كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي
فِي الْإِقَامَةِ الْإِفْرَادُ إِلَّا فِي قَوْلِهِ : " قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ " . وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ : كُلُّ هَذَا مِنَ الِاخْتِلَافِ الْمُبَاحِ وَلَيْسَ بَعْضُهُ بِأَوْلَى مِنْ بَعْضٍ ، وَهَذَا قَوْلٌ مُطْرَحٌ بِإِجْمَاعِ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي أَفْضَلِهِ وَأَوَّلِهِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فِي الْقَدِيمِ يَزِيدُ فِي أَذَانِ الصُّبْحِ التَّثْوِيبَ ، وَهُوَ " الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ " مَرَّتَيْنِ ، وَرَوَاهُ عَنْ بِلَالٍ مُؤَذِّنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ عَلِيٍّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَكَرِهَهُ فِي الْجَدِيدِ لِأَنَّ أَبَا مَحْذُورَةَ لَمْ يَحْكِهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : وَقِيَاسُ قَوْلَيْهِ أَنَّ الزِّيَادَةَ أَوْلَى بِهِ فِي الْأَخْبَارِ كَمَا أَخَذَ فِي التَّشَهُّدِ بِالزِّيَادَةِ ، وَفِي دُخُولِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْتَ بِزِيَادَةِ أَنَّهُ صَلَى فِيهِ وَتَرَكَ مَنْ قَالَ لَمْ يَفْعَلْ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا التَّثْوِيبُ معناه فَهُوَ [ قَوْلُ الْمُؤَذِّنِ ] ، بَعْدَ قَوْلِهِ : " حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ " ، " الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ " . سُمِّيَ تَثْوِيبًا مِنْ قَوْلِهِمْ ثَابَ فُلَانٌ إِلَى كَذَا أَيْ : رَجَعَ إِلَيْهِ لِأَنَّ الْمُؤَذِّنَ قَدْ رَجَعَ إِلَى دُعَاءِ النَّاسِ بَعْدَ قَوْلِهِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا [ الْبَقَرَةِ : ] ، أَيْ : رَجْعًا لَهُمْ . فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ ، إِلَى أَنَّ التَّثْوِيبَ سُنَّةٌ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ ، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ : لَيْسَ بِسُنَّةٍ ، لِأَنَّ أَبَا مَحْذُورَةَ لَمْ يَحْكِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ دَخَلَ مَسْجِدًا فَسَمِعَ تَثْوِيبَ الْمُؤَذِّنِ ، فَقَالَ لِمَنْ مَعَهُ : أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ ، وَاعْتِبَارًا بِهَذِهِ الصَّلَوَاتِ ، وَمَذْهَبُهُ فِي الْقَدِيمِ أَصَحُّ ، لِأَنَّ مِنْ قَوْلِهِ إِنَّ مَا ثَبَتَتِ الرِّوَايَةُ بِهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ أَوَّلُ رَاجِعٍ إِلَيْهِ وَآخِذٌ بِهِ ، وَقَدْ ثَبَتَتِ الرِّوَايَةُ بِالتَّثْوِيبِ مِنْ جِهَاتٍ : مِنْهَا رِوَايَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : جَاءَ بِلَالٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤْذِنُهُ بِصَلَاةِ الصُّبْحِ ، فَقِيلَ هُوَ نَائِمٌ . فَقَالَ : الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ ، وَعَادَ يُؤَذِّنُ وَزَادَ فِي أَذَانِهِ : الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا الَّذِي زِدْتَ فِي أَذَانِكَ . قَالَ : الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ ظَنَنْتُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ ثَقُلْتَ عَنِ الصَّلَاةِ . قَالَ : " زِدْهَا فِي أَذَانِكَ وَمِنْهَا رِوَايَةُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مَحْذُورَةَ ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي مَحْذُورَةَ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلْقَى عَلَيْهِ الْأَذَانَ قَالَ : " تَقُولُ فِي الْفَجْرِ الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ
وَمِنْهَا رِوَايَةُ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ قَالَ : " أُمِرَ بِلَالٌ أَنْ يُثَوِّبَ فِي أَذَانِ الصُّبْحِ وَلَا يُثَوِّبَ فِي غَيْرِهِ . وَمِنْهَا رِوَايَةُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ بِلَالٍ أَنَّهُ قَالَ : أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أُثَوِّبَ فِي أَذَانِ الصُّبْحِ وَنَهَانِي أَنْ أُثَوِّبَ فِي غَيْرِهِ . فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ سُنَّةُ التَّثْوِيبِ فِي أَذَانِ الصُّبْحِ ، فَأَمَّا ابْنُ عُمَرَ فَإِنَّمَا أَنْكَرَ التَّثْوِيبَ فِي أَذَانِ الصُّبْحِ وَذَاكَ بِدْعَةٌ ، وَأَمَّا سَائِرُ الصَّلَوَاتِ فَقَدْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ التَّثْوِيبَ فِيهَا سُنَّةٌ كَالصُّبْحِ ، وَهَذَا خَطَأٌ بِنَصِّ السُّنَّةِ الَّتِي رُوِّينَاهَا عَنْ سُوَيْدٍ ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى ، ثُمَّ طَرِيقُ الْمَعْنَى : أَنَّ الصُّبْحَ إِنَّمَا يُثَوَّبُ فِيهَا لِكَوْنِ النَّاسِ نِيَامًا عِنْدَ دُخُولِ وَقْتِهَا وَالْأَذَانِ لَهَا ، وَسَائِرُ الصَّلَوَاتِ تَدْخُلُ أَوْقَاتُهَا وَالنَّاسُ مُسْتَيْقِظُونَ فَلَمْ يُثَوَّبْ لَهَا
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَأُحِبُّ أَنْ لَا يُجْعَلَ مُؤَذِّنُ الْجَمَاعَةِ إِلَّا عَدْلًا ثِقَةً لِإِشْرَافِهِ عَلَى النَّاسِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَإِنَّمَا أَخْبَرَنَا أَنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ عَدْلًا أَمِينًا لِرِوَايَةِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الْأَئِمَّةُ ضُمَنَاءُ ، وَالْمُؤَذِّنُونَ أُمَنَاءُ فَأَرْشِدِ اللَّهُ الْأَئِمَّةَ وَاغْفِرْ لِلْمُؤَذِّنِينَ وَرَوَى الْحَكَمُ بْنُ أَبَانٍ عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يُؤَذِّنُ لَكُمْ خِيَارُكُمْ ، وَيَؤُمُّكُمْ أَقْرَؤُكُمْ وَرَوَى صَفْوَانُ بْنُ سُلَيْمٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا بَنِي خَطْمَةَ اجْعَلُوا مُؤَذِّنَكُمْ أَفْضَلَكُمْ وَلِأَنَّ النَّاسَ قَدْ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ فِي أَوْقَاتِ صَلَوَاتِهِمْ ، وَرُبَّمَا أَشْرَفَ فِي صُعُودِ الْمَنَارَةِ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ فَإِذَا كَانَ أَمِينًا كَفَّ بَصَرَهُ وَصَدَقَ خَبَرُهُ
فَصْلٌ : وَيَخْتَارُ أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا عَارِفًا بِالْأَوْقَاتِ المؤذن لِيَعْلَمَ دُخُولَ الْوَقْتِ فَيُؤَذِّنُ فِي أَوَّلِهِ فَيُدْرِكُ النَّاسُ فَضِيلَةَ التَّعْجِيلِ ، فَإِذَا كَانَ ضَرِيرًا ، أَوْ بَصِيرًا جَاهِلًا بِالْأَوْقَاتِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَفَرَّدَ بِالْأَذَانِ : خَوْفًا مِنَ الْخَطَأِ فِي التَّقْدِيمِ ، أَوِ الْفَوَاتِ بِالتَّأْخِيرِ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ تَبَعًا لِبَصِيرٍ عَارِفٍ فَيُؤَذِّنُ مَعَهُ أَوْ بَعْدَهُ فَيَجُوزُ ، قَدْ كَانَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ ضَرِيرًا يُؤَذِّنُ مَعَ بِلَالٍ ، فَأَمَّا غَيْرُ الْبَالِغِ فَمَكْرُوهُ الِارْتِسَامِ
بِالْأَذَانِ مُرَاهِقًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُرَاهِقٍ ، فَإِنْ أَذَّنَ جَازَ ، فَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُؤَذِّنًا لِلرِّجَالِ ، فَإِنْ أَذَّنَتْ لَمْ يُعْتَدَّ بِأَذَانِهَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُعْتَدُّ بِأَذَانِ الْمَرْأَةِ ، وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَا يَصِحُّ اقْتِدَاءُ الرِّجَالِ بِهِ لَمْ يَصِحَّ - الِاقْتِصَارُ عَلَى أَذَانِهِ : كَالْكَافِرِ وَالْمَجْنُونِ
فَصْلٌ : وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ : " وَأُحِبُّ أَنْ لَا يُجْعَلَ مُؤَذِّنُ الْجَمَاعَةِ إِلَّا عَدْلًا ثِقَةً " فَفِيهِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ تَأْكِيدٌ ، لِأَنَّ الْعَدْلَ لَا يَكُونُ إِلَّا ثِقَةً ، وَلَيْسَ التَّأْكِيدُ مُتَكَرِّرًا ، كَمَا تَقُولُ صِدْقٌ وَبِرٌّ وَالثَّانِي : أَنَّ مَعْنَاهُ إِلَّا عَدْلًا إِنْ كَانَ حُرًّا ثِقَةً إِنْ كَانَ عَبْدًا ، لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يُوصَفُ بِالْعَدَالَةِ ، وَإِنَّمَا يُوصَفُ بِالثِّقَةِ وَالْأَمَانَةِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ أَرَادَ إِلَّا عَدْلًا - يَعْنِي - فِي دِينِهِ ثِقَةٌ - يَعْنِي - فِي عِلْمِهِ بِمَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ وَأَمَّا قَوْلُهُ : لِإِشْرَافِهِ عَلَى النَّاسِ فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : لِإِشْرَافِهِ عَلَى عَوْرَاتِ النَّاسِ عِنْدَ صُعُودِ الْمَنَارَةِ وَالثَّانِي : لِإِشْرَافِهِ عَلَى مَوَاقِيتِ الصَّلَوَاتِ ، وَرُجُوعِ النَّاسِ إِلَى قَوْلِهِ فِيهَا ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ فِي الْقَدِيمِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَهُمَا جَمِيعًا
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَأُحِبُّ أَنْ يَكُونَ صَيِّتًا وَأَنْ يَكُونَ حَسَنَ الصَّوْتِ ما يستحب في المؤذن أَرَقَّ لِسَامِعِهِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُ صِيِّتًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يُغْفَرُ لِلْمُؤَذِّنِ مَدَى صَوْتِهِ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ حَسَنَ الصَّوْتِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ : أَلْقِهِ عَلَى بِلَالٍ فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْكَ : وَلِأَنَّ حُسْنَ الصَّوْتِ أَوْقَعُ فِي النَّفْسِ وَأَدْعَى لِسَامِعِهِ إِلَى الْحُضُورِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَأُحِبُّ أَنْ يُؤَذِّنَ مُتَرَسِّلًا بَغَيْرِ تَمْطِيطٍ وَلَا يُغَنَّى فِيهِ ، وَأُحِبُّ الْإِقَامَةَ أَدْرَاجًا مُبِينًا وَكَيْفَ مَا جَاءَ بِهِمَا أَجْزَأَهُ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : يُسْتَحَبُّ لِلْمُؤَذِّنِ أَنْ يُؤَذِّنَ مُتَرسِّلًا وَيُقِيمَ أَدْرَاجًا مُبَيِّنًا ، لِرِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِبِلَالٍ : إِذَا أَذَّنْتَ فَتَرَسَّلْ وَإِذَا أَقَمْتَ فَاحْذَرْ وَلِأَنَّ التَّرَسُّلَ فِي الْأَذَانِ أَبْلَغُ فِي إِعْلَامِ الْأَبَاعِدِ ، وَالْأَدْرَاجَ أَعْجَلُ فِي اسْتِفْتَاحِ الْحَاضِرِ ، فَأَمَّا التَّرَسُّلُ فَهُوَ تَرْكُ الْعَجَلَةِ مَعَ
الْإِبَانَةِ ، وَأَمَّا الْأَدْرَاجُ فَهُوَ طَيُّ الْكَلَامِ بِسُرْعَةٍ ، فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ مِنْ غَيْرِ تَمْطِيطٍ وَلَا تَغَنِّي فِيهِ فَفِي التَّمْطِيطِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ الْإِعْرَابُ الْفَاحِشُ وَالثَّانِي : أَنَّهُ تَفْخِيمُ الْكَلَامِ وَالتَّشَادُقُ فِيهِ ، وَيُكْرَهُ تَلْحِينُ الْأَذَانِ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ بِالتَّلْحِينِ عَنْ حَدِّ الْإِفْهَامِ ، وَلِأَنَّ السَّلَفَ تَجَافُوهُ وَإِنَّمَا أَحْدَثَهُ الْعَجَمُ فِي بِلَادِهِمْ ، وَلَوْ خَالَفَ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ هَيْئَتِهِ أَجْزَأَهُ ، لِأَنَّ مُخَالَفَةَ الْهَيْئَاتِ لَا تَقْتَضِي الْفَسَادَ كَمَنْ جَهَرَ فِي مَوْضِعِ الْإِسْرَارِ ، أَوْ أَسَرَّ فِي مَوْضِعِ الْجَهْرِ
فَصْلٌ الْأَذَانُ بِالْفَارِسِيَّةِ
فَصْلٌ : الْأَذَانُ بِالْفَارِسِيَّةِ فَأَمَّا إِنْ أَذَّنَ بِالْفَارِسِيَّةِ فَإِنْ كَانَ أَذَانُهُ لِصَلَاةِ جَمَاعَةٍ لَمْ يَجُزْ سَوَاءٌ كَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ أَمْ لَا : لِأَنَّ غَيْرَهُ قَدْ يُحْسِنُ ، وَإِنْ كَانَ أَذَانُهُ لِنَفْسِهِ فَإِنْ كَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ لَمْ يُجْزِهِ ، كَأَذْكَارِ الصَّلَاةِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ أَجْزَأَهُ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَأُحِبُّ أَنْ يَكُونَ الْمُصَلِّي بِهِمْ فَاضِلًا قَارِئًا عَالِمًا وَأَيُّ النَّاسِ أَذَّنَ وَصَلَّى أَجْزَأَهُ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَإِنَّمَا اسْتَحَبَّ ذَلِكَ لِأَنَّ الْإِقَامَةَ تُوجِبُ الِاقْتِدَاءَ بِصَاحِبِهَا وَالِاتِّبَاعَ لِمَنِ انْتَدَبَ لَهَا فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ فَاضِلًا فِي دِينِهِ ، وَأَمَانَتِهِ ، عَالِمًا بِالصَّلَاةِ وَمَوَاقِيتِهَا وَأَحْكَامِهَا ، قَارِئًا لِمَا يَحْتَاجُ إِلَى قِرَاءَتِهِ فِيهَا ، فَإِنْ كَانَ حَافِظًا كَانَ أَوْلَى ، فَإِنْ جَمَعَ هَذِهِ الْأَوْصَافِ كَانَ أَحَقَّ بِالْإِمَامَةِ وَالتَّقَدُّمِ لَهَا ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَأَيُّ النَّاسِ أَذَّنَ وَصَلَّى أَجْزَأَةُ " - يَعْنِي - إِذَا كَانَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَكَانَ يُحْسِنُ الصَّلَاةَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : صَلُّوا عَلَى مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَخَلْفَ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَأُحِبُّ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُونَ اثْنَيْنِ لِأَنَّهُ الَذِي حَفِظْنَاهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بِلَالٌ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ فَإِنْ كَانَ الْمُؤَذِّنُونَ أَكْثَرَ أَذَّنُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ مَنْ نَدَبَهُمُ الْإِمَامُ لِلْأَذَانِ وَرَتَّبَهُمْ فِيهِ عَلَى الدَّوَامِ ، وَإِلَّا ، فَلَوْ أَذَّنَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ كَافَّةً لَمْ يُمْنَعُوا ، وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا أَنْ يَكُونَا اثْنَيْنِ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَهُ مُؤَذِّنَانِ : بِلَالٌ ، وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ ، ثُمَّ لِأَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مُؤَذِّنَانِ : سَعْدٌ الْقَرَظُ ، وَآخَرُ ، وَإِنْ لَمْ يَكْتَفِ بِاثْنَيْنِ لِكَثْرَةِ النَّاسِ جَعَلَهُمْ أَرْبَعَةً ، فَإِنَّ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَعَلَهُمْ حِينَ اتَّسَعَتِ الْمَدِينَةُ أَرْبَعَةً ، فَإِنْ لَمْ يَكْفِ جَعَلَهُمْ سِتَّةً ، فَإِنْ زَادَ فَثَمَانِيَةً لِيَكُونُوا شَفْعًا ، وَلَا يَكُونُوا وِتْرًا ، ثُمَّ يُؤَذِّنُونَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ ، رَوَتْ عَائِشَةُ قَالَتْ : مَا كَانَ بَيْنَ أَذَانِ بِلَالٍ ، وَابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ إِلَّا أَنْ يَنْزِلَ هَذَا وَيَرْقَى هَذَا ، وَلِأَنَّ الصَّوْتَ يَخْتَلِطُ بِاجْتِمَاعِهِمْ فَلَا يُفْهَمُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْبَلَدُ كَبِيرًا
وَالْمَسْجِدُ وَاسِعًا فَلَا بَأْسَ أَنْ يَجْتَمِعُوا فِي الْأَذَانِ دُفْعَةً وَاحِدَةً " كَالْبَصْرَةِ " ، وَلِأَنَّ اجْتِمَاعَ أَصْوَاتِهِمْ أَبْلَغُ فِي الْإِعْلَامِ ، وَيَتَّفِقُوا فِي الْأَذَانِ إِذَا اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ كَلِمَةً وَاحِدَةً فَإِنَّ اشْتِرَاكَهُمْ فِي كَلِمَةٍ مِنْهُ أَبْيَنُ وَإِذَا اخْتَلَفُوا فِيهِ اخْتَلَطَ ، وَإِذَا أَذَّنُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ أَذَّنُوا عَلَى الْوَلَاءِ ، وَلَا يَتَأَخَّرُ أَحَدُهُمْ عَنِ الْآخَرِ بِكَثِيرٍ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ إِنْ كَانَ يَنْزِلُ هَذَا وَيَرْقَى هَذَا
فَصْلٌ : فَأَمَّا مَا بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فَإِنْ كَانَتِ الصَّلَاةُ مَغْرِبًا وَإِلَّا بَيْنَهُمَا ، لِأَنَّهُ لَا يَنْتَقِلُ قَبْلَهَا ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَغْرِبٍ أَمْهَلَ قَدْرَ مَا يَتَأَهَّبُ النَّاسُ وَيَحْضُرُ الْإِمَامُ ، وَيَتَنَفَّلُ بِالْقَدْرِ الْمَسْنُونِ ثُمَّ يَرْفَعُ بِالْإِقَامَةِ . رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : صَلُّوا عِنْدَ كُلِّ أَذَانٍ رِكْعَتَيْنِ إِلَّا الْمَغْرِبَ وَيَخْتَارُ أَنْ يُقِيمَ لِلصَّلَاةِ مَنْ أَذَّنَ لَهَا لِرِوَايَةِ زِيَادِ بْنِ الْحَارِثِ الصُّدَائِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِنَّ أَخَا صُدَاءٍ أَذَّنَ وَإِنَمَا يُقِيمُ مَنْ أَذَّنَ فَإِنْ أَقَامَ غَيْرُ مَنْ أَذَّنَ فَلَا بَأْسَ . قَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَلْقِهِ عَلَى بِلَالٍ فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْكَ ، فَأَلْقَاهُ عَلَيْهِ فَأَذَّنَ بِلَالٌ ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ أَنَا رَأَيْتُهُ : وَأَنَا كُنْتُ أُرِيدُهُ . فَقَالَ : أَقِمْ أَنْتَ "
فَصْلٌ : فَأَمَّا قِيَامُ النَّاسِ إِلَى الصَّلَاةِ عِنْدَ إِقَامَةِ الْمُؤَذِّنِ فَيَنْبَغِي لِمَنْ كَانَ مِنْهُمْ شَيْخًا بَطِيءَ النَّهْضَةِ أَنْ يَقُومَ عِنْدَ قَوْلِهِ : قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ شَابًّا سَرِيعَ النَّهْضَةِ أَنْ يَقُومَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْإِقَامَةِ ، فَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْقَائِمِينَ لِيَسْتَوُوا فِي صُفُوفِهِمْ قِيَامًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ ، فَلَوْ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ وَحَضَرَ قَوْمٌ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَذَّنَ ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يُصَلُّوا جَمَاعَةً بِأَذَانِهِ ، رَوَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ : سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذَانَا فَقَالَ : كَمَا قَالَ وَانْتَهَى إِلَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ : حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ فَنَزَلَ وَقَالَ : انْزِلُوا وَصَلُّوا بِأَذَانِ هَذَا الْعَبْدِ الْأَسْوَدِ وَهَذَا يَجُوزُ عَلَى جَوَازِ أَذَانِ الْعَبْدِ ، حكمه وَهَكَذَا الْمُدْبِرُ ، وَالْمُكَاتِبُ ، وَمَنْ فِيهِ جُزْءٌ مِنَ الرِّقِّ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا يَرْزُقُهُمُ الْإِمَامُ وَهُوَ يَجِدُ مُتَطَوِّعًا أخذ الأجرة على الأذان فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مُتَطَوِّعًا فَلَا بَأْسَ أَنْ يَرْزُقَ مُؤَذِّنًا " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا إِذَا وَجَدَ الْإِمَامُ ثِقَةً يَتَطَوَّعُ بِالْأَذَانِ بَصِيرًا بِالْأَوْقَاتِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطِيَهُ ، وَلَا لِغَيْرِهِ أُجْرَةً لِرِوَايَةِ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ أَنَّهُ قَالَ : يَا
رَسُولَ اللَّهِ ، اجْعَلْنِي إِمَامَ قَوْمِي فَقَالَ : " أَنْتَ إِمَامُهُمْ فَاقْتَدِ بِأَضْعَفِهِمْ وَاتَّخِذْ مُؤَذِّنًا لَا يَأْخُذُ عَلَى أَذَانِهِ أَجْرًا وَلِأَنَّ مَا بِيَدِ الْإِمَامِ مُرْصَدٌ لِوُجُوهِ الْمَصَالِحِ الْمَاسَّةِ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مُتَطَوِّعًا بِالْأَذَانِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُعْطِيَ عَلَيْهِ رِزْقًا ، وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْهُ ، وَمِنْ سَائِرِ الْقُرَبِ أَنْ يُؤْخَذَ رِزْقٌ عَلَيْهَا ، وَالْكَلَامُ مَعَهُ يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ مِنْ كِتَابِ " الْحَجِّ " غَيْرَ أَنَّ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى حَسْبِ مَا يَقْتَضِيهِ هَا هُنَا مَا رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَزَقَ مُؤَذِّنَهُ ، وَلِأَنَّ مَا بِيَدِ الْإِمَامِ مَصْرُوفٌ فِي وُجُوهِ الْمَصَالِحِ ، وَهَذَا مِنْهَا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ الْمُؤَذِّنَ أُجْرَةً ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهُ رِزْقًا ، لِأَنَّ أَعْمَالَ الْقُرَبِ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ ، قَسْمٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يُفْعَلَ عَنِ الْغَيْرِ وَلَا يَعُودُ عَلَيْهِ نَفْعُهُ : كَالصَّلَاةِ ، وَالصِّيَامِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ عَلَيْهَا أُجْرَةٌ ، وَقِسْمٌ يَجُوزُ أَنْ يُفْعَلَ عَنِ الْغَيْرِ ، كَالْحَجِّ فَيَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ ، وَقِسْمٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يُفْعَلَ عَنِ الْغَيْرِ لَكِنْ قَدْ يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى الْغَيْرِ ، كَالْأَذَانِ ، أَوِ الْإِقَامَةِ ، وَالْقَضَاءِ ، فَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ ، وَيَجُوزُ أَخْذُ الرِّزْقِ عَلَيْهِ ، كَالْجِهَادِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا يَرْزُقُهُ إِلَّا مِنْ خُمْسِ الْخُمْسِ ؛ سَهْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْزُقَهُ مِنَ الْفَيْءِ وَلَا مِنَ الصَّدَقَاتِ لِأَنَّ لِكُلٍّ مَالِكًا مَوْصُوفًا " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : رِزْقُ الْمُؤَذِّنِ وَالْإِمَامِ ، وَالْقَاضِي يَكُونُ مِنْ أَمْوَالِ الْمَصَالِحِ ، وَالْمَالُ الْمُعَدُّ لِلْمَصَالِحِ هُوَ خُمْسُ الْخُمْسِ مِنَ الْفَيْءِ وَالْمَغَانِمِ سَهْمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ مُرْصَدٌ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ ، فَأَمَّا أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَوْا مِنْهَا ، لِأَنَّهَا مَالُ الْغَانِمِينَ ، وَأَمَّا أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا لِلْجَيْشِ خَاصَّةً فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُصْرَفَ فِي غَيْرِهِمْ وَالثَّانِي : أَنَّهَا لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَجُوزُ أَنْ تُصْرَفَ فِي أَرْزَاقِ الْمُؤَذِّنِينَ ، وَالْأَئِمَّةِ ، وَالْقُضَاةِ ، وَأَمَّا أَمْوَالُ الزَّكَاةِ ، وَالْكَفَّارَاتِ فَذَاكَ لِمُسْتَحِقِّيهَا مِنَ الْفُقَرَاءِ ، وَأَهْلِ السَّهْمِ الْمَذْكُورِينَ لَهَا لَا يَجُوزُ أَنْ تُصْرَفَ فِي غَيْرِهِمْ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَأُحِبُّ الْأَذَانَ لِمَا جَاءَ فِيهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْأَئِمَّةُ ضُمَنَاءُ وَالْمُؤَذِّنُونَ أُمَنَاءُ فَأَرْشَدَ اللَّهُ الْأَئِمَّةَ وَغَفَرَ لِلْمُؤَذِّنِينَ
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْأَذَانُ فَالْقِيَامُ بِهِ فَضِيلَةٌ ، وَفِي الِانْقِطَاعِ إِلَيْهِ وَالتَّشَاكُلِ بِهِ قُرْبَةٌ عَظِيمَةٌ رَوَى سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي التَأْذِينِ لَتَنَافَسُوا فِيهِ وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : الْمُؤَذِّنُونَ أَطْوَلُ النَّاسِ أَعْنَاقًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ رَجَاءً وَأَمَلًا ، وَمِنْ قَوْلِهِمْ عُنُقِي إِلَيْكَ مَمْدُودٌ وَالثَّانِي : أَنَّهُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ جَمْعًا ، وَأَظْهَرُهُمْ حِزْبًا ، مِنْ قَوْلِهِمْ رَأَيْتُ عُنُقًا مِنَ النَّاسِ أَيْ : جَمْعًا وَالثَّالِثُ : أَنَّهُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ إِسْرَاعًا إِلَى الْخَيْرِ ، مِنْ قَوْلِهِمْ فُلَانٌ يَسِيرُ الْعُنُقَ أَيْ : يُسْرِعُ فِي السَّيْرِ وَرَوَى زِيَادٌ أَبُو مَعْشَرٍ قَالَ : كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، يَقُولُ : لَوْ كُنْتُ مُؤَذِّنًا مَا بَالَيْتُ أَلَّا أُجَاهِدَ ، وَلَا أَحُجَّ ، وَلَا أَعْتَمِرَ بَعْدَ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ " وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ قَالَ : قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَا أَتَسَامَحُ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا أَنَّنِي كُنْتُ سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَذَانَ لِلْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ في فضيلة الإقامة
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ فَضْلُ الْأَذَانِ بِمَا ذَكَرْنَا ، فَالْإِقَامَةُ فَضِيلَةٌ أَيْضًا وَالْقِيَامُ بِهَا سُنَّةٌ ، رَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : الْإِمَامُ ضَامِنٌ ، وَالْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ اللَّهُمَّ فَأَرْشِدِ الْأَئِمَّةَ وَاغْفِرْ لِلْمُؤَذِّنِينَ فَإِنْ قِيلَ : فَأَيُّمَا أَفْضَلُ الْأَذَانُ أَوِ الْإِقَامَةُ ؟ قُلْنَا : لِلْإِنْسَانِ فِيهَا أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُمْكِنَهُ الْقِيَامُ بِهِمَا وَالْفَرَاغُ لَهُمَا وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَوْلَى لِحَوْزِ شَرَفِ الْمَنْزِلَتَيْنِ ، وَثَوَابِ الْفَضِيلَتَيْنِ وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ عَاجِزًا عَنِ الْإِمَامَةِ لِقِلَّةِ عِلْمِهِ بِأَحْكَامِ الصَّلَاةِ وَضَعْفِ قِرَاءَتِهِ ، وَيَكُونَ قَادِرًا عَلَى الْأَذَانِ ، لِعُلُوِّ صَوْتِهِ ، وَمَعْرِفَتِهِ بِالْأَوْقَاتِ فَأَوْلَى بِمِثْلِ هَذَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِالْأَذَانِ ، فَهُوَ أَفْضَلُ لَهُ ، وَلَا يَتَعَرَّضُ لِلْإِمَامَةِ وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ عَاجِزًا عَنِ الْأَذَانِ لِضَعْفِ قُوَّتِهِ وَقِلَّةِ إِبْلَاغِهِ وَيَكُونَ قَيِّمًا بِالْإِمَامَةِ ، لِعِلْمِهِ بِأَحْكَامِ الصَّلَاةِ وَصِحَّةِ قِرَاءَتِهِ ، فَالْأَفْضَلُ لِهَذَا أَنْ يَكُونَ إِمَامًا وَلَا يُنْتَدَبُ لِلْأَذَانِ
وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَصْلُحَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَلَا يَعْجِزَ عَنْ أَحَدِهِمَا وَلَيْسَ يُمْكِنُهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا أَيُّهُمَا أَفْضَلُ لَهُ أَنْ يَنْقَطِعَ إِلَيْهِ وَيَنْفَرِدَ بِهِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْإِمَامَةَ أَفْضَلُ مِنَ الْأَذَانِ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَفَرَّدَ بِالْإِمَامَةِ دُونَ الْأَذَانِ ، وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ بَعْدَهُ وَهُوَ لَا يَنْفَرِدُ إِلَّا بِأَفْضَلِ الْأَمْرَيْنِ وَأَعْلَى الْمَنْزِلَتَيْنِ : لِأَنَّ الْإِمَامَةَ أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَظْهَرُ مَشَقَّةً ، وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْأَذَانَ أَفْضَلُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْإِمَامُ ضَامِنٌ ، وَالْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ اللَّهُمَّ فَأَرْشِدِ الْأَئِمَّةَ وَاغْفِرْ لِلْمُؤَذِّنِينَ فَدَلَّ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى فَضْلِ الْأَذَانِ عَلَى الْإِمَامَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَنْزِلَةَ الْأَمَانَةِ أَعْلَى مِنْ مَنْزِلَةِ الضَّمَانِ وَالثَّانِي : أَنَّهُ دُعَاءٌ لِلْإِمَامِ بِالرُّشْدِ ، وَذَلِكَ لِخَوْفِهِ مِنْ زَيْغِهِ ، وَدَعَا لِلْمُؤَذِّنِ بِالْمَغْفِرَةِ وَذَلِكَ لِعِلْمِهِ بِسَلَامَةِ حَالِهِ ، وَأَمَّا تَرْكُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَذَانَ بِالْإِمَامَةِ فَفِيهَا أَجْوِبَةٌ : أَحَدُهَا : أَنَّ فِي الْأَذَانِ الشَّهَادَةَ بِرِسَالَتِهِ وَاعْتِرَافُ غَيْرِهِ بِذَلِكَ أَوْلَى وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ أَذَّنَ لَكَانَ لَا يَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ وَأَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ أَنْ يَتْبَعَهُ الْمُؤَذِّنُونَ فِيهِ وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ كَانَ مُتَشَاغِلًا بِالرِّسَالَةِ ، وَالْقِيَامِ بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْفَرَاغِ لِلْأَذَانِ وَالِانْقِطَاعِ إِلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " لَوْلَا الْخِلَافَةُ لَأَذَّنْتُ "
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ تَعْجِيلُ الصَّلَاةِ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا إِلَّا أَنْ يَشْتَدَّ الْحَرُّ فَيُبْرِدَ بِهَا فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَوَّلُ الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ وَآخِرُهُ عَفْوُ اللَّهِ وَأَقَلُّ مَا لِلْمُصَلِّي فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهَا مُحَافِظًا وَمِنَ الْخَاطِرَةِ بِالنِّسْيَانِ وَالشُّغْلِ وَالْآفَاتِ خَارِجًا " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعْجِيلُ الصَّلَاةِ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ تَأْخِيرِهَا عَلَى مَا سَنُفَصِّلُهُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ إِلَّا الْمَغْرِبَ : اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَصْبِحُوا بِالصُّبْحِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِأُجُورِكُمْ
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِبِلَالٍ : أَنْوِرْ بِالْفَجْرِ حَتَّى تَرَى مَوَاقِعَ النَّبْلِ وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا كَانَ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ [ الْبَقَرَةِ : ] ، وَالْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا : هِيَ الْمُبَادَرَةُ بِفِعْلِهَا لِأَوَّلِ وَقْتِهَا لِيَأْمَنَ ضَيَاعَهَا ، أَوْ عَارِضًا يَقْطَعُ عَنْ أَدَائِهَا ، وَرَوَتْ أُمُّ فَرْوَةَ قَالَتْ : سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ قَالَ : " الصَّلَاةُ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا وَرَوَى جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَوَّلُ الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ ، وَآخِرُ الْوَقْتِ عَفْوُ اللَّهِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَرِضْوَانُ اللَّهِ إِنَّمَا يَكُونُ لِلْمُحْسِنِينَ وَالْعَفْوُ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُقَصِّرِينَ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَرَوَى أَبُو مَحْذُورَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَوَّلُ الْوَقْتِ فضل الصلاة فيه رِضْوَانُ اللَّهِ ، وَأَوْسَطُهُ رَحْمَةُ اللَّهِ وَآخِرُهُ عَفْوُ اللَّهِ وَرَوَى سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ : سَأَلْتُ جَابِرًا عَنْ وَقْتِ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : كَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ ، وَالْعَصْرَ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ ، وَالْمَغْرِبَ إِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ ، وَالْعِشَاءَ إِذَا كَثُرَ النَّاسُ عَجَّلَ وَإِذَا قَلُّوا أَخَّرَ والصُبْحَ بِغَلَسٍ " . وَهَذَا إِخْبَارٌ عَنْ مُدَاوَمَةِ فِعْلِهِ ، وَهَذِهِ أَوَّلُ الْأَوْقَاتِ ، وَلِأَنَّهُ إِذَا عَجَّلَهَا فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِهَا أَمِنَ مِنْ فَوَاتِهَا وَنِسْيَانِهَا وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَا تَسْتَنْسِئُوا الشَّيْطَانَ يُرِيدُ أَنَّكَ إِذَا قَدَرْتَ عَلَى عَمَلِ الْخَيْرِ فَلَا تُؤَخِّرْهُ ، مَأْخُوذٌ مِنْ نَسَأْتُ الشَّيْءَ إِذَا أَخَّرْتُهُ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : " أَصْبِحُوا بِالصُّبْحِ " فَمِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الصُّبْحَ صُبْحَانِ صُبْحُ الْفَجْرِ وَالثَّانِي : صُبْحُ النَّهَارِ . فَأَرَادَ بِهِ الصُّبْحَ الْأَوَّلَ ، لِأَنْ لَا تُقَدَّمَ الصَّلَاةُ مَعَ الشَّكِّ فِيهِ أَلَا تَرَى إِلَى مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى شَاكًّا فِي الْفَجْرِ ثُمَّ أَعَادَهُ وَالثَّانِي : أَنَّ الْإِصْبَاحَ بِهَا إِنَّمَا هُوَ اسْتِدَامَتُهَا بَعْدَ تَقَدُّمِ الدُّخُولِ فِيهَا لِيُطَوِّلَ الْقِرَاءَةَ فِيهَا فَيُدْرِكَهَا الْمُتَأَخِّرُ عَنْهَا وَأَمَّا قَوْلُهُ لِبِلَالٍ : " نَوِّرْ بِالْفَجْرِ حَتَّى تَرَى مَوَاقِعَ النَّبْلِ ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ الْفَجْرَ الثَّانِيَ ، لِأَنَّ لَهُ نُورًا ، فَرُبَّمَا رَأَى النَّاسُ مَعَهُ مَوَاقِعَ النَّبْلِ ، أَوْ يَكُونَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ دُفْعَةً حِينَ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ لِلسَّائِلِ مَوَاقِيتَ الصَّلَاةِ أَوَّلَ الْوَقْتِ ، وَآخِرَهُ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : " لَا يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا كَانَ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ " . فَإِنَّمَا عَنَى مَنْ أَدَّى صَلَاةَ وَقْتِهِ وَجَلَسَ لِانْتِظَارِ الْأُخْرَى
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَفْضَلَ تَعْجِيلُ الصَّلَوَاتِ فضلية انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى حَالِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ فَنَقُولُ أَمَّا الصُّبْحُ تعجيل الصلاة فيه فَيَجْعَلُهَا فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا ، وَهُوَ أَفْضَلُ لِرِوَايَةِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : " إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيُصَلِّي الصُّبْحَ فَيَنْصَرِفُ النِّسَاءُ مَتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ مَا يُعْرَفْنَ مِنَ الْغَلَسِ "
فَصْلٌ : وَأَمَّا الظُّهْرُ هل الأفضل تعجيل الصلاة فيه أو تأخيرها فَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ ، عِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيحِ جَهَنَّمَ قَالَ : وَاشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَتْ : رَبِّي أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا . فَأُذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ نَفَسٌ فِي الشِّتَاءِ ، وَنَفَسٌ فِي الصَّيْفِ ، فَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ الْحَرَّ فَمِنْ حَرِّهَا ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ الْبَرْدَ فَمِنْ زَمْهَرِيرِهَا ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي قَوْلِهِ : إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ وَارِدٌ فِي بِلَادِ " تِهَامَةَ " وَ " الْحِجَازِ " وَ " مَكَّةَ " وَ " الْمَدِينَةِ " ، وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْبِلَادِ فَلَا : لِاخْتِصَاصِ تِهَامَةَ بِشِدَّةِ الْحَرِّ وَالثَّانِي : أَنَّ ذَلِكَ وَارِدٌ فِي كُلِّ الْبِلَادِ إِذَا كَانَ الْحَرُّ بِهَا شَدِيدًا ، وَإِذَا كَانَ هَذَا ثَابِتًا فَتَأْخِيرُهَا أَفْضَلُ بِشَرْطَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْحَرُّ شَدِيدًا وَالثَّانِي : أَنْ تُقَامَ فِي جَمَاعَةٍ يَحْضُرُهَا الْأَبَاعِدُ ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْحَرُّ يَسِيرًا ، وَالْبَلَدُ بَارِدًا ، أَوْ كَانَ يُصَلِّيهَا مُنْفَرِدًا ، أَوْ فِي جَمَاعَةٍ حَاضِرَةٍ لَا يَأْتِيهَا الْأَبَاعِدُ كَانَ تَعْجِيلُهَا أَفْضَلَ ، فَأَمَّا صَلَاةُ الْجُمْعَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلِ الْأَفْضَلُ تَأْخِيرُهَا فِي شِدَّةِ الْحَرِّ أَمْ لَا ؟ صَلَاةُ الْجُمْعَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ تَأْخِيرَهَا أَفْضَلُ كَالظُّهْرِ وَالثَّانِي : أَنَّ تَقْدِيمَهَا أَفْضَلُ فِي الْحَرِّ وَغَيْرِهِ ، لِأَنَّ النَّاسَ مَنْدُوبُونَ إِلَى تَقْدِيمِ الْبُكُورِ إِلَيْهَا ، فَكَانَ تَعْجِيلُهَا أَرْفَقَ بِالْمُنْتَظِرِينَ لَهَا لِيَعُودُوا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا إِلَى مَنَازِلِهِمْ لِيُقِيلُوا أَوْ يَسْتَرِيحُوا ، ثُمَّ إِذَا قُلْنَا : بِتَأْخِيرِ الظُّهْرِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤَخِّرَهَا عَنْ وَقْتِهَا ، وَلَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُسْتَوْفَى بِهَا آخِرَ وَقْتِهَا ، بَلْ يَتَأَخَّى بِهَا أَنْ تُقَامَ وَفِي الْوَقْتِ بَقِيَّةٌ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهَا
فَصْلٌ تَعْجِيلُ الْعَصْر أَفْضَلُ فِي الْحَرِّ وَغَيْرِهِ
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْعَصْرُ فَتَعْجِيلُهَا أَفْضَلُ فِي الْحَرِّ وَغَيْرِهِ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ فَضَالَةَ الزَّهْرَانِيُّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : حَافِظْ عَلَى الْعَصْرَيْنِ ، وَمَا كَانَتْ مِنْ لُغَتِنَا ، فَقُلْتُ : وَمَا الْعَصْرَانِ ؟ قَالَ : صَلَاةٌ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَصَلَاةٌ قَبْلَ غُرُوبِهَا وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدَةَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ : حَبَسُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى صَلَاةِ الْعَصْرِ مَلَأَ اللَّهُ بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا وَأَمَّا الْمَغْرِبُ فَتَعْجِيلُهَا أَوْلَى رَوَى الْحَارِثُ بْنُ شِبْلٍ عَنْ أُمِّ النُّعْمَانِ الْكِنْدِيَّةِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : لَا تَزَالُ أُمَّتِي عَلَى سُنَّتِي مَا بَكَّرُوا بِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَأَمَّا عِشَاءُ الْآخِرَةِ فَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : قَالَ فِي الْإِمْلَاءِ : أَنَّ تَعْجِيلَهَا لِأَوَّلِ وَقْتِهَا أَفْضَلُ لَهُ لِرِوَايَةِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي عِشَاءَ الْآخِرَةِ لِسُقُوطِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ ثَلَاثٍ " ، وَاعْتِبَارًا بِسَائِرِ الصَّلَوَاتِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ : أَنَّ تَأْخِيرَهَا أَفْضَلُ لِرِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : أَخَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ الْعِشَاءَ فَخَرَجَ عُمَرُ فَنَادَى : الصَّلَاةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَدْ رَقَدَ النِّسَاءُ وَالْوِلْدَانُ ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَمْسَحُ الْمَاءَ عَنْ شِقِّهِ وَهُوَ يَقُولُ : إِنَّهُ لَلْوَقْتُ لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي وَرَوَى أَبُو نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : أَخَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِشَاءَ هل الأفضل تعجيل الصلاة فيه أو تأخيرها ذَاتَ لَيْلَةٍ حَتَّى إِلَى نَحْوٍ مِنْ شَطْرِ اللَّيْلِ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى ، فَلَمَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ : خُذُوا مَقَاعِدَكُمْ . فَأَخَذْنَا مَقَاعِدَنَا فَقَالَ : إِنَّ النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا ، وَأَخَذُوا مَضَاجِعَهُمْ ، وَإِنَّكُمْ لَا تَزَالُونَ فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرْتُمُ الصَّلَاةَ ، وَلَوْلَا ضَعْفُ الضَّعِيفِ ، وَسُقْمُ السَّقِيمِ ، وَحَاجَةُ ذِي الْحَاجَةِ لَأَخَّرْتُ هَذِهِ الصَّلَاةَ إِلَى هَذِهِ السَّاعَةِ
وَرَوَى [ عَاصِمُ بْنُ ] أَحْمَدَ السَّكُونِيُّ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَعْتِمُوا بِهَذِهِ الصَّلَاةِ فَإِنَّكُمْ قَدْ فُضِّلْتُمْ بِهَا عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ وَلَمْ تُصَلِّهَا أُمَّةٌ قَبْلَكُمْ وَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَمْتَنِعُ مِنْ تَخْرِيجِ الْفَضِيلَةِ فِيهَا عَلَى قَوْلَيْنِ وَيَحْمِلُ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ اعْتِبَارًا بِأَحْوَالِ النَّاسِ ، فَمَنْ عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ الصَّبْرَ عَلَى تَأْخِيرِهَا ، وَإِنَّ النَّوْمَ لَا يَغْلِبُهُ حَتَّى يَنَامَ عَنْهَا كَانَ تَأْخِيرُهَا أَفْضَلَ لَهُ ، وَمَنْ لَمْ يَثِقْ بِنَفْسِهِ عَلَى الصَّبْرِ لَهَا وَلَمْ يَأْمَنْ سِنَةَ النَّوْمِ عَلَيْهِ حَتَّى يَنَامَ عَنْهَا كَانَ تَعْجِيلُهَا أَفْضَلَ لَهُ ، وَيَجْعَلُ الْأَخْبَارَ الْمُتَعَارِضَةَ مَحْمُولَةً عَلَى هَذَا التَّحْرِيمِ لِيَصِحَّ اسْتِعْمَالُ جَمِيعِهَا
فَصْلٌ : وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ : " فَالْعَفْوُ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُقَصِّرِينَ " . فَظَاهِرُ هَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مُؤَخِّرَ الصَّلَاةِ إِلَى آخِرِ وَقْتِهَا مُقَصِّرٌ ، وَلَيْسَ هَذَا مَحْمُولًا عَلَى ظَاهِرِهِ ، وَلِأَصْحَابِنَا فِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مُقَصِّرٌ عَنْ ثَوَابِ أَوَّلِ الْوَقْتِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُقَصِّرًا فِي الْفِعْلِ وَالثَّانِي : أَنَّهُ مُقَصِّرٌ لَوْلَا عَفْوُ اللَّهِ فِي إِبَاحَةِ التَّأْخِيرِ ، - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -
بَابُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَأَنْ لَا فَرْضَ إِلَّا الْخَمْسَ
بَابُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ في الصلاة وَأَنْ لَا فَرْضَ إِلَّا الْخَمْسَ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا يَجُوزُ لَأَحَدٍ صَلَاةُ فَرِيضَةٍ ، وَلَا نَافِلَةٍ ، وَلَا سُجُودُ قُرْآنٍ ، وَلَا جِنَازَةٍ ، إِلَّا مُتَوَجِّهًا إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ مَا كَانَ يَقْدِرُ عَلَى رُؤْيَتِهِ إِلَّا فِي حَالَيْنِ : إِحْدَاهُمَا : النَّافِلَةُ فِي السَّفَرِ رَاكِبًا " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ الصَّلَاةَ بِمَكَّةَ فَاسْتَقْبَلَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جُمْلَةِ الْعُلَمَاءِ هَلِ اسْتَقْبَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ بِرَأْيِهِ أَوْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ ؟ النبي صلى الله عليه وسلم عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ اسْتَقْبَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ بِرَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ تَخْيِيرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [ الْبَقَرَةِ : ] ، فَاخْتَارَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ ، وَعِكْرِمَةَ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ كَانَ يَسْتَقْبِلُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ، عَزَّ وَجَلَّ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ [ الْبَقَرَةِ : ] ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَابْنِ جُرَيْجٍ ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى : إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ أَرْبَعَةُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ مَعْنَاهُ إِلَّا لِيُعْلَمَ رَسُولِي وَأَوْلِيَائِي ، لِأَنَّ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ إِضَافَةُ مَا فَعَلَهُ أَتْبَاعُ الرَّئِيسِ إِلَى الرَّئِيسِ كَمَا قَالُوا : فَتَحَ عُمَرُ سَوَادَ الْعِرَاقَ وَالثَّانِي : قَوْلُهُ تَعَالَى : إِلَّا لِنَعْلَمَ [ الْبَقَرَةِ : ] ، بِمَعْنَى إِلَّا لِنَرَى ، وَالْعَرَبُ قَدْ تَضَعُ الْعِلْمَ مَكَانَ الرُّؤْيَةِ ، وَالرُّؤْيَةَ مَكَانَ الْعِلْمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ [ الْفِيلِ : ] بِمَعْنَى أَلَمْ تَعْلَمْ وَالثَّالِثُ : أَنَّ مَعْنَاهُ إِلَّا لِيَعْلَمُوا أَنَّنَا نَعْلَمُ ، أَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا فِي شَكٍّ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِالْأَشْيَاءِ قَبْلَ كَوْنِهَا
وَالرَّابِعُ : أَنَّ مَعْنَاهُ إِلَّا لِنُمَيِّزَ أَهْلَ الْيَقِينِ مِنْ أَهْلِ الشَّكِّ ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ تفسيرها [ الْبَقَرَةِ : ] فَفِيهِ سِتَّةُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا : مَا قَالَهُ الْأَوَّلُونَ مِنْ تَخْيِيرِ اللَّهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ حَيْثُ شَاءَ قَبْلَ اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ وَالثَّانِي : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ لِلسَّائِرِ حَيْثُ تَوَجَّهَ ، وَلِلْخَائِفِ فِي الْفَرْضِ حَيْثُ تَمَكَّنَ مِنْ شَرْقٍ ، أَوْ غَرْبٍ ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَالثَّالِثُ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَنْ خَفِيَتْ عَلَيْهِمُ الْقِبْلَةُ فَلَمْ يَعْرِفُوهَا فَصَلَّوْا إِلَى جِهَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ وَالسَّبَبُ الرَّابِعُ : أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَنْزَلَ قَوْلَهُ تَعَالَى : ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [ غَافِرٍ : ] ، قَالُوا : إِلَى أَيْنَ ؟ فَنَزَلَتْ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [ الْبَقَرَةِ : ] ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالْخَامِسُ : أَنَّ مَعْنَاهُ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ مِنْ مَشْرِقٍ ، أَوْ مَغْرِبٍ فَلَكُمْ جِهَةُ الْكَعْبَةِ تَسْتَقْبِلُونَهَا وَالسَّادِسُ : أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ اسْتُقْبِلَتِ الْكَعْبَةُ تَكَلَّمَتِ الْيَهُودُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ
فَصْلٌ في اسْتَقْبَالَ النبي بَيْتَ الْمَقْدِسِ بَعْدَ هِجْرَتِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا
فَصْلٌ : ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَقْبَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ بَعْدَ هِجْرَتِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا ، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا ، ثُمَّ كَرِهَ اسْتِقْبَالَهَا وَأَحَبَّ اسْتِقْبَالَ الْكَعْبَةِ ، وَاخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ كَرَاهِيَتِهِ لَهَا ، فَقَالَ مُجَاهِدٌ : إِنَّمَا كَرِهَهَا لِيُخَالِفَ الْيَهُودَ فِيهَا ، وَلَا يُوَافِقَهُمْ عَلَيْهَا ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا : يَتَّبِعُ قِبْلَتَنَا ، وَيُخَالِفُ دِينَنَا ، وَكَانُوا يَقُولُونَ : إِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ مَا دَرَوْا أَيْنَ قِبْلَتُهُمْ حَتَّى هَدَيْنَاهُمْ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إِنَّمَا كَرِهَهَا ، لِأَنَّهُ أَحَبَّ الْكَعْبَةَ قِبْلَةَ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ ، عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَكَرِهَ الْعُدُولَ عَنْهَا ، فَسَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُحَوِّلَ قِبْلَتَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا [ الْبَقَرَةِ : ] ، يَعْنِي : الْكَعْبَةَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [ الْبَقَرَةِ : ] ، أَيْ : نَحْوَهُ وَجِهَتَهُ ، وَعَنَى بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الْكَعْبَةَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ [ الْمَائِدَةِ : ] ، فَنَسَخَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ اسْتِقْبَالَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، وَفَرَضَ اسْتِقْبَالَ الْكَعْبَةِ ، وَاخْتَلَفُوا فِي زَمَانِ النَّسْخِ ، فَقَالَ قَوْمٌ : كَانَ ذَلِكَ فِي رَجَبٍ قَبْلَ بَدْرٍ بِشَهْرَيْنِ ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ رَوَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَقْبَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِسِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا ، وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ كَانَ فِي شَعْبَانَ وَهَذَا قَوْلُ مَنْ رَوَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَقْبَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِسَبْعَةَ عَشَرَ
شَهْرًا ] قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ : وَكَانَ ذَلِكَ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ ، وَكَانَ قَدْ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ مِنْهَا نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَانْصَرَفَ إِلَى الْكَعْبَةِ قَالَ الْوَاقِدِيُّ : وَكَانَ ذَلِكَ " فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَوَّلُ مَا نُسِخَ مِنَ الْقُرْآنِ فِيمَا ذُكِرَ لَنَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - بَيَانُ الْقِبْلَةِ وَالْقِيَامُ الْأَوَّلُ ، فَاسْتَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ وَتَغَيَّرَتْ أُمُورُ النَّاسِ حَتَّى ارْتَدَّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَوْمٌ ، وَنَافَقَ قَوْمٌ ، وَقَالَتِ الْيَهُودُ : إِنَّ مُحَمَّدًا قَدِ اشْتَاقَ إِلَى بَلَدِهِ ، وَقَالَتْ قُرَيْشٌ : إِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَلِمَ أَنَّا عَلَى هُدًى وَسَيُتَابِعُنَا ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ [ الْبَقَرَةِ : ] يَعْنِي : فِي اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ [ الْبَقَرَةِ : ] ، بِالرِّدَّةِ ، أَوِ النِّفَاقِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ [ الْبَقَرَةِ : ] ، يَعْنِي : بِالْكَعْبَةِ ، وَالتَّوْلِيَةِ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : وَلَمَّا اسْتَقْبَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى رَفَاعَةُ بْنُ قَيْسٍ ، وَكَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ ، وَابْنُ أَبِي الْحَقِيقِ ، وَهُمْ زُعَمَاءُ الْيَهُودِ فَقَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا وَلَّاكَ عَنْ قِبْلَتِكَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا وَأَنْتَ تَزْعُمُ أَنَّكَ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ ، عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَدِينِهِ ، ارْجِعْ إِلَى قِبْلَتِكَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا نَتَّبِعْكَ وَنُصَدِّقْكَ . وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ فِتْنَتَهُ عَنْ دِينِهِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لَلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [ الْبَقَرَةِ : ] ، ثُمَّ قَالَ الْمُسْلِمُونَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، كَيْفَ بِمَنْ مَاتَ مِنْ إِخْوَانِنَا اسْتِقْبَالُ الْكَعْبَةِ . فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [ الْبَقَرَةِ : ] ، يَعْنِي : صَلَاتَكُمْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ : إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [ الْبَقَرَةِ : ] ، يَعْنِي : قَوْلَهُ : أَنَّهُ لَا يُحْبِطُ لَهُمْ عَمَلًا ، وَلَا يُضِيعُ لَهُمْ أَجْرًا ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : إِنَّ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى إِلَى الْكَعْبَةِ ، وَأَوْصَى بِثُلْثِ مَالِهِ وَأَمَرَ أَنْ يُوَجِّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ ، وَابْنُهُ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ الَّذِي أَكَلَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ فَمَاتَ
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ اسْتِقْبَالَ الْكَعْبَةِ حكمه في الصلاة فَرْضٌ لَا يُجْزِئُ أَحَدًا صَلَاةُ فَرْضٍ وَلَا نَفْلٍ وَلَا جِنَازَةٍ وَلَا سُجُودُ سَهْوٍ وَلَا تِلَاوَةٌ إِلَّا أَنْ يَسْتَقْبِلَ بِهِ الْكَعْبَةَ إِلَّا فِي حَالَيْنِ اسْتَثْنَاهُمَا الشَّرْعُ : أَحَدُهُمَا : حَالُ الْمُتَابَعَةِ وَالْتِحَامِ الْقِتَالِ استقبال القبلة فيهما للصلاة وَالثَّانِيَةُ : الْمُتَنَفِّلُ فِي سَفَرِهِ سَائِرًا ، وَمَا سِوَاهُمَا حكم استقبال القبلة له يَجِبُ فِيهِ اسْتِقْبَالُ الْكَعْبَةِ ، وَلَا يَصِحُّ مَعَ الْعُدُولِ عَنْهَا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ، فَالْمُتَوَجِّهُونَ إِلَيْهَا عَلَى سِتَّةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : مَنْ فَرْضُهُ الْمُشَاهَدَةُ وَالثَّانِي : مَنْ فَرْضُهُ الْيَقِينُ وَالثَّالِثُ : مَنْ فَرْضُهُ الْخَبَرُ وَالرَّابِعُ : مَنْ فَرْضُهُ التَّفْوِيضُ وَالْخَامِسُ : مَنْ فَرْضُهُ الِاجْتِهَادُ وَالسَّادِسُ : مَنْ فَرْضُهُ التَّقْلِيدُ فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ مَنْ فَرْضُهُ الْمُشَاهَدَةُ وَهُوَ مَنْ كَانَ بِمَكَّةَ : وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ حَائِلٌ مِنْ مُشَاهَدَتِهَا ، فَفَرْضُهُ فِي اسْتِقْبَالِهَا الْمُشَاهَدَةُ ، فَلَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُشَاهِدَ الْكَعْبَةِ ، وَقَدْ شَاهَدَهَا ، لِأَنَّ ظُلْمَةَ اللَّيْلِ الْمَانِعَةَ مِنَ الْمُشَاهَدَةِ لَا تَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الصَّلَاةِ إِلَيْهَا ، لِتَقَدُّمِ الْمُشَاهَدَةِ ، ثُمَّ كُلُّ مَوْضِعٍ مِنَ الْكَعْبَةِ يَجُوزُ الصَّلَاةُ إِلَيْهِ ، لِأَنَّ جُمْلَتَهَا الْقِبْلَةُ ، فَأَمَّا الْحِجْرُ استقباله في الصلاة لمن كان بمكة فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اسْتِقْبَالَهُ فِي الصَّلَاةِ جَائِزٌ كَالْبَيْتِ ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَائِشَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : صَلِّي فِي الْحِجْرِ فَإِنَّهُ مِنَ الْبَيْتِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ اسْتِقْبَالَهُ وَحْدَهُ فِي الصَّلَاةِ غَيْرُ جَائِزٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ ، لِأَنَّ الْحِجْرَ لَيْسَ مِنَ الْبَيْتِ قَطْعًا ، وَإِحَاطَةً وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ تَغْلِبَةِ الظَّنِّ فَلَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ عَنِ الْيَقِينِ ، وَالنَّصِّ لِأَجْلِهِ وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي : وَهُوَ مَنْ فَرْضُهُ الْيَقِينُ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَنْ مُشَاهَدَةٍ ، فَهُوَ مَنْ كَانَ بِمَكَّةَ أَوْ خَارِجًا عَنْهَا بِقَلِيلٍ ، وَقَدْ مَنَعَهُ مِنْ مُشَاهَدَتِهَا حَائِطٌ مُسْتَحْدَثٌ مِنْ دَارٍ ، أَوْ جِدَارٍ ، المتنفل في سفره إذا فَفَرْضُهُ الْيَقِينُ بِالْأَسْبَابِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَيْهِ ، فَإِذَا تَيَقَّنَهَا صَارَ إِلَيْهَا وَإِنْ لَمْ يَتَيَقَّنْهَا لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّ الْحَائِلَ الْمُسْتَحْدَثَ لَا يُسْقِطُ فَرْضَ الْيَقِينِ ، كَمَا لَوْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُشَاهَدَةِ الْكَعْبَةِ رَجُلٌ قَائِمٌ ، وَهَكَذَا الْمُصَلِّي إِلَى كُلِّ قِبْلَةٍ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهَا بِالْمَدِينَةِ ، وَغَيْرِهَا ، وَهُوَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ صَوَابِهَا ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقِرَّ عَلَى الْخَطَأِ وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ : وَهُوَ مَنْ فَرْضُهُ الْخَبَرُ فَذَلِكَ عَلَى حَالَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : الضَّرِيرُ بِمَكَّةَ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْأَمْصَارِ ، حال المتنفل فَإِنْ كَانَ بِمَكَّةَ كَانَ الْخَبَرُ عَنْ مُشَاهَدَةٍ . وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ كَانَ عَنْ تَفْوِيضٍ وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : الْبَصِيرُ بِمَكَّةَ أَوْ فِيمَا قَرُبَ مِنْ مِيقَاتِهَا إِذَا كَانَ مَمْنُوعًا بِحَائِلٍ غَيْرِ مُسْتَحْدَثٍ مِنْ جَبَلٍ أَوْ أَكَمَةٍ فَإِنَّهُ يَسْتَخْبِرُ مَنْ عَلَى الْجَبَلِ الْحَائِلِ مِنَ الْمُشَاهِدِينَ وَأَمَّا الضَّرْبُ الرَّابِعُ : وَهُوَ مَنْ فَرْضُهُ التَّفْوِيضُ فَهُوَ الرَّاحِلُ إِلَى بَلَدٍ كَبِيرٍ كَثِيرِ الْأَهْلِ قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى قِبْلَتِهِمْ فِيهِ ، كَالْبَصْرَةِ وَبَغْدَادَ ، فَيَسْتَقْبِلُ قِبْلَتَهُمْ تَفْوِيضًا لِاتِّفَاقِهِمْ ، لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى قَدِيمِ الزَّمَانِ ، وَتَعَاقُبِ الْأَعْصَارِ ، وَكَثْرَةِ الْعَدَدِ أَنْ يَكُونُوا عَلَى خَطَأٍ يَسْتَدْرِكُهُ الْوَاحِدُ بِاجْتِهَادِهِ وَأَمَّا الضَّرْبُ الْخَامِسُ : وَهُوَ مَنْ فَرْضُهُ الِاجْتِهَادُ فَهُوَ الْبَصِيرُ إِذَا كَانَ سَائِرًا فِي بَرٍّ ، أَوْ بَحْرٍ ، أَوْ فِي قَرْيَةٍ قَلِيلَةِ الْأَهْلِ فَعَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ فِي الْقِبْلَةِ بِالدَّلَائِلِ الْمَنْصُوبَةِ عَلَيْهَا ، وَهَلْ عَلَيْهِ فِي اجْتِهَادِهِ طَلَبُ الْعَيْنِ أَوِ الْجِهَةِ ؟ فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ أَنَّ عَلَيْهِ فِي اجْتِهَادِهِ طَلَبَ الْجِهَةِ دُونَ الْعَيْنِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، لِأَنَّ الْعَيْنَ مَعَ الْبُعْدِ عَنْهَا يَتَعَذَّرُ إِصَابَتُهَا ، وَلِأَنَّ الصَّفَّ الْوَاحِدَ لَوِ امْتَدَّ حَتَّى خَرَجَ عَنْ طُولِ الْكَعْبَةِ جَازَتْ صَلَاةُ جَمِيعِهِمْ ، وَلَمْ يَلْزَمْهُمْ أَنْ يَعْدِلُوا عَنِ اسْتِوَاءِ الصَّفِّ مُنْحَرِفِينَ طَلَبًا لِمُوَافَقَةِ الْعَيْنِ فَقَدْ عُلِمَ أَنَّ بَعْضَهُمْ عَادِلٌ عَنِ الْعَيْنِ إِلَى الْجِهَةِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي : قَالَهُ فِي " الْأُمِّ " أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ فِي اجْتِهَادِهِ طَلَبُ الْعَيْنِ : فَإِنْ أَخْطَأَهَا إِلَى الْجِهَةِ أَجْزَأَ : لِأَنَّهُ لَمَّا لَزِمَ الدَّانِيَ مِنَ الْكَعْبَةِ مُصَادَفَةُ عَيْنِهَا لَزِمَ النَّائِيَ عَنْهَا فِي اجْتِهَادِهِ طَلَبُ عَيْنَهَا ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَتَوَصَّلُ بِالِاجْتِهَادِ إِلَى مَا كَانَ يَلْزَمُهُ بِالْيَقِينِ وَأَمَّا الضَّرْبُ السَّادِسُ : وَهُوَ مَنْ فَرْضُهُ التَّقْلِيدُ وَهُوَ الضَّرِيرُ فِي السَّفَرِ يُقَلِّدُ الْبَصِيرَ لِيَجْتَهِدَ لَهُ فِي الْقِبْلَةِ : حكم لِأَنَّهُ بِذَهَابِ بَصَرِهِ قَدْ فَقَدَ آلَةَ الِاجْتِهَادِ فِي الْقِبْلَةِ ، فَصَارَ كَالْعَامِّيِّ يُقَلِّدُ الْعَالِمَ فِي الْأَحْكَامِ : لِفَقْدِهِ مَا يَتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى عِلْمِهَا وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّقْلِيدِ وَالْخَبَرِ : أَنَّ التَّقْلِيدَ يَكُونُ عَنْ إِخْبَارٍ ، وَالْخَبَرَ يَكُونُ عَنْ يَقِينٍ وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّقْلِيدِ وَالتَّفْوِيضِ : أَنَّ التَّقْلِيدَ يَحْتَاجُ إِلَى سُؤَالٍ وَجَوَابٍ ، وَالتَّفْوِيضَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى سُؤَالٍ وَلَا جَوَابٍ
فَصْلٌ دَلَائِلُ الْقِبْلَةِ الَّتِي يَتَوَصَّلُ بِهَا الْمُجْتَهِدُ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ
فَصْلٌ : فَأَمَّا دَلَائِلُ الْقِبْلَةِ الَّتِي يَتَوَصَّلُ بِهَا الْمُجْتَهِدُ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ فَهِيَ الشَّمْسُ فِي مَطْلَعِهَا ، وَمَغْرِبِهَا ، من دلائل تحديد القبلة وَالْقَمَرُ فِي سَيْرِهِ وَمَنَازِلِهِ ، من دلائل تحديد القبلة وَالنُّجُومُ فِي طُلُوعِهَا ، وَأُفُولِهَا ، من دلائل تحديد القبلة وَالرِّيَاحُ الْأَرْبَعُ فِي هُبُوبِهَا من دلائل تحديد القبلة ، وَالْجِبَالُ فِي مَرَاسِيهَا ، وَالْبِحَارُ فِي مَجَارِيهَا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الدَّلَائِلِ الَّتِي يَخْتَصُّ كُلُّ فَرِيقٍ بِنَوْعٍ مِنْهَا ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [ النَّحْلِ : ] ، وَقَالَ تَعَالَى : وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ
[ الْأَنْعَامِ : ] فَإِذَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى إِحْدَى هَذِهِ الْعَلَامَاتِ أَنَّ الْقِبْلَةَ فِي جِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ حكم من اسْتَقْبَلَهَا ، وَصَلَّى إِلَيْهَا ، فَلَوْ كَانُوا جَمَاعَةً وَاتَّفَقَ اجْتِهَادُ جَمِيعِهِمْ جَازَ أَنْ يُصَلُّوا جَمَاعَةً وَيَأْتَمُّوا بِأَحَدِهِمْ ، وَإِنِ اخْتَلَفَ اجْتِهَادُهُمْ ، وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَرَى الْقِبْلَةَ فِي جِهَةٍ غَيْرِ جِهَةِ صَاحِبِهِ حكم من صَلَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلَى جِهَتِهِ ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ لِتَكَافُئِهِمْ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْتَمُّوا بِأَحَدِهِمْ جَمَاعَةً ، وَهُوَ قَوْلُ الْجَمَاعَةِ إِلَّا أَبُو ثَوْرٍ ، فَإِنَّهُ جَوَّزَ ذَلِكَ كَأَهْلِ مَكَّةَ يَأْتَمُّونَ بِمَنْ فِي مُقَابِلَتِهِمْ وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ الْمَأْمُومَ يَعْتَقِدُ فَسَادَ صَلَاةِ إِمَامِهِ لِعُدُولِهِ عَنْ قِبْلَتِهِ ، وَمَنِ ائْتَمَّ بِمَنْ يَعْتَقِدُ بُطْلَانَ صَلَاتِهِ حكم بَطَلَتْ صَلَاتُهُ ، كَمَنِ اعْتَقَدَ حَدَثَ إِمَامِهِ ، وَخَالَفَ أَهْلُ مَكَّةَ ، لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ عَلَى قِبْلَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يَعْتَقِدُ بَعْضُهُمْ فَسَادَ صَلَاةِ بَعْضٍ ، ثُمَّ إِذَا اجْتَهَدَ الرَّجُلُ لِفَرْضِ صَلَاةٍ وَمَا شَاءَ مِنَ النَّوَافِلِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلِّيَ فَرْضًا ثَانِيًا إِلَّا بِالِاجْتِهَادِ ثَانِيًا ، كَالْمُتَيَمِّمِ ، فَإِنْ وَافَقَ اجْتِهَادُهُ الثَّانِي لِلْأَوَّلِ صَلَّى ، وَإِنِ اخْتَلَفَ الِاجْتِهَادَانِ فَكَانَ الْأَوَّلُ إِلَى الشَّرْقِ ، وَالثَّانِي إِلَى الْغَرْبِ ، صَلَّى الثَّانِيَةَ إِلَى الْغَرْبِ ، وَلَمْ يُعِدِ الْأُولَى الَّتِي صَلَّاهَا إِلَى الشَّرْقِ ، لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يَنْقُضُ الِاجْتِهَادَ ، فَلَوْ كَانَ حِينَ اجْتَهَدَ أَوَّلًا تَسَاوَتْ عِنْدَهُ جِهَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِأَمَارَاتٍ دَالَّةٍ ، وَلَمْ يَتَرَجَّحْ عِنْدَهُ تحديد القبلة أَحَدُهُمَا فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ مُخَيَّرًا فِي الصَّلَاةِ إِلَى أَيِّ الْجِهَتَيْنِ شَاءَ وَالثَّانِي : أَنَّهُ يُصَلِّي فِي أَحَدِ الْجِهَتَيْنِ وَيُعِيدُ فِي الْأُخْرَى وَأَصْلُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْعَامِّيِّ إِذَا أَفْتَاهُ فَقِيهَانِ بِجَوَابَيْنِ مُخْتَلِفَيْنَ فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ يَكُونُ مُخَيَّرًا فَكَذَا فِي الْجِهَتَيْنِ وَالثَّانِي : يَأْخُذُ بِأَغْلَظِ الْجَوَابَيْنِ فَعَلَى هَذَا يُصَلِّي إِلَى الْجِهَتَيْنِ
فَصْلٌ مَتَى يَسْقُطُ فَرْضُ الْقِبْلَةِ
فَصْلٌ : مَتَى يَسْقُطُ فَرْضُ الْقِبْلَةِ فَأَمَّا الْحَالَتَانِ اللَّتَانِ يَسْقُطُ فَرْضُ التَّوَجُّهِ فِيهِمَا فَأَحَدُهُمَا حَالُ شِدَّةِ الْخَوْفِ وَالْتِحَامِ الْقِتَالِ حكم التوجه للقبلة في الصلاة يُصَلِّي فِيهَا كَيْفَ أَمْكَنَهُ رَاكِبًا وَنَازِلًا ، وَقَائِمًا ، وَقَاعِدًا ، وَمُومِيًا ، إِلَى الْقِبْلَةِ وَغَيْرِ الْقِبْلَةِ حَسَبَ طَاقَتِهِ وَإِمْكَانِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ [ الْبَقَرَةِ : ] ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ : مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ ، وَغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا ، قَالَ نَافِعٌ : لَا أَرَى ابْنَ عُمَرَ قَالَ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ سَالِمٍ ، عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةَ وَغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَصَلَاةُ شِدَّةِ الْخَوْفِ تُسْقِطُ مِنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ بِالْعَجْزِ عَنْهَا : أَحَدُهَا : التَّوَجُّهُ إِلَى الْقِبْلَةِ يَسْقُطُ بِالْخَوْفِ في الصلاة إِذَا عَجَزَ عَنْهُ
وَالثَّانِي : الْقِيَامُ يَسْقُطُ عَنْهُ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ وَالثَّالِثُ : اسْتِيفَاءُ الرُّكُوعِ ، وَالسُّجُودِ وَيَعْدِلُ عَنْهُ إِلَى الْإِيمَاءِ إِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ ، فَلَوْ قَدَرَ عَلَى بَعْضِهَا وَعَجَزَ عَنْ بَعْضِهَا لَزِمَهُ بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ وَسَقَطَ مَا عَجَزَ عَنْهُ ، فَلَوْ أَمْكَنَهُ أَنْ يُصَلِّيَ قَائِمًا إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ ، وَرَاكِبًا إِلَى الْقِبْلَةِ صَلَّى إِلَى الْقِبْلَةِ رَاكِبًا وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلِّيَ إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ قَائِمًا : لِأَنَّ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ أَوْكَدُ مِنْ فَرْضِ الْقِيَامِ ، لِأَنَّ فَرْضَ الْقِيَامِ يَسْقُطُ فِي النَّافِلَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ ، وَفَرْضُ الْقِبْلَةِ لَا يَسْقُطُ مَعَ الْقُدْرَةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْحَالُ الثَّانِيَةُ : فَهِيَ السَّائِرُ فِي سَفَرِهِ يُصَلِّي النَّافِلَةَ إِلَى جِهَةِ سَيْرِهِ مِنْ قِبْلَةٍ وَغَيْرِهَا ، لِرِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ عَنْ مَالِكٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ فِي السَّفَرِ حَيْثُمَا تَوَجَّهَتْ بِهِ " وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ ، عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ : " رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ النَّوَافِلَ فِي كُلِّ جِهَةٍ " ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ تَأْوِيلَاتِ قَوْلِهِ تَعَالَى : فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [ الْبَقَرَةِ : ] وَلِأَنَّ الْمُسَافِرَ لَوْ مُنِعَ مِنَ التَّنَفُّلِ سَائِرَ الْأَدَاءِ إِمَّا إِلَى تَرْكِ التَّنَفُّلِ أَوْ إِلَى الِانْقِطَاعِ عَنِ السَّيْرِ ، وَفِي تَمْكِينِهِ مِنْهُ وَفْقٌ فِي سَفَرِهِ ، وَوُفُورُ ثَوَابِهِ بِتَنَفُّلِهِ ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَكُلُّ صَلَاةٍ لَمْ تَكُنْ فَرْضًا فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَهَا سَائِرًا سَوَاءٌ كَانَتْ مِنَ السُّنَنِ الْمُوَظَّفَاتِ ، كَالْوِتْرِ وَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ ، أَوْ كَانَتْ مِنَ النَّوَافِلِ الْمُسْتَحْدَثَاتِ ، وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ صَلَاةِ الْوِتْرِ سَائِرًا لِوُجُوبِهَا عِنْدَهُ ، وَقَدْ رُوِّينَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوتِرُ عَلَى رَاحِلَتِهِ فَأَمَّا صَلَاةُ الْجِنَازَةِ فَإِنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فِعْلُهَا لَمْ يَسْقُطْ فَرْضُ التَّوَجُّهِ فِيهَا ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلِّيَهَا سَائِرًا حَتَّى يَنْزِلَ فَيُصَلِّيَهَا عَلَى الْأَرْضِ قَائِمًا لِكَوْنِهَا فَرْضًا ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ فَرْضُهَا فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَهَا سَائِرًا ، لِأَنَّهُ مُتَطَوِّعٌ بِهَا وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَهَا سَائِرًا حَتَّى يَسْتَقْبِلَ بِهَا الْقِبْلَةَ ، لِأَنَّهَا مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ فَتَأَكَّدَتْ ، وَلِأَنَّهَا نَفْلٌ فَتَسَهَّلَتْ
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُسَافِرِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ سَائِرًا أَوْ غَيْرَ سَائِرٍ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَائِرًا فَلَا يَجُوزُ إِذَا أَرَادَ التَّطَوُّعَ بِالصَّلَاةِ أَنْ يَعْدِلَ عَنِ الْقِبْلَةِ المسافر : لِأَنَّهُ لَا يَرْتَفِقُ بِالْعُدُولِ عَنْهَا ، وَكَانَ فَرْضُ التَّوَجُّهِ فِيهَا بَاقِيًا عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ سَائِرًا ، فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ
رَاكِبًا ، أَوْ مَاشِيًا ، فَأَمَّا الْمَاشِي فَيَجُوزُ أَنْ يَتَنَفَّلَ إِلَى جِهَةِ سَيْرِهِ ، لِأَنَّ الْمَشْيَ أَشَقُّ مِنَ الرُّكُوبِ ، لَكِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ مِنْ صَلَاةِ أَحَدِهَا عِنْدَ الْإِحْرَامِ ، لِقُرْبِ الْأَمْرِ فِيهِ حَتَّى يَنْعَقِدَ ابْتِدَاءً إِلَى الْقِبْلَةِ وَالثَّانِي : فِي حَالِ الرُّكُوعِ ، لِأَنَّ الرُّكُوعَ هُوَ فِيهِ مُنْقَطِعُ السَّيْرِ فَاسْتَوَى عَلَيْهِ التَّوَجُّهُ إِلَى الْقِبْلَةِ وَالْعُدُولُ عَنْهَا وَالثَّالِثُ : عِنْدَ السُّجُودِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِذَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ يُومِئَ بِهِ فَاسْتَوَى الْأَمْرَانِ عَلَيْهِ فِي التَّوَجُّهِ وَغَيْرِهِ ، فَلَزِمَهُ أَنْ يَتَوَجَّهَ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَبْقَى عَلَى التَّوَجُّهِ فِي سَجْدَتِهِ وَالْجِلْسَةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا ، لِأَنَّهَا إِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُ فَصْلُهَا بِالْقِيَامِ وَالسَّيْرِ ، وَأَمَّا الرَّابِعُ فَهُوَ وَقْتُ السَّلَامِ ، وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَلْزَمُهُ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِيهِ أَمْ لَا ؟ وَقْتُ السَّلَام عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ يَلْزَمُهُ التَّوَجُّهُ عِنْدَهُ ، لِأَنَّهُ أَحَدُ طَرَفَيِ الصَّلَاةِ كَالْإِحْرَامِ وَالثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ لَا يَلْزَمُهُ ، لِأَنَّ السَّلَامَ خُرُوجٌ مِنَ الصَّلَاةِ فَكَانَ أَخَفَّ مِنْ أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ ، وَهُوَ فِي أَثْنَائِهَا لَا يَلْزَمُهُ التَّوَجُّهُ ، فَفِي حَالِ الْخُرُوجِ مِنْهَا أَوْلَى أَنْ لَا يَلْزَمَهُ التَّوَجُّهُ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ حَالُ الْإِحْرَامِ : لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ ، وَبِهِ تَنْعَقِدُ فَكَانَ حُكْمُهُ أَغْلَظَ وَهَذَا أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ عِنْدِي فَأَمَّا مَا سِوَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ مِنْ حَالِ الْقِرَاءَةِ ، وَالتَّشَهُّدِ ، وَالْقِيَامِ الَّذِي بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ، فَيَسْقُطُ فَرْضُ التَّوَجُّهِ فِيهِ كُلِّهِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا كَانَ الْقِيَامُ بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ يَلْزَمُهُ التَّوَجُّهُ فِيهِ كَالْجِلْسَةِ الَّتِي بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ ؟ قُلْنَا : مَشْيُ الْقَائِمِ يَسْهُلُ فَسَقَطَ عَنْهُ التَّوَجُّهُ لِيَمْشِيَ فِيهِ شَيْئًا مِنْ سَفَرِهِ قَدْرَ مَا يَأْتِي بِالرُّكْنِ الْمَسْنُونِ فِيهِ ، وَمَشْيُ الْجَالِسِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِالْقِيَامِ ، وَقِيَامُهُ غَيْرُ جَائِزٍ ، فَكَانَ عَلَى حَالِ التَّوَجُّهِ فِيهِ
فَصْلٌ : وَأَمَّا الرَّاكِبُ فَضَرْبَانِ رَاكِبُ سَفِينَةٍ وَرَاكِبُ بَهِيمَةٍ فَأَمَّا رَاكِبُ السَّفِينَةِ الصلاة في السفر فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَيِّرًا لَهَا كَالْمَلَّاحِ ، أَوْ يَكُونَ جَالِسًا فِيهَا كَالرُّكَّابِ ، فَإِنْ كَانَ مِنْ رُكَّابِهَا جَالِسًا لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ فَرْضُ التَّوَجُّهِ ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَنَفَّلَ إِلَّا إِلَى الْقِبْلَةِ ، لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى اسْتِقْبَالِهَا وَلَا يَنْقَطِعُ عَنْ سَيْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ مَلَّاحًا مُسَيِّرًا لِلسَّفِينَةِ سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ التَّوَجُّهِ فِي نَافِلَتِهِ ، وَجَازَ أَنْ يُصَلِّيَ إِلَى جِهَةِ سَيْرِهِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ فَرْضُ التَّوَجُّهِ عَنِ الْمَاشِي ، لِأَنْ لَا يَنْقَطِعَ عَنِ السَّيْرِ وَحْدَهُ ، فَالْمَلَّاحُ أَوْلَى ، لِأَنْ لَا يَنْقَطِعَ بِالتَّوَجُّهِ عَنِ السَّيْرِ هُوَ وَغَيْرُهُ فَأَمَّا رَاكِبُ الْبَهِيمَةِ في السفر فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى حِفْظِ نَفْسِهِ فِي رُكُوبِهِ كَرَاكِبِ السَّرْجِ ، أَوِ الْقَتَبِ لَا يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَحْفَظَ نَفْسَهُ بِفَخِذَيْهِ وَسَاقَيْهِ فَيَجُوزُ لِمِثْلِ هَذَا أَنْ يَتَنَفَّلَ إِلَى جِهَةِ سَيْرِهِ رَاكِبًا ، وَيَكُونُ
فَرْضُ التَّوَجُّهِ عَنْهُ سَاقِطًا ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَكَذَا كَانَ يَرْكَبُ ، وَعَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ يَتَنَفَّلُ ، وَسَوَاءٌ كَانَ رَاكِبًا فَرَسًا ، أَوْ بَعِيرًا ، أَوْ حِمَارًا لِاسْتِوَاءِ جَمِيعِهَا فِي الْمَعْنَى ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ صَلَّى عَلَى رَاحِلَتِهِ تَارَةً ، وَعَلَى حِمَارِهِ أُخْرَى وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَحْتَاجَ إِلَى حِفْظِ نَفْسِهِ فِي رُكُوبِهِ بِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا هُوَ مَحْفُوظٌ بِآلَةِ " الْهَوْدَجِ " وَ " الْمَحْمَلِ " وَ " الْعِمَارِيَّةِ " فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ فَرْضَ التَّوَجُّهِ لَازِمٌ لَهُ ، لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَإِنْ صَارَ الْبَعِيرُ إِلَى غَيْرِهَا فَصَارَ كَرَاكِبِ السَّفِينَةِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ فَرْضَ التَّوَجُّهِ سَاقِطٌ عَنْهُ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَنَفَّلَ إِلَى جِهَةِ سَيْرِهِ لِأَنَّهُ إِنْ قَدَرَ عَلَى الْعُدُولِ عَنْ جِهَةِ سَيْرِهِ ، مُسْتَدِيرًا بِبَدَنِهِ إِلَى الْقِبْلَةِ فَفِيهِ إِضْرَارٌ بِمَرْكُوبِهِ وَإِدْخَالُ مَشَقَّةٍ عَلَيْهِ فَصَارَ كَرَاكِبِ السَّرْجِ
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لِلرَّاكِبِ أَنْ يُصَلِّيَ إِلَى جِهَةِ مَسِيرِهِ ، في السفر فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَرْكُوبُهُ مَقْطُورًا بِمَرْكُوبِ غَيْرِهِ كَ " الْجِمَالِ الْمَقْطُورَةِ " فِي سَيْرِهَا فَيَجُوزُ أَنْ يَفْتَتِحَ الصَّلَاةَ وَيُنْهِيَهَا إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي هُوَ سَائِرٌ إِلَيْهَا ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ بِشَيْءٍ مِنْهَا الْقِبْلَةَ لِمَا فِي عُدُولِهِ إِلَى الْقِبْلَةِ مِنَ الِانْقِطَاعِ عَنْ سَيْرِهِ ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ حَالَ إِحْرَامِهِ ، وَسُجُودِهِ بِخِلَافِ الْمَاشِي وَالْحَالُ الثَّانِيَة : أَنْ يَكُونَ مَرْكُوبُهُ مُفْرِدَ السَّيْرِ غَيْرَ مَقْطُورٍ بِغَيْرِهِ ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ فِيمَا سِوَى الْإِحْرَامِ ، وَهَلْ عَلَيْهِ اسْتِقْبَالُهَا فِي الْإِحْرَامِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ كَالْمَاشِي لِسُرْعَةِ فَعْلِهِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْمَاشِي ، لِأَنَّ الْمَاشِيَ أَسْرَعُ حَرَكَةً مِنَ الْبَهِيمَةِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الرَّاكِبُ مُخَالِفًا لِلْمَاشِي فِي سُقُوطِ التَّوَجُّهِ فِيمَا سِوَى الْإِحْرَامِ مِنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَكَذَلِكَ الْإِحْرَامُ ، وَهَذَا أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ عِنْدِي ، ثُمَّ عَلَيْهِ الْإِيمَاءُ فِي رُكُوعِهِ ، وَسُجُودِهِ ، وَلَا يَلْزَمُ السُّجُودُ عَلَى كَفِّهِ ، وَلَا عَلَى سَرْجِهِ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُومِئُ بِالرُّكُوعِ ، وَالسُّجُودِ عَلَى رَاحِلَتِهِ لَكِنْ يَكُونُ سُجُودُهُ أَخْفَضَ مِنْ رُكُوعِهِ
فَصْلٌ : فَلَوْ كَانَ الرَّاكِبُ فِي صَلَاتِهِ سَائِرًا فَعَدَلَ بِهِ الْمَرْكُوبُ عَنْ جِهَةِ سَيْرِهِ في السفر إِلَى غَيْرِهَا فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ سَائِرًا إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ فَيَعْدِلُ بِهِ إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ
وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ سَائِرًا إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ فَيَعْدِلُ بِهِ الْمَرْكُوبُ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ سَائِرًا إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ فَيَعْدِلُ مَرْكُوبُهُ إِلَى غَيْرِهَا الصلاة في السفر فَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ مَرْكُوبَهُ إِلَى جِهَةِ سَيْرِهِ وَيَبْنِيَ عَلَى صِلَاتِهِ ، فَإِنْ رَدَّهُ فِي الْحَالِ إِلَى جِهَةِ سَيْرِهِ بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ ، وَفِي سُجُودِ السَّهْوِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ ، لِأَنَّهُ قَدْ أَوْقَعَ فِي صَلَاتِهِ عَمَلًا وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا سُجُودَ عَلَيْهِ لِلسَّهْوِ ، لِأَنَّ الْفِعْلَ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِهَتِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ بِعَمَلِ مَرْكُوبِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَرُدَّ مَرْكُوبَهُ فِي الْحَالِ حَتَّى تَطَاوَلَ الزَّمَانُ ، فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى رَدِّهِ فَتَرَكَهُ تَوَانِيًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى رَدِّهِ لِصُعُوبَةِ رُكُوبِهِ فَضَعَّفَهُ عنَ ضَبْطِهِ فَفِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِ وَجْهَانِ مِثْلُ الْمُتَكَلِّمِ فِي صِلَاتِهِ سَاهِيًا إِذَا أَطَالَ الْكَلَامَ وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ سَائِرًا إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ فَيَعْدِلُ بِهِ الْمَرْكُوبُ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ الصلاة في السفر فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُتِمَّ صَلَاتَهُ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ ، لِأَنَّهَا أَغْلَظُ ، وَبَيْنَ أَنْ يَعْدِلَ بِمَرْكُوبِهِ إِلَى جِهَةِ مَسِيرِهِ وَيُتِمَّ صَلَاتَهُ لِيَتَرَخَّصَ وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ : وَهُوَ إِذَا كَانَ سَائِرًا لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ فَعَدَلَ بِهِ الْمَرْكُوبُ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ الصلاة في السفر فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقِيمَ عَلَى الْجِهَةِ الَّتِي عَدَلَ بِهِ الْمَرْكُوبُ إِلَيْهَا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ جِهَةَ مَسِيرِهِ ، وَلَا جِهَةَ الْقِبْلَةِ ، وَيَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يَعْدِلَ بِمَرْكُوبِهِ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ فَيُتِمَّ صَلَاتَهُ وَيَتْرُكَ الرُّخْصَةَ فِي تَرْكِ التَّوَجُّهِ ، وَبَيْنَ أَنْ يَعْدِلَ بِمَرْكُوبِهِ إِلَى جِهَةِ مَسِيرِهِ ، وَيُتِمَّ صَلَاتَهُ ، وَيُقِيمَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ رُخْصَةٍ ، فَإِنْ عَدَلَ إِلَى إِحْدَى هَاتَيْنِ الْجِهَتَيْنِ فِي الْحَالِ أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ ، وَفِي سُجُودِ السَّهْوِ وَجْهَانِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْدِلْ إِلَى إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ مَعَ الْقُدْرَةِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَمَعَ الْعَجْزِ فِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِ وَجْهَانِ
فَصْلٌ الْمُصَلِّيَ سَائِرًا إِلَى جِهَةٍ غَيْرِ الْقِبْلَةِ يَلْزَمُهُ الْعُدُولُ إِلَى الْقِبْلَةِ فِي أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ
فَصْلٌ : وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُصَلِّيَ سَائِرًا إِلَى جِهَةٍ غَيْرِ الْقِبْلَةِ يَلْزَمُهُ الْعُدُولُ إِلَى الْقِبْلَةِ فِي أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَدْخُلَ بَلْدَةً ، أَوِ الْبَلَدَ الَّذِي هُوَ غَايَةُ سَفَرِهِ فَيَلْزَمُهُ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِيمَا بَقِيَ مِنْ صَلَاتِهِ لِزَوَالِ الْمَعْنَى الْمُبِيحِ لِتَرْكِهَا ، فَإِنْ أَقَامَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْعُدُولِ عَنْهَا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ ، وَلَكِنْ لَوْ دَخَلَ بَلَدًا غَيْرَ بَلَدِهِ مُجْتَازًا فِيهِ بَنَى عَلَى صِلَاتِهِ إِلَى جِهَةِ سَيْرِهِ وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَنْوِيَ الْمُقَامَ فَيَخْرُجُ مِنْ حُكْمِ السَّفَرِ ، وَيَلْزَمُهُ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِيمَا بَقِيَ مِنْ صِلَاتِهِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى الْمَنْزِلِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَنْزِلَهُ فِي سَفَرِهِ ، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ بَاقِيًا فِي الْحُكْمِ فَسَيْرُهُ قَدِ انْقَطَعَ فَيَلْزَمُهُ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِيمَا بَقِيَ مِنْهَا ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ بَطَلَتْ
وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَقِفَ عَنِ الْمَسِيرِ لِغَيْرِ نُزُولٍ إِمَّا اسْتِرَاحَةً عَنْ كَلَالِ السَّيْرِ ، وَإِمَّا انْتِظَارًا لَوْ تَأَخَّرَ عَنِ الْمَسِيرِ فَيَلْزَمُهُ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِيمَا بَقِيَ مِنْهَا ، لِأَنَّ مَسِيرَهُ قَدِ انْقَطَعَ ، وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ لَا يُؤَثِّرُ فِي حَالِ وُقُوفِهِ ، فَإِنْ سَارَ بَعْدَ أَنْ تَوَجَّهَ إِلَى الْقِبْلَةِ وَقَبْلَ إِتْمَامِ صَلَاتِهِ ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِمَسِيرِ الْقَافِلَةِ جَازَ أَنْ يُتِمَّ بَاقِيَهَا إِلَى جِهَةِ سَيْرِهِ وَيَعْدِلَ عَنِ الْقِبْلَةِ لِمَا فِي تَأَخُّرِهِ عَنِ الْقَافِلَةِ لِإِتْمَامِ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِضْرَارِ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُرِيدَ لِإِحْدَاثِ الْمَسِيرِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسِيرَ حَتَّى تَنْتَهِيَ صَلَاتُهُ ، لِأَنَّهُ بِالْوُقُوفِ قَدْ لَزِمَهُ فَرْضُ التَّوَجُّهِ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ فَلَمْ يَجُزْ لَهُ إِسْقَاطُهُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ ظَاهِرٍ ، فَيَكُونُ كَالنَّازِلِ إِذَا ابْتَدَأَ بِالصَّلَاةِ إِلَى الْقِبْلَةِ ثُمَّ رَكِبَ سَائِرًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى هَذِهِ الصَّلَاةِ إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ ، لِأَنَّ فَرْضَ التَّوَجُّهِ إِلَيْهَا قَدْ لَزِمَهُ بِالدُّخُولِ فِيهَا نَازِلًا فَلَمْ يَسْقُطْ بِمَا أَحْدَثَهُ مِنَ الرُّكُوبِ سَائِرًا
فَصْلٌ الْمُقِيمُ فِي الْمِصْرِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَنَفَّلَ سَائِرًا عَلَى مَرْكُوبِهِ أَوْ مَاشِيًا عَلَى قَدَمَيْهِ لَمْ يَجُزْ
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْمُقِيمُ فِي الْمِصْرِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَنَفَّلَ سَائِرًا عَلَى مَرْكُوبِهِ أَوْ مَاشِيًا عَلَى قَدَمَيْهِ لَمْ يَجُزْ ، لِأَنَّ تَرْكَ التَّوَجُّهِ رُخْصَةٌ فَعَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرِهِ ، وَلِأَنَّ فِي التَّوَجُّهِ فِي السَّفَرِ انْقِطَاعًا عَنِ السَّيْرِ الَّذِي هُوَ السَّفَرُ ، وَلَيْسَ فِي تَوَجُّهِ الْمُقِيمِ انْقِطَاعٌ عَنِ الْإِقَامَةِ ، وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ : يَجُوزُ لِلْمُقِيمِ أَنْ يَتَنَفَّلَ سَائِرًا ، لِأَنْ لَا يَنْقَطِعَ عَنْ تَصَرُّفِهِ ، أَوْ لَا يَنْقَطِعَ تَطَوُّعُهُ وَهَذَا خَطَأٌ لِمَا بَيَّنَّا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْحَالَيْنِ ، وَلِأَنَّ الرُّخَصَ لَا يُقَاسُ عَلَيْهَا
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَطَوِيلُ السَّفَرِ وَقَصِيرُهُ سَوَاءٌ . وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ فِي السَّفَرِ أَيْنَمَا تَوَجَّهَتْ بِهِ وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوتِرُ عَلَى الْبَعِيرِ وَأَنَّ عَلِيًّا ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، كَانَ يُوتِرُ عَلَى الرَّاحِلَةِ . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ لَيْسَ بِفَرْضٍ وَلَا فَرْضَ إِلَا الْخَمْسُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَعْرَابِيِّ حِينَ قَالَ : هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُمْ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ " . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ شِدَّةُ الْخَوْفِ لِقَوْلِ اللَّهِ ، عَزَّ وَجَلَّ فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا قَالَ ابْنُ عُمَرَ : مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةَ وَغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا فَلَا يُصَلِّي فِي غَيْرِ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ إِلَّا إِلَى الْبَيْتِ إِنْ كَانَ مُعَايِنًا فَبِالصَّوَابِ وَإِنْ كَانَ مُغَيَّبًا فَبِالِاجْتِهَادِ بِالدَّلَائِلِ عَلَى صَوَابِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ لِجَوَازِ النَّافِلَةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ حَيْثُ تَوَجَّهْتَ فِي طَوِيلِ السَّفَرِ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ الْقَصْرُ ، وَفِي قَصِيرِهِ الَّذِي لَا يَجُوزُ فِيهِ الْقَصْرُ وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي سَفَرٍ طَوِيلٍ يَجُوزُ فِيهِ قَصْرُ الصَّلَاةِ . قَالَ : لِأَنَّ السَّفَرَ إِذَا غَيَّرَ حُكْمَ الصَّلَاةِ تَرْخِيصًا احْتَاجَ أَنْ يَكُونَ السَّفَرُ فِيهِ مَحْدُودًا كَالْقَصْرِ ، وَهَذَا خَطَأٌ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَنَفَّلُ عَلَى رَاحِلَتِهِ فِي السَّفَرِ ، وَلَوِ اخْتَصَّ بِسَفَرٍ مَحْدُودٍ لَتَنَفَّلَ ، وَلِأَنَّهُ سَفَرٌ مُبَاحٌ فَجَازَتْ فِيهِ النَّافِلَةُ عَلَى الرَّاحِلَةِ كَالسَّفَرِ الطَّوِيلِ ، وَلِأَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ اتِّصَالُ السَّفَرِ وَأَنْ لَا يَنْقَطِعَ الْمَسِيرُ لِكَثْرَةِ النَّوَافِلِ ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي طَوِيلِ السَّفَرِ وَقَصِيرِهِ ، كَالْمُتَيَمِّمِ ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَصْرِ الَّذِي لِأَجْلِ الْمَشَقَّةِ الَّتِي لَا تَدْخُلُ غَالِبًا إِلَّا فِي سَفَرٍ طَوِيلٍ
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَرُخَصُ السَّفَرِ سَبْعَةٌ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامِ قِسْمٌ مِنْهَا يَجُوزُ فِي طَوِيلِ السَّفَرِ وَقَصِيرِهِ ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ : التَّيَمُّمُ ، وَأَكْلُ الْمَيْتَةِ ، وَالنَّافِلَةُ عَلَى الرَّاحِلَةِ ، وَقِسْمٌ مِنْهَا لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي سَفَرٍ طَوِيلٍ ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ : الْقَصْرُ ، وَالْفِطْرُ وَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ ثَلَاثًا ، وَقِسْمٌ مِنْهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ ، وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ وَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي سَفَرٍ طَوِيلٍ قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ كَالْقَصْرِ وَالثَّانِي : يَجُوزُ فِي السَّفَرِ الطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ كَالنَّافِلَةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنِ اخْتَلَفَ اجْتِهَادُ رَجُلَيْنِ لَمْ يَسَعْ أَحَدَهُمَا اتِّبَاعُ صَاحِبِهِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا اجْتَمَعَ رَجُلَانِ فِي سَفَرٍ وَاحْتَاجَا إِلَى الِاجْتِهَادِ فِي الْقِبْلَةِ وَكَانَ أَحَدُهُمَا بَصِيرًا يَعْرِفُ دَلَائِلَهَا لَمْ يَخْلُ حَالُ الْآخَرِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا ، أَوْ ضَرِيرًا ، فَإِنْ كَانَ ضَرِيرًا فَفَرْضُهُ فَيَ الْقِبْلَةِ تَقْلِيدُ الْبَصِيرِ الَّذِي مَعَهُ إِذَا لَمْ يَقَعْ فَيَ نَفْسِهِ كَذِبُهُ سَوَاءٌ كَانَ الْبَصِيرُ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً حُرًّا ، أَوْ عَبْدًا ، لِأَنَّهُ خَبَرٌ يَسْتَوِي جَمِيعُهُمْ فِي قَبُولِهِ مِنْهُمْ وَلَيْسَ بِشَهَادَةٍ ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ، لِأَنَّ الضَّرِيرَ قَدْ فَقَدَ بِذَهَابِ بَصَرِهِ آلَةَ الِاجْتِهَادِ فَجَازَ لَهُ تَقْلِيدُ مَنْ فِيهِ آلَةُ الِاجْتِهَادِ : كَالْعَامِّيِّ فِي تَقْلِيدِ الْعَالِمِ فِي الْأَحْكَامِ ، فَلَوِ اجْتَهَدَ الضَّرِيرُ لِنَفْسِهِ وَصَلَّى لَزِمَهُ الْإِعَادَةُ أَصَابَ أَوْ أَخْطَأَ ، لِأَنَّهُ بِفَقْدِ الْآلَةِ صَلَّى شَاكًّا ، وَلِلضَّرِيرِ فِيمَا يَكُونُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ مِنْ أَسْبَابِ الصَّلَاةِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ ، حَالٌ لَا يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِيهَا وَهِيَ : الْقِبْلَةُ ، وَحَالٌ يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِيهَا وَهُوَ الْوَقْتُ ، وَحَالٌ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ وَهُوَ : الْإِنَاءَانِ ، أَوِ الثَّوْبَانِ ، وَفِي جَوَازِ اجْتِهَادِهِ فِيهِمَا قَوْلَانِ
فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ الْآخَرُ بَصِيرًا فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِدَلَائِلِ الْقِبْلَةِ الإجتهاد في تحديد القبلة فَهَذَا عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ لِنَفْسِهِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا إِلَى تَقْلِيدِ صَاحِبِهِ ، لِاسْتِوَائِهِمَا فِي حَالِ الِاجْتِهَادِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَيْهَا كَالْعَالِمِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ الْعَالِمَ وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ غَيْرَ عَارِفٍ لِدَلَائِلِ الْقِبْلَةِ الإجتهاد في تحديد القبلة لَكِنْ إِذَا عُرِّفَ تَعَرَّفَ وَعَلِمَ ، فَهَذَا عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَرَّفَ دَلَائِلَ الْقِبْلَةِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ ، فَإِذَا تَعَرَّفَ دَلَائِلَ الْقِبْلَةِ اجْتَهَدَ لِنَفْسِهِ : لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْوُصُولِ إِلَى مَعْرِفَتِهَا بِاجْتِهَادِهِ فَصَارَ كَالْعَارِفِ وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ غَيْرَ عَارِفٍ لِدَلَائِلِهَا وَإِذَا عُرِّفَهَا لَمْ يَعْرِفْهَا لِإِبْطَاءِ ذِهْنِهِ وَقِلَّةِ فِطْنَتِهِ فَهَذَا فِي حُكْمِ الْأَعْمَى يُقَلِّدُ غَيْرَهُ فِيهَا ، لِأَنَّهُ قَدْ عَدِمَ مَا يَتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الِاجْتِهَادِ ، وَلِأَنَّ عَمَى الْقَلْبِ أَعْظَمُ مِنْ عَمَى الْعَيْنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [ الْحَجِّ : ]
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِنْ كَانَ الْغَيْمُ وَخَفِيَتِ الدَّلَائِلُ الإجتهاد في تحديد القبلة عَلَى رَجُلٍ فَهُوَ كَالْأَعْمَى
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : وَمَنْ دَلَّهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ أَعْمَى وَسِعَهُ اتِّبَاعُهُ وَلَا يَسَعُ بَصِيرًا خَفِيَتْ عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ اتَّبَاعُهُ . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : لَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ جَهِلَ الْقِبْلَةَ لِعَدَمِ الْعِلْمِ وَبَيْنَ مَنْ جَهِلَهَا لِعَدَمِ الْبَصَرِ . وَقَدْ جَعَلَ الشَّافِعيُّ مَنْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ كَالْأَعْمَى فَهُمَا سَوَاءٌ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي بَصِيرَيْنِ اجْتَهَدَا فِي الْقِبْلَةِ فَوَقَفَ أَحَدُهُمَا عَلَى جِهَتِهَا بِاجْتِهَادِهِ وَأَشْكَلَ عَلَى الْآخَرِ ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي قَدْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُهَا إِذَا عُرِّفَهُ وَلَا يَنْتَبِهُ عَلَيْهَا إِذَا نُبِّهَهُ فَهُوَ أَعْلَى ، مَا ذَكَرْنَا كَالْأَعْمَى يُقَلِّدُ صَاحِبَهُ وَلَا يُعِيدُ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَعْرِفُهَا وَيَنْتَبِهُ عَلَيْهَا ، وَلَكِنْ وَقَعَ الْإِشْكَالُ لِحَادِثَةٍ صَدَّ عَنْهَا فَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ وَاسِعًا تَوَقَّفَ وَلَمْ يُقَلِّدْ غَيْرَهُ وَإِنْ ضَاقَ الْوَقْتُ وَخَافَ الْفَوْتَ تَبِعَ صَاحِبَهُ فِي جِهَتِهِ وَصَلَّى إِلَيْهَا بِاجْتِهَادِهِ ، فَإِذَا فَعَلَ وَصَلَّى فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ وَسُقُوطِهَا كَلَامًا مُحْتَمَلًا . فَقَالَ : هَا هُنَا " وَمَنْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ فَهُوَ كَالْأَعْمَى " . فَظَاهِرُ هَذَا يَقْتَضِي سُقُوطَ الْإِعَادَةِ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ حَكَاهُ عَنْهُ الْمُزَنِيُّ هَا هُنَا : " وَلَا يَسَعُ بَصِيرًا خَفِيَتْ عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ اتِّبَاعَهُ . " فَظَاهِرُ هَذَا يَقْتَضِي سُقُوطَ وُجُوبِ الْإِعَادَةِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى ثَلَاثَةِ طُرُقٍ : أَحَدُهَا : وَهِيَ طَرِيقَةُ الْمُزَنِيِّ ، وَأَبِي الطِّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ ، وَأَبِي حَفْصِ بْنِ الْوَكِيلِ : أَنَّ وُجُوبَ الْإِعَادَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ الظَّاهِرِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ ، لِأَنَّ الْإِشْكَالَ عَلَيْهِ لِتَقْصِيرٍ يَعُودُ إِلَيْهِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ الْجَاهِلَ بِهَا لِفَقْدِ عِلْمِهِ كَالْجَاهِلِ بِهَا لِفَقْدِ بَصَرِهِ وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ : هِيَ طَرِيقَةُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَحَمْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ : " وَلَا يَسَعُ بَصِيرًا خَفِيَتْ عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ اتِّبَاعَهُ عَلَيْهِ " إِذَا كَانَ الْوَقْتُ وَاسِعًا وَالطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ : وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ الْإِعَادَةَ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ قَوْلًا وَاحِدًا وَحَمْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ : " وَمَنْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ فَهُوَ كَالْأَعْمَى " عَلَى وُجُوبِ الِاتِّبَاعِ لَا عَلَى سُقُوطِ الْإِعَادَةِ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا يَتَّبِعُ دِلَالَةُ مُشْرِكٍ بِحَالٍ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : " لَا يَجُوزُ لِلضَّرِيرِ أَنْ يُقَلِّدَ مُشْرِكًا فِي الْقِبْلَةِ وَلَا لِلْبَصِيرِ أَنْ يَقْبَلَ خَبَرَهُ فِيهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [ الْحُجُرَاتِ : ] . وَالْكُفْرُ أَغْلَظُ الْفِسْقِ ، وَقَالَ تَعَالَى : وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ [ الْبَقَرَةِ : ] وَلِأَنَّ
فَسَقَةَ الْمُسْلِمِينَ قبول خبرهم في تحديد القبلة إِذَا لَمْ يَجُزْ تَقْلِيدُهُمْ فِي الْقِبْلَةِ وَلَا قَبُولُ خَبَرِهِمْ فِيهَا فَالْكُفْرُ أَوْلَى ، وَلِأَنَّ الْكَافِرَ قَصْدُهُ اخْتِلَالُ الْمُسْلِمِ عَنْ عِبَادَتِهِ وَفِتْنَتُهُ فِي دِينِهِ ، فَإِنْ قِيلَ : أَفَلَيْسَ الْكَافِرُ مَقْبُولَ الْقَوْلِ فِي الْإِذْنِ ، وَقَبُولِ الْهَدِيَّةِ فَهَلَّا كَانَ مَقْبُولَ الْقَوْلِ فِي الْإِخْبَارِ عَنِ الْقِبْلَةِ ؟ قُلْنَا : الْإِذْنُ ، وَقَبُولُ الْهَدِيَّةِ ، أَوْسَعُ حُكْمًا ، أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَ الصَّبِيِّ فِيهِ مَقْبُولٌ ، وَأَمْرُ الْقِبْلَةِ أَغْلَظُ ، لِأَنَّ خَبَرَ الصَّبِيِّ فِيهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ ، فَأَمَّا إِذَا اسْتَدَلَّ مُسْتَدِلٌّ مِنْ كَافِرٍ مُشْرِكٍ دَلَائِلَ الْقِبْلَةِ كَأَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ أَحْوَالِ الرِّيَاحِ ، وَمَطَالِعِ النُّجُومِ فَأَخْبَرَهُ وَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ صِدْقُهُ ، ثُمَّ اجْتَهَدَ لِنَفْسِهِ عَنْ خَبَرِ الْمُشْرِكِ فِي وَجِهَاتِ الْقِبْلَةِ جَازَ ، لِأَنَّ الْمُسْلِمَ عَمِلَ فِي الْقِبْلَةِ عَلَى اجْتِهَادِ نَفْسِهِ ، وَإِنَّمَا قَبِلَ خَبَرَ الْمُشْرِكِ فِي غَيْرِهَا مِمَّا يَسْتَوِي فِي الْإِخْبَارِ بِهِ مَنْ وَقَعَ فِي النَّفْسِ صِدْقُهُ مِنْ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَمَنِ اجْتَهَدَ فَصَلَّى إِلَى الشَّرْقِ ثُمَّ رَأَى الْقِبْلَةَ إِلَى الْغَرْبِ اسْتَأْنَفَ لِأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ مِنْ خَطَأِ جِهَتِهَا إِلَى يَقِينِ صَوَابِ جِهَتِهَا " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا : فِي رَجُلٍ اجْتَهَدَ فِي الْقِبْلَةِ فَأَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى أَنَّهَا فِي الشَّرْقِ فَاسْتَقْبَلَهَا وَصَلَّى إِلَيْهَا ثُمَّ بَانَ لَهُ الْخَطَأُ فِي جِهَتِهِ ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ لَهُ صَوَابُ الْقِبْلَةِ فِي غَيْرِهَا فَالْحُكْمُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ وَاحِدٌ ، وَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ ، إِمَّا أَنْ يُبَيِّنَ لَهُ الْخَطَأَ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ ، أَوْ مِنْ طَرِيقِ الْيَقِينِ ، فَإِنْ بَانَ لَهُ الْخَطَأُ ، مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يَنْقُضُ حُكْمًا نُفِّذَ بِاجْتِهَادٍ ، وَإِنْ بَانَ لَهُ الْخَطَأُ مِنْ طَرِيقِ الْيَقِينِ فَفِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ وَفِي كِتَابِ " الصِّيَامِ " مِنَ الْجَدِيدِ : أَنَّهُ لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالْقَوْلُ الثَّانِي : قَالَهُ فِي كِتَابِ " الصَّلَاةِ " مِنَ الْجَدِيدِ : أَنَّ الْإِعَادَةَ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فِي سُقُوطِ الْإِعَادَةِ مَا رَوَى عَاصِمُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ : كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَأْخُذُ الْأَحْجَارَ فَيَعْمَلُ مَسْجِدًا يُصَلِّي فِيهِ ، فَلَمْا أَصْبَحْنَا إِذَا نَحْنُ قَدْ صَلَّيْنَا لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ فَقلِنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لَقَدْ صَلَّيْنَا لَيْلَتَنَا هَذِهِ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ . فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ
[ الْبَقَرَةِ : ] ، وَلِأَنَّ كُلَّ جِهَةٍ صَحَّ صَلَاةُ الْمُسَايِفِ إِلَيْهَا صَحَّ صَلَاةُ الْمُجْتَهِدِ إِلَيْهَا كَالْقِبْلَةِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ صَلَاةٍ صَحَّتْ إِلَى الْقِبْلَةِ جَازَ أَنْ تَصِحَّ بِالِاجْتِهَادِ إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ كَالْمُسَايِفِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ صَلَّى بِاجْتِهَادِهِ إِلَى جِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ فَالْيَقِينُ مَوْجُودٌ فِي حُصُولِ الْخَطَأِ فِي إِحْدَى الصَّلَاتَيْنِ ، فَلَوْ لَزِمَ الْقَضَاءُ بِيَقِينِ الْخَطَأِ لَلَزِمَهُ إِعَادَةُ الصَّلَاتَيْنِ ، لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ عَلَيْهِ إِحْدَى صَلَاتَيْنِ لَا يَعْرِفُهَا لَزِمَهُ إِعَادَةُ الصَّلَاتَيْنِ ، فَلَمَّا أَجْمَعُوا عَلَى سُقُوطِ الْقَضَاءِ فِي هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ دَلَّ عَلَى سُقُوطِ الْقَضَاءِ مَعَ يَقِينِ الْخَطَأِ وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي : فِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [ الْبَقَرَةِ : ] ، فَأَمَرَ تَعَالَى بِالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ فَمَنْ تَوَجَّهَ إِلَى غَيْرِهِ فَالْأَمْرُ بَاقٍ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّ مَا لَا يَسْقُطُ بِالنِّسْيَانِ مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ لَا يَسْقُطُ بِالْخَطَأِ ، كَالطَّهَارَةِ ، وَالْوَفْقِ وَلَا تَعْيِينَ الْخَطَأِ فِي الصَّلَاةِ يُوجِبُ الْقَضَاءَ ، كَأَهْلِ مَكَّةَ ، وَلِأَنَّهُ تَعَيَّنَ لَهُ يَقِينُ الْخَطَأِ فِيمَا يَأْمَنُ مِنْ مِثْلِهِ فِي الْقَضَاءِ فَوَجَبَ أَنْ تَلْزَمَهُ الْإِعَادَةُ ، كَالْحَاكِمِ إِذَا خَالَفَ نَصًّا بِاجْتِهَادِهِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ فَهُوَ : أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ ، إِمَّا عَلَى صَلَاةِ النَّفْلِ دُونَ الْفَرْضِ ، أَوْ عَلَى خَطَأِ الْعَيْنِ دُونَ الْجِهَةِ وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى مُسْتَقْبَلِ الْقِبْلَةِ فَمُنْتَقَضٌ بِالْمَكِّيِّ ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِيهِ صَوَابُ الْجِهَةِ وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُسَايِفِ : فَالْمَعْنَى فِيهِ : إِنَّ عِلْمَ الْمُسَايِفِ بِعُدُولِهِ عَنِ الْقِبْلَةِ لَا يُبْطِلُ صَلَاتَهُ ، وَعِلْمَ الْمُجْتَهِدِ بِالْعُدُولِ عَنْهَا لَا يُبْطِلُ صَلَاتَهُ ، وَأَمَّا الْمُصَلِّي إِلَى جِهَتَيْنِ استقبال القبلة فَإِنَّمَا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ : لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ لَهُ الْخَطَأُ فِي إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ كَالْحَاكِمِ فَإِذَا اخْتَلَفَ اجْتِهَادُهُ فِي الْحَادِثَةِ فَحَكَمَ فِيهَا بِحُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لَمْ يُنْقَضْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا ، لِأَنَّ الْخَطَأَ لَمْ يُتَيَقَّنْ فِي أَحَدِهِمَا ، وَلَوْ خَالَفَ نَصًّا نَقَضَ
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ يَذْهَبُ إِلَى اخْتِيَارِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فِي سُقُوطِ الْإِعَادَةِ ، وَذَكَرَ فُصُولًا خَمْسَةً بَعْضُهَا اسْتِشْهَادًا بِمَذْهَبٍ ، وَبَعْضُهَا اسْتِدْلَالًا بِشُبْهَهٍ ، فَالْفَصْلُ الْأَوَّلُ مِنْ أَسْئِلَتِهِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ : فِي كِتَابِ " الصِّيَامِ " : " وَلَوْ تَاخَّى الْقِبْلَةَ ثُمَّ عَلِمَ بَعْدَ كَمَالِ الصَّلَاةِ أَنَّهُ أَخْطَأَ ، أَنَّ ذَلِكَ يُجْزِئُهُ ، كَمَا يُجْزِئُ ذَلِكَ فِي خَطَأٍ عَرَفَة ، فَنَقَلَ الْمُزَنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ رِوَايَةَ أَنْ لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ ، وَهِيَ لَعَمْرِي أَحَدُ قَوْلَيْهِ ، ثُمَّ اسْتَشْهَدَ بِعَرَفَةَ حَجَّاجًا ، لِأَنَّ مَنْ أَخْطَأَ فَوَقَفَ بِعَرَفَةَ فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ ، أَوْ فِي الثَّامِنِ ثُمَّ لَمْ يَعْلَمْ حَتَّى دَخَلَ فِي الْعَاشِرِ أَنَّ حَجَّهُ مُجْزِئ فَكَذَلِكَ الْخَطَأُ فِي الْقِبْلَةِ قُلْنَا : بَيْنَهُمَا فَرْقَانُ يَمْنَعَانِ مِنْ تَسَاوِي حُكْمِهِمَا أَحَدُ الْفَرْقَيْنِ أَنَّ الْخَطَأَ بِعَرَفَةَ لَا يُؤْمَنُ
مِثْلُهُ فِي الْقَضَاءِ فَسَقَطَ عَنْهُ الْقَضَاءُ كَالْأَكْلِ نَاسِيًا فِي الصَّوْمِ لِمَا لَمْ يُؤْمَنْ مِثْلُهُ فِي الْقَضَاءِ سَقَطَ عَنْهُ الْقَضَاءُ وَالْخَطَأُ فِي الْقِبْلَةِ لِمَا أُمِنَ مِثْلُهُ فِي الْقَضَاءِ فَلَزِمَ فِيهِ الْقَضَاءُ كَالْخَاطِئِ فِي اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ النَّجِسِ وَالْفَرْقُ الثَّانِي : أَنَّ إِعَادَةَ الْحَجِّ تَشُقُّ فَسَقَطَ عَنْهُ كَمَا سَقَطَ عَنِ الْمُسَافِرِ قَضَاءُ الْقُصُورِ ، وَإِعَادَةُ الصَّلَاةِ الَّتِي أَخْطَأَ فِيهَا لَا يَشُقُّ فَوَجَبَ عَلَيْهِ كَمَا وَجَبَ عَلَى الْمُسَافِرِ قَضَاءُ الصَّوْمِ وَالْفَصْلُ الثَّانِي : مِنْ أَسْئِلَتِهِ مَا حَكَاهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِ " الطَّهَارَةِ " " إِذَا تَأَخَّى فِي أَحَدِ الْإِنَاءَيْنِ أَنَّهُ طَاهِرٌ ، وَالْآخَرُ نَجِسٌ فَصَلَّى ثُمَّ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الَّذِي تَرَكَهُ هُوَ الطَّاهِرُ لَمْ يَتَوَضَّأْ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وَيَتَيَمَّمُ وَيُعِيدُ ، لِأَنَّهُ مَاءٌ مُسْتَيْقَنٌ الطَّهَارَةِ وَلَيْسَ كَالْقِبْلَةِ إِذَا تَأَخَّاهَا لِصَلَاةٍ ثُمَّ رَأَهَا لِغَيْرِهِ فِي صَلَاةٍ أُخْرَى : لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلَّا وَهِيَ قِبْلَةٌ لِقَوْمٍ يَعْنِي : بِهَذَا الْفَصْلِ أَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ فِي الْقِبْلَةِ إِلَى جِهَةٍ ثَانِيَةٍ أَنْ يُصَلِّيَ إِلَيْهَا ، وَلَوْ أَدَّاهُ إِلَى طَهَارَةِ الْإِنَاءِ الثَّانِي لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْخَطَأَ فِي الْقِبْلَةِ لَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا الْفَصْلِ أَنْ نَقُولَ إِنَّمَا جَازَ أَنْ يُصَلِّيَ إِلَى الْجِهَةِ الثَّانِيَةِ بِالِاجْتِهَادِ وَالثَّانِي : أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ الِاجْتِهَادَ ثَانِيًا ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَعْمِلَ الْإِنَاءَ الثَّانِيَ بِالِاجْتِهَادِ الثَّانِي ، لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِعَادَةُ الِاجْتِهَادِ ثَانِيًا ، فَأَمَّا قَوْلُهُ وَالَّذِي جَعَلَهُ الْمُزَنِيُّ تَعْلِيلًا وَدَلِيلًا : " أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلَّا وَهِيَ قِبْلَةٌ لِقَوْمٍ . فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَرَادَ لَيْسَ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلَّا وَهِيَ قِبْلَةٌ لِقَوْمٍ فِي حَالِ الْمُسَايَفَةِ وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَرَادَ لَيْسَ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلَّا وَهِيَ قِبْلَةٌ لِقَوْمٍ ، لِأَنَّ الْمَشْرِقَ قِبْلَةُ أَهْلِ الْمَغْرِبِ ، وَالْمَغْرِبَ قِبْلَةُ أَهْلِ الْمَشْرِقِ ، ثُمَّ مُصَادَفَةُ هَذَا الْمُصَلِّي جِهَةً هِيَ قِبْلَةٌ لِغَيْرِهِ لَا يُسْقِطُ عَنْهُ فَرْضَ التَّوَجُّهِ إِلَى جِهَةٍ وَالْفَصْلُ الثَّالِثُ : مِنْ أَسْئِلَتِهِ : أَنَّهُ قَالَ لِمَا جَازَ صَلَاتُهُ فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ ، لِأَنَّهُ أَدَّى مَا كُلِّفَ ، وَلَمْ يَجْعَلْ عَلَيْهِ إِصَابَةَ الْعَيْنِ لِلْعَجْزِ عَنْهَا فِي حَالِ الصَّلَاةِ ، فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ : لَمْ يُكَلَّفِ الِاجْتِهَادَ وَحْدَهُ ، وَإِنَّمَا كُلِّفَ إِصَابَةَ الْعَيْنِ أَوِ الْجِهَةِ بِاجْتِهَادِهِ عَلَى حَسَبِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ وَهُوَ إِذَا أَخْطَأَ الْجِهَةَ ، أَوِ الْعَيْنَ لَمْ يُؤَدِّ مَا كُلِّفَ فَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْفَرْضُ فِيهِ وَأَمَّا الْفَصْلُ الرَّابِعُ : مِنْ أَسْئِلَتِهِ أَنَّهُ قَالَ : احْتِجَاجًا ، وَهَذَا قِيَاسٌ عَلَى مَا عَجَزَ عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ مِنْ قِيَامٍ ، وَقُعُودٍ ، وَرُكُوعٍ ، وَسُجُودٍ ، وَسُنَنٍ أَنَّ فَرْضَ اللَّهِ سَاقِطٌ عَنْهُ يَعْنِي : أَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ مَا ذَكَرَهُ بِالْعَجْزِ عَنْهُ فَكَذَلِكَ فَرْضُ التَّوَجُّهِ بِالْعَجْزِ عَنْهُ وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقِيَامَ وَالسَّيْرَ مَعْنًى مَعْدُومٌ مَعَ الْعَجْزِ عَنْهُ فَلِذَلِكَ سَقَطَتِ الْإِعَادَةُ فِيهِ لِعَدَمِهِ وَالْقِبْلَةُ غَيْرُ مَعْدُومَةٍ بِالْخَطَأِ فِيهَا فَلِذَلِكَ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ الْإِعَادَةُ لِخَطَئِهِ
وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّ الْأَعْذَارَ الَّتِي تُعْجِزُ عَنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ : ضَرْبٌ يَكُونُ عَامَّ الْوُقُوعِ ، وَإِذَا وَقَعَ جَازَ أَنْ يَدُومَ كَالْمَرَضِ صلاة المريض ، فَهَذَا يَسْقُطُ مَعَهُ الْقَضَاءُ ، وَضَرْبٌ يَكُونُ عَامَّ الْوُقُوعِ وَإِذَا وَقَعَ لَمْ يَدُمْ كَ " الْمُسَايَفَةِ " وَعَدَمِ الْمَاءِ للصلاة فَهُوَ يُسْقِطُ الْقَضَاءَ ، وَضَرْبٌ يَكُونُ نَادِرَ الْوُقُوعِ ، وَإِذَا وَقَعَ لَمْ يَدُمْ كَعَدَمِ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ ، للصلاة وَهَذَا لَا يُسْقِطُ الْإِعَادَةَ ، فَلَمَّا كَانَ الْخَطَأُ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ نَادِرًا لَا يَدُومُ لَمْ يُسْقِطِ الْإِعَادَةَ ، وَلَمَّا كَانَ الْعَجْزُ عَنِ الْقِيَامِ ، وَالرُّكُوعِ ، وَالسُّجُودِ عَامًّا قَدْ يَدُومُ سَقَطَ مَعَهُ الْإِعَادَةُ ، وَهَذَا تَمْهِيدٌ لِأُصُولِ الْأَعْذَارِ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ وَسُقُوطِهِ الْفَصْلُ الْخَامِسُ : مِنْ أَسْئِلَتِهِ : أَنْ قَالَ احْتِجَاجًا قَدْ حُوِّلَتِ الْقِبْلَةُ فَصَلَّى أَهْلُ قَبَاءٍ رَكْعَةً إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ ثُمَّ أَتَاهُمْ آتٍ فَقَالَ : إِنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ وَاسْتَدَارُوا وَبَنَوْا بَعْدَ تَعْيِينِهِمْ أَنَّهُمْ صَلَّوْا إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ . فَجَعَلَ الْمُزَنِيُّ سُقُوطَ الْإِعَادَةِ عَنْ أَهْلِ قِبَاءٍ مَا صَلَّوْا إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ دَلِيلًا عَلَى سُقُوطِ الْقَضَاءِ عَنْ كُلِّ مَنْ أَخْطَأَ الْقِبْلَةَ وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا : أَنَّ أَصْحَابَنَا قَدِ اخْتَلَفُوا فِي النُّسَخِ : هَلْ يَتَوَجَّهُ إِلَى مَنْ يَعْلَمُ بِهِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يَتَوَجَّهُ إِلَّا إِلَى مَنْ عَلِمَ بِهِ وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَهُوَ عَلَى الْفَرْضِ الْأَوَّلِ كَمَا لَا يَكُونُ مَنْسُوخًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا لَمْ يَنْزِلْ بِهِ جِبْرِيلُ ، عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ سُؤَالُ الْمُزَنِيِّ ، لِأَنَّ أَهْلَ قِبَاءٍ قَبْلَ عِلْمِهِمْ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَتَوَجَّهُ النَّسْخُ إِلَى الْجَمِيعِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ بَعْضُهُمْ ، لِأَنَّ فَرْضَهُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى جَمِيعِهِمْ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ أَهْلِ قِبَاءٍ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ أَهْلَ قِبَاءٍ صَلَّوْا بِالنَّصِّ عَلَى الْيَقِينِ الْأَوَّلِ فَجَازَ أَنْ تَسْقُطَ الْإِعَادَةُ عَنْهُمْ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ أَرَادُوا الِاجْتِهَادَ قَبْلَ عِلْمِهِمْ بِالنَّسْخِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْقِبْلَةِ : لِأَنَّهُ دَخَلَهَا بِاجْتِهَادٍ لَا بِنَصٍّ ، وَعَنْ ظَنٍّ لَا يَقِينٍ ، فَأَمَّا قَوْلُ الْمُزَنِيِّ : " فَتَفَهَّمْ " - يُرِيدُ بِهِ الشَّافِعِيَّ - قَالَ أَصْحَابُنَا : كُلُّ مَوْضِعٍ يَقُولُ فِيهِ الْمُزَنِيُّ : تَفَهَّمْ - يُرِيدُ بِهِ أَصْحَابَ الشَّافِعِيِّ - وَكُلُّ مَوْضِعٍ يَقُولُ فِيهِ : فَافْهَمْ - يُرِيدُ بِهِ أَصْحَابَ الشَّافِعِيِّ - وَكُلُّ مَوْضِعٍ يَقُولُ فِيهِ الشَّافِعِيُّ : " قَالَ بَعْضُ النَّاسِ - يُرِيدُ بِهِ أَبَا حَنِيفَةَ - ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ قَالَ فِيهِ : قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا - يُرِيدُ بِهِ مَالِكًا - وَإِذَا أَرَادَ غَيْرَهُمَا ذَكَرَهُ بِاسْمِهِ ثُمَّ ذَكَرَ الْمُزَنِيُّ بَعْدَهُ فَصْلًا لَا احْتِجَاجَ فِيهِ وَلَا اسْتِشْهَادَ ، وَهَذِهِ إِحْدَى مَسَائِلِهِ الثَّلَاثِ الَّتِي أَطَالَ الْكَلَامَ فِيهَا ، وَالْأُخْرَى الْمُتَيَمِّمُ إِذَا رَأَى الْمَاءَ فِي تَضَاعِيفِ صَلَاتِهِ وَالثَّالِثَةُ : ظِهَارُ السَّكْرَانِ وَكَلَامُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَطْوَلُ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَيُعِيدُ الْأَعْمَى مَا صَلَّى مَعَهُ مَتَى أَعْلَمَهُ "
وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا صَلَّى الْأَعْمَى بِاجْتِهَادِ بَصِيرٍ ثُمَّ أَخْبَرَ الضَّرِيرَ بِيَقِينِ الْخَطَأِ الْمُجْتَهِدِ لَهُ ، الحكم فَفِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ كَالْبَصِيرِ : أَحَدُهُمَا : لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ وَالثَّانِي : عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ، لِأَنَّ دِلَالَةَ الْأَعْمَى عَلَى الْقِبْلَةِ قَوْلُ الْبَصِيرِ ، كَمَا أَنَّ دِلَالَةَ الْبَصِيرِ مُشَاهَدَةُ الْعَلَامَاتِ فَإِذَا وَقَعَ الْخَطَأُ فِي دَلَائِلِ الْبَصِيرِ ، وَقَعَ فِي دَلِيلِ الْأَعْمَى ، ثُمَّ اسْتَوَيَا ، فِي حُكْمِ الْإِعَادَةِ وَسُقُوطِهَا ، فَأَمَّا إِنْ أَخْبَرَهُ غَيْرُ الْمُجْتَهِدِ لَهُ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ خَبَرًا مُتَوَاتِرًا ، فَفِي الْإِعَادَةِ أَيْضًا قَوْلَانِ كَمَا مَضَى وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ خَبَرَ وَاحِدٍ وَقَعَ فِي النَّفْسِ صِدْقُهُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ : لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ لَا يَتَيَقَّنُ الْخَطَأَ ، كَمَا يَتَيَقَّنُهُ الْبَصِيرُ بِمُشَاهَدَتِهِ ، وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا : بَلْ تَكُونُ الْإِعَادَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ إِذَا كَانَ الْمُخْبِرُ غَيْرَ مُجْتَهِدٍ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ كَانَ شَرْقًا ثُمَّ رَأَى أَنَّهُ مُنْحَرِفٌ وَتِلْكَ جِهَةٌ وَاحِدَةٌ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْحَرِفَ وَيَعْتَدَّ بِمَا مَضَى وَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَعْمَى يَنْحَرِفُ بِانْحِرَافِهِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا : فِي رَجُلٍ اسْتَيْقَنَ الشَّرْقَ بِصَلَاتِهِ مُجْتَهِدًا ثُمَّ بَانَ لَهُ فِي أَثْنَائِهَا أَنَّهُ مُنْحَرِفٌ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الِانْحِرَافُ وَالْجِهَةُ وَاحِدَةً وَالثَّانِي : يَكُونُ الِانْحِرَافُ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى ، فَإِنْ كَانَ مُنْحَرِفًا ، وَالْجِهَةُ وَاحِدَةٌ فَإِنْ كَانَ مُتَيَامِنًا عَنْهَا قَلِيلًا ، وَمُتَيَاسِرًا عَنْهَا ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ الِانْحِرَافُ مِنْ جِهَةِ الْيَقِينِ ، أَوْ مِنْ جِهَةِ الِاجْتِهَادِ ، فَإِنْ بَانَ لَهُ الِانْحِرَافُ مِنْ جِهَةِ الْيَقِينِ تَحَرَّفَ إِلَى حَيْثُ بَانَ لَهُ مَنْ تَيَامَنَ ، أَوْ تَيَاسَرَ ، وَبَنَى عَلَى صِلَاتِهِ ، لِأَنَّ الْجِهَةَ وَاحِدَةٌ ، فَلَمْ يَكُنِ الِانْحِرَافُ فِيهَا مَانِعًا مِنْ جَوَازِ الْبِنَاءِ ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ ، وَإِنْ بَانَ لَهُ الِانْحِرَافُ مِنْ جِهَةِ الِاجْتِهَادِ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ يَلْزَمُهُ الِانْحِرَافُ إِلَى حَيْثُ بَانَ لَهُ ، وَيُبْنَى عَلَى صَلَاتِهِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَلْزَمُهُ الِانْحِرَافُ وَيُبْنَى عَلَى حَالِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا : لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي صَلَاتِهِ إِلَى الْجِهَةِ بِالِاجْتِهَادِ فَلَمْ يَنْحَرِفْ عَنْهَا بِاجْتِهَادٍ
فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الِانْحِرَافُ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى إِمَّا مُسْتَدْبِرًا ، أَوْ يُمْنَةً ، أَوْ يُسْرَةً استقبال القبلة لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَنْ يَقِينٍ ، أَوِ اجْتِهَادٍ ، فَإِنْ كَانَ عَنْ يَقِينٍ اسْتَدَارَ إِلَيْهَا وَهَلْ يُبْنَى عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ أَوْ يَسْتَأْنِفُهَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : يُبْنَى إِذَا قِيلَ أَنَّهُ لَوْ تَبَيَّنَ الْخَطَأُ بَعْدَ الْفَرَاغِ لَمْ يُعِدْ وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَسْتَأْنِفُ إِذَا قِيلَ : لَوْ تَيَقَّنَ الْخَطَأَ بَعْدَ الْفَرَاغِ أَعَادَ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى اجْتِهَادٍ فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُبْنَى عَلَى الْجِهَةِ الْأَوْلَى وَلَا يَسْتَدْبِرُ إِلَى الثَّانِيَةِ : لِاسْتِقْرَارِ حُكْمِ اجْتِهَادِهِ الْأَوَّلِ بِالدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَسْتَدْبِرُ إِلَى الْجِهَةِ الثَّانِيَةِ ، كَمَا لَوْ بَانَ لَهُ صَلَاةٌ ثَانِيَةٌ ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقِيمَ عَلَى اسْتِقْبَالِ جِهَةٍ يَعْتَقِدُهَا غَيْرَ قِبْلَةٍ ، فَعَلَى هَذَا إِذَا اسْتَدَارَ إِلَيْهَا بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ ، لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يَنْقُضُ الِاجْتِهَادَ ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ عَلِمَ ذَلِكَ بَعْدَ الْفَرَاغِ لَمْ يُعِدْ
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا فَإِنْ لَزِمَهُ الْبِنَاءُ عَلَى جِهَةٍ مِنْ غَيْرِ انْحِرَافٍ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنَ الشَّرْعِ فَهُوَ عَلَى حَالِهِ يَبْنِي عَلَى صَلَاتِهِ إِمَامًا كَانَ أَوْ مَأْمُومًا ، أَوْ مُنْفَرِدًا وَ إِنْ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ اسْتَأْنَفَ إِمَامًا كَانَ أَوْ مَأْمُومًا أَوْ مُنْفَرِدًا ، فَأَمَّا إِنْ لَزِمَهُ الِانْحِرَافُ وَالْبِنَاءُ إلى القبلة لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ مُنْفَرِدًا فَيَنْحَرِفُ وَيَبْنِي وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَأْمُومًا ، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ قَدْ بَانَ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ تَحَرَّفَا جَمِيعًا ، وَبَنَيَا وَإِنْ لَمْ يَبِنْ لِإِمَامِهِ مِثْلُ ذَلِكَ أَخْرَجَ نَفْسَهُ مِنْ إِمَامَتِهِ ، وَبَنَى عَلَى صَلَاتِهِ فَإِنْ أَقَامَ عَلَى الِائْتِمَامِ مُنْحَرِفًا ، أَوْ غَيْرَ مُنْحَرِفٍ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ ، لِاخْتِلَافِ جِهَتِهِ ، وَجِهَةِ إِمَامِهِ وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ إِمَامًا فَإِنْ يَنْحَرِفْ لَمْ يَنْظُرْ فِي الْمَأْمُومِينَ ، فَإِنْ بَانَ لَهُمْ مِثْلُ ذَلِكَ تَحَرَّفُوا بِانْحِرَافِهِ ، وَبَنُوا مَعَهُ عَلَى الصَّلَاةِ وَإِنْ لَمْ يَبِنْ لَهُمْ مِثْلُ ذَلِكَ أَخْرَجُوا نُفُوسَهُمْ مِنْ إِمَامَتِهِ ، فَإِنْ أَقَامُوا عَلَى الِائْتِمَامِ بِهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُمْ ، لِأَنَّهُمْ إِنِ انْحَرَفُوا فَهُمْ لَا يَرَوْنَ الِانْحِرَافَ قِبْلَةً ، وَإِنْ لَمْ يَنْحَرِفُوا فَعِنْدَهُمْ أَنَّ إِمَامَهُمْ إِلَى غَيْرِ قِبْلَةٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ أَعْمَى فَيَنْحَرِفُ بِانْحِرَافِ إِمَامِهِ وَيُجْزِئُهُ : لِأَنَّ الْأَعْمَى لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُتَابِعًا لِغَيْرِهِ فِي الْقِبْلَةِ فَكَانَ اتِّبَاعُهُ لِإِمَامِهِ أَوْلَى مِنَ اتِّبَاعِهِ لِغَيْرِ إِمَامِهِ ، وَلِأَنَّهُ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ فِي اجْتِهَادِ إِمَامِهِ
فَصْلٌ إِذَا دَخَلَ الْبَصِيرُ فِي صَلَاتِهِ بِاجْتِهَادٍ ثُمَّ شَكَّ فِي الْقِبْلَةِ فِي تَضَاعِيفِهَا بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ
فَصْلٌ : إِذَا دَخَلَ الْبَصِيرُ فِي صَلَاتِهِ بِاجْتِهَادٍ ثُمَّ شَكَّ فِي الْقِبْلَةِ فِي تَضَاعِيفِهَا بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ وَلَا حُكْمَ لِلشَّكِّ الطَّارِئِ ، لِأَنَّهُ عَلَى الْقِبْلَةِ مَا لَمْ يَرَ غَيْرَهَا ، وَلَوْ دَخَلَ فِي صَلَاتِهِ شَاكًّا فِي الْقِبْلَةِ ثُمَّ عَلِمَ صَوَابَهَا فِي تَضَاعِيفِ صَلَاتِهِ اسْتَأْنَفَهَا ، لِأَنَّ مَا ابْتَدَأَ مِنْهَا مَعَ الشَّكِّ بَاطِلٌ ، وَلَوْ كَانَ الْبَصِيرُ فِي ظُلْمَةٍ وَخَفِيَتْ عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ فَصَلَّى عَلَى غَالِبِ ظَنِّهِ ثُمَّ عَلِمَ صَوَابَ جِهَتِهِ
أَعَادَ ، كَالْأَعْمَى إِذَا صَلَّى بِاجْتِهَادِ نَفْسِهِ يُعِيدُ وَإِنْ أَصَابَ ، وَلَوْ دَخَلَ الْبَصِيرُ فِي الصَّلَاةِ بِيَقِينِ الْقِبْلَةِ ثُمَّ أَطْبَقَ الْغَيْمُ ، وَالظُّلْمَةُ وَاشْتَبَهَ عَلَيْهِ فَهُوَ عَلَى الصَّوَابِ حَتَّى يَعْلَمَ الْخَطَأَ فَيُعِيدُ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِذَا اجْتَهَدَ بِهِ رَجُلٌ ثُمَّ قَالَ لَهُ رَجُلٌ آَخَرُ قَدْ أَخْطَأَ بِكَ فَصَدَّقَهُ استقبال القبلة ، تَحَرَّفَ حَيْثُ قَالَ لَهُ وَمَا مَضَى مُجْزِئٌ عَنْهُ : لِأَنَّهُ اجْتَهَدَ بِهِ مَنْ لَهُ قَبُولُ اجْتِهَادِهِ . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : قَدِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ فِيمَنِ اجْتَهَدَ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ أَخْطَأَ أَنَّ ذَلِكَ يُجْزِئُهُ بَأَنْ قَالَ : وَذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ تَأَخَّى الْقِبْلَةَ ثُمَّ عَلِمَ بَعْدَ كَمَالِ الصَّلَاةِ أَنَّهُ أَخْطَأَ أَجْزَأَتْ عَنْهُ كَمَا يُجْزِئُ ذَلِكَ فِي خَطَأٍ عَرَفَةَ وَاحْتَجَّ أَيْضًا فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ : إِذَا تَأَخَّى فِي أَحَدِ الْإِنَاءَيْنِ أَنَّهُ طَاهِرٌ وَالْآخَرُ نَجِسٌ فَصَلَّى ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَتَوَضَّأَ ثَانِيَةً فَكَانَ الْأَغْلَبُ عِنْدَهُ أَنَّ الَّذِي تَرَكَ هُوَ الطَّاهِرُ لَمْ يَتَوَضَّأْ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وَيَتَيَمَّمُ وَيُعِيدُ كُلَّ صَلَاةٍ صَلَّاهَا بَتَيَمُّمٍ لِأَنَّ مَعَهُ مَاءٌ مُتَيَقِّنًا وَلَيْسَ كَالْقِبْلَةِ يَتَأَخَّاهَا فِي مَوْضِعٍ ثُمَّ يَرَاهَا فِي غَيْرِهِ : لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلَّا وَهِيَ قِبْلَةٌ لِقَوْمٍ . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : فَقَدْ أَجَازَ صَلَاتَهُ وَإِنْ أَخْطَأَ الْقِبْلَةَ فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ : لِأَنَّهُ أَدَّى مَا كُلِّفَ وَلَمْ يُجْعَلْ عَلَيْهِ إِصَابَةُ الْعَيْنِ لِلْعَجْزِ عَنْهَا فِي حَالِ الصَّلَاةِ . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : وَهَذَا الْقِيَاسُ عَلَى مَا عَجَزَ عَنْهُ الْمُصَلِّي فِي الصَّلَاةِ مِنْ قِيَامٍ وَقُعُودٍ وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ وَسَتْرٍ أَنَّ فَرْضَ اللَّهِ كُلَّهُ سَاقِطٌ عَنْهُ دُونَ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَاءِ عُرْيَانًا ، فَإِذَا قَدَرَ مِنْ بَعْدُ لَمْ يُعِدْ ، فَكَذَلِكَ إِذَا عَجَزَ عَنِ التَّوَجُّهِ إِلَى عَيْنِ الْقِبْلَةِ كَانَ عَنْهُ أَسْقَطَ ، وَقَدْ حُوِّلَتِ الْقِبْلَةُ ثُمَّ صَلَّى أَهْلُ قِبَاءٍ رَكْعَةً إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ ثُمَّ أَتَاهُمْ آتٍ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ فَاسْتَدَارُوا وَبَنَوْا بَعْدَ يَقِينِهِمْ أَنَّهُمْ صَلَّوْا إِلَى غَيْرِ قِبْلَةٍ وَلَوْ كَانَ صَوَابُ عَيْنِ الْقِبْلَةِ الْمُحَوَّلِ إِلَيْهَا فَرْضًا مَا أَجْزَأَهُمْ خِلَافُ الْفَرْضِ لِجَهْلِهِمْ بِهِ كَمَا لَا يُجْزِئُ مَنْ تَوَضَّأَ بِغَيْرِ مَاءٍ طَاهِرٍ لِجَهْلِهِ بِهِ ثُمَّ اسْتَيْقَنَ أنَهُ غَيْرُ طَاهِرٍ فَتَفَهَّمْ ، رَحِمَكَ اللَّهُ . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : وَدَخَلَ فِي قِيَاسِ هَذَا الْبَابِ أَنَّ مَنْ عَجَزَ عَمَّا عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِ الصَّلَاةِ أَوْ مَا أُمِرَ بِهِ فِيهَا أَوْ لَهَا أَنَّ ذَلِكَ سَاقِطٌ عَنْهُ لَا يُعِيدُ إِذَا قَدَرَ وَهُوَ أَوْلَى بِأَحَدِ قَوْلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ فِيمَنْ صَلَّى فِي ظُلْمَةٍ أَوْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ أَوْ بِهِ دَمٌ لَا يَجِدُ مَا يَغْسِلُهُ بِهِ أَوْ كَانَ مَحْبُوسًا فِي نَجِسٍ أَنَّهُ يُصَلِّي كَيْفَ أَمْكَنَهُ وَيُعِيدُ إِذَا قَدَرَ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ وَصُورَتُهَا : فِي أَعْمَى اجْتَهَدَ لَهُ بَصِيرٌ فِي الْقِبْلَةِ ثُمَّ قَالَ لَهُ آخَرُ : قَدْ أَخْطَأَ بِكَ فِي الِاجْتِهَادِ فَلَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ ، أَوْ يَكُونَ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الصَّلَاةِ ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ قَبْلَ دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الثَّانِي مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يُخْبِرَ عَنْ يَقِينٍ أَوِ اجْتِهَادٍ ، فَإِنْ كَانَ مُخْبِرًا عَنْ يَقِينٍ صَارَ إِلَى قَوْلِ الثَّانِي إِذَا وَقَعَ فِي النَّفْسِ صِدْقُهُ ، لِأَنَّ تَرْكَ الِاجْتِهَادِ بِالْيَقِينِ وَاجِبٌ ، في استقبال القبلة وَإِنْ كَانَ مُخْبِرًا عَنِ اجْتِهَادٍ لَمْ يَخْلُ حَالُ الثَّانِي وَالْأَوَّلِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ :
أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ أَوْثَقَ وَأَعْلَمَ مِنَ الثَّانِي فَيَعْمَلُ عَلَى قَوْلِ الْأَوَّلِ وَيَتْرُكُ قَوْلَ الثَّانِي وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ الثَّانِي أَوْثَقَ وَأَعْلَمَ مِنَ الْأَوَّلِ فَيَعْمَلُ عَلَى قَوْلِ الثَّانِي وَيَعْدِلُ عَنْ قَوْلِ الْأَوَّلِ وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَا فِي الثِّقَةِ وَالْعِلْمِ سَوَاءً فَيَكُونُ كَالْبَصِيرِ إِذَا تَسَاوَتْ عِنْدَهُ جِهَتَانِ فَيَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ مُخَيَّرًا فِي الْأَخْذِ بِقَوْلِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا وَالثَّانِي : يَأْخُذُ بِقَوْلِهِمَا ، وَيُصَلِّي إِلَى جِهَةِ كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يُخْبِرَهُ بِالْخَطَأِ بَعْدَ دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ استقبال القبلة فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ أَخْبَرَهُ عَنْ يَقِينٍ ، أَوِ اجْتِهَادٍ ، فَإِنْ كَانَ أَخَبْرَهُ عَنْ يَقِينٍ صَارَ إِلَيْهِ وَانْحَرَفَ بِقَوْلِهِ ، فَإِنْ كَانَتِ الْجِهَةُ وَاحِدَةً وَإِنَّمَا كَانَ مُنْحَرِفًا عَنْهَا يَسِيرًا بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ جِهَةً أُخْرَى فَهَلْ يَبْنِي ، أَوْ يَسْتَأْنِفُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ خَبَرُهُ عَنِ اجْتِهَادٍ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَوْثَقَ وَأَعْلَمَ مَضَى عَلَى جِهَةِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يَعْمَلْ بِقَوْلِ الثَّانِي ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي أَوْثَقَ وَأَعْلَمَ رَجَعَ إِلَى قَوْلِ الثَّانِي وَتَرَكَ قَوْلَ الْأَوَّلِ ، فَإِذَا انْحَرَفَ إِلَى جِهَةٍ بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ قَوْلًا وَاحِدًا ، لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يُنْقَضُ بِالِاجْتِهَادِ وَإِنْ كَانَا فِي الثِّقَةِ ، وَالْعِلْمِ سَوَاءً فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ عَلَى حَالِهِ وَيَعْمَلُ عَلَى قَوْلِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَرْجِعُ عَنْ قَوْلِ الْأَوَّلِ إِلَى قَوْلِ الثَّانِي وَيَبْنِي عَلَى صَلَاتِهِ
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يُخْبِرَهُ بِالْخَطَأِ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الصَّلَاةِ ، استقبال القبلة فَإِنْ كَانَ خَبَرُهُ عَنِ اجْتِهَادٍ فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ بِحَالٍ سَوَاءٌ كَانَ الْأَوَّلُ أَعْلَمَ أَوِ الثَّانِي كَالْبَصِيرِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ إِذَا بَانَ لَهُ الْخَطَأُ بِاجْتِهَادٍ وَإِنْ كَانَ خَبَرُهُ عَنْ يَقِينٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : بِوُجُوبِ الْإِعَادَةِ عَلَيْهِ عَلَى قَوْلَيْنِ ، كَالْبَصِيرِ إِذَا تَيَقَّنَ الْخَطَأُ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الصَّلَاةِ ، وَذَهَبَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ : أَنَّهُ لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَصِيرِ بِأَنَّ الْبَصِيرَ عَلَى إِحَاطَةٍ مِنْ يَقِينِ غَيْرِهِ ، قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : قَدْ كُنْتُ ذَهَبْتُ إِلَى هَذَا حَتَّى وَجَدْتُ عَنِ الشَّافِعِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا
فَصْلٌ دَخَلَ الْأَعْمَى فِي صَلَاةٍ بِاجْتِهَادِ بَصِيرٍ ثُمَّ أَبْصَرَ الْأَعْمَى فِي تَضَاعِيفِ صَلَاتِهِ
فَصْلٌ : وَإِذَا دَخَلَ الْأَعْمَى فِي صَلَاةٍ بِاجْتِهَادِ بَصِيرٍ ثُمَّ أَبْصَرَ الْأَعْمَى فِي تَضَاعِيفِ صَلَاتِهِ ، فَإِنْ وَقَعَتْ عَيْنُهُ حِينَ أَبْصَرَ عَلَى الْقِبْلَةِ بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ ، وَإِنْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ لِمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الِاجْتِهَادِ فِيهَا وَتَكُونُ حَالُهُ كَالْمُصَلِّي عُرْيَانًا إِذَا وَجَدَ ثَوْبًا ، فَإِنْ كَانَ قَرِيبًا اسْتَتَرَ بِهِ وَبَنَى عَلَى صَلَاتِهِ ، وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ لِمَا لَزِمَهُ مِنْ سَتْرِ الْعَوْرَةِ ، وَإِنْ دَخَلَ
بَصِيرٌ بِاجْتِهَادِ نَفْسِهِ ثُمَّ عَمِيَ فِي تَضَاعِيفِهَا بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَسْتَدْبِرْ فِيهَا ، أَوْ يَتَحَوَّلْ عَنْهَا ، فَإِنِ اسْتَدَارَ لَزِمَتْهُ الْإِعَادَةُ أَخْطَأَ أَوْ أَصَابَ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ دَخَلَ غُلَامٌ فِي صَلَاةٍ فَلَمْ يُكْمِلْهَا أَوْ صَوْمِ يَوْمٍ فَلَمْ يُكْمِلْهُ حَتَّى اسْتَكْمَلَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً أَحْبَبْتُ أَنْ يُتِمَّ وَيُعِيدَ وَلَا يَبِينُ أَنَّ عَلَيْهِ إِعَادَةً . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : لَا يُمْكِنُهُ صَوْمُ يَوْمٍ هُوَ فِي آخِرِهِ غَيْرُ صَائِمٍ وَيُمْكِنُهُ صَلَاةٌ فِي آخِرِ وَقْتِهَا غَيْرُ مُصَلٍّ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ الْغُرُوبِ أَنَّهُ يَبْتَدِئُ الْعَصْرَ مِنْ أَوَّلِهَا وَلَا يُمْكِنُهُ فِي آخِرِ يَوْمٍ أَنْ يَبْتَدِئَ صَوْمَهُ مِنْ أَوَّلِهِ فَيُعِيدُ الصَّلَاةَ لِإِمْكَانِ الْقُدْرَةِ وَلَا يُعِيدُ الصَّوْمَ لِارْتِفَاعِ إِمْكَانِ الْقُدْرَةِ وَلَا تَكْلِيفَ مَعَ الْعَجْزِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا دَخَلَ الصَّبِيُّ قَبْلَ بُلُوغِهِ فِي صَلَاةِ وَقْتِهِ ثُمَّ بَلَغَ فِي تَضَاعِيفِهَا بِاسْتِكْمَالِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً ، أَوْ دَخَلَ فِي صِيَامِ يَوْمٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ ثُمَّ بَلَغَ فِي تَضَاعِيفِهَا بِالِاحْتِلَامِ ، أَوْ بِاسْتِكْمَالِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ ، وَلَا صِيَامُهُ ، لَكِنْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : أَحْبَبْتُ أَنْ يُتِمَّ وَيُعِيدَ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ ، وَخَالَفَهُمُ الْمُزَنِيُّ خِلَافًا رَابِعًا : أَحَدُهَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ : يُتِمُّ صَلَاتَهُ ، وَصِيَامَهُ اسْتِحْبَابًا . وَيُعِيدُهُمَا وَاجِبًا فَحَمَلَ الِاسْتِحْبَابَ عَلَى الِائْتِمَامِ وَالْإِيجَابَ عَلَى الْإِعَادَةِ وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ يُتِمُّ صَلَاتَهُ ، وَصِيَامَهُ وَاجِبًا وَيُعِيدُهُمَا اسْتِحْبَابًا ، فَحَمَلَ الِائْتِمَامَ عَلَى الْإِيجَابِ وَالْإِعَادَةَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ : أَنَّهُ إِنْ كَانَ وَقْتُ الصَّلَاةِ بَاقِيًا أَعَادَ وَاجِبًا ، وَإِنْ كَانَ فَائِتًا أَعَادَ اسْتِحْبَابًا ، وَلَا يُعِيدُ الصِّيَامَ وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ : وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ أَنَّهُ يُعِيدُ الصَّلَاةَ وَاجِبًا فِي الْوَقْتِ وَبَعْدَ الْوَقْتِ ، وَلَا يُعِيدُ الصِّيَامَ ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِمَا سَنَذْكُرُهُ ، وَعَلَى جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ وَصِيَامُهُ بِبُلُوغِهِ فِي انْتِهَائِهَا ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ بُلُوغَهُ فِي وَقْتِ الْعِبَادَةِ يُوجِبُ عَلَيْهِ فَرْضَهَا ، وَمَا فَعَلَهُ قَبْلَ بُلُوغِهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَفْلًا ، أَوْ لَا يَكُونَ نَفْلًا ، وَأَيُّهُمَا كَانَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْقُطَ بِهِ الْفَرْضُ ، وَلِأَنَّ بُلُوغَ الصَّبِيِّ فِي حَجِّهِ لَا يُسْقِطُ حَجَّ الْإِسْلَامِ عَنْهُ كَذَلِكَ بُلُوغُهُ فِي صَلَاتِهِ ، وَصِيَامِهِ ، لَا يُسْقِطُ فَرْضَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ عَنْهُ ، وَلِأَنَّ التَّكَالِيفَ قَدْ تَتَعَلَّقُ بِبُلُوغِ الصَّبِيِّ ، وَإِفَاقَةِ الْمَجْنُونِ فَلَمَّا كَانَتْ إِفَاقَةُ الْمَجْنُونِ فِي بَعْضِ الصَّلَاةِ تُوجِبُ اسْتِئْنَافَهَا بِحُدُوثِ التَّكْلِيفِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ بُلُوغُ الْغُلَامِ فِي تَضَاعِيفِ الصَّلَاةِ يُوجِبُ اسْتِئْنَافَهَا بِحُدُوثِ التَّكْلِيفِ وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهَا عِبَادَةٌ يُبْطِلُهَا الْحَدَثُ فَجَازَ أَنْ يَنُوبَ مَا فَعَلَهُ قَبْلَ بُلُوغِهِ كَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ ، كَالطَّهَارَةِ . وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّ مِنْهُ الطَّهَارَةُ صَحَّ مِنْهُ فِعْلُ الصَّلَاةِ ، كَالْبَالِغِ ، وَلِأَنَّهَا
عِبَادَةٌ عَلَى الْبَدَنِ طَرَأَ الْبُلُوغُ فِيهَا عَلَى الْمُتَلَبِّسِ بِهَا فِي وَقْتٍ يَعْرِضُ لِفَوَاتِهَا فَوَجَبَ أَنْ يُجْزِئَهُ ، كَالصَّبِيِّ إِذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ بَلَغَ قَبْلَ عَرَفَةَ فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ أَنَّ النَّفْلَ لَا يَنُوبُ عَنِ الْفَرْضِ فَهَذَا يُفَسَّرُ عَلَى أَصْلِهِمْ بِالْمُصَلِّي فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ عِنْدَهُمْ ، أَنَّ صَلَاتَهُ نَافِلَةً تَنُوبُ عَنْ فَرِيضَةٍ عَلَى أَنَّ مَا يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الْفَرْضِ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ قَدْ أَدَّاهُ قَبْلَ بُلُوغِهِ ، لَا نَقُولُ أَنَّهَا نَافِلَة ، وَإِنَّمَا نَقُولُ صَلَاةٌ مِثْلَهُ وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْحَجِّ ، فَإِنْ كَانَ بُلُوغُهُ قَبْلَ عَرَفَةَ أَجْزَأَهُ بِاتِّفَاقٍ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ عَرَفَةَ لَمْ يُجْزِهِ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْحَجِّ قَبْلَ وَقْتِهِ ، وَالصَّلَاةُ أَتَى بِهَا بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِهَا ، وَأَمَّا الْمَجْنُونُ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي صَلَاتِهِ ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ مَعَ الْجُنُونِ أَدَاءُ عِبَادَةٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَطَهَّرَ لَمْ يُجْزِهِ ، وَقَدْ يَصِحُّ ذَلِكَ مِنَ الصَّبِيِّ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَطَهَّرَ أَجْزَأَهُ بِاتِّفَاقٍ مِنَّا وَمِنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَإِنْ خَالَفَنَا دَاوُدُ فَمَنَعَ مِنْ صِحَّةِ طَهَارَتِهِ ، فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ ذَهَبَ إِلَى وُجُوبِ إِعَادَةِ الصَّلَاةِ دُونَ الصِّيَامِ ، وَكَانَ مَنْ فَرْقِهِ بَيْنَهَا أَنْ قَالَ : إِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ صَوْمُ يَوْمٍ فَهَذَا هُوَ فِي آخِرِهِ غَيْرُ صَائِمٍ ، وَيُمْكِنُهُ صَلَاةُ هُوَ فِي آخِرِهَا غَيْرُ مُصَلٍّ ، وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يَقُولُ : إِنَّمَا أَرَادَ هُوَ فِي أَوَّلِهِ غَيْرُ صَائِمٍ ، وَأَخْطَأَ فِي الْعِبَارَةِ فَقَالَ : فِي آخِرِهِ . وَقَالَ غَيْرُ أَبِي إِسْحَاقَ : الْعِبَارَةُ صَحِيحَةٌ ، وَمُرَادُهُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ ، وَالصِّيَامِ بِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا يُسْتَوْعَبُ وَقْتُهَا ، وَالصَّوْمَ يُسْتَوْعَبُ وَقْتُهُ وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنْ يُقَالَ : لَيْسَ كُلُّ يَوْمٍ لَا يُمْكِنُهُ صِيَامُ أَوَّلِهِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ صَوْمُهُ وَقَضَاؤُهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ صَوْمَ يَوْمِ الشَّكِّ لَا يُمْكِنُ صِيَامُ أَوَّلِهِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ ، وَقَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ الْعَوَالِي فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلْيَصُمْهُ فَأَمَرَهُمْ بِصِيَامِ آخِرِهِ ، وَلَمْ يُلْزِمْهُمْ صِيَامَ أَوَّلِهِ ، ثُمَّ يُقَالُ لِلْمُزَنِيِّ : لَوْ عَكَسَ عَلَيْكَ قَوْلَكَ فِي إِيجَابِ قَضَاءِ الصَّلَاةِ دُونَ الصِّيَامِ لَكَانَ أَشْبَهَ ، لِأَنَّ الصِّيَامَ أَدْخَلُ فِي الْقَضَاءِ مِنَ الصَّلَاةِ ، لِأَنَّ الْحَائِضَ تَقْضِي الصِّيَامَ دُونَ الصَّلَاةِ ، وَالْمُسَافِرَ يَقْضِي مَا أَفْطَرَ دُونَ مَا قَصَرَ فَكَانَ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْفَرْقِ فَاسِدًا
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ شَرْحِ الْمَذْهَبِ وَاخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فَلَا يَخْلُو الصَّبِيُّ إِذَا بَلَغَ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ صَلَّى وَلَا هُوَ فِي الصَّلَاةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ اتِّفَاقًا وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنَّهُ يَكُونُ قَدْ صَلَّى وَأَكْمَلَ الصَّلَاةَ قَبْلَ بُلُوغِهِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ يَجِبُ عَلَيْهِ إِعَادَتُهَا ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِعَادَتُهَا ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ إِنْ كَانَ الْوَقْتُ بَاقِيًا بَعْدَ بُلُوغِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ إِعَادَتُهَا ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ وَقْتُ الْإِعَادَةِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إِعَادَتُهَا
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ فِي تَضَاعِيفِ صَلَاتِهِ فَعَلَى قَوْلِ ! أَبِي الْعَبَّاسِ هُوَ مُخَيَّرٌ فِي تَرْكِهَا وَفِي إِتْمَامِهَا ، وَهُوَ أَوْلَى ثُمَّ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا وَاجِبًا وَإِنْ كَانَ قَدْ أَتَمَّهَا ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ إِتْمَامُهَا ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ تَرْكُهَا ، وَيُسْتَحَبُّ لَهُ إِعَادَتُهَا ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ : إِنْ كَانَ وَقْتُهَا بَعْدَ إِتْمَامِهَا بَاقِيًا وَجَبَ عَلَيْهِ إِعَادَتُهَا وَإِنْ خَرَجَ مِنْهَا قَبْلَ إِتْمَامِهَا لَزِمَهُ اسْتِئْنَافُهَا فِي الْوَقْتِ وَبَعْدَهُ وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَبْلُغَ فِي تَضَاعِيفِهَا وَيُفْسِدَهَا قَبْلَ إِتْمَامِهَا فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا فِي قَوْلِ جَمِيعِهِمْ ، فَأَمَّا إِذَا بَلَغَ فِي صَوْمِ يَوْمٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صوم الصبي فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ مُفْطِرًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِي قَوْلِ جَمِيعِهِمْ وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ فِيهِ صَائِمًا وَيُتَمِّمَهُ فَعَلَى قَوْلِ الْمُزَنِيِّ ، وَأَبِي سَعِيدٍ ، وَأَبِي إِسْحَاقَ : يُجْزِئُهُ وَلَا يُعِيدُ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ : عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ فِيهِ صَائِمًا وَيَفْسُدَ صَوْمُهُ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ بِاتِّفَاقِهِمْ - وَاللَّهُ ، عَزَّ وَجَلَّ ، أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
بَابُ صِفَةِ الصَّلَاةِ وَمَا يُجْزِئُ مِنْهَا وَمَا يُفْسِدُهَا وَعَدَدِ سُجُودِ الْقُرْآنِ
بَابُ صِفَةِ الصَّلَاةِ وَمَا يُجْزِئُ مِنْهَا وَمَا يُفْسِدُهَا وَعَدَدِ سُجُودِ الْقُرْآنِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِذَا أَحْرَمَ إِمَامًا ، أَوْ وَحْدَهُ نَوَى صَلَاتَهُ فِي حَالِ التَّكْبِيرِ لَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَإِنَّمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ نَوَى صَلَاتَهُ وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا أَنَّهُ لَا يَنْوِي صَلَاةَ غَيْرِهِ رَدًّا عَلَى مَالِكٍ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ، حِينَ مَنَعَا مِنَ اخْتِلَافِ نِيَّةِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ وَأَمَّا النِّيَّةُ في الصلاة : فَمِنْ شَرَائِطِ الصَّلَاةِ وَالدِّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [ الْبَيِّنَةِ : ] وَالْإِخْلَاصُ فِي كَلَامِهِمْ : النِّيَّةُ وَرَوَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى
فصل محل النية هو القلب فَإِذَا تَقَرَّرَ وُجُوبُهَا فَالْكَلَامُ فِيهَا يَقَعُ فِي ثَلَاثَةِ فُصُولٍ : أَحَدُهَا : مَحَلُّ النِّيَّةِ وَالثَّانِي : كَيْفِيَّةُ النِّيَّةِ وَالثَّالِثُ : وَقْتُ النِّيَّةِ وَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ مَحَلُّ النِّيَّةِ في الصلاة وَهُوَ الْقَلْبُ ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ بِهِ ، لِأَنَّهَا تُفْعَلُ بِأَنْأَى عُضْوٍ فِي الْجَسَدِ ، وَهُوَ الْقَلْبُ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَنْوِيَ بِقَلْبِهِ ، وَيَلْفِظَ بِلِسَانِهِ فَهَذَا يُجْزِئُهُ ، وَهُوَ أَكْمَلُ أَحْوَالِهِ وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَلْفِظَ بِلِسَانِهِ وَلَا يَنْوِيَ بِقَلْبِهِ فَهَذَا لَا يُجْزِئُهُ ، لِأَنَّ مَحَلَّ النِّيَّةِ الِاعْتِقَادُ بِالْقَلْبِ : كَمَا أَنَّ مَحَلَّ الْقِرَاءَةِ الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ ، فَلَمَّا كَانَ لَوْ عَدَلَ بِالْقِرَاءَةِ عَنْ ذِكْرِ اللِّسَانِ إِلَى الِاعْتِقَادِ بِالْقَلْبِ لَمْ يُجْزِهِ وَجَبَ إِذَا عَدَلَ بِالنِّيَّةِ عَنِ اعْتِقَادِ الْقَلْبِ إِلَى ذِكْرِ اللِّسَانِ لَا يُجْزِئُهُ : لِعُدُولِهِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ جَارِحَتِهِ وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَنْوِيَ بِقَلْبِهِ وَلَا يَتَلَفَّظَ بِلِسَانِهِ . فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ يُجْزِئُهُ ، وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ - مِنْ أَصْحَابِنَا - : لَا يُجْزِئُهُ حَتَّى يَتَلَفَّظَ بِلِسَانِهِ تَعَلُّقًا بِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ فِي كِتَابِ " الْمَنَاسِكِ " : وَلَا يَلْزَمُهُ إِذَا أَحْرَمَ بِقَلْبِهِ أَنْ يَذْكُرَهُ بِلِسَانِهِ وَلَيْسَ كَالصَّلَاةِ الَّتِي لَا تَصِحُّ إِلَّا
بِالنُّطْقِ فَتَأَوَّلَ ذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ النُّطْقِ فِي النِّيَّةِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ وُجُوبَ النُّطْقِ بِالتَّكْبِيرِ ، ثُمَّ مِمَّا يُوَضِّحُ فَسَادَ هَذَا الْقَوْلِ حِجَاجًا : أَنَّ النِّيَّةَ مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ فَلَمْ تَفْتَقِرْ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْجَوَارِحِ كَمَا أَنَّ الْقِرَاءَةَ لَمَّا كَانَتْ مِنْ أَعْمَالِ اللِّسَانِ لَمْ تَفْتَقِرْ إِلَى غَيْرِهِ ، مِنَ الْجَوَارِحِ
فَصْلٌ كَيْفِيَّةِ النِّيَّةِ
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي : فِي كَيْفِيَّةِ النِّيَّةِ في الصلاة فَتَحْتَاجُ أَنْ تَتَضَمَّنَ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ : فِعْلَ الصَّلَاةِ ، وَوُجُوبَهَا ، وَتَعْيِينَهَا ، لِأَنَّ الْعِبَادَاتِ كُلَّهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ ضَرْبٍ يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةِ الْفِعْلِ لَا غَيْرُ ، وَضَرْبٍ يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةِ الْفِعْلِ وَالْوُجُوبِ لَا غَيْرُ ، وَضَرْبٍ يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةِ الْفِعْلِ وَالْوُجُوبِ وَالتَّعْيِينِ ، فَأَمَّا الَّذِي يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةِ الْفِعْلِ دُونَ الْوُجُوبِ وَالتَّعْيِينِ فَهُوَ الْحَجُّ ، وَالْعُمْرَةُ ، وَالطَّهَارَةُ ، فَإِذَا نَوَى فِعْلَ الْحَجِّ ، أَوْ فِعْلَ الْعُمْرَةِ ، أَوِ الطَّهَارَةَ لِلصَّلَاةِ أَجْزَأَ ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْوُجُوبَ وَالتَّعْيِينَ ، لِأَنَّهُ لَوْ عَيَّنَ ذَلِكَ عَلَى النَّفْلِ وَكَانَ عَلَيْهِ فَرْضٌ لَا يُعْقَدُ ذَلِكَ بِالْفَرْضِ دُونَ النَّفْلِ ، وَأَمَّا الَّذِي يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةِ الْفِعْلِ وَالْوُجُوبِ دُونَ التَّعْيِينِ فَهُوَ الزَّكَاةُ ، وَالْكَفَّارَةُ يُجْزِئُهُ أَنْ يَنْوِيَ فِيمَا يُخْرِجُهُ أَنَّهُ زَكَاةٌ ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ ، وَفِي الْعِتْقِ أَنَّهُ عَنْ كَفَّارَةٍ وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ ، وَأَمَّا الَّذِي يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةِ الْفِعْلِ وَالْوُجُوبِ وَالتَّعْيِينِ وَهُوَ الصَّلَاةُ ، وَالصِّيَامُ فَيَنْوِي صَلَاةَ ظُهْرِ يَوْمٍ : لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ تَعْيِينُهَا يُغْنِي عَنْ نِيَّةِ الْوُجُوبِ ، حَتَّى إِذَا نَوَى صَلَاةَ الظُّهْرِ أَغْنَى عَنْ أَنْ يَنْوِيَ أَنَّهَا فَرْضٌ ؟ وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ : لَا تُغْنِي نِيَّتُهُ أَنَّهَا ظُهْرٌ عَنْ أَنْ يَنْوِيَ أَنَّهَا فَرِيضَةٌ ، وَلَا فِي صَوْمِ رَمَضَانَ عَنْ أَنْ يَنْوِيَ أَنَّهَا فَرْضٌ قَالَ : لِأَنَّ الصَّبِيَّ قَدْ يُصَلِّي الظُّهْرَ ، وَيَصُومُ رَمَضَانَ وَلَا يَكُونُ فَرْضًا ، فَعَلَى هَذَا يَحْتَاجُ أَنْ يَنْوِيَ صَلَاةَ ظُهْرِ يَوْمِهِ الْفَرِيضَةَ ، وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : إِذَا نَوَى أَنَّهَا ظُهْرٌ أَغْنَى عَنْ أَنْ يَنْوِيَ ، أَنَّهَا فَرْضٌ ، لِأَنَّ الظُّهْرَ لَا يَكُونُ إِلَّا فَرْضًا ، وَلَيْسَ إِذَا سَقَطَ فَرْضُهَا عَنْ غَيْرِ الْمُكَلَّفِ خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ فَرْضًا ، لِأَنَّ سَائِرَ الْفُرُوضِ هَكَذَا تَكُونُ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ نَوَى ظُهْرَ يَوْمِهِ أَجْزَأَهُ ، فَأَمَّا إِنْ نَوَى صَلَاةَ الظُّهْرِ لَمْ يَنْوِهَا لِيَوْمِهِ أَوْ وَقْتِهِ ، فَإِنْ كَانَتْ عَلَيْهِ ظُهْرٌ فَائِتَةٌ لَمْ تُجْزِهِ حَتَّى يَنْوِيَ بِهَا ظُهْرَ يَوْمِهِ لِتَمْتَازَ عَنِ الْفَائِتَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ظُهْرٌ فَائِتَةٌ أَجْزَأَهُ ، فَأَمَّا الصَّلَوَاتُ الْفَوَائِتُ فَلَا يَلْزَمُهُ تَعْيِينُ النِّيَّةِ لِأَيَّامِهَا وَإِنَّمَا يَنْوِي صَلَاةَ الظُّهْرِ الْفَائِتَةَ ، فَأَمَّا أَنْ يَنْوِيَ مِنْ يَوْمِ كَذَا فِي شَهْرِ كَذَا فَلَا يَلْزَمُهُ
فَصْلٌ فِي وَقْتِ النِّيَّةِ
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ : فِي وَقْتِ النِّيَّةِ في الصلاة فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : " مَعَ التَّكْبِيرِ لَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ ، فَإِنْ نَوَى بَعْدَ التَّكْبِيرِ قي الصلاة لَمْ يُجْزِهِ ، وَإِنْ نَوَى قَبْلَ التَّكْبِيرِ لَمْ يُجْزِهِ إِلَّا أَنْ يَسْتَدِيمَ النِّيَّةَ إِلَى وَقْتِ التَّكْبِيرِ " وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ نَوَى قَبْلَ التَّكْبِيرِ بِزَمَانٍ قَرِيبٍ النية في الصلاة أَجْزَأَهُ ، وَإِنْ كَانَ بِزَمَانٍ بَعِيدٍ لَمْ يُجْزِهِ وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ : وَأُحِبُّ أَنْ يَنْوِيَ قَبْلَ التَّكْبِيرِ فَإِنْ لَمْ يَنْوِ قَبْلَهُ لَمْ يُجْزِهِ ، فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَاسْتَدَلَّ عَلَى جَوَازِ النِّيَّةِ بِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ تَقْدِيمُهَا فِي الصِّيَامِ عَلَى الدُّخُولِ فِيهِ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ جَازَ
تَقْدِيمُهَا فِي الصَّلَاةِ عَلَى الدُّخُولِ فِيهَا بِالتَّكْبِيرِ ، لِأَنَّ مُرَاعَاةَ النِّيَّةِ مَعَ ابْتِدَاءِ الدُّخُولِ فِيهَا يَشُقُّ ، وَأَمَّا دَاوُدُ فَإِنَّهُ اسْتَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ تَقْدِيمِ النِّيَّةِ بِأَنَّهُ لَوْ قَارَنَ النِّيَّةَ بِالتَّكْبِيرِ قي الصلاة لَتَقَدَّمَ جُزْءٌ مِنَ التَّكْبِيرِ قَبْلَ النِّيَّةِ ، كَمَا لَوْ تَأَخَّى بِنِيَّتِهِ طُلُوعَ ، الْفَجْرِ لَمْ يُجْزِهِ لِتَقَدُّمِ جُزْءٍ مِنْهُ قَبْلَ كَمَالِ نِيَّتِهِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَنَّ تَقْدِيمَ النِّيَّةِ لَا يَجُوزُ : أَنَّهُ إِحْرَامُ عُرِّيَ عَنِ النِّيَّةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُجْزِئَهُ قِيَاسًا عَلَى الزَّمَانِ الْبَعِيدِ ، وَيُفَارِقُ مَا اسْتُشْهِدَ بِهِ مِنَ الصِّيَامِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا جَازَ تَقْدِيمُ النِّيَّةِ فِيهِ بِالزَّمَانِ الْقَرِيبِ جَازَ بِالزَّمَانِ الْبَعِيدِ وَالصَّلَاةُ ، لَمَّا لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُ النِّيَّةِ عَلَيْهَا بِالزَّمَانِ الْبَعِيدِ لَمْ يَجُزْ بِالزَّمَانِ الْيَسِيرِ وَالثَّانِي : أَنَّ دُخُولَهُ فِي الصِّيَامِ لَا يَفْعَلُهُ بِالزَّمَانِ فَشَقَّ عَلَيْهِ مُرَاعَاةُ النِّيَّةِ فِي أَوَّلِهِ وَدُخُولَهُ إِلَى الصَّلَاةِ بِفِعْلِهِ فَلَمْ يُشَقَّ عَلَيْهِ مُرَاعَاةُ النِّيَّةِ فِي أَوَّلِهَا وَالدَّلِيلُ عَلَى دَاوُدَ : أَنَّ مَا وَجَبَ تَقْدِيمُ النِّيَّةِ عَلَيْهِ لَمْ يَلْزَمِ اسْتِدَامَةُ النِّيَّةِ إِلَيْهِ كَالصِّيَامِ ، فَلَمَّا كَانَ وُجُوبُ النِّيَّةِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ مُعْتَبَرًا لَمْ يَكُنْ تَقْدِيمُهَا قَبْلَ الْإِحْرَامِ وَاجِبًا ، وَفِيهِ انْفِصَالٌ
فَصْلٌ إِذَا أَحْرَمَ وَنَوَى ثُمَّ شَكَّ
فَصْلٌ : وَإِذَا أَحْرَمَ وَنَوَى ثُمَّ شَكَّ هَلْ كَانَتْ نِيَّتُهُ مُقَارِنَةً لِإِحْرَامِهِ أَوْ مُقَدِّمَةً ؟ لَمْ تُجْزِهِ حَتَّى يَبْتَدِئَ الْإِحْرَامَ نَاوِيًا مَعَهُ ، فَلَوْ تَيَقَّنَ بَعْدَ شَكِّهِ مُقَارَنَةَ النِّيَّةِ لِإِحْرَامِهِ فَإِنْ تَيَقَّنَ بَعْدَ أَنْ عَمِلَ فِي صَلَاتِهِ بَعْدَ الشَّكِّ عَمَلًا مِنْ قِرَاءَةٍ ، أَوْ رُكُوعٍ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ ، وَإِنْ تَيَقَّنَ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا عَمَلًا ، فَإِنْ كَانَ الزَّمَانُ قَرِيبًا فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ وَيُتَمِّمُهَا ، وَإِنْ كَانَ الزَّمَانُ قَدْ خَرَجَ عَنْ حَدِّ الْقُرْبِ إِلَى حَدِّ الْبُعْدِ فَفِي صَلَاتِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلَةٌ وَيَسْتَأْنِفُهَا ، لِأَنَّ اللُّبْثَ فِيهَا عَمَلٌ مِنْهَا وَالْوَجْهُ الثَّانِي : صَلَاتُهُ جَائِزَةٌ وَيُتَمِّمُهَا ، لِأَنَّ اللُّبْثَ مَقْصُودٌ لِإِيقَاعِ الْفِعْلِ فِيهَا ، وَلَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودَ مِنْ عَمَلِهَا ، وَهَكَذَا لَوْ شَكَّ هَلْ نَوَى ظُهْرًا ، أَوْ عَصْرًا لَمْ يُجْزِهِ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى يَتَيَقَّنَهَا فَإِنْ تَيَقَّنَهَا بَعْدَ الشَّكِّ فَعَلَى مَا مَضَى مِنَ التَّقْسِيمِ وَالْجَوَابِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا يُجْزِئُهُ إِلَّا قَوْلُهُ اللَّهُ أَكْبَرُ أَوِ اللَّهُ الْأَكْبَرُ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : لَا يَصِحُّ دُخُولُهُ فِي الصَّلَاةِ مُحْرِمًا إِلَّا بِلَفْظِ التَّكْبِيرِ وَهُوَ قَوْلُهُ : اللَّهُ أَكْبَرُ ، أَوِ اللَّهُ الْأَكْبَرُ وَقَالَ مَالِكٌ وَدَاوُدُ : لَا يَصِحُّ إِلَّا بِقَوْلِهِ اللَّهُ أَكْبَرُ فَأَمَّا بِقَوْلِهِ اللَّهُ الْأَكْبَرُ فَلَا يَصِحُّ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَصِحُّ بِسَائِرِ أَلْفَاظِ التَّكْبِيرِ مِنْ قَوْلِهِ : اللَّهُ أَكْبَرُ ، أَوِ اللَّهُ الْأَكْبَرُ ، أَوِ اللَّهُ الْكَبِيرُ
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَصِحُّ بِكُلِّ أَسْمَاءِ اللَّهِ ، سُبْحَانَهُ ، وَبِكُلِّ مَا كَانَ فِيهِ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا قَوْلَهُ : " مَالِكِ يَوْمِ الْحِسَابِ " وَ : " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي " وَ : " حَسْبِيَ اللَّهُ " : اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى " [ الْأَعْلَى : ، ] . قَالَ : وَلِأَنَّهُ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ بِذِكْرِ اللَّهِ وَتَعْظِيمِهِ فَصَحَّ انْعِقَادُهَا بِهِ كَقَوْلِهِ : " اللَّهُ أَكْبَرُ " . قَالَ : وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ الِاعْتِبَارُ بِلَفْظِ التَّكْبِيرِ أَوْ بِمَعْنَاهُ ، فَلَمَّا صَحَّ بِقَوْلِهِ : " اللَّهُ أَكْبَرُ " . دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ وَدَلِيلُنَا : رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الْوُضُوءُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ رَوَى رِفَاعَةُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَلْيَتَوَضَّأْ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ ، عَزَّ وَجَلَّ ، ثُمَّ لِيُكَبِّرْ وَرَوَتْ عَائِشَةُ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ وَيَخْتِمُ بِالتَّسْلِيمِ ، وَقَالَ : صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي وَلِأَنَّ كُلَّ لَفْظٍ لَا يَصِحُّ افْتِتَاحُ الْأَذَانِ بِهِ لَا يَصِحُّ افْتِتَاحُ الصَّلَاةِ بِهِ كَقَوْلِهِ : " حَسْبِيَ اللَّهُ " ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ شُرِعَ فِي افْتِتَاحِهَا التَّكْبِيرُ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَصِحَّ إِلَّا بِهِ كَالْأَذَانِ ، وَإِنَّ الذِّكْرَ الْمَفْرُوضَ لَا يُؤَدَّى بِمُجَرَّدِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلِأَنَّهُ رُكْنٌ فِي الصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا ، كَالرُّكُوعِ ، وَالسُّجُودِ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ ، لِأَنَّهُ عَقِبَ الصَّلَاةِ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِمَا عَيَّنَتْهُ النِّيَّةُ مِنَ التَّكْبِيرِ وَالثَّالِثُ : أَنَّ حَقِيقَةَ الذِّكْرِ بِالْقَلْبِ لَا بِاللِّسَانِ ، لِأَنَّ ضِدَّهُ اللِّسَانُ فَبَطَلَ التَّعَلُّقُ بِالظَّاهِرِ وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى التَّكْبِيرِ ، فَالْمَعْنَى فِيهِ صِحَّةُ افْتِتَاحِ الْأَذَانِ بِهِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ الِاعْتِبَارُ بِاللَّفْظِ أَوِ الْمَعْنَى فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِاللَّفْظِ وَقَوْلُهُ : اللَّهُ أَكْبَرُ . قَدْ تَضَمَّنَ لَفْظَ التَّكْبِيرِ وَالثَّانِي : أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ الِاعْتِبَارُ بِالْمَعْنَى فَهُوَ لَا يُوجَبُ إِلَّا فِيمَا ذَكَرْنَا دُونَ غَيْرِهِ ، وَأَمَّا مَنْعُ ذَلِكَ مِنِ افْتِتَاحِهَا بِقَوْلِهِ " اللَّهُ أَكْبَرُ " فَغَلَطٌ ، لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِلَفْظِ قَوْلِهِ " اللَّهُ أَكْبَرُ " ، وَمَعْنَاهُ وَزَادَ عَلَيْهِ حَرْفًا فَلَمْ يَمْنَعْ مِنَ الْجَوَازِ كَمَا لَوْ قَالَ : " اللَّهُ أَكْبَرُ وَأَجَلُّ " ، وَأَمَّا إِجَازَةُ أَبِي يُوسُفَ افْتِتَاحَهَا بِقَوْلِهِ : اللَّهُ الْكَبِيرُ ، فَغَلَطٌ : لِأَنَّ الْكَبِيرَ وَإِنْ كَانَ فِي لَفْظِ أَكْبَرَ وَزِيَادَةٍ فَهُوَ مُقَصِّرٌ عَنْ مَعْنَاهُ ، لِأَنَّ أَفْعَلَ أَبْلَغُ فِي الْمَدْحِ مِنْ فَعِيلٍ
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الدُّخُولُ فِيهَا إِلَّا بِقَوْلِهِ " اللَّهُ أَكْبَرُ " ، أَوِ " اللَّهُ الْأَكْبَرُ " تكبيرة الإحرام والزيادة عليها ، فَزَادَ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا مِنْ تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ : اللَّهُ أَكْبَرُ وَأَعْظَمُ ، أَوِ اللَّهُ أَكْبَرُ وَأَجَلُّ ، أَوِ اللَّهُ أَكْبَرُ
كَبِيرًا أَجْزَأَهُ ، وَإِنْ لَمْ نَخْتَرْهُ ، فَأَمَّا إِذَا أَتَى بَيْنَ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّكْبِيرِ بِشَيْءٍ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ ، عَزَّ وَجَلَّ ، وَمَدَحَهُ ، بِأَنْ كَانَ يَسِيرًا لَا يَصِيرُ بِهِ التَّكْبِيرُ مَفْصُولًا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ : كَقَوْلِهِ : اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ أَكْبَرُ ، صيغ تكبيرة الإحرام أَوْ كَقَوْلِهِ : اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَكْبَرُ . أَجْزَأَهُ وَإِنْ لَمْ نَسْتَحِبَّهُ وَإِنْ كَانَ طَوِيلًا يَجْعَلْ مَا بَيْنَ الذِّكْرَيْنِ مَفْصُولًا مِثْلَ قَوْلِهِ : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ أَكْبَرُ . لَمْ يُجْزِهِ ، لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ حَدِّ التَّكْبِيرِ إِلَى الشَّاءِ ، وَالتَّهْلِيلِ ، فَإِنْ قَالَ : اللَّهُ أَكْبَرُ [ اللَّهُ ] فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ لِأَنَّ تَقْدِيمَ الصِّفَةِ عَلَى الِاسْمِ أَبْلَغُ فِي التَّعْظِيمِ وَالْمَدْحِ وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ وَهُوَ أَصَحُّ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ الْإِلْبَاسَ ، وَيَخْرُجُ عَنْ صَوَابِ التَّكْبِيرِ وَصِيغَتِهِ ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ أَكْبَرُ اللَّهُ لَمْ يُجْزِهِ ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ كَلَامًا مَفْهُومًا ، وَلَوْ تَرَكَ حَرْفًا مِنَ التَّكْبِيرِ لَمْ يَأْتِ بِهِ كَتَرْكِهِ الرَّاءَ لَمْ يُجْزِهِ ، لِأَنَّهُ قَدْ تَرَكَ بَعْضَ النُّطْقِ الْمُسْتَحَقِّ إِلَّا أَنْ يَعْجِزَ عَنْهُ ، لِأَنَّ لِسَانَهُ لَا يَدُورُ بِهِ كَالْأَلْثَغِ فَيُجْزِئُهُ
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِحْرَامَ بِالصَّلَاةِ يَنْعَقِدُ بِمَا ذَكَرْنَا فَالْإِحْرَامُ مِنْ نَفْسِ الصَّلَاةِ وَهُوَ أَحَدُ الْأَرْكَانِ فِيهَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْإِحْرَامُ لَيْسَ مِنَ الصَّلَاةِ وَإِنَّمَا يَدْخُلُ بِهِ فِي الصَّلَاةِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ " ، وَأَضَافَ التَّكْبِيرَ إِلَى الصَّلَاةِ ، وَالشَّيْءُ إِنَّمَا يُضَافُ إِلَى غَيْرِهِ كَقَوْلِهِمْ غُلَامُ زَيْدٍ ، وَثَوْبُ عُمَرَ ، وَكَأَنَّ مَا كَانَ مِنَ الصَّلَاةِ لَمْ يَجُزْ لِلْمَأْمُومِ أَنْ لَا يَأْتِيَ بِهِ إِلَّا مَعَ الْإِمَامِ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ، فَلَمَّا جَازَ إِذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الصَّلَاةِ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الصَّلَاةِ ، وَلِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ إِلَّا بَعْدَ كَمَالِ الْإِحْرَامِ ، فَإِذَا صَارَ بِكَمَالِهِ دَاخِلًا فِيهَا ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ فِيهَا لِتَقَدُّمِهِ عَلَيْهَا وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ إِنَّمَا هَيَ تَكْبِيرٌ وَتَهْلِيلٌ فِلَمَّا جُعِلَ التَّكْبِيرُ فِي الصَّلَاةِ وَلَيْسَ يَجِبُ فِيهَا إِلَّا تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا فِي الصَّلَاةِ ، وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ كُلِّ صَلَاةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ نَفْسِ الصَّلَاةِ كَالْقِرَاءَةِ ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ شُرِعَ التَّكْبِيرُ فِي افْتِتَاحِهَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّكْبِيرُ فِيهَا كَالْأَذَانِ ، وَلِأَنَّ التَّكْبِيرَ الَّذِي لَا يَنْفَصِلُ عَنِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ مِنِ الصَّلَاةِ كَالتَّكْبِيرَاتِ الَّتِي فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ ذِكْرٍ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَتَخَلَّلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِرَاءَةِ مَا لَيْسَ بِالصَّلَاةِ فَإِنَّهُ مِنَ الصَّلَاةِ ، كَالتَّوَجُّهِ فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِالْخَبَرِ لَا يَصِحُّ ، لِأَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يُضَافُ إِلَى جُمْلَتِهِ كَمَا قَدْ يُضَافُ إِلَى غَيْرِهِ كَمَا يُقَالُ : رَأْسُ زَيْدٍ وَيَدُ عُمَرَ ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّهُ لَمَّا أَتَى بِهِ وَرَاءَ إِمَامِهِ لَمْ يَكُنْ مِنْ صَلَاتِهِ ، قُلْنَا : إِنَّمَا أَتَى بِهِ وَرَاءَ إِمَامِهِ ، لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ إِلَّا بِهِ ، وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ لَمْ يَأْتِ بِهِ ، لِأَنَّهُ قَدْ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ بِغَيْرِهِ ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَدْخُلْ فِي الصَّلَاةِ إِلَّا بِكَمَالِهِ لَمْ يَكُنْ مِنَ الصَّلَاةِ لِتَقَدُّمِهِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ ، لِأَنَّهُ اسْتِفْتَاحُ الصَّلَاةِ وَابْتِدَاؤُهَا وَالدُّخُولُ فِي الشَّيْءِ يَكُونُ بَعْدَ ابْتِدَائِهِ وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ ابْتِدَاءَ الشَّيْءِ لَيْسَ مِنْهُ
فَصْلٌ : قَالَ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِحْرَامَ مِنَ الصَّلَاةِ للمنفرد والذي في جماعة فَإِنْ كَانَتِ الصَّلَاةُ فُرَادَى أَسَرَّ الْمُصَلِّي بِالتَّكْبِيرِ ، وَإِنْ كَانَتْ جَمَاعَةً جَهَرَ الْإِمَامُ بِالتَّكْبِيرِ وَأَسَرَّ بِهِ الْمَأْمُومُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْجَمْعُ كَثِيرًا ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَجْهَرَ بِهِ عَدَدٌ مِنْهُمْ لِيَسْمَعَ جَمِيعُهُمْ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِنْ لَمْ يُحْسِنِ الْعَرَبِيَّةَ كَبَّرَ بِلِسَانِهِ وَكَذَلِكَ الذِّكْرُ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا إِنْ كَانَ يُحْسِنُ التَّكْبِيرَ بِالْعَرَبِيَّةِ في الصلاة فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُكَبِّرَ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ وَهُوَ قَوْلُ الْجَمَاعَةِ إِلَّا أَبَا حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ انْفَرَدَ بِجَوَازِ التَّكْبِيرِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ في الصلاة لِمَنْ يُحْسِنُ التَّكْبِيرَ بِالْعَرَبِيَّةِ ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ ذِكْرُ الشَّهَادَتَيْنِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ ، وَصَارَ بِهِ مُسْلِمًا وَإِنْ كَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ كَانَ فِي التَّكْبِيرِ مِثْلَهُ ، وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي وَكَانَتْ صَلَاتُهُ بِالتَّكْبِيرِ الْعَرَبِيِّ ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ تَشْتَمِلُ عَلَى أَذْكَارٍ ، وَأَفْعَالٍ فَلَمَّا لَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ عَنِ الْأَفْعَالِ إِلَى أَبْدَالِهَا مَعَ الْقُدْرَةِ لَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ عَنِ الْأَذْكَارِ إِلَى أَبْدَالِهَا مَعَ الْقُدْرَةِ ، فَأَمَّا لَفْظُ الشَّهَادَتَيْنِ فَقَدْ كَانَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ يَقُولُ : لَا يَصِحُّ مِمَّنْ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ إِلَّا بِالْعَرَبِيَّةِ . فَعَلَى قَوْلِهِ يَسْقُطُ الِاسْتِدْلَالُ ، وَأَمَّا جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ يَجُوزُ بِالْفَارِسِيَّةِ مِمَّنْ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَذْكَارِ الصَّلَاةِ : أَنَّ أَذْكَارَ الصَّلَاةِ مَشْرُوعَةٌ عَلَى وَصْفٍ لَمْ يُعْقَلْ مَعْنَاهُ فَلَزِمَ الْإِتْيَانُ بِهِ عَلَى الصِّفَةِ الْمَشْرُوعَةِ ، وَالْمَقْصُودُ بِالشَّهَادَتَيْنِ الْإِخْبَارُ عَنِ التَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَسْتَوِي فِيهِ لَفْظُ الْفَارِسِيَّةِ وَالْعَرَبِيَّةِ
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنْ كَانَ لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ فَكَبَّرَ بِلِسَانِهِ فَيُجْزِئُهُ ، لِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ أَذْكَارِ الصَّلَاةِ يُوجِبُ الِانْتِقَالَ إِلَى أَبْدَالِهَا ، فَلَوْ كَانَ لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ ، وَيُحْسِنُ الْفَارِسِيَّةَ وَالسُّرْيَانِيَّةَ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا بِأَيِّهَا يُكَبِّرُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ يُكَبِّرُ بِالْفَارِسِيَّةِ ؟ الصلاة لِأَنَّهَا أَقْرَبُ اللُّغَاتِ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يُكَبِّرُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَنْزَلَ بِهَا كِتَابَهُ وَمَا أَنْزَلَ بِالْفَارِسِيَّةِ كِتَابًا وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ يُكَبِّرُ بِأَيِّهَا شَاءَ وَإِنْ كَانَ يُحْسِنُ الْفَارِسِيَّةَ وَالتُّرْكِيَّةَ فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ يُكَبِّرُ بِالْفَارِسِيَّةِ وَ الثَّانِي بِالْخِيَارِ ، لَوْ كَانَ يُحْسِنُ السُّرْيَانِيَّةَ وَالنَّبَطِيَّةَ فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ يُكَبِّرُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ وَالثَّانِي : أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ، وَلَوْ كَانَ يُحْسِنُ التُّرْكِيَّةَ ، وَالْهِنْدِيَّةَ فَهُمَا سَوَاءٌ ، وَهُوَ بِالْخِيَارِ فِيهِمَا
وَجْهًا وَاحِدًا ، فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ جَوَّزْتُمْ لَهُ التَّكْبِيرَ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ إِذَا كَانَ لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ وَمَنَعْتُمُوهُ مِنَ الْقِرَاءَةِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ وَلَوْ كَانَ لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ ؟ قُلْنَا : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ لِلْقُرْآنِ نَظْمًا مُعْجِزًا يَزُولُ إِعْجَازُهُ إِذَا عُبِّرَ عَنْهُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ فَلَمْ يَكُنْ قُرْآنًا ، وَلَيْسَ فِي التَّكْبِيرِ إِعْجَازٌ يَزُولُ عَنْهُ إِذَا زَالَ عَنِ الْعَرَبِيَّةِ
فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَكَذَلِكَ الذِّكْرُ " يَعْنِي : مَا سِوَى الْقِرَاءَةِ مِنْ أَذْكَارِ الصَّلَاةِ كَالتَّسْبِيحِ ، وَالتَّشَهُّدِ ، وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ لَا يُحْسِنُ ذَلِكَ كُلَّهُ بِالْعَرَبِيَّةِ [ قَالَهُ بِلِسَانِهِ وَإِنْ كَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ قَالَهُ بِالْعَرَبِيَّةِ ] ، فَإِنْ خَالَفَ وَقَالَهُ بِالْفَارِسِيَّةِ وَهُوَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ فَمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ ذِكْرًا وَاجِبًا ، كَالتَّشَهُّدِ وَالسَّلَامِ لَمْ يُجْزِهِ ، وَمَا كَانَ مِنْهُ مُسْتَحَبًّا مَسْنُونًا كَالتَّسْبِيحِ وَالتَّوَجُّهِ أَجْزَأَهُ وَقَدْ أَسَاءَ
فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ " يَعْنِي : هَذِهِ الْأَذْكَارَ مِنَ التَّكْبِيرِ وَغَيْرِهِ إِذَا كَانَ لَا يُحْسِنُهَا بِالْعَرَبِيَّةِ فَذَكَرَهَا بِلِسَانِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَتَعَلَّمَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ فَلَمْ يَفْعَلْ وَذَكَرَهَا بِلِسَانِهِ لَمْ يُجْزِهِ وَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَعَلُّمِهَا إِمَّا لِتَعَذُّرِ مَنْ يُعَلِّمُهُ جَازَتْ صَلَاتُهُ إِذَا ذَكَرَهَا بِلِسَانِهِ ثُمَّ فَرْضُ التَّعْلِيمِ بَاقٍ عَلَيْهِ إِذَا قَدِرَ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِذَا عَدِمَ فِي مَوْضِعِهِ مَنْ يَعْمَلُهُ أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ لِيَجِدَ فِيهِ مَنْ يُعَلِّمُهُ كَمَا لَيْسَ عَلَيْهِ إِذَا عَدِمَ الْمَاءَ فِي مَوْضِعِهِ أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى نَاحِيَةٍ يَجِدُ الْمَاءَ فِيهَا ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَطْلُبَ فِي مَوْضِعِهِ مَنْ يُعَلِّمُهُ كَمَا يَلْزَمُهُ إِذَا عَدِمَ الْمَاءَ أَنْ يَطْلُبَ فِي مَوْضِعِهِ مَاءً يَسْتَعْمِلُهُ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يُكَبِّرُ إِذَا كَانَ إِمَامًا حَتَّى تَسْتَوِيَ الصُّفُوفُ خَلْفَهُ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ إِذَا وَقَفَ فِي مِحْرَابِهِ بَعْدَ فَرَاغِ الْمُؤَذِّنِ مِنْ إِقَامَتِهِ أَلَّا يُحْرِمَ بِالصَّلَاةِ إِلَّا بَعْدَ اسْتِوَاءِ الصُّفُوفِ خَلْفَهُ يَمِينًا فَيَقُولُ : اسْتَوُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ ، وَيَلْتَفِتُ يَسَارًا فَيَقُولُ كَذَلِكَ ، وَأَيْنَ رَأَى فِي الصُّفُوفِ خَلَلًا أَمَرَهُمْ بِالتَّسْوِيَةِ ، فَإِذَا اسْتَوَوْا أَحْرَمَ بِهِمْ وَلَمْ يَنْظُرِ اسْتِوَاءَ صُفُوفِهِمْ وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : سَوُّوا صُفُوفَكُمْ فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصَفُوفِ مِنْ تَمَامِ الصَّلَاةِ
وَرَوَى سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَوِّي الصَّفَّ حَتَّى يَجْعَلَهُ مِثْلَ الْقِدَاحِ ، أَوِ الرِّمَاحِ ، فَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدْرَ رَجُلٍ قَائِمًا فَقَالَ : عِبَادَ اللَّهِ لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ وَرَوَى كَثِيرُ بْنُ مُرَّةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَقِيمُوا الصُّفُوفَ وَحَاذُوا الْمَنَاكِبَ وَلَا تَذَرُوا فُرُجَاتٍ لِلشَّيْطَانِ وَمَنْ وَصَلَ صَفًّا وَصَلَهُ اللَّهُ ، عَزَّ وَجَلَّ ، وَمَنْ قَطَعَ صَفًّا قَطَعَهُ اللَّهُ ، عَزَّ وَجَلَّ وَلِأَنَّ الْإِمَامَ إِذَا أَحْرَمَ قَبْلَ اسْتِوَاءِ الصُّفُوفِ اخْتَلَفُوا فِي الْإِحْرَامِ فَتَقَدَّمَ بِهِ بَعْضُهُمْ وَتَأَخَّرَ بِهِ الْبَعْضُ ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونُوا مُتَّفِقِينَ فِي اتِّبَاعِهِ فِي الْإِحْرَامِ كَمَا يَتَّفِقُونَ فِي سَائِرِ الْأَرْكَانِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ إِذَا كَبَّرَ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا رَفْعُ الْيَدَيْنِ فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ فَمَسْنُونٌ بِاتِّفَاقٍ لَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي حَدِّ رَفْعِهِمَا ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَرْفَعُهُمَا إِلَى مَنْكِبَيْهِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَرْفَعُهُمَا إِلَى شَحْمَةِ أُذُنَيْهِ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ وَائِلٍ قَالَ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْفَعُ إِبْهَامَيْهِ فِي الصَّلَاةِ إِلَى شَحْمَةِ أُذُنَيْهِ وَرَوَى عَاصِمُ بْنُ كُلَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ قَالَ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ رَفَعَ يَدَيْهِ حِيَالَ أُذُنَيْهِ قَالَ : ثُمَّ أَتَيْتُهُمْ فَرَأَيْتُهُمْ يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ إِلَى صُدُورِهِمْ فِي افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ وَعَلَيْهِمْ بَرَانِيسُ ، وَأَكْسِيَةٌ وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ يُكَبِّرُ وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ ، وَيَصْنَعُ مِثْلَ ذَلِكَ إِذَا قَضَى قِرَاءَتَهُ وَأَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ ، وَيَصْنَعُهُ إِذَا رَفَعَ مِنَ الرُّكُوعِ
وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تَرْجِيحٌ وَالثَّانِي : اسْتِعْمَالٌ فَأَمَّا التَّرْجِيحُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ حَدِيثَنَا أَكْثَرُ رُوَاةً وَأَشْهَرُ عَمَلًا فَكَانَ أَوْلَى وَالثَّانِي : أَنَّ حَدِيثَ وَائِلٍ مُخْتَلَفٌ فِيهِ ، لِأَنَّهُ رُوِيَ إِلَى الْأُذُنَيْنِ ، وَرُوِيَ إِلَى الصَّدْرِ فَكَانَ بَعْضُهُ يُعَارِضُ بَعْضًا ، وَحَدِيثُنَا مُؤْتَلِفٌ فَكَانَ أَوْلَى وَأَمَّا الِاسْتِعْمَالُ فَهُوَ : أَنْ يَسْتَعْمِلَ مَنْ رَوَى إِلَى الصَّدْرِ عَلَى ابْتِدَاءِ الرَّفْعِ ، وَمَنْ رَوَى إِلَى الْأُذُنَيْنِ عَنْ أَطْرَافِ الْأَصَابِعِ فِي انْتِهَاءِ الرَّفْعِ ، وَمَنْ رَوَى إِلَى الْمَنْكِبَيْنِ أَخْبَرَ عَنْ حَالِ الْكَفَّيْنِ فِي مَقْصُودِ الرَّفْعِ ، فَتَصِيرُ مُسْتَعْمِلِينَ لِلرِّوَايَاتِ عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ ، وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ يَقُولُ : كُلُّ هَذَا مِنَ اخْتِلَافِ الْمُبَاحِ وَلَيْسَ بَعْضُهُ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ السُّنَّةَ رَفْعُهُمَا إِلَى الْمَنْكِبَيْنِ رفع اليدين في التكبير للصلاة فَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْإِمَامُ ، وَالْمَأْمُومُ أَوِ الرَّجُلُ ، وَالْمَرْأَةُ ، وَالْقَائِمُ ، وَالْقَاعِدُ فِي الْفَرِيضَةِ ، وَالنَّافِلَةِ فَإِذَا رَفَعَهُمَا نَشَرَ أَصَابِعَهُ ، فَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا كَبَّرَ رَفَعَ يَدَيْهِ وَنَشَرَ أَصَابِعَهُ ، فَلَوْ كَانَ بِيَدَيْهِ مَرَضٌ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى رَفْعِ إِحْدَى يَدَيْهِ دُونَ الْأُخْرَى رَفَعَهَا ، وَلَوْ كَانَ أَقْطَعَ الْكَفَّيْنِ رَفَعَ زَنْدَيْهِ إِلَى مَنْكِبَيْهِ ، وَلَوْ رَكَعَ لَمْ يَبْلُغْ بِزَنْدَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ : لِأَنَّهُ إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ خَالَفَ هَيْئَةَ الرُّكُوعِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي رَفْعِهَا لِلتَّكْبِيرِ ، لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُخَالِفًا هَيْئَةَ شَيْءٍ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيَأْخُذُ كُوعَهُ الْأَيْسَرَ بِكَفِّهِ الْيُمْنَى وَيَجْعَلُهَا تَحْتَ صَدْرِهِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَإِنَّمَا اسْتُحِبَّ لَهُ ذَلِكَ لِرِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، عَلَيْهِ السَّلَامُ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ثَلَاثٌ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ : تَعْجِيلُ الْفِطْرِ ، وَتَأْخِيرُ السَّحُورِ ، وَوَضْعُ الْيَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ فِي الصَّلَاةِ
وَرَوَى أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فَوَضَعَ يَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى الْيُمْنَى فَرَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِرَجُلٍ يُصَلِّي وَقَدْ أَسْدَلَ يَدَيْهِ فَقَالَ : لَوْ خَشَعَ قَلْبُكَ لَخَشَعَتْ يَدُكَ ، وَأَمَرَهُ بِوَضْعِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى
فَصْلٌ مِنَ السُّنَّةِ وَضْعُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى تَحْتَ صَدْرِهِ
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ وَضْعُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى فَمِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَضَعَهَا تَحْتَ صَدْرِهِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَحْتَ سُرَّتِهِ ، لِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَضَعُهَا تَحْتَ سُرَّتِهِ دَلِيلُنَا رِوَايَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْعَلُهَا تَحْتَ صَدْرِهِ ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [ الْكَوْثَرِ : ] . أَنْ يَضَعَ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى عِنْدَ النَّحْرِ فِي الصَّلَاةِ ، وَلِأَنَّ مَا تَحْتَ السُّرَّةِ عَوْرَةٌ ، وَتَحْتَ الصَّدْرِ الْقَلْبُ وَهُوَ مَحَلُّ الْخُشُوعِ ، وَكَانَ وَضْعُ الْيَدَيْنِ عَلَيْهِ أَبْلَغَ فِي الْخُشُوعِ مِنْ وَضْعِهَا عَلَى الْعَوْرَةِ
مَسْأَلَةٌ لَفْظُ التَّوَجُّهِ فَمَسْنُونٌ بِإِجْمَاعٍ وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِي صِفَتِهِ وفِي مَحَلِّهِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " ثُمَّ يَقُولُ : وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لَلَذِيَ فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، أَمَّا لَفْظُ التَّوَجُّهِ فَمَسْنُونٌ بِإِجْمَاعٍ وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِي فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي صِفَتِهِ وَالثَّانِي : فِي مَحَلِّهِ . فَأَمَّا صِفَةُ التَّوَجُّهِ فَهُوَ مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : بِمَا رَوَاهُ أَبُو الْجَوْازَءِ عَنْ عَائِشَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اسْتَفْتَحَ الصَّلَاةَ قَالَ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ ، وَتَعَالَى جَدُّكَ ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ تَعَلُّقًا بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ وَاسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ
وَدَلِيلُنَا : رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ قَالَ : وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، إِنَّ صَلَاتِي ، وَنُسُكِي ، وَمَحْيَايَ ، وَمَمَاتِي ، لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ ، اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ ظَلَمْتُ نَفْسِي ، وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا لَا يَغْفِرُهَا إِلَّا أَنْتَ ، اصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ ، لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْمَهْدِيُّ مَنْ هَدَيْتَ ، وَالْخَيْرُ بِيَدَيْكَ ، أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ وَرَوَى عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ عَنْ أَبَى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ ، فَكَانَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَصَحُّ رِوَايَةً وَأَثْبَتُ إِسْنَادًا ، وَأَشْهَرُ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ مَتْنًا وَالثَّانِي : أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِكِتَابِ اللَّهِ ، عَزَّ وَجَلَّ ، وَمُشَابِهٌ لِحَالِ الْمُصَلِّي ، وَلِأَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى أَنْوَاعٍ وَذَاكَ نَوْعٌ فَكَانَ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ أَوْلَى ، وَأَمَّا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ فَيُحْمَلُ عَلَى أَمْرَيْنِ ، إِمَّا عَلَى الْقِيَامِ مِنَ النَّوْمِ ، وَإِمَّا عَلَى التَّسْبِيحِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ
فَصْلٌ : وَأَمَّا مَحَلُّهُ فَفِي الصَّلَاةِ بَعْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، قَالَ مَالِكٌ : يَتَوَجَّهُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ لِتَحَقُّقٍ ذَلِكَ بِالتَّوَجُّهِ وَالْإِحْرَامِ ، وَهَذَا خَطَأٌ : لِرِوَايَةِ عَلِيٍّ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ قَالَ وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لَلَذِيَ فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلِأَنَّ قَوْلَهُ وَجَّهْتُ وَجْهِي مَعْنَاهُ قَصَدْتُ بِوَجْهِيَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ :
أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ذَنْبًا لَسْتُ مُحْصِيَهُ رَبَّ الْعِبَادِ إِلَيْهِ الْوَجْهُ وَالْعَمَلُ يَعْنِي : إِلَيْهِ الْقَصْدُ ، وَالْعَمَلُ وَإِذَا كَانَ مَعْنَاهُ قَصَدْتُ بِوَجْهِيَ اللَّهَ فَهُوَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ غَيْرُ قَاصِدٍ بِوَجْهِهِ اللَّهَ تَعَالَى وَإِنَّمَا هُوَ عَازِمٌ عَلَى الْعَقْدِ وَبَعْدَ الْإِحْرَامِ قَاصِدٌ ، لِأَنَّهُ يُخْبِرُ عَنْ حَقِيقَةِ تَوَجُّهِهِ ، فَكَانَ ذِكْرُهُ فِي حَقِيقَتِهِ أَوْلَى مِنْهُ فِي مَجَازِهِ
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ السُّنَّةَ فِيهِ مَا وَصَفْنَا بَعْدَ الْإِحْرَامِ فَهُوَ سُنَّةٌ فِي الْفَرْضِ ، وَالنَّفْلِ ، لِلرَّجُلِ ، وَالْمَرْأَةِ دعاء الإستفتاح في الصلاة ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ إِمَامًا فَيَقْتَصِرُ فِيهِ إِلَى قَوْلِهِ : " وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ " ، وَلَا يَقُولُ مَا بَعْدَهُ لِئَلَّا تَطُولَ الصَّلَاةُ وَيَقْطَعَ النَّاسَ عَنْ أَشْغَالِهِمْ ، وَيَتَأَذَّى بِهِ الْمَرِيضُ مِنْهُمْ ، وَلَا يَقُولُ : وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ . فَإِنَّ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " ثُمَّ يَتَعَوَّذُ ، وَيَقُولُ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمَ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، السُّنَّةُ أَنْ يَتَعَوَّذَ فِي صَلَاتِهِ بَعْدَ التَّوَجُّهِ ، وَقَبْلَ الْقِرَاءَةِ المصلي وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : يَتَعَوَّذُ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ وَقَالَ مَالِكٌ : يَتَعَوَّذُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ حَتَّى لَا يَكُونَ بَعْدَ الْإِحْرَامِ ذِكْرٌ إِلَّا الْقِرَاءَةُ وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ ابْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : " أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ نَفْخَتِهِ وَنَفْثِهِ وَهَمْزِهِ قَالَ : نَفْثُهُ الشِّعْرُ ، وَنَفْخُهُ الْكِبْرُ ، وَهَمْزُهُ الْجُنُونُ وَرَوَى أَبُو الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ يَقُولُ : أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ ثمَ يَقْرَأُ . . . "
فَصْلٌ : فَإِذَا أَثْبَتَ أَنَّ السُّنَّةَ فِيهِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ وَقَبْلَ الْقِرَاءَةِ فَهُوَ سُنَّةٌ فِي الْفَرِيضَةِ وَالنَّافِلَةِ ، وَالْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى وَحْدَهَا
وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ : يَتَعَوَّذُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَهَذَا خَطَأٌ ، لِأَنَّ مَا قَبْلَ الْقِرَاءَةِ مِنَ الدُّعَاءِ مَحَلُّهُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى كَالِاسْتِفْتَاحِ ، وَيُسِرُّ بِهِ وَلَا يَجْهَرُ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ مَعًا ، فَإِنْ جَهَرَ بِهِ لَمْ يَضُرَّهُ ، وَيَقُولُ : أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ، الاستعاذة في الصلاة فَهُوَ أَوْلَى مِنْ قَوْلِهِ : أَعُوذُ بِاللَّهِ الْعَلِيِّ مِنَ الشَّيْطَانِ الْغَوِيِّ ، وَأَوْلَى مِنْ قَوْلِهِ : أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ : لِأَنَّ ذَلِكَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ : فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ، وَقَوْلُهُ : أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ أَوْلَى مِنْ قَوْلِهِ أَعُوذُ بِاللَّهِ الْعَلِيِّ مِنَ الشَّيْطَانِ الْغَوِيِّ : لِرِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ لَهُ ، فَصَارَ أُولَاهُ لِإِبَانَةِ كِتَابِ اللَّهِ ثُمَّ بَعْدَهُ مَا وَرَدَتْ بِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " ثُمَّ يَقْرَأُ مُرَتِّلًا بِأُمِّ الْقُرْآنِ في الصلاة " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . أَمَّا الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ حكمها فَوَاجِبَةٌ لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ إِلَّا بِهَا وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ ، وَالْأَصَمُّ : الْقِرَاءَةُ سُنَّةٌ كَسَائِرِ الْأَذْكَارِ ، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، صَلَّى الْمَغْرِبَ بِالنَّاسِ فَلَمْ يَقْرَأْ فِيهَا فَقِيلَ لَهُ : نَسِيتَ الْقِرَاءَةَ قَالَ : كَيْفَ كَانَ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ قَالُوا : حَسَنًا قَالَ : فَلَا بَأْسَ إِذًا ، وَهَذَا خَطَأٌ خَالَفَ بِهِ الْإِجْمَاعَ : لِرِوَايَةِ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخْرُجْ فَنَادِ فِي الْمَدِينَةِ أَنْ لَا صَلَاةَ إِلَّا بِقُرْآنٍ وَلَوْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ ، فَمَا زَادَ وَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ : أَتَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ ؟ فَقَالَ : أَوَ تَكُونُ صَلَاةٌ بِلَا قِرَاءَةٍ وَلَعَلَّ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا هُرَيْرَةَ بِالنِّدَاءِ لِأَجْلِ هَذَا السُّؤَالِ ، فَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَرَكَهَا نَاسِيًا ، أَوْ أَسَرَّهَا
فَصْلٌ وجوب القراءة وتعيينها بفاتحة الكتاب وغيرها
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْقِرَاءَةِ فَهِيَ مُعَيَّنَةٌ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ لَا يُجْزِي غَيْرُهَا وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْمُسْتَحَقُّ مِنَ الْقُرْآنِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ وَالْوَاجِبُ أَنْ يَقْرَأَ آيَةً مِنْ آيِ الْقُرْآنِ إِنْ شَاءَ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [ الْمُزَّمِّلِ : ] . وَتَعْيِينُ الْقِرَاءَةِ بِالْفَاتِحَةِ يُزِيلُ الظَّاهِرَ عَنْ حُكْمِهِ ، وَبِحَدِيثِ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهُ ، وَبِرِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا صَلَاةَ إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ أَوْ غَيْرِهَا قَالَ : وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ مِنْ شَرْطِ الصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يُجْزِيَ فِيهِ مَا يَنْطَلِقُ الِاسْمُ عَلَيْهَ كَالتَّكْبِيرِ قَالَ : وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ فِيهِ إِعْجَازٌ فَوَجَبَ أَنْ يُتِمَّ بِهِ الصَّلَاةَ كَالْفَاتِحَةِ ، قَالَ : وَلِأَنَّ الْخُطْبَةَ تَجْرِي عِنْدَكُمْ مَجْرَى الصَّلَاةِ ، فَلَمَّا لَمْ تَتَعَيَّنِ الْقِرَاءَةُ فِيهَا لَمْ تَتَعَيَّنْ فِي الصَّلَاةِ
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ الزُّهْرِيُّ ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَرَوَى سُفْيَانُ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَهِيَ خِدَاجٌ يَعْنِي : نَاقِصَةٌ وَرَوَى شُعْبَةُ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ لَا يُقْرَأُ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ : وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ فِي الصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ، وَلِأَنَّ أَرْكَانَ الْعِبَادَةِ الْمُتَغَيِّرَةِ مُتَعَيِّنَةٌ كَالْحَجِّ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا قِيَامُ اللَّيْلِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ ثُمَّ يُسْتَحَبُّ وَالثَّانِي : أَنَّهَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْخُطْبَةِ أَوْ فِيمَا عَدَا الْفَاتِحَةَ وَالثَّالِثُ : أَنَّهَا مُجْمَلَةٌ فَسَّرَهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا صَلَاةَ إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ " . لِأَنَّ ظَاهِرَهَا مَتْرُوكٌ بِالِاتِّفَاقِ ، لِأَنَّهُ لَوْ تَيَسَّرَ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ ، وَلَوْ تَيَسَّرَ عَلَيْهِ بَعْضُ آيَةٍ لَمْ يُجْزِهِ ، وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَأَبِي سَعِيدٍ فَفِيهِ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَوْ بِغَيْرِهَا " يَعْنِي : وَبِغَيْرِهَا عَلَى مَعْنَى الْكَمَالِ وَالثَّانِي : أَنَّ مَعْنَاهُ لَا صَلَاةَ إِلَّا بِفَاتِحَةِ [ الْكِتَابِ ] لِمَنْ يُحْسِنُهَا أَوْ بِغَيْرِهَا لِمَنْ لَا يُحْسِنُهَا أَوْ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ الْفَاتِحَةِ بِالذِّكْرِ مَعْنًى وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى التَّكْبِيرِ ، فَالْأَصْلُ غَيْرُ مُتَّفَقٍ عَلَى حُكْمِهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ فَلَمْ نُسَلِّمْ ، لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ يَجُوزُ بِمَا لَا يَنْطَلِقُ اسْمُ التَّكْبِيرِ عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْخُطْبَةِ فَهُوَ أَصْلٌ يُخَالِفُونَا فِيهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَدِلُّوا بِهِ عَلَيْنَا ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْخِطْبَةِ لَمَّا لَمْ تَتَعَيَّنْ أَرْكَانُهَا لَمْ تَتَعَيَّنِ الْقِرَاءَةُ فِيهَا بِخِلَافِ الصَّلَاةِ الَّتِي تَتَعَيَّنُ أَرْكَانُهَا
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيَبْتَدِئُهَا بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ أُمَّ الْقُرْآنِ وَعَدَّهَا آيَةً "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هل هي آية من كل سورة عِنْدَنَا آيَةٌ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ مِنَ الْفَاتِحَةِ وَغَيْرِهَا إِلَّا مِنْ سُورَةِ التَّوْبَةِ فَلَيْسَتْ آيَةً مِنْهَا وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ هِيَ آيَةٌ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ حُكْمًا أَوْ قَطْعًا ؟ فَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُهُمْ أَنَّهَا آيَةٌ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ حُكْمًا إِلَّا سُورَةَ النَّمْلِ فَإِنَّهَا آيَةٌ مِنْهَا قَطْعًا ، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهَا آيَةٌ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ قَطْعًا كَسُورَةِ النَّمْلِ إِلَّا التَّوْبَةَ ، وَقَالَ مَالِكٌ : لَيْسَتْ آيَةً مِنَ الْفَاتِحَةِ ، وَلَا مِنْ غَيْرِهَا إِلَّا مِنْ سُورَةِ النَّمْلِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَفْتِحَ بِهَا الْقِرَاءَةَ فِي الصَّلَاةِ إِلَّا فِي قِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ ، فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَالْمَشْهُورُ عَنْهُ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا فِي سُورَةِ النَّمْلِ كَقَوْلِ مَالِكٍ ، وَحَكَى بَعْضُ أَصْحَابِهِ أَنَّهَا آيَةٌ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ ذُكِرَتْ فِيهِ إِلَّا أَنَّهَا لَيْسَتْ آيَةً مِنَ السُّورَةِ ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ مَنَعَ أَنْ تَكُونَ آيَةً مِنَ الْفَاتِحَةِ وَمِنْ كُلِّ سُورَةٍ بِأُمُورٍ مِنْهَا : رِوَايَةُ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَبَا بَكْرٍ ، وَعُمَرَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، كَانُوا يَفْتَتِحُونَ الصَّلَاةَ بِـ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَرَوَى أَبُو الْجَوْزَاءِ عَنْ عَائِشَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ ، وَالْقِرَاءَةِ بِـ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قَالُوا : وَلِأَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ جِبْرِيلُ ، عَلَيْهِ السَّلَامُ ، عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَهُ اقْرَأْ . قَالَ : وَمَا أَقْرَأُ ؟ قَالَ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [ الْعَلَقِ : ] . وَلَمْ يَقْرَأْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِيهَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْهَا ، قَالُوا : وَلِأَنَّ مَحَلَّ الْقُرْآنِ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِمَا يَثْبُتُ بِهِ لَفْظُ الْقُرْآنِ فَلَمَّا كَانَ لَفْظُ الْقُرْآنِ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالتَّوَاتُرِ وَالِاسْتِفَاضَةِ كَذَلِكَ مَحَلُّهُ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالتَّوَاتُرِ وَالِاسْتِفَاضَةِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، قَدْ أَجْمَعَتْ فِي كَثِيرٍ مِنَ السُّوَرِ عَلَى عَدَدِ آيِهَا فَمِنْ ذَلِكَ سُورَةُ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [ الصَّمَد : ] . أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا أَرْبَعُ آيَاتٍ ، فَلَوْ كَانَتْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْهَا لَكَانَتْ خَمْسًا ، وَكَذَلِكَ الْمُلْكُ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا ثَلَاثُونَ آيَةً وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ بَعْدَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، آيَةَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، آيَةَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، آيَةَ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ، آيَةَ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، آيَةَ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ، آيَةَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ آيَةً ، وَهَذَا نَصٌّ وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ سَبْعُ آيَاتٍ
أُولَاهُنَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَهِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَهِيَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ ، وَأُمُّ الْقُرْآنِ وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آيَةٌ لَمْ تَنْزِلْ عَلَى أَحَدٍ قَبْلِي إِلَّا عَلَى أَخِي سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ ، فَقَالَ : مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بِمَ تَسْتَفْتِحُ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ ؟ فَقَالَ : بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " هِيَ هِيَ وَرَوَى أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ نَحْوَهُ وَرَوَى فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ عَنِ الْمُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلٍ ، عَنْ أَنَسٍ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آنِفًا سُورَةٌ فَقَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ . . . حَتَّى خَتَمَهَا ، قَالَ : هَلْ تَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ ؟ قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . قَالَ : فَإِنَّهُ نَهْرٌ وَعَدَنِيهِ اللَّهُ ، عَزَّ وَجَلَّ ، فِي الْجَنَّةِ وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَعْرِفُ فَضْلَ السُّورَةِ حِينَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ وَهَذَا دَلَّ عَلَى أَنَّهَا مِنْ كُلِّ سُورَةٍ ، وَكَذَلِكَ رَوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : " مَنْ تَرَكَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَقَدْ تَرَكَ مِائَةً وَثَلَاثَ عَشْرَةَ آيَةً ، يَعْنِي : أَنَّهَا آيَةٌ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْإِجْمَاعِ مَا رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا كَثُرَ الْقَتْلُ فِي الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ فِي قِتَالِ مُسَيْلِمَةَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِأَبِي بَكْرٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : أَرَى الْقَتْلَ قَدِ اسْتَمَرَّ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَذْهَبَ الْقُرْآنُ ، فَلَوْ جَمَعْتَهُ . فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، لِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ : اجْمَعْهُ . فَجَمَعَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَرِفَاقِهِمْ فِي مُصْحَفٍ ، فَكَانَ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، مُدَّةَ حَيَاتِهِ ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، بَعْدَهُ فَلَمَّا مَاتَ عُمَرُ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، دَفَعَهُ إِلَى ابْنَتِهِ حَفْصَةَ حَتَّى قَدِمَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ مِنَ الْعِرَاقِ عَلَى عُثْمَانَ ، وَذَكَرَ لَهُ اخْتِلَافَ النَّاسِ فِي الْقُرْآنِ فَأَخَذَ عُثْمَانُ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، الْمُصْحَفَ مِنْ حَفْصَةَ وَكَتَبَ مِنْهُ سِتَّ نُسَخٍ ، وَأَنْفَذَ كُلَّ مُصْحَفٍ إِلَى بَلَدٍ ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ قُرْآنٌ وَكَانَتْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَكْتُوبَةً فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ بِخَطِّ الْمُصْحَفِ دَلَّ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى أَنَّهَا مِنْ كُلِّ سُورَةٍ فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ أَثْبَتَ فِي الْمُصْحَفِ أَسْمَاءَ السُّوَرِ ، وَذَكَرَ الْأَعْشَارَ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ دَالًّا عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ فَفِيهِ جَوَابَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ هَذَا أَحْدَثَهُ الْحَجَّاجُ فِي زَمَانِهِ فَلَمْ يَكُنْ بِهِ اعْتِبَارٌ وَالثَّانِي : أَنَّهُمْ فَصَلُوا بَيْنَ هَذَا ، وَبَيْنَ السُّورَةِ فَأَثْبَتُوا الْأَسْمَاءَ ، وَالْأَعْشَارَ بِغَيْرِ خَطِّ الْمُصْحَفِ لِيَمْتَازَ عَنِ الْقُرْآنِ لِعِلْمِهِمْ أَنَّ مَا كَانَ بِخَطِّهِ فَهُوَ مِنَ الْقُرْآنِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَلَوْ كَانَتْ مِنَ الْقُرْآنِ لَكَانَ جَاحِدُهَا كَافِرًا كَمَنْ جَحَدَ الْفَاتِحَةَ . قِيلَ : فَلَوْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْقُرْآنِ لَكَانَ مَنْ أَثْبَتَهَا مِنْهُ كَافِرًا كَمَنْ أَثْبَتَ غَيْرَ ذَلِكَ . وَمَعَ هَذَا فَإِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ أَنْكَرَ الْمُعَوِّذَتَيْنِ أَنْ تَكُونَ مِنَ
الْقُرْآنِ فَلَمْ يُكَفَّرْ ، وَلَمْ يَدُلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ قُرْآنٍ ، وَلِأَنَّ الْفَاتِحَةَ سَبْعُ آيَاتٍ بِالنَّصِّ ، وَالْإِجْمَاعِ فَمَنْ أَثْبَتَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْهَا جَعَلَ أَوَّلَ الْآيَةِ السَّابِعَةِ : صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ وَمَنْ نَفَاهَا جَعَلَ أَوَّلَ الْآيَةِ السَّابِعَةِ : غَيْرِ الْمَغْضُوبِ فَكَانَ إِثْبَاتُهَا أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِيَكُونَ الْكَلَامُ فَى السَّابِعَةِ تَامًّا مُسْتَقِلًّا وَالثَّانِي : أَنْ لَا يَكُونَ الِابْتِدَاءُ فِي السَّابِعَةِ بِقَوْلِهِ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ : لِأَنَّهُ لَفْظُ اسْتِثْنَاءٍ ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ مُبْتَدَأَةٌ بِهِ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَعَائِشَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، فَالْمُرَادُ بِهِ سُورَةُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ نُزُولِ جِبْرِيلَ ، عَلَيْهِ السَّلَامُ ، بِسُورَةِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ فَهُوَ : أَنَّ السُّورَةَ قَدْ كَانَتْ تَنْزِلُ فِي مَرَّاتٍ وَبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ تَنْزِلُ بَعْدَ نُزُولِ كَثِيرٍ مِنَ الْقُرْآنِ ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ إِثْبَاتَ مَحَلِّهَا لَا يَكُونُ إِلَّا بِالِاسْتِفَاضَةِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ : أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ مَحَلُّهَا تِلَاوَةً بِالْإِجْمَاعِ [ وَحُكْمًا ] بِالِاسْتِفَاضَةِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ سُورَةَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ أَرْبَعُ آيَاتٍ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ أَشَارُوا إِلَى مَا سِوَى بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا جَعَلُوهَا مَعَ الْآيَةِ الْأُولَى وَاحِدَةً
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْفَاتِحَةِ وَأَنَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آيَةٌ مِنْهَا فَحُكْمُهَا فِي الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ حُكْمُ الْفَاتِحَةِ ، سَوَاءٌ جَهَرَ بِهَا مَعَ الْفَاتِحَةِ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ ، وَيُسِرُّ بِهَا مَعَ الْفَاتِحَةِ فِي صَلَاةِ الْإِسْرَارِ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : يُسِرُّ بِهَا فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ وَقَالَ إِسْحَاقُ : هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ يُسِرُّ بِهَا بِرِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُسِرُّ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي الْمَكْتُوبَاتِ . قَالُوا : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ جَهَرَ بِهَا لَكَانَ النَّفْلُ بِهَا مُسْتَقِيضًا كَالْجَهِيرِ بِالْقِرَاءَةِ ، وَلَمَا كَانَ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عَلِيٍّ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَأَنَسٍ ، وَعَائِشَةَ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ ، وَابْنِ عُمَرَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْهَرُ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ صَلَّى صَلَاةَ جَهْرٍ فَقَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ ، وَلَمْ يَجْهَرْ بِهَا لِلسُّورَةِ فَنَادَاهُ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ : أَسَرَقْتَ الصَّلَاةَ يَا مُعَاوِيَةُ ، أَيْنَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ؟ فَدَلَّ هَذَا الْإِنْكَارُ مِنْهُمْ عَلَى الْإِجْمَاعِ فِي الْجَهْرِ بِهَا وَإِنَّ مَا ثَبَتَ أَنَّهُ مِنَ الْفَاتِحَةِ كَانَ الْجَهْرُ بِهَا كَسَائِرِ آيِ الْفَاتِحَةِ فَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَيُحْمَلُ عَلَى صَلَاةِ الْإِسْرَارِ ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ أَنَّ الْجَهْرَ بِهَا لَوْ كَانَ سُنَّةً لَكَانَ نَفْلَةً مُسْتَفِيضًا ، فَيُقَالُ : وَلَوْ كَانَ الْإِسْرَارُ بِهَا سُنَّةً لَكَانَ ذَلِكَ مُسْتَفِيضًا كَالرَّكْعَتَيْنِ الْآخِرَتَيْنِ
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " مِنَ الْفَاتِحَةِ ، وَفِي حُكْمِهَا فِي الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ ، فَتَرَكَهَا وَقَرَأَ الْفَاتِحَةَ بَعْدَهَا لَمْ يُجْزِهِ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ وَاسْتَأْنَفَ الْفَاتِحَةَ مُبْتَدِئًا بِهَا بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، وَلَوْ تَرَكَ آيَةً مِنَ الْفَاتِحَةِ أَوْ حَرْفًا مِنْ آيَةٍ أَتَى بِمَا تَرَكَ وَأَعَادَ مَا بَعْدَهُ لِيَكُونَ عَلَى الْوَلَاءِ ، فَإِنَّ التَّرْتِيبَ فِي قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ في الصلاة مُسْتَحَقٌّ ، وَلَوْ أَخَذَ فِي قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَنَوَى قَطْعَهَا وَهُوَ عَلَى قِرَاءَتِهِ أَجْزَأَهُ وَلَمْ يَكُنْ مَا أَحْدَثَهُ مِنْ نِيَّةِ الْقَطْعِ مُؤَثِّرًا فِي حُكْمِهَا إِذَا كَانَ عَلَى التِّلَاوَةِ لَهَا خِلَافَ الصَّلَاةِ الَّتِي تَبْطُلُ بِنِيَّةِ الْقَطْعِ ، لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ لَا تَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهَا تَغْيِيرُ النِّيَّةِ وَالصَّلَاةَ تَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ فَأَثَّرَ فِيهَا تَغْيِيرُ النِّيَّةِ ، وَلَكِنْ لَوْ كَانَ حِينَ نَوَى قَطْعَهَا أَخَذَ فِي قِرَاءَةِ غَيْرِهَا كَانَ قَطْعًا لَهَا ، وَلَوْ سَكَتَ مَعَ نِيَّةِ الْقَطْعِ فَإِنْ كَانَ سُكُوتًا طَوِيلًا كَانَ قَطْعًا ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَهَا ، وَلَوْ كَانَ سُكُوتًا قَلِيلًا فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ قَطْعًا وَهُوَ أَصَحُّ ، لِأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَنَ بِنِيَّةِ الْقَطْعِ الْفِعْلُ وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَكُونُ قَطْعًا ، لِأَنَّ النِّيَّةَ لَا تَأْثِيرَ لَهَا ، وَالسُّكُونُ الْقَلِيلُ بِمُجَرَّدِهِ لَا يَكُونُ قَطْعًا لَهَا فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَيَقْرَأُ تَرْتِيلًا فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [ الْمُزَّمِّلِ : ] . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَأَقَلُّ التَّرْتِيلِ تَرْكُ الْعَجَلَةِ مَعَ الْإِبَانَةِ
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ وُجُوبِ الْفَاتِحَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مَعَ الْأَحْكَامِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْرَأَ بِهَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَإِنْ تَرَكَهَا فِي وَاحِدَةٍ مِنْ رَكَعَاتِ صَلَاتِهِ بَطَلَتْ وَقَالَ دَاوُدُ : الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْرَأَ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي غَيْرِهَا وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : عَلَيْهِ أَنْ يَقْرَأَ فِي رَكْعَتَيْنِ لَا غَيْرُ
وَقَالَ مَالِكٌ : عَلَيْهِ أَنْ يَقْرَأَ فِي أَكْثَرِ الصَّلَاةِ فَإِنْ كَانَ ظُهْرًا قَرَأَ فِي ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ ، وَإِنْ كَانَتْ مَغْرِبًا قَرَأَ فِي رَكْعَتَيْنِ ، وَإِنْ كَانَتْ صُبْحًا قَرَأَ فِي جَمِيعِهَا ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي بَعْضِ الصَّلَاةِ وَيُمْسِكُ فِي بَعْضِهَا فَقِيلَ لَهُ : فَلَعَلَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي نَفْسِهِ . فَقَالَ : أَيُتَّهَمُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : وَلِأَنَّ الْجَهْرَ لَمَّا كَانَ مُخْتَصًّا بِرَكْعَتَيْنِ اقْتَضَى أَنْ تَكُونَ الْقِرَاءَةُ مُخْتَصَّةً بِرَكْعَتَيْنِ قَالُوا : وَلِأَنَّ أَذْكَارَ الصَّلَاةِ الْوَاجِبَةِ لَا تَكُونُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ كَالْإِحْرَامِ وَالسَّلَامِ وِدَلِيلُنَا رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ سُفْيَانَ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قِرَاءَةٌ فَمَا أَسْمَعَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْمَعْنَاكُمْ ، وَمَا أَخْفَى مِنَّا أَخْفَيْنَا مِنْكُمْ ، كُلُّ صَلَاةٍ لَا يُقْرَأُ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ عِنْدَنَا . فَقَالَ رَجُلٌ أَرَأَيْتَ إِنْ قَرَأْتُ بِهَا وَحْدَهَا يُجْزِي عَنِّي . فَقَالَ : إِنِ انْتَهَيْتَ إِلَيْهَا أَجْزَأَتْكَ ، وَإِنْ زِدْتَ عَلَيْهَا فَهُوَ حَسَنٌ " وَرَوَى رِفَاعَةُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا وَصَفَ لِلرَّجُلِ الرَّكْعَةَ الْأُولَى ، وَأَمَرَهُ بِقِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فِيهَا قَالَ : ثُمَّ اصْنَعْ ذَلِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبَى قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ فِي الْأُولَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَكَذَلِكَ فِي الْعَصْرِ وَلِأَنَّ كُلَّ ذِكْرٍ شُرِعَ فِي الرَّكَعَاتِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ فِيهِمَا عَلَى سَوَاءٍ كَالتَّسْبِيحِ ، وَأَمَّا مَا تَكَرَّرَ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ يَكُونُ إِيجَابُهُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ، وَلِأَنَّ مَا لَزِمَ فِي الثَّانِيَةِ لَزِمَ فِي الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ كَالْقِيَامِ ، وَلِأَنَّ مَا اسْتَحَقَّ لَهُ مِنْ مَحَلِّ الْقِرَاءَةِ اسْتَحَقَّتْ فِيهِ الْقِرَاءَةُ كَالْأُولَيَيْنِ ، وَلِأَنَّ تَكْرَارَ الْقِرَاءَةِ مُسْتَحَقٌّ بِتَكْرَارِ الرَّكَعَاتِ كَالصُّبْحِ ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ التُّهْمَةَ لَا تَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ إِذَا قَرَأَ فِيهِ : لِأَنَّهُ فِي صَلَوَاتِ الْإِسْرَارِ يَقْرَأُ فِي نَفْسِهِ ، وَلَا يَكُونُ مُتَّهَمًا وَالثَّانِي : أَنَّهُ نَفْيٌ قَدْ عَارَضَهُ إِثْبَاتٌ فَكَانَ أَوْلَى مِنْهُ وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِالْجَهْرِ بِالْأُولَيَيْنِ فَكَذَلِكَ الْقِرَاءَةُ فَخَطَأٌ ، لِأَنَّ صَلَوَاتِ الْإِسْرَارِ فِيهَا الْقِرَاءَةُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا جَهْرٌ فَكَذَلِكَ الْأُولَيَانِ وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْإِحْرَامِ وَالسَّلَامِ ، فَالْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَكَرَّرْ نُطْقًا لَمْ يَكُنْ تَكْرَارُهُ مُسْتَحَقًّا وَالْقِرَاءَةُ لَمَّا تَكَرَّرَتْ نُطْقًا كَانَ تَكْرَارُهَا مُسْتَحَقًّا
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِذَا قَالَ : " وَلَا الضَّالِّينَ " . قَالَ : آمِينَ فَيَرْفَعُ بِهَا صَوْتَهُ لِيَقْتَدِيَ بِهِ مَنْ خَلْفَهُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا وَبِالدِّلَالَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ جَهَرَ بِهَا وَأَمَرَ الْإِمَامَ بِالْجَهْرِ بِهَا " قَالَ الشَّافِعِيُّ " ، رَحِمَهُ اللَّهُ : وَلْيُسْمِعْ مَنْ خَلْفَهُ أَنْفُسَهُمْ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ وَإِذَا فَرَغَ الْإِمَامُ مِنْ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فَقَالَ : وَلَا الضَّالِّينَ فَمِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَقُولَ بَعْدَهُ : آمِينَ لِيَشْتَرِكَ فِيهِ الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ جَهْرًا فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُسِرُّ بِهِ الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ وَقَالَ مَالِكٌ : يَقُولُهُ الْمَأْمُومُ وَحْدَهُ دُونَ الْإِمَامِ : اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِذَا قَالَ الْإِمَامُ : وَلَا الضَّالِّينَ . فَقُولُوا : آمِينَ . قَالَ : " لِأَنَّ مِنْ سُنَّةِ الدُّعَاءِ أَنْ يُؤَمِّنَ عَلَيْهِ غَيْرُ مَنْ يَدْعُو بِهِ وَدَلِيلُنَا : رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ مَالِكٍ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ ، عَنْ بِلَالٍ أَنَّهُ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا تَسْبِقْنِي بَآمِينَ وَرَوَى قَيْسُ بْنُ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْهَرُ بَآمِينَ وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا صَلَّى قَالَ آمِينَ حَتَّى يُسْمَعَ لِصَوْتِهِ طَنِينٌ وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : " مَا حَسَدَتْكُمُ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ كَمَا حَسَدَتْكُمْ عَلَى قَوْلِ آمِينَ " وَمَعْنَاهُ اللَّهُمَّ اسْتَجِبْ
فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِرِوَايَةِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ فَقَدْ رُوِّينَا عَنْهُ مَا عَارَضْنَا ، وَأَمَّا اسْتِشْهَادُهُمْ بِأَنَّ التَّأْمِينَ عَلَى الدُّعَاءِ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ الدَّاعِي فَهَذَا مُسْتَمِرٌّ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ ، وَأَمَّا الدُّعَاءُ فِي الصَّلَاةِ فَمُخَالِفٌ لَهُ
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ سُنَّةٌ لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ فَلَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ ، لَكِنْ لَا تَخْلُو الصَّلَاةُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَكُونَ صَلَاةَ إِسْرَارٍ ، أَوْ جَهْرٍ ، فَإِنْ كَانَتْ صَلَاةَ إِسْرَارٍ خَافَتَ بِهَا الْإِمَامُ البسملة وَلَمْ يَجْهَرْ مَخَافَةَ أَنْ يَدُلَّهُمْ عَلَيْهَا حَتَّى يَتَّبِعُوهُ فِي الْإِسْرَارِ بِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ صَلَاةَ جَهْرٍ جَهَرَ بِهَا الْإِمَامُ ، فَأَمَّا الْمَأْمُومُ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ : يَجْهَرُ بِهِ كَالْإِمَامِ ، وَفِي الْقَوْلِ الْجَدِيدِ يُسِرُّهُ وَلَا يَجْهَرُ بِهِ بِخِلَافِ الْإِمَامِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ ، وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ ، يُخَرِّجُونَ جَهْرَ الْإِمَامِ بِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَكَانَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا يَمْنَعُونَ مِنْ تَخْرِيجِ الْقَوْلَيْنِ وَيَحْمِلُونَهُ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ . يَقُولُ فِي الْقَدِيمِ : إِنَّهُ يَجْهَرُ بِهِ إِذَا كَانَ الْمَسْجِدُ كَبِيرًا وَالْجَمْعُ كَثِيرًا فَيَجْهَرُ بِهِ الْمَأْمُومُ لِيَسْمَعَهُ مَنْ لَا يَسْمَعُ الْإِمَامَ . فَنَقُولُ : قَالَ فِي الْجَدِيدِ : إِنَّهُ يُسِرُّهُ وَلَا يَجْهَرُ بِهِ إِذَا كَانَ الْمَسْجِدُ صَغِيرًا وَالْجَمْعُ يَسِيرًا يَسْمَعُ جَمِيعُهُمُ الْإِمَامَ فَيُسِرُّونَ وَلَا يَجْهَرُونَ
فَصْلٌ : فَلَوْ تَرَكَهُ الْمُصَلِّي نَاسِيًا ثُمَّ ذَكَرَهُ ، فَإِنْ ذَكَرَهُ قَبْلَ قِرَاءَةِ السُّورَةِ قَالَهُ ، وَإِنْ ذَكَرَهُ بَعْدَ أَخْذِهِ فِي الرُّكُوعِ تَرَكَهُ ، وَلَوْ ذَكَرَهُ بَعْدَ أَخْذِهِ فِي الْقِرَاءَةِ وَقَبْلَ اشْتِغَالِهِ بِالرُّكُوعِ فَفِي عَوْدِهِ إِلَيْهِ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَنْ نَسِيَ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ حَتَّى أَخَذَ فِي الْقِرَاءَةِ ، وَلَوْ تَرَكَهُ عَلَى الْأَحْوَالِ كُلِّهَا أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ وَلَا سَهْوَ عَلَيْهِ
فَصْلٌ اللغات في قوله آمين
فَصْلٌ : فَأَمَّا قَوْلُ آمِينَ فيه لغات فَفِيهِ لُغَاتٌ : إِحْدَاهَا : إِمِينَ بِالْكَسْرِ وَالتَّخْفِيفِ وَالثَّانِيَةُ : آمِينَ بِالْمَدِّ وَالتَّخْفِيفِ قَالَ الشَّاعِرُ : يَا رَبِّ لَا تَسْلُبْنِي حُبَّهَا أَبَدًا وَيَرْحَمُ اللَّهُ عَبْدًا قَالَ آمِينَا فَأَمَّا تَشْدِيدُ الْمِيمِ فِيهِ فَيَنْصَرِفُ مَعْنَاهُ عَنِ الدُّعَاءِ إِلَى الْقَصْدِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَعْنِي : قَاصِدِينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ . . وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " ثُمَّ يَقْرَأُ بَعْدَ أُمِّ الْقُرْآنِ بِسُورَةٍ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ قِرَاءَةُ السُّورَةِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ سُنَّةٌ ، وَحُكِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ أَنَّ قِرَاءَةَ شَيْءٍ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ وَاجِبٌ ، لِمَا رَوَى
جَعْفَرُ بْنُ مَيْمُونٍ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أُنَادِيَ أَنَّهُ لَا صَلَاةَ إِلَّا بِقِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَمَا زَادَ وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ أُمُّ الْقُرْآنِ عِوَضًا عَنْ غَيْرِهَا ، وَلَيْسَ غَيْرُهَا مِنْهَا عِوَضًا وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ مِنَ الْقِرَاءَةِ لَمْ يَجِبْ فِي الصَّلَاةِ كَسَائِرِ السُّوَرِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ قِرَاءَةَ السُّورَةِ في الصلاة سُنَّةٌ ، ابْتَدَأْنَا " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " لِأَنَّنَا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهَا آيَةٌ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ فَيَقْرَأُ بِالسُّورَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ ، وَهَلْ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَقْرَأَ بِهِمَا فِي الْآخِرَتَيْنِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ نَذْكُرُهُمَا مِنْ بَعْدُ
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا مِنْ وُجُوبِ الْفَاتِحَةِ في الصلاة وَاسْتِحْبَابِ السُّورَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْرَأَ بِالْفَارِسِيَّةِ وَلَا بِلُغَةٍ غَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ هل يقرأ بها في الصلاة وَأَجَازَهُ أَبُو حَنِيفَةَ إِنْ أَحْسَنَ الْعَرَبِيَّةَ أَوْ لَا يُحْسِنُهَا ، وَأَجَازَهُ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ ، لِمَنْ لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ دُونَ مَنْ يُحْسِنُهَا وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى [ الْأَعْلَى : ] وَبِقَوْلِهِ : وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ [ الشُّعَرَاءِ : ] فَأَخْبَرَ أَنَّهُ كَانَ فِي صُحُفِهِمْ وَزُبُرِهِمْ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ بِالْعَرَبِيَّةِ وَإِنَّمَا كَانَتْ بِلُغَتِهِمْ فَبَعْضُهَا عِبْرَانِيٌّ ، وَبَعْضُهَا سُرْيَانِيٌّ وَقَالَ تَعَالَى : وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ [ الْأَنْعَامِ ] فَأَخْبَرَ أَنَّهُ إِنْذَارٌ لِلْكَافَّةِ مِنَ الْعَرَبِ ، وَالْعَجَمِ ، وَلَا يُمْكِنُ إِنْذَارُ الْعَجَمِ إِلَّا بِلِسَانِهِمْ ، وَلَا يَكُونُ نَذِيرٌ إِلَيْهِمْ إِلَّا بِلُغَتِهِمْ ، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ قِرَاءَتِهِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ : لِيَصِيرَ نَذِيرًا لِلْكَافَّةِ وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يُعَلِّمُ صَبِيًّا : إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ [ الدُّخَانِ : ] . فَكَانَ الصَّبِيُّ يَقُولُ : طَعَامُ الْيَتِيمِ فَقَالَ لَهُ : قُلْ طَعَامُ الْفَاجِرِ ، لِأَنَّ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْمَعْنَى . قَالُوا : وَلِأَنَّ الذِّكْرَ الْمُسْتَحَقَّ فِي الصَّلَاةِ قُرْآنٌ ، وَغَيْرُ قُرْآنٍ ، فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَأْتِيَ بِالْأَذْكَارِ الَّتِي لَيْسَتْ بِقُرْآنٍ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ في الصلاة جَازَ أَنْ يَأْتِيَ بِالْقُرْآنِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ ، وَلِأَنَّ الْعَجْزَ عَنِ الْقُرْآنِ يُوجِبُ الِانْتِقَالَ إِلَى مِثْلِهِ [ فَكَانَ مَعْنَى الْقُرْآنِ أَقْرَبَ إِلَيْهِ مِنَ التَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ ] فَكَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ بَدَلًا مِنْهُ وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ [ الْإِسْرَاءِ : ] . وَهَذَا الْقَارِئُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْقُرْآنَ بِعَيْنِهِ ، وَهَذَا مُحَالٌ ، أَوْ يَكُونَ مِثْلَ الْقُرْآنِ ، وَهَذَا رَدٌّ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى
وَعِنَادٌ لَهُ ، أَوْ يَكُونَ لَيْسَ بِقُرْآنٍ ، وَلَا مِثْلَهُ فَمَنْ قَالَ لَمْ تَجُزْ صَلَاتُهُ : لِأَنَّهَا إِنَّمَا تُجْزِئُ بِالْقُرْآنِ لَا بِغَيْرِهِ وَقَالَ تَعَالَى : بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [ الشُّعَرَاءِ : ] . فَنَفَى عَنْهُ غَيْرَ الْعَرَبِيَّةِ ، وَقَالَ تَعَالَى : إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا [ الزُّخْرُفِ : ] . وَأَبُو حَنِيفَةَ يَجْعَلُهُ قُرْآنًا فَارِسِيًّا وَيُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : أَحِبُّوا الْعَرَبَ لِثَلَاثٍ : لِأَنِّي عَرَبِيٌّ ، وَلِأَنَّ الْقُرْآنَ عَرَبِيٌّ ، وَلِأَنَّ لِسَانَ أَهْلِ الْجَنَّةِ عَرَبِيٌّ وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ آخُذَ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْئًا فَعَلِّمْنِي مَا يَجْزِينِي في الصلاة . قَالَ : قُلْ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ . قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، هَذَا لِلَّهِ تَعَالَى فَمَا لِي قَالَ : قُلِ : اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَعَافِنِي وَاهْدِنِي وَارْزُقْنِي ، فَلَمَّا قَامَ قَالَ : هَكَذَا بِيَدِهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمَّا هَذَا فَقَدْ مَلَأَ يَدَيْهِ مِنَ الْخَيْرِ فَمَوْضِعُ الدَّلِيلِ [ مِنْهُ ] : أَنَّهُ لَوْ جَازَ الْعُدُولُ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَى مَعْنَاهُ لَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ وَلَمْ يَعْدِلْ بِهِ إِلَى التَّحْمِيدِ ، وَالتَّكْبِيرِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ كَلَامٍ لَمْ يَكُنْ فِي جِنْسِهِ إِعْجَازٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنُوبَ مَنَابَ الْقُرْآنِ ، كَالشِّعْرِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَبْدَلَ أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ بِمَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ في الصلاة لَمْ يَجُزْ ، فَإِذَا أَبْدَلَهُ بِالْكَلَامِ الْعَجَمِيِّ أَوْلَى أَنْ لَا يُجْزِئَهُ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى [ الْأَعْلَى : ، ] . وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ [ الشُّعَرَاءِ : ] . فَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ بِرَاجِعٍ إِلَى الْقُرْآنِ ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَنْزِلْ إِلَّا عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرِّسَالَةِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [ الْأَنْعَامِ : ] . فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَإِنْ كَانَ إِنْذَارًا لِلْكَافَّةِ ، فَالتَّحْقِيقُ بِهِ إِنَّمَا تَوَجَّهَ إِلَى الْعَرَبِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الْفَصَاحَةِ بِاللِّسَانِ دُونَ الْعَجَمِ ، لِأَنَّهُمْ إِذَا عَجَزُوا عَنْ لِسَانِهِمْ كَانَتِ الْعَجَمُ عَنْهُ أَعْجَزَ فَصَارَ إِنْذَارًا لِلْعَرَبِ بِعَجْزِهِمْ ، وَإِنْذَارًا لِلْعَجَمِ بِعَجْزِ مَنْ هُوَ أَقْدَرُ عَلَيْهِ مِنْهُمْ وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّ الْإِنْذَارَ بِهِ يَكُونُ بِالنَّظَرِ فِيهِ وَتَأَمُّلِ إِعْجَازِهِ ، وَالْعَجَمُ إِذَا أَرَادُوا ذَلِكَ لَتَوَصَّلُوا إِلَيْهِ بِمُعَاطَاةِ الْعَرَبِيَّةِ لِيَتَوَصَّلُوا بِمَعْرِفَتِهَا ، فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى هَذَا الْجَوَابِ يَلْزَمُ جَمِيعَ الْعَجَمِ أَنْ يَتَعَلَّمُوا الْعَرَبِيَّةَ ، لِأَنَّهَا إِنْذَارٌ لَهُمْ قُلْنَا : إِنَّمَا كَانَ يَلْزَمُهُمْ أَنْ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْجِزَةٌ غَيْرُهُ ، وَأَمَّا وَلَهُ غَيْرٌ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي يَسْتَدِلُّونَ بِهَا عَلَى نُبُوَّتِهِ ، وَصِدْقِ رِسَالَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ عَجَمًا يَفْقَهُونَ الْعَرَبِيَّةَ فَلَا يَلْزَمُهُمْ
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَكَانَ مَقْصُودُهُ التَّنْبِيهَ عَلَى الْمَعْنَى لِيَفْهَمَ اللَّفْظَ عَلَى صِيغَتِهِ : لِأَنَّنَا أَجْمَعْنَا أَنَّ إِبْدَالَهُ بِاللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ لَا يَجُوزُ وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِجَوَازِ الذِّكْرِ بِالْفَارِسِيَّةِ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ، إِذْ لَيْسَ فِي سَائِرِ الْأَذْكَارِ إِعْجَازٌ يَزُولُ بِنَقْلِهِ إِلَى غَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ أَنَّ مَعْنَى الْقُرْآنِ أَقْرَبُ إِلَيْهِ وَأَوْلَى مِنَ التَّسْبِيحِ ، وَالتَّكْبِيرِ فَفِيهِ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُقْلَبَ عَلَيْهِمْ فَيُقَالُ لَهُمُ التَّسْبِيحُ بِالْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ أَقْرَبُ إِلَى الْقُرْآنِ مِنَ الْكَلَامِ الْعَجَمِيِّ وَالثَّانِي : يُقَالُ نَحْنُ لَمْ نَجْعَلِ التَّسْبِيحَ بَدَلًا مِنَ الْقُرْآنِ ، وَإِنَّمَا أَسْقَطْنَا بِهِ فَرْضَ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ لِلْعَجْزِ عَنْهَا
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا فَرَغَ مِنْهَا وَأَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ ابْتَدَأَ بِالتَّكْبِيرِ قَائِمًا الفاتحة فَكَانَ فِيهِ وَهُوَ يَهْوِي رَاكِعًا " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الرُّكُوعُ معناه فَهُوَ الْخُضُوعُ لِلَّهِ تَعَالَى بِالطَّاعَةِ ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ : بِكَسْرٍ لَهُمْ وَاسْتَغَاثَ بِهَا مِنَ الْهُزَالِ أَبُوهَا بَعْدَمَا رَكَعَا يَعْنِي : بَعْدَ مَا خَضَعَ مِنْ شِدَّةِ الْجُهْدِ وَالْحَاجَةِ ، وَالرُّكُوعُ فِي الصَّلَاةِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِهَا الْمَفْرُوضَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا [ الْحَجِّ : ] . وَقَالَ تَعَالَى : وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [ الْحَجِّ : ] . وَرَكَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاتِهِ وَقَالَ : صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُهُ فَمِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُكَبِّرَ لَهُ وَهُوَ قَوْلُ الْكَافَّةِ ، وَحُكِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُمَا قَالَا : لَا يُكَبِّرُ فِي رُكُوعِهِ ، وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ صَلَاتِهِ سِوَى تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ مَالِكٍ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكَبِّرُ كُلَّمَا خَفَضَ وَرَفَعَ فَمَا زَالَتْ صَلَاتُهُ حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ : كَانَ يُصَلِّي لَهُمْ فَكَبَّرَ كُلَّمَا خَفَضَ وَرَفَعَ ، فَإِذَا انْصَرَفَ قَالَ : " وَاللَّهِ إِنِّي أَشْبَهُكُمْ صَلَاةً بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يُكَبِّرُ لِرُكُوعِهِ ، فَالسُّنَّةُ أَنْ يَبْتَدِئَ بِالتَّكْبِيرِ قَائِمًا ، وَيَهْوِيَ فِي رُكُوعِهِ مُكَبِّرًا حَتَّى يَكُونَ آخِرُ تَكْبِيرَةٍ مَعَ أَوَّلِ رُكُوعِهِ لِتَصِلَ الْأَذْكَارُ بِالْأَذْكَارِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ حِينَ يَبْتَدِئُ التَّكْبِيرَ الصلاة " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ إِذَا كَبَّرَ لِرُكُوعِهِ ، وَإِذَا كَبَّرَ لِرَفْعِهِ مِنْهُ كَمَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ لِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَفِي تَكْبِيرَةِ الرُّكُوعِ ، وَفِي تَكْبِيرَةِ الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ وَلَا يَرْفَعُهَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تَكْبِيرَاتِ الصَّلَاةِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ، وَفِعْلُ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ وَالشَّامِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالْكُوفِيُّونَ : لَا يَرْفَعُ يَدَهُ إِلَّا فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَحْدَهَا ، وَحَكَوْهُ عَنْ عَلِيٍّ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : رَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ حِينَ اسْتَفْتَحَ الصَّلَاةَ ثُمَّ لَمْ يُعِدْ وَبِرِوَايَةِ جَابِرٍ عَنْ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى الصَّحَابَةِ فَقَالَ : " مَا لِيَ أَرَاكُمْ رَافِعِي أَيْدِيَكُمْ كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلٍ شُمْسٍ اسْكُتُوا فِي صَلَاتِكُمْ وَرُوِيَ : " كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ " . قَالُوا : وَلِأَنَّ التَّكْبِيرَاتِ الَّتِي فِي أَثْنَاءِ الصَّلَوَاتِ لَيْسَ بِمَسْنُونٍ فِيهَا رَفْعُ الْيَدَيْنِ كَتَكْبِيرَاتِ السُّجُودِ وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ سُفْيَانَ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ سَالِمٍ ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ وَلَا يَرْفَعُ فِي السُّجُودِ وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ قَالَ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ وَحِينَ يُرِيدُ أَنْ يَرْكَعَ وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ . قَالَ : ثُمَّ قَدِمْتُ عَلَيْهِمْ فِي الشِّتَاءِ فَرَأَيْتُهُمْ يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ فِي الْبَرَانِسِ قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَقَدْ رَوَى رَفْعَ الْيَدَيْنِ فِي الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ هيئته ثَلَاثَةَ عَشَرَ نَفْسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلِأَنَّ كُلَّ فِعْلٍ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يَتَكَرَّرُ كَالرُّكُوعِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ هَيْئَةً لِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ كَانَ هَيْئَةً لِتَكْبِيرَةِ الرُّكُوعِ كَالْجَهْرِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ صَلَاةٍ تَكَرَّرَ فِيهَا التَّكْبِيرُ تَكَرَّرَ فِيهَا الرَّفْعُ كَالْعِيدَيْنِ ، وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَدْ عَارَضَهُ مَا ذَكَرْنَا ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ خِلَافُهُ ، وَأَمَّا حَدِيثُ سَمُرَةَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَهَاهُمْ عَنْ رَفْعِ أَيْدِيهِمْ [ يَمِينًا وَشِمَالًا أَوْ لَا يَكُونُ نَهَاهُمْ عَنْ رَفْعِ أَيْدِيهِمْ ] ، فِي كُلِّ رَفْعٍ وَخَفْضٍ كَمَا يَقُولُ طَاوُسٌ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ فَمَدْفُوعٌ بِالنَّصِّ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيَضَعُ رَاحَتَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَيُفَرِّقُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا رَكَعَ فَمِنَ السُّنَّةِ : أَنْ يَضَعَ رَاحَتَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَيُفَرِّقَ بَيْنَ أَصَابِعِ كَفَّيْهِ ، المصلي وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : يُطْبِقُ يَدَيْهِ وَيَتْرُكُهُمَا بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ ، وَرَوَى عَلْقَمَةُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : عَلَّمَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ وَكَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَلَمَّا رَكَعَ طَبَّقَ يَدَيْهِ بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ كَانَ سُنَّةً فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ نُسِخَ رُوِيَ عَنْ سَعْدٍ أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : صَدَقَ أَخِي كُنَّا نَفْعَلُ هَذَا ثُمَّ أُمِرْنَا بِهَذَا . يَعْنِي : الْإِمْسَاكَ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ وَرُوِيَ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ - قَالَ : صَلَّيْتُ إِلَى جَنْبِ أَبِي فَطَبَّقْتُ فَنَهَانِي قَالَ : " كُنَّا نَفْعَلُهُ فَنُهِينَا " وَرَوَى مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِذَا رَكَعْتَ فَضَعْ رَاحَتَيْكَ عَلَى رُكْبَتَيْكَ ثُمَّ أَخْرِجْ أَصَابِعَكَ ثُمَّ امْكُثْ حَتَّى يَأْخُذَ كُلُّ عُضْوٍ مَأْخَذَهُ
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَضَعَ رَاحَتَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَيُفَرِّقَ بَيْنَ أَصَابِعِ كَفَّيْهِ ، وَإِنْ كَانَ عَلِيلَ الْيَدَيْنِ ، وَلَا يُمْكِنُهُ وَضْعُهُمَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ ابْتِدَاءًا بِهِمَا وَانْتَهَى فِي رُكُوعِهِ إِلَى حَيْثُ يُمْكِنُهُ الْقَبْضُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ لَوْ قَدَرَ ، لِأَنَّ هَذَا حَدُّ الرُّكُوعِ الَّذِي لَا يُجْزِئُ أَقَلُّ مِنْهُ ، فَلَوْ كَانَ أَقْطَعَ الْيَدَيْنِ لَمْ يَبْلُغْ بِزَنْدَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ ، وَيَبْلُغُ بِهِمَا فِي الرَّفْعِ إِلَى مَنْكِبَيْهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ فِي تَبْلِيغِهِمَا إِلَى الرُّكْبَتَيْنِ فِي الرُّكُوعِ مُفَارَقَةً لِهَيْئَةٍ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الرَّفْعِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيُمِدُّ ظَهْرَهُ ، وَعُنُقَهُ ، وَلَا يَخْفِضُ عُنُقَهُ عَنْ ظَهْرِهِ وَلَا يَرْفَعُهُ وَيَكُونُ مُسْتَوِيًا وَيُجَافِي مِرْفَقَيْهِ عَنْ جَبِينِهِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ صَحِيحٌ اعْلَمْ أَنَّ صِفَةَ الصَّلَاةِ وَهَيْئَاتِ أَرْكَانِهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ خَبَرَيْنِ هُمَا الْعُمْدَةُ فِي الصَّلَاةِ أَحَدُهُمَا : حَدِيثُ ابْنِ حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ وَالثَّانِي : تَعْلِيمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ الْأَعْرَابِيَّ فَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي حُمَيْدٍ فَلَمْ يَرْوِهِ الشَّافِعِيُّ ، وَلَكِنْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طُرُقٍ شَتَّى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ الْعَامِرِيِّ قَالَ كُنْتُ فِي مَجْلِسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ
أَبُو حُمَيْدٍ : أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالُوا : فَلِمَ ؟ قَالَوا : فَوَاللَّهِ مَا كُنْتَ بِأَكْثَرِنَا لَهُ تَبَعًا وَلَا أَقْدَمِنَا لَهُ صُحْبَةً . قَالَ : بَلَى . قَالُوا : فَأَعْرِضْ . قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ يُكَبِّرُ حَتَّى يَقَرَّ كُلُّ عُضْوٍ فِي مَوْضِعِهِ مُعْتَدِلًا ، ثُمَّ يَقْرَأُ ثُمَّ يُكَبِّرُ ثُمَّ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ ، ثُمَّ يَرْكَعُ وَاضِعًا رَاحَتَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَيُفَرِّجُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ ، ثُمَّ يَعْتَدِلُ فَيَهْصِرُ ظَهْرَهُ غَيْرَ مُقْنِعٍ رَأْسَهُ وَلَا صَافِحٍ بِخَدِّهِ ، ثُمَّ يَرْفَعُ فَيَقُولُ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ، اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ ، ثُمَّ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ مَنْكِبَيْهِ مُعْتَدِلًا ثُمَّ يَقُولُ : اللَّهُ أَكْبَرُ . ثُمَّ يَهْوِي إِلَى الْأَرْضِ فَيُجَافِي يَدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ وَيَضَعُ كَفَّيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ ، وَيَفْتَحُ أَصَابِعَ رِجْلَيْهِ وَيَنْصَبُّ عَلَى كَفَّيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَصُدُورِ قَدَمَيْهِ وَهُوَ سَاجِدٌ ، ثُمَّ يُكَبِّرُ وَيَرْفَعُ رَأْسَهُ وَيُمَكِّنُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى فَيَقْعُدُ عَلَيْهَا حَتَّى يَرْجِعَ كُلُّ عَظْمٍ إِلَى مَوْضِعِهِ ، ثُمَّ يَصْنَعُ فِي الْآخَرِ مِثْلَ ذَلِكَ فَإِذَا قَعَدَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ قَعَدَ عَلَى بَطْنِ قَدَمِهِ الْيُسْرَى وَنَصَبَ الْيُمْنَى فَإِذَا كَانَ فِي الرَّابِعَةِ أَخَّرَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَقَعَدَ مُتَوَرِّكًا عَلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ . قَالُوا : صَدَقْتَ هَكَذَا كَانَ يُصَلِّي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ فَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَلَّادٍ ، وَعَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ قَالَ : جَاءَ فَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ قَرِيبًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَعِدْ صَلَاتَكَ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ . قَالَ : عَلِّمْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ ، كَيْفَ أُصَلِّي ؟ قَالَ : " إِذَا تَوَجَّهْتَ إِلَى الْقِبْلَةِ فَكَبِّرْ ثُمَّ اقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ ، وَمَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَقْرَأَ بِهِ ، فَإِذَا رَكَعْتَ فَاجْعَلْ رَاحَتَيْكَ عَلَى رُكْبَتَيْكَ وَمَكِّنْ كُوعَكَ وَامْدُدْ ظَهْرَكَ ، فَإِذَا رَفَعْتَ فَأَقِمْ صُلْبَكَ وَارْفَعْ رَأْسَكَ حَتَّى تَرْجِعَ الْعِظَامُ إِلَى مَفَاصِلِهَا ، وَإِذَا سَجَدْتَ فَمَكِّنْ سُجُودَكَ ، وَإِذَا رَفَعْتَ فَاجْلِسْ عَلَى فَخِذِكَ الْيُسْرَى ، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَسَجْدَةٍ حَتَّى تَطْمَئِنَّ فَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ هُمَا أَصْلٌ فِي الصَّلَاةِ فَلِذَلِكَ نَقَلْنَاهُمَا مَعَ طُولِهِمَا
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ هَذَانِ الْحَدِيثَانِ فَصِفَةُ الرُّكُوعِ وَهَيْئَتُهُ أَنْ يَنْتَهِيَ رَاكِعًا إِلَى حَيْثُ يَقْبِضُ بِرَاحَتَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَيَمُدُّ ظَهْرَهُ وَعُنُقَهُ ، وَلَا يَخْفِضُ عُنُقَهُ عَنْ ظَهْرِهِ وَلَا يَرْفَعُهُ وَيَكُونُ مُسْتَوِيًا ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ . قَالَ الرَّاوِي : حَتَّى لَوْ صُبَّ عَلَى ظَهْرِهِ مَاءٌ لَرَكَدَ ، يَعْنِي : لِاسْتِوَاءِ ظَهْرِهِ فِي الرُّكُوعِ
وَرَوَى أَبُو مَعْمَرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ فِيهَا صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا يَخْفِضُ عُنُقَهُ فَيَتَنَازَعُ ، وَلَا يَرْفَعُهُ فَيَحْدَوْدِبُ ، وَيُجَافِي مِرْفَقَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ لِرِوَايَةِ عَائِشَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَكَعَ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَيُجَافِي مِرْفَقَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ فَهَذَا صِفَةُ الرُّكُوعِ فِي الِاخْتِيَارِ الْمَسْنُونِ وَأَقَلُّ مَا عَلَيْهِ أَنْ يَنْتَهِيَ رَاكِعًا إِلَى حَيْثُ يُمْكِنُهُ الْقَبْضُ بِرَاحَتَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَ
فَصْلٌ صفة الطُّمَأْنِينَةُ
فَصْلٌ : فَأَمَّا الطُّمَأْنِينَةُ صفتها في الصلاة فَهُوَ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى رُكُوعِهِ الَّذِي وَصَفْنَا زَمَانًا وَإِنْ قَلَّ مُطْمَئِنٌ ، وَهُوَ رُكْنٌ وَاجِبٌ لَا تُجْزِئُ الصَّلَاةُ إِلَّا بِهِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الطُّمَأْنِينَةُ لَيْسَتْ وَاجِبَةً اسْتِدْلَالًا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا [ الْحَجِّ : ] . فَكَانَ الظَّاهِرُ يُوجِبُ اسْمَ مَا انْطَلَقَ عَلَيْهِ اسْمُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةِ طُمَأْنِينَةٍ تُضَمُّ إِلَيْهِ وَدَلِيلُنَا مَعَ مَا قَدَّمْنَا مِنَ الْحَدِيثَيْنِ رِوَايَةُ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلرَّجُلِ لَمَّا عَلَّمَهُ الصَّلَاةَ حِينَ أَسَاءَ فِيهَا : إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا ، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا ، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ، ثَمَّ اجْلِسْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا ، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَوَاتِكَ كُلِّهَا وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : شَرُّ النَّاسِ سَرِقَةً الَذِي يَسْرِقُ فِي صَلَاتِهِ . قَالُوا : وَكَيْفَ يَسْرِقُ فِي صَلَاتِهِ ؟ قَالَ : لَا يُقِيمُ رُكُوعَهَا وَلَا سُجُودَهَا وَرُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا لَا يَعْدِلُ ظَهْرَهُ فِي الرُّكُوعِ ، وَلَا يَطْمَئِنُّ فِيهِ فَقَالَ : مُذْ كَمْ هَذِهِ صَلَاتُكَ ؟ قَالَ مُذْ أَرْبَعِينَ سَنَةً . قَالَ : إِنَّكَ مَا صَلَّيْتَ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَلَوْ مُتَّ عَلَى هَذَا لَمُتَّ عَلَى غَيْرِ الْفِطْرَةِ
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حَالِ الرُّكُوعِ وَوُجُوبِ الطُّمَأْنِينَةِ فِيهِ ، فَأَرَادَ الرُّكُوعَ فَسَقَطَ مِنْ قَامَتِهِ إِلَى الْأَرْضِ عَادَ فَانْتَصَبَ قَائِمًا ، ثُمَّ رَكَعَ فَلَوْ قَامَ رَاكِعًا لَمْ يُجْزِهِ ، لِأَنَّ الْإِهْوَاءَ لِلرُّكُوعِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا ، فَلَوْ كَانَ قَدِ انْحَنَى إِلَى الرُّكُوعِ فَسَقَطَ إِلَى الْأَرْضِ قَبْلَ اسْتِعَانَتِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعِيَ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي سَقَطَ مِنْهُ فِي حَالِ انْحِدَارٍ ، وَيَبْنِيَ عَلَى رُكُوعِهِ
بيان أن التَّسْبِيحُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ سُنَّةٌ مَأْثُورَةٌ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيَقُولُ إِذَا رَكَعَ : سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ ثَلَاثًا وَذَلِكَ أَدْنَى الْكَمَالِ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : التَّسْبِيحُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ حكمه سُنَّةٌ مَأْثُورَةٌ ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ وَهَذَا قَوْلُ كَافَّةِ الْفُقَهَاءِ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : التَّسْبِيحُ فِيهَا وَاجِبٌ لِرِوَايَةِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ : لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى : فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [ الْوَاقِعَةِ : ] . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ " . وَلَمَّا نَزَلَ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ وَرَوَى صِلَةُ بْنُ زُفَرَ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ : " سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ ، وَفِي سُجُودِهِ : سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى وَدَلِيلُنَا : قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَعْرَابِيِّ فِي حَدِيثِ " أَبِي هُرَيْرَةَ : ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا ، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا ، فَاقْتَصَرْ بِهِ عَلَى بَيَانِ الْمَفْرُوضِ ، وَلَمْ يَكُنْ فِي بَيَانِ التَّسْبِيحِ ، وَهَكَذَا حِينَ وَصَفَ أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلِأَنَّ أَفْعَالَ الصَّلَاةِ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : لَمْ يَكُنْ خُضُوعًا فِي نَفْسِهِ كَالْقِيَامِ ، وَالْقُعُودِ لِاشْتِرَاكِ فِعْلِهِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ ، فَهَذَا مُفْتَقِرٌ إِلَى ذِكْرٍ فِيهِ لِيَمْتَازَ بِهِ عَنْ أَفْعَالِ الْمَخْلُوقِينَ وَالثَّانِي : مَا كَانَ خُضُوعًا فِي نَفْسِهِ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ، لِأَنَّهُ لَا يُسْتَبَاحُ إِلَّا لِلْخَالِقِ دُونَ الْمَخْلُوقِ فَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى ذِكْرٍ لِيُمَيِّزَهُ عَنْ أَفْعَالِ الْمَخْلُوقِينَ ، فَأَمَّا الْخَبَرُ فَعَلَى طَرِيقِ الِاسْتِحْبَابِ
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ التَّسْبِيحَ سُنَّةٌ فَأَدْنَى كَمَالِهِ ثَلَاثًا لِرِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِذَا رَكَعَ أَحَدُكُمْ وَقَالَ سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ ثَلَاثًا فَقَدْ تَمَّ رُكُوعُهُ ، وَهُوَ أَدْنَاهُ ، وَ إِذَا سَجَدَ وَقَالَ " سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى " فَقَدْ تَمَّ سُجُودُهُ وَهُوَ أَدْنَاهُ فَأَمَّا أَتَمُّ الْكَمَالِ فَإِحْدَى عَشْرَةَ ، أَوْ تِسْعًا ، وَأَوْسَطُهُ خَمْسٌ وَلَوْ سَبَّحَ مَرَّةً أَجْزَأَهُ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَأُحِبُّ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ بَعْدَ التَّسْبِيحِ مَا حَدَّثَنِيهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَكَعَ قَالَ اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ وَلَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَأَنْتَ رَبِّي خَشَعَ لَكَ سَمْعِي وَبَصَرِي وَعِظَامِي وَشَعْرِي وَبَشَرِي وَمَا اسْتَقَلَّتْ بِهِ قَدَمِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَإِنْ كَانَ إِمَامًا اقْتَصَرَ عَلَى التَّسْبِيحِ وَحْدَهُ لِيُخَفِّفَ عَلَى مَنْ خَلْفَهُ
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْقِرَاءَةُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ حكمها فَمَكْرُوهٌ لِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَشَفَ السِّتَارَةَ وَالنَّاسُ صُفُوفٌ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُّوَةِ إِلَّا الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ ، وَإِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ رَاكِعًا ، أَوْ سَاجِدًا ، فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِيهِ مِنَ الدُّعَاءِ وَإِنْ خَالَفَ وَقَرَأَ فِي رُكُوعِهِ ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ قَرَأَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ أَوْ غَيْرَ الْفَاتِحَةِ ، فَإِنْ قَرَأَ غَيْرَ الْفَاتِحَةِ أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ وَإِنْ أَسَاءَ ، وَفِي سُجُودِ السَّهْوِ وَجْهَانِ ، وَإِنْ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ فَفِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : قَدْ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ ، لِأَنَّهُ أَتَى بِرُكْنٍ مِنْهَا فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ فَصَارَ كَمَنْ سَجَدَ فِي مَوْضِعِ الرُّكُوعِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ صَلَاتَهُ جَائِزَةٌ ، لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ ذِكْرٌ فَخَفَّتْ عَنْ حُكْمِ الْأَفْعَالِ فِي إِبْطَالِ الصَّلَاةِ ، لَكِنَّهُ يَسْجُدُ مِنْ أَجْلِهَا سُجُودَ السَّهْوِ وَجْهًا وَاحِدًا
فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمَأْمُومُ إِذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ بَعْدَ اسْتِيفَائِهِ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ قَائِمًا يَعْتَدُّ بِتِلْكَ الرَّكْعَةِ وَإِنْ لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا ، لِرَاوِيَةِ زَيْدِ بْنِ أَبِي عَتَّابٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِذَا أَدْرَكْتُمُونَا وَنَحْنُ سُجُودٌ فَاسْجُدُوا ، وَلَا تَعُدُّوهَا شَيْئًا وَمَنْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ وَلِأَنَّهُ بِإِدْرَاكِ الرُّكُوعِ يُدْرِكُ أَكْثَرَ الرَّكْعَةِ فَجَازَ أَنْ يَقُومَ مَقَامَ إِدْرَاكِ جَمِيعِ الرَّكْعَةِ ، وَهَذَا قَوْلٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ ، فَلَوْ لَمْ يَسْتَوْفِ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ قَائِمًا حَتَّى رَكَعَ مَعَ الْإِمَامِ فَأَتَمَّهَا رَاكِعًا لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا فِي فَرْضٍ ، لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْفَرْضِ اسْتِيفَاءُ الْإِحْرَامِ بِهِ قَائِمًا وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَصِيرُ دَاخِلًا فِي نَافِلَةٍ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ دَاخِلًا فِي نَافِلَةٍ وَيَعْتَدُّ بِهَذِهِ الرَّكْعَةِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ دَاخِلًا فِي الصَّلَاةِ عَلَى صِفَةٍ يَصِحُّ النَّفْلُ عَلَيْهَا وَخَرَجَ عَنِ الْفَرِيضَةِ لَمَّا فَاتَهَا صَارَتْ نَفْلًا ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَرْضًا وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا تَكُونُ فَرْضًا ، وَلَا نَفْلًا ، لِأَنَّ النَّفْلَ لَمْ يَقْصِدْهُ وَالْفَرْضَ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ ، وَلَوِ اسْتَوْفَى تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ قَائِمًا ثُمَّ هَوَى لِلرُّكُوعِ وَقَدْ تَحَرَّكَ الْإِمَامُ لِلرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ فَإِنْ أَدْرَكَ مَا يَرَى مِنَ الرُّكُوعِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ الْإِمَامُ مِنَ الْحَدِّ الَّذِي يُجْزِئُ مِنَ الرُّكُوعِ وَاعْتَدَّ بِهَذِهِ الرَّكْعَةِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُومُ قَدِ انْتَهَى إِلَى حَيْثُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْبِضَ بِرَاحَتَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَلِمْ
يَرْفَعِ الْإِمَامُ حَدًّا لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْبِضَ بِرَاحَتَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَهَذَا فِي حُكْمِ مَنْ أَدْرَكَ إِمَامَهُ مُسْتَقِرًّا فِي رُكُوعِهِ فِي اعْتِدَادِهِ بِهَذِهِ الرَّكْعَةِ مَعَهُ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْمَأْمُومُ قَدْ أَدْرَكَ مَا يُجْزِئُ إِلَّا بَعْدَ خُرُوجِ الْإِمَامِ عَنِ الْحَدِّ الَّذِي يُجْزِئُ لَمْ يَعْتَدَّ بِهَذِهِ الرَّكْعَةِ مَعَهُ وَإِنْ كَانَ دُخُولُهُ فِي الْفَرْضِ صَحِيحًا بِاسْتِيفَاءِ الْإِحْرَامِ
فَصْلٌ : فَلَوْ رَفَعَ مِنْ رُكُوعِهِ قَبْلَ أَنْ يَطْمَئِنَّ ، المصلي فَإِنْ عَمَدَ عَالِمًا فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ ، وَإِنْ جَهِلَ أَوْ نَسِيَ أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ وَعَادَ رَاكِعًا مُطْمَئِنًا ، فَلَوْ أَدْرَكَهُ حِينَ عَادَ إِلَى الرُّكُوعِ لِيَطْمَئِنَّ فِيهِ مَأْمُومٌ فَأَدْرَكَ الرُّكُوعَ مَعَهُ اعْتَدَّ بِهَذِهِ الرَّكْعَةِ ، وَلَوْ رَفَعَ مِنْ رُكُوعِهِ قَبْلَ التَّسْبِيحِ المصلي أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ وَلَمْ يُعِدْ ، فَإِنْ عَادَ فَرَكَعَ لِيُسَبِّحَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ إِنْ كَانَ عَالِمًا عَامِدًا ، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا أَوْ نَاسِيًا أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ ، فَلَوْ أَدْرَكَ فِي هَذَا الرُّكُوعِ الثَّانِي مَأْمُومًا لَمْ يُعْتَدَّ بِهَذِهِ الرَّكْعَةِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّهُ إِذَا أَعَادَ الرُّكُوعَ الثَّانِيَ لِلطُّمَأْنِينَةِ فَالرُّكُوعُ الثَّانِي هُوَ الْفَرِيضَةُ فَصَارَ الْمَأْمُومُ بِإِدْرَاكِهِ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ ، وَإِذَا أَعَادَ الرُّكُوعَ لِلتَّسْبِيحِ فَالرُّكُوعُ الْأَوَّلُ هُوَ الْفَرِيضَةُ ، فَلَمْ يَكُنِ الْمَأْمُومِ بِإِدْرَاكِ الثَّانِي مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ فَإِنْ قِيلَ : فَلَيْسَ لَوْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي خَامِسَةٍ سَهَا بِالْقِيَامِ إِلَيْهَا صَارَ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْخَامِسَةُ مِنْ فَرْضِ الْإِمَامِ ، فَهَلَّا إِذَا أَدْرَكَهُ فِي إِعَادَةِ الرُّكُوعِ لِلتَّسْبِيحِ يَكُونُ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الرُّكُوعُ مِنْ فَرْضِ الْإِمَامِ ؟ قُلْنَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ فِي إِدْرَاكِ الْخَامِسَةِ مَعَ الْإِمَامِ لَمْ يَتَحَمَّلِ الْإِمَامُ عَنْهُ شَيْئًا فَجَازَ أَنْ يُعْتَدَّ بِمَا لَمْ يَعْتَدَّ بِهِ الْإِمَامُ ، وَفِي إِدْرَاكِهِ رَاكِعًا يَصِيرُ الْإِمَامُ مُتَحَمِّلًا عَنْهُ الْقِرَاءَةَ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْتَدَّ بِمَا لَمْ يَعْتَدَّ بِهِ الْإِمَامُ وَمِثَالُ هَذَا مِنَ الْخَامِسَةِ أَنْ يُدْرِكَهُ رَاكِعًا فِيهَا فَلَا يَعْتَدُّ الْمَأْمُومُ بِهَا وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
الرَّفْعُ مِنَ الرُّكُوعِ وَالِاعْتِدَالِ قَائِمًا فَرُكْنٌ مَفْرُوضٌ فِي الصَّلَاةِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْفَعَ ابْتِدَاءَ قَوْلِهِ مَعَ الرَّفْعِ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ ، فَإِذَا اسْتَوَى قَائِمًا قَالَ أَيْضًا رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَاوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ ، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ وَيَقُولُهَا مَنْ خَلْفَهُ وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الرَّفْعُ مِنَ الرُّكُوعِ وَالِاعْتِدَالِ قَائِمًا حكمه فَرُكْنٌ مَفْرُوضٌ فِي الصَّلَاةِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنَّمَا هُوَ سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِفَرْضٍ ، وَلَوْ أَهْوَى مِنْ رُكُوعِهِ إِلَى السُّجُودِ أَجْزَأَهُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا [ الْحَجِّ : ] . فَاقْتَضَى الظَّاهِرُ إِيجَابَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْقِيَامِ وَالِاعْتِدَالِ قَالَ : وَلِأَنَّ هَذَا الْقِيَامَ لَوْ كَانَ رُكْنًا وَاجِبًا لَاقْتَضَى بِهِ ذِكْرًا وَاجِبًا كَالْقِيَامِ الْأَوَّلِ ، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ الذِّكْرَ فِيهِ غَيْرُ وَاجِبٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ غَيْرُ وَاجِبٍ ، قَالُوا : وَلِأَنَّهُ انْتِقَالٌ مِنْ رُكْنٍ إِلَى رُكْنٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ
فِيهِ رُكْنٌ كَالِانْتِقَالِ مِنَ السُّجُودِ إِلَى الْقِيَامِ وَدَلِيلُنَا مَعَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ ، وَالْأَعْرَابِيِّ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلرَّجُلِ : ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا ، وَلِأَنَّ كُلَّ رُكْنٍ يَعْقُبُهُ قِيَامٌ وَجَبَ أَنْ يَتَعَقَّبَهُ انْتِصَابٌ كَالْإِحْرَامِ ، وَلِأَنَّهُ قِيَامٌ مَشْرُوعٌ فِي الصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا كَالْقِيَامِ فِي حَالِ الْقِرَاءَةِ ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَهُوَ : أَنَّ مَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الرُّكُوعِ لَا يَمْنَعُ مِنْ إِيجَابِ الْقِيَامِ الَّذِي لَيْسَ مِنَ الرُّكُوعِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ : بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ رُكْنًا وَاجِبًا يَتَضَمَّنُ ذِكْرًا وَاجِبًا فَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ رُكْنٍ يَتَضَمَّنُهُ ذِكْرٌ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ، ثُمَّ عَلَى أَصْلِهِمْ بِالْجُلُوسِ الْمُتَشَهِّدِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ مِنْ أَنَّ الِانْتِقَالَ مِنْ رُكْنٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا ذِكْرٌ وَهُوَ أَنَّهُ فَاسِدٌ بِالِانْتِقَالِ مِنَ الْقِيَامِ إِلَى السُّجُودِ بَيْنَهُمَا ذِكْرٌ ، وَهُوَ الرُّكُوعُ عَلَى أَنَّ الرَّفْعَ مِنَ السُّجُودِ إِلَى الْقِيَامِ ذِكْرٌ أَيْضًا
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الرَّفْعَ مِنَ الرُّكُوعِ ، وَالِاعْتِدَالَ قَائِمًا ذِكْرٌ وَاجِبٌ ، فَالسُّنَّةُ إِذَا ابْتَدَأَ بِالرَّفْعِ أَنْ يَقُولَ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ، إِمَامًا كَانَ أَوْ مَأْمُومًا ، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ فَيَكُونُ فِي رَفْعِهِ سُنَّتَانِ : إِحْدَاهُمَا : قَوْلُهُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ وَالثَّانِي : رَفَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ فَإِذَا اسْتَوَى قَائِمًا قَالَ : " رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَاوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ ، وَمَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ " إِمَامًا كَانَ ، أَوْ مَأْمُومًا ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَخْتَصُّ الْإِمَامُ بِقَوْلِ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ وَالْمَأْمُومُ بِقَوْلِ " رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ " اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ سُمَيٍّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِذَا قَالَ الْإِمَامُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " قَالَ : وَلِأَنَّ قَوْلَهُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ مَوْضُوعٌ لِرَفْعٍ ، وَقَوْلَهُ : رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ ، مَوْضُوعٌ لِرَفْعٍ أَيْضًا ، وَالِانْتِقَالُ مِنَ الْأَرْكَانِ إِلَى الْأَرْكَانِ إِنَّمَا سُنَّ بِذِكْرٍ وَاحِدٍ لَا بِذِكْرَيْنِ كَالتَّكْبِيرَاتِ ، فَعَلِمَ أَنَّ أَحَدَهُمَا مَسْنُونٌ لِلْإِمَامِ ، وَالْآخَرَ مَسْنُونٌ لِلْمَأْمُومِ قَالَ : وَلِأَنَّ قَوْلَهُ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ إِخْبَارٌ عَنْ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ وَقَوْلَهُ : رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ شُكْرٌ لِلَّهِ ، عَزَّ وَجَلَّ ، عَلَى قَبُولِ الدُّعَاءِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا الْوَاحِدُ : لِأَنَّ أَحَدَهُمَا جَوَابُ الْآخَرِ وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ مَالِكٍ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، عَنْ سَالِمٍ ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قَالَ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ وَرُوِيَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ : كَانَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ يَقُولُ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَاوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ ، وَمَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ " وَرَوَى عَطِيَّةُ عَنْ قَزَعَةَ بْنِ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ حِينَ يَقُولُ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَاوَاتِ ، وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ حَقَّ مَا قَالَ الْعَبْدُ كُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ ، لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ وَلِأَنَّ أَذْكَارَ الصَّلَاةِ إِذَا سُنَّتْ لِلْمَأْمُومِ سُنَّتْ لِلْإِمَامِ كَالتَّكْبِيرِ ، وَالتَّسْبِيحِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَهُوَ : أَنَّهُ لَيْسَ نَهْيًا لِلْمَأْمُومِ عَنْ قَوْلِ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَه ، وَإِنَّمَا فِيهِ أَمْرٌ لَهُ بِقَوْلِ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُ بِهَذَا أَوْ لَمْ يَأْمُرْهُ بِقَوْلِ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ، لِأَنَّهُ يَسْمَعُ هَذَا مِنَ الْإِمَامِ فَيَتْبَعُهُ فِيهِ ، وَلَا يَسْمَعُ قَوْلَهُ : رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ فَأَمَرَهُ بِهِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ أَنَّهُمَا ذِكْرَانِ فَلَمْ يَجْتَمِعَا فِي الِانْتِقَالِ ، فَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ مَوْضُوعٌ لِلِانْتِقَالِ وَرَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مَسْنُونٌ فِي الِاعْتِدَالِ فَصَارَا ذِكْرَيْنِ فِي مَحَلَّيْنِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ أَنَّ أَحَدَهُمَا إِخْبَارٌ وَالْآخَرَ جَوَابٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْمَعَ الْوَاحِدُ بَيْنَهُمَا ، فَهُوَ فَاسِدٌ بِقَوْلِهِ آمِينَ هُوَ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى : اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [ الْفَاتِحَةِ : ] . ثُمَّ قَدْ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا فِي الصَّلَاةِ
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُمَا مَعًا مَسْنُونَانِ لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ ، فَإِنَّ الْإِمَامَ يَجْهَرُ بِقَوْلِ سَمِعِ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ، وَلِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلِانْتِقَالِ لِيَعْلَمَ بِهِ الْمَأْمُومُ كَالتَّكْبِيرِ ، وَيُسِرُّ بِقَوْلِهِ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ ، لِأَنَّهُ ذِكْرٌ فِي رُكْنٍ كَالتَّسْبِيحِ ، فَأَمَّا الْمَأْمُومُ فَيُسِرُّ بِهِمَا جَمِيعًا ، وَيَخْتَارُ لِلْمُصَلِّي إِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا أَنْ يَقُولَ مَا رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ ، وَلَا يَخْتَارُهُ الْإِمَامُ ، لِأَنْ لَا يُطِيلُ الصَّلَاةَ ، وَلَا يَخْتَارُهُ الْمَأْمُومُ لِئَلَّا يُخَالِفَ الْإِمَامَ فَلَوْ قَالَ بَدَلًا مِنْ ذَلِكَ حَمِدَ اللَّهُ مَنْ سَمِعَهُ ، أَوْ كَبَّرَ أَجْزَأَهُ ، وَإِنْ خَالَفَ السُّنَّةَ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِذَا هَوَى لِيَسْجُدَ ابْتَدَأَ التَّكْبِيرِ قَائِمًا ، ثُمَّ هَوَى مَعَ ابْتِدَائِهِ حَتَّى يَكُونَ الْقَضَاءُ تَكْبِيرَهُ مَعَ سُجُودِهِ ، وَأَوَّلُ مَا يَقَعُ مِنْهُ عَلَى الْأَرْضِ رُكْبَتَاهُ ، ثُمَّ يَدَاهُ ثُمَّ جَبْهَتُهُ وَأَنْفُهُ وَيَكُونُ عَلَى أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ كَمَا قَالَ أَمَّا السُّجُودُ معناه فَهُوَ الِانْحِنَاءُ وَالِاسْتِسْلَامُ قَالَ الْأَعْشَى :
يُرَاوِحُ مِنْ صَلَوَاتِ الْمَلِيـ كِ طَوْرًا سُجُودًا وَطَوْرًا جُؤَارَا وَالدَّلِيلُ : عَلَى وُجُوبِهَا فِي الصَّلَاةِ قَوْلُهُ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا [ الْحَجِّ : ] وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُ فِي صَلَاتِهِ وَقَالَ : " صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي " . وَأَمَرَ الْأَعْرَابِيَّ بِهِ ، فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ السُّجُودِ فَمِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُكَبِّرَ لِسُجُودِهِ ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُكَبِّرُ فِي كُلِّ رَفْعٍ وَخَفْضٍ ، فَيَبْتَدِئُ بِالتَّكْبِيرِ حَتَّى يَهْوِيَ لِلسُّجُودِ ، ثُمَّ يَهْوِي فَيُكَبِّرُ حَتَّى يَكُونَ الْقَضَاءُ تَكْبِيرَةً مَعَ أَوَّلِ سُجُودِهِ عَلَى الْأَرْضِ لِيَصِلَ الْأَرْكَانَ بِالْأَذْكَارِ ، فَأَوَّلُ مَا يَقَعُ عَلَى الْأَرْضِ رُكْبَتَاهُ ، ثُمَّ يَدَاهُ ثُمَّ جَبْهَتُهُ وَأَنْفُهُ وَقَالَ مَالِكٌ : يُقَدِّمُ وَضْعَ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ ، عند سجود المصلي وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ أَبِي الزِّنَادِ ، عَنِ الْأَعْرَجِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَبْرُكْ كَمَا يَبْرُكُ الْبَعِيرُ وَلْيَضَعْ رُكْبَتَيْهِ بَعْدَ يَدَيْهِ وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا سَجَدَ وَضَعَ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ وَقَالَ : " هَكَذَا كَانَ يَفْعَلُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا سَجَدَ وَضَعَ رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ يَدَيْهِ وَإِذَا نَهَضَ رَفَعَ يَدَيْهِ قَبْلَ إِلْيَتَيْهِ وَرَوَى سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ ، عَنْ سَعْدٍ أَنَّهُ قَالَ : كُنَّا نَضَعُ الْيَدَيْنِ قَبْلَ الرُّكْبَتَيْنِ ، ثُمَّ أُمِرْنَا بِالرُّكْبَتَيْنِ قَبْلَ الْيَدَيْنِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى نَسْخِ مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ ، وَلِأَنَّ الْجَبْهَةَ لَمَّا كَانَتْ أَوَّلَ الْأَعْضَاءِ ، رَفْعًا كَانَتْ آخِرَهَا وَضْعًا وَجَبَ إِذَا كَانَ الرُّكْبَتَانِ آخِرَ الْأَعْضَاءِ رَفَعا أَنْ تَكُونَ أَوَّلَهَا وَضْعًا ، وَلِأَنَّ كُلَّ عُضْوٍ يُرْفَعُ قَبْلَ صَاحِبِهِ فَإِنَّهُ يُوضَعُ
بَعْدَ صَاحِبِهِ كَالْجَبْهَةِ مَعَ الْيَدَيْنِ : فَلَمَّا كَانَتِ الْيَدَانِ مَرْفُوعَتَيْنِ قَبْلَ الرُّكْبَتَيْنِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الرُّكْبَتَانِ مَوْضُوعَتَيْنِ قَبْلَ الْيَدَيْنِ
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَهُوَ مَأْمُورٌ أَنْ يَسْجُدَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ ، وَقَدَمَيْهِ وَيَدَيْهِ ، وَجَبْهَتِهِ ، وَأَنْفِهِ ، فَأَمَّا الْجَبْهَةُ وَالْأَنْفُ ، فَفَرَضَ السُّجُودَ مُتَعَلِّقٌ بِالْجَبْهَةِ دُونَ الْأَنْفِ ، فَإِنْ سَجَدَ عَلَى جَبْهَتِهِ أَجْزَأَهُ ، وَإِنْ سَجَدَ عَلَى أَنْفِهِ لَمْ يُجْزِهِ ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : فَرْضُ السُّجُودِ مُتَعَلِّقٌ بِالْجَبْهَةِ ، وَالْأَنْفِ ، وَإِنْ سَجَدَ عَلَى أَحَدِهِمَا لَمْ يُجْزِهِ حَتَّى يَسْجُدَ عَلَيْهِمَا مَعًا وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : فَرْضُ السُّجُودِ مُتَعَلِّقٌ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْبَدَلِ ، فَإِنْ سَجَدَ عَلَى جَبْهَتِهِ دُونَ أَنْفِهِ أَجْزَأَهُ ، وَإِنْ سَجَدَ عَلَى أَنْفِهِ دُونَ جَبْهَتِهِ أَجْزَأَهُ وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَوْجَبَ السُّجُودَ عَلَى الْأَنْفِ مَعَ الْجَبْهَةِ بِرِوَايَةِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَا يُوضِعُ أَنْفَهُ عَلَى الْأَرْضِ وَاسْتَدَلَّ مَنْ جَعَلَ السُّجُودَ عَلَى الْأَنْفِ دُونَ الْجَبْهَةِ مُجَزِّئًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِلَّذِي عَلَّمَهُ الصَّلَاةَ : مَكِّنْ جَبْهَتَكَ وَأَنْفَكَ مِنَ الْأَرْضِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُسْتَحَقًّا وَكَانَ لَوْ سَجَدَ عَلَى جَبْهَتِهِ دُونَ أَنْفِهِ أَجْزَأَهُ كَذَلِكَ لَوْ سَجَدَ عَلَى أَنْفِهِ دُونَ جَبْهَتِهِ أَجْزَأَهُ وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ سُفْيَانَ ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْجُدَ مِنْهُ عَلَى يَدَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَأَطْرَافِ أَصَابِعِهِ وَجَبْهَتِهِ وَنُهِيَ أَنْ يَكُفَّ الشَّعْرَ وَالثِّيَابَ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّ كُلَّ عُضْوٍ كَانَ مَحَلًّا لِلسُّجُودِ كَانَ مُغْنِيًا وَلَمْ يَكُنْ مُخَيَّرًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ كَالْيَدَيْنِ ، وَخَبَرُ عَائِشَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، يُحْمَلُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَنَفْيِ الْكَمَالِ
فَصْلٌ : فَأَمَّا السُّجُودُ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ ، وَالْيَدَيْنِ ، وَالْقَدَمَيْنِ فَفِي وُجُوبِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ ، لِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعِ ذِكْرِ السُّجُودِ فِي الشَّرْعِ فَإِنَّمَا خُصَّ بِالْوَجْهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَعْضَاءِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ [ الْفَتْحِ : ] . وَقَالَ تَعَالَى : يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا [ الْإِسْرَاءِ : ] . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَلِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَهُ السُّجُودُ عَلَى هَذِهِ الْأَعْضَاءِ كَمَا يَلْزَمُهُ السُّجُودُ عَلَى الْجَبْهَةِ لَلَزِمَهُ الْإِيمَاءُ بِهَا فِي حَالِ الْعَجْزِ ، كَمَا لَزِمَهُ الْإِيمَاءُ بِالْجَبْهَةِ ، فَلَمَّا سَقَطَ عَنْهُ الْإِيمَاءُ بِهَا عِنْدَ عَجْزِهِ سَقَطَ وُجُوبُ السُّجُودِ عَلَيْهَا مَعَ قُدْرَتِهِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ السُّجُودَ عَلَيْهَا وَاجِبٌ لِرِوَايَةِ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : إِذَا سَجَدَ الْعَبْدُ سَجَدَ مَعَهُ سَبْعَةُ
أَرَابٍ : وَجْهُهُ ، وَكَفَّاهُ وَرُكْبَتَاهُ ، وَقَدَمَاهُ وَلِأَنَّ أَعْضَاءَ الطَّهَارَةِ هِيَ أَعْضَاءُ السُّجُودِ كَالْجَبْهَةِ
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ السَّبْعَةَ هِيَ فَرْضٌ لِمَحَلِّ السُّجُودِ الصلاة فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى الْمُبَاشَرَةِ بِهَا فِي السُّجُودِ ، فَنَقُولُ أَمَّا الْجَبْهَةُ فَالْمُبَاشَرَةُ بِهَا في الصلاة هل هي واجبة وَاجِبَةٌ ، وَعَلَيْهِ إِلْصَاقُهَا بِمَحَلِّ السُّجُودِ مِنْ أَرْضٍ أَوْ بِسَاطٍ ، فَإِنْ سَجَدَ عَلَى كُورِ عِمَامَتِهِ ، أَوْ عَلَى حَائِلٍ دُونَ جَبْهَتِهِ لَمْ يُجْزِهِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ كَانَ بَيْنَ جَبْهَتِهِ وَبَيْنَ الْأَرْضِ كَحَدِّ السَّيْفِ ، أَوْ سَجَدَ عَلَى كُورِ عِمَامَتِهِ أَجْزَأَهُ ؟ اسْتِدْلَالًا بِمَا يُرْوَى " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَ عَلَى كُورِ عِمَامَتِهِ " ، وَلِأَنَّهُ عُضْوٌ أُمِرَ بِالسُّجُودِ عَلَيْهِ فَجَازَ عَلَى حَائِلٍ دُونَهُ كَالرُّكْبَةِ وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ يَحْيَى بْنِ خَلَّادٍ عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ رَفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ رَجُلًا إِذَا سَجَدَ أَنْ يُمَكِّنَ وَجْهَهُ مِنَ الْأَرْضِ وَتَطْمَئِنَّ مَفَاصِلُهُ ، وَلِأَنَّهُ فَرْضٌ تَعَلَّقَ بِالْجَبْهَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ الْمُبَاشَرَةُ بِهَا كَالطَّهَارَةِ ، فَأَمَّا الْخَبَرُ فَضَعِيفٌ وَلَوْ صَحَّ لَاحْتَمَلَ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ فَعَلَ ذَلِكَ لِعِلَّةٍ بِجَبْهَتِهِ وَالثَّانِي : مَا قَالَهُ الْأَوْزَاعِيُّ أَنَّ عَمَائِمَ الْقَوْمِ كَانَتْ لَفَّةً أَوْ لَفَّتَيْنِ لِصِغَرِهَا ، فَكَانَ السُّجُودُ عَلَى كُورِهَا لَا يَمْنَعُ مِنْ وُصُولِ الْجَبْهَةِ إِلَى الْأَرْضِ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ فَالْمَعْنَى فِيهِمَا مُفَارَقَةُ الْعَادَةِ بِكَشْفِهِمَا وَظُهُورِ الْعَوْرَةِ بِهِمَا ، فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْمُبَاشَرَةِ بِالْجَبْهَةِ فَسَجَدَ عَلَى جَمِيعِهَا أَوْ بَعْضِهَا أَجْزَأَهُ ، فَلَوْ كَانَ عَلَى جَبْهَتِهِ عِصَابَةٌ فَسَجَدَ عَلَيْهَا فَلَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِعِلَّةٍ ، أَوْ لِغَيْرِ عِلَّةٍ ، فَإِنْ كَانَ وَضَعَهَا لِغَيْرِ عِلَّةٍ فَمَسَّ الْأَرْضَ بِمَوْضِعٍ مِنْ جَبْهَتِهِ أَوْ مِنْ خَرْقٍ فِي الْعِصَابَةِ أَجْزَأَهُ ، وَإِنْ لَمْ يُمَاسِّ الْأَرْضَ بِشَيْءٍ مِنْ جَبْهَتِهِ لَمْ يُجْزِهِ ، وَكَذَا لَوْ سَجَدَ عَلَى جَبْهَتِهِ أَوْ رَأْسِهِ ، وَإِنْ وَضَعَ الْعِصَابَةَ لِعِلَّةٍ أَجْزَأَهُ وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ إِذَا بَاشَرَ بِالْعِصَابَةِ الْأَرْضَ ، وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُخْرِجُ قَوْلًا آخَرَ فِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ مِنَ الْمَسْحِ عَلَى الْجَبَائِرِ ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ، فَلَوْ سَجَدَ عَلَى ثَوْبٍ هُوَ لَابِسُهُ لَمْ يُجْزِهِ ، وَلَوْ جَعَلَهُ وَسَجَدَ عَلَيْهِ أَجْزَأَهُ ، وَلَوْ كَانَ بِجَبْهَتِهِ عِلَّةٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى السُّجُودِ عَلَيْهَا وَأَمْكَنَهُ السُّجُودُ عَلَى جَبِينِهِ ، أَوْ مُحَاذَاةُ الْأَرْضِ بِجَبْهَتِهِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : " كَانَتْ مُحَاذَاةُ الْأَرْضِ بِجَبْهَتِهِ أَوْلَى "
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْمُبَاشَرَةُ بِمَا سِوَى الْجَبْهَةِ مِنَ الْأَعْضَاءِ في الصلاة هل يلزم مباشرة الأرض بها الْبَاقِيَةِ فَالرُّكْبَتَانِ في الصلاة هل يلزم مباشرة الأرض بها لَا يَلْزَمُهُ مُبَاشَرَةُ الْأَرْضِ بِهِمَا ، وَلَا يُسْتَحَبُّ لَهُ خَوْفًا مِنْ ظُهُورِ عَوْرَتِهِ ، وَأَمَّا الْقَدَمَانِ عند السجود في الصلاة هل يلزم مباشرة الأرض بها فَلَا يَلْزَمُهُ مُبَاشَرَةُ الْأَرْضِ بِهِمَا ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي خُفَّيْنِ ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْمُبَاشَرَةُ بِهِمَا ، وَأَمَّا الْكَفَّانِ عند السجود في الصلاة هل يلزم مباشرة الأرض بها فَفِي وُجُوبِ الْمُبَاشَرَةِ بِهِمَا قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ السَّبْقِ وَالرَّمْيِ ، أَنَّ الْمُبَاشَرَةَ بِهِمَا وَاجِبَةٌ لِرِوَايَةِ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ : شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّ الرَّمْضَاءِ فَلَمْ يُشْكِنَا ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَسْجُدَ عَلَى جِبَاهِنَا وَأَكُفِّنَا وَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صَلَاةِ عَبْدٍ لَا يُبَاشِرُ الْأَرْضَ بِكَفَّيْهِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّ الْمُبَاشَرَةَ بِهِمَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ فَخُصَّ الْوَجْهُ بِالسُّجُودِ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْمُبَاشَرَةِ وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ ثَابِتِ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي مَسْجِدِ ابْنِ عَبْدِ الْأَشْهَلِ وَعَلَيْهِ كِسَاءٌ مُلْتَفٌّ بِهِ يَضَعُ يَدَيْهِ عَلَيْهِ يَقِيهِ الْكِسَاءُ بَرْدَ الشِّتَاءِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيَقُولُ فِي سُجُودِهِ سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى ثَلَاثًا وَذَلِكَ أَدْنَى الْكَمَالِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ التَّسْبِيحَ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ حكمه سُنَّةٌ ، وَأَنَّهُ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى وَأَدْنَى كَمَالِهِ ثَلَاثًا : لِرِوَايَةِ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِذَا رَكَعَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ : ثَلَاثًا سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ ، وَذَلِكَ أَدْنَاهُ وَإِذَا سَجَدَ فَلْيَقُلْ : سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى ثَلَاثًا ، وَذَلِكَ أَدْنَاهُ وَيَخْتَارُ أَنْ يُضِيفَ إِلَى تَسْبِيحِهِ مِنَ الذِّكْرِ إِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا مَا رَوَاهُ صَفْوَانُ بْنُ سُلَيْمٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَجَدَ قَالَ : " اللَّهُمَّ لَكَ سَجَدْتُ ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ ، وَأَنْتَ رَبِّي ، سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ ، وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ ، تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ فَهَذَا الذِّكْرُ الْمَسْنُونُ فِي السُّجُودِ ، فَأَمَّا الدُّعَاءُ فِيهِ فَقَدْ رَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ عَزَ وَجَلَّ وَهُوَ سَاجِدٌ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ فَيَخْتَارُ لَهُ أَنْ يَدْعُوَ بَعْدَ الذِّكْرِ الْمَسْنُونِ إِنْ لَمْ يَكُنْ إِمَامًا يُطِيلُ الصَّلَاةَ وَلَا مَأْمُومًا يُخَالِفُ الْإِمَامَ ، وَكَانَ مُنْفَرِدًا بِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ :
اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، كَانَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ ، دِقَّهُ وَجِلَّهُ ، أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ ، عَلَانِيَتَهُ وَسِرَّهُ فَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ دُعَائِهِ فِي ذَلِكَ كَانَ حَسَنًا ، وَلَوْ دَعَا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَدْعِيَةِ الْمُسْتَحَبَّةِ ، أَوِ الْمُبَاحَةِ كَانَ جَائِزًا ، وَلَوْ تَرَكَهُ كُلَّهُ مَعَ الذِّكْرِ الْمَسْنُونِ أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ ، وَلَا سُجُودَ لِلسَّهْوِ عَلَيْهِ
بيان صِفَةِ السُّجُودِ وَهَيْئَتِهِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيُجَافِي مِرْفَقَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ حَتَّى إِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ مَا يَسْتُرُهُ رُئِيَتْ عُفْرَةُ إِبِطِهِ وَيُفَرِّجُ بَيْنَ رِجْلَيْهِ وَيُقِلُّ بَطْنَهُ عَنْ فَخِذَيْهِ ، وَيُوَجِّهُ أَصَابِعَهُ نَحْوَ الْقِبْلَةِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى صِفَةِ السُّجُودِ وَهَيْئَتِهِ وَهِيَ سَبَعَةُ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : أَنْ يُجَافِيَ مِرْفَقَيْهِ وَذِرَاعَيْهِ وَمِرْفَقَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ لِرِوَايَةِ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ قَالَتْ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَجَدَ جَافَى بِيَدَيْهِ حَتَّى يَرَى مَنْ خَلْفَهُ وَفَتَحَ إِبِطَيْهِ وَالثَّانِي : أَنَّهُ يُقِلُّ بَطْنَهُ وَصَدْرَهُ عَنْ فَخِذَيْهِ ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ حَتَّى إِنَّ بَهِيمَةً أَرَادَتْ أَنْ تَمُرَّ تَحْتَهُ لَمَرَّتْ وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ عَلَى بُطُونِ أَصَابِعِ قَدَمَيْهِ لِرِوَايَةِ أَبِي حُمَيْدٍ لِذَلِكَ وَالرَّابِعُ : أَنْ يَضُمَّ فَخِذَيْهِ وَيُفَرِّقَ رِجْلَيْهِ لِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَفْتَرِشْ يَدَيْهِ افْتِرَاشَ الْكَلْبِ وَلْيَضُمَّ فَخِذَيْهِ وَالْخَامِسُ : أَنْ يَضَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ لِرِوَايَةِ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ لِذَلِكَ وَالسَّادِسُ : أَنْ يُوَجِّهَ أَصَابِعَهُ نَحْوَ الْقِبْلَةِ وَلَا يُفَرِّقَهَا بِخِلَافِ مَا يَفْعَلُ إِذَا رَفَعَهُمَا لِلتَّكْبِيرِ فَيُفَرِّقُهُمَا . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّهُ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ لِلتَّكْبِيرِ كَانَ مُسْتَقْبِلًا لِلْقِبْلَةِ بِبَاطِنِ كَفَّيْهِ فَلَمْ يَكُنْ فِي تَفْرِيقِ أَصَابِعِهِ عُدُولٌ عَنِ الْقِبْلَةِ وَإِذَا وَضَعَهُمَا عَلَى الْأَرْضِ لِلسُّجُودِ صَارَ مُسْتَقْبِلًا لِلْقِبْلَةِ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِهِ فَإِذَا فَرَّقَهَا عَدَلَ بَعْضَهَا عَنِ الْقِبْلَةِ وَالسَّابِعُ : أَنْ يَرْفَعَ ذِرَاعَيْهِ عَنِ الْأَرْضِ وَلَا يَبْسُطَهُمَا لِرِوَايَةِ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَعْتَدِلْ ، وَلَا يَبْسُطْ ذِرَاعَيْهِ بَسْطَ السَّبُعِ
فَهَذِهِ صِفَةُ السُّجُودِ وَهَيْئَتُهُ فِي الِاخْتِيَارِ وَالْكَمَالِ ، وَلَيْسَ فِي الْإِخْلَالِ بِشَيْءٍ مِنْهَا قَدْحٌ فِي الصَّلَاةِ وَلَا مَنْعٌ مِنْ إِجْزَاءٍ ، فَأَمَّا الطُّمَأْنِينَةُ حكمها في الصلاة فِيهِ فَرُكْنٌ وَاجِبٌ لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ إِلَّا بِهِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَيْسَ بِوَاجِبٍ . وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ فِي الرُّكُوعِ ، فَلَوْ أَنَّ مُصَلِّيًا هَوَى لِلسُّجُودِ فَسَقَطَ عَلَى جَنْبِهِ ثُمَّ انْقَلَبَ سَاجِدًا فَإِنْ كَانَ انْقِلَابُهُ قَصْدًا لِلسُّجُودِ أَجْزَأَهُ ، وَإِنْ كَانَ انْقِلَابُهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لِلسُّجُودِ لَمْ يُجْزِهِ
إِذَا فَرَغَ مِنَ السُّجُودِ وَالطُّمَأْنِينَةِ فِيهِ رَفَعَ مِنْهُ مُكَبِّرًا وَالرَّفْعُ مِنْهُ وَاجِبٌ وَالتَّكْبِيرُ مَسْنُونٌ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " ثُمَّ يَرْفَعُ مُكَبِّرًا كَذَلِكَ حَتَّى يَعْتَدِلَ جَالِسًا عَلَى رِجْلِهِ الْيُسْرَى وَيَنْصِبَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا فَرَغَ مِنَ السُّجُودِ وَالطُّمَأْنِينَةِ فِيهِ عَلَى مَا وَصَفْنَا رَفَعَ مِنْهُ مُكَبِّرًا ، وَالرَّفْعُ من السجود ( حكمه ) مِنْهُ وَاجِبٌ ، وَالتَّكْبِيرُ مَسْنُونٌ ، فَيَبْتَدِئُ بِالتَّكْبِيرِ مَعَ أَوَّلِ رَفْعِهِ وَيُنْهِيهِ مَعَ آخِرِ رَفْعِهِ لِيَصِلَ الْأَرْكَانَ بِالْأَذْكَارِ ثُمَّ يَجْلِسُ مُعْتَدِلًا مُطْمَئِنًا ، الطمأنينة في الصلاة وَهَذِهِ الْجِلْسَةُ وَالِاعْتِدَالُ فِيهَا رُكْنَانِ مَفْرُوضَانِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هُمَا سُنَّتَانِ لَا يَجِبَانِ ، وَالْوَاجِبُ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ قَدْرَ حَدِّ السَّيْفِ وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ يَثْنِي رِجْلَهُ الْيُسْرَى فَيَقْعُدُ عَلَيْهَا حَتَّى يَرْجِعَ كُلُّ عَظْمٍ إِلَى مَوْضِعِهِ وَرَوَى رِفَاعَةُ بْنُ رَافِعٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ عَلَّمَ الرَّجُلَ الصَّلَاةَ قَالَ : فَإِذَا رَفَعْتَ فَاجْلِسْ عَلَى فَخِذِكَ الْيُسْرَى وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلرَّجُلِ حِينَ عَلَّمَهُ الصَّلَاةَ ثُمَّ اجْلِسْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا ، وَلِأَنَّ كُلَّ جِلْسَةٍ لَوِ ابْتَدَءَ لَهَا بِالْقِيَامِ بَطَلَتْ بِهَا الصَّلَاةُ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ مَفْرُوضَةً فِي الصَّلَاةِ كَالْجُلُوسِ الْأَخِيرِ لِلتَّشَهُّدِ
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ هَذِهِ الْجِلْسَةِ وَالِاعْتِدَالِ فِيهَا ، فَمِنَ السُّنَّةِ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ الشَّافِعِيُّ أَنْ يَقُولَ فِيهَا مَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ إِذَا جَلَسَ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ : " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَاهْدِنِي وَعَافِنِي وَارْزُقْنِي
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيَسْجُدُ سَجْدَةً أُخْرَى كَذَلِكَ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ يَسْجُدُ السَّجْدَةَ الثَّانِيَةَ كَمَا يَسْجُدُ السَّجْدَةَ الْأُولَى يَبْتَدِئُ بِهَا بِالتَّكْبِيرِ جَالِسًا وَيُنْهِيهِ سَاجِدًا ، وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ ، وَيَفْعَلُ مَا ذَكَرْنَا فِي صِفَةِ الصلاة السُّجُودِ وَهَيْئَتِهِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْوُجُوبِ فَاسْتَوَيَا فِي الصِّفَةِ
إِذَا رَفَعَ مِنَ السَّجْدَتَيْنِ فَقَدْ أَكْمَلَ الرَّكْعَةَ الْأُولَى
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِذَا اسْتَوَى قَاعِدًا نَهَضَ مُعْتَمِدًا عَلَى الْأَرْضِ بِيَدَيْهِ حَتَّى يَعْتَدِلَ قَائِمًا وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي السُّجُودِ وَلَا فِي الْقِيَامِ مِنَ السُّجُودِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا رَفَعَ مِنَ السَّجْدَتَيْنِ عَلَى مَا وَصَفْنَا فَقَدْ أَكْمَلَ الرَّكْعَةَ الْأُولَى ، فَيُسْتَحَبُّ لَهُ بَعْدَهَا أَنْ يَجْلِسَ قَبْلَ قِيَامِهِ إِلَى الثَّانِيَةِ جِلْسَةَ الِاسْتِرَاحَةِ ، المصلي وَهِيَ سُنَّةٌ ، وَلَيْسَتْ وَاجِبَةً ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَيْسَتْ هَذِهِ الْجِلْسَةُ مُسْتَحَبَّةً ، وَلَا سُنَّةً وَسَاعَدَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : لِأَنَّ مَنْ وَصَفَ صَلَاةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحْكِهَا ، وَلَعَلَّهُ كَانَ فَعَلَهَا فِي مَرَضِهِ أَوْ عِنْدَ كِبَرِهِ وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ ، عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ أَنَّهُ صَلَّى وَقَالَ : وَاللَّهِ مَا أُرِيدُ صَلَاةً ، وَلَكِنْ أُرِيكُمْ كَيْفَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي حَتَّى إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السَّجْدَةِ الْأَخِيرَةِ اسْتَوَى قَاعِدًا ، ثُمَّ قَامَ وَاعْتَمَدَ عَلَى الْأَرْضِ ، وَلِأَنَّ الْقِيَامَ إِلَى الرَّكْعَةِ بَعْدَ رَكْعَةٍ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ بَعْدَ جِلْسَتِهِ كَالثَّالِثَةِ بَعْدَ الثَّانِيَةِ ، فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ هَذِهِ الْجِلْسَةَ سُنَّةٌ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي كَيْفِيَّةِ جُلُوسِهِ فِيهَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَجْلِسُ عَلَى صَدْرِ قَدَمَيْهِ غَيْرَ مُطْمَئِنٍ ، فَعَلَى هَذَا يَرْفَعُ مِنْ سُجُودِهِ غَيْرَ مُكَبِّرٍ فَإِذَا أَرَادَ النُّهُوضَ مِنْ هَذِهِ الْجِلْسَةِ اعْتَمَدَ بِيَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ ثُمَّ قَامَ مُكَبِّرًا وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : أَنَّهُ يَجْلِسُ مُفْتَرِشًا لِقَدَمِهِ الْيُسْرَى مُطْمَئِنًا ، كَجُلُوسِهِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ ، فَعَلَى هَذَا يَرْفَعُ مِنْ سُجُودِهِ مُكَبِّرًا ، فَإِذَا أَرَادَ النُّهُوضَ مِنْ هَذِهِ الْجِلْسَةِ قَامَ غَيْرَ مُكَبِّرٍ مُعْتَمِدًا بِيَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ ، وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا أَنْ يَقُومَ مُعْتَمِدًا بِيَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَمْكَنُ لَهُ فَسَوَاءٌ كَانَ شَابًّا أَوْ شَيْخًا قَوِيًّا أَوْ ضَعِيفًا
حُكْمُ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فِيمَا يَتَضَمَّنُهَا مِنْ فَرْضٍ وَسُنَّةٍ وَهَيْئَةٍ كَحُكْمِ الرَّكْعَةِ الْأُولَى إِلَّا فِي خَمْسَةِ أَشْيَاءَ مُخْتَصَّةٍ بِالرَّكْعَةِ الْأُولَى
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " ثُمَّ يَفْعَلُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثْلَ ذَلِكَ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ وَحُكْمُ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فِيمَا يَتَضَمَّنُهَا مِنْ فَرْضٍ وَسُنَّةٍ وَهَيْئَةٍ كَحُكْمِ الرَّكْعَةِ الْأُولَى إِلَّا فِي خَمْسَةِ أَشْيَاءَ مُخْتَصَّةٍ بِالرَّكْعَةِ الْأُولَى لِاخْتِصَاصِهَا بِافْتِتَاحِ الصَّلَاةِ فَهِيَ النِّيَّةُ ، وَالْإِحْرَامُ ، وَرَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ ، وَالتَّوَجُّهُ ، وَالِاسْتِعَاذَةُ ثُمَّ هُمَا فِيمَا سِوَى هَذِهِ الْخَمْسَةِ سَوَاءٌ فِي كُلِّ فَرْضٍ ، وَسُنَّةٍ ، وَهَيْئَةٍ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ عَلَّمَ الرَّجُلَ الصَّلَاةَ فَقَالَ : " ثُمَّ اصْنَعْ كَذَلِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ "