ يُنْكِرُ الْعَمَلَ الَّذِي ادَّعَاهُ مِنَ الْبَيْعِ وَقَبْضِ الثَّمَنِ . وَحَالَةٌ يَعْتَرِفُ بِهِ . فَإِنْ أَنْكَرَ الْمُوَكِّلُ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ، وَلَا جُعْلَ لِلْوَكِيلِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ يُقِيمُهَا عَلَى الْبَيْعِ ، سَوَاءٌ قُبِلَ قَوْلُهُ فِي الْبَيْعِ أَمْ لَا ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي عَمَلًا يَسْتَحِقُّ بِهِ جُعْلًا فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي دَعْوَاهُ . وَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُوَكِّلُ عَلَى ذَلِكَ وَادَّعَى دَفْعَ الْجُعْلِ إِلَيْهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ مَعَ يَمِينِهِ وَلَهُ الْجُعْلُ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ مُدَّعٍ بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ مِنْ جُعْلٍ تَعَلَّقَ بِهَا . فَلَوْ قَالَ لَهُ الْمُوَكِّلُ بَعْدَ تَصْدِيقِهِ عَلَى الْبَيْعِ : إِنَّكَ خُنْتَنِي فِي عَمَلِكَ بِقَدْرِ جُعْلِكَ فَبَرِئْتَ عَنْهُ بِخِيَانَتِكَ وَأَنْكَرَ الْوَكِيلُ الْخِيَانَةَ
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ لَمْ يَخُنْ ، وَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِجُعْلِهِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ جُعْلَهُ ثَابِتٌ وَالْمُوَكِّلُ يَدَّعِي الْبَرَاءَةَ مِنْهُ فَلَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَمِينٌ لِمُوَكِّلِهِ ، وَالْمُوَكِّلُ يَدَّعِي حُدُوثَ خِيَانَةٍ فَلَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ مَالًا يَشْتَرِي لَهُ بِهِ طَعَامًا فَسَلَّفَهُ ثُمَّ اشْتَرَى لَهُ بِمِثْلِهِ طَعَامًا في الوكالة فَهُوَ ضَامِنٌ لِلْمَالِ وَالطَّعَامِ لَهُ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ وَكَالَتِهِ بِالتَّعَدِّي وَاشْتَرَى بِغَيْرِ مَا أَمَرَهُ بِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُقَدِّمَةً لَا يُسْتَغْنَى عَنْ شَرْحِهَا وَتَقْرِيرِ الْمَذْهَبِ فِيهَا لِيَكُونَ الْجَوَابُ فِي الْمَسْأَلَةِ مَبْنِيًّا عَلَيْهَا ، وَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا وَكَّلَ رَجُلًا فِي ابْتِيَاعِ مَتَاعٍ لَهُ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ الثَّمَنَ أَوْ لَا . فَإِنْ لَمْ يَدْفَعِ الثَّمَنَ إِلَيْهِ التوكيل في الشراء جَازَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِ نَاوِيًا بِهِ أَنَّهُ لِمُوَكِّلِهِ فَيَكُونُ الْمِلْكُ بِالْعَقْدِ وَاقِعًا لِلْمُوَكِّلِ دُونَ الْوَكِيلِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَقَعُ الْمِلْكُ بِالْعَقْدِ لِلْوَكِيلِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ إِلَى الْمُوَكِّلِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ مَا مَلَكَهُ الْإِنْسَانُ بِعَقْدِ غَيْرِهِ وَقَعَ الْمِلْكُ لِلْعَاقِدِ ثُمَّ انْتَقَلَ عَنْهُ إِلَى مُتَمَلِّكِهِ كَالشُّفْعَةِ يَقَعُ الْمِلْكُ إِلَى الْمُشْتَرِي ثُمَّ يَنْتَقِلُ عَنْهُ إِلَى الشَّفِيعِ . وَلِأَنَّ الْوَكِيلَ يَلْزَمُهُ الثَّمَنُ بِعَقْدِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَقَعَ لَهُ الْمِلْكُ بِعَقْدِهِ لِأَنَّ الثَّمَنَ فِي مُقَابَلَةِ الْمُثَمَّنِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مِنْ شُرُوطِ الْعَقْدِ وَالِافْتِرَاقِ مُعْتَبَرًا بِالْعَاقِدَيْنِ اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مُوجِبُهُ مِنَ الْمِلْكِ وَاقِعًا لِلْعَاقِدَيْنِ . وَدَلِيلُنَا أَنَّ كُلَّ مَا عَقَدَ الْوَكِيلُ لِلْمُوَكِّلِ اقْتَضَى وُقُوعَ الْمِلْكِ بِالْعَقْدِ لِلْمُوَكِّلِ كَالنِّكَاحِ . وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ نَابَ فِي الْعَقْدِ عَنْ غَيْرِهِ وَقَعَ الْمِلْكُ بِهِ لِلْمَعْقُودِ لَهُ دُونَ عَاقِدِهِ قِيَاسًا عَلَى وَلِيِّ الْيَتِيمِ وَأَبِي الطِّفْلِ . وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْوَكِيلُ فِي الْبَيْعِ لَا يَمْلِكُ الثَّمَنَ ، وَيَكُونُ الثَّمَنُ بِالْعَقْدِ مِلْكًا لِلْمُوَكِّلِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْوَكِيلُ فِي الشِّرَى لَا يَمْلِكُ الْمَبِيعَ الْمُثَمَّنَ وَيَكُونُ الْعَقْدُ بِالْمِلْكِ لِلْمُوَكِّلِ ، وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهُ أَحَدُ الْمَمْلُوكَيْنِ بِالْعَقْدِ فَوَجَبَ أَنْ يَمْلِكَهُ الْمُوَكِّلُ بِالْعَقْدِ قِيَاسًا عَلَى الثَّمَنِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالشُّفْعَةِ فَمُنْتَقَضٌ بِوَلِيِّ الْيَتِيمِ وَأَبِ الطِّفْلِ ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الشَّفِيعِ أَنَّهُ يَمْلِكُ الْمَبِيعَ بِالشُّفْعَةِ دُونَ الْعَقْدِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالثَّمَنِ فَسَنَذْكُرُ مِنْ شَرْحِ الْمَذْهَبِ فِيهِ مَا يَكُونُ انْفِصَالًا عَنْهُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ تَمَامَ الْعَقْدِ بِالْمُتَعَاقِدَيْنِ فَكَذَا مُوجِبُهُ فِي الْمِلْكِ وَاقِعٌ
لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ فَهُوَ أَنَّهُ مُنْتَقَضٌ بِالْحَاكِمِ وَوَلِيِّ الْيَتِيمِ وَأَبِ الطِّفْلِ وَبِعَقْدِ النِّكَاحِ ، وَلَيْسَ لَهُمُ اسْتِدْلَالٌ فِي الْمَسْأَلَةِ يَسْلَمُ مِنَ الْكَسْرِ . فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمِلْكَ يَكُونُ وَاقِعًا بِالْعَقْدِ لِلْمُوَكِّلِ دُونَ الْوَكِيلِ فَلِلْوَكِيلِ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ مُوَكِّلِهِ فِي الْعَقْدِ فَيَقُولُ : قَدِ اشْتَرَيْتُ هَذَا الْعَبْدَ لِفُلَانٍ بِأَمْرِهِ فَيَكُونَ الثَّمَنُ وَاجِبًا عَلَى الْمُوَكِّلِ ، وَهَلْ يَكُونُ الْوَكِيلُ ضَامِنًا لَهُ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ : أَحَدُهُمَا : عَلَيْهِ ضَمَانُهُ لِأَنَّهُ عَاقِدٌ . وَالثَّانِي : لَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَالِكِهِ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ لَا يَذْكُرَ الْوَكِيلُ اسْمَ مُوَكِّلِهِ فِي الْعَقْدِ ، وَلَكِنْ يَنْوِي بِقَلْبِهِ أَنَّ الشِّرَى لِمُوَكِّلِهِ ، فَعَلَى الْوَكِيلِ ضَمَانُ الثَّمَنِ بِالْعَقْدِ . وَهَلْ يَصِيرُ الثَّمَنُ وَاجِبًا عَلَى الْمُوَكِّلِ بِالْعَقْدِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ . أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَكُونُ الثَّمَنُ وَاجِبًا عَلَيْهِ بِالْعَقْدِ لِوُقُوعِ الْمِلْكِ لَهُ بِالْعَقْدِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْبَائِعُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ مُطَالَبَةِ الْوَكِيلِ بِهِ أَوِ الْمُوَكِّلِ ، فَإِذَا أَخَذَهُ مِنْ أَحَدِهِمَا بَرِئَا مَعًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الثَّمَنَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِالْعَقْدِ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْوَكِيلَ وَحْدَهُ لِتَفَرُّدِهِ بِالْعَقْدِ . فَعَلَى هَذَا يُطَالِبُ الْبَائِعُ الْوَكِيلَ وَحْدَهُ بِالثَّمَنِ دُونَ الْمُوَكِّلِ . وَهَلْ يَسْتَحِقُّ الْوَكِيلُ الثَّمَنَ عَلَى الْمُوَكِّلِ قَبْلَ أَدَائِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ أَدَائِهِ عَنْهُ ، فَإِنْ أَدَّاهُ الْوَكِيلُ عَنْهُ رَجَعَ بِهِ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ ، وَإِنْ أَبْرَأَهُ الْبَائِعُ مِنْهُ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الْمُوَكِّلِ فَصَارَ الْمُوَكِّلُ مَالِكًا لِلْعَبْدِ بِغَيْرِ بَدَلٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْوَكِيلَ قَدِ اسْتَحَقَّ الثَّمَنَ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِمَا وَجَبَ عَلَى الْوَكِيلِ مِنْ ضَمَانِهِ بِالْعَقْدِ وَلَهُ مُطَالَبَةُ الْمُوَكِّلِ بِهِ قَبْلَ أَدَائِهِ ، وَإِنْ أَبْرَأَ الْوَكِيلَ مِنْهُ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الْمُوَكِّلِ . وَلَوْ دَفَعَ بِالثَّمَنِ عَرْضًا رَجَعَ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِالثَّمَنِ دُونَ قِيمَةِ الْعَرْضِ . وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ إِذَا دَفَعَ الْوَكِيلُ بِالثَّمَنِ عَرْضًا رَجَعَ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الثَّمَنِ أَوْ قِيمَةِ الْعَرْضِ . فَلَوْ أَرَادَ الْوَكِيلُ أَنْ يَمْنَعَ الْمُوَكِّلَ مِنَ الْعَبْدِ إِلَّا بَعْدَ قَبْضِ ثَمَنِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ مَعًا لِأَنَّ الْبَائِعَ لَمْ يَبْتَعْهُ مِنْهُ .
فَصْلٌ : فَإِنْ جَحَدَ الْمُوَكِّلُ إِذْنَهُ لِلْوَكِيلِ بِالشِّرَى فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ مَا لَمْ يُقِمْ عَلَيْهِ بَيِّنَةً بِهِ وَلَا يَلْزَمُ الشِّرَى . ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ الْوَكِيلِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ ذَكَرَ الْمُوَكِّلَ فِي عَقْدِ الشِّرَى أَمْ لَا ، فَإِنْ كَانَ ذَكَرَهُ نُظِرَ حَالُ الْبَائِعِ فَإِنْ صَدَّقَ الْوَكِيلَ عَلَى مَا ادَّعَاهُ مِنْ إِذْنِ الْمُوَكِّلِ كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا . وَإِنْ كَذَّبَ الْوَكِيلَ فَهَلْ يَصِيرُ الشِّرَى لَازِمًا لِلْوَكِيلِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي الْوَكِيلِ هَلْ يَكُونُ ضَامِنًا لِلثَّمَنِ مَعَ تَسْمِيَةِ الْمُوَكِّلِ لَهُ أَمْ لَا ؟ .
فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْوَكِيلُ قَدْ ذَكَرَ مُوَكِّلَهُ فِي عَقْدِ الشِّرَى نُظِرَ فِي حَالِ الْبَائِعِ ، فَإِنْ كَذَّبَ الْوَكِيلَ عَلَى مَا ادَّعَاهُ مِنْ إِذْنِ الْمُوَكِّلِ فَالشِّرَى لَازِمٌ لِلْوَكِيلِ ، وَإِنْ صَدَّقَهُ عَلَى الْإِذْنِ فَفِي بُطْلَانِ الْعَقْدِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي الْمُوَكِّلِ هَلْ يَصِيرُ مُشَارِكًا لِلْوَكِيلِ فِي الْتِزَامِ الثَّمَنِ بِالْعَقْدِ ، فَإِذَا قِيلَ يَبْطُلُ الشِّرَى سَقَطَ الثَّمَنُ عَنِ الْوَكِيلِ إِنْ كَانَ فِي ذِمَّتِهِ وَرَجَعَ بِهِ عَلَى الْبَائِعِ إِنْ كَانَ قَدْ أَدَّاهُ . وَإِذَا قِيلَ بِلُزُومِ الشِّرَى لِلْوَكِيلِ فَهَلْ يَصِيرُ مَالِكًا لِلْعَبْدِ الْمُشْتَرَى أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَدْ صَارَ مَالِكًا لَهُ كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِ يَمْلِكُ كَسْبَهُ وَزِيَادَةَ ثَمَنِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَمْلِكُهُ وَإِنَّمَا يَكُونُ فِي يَدِهِ لِيَسْتَوْفِيَ مِنْ ثَمَنِهِ مَا أَدَّاهُ فِي ثَمَنِهِ ، فَإِنْ زَادَ الثَّمَنُ لَمْ يَمْلِكِ الزِّيَادَةَ وَلَا فَاضِلَ الْكَسْبِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا أَبُ الطِّفْلِ وَوَلِيُّ الْيَتِيمِ إِذَا اشْتَرَيَا شَيْئًا لِلطِّفْلِ أَوِ الْيَتِيمِ ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرَا فِي الْعَقْدِ اسْمَ الطِّفْلِ كَانَ الْأَبُ وَالْوَلِيُّ ضَامِنَيْنِ لِلثَّمَنِ ، وَلَا يَضْمَنُهُ الطِّفْلُ فِي ذِمَّتِهِ وَيُؤَدِّيَا ذَلِكَ مِنْ مَالِهِ ، وَإِنْ ذَكَرَا اسْمَهُ فِي الْعَقْدِ لَمْ يَلْزَمْهُمَا ضَمَانٌ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْوَلِيِّ وَالْوَكِيلِ أَنْ شِرَى الْوَلِيِّ لَازِمٌ لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَلَمْ يَلْزَمِ الْوَلِيَّ ضَمَانُهُ ، وَشِرَى الْوَكِيلِ يَلْزَمُ بِإِذْنِ مُوَكِّلِهِ فَلَزِمَ الْوَكِيلَ ضَمَانُهُ . فَهَذَا أَحَدُ فَصْلَيِ الْمُقَدِّمَةِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي مِنَ الْمُقَدِّمَةِ وَهُوَ أَنْ يَدْفَعَ الْمُوَكِّلُ مَالًا إِلَى وَكِيلِهِ لِيَشْتَرِيَ لَهُ عَبْدًا بِهِ ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَأْمُرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِعَيْنِ الْمَالَ عَبْدًا الوكيل فى الشراء فَوَجَبَ عَلَى الْوَكِيلِ أَنْ يَشْتَرِيَ الْعَبْدَ بِعَيْنِ مَالِ مُوَكِّلِهِ ، فَإِنِ اشْتَرَاهُ فِي ذِمَّتِهِ لَمْ يَلْزَمْ لِلْمُوَكِّلِ وَكَانَ الشِّرَى لَازِمًا لِلْوَكِيلِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْوَكِيلُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَشْتَرِيَ الْعَبْدَ بِعَيْنِ الْمَالِ وَبَيْنَ أَنْ يَشْتَرِيَهُ فِي ذِمَّتِهِ ، وَهُوَ فِي كِلَا الْحَالَيْنِ لَازِمٌ لِلْمُوَكِّلِ . وَبَنَى ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لَا يَتَعَيَّنَانِ عِنْدَهُ وَهَذَا خَطَأٌ لِتَعْيِينِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ عِنْدَنَا فِي الْعُقُودِ كَمَا تَتَعَيَّنُ فِي الْغُصُوبُ ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ وَلِأَنَّ يَدَ الْوَكِيلِ كَيْدُ الْمُودَعِ وَمَالُ الْوَدِيعَةِ مُتَعَيَّنٌ وَكَذَا مَا بِيَدِ الْوَكِيلِ مُتَعَيَّنٌ . وَإِذَا تَعَيَّنَ مَا بِيَدِهِ لِمُوَكِّلِهِ حَتَّى لَا يَجُوزَ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ عَيْنَ مَالِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الشِّرَى مَحْمُولًا عَلَى مُوجِبِ إِذْنِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَأْمُرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ فِي ذِمَّتِهِ وَيَنْقُدَ الْمَالَ فِي ثَمَنِهِ الوكيل فى الشراء . فَإِنِ اشْتَرَاهُ فِي الذِّمَّةِ صَحَّ ، وَكَانَ لَازِمًا لِلْمُوَكِّلِ . وَإِنِ اشْتَرَاهُ بِعَيْنِ الْمَالِ فَفِيهِ وَجْهَانِ :
أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ ذَكَرَهُ فِي إِفْصَاحِهِ : أَنَّ الشِّرَى جَائِزٌ وَهُوَ لِلْمُوَكِّلِ لَازِمٌ لِأَنَّ الْعَقْدَ عَلَى الْمُعَيَّنِ أَحْوَطُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ أَنَّ الشِّرَى بَاطِلٌ لَا يَلْزَمُ الْوَكِيلَ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ لِلْعَيْنِ ، وَلَا يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ لِأَنَّ الْوَكِيلَ قَدْ فَوَّتَ عَلَيْهِ غَرَضًا لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي الذِّمَّةِ لَا يَبْطُلُ بِتَلَفِ الثَّمَنِ ، فَصَارَ فِعْلُ الْوَكِيلِ مُخَالِفًا لِأَمْرِ الْمُوَكِّلِ . فَلَوِ امْتَثَلَ الْوَكِيلُ أَمْرَ مُوَكِّلِهِ وَاشْتَرَى الْعَبْدَ بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِ ثُمَّ نَقَدَ الثَّمَنَ مِنْ عِنْدِهِ بَرِئَ الْوَكِيلُ وَالْمُوَكِّلُ مِنْهُ ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُوَكِّلِ لِأَنَّ أَمْرَهُ بِنَقْدِ هَذَا الْمَالِ فِي الثَّمَنِ يَتَضَمَّنُ نَهْيًا عَنْ نَقْدِهِ مِنْ غَيْرِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يُطْلِقَ الْإِذْنَ فِي الشِّرَى عِنْدَ دَفْعِ الْمَالِ ، فَيَقُولُ : خُذْ هَذَا الْمَالَ فَاشْتَرِ لِي عَبْدًا ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ إِطْلَاقُهُ مُقْتَضِيًا لِلتَّعْيِينِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ : أَنَّهُ يَقْتَضِيهِ لِأَنَّ تَقْدِيمَ الثَّمَنِ عَلَى الْعَبْدِ شَاهِدٌ فِيهِ ، فَعَلَى هَذَا إِنِ اشْتَرَى فِي ذِمَّتِهِ كَانَ الشِّرَى لَازِمًا لِلْوَكِيلِ دُونَ الْمُوَكِّلِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ : إِنَّهُ لَا يَقْتَضِي التَّعْيِينَ لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ عَلَى الْعُمُومِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْوَكِيلُ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْعَقْدِ عَلَى الْعَيْنِ أَوْ فِي الذِّمَّةِ ، فَهَذَا شَرْحُ الْمُقَدِّمَةِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَصُورَةُ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فِي رَجُلٍ دَفَعَ إِلَى رَجُلٍ مَالًا لِيَشْتَرِيَ لَهُ بِهِ طَعَامًا ، فَتَسَلَّفَ الْمَالَ قَرْضًا ثُمَّ اشْتَرَى لَهُ بِمِثْلِهِ مِنْ مَالِهِ طَعَامًا فَالشِّرَى غَيْرُ لَازِمٍ لِلْمُوَكِّلِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُوَكِّلُ قَدْ أَذِنَ فِي الشِّرَى بِعَيْنِ الْمَالِ أَوْ فِي الذِّمَّةِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الشِّرَى لَازِمٌ لِلْمُوَكِّلِ سَوَاءٌ كَانَ الْإِذْنُ بِالْعَيْنِ أَوْ فِي الذِّمَّةِ وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ بِتَلَفِ الْمَالِ وَاسْتِهْلَاكِهِ بَاطِلَةٌ لِانْعِقَادِهَا بِهِ . وَإِذَا بَطَلَتِ الْوَكَالَةُ وَانْعَزَلَ الْوَكِيلُ فَعَقْدُهُ لَازِمٌ لِنَفْسِهِ دُونَ مُوَكِّلِهِ . فَلَوْ أَنَّ الْوَكِيلَ لَمْ يَسْتَهْلِكِ الْمَالَ وَلَكِنْ تَعَدَّى فِيهِ تَعَدِّيًا صَارَ لَهُ بِهِ ضَامِنًا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَنْعَزِلُ بِتَعَدِّيهِ عَنِ الْوَكَالَةِ أَمْ لَا ؟ الوكيل عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَنْعَزِلُ عَنِ الْوَكَالَةِ بِالتَّعَدِّي لِأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ كَالْمُودَعِ الَّذِي يَنْعَزِلُ بِالتَّعَدِّي عَنِ الْوَدِيعَةِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الشِّرَى لَازِمًا لِلْوَكِيلِ دُونَ مُوَكِّلِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ أَنَّهُ عَلَى الْوَكَالَةِ لَا يَنْعَزِلُ عَنْهَا بِالتَّعَدِّي مَعَ بَقَاءِ الْمِلْكِ كَالْمُرْتِهَنِ لَا يَبْطُلُ الرَّهْنُ بِتَعَدِّيهِ وَإِنْ كَانَ مُؤْتَمَنًا ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الشِّرَى لَازِمًا لِلْوَكِيلِ .
فَصْلٌ : فَلَوْ قَالَ الرَّجُلُ لِوَكِيلِهِ : ابْتَعْ لِي مِنْ مَالِكِ عَشَرَةَ أَقْفِزَةِ حِنْطَةٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ جَازَ ثُمَّ فِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ حَكَاهُمَا أَبُو الْقَاسِمِ الصَّيْمَرِيُّ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَرْضٌ فِيهِ وَكَالَةٌ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَى قَدْرِ الثَّمَنِ كَانَ فَاسِدًا لِأَنَّ الْقَرْضَ الْمَجْهُولَ بَاطِلٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ عَقْدُ وَكَالَةٍ فِيهِ قَرْضٌ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ لَمْ يَنُصَّ عَلَى قَدْرِ الثَّمَنِ كَانَ جَائِزًا لِجَوَازِ الْوَكَالَةِ فِيمَا لَمْ يَنُصَّ الْمُوَكِّلُ عَلَى قَدْرِ ثَمَنِهِ . وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ : قَدْ أَقْرَضْتُكَ أَلْفًا عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا مِنْ رِبْحٍ فَهُوَ بَيْنَنَا نِصْفَيْنِ حكم القرض . فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ أَنَّهُ قَرْضٌ فَاسِدٌ فَيَكُونُ ضَامِنًا لِلْمَالِ وَلَهُ الرِّبْحُ دُونَ الْمُقْرِضِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا مُضَارَبَةٌ فَاسِدَةٌ ، فَعَلَى هَذَا لَيْسَ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْمَالِ وَالرِّبْحُ لَهُ وَلِلْعَامِلِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ .
فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ : بِعْ عَبْدَكَ هَذَا عَلَى زَيْدٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَيَّ دُونَهُ حكم العقد فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَابِلُ هُوَ الْمُتَوَلِّيَ لِلْعَقْدِ ، فَيَصِحَّ وَيَكُونَ مُشْتَرِيًا لِغَيْرِهِ بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِ ، فَيُعْتَبَرَ حَالُ زَيْدٍ الْمُشْتَرَى لَهُ ، فَإِنْ كَانَ مُوَلًّى عَلَيْهِ وَأَذِنَا فِيهِ كَانَ الشِّرَى لِلْعَاقِدِ عَلَى مَا وَصَفْنَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ زِيدٌ هُوَ الْعَاقِدَ دُونَ الْقَابِلِ الضَّامِنِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ : إِنَّهُ جَائِزٌ وَيَكُونُ الْعَبْدُ لِزَيْدٍ الْمُشْتَرِي بِغَيْرِ ثَمَنٍ ، وَالثَّمَنُ عَلَى الضَّامِنِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ لِلثَّمَنِ مَحَلًّا قَدْ ثَبَتَ فِيهِ فَلَمْ يَفْتَرِقْ حُكْمُ ثُبُوتِهِ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ الشِّرَى بَاطِلٌ لِأَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ مَا أَوْجَبَ بِتَمْلِيكِ الْمَبِيعِ عِوَضًا ، وَهَذَا عَقْدٌ قَدْ خَلَا عَنْ عِوَضٍ عَلَى الْمَالِكِ بِهِ فَكَانَ بَاطِلًا . فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ بِعْ عَبْدَكَ هَذَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى زَيْدٍ وَبِخَمْسِمِائَةٍ عَلَيَّ دُونَهُ فَفَعَلَ حكم العقد كَانَ الْعَقْدُ جَائِزًا عَلَى قَوْلِ ابْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَيَلْزَمُ الْمُشْتَرِي أَلْفٌ وَالضَّامِنَ خَمْسُمِائَةٍ . وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي بَاطِلٌ ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ بِعْ عَبْدَكَ هَذَا عَلَى زَيْدٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَأَنَا ضَامِنٌ بِخَمْسِمِائَةٍ مِنْهَا فَبَاعَهُ عَلَيْهِ حكم العقد صَحَّ الْبَيْعُ لِزَيْدٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَيْهِ . وَهَلْ يَكُونُ الضَّمَانُ فِي
الْخَمْسِمِائَةِ لَازِمًا لِلضَّامِنِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ : أَنَّهُ يَلْزَمُهُ ضَمَانُهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ ضَمَانَهَا بَاطِلٌ لِأَنَّهُ ضَمِنَهَا قَبْلَ اسْتِحْقَاقِهَا .
فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ رَجُلٌ لَعَبْدِ غَيْرِهِ : اشْتَرِ لِي نَفْسَكَ مِنْ سَيِّدِكَ فَاشْتَرَى الْعَبْدُ نَفْسَهُ مِنْ سَيِّدِهِ لِأَمْرِهِ ، قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ : الشِّرَاءُ جَائِزٌ وَيَصِيرُ الْعَبْدُ مِلْكًا لِلْآمِرِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ فِي أَنَّ الْمِلْكَ يَقَعُ بِالْعَقْدِ لِلْمُوَكِّلِ دُونَ الْوَكِيلِ وَلَوْ كَانَ وَاقِعًا لِلْوَكِيلِ لَعَتَقَ الْعَبْدُ لِأَنَّهُ مَلَكَ نَفْسَهُ وَهُوَ لَا يُعْتِقُهُ . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ هَذَا الشِّرَاءَ بَاطِلٌ لِأَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ مَنْسُوبٌ إِلَى سَيِّدِهِ فَصَارَ السَّيِّدُ مُبَايِعًا لِنَفْسِهِ .
مَسْأَلَةٌ لَا يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ وَلَا الْوَصِيِّ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ نَفْسِهِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ وَلَا الْوَصِيِّ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ نَفْسِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ النِّيَابَةَ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ قَدْ تَكُونُ فِي أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ وَهُوَ الْأَبُ وَالْجَدُّ عَلَى ابْنِهِ الطِّفْلِ . وَالثَّانِي : مِنْ جِهَةِ الْحُكْمِ وَهُوَ لِلِحَاكِمْ أَوْ أَمِينِهِ عَلَى الْمُوَلَّى عَلَيْهِ لِصِغَرٍ أَوْ سَفَهٍ . وَالثَّالِثُ : مِنْ جِهَةِ الْوَصِيَّةِ وَهُوَ وَصِيُّ الْأَبِ وَالْجَدِّ عَلَى الطِّفْلِ . وَالرَّابِعُ : مِنْ جِهَةِ الْوَكَالَةِ وَهُوَ وَكِيلُ الْمُوَكِّلِ الرَّشِيدِ . فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ هَلْ يَجُوزُ لِهَؤُلَاءِ أَنْ يَبِيعُوا لِأَنْفُسِهِمْ مَا لَهُمْ بَيْعُهُ وَيَشْتَرُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ مَا لَهُمْ شِرَاؤُهُ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ : أَنَّهُ يَجُوزُ لِجَمِيعِهِمْ أَنْ يَبِيعُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مَا لَهُمْ بَيْعُهُ وَيَشْتَرُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ بْنِ الْهُذَيْلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِجَمِيعِهِمْ أَنْ يَبِيعُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَا أَنْ يَشْتَرُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ لَهُمْ إِلَّا الْوَكِيلَ وَحْدَهُ . وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِجَمِيعِهِمْ إِلَّا الْأَبَ وَحْدَهُ ، وَالْجَدُّ مِثْلُهُ . وَاسْتَدَلَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى جَوَازِهِ لِجَمِيعِهِمْ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْبَيْعِ حُصُولُ الثَّمَنِ وَفِي
الشِّرَى حُصُولُ الْمُشْتَرَى وَلِذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ ذِكْرُ مَنْ لَهُ الْبَيْعُ وَالشِّرَى بِخِلَافِ النِّكَاحِ ، فَلَمْ يَقَعِ الْفَرْقُ بَيْنَ حُصُولِ الثَّمَنِ مِنَ النَّائِبِ وَغَيْرِهِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ فِي الْحَالَيْنِ ، وَقِيَاسُهُ عَلَى الْأَبِ بِعِلَّةِ أَنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ لَهُ بَيْعُ مَالِ غَيْرِهِ جَازَ لَهُ بَيْعُهُ عَلَى نَفْسِهِ كَالْأَبِ . وَاسْتَدَلَّ مَنْ مَنَعَ جَوَازَهُ لِجَمِيعِهِمْ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَجْبُولٌ عَلَى تَغْلِيبِ حَظِّ نَفْسِهِ عَلَى حَظِّ غَيْرِهِ ، وَالنَّائِبَ مَنْدُوبٌ إِلَى طَلَبِ الْحَظِّ لِمُسْتَنِيبِهِ ، فَإِذَا بَاعَ مِنْ نَفْسِهِ انْصَرَفَ بِجِبِلَّةِ الطَّبْعِ إِلَى حَظِّ نَفْسِهِ فَصَارَ الْمَقْصُودُ بِالنِّيَابَةِ مَعْدُومًا فَلَمْ يَجُزْ ، وَقِيَاسًا عَلَى الْوَكِيلِ لِأَنَّهُ نَائِبٌ فِي الْعَقْدِ عَنْ غَيْرِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْقِدَ مَعَ نَفْسِهِ كَالْوَكِيلِ . وَاسْتَدَلَّ مَنْ مَنَعَ مِنْهُ لِلْوَكِيلِ وَحْدَهُ وَأَجَازَ لِمَنْ سِوَاهُ بِأَنَّ نِيَابَةَ الْوَكِيلِ عَنْ جَائِزِ الْأَمْرِ فَكَانَ مَأْذُونًا لَهُ مِنْ غَيْرِ وِلَايَةٍ فَصَارَ أَنْقَصَ حَالًا مِنْ ذِي الْوَلَايَةِ فَجَازَ لِلْوَلِيِّ مُبَايَعَةُ نَفْسِهِ لِقُوَّةِ سَبَبِهِ كَالْأَبِ ، وَلَمْ يَجُزْ لِغَيْرِ ذِي الْوَلَايَةِ مِنَ الْوَكِيلِ مُبَايَعَةُ نَفْسِهِ لِضَعْفِ سَبَبِهِ كَالْأَجْنَبِيِّ . وَدَلِيلُنَا أَنَّ غَيْرَ الْأَبِ لَا يَجُوزُ لَهُ مُبَايَعَةُ نَفْسِهِ هُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَوْصَى إِلَى رَجُلٍ بِوَصِيَّةٍ فَأَرَادَ الْوَصِيُّ بَيْعَ فَرَسٍ مِنَ التَّرِكَةِ عَلَى نَفْسِهِ فَسَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ عَنْ جَوَازِهِ فَقَالَ لَهُ : لَا ، وَلَيْسَ نَعْرِفُ لَهُ مُخَالِفًا مِنَ الصَّحَابَةِ ، وَلِأَنَّ جِبِلَّةَ الطَّبْعِ تَصْرِفُهُ عَنْ حَظِّ غَيْرِهِ إِلَى حَظِّ نَفْسِهِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَتْ وَلَايَتُهُ بِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مُبَايَعَةُ نَفْسِهِ كَالْوَكِيلِ . وَدَلِيلُنَا عَلَى أَنَّ الْأَبَ يَجُوزُ لَهُ مُبَايَعَةُ نَفْسِهِ هُوَ أَنَّ الْأَبَ مَجْبُولٌ بِحُنُوَّةِ الْأُبُوَّةِ وَشِدَّةِ الْمَيْلِ وَالْمَحَبَّةِ عَلَى طَلَبِ الْحَظِّ لِوَلَدِهِ وَالشُّحِّ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْجَمْعِ وَالِاسْتِكْثَارِ لِوَلَدِهِ وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْوَلَدُ مَبْخَلَةٌ مَحْزَنَةٌ مَجْبَنَةٌ فَانْتَفَتِ التُّهْمَةُ عَنْهُ فِي مُبَايَعَةِ نَفْسِهِ وَهَذَا الْمَعْنَى مَفْقُودٌ فِيمَنْ عَدَاهُ فَصَارَ هَذَا الْحُكْمُ لِاخْتِصَاصِهِ بِمَعْنَاهُ مَقْصُورًا عَلَيْهِ مُنْتَفِيًا عَمَّنْ سِوَاهُ ، وَهَذَا دَلِيلٌ وَانْفِصَالٌ فَلَوْ وَكَّلَ الِابْنُ الْبَالِغُ أَبَاهُ فِي بَيْعِ سِلْعَةٍ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهَا عَلَى نَفْسِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ كَمَا لَوْ كَانَ فِي حَجْرِهِ وَتَغْلِيبًا لَحُكْمِ الْأُبُوَّةِ . وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ لِأَنَّ ارْتِفَاعَ الْحَجْرِ يَقْتَضِي تَغْلِيبَ الْوَكَالَةِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْوَصِيُّ وَالْوَكِيلُ إِذَا أَرَادَا بَيْعَ مَا يَتَوَلَّيَاهُ بِالْوَصِيَّةِ وَالْوَكَالَةِ عَلَى ابْنِ نَفْسِهِ ، أَوْ عَلَى أَبِ نَفْسِهِ ، فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ : أَنَّهُ يَجُوزُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُبَايِعٍ لِنَفْسِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ مَتْهُومٌ فِي الْمَيْلِ إِلَى وَلَدِهِ كَمَا كَانَ مَتْهُومًا فِي الْمَيْلِ إِلَى نَفْسِهِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْهَدَ لِوَلَدِهِ ، كَمَا لَا تَصِحُّ مِنْهُ
الشَّهَادَةُ لِنَفْسِهِ فَلَمْ تَجُزْ مُبَايَعَةُ وَلَدِهِ بِمَالِ غَيْرِهِ كَمَا لَمْ تَجُزْ مُبَايَعَةُ نَفْسِهِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا جَعَلَ الْمُوَكِّلُ إِلَى وَكِيلِهِ أَنْ يَبِيعَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ يَشْتَرِيَ مِنْ نَفْسِهِ حكم الوكاله فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّنَاقُضِ الْمَقْصُودِ وَتَنَافِي الْغَرَضَيْنِ ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْوَكَالَةِ قَدْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الِاسْتِقْصَاءَ لِمُوَكِّلِهِ وَإِذَا كَانَ هُوَ الْمُشْتَرِيَ انْصَرَفْ إِلَى الِاسْتِقْصَاءِ لِنَفْسِهِ . وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ : يَجُوزُ ذَلِكَ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ إِلَى زَوْجَتِهِ الطَّلَاقَ لِنَفْسِهَا أَوْ إِلَى أَمَتِهِ عِتْقَهَا ، وَهَذَا خَطَأٌ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ فِي ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ فِي الْبَيْعِ ثَمَنًا يَخْتَلِفُ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ ، فَصَارَ بِالْمَيْلِ إِلَى نَفْسِهِ مَتْهُومًا فِيهِ ، وَلَيْسَ فِي الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ ثَمَنٌ تَصِيرُ بِالْمَيْلِ إِلَى نَفْسِهَا مَتْهُومَةً فِيهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْعِتْقَ وَالطَّلَاقَ أَوْسَعُ لِوُقُوعِهَا بِالصِّفَاتِ ، وَتَعْلِيقُهَا عَلَى الْغَرَرِ وَالْجَهَالَاتِ وَالْبَيْعِ أَضْيَقُ حُكْمًا مِنْهُ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ لَيْسَ فِي الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ قَبُولٌ مُعْتَبَرٌ ، وَفِي الْبَيْعِ قَبُولٌ مُعْتَبَرٌ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْبَاذِلُ قَابِلًا . فَأَمَّا إِذَا وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ عَبْدِهِ وَوَكَّلَهُ الْآخَرُ فِي شِرَى الْعَبْدِ الْمُوَكَّلِ فِي بَيْعِهِ لَمْ يَجُزْ لِتَنَافِي الْمَقْصُودِ فِي الْعَقْدَيْنِ وَكَانَ لَهُ أَنْ يُقِيمَ عَلَى إِحْدَى الْوَكَالَتَيْنِ ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ عَلَى أَسْبَقِهِمَا فِي بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ جَازَ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ عَلَى الثَّانِيَةِ مِنْهُمَا كَانَ بَيْعًا أَوْ شِرَاءً احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَصِحُّ لِأَنَّ شَرْطَ الْأُولَى يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الثَّانِيَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَلْزَمُ فَلَمْ يَكُنْ لِلْمُتَقَدِّمَةِ مِنْهُمَا تَأْثِيرٌ وَتَبْطُلُ بِقَبُولِ الثَّانِيَةِ .
مَسْأَلَةٌ مَنْ بَاعَ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ فَبَيْعُهُ مَرْدُودٌ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَنْ بَاعَ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ فَبَيْعُهُ مَرْدُودٌ لِأَنَّ ذَلِكَ تَلَفٌ عَلَى صَاحِبِهِ فَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَعْنَاهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . وَلِلْمُوَكِّلِ فِيمَا أَذِنَ لَهُ بِبَيْعِهِ حَالَتَانِ : حَالَةُ إِطْلَاقٍ وَحَالَةُ تَقْيِيدٍ . فَأَمَّا حَالَةُ الْإِطْلَاقِ فَهُوَ أَنْ يَأْذَنَ لِوَكِيلِهِ فِي الْبَيْعِ إِذْنًا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقَيِّدَهُ بِشَرْطٍ أَوْ عَلَى صِفَةٍ ، فَعَلَى الْوَكِيلِ فِي بَيْعِهِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ :
أَحَدُهَا : أَنْ يَبِيعَهُ بِغَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ ، فَإِنْ عَدَلَ إِلَى غَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ . وَالشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ يَبِيعَهُ بِثَمَنِ مِثْلِهِ ، فَإِنْ بَاعَهُ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ لَمْ يَجُزْ . وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ : أَنْ يَبِيعَهُ بِثَمَنٍ حَالٍّ ، فَإِنْ بَاعَهُ بِمُؤَجَّلٍ لَمْ يَجُزْ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هَذِهِ الشُّرُوطُ الثَّلَاثَةُ فِي بَيْعِ الْوَكِيلِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ ، فَإِنْ بَاعَهُ بِغَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ وَبِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ وَإِلَى أَجَلٍ كَانَ بَيْعُهُ نَافِذًا وَلِمُوَكِّلِهِ لَازِمًا اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ إِطْلَاقَ الْإِذْنِ يَشْتَمِلُ عَلَى عُمُومِ الْبَيْعِ ، وَتَخْصِيصُ الْمُطْلَقِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِدَلِيلٍ كَالْمُطْلَقِ مِنْ عُمُومِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، فَلَمَّا كَانَ اسْمُ الْبَيْعِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْبَيْعِ بِغَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ وَبِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِهِ وَعَلَى الْمُؤَجَّلِ وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ لِأَنَّهُ عَقْدٌ مَأْذُونٌ فِيهِ كَمَا لَوْ بَاعَهُ بِنَقْدِ الْبَلَدِ وَبِثَمَنِ الْمِثْلِ وَبِالْمُعَجَّلِ ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ بِغَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ بِأَنَّهُ بَيْعٌ بِجِنْسِ الْأَثْمَانِ فَصَحَّ كَالْمَبِيعِ بِنَقْدِ الْبَلَدِ . وَاسْتَدَلَّ عَلَى جَوَازِهِ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ بِأَنَّ كُلَّ مَا جَازَ بِبَيْعُ الْمُوَكِّلِ بِهِ جَازَ بَيْعُ الْوَكِيلِ الْمُطْلَقِ بِهِ ، قِيَاسًا عَلَى ثَمَنِ الْمِثْلِ ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى جَوَازِهِ إِلَى أَجَلٍ بِأَنَّ الْأَجَلَ مُدَّةٌ مُلْحَقَةٌ بِالْعَقْدِ فَجَازَ أَنْ يَمْلِكَهَا الْوَكِيلُ قِيَاسًا عَلَى خِيَارِ الثَّلَاثِ . وَهَذَا خَطَأٌ كُلُّهُ وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قُلْنَا فِي الشَّرْطِ الْأَوَّلِ وَهُوَ أَنَّ بَيْعَهُ بِغَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ لَا يَجُوزُ هُوَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَصِحَّ مِنَ الْوَكِيلِ فِي الشِّرَاءِ أَنْ يَشْتَرِيَ بِغَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ لَمْ يَصِحَّ مِنَ الْوَكِيلِ فِي الْبَيْعِ أَنْ يَبِيعَ بِغَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ ، وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ بِوَكَالَةٍ مُطْلَقَةٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ بِغَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ قِيَاسًا عَلَى الشِّرَاءِ . وَلِأَنَّ كُلَّ جِنْسٍ لَا يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَبْتَاعَ بِهِ لَمْ يَجُزْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَبِيعَ بِهِ قِيَاسًا عَلَى الْبَيْعِ بِغَيْرِ جِنْسِ الْأَثْمَانِ وَبِالْمُحَرَّمَاتِ . فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ غَالِبُ نَقْدِ الْبَلَدِ دَرَاهِمَ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ بِالدَّنَانِيرِ . وَلَوْ كَانَ كِلَا النَّقْدَيْنِ سَوَاءً ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا غَالِبًا لَزِمَ الْوَكِيلَ بَيْعُهَا بِأَحَظِّهِمَا لِلْمُوَكِّلِ ، فَإِنِ اسْتَوَيَا كَانَ حِينَئِذٍ مُخَيَّرًا فِي بَيْعِهِ بِأَيِّهِمَا شَاءَ . فَإِنْ بَاعَهُ بِكِلَا النَّقْدَيْنِ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ ، فَإِنْ كَانَ فِي عَقْدَيْنِ صَحَّا جَمِيعًا إِذَا كَانَ مِمَّا يَجُوزُ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ فِي بَيْعِهِ . وَإِنْ كَانَ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ النَّقْدَيْنِ كَمَا جَازَ إِفْرَادُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ النَّقْدَيْنِ . وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ لِأَنَّ غَالِبَ الْبِيَاعَاتِ تَتَنَاوَلُ جِنْسًا وَاحِدًا مِنَ الْأَثْمَانِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْدِلَ إِلَى غَالِبِهَا ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .
فَصْلٌ : وَالدَّلِيلُ عَلَى الشَّرْطِ الثَّانِي وَأَنَّ بَيْعَهُ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ حكم العقد مع اطلاق اذن الموكل لَا يَجُوزُ هُوَ أَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ عَنْ وَكَالَةٍ مُطْلَقَةٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ قِيَاسًا عَلَى الشِّرَاءِ . وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَمْلِكِ الْهِبَةَ لَمْ يَمْلِكِ الْمُحَابَاةَ فِيهِ كَالْوَصِيِّ وَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ . وَلِأَنَّ الْمُحَابَاةَ كَالْهِبَةِ لِاعْتِبَارِهَا مِنَ الثُّلُثِ ، فَلَمَّا لَمْ تَصِحَّ مِنَ الْوَكِيلِ فِي الْبَيْعِ هِبَةُ الْمَالِ أَوْ
بَعْضِهِ لَمْ تَصِحَّ مِنْهُ الْمُحَابَاةُ فِيهِ ، وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهُ عَقْدٌ اسْتَهْلَكَ بِهِ شَيْئًا مِنْ مَالِ مُوَكِّلِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا كَالْهِبَةِ . فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا وَأَنَّ الْمِثْلَ مُعْتَبَرٌ وَأَنَّ الْبَيْعَ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ في الوكالة المطلقة بَاطِلٌ فَالِاعْتِبَارُ بِالْغَبْنِ عُرْفُ النَّاسِ فِي مِثْلِ الْمَبِيعِ وَلَيْسَ لَهُ حَدٌّ مُقَدَّرٌ . وَقَالَ مَالِكٌ حَدُّ الْغَبْنِ فِي الْبُيُوعِ الثُّلُثُ فَصَاعِدًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ " . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : حَدُّ الْغَبْنِ نِصْفُ الْعُشْرِ فَصَاعِدًا لِأَنَّهُ أَقَلُّ مَا يَجِبُ فِي زِكْوَاتِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ . وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ فَاسِدٌ لِأَنَّ عُرْفَ النَّاسِ فِيمَا يَكُونُ غَبْنًا كَثِيرٌ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَجْنَاسِ ، فَمِنَ الْأَجْنَاسِ مَا يَكُونُ رُبُعُ الْعُشْرِ فِيهِ غَبْنًا كَثِيرًا وَهُوَ الْحِنْطَةُ وَالشَّعِيرُ وَالذَّهَبُ وَالْوَرِقُ ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ نِصْفُ الْعُشْرِ فِيهِ غَبْنًا يَسِيرًا كَالرَّقِيقِ وَالْجَوْهَرِ وَالطُّرَفِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَحُدَّ ذَلِكَ بِقَدْرٍ مَعَ اخْتِلَافِهِ فِي عُرْفِهِمْ وَوَجَبَ الرُّجُوعُ فِيهِ إِلَيْهِمْ فَمَا كَانَ فِي عُرْفِهِمْ غَبْنًا كَثِيرًا أَبْطَلْنَا وَمَا كَانَ فِيهِ غَبْنًا يَسِيرًا أَمْضَيْنَا لِأَنَّ الْبُيُوعَ لَا تَنْفَكُّ مِنْ يَسِيرِ الْمُغَابَنَاتِ لِأَنَّهَا أَرْبَاحُ التِّجَارَاتِ . فَإِذَا بَاعَ الْوَكِيلُ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ كَانَ بَيْعُهُ بَاطِلًا وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُسَلِّمِ الْمَبِيعَ ، فَإِنْ سَلَّمَهُ صَارَ بِالتَّسْلِيمِ ضَامِنًا وَلَزِمَهُ اسْتِرْجَاعُ الْمَبِيعِ إِنْ كَانَ بَاقِيًا ، فَإِنْ هَلَكَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي كَانَ كُلٌّ مِنَ الْوَكِيلِ وَالْمُشْتَرِي ضَامِنًا . أَمَّا الْمُشْتَرِي فَضَامِنٌ لِجَمِيعِ الْقِيمَةِ لِأَنَّهُ قَابِضٌ عَنْ عَقْدِ بَيْعٍ فَاسِدٍ . وَأَمَّا الْوَكِيلُ فَفِي قَدْرِ مَا يَضْمَنُهُ قَوْلَانِ ذَكَرَهُمَا الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الرَّهْنِ الصَّغِيرِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَضْمَنُ جَمِيعَ الْقِيمَةِ لِتَعَدِّيهِ بِالتَّسْلِيمِ ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَضْمَنُ مَا غَبَنَ فِيهِ مِنْ قَدْرِ الْمُحَابَاةِ لِأَنَّهُ بِهِ فَسَدَ الْعَقْدُ وَلَزِمَ الضَّمَانُ ، وَقَدْ مَضَى فِي التَّفْرِيعِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي كِتَابِ الرَّهْنِ مَا يُقْنِعُ .
فَصْلٌ : وَالدَّلِيلُ عَلَى الشَّرْطِ الثَّالِثِ وَأَنَّ بَيْعَهُ بِالثَّمَنِ الْمُؤَجَّلِ حكم العقد مع اطلاق اذن الموكل لَا يَجُوزُ هُوَ أَنَّ الْأَجَلَ فِي الْبَيْعِ يَدْخُلُ تَارَةً فِي الْمُثَمَّنِ فَيَصِيرُ سِلْمًا وَتَارَةً فِي الثَّمَنِ فَيَصِيرُ دَيْنًا . فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُدْخِلَ الْأَجَلَ فِي الْمُثَمَّنِ فَيَجْعَلَهُ سِلْمًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُدْخِلَ الْأَجَلَ فِي الثَّمَنِ فَيَجْعَلَهُ دَيْنًا . وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهُ تَأْجِيلُ أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ مِنَ الْوَكِيلِ مَعَ إِطْلَاقِ الْإِذْنِ قِيَاسًا عَلَى تَأْجِيلِ الْمُثَمَّنِ . وَلِأَنَّ الْأَجَلَ لَمَّا لَمْ يَلْزَمِ الْمَالِكَ فِي عَقْدِهِ إِلَّا بِشَرْطٍ صَرِيحٍ لَمْ يَلْزَمِ الْمُوَكِّلَ إِلَّا بِإِذْنٍ صَرِيحٍ ؛ لِأَنَّ إِطْلَاقَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَقْدَيْنِ مُعْتَبَرٌ بِالْآخَرِ وَسَوَاءٌ طَالَ الْأَجَلُ أَوْ قَصُرَ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ إِطْلَاقَ الْإِذْنِ يَقْتَضِي الْعُمُومَ فَهُوَ أَنَّهُ خَطَأٌ فِي الْقَوْلِ وَارْتِبَاكٌ فِي الدَّعْوَى بَلِ الْإِطْلَاقُ فِي الْإِذْنِ يَقْتَضِي الْعُرْفَ بِدَلِيلِ أَنَّ إِطْلَاقَ الْإِذْنِ بِالشِّرَاءِ لَا يَقْتَضِي عُمُومَ الْأَشْرِيَةِ وَكَذَلِكَ إِطْلَاقُ الْإِذْنِ بِالْبَيْعِ لَا يَقْتَضِي عُمُومَ الْبُيُوعِ .
وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى نَقْدِ الْبَلَدِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْعُرْفَ الْمَعْهُودَ يَقْتَضِيهِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُ فِي الْغَبْنِ عَلَى ثَمَنِ الْمِثْلِ فَالْمَعْنَى فِيهِ جَوَازُهُ فِي الشِّرَاءِ وَالْغَبْنُ غَيْرُ جَائِزٍ فِي الشِّرَاءِ فَكَذَا فِي الْبَيْعِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُ فِي الْأَجَلِ عَلَى خِيَارِ الثَّلَاثِ فَلِأَصْحَابِنَا فِي جَوَازِهِ لِلْوَكِيلِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَصِحُّ مِنَ الْوَكِيلِ فَعَلَى هَذَا سَقَطَ الدَّلِيلُ . وَالثَّانِي : يَصِحُّ مِنْهُ وَالْقِيَاسُ عَلَيْهِ مُنْتَقَضٌ بِالْأَجَلِ فِي الثَّمَنِ ثُمَّ فِي الْمَعْنَى فِي خِيَارِ الثَّلَاثِ أَنَّهُ لَمَّا مَلَكَ الْوَكِيلُ فِي الشِّرَاءِ مَلَكَهُ الْوَكِيلُ فِي الْبَيْعِ . فَهَذَا حُكْمُ الْعَقْدِ مَعَ إِطْلَاقِ إِذْنِ الْمُوَكِّلِ وَمَا يَلْزَمُ مِنَ الشُّرُوطِ فِي عَقْدِ الْوَكِيلِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا حَالَةُ التَّقْيِيدِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ إِذْنُ الْمُوَكِّلِ فِي الْبَيْعِ مُقَيَّدًا بِشَرْطٍ حكمه فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ الَّذِي شَرَطَهُ الْمُوَكِّلُ فِي بَيْعِ وَكِيلِهِ مُبْطِلًا لِلْعَقْدِ كَالْأَجَلِ الْمَجْهُولِ وَكَالْخِيَارِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ وَكَالثَّمَنِ الْمُحَرَّمِ إِلَى مَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى مِنَ الشُّرُوطِ الَّتِي يَبْطُلُ الْعَقْدُ مَعَهَا ، فَقَدْ صَارَ الْمُوَكِّلُ بِهَا آذِنًا لِلْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ . فَإِنْ بَاعَ الْوَكِيلُ ذَلِكَ عَلَى الشَّرْطِ الَّذِي أَذِنَ فِيهِ الْمُوَكِّلُ كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا لِأَنَّ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ لَا يَصِحُّ ، وَإِنْ رَضِيَ الْمَالِكُ بِفَسَادِهِ ، فَإِنْ أَقْبَضَ الْوَكِيلُ ذَلِكَ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ لَمْ يَضْمَنْ لِأَنَّهُ إِقْبَاضٌ مَأْذُونٌ فِيهِ فَسَقَطَ الضَّمَانُ عَنْهُ لِلْإِذْنِ بِهِ . وَإِنْ بَاعَ الْوَكِيلُ ذَلِكَ بَيْعًا جَائِزًا لِإِسْقَاطِ الشَّرْطِ الْمُفْسِدِ لَهُ كَانَ بَيْعُهُ بَاطِلًا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : بَيْعُهُ جَائِزٌ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْبَيْعَ مَأْذُونٌ فِيهِ فَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ عَقْدُهُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ سَقَطَتْ مِنْ إِذْنِهِ وَصَارَ الْإِذْنُ مُجَرَّدًا عَنِ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى بُطْلَانِ بَيْعِهِ أَنَّ الْإِذْنَ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ لَا يَقْتَضِي زَوَالَ الْمِلْكِ فَإِذَا بَاعَهُ بَيْعًا صَحِيحًا صَارَ مُزِيلًا لِمِلْكِهِ عَمَّا لَمْ يَأْذَنْ بِإِزَالَةِ مِلْكِهِ عَنْهُ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا كَمَا لَوْ أَوْدَعَهُ وَدِيعَةً فَوَهَبَهَا أَوْ أَعَارَهُ عَارِيَةً فَبَاعَهَا .
فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ الَّذِي شَرَطَهُ الْمُوَكِّلُ فِي بَيْعِ وَكِيلِهِ يَصِحُّ مَعَهُ الْعَقْدُ وَلَا يَبْطُلُ بِهِ الْبَيْعُ ، فَعَلَى الْوَكِيلِ أَنْ يَعْقِدَ الْبَيْعَ عَلَى الشَّرْطِ الْمَأْذُونِ فِيهِ وَلَا يَتَجَاوَزَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ بِالْمُجَاوَزَةِ مَوْجُودًا مَعَ زِيَادَةٍ ، فَيَصِحُّ الْبَيْعُ حِينَئِذٍ عَلَى مَا سَنَشْرَحُهُ . وَلَا تَكُونُ الزِّيَادَةُ مَانِعَةً مِنْ صِحَّتِهِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالشَّرْطُ عَلَى ضَرْبَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ يَخْتَصَّ بِأَحْوَالِ الْعَقْدِ وَالثَّانِي أَنْ يَخْتَصَّ بِصِفَاتِ الْعَقْدِ . فَأَمَّا الْمُخْتَصُّ بِأَحْوَالِ الْعَقْدِ فَثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي بَيْعِهِ عَلَى رَجُلٍ بِعَيْنِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي بَيْعِهِ فِي زَمَانٍ بِعَيْنِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي بَيْعِهِ فِي مَكَانٍ بِعَيْنِهِ . فَأَمَّا إِذْنُهُ بِبَيْعِهِ عَلَى رَجُلٍ بِعَيْنِهِ فَلَازِمٌ وَلَا يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَعْدِلَ إِلَى بَيْعِهِ عَلَى غَيْرِهِ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالتَّمْلِيكِ ، فَلَمْ يَصِحَّ عُدُولُ الْوَكِيلِ عَنْهُ كَالْهِبَةِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ مَاتَ ذَلِكَ الرَّجُلُ بَطَلَتِ الْوَكَالَةُ بِالْبَيْعِ وَلَمْ يَجُزْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَبِيعَهُ عَلَى وَارِثِهِ وَلَا عَلَى غَيْرِ وَارِثِهِ ، وَلَوْ كَانَ حَيًّا وَامْتَنَعَ مِنَ ابْتِيَاعِهِ لَمْ تَبْطُلِ الْوَكَالَةُ لِجَوَازِ أَنْ يَرْغَبَ فِيهِ مِنْ بَعْدُ . وَأَمَّا إِذْنُهُ بِبَيْعِهِ فِي زَمَانٍ بِعَيْنِهِ فَلَازِمٌ وَلَا يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَبِيعَهُ قَبْلَ ذَلِكَ الزَّمَانِ وَلَا بَعْدَهُ . أَمَّا قَبْلَهُ فَلِأَنَّ وَقْتَ الْإِذْنِ لَمْ يَأْتِ . وَأَمَّا بَعْدَهُ فَلِبُطْلَانِ الْوَكَالَةِ بِالْفَوَاتِ ، وَقَدْ يَكُونُ لِلْإِنْسَانِ غَرَضٌ صَحِيحٌ فِي اسْتِيفَاءِ مِلْكِهِ إِلَى زَمَانٍ بِعَيْنِهِ . فَأَمَّا إِذْنُهُ بِبَيْعِهِ فِي مَكَانٍ بِعَيْنِهِ فَإِنْ كَانَ فِيهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ لِاخْتِلَافِ الْأَسْعَارِ بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ أَوْ جَوْدَةِ النُّقُودِ فَهُوَ شَرْطٌ لَازِمٌ لَا يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَبِيعَهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَكَانِ . فَإِنْ فَعَلَ وَسَلَّمَهُ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ فَهُوَ بِالتَّسْلِيمِ ضَامِنٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ غَرَضٌ صَحِيحٌ وَلَا مَعْنًى مُسْتَفَادٌ نُظِرَ فِي صِفَةِ إِذْنِهِ فَإِنْ كَانَ قَالَ : لَا تَبِيعُوا إِلَّا فِي مَكَانِ كَذَا أَوْ فِي سُوقِ كَذَا لَزِمَ الموكل لوكيله وَكَانَ الْبَيْعُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَكَانِ بَاطِلًا لِصَرِيحِ النَّهْيِ عَنْهُ . وَإِنْ قَالَ بِعْهُ فِي سُوقِ كَذَا أَوْ فِي مَكَانِ كَذَا وَلَمْ يُصَرِّحْ بِالنَّهْيِ عَمَّا سِوَاهُ الموكل لوكيله فَفِي لُزُومِ اشْتِرَاطِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ شَرْطٌ لَازِمٌ لَا يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَبِيعَهُ فِي غَيْرِهِ لِأَنَّهُ أَمْلَكُ بِأَحْوَالِ إِذْنِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ شَرْطٌ غَيْرُ لَازِمٍ لِفَسَادِ الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ بِهِ ، وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْمُخْتَصُّ بِصِفَاتِ الْعَقْدِ فَثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : مَا اخْتَصَّ بِجِنْسِ الثَّمَنِ . وَالثَّانِي : مَا اخْتَصَّ بِقَدْرِهِ . وَالثَّالِثُ : مَا اخْتَصَّ بِزَمَانِهِ فِي حُلُولِهِ وَأَجَلِهِ . فَأَمَّا الْمُخْتَصُّ بِجِنْسِ الثَّمَنِ فَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ : بِعْ عَبْدِي بِدَرَاهِمَ فَلَا يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ أَنْ
يَبِيعَهُ بِغَيْرِ الدَّرَاهِمِ مِنْ دَنَانِيرَ أَوْ عُرُوضٍ سَوَاءٌ كَانَتِ الدَّرَاهِمُ مِنْ غَالِبِ النُّقُودِ أَمْ لَا فَلَوْ قَالَ : بِعْ عَبْدِي هَذَا بِحِنْطَةٍ فَبَاعَهُ بِدَرَاهِمَ وَاشْتَرَى بِالدَّرَاهِمِ حِنْطَةً لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الْبَيْعَ بِالدَّرَاهِمِ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ وَشِرَاءَ الْحِنْطَةِ بِالدَّرَاهِمِ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ . فَلَوْ قَالَ : بِعْ عَبْدِي هَذَا بِدَرَاهِمَ وَاشْتَرِ بِالدَّرَاهِمِ حِنْطَةً فَبَاعَ الْعَبْدَ بِالْحِنْطَةِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ جِنْسٌ لَمْ يَأْذَنْ بِبَيْعِ الْعَبْدِ فِيهِ وَهَكَذَا لَوْ قَالَ بِعْ عَبْدِي بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَبَاعَهُ بِمِائَةِ دِينَارٍ لَمْ يَجُزْ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْمُخْتَصُّ بِقَدْرِ الثَّمَنِ فَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ : بِعْ عَبْدِي بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَهُ بِأَقَلَّ مِنْهَا وَلَوْ بِقِيرَاطٍ فَإِنْ فَعَلَ كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا ، وَلَوْ بَاعَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ دِرْهَمٍ كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا لِحُصُولِ الْمِائَةِ الَّتِي أَرَادَهَا ، وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهَا زِيَادَةُ حَظٍّ لَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَمَرَهُ أَنْ يَبِيعَهُ بِالْمِائَةِ عَلَى رَجُلٍ بِعَيْنِهِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَهُ عَلَيْهِ بِأَكْثَرَ مِنْ مِائَةٍ ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَهُ عَلَى غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا نَصَّ عَلَى الْقَدْرِ صَارَ مُسَامِحًا لَهُ بِالزِّيَادَةِ عَلَيْهِ . فَلَوْ بَاعَ نِصْفَ الْعَبْدِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ صَحَّ الْبَيْعُ ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ نِصْفِ الْعَبْدِ مَعَ حُصُولِ الْمِائَةِ الَّتِي أَرَادَهَا أَحَظُّ . فَلَوْ بَاعَ نِصْفَ الْعَبْدِ بِأَقَلَّ مِنْ مِائَةِ دِرْهَمٍ وَلَوْ بِقِيرَاطٍ لَمْ يَجُزْ لِتَفْوِيتِ مَا أَرَادَهُ مِنْ كَمَالِ الثَّمَنِ وَتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ . فَلَوْ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ عَبِيدٍ فَبَاعَ كُلَّ عَبْدٍ فِي عَقْدٍ ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ لَهُ قَدْرَ الثَّمَنِ جَازَ لِأَنَّ الْعَادَةَ فِي بَيْعِ الْعَبِيدِ جَارِيَةٌ بِإِفْرَادِهِمْ فِي الْعُقُودِ . وَلَوْ ذَكَرَ قَدْرَ الثَّمَنَ فَقَالَ : بِعْ هَؤُلَاءِ الْعَبِيدَ الثَّلَاثَةَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَإِنْ بَاعَ أَوَّلَ صَفْقَةٍ مِنَ الْعَبِيدِ بِأَقَلَّ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَشْتَرِي الْعَبْدَيْنِ الْآخَرَيْنِ بِمَا بَقِيَ مِنْ تَكْمِلَةِ الْأَلْفِ . وَإِنْ بَاعَ أَوَّلَ صَفْقَةٍ مِنَ الْعَبِيدِ بِأَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ جَازَ . وَهَلْ يَجُوزُ بَيْعُ الْعَبْدَيْنِ الْآخَرَيْنِ بَعْدَ حُصُولِ الْأَلْفِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ بِالْبَيْعِ حُصُولُ الْأَلْفِ مِنْ ثَمَنِهِ فَصَارَتِ الْوَكَالَةُ مَقْصُورَةً عَلَيْهَا وَبَاطِلَةً فِيمَا سِوَاهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ بَيْعُ مَا بَقِيَ مِنَ الْعَبِيدِ لِانْعِقَادِ الْوَكَالَةِ بِبَيْعِهِمْ ، وَلَا يَكُونُ حُصُولُ الثَّمَنِ بِكَمَالِهِ مِنْ بَعْضِهِمْ بِمَانِعٍ مِنْ بَيْعِ بَاقِيهِمْ كَمَا لَوْ بَاعَ أَحَدَهُمْ بِأَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ وَلَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَبِيعَ مِنْهُ بِقَدْرِ الْأَلْفِ وَيَكُفَّ عَنْ بَيْعِ بَاقِيهِ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْأَلْفِ . فَأَمَّا الْعَدَدُ مِنَ الثِّيَابِ إِذَا وَكَّلَهُ فِي بَيْعِهَا ، وَأَمْكَنَ أَنْ تُبَاعَ صَفْقَةً وَتَفَارِيقَ فَعَلَى الْوَكِيلِ أَنْ يَعْمَلَ عَلَى أَحَظِّ الْأَمْرَيْنِ لِمُوَكِّلِهِ مِنْ بَيْعِ جَمِيعِهَا صَفْقَةً أَوْ إِفْرَادِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَقْدٍ فَإِنْ عَدَلَ عَنْ أَحَظِّهِمَا لَمْ يَجُزْ مَا لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُوَكِّلِ تَصْرِيحٌ بِهِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُخْتَصُّ بِزَمَانِ الثَّمَنِ مِنْ حُلُولٍ وَتَأْجِيلٍ فَلِلْمُوَكِّلِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ :
أَحَدُهَا : أَنْ يَأْذَنَ لَهُ بِبَيْعِهِ نَقْدًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَهُ مُؤَجَّلًا قَلَّ الْأَجَلُ أَوْ كَثُرَ وَسَوَاءٌ كَانَ الْبَيْعُ بِالنَّسيئَةِ أَضَرَّ أَوْ أَنَفَعَ فَلَوْ بَاعَهُ بِأَجَلٍ ثُمَّ احْتَبَسَ الْمَبِيعَ حَتَّى حَلَّ الْأَجَلُ وَقَبَضَ الثَّمَنَ لَمْ يَجُزْ لِوُقُوعِ الْعَقْدِ فَاسِدًا . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي بَيْعِهِ بِالنَّسِيئَةِ فَإِنْ قَدَّرَ لَهُ أَجَلًا لَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ . وَإِنْ لَمْ يُقَدِّرْ لَهُ أَجَلًا فَمِنْ أَصْحَابِنَا مِنْ قَدَّرَ أَكْثَرَهُ بِحَوْلِ الدَّيْنِ وَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُهُمْ أَنَّهُ غَيْرُ مَحْدُودِ الْأَكْثَرِ بِالْحَوْلِ ، وَإِنَّمَا هُوَ مُعْتَبَرٌ بِالْعُرْفِ أَنْ لَا يَصِيرَ الْأَجَلُ خَارِجًا عَنْ غَالِبِ الْعَادَةِ فِي ذَلِكَ الْجِنْسِ . فَإِنَّ عُرْفَ النَّاسِ فِي حَالِ الْأَثْمَانِ مُخْتَلِفٌ بِحَسْبِ اخْتِلَافِ الْأَجْنَاسِ لَوْ عَدَلَ عَنْ بَيْعِهِ بِالنَّسِيئَةِ وَبَاعَهُ نَقْدًا ، فَإِنْ كَانَ حِينَ أَمَرَهُ بِالنَّسِيئَةِ نَهَاهُ عَنِ النَّقْدِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ . وَإِنْ لَمْ يَنْهَهُ نُظِرَ فَإِنْ بَاعَهُ نَقْدًا بِمَا يُسَاوِي نِسْبَةً جَازَ لِأَنَّهُ قَدْ حَصَلَتْ لَهُ الزِّيَادَةُ مَعَ التَّعْجِيلِ وَإِنْ بَاعَهُ بِمَا يُسَاوِي نَقْدًا أَوْ أَقَلَّ مِنْ ثَمَنِ النَّسِيئَةِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ قَدْ فَوَّتَ عَلَيْهِ فَضْلَ النَّسِيئَةِ . وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : إِطْلَاقُ الْإِذْنِ في الوكالة وَهِيَ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا فَيَلْزَمُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ نَقْدًا وَيَجُوزُ لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يَبِيعَهُ نَسِيئَةً .
فَصْلٌ : وَإِذَا بَاعَ الْوَكِيلُ عَبْدَ مُوَكِّلِهِ ثُمَّ أَقَرَّ الْوَكِيلُ أَنَّهُ بَاعَهُ بِغَيْرِ أَمْرِ مُوَكِّلِهِ فَفِي الْبَيْعِ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَازِمٌ لَا يُنْتَقَضُ حَتَّى يُعْرَفَ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِذَلِكَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : إِنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ إِلَّا أَنْ يُقَدِّمَ بَيِّنَةً أَنَّ الْمُوَكِّلَ أَمَرَ بِذَلِكَ ، فَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ إِذَا تَصَادَقَ الْمُوَكِّلُ وَالْوَكِيلُ عَلَى الْبَيْعِ بِإِذْنٍ وَأَنْكَرَ الْمُشْتَرِي أَنْ يَكُونَ قَدْ أُمِرَ بِذَلِكَ ، فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ وَالْمُوَكِّلِ وَالْبَيْعُ لَازِمٌ لِلْمُشْتَرِي . وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي : إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُشْتَرِي ، وَالْبَيْعُ غَيْرُ لَازِمٍ لَهُ إِلَّا أَنْ يُقِيمَ الْمُوَكِّلُ وَالْوَكِيلُ بَيِّنَةً بِتَقَدُّمِ الْإِذْنِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ قَالَ أَمَرْتُكَ أَنْ تَشْتَرِيَ لِي هَذِهِ الْجَارِيَةَ بِعَشَرَةٍ فَاشْتَرَيْتَهَا بِعِشْرِينَ ، فَقَالَ الْوَكِيلُ بَلْ أَمَرْتَنِي بِعِشْرِينَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْآمِرِ مَعَ يَمِينِهِ وَتَكُونُ الْجَارِيَةُ فِي الْحُكْمِ لِلْوَكِيلِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) وَالشَّافِعِيُّ يُحِبُّ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يَرْفُقَ الْحَاكِمُ بِالْآمِرِ لِلْمَأْمُورِ فَيَقُولَ إِنْ كُنْتَ أَمَرْتَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا بِعِشْرِينَ فَقُلْ بِعْتُهُ إِيَّاهَا بِعِشْرِينَ وَيَقُولَ الْآخَرُ قَدْ قَبِلْتُ لِيَحِلَّ لَهُ الْفَرْجُ وَلِمَنْ يَبْتَاعُهُ مِنْهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي رَجُلٍ أَمَرَ وَكِيلَهُ بِشِرَاءِ جَارِيَةٍ بِعَيْنِهَا بِثَمَنٍ مُقَدَّرٍ ، فَاشْتَرَاهَا بِعِشْرِينَ دِينَارًا ثُمَّ اخْتَلَفَا فَقَالَ الْمُوَكِّلُ : أَمَرْتُكَ أَنْ تَشْتَرِيَهَا بِعَشَرَةٍ فَاشْتَرَيْتَهَا
بِعِشْرِينَ فَالشِّرَى لَا يَلْزَمُنِي وَالثَّمَنُ وَاجِبٌ عَلَيْكَ دُونِي ، وَقَالَ الْوَكِيلُ : بَلْ أَمَرْتَنِي أَنْ أَشْتَرِيَهَا بِعِشْرِينَ ، فَالشِّرَاءُ لَازِمٌ لَكَ وَالثَّمَنُ وَاجِبٌ عَلَيْكَ . فَإِنْ أَقَامَ الْوَكِيلُ بَيِّنَةً بِمَا ادَّعَاهُ حُكِمَ لَهُ بِهَا ، وَالْبَيِّنَةُ شَاهِدَانِ عَدْلَانِ لِأَنَّهَا فِي صِفَةِ الْإِذْنِ الَّذِي لَا يَثْبُتُ أَصْلُهُ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ . فَإِنْ لَمْ يُقِمِ الْوَكِيلُ بَيِّنَةً فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُوَكِّلِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَمَّا كَانَ مَقْبُولًا فِي أَصْلِ الْإِذْنِ كَانَ مَقْبُولًا فِي صِفَتِهِ كَالطَّلَاقِ لَمَّا كَانَ قَوْلُ الزَّوْجِ مَقْبُولًا فِي أَصْلِهِ كَانَ قَوْلُهُ مَقْبُولًا فِي عَدَدِهِ . فَإِذَا حَلَفَ الْمُوَكِّلُ صَارَ الْوَكِيلُ بِمَثَابَةِ الْمُشْتَرِي لِمُوَكِّلِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ شِرَائِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِعَيْنِ الْمَالِ أَوْ فِي الذِّمَّةِ . فَإِنْ كَانَ بِعَيْنِ الْمَالِ كَانَ الشِّرَاءُ بَاطِلًا لِأَنَّهُ عَيْنُ مَالٍ لَمْ يَأْذَنْ مَالِكُهُ بِالْعَقْدِ عَلَيْهِ . وَإِنْ كَانَ الشِّرَاءُ فِي ذِمَّةِ الْوَكِيلِ فَالشِّرَاءُ لَازِمٌ لِلْوَكِيلِ إِنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ مُوَكِّلِهِ فِي الْعَقْدِ ، وَإِنْ ذَكَرَهُ فَعَلَى وَجْهَيْنِ وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ مَشْرُوحًا مِنْ قَبْلُ .
فَصْلٌ : فَإِذَا صَارَ شِرَاءُ الْجَارِيَةِ لَازِمًا لِلْوَكِيلِ عَلَى مَا وَصَفْنَا ، نُظِرَ فَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ قَدْ دَفَعَ مِنْ مَالِ مُوَكِّلِهِ اختلاف الوكيل مع موكله فى الثمن ، كَانَ ضَامِنًا لَهُ وَرَدَّ مِثْلَهُ . وَإِنْ كَانَ بَاقِيًا مُنِعَ الْوَكِيلُ مِنْ دَفْعِ الْمَالِ الْمُوَكَّلِ فِيهِ وَأُلْزِمَ دَفْعَهُ مِنْ خَالِصِ مَالِهِ لِحُصُولِ الشِّرَاءِ لَهُ . قَالَ الْمُزَنِيُّ : وَالشَّافِعِيُّ يَسْتَحِبُّ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يَرْفُقَ الْحَاكِمُ بِالْوَكِيلِ حَتَّى يَقُولَ لِلْوَكِيلِ إِنْ كُنْتُ أَمَرْتُكَ أَنْ تَشْتَرِيَهَا بِعِشْرِينَ فَقَدْ بِعْتُهَا عَلَيْكَ بِعِشْرِينَ . وَيَقُولُ لِلْوَكِيلِ : اقْبَلْ مِنْهُ الشِّرَاءَ بِعِشْرِينَ لِيَحِلَّ لَكَ الْفَرْقُ بِيَقِينٍ وَلِمَنْ يَبْتَاعُهَا مِنْكَ . وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّ الْوَكِيلَ إِنْ كَانَ صَادِقًا صَارَ بِهَذَا الِابْتِيَاعِ مَالِكًا . وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا لَمْ يَسْتَضِرَّ بِهَذَا الْقَوْلِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَهَذَا مِنَ الْمُوَكِّلِ بَيْعُ مَا هُوَ شَاكٌّ فِي تَمَلُّكِهِ فَكَانَ بَاطِلًا ، وَلَمْ يَصِرْ بِهَذَا الْقَوْلِ مُحْتَاطًا كَمَنْ شَكَّ فِي إِرْثِ مَالٍ فَبَاعَهُ وَبَانَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ وَرِثَهُ كَانَ بَيْعُهُ بَاطِلًا لِلشَّكِّ . قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الشَّكَّ فِي مَسْأَلَتِنَا وَاقِعٌ فِي مِلْكِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَفِي الْمِيرَاثِ مِنَ الْعَاقِدِ وَغَيْرِهِ . فَإِنْ قِيلَ فَبَيْعُ الْمُوَكِّلِ مَعْقُودٌ بِشَرْطٍ وَهُوَ قَوْلُهُ : إِنْ كُنْتُ قَدْ أَمَرْتُكَ أَنْ تَشْتَرِيَهَا بِعِشْرِينَ فَقَدْ بِعْتُهَا عَلَيْكَ بِعِشْرِينَ وَهَذَا شَرْطٌ يَفْسُدُ مَعَهُ الْبَيْعُ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ مِنْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُزَنِيَّ إِنَّمَا اخْتَارَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ لَهُمَا تَنْبِيهًا عَلَى مَعْنَى هَذَا الْعَقْدِ
وَالسَّبَبُ الْمَعْقُودُ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَذْكُرَاهُ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ ، فَإِذَا ذَكَرَاهُ فِيهِ لَمْ يَصِحَّ بَلْ يَعْقِدَاهُ مُطْلَقًا مِنْ هَذَا الشَّرْطِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْبَصْرِيِّينَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجُمْهُورِ الْبَغْدَادِيِّينَ : أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُمَا أَنْ يَعْقِدَاهُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ هَكَذَا يَكُونُ فِي الْحُكْمِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَلْفُوظًا بِهِ فِي الْعَقْدِ . فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا فَلِلْمُوَكِّلِ حَالَتَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُجِيبَ إِلَى بَيْعِهَا عَلَى الْوَكِيلِ إِنْ كَانَ صَادِقًا فَيَصِيرَ الْوَكِيلُ مَالِكًا لَهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَيَجُوزُ لَهُ إِمْسَاكُهَا وَالِاسْتِمْتَاعُ بِهَا وَبَيْعُهَا وَأَخَذُ الْفَضْلِ عَنْ ثَمَنِهَا . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ لَا يُجِيبَ إِلَى بَيْعِهَا فَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ وَلَوْ كَانَ مَالِكًا لَمْ يُجْبَرْ عَلَى بَيْعِ مِلْكِهِ ، وَهَلْ يَكُونُ الْوَكِيلُ مَالِكًا لَهَا أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ : أَنَّهُ قَدْ مَلَكَهَا مِلْكًا تَامًّا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ قَدِ انْتَقَلَ عَنِ الْمُوَكِّلِ بِيَمِينِهِ فَاقْتَضَى أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى الْوَكِيلِ بِعَقْدِهِ ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُمْسِكَهَا وَيَسْتَمْتِعَ بِهَا ، وَإِنْ بَاعَهَا مَلَكَ الْفَضْلَ مِنْ ثَمَنِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مَالِكًا لَهَا وَإِنَّمَا لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ ثَمَنِهَا مَا غَرِمَ فِيهِ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِأَنَّهَا مِلْكٌ لِمُوَكِّلِهِ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِهَا وَإِذَا كَانَ فِي ثَمَنِهَا فَضْلٌ لَمْ يَمْلِكْهُ . وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِبَيْعِهَا أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ وَجْهَيْ أَصْحَابِنَا فِي مَنْ لَهُ دَيْنٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهِ وَقَدْ ظَفِرَ بِمَالٍ لِغَرِيمِهِ ، هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَهُ بِنَفْسِهِ أَوِ الْحَاكِمُ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَبِيعُهُ بِنَفْسِهِ . وَالثَّانِي : يَتَوَلَّاهُ الْحَاكِمُ . وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ بِقَدْرِ مَا دَفَعَ نَقْدًا اسْتَوْفَاهُ ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ فَلَا رُجُوعَ لَهُ بِبَاقِيهِ ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ فَلَا حَقَّ لَهُ فِي الزِّيَادَةِ . وَهَلْ يَجُوزُ إِقْرَارُهَا فِي يَدِهِ لِأَنَّهُ لَا خَصْمَ لَهُ فِيهَا أَوْ يَنْزِعُهَا الْحَاكِمُ مِنْهُ ظفر من له الدين عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُقِرُّهَا فِي يَدِهِ لِأَنَّهُ لَا خَصْمَ لَهُ فِيهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَنْزِعُهَا مِنْهُ لِأَنَّهُ مَالٌ قَدْ جُهِلَ مُسْتَحِقُّهُ فَصَارَ كَأَمْوَالِ الْغَيْبِ ثُمَّ يَكُونُ مُشْتَرِي الْجَارِيَةِ مَالِكَهَا عَلَى الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا ، وَلَا يَكُونُ عَدَمُ مِلْكِ الْبَائِعِ لَهَا بِمَانِعٍ مِنَ اسْتِقْرَارِ مِلْكِ الْمُشْتَرِي عَلَيْهَا كَالْمُشْتَرِي مِنْ وَكِيلٍ فِي بَيْعِهَا .
مَسْأَلَةٌ لَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ جَارِيَةً فَاشْتَرَى غَيْرَهَا
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ جَارِيَةً فَاشْتَرَى غَيْرَهَا أَوْ أَمَرَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ جَارِيَةً فَزَوَّجَهُ غَيْرَهَا بَطَلَ النِّكَاحُ وَكَانَ الشِّرَاءُ لِلْمُشْتَرِي لَا لِلْآمِرِ " .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا أَمَرَ الرَّجُلُ وَكِيلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ جَارِيَةً فَاشْتَرَى غَيْرَهَا أَوْ عَلَى صِفَةٍ فَاشْتَرَاهَا بِخِلَافِهَا فَالشِّرَاءُ بَاطِلٌ إِنْ كَانَ بِعَيْنِ الْمَالِ ، وَإِنْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ فَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ لِلْمُوَكِّلِ ثُمَّ يَنْظُرُ فَإِنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ الْمُوَكِّلِ فِي الْعَقْدِ فَالشِّرَى لَازِمٌ لِلْوَكِيلِ وَإِنْ ذَكَرَهُ فَعَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ ، وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً فَزَوَّجَهُ غَيْرَهَا حكم الوكاله كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا ، وَلَمْ يَصِرِ النِّكَاحُ لِلْوَكِيلِ بِخِلَافِ الشِّرَاءِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِي النِّكَاحِ أَعْيَانُ الْمُتَنَاكِحِينَ وَلِذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ إِلَّا بِتَسْمِيَةِ الزَّوْجِ . وَلَمْ يَبْطُلِ النِّكَاحُ بِالْجَهْلِ بِقَدْرِ الصَّدَاقِ ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ فِي الْبَيْعِ أَعْيَانَ الْمُتَبَايِعَيْنِ ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مِلْكُ الْمَبِيعِ وَلِذَلِكَ صَحَّ الْعَقْدُ وَإِنْ لَمْ يُسَمَّ الْمُشْتَرِي لَهُ وَصَارَ مِلْكًا لَهُ إِذَا نَوَاهُ الْوَكِيلُ ، وَبَطَلَ الْبَيْعُ بِالْجَهْلِ بِالثَّمَنِ . وَصِفَةُ خِطْبَةِ الْوَكِيلِ فِي النِّكَاحِ أَنْ يَقُولَ : إِنَّ فُلَانًا وَكَّلَنِي فِي تَزْوِيجِهِ بِفُلَانَةَ ، فَيَقُولُ الْوَلِيُّ : قَدْ زَوَّجْتُ فُلَانًا مُوَكِّلَكَ بِفُلَانَةَ . فَيَقُولُ الْوَكِيلُ : قَدْ قَبِلْتُ نِكَاحَهَا لِفُلَانٍ ، وَلَا يَصِحُّ الْعَقْدُ لِوَكِيلِ النِّكَاحِ إِلَّا هَكَذَا ، فَصَحَّ فِي الْبَيْعِ أَنْ يُنَوِّهَ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِ لِأَنَّ مِلْكَ الْبَيْعِ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَنْتَقِلَ عَنْ شَخْصٍ إِلَى غَيْرِهِ . وَعَقْدُ النِّكَاحِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْتَقِلَ عَنْ شَخْصٍ إِلَى غَيْرِهِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا بَطَلَ عَقْدُ النِّكَاحِ بِمُخَالَفَتِهِ هل يضمن الوكيل الصداق عند مخالفته فَلَا يَخْلُو حَالُ الْوَكِيلِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ ضَمِنَ الصَّدَاقَ عَنْ مُوَكِّلِهِ أَمْ لَا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ ضَمِنَهُ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ النِّكَاحَ يَكُونُ بَاطِلًا ، وَلَيْسَ عَلَى الْوَكِيلِ ضَمَانُ الْمُسَمَّى مِنَ الصَّدَاقِ . وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ : يَكُونُ الْوَكِيلُ ضَامِنًا لِنِصْفِ الصَّدَاقِ لِقَبُولِهِ الْعَقْدَ كَمَا يَضْمَنُ الثَّمَنَ . وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الشِّرَاءَ قَدْ يَحْصُلُ فَجَازَ أَنْ يَلْزَمَهُ الثَّمَنُ وَالنِّكَاحُ لَا يَحْصُلُ لَهُ فَلَمْ يَلْزَمْهُ الصَّدَاقُ . وَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ قَدْ ضَمِنَ الصَّدَاقَ وَهُوَ مُقِرٌّ أَنَّ الْمُوَكِّلَ قَدْ أَمَرَهُ بِإِنْكَاحِ هَذِهِ الَّتِي قَدْ أَنْكَرَهَا كَانَ الْوَكِيلُ غَارِمًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ ضَمَانِ صَدَاقِهَا . وَفِي قَدْرِ مَا يَضْمَنُهُ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَضْمَنُ جَمِيعَهُ لِاسْتِحْقَاقِهِ بِالْعَقْدِ . وَالثَّانِي : يَضْمَنُ نِصْفَهُ لِعَدَمِ الدُّخُولِ فِيهِ .
فَصْلٌ : وَإِذَا أَمَرَ الرَّجُلُ وَكِيلَهُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُعَيِّنَ الْعَبْدَ وَيُعَيِّنَ ثَمَنَهُ . وَالثَّانِي : أَنْ لَا يُعَيِّنَ الْعَبْدَ وَلَا يُعَيِّنَ ثَمَنَهُ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يُعَيِّنَ الْعَبْدَ وَلَا يُعَيِّنَ ثَمَنَهُ .
وَالرَّابِعُ : أَنْ لَا يُعَيِّنَ الْعَبْدَ وَيُعَيِّنَ ثَمَنَهُ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ أَنْ يُعَيِّنَ الْعَبْدَ وَيُعَيِّنَ ثَمَنَهُ اطلاق الوكاله فى البيع ، كَقَوْلِهِ اشْتَرِ لِي سَالِمًا بِمِائَةِ دِينَارٍ ، فَلَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِالْمِائَةِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِأَقَلَّ مِنْهَا . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِأَكْثَرَ مِنْهَا . فَإِنِ اشْتَرَاهُ بِالدَّنَانِيرِ لَكِنْ بِأَقَلَّ مِنْ مِائَةِ دِينَارٍ كَأَنِ اشْتَرَاهُ بِخَمْسِينَ دِينَارًا صَحَّ وَلَزِمَ الْمُوَكِّلَ ؛ لِأَنَّ حُصُولَ الْعَبْدِ لَهُ بِبَعْضِ الثَّمَنِ أَحَظُّ لَهُ ، فَإِنْ قِيلَ : أَفَلَيْسَ لَوْ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ عَبْدِهِ عَلَى زَيْدٍ بِمِائَةِ دِينَارٍ فَبَاعَهُ عَلَيْهِ بِأَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ دِينَارٍ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ وَكَّلَهُ فِي مُحَابَاتِهِ ، فَمَثَلًا إِذَا وَكَّلَهُ فِي شِرَاءِ عَبْدٍ بِمِائَةِ دِينَارٍ أَنْ لَا يَجُوزَ الشِّرَاءُ بِأَقَلَّ مِنْهَا لِأَنَّهُ قَدْ وَكَّلَهُ فِي مُحَابَاتِهِ . قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ إِذَا وَكَّلَهُ فِي الْبَيْعِ بِالْمِائَةِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ بِأَكْثَرَ مِنْهَا لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ قَبْضِ الزِّيَادَةِ ، وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ قَبْضُ مَا مُنِعَ مِنْ قَبْضِهِ ، وَإِذَا وُكِّلَ فِي الشِّرَاءِ بِالْمِائَةِ جَازَ الشِّرَاءُ بِأَقَلَّ مِنْهَا لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِدَفْعِ الزِّيَادَةِ وَدَفْعُ الْوَكِيلِ الْبَعْضَ جَائِزٌ وَإِنْ مَنَعَ الزِّيَادَةَ . وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِمِائَةِ دِينَارٍ ، وَلَا يَشْتَرِيَهُ بِأَقَلَّ مِنْهَا فَاشْتَرَاهُ بِأَقَلَّ مِنَ الْمِائَةِ الموكل لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِصَلَاحِ نَفْسِهِ . وَلَوْ قَالَ اشْتَرِهِ بِمِائَةِ دِينَارٍ وَلَا تَشْتَرِيهِ بِخَمْسِينَ دِينَارًا الوكيل لموكله جَازَ أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِالْمِائَةِ وَبِمَا بَيْنَ الْخَمْسِينَ وَالْمِائَةِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِخَمْسِينَ لِلنَّهْيِ عَنْهَا ، وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِأَقَلَّ مِنْ خَمْسِينَ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ لِأَنَّ الْوَكِيلَ مَنْدُوبٌ إِلَى الِاسْتِرْخَاصِ إِلَّا مَا نَهَاهُ عَنْهُ مِنَ الْقَدْرِ لِمَعْنًى هُوَ أَعْلَمُ بِهِ مِنْ يَمِينٍ حَلَفَ عَلَيْهَا أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالْمِائَةِ لَمَّا دَخَلَ فِيهِ مَا هُوَ أَقَلُّ مِنْهَا كَانَ النَّهْيُ عَنِ الْخَمْسِينَ دَاخِلًا فِيهِ مَا هُوَ أَقَلُّ مِنْهَا . فَهَذَا حُكْمُ الْعَبْدِ إِذَا اشْتَرَاهُ بِأَقَلَّ مِنَ الْمِائَةِ ، فَأَمَّا إِذَا اشْتَرَاهُ بِأَكْثَرَ مِنَ الْمِائَةِ كَأَنِ اشْتَرَاهُ بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ دِينَارًا أَوْ مِائَةِ دِينَارٍ وَقِيرَاطٍ ، فَالشِّرَاءُ غَيْرُ لَازِمٍ لِلْمُوَكِّلِ وَهُوَ لَازِمٌ لِلْوَكِيلِ إِنْ لَمْ يَشْتَرِهِ بِعَيْنِ الْمَالِ ، هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ : الشِّرَاءُ لَازِمٌ لِلْمُوَكِّلِ بِالْمِائَةِ دِينَارٍ الَّتِي عُيِّنَ عَلَيْهَا وَالْوَكِيلُ
ضَامِنٌ لِلزِّيَادَةِ فِي مَالِهِ وَعَلَيْهِ غُرْمُهَا لِلْبَائِعِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ لِمُجَاوَزَتِهِ الْقَدْرَ الْمُعَيَّنَ مُتَطَوِّعًا بِهَا ، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي جُمْلَةِ الثَّمَنِ الَّذِي لَزِمَ بِالْعَقْدِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَبَعَّضَ حُكْمُهُ . وَلَوْ جَازَ أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ بِقَدْرِ الْمُغَابَنَةِ فِي الشِّرَاءِ مَضْمُونَةً عَلَى الْوَكِيلِ مَعَ صِحَّةِ الشِّرَاءِ لِلْمُوَكِّلِ لَكَانَ النُّقْصَانُ بِقَدْرِ الْمُغَابَنَةِ فَيَ الْبَيْعِ مَضْمُونًا عَلَى الْوَكِيلِ مَعَ لُزُومِ الْبَيْعِ لِلْمُوَكِّلِ . وَهَذَا مِمَّا لَمْ يَرَ بِهِ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي الْبَيْعِ ، فَبَطَلَ الْمَذْهَبُ إِلَيْهِ فِي الشِّرَاءِ . فَإِنِ اشْتَرَاهُ بِالْمِائَةِ دِينَارٍ صَحَّ وَلَزِمَ الْمُوَكِّلَ . وَإِنِ اشْتَرَاهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ لَمْ يَلْزَمِ الْمُوَكِّلَ وَإِنْ كَانَتِ الدَّرَاهِمُ أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ لِأَنَّ عُدُولَهُ عَنْ جِنْسِ الثَّمَنِ كَعُدُولِهِ عَنْ عَيْنِ الْعَبْدِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ لَا يُعَيِّنَ الْعَبْدَ وَلَا يُعَيِّنَ ثَمَنُهُ اطلاق الوكاله فى البيع كَقَوْلِهِ اشْتَرِ لِي عَبْدًا فَإِنْ وَصَفَهُ صِفَةً يَتَمَيَّزُ بِهَا مُرَادُهُ مِنَ الْعَبِيدِ صَحَّ . وَإِنْ لَمْ يَصِفْهُ فَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ بُطْلَانُ الْوَكَالَةِ فِي شِرَائِهِ . وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ أَجَازَ الْوَكَالَةَ فِي شِرَاءِ أَيِّ عَبْدٍ كَانَ . وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ فَإِذَا اشْتَرَى عَبْدًا عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا بِثَمَنِ مِثْلِهِ فَمَا دُونَ صَحَّ وَلَزِمَ الْمُوَكِّلَ ، وَإِنِ اشْتَرَاهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهِ بِقَدْرٍ لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ فَالشِّرَاءُ غَيْرُ لَازِمٍ لِلْمُوَكِّلِ وَيَكُونُ لِلْوَكِيلِ إِنْ لَمْ يَكُنْ بِعَيْنِ الْمَالِ بِوِفَاقِ أَبِي الْعَبَّاسِ هَاهُنَا ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ فِيمَا ارْتَكَبَهُ هُنَاكَ . فَلَوْ وَكَّلَهُ فِي شِرَاءِ عَشَرَةِ أَعْبُدٍ جَازَ أَنْ يَشْتَرِيَهُمْ صَفْقَةً وَتَفَارِيقَ عَلَى حَسَبِ مَا يَتَيَسَّرُ لَهُ ، فَإِنْ قَالَ اشْتَرِهِمْ صَفْقَةً وَاحِدَةً لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِيَهُمْ تَفَارِيقَ ، فَلَوْ كَانُوا بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَاشْتَرَاهُمُ الْوَكِيلُ مِنْهُمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً فَإِنْ كَانَ مِلْكُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَمَيِّزًا عَنْ صَاحِبِهِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا خَمْسَةٌ مِنَ الْعَبِيدِ بِكَمَالِهِمْ وَلِلْآخَرِ خَمْسَةٌ لَمْ يَلْزَمِ الْمُوَكِّلَ هَذَا الْعَقْدُ لِأَنَّهُمَا صَفْقَتَانِ وَهُوَ إِنَّمَا أَمَرَ بِصَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ . ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ سَمَّى فِي الْعَقْدِ لِكُلِّ خَمْسَةٍ ثَمَنًا لَزِمَ الْوَكِيلَ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ إِنْ لَمْ يَكُنْ بِعَيْنِ الْمَالِ . وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ لِكُلِّ خَمْسَةٍ مِنْهُمْ ثَمَنًا وَاحِدًا فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ ، وَخَرَّجَ ابْنُ سُرَيْجٍ فِيهِ قَوْلًا أَنَّهُ يَصِحُّ وَيَلْزَمُ الْوَكِيلُ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي مَنْ تَزَوَّجَ أَرْبَعًا عَلَى صَدَاقٍ بِأَلْفِ مُبْهَمَةٍ بَيْنَهُنَّ ، وَلَا يَصِحُّ هَذَا التَّخْرِيجُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْبُيُوعِ . وَإِنْ كَانَ الْعَشَرَةُ كُلُّهُمْ شَرِكَةً بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ فَفِي لُزُومِ هَذَا الشِّرَاءِ لِلْمُوَكِّلِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَازِمٌ لِحُصُولِ جَمِيعِهِمْ بِالْعَقْدِ الْوَاحِدِ . وَالثَّانِي : غَيْرُ لَازِمٍ لَهُ ، وَالْعَقْدُ صَحِيحٌ إِنْ لَمْ يَكُنْ بِعَيْنِ الْمَالِ وَهُوَ لَازِمٌ لِلْوَكِيلِ لِأَنَّ الْعَقْدَ إِذَا كَانَ فِي أَحَدِ طَرَفَيْهِ عَاقِدَانِ جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْعَقْدَيْنِ .
فَأَمَّا إِنِ اشْتَرَى الْوَكِيلُ فِي شِرَاءِ الْعَبْدِ الْوَاحِدِ نِصْفَهُ لَمْ يَلْزَمِ الْمُوَكِّلَ عَقْدُهُ لِمَا دَخَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْمُشَارَكَةِ الَّتِي يَسْتَضِرُّ بِهَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يُعَيِّنَ الْعَبْدَ وَلَا يُعَيِّنَ ثَمَنَهُ اطلاق الوكاله فى البيع ، كَقَوْلِهِ : اشْتَرِ لِي سَالِمًا . فَعَلَى الْوَكِيلِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِثَمَنِ الْمَثَلِ فَمَا دُونَ . فَإِنِ اشْتَرَاهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ فَالشِّرَاءُ غَيْرُ لَازِمٍ لِلْمُوَكِّلِ بِوِفَاقِ أَبِي الْعَبَّاسِ وَبِخِلَافِ مَا قَالَهُ فِي الْعَبْدِ الْمُعَيَّنِ بِالثَّمَنِ الْمُقَدَّرِ . وَهُوَ أَيْضًا حُجَّةٌ عَلَيْهِ فَإِنْ فَرَّقَ أَبُو الْعَبَّاسِ بِأَنَّ الْمُعَيَّنَ عَلَى ثَمَنِهِ لَيْسَ لِلْوَكِيلِ اجْتِهَادٌ فِي الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ فَصَارَ مُتَطَوِّعًا بِهَا ، وَلَهُ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ عَلَى ثَمَنِهِ اجْتِهَادٌ فِيهِ فَلَمْ يَكُنْ مُتَطَوِّعًا بِهَا ، كَانَ فَرْقُهُ مُنْتَقَضًا بِالْبَيْعِ حَيْثُ بَطَلَ بِنُقْصَانِ الثَّمَنِ فِي الْمُقَدَّرِ وَغَيْرِ الْمُقَدَّرِ . فَلَوْ قَالَ الْمُوَكِّلُ لِوَكِيلِهِ وَقَدِ اشْتَرَى الْعَبْدَ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ قَدْ أَجَزْتُهُ وَقَبِلْتُ الشِّرَاءَ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ الشِّرَاءَ بِالْمُخَالَفَةِ قَدْ صَارَ لِلْوَكِيلِ فَلَمْ يَنْتَقِلْ إِلَى الْمُوَكِّلِ بِالْإِجَازَةِ وَالْقَبُولِ . وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ : لِلْمُوَكِّلِ قَبُولُ الشِّرَاءِ بِالثَّمَنِ الزَّائِدِ وَيَصِيرُ الْمِلْكُ لَهُ بِالْقَبُولِ وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ مَنْعُهُ مِنْهُ لِأَنَّهُ إِنَّمَا صَرَفَ عَقْدَ الشِّرَاءِ عَنْهُ بِالثَّمَنِ الزَّائِدِ نَظَرًا لَهُ فَلَمَّا سَامَحَ فِي النَّظَرِ بِالزِّيَادَةِ كَانَ أَحَقَّ بِهِ ، قِيلَ : أَلَيْسَ لَوْ كَانَتِ الْوَكَالَةُ فِي الْبَيْعِ فَبَاعَ بِأَقَلَّ مِنَ الثَّمَنِ كَانَ الْعَقْدُ بَاطِلَا وَلَمْ يَصِحَّ بِإِجَازَةِ الْمُوَكِّلِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ أَنَّ بَيْعَ الْوَكِيلِ بِمُخَالَفَتِهِ يَكُونُ فَاسِدًا فَلَمْ يَصِحَّ بِالْإِجَازَةِ ، وَشِرَاءَ الْوَكِيلِ مَعَ مُخَالَفَتِهِ يَكُونُ صَحِيحًا لِنَفْسِهِ فَصَحَّتْ فِيهِ الْإِجَازَةُ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ وَهُوَ أَنْ لَا يُعَيِّنَ الْعَبْدَ وَيُعَيِّنَ ثَمَنَهُ اطلاق الوكاله فى البيع . فَكَقَوْلِهِ : اشْتَرِ لِي عَبْدًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، فَإِنْ وَصَفَ الْعَبْدَ بِمَا يَتَمَيَّزُ بِهِ مُرَادُهُ مِنَ الْعَبِيدِ صَحَّ وَإِنْ لَمْ يَصِفْهُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَقُومُ ذِكْرُ الثَّمَنِ مَقَامَ الصِّفَةِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ الصِّفَةِ لِتَمْيِيزِ الْعَبْدِ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ ، فَعَلَى هَذَا تَصِحُّ الْوَكَالَةُ فِي ابْتِيَاعِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَقُومُ مَقَامَ الصِّفَةِ لِأَنَّ ذِكْرَ الثَّمَنِ لَا يَدُلُّ عَلَى جِنْسٍ مِنَ الْعَبِيدِ دُونَ غَيْرِهِ فِي الْأَجْنَاسِ ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْوَكَالَةُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ بَاطِلَةً ، وَعَلَى مَذْهَبِ مَنْ أَجَازَ إِطْلَاقَهَا مِنْ أَصْحَابِنَا جَائِزَةً . فَإِذَا اشْتَرَى الْعَبْدَ بِالْمِائَةِ الَّتِي عَيَّنَهَا وَنَصَّ عَلَيْهَا وَهُوَ يُسَاوِي مِائَةً الوكيل صَحَّ ، وَإِنْ كَانَ لَا يُسَاوِي مِائَةً لَمْ يَلْزَمِ الْمُوَكِّلَ ، وَلَوِ اشْتَرَاهُ لَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ مِائَةٍ وَلَوْ بِقِيرَاطٍ ، وَهُوَ يُسَاوِي مَا اشْتَرَاهُ بِهِ لَمْ يَلْزَمِ الْمُوَكِّلَ لِلْمُخَالَفَةِ فِيهِ .
وَلَوِ اشْتَرَاهُ بِأَقَلَّ مِنْ مِائَةٍ ، فَإِنْ كَانَ يُسَاوِي مَا اشْتَرَاهُ بِهِ وَلَا يُسَاوِي الْمِائَةَ لَمْ يَلْزَمِ الْمُوَكِّلَ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَمَرَ بِشِرَاءِ عَبْدٍ يُسَاوِي مِائَةً . فَإِنْ كَانَ يُسَاوِي الْمِائَةَ فَهُوَ لَازِمٌ لِلْمُوَكِّلِ لِأَنَّهُ لَمَّا الْتَزَمَهُ بِالْمِائَةِ كَانَ بِمَا دُونَهَا أَلْزَمَ لَهُ . فَلَوْ قَالَ لَهُ : اشْتَرِ لِي عَبْدًا بِمِائَةٍ فَاشْتَرَى لَهُ عَبْدَيْنِ بِمِائَةٍ الوكيل ، فَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَبْدَيْنِ لَا يُسَاوِي مِائَةً فَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ لِلْمُوَكِّلِ ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُسَاوِي مِائَةً فَفِيهِ قَوْلَانِ نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي كِتَابِ الْإِجَارَاتِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ شِرَاءَ الْعَبْدَيْنِ بِالْمِائَةِ لَازِمٌ لِلْمُوَكِّلِ لِأَنَّهُ لَمَّا رَضِيَ أَحَدُهُمَا بِالْمِائَةِ كَانَ بِهِمَا أَرْضَى ، وَلِحَدِيثِ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ حَيْثُ وَكَّلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شِرَاءِ شَاةٍ بِدِينَارٍ فَاشْتَرَى بِهِ شَاتَيْنِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْمُوَكِّلَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَهُمَا بِالْمِائَةِ وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ أَحَدَهُمَا بِقِسْطِ ثَمَنِهِ مِنَ الْمِائَةِ لِأَنْ لَا يَلْتَزِمَ بِمِلْكِ مَا لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ . فَلَوْ كَانَ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ يُسَاوِي مِائَةً وَالْآخَرُ يُسَاوِي أَقَلَّ ، فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ يَأْخُذُهُمَا جَمِيعًا بِالْمِائَةِ ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي : هُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَهُمَا بِالْمِائَةِ وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ الْعَبْدَ الَّذِي يُسَاوِي الْمِائَةَ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ . فَلَوْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يُسَاوِي مِائَةً فَالشِّرَاءُ غَيْرُ لَازِمٍ لِلْمُوَكِّلِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ حَقٌّ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ وَكَّلَنِي فُلَانٌ بِقَبْضِهِ مِنْكَ فَصَدَّقَهُ وَدَفَعَهُ وَتَلِفَ وَأَنْكَرَ رَبُّ الْحَقِّ أَنْ يَكُونَ وَكَّلَهُ فَلَهُ الْخِيَارُ ، فَإِذَا أُغْرِمَ الدَّافِعُ لَمْ يَرْجِعِ الدَّافِعُ عَلَى الْقَابِضِ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ وَكِيلٌ بَرِيءٌ ، وَإِنْ أُغْرِمَ الْقَابِضُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الدَّافِعِ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ مَظْلُومٌ بَرِيءٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي مَنْ غَابَ وَلَهُ مَالٌ عَلَى رَجُلٍ أَوْ فِي يَدِهِ فَحَضَرَ رَجُلٌ ادَّعَى وَكَالَةَ الْغَائِبِ فِي قَبْضِ مَالِهِ حكم دعواه ، فَإِنْ أَقَامَ عَلَى مَا ادَّعَاهُ فِي الْوَكَالَةِ بَيِّنَةً عَادِلَةً حُكِمَ بِهَا ، وَالْبَيِّنَةُ شَاهِدَانِ عَدْلَانِ فَإِنْ كَانَ فِيهِمَا ابْنُ مُدَّعِي الْوَكَالَةِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ لِأَنَّهُ يَشْهَدُ لِأَبِيهِ ، وَكَذَا لَوْ كَانَ فِيهِمَا ابْنُ مِنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ لَمْ تُقْبَلْ لِأَنَّهُ يَشْهَدُ لِأَبِيهِ بِالْبَرَاءَةِ مِنْ حَقِّ صَاحِبِ الْحَقِّ بِهَذَا الدَّفْعِ ، وَلَكِنْ لَوْ كَانَ فِيهِمَا ابْنُ صَاحِبِ الْحَقِّ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ لِأَنَّهُ يَشْهَدُ عَلَى أَبِيهِ لَا لَهُ . فَإِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ بِالْوَكَالَةِ أَجْبَرَ الْحَاكِمُ مِنْ عَلَيْهِ الْمَالُ عَلَى دَفْعِهِ إِلَى الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ بِنَفْسِهِ إِنْ شَاءَ أَوْ بِوَكِيلِهِ إِنْ شَاءَهُ ، وَلَيْسَ لِمَنْ هُوَ عَلَيْهِ أَنْ يَمْتَنِعَ فِي تَسْلِيمِهِ إِلَى وَكِيلِ مَالِكِهِ .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِمُدَّعِي الْوَكَالَةِ بَيِّنَةٌ يُثْبِتُ بِهَا الْوَكَالَةَ لَمْ يَلْزَمْ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى مُدَّعِي الْوَكَالَةِ ، سَوَاءٌ صَدَّقَهُ عَلَى الْوَكَالَةِ أَوْ كَذَّبَهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْمُزَنِيُّ إِنْ صَدَّقَهُ عَلَى الْوَكَالَةِ لَزِمَهُ دَفْعُ الْمَالِ إِلَيْهِ كَالْمُصَدِّقِ لِمُدَّعِي مِيرَاثِ رَبِّ الْمَالِ يَلْزَمُهُ دَفْعُ الْمَالَ إِلَيْهِ ، وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ تَعْلِيلُ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ دَفْعٌ لَا يُبَرِّئُهُ مِنْ حَقِّ الْوَكِيلِ عِنْدَ إِنْكَارِ الْوَكَالَةِ وَمَنْ لَمْ يَبْرَأْ بِالدَّفْعِ عِنْدَ إِنْكَارٍ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ حَقٌّ بِوَثِيقَةٍ فَلَهُ الِامْتِنَاعُ عَنِ الدَّفْعِ إِلَّا بِإِشْهَادِ صَاحِبِ الْحَقِّ عَلَى نَفْسِهِ ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ وَثِيقَةٌ فَفِي جَوَازِ امْتِنَاعِهِ مِنَ الدَّفْعِ لِأَجْلِ الشَّهَادَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ لِأَنْ لَا يَتَوَجَّهَ عَلَيْهِ يَمِينٌ عِنْدِ ادِّعَائِهِ بَعْدَ دَفْعِهِ . وَالثَّانِي : لَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ وَلَا يَلْزَمُ صَاحِبَ الْحَقِّ الْإِشْهَادُ لِأَنَّهُ إِذَا أَنْكَرَ الْحَقَّ بَعْدَ أَدَائِهِ حَلَفَ بَارًّا . وَالتَّعْلِيلُ الثَّانِي هُوَ تَعْلِيلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ مُقِرٌّ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ وَمُدَّعٍ عَقْدَ وَكَالَةٍ لِغَيْرِهِ فَلَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُ وَلَمْ يَلْزَمْ إِقْرَارُهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ لَوْ أَقَرَّ بِمَوْتِ صَاحِبِ الْحَقِّ وَأَنَّ هَذَا الْحَاضِرَ وَصِيُّهُ فِي قَبْضِ دَيْنِهِ لَمْ يَلْزَمْ دَفْعُ الْمَالِ إِلَيْهِ ، وَإِنْ أَقَرَّ بِاسْتِحْقَاقِ قَبْضِهِ فَكَذَا الْوَكِيلُ ، فَأَمَّا اعْتِرَافُهُ لِلْوَارِثِ بِمَوْتِ صَاحِبِ الْحَقِّ فَيَلْزَمُهُ دَفْعُ الْمَالِ إِلَيْهِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَكِيلِ أَنَّهُ مُقِرٌّ لِلْوَارِثِ بِالْمِلْكِ فَيَلْزَمُهُ الدَّفْعُ لِأَنَّهُ لَيْسَ يَبْرَأُ بِهِ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَصِيرُ الْوَكِيلُ مَالِكًا وَلَا يَبْرَأُ بِقَبْضِهِ مِنَ الْحَقِّ . فَأَمَّا إِنْ أَقَرَّ مَنْ عَلَيْهِ الْمَالُ بِأَنَّ صَاحِبَهُ قَدْ أَحَالَ هَذَا الْحَاضِرَ بِهِ ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ دَفْعُ الْمَالِ إِلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ أَمْ لَا ؟ حكم دعوى الوكاله للغائب عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَلْزَمُهُ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِالْمِلْكِ فَصَارَ كَإِقْرَارِهِ لِلْوَارِثِ . وَالثَّانِي : لَا يُلْزِمُهُ لِأَنَّهُ لَا يَبْرَأُ بِالدَّفْعِ عِنْدَ الْجُحُودِ فَصَارَ كَإِقْرَارِهِ بِالتَّوْكِيلِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا لَمْ يَخْلُ حَالُ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ مِنْ أَنْ يُصَدِّقَ الْوَكِيلَ أَوْ يُكَذِّبَهُ ، فَإِنْ كَذَّبَهُ عَلَى الْوَكَالَةِ الغريم وَأَنْكَرَهُ فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ ، وَعَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمُزَنِيِّ الْيَمِينُ لِوُجُوبِ الدَّفْعِ عِنْدَهُمَا مَعَ التَّصْدِيقِ . وَلَا يَجُوزُ مَعَ تَكْذِيبِهِ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ الْمَالَ ، وَإِنْ صَدَّقَهُ عَلَى الْوَكَالَةِ الغريم لَمْ يَلْزَمْهُ دَفْعُ الْمَالِ إِلَيْهِ لِمَا ذَكَرْنَا ، لَكِنْ يَجُوزُ لَهُ فِي الْحُكْمِ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَيْهِ ، فَإِنْ دَفَعَهُ إِلَيْهِ وَقَدِمَ صَاحِبُ الْحَقِّ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَعْتَرِفَ بِالْوَكَالَةِ أَوْ يُنْكِرَهَا ، فَإِنِ اعْتَرَفَ بِهَا بَرِئَ
مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ بِالدَّفْعِ سَوَاءٌ وَصَلَ الْمُوَكِّلُ إِلَى حَقِّهِ مِنْ وَكِيلِهِ أَوْ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ بِتَلَفِهِ . فَإِنْ أَنْكَرَ الْوَكَالَةَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ، فَإِذَا حَلَفَ فَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِحَقِّهِ ثُمَّ لَا تَخْلُو حَالَةُ حَقِّهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا . فَإِنْ كَانَ حَقُّهُ عَيْنًا قَائِمَةً كَالْغُصُوبِ وَالْعَوَارِيِّ وَالْوَدَائِعِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَابِضِ وَالدَّافِعِ ضَامِنٌ لَهَا . أَمَّا الدَّافِعُ فَلِتَعَدِّيهِ بِالدَّفْعِ ، وَأَمَّا الْقَابِضُ فَلِيَدِهِ عِنْدَ إِنْكَارِ تَوْكِيلِهِ ، وَيَكُونُ رَبُّهَا بِالْخِيَارِ فِي مُطَالَبَةِ مَنْ شَاءَ بِهَا مِنَ الدَّافِعِ أَوِ الْقَابِضِ سَوَاءٌ كَانَتْ بَاقِيَةً أَوْ تَالِفَةً ، إِلَّا أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً فَلَهُ مُطَالَبَةُ الْقَابِضِ بِهَا وَمُطَالَبَةُ الدَّافِعِ بِاسْتِرْجَاعِهَا وَإِنْ كَانَتْ تَالِفَةً كَانَ لَهُ مُطَالَبَةُ أَيِّهِمَا شَاءَ بِالْقِيمَةِ ، فَإِنْ طَالَبَ بِهَا الدَّافِعَ وَأَغْرَمَهُ بَرِئَا وَلَمْ يَرْجِعِ الدَّافِعُ عَلَى الْقَابِضِ بِغُرْمِهَا لِأَنَّهُ مُقِرٌّ أَنَّ الْقَابِضَ وَكَيْلٌ بَرِيءٌ مِنْهَا وَأَنَّهُ مَظْلُومٌ بِهَا ، وَإِنْ طَالَبَ الْقَابِضَ فَأَغْرَمَهُ بَرِئَا وَلَمْ يَرْجِعِ الْقَابِضُ عَلَى الدَّافِعِ بِغُرْمِهَا لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِبَرَاءَتِهِ مِنْهَا وَأَنَّهُ هُوَ الْمَظْلُومُ بِهَا . فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الدَّافِعِ فَالدَّافِعُ ضَامِنٌ لَهُ لِبَقَائِهِ فِي ذِمَّتِهِ ، وَهَلْ يَكُونُ الْقَابِضُ ضَامِنًا لَهُ وَيَجُوزُ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مُطَالَبَتُهُ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ يَكُونُ ضَامِنًا لَهُ وَلِصَاحِبِهِ مُطَالَبَةُ أَيِّهِمَا شَاءَ بِهِ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِقَبْضِ حَقِّهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ وَأَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الْقَابِضَ غَيْرُ ضَامِنٍ لَهُ وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ مُطَالَبَةُ الْقَابِضِ بِهِ ؛ لِأَنَّ دَيْنَهُ فِي ذِمَّةِ الدَّافِعِ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ حَقُّهُ فِي مَا صَارَ بِيَدِ الْقَابِضِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُطَالِبَ الْقَابِضَ بِهِ . فَعَلَى هَذَا إِذَا رَجَعَ صَاحِبُ الدَّيْنِ وَطَالَبَ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ بِدَيْنِهِ وَاسْتَوْفَاهُ مِنْهُ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ مَا دَفَعَهُ إِلَى الْوَكِيلِ قَائِمًا فِي يَدِهِ رَجَعَ بِهِ . وَإِنْ كَانَ تَالِفًا لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَيْهِ بِغُرْمِهِ ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِأَنَّهُ وَكَيْلٌ بَرِئَ مِنْهَا وَأَنَّهُ هُوَ الْمَظْلُومُ بِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ وَكَّلَهُ بِبَيْعِ سِلْعَةٍ فَبَاعَهَا نَسِيئَةً كَانَ لَهُ نَقْضُ الْبَيْعِ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ مَا وَكَّلَهُ إِلَّا بِالنَّقْدِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَكِيلَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ بِالنَّسِيئَةِ إِلَّا بِصَرِيحِ إِذْنٍ مِنْ مُوَكِّلِهِ وَأَنَّ إِطْلَاقَ إِذْنِ الْمُوَكِّلِ يَقْتَضِي تَعْجِيلَ الثَّمَنِ بِخِلَافِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ تَعَلَّقَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِأَرْبَعَةِ فُصُولٍ : فَالْفَصْلُ الْأَوَّلُ : أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي بَيْعِهِ بِالنَّقْدِ فَيَبِيعَهُ بِالنَّسِيئَةِ . وَالْفَصْلُ الثَّانِي : أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي بَيْعِهِ بِالنَّسِيئَةِ فَيَبِيعَهُ بِالنَّقْدِ . وَالْفَصْلُ الثَّالِثُ : أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الشِّرَاءِ بِالنَّقْدِ فَيَشْتَرِيَ بِالنَّسِيئَةِ .
وَالْفَصْلُ الرَّابِعُ : أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الشِّرَاءِ بِالنَّسِيئَةِ فَيَشْتَرِيَ بِالنَّقْدِ . فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الْبَيْعِ بِالنَّقْدِ فَيَبِيعَ بِالنَّسِيئَةِ فَلِلْوَكِيلِ وَالْمُشْتَرِي أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُصَدِّقَاهُ عَلَى أَنَّ إِذْنَهُ كَانَ بِالنَّقْدِ فَلَا يُمَيَّزَ عَلَى الْمُوَكِّلِ لِتَصْدِيقِهِمَا لَهُ بِذَلِكَ وَيَكُونَ الْبَيْعُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ وَالصَّحِيحِ مِنْ مَذْهَبِهِ الْقَدِيمِ بَاطِلًا ، أَجَازَهُ الْمُوَكِّلُ أَوْ لَمْ يُجِزْهُ لِوُقُوعِهِ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْمَأْذُونِ فِيهِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْوَكِيلِ التَّسْلِيمُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى الْمُشْتَرِي ، وَإِنْ سَلَّمَ ذَلِكَ إِلَى الْمُشْتَرِي كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَكِيلِ وَالْمُشْتَرِي ضَامِنًا ، أَمَّا الْوَكِيلُ فَلِتَعَدِّيهِ بِالدَّفْعِ ، وَأَمَّا الْمُشْتَرِي فَلِعِلَّتَيْنِ : أَحَدُهُمَا : حُصُولُ يَدِهِ عَلَى مَا لَزِمَ ضَمَانُهُ . وَالثَّانِيَةُ : قَبْضُهُ عَنْ بَيْعٍ فَاسِدٍ . فَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ بَاقِيًا اسْتَرْجَعَهُ الْمُوَكِّلُ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْوَكِيلَ بِاسْتِرْجَاعِهِ . وَإِنْ كَانَ تَالِفًا فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالْقِيمَةِ دُونَ الثَّمَنِ عَلَى مَنْ شَاءَ مِنَ الْوَكِيلِ أَوِ الْمُشْتَرِي ، فَإِنْ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْوَكِيلِ رَجَعَ الْوَكِيلُ بِهَا عَلَى الْمُشْتَرِي لِحُصُولِ التَّلَفِ فِي يَدِهِ ، وَإِنْ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْمُشْتَرِي لَمْ يَرْجِعِ الْمُشْتَرِي بِهَا عَلَى الْوَكِيلِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ دَفَعَ إِلَيْهِ الثَّمَنَ فَيَرْجِعَ بِهِ . وَكَانَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يُخَرِّجُ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ وَجْهًا فِي الْقَدِيمِ ، حَيْثُ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِيهِ : إِنَّ الْغَاصِبَ إِذَا أَجَّرَ مَا غَصَبَهُ كَانَ الْمَالِكُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْإِجَارَةِ وَأَخْذِ الْمُسَمَّى وَبَيْنَ فَسْخِهَا وَالْمُطَالَبَةِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ ، فَجَعَلَ الْمُوَكِّلَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُخَيَّرًا بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ وَمُطَالَبَةِ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ وَبَيْنَ فَسْخِهِ وَاسْتِرْجَاعِ الْمَبِيعِ إِنْ كَانَ بَاقِيًا أَوِ الْقِيمَةِ إِنْ كَانَ تَالِفًا . فَإِنْ أَمْضَيَا الْبَيْعَ فَلَهُ مُطَالَبَةُ الْمُشْتَرِي بِهِ دُونَ الْمُوَكِّلِ ، وَإِنْ فُسِخَ فَلَهُ مُطَالَبَةُ أَيِّهِمَا شَاءَ بِالْقِيمَةِ وَأَنْكَرَ بَاقِي أَصْحَابِنَا هَذَا التَّخْرِيجَ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُكَذِّبَهُ الْوَكِيلُ وَالْمُشْتَرِي وَيَزْعُمَانِ أَنَّهُ أَذِنَ فِي بَيْعِ النَّسِيئَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُوَكِّلِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّ الْإِذْنَ مِنْ جِهَتِهِ فَكَانَ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ فِي صِفَتِهِ ، وَيَحْلِفُ لَهُمَا يَمِينًا وَاحِدَةً لِأَنَّهُمَا أَكْذَبَاهُ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ . فَإِذَا حَلَفَ فَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ بَاقِيًا اسْتَرْجَعَهُ وَإِنْ كَانَ تَالِفًا يَرْجِعْ بِالْقِيمَةِ عَلَى مَنْ شَاءَ مِنَ الْوَكِيلِ وَالْمُشْتَرِي لِكَوْنِهِمَا ضَامِنَيْنِ بِمَا بَيَّنَّا ، فَإِنْ رَجَعَ بِالْقِيمَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي رَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْوَكِيلِ بِالثَّمَنِ إِنْ كَانَ قَدْ أَقْبَضَهُ إِيَّاهُ ، سَوَاءٌ زَادَ عَلَى الْقِيمَةِ أَوْ نَقَصَ مِنْهَا . وَإِنْ رَجَعَ الْمُوَكِّلُ بِالْقِيمَةِ عَلَى الْوَكِيلِ ، فَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنَ الثَّمَنِ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْمُشْتَرِي ، وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُشْتَرِي بِمَا زَادَ فِي الْقِيمَةِ عَلَى قَدْرِ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ : الْمُوَكِّلُ ظَالِمٌ بِهَا ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى غَيْرِ مَنْ ظَلَمَهُ .
وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يُصَدِّقَهُ الْوَكِيلُ وَيُكَذِّبَهُ الْمُشْتَرِي ، فَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ بَاقِيًا فَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ بِهِ إِلَّا بَعْدَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي الْمُكَذِّبِ ، وَإِنْ كَانَ تَالِفًا فَلَهُ الْقِيمَةُ . وَإِنْ أَرَادَ الرُّجُوعَ بِهَا عَلَى الْوَكِيلِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى يَمِينٍ لِتَصْدِيقِهِ لَهُ . وَإِنْ أَرَادَ الرُّجُوعَ بِهَا عَلَى الْمُشْتَرِي فَلَا بُدَّ مِنَ الْيَمِينِ لِتَكْذِيبِهِ لَهُ . وَالْحَالَةُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يُصَدِّقَهُ الْمُشْتَرِي وَيُكَذِّبَهُ الْوَكِيلُ ، فَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ بَاقِيًا فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي الْمُصَدِّقِ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ تَالِفًا فَلَهُ الْقِيمَةُ . فَإِنْ أَرَادَ الرُّجُوعَ بِهَا عَلَى الْمُشْتَرِي لَمْ يَحْتَجْ إِلَى يَمِينٍ لِتَصْدِيقِهِ لَهُ . وَإِنْ أَرَادَ الرُّجُوعَ بِهَا عَلَى الْوَكِيلِ فَلَا بُدَّ مِنْ يَمِينٍ لِتَكْذِيبِهِ لَهُ ، هَذَا حُكْمُ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أُذِنَ لَهُ فِي الْبَيْعِ بِالنَّسِيئَةِ فَيَبِيعُ بِالنَّقْدِ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ خَرَجَ بِالنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ النَّقْدِ أَمْ لَا . فَإِنْ نَهَاهُ صَرِيحًا عَنْ بَيْعِ النَّقْدِ كَانَ بَيْعُهُ بَاطِلًا ، ثُمَّ الْكَلَامُ فِي التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ عَلَى مَا مَضَى . وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِالنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ النَّقْدِ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَبِيعَهُ نَقْدًا بِمَا يُسَاوِي بِالنَّقْدِ ، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ قَدْ فَوَّتَ عَلَيْهِ فَضْلَ النَّسِيئَةِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَبِيعَهُ نَقْدًا بِمَا يُسَاوِي نَسِيئَةً كَأَنْ يُسَاوِيَ بِالنَّقْدِ مِائَةً وَبِالنَّسِيئَةِ مِائَةً وَخَمْسِينَ فَيَبِيعَهُ بِمِائَةً وَخَمْسِينَ نَقْدًا . فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ لِحُصُولِ الزِّيَادَةِ مَعَ التَّعْجِيلِ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ غَرَضٌ فِي ثُبُوتِ الثَّمَنِ فِي ذِمَّةِ مَلِيٍّ وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِبَيْعِ النَّسِيئَةِ أَحَدُ أَمْرَيْنِ : إِمَّا تَخْرِيجُ الْبَيْعِ لِلْكَسَادِ أَوْ عَيْبٍ . وَإِمَّا طَلَبُ الْفَضْلِ فِي الثَّمَنِ وَقَدْ حَصَلَ الْأَمْرَانِ لَهُ بِهَذَا الْبَيْعِ . فَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ ثُبُوتِ الثَّمَنِ فِي ذِمَّةِ مَلِيٍّ فَلَا وَجْهَ لَهُ لِأَنَّ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ إِذَا عَجَّلَهُ لَزِمَهُ قَبُولُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الشِّرَاءِ بِالنَّقْدِ وَيَشْتَرِيَ بِالنَّسِيئَةِ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُعَيِّنَ بِهِ الثَّمَنَ الَّذِي يَشْتَرِي بِهِ ، فَالشِّرَاءُ غَيْرُ لَازِمٍ لِلْمُوَكِّلِ لِأَنَّهُ إِذَا اشْتَرَى بِغَيْرِ الْعَيْنِ كَانَ مُخَالِفًا وَلَزِمَ الْوَكِيلَ . وَإِنِ اشْتَرَى بِالْعَيْنِ إِلَى أَجَلٍ كَانَ بَاطِلًا وَلَمْ يَلْزَمِ الْمُوَكِّلَ وَلَا الْوَكِيلَ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يُعَيِّنَ لَهُ الثَّمَنَ الَّذِي يَشْتَرِي بِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَشْتَرِيَ بِمَا يُسَاوِي نَسِيئًا وَبِأَكْثَرَ مِمَّا يُسَاوِي نَقْدًا ، فَالشِّرَاءُ غَيْرُ لَازِمٍ
لِلْمُوَكِّلِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْتِزَامِ فَضْلِ النَّسَاءِ وَالشِّرَاءُ لَازِمٌ لِلْوَكِيلِ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ مُوَكِّلِهِ ، وَإِنْ ذَكَرَهُ فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا بَاطِلٌ ، وَالثَّانِي لَازِمٌ لِلْوَكِيلِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَشْتَرِيَهُ نَسِيئَةً بِمَا يُسَاوِي نَقْدًا أَوْ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِ النَّسَاءِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الشِّرَاءَ لَازِمٌ لِلْمُوَكِّلِ لِأَنَّهُ قَدْ حَصَلَ لَهُ غَرَضُهُ فِي الِاسْتِصْلَاحِ مَعَ تَأْجِيلِ الثَّمَنِ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ الشِّرَاءُ غَيْرُ لَازِمٍ لِلْمُوَكِّلِ لِمُخَالَفَتِهِ وَبَقَاءِ الثَّمَنِ فِي ذِمَّتِهِ ، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْوَكِيلَ فِي بَيْعِ النَّسَاءِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ نَقْدًا .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الرَّابِعُ : وَهُوَ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الشِّرَاءِ بِالنَّسِيئَةِ فَيَشْتَرِيَ بِالنَّقْدِ مخالفة الوكيل موكله فَالشِّرَاءُ غَيْرُ لَازِمٍ لِلْمُوَكِّلِ ، لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ أَصْحَابِهِ سَوَاءٌ اشْتَرَاهُ بِمَا يُسَاوِي نَقْدًا أَوْ نَسِيئَةً لِمَا فِيهِ مِنَ الْتِزَامِهِ تَعْجِيلَ ثَمَنٍ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ . وَهَكَذَا لَوْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ إِلَى أَجَلٍ فَاشْتَرَاهُ إِلَى أَجَلٍ هُوَ أَقْرَبُ مخالفة الوكيل موكله لَمْ يَلْزَمِ الْمُوَكِّلَ ، وَلَوِ اشْتَرَاهُ إِلَى أَجَلٍ هُوَ أَبْعَدُ كَانَ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَلَى مَذْهَبِ بَعْضِ أَصْحَابِهِ غَيْرُ لَازِمٍ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا خِيَارُ الشَّرْطِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ أَذِنَ لِوَكِيلِهِ فِي اشْتِرَاطِ خِيَارِ الثَّلَاثِ فِي عَقْدِهِ فَلَا يَشْتَرِطُهُ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ وَالشِّرَاءُ غَيْرُ لَازِمٍ ، عَقَدَهُ لَازِمًا وَقَدْ أَذِنَ لَهُ فِي عَقْدِهِ غَيْرَ لَازِمٍ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي تَرْكِهِ وَعَدَمِ اشْتِرَاطِهِ خيار الشرط للوكيل ، فَإِنْ شَرَطَهُ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ وَالشِّرَاءُ غَيْرُ لَازِمٍ ، لِأَنَّهُ عَقَدَهُ غَيْرَ لَازِمٍ ، وَقَدْ أَذِنَ لَهُ فِي عَقْدٍ لَازِمٍ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ إِذْنُهُ مُطْلَقًا الموكل في خيار الشرط فَإِنْ عَقَدَهُ الْوَكِيلُ نَاجِزًا مِنْ غَيْرِ خِيَارٍ صَحَّ الْبَيْعُ وَلَزِمَ الْمُوَكِّلَ ، وَإِنْ عَقَدَهُ بِخِيَارِ الثَّلَاثِ فَفِي صِحَّةِ الْعَقْدِ وَلُزُومِهِ لِلْمُوَكِّلِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَصِحُّ الْعَقْدُ وَيَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ لِأَنَّ اشْتِرَاطَهُ الْخِيَارَ زِيَادَةُ نَظَرٍ لَهُ وَالثَّانِي : لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ وَلَا يَلْزَمِ الْمُوَكِّلَ لِأَنَّ الْعَقْدَ بِالْخِيَارِ يَصِيرُ غَيْرَ لَازِمٍ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ سِلْعَةٍ فَأَصَابَ بِهَا عَيْبًا كَانَ لَهُ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْلِفَ مَا رَضِيَ بِهِ الْآمِرُ وَكَذَلِكَ الْمُقَارِضُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَعْنَاهُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ لِلْمُوَكِّلِ إِذَا أَمَرَ وَكِيلَهُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ حَالَتَيْنِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يُعَيِّنَهُ . وَالثَّانِيَةُ : أَنْ يَصِفَهُ وَلَا يُعَيِّنَهُ ، فَإِنْ وَصَفَهُ وَلَمْ يُعَيِّنْهُ لَزِمَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ سَلِيمًا مِنَ الْعُيُوبِ ،
لِأَنَّ إِطْلَاقَ الصِّفَةِ يَقْتَضِيهِ وَيَجُوزُ لِلْعَامِلِ فِي الْقِرَاضِ أَنْ يَشْتَرِيَ السَّلِيمَ وَالْمَعِيبَ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ شِرَاءَ الْوَكِيلِ لِلْقِنْيَةِ وَلَيْسَ فِي الْمَعِيبِ صَلَاحٌ لِلْمُقْتَنِي ، وَشِرَاءَ الْعَامِلِ فِي الْقِرَاضِ طَلَبًا لِلرِّبْحِ . وَقَدْ يُوجَدُ الرِّبْحُ فِي الْمَعِيبِ كَوُجُودِهِ فِي السَّلِيمِ . فَإِنِ اشْتَرَى الْوَكِيلُ عَبْدًا عَلَى الصِّفَةِ وَكَانَ مَعِيبًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَشْتَرِيَهُ عَالِمًا بِعَيْبِهِ ، فَالشِّرَاءُ غَيْرُ لَازِمٍ لِلْمُوَكِّلِ لِإِقْدَامِهِ عَلَى ابْتِيَاعِ مَا لَمْ يَقْتَضِهِ الْإِذْنُ ، وَهُوَ لَازِمٌ لِلْوَكِيلِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ اعْتِبَارِ صِفَةِ الْإِذْنِ فِي الْعَقْدِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَشْتَرِيَهُ غَيْرَ عَالِمٍ بِعَيْبِهِ فَلِلْمُوَكِّلِ إِذَا عَلِمَ بِعَيْبِهِ أَنْ يُبَادِرَ إِلَى رَدِّهِ وَلَا يَلْزَمَهُ اسْتِئْذَانُ مُوَكِّلِهِ لِأَنَّ رَدَّ الْمَعِيبِ فِي حُقُوقِ عَقْدِهِ . فَلَوْ قَالَ الْبَائِعُ : قَدْ أَمْهَلْتُكَ فِي رَدِّهِ فَطَالِعْ مُوَكِّلَكَ بِعَيْبٍ لَمْ تَلْزَمْهُ الْمُطَالَعَةُ وَكَانَ لَهُ تَعْجِيلُ الرَّدِّ لِمَا ذَكَرْنَا ، فَإِنْ رَدَّهُ ثُمَّ جَاءَ الْمُوَكِّلُ رَاضِيًا بِعَيْبِهِ لَمْ يَكُنْ لِرِضَاهُ بَعْدَ الرَّدِّ تَأْثِيرٌ لِفَسْخِ الْبَيْعِ بِالرَّدِّ قَبْلَ الرِّضَا . وَلَوْ رَضِيَ بِعَيْبِهِ قَبْلَ رَدِّ الْوَكِيلِ لَزِمَ الْبَيْعُ وَلَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ الرَّدُّ . وَلَوْ رَضِيَ رَبُّ الْمَالِ فِي الْقِرَاضِ بِعَيْبِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَى كَانَ لِلْعَامِلِ أَنْ يَرُدَّ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ لِلْعَامِلِ فِي الْقِرَاضِ شِرْكًا فِي الرِّبْحِ ، وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ فِيهِ شِرْكٌ ، فَإِنِ ادَّعَى الْبَائِعُ عَلَى الْوَكِيلِ حِينَ أَرَادَ الرَّدَّ أَنَّ مُوَكِّلَهُ رَاضٍ بِالْعَيْبِ فَلَا يَمِينَ لَهُ عَلَى الْوَكِيلِ ، فَإِنِ ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ بِرِضَا مُوَكِّلِهِ بِالْعَيْبِ وَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْلِفَ بِاللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ مَا عَلِمَ مُوَكِّلُهُ بِالْعَيْبِ ، وَلَهُ الرَّدُّ وَاسْتِرْجَاعُ الثَّمَنِ ثُمَّ لِلْبَائِعِ إِذَا رَدَّ الثَّمَنَ عَلَى الْوَكِيلِ وَظَفِرَ بِالْمُوَكِّلِ أَنْ يَحْلِفَ بِاللَّهِ أَيْضًا مَا رَضِيَ بِعَيْبِ الْعَبْدِ الَّذِي ابْتَاعَهُ مُوَكِّلُهُ قَبْلَ رَدِّهِ . فَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ حَلَفَ الْبَائِعُ وَحُكِمَ لَهُ بِلُزُومِ الْبَيْعِ وَاسْتِحْقَاقِ الثَّمَنِ ، فَهَذَا حُكْمُ الْوَكِيلِ إِذَا رَدَّ بِالْعَيْبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنْ رَضِيَ الْوَكِيلُ بِالْعَيْبِ نُظِرَ فِي الْمُوَكِّلِ فَإِنْ رَضِيَ بِالْعَيْبِ كَانَ الشِّرَاءُ لَازِمًا لَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِالْعَيْبِ نُظِرَ فِي عَقْدِ الْبَائِعِ فَإِنْ كَانَ قَدْ سَمَّى مُوَكِّلَهُ فِيهِ فَلَهُ الرَّدُّ ؛ لِأَنَّ مَالِكَ الشِّرَاءِ لَا يَلْتَزِمُ عَيْبًا لَمْ يَرْضَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ الْمُوَكِّلَ فِي عَقْدِهِ نُظِرَ فِي الْبَائِعِ فَإِنْ صَدَّقَ الْوَكِيلَ أَنَّ عَقْدَ الشِّرَاءِ لِمُوَكِّلِهِ كَانَ لَهُ الرَّدُّ ، وَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُ حَلَفَ لَهُ وَلَا رَدَّ لِلْوَكِيلِ عَلَى الْبَائِعِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ رِضَاهُ . فَأَمَّا الْمُوَكِّلُ فَلَا رَدَّ لَهُ عَلَى الْوَكِيلِ لِأَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْبَائِعِ الْمَالِكِ لِلثَّمَنِ ، وَلَكِنَّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ كَالْمُسْتَهْلِكِ لَهُ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ رِضَاهُ . وَفِي كَيْفِيَّةِ رُجُوعِ الْمُوَكِّلِ بِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يَحْيَى الْبَلْخِيِّ أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِقَدْرِ النَّقْصِ مِنْ ثَمَنِهِ ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ يُسَوِّي مَعِيبًا بِمِثْلِ مَا اشْتَرَاهُ فَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى الْوَكِيلِ لِعَدَمِ النَّقْصِ فِي الثَّمَنِ اسْتِشْهَادًا بِأَنَّ
مَنِ ادَّعَى بَيْعَ عَبْدِهِ عَلَى رَجُلٍ بِأَلْفٍ وَأَنْكَرَ وَأَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً بِالْبَيْعِ فَحُكِمَ لَهُ بِالثَّمَنِ ثُمَّ رَجَعَ الشُّهُودُ فَإِنْ كَانَ ثَمَنُ الْعَبْدِ أَلْفًا فَلَا غُرْمَ عَلَى الشُّهُودِ ، وَإِنْ كَانَ ثَمَنُهُ أَقَلَّ مِنْ أَلْفٍ غُرِّمَ الشُّهُودُ بِرُجُوعِهِمْ قَدْرَ النَّقْصِ مِنْ ثَمَنِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا : أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْوَكِيلِ بِأَرْشِ الْعَيْبِ سَوَاءٌ كَانَ يَسْوَى قَدْرَ ثَمَنِهِ مَعِيبًا أَمْ لَا ؛ لِأَنَّ الْعَيْبَ إِذَا كَانَ مَعَهُ الرَّدُّ مُقَدَّرًا بِالْأَرْشِ وَلَمْ يَكُنْ مُعْتَبَرًا بِنَقْصِ الثَّمَنِ ، وَلَيْسَ كَالَّذِي اسْتَشْهَدَ بِهِ مِنْ رُجُوعِ الشُّهُودِ لِأَنَّ غَارِمَ الثَّمَنِ بِشَهَادَتِهِمْ إِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ بِمَا غَرِمَ ، فَإِذَا وَصَلَ إِلَيْهِ مِنَ الثَّمَنِ لَمْ يَبْقَ لَهُ حَقٌّ يَغْرَمُهُ ، فَهَذَا حُكْمُ التَّوْكِيلِ فِي شِرَاءِ عَبْدٍ مَوْصُوفٍ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْعَبْدُ مَعِيبًا فَهَلْ لِلْوَكِيلِ عِنْدَ ظُهُورِ الْعَيْبِ أَنْ يَرُدَّهُ قَبْلَ اسْتِئْذَانِ مُوَكِّلِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا : لَا رَدَّ لَهُ إِلَّا بَعْدَ اسْتِئْذَانِ مُوَكِّلِهِ فِيهِ لِأَنَّهُ بِالتَّعْيِينِ فِيهِ قَدْ قَطَعَ اجْتِهَادَهُ فِيهِ وَلَعَلَّهُ قَدْ أَمَرَهُ بِشِرَائِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِعَيْبِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينَيِّ لَهُ الرَّدُّ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ لِأَنَّ الرَّدَّ مِنْ حُقُوقِ عَقْدِهِ وَلِأَنْ لَا يَكُونَ مَأْخُوذًا بِهِ إِنْ لَمْ يَرْضَ الْمُوَكِّلُ بِعَيْبِهِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْوَكِيلُ فِي بَيْعِ عَبْدٍ إِذَا أَرَادَ الْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ فَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ حُدُوثُ مِثْلِهِ فَرَدَّهُ عَلَى الْوَكِيلِ بِيَمِينِهِ إِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِعَيْبِهِ أَوْ بِتَصْدِيقِ الْوَكِيلِ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ فَلِلْوَكِيلِ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ لِأَنَّهُ بِالْعَيْبِ الَّذِي كَانَ بِهِ مِنْ قَبْلِ بَيْعِهِ . وَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ مِمَّا يُمْكِنُ حُدُوثُ مِثْلِهِ ، فَإِنْ رَدَّهُ الْمُشْتَرِي بِبَيِّنَةٍ أَقَامَهَا عَلَى تَقَدُّمِ عَيْبِهِ كَانَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ ، وَإِنْ رَدَّهُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِتَصْدِيقِ الْوَكِيلِ عَلَى تَقَدُّمِ عَيْبِهِ فَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ ؛ لِأَنَّ تَصْدِيقَ الْوَكِيلِ غَيْرُ مَقْبُولٍ عَلَى مُوَكِّلِهِ . وَإِنْ رَدَّهُ الْمُشْتَرِي بِيَمِينِهِ عِنْدَ نُكُولِ الْوَكِيلِ فَهَلْ لِلْوَكِيلِ رَدُّهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْيَمِينِ بَعْدَ النُّكُولِ هَلْ يَقُومُ مَقَامَ الْبَيِّنَةِ أَوِ الْإِقْرَارِ ؟ .
فَصْلٌ : وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إِلَى وَكِيلِهِ دَرَاهِمَ لِيَدْفَعَهَا سِلْمًا فِي طَعَامٍ ، وَأَسْلَمَهَا الْوَكِيلُ فِي طَعَامٍ ثُمَّ إِنَّ الْمُسْلَمَ إِلَيْهِ رَدَّ مِنَ الدَّرَاهِمِ رَدِيَّةً وَصَدَّقَهُ عَلَيْهَا الْوَكِيلُ فَأَكْذَبَهُ الْمُوَكِّلُ فَهِيَ لَازِمَةٌ لِلْوَكِيلِ دُونَ الْمُوَكِّلِ ، وَفِيهَا قَوْلَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَرْجِعُ بِبَدَلِهَا عَلَى الْوَكِيلِ وَيَكُونُ الطَّعَامُ فِي ذِمَّتِهِ لِلْمُوَكِّلِ ، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَقُولُهُ الشَّافِعِيُّ فِي مُشْتَرِي الدَّرَاهِمِ بِغَيْرِ أَعْيَانِهَا إِذَا أَصَابَ بِهَا بَعْدَ الْقَبْضِ عَيْبًا أَنَّهُ يُبَدِّلُهَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَرُدُّهَا عَلَى الْوَكِيلِ ، فَإِذَا أَدَّى الطَّعَامَ إِلَى الْمُوَكِّلِ رَجَعَ عَلَى الْوَكِيلِ
بِحِصَّةِ مَا رَدَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الطَّعَامِ ، مِثَالُهُ أَنْ يَكُونَ قَدْ رَدَّ عَلَيْهِ عُشْرَ الثَّمَنِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِعُشْرِ الطَّعَامِ ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ مُشْتَرِيَ الدَّرَاهِمِ إِذَا وَجَدَ بِهَا عَيْبًا رَدَّهَا وَلَمْ تُبَدَّلْ ، فَعَلَى هَذَا لِلْوَكِيلِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ قِيمَةَ مَا دَفَعَ مِنْ عُشْرِ الطَّعَامَ مِنَ الدَّرَاهِمِ الْمَعِيبَةِ الَّتِي رُدَّتْ عَلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَتْ بِإِزَاءِ حَقِّهِ اسْتَوْفَاهُ ، وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ حَقِّهِ فَلَيْسَ لَهُ غَيْرُهَا ، وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ رَدَّ الزِّيَادَةَ وَلَمْ يَأْخُذْهَا . فَلَوْ أَبْرَأَ الْمُوَكِّلُ الْمُسْلَمَ إِلَيْهِ مِنَ الطَّعَامِ بِقِسْطِ الْمَعِيبِ فَلَيْسَ لِلْمُوَكِّلِ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا فِي يَدِ الْوَكِيلِ فِي الدَّرَاهِمِ الْمَعِيبَةِ ؛ لِأَنَّهُ يُقِرُّ أَنَّهَا لَيْسَتْ لَهُ ، وَلَا لِلْمُسْلَمِ إِلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا ؛ لِأَنَّهُ يُقِرُّ أَنَّهَا لَيْسَتْ لَهُ ، فَإِنْ عَادَ الْمُوَكِّلُ فَصَدَّقَ الْمُسْلَمَ إِلَيْهِ عَلَيْهَا أَنَّهَا مِنْ دَرَاهِمِهِ رَجَعَ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ بِهَا عَلَى الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ هِيَ لِي وَقَدْ أَبْرَأَنِي الْمُوَكِّلُ مِنْ طَعَامِهِ فَبَرِئْتُ . وَإِنْ قَالَ الْمُوَكِّلُ : هِيَ دَرَاهِمِي فَلِي الرُّجُوعُ بِهَا ، فَلِلَّذِي يَسْبِقُ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ الرُّجُوعُ بِهَا عَلَى الْوَكِيلِ .
فَصْلٌ : إِذَا وَكَّلَ الرَّجُلُ وَكِيلًا فِي شِرَاءِ عَبْدٍ فَاشْتَرَاهُ الْوَكِيلُ وَدَفَعَ ثَمَنَهُ مِنْ مَالِ مُوَكِّلِهِ ثُمَّ اسْتَحَقَّ الْعَبْدَ فَهَلْ يَكُونُ الْوَكِيلُ خَصْمًا فِي الرُّجُوعِ بَدَرْكِ الثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ بِالْوَكَالَةِ الْأُولَى أَمْ لَا ؟ ذَكَرَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ كَجٍّ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ خَصْمًا فِيهِ لِأَنَّهُ مِنْ أَحْكَامِ عَقْدِهِ . وَالثَّانِي : لَا يَكُونُ خَصْمًا إِلَّا بِاسْتِئْنَافِ وَكَالَةٍ ؛ لِأَنَّ مَا اقْتَضَتْهُ الْوَكَالَةُ قَدْ تَقَضَّى وَالصَّحِيحُ عِنْدِي غَيْرُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ أَنْ نَنْظُرَ ، فَإِنِ اسْتَحَقَّ مِنْ يَدِ الْوَكِيلِ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَى الْمُوَكِّلِ كَانَ الْوَكِيلُ خَصْمًا فِي الرُّجُوعِ بِدَرَكِهِ . وَإِنِ اسْتَحَقَّ فِي يَدِ الْمُوَكِّلِ لَمْ يَكُنْ خَصْمًا فِيهِ إِلَّا بِاسْتِئْنَافِ وَكَالَةٍ ؛ لِأَنَّ بِحُصُولِهِ فِي يَدِ الْمُوَكِّلِ قَدْ نُقِضَتْ أَحْكَامُ وَكَالَتِهِ وَانْقَطَعَتْ عَلَقُهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَبْلَ وُصُولِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ قَالَ رَجُلٌ لِفُلَانٍ عَلَيَّ دَيْنٌ وَقَدْ وُكِّلَ هَذَا بِقَبْضِهِ لَمْ يَقْضِ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِ بِدَفْعِهِ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِتَوْكِيلِ غَيْرِهِ فِي مَالٍ لَا يَمْلِكُهُ وَيَقُولُ لَهُ إِنْ شِئْتَ فَادْفَعْ أَوْ دَعْ وَلَا أَجْبُرُكَ عَلَى أَنْ تَدْفَعَ ( قَالَ ) وَلِلْوَكِيلِ وَلِلْمُقَارِضِ أَنْ يَرُدَّا مَا اشْتَرَيَا بِالْعَيْبِ وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يُحَلِّفَهُمَا مَا رَضِيَ رَبُّ الْمَالِ ، وَقَالَ أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ تَعَدَّيَا لَمْ يُنْتَقَضِ الْبَيْعُ وَلَزِمَهُمَا الثَّمَنُ وَكَانَتِ التِّبَاعَةُ عَلَيْهِمَا لِرَبِّ الْمَالِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَذَكَرْنَا أَنَّ مُدَّعِيَ وَكَالَةِ الْغَائِبِ فِي قَبْضِ دَيْنِهِ لَا يَلْزَمُ دَفْعَ الْمَالَ إِلَيْهِ مَا لَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً بِهِ وَسَوَاءٌ صَدَّقَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ أَنَّهُ وَكِيلُ الْغَائِبِ فِي قَبْضِهِ أَوْ كَذَّبَ ، وَيَجُوزُ لَهُ مَعَ تَصْدِيقِهِ أَنْ يَدْفَعَ الْمَالَ إِلَيْهِ جَوَازًا لَا وُجُوبًا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ . آخِرُ كِتَابِ الْوَكَالَةِ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ كَثِيرًا ، يَتْلُوهُ كِتَابُ الْإِقْرَارِ .
_____كِتَابُ الْإِقْرَارِ_____
بَابُ الْإِقْرَارِ بِالْحُقُوقِ وَالْمَوَاهِبِ وَالْعَارِيَّةِ
بيان الْأَصْلُ فِي الْإِقْرَارِ وَلُزُومِ الْحُكْمِ بِهِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابُ الْإِقْرَارِ بَابُ الْإِقْرَارِ بِالْحُقُوقِ ، وَالْمَوَاهِبِ ، وَالْعَارِيَّةِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : " وَلَا يَجُوزُ إِلَّا إِقْرَارُ بَالِغٍ حُرٍّ رَشِيدٍ وَمَنْ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ لَمْ يَجُزْ إِقْرَارُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : الْأَصْلُ فِي الْإِقْرَارِ وَلُزُومِ الْحُكْمِ بِهِ : الْكِتَابُ . وَالسُّنَّةُ . وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ . أَمَّا الْكِتَابُ فَـ - قَوْلُهُ تَعَالَى - : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ [ النِّسَاءِ : 135 ] . وَقَالَ تَعَالَى : قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [ آلِ عِمْرَانَ : 81 ] . وَقَالَ تَعَالَى : وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا [ الْإِسْرَاءِ : 34 ] يَعْنِي بِوَفَاءِ الْإِقْرَارِ ، وَالْتِزَامِ حُكْمِهِ . وَقَالَ تَعَالَى : وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ [ الْبَقَرَةِ : 282 ] يَعْنِي بِالْإِمْلَاءِ ، وَالْإِقْرَارِ بِهِ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ فِي الْتِزَامِهِ فِيهِ . وَقَالَ تَعَالَى : وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ [ التَّوْبَةِ : 102 ] . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : مَنْ أَتَى مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ حَدَّ اللَّهِ عَلَيْهِ . وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : يَا أُنَيْسُ اغْدُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا .
وَقَدْ رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَاعِزًا بِإِقْرَارِهِ ، وَرَجَمَ الْغَامِدِيَّةَ بِإِقْرَارِهَا ، وَقَطَعَ سَارِقَ رِدَاءِ صَفْوَانَ بِإِقْرَارِهِ ، وَقَدْ حَكَمَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ بِالْإِقْرَارِ فِي قَضَايَاهُمْ ، وَلَمْ يَزَلِ الْحُكَّامُ يَعْمَلُونَ عَلَيْهِ وَيَأْخُذُونَ بِهِ . وَلِأَنَّ أَكْثَرَ الْحُقُوقِ لَا يُوصَلُ إِلَيْهَا إِلَّا بِالْإِقْرَارِ فَكَانَتِ الضَّرُورَةُ دَاعِيَةً إِلَى الْأَخْذِ بِهِ ، وَالْحَاجَةُ مَاسَّةً إِلَى الْعَمَلِ عَلَيْهِ . وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَزِمَ الْحُكْمُ بِالشَّهَادَةِ مَعَ احْتِمَالِهَا كَانَ الْحُكْمُ بِالْإِقْرَارِ مَعَ قِلَّةِ الِاحْتِمَالِ فِيهِ أَوْلَى ، وَكَذَلِكَ كَتَبَ الْحُكَّامُ فِي قَضَايَاهُمْ إِذَا كَانَتْ عَنْ شَهَادَةٍ : أَنَّ كُلَّ ذِي حَقٍّ عَلَى حَقِّهِ ، وَلَمْ يَكْتُبُوا مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ بِالْإِقْرَارِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْحُكْمِ بِالْإِقْرَارِ ، فَحَقِيقَةُ الْإِقْرَارِ : الْإِخْبَارُ بِحَقٍّ عَلَيْهِ . وَحَقِيقَةُ الشَّهَادَةِ : الْإِخْبَارُ بِحَقٍّ عَلَى غَيْرِهِ . فَاجْتَمَعَا مِنْ حَيْثُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ إِخْبَارٌ بِحَقٍّ وَافْتَرَقَا مِنْ حَيْثُ أَنَّ الْحَقَّ فِي الْإِقْرَارِ عَلَيْهِ ، وَالْحَقَّ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى غَيْرِهِ .
فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْإِقْرَارُ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِشُرُوطٍ أَرْبَعَةٍ : بِمُقِرٍّ ، وَمُقَرٍّ لَهُ ، وَمُقَرٍّ بِهِ ، وَمُقَرٍّ عِنْدَهُ . فَأَمَّا الشَّرْطُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ الْمُقِرُّ من شروط الإقرار : فَهُوَ الْمُخْبِرُ بِالْحَقِّ عَلَيْهِ ، وَالْمُقِرُّونَ ضَرْبَانِ : مُكَلَّفٌ ، وَغَيْرُ مُكَلَّفٍ . فَأَمَّا غَيْرُ الْمُكَلَّفِ ، وَهُوَ الصَّبِيُّ ، وَالْمَجْنُونُ هل يصح إقرارهما ؟ فَإِقْرَارُهُمَا بَاطِلٌ سَوَاءٌ كَانَ بِمَالٍ ، أَوْ بَدَنٍ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ فِي الْحَالِ وَلَا بَعْدَ الْبُلُوغِ ، وَالْإِفَاقَةِ . وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ إِقْرَارَ الْمُرَاهِقِ إِذَا كَانَ بِإِذْنِ أَهْلِهِ ، أَوْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي عَقْدٍ فَأَقَرَّ بِدَيْنٍ صَحَّ بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ إِسْلَامِهِ وَجَوَازِ عَقْدِهِ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ ، وَاسْتِدْلَالًا بِأَنَّ مَنْ صَحَّتْ وَصِيَّتُهُ صَحَّ إِقْرَارُهُ كَالْبَالِغِ . وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ عَدَمَ التَّكْلِيفِ يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ كَالْجُنُونِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ إِقْرَارٍ مَنَعَ مِنْهُ الْجُنُونُ مَنْعَ مِنْهُ الصِّغَرُ كَالْإِقْرَارِ بِالْبَدَنِ ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ الَّذِي بُنِيَ عَلَيْهِ جَوَازُ إِقْرَارِهِ أَنَّ
مِمَّنْ يَصِحُّ إِسْلَامُهُ وَيَجُوزُ عَقْدُهُ ، لَا نُسَلِّمُهُ بَلْ لَا يَصِحُّ إِسْلَامُهُ وَلَا يَجُوزُ عَقْدُهُ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ مُسْتَوْفِيًا فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْوَصِيَّةِ فَفِي جَوَازِ وَصِيَّتِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلَةٌ : فَعَلَى هَذَا سَقَطَ السُّؤَالُ . وَالثَّانِي : جَائِزَةٌ . فَعَلَى هَذَا الْفَرْقُ بَيْنَ إِقْرَارِهِ وَوَصِيَّتِهِ : أَنَّ فِي لُزُومِ إِقْرَارِهِ إِضْرَارًا بِهِ فَسَقَطَ . وَفِي صِحَّةِ وَصِيَّتِهِ رِفْقًا بِهِ فَأُمْضِيَتْ . وَأَمَّا الْمُكَلَّفُ فَضَرْبَانِ : مَحْجُورٌ عَلَيْهِ ، وَغَيْرُ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ . أَمَّا غَيْرُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ : فَهُوَ الْبَالِغُ الرَّشِيدُ الْعَاقِلُ فَإِقْرَارُهُ صَحِيحٌ إِذَا أَقَرَّ مُخْتَارًا وَبَاطِلٌ إِنْ أَقَرَّ مُكْرَهًا ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُقِرُّ رَجُلًا ، أَوِ امْرَأَةً مُسْلِمًا ، أَوْ كَافِرًا ، عَدْلًا ، أَوْ فَاسِقًا وَإِقْرَارُ جَمِيعِهِمْ لَازِمٌ . وَأَمَّا الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَنْ حُجِرَ عَلَيْهِ لِأَجْلِ نَفْسِهِ . وَالثَّانِي : مَنْ حُجِرَ عَلَيْهِ لِأَجْلِ غَيْرِهِ . فَأَمَّا الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لِأَجْلِ نَفْسِهِ فَهُوَ السَّفِيهُ ، وَإِنْ أَقَرَّ بِبَدَنٍ مِنْ قِصَاصٍ ، أَوْ حَدٍّ هل ينفذ إقراره ؟ نَفَذَ إِقْرَارُهُ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا حَجْرَ عَلَيْهِ فِي بَدَنِهِ ، وَإِنْ أَقَرَّ بِمَالٍ حكم إقرار السفيه بالمال لَمْ يَلْزَمْ إِقْرَارُهُ فِيهِ مَا كَانَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ بَاقِيًا ، فَإِنْ فُكَّ حَجْرُهُ لَمْ يَلْزَمْ ذَلِكَ حُكْمًا لِبُطْلَانِ الْإِقْرَارِ ، وَلَزِمَهُ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى إِذَا كَانَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ لُزُومِهِ وَسَوَاءٌ كَانَ مَا أَقَرَّ بِهِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى ، أَوْ حَقًّا لِآدَمِيٍّ . فَلَوْ كَانَ حِينَ أَقَرَّ سَفِيهًا لَكِنْ لَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ فَإِقْرَارُهُ لَازِمٌ فِي الْمَالِ ، وَالْبَدَنِ جَمِيعًا ، وَهُوَ فِي الْإِقْرَارِ كَالرَّشِيدِ . وَأَمَّا الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لِأَجْلِ غَيْرِهِ أنواعه فَأَرْبَعَةٌ : أَحَدُهُمُ : الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لِأَجْلِ سَيِّدِهِ . وَالثَّانِي : الْمُفْلِسُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ لِأَجْلِ غُرَمَائِهِ . وَالثَّالِثُ : الْمَرِيضُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ لِأَجْلِ وَرَثَتِهِ . وَالرَّابِعُ : الْمُرْتَدُّ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فِي حَقِّ بَيْتِ الْمَالِ . وَمَعْنَى الْحَجْرِ فِي كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُخْتَلِفٌ وَسَنُفْرِدُ الْحُكْمَ فِي إِقْرَارِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ . أَمَّا الْعَبْدُ فَإِقْرَارُهُ عَلَى ضَرْبَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : فِي بَدَنٍ كَحَدٍّ ، أَوْ قِصَاصٍ فَإِقْرَارُهُ بِهِ لَازِمٌ وَاسْتِيفَاؤُهُ فِي الْحَالِ وَاجِبٌ صَدَّقَ السَّيِّدُ ، أَوْ كَذَّبَ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : فِي مَالٍ ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : عَنْ جِنَايَةٍ إقرار العبد عن جناية تلزمه بمال فَإِقْرَارُهُ بِهِ غَيْرُ لَازِمٍ فِي الْحَالِ إِلَّا أَنْ يُصَدِّقَ السَّيِّدُ فَيَتَعَلَّقُ الْإِقْرَارُ بِرَقَبَتِهِ وَتُبَاعُ فِيمَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ جِنَايَتِهِ . وَإِنْ كَانَ السَّيِّدُ مُكَذِّبًا تَعَلَّقَ بِذِمَّتِهِ وَيُؤْخَذُ بِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ وَيَسَارِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ عَنْ مُعَامَلَةٍ إقرار العبد عن معاملة تلزمه بمال فَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ كَانَ إِقْرَارُهُ لَازِمًا فِيمَا بِيَدِهِ صَدَّقَ السَّيِّدُ أَمْ كَذَّبَ ؛ لِأَنَّهُ مُسَلَّطٌ عَلَيْهِ بِالْإِذْنِ . وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْذُونٍ لَهُ فِي التِّجَارَةِ كَانَ إِقْرَارُهُ مُتَعَلِّقًا بِذِمَّتِهِ يُؤْخَذُ بِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ ، وَيَسَارِهِ سَوَاءٌ صَدَّقَ السَّيِّدُ أَمْ كَذَّبَ . وَنَحْنُ نَسْتَوْفِي شَرْحَ ذَلِكَ ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْخِلَافِ فِيهِ مِنْ بَعْدُ . وَأَمَّا الْمُفْلِسُ فَإِقْرَارُهُ لَازِمٌ فِي حَالَةِ حَجْرِهِ لَكِنْ إِنْ صَدَّقَهُ الْغُرَمَاءُ كَانَ الْمُقَرُّ لَهُ شَرِيكًا لَهُ فِي مَالِهِ يُخَاصِمُهُمْ بِقَدْرِ مَا أُقِرَّ بِهِ ، وَإِنْ كَذَّبَهُ الْغُرَمَاءُ ، فَعَلَى قَوْلَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي حَجْرِهِ هَلْ يَجْرِي مَجْرَى حَجْرِ السَّفَهِ ، أَوْ يَجْرِي مَجْرَى حَجْرِ الْمَرَضِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى حَجْرِ السَّفَهِ ، فَعَلَى هَذَا لَا يُشَارِكُ الْغُرَمَاءَ بِهِ وَيُؤْخَذُ بِهِ بَعْدَ فَكِّ حَجْرِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى حَجْرِ الْمَرَضِ ، فَعَلَى هَذَا يُشَارِكُهُمْ فِي مَالِهِ بِالْقَدْرِ الَّذِي أُقِرَّ . وَأَمَّا الْمَرِيضُ فَإِقْرَارُهُ لَازِمٌ فِي الْمَالِ ، وَالْبَدَنِ وَفِيهِ مَسَائِلُ تَأْتِي مَسْطُورَةً . وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ فَإِقْرَارُهُ فِي بَدَنِهِ لَازِمٌ قَبْلَ الْحَجْرِ وَبَعْدَهُ ، وَأَمَّا إِقْرَارُهُ فِي مَالِهِ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ حَجْرِ الْحَاكِمِ عَلَيْهِ المرتد فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي حَجْرِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى حَجْرِ الْمَرَضِ ، فَعَلَى هَذَا عُقُودُهُ لَازِمَةٌ وَإِقْرَارُهُ نَافِذٌ . وَالثَّانِي ؛ أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى حَجْرِ السَّفَهِ ، فَعَلَى هَذَا عُقُودُهُ بَاطِلَةٌ وَفِي إِقْرَارِهِ وَجْهَانِ . وَإِنْ كَانَ إِقْرَارُهُ قَبْلَ حَجْرِ الْحَاكِمِ عَلَيْهِ المرتد فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا : هَلْ يَصِيرُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ أَمْ لَا ؛ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَدْ صَارَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ إِقْرَارُهُ عَلَى مَا مَضَى . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ إِلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ إِقْرَارُهُ لَازِمًا نَافِذًا .
فَأَمَّا السَّكْرَانُ فَلَا يَخْلُو حَالُ سُكْرِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ مَعْصِيَةٍ . أَوْ مِنْ غَيْرِ مَعْصِيَةٍ . فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ مَعْصِيَةٍ إقرار السكران فَإِقْرَارُهُ بَاطِلٌ لَا يَلْزَمُ فِي مَالٍ ، وَلَا بَدَنٍ كَالْمَجْنُونِ ، وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ ، وَلَا يُؤْخَذُ بِشَيْءٍ مِنْهُ بَعْدَ إِفَاقَتِهِ . وَإِنْ كَانَ سُكْرُهُ مَعْصِيَةً إقرار السكران فَالْمَذْهَبُ لُزُومُ إِقْرَارِهِ فِي الْمَالِ ، وَالْبَدَنِ كَمَا يَقَعُ طَلَاقُهُ . وَقَدْ خَرَّجَ الْمُزَنِيُّ قَوْلًا فِي الْقَدِيمِ أَنَّ طَلَاقَهُ لَا يَقَعُ ، السكران فَعَلَى هَذَا إِقْرَارُهُ لَا يَلْزَمُ فِي مَالٍ ، وَلَا بَدَنٍ . فَأَمَّا الَّذِي يُجَنُّ فِي زَمَانٍ وَيُفِيقُ فِي زَمَانٍ ، فَإِنْ أَقَرَّ فِي زَمَانِ جُنُونِهِ بَطَلَ إِقْرَارُهُ ، وَإِنْ أَقَرَّ فِي حَالِ إِفَاقَتِهِ لَزِمَ إِقْرَارُهُ . فَلَوِ اخْتَلَفَا بَعْدَ إِفَاقَتِهِ هَلْ كَانَ الْإِقْرَارُ فِي حَالِ الْجُنُونِ أَمِ الْإِفَاقَةِ ؟ فَقَالَ الْمُقِرُّ : كُنْتُ عِنْدَ الْإِقْرَارِ مَجْنُونًا ، وَقَالَ الْآخَرُ : بَلْ كُنْتَ مُفِيقًا ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ ، فَهَذَا حُكْمُ الْمُقِرِّ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَمَنْ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ لَمْ يَجُزْ إِقْرَارُهُ . وَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : مَنْ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ بِحَالٍ كَالصَّبِيِّ ، وَالْمَجْنُونِ لَمْ يَجُزْ إِقْرَارُهُ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ . وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَنْ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ فِي شَيْءٍ لَمْ يَجُزْ إِقْرَارُهُ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ فَهَذَا الْكَلَامُ فِي الشَّرْطِ الْأَوَّلِ وَهُوَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي وَهُوَ أَنَّ الْمُقَرَّ لَهُ الشرط الثاني من شروط الإقرار فَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِمَا تَضَمَّنَهُ الْإِقْرَارُ مِنْ حَقٍّ ، وَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ آدَمِيًّا . أَوْ غَيْرَ آدَمِيٍّ . فَإِنْ كَانَ آدَمِيًّا فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : أَنْ يَكُونَ حُرًّا ، أَوْ عَبْدًا . فَإِنْ كَانَ حُرًّا صَحَّ الْإِقْرَارُ لَهُ ، الإقرار للحر صَغِيرًا كَانَ ، أَوْ كَبِيرًا ، عَاقِلًا ، أَوْ مَجْنُونًا ، مُسْلِمًا ، أَوْ كَافِرًا ، رَجُلًا ، أَوِ امْرَأَةً ؛ لِأَنَّ كُلَّ هَؤُلَاءِ يَصِحُّ أَنْ يَمْلِكُوا . وَإِنْ كَانَ عَبْدًا الإقرار للعبد فَإِنْ كَانَ الْإِقْرَارُ مِمَّا يَصِحُّ أَنْ يَمْلِكَهُ دُونَ سَيِّدِهِ كَالْإِقْرَارِ بِالزَّوْجِيَّةِ صَحَّ الْإِقْرَارُ لَهُ . وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَصِحُّ أَنْ يَمْلِكَهُ كَانَ الْإِقْرَارُ لِسَيِّدِهِ وَكَانَ اسْمُ الْعَبْدِ مُعَارًا فِيهِ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ قَبُولُ السَّيِّدِ دُونَهُ .
وَإِنْ كَانَ الْإِقْرَارُ لِغَيْرِ آدَمِيٍّ كَإِقْرَارِهِ لِبَهِيمَةٍ ، أَوْ عَقَارٍ ، أَوْ مَسْجِدٍ ، أَوْ رِبَاطٍ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْإِقْرَارِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُضَافَ إِلَى وَجْهٍ مُسْتَحِيلٍ كَإِقْرَارِهِ لِذَلِكَ بِدَيْنٍ مِنْ مُعَامَلَةٍ فَيَكُونُ بَاطِلًا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يُضَافَ إِلَى وَجْهٍ يَصِحُّ ، وَلَا يَسْتَحِيلُ كَإِقْرَارِهِ لِمَسْجِدٍ بِمَالٍ مِنْ وَصِيَّةٍ ، أَوْ لِرِبَاطٍ بِمَالٍ مِنْ وَقْفٍ عَلَيْهِ ، أَوْ لِمَاشِيَةٍ مُسْبَلَةٍ بِعُلُوفَةٍ مِنْ وَصِيَّةٍ ، أَوْ صَدَقَةٍ ، فَهَذَا إِقْرَارٌ لَازِمٌ وَلَيْسَ بِتَمْلِيكٍ وَإِنَّمَا هُوَ إِقْرَارٌ بِجِهَاتٍ يَنْصَرِفُ الْمَالُ فِيهَا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا ، وَفِي صِحَّتِهِ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْمُقِرِّ لِلْحَمْلِ بِإِقْرَارٍ مُطْلَقٍ فَهَذَا الشَّرْطُ الثَّانِي .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّالِثُ وَهُوَ الْمُقَرُّ بِهِ حدود الإقرار فَهُوَ مَا تَضَمَّنَهُ الْإِقْرَارُ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي حَدِّهِ ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : هُوَ كُلُّ شَيْءٍ جَازَتِ الْمُطَالَبَةُ بِهِ . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ جَازَ الِانْتِفَاعُ بِهِ ، وَهَذَا أَصَحُّ ؛ لِأَنَّهُ حَدٌّ لِمَا تَجُوزُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ وَلِمَا يَجُوزُ الْإِقْرَارُ بِهِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ صَحَّ الْإِقْرَارُ بِهِ سُمِعَتِ الدَّعْوَى فِيهِ ، وَمَا رُدَّ فِي أَحَدِهِمَا رُدَّ فِي الْآخَرِ ، وَلَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى فِي مَجْهُولٍ إِلَّا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : وَصَّى لِي زَيْدٌ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ فَتُسْمَعُ هَذِهِ الدَّعْوَى الْمَجْهُولَةُ عَلَى وَارِثِهِ وَيَرْجِعُ إِلَى بَيَانِهِ فِيهَا لِجَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِالشَّيْءِ الْمَجْهُولِ ، وَلَا تَصِحُّ الدَّعْوَى الْمَجْهُولَةُ فِيمَا سِوَاهُ . فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُقَرِّ بِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي بَدَنٍ ، أَوْ مَالٍ . فَأَمَّا الْبَدَنُ فَضَرْبَانِ : حَقٌّ لِلَّهِ . وَحَقٌّ لِلْآدَمِيِّ . فَأَمَّا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى كَحَدِّ الزِّنَى وَشُرْبِ الْخَمْرِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْإِقْرَارُ بَلْ هُوَ مَنْدُوبٌ إِلَى سَتْرِهِ ، وَالتَّوْبَةِ مِنْهُ . قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : مَنْ أَتَى مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ حَدَّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ . وَأَمَّا حَقُّ الْآدَمِيِّ فَالْقِصَاصُ وَحَدُّ الْقَذْفِ فَعَلَيْهِ الْإِقْرَارُ بِهِ ، وَالتَّمْكِينُ وَأَمَّا الْمَالُ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى كَالزَّكَوَاتِ ، وَالْكَفَّارَاتِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْإِقْرَارُ بِهِ ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ مِنْ غَيْرِ إِقْرَارٍ .
وَالثَّانِي : حَقُّ الْآدَمِيِّينَ ، المقر به وَهُوَ عَلَى سِتَّةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : مَا كَانَ عَيْنًا كَعَبْدٍ ، أَوْ ثَوْبٍ . وَالثَّانِي : مَا كَانَ دَيْنًا كَمَالٍ فِي الذِّمَّةِ . وَالثَّالِثُ : مَا كَانَ مَنْفَعَةَ مَالٍ كَمَنَافِعِ الْإِيجَارَاتِ . وَالرَّابِعُ : مَا كَانَ مَنْفَعَةً مُبَاحَةً مِنْ غَيْرِ مَالٍ كَالْأَنْجَاسِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا ، وَالْكِلَابِ الْمُعَلَّمَةِ . وَالْخَامِسُ : مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْأَمْوَالِ كَالشُّفْعَةِ . وَالسَّادِسُ : مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ غَيْرِ الْأَمْوَالِ كَالزَّوْجِيَّةِ ، وَالْقَسَمِ . فَهَذَا كُلُّهُ لَا يَخْلُو حَالُ مُسْتَحِقِّهِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِهِ ، أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ . فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِهِ لَزِمَهُ أَدَاؤُهُ مِنْ غَيْرِ إِقْرَارٍ مَا لَمْ يَقَعْ تَنَافُرٌ فِيهِ . وَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ بِهِ لَزِمَهُ الْأَمْرَانِ مَعًا ، الْإِقْرَارُ بِهِ ، وَالْأَدَاءُ لَهُ . فَهَذَا الشَّرْطُ الثَّالِثُ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الشَّرْطُ الرَّابِعُ وَهُوَ الْمُقَرُّ عِنْدَهُ فَهُوَ مَنْ يَصِيرُ بِهِ الْحَقُّ مَحْفُوظًا . وَهُوَ أَحَدُ تَفْسِيرِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا حَاكِمٌ يُلْزِمُ . أَوْ شَاهِدٌ مُتَحَمِّلٌ . وَلَيْسَ لِلْإِقْرَارِ عِنْدَ غَيْرِ هَذَيْنِ تَأْثِيرٌ . فَإِنْ كَانَ الْإِقْرَارُ عِنْدَ حَاكِمٍ فَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ سَمَاعِهِ الدَّعْوَى عَلَيْهِ ، وَإِنْ أَقَرَّ عِنْدَهُ قَبْلَ سَمَاعِ الدَّعْوَى مِنْ غَيْرِ دَعْوَى فَفِي صِحَّةِ الْإِقْرَارِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَصِحُّ ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الشَّافِعِيِّ . وَالثَّانِي : لَا يَصِحُّ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْبَصْرِيِّينَ . وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُهُمْ فِي هَذَا مُخَرَّجًا مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ : هَلْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ أَمْ لَا ؟ فَإِنْ قِيلَ بِجَوَازِ حُكْمِهِ صَحَّ الْإِقْرَارُ عِنْدَهُ قَبْلَ سَمَاعِ الدَّعْوَى ، وَإِنْ قِيلَ لَا يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ بِعِلْمِهِ لَمْ يَصِحَّ الْإِقْرَارُ عِنْدَهُ قَبْلَ سَمَاعِ الدَّعْوَى . وَإِنْ كَانَ الْإِقْرَارُ عِنْدَ شَاهِدَيْنِ فَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَسْتَرْعِيَهُمَا الْإِقْرَارُ ، فَيَقُولُ بَعْدَ إِقْرَارِهِ : اشْهَدَا عَلَيَّ بِذَلِكَ . فَإِنْ لَمْ يَسْتَرْعِهِمَا وَأَقَرَّ عِنْدَهُمَا ، أَوْ سَمِعَاهُ يُقِرُّ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لَهُمَا ، فَفِي صِحَّةِ تَحَمُّلِهِمَا وَجَوَازِ شَهَادَتِهِمَا عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَجْهَانِ نَذْكُرُ تَوْجِيهَهُمَا فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْإِقْرَارُ عَلَى ضَرْبَيْنِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رِضَى اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ شَيْءٌ ثُمَّ جَحَدَ قِيلَ لَهُ أَقِرَّ بِمَا شِئْتَ مِمَّا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ شَيْءٍ مِنْ مَالٍ ، أَوْ تَمْرَةٍ ، أَوْ فَلْسٍ وَاحْلِفْ مَا لَهُ قِبَلَكَ غَيْرُهُ فَإِنْ أَبَى حَلَفَ الْمُدَّعِي عَلَى مَا ادَّعَى وَاسْتَحَقَّهُ مَعَ نُكُولِ صَاحِبِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَالْإِقْرَارُ عَلَى ضَرْبَيْنِ : مُفَسَّرٍ ، وَمُجْمَلٍ ، فَالْمُفَسَّرُ عَلَى ضَرْبَيْنِ : مُسْتَوْفًى ، وَمُقَصِّرٌ . فَالْمُسْتَوْفَى كَقَوْلِهِ : لَهُ عَلَيَّ مِائَةُ دِينَارٍ قَاشَانِيَّةٌ ، فَيَكُونُ الْإِقْرَارُ مَفْهُومَ الْجِنْسِ ، وَالْقَدْرِ ، وَالصِّفَةِ ، فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى سُؤَالٍ عَنْهُ وَيُحْكَمُ بِهِ عَلَيْهِ إِنْ قَبِلَهُ الْمُدَّعِي . وَالْمُقَصِّرُ النوع الثاني لتفسير الإقرار أَنْ يَقُولَ : لَهُ عَلَيَّ مِائَةُ دِينَارٍ فَيَكُونُ الْإِقْرَارُ مَفْهُومَ الْجِنْسِ ، وَالْقَدْرِ مَجْهُولَ الصِّفَةِ فَلِذَلِكَ صَارَ مُقَصِّرًا ، فَيُسْأَلُ عَنْ صِفَةِ الدَّنَانِيرِ وَيُحْكَمُ عَلَيْهِ بِمَا يُفَسِّرُهُ مِنْ صِفَتِهَا إِنْ قَبِلَهُ الْمُدَّعِي . وَأَمَّا الْمُجْمَلُ ، النوع الثاني للإقرار فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : عَامٌّ . وَخَاصٌّ . فَالْخَاصُّ النوع الثاني للإقرار المجمل أَنْ يَقُولَ : لَهُ عَلَيَّ مَالٌ فَكَانَ خَاصًّا لِاخْتِصَاصِهِ بِالْمَالِ دُونَ غَيْرِهِ وَمُجْمَلًا مِنْ جِنْسِهِ وَسَنَذْكُرُ حُكْمَهُ . وَأَمَّا الْعَامُّ فَقَوْلُهُ : لَهُ عَلَيَّ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ أَعَمُّ الْأَسْمَاءِ كُلِّهَا لِإِطْلَاقِهِ عَلَى الْمَوْجُودَاتِ كُلِّهَا وَاخْتُلِفَ فِي إِطْلَاقِهِ عَلَى الْمَعْدُومَاتِ . فَإِنْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ سُئِلَ عَنْ تَفْسِيرِهِ جِنْسًا وَصِفَةً وَقَدْرًا ؛ لِأَنَّ اسْمَ الشَّيْءِ لَا يَدُلُّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهَا ، ثُمَّ لَهُ حَالَتَانِ : حَالَةُ تَفْسِيرٍ . حَالَةُ لَا تَفْسِيرٍ . فَإِنْ لَمْ يُفَسِّرْ عِنْدَ سُؤَالِ الْحَاكِمِ لَهُ عَنِ التَّفْسِيرِ تفسير الإقرار أَعَادَ الْقَوْلَ عَلَيْهِ ثَانِيَةً فَإِنْ أَبَى التَّفْسِيرَ أَعَادَ عَلَيْهِ ثَالِثَةً . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي إِعَادَةِ ذَلِكَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا فَقِيلَ هَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي الْحُكْمِ عَلَيْهِ أَمِ اسْتِحْبَابٌ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ شَرْطٌ لَا يَجُوزُ الْحُكْمُ قَبْلَهُ لِيَسْتَحِقَّ بِالتَّكْرَارِ امْتِنَاعَهُ مِنَ التَّفْسِيرِ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : اسْتِحْبَابٌ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فَإِنْ حُكِمَ عَلَيْهِ قَبْلَ إِعَادَةِ الْقَوْلِ ثَلَاثًا أَجْزَأَ بَعْدَ إِعْلَامِهِ أَنَّهُ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بَعْدَ امْتِنَاعِهِ . فَإِذَا امْتَنَعَ عَنِ التَّفْسِيرِ في الإقرار بَعْدَمَا وَصَفْنَا فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ وَفِي أَحَدِ كِتَابَيِ الْإِقْرَارِ أَنَّهُ يَجْعَلُهُ نَاكِلًا ، وَتُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُقَرِّ لَهُ ، فَأَيُّ شَيْءٍ حَلَفَ عَلَيْهِ حُكِمَ لَهُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ بِالِامْتِنَاعِ مِنَ التَّفْسِيرِ كَالْمُمْسِكِ عَنْ جَوَابِ الدَّعْوَى فَاقْتَضَى أَنْ يَصِيرَ نَاكِلًا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : قَالَهُ فِي الْكِتَابِ الْآخَرِ مِنْ كِتَابِ الْإِقْرَارِ أَنَّهُ يَحْبِسُهُ حَتَّى يُفَسِّرَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مُقِرًّا وَبِالِامْتِنَاعِ عَنِ التَّفْسِيرِ يَصِيرُ كَالْمَانِعِ مِنْ حَقٍّ عَلَيْهِ فَوَجَبَ أَنْ يُحْبَسَ بِهِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنْ فَسَّرَ فَلَا يَخْلُو حَالُ تَفْسِيرِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يُفَسِّرَ بِمَا تَثْبُتُ عَلَيْهِ الْيَدُ . أَوْ بِمَا لَا تَثْبُتُ عَلَيْهِ الْيَدُ . فَإِنْ فَسَّرَ بِمَا لَا تَثْبُتُ عَلَيْهِ الْيَدُ التفسير في الإقرار كَقَوْلِهِ : أَرَدْتُ شَمْسًا ، أَوْ قَمَرًا ، أَوْ كَوْكَبًا ، أَوْ رِيحًا ، أَوْ نَارًا ، لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مُفَسَّرًا ، وَكَذَا لَوْ فَسَّرَهُ بِتَافِهٍ حَقِيرٍ كَتَمْرَةٍ ، أَوْ لُقْمَةٍ لَمْ يَكُنْ مُفَسَّرًا ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ اسْمُ الشَّيْءِ عَلَيْهِ مُنْطَلِقًا فَهُوَ مِمَّا لَا يُسْتَحَقُّ بِهِ مُطَالَبَةٌ ، وَلَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ إِقْرَارٌ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : ارْتِفَاعُ الْيَدِ عَنْهُ . وَالثَّانِي : مُسَاوَاةُ الْجَمِيعِ فِيهِ . وَإِنْ فَسَّرَهُ بِمَا تَثْبُتُ عَلَيْهِ الْيَدُ ، التفسير في الإقرار فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مَالًا . وَالثَّانِي : غَيْرُ مَالٍ . فَإِنْ فَسَّرَهُ بِمَا يَكُونُ مَالًا التفسير في الإقرار كَتَفْسِيرِهِ ذَلِكَ بِالدَّرَاهِمِ ، وَالدَّنَانِيرِ ، وَالْبُرِّ ، وَالشَّعِيرِ ، وَالدُّورِ ، وَالْعَقَارِ ، وَالْعُرُوضِ ، وَالسِّلَعِ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِجِنْسِ الدَّعْوَى التفسير في الإقرار . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا . فَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا لِجِنْسِ الدَّعْوَى مِثْلَ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ دَرَاهِمُ فَيُفَسِّرُ الشَّيْءَ بِالدَّرَاهِمِ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِقَدْرِ الدَّعْوَى التفسير في الإقرار مِثْلَ أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى عَلَيْهِ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَيُفَسِّرُ الشَّيْءَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، فَهَذَا مُقِرٌّ بِجَمِيعِ الدَّعْوَى وَمُصَدِّقٌ عَلَيْهَا فَصَارَ مُصَدَّقًا فِي تَفْسِيرِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُوَافِقٍ لِقَدْرِ الدَّعْوَى تفسير الإقرار مِثْلَ أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى عَلَيْهِ مِائَةَ
دِرْهَمٍ فَيُفَسِّرُ الشَّيْءَ بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا فَيُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْقَدْرِ الَّذِي فَسَّرَهُ وَيَحْلِفُ عَلَى بَاقِي الدَّعْوَى الَّذِي أَنْكَرَهُ . فَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِجِنْسِ الدَّعْوَى التفسير في الإقرار مِثْلَ أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى عَلَيْهِ دَرَاهِمَ فَيُفَسِّرُ الشَّيْءَ بِالدَّنَانِيرِ فَيُقَالُ لِلْمُدَّعِي : هَلْ تَدَّعِي عَلَيْهِ مَا فَسَّرَهُ مِنَ الدَّنَانِيرِ أَمْ لَا ؟ فَإِنْ قَالَ : أَنَا أَدَّعِيهَا وَأَدَّعِي الدَّرَاهِمَ ، حُكِمَ لَهُ بِالدَّنَانِيرِ الَّتِي فَسَّرَهَا الْمُقِرُّ وَأُحْلِفَ لَهُ عَلَى مَا ادَّعَاهُ مِنَ الدَّرَاهِمِ . وَإِنْ قَالَ : لَسْتُ أَدَّعِي الدَّنَانِيرَ ، لَمْ يُحْكَمْ عَلَى الْمُقِرِّ بِهَا وَأُحْلِفَ الْمُقِرُّ عَلَى مَا ادَّعَاهُ الْمُدَّعِي مِنَ الدَّرَاهِمِ . وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي صَدَّقَهُ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِالشَّيْءِ مَا فَسَّرَهُ مِنَ الدَّنَانِيرِ وَلَكِنْ قَالَ هُوَ غَيْرُ مَا ادَّعَيْتَ أُحْلِفَ الْمُقِرُّ بِاللَّهِ مَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ مَا ادَّعَاهُ عَلَيْهِ مِنَ الدَّرَاهِمِ . وَإِنْ قَالَ : بَلْ أَرَادَ بِالشَّيْءِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ مَا ادَّعَيْتُهُ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَلَكِنْ كَذِبَ فِي التَّفْسِيرِ حَلَفَ الْمُقِرُّ بِاللَّهِ مَا أَرَادَ بِالشَّيْءِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ الدَّرَاهِمَ الَّتِي ادَّعَيْتُ عَلَيْهِ بِهَا . فَأَمَّا إِذَا فَسَّرَ الشَّيْءَ بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ التفسير في الإقرار مِثْلَ أَنْ يُفَسِّرَهُ بِخَمْرٍ ، أَوْ خِنْزِيرٍ ، أَوْ كَلْبٍ ، أَوْ جِلْدِ مَيْتَةٍ فَفِي قَبُولِ هَذَا التَّفْسِيرِ مِنْهُ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ مَقْبُولٌ وَيُسْأَلُ عَنْهُ الْمُدَّعِي عَلَى مَا مَضَى ؛ لِأَنَّهُ مَعَ انْطِلَاقِ الشَّيْءِ عَلَيْهِ مِمَّا تَمْتَدُّ إِلَيْهِ الْيَدُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي التَّفْسِيرِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ وَيَكُونُ كَمَنْ لَمْ يُفَسِّرْ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ إِنْ كَانَ مِمَّا تُقَرُّ عَلَيْهِ الْيَدُ تفسير الإقرار عندما يكون بمال وَيَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ كَالْكَلْبِ وَجِلْدِ الْمَيْتَةِ كَانَ مُفَسِّرًا بِهِ ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى قَدْ تَصِحُّ أَنْ يُتَوَجَّهَ إِلَيْهِ . وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا تُقَرُّ عَلَيْهِ الْيَدُ ، تفسير الإقرار عندما يكون بمال وَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ كَالْخَمْرِ ، وَالْخِنْزِيرِ لَمْ يَكُنْ بِهِ مُفَسِّرًا ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى لَا تَصِحُّ أَنْ يُتَوَجَّهَ إِلَيْهِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَسَوَاءٌ قَالَ لَهُ عَلَيَّ مَالٌ ، أَوْ مَالٌ كَثِيرٌ ، أَوْ عَظِيمٌ فَإِنَّمَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ مَالٍ فَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ إِلَى مَا تَجِبُ فِيهِ الزَكَاةُ فَلَا أَعْلَمُهُ خَبَرًا ، وَلَا قِيَاسًا أَرَأَيْتَ إِذَا أَغْرَمْتَ مِسْكِينًا يَرَى الدِّرْهَمَ عَظِيمًا ، أَوْ خَلِيفَةً يَرَى أَلْفَ أَلْفٍ قَلِيلًا إِذَا أَقَرَّ بِمَالٍ عَظِيمٍ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ ، وَالْعَامَّةُ تَعْلَمُ أَنَّ مَا يَقَعُ فِي الْقَلْبِ مِنْ مَخْرَجِ قَوْلَيْهِمَا مُخْتَلِفٌ فَظَلَمْتَ الْمُقِرَّ لَهُ إِذْ لَمْ تُعْطِهِ مِنْ خَلِيفَةٍ إِلَّا التَّافِهَ وَظَلَمْتَ الْمِسْكِينَ إِذَا أَغْرَمْتَهُ أَضْعَافَ الْعَظِيمِ إِذْ لَيْسَ عِنْدَكَ فِي ذَلِكَ إِلَّا مَحْمَلُ كَلَامِ النَّاسِ " .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا قَالَ : لَهُ عَلَيَّ مَالٌ ، فَهَذَا مِنَ الْمُجْمَلِ الْخَاصِّ ، فَإِنْ لَمْ يَصِلْهُ بِصِفَةٍ زَائِدَةٍ وَاقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ : لَهُ عَلَيَّ مَالٌ ، رَجَعَ فِي تَفْسِيرِهِ إِلَيْهِ ، فَمَا فَسَّرَهُ مِنْ شَيْءٍ قَلَّ ، أَوْ كَثُرَ مِنْ أَيِّ جِنْسٍ كَانَ مِنْ أَجْنَاسِ الْأَمْوَالِ قُبِلَ مِنْهُ ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَإِنْ فَسَّرَهُ بِمُحَرَّمٍ لَا تَجُوزُ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ وَجْهًا وَاحِدًا . لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ ، فَإِنِ امْتَنَعَ مِنْ تَفْسِيرِهِ كَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ مَضَيَا . فَأَمَّا إِذَا وَصَلَ إِقْرَارَهُ بِأَنْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ مَالٌ كَثِيرٌ ، أَوْ مَالٌ عَظِيمٌ تفسير الإقرار فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ عَلَى مَذَاهِبَ شَتَّى : فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا نَقْبَلُ مِنْهُ أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ ، أَوْ عِشْرِينَ دِينَارًا وَهُوَ النِّصَابُ الْمُزَكَّى مِنَ الْأَثْمَانِ . وَقَالَ مَالِكٌ : لَا أَقْبَلُ أَقَلَّ مِنْ رُبُعِ دِينَارٍ ، أَوْ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ ، هُوَ النِّصَابُ الَّذِي تُقْطَعُ فِيهِ الْيَدُ . وَقَالَ اللَّيْثَ بْنُ سَعْدٍ : أَقَلُّ مَا نَقْبَلُ مِنْهُ اثْنَانِ وَسَبْعُونَ دِرْهَمًا . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُرْجَعُ إِلَى تَفْسِيرِهِ فَمَا فَسَّرَهُ بِهِ مِنْ شَيْءٍ أُخِذَ مِنْهُ وَإِنْ قَلَّ سَوَاءٌ كَانَ مَنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ أَوْ مِنْ غَيْرِهَا . وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ لِمَذْهَبِهِ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ : أَنَّهُ مَرَّ بِرَجُلٍ يَحْلِفُ فِي الْمَقَامِ فَقَالَ لَهُ : أَفِي دَمٍ ؟ قِيلَ : لَا ، قَالَ : أَفَعَلَى عَظِيمٍ مِنَ الْمَالِ ؛ قِيلَ : لَا ، فَقَالَ : لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَتَهَاوَنَ النَّاسُ بِهَذَا الْمَقَامِ . فَحَمَلْتُمْ قَوْلَهُ أَفَعَلَى عَظِيمٍ مِنَ الْمَالِ عَلَى مِائَتَيْ دِرْهَمٍ ، أَوْ عِشْرِينَ دِينَارًا فَلَزِمَكُمْ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْإِقْرَارِ . قَالَ : وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْمُوَاسَاةِ مِنَ الْأَمْوَالِ الْكَثِيرَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ [ التَّوْبَةِ : 103 ] ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَمْوَالِ وَبَيْنَ مَالٍ كَثِيرٍ ، ثُمَّ لَمْ تُؤْخَذِ الزَّكَاةُ مِنْ أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ ، وَلَا أَقَلَّ مِنْ عِشْرِينَ دِينَارًا لِخُرُوجِهِ مَنْ حُكْمِ اللَّفْظِ فَكَذَا فِي الْإِقْرَارِ . وَأَمَّا مَالِكٌ فَاسْتَدَلَّ لِمَذْهَبِهِ بِقَوْلِ عَائِشَةَ : مَا كَانَتْ تُقْطَعُ الْيَدُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ .
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا لَا يُقْطَعُ فِيهِ مَالٌ تَافِهٌ حَقِيرٌ ، فَخَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَالًا عَظِيمًا وَلِأَنَّهُ أَقَلُّ الْمَقَادِيرِ فِي الشَّرْعِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ أَصْلًا فِي الْإِقْرَارِ بِالْمَالِ الْمُطْلَقِ . وَأَمَّا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ فَاسْتَدَلَّ لِمَذْهَبِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ [ التَّوْبَةِ : 25 ] . فَعُدَّتْ فَكَانَتِ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ مَوْطِنًا . وَالدَّلِيلُ عَلَى جَمِيعِهِمْ أَنَّ الْعِظَمَ إِذَا كَانَتْ صِفَةً لِقَدْرٍ لَمْ يُوجِبْ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ الْقَدْرِ كَقَوْلِهِ : لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ عَظِيمٌ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ دِرْهَمٍ لَوْ لَمْ يَصِفْهُ بِعَظِيمٍ ، فَكَذَا إِذَا كَانَ صِفَةً لِمُجْمَلٍ لَمْ يَزِدْ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ الْمُجْمَلِ . فَلَمَّا كَانَ لَوْ أَقَرَّ بِمَالٍ لَمْ يَكُنِ الْمَالُ مُقَدَّرًا وَجَبَ إِذَا أَقَرَّ بِمَالٍ عَظِيمٍ أَنْ لَا يَصِيرَ مُقَدَّرًا . وَدَلِيلٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْعَظِيمَ صِفَةٌ تَنْطَلِقُ عَلَى كُلِّ قَدْرٍ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ ؛ لِأَنَّ الْقَلِيلَ قَدْ يَكُونُ عَظِيمًا بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا هُوَ أَقَلُّ مِنْهُ ، وَالْعَظِيمُ قَدْ يَكُونُ قَلِيلًا بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى [ النِّسَاءِ : 77 ] ، فَجَعَلَ مَتَاعَ الدُّنْيَا قَلِيلًا بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْآخِرَةِ الَّتِي هِيَ خَيْرٌ مِنْهُ . وَقَالَ تَعَالَى : فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [ الزَّلْزَلَةِ : 7 ] ، فَجَعَلَ ذَلِكَ كَثِيرًا لِتَوَجُّهِ الْوَعْدِ ، وَالْوَعِيدِ إِلَيْهِ فَصَارَ إِطْلَاقُ الْعَظِيمِ يَقْتَضِي إِضَافَتَهُ إِلَى الْمَجْهُولِ لِجَوَازِ إِضَافَتِهِ إِلَى الْقَلِيلِ ، وَالْكَثِيرِ ، وَالْمَجْهُولُ لَا يَكُونُ مُقَدَّرًا . وَدَلِيلٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْعَظِيمَ لَا يَتَقَيَّدُ فِي الشَّرْعِ ، وَلَا فِي اللُّغَةِ ، وَلَا فِي الْعُرْفِ حَدًّا ، وَلَا يَخْتَصُّ مِنَ الْأَمْوَالِ جِنْسًا ، وَلَا قَدْرًا ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ عَظِيمُ الْجِنْسِ ، وَيُحْتَمَلَ أَنْ يُرَادَ بِالْعَظِيمِ أَنَّهُ حَلَالٌ ، أَوْ أَنَّهُ مُوجِبٌ لِلثَّوَابِ وَالْعِقَابِ ، وَلِأَنَّ عَظِيمَ الْقَدْرِ قَدْ يَخْتَلِفُ عِنْدَ النَّاسِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ يَسَارِهِمْ وَإِعْسَارِهِمْ . فَالْخَلِيفَةُ يَرَى الْأَلْفَ قَلِيلًا ، وَالْفَقِيرُ يَرَى الدِّرْهَمَ عَظِيمًا . ثُمَّ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ سَعَةِ النُّفُوسِ وَضِيقِهَا ، فَذُو النَّفْسِ الْوَاسِعَةِ يَرَى الْكَثِيرَ قَلِيلًا وَذُو النَّفْسِ الضَّيِّقَةِ يَرَى الْقَلِيلَ كَثِيرًا عَظِيمًا . وَمَعَ اخْتِلَافِ الِاسْتِعْمَالِ لَهُ وَتَبَايُنِ الْمُرَادِ بِهِ يَبْطُلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَدًّا ، أَوْ يَتَنَاوَلُ مِنَ الْأَمْوَالِ جِنْسًا . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَهُوَ أَنَّ مُرَادَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَمْ يُعْرَفْ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ إِنَّمَا عُرِفَ بِقَرِينَةِ صُحْبَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ قَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ بِإِضَافَتِهِ إِلَى الدَّمِ تَغْلِيظًا فَعَقَلَ مَنْ سَمِعَهُ مِنْهُ مَعَ مَا شَاهَدَهُ مِنْ حَالِهِ فِيهِ أَنَّ مُرَادَهُ بِالْمَالِ الْعَظِيمِ مِائَتَا دِرْهَمٍ ، أَوْ عِشْرُونَ دِينَارًا ، وَلَوْ وُجِدَ فِي الْإِقْرَارِ مِثْلُهُ لَقُلْنَاهُ . ثُمَّ هُوَ أَبْعَدُ النَّاسِ اسْتِدْلَالًا بِهِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ بِهِ فِيمَا وَرَدَ فِيهِ .
وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ نُصُبِ الزَّكَوَاتِ فَلَوْ جَازَ أَنْ يَتَقَدَّرَ فِي الذَّهَبِ ، وَالْوَرِقِ بِالنِّصَابِ مِنْهُمَا لَتَقَدَّرَ فِي الْمَوَاشِي بِالنُّصُبِ فِيهَا ، ثُمَّ الْمَالُ لَا يَخْتَصُّ بِالذَّهَبِ ، وَالْوَرِقِ دُونَ غَيْرِهِمَا فَلَمْ يَجْعَلْهُ مُخْتَصًّا بِهِ ، أَوْ مُقَدَّرًا فِيهِمَا وَهَلَّا جَعَلَهُ فِي الْأَمْوَالِ وَمُقَدَّرًا بِنِصَابٍ مِنْ كُلِّ مَالٍ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ مَالِكٍ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ فَهُوَ أَنَّهُ دَالٌّ عَلَى أَنَّ التَّافِهَ مِمَّا لَا يُقْطَعُ فِيهِ الْيَدُ لَيْسَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا لَيْسَ بِتَافِهٍ تُقْطَعُ فِيهِ الْيَدُ كَالْغَاصِبِ ، وَالْجَانِي عَلَى أَنَّهَا أَرَادَتْ تَافِهًا فِي وُجُوبِ الْقَطْعِ لَا أَنَّهُ تَافِهٌ فِي الْجِنْسِ ، وَالْقَدْرِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ أَنَّهُ أَقَلُّ الْمَقَادِيرِ الشَّرْعِيَّةِ فَهُوَ أَنَّهُ يَسُوغُ الِاسْتِدْلَالُ بِذَلِكَ فِيمَا قَدِ اتُّفِقَ عَلَى أَنَّهُ مُقَدَّرٌ ، فَإِذَا حَصَلَ الْخِلَافُ فِي الْقَدْرِ كَانَ الْأَوْلَى رَدُّهُ إِلَى الْأَقَلِّ ، وَلَا يَسُوغُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ فِيمَا اخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ هُوَ مُقَدَّرٌ ، أَوْ غَيْرُ مُقَدَّرٍ ؛ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ اللَّيْثِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي عَدِّهَـا عَلَى أَنَّهُ عَدَدُ الْمَوَاطِنِ الْكَثِيرَةِ لَا الْمَالُ الْكَثِيرُ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ إِقْرَارٌ غَيْرُ مُقَدَّرٍ فَسَوَاءٌ قَالَ : مَالٌ عَظِيمٌ ، أَوْ لَهُ مَالٌ جَزِيلٌ ، أَوْ ثَقِيلٌ ، أَوْ مُغْنٍ ، تفسير الإقرار أَوْ جَمَعَ هَذِهِ الْأَوْصَافَ كُلَّهَا فَقَالَ : لَهُ عَلَيَّ مَالٌ كَثِيرٌ عَظِيمٌ جَزِيلٌ ثَقِيلٌ مُغْنٍ فَكُلُّهُ سَوَاءٌ ، وَيُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ فَمَا فَسَّرَ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ قُبِلَ مِنْهُ ، وَلَوْ قِيرَاطًا مِنْ فِضَّةٍ ، أَوْ مُدَّ حِنْطَةٍ ، أَوْ بَاقَةً مِنْ بَقْلٍ فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ ، وَإِلَّا فَلَهُ إِحْلَافُهُ .
فَصْلٌ : فَلَوْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ أَكْثَرُ مِمَّا لِزَيْدٍ عَلَيَّ تفسير الإقرار ثُمَّ بَيَّنَ دِرْهَمًا وَاحِدًا ، أَوْ أَقَلُّ قُبِلَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَقُولَ : لَيْسَ لِزَيْدٍ عَلَيَّ إِلَّا هَذَا الْقَدْرُ فَلَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ أَنَّ لِزَيْدٍ عَلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَكَانَ قَدْ بَيَّنَ إِقْرَارَهُ بِدِرْهَمٍ قُبِلَ مِنْهُ . قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : لِأَنَّهُ قَدْ يَكْذِبُ الشُّهُودُ فَلَوْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ أَكْثَرُ مِمَّا لِزَيْدٍ عَلَيَّ ثُمَّ بَيَّنَهُ بِدِرْهَمٍ وَأَقَرَّ لِزَيْدٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ قُبِلَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُرِيدُ بِالْأَكْثَرِ فِي أَنَّهُ حَلَالٌ وَبِالْأَقَلِّ فِي أَنَّهُ حَرَامٌ ؛ لِأَنَّ الْحَلَالَ كَثِيرٌ ، وَالْحَرَامَ قَلِيلٌ ، فَلَوْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ أَكْثَرُ مِمَّا لِزَيْدٍ جِنْسًا ثُمَّ أَقَرَّ لِزَيْدٍ بِمِائَةِ دِينَارٍ ذَهَبًا لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ مَا أَقَرَّ بِهِ إِلَّا مِنَ الدَّنَانِيرِ وَالذَّهَبِ ، قَلِيلًا بَيَّنَ أَوْ كَثِيرًا ؛ لِاحْتِمَالِ قَوْلِهِ أَكْثَرَ فِي الْحَلَالِ دُونَ الْقَدْرِ وَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ مَالِ زَيْدٍ . فَلَوْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ أَكْثَرُ مَا لِزَيْدٍ عَدَدًا ثُمَّ أَقَرَّ لِزَيْدٍ بِمِائَةِ دِينَارٍ لَزِمَهُ أَنْ يُبَيِّنَ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةٍ وَسَوَاءٌ بَيَّنَ مِنَ الدَّنَانِيرِ ، أَوْ مِنْ غَيْرِهَا . فَلَوْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ أَكْثَرُ مِمَّا لِزَيْدٍ عَدَدًا وَجِنْسًا ثُمَّ أَقَرَّ لِزَيْدٍ بِمِائَةِ دِينَارٍ ، لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ إِلَّا بِأَكْثَرِ مِنْ مِائَةِ دِينَارٍ وَلَوْ بِأَدْنَى زِيَادَةٍ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَزَالَ الِاحْتِمَالَ بِذِكْرِ الْجِنْسِ ، وَالْعَدَدِ . فَلَوِ ابْتَدَأَ الْمُدَّعِي فَقَالَ : لِي عَلَيْكَ مِائَةُ دِينَارٍ ، فَقَالَ لَكَ عَلَيَّ أَكْثَرُ مِنْهَا ثُمَّ بَيَّنَ دِرْهَمًا
قُبَلِ مِنْهُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الِاحْتِمَالِ ، وَلَوْ قَالَ : أَكْثَرُ مِنْهَا عَدَدًا ، لَمْ يُقْبَلْ إِلَّا أَكْثَرُ مِنْ مِائَةٍ عَدَدًا ، وَسَوَاءٌ بَيَّنَ الدَّنَانِيرَ ، أَوْ غَيْرَهَا . وَلَوْ قَالَ : أَكْثَرُ مِنْهَا جِنْسًا وَعَدَدًا لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ إِلَّا أَكْثَرُ مِنْ مِائَةِ دِينَارٍ وَلَوْ بِأَدْنَى زِيَادَةٍ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَسَوَاءٌ قَالَ لَهُ عَلَيَّ دَرَاهِمُ كَثِيرَةٌ ، أَوْ عَظِيمَةٌ ، أَوْ لَمْ يَقُلْهَا فَهِيَ ثَلَاثَةٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . إِذَا قَالَ : لَهُ عَلَيَّ دَرَاهِمُ فَأَقَلُّ مَا يُقْبَلُ مِنْهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَهُوَ أَقَلُّ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ مِنَ الْأَعْدَادِ . وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ فُقَهَاءِ الْبَصْرَةِ أَقَلُّ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ اثْنَانِ ، فَلَا يَلْزَمُهُ إِلَّا دِرْهَمَانِ وَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ [ النِّسَاءِ : 11 ] ، ثُمَّ كَانَتِ الْأُمُّ تُحْجَبُ بِالِاثْنَيْنِ وَإِنْ ذُكِرُوا بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَلِأَنَّ الْجَمْعَ مُشْتَقٌّ مِنِ اجْتِمَاعِ الشَّيْءِ مَعَ الشَّيْءِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ اثْنَيْنِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى خَطَأِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ الشَّاذَّةِ أَنَّ اللِّسَانَ مَوْضُوعٌ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْآحَادِ ، وَالتَّثْنِيَةِ ، وَالْجَمْعِ ، فَالْآحَادُ يَتَنَاوَلُ الْوَاحِدَ مِنَ الْأَعْدَادِ ، وَالتَّثْنِيَةُ يَتَنَاوَلُ الِاثْنَيْنِ ، وَالْجَمْعُ يَتَنَاوَلُ الثَّلَاثَةَ . وَدَلِيلٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ لَفْظَ الْوَاحِدِ يَسْلَمُ فِي التَّثْنِيَةِ ، وَلَا يَسْلَمُ فِي الْجَمْعِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَّفِقَ الْعَدَدُ مَعَ اخْتِلَافِ صِيغَةِ اللَّفْظِ الْمَوْضُوعِ لَهُمَا . فَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ فَهُوَ الدَّلِيلُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ مَعْرُوفًا فِي اللِّسَانِ لَاسْتُغْنِيَ فِيهِ عَنِ الْبَيَانِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ الْأَسْمَاءَ وَإِنَّمَا بَيَّنَ الْأَحْكَامَ فَأَخْبَرَ أَنَّ حُكْمَ الِاثْنَيْنِ فِي الصَّلَاةِ ، حُكْمَ الْجَمَاعَةِ بِخِلَافِ مَا يَقْتَضِيهِ اللِّسَانُ فِي اللُّغَةِ . فَأَمَّا حَجْبُ الْأُمِّ بِالْأَخَوَيْنِ فَلِأَنَّ الدَّلَالَةَ قَامَتْ فِيهِ عَلَى صَرْفِ الْحُكْمِ عَمَّا اقْتَضَاهُ اللِّسَانُ أَلَا تَرَى أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَى عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِمُخَالَفَتِهِ مُقْتَضَى اللِّسَانِ وَقَالَ : تَرَكْتَ لِسَانَ قَوْمِكَ فَلَمْ يُنْكِرْ عُثْمَانُ مُخَالَفَتَهُ لِمُقْتَضَى اللِّسَانِ أَنَّ الدَّلِيلَ صَرَفَهُ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّ الْجَمْعَ مُشْتَقٌّ مِنْ جَمْعِ الشَّيْءِ إِلَى الشَّيْءِ فَيُقَالُ هُوَ مُشْتَقٌّ مِنِ اجْتِمَاعِ الْجَمَاعَةِ كَمَا أَنَّ التَّثْنِيَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنِ اجْتِمَاعِ الِاثْنَيْنِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ فَسَوَاءٌ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ دَرَاهِمُ ، أَوْ قَالَ لَهُ دَرَاهِمُ كَثِيرَةٌ ، أَوْ عَظِيمَةٌ فَهِيَ ثَلَاثَةٌ إِنْ بَيَّنَهَا قُبِلَتْ مِنْهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا تُقْبَلُ مِنْهُ فِي إِقْرَارِهِ بِالدَّرَاهِمِ الْكَثِيرَةِ ، أَوِ الْعَظِيمَةِ أَقَلُّ مِنْ عَشَرَةٍ . وَيُوشِكُ أَنْ يَبْنِيَهُ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي أَقَلِّ الْمَهْرِ ، وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّنَا دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ صِفَةَ الشَّيْءِ بِالْكَثْرَةِ ، وَالْعِظَمِ لَا يَقْتَضِي زِيَادَةَ قَدْرٍ مَحْدُودٍ لِمَا وَصَفْنَا مِنَ الِاحْتِمَالِ ، وَالتَّجْوِيزِ ، وَأَنَّ الْإِقْرَارَ مَوْضُوعٌ عَلَى إِلْزَامِ الْيَقِينِ وَإِطْرَاحِ الشَّكِّ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَسَوَاءٌ قَالَ لَهُ : عَلَيَّ دَرَاهِمُ كَثِيرَةٌ ، أَوْ عَظِيمَةٌ وَهَكَذَا لَوْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ دُرَيْهِمَاتٌ لَمْ يُقْبَلْ أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثَةٍ . وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ دَرَاهِمُ وَدَرَاهِمُ لَزِمَهُ فِي الْحُكْمِ سِتَّةُ دَرَاهِمَ فَهَذَا حُكْمُ الْإِقْرَارِ إِذَا صَرَّحَ بِالْعَدَدِ دُونَ الْعَدَدِ . فَأَمَّا إِنْ صَرَّحَ بِالْعَدَدِ دُونَ الْمَعْدُودِ ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : لَهُ عَلَيَّ ثَلَاثَةٌ فَيَرْجِعُ إِلَى بَيَانِهِ فِيهَا ، فَإِنْ بَيَّنَهَا مِنْ جِنْسٍ ، أَوْ أَجْنَاسٍ قُبِلَتْ . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ لَا أَقْبَلُهَا مَعَ إِطْلَاقِ الْعَدَدِ إِلَّا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ . وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ فِي الْإِقْرَارِ يُطْرَحُ ، وَالْيَقِينُ مُعْتَبَرٌ ، عَلَى أَنَّهُ لَا عُرْفَ فِي الْأَعْدَادِ أَنْ يَتَنَاوَلَ جِنْسًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُعَبَّرُ بِهَا عَنِ الْأَجْنَاسِ كَمَا يُعَبَّرُ بِهَا عَنِ الْجِنْسِ . فَلَوْ قَالَ أَرَدْتُ بِالثَّلَاثَةِ فُلُوسًا قُبِلَ مِنْهُ سَوَاءٌ تَعَامَلَ النَّاسُ بِهَا أَمْ لَا وَهَكَذَا لَوْ قَالَ أَرَدْتُ بِالثَّلَاثَةِ دِرْهَمًا وَدِينَارًا وَفَلْسًا قُبِلَ مِنْهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَإِذَا قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ وَدِرْهَمٌ ، وَلَمْ يُسَمِّ الْأَلْفَ قِيلَ لَهُ أَعْطِهِ أَيَّ أَلْفٍ شِئْتَ فُلُوسًا ، أَوْ غَيْرَهَا وَاحْلِفْ أَنَّ الْأَلْفَ الَّتِي أَقْرَرْتَ بِهَا هِيَ هَذِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بِأَلْفٍ وَعَبْدٍ ، أَوْ أَلْفٍ وَدَارٍ لَمْ يَجْعَلِ الْأَلْفَ الْأَوَّلَ عَبِيدًا أَوْ دُورًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ وَأَحْوَالٌ ثَلَاثٌ ، فَمِنْهَا حَالَتَانِ مُتَّفَقٌ عَلَى حُكْمِهِمَا : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَقُولَ : لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَدِرْهَمٌ فَكُلُّ ذَلِكَ دَرَاهِمُ إِجْمَاعًا ، وَلَا يُسْأَلُ عَنْ تَفْسِيرِ شَيْءٍ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ فَسَّرَ الْأَلْفَ قَبْلَ الدِّرْهَمِ . وَالثَّانِيَةُ : أَنْ يَقُولَ : لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ وَلَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ فَيُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ الْأَلْفِ إِجْمَاعًا لِإِبْهَامِهَا ، وَلَا يَكُونُ الدِّرْهَمُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهَا تَفْسِيرًا لَهَا .
وَأَمَّا الثَّالِثَةُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا : فَهُوَ أَنْ يَقُولَ : لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ وَدِرْهَمٌ . فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ الْأَلْفِ لِإِبْهَامِهَا ، وَلَا يَكُونُ الْعَطْفُ بِالدِّرْهَمِ تَفْسِيرًا لَهَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَصِيرُ الْأَلْفُ بِالدِّرْهَمِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا دَرَاهِمَ كُلُّهَا ، وَلَا يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي تَفْسِيرِهَا ، اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ حُكْمَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ حُكْمُ الْعَطْفِ ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ : رَأَيْنَا زَيْدًا وَعَمْرًا دَلَّ عَلَى رُؤْيَتِهِ لِعَمْرٍو لِعَطْفِهِ عَلَى زَيْدٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ قَوْلُهُ : لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ وَمِائَةُ دِرْهَمٍ تَفْسِيرًا لِلْأَلْفِ بِالْمِائَةِ الْمَعْطُوفَةِ عَلَيْهَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ أَلْفًا وَدِرْهَمٌ تَفْسِيرًا لِلْأَلْفِ بِالدِّرْهَمِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَدَدٌ مُفَسِّرٌ مَعْطُوفٌ عَلَى عَدَدٍ مُبْهَمٍ . وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ الْعَطْفَ إِذَا لَمْ يَكُنْ وَصْفًا لَمْ يَكُنْ بَيَانًا ، كَقَوْلِهِ : أَلْفٌ وَعَبْدٌ لَا يَكُونُ الْأَلْفُ كُلُّهَا عَبِيدًا وَلِأَنَّ الْعَطْفَ لَوْ كَانَ بَيَانًا لَاسْتَحَالَ أَنْ يُعَادَ مَعَهُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ وَلَمَا جَازَ أَنْ يَقُولَ : مَرَرْتُ بِأَلْفِ رَجُلٍ وَصَبِيٍّ كَمَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ : مَرَرْتُ بِأَلْفِ رَجُلٍ صَبِيٍّ ، وَلَوَجَبَ إِذَا قَالَ : لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَدِينَارٍ ، أَنْ يَلْزَمَهُ أَلْفُ دِينَارٍ وَدِينَارٍ . لِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ بِمَا يُوجِبُ نَعْتَ الْأَلْفِ بِالدَّنَانِيرِ . وَفِي الْقَوْلِ بِخِلَافِ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ مَا قَالُوهُ فِي الْعَطْفِ ، فَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّ حُكْمَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ ، حُكْمُ الْعَطْفِ اسْتِشْهَادًا بِقَوْلِهِمْ رَأَيْتُ زَيْدًا وَعَمْرًا فَخَطَأٌ . لِأَنَّ حُكْمَ الْعَطْفِ مَأْخُوذٌ مِنَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ رُؤْيَةَ عَمْرٍو مَعْلُومَةٌ بِرُؤْيَةٍ زَيْدٍ ، وَهُمْ جَعَلُوا حُكْمَ الْأَلْفِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا مَأْخُوذًا مِنَ الْعَطْفِ بَعْدَهَا وَهُمَا ضِدَّانِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : عَلَيَّ أَلْفٌ وَمِائَةُ دِرْهَمٍ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يَكُونُ تَفْسِيرًا لِلْأَلْفِ كَالدِّرْهَمِ ، فَعَلَى هَذَا سَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا ، فَعَلَى هَذَا الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الدِّرْهَمَ الزَّائِدَ عَلَى الْأَلْفِ عَدَدٌ زَائِدٌ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ تَفْسِيرٌ لِلْعَدَدِ الْأَوَّلِ ، وَهُوَ إِذَا قَالَ أَلْفٌ وَمِائَةٌ فَقْدِ اسْتَكْمَلَ الْعَدَدَ ثُمَّ وَصَفَ ذَلِكَ بِالدِّرْهَمِ تَفْسِيرٌ بِالِاتِّفَاقِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى بَعْضِ الْعَدَدِ دُونَ بَعْضٍ وَصَارَ رَاجِعًا إِلَى جَمِيعِهِ فَافْتَرَقَا .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا مِنْ أَنَّهُ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ أَلْفٌ وَدِرْهَمٌ إِلَى تَفْسِيرِ الْأَلْفِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى الدِّرْهَمِ فَإِنْ فَسَّرَهَا بِدَرَاهِمَ ، أَوْ دَنَانِيرَ ، أَوْ فُلُوسٍ ، أَوْ جَوْزٍ قُبِلَ مِنْهُ . وَكَذَا لَوْ فَسَّرَ
الْأَلْفَ بِأَجْنَاسٍ كَثِيرَةٍ قُبِلَ أَيْضًا ، وَأُحْلِفَ إِنْ أَكْذَبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ . وَهَكَذَا لَوْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ وَدِرْهَمَانِ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ الْأَلْفِ . فَإِنْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ وَثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ ، أَوْ أَلْفٌ وَأَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا فَهَلْ يَصِيرُ ذَلِكَ تَفْسِيرًا لِلْأَلْفِ الْمُبْهَمَةِ أَمْ لَا ؟ . عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : لَا يَكُونُ تَفْسِيرًا كَمَا لَوْ كَانَ الْعَدَدُ الزَّائِدُ دِرْهَمًا وَهَذَا قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَكُونُ تَفْسِيرًا لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ إِنْ كَانَ مَا بَعْدَ الْأَلْفِ عَدَدًا بِلَفْظِ الْجَمْعِ كَقَوْلِهِ : لَهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ إِلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَفْسِيرًا لِلْأَلْفِ . وَإِنْ كَانَ عَدَدًا مَنْصُوبَ التَّمْيِيزِ كَقَوْلِهِ : أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا فَمَا زَادَ كَانَ تَفْسِيرًا لِلْأَلْفِ ؛ لِأَنَّ التَّمْيِيزَ أَخَصُّ بِالصِّفَاتِ ، وَالنُّعُوتِ وَيَصِيرُ تَقْدِيرُ هَذَا الْكَلَامِ : لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ وَأَحَدَ عَشَرَ مِنَ الدَّرَاهِمِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَإِذَا قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ إِلَّا دِرْهَمًا قِيلَ لَهُ أَقِرَّ لَهُ بِأَيِّ أَلْفٍ شِئْتَ إِذَا كَانَ الدِّرْهَمُ مُسْتَثْنًى مِنْهَا وَيَبْقَى بَعْدَهُ شَيْءٌ قَلَّ أَوْ كَثُرَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، لَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْإِقْرَارِ يَصِحُّ مِنْ جِنْسِهِ ، وَغَيْرِ جِنْسِهِ . وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي غَيْرِ الْإِقْرَارِ هَلْ يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْمَكِيلِ ، وَالْمَوْزُونِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ وَيَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ مَا لَيْسَ بِمَكِيلٍ ، وَلَا مَوْزُونٍ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَزُفَرُ بْنُ هُذَيْلٍ : لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ بِحَالٍ ، لَا فِي مَكِيلٍ ، وَلَا مَوْزُونٍ ، وَلَا غَيْرِهِ . اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ فِي الِاسْتِثْنَاءِ إِسْقَاطَ بَعْضِ الْجُمْلَةِ وَبَعْضُهَا يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا . وَدَلِيلُنَا - قَوْلُهُ تَعَالَى - : فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ [ الشُّعَرَاءِ : 77 ] وَقَالَ تَعَالَى : فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ [ الْحِجْرِ : 30 - 31 ] وَقَالَ الشَّاعِرُ : وَبَلْدَةٍ لَيْسَ بِهَا أَنِيسُ إِلَّا الْيَعَافِيرُ ، وَإِلَّا الْعِيسُ
وَلِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إِذَا رَجَعَ إِلَى جُمْلَةٍ صَارَ الْمُرَادُ بِهَا مَا بَقِيَ بَعْدَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهَا فَلَمْ يَقَعِ الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَا عَدَا الْمُرَادِ جِنْسًا ، أَوْ غَيْرَ جِنْسٍ . فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ جَازَ الِاسْتِثْنَاءُ عِنْدَكُمْ فِي الْإِقْرَارِ مِنْ غَيْرِ جِنْسٍ ، وَلَمْ تُجَوِّزْهُ فِي غَيْرِ الْإِقْرَارِ ؟ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ : قِيلَ : لِأَنَّهُ قَدْ يَصِحُّ أَنَّهُ يُوجَدُ فِي الْحُقُوقِ الْمُقَرُّ بِهَا مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ بَدَلًا عَنْهَا وَيَبْعُدُ وُجُودُ مِثْلِهِ فِي غَيْرِ الْإِقْرَارِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ جَوَازُ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ جِنْسٍ وَغَيْرِ جِنْسٍ ، فَأَلْفَاظُ الِاسْتِثْنَاءِ في الإقرار إِلَّا وَغَيْرُ ، وَعَدَا ، وَخَلَا ، وَمَا خَلَا ، وَحَاشَا وَجَمِيعُهَا فِي الْحُكْمِ وَصِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ وَاحِدٌ . فَأَمَّا إِذَا قَالَ لَهُ : عَلَيَّ أَلْفٌ أَسْتَثْنِي مِائَةً ، أَوْ أَحُطُّ مِائَةً ، أَوْ أَنْدُرُ مِائَةً فَقْدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا : هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ اسْتِثْنَاءً صَحِيحًا أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ اسْتِثْنَاءً صَحِيحًا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَرَّحَ بِحُكْمِهِ فَأَغْنَى عَنْ لَفْظِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَوْعِدٌ بِالِاسْتِثْنَاءِ كَمَا إِذَا قَالَ : أَسْتَثْنِي ، أَوْ أَحُطُّ بِغَيْرِ الِاسْتِثْنَاءِ إِذَا قَالَ أَحُطُّ ، أَوْ أَنْدُرُ . ثُمَّ لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا ، فَإِنِ انْفَصَلَ بَطَلَ لِاسْتِقْرَارِ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ . وَلَا يَخْلُو إِذَا اتَّصَلَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : إِمَّا أَنْ يَرْفَعَ كُلَّ الْجُمْلَةِ . أَوْ يَرْفَعَ أَقَلَّهَا . أَوْ يَرْفَعَ أَكْثَرَهَا . فَإِنْ رَفَعَ كُلَّ الْجُمْلَةِ كَانَ بَاطِلًا كَقَوْلِهِ : عَلَيَّ أَلْفٌ إِلَّا أَلْفًا ؛ لِأَنَّ هَذَا رُجُوعٌ وَلَيْسَ بِاسْتِثْنَاءٍ . وَإِنْ رَفَعَ الْأَقَلَّ صَحَّ كَقَوْلِهِ : أَلْفٌ إِلَّا مِائَةً ، أَوْ إِلَّا أَرْبَعَمِائَةٍ فَيَصِيرُ الْبَاقِي مِنَ الْأَلْفِ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ أَرْبَعَمِائَةٍ أَكْثَرُ الْأَلْفِ ، هُوَ سِتُّمِائَةٍ ، وَيَكُونُ هَذَا الْمُرَادُ بِالْإِقْرَارِ ، وَلَا يَكُونُ مَا خَرَجَ بِالِاسْتِثْنَاءِ مُرَادًا بِاللَّفْظِ وَجَرَى مَجْرَى قَوْلِهِ : لَهُ عَلَيَّ سِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ . أَلَا تَرَى - قَوْلَهُ تَعَالَى - : فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا [ الْعَنْكَبُوتِ : 14 ] . وَإِنْ رَفَعَ الْأَكْثَرَ كَقَوْلِهِ : أَلْفٌ إِلَّا تِسْعُمِائَةٍ ، أَوْ إِلَّا سِتُّمِائَةٍ ، فَالَّذِي عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ وَأَكْثَرُ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ صَحِيحٌ حَتَّى لَوْ بَقِيَ مِنَ الْأَلْفِ بَعْدِ الِاسْتِثْنَاءِ دِرْهَمٌ صَحَّ .
قَالَ ابْنُ دَرَسْتَوَيْهِ النَّحْوِيُّ : لَا يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ إِلَّا أَنْ يَبْقَى أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ الْجُمْلَةِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لُغَةٌ يُوجَدُ سَمَاعًا ، وَلَمْ يَرِدِ اسْتِثْنَاءُ أَكْثَرِ الْجُمْلَةِ كَمَا لَمْ يَرِدِ اسْتِثْنَاءُ كُلِّ الْجُمْلَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَبَعٌ لِبَاقِي الْجُمْلَةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْهَا ؛ لِأَنَّ الْأَكْثَرَ لَا يَكُونُ تَبَعًا لِلْأَقَلِّ . وَهَذَا خَطَأٌ ، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ [ الْحِجْرِ : 39 - 42 ] . فَاسْتَثْنَى الْغَاوِينَ مِنَ الْمُخَلَصِينَ تَارَةً ، وَالْمُخْلَصِينَ مِنَ الْغَاوِينَ أُخْرَى ، وَإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَكْثَرُ مِنَ الْأُخْرَى فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ اسْتِثْنَاءِ الْأَكْثَرِ ، وَلِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْأَكْثَرِ مَوْجُودٌ فِي كَلَامِهِمْ وَظَاهِرٌ فِي أَشْعَارِهِمْ . قَالَ الشَّاعِرُ : رُدُّوا الَّتِي نَقَصَتْ تِسْعِينَ عَنْ مِائَةٍ ثُمَّ ابْعَثُوا حَكَمًا بِالْحَقِّ قَوَّالَا وَلِأَنَّ الْخَارِجَ بِالِاسْتِثْنَاءِ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي اللَّفْظِ ، وَلَا مُرَادٌ بِهِ فَاسْتَوَى حُكْمُ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَقَالَ : لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ إِلَّا تِسْعُمِائَةٍ صَحَّ ، وَكَانَ الْمُرَادُ بِاللَّفْظِ مِائَةً ، وَجَرَى مَجْرَى قَوْلِهِ : لَهُ عَلَيَّ مِائَةٌ . فَلَوْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ ، وَأَلْفٌ ، وَأَلْفٌ إِلَّا أَلْفًا ، فَفِي صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى أَلْفًا مِنَ الْأَلْفِ فَبَطَلَ وَلَزِمَهُ ثَلَاثَةُ آلَافٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ إِقْرَارَهُ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ وَإِنْ كَانَ بِثَلَاثَةِ أَلْفَاظٍ فَصَحَّ أَنْ يَسْتَثْنِيَ مِنْهَا أَلْفًا وَيَبْقَى عَلَيْهِ أَلْفَانِ ، وَهَكَذَا يَصِحُّ أَنْ يَسْتَثْنِيَ أَلْفَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ يَعُودُ إِلَى كُلِّ الْجُمْلَةِ ، وَيَبْقَى عَلَيْهِ أَلْفٌ . وَمِثْلُهُ فِي الطَّلَاقِ أَنْ يَقُولَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةٌ وَوَاحِدَةٌ وَوَاحِدَةٌ إِلَّا وَاحِدَةً فَيَكُونُ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ .
وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَاقَبَ الِاسْتِثْنَاءَ بَعْدَهُ اسْتِثْنَاءٌ ثَانٍ ، وَيَتَعَقَّبَ الثَّانِي ثَالِثٌ ، وَيَتَعَقَّبَ الثَّالِثَ رَابِعٌ إِلَّا أَنَّ كُلَّ اسْتِثْنَاءٍ يَعُودُ إِلَى مَا يَلِيهِ فَيُثْبِتُ ضِدَّ حُكْمِهِ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إِنْ عَادَ إِلَى إِثْبَاتٍ كَانَ نَفْيًا وَإِنْ عَادَ إِلَى نَفْيٍ كَانَ إِثْبَاتًا أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ : رَأَيْتُ أَهْلَ الْبَصْرَةِ إِلَّا بَنِي تَمِيمٍ كَانَ يَنْفِي رُؤْيَةَ بَنِي تَمِيمٍ مُثْبِتًا لِرُؤْيَةِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ . وَقَدْ جَاءَ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ فِي - قَوْلِهِ تَعَالَى - : قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَتَهُ [ الْحِجْرِ : 58 - 61 ] فَاسْتَثْنَى آلَ لُوطٍ مِنَ الْمُجْرِمِينَ ثُمَّ اسْتَثْنَى امْرَأَتَهُ مِنْ آلِ لُوطٍ . فَإِذَا قَالَ : عَلَيَّ أَلْفٌ إِلَّا خَمْسَمِائَةٍ إِلَّا ثَلَاثَمِائَةٍ إِلَّا مِائَتَيْنِ إِلَّا مِائَةً كَانَ هَذَا إِقْرَارًا بِسَبْعِمِائَةٍ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : عَلَيَّ أَلْفٌ إِثْبَاتٌ لَهَا ثُمَّ إِلَّا خَمْسَةً نَفْيٌ لَهَا مِنَ الْأَلْفِ ، فَيَبْقَى مِنْهَا خَمْسُمِائَةٍ ، ثُمَّ قَوْلُهُ إِلَّا ثَلَاثَةً إِثْبَاتٌ لَهَا مِنَ الْخَمْسِمِائَةِ الَّتِي نَفَاهَا ، فَيُضَمُّ إِلَى الْمُثْبَتِ فَتَصِيرُ ثَمَانِمِائَةٍ ثُمَّ قَوْلُهُ إِلَّا مِائَتَيْنِ نَفْيٌ لَهَا مِنَ الثَّلَاثِمِائَةِ الَّتِي أَثْبَتَهَا ، فَتَخْرُجُ مِنَ الْمُثَبَتِ فَيَبْقَى سِتُّمِائَةٍ ، ثُمَّ قَوْلُهُ إِلَّا مِائَةً إِثْبَاتٌ لَهَا مِنَ الْمِائَتَيْنِ الَّتِي نَفَاهَا فَتُضَمُّ إِلَى الْبَاقِي مِنَ الْإِثْبَاتِ وَهُوَ سِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ فَيَصِيرُ الْإِقْرَارُ بِسَبْعِمِائَةٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ إِثْبَاتَيْنِ ، وَلَا بَيْنَ نَفْيَيْنِ وَلَكِنْ لَوْ قَالَ لَهُ : عَلَيَّ أَلْفٌ إِلَّا مِائَتَيْنِ ، وَإِلَّا مِائَةً كَانَا جَمِيعًا نَفْيًا مِنَ الْأَلْفِ ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِوَاوِ الْعَطْفِ فَلَمْ يَعُدْ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ وَعَادَ جَمِيعًا إِلَى الْجُمْلَةِ . فَأَمَّا إِذَا قَالَ : لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ إِلَّا أَلْفٌ إِلَّا مِائَةٌ ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : يَكُونُ عَلَيْهِ أَلْفٌ . وَالثَّانِي : يَكُونُ عَلَيْهِ تِسْعُمِائَةٍ . وَالثَّالِثُ : يَكُونُ عَلَيْهِ مِائَةٌ . فَإِذَا قُلْنَا : إِنَّ عَلَيْهِ أَلْفًا فَوَجْهُهُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْأَوَّلَ رَفَعَ جَمِيعَ الْجُمْلَةِ فَبَطَلَ ، وَالِاسْتِثْنَاءُ الثَّانِي رَجَعَ إِلَى اسْتِثْنَاءٍ بَاطِلٍ فَبَطَلَ فَلَزِمَهُ آلَافٌ لِبُطْلَانِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْهَا . فَإِذَا قُلْنَا : يَلْزَمُهُ تِسْعُمِائَةٍ فَوَجْهُهُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْأَوَّلَ بَطَلَ لِرَفْعِهِ الْجُمْلَةَ فَأُقِيمَ الثَّانِي مَقَامَهُ وَهُوَ مِائَةٌ فَصَارَ الْبَاقِي مِنَ الْأَلْفِ تِسْعُمِائَةٍ . وَإِذَا قُلْنَا : يَلْزَمُهُ مِائَةٌ فَوَجْهُهُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْأَوَّلَ إِنَّمَا يَرْفَعُ الْجُمْلَةَ إِذَا لَمْ يَعْقُبْهُ اسْتِثْنَاءٌ ، فَإِذَا يَعْقُبُهُ اسْتِثْنَاءُ مِائَةٍ صَارَ الْبَاقِي مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْأَوَّلِ تِسْعُمِائَةٍ فَإِذَا رَجَعْتَ إِلَى الْأَلْفِ كَانَ الْبَاقِي مِنْهَا مِائَةً .
وَمِثْلُهُ فِي الطَّلَاقِ أَنْ يَقُولَ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا ثَلَاثًا إِلَّا وَاحِدَةً فَيَكُونُ عَلَى الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ . فَلَوْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَمِائَةٌ دَيْنًا إِلَّا خَمْسِينَ فَأَرَادَ بِالْخَمْسِينَ الْمُسْتَثْنَاةِ جِنْسًا غَيْرَ الدَّرَاهِمِ ، وَالدَّنَانِيرِ قُبِلَ مِنْهُ . وَإِنْ أَرَادَ أَحَدَ الْجِنْسَيْنِ مِنَ الدَّرَاهِمِ ، أَوِ الدَّنَانِيرِ ، أَوْ هُمَا قُبِلَ مِنْهُ . وَإِنْ فَاتَ بَيَانُهُ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَعُودُ إِلَى مَا يَلِيهِ . وَعِنْدَنَا أَنَّهُ يَعُودُ إِلَى الْمَالَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ مِنَ الدَّرَاهِمِ ، وَالدَّنَانِيرِ ، ثُمَّ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَعُودُ إِلَى كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَمِيعُ الِاسْتِثْنَاءِ فَيُسْتَثْنَى مِنَ الْأَلْفِ دِرْهَمٍ خَمْسُونَ وَمِنَ الْمِائَةِ دِينَارٍ خَمْسُونَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَعُودُ إِلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ فَيُسْتَثْنَى مِنَ الدَّرَاهِمِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ وَمِنَ الدَّنَانِيرِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَصُورَةُ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فِي رَجُلٍ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ إِلَّا دِرْهَمًا فَعِنْدَنَا أَنْ يَرْجِعَ إِلَى بَيَانِهِ فِي الْأَلْفِ ، وَلَا يَصِيرُ بِاسْتِثْنَاءِ الدَّرَاهِمِ مِنْهَا دَرَاهِمُ كُلُّهَا . وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ يَصِيرُ الْأَلْفُ كُلُّهَا دَرَاهِمَ لِاسْتِثْنَاءِ الدَّرَاهِمِ مِنْهَا لِمَنْعِهِمْ أَنْ يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ ، وَلَوْ قَالَ أَلْفٌ إِلَّا عَبْدًا لَمْ تَصِرِ الْأَلْفُ عَبِيدًا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَصَارَتْ عِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ حَسَنٍ عَبِيدًا عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْخِلَافِ بَيْنَهُمْ فِي الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ . وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى بَيَانِهِ فِي الْأَلْفِ فَأَيَّ شَيْءٍ بَيَّنَهُ قَبِلْنَا بَيَانَهُ فِيهِ ، فَإِنْ بَيَّنَ الْأَلْفَ دَرَاهِمَ أَسْقَطْنَا مِنْهَا دِرْهَمًا لِاسْتِثْنَائِهِ إِيَّاهُ وَأَوْجَبْنَا عَلَيْهِ مَا سِوَاهُ ، وَإِنْ بَيَّنَهَا فُلُوسًا ، أَوْ نُحَاسًا ، أَوْ خَرَزًا ، أَوْ جَوْزًا قَبِلْنَاهُ . فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَكُونُ مَعْلُومًا قَوَّمْنَاهُ وَأَسْقَطْنَا مِنْ قِيمَتِهِ الدِّرْهَمَ الَّذِي اسْتَثْنَاهُ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَكُونُ مَعْلُومًا سَأَلْنَاهُ عَنْ قِيمَتِهِ وَأَسْقَطْنَا مِنْهُ الدِّرْهَمَ الْمُسْتَثْنَى . فَإِنْ بَقِيَ بَعْدَ إِسْقَاطِ الدِّرْهَمِ بَقِيَّةٌ فَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ . وَإِنْ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ إِسْقَاطِ الدِّرْهَمِ بَقِيَّةٌ مِثْلَ أَنْ يُقِرَّ بِأَلْفِ جَوْزَةٍ قِيمَتُهَا دِرْهَمٌ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ يُرَدُّ عَلَيْهِ بَيَانُهُ وَيُؤْخَذُ عَلَيْهِ بِبَيَانِ مَا يَزِيدُ قِيمَتُهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ الْمُسْتَثْنَى حَتَّى يَبْقَى بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ بَقِيَّةٌ وَإِنْ قُبِلَتْ فَيَكُونُ هُوَ الْقَدْرُ الْمُقَرُّ بِهِ ، فَإِنِ امْتَنَعَ مِنْ بَيَانِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ صَارَ كَمَنْ أَقَرَّ بِمُجْمَلٍ ثُمَّ امْتَنَعَ مِنْ بَيَانِهِ فَيَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُحْبَسُ حَتَّى يُبَيِّنَ .
وَالثَّانِي : يُجْعَلُ كَالنَّاكِلِ ، وَيَحْلِفُ الْمُدَّعِي عَلَى مَا ادَّعَى وَيُحْكَمُ لَهُ بِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : فِي الْأَصْلِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ مِنْهُ مَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ قِيمَةِ الْأَلْفِ جَوْزَةٍ الَّتِي بَيَّنَهَا وَيَبْطُلُ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهَا ؛ لِأَنَّهُ إِذَا بَيَّنَ أَلْفَ جَوْزَةٍ قَوَّمَهَا دِرْهَمًا وَاسْتَثْنَى مِنْهَا دِرْهَمًا كَانَ كَمَنْ قَالَ لَهُ دِرْهَمٌ إِلَّا دِرْهَمًا فَيَبْطُلُ الِاسْتِثْنَاءُ وَيَلْزَمُهُ الدِّرْهَمُ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الرَّافِعَ لِلْجُمْلَةِ بَاطِلٌ كَذَلِكَ هَذَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ إِلَّا كَرَّ حِنْطَةٍ ، أَوْ إِلَّا عَبْدًا أَجْبَرْتُهُ عَلَى أَنْ يَبْقَى بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ شَيْئًا قَلَّ ، أَوْ كَثُرَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَجُمْلَتُهُ أَنَّ كُلَّ اسْتِثْنَاءٍ عَادَ إِلَى جُمْلَةٍ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مُفَسَّرًا مِنْ جُمْلَةٍ مُفَسَّرَةٍ كَقَوْلِهِ لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إِلَّا دِينَارًا فَيَصِحُّ ذَلِكَ وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْجُمْلَةِ مَا يَبْقَى بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ . وَهَكَذَا لَوْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إِلَّا دِينَارًا كَانَ اسْتِثْنَاءً مُفَسَّرًا صَحِيحًا كَجَوَازِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ وَمِنَ الْجِنْسِ وَيَسْقُطُ مِنَ الْأَلْفِ دِرْهَمٍ بَقِيَّةُ الدِّينَارِ الْمُسْتَثْنَى وَيَكُونُ الْبَاقِي هُوَ الْمُقَرُّ بِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مُجْمَلًا مِنْ مُجْمَلٍ ، كَقَوْلِهِ عَلَيَّ أَلْفٌ إِلَّا شَيْئًا ، فَيَبْدَأُ بِسُؤَالِهِ عَنِ الْأَلْفِ فَإِذَا فَسَّرَهَا بِمَعْلُومٍ سُئِلَ عَنِ الشَّيْءِ فَإِذَا فَسَّرَهُ بِمَعْلُومٍ أُسْقِطَ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَكَانَ الْبَاقِي هُوَ الْمُقَرُّ بِهِ . وَهَكَذَا لَوْ قَالَ لَهُ : عَلَيَّ شَيْءٌ إِلَّا أَلْفًا سُئِلَ عَنِ الشَّيْءِ الْمُقَرِّ بِهِ ثُمَّ عَنِ الْأَلْفِ الْمُسْتَثْنَاةِ مِنْهَا ، فَإِذَا فَسَّرَهُمَا بِمَعْلُومٍ لَزِمَ الْبَاقِي وَهَكَذَا لَوْ قَالَ لَهُ : عَلَيَّ أَلْفَ ثَوْبٍ إِلَّا عَبْدًا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَإِنْ كَانَ مَعْلُومَ الْجِنْسِ فَهُوَ مَجْهُولُ الصِّفَةِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مُفَسَّرًا مِنْ مُجْمَلٍ كَقَوْلِهِ لَهُ : عَلَيَّ أَلْفٌ إِلَّا دِرْهَمًا ، وَيُسْأَلُ عَنِ الْأَلْفِ الْمُجْمَلَةِ دُونَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُفَسَّرِ ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ : أَلْفُ ثَوْبٍ إِلَّا دِينَارًا ؛ لِأَنَّ الْأَلْفَ الثَّوْبِ وَإِنْ كَانَتْ مُفَسَّرَةَ الْجِنْسِ فَهِيَ مُجْمَلَةُ الصِّفَةِ فَاحْتِيجَ إِلَى السُّؤَالِ عَنْهَا ، وَإِنْ كَانَتْ سِلْمًا كَانَ السُّؤَالُ عَنِ الصِّفَةِ دُونَ الْقِيمَةِ . وَإِنْ كَانَتْ عَقَبًا مُسْتَهْلَكًا كَانَ السُّؤَالُ عَنِ الْقِيمَةِ دُونَ الصِّفَةِ إِلَّا أَنْ يَخْتَلِفَا فَيَكُونُ فِي الصِّفَةِ دَلِيلٌ فَيُسْأَلُ عَنْهَا . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مُجْمَلًا مِنْ مُفَسَّرٍ كَقَوْلِهِ : لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إِلَّا شَيْئًا . فَيُسْأَلُ عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُجْمَلِ دُونَ الْأَلْفِ الْمُفَسَّرَةِ ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إِلَّا عَبْدًا سُئِلَ عَنِ الْعَبْدِ وَقِيمَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَعْلُومَ الْجِنْسِ فَهُوَ مَجْهُولُ الصِّفَةِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا قَالَ : لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ إِلَّا ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَفْسِيرًا لِلْأَلْفِ بِالدَّرَاهِمِ بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا : فَهُوَ بِخِلَافِ قَوْلِهِ : أَلْفٌ وَثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : إِلَّا ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ تَفْسِيرٌ لِلِاسْتِثْنَاءِ وَتَفْسِيرُ الِاسْتِثْنَاءِ لَا يَكُونُ تَفْسِيرًا لِلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : وَإِنْ أَقَرَّ بِثَوْبٍ فِي مِنْدِيلٍ ، أَوْ تَمْرٍ فِي جِرَابٍ فَالْوِعَاءُ لِلْمُقِرِّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا أَقَرَّ بِشَيْءٍ فِي ظَرْفٍ كَقَوْلِهِ : لَهُ عِنْدِي ثَوْبٌ فِي مَنْدِيلٍ ، أَوْ حُلِيٌّ فِي حُقٍّ ، أَوْ جَوْهَرَةٌ فِي دُرْجٍ ، أَوْ سَمْنٌ فِي عُكَّةٍ ، أَوْ زَيْتٌ فِي دُبَّةٍ فَالْإِقْرَارُ يَتَنَاوَلُ الشَّيْءَ دُونَ ظَرْفِهِ وَيَكُونُ الظَّرْفُ خَارِجًا مِنْ إِقْرَارِهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَكُونُ الظَّرْفُ دَاخِلًا فِي إِقْرَارِهِ . وَأَصْحَابُهُ يَحْكُونَ ذَلِكَ عَنْ مُحَمَّدٍ ، وَقَالَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ : إِنْ كَانَ الْمُقَرُّ بِهِ ذَائِبًا لَا يَسْتَغْنِي عَنْ ظَرْفِ دَخْلَ الظَّرْفُ فِي الْإِقْرَارِ ، وَإِنْ كَانَ جَامِدًا لَمْ يَدْخُلْ وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ لَفْظَ الْإِقْرَارِ بِقَوْلِهِ : عِنْدِي يَقْتَضِي تَنَاوُلَ مَا يَعْقُبُهُ وَجَاءَ بَعْدَهُ ، فَإِذَا قَالَ : ثَوْبٌ فِي مَنْدِيلٍ ؛ صَارَا دَاخِلَيْنِ فِي إِقْرَارِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ : أَحَدُهُمَا بِأَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا بِالْإِقْرَارِ بِأَوْلَى مِنَ الْآخَرِ وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ الظَّرْفَ شَيْئَانِ : مَكَانٌ ، وَوِعَاءٌ . فَلَمَّا كَانَ ظَرْفُ الْمَكَانِ لَا يَدْخُلُ فِي الْإِقْرَارِ كَقَوْلِهِ : لَهُ عِنْدِي بَغْلٌ فِي إِسْطَبْلٍ ، أَوْ عَبْدٌ فِي دَارٍ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ظَرْفُ الْوِعَاءِ لَا يَدْخُلُ فِي الْإِقْرَارِ ، كَقَوْلِهِ : لَهُ عِنْدِي ثَوْبٌ فِي مَنْدِيلٍ ، وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا : أَنَّهُ مُجْمَلٌ لِلْمُقَرِّ بِهِ فَلَمْ يَدْخُلْ فِي إِقْرَارِهِ كَالْمَكَانِ ، وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ لَا يُلْزِمُ بِالِاحْتِمَالِ . وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ ثَوْبًا فِي مَنْدِيلٍ لِي ، وَزَيْتٌ فِي دُبَّةٍ لِي ، وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالظَّرْفِ لَا يَقْتَضِي دُخُولَ مَا فِيهِ ، كَذَلِكَ الْإِقْرَارُ بِمَا فِي الظَّرْفِ لَا يَقْتَضِي دُخُولَهُ فِيهِ ؛ لِانْفِصَالِ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بَعْدَ فَسَادِهِ لِخُرُوجِ الْمَكَانِ مِنْ إِقْرَارِهِ وَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا بِلَفْظِهِ أَنَّ الِاحْتِمَالَ يَنْتَفِي عَنِ الشَّيْءِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ فَلَزِمَ ، وَلَا يَنْتَفِي عَنِ الظَّرْفِ فَلَمْ يَلْزَمْ .
فَصْلٌ : فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ : لَهُ عِنْدِي فَرَسٌ مُسْرَجٌ ، أَوْ بَغْلٌ مُلْجَمٌ فَهُوَ إِقْرَارٌ بِالْفَرَسِ ، وَالْبَغْلِ دُونَ السَّرْجِ ، وَاللِّجَامِ وَهَكَذَا لَوْ قَالَ : غَصَبْتُ دَارًا مَفْرُوشَةً قُمَاشًا كَانَ إِقْرَارًا بِغَصْبِ الدَّارِ دُونَ الْقُمَاشِ ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ : لَهُ عِنْدِي دَابَّةٌ مَعَ سَرْجِهَا ، أَوْ غَصَبْتُهُ دَارًا بِقُمَاشِهَا كَانَ إِقْرَارٌ بِالْجَمِيعِ . وَلَوْ قَالَ : لَهُ عِنْدِي ثَوْبٌ مُطَرَّزٌ ، فَإِنْ كَانَ الطِّرَازُ مَنْسُوجًا مَعَهُ دَخَلَ بِالْإِقْرَارِ ؛ لِأَنَّهُ بَعْضُ الثَّوْبِ ، وَإِنْ كَانَ مُرَكَّبًا عَلَيْهِ فَفِي دُخُولِهِ فِي الْإِقْرَارِ وَجْهَانِ :
أَحَدُهُمَا : يَدْخُلُ لِاتِّصَالِهِ . وَالثَّانِي : لَا يَدْخُلُ لِتَمْيِيزِهِ وَاحْتِمَالِهِ . وَلَوْ قَالَ : لَهُ عِنْدِي دُبَّةٌ فِيهَا زَيْتٌ ، أَوْ غِرَارَةٌ فِيهَا حِنْطَةٌ كَانَ إِقْرَارُهُ بِالدُّبَّةِ ، وَالْغِرَارَةِ دُونَ الزَّيْتِ ، وَالْحِنْطَةِ لِتَمْيِيزِهِ وَاحْتِمَالِهِ وَهُوَ مِمَّا وَافَقَ عَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ فَصَارَ حُجَّةً عَلَيْهِ .
فَصْلٌ : فَلَوْ قَالَ : لَهُ عِنْدِي رَأْسُ عَبْدٍ كَانَ إِقْرَارًا بِجَمِيعِ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ رَأْسَ الْعَبْدِ لَا يَنْفَصِلُ عَنْهُ . وَلَوْ قَالَ لَهُ عِنْدِي فَصُّ خَاتَمٍ كَانَ إِقْرَارًا بِالْفَصِّ دُونَ الْخَاتَمِ لِتَمْيِيزِهِ عَنْهُ ، وَلَوْ قَالَ : لَهُ عِنْدِي خَاتَمٌ كَانَ إِقْرَارُهُ بِهِ وَبِفَصِّهِ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْخَاتَمِ يَجْمَعُهُمَا . وَلَوْ قَالَ : غَصَبْتُهُ عَبْدًا إِلَّا رَأْسَهُ ، أَوْ إِلَّا يَدَهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَصَحُّهُمَا يَكُونُ غَاصِبًا لِجَمِيعِهِ لِاسْتِحَالَةِ مَا اسْتَثْنَاهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَكُونُ مُقِرًّا بِجُزْءٍ مِنْهُ يُرْجَعُ فِي بَيَانِهِ إِلَيْهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَإِنْ قَالَ لَهُ قِبَلِي كَذَا أَقَرَّ بِمَا شَاءَ وَاحِدًا وَلَوْ قَالَ كَذَا وَكَذَا أَقَرَّ بِمَا شَاءَ اثْنَيْنِ وَإِنْ قَالَ كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا قِيلَ لَهُ أَعْطِهِ دِرْهَمَيْنِ ؛ لِأَنَّ كَذَا يَقَعُ عَلَى دِرْهَمٍ ثُمَّ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِنْ قَالَ كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا قِيلَ لَهُ أَعْطِهِ دِرْهَمًا ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ قِبَلِ أَنَّ كَذَا يَقَعُ عَلَى أَقَلَّ مِنْ دِرْهِمٍ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) وَهَذَا خِلَافُ الْأَوَّلِ هُوَ أَشْبَهُ بِقَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ كَذَا يَقَعُ عَلَى أَقَلَ مِنْ دَرْهِمٍ ، وَلَا يُعْطَى إِلَا الْيَقِينُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . وَهِيَ ثَلَاثُ مَسَائِلَ تَشْتَمِلُ كُلُّ مَسْأَلَةٍ مِنْهَا عَلَى فَصْلَيْنِ : إِحْدَاهَا : أَنْ يَقُولَ : لَهُ عَلَيَّ كَذَا . وَالثَّانِيَةُ : أَنْ يَقُولَ : لَهُ عَلَيَّ كَذَا كَذَا . وَالثَّالِثَةُ : أَنْ يَقُولَ : لَهُ عَلَيَّ كَذَا وَكَذَا . فَأَمَّا إِذَا قَالَ : لَهُ عَلَيَّ كَذَا فَهُوَ إِقْرَارٌ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ ، لَكِنَّهُ مُجْمَلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ فَبِأَيِّ شَيْءٍ فَسَّرَهُ مِنْ دِرْهَمٍ ، أَوْ فَلْسٍ ، أَوْ قِيرَاطٍ قُبِلَ مِنْهُ ، كَمَا يُقْبَلُ فِي تَفْسِيرِ إِقْرَارِهِ بِشَيْءٍ . فَإِنْ ضَمَّ ذِكْرَ الدَّرَاهِمِ إِلَى قَوْلِهِ كَذَا ، فَقَالَ لَهُ : عَلَيَّ كَذَا دِرْهَمٌ بِالرَّفْعِ ، أَوْ كَذَا دِرْهَمٍ بِالْخَفْضِ ، أَوْ كَذَا دِرْهَمًا بِالنَّصْبِ ، فَعَلَيْهِ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا وَعَلَى تَصَانِيفِ الْإِعْرَابِ فِيهَا دِرْهَمٌ وَاحِدٌ ، لَا يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِيهِ وَإِنْ كَانَ مُقْتَضَى الْإِعْرَابِ فِي نَحْوِ دِرْهَمٍ بِالْخَفْضِ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِائَةَ دِرْهَمٍ ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ عَدَدٍ يَكُونُ تَمْيِيزُهُ مَخْفُوضًا بِالْإِضَافَةِ غَيْرَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ جَمِيعًا لَمْ يَعْتَبِرُوهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَأَوْجَبُوا فِيهِ دِرْهَمًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ كَذَا يَتَنَاوَلُ مِنَ الْأَعْدَادِ وَاحِدًا وَقَوْلُهُ دِرْهَمًا ، أَوْ دِرْهَمَيْنِ يَكُونُ تَفْسِيرًا لِجِنْسِهِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ أَنْ يَقُولَ لَهُ عَلَيَّ كَذَا كَذَا فَهُوَ إِقْرَارٌ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ وَإِنْ تَكَرَّرَ ؛ لِأَنَّ حَذْفَ وَاوِ الْعَطْفِ يَجْعَلُ التَّكْرَارَ تَأْكِيدًا كَقَوْلِهِ لَهُ عَلَيَّ شَيْءٌ شَيْءٌ . أَوْ لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ دِرْهَمٌ ، فَلَا يَكُونُ إِلَّا شَيْئًا وَاحِدًا ، أَوْ دِرْهَمًا وَاحِدًا . وَإِذَا كَانَ بِمَا وَصَفْنَا إِقْرَارًا بِشَيْءٍ وَاحِدٍ رُجِعَ فِي تَفْسِيرِهِ إِلَيْهِ فَإِنْ ضَمَّهُ إِلَى ذِكْرِ الدَّرَاهِمِ نُظِرَ ، فَإِنْ قَالَ كَذَا كَذَا دِرْهَمٌ بِالرَّفْعِ وَكَذَا كَذَا دِرْهَمٍ بِالْخَفْضِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا دِرْهَمٌ وَاحِدٌ لَا يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِيهِ وَإِنْ قَالَ كَذَا كَذَا دِرْهَمًا بِالنَّصْبِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ سَوَاءٌ كَانَ نَحْوِيًّا يُعْرِبُ كَلَامَهُ أَمْ لَا ، وَقَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَلَيْهِ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا سَوَاءٌ كَانَ نَحْوِيًّا أَمْ لَا . وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ إِنْ كَانَ مِنَ الْعَامَّةِ الَّذِينَ لَا يُعْرِبُونَ فِي الْكَلَامِ فَعَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَإِنْ كَانَ نَحْوِيًّا فَعَلَيْهِ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ أَوَّلُ الْأَعْدَادِ الْمُرَكَّبَةِ الَّتِي يَكُونُ تَمْيِيزُهَا مَنْصُوبًا فَأُلْزِمَ مُقْتَضَى لَفْظِهِ . وَهَذَا خَطَأٌ فِي الْحُكْمِ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى فَسَادِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ ذِكْرَ الْعَدَدِ إِذَا تَعَقَّبَهُ تَفْسِيرُ الْجِنْسِ لَمْ يُوجِبْ زِيَادَةً فِي الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الْأَعْدَادِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمْ يُعْتَبَرْ بِمُقْتَضَى اللِّسَانِ فِي قَوْلِهِ كَذَا دِرْهَمٍ بِالْخَفْضِ فِي إِيجَابِ مِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَيْهِ اعْتِبَارًا بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ تَفْسِيرَ الْجِنْسِ لَا يَقْتَضِي زِيَادَةَ الْعَدَدِ كَذَلِكَ فِي النَّصْبِ وَفِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ هَذَيْنِ دَلِيلٌ وَانْفِصَالٌ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ : لَهُ عَلَيَّ كَذَا وَكَذَا فَهَذَا إِقْرَارٌ بِشَيْئَيْنِ لِدُخُولِ وَاوِ الْعَطْفِ بَيْنَهُمَا ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ كَذَا ثُمَّ كَذَا كَانَ إِقْرَارُهُ بِشَيْئَيْنِ ، وَلَوْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ كَذَا بَلْ كَذَا فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ إِقْرَارًا بِشَيْءٍ وَاحِدٍ ، وَيَكُونُ الثَّانِي إِثْبَاتًا لِلْأَوَّلِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَكُونُ إِقْرَارًا بِشَيْئَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسُوغُ فِي اللِّسَانِ أَنْ يَقُولَ رَأَيْتُ زَيْدًا بَلْ زَيْدًا ، يَعْنِي الْأَوَّلَ ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا عَنَى غَيْرَهُ . فَإِنَّ ضَمَّهُ إِلَى ذِكْرِ الدَّرَاهِمِ فَقَالَ : لَهُ عَلَيَّ كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا بِالنَّصْبِ ، أَوْ دِرْهَمٍ بِالْخَفْضِ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : هَاهُنَا يَلْزَمُهُ دِرْهَمَانِ وَحَكَى الْمُزَنِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : إِنَّهُ يَلْزَمُهُ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ جَوَابِهِ عَلَى أَرْبَعِ طُرُقٍ : إِحْدَاهَا : وَهِيَ طَرِيقَةُ الْمُزَنِيِّ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : يَلْزَمُهُ دِرْهَمٌ ؛ لِأَنَّ كَذَا وَكَذَا شَيْئَانِ فَأَوْجَبَ تَفَسِيرُهُمَا بِالدِّرْهَمِ أَنْ يَكُونَا دِرْهَمَيْنِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ يَلْزَمُهُ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ ؛ لِأَنَّ كَذَا يَقَعُ عَلَى أَقَلِّ مِنْ دِرْهَمٍ فَيَصِيرُ الشَّيْئَانِ دِرْهَمًا . وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ : وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ اخْتِلَافَ نَصِّهِ فِي مَوْضِعَيْنِ لِاخْتِلَافِ إِعْرَابِ الْكَلَامَيْنِ فَقَوْلُهُ هَاهُنَا عَلَيْهِ دِرْهَمَانِ إِذَا قَالَهُ مَنْصُوبًا ، وَقَوْلُهُ فِي الْمَوْضِعِ الْآخَرِ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ إِذَا قَالَهُ مَرْفُوعًا . وَالطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ : وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ اخْتِلَافَ نَصِّهِ لِاخْتِلَافِ لَفْظِهِ ، فَقَوْلُهُ : هَاهُنَا عَلَيْهِ دِرْهَمَانِ إِذَا ذَكَرَ بَيْنَهُمَا الْوَاوَ فَقَالَ : لَهُ عَلَيَّ كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا ، وَقَوْلُهُ فِي الْمَوْضِعِ الْآخَرِ ، عَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ إِذَا لَمْ يَذْكُرْ بَيْنَهُمَا الْوَاوَ فَقَالَ : لَهُ عَلَيَّ كَذَا وَكَذَا ، أَوْ شَكَّ الْحَاكِمُ هَلْ ذَكَرَ الْوَاوَ فِي إِقْرَارِهِ أَمْ لَا . لِأَنَّ الْإِقْرَارَ لَا يَلْزَمُهُ فِيهِ إِلَّا التَّفْسِيرُ قَالَ : وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا فِي الْأُمِّ . وَالطَّرِيقَةُ الرَّابِعَةُ : وَهِيَ طَرِيقَةُ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّ اخْتِلَافَ نَصِّهِ لِاخْتِلَافِ إِرَادَتِهِ فَقَوْلُهُ " هَاهُنَا يَلْزَمُهُ دِرْهَمَانِ " إِذَا أَرَادَهُمَا ، أَوْ أَطْلَقَ ، وَقَوْلُهُ فِي الْمَوْضِعِ الْآخَرِ " يَلْزَمُهُ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ إِذَا أَرَادَ دِرْهَمًا وَاحِدًا ، وَلَمْ يُطْلِقْ . فَهَذَا مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ ، وَمَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُرَادِهِ بِهِ . فَأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فَيَقُولُ يَلْزَمُهُ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ عَدَدٍ مُرَكَّبٍ دَخَلَتْهُ الْوَاوُ . وَكَانَ تَفْسِيرُهُ مَنْصُوبًا ، وَهَكَذَا يَقُولُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ فِيمَنْ كَانَ نَحْوِيًّا وَفِيمَا ذَكَرْنَا عَلَيْهِمَا مَقْنَعٌ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ الْإِقْرَارُ فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ سَوَاءٌ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : " وَالْإِقْرَارُ فِي الصِّحَّةِ ، وَالْمَرَضِ سَوَاءٌ يَتَحَاصُّونَ مَعًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا أَقَرَّ لِرَجُلٍ بَدَيْنٍ فِي صِحَّتِهِ وَأَقَرَّ لِآخَرَ بِدَيْنٍ فِي مَرَضِهِ فَكِلَا الْحَقَّيْنِ لَازِمٌ ، فَإِنِ اتَّسَعَ مَالُهُ لِقَضَائِهِمَا قُضِيَا مَعًا وَإِنْ ضَاقَ مَالُهُ عَنْهُمَا كَانَ فِيهِ سَوَاءٌ وَتَسَاوَى غَرِيمُ الْمَرِيضِ وَغَرِيمُ الصِّحَّةِ فَيَقْتَسِمَانِ الْمَالَ بِالْحِصَصِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُقَدَّمُ غَرِيمُ الصِّحَّةِ عَلَى غَرِيمِ الْمَرَضِ فَإِنْ لَمْ يَفْضُلْ عَنْهُ شَيْءٌ تَفَرَّدَ بِأَخْذِ الْمَالِ كُلِّهِ وَإِنْ فَضَلَ عَنْهُ فَضْلَةٌ أَخَذَهَا غَرِيمُ الْمَرَضِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ غَرِيمِ الصِّحَّةِ جَمِيعَ دِينِهِ . اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ التَّصَرُّفَ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ أَوْكَدُ وَأَقْوَى مِنَ التَّصَرُّفِ فِي حَالِ الْمَرَضِ لِنُفُوذِ
عَطَايَاهُ فِي الصِّحَّةِ وَرَدِّهَا فِي الْمَرَضِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْإِقْرَارُ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ مُقَدَّمًا عَلَى الْإِقْرَارِ فِي حَالِ الْمَرَضِ ، وَلِأَنَّ دُيُونَ الْغُرَمَاءِ تَصِيرُ بِالْمَرَضِ مُتَعَلِّقَةً بِعَيْنِ الْمَالِ لِمَنْعِهِ مِنْ هِبَتِهِ فَصَارَ إِقْرَارُهُ فِي مَرَضِهِ بَعْدَ تَعَلُّقِ دُيُونِ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ بِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُسَاوِيَهُمْ فِيهِ ، وَلِأَنَّ الْمَرَضَ قَدْ أَوْقَعَ عَلَيْهِ فِي التَّصَرُّفِ حَجْرًا ، وَالْإِقْرَارُ قَبْلَ الْحَجْرِ مُقَدَّمًا عَلَى الْإِقْرَارِ بَعْدَهُ . وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ كُلَّ إِقْرَارٍ نَفَذَ فِي جَمِيعِ الْمَالِ كَانَ لُزُومُهُ فِي الْمَرَضِ ، وَالصِّحَّةِ سَوَاءً . أَصْلُهُ إِذَا أَقَرَّ بِثَمَنِ سِلْعَةٍ فِي يَدِهِ ، أَوْ بِمَهْرٍ لِزَوْجَتِهِ ، وَلِأَنَّهُ قَوْلٌ يَلْزَمُ بِهِ الْخُرُوجُ مِنَ الْحَقِّ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِي الصِّحَّةِ ، وَالْمَرَضِ كَالشَّهَادَةِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ حَقٍّ يَسْتَوِي حُكْمُهُ فِي الصِّحَّةِ ، وَالْمَرَضِ إِذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُهُ فِي الصِّحَّةِ ، وَالْمَرَضِ إِذَا ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ قِيَاسًا عَلَى الْإِقْرَارِ بِالنَّسَبِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ حَالٍ يَسْتَوِي فِيهِمَا ثُبُوتُ النَّسَبِ بِالْبَيِّنَةِ ، وَالْإِقْرَارِ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهَا ثُبُوتُ الدَّيْنِ بِالْبَيِّنَةِ ، وَالْإِقْرَارِ كَالصِّحَّةِ ، وَلِأَنَّ الْمَرَضَ لَا يُحْدِثُ حَجْرًا فِي الْإِقْرَارِ بِدَلَالَةِ نُفُوذِهِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ حَالُ الصِّحَّةِ ، وَالْمَرَضِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِقُوَّةِ تَصَرُّفِهِ فِي الصِّحَّةِ عَلَى تَصَرُّفِهِ فِي الْمَرَضِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فَسَادُهُ لِمَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ حَيْثُ اسْتَوَى فِيهِ حَالُ الصِّحَّةِ ، وَالْمَرَضِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مُسَلَّمٌ فِي الْعَطَايَا الَّتِي لِلْوَرَثَةِ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهَا فِيمَا دُونَ الْإِقْرَارِ الَّذِي لَا اعْتِرَاضَ لِلْوَرَثَةِ فِيهِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الدُّيُونَ بِالْمَرَضِ تَصِيرُ مُتَعَلِّقَةً بِعَيْنِ الْمَالِ فَهُوَ أَنَّهُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ ؛ لِأَنَّ تَلَفَ الْمَالِ لَا يُبْطِلُ دُيُونَهُ وَثُبُوتُ غَيْرِ دُيُونِهِمْ بِالْبَيِّنَةِ لَا يَمْنَعُ مِنْ مُشَارَكَتِهِمْ وَإِنَّمَا تَصِيرُ دُيُونُهُمْ بِالْمَوْتِ مُتَعَلِّقَةً بِعَيْنِ الْمَالِ دُونَ الْمَرَضِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الْمَرَضَ قَدْ أَوْقَعَ عَلَيْهِ حَجْرًا فَهُوَ أَنَّ حَجْرَ الْمَرَضِ وَاقِعٌ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ الْإِقْرَارِ ، وَالْحَجْرُ فِيمَا سِوَى الْمَرَضِ وَاقِعٌ فِي الْإِقْرَارِ .
فَصْلٌ : إِذَا ضَاقَ مَالُ الْمَرِيضِ عَنْ قَضَاءِ دُيُونِهِ فَقَدَّمَ بَعْضَ غُرَمَاءِهِ بِدَيْنِهِ فَقَضَاهُ لَمْ يُشْرِكْهُ الْبَاقُونَ فِيهِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لِبَاقِي الْغُرَمَاءِ مُشَارَكَتُهُ فِيهِ بِالْحِصَصِ ؛ لِأَنَّهَا عَطِيَّةٌ فِي الْمَرَضِ فَصَارَ الْحَجْرُ وَاقِعًا عَلَيْهِ فِيهَا . وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ مَا لَزِمَ قَضَاؤُهُ اسْتَوَى فِيهِ حَالُ الصِّحَّةِ ، وَالْمَرَضِ قِيَاسًا عَلَيْهِ إِذَا قَضَى ثَمَنَ سِلْعَةٍ فِي يَدِهِ ، وَلِأَنَّ مَنْ صَحَّ مِنْهُ الْأَدَاءُ مَعَ وُجُودِ الْوَفَاءِ صَحَّ مِنْهُ الْأَدَاءُ مَعَ الْعَجْزِ كَالصَّحِيحِ طَرْدًا ، وَالصِّغَرِ عَكْسًا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَلَوْ أَقَرَّ لِوَارِثٍ فَلَمْ يَمُتْ حَتَّى حَدَثَ لَهُ وَارِثٌ يَحْجُبُهُ فَالْإِقْرَارُ لَازِمٌ ، وَإِنْ لَمْ يَحْدُثْ وَارِثٌ فَمَنْ أَجَازَ الْإِقْرَارَ لِوَارِثٍ أَجَازَهُ وَمَنْ أَبَاهُ رَدَّهُ وَلَوْ أَقَرَّ لِغَيْرِ وَارِثٍ فَصَارَ وَارِثًا بَطُلَ إِقْرَارُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . أَمَّا إِقْرَارُهُ لِلْوَارِثِ فِي الصِّحَّةِ فَلَازِمٌ كَالْأَجْنَبِيِّ ، وَأَمَّا إِقْرَارُهُ لِلْوَارِثِ فِي الْمَرَضِ الْمَخُوفِ فَإِنْ صَحَّ مِنْ مَرَضِهِ لَزِمَهُ إِقْرَارُهُ . وَإِنْ مَاتَ مِنْهُ فَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ لُزُومَ إِقْرَارِهِ ، وَفَرَّعَ عَلَيْهِ وَذَكَرَ بُطْلَانَ إِقْرَارِهِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ فِي غَيْرِ الشَّرْحِ يُخَرِّجُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَازِمٌ . وَالثَّانِي : بَاطِلٌ . وَكَانَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَجْعَلُ إِقْرَارَهُ لِلْوَارِثِ لَازِمًا قَوْلًا وَاحِدًا ، وَيَجْعَلُ مَا قَالَهُ مِنْ بُطْلَانِ إِقْرَارِهِ حِكَايَةً عَنْ مَذْهَبِ غَيْرِهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٌ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى : إِقْرَارُهُ لِلْوَارِثِ بَاطِلٌ اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ فِي إِقْرَارِهِ لِلْوَارِثِ مَتْهُومٌ فِي الْمَيْلِ إِلَيْهِ كَالتُّهْمَةِ بِدَعْوَاهُ لِنَفْسِهِ بِالْمَيْلِ إِلَيْهَا فَوَجَبَ أَنْ لَا يُقْبَلَ إِقْرَارُهُ كَمَا لَا يُقْبَلُ ادِّعَاؤُهُ . وَالثَّانِي : أَنَّ حَجْرَ الْمَرَضِ يَخْتَصُّ بِمَنْعِ الْوَارِثِ مِمَّا لَا يُمْنَعُ مِنْهُ الْأَجْنَبِيُّ ؛ لِأَنَّ عَطِيَّتَهُ لِلْأَجْنَبِيِّ جَائِزَةٌ إِذَا احْتَمَلَهَا الثُّلُثُ وَعَطِيَّتُهُ لِلْوَارِثِ بَاطِلَةٌ ، وَإِنِ احْتَمَلَهَا الثُّلُثُ فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِنَ الْإِقْرَارِ لِلْوَارِثِ وَإِنْ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ إِقْرَارِهِ لِلْأَجْنَبِيِّ . وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّ إِقْرَارُهُ لِغَيْرِ الْوَارِثِ صَحَّ إِقْرَارُهُ لِلْوَارِثِ كَالصَّحِيحِ طَرْدًا ، وَالسَّفِيهِ عَكْسًا ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّ إِقْرَارُهُ فِي الصِّحَّةِ صَحَّ إِقْرَارُهُ فِي الْمَرَضِ كَالْمُقِرِّ لِغَيْرِ الْوَارِثِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّ إِقْرَارُهُ بِالْوَارِثِ صَحَّ إِقْرَارُهُ لِلْوَارِثِ كَالْمُقِرِّ بِمَهْرِ الزَّوْجِيَّةِ ، وَلِأَنَّ إِقْرَارَ الْمَرِيضِ بِوَارِثٍ أَعَمُّ مِنْ إِقْرَارِهِ لِلْوَارِثِ ؛ لِأَنَّ إِقْرَارَهُ بِالْوَارِثِ يَتَضَمَّنُ نَسَبًا وَوِلَايَةً وَمَالًا فَكَانَ إِقْرَارُهُ بِمَالٍ لِلْوَارِثِ أَحَقَّ بِالْجَوَازِ مِنْ إِقْرَارِهِ بِوَارِثٍ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ أَنَّهُ مَتْهُومٌ فِي إِقْرَارِهِ فَهُوَ أَنَّهُ لَوْ لَزِمَ لِهَذَا الْمَعْنَى فَسَادُ إِقْرَارِهِ كَالدَّعْوَى اسْتَوَى مَا أَقَرَّ بِهِ فِي الصِّحَّةِ ، وَالْمَرَضِ فِي الْإِبْطَالِ كَمَا اسْتَوَى حَالُ ادِّعَائِهِ لِنَفْسِهِ فِي الصِّحَّةِ ، وَالْمَرَضِ فِي الرَّدِّ عَلَى أَنَّ الْمَرِيضَ أَبْعَدُ عَنِ التُّهْمَةِ مِنَ الصَّحِيحِ ؛ لِأَنَّهَا حَالٌ يَجْتَنِبُ الْإِنْسَانُ فِيهَا الْمَعَاصِيَ وَيُخْلِصُ الطَّاعَةَ وَلِذَلِكَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي عَهْدِهِ إِلَى عُمَرَ :
وَهَذَا مَا عَهِدَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ آخِرِ عَهِدِهِ بِالدُّنْيَا وَأَوَّلِ عَهْدِهِ بِالْآخِرَةِ فِي الْحَالِ الَّتِي يُؤْمِنُ فِيهَا الْكَافِرُ وَيَتَّقِي فِيهَا الْفَاجِرُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ أَنَّ حَجْرَ الْمَرِيضِ يَخْتَصُّ بِالْوَارِثِ دُونَ غَيْرِهِ فَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا اخْتَصَّ بِبُطْلَانِ الْإِقْرَارِ لِاخْتِصَاصِهِ بِبُطْلَانِ الْعَطِيَّةِ لَاقْتَضَى أَنْ يَبْطُلَ إِقْرَارُهُ لِلْأَجْنَبِيِّ فِيمَا جَاوَزَ الثُّلُثَ كَمَا بَطَلَتْ عَطِيَّتُهُ فِيمَا جَاوَزَ الثُّلُثَ وَفِي الْفَرْقِ بَيْنَ إِقْرَارِهِ لِلْأَجْنَبِيِّ وَعَطِيَّتِهِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ دَلِيلٍ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِي حَقِّ الْوَارِثِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَقَدِ اخْتَلَفُوا هَلْ يُرَاعَى كَوْنُ الْمُقَرِّ لَهُ وَارِثًا عِنْدَ الْإِقْرَارِ ، أَوْ عِنْدَ الْوَفَاءِ ؟ فَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يُرَاعَى فِي الْإِقْرَارِ لِلْوَارِثِ أَنْ يَكُونَ وَارِثًا عِنْدَ الْإِقْرَارِ لِاقْتِرَانِ التُّهْمَةِ بِالْإِقْرَارِ لَا بِمَا يَحْدُثُ عِنْدَ الْوَفَاةِ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٌ : يُرَاعَى فِي الْإِقْرَارِ لِلْوَارِثِ أَنْ يَكُونَ وَارِثًا عِنْدَ الْوَفَاةِ لَا عِنْدَ الْإِقْرَارِ ؛ لِأَنَّ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْمِيرَاثَ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَارِثًا ، وَلِأَنَّ أَفْعَالَ الْمَرِيضِ مُعْتَبَرَةٌ بِحَالِ الْوَفَاةِ فِي تَقْدِيرِ ثُلُثِهِ وَنُفُوذِ عَطِيَّتِهِ فَكَذَلِكَ فِي إِقْرَارِهِ . فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ وَارِثُهُ أَخًا فَأَقَرَّ لَهُ بِمَالٍ ، وَلَمْ يَمُتْ حَتَّى حَدَثَ لَهُ ابْنٌ حَجَبَ الْأَخَ فَهَذَا إِقْرَارٌ لِغَيْرِ الْوَارِثِ فَيَصِحُّ قَوْلًا وَاحِدًا لِكَوْنِهِ غَيْرَ وَارِثٍ عِنْدَ الْوَفَاةِ . وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى يَكُونُ إِقْرَارًا لِوَارِثٍ اعْتِبَارًا بِحَالِ الْإِقْرَارِ فَيَكُونُ بَاطِلًا . وَلَوْ أَقَرَّ لِأَخِيهِ وَلَهُ ابْنٌ ثُمَّ لَمْ يَمُتِ الْمُقِرُّ حَتَّى مَاتَ الِابْنُ فَصَارَ الْأَخُ وَارِثًا ، فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ يَكُونُ إِقْرَارًا لِوَارِثٍ فَيَكُونُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنِ اخْتِلَافِ الْمَذْهَبِ فِي الْقَوْلَيْنِ ، وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى يَكُونُ إِقْرَارًا لِغَيْرِ وَارِثٍ فَيَصِحُّ .
فَصْلٌ : فَلَوْ مَلَكَ أَخَاهُ ثُمَّ أَقَرَّ فِي مَرَضِهِ أَنَّهُ قَدْ كَانَ أَعْتَقَهُ فِي صِحَّتِهِ وَهُوَ أَقْرَبُ عَصَبَتِهِ نَفَذَ عِتْقُهُ وَفِي مِيرَاثِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَرِثُ إِذَا قِيلَ أَنَّ الْإِقْرَارَ لِلْوَارِثِ مَرْدُودٌ ؛ لِأَنَّ تَوْرِيثَهُ يُوجِبُ رَدَّ الْإِقْرَارِ لَهُ ، وَرَدُّ الْإِقْرَارِ يُبْطِلُ الْحُرِّيَّةَ وَيُسْقِطُ الْإِرْثَ فَأَثْبَتَ الْحُرِّيَّةَ بِثُبُوتِ الْإِقْرَارِ وَسَقَطَ الْإِرْثُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَرِثُ إِذَا قِيلَ أَنَّ الْإِقْرَارَ لِلْوَارِثِ مَقْبُولٌ فَيَكُونُ الْعِتْقُ نَافِذًا بِإِقْرَارِهِ ، وَالْإِرْثُ ثَابِتًا بِنَسَبِهِ ، وَلَا يَرْتَفِعُ أَحَدُهُمَا بِصَاحِبِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّ ابْنَ هَذِهِ الْأَمَةِ وَلَدُهُ مِنْهَا ، وَلَا مَالَ لَهُ
غَيْرَهَا ثُمَّ مَاتَ فَهُوَ ابْنُهُ وَهُمَا حُرَّانِ بِمَوْتِهِ ، وَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ بِحَقِّ الْغُرَمَاءِ الَّذِي قَدْ يَكُونُ مُؤَجَّلًا وَيَجُوزُ إِبْطَالُهُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ ، وَلَا يَجُوزُ إِبْطَالُ حُرِّيَّةٍ بَعْدَ ثُبُوتِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ يَمْلِكُ أَمَةً ذَاتِ وَلَدٍ فَقَالَ فِي مَرَضِهِ : هَذَا ابْنُ هَذِهِ الْأَمَةِ وَلَدِي مِنْهَا ، وَعَلَيْهِ دُيُونٌ تُحِيطُ بِقِيمَتِهَا فَقَدْ صَارَ الْوَلَدُ لَاحِقًا بِهِ إِنْ لَمْ تَكُنِ الْأَمَةُ فِرَاشًا لِغَيْرِهِ ، وَهُوَ حُرٌّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِأَحَدٍ رِقٌّ عَلَى وَلَدِهِ ، ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُهُ فِي الْأُمِّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَقُولَ فِي إِقْرَارِهِ بِبُنُوَّتِهِ أَنِّي اسْتَوْلَدْتُهَا فِي مِلْكِي . وَالثَّانِي : أَنْ يَقُولَ اسْتَوْلَدْتُهَا فِي عَقْدِ نِكَاحٍ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَقُولَ اسْتَوْلَدْتُهَا بِوَطْءِ شُبْهَةٍ . وَالرَّابِعُ : أَنْ يُطْلِقَ . فَإِنْ قَالَ اسْتَوْلَدْتُهَا فِي مِلْكِي صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ بِإِقْرَارِهِ تُعْتَقُ عَلَيْهِ بِمَوْتِهِ ، وَالْوَلَدُ خُلِقَ حُرًّا لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ رِقٌّ وَسَوَاءٌ خَرَجَا مِنَ الثُّلُثِ أَمْ لَا صَدَّقَ الْغُرَمَاءُ أَمْ كَذَّبُوا وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنْ كَانَ لَهُ قَوْلٌ يَقَعُ بِهِ الْعِتْقُ فِي الْمَرَضِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْعِتْقِ فِي الْمَرَضِ أَوْكَدُ مِنْ إِيقَاعِ الْعِتْقِ فِي الْمَرَضِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ فِي مَرَضِهِ بِعِتْقِ عَبْدٍ فِي صِحَّتِهِ نَفَذَ إِقْرَارُهُ وَنَجُزَ عِتْقُهُ وَلَوِ ابْتَدَأَ عِتْقَهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ ، وَالدُّيُونُ مُحِيطَةٌ بِقِيمَتِهِ بَطَلَ عِتْقُهُ وَلَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ اسْتَوْلَدَهَا فِي مَرَضِهِ كَانَ وَلَدُهُ حُرًّا وَصَارَتْ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ فَلَأَنْ تَصِيرَ كَذَلِكَ بِإِقْرَارِهِ عَنْ فِعْلِ الصِّحَّةِ أَوْلَى . وَالثَّانِي : وَهُوَ تَعْلِيلُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَمَّا تَعَارَضَ فِيهَا حُكْمَانِ أَحَدُهُمَا مُوجِبٌ لِعِتْقِهَا وَهُوَ الْإِقْرَارُ ، وَالثَّانِي مُوجِبٌ لِرِقِّهَا وَهُوَ الدُّيُونُ وَجَبَ إِثْبَاتُ أَوْكَدِهِمَا ، وَالْعِتْقُ أَوْكَدُ مِنْ دُيُونِ الْغُرَمَاءِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِبْطَالُ عِتْقٍ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وَيَجُوزُ إِسْقَاطُ الدُّيُونِ بِالْإِبْرَاءِ مِنْهَا بَعْدَ ثُبُوتِهَا ، فَلِهَذَيْنِ صَارَا بِمَوْتِهِ حُرَّيْنِ ، فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَهُمَا حُرَّانِ بِمَوْتِهِ ، وَالْوَلَدُ حُرٌّ قَبْلَ مَوْتِهِ ؛ لِأَنَّهُ خُلِقَ حُرًّا لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ رِقٌّ ؟ قِيلَ مَعْنَاهُ : أَنَّ الْحُرِّيَّةَ اجْتَمَعَتْ فِيهِمَا بِمَوْتِهِ وَقَبْلَ الْمَوْتِ مَا اجْتَمَعَتْ فِيهِمَا وَإِنَّمَا كَانَتْ فِي أَحَدِهِمَا .
فَصْلٌ : وَإِنْ قَالَ اسْتَوْلَدْتُهَا فِي عَقْدِ نِكَاحٍ فَالْوَلَدُ قَدْ عُتِقَ عَلَيْهِ وَصَارَ حُرًّا بِالْمِلْكِ بَعْدَ أَنْ خُلِقَ مَمْلُوكًا ؛ لِأَنَّ وَلَدَ الْأَمَةِ مِنْ عَقْدِ نِكَاحٍ مَمْلُوكٌ وَلَهُ الْوَلَاءُ عَلَى وَلَدِهِ ؛ لِأَنَّهُ عُتِقَ عَلَى مِلْكِهِ بَعْدَ ثُبُوتِ رِقِّهِ وَفِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ لَا يَكُونُ لَهُ عَلَى وَلَدِهِ وَلَاءٌ ؛ لِأَنَّهُ خُلِقَ حُرًّا لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ رِقٌّ ، فَأَمَّا الْأُمُّ فَلَا تَصِيرُ لَهُ فِي هَذَا الْقِسْمِ أُمَّ وَلَدٍ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُعَلَّقْ بِحُرٍّ وَإِنَّمَا عُلِّقَتْ بِمَمْلُوكٍ ، وَحُرِّيَّةُ أُمِّ الْوَلَدِ إِنَّمَا تَثْبُتُ بِحُرِّيَّةِ وَلَدِهَا ، وَتَكُونُ عَلَى الرِّقِّ بَعْدَ مَوْتِهِ وَتُبَاعُ فِي دُيُونِ غُرَمَائِهِ .
فَصْلٌ : وَإِنْ قَالَ اسْتَوْلَدْتُهَا بِوَطْءِ شُبْهَةٍ ثُمَّ مَلَكَهَا فَالْوَلَدُ خُلِقَ حُرًّا ؛ لِأَنَّهُ مِنْ شُبْهَةِ مَلِكٍ ، وَلَا وَلَاءَ عَلَيْهِ لِلْأَبِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ رِقٌّ وَهَلْ تَصِيرُ الْأَمَةُ أُمَّ وَلَدٍ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ رِوَايَةُ الرَّبِيعِ أَنَّهَا لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لِعَدَمِ مِلْكِهِ عِنْدَ الِاسْتِيلَادِ . وَالثَّانِي : وَهُوَ رِوَايَةُ حَرْمَلَةَ أَنَّهَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لِعُلُوقِهَا مِنْهُ بِحُرٍّ ؛ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ فِي الْقَدِيمِ يَعْتَبِرُ فِي كَوْنِهَا أُمَّ وَلَدٍ أَنْ تُعَلَّقَ مِنْهُ بِحُرٍّ ، وَفِي الْجَدِيدِ يَعْتَبِرُ أَنْ تُعَلَّقَ مِنْهُ بِحُرٍّ فِي مِلْكِهِ .
فَصْلٌ : وَإِنْ أَطْلَقَ إِقْرَارَهُ ، وَلَمْ يُضِفِ اسْتِيلَادَهَا إِلَى مِلْكٍ ، وَلَا غَيْرِهِ فَالْوَلَدُ عَلَى الْحُرِّيَّةِ ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الْأَمَةِ فَإِنْ لَمْ تَدَّعِ إِصَابَتَهَا فِي الْمِلْكِ فَهِيَ عَلَى الرِّقِّ ، وَإِنِ ادَّعَتْ إِصَابَتَهَا فِي الْمِلْكِ فَإِنْ صَدَّقَهَا الْوَرَثَةُ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ تُعْتَقُ بِالْمَوْتِ ، وَلَا اعْتِبَارَ بِإِكْذَابِ الْغُرَمَاءِ ؛ لِأَنَّ الْوَرَثَةَ يَقُومُونَ مَقَامَ مُوَرِّثِهِمْ فِي الْإِقْرَارِ ، وَإِقْرَارُ الْمَوْرُوثِ مَقْبُولٌ مَعَ تَكْذِيبِ الْغُرَمَاءِ فَكَذَلِكَ إِقْرَارُ الْوَرَثَةِ . وَإِنْ أَكْذَبَهَا الْوَرَثَةُ وَادَّعَوُا اسْتِيلَادَهَا فِي غَيْرِ مِلْكٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْوَرَثَةِ مَعَ أَيْمَانِهِمْ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ دُونَ الْبَتِّ اسْتِصْحَابًا لِرِقِّهَا الثَّابِتِ ثُمَّ تُبَاعُ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ مَرْقُوقَةً . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْأَمَةِ مَعَ يَمِينِهَا عَلَى الْبَتِّ اعْتِبَارًا بِالظَّاهِرِ مِنْ حَالِ الْمِلْكِ ، وَعَدَمِ النِّكَاحِ مِنْ قَبْلُ ثُمَّ تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ تُعْتَقُ بِالْمَوْتِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ لِحَمْلٍ بِدَيْنٍ كَانَ الْإِقْرَارُ بَاطِلًا حَتَّى يَقُولَ كَانَ لِأَبِي هَذَا الْحَمْلِ ، أَوْ لِجَدِّهِ عَلَيَّ مَالٌ وَهُوَ وَارِثُهُ فَيَكُونُ إِقْرَارًا لَهُ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا عِنْدِي خِلَافُ قَوْلِهِ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ فِي الرَّجُلِ يُقِرُّ أَنَّ فُلَانًا وَكِيلٌ لِفُلَانٍ فِي قَبْضِ مَا عَلَنَهُ أَنَّهُ لَا يَقْضِي عَلَيْهِ بِدَفْعِهِ ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِالتَوْكِيلِ فِي مَالٍ لَا يَمْلِكُهُ وَيَقُولُ لَهُ إِنْ شِئْتَ فَادْفَعْ ، أَوْ دَعْ وَكَذَلِكَ هَذَا إِذَا أَقَرَّ لِمَالٍ لِرَجُلٍ وَأَقَرَّ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَاتَ وَوَرِثَهُ غَيْرُهُ وَهَذَا عِنْدِي بِالْحَقِّ أَوْلَى وَهَذَا وَذَاكَ عِنْدِي سَوَاءٌ فَيَلْزَمُهُ مَا أَقَرَّ بِهِ فِيهِمَا عَلَى نَفْسِهِ فَإِنْ كَانَ الَّذِي ذَكَرَ أَنَّهُ مَاتَ حَيًّا وَأَنْكَرَ الَّذِي لَهُ الْمَالُ الْوَكَالَةَ رَجَعَا عَلَيْهِ بِمَا أَتْلَفَ عَلَيْهِمَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ أَقَرَّ لِحَمْلِ امْرَأَةٍ بِمَالٍ فَلَا يَخْلُو حَالُ إِقْرَارِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُعْزِيهِ إِلَى جِهَةٍ مُمْكِنَةٍ . وَالثَّانِي : أَنْ يُعْزِيهِ إِلَى جِهَةٍ مُسْتَحِيلَةٍ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يُرْسِلَهُ مُطْلَقًا .
فَإِنْ عَزَاهُ إِلَى جِهَةٍ كَقَوْلِهِ : لَهُ عَلَيَّ إِرْثٌ مِنْ أَبِيهِ ، أَوْ وَصِيَّةٌ عَنْ مُوصٍ صَحَّ الْإِقْرَارُ وَلَزِمَ . وَإِنْ أَرْسَلَهُ وَأَطْلَقَهُ فَفِي صِحَّتِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ ، وَالْمَوَاهِبِ مِنْ كِتَابِ الْأُمِّ وَنَقْلَهُ الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا : إِنَّ الْإِقْرَارَ بَاطِلٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّ إِثْبَاتَ الْحُقُوقِ يَجْرِي بَيْنَ الْأَحْيَاءِ الْمَوْجُودِينَ غَالِبًا وَذَلِكَ مُنْتَفٍ عَنِ الْحَمْلِ فَبَطَلَ بِغَالِبِ هَذِهِ الْحَالِ أَنْ يَصِحَّ لَهُ إِقْرَارٌ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ بِالْحُكْمِ الظَّاهِرِ - وَهَذَا كِتَابٌ لَمْ يَنْقُلِ الْمُزَنِيُّ مِنْهُ شَيْئًا - أَنَّ إِقْرَارَهُ صَحِيحٌ . وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إِذَا أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى الصِّحَّةِ لَزِمَ ، وَلَمْ يَبْطُلْ لِاحْتِمَالِ فَسَادِهِ وَجْهٌ كَمَا يَصِحُّ الْإِقْرَارُ لِلطِّفْلِ وَإِنِ اسْتَحَالَ اسْتِحْقَاقُ ذَلِكَ بِمُعَامَلَتِهِ ؛ لِأَنَّ لَهُ وَجْهًا فِي الصِّحَّةِ وَكَذَلِكَ فِي الْحَمْلِ . وَإِنْ عَزَا إِقْرَارَهُ إِلَى جِهَةٍ مُسْتَحِيلَةٍ ، فَكَقَوْلِهِ : لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ لِمُعَامَلَتِي إِيَّاهُ ، أَوْ بِجِنَايَتِي عَلَيْهِ فَهَذِهِ حَالَةٌ مُسْتَحِيلَةٌ فِي الْحَمْلِ فَإِذَا وَصَلَ الْإِقْرَارُ بِهَا فَإِنْ قِيلَ بِبُطْلَانِ إِقْرَارِهِ مَعَ الْإِطْلَاقِ فَهَذَا إِذَا وَصَفَهُ بِالْمُحَالِ أُبْطِلَ ، فَإِنْ قِيلَ بِصِحَّةِ إِقْرَارِهِ مَعَ الْإِطْلَاقِ فَفِيهِ إِذَا وَصَلَهُ بِصِفَةٍ مُسْتَحِيلَةٍ قَوْلَانِ مِنْ تَبْعِيضِ الْإِقْرَارِ فِيمَنْ قَالَ : ضُمِّنْتُ أَلْفًا عَلَى أَنَّنِي بِالدِّيَارِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْإِقْرَارَ لَازِمٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ، وَالصِّلَةُ رُجُوعٌ فَلَمْ يُقْبَلْ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْإِقْرَارَ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْكَلَامِ مُرْتَبِطٌ بِبَعْضٍ وَحُكْمُهُ أَوَّلُهُ مَوْقُوفٌ عَلَى آخِرِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا فَإِنْ قِيلَ بِبُطْلَانِ إِقْرَارِهِ مَعَ التَّقْيِيدِ لِمَا يَسْتَحِيلُ ، أَوْ مَعَ الْإِطْلَاقِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَهُوَ مَرْدُودٌ ، وَلَا تَفْرِيعَ عَلَيْهِ . وَإِنْ قُلْنَا بِصِحَّةِ إِقْرَارِهِ مَعَ التَّقْيِيدِ بِالْمُمْكِنِ ، أَوْ مَعَ الْإِطْلَاقِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ التَّفْرِيعُ . فَنَقُولُ لَا يَخْلُو حَالُ الْمُقَرِّ لِحَمْلِهَا مِنْ أَنْ تَضَعَ حَمْلًا أَوْ لَا . فَإِنْ لَمْ تَضَعْ حَمْلًا أقر لحمل بمال ولم تضع حملا وَكَانَ مَا بِهَا غِلَظًا وَرِبْحًا بَطَلَ الْإِقْرَارُ لَهُ ، ثُمَّ نُظِرَ فِي الْإِقْرَارِ فَإِنْ كَانَ قَدْ عَزَاهُ إِلَى وَصِيَّةٍ بَطَلَتْ وَرُدَّتْ عَلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي وَإِنْ كَانَ قَدْ عَزَاهُ إِلَى مِيرَاثٍ رُدَّ عَلَى غَيْرِ الْحَمْلِ مِنْ وَرَثَةٍ مُسْتَحِقَّةٍ . وَإِنْ كَانَ قَدْ أَطْلَقَهُ أُقِرَّ فِي يَدِ الْمُقِرِّ لِعَدَمِ مُدَّعِيهِ . وَإِنْ وَضَعَتْ حَمْلًا ، أقر لحمل بمال ووضعت حملا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَضَعَهُ حَيًّا .
وَالثَّانِي : أَنْ تَضَعَهُ مَيِّتًا . فَإِنْ وَضَعَتْهُ مَيِّتًا فَالْجَوَابُ عَلَى مَا مَضَى مِنْ عَدَمِ وَضْعِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَمْلِكُ وَصِيَّةً ، وَلَا يَسْتَحِقُّ إِرْثًا . وَإِنْ وَضَعَتْهُ حَيًّا ، فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَضَعَهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْإِقْرَارِ فَالْإِقْرَارُ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ الْحَمْلِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ فَيُعْلَمُ بِوَضْعِهِ قَبْلَهَا أَنَّهُ كَانَ مَخْلُوقًا عِنْدَ الْإِقْرَارِ فَصَحَّ لَهُ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ تَضَعَهُ لِأَكْثَرِ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ وَقْتِ الْإِقْرَارِ فَالْإِقْرَارُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مُدَّةَ الْحَمْلِ أَرْبَعُ سِنِينَ فَيُعْلَمُ بِوَضْعِهِ بَعْدَهَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَخْلُوقًا عِنْدَ الْإِقْرَارِ فَبَطَلَ وَكَانَ كَمَنْ أَقَرَّ بِحَمْلٍ فَلَمْ يُوضَعْ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ تَضَعَهُ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ فَلَا يَخْلُو حَالُهَا بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِحَمْلِهَا مِنْ أَنْ تُصَابَ بِوَطْءٍ تَصِيرُ بِهِ فِرَاشًا لِزَوْجٍ ، أَوْ سَيِّدٍ ، أَوْ ذِي شُبْهَةٍ أَمْ لَا . فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا مُفْتَرِشٌ يَلْحَقُهُ وَلَدُهَا فَالظَّاهِرُ مِنْ تَقَدُّمِ حَمْلِهَا وَلُحُوقِهِ بِالْوَطْءِ قَبْلَ الْإِقْرَارِ فَيَصِحُّ الْإِقْرَارُ لَهُ كَحُكْمِنَا بِتَقَدُّمِهِ وَلُحُوقِهِ بِالْوَطْءِ مَنْ قَبْلِهِ . وَإِنْ أَصَابَهَا بَعْدَ الْإِقْرَارِ مُفْتَرِشٌ تَصِيرُ لَهُ فِرَاشًا فَالظَّاهِرُ حُدُوثُ حَمْلِهَا وَلُحُوقُهُ بِالْوَاطِئِ بَعْدَ الْإِقْرَارِ فَبَطَلَ الْإِقْرَارُ لَهُ كَحُكْمِنَا بِحُدُوثِهِ وَلُحُوقِهِ بِالْوَاطِئِ مِنْ بَعْدِهِ . فَإِنْ وَضَعَتْ وَلَدَيْنِ أَحَدَهُمَا لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ، وَالثَّانِي لِأَكْثَرَ فَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْوَلَدَيْنِ أَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَهُمَا حَمْلٌ وَاحِدٌ ، فَعَلَى هَذَا يُحْكَمُ بِتَقَدُّمِ الثَّانِي لِعِلْمِنَا بِتَقْدِيمِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُمَا حَمْلٌ وَاحِدٌ . وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرَ فَهُمَا حَمْلَانِ ، وَالثَّانِي مِنْهُمَا مُتَأَخِّرٌ فَصَحَّ الْإِقْرَارُ الْأَوَّلُ فَتَقَدَّمَهُ وَبَطَلَ الثَّانِي لِتَأَخُّرِهِ ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ فِي الْحَالَيْنِ مَوْطُوءَةً بَعْدَ الْإِقْرَارِ أَمْ لَا ؟
فَصْلٌ : فَإِذَا صَحَّ الْإِقْرَارُ لِلْحَمْلِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَالِ وَضْعِهِ فَلَا يَخْلُو أَنْ تَضَعَ وَاحِدًا ، أقر لحمل بمال فوضعت واحدا أَوْ عَدَدًا فَإِنْ وَضَعَتْ وَاحِدًا فَجَمِيعُ الْإِقْرَارِ لَهُ ذَكَرًا كَانَ ، أَوْ أُنْثَى ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْإِقْرَارُ وَصِيَّةً ، أَوْ مِيرَاثًا . وَإِنْ وَضَعَتْ عَدَدًا أقر لحمل بمال فوضعت عددا فَإِنْ كَانَ ذُكُورًا لَا غَيْرَ ، أَوْ إِنَاثًا لَا غَيْرَ فَالْإِقْرَارُ بَيْنَهُمْ عَلَى السَّوَاءِ وَإِنْ كَانُوا ذُكُورًا وَإِنَاثًا نُظِرَ فَإِنْ كَانَ الْإِقْرَارُ مِيرَاثًا فَهُوَ بَيْنُهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَإِنْ كَانَ وَصِيَّةً فَهُوَ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ . وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ حَالُهُ فَهُوَ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ التَّسَاوِي حَتَّى يُعْلَمَ
سَبَبُ التَّفَاضُلِ فَلَوْ مَاتَ أَحَدُهُمْ فَإِنْ مَاتَ بَعْدَ اسْتِيلَادِهِ كَانَ عَلَى حَقِّهِ مِيرَاثًا يُقْسَمُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى . وَإِنْ وَقَعَ مَيِّتًا سَقَطَ سَهْمُهُ وَكَانَ الْإِقْرَارُ لِمَنْ سِوَاهُ مِنَ الْحَمْلِ .
فَصْلٌ : أَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ الْوَكَالَةِ إِذَا ادَّعَاهَا رَجُلٌ لِغَائِبٍ فِي قَبْضِ حَقِّهِ فَصُدِّقَ عَلَيْهَا أَنَّ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ الْمَالُ دَفْعَ الْمَالِ إِلَى الْوَكِيلِ بِالتَّصْدِيقِ كَمَا كَانَ عَلَيْهِ دَفْعُ الْمَالِ إِلَى الْحَمْلِ الْوَارِثِ ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْمُزَنِيُّ لَيْسَ بِصَحِيحٍ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ بِتَصْدِيقِ الْوَكِيلِ غَيْرَ مُقِرٍّ لَهُ بِمِلْكِ الْمَالِ فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ دَفْعُهُ إِلَيْهِ وَفِي الْوَارِثِ مُقِرٍّ لَهُ بِمِلْكِ الْمَالِ فَلَزِمَهُ دَفْعُهُ إِلَيْهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَدْفَعُ الْمَالَ إِلَى الْوَكِيلِ لَا يَبْرَأُ مِنَ التَّبِعَةِ وَمُطَالَبَةِ الْغَائِبِ بِهِ إِنْكَارَ الْوَكَالَةِ فَلَمْ يُلْزَمْ إِلَّا بِمَا تَزُولُ مَعَهُ التَّبِعَةُ مِنْ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ بِالْوَكَالَةِ كَمَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ بِبَيِّنَةٍ تُشْهَدُ لَا يُلْزَمُ الدَّفْعَ إِلَّا بِالْإِشْهَادِ عَلَى قَبْضِهِ لِتَزُولَ التَّبِعَةُ عِنْدَ إِنْكَارِ الْقَبْضِ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ بَيِّنَةً لَزِمَ الدَّفْعُ بِغَيْرِ إِشْهَادٍ لِزَوَالِ التَّبِعَةِ فِيهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ حَالُ الْوَارِثِ ؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ بِهِ مُقِرٌّ بِارْتِفَاعِ التَّبِعَةِ عَنْهُ فِيهِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا أَقَرَّ رَجُلٌ ، أَوْ مَجْنُونٌ بِمَالٍ كَانَ الْإِقْرَارُ لَازِمًا إِنْ وَصَلَهُ يُمْكِنُ ، أَوْ أَطْلَقَهُ لَا يَخْتَلِفُ . وَإِنْ وَصَلَهُ بِمُسْتَحِيلٍ ، فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ : فَأَمَّا إِنْ أَقَرَّ لِدَابَّةِ زَيْدٍ ، أَوْ لِدَارِ عَمْرٍو بِمَالٍ فَالْإِقْرَارُ بَاطِلٌ لِاسْتِحَالَةِ مِلْكِ الدَّابَّةِ ، وَالدَّارِ وَلَوْ أَقَرَّ لِعَبْدِ زِيدٍ بِمَالِهِ فَإِنْ كَانَ مُكَاتَبًا ، أَوْ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ صَحَّ الْإِقْرَارُ لَهُ . وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْذُونٍ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ يَمْلِكُ صَحَّ الْإِقْرَارُ لَهُ ، وَإِنْ قِيلَ لَا يَمْلِكُ فَفِي صِحَّةِ الْإِقْرَارِ لَهُ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَصِحُّ كَالْإِقْرَارِ لِلْبَيْعَةِ . وَالثَّانِي : يَصِحُّ لِإِمْكَانِ مُعَامَلَتِهِ فِي ذِمَّتِهِ وَهَذَا أَصَحُّ . فَأَمَّا إِنْ أَقَرَّ لِمَصْنَعٍ ، أَوْ مَسْجِدٍ بِمَالٍ صَحَّ الْإِقْرَارُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَسْتَحِقُّ صَرْفَ ذَلِكَ الْمَالِ فِي عِمَارَتِهِ مِنْ غَلَّةٍ وُقِفَتْ عَلَيْهِ ، أَوْ مِنْ وَصِيَّتِهِ لَهُ ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْإِقْرَارُ لَهُ إِلَّا أَنْ يَصِلَ إِقْرَارَهُ بِذَلِكَ فَيَصِحُّ ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ . فَأَمَّا إِنْ أَقَرَّ لِبَيْعَةٍ ، أَوْ كَنِيسَةٍ بِمَالٍ بَطَلَ الْإِقْرَارُ بِكُلِّ حَالٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى ذَلِكَ ، وَلَا الْوَصِيَّةُ لَهُ ، فَلَمْ يَبْقَ وَجْهٌ يُمْكِنُ اسْتِحْقَاقُ مَالٍ مِنْ جِهَتِهِ .
فَصْلٌ : وَإِذَا أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِحَمْلِ جَارِيَتِهِ فَإِنْ وَصَلَ إِقْرَارَهُ بِمُمْكِنٍ كَقَوْلِهِ وَصَّى لِي بِرَقَبَتِهَا وَلَهُ بِحَمْلِهَا صَحَّ إِقْرَارُهُ وَلَزِمَ ، وَسَوَاءٌ أَطْلَقَ الْإِقْرَارَ ، أَوْ أَرْسَلَهُ ، فَالَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْحَمْلِ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَمْلِكَ مُنْفَرِدًا بِبَيْعٍ ، وَلَا هِبَةٍ ، وَلَا مِيرَاثٍ . وَيَجِيءُ قَوْلٌ ثَانٍ مِنَ الْإِقْرَارِ لِلْحَمْلِ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْحَمْلِ صَحِيحٌ لِإِمْكَانِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْوَصِيَّةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَلَوْ قَالَ هَذَا الرَّقِيقُ لَهُ إِلَّا وَاحِدًا كَانَ لِلْمُقِرِّ أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمْ شَاءَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَؤُلَاءِ الْعَبِيدُ لَهُ إِلَّا وَاحِدٌ صَحَّ الْإِقْرَارُ وَكَانَ مَجْهُولًا ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَ الْمُسْتَثْنَى مَجْهُولٌ وَجَهَالَةُ الِاسْتِثْنَاءِ مُفْضٍ إِلَى جَهَالَةِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ ، وَالْجَهَالَةُ فِي الْإِقْرَارِ لَا تُبْطِلُهُ لِإِمْكَانِ بَيَانِهِ مِنْ نَفْيِ الْجَهَالَةِ بِسُؤَالِهِ كَالْمُقِرِّ بِشَيْءٍ ، ثُمَّ يُؤْخَذُ الْمُقِرُّ بِبَيَانِ الْعَبْدِ الَّذِي اسْتَثْنَاهُ مِنْ إِقْرَارِهِ وَأَيُّ عَبْدٍ بَيَّنَهُ قُبِلَ مِنْهُ سَوَاءٌ بَيَّنَ أَعْلَاهُ ، أَوْ أَدْنَاهُ . وَمَنْ مَنَعَ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ إِذَا نُفِيَ أَكْثَرُ الْجُمْلَةِ مَنَعَ مِنْ بَيَانِ أَكْثَرِهِمْ قِيمَةً وَهَذَا خَطَأٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ . ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى غَيْرَ دَاخِلٍ فِي الْإِقْرَارِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ بِكُلِّ حَالٍ وَلِأَنَّهُ لَوْ عَيَّنَهُ حِينَ إِقْرَارِهِ صَحَّ فَكَذَلِكَ بَعُدَ إِقْرَارُهُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فِي تَعْيِينِهِ فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ أَكْذَبَهُ أَحْلَفَهُ وَاسْتَحَقَّهُ فَلَوْ مَاتَ الْعَبِيدُ كُلُّهُمْ إِلَّا وَاحِدًا فَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِي اسْتَثْنَاهُ هُوَ هَذَا الْوَاحِدُ فَفِي قَبُولِ ذَلِكَ مِنْهُ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُقْبَلُ لِفَوَاتِ مَنْ مَاتَ فَيَصِيرُ بِاسْتِثْنَائِهِ رَافِعًا لِجَمِيعِ إِقْرَارِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ ذَلِكَ مَقْبُولٌ مِنْهُ لِجَوَازِ بَيَانِهِ قَبْلَ مَوْتِ مَنْ سِوَاهُ فَكَذَلِكَ بَعْدَهُ ، كَمَا لَوْ عَيَّنَهُ فَمَاتَ ، وَلَا يَكُونُ هَذَا اسْتِثْنَاءً رَافِعًا لِلْجُمْلَةِ كَمَا لَا يَكُونُ مَوْتُ جَمِيعِهِمْ رُجُوعًا عَنِ الْإِقْرَارِ بِهِمْ وَهَذَا أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ ، وَلَكِنْ لَوْ قُتِلَ جَمِيعُهُمْ إِلَّا وَاحِدًا فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى هَذَا الْوَاحِدَ قُبِلَ مِنْهُ وَجْهًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّ الْمَقْتُولَ لَمْ يَفُتْ لِاسْتِحْقَاقِ قِيمَتِهِ عَلَى الْقَاتِلِ وَهَكَذَا لَوْ قَالَ غَصَبْتُهُ هَؤُلَاءِ الْعَبِيدَ إِلَّا وَاحِدًا ثُمَّ مَاتُوا وَبَقِيَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ ؛ لَأَنَّ مَنْ مَاتَ مِنَ الْمَغْصُوبِينَ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَلَوْ قَالَ غَصَبْتُ هَذِهِ الدَّارَ مِنْ فُلَانٍ وَمِلْكُهَا لِفُلَانٍ فَهِيَ لِفُلَانٍ الَّذِي أَقَرَّ أَنَّهُ غَصَبَهَا مِنْهُ ، وَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لِلثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ " .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ قَالَ : غَصَبْتُ هَذِهِ الدَّارَ مِنْ زَيْدٍ وَمِلْكُهَا لِعَمْرٍو فَعَلَيْهِ تَسْلِيمُهَا إِلَى زَيْدٍ الَّذِي أَقَرَّ بِغَصْبِهَا مِنْهُ وَهُوَ مُسْتَأْنِفٌ لِلشَّهَادَةِ بِمِلْكِهَا لِعَمْرٍو فَلَمْ تُسْمَعِ الشَّهَادَةُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ ، وَالْغَاصِبُ مَرْدُودُ الشَّهَادَةِ لَا غُرْمَ عَلَيْهِ لِعَمْرٍو الَّذِي أَقَرَّ لَهُ بِمِلْكِهَا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مَالِكًا وَغَيْرُهُ أَحَقُّ بِالْيَدِ الْإِجَارَةِ ، أَوْ رَهْنٍ فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَجَبَ تَسْلِيمُهَا إِلَى صَاحِبِ الْيَدِ الْمَغْصُوبَةِ مِنْهُ دُونَ الْمُقَرِّ بِمِلْكِهَا لَهُ وَسَقَطَ الْغُرْمُ عَنْهُ لِاسْتِحْقَاقِ صَاحِبِ الْيَدِ لَهَا وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ مَالِكًا لَهَا ثُمَّ يَكُونُ عَمْرٌو الْمُقَرُّ لَهُ بِمِلْكِهَا خَصْمًا فِيهِ لِزَيْدٍ الْمُقَرِّ لَهُ بِغَصْبِهَا فَإِنِ اعْتَرَفَ لَهُ بِمِلْكِهَا سَلَّمَهَا إِلَيْهِ وَإِنْ أَنْكَرَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِأَجْلِ يَدِهِ وَعَلَيْهِ الْيَمِينُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : وَلَوِ ابْتَدَأَ فَقَالَ : مِلْكُ هَذِهِ الدَّارِ لِزَيْدٍ غَصَبْتُهَا مِنْ عَمْرٍو فَهِيَ لِزَيْدٍ الْأَوَّلِ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ بِمِلْكِهَا دُونَ عَمْرٍو الثَّانِي الَّذِي أَقَرَّ لَهُ بِغَصْبِهَا فَصَارَ الْأَوَّلُ وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ إِقْرَارًا مَحْضًا لِثُبُوتِ يَدِهِ مِنْ قَبْلُ وَوُجُوبِ رَفْعِهَا بِهَذَا الْقَوْلِ . وَإِنْ بَدَأَ بِذِكْرِ الْغَصْبِ كَانَ مَا بَعْدَهُ مِنْ ذِكْرِ الْمِلْكِ لِغَيْرِهِ شَهَادَةً مَحْضَةً ثُمَّ إِذَا جُعِلَتْ لِلْأَوَّلِ الْمُقَرِّ لَهُ بِالْمِلْكِ ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ غُرْمُ قِيمَتِهَا لِلثَّانِي الْمَقَرِّ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ نَذْكُرُهُمَا فِيمَا بَعْدُ .
فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ : اسْتَعَرْتُ هَذِهِ الدَّارَ مِنْ زَيْدٍ وَمَلْكُهَا لِعَمْرٍو لَزِمَهُ تَسْلِيمُهَا إِلَى زَيْدٍ الْأَوَّلِ الَّذِي اسْتَعَارَهَا مِنْهُ ، وَصَارَتْ شَهَادَتُهُ بِمِلْكِهَا لِعَمْرٍو ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْمُسْتَعِيرِ جَائِزَةً بِخِلَافِ الْغَاصِبِ . وَلَوِ ابْتَدَأَ فَقَالَ هَذِهِ الدَّارُ لِزَيْدٍ وَاسْتَعَرْتُهَا مِنْ عَمْرٍو لَزِمَهُ تَسْلِيمُهَا إِلَى زَيْدٍ الْأَوَّلِ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ بِالْمِلْكِ ، وَهَلْ يُغَرَّمُ قِيمَتَهَا لِعَمْرٍو الْمُعِيرِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ . "
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَلَوْ قَالَ غَصَبْتُهَا مِنْ فُلَانٍ لَا بَلْ مِنْ فُلَانٍ كَانَتْ لِلْأَوَّلِ ، وَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ لِلثَّانِي وَكَانَ الثَّانِي خَصْمًا لِلْأَوَّلِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا قَالَ : غَصَبْتُ هَذِهِ الدَّارَ مِنْ زَيْدٍ لَا بَلْ مِنْ عَمْرٍو ، أَوْ قَالَ : هَذِهِ الدَّارُ لِزَيْدٍ لَا بَلْ لِعَمْرٍو ، أَوْ قَالَ : غَصَبْتُ هَذِهِ الدَّارَ مِنْ زَيْدٍ وَغَصَبَهَا زَيْدٌ مِنْ عَمْرٍو ، أَوْ قَالَ : هَذِهِ الدَّارُ لِزَيْدٍ وَغَصَبْتُهَا مِنْ عَمْرٍو . فَالدَّارُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْأَرْبَعِ لِزَيْدٍ الْأَوَّلِ الْمُقَرِّ لَهُ بِالْمِلْكِ ، أَوْ بِالْغَصْبِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تَقَدُّمُ الْإِقْرَارِ لَهُ ، وَالْمَنْعُ مِنَ الرُّجُوعِ فِيهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا قَدْ صَارَتْ لِلْأَوَّلِ بِالْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ وَصَارَ بِالْإِقْرَارِ الثَّانِي مُقِرًّا فِي الْمِلْكِ الْأَوَّلِ فَرُدَّ ، وَلَمْ يُقْبَلْ .
وَهَلْ يَلْزَمُهُ غُرْمُ قِيمَتِهَا لِلثَّانِي بِمَا عَقَّبَهُ مِنَ الْإِقْرَارِ لَهُ بِالْمِلْكِ ، أَوِ الْغَصْبِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا مِنْ كِتَابِ الْإِقْرَارِ ، وَالْمَوَاهِبِ مِنَ الْأُمِّ أَنْ لَا غُرْمَ عَلَيْهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ بِالْحُكْمِ الظَّاهِرِ - الَّذِي لَمْ يَنْقُلْ بِهِ الْمُزَنِيُّ شَيْئًا - أَنَّ الْغُرْمَ عَلَيْهِ وَاجِبٌ . فَإِذَا قِيلَ بِسُقُوطِ الْغُرْمِ عَنْهُ فَوَجْهُهُ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُقِرَّ قَدْ فَعَلَ مَا لَزِمَهُ مِنَ الْإِقْرَارِ وَإِنَّمَا رَفَعَ الشَّرْعُ حُكْمَهُ بِالْأَوَّلِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ بَعْدَ فِعْلِ الْوَاجِبِ غُرْمٌ . وَالثَّانِي : أَنَّ عَيْنَ الدَّارِ قَائِمَةً ، وَالْقِيمَةَ مَعَ وُجُودِهَا غَيْرُ مُسْتَحَقَّةٍ وَإِذَا قِيلَ بِوُجُوبِ الْغُرْمِ عَلَيْهِ فَوَجْهُهُ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ بِالْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ مُفَوِّتٌ لَهَا عَلَى الثَّانِي بِفِعْلِهِ فَصَارَ كَالْمُسْتَهْلِكِ فَلَزِمَهُ الْغُرْمُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مُقِرٌّ لِلثَّانِي بِالْغَصْبِ ، وَالْغَصْبُ مُوجِبٌ لِغُرْمِ الْقِيمَةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْعَيْنِ وَإِنْ كَانَتْ قَائِمَةً ، كَالْعَبْدِ الْآبِقِ ، وَالْمَغْصُوبِ مِنَ الْغَاصِبِ . فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُسَلِّمَهَا الْمُقِرُّ إِلَى الْأَوَّلِ ، أَوْ يَأْمُرَهُ الْحَاكِمُ لِأَجْلِ إِقْرَارِهِ بِتَسْلِيمِهَا إِلَى الْأَوَّلِ فِي أَنَّ وُجُوبَ الْغُرْمِ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ وَنَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا : إِنْ سَلَّمَهَا بِنَفْسِهِ لُزِمَ الْغُرْمَ قَوْلًا وَاحِدًا لِمَا بَاشَرَهُ مِنَ الْأَصَالَةِ بِالتَّسْلِيمِ . فَإِنْ سَلَّمَهَا الْحَاكِمُ ، فَعَلَى قَوْلَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إِنْ سَلَّمَهَا بِنَفْسِهِ لَمْ يُغَرَّمْ وَإِنْ سَلَّمَهَا الْحَاكِمُ غُرِّمَ ، قَالَ : لِأَنَّ تَسَلُّمَ الْحَاكِمِ تَمْلِيكٌ فَصَارَ الْمَلِكُ مُسْتَهْلَكًا عَلَى الثَّانِي فَاسْتَحَقَّ الْغُرْمَ وَتَسْلِيمُهُ بِنَفْسِهِ لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ فَلَمْ يُغَرَّمْ . وَعَكْسُهُ مَا ذَكَرْنَا أَشْبَهُ بِالْحَقِّ .
فَصْلٌ : وَإِذَا بَاعَ الرَّجُلُ عَبْدًا ثُمَّ أَقَرَّ بَعْدَ الْبَيْعِ بِغَصْبِهِ مِنْ رَجُلٍ لَمْ يُقْبَلْ إِقْرَارُهُ فِي نَقْضِ الْبَيْعِ وَلَزِمَهُ غُرْمُ الْقِيمَةِ لِلْمُقَرِّ لَهُ بِالْغَصْبِ قَوْلًا وَاحِدًا بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ فِي الْبَيْعِ قَدْ عَاوَضَ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ الصَّائِرِ إِلَيْهِ فَغُرِّمَ وَفِي الْأَوَّلِ لَمْ يُعَاوِضْ عَلَيْهِ فَلَمْ يُغَرَّمْ .
وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا ثُمَّ أَقَرَّ بِغَصْبِهِ لَمْ يُبْطُلِ الْعِتْقُ وَكَانَ غُرْمُ قِيمَتِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعَاوِضْ عَلَيْهِ وَسَوَاءٌ أَعْتَقَهُ مُتَطَوِّعًا ، أَوْ عَنْ كَفَّارَةٍ .
فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ : غَصَبْتُ هَذَا الْعَبْدَ مِنْ زَيْدٍ ، أَوْ عَمْرٍو ، وَلَمْ يُعَيِّنْ بِالْإِقْرَارِ أَحَدَهُمَا فَيُؤْخَذُ بِالتَّعْيِينِ ، فَإِذَا عَيَّنَ أَحَدَهُمَا تَوَجَّهَ الْإِقْرَارُ إِلَيْهِ وَكَانَ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعَبْدِ ، وَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ لِلْآخَرِ قَوْلًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْهُ بِالْإِقْرَارِ . فَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ أَحَدَهُمَا وَقَالَ لَسْتُ أَعْرِفُهُ حَلَفَ لَهُمَا ، وَكَانَ الْعَبْدُ مَوْقُوفًا بَيْنَهُمَا حَتَّى يَصْطَلِحَا ، وَإِنْ حَلَفَ لِأَحَدِهِمَا كَانَ لِلْآخَرِ مِنْهُمَا وَلَوْ قَالَ غَصَبْتُ هَذَا الْعَبْدَ مِنْ زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَهُوَ مُقِرٌّ بِغَصْبِهِ مِنْهُمَا وَعَلَيْهِ دَفْعُهُ إِلَيْهِمَا ، وَلَا غُرْمَ . وَلَوْ قَالَ غَصَبْتُ هَذَا الْعَبْدَ مِنْ زَيْدٍ وَغَصَبْتُهُ مِنْ عَمْرٍو فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَكُونُ كَالْمُقِرِّ بِغَصْبِهِ لِثَانٍ بَعْدَ أَوَّلٍ ، فَيُسَلَّمُ إِلَى الْأَوَّلِ ، وَهَلْ يَلْزَمُهُ غُرْمُ قِيمَتِهِ لِلثَّانِي أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَصِيرُ كَالْمُقِرِّ بِغَصْبِهِ مِنْهُمَا فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا ، وَلَا غُرْمَ .
فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ غَصَبْتُ زَيْدًا ، أَوْ غَصَبْتُ مِنْ زَيْدٍ ، وَلَمْ يَصِلْ هَذَا الْإِقْرَارَ بِشَيْءٍ فَلَيْسَ بِغَاصِبٍ لِشَيْءٍ يُوجِبُ غُرْمًا ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ غَصَبْتُ زَيْدًا يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ حَبْسَهُ مِنْ تَصَرُّفِهِ وَمَنْعَهُ مِنْ عَمِلِهِ ، وَقَوْلُهُ غَصَبْتُ مِنْ زَيْدٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَا لَا قِيمَةَ لَهُ مِنْ حَقِيرٍ تَافِهٍ ، فَلَوْ قَالَ غَصَبْتُ زَيْدًا كَلْبًا ، أَوْ جِلْدَ مَيْتَةٍ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَوْجُودًا وَجَبَ تَسْلِيمُهُ إِلَيْهِ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ فَائِتًا فَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ ، لِتَحْرِيمِ قِيمَتِهِ وَلَوْ قَالَ : غَصَبْتُ زَيْدًا خَمْرًا ، أَوْ قَالَ خِنْزِيرًا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ تَسْلِيمُهُ إِلَيْهِ ، وَأُرِيقَ الْخَمْرُ وَقُتِلَ الْخِنْزِيرُ لِتَحْرِيمِ الِانْتِفَاعِ بِهِمَا ، وَالْمَنْعِ مِنْ إِقْرَارِ الْيَدِ عَلَيْهِمَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ لَا يَجُوزُ إِقْرَارُ الْعَبْدِ فِي الْمَالِ إِلَّا بِأَنْ يَأْذَنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي التِّجَارَةِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَلَا يَجُوزُ إِقْرَارُ الْعَبْدِ فِي الْمَالِ إِلَّا بِأَنْ يَأْذَنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي التِّجَارَةِ فَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ سَيِّدُهُ فَمَتَى عُتِقَ وَمَلَكَ غُرِّمَ وَيَجُوزُ إِقْرَارُهُ فِي الْقَتْلِ ، وَالْقَطْعِ ، وَالْحَدِّ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ وَجُمْلَةُ إِقْرَارِ الْعَبْدِ أقسامه أَنَّهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : [ الْأَوَّلُ ] : قِسْمٌ يَتَعَلَّقُ بِبَدَنِهِ . [ الثَّانِي ] : قِسْمٌ يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ . [ الثَّالِثُ ] : وَقِسْمٌ يَتَعَلَّقُ بِبَدَنِهِ وَمَالِهِ .
فَأَمَّا الْمُتَعَلِّقُ بِبَدَنِهِ فَإِقْرَارُهُ بِقَتْلٍ يُوجِبُ قَوَدًا ، أَوْ زِنًا يُوجِبُ حَدًّا ، أَوْ قَذْفًا يُوجِبُ جَلْدًا وَذَلِكَ مَقْبُولٌ مِنْهُ وَمَأْخُوذٌ بِهِ ، وَلَا اعْتِبَارَ بِتَكْذِيبِ سَيِّدِهِ ، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَدَاوُدُ : إِنَّ إِقْرَارَهُ بِتَكْذِيبِ السَّيِّدِ مَرْدُودٌ ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ بَدَنَهُ مِلْكٌ لِسَيِّدِهِ فَكَانَ إِقْرَارُهُ فِي بَدَنِهِ إِقْرَارًا فِي مِلْكِ سَيِّدِهِ وَلِأَنَّهُ مَتْهُومٌ فِي إِقْرَارِهِ إِضْرَارًا بِسَيِّدِهِ فَكَانَ مَرْدُودًا كَإِقْرَارِهِ بِالْمَالِ وَهَذَا خَطَأٌ ، وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " مَنْ أَتَى مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ فَإِنَهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ حَدَّ اللَّهِ عَلَيْهِ " . فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي كُلِّ مُبْدٍ لِصَفْحَتِهِ مِنْ حُرٍّ وَعَبْدٍ ، وَلِأَنَّهُ أَقَرَّ بِحَقٍّ عَلَى بَدَنِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ إِقْرَارُهُ كَالصَّلَاةِ ، وَالصِّيَامِ وَلِأَنَّ مَا لَا يُقْبَلُ فِيهِ إِقْرَارُ السَّيِّدِ عَلَى الْعَبْدِ يُقْبَلُ فِيهِ إِقْرَارُ الْعَبْدِ عَلَى السَّيِّدِ كَالرِّدَّةِ طَرْدًا ، وَالْمَالِ عَكْسًا . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِإِقْرَارِهِ فِي مِلْكِ سَيِّدِهِ فَهُوَ أَنَّ السَّيِّدَ لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ مِنْهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ إِقْرَارَهُ فِيهِ لَا يَنْفُذُ وَلَوْ مَلَكَهُ لَنَفَذَ إِقْرَارُهُ فِيهِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالتُّهْمَةِ فَهُوَ أَنَّ التُّهْمَةَ مُنْتَفِيَةٌ عَنِ الْعَاقِلِ أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ إِضْرَارًا بِغَيْرِهِ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْمُتَعَلِّقُ بِالْمَالِ إقرار العبد فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مُدَايَنَةُ مُرَاضَاةٍ . وَالثَّانِي : جِنَايَةُ إِكْرَاهٍ . فَأَمَّا مُدَايِنَةَ الْمُرَاضَاةِ فَهُوَ كُلُّ حَقٍّ لَزِمَ بِاخْتِيَارِ مُسْتَحِقِّهِ وَمُعَامَلَةٍ مُسْتَوْجَبَةٍ كَالْأَثْمَانِ ، وَالْقُرُوضِ ، وَالْأُجُورِ ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ ، أَوْ غَيْرَ مَأْذُونٍ لَهُ . فَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ تَعَلَّقَ إِقْرَارُهُ بِمَا فِي يَدِهِ مِنْ أَمْوَالِ التِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ مُسَلَّطٌ عَلَى الْإِقْرَارِ بِمُوجِبِهَا ، فَإِنْ ضَاقَ مَا بِيَدِهِ عَنْ دَيْنِهِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ كَانَ الْفَاضِلُ عَنْهُ فِي ذِمَّتِهِ يُؤَدِّيهِ إِذَا عُتِقَ وَأَيْسَرَ بِهِ ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَكُونُ الْفَاضِلُ مِنْ دُيُونِ إِقْرَارِهِ وَمُعَامَلَاتِهِ مُتَعَلِّقًا بِرَقَبَتِهِ يُبَاعُ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِيَ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ إِذْنَ السَّيِّدِ مُوجِبٌ لِضَمَانِ دُيُونِهِ كَمَا يُوجِبُ إِذْنُهُ بِالنِّكَاحِ ضَمَانَ الصَّدَاقِ لِزَوْجَتِهِ . وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ كُلَّ حَقٍّ ثَبَتَ بِرِضَا مُسْتَحِقِّهِ كَانَ مَحَلُّهُ فِي الذِّمَّةِ دُونَ الرَّقَبَةِ قِيَاسًا عَلَى غَيْرِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوَى حَقُّ الْجِنَايَةِ مِنَ الْمَأْذُونِ لَهُ ، وَغَيْرِ الْمَأْذُونِ فِي تَعَلُّقِهِ بِالرَّقَبَةِ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُ الْمُدَايَنَةِ مِنَ الْمَأْذُونِ لَهُ ، وَغَيْرِ الْمَأْذُونِ فِي تَعَلُّقِهِ بِالذِّمَّةِ ، فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِالصَّدَاقِ فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَضْمَنُهُ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ السُّؤَالُ سَاقِطًا .
وَالثَّانِي : يَصِيرُ ضَامِنًا لَهُ وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يُوجِبُ عَلَى السَّيِّدِ تَزْوِيجَ عَبْدِهِ إِذَا احْتَاجَ وَسَأَلَ . فَعَلَى هَذَا الْفَرْقِ بَيْنَ الصَّدَاقِ ، وَالْمُدَايَنَةِ وُجُوبُ الْإِذْنِ لَهُ بِالتَّزْوِيجِ فَكَانَ مُلْتَزِمًا لِلصَّدَاقِ فِيهِ كَالنَّفَقَةِ ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِذْنُ لَهُ بِالتِّجَارَةِ فَلَمْ يُلْزَمْ ضَمَانَ مَا حَدَثَ مِنْ مُدَايَنَةٍ .
فَصْلٌ : وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ غَيْرَ مَأْذُونٍ لَهُ بِالتِّجَارَةِ إقرار العبد فَجَمِيعُ دُيُونِهِ مُتَعَلِّقَةٌ بِذِمَّتِهِ يُؤَدِّيهَا بَعْدَ عِتْقِهِ وَيَسَارِهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَدِّيَهَا مِنْ كَسْبِهِ ، وَلَا إِنْ مَلَّكَهُ السَّيِّدُ مَالًا أَنْ يَصْرِفَهُ فِي دُيُونِهِ سَوَاءٌ قُلْنَا بِأَنَّهُ يَمْلِكُ إِذَا مَلَّكَهُ أَوْ لَا ، وَسَوَاءٌ صَدَّقَهُ السَّيِّدُ عَلَى الدُّيُونِ أَمْ لَا ، وَيُمْنَعُ الْغُرَمَاءُ مِنْ مُطَالَبَتِهِ فِي حَالِ الرِّقِّ وَبَعْدَ عِتْقِهِ حَتَّى يُوسِرَ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا مَا وَجَبَ عَلَيْهِ عَنْ جِنَايَةٍ وَاسْتِكْرَاهٍ إقرار العبد بما وجب عليه عن جناية كَأُرُوشِ الْجِنَايَةِ وَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ وَدِيَاتِ الْخَطَأِ وَكُلُّ مَا وَجَبَ لِمُسْتَحَقِّهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ وَرِضًى فَلَا يَخْلُو حَالُ السَّيِّدِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ أَوْ يُكَذِّبَهُ - فَإِنَّ صَدَّقَهُ السَّيِّدُ عَلَى إِقْرَارِهِ ، أَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ بِوُجُوبِهِ وَلُزُومِهِ فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِرَقَبَتِهِ يُبَاعُ فِيهَا وَيَقْضِي وَإِنْ ضَاقَتِ الْقِيمَةُ عَنْ جِنَايَتِهِ فَفِي الْفَاضِلِ مِنْهَا وَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي أَرْشِ الْجِنَايَةِ هَلْ تَعَلَّقَ ابْتِدَاءً بِرَقَبَتِهِ ، أَوْ تَعَلَّقَ بِذِمَّتِهِ ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى رَقَبَتِهِ ؟ فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ : أَنَّهَا وَجَبَتِ ابْتِدَاءً فِي رَقَبَتِهِ ، فَعَلَى هَذَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ بَعْدَ عِتْقِهِ مِنْ بَقِيَّةِ جِنَايَتِهِ وَيَكُونُ الْبَاقِي مِنْهَا هَدْرًا . وَالثَّانِي : أَنَّهَا وَجَبَتِ ابْتِدَاءً فِي ذِمَّتِهِ ثُمَّ انْتَقَلَتْ إِلَى رَقَبَتِهِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْفَاضِلُ عَنْ قِيمَةِ رَقَبَتِهِ ثَابِتًا فِي ذِمَّتِهِ يُؤَدِّيهِ بَعْدَ عِتْقِهِ وَيَسَارِهِ . فَأَمَّا إِنْ كَذَّبَهُ السَّيِّدُ عَلَى إِقْرَارِهِ بِالْجِنَايَةِ ، وَالِاسْتِهْلَاكِ لَمْ يَتَعَلَّقِ الْإِقْرَارُ بِرَقَبَتِهِ وَكَانَ مُتَعَلِّقًا بِذِمَّتِهِ يُؤَدِّيهِ بَعْدَ عِتْقِهِ وَيَسَارِهِ وَسَوَاءٌ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ أَمْ لَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ قَضَاهُ مِمَّا فِي يَدَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِذْنِ مُطْلَقُ التَّصَرُّفِ كَالْحُرِّ . وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ لَا يَتَضَمَّنُ إِذْنًا بِغَيْرِ التِّجَارَةِ فَاسْتَوَى حَالُ جِنَايَتِهِ مَعَ وُجُودِ الْإِذْنِ وَعَدَمِهِ وَلِأَنَّ أَرْشَ الِاقْتِصَاصِ مِنَ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ ، وَغَيْرِ الْمَأْذُونِ لَهُ عَلَى
سَوَاءٍ فِي أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَالِ التِّجَارَةِ فَكَذَلِكَ أَرْشُ كُلِّ جِنَايَةٍ ، وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ حُقُوقِ التِّجَارَةِ لَمْ يُجِزْ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَالِ التِّجَارَةِ كَأَرْشِ الْبَكَارَةِ ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُتَعَلِّقُ بِالْمَالِ ، وَالْبَدَنِ ، إقرار العبد فَالسَّرِقَةُ فَإِنْ لَمْ يَجِبْ فِيهَا الْقَطْعُ لِعَدَمِ الْحِرْزِ ، أَوْ لِنَقْصِ النِّصَابِ كَانَ كَالْمَالِ الْمُسْتَحَقِّ عَنْ جِنَايَةٍ وَاسْتِهْلَاكٍ إِنْ صَدَّقَهُ السَّيِّدُ تَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ وَإِنْ كَذَّبَهُ السَّيِّدُ كَانَ فِي ذِمَّتِهِ ، وَلَا يَنْفُذُ إِقْرَارُهُ عَلَى السَّيِّدِ مَعَ التَّكْذِيبِ . وَإِنْ وَجَبَ فِيهَا الْقَطْعُ بِكَمَالِ النِّصَابِ وَوُجُودِ الْحِرْزِ كَانَ إِقْرَارُهُ نَافِذًا عَلَى يَدِهِ فِي الْقَطْعِ ، وَلَا يُرَاعَى فِيهِ تَصْدِيقُ السَّيِّدِ لِتَعَلُّقِهِ بِبَدَنِهِ . فَأَمَّا الْمَالُ فَإِنْ صَدَّقَهُ السَّيِّدُ فِيهِ تَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ ، وَإِنْ كَذَّبَهُ السَّيِّدُ ، فَعَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُقْبَلُ فِيهِ وَيَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ لَا يَنْفُذُ إِقْرَارُهُ بِهِ إِلَّا بِتَصْدِيقِ السَّيِّدِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ مَقْبُولُ الْإِقْرَارِ فِيهِ وَيَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ فَيُبَاعُ لِأَدَائِهِ ؛ لِأَنَّ اقْتِرَانَهُ بِالْقَطْعِ يَنْفِي عَنْهُ التُّهْمَةَ وَلِأَنَّهُ إِقْرَارٌ وَاحِدٌ قَدْ حُكِمَ بِبَعْضِهِ فَحُكِمَ بِبَاقِيهِ فَلَوْ كَانَ مَا أَقَرَّ بِسَرِقَتِهِ عَيْنًا فِي يَدِهِ فَإِنْ لَمْ يُقْبَلْ إِقْرَارُهُ فِي الْمُسْتَهْلَكِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يُقْبَلَ إِقْرَارُهُ فِي الْعَيْنِ ، وَإِنْ قُبِلَ إِقْرَارُهُ فِي الْمُسْتَهْلَكِ فَفِي قَبُولِ إِقْرَارِهِ فِي الْعَيْنِ الَّتِي بِيَدِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُقْبَلُ أَيْضًا كَالْمُسْتَهْلَكِ . وَالثَّانِي : لَا يُقْبَلُ ؛ لِأَنَّ يَدَ الْعَبْدِ يَدٌ لِسَيِّدِهِ فَصَارَ إِقْرَارُهُ بِتِلْكَ إِقْرَارًا فِيمَا بِيَدِ سَيِّدِهِ فَرُدَّ ، وَلَمْ يُقْبَلْ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَمَقْبُولُ الْإِقْرَارِ فِي الْمَالِ ، وَالْبَدَنِ ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ تَصْدِيقُ السَّيِّدِ وَيَتَعَلَّقُ مَا أَقَرَّ بِهِ بِالْمَالِ الَّذِي فِي يَدِهِ إِلَّا أَنْ يَعْجِزَ ، وَلَا مَالَ مَعَهُ فَتَكُونُ دُيُونُ مُعَامَلَاتِهِ فِي ذِمَّتِهِ يُؤَدِّيهَا بَعْدَ عِتْقِهِ وَغُرْمُ جِنَايَتِهِ فِي رَقَبَتِهِ يُؤَدَّى مِنْ ثَمَنِهِ . وَأَمَّا الْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ إقرارهما فَهُمَا فِي الْإِقْرَارِ كَالْعَبْدِ . وَأَمَّا الَّذِي نِصْفُهُ حُرٌّ وَنِصْفُهُ مَمْلُوكٌ فِي نِصْفِهِ الْحُرِّ نَافِذُ الْإِقْرَارِ كَالْحُرِّ وَفِي نِصْفِهِ الْمَرْقُوقِ كَالْعَبْدِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَلَوْ قَالَ رَجُلٌ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ فَأَتَاهُ بِأَلْفٍ فَقَالَ هِيَ هَذِهِ الَّتِي أَقَرَرْتُ لَكَ بِهَا كَانَتْ لَكَ عِنْدِي وَدِيعَةً فَقَالَ بَلْ هَذِهِ وَدِيعَةٌ وَتِلْكَ أُخْرَى فَالْقَوْلُ
قَوْلُ الْمُقِرِّ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ مَنْ أَوْدَعَ شَيْئًا فَجَائِزٌ أَنْ يَقُولَ لِفُلَانٍ عِنْدِي وَلِفُلَانٍ عَلَيَّ ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَهْلِكْ ، وَقَدْ يُودَعُ فَيَتَعَدَّى فَيَكُونُ عَلَيْهِ دَيْنًا فَلَا أُلْزِمُهُ إِلَّا بِالْيَقِينِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا ابْتَدَأَ الْمُقِرُّ فَقَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ ثُمَّ أَتَاهُ بِهَا وَقَالَ : هَذِهِ الْأَلْفُ الَّتِي كُنْتُ أَقْرَرْتُ بِهَا كَانَتْ لَكَ عِنْدِي وَدِيعَةً فَأَنْكَرَهُ الْمُقَرُّ لَهُ وَقَالَ : هَذِهِ لَعَمْرِي وَدِيعَتِي فِي يَدِكَ وَتِلْكَ أَلْفٌ أُخْرَى دَيْنٌ لِي فِي ذِمَّتِكَ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ مَعَ يَمِينِهِ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقَرِّ لَهُ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : عَلَيَّ مُسْتَعْمَلٌ فِي الدُّيُونِ دُونَ الْوَدَائِعِ فَصَارَ ظَاهِرَ الْإِقْرَارِ يُوجِبُ تَصْدِيقَ الْمُقَرِّ لَهُ . وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ حُرُوفَ الصِّفَاتِ تَقُومُ بَعْضُهَا مَقَامَ بَعْضٍ فَجَازَ أَنْ يَقُولَ عَلَيَّ بِمَعْنَى عِنْدِي . وَالثَّانِي : أَنَّ مَا احْتَمَلَهُ الْإِقْرَارُ فَهُوَ مَقْبُولٌ مِنَ الْمُقِرِّ ، وَمَا قَالَهُ الْمُقِرُّ هَاهُنَا مُحْتَمَلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا الشَّافِعِيُّ . أَحَدُهُمَا : أَنَّ قَوْلَهُ : عَلَيَّ يَعْنِي رَدَّهَا . وَالثَّانِي : عَلَيَّ ؛ لِأَنَّنِي تَعَدَّيْتُ فِيهَا فَضَمِنْتُهَا . وَلَكِنْ لَوْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ ، ثُمَّ قَالَ : أَرَدْتُ بِهَا وَدِيعَةً قَدْ تَلِفَتْ لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ مَا تَلِفَ لَا يَكُونُ عِنْدَهُ فَيُحْتَمَلُ عَلَيَّ أَنَّهُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ عَلَيَّ . وَلَا يُمْكِنُ رَدُّهَا فَيُحْمَلُ عَلَى مَعْنَى الرَّدِّ ، وَلَا تَصِيرُ مَضْمُونَةً بِغَيْرِ التَّعَدِّي فَلَمْ يَكُنْ لِسُقُوطِ ضَمَانِهَا وَجْهٌ فَلَزِمَهُ الْغُرْمُ .
فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ : لِفُلَانٍ فِي ذِمَّتِي أَلْفٌ ، ثُمَّ أَحْضَرَ أَلْفًا وَقَالَ : هَذِهِ الْأَلْفُ الَّتِي أَقْرَرْتُ لَهُ بِهَا كَانَتْ لَهُ عِنْدِي وَدِيعَةً ، فَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ : بَلْ هَذِهِ الْوَدِيعَةُ وَتِلْكَ دَيْنٌ غَيْرُهَا ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُقِرِّ مَعَ يَمِينِهِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ غَيْرُهَا لِاحْتِمَالِ قَوْلِهِ فِي ذِمَّتِي لِتَعْدِيَةٍ فِيهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُقَرِّ لَهُ ، وَلَهُ مُطَالَبَةُ الْمُقِرِّ بِأَلْفٍ أُخْرَى ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَشَارَ إِلَيْهَا أَنَّهَا وَدِيعَةٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ تُضَافَ إِلَى ذِمَّتِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَعْيَانَ لَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَمِ بَعْدَ التَّلَفِ فَتَنَافَيَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَلَوْ قَالَ لَهُ عِنْدِي أَلْفُ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً ، أَوْ مُضَارَبَةً دَيْنًا كَانَتْ دَيْنًا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَعَدَّى فِيهَا فَتَكُونُ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ " .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ؛ لِأَنَّ الْوَدِيعَةَ ، وَالْمُضَارَبَةَ وَإِنْ كَانَ " أَصْلُهَا سُقُوطَ الضَّمَانِ عَنْهَا فَقَدْ يَقَعُ التَّعَدِّي فِيهِمَا فَيَجِبُ ضَمَانُهُمَا ، وَمَا وَجَبَ ضَمَانُهُ بَعْدَ الْأَمَانَةِ جَازَ أَنْ يَصِيرَ دَيْنًا بِالِاسْتِهْلَاكِ فَلَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ وَدِيعَةً دَيْنًا مُتَنَافِيًا ، وَلَا مُمْتَنِعًا ، فَصَارَ مُقِرًّا بِأَلْفٍ هِيَ دَيْنٌ مَضْمُونٌ فِي ذِمَّتِهِ عَنْ وَدِيعَةٍ ، أَوْ مُضَارَبَةٍ ، وَلَا وَجْهَ لِإِلْغَاءِ بَعْضِ الْعِرَاقِيِّينَ صِلَةَ الْوَدِيعَةِ بِالدَّيْنِ وَإِثْبَاتُ حُكْمِ الْوَدِيعَةِ فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ لِإِمْكَانِ اجْتِمَاعِهِمَا بِمَا بَيَّنَّا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَلَوْ قَالَ دَفَعَهَا إِلَيَّ أَمَانَةً عَلَيَّ أَنِّي ضَامِنٌ لَهَا لَمْ يَكُنْ بِشَرْطِ ضَمَانِ مَا أَصْلُهُ أَمَانَةٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : كَانَ عَقْدُ كُلِّ أَمَانَةٍ كَالْوَدِيعَةِ ، وَالْمُضَارَبَةِ لَمْ يَصِرْ مَضْمُونًا بِاشْتِرَاطِ الضَّمَانِ وَكُلُّ عَقْدٍ كَانَ مَضْمُونًا كَالْعَوَارِيِّ لَمْ يَسْقُطْ ضَمَانُهُ بِاشْتِرَاطِ سُقُوطِهِ ؛ لِأَنَّ الْعُقُودَ مُعْتَبَرَةٌ بِمَا اسْتَقَرَّ مِنْ أَحْكَامِ أُصُولِهَا ، وَلَا يُغَيَّرُ الشَّرْطُ الْأَصْلُ عَنْ حُكْمِهِ فَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ أَنَّ فُلَانًا دَفْعَ إِلَيْهِ وَدِيعَةً عَلَى أَنَّهُ ضَامِنٌ لَهَا فَهِيَ أَمَانَةٌ لَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُهَا .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ هِيَ وَدِيعَةٌ دَفَعَهَا إِلَيَّ بِشَرْطِ الضَّمَانِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا تَكُونُ مَضْمُونَةً ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَصَلَ الْأَلْفَ بِذِكْرِ الْوَدِيعَةِ فَلَمْ تَصِرْ بِالشَّرْطِ مَضْمُونَةً . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : تَكُونُ مَضْمُونَةً لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ إِقْرَارِهِ بِقَوْلِهِ : لَهُ عَلَيَّ ثُمَّ قَوْلِهِ مِنْ بَعْدُ : دَفَعَهَا إِلَيَّ بِشَرْطِ الضَّمَانِ ظَاهِرُهُ شَرْطُ جَوَازِ التَّصَرُّفِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَلَوْ قَالَ لَهُ فِي هَذَا الْعَبْدِ أَلْفُ دِرْهَمٍ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ فَإِنْ قَالَ نَقَدَ فِيهِ أَلْفًا قِيلَ كَمْ لَكَ مِنْهُ ؟ فَمَا قَالَ إِنَهُ لَهُ مِنْهُ اشْتَرَاهُ بِهِ فَهُوَ كَمَا قَالَ مَعَ يَمِينِهِ ، وَلَا أَنْظُرُ إِلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ قَلَّتْ ، أَوْ كَثُرَتْ ؛ لِأَنَّهُمَا قَدْ يُغْبَنَانِ وَيَغْبِنَانِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا قَالَ : لِزَيْدٍ فِي هَذَا الْعَبْدِ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَهُوَ إِقْرَارٌ مُجْمَلٌ لَا يُوقَفُ عَلَى مُرَادِهِ إِلَّا بِبَيَانِهِ لِاحْتِمَالِهِ وُجُوهًا فَيُسْأَلُ عَمَّا أَرَادَ بِهِ فَإِذَا قَالَ أَرَدْتُ أَنَّهُ نَقَدَ فِي ثَمَنِهِ أَلْفًا ، فَهَذَا خَبَرٌ أَنَّهُ مَلَكَ مِنْهُ بِالِابْتِيَاعِ شَيْئًا أَبْهَمَهُ ، وَلَمْ يَذْكُرْ قَدْرَهُ . فَيُقَالُ لَهُ : قَدْ صَارَ إِقْرَارُكَ مَعْلُومَ الْجِهَةِ مَجْهُولَ الْقَدْرِ فَهَلْ شَرَيْتُمَاهُ صَفْقَةً ، أَوْ صَفْقَتَيْنِ ؟ فَإِنْ قَالَ : شَرَيْنَاهُ صَفْقَةً ، قِيلَ لَهُ : فَكَمْ نَقَدْتَ فِي ثَمَنِهِ ؟ فَإِنْ قَالَ : أَلْفًا ، كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ؛ لِأَنَّ ثَمَنَهُ أَلْفَانِ إِحْدَاهُمَا لَهُ . وَإِنْ قَالَ نَقَدْتُ فِيهِ أَلْفَيْنِ . كَانَ إِقْرَارًا بِثُلُثِهِ وَإِنْ قَالَ : نَقَدْتُ فِيهِ ثَلَاثَةَ آلَافٍ كَانَ إِقْرَارًا بِرُبْعِهِ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : وَلَا أَنْظُرُ إِلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ رَدًّا عَلَى مَالِكٍ حِينَ زَعَمَ أَنَّهُ إِذَا قَالَ : أَرَدْتُ أَنَّهُ نَقَدَ فِي ثَمَنِهِ أَلْفًا ، لَمْ أَسْأَلْهُ وَقَيَّمْتُ الْعَبْدَ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَلْفًا كَانَ لِلْمُقَرِّ لَهُ ، وَإِنَّ كَانَتْ قِيمَتُهُ عَشْرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ كَانَ لَهُ عَشْرَةٌ ، فَرَدَّ عَلَيْهِ هَذَا الْقَوْلَ فِي اعْتِبَارِ قِيمَتِهِ بِمَا عَلَّلَ بِهِ مِنْ أَنَّهُمَا قَدْ يُغْبَنَانِ وَيَغْبِنَانِ ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ قَدْ يَكُونُ تَارَةً أَزْيَدَ مِنَ الْقِيمَةِ وَتَارَةً أَنْقَصَ فَلَمْ يَجُزْ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَنْ تُعْتَبَرَ الْقِيمَةُ . وَإِنْ قَالَ : اشْتَرَيْنَاهُ صَفْقَتَيْنِ سُئِلَ عَنْ قَدْرِ حِصَّتِهِ ، وَلَمْ يُسْأَلْ عَنْ قَدْرِ مَا نَقَدَ فِي ثَمَنِهِ ؛ لِأَنَّ ثَمَنَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الصَّفْقَتَيْنِ قَدْ يَخْتَلِفُ وَلَيْسَ كَالصَّفْقَةِ الْوَاحِدَةِ فَإِذَا بَيَّنَ لِنَفْسِهِ قَدْرًا مِنْهُ مِنْ ثُلُثٍ ، أَوْ نِصْفٍ ، أَوْ أَكْثَرَ ، أَوْ أَقَلَّ كَانَ الْبَاقِي بَعْدَهُ لِلْمُقَرِّ لَهُ وَصَارَ هُوَ الْقَدْرُ الْمُقَرُّ بِهِ .
فَصْلٌ : وَإِنْ قَالَ : أَرَدْتُ بِقَوْلِي لَهُ فِي هَذَا الْعَبْدِ أَلْفٌ أَنَّ الْعَبْدَ جَنَى عَلَيْهِ جِنَايَةً أَرْشُهَا أَلْفٌ قُبِلَ مِنْهُ مَعَ يَمِينِهِ لِاحْتِمَالِ إِقْرَارِهِ وَأَنَّ جِنَايَةَ الْعَبْدِ فِي رَقَبَتِهِ فَيُبَاعُ مِنْهُ بِقَدْرِهَا إِلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ السَّيِّدُ مِنْهَا ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ تَصْدِيقُ الْعَبْدِ .
فَصْلٌ : وَإِنْ قَالَ : أَرَدْتُ بِذَلِكَ أَنَّهُ وَصَّى لَهُ بِأَلْفٍ مِنْ ثَمَنِهِ قُبِلَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِشَيْءٍ مِنْ ثَمَنِهِ مُتَعَلِّقَةٌ بِرَقَبَتِهِ فَصَارَ ذَلِكَ دَاخِلًا فِي احْتِمَالِ إِقْرَارِهِ وَيُبَاعُ الْعَبْدُ فَيُدْفَعُ إِلَيْهِ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِهِ ، فَإِنْ دُفِعَتْ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ ثَمَنِهِ لَمْ يَجُزْ بِخِلَافِ الْجِنَايَةِ الَّتِي يَجُوزُ أَنْ يَفْدِيَ مِنْهَا ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ قَدْ يَتَعَيَّنُ الْمِلْكُ بِهَا ، وَلَا يَتَعَيَّنُ فِي الْجِنَايَةِ ، فَإِنْ نَقَصَ ثَمَنُ الْعَبْدِ عَنْ أَلْفٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ ثَمَنِهِ وَإِنْ زَادَ فَلَا حَقَّ لَهُ فِي الزِّيَادَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : وَإِنْ قَالَ : أَرَدْتُ بِهِ أَنَّ الْعَبْدَ مَرْهُونٌ عِنْدَهُ بِأَلْفٍ ، وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَدْخُلُ ذَلِكَ فِي احْتِمَالِ إِقْرَارِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَدْخُلُ فِي الِاحْتِمَالِ وَيُقْبَلُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ لِلْأَلْفِ تَعَلُّقًا بِرَقَبَتِهِ فِي اسْتِيفَائِهَا مِنْهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَدْخُلُ فِي الِاحْتِمَالِ ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ فِي الْبَيَانِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الرَّهْنِ فِي الذِّمَّةِ وَهُوَ أَخْبَرَ أَنَّهُ فِي الْعَبْدِ . وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الرَّهْنِ مُتَعَلِّقٌ بِالذِّمَّةِ ، وَالرَّهْنِ فَكَانَ أَوْكَدَ مَنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ .
فَصْلٌ : وَلَا فَرْقَ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْمَسَائِلِ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ : لَهُ فِي هَذَا الْعَبْدِ أَلْفٌ ، وَبَيْنَ أَنْ يَقُولَ : لَهُ مِنْ هَذَا الْعَبْدِ أَلْفٌ ؛ لِأَنَّهُمَا حَرْفَا صِفَةٍ يَقُومُ أَحَدُهُمَا مَقَامَ الْآخَرِ وَلَيْسَتِ الْأَلْفُ جُزْءًا مِنَ الْعَبْدِ ، وَإِنَّمَا يُتَوَصَّلُ إِلَيْهَا مِنَ الْعَبْدِ فَاسْتَوَى الْحُكْمُ فِي قَوْلِهِ : " مِنْ " وَ " فِي " ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ : لَهُ مِنْ هَذَا الْعَبْدِ بِقِيمَةِ أَلْفٍ ، فَهَذَا إِقْرَارٌ بِمِلْكِ جُزْءٍ مِنَ الْعَبْدِ قَدْرُهُ بِقِيمَةِ أَلْفٍ ، فَهَلْ يَصِيرُ الْإِقْرَارُ مُقَدَّرًا بِالْقِيمَةِ ، أَوْ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى بَيَانِهِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدِي ، أَنَّهُ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى بَيَانِهِ ، وَلَا يَصِيرُ مُقَدَّرًا بِالْقِيمَةِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقِيمَةَ قَدْ تَخْتَلِفُ ، وَلَا تَقِفُ فِي الْأَحْوَالِ عَلَى حَدٍّ ، وَلَا النَّاسُ فِيهَا مُجْمِعُونَ عَلَى قَدْرٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَدَّرَ الْإِقْرَارُ بِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَسْتَأْنِفَ تَمَلُّكَ شَيْءٍ بِقِيمَةٍ مُطْلَقَةٍ . فَلِهَذَيْنِ مَا رُجِعَ إِلَى بَيَانِهِ فِي الْقَدْرِ فَإِنْ بَيَّنَ قَدْرًا يَتَقَيَّمُ بِأَلْفٍ ، أَوْ أَقَلَّ قُبِلَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُقَدَّرُ إِقْرَارُهُ بِالْقِيمَةِ ، ذَكَرَهُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرِيُّ وَأَنَّ الْعَبْدَ يُقَيَّمُ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ مَلَكَ مِنْهُ بِقِسْطِ الْأَلْفِ وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَلْفًا ذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَصِيرُ الْمُقَرُّ لَهُ مَالِكًا لِجَمِيعِ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ مَنْ يُوجِبُ التَّبْعِيضَ فَلَا بُدَّ مِنْ إِخْرَاجِ بَعْضِهِ مِنْ إِقْرَارِهِ وَزَعَمَ أَنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَهُ أَنْ يَكُونَ إِقْرَارُهُ بِجَمِيعِ الْعَبْدِ اسْتِشْهَادًا بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ مَنْ قَالَ : لِفُلَانٍ مِنْ هَذَا الْمَالِ أَلْفٌ وَكَانَ الْمَالُ كُلُّهُ أَلْفًا أَنَّهُ إِقْرَارٌ بِجَمِيعِهِ ، وَأَنَّ " مِنْ " قَدْ يَكُونُ لِلتَّبْعِيضِ تَارَةً وَلِلتَّمْيِيزِ أُخْرَى . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ [ الْحَجِّ : 30 ] أَيِ : اجْتَنِبِ الْأَوْثَانَ الرِّجْسَ .
فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ : لِفُلَانٍ فِي هَذَا الْعَبْدِ شَرِكَةٌ رَجَعَ فِي قَدْرِ الشَّرِكَةِ إِلَى بَيَانِهِ فَمَا بَيَّنَهُ مِنْ سَهْمٍ وَإِنْ قَلَّ قُبِلَ مِنْهُ . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا أَقْبَلُ مِنْهُ أَقَلَّ مِنَ الثُّلُثِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ [ النِّسَاءِ : 12 ] وَكَانَ الثُّلُثُ فِي الشَّرْعِ حَدًّا فِي الشَّرِكَةِ . وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الثُّلُثَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ قَدْرًا لِحَقِّ الْمُشْتَرِكِ فِيهِ ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ قَدْرًا لِلسَّهْمِ الْمُشَارِكِ بِهِ ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ هَذَا حَدًّا لِأَقَلِّ الشَّرِكَةِ لَمَنَعَ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ أَنْ تَصِحَّ الشَّرِكَةُ فِيهِ وَلَصَارَ حَدًّا لِأَكْثَرِ مَا تَصِحُّ الشَّرِكَةُ بِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَلَوْ قَالَ لَهُ فِي مِيرَاثِ أَبِي أَلْفُ دِرْهَمٍ كَانَ إِقْرَارًا عَلَى أَبِيهِ بِدَيْنٍ وَلَوْ قَالَ فِي مِيرَاثِي مِنْ أَبِي كَانَتْ هِبَةً إِلَّا أَنْ تُرِيدَ إِقْرَارًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ وَهُمَا مَسْأَلَتَانِ يَخْتَلِفُ حُكْمُهُمَا ، وَالْجَوَابُ مِنْهُمَا . فَالْمَسْأَلَةُ الْأُولَى مِنْهُمَا أَنْ يَقُولَ : لَهُ فِي مِيرَاثِ أَبِي أَلْفُ دِرْهَمٍ فَهَذَا إِقْرَارٌ عَلَى أَبِيهِ بِدَيْنٍ فِي تَرِكَتِهِ . وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَقُولَ : لَهُ فِي مِيرَاثِي مِنْ أَبِي أَلْفُ دِرْهَمٍ فَهَذِهِ هِبَةٌ لَمْ تُقْبَضْ فَتَكُونُ غَيْرَ لَازِمَةٍ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ إِقْرَارًا بِدَيْنٍ .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ حَيْثُ كَانَ فِي الْأُولَى مُقِرًّا بِدَيْنٍ وَاجِبٍ وَفِي الثَّانِيَةِ بِهِبَةٍ غَيْرِ لَازِمَةٍ أَنَّهُ قَالَ فِي الْأُولَى : فِي مِيرَاثِ أَبِي فَأَضَافَ الْمِيرَاثَ إِلَى الْمُقَرِّ لَهُ ؛ لِأَنَّ مِلْكَ أَبِيهِ قَدْ زَالَ عَنِ الْمَالِ بِمَوْتِهِ ، وَلَا يَصْدُرُ مِيرَاثُ الْأَبِ لَهُ إِلَّا لِدَيْنٍ يَتَعَلَّقُ فَلِذَلِكَ صَارَ إِقْرَارًا بِدَيْنٍ . وَفِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ قَالَ : فِي مِيرَاثِي مِنْ أَبِي فَأَضَافَ مِلْكَ الْأَبِ إِلَى نَفْسِهِ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ مِيرَاثَ أَبِيهِ إِلَّا بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ ، وَالْوَصَايَا فَانْصَرَفَ الْإِقْرَارُ عَنِ الدَّيْنِ إِلَى الْهِبَةِ لِاحْتِمَالِهَا . وَمِثَالُ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ أَنْ يَقُولَ : لَهُ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ نِصْفُهَا وَمِنْ دَارِي نِصْفُهَا ؛ لِأَنَّ هَذَا كَانَ إِقْرَارُهُ هَذَا هِبَةً غَيْرَ لَازِمَةٍ لِلْفَرْقِ الْمَذْكُورِ بَيْنَهُمَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : " وَلَوْ قَالَ لَهُ عِنْدِي أَلْفُ دِرْهَمٍ عَارِيَّةٍ كَانَتْ مَضْمُونَةً " . وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَجُمْلَتُهُ أَنَّ عَارِيَّةَ الدَّرَاهِمِ جَائِزَةً وَفِي جَوَازِ إِجَارَتِهَا وَجْهَانِ لِفَرْقٍ بَيْنَهُمَا نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ ، فَإِذَا قَالَ : لَهُ عِنْدِي أَلْفُ دِرْهَمٍ عَارِيَّةً كَانَتْ مَضْمُونَةً ؛ لِأَنَّ الْعَارِيَّةَ مَضْمُونَةٌ فَاسْتَوَى حُكْمُ قَوْلِهِ : عَارِيَّةٌ مَضْمُونَةٌ كَمَا يَسْتَوِي حُكْمُ قَوْلِهِ : مَغْصُوبَةٌ وَمَضْمُونَةٌ . وَهَكَذَا لَوْ قَالَ لَهُ : عِنْدِي أَلْفُ دِرْهَمٍ قَرْضًا كَانَتْ مَضْمُونَةً ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ مَضْمُونٌ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ لَوْ أَقَرَّ فِي عَبْدٍ فِي يَدِهِ لِفُلَانٍ وَأَقَرَّ الْعَبْدُ لِغَيْرِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَلَوْ أَقَرَّ فِي عَبْدٍ فِي يَدِهِ لِفُلَانٍ وَأَقَرَّ الْعَبْدُ لِغَيْرِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا حُكِمَ بِرِقِّ الْعَبْدِ فِي يَدِ رَجُلٍ ، وَالْحُكْمُ بِرِقِّهِ يَكُونُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أي برق العبد أَحَدُهَا : الْبَيِّنَةُ الْقَائِمَةُ بِرِقِّهِ من الأمور التي يحكم بها برق العبد مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إِمَّا بِسَبْيٍ فَلَا يُقْبَلُ فِيهِ إِلَّا شَاهِدَانِ . وَإِمَّا لِوِلَادَتِهِ مِنْ أَمَتِهِ عَنْ إِصَابَةِ زَوْجٍ ، أَوْ سِفَاحٍ فَيُقْبَلُ فِيهِ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ يَشْهَدْنَ بِوِلَادَتِهِ . وَالثَّانِي : الْيَدُ وَهُوَ أَنْ يَلْتَقِطَ صَغِيرًا مَجْهُولَ النَّسَبِ فَيَدَّعِيهِ الْمُلْتَقِطُ عَبْدًا فَيَحْكُمُ لَهُ بِرِقِّهِ من الأمور التي يحكم بها برق العبد فَإِذَا تَصَرَّفَ فِيهِ تَصَرُّفَ الِاسْتِرْقَاقِ فِي اسْتِخْدَامِهِ ثُمَّ بَلَغَ وَأَنْكَرَ الرِّقَّ لَمْ يُؤَثِّرْ إِنْكَارُهُ بَعْدَ الْحُكْمِ بِرِقِّهِ . وَالثَّالِثُ : الْإِقْرَارُ أَنْ يَدَّعِيَ رِقَّهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَيُصَدِّقُ الْمُدَّعِي عَلَى اسْتِرْقَاقِهِ فَيَصِيرُ عَبْدًا بِإِقْرَارِهِ من الأمور التي يحكم بها برق العبد بِشَرْطَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مَجْهُولَ النَّسَبِ فَإِنْ عُرِفَ لَهُ نَسَبٌ يُوجِبُ الْحُرِّيَّةَ لَمْ يُقْبَلْ إِقْرَارُهُ .