كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي
مَسْأَلَةٌ : [ حُكْمُ مَنْ كَانَ عَلَى قُرْحِهِ دَمٌ ] قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ كَانَ عَلَى قُرْحِهِ دَمٌ يَخَافُ إِنْ غَسَلَهُ في التيمم ، تَيَمَّمَ وَأَعَادَ إِذَا قَدَرَ عَلَى غَسْلِ الدَّمِ " . وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَصُورَتُهَا مَا ذَكَرْنَا مِنْ صَاحِبِ الْقُرُوحِ إِذَا كَانَ بَعْضُ بَدَنِهِ قَرِيحًا ، وَبَعْضُهُ صَحِيحًا فَاسْتَعْمَلَ الْمَاءَ فِي الصَّحِيحِ وَتَيَمَّمَ فِي الْقَرِيحِ ، ثُمَّ صَلَّى فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي جُرْحِهِ دَمٌ ، وَلَا نَجَسٌ فَصَلَاتُهُ مُجْزِئَةٌ ، وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى قُرْحِهِ دَمٌ أَوْ نَجَاسَةٌ مِنْ قَيْحٍ ، وَمِدَّةٍ ، فَإِنْ كَانَتْ يَسِيرَةً يُعْفَى عَنْ مِثْلِهَا فِي الصِّحَّةِ كَانَتْ صَلَاتُهُ مُجْزِئَةً ، وَالَّذِي يُعْفَى عَنْهُ هُوَ يَسِيرُ مَاءِ الْقُرُوحِ ، وَفِي يَسِيرِ الدَّمِ وَجْهَانِ ، وَإِنْ كَانَ النَّجِسُ كَثِيرًا لَا يُعْفَى عَنْ مِثْلِهِ فِي الصِّحَّةِ فَعَلَيْهِ إِعَادَةُ مَا صَلَّى إِذَا صَحَّ ، وَبَرَأَ وَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ يُخَرِّجُ وُجُوبَ الْإِعَادَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي الْمَحْبُوسِ فِي حُشٍّ . وَقَالَ الْمُزَنِيُّ : لَا إِعَادَةَ عَلَى جَمِيعِهِمْ ، فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَسَيَأْتِي الْكَلَامُ مَعَهُ ، وَأَمَّا ابْنُ خَيْرَانِ فِي تَخْرِيجِهِ الْإِعَادَةَ فَمُخَالِفٌ لِجَمِيعِ أَصْحَابِنَا ، وَغَافِلٌ عَنْ وَجْهِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَهُوَ أَنَّ نَجَاسَةَ صَاحِبِ الْحُشِّ مُفَارِقَةٌ وَنَجَاسَةُ صَاحِبِ الْقُرُوحِ مُتَّصِلَةٌ ، وَالنَّجَاسَةُ لَا تَسْتَغْنِي عَنْ طَهَارَةٍ ، وَلَيْسَ مَا اسْتَعْمَلَهُ مِنَ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ تَطْهِيرًا لَهَا : لِأَنَّ الْمَاءَ تَطْهِيرٌ لِلصَّحِيحِ مِنْ بَدَنِهِ ، وَالتُّرَابُ تَطْهِيرٌ لِقَرِيحِ بَدَنِهِ فَعَرِيَتِ النَّجَاسَةُ عَنْ طَهَارَةٍ ، فَلَزِمَتْهُ الْإِعَادَةُ ، وَفَارَقَ بِهِ حَالَ الْمُسْتَحَاضَةِ بِمَا سَنَذْكُرُهُ مَعَ الْمُزَنِيِّ مِنْ بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ .
مَسْأَلَةٌ صَلَاةُ مَنْ كَانَ فِي حُشٍّ
مَسْأَلَةٌ : [ صَلَاةُ مَنْ كَانَ فِي حُشٍّ ] قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا كَانَ فِي الْمِصْرِ فِي حُشٍّ أَوْ مَوْضِعٍ نَجِسٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا رَجُلٌ فِي حُشٍّ وَالْحُشُّ الْمَكَانُ النَّجِسُ فَإِذَا دَخَلَ وَقْتُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَوَجَدَ فِي الْحُشِّ مَوْضِعًا طَاهِرًا أَوْ بِسَاطًا لَزِمَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ وَلَا إِعَادَةَ ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَوْضِعًا طَاهِرًا وَلَا بِسَاطًا طَاهِرًا صَلَّى لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ ، وَهَلْ يُصَلِّي وَاجِبًا أَوِ اسْتِحْبَابًا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ وَالْإِمْلَاءِ : يُصَلِّي اسْتِحْبَابًا لَا وَاجِبًا ، وَوَجْهُهُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَيْنَا فِيمَنْ لَمْ يَجِدْ مَاءً وَلَا تُرَابًا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ نَصَّ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَفِي الْأُمِّ أَنَّهُ يُصَلِّي وَاجِبًا وَوَجْهُهُ مَا اسْتَدْلَلْنَا بِهِ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فِي مَنْ لَمْ يَجِدْ مَاءً وَلَا تُرَابًا ، فَإِذَا صَلَّى فِي الْوَقْتِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يُومِئُ وَلَا يُبَاشِرُ النَّجَاسَةَ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ السُّجُودَ مُبَاشِرًا بِأَعْضَاءِ سُجُودِهِ : لِأَنَّ طَهَارَةَ الْمَحَلِّ فَرْضٌ
وَاسْتِيفَاءُ السُّجُودِ فَرْضٌ ، فَلَمْ يَكُنِ الْعَجْزُ عَنِ الطَّهَارَةِ مُسْقِطًا لِفَرْضِ السُّجُودِ كَالْعُرْيَانِ يَلْزَمُهُ أَنْ يُصَلِّيَ قَائِمًا وَإِنْ كَانَ تَظْهَرُ عَوْرَتُهُ ، وَلَا يَكُونُ الْعَجْزُ عَنْ سَتْرِ الْعَوْرَةِ مُسْقِطًا لِفَرْضِ الْقِيَامِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ الصَّحِيحُ وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْإِمْلَاءِ أَنَّهُ يُومِئُ مُنْتَهِيًا فِي سُجُودِهِ أَقْصَى حَالٍ إِنْ زَادَ عَلَيْهَا أَصَابَ النَّجَاسَةَ لِأَنَّ الْإِيمَاءَ بَدَلٌ مِنَ السُّجُودِ ، وَلَيْسَ لِلطَّهَارَةِ فِي النَّجَاسَةِ بَدَلٌ ، فَكَانَ اجْتِنَابُ الْأَنْجَاسِ أَوْكَدُ مِنِ اسْتِيفَاءِ السُّجُودِ ، وَخَالَفَ الْعُرْيَانَ : لِأَنَّ الْأَرْضَ لَا تَكُونُ خَلَفًا مِنَ الثَّوْبِ فِي سَتْرِ الْعَوْرَةِ أَلَا تَرَى لَوْ أَفْضَى بِعَوْرَتِهِ إِلَى الْأَرْضِ سَاتِرًا لَهَا عَنْ أَبْصَارِ الْخَلْقِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الثَّوْبِ لَمْ يُجْزِهِ ، وَلَوْ أَجْزَأَهُ هَذَا وَكَانَ سَاتِرًا لِأَنَّهُ لَا يُرَى أَجْزَأَهُ إِذَا كَانَ يُصَلِّي عُرْيَانًا فِي بَيْتٍ مُسْتَتِرًا بِحِيطَانِهِ ، لِأَنَّهُ لَا يُرَى وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْإِيمَاءُ : لِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ السُّجُودِ فِي حَالِ الِاضْطِرَارِ ، وَفِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ مَعَ الِاخْتِيَارِ .
فَصْلٌ حُكْمُ إِعَادَةِ مَنْ صَلَّى فِي حُشٍّ
فَصْلٌ : [ حُكْمُ إِعَادَةِ مَنْ صَلَّى فِي حُشٍّ ] فَإِذَا صَلَّى عَلَى مَا وَصَفْنَا انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى وُجُوبِ الْإِعَادَةِ . فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ مَا صَلَّاهُ كَانَ اسْتِحْبَابًا وَلَمْ يَكُنْ وَاجِبًا لَزِمَهُ الْإِعَادَةُ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ مَا صَلَّاهُ فِي الْوَقْتِ كَانَ فَرْضًا وَاجِبًا ، فَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا أَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ بِأَدَاءِ حَقٍّ يَتَمَكَّنُ مِنْهُ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ مِنَ الْمُحْدِثِ لَا تَجُوزُ ، وَالرُّخَصُ مِنَ الْعَاصِي لَا تَصِحُّ ، فَإِنْ كَانَ مُتَوَضِّئًا وَبِالْحَبْسِ فِي الْحُشِّ مَظْلُومًا فَفِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ قَوْلَانِ نَذْكُرُ مُوجِبَهُمَا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ جَمِيعِ مَسَائِلِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ صَلَاةُ مَنْ رُبِطَ عَلَى خَشَبَةٍ
مَسْأَلَةٌ : [ صَلَاةُ مَنْ رُبِطَ عَلَى خَشَبَةٍ ] قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " أَوْ مَرْبُوطًا عَلَى خَشَبَةٍ صَلَّى يُومِئُ وَيُعِيدُ إِذَا قَدَرَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ رُبِطَ عَلَى خَشَبَةٍ ، وَقَدْ دَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ ، وَلَا يَقْدِرُ مَعَ كَوْنِهِ مَرْبُوطًا عَلَى اسْتِيفَاءِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ صلاته ، فَإِنَّهُ يُصَلِّي لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ حَسَبَ إِمْكَانِهِ مُومِيًا فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ بَدَنِهِ وَهَلْ تَكُونُ صَلَاتُهُ فِي الْوَقْتِ اسْتِحْبَابًا أَوْ وَاجِبًا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ ، فَإِذَا صَلَّى ثُمَّ أَطْلَقَ مِنْ بَعْدُ ، فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ صَلَاتَهُ فِي الْوَقْتِ اسْتِحْبَابًا فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّ صَلَاتَهُ فِي الْوَقْتِ وَاجِبَةٌ فَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا ، أَوْ عَاصِيًا لِامْتِنَاعِهِ مِنْ حَقٍّ مَعَ الْمُكْنَةِ أَوْ كَانَ مَرْبُوطًا إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ ، لَزِمَهُ الْإِعَادَةُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ ، وَإِنْ كَانَ مُتَوَضِّئًا وَمَظْلُومًا مُسْتَقْبِلًا لِلْقِبْلَةِ فِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى .
مَسْأَلَةٌ حُكْمُ تَيَمُّمِ مَنْ أَلْصَقَ عَلَى مَوْضِعِ التَّيَمُّمِ لُصُوقًا
مَسْأَلَةٌ : [ حُكْمُ تَيَمُّمِ مَنْ أَلْصَقَ عَلَى مَوْضِعِ التَّيَمُّمِ لُصُوقًا ] قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ أَلْصَقَ عَلَى مَوْضِعِ التَيَمُّمِ لُصُوقًا ، نَزَعَ اللُّصُوقَ وَأَعَادَ " .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صُورَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : صُورَتُهَا فِي رَجُلٍ كَانَ عَلَى أَعْضَاءِ تَيَمُّمِهِ قُرُوحٌ فَأَلْصَقَ عَلَيْهَا لُصُوقًا وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى نَزْعِهَا وَالتَّيَمُّمِ عَلَيْهَا وَلَا يَقْدِرُ عَلَى إِيصَالِ الْمَاءِ إِلَيْهَا ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ فِيهَا بَدَلًا مِنْ غَسْلِهَا ، وَيَغْسِلُ مَا لَا قُرُوحَ عَلَيْهِ مِنْ أَعْضَائِهِ ، فَإِذَا فَعَلَ فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ السَّلِيمَ قَدْ غَسَلَهُ بِالْمَاءِ ، وَمَوْضِعُ اللُّصُوقِ تَيَمَّمَ مِنْهُ بِالتُّرَابِ ، وَتَأَوَّلُوا قَوْلَ الشَّافِعِيِّ " وَأَعَادَ " يَعْنِي اللُّصُوقَ أَعَادَهَا بَعْدَ تَيَمُّمِهِ لَا أَنَّهُ عَنَى إِعَادَةَ الصَّلَاةِ . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ صُورَتُهَا أَنْ يَقْدِرَ عَلَى نَزْعِ اللُّصُوقِ مِنْهَا ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى التَّيَمُّمِ فِيهَا فَيُصَلِّيَ مُقْتَصِدًا عَلَى غَسْلِ السَّلِيمِ مِنْ أَعْضَائِهِ وَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ : لِأَنَّ مَوْضِعَ اللُّصُوقِ لَمْ يُطَهِّرْهُ بِالْمَاءِ وَلَا بِالتُّرَابِ ، كَالْعَادِمِ لِلْمَاءِ وَالتُّرَابِ مَعًا ، فَيَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ إِذَا صَلَّى لِإِخْلَالِهِ بِالطَّهَارَةِ مُبْدِلًا ، وَتَأَوَّلُوا قَوْلَ الشَّافِعِيِّ وَأَعَادَ يَعْنِي الصَّلَاةَ ، دُونَ اللُّصُوقِ ، وَكَلَامُ الشَّافِعِيِّ يَبْعُدُ مِنْ تَصْوِيرِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ : لِأَنَّهُ قَالَ نَزَعَ اللُّصُوقَ ، وَمَنْ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ فِي فَرْضِهِ مَاءً ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ نَزْعُ اللُّصُوقِ عَنْهُ ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ نَزْعُ اللُّصُوقِ إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى إِحْدَى الطَّهَارَتَيْنِ فِي مَحَلِّهِ وَلَا عَلَى أَيِّ الصُّورَتَيْنِ كَانَتِ الْمَسْأَلَةٌ فَالْجَوَابُ فِيهَا عَلَى مَا وَصَفْتُ فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى نَزْعِ اللُّصُوقِ ، فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي حُكْمِ صَاحِبِ الْجَبَائِرِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فَصَارَ لِصَاحِبِ اللُّصُوقِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ ذَكَرْنَاهَا وَحَالٌ رَابِعَةٌ لَا تَدْخُلُ فِي جُمْلَةِ أَقْسَامِهِ فَأَحَدُ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ أَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى نَزْعِهَا وَالتَّيَمُّمِ فِيهَا دُونَ الْغَسْلِ ، فَيَتَيَمَّمُ فِيهَا وَلَا يُعِيدُ الصَّلَاةَ ، وَحَالٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّيَمُّمِ فِيهَا وَلَا الْغَسْلِ فَيُصَلِّي وَيُعِيدُ ، وَحَالٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى نَزْعِهَا وَإِيصَالِ الْمَاءِ إِلَيْهَا فَيُصَلِّي وَلَا يُعِيدُ الصَّلَاةَ .
مَسْأَلَةٌ كَيْفِيَّةُ تَيَمُّمِ أَصْحَابِ الْجَبَائِرِ
مَسْأَلَةٌ : [ كَيْفِيَّةُ تَيَمُّمِ أَصْحَابِ الْجَبَائِرِ ] قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يَعْدُو بِالْجَبَائِرِ مَوْضِعَ الْكَسْرِ ، وَلَا يَضَعُهَا إِلَّا عَلَى وُضُوءٍ كَالْخُفَّيْنِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَالْجَبَائِرُ مَا كَانَتْ عَلَى كَسْرٍ ، وَاللُّصُوقُ مَا كَانَتْ عَلَى قُرْحٍ ، فَإِذَا انْكَسَرَ عُضْوٌ مِنْ بَدَنِهِ فَاحْتَاجَ إِلَى سَتْرِهِ بِالْجَبَائِرِ ، فَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عِنْدَ الطَّهَارَةِ عَلَى حَلِّهَا ، وَإِيصَالِ الْمَاءِ إِلَيْهَا شَدَّهَا كَيْفَ شَاءَ عَلَى طُهْرٍ أَوْ غَيْرِ طُهْرٍ ، فَجَاوَزَ قَدْرَ الْحَاجَةِ وَغَيْرَ مُجَاوِزٍ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عِنْدَ الطَّهَارَةِ عَلَى حَلِّهَا خَوْفَ التَّلَفِ وَزِيَادَةِ الْمَرَضِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَيَحْتَاجُ عِنْدَ شَدِّ الْجَبَائِرِ إِلَى شَرْطَيْنِ لِيَصِحَّ لَهُ الْمَسْحُ عَلَيْهَا . أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا يَضَعَهَا إِلَّا عَلَى طُهْرٍ من شروط المسح على الجبيرة ، فَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا لَمْ يُجْزِهِ الْمَسْحُ عَلَيْهَا كَالْخُفَّيْنِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِمَا إِلَّا أَنْ يَلْبَسَهُمَا عَلَى طُهْرٍ .
وَالشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَتَجَاوَزَ شَدُّ الْجَبَائِرِ مَوْضِعَ الْحَاجَةِ من شروط المسح على الجبيرة ، وَهُوَ مَوْضِعُ الْكَسْرِ وَمَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنَ الصَّحِيحِ لِأَنَّ شَدَّ الْكَسْرِ وَحْدَهُ لَا يُغْنِي إِلَّا أَنْ يَشُدَّ مَعَهُ بَعْضَ مَا اتَّصَلَ بِهِ مِنَ الصَّحِيحِ ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ : وَلَا يَعْدُو بِالشَّدِ مَوْضِعَ الْكَسْرِ ، إِنَّمَا أَرَادَ وَمَا قَارَبَهُ عَلَى مَا وَصَفْنَا ، فَإِنْ تَجَاوَزَ بِالشَّدِّ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ لَمْ يُجْزِهِ الْمَسْحُ عَلَيْهَا . فَصْلٌ : فَإِذَا أَتَى بِهَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ ثُمَّ أَحْدَثَ ، أَوْ أَجْنَبَ ، غَسَلَ مَا لَا جَبِيرَةَ عَلَيْهِ مِنْ بَدَنِهِ ثُمَّ مَسَحَ عَلَى الْجَبَائِرِ بِالْمَاءِ بَدَلًا مِنْ غَسْلِهَا تَحْتَهَا ، كَمَا يَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ ، بَدَلًا مِنْ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ ، وَفِي قَدْرِ الْمَسْحِ على الجبيرة وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا . أَحَدُهُمَا : يَمْسَحُ جَمِيعَ الْجَبَائِرِ لِيَكُونَ خَلَفًا مِنْ عَمَلِ الْعُضْوِ الْكَسِيرِ وَنَائِبًا عَنْهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَمْسَحُ بَعْضَهَا وَإِنْ قَلَّ فِيمَا يَنْطَلِقُ اسْمُ الْمَسْحِ عَلَيْهِ كَالرَّأْسِ وَالْخُفَّيْنِ ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ الْجَبَائِرِ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَلَى أَعْضَاءِ التَّيَمُّمِ أَمْ لَا ، فَإِنْ كَانَ عَلَى أَعْضَاءِ التَّيَمُّمِ لَمْ يَحْتَجْ مَعَ مَسْحِ الْجَبَائِرِ بِالْمَاءِ إِلَى التَّيَمُّمِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ أَعْضَاءِ التَّيَمُّمِ فَهَلْ يَلْزَمُ مَعَ مَسْحِ الْجَبَائِرِ بِالْمَاءِ التَّيَمُّمُ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَتَيَمَّمُ وَيَقْتَصِرُ عَلَى الْمَاءِ وَحْدَهُ غَسْلًا لِمَا ظَهَرَ وَمَسْحًا عَلَى مَا اسْتَتَرَ : لِأَنَّ مَسْحَ الْجَبَائِرِ مُعْتَبَرٌ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ ، وَلَيْسَ مَعَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ تَيَمُّمٌ فَكَذَا الْمَسْحُ عَلَى الْجَبَائِرِ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ عَلِيًّا بِالْمَسْحِ عَلَى الْجَبَائِرِ لَمْ يَأْمُرْهُ بَالتَّيَمُّمِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : عَلَيْهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ بَدَلًا مِنْ تَطْهِيرِ مَا تَحْتَ الْجَبَائِرِ لِرِوَايَةِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي صَاحِبِ الْجُرُوحِ : " إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهِ ، وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ ، وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى التَّيَمُّمِ صَلَّى بِغَسْلِهِ وَتَيَمُّمِهِ مَا شَاءَ مِنَ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ مَا لَمْ يُحْدِثْ كَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ . وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى التَّيَمُّمِ أَعَادَ التَّيَمُّمَ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةِ فَرِيضَةٍ ، وَلَمْ يُعِدِ الْغَسْلَ وَالْمَسْحَ فَإِذَا أَحْدَثَ اسْتَأْنَفَ ثَانِيَةً عَلَى مَا وَصَفْنَا كَذَلِكَ مَا كَانَ مُضْطَرًّا إِلَى الْجَبَائِرِ ، وَإِنْ زَادَ عَلَى الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ بِخِلَافِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ الْمُقَدَّرِ بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ : لِأَنَّ الضَّرُورَةَ الَّتِي أَبَاحَتِ الْمَسْحَ عَلَى الْجَبَائِرِ قَدْ تَسْتَدِيمُ أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ حُكْمُ إِعَادَةِ الصَّلَاةِ لِأَصْحَابِ الْجَبَائِرِ
مَسْأَلَةٌ : [ حُكْمُ إِعَادَةِ الصَّلَاةِ لِأَصْحَابِ الْجَبَائِرِ ] قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِنْ خَافَ الْكَسِيرُ غَيْرَ مُتَوَضِّئٍ الْتَلَفَ إِذَا أُلْقِيَتِ الْجَبَائِرُ فَفِيهَا
قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَمْسَحُ عَلَيْهَا وَيُعِيدُ مَا صَلَّى إِذَا قَدَرَ عَلَى الْوُضُوءِ وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لَا يُعِيدُ ، وَإِنْ صَحَّ حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ انْكَسَرَ إِحْدَى زَنْدَيْهِ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَمْسَحَ عَلَى الْجَبَائِرِ قُلْتُ بِهِ وَهَذَا مِمَّا أَسْتَخِيرُ اللَّهَ فِيهِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) أَوْلَى قَوْلَيْهِ بِالْحَقِّ عِنْدِي أَنْ يُجْزِئَهُ وَلَا يُعِيدُ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا عَجَزَ عَنْهُ الْمُصَلِّي وَفِيمَا رُخِّصَ لَهُ فِي تَرْكِهِ مِنْ طُهْرٍ وَغَيْرِهِ وَقَدْ أَجْمَعَتِ الْعُلَمَاءُ وَالشَّافِعِيُّ مَعَهُمْ أَنْ لَا تُعِيدَ الْمُسْتَحَاضَةُ الصلاة وَالْحَدَثُ فِي صَلَاتِهَا دَائِمٌ وَالنَجَسُ قَائِمٌ وَلَا الْمَرِيضُ الْوَاجِدُ لِلْمَاءِ وَلَا الَّذِي مَعَهُ الْمَاءُ يَخَافُ الْعَطَشَ إِذَا صَلَّيَا بِالتَّيَمُّمِ وَلَا الْعُرْيَانُ وَلَا الْمُسَايِفُ يُصَلِّي إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ يُومِئُ إِيمَاءً فَقَضَى ذَلِكَ مِنْ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى طَرْحِ مَا عَجَزَ عَنْهُ الْمُصَلِّي وَرَفْعِ الْإِعَادَةِ وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ مَنْ كَانَ مَعَهُ مَاءٌ يُوَضِّئُهُ فِي سَفَرِهِ وَخَافَ الْعَطَشَ فَهُوَ كَمَنْ لَمْ يَجِدْ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) وَكَذَلِكَ مَنْ عَلَى قُرُوحِهِ دَمٌ يَخَافُ إِنْ غَسَلَهَا كَمَنْ لَيْسَ بِهِ نَجَسٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ جُمْلَةٌ حَكَاهَا الْمُزَنِيُّ فَقَالَ : وَإِنْ خَافَ الْكَسِيرُ غَيْرُ الْمُتَوَضِّئِ التَّلَفَ وَحَكَاهُ الرَّبِيعُ فِي الْأُمِّ وَإِنْ خَافَ الْكَسِيرُ الْمُتَوَضِّئُ التَّلَفَ وَلَيْسَ ذَلِكَ مُخْتَلِفًا كَمَا وَهَمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْمُزَنِيُّ غَيْرَ الْمُتَوَضِّئِ فِي حَالِ الْمَسْحِ عَلَى الْجَبَائِرِ وَمُرَادُ الرَّبِيعِ الْمُتَوَضِّئُ فِي حَالِ وَضْعِ الْجَبَائِرِ وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمَاسِحَ عَلَى الْجَبَائِرِ إِذَا صَحَّ وَبَرِأَ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ عِنْدَ وَضْعِ الْجَبَائِرِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ وَضَعَهَا عَلَى وُضُوءٍ أَمْ لَا ؟ فَإِنْ كَانَ وَضَعَهَا عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ فَعَلَيْهِ إِعَادَةُ مَا صَلَّى ، قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ ، فَلَا وَجْهَ لِمَنْ وَهِمَ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْحَالَيْنِ ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ اعْتِبَارًا بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَ وَضْعِ الْجَبَائِرِ مُتَوَضِّئًا ، فَقَدْ رَوَى عُمَرُ بْنُ خَالِدٍ الْقُرَشِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ آبَائِهِ أَنَّ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ : " أُصِيبَ إِحْدَى زَنْدَيَّ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ بِهِ فَجُبِرَ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أَصْنَعُ بِالْوُضُوءِ ، فَقَالَ : امْسَحْ عَلَى الْجَبَائِرِ قَالَ الشَّافِعِيُّ إِنْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ قُلْتُ بِهِ ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْحَدِيثُ صَحِيحًا فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ قَوْلًا وَاحِدًا : لِأَنَّهُ مَسْحٌ جَاءَ الشَّرْعُ بِالْأَمْرِ بِهِ فَصَارَ كَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ هَذَا الْحَدِيثُ لِضَعْفِ الرِّوَايَةِ وَوَهْيِ الْإِسْنَادِ فَفِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا ، وَحَكَاهُمَا الرَّبِيعُ فِي الْأُمِّ . أَحَدُهُمَا : لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُمَا أَعْذَارٌ اعْتِبَارًا بِمَا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْإِعَادَةَ وَاجِبَةٌ : لِأَنَّهَا أَعْذَارٌ نَادِرَةٌ ، وَإِذَا حَدَثَتْ لَمْ تَدُمْ فَجَرَى مَجْرَى عَادِمِ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ ، وَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا : لِأَنَّ عَدَمَ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ نَادِرٌ ، وَإِذَا حَدَثَ لَمْ يَدُمْ فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ اخْتَارَ سُقُوطَ الْإِعَادَةِ فِي الْمَحْبُوسِ فِي حُشٍّ ، وَالْمَرْبُوطِ
عَلَى خَشَبَةٍ ، وَصَاحِبِ الْجَبَائِرِ ، وَمَنْ عَلَى قُرْحِهِ دَمٌ ، اسْتِشْهَادًا بِأَنَّهُمْ قَدْ أَدَّوْا مَا كُلِّفُوا كَمَا لَا تُعِيدُ الْمُسْتَحَاضَةُ وَالْحَدَثُ فِي صَلَاتِهَا دَائِمٌ وَالنَّجَسُ قَائِمٌ ، وَلَا الْمَرِيضُ الْوَاجِدُ لِلْمَاءِ وَلَا الَّذِي مَعَهُ الْمَاءُ يَخَافُ الْعَطَشَ ، وَلَا الْعُرْيَانُ ، وَلَا الْمُسَايِفُ يُصَلِّي إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ فَاسْتَشْهَدَ بِمَنْ ذَكَرَهُ مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ فِي سُقُوطِ الْفَرْضِ عَنْهُمْ فِيمَا عَجَزُوا عَنْهُ ، فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ . وَالْجَوَابُ عَنْهُ : أَنْ يُقَالَ لَهُ اعْتِلَالُكَ بِالْعَجْزِ فِي سُقُوطِ الْفَرْضِ فَاسِدٌ : لِأَنَّ عَادِمَ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ عَاجِزٌ ، وَفَرْضَ الْإِعَادَةِ عَنْهُ غَيْرُ سَاقِطٍ ، وَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْحَدَثِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ عَلَى الْكَلَامِ وَإِنْشَادِ الشِّعْرِ هُوَ مَعْذُورٌ ، وَفَرْضُ الْإِعَادَةِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ فَبَطَلَ الِاعْتِلَالُ بِالْعَجْزِ فِي سُقُوطِ الْفَرْضِ ، وَأَمَّا سُقُوطُ الْإِعَادَةِ عَمَّنْ ذَكَرَهُ لِوُجُودِ الْعُذْرِ ، فَيُقَالُ لَهُ : الْمَعْذُورُ ضَرْبَانِ : ضَرْبٌ يَسْقُطُ عَنْهُمُ الْإِعَادَةُ بِأَعْذَارِهِمْ وَهُمْ مَنْ ذَكَرَهُمْ ، وَضَرْبٌ لَا يَسْقُطُ عَنْهُمُ الْإِعَادَةُ وَهُمْ مَنْ ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعْذُورِينَ فِي سُقُوطِ الْإِعَادَةِ بِأَوْلَى مِنْ رَدِّنَا إِلَى مَنْ ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعْذُورِينَ فِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ : الْفَرْقُ بَيْنَ أَصْحَابِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَبَيْنَ مَنْ ذَكَرْتَهُمْ مِنَ الْمَعْذُورِينَ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الطَّهَارَةَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ مُمْكِنَةٌ وَإِنْ شَقَّتْ ، وَإِزَالَةُ تِلْكَ الْأَعْذَارِ غَيْرُ مُمْكِنَةٍ . وَالثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ الْفَرْقَيْنِ أَنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَعْذَارُهُمْ نَادِرَةٌ ، وَإِذَا حَدَثَتْ لَمْ تَدُمْ ، وَأَصْحَابُ الْأَعْذَارِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ الْمُزَنِيُّ لَا يَنْفَكُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ أَعْذَارُهُمْ عَامَّةً كَالْمُتَيَمِّمِ مِنْ مَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ ، أَوْ نَادِرَةٌ لَكِنْ قَدْ يَدُومُ كَالِاسْتِحَاضَةِ وَسَلَسِ الْبَوْلِ وَالْمَذْيِ . فَإِنْ قِيلَ : وَالْخَائِفُ مِنْ سَبُعٍ إِذَا صَلَّى مُومِيًا نَادِرُ الْعُذْرِ وَلَا يَدُومُ ، وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ ، قِيلَ : لِأَنَّهُ خَائِفٌ وَجِنْسُ الْخَوْفِ عَامٌّ .
فَصْلٌ الْخِلَافُ فِي أَيِّ الصَّلَاتَيْنِ تَكُونُ هِيَ الْفَرْضَ
فَصْلٌ : [ الْخِلَافُ فِي أَيِّ الصَّلَاتَيْنِ تَكُونُ هِيَ الْفَرْضَ على من وجب عليه الإعادة ] فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ أَصَحَّ الْقَوْلَيْنِ لِمَنْ ذَكَرْنَا مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ الْمَاضِيَةِ وُجُوبُ الْإِعَادَةِ عَلَيْهِمْ ، فَأَعَادُوا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي أَيِّ الصَّلَاتَيْنِ تَكُونُ هِيَ الْفَرْضَ الْمُحْتَسَبَ بِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ حَكَاهَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَذَكَرَهَا الْمُزَنِيُّ : أَحَدُهَا : أَنَّ الصَّلَاةَ الْأُولَى فَرْضٌ ، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالثَّانِيَةِ تَنَافِيًا لِمَا أَخَلَّ بِهِ مِنْ شُرُوطِ الْأُولَى . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : أَنَّ الثَّانِيَةَ فَرْضٌ ، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالْأُولَى لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : أَنَّ كِلَا الصَّلَاتَيْنِ فَرْضٌ : لِأَنَّ فِعْلَهُمَا وَاجِبٌ عَلَيْهِ .
وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ : أَنَّ إِحْدَى الصَّلَاتَيْنِ فَرْضٌ : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا طُهْرَانِ فِي يَوْمٍ ، لَكِنَّ الْفَرْضَ مِنْهُمَا غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ لَنَا ، وَإِنَّمَا يَحْتَسِبُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ فَرْضًا ، وَبِالْأُخْرَى نَفْلًا لِتَكَافُئِهِمَا ، وَعَدَمِ التَّرْجِيحِ الدَّالِّ عَلَى الْفَرْضِ مِنْهُمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا يَتَيَمَّمُ صَحِيحٌ فِي مِصْرٍ لِمَكْتُوبَةٍ وَلَا لِجِنَازَةٍ وَلَوْ جَازَ مَا قَالَ غَيْرِي يَتَيَمَّمُ لِلْجِنَازَةِ لِخَوْفِ الْفَوْتِ لَزِمَهُ ذَلِكَ لِفَوْتِ الْجُمُعَةِ وَالْمَكْتُوبَةِ فَإِذَا لَمْ يَجُزْ عِنْدَهُ لِفَوْتِ الْأَوْكَدِ كَانَ مِنْ أَنْ يَجُوزَ فِيمَا دُونَهُ أَبْعَدُ . وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ لَا يُصَلِّي عَلَى جِنَازَةٍ إِلَّا مُتَوَضِّئًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : الطَّهَارَةُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ مُسْتَحَقَّةٌ كَمَا تُسْتَحَقُّ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ وَحُكِيَ عَنْ عَامِرِ بْنِ شَرَاحِيلَ الشَّعْبِيِّ وَعَنْ دَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ الْأَصْبَهَانِيِّ ، وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ الطَّبَرِيِّ : أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ دُعَاءٌ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى طَهَارَةٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الطَّهَارَةُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ وَاجِبَةٌ لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَتَيَمَّمَ لَهَا مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ إِذَا خَافَ فَوَاتَهَا ، وَكَذَلِكَ قَالَهُ فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ يَجُوزُ أَنْ يَتَيَمَّمَ لَهَا إِذَا خَافَ فَوَاتَهَا مَعَ الْإِمَامِ اسْتِدْلَالًا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِهِ رَجُلٌ فِي سِكَّةٍ مِنَ السِّكَكِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ حَتَّى كَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَتَوَارَى فِي السِّكَّةِ فَتَيَمَّمَ ثُمَّ رَدَّ عَلَى الرَّجُلِ السَّلَامَ ، وَقَالَ : إِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرُدَّ إِلَّا أَنِّي لَمْ أَكُنْ عَلَى طُهْرٍ فَمِنْهُ دَلِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا تَيَمَّمَ بِالْمَدِينَةِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ خَوْفًا مِنْ فَوَاتِ السَّلَامِ كَانَ تَيَمُّمُهُ خَوْفًا مِنْ فَوَاتِ الْجِنَازَةِ أَوْلَى . وَالثَّانِي : أَنَّهُ جَعَلَ التَّيَمُّمَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ طَهُورًا فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ فِعْلُ الصَّلَاةِ بِهِ جَائِزًا ، قَالُوا : وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى فِعْلِهَا إِلَّا بِالتَّيَمُّمِ ، فَاقْتَضَى بِأَنْ يُجْزِئَهُ ، كَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ ، وَلِأَنَّ الطَّهَارَةَ بِالْمَاءِ تَجِبُ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ ، فَإِذَا لَمْ يَتَوَصَّلْ بِالْمَاءِ إِلَى تِلْكَ الصَّلَاةِ سَقَطَ عَنْهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ كَالْحَائِضِ . وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ صَلَاةٌ شَرْعِيَّةٌ : لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فُرِضَ عَلَى أُمَّتِي غَسْلُ مَوْتَاهَا وَالصَّلَاةُ عَلَيْهَا " وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا صَلَاةٌ لَزِمَتْهُ الطَّهَارَةُ ، بِخِلَافِ قَوْلِ الشَّعْبِيِّ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بَغَيْرِ طُهُورٍ " ، وَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الطَّهَارَةِ لَهَا لَزِمَهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ فِيهَا : لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى : إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [ الْمَائِدَةِ : ] . فَاقْتَضَى اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ عَلَى كُلِّ قَائِمٍ إِلَى الصَّلَاةِ ، ثُمَّ قَالَ : وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ [ الْمَائِدَةِ : ] إِلَى قَوْلِهِ : فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا وَهَذَا غَيْرُ مَرِيضٍ وَلَا مُسَافِرٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَيَمَّمَ ، وَلِأَنَّهَا حَالَةٌ لَا يَسْتَبِيحُ فِيهَا الْفَرَائِضَ بِالتَّيَمُّمِ ، فَلَمْ يَسْتَبِحْ غَيْرَ الْفَرَائِضِ بِالتَّيَمُّمِ ، أَصْلُهُ إِذَا كَانَ الْمَاءُ بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنِ امْتَنَعَ عَلَيْهِ اسْتِبَاحَةُ الْجَنَائِزِ كَالْمُحْدِثِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ شَرْطٍ
لَمْ يَتَحَقَّقِ الْعَجْزُ عَنْهُ فِي صَلَاةِ الْفَرِيضَةِ ، لَمْ يَتَحَقَّقِ الْعَجْزُ عَنْهُ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ ، أَصْلُهُ إِذَا كَانَ عُرْيَانًا ، وَفِي بَيْتِهِ ثَوْبٌ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ شَرْطًا لِصَلَاةِ الْفَرَائِضِ ، كَانَ شَرْطًا لِصَلَاةِ الْجَنَائِزِ كَإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ ، وَالتَّوَجُّهِ إِلَى الْقِبْلَةِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ صَلَاةٍ احْتِيجَ فِيهَا إِلَى الطَّهُورِ لَمْ يَجُزِ افْتِتَاحُهَا بِالتَّيَمُّمِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَاءِ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ ، وَلِمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَيَمَّمَ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ لِفَوَاتِ الْجُمُعَةِ الَّتِي أَوْكَدُ فَلِأَنْ لَا يُجْزِئَهُ لِمَا دُونَهَا مِنَ الْجِنَازَةِ بَعْدُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْخَبَرِ أَنَّهُ تَيَمَّمَ لِرَدِّ السَّلَامِ ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَيَمَّمَ لِعَدَمِ الْمَاءِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَرُدَّ السَّلَامَ بِغَيْرِ طَهُورٍ جَازَ أَنْ يَتَيَمَّمَ لَهُ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ . فَإِنْ قِيلَ : فَمَا الْفَائِدَةُ فِي تَيَمُّمِهِ ، قِيلَ : تَعْلِيمُهُ التَّيَمُّمَ ، لِأَنَّ الشَّرْعَ مَأْخُوذٌ مِنْ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ . وَالْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ ، فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَمَّا جَازَ التَّيَمُّمُ لِلْفَرِيضَةِ جَازَ لِلْجِنَازَةِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ هَذَا وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : إِنَّ فِي الطَّهَارَةِ لَهَا فَوَاتًا لِفِعْلِهَا فَهُوَ أَنَّهُ مُنْتَقِضٌ بِالْجُمُعَةِ ، يَفُوتُ فِعْلُهَا ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَيَمَّمَ لَهَا . فَإِنْ قِيلَ : فَالْجُمُعَةُ تَنْتَقِلُ عِنْدَ فَوَاتِهَا إِلَى الظُّهْرِ وَلَا تَنْتَقِلُ فِي الْجِنَازَةِ إِلَى بَدَلٍ . قِيلَ : لَيْسَ الظُّهْرُ جُمْعَةً لَا سِيَّمَا قَوْلُهُمْ مَنْ خَرَجَ عَنْهُ وَقْتُ الْجُمُعَةِ ، وَهُوَ فِيهَا بَطَلَتْ وَلَمْ يُتِمَّهَا ظُهْرًا ثُمَّ نَقُولُ : إِنَّ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ لَا تَفُوتُ : لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ ، فَإِنْ مَنَعُوا مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ فَهُوَ بِنَاءُ خِلَافٍ عَلَى خِلَافٍ ثُمَّ نَدُلُّ عَلَيْهِ بِمَا رُوِيَ عَنِ النبِيِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ صَلَّى عَلَى قَبْرِ مِسْكِينَةٍ ، وَصَلَّى عَلَى قَبْرٍ بَعْدَ شَهْرٍ فَجَعَلَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ الشَّهْرَ حَدَّا فِي جَوَازِ الصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ : لِأَجْلِ هَذَا الْخَبَرِ ، وَلَيْسَ الشَّهْرُ عِنْدَنَا حَدًّا . فَإِنْ قِيلَ : لَوْ جَازَتِ الصَّلَاةُ عَلَى الْقَبْرِ لَجَازَتِ الْآنَ عَلَى قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قِيلَ : عَنْ هَذَا أَجْوِبَةٌ : أَحَدُهَا : أَنَّنَا نُجَوِّزُهَا عَلَى مِثْلِ مَا كَانَتْ تَجُوزُ قَبْلُ فِيهِ ، وَهُوَ أَنْ يَدْعُو النَّاسُ أَفْوَاجًا وَيَنْصَرِفُونَ . وَالثَّانِي : إِنَّمَا يُمْنَعُ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى قَبْرِهِ : لِأَنْ لَا يُتَّخَذَ مَسْجِدًا : لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ " .
وَالثَّالِثُ : أَنَّهَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَى الْقَبْرِ ، لِمَنْ دَخَلَ فِي فَرْضِ تِلْكَ الصَّلَاةِ وَهُوَ يَتَنَاوَلُ أَهْلَ ذَلِكَ الْعَصْرِ ، فَجَازَ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَجُزْ لِمَنْ بَعْدُ ، ثُمَّ يُقَالُ لِأَبِي حَنِيفَةَ : قَدْ جَوَّزْتَ الصَّلَاةَ عَلَى الْقَبْرِ لِلْإِمَامِ وَالْوَلِيِّ ، فَلَوْ جَازَ التَّيَمُّمُ لَهَا خَوْفًا مِنْ فَوَاتِهَا لَاقْتَضَى أَنْ لَا يَجُوزَ لِلْإِمَامِ وَالْوَلِيِّ : لِأَنَّهَا لَا تَفُوتُهُمَا ، وَقَدْ أَجَازَ ذَلِكَ لَهُمَا كَمَا أَجَازَهُ لِغَيْرِهِمَا ، فَدَلَّ عَلَى فَسَادِ مَا اعْتَلَّ بِهِ مِنَ الْفَوَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ غُسْلُ وَوُضُوءُ مَنْ لَدَيْهِ بَعْضُ مَاءٍ لَا يَكْفِيهِ
مَسْأَلَةٌ : [ غُسْلُ وَوُضُوءُ مَنْ لَدَيْهِ بَعْضُ مَاءٍ لَا يَكْفِيهِ ] قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ كَانَ مَعَهُ فِي السَّفَرِ مِنَ الْمَاءِ مَا لَا يَغْسِلُهُ لِلْجَنَابَةِ غَسَلَ أَيَّ بَدَنِهِ شَاءَ وَتَيَمَّمَ وَصَلَّى وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ يَتَيَمَّمُ وَلَا يَغْسِلُ مِنْ أَعْضَائِهِ شَيْئَا وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ لِأَنَّ الْمَاءَ لَا يُطَهِّرُ بَدَنَهُ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) قُلْتُ أَنَا : هَذَا أَشْبَهُ بِالْحَقِّ عِنْدِي لِأَنَّ كُلَّ بَدَلٍ لِعَدَمٍ فَحُكْمُ مَا وُجِدَ مِنْ بَعْضِ الْمَعْدُومِ حُكْمُ الْعَدَمِ كَالْقَاتِلِ خَطَأً يَجِدُ بَعْضَ رَقَبَةٍ فَحُكْمُ الْبَعْضِ كَحُكْمِ الْعَدَمِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا الْبَدَلُ وَلَوْ لَزِمَهُ غُسْلُ بَعْضِهِ لِوُجُودِ بَعْضِ الْمَاءِ وَكَمَالِ الْبَدَلِ لَزِمَهُ عِتْقُ بَعْضِ رَقَبَةٍ لِوُجُودِ الْبَعْضِ وَكَمَالِ الْبَدَلِ وَلَا يَقُولُ بِهَذَا أَحَدٌ نَعْلَمُهُ وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ وَبِاللَّهِ الْتَوْفِيقُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الْجُنُبَ إِذَا وَجَدَ مِنَ الْمَاءِ مَا لَا يَكْفِيهِ لِجَمِيعِ بَدَنِهِ ، أَوْ وَجَدَ الْمُحْدِثُ مَا لَا يَكْفِيهِ لِأَعْضَاءِ وُضُوئِهِ ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ : إِنَّ فَرْضَهُ التَّيَمُّمُ ، وَلَا يَلْزَمُهُ اسْتِعْمَالُ مَا وَجَدَ مِنَ الْمَاءِ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالْمُزَنِيُّ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ إِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ الْمَاءَ وَيَتَيَمَّمَ ، لَا يُجْزِئُهُ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِهِ ، فَاسْتَدَلَّ مَنْ أَسْقَطَ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ عَنْهُ اقْتِصَارًا عَلَى التَّيَمُّمِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [ الْمَائِدَةِ : ] ثُمَّ قَالَ : فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا إِشَارَةً إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِهِ مِنَ الْمَاءِ الْمَشْرُوعِ فِي الِاسْتِعْمَالِ لِجَمِيعِ الْأَعْضَاءِ : وَلِأَنَّ فِي اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَالتَّيَمُّمِ جَمْعًا بَيْنَ بَدَلٍ وَمُبْدَلٍ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْأُصُولِ لَا يَلْزَمُ كَالْعِتْقِ وَالصَّوْمِ فِي الْكَفَّارَةِ ، وَلِأَنَّ عَدَمَ بَعْضِ الْكُلِّ كَعَدَمِ جَمِيعِهِ فِي جَوَازِ الِانْتِقَالِ إِلَى الْبَدَلِ قِيَاسًا عَلَى الْوَاجِدِ لِبَعْضِ الرَّقَبَةِ يَكُونُ كَالْعَادِمِ لِجَمِيعِهَا فِي جَوَازِ الِانْتِقَالِ إِلَى الصَّوْمِ ، وَهُوَ اسْتِدْلَالُ الْمُزَنِيِّ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا [ الْمَائِدَةِ : ] فَجَعَلَ التَّيَمُّمَ مَشْرُوطًا بِعَدَمِ مَا ذَكَرَهُ عَلَى وَجْهِ النَّكِرَةِ بِحَرْفِ النَّفْيِ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا بِمَا يَنْطَلِقُ اسْمُ الْمَاءِ عَلَيْهِ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي ذَرٍّ : " الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ طَهُورُ مَنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ " فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ طَهُورًا لِمَنْ وَجَدَ شَيْئًا مِنَ الْمَاءِ ، وَلِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ إِيصَالِ الْمَاءِ إِلَى بَعْضِ أَعْضَائِهِ
لَا يَقْتَضِي سُقُوطَ الْفَرْضِ عَنْ إِيصَالِهِ إِلَى مَا لَمْ يَعْجِزْ عَنْهُ ، قِيَاسًا عَلَى الْعَادِمِ لِبَعْضِ أَعْضَائِهِ ، وَلِأَنَّ أَعْضَاءَ الطَّهَارَةِ بِحَالٍ لَزِمَهُ تَطْهِيرُهَا فَلَمْ يَكُنْ فَقْدُ الطُّهُورِ فِي بَعْضِهَا مُوجِبًا لِسُقُوطِ تَطْهِيرِ بَاقِيهَا ، قِيَاسًا عَلَى النَّجَاسَةِ إِذَا قَدَرَ عَلَى غَسْلِ بَعْضِهَا ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ شَرْطًا فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَكُنِ الْعَجْزُ عَنْ بَعْضِهِ عَجْزًا عَنْ جَمِيعِهِ كَسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَالْقِرَاءَةِ ، فَإِنَّهُ يَسْتُرُ مِنْ عَوْرَتِهِ مَا قَدَرَ وَيَقْرَأُ مَا أَحْسَنَ : وَلِأَنَّ سُقُوطَ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ إِذَا اخْتَصَّ بِبَعْضِ الْأَعْضَاءِ لَمْ يَسْقُطِ اسْتِعْمَالُهُ فِي بَاقِي الْأَعْضَاءِ ، قِيَاسًا عَلَى صَاحِبِ الْقُرُوحِ ، وَلِأَنَّ لِلْمَاءِ أَصْلًا يَنْتَقِلُ عَنْهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ ، فَلَمَّا كَانَ اسْتِعْمَالُهُ يَقَعُ مُبَعَّضًا كَانَ وُجُودُ بَعْضِهِ مُوجِبًا لِلْمَصِيرِ إِلَيْهِ ، قِيَاسًا عَلَى الْمُضْطَرِّ إِذَا وَجَدَ مَا يَسُدُّ بِهِ رَمَقَهُ مِنَ الطَّعَامِ يَلْزَمُهُ أَكْلُ ذَلِكَ الْبَعْضِ قَبْلَ أَكْلِ الْمَيْتَةِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَهُوَ مَا مَضَى مِنْ وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : إِنَّهُ جَمْعٌ بَيْنَ مُبْدَلٍ وَبَدَلٍ فَهُوَ أَنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ عَمَّا لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ الْمَاءُ فَلَمْ يَكُنْ جَمْعًا بَيْنَ مُبْدَلٍ وَبَدَلٍ أَلَا تَرَاهُ لَوِ اسْتَعْمَلَ الْمَاءَ فِي بَعْضِ بَدَنِهِ ثُمَّ أَرَاقَهُ قَبْلَ إِتْمَامِهِ لَزِمَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ لِمَا بَقِيَ إِجْمَاعًا ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ مُبْدَلٍ وَبَدَلٍ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : إِنَّ وُجُودَ بَعْضِ الْمُبْدَلِ كَعَدَمِهِ فِي الِانْتِقَالِ إِلَى بَدَلِهِ فَمُنْتَقَضٌ بِالْقَادِرِ عَلَى بَعْضِ الْقِرَاءَةِ يَلْزَمُهُ أَنْ يَقْرَأَ بِقَدْرِ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ وَسَبَّحَ بَدَلًا عَنِ الْبَاقِي ، وَمُنْتَقَضٌ بِالْوَاجِدِ لِمَا يَسْتُرُ بِهِ بَعْضَ عَوْرَتِهِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ فَرْضُ الِاسْتِتَارِ بِهِ ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ بَعْضِ الرَّقَبَةِ وَبَعْضِ الْمَاءِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ أَنَّ الصَّوْمَ يَجِبُ عَنْ جَمِيعِ الرَّقَبَةِ وَلَا يَجِبُ عَنْ بَعْضِهَا ، وَالتَّيَمُّمُ يَجِبُ عَنْ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ كَمَا يَجِبُ عَنْ جَمِيعِهَا . وَالثَّانِي : قَالَهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : إِنَّ التَّكْفِيرَ يَكُونُ لِيَمِينٍ مُتَقَدِّمَةٍ وَالطَّهَارَةَ تَكُونُ لِصَلَاةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ ، وَهُوَ لَا يَسْتَفِيدُ بِعِتْقِ بَعْضِ الرَّقَبَةِ إِذَا صَامَ شَهْرَيْنِ فَائِدَةً ، فَسَقَطَ عِنْدَ عِتْقِ بَعْضِهَا لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِيهِ ، وَيَسْتَفِيدُ بِاسْتِعْمَالِ بَعْضِ الْمَاءِ إِذَا تَيَمَّمَ فَائِدَةً ، وَهُوَ أَنْ يُتِمَّ بَاقِيَ أَعْضَائِهِ ، وَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فَيَرْتَفِعُ حَدَثُهُ بِهِ ، فَلَزِمَهُ اسْتِعْمَالُ بَعْضِهِ لِوُجُودِ الْفَائِدَةِ فِيهِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ الْمَاءَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْوُضُوءِ عَلَى التَّبْعِيضِ وَالتَّجْزِئَةِ ، لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي عُضْوٍ دُونَ عُضْوٍ ، فَجَازَ أَنْ يَتَبَعَّضَ فِي الْوُجُوبِ ، وَالْعِتْقُ لَمْ يُبْنَ عَلَى التَّبْعِيضِ وَالتَّجْزِئَةِ فَلَمْ يَتَبَعَّضْ فِي الْوُجُوبِ .
فَصْلٌ تَقْدِيمُ اسْتِعْمَالِ مَا وَجَدَ مِنَ الْمَاءِ قَبْلَ التَّيَمُّمِ
فَصْلٌ : [ تَقْدِيمُ اسْتِعْمَالِ مَا وَجَدَ مِنَ الْمَاءِ قَبْلَ التَّيَمُّمِ ] فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ أَصَحَّ الْقَوْلَيْنِ وُجُوبُ اسْتِعْمَالِ مَا وَجَدَ مِنَ الْمَاءِ وَالتَّيَمُّمُ لِمَا عَجَزَ عَنْهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُقَدِّمَ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ قَبْلَ التَّيَمُّمِ فَإِنْ قَدَّمَ التَّيَمُّمَ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ لَمْ يَتَعَدَّ بِهِ ،
بِخِلَافِ الْقَرِيحِ الْجَرِيحِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ قَبْلُ ، فَإِنْ كَانَ جُنُبًا ومعه ماء لا يكفي جميع بدنه اسْتَعْمَلَ مَا وَجَدَ مِنَ الْمَاءِ فِي أَيِّ بَدَنِهِ شَاءَ وَتَيَمَّمَ لِبَاقِيهِ ، وَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا ومعه ماء لا يكفي جميع بدنه اسْتَعْمَلَهُ فِي وَجْهِهِ مُقَدِّمًا مَا يَلْزَمُهُ تَرْتِيبُهُ فِي وُضُوئِهِ ، ثُمَّ يَتَيَمَّمُ لِبَاقِي أَعْضَائِهِ ، فَلَوْ كَانَ مُحْدِثًا ، وَعَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ ، وَوَجَدَ مِنَ الْمَاءِ مَا يَكْفِي أَحَدَهُمَا لَزِمَهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ فِي إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ قَبْلَ الْحَدَثِ : لِأَنَّ لِلْحَدَثِ بَدَلًا ، وَلَيْسَ لِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ بَدَلٌ ، وَهُوَ يَجُوزُ أَنْ يَتَيَمَّمَ لِحَدَثِهِ قَبْلَ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِي نَجَاسَتِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ : لِأَنَّهُمَا طُهَارَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ ، فَلَمْ يَكُنْ تَقْدِيمُ هَذِهِ بِأَوْلَى مِنْ تَقْدِيمِ هَذِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ ، لِأَنَّ التَّيَمُّمَ إِذَا لَمْ يُسْتَبَحْ مَعَهُ الصَّلَاةُ كَانَ بَاطِلًا ، وَإِذَا تَقَدَّمَ مَعَ بَقَاءِ النَّجَاسَةِ لَمْ يُبِحِ الصَّلَاةَ ، وَالْأَوَّلُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ أَصَحُّ : لِأَنَّ الْمَقْرُوحَ يَجُوزُ أَنْ يُقَدِّمَ التَّيَمُّمَ عَلَى الْمَاءِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَبِيحُ بِهِ الصَّلَاةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ هَلْ تَعْجِيلُ التَّيَمُّمِ أَفْضَلُ أَمْ تَأْخِيرُهُ
مَسْأَلَةٌ : [ هَلْ تَعْجِيلُ التَّيَمُّمِ أَفْضَلُ أَمْ تَأْخِيرُهُ ؟ ] ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : " وَأُحِبُّ تَعْجِيلَ التَّيَمُّمِ لِاسْتِحْبَابِي تَعْجِيلَ الصَّلَاةِ وَقَالَ فِي الْإِمْلَاءِ لَوْ أَخَّرَهُ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ رَجَاءَ أَنْ يَجِدَ الْمَاءَ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) قُلْتُ أَنَا كَأَنَّ التَّعْجِيلَ بِقَوْلِهِ أَوْلَى لِأَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يُصَلِّيَ مَا بَيْنَ أَوَّلِ الْوَقْتِ وَآخِرِهِ - فَلَمَّا كَانَ أَعْظَمَ لِأَجْرِهِ فِي أَدَاءِ الصَّلَاةَ بِالْوُضُوءِ فَالتَّيَمُّمُ مِثْلُهُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا : فِي مُسَافِرٍ دَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ وَهُوَ عَادِمٌ لِلْمَاءِ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَتَيَقَّنَ عَدَمَ الْمَاءِ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَتَيَقَّنَ وُجُودَ الْمَاءِ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ لَا يَتَيَقَّنَ وَاحِدًا مِنَ الْأَمْرَيْنِ . فَإِنْ تَيَقَّنَ عَدَمَ الْمَاءِ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ تَعْجِيلُ الصَّلَاةِ بِمَا قَدْ عَرَفَهُ مِنْ حَالِ طَرِيقِهِ وَإِعْوَازِ الْمَاءِ فِيهِ ، فَالْأَفْضَلُ بِهِ تَعْجِيلُ الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا ، لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوَى حَالُ الطَّهَارَةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَآخِرِهِ صَارَ إِدْرَاكُ الْوَقْتِ فَضِيلَةً مُجَرَّدَةً وَإِنْ تَيَقَّنَ وُجُودَ الْمَاءِ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ بِمَا قَدْ عَرَفَهُ مِنْ حَالِ طَرِيقِهِ وَمَا فِيهِ مِنْ نَهْرٍ أَوْ وَادٍ أَوْ بِئْرٍ كَانَ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ لِتُؤَدَّى بِالطَّهَارَةِ الْكَامِلَةِ أَحَقَّ : لِأَنَّ الطَّهَارَةَ بِالْمَاءِ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهَا مَعَ الْقُدْرَةِ ، وَأَوَّلُ الْوَقْتِ يَجُوزُ تَرْكُهُ مَعَ الْقُدْرَةِ ، فَصَارَ كَمَالُ الطَّهَارَةِ أَفْضَلَ مِنْ تَعْجِيلِ الْوَقْتِ ، فَإِنْ كَانَ تَيَقُّنُهُ بِوُجُودِ الْمَاءِ فِي مَنْزِلِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ عِنْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ كَانَ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ إِلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَاجِبًا : لِأَنَّ الْمَنْزِلَ كُلَّهُ مَحَلٌّ لِلطَّلَبِ ، وَإِنْ كَانَ تَيَقُّنُهُ لِلْمَاءِ فِي غَيْرِ
مَنْزِلِهِ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ ذَلِكَ كَانَ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ ، مُسْتَحَبًّا ، وَتَعْلِيلُهُ مَا ذَكَرْنَا فَلَا وَجْهَ لِمَنْ أَطْلَقَ اسْتِحْبَابَ التَّأْخِيرِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَفْضِيلِ الْحَالِ فِيهِ هُوَ مُقْتَضَى التَّعْلِيلِ وَإِنْ لَمْ يَتَيَقَّنِ اسْتِدَامَةَ عَدَمِهِ ، وَلَا حُدُوثَ وَجُودِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ غَالِبًا ، فَالتَّعْجِيلُ جَائِزٌ ، وَالتَّأْخِيرُ جَائِزٌ ، وَفِي الْأَفْضَلِ مِنْهُمَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَبِهِ قَالَ فِي الْإِمْلَاءِ أَنَّ تَأْخِيرَهَا إِلَى آخِرِ وَقْتِهَا أَفْضَلُ رَجَاءَ أَنْ يُؤَدِّيَهَا بِطَهَارَةٍ كَامِلَةٍ ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَوَجْهُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ " وَقَالَ : " إِذَا حَضَرَ الْعَشَاءُ وَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَابْدَؤُا بِالْعَشَاءِ " فَجَعَلَ تَأْخِيرَهَا بِعَدَمِ الْحَرِّ وَالشَّهْوَةِ أَفْضَلَ . وَلَيْسَ هَذَا الْعُذْرُ قُرْبَةً ، كَانَ تَأْخِيرُهَا لِطَلَبِ الْمَاءِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ أَوْلَى لِكَوْنِ الطَّلَبِ قُرْبَةً ، وَلِأَنَّ كَمَالَ الطَّهَارَةِ أَفْضَلُ مِنَ الْجَمَاعَةِ فِي الصَّلَاةِ ، فَلَمَّا كَانَ تَأْخِيرُهَا عَنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ لِطَلَبِ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلَ ، فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ تَأْخِيرُهَا لِكَمَالِ الطَّهَارَةِ أَفْضَلَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ أَنَّ تَعْجِيلَهَا بِالتَّيَمُّمِ أَوْلَى فِي الْوَقْتِ ، وَأَفْضَلُ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ ، وَوَجْهُهُ حَدِيثُ أَمِّ فَرْوَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ فَقَالَ : الصَّلَاةُ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا " وَلِأَنَّ فَضِيلَةَ أَوَّلِ الْوَقْتِ مُتَيَقَّنَةٌ وَالْقُدْرَةُ عَلَى كَمَالِ الطَّهَارَةِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ فَضِيلَةٌ مُجَوَّزَةٌ ، وَالْعَمَلُ بِمَا يَتَيَقَّنُهُ مِنَ الْفَضِيلَتَيْنِ أَوْلَى مِنَ الِاتِّكَالِ عَلَى مَا شَكَّ فِي وُجُودِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ فِي رَحْلِهِ أَعَادَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِيمَنْ تَيَمَّمَ بَعْدَ طَلَبِ الْمَاءِ وَصَلَّى ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ فِي رَحْلِهِ ، فَرَوَى الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا ، وَفِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ أَنَّ عَلَيْهِ الْإِعَادَةَ وَرَوَى الرَّبِيعُ مِثَلَهُ فِي الْأُمِّ ، وَحَكَى أَبُو ثَوْرٍ ، عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يُخَرِّجُ الْإِعَادَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ لِاخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ فَيَجْعَلُ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ فِيمَنْ نَسِيَ الْفَاتِحَةَ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى سَلَّمَ مِنْهَا قَالَ فِي الْقَدِيمِ لَا يُعِيدُ ، فَكَذَا مَنْ نَسِيَ الْمَاءَ فِي رَحْلِهِ ، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ : يُعِيدُ ، فَكَذَا مَنْ نَسِيَ الْمَاءَ فِي رَحْلِهِ ، وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبُو الْفَيَّاضِ لَيْسَ اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي اخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ ، فَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : رِوَايَةُ الْمُزَنِيِّ فِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ مَحْمُولَةٌ
عَلَى أَنَّ رَحْلَهُ صَغِيرٌ يُمْكِنُ الْإِحَاطَةُ بِهِ ، وَرِوَايَةُ أَبِي ثَوْرٍ فِي سُقُوطِ الْإِعَادَةِ عَلَى أَنَّ رَحْلَهُ كَبِيرٌ لَا يُمْكِنُ الْإِحَاطَةُ بِهِ ، وَقَالَ أَبُو الْفَيَّاضِ بَلْ رِوَايَةُ الْمُزَنِيِّ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ كَانَ مَوْجُودًا فِي رَحْلِهِ قَبْلَ الطَّلَبِ ، وَرِوَايَةُ أَبِي ثَوْرٍ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ وُضِعَ فِي رَحْلِهِ بَعْدَ الطَّلَبِ ، فَهَذَا يَشْرَحُ الْمَذْهَبَ وَاخْتِلَافَ أَصْحَابِنَا فِيهِ ، وَالصَّحِيحُ وُجُوبُ الْإِعَادَةِ وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَمُحَمَّدٌ : لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ ، اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا . أَنَّ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ مَشْرُوطٌ بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ ، وَالْقُدْرَةُ مَعَ النِّسْيَانِ مُمْتَنَعَةٌ ، وَالتَّيَمُّمُ مَعَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ جَائِزٌ . وَالثَّانِي : أَنَّهُمَا طَالِبَانِ فِي رَحْلِهِ وَغَيْرِ رَحْلِهِ ، فَلَمَّا كَانَ نِسْيَانُ الْمَاءِ فِي غَيْرِ رَحْلِهِ لَا يُوجِبُ الْإِعَادَةَ في التيمم كَانَ نِسْيَانُهُ فِي رَحْلِهِ لَا يُوجِبُ الْإِعَادَةَ . وَدَلِيلُنَا عَلَى وُجُوبِ الْإِعَادَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى : فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا وَالنِّسْيَانُ لَا يُخْرِجُهُ مِنَ الْوُجُودِ ، وَإِنَّمَا يُخْرِجُهُ مِنَ الْعِلْمِ بِالْوُجُودِ ، وَأَنَّ نِسْيَانَ الطَّهُورِ ، لَا يَمْنَعُ مِنْ لُزُومِ الْقَضَاءِ كَنِسْيَانِ الْحَدَثِ ، وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ طَهُورًا فِي حَالِ الذِّكْرِ لَمْ يَكُنْ طَهُورًا فِي حَالِ النِّسْيَانِ ، كَالْمَاءِ النَّجِسِ ، وَلِأَنَّ شُرُوطَ الطَّهَارَةِ بِالذِّكْرِ لَا يَسْقُطُ فِعْلُهَا بِالنِّسْيَانِ ، كَنَاسِي الثَّوْبِ لِيَسْتُرَ عَوْرَتَهُ ، وَلِأَنَّ كُلَّ أَصْلٍ لَزِمَ الْمَسِيرُ إِلَيْهِ فِي حَالِ الذِّكْرِ لَمْ يَسْقُطْ بِالنِّسْيَانِ حُكْمُ ذَلِكَ الْأَصْلِ ، كَالْمُكَفِّرِ بِالصَّوْمِ نَاسِيًا لِمَا لَهُ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ مَشْرُوطٌ بِالْقُدْرَةِ فَهُوَ أَنَّ النَّاسِيَ لَيْسَ بِعَاجِزٍ ، بَلْ حُكْمُ الْقُدْرَةِ أُجْرِيَ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ كَالْعَادِمِ الْمَوْصُوفِ بِالْعَجْزِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ نَاسِيَ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ بَدَنِهِ غَيْرُ مَوْصُوفٍ بِالْعَجْزِ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِيهِ وَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ ، وَلَيْسَ كَالَّذِي قُطِعَ عُضْوٌ مِنْهُ فِي الصِّفَةِ بِالْعَجْزِ حَيْثُ سَقَطَتِ الْإِعَادَةُ عَنْهُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِنَاسِي الْمَاءِ فِي غَيْرِ رَحْلِهِ ، فَهُوَ مَا نَذْكُرُهُ فِي شَرْحِ الْمَذْهَبِ فِيهِ ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ نَسِيَهُ بَعْدَ أَنْ عَلِمَ بِهِ فَهَذَا حُكْمُهُ كَحُكْمِ نَاسِي الْمَاءِ فِي رَحْلِهِ وَالْإِعَادَةُ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ ، وَيَكُونُ حُكْمُ النِّسْيَانِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى سَوَاءٍ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ عَلِمَ بِهِ ، بَلْ كَانَ فِي مَنْزِلِهِ بِئْرُ مَاءٍ خَفِيَتْ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَعْلَمْ بِهَا حَتَّى تَيَمَّمَ وَصَلَّى ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَحُكِيَ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ أَنَّ الْإِعَادَةَ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ وَسَوَاءٌ بَيْنَ ظُهُورِ الْمَاءِ فِي رَحْلِهِ وَبَيْنَ ظُهُورِهِ فِي غَيْرِ رَحْلِهِ وَحُكِيَ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ قَالَ : لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ وَفَرْقٌ بَيْنَ رَحْلِهِ وَغَيْرِ رَحْلِهِ ، أَنَّ عَلَيْهِ الْإِحَاطَةَ فِي رَحْلِهِ ، وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ وَأَبُو الْفَيَّاضِ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِنَا الْبَغْدَادِيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ إِنَّهُ يُعْتَبَرُ حَالُ الْبِئْرِ ، فَإِنْ كَانَتْ ظَاهِرَةَ الْأَعْلَامِ ، بَيِّنَةَ الْآثَارِ ، فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ ، وَإِنْ كَانَتْ خَفِيَّةً غَيْرَ ظَاهِرَةٍ ، فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ يَعْمَلُ عَلَى الطَّلَبِ فِي غَيْرِ رَحْلِهِ عَلَى الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ ، بِخِلَافِ رَحْلِهِ فَإِذَا
كَانَتْ ظَاهِرَةً كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ تَقْصِيرًا فِي الطَّلَبِ فَتَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ ، وَإِذَا كَانَتْ بَاطِنَةً لَمْ يَكُنْ مُقَصِّرًا فِي الطَّلَبِ فَسَقَطَتْ عَنْهُ الْإِعَادَةُ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا ضَلَّ الرَّجُلُ عَنْ رَحْلِهِ وَطَلَبِهِ فَلَمْ يَهْتَدِ إِلَيْهِ وَكَانَ فِيهِ مَاءٌ ، فَخَافَ فَوَاتَ الْوَقْتِ فَتَيَمَّمَ وَصَلَّى ، ثُمَّ وَجَدَ رَحْلَهُ وَعَرَفَهُ ، فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ تَيَمَّمَ وَهُوَ مَعَ الذِّكْرِ لِلْمَاءِ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ ، فَصَارَ عَاجِزًا عَنْهُ ، وَهَكَذَا لَوْ مُنِعَ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى رَحْلِهِ بِالْإِحْصَارِ أَوْ غُصِبَ مِنْهُ الرَّحْلُ فَتَيَمَّمَ وَصَلَّى فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ .
مَسْأَلَةٌ شِرَاءُ الْمَاءِ لِلْوُضُوءِ
مَسْأَلَةٌ : شِرَاءُ الْمَاءِ لِلْوُضُوءِ قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ وَجَدَهُ بِثَمَنٍ فِي مَوْضَعِهِ وَهُوَ وَاجِدٌ لِلْثَمَنِ غَيْرُ خَائِفٍ إِنِ اشْتَرَاهُ الْجُوعَ فِي سَفَرِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ ، وَإِنْ أُعْطِيَهُ بِأَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ وَيَتَيَمَّمُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا عَدِمَ الْمَاءَ فِي سَفَرِهِ ثُمَّ وَجَدَهُ يُبَاعُ ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِدًا لِثَمَنِهِ أَوْ غَيْرَ وَاجِدٍ ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ وَاجِدٍ لِثَمَنِهِ صَارَ عَاجِزًا عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ ، وَأَجْزَأَهُ التَّيَمُّمُ ، فَلَوْ بُذِلَ لَهُ الْمَاءُ بِثَمَنٍ فِي الذِّمَّةِ يُؤَدِّيهِ إِذَا قَدَرَ عَلَيْهِ في التيمم لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ سَوَاءٌ كَانَ مَالِكًا لِقَدْرِ الثَّمَنِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَمْ لَا : لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَهْلِكَ الْمَالُ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَيْهِ ، فَيَصِيرُ الدَّيْنُ مُتَعَلِّقًا بِذِمَّتِهِ فَعَلَى هَذَا يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي وَيُجْزِئُهُ . فَإِنْ قِيلَ : لَوْ عَدِمَ ثَمَنَ الرَّقَبَةِ فِي الْكَفَّارَةِ بِمَكَانِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ ، وَكَانَ مَالِكًا لِثَمَنِهِ بِمَكَانٍ آخَرَ أَجْزَأَهُ أَنْ يَصُومَ . قُلْنَا : لَا يُجْزِئُهُ الصِّيَامُ ، وَلَا يَلْزَمُهُ شِرَاءُ الرَّقَبَةِ فِي مَكَانِهِ بِالدَّيْنِ ، وَيُؤَخِّرُهَا إِلَى أَنْ يَصِلَ إِلَى الْمَالِ ، فَيَشْتَرِي وَيُعْتِقُ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الصَّلَاةَ مُوَقَّتَةٌ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا ، فَإِذَا عَجَزَ عَنِ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ عَدَلَ إِلَى الطَّهَارَةِ بِالتُّرَابِ ، وَلَيْسَ وَقْتُ الْكَفَّارَةِ مُضَيَّقًا ، وَيَجُوزُ تَأْخِيرُهَا عَنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ ، وَإِنْ كَانَ وَاجِدًا لِلثَّمَنِ ، فَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ فِي نَفَقَتِهِ وَزَادِهِ كَانَ فِي حُكْمِ الْعَادِمِ لَهُ ، فَيَتَيَمَّمُ وَيُجْزِئُهُ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ مَبْذُولًا بِثَمَنِ مِثْلِهِ ، أَوْ بِأَكْثَرَ ، فَإِنْ بُذِلَ لَهُ الْمَاءُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهِ بِمَكَانِهِ فِي غَالِبِ أَحْوَالِ السَّلَامَةِ ، لَا فِي وَقْتِ الِانْقِطَاعِ وَالْقِلَّةِ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ ، وَجَازَ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيُصَلِّيَ : لِأَنَّ الطَّلَبَ لِلْمَاءِ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهِ فِي حُكْمِ الْمَانِعِ مِنْهُ ، وَسَوَاءٌ كَانَتِ الزِّيَادَةُ الْمَطْلُوبَةُ عَنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ كَثِيرَةً أَوْ قَلِيلَةً : لِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَ بَذْلُ الْيَسِيرِ لَلَزِمَهُ بَذْلُ الْكَثِيرِ ، وَلَأَفْضَى الْأَمْرُ بِهِ إِلَى خُرُوجِهِ مِنْ جَمِيعِ مِلْكِهِ ، وَهَذَا عُدُولٌ عَمَّا يَقْتَضِيهِ الشَّرْعُ ، وَرَفْعُ الْخُرُوجِ فِي الْمُعْتَدِلِ . فَإِنْ قِيلَ : لَوْ بُذِلَتْ لَهُ الرَّقَبَةُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهَا في الكفارة .
قُلْنَا : لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَصُومَ وَيَتَوَقَّفَ حَتَّى يَجِدَهَا بِثَمَنِ مِثْلِهَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَبَيْنَهَا ، وَإِنْ بُذِلَ لَهُ الْمَاءُ بِثَمَنِ مِثْلِهِ فِي غَالِبِ أَحْوَالِ السَّلَامَةِ في التيمم لَزِمَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ : لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْبَدَلِ فِي حُكْمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمُبْدَلِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى ثَمَنِ الرَّقَبَةِ فِي حُكْمِ الْقَادِرِ عَلَى الرَّقَبَةِ فِي الْكَفَّارَةِ ، وَالْقَادِرُ عَلَى ثَمَنِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ فِي حُكْمِ الْقَادِرِ عَلَى الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ فِي الْحَجِّ ، وَالْقَادِرُ عَلَى صَدَاقِ الْحُرَّةِ فِي حُكْمِ الْقَادِرِ عَلَى الْحُرَّةِ فِي تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْأَمَةِ ، وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ صَارَ الْقَادِرُ عَلَى ثَمَنِ الْمَاءِ فِي حُكْمِ الْقَادِرِ عَلَى الْمَاءِ فَلَزِمَهُ شِرَاؤُهُ وَاسْتِعْمَالُهُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَيَمَّمَ .
فَصْلٌ هَلْ يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ إِذَا وُهِبَ لَهُ
فَصْلٌ : هَلْ يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ إِذَا وُهِبَ لَهُ ؟ وَأَمَّا إِذَا وُهِبَ لَهُ الْمَاءُ قبوله في التيمم فَإِنْ كَانَ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ : لِأَنَّ فَرْضَ الطَّهَارَةِ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ إِذَا كَانَ عَادِمًا ، لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ ، وَلَيْسَ كَقَبُولِ الْمَالِ فِي الْحَجِّ وَالْكَفَّارَةِ الَّذِي لَا يَلْزَمُهُ : لِأَنَّ أَصْلَ الْمَاءِ مُبَاحٌ ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ فِي قَبُولِهِ مُكَافَأَةٌ وَالْمَالُ بِخِلَافِهِ لِمُشَاحَّةِ النَّاسِ فِيهِ ، وَلُزُومِ الْمُكَافَأَةِ عَلَيْهِ ، وَلِذَلِكَ اسْتَسْقَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَسْتَطْعِمِ الطَّعَامَ . فَإِنْ قِيلَ : وَاسْتَعْمَلَهُ وَصَلَّى فَقَدْ أَدَّى فَرْضَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْهُ تَيَمَّمَ وَصَلَّى ، فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ الْمَوْهُوبُ لَهُ مَوْجُودًا فِي يَدِ وَاهِبِهِ حِينَ وَهَبَهُ تَيَمَّمَ وَصَلَّى فَالْإِعَادَةُ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ : لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْمَاءِ بِالْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ لَا بِمِلْكِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا قَدَرَ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ لَزِمَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْهُ ، وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ مَعْدُومًا حِينَ تَيَمَّمَ وَصَلَّى الْمَاءُ الْمَوْهُوبُ لَهُ فَفِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ : لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ قَادِرًا عَلَى اسْتِعْمَالِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ لِعَجْزِهِ عَنِ الْمَاءِ فِي حَالِ تَيَمُّمِهِ .
فَصْلٌ حُكْمُ إِعَادَةِ مَنْ كَانَ مَعَهُ مَاءٌ فَوَهَبَهُ وَتَيَمَّمَ وَصَلَّى
فَصْلٌ : حُكْمُ إِعَادَةِ مَنْ كَانَ مَعَهُ مَاءٌ فَوَهَبَهُ وَتَيَمَّمَ وَصَلَّى فَأَمَّا إِذَا كَانَ مَعَهُ مَاءً فَوَهَبَهُ ثُمَّ تَيَمَّمَ وَصَلَّى فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ قَدْ وَهَبَ الْمَاءَ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ أَوْ بَعْدَهُ فَإِنْ وَهَبَهُ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ ، فَإِنَّ فَرْضَ الطَّهَارَةِ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ ، وَإِنْ وَهَبَهُ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ ، فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ مَوْجُودًا فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ ، وَإِنْ كَانَ مَعْدُومًا فَفِي الْإِعَادَةِ وَجْهَانِ . أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ .
فَصْلٌ مَنْ كَانَ مَعَهُ مَاءٌ يَخَافُ الْعَطَشَ لَوِ اسْتَعْمَلَهُ تَيَمَّمَ
فَصْلٌ : مَنْ كَانَ مَعَهُ مَاءٌ يَخَافُ الْعَطَشَ لَوِ اسْتَعْمَلَهُ تَيَمَّمَ إِذَا كَانَ مَعَهُ مَا يَحْتَاجُ أَنْ يَشْرَبَهُ وَيَخَافُ الْعَطَشَ إِنِ اسْتَعْمَلَهُ فِي طَهَارَتِهِ ، لَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِعْمَالُهُ لِحِرَاسَةِ نَفْسِهِ ، وَأَجْزَأَهُ التَّيَمُّمُ ، فَإِنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ لِدَابَّتِهِ ، وَخَافَ الْعَطَشَ عَلَيْهَا ، لَا عَلَى نَفْسِهِ في التيمم ، أَجْزَأَهُ التَّيَمُّمُ أَيْضًا لِمَا فِي اسْتِعْمَالِهِ مِنْ تَعْذِيبِ ذَاتِ كَبِدٍ حَرًّا ، وَمَا يَعُودُ عَلَيْهِ مِنْ تَلَفٍ وَذَهَابِ مَرْكُوبِهِ ، فَلَوْ كَانَ مَعَهُ إِنَاءَانِ مِنْ مَاءٍ أَحَدُهُمَا : طَاهِرٌ ، وَالْآخَرُ : نَجِسُّ ، وَهُوَ خَائِفُ الْعَطَشِ في التيمم لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ ، وَلَزِمَهُ اسْتِعْمَالُ الطَّاهِرِ ، فَإِنِ اشْتَدَّ بِهِ الْعَطَشُ بَعْدَ اسْتِعْمَالِ الطَّاهِرِ جَازَ أَنْ يَشْرَبَ النَّجِسَ ، كَمَا يَجُوزُ لِلْمُضْطَرِّ أَكْلُ الْمَيْتَةِ ، وَإِنِ اشْتَدَّ بِهِ الْعَطَشُ قَبْلَ اسْتِعْمَالِ الطَّاهِرِ ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ شَرِبَ الطَّاهِرَ وَحَرُمَ عَلَيْهِ شُرْبُ النَّجِسِ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ جَازَ شُرْبُ النَّجِسِ ، لِأَنَّ الطَّاهِرَ قَدْ صَارَ مُسْتَحَقًّا لِلطَّهَارَةِ فَمُنِعَ مِنْ شُرْبِهِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الطَّهَارَةِ .
فَصْلٌ إِذَا حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَاءِ شَيْءٌ
فَصْلٌ : إِذَا حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَاءِ شَيْءٌ إِذَا عَلِمَ بِمَاءٍ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ سَبُعٌ أَوْ خَافَ مِنَ الذَّهَابِ إِلَيْهِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ خَافَ عَلَى مَا يَخْلُفُهُ مِنْ رَحْلِهِ ، أَوْ خَافَ فَوَاتَ وَقْتِهِ في التيمم أَجْزَأَهُ التَّيَمُّمُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا وَكَانَ فِي حُكْمِ الْعَاجِزِ عَنِ الْمَاءِ ، فَلَوْ وَجَدَ الْمَاءَ فِي بِئْرٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى نُزُولِهَا إِلَّا بِمَشَقَّةٍ عَلَيْهِ ، أَوْ تَغْرِيرٍ بِالنَّفْسِ في التيمم لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَنْزِلَهَا ، وَأَجْزَأَهُ التَّيَمُّمُ ، وَلَوْ قَدَرَ عَلَى نُزُولِهَا ، بِغَيْرِ مَشَقَّةٍ ماء البئر للمتيمم لَزِمَهُ ذَاكَ ، وَلَمْ يُجْزِهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ فَلَوْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى مَائِهَا إِلَّا بِشِرَاءِ دَلْوٍ ، أَوْ حَبْلٍ ماء البئر للمتيمم لَزِمَهُ ذَلِكَ إِذَا وَجَدَهُ ، وَقَدَرَ عَلَى ثَمَنِهِ ، وَكَانَ بِقَدْرِ ثَمَنِ الْمَاءِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ إِنْ كَانَ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ ، وَلَوْ وَجَدَ مَنْ يُعِيرُهُ دَلْوًا وَحَبْلًا ماء البئر للمتيمم لَزِمَهُ اسْتِعَارَتُهُ مِنْهُ إِنْ كَانَ ثَمَنُهُ بِقَدْرِ ثَمَنِ الْمَاءِ ، وَهَلْ يَلْزَمُهُ اسْتِعَارَتُهُ إِنْ كَانَ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَلْزَمُهُ : لِأَنَّ الْعَارِيَةَ مَضْمُونَةٌ . وَالثَّانِي : يَلْزَمُهُ : لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنَ الْحَالِ سَلَامَةُ الْعَارِيَةِ ، وَإِمْكَانُ رَدِّهَا ، فَلَوْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى مَاءِ الْبِئْرِ إِلَّا بِبَلِّ ثَوْبٍ يُوكِسُ قِيمَتَهُ إِنْ بَلَّهُ فِيهِ في التيمم ، جَازَ ، وَإِنْ نَقَصَ مِنْ ثَمَنِهِ بَعْدَ بَلِّهِ بِقَدْرِ ثَمَنِ الْمَاءِ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَبُلَّهُ فِيهِ ، وَإِنْ نَقَصَ أَكْثَرَ لَمْ يَلْزَمْهُ ، فَلَوْ عَلِمَ وَهُوَ عَادِمٌ لِلْمَاءِ أَنَّهُ إِنْ حَفَرَ مَوْضِعَهُ وَصَلَ إِلَى الْمَاءِ في التيمم نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ يَصِلُ إِلَى الْمَاءِ بِحَفْرٍ قَرِيبٍ لَا يَلْحَقُ فِيهِ مَشَقَّةٌ لَزِمَهُ ذَاكَ ، وَإِنْ لَمْ يُجْزِهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ كَمَا يَلْزَمُهُ تَنْقِيَةُ بِئْرٍ وَإِصْلَاحُ سَيْلٍ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَصِلُ إِلَّا بِحَفْرٍ بَعِيدٍ يَلْحَقُهُ فِيهِ مَشَقَّةٌ لَمْ يَلْزَمْهُ ، وَأَجْزَأَهُ التَّيَمُّمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ كَانَ مَعَ رَجُلٍ مَاءٌ فَأَجْنَبَ رَجُلٌ وَطَهُرَتِ امْرَأَةٌ مِنْ
حَيْضٍ ، وَمَاتَ رَجُلٌ وَلَمْ يَسَعْهُمُ الْمَاءُ الأحق بالماء كَانَ الْمَيِّتُ أَحَبَّهُمْ إِلَيَّ أَنْ يَجُودُوا بِالْمَاءِ عَلَيْهِ ، وَيَتَيَمَّمُ الْحَيَّانِ ، لِأَنَّهُمَا قَدْ يَقْدِرَا عَلَى الْمَاءِ ، وَالْمَيِّتُ إِذَا دُفِنَ لَمْ يُقْدَرْ عَلَى غُسْلِهِ ، فَإِنْ كَانَ مَعَ الْمَيِّتِ مَاءٌ فَهُوَ أَحَقُّهُمْ بِهِ ، فَإِنْ خَافُوا الْعَطَشَ شَرِبُوهُ وَيَمَّمُوهُ وَأَدَّوْا ثَمَنَهُ فِي مِيرَاثِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : فِي ثَلَاثَةٍ جَمَعَهُمُ السَّفَرُ ، وَلَزِمَهُمُ الْغُسْلُ وَهُمْ جُنُبٌ وَحَائِضٌ وَمَيِّتٌ ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُمْ مِنْ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَجِدُوا مِنَ الْمَاءِ مَا يَكْفِيهِمْ جَمِيعِهِمْ فَعَلَى الْحَيَّيْنِ أَنْ يُغَسِّلَا الْمَيِّتَ ، فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ رَجُلًا كَانَ فَرْضُ غُسْلِهِ عَلَى الرَّجُلِ ، وَإِنْ كَانَتِ امْرَأَةً كَانَ فَرْضُ غَسْلِهَا عَلَى الْمَرْأَةِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ الْحَيَّانِ بَعْدَ غُسْلِ الْمَيِّتِ ، فَإِنْ قَدَّمَا غُسْلَ أَنْفُسِهِمَا جَازَ ثُمَّ يُصَلِّيَانِ عَلَى الْمَيِّتِ وَيَدْفِنَاهُ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ لَا يَجِدُوا مِنَ الْمَاءِ شَيْئًا فَعَلَيْهِمَا أَنْ يُوَمِّمَا الْمَيِّتَ ، وَيَتَيَمَّمَا لِأَنْفُسِهِمَا وَيُصَلِّيَا عَلَى الْمَيِّتِ ، وَيَدْفِنَاهُ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَجِدُوا مِنَ الْمَاءِ مَا يَكْفِي أَحَدَهُمْ لَا غَيْرَ ، فَلَا يَخْلُو ذَلِكَ عَنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَاءُ مِلْكًا لِأَحَدِهِمْ أَمْ لَا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِلْكًا لِأَحَدِهِمْ بَلْ وَجَدُوهُ مُبَاحًا أَوْ دَفَعَهُ إِلَيْهِمْ إِنْسَانٌ وَقَالَ يَسْتَعْمِلُ هَذَا الْمَاءَ أَحَدُكُمْ ، فَهَذِهِ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْمَيِّتُ أَوْلَاهُمْ بِهِ ، وَأَحَبُّ إِلَيْنَا أَنْ يَجُودُوا بِالْمَاءِ عَلَيْهِ لِمَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ أَنَّ طَهَارَةَ الْمَيِّتِ هِيَ خَاتِمَةُ أَمْرِهِ ، وَلَيْسَ يُقْدَرُ عَلَى غُسْلِهِ بَعْدَ دَفْنِهِ ، وَلَيْسَ طَهَارَةُ الْحَيَّيْنِ خَاتِمَةَ أَمْرِهِمَا ، وَهُمَا يَقْدِرَانِ عَلَى الْمَاءِ بَعْدَ تَيَمُّمِهِمَا . وَالثَّانِي : بِأَنَّ طَهَارَةَ الْمَيِّتِ تَطَيُّبًا لَا مَحَالَةَ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ وَطَهَارَةُ الْحَيِّ لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ الَّتِي تُؤَدَّى بِالتَّيَمُّمِ كَأَدَائِهَا بِالْمَاءِ . فَلَوْ كَانَ بِأَحَدِ الْحَيَّيْنِ نَجَاسَةٌ الأولى بالماء الميت أم صاحب النجاسة ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلِ الْمَيِّتُ أَوْلَى بِهِ مِنْ صَاحِبِ النَّجَاسَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ . أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْلَى لِلتَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ فِي أَنَّهَا خَاتِمَةُ أَمْرِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ صَاحِبَ النَّجَاسَةِ أَوْلَى بِهِ عَلَى التَّعْلِيلِ الثَّانِي : لِأَنَّ فَرْضَهُ مَعَ النَّجَاسَةِ لَا يُسْقِطُ تَيَمُّمَهُ ، فَلَوْ أَنَّ الْوَاجِدَ لِلْمَاءِ جُنُبٌ وَحَائِضٌ أيهما أولى بالماء ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي أَيِّهِمَا أَوْلَى بِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ . أَحَدُهَا : أَنَّ الْجُنُبَ أَوْلَى بِهِ : لِأَنَّ وُجُوبَ طَهَارَتِهِ بِالنَّصِّ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْحَائِضَ أَوْلَى بِهِ : لِأَنَّ حَدَثَهَا أَغْلَظُ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُمَا سَوَاءٌ : لِاسْتِوَائِهِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ وُجُوبِ الْغُسْلِ . فَلَوْ أَنَّ الْوَاجِدَ لِلْمَاءِ جُنُبٌ وَمُحْدِثٌ الأولي بالماء : فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ يَكْفِي الْمُحْدِثَ ، وَلَا يَكْفِي الْجُنُبَ فَالْمُحْدِثُ أَوْلَى : لِأَنَّ فِيهِ تَكْمِيلَ طَهَارَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ يَكْفِي الْجُنُبَ وَلَا يَفْضُلُ مِنَ الْحَدَثِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْجُنُبَ أَوْلَى بِهِ ، لِأَنَّ حَدَثَهُ أَغْلَظُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُمَا سَوَاءٌ : لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّلَاةِ ، وَإِنْ كَانَ يَكْفِي الْجُنُبَ وَيَفْضُلُ مِنَ الْمُحْدِثِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْجُنُبَ أَوْلَى لِغِلَظِ حَدَثِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمُحْدِثَ أَوْلَى لِبَقَاءِ بَعْضِ الْمَاءِ بَعْدَ طَهَارَتِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُمَا سَوَاءٌ وَهَذَا الَّذِي وَصَفْنَا طَرِيقُهُ الْأَوْلَى ، فَلَوْ تَغَلَّبَ أَحَدُ الْحَيَّيْنِ عَلَى الْمَاءِ فَاسْتَعْمَلَهُ دُونَ الْمَيِّتِ ، أَوْ غَلَبَ مَنْ لَيْسَ بِأَوْلَى عَلَى مَنْ هُوَ أَوْلَى كَانَ مُسِيئًا وَطَهَارَتُهُ مُجْزِئَةٌ .
فَصْلٌ لَوْ كَانَ الْمَاءُ مِلْكًا لِأَحَدِهِمْ فَمَنْ أَحَقُّ بِهِ
فَصْلٌ : لَوْ كَانَ الْمَاءُ مِلْكًا لِأَحَدِهِمْ فَمَنْ أَحَقُّ بِهِ أحد الحيين والميت ؟ فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمَاءُ مِلْكًا لِأَحَدِهِمْ ، كَانَ مَالِكُ الْمَاءِ أَحَقَّهُمَا بِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجُودُوا بِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ حَيٍّ وَلَا مَيِّتٍ : لِأَنَّهُ لَمَّا اخْتُصَّ بِوُجُوبِ اسْتِعْمَالِهِ ، فَإِنْ وَهَبَهُ لِغَيْرِهِ كَانَ عَلَى مَا مَضَى فِيمَنْ وَهَبَ مَا لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ ، وَلَوْ كَانَ الْمَاءُ مِلْكًا لِلْمَيِّتِ وَجَبَ عَلَى أَحَدِ الْحَيَّيْنِ أَنْ يَغْسِلَهُ بِهِ ، فَإِنِ احْتَاجَ الْحَيَّانِ إِلَى شُرْبِهِ وَخَافَا الْعَطَشَ والماء ملك الميت كَانَ لَهُمَا أَنْ يَأْخُذَا مَاءَ الْمَيِّتِ فَيَشْرَبَاهُ وَيُؤَدِّيَا ثَمَنَهُ فِي مِيرَاثِهِ : لِأَنَّهُمَا لَمَّا كَانَ لَهُمَا مُغَالَبَةُ الْحَيِّ عَلَى مَائِهِ ، عِنْدَ خَوْفِ الْعَطَشِ كَانَ لَهُمَا ذَلِكَ فِي الْمَيِّتِ لِحِرَاسَةِ أَنْفُسِهِمَا ، وَعَلَيْهِمَا ثَمَنُ ذَلِكَ وَقْتَ أَخْذِهِ مِنَ الْمَيِّتِ ، لَا فِي غَالِبِ أَحْوَالِ السَّلَامَةِ بِخِلَافِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ اعْتِبَارِ الثَّمَنِ فِي شِرَاءِ الْمَاءِ ، لِأَنَّ الَّذِي يَلْزَمُهُمَا فِيهِ قِيمَتُهُ مُتْلَفٌ ، فَاعْتُبِرَتِ الْقِيمَةُ بِوَقْتِ الْإِتْلَافِ فَلَوْ لَمْ يَحْتَاجَا إِلَى شُرْبِهِ وَغَسَّلَا بِهِ الْمَيِّتَ وَبَقِيَ مِنْهُ بَعْدَ غُسْلِهِ بَقِيَّةٌ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ الْحَيَّيْنِ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ : لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ مُغَالَبَةُ الْحَيِّ عَلَى فَضْلِ مَائِهِ : لِأَجْلِ الطَّهَارَةِ لَمْ يَجُزْ أَخْذُ مَا بَقِيَ مِنْ مَاءِ الْمَيِّتِ لِأَجْلِ الطَّهَارَةِ ، فَلَوْ كَانَ مَاءُ الْمَيِّتِ لَا يَكْفِيهِ لِغَسْلِ جَمِيعِ بَدَنِهِ في التيمم فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ يَغْتَسِلُ بِهِ فِي بَعْضِ بَدَنِهِ ثُمَّ يُوَمَّمُ لِمَا بَقِيَ مِنْهُ . وَالثَّانِي : يَقْتَصِرُ بِهِ عَلَى التَّيَمُّمِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ أَحَدَ الْحَيَّيْنِ غَسَّلَ بِهِ الْمَيِّتَ كَانَ ضَامِنًا لِقِيمَتِهِ فِي تِرْكَتِهِ : لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَهْلَكَ مِنْ مَالِهِ مَا لَا حَاجَةَ بِهِ إِلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ مَا يُفْسِدُ الْمَاءَ
إِذَا وَقَعَ فِي الْمَاءِ نُقْطَةُ خَمْرٍ أَوْ بَوْلٍ أَوْ دَمٍ أَوْ أَيِّ نَجَاسَةٍ كَانَتْ
بَابُ مَا يُفْسِدُ الْمَاءَ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " إِذَا وَقَعَ فِي الْمَاءِ نُقْطَةُ خَمْرٍ أَوْ بَوْلٍ أَوْ دَمٍ أَوْ أَيِّ نَجَاسَةٍ كَانَتْ مِمَّا يُدْرِكُهَا الطَّرْفُ فَسَدَ الْمَاءُ ، وَلَا تُجْزِئُ بِهِ الطَّهَارَةُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ النَّجَاسَةَ ضَرْبَانِ ضَرْبٌ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ ، وَضَرْبٌ لَا يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ ، فَأَمَّا مَا لَا يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ فَمِثْلُ الْبَوْلِ وَالْخَمْرِ وَالْغَائِطِ ، فَتَوَقِّي يَسِيرِهِ وَكَثِيرِهِ وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُ ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُدْرِكُهَا الطَّرْفُ ، فَقَدْ نَجُسَ مِمَّا حَصَلَتْ فِيهِ هَذِهِ النَّجَاسَةُ الْمُرِيبَةُ قَلَّتِ النَّجَاسَةُ أَوْ كَثُرَتْ وَسَوَاءٌ وَقَعَتْ عَلَى ثَوْبٍ أَوْ بَدَنٍ أَوْ حَصَلَتْ فِي مَاءٍ قَدْرُهُ أَقَلُّ مِنْ قُلَّتَيْنِ . وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا يُدْرِكُهَا الطَّرْفُ كَذُبَابٍ سَقَطَ عَلَى نَجَاسَةٍ فَاحْتَمَلَ بِأَرْجُلِهِ وَأَجْنِحَتِهِ فِيهَا مَا لَا يُرَى وَلَا يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ لِقِلَّتِهِ ، ثُمَّ سَقَطَ فِي مَاءٍ أَوْ عَلَى ثَوْبٍ فَدَلِيلُ مَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا أَنَّ الْمَاءَ لَا يُنَجَّسُ بِهِ : لِأَنَّهُ قَالَ : أَوْ أَيُّ نَجَاسَةٍ كَانَتْ مِمَّا يُدْرِكُهَا الطَّرْفُ فَقَدْ فَسَدَ الْمَاءُ ، فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ أَنَّ مَا لَا يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ لَا يُفْسِدُ الْمَاءَ مَفْهُومًا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْإِمْلَاءِ : وَإِذَا أَصَابَ الثَّوْبَ غَائِطٌ أَوْ بَوْلٌ أَوْ خَمْرٌ وَاسْتَيْقَنَهُ أَدْرَكَهُ الطَّرْفُ أَوْ لَمْ يُدْرِكْهُ فَعَلَيْهِ غَسْلُهُ ، وَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ مَوْضِعُ النجاسة في الثوب ذَلِكَ غَسَلَهُ كُلَّهُ ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْأُمِّ : وَإِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ عَلَى بَوْلٍ أَوْ خَلَا رَقِيقٍ ثُمَّ وَقَعَ عَلَى ثَوْبٍ غُسِلَ مَوْضِعُهُ وَسَوَّى فِي تَنْجِيسِ الثَّوْبِ بِمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ بَيْنَ مَا يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ أَوْ لَا يُدْرِكُهُ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا لَا يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ من النجاسات ، لِأَجْلِ اخْتِلَافِ هَذَا النَّقْلِ عَلَى أَرْبَعِ طُرُقٍ . إِحْدَاهُنَّ : وَهِيَ طَرِيقَةُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْهُمْ إِنْ حَمَلُوا كَلَامَ الشَّافِعِيِّ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ فَقَالُوا إِنَّ الْمَاءَ لَا يُنَجَّسُ بِمَا لَا يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ ، وَهُوَ دَلِيلُهُ مَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ فِي الْمَاءِ هَاهُنَا ، وَأَنَّ الثَّوْبَ يُنَجَّسُ بِمَا لَا يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ ، كَمَا يَنُصُّ بِمَا لَا يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ ، وَهُوَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ فِي الثَّوْبِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْإِمْلَاءِ وَكِتَابِ الْأُمِّ ، وَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا بِأَنْ قَالُوا : إِنَّ الْمَاءَ أَقْوَى حُكْمًا فِي رَفْعِ النَّجَاسَةِ عَنْ نَفْسِهِ مِنَ الثَّوْبِ لِأَمْرَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يُزِيلُ النَّجَاسَةَ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الثَّوْبُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَدْفَعُ كَثِيرَ النَّجَاسَةِ عَنْ نَفْسِهِ إِذَا كَثُرَ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الثَّوْبُ . فَكَذَلِكَ نَجُسَ الثَّوْبُ بِمَا يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ ، أَوْ لَا يُدْرِكُهُ ، وَلَمْ يُنَجَّسِ الْمَاءُ إِلَّا بِمَا يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ دُونَ مَا لَا يُدْرِكُهُ . وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ : وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّ الْمَاءَ وَالثَّوْبَ جَمِيعًا يُنَجَّسَانِ بِمَا لَا يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ وَيَكُونُ دَلِيلُ خِطَابِ الشَّافِعِيِّ فِي الْمَاءِ مَتْرُوكًا بِصَرِيحِ نَفْسِهِ فِي الثوِبِ ، وَتَكُونُ فَائِدَةُ قَوْلِهِ فَكَانَتْ مِمَّا يُدْرِكُهَا الطَّرْفُ - يَعْنِي - إِذَا كَانَتْ مُتَيَقَّنَةً ، وَلَمْ يَكُنْ مَشْكُوكًا فِيهِ فَعَبَّرْ بِإِدْرَاكِ الطَّرْفِ عَنِ الْيَقِينِ . وَالطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ : وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ فِي تَنْجِيسِ الْمَاءِ وَالثَّوْبِ بِمَا لَا يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ قَوْلَيْنِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ كَلَامِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ الْمَاءَ وَالثَّوْبَ مَعًا يُنَجَّسَانِ بِمَا لَا يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ مِنَ النَّجَاسَةِ : لِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهَا فَاقْتَضَى أَنْ يُنَجَّسَ بِهَا مَا لَاقَاهَا قِيَاسًا عَلَى مَا يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ ، وَهَذَا صَرِيحُ نَصِّهِ فِي الثَّوْبِ ، أَنَّ الْمَاءَ وَالثَّوْبَ طَاهِرَانِ مَعًا لَا يُنَجَّسَانِ بِمَا لَا يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ لِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ يَشْعُرُ التَّحَرُّزَ مِنْهَا وَإِنْ أَمْكَنَ فَشَابَهَتْ دَمَ الْبَرَاغِيثِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ ، وَهَذَا دَلِيلُ نَصِّهِ فِي الْمَاءِ . وَالطَّرِيقَةُ الرَّابِعَةُ : وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الْمَاءَ أَغْلَظُ حُكْمًا مِنَ الثَّوْبِ فَيَكُونُ الْمَاءُ نَجِسًا ، وَهَلْ يُنَجَّسُ الثَّوْبُ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالثَّوْبِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الثَّوْبَ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْ حُلُولِ هَذِهِ النَّجَاسَةِ فِيهِ لِبُرُوزِهِ ، وَالْمَاءُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْ حُلُولِهَا فِيهِ بِتَخْمِيرِ إِنَائِهِ وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ رَأَى إِنَاءً مُخَمَّرًا . مَنْ خَمَّرَهُ ؟ فَقِيلَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ : " اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ " . وَالثَّانِي : أَنَّ يَسِيرَ دَمِ الْبَرَاغِيثِ نجاسته يُعْفَى عَنْهُ فِي الثَّوْبِ وَلَا يُعْفِي عَنْهُ فِي الْمَاءِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الثَّوْبِ أَخَفَّ مِنْ حُكْمِ الْمَاءِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ الذُّبَابَ إِذَا طَارَ عَنِ النَّجَاسَةِ جَفَّتْ قَبْلَ سُقُوطِهِ عَلَى الثَّوْبِ فَصَارَ تَنْجِيسُهُ
بِهَا شَكًّا ، وَإِذَا سَقَطَ فِي الْمَاءِ انْحَلَّتْ فَصَارَ تَنْجِيسُهُ بِهَا يَقِينًا ، وَأَصَحُّ هَذِهِ الطُّرُقِ هِيَ الطَّرِيقَةُ الْأُولَى الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا : لِأَنَّ النَّصَّ مِنَ الْمَذْهَبِ تَقْتَضِيهَا وَالْحِجَاجُ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ يُوجِبُهَا .
فَصْلٌ يَسِيرُ الدَّمِ وَكَثِيرُهُ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ وَضَابِطُهُ
فَصْلٌ : يَسِيرُ الدَّمِ وَكَثِيرُهُ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ وَضَابِطُهُ وَأَمَّا الْمَعْفُوُّ عَنْ يَسِيرِهِ مِنَ النَّجَاسَاتِ الدم فَدَمُ الْبَرَاغِيثِ لِإِجْمَاعِ السَّلَفِ عَلَيْهِ ، وَتَعَذُّرِ التَّحَرُّزِ مِنْهُ ، وَأَمَّا غَيْرُهُ مِنْ سَائِرِ الدِّمَاءِ فَفِي الْعَفْوِ عَنْ يَسِيرِهِ قَوْلَانِ نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي الْجَدِيدِ . أَحَدُهُمَا : يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهَا قِيَاسًا عَلَى دَمِ الْبَرَاغِيثِ فَإِنَّ تَمْيِيزَ الدِّمَاءِ شَاقٌّ فَعَلَى هَذَا مَاءُ الْقُرُوحِ أَوْلَى بِالْعَفْوِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يُعْفَى عَنْ شَيْءٍ مِنْهَا قِيَاسًا عَلَى الْبَوْلِ ، وَخَالَفَ دَمَ الْبَرَاغِيثِ " مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ دَمَ الْبَرَاغِيثِ عَامٌّ وَغَيْرُهُ مِنَ الدِّمَاءِ خَاصٌّ . وَالثَّانِي : أَنَّ التَّحَرُّزَ مِنْ دَمِ الْبَرَاغِيثِ مُتَعَذِّرٌ وَمِنْ غَيْرِهِ مِنَ الدِّمَاءِ مُمْكِنٌ فَعَلَى هَذَا فِي الْعَفْوِ عَنْ مَاءِ الْقُرُوحِ وَجْهَانِ ، بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ دَمِ الْبَرَاغِيثِ وَغَيْرِهِ : أَحَدُهُمَا : يُعْفَى عَنْهُ : لِأَنَّ التَّحَرُّزَ مِنْهُ مُتَعَذِّرٌ . وَالثَّانِي : لَا يُعْفَى عَنْهُ : لِأَنَّهُ نَادِرٌ . وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ فِيمَا سِوَى دَمِ الْبَرَاغِيثِ مَذْهَبًا ثَالِثًا : وَهُوَ أَنَّ دَمَ نَفْسِهِ مَعْفُوٌّ عَنْ يَسِيرِهِ : لِأَنَّ التَّحَرُّزَ مِنْهُ مُتَعَذَّرٌ ، وَدَمُ غَيْرِهِ غَيْرُ مَعْفُوٍّ عَنْ يَسِيرِهِ : لِأَنَّ التَّحَرُّزَ مِنْهُ مُتَعَذَّرٌ فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حَالِ النَّجَاسَةِ الَّتِي يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهَا انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى حَدِّ الْيَسِيرِ فِيهَا الدم المعفو عنه من النجاسات ، أَمَّا دَمُ الْبَرَاغِيثِ فَيَسِيرُهُ مُعْتَبَرٌ بِالْعُرْفِ مِنْ غَيْرِ حَدٍّ ، وَلَا تَقْدِيرٍ فَمَا كَانَ فِي عُرْفِ النَّاسِ وَعَادَاتِهِمْ يَسِيرًا كَانَ مَعْفُوًّا عَنْهُ ، وَمَا كَانَ فِي الْعُرْفِ يَسِيرًا فَاحِشًا لَمْ يُعْفَ عَنْهُ ، أَمَّا غَيْرُهُ فِي الدِّمَاءِ وَمَاءِ الْقُرُوحِ فَفِي الْيَسِيرِ مِنْهَا قَوْلَانِ حُكِيَا عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ بِعُرْفِ النَّاسِ أَيْضًا كَدَمِ الْبَرَاغِيثِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَحْدُودٌ بِقَدْرِ الْكَفِّ . فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ يَسِيرِ مَا يُعْفَى عَنْهُ وَبَيْنَ كَثِيرِهِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ إِذَا أَصَابَ الثَّوْبَ أَوِ الْبَدَنَ ، فَأَمَّا إِنْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ فَغَيْرُ مَعْفُوٍّ عَنْهُ بِحَالٍ : لِأَنَّ التَّحَرُّزَ مِنْهُ فِي الْمَاءِ مُمْكِنٌ ، وَإِنَّمَا التَّحَرُّزُ مِنْهُ فِي الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ مُتَعَذَّرٌ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ تَوَضَّأَ رَجُلٌ ثُمَّ جَمَعَ وَضُوءَهُ فِي إِنَاءٍ نَظِيفٍ ثُمَّ تَوَضَّأَ بِهِ أَوْ غَيْرُهُ لَمْ يُجْزِهِ لِأَنَّهُ أَدَّى بِهِ الْوُضُوءَ الْفَرْضَ مَرَّةً وَلَيْسَ بِنَجِسٍ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ وَلَا شَكَّ أَنَّ مِنْ بَلَلِ الْوَضُوءِ مَا يُصِيبُ ثِيَابَهُ وَلَا نَعْلَمُهُ غَسَلَهُ وَلَا أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَعَلَهُ وَلَا يَتَوَضَّأُ بِهِ لِأَنَّ عَلَى النَّاسِ تَعَبُّدًا فِي أَنْفُسِهِمْ بِالطَّهَارَةِ مِنْ غَيْرِ نَجَاسَةٍ وَلَيْسَ عَلَى ثَوْبٍ وَلَا أَرْضٍ تَعَبُّدٌ وَلَا أَنْ يَمَاسَّهُ مَاءٌ مِنْ غَيْرِ نَجَاسَةٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ فِي الطَّهَارَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : ضَرْبٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي رَفْعِ حَدَثٍ ، وَضَرْبٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي إِزَالَةِ نَجَسٍ ، وَضَرْبٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي أَمْرٍ نَدْبٍ ، فَأَمَّا الْمُسْتَعْمَلُ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ فَهُوَ مَا انْفَصَلَ مِنْ أَعْضَاءِ الْمُحْدِثِ فِي وُضُوئِهِ ، أَوْ مِنْ بَدَنِ الْجُنُبِ فِي غُسْلِهِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي كُتُبِهِ الْقَدِيمَةِ وَالْجَدِيدَةِ وَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ جَمِيعُ أَصْحَابِهِ سَمَاعًا ، وَرِوَايَةً أَنَّهُ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ ، وَحَكَى عِيسَى بْنُ أَبَانٍ فِيمَا جَمَعَ مِنَ الْخِلَافِ عَنِ الشَّافِعِيِّ جَوَازَ الطَّهَارَةِ بِهِ ، وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ : سَأَلْتُ الشَّافِعِيَّ عَنْهُ فَتَوَقَّفَ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا لِأَجْلِ هَذِهِ الْحِكَايَةِ ، فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ يُخَرِّجَانِ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ طَاهِرٌ غَيْرُ مُطَهِّرٍ ، وَهُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ فِي جَمِيعِ كُتُبِهِ ، وَنَقَلَهُ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ ، وَهُوَ مَا حَكَاهُ عِيسَى بْنُ أَبَانٍ ، وَدَلَّتْ عَلَيْهِ رِوَايَةُ أَبِي ثَوْرٍ وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ وَابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَمْنَعَانِ مِنْ تَخْرِيجِ الْقَوْلَيْنِ وَيَعْدِلَانِ عَنْ رِوَايَةِ عِيسَى : لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ ثِقَةً فَهُوَ مُخَالِفٌ يَحْكِي مَا يَحْكِيهِ أَصْحَابُ الْخِلَافِ وَلَمْ يَلْقَ الشَّافِعِيَّ فَيَحْكِيهِ سَمَاعًا مِنْ لَفْظِهِ وَلَا هُوَ مَنْصُوصُهُ فَيَأْخُذُ مِنْ كُتُبِهِ وَلَعَلَّهُ تَأَوَّلَ كَلَامَهُ فِي نُصْرَةِ طَهَارَتِهِ رَدًّا عَلَى أَبِي يُوسُفَ ، فَحَمَلَهُ عَلَى جَوَازِ الطَّهَارَةِ ، وَأَمَّا أَبُو ثَوْرٍ فَلَيْسَ فِي رِوَايَتِهِ دَلِيلٌ لِأَنَّ التَّوَقُّفَ لَا يَكُونُ مَذْهَبًا وَلَعَلَّ تَوَقُّفَهُ عَنِ الْجَوَازِ إِنَّمَا كَانَ اعَتِمَادًا عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ فِي كُتُبِهِ وَلَعَمْرِي إِنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ أَصَحُّ الطَّرِيقَتَيْنِ مِنْ تَخْرِيجِ ذَلِكَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فَصَارَ الْمَذْهَبُ فِي الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ أَنَّهُ طَاهِرٌ غَيْرُ مُطَهِّرٍ ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ : عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ : الْأَوْزَاعِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ، وَابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ ، وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ ، وَمَالِكٌ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ : أَنَّهُ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَبُو يُوسُفَ هُوَ نَجِسٌ ،
وَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ إِلَى جَوَازِ الطَّهَارَةِ بِهِ فَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا [ الْفُرْقَانِ : ] وَإِنَّمَا ثَبَتَ لَهُ هَذِهِ الصِّفَةَ إِذَا تَكَرَّرَ مِنْهُ التَّطْهِيرُ كَمَا ثَبَتَ لِلْقَاتِلِ اسْمُ الْمَقْتُولِ إِذَا تَكَرَّرَ مِنْهُ الْقَتْلُ ، وَبِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اغْتَسَلَ فَبَقِيَ عَلَى مَنْكِبِهِ لُمْعَةٌ لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ فَعَصَرَ شَعْرَهُ وَأَمَرَّ الْمَاءَ عَلَيْهِ ، وَرَوَتِ الرُّبَيِّعُ بِنْتُ مُعَوِّذٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ رَأْسَهُ بِفَضْلِ مَا كَانَ فِي يَدِهِ وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَ بَلَلَ لِحْيَتِهِ فَمَسَحَ بِهَا رَأْسَهُ . وَهَذِهِ كُلُّهَا نُصُوصٌ فِي جَوَازِ الطَّهَارَةِ بِهِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّ الطَّهُورَ إِذَا لَاقَى طَاهِرًا لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مُطَهِّرًا قِيَاسًا عَلَى الْجَارِي عَلَى أَعْضَائِهِ تَبَرُّدًا ، أَوْ تَنَظُّفًا ، قَالُوا : وَلِأَنَّ لِلْمَاءِ صِفَتَيْنِ الطَّهَارَةُ وَالتَّطْهِيرُ ، فَلَمَّا لَمْ يَسْلُبْهُ الِاسْتِعْمَالُ الطَّهَارَةَ لَمْ يَسْلُبْهُ التَّطْهِيرَ ، وَتَحْرِيرُهُ إِنَّ كُلَّ صِفَةٍ كَانَتْ لِلْمَاءِ قَبْلَ مُلَاقَاةِ الْأَعْضَاءِ الطَّاهِرَةِ كَانَتْ لَهُ بَعْدَ مُلَاقَاةِ الْأَعْضَاءِ الطَّاهِرَةِ ، قِيَاسًا عَلَى الطَّهَارَةِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّ الشُّرُوطَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي أَدَاءِ الطَّهَارَةِ لَا يَمْنَعُ اسْتِعْمَالَهَا كَرَّةٌ مِنْ تَكْرَارِهَا فِي كُلِّ صَلَاةٍ كَالْأَرْضِ وَالثَّوْبِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّ رَفْعَ الْحَدَثِ بِالْمَاءِ لَا يَمْنَعُ مِنْ رَفْعِهِ ثَانِيًا بِذَلِكَ الْمَاءِ ، أَصْلُهُ : إِذَا جَرَى عَلَى الْبَدَنِ مِنْ عُضْوٍ إِلَى عُضْوٍ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّطَهُّرُ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ [ الْمَائِدَةِ : ] فَأَمَرَ بِغَسْلِ الْيَدِ بِمَا أَمَرَ بِهِ فِي غَسْلِ الْوَجْهِ فَلَمَّا كَانَ غَسْلُ الْوَجْهِ بِمَاءٍ غَيْرِ مُسْتَعْمَلٍ ، فَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَعْضَاءِ بِمَاءٍ غَيْرِ مُسْتَعْمَلٍ ، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ نَتَوَضَّأَ بِالْمَاءِ الَّذِي يَسْبِقُ إِلَيْهِ الْجُنُبُ ، وَكَانَ ذَلِكَ مَحْمُولًا عَلَى مَا سَبَقَ الْجُنُبُ إِلَى اسْتِعْمَالِهِ ، وَلِأَنَّ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ مُنْعَقِدٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ . وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إِجْمَاعُهُمْ عَلَى مَنْ قَلَّ مَعَهُ الْمَاءُ فِي سَفَرِهِ أَنَّهُ يَسْتَعْمِلُهُ اسْتِعْمَالَ إِرَاقَةٍ وَإِتْلَافٍ وَلَوْ جَازَ اسْتِعْمَالُهُ ثَانِيَةً لَمَنَعُوهُ مِنْ إِرَاقَتِهِ فِي الِاسْتِعْمَالِ وَلَأَلْزَمُوهُ جَمْعَ ذَلِكَ لِطَهَارَةٍ ثَانِيَةٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ وَجَدَ بَعْضَ مَا يَكْفِيهِ في التيمم عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَقْتَصِرُ عَلَى التَّيَمُّمِ وَلَا يَسْتَعْمِلْهُ . وَالثَّانِي : أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ وَيَتَيَمَّمَ لِبَاقِي بَدَنِهِ ، وَلَوْ جَازَ اسْتِعْمَالُ الْمُسْتَعْمَلِ لَاتَّفَقُوا عَلَى وُجُوبِ اسْتِعْمَالِهِ فِي بَعْضِ بَدَنِهِ ثُمَّ أَعَادَ اسْتِعْمَالَهُ فِي بَاقِي بَدَنِهِ فَيَكْمُلُ لَهُ الطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ فَظَهَرَ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنَّ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ مُنْعَقِدٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمُسْتَعْمَلِ ، وَأَمَّا
الدَّلَالَةُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَهُوَ أَنَّ أَعْضَاءَ الْمُحْدِثِ طَاهِرَةٌ غَيْرُ مُطَهِّرَةٍ ، وَالْمَاءُ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ ، فَإِذَا اسْتُعْمِلَ فِي تَطْهِيرِ الْأَعْضَاءِ انْتَقَلَتْ صِفَةُ الْمَنْعِ إِلَى الْأَعْضَاءِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَدَّى عَنْهُ التَّطْهِيرُ زَالَ عَنْهُ التَّطْهِيرُ ، كَمَا لَوْ تَعَدَّتْ عَنْهُ الطَّهَارَةُ جَازَ أَنْ تَزُولَ عَنْهُ الطَّهَارَةُ ، وَلِأَنَّهُ مَاءٌ أَدَّى بِهِ فَرْضَ الطَّهَارَةِ فَلَمْ يَجُزِ اسْتِعْمَالُهُ فِي الطَّهَارَةِ كَالْمَاءِ الْمُزَالِ بِهِ النَّجَاسَةُ ، وَلِأَنَّهُ إِتْلَافُ مَالٍ فِي إِسْقَاطِ فَرْضٍ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَادَ فِي إِسْقَاطِ مِثْلِ ذَلِكَ الْفَرْضِ ، قِيَاسًا عَلَى الْعِتْقِ فِي الْكَفَّارَةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَادَ ثَانِيَةً فِي كَفَّارَةٍ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ [ الْمَائِدَةِ : ] فَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ مُسْتَحَقَّةٌ فِيهِ قَبْلَ وُجُودِ التَّطْهِيرِ ، فَلَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِتَكْرَارِ التَّطْهِيرِ ، بِخِلَافِ الْقَتْلِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَسَلَ لُمْعَةً فِي مَنْكِبِهِ بِمَا عَصَرَهُ مِنْ شَعْرِهِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُسْتَعْمَلَ مَا انْفَصَلَ عَنِ الْعُضْوِ ، وَمَا عَلَيْهِ فَهُوَ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ جَرَى إِلَى عُضْوٍ آخَرَ طَهَّرَهُ فَكَذَا إِذَا جَرَى مِنْ شَعْرِهِ عَلَى مَنْكِبِهِ طَهَّرَهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ غَسْلِهِ ثَانِيَةً وَمَاؤُهُمَا غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ ، وَكَذَا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ الرُّبَيِّعِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ مَسْحِ رَأْسِهِ بِبَلَلِ لِحْيَتِهِ فَهُوَ مَا ذَكَرْنَا ، وَزِيَادَةُ جَوَابٍ ثَالِثٍ وَهُوَ أَنَّ مَا اسْتَرْسَلَ مِنَ اللِّحْيَةِ لَا يَلْزَمُ إِمْرَارُ الْمَاءِ عَلَيْهِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، فَكَانَ مَا حَصَلَ فِي غَسْلِهَا غَيْرَ مُسْتَعْمَلٍ فَجَازَ أَنْ يُسْتَعْمَلَ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى [ الْمُسْتَعْمَلِ فِي تَبَرُّدٍ أَوْ تَنَظُّفٍ فَهُوَ إِنَّ الْمَعْنَى فِيهِ إِنْ لَمْ يَتَعَدَّ عَنِ التَّطْهِيرِ فَلَمْ يَسْلُبْهُ حُكْمَ التَّطْهِيرِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَنِ ] الطَّهَارَةِ فَهُـوَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ تَأْثِيرًا فِي الطَّهَارَةِ جَازَ أَنْ لَا يَزُولَ عَنْهُ صِفَةُ الطَّهَارَةِ وَلَمَّا كَانَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي التَّطْهِيرِ زَالَتْ عَنْهُ صِفَةُ التَّطْهِيرِ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى التُّرَابِ وَالْأَرْضِ فَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ عَلَى وَجْهِ الْإِتْلَافِ ، فَجَازَ أَنْ يُعَادَ ] كَالطَّعَامِ فِي الْكَفَّارَةِ وَالْمَاءِ يُسْتَعْمَلُ عَلَى وَجْهِ الْإِتْلَافِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَادَ ، كَالْعِتْقِ فِي الْكَفَّارَةِ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى مَا انْحَدَرَ مِنْ عُضْوٍ إِلَى عُضْوٍ فَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمُسْتَعْمَلَ مَا انْفَصَلَ مِنَ الْأَعْضَاءِ ، وَلَيْسَ بِمُسْتَعْمَلٍ مَا لَمْ يَنْفَصِلْ عَنْهَا .
فَصْلٌ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى نَجَاسَةِ الْمُسْتَعْمَلِ
فَصْلٌ : مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى نَجَاسَةِ الْمُسْتَعْمَلِ الماء وَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ إِلَى نَجَاسَتِهِ فَاسْتَدَلَّ بِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ مِنْهُ وَلَا يَغْتَسِلْ مِنْهُ مِنْ جَنَابَتِهِ " فَجَمَعَ بَيْنَ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ وَالِاغْتِسَالِ فِيهِ ، ثُمَّ كَانَ الْبَوْلُ سَبَبًا لِتَنَجُّسِهِ فَكَذَا الِاغْتِسَالُ بِهِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّ لِلْمَاءِ صِفَتَيْنِ الطَّهَارَةُ وَالتَّطْهِيرُ ، فَلَمَّا زَالَ بِالِاسْتِعْمَالِ لَهُ فِي التَّطْهِيرِ ، وَجَبَ أَنْ يَزُولَ بِهِ الطَّهَارَةُ ، وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهُ أَحَدُ صِفَتَيِ الْمَاءِ فَوَجَبَ أَنْ يَزُولَ عَنْهُ بِالِاسْتِعْمَالِ كَالتَّطْهِيرِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّهُ مَاءٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي فَرْضِ طَهَارَةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا كَالْمُزَالِ بِهِ النَّجَاسَةَ . وَالدَّلِيلُ عَلَى طَهَارَتِهِ رِوَايَةُ شُعْبَةَ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ : خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهَاجِرَةِ فَدَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ فَجَعَلَ النَّاسُ يَأْخُذُونَ مِنْ فَضْلِ وَضُوئِهِ فَيَتَمَسَّحُونَ بِهِ فَصَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ ، وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ " وَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَنَهَاهُمْ عَنْهُ . وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرًا يَقُولُ : اشْتَكَيْتُ فَأَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ وَهُمَا مَاشِيَانِ وَجَاءَا وَقَدْ أُغْمِيَ عَلَيَّ فَتَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ صَبَّ عَلَيَّ مِنْ وَضُوئِهِ فَأَفَقْتُ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أُوصِي فِي مَالِي ؟ كَيْفَ أَصْنَعُ فِي مَالِي ؟ فَلَمْ يُجِبْنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ الْمَوَارِيثِ " . فَلَوْ كَانَ الْمُسْتَعْمَلُ فِي الطَّهَارَةِ نَجِسًا لَمَا نَجَّسَ بِهِ جَابِرًا ، وَمَا اعْتَمَدَ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ وَأَصْحَابُهُ وَلَا شَكَّ إِلَّا أَنَّهُ قَدْ أَصَابَ ثَوْبَهُ وَثِيَابَهُمْ مِنْ بَلَلِهِ وَلَمْ يُرْوَ عَنْهُ ، وَلَا عَنْ أَحَدِهِمْ أَنَّهُ غَسَلَهُ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ نَجِسًا لَغَسَلَهُ وَأَمَرَهُ بِغَسْلِهِ وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ اغْتَسَلَ حِينَ ذَكَرَ الْجَنَابَةَ فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ عَادَ إِلَى الْمَسْجِدِ وَالْمَاءُ يَقْطُرُ مِنْ جُمَّتِهِ وَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَصَانَ الْمَسْجِدَ عَنْهُ وَلِأَنَّهُ طَاهِرٌ لَاقَاهُ طَاهِرٌ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا ، كَمَا لَوْ جَرَى عَلَى أَعْضَائِهِ تَبَرُّدًا أَوْ تَنَظُّفًا ، وَلِأَنَّ الطَّاهِرَ لَا يَصِيرُ نَجِسًا إِلَّا أَنْ يُلَاقِيَ نَجِسًا أَوْ يَنْتَقِلَ عَنْ صِفَةٍ فَيَصِيرُ نَجِسًا كَالْعَصِيرِ الَّذِي يَصِيرُ خَمْرًا ، وَالْبَيْضِ الَّذِي يَصِيرُ مَذِرَةً ، وَالْحَيَوَانِ يَمُوتُ
فَيَصِيرُ نَجِسًا ، وَالْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ لَمْ يُلَاقِ نَجِسًا وَلَا يَتَغَيَّرُ عَنْ صِفَتِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَصِيرَ نَجِسًا ، فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا جَازَ عِنْدَكُمْ أَنْ يَلْتَقِيَ النَّجِسَانِ فَيَطْهُرَا جَازَ أَنْ يَلْتَقِيَ الطَّاهِرَانِ فَيَنْجُسَا ، قِيلَ : وَلِمَ صَارَا كَذَلِكَ ؟ وَمَا الْعِلَّةُ الْمُوجِبَةُ لِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْتِقَاءُ النَّجِسَيْنِ مُوجِبًا لِلطَّهَارَةِ ، كَانَ الْتِقَاءُ الطَّاهِرَيْنِ أَوْلَى أَنْ يُوجِبَ الطَّهَارَةَ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ : " وَلَا يَغْتَسِلْ فِيهِ مِنْ جَنَابَةٍ " زِيَادَةٌ تَفَرَّدَ بِهَا بَعْضُ الرُّوَاةِ مِنْ طَرِيقٍ ، وَلَيْسَ بِثَابِتٍ ، وَلَوْ صَحَّتْ لَكَانَتْ مَحْمُولَةً عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَوَضَّأُ مِنْهُ ، وَلَا يَغْتَسِلُ مِنْهُ بَعْدَ التَّبَوُّلِ فِيهِ عَلَى أَنَّ الْمَنْعَ مِنْهُ لِأَنَّهُ بِالِاسْتِعْمَالِ قَدْ صَارَ مَسْلُوبَ التَّطْهِيرِ دُونَ الطَّهَارَةِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّهُ لَمَّا سَلَبَهُ الِاسْتِعْمَالُ إِحْدَى صِفَتَيْهِ وَجَبَ أَنْ يَسْلُبَهُ الصِّفَةَ الْأُخْرَى وَهُوَ أَنَّهُ مُنْتَقِضٌ بِالْمَاءِ إِذَا خَالَطَهُ مَائِعٌ ، فَإِنَّهُ يَسْلُبُهُ التَّطْهِيرَ ، وَلَا يَسْلُبُهُ الطَّهَارَةَ ثُمَّ الْمَعْنَى فِي التَّطْهِيرِ أَنَّهُ لَمَّا تَعَدَّ إِلَى غَيْرِهِ جَازَ أَنْ تَزُولَ عَنْهُ الطَّهَارَةُ ، لَمَّا لَمْ يَتَعَدَّ إِلَى غَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَزُولَ عَنْهُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْمُزَالِ بِهِ النَّجَاسَةُ قُلْنَا : فِيهِ كَلَامٌ نَذْكُرُهُ وَعِنْدَنَا عَلَى الظَّاهِرِ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ طَاهِرٌ ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِيهِ لَوْ كَانَ نَجِسًا أَنَّهُ لَاقَى نَجِسًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ ضَابِطُ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ
فَصْلٌ : ضَابِطُ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا فِي حُكْمِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ فَهُوَ مَا انْفَصَلَ عَنِ الْأَعْضَاءِ حَتَّى سَقَطَ فِي الْإِنَاءِ فَأَمَّا إِذَا جَرَى مِنْ عُضْوٍ إِلَى عُضْوٍ فَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا صَارَ بِانْتِقَالِهِ مِنْ أَحَدِ أَعْضَاءِ حَدَثِهِ مُسْتَعْمَلًا فَإِذَا انْتَقَلَ إِلَى عُضْوٍ آخَرَ لَمْ يُطَهِّرْهُ : لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أَعْضَاءِ الْحَدَثِ قَدْ يَنْفَرِدُ بِحُكْمِهِ ، وَإِنْ كَانَ جُنُبًا فَهَلْ يَصِيرُ بِانْتِقَالِهِ عَنِ الْعُضْوِ إِلَى غَيْرِهِ مُسْتَعْمَلًا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ صَارَ مُسْتَعْمَلًا فَلَا يَرْفَعُ جَنَابَةَ الْعُضْوِ الَّذِي انْتَقَلَ إِلَيْهِ كَالْمُحْدِثِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِانْتِقَالِهِ إِلَى الْعُضْوِ الثَّانِي حَتَّى يَنْفَصِلَ عَنْ جَمِيعِ الْجَسَدِ ، لِأَنَّ بَدَنَ الْجُنُبِ كَالْعُضْوِ الْوَاحِدِ مِنْ أَعْضَاءِ الْمُحْدِثِ ، وَلِذَلِكَ سَقَطَ التَّرْتِيبُ فِيهِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الْعُضْوَ الْوَاحِدَ إِذَا انْتَقَلَ الْمَاءُ مِنْ بَعْضِهِ إِلَى بَعْضٍ حَتَّى عَمَّ جَمِيعَهُ لَمْ يَصِرْ مُسْتَعْمَلًا حَتَّى يَنْفَصِلَ عَنْهُ كَذَلِكَ فِي بَدَنِ الْجُنُبِ ، فَلَوْ غَسَلَ الْمُحْدِثُ رَأْسَهُ كَانَ فِيمَا سَقَطَ عَنْ رَأْسِهِ مِنَ الْمَاءِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ : لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ فِي الرَّأْسِ مَسْحُهُ بِالْبَلَلِ الْبَاقِي عَلَيْهِ فَلِمَ يَصِيرُ الْفَاضِلُ مِنْ غَسْلِهِ مُسْتَعْمَلًا فِيهِ ؟ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا : لِأَنَّ الِاكْتِفَاءَ بِبَعْضِ الْمَاءِ إِذَا حَصَلَ مُتَعَدِّيًا بِالِاسْتِعْمَالِ إِلَى مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ لَا يَمْنَعُ مِنْ كَوْنِهِ مُسْتَعْمَلًا أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ كَانَ يَكْفِيهِ مُدٌّ
لِوُضُوئِهِ لَوِ اسْتَعْمَلَ صَاعًا فَصَارَ الصَّاعُ مُسْتَعْمَلًا وَإِنْ كَانَ بِبَعْضِهِ مُكْتَفِيًا كَذَلِكَ فِي غَسْلِ الرَّأْسِ بَدَلًا مِنْ مَسْحِهِ .
فَصْلٌ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ إِذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ
فَصْلٌ : الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ إِذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ فَإِذَا بَلَغَ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ قُلَّتَيْنِ ، فَإِنْ كَانَ قُلَّتَيْنِ وَقْتَ اسْتِعْمَالِهِ كَجُنُبٍ اغْتَسَلَ فِي قُلَّتَيْنِ مِنْ مَاءٍ ، فَالْمَاءُ طَاهِرٌ ، وَخَارِجٌ عَنْ حُكْمِ الْمُسْتَعْمَلِ : لِأَنَّهُ لَيْسَ رَفْعُ الْحَدَثِ بِهِ بِأَغْلَظَ مِنْ وُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ إِذَا كَانَ قُلَّتَيْنِ لَا يُغَيَّرُ حُكْمُهُ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ فَكَذَلِكَ الِاسْتِعْمَالُ ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ وَقْتَ الِاسْتِعْمَالِ أَقَلَّ مِنْ قُلَّتَيْنِ ثُمَّ جُمِعَ بَعْدَ اسْتِعْمَالِهِ قُلَّتَيْنِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ هَلْ يَصِيرُ مُطَهِّرًا أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ أَنَّهُ غَيْرُ مُطَهِّرٍ : لِأَنَّهُ حُكْمٌ ثَبَتَ لِقِلَّتِهِ مَعَ طَهَارَتِهِ ، فَلَمْ يَنْتَفِ عَنْ كَثِيرِهِ كَسَائِرِ الْمَائِعَاتِ الطَّاهِرَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ يَصِيرُ مُطَهِّرًا : لِأَنَّ حُكْمَ النَّجَاسَةِ أَغْلَظُ فِي الِاسْتِعْمَالِ مِنَ الْحَدَثِ ، فَلَمَّا كَانَ جَمْعُ الْقَلِيلِ حَتَّى يَصِيرَ كَثِيرًا يَنْفِي عَنْهُ حُكْمَ النَّجَاسَةِ ، فَأَوْلَى أَنْ يَنْفِيَ عَنْهُ حُكْمَ الِاسْتِعْمَالِ . فَصْلٌ : ثُمَّ إِذَا صَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُزَالَ بِهِ الْأَنْجَاسُ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ : عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تُزَالَ بِهِ النَّجَاسَةُ : لِأَنَّ لِلْمَاءِ حُكْمَيْنِ فِي التَّطْهِيرِ : أَحَدُهُمَا : فِي رَفْعِ الْحَدَثِ . وَالثَّانِي : فِي إِزَالَةِ النَّجَسِ ، فَإِذَا اسْتُعْمِلَ فِي أَحَدِهِمَا وَهُوَ رَفْعُ الْحَدَثِ لَمْ يَسْقُطِ الْحُكْمُ الْآخَرُ فِي إِزَالَةِ النَّجَسِ . قِيلَ لَهُمْ : فَعَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ يَلْزَمُكُمْ أَنْ تَقُولُوا إِذَا اسْتُعْمِلَ فِي إِزَالَةِ النَّجَسِ أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ فَاخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ أَقُولُ بِذَلِكَ ، وَالْتَزَمَ هَذَا السُّؤَالَ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا أَقُولُ بِذَلِكَ : لِأَنَّ إِزَالَةَ النَّجَسِ أَغْلَظُ مِنْ رَفْعِ الْحَدَثِ ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْأَغْلَظُ رَافِعًا لِحُكْمِ الْأَخَفِّ ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْأَخَفُّ رَافِعًا لِحُكْمِ الْأَغْلَظِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي إِزَالَةِ النَّجَسِ : لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ بِالِاسْتِعْمَالِ مَانِعًا مِنْ رَفْعِ الْحَدَثِ صَارَ كَسَائِرِ الْمَائِعَاتِ الَّتِي لَا تُزِيلُ النَّجَسَ ، وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ التَّطْهِيرِ بَعْدَ الِاسْتِعْمَالِ مِنْ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ بَاقِيًا أَوْ مُرْتَفِعًا ، فَإِنْ كَانَ بَاقِيًا صَحَّ فِي الطَّهَارَتَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ مُرْتَفِعًا زَالَ عَنِ الطَّهَارَتَيْنِ .
فَصْلٌ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي إِزَالَةِ النَّجَسِ
فَصْلٌ : الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي إِزَالَةِ النَّجَسِ وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي مِنْ ضُرُوبِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ وَهُوَ مَا كَانَ مُسْتَعْمَلًا فِي إِزَالَةِ نَجَسٍ ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ بَعْدَ انْفِصَالِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَغَيِّرًا بِالنَّجَاسَةِ ، أَوْ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ فَإِنْ كَانَ مُتَغَيِّرًا بِالنَّجَاسَةِ ، فَهُوَ نَجِسٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا يُنَجِّسُهُ إِلَّا مَا غَيَّرَ لَوْنَهُ أَوْ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ " وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ فَلَا يَخْلُو حَالُ النَّجَاسَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَكُونَ بَاقِيَةً فِي مَحَلِّهَا أَوَ زَائِلَةً ، فَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً فَالْمَاءُ الْمُنْفَصِلُ عَنْهَا نَجِسٌ : لِأَنَّهُ مَاءٌ مُنْفَصِلٌ عَنْ مَحَلٍّ نَجِسٍ ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ زَالَتْ عَنْ مَحَلِّهَا بِالْمَاءِ حَتَّى صَارَ الْمَحَلُّ طَاهِرًا فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الْمَاءَ الْمُنْفَصِلَ عَنْهَا طَاهِرٌ غَيْرُ مُطَهِّرٍ كَالْمُسْتَعْمَلِ فِي الْحَدَثِ . وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا : هُوَ نَجِسٌ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ مَاءٌ خَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا ، كَمَا لَوْ وَرَدَتْ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ قَالُوا ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمُسْتَعْمَلُ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ يَسْلُبُهُ مَا خَالَفَهُ فِيهِ مِنَ التَّطْهِيرِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَعْمَلُ فِي إِزَالَةِ النَّجَسِ يَسْلُبُهُ مَا خَالَفَهُ فِيهِ مِنَ الطَّهَارَةِ ، وَالتَّطْهِيرِ وَدَلِيلُنَا عَلَى طَهَارَتِهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ : " صُبُّوا عَلَيْهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ " . فَلَوْ لَمْ يَصِرِ الْمَاءُ بِوُرُودِهِ عَلَى النَّجَاسَةِ طَاهِرًا لَكَانَ أَمْرُهُ بِصَبِّ الْمَاءِ عَلَى بَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ عَبَثًا ، وَلِأَنَّ الْمَاءَ إِذَا وَرَدَ عَلَى التُّرَابِ النَّجِسِ كَانَ طَاهِرًا قَبْلَ انْفِصَالِهِ ، وِفَاقًا فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا بَعْدَ انْفِصَالِهِ حِجَاجًا إِذْ لَيْسَ لَهُ بَعْدَ الِانْفِصَالِ حَالٌ لَمْ تَكُنْ قَبْلَ الِانْفِصَالِ ، وَقَدْ يَتَحَرَّرُ مِنْ هَذَا الِاعْتِدَالِ قِيَاسَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ طَاهِرٌ لَاقَى مَحَلًّا نَجِسًا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا قِيَاسًا عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مُتَّصِلًا . وَالثَّانِي : أَنَّ كُلَّ عَيْنٍ لَا يَنْجَسُ الْمَاءُ بِمُلَاقَاتِهَا لَمْ يَنْجَسْ بِمُفَارَقَتِهَا ، كَالْأَعْيَانِ الطَّاهِرَةِ . فَإِنْ قِيلَ : لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ مَا انْفَصَلَ عَنِ النَّجَاسَةِ إِلَى مَا لَمْ يَنْفَصِلْ عَنْهَا كَمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ مَا انْفَصَلَ عَنِ الْأَعْضَاءِ إِلَى مَا لَمْ يَنْفَصِلْ عَنْهَا وَكَانَ الْفَرْقُ الْمَانِعُ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي رَفْعِ الْحَدَثِ هُوَ الْفَرْقُ الْمَانِعُ بَيْنَهُمَا فِي إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ . فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الِاسْتِعْمَالَ يَكُونُ بِالْفِعْلِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الِانْفِصَالِ ، فَوَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَالَيْنِ ، وَالتَّنْجِيسُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ فَبِالْمُلَاقَاةِ ، وَذَلِكَ قَبْلَ الِانْفِصَالِ فَاسْتَوَى الْحُكْمُ فِي الْحَالَيْنِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ جَمْعِهِمْ بَيْنَ وُرُودِ النَّجَاسَةِ عَلَى الْمَاءِ وَبَيْنَ وُرُودِ الْمَاءِ عَلَى النَّجَاسَةِ فِي تَنْجِيسِهِ فِي الْحَالَيْنِ فَهُوَ أَنَّ الْفَرْقَ وَارِدٌ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : السُّنَّةُ الْوَارِدَةُ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا حَيْثُ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَبِّ الْمَاءِ عَلَى بَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ وَلَوْ صَارَ نَجِسًا لَمْ يَأْمُرْ بِهِ ، وَحَيْثُ نَهَى مَنِ اسْتَيْقَظَ مِنَ النَّوْمِ أَنْ يَغْمِسَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ، وَلَوْ كَانَ الْمَاءُ لَا يَنْجَسُ لَمْ يَنْهَ عَنْهُ ، فَدَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَأَنَّ وُرُودَ الْمَاءِ عَلَى النَّجَاسَةِ ، لَا يُوجِبُ تَنْجِيسَهُ ، لِحَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ ، وَأَنَّ وُرُودَ النَّجَاسَةِ عَلَى الْمَاءِ يُوجِبُ تَنْجِيسَهُ لِحَدِيثِ الْمُسْتَيْقِظِ مِنَ النَّوْمِ . وَالْفَرْقُ الثَّانِي : مِنِ طَرِيقِ الْمَعْنَى : أَنَّ الضَّرُورَةَ دَاعِيَةٌ إِلَى تَطْهِيرِ الْمَاءِ لِوُرُودِهِ عَلَى الْمَاءِ ، لِأَنَّهُ لَوْ صَارَ نَجِسًا لَمَا أَمْكَنَ تَطْهِيرُ نَجَاسَتِهِ عَنِ الْمَحَلِّ لِأَنَّ الْمَاءَ نَجُسَ بِوُرُودِهِ عَلَى ذَلِكَ الْمَحَلِّ فَحُكِمَ بِطَهَارَتِهِ ، وَلَيْسَتِ الضَّرُورَةُ دَاعِيَةً إِلَى تَطْهِيرِ الْمَاءِ بِوُرُودِ النَّجَاسَةِ عَلَيْهِ فَحُكِمَ بِتَنْجِيسِهِ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ النَّجَاسَةَ تَسْلُبُ الْمَاءَ بِمَا خَالَفَهَا مِنَ الطَّهَارَةِ وَالتَّطْهِيرِ ، فَهُوَ أَنَّ التَّطْهِيرَ صِفَةٌ مُتَعَدِّيَةٌ فَجَازَ أَنْ تَزُولَ عَنِ الْمَاءِ ، وَالطَّهَارَةُ صِفَةٌ لَازِمَةٌ فَجَازَ أَنْ لَا تَزُولَ عَنِ الْمَاءِ ، لِأَنَّ الْمُتَعَدِّيَ مُفَارِقٌ وَاللَّازِمَ مُقِيمٌ . فَصْلٌ : فَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ ثَوْبًا نَجِسًا طُرِحَ فِي إِنَاءٍ ثُمَّ صُبَّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَاءِ مَا أَزَالَ أَثَرَ النَّجَاسَةِ عَنْهُ كَانَ الثَّوْبُ وَمَا احْتَمَلَهُ مِنَ الْمَاءِ ، وَمَا فَضَلَ فِي الْإِنَاءِ طَاهِرًا كُلَّهُ ، فَلَوْ عَصَرَ الثَّوْبَ فِي الْإِنَاءِ كَانَ الْمَاءُ الْمُنْفَصِلُ قَبْلَ الْعَصْرِ طَاهِرًا مُسْتَعْمَلًا ، وَلَوِ ابْتَدَأَ بِصَبِّ الْمَاءِ فِي الْإِنَاءِ ، ثُمَّ أَلْقَى الثَّوْبَ النَّجِسَ فِيهِ صَارَ الثَّوْبُ وَالْمَاءُ وَالْإِنَاءُ نَجِسًا كُلُّهُ : لِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ وَرَدَتْ عَلَى مَاءٍ وَفِي الْأَوَّلِ مَاءٌ وَرَدَ عَلَى نَجَاسَةٍ ، فَلَوْ بَسَطَ الثَّوْبَ عَلَى رَأْسِ الْإِنَاءِ ثُمَّ أَرَاقَ الْمَاءَ عَلَيْهِ فَوَقَعَ عَلَى الثَّوْبِ ، ثُمَّ نَزَلَ فِي الْإِنَاءِ الثوب النجس طَهُرَ الْمَاءُ وَالثَّوْبُ إِذَا لَمْ يَبْقَ لِلنَّجَاسَةِ أَثَرٌ .
فَصْلٌ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي أَمْرٍ مُسْتَحَبٍّ
فَصْلٌ : الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي أَمْرٍ مُسْتَحَبٍّ هَلْ يَصِيرُ الْمَاءُ فِيهِ مُسْتَعْمَلً وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ مِنْ ضُرُوبِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ ، وَهُوَ مَا كَانَ مُسْتَعْمَلًا فِي أَمْرِ نَدِبٍ ، كَالْمُسْتَعْمَلِ فِي تَجْدِيدِ الطَّهَارَةِ ، وَغُسْلِ الْعِيدَيْنِ وَالْجُمُعَةِ : لِأَنَّ الْغُسْلَ فِي هَذَا مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَصِيرُ الْمَاءُ فِيهِ مُسْتَعْمَلًا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا : لِأَنَّهُ تَطْهِيرٌ شَرْعِيٌّ فَشَابَهَ رَفْعَ الْحَدَثِ وُضُوءًا وَغُسْلًا ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ طَاهِرٌ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ ، وَأَنَّهُ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ : لِأَنَّهُ لَمْ
يُسْتَعْمَلْ فِي تَطْهِيرٍ فَيَسْلُبُهُ الِاسْتِعْمَالُ حُكْمَ التَّطْهِيرِ فَتَشَابَهَ مَا اسْتُعْمِلَ فِي غَسْلِ ثَوْبٍ أَوْ إِنَاءٍ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ تَوَضَّأَ الْمُحْدِثُ مَرَّةً ثُمَّ جَمَعَ مَاءَ الْمَرَّةِ فِي إِنَاءٍ ، ثُمَّ تَوَضَّأَ ثَانِيَةً وَجَمَعَ مَاءَ الثَّانِيَةِ فِي إِنَاءٍ ، ثُمَّ تَوَضَّأْ ثَالِثَةً وَجَمَعَ مَاءَ الثَّالِثَةِ فِي إِنَاءٍ ، ثُمَّ تَوَضَّأَ رَابِعَةً وَجَمَعَ مَاءَ الرَّابِعَةِ فِي الْإِنَاءِ ، كَانَ مَاءَ الْأُولَى مُسْتَعْمَلًا : لِأَنَّ مَاءَ الْأُولَى مُسْتَعْمَلًا لِارْتِفَاعِ الْحَدَثِ بِهَا ، وَمَاءَ الرَّابِعَةِ مُطَهِّرًا : لِأَنَّ الشَّرْعَ وَارِدٌ بِكَرَاهَتِهَا ، وَفِي مَاءِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ وَجْهَانِ : لِأَنَّ تَكْرَارَ الْوُضُوءِ ثَلَاثًا نَدْبٌ فَلَوْ أَرَاقَ مَاءَ الْأُولَى عَلَى مَاءِ الرَّابِعَةِ ، فَإِنْ كَانَ مَاءُ الْأُولَى أَكْثَرَ صَارَ الْكُلُّ مُسْتَعْمَلًا ، فَإِنْ كَانَ مَاءُ الرَّابِعَةِ أَكْثَرَ صَارَ الْكُلُّ مُطَهِّرًا ، فَأَمَّا النَّجَاسَةُ إِذَا غَسَلَهَا مِرَارًا الماء المستعمل فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ . أَحَدُهَا : أَنْ تَزُولَ النَّجَاسَةُ بِالْمَرَّةِ الْأُولَى فَيَكُونُ مَاءُ الْأُولَى مُسْتَعْمَلًا . وَفِي الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ وَجْهَانِ : لِأَنَّهَا نَدْبٌ وَمَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ مُطَهِّرٌ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ تَزُولَ النَّجَاسَةُ بِمَاءِ الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ فَيَكُونُ مَاءُ الْأُولَى نَجِسًا ، وَمَاءُ الثَّانِيَةِ مُسْتَعْمَلًا ، وَفِي مَاءِ الثَّالِثَةِ وَجْهَانِ ، وَمَا بَعْدَهَا مُطَهِّرٌ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ لَا تَزُولَ النَّجَاسَةُ إِلَّا بِمَاءِ الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ فَيَكُونُ مَاءُ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ نَجِسًا ، وَمَاءُ الثَّالِثَةِ مُسْتَعْمَلًا ، وَمَا بَعْدَهَا مُطَهِّرٌ فَأَمَّا الْجُنُبُ إِذَا اغْتَسَلَ مَرَّةً فِي مَاءٍ قَلِيلٍ ، ثُمَّ اغْتَسَلَ ثَانِيَةً فِي مَاءٍ قَلِيلٍ كَانَ الْمَاءُ الْأَوَّلُ مُسْتَعْمَلًا ، وَالثَّانِي مُطَهِّرًا : لِأَنَّ تَكْرَارَ الثَّلَاثِ مَأْثُورٌ فِي الْوُضُوءِ وَالنَّجَاسَةِ ، وَغَيْرُ مَأْثُورٍ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ الْكَلْبُ إِذَا وَلَغَ فِي إِنَاءٍ
مَسْأَلَةٌ : الْكَلْبُ إِذَا وَلَغَ فِي إِنَاءٍ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي الْإِنَاءِ فَقَدْ نَجِسَ الْمَاءُ وَعَلَيْهِ أَنْ يُهْرِقَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، الْكَلْبُ نَجِسٌ ، فَإِذَا وَلَغَ فِي الْإِنَاءِ صَارَ وَمَا فِيهِ نَجِسًا ، وَقَالَ مَالِكٌ وَدَاوُدُ : الْكَلْبُ طَاهِرٌ فَإِذَا وَلَغَ فِي الْإِنَاءِ كَانَ وَمَا فِيهِ طَاهِرًا ، وَوَجَبَ غَسْلُهُ تَعَبُّدًا ، وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ والْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ الِاصْطِيَادَ بِهِ فَقَالَ : وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ [ الْمَائِدَةِ : ] وَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَأَفْسَدَ مَا صَادَهُ بِفَمِهِ ، وَلَمَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِإِبَاحَتِهِ ، وَبِرِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الْحِيَاضِ الَّتِي بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ ، وَقِيلَ إِنَّ الْكِلَابَ وَالسِّبَاعَ تَلِغُ فِيهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَهَا مَا فِي بُطُونِهَا وَلَنَا مَا بَقِيَ شَرَابٌ وَطَهُورٌ " فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى طَهَارَةِ الْكَلْبِ مِنْ وَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السِّبَاعِ فَلَمَّا كَانَ السَّبُعُ طَاهِرًا كَانَ مَا جُمِعَ إِلَيْهِ فِي الْحُكْمِ طَاهِرًا .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ جَعَلَ مَا بَقِيَ مِنْ شُرْبِهِ طَهُورًا ، وَقَدْ يَكُونُ الْبَاقِي قَلِيلًا ، وَيَكُونُ الْبَاقِي كَثِيرًا ، قَالُوا : وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ يَجُوزُ الِاصْطِيَادُ بِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا كَالْفَهْدِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَوْتُ عَلَمًا عَلَى النَّجَاسَةِ كَانَتِ الْحَيَاةُ عَلَمًا عَلَى الطَّهَارَةِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى نَجَاسَتِهِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " إِنَّ اللَهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْكَلْبَ وَحَرَّمَ ثَمَنَهُ وَحَرَّمَ الْخَمْرَ وَحَرَّمَ ثَمَنَهَا " فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ التَّحْرِيمُ فِي جَمِيعِهِ عَامًّا ، وَرَوَى مُطَرِّفٌ عَنِ ابْنِ الْمُغَفَّلِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ ثُمَّ قَالَ : مَا لَهُمْ وَلَهَا فَرَخَّصَ فِي كَلْبِ الصَّيْدِ وَكَلْبِ الْغَنَمِ فَلَمَّا أَمَرَ بِقَتْلِهَا وَاجْتِنَابِهَا ، وَرَخَّصَ فِي الِانْتِفَاعِ بِبَعْضِهَا كَانَ ذَلِكَ دَالًّا عَلَى نَجَاسَتِهَا . وَرَوَى ابْنُ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " طَهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يُغْسَلَ سَبْعَ مَرَّاتٍ الْأُولَى بِالْتُرَابِ " وَحُدُوثُ الطَّهَارَةِ فِي الشَّيْءِ إِنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ تَقْدِيمِ نَجَاسَةٍ وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى قَوْمٍ فَامْتَنَعَ مِنَ الدُّخُولِ عَلَيْهِمْ ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ : فَقَالَ : لِأَنَّ عِنْدَهُمْ كَلْبًا قِيلَ : فَإِنَّكَ تَدْخُلُ عَلَى فُلَانٍ وَعِنْدَهُمْ هِرٌّ فَقَالَ : إِنَهَا لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ إِنَّهَا مِنَ الطَّوَّافَيْنِ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ " فَكَانَ تَعْلِيلُهُ لِلْهِرِّ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْكَلْبَ نَجِسٌ ، وَيَدُلُّ عَلَى نَجَاسَةِ سُؤْرِهِ الكلب مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى مَعَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَقَدِّمِ أَنَّهُ مَائِعٌ وَرَدَ الشَّرْعُ بِإِرَاقَتِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا كَالْخَمْرِ ، لِأَنَّهُ غَسَلَ بِالْمَائِعَاتِ مَوْضِعَ الْإِصَابَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ غَسْلُ نَجَاسَتِهِ قِيَاسًا عَلَى مَا حَلَّتْهُ نَجَاسَةٌ : لِأَنَّ غُسْلَ التَّعَبُّدِ مُخْتَصٌّ بِالْأَبْدَانِ وَغَسْلَ الْأَوَانِي مُخْتَصٌّ بِالنَّجَاسَةِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلتَّعَبُّدِ لَمَا أُمِرَ بِإِرَاقَةِ الْمَائِعِ مَا فِيهِ مِنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ ، وَقَدْ يَكُونُ مَكَانَ الْمَاءِ مَا هُوَ أَكْثَرُ ثَمَنًا مِنَ الْمَاءِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِإِبَاحَةِ الِاصْطِيَادِ بِهِ فَهُوَ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِيهِ : لِأَنَّ النَّجَسَ قَدْ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِي حَالٍ كَالْمَيْتَةِ ، وَأَمَّا مَوْضِعُ فَمِهِ مِنَ الصَّيْدِ الكلب فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ فَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى نَجَاسَتِهِ وَتَفَرَّدَ بَعْضُهُمْ بِطَهَارَتِهِ : لِأَنَّ الْآيَةَ وَرَدَتْ بِالْإِبَاحَةِ ، فَلَوْ حُكِمَ بِتَنْجِيسِ مَا أَصَابَهُ بِفَمِهِ لَخَرَجَتْ عَنِ الْإِبَاحَةِ إِلَى الْحَظْرِ : لِأَنَّ لُعَابَهُ يَسْرِي فِيمَا عَضَّهُ مِنَ الصَّيْدِ ، فَلَا يُمْكِنُ غَسْلُهُ فَصَارَ مَعْفُوًّا عَنْهُ ، وَلَيْسَ يَنْكَرُ أَنْ يُعْفَى عَنْ شَيْءٍ مِنَ النَّجَاسَةِ لِلُحُوقِ الْمَشَقَّةِ فِي إِزَالَتِهِ كَدَمِ الْبَرَاغِيثِ وَأَثَرِ الِاسْتِنْجَاءِ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ فَهُوَ أَنَّ الْحِيَاضَ كَثِيرَةُ الْمَاءِ فِي الْغَالِبِ وَتَنْجِيسُهَا بِالْوُلُوغِ لَا يَحْصُلُ ، ثُمَّ الْوُلُوغُ فِيهَا ، وَلَوْ كَانَتْ قَلِيلَةَ الْمِيَاهِ شَكٌّ ، وَالشَّكُّ لَا يُوجِبُ التَّنْجِيسَ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْفَهْدِ وَالنَّمِرِ ، فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ غَسْلُ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِهِ ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ الْحَيَاةَ عِلَّةُ الطَّهَارَةِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ : لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ الْأَمْوَاتِ طَاهِرًا جَازَ أَنْ يَكُونَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَاءِ نَجِسًا .
فَصْلٌ هَلْ نَجَاسَةُ الْكَلْبِ نَجَاسَةُ عَيْنٍ أَمْ حُكْمٍ
فَصْلٌ : هَلْ نَجَاسَةُ الْكَلْبِ نَجَاسَةُ عَيْنٍ أَمْ حُكْمٍ ؟ فَإِذَا ثَبَتَ نَجَاسَةُ الْكَلْبِ ، وَوُلُوغُهُ فَنَجَاسَتُهُ نَجَاسَةُ عَيْنٍ لَا نَجَاسَةُ حُكْمٍ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ نَجَاسَتُهُ نَجَاسَةُ حُكْمٍ ، وَلَيْسَتْ عَيْنُهُ نَجِسَةٌ ، وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ نَجَاسَةَ الْحُكْمِ هِيَ الَّتِي تُحَالُ
بِتَنْجِيسِ الْمَحَلِّ عَلَى مَا طَرَأَ عَلَيْهِ مِنْ نَجَسٍ ، وَقَدْ تَزُولُ عَنِ الْمَحَلِّ بَعْدَ أَنْ نَجُسَ ، وَنَجَاسَةُ الْكَلْبِ لَيْسَتْ لِطُرُوِّ نَجَاسَةٍ وَلَا تَزُولُ عَنْهُ بِغَسْلِ النَّجَاسَةِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ عَيْنَهُ نَجِسَةٌ ، فَإِذَا تَقَرَّرَ نَجَاسَةُ عَيْنِهِ وَنَجَاسَةُ وُلُوغِهِ ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُهْرِيقَهُ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ إِرَاقَتُهُ وَاجِبَةٌ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ مُحَرَّمٌ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى التَّمَسُّكِ بِظَاهِرِ هَذَا الْكَلَامِ وَأَوْجَبَ إِرَاقَتَهُ وَحَرَّمَ الِانْتِفَاعَ بِهِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَأَرِيقُوهُ " وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الِانْتِفَاعُ بِأَجْزَاءِ الْكَلْبِ كُلِّهَا مُحَرَّمًا كَانَ الِانْتِفَاعُ بِمَا تَعَدَّتْ إِلَيْهِ نَجَاسَةٌ مُحَرَّمًا ، وَقَالَ جُمْهُورُهُمْ إِنَّ إِرَاقَتَهُ لَا تَجِبُ ، وَإِنَّمَا تُسْتَحَبُّ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ وَجْهٍ مَخْصُوصٍ لَا يَحْرُمُ ، لِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ طَرَأَتْ عَلَى عَيْنٍ طَاهِرَةٍ ، فَلَمْ تَكُنِ الْمَنْفَعَةُ بِهَا مُحَرَّمَةٌ كَالْمَيْتَةِ ، وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ فَأَرِيقُوهُ لِيُتَوَصَّلَ بِالْإِرَاقَةِ إِلَى غَسْلِهِ لَا لِوُجُوبِ اسْتِهْلَاكِهِ وَهَذَا أَصَحُّ .
مَسْأَلَةٌ كَيْفِيَّةُ غَسْلِ الْإِنَاءِ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ
مَسْأَلَةٌ : كَيْفِيَّةُ غَسْلِ الْإِنَاءِ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيَغْسِلُ مِنْهُ الْإِنَاءَ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُولَاهُنَّ بَتُرَابٍ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا نُجِّسَ الْإِنَاءُ بِوُلُوغِ الْكَلْبِ وَجَبَ غَسْلُهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ فِيهِنَّ مَرَّةٌ بِالتُّرَابِ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَدَاوُدُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَغْسِلُ ثَلَاثًا بِغَيْرِ تُرَابٍ كَسَائِرِ الْأَنْجَاسِ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ الضَّحَّاكِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الْكَلْبِ يَلِغُ فِي الْإِنَاءِ يُغْسَلُ ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا . قَالَ : فَلَوْ كَانَ السَّبْعُ وَاجِبًا لَمْ يُخَيَّرْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّلَاثِ ، وَرَوَى عَبْدُ الْمَلِكِ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ : إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءٍ فَأَهْرِقْهُ ثُمَّ اغْسِلْهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، قَالَ : وَلِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ يَجِبُ إِزَالَتُهَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعَدَدُ غَيْرَ مُسْتَحَقٍّ فِيهَا كَسَائِرِ الْأَنْجَاسِ ، قَالَ : وَلِأَنَّ كُلَّ عَدَدٍ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مُدْخَلًا فِي إِزَالَةِ النَّجَسِ قِيَاسًا عَلَى مَا زَادَ عَلَى السَّبْعِ ، قَالَ : وَلَوْ كَانَ غَسْلُهُ سَبْعًا وَاجِبًا لَمَا صَارَ الْإِنَاءُ بِإِلْقَائِهِ فِي النَّهْرِ طَاهِرًا ، وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يُطَهِّرُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ السَّبْعَ لَا تَجِبُ .
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي تَمِيمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُولَاهُنَّ أَوْ آخِرُهُنَّ بِالْتُرَابِ " . وَرَوَى مُطَرِّفٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي الْإِنَاءِ فَاغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ وَعَفِّرُوا الثِّامِنَةَ بِالْتُرَابِ " . وَرَوَى هُبَيْرَةُ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ إِحْدَاهُنَّ بِالْبَطْحَاءِ " . وَكُلُّ هَذِهِ نُصُوصٌ فَدَلَّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ فَإِنْ قَالُوا يُحْمَلُ أَمْرُهُ بِالسَّبْعِ عَلَى مَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ ، أَنَّ نَجَاسَةَ الْوُلُوغِ لَا تَزُولُ بِأَقَلَّ مِنْ سَبْعٍ ولوغ الكلب فَعَنْهُ جَوَابَانِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّ نَجَاسَةَ الْوُلُوغِ لَيْسَتْ عَيْنًا مُؤَثِّرَةً فَيُرْجَعُ فِي زَوَالِهَا إِلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ فِيهَا . وَالثَّانِي : أَنَّ مَا كَانَ مُعْتَبَرًا بِغَلَبَةِ الظَّنِّ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَحْدُودًا بِالشَّرْعِ فَالشَّرْعُ كَالتَّقْوِيمِ فِي الْمُتْلَفَاتِ فَإِنْ قَالُوا : فَيُحْمَلُ السَّبْعُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ ، وَالثَّلَاثُ عَلَى الْإِيجَابِ ، لِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ - وَهُوَ رَاوِي الْحَدِيثِ - قَدْ أَفْتَى بِالثَّلَاثِ ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُفْتِيَ بِخِلَافِ مَا رَوَى إِلَّا وَقَدْ عَقَلَ مَعْنَى الرِّوَايَةِ وَصَرَفَهَا عَنِ الْإِيجَابِ إِلَى الِاسْتِحْبَابِ ، كَمَا حَمَلْتُمْ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ عَلَى تَفْرِيقِ الْأَبْدَانِ : لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ فَسَّرَهُ بِذَلِكَ . قُلْنَا : تَفْسِيرُ الرَّاوِي مَقْبُولٌ فِي أَحَدِ مُحْتَمِلَيِ الْخَبَرِ كَمَا يُقْبَلُ تَفْسِيرُ الرَّاوِي مِنَ الصَّحَابَةِ ، فَأَمَّا أَنْ يُقْبَلَ فِي نَسْخٍ أَوْ تَخْصِيصٍ فَلَا ، كَمَا لَمْ
يُقْبَلْ تَخْصِيصُ ابْنِ عَبَّاسٍ لِقَوْلِهِ : " مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ " فِي إِخْرَاجِ النِّسَاءِ مِنَ الْجُمْلَةِ ، وَحَدِيثُ الْوُلُوغِ مُفَسَّرٌ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى تَفْسِيرِ رَاوٍ وَلَا غَيْرِهِ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ ، وَأَمَّا الْمَعْنَى : وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْقِيَاسُ فِيهَا قَوِيًّا فَهُوَ أَنَّهُ تَطْهِيرٌ شَرْعِيٌّ فِي شَيْءٍ غَيْرِ مَرْئِيٍّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعَدَدُ فِيهِ مُعْتَبَرًا كَالْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ فِي الطَّهَارَةِ ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ الطَّهَارَةِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْعَدَدُ مُعْتَبَرًا فِيهِ الْحَدَثُ ، وَلِأَنَّ كُلَّ عَدَدٍ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ فِي الْوُلُوغِ كَانَ مُسْتَحِقًّا كَالثَّلَاثِ ، وَلَا مَا اخْتَصَّ بِالْفَمِ مِنَ الْأَنْجَاسِ كَانَ مُغَلَّظًا مِنْ بَيْنِ سَائِرِ النَّجَاسَاتِ كَالْخَمْرِ فِي اخْتِصَاصِ شُرْبِهِ يُوجِبُ الْحَدَّ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : " يَغْسِلُ ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا فَهُوَ أَنَّهُ ضَعِيفُ الْإِسْنَادِ : لِأَنَّ عَبْدَ الْوَهَّابِ بْنَ الضَّحَّاكِ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ وَإِسْمَاعِيلَ بْنَ عَيَّاشٍ فَقَدْ رَوَى بِهَذَا الْإِسْنَادِ أَنَّهُ قَالَ : فَاغْسِلُوهُ سَبْعًا عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ : لِأَنَّ الْأَمْرَ فِيهِ بِالسَّبْعِ كَالْأَمْرِ بِالثَّلَاثِ فَلَمْ يَكُنْ حَمْلُ الثَّلَاثِ عَلَى الْإِيجَابِ دُونَ السَّبْعِ بِأُولَى مِنْ حَمْلِ السَّبْعِ عَلَى الْإِيجَابِ دُونَ الثَّلَاثِ : لِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ كَقَوْلِهِ : عَلَيَّ دِرْهَمٌ بَلْ ثَلَاثَةٌ ، وَتَكُونُ أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ مَعْنَاهُ وَيَزِيدُونَ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ فُتْيَا أَبِي هُرَيْرَةَ بِالثَّلَاثِ فَهُوَ أَنَّهَا مَتْرُوكَةٌ بِرِوَايَتِهِ : لِأَنَّ فُتْيَاهُ إِذَا تَعَذَّرَتْ فَلَيْسَتْ بِحُجَّةٍ ، وَرِوَايَتُهُ إِذَا انْفَرَدَتْ حُجَّةٌ ، أَوْ تَكُونُ مَحْمُولَةً عَلَى إِنَاءٍ غُسِلَ أَرْبَعًا ، وَبَقِيَ مِنَ السَّبْعِ ثَلَاثٌ فَأَفْتَى بِالثَّلَاثِ اسْتِكْمَالًا لِلسَّبْعِ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى سَائِرِ الْأَنْجَاسِ فَهُوَ قِيَاسٌ يَرْفَعُ النَّصَّ ، فَكَانَ مَرْدُودًا ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْوُلُوغِ أَنَّهُ غِلَظٌ مِنْ بَيْنِ جِنْسِهِ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى مَا زَادَ عَلَى السَّبْعِ ، فَهُوَ قِيَاسٌ يَدْفَعُهُ النَّصُّ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْحَالَيْنِ ثُمَّ الْأَنْجَاسُ أَغْلَظُ مِنَ الْأَحْدَاثِ لِمَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ مِنْ ذِكْرِ الْعَدَدِ فِيهَا ، ثُمَّ هُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي الْعَدَدِ الَّذِي اعْتَبَرُوهُ مِنَ الثَّلَاثِ ، فَبَعْضُ أَصْحَابِهِمْ يَجْعَلُ الثَّلَاثَ اسْتِحْبَابًا ، وَبَعْضُهُمْ يَجْعَلُهَا وَاجِبًا ، فَكَذَلِكَ جَعَلْنَا الْعَدَدَ تَارَةً أَصْلًا عَلَى قَوْلِ مَنْ أَوْجَبَهُ ، وَتَارَةً فَرْعاً عَلَى قَوْلِ مَنِ اسْتَحَبَّهُ ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِإِلْقَاءِ الْإِنَاءِ فِي نَهْرٍ [ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي نَجَاسَةِ الْإِنَاءِ إِذَا أُلْقِيَ فِي نَهْرٍ ] أَوْ بَحْرٍ الذي ولغ فيه الكلب عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ لَا يُطَهِّرُ ، وَيَقُومُ ذَلِكَ مَقَامَ غَسْلِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً ، فَلَزِمَ غَسْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ سِتَّ مَرَّاتٍ مِنْهُنَّ وَاحِدَةٌ بِالتُّرَابِ ، فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ الِاسْتِدْلَالُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيَّ أَنَّهُ يُطَهِّرُ وَيَصِيرُ كَأَنَّ الْكَلْبَ وَلَغَ فِيهِ وَهُوَ كَثِيرُ الْمَاءِ لَا يَنْجَسُ بِالْوُلُوغِ ، لِأَنَّ الْعَدَدَ وَالتُّرَابَ مُعْتَبَرٌ فِي الْمَاءِ الَّذِي يُلْقَى فِيهِ وَيَخْرُجُ مِنْهُ ، فَإِذَا عَدَلَ إِلَى غَيْرِهِ صَارَ بِمَثَابَةِ الْعَادِلِ عَنِ الْوُضُوءِ إِلَى الْغُسْلِ فِي سُقُوطِ التَّرْتِيبِ عَنْهُ .
فَصْلٌ مَوْضِعُ اسْتِحْقَاقِ التُّرَابِ مِنْ غَسَلَاتِ الْإِنَاءِ
فَصْلٌ : مَوْضِعُ اسْتِحْقَاقِ التُّرَابِ مِنْ غَسَلَاتِ الْإِنَاءِ الذي ولغ فيه الكلب فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ غَسْلِهِ سَبْعًا فَالتُّرَابُ لَهَا مُسْتَحَقٌّ فِي وَاحِدَةٍ مِنْ جُمْلَتِهَا وَلَا يَلْزَمُ إِفْرَادُهُ عَنْهَا وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : يَجِبُ إِفْرَادُ التُّرَابِ عَنِ السَّبْعِ بِثَامِنَةٍ لِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " وَعَفِّرُوا الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ " . وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عَلِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ إِحْدَاهُنَّ بِالْبَطْحَاءِ " ، وَرِوَايَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ : " فَاغْسِلُوهُ سَبْعًا أُولَاهُنَّ أَوْ أُخْرَاهُنَّ بِالتُّرَابِ " . فَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ هُوَ حَدِيثٌ لَمْ يَقِفْ عَلَى صِحَّتِهِ ، ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ جَعَلَهَا ثَامِنَةً : لِأَنَّ التُّرَابَ جِنْسٌ بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ فَجُعِلَ اجْتِمَاعُهُمَا فِي الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ مَعْدُودَةً بِاثْنَيْنِ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى مَنْ نَسِيَ اسْتِعْمَالَ التُّرَابِ فِي السَّبْعِ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يُعَفِّرَهُ فِي ثَامِنِهِ ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ التُّرَابَ فِي وَاحِدَةٍ مِنْ جُمْلَةِ السَّبْعِ ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ ، أَوْ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْأَعْدَادِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا نَصَّ عَلَى الطَّرَفَيْنِ كَانَ حُكْمُ الْوَسَطِ مُلْحَقًا بِأَحَدِهِمَا ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي قَدْرِ مَا يَلْزَمُهُ اسْتِعْمَالُهُ مِنَ التُّرَابِ في غسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ مِنْهُ مَا يَنْطَلِقُ اسْمُ التُّرَابِ عَلَيْهِ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ لِوُرُودِ الْخَبَرِ بِإِطْلَاقِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ مِنْهُ مَا يَسْتَوْعَبُ لِمَحَلِّ الْوُلُوغِ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مَوْضِعٌ مِنْهُ بِاسْتِعْمَالِ التُّرَابِ فِيهِ بِأَخَصَّ مِنْ مَوْضِعٍ فَلَزِمَ اسْتِيعَابُ جَمِيعِهِ .
فَصْلٌ الْمَاءُ الْمُتَبَقِّي مِنْ غَسَلَاتِ إِنَاءِ وُلُوغِ الْكَلْبِ
فَصْلٌ : الْمَاءُ الْمُتَبَقِّي مِنْ غَسَلَاتِ إِنَاءِ وُلُوغِ الْكَلْبِ فَأَمَّا الْمُنْفَصِلُ مِنَ الْمَاءِ فِي الْغَسَلَاتِ السَّبْعِ إِذَا أُفْرِدَتْ كُلُّ غَسْلَةٍ مِنْهُنَّ وَمُيِّزَتْ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُنَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيِّ أَنَّ جَمِيعَهُ نَجِسٌ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ مَا أَزَالَ النَّجَاسَةَ نَجِسٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي الْقَاسِمِ الدَّارَكِيِّ وَطَائِفَةٍ أَنَّ جَمِيعَهُ طَاهِرٌ : لِأَنَّهُ مَاءٌ مُسْتَعْمَلٌ ، وَلِكُلِّ غَسْلٍ حَظٌّ مِنْ تَطْهِيرِ الْإِنَاءِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا أَنَّ مَاءَ الْغَسْلَةِ السَّابِعَةِ طَاهِرٌ : لِأَنَّ بِهَا طُهْرَ الْإِنَاءِ ، وَمَا قَبْلَ السَّابِعَةِ ، مِنَ الْأُولَى إِلَى السَّادِسَةِ نَجِسٌ لِانْفِصَالِهِ
عَنِ الْمَحَلِّ مَعَ بَقَاءِ نَجَاسَتِهِ ، فَإِذَا قِيلَ بِنَجَاسَةِ ذَلِكَ وَجَبَ غَسْلُ مَا أَصَابَهُ ذَلِكَ الْمَاءُ مِنْ بَدَنٍ أَوْ ثَوْبٍ وَفِي قَدْرِ غَسْلِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَغْسِلُهُ مَرَّةً وَاحِدَةً : لِأَنَّهُ مَاءٌ نَجِسٌ ، وَلِأَنَّهُ أَيْسَرُ مِنْ سَائِرِ الْأَنْجَاسِ لِتَأْثِيرِهِ فِي تَطْهِيرِ غَيْرِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَغْسِلَ بِعَدَدِ مَا بَقِيَ إِلَى السَّبْعِ مِنَ الْغَسْلَةِ الَّتِي أَصَابَتْهُ ، فَإِنْ كَانَ مِنَ الْغَسْلَةِ الْأُولَى وَجَبَ أَنْ يَغْسِلَهُ سِتًّا : لِأَنَّ سُبْعَ الْوُلُوغِ قَدْ يُسْقَطُ بِالْغَسْلَةِ الْأُولَى وَهِيَ سِتَّةُ أَسْبَاعِهِ ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْغَسْلَةِ الثَّانِيَةِ ، وَجَبَ أَنْ يَغْسِلَهُ خَمْسًا وَإِنْ كَانَ مِنَ الثَّالِثَةِ غَسَلَهُ أَرْبَعًا وَإِنْ كَانَ مِنَ الرَّابِعَةِ غَسَلَهُ ثَلَاثًا ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْخَامِسَةِ غَسَلَهُ مَرَّتَيْنِ وَإِنْ كَانَ مِنَ السَّادِسَةِ غَسَلَهُ مَرَّةً ، وَلِأَنَّ الْبَاقِيَ سُبْعُ الْوُلُوغِ ، وَإِنْ كَانَ مِنَ السَّابِعَةِ غَسَلَهُ مَرَّةً وَيَكُونُ حُكْمُ الْوُلُوغِ سَاقِطًا ، وَحُكْمُ النَّجَاسَةِ بَاقِيًا ، هَذَا إِذَا قِيلَ إِنَّ الْمُنْفَصِلَ نَجِسٌ ، فَأَمَّا إِذَا قِيلَ إِنَّ الْمُنْفَصِلَ عَنِ الْإِنَاءِ طَاهِرٌ ، فَفِي وُجُوبِ غَسْلِ مَا أَصَابَ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجِبُ : لِأَنَّ غَسْلَ الظَّاهِرِ لَا يَلْزَمُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجِبُ غَسْلُهُ لِمَا تَعَلَّقَ عَلَيْهِ مِنْ غَسْلِ الْوُلُوغِ الْمُسْتَحَقِّ الْغَسْلَ فَعَلَى هَذَا فِي قَدْرِ غَسْلِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا وَالثَّانِي : بِعَدَدِ مَا بَقِيَ إِلَى السَّبْعِ مِنَ الْغَسْلَةِ الَّتِي أَصَابَتْ عَلَى مَا وَصَفْنَاهُ .
فَصْلٌ إِذَا وَلَغَ كَلْبٌ عِدَّةَ مَرَّاتٍ فَكَمْ يَغْسِلُ الْإِنَاءُ
فَصْلٌ : إِذَا وَلَغَ كَلْبٌ عِدَّةَ مَرَّاتٍ فَكَمْ يَغْسِلُ الْإِنَاءُ ؟ فَأَمَّا الْإِنَاءُ الْمَوْلُوغُ فِيهِ مِرَارًا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي قَدْرِ مَا يَجِبُ أَنْ يَغْسِلَهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ أَنَّهُ يَغْسِلُ لِكُلِّ وُلُوغٍ سَبْعًا سَوَاءٌ كَانَ كَلْبًا أَوْ كِلَابًا وَتَنْفَرِدُ كُلُّ مَرَّةٍ بِحُكْمِهَا لِاسْتِحْقَاقِ السَّبْعِ بِهَا ، فَإِنْ وَلَغَ مَرَّتَيْنِ غَسَلَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَرَّةً ، وَإِنْ وَلَغَ عَشْرًا غَسَلَ سَبْعِينَ مَرَّةً . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَغْسِلُ مِنْ جَمِيعِ وُلُوغِهِ سَبْعًا ، سَوَاءٌ وَلَغَ فِيهِ كَلْبٌ أَوْ كِلَابٌ حَتَّى لَوْ وَلَغَ فِيهِ مِائَةُ كَلْبٍ لَاكْتَفَى فِيهِ بِسَبْعٍ : لِأَنَّ الْأَحْدَاثَ لَمَّا تَدَاخَلَ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ كَانَ تَدَاخُلُ الْوُلُوغِ اعْتِبَارًا بِهِ ، وَسَائِرُ الْأَنْجَاسِ أَوْلَى بِالتَّدَاخُلِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ تَكْرَارُ الْوُلُوغِ مِنْ كَلْبٍ وَاحِدٍ
اكْتَفَى فِيهِ بِسَبْعٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ كِلَابٍ وَجَبَ أَنْ يُفْرِدَ وُلُوغَ كُلِّ كَلْبٍ بِسَبْعٍ وَلَا أَعْرِفُ بَيْنَهُمَا فَرْقًا ، وَالْأَصَحُّ هُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِنْ كَانَ فِي بَحْرٍ لَا يَجِدُ فِيهِ تَرَابًا فَغَسَلَهُ بِمَا يَقُومُ مَقَامَ الْتُرَابِ فِي الْتَنْظِيفِ مِنْ أُشْنَانٍ أَوْ نَخَالَةٍ أَوْ مَا أَشْبَهَهُ الإناء الذي ولغ فيه الكلب فَفِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ لَا يَطْهُرَ إِلَّا بِأَنْ يَمَاسَّهُ التُّرَابُ وَالْآخَرُ يَطْهُرُ بِمَا يَكُونُ خَلْفًا مِنْ تُرَابٍ أَوْ أَنْظَفَ مِنْهُ كَمَا وَصَفْتُ كَمَا نَقُولُ فِي الِاسْتِنْجَاءِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) قُلْتُ أَنَا هَذَا أَشْبَهُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْخَزَفَ فِي الِاسْتِنْجَاءِ كَالْحِجَارَةِ لِأَنَهَا تُنَقِّي إِنْقَاءَهَا فَكَذَلِكَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَجْعَلَ الْأُشْنَانَ كَالْتُرَابِ لِأَنَّهُ يُنَقِّي إِنْقَاءَهُ أَوْ أَكْثَرَ وَكَمَا جَعَلَ مَا عُمِلَ عَمَلَ الْقَرَظِ وَالشَّثِّ فِي الِإهَابِ فِي مَعْنَى الْقَرَظِ وَالْشَّثِّ فَكَذَلِكَ الْأُشْنَانُ فِي تَطْهِيرِ الْإِنَاءِ فِي مَعْنَى التُّرَابِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) الشَّثُّ شَجَرَةٌ تَكُونُ بِالْحِجَازِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ اسْتِعْمَالَ التُّرَابِ فِي الْوُلُوغِ مُسْتَحَقٌّ ، فَأَمَّا غَيْرُ التُّرَابِ مِنَ الْمَذْرُورَاتِ إِذَا اسْتُعْمِلَ بَدَلَ التُّرَابِ فَضَرْبَانِ : ضَرْبٌ لَا يَقُومُ مَقَامَ التُّرَابِ لِنُعُومَتِهِ وَلُزُوجَتِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ بَدَلًا مِنَ التُّرَابِ ، وَضَرْبٌ : يَقُومُ مَقَامَ التُّرَابِ لِخُشُونَتِهِ وَإِزَالَتِهِ كَالْأُشْنَانِ وَمَسْحُوقِ الْآجُرِّ وَالْخَزَفِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا : إِنَّهُ فِي اسْتِعْمَالِهِ عِنْدَ عَدَمِ التُّرَابِ قَوْلَيْنِ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى ثَلَاثِ طُرُقٍ : أَحَدُهَا : وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ مَعَ وُجُودِ التُّرَابِ فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ مَعَ عَدَمِ التُّرَابِ قَوْلَانِ وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ . وَالثَّانِي : وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ وُجُودِ التُّرَابِ وَعَدَمِهِ فِي أَنَّ غَيْرَهُ هَلْ يَقُومُ مَقَامَهُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ عِنْدَ عَدَمِ التُّرَابِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَذْكُرَ الْقَوْلَيْنِ مَعَ وُجُودِهِ فَيَتَوَهَّمُ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ اسْتِعْمَالَهُ مَعَ وُجُودِ التُّرَابِ لَا يَجُوزُ قَوْلًا وَاحِدًا . وَالثَّالِثُ : وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي الطِّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَّ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : أَنَّ غَيْرَ التُّرَابِ لَا يَقُومُ مَقَامَ التُّرَابِ لَا مَعَ وُجُودِهِ وَلَا مَعَ عَدَمِهِ وَوَجْهُهُ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَدْ نَصَّ فِي الْوُلُوغِ عَلَى الْمَاءِ وَالتُّرَابِ فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ غَيْرُ الْمَاءِ مَقَامَ الْمَاءِ لَمْ يُقَمْ غَيْرُ التُّرَابِ مَقَامَ التُّرَابِ . وَالثَّانِي : أَنَّ النَّصَّ عَلَى التُّرَابِ فِي الْوُلُوغِ كَالنَّصِّ عَلَى التُّرَابِ فِي التَّيَمُّمِ فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ غَيْرُ التُّرَابِ مَقَامَ التُّرَابِ فِي التَّيَمُّمِ لَمْ يَقُمْ غَيْرُ التُّرَابِ مَقَامَ التُّرَابِ فِي الْوُلُوغِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ غَيْرَ التُّرَابِ يَقُومُ مَقَامَ التُّرَابِ مَعَ وُجُودِهِ وَعَدِمِهِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ ، وَوَجْهُهُ شَيْئَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَا نَصَّ عَلَيْهِ مِنَ الْجَامِدَاتِ فِي إِزَالَةِ الْأَنْجَاسِ ، فَغَيْرُهُ مِنَ الْجَامِدَاتِ إِذَا سَاوَاهُ فِي عَمَلِهِ سَاوَاهُ فِي حُكْمِهِ قِيَاسًا عَلَى مَا قَامَ مَقَامَ الْأَحْجَارِ فِي الِاسْتِنْجَاءِ وَمَا قَامَ مَقَامَ الشَّثِّ وَالْقَرَظِ فِي الدِّبَاغِ . وَالثَّانِي : أَنَّ التُّرَابَ فِي الْوُلُوغِ مَأْمُورٌ بِهِ عَلَى طَرِيقِ الْمُعَاوَنَةِ فِي الْإِنْقَاءِ وَإِنَّمَا الْمَنْصُوصُ وَهُوَ الْمَاءُ فَمَا كَانَ أَبْلَغُ مِنَ التُّرَابِ فِي الْإِنْقَاءِ كَانَ أَحَقَّ فِي الِاسْتِعْمَالِ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّ غَيْرَ التُّرَابِ يَقُومُ مَقَامَ التُّرَابِ عِنْدَ عَدَمِهِ ، وَلَا يَقُومُ مَقَامَهُ عِنْدَ وُجُودِهِ : لِأَنَّ الضَّرُورَةَ عِنْدَ الْعَدَمِ دَاعِيَةٌ إِلَيْهِ ، وَعِنْدَ وُجُودِهِ مُرْتَفِعَةٌ عَنْهُ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ هَلْ تَقُومُ الْمَذْرُورَاتُ مَقَامَ التُّرَابِ
فَصْلٌ : هَلْ تَقُومُ الْمَذْرُورَاتُ مَقَامَ التُّرَابِ ؟ فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حُكْمِ الْمَذْرُورَاتِ فِي الْوُلُوغِ بَدَلًا مِنَ التُّرَابِ . فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ سَائِرَ الْمَذْرُورَاتِ لَا تَقُومُ مَقَامَ التُّرَابِ فَالْمَاءُ أَوْلَى أَنْ لَا يَقُومَ مَقَامَهُ . وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ الْمَذْرُورَاتِ تَقُومُ مَقَامَ التُّرَابِ فِي الْوُلُوغِ فَاسْتَبْدَلَ مِنَ الْمَذْرُورِ فِي غَسْلَةٍ ثَامِنَةٍ لِيَقُومَ مَقَامَ التُّرَابِ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْمَاءَ يَقُومُ فِي الثَّالِثَةِ مَقَامَ التُّرَابِ الْمَذْرُورِ ، لِأَنَّ الْمَاءَ أَبْلَغُ فِي التَّطْهِيرِ . وَالثَّانِي : لَا يَقُومُ مَقَامَهُ بِحَالٍ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَقُمْ مَقَامَ الْمَائِعِ غَيْرُهُ لَمْ يَقُمْ مَقَامَ الْجَامِدِ غَيْرُهُ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ إِنْ كَانَ التُّرَابُ مَوْجُودًا لَمْ يَقُمِ الْمَاءُ مَقَامَهُ وَإِنْ كَانَ التُّرَابُ مَعْدُومًا قَامَ الْمَاءُ مَقَامَهُ ، وَالْأَصَحُّ مَا قَالَهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ أَنَّ الْمَاءَ لَا يَقُومُ مَقَامَ التُّرَابِ ، وَلَا يُقَامُ غَيْرُهُ مِنَ الْمَذْرُورَاتِ مَقَامَهُ .
مَسْأَلَةٌ غَسْلُ الْإِنَاءِ مِنْ نَجَاسَةِ مَا سِوَى الْكَلْبِ
مَسْأَلَةٌ : غَسْلُ الْإِنَاءِ مِنْ نَجَاسَةِ مَا سِوَى الْكَلْبِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَهُ عَنْهُ : " وَيَغْسِلُ الْإِنَاءَ مِنَ الْنَجَاسَةِ سِوَى ذَلِكَ ثَلَاثًا أَحَبُّ إِلَيَّ ، فَإِنْ غَسَلَهُ وَاحِدَةً تَأَتَّى عَلَيْهِ طُهْرًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ مَا سِوَى وُلُوغِ الْكَلْبِ مِنْ سَائِرِ النَّجَاسَاتِ ، فَالْوَاجِبُ غَسْلُهُ مَرَّةً وَاحِدَةً إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَا أَثَرٍ فَيَغْسِلُ حَتَّى يَزُولَ الْأَثَرُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : سَائِرُ النَّجَاسَاتِ فِي حُكْمِ الْوُلُوغِ يَغْسِلُ ثَلَاثًا إِمَّا اسْتِحْبَابًا ، وَإِمَّا وَاجِبًا عَلَى أَنَّ اخْتِلَافَ أَصْحَابِهِ فِي الثَّلَاثِ هَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ فِي الْوُلُوغِ أَوْ مُسْتَحَبَّةٌ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : سَائِرُ النَّجَاسَاتِ كَالْوُلُوغِ فِي وُجُوبِ غَسْلِهَا ثَمَانِ مَرَّاتٍ . وَدَلِيلُنَا عَلَى جَوَازِ الِاقْتِصَارِ فِي غَسْلِهَا عَلَى مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ
وَقَدْ سَأَلَتْهُ عَنْ دَمِ الْحَيْضِ يُصِيبُ الثَّوْبَ " حُتِّيهِ ثُمَّ اقْرُصِيهِ بِالْمَاءِ " وَلَمْ يُوَقِّتْ لَهَا فِي ذَلِكَ ثَلَاثًا وَلَا سَبْعًا ، وَقَالَ فِي بَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ : " صُبُّوا عَلَيْهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ " ، وَلِأَنَّ التَّكْرَارَ لَمَّا لَمْ يَزَلْ فِي الْحَدَثِ مُسْتَحِقًّا فَأَحْرَى أَنْ لَا يَكُونَ فِي النَّجَاسَةِ مُسْتَحِقًّا ، وَلِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ لَمْ يُرِدِ الشَّرْعُ بِأَنَّهُ يَجْمَعُ فِيهَا بَيْنَ الطُّهُورَيْنِ ، فَلَمْ تَسْتَحِقَّ الْعَدَدَ ، وَتَطْهِيرُهَا كَالْأَعْيَانِ ، لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَعْتَبِرُ الْعَدَدَ فِي النَّجَاسَةِ الَّتِي هِيَ أَثَرٌ ، وَلَا يَعْتَبِرُهُ فِي النَّجَاسَةِ الَّتِي هِيَ عَيْنٌ ، وَلِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ مُتَوَلِّدَةٌ عَنْ أَصْلٍ طَاهِرٍ فَلَمْ يَسْتَحِقَّ فِيهَا الْعَدَدُ كَدَمِ الشَّاةِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْوَاجِبَ مَرَّةٌ ، فَالْمُسْتَحَبُّ غَسْلُهُ ثَلَاثًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهُمَا ثَلَاثًا " فَلَمَّا أَمَرَ بِالثَّلَاثِ مَعَ الشَّكِّ فِي النَّجَاسَةِ ، كَانَ الْأَمْرُ بِهَا مَعَ نَفْسِ النَّجَاسَةِ أَوْلَى .
فَصْلٌ أَقْسَامُ النَّجَاسَاتِ
فَصْلٌ : أَقْسَامُ النَّجَاسَاتِ فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا فِي النَّجَاسَةِ مِنْ وُجُوبِ غَسْلِهَا مَرَّةً وَاسْتِحْبَابِ غَسْلِهَا ثَلَاثًا ، فَلَا يَخْلُو حَالُ النَّجَاسَاتِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا لَوْنٌ وَلَا رَائِحَةٌ كَالْمَاءِ الْقَلِيلِ إِذَا حَصَلَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ ثُمَّ أَصَابَ الْمَاءُ ثَوْبًا ، فَالْوَاجِبُ غَسْلُهُ مَرَّةً يَغْمُرُهُ الْمَاءُ فِيهَا فَيَطْهُرُ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ لَهَا لَوْنٌ وَرَائِحَةٌ كَالْخَمْرِ وَالْغَائِطِ من أقسام النجاسات فَالْوَاجِبُ غَسْلُهُ حَتَّى يَزُولَ لَوْنُهُ وَرَائِحَتُهُ ، فَإِنْ لَمْ يَزُولَا بِالْمَرَّةِ غَسَلَهُ ثَانِيَةً ، فَإِنْ لَمْ يَزُولَا غَسَلَهُ ثَالِثَةً وَرَابِعَةً ، فَإِنْ زَالَ اللَّوْنُ دُونَ الرَّائِحَةِ أَوْ زَالَتِ الرَّائِحَةُ دُونَ اللَّوْنِ فَهُوَ عَلَى نَجَاسَتِهِ ، حَتَّى تَزُولَ الصِّفَتَانِ اللَّوْنُ وَالرَّائِحَةُ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ لَهَا رَائِحَةٌ وَلَيْسَ لَهَا لَوْنٌ من أقسام النجاسات كَالْبَوْلِ فَالْوَاجِبُ أَنْ يَغْسِلَ حَتَّى تَزُولَ رَائِحَتُهُ إِمَّا بِمَرَّةٍ أَوْ بِأَكْثَرَ اعْتِبَارًا بِحَالِ زَوَالِهَا ، فَإِذَا زَالَتْ رَائِحَتُهُ طَهُرَتْ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ لَهَا لَوْنٌ وَلَيْسَ لَهَا رَائِحَةٌ من أقسام النجاسات كَالدَّمِ فَالْوَاجِبُ أَنْ تُغْسَلَ حَتَّى يَزُولَ لَوْنُهَا بِمَرَّةٍ أَوْ مِرَارٍ فَإِنْ زَالَ اللَّوْنُ ، وَبَقِيَ الْأَثَرُ فَإِنْ تَيَسَّرَ زَوَالُهُ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ فَالنَّجَاسَةُ بَاقِيَةٌ حَتَّى يَزُولَ الْأَثَرُ ، فَإِنْ تَعَذَّرَ زَوَالُهُ إِلَّا بِمَشَقَّةٍ خَالِيَةٍ مِنْ عِلَاجٍ أَوْ صَنْعَةٍ كَالْأَثَرِ كَانَ الْأَثَرُ مَعْفُوًّا عَنْهُ ، وَحُكِمَ بِطَهَارَةِ الْمَحَلِّ ، بِخِلَافِ مَا وَهِمَ فِيهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا حَيْثُ حَكَمَ بِبَقَاءِ نَجَاسَتِهِ لِبَقَاءِ أَثَرِهِ لِرِوَايَةِ يَزِيدَ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ خَوْلَةَ بِنْتَ
يَسَارٍ قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَفَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَخْرُجِ الْدَّمُ مِنَ الثَّوْبِ قَالَ : " يَكْفِيكِ الْمَاءُ وَلَا يَضُرُّكِ أَثَرُهُ "
فَصْلٌ إِذَا أَصَابَتْ نَجَاسَةٌ شَعْرَهُ أَوْ بَدَنَهُ
فَصْلٌ : إِذَا أَصَابَتْ نَجَاسَةٌ شَعْرَهُ أَوْ بَدَنَهُ فَأَمَّا إِذَا بَلَّ خِضَابًا بِنَجَاسَةٍ مِنْ بَوْلٍ أَوْ خَمْرٍ وَخَضَّبَ بِهِ شَعْرَهُ أَوْ بَدَنَهُ ثُمَّ غَسَلَهُ وَبَقِيَ لَوْنُهُ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ لَوْنُ النَّجَاسَةِ بَاقِيًا ، فَالْمَحَلُّ الْمَخْضُوبُ نَجِسٌ ، لَا يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ حَتَّى يَزُولَ اللَّوْنُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ لَوْنُ الْخِضَابِ بَاقِيًا دُونَ النَّجَاسَةِ فَفِي نَجَاسَتِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : نَجِسٌ ، لِأَنَّ الْخِضَابَ قَدْ صَارَ نَجِسًا فَدَلَّ بَقَاءُ لَوْنِهِ عَلَى بَقَاءِ النَّجَاسَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ طَاهِرٌ : لِأَنَّ نَجَاسَةَ الْخِضَابِ نَجَاسَةٌ مُجَاوِرَةٌ لَا نَجَاسَةُ عَيْنٍ ، وَهَذَا لَوْنُ الْخِضَابِ لَا لَوْنُ النَّجَاسَةِ ، وَاللَّوْنُ عَرَضٌ لَا تَحُلُّهُ نَجَاسَةٌ ، فَإِنْ قُلْنَا : بِطَهَارَتِهِ صَلَّى ، وَلَمْ يُعِدْ وَإِنْ قُلْنَا : بِنَجَاسَتِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْخِضَابُ عَلَى شَعْرٍ كَشَعْرِ اللِّحْيَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ حَلْقُهُ ، وَمَكَثَ حَتَّى يُنْصَلَ لَوْنُهُ : لِأَنَّ لَوْنَ الشَّعْرِ الْمَخْضُوبِ يُنْصَلُ لَا مَحَالَةَ ، وَالْمُسْتَحَقُّ فِي النَّجَاسَةِ تَطْهِيرُ الْمَحَلِّ مِنْهَا لِإِزَالَةِ الْمَحَلِّ بِهَا ، فَإِذَا نُصِلَ الشَّعْرُ أَعَادَ مَا صَلَّاهُ ، وَإِنْ كَانَ الْخِضَابُ عَلَى بَدَنٍ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَزُولُ كَالْحِنَّاءِ إِذَا اخْتَضَبَ بِهِ مَكَثَ حَتَّى يَزُولَ فَيَطْهُرَ ، ثُمَّ يُعِيدُ مَا صَلَّى ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَزُولُ ، وَلَا يُنْصَلُ كَالْوَشْمِ بِالنِّيلِ فَيَصِيرُ خُضْرَةً مُؤَبَّدَةً ، نُظِرَ فَإِذَا أَمِنَ التَّلَفَ فِي إِزَالَتِهِ وَكَشْطِهِ لَزِمَهُ أَنْ يُزِيلَهُ وَيَكْشِطَهُ ، بِخِلَافِ الشَّعْرِ : لِأَنَّ تَرْكَ الشَّعْرِ مُفْضٍ إِلَى زَوَالِ النَّجَاسَةِ عَنْهُ ، [ وَلَيْسَ ذَلِكَ مُفْضٍ إِلَى زَوَالِ النَّجَاسَةِ عَنْهُ ] ، وَإِنْ كَانَ يَخَافُ التَّلَفَ مِنْ كَشْطِهِ ، وَإِزَالَتِهِ ، فَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ الَّذِي أَكْرَهَهُ عَلَى الْخِضَابِ بِهِ ، أَقَرَّ عَلَى حَالِهِ وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُخْتَضِبُ بِهِ فَفِي وُجُوبِ إِزَالَتِهِ وَجْهَانِ مِنَ الْوَاصِلِ بِعَظْمٍ نَجِسٍ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهً : " وَمَا مَسَّ الْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ بِهِ الْمَاءَ مِنْ أَبْدَانِهِمَا نَجَّسَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمَا قَذَرٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَمَّا وُلُوغُ الْكَلْبِ فَيَكُونُ بِإِدْخَالِ فَمِهِ فِي الْمَاءِ شَرِبَ مِنْهُ أَوْ لَمْ يَشْرَبْ ، وَحُكْمُهُ مَا مَضَى فَأَمَّا إِنْ أَدْخَلَ الْكَلْبُ غَيْرَ فَمِهِ مِنْ أَعْضَائِهِ نجاسة الإناء كَيَدِهِ أَوْ رِجْلِهِ أَوْ ذَنَبِهِ ، فَهُوَ فِي حُكْمِ وُلُوغِهِ فِي نَجَاسَةِ الْإِنَاءِ بِهِ وَوُجُوبِ غَسْلِهِ سَبْعًا . وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ : غَسْلُ الْإِنَاءِ
مُخْتَصٌّ بِوُقُوعِهِ ، فَإِنْ أَدْخَلَ غَيْرَهُ مِنْ أَعْضَائِهِ فِي الْمَاءِ لَمْ يَجِبْ غَسْلُهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَأَرِيقُوهُ وَاغْسِلُوهُ سَبْعًا " فَعَلَّقَ الْحُكْمَ بِالْوُلُوغِ ، وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا نَصَّ عَلَى الْوُلُوغِ وَهُوَ أَصْوَنُ أَعْضَاءِ الْكَلْبِ كَانَ وُجُوبُ الْغَسْلِ بِمَا لَيْسَ بِمَصُونٍ مِنْهَا أَوْلَى . وَالثَّانِي : أَنَّ وُلُوغَهُ يَكْثُرُ وَإِدْخَالَ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَعْضَائِهِ يَقِلُّ فَلَمَّا عَلَّقَ وُجُوبَ الْغَسْلِ بِمَا يَكْثُرُ كَانَ وُجُوبُهُ مِمَّا يَقِلُّ أَوْلَى ، لِأَنَّ النَّجَاسَةَ إِذَا عَمَّ وُجُودُهَا خَفَّ حُكْمُهَا ، وَإِذَا قَلَّ وُجُودُهَا ، يَتَغَلَّظُ حُكْمُهَا ، فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْوُلُوغِ وَغَيْرِهِ ، مِنْ أَعْضَاءِ الْكَلْبِ ، فَهَكَذَا لَوْ مَاسَّ الْكَلْبُ ثَوْبًا رَطْبًا أَوْ مَاسَّ بِبَدَنِهِ الرَّطْبِ ثَوْبًا يَابِسًا أَوْ وَطِئَ بِرُطُوبَةِ رِجْلِهِ عَلَى أَرْضٍ أَوْ بِسَاطٍ كَانَ كَالْوُلُوغِ فِي وُجُوبِ غَسْلِهِ سَبْعًا فِيهِنَّ مَرَّةٌ بِالتُّرَابِ .
فَصْلٌ إِذَا أَدْخَلَ الْكَلْبُ رَأْسَهُ فِي الْإِنَاءِ
فَصْلٌ : إِذَا أَدْخَلَ الْكَلْبُ رَأْسَهُ فِي الْإِنَاءِ فَلَوْ أَدْخَلَ الْكَلْبُ رَأْسَهُ فِي الْإِنَاءِ وَلَمْ يَعْلَمْ هَلْ وَلَغَ فِيهِ أَمْ لَا ؟ فَلَا يَخْلُو حَالُ فَمِهِ عِنْدَ إِخْرَاجِ رَأْسِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ رَطْبًا أَوْ يَابِسًا ، فَإِنْ كَانَ فَمُهُ يَابِسًا فَالْمَاءُ عَلَى طَهَارَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ رَطْبًا فَفِي نَجَاسَتِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : قَدْ يُنَجِّسُ ، لِأَنَّ رُطُوبَةَ فَمِهِ شَاهِدٌ عَلَى وُلُوغِهِ فَصَارَ كَنَجَاسَةٍ وَقَعَتْ فِي مَاءٍ كَثِيرٍ ثُمَّ وَجَدَتْ تَغَيُّرًا وَلَمْ يُعْلَمْ هَلْ تَغَيَّرَ بِالنَّجَاسَةِ أَوْ بِغَيْرِهَا حُكِمَ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ تَغْلِيبًا لِتَغْيِيرِهِ بِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّ الْمَاءَ طَاهِرٌ : لِأَنَّ طَهَارَتَهُ يَقِينٌ ، وَنَجَاسَتُهُ شَكٌّ ، وَالْمَاءُ لَا يُنَجَّسُ بِالشَّكِّ ، وَلَيْسَتْ رُطُوبَةُ فَمِهِ شَاهِدًا قَاطِعًا لِاحْتِمَالِهَا أَنْ تَكُونَ مِنْ لُعَابِهِ أَوْ مِنْ وُلُوغِهِ فِي غَيْرِهِ ، وَلَيْسَتْ كَالنَّجَاسَةِ الْوَاقِعَةِ فِي الْمَاءِ : لِأَنَّهُ لِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ تَأْثِيرًا فِي الْمَاءِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ : " وَاحْتَجَّ بِأَنَّ الْخِنْزِيرَ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْكَلْبِ فَقَاسَهُ عَلَيْهِ . وَقَاسَ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْنَجَاسَاتِ عَلَى أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ فِي دَمِ الْحَيْضَةِ يُصِيبُ الثَّوْبَ أَنْ تَحُتَّهُ ثُمَّ تَقْرُصَهُ بِالْمَاءِ وَتُصَلِّي فِيهِ وَلَمْ يُوَقِّتْ فِي ذَلِكَ سَبْعًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ وَالْخِنْزِيرُ نَجِسٌ ، وَقَالَ مَالِكٌ وَدَاوُدُ : هُوَ ظَاهِرُ خِلَافِهِمَا فِي الْكَلْبِ تَعَلُّقًا بِالظَّوَاهِرِ الْمَاضِيَةِ ، وَهَذَا خَطَأٌ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى نَجَاسَتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رَجْسٌ [ الْأَنْعَامِ : ] .
وَالْمُرَادُ بِلَحْمِ الْخِنْزِيرِ هُوَ : جُمْلَةُ الْخِنْزِيرِ : لِأَنَّ لَحْمَهُ قَدْ دَخَلَ فِي عُمُومِ الْمَيْتَةِ ، فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَائِدَةِ أَوْلَى عَلَى التَّكْرَارِ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْكَلْبَ وَحَرَّمَ ثَمَنَهُ وَحَرَّمَ الْخِنْزِيرَ وَحَرَّمَ ثَمَنَهُ وَحَرَّمَ الْخَمْرَ وَحَرَّمَ ثَمَنَهَا " . وَلِأَنَّ الْخِنْزِيرَ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْكَلْبِ لِتَحْرِيمِ الِانْتِفَاعِ بِهِ فِي الْأَحْوَالِ وَجَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِالْكَلْبِ فِي حَالٍ ، ثُمَّ ثَبَتَ بِمَا دَلَّلْنَا نَجَاسَةُ الْكَلْبِ فَكَانَتْ نَجَاسَةُ الْخِنْزِيرِ أَوْلَى .
فَصْلٌ وُلُوغُ الْخِنْزِيرِ فِي الْإِنَاءِ
فَصْلٌ : وُلُوغُ الْخِنْزِيرِ فِي الْإِنَاءِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْخِنْزِيرَ نَجِسٌ فَوُلُوغُهُ كَوُلُوغِ الْكَلْبِ فِي وُجُوبِ غَسْلِهِ سَبْعًا إِحْدَاهُنَّ بِتُرَابٍ ، وَرَوَى أَبُو ثَوْرٍ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ أَنَّهُ قَالَ يَغْسِلُ الْإِنَاءَ مِنْ وُلُوغِ الْخِنْزِيرِ فَوَهِمَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ الْقَاصِّ فِي إِطْلَاقِ الشَّافِعِيِّ ذِكْرَ الْعَدَدِ فِي الْقَدِيمِ ، فَخَرَّجَ لَهُ فِي الْقَدِيمِ قَوْلًا ثَانِيًا أَنَّ وُلُوغَ الْخِنْزِيرِ يُغْسَلُ مَرَّةً وَاحِدَةً ، وَهَذَا خَطَأٌ مِنْهُ : لِأَنَّهُ فِي الْقَدِيمِ نَصَّ عَلَى وُجُوبِ غَسْلِ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِهِ وَأَطْلَقَ ذِكْرَ الْعَدَدِ عَلَى مَا قَدْ عُرِفَ مِنْ مَذْهَبِهِ ، وَصَرَّحَ بِهِ فِي سَائِرِ كُتُبِهِ فَيُغْسَلُ سَبْعَ مَرَّاتٍ إِحْدَاهُنَّ بِتُرَابٍ كَوُلُوغِ الْكَلْبِ سَوَاءً فَأَمَّا احْتِجَاجُ الشَّافِعِيِّ بِأَنَّ الْخِنْزِيرَ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْكَلْبِ فَلِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ نَجَاسَتَهُ بِالنَّصِّ وَنَجَاسَةَ الْكَلْبِ بِالِاسْتِدْلَالِ . وَالثَّانِي : أَنَّ تَحْرِيمَ الِانْتِفَاعِ بِالْخِنْزِيرِ عَامٌّ وَبِالْكَلْبِ خَاصٌّ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ : " فَقَاسَهُ عَلَيْهِ " فَيَقْضِي فِي وُجُوبِ غَسْلِ الْإِنَاءِ مِنْهُ سَبْعًا لَا فِي نَجَاسَتِهِ ، ثُمَّ هَكَذَا فِي الْحُكْمِ فِي كُلِّ حَيَوَانٍ نَجِسٍ فِي حَيَاتِهِ مِنَ الْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ كَلْبٍ وَخِنْزِيرٍ أَوْ بَيْنَ أَحَدِهِمَا فَلَوْ رَأَى حَيَوَانًا قَدْ وَلَغَ فِي إِنَاءٍ ثُمَّ شَكَّ فِي الْحَيَوَانِ هَلْ هُوَ كَلْبٌ أَوْ غَيْرُهُ فَالْمَاءُ عَلَى أَصْلِ طَهَارَتِهِ حَتَّى يَتَيَقَّنَ أَنَّ الْوَالِغَ فِيهِ كَلْبٌ فَلَوْ كَانَ لَهُ إِنَاءَانِ فَأَخْبَرَهُ مَنْ يَسْكُنُ إِلَى خَبَرِهِ أَنَّ كَلْبًا وَلَغَ فِي الْأَكْبَرِ مِنْهُ دُونَ الْأَصْغَرِ ، وَأَخْبَرَهُ آخَرُ ثِقَةٌ أَنَّ كَلْبًا وَلَغَ فِي الْأَصْغَرِ دُونَ الْأَكْبَرِ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : كَانَ وَالِغًا فِيهِمَا جَمِيعًا : لِأَنَّهُ قَدْ يَرَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا غَفَلَ عَنْهُ الْآخَرُ ، فَلَوْ أَخْبَرَهُ مَنْ يَثِقُ بِخَبَرِهِ أَنَّ هَذَا الْكَلْبَ بِعَيْنِهِ وَلَغَ فِي إِنَائِهِ هَذَا فِي وَقْتِ كَذَا مِنْ يَوْمِ كَذَا وَشَهِدَ عِنْدَهُ عَدْلَانِ أَنَّ ذَاكَ الْكَلْبَ بِعَيْنِهِ كَانَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ بِعَيْنِهِ فِي بَلَدٍ آخَرَ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي حُكْمِ الْإِنَاءِ عَلَى وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ طَاهِرٌ ، لِأَنَّ الْخَبَرَيْنِ قَدْ تَعَارَضَا فَسَقَطَا وَوَجَبَ الرُّجُوعُ إِلَى حُكْمِ الْأَصْلِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْمَاءَ نَجِسٌ : لِأَنَّ الْخَبَرَ الْأَوَّلَ مُوجِبٌ لِتَنْجِيسِهِ وَالشَّهَادَةَ الْمُعَارِضَةَ لَهُ مُحْتَمَلَةٌ ، لِأَنَّ الْكِلَابَ قَدْ تَشْتَبِهُ ، وَلِأَنَّ تَعْيِينَ الْكِلَابِ فِي الْوُلُوغِ لَا يَلْزَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمَزَنُيُّ : " وَاحْتَجَّ فِي جَوَازِ الْوُضُوءِ بِفَضْلِ مَا سِوَى الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ أَنَتَوَضَّأُ بِمَا أَفْضَلَتِ الْحُمُرُ ؟ قَالَ : " نَعَمْ وَبِمَا أَفْضَلَتِ الْسِّبَاعُ كُلُّهَا " وَبِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ فِي الْهِرَّةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ " وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الْصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : " إِذَا سَقَطَ الذُّبَابُ فِي الْإِنَاءِ فَامْقِلُوهُ " فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأَحْيَاءِ نَجَاسَةٌ إِلَّا مَا ذَكَرْتُ مِنَ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا سُؤْرُ الْحَيَوَانِ فَهُوَ مَا فَضَلَ فِي الْإِنَاءِ مِنْ شَرْبَةٍ وَالْبَاقِي مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُسَمَّى سُؤْرًا . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " إِذَا أَكَلْتُمْ فَأَسْئِرُوا " أَيْ : فَأَبْقُوا . وَقَالَ الشَّاعِرُ : بَانَتْ وَقَدْ أَسْأَرَتْ فِي النَّفْسِ حَاجَتَهَا بِتَلَاقٍ وَخَيْرُ الْقَوْلِ مَا نَفَعَا يَعْنِي قَدْ أَبْقَتْ فِي النَّفْسِ حَاجَتَهَا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْحَيَوَانُ ضَرْبَانِ : طَاهِرٌ وَنَجِسٌ ، فَأَمَّا النَّجِسُ فَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي وُلُوغِهِ وَنَجَاسَةِ سُؤْرِهِ ، وَأَمَّا الطَّاهِرُ فَهُوَ مَا سِوَى الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْمُتَوَلِّدُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَسُؤْرُ جَمِيعِهِ طَاهِرٌ مَأْكُولًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَأْكُولٍ ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَمِنَ التَّابِعِينَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَسُؤْرُ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ نَجِسٌ ، وَكَذَا لُعَابُهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : سُؤْرُ السِّبَاعِ نَجِسٌ لَا يُعْفَى عَنْهُ ، وَسُؤْرُ حَيَوَانِ الطِّينِ نَجِسٌ ، لَكِنْ يُعْفَى عَنْهُ وَسُؤْرُ الْهِرِّ وَحَشَرَاتِ الْأَرْضِ كُلِّهَا طَاهِرٌ ، وَسُؤْرُ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ مَشْكُوكٌ فِيهِ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ مَعَ عَدَمِ الْمَاءِ ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ مَعَ وُجُودِهِ ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ بِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ : " سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمَاءِ يَكُونُ بِأَرْضِ الْفَلَاةِ وَمَا يَنُوبُهُ مِنَ
السِّبَاعِ وَالدَّوَابِّ فَقَالَ : " إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لِوُرُودِ السِّبَاعِ تَأْثِيرًا فِي تَنْجِيسِ الْمَاءِ . وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ فَسَارَ لَيْلًا فَمَرُّوا عَلَى رَجُلٍ جَالِسٍ عِنْدَ مِقْرَاةٍ لَهُ فَقَالَ عُمَرُ يَا صَاحِبَ الْمِقْرَاةِ أَوَقَعَتِ السِّبَاعُ اللَّيْلَةَ فِي مِقْرَاتِكَ ؟ فَقَالَ لَهُ النَّبَيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " يَا صَاحِبَ الْمِقْرَاةِ لَا تُخْبِرْهُ ؛ هَذَا تَكَلُّفٌ ، لَهَا مَا حَمَلَتْ فِي بُطُونِهَا وَلَنَا مَا بَقِيَ شَرَابًا وَطَهُورًا " . قَالُوا : فَلَوْلَا أَنَّ لِلْأَخْبَارِ بِوُرُودِهَا تَأْثِيرًا فِي الْمَنْعِ مِنْهُ لَمَا نَهَاهُ عَنْ إِخْبَارِهِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّ كُلَّ حَيَوَانٍ كَانَ لَبَنُهُ نَجِسًا ، كَانَ سُؤْرُهُ نَجِسًا ، كَالْكَلْبِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّ لِلْكَلْبِ حُكْمَيْنِ ؛ نَجَاسَةِ الْعَيْنِ وَتَحْرِيمِ الْأَكْلِ ، فَلَمَّا كَانَتِ السِّبَاعُ مُسَاوِيَةً لِلْكَلْبِ فِي تَحْرِيمِ الْأَكْلِ اقْتَضَى أَنْ تَكُونَ مُسَاوِيَةً لَهُ فِي نَجَاسَةِ الْعَيْنِ ، وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهُ تَحْرِيمٌ تَعَلَّقَ بِالْكَلْبِ فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالسِّبَاعِ كَالْأَكْلِ . وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ أَيُتَوَضَّأُ بِمَا أَفْضَلَتِ الْحُمُرُ ؟ قَالَ نَعَمْ وَبِمَا أَفْضَلَتِ السِّبَاعُ كُلُّهَا ، وَهَذَا نَصٌّ ، وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ حُمَيْدَةَ بِنْتِ عُبَيْدٍ عَنْ كَبْشَةَ بِنْتِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَكَانَتْ تَحْتَ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ دَخَلَ فَسَكَبَتْ لَهُ وَضَوْءًا فَجَاءَتْ هِرَّةٌ تَشْرَبُ فَأَصْغَى لَهَا الْإِنَاءُ حَتَّى شَرِبَتْ فَرَآنِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ فَقَالَ أَتَعْجَبِينَ يَا بِنْتَ أَخِي إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ إِنَّهَا مِنَ الطِّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ " .
وَرَوَى دَاوُدُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ أُمِّهِ أَنَّهَا جَاءَتْ عَائِشَةَ بِصَحِيفَةِ هَرِيسٍ ، وَهِيَ قَائِمَةٌ تُصَلِّي ، فَإِذَا سُؤْرٌ أَخَذَ مِنْهَا لُقْمَةً فَدَوَّرَتْهَا عَائِشَةُ ثُمَ أَكَلَتْ مِنْهَا مِنْ حَيْثُ أَكَلَتْ ثَمَّ قَالَتْ إِنَّ رَسُولَ اللَهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ إِنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ ، وَلَقَدْ رَأَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ بِفَضْلِهَا . فَدَلَّ هَذَانِ الْحَدِيثَانِ عَلَى أَنَّ سُؤْرَ الْهِرِّ لَيْسَ بِنَجِسٍ ، وَلَا مَكْرُوهٍ : لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَسْتَعْمِلُ نَجِسًا وَلَا مَكْرُوهًا ، وَلِأَنَّ كُلَّ حَيَوَانٍ لَوْ أَصَابَ ثَوْبًا رَطْبًا لَمْ يُنَجِّسْهُ فَإِذَا أَصَابَ الْمَاءَ لَمْ يُنَجَّسْ كَالْهِرِّ طَرْدًا ، وَالْكَلْبِ عَكْسًا ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَنْجَسْ بِمُلَاقَاةِ الْهِرِّ لَمْ يَنْجَسْ بِمُلَاقَاةِ السَّبْعِ كَالثَّوْبِ الرَّطْبِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْخَبَرِ الْأَوَّلِ فَمِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ ، وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ نُطْقَهُ دَلِيلٌ عَلَى طَهَارَةِ الْقُلَّتَيْنِ ، وَهُوَ عِنْدُهُمْ نَجِسٌ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى وُرُودِ الْكِلَابِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْكَلْبَ يُسَمَّى سَبْعًا ، وَالثَّانِي أَنَّ مَا وَرَدَتْهُ السِّبَاعُ مَعَ تَوَحُّشِهَا ، وَقِلَّتِهَا كَانَ وُرُودُ الْكِلَابِ لَهَا مَعَ أُنْسِهَا وَكَثْرَتِهَا أَكْثَرَ . وَأَمَّا الْخَبَرُ الثَّانِي فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَيْهِمْ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَمْنَعُ مِنَ الِاحْتِيَاطِ فِي الدِّينِ وَتَوَقِّي الْأَنْجَاسِ فِي الطَّهَارَةِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا سَأَلَ عَنْهُ لَا يَقْتَضِي التَّنْجِيسَ ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَرَدَا عَلَى مَاءٍ فَسَأَلَ عَمْرُو صَاحِبَ الْمَاءِ هَلْ تَرِدُهُ السِّبَاعُ فَقَالَ عُمَرُ لَا تُخْبِرْهُ فَإِنَّا نَرِدُ عَلَى السِّبَاعِ ، وَتَرِدُ السِّبَاعُ عَلَيْنَا . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْكَلْبِ بِعِلَّةِ أَنَّ لَبَنَهُ نَجِسٌ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي لَبَنِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الطَّاهِرَةِ هَلْ هُوَ نَجِسٌ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى تَحْرِيمِ شُرْبِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ طَاهِرٌ وَإِنْ كَانَ مُحَرَّمَ الشُّرْبِ كَاللُّعَابِ فَعَلَى هَذَا يَبْطُلُ التَّعْلِيلُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ نَجِسٌ كَاللَّحْمِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْقِيَاسُ مُنْتَقِضًا بِالْهِرِّ لَبَنُهَا نَجِسٌ ، وَسُؤْرُهَا طَاهِرٌ ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْكَلْبِ نَجَاسَةُ عَيْنِهِ ، وَتَحْرِيمُ ثَمَنِهِ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ عَلَى تَحْرِيمِ أَكْلِهِ الدَّالِّ عَلَى نَجَاسَةِ عَيْنِهِ فَمُنْتَقِضٌ بِبَنِي آدَمَ ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْأَكْلِ أَنَّهُ قَدْ يَحْرُمُ فِيمَا لَا يَكُونُ نَجِسًا مِنْ سُمُومِ النَّبَاتِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَغَمْسُ الذُّبَابِ فِي الْإِنَاءِ لَيْسَ يَقْتُلُهُ وَالذُّبَابُ لَا يُؤْكَلُ فِإِنْ مَاتَ ذُبَابٌ أَوْ خُنْفُسَاءُ أَوْ نَحْوُهُمَا فِي إِنَاءٍ نَجَّسَهُ ( وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ) إِنْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ الَّذِي يُنَجِّسُهُ مِثْلُهُ إِذَا كَانَ مِمَا لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) هَذَا أَوْلَى بِقَوْلِ الْعُلَمَاءِ وَقَوْلِهِ مَعَهُمْ أَوْلَى بِهِ مِنِ انْفِرَادِهِ عَنْهُمْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الْحَيَوَانَ كُلَّهُ ضَرْبَانِ : ضَرْبٌ : لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ كَالدَّوَابِّ وَالْبَهَائِمِ وَالْعَصَافِيرِ وَسَائِرِ الطَّيْرِ وَسَيَلَانُ نَفْسِهِ هُوَ جَرَيَانُ دَمِهِ ، فَإِذَا مَاتَ كَانَ نَجِسًا إِلَّا ابْنَ آدَمَ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ ، فَإِذَا مَاتَ فِي مَائِعٍ أَوْ مَاءٍ قَلِيلٍ صَارَ نَجِسًا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ طهارة ميتة ، وَهُوَ ضَرْبَانِ مَأْكُولٌ وَغَيْرُ مَأْكُولٍ ، فَأَمَّا الْمَأْكُولُ كَالْحُوتِ وَالْجَرَادِ فَسَنَذْكُرُهُمَا وَنَذْكُرُ مَا مَاتَا فِيهِ ، وَأَمَّا غَيْرُ الْمَأْكُولِ فَكَالذُّبَابِ وَالْخَنَافِسِ وَالزَّنَابِيرِ وَالدِّيدَانِ وَالْعَقَارِبِ وَالْحَيَّاتِ وَمَا شَاكَلَهُ مِمَّا لَا تَسِيلُ نَفْسُهُ ، وَلَا يَجْرِي دَمُهُ فَكُلُّهُ إِذَا مَاتَ نَجُسَ ، وَأَكْلُهُ حَرَامٌ سَوَاءٌ تَوَلَّدَ فِي طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ كَدُودِ النَّحْلِ وَالْفَاكِهَةِ أَمْ لَا ، كَالزَّنَابِيرِ وَالْعَقَارِبِ . وَقَالَ مَالِكٌ وَدَاوُدُ كُلُّ ذَلِكَ طَاهِرٌ وَأَكْلُهُ حَلَالٌ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : كُلُّهُ طَاهِرٌ وَأَكْلُهُ حَرَامٌ ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا مِنْ فُقَهَاءِ خُرَاسَانَ مَا تَوَلَّدَ مِنْ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ فَهُوَ طَاهِرٌ ، وَأَكْلُهُ حَلَالٌ ، وَمَا لَمْ يَتَوَلَّدْ مِنْهُ فَهُوَ نَجِسٌ وَأَكْلُهُ حَرَامٌ ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِطِهَارَتِهِ بِأَنَّ مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ يَسْتَوِي حُكْمُ مَوْتِهِ وَحَيَاتِهِ كَالْحُوتِ وَالْجَرَادِ ، قِيَاسًا مُطَّرِدًا ، وَالدَّوَابِّ وَالْبَهَائِمِ . قُلْنَا : مُنْعَكِسًا ، وَلِأَنَّ مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ أَحَدُ نَوْعَيِ الْحَيَوَانِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُ مَأْكُولِهِ وَغَيْرُ مَأْكُولِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ قِيَاسًا عَلَى مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ [ الْأَنْعَامِ : ] إِلَى قَوْلِهِ : إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً فَكَانَ قَوْلُهُ : إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِهِ ، وَقَوْلُهُ : فَإِنَّهُ رِجْسٌ دَلِيلٌ عَلَى تَنْجِيسِهِ ، وَلِأَنَّ تَفْوِيتَ الرُّوحِ إِذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ جَوَازُ الْبَيْعِ مَعَ عَدَمِ الْحُرْمَةِ أَوْجَبَ التَّنْجِيسَ ، وَتَحْرِيمَ الْأَكْلِ قِيَاسًا عَلَى مَوْتِ مَا لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ : وَلِأَنَّ كُلَّ تَحْرِيمٍ تَعَلَّقَ بِمَوْتِ مَا لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ تَعَلَّقَ بِمَوْتِ نوِعِ مَا لَا نَفْسَ لَهُ قِيَاسًا عَلَى تَحْرِيمِ الْبَيْعِ ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ الْحَيَوَانِ فَوَجَبَ أَنْ يَتَنَوَّعَ مَأْكُولًا وَغَيْرَ مَأْكُولٍ ، قِيَاسًا عَلَى مَا لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ تَسْوِيَتِهِمْ بَيْنَ مَوْتِهِ وَحَيَاتِهِ كَالْجَرَادِ وَالْحُوتِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الشَّرْعَ مَانِعٌ مِنَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ مَوْتِ الْحَيَوَانِ وَحَيَاتِهِ كَالَّذِي [ لَا نَفْسَ لَهُ ] سَائِلَةٌ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الشَّرْعَ بِتَخْصِيصِ الْحُوتِ وَالْجَرَادِ بَعْدَ الْحَظْرِ مَانِعٌ مِنْ أَنْ يُقَاسَ عَلَيْهِ مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ كَمَا صَحَّ أَنْ تُقَاسَ عَلَيْهِ مَا لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ تَسْوِيَتِهِمْ بَيْنَ مَوْتِ الْمَأْكُولِ وَغَيْرِ الْمَأْكُولِ ، قِيَاسًا عَلَى مَا لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ ، فَهُوَ أَنَّ مَوْتَ مَا لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ لَمَّا اسْتَوَى حُكْمُ جَمِيعِهِ فِي تَحْرِيمِ الْبَيْعِ اسْتَوَى حُكْمُ جَمِيعِهِ فِي التَّنْجِيسِ بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَمَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ لَمَّا اخْتَلَفَ حُكْمُهُ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ ، اخْتَلَفَ حَالُهُ فِي التَّنْجِيسِ وَتَحْرِيمِ الْأَكْلِ .
فَصْلٌ حُكْمُ الْمَائِعِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ
فَصْلٌ : حُكْمُ الْمَائِعِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حَالِ نَجَاسَتِهِ بِالْمَوْتِ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى نَجَاسَةِ مَا مَاتَ فِيهِ مِنْ مَائِعٍ أَوْ مَاءٍ قَلِيلٍ وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : ضَرْبٌ : تَوَلَّدَ مِنْ نَفْسِ مَا مَاتَ فِيهِ كَدُودِ الْخَلِّ وَاللَّبَنِ إِذَا مَاتَ فِي الْخَلِّ ، وَاللَّبَنِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُنَجِّسُ ، لِأَنَّ الِاحْتِرَازَ مِنْ مَوْتِ مَا تَوَلَّدَ فِيهِ مِنْ دُودٍ غَيْرُ مُمْكِنٍ ، فَكَانَ مَعْفُوًّا عَنْهُ كَدَمِ الْبَرَاغِيثِ ، فَلَوْ نُقِلَ مِنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَأُلْقِيَ فِي غَيْرِهِ مِنْ مَائِعٍ أَوْ مَاءٍ صَارَ مَا أُلْقِيَ فِيهِ نَجِسًا ، لِإِمْكَانِ الِاحْتِرَازِ مِنْهُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ عَنْ مُتَوَلِّدٍ مِنْ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ كَالذُّبَابِ وَالْخَنَافِسِ وَالْجِعْلَانِ ، فَإِذَا مَاتَ فِي مَاءٍ أَوْ مَائِعٍ فَفِي تَنْجِيسِهِ بِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ : وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَاخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ أَنَّهُ عَلَى طَهَارَتِهِ لَا يُنَجِّسُ لِمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنِ ابْنِ أَبِي فُدَيْكٍ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ خَالِدٍ أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِذَا سَقَطَ الذُّبَابُ فِي الطَّعَامِ فَامْقُلُوهُ ، فَإِنَّ فِي إِحْدَى جَنَاحَيْهِ سُمًّا وَفِي الْآخَرِ شِفَاءً وَإِنَهُ يُقَدِّمُ السُّمَّ وَيُؤَخِّرُ الْشِّفَاءَ " فَلَوْ كَانَ يُنَجِّسُ بِمَوْتِهِ لَمَا أَمَرَ بِمَقْلِهِ وَمَقْلُهُ سَبَبٌ لِمَوْتِهِ ، وَرَوَى نَبِيهٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ بِشْرِ بْنِ مَنْصُورٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ سَلْمَانَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " يَا سَلْمَانُ كُلُّ طَعَامٍ وَشَرَابٍ وَقَعَتْ فِيهِ ذُبَابَةٌ لَيْسَ لَهَا دَمٌ فَمَاتَتْ فِيهِ فَهُوَ حَلَالٌ أَكْلُهُ وَشُرْبُهُ وَوُضُوءُهُ " وَهَذَا إِنْ ثَبَتَ نَصٌّ لَا يَحْتَمِلُ خِلَافَهُ ، وَلِأَنَّ فِي التَّحَرُّزِ مِنْهُ مَشَقَّةً فَعُفِيَ عَنْهُ .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي : قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ ، وَبِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ وَيَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ أَنَّهُ قَدْ يَنْجَسُ بِذَلِكَ : لِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ حَلَّتْ مَاءً قَلِيلًا قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْأَنْجَاسِ ، وَلِأَنَّ الِاحْتِرَازَ مِنْهُ مُمْكِنٌ بِتَخْمِيرِ الْإِنَاءِ وَلِذَلِكَ جَاءَ الْخَبَرُ بِمَا رَوَاهُ سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : " أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَغْطِيَةِ الْوُضُوءِ وَإِيكَاءِ السِّقَاءِ وَإِكْفَاءِ الْإِنَاءِ " فَكَانَ أَمْرُهُ بِذَلِكَ حِفْظًا لِلْمَاءِ مِنْ وُقُوعِ مَا يُنَجِّسُ بِهِ ، وَغَالِبُ مَا يَقَعُ فِيهَا هُوَ الذُّبَابُ وَالْحَشَرَاتُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُوجِبٌ لِتَنْجِيسٍ مَا مَاتَ فِيهِ ، وَالْأَوَّلُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ أَصَحُّ ، فَإِذَا قِيلَ بِتَنْجِيسِ مَا مَاتَ فِيهِ فَسَوَاءٌ غَيَّرَ الْمَاءَ أَوْ يَفْضُلُ فِيهِ أَمْ لَا ؟ قَدْ نُجِّسَ بِمَوْتِهِ فِي الْحَالِ ، وَإِذَا قِيلَ بِطَهَارَةِ مَا مَاتَ فِيهِ فَهُوَ عَلَى الطَّهَارَةِ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ بِهِ وَيَفْضُلْ فِيهِ ، فَإِنْ تَغَيَّرَ بِهِ الْمَاءُ وَيَفْضُلُ فِيهِ لِطُولِ الْمُكْثِ فَفِي نَجَاسَتِهِ حِينَئِذٍ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ عَلَى طَهَارَتِهِ : لِأَنَّ مَا قَلَّ مَنَ الْمَاءِ إِذَا لَمْ يَنْجَسْ بِمُلَاقَاةِ الْعَيْنِ لَمْ يَنْجَسْ بِالتَّغْيِيرِ وَالتَّقْطِيعِ وَطُولِ الْمُكْثِ ، كَالْأَشْيَاءِ الطَّاهِرَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ حِينَئِذٍ يَصِيرُ نَجِسًا : لِأَنَّ الِاحْتِرَازَ مِنْهُ وَقْتَ حُلُولِهِ مُتَعَذِّرٌ وَالِاحْتِرَازَ مِنْ طُولِ مُكْثِهِ مُمْكِنٌ ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي ذَلِكَ : مَا لَمْ يَفْضُلْ يَعْنِي يَنْقَطِعْ ، فَأَمَّا الْحَيَّاتُ وَالْوَزَغُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ هِيَ ذَاتُ نَفْسٍ سَائِلَةٍ أَمْ لَا ؟ فَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الدَّرَاكِيُّ ، وَأَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِنِيُّ : هِيَ ذَاتُ نَفْسٍ سَائِلَةٍ ، فَعَلَى هَذَا يَنْجَسُ مَا مَاتَا فِيهِ ، وَقَالَ أَبُو الْفَيَّاضِ وَأَبُو الْقَاسِمِ الصِّمْيَرِيُّ لَيْسَتْ ذَاتُ نَفْسٍ سَائِلَةٍ ، فَعَلَى هَذَا فِي تَنْجِيسِ مَا مَاتَا فِيهِ قَوْلَانِ .
مَسْأَلَةٌ إِذَا وَقَعَتْ فِي الْمَاءِ جَرَادَةٌ أَوْ حُوتٌ
مَسْأَلَةٌ : إِذَا وَقَعَتْ فِي الْمَاءِ جَرَادَةٌ أَوْ حُوتٌ طهارة الماء قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَهُ عَنْهُ : " وَإِنْ وَقَعَتْ فِيهِ جَرَادَةٌ مَيْتَةٌ أَوْ حُوتٌ لَمْ تُنَجِّسْهُ : لِأَنَّهُمَا مَأكُولَانِ مَيِّتَيْنِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَصْلُ هَذَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " أحِلَّتْ لَنَا ميْتَتَانِ وَدَمَانِ " فَذَكَرَ فِي الْمَيِّتَيْنَ الْحُوتَ وَالْجَرَادَ ، وَفِي الدَّمَيْنِ الْكَبِدَ وَالطِّحَالَ ، فَأَمَّا الْجَرَادُ فَمِنْ صَيْدِ الْبَرِّ ، فَهُوَ مَأْكُولٌ ، وَمَوْتُهُ ذَكَاتُهُ ، فَإِذَا مَاتَ فِي الْمَاءِ أَوْ وَقَعَ فِيهِ مَيِّتًا فَالْمَاءُ طِهَارٌ : لِأَنَّهُ بَعْدَ مَوْتِهِ مُحَلَّلٌ أَكْلُهُ كَاللَّحْمِ الذَّكِيِّ الَّذِي لَا يَنْجَسُ الْمَاءُ بِوُقُوعِهِ فِيهِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ صَيْدِ الْبَحْرِ وَصَيْدُ الْبَحْرِ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ مُتَّفَقٌ عَلَى أَكْلِهِ من أقسام صيد البحر ، وَهُوَ الْحُوتُ ، فَأَمَّا إِذَا مَاتَ فِي الْمَاءِ فَهُوَ طَاهِرٌ وَأَكْلُهُ حَلَالٌ ، سَوَاءٌ كَانَ مَوْتُهُ بِسَبَبٍ ، أَوْ غَيْرِ سَبَبٍ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ كَانَ مَوْتُهُ بِسَبَبِ
أَكْلٍ ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ سَبَبٍ لَمْ يُؤْكَلْ ، وَلِلْكَلَامِ مَعَهُ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا ، فَأَمَّا دَمُ الْحُوتِ طهارته فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : نَجِسٌ كَسَائِرِ الدِّمَاءِ ، وَيُنَجِّسُ مَا وَقَعَ فِيهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ طَاهِرٌ ، لَا يُنَجِّسُ مَا أَصَابَهُ : لِأَنَّ الْحُوتَ لَمَّا بَايَنَ سَائِرَ الْأَمْوَاتِ بَايَنَ دَمُهُ سَائِرَ الدِّمَاءِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مِنْ حَيَوَانِ الْبَحْرِ مَا اتُّفِقَ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَهُوَ الضُّفْدَعُ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ ذَوَاتِ السُّمُومِ كَحَيَّاتِ الْمَاءِ وَعَقَارِبِهِ ، فَهَذِهِ كُلُّهَا مُحَرَّمَةُ الْأَكْلِ ، وَهِيَ إِذَا مَاتَتْ نَجِسَةٌ ، وَهَلْ يَنْجَسُ الْمَاءُ بِمَوْتِهِ فِيهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى مَا مَضَى فِي الْقَوْلَيْنِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنَّهَا طَاهِرَةٌ ، وَإِنْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً ، وَلَا يَنْجَسُ الْمَاءُ بِمَوْتِهَا عَلَى أَصْلِهِ فِيمَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِيهِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا اخْتُلِفَ فِي إِبَاحَتِهِ من أقسام صيد البحر ، وَهُوَ مَا سِوَى الْحُوتِ الْمُبَاحِ ، وَذَوَاتِ السُّمُومِ الْمُحَرَّمَةِ مِنْ دَوَابِّ الْمَاءِ وَكِلَابِهِ وَخَنَازِيرِهِ وَسِبَاعِهِ فَقَدْ عَلَّقَ الشَّافِعِيُّ الْقَوْلَ فِيهِ مَا سَنَشْرَحُهُ فِي مَوْضِعِهِ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : أَنَّ جَمِيعَهُ حَرَامٌ مَا لَمْ يَكُنْ حُوتًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ " فَذَكَرَ الْحُوتَ وَالْجَرَادَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا سِوَى الْحُوتِ لَيْسَ بِحَلَالٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ جَمِيعَهُ حَلَالٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبَحْرِ : " هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ " فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي جَمِيعِ مَيْتَتِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ مَا أَشْبَهَ مُحَرَّمَاتِ الْبَرِّ كَالْكِلَابِ وَالْخَنَازِيرِ وَالْحُمُرِ وَالسِّبَاعِ كَانَ حَرَامًا ، وَمَا أَشْبَهَ الْمَأْكُولَ مِنْهُ مِثْلُ دَوَابِّ الْمَاءِ وَبَقَرِهِ كَانَ حَلَالًا ، فَعَلَى هَذَا إِذَا قُلْنَا : بِإِحْلَالِ ذَلِكَ ، فَهُوَ طَاهِرٌ بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَالْمَاءُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ طَاهِرٌ ، وَإِذَا قُلْنَا : أَنَّهُ حَرَامٌ ، كَانَ نَجِسًا بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَهَلْ يُنَجِّسُ مَا مَاتَ فِيهِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَيْسَ بِنَجِسٍ وَلَا يُنَجِّسُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
مَسْأَلَةٌ لُعَابُ الْحَيَوَانِ وَعَرَقُهُ
مَسْأَلَةٌ : لُعَابُ الْحَيَوَانِ وَعَرَقُهُ قَالَ الشَافعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلُعَابُ الدَوَابِّ وَعَرَقُهَا قِيَاسًا عَلَى بَنِي آدَمَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : كُلُّ حَيَوَانٍ طَاهِرٍ فَلُعَابُهُ وَعَرَقُهُ طَاهِرٌ ، سَوَاءٌ كَانَ مَأْكُولًا أَوْ غَيْرَ مَأْكُولٍ . وَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : مَا كَانَ غَيْرَ مَأْكُولٍ فَلُعَابُهُ وَعَرَقُهُ نَجِسٌ ، عَلَى تَرْتِيبِ مَا قَالَهُ فِي نَجَاسَةِ سُؤْرِهِ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ ، ثُمَّ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ بَلَلٌ مُنْفَصِلٌ مِنْ حَيَوَانٍ غَيْرِ مَأْكُولٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا قِيَاسًا عَلَى لَبَنِهِ .
وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ اسْتَعَارَ فَرَسًا لِأَبِي طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيِّ وَأَجْرَاهُ ثُمَّ قَالَ إِنَّنَا وَجَدْنَاهُ بَحْرًا وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْفَرَسَ إِذَا جَرَى عَرِقَ لَا سِيَّمَا فِي حَرِّ تِهَامَةَ ، وَابْتَلَّتْ ثِيَابُهُ بِهِ إِذْ لَيْسَ دُونَهَا حَائِلٌ . وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكِبَ حِمَارًا بِلَا إِكَافٍ ، وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ عَيْنُهُ طَاهِرَةٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لُعَابُهُ وَعَرَقُهُ طَاهِرًا قِيَاسًا عَلَى بَنِي آدَمَ فَأَمَا قِيَاسُهُ عَلَى لَبَنِهِ فَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ أَصْحَابِنَا فِيهِ ، وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِطَهَارَتِهِ كَلُعَابِهِ وَعَرَقِهِ ، فَعَلَى هَذَا يَبْطُلُ الِاسْتِدْلَالُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِنَجَاسَتِهِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا إِذَا سَلِمَ الْقِيَاسُ مِنَ النَّقْضِ بِرِيقِ الْهِرَّةِ - إِمْكَانَ التَّحَرُّزِ مِنْ لَبَنِهِ وَتَعَذُّرَ الْحِرْزِ مِنْ عَرَقِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ دَبْغُ الْإِهَابِ
مَسْأَلَةٌ : دَبْغُ الْإِهَابِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " ( قَالَ ) وَأَيُّمَا إِهَابِ مَيْتَةٍ دُبِغَ بِمَا يَدْبُغُ بِهِ الْعَرَبُ أَوْ نَحْوِهِ فَقَدْ طَهُرَ وَحَلَّ بَيْعُهُ وَتُوُضِئَ فِيهِ إِلَّا جِلْدَ كَلْبٍ أَوْ خِنْزِيرٍ لِأَنَّهُمَا نَجِسَانِ وَهُمَا حَيَّانِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُسْتَوْفَاةً فِي بَابِ الْآنِيَةِ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يَطْهُرُ بِالْدِّبَاغِ عَظْمٌ وَلَا صُوفٌ وَلَا شَعْرٌ لِأَنَّهُ قَبْلَ الدِّبَاغِ وَبَعْدَهُ سَوَاءٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَيْضًا بِمَا يُغْنِي عَنِ الْإِعَادَةِ .
بَابُ الْمَاءِ الَّذِي يَنْجَسُ وَالَّذِي لَا يَنْجَسُ
بَابُ الْمَاءِ الَّذِي يَنْجَسُ وَالَّذِي لَا يَنْجَسُ قَالَ الشَّافِعِيُّ : " أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ الْمَخْزُومِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَهُ قَالَ : " إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ نَجَسًا أَوْ قَالَ خَبَثًا عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ نَجَسًا أَوْ قَالَ خَبَثًا " وَهُوَ صَحِيحٌ ، وَلِلنَّجَاسَةِ إِذَا وَقَعَتْ فِي الْمَاءِ حَالَانِ . حَالٌ تُغَيِّرُ أَحَدَ أَوْصَافِ الْمَاءِ مِنْ لَوْنٍ أَوْ طَعْمٍ أَوْ رَائِحَةٍ ، فَيَصِيرُ الْمَاءُ بِهَا نَجِسًا ، قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا وَهُوَ إِجْمَاعٌ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ لَا تُغَيِّرَ النَّجَاسَةُ شَيْئًا مِنْ أَوْصَافِ الْمَاءِ فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي حُكْمِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي نَجَاسَتِهِ بِالتَّغْيِيرِ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ أَحَدُ أَوْصَافِهِ ، فَهُوَ طَاهِرٌ ، وَإِنْ قَلَّ وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ اعْتِبَارَ نَجَاسَتِهِ بِالِاخْتِلَاطِ ، وَاخْتِلَاطَ النَّجَاسَةِ بِالْمَاءِ مُعْتَبَرٌ بِأَنَّهُ مَتَى حُرِّكَ أَدْنَاهُ تَحَرَّكَ أَقْصَاهُ وَقِيلَ : مَا الْتَقَى طَرَفَاهُ فَيَصِيرُ الْمَاءُ بِهِ نَجِسًا وَإِنْ لَمْ يَلْتَقِ طَرَفَاهُ ، وَلَا تَحَرَّكَ أَقْصَاهُ بِتَحْرِيكِ أَدْنَاهُ كَانَ مَا لَمْ يَتَحَرَّكْ مِنَ الْمَاءِ بِالنَّجَاسَةِ طَاهِرًا ، وَاخْتَلَفَتْ عَنْهُ الرِّوَايَةُ فِيمَا تَحَرَّكَ فَرَوَى بَعْضُ أَصْحَابِهِ عَنْهُ أَنَّهُ نَجِسٌ ، وَرَوَى بَعْضُهُمْ أَنَّهُ طَاهِرٌ . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : أَنَّ اعْتِبَارَ نَجَاسَتِهِ بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ فَإِنْ قَلَّ الْمَاءُ كَانَ نَجِسًا وَإِنْ كَثُرَ كَانَ طَاهِرًا ، وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا فِي حَدِّ الْقَلِيلِ مِنَ الْكَثِيرِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ مَحْدُودٌ بَقُلَّتَيْنِ ، فَإِنْ بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ فَهُوَ كَثِيرٌ ، لَا يَنْجَسُ إِلَّا بِالتَّغْيِيرِ ، وَإِنْ كَانَ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ ، فَهُوَ نَجِسٌ ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ ، وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ ابْنُ جَرِيحٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَأَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَأَبُو ثَوْرٍ . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : أَنَّهُ مَحْدُودٌ بِأَرْبَعِينَ قُلَّةً ، وَالْقُلَّةُ مِنْهَا كَالْجَرَّةِ ، وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ مَحْدُودُ بِكَرٍّ ، وَالْكَرُّ عِنْدَهُمْ أَرْبَعُونَ قَفِيزًا ، وَالْقَفِيزُ عِنْدَهُمُ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ رِطْلًا ، وَكَانَ مِقْدَارُ ذَلِكَ أَلْفَ رِطْلٍ ، وَمِائَتَيْ رِطْلٍ ، وَثَمَانِينَ رِطْلًا وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَمَسْرُوقِ بْنِ الْأَجْدَعِ وَوَكِيعِ بْنِ الْجِرَّاحِ فَهَذِهِ الْمَذَاهِبُ الْمَشْهُورَةُ فِيمَا يُنَجَّسُ مِنَ الْمَاءِ وَلَا يُنَجَّسُ .
فَصْلٌ اسْتِدْلَالُ مَالِكٍ عَلَى أَنَّ نَجَاسَةَ الْمَاءِ بِالتَّغْيِيرِ
فَصْلٌ : اسْتِدْلَالُ مَالِكٍ عَلَى أَنَّ نَجَاسَةَ الْمَاءِ بِالتَّغْيِيرِ وَاسْتَدَلَّ مَالِكٌ وَمَنْ تَابَعَهُ عَلَى أَنَّ نَجَاسَةَ الْمَاءِ مُعْتَبَرَةٌ بِالتَّغْيِيرِ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " خَلَقَ اللَّهُ الْمَاءَ طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ إِلَّا مَا غَيَّرَ لَوْنَهُ أَوْ طَعْمَهُ أَوْ رَائِحَتَهُ " قَالُوا : وَلِأَنَّ مَا لَمْ تُغَيِّرْهُ النَّجَاسَةُ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا كَالْقُلَّتَيْنِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّ حُصُولَ النَّجَاسَةِ فِي الْمَاءِ قَدْ تَكُونُ تَارَةً بِوُرُودِهَا عَلَى الْمَاءِ ، وَتَارَةً بِوُرُودِ الْمَاءِ عَلَيْهَا ، فَلَمَّا كَانَ الْمَاءُ إِذَا وَرَدَ عَلَى النَّجَاسَةِ لَمْ يُنَجَّسْ إِلَّا بِالتَّغْيِيرِ وَجَبَ إِذَا وَرَدَتِ النَّجَاسَةُ عَلَى الْمَاءِ لَا يُنَجَّسُ إِلَّا بِالتَّغْيِيرِ .
فَصْلٌ اسْتِدْلَالُ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى أَنَّ نَجَاسَةَ الْمَاءِ مُعْتَبَرَةٌ بِالِاخْتِلَاطِ
فَصْلٌ : اسْتِدْلَالُ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى أَنَّ نَجَاسَةَ الْمَاءِ مُعْتَبَرَةٌ بِالِاخْتِلَاطِ وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَنَّ نَجَاسَةَ الْمَاءِ مُعْتَبَرَةً بِالِاخْتِلَاطِ بِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدِّائِمِ ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ " فَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ لِأَجْلِ التَّنْجِيسِ بِالِاخْتِلَاطِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ قَذَرٍ فِيهِ ، وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ نَزَحَ بِئْرَ زَمْزَمَ مِنْ زِنْجِيٍّ مَاتَ فِيهَا ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَاءَهَا كَثِيرٌ ، وَلَمْ يُنْقَلِ التَّغْيِيرُ ، وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْعَصْرِ مَعَ ضَنِّهِمْ بِمَاءِ زَمْزَمَ أَنْ يُرَاقَ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَأَنْ يُسْتَعْمَلَ إِلَّا فِي قُرْبَةٍ ، فَصَارَ إِجْمَاعُ الْعَصْرِ ، قَالَ : وَلِأَنَّ مَا خَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا قِيَاسًا عَلَى مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ ، قَالَ : وَلِأَنَّهُ مَائِعٌ تَنَجَّسَ قَلِيلُهُ بِمُخَالَطَةِ النَّجَاسَةِ قِيَاسًاِ عَلَى سَائِرِ الْمَائِعَاتِ ، قَالَ : وَلِأَنَّ الْعَيْنَ الْوَاحِدَةَ إِذَا اجْتَمَعَ فِيهَا حَظْرٌ وَإِبَاحَةٌ فَغَلَبَ حُكْمُ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ عَلَى الْمُتَوَلِّدِ مِنْ بَيْنِ
مَأْكُولٍ وَغَيْرِ مَأْكُولٍ ، وَكَالْوَلَدِ إِذَا كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ وَثَنِيًّا ، وَالْآخَرُ كِتَابِيًّا فَاقْتَضَى شَاهِدُ هَذِهِ الْأُصُولِ فِي تَغْلِيبِ الْحَظْرِ أَنْ يَغْلِبَ حُكْمُ النَّجَاسَةِ عَلَى الطَّهَارَةِ .
فَصْلٌ دَفْعُ مَا اعْتَرَضَ بِهِ الْخَصْمُ عَنْ حَدِيثِ " الْقُلَّتَانِ "
فَصْلٌ : دَفْعُ مَا اعْتَرَضَ بِهِ الْخَصْمُ عَنْ حَدِيثِ " الْقُلَّتَانِ " وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ الْمَخْزُومِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ خَبَثًا " فَدَلَّ تَحْدِيدُ الْقُلَّتَيْنِ عَلَى أَنَّ الْقَدْرَ مُعْتَبَرٌ ، وَأَنْ لَا اعْتِبَارَ بِالِاخْتِلَاطِ فِيمَا زَادَ ، وَلَا اعْتِبَارَ بِعَدَمِ الْمُعْتَبَرِ فِيمَا نَقَصَ ، اعْتَرَضُوا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ بِسَبْعَةِ أَسْئِلَةٍ ثَلَاثَةٍ فِي إِسْنَادِهِ وَأَرْبَعَةٍ فِي مَتْنِهِ . أَحَدُهَا : إِنْ قَالُوا إِنَّ الشَّافِعِيَّ رَوَاهُ عَنْ مَجْهُولٍ : لِأَنَّهُ قَالَ أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ ، وَقَدْ يَكُونُ ثِقَةً عِنْدَهُ وَمَجْرُوحًا عِنْدَ غَيْرِهِ ، وَجَهَالَةُ الرَّاوِي تَمْنَعُ مِنَ الْعَمَلِ بِرِوَايَتِهِ ، وَعَنْ هَذَا جَوَابَانِ لِأَصْحَابِنَا : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَعْرُوفٌ وَإِنْ كُنِّيَ عَنِ اسْمِهِ فَقَالَ أَبُو يَعْقُوبَ الْبُوَيْطِيُّ هُوَ حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ الْكُوفِيُّ . وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ الْمَخْزُومِيُّ ، وَحُكِيَ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ أَنَّهُ قَالَ : إِذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ عَنْ مَعْمَرٍ فَهُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ ، وَإِذَا قَالَ أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ فَهُوَ ابْنُ أَبِي سَلَمَةَ . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّ الشَّافِعِيَّ وَضَعَ هَذَا التَّصْنِيفَ بِمِصْرَ ، وَكَانَتْ كُتُبُهُ بِمَكَّةَ ، فَكَانَ يُورِدُ الْحَدِيثَ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ حَدَّثَهُ بِهِ أَحَدُ الثِّقَاتِ عَنْ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ مِثْلَ أَنْ يُحَدِّثَهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ مَالِكٌ تَارَةً ، وَسُفْيَانُ تَارَةً ، فَإِذَا تَيَقَّنَ رِوَايَةَ الزُّهْرِيِّ ، وَشَكَّ فِي الَّذِي حَدَّثَهُ عَنْهُ هَلْ هُوَ مَالِكٌ أَوْ سُفْيَانُ ، قَالَ أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ عَنِ الزُّهْرِيِّ ، وَهَذَا جَائِزٌ .
وَالسُّؤَالُ الثَّانِي : إِنْ قَالُوا فِي إِسْنَادِهِ قَدْحٌ مِنْ وَجْهٍ ثَانٍ وَهُوَ الْوَلِيدُ بْنُ كَثِيرٍ ، رَوَاهُ تَارَةً عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ ، وَتَارَةً عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ ، وَهَذَا اضْطِرَابٌ يَقْدَحُ فِي الْحَدِيثِ ، وَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا حَكَاهُ أَبُو الْحَسَنِ الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ كَثِيرٍ سَمِعَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنَ الرَّجُلَيْنِ جَمِيعًا ، فَجَازَ أَنْ يَرْوِيَهُ عَنْ أَيِّهِمَا شَاءَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ شَكًّا فِي أَحَدِهِمَا ، وَهُمَا ثِقَتَانِ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ صِحَّةِ الْحَدِيثِ : لِأَنَّهُ عَنْ أَيِّهِمَا أَسْنَدَهُ لَزِمَهُ الْأَخْذُ بِهِ . وَالسُّؤَالُ الثَّالِثُ : إِنْ قَالُوا إِنَّ فِي إِسْنَادِهِ قَدْحًا مِنْ وَجْهٍ ثَالِثٍ ، وَهُوَ أَنَّهُ رَوَى تَارَةً عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، وَتَارَةً عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ . وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْوَاقِدِيَّ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ وَعُبَيْدُ اللَّهِ أَخَوَانِ ابْنَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَهُمَا ثِقَتَانِ ، وَقَدْ رَوَيَا جَمِيعًا هَذَا الْحَدِيثَ ، وَلَقِيَهُمَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرٍ ، وَقَدْ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَيْضًا . وَالسُّؤَالُ الرَّابِعُ : فِي مَتْنِهِ : إِنْ قَالُوا وَالْقُلَّةُ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ يَتَنَاوَلُ أَشْيَاءَ مُتَغَايِرَةً فَمِنْهَا الْجَرَّةُ الَّتِي تَلْقَهَا الْيَدُ ، وَمِنْهَا قُلَّةُ الْجَبَلِ ، وَمِنْهَا قَامَةُ الرَّجُلِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَارَ إِلَيْهِ مَعَ اشْتِرَاكِهِ ، وَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : مَنْعُ اشْتِرَاكِهِ فِي الْمُسَمَّيَاتِ يُفِيدُ تَحْدِيدَ الْمَاءِ فِي النَّجَاسَاتِ وَهُمْ لَا يَعْتَبِرُونَ بِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُشْتَرَكًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَ إِلَّا الْأَوَانِيَ لِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهَا أَوْعِيَةُ الْمَاءِ الَّتِي يَقْدِرُ بِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّهَا أَشْهَرُ فِي الْحِكَايَاتِ وَأَكْثَرُ عُرْفًا فِي الِاسْتِعْمَالِ قَالَ حُمَيْدُ بْنُ مَعْمَرٍ : فَظَلَلْنَا بِنِعْمَةٍ وَاتَّكَأْنَا وَشَرِبْنَا الْحَلَالَ مِنْ قُلَلِهِ وَقَالَ الْأَخْطَلُ :
يَمْشُونَ حَوْلَ مُكَدَّمٍ قَدْ كَدَّحَتْ مَتْنَيْهِ حَمْلُ حَنَاتِمٍ وَقِلَالِ يَعْنِي : مَلَخَ الْجِلْدَ مِنَ الْكَدِّ . وَالسُّؤَالُ الْخَامِسُ : أَنَّ اسْمَ الْقُلَّةِ ، وَإِنْ كَانَ مُتَنَاوِلًا لِلْأَوَانِي ، فَقَدْ يَتَنَاوَلُ صِغَارَهَا وَكِبَارَهَا فَيَتَنَاوَلُ الْكُوزَ : لِأَنَّهُ يُقَلُّ بِالْأَصَابِعِ ، وَيَتَنَاوَلُ الْجَرَّةَ : لِأَنَّهَا تُقَلُّ بِالْيَدِ ، وَيَتَنَاوَلُ الْحَبَّ : لِأَنَّهُ يُقَلُّ بِالْكَتِفِ ، وَمَا كَانَ مُخْتَلِفَ الْقَدْرِ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ حَدًّا وَعَنْ هَذَا جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَهُ مِقْدَارًا بَعْدُ وَمِنْهَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَكْثَرِهَا : لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي تَقْدِيرِهِ بِقُلَّتَيْنِ صَغِيرَتَيْنِ ، وَهُوَ مُقَدَّرٌ عَلَى تَقْدِيرِهِ بِوَاحِدَةٍ كَبِيرَةٍ . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ مَيَّزَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " بِقِلَالِ هَجَرَ " وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ سِقْلَابٍ . وَالسُّؤَالُ السَّادِسُ : قَالُوا : فَهُوَ وَإِنْ يَتَنَاوَلْ قِلَالًا مُتَمَيِّزَةً مِنْ قِلَالِ هَجَرَ ، فَقَدْ جَاءَ الْحَدِيثُ مُخْتَلِفًا فِي الْعَدَدِ فَرُوِيَ " إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ " وَرُوِيَ " إِذَا كَانَ ثَلَاثًا " وَرُوِيَ " إِذَا كَانَ أَرْبَعِينَ قُلَّةً " فَكَيْفَ لَكُمْ أَنْ تَسْتَعْمِلُوا حَدِيثَ الْقُلَّتَيْنِ وَتُسْقِطُوا مَا سِوَاهُ مِنَ الْعَدَدِ . وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ حَدِيثَ الْأَرْبَعِينَ قُلَّةً رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ فَلَمْ يُؤْخَذْ بِهِ ، وَحَدِيثَ الثَّلَاثَةِ الْقِلَالِ تَفَرَّدَ بِهِ بَعْضُ أَصْحَابِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ . عَنْ عَاصِمِ بْنِ الْمُنْذِرِ وَشَكَّ فِي قُلَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ وَسَائِرُ أَصْحَابِ حَمَّادٍ رَوَوْا قُلَّتَيْنِ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ فِي ثَلَاثٍ وَهَكَذَا مَنْ رَوَاهُ مِنْ غَيْرِ هَذَا الطَّرِيقِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ ، وَالنَّقَلَةُ الثِّقَاتُ لَمْ يَشُكُّوا فِيهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ شَكٌّ لِوَاحِدٍ مُعَارِضًا لِيَقِينِ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الْأَخْبَارِ كُلِّهَا وَتُسْتَعْمَلَ عَلَى وَجْهٍ يَصِحُّ ، وَلَا يَكُونُ فِيهِ تَعَارُضٌ فَيَكُونَ الْقَلْتَانِ مَحْمُولًا عَلَى قِلَالِ هَجَرَ ، كَمَا جَاءَ فِيهِ النَّصُّ ، وَالثَّلَاثُ عَلَى قِلَالٍ أَصْغَرَ مِنْهَا فَتَسَعُ قُلَّتَيْنِ مِنْ قِلَالِ هَجَرَ ، وَالْأَرْبَعُونَ قُلَّةً عَلَى صِغَارِهَا الَّتِي تُقَلُّ بِالْيَدِ تَكُونُ بِقَدْرِ قُلَّتَيْنِ مِنْ قِلَالِ هَجَرَ .
وَالسُّؤَالُ السَّابِعُ : إِنْ قَالُوا : تَسْلِيمُ الْحَدِيثِ عَلَى لَفْظِهِ فِي الْقُلَّتَيْنِ يَمْنَعُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ ، وَالتَّعَلُّقِ بِظَاهِرِ لَفْظِهِ لِقَوْلِهِ لَمْ يَحْمِلْ خَبَثًا يَعْنِي أَنَّهُ يَضْعُفُ عَنِ احْتِمَالِ الْخَبَثِ ، كَمَا يُقَالُ هَذَا الْخَلُّ لَا [ يَحْمِلُ ] الْمَاءَ لِضَعْفِهِ عَنْهُ ، وَهَذَا الطَّعَامُ ، لَا يَحْمِلُ الْغِشَّ يَعْنِي أَنَّهُ يَضْعُفُ عَنْهُ ، وَيَفْسُدُ بِهِ ، وَهَذَا الرَّجُلُ لَا يَحْمِلُ هَذَا الْمَتَاعَ إِذَا عَجَزَ عَنْهُ ، وَعَنْهُ ثَلَاثَةُ أَوْجَهٍ مِنَ الْجَوَابِ : أَحَدُهَا : إِنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ لِتَحْدِيدِ الْقُلَّتَيْنِ فَائِدَةٌ ، وَهَذَا فَاسِدٌ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ فِي أَكْثَرِ الْأَخْبَارِ لَمْ يُنَجَّسْ ، وَهَذَا صَرِيحٌ لَا تَأْوِيلَ عَلَيْهِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ لَمْ يَحْمِلْ خَبَثًا أَيْ لَمْ يَقْبَلْ خَبَثًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا [ الْجُمُعَةِ : ] أَيْ لَمْ يَقْبَلُوهَا وَلَمْ يَلْتَزِمُوا حُكْمَهَا ، فَسَلِمَ الْحَدِيثُ مِنَ الِاعْتِرَاضِ بِهَذِهِ الْأَسْئِلَةِ وَصَحَّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ عَلَى كُلِّ مُخَالِفٍ .
فَصْلٌ الرَّدُّ عَلَى الْإِمَامِ مَالِكٍ
فَصْلٌ : الرَّدُّ عَلَى الْإِمَامِ مَالِكٍ وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى مَالِكٍ خَاصَّةً بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا " فَمَنَعَ مِنْ غَمْسِهَا خَوْفًا مِنْ تَنْجِيسِ الْمَاءِ بِهَا فَدَلَّ عَلَى تَنْجِيسِ الْمَاءِ الْقَلِيلِ ، وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ ، وَلِأَنَّ أُصُولَ الشَّرْعِ مَوْضُوعَةٌ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فِي مُخَالَطَةِ الْحَظْرِ لَهُ ، فَإِنِ اخْتَلَطَ بِالْقَلِيلِ كَانَ حُكْمُ الْحَظْرِ أَغْلَبَ ، وَإِنِ اخْتَلَطَ بِالْكَثِيرِ كَانَ حُكْمُ الْإِبَاحَةِ أَغْلَبَ ، أَلَا تَرَى لَوِ اخْتَلَطَتْ أُخْتُ رَجُلٍ بِعَدَدٍ مِنَ النِّسَاءِ حُرِّمْنَ كُلُّهُنَّ عَلَيْهِ تَغْلِيبًا لَحُكْمِ الْحَظْرِ ، وَلَوِ اخْتَلَطَتْ بِنِسَاءِ بَلَدٍ حَلَلْنَ لَهُ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْإِبَاحَةِ ، كَذَلِكَ النَّجَاسَةُ ، وَإِنِ اخْتَلَطَتْ بِمَاءٍ قَلِيلٍ وَجَبَ تَغْلِيظُ الْحَظْرِ فِي النَّجَاسَةِ وَإِنِ اخْتَلَطَتْ بِمَاءٍ كَثِيرٍ وَجَبَ تَغْلِيبُ الْإِبَاحَةِ فِي الطَّهَارَةِ ، وَهَذَا أَصَحُّ اسْتِدْلَالٍ بَعْدَ النَّصِّ ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا ، ثُمَّ مِنَ الْقِيَاسِ أَنَّهُ مَاءٌ قَلِيلٌ خَالَطَهُ نَجَاسَةٌ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا قِيَاسًا عَلَى الْمُتَغَيِّرِ .
فَصْلٌ الرَّدُّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ
فَصْلٌ : الرَّدُّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ سَلِيطِ بْنِ أَيُّوبَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ لَهُ إِنَّكَ
تَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ ، وَهِيَ يُطْرَحُ فِيهَا الْمَحَائِضُ وَلُحُومُ الْكِلَابِ ، وَمَا يُنْجِي النَّاسُ . فَقَالَ : " الْمَاءُ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ " فَلَمْ يَجْعَلْ لِاخْتِلَاطِ النَّجَاسَةِ بِالْمَاءِ تَأْثِيرًا فِي نَجَاسَتِهِ وَهَذَا نَصٌّ يَدْفَعُ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ . اعْتَرَضُوا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ بِسُؤَالَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ بِئْرَ بُضَاعَةَ عَيْنٌ جَارِيَةٌ إِلَى بَسَاتِينَ تَشْرَبُ مِنْهَا وَالْمَاءُ الْجَارِي لَا يَثْبُتُ فِيهِ نَجَاسَةٌ . وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ بِئْرَ بُضَاعَةَ أَشْهَرُ حَالًا مِنْ أَنْ يُعْتَرَضَ عَلَيْهَا لِهَذَا السُّؤَالِ ، وَهِيَ بِئْرٌ فِي بَنِي سَاعِدَةَ ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ : قَدَّرْتُ أَنَا بِئْرَ بُضَاعَةَ بِرِدَائِي أَيْ : مَدَرْتُهُ عَلَيْهَا ثُمَّ ذَرَعْتُهُ ، فَإِذَا عَرْضُهَا سِتَّةُ أَذْرُعٍ . وَسَأَلْتُ الَّذِي فَتَحَ لِيَ الْبُسْتَانَ فَأَدْخَلَنِي إِلَيْهِ : هَلْ غُيِّرَ بِنَاؤُهَا عَمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ : فَقَالَ : لَا ، وَرَأَيْتُ فِيهَا مَاءً مُتَغَيِّرَ اللَّوْنِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَاءَ الْجَارِيَ ، لَا يَبْقَى فِيهِ التَّغْيِيرُ ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ : وَسَمِعْتُ قُتَيْبَةَ بْنَ سَعِيدٍ قَالَ سَأَلْتُ قَيِّمَ بِئْرِ بُضَاعَةَ عَنْ عُمْقِهَا ، قَالَ : أَكْثَرُ مَا يَكُونُ فِيهَا الْمَاءُ قَالَ إِلَى الْعَانَةِ قُلْتُ : وَإِذَا نَقَصَ ، قَالَ : دُونَ الْعَوْرَةِ . وَالسُّؤَالُ الثَّانِي : إِنْ قَالُوا لَا يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إِلَى الصَّحَابَةِ أَنْ يُلْقُوا فِي بِئْرٍ يَتَوَضَّأُ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَحَائِضَ وَلُحُومَ الْكِلَابِ بَلْ ذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ ، وَهُوَ بِصِيَانَةِ وُضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَوْلَى فَدَلَّ عَلَى وَهَاءِ الْحَدِيثِ . وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَا يَصِحُّ إِضَافَةُ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ وَلَا رَوَيْنَا أَنَّهُمْ فَعَلُوهُ ، وَإِنَّمَا كَانَتْ بِئْرُ بُضَاعَةَ بِقُرْبٍ مِنْ مَكَانِ الْجِيَفِ وَالْمَحَائِضِ ، وَمَلْقَى الْأَنْجَاسِ ، وَكَانَتْ تَهُبُّ الرِّيحُ ، فَكَانَتِ الرِّيحُ تُلْقِي الْمَحَائِضَ وَالْأَنْجَاسَ فِيهَا ، ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّهُ مَاءٌ كَثِيرٌ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُنَجَّسَ بِوُقُوعِ نَجَاسَةٍ لَمْ تُغَيِّرْهُ قِيَاسًا عَلَى وُقُوعِ الْبَعْرَةِ الْيَابِسَةِ فِيهِ . فَإِنْ قِيلَ الْبَعْرَةُ الْيَابِسَةُ لَمْ تُخَالِطْهُ قِيلَ الِاعْتِبَارُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ لَا بِمُخَالَطَتِهَا ، أَلَا تَرَى أَنَّ شَعْرَ الْخِنْزِيرِ وَعَظْمَهُ يُنَجِّسُ الْمَاءَ إِذَا وَقَعَ فِيهِ ، وَإِنْ لَمْ يُخَالِطْهُ ، وَلِأَنَّ مَا لَا يُمْكِنُ حِفْظُهُ مِنْ حُلُولِ النَّجَاسَةِ فِيهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُنَجَّسَ إِلَّا بِالتَّغْيِيرِ قِيَاسًا عَلَى مَا لَا يَلْتَقِي طَرَفَاهُ مِنْ بِئْرٍ أَوْ غَدِيرٍ ، وَلِأَنَّ الْمَاءَ الْكَثِيرَ لَا يُمْكِنُ حِفْظُهُ بِالْأَوْعِيَةِ ، وَلَا يُقْدَرُ عَلَى صَوْنِهِ مِنَ النَّجَاسَةِ ، فَصَارَ التَّحَرُّزُ مِنْ حُلُولِ النَّجَاسَةِ فِيهِ شَاقًّا فَعُفِيَ عَنْهُ كَدَمِ الْبَرَاغِيثِ ، وَالْمَاءُ الْقَلِيلُ يُمْكِنُ حِفْظُهُ بِالْأَوْعِيَةِ ، وَيُقْدَرُ عَلَى صَوْنِهِ مِنَ النَّجَاسَةِ فَصَارَ التَّحَرُّزُ مِنْ حُلُولِ النَّجَاسَةِ فِيهِ مُمْكِنًا فَلَمْ يُعْفَ
عَنْهُ كَسَائِرِ الْأَنْجَاسِ ، وَلِأَنَّ مَذْهَبَهُمْ يُفْضِي إِلَى مَا يَدْفَعُهُ الْمَعْقُولُ مِنْ تَنْجِيسِ الْمَاءِ الْكَثِيرِ ، [ إِذَا ضَاقَ مَكَانُهُ ] وَتَطْهِيرِ الْقَلِيلِ إِذَا اتَّسَعَ مَكَانُهُ وَكَثِيرُ الْمَاءِ أَدْفَعُ لِلنَّجَاسَةِ مِنْ قَلِيلِهِ .
فَصْلٌ الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ الْمَالِكِيَّةِ
فَصْلٌ : الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ الْمَالِكِيَّةِ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ مَالِكٌ مِنْ قَوْلِهِ : " خُلِقَ الْمَاءُ طَهُورًا " فَهُوَ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَاءِ الْكَثِيرِ : لِأَنَّهُ سَبَبُهُ بِئْرُ بُضَاعَةَ وَلَوْ كَانَ عَامًّا لَخَصَّصْنَاهُ بِمَا ذَكَرْنَا ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْقُلَّتَيْنِ فَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى فِي الْكَثِيرِ تَعَذَّرَ صَوْنُهُ عَنِ النَّجَاسَةِ ، وَقِلَّةِ التَّحَرُّزِ مِنْ حُلُولِهَا فِيهِ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ جَمْعِهِ بَيْنَ وُرُودِ الْمَاءِ عَلَى النَّجَاسَةِ وَبَيْنَ وُرُودِ النَّجَاسَةِ عَلَى الْمَاءِ فَفَرْقٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : شَرْعٌ وَمَعْنًى . وَأَمَّا الشَّرْعُ فَأَمْرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِرَاقَةِ وُلُوغِ الْكَلْبِ ، وَقَدْ يُطَهَّرُ بِدُونِ مَا فِيهِ ، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَهُوَ أَنَّ تَنْجِيسَ الْمَاءِ بِوُرُودِهِ عَلَى النَّجَاسَةِ مُؤْدٍ إِلَى أَنْ لَا تَزُولَ نَجَاسَتُهُ عَنْ مَحَلٍّ إِلَّا بِقُلَّتَيْنِ ، وَهَذَا شَاقٌّ فَسَقَطَ ، وَتَخْمِيرُ مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ مِنَ الْمَاءِ مِنْ حُلُولِ النَّجَاسَةِ فِيهِ غَيْرُ شَاقٍّ فَلَزِمَ ، وَصَارَ مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ يُنَجَّسُ بِورُودِ النَّجَاسَةِ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ حِفْظَهُ مِنْهَا بِتَخْمِيرِ الْإِنَاءِ مُمْكِنٌ ، وَصَارَ وُرُودُهُ عَلَى الْمَاءِ اضْطِرَارًا فَلَمْ يُنَجَّسْ .
فَصْلٌ الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ الْأَحْنَافِ
فَصْلٌ : الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ الْأَحْنَافِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ مِنَ الْخَبَرِ فَهُوَ أَنَّهُ نَصٌ فِي النَّهْيِ عَنِ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى نَجَاسَتِهِ بِهِ . فَإِنْ قِيلَ : لَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُفْضِيًا إِلَى تَنْجِيسِهِ ، لَمْ يَكُنْ لِلنَّهْيِ فَائِدَةٌ . قُلْنَا : الْتِمَاسُ فَائِدَةِ النَّهْيِ اعْتِرَافٌ بِأَنْ لَا دَلِيلَ فِي ظَاهِرِهِ عَلَى فَائِدَةِ النَّهْيِ ، الْخَوْفُ مِنْ تَغْيِيرِ الْمَاءِ بِكَثْرَةِ الْبَوْلِ فَيَصِيرُ بِالتَّغْيِيرِ نَجِسًا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ نَزْحِ ابْنِ عَبَّاسٍ زَمْزَمَ مِنْ زِنْجِيٍّ مَاتَ فِيهَا فَمِنْ وُجُوهٍ ذَكَرَهَا الشَّافِعِيُّ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ قَالَ إِنَّ زَمْزَمَ عِنْدَنَا بِمَكَّةَ وَنَحْنُ أُعْرَفُ بِأَحْوَالِهَا ، وَلَا يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ مَكَّةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ نَزَحَهَا ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ سُفْيَانَ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ نَزَحَهَا فَغَلَبَهُ الْمَاءُ لِكَثْرَتِهِ . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَجُوزُ ، لَوْ صَحَّ الْحَدِيثُ أَنْ يَكُونَ نَزْحَهَا لِظُهُورِ دَمِ الزِّنْجِيِّ فِيهَا . وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ نَزَحَهَا تَنْظِيفًا لَا وَاجِبًا ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : أَرْبَعَةٌ لَا تُنَجَّسُ ، الْمَاءُ وَالثَّوْبُ وَالْأَرْضُ وَابْنُ آدَمَ .
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ : لَا تُنَجَّسُ " ، قِيلَ : يَعْنِي أَنَّ أَعْيَانَهَا لَا تَنْقَلِبُ فَتَصِيرُ نَجِسَةً . فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ خَصَّ هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ بِهَذَا الْحُكْمِ ، قِيلَ : إِنَّمَا خَصَّهَا بِالذِّكْرِ لِاخْتِصَاصِهَا بِالصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهَا فِي حُكْمِهَا : لِأَنَّ صِحَّةَ الصَّلَاةِ مُعْتَبَرَةٌ بِطَهَارَةِ الْمَاءِ وَالثَّوْبِ وَالْأَرْضِ وَالْبَدَنِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى سَائِرِ الْمَائِعَاتِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَائِعَاتِ لَا تَبْلُغُ حَدًّا لَا يُمْكِنُ حِفْظُهُ بِالْأَوْعِيَةِ ، وَلَا يَتَعَذَّرُ صَوْنُهُ عَنِ النَّجَاسَةِ ، فَنُجِّسَ بِحُلُولِ النَّجَاسَةِ فِيهِ : لِإِمْكَانِ صَوْنِهَا مِنْهُ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمَاءُ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِي مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ فَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ إِمْكَانُ حِفْظِهِ مِنْ حُلُولِ النَّجَاسَةِ فِيهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا زَادَ عَلَيْهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الطَّهَارَةِ وَالتَّنْظِيفِ مَا لَا يَدْعُو إِلَى اسْتِعْمَالِ الْمَائِعَاتِ فَيُخَفِّفُ حُكْمَ الْمَاءِ : لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِ وَتَغَلَّظَ حُكْمُ غَيْرِهِ لِقِلَّةِ اسْتِعْمَالِهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِتَغْلِيبِ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ فَهُوَ أَنَّهُ مُنْتَقِضٌ بِمَا لَمْ يَلْتَقِ طَرَفَاهُ مِنَ الْمَاءِ وَبِالثَّوْبِ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ يَسِيرٌ مِنْ دَمِ الْبَرَاغِيثِ ثُمَّ الْمَعْنَى فِيمَا اسْتَشْهَدُوا بِهِ مِنَ الْأُصُولِ أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَأْتِ بِالْعَفْوِ عَنْ يَسِيرِهِ وَقَدْ جَاءَ بِالْعَفْوِ عَنْ يَسِيرِ النَّجَاسَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ مِقْدَارُ الْقُلَّتَيْنِ
مَسْأَلَةٌ : مِقْدَارُ الْقُلَّتَيْنِ وَرَوَى الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِسْنَادٍ لَا يَحْضُرُ الشَّافِعِيَّ ذِكْرُهُ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ نَجَسًا وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ أَوْ قِرْبَتَيْنِ بِقِلَالِ هَجَرَ " وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ : وَقَدْ رَأَيْتُ قِلَالَ هَجَرَ ، فَالْقُلَّةُ تَسَعُ قِرْبَتَيْنِ وَشَيْئًا ، قَالَ الْشَّافِعِيُّ : وَالِاحْتِيَاطُ أَنْ تَكُونَ الْقُلَّتَانِ خَمْسَ قِرَبٍ ، قَالَ وَقِرَبُ الْحِجَازِ كِبَارٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي أَنَّ الْقُلَّتَيْنِ حَدٌّ لِمَا يُنَجَّسُ مِنَ الْمَاءِ ، وَلَا يُنَجَّسْ ، فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ تَحْدِيدِ الْقُلَّتَيْنِ ، وَمَعْرِفَةِ قَدْرِهِمَا لِيَصِيرَ الْحَدُّ بِهَا مَعْلُومًا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْقُلَّتَانِ : هُمَا مِنْ قِلَالِ هَجَرَ لِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَوَى عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ بِإِسْنَادٍ لَمْ يَحْضُرِ الشَّافِعِيَّ ذِكْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " بِقِلَالِ هَجَرَ " فَإِنْ قِيلَ فَهَذَا مُرْسَلٌ ، وَالْمَرَاسِيلُ عِنْدَهُ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ ، قِيلَ : هُوَ مُسْنَدٌ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَإِنْ نَسِيَ إِسْنَادَهُ وَمُرْسَلٌ عِنْدَ غَيْرِهِ ، فَيُلْزَمُ الشَّافِعِيُّ الْعَمَلَ بِهِ لِإِسْنَادِهِ ، وَإِنْ لَمْ يُلْزَمْ بِهِ لِإِرْسَالِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ قِلَالَ هَجَرَ هِيَ أَكْبَرُ قِلَالٍ بِالْمَدِينَةِ ، وَمَا جُعِلَ مَعْدُودَ الْمَقَادِيرِ حَدًّا لَمْ
يَتَنَاوَلْ إِلَّا أَكْثَرَهَا : لِأَنَّهُ أَقَلُّ فِي الْعَدَدِ ، وَأَقْرَبُ إِلَى الْعِلْمِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدَّرَ نِصَابَ الزَّكَاةِ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ : لِأَنَّ الْوَسْقَ أَكْبَرُ مِقْدَارٍ لَهُمْ ، وَلَمْ يُقَدِّرْهُ بِالْمُدِّ ، وَلَا بِالصَّاعِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ قِلَالَ هَجَرَ مُتَمَاثِلَةٌ لَا تَخْتَلِفُ ، وَغَيْرُهَا مِنَ الْقِلَالِ قَدْ تَخْتَلِفُ بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ ، وَمَا يَخْتَلِفُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ حَدًّا : لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ بِالْمَحْدُودِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ قِلَالَ هَجَرَ مُتَمَاثِلَةٌ مَا رَوَى قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي وَصْفِ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى " رَأَيْتُ أَوْرَاقَهَا كَأَذَانِ الْفِيَلَةِ وَنَبْقَهَا كَقِلَالِ هَجَرَ " فَلَوْ كَانَتْ قِلَالُ هَجَرَ مُخْتَلِفَةَ الْمِقْدَارِ لَمَا عَلِمُوا بِهَذَا التَّشْبِيهِ قَدْرَ نَبْقِهَا ، وَلَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ لَغْوًا فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ النَّصِّ وَالِاسْتِدْلَالِ أَنَّهَا بِقِلَالِ هَجَرَ فَلَيْسَتْ مَجْلُوبَةً مِنْ هَجَرِ الْبَحْرَيْنِ ، وَإِنَّمَا هِيَ مَعْمُولَةٌ بِالْمَدِينَةِ وَاخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ نِسْبَتِهَا إِلَى هَجَرَ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : لِأَنَّهَا تُعْمَلُ بِقَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الْمَدِينَةِ ، تُسَمَّى هَجَرَ ، وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ : لِأَنَّهَا عُمِلَتْ عَلَى مِثَالِ قِلَالِ هَجَرَ ، كَمَا يُقَالُ : ثَوْبٌ مَرْوِيٌّ وَإِنْ عُمِلَ بِالْعِرَاقِ : لِأَنَّهُ عَلَى مِثَالِ مَا يُعْمَلُ بِمُرْوٍ .
فَصْلٌ احْتِيَاطُ الشَّافِعِيِّ فِي تَقْدِيرِهِ لِلْقُلَّتَيْنِ
فَصْلٌ : احْتِيَاطُ الشَّافِعِيِّ فِي تَقْدِيرِهِ لِلْقُلَّتَيْنِ ثُمَّ إِنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يَرَ قِلَالَ هَجَرَ ، وَلَا أَهْلَ عَصْرِهِ : لِأَنَّهَا تُرِكَتْ وَنَفِدَتْ فَاحْتَاجَ إِلَى تَقْدِيرِهَا بِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَهُمْ وَمُشَاهَدٌ مِنْهُمْ فَقَدَّرَهَا بِقِرَبِ الْحِجَازِ : لِأَنَّهَا مُتَمَاثِلَةٌ مَشْهُورَةٌ ، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ قَالَ : قَدْ رَأَيْتُ قِلَالَ هَجَرَ ، والَقُلَّةُ تَسَعُ قِرْبَتَيْنِ ، أَوْ قَالَ : قِرْبَتَيْنِ وَشَيْئًا ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَالِاحْتِيَاطُ أَنْ تَكُونَ الْقُلَّتَانِ خَمْسُ قِرَبٍ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَذَا تَقْلِيدٌ مِنْهُ لِابْنِ جُرَيْجٍ ، وَالتَّقْلِيدُ عِنْدَهُ لَا يَجُوزُ ، قِيلَ : لَيْسَ هَذَا تَقْلِيدًا فِي حُكْمٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ قَبُولُ خَبَرٍ فِي مَغِيبٍ ، وَذَلِكَ جَائِزٌ . فَإِنْ قِيلَ : لِمَ جُعِلَ الشَّيْءُ الزَّائِدُ عَلَى الْقِرْبَتَيْنِ نِصْفًا وَزَعَمَ أَنَّهُ احْتِيَاطٌ ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مُنْطَلِقًا عَلَى أَكْثَرِ مِنَ النِّصْفِ ، قِيلَ : الشَّيْءُ هَاهُنَا نِصْفٌ فِي الِاحْتِيَاطِ لِثَلَاثَةِ أُمُورٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ شَكَّ فِي الْقَدْرِ هَلْ هُوَ قِرْبَتَانِ أَوْ قِرْبَتَانِ وَشَيْءٌ : فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الشَّكُّ إِلَّا يَسِيرًا هُوَ أَقَلُّ مِنَ النِّصْفِ لِيَخْفَى وَلَا يَكْثُرَ فَيَزُولُ الشَّكُّ فِيهِ فَلَمَّا جَعَلَهُ نِصْفًا ، وَمُقْتَضَى الْحَالِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ مِنَ النِّصْفِ كَانَ احْتِيَاطًا . وَالثَّانِي : أَنَّ الشَّيْءَ إِذَا كَانَ مُسْتَعْمَلًا فِي التَّبْعِيضِ كَانَ مُشَارًا بِهِ فِي الْعُرْفِ إِلَى أَقَلِّ الْبَعْضَيْنِ فَإِذَا كَانَ الْبَعْضُ الزَّائِدُ عَلَى الشَّيْئَيْنِ أَقَلَّ مِنَ النِّصْفِ قَالُوا اثْنَيْنِ وَشَيْءٌ ، وَإِذَا كَانَ أَكْثَرُ مِنَ النِّصْفِ ، قَالُوا ثَلَاثَةً إِلَّا شَيْئًا ، فَلَمَّا جُعِلَ الشَّيْءُ الزَّائِدُ نِصْفًا كَامِلًا كَانَ احْتِيَاطًا .
وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الْقِرْبَةُ الثَّالِثَةُ مُتَبَعِّضَةٌ فَبَعْضُهَا مِنْ جُمْلَةِ الْقُلَّةِ ، وَبَعْضُهَا لَيْسَ مِنْهَا ، وَلَمْ يَكُنْ تَكْثِيرُ أَحَدِ الْبَعْضَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِأَوْلَى مِنْ عَكْسِهِ ، وَجَبَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْبَعْضَيْنِ ، فَجَعَلَ كُلَّ أَحَدٍ مِنْهُمَا نِصْفًا مُسَاوِيًا لِصَاحِبِهِ ، وَهُوَ الْقَلِيلُ لَا يَكُونُ لِلِاحْتِيَاطِ فِيهِ تَأْثِيرٌ فَجَعَلَ الشَّافِعِيُّ خَمْسَ قِرَبٍ احْتِيَاطًا : لِأَنَّ مُجَاوَزَةَ الْمَقَادِيرِ لِلِاسْتِيفَاءِ احْتِيَاطٌ لَهَا أَوْلَى كَمَا يَتَجَاوَزُ حَدَّ الْوَجْهِ فِي غَسْلِهِ وَحَدَّ الْعَوْرَةِ وَإِمْسَاكَ شَيْءٍ مِنَ اللَّيْلِ فِي طَرَفِ الصَّوْمِ ، وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الشَّافِعِيُّ لِتَحْدِيدِ الْقِرَبِ بِالْأَرْطَالِ ، لِأَنَّهُ اكْتَفَى أَهْلُ عَصْرِهِ فِي بَلَدِهِ بِالْقِرَبِ الْمَشْهُورَةِ بَيْنَهُمْ ، عَنْ أَنْ يُقَدِّرَ كُلَّ قِرْبَةٍ لَهُمْ كَمَا اكْتَفَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِلَالِ الْمَشْهُورَةِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ عَنْ أَنْ يُقَدِّرَ كُلَّ قُلَّةٍ لَهُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ هَلْ تَحْدِيدُ الْقُلَّتَيْنِ تَقْرِيبٌ أَمْ تَحْقِيقٌ
فَصْلٌ : هَلْ تَحْدِيدُ الْقُلَّتَيْنِ تَقْرِيبٌ أَمْ تَحْقِيقٌ ؟ ثُمَّ إِنَّ أَصْحَابَنَا مِنْ بَعْدِ الشَّافِعِيِّ لَمَّا نَأَوْا عَنِ الْحِجَازِ وَبَعُدُوا فِي الْبِلَادِ ، وَغَابَتْ عَنْهُمْ قِرَبُ الْحِجَازِ ، وَجَهَلَ الْعَوَامُّ تَقَادِيرَ الْقِرَبِ الَّتِي أَخْبَرَهُمْ بِهَا حَدَّ الْمَاءِ يُنَجَّسُ مِنَ الْمَاءِ ، وَلَا يُنَجَّسُ اضْطُرُّوا إِلَى تَقْدِيرِ الْقِرَبِ بِالْأَرْطَالِ ، لِيَصِيرَ ذَلِكَ مُقَدَّرًا مَعْلُومًا عِنْدَ كَافَّتِهِمْ كَمَا اضْطُرَّ الشَّافِعِيُّ ، وَمَنْ عَاصَرَهُ عِنْدَ عَدَمِ الْقِلَالِ ، فِي تَقْدِيرِهَا بِالْقِرَبِ فَاتَّفَقَ رَأْيُهُمْ بَعْدَ أَنِ اخْتَبَرُوا قِرَبَ الْحِجَازِ عَلَى أَنْ قَدَّرُوا كُلَّ قِرْبَةٍ مِنْهَا بِمِائَةِ رِطْلٍ بِالْعِرَاقِيِّ ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ قَدَّرَ ذَلِكَ بِالْأَرْطَالِ مِنْ أَصْحَابِنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ جَابِرٍ وَأَبُو عَبِيدِ بْنُ جَرَبْوَيْهِ ثُمَّ سَاعَدَهُمْ سَائِرُ أَصْحَابِنَا مُوَافَقَةً لِاخْتِيَارِهِمْ فَصَارَتِ الْقُلَّتَانِ الْمُقَدَّرَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِخَمْسِ قِرَبٍ خَمْسَمِائَةِ رِطْلٍ بِالْعِرَاقِيِّ عِنْدَ جَمِيعِ أَصْحَابِنَا ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا هَلْ ذَلِكَ تَقْدِيرُ تَقْرِيبٍ أَوْ تَقْدِيرُ تَحْقِيقٍ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ حَدُّ تَقْرِيبٍ لَا يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ فِيهِ بِزِيَادَةِ رِطْلٍ أَوْ رِطْلَيْنِ وَلَا بِنُقْصَانِهِ لِأَنَّ تَحْدِيدَ الْقَلِيلِ بِالْقِرَبِ احْتِيَاطٌ وَتَحْدِيدَ الْقِرَبِ بِالْأَرْطَالِ اسْتِظْهَارٌ فَصَارَ التَّحْقِيقُ فِيهِ مِعْوَزًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ أَنَّهُ حَدُّ تَحْقِيقٍ يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ بِزِيَادَةِ الْيَسِيرِ وَنُقْصَانِهِ : لِأَنَّ الْحَدَّ مَا يَتَمَيَّزُ بِهِ الْمَحْدُودُ فِي حُكْمِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ مُبْهَمًا فَيُجْهَلُ ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الِاجْتِهَادُ فِي اعْتِبَارِهَا عَهْدَنَا مِنَ الْأُصُولِ قَدْ جَعَلَهُ مَحْدُودًا عَلَى التَّحْقِيقِ .
مَسْأَلَةٌ الْفَارِقُ بَيْنَ الْمَاءِ الْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ
مَسْأَلَةٌ : الْفَارِقُ بَيْنَ الْمَاءِ الْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ قَالَ الشَّافِعِيُّ : " احْتَجَّ بِأَنَّهُ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ تَتَوَضَأُ مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ وَهِيَ تُطْرَحُ فِيهَا الْمَحَايِضُ وَلُحُومُ الْكِلَابِ وَمَا يُنَجِّي الْنَاسَ فَقَالَ : " الْمَاءُ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ " قَالَ وَمَعْنَى لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِذَا كَانَ كَثِيرًا لَمْ يُغَيِّرْهُ النَّجَسُ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " خُلِقَ الْمَاءُ طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلَّا مَا غَيَّرَ رِيحَهُ أَوْ طَعْمَهُ " وَقَالَ فِيمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ نَزَحَ زَمْزَمَ مِنْ زِنْجِيٍّ مَاتَ فِيهَا إِمَّا لَا نَعْرِفُهُ وَزَمْزَمُ عِنْدَنَا وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : " أَرْبَعٌ لَا يَخْبُثْنَ "
فَذَكَرَ الْمَاءَ وَهُوَ لَا يُخَالِفُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ يَكُونُ الْدمُ ظَهَرَ فِيهَا فَنَزَحَهَا إِنْ كَانَ فَعَلَ أَوْ تَنْظِيفًا لَا وَاجِبًا . وَإِذَا كَانَ الْمَاءُ خَمْسَ قِرَبٍ كِبَارٍ مِنْ قِرَبِ الْحِجَازِ ، فَوَقَعَ فِيهِ دَمٌ أَوْ أَيُّ نَجَاسَةٍ كَانَتْ ، فَلَمْ يُغَيَّرْ طَعْمُهُ وَلَا لَوْنُهُ وَ لَا رِيحُهُ ، وَلَمْ يَنْجُسْ ، وَهُوَ بِحَالِهِ طَاهِرٌ ، لِأَنَّ فِيهِ خَمْسَ قِرَبٍ فَصَاعِدًا وَهَذَا فَرْقُ مَا بَيْنَ الْكَثِيرِ الَذِي لَا يُنَجِّسُهُ إِلَّا مَا غَيَّرَهُ ، وَمِنَ الْقَلِيلِ الَّذِي يُنَجِّسُهُ مَا لَمْ يُغَيِّرُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقُلَّتَيْنِ فَرْقٌ بَيْنَ قَلِيلِ الْمَاءِ وَكَثِيرِهِ ، وَأَنَّ الْقُلَّتَيْنِ خَمْسُ قِرَبٍ بِمَا وَصَفْنَا ، وَأَنَّ الْخَمْسَ قِرَبٍ خَمْسُمِائَةِ رِطْلٍ مَا بَيَّنَّا صَارَ كَثِيرُ الْمَاءِ خَمْسَمِائَةِ رِطْلٍ ، وَقَلِيلُهُ مَا دُونَهَا ثُمَّ إِنَّ الشَّافِعِيَّ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حُكْمَ كَثِيرِ الْمَاءِ وَمَا يُفَرِّعُ عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ النَّجَاسَةِ ، وَذَكَرَ بَعْدَهُ حُكْمَ قَلِيلِ الْمَاءِ وَمَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ النَّجَاسَةِ ، فَإِذَا كَانَ الْمَاءُ كَثِيرًا وَوَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ مَائِعَةٌ أَوْ مُتَجَسِّدَةٌ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَتَغَيَّرَ بِهَا الْمَاءُ أَوْلَا يَتَغَيَّرُ فَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ بِهَا الْمَاءُ فَهُوَ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ ، ثُمَّ لَا تَخْلُو النَّجَاسَةُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَائِعَةً [ أَوْ مُتَجَسِّدَةً فَإِنْ كَانَتْ مَائِعَةً ] كَبَوْلٍ أَوْ خَمْرٍ أُهْرِيقَ فِيهِ فَاسْتِعْمَالُ جَمِيعِ الْمَاءِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ حَتَّى يَسْتَنْفِدَ جَمِيعَهُ جَائِزٌ وَلَا يَلْزَمُ اسْتِبْقَاءُ شَيْءٍ مِنْهُ ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ جَمِيعَهُ حَتَّى يَسْتَبْقِيَ مِنْهُ قَدْرَ النَّجَاسَةِ الْوَاقِعَةِ فِيهِ لِعِلْمِنَا أَنَّهُ بِاسْتِعْمَالِ جَمِيعِهِ مُسْتَعْمِلُ النَّجَاسَةِ ، وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ النَّجَاسَةَ لَمَّا لَمْ يَظْهَرْ لَهَا أَثَرٌ صَارَتْ مُسْتَهْلَكَةٌ ، فَعُفِيَ عَنْهَا ، وَلِأَنَّهُ إِذَا اسْتَبْقَى مِنْ جُمْلَةِ الْمَاءِ قَدْرَ النَّجَاسَةِ فَنَحْنُ نُحِيطُ عِلْمًا بِأَنَّ مَا اسْتَبْقَاهُ لَيْسَ بِنَجَاسَةٍ مَحْضَةٍ تَمَيَّزَتْ عَنِ الْمُسْتَعْمَلِ ، وَانْحَازَتْ إِلَى الْمُسْتَبْقَى ، وَإِنَّمَا الْبَاقِي مَاءٌ فِيهِ جُزْءٌ مِنَ النَّجَاسَةِ ، فَكَذَلِكَ الْمُسْتَعْمَلُ فَلَمْ يَكُنْ لِهَذَا الْقَوْلِ وَجْهٌ .
فَصْلٌ إِذَا كَانَ فِي الْمَاءِ عَيْنٌ نَجِسَةٌ
فَصْلٌ : إِذَا كَانَ فِي الْمَاءِ عَيْنٌ نَجِسَةٌ وَإِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ مُتَجَسِّدَةً كَالْأَعْيَانِ النَّجِسَةِ مِنْ مَيْتَةٍ أَوْ عَظْمِ خِنْزِيرٍ ، فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَأْخُذَ فِي اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ إِلَّا بَعْدَ إِخْرَاجِ الْمَيْتَةِ مِنْهُ ، وَإِزَالَةِ الْعَيْنِ النَّجِسَةِ عَنْهُ ، فَإِنْ فَعَلَ جَازَ أَنْ يَسْتَعْمِلَ الْمَاءَ كُلَّهُ بِاتِّفَاقِ جَمِيعِ أَصْحَابِنَا شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ ، حَتَّى يَسْتَنْفِدَ جَمِيعَهُ ، وَلَا يَلْزَمُهُ اسْتِيفَاءُ شَيْءٍ مِنْهُ ، فَإِنْ لَمْ تَزَلِ النَّجَاسَةُ وَكَانَتْ عَلَى حَالِهَا فِي الْمَاءِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَعْمِلَ جَمِيعَ الْمَاءِ : لِأَنَّهُ إِذَا انْتَهَى إِلَى حَدِّ نَقْصٍ مِنَ الْقُلَّتَيْنِ صَارَ نَجِسًا وَإِنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ مِنْهُ مَا كَانَ زَائِدًا عَلَى الْقُلَّتَيْنِ ، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِفَةِ اسْتِعْمَالِهِ مِنْ هَذَا الْمَاءِ عَلَى وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ مِنْ هَذَا الْمَاءِ إِلَّا مِنْ مَكَانٍ يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّجَاسَةِ الْقَائِمَةِ فِيهِ قُلَّتَانِ فَصَاعِدًا وَإِنِ اسْتَعْمَلَ مِنْ مَكَانٍ يَكُونُ بَيْنَهُمَا أَقَلُّ لَمْ يَجُزِ اعْتِبَارًا بِأَنَّ مَا قَارَبَ النَّجَاسَةَ كَانَ أَخَصَّ بِحُكْمِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ الْمَاءَ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ وَلَوْ مِنْ أَقْرَبِهِ إِلَى النَّجَاسَةِ ، وَأَلْصَقِهِ بِهَا : لِأَنَّ الْمَاءَ الْوَاحِدَ لَا يَتَبَعَّضُ حُكْمُهُ ، وَإِنَّمَا يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمٌ وَاحِدٌ فِي النَّجَاسَةِ ، أَوِ الطَّهَارَةِ فَعَلَى هَذَا يَسْتَعْمِلُ مِنْهُ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ الْبَاقِي إِلَى حَدِّ الْقُلَّتَيْنِ ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَعْمِلَ مِنَ الْبَاقِي بِيَدِهِ لَمْ يَجْزِهِ ، لِأَنَّ مَا يَغْتَرِفُهُ بِيَدِهِ مِنْهُ لَا يُوجِبُ تَنْجِيسَ بَاقِيهِ فَيُنَجَّسُ مِنْ يَدِهِ مَا لَاقَى الْبَاقِيَ مِنَ الْمَاءِ بَعْدَ اغْتِرَافِهِ فَأَمَّا إِذَا اغْتَرَفَ مِنْهُ بِدَلْوٍ وَإِنَاءٍ فَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ كِلَا الْمَاءَيْنِ نَجِسٌ ، مَا اغْتَرَفَهُ وَمَا أَبْقَاهُ ، لِأَنَّهُ اغْتَرَفَ مِنْ مَوْضِعٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّجَاسَةِ أَقَلُّ مِنْ قُلَّتَيْنِ ، وَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ يُعْتَبَرُ حَالُ النَّجَاسَةِ ، فَإِنْ بَقِيَتْ فِي الْمَاءِ ، وَلَمْ تَخْرُجْ فِي الدَّلْوِ الَّذِي اغْتَرَفَهُ فَمَا اغْتَرَفَهُ مِنْ مَاءِ الدَّلْوِ طَاهِرٌ ، وَظَاهِرُ الدَّلْوِ مَعَ الْمَاءِ الْبَاقِي نَجِسٌ ، فَإِنْ خَرَجَتِ النَّجَاسَةُ فِي الدَّلْوِ الَّذِي اغْتَرَفَهُ فَمَا فِي الدَّلْوِ نَجِسٌ ، وَظَاهِرُ الدَّلْوِ مَعَ الْمَاءِ الْبَاقِي طَاهِرٌ ، فَإِنْ نَقَطَتْ مِنَ الدَّلْوِ نُقْطَةَ مَاءٍ فَوَقَعَتْ فِي الْبَاقِي مِنَ الْمَاءِ ، فَإِنْ نَقَطَتْ مِنْ ظَاهِرِهِ كَانَ الْبَاقِي مِنَ الْمَاءِ عَلَى طَهَارَتِهِ : لِأَنَّ ظَاهِرَ الدَّلْوِ طَاهِرٌ وَإِنْ نَقَطَتْ مِنْ بَاطِنِهِ صَارَ الْبَاقِي مِنَ الْمَاءِ نَجِسًا : لِأَنَّ مَا فِي دَاخِلِ الدَّلْوِ مِنَ الْمَاءِ نَجِسٌ فَلَوْ شَكَّ هَلْ كَانَتِ النُّقْطَةُ مِنْ ظَاهِرِهِ أَوْ بَاطِنِهِ فَالْمَاءُ الْبَاقِي عَلَى أَصْلِ طَهَارَتِهِ ، لِأَنَّهُ طَاهِرٌ شُكَّ فِي وُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ ، فَهَذَا حُكْمُ الْمَاءِ الْكَثِيرِ إِذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ .
فَصْلٌ : وَإِنْ تَغَيَّرَ بِالنَّجَاسَةِ الْوَاقِعَةِ فِيهِ بِلَوْنٍ أَوْ طَعْمٍ أَوْ رَائِحَةٍ الماء فَهُوَ نَجِسٌ ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ الشَّيْءِ مِنْهُ مَا كَانَ التَّغَيُّرُ عَلَى حَالِهِ سَوَاءٌ كَانَتِ النَّجَاسَةُ مَائِعَةً أَوْ مُتَجَسِّدَةً فَإِنْ زَالَ تَغَيُّرُهُ عَادَ إِلَى الطَّهَارَةِ ، لِأَنَّهُ نَجِسٌ لِأَجْلِ التَّغْيِيرِ ثُمَّ يَكُونُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا حُكْمُهُ إِذَا لَمْ يَتَغَيَّرُ عَلَى اسْتِعْمَالٍ ، وَإِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ مَائِعَةً أَوْ مُتَجَسِّدَةً ، فَإِنْ عَادَ إِلَى التَّغْيِيرِ بَعْدَ زَوَالِهِ نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ قَائِمَةً فِيهِ فَهُوَ نَجِسٌ : لِأَنَّهُ مَاءٌ مُتَغَيِّرٌ بِنَجَاسَةٍ حُكْمِيَّةٍ ، وَإِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ قَدْ أُخْرِجَتْ مِنْهُ فَهُوَ طَاهِرٌ : لِأَنَّهُ مَاءٌ طَاهِرٌ قَدْ تَغَيَّرَ مِنْ غَيْرِ نَجَاسَةٍ قَائِمَةٍ فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ وَقَعَتْ مَيْتَةٌ فِي بِئْرٍ فَتَغَيَّرَ مِنْ طَعْمِهَا أَوْ لَوْنِهَا أَوْ رَائِحَتِهَا أُخْرِجَتِ الْمَيْتَةُ وَنُزِحَتِ الْبِئْرُ حَتَّى يَذْهَبَ تَغَيُّرُهَا فَتَطْهُرُ بِذَلِكَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَحُكْمُ مَاءِ الْبِئْرِ فِيمَا يُنَجَّسُ بِهِ ، وَلَا يُنَجَّسُ كَحُكْمِ غَيْرِهِ مِنْ مِيَاهِ الْمَصَانِعِ ، وَالْأَوَانِي .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ مَاءُ الْبِئْرِ مُخَالِفٌ لِغَيْرِهِ مِنْ مِيَاهِ الْمَصَانِعِ وَالْأَوَانِي وَإِنْ مَاتَتْ فِي الْبِئْرِ عُصْفُورًا وَفَأْرَةً نُزِحَ مِنَ الْبِئْرِ عِشْرُونَ دَلْوًا وَكَانَ بَاقِي مَائِهَا طَاهِرًا ، وَإِنْ وَقَعَ ذَنَبُهَا نُزِحَتِ الْبِئْرُ كُلُّهَا ، وَإِنْ مَاتَ فِيهَا سِنَّوْرٌ وَدَجَاجَةٌ البئر نُزِحَ مِنْهَا أَرْبَعُونَ دَلْوًا ، وَكَانَ بَاقِي مَائِهَا طَاهِرًا ، وَإِنْ مَاتَتْ فِيهَا شَاةٌ البئر نُزِحَ جَمِيعُ مَائِهَا ، وَكَذَا إِنْ وَقَعَ فِيهَا بَوْلٌ أَوْ عَذِرَةٌ البئر ، وَكَانَ مِنْ فَرْقٍ بَيْنَ مَاءِ الْبِئْرِ وَغَيْرِهَا أَنَّ مَاءَ الْبِئْرِ يَنْبُعُ مِنْ تَحْتِهَا فَهُوَ يَدْفَعُ النَّجَاسَةَ إِلَى عُلُوِّهَا ، وَكَأَنَّهُ فَرْقٌ بَيْنَ الْفَأْرَةِ وَالسِّنَّوْرِ ، أَنَّ السِّنَّوْرَ يَغُوصُ فِي الْمَاءِ أَكْثَرَ مِنَ الْفَأْرَةِ فَكَانَ مَا يُنْزَحُ بِمَوْتِهَا أَكْثَرَ ، وَالشَّاةُ تَغُوصُ إِلَى قَعْرِ الْبِئْرِ تطهير البئر ، فَيُنْزَحُ جَمِيعُ مَا فِي الْبِئْرِ ، وَهَذَا مَذْهَبٌ إِنْ لَمْ يُعَضِّدْهُ نَصٌّ ، وَلَيْسَ فِيهِ نَصٌّ فَهُوَ أَظْهَرُ فَسَادًا مِنْ أَنْ يُقَامَ عَلَى فَسَادِهِ دَلِيلٌ ، لِأَنَّ الْمَاءَ النَّجِسَ لَا يُطَهَّرُ بِأَخْذِ بَعْضِهِ فَيَكُونُ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ نَجِسًا ، وَالْمَتْرُوكُ طَاهِرًا وَكَيْفَ تَمَيَّزَتِ النَّجَاسَةُ حَتَّى صَارَ جَمِيعُهَا فِي الْمَأْخُوذِ ، وَلَمْ يَبْقَ فِي الْمَتْرُوكِ شَيْءٌ مِنْهَا ، وَتَمَيَّزَتِ الطَّهَارَةُ فِي الْمَتْرُوكِ ، وَلَمْ يَبْقَ فِي الْمَأْخُوذِ شَيْءٌ مِنْهُمَا ، وَمَا انْفَصَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ قَلَبَ مَا قَالَهُ فَجَعَلَ الْمَأْخُوذَ طَاهِرًا ، وَالْمَتْرُوكَ نَجِسًا . فَإِنْ قَالَ : لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْ أَعْلَاهُ وَمَا يَنْبُعُ مِنْ مَاءِ الْبِئْرِ يَدْفَعُ النَّجَاسَةَ إِلَى أَعْلَى . قِيلَ : الدَّلْوُ إِذَا نَزَلَ فِي الْبِئْرِ نُزِحَ جَمِيعُ مَائِهَا ، وَلَمْ يَتْرُكْ طَبَقَاتِ الْمَاءِ فِي الْبِئْرِ عَلَى حَالِهَا ، ثُمَّ كَيْفَ انْتَهَى رَفْعُ النَّجَاسَةِ بِمَا يَقَعُ مِنْ أَسْفَلِهَا إِلَى عِشْرِينَ دَلْوًا فِي أَعْلَاهَا ، وَلَمْ يَرْتَفِعْ عَنْهُ وَلَمْ يَنْخَفِضْ مِنْهُ ثُمَّ يُقَالُ لَهُ : لَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَا نَبَعَ مِنْ أَسْفَلِ الْمَاءِ يَرْفَعُ النَّجَاسَةَ إِلَى أَعْلَاهُ ، أَوْجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا يَصُبُّ عَلَيْهِ مِنْ أَعْلَاهُ يُحِيطُ النَّجَاسَةَ إِلَى أَسْفَلِهِ عَلَى قِيَاسِ هَذَا الْقَلِيلِ ، وَأَنْتُمْ لَا تَقُولُونَ بِهِ ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ : زَعَمْتَ أَنَّ الْفَأْرَةَ لَا تَغُوصُ فِي الْمَاءِ بِأَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ دَلْوًا مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا ، وَلِمَ لَا قُلْتَ مِثْلَهُ فِي مَاءِ الْغَدِيرِ ، وَمَا تَقُولُ إِنْ شُدَّتِ الْفَأْرَةُ بِحَجَرٍ حَتَّى وَصَلَتْ إِلَى قَعْرِ الْبِئْرِ يَنْبَغِي عَلَى قَوْلِكَ أَنْ يُنْزَحَ جَمِيعُ مَائِهَا وَلَوْ شُدَّتْ بِخَشَبَةٍ حَتَّى مُنِعَتْ مِنْ غَوْصِهَا أَنْ لَا يُنْزَحَ شَيْءٌ مِنْهَا ، وَأَنْتَ لَا تَقُولُ بِهَذَيْنِ وَتُوجِبُ نَزْحَ عِشْرِينَ دَلْوًا فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ : ذَنَبُ الْفَأْرَةِ أَقَلُّ غَوْصًا فِي الْمَاءِ مِنْ جَمِيعِ الْفَأْرَةِ وَأَنْتَ تَقُولُ فِي ذَنَبِهَا وَهُوَ أَحَدُ أَعْضَائِهَا أَنَّهُ يُنْزَحُ مِنْهُ مَاءُ الْبِئْرِ كُلُّهُ ، وَيُنْزَحُ مِنَ الْفَأْرَةِ مَعَ ذَنَبِهَا عِشْرُونَ دَلْوًا مِنْ جُمْلَتِهِ ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ : زَعَمْتَ أَنَّهُ لَوْ سَقَطَ الدَّلْوُ الْأَخِيرُ مِنَ الْعِشْرِينَ إِلَى مَاءِ الْبِئْرِ صَارَ نَجِسًا ، فَإِنْ عَادَ فَنَزَحَ مِنْهَا دَلْوًا وَاحِدًا صَارَ طَاهِرًا فَهَلْ يُتَصَوَّرُ فِي الْمَعْقُولِ أَنَّ الدَّلْوَ النَّجِسَ الَّذِي سَقَطَ فِي الْمَاءِ خَرَجَ جَمِيعُهُ فِي الدَّلْوِ الْمُسْتَقَى مِنْهُ حَتَّى تَمَيَّزَ بَعْدَ امْتِزَاجِهِ بِهِ ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ قَالَ الْجَاحِظُ : لَمْ أَرَ دَلْوًا أَعْقَلَ مِنْ دَلْوِ أَبِي حَنِيفَةَ يَعْنِي أَنَّهُ يُمَيِّزُ بَيْنَ الْمَاءِ الطَّاهِرِ وَالنَّجِسِ ، وَالْجَاحِظُ غَيْرُ مَعْذُورٍ بِمِثْلِ هَذِهِ الْخَلَاعَةِ فِي أَبِي حَنِيفَةَ مَعَ فَضْلِهِ وَتَقَدُّمِهِ فِي عِلْمِهِ لَكِنْ تَطَرَّقَ بِاضْطِرَابِ الْمَذْهَبِ وَذَهَابِهِ إِلَى الِاسْتِرْسَالِ بِهَذَا الْقَوْلِ الْمُسْتَهْجَنِ فَإِنْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنَّمَا قَلْتُ هَذَا : لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قِيلَ قَدْ رُوِيَ عَنْهُ أنَهُ أَمَرَ بِنَزْحِ سَبْعٍ أَوْ ثَمَانٍ ، وَلَيْسَتْ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْمَصِيرِ إِلَيْهَا بِأَوْلَى مِنَ الْأُخْرَى قَالَ : إِنَّهُ يَجُوزُ
عَلَى أَنْ يَكُونَ أُمِرَ بِنَزْحِهَا لِيَزُولَ تَغَيُّرُهَا أَوْ تَنْظِيفًا لَا وَاجِبًا فَلِمَ تُرِكَتِ السُّنَّةُ الثَّابِتَةُ وَالْأُصُولُ الْمُشْتَهِرَةُ ، لِهَذَا الْأَثَرِ الْمُحْتَمَلِ وَالرِّوَايَةِ الْمُخْتَلِفَةِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ حُكْمَ مَاءِ الْبِئْرِ فِيمَا يُنَجَّسُ بِهِ وَلَا يُنَجَّسُ كَحُكْمِ غَيْرِهِ مِنَ الْمِيَاهِ الرَّاكِدَةِ . فَلَا يَخْلُو حَالُ [ الْبِئْرِ إِذَا وَقَعَتْ فِيهَا النَّجَاسَةُ مَائِعَةً أَوْ قَائِمَةً مِنْ أَنْ يَكُونَ مَاؤُهَا قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا ، فَإِنْ كَانَ مَاؤُهَا قَلِيلًا فَهُوَ نَجِسٌ سَوَاءٌ تَغَيَّرْ بِالنَّجَاسَةِ أَوْ لَمْ يَتَغَيَّرْ لَكِنَّهُ إِذَا كَانَ مُتَغَيِّرًا فَطَهَارَتُهُ بِالِاجْتِمَاعِ ، وَمُغَيِّرُ أَحَدِهِمَا الْمُكَاثَرَةُ بِالْمَاءِ حَتَّى يَبْلُغَ قُلَّتَيْنِ ، وَالثَّانِي زَوَالُ التَّغْيِيرِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ فَطَهَارَتُهُ بِوَصْفٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْمُكَاثَرَةُ حَتَّى يَبْلُغَ قُلَّتَيْنِ ، فَإِنْ صَبَّ عَلَيْهِ الْمَاءَ فَلَا يَخْلُو حَالُ ] الْمَاءِ الْوَارِدِ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنَ الْمَوْرُودِ عَلَيْهِ أَوْ أَقَلَّ فَإِذَا كَانَ أَقَلَّ فَالْكُلُّ نَجِسٌ : لِأَنَّ الْوَارِدَ لِقِلَّتِهِ صَارَ مُسْتَهْلِكًا فِي الْمَوْرُودِ عَلَيْهِ لِكَثْرَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ ، فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ يَكُونُ طَاهِرًا غَيْرَ مُطَهِّرٍ ، وَعَلَى مَذْهَبِ الْأَنْمَاطِيِّ يَكُونُ نَجِسًا وَإِنْ كَانَ مَاءُ الْبِئْرِ كَثِيرًا قُلَّتَيْنِ فَصَاعِدًا فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَغَيِّرًا أَوْ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ فَهُوَ طَاهِرٌ ، وَالْكَلَامُ فِي اسْتِعْمَالِهِ عَلَى مَا مَضَى مِنْ كَوْنِ النَّجَاسَةِ قَائِمَةً أَوْ مَائِعَةً ، وَإِنْ كَانَ مُتَغَيِّرًا فَهُوَ نَجِسٌ ، وَطَهَارَتُهُ مُعْتَبَرَةٌ بِزَوَالِ تَغْيِيرِهِ وَلِزَوَالِ تَغْيِيرِهِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَزُولَ بِنَفْسِهِ لِطُولِ الْمُكْثِ الماء النجس وَتَقَادُمِ الْعَهْدِ فَيَعُودُ إِلَى حَالِ الطَّهَارَةِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَزُولَ تَغْيِيرُهُ بِالْمُكَاثَرَةِ بِالْمَاءِ الماء النجس فَيَكُونُ طَاهِرًا سَوَاءٌ كَانَ الْوَارِدُ عَلَيْهِ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَزُولَ تَغْيِيرُهُ بِإِلْقَاءِ شَيْءٍ فِيهِ لَا يَخْلُو حَالُ الشَّيْءِ الْمُلْقَى مِنْ أَنْ يَكُونَ تُرَابًا أَوْ غَيْرَ تُرَابٍ ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ تُرَابٍ ، كَالطِّيبِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ مِنْ ذِي رَائِحَةٍ غَالِبَةٍ فَالْمَاءُ عَلَى نَجَاسَتِهِ لِأَنَّنَا لَمْ نَتَيَقَّنْ زَوَالَ التَّغَيُّرِ ، وَإِنَّمَا غَلَبَ عَلَيْهَا مَا هُوَ أَقْوَى رَائِحَةً مِنْهَا فَخَفِيَتْ مَعَهُ ، وَإِنْ كَانَ تُرَابًا فَفِي طَهَارَتِهِ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا الْمُزَنِيُّ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُطَهَّرُ قِيَاسًا عَلَى زَوَالِ التَّغَيُّرِ بِالطِّيبِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يُطَهَّرُ : لِأَنَّ التُّرَابَ لَا يَنْفَكُّ مِنَ الْمَاءِ غَالِبًا ، وَهُوَ قَرَارٌ لَهُ ، فَقَدْ يَتَغَيَّرُ الْمَاءُ مَعَ كَوْنِهِ فِيهِ فَإِذَا زَالَ التَّغَيُّرُ لِحُصُولِ التُّرَابِ فِيهِ دَلَّ عَلَى اسْتِهْلَاكِ النَّجَاسَةِ بِزَوَالِ تَغْيِيرِهَا ، وَأَنَّ التُّرَابَ قَدْ جَذَبَهَا إِلَى نَفْسِهِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِي الْمَاءِ شَيْءٌ مِنْهَا .
فَصْلٌ : فَأَمَّا نَزْحُ مَاءِ الْبِئْرِ إِذَا كَانَ نَجِسًا فَلَا يُطَهَّرُ بِالنَّزْحِ ، وَهُوَ بَعْدَ نَزْحِهِ نَجِسٌ كَحُكْمِهِ فِي الْبِئْرِ قَبْلَ نَزْحِهِ فَأَمَّا الْبِئْرُ بَعْدَ نَزْحِهَا فَلَا يَخْلُو أَنْ يَنْبُعَ فِيهَا مَاءٌ أَمْ لَا : فَإِنْ لَمْ يَنْبُعْ فِيهَا مَاءٌ فَهِيَ نَجِسَةٌ ، لَا تُطَهَّرُ إِلَّا بِمَا تُطَهَّرُ بِهِ النَّجَاسَاتُ مِنَ الْغَسْلِ بِالْمَاءِ وَإِنْ نَبَعَ فِيهَا مَاءٌ لَمْ يَخْلُ حَالُ النَّابِعِ فِيهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَغَيِّرًا أَوْ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ ، نَظَرَ
فَإِنْ بَلَغَ قُلَّتَيْنِ فَهُوَ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ ، وَالْبِئْرُ طَاهِرَةٌ ، وَإِنْ كَانَ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ فَقَدْ طَهُرَتِ الْبِئْرُ ، وَهُوَ مَاءٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي إِزَالَةِ نَجَاسَتِهِ ، فَيَكُونُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ طَاهِرًا غَيْرَ مُطَهِّرٍ ، وَعَلَى مَذْهَبِ الْأَنْمَاطِيِّ نَجِسًا . وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ النَّابِعُ مُتَغَيِّرًا فَلَا يَخْلُو تَغْيِيرُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مِنَ النَّجَاسَةِ فَيَكُونُ الْمَاءُ نَجِسًا . وَالثَّانِي : أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ النَّجَاسَةِ إِمَّا لِحَمْأَةٍ أَوْ لِفَسَادِ التُّرْبَةِ فَلَا حُكْمَ لِتَغْيِيرِهِ وَلَا يُؤَثِّرُ هَذَا التَّغْيِيرُ فِي تَنْجِيسِهِ ، وَيَكُونُ كَحُكْمِهِ لَوْ كَانَ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ عَلَى مَا مَضَى . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَشُكَّ فِي سَبَبِ تَغْيِيرِهِ هَلْ هُوَ لِأَجْلِ النَّجَاسَةِ أَوْ لِفَسَادِ التُّرْبَةِ : فَيَغْلِبُ عَلَيْهِ حُكْمُ التَّغْيِيرِ بِالنَّجَاسَةِ فَيَكُونُ نَجِسًا : لِأَنَّهُ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِ تَغْيِيرِهِ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَوْ أَنَّ غَدِيرًا بَالَ فِيهِ ظَبْيٌ فَوَجَدَهُ مَاؤُهُ مُتَغَيِّرًا فَلَمْ يَعْلَمْ هَلْ تَغَيَّرَ لِبَوْلِ الظَّبْيِ ، أَوْ لِطُولِ الْمُكْثِ كَانَ الْمَاءُ نَجِسًا : لِأَنَّ ظَاهِرَ تَغْيِيرِهِ أَنَّهُ لِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ ، فَغَلَبَ حُكْمُهُ ، فَهَذَا حُكْمُ الْمَاءِ الرَّاكِدِ فِي بِئْرٍ أَوْ غَيْرِهَا مَاءِ إِنَاءٍ أَوْ غَدِيرٍ .
فَصْلٌ إِذَا وَقَعَتْ فِي الْمَاءِ الْجَارِي نَجَاسَةٌ
فَصْلٌ : إِذَا وَقَعَتْ فِي الْمَاءِ الْجَارِي نَجَاسَةٌ فَأَمَّا الْمَاءُ الْجَارِي إِذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ ، فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَكُونَ مَائِعَةً أَوْ مُتَجَسِّدَةً ، فَإِنْ كَانَتْ مَائِعَةً فَلَا يَخْلُو أَنْ يَتَغَيَّرَ بِهَا شَيْءٌ مِنَ الْمَاءِ الْجَارِي أَمْ لَا ؟ فَإِنْ تَغَيَّرَ بِهَا شَيْءٌ مِنْهُ كَانَتِ الْجَرْيَةُ الَّتِي تَغَيَّرَتْ بِهَا نَجِسَةً ، وَكَانَ مَا فَوْقَهَا مِنَ الْمَاءِ الْأَعْلَى وَمَا تَحْتَهَا مِنَ الْمَاءِ الْأَسْفَلِ طَاهِرَيْنِ ، وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ بِهَا فَالْجَرْيَةُ الَّتِي وَقَعَتْ فِيهَا النَّجَاسَةُ نَجِسَةٌ ، وَمَا تَحْتَهَا وَفَوْقَهَا طَاهِرٌ ، فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ الْجَارِي يَنْتَهِي إِلَى فَضَاءٍ يَقِفُ فِيهِ فَمَاءُ الْفَضَاءِ مَا لَمْ تَنْتَهِ إِلَيْهِ الْجَرْيَةُ ، الَّتِي وَقَعَتْ فِيهَا النَّجَاسَةُ طَاهِرٌ فَإِذَا انْتَهَتِ الْجَرْيَةُ النَّجِسَةُ إِلَيْهِ صَارَ حُكْمُهُ كَحُكْمِ الْمَاءِ الرَّاكِدِ إِذَا قَلَتْهُ نَجَاسَةٌ فِي اعْتِبَارِ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ ، فَإِنْ كَانَ قُلَّتَيْنِ كَانَ طَاهِرًا ، فَلَوْ تَوَضَّأَ رَجُلٌ مِنْ تِلْكَ الْجَرْيَةِ قَبْلَ اتِّصَالِهَا بِمَاءِ الْفَضَاءِ كَانَ وُضُوءُهُ بَاطِلًا لِنَجَاسَةِ الْمَاءِ الَّذِي تَوَضَّأَ بِهِ ، وَلَوْ تَوَضَّأَ مِنْ تِلْكَ الْجَرْيَةِ بَعْدَ اتِّصَالِهَا بِمَاءِ الْفَضَاءِ جَازَ وَإِنْ لَمْ تَغِبْ فِيهِ ، وَتُخْلَطْ بِهِ : لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي طَهَارَتِهِ بِالِاتِّصَالِ لَا بِالِاخْتِلَاطِ : أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّ قُلَّتَيْنِ مَاءً غَيْرَ رِطْلٍ وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ فَهُوَ نَجِسٌ ، وَلَوْ صُبَّ عَلَيْهِ رِطْلٌ مِنْ مَاءٍ صَارَ طَاهِرًا وَجَازَ اسْتِعْمَالُهُ ، وَإِنِ اسْتَحَالَ أَنْ يَغِيبَ الْمَاءُ كُلُّهُ فِي الرِّطْلِ الَّذِي صُبَّ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ مُتَجَسِّدَةً كَمَيْتَةٍ وَقَعَتْ فِيهِ فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَكُونَ جَارِيَةً مَعَهُ [ أَوْ وَاقِفَةً فِيهِ فَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً مَعَهُ ] فَحُكْمُهَا عَلَى مَا مَضَى مِنْ نَجَاسَةِ الْجَرْيَةِ الَّتِي هِيَ فِيهَا ، وَطَهَارَةِ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا ، فَإِذَا انْتَهَتِ النَّجَاسَةُ إِلَى مَاءِ الْفَضَاءِ صَارَتْ نَجِسَةً فِي مَاءٍ رَاكِدٍ ، فَيَكُونُ
عَلَى مَا مَضَى مِنِ اعْتِبَارِ قِلَّتِهِ وَكَثْرَتِهِ ، فَإِنْ كَانَ قُلَّتَيْنِ فَصَاعِدًا كَانَ مَدُّ الْفَضَاءِ طَاهِرًا ، وَكَذَلِكَ مَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ مِنَ الْمَاءِ الْجَارِي طَاهِرٌ أَيْضًا قَبْلَ اتِّصَالِهِ بِهِ وَبَعْدَهُ ، وَإِنْ كَانَ مَاءُ الْفَضَاءِ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ فَهُوَ نَجِسٌ ، وَالْمَاءُ الْجَارِي قَبْلَ اتِّصَالِهِ بِمَاءِ الْفَضَاءِ طَاهِرٌ فَإِذَا اتَّصَلَ بِهِ صَارَ نَجِسًا وَلَمْ يَجُزِ اسْتِعْمَالُهُ ، وَلَوْ لَمْ يَغِبْ فِيهِ وَيَخْتَلِطْ بِهِ اعْتِبَارًا بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ بِالِاتِّصَالِ دُونَ الِاخْتِلَاطِ ، وَإِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ قَائِمَةً فِي الْمَاءِ طهارة الماء الجاري فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَنْسَكِنَ بِهَا الْمَاءُ وَيَقِفَ عِنْدَهَا . وَالثَّانِي : أَنْ لَا يَنْسَكِنَ بِهَا وَيَكُونَ عَلَى جَرْيَتِهِ فَإِنَّ انْسَكَنَ الْمَاءُ بِهَا وَوَقَفَ عِنْدَهَا كَانَ مَا فَوْقَهَا مِنَ الْمَاءِ الْجَارِي طَاهِرًا مَا كَانَ عَلَى جَرْيَتِهِ ، وَكَانَ مَا وَقَفَ عِنْدَهَا مِنَ الْمَاءِ ، وَانْقَطَعَتْ جَرْيَتُهُ فِي حُكْمِ الْمَاءِ الرِاكدِ ، فَإِنْ كَانَ قُلَّتَيْنِ كَانَ طَاهِرًا وَإِنْ كَانَ دُونَهُ كَانَ نَجِسًا ، وَكَانَ مَا انْحَدَرَ عَنْهَا مِنَ الْمَاءِ نَجِسًا ، وَفِي حُكْمِ الرَّاكِدِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ مَا وَقَفَ عِنْدَهَا مِنَ الْمَاءِ مَحْكُومًا بِطِهَارَتِهِ لِكَثْرَتِهِ أَمْ لَا ، وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ يَمُرُّ بِالْمَيْتَةِ عَلَى جَرْيَتِهِ لَا يَقِفُ عِنْدَهَا ، وَلَا يَنْقَطِعُ مِنْ جَرْيَتِهِ بِهَا طهارة الماء الجاري فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ فِي غُزْرِ الْمَاءِ كُلِّهِ مِنْ عُلْوِهِ إِلَى قَرَارِهِ فَلَيْسَ يُجَوِّزُهَا شَيْءٌ مِنَ الْمَاءِ لَمْ يَمَسَّهَا فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَا كَانَ فَوْقَهَا مِنَ الْمَاءِ مَا لَمْ تَنْتَهِ جَرْيَتُهُ إِلَيْهَا طَاهِرٌ وَمَا تَحْتَهَا نَجِسٌ ، وَفِي حُكْمِ الْمَاءِ الرَّاكِدِ وَإِنَّمَا كَانَ مَا فَوْقَ النَّجَاسَةِ مِنَ الْمَاءِ الْجَارِي طَاهِرًا مَا لَمْ يَنْتَهِ إِلَيْهَا اسْتِشْهَادًا بِمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ إِبْرِيقًا لَوْ صُبَّ مِنْ بِزَالِهِ مَاءٌ عَلَى نَجَاسَةٍ كَانَ الْمَاءُ الْخَارِجُ مِنَ الْبِزَالِ طَاهِرًا مَا لَمْ يُلَاقِ النَّجَاسَةَ ، وَإِنْ كَانَ جَارِيًا إِلَيْهَا كَذَلِكَ كَمَا جَرَى إِلَى نَجَاسَةٍ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ النَّجَاسَةُ رَاسِبَةً فِي أَسْفَلِ الْمَاءِ وَغِزَارِهِ فَلَيْسَ تَمُرُّ بِهَا الطَّبَقَةُ الْعُلْيَا مِنَ الْمَاءِ وَإِنَّمَا تَمُرُّ بِهَا أَسْفَلُ ، فَالْمَاءُ طَاهِرٌ مَا لَمْ يَنْتَهِ إِلَيْهَا فَإِذَا انْتَهَى إِلَيْهَا كَانَتِ الطَّبَقَةُ السُّفْلَى مِنَ الْمَاءِ نَجِسَةً لِمُرُورِهَا عَلَى النَّجَاسَةِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي نَجَاسَةِ الطَّبَقَةِ الْعُلْيَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا طَاهِرَةٌ : لِأَنَّهَا لَمْ تَجْرِ عَلَى النَّجَاسَةِ وَلَا لَاقَتْهَا فَصَارَ كَالْمَاءِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَيْهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا نَجِسَةٌ أَيْضًا : لِأَنَّ جَرْيَةَ الْمَاءِ إِنَّمَا تَمْنَعُ مِنَ اخْتِلَاطِهِ بِمَا تَقَدَّمَ وَتَأَخَّرَ ، فَأَمَّا مَا عَلَا مِنْهُ وَسَفُلَ مِنْ طَبَقَاتِهِ فَهُوَ بِالرَّاكِدِ أَشْبَهُ ، وَالرَّاكِدُ يَتَمَيَّزُ حُكْمُ أَعْلَاهُ وَأَسْفَلِهِ فِي الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ النَّجَاسَةُ طَافِيَةً عَلَى رَأْسِ الْمَاءِ وَلَا تَنْتَهِي إِلَى قَرَارِهِ ، فَلَيْسَ يَمُرُّ بِهَا إِلَّا أَعْلَى الْمَاءِ دُونَ أَسْفَلِهِ ، فَالْمَاءُ طَاهِرٌ مَا لَمْ يَنْتَهِ إِلَيْهَا فَإِذَا انْتَهَى إِلَيْهَا كَانَتِ الطَّبَقَةُ
الْعُلْيَا نَجِسَةً لِمُرُورِهَا بِالنَّجَاسَةِ ، وَفِي نَجَاسَةِ الطَّبَقَةِ السُّفْلَى وَجْهَانِ عَلَى مَا مَضَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِذَا كَانَ الْمَاءُ خَمْسَ قِرَبٍ كِبَارٍ مِنْ قِرَبِ الْحِجَازِ فَوَقَعَ فِيهِ دَمٌ أَوْ أَيُّ نَجَاسَةٍ كَانَتْ فَلَمْ تُغَيِّرْ طَعْمَهُ وَلَا لَوْنَهُ وَلَا رِيحَهُ لَمْ يَنْجَسْ وَهُوَ بِحَالِهِ طَاهِرٌ لِأَنَّ فِيهِ خَمْسَ قِرَبٍ فَصَاعِدًا وَهَذَا فَرْقُ مَا بَيْنَ الْكَثِيرِ الَّذِي لَا يُنَجِّسُهُ إِلَّا مَا غَيَّرَهُ وَبَيْنَ الْقَلِيلِ الَّذِي يُنَجِّسُهُ مَا لَمْ يُغَيِّرْهُ فَإِنْ وَقَعَتْ مَيْتَةٌ فِي بِئْرٍ فَغَيَّرَتْ طَعْمَهَا أَوْ رِيحَهَا أَوْ لَوْنَهَا أُخْرِجَتِ الْمَيْتَةُ وَنُزِحَتِ الْبِئْرُ حَتَّى يَذْهَبَ تَغَيُّرُهَا فَتَطْهُرَ بِذَلِكَ ( قَالَ ) وَإِذَا كَانَ الْمَاءُ أَقَلَّ مِنْ خَمْسِ قِرَبٍ فَخَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ لَيْسَتْ بِقَائِمَةٍ نَجَّسَتْهُ فِإِنْ صُبَّ عَلَيْهِ مَاءٌ أَوْ صُبَّ عَلَى مَاءٍ آخَرَ حَتَى يَكُونَ الْمَاءَانِ جَمِيعًا خَمْسَ قِرَبٍ فَصَاعِدًا فَطَهُرَا لَمْ يُنَجِّسْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ ( قَالَ ) فَإِنْ فُرِّقَا بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَنْجَسَا بَعْدَ مَا طَهُرَا إِلَّا بِنَجَاسَةٍ تَحْدُثُ فِيهِمَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ لَمَّا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ حُكْمَ الْمَاءِ الْكَثِيرِ ذَكَرَ بَعْدَهُ حُكْمَ الْمَاءِ الْقَلِيلِ ، فَإِذَا كَانَ الْمَاءُ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ فَوَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ فَقَدْ نَجِسَ ، سَوَاءٌ تَغَيَّرَ الْمَاءُ أَمْ لَا ، وَسَوَاءٌ كَانَتِ النَّجَاسَةُ مَائِعَةً أَمْ لَا ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ حُكْمُ ذَلِكَ فِيمَا سَنَذْكُرُهُ سِوَى الْحُكْمِ بِنَجَاسَتِهِ ، وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ تَغَيَّرَ فَطَهَارَتُهُ بِاجْتِمَاعِ وَصْفَيْنِ بِالْمُكَاثَرَةِ ، وَزَوَالِ التَّغَيُّرِ وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ فَطَهَارَتُهُ بِالْمُكَاثَرَةِ وَحْدَهَا ، فَلَوْ كَانَتْ قُلَّةٌ نَجِسَةً ، وَقُلَّةٌ أُخْرَى طَاهِرَةً فَصُبَّتْ إِحْدَى الْقُلَّتَيْنِ فِي الْأُخْرَى صَارَا مَعًا طَاهِرَيْنِ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَغْيِيرٌ سَوَاءٌ صُبَّتِ الطَّاهِرَةُ عَلَى النَّجِسَةِ أَوِ النَّجِسَةُ عَلَى الطَّاهِرَةِ : لِأَنَّ طَرِيقَةَ الْمُكَاثَرَةِ إِزَالَةُ النَّجَاسَةِ ، فَاسْتَوَى الْحُكْمُ فِي وُرُودِ الطَّاهِرِ عَلَى النَّجَسِ وَوُرُودِ النَّجَسِ عَلَى الطَّاهِرِ من الماء ، فَإِنْ فُرِّقَا بَعْدَ ذَلِكَ ، نُظِرَ فِي حَالِ النَّجَاسَةِ فَإِنْ كَانَتْ مَائِعَةً صَارَتْ مُسْتَهْلَكَةً ، وَكَانَ الْمَاءَانِ طَاهِرَيْنِ ، وَإِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ قَائِمَةً ، فَإِنْ أُخَرِجَتْ مِنْهُ قَبْلَ تَفْرِيقِهِ فَهُمَا طَاهِرَانِ وَإِنَّ فُرِّقَا قَبْلَ إِخْرَاجِهَا مِنْهُ ، نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ فَرَّقَهُ بِالِاغْتِرَافِ مِنْهُ دُفْعَةً كَانَ اغْتَرَفَ مِنْهُ بِنَاضِحٍ احْتَمَلَ بِهِ إِحْدَى الْقُلَّتَيْنِ ، فَالْقُلَّةُ الَّتِي حُمِلَتِ النَّجَاسَةُ فِيهَا نَجِسَةٌ ، وَالْقُلَّةُ الْأُخْرَى طَاهِرَةٌ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْعَبَّاسِ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا ، وَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي إِسْحَاقَ نَجِسٌ ، وَإِنْ فَرَّقَ بِأَنْ أَمَالَ الْإِنَاءَ الَّذِي فِيهِ الْقُلَّتَانِ حَتَّى انْصَبَّ مِنْهُ فِي إِنَاءٍ آخَرَ قُلَّةٌ ، وَبَقِيَ فِي الْأَوَّلِ قُلَّةٌ ، نُظِرَ ، فَإِنْ خَرَجَتِ النَّجَاسَةُ حِينَ أَمَالَ الْإِنَاءَ فِي أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَاءِ كَانَ الْإِنَاءُ الثَّانِي الَّذِي حَصَلَتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ نَجِسًا وَكَانَ مَا بَقِيَ فِي الْأَوَّلِ طَاهِرًا وَإِنْ خَرَجَتِ النَّجَاسَةُ إِلَى الْإِنَاءِ الثَّانِي بَعْدَ أَنْ تَقَدَّمَهُ مَا أَصَارَ بِهِ الثَّانِيَ فِي الْأَوَّلِ - أَقَلَّ مِنْ قُلَّتَيْنِ كَانَا جَمِيعًا نَجِسَيْنِ ، وَهَكَذَا لَوْ بَقِيَتِ النَّجَاسَةُ فِي الْقُلَّةِ الْبَاقِيَةِ فِي الْإِنَاءِ الْأَوَّلِ كَانَا جَمِيعًا نَجِسَيْنِ ، وَإِذَا تَأَمَّلْتَ تَعْجِيلَ ذَلِكَ وَجَدْتَهُ مُسْتَمِرًّا فَلَوْ كَانَ مَعَهُ قُلَّةُ مَاءٍ نَجِسَةٌ ، وَقُلَّةٌ أُخْرَى نَجِسَةٌ ، فَأَرَاقَ إِحْدَيْهِمَا فِي الْأُخْرَى ، وَلَيْسَ فِيهِمَا تَغْيِيرٌ فَهُمَا طَاهِرَتَانِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْقُلَّتَيْنِ نَجِسَةٌ وَالنَّجَاسَةُ إِذَا اجْتَمَعَتْ مَعَ النَّجَاسَةِ كَانَ أَغْلَظَ لِحُكْمِهَا لِكَثْرَتِهَا ، فَكَيْفَ صَارَتْ إِحْدَى النَّجَاسَتَيْنِ مُطَهِّرَةً لِلْأُخْرَى ، وَالنَّجَاسَةُ بِاجْتِمَاعِهَا أَكْثَرَ . قِيلَ : إِنَّمَا كَانَا نَجِسَيْنِ مَعَ الِافْتِرَاقِ : لِأَنَّ قِلَّةَ الْمَاءِ تَضْعُفُ عَنِ احْتِمَالِ النَّجَاسَةِ ، وَإِذَا اجْتَمَعَا كَثُرَ فَقَوِيَ عَلَى احْتِمَالِ النَّجَاسَةِ وَصَارَتْ لِكَثْرَةِ الْمَاءِ مُسْتَهْلَكَةً عُفِيَ عَنْهَا فَلَوْ فُرِّقَا بَعْدَ اجْتِمَاعِهِمَا ، وَالنَّجَاسَةُ مَائِعَةٌ كَانَا طَاهِرَيْنِ : لِأَنَّهُ مَاءٌ طَاهِرٌ فَلَمْ يَنْجَسْ بِالتَّفْرِيقِ .
فَصْلٌ : فَلَوْ كَانَ مَعَهُ قُلَّتَانِ مِنْ مَاءٍ إِلَّا رِطْلًا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ فَهُوَ نَجِسٌ ، فَلَوْ تَمَّمَهُ بِرِطْلٍ مِنْ بَوْلٍ أَوْ خَمْرٍ حَتَّى صَارَ قُلَّتَيْنِ وَلَيْسَ فِيهِمَا تَغْيِيرٌ ، فَهُوَ نَجِسٌ : لِأَنَّهُ لَيْسَ بَقُلَّتَيْنِ مِنْ مَاءٍ فَيُحْتَمَلُ دَفْعُ النَّجَاسَةِ ، وَإِنَّمَا هُوَ قُلَّتَانِ مَاءً وَنَجَاسَةً ، وَهَكَذَا لَوْ تَمَّمَ بِرِطْلٍ مِنْ خَمْرٍ أَوْ لَبَنٍ لَمْ يَطْهُرْ ، وَكَانَ نَجِسًا لِتَقْصِيرِ الْمَاءِ عَنِ الْقُلَّتَيْنِ ، وَلَكِنْ لَوْ تَمَّمَ بِرِطْلٍ مِنْ مَاءٍ نَجِسٍ كَانَ طَاهِرًا لِتَمَامِ الْمَاءِ قُلَّتَيْنِ .
فَصْلٌ : فَلَوْ وَقَعَتْ نَجَاسَةٌ فِي مَاءٍ شُكَّ فِي قَدْرِهِ هَلْ هُوَ قُلَّتَانِ أَوْ أَقَلُّ : فَهُوَ عَلَى الْقِلَّةِ مَا لَمْ يَعْلَمْ كَثْرَتَهُ وَيَكُونُ نَجِسًا ، فَلَوْ عَلِمَهُ قُلَّتَيْنِ ، ثُمَّ رَأَى كَلْبًا قَدْ وَلَغَ فِيهِ ، وَشَكَّ هَلْ شَرِبَ مِنْهُ حَتَّى نَقَصَ عَنِ الْقُلَّتَيْنِ أَمْ لَا ؟ فَهُوَ عَلَى الْكَثْرَةِ مَا لَمْ يَعْلَمْ نَقْصَهُ وَيَكُونُ طَاهِرًا .
فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ مَعَهُ قُلَّتَانِ مِنْ مَاءٍ وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ فَتَغْلِبُ بِهَا ثُمَّ فَرَّقَ فَزَالَ التَّغْيِيرُ بَعْدَ التَّفْرِيقِ فَكِلَا الْمَاءَيْنِ نَجِسٌ ، وَلَوْ زَالَ التَّغْيِيرُ قَبْلَ التَّفْرِيقِ فَكِلَا الْمَاءَيْنِ طَاهِرٌ .
فَصْلٌ : وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ هَذَا الْمَاءَ نَجِسٌ لَمْ يُحْكَمْ بِتَنْجِيسِهِ دُونَ أَنْ يُخْبِرَا عَنِ السَّبَبِ الَّذِي صَارَ بِهِ نَجِسًا : لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِيمَا يُنَجَّسُ بِهِ الْمَاءُ وَلَا يُنَجَّسُ أَلَا تَرَى أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَجْعَلُ سُؤْرَ الْحِمَارِ نَجِسًا مِثَالُهُ الشَّهَادَةُ بِالْجَرْحِ وَالتَّفْسِيقِ لَا تَسْمَعُ إِلَّا بِذِكْرِ مَا صَارَ بِهِ مَجْرُوحًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ مَا لَا يَخْتَلِطُ بِهِ مِثْلُ الْعَنْبَرِ أَوِ الْعُودِ أَوِ الدُّهْنِ الْطَيِّبِ طهارة الماء ، فَلَا بَأْسَ بِهِ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مَخُوضًا بِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، لَمَّا ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ حُكْمَ النَّجَاسَةِ إِذَا وَقَعَتْ فِي الْمَاءِ ذَكَرَ بَعْدَهُ حُكْمَ الْأَشْيَاءِ الطَّاهِرَةِ إِذَا وَقَعَتْ وَجُمْلَةُ مَا وَقَعَ فِي الْمَاءِ الْأَشْيَاءُ الطَّاهِرَةُ ضَرْبَانِ : مَائِعٌ وَجَامِدٌ ، فَالْمَائِعُ ضَرْبَانِ : ضَرْبٌ يَتَمَيَّزُ عَنِ الْمَاءِ كَالدُّهْنِ فَالْمَاءُ مُطَهِّرٌ سَوَاءٌ تَغَيَّرَ أَوْ لَمْ يَتَغَيَّرْ : لِأَنَّ الدُّهْنَ لَا يَخْتَلِطُ بِالْمَاءِ وَإِنَّمَا يُجَاوِرُهُ وَتَغْيِيرُ الْمُجَاوَرَةِ لَا يُغَيِّرُ حُكْمًا الماء ، أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّ مَاءً فِي إِنَاءٍ جَاوَرَتْهُ مَيْتَةٌ فَتَغَيَّرَ بِرَائِحَتِهَا لَمْ يُنَجَّسْ .
وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَتَمَيَّزَ عَنِ الْمَاءِ كَالْخَلِّ وَاللَّبَنِ فَيُنْظَرُ حَالُ الْمَاءِ فَإِنْ غَيَّرَ الْمَائِعُ لَوْنَهُ أَوْ طَعْمَهُ أَوْ رَائِحَتَهُ فَهُوَ غَيْرُ مُطَهِّرٍ : لِغَلَبَتِهِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يُغَيِّرْهُ ، نُظِرَ فَإِنْ كَانَ الْمَائِعُ أَقَلَّ مِنَ الْمَاءِ كَانَ الْمَاءُ مُطَهِّرًا : لِغَلَبَتِهِ بِالْكَثْرَةِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَائِعُ أَكْثَرَ مِنَ الْمَاءِ فَالْمَاءُ غَيْرُ مُطَهِّرٍ لِغَلَبَةِ الْمَائِعِ عَلَيْهِ بِكَثْرَتِهِ ، وَأَمَّا الْجَامِدُ فَضَرْبَانِ : مَذْرُورٌ ، وَغَيْرُ مَذْرُورٍ ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَذْرُورٍ كَالْعُودِ وَالصَّنْدَلِ وَغَيْرِهِ مِنْ ذِي رِيحٍ ذَكِيٍّ أَوْ غَيْرِ ذَكِيٍّ فَالْمَاءُ مُطَهِّرٌ ، وَإِنْ تَغَيَّرَ بِهِ ، لِأَنَّهُ تَغَيَّرَ عَنْ مُجَاوَرَةٍ ، وَإِنْ كَانَ مَذْرُورًا كَالزَّعْفَرَانِ وَالْعُصْفُرِ وَالْحِنَّا فَإِنْ تَغَيَّرَ بِهِ لَوْنُ الْمَاءِ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رَائِحَتُهُ لِأَنَّ تَغْيِيرَهُ لِاخْتِلَاطِ مُمَازَجَةٍ ، وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُ الْمَاءِ وَلَا طَعْمُهُ وَلَا رَائِحَتُهُ فَهُوَ مُطَهِّرٌ ، وَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ مَا لَمْ يُنَجَّسْ بِهِ الْمَاءُ ، وَيَخْرُجْ عَنْ طَعْمِهِ فِي الرِّقَّةِ وَالصَّفَا ، وَلَا فَرْقَ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ مُخَالَطَةِ الطَّاهِرَاتِ بِالْمَاءِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قُلَّتَيْنِ أَوْ أَقَلَّ بِخِلَافِ النَّجَاسَةِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ اعْتِبَارِ الْقُلَّتَيْنِ فِي النَّجَاسَةِ ، وَتَرْكِ اعْتِبَارِهِمَا فِي مُخَالَطَةِ الْأَشْيَاءِ الطَّاهِرَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : أَنَّ النَّجَاسَاتِ لَمَّا سَلَبَتِ الْمَاءَ صِفَتَيْهِ فِي الطَّهَارَةِ وَالتَّطْهِيرِ ضَعُفَ قَلِيلُ الْمَاءِ عَنْ دَفْعِهَا حَتَّى يَكْثُرَ ، وَلَمَّا كَانَتِ الْمَائِعَاتُ تَسْلُبُ الْمَاءَ التَّطْهِيرَ دُونَ الطَّهَارَةِ قَوِيَ قَلِيلُ الْمَاءِ عَلَى دَفْعِهَا وَإِنْ لَمْ يَكْثُرْ . وَالثَّانِي : أَنَّ حُكْمَ النَّجَاسَاتِ لَمَّا تَعَدَّى إِلَى غَيْرِ الْمَاءِ تَغَلَّظَ حُكْمُهَا فِي الْمَاءِ وَلَمْ يَتَعَدَّ حُكْمَ الْمَائِعَاتِ إِلَى غَيْرِ الْمَاءِ ضَعُفَ حُكْمُهَا فِي الْمَاءِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ التَّحَرُّزَ مِنَ الْمَائِعَاتِ مُتَعَذِّرٌ ، فَخَفَّ حُكْمُهُمَا فِي مُخَالَطَةِ الْمَاءِ ، وَالتَّحَرُّزُ مِنَ النَّجَاسَةِ أَمْكَنُ فَغَلِظَ حُكْمُهَا فِي مُخَالَطَةِ الْمَاءِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِذَا كَانَ مَعَهُ فِي السَّفَرِ إِنَاءَانِ يَسْتَيْقِنُ أَنَّ أَحَدَهُمَا نَجِسٌ ، وَالْآخَرُ لَمْ يَنْجَسْ تَأَخَّى وَأَرَاقَ النَّجِسَ عَلَى الْأَغْلَبِ عِنْدَهُ وَتَوَضَّأَ بِالطَّهَارَةِ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ تُمَكَّنُ ، وَالْمَاءُ عَلَى أَصْلِهِ طَاهِرٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : وَإِذَا كَانَ مَعَهُ إِنَاءَانِ أَوْ أَكْثَرُ ، وَبَعْضُهَا طَاهِرٌ ، وَبَعْضُهَا نَجِسٌ ، وَقَدْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ الطَّاهِرُ مِنَ النَّجِسِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَحَرَّى فِيهَا وَيَجْتَهِدَ ، وَيَسْتَعْمِلَ مَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى طَهَارَتِهِ ، وَقَالَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ : وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ بَلْ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي ، وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ ، وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ الْمَاجِشُونُ : يَتَوَضَّأُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَيُصَلِّي بَعْدَ التَّوَضِّي صَلَاةً لَا يُعِيدُهَا ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِيُّ صَاحِبُ مَالِكٍ : يَتَوَضَّأُ بِأَحَدِهِمَا وَيُصَلِّي ثُمَّ يَتَوَضَّأُ بِالْآخَرِ وَيُعِيدُ تِلْكَ الصَّلَاةَ ، فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ اشْتِبَاهَ الطَّاهِرِ بِالنَّجِسِ كَاشْتِبَاهِ الْمَاءِ بِالْبَوْلِ ، ثُمَّ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي اشْتِبَاهِ الْمَاءِ بِالْبَوْلِ ، فَكَذَلِكَ لَا يَجْتَهِدُ فِي اشْتِبَاهِ الطَّاهِرِ بِالنَّجِسِ ، وَاسْتَدَلَّ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَابْنُ مَسْلَمَةَ بِأَنَّهُ إِذَا اسْتَعْمَلَهَا كَانَ عَلَى يَقِينٍ
مِنِ ارْتِفَاعِ حَدَثِهِ ، وَاسْتِعْمَالُ مَا أَدَّى إِلَى رَفْعِ حَدَثِهِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُزَنِيُّ أَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى مَاءٍ طَاهِرٍ وَوَجَدَ سَبِيلًا إِلَى اسْتِعْمَالِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَيَمَّمَ ، وَلَزِمَهُ التَّوَصُّلُ إِلَى اسْتِعْمَالِهِ ، وَهَذَا وَاجِدٌ لِمَاءٍ طَاهِرٍ ، وَقَادِرٌ عَلَى التَّوَصُّلِ إِلَى اسْتِعْمَالِهِ بِالِاجْتِهَادِ ، فَصَارَ الِاجْتِهَادُ وَاجِبًا عَلَيْهِ كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ : لِأَجْلِ التَّوَصُّلِ إِلَى الْمَاءِ بِارْتِيَادِ دَلْوٍ وَحَبْلٍ وَإِصْلَاحِ مَسِيلٍ وَتَنْقِيَةِ بِئْرٍ ، وَلِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ تُؤَدَّى بِالْيَقِينِ تَارَةً ، وَبِالظَّاهِرِ أُخْرَى جَازَ التَّحَرِّي فِيهَا عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ كَالْقِبْلَةِ ، فَأَمَّا اسْتِشْهَادُهُ بِاشْتِبَاهِ الْمَاءِ بِالْبَوْلِ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اشْتِبَاهَ الْمَاءِ بِالْبَوْلِ نَادِرٌ فَسَقَطَ الِاجْتِهَادُ فِيهِ [ كَاشْتِبَاهِ الْقِبْلَةِ فِي الْحَضَرِ ، وَاشْتِبَاهِ الطَّاهِرِ بِالنَّجِسِ عَامٌّ فَجَازَ الِاجْتِهَادُ فِيهِ كَاشْتِبَاهِ الْقِبْلَةِ فِي السَّفَرِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْبَوْلَ لَمْ يَكُنْ لَهُ مُدْخَلٌ فِي الْإِبَاحَةِ بِحَالٍ فَسَقَطَ الِاجْتِهَادُ فِيهِ ، إِذَا اشْتَبَهَ بِالْمُبَاحِ كَالْمُذَكَّاةِ إِذَا اخْتَلَطَتْ بِالْمَيْتَةِ ، وَالْأُخْتُ إِذَا اخْتَلَطَتْ بِالْأَجْنَبِيَّةِ ، وَالنَّجِسُ قَدْ كَانَ لَهُ مُدْخَلٌ فِي الْإِبَاحَةِ ، فَجَازَ الِاجْتِهَادُ فِيهِ إِذَا اشْتَبَهَ بِالْمُبَاحِ كَاشْتِبَاهِ الثَّوْبَيْنِ وَالْقِبْلَتَيْنِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَاجِشُونُ وَابْنُ مَسْلَمَةَ أَنَّ اجْتِنَابَ النَّجَاسَةِ فِي الصَّلَاةِ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهَا كَرَفْعِ الْحَدَثِ وَفِي اسْتِعْمَالِهَا حَمْلُ نَجَاسَةٍ بِيَقِينٍ كَمَا أَنَّ فِيهَا رَفْعَ حَدَثٍ بِيَقِينٍ ، فَلَأَنْ كَانَ الْيَقِينُ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ مُوجِبًا لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ كَانَ الْيَقِينُ فِي حَمْلِ النَّجَاسَةِ مُوجِبًا لِبُطْلَانِ الصَّلَاةِ ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ وَانْفِصَالٌ . فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَكُلُّ نَجَاسَةٍ طَرَأَتْ عَلَى طَاهِرٍ ، وَاشْتَبَهَ بِمَا لَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهِ النَّجَاسَةُ مِنْ جِنْسِهِ كَأَوَانِي الْمَاءِ إِذَا نُجِّسَ بَعْضُهَا وَاشْتَبَهَ بِالطَّاهِرِ أَوْ كَالثِّيَابِ إِذَا نُجِّسَ بَعْضُهَا ، وَاشْتَبَهَ بِمَا لَمْ يُنَجَّسْ وَجَبَ أَنْ يَتَحَرَّى فِيهِ وَيَجْتَهِدَ سَوَاءٌ اسْتَوَى عَدَدُ الطَّاهِرِ وَالنَّجِسِ أَوْ كَانَ عَدَدُ النَّجِسِ أَكْثَرَ مِنَ الطَّاهِرِ أَوْ عَدَدُ الطَّاهِرِ أَكْثَرَ مِنَ النَّجِسِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : فِي الثِّيَابِ بِمِثْلِ هَذَا ، وَمَنَعَ مِنَ الِاجْتِهَادِ فِي [ الْأَوَانِي إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَدَدُ الطَّاهِرِ أَكْثَرَ فَإِنْ كَانَ مُتَسَاوِيًا أَوْ أَقَلَّ لَمْ يَجْتَهِدْ فَيَمْنَعُ مِنَ الِاجْتِهَادِ فِي ، الْإِنَاءَيْنِ وَفِي الثَّلَاثَةِ إِذَا كَانَ النَّجِسُ اثْنَيْنِ ، وَيَجُوزُ إِذَا كَانَ النَّجِسُ وَاحِدًا اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ " وَكَثْرَةُ النَّجِسِ مُرِيبٌ ، فَوَجَبَ أَنْ يَدَعَ الِاجْتِهَادَ فِيهِ ، وَالتُّرَابُ غَيْرُ مُرِيبٍ فَوَجَبَ أَنْ يَعْدِلَ إِلَى التَّيَمُّمِ بِهِ ، قَالَ : وَلِأَنَّ اسْتِوَاءَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ فِيمَا لَمْ يَسْمَحْ بِهِ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ يَمْنَعُ مِنَ الِاجْتِهَادِ كَالْإِنَاءَيْنِ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مَاءً وَالْآخَرُ بَوْلًا ، وَلِأَنَّ الْأُصُولَ مُقَرَّرَةٌ عَلَى أَنَّ أَكْثَرَ الْحَظْرِ
يُوجِبُ تَغْلِيبَ حُكْمِهِ فِي الْمَنْعِ ، كَالْأُخْتِ إِذَا اخْتَلَطَتْ بِأَجْنَبِيَّةٍ وَكَثْرَةُ الْإِبَاحَةِ تُوجِبُ تَغْلِيبَ حُكْمِهَا فِي الْإِقْدَامِ كَالْأُخْتِ إِذَا اخْتَلَطَتْ بِنِسَاءِ بَلَدٍ ، فَكَذَا الْأَوَانِي إِنْ كَانَ الطَّاهِرُ أَكْثَرَ غَلَبَ حُكْمُ الْإِبَاحَةِ ، وَإِنْ كَانَ النَّجِسُ أَكْثَرَ غَلَبَ حُكْمُ الْحَظْرِ . وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى : فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ [ الْحَشْرِ : ] وَلِأَنَّ كُلَّ جِنْسٍ جَازَ التَّحَرِّي فِيهِ إِذَا كَانَ عَدَدُ الْمُبَاحِ أَكْثَرَ جَازَ التَّحَرِّي فِيهِ إِذَا كَانَ عَدَدُ الْمُبَاحِ أَقَلَّ كَالثِّيَابِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ عَدَدٍ جَازَ فِيهِ طَلَبُ الطَّاهِرِ مِنَ الثِّيَابِ ، جَازَ فِيهِ طَلَبُ الطَّاهِرِ مِنَ الْمَاءِ كَالثَّلَاثِ إِذَا كَانَ أَحَدُهَا نَجِسًا وَكَالْمَيْتَةِ إِذَا اخْتَلَطَتْ بِالْمُذَكَّى عَكْسًا ، وَلِأَنَّ جِهَةَ الْحَظْرِ إِذَا الْتَبَسَتْ بِالْجِهَةِ الْمَطْلُوبَةِ جَازَ التَّحَرِّي فِي ذَلِكَ ، وَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ غَلَبَةُ جِهَاتِ الْحَظْرِ كَطَلَبِ الْقِبْلَةِ : لِأَنَّ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعُ ، وَالْقِبْلَةَ فِي أَحَدِهَا : وَلِأَنَّهُ طَرِيقٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى مَعْرِفَةِ الطَّهُورِ فَجَازَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ فِي الْأَوَانِي كَالْيَقِينِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : " دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ " فَهُوَ أَنَّ مَا أَدَّى الِاجْتِهَادُ إِلَى طَهَارَتِهِ قَدْ زَالَتِ الرِّيبَةُ عَنْهُ ، وَالتُّرَابُ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ قَدِ انْتَقَلَتِ الرِّيبَةُ إِلَيْهِ ، فَلَمْ يَجُزِ اسْتِعْمَالُهُ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى إِنَاءَيْنِ أَحَدُهُمَا مَاءٌ وَالْآخَرُ بَوْلٌ ، فَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مَعَ الْمُزَنِيِّ مِنَ الْفَرْقَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ ، وَالْمَعْنَى فِي الْمَاءِ وَالْبَوْلِ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزِ التَّحَرِّي فِيهِ مَعَ غَلَبَةِ الْمُبَاحِ لَمْ يَجُزْ مَعَ غَلَبَةِ الْمَحْظُورِ ، وَلَمَّا جَازَ التَّحَرِّي فِي الطَّاهِرِ وَالنَّجِسِ إِذَا غَلَبَ الْمُبَاحُ جَازَ ، وَأَمَّا اسْتِشْهَادُهُمْ بِأَنَّ الْحَظْرَ إِذَا غَلَبَ كَانَ حُكْمُهُ أَغْلَبَ اعْتِبَارًا بِالْأَصْلِ الْمَذْكُورِ ، فَخَطَأٌ : لِأَنَّ التَّحَرِّيَ لَا يَدْخُلُ فِي الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرَهُ ، وَإِنْ كَانَتِ الْإِبَاحَةُ أَغْلَبَ ، أَلَا تَرَى لَوِ اخْتَلَطَتْ أُخْتُهُ بِعَشْرِ نِسْوَةٍ حَرُمْنَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَحَرَّى فِيهِنَّ ، وَلَوِ اخْتَلَطَتْ بِنِسَاءِ بَلَدٍ حَلَّ لَهُ مَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَجْتَهِدَ فِيهِنَّ ، ثُمَّ يُقَالُ : إِنَّمَا يَتَغَلَّبُ حُكْمُ الْحَظْرِ بِغَلَبَةِ أَمَارَاتِهِ ، وَكَذَا يَتَغَلَّبُ حُكْمُ الْإِبَاحَةِ بِغَلَبَةِ أَمَارَاتِهَا ، وَلَيْسَ لِلْعَدَدِ تَأْثِيرٌ فِي تَغْلِيبِ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ . فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ اجْتِهَادِهِ فِي قَلِيلِ الْأَوَانِي وَكَثِيرِهَا سَوَاءٌ كَانَ الطَّاهِرُ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ ، فَمَتَى لَمْ يَجِدْ مِنَ الطَّاهِرِ إِلَّا مَا اشْتَبَهَ بِالنَّجِسِ وَجَبَ عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ ، وَإِنْ وَجَدَ مَاءً طَاهِرًا بِيَقِينٍ وَمَعَهُ إِنَاءَانِ قَدْ يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ الطَّاهِرُ مِنْهُمَا مِنَ النَّجِسِ ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا : لِأَنَّهُ سَبِيلٌ إِلَى الْعُدُولِ عَنْهُمَا بِاسْتِعْمَالِ مَا يَتَيَقَّنُ طَهَارَتَهُ ، لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِيهِمَا أَمْ لَا : عَلَى وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ فِي شَرْحِهِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ : لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ إِنَّمَا يَجُوزُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ إِلَيْهِ كَمَا لَا يَجُوزُ الِاجْتِهَادُ فِي الْقِبْلَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى عَيْنِهَا وَلَا فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ فِيهَا ، قَالَ صَاحِبُ هَذَا الْوَجْهِ : وَدَلِيلُ ذَلِكَ مِنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ قَوْلُهُ : " وَلَوْ كَانَ فِي السَّفَرِ وَكَانَ مَعَهُ
إِنَاءَانِ فَيَسْتَيْقِنُ أَنَّ أَحَدَهُمَا نَجِسٌ وَالْآخَرَ لَمْ يُنَجَّسْ تَأَخَّى " فَجَعَلَ السَّفَرَ شَرْطًا فِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ وَلَا يَكُونُ السَّفَرُ شَرْطًا إِلَّا لِعَدَمِ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْمَاءِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ : لِأَنَّ أَكْثَرَ أَحْوَالِهِ فِي الِاجْتِهَادِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا بِمَاءٍ طَاهِرٍ فِي الظَّاهِرِ مَعَ وُجُودِ مَاءٍ طَاهِرٍ بِيَقِينٍ ، وَذَلِكَ جَائِزٌ : أَلَا تَرَى لَوِ اسْتَعْمَلَ مِنْ إِنَاءٍ عَلَى شَاطِئِ نَهْرٍ أَوْ بَحْرٍ ، جَازَ ، وَإِنْ كَانَتْ طَهَارَتُهُ مِنْ طَرِيقِ الطَّاهِرِ ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا بِوُلُوغِ كَلْبٍ ، أَوْ غَيْرِهِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ مَاءَ الْبَحْرِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى يَقِينِ الطَّهَارَةِ . قَالَ صَاحِبُ هَذَا الْوَجْهِ وَاشْتِرَاطُ الشَّافِعِيِّ السَّفَرَ إِنَّمَا هُوَ لِوُجُوبِ الِاجْتِهَادِ لَا لِجَوَازِهِ . فَصْلٌ : وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ : إِذَا كَانَ مَعَهُ إِنَاءَانِ أَحَدُهُمَا مَاءٌ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ ، وَالْآخَرُ مَاءٌ مُسْتَعْمَلٌ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَجْتَهِدَ : لِأَنَّهُ إِذَا اسْتَعْمَلَهُمَا أَدَّى فَرْضُ طَهَارَتِهِ بِيَقِينٍ فَإِذَا أَرَادَ الِاجْتِهَادَ فِيهِمَا ، نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ مُضْطَرًّا إِلَى شُرْبِ أَحَدِهِمَا جَازَ الِاجْتِهَادُ فِيهِمَا : لِأَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى اسْتِعْمَالِهِمَا ، وَإِنْ لَمْ يُضْطَرَّ إِلَى شُرْبِ أَحَدِهِمَا ، فَفِي جَوَازِ اجْتِهَادِهِ فِيهِمَا وَجْهَانِ كَمَا مَضَى : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ إِذَا قِيلَ إِنَّ مَنْ تَيَقَّنَ مَاءً طَاهِرًا لَمْ يَجْتَهِدْ . وَالثَّانِي : يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ إِذَا قِيلَ إِنَّ مَنْ تَيَقَّنَ مَاءً طَاهِرًا جَازَ أَنْ يَجْتَهِدَ . فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا كَانَ مَعَهُ إِنَاءَانِ أَحَدُهُمَا مَاءٌ وَالْآخَرُ مَاءُ وَرْدٍ اسْتِعْمَالُهُمَا ، فَإِنْ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى شُرْبِ أَحَدِهِمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْتَهِدَ ، وَلَزِمَهُ اسْتِعْمَالُهُمَا وَجْهًا وَاحِدًا بِخِلَافِ الْمُسْتَعْمَلِ : لِأَنَّ مَاءَ الْوَرْدِ لَا مُدْخَلَ لَهُ فِي التَّطْهِيرِ فَلَمْ يَجُزِ الِاجْتِهَادُ فِيهِ كَالْمَاءِ وَالْخَمْرِ ، وَلَزِمَهُ اسْتِعْمَالُهُمَا : لِأَنَّهُمَا طَاهِرَانِ بِخِلَافِ الْمَاءِ وَالْخَمْرِ ، وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى شُرْبِ أَحَدِهِمَا جَازَ أَنْ يَجْتَهِدَ فِيهِمَا لِأَجْلِ الشُّرْبِ ، لَا لِأَجْلِ الطَّهَارَةِ : لِأَنَّ الشُّرْبَ يَخْتَصُّ بِالطَّهَارَةِ وَحْدَهَا ، وَهُمَا طَاهِرَانِ فَجَازَ الِاجْتِهَادُ فِيهِمَا : لِأَجْلِ الشُّرْبِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الطَّهَارَةِ فَلَمْ يَجُزْ الِاجْتِهَادُ فِيهِمَا : لِأَجْلِ الطَّهَارَةِ : لِأَنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ فِي التَّطْهِيرِ ، وَاجْتِهَادُهُ لِأَجْلِ الشُّرْبِ وَأَنْ يَتَأَخَّى فِيهِمَا أَيُّهُمَا مَاءُ الْوَرْدِ لِيَشْرَبَهُ ، فَإِذَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى أَنَّ أَحَدَهُمَا مَاءُ الْوَرْدِ أَعَدَّهُ لِشُرْبِهِ ، بَقِيَ الْآخَرُ وَقَدْ خَرَجَ بِالِاجْتِهَادِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَاءَ وَرْدٍ فَحُكِمَ بِأَنَّهُ مَاءٌ فَجَازَ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ فَهَذَا فَرْقٌ بَيْنَ الِاجْتِهَادَيْنِ . فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا كَانَ مَعَهُ إِنَاءَانِ يَتَيَقَّنُ طَهَارَةَ أَحَدِهِمَا ، وَنَجَاسَةَ الْآخَرِ ، وَقَدِ اشْتَبَهَا فَانْقَلَبَ أَحَدُهُمَا أَوْ أَرَاقَهُ فَفِي الْبَاقِي وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ هُوَ طَاهِرٌ : لِأَنَّهُ مَاءٌ مَشْكُوكٌ فِي نَجَاسَتِهِ فَرُدَّ إِلَى أَصْلِهِ فِي الطَّهَارَةِ ، فَيَسْتَعْمِلُهُ مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ حَتَّى يَجْتَهِدَ فِيهِ ،