كتاب :البداية والنهاية
الامام الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن كثير الدمشقي

طلب أولئك التتر حتى أهلكهم عن آخرهم، ولم يبق منهم سوى رجلين، لا جمع لله بهم شملا وا ؟ بهم مرحبا ولا أهلا.
آمين يا رب العالمين.
صفة خروج المهدى الضال بأرض جبلة وفي هذه السنة خرجت النصيرية (1) عن الطاعة وكان من بينهم رجل سموه محمد بن الحسن المهدي القائم بأمر الله، وتارة يدعي علي بن أبي طالب فاطر السموات والارض، تعالى الله عما ؟ يقولون علوا كبيرا.
وتارة يدعي أنه محمد بن عبد الله صاحب البلاد، وخرج يكفر المسلمين وأن النصيرية على الحق، واحتوى هذا الرجل على عقول كثير من كبار النصيرية الضلال، وعين لكل إنسان منهم تقدمة ألف، وبلادا كثيرة ونيابات، وحملوا على مدينة جبلة فدخلوها وقتلو خلقا من أهلها، وخرجوا منها يقولون لا إله إلا علي، ولا حجاب إلا محمد، ولا باب إلا سلمان.
وسبوا الشيخين، وصاح أهل البلد واإسلاماه، واسلطاناه، وا أميراه، فلم يكن لهم يومئذ ناصر ولا منجد، وجعلوا يبكون ويتضرعون إلى الله عزوجل، فجمع هذا الضال تلك الاموال فقسمها على أصحابه وأتباعه قبحهم الله أجمعين.
وقال لهم لم يبق للمسلمين ذكر ولا دولة، ولو لم يبق معي سوى عشرة نفر لملكنا البلاد كلها.
ونادى في تلك البلاد إن المقاسمة بالعشر لا غير ليرغب فيه، وأمر أصحابه بخراب المساجد واتخاذها خمارات، وكانوا يقولون لم أسروه من المسلمين: قل لا إله إلا علي، واسجد لآلهك المهدي، الذي يحيي ويميت حتى يحقن دمك.
ويكتب لك فرمان، وتجهزوا وعملوا أمرا عظيما جدا، فجردت إليهم العساكر فهزموهم وقتلو منهم خلقا كثيرا، وجما غفيرا، وقتل المهدي أضلهم وهو يكون يوم القيامة مقدمهم إلى عذاب
السعير، كما قال تعالى (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد، كتب عليه أنه من تولاه فإنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير.
ذلك بما قدمت يداك) الآية [ الحج 3 - 7 ].
وفيها حج الامير حسام الدين مهنا وولده سليمان في ستة آلاف، وأخوه محمد بن عيسى في أربعة آلاف، ولم يجتمع منها بأحد من المصريين ولا الشاميين، وقد كان في المصريين قجليس وغيره والله أعلم.
وممن توفي فيها من الاعيان: الشيخ الصالح أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله المنتزه، كان فاضلا، وكتب حسنا، نسخ التنبيه
__________
(1) النصيرية: فرقة ينسبون إلى نصير غلام علي بن أبي طالب (رض) وهم يعتقدون بألوهيته (صبح الاعشى 13 / 249).

والعمدة وغير ذلك، وكان الناس ينتفعون به ويقابلون عليه ذلك ويصححون عليه، ويجلسون إليه عند صندوق كان له في الجامع، توفي ليلة الاثنين سادس محرم ودفن بالصوفية، وقد صححت عليه في العمدة وغيره.
الشيخ شهاب الدين الرومي أحمد بن محمد بن إبراهيم بن المراغي، درس بالمعينية (1)، وأم بمحراب الحنفية بمقصورتهم الغربية إذ كان محرابهم هناك، وتولى مشيخة الخاتونية (2)، وكان يؤم بنائب السلطان الافرم، وكان يقرأ حسنا بصوت ملح، وكانت له مكانة عنده، وربما راح إليه الافرم ماشيا حتى يدخل عليه زاويته التي أنشأها بالشرق الشمالي على الميدان الكبير، ولما توفي بالمحرم ودفن بالصوفية قام ولداه عماد الدين وشرف الدين بوظائفه.
الشيخ الصالح العدل
قمر الدين عثمان بن أبي الوفا بن نعمة الله الاعزازي، كان ذاثروة من المال كثير المرؤة والبلاوة أدى الامانة في ستين ألف دينار وجواهر لا يعلم بها إلا الله عزوجل، بعد ما مات صاحبها مجردا في الغزاة وهو عز الدين الجراحي نائب غزة، أودعه إياها فأداها إلى أهلها أثابه الله، ولهذا لما مات يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من ربيع الآخر حضر جنازته خلق لا يعلمهم إلا الله تعالى، حتى قيل إنهم لم يجتمعوا في مثلها قبل ذلك، ودفن بباب الصغير رحمه الله.
قاضي القضاة جمال الدين أبو عبد الله محمد بن سليمان بن يوسف (3) الزواوي قاضي المالكية بدمشق، من سنة سبع وثمانين وستمائة، قدم مصر من المغرب واشتغل بها وأخذ عن مشايخها منهم الشيخ عز الدين بن عبد السلام، ثم قدم دمشق قاضيا في سنة سبع وثمانين وستمائة، وكان مولده تقريبا في سنة تسع وعشرين وستمائة (4).
وأقام شعار مذهب مالك وعمر الصمصامية في أيامه وجدد
__________
(1) المدرسة المعينية: بدمشق أنشأها معين الدين أنر سنة 555 ه (الدارس 1 / 588).
__________
(2) وهي الخانقاه الخاتونية: منسوبة إلى خاتون بنت معين الدين أنر، زوجة نور الدين محمود، والمتوفاة سنة 581 ه (الدارس 507 1 و 2 / 149).
__________
(3) في تذكرة النبيه 2 / 82: سومر.
__________
(4) ذكر النويري في نهاية الارب 30 ورقة 114 انه ولد سنة 626 ه وذكر ابن حبيب في تذكرته 2 / 83 ولادته سنة 630 ه.

عمارة النورية، وحدث بصحيح مسلم وموطا مالك عن يحيى بن يحيى عن مالك، وكتاب الشفا (1) للقاضي عياض، وعزل قبل وفاته بعشرين يوما عن القضاء، وهذا من خيره حيث لم يمت قاضيا، توفي بالمدرسة الصمصامية يوم الخميس التاسع من جمادى الآخرة، وصلي عليه بعد الجمعة ودفن بمقابر باب الصغير تجاه مسجد النارنج (2) وحضر الناس جنازته وأثنوا عليه خيرا، وقد جاوز الثمانين كمالك رحمه الله.
ولم يبلغ إلى سبعة عشر من عمره على مقتضى مذهبه أيضا.
القاضي الصدر الرئيس رئيس الكتاب شرف الدين أبو محمد عبد الوهاب بن جمال الدين فضل الله بن الحلي (3) القرشي العدوي العمري، ولد سنة تسع (4) وعشرين وستمائة وسمع الحديث وخدم وارتفعت منزلته حتى كتب الانشاء بمصر، ثم نقل إلى كتابة السر بدمشق إن أن توفي في ثامن رمضان، ودفن بقاسيون، وقد قارب التسعين (5)، وهو ممتع بحواسه وقواه، وكانت له عقيدة حسنة في العلماء، ولا سيما في ابن تيمية وفي الصلحاء رحمه الله.
وقد رثاه الشهاب محمود كاتب السر بعد بدمشق، وعلاء الدين بن غانم وجمال الدين بن نابتة.
الفقيه الامام العالم المناظر شرف الدين أبو عبد الله الحسين بن الامام كمال الدين علي بن إسحاق بن سلام الدمشقي الشافعي ولد سنة ثلاث وسبعين وستمائة، واشتغل وبرع وحصل ودرس بالجاروخية (6) والعذراوية، وأعاد بالظاهرية وأفتى بدار العدل، وكان واسع الصدر كثير الهمة كريم النفس مشكورا في فهمه وخطه وحفظه وفصاحته ومناظرته، توفي في رابع عشرين رمضان وترك أولادا ودينا كثيرا، فوفته عنه زوجته بنت زويزان تقبل الله منها وأحسن إليها.
الصاحب أنيس الملوك بدر الدين عبد الرحمن بن إبراهيم الاربلي، ولد سنة ثمان وثلاثين وستمائة، واشتغل
__________
(1) وهو كتاب الشفا في تعريف حقوق المصطفى، للامام الحافظ أبي الفضل عياض بن موسى بن عياض القاضي اليحصبي المتوفى سنة 544 ه (كشف الظنون 2 / 1052 وشذرات الذهب 4 / 138).
__________
(2) في الاصل: التاريخ تحريف.
__________
(3) في شذرات الذهب 6 / 46 وتذكرة النبيه 2 / 83: مجلى وانظر الدرر 3 / 42 وفوات الوفيات 2 / 421.
__________
(4) في فوات الوفيات 2 / 421: ثلاث وعشرين (انظر تذكرة النبيه 2 / 83).
__________
(5) في تذكرة النبيه 2 / 421: أربع وتسعين (السلوك 2 / 179 الدرر الكامنة 3 / 42).
__________
(6) في الاصل الجاروضية: وتقدمت الاشارة إليها.

بالادب فحصل على جانب جيد منه وارتزق عند الملوك به.
فمن رفيق شعره ما أورده الشيخ علم الدين في ترجمته قوله: ومدامة حمراء (1) تش * به خد من أهوى ودمعي يسعى بها قمر أعز * ز علي من نظري وسمعي وقوله في مغنية: وعزيزة هيفاء ناعمة الصبا * طوع العناق مريضة الاجفان (2) غنت وماس قوامها فكأنها ال * ورقاء تسجع فوق غصن البان الصدر الرئيس شرف الدين محمد بن جمال الدين إبراهيم ابن شرف الدين عبد الرحمن بن أمين الدين سالم بن الحافظ بهاء الدين الحسن بن هبة الله ابن محفوظ بن صصرى، ذهب إلى الحجاز الشريف، فلما كانوا ببردى اعتراه مرض ولم يزل به حتى مات، توفي بمكة وهو محرم ملب، فشهد الناس جنازته وغبطوه بهذه الموتة، وكانت وفاته يوم الجمعة آخر النهار السابع ذي الحجة ودفن ضحى يوم السبت بمقبرة بباب الحجون رحمه الله تعالى وأكرم مثواه.
ثم دخلت سنة ثمان عشرة وسبعمائة الخليفة والسلطان هما هما، وكذلك النواب والقضاة سوى المالكي بدمشق فإنه العلامة فخر الدين بن سلامة بعد القاضي جمال الدين الزواوي رحمه الله.
ووصلت الاخبار في المحرم من بلاد الجزيرة وبلاد الشرق سنجار والموصل وماردين وتلك النواحي بغلاء عظميم وفناء شديد ؟، وقلة الامطار، وخوف التتار، وعدم الاقوات وغلاء الاسعار، وقلة النفقات، وزوال النعم، وحلول النقم، بحيث إنهم أكلوا ما وجدوه من الجمادات والحيوانات والميتات، وباعوا حتى أولادهم وأهاليهم، فبيع الولد بخمسين درهما وأقل من ذلك، حتى إن كثيرا كانوا لا يشترون من أولاد المسلمين، وكانت المرأة تصرح بأنها نصرانية ليشتري منها ولدها لتنتفع بثمنه ويحصل له من يطعمه
__________
(1) من تذكرة النبيه 2 / 88 ودرة الاسلاك ص 88 وفي الاصل: ومدامة خمر تشبه خد من * أهوى ودمعي يسقي بها قمر أعز علي من سمعي ومن بصري
__________
(2) في تذكرة النبيه: وغريرة هيفاء باهرة السنا طوع العناق مريضة الاجفان وفي الدرر 2 / 8: سقيمة الاجفان.

فيعيش، وتأمن عليه من الهلاك فإنالله وإنا إليه راجعون.
ووقعت أحوال صعبة يطول ذكرها، وتنبو الاسماع عن وصفها، وقد ترحلت منهم فرقة قريب الاربعمائة إلى ناحية مراغة فسقط عليهم ثلج أهلكهم عن آخرهم، وصحبت طائفة منهم فرقة من التتار، فلما انتهوا إلى عقبة صعدها التتار ثم منعوهم أن يصعدوها لئلا يتكلفوا بهم فماتوا عن آخرهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.
وفي بكرة الاثنين السابع من صفر قدم القاضي كريم الدين عبد الكريم بن العلم هبة الله وكيل الخاص السلطاني بالبلاد جميعها، قدم إلى دمشق فنزل بدار السعادة وأقام بها أربعة أيام وأمر ببناء جامع القبيبات، الذي يقال له جامع كريم الدين، وراح لزيارة بيت المقدس، وتصدق بصدقات كثيره وافرة، وشرع ببناء جامع بعد سفره، وفي ثاني صفر جاءت ريح شديدة ببلاد طرابلس على ذوق تركمان فأهلكت لهم كثيرا من الامتعة، وقتلت أميرا منه يقال له طرالي وزوجته وابنتيه وابني ابنيه وجاريته وأحد عشر نفسا، وقتلت جمالا كثيرة وغيرها، وكسرت الامتعة والاثاث وكانت ترفع البعير في الهواء مقدار عشرة أرماح ثم تلقيه مقطعا، ثم سقط بعد ذلك مطر شديد وبرد عظيم بحيث أتلف زروعا كثيرة في قرى عديدة حنجو من أربعة وعشرين قرية، حتى أنها لا ترد بدارها.
وفي صفر أخرج الامير سيف الدين طغاي الحاصلي إلى نيابة صفد (1) فأقيم بها شهرين ثم مسك، والصاحب أمين الدين إلى نظر الاوقاف بطرابلس على معلوم وافر.
قال الشيخ
علم الدين وفي يوم الخميس منتصف ربيع الاول اجتمع قاضي القضاة شمس الدين بن مسلم بالشيخ الامام العلامة تقي الدين بن تيمية وأشار عليه في ترك الافتاء في مسألة الحلف بالطلاق، فقبل الشيخ نصيحته وأجاب إلى ما أشار به، رعاية لخاطره وخواطر الجماعة المفتيين، ثم ورد البريد في مستهل جمادى الاولى بكتاب من السلطان فيه منع الشيخ تقي الدين من الافتاء في مسألة الحلف بالطلاق وانعقد بذلك مجلس، وانفصل الحال على ما رسم به السلطان، ونودي به في البلد، وكان قبل قدوم المرسوم قد اجتمع بالقاضي ابن مسلم الحنبلي جماعة من المفتيين الكبار، وقالوا له أن ينصح الشيخ في ترك الافتاء في مسألة الطلاق، فعلم الشيخ نصيحته، وأنه إنما قصد بذلك ترك ثوران فتنة وشر.
وفي عاشره جاء البريد إلى صفد (1) بمسك سيف الدين طغاي، وتولية بدر الدين القرماني نيابة حمص.
وفي هذا الشهر كان مقتل رشيد الدولة فضل الله بن أبي الخير بن عالي الهمداني، كان أصله يهوديا عطارا، فتقدم بالطب وشملته السعادة حتى كان عند خربندا الجزء الذي لا يتجزأ، وعلت رتبته وكلمته، وتولى مناصب الوزراء، وحصل له من الاموال والاملاك والسعادة ما لا يحد ولا يوصف وكان قد أظهر الاسلام، وكانت لديه فضائل جمة، وقد فسر القرآن وصنف كتبا كثيرة،
__________
(1) في الاصل: صفت.

وكان له أولاد وثروة عظيمة، وبلغ الثمانين من العمر، وكانت له يد جيدة يوم الرحبة، فإنه صانع عن المسلمين وأتقن القضيه في رجوع ملك التتار عن البلاد الشامية، سنة ثنتي عشرة كما تقدم، وكان يناصح الاسلام، ولكن قد نال منه خلق كثير من الناس واتهموه على الدين وتكلموا في تفسيره هذا، ولا شك أنه كان مخبطا مخلطا، وليس لديه علم نافع، ولا عمل صالح.
ولما تولى أبو سعيد المملكة عزله وبقي مدة خاملا ثم استدعاه جوبان وقال له: أنت سقيت السلطان خربندا سما ؟ فقال له: أنا كنت في غاية الحقارة والذلة، فصرت في أيامه وأيام أبيه في غاية العظمة والعزة، فكيف أعمد إلى سقيه والحالة هذه ؟ فأحضرت الاطباء فذكروا صورة
مرض خربندا وصفته، وأن الرشيد أشار بإسهاله لما عنده في باطنه من الحواصل، فانطلق باطنه نحوا من سبعين مجلسا، فمات بذلك على وجه أنه أخطأ في الطب.
فقال: فأنت إذا قتلته، فقتله وولده إبراهيم واحتيط على حواصله وأمواله، فبلغت شيئا كثيرا، وقطعت أعضاؤه وحمل كل جزء منها إلى بلدة، ونودي على رأسه بتبريز هذا رأس اليهودي الذي بدل كلام الله لعنه الله، ثم أحترقت جثته، وكان القائم عليه علي شاه.
وفي هذا الشهر - أعني جمادى الاولى - تولى قضاء المالكية بمصر تقي الدين الاخنائي (1) عوضا عن زين الدين بن مخلوف توفي عن أربع وثمانين سنة (2)، وله في الحكم ثلاث وثلاثون سنة.
وفي يوم الخميس عاشر رجب لبس صلاح الدين يوسف بن الملك الاوحد خلعة الامرة بمرسوم السلطان، وفي آخر رجب جاء سيل عظيم بظاهر حمص خرب شيئا كثيرا، وجاء إلى البلد ليدخلها فمنعه الخندق.
وفي شعبان تكامل بناء الجامع الذي عمره تنكز ظاهر باب النصر، وأقيمت الجمعة فيه عاشر شعبان، وخطب فيه الشيخ نجم الدين علي بن داود بن يحيى الحنفي المعروف بالفقجازي، من مشاهير الفضلاء ذوي الفنون المتعددة، وحضر نائب السلطنة والقضاة والاعيان والقراء والمنشدون وكان يوما مشهودا.
وفي يوم الجمعة التي يليها خطب بجامع القبيبات الذي أنشأه كريم الدين وكيل السلطان، وحضر فيه القضاة والاعيان، وخطب فيه الشيخ شمس الدين محمد بن عبد الواحد بن يوسف بن الرزين الحراني الاسدي الحنبلي، وهو من الصالحين الكبار، ذوي الزهادة والعبادة والنسك والتوجه وطيب الصوت وحسن السمت.
وفي حادي عشر رمضان خرج الشيخ شمس الدين بن النقيب إلى حمص حاكما بها مطلوبا مولى مرغوبا فيه، وخرج الناس لتوديعه.
__________
(1) هو تقي الدين محمد بن أبي بكر بن عيسى بن بدران بن رحمة السعدي الاخنائي المالكي المتوفى سنة 750 ه وهو شقيق علم الدين محمد المتوفى سنة 732 ه (انظر النجوم الزاهرة 10 / 247 الدرر 4 / 27).
__________
(2) في السلوك 2 / 1 / 188 والنجوم الزاهرة 9 / 242: ولد سنة 620 فيكون له 98 سنة، وفي تذكر النبيه 2 / 93: مات وهو من أبناء التسعين.

وفي هذا الشهر حصل سيل عظيم بسلمية ومثله بالشوبك، وخرج المحمل في شوال وأمير الركب الامير علاء الدين بن معبد والي البر، وقاضيه زين الدين ابن قاضي الخليل الحاكم بحلب.
وممن حج في هذه السنة من الاعيان: الشيخ برهان الدين الفزاري وكمال الدين بن الشريشي وولده وبدر الدين بن العطار.
وفي الحادي والعشرين من ذي الحجة انتقل الامير فخر الدين إياس الاعسري من شد الدواوين بدمشق إلى طرابلس أميرا.
وفي يوم الجمعة السابع عشر ذي الحجة أقيمت الجمعة في الجامع الذي أنشأه الصاحب شمس الدين غبريال ناظر الدواوين بدمشق خارج باب شرقي، إلى جانب ضرار بن الازور بالقرب من محلة القساطلة، وخطب فيه الشيخ شمس الدين محمد بن التدمري المعروف بالنيرباني، وهو من كبار الصالحين ذوي العبادة والزهادة، وهو من أصحاب شيخ الاسلام ابن تيمية، وحضره الصاحب المذكور وجماعة من القضاة والاعيان.
وفي يوم الاثنين والعشرين من ذي الحجة باشر الشيخ شمس الدين محمد بن عثمان الذهبي المحدث الحافظ بتربة أم الصالح عوضا عن كمال الدين بن الشريشي توفي بطريق الحجاز في شوال، وقد كان له في مشيختها ثلاث وثلاثون سنة، وحضر عند الذهبي جماعة من القضاة.
وفي يوم الثلاثاء صبيحة هذا الدرس أحضر الفقيه زين الدين بن عبيدان الحنبلي من بعلبك وحوقق على منام رآه زعم أنه راه بين النائم واليقظان، وفيه تخطيط وتخبيط وكلام كثير لا يصدر عن مستقيم المزاج، كان كتبه بخطه وبعثه لي بعض أصحابه، فاستسلمه القاضي الشافعي حقن دمه وعزره، ونودي عليه في البلد ومنع من الفتوى وعقود الانكحة، ثم أطلق.
وفي يوم الاربعاء بكرة باشر بدر الدين محمد بن بضحان مشيخة الاقراء يتربة أم الصالح عوضا عن الشيخ مجد الدين التونسي توفي، وحضر عنده الاعيان الفضلاء، وقد حضرته يومئذ، وقبل ذلك باشر مشيخة الاقراء بالاشرفية عوضا عنه أيضا الشيخ محمد بن خروف الموصلي.
وفي يوم الخميس ثالث عشرين ذي الحجة باشرالشيخ الامام العلامة الحافظ الحجة شيخنا ومفيدنا أبو الحجاج يوسف بن الزكي
عبد الرحمن بن يوسف المزي مشيخة دار الحديث الاشرفية عوضا عن كمال الدين بن الشريشي، ولم يحضر عنده كبير أحد، لما في نفوس بعض الناس من ولايته لذلك، مع أنه لم يتولها أحد قبله أحق بها منه، ولا أحفظ منه، وما عليه منهم ؟ إذ لم يحضروا عنده فإنه لا يوحشه إلا حضورهم عنده، وبعدهم عنه أنس والله أعلم.
وممن توفي فيها من الاعيان: الشيخ الصالح العابد الناسك الورع الزاهد القدوة بقية السلف وقدوة الخلف أبو عبد الله محمد بن الشيخ الصالح عمر بن السيد القدوة الناسك الكبير العارف أبي بكر بن قوام بن علي بن قوام البالسي، ولد سنة خمسين

وستمائة ببالس (1)، وسمع من أصحاب ابن طبرزد، وكان شيخا جليلا بشوش الوجه حسن السمت، مقصدا لكل أحد كثير، الوقار عليه سيما العبادة والخير، وكان يوم قازان في جملة من كان مع الشيخ تقي الدين بن تيمية لما تكلم مع قازان، فحكى عن كلام شيخ الاسلام تقي الدين لقازان وشجاعته وجرأته عليه، وأنه قال لترجمانه قل للقان: أنت تزعم أنك مسلم ومعك مؤذنون وقاض وإمام وشيخ على ما بلغنا فغزوتنا وبلغت بلادنا على ماذا ؟ وأبوك وجدك هلاكو كانا كافرين وما غزوا بلاد الاسلام، بل عاهدوا قومنا، وأنت عاهدت فغدرت وقلت فما وفيت.
قال: وجرت له مع قازان وقطلوشاه وبولاي أمور ونوب، قام ابن تيمية فيها كلها لله، وقال الحق ولم يخش إلا الله عزوجل.
قال وقرب إلى الجماعة طعاما فأكلوا منه إلا ابن تيمية فقيل له ألا تأكل ؟ فقال: كيف آكل من طعامكم وكله مما نهبتم من أغنام الناس وطبختموه بما قطعتم من أشجار الناس، قال: ثم إن قازان طلب منه الدعاء فقال في دعائه " اللهم إن كان هذا عبدك محمود إنما يقاتل لتكون كلمتك هي العليا وليكون الدين كله لك فانصره وأيده وملكه البلاد والعباد، وإن كان إنما قام رياء وسمعة وطلبا للدنيا ولتكون كلمته هي العليا وليذل الاسلام وأهله فأخذ له وزلزله ودمره وأقطع دبره " قال: وقازان يؤمن على دعائه، ويرفع يديه.
قال: فجعلنا
نجمع ثيابنا خوفا من أن تتلوث بدمه إذا أمر بقتله.
قال: فلما خرجنا من عنده قال له قاضي القضاة نجم الدين بن صصرى وغيره: كدت أن تهلكنا وتهلك نفسك، والله لا نصحبك من هنا، فقال: وأنا والله لا أصحبكم.
قال: فانطلقنا عصبة وتأخر هو في خاصة نفسه ومعه جماعة من أصحابه، فتسامعت به والخواقين والامراء من أصحاب قازان فأتوه يتبركون بدعائه، وهو سائر إلى دمشق، وينظرون إليه، قال والله ما وصل إلى دمشق إلا في نحو ثلثمائة فارس في ركابه، وكنت أنا من جملة من كان معه، وأما أولئك الذي أبوا أن يصحبوه فخرج عليهم جماعه من التتر فشلحوهم عن آخرهم، هذا كلام أو نحوه، وقد سمعت هذه الحكاية من جماعة غيره، وقد تقدم ذلك.
توفي الشيخ محمد بن قوام ليلة الاثنين الثاني والعشرين من صفر بالزاوية المعروفة بهم غربي الصالحية والناصرية والعادلية، وصلي عليه بها ودفن بها وحضر جنازته ودفنه خلق كثير وجم غفير، وكان من جملة الجمع الشيخ تقي بن تيمية، لانه كان يحبه كثيرا، ولم يكن للشيخ محمد مرتب على الدولة ولا غيرهم، ولا لزاويته مرتب ولا وقف، وقد عرض عليه ذلك غير مرة فلم يقبل، وكان يزار، وكان لديه علم وفضائل جمة، وكان فهمه صحيحا، وكانت له معرفة تامة، وكان حسن العقيدة وطويته صحيحة محبا للحديث وآثار السلف، كثير التلاوة والجمعية على الله عزوجل، وقد صنف جزءا فيه أخبار جيدة، رحمه الله وبل ثراه بوابل الرحمة آمين.
__________
(1) بالس بلدة بالشام بين حلب والرقة (معجم البلدان).

الشيخ الصالح الاديب البارع الشاعر المجيد تقي الدين أبو محمد عبد الله بن الشيخ أحمد بن تمام بن حسان البلي (1) ثم الصالحي الحنبلي، أخو الشيخ محمد بن تمام، وله سنة خمس وثلاثين وستمائة وسمع الحديث، وصحب الفضلاء، وكان حسن الشكل والخلق، طيب النفس مليح المجاورة والمجالسة، كثير المفاكهة، أقام مدة بالحجاز واجتمع بان سبعين وبالتقي الحوراني، وأخذ النحو عن ابن مالك وابنه بدر الدين وصحبه مدة، وقد صحبه الشهاب محمود مدة خمسين سنة، وكان يثني عليه بالزهد والفراغ
من الدنيا، توفي ليلة السبت الثالث من ربيع الآخر ودفن بالسفح، وقد أورد الشيخ علم الدين البرزالي في ترجمته قطعة من شعره.
فمن ذلك قوله: أسكان المعاهد من فؤادي * لكم في خافق منه سكون أكرر فيكم أبدا حديثي * فيحلو والحديث له شجون وأنظمه عقيقا من دموعي * فتنشره المحاجر والجفون وأبتكر المعاني في هواكم * وفيكم كل قافية تهون وأسأل عنكم البكاء سرا * وسر هواكم سر مصون وأغتبق النسيم لان فيه * شمائل من معاطفكم تبين فكم لي في محبتكم غرام * وكم لي في الغرام بكم فنون ؟ قاضي القضاة زين الدين علي بن مخلوف بن ناهض بن مسلم بن منعم بن خلف النويري المالكي الحاكم بالديار المصرية، سنة أربع وثلاثين وستمائة (2)، وسمع الحديث واشتغل وحصل، وولي الحكم بعد ابن شاش سنة خمس وثمانين، وطالت أيامه إلى هذا العام، وكان عزير المرؤة والاحتمال والاحسان إلى الفقهاء والشهود، ومن يقصده، توفي ليلة الاربعاء حادي عشر جمادى الآخرة ودفن بسفح المقطم بمصر، وتولي الحكم بعده بمصر تقي الدين الاخنائي المالكي.
الشيخ إبراهيم بن أبي العلاء المقري الصيب المشهور المعروف بابن شعلان، وكان رجلا جيدا في شهود المسمارية،
__________
(1) في الدرر وشذرات الذهب: التلي.
__________
(2) انظر حاشية 2 صفحة 100

ويقصد للختمات لصيت صوته، توفي يوم الجمعة وهو كهل ثالث عشر جمادى الآخرة، ودفن بسفح قاسيون.
الشيخ الامام العالم الزاهد أبو الوليد محمد بن أبي القاسم أحمد بن عبد الله بن أبي جعفر أحمد بن خلف بن إبراهيم بن أبي عيسى بن الحاج النجيبي القرطبي ثم الاشبيلي، ولد بإشبيلية سنة ثمان وثلاثين وستمائة، وقد كان أهله بيت العلم والخطابة والقضاء بمدينة قرطبة، فلما أخذها الفرنج انتقلوا إلى إشبيلية وتمحقت أموالهم وكتبهم، وصادر ابن الاحمر جده القاضي بعشرين ألف دينار، ومات أبوه وجده في سنة إحدى وأربعين وستمائة، ونشأ يتيما ثم حج وأقبل إلى الشام فاستقام بدمشق من سنة أربع وثمانين، وسمع من ابن البخاري وغيره، وكتب بيده نحوا من مائة مجلد، إعانة لولديه أبي عمرو وأبي عبد الله على الاشتغال، ثم كانت وفاته بالمدرسة الصلاحية يوم الجمعة وقت الاذان ثامن عشر رجب، وصلي عليه بعد العصر ودفن عند القندلاوي، بباب الصغير بدمشق، وحضر جنازته خلق كثير.
الشيخ كمال الدين ابن الشريشي أحمد ابن الامام العلامة جمال الدين بن أبي بكر بن محمد بن أحمد بن محد بن سحمان البكري الوايلي الشريشي، كان أبوه مالكيا كما تقدم، واشتغل هو في مذهب الشافعي فبرع وحصل علوما كثيرة، وكان خبيرا بالكتابة مع ذلك، وسمع الحديث وكتب الطباق بنفسه، وأفتى ودرس وناظر وباشر بعدة مدارس ومناصب كبار، أول ما باشر مشيخة دار الحديث بتربة أم الصالح بعد والده من سنة خمس وثمانين وستمائة إلى أن توفي، وناب في الحكم عن ابن جماعة.
ثم ترك ذلك وولي وكالة بيت المال وقضاء العسكر ونظر الجامع مرات، ودرس بالشامية البرانية ودرس بالناصرية (1) عشرين سنة، ثم انتزعها من يده ابن جماعة وزين الدين الفارقي، فاستعادها منهما وباشر مشيخة الرباط الناصري بقاسيون مدة، ومشيخة دار الحديث الاشرفية ؟ ثمان سنين، وكان مشكور السيرة فيما يولي من الجهات كلها، وقد عزم في هذه السنه على الحج فخرج بأهله فأدركته منيته بالحسا في سلخ شوال من هذه السنة، ودفن هناك رحمه الله، وتولى بعده الوكالة جمال الدين بن القلانسي، ودرس بالناصرية كمال الدين بن الشيرازي، وبدار الحديث الاشر فية
__________
(1) تطلق الناصرية بدمشق على دار الحديث الناصرية وهي المدرسة الناصرية البرانية، والمدرسة الناصرية الجوانية، وقد درس بها الشريشي، وأنشأ كلاهما الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن الملك العزيز محمد بن الظاهر غازي بن صلاح الدين بن أيوب المتوفى سنة 659 ه (الدارس 1 / 115، 459).

الحافظ جمال الدين المزي، وبأم الصالح الشيخ شمس الدين الذهبي، وبالرباط الناصري ولده جمال الدين.
الشهاب المقري أحمد بن أبي بكر بن أحمد البغدادي نقيب الاشراف المتعممين، كان عنده فضائل جمة نثرا ونظما مما يناسب الوقائع وما يحضر فيه من التهاني والتعازي، ويعرف الموسيقى والشعبذة، وضرب الرمل، ويحضر المجالس المشتملة على اللهو والمسكر واللعب والبسط، ثم انقطع عن ذلك كله لكبر سنه وهو مما يقال فيه وفي أمثاله: ذهبت عن توبته سائلا * وجدتها توبة إفلاس وكان مولده بدمشق سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، وتوفي ليلة السبت خامس ذي القعدة ودفن بمقابر باب الصغير في قبر أعده لنفسه عن خمس وثمانين سنة، سامحه الله.
قاضي القضاة فخر الدين أبو العباس أحمد بن تاج الدين أبي الخير سلامة بن زين الدين أبي العباس أحمد بن سلامة (1) الاسكندري المالكي، ولد سنة إحدى وسبعين (2) وستمائة، وبرع في علوم كثيرة، وولي نيابة الحكم في الاسكندرية فحمدت سيرته وديانته وصرامته، ثم قدم على قضاء الشام للمالكية في السنة الماضية فباشرها أحسن مباشرة ؟ سنة ونصفا، إلى أن توفي بالصمصامية بكرة الاربعاء مستهل ذي الحجة، ودفن إلى جانب القندلاوي بباب الصغير، وحضر جنازته خلق كثير، وشكره الناس وأثنوا عليه رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة تسع عشرة وسبعمائة
استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها، وفي ليلة مستهل محرم هبت ريح شديدة بدمشق سقط بسببها شئ من الجدران، واقتلعت أشجارا كثيرة.
وفي يوم الثلاثاء سادس عشرين المحرم خلع على جمال الدين بن القلانسي بوكالة بيت المال عوضا عن ابن الشريشي، وفي يوم الاربعاء الخامس من صفر درس بالناصرية الجوانية ابن صصرى عوضا عن ابن الشريشي أيضا، وحضر عنده الناس على العادة.
وفي عاشره باشر شد الدواوين جمال الدين آقوش الرحبي عوضا
__________
(1) من تذكرة النبيه 2 / 82، 92 وشذرات الذهب 6 / 47 والسلوك 2 / 182، وفي الاصل: سلام.
__________
(2) في السلوك 2 / 187: سنة 641 ه.

عن فخر الدين إياس، وكان آقوش متولي دمشق من سنة سبع وسبعمائة، وولي مكانه الامير علم الدين طرقش الساكن بالعقبية، وفي هذا اليوم نودي بالبلد بصوم الناس لاجل الخروج إلى الاستسقاء، وشرع في قراءة البخاري وتهيأ الناس ودعوا عقيب الصلوات وبعد الخطب، وابتهلوا إلى الله في الاستسقاء، فلما كان يوم السبت منتصف صفر، وكان سابع نيسان، خرج أهل البلد برمتهم إلى عند مسجد القدم، وخرج نائب السلطنة والامراء مشاة يبكون ويتضرعون، واجتمع الناس هنالك وكان مشهدا عظيما، وخطب بالناس القاضي صدر الدين سليمان الجعفري وأمن الناس على دعائه، فلما أصبح الناس من اليوم الثاني جاءهم الغيث بإذن الله ورحمته ورأفته لا بحولهم ولا بقوتهم، ففرح الناس فرحا شديدا وعم البلاد كلها ولله الحمد والمنة، وحده لا شريك له.
وفي أواخر الشهر شرعوا بإصلاح رخام الجامع وترميمه وحلي أبوابه وتحسين ما فيه.
وفي رابع عشر ربيع الآخر درس بالناصرية الجوانية ابن الشيرازي بتوقيع سلطاني، وأخذها من ابن صصرى وباشرها إلى أن مات.
وفي يوم الخميس سادس عشر جمادى الاولى باشر ابن شيخ السلامية فخر الدين أخو ناظر الجيش الحسبة بدمشق عوضا عن ابن الحداد، وباشر ابن الحداد نظر الجامع بدلا عن ابن الشيخ السلامية، وخلع على كل منهما.
وفي بكرة الثلاثاء خامس جمادى الآخره قدم من مصر إلى دمشق قاضي القضاة شرف الدين
أبو عبد الله محمد إلى قاضي القضاة معين الدين أبي بكر بن الشيخ زكي الدين ظافر الهمداني المالكي، على قضاء المالكية بالشام، عوضا عن ابن سلامة توفي، وكان بينهما ستة أشهر، ولكن تقليد هذا مؤرخ بآخر ربيع الاول، ولبس الخلعة وقرئ تقليده بالجامع.
وفي هذا الشهر درس بالخاتونية البرانية القاضي بدر الدين بن نويرة الحنفي، وعمره خمس وعشرون سنة، عوضا عن القاضي شمس الدين محمد قاضي ملطية توفي.
وفي يوم السبت خامس رمضان وصل إلى دمشق سيل عظيم أتلف شيئا كبيرا، وارتفع حتى دخل باب الفرج، ووصل إلى العقبية، وانزعج الناس له، وانتقلوا من أماكنهم، ولم تطل مدته لان أصله كان مطرا وقع بأرض وابل السوق والحسينية.
وفي هذا اليوم باشر طرقشي شد الدواوين بعد موت جمال الدين الرحبي، وباشر ولاية المدينة صارم الدين الجوكندار، وخلع عليهما.
ولما كان يوم الثلاثاء التاسع والعشرين من رمضان اجتمع القضاة وأعيان الفقهاء عند نائب السلطنة بدار السعادة وقرئ عليهم كتاب من السلطان يتضمن منع الشيخ تقي الدين بن تيمية من الفتيا بمسألة الطلاق، وانفصل المجلس على تأكيد المنع من ذلك.
وفي يوم الجمعة تاسع شوال خطب القاضي صدر الدين الداراني عوضا عن بدر الدين بن ناصر الدين بن عبد السلام، بجامع جراح، وكان فيه خطيبا قبله فتولاه بدر الدين حسن العقرباني واستمر ولده في خطابة داريا التي كانت بيد أبيه من بعده.
وفي يوم السبت عشره خرج الركب وأميرهم عز الدين أيبك

المنصوري أمير علم، وحج فيها صدر الدين قاضي القضاة الحنفي، وبرهان الدين بن عبد الحق، وشرف الدين بن تيمية، ونجم الدين الدمشقي وهو قاضي الركب، ورضي الدين المنطيقي، وشمس الدين بن الزريز خطيب جامع القبيبات، وعبد الله بن رشيق المالكي وغيرهم.
وفيها حج سلطان الاسلام الملك الناصر محمد بن قلاوون ومعه جمع كثير من الامراء، ووكيله كريم الدين وفخر الدين كاتب المماليك، وكاتب السر ابن الاثير، وقاضي القضاة ابن جماعة، وصاحب حماة الملك عماد الدين، والصاحب شمس الدين غبريال، في خدمة السلطان
وكان في خدمته خلق كثير من الاعيان.
وفيها كانت وقعة عظيمة بين التتار بسبب أن ملكهم أبا سعيد كان قد ضاق ذرعا بجوبان وعجز عن مسكه، فانتدب له جماعة من الامراء عن أمره، منهم أبو يحيى خال أبيه، ودقماق وقرشي وغيرهم من أكابر الدولة، وأرادوا كبس جوبان فهرب وجاء إلى السلطان فأنهى إليه ما كان منهم، وفي صحبته الوزير علي شاه، ولم يزل بالسلطان حتى رضي عن جوبان وأمده بجيش كثيف، وركب السلطان معه أيضا والتقوا مع أولئك فكسروهم وأسروهم، وتحكم فيهم جوبان فقتل منهم إلى آخر هذه السنة نحوا من أربعين أميرا.
وممن توفي فيها من الاعيان: الشيخ المقري شهاب الدين أبو عبد الله الحسين بن سليمان بن فزارة (1) بن بدر الكفري الحنفي، ولد تقريبا في سنة سبع وثلاثين وستمائة، وسمع الحديث وقرأ بنفسه كتاب الترمذي، وقرأ القراءات وتفرد بها مدة يشتغل الناس عليه، وجمع عليه السبع أكثر من عشرين طالبا، وكان يعرف النحو والادب وفنونا كثيرة وكانت مجالسته حسنة، وله فوائد كثيرة، درس بالطرخانية أكثر من أربعين سنة، وناب في الحكم عن الاذرعي مدة ولايته، وكان خيرا مباركا أضر في آخر عمره، وانقطع في بيته، مواظبا على التلاوة والذكر وإقراء القرآن إلى أن توفي ثالث عشر جمادى الاولى، وصلي عليه بعد الظهر يومئذ بجامع دمشق، ودفن بقاسيون رحمه الله.
وفي هذا الشهر جاء خبر بموت: الشيخ الامام تاج الدين عبد الرحمن بن محمد بن أبي حامد التبريزي الشافعي المعروف بالافضلي، بعد رجوعه من
__________
(1) من غاية النهاية 1 / 241، وفي الاصل: الحسن بن سليمان بن خزارة تصحيف.

الحج ببغداد في العشر الاول من صفر، وكان صالحا فقيها مباركا، وكان ينكر على رشيد الدولة ويحط عليه، ولما قتل قال: كان قتله أنفع من قتل مائة ألف نصراني، وكان رشيد الدولة يريد أن
يترضاه فلم يقبل، وكان لا يقبل من أحد شيئا، ولما توفي دفن بتربة الشونيزي، وكان قد قارب الستين رحمه الله.
محيي الدين محمد بن مفضل بن فضل الله المصري كاتب ملك الامراء، ومستوفي الاوقاف، كان مشكور السيرة محببا للعلماء والصلحاء، فيه كرم وخدمة كثيرة للناس، توفي في رابع عشرين من جمادى الاولى ودفن بتربة ابن هلال بسفح قاسيون وله ست وأربعون سنة، وباشر بعده في وظيفته أمين الدين بن نحاس.
الامير الكبير غرلو (1) بن عبد الله العادلي كان من أكابر الدولة ومن الامراء المقدمين الالوف (2)، وقد ناب بدمشق عن أستاذه الملك العادل كتبغا نحوا من ثلاثة أشهر في سنة خمس وسبعين وستمائة، وأول سنة ست وتسعين، واستمر أميرا كبيرا إلى أن توفي في سابع جمادى الاولى يوم الخميس ودفن بتربته بشمالي جامع المظفري بقاسيون، وكان شهما شجاعا ناصحا للاسلام وأهله، مات في عشر الستين.
الامير جمال الدين أقوش الرحبي المنصوري، والي دمشق مدة طويلة، كان أصله من قرى إربل، وكان نصرانيا فسبي وبيع من نائب الرحبة، ثم انتقل إلى الملك المنصور فأعتقه وأمره، وتولى الولاية بدمشق نحوا من إحدى عشرة سنة ثم انتقل إلى شد الدواوين مدة أربعة أشهر، وكان محبوبا إلى العامة مدة ولايته.
الخطيب صلاح الدين يوسف بن محمد بن عبد اللطيف بن المعتزل (3) الحموي، له تصانيف وفوائد، وكان
__________
(1) في السلوك 2 / 199: ورد: أغرلو، وفي المنهل الصافي، النجوم الزاهرة 9 / 245 والدرر 1 / 418 ورد: أغزلو.
__________
(2) مقدم الالف (مقدمو ألوف) وظيفتهم تسمى تقدمة أو تقادم ألف أو ألوف أي تحت قيادتهم ألف من أمراء المئين.
أو ألوف من الجنود، وقد وصل عود هؤلاء الامراء الكبار أربعة وعشرون، ولهم رئيس يسمى: رأس مقدمي الالوف (التعريف بمصطلحات صبح الاعشى ص 319).
__________
(3) في الدرر الكامنة 5 / 245 ودرة الاسلاك ص 218 وتذكرة النبيه 2 / 105: ابن مغيزل.

خطيب جامع السوق الاسفل بحماة، وسمع من ابن طبرزد، توفي في جمادى الآخرة.
العلامة فخر الدين أبو عمرو عثمان بن علي بن يحيى بن هبة الله بن إبراهيم بن المسلم بن علي الانصاري الشافعي المعروف بابن بنت أبي سعد المصري، سمع الحديث وكان من بقايا العلماء، وناب في الحكم بالقاهرة، وولي مكانه في ميعاد جامع طولون الشيخ علاء الدين القونوي شيخ الشيوخ، وفي ميعاد الجامع الازهر شمس الدين بن علان، كانت وفاته ليلة الاحد الرابع والعشرين من جمادى الآخرة، ودفن بمصر وله من العمر سبعون سنة.
الشيخ الصالح العابد أبو الفتح نصر بن سليمان (1) بن عمر المنبجي (2)، له زاوية بالحسينية يزار فيها ولا يخرج منها إلا إلى الجمعة، سمع الحديث، توفي يوم الثلاثاء بعد العصر السادس والعشرين من جمادى الآخرة ودفن من الغد بزاويته المذكورة رحمه الله.
الشيخ الصالح المعمر الرحلة عيسى بن عبد الرحمن بن معالي بن أحمد بن إسماعيل بن عطاف بن مبارك بن علي بن أبي الجيش المقدسي الصالح المطعم، راوي صحيح البخاري وغيره، وقد سمع الكثير من مشايخ عدة وترجمه الشيخ علم الدين البرزالي في تاريخه توفي ليلة السبت رابع عشر ذي الحجة، وصلي عليه بعد الظهر في اليوم المذكور بالجامع المظفري، ودفن بالساحة بالقرب من تربة المولهين، وله أربع وسبعون سنة رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة عشرين وسبعمائة استهلت وحكام البلاد هم المذكورون في التي قبلها، وكان السلطان في هذه السنة في الحج، وعاد إلى القاهرة يوم السبت ثاني عشر المحرم، ودقت البشائر، ورجع الصاحب شمس
الدين على طريق الشام وصحبته الامير ناصر الدين الخازندار، وعاد صاحب حماة مع السلطان إلى
__________
(1) في تذكره النبيه 2 / 105: سلمان.
__________
(2) من السلوك 2 / 199 والنجوم الزاهرة 9 / 214 وشذرات الذهب 6 / 52 وتذكرة النبيه.
وفي الاصل: الكبجي تصحيف، والمنبجى نسبة إلى منبج وهي مدينة كبيرة تقع بين الفرات وحلب (معجم البلدان).

القاهرة، وأنعم عليه السلطان ولقب بالملك المؤيد، ورسم أن يخطب له على منابرها وأعمالها، وأن يخطب بالمقام العالي المولوي السلطاني الملكي المؤيدي، على ما كان عليه عمه المنصور.
وفيها عمر ابن المرجاني شهاب الدين مسجد الخيف وأنفق عليه نحوا من عشرين ألفا.
وفي المحرم استقال أمين الدين من نظر طرابلس وأقام بالقدس.
وفي آخر صفر باشر نيابة الحكم المالكي القاضي شمس الدين محمد بن أحمد القفصي، وكان قد قام مع قاضي القضاة شرف الدين من مصر.
وفي يوم الاثنين الخامس والعشرين من ربيع الاول ضربت عنق شخص يقال له عبد الله (1) الرومي وكان غلاما لبعض التجار، وكان قد لزم الجامع، ثم ادعى النبوة واستتيب فلم يرجع فضربت عنقه وكان أشقر أزرق العينين جاهلا، وكان قد خالطه شيطان حسن له ذلك، واضطرب عقله في نفس الامر وهو في نفسه شيطان إنسي.
وفي يوم الاثنين ثاني ربيع الآخر عقد عقد السلطان على المرأة التي قدمت من بلاد القبجاق، وهي من بنات الملوك (2)، وخلع على القاضي بدر الدين بن جماعة وكاتب السر وكريم الدين وجماعة الامراء، ووصلت العساكر في هذا الشهر إلى بلاد سيس وغرق في بحر جاهان (3) من عساكر طرابلس نحو من ألف فارس، وجاءت مراسيم السلطان في هذا اليوم إلى الشام في الاحتياط على أخبار آل مهنا وإخراجهم من بلاد الاسلام، وذلك لغضب السلطان عليهم لعدم قدوم والدهم مهنا على السلطان.
وفي يوم الاربعاء رابع عشرين جمادى الاولى درس بالركنية الشيخ محيي الدين الاسمر الحنفي وأخذت منه الجوهرية لشمس الدين البرقي الاعرج، وتدريس جامع القلعة لعماد الدين بن محيي الدين الطرسوسي، الذي ولي قضاء الحنفية بعد هذا، وأخذ من البرقي إمامة مسجد نور الدين له بحارة اليهود،
ولعماد الدين بن الكيال، وإمامة الربوة الشيخ محمد الصبيبي.
وفي جمادى الآخرة اجتمعت الجيوش الاسلامية بأرض حلب نحوا من عشرين ألفا، عليهم كلهم نائب حلب الطنبغا وفيهم نائب طرابلس شهاب الدين قرطبة، فدخلوا بلاد الارمن من اسكندرونة ففتحوا الثغر ثم تل حمدان ثم خاضوا جاهان فغرق منهم جماعة ثم سلم الله من وصلوا إلى سيس فحاصروها وضيقوا على أهلها وأحرقوا دار الملك التي في البلد، وقطعوا أشجار البساتين وساقوا الابقار والجواميس والاغنام وكذلك فعلوا بطرسوس، وخربوا الضياع والاماكن وأحرقوا الزروع ثم رجعوا فخاضوا
__________
(1) في تذكرة النبيه 2 / 108: يدعى الجبار وهو من مماليك ركن الدين بيبرس التاجي، وفي نهاية الارب: 3 ورقة 136 اسمه: أقبجا.
__________
(2) اختلفت المصادر في اسمها، وهي ابنة أخي أزبك خان صاحب الموصل فحضرت من بلاد الشرق إلى مصر في محفة مرقومة بالذهب، ثم طلقها - بعد ذلك - فتزوجها الامير منكلي فالامير صوصون، فالامير عمر بن أرغون النائب (كنز الدرر 9 / 302 السلوك 2 / 203 بدائع الزهور 1 / 1 / 4 51 وفيه انها ابنة أزبك خان).
__________
(3) في مختصر أخبار البشر 4 / 88 وتذكرة النبيه 2 / 106: جيحان، وجيحان نهر يمر ببلاد سيس (تقويم البلدان ص 50).

النهر المذكور فلم يغرق منهم أحد، وأخرجوا بعد رجوعهم مهنا وأولاده من بلادهم وساقوا خلفه إلى عانة وحديثه ثم بلغ الجيوش موت صاحب سيس (1) وقيام ولده من بعده، فشنوا الغارات على بلاده وتابعوها وغنموا وأسروا إلا في المرة الرابعة فإنه قتل منهم جماعة.
وفي هذه السنة كانت وقعة عظيمة ببلاد المغرب بين المسلمين والفرنج فنصر الله المسلمين على أعدائهم فقتلوا منهم خمسين ألفا وأسروا خمسة آلاف، وكان في جملة القتلى خمسة وعشرين ملكا من ملوك الافرنج، وغنموا شيئا كثيرا من الاموال، يقال كان من جملة ما غنموا سبعون قنطارا من الذهب والفضة، وإنما كان جيش الاسلام يومئذ ألفين وخمسمائة فارس غير الرماة، ولم يقتل منهم سوى أحد (2) عشر قتيلا، وهذا من غريب ما وقع وعجيب ما سمع.
وفي يوم الخميس ثاني
عشرين رجب عقد مجلس بدار السعادة للشيخ تقي الدين بن تيمية بحضرة نائب السلطنة، وحضر فيه القضاة والمفتيون من المذاهب، وحضر الشيخ وعاتبوه على العود إلى الافتاء بمسألة الطلاق ثم حبس في القلعة فبقي فيها خمسة أشهر وثمانية عشر يوما، ثم ورد مرسوم من السلطان بإخراجه يوم الاثنين يوم عاشوراء من سنة إحدى وعشرين كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وبعد ذلك بأربعة أيام أضيف شد الاوقاف إلى الامير علا الدين بن معبد إلى ما بيده من ولاية البر وعزل بدر الدين المنكورسي عن الشام.
وفي آخر شعبان مسك الامير علاء الدين الجاولي نائب غزة وحمل إلى الاسكندرية لانه اتهم أنه يريد الدخول إلى دار اليمن، واحتيط على حواصله وأمواله، وكان له بر وإحسان وأوقاف، وقد بنى بغزة جامعا حسنا مليحا.
وفي هذا الشهر أراق ملك التتر أبو سعيد الخمور وأبطل الحانات، وأظهر العدل والاحسان إلى الرعايا، وذلك أنه أصابهم برد عظيم وجاءهم سيل هائل فلجأوا إلى الله عز وجل، وابتهلوا إليه فسلموا فتابوا وأنابوا وعملوا الخير عقيب ذلك.
وفي العشر الاول من شوال جرى الماء بالنهر الكريمي الذي اشتراه كريم الدين (3) بخمسة وأربعين ألفا وأجراه في جدول إلى جامعه بالقبيبات فعاش به الناس، وحصل به أنس إلى أهل تلك الناحية، ونصبت عليه الاشجار والبساتين، وعمل حوض كبير تجاه الجامع من الغرب يشرب منه الناس والدواب، وهو حوض كبير وعمل مطهرة، وحصل بذلك نفع كثير، ورفق زائد أثابه الله.
وخرج الركب في حادي عشر شوال وأميره الملك صلاح الدين بن الاوحد، وفيه زين الدين كتبغا الحاجب، وكمال الدين الزملكاني والقاضي شمس الدين بن المعز، وقاضي حماة شر ف الدين البازري، وقطب الدين ابن شيخ السلامية وبدر الدين بن العطار، وعلاء الدين بن غانم، ونور الدين
__________
(1) وهوأوشين بن ليفون وكان مريضا، مات في جمادى الاولى (مختصر أخبار البشر 4 / 89).
__________
(2) في الاصل: إحدى.
__________
(3) وهو القاضي كريم الدين عبد الكريم بن المعلم هبة الله، صاحب جامع الكريمي بالقبيبات.

السخاوي، وهو قاضي الركب.
ومن المصريين قاضي الحنفية ابن الحريري، وقاضي الحنابلة ومجد الدين حرمي والشرف عيسى المالكي، وهو قاضي الركب.
وفيه كملت عمارة الحمام الذي عمره الجيبغا غربي دار الطعم ودخله الناس.
وفي أواخر ذي الحجة وصل إلى دمشق من عند ملك التتر الخواجه مجد الدين إسماعيل بن محمد بن ياقوت السلامي، وفي صحبته هدايا وتحف لصاحب مصر من ملك التتر، وأشهر أنه إنما جاء ليصلح بين المسلمين والتتر، فتلقاه الجند والدولة، ونزل بدار السعادة يوما واحدا، ثم سار إلى مصر.
وفيها وقف الناس بعرفات موقفا عظيما لم يعهد مثله، أتوه من جميع أقطار الارض، وكان من العراقيين محامل كثيرة منها محمل قوم ما عليه من الذهب واللآلئ بألف ألف دينار مصرية، وهذا أمر عجيب.
وممن توفي فيها من الاعيان: الشيخ إبراهيم الدهستاني وكان قد أسن وعمر، وكان يذكر أن عمره حين أخذت التتر بغداد أربعين سنة، وكان يحضر الجمعه هو وأصحابه تحت قبة النسر، إلى أن توفي ليلة الاربعين السابع والعشرين من ربيع الآخر بزاويته التى عند سوق الخيل بدمشق، ودفن بها وله من العمر مائة وأربع سنين، كما قال، فالله أعلم.
الشيخ محمد بن محمود بن علي الشحام المقرئ شيخ ميعاد ابن عامر، كان شيخا حسنا بهيا مواظبا على تلاوة القرآن إلى أن توفي في ليلة توفي الدهستاني المذكور أو قبله بليلة رحمهما الله.
الشيخ شمس الدين ابن الصائغ اللغوي هو أبو عبد الله محمد بن حسين بن سباع بن أبي بكر الجذامي المصري الاصل، ثم انتقل إلى دمشق، ولد تقريبا سنة خمس وأربعين وستمائة بمصر، وسمع الحديث وكان أديبا فاضلا بارعا بالنظم والنثر، وعلم العروض والبديع والنحو واللغة، وقد اختصر صحاح الجوهري، وشرح
مقصورة ابن دريد، وله قصيدة تائية تشتمل على ألفي بيت فأكثر، ذكر فيها العلوم والصنائع، وكان حسن الاخلاق لطيف المحاورة والمحاضرة ؟، وكان يسكن بين درب الحبالين والفراش عند بستان القط توفي بداره يوم الاثنين ثالث شعبان ودفن بباب الصغير.

ثم دخلت سنة إحدى وعشرين وسبعمائة استهلت وحكام البلاد هم المذكورون في التي قبلها.
وفي أول يوم منها فتح حمام الزيت الذي في رأس درب الحجر، جدد عمارته رجل ساوي بعد ما كان قد درس ودثر من زمان الخوارزمية من نحو ثمانين سنة، وهو حمام جيد متسع.
وفي سادس المحرم وصلت هدية من ملك التتار أبي سعيد إلى السلطان صناديق وتحف ودقيق.
وفي يوم عاشوراء خرج الشيخ تقي الدين بن تيمية من القلعة بمرسوم السلطان وتوجه إلى داره، وكانت مدة إقامته خمسة أشهر وثمانية عشر يوما رحمه الله.
وفي رابع ربيع الآخر وصل إلى دمشق القاضي كريم الدين وكيل السلطان فنزل بدار السعادة وقدم قاضي القضاة تقي الدين بن عوض الحاكم الحنبلي بمصر وهو ناظر الخزانة أيضا، فنزل بالعادلية الكبيرة التي للشافعية، فأقام بها أياما، ثم توجه إلى مصر: جاء في بعض أشغال السلطان وزار القدس.
وفي هذا الشهر كان السلطان قد حفر بركة قريبا من الميدان وكان من جوارها كنيسة فأمر الوالي بهدمها، فلما هدمت تسلط الحرافيش وغيرهم على الكنائس بمصر يهدمون ما قدروا عليه، فانزعج السلطان لذلك وسأل القضاة ماذا يجب على من تعاطى ذلك منهم ؟ فقالوا: يعزر، فأخرج جماعة من السجون ممن وجب عليه قتل فقطع وصلب وحرم وحزم وعاقب، موهما أنه إنما عاقب من تعاطى تخريب ذلك، فسكن الناس وأمنت النصارى وظهروا بعد ما كانوا قد اختفوا أياما.
وفيها ثارت الحرامية ببغداد ونهبوا سوق الثلاثاء وقت الظهر، فثار الناس وراءهم وقتلوا منهم قريبا من مائة وأسروا آخرين.
قال الشيخ علم الدين البرزالي ومن خطه نقلت: وفي يوم الاربعاء السادس من جمادى
الاولى خرج القضاة والاعيان والمفتيون إلى القابون ووقفوا على قبلة الجامع الذي أمر ببنائه القاضي كريم الدين وكيل السلطان بالمكان المذكور، وحرروا قبلته واتفقوا على أن تكون مثل قبلة جامع دمشق.
وفيه وقعت مراجعة من الامير جوبان أحد المقدمين الكبار بدمشق، وبين نائب السلطنة تنكز، فمسك جوبان ورفع إلى القلعة ليلتان، ثم حول إلى القاهرة فعوقب في ذلك، ثم أعطي خبزا يليق به.
وذكر علم الدين أن في هذا اليوم وقع حريق عظيم في القاهرة في الدور الحسنة والاماكن المليحة المرتفقة، وبعض المساجد، وحصل للناس مشقة عظيمة من ذلك، وقنتوا في الصلوات ثم كشفوا عن القضية فإذا هو من قبل النصارى بسبب ما كان أحرق من كنائسهم وهدم، فقتل السلطان بعضهم (1) وألزم النصارى أن يلبسوا الزرقاء على رؤوسهم وثيابهم كلها
__________
(1) في تذكرة النبيه 2 / 121: " قتل منهم ستة، وأسلم عدة " وانظر تفاصيل عن الحريق في عقد الجمان حوادث سنة 720 ه والسلوك 2 / 2 / 220.

وأن يحملوا الاجراس في الحمامات، وأن لا يستخدموا في شئ من الجهات، فسكن الامر وبطل الحريق.
وفي جمادى الآخرة خرب ملك التتار أبو سعيد البازار وزوج الخواطئ وأراق الخمور وعاقب في ذلك العقوبة، وفرح المسلمون بذلك ودعوا له رحمه الله وسامحه.
وفي الثالث عشر من جمادى الآخرة أقيمت الجمعة بجامع القصب وخطب به الشيخ علي المناخلي.
وفي يوم الخميس تاسع عشر جمادى الآخرة فتح الحمام الذي أنشأه تنكز تجاه جامعه، وأكري في كل يوم بأربعين درهما لحسنه وكثرة ضوئه ورخامه.
وفي يوم السبت تاسع عشر رجب خربت كنيسة القرائيين (1) التي تجاه حارة اليهود بعد إثبات كونها محدثة وجاءت المراسيم السلطانية بذلك.
وفي أواخر رجب نفذت الهدايا من السلطان إلى أبي سعيد ملك التتار، صحبة الخواجا مجد الدين السلامي، وفيها خمسون جملا وخيول وحمار عتابي.
وفي منتصف رمضان أقيمت الجمعة بالجامع الكريمي بالقابون وشهدها يومئذ القضاة والصاحب وجماعة من الاعيان.
قال الشيخ علم الدين: وقدم دمشق
الشيخ قوام الدين أمير كاتب ابن الامير العميد عمر الاكفاني القازاني، مدرس مشهد الامام أبي حنيفة ببغداد، في أول رمضان، وقد حج في هذه السنة وتوجه إلى مصر وأقام بها أشهرا ثم مر بدمشق متوجها إلى بغداد فنزل بالخاتونية الحنفية، وهو ذو فنون وبحث وأدب وفقه.
وخرج الركب الشامي يوم الاثنين عاشر شوال وأميره شمس الدين حمزة التركماني، وقاضيه نجم الدين الدمشقي.
وفيها حج تنكز نائب الشام وفي صحبته جماعة من أهله، وقدم من مصر الامير ركن الدين بيبرس الحاجب لينوب عنه إلى أن يرجع، فنزل بالنجيبية البرانية.
وممن حج فيها الخطيب جلال الدين القزويني وعز الدين حمزة بن القلانسي، وابن العز شمس الدين الحنفي، وجلال الدين بن حسام الدين الحنفي، وبهاء الدين بن علية، وعلم الدين البرزالي ودرس ابن جماعة بزاوية الشافعي يوم الاربعاء ثامن عشر شوال عوضا عن شهاب الدين أحمد بن محمد الانصاري لسوء تصرفه، وخلع على ابن جماعة، وحضر عنده من الاعيان والعامة ما نشأ به جمعية الجمعة وأشعلت له شموع كثيرة وفرح الناس بزوال المعزول.
قال البرزالي ومن خطه نقلت: وفي يوم الاحد سادس عشر شوال ذكر الدرس الامام العلامة تقي الدين السبكي المحدث بالمدرسة الهكارية عوضا عن ابن الانصاري أيضا، وحضر عنده جماعة منهم القونوي، وروى في الدرس حديث المتبايعين بالخيار، عن قاضي القضاة ابن جماعة.
وفي شوال عزل علاء الدين بن معبد عن ولاية البر وشد الاوقاف، وتولى ولاية الولاة بالبلاد القبلية بحوران عوضا عن بكتمر لسفره إلى الحجاز، وباشر أخوه بدر الدين شد الاوقاف، والامير علم
__________
(1) وهم طائفة من اليهود، انظر تفاصيل عن هذه الطائفة في (صبح الاعشى 11 / 387، 13 / 256).

الدين الطرقشي ولاية البر مع شد الدواوين، وتوجه ابن الانصاري إلى حلب متوليا وكالة بيت المال عوضا عن ناصر الدين أخي شرف الدين يعقوب ناظر حلب، بحكم ولاية التاج المذكور نظر الكرك.
وفي يوم عيد الفطر ركب الامير تمرتاش بن جوبان نائب أبي سعيد على بلاد الروم في قيسارية
في جيش كثيف من التتار والتركمان والقرمان، ودخل بلاد سيس فقتل وسبى وحرق وخرب، وكان قد أرسل لنائب حلب الطنبغا ليجهز له جيوشا ليكونون عونا له على ذلك، فلم يمكنه ذلك بغير مرسوم السلطان.
وممن توفي فيها من الاعيان: الشيخ الصالح المقري بقية السلف عفيف الدين أبو محمد عبد الله بن عبد الحق بن عبد الله بن عبد الواحد بن علي القرشي المخزومي الدلاصي شيخ الجرم بمكة، أقام فيه أزيد من ستين سنة، يقرئ الناس القرآن احتسابا، وكانت وفاته ليلة الجمعة الرابع عشر من محرم بمكة، وله أزيد من تسعين سنة رحمه الله.
الشيخ الفاضل شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أبي القاسم الهمداني، أبوه الصالحي المعروف بالسكاكيني، ولد سنة خمس وثلاثين وستمائة بالصالحية، وقرأ بالروايات، واشتغل في مقدمة في النحو، ونظم قويا وسمع الحديث، وخرج له الفخر ابن البعلبكي جزءا عن شيوخه، ثم دخل في التشيع فقرأ على أبي صالح الحلي شيخ الشيعة، وصحب عدنان وقرأ عليه أولاده، وطلبه أمير المدينة النبوية الامير منصور بن حماد فأقام عنده نحوا من سبع سنين، ثم عاد إلى دمشق وقد ضعف وثقل سمعه، وله سؤال في الخبر أجابه به الشيخ تقي الدين بن تيمية، وكل فيه عنه غيره، وظهر له بعد موته كتاب فيها انتصار لليهود وأهل الاديان الفاسدة فغسله تقي الدين السبكي لما قدم دمشق قاضيا، وكان بخطه، ولما مات لم يشهد جنازته القاضي شمس الدين بن مسلم.
توفي يوم الجمعة سادس عشر صفر، ودفن بسفح قاسيون، وقتل ابنه قيماز على قذفه أمهات المؤمنين عائشة وغيرها رضي الله عنهن وقبح قاذفهن.
وفي يوم الجمعه مستهل رمضان صلي بدمشق على غائبين وهم الشيخ نجم الدين عبد الله بن محمد الاصبهاني، توفي بمكة، وعلى جماعة توفوا بالمدينة النبوية منهم عبد الله (1) بن أبي القاسم بن
__________
(1) في تذكرة النبيه 2 / 119 ودرة الاسلاك ص 226: أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم بن محمد بن فرحون اليعمري.

فرحون مدرس المالكية بها، والشيخ يحيى الكردي، والشيخ حسن المغربي السقا.
الشيخ الامام العالم علاء الدين علي بن سعيد بن سالم الانصاري، إمام مشهد علي من جامع دمشق، كان بشوش الوجه متواضعا حسن الصوت بالقراءة ملازما لاقراء الكتاب العزيز بالجامع، وكان يؤم نائب السلطنة ولده العلامة، بهاء الدين محمد بن علي مدرس الامينية، ومحتسب دمشق.
توفي ليلة الاثنين رابع رمضان ودفن بسفح قاسيون.
الامير حاجب الحجاب زين الدين كتبغا المنصوري، حاجب دمشق، كان من خيار الامراء وأكثرهم برا للفقراء، يحب الختم والمواعيد والمواليد، وسماع الحديث، ويلزم أهله ويحسن إليهم، وكان ملازما لشيخنا أبي العباس بن تيمية كثيرا، وكان يحج ويتصدق، توفي يوم الجمعة آخر النهار ثامن عشر شوال، ودفن من الغد بتربته قبلي القبيبات، وشهده خلق كثير وأثنوا عليه رحمه الله.
والشيخ بهاء الدين بن المقدسي والشيخ سعد الدين أبي زكريا يحيى المقدسي، والد الشيخ شمس الدين محمد بن سعد المحدث المشهور.
وسيف الدين الناسخ المنادي على الكتب.
والشيخ أحمد الحرام المقرئ على الجنائز، وكان يكرر على التنبيه، ويسأل عن أشياء منها ما هو حسن ومنها ما ليس بحسن.
ثم دخلت سنة ثنتين وعشرين وسبعمائة استهلت وأرباب الولايات هم المذكورون في التي قبلها، سوى والي البر بدمشق فإنه علم الدين طرقشي، وقد صرف ابن معبد إلى ولاية حوران لشهامته وصرامته وديانته وأمانته.
وفي المحرم حصلت زلزلة عظيمة بدمشق، وقى الله شرها، وقدم تنكز من الحجاز ليلة الثلاثاء حادي
عشر المحرم، وكانت مدة غيبته ثلاثة أشهر، وقدم ليلا لئلا يتكلف أحد لقدومه، وسافر نائب الغيبة عنه قبله بيومين لئلا يكلفه بهدية ولا غيرها، وقدم مغلطاي عبد الواحد الجحدار أحد الامراء بمصر بخلعة سنية من السلطان لتنكز فلبسها وقبل العتبة على العادة، وفي يوم الاربعاء سادس صفر درس الشيخ نجم الدين القفجازي بالظاهرية للحنفية، وهو خطيب جامع تنكز، وحضر عنده القضاة والاعيان، ودرس في قوله تعالى (إن الله يأمركم أن تؤدوا الامانات إلى أهلها) [ النساء: 58 ] وذلك بعد وفاة القاضي شمس الدين بن العز الحنفي، توفي مرجعه من الحجاز، وتولى بعده نيابة القضاء عماد الدين الطرسوسي، وهو زوج ابنته، وكان ينوب عنه في حال غيبته، فاستمر بعده، ثم ولي الحكم بعده، مستنيبه فيها.
وفيه قدم الخوارزمي حاجبا

عوضا عن كتبغا، وفي ربيع الاول قدم إلى دمشق الشيخ قوام الدين مسعود بن الشيخ برهان الدين محمد بن الشيخ شرف الدين محمد الكرماني الحنفي، فنزل بالقصاعين وتردد إليه الطلبة ودخل إلى نائب السلطنة واجتمع به وهو شاب مولده سنة إحدى وسبعين وقد اجتمعت به، وكان عنده مشاركة في الفروع والاصول ودعوا أوسع من محصوله، وكانت لابيه وجده مصنفات، ثم صار بعد مدة إلى مصر ومات بها كما سيأتي.
وفي ربيع الاول تكامل فتح إياس (1) ومعاملتها وانتزاعها من أيدي الارمن، وأخذ البرج الاطلس (2) بينه وبينها في البحر رمية ونصف، فأخذه المسلمون بإذن الله وخربوه، وكانت أبوابه مطلية بالحديد والرصاص، وعرض سوره ثلاثة عشر ذراعا بالنجار، وغنم المسلمون غنائم كثيرة جدا، وحاصروا كواره فقوي عليهم الحر والذباب، فرسم السلطان بعودهم، فحرقوا ما كان معهم من المجانيق وأخذوا حديدها وأقبلوا سالمين غانمين، وكان معهم خلق كثير من المتطوعين.
وفي يوم الخميس الثالث والعشرين من جمادى الاولى كمل بسط داخل الجامع فاتسع على الناس، ولكن حصل حرج بحمل الامتعة على خلاف العادة، فإن الناس كانوا يمرون وسط الرواق ويخرجون من باب البرادة، ومن شاء استمر يمشي إلى الباب الآخر بنعليه، ولم يكن ممنوعا سوى
المقصورة لا يمكن أحد الدخول إليها بالمداسات، بخلاف باقي الرواقات، فأمر نائب السلطنة بتكميل بسطه بإشارة ناظره إلى مراحل.
وفي جمادى الآخرة رجعت العساكر من بلاد سيس ومقدمهم أقوش نائب الكرك.
وفي آخر رجب باشر القاضي محيي الدين بن إسماعيل بن جهبل نيابة الحكم عن ابن صصرى عوضا عن الداراني الجعفري، واستغنى الداراني بخطبة جامع العقبية عنها.
وفي ثالث رجب ركب نائب السلطنة إلى خدمة السلطان فأكرمه وخلع عليه، وعاد في أول شعبان ففرح به الناس.
وفي رجب كملت عمارة الحمام الذي بناه الامير علاء الدين بن صبيح جوار داره شمالي الشامية البرانية.
وفي يوم الاثنين تاسع شعبان عقد الامير سيف الدين أبو بكر بن أرغون نائب السلطنة عقده على ابنة الناصر، وختن في هذا اليوم جماعة من أولاد الامراء بين يديه، وماد سماطا عظيما، ونثرت الفضة على رؤوس المطهرين، وكان يوما مشهودا، ورسم السلطان في هذا اليوم وضع المكس عن المأكولات (3) بمكة، وعوض صاحبها عن ذلك بإقطاع في بلد الصعيد (4).
__________
(1) أياس: من بلاد الارمن على ساحل البحر (تقويم البلدان لابي الفداء ص 248).
__________
(2) وهو أحد ثلاثة أبرجة وهي: الاطلس والشمعة والاياس (تذكرة النبيه 2 / 124).
__________
(3) يعني بذلك مكس الغلال، انظر السلوك 2 / 236 والمواعظ والاعتبار 1 / 88.
__________
(4) عوضه بثلثي بلد دماميل، أو دمامين وهي من البلاد القديمة بمركز قوص، وتعرف حاليا باسم المفرجية نسبة إلى الشيخ مفرج بن موفق بن عبد الله الدماميني المتوفى سنة 648 (انظر القاموس الجغرافي لمحمد رمزي ج 4 / 2 / 185).

وفي أواخر رمضان كملت عمارة الحمام الذي بناه بهاء الدين بن عليم بزقاق الماجية من قاسيون بالقرب من سكنه، وانتفع به أهل تلك الناحية ومن جاورهم.
وخرج الركب الشامي يوم الخميس ثام شوال وأميره سيف الدين بلبطي نائب الرحبة، وكان سكنه داخل باب الجابية بدرب ابن صبرة، وقاضيه شمس الدين بن النقيب قاضي حمص.
وممن توفي فيها من الاعيان: القاضي شمس الدين بن العز الحنفي أبو عبد الله محمد بن الشيخ شرف الدين أبي البركات محمد بن الشيخ عز الدين أبي العز صالح بن أبي العز بن وهيب بن عطاء بن جبير بن كابن بن وهيب الاذرعي الحنفي، أحد مشايخ الحنفية وأئمتهم وفصلائهم في فنون من العلوم متعددة، حكم نيابة نحوا من عشرين سنة، وكان سديد الاحكام محمود السيرة جيد الطريقة كريم الاخلاق، كثير البر والصلة والاحسان إلى أصحابه وغيرهم، وخطب في جامع الافرم مدة، وهو أول من خطب به، ودرس بالمعظمية واليغمورية والقليجية (1) والظاهرية، وكان ناظر أوقافها، وأذن للناس بالافتاء، وكان كبيرا معظما مهيبا، توفي بعد مرجعه من الحج بأيام قلائل، يوم الخميس سلخ المحرم، وصلي عليه يومئذ بعد الظهر بجامع الافرم ودفن عند المعظمية عند أقاربه، وكانت جنازته حافلة، وشهد له الناس بالخير وغبطوه لهذه الموتة رحمه الله.
ودرس بعده في الظاهرية نجم الدين الفقجازي، وفي المعظمية والقليجية والخطابة بالافرم ابنه علاء الدين، وباشر بعده نيابة الحكم القاضي عماد الدين الطرسوسي، مدرس القلعة.
الشيخ الامام العالم أبو إسحاق بقية السلف رضي الدين أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر بن محمد بن إبراهيم الطبري المكي الشافعي، إمام المقام (2) أكثر من خمسين سنة، سمع الحديث من شيوخ بلده والواردين إليها ولم يكن له رحلة، وكان يفتي الناس من مدة طويلة، ويذكر أنه اختصر شرح السنة للبغوي.
توفي يوم السبت بعد الظهر ثامن ربيع الاول بمكة، ودفن من الغد، وكان من أئمة المشايخ.
__________
(1) المدرسة القليجية بدمشق، أوصى بوقفها الامير سيف الدين علي بن قليج السوري المتوفى سنة 643 ه (الدارس 1 / 569).
__________
(2) وهو مقام ابراهيم عليه السلام بالمسجد الحرام بمكة.

شيخنا العلامة الزاهد ركن الدين بقية السلف ركن الدين أبويحيى زكريا بن يوسف بن حماد البجلي الشافعي، نائب الخطابة، ومدرس الطيبية والاسدية، وله حلقة للاشتغال بالجامع، يحضر بها عنده الطلبة، كان يشتغل في الفرائض وغيرها، مواظبا على ذلك، توفي يوم الخميس الثالث والعشرين من جمادى الاولى عن سبعين سنة، ودفن قريبا من شيخه تاج الدين الفزاري رحمه الله.
نصير الدين أبو محمد عبد الله بن وجيه الدين أبي عبد الله علي بن محمد بن علي بن أبي طالب بن سويد ابن معالي بن محمد بن أبي بكر الربعي التغلبي التكريتي أحد صدور دمشق، قدم أبوه قبله إليها وعظم في أيام الظاهر وقبله، وكان مولده في حدود خمسين وستمائة، ولهم الاموال الكثيرة والنعمة الباذخة، توفي يوم الخميس عشرين رجب، ودفن بتربتهم بسفح قاسيون رحمه الله.
وفي يوم الاحد حادي عشر شوال توفي: شمس الدين محمد بن المغربي التاجر السفار، باني خان الصنمين الذي على جادة الطريق للسبيل رحمه الله وتقبل منه، وهو في أحسن الاماكن وأنفعها.
الشيخ الجليل نجم الدين نجم الدين أبو عبد الله الحسين بن محمد بن إسماعيل القرشي المعروف بان عنقود المصري، كانت له وجاهة وإقدام على الدولة، توفي بكرة الجمعة ثالث عشرين شوال، ودفن بزاويته، وقام بعده فيها ابن أخيه.
شمس الدين محمد بن الحسن ابن الشيخ الفقيه محيي الدين أبو الهدى أحمد بن الشيخ شهاب الدين أبي شامة، ولد سنة ثلاث وخمسين وستمائة فأسمعه أبوه على المشايخ وقرأ القرآن واشتغل بالفقه وكان ينسخ ويكثر التلاوة ويحضر المدارس والسبع الكبير، توفي في سابع عشرين شوال، ودفن عند والده بمقابر باب
الفراديس.

الشيخ العابد جلال الدين جلال الدين أبو إسحاق إبراهيم بن زين الدين محمد بن أحمد بن محمود بن محمد العقيلي المعروف بابن القلانسي، ولد سنة أربع وخمسين وستمائة، وسمع على ابن عبد الدائم جزء ابن عرفة، ورواه غير مرة، وسمع على غيره أيضا، واشتغل بصناعة الكتابة والانشاء ثم انقطع وترك ذلك كله وأقبل على العبادة والزهادة، وبنى له الامراء بمصر زاوية وترددوا إليه، وكان فيها بشاشة وفصاحة، وكان ثقيل السمع، ثم انتقل إلى القدس وقدم دمشق مرة فاجتمع به الناس وأكرموه، وحدث بها ثم عاد إلى القدس وتوفي بها ليلة الاحد ثالث ذي القعدة، ودفن بمقابر ماملي رحمه الله، وهو خال المحتسب عز الدين بن القلانسي، وهذا خال الصاحب تقي الدين بن مراحل.
الشيخ الامام قطب الدين محمد بن عبد الصمد بن عبد القادر السنباطي المصري، اختصر الروضة (1) وصنف كتاب التعجيز ودرس بالفاضلية (2) وناب في الحكم بمصر، وكان من أعيان الفقهاء، توفي يوم الجمعة رابع عشر ذي الحجة عن سبعين سنة، وحضر بعده تدريس الفاضلية ضياء الدين المنادي، نائب الحكم بالقاهرة وحضر عنده ابن جماعة، والاعيان والله أعلم.
ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة استهلت بيوم الاحد في كانون الاصم، والحكام هم المذكورون في التي قبلها، غير أن والي البر بدمشق هو الامير علاء الدين علي بن الحسن المرواني، باشرها في صفر من السنة الماضية.
وفي صفر من هذه السنة باشر ولاية المدينة الامير شهاب الدين بن يرق عوضا عن صارم الدين الجو كنداري وفي صفر عوفي القاضي كريم الدين وكيل السلطان من مرض كان قد أصابه، فزينت القاهرة وأشعلت الشموع وجمع الفقراء بالمارستان المنصوري ليأخذوا من صدقته، فمات بعضهم من الزحام في سلخ ربيع الاول، ودرس الامام العلامة المحدث تقي الدين السبكي الشافعي
بالمنصورية بالقاهرة عوضا عن قاضي جمال الدين الزرعي، بمقتضى انتقاله إلى دمشق، وحضر عنده علاء الدين شيخ الشيوخ القونوي الشافعي عوضا عن النجم ابن صصرى، في يوم الجمعة رابع جمادى الاولى، فنزل العادلية وقد قدم على القضاة ومشيخة الشيوخ وقضاء العساكر وتدريس العادلية والغزالية والاتابكية.
__________
(1) وهو كتاب الروضة في الفروع للامام يحيى بن شرف النووي المتوفى سنة 676 ه (كشف الظنون 1 / 929).
__________
(2) المدرسة الفاضلية بالقاهرة بناها القاضي الفاضل عبد الرحيم بن علي البيساني سنة 580 ه ووقفها على الشافعية والمالكية (انظر المواعظ والاعتبار للمقريزي 2 / 396).

وفي يوم الاحد مسك القاضي كريم الدين بن عبد الكريم بن هبة الله بن السديد (1) وكيل السلطان وكان قد بلغ من المنزلة والمكانة عند السلطان ما لم يصل إليه غيره من الوزراء الكبار، واحتيط على أمواله وحواصله، ورسم عليه عند نائب السلطنة، ثم رسم له أن يكون بتربته التي بالقرافة، ثم نفي إلى الشوبك وأنعم عليه بشئ من المال، ثم أذن له بالاقامة بالقدس الشريف برباطه.
ومسك ابن أخيه كريم الدين الصغير ناظر الدواوين، وأخذت أمواله وحبس في البرج، وفرح العامة بذلك ودعوا للسلطان بسبب مسكهما، ثم أخرج إلى صفد (2).
وطلب من القدس أمين الملك عبد الله (3) فولي الوزارة بمصر، وخلع عليه عودا على بدء، وفرح العامة بذلك وأشعلوا له الشموع، وطلب الصاحب بدر الدين غبريال من دمشق فركب ومعه أموال كثيرة، ثم خول أموال كريم الدين الكبير، وعاد إلى دمشق مكرما، وقدم القاضي معين الدين بن الحشيشي على نظر الجيوش الشامية عوضا عن القطب ابن شيخ السلامية عزل منها، ورسم عليه في العذراوية نحوا من عشرين يوما ثم أذن له في الانصراف إلى منزله مصروفا عنها.
وفي جمادى الاولى عزل طرقشي عن شد الدواوين وتولاها الامير بكتمر.
وفي ثاني جمادى الآخرة باشر ابن جهبل نيابة الحكم عن الزرعي، وكان قد باشر قبلها بأيام نظر الايتام عوضا عن ابن هلال.
وفي شعبان أعيد الطرقشي إلى الشد وسافر بكتمر إلى نيابة الاسكندرية، وكان بها إلى
أن توفي.
وفي رمضان قدم جماعة من حجاج الشرق وفيهم بنت الملك أبغا بن هولاكو، وأخت أرغون وعمة قازان وخربندا، فأكرمت وأنزلت بالقصر الابلق، وأجريت عليها الاقامات والنفقات إلى أوان الحج، وخرج الركب يوم الاثنين ثامن شوال وأميره قطلجا الايوبكري، الذي بالقصاعين وقاضي الركب شمس الدين قاضي القضاة ابن مسلم الحنبلي، وحج معهم جمال الدين المزي، وعماد الدين بن الشيرجي، وأمين الدين الوافي، وفخر الدين البعلبكي، وجماعة، وفوض الحكم في ذلك إلى شرف الدين بن سعد الدين بن نجيح.
كذا أخبرني شهاب الدين الظاهري.
ومن المصريين قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة وولده عز الدين وفخر الدين كاتب المماليك، وشمس الدين الحارثي، وشهاب الدين الاذرعي، وعلاء الدين الفارسي.
__________
(1) في البداية المطبوعة: الشديد، تصحيف، وفي بدائع الزهور 1 / 1 / 453 أنه تغير عليه ورسم السلطان بنفيه إلى الشوبك في سنة 722 ه.
وعن سبب القبض عليه انظر عقد الجمان حوادث سنة 723 ه والسلوك 2 / 1 / 244 والدرر 3 / 15 وفي هذه المصادر ان السبب حسد الامراء وغيرهم له لقوة تمكنه من السلطان وكثرة ماله وسعة عطائه.
وذكر في النجوم الزاهرة 9 / 72 ان السبب في مسكه كان بسبب ما أحدثه النصارى من حرائق آنذاك في مصر والقاهرة.
__________
(2) في الاصل: صت.
__________
(3) وهو أمين الملك عبد الله بن الغنام قرر في الوزارة يوم الاحد 24 ربيع الآخرة وظل إلى يوم الخميس ثامن رمضان من السنة التالية ثم عزل بعلاء الدين مغلطاي (انظر السلوك 2 / 256 وكنز الدرر 9 / 312).

وفي شوال باشر تقي الدين السبكي مشيخة دار الحديث الظاهرية بالقاهرة بعد زكي الدين المنادي ويقال له عبد العظيم بن الحافظ شرف الدين الدمياطي، ثم انتزعت من السبكي لفتح الدين بن سيد الناس اليعمري، باشرها في ذي القعدة.
وفي يوم الخميس مستهل ذي الحجة خلع على قطب الدين ابن شيخ السلامية وأعيد إلى نظر الجيش مصاحبا لمعين الدين بن الحشيشي، ثم بعد مدة مديدة استقل قطب الدين بالنظر وحده وعزل ابن حشيش.
وممن توفي فيها من الاعيان: الامام المؤرخ كمال الدين الفوطي أبو الفضل عبد الرزاق بن أحمد بن محمد بن أحمد بن الفوطي عمر بن أبي المعالي الشيباني البغدادي، المعروف بابن الفوطي، وهو حده لامه، ولد سنة اثنتين وأربعين وستمائة ببغداد، وأسر في واقعة التتار ثم تخلص من الاسر، فكان مشارفا على الكتب بالمستنصرية، وقد صنف تاريخا في خمس وخمسين مجلدا، وآخر في نحو عشرين، وله مصنفات كثيرة، وشعر حسن، وقد سمع الحسن من محيي الدين بن الجوزي، توفي ثالث المحرم ودفن بالشونيزية.
قاضي القضاة نجم الدين بن صصرى أبو العباس أحمد بن العدل عماد الدين بن محمد بن العدل أمين الدين سالم بن الحافظ المحدث بهاء الدين أبي المواهب بن هبة الله بن محفوظ بن الحسن بن الحسن بن محمد بن الحسن بن أحمد بن محمد بن صصرى التغلبي الربعي الشافعي قاضي القضاة بالشام، ولد في ذي القعدة سنة خمس وخمسين وستمائة، وسمع الحديث واشتغل وحصل وكتب عن القاضي شمس الدين بن خلكان وفيات الاعيان، وسمعها عليه، وتفقه بالشيخ تاج الدين الفزاري، وعلى أخيه شرف الدين في النحو، وكان له يد في الانشاء وحسن العبارة، ودرس بالعادلية الصغيرة سنة ثنتين وثمانين، وبالامينية سنة تسعين، وبالغزالية سنة أربع وتسعين، وتولى قضاء العساكر في دولة العادل كتبغا، ثم تولى قضاء الشام سنة ثنتين وسبعمائة، بعد ابن جماعة حين طلب لقضاء مصر، بعد ابن دقيق العيد.
ثم أضيف إليه مشيخة الشيوخ مع تدريس العادلية والغزالية والاتابكية، وكلها مناصب دنيوية انسلخ منها وانسلخت منه، ومضى عنها وتركها لغيره، وأكبر أمنيته بعد وفاته أنه لم يكن تولاها وهي متاع قليل من حبيب مفارق، وقد كان رئيسا محتشما وقورا كريما جميل الاخلاق، معظما عند السلطان والدولة، توفي فجأة ببستانه بالسهم ليلة الخميس سادس عشر ربيع الاول وصلي عليه بالجامع المظفري، وحضر منازته نائب السلطنة والقضاة والامراء والاعيان، وكانت جنازته حافلة ودفن بتربتهم عند الركنية.

علاء الدين علي بن محمد ابن عثمان بن أحمد بن أبي المنى بن محمد بن نحلة الدمشقي الشافعي، ولد سنة ثمان وخمسين وستمائة وقرأ المحرر، ولازم الشيخ زين الدين الفارقي ودرس بالدولعية والركنية، وناظر بيت المال، وابتنى دارا حسنة إلى جانب الركنية، ومات وتركها في ربيع الاول، ودرس بعده بالدولعية القاضي جمال الدين بن جملة، وبالركنية القاضي ركن الدين الخراساني.
وفي ربيع الاول قتل: الشيخ ضياء الدين عبد الله الزربندي النحوي، وكان قد اضطرب عقله فسافر من دمشق إلى القاهرة فأشار شيخ الشيوخ القونوي فأودع بالمارستان فلم يوافق ثم دخل إلى القلعة وبيده سيف مسلول فقتل نصرانيا، فحمل إلى السلطان وظنوه جاسوسا فأمر بشنقه فشنق، وكنت ممن اشتغل عليه في النحو.
الشيخ الصالح المقري الفاضل شهاب الدين أحمد بن الطبيب بن عبيد الله الحلي العزيزي الفوارسي المعروف بابن الحلبية، سمع من خطيب مرداو ابن عبد الدائم، واشتغل وحصل وقرأ الناس، وكانت وفاته في ربيع الاول عن ثمان وسبعين سنة، ودفن بالسفح.
شهاب الدين أحمد بن محمد ابن قطينة الذرعي التاجر المشهور بكثرة الاموال والبضائع والمتاجر، قيل بلغت زكاة ماله في سنة قازان خمسة وعشرين ألف دينار، وتوفي في ربيع الآخر من هذه السنة، ودفن بتربته التي بباب بستانه المسمى بالمرفع عند ثورا، في طريق القابون، وهي تربة هائلة، وكانت له أملاك.
القاضي الامام جمال الدين أبو بكر بن عباس (1) بن عبد الله الخابوري، قاضي بعلبك، وأكبر أصحاب الشيخ تاج
الدين الفزاري (2) ، قدم من بعلبك ليلتقي بالقاضي الذرعي فمات بالمدرسة البادرائية لبلة السبت
__________
(1) في تذكرة النبيه 2 / 135 والدرر 1 / 485: عياش.
__________
(2) وهو عبد الرحمن بن ابراهيم بن سباع الفزاري الامام العلامة مفتي الاسلام، توفي سنة 690 ه.

سابع جمادى الاولى ودفن بقاسيون، وله من العمر سبعون سنه اضغاث حلم.
الشيخ المعمر المسن جمال الدين عمر بن الياس بن الرشيد البعلبكي التاجر، ولد سنة ثنتين وستمائة وتوفي في ثاني عشر جمادى الاولى عن مائة وعشرين سنة، ودفن بمطحا رحمه الله.
الشيخ الامام المحدث صفي الدين [ القرافي ] صفي الدين أبو الثناء محمود بن أبي بكر محمد الحسني (1) بن يحيى بن الحسين الارموي، الصوفي، ولد سنة ست وأربعين وستمائة، وسمع الكثير ورحل وطلب وكتب الكثير، وذيل على النهاية لابن الاثير، وكان قد قرأ التنبيه واشتغل في اللغة فحصل منها طرفا جيدا، ثم اضطرب عقله في سنة سبع وسبعين وغلبت عليه السوداء، وكان يفيق منها في بعض الاحيان فيذاكر صحيصا ثم يعترضه المرض المذكور، ولم يزل كذلك حتى توفي في جمادى الآخرة من هذه السنة في المارستان النوري، ودفن بباب الصغير.
الخاتون المصونة خاتون بنت الملك الصالح إسماعيل بن العادل بن أبي بكر بن أيوب بن شادي بدارها.
وتعرف بدار كافور، كانت رئيسة محترمة، ولم تتزوج قط، وليس في طبقتها من بني أيوب غيرها في هذا الحين، توفيت يوم الخميس الحادي والعشرين من شعبان، ودفنت بتربة أم الصالح رحمها الله.
شيخنا الجليل المعمر الرحلة بهاء الدين بهاء الدين أبو القاسم بن الشيخ بدر الدين أبي غالب المظفر بن نجم الدين أبي الثناء محمود
ابن الامام تاج الامناء أبي الفضل أحمد بن محمد بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين بن عساكر الدمشقي الطبيب المعمر، ولد سنة تسع وعشرين وستمائة، سمع حضورا وسماعا على الكثير من المشايخ، وقد خرج له الحافظ علم الدين البرزالي مشيخة سمعناها عليه في سنة وفاته، وكذلك خرج له الحافظ صلاح الدين العلائي عوالي من حديثه، وكتب له المحدث المفيد ناصر الدين بن طغرلبك مشيخة في سبع مجلدات تشتمل على خمسمائة وسبعين شيخا، سماعا وإجازة،
__________
(1) في تذكرة النبيه 2 / 138 زاد في عامود نسبه:...محمد الحسني بن حامد بن أبي بكر بن محمد..

وقرئت عليه فسمعها الحافظ وغيرهم.
قال البرزالي: وقد قرأت عليه ثلاثا وعشرين مجلدا بحذف المكررات.
ومن الاجزاء خمسمائة وخمسين جزء بالمكررات.
قال: وكان قد اشتغل بالطب، وكان يعالج الناس بغير أجرة، وكان يحفظ كثيرا من الاحاديث والحكايات والاشعار، وله نظم، وخدم من عدة جهات الكتابة، ثم ترك ذلك ولزم بيته وإسماع الحديث، وتفرد في آخر عمره في أشياء كثيرة، وكان سهلا في التسميع، ووقف آخر عمره داره دار حديث، وخص الحافظ البرزالي والمزي بشئ من بره، وكانت وفاته يوم الاثنين وقت الظهر خامس وعشرين شعبان، ودفن بقاسيون رحمه الله.
الوزير ثم الامير نجم الدين حمد (1) بن الشيخ فخر الدين عثمان بن أبي القاسم البصراوي الحنفي، درس ببصرى بعد عمه القاضي صدر الدين الحنفي، ثم ولي الحسبة بدمشق ونظر الخزانة، ثم ولي الوزارة، ثم سأل الاقامة منها فعوض بأمرية عشرة عنها بإقطاع هائل، وعومل في ذلك معاملة الوزارة في حرمته ولبسته، حتى كانت وفاته ببصرى يوم الخميس ثامن عشرين شعبان، ودفن هناك، وكان كريما ممدحا وهاب نهابا كثير الصدقة والاحسان إلى الناس، ترك أموالا وأولادا ثم تفانوا كلهم بعده وتفرقت أمواله، ونكحت نساؤه وسكنت منازله.
الامير صارم الدين بن قراسنقر الجوكندار
مشد الخاص، ثم ولي بدمشق ولاية ثم عزل عنها قبل موته بستة أشهر، توفي تاسع رمضان ودفن بتربته المشرفة المبيضة شرقي مسجد النارنج (2) كان قد أعدها لنفسه.
الشيخ أحمد الاعقف الحريري شهاب الدين أحمد بن حامد بن سعيد التنوخي الحريري، ولد سنة أربع وأربعين وستمائة، واشتغل في صباه على الشيخ تاج الدين الفزاري في التنبيه، ثم صحب الحريرية وخدمهم ولزم مصاحبة الشيخ نجم الدين بن إسرائيل، وسمع الحديث، وحج غير مرة، وكان مليح الشكل كثير التودد إلى الناس، حسن الاخلاق، توفي يوم الاحد ثالث عشرين رمضان بزاويته بالمزة، ودفن بمقبرة المزة، وكانت جنازته حافلة.
__________
(1) في شذرات الذهب 6 / 62: محمد.
__________
(2) في البداية المطبوعة: التاريخ تصحيف، وقد تقدمت الاشارة إليه.

وفي يوم الجمعة ثامن عشرين رمضان صلي بدمشق على غائب وهو الشيخ هارون المقدسي توفي ببعلبك في العشر الاخير من رمضان، وكان صالحا مشهورا عند الفقراء.
وفي يوم الخميس ثالث ذي القعدة توفي: الشيخ المقري أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن يوسف بن غصن (1) الانصاري القصري ثم السبتي بالقدس، ودفن بماملي، وكانت له جنازة حافلة حضرها كريم الدين والناس مشاة، ولد سنة ثلاث وخمسين وستمائة، وكان شيخا مهيبا أحمر اللحية من الحناء، اجتمعت به وبحثت معه في هذه السنة حين زرت القدس الشريف، وهي أول زيارة زرته، وكان مالكي المذهب، قد قرأ الموطأ في ثمانية أشهر، وأخذ النحو عن أبي الربيع شارح المجمل للزجاجي من طريق شريح.
شيخنا الاصيل شمس الدين شمس الدين أبو نصر محمد بن عماد الدين أبي الفضل محمد بن شمس الدين أبي نصر محمد
ابن هبة الله بن محمد بن يحيى بن بندار بن مميل الشيرازي، مولده في شوال تسع وعشرين وستمائة، وسمع الكثير وأسمع وأفاد في علية شيخنا المزي تغمده الله برحمته، قرأ عليه عدة أجزاء بنفسه أثابه الله، وكان شيخنا حسنا خيرا مباركا متواضعا، يذهب الربعات والمصاحف، له في ذلك يد طولى، ولم يتدنس بشئ من الولايات، ولا تدنس بشئ من وظائف المدارس ولا الشهادات، إلى أن توفي في يوم عرفة ببستانه من المزة، وصلي عليه بجامعها ودفن بتربتها رحمه الله.
الشيخ العابد أبو بكر أبو بكر بن أيوب بن سعد الذرعي الحنبلي، قيم الجوزية، كان رجلا صالحا متعبدا قليل التكلف، وكان فاضلا، وقد سمع شيئا من دلائل النبوة عن الرشيدي العامري، توفي فجأة ليلة الاحد سابع عشر ذي الحجة بالمدرسة الجوزية، وصلي عليه بعد الظهر بالجامع، ودفن بباب الصغير وكانت جنازته حافلة، وأثنى عليه الناس خيرا رحمه الله، وهو والد العلامة شمس الدين محمد بن قيم الجوزية صاحب المصنفات الكثيرة النافعة الكافية.
الامير علاء الدين بن شرف الدين محمود بن إسماعيل بن معبد البعلبكي أحد أمراء الطبلخانات، كان والده تاجرا ببعلبك
__________
(1) من غاية النهاية لابن الاثير 2 / 47: عصر تحريف.

فنشأ ولده هذا واتصل بالدولة، وعلت منزلته، حتى أعطي طبلخانة وباشر ولاية البريد بدمشق مع شد الاوقاف ثم صرف إلى ولاية الولاة بحوران، فأعترضه المرض، وكان سبط البدن عبله، فسأل أن يقال فأجيب فأقام ببستانه بالمزة إلى أن توفي في خامس عشرين ذي الحجة، وصلي عليه هناك، ودفن بمقبرة المزة، وكان من خيار الامراء وأحسنهم، مع ديانة وخير سامحه الله.
وفي هذا اليوم توفي: الفقيه الناسك شرف الدين الحراني
شرف الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن سعد الله بن عبد الاحد بن سعد الله بن عبد القاهر بن عبد الواحد (1) بن عمر الحراني، المعروف بابن النجيح، توفي في وادي بني سالم، فحمل إلى المدينة فغسل وصلي عليه في الروضة ودفن بالبقيع شرقي قبر عقيل، فغبطه الناس في هذه الموتة وهذا القبر، رحمه الله، وكان من ؟ غبطه الشيخ شمس الدين بن مسلم قاضي الحنابلة، فمات بعده ودفن عنده وذلك بعده بثلاث سنين رحمهما الله.
وجاء يوم حضر جنازة الشيخ شرف الدين محمد المذكور شرف الدين بن أبي العز الحنفي قبل ذلك بجمعة، مرجعه من الحج بعد انفصاله عن مكة بمرحلتين فغبط الميت المذكور بتلك الموتة فرزق مثلها بالمدينة، وقد كان شرف الدين بن نجيح هذا قد صحب شيخنا العلام تقي الدين بن تيمية، وكان معه في مواطن كبار صعبه لايستطيع الاقدام عليها إلا الابطال الخلص الخواص، وسجن معه، وكان من أكبر خدامه وخواص أصحابه، ينال فيه الاذى وأوذي بسببه مرات، وكل ما له في ازدياد محبة فيه وصبرا على أذى أعدائه، وقد كان هذا الرجل في نفسه وعند الناس جيدا مشكور السيرة جيد العقل والفهم، عظيم الديانة والزهد، ولهذا كانت عاقبته هذه الموتة عقيب الحج، وصلي عليه بروضة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودفن بالبقيع بقيع الفرقد بالمدينة النبوية، فختم له بصالح عمله، وقد كان كثير من السلف يتمنى أن يموت عقيب عمل صالح يعمله، وكان له جنازة حافلة رحمه الله تعالى، والله سبحانه أعلم.
ثم دخلت سنة أربع وعشرين وسبعمائة استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها: الخليفة المستكفي بالله أبو الربيع سليمان بن الحاكم بأمر الله العباسي، وسلطان البلاد الملك الناصر، ونائبه بمصر سيف الدين أرغون ووزيره أمين الملك، وقضاته بمصر هم المذكورون في التي قبلها، ونائبه بالشام تنكز، وقضاة الشام الشافعي جمال الدين الزرعي، والحنفي الصدر علي البصراوي، والمالكي شرف الدين الهمداني،
__________
(1) في شذرات الذهب 6 / 61: عبدالاحد.

والحنبلي شمس الدين بن مسلم، وخطيب الاموي جلال الدين القزويني، ووكيل بيت المال جمال الدين بن القلانسي، ومحتسب البلد فخر الدين ابن شيخ السلامية، وناظر الدواوين شمس الدين غبريال ومشد الدواوين علم الدين طرقشي، وناظر الجيش قطب الدين ابن شيخ السلامية، ومعين الدين بن الخشيش، وكاتب السر شهاب الدين محمود، ونقيب الاشراف شرف الدين بن عدنان، وناظر الجامع بدر الدين بن الحداد، وناظر الخزانة عز الدين بن القلانسي، ووالي البر علاء الدين بن المرواني، ووالي دمشق شهاب الدين برق.
وفي خامس عشر ربيع الاول باشر عز الدين بن القلانسي الحسبة عوضا عن ابن شيخ السلامية مع نظر الخزانة، وفي هذا الشهر حمل كريم الدين وكيل السلطان من القدس إلى الديار المصرية فاعتقل ثم أخذت منه أموال وذخائر كثيرة، ثم نفي إلى الصعيد وأجري عليه نفقات سلطانية له ولمن معه من عياله، وطلب كريم الدين الصغير وصودر بأموال جمة.
وفي يوم الجمعة الحادي عشر من ربيع الآخر قرئ كتاب السلطان بالمقصورة من الجامع الاموي بحضرة نائب السلطنة والقضاة، يتضمن إطلاق مكس الغلة (1) بالشام المحروس جميعه، فكثرت الادعية للسلطان، وقدم البريد إلى نائب الشام يوم الجمعة خامس عشرين ربيع الآخر بعزل قاضي الشافعية الزرعي، فبلغه ذلك فامتنع بنفسه من الحكم، وأقام بالعادلية بعد العزل خمسة عشر يوما ثم انتقل منها إلى الاتابكية، واستمرت بيده مشيخة الشيوخ وتدريس الاتابكية، واستدعى نائب السلطان شيخنا الامام الزاهد برهان الدين الفزاري، فعرض عليه القضاء فامتنع، فألح عليه بكل ممكن فأبى وخرج من عنده فأرسل في أثره الاعيان إلى مدرسته فدخلوا عليه بكل حيلة فامتنع من قبول الولاية، وصمم أشد التصميم، جزاه الله خيرا عن مرؤته، فلما كان يوم الجمعة جاء البريد فأخبر بتوليته قضاء الشام، وفي هذا اليوم خلع على تقي الدين سليمان بن مراجل بنظر الجامع عوضا عن بدر الدين بن الحداد توفي، وأخذ من ابن مراجل نظر المارستان الصغير لبدر الدين بن العطار، وخسف القمر ليلة الخميس للنصف من جمادى الآخرة بعد العشاء، فصلى الخطيب صلاة الكسوف بأربعة سور: ق، واقتربت، والواقعة، والقيامة، ثم صلى العشاء ثم
خطب بعدها ثم أصبح فصلى بالناس الصبح ثم ركب على البريد إلى مصر فرزق من السلطان فتولاه وولاه بعد أيام القضاء ثم كر راجعا إلى الشام فدخل دمشق في خامس رجب على القضاء مع الخطابة وتدريس العادلية والغزالية، فباشر ذلك كله، وأخذت منه الامينية فدرس فيها جمال الدين بن القلانسي، مع وكالة بيت المال، وأضيف إليه قضاء العساكر وخوطب بقاضي القضاة جلال الدين القزويني.
__________
(1) كذا بالاصل والسلوك 2 / 254 وفي تذكرة النبيه 2 / 143: رسم بابطال مكس الغلة بالديار المصرية والبلاد الشامية، ومكس الغلة هو على كل غرارة ثلاثة دراهم (انظر مواعظ الاعتبار 1 / 88 والسلوك 2 / 254).

وفيها قدم ملك التكرور (1) إلى القاهرة بسبب الحج في خامس عشرين رجب، فنزل بالقرافة ومعه من المغاربة والخدم نحو من عشرين ألفا، ومعهم ذهب كثير بحيث إنه نزل سعر الذهب درهمين في كل مثقال، ويقال له الملك الاشرف موسى بن أبي بكر، وهو شاب جميل الصورة، له مملكة متسعة مسيرة ثلاث سنين، ويذكر أن تحت يده أربعة وعشرين (2) ملكا، كل ملك تحت يده خلق وعساكر، ولما دخل قلعة الجبل ليسلم على السلطان أمر بتقبيل الارض فامتنع من ذلك، فأكرمه السلطان، ولم يمكن من الجلوس أيضا حتى خرج من بين يدي السلطان وأحضر له حصان أشهب بزناري أطلس أصفر، وهيئت له هجن وآلات كثيرة تليق بمثله، وأرسل هو إلى السلطان أيضا بهدايا كثيرة من جملتها أربعون ألف دينار، وإلى النائب بنحو عشرة آلاف دينار، وتحف كثيرة.
وفي شعبان ورمضان زاد النيل بمصر زيادة عظيمة، لم ير مثلها من نحو مائة سنة أو أزيد منها ومكث على الاراضي نحو ثلاثة ونصف، وغرق أقصابا كثيرة، ولكن كان نفعه أعظم من ضره.
وفي يوم الخميس ثامن عشر شعبان استناب القاضي جلال الدين القزويني نائبين في الحكم، وهما يوسف بن إبراهيم بن جملة المحجي الصالحي، وقد ولي القضاء فيما بعد ذلك كما سيأتي، ومحمد بن علي بن إبراهيم المصري، وحكما يومئذ، ومن الغد جاء البريد ومعه تقليد
قضاء حلب للشيخ كمال الدين بن الزمكاني، فاستدعاه نائب السلطنة وفاوضه في ذلك فامتنع، فراجعه النائب ثم راجع السلطان فجاء البريد في ثاني عشر رمضان بإمضاء الولاية فشرع للتأهب لبلاد حلب، وتمادى في ذلك حتى كان خروجه إليها في بكرة يوم الخميس رابع عشر شوال، ودخل حلب يوم الثلاثاء سادس عشرين شوال فأكرم إكراما زائدا، ودرس بها وألقى علوما أكبر من تلك البلاد، وحصل لهم الشرف بفنونه وفوائده، وحصل لاهل الشام الاسف على دروسه الانيقة الفائقة، وما أحسن ما قال الشاعر وهو شمس الدين محمد الحناط في قصيدة له مطولة أولها قوله: أسفت لفقدك جلق الفيحاء * وتباشرت بقدومك الشهباء وفي ثاني عشر رمضان عزل أمين الملك عن وزارة مصر وأضيفت الوزارة إلى الامير علاء الدين مغلطاي الحمالي، أستاذ دار السلطان.
وفي أواخر رمضان طلب الصاحب شمس الدين غبريال إلى القاهرة فولي بها نظر الدواوين عوضا عن كريم الدين الصغير، وقدم كريم الدين المذكور إلى دمشق في شوال، فنزل بدار العدل من القصاعين.
وولي سيف الدين قديدار ولاية مصر، وهو شهم سفاك
__________
(1) يقصد بالتكرور دولة مالي الاسلامية أو دولة الماندنجو، فالتكرور أقليم من أقاليم الدولة (صبح الاعشى 5 / 282).
والتكرور أو تكاررة أو تكارنة تستعمل في المشرق للدلالة على جميع سكان السودان الاوسط والغربي.
__________
(2) في تذكرة النبيه 2 / 142: أربعة عشر.

للدماء، فأراق الخمور وأحرق الحشيشة وأمسك الشطار، واستقامت به أحوال القاهرة ومصر، وكان هذا الرجل ملازما لابن تيمية مدة مقامه بمصر.
وفي رمضان قدم إلى مصر الشيخ نجم الدين عبد الرحيم بن الشحام الموصلي من بلاد السلطان أزبك.
وعنده فنون من علم الطب وغيره، ومعه كتاب بالوصية به فأعطي تدريس الظاهرية البرانية نزل له عنها جمال الدين بن القلانسي، فباشرها في مستهل ذي الحجة، ثم درس بالجاروضية (1).
ثم خرج الركب في تاسع شوال وأميره كوكنجبار المحمدي، وقاضيه شهاب الدين الظاهري.
وممن
خرج إلى الحج برهان الدين الفزاري، وشهاب الدين قرطاي الناصري نائب طرابلس، وصاروحا وشهرى وغيرهم.
وفي نصف شوال زاد السلطان في عدة الفقهاء بمدرسته الناصرية، كان فيها من كل مذهب ثلاثون ثلاثون، فزادهم إلى أربعة وخمسين من كل مذهب، وزادهم في الجوامك أيضا.
وفي الثالث والعشرين منه وجد كريم الدين الكبير وكيل السلطان قد شنق نفسه داخل خزانة له قد أغلقها عليه من داخل: ربط حلقه في حبل وكان تحت رجليه قفص فدفع القفص برجليه فمات في مدينة أسوان، وستأتي ترجمته.
وفي سابع عشر ذي القعدة زينت دمشق بسبب عافية السلطان من مرض كان قد أشفى منه على الموت، وفي ذي القعدة درس جمال الدين بن القلانسي بالظاهرية الجوانية عوضا عن ابن الزملكاني، سافر على قضاء حلب، وحضر عنده القاضي القزويني، وجاء كتاب صادق من بغداد إلى المولى شمس بن حسان يذكر فيه أن الامير جوبان أعطى الامير محمد حسيناه قدحا فيه خمر ليشربه، فامتنع من ذلك أشد الامتناع، فألح عليه وأقسم فأبى أشد الاباء، فقال له إن لم تشربها وإلا كلفتك أن تحمل ثلاثين تومانا، فقال: نعم أحمل ولا أشربها، فكتب عليه حجة بذلك، وخرج من عنده إلى أمير آخر يقال له: بكتي، فاستقرض منه ذلك المال ثلاثين تومانا فأبى أن يقرضه إلا بربح عشرة توامين، فاتفقا على ذلك، فبعث بكتي إلى جوبان يقول له: المال الذي طلبته من حسيناه عندي فإن رسمت حملته إلى الخزانة الشريفة، وإن رسمت تفرقه على الجيش.
فأرسل جوبان إلى محمد حسيناه فأحضره عنده فقال له: تزن أربعين تومانا ولا تشرب قدحا من خمر ؟ قال: نعم، فأعجبه ذلك منه ومزق الحجة المكتوبة عليه، وحظي عنده وحكمه في أموره كلها، وولاه ولايات كتابه، وحصل لجوبان إقلاع ورجوع عن كثير مما كان يتعاطاه، رحم الله حسيناه.
وفي هذه السنة كانت فتنة بأصبهان قتل بسببها ألوف من أهلها، واستمرت الحرب بينهم شهورا.
وفيها كان غلاء مفرط بدمشق، بلغت الغرارة مائتين وعشرين، وقلت الاقوات.
ولو لا أن الله أقام الناس من يحمل لهم الغلة من مصر لاشتد الغلاء وزاد أضعاف ذلك، فكان مات أكثر
__________
(1) تقدم أنها المدرسة الجاروخية نسبة إلى جاروخ التركي.

الناس، واستمر ذلك مدة شهور من هذه السنة، وإلى أثناء سنة خمس وعشرين، حتى قدمت الغلات ورخصت الاسعار ولله الحمد والمنة.
وممن توفي فيها من الاعيان: توفي في مستهل المحرم: بدر الدين بن ممدوح بن أحمد الحنفي قاضي قلعة الروم بالحجاز الشريف، وقد كان عبدا صالحا، حج مرات عديدة، وربما أحرم من قلعة الروم أو حرم بيت المقدس، وصلي عليه بدمشق صلاه الغائب، وعلى شرف الدين ابن العز وعلى شرف الدين بن نجيح توفوا في أقل من نصف شهر كلهم بطريق الحجاز بعد فراغهم من الحج وذلك أنهم غبطوا ابن نجيح صاحب الشيخ تقي الدين بن تيمية بتلك الموتة كما تقدم، فرزقوها فماتوا عقيب عملهم الصالح بعد الحج.
الحجة الكبيرة خوندا بنت مكية زوجة الملك الناصر، وقد كانت زوجة أخيه الملك الاشرف ثم هجرها الناصر وأخرجها من القلعة، وكانت جنازتها حافلة، ودفنت بتربتها التي أنشأتها.
الشيخ محمد بن جعفر بن فرعوش ويقال له اللباد ويعرف بالمؤله، كان يقرئ الناس بجامع نحوا من أربعين سنة، وقد قرأت عليه شيئا من القراءات، وكان يعلم الصغار عقد الراء والحروف المتقنة كالراء ونحوها، وكان متقللا من الدنيا لا يقتني شيئا، وليس له بيت ولا خزانة، إنما كان يأكل في السوق وينام في الجامع، توفي في مستهل صفر وقد جاوز السبعين، ودفن في باب الفراديس رحمه الله.
وفي هذا اليوم توفي بمصر.
الشيخ أيوب السعودي وقد قارب المائة، أدرك الشيخ أبا السعود وكانت جنازته مشهودة.
ودفن بتربة شيخه بالقرافة وكتب عنه قاضي القضاة تقي الدين السبكي في حياته، وذكر الشيخ أبو بكر الرحبي أنه لم
ير مثل جنازته بالقاهرة منذ سكنها رحمه الله.
الشيخ الامام الزاهد نور الدين أبو الحسن علي بن يعقوب بن جبريل البكري المصري الشافعي، له تصانيف، وقرأ مسند

الشافعي على وزيرة بنت المنجا، ثم إنه أقام بمصر، وقد كان في جملة من ينكر على شيخ الاسلام ابن تيمية، أراد بعض الدولة قتله فهرب واختفى عنده كما تقدم لما كان ابن تيمية مقيما بمصر، وما مثاله إلا مثال ساقية ضعيفة كدرة لا طمت بحرا عظيما صافيا، أو رملة أرادت زوال جبل، وقد أضحك العقلاء عليه، وقد أرا السلطان قتله فشفع فيه بعض الامراء، ثم أنكر مرة شيئا على الدولة فنفي من القاهرة إلى بلدة يقال لها: ديروط، فكان بها حتى توفي يوم الاثنين سابع ربيع الآخر، ودفن بالقرافة، وكانت جنازته مشهورة غير مشهودة، وكان شيخه ينكر عليه إنكاره على ابن تيمية، ويقول له أنت لا تحسن أن تتكلم.
الشيخ محمد الباجريقي الذي تنسب إليه الفرقة الضالة الباجريقية، والمشهور عنه أنكار الصانع جل جلاله، وتقدست أسماؤه، وقد كان والده جمال الدين بن عبد الرحيم بن عمر الموصلي رجلا صالحا من علماء الشافعية ودرس في أماكن بدمشق، ونشأ ولده هذا بين الفقهاء واشتغل بعض شئ ثم أقبل على السلوك ورزم جماعة يعتقدونه ويزورونه ويرزقونه ممن هو على طريقه، وآخرون لا يفهمونه، ثم حكم القاضي المالكي بإراقة دمه فهرب إلى الشرق، ثم إنه أثبت عداوة بينه وبين الشهود فحكم الحنبلي بحقن دمه فأقام بالقابون مدة سنين حين كانت وفاته ليلة الاربعاء سادس عشر ربيع الآخر، ودفن بالقرب من مغارة الدم بسفح قاسيون في قبة في أعلى ذيل الجبل تحت المغارة، وله من العمر ستون سنة.
شيخنا القاضي أبو زكريا محيي الدين أبو زكريا يحيى بن الفاضل جمال الدين إسحاق بن خليل بن فارس الشيباني
الشافعي اشتغل على النواوي ولازم ابن المقدسي، وولي الحكم بزرع وغيرها، ثم قام بدمشق يشتغل في الجامع، ودرس في الصارمية وأعاد في مدارس عدة إلى أن توفي في سلخ ربيع الآخر ودفن بقاسيون وقد قارب الثمانين رحمه الله، وسمع كثيرا وخرج له الذهبي شيئا وسمعنا عليه الدارقطني وغيره.
الفقيه الكبير الصدر الامام العالم الخطيب بالجامع بدر الدين أبو عبد الله محمد بن عثمان بن يوسف بن محمد بن الحداد الآمدي الحنبلي، سمع الحديث واشتغل وحفظ المحرر في مذهب أحمد وبرع على ابن حمدان وشرحه عليه في مدة سنين وقد كان ابن حمدان يثني عليه كثيرا وعلى ذهنه وذكائه، ثم اشتغل بالكتابة ولزم خدمة الامير

قراسنقر بحلب، فولاه نظر الاوقاف وخطابة حلب بجامعها الاعظم، ثم لما صار إلى دمشق ولاه خطابة الاموي فاستمر خطيبا فيها اثنين وأربعين يوما، ثم أعيد إليها جلال الدين القزويني، ثم ولي نظر المارستان والحسبة ونظر الجامع الاموي، وعين لقضاء الحنابلة في وقت، ثم توفي ليلة الاربعاء سابع جمادى الآخرة ودفن بباب الصغير رحمه الله.
الكاتب المفيد قطب الدين أحمد بن مفضل بن فضل الله المصري، أخو محيي الدين كاتب تنكز، والد الصاحب علم الدين كان خبيرا بالكتابة وقد ولي استيفاء الاوقاف بعد أخيه، وكان أسن من أخيه، وهو الذي علمه صناعة الكتابة وغيرها، توفي ليلة الاثنين ثاني رجب وعمل عزاؤه بالسميساطية، وكان مباشر أوقافها.
الامير الكبير ملك العرب محمد بن عيسى بن مهنا أخو مهنا، توفي بسلمية يوم السبت سابع رجب، وقد جاوز الستين كان مليح الشكل حسن السيرة عاملا عارفا رحمه الله.
وفي هذا الشهر وصل الخبر إلى دمشق بموت:
الوزير الكبير علي شاه بن أبي بكر التبريزي وزير أبي سعيد بعد قتل سعد الدين الساوي، وكان شيخا جليلا فيه دين وخير، وحمل إلى تبريز فدفن بها في الشهر الماضي رحمه الله.
الامير سيف الدين بكتمر والي الولاة صاحب الاوقاف في بلدان شتى: من ذلك مدرسة بالصلب، وله درس بمدرسة أبي عمر وغير ذلك، توفي بالاسكندرية، وهو نائبها خامس رمضان رحمه الله.
شرف الدين أبو عبد الله محمد ابن الشيخ الامام العلامة زين الدين بن المنجا بن عثمان بن أسعد بن المنجا التنوخي الحنبلي، أخو قاضي القضاة علاء الدين، سمع الحديث ودرس وأفتى، وصحب الشيخ تقي

الدين بن تيمية، وكان فيه دين ومودة وكرم وقضاء حقوق كثيرة، توفي ليلة الاثنين رابع شوال، وكان مولده في سنة خمس وسبعين وستمائة، ودفن بتربتهم بالصالحية.
الشيخ حسن الكردي الموله كان يخالط النجاسات والقاذورات، ويمشي حافيا، وربما تكلم بشئ من الهذيانات التي تشبه علم المغيبات، وللناس فيه اعتقاد كما هو المعروف من أهل العمى والضلالات، مات في شوال.
كريم الدين الذي كان وكيل السلطان عبد الكريم بن العلم هبة الله المسلماني، حصل له من الاموال والتقدم والمكانة الخطيرة عند السلطان ما لم يحصل لغيره في دولة الاتراك، وقد وقف الجامعين بدمشق أحدهما جامع القبيبات والحوض الكبير الذي تجاه باب الجامع، واشترى له نهر ماء بخمسين ألفا، فانتفع به الناس انتفاعا كثيرا، ووجدوا رفقا.
والثاني الجامع الذي بالقابون.
وله صدقات كثيرة تقبل الله منه وعفا عنه، وقد مسك في آخر عمره ثم صودر ونفي إلى الشوبك، ثم إلى القدس، ثم الصعيد فخنق
نفسه كما قيل بعمامته بمدينة أسوان (1)، وذلك في الثالث والعشرين من شوال، وقد كان حسن الشكل تام القامة، ووجد له بعد موته ذخائر كثيرة سامحه الله.
الشيخ الامام العالم علاء الدين علي بن إبراهيم بن داود بن سليمان بن العطار، شيخ دار الحديث النورية، ومدرس القوصية بالجامع، ولد يوم عيد الفطر سنة أربع وخمسين وستمائة، وسمع الحديث واشتغل على الشيخ محيي الدين النواوي ولازمه حتى كان يقال له مختصر النواوي، وله مصنفات وفوائد ومجاميع وتخاريج، وباشر مشيخة النورية من سنة أربع وتسعين إلى هذه السنة، مدة ثلاثين سنة، توفي يوم الاثنين منها مستهل ذي الحجة فولي بعده النورية علم الدين البرزالي، وتولى الغوصية شهاب الدين بن حرز الله وصلي عليه بالجامع ودفن بقاسيون رحمه الله، والله سبحانه أعلم.
ثم دخلت سنة خمس وعشرين وسبعمائة استهلت وحكام البلاد هم المذكورون في التي قبلها، وأولها يوم الاربعاء.
وفي خامس صفر
__________
(1) في تذكرة النبيه 2 / 133: بمدينة قوص، وفيه ذكر وفاته سنة 723، وفي بدائع الزهور 1 / 1 / 453 ذكر وفاته سنة 722.

منها قدم إلى دمشق الشيخ شمس الدين محمود الاصبهاني بعد مرجعه من الحج وزيارة القدس الشريف وهو رجل فاضل له مصنفات منها: شرح مختصر (1) ابن الحاجب، وشرح التجويد (2) وغير ذلك، ثم إنه شرح الحاجبية أيضا وجمع له تفسيرا بعد صيرورته إلى مصر، ولما قدم إلى دمشق أكرم واشتغل عليه الطلبة، وكان حظيا عند القاضي جلال الدين القزويني، ثم إنه ترك الكل وصار يتردد إلى الشيخ تقي الدين بن تيمية وسمع عليه من مصنفاته ورده على أهل الكلام، ولازمه مدة فلما مات الشيخ تقي الدين تحول إلى مصر وجمع التفسير.
وفي ربيع الاول حرد السلطان تجريدة نحو خمسة آلاف إلى اليمن لخروج عمه عليه (3)، وصحبتهم خلق كثير من الحجاج، منه الشيخ فخر الدين النويري.
وفيها منع شهاب الدين بن
مري البعلبكي من الكلام على الناس بمصر، على طريقة الشيخ تقي الدين بن تيمية، وعزره القاضي المالكي بسبب الاستغاثة، وحضر المذكور بين يدي السلطان وأثنى عليه جماعة من الامراء، مسفر إلى الشام بأهله فنزل ببلاد الخليل، ثم انتزح إلى بلاد الشرق وأقام بسنجار وماردين ومعاملتهما يتكلم ويعظ الناس إلى أن مات رحمه الله كما سنذكره.
وفي ربيع الآخر عاد نائب الشام من مصر وقد أكرمه السلطان والامراء.
وفي جمادى الاولى وقع بمصر مطر لم يسمع بمثله بحيث زاد النيل بسببه أربع أصابع، وتغير أياما.
وفيه زادت دجلة ببغداد حتى غرقت ما حول بغداد وانحصر الناس بها ستة أيام لم تفتح أبوابها، وبقيت مثل السفينة في وسط البحر، وغرق خلق كثير من الفلاحين وغيرهم، وتلف للناس ما يعلمه إلا الله، وودع أهل البلد بعضهم بعضا، ولجأوا إلى الله تعالى وحملوا المصاحف على رؤوسهم في شدة الشوق في أنفسهم حتى القضاة والاعيان، وكان وقتا عجيبا، ثم لطف الله بهم فغيض الماء وتناقص، وتراجع الناس إلى ما كانوا عليه من أمورهم الجائرة وغير الجائرة، وذكر بعضهم أنه غرق بالجانب الغربي نحو من ستة آلاف وستمائة بيت، وإلى عشر سنين لا يرجع ما غرق.
__________
(1) وهو مختصر منتهى السؤل والامل في علم الاصول والجدل للشيخ عثمان بن عمر المعروف بابن الحاجب (كشف الظنون 2 / 1625).
__________
(2) وهو تجريد الكلام للعلامة محمد بن محمد الطوسي، نصير الدين (كشف الظنون 1 / 346).
__________
(3) وهو الملك المجاهد علي بن المؤيد داود بن المظفر يوسف بن المنصور عمر بن علي بن رسول.
وقد حكم اليمن في الفترة من 721 - 764 (انظر الدرر 3 / 18 مختصر أخبار البشر 4 / 94).
وفي سبب تجريده هذه الحملة قولان: الاول: ان التجريدة جاءت بناء على طلب الملك واكثاره من ترغيب السلطان في المال الذي باليمن.
فاجتمعوا إليه فور وصولهم وألبسوه خلع السلطنة ثم رجعوا إلى الديار المصرية.
والآخر: انه بلغ السلطان اضطراب حال اليمن وفساد الرعية فأرسل إليها جيشا، وخوفا من هذا الجيش واستيحاشه منه - تمنع الملك المؤيد في قلعة تعز وعصى بها ولم يكن مع الجيش إلا مرسوما بمساعدته وتقرير ولايته فتركوه وعادوا إلى الديار المصرية.
(تذكرة النبيه 2 / 149 مختصر أخبار البشر 4 / 94 كنز الدرر 9 / 318 السلوك 2 / 259).

وفي أوائل جمادى الآخرة فتح السلطان خانقاه سرياقوس التي أنشأها وساق إليها خليجا وبنى عندها محلة، وحضر السلطان بها ومعه القضاة والاعيان والامراء وغيرهم، ووليها مجد الدين الاقصرائي، وعمل السلطان بها وليمة كبيرة، وسمع على قاضي القضاة ابن جماعة عشرين حديثا بقراءة ولده عز الدين بحضرة الدولة منهم أرغون النائب، وشيخ الشيوخ القونوي وغيرهم، وخلع على القارئ عز الدين وأثنوا عليه ثناء زائدا، وأجلس مكرما، وخلع أيضا على والده ابن جماعة وعلى المالكي وشيخ الشيوخ، وعلى مجد الدين الاقصرائي شيخ الخانقاه المذكورة وغيرهم.
وفي يوم الاربعاء رابع عشر رجب درس بقبة المنصورية في الحديث الشيخ زين الدين بن الكتاني الدمشقي، بإشارة نائب الكرك وأرغون، وحضر عنده الناس، وكان فقيها جيدا، وأما الحديث فليس من فنه ولا من شغله.
وفي أواخر رجب قدم الشيخ زين الدين بن عبد الله بن المرحل من مصر على تدريس الشامية البرانية، وكانت بيد ابن الزملكاني فانتقل إلى قضاء حلب، فدرس بها في خامس شعبان وحضر القاضي الشافعي وجماعة.
وفي سلخ رجب قدم القاضي عز الدين بن بدر الدين بن جماعة من مصر ومعه ولده، وفي صحبته الشيخ جمال الدين الدمياطي وجماعة من الطلبة بسبب سماع الحديث، فقرأ بنفسه وقرأ الناس له واعتنوا بأمره، وسمعنا معهم وبقراءته شيئا كثيرا، نفعهم الله بما قرأوا وبما سمعوا، ونفع بهم.
وفي يوم الاربعاء ثاني عشر شوال درس الشيخ شمس الدين بن الاصبهاني، بالرواحية بعد ذهاب ابن الزملكاني إلى حلب، وحضر عند القضاة والاعيان، وكان فيهم شيخ الاسلام ابن تيمية، وجرى يومئذ بحث في العام إذا خص، وفي الاستثناء بعد النفي ووقع انتشار وطال الكلام في ذلك المجلس، وتكلم الشيخ تقي الدين كلاما أبهت الحاضرين، وتأخر ثبوت عيد الفطر إلى قريب يوم العيد، فلما ثبت دقت البشائر وصلى الخطيب العيد من الغد بالجامع، ولم يخرج الناس إلى المصلى، وتغضب الناس على المؤذنين وسجن بعضهم.
وخرج الركب في عاشره وأميره صلاح الدين بن أيبك الطويل، وفي الركب صلاح الدين بن
أوحد، والمنكورسي، وقاضيه شهاب الدين الظاهر.
وفي سابع عشره درس الرباط الناصري بقاسيون حسام الدين القزويني الذي كان قاضي طرابلس، قايضه بها جمال الدين الشريشني إلى تدريس المسرورية (0 1)، وكان قد جاء توقيعه بالعذراوية والظاهرية فوقف في طريقه قاضي القضاة جمال الدين ونائباه ابن جملة والفخر المصري، وعقد له ولكمال الدين بن الشيرازي مجلسا، ومعه توقيع بالشامية البرانية، فعطل الامر عليهما لانهما لم يظهرا استحقاقهما في ذلك المجلس، فصارت المدرستان العذراوية والشامية لابن المرحل كما ذكرنا، وعظم القزويني
__________
(1) المدرسة السرورية: بدمشق أنشأها الطواشي شمس الدين الخواص مسرور في العصر الفاطمي (الدارس 1 / 455).

بالمسرورية فقايض منها لابن الشريشي إلى الرباط الناصري، فدرس به في هذا اليوم وحضر عنده القاضي جلال الدين، ودرس بعده ابن الشريشي بالمسرورية وحضر عنده الناس أيضا.
وفيه عادت التجريدة اليمنية وقد فقد منهم خلق كثير من الغلمان وغيرهم، فحبس مقدمهم الكبير ركن الدين بيبرس لسوء سيرته فيهم (1).
وممن توفي فيها من الاعيان: الشيخ إبراهيم الصباح وهو إبراهيم بن منير البعلبكي، كان مشهورا بالصلاح مقيما بالمأذنة الشرقية، توفي ليلة الاربعاء مستهل المحرم ودفن بالباب الصغير، وكانت جنازته حافلة، حمله الناس على رؤوس الاصابع، وكان ملازما لمجلس الشيخ تقي الدين بن تيمية.
إبراهيم الموله الذي يقال له القميني لاقامته بالقمامين خارج باب شرقي، وربما كاشف بعض العوام، ومع هذا لم يكن من أهل الصلاة، وقد استتابه الشيخ تقي الدين بن تيمية وضربه على ترك الصلوات ومخالطة القاذورات، وجمع النساء والرجال حوله في الاماكن النجسة.
توفي كهلا في هذا
الشهر.
الشيخ عفيف الدين محمد بن عمر بن عثمان بن عمر الصقلي ثم الدمشقي، إمام مسجد الرأس، آخر من حدث عن ابن الصلاح ببعض سنن البيهقي، سمعنا عليه شيئا منها، توفي في صفر.
الشيخ الصالح العابد الزاهد الناسك عبد الله بن موسى بن أحمد الجزري، الذي كان مقيما [ بزاوية ] (2) أبي بكر من جامع
__________
(1) تقدم أن الملك المؤيد أثار في وجه الجيش الصعوبات، فوجدوا مشقة عظيمة من العطش والجوع فانتشروا ينهبون ما يجدونه في أيدي الناس، وخرجوا إلى جبل صبر فتخطف أهله جمالهم وغلمانهم ورموا عليهم بالمقاليع..مما جعلهم يقبضون على نائب المملكة ويوسطونه في تهامة وقد علقوه في شجرة..(المختصر في أخبار البشر 4 / 94 كنز الدرر 9 / 318 السلوك 2 / 259).
(2) بياض بالاصل، اختل بسببه المعنى، ولعل ما أثبتناه قريب من الصحة والصواب.

دمشق، كان من الصالحين الكبار مباركا خيرا، عليه سكينة ووقار، وكانت له مطالعة كثيرة، وله فهم جيد وعقل جيد، وكان من الملازمين لمجالس الشيخ تقي الدين بن تيمية، وكان ينقل من كلامه أشياء كثيرة ويفهمها يعجز عنها الفقهاء.
توفي يوم الاثنين سادس عشرين صفر، وصلي عليه بالجامع ودفن بباب الصغير وكانت جنازته حافلة محمودة.
الشيخ الصالح الكبير المعمر الرجل الصالح تقي الدين بن الصائغ المقري المصري، الشافعي من بقي من مشايخ القراء وهو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الخالق بن علي بن سالم بن مكي، توفي في صفر ودفن بالقرافة وكانت جنازته حافلة، قارب التسعين ولم يبق له منها سوى سنة واحدة، وقد قرأ عليه غير واحد وهو ممن طال عمره (1) وحسن عمله.
الشيخ الامام صدر الدين
أبو زكريا يحيى بن علي بن تمام بن موسى الانصاري السبكي الشافعي، سمع الحديث وبرع في الاصول والفقه، ودرس بالسيفية وباشرها بعده ابن أخيه تقي الدين السبكي الذي تولى قضاء الشام فيما بعد.
الشهاب محمود هو الصدر الكبير الشيخ الامام العالم العلامة شيخ صناعة الانشاء الذي لم يكن بعد القاضي الفاضل مثله في صنعه الانشاء، وله خصائص ليس للفاضل من كثرة النظم والقصائد المطولة الحسنة البليغة، فهو شهاب الدين أبو الثنا محمود بن سلمان بن فهد الحلبي ثم الدمشقي، ولد سنة أربع وأربعين وستمائة بحلب، وسمع الحديث وعني باللغة والادب والشعر وكان كثير الفضائل بارعا في علم الانشاء نظما ونثرا، وله في ذلك كتب ومصنفات حسنة فائقة، وقد مكث في ديوان الانشاء نحوا من خمسين سنة، ثم ولي كتابة السر بدمشق نحوا من ثمان سنين إلى أن توفي ليلة السبت ثاني عشرين شعبان في منزله قرب باب النطفانيين وهي دار القاضي الفاضل وصلي عليه بالجامع ودفن بتربة له أنشأها بالقرب من اليغمورية وقد جاوز الثمانين رحمه الله.
شيخنا عفيف الدين الامدي عفيف الدين إسحاق بن يحيى بن إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل الآمدي ثم الدمشقي
__________
(1) ولد في ثامن عشر جمادى الاولى سنة 636 ه.
وتوفي ثامن عشر صفر (غاية النهاية 2 / 65).

الحنفي شيخ دار الحديث الظاهرية، ولد في حدود الاربعين وستمائة، وسمع الحديث على جماعة كثيرين، منهم يوسف بن خليل ومجد الدين بن تيمية، وكان شيخنا حسنا بهي المنظر سهل الاسماع يحب الرواية ولديه فضيلة، توفي ليلة الاثنين ثاني عشرين رمضان، ودفن بقاسيون، وهو والد فخر الدين ناظر الجيوش والجامع.
وقبله بيوم توفي الصدر معين الدين يوسف بن زغيب الرحبي أحد كبار التجار الامناء.
وفي رمضان توفي..البدر العوام
وهو محمد بن علي البابا الحلبي، وكان فردا في العوم، وطيب الاخلاق، انتفع به جماعة من التجار في بحر اليمن كان معهم فغرق بهم الركب، فلجأوا إلى صخرة في البحر، وكانوا ثلاثة عشر، ثم إنه غطس فاستخرج لهم أموالا من قرار بعد أن أفلسوا وكادوا أن يهلكوا، وكان فيه ديانة وصيانة، وقد قرأ القرآن وحج عشر مرات، وعاش ثمانيا وثمانين سنة رحمه الله، وكان يسمع الشيخ تقي الدين بن تيمية كثيرا.
وفيه توفي: الشهاب أحمد بن عثمان الامشاطي الاديب في الازجان والموشحات والمواليا والدوبيت والبلاليق، وكان أستاذ أهل ذمة الصناعة مات في عشر الستين.
القاضي الامام العالم الزاهد صدر الدين سليمان بن هلال بن شبل بن فلاح بن خصيب الجعفري الشافعي المعروف بخطيب داريا، ولد سنة ثنتين وأربعين وستمائة، بقرية سرا من عمل السواد، وقدم مع والده فقرأ بالصالحية القرآن على الشيخ نصر بن عبيد، وسمع الحديث وتفقه على الشيخ محيي الدين النووي، والشيخ تاج الدين الفزاري، وتولى خطابة داريا وأعاد بالناصرية، وتولى نيابة القضاء لابن صصرى مدة، وكان متزهدا لا يتنعم بحمام ولا كتان ولا غيره، ولم يغير ما اعتاده في البر، وكان متواضعا، وهو الذي استسقى بالناس في سنة تسع عشرة فسقوا كما ذكرنا، وكان يذكر له نسبا إلى جعفر الطيار، بينه وبينه عشرة (1) آباء، ثم ولي خطابة العقيبية فترك نيابة الحكم وقال هذه تكفي إلى أن توفي ليلة الخميس ثامن ذي القعدة، ودفن بباب الصغير، وكانت جنازته مشهورة رحمه الله، وتولي بعده الخطابة ولده شهاب الدين.
__________
(1) في شذرات الذهب 6 / 67: ثلاثة عشر.

أحمد بن صبيح المؤذن الرئيس بالعروس بجامع دمشق مع البرهان بدر الدين أبو عبد الله محمد بن صبيح بن عبد
الله التفليسي مولاهم المقري المؤذن، كان من أحسن الناس صوتا في زمانه، وأطيبهم نغمة، ولد سنة ثنتين وخمسين وستمائة تقريبا، وسمع الحديث في سنة سبع وخمسين، وممن سمع عليه ابن عبد الدائم وغيره من المشايخ، وحدث وكان رجلا حسنا، أبوه مولى لامرأة اسمها شامة بنت كامل الدين التفليسي، امرأة فخر الدين الكرخي، وباشر مشارفة الجامع وقراءة المصحف، وأذن عند نائب السلطنة مدة، وتوفي في ذي الحجة بالطواويس، وصلي عليه بجامع العقيبية، ودفن بمقابر باب الفراديس.
خطاب باني خان خطاب الذي بين الكسوة وغباغب.
الامير الكبير عز الدين خطاب بن محمود بن رتقش العراقي، كان شيخنا كبيرا له ثروة من المال كبيرة، وأملاك وأموال، وله حمام بحكر السماق، وقد عمر الخان المشهور به بعد موته إلى ناحية الكتف المصري، مما يلي غباغب، وهو برج الصفر، وقد حصل لكثير من المسافرين به رفق، توفي ليلة سبع عشرة ربيع الآخر ودفن بتربته بسفح قاسيون، رحمه الله تعالى.
وفي ذي القعدة منها توفي رجل آخر اسمه: ركن الدين خطاب بن الصاحب كمال الدين أحمد ابن أخت ابن خطاب الرومي السيواسي، له خانقاه ببلده بسيواس، عليها أوقاف كثيرة وبر وصدقة، توفي وهو ذاهب إلى الحجاز الشريف بالكرك، ودفن بالقرب من جعفر وأصحابه بمؤتة رحمه الله.
وفي العشر الاخير من ذي القعدة توفي: بدر الدين أبو عبد الله محمد بن كمال الدين أحمد بن أبي الفتح بن أبي الوحش أسد بن سلامة بن سليمان بن فتيان الشيباني المعروف بابن العطار، ولد سنة سبعين وستمائة، وسمع الحديث الكثير، وكتب الخط المنسوب واشتغل بالتنبيه ونظم الشعر، وولي كتابة الدرج، ثم نظر الجيش ونظر الاشراف، وكانت له حظوة في أيام الافرم، ثم حصل له خمول قليل، وكان مترفا منعما له ثروة ورياسة وتواضع وحسن سيرة، ودفن بسفح قاسيون بتربتهم رحمه الله.

القاضي محيي الدين أبو محمد بن الحسن بن محمد بن عمار بن فتوح الحارثي، قاضي الزبداني مدة طويلة، ثم ولي قضاء الكرك وبها مات في العشرين من ذي الحجة، وكان مولده سنة خمس وأربعين وستمائة، وقد سمع الحديث واشتغل، وكان حسن الاخلاق متواضعا، وهو والد الشيخ جمال الدين بن قاضي الزبداني مدرس الظاهرية رحمه الله.
ثم دخلت سنة ست وعشرين وسبعمائة استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها، سوى كاتب سر دمشق شهاب الدين محمود فإنه توفي، وولي المنصب من بعده ولده الصدر شمس الدين.
و فيها تحول التجار في قماش النساء المخيط من الدهشة التي للجامع إلى دهشة سوق علي.
وفي يوم الاربعاء ثامن المحرم باشر مشيخة الحديث الظاهرية الشيخ شهاب الدين بن جهبل بعد وفاة العفيف إسحاق وترك تدريس الصلاحية بالقدس الشريف، واختار دمشق، وحضر عند القضاة والاعيان.
وفي أولها فتح الحمام الذي بناه الامير سيف الدين جوبان بجوار داره بالقرب من دار الجالق، وله بابان أحدهما إلى جهة مسجد الوزير، وحصل به نفع.
وفي يوم الاثنين ثاني صفر قدم الصاحب غبريال من مصر على البريد متوليا نظر الدواوين بدمشق على عادته، وانفصل عنها الكريم الصغير، وفرح الناس به.
وفي يوم الثلاثاء حادي عشرين ربيع الاول بكرة ضربت عنق ناصر بن الشرف أبي الفضل بن إسماعيل بن الهيثي بسوق الخيل على كفره واستهانته واستهتاره بآيات الله، وصحبته الزنادقة كالنجم بن خلكان، والشمس محمد الباجريقي، وابن المعمار البغدادي، وكل فيهم انحلال وزندقة مشهور بها بين الناس.
قال الشيخ علم الدين البرزالي: وربما زاد هذا المذكور المضروب العنق عليهم بالكفر التلاعب بدين الاسلام، والاستهانة بالنبوة والقرآن.
قال وحضر قتله العلماء والاكابر وأعيان الدولة.
قال: وكان هذا الرجل في أول أمره قد حفظ التنبيه، وكان يقرأ في الختم بصوت
حسن، وعنده نباهة وفهم، وكان منزلا في المدارس والترب، ثم إنه انسلخ من ذلك جميعه، وكان قتله عزا للاسلام وذلا للزنادقة وأهل البدع.
قلت: وقد شهدت قتله، وكان شيخنا أبو العباس بن تيمية حاضرا يومئذ، وقد أتاه وقرعه على ما كان يصدر منه قبل قتله، ثم ضربت عنقه وأنا شاهد ذلك.
وفي شهر ربيع الاول رسم في إخراج الكلاب من مدينة دمشق فجعلوا في الخندق من جهة باب الصغير من ناحية باب شرقي، الذكور على حدة والاناث على حدة، وألزم أصحاب

الدكاكين بذلك، وشددوا في أمرهم أياما.
وفي ربيع الاول ولي الشيخ علاء الدين المقدسي معيد البادرانية مشيخة الصلاحية بالقدس الشريف، وسافر إليها.
وفي جمادى الآخرة عزل قرطاي عن ولاية طرابلس ووليها طينال وأقر قرطاي على خبز القرماني بدمشق بحكم سجن القرماني بقلعة دمشق.
قال البرزالي: وفي يوم الاثنين عند العصر سادس عشر شعبان اعتقل الشيخ الامام العالم العلامة تقي الدين بن تيمية بقلعة دمشق، حضر إليه من جهة نائب السلطنة تنكز مشدا الاوقاف وابن الخطيري أحد الحجاب بدمشق، وأخبراه أن مرسوم السلطان ورد بذلك، وأحضرا معهما مركوبا ليركبه، وأظهر السرور والفرح بذلك، وقال أنا كنت منتظرا لذلك، وهذا فيه خير كثير ومصلحة كبيرة، وركبوا جميعا من داره إلى باب القلعة، وأخليت له قاعة وأجرى إليها الماء ورسم له بالاقامة فيها، وأقام معه أخوه زين الدين يخدمه بإذن السلطان، ورسم له ما يقوم بكفايته.
قال البرزالي: وفي يوم الجمعة عاشر الشهر المذكور قرئ بجامع دمشق الكتاب السلطاني الوارد باعتقاله ومنه من الفتيا، وهذه الواقعة سببها فتيا وجدت بخطه في السفر وإعمال المطي إلى زيارة قبور الانبياء عليهم الصلاة والسلام، وقبور الصالحين.
وقال: وفي يوم الاربعاء منتصف شعبان أمر قاضي القضاة الشافعي في حبس جماعة من أصحاب الشيخ تقي الدين في سجن الحكم، وذلك بمرسوم نائب السلطنة وإذنه له فيه، فما تقتضيه الشريعة في أمرهم، وعزر (1) جماعة منهم
على دواب ونودي عليهم ثم أطلقوا، سوى شمس الدين محمد بن قيم الجوزية فإنه حبس بالقلعة، وسكتت القضية.
قال وفي أول رمضان وصلت الاخبار إلى دمشق أنه أجريت عين ماء إلى مكة شرفها الله وانتفع الناس بها انتفاعا عظيما، وهذه العين تعرف قديما بعين باذان، أجراها جوبان من بلاد بعيدة حتى دخلت إلى نفس مكة، ووصلت إلى عند الصفا وباب إبراهيم، واستقى الناس منها فقيرهم وغنيهم وضعيفهم وشريفهم، كلهم فيها سواء، وارتفق أهل مكة بذلك رفقا كثيرا ولله الحمد والمنة.
وكانوا قد شرعوا في حفرها وتجديدها في أوائل هذه السنة إلى العشر الاخر من جمادى الاولى، واتفق أن في هذه السنة كانت الآبار التي بمكة قد يبست وقل ماؤها، وقل ماء زمزم أيضا، فلو لا أن الله تعالى لطف بالناس بإجراء هذه القناة لنزح عن مكة أهلها، أو هلك كثير مما يقيم بها.
وأما الحجيج في أيام الموسم فحصل لهم بها رفق عظيم زائد عن الوصف، كما شاهدنا ذلك في سنة إحدى وثلاثين عام حججنا.
وجاء كتاب السلطان إلى نائبه بمكة بإخراج الزيديين من المسجد الحرام، وأن لا يكون لهم فيه إمام ولا مجتمع، ففعل ذلك.
__________
(1) عزر، أدب، والتعزير: التأديب، وتعزير المذنب تأديبه على ذنب ارتكبه، لم تشرع فيه الحدود بعقوبة ثابتة، ولذا تختلف العقوبة فيه بحسب المذنب والذنب المرتكب (انظر الماوردي: الاحكام السلطانية ص 224 وما بعدها).

وفي يوم الثلاثاء رابع شعبان درس بالشامية الجوانية شهاب الدين أحمد بن جهبل، حضر عنده القاضي القزويني الشافعي وجماعة عوضا عن الشيخ أمين الدين سالم بن أبي الدر إمام مسجد ابن هشام توفي، ثم بعد أيام جاء توقيع بولاية القاضي الشافعي فباشرها في عشرين رمضان.
وفي عاشر شوال خرج الركب الشامي وأميره سيف الدين جوبان، وحج عامئذ القاضي شمس الدين ابن مسلم قاضي قضاة الحنابلة، وبدر الدين ابن قاضي القضاة جلال الدين القزويني، ومعه تحف وهدايا وأمور تتعلق بالامير سيف الدين أرغون نائب مصر، فإنه حج في هذه السنة ومعه أولاده وزوجته بنت السلطان، وحج فخر الدين ابن شيخ السلامية، وصدر الدين المالكي،
وفخر الدين البعلبكي وغيره.
وفي يوم الاربعاء عاشر ذي القعدة درس بالحنبلية برهان الدين أحمد بن هلال الزرعي الحنبلي، بدلا عن شيخ الاسلام ابن تيمية، وحضر عنده القاضي الشافعي وجماعة من الفقهاء وشق ذلك على كثير من أصحاب الشيخ تقي الدين، وكان ابن الخطيري الحاجب قد دخل على الشيخ تقي الدين قبل هذا اليوم فاجتمع به وسأله عن أشياء بأمرنائب السلطنة.
ثم يوم الخميس دخل القاضي بدر الدين بن جملة وناصر الدين مشد الاوقاف، وسألاه عن مضمون قوله في مسألة الزيارة، فكتب ذلك في درج وكتب تحته قاضي الشافعية بدمشق: قابلت الجواب عن هذا السؤال المكتوب على خط ابن تيمية إلى أن قال: وإنما المحز جعله زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقبور الانبياء صلوات الله وسلامه عليهم معصية بالاجماع مقطوعا بها، فانظر الآن هذا التحريف على شيخ الاسلام، فإن جوابه على هذه المسألة ليس فيه منع زيارة قبور الانبياء والصالحين، وإنما فيه ذكر قولين في شد الرحل والسفر إلى مجرد زيارة القبور، وزيارة القبور من غير شد رحل إليها مسألة، وشد الرحل لمجرد الزيارة مسألة أخرى، والشيخ لم يمنع الزيارة الخالية عن شد رحل، بل يستحبها ويندب إليها، وكتبه ومناسكه تشهد بذلك، ولم يتعرض إلى هذه الزيارة في هذه الوجه في الفتيا، ولا قال إنها معصية، ولا حكى الاجماع على المنع منها، ولا هو جاهل قول الرسول " زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة " (1) والله سبحانه لا يخفى عليه شئ، ولا يخفى عليه خافية، (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) [ الشعراء: 227 ].
وفي يوم الاحد رابع ذي القعدة فتحت المدرسة الحمصية تجاه الشامية الجوانية، ودرس بها محيي الدين الطرابلسي قاضي هكار، وتلقب بأبي رباح، وحضر عنده القاضي الشافعي.
وفي ذي القعدة سافر القاضي جمال الدين الزرعي من الاتابكية إلى مصر، ونزل عن تدريسها لمحيي الدين
__________
(1) أخرجه مسلم في الجنائز ح (108) والترمذي في الجنائز باب (60) والنسائي في الجنائز باب (101) وابن ماجه في الجنائز باب 47 و 48.

ابن جهبل.
وفي ثاني ذي الحجة درس بالنجيبية ابن قاضي الزبداني عوضا عن الدمشقي نائب الحكم مات بالمدرسة المذكورة.
وممن توفي فيها من الاعيان: ابن المطهر الشيعي جمال الدين أبو منصور حسن بن يوسف بن مطهر الحلي (1) العراقي الشيعي، شيخ الروافض بتلك النواحي، وله التصانيف الكثيرة، يقال تزيد على مائة وعشرين مجلدا، وعدتها خمسة وخمسون مصنفا، في الفقه والنحو الاصول والفلسفة والرفض وغير ذلك من كبار وصغار، وأشهرها بين الطلبة شرح ابن الحاجب في أصول الفقه، وليس بذاك الفائق، ورأيت له مجلدين في أصول الفقه على طريقة المحصول والاحكام، فلا بأس بها فإنها مشتملة على نقل كثير وتوجيه جيد، وله كتاب منهاج الاستقامة في إثبات الامامة، خبط فيه في المعقول والمنقول، ولم يدر كيف يتوجه، إذ خرج عن الاستقامة.
وقد انتدب في الرد عليه الشيخ الامام العلامة شيخ الاسلام تقي الدين أبو العباس بن تيمية في مجلدات أتى فيها بما يبهر العقول من الاشياء المليحة الحسنة، وهو كتاب حافل.
ولد ابن المطهر الذي لم تطهر خلائقه ولم يتطهر من دنس الرفض ليلة الجمعة سابع عشرين رمضان سنة ثمان وأربعين وستمائة، وتوفي ليلة الجمعة عشرين محرم من هذه السنة، وكان اشتغاله ببغداد وغيرها من البلاد، واشتغل على نصير الطوسي، وعلى غيره، ولما ترفض الملك خربندا حظي عنده ابن المطهر وساد جدا وأقطعه بلادا كثيرة.
الشمس الكاتب محمد بن أسد الحراني المعروف بالنجار، كان يجلس ليكتب الناس عليه بالمدرسة القليجية، توفي في ربيع الآخر ودفن بباب الصغير.
العز حسن بن أحمد بن زفر الاربلي ثم الدمشقي، كان يعرف طرفا صالحا من النحو والحديث والتاريخ، وكان مقيما بدويره حمد صوفيا بها، وكان حسن المجالسة أثنى عليه البرزالي في نقله وحسن معرفته، مات
بالمارستان الصغير في جمادى الآخرة ودفن بباب الصغير عن ثلاث وستين سنة.
__________
(1) الحلي نسبة إلى الحلة - وبها توفي - وهي قرية مشهورة في طرف بغداد (معجم البلدان).

الشيخ الامام أمين الدين سالم بن أبي الدر عبد الرحمن بن عبد الله الدمشقي الشافعي مدرس الشامية الجوانية، أخذها من ابن الوكيل قهرا وهو إمام مسجد ابن هشام، ومحدث الكرسي به، كان مولده في سنة خمس وأربعين وستمائة، اشتغل وحصل وأثنى عليه النووي وغيره، وأعاد وأفتى ودرس، وكان خبيرا بالمحاكمات، وكان فيه مروءة وعصبيه لمن يقصده، توفي في شعبان ودفن بباب الصغير.
الشيخ حماد وهو الشيخ الصالح العابد الزاهد حماد الحلبي القطان، كان كثير التلاوة والصلوات، مواظبا على الاقامة بجامع التوبة (1) بالعقيبية بالزاوية الغربية الشمالية، يقرئ القرآن ويكثر الصيام ويتردد الناس إلى زيارته، مات وقد جاوز السبعين سنة على هذا القدم، توفي ليلة الاثنين عشرين شعبان ودفن بباب الصغير، وكان جنازته حافلة رحمه الله.
الشيخ قطب الدين اليونيني وهو الشيخ الامام العالم بقية السلف، قطب الدين أبو الفتح موسى ابن الشيخ الفقيه الحافظ الكبير شيخ الاسلام أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الله بن عيسى بن أحمد بن محمد البعلبكي اليونيني الحنبلي، ولد سنة أربعين وستمائة بدار الفضل بدمشق، وسمع الكثير وأحضره والده المشايخ واستجاز له وبحث واختصر مرآة الزمان للسبط (2)، وذيل عليها ذيلا حسنا مرتبا أفاد فيه وأجاد بعبارة حسنة سهلة، بإنصاف وستر، وأتى فيه بأشياء حسنة وأشياء فائقة رائقه، وكان كثير التلاوة حسن الهيئة متقللا في ملبسه ومأكله، توفي ليلة الخميس ثالث عشر شوال ودفن بباب سطحا عند أخيه الشيخ شرف الدين رحمهما الله.
قاضي القضاة ابن مسلم
شمس الدين أبو عبد الله محمد بن مسلم بن مالك بن مزروع بن جعفر الصالحي الحنبلي، ولد سنة ستين (3) وستمائة، ومات أبوه - وكان من الصالحين - سنة ثمان وستين، فنشأ يتيما فقيرا
__________
(1) جامع التوبة بالعقيبة بدمشق، أنشأه الملك الاشرف موسى بن الملك العادل أبو بكر بن أيوب سنة 632 ه (الدارس في تاريخ المدارس 2 / 426).
__________
(2) يوسف قزاوغلي المعروف بسبط ابن الجوزي وقد تقدمت وفاته سنة 654 ه (كشف الظنون 1647 2).
__________
(3) في تذكرة النبيه 2 / 164 ذكر انه ولد سنة 662 ه.
(شذرات الذهب 6 / 73).

لا مال له، ثم اشتغل وحصل وسمع الكثير وانتصب للافادة والاشتغال، فطار ذكره، فلما مات التقي سليمان (1) سنة خمس عشرة ولي قضاء الحنابلة، فباشره أتم مباشرة، وخرجت له تخاريج كثيرة، فلما كانت هذه السنة خرج للحج فمرض في الطريق فورد المدينة النبوية على ساكنها رسول الله أفضل الصلاة والسلام، يوم الاثنين الثالث والعشرين من ذي القعدة فزار قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى في مسجده وكان بالاشواق إلى ذلك، وكان قد تمنى ذلك لما مات ابن نجيح، فمات في عشية ذلك اليوم يوم الثلاثاء وصلي عليه في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالروضة، ودفن بالبقيع إلى جانب قبر شرف الدين بن نجيح، الذي كان قد غبطه بموته هناك سنة حج هو وهو قبل هذه الحجة شرقي قبر عقيل رحمهم الله، وولي بعده القضاء عز الدين بن التقي سليمان.
القاضي نجم الدين أحمد بن عبد المحسن بن حسن بن معالي الدمشقي الشافعي، ولد سنة تسع وأربعين واشتغل على تاج الدين الفزاري وحصل وبرع وولي الاعادة ثم الحكم بالقدس، ثم عاد إلى دمشق فدرس بالنجيبية، وناب في الحكم عن ابن صصرى مدة، توفي بالنجيبية المذكورة يوم الاحد ثامن عشرين ذي القعدة، وصلي عليه العصر بالجامع، ودفن بباب الصغير.
ابن قاضي شهبة الشيخ الامام العالم شيخ الطلبة ومفيدهم كمال الدين أبو محمد عبد الوهاب بن ذؤيب
الاسدي الشهبي الشافعي، ولد بحوران في سنة ثلاث وخمسين وستمائة، وقدم دمشق واشتغل على الشيخ تاج الدين الفزاري، ولازمه وانتفع به، وأعاد بحلقته، وتخرج به، وكذلك لازم أخاه الشيخ شرف الدين، وأخذ عنه النحو واللغة، وكان بارعا في الفقه والنحو، له حلقة يشتغل فيها تجاه محراب الحنابلة، وكان يعتكف جميع شهر رمضان، ولم يتزوج قط، وكان حسن الهيئة والشيبة، حسن العيش والملبس متقللا من الدنيا، له معلوم يقوم بكفايته من إعادات وفقاهات وتصدير بالجامع، ولم يدرس قط ولا أفتى، مع أنه كان ممن يصلح أن يأذن في الافتاء، ولكنه كان يتورع عن ذلك، وقد سمع الكثير: سمع المسند للامام أحمد وغير ذلك، توفي بالمدرسة المجاهدية - وبها كانت إقامته - ليلة الثلاثاء حادي عشرين ذي الحجة، وصلي عليه بعد صلاة الظهر، ودفن بمقابر باب الصغير، وفيها كانت وفاة:
__________
(1) وهو أبو الفضل سليمان بن حمزة بن أحمد بن عمر بن الشيخ أبي عمر أحمد بن قدامة المقدسي.

الشرف يعقوب بن فارس الجعبري التاجر بفرجة ابن عمود، وكان يحفظ القرآن ويؤم بمسجد القصب، ويصحب الشيخ تقي الدين بن تيمية والقاضي نجم الدين الدمشقي، وقد حصل أموالا وأملاكا وثروة، وهو والد صاحبنا الشيخ الفقيه المفضل المحصل الزكي بدر الدين محمد، خال الولد عمر إن شاء الله.
وفيها توفي: الحاج أبو بكر بن تيمراز الصيرفي كانت له أموال كثيرة ودائرة ومكارم وصدقات، ولكنه انكسر في آخر عمره، وكاد أن ينكشف فجبره الله بالوفاة رحمه الله.
ثم دخلت سنة سبع وعشرين وسبعمائة استهلت بيوم الجمعة والحكام: الخليفة والسلطان والنواب والقضاة والمباشرون هم المذكورون في التي قبلها سوى الحنبلي كما تقدم، وفي العشر من المحرم دخل مصر أرغون نائب
مصر فمسك في حادي عشر وحبس، ثم أطلق أياما وبعثه السلطان إلى نائب حلب فاجتاز بدمشق بكرة الجمعة ثاني عشرين المحرم، فأنزله نائب السلطنة بداره المجاورة لجامعه، فبات بها ثم سافر إلى حلب، وقد كان قبله بيوم قد سافر من دمشق الجاي الدوادار إلى مصر، وصحبته نائب حلب علاء الدين الطنبغا معزولا عنها إلى حجوبية الحجاب بمصر.
وفي يوم الجمعة التاسع عشر ربيع الاول قرئ تقليد قاضي الحنابلة عز الدين محمد بن التقي سليمان بن حمزة المقدسي، عوضا عن ابن مسلم بمقصورة الخطابة بحضرة القضاة والاعيان، وحكم وقرئ قبل ذلك بالصالحية.
وفي أواخر هذا الشهر وصل البريد بتولية ابن النقيب (1) الحاكم بحمص قضاء القضاة بطرابلس، ونقل الذي بها إلى حمص نائبا عن قاضي دمشق، وهو ناصر بن محمود الزرعي.
وفي سادس عشر ربيع الآخر عاد تنكز من مصر إلى الشام، وقد حصل له تكريم من السلطان وفي ربيع الاول حصلت زلزلة بالشام وقي الله شرها.
وفي يوم الخميس مستهل جمادى الاولى باشر نيابة الحنبلي القاضي برهان الدين الزرعي، وحضر عنده جماعة من القضاة.
وفي يوم الجمعة منتصف جمادى الآخرة جاء البريد بطلب القاضي القزويني الشافعي إلى مصر، فدخلها في مستهل رجب، فخلع عليه بقضاء قضاة مصر مع تدريس الناصرية والصالحية ودار الحديث الكاملية، عوضا عن بدر الدين بن جماعة لاجل كبر سنه، وضعف نفسه، وضرر عينيه، فجبروا
__________
(1) وهو شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن ابراهيم بن النقيب (تذكرة النبيه 2 / 174).

خاطره فرتب له ألف درهم وعشرة أرادب قمح في الشهر، مع تدريس زاوية الشافعي، وأرسل ولده بدر الدين إلى دمشق خطيبا بالاموي، وعلى تدريس الشامية البرانية، على قاعدة والده جلال الدين القزويني في ذلك، فخلع عليه في أواخر رجب ثامن عشرين وحضر عنده الاعيان.
وفي رجب كان عرس الامير سيف الدين قوصون الساقي الناصري، على بنت السلطان، وكان وقتا مشهودا، خلع على الامراء والاكابر.
وفي صبيحة هذه الليلة عقد عقد الامير شهاب الدين أحمد بن الامير بكتمر الساقي، على بنت تنكز نائب الشام، وكان السلطان وكيل أبيها تنكز
والعاقد ابن الحريري.
وخلع عليه وأدخلت في ذي الحجة من هذه السنة في كلفة كثيرة.
وفي رجب جرت فتنة كبيرة بالاسكندرية في سابع رجب، وذلك أن رجلا من المسلمين قد تخاصم هو ورجل من الفرنج، على باب البحر، فضرب أحدهما الآخر بنعل، فرفع الامر إلى الوالي فأمر بغلق باب البلد بعد العصر، فقال له الناس: إن لنا أموالا وعبيدا ظاهر البلد، وقد أغلقت الباب قبل وقته.
ففتحه فخرج الناس في زحمة عظيمة، فقتل منهم نحو عشرة ونهبت عمائم وثياب وغير ذلك، وكان ذلك ليلة الجمعة فلما أصبح الناس ذهبوا إلى دار الوالي فأحرقوها وثلاث دور لبعض الظلمة، وجرت أحوال صعبة، ونهبت أموال، وكسرت العامة باب سجن الوالي فخرج منه من فيه، فبلغ نائب السلطنة فاعتقد النائب أنه السجن الذي فيه الامراء، فأمر بوضع السيف في البلد وتخريبه، ثم إن الخبر بلغ السلطان فأرسل الوزير طيبغا الجمالي سريعا فضرب وصادر، وضرب القاضي ونائبه وعزلهم، وأهان خلقا من الاكابر وصادرهم بأموال كثيرة جدا، وعزل المتولي ثم أعيد، ثم تولى القضاء بهاء الدين علم الدين الاخنائي الشافعي الذي تولى دمشق فيما بعد، وعزل قضاة الاسكندرية المالكي ونائباه، ووضعت السلاسل في أعناقهم وأهينوا، وضرب ابن السني غير مرة.
وفي يوم السبت عشرين شعبان وصل إلى دمشق قاضي قضاة حلب ابن الزملكاني على البريد فأقام بدمشق أربعة أيام ثم سار إلى مصر ليتولى قضاء قضاة الشام بحضرة السلطان، فاتفق موته قبل وصوله إلى القاهرة (وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شك مريب) [ سبأ: 54 ].
وفي يوم الجمعة سادس عشرين شعبان باشر صدر الدين المالكي مشيخة الشيوخ مضافا إلى قضاء قضاة المالكية، وحضر الناس عنده، وقرئ تقليده بذلك بعد انفصال الزرعي عنها إلى مصر.
وفي نصف رمضان وصل قاضي الحنفية بدمشق لقضاء القضاة عماد الدين أبي الحسن علي بن أحمد بن عبد الواحد الطرسوسي، الذي كان نائبا لقاضي القضاة صدر الدين علي البصروي، فخلفه بعده بالمنصب، وقرئ تقليده بالجامع، وخلع عليه وباشر الحكم، واستناب القاضي عماد الدين بن العز، ودرس بالنورية مع القضاء، وشكرت سيرته.
وفي رمضان قدم جماعة من الاسارى مع تجار الفرنج فأنزلوا بالمدرسة العادلية الكبيرة

واستفكوا من ديوان الاسرى بنحو من ستين ألفا، وكثرت الادعية لمن كان السبب في ذلك.
وفي ثامن شوال خرج الركب الشامي إلى الحجاز وأميره سيف الدين بالبان المحمدي، وقاضيه بدر الدين محمد بن محمد قاضي حران.
وفي شوال وصل تقليد قضاء الشافعية بدمشق لبدر الدين ابن قاضي القضاة بن عز الدين الصائغ والخلعة معه، فامتنع من ذلك أشد الامتناع، وصمم، وألح عليه الدولة فلم يقبل وكثر بكاؤه وتغير مزاجه واغتاظ، فلما أصر على ذلك راجع تنكز السلطان في ذلك، فلما كان شهر ذي القعدة اشتهر تولية علاء الدين علي بن إسماعيل القونوي (1) قضاء الشام، فسار إليها من مصر وزار القدس ودخل دمشق يوم الاثنين سابع عشرين ذي القعدة، فاجتمع بنائب السلطنة ولبس الخلعة وركب مع الحجاب والدولة إلى العادلية، فقرئ تقليده بها وحكم بها على العادة، وفرح الناس به وبحسن سمته وطيب لفظه وملاحة شمائله وتودده، وولي بعده مشيخة الشيوخ بمصر مجد الدين الاقصرائي الصوفي شيخ سرياقوس.
وفي يوم السبت ثالث عشرين ذي القعدة لبس القاضي محيي الدين بن فضل الله الخلعة بكتابة السر عوضا عن ابن الشهاب محمود، واستمر ولده شرف الدين في كتابة الدست (2).
وفي هذه السنة تولى قضاء حلب عوضا عن ابن الزملكاني القاضي فخر الدين البازري.
وفي العشر الاول من ذي الحجة كمل ترخيم الجامع الاموي أعني حائطه الشمالي وجاء تنكز حتى نظر إليه فأعجبه ذلك، وشكر ناظره تقي الدين بن مراجل.
وفي يوم الاضحى جاء سيل عظيم إلى مدينة بلبيس فهرب أهلها منها وتعطلت الصلاة والاضاحي فيها، ولم ير مثله من مدة سنين متطاولة، وخرب شيئا كثيرا من حواضرها وبساتينها فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وممن توفي فيها من الاعيان: الامير أبو يحيى زكريا بن أحمد بن محمد بن عبد الواحد أبي حفص الهنتاني الجياني (3) المغربي، أمير بلاد
المغرب.
ولد بتونس قبل سنة خمسين وستمائة، وقرأ الفقه والعربية، وكان ملوك تونس تعظمه وتكرمه، لانه من بيت الملك والامرة والوزارة.
ثم بايعه أهل تونس على الملك في سنة إحدى عشرة وسبعمائة، وكان شجاعا مقداما، وهو أول من أبطل ذكر ابن التومرت من الخطبة، مع أن
__________
(1) القونوي: نسبة إلى مدينة قونية بآسيا الصغرى، وتوفي سنة 729 ه.
__________
(2) وفي بدائع الزهور 1 / 1 / 458 انه تم عزل محيي الدين عن كتابة السر، واستقر بها شرف الدين بن الشهاب محمود.
__________
(3) كذا بالاصل، وفي شذرات الذهب 6 / 76 وتذكرة النبيه 2 / 176: اللحياني.

جده أبا حفص الهنتاني كان من أصحاب ابن التومرت.
توفي في المحرم من هذه السنة بمدينة الاسكندرية.
رحمه الله.
الشيخ الصالح ضياء الدين ضياء الدين أبو الفدا إسماعيل بن رضي الدين أبي الفضل المسلم بن الحسن بن نصر الدمشقي، المعروف بابن الحموي، كان هو وأبوه وجده من الكتاب المشهورين المشكورين، وكان هو كثير التلاوة والصلاة والصيام والبر والصدقة والاحسان إلى الفقراء والاغنياء.
ولد سنة خمس وثلاثين وستمائة وسمع الحديث الكثير وخرج له البرزالي مشيخة سمعناها عليه، وكان من صدور أهل دمشق، توفي يوم الجمعة رابع عشر صفر، وصلي عليه ضحوة بوم السبت، ودفن بباب الصغير، وحج وجاور وأقام بالقدس مدة.
مات وله ثنتان وسبعون سنة رحمه الله، وقد ذكر والده أنه حين ولد له فتح المصحف يتفاءل فإذا قوله (الحمد الله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق) [ إبراهيم: 39 ] فسماه إسماعيل.
ثم ولد له آخر فسماه إسحاق، وهذا من الانفاق الحسن رحمهم الله تعالى.
الشيخ علي المحارفي علي بن أحمد بن هوس الهلالي، أصل جده من قرية إيل البسوق، وأقام والده بالقدس،
وحج هو مرة وجاور بمكة سنة ثم حج، وكان رجلا صالحا مشهورا، ويعرف بالمحارفي، لانه كان يحرف الازقة ويصلح الرصفان لله تعالى، وكان يكثر التهليل والذكر جهرة، وكان عليه هيبة ووقار، ويتكلم كلاما فيه تخويف وتحذير من النار، وعواقب الردى، وكان ملازما لمجالس ابن تيمية، وكانت وفاته يوم الثلاثاء ثالث عشرين ربيع الاول، ودفن بتربة الشيخ موفق الدين بالسفح، وكانت جنازته حافلة جدا رحمه الله.
الملك الكامل ناصر الدين أبو المعالي محمد بن الملك السعيد فتح الدين عبد الملك بن السلطان الملك الصالح إسماعيل أبي الجيش بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب أحد أكابر الامراء وأبناء الملوك، كان من محاسن البلد ذكاء وفطنة وحسن عشرة ولطافة كلام، بحيث يسرد كثيرا من الكلام بمنزلة الامثال من قوة ذهنه وحذاقة فهمه، وكان رئيسا من أجواد الناس، توفي عشية الاربعاء عشرين جمادى الاولى (1)
__________
(1) في تذكرة النبيه 2 / 177: جمادى الآخرة، وفيها كان مولده بظهر الحجاز الشريف سنة 653 ه.
مات وقد جاوز السبعين.

وصلي عليه ظهر الخميس بصحن الجامع تحت النسر، ثم أرادوا دفنه عند جده لامه الملك الكامل فلم يتيسر ذلك فدفن بتربة أم الصالح سامحه الله، وكان له سماع كثير سمعنا عليه منه، وكان يحفظ تاريخا جيدا، وقام ولده الامير صلاح الدين مكانه في إمرة الطبلخانة، وجعل أخوه في عشرته ولبسا الخلع السلطانية بذلك.
الشيخ الامام نجم الدين أحمد بن محمد بن أبي الحزم القرشي المخزومي القمولي (1)، كان من أعيان الشافعية، وشرح الوسيط (2) وشرح الحاجبية في مجلدين، ودرس وحكم بمصر، وكان محتسبا بها أيضا، وكان مشكور السيرة فيها، وقد تولى بعده الحكم نجم الدين بن عقيل، والحسبة ناصر الدين بن قار السبقوق، توفي في رجب وقد جاوز الثمانين، ودفن بالقرافة رحمه الله.
الشيخ الصالح أبو القاسم عبد الرحمن بن موسى بن خلف الحزامي، أحد مشاهير الصالحين بمصر، توفي بالروضة وحمل إلى شاطئ النيل، وصلي عليه وحمل على الرؤوس والاصابع، ودفن عند ابن أبي حمزة، وقد قارب الثمانين، وكان ممن يقصد إلى الزيارة رحمه الله.
القاضي عز الدين عبد العزيز بن أحمد بن عثمان بن عيسى بن عمر الخضر الهكاري الشافعي، قاضي المحلة، كان من خيار القضاة، وله تصنيف على حديث المجامع في رمضان، يقال إنه استنبط فيه ألف حكم.
توفي في رمضان، وقد كان حصل كتبا جيدة منها التهذيب لشيخنا المزي.
الشيخ كمال الدين بن الزملكاني (3) شيخ الشافعية بالشام وغيرها، انتهت إليه رياسة المذهب تدريسا وإفتاء ومناظرة، ويقال في
__________
(1) من تذكرة النبيه وشذرات الذهب، وفي الاصل: " التمولي " تحريف.
والقمولي: نسبة إلى قمولة بلد بصعيد مصر، وهي من الاعمال القوصية (القاموس الجغرافي 4 / 183).
__________
(2) وهو كتاب الوسيط في الفروع للامام أبي حامد الغزالي الشافعي المتوفى سنة 505 (كشف الظنون 2 / 2008).
__________
(3) وهو كمال الدين محمد بن علي بن الواحد بن عبد الكريم بن خلف بن نبهان الانصاري الزملكاني الشافعي (شذرات الذهب 6 / 78 وبدائع الزهور 1 / 1 / 458 وتذكرة النبيه 2 / 172).

نسبه السماكي نسبة إلى أبي دجانة سماك بن خرشة والله أعلم.
ولد ليلة الاثنين ثامن شوال سنة ست (1) وستين وستمائة، وسمع الكثير واشتغل على الشيخ تاج الدين الفزاري، وفي الاصول على القاضي بهاء الدين بن الزكي، وفي النحو على بدر الدين بن ملك وغيرهم، وبرع وحصل وساد أقرانه من أهل مذهبه، وحاز قصب السبق عليهم بذهنه الوقاد في تحصيل العلم الذي أسهره ومنعه الرقاد وعبارته التي هي أشهى من كل شئ معتاد، وخطه الذي هو أنضر من أزاهير الوهاد، وقد درس بعدة مدارس بدمشق، وباشر عدة جهات كبار، كنظر الخزانة ونظر المارستان
النوري وديوان الملك السعيد، ووكالة بيت المال.
وله تعاليق مفيدة واختيارات حميدة سديدة، ومناظرات سعيدة.
ومما علقه قطعة كبيرة من شرح المنهاج للنووي، ومجلد في الرد على الشيخ تقي الدين بن تيمية في مسألة الطلاق وغير ذلك، وأما دروسه في المحافل فلم أسمع أحدا من الناس درس أحسن منها ولا أحلى من عبارته، وحسن تقريره، وجودة احترازاته، وصحة ذهنه وقوة قريحته وحسن نظمه، وقد درس بالشامية البرانية والعذراوية الجوانية والرواحية والمسرورية، فكان يعطي كل واحدة منهن حقها بحيث كان يكاد ينسخ بكل واحد من تلك الدروس ما قبله من حسنه وفصاحته، ولا يهيله تعداد الدروس وكثرة الفقهاء والفضلاء، بل كلما كان الجمع أكثر والفضلاء أكبر كان الدرس أنضر وأبهر وأحلى وأنصح وأفصح.
ثم لما انتقل إلى قضاء حلب وما معه من المدارس العديدة عامله معاملة مثلها، وأوسع بالفضيلة جميع أهلها، وسمعوا من العلوم ما لم يسمعوا هم ولا آباؤهم.
ثم طلب إلى الديار المصرية ليولي الشامية دار السنة النبوية فعاجلته المنية قبل وصوله إليها، فمرض وهو سائر على البريد تسعة أيام، ثم عقب المرض بحراق الحمام فقبضه هاذم اللذات، وحال بينه وبين سائر الشهوات والارادات، والاعمال بالنيات.
ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه، وكان من نيته الخبيثة إذا رجع إلى الشام متوليا أن يؤذي شيخ الاسلام ابن تيمية فدعا عليه فلم يبلغ أمله ومراده، فتوفي في سحر يوم الاربعاء سادس عشر شهر رمضان بمدينة بلبيس، وحمل إلى القاهرة ودفن بالقرافة ليلة الخميس جوار قبة الشافعي تغمدها الله برحمته.
الحاج علي المؤذن المشهور بالجامع الاموي الحاج علي بن فرج بن أبي الفضل الكتاني، كان أبوه من خيار المؤذنين، فيه صلاح ودين وله قبول عند الناس، وكان حسن الصوت جهوره، وفيه تودد وخدم وكرم، وحج غير مرة وسمع من أبي عمر وغيره، توفي ليلة الاربعاء ثالث ذي القعدة وصلي عليه غدوة، ودفن بباب الصغير.
وفي ذي القعدة توفي:
__________
(1) في بدائع الزهور وتذكرة النبيه: سبع وستين.
(انظر شذرات الذهب 6 / 7 8).

الشيخ فضل بن الشيخ الرجيحي التونسي وأجلس أخوه يوسف مكانه بالزاوية.
ثم دخلت سنة ثمان وعشرين وسبعمائة في ذي القعدة منها كانت وفاة شيخ الاسلام أبي العباس أحمد بن تيمية قدس الله روحه كما ستأتي ترجمة وفاته في الوفيات إن شاء الله تعالى.
استهلت هذه السنة وحكام البلاد هم المذكورون في التي قبلها سوى نائب مصر وقاضي حلب.
وفي يوم الاربعاء ثاني المحرم درس بحلقة صاحب حمص الشيخ الحافظ صلاح الدين العلائي، نزل له عنها شيخنا الحافظ المزي، وحضر عنده الفقهاء والقضاة والاعيان، وذكر درسا حسنا مفيدا.
وفي يوم الجمعة رابع المحرم حضر قاضي القضاة علاء الدين القونوي مشيخة الشيوخ بالسمساطية عوضا عن القاضي المالكي شرف الدين، وحضر عنده الفقهاء والصوفية على العادة.
وفي يوم الاحد ثامن عشر صفر درس بالمسرورية تقي الدين عبد الرحمن بن الشيخ كمال الدين بن الزملكاني عوضا عن جمال الدين بن الشريشي بحكم انتقاله إلى قضاء حمص، وحضر الناس عنده وترحموا على والده.
وفي يوم الاحد خامس عشرين صفر وصل إلى دمشق الامير الكبير صاحب بلاد الروم تمرتاش ابن جوبان، قاصدا إلى مصر، فخرج نائب السلطنة.
والجيش إلى تلقيه، وهو شاب حسن الصورة تام الشكل مليح الوجه.
ولما انتهى إلى السلطان بمصر أكرمه وأعطاه تقدمة ألف، وفرق أصحابه على الامراء وأكرموا إكراما زائدا، وكان سبب قدومه إلى مصر أن صاحب العراق الملك أبا سعيد (1) كان قد قتل أخاه جواجا رمشتق في شوال من السنة الماضية، فهم والده جوبان بمحاربة السلطان أبي سعيد فلم يتمكن من ذلك (2)، وكان جوبان إذ ذاك مدبر الممالك، فخا ف تمرتاش هذا عند ذلك من السلطان ففر هاربا بدمه إلى السلطان الناصر بمصر.
وفي ربيع الاول توجه نائب الشام سيف الدين تنكز إلى الديار المصرية لزيارة السلطان فأكرمه
واحترمه واشترى في هذه السفرة دار الفلوس التي بالقرب من البزوريين والجوزية، وهي شرقيها، وقد كان سوق البزورية اليوم يسمى سوق القمح، فاشترى هذه الدار وعمرها دارا هائلة ليس
__________
(1) وهو أبو سعيد بهادر بن خربندا بن أرغون بن أبغا بن هولاكو ولي الحكم نحو عشرين سنة 716 - 736 ه (الدرر الكامنة 2 / 34 معجم زامباور 2 / 362).
__________
(2) ثم قتله صاحب هراة (مختصر أخبار البشر 4 / 96 وفي تذكرة النبيه تم قتله هذه السنة 728 ه).

بدمشق دار أحسن منها، وسماها دار الذهب، وهدم حمام سويد تلقاءها وجعله دار قرآن وحديث في غاية الحسن أيضا، ووقف عليها أماكن ورتب فيها المشايخ والطلبة كما سيأتي تفصيله في موضعه، واجتاز برجوعه من مصر بالقدس الشريف وزاره وأمر ببناء حمام به، وبناء دار حديث أيضا به، وخانقاه كما يأتي بيانه.
وفي آخر ربيع الاول وصلت القناة إلى القدس التي أمر بعمارتها وتجديدها سيف الدين تنكز قطلبك، فقام بعمارتها مع ولاة تلك النواحي، وفرح المسلمون بها ودخلت حتى إلى شط المسجد الاقصى، وعمل به بركة هائلة، وهي مرخمة ما بين الصخرة والاقصى، وكان ابتداء عملها من شوال من السنة الماضية.
وفي هذه المدة عمر سقوف شرافات المسجد الحرام وإيوانه، وعمرت بمكة طهارة مما يلي باب بني شيبة.
قال البرزالي: وفي هذا الشهر كملت عمارة الحمام الذي بسوق باب توما، وله بابان.
وفي ربيع الآخر نقض الترخيم الذي بحائط جامع دمشق القبلي من جهة الغرب مما يلي باب الزيادة، فوجدوا الحائط متجافيا فخيف من أمره، وحضر تنكز بنفسه ومعه القضاة وأرباب الخبرة، فاتفق رأيهم على نقضه وإصلاحه، وذلك يوم الجمعة بعد الصلاة سابع عشرين ربيع الآخر وكتب نائب السلطنة إلى السلطان يعلمه بذلك ويستأذنه في عمارته، فجاء المرسوم بالاذن بذلك، فشرع في نقضه يوم الجمعة خامس عشرين جمادى الاولى، وشرعوا في عمارته يوم الاحد تاسع جمادى الآخرة، وعمل محراب فيما بين الزيادة ومقصورة الخطابة يضاهي محراب الصحابة، ثم جدوا ولازموا في عمارته، وتبرع كثير من الناس بالعمل فيه من سائر الناس، فكان يعمل فيه
كل من مائة رجل، حتى كملت عمارة الجدار وأعيدت طاقاته وسقوفه في العشرين من رجب وذلك بهمة تقي الدين بن مراجل وهذا من العجب فإنه نقض الجدار وما يسامته من السقف، وأعيد في مدة لا يتخيل إلى أحد أن عمله يفرغ فيما يقارب هذه المدة جزما، وساعدهم على سرعة الاعادة حجارة وجدوها في أساس الصومعة الغربية التي عند الغزالية، وقد كان في كل زاوية من هذا المعبد صومعة كما في الغربية والشرقية القبلتين منه فأبيدت السماليتين قديما ولم يبق منهما من مدة ألوف من السنين سوى أس هذا المأذنة الغربية الشمالية، فكانت من أكبر العون على إعادة هذا الجدار سريعا.
ومن العجب أن ناظر الجامع ابن مراجل لم ينقص أحدا من أرباب المرتبات على الجامع شيئا مع هذه العمارة.
وفي ليلة السبت خامس جمادى الاولى وقع حريق عظيم بالقرايين واتصل بالرماحين، واحترقت القيسارية والمسجد الذي هناك، وهلك للناس شئ كثير من الفرا والجوخ والاقمشة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفي يوم الجمعة عاشره بعد الصلاة صلي على القاضي شمس الدين بن الحريري قاضي قضاة الحنفية بمصر، وصلي عليه صلاة الغائب بدمشق.
وفي هذا اليوم قدم البريد يطلب برهان

الدين بن عبد الحق الحنفي إلى مصر ليلي القضاء بها بعد ابن الحريري، فخرج مسافرا إليها، ودخل مصر في خامس عشرين جمادى الاولى، واجتمع بالسلطان فولاه القضاء وأكرمه وخلع عليه وأعطاه بغلة بزناري، وحكم بالمدرسة الصالحية بحضرة القضاة والحجاب، ورسم له بجميع جهات ابن الحريري.
وفي يوم الاثنين تاسع جمادى الآخرة أخرج ما كان عند الشيخ تقي الدين بن تيمية من الكتب والاوراق والدواة والقلم، ومنع من الكتب والمطالعة، وحملت كتبه في مستهل رجب إلى خزانة الكتب بالعادلية الكبيرة.
قال البرزالي: وكانت نحو ستين مجلدا، وأربع عشرة ربطة كراريس، فنظر القضاة والفقهاء فيها وتفوقوها بينهم، وكان سبب ذلك أنه أجاب لما كان رد عليه
التقي ابن الاخنائي المالكي في مسألة الزيارة فرد عليه الشيخ تقي الدين واستجهله وأعلمه أنه قليل البضاعة في العلم، فطلع الاخنائي إلى السلطان وشكاه، فرسم السلطان عند ذلك بإخراج ما عنده من ذلك وكان ما كان، كما ذكرنا.
وفي أواخره رسم لعلاء الدين بن القلانسي في الدست، مكان أخيه جمال الدين توقيرا لخاطره عن المباشرة، وأن يكون معلومه على قضاء العساكر والوكالة، وخلع عليهما بذلك.
وفي يوم الثلاثاء ثالث عشرين رجب رسم للائمة الثلاثة الحنفي والمالكي والحنبلي بالصلاة في الحائط القبلي من الاموي، فعين المحراب الجديد الذي بين الزيادة والمقصورة للامام الحنفي، وعين محراب الصحابة للمالكي وعين محراب مقصورة الخضر الذي كان يصلي فيه المالكي للحنبلي، وعوض إمام محراب الصحابة بالكلاسة، وكان قبل ذلك في حال العمارة قد بلغ محراب الحنفية من المقصورة المعروفة بهم، ومحراب الحنابلة من خلفهم في الرواق الثالث الغربي وكانا بين الاعمدة، فنقلت تلك المحاريب، وعوضوا بالمحاريب المستقرة بالحائط القبلي واستقر الامر كذلك.
وفي العشرين من شعبان مسك الامير تمرتاش بن جوبان الذي أتى هاربا إلى السلطان الناصر بمصر وجماعة من أصحابه، وحبسوا بقلعة مصر، فلما كان ثاني (1) شوال أظهر موته، يقال إنه قتله السلطان وأرسل رأسه إلى أبي سعيد صاحب العراق ابن خربندا ملك التتار.
وفي يوم الاثنين ثاني شوال خرج الركب الشامي وأميره فخر الدين عثمان بن شمس الدين
__________
(1) في مختصر أخبار البشر 4 / 99: رابع شوال.
وعن سبب قتله قال: أن أبا سعيد كاتب السلطان في أمر تمرتاش بحكم الصلح، إلى جانب أن السلطان قد بلغه عنه انه أخذ أموال أهل بلاد الروم وظلمهم الظلم الفاحش، وحضور أباجي رسول أبي سعيد فبالغ في طلب تمرتاش فاقتضت المصلحة إعدامه، فأعدم بحضور أباجي (وانظر السلوك 2 / 292 النجوم الزاهرة 9 / 272).

لؤلؤ الحلبي أحد أمراء دمشق، وقاضيه قاضي قضاة الحنابلة عز الدين بن التقي سليمان.
وممن
حج الامير حسام الدين الشبمقدار، والامير قبجق والامير حسام الدين بن النجيبي وتقي الدين بن السلعوس وبدر الدين بن الصائغ وابنا جهبل والفخر المصري، والشيخ علم الدين البرزالي، وشهاب الدين الطاهري.
وقبل ذلك بيوم حكم القاضي المنفلوطي الذي كان حاكما ببعلبك بدمشق نيابة عن شيخه قاضي القضاة علاء الدين القونوي، وكان مشكور السيرة، تألم أهل بعلبلك لفقده، فحكم بدمشق عوضا عن القونوي بسبب عزمه على الحج، ثم لما رجع الفخر من الحج عاد إلى الحكم واستمر المنفلوطي يحكم أيضا، فصاروا ثلاث نواب: ابن جملة والفخر المصري والمنفلوطي.
وسافر ابن الحشيشي في ثاني عشرين شوال إلى القاهرة لينوب عن القاضي فخر الدين كاتب المماليك إلى حين رجوعه من الحجاز، فلما وصل ولى حجابة ديوان الجيش، واستمر هناك، واستقل قطب الدين ابن الشيخ السلامية بنظر الجيش بدمشق على عادته.
وفي شوال خلع على أمين الملك بالديار المصرية وولي نظر الدواوين فباشره شهرا ويومين وعزل عنه.
وفاة شيخ الاسلام أبي العباس تقي الدين أحمد بن تيمية قال الشيخ علم الدين البرزالي في تاريخه: وفي ليلة الاثنين العشرين من ذي القعدة توفي الشيخ الامام العالم العلم العلامة الفقيه الحافظ الزاهد العابد القدوة شيخ الاسلام تقي الدين أبو العباس أحمد ابن شيخنا الامام العلامة المفتي شهاب الدين أبي المحاسن عبد الحليم ابن الشيخ الامام شيخ الاسلام أبي البركات عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم محمد بن الخضر بن محمد ابن الخضر بن علي بن عبد الله بن تيمية الحراني ثم الدمشقي، بقلعة دمشق بالقاعة التي كان محبوسا بها، وحضر جمع كثير إلى القلعة، وأذن لهم في الدخول عليه، وجلس جماعة عنده قبل الغسل وقرأوا القرآن وتبركوا برؤيته وتقبيله، ثم انصرفوا، ثم حضر جماعة من النساء ففعلن مثل ذلك ثم انصرفن واقتصروا على من يغسله، فلما فرغ من غسله أخرج ثم اجتمع الخلق بالقلعة والطريق إلى الجامع وامتلا بالجامع أيضا وصحنه والكلاسة وباب البريد وباب الساعات إلى باب اللبادين والغوارة، وحضرت الجنازة في الساعة الرابعة من النهار أو نحو ذلك ووضعت في
الجامع، والجند قد احتاطوا بها يحفظونها من الناس من شدة الزحام، وصلي عليه أولا بالقلعة، تقدم في الصلاة عليه أولا الشيخ محمد بن تمام، ثم صلي عليه بالجامع الاموي عقيب صلاة الظهر، وقد تضاعف اجتماع الناس على ما تقدم ذكره، ثم تزايد الجمع إلى أن ضاقت الرحاب والازقة والاسواق بأهلها ومن فيها، ثم حمل بعد أن يصلي عليه على الرؤوس والاصابع، وخرج النعش به من باب البريد واشتد الزحام وعلت الاصوات بالبكاء والنحيب والترحم عليه والثناء والدعاء له، وألقى الناس على نعشه مناديلهم وعمائمهم وثيابهم، وذهبت النعال من أرجل

الناس وقباقيبهم ومناديل وعمائم لا يلتفتون إليها لشغلهم بالنظر إلى الجنازة، وصار النعش على الرؤوس تارة يتقدم وتارة يتأخر، وتارة يقف حتى تمر الناس، وخرج الناس من الجامع من أبوابه كلها وهي شديدة الزحام، كل باب أشد زحمة من الآخر، ثم خرج الناس من أبواب البلد جميعها من شدة الزحام فيها، لكن كان معظم الزحام من الابواب الاربعة: باب الفرج الذي أخرجت منه الجنازة، وباب الفراديس، وباب النصر، وباب الجابية.
وعظم الامر بسوق الخيل وتضاعف الخلق وكثر الناس، ووضعت الجنازة هناك وتقدم للصلاة عليه هناك أخوه زين الدين عبد الرحمن، فلم قضيت الصلاة حمل إلى مقبرة الصوفية فدفن إلى جانب أخيه شرف الدين عبد الله رحمهما الله، وكان دفنه قبل العصر بيسير، وذلك من كثرة من يأتي ويصلي عليه من أهل البساتين وأهل الغوطة وأهل القرى وغيرهم، وأغلق الناس حوانيتهم ولم يتخلف عن الحضور إلا من هو عاجز عن الحضور، مع الترحم والدعاء له، وأنه لو قدر ما تخلف، وحضر نساء كثيرات بحيث حزرن بخمسة عشر ألف امرأة، غير اللاتي كن على الاسطحة وغيرهن، الجميع يترحمن ويبكين عليه فما قيل.
وأما الرجال فحرزوا بستين ألفا إلى مائة ألف إلى أكثر من ذلك إلى مائتي ألف وشرب جماع الماء الذي فضل من غسله، واقتسم جماعة بقية السدر الذي غسل به، ودفع في الخيط الذي كان فيه الزئبق الذي كان في عنقه بسبب القمل مائة وخمسون درهما، وقيل إن الطاقية التي كانت على رأسه دفع فيها خمسمائة درهما.
وحصل في الجنازة ضجيج وبكاء كثير، وتضرع
وختمت له ختمات كثيرة بالصالحية وبالبلد، وتردد الناس إلى قبره أياما كثيرة ليلا ونهارا يبيتون عنده ويصبحون، ورئيت له منامات صالحة كثيرة، ورثاه جماعة بقصائد جمة.
وكان مولده يوم الاثنين عاشر ربيع الاول بحران سنة إحدى وستين وستمائة، وقدم مع والده وأهله إلى دمشق وهو صغير، فسمع الحديث من ابن عبد الدائم وابن أبي اليسر وابن عبدان والشيخ شمس الدين الحنبلي، والشيخ شمس الدين بن عطاء الحنفي، والشيخ جمال الدين بن الصيرفي، ومجد الدين بن عساكر والشيخ جمال الدين البغدادي والنجيب بن المقداد، وابن أبي الخير، وابن علان وابن أبي بكر اليهودي والكمال عبد الرحيم والفخر علي وابن شيبان والشرف ابن القواس، وزينب بنت مكي، وخلق كثير سمع منهم الحديث، وقرأ بنفسه الكثير وطلب الحديث وكتب الطباق والاثبات ولازم السماع بنفسه مدة سنين، وقل أن سمع شيئا إلا حفظه، ثم اشتغل بالعلوم، وكان ذكيا كثير المحفوظ فصار إماما في التفسير وما يتعلق به عارفا بالفقه، فيقال إنه كان أعرف بفقه المذاهب من أهلها الذي كانوا في زمانه وغيره، وكان عالما باختلاف العلماء، عالما في الاصول والفروع والنحو واللغة، وغير ذلك من العلوم النقلية والعقلية، وما قطع في مجلس ولا تكلم معه فاضل في فن من الفنون إلا ظن أن ذلك الفن فنه، ورآه عارفا به متقنا له، وأما الحديث فكان حامل رايته حافظا له مميزا بين صحيحه وسقيمه، عارفا برجاله متضلعا من ذلك، وله تصانيف كثيرة وتعاليق مفيدة في الاصول والفروع، كمل منها جملة وبيضت

وكتبت عنه وقرئت عليه أو بعضها، وجملة كبيرة لم يكملها، وجملة كملها ولم تبيض إلى الآن.
وأثنى عليه وعلى علومه وفضائله جماعة من علماء عصره، مثل القاضي الخويي، وابن دقيق العيد، وابن النحاس، والقاضي الحنفي قاضي قضاة مصر ابن الحريري وابن الزملكاني وغيرهم، ووجدت بخط ابن الزملكاني أنه قال: اجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها، وأن له اليد الطولى في حسن التصنيف وجودة العبارة والترتيب والتقسيم والتدين، وكتب على تصنيف له هذه الابيات:
ماذا يقول الواصفون له * وصفاته جلت عن الحصر هو حجة لله قاهرة * هو بيننا (1) أعجوبة الدهر هو آية في الخلق ظاهرة (2) * أنوارها أربت على الفجر وهذا الثناء عليه، وكان عمره يومئذ نحو ستين سنة، وكان بيني وبينه مودة وصحبة من الصغر، وسماع الحديث والطلب من نحو سنة وله فضائل كثيرة، وأسماء مصنفاته وسيرته وما جرى بينه وبين الفقهاء والدولة وحبسه مرات وأحواله لا يحتمل ذكر جميعها هذا الموضع، وهذا الكتاب.
ولما مات كنت غائبا عن دمشق بطريق الحجاز، ثم بلغنا خبر موته بعد وفاته بأكثر من خمسين يوما لما وصلنا إلى تبوك، وحصل التأسف لفقده رحمه الله تعالى.
هذا لفظه في هذا الموضع من تاريخه.
ثم ذكر الشيخ علم الدين بعد إيراد هذه الترجمة جنازة أبي بكر بن أبي داود وعظمها، وجنازة الامام أحمد ببغداد وشهرتها، وقال الامام أبو عثمان الصابوني: سمعت أبا عبد الرحمن السيوفي يقول: حضرت جنازة أبي الفتح القواس الزاهد مع الشيخ أبي الحسن الدار قطني فلما بلغ إلى ذلك الجمع العظيم أقبل علينا وقال سمعت أبا سهل بن زياد القطان يقول سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل يقول سمعت أبي يقول: قولوا لاهل البدع بيننا وبينكم الجنائز، قال ولا شك أن جنازة أحمد ابن حنبل كانت هائلة عظيمة، بسبب كثرة أهل بلده واجتماعهم لذلك، وتعظيمهم له، وأن الدولة كانت تحبه، والشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله توفي ببلدة دمشق، وأهلها لا يعشرون أهل بغداد حينئذ كثرة، ولكنهم اجتمعوا لجنازته اجتماعا لو جمعهم سلطان قاهر، وديوان حاصر لما بلغوا هذه الكثرة التي اجتمعوها في جنازته، وانتهوا إليها.
هذا مع أن الرجل مات بالقلعة محبوسا من جهة السلطان، وكثير من الفقهاء والفقراء يذكرون عنه للناس أشياء كثيرة، مما ينفر منها طباع أهل
__________
(1) في تذكرة النبيه 2 / 187: هو بيت.
__________
(2) في عقد الجمان وفيات سنة 728 ه وشذرات الذهب 6 / 83: هو آية للخلق ظاهرة.

الاديان، فضلا عن أهل الاسلام.
وهذه كانت جنازته.
قال: وقد اتفق موته في سحر ليلة الاثنين المذكور، فذكر ذلك مؤذن القلعة على المنارة بها وتكلم به الحراس على الابرجة، فما أصبح الناس إلا وقد تسامعوا بهذا الخطيب العظيم والامر الجسيم، فبادر الناس على الفور إلى الاجتماع حول القلعة من كل مكان أمكنهم المجئ منه، حتى من الغوطة والمرج، ولم يطبخ أهل الاسواق شيئا، ولا فتحوا كثيرا من الدكاكين التي من شأنها أن تفتح أوائل النهار على العادة، وكان نائب السلطنة تنكز قد ذهب يتصيد في بعض الامكنة، فحارت الدولة ماذا يصنعون، وجاء الصاحب شمس الدين غبريال نائب القلعة فعزاه فيه، وجلس عنده، وفتح باب القلعة لمن يدخل من الخواص والاصحاب والاحباب، فاجتمع عند الشيخ في قاعته خلق من أخصاء أصحابه من الدولة وغيرهم من أهل البلد والصالحية، فجلسوا عنده يبكون ويثنون * على مثل ليلى يقتل المرء نفسه * وكنت فيمن حضر هناك مع شيخنا الحافظ أبي الحجاج المزي رحمه الله، وكشفت عن وجه الشيخ ونظرت إليه وقبلته، وعلى رأسه عمامة بعذب مغروزة وقد علاه الشيب أكثر مما فارقناه.
وأخبر الحاضرين أخوه زين الدين عبد الرحمن أنه قرأ هو والشيخ منذ دخل القلعة ثمانين ختمة وشرعا في الحادية والثمانين، فانتهينا فيها إلى آخر اقتربت الساعة (إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر) [ القمر: 55 ] فشرع عند ذلك الشيخان الصالحان الخيران عبد الله بن المحب وعبد الله الزرعي الضرير - وكان الشيخ رحمه الله يحب قراءتهما - فابتدآ من أول سورة الرحمن حتى ختموا القرآن وأنا حاضر أسمع وأرى.
ثم شرعوا في غسل الشيخ وخرجت إلى مسجد هناك ولم يدعوا عنده إلا من ساعد في غسله، منهم شيخنا الحافظ المزي وجماعة من كبار الصالحين والاخيار، أهل العلم والايمان، فما فرغ منه حتى امتلات القلعة وضج الناس بالبكا والثناء والدعاء والترحم، ثم ساروا به إلى الجامع فسلكوا طريق العمادية على العادلية الكبيرة، ثم عطفوا على ثلث الناطفانيين، وذلك أن سويقة باب البريد كانت قد هدمت لتصلح، ودخلوا بالجنازة إلى الجامع الاموي، والخلائق فيه بين يدي الجنازة وخلفها وعن
يمينها وشمالها ما لا يحصي عدتهم إلا الله تعالى، فصرخ صارخ وصاح صائح هكذا تكون جنائز أئمة السنة فتباكى الناس وضجوا عند سماع هذا الصارخ ووضع الشيخ في موضع الجنائز مما يلي المقصورة، وجلس الناس من كثرتهم وزحمتهم على غير صفوف، بل مرصوصين رصا لا يتمكن أحد من السجود إلا بكلفة جو الجامع وبرى الازقة والاسواق، وذلك قبل أذان الظهر بقليل، وجاء الناس من كل مكان، وقوي خلق الصيام لانهم لا يتفرغون في هذا اليوم لاكل ولا لشرب، وكثر الناس كثرة لا تحد ولا توصف، فلما فرغ من أذان الظهر أقيمت الصلاة عقبه على السدة خلاف العادة، فلما فرغوا من الصلاة خرج نائب الخطيب لغيبة الخطيب بمصر فصلى عليه إماما، وهو الشيخ علاء الدين الخراط، ثم خرج الناس من كل مكان من أبواب الجامع والبلد كما ذكرنا، واجتموا

بسوق الخيل، ومن الناس من تعجل بعد أن صلى في الجامع إلى مقابر الصوفية، والناس في بكاء وتهليل في مخافته كل واحد بنفسه، وفي ثناء وتأسف، والنساء فوق الاسطحة من هناك إلى المقبرة يبكين ويدعين ويقلن هذا العالم.
وبالجملة كان يوما مشهودا لم يعهد مثله بدمشق إلا أن يكون في زمن بني أمية حين كان الناس كثيرين، وكانت دار الخلافة، ثم دفن عند أخيه قريبا من أذان العصر على التحديد، ولا يمكن أحد حصر من حضر الجنازة، وتقريب ذلك أنه عبارة عمن أمكنه الحضور من أهل البلد وحواضره ولم يتخلف من الناس إلا القليل من الصغار والمخدرات، وما علمت أحدا من أهل العلم إلا النفر اليسير تخلف عن الحضور في جنازته، وهم ثلاثة أنفس: وهم ابن جملة، والصدر، والقفجاري، وهؤلاء كانوا قد اشتهروا بمعاداته فاختفوا من الناس خوفا على أنفسهم، بحيث إنهم علموا متى خرجوا قتلوا وأهلكهم الناس، وتردد شيخنا الامام العلامة برهان الدين الفزاري إلى قبره في الايام الثلاثة وكذلك جماعة من علماء الشافعية، وكان برهان الدين الفزاري يأتي راكبا على حماره وعليه الجلالة والوقار رحمه الله.
وعملت له ختمات كثيرة ورئيت له منامات صالحة عجيبة، ورثي بأشعار كثيرة وقصائد مطولة
جدا.
وقد أفردت له تراجم كثيرة، وصنف في ذلك جماعة من الفضلاء وغيرهم، وسألخص من مجموع ذلك ترجمة وجيزة في ذكر مناقبه وفضائله وشجاعته وكرمه ونصحه وزهادته وعبادته وعلومه المتنوعة الكثيرة المجودة وصفاته الكبار والصغار، التي احتوت على غالب العلوم ومفرداته في الاختيارات التي نصرها بالكتاب والسنة وأفتى بها.
وبالجملة كان رحمه الله من كبار العلماء وممن يخطئ ويصيب ولكن خطأه بالنسبة إلى صوابه كنقطة في بحر لجي، وخطأه أيضا مغفور له كما في صحيح البخاري: " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر " فهو مأجور.
وقال الامام مالك بن أنس: كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر.
وفي سادس عشرين ذي القعدة نقل تنكز حواصله وأمواله من دار الذهب داخل باب الفراديس إلى الدار التي أنشأها، تعرف بدار فلوس، فسميت دار الذهب، وعزل خزنداره ناصر الدين محمد ابن عيسى، وولي مكانه مملوكه أباجي.
وفي ثامن عشرين ذي القعدة جاء إلى مدينة عجلون سيل عظيم من أول النهار إلى وقت العصر، فهدم من جامعها وأسواقها ورباعها ودورها شيئا كثيرا، وغرق سبعة نفر، وهلك للناس شئ كثير من الاموال والغلات والامتعة والمواشي ما يقارب قيمته ألف ألف درهم (1) وإنا لله وإنا إليه راجعون.
__________
(1) في تذكرة النبيه 2 / 190: خمسمائة ألف درهم.

وفي يوم الاحد ثامن عشر ذي الحجة ألزم القاضي الشافعي الشيخ علاء الدين القونوي جماعة الشهود بسائر المراكز أن يرسلوا في عمائمهم العذبات ليتميزوا بذلك عن عوام الناس، ففعلوا ذلك أياما ثم تضرروا من ذلك فأرخص لهم في تركها، ومنهم من اشتمر بها.
وفي يوم الثلاثاء عشرين ذي الحجة أفرج عن الشيخ الامام العالم العلامة أبي عبد الله شمس الدين بن قيم الجوزية، وكان معتقلا بالقلعة أيضا، من بعد اعتقال الشيخ تقي الدين بأيام من شعبان سنة ست وعشرين إلى هذا الحين، وجاء الخبر بأن السلطان أفرج عن الجاولي والامير فرج بن قراسنقر، ولاجين المنصوري، وأحضروا
بعد العيد بين يديه، وخلع عليهم.
وفيه وصل الخبر بموت الامير الكبير جوبان نائب السلطان أبي سعيد على تلك البلاد، ووفاة قراسنقر المنصوري أيضا كلاهما في القعدة من هذه السنة.
وجوبان هذا هو الذي ساق القناة الواصلة إلى المسجد الحرام، وقد غرم عليها أموالا جزيلة كثيرة، وله تربة بالمدينة النبوية، ومدرسة مشهورة، وله أثار حسنة، وكان جيد الاسلام له همه عالية وقد دبر الممالك في أيام أبي سعيد مدة طويلة على السداد، ثم أراد أبو سعيد مسكه فتخلص من ذلك كما ذكرنا، ثم إن أبا سعيد قتل ابنه خواجا رمشق في السنة الماضية ففر ابنه الآخر تمرتاش هاربا إلى سلطان مصر، فآواه شهرا ثم ترددت الرسل بين الملكين في قتله فقتله صاحب مصر فيما قيل وأرسل برأسه إليه، ثم توفي أبوه بعده بقليل، والله أعلم بالسرائر.
وإما قراسنقر المنصوري فهو من جماعة كبار أمراء مصر والشام، وكان من جملة من قتل الاشرف خليل بن المنصور كما تقدم، ثم ولي نيابة مصر مدة، ثم صار إلى نيابة دمشق ثم إلى نيابة حلب، ثم فر إلى التتر هو الافرم والزركاشي فآواهم ملك التتار خربندا وأكرمهم وأقطعهم بلادا كثيرة، وتزوج قراسنقر بنت هولاكو ثم كانت وفاته بمراغة (1) بلده التي كان حاكما بها في هذه السنة، وله نحو تسعين (2) سنة والله أعلم.
وممن توفي فيها من الاعيان شيخ الاسلام العلامة تقي الدين بن تيمية كما تقدم ذكر ذلك في الحوادث وسنفرد له ترجمة على حدة إن شاء الله تعالى.
الشريف العالم عز الدين عز الدين أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن عبد المحسن العلوي الحسيني العراقي الاسكندري الشافعي، سمع الكثير وحفظ الوجيز في الفقه، والايضاح في النحو، وكان زاهدا متقللا من الدنيا وبلغ تسعين سنة وعقله وعلمه وذهنه ثابت متيقظ، ولد سنة ثمان وثلاثين وستمائة، وتوفي يوم الجمعة خامس المحرم، ودفن بالاسكندرية بين المادين رحمه الله.
__________
(1) مراغة: بلدة مشهور وعظيمة، من أشهر بلاد أذربيجان (تقويم البلدان لابي الفداء ص 399).
__________
(2) في تذكرة النبيه 2 / 183: سبعين.

الشمس محمد بن عيسى التكريدي كانت فيه شهامه وحزامه، وكان يكون بين يدي الشيخ تقي الدين بن تيمية كالمنفذ لما يأمر به وينهى عنه.
ويرسله الامراء وغير هم في الامور المهمة، وله معرفة وفهم بتبليغ رسالته على أتم الوجوه توفي في الخامس صفر بالقبيبات ودفن عند الجامع الكريمي رحمه الله تعالى.
الشيخ أبو بكر الصالحالي أبو بكر بن شرف بن محسن بن معن بن عمان الصالحي، ولد سنة ثلاث وخمسين وستمائة، وسمع الكثير صحبة الشيخ تقي الدين بن تيمية والمزي، كان ممن يحب الشيخ تقي الدين، وكان معهما كالخادم لهما، وكان فقيرا ذا عيال يتناول من الزكاة والصدقات ما يقوم بأوده، وأقام في آخر عمره بحمص، وكان فصيحا مفوها، له تعاليق وتصانيف في الاصول وغيرها، وكان له عبادة وفيه خير وصلاح، وكان يتكلم على الناس بعد صلاة الجمعة إلى العصر من حفظه، وقد اجتمعت بأمره صحبة شيخنا المزي حين قدم من حمص فكان قوي العبارة فصيحها متوسطا بالعلم، له ميل إلى التصوف والكلام في الاحوال والاعمال والقلوب وغير ذلك، وكان يكثر ذكر الشيخ تقي الدين بن تيمية.
توفي بحمص في الثاني والعشرين من صفر من هذه السنة، وقد كان الشيخ يحض الناس على الاحسان إليه، وكان يعطيه ويرفده.
ابن الدواليبي البغدادي الشيخ الصالح العالم العابد الرحلة المسند المعمر عفيف الدين أبو عبد الله محمد بن عبد المحسن بن أبي الحسين (1) بن عبد الغفار البغدادي الارجي الحنبلي المعروف بابن الدواليبي، شيخ دار الحديث المستنصرية (2)، ولد في ربيع الاول سنة ثمان وثلاثين وستمائة، وسمع الكثير، وله إجازات عالية، واشتغل بحفظ الخرقي، وكان فاضلا في النحو وغيره، وله شعر حسن، وكان رجلا صالحا جاوز التسعين وصار رحلة العراق، وتوفي يوم الخميس رابع جمادى الاولى ودفن بمقبرة الامام أحمد مقابر الشهداء رحمه الله، وقد أجازني فيمن أجاز من مشايخ بغداد ولله الحمد.
قاضي القضاة شمس الدين ابن الحريري أبو عبد الله محمد بن صفي الدين أبي عمرو عثمان بن أبي الحسن عبد الوهاب الانصاري
__________
(1) في تذكرة النبيه 2 / 184 وشذرات الذهب 6 / 88: أبي الحسن.
__________
(2) المدرسة المستنصرية ببغداد، أنشأها الخليفة المستنصر بالله أبو جعفر المنصور المتوفى سنة 640 ه ووقفها على المذاهب الاربعة، وهي أول مدرسة في الدولة الاسلامية تدرس المذاهب الاربعة (شذرات الذهب 6 / 209) وقد بدأ بتشييدها سنة 625 وانتهى من بنائها سنة 631 ه.

الحنفي، ولد سنة ثلاث وخمسين، وسمع الحديث واشتغل وقرأ الهداية، وكان فقيها جيدا، ودرس بأماكن كثيرة (1) بدمشق، ثم ولي القضاء بها، ثم خطب إلى قضاء الديار المصرية فاستمر بها مدة طويلة محفوظ العرض، لا يقبل من أحد هدية ولا تأخذه في الحكم لومة لائم، وكان يقول إن لم يكن ابن تيمية شيخ الاسلام فمن ؟ وقال لبعض أصحابه: أتحب الشيخ تقي الدين ؟ قال: نعم، قال: والله لقد أحببت شيئا مليحا.
توفي رحمه الله يوم السبت رابع جمادى الآخرة ودفن بالقرافة، وكان قد عين لمنصبه القاضي برهان الدين بن عبد الحق فنفذت وصيته بذلك، وأرسل إليه إلى دمشق فأحضر فباشر الحكم بعده وجميع جهاته.
الشيخ الامام العالم المقري شهاب الدين أبو العباس أحمد بن الشيخ الامام تقي الدين محمد بن جبارة بن عبد الولي بن جبارة المقدسي المرداوي الحنبلي، شارح الشاطبية، ولد سنة تسع وأربعين وستمائة، وسمع الكثير وعني بفن القراءات فبرز فيه، وانتفع الناس به، وقد أقام بمصر مدة واشتغل بها على الفزاري في أصول الفقه، وتوفي بالقدس رابع رجب رحمه الله، كان يعد من الصلحاء الاخيار، سمع عن خطيب مردا وغيره.
ابن العاقولي البغدادي الشيخ الامام العلامة جمال الدين أبو محمد عبد الله بن محمد بن علي بن حماد بن تائب (2)
لواسطي العاقولي ثم البغدادي الشافعي، مدر س المستنصرية مدة طويلة نحوا من أربعين سنة، وباشر نظر الاوقاف وعين لقضاء القضاة في وقت.
ولد ليلة الاحد عاشر رجب سنة ثمان وثلاثين وستمائة، وسمع الحديث وبرع واشتغل وأفتى من سنة سبع وخمسين إلى أن مات، وذلك مدة إحدى وسبعين سنة، وهذا شئ غريب جدا، وكان قوي النفس له وجاهة في الدولة، فكم كشف كربة عن الناس بسعيه وقصده، توفي ليلة الاربعاء رابع عشرين شوال، وقد جاوز التسعين سنة، ودفن بداره، وكان قد وقفها على شيخ وعشرة صبيان يسمعون القرآن ويحفظونه، ووقف عليها أملاكه كلها.
تقبل الله منه ورحمه، ودرس بعده بالمستنصرية قاضي القضاة قطب الدين.
الشيخ الصالح شمس الدين السلامي شمس الدين محمد بن داود بن محمد بن ساب، السلامي البغدادي، أحد ذوي اليسار،
__________
(1) درس بالصادرية والظاهرية والخاتونية الجوانية والبرانية (تذكرة النبيه 2 / 182).
__________
(2) في تذكرة النبيه 2 / 188: ثابت.

وله بر تام بأهل العلم، ولا سيما أصحاب الشيخ تقي الدين، وقد وقف كتبا كثيرة، وحج مرات، وتوفي ليلة الاحد رابع عشرين ذي القعدة بعد وفاة الشيخ تقي الدين بأربعة أيام، وصلي عليه بعد صلاة الجمعة ودفن باب الصغير رحمه الله وأكرم مثواه.
وفي هذه الليلة توفيت الوالدة مريم بنت فرج بن علي بن قرية كان الوالد خطيبها، وهي مجيدل القرية سنة ثلاث وسبعين وستمائة، وصلي عليها بعد الجمعة ودفنت بالصوفية شرقي قبر الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمهما الله تعالى.
ثم دخلت سنة تسع وعشرين وسبعمائة استهلت والخليفه والحكام هم المباشرون في التي قبلها، غير أن قطب الدين ابن الشيخ السلامية اشتغل بنظر الجيش.
وفي المحرم طلب القاضي محيي الدين بن فضل الله كاتب سر دمشق وولده شهاب الدين، وشرف الدين بن شمس الدين بن الشهاب محمود إلى مصر على
البريد، فباشر القاضي الصدر الكبير محيي الدين المذكور كتابة السر بها عوضا عن علاء الدين بن الاثير لمرض اعتراه، وأقام عنده ولده شهاب الدين، وأقبل شرف الدين الشهاب محمود إلى دمشق على كتابة السر عوضا عن ابن فضل الله.
وفيه ذهب ناصر الدين مشد الاوقاف ناظرا على القدس والخليل، فعمر هنالك عمارات كثيرة لملك الامراء تنكز، وفتح في الاقصى شباكين عن يمين المحراب وشماله وجاء الامير نجم الدين داود بن محمد بن أبي بكر بن محمد بن يوسف بن الزيبق من شد الدواوين بحمص إلى شدها بدمشق.
وفي الحادي والعشرين من صفر كمل ترخيم الحائط القبلي من جامع دمشق وبسط الجامه جميعه، وصلى الناس الجمعة به من الغد، وفتح باب الزيادة، وكان له أياما مغلقا وذلك في مباشرة تقي الدين بن مراجل.
وفي ربيع الآخر قدم من مصر أولاد الامير شمس الدين قراسنقر إلى دمشق فسكنوا في دار أبيهم داخل باب الفراديس، في دهليز المقدمية، وأعيدت عليهم أملاكهم المخلفة عن أبيهم، وكانت تحت الحوطة، فلما مات في تلك البلاد أفرج عنها أو أكثرها.
وفي يوم الجمعة آخر شهر ربيع الآخر أنزل الامير جوبان وولده من قلعة المدينة النبوية وهما ميتان مصبران في توابيتهما، فصلي عليهما بالمسجد النبوي، ثم دفنا بالبقيع عن مرسوم السلطان، وكان مراد جوبان أن يدفن في مدرسته فلم يمكن من ذلك.
وفي هذا اليوم صلي بالمدينة النبوية على الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله، وعلى القاضي نجم الدين البالسي المصري صلاة الغائب.
وفي يوم الاثنين منتصف جمادى الآخرة درس القاضي شهاب الدين أحمد بن جهبل بالمدرسة البادرائية عوضا عن شيخنا برهان الدين الفزاري توفي إلى رحمة الله تعالى، وأخذ مشيخة دار الحديث منه الحافظ شمس الدين الذهبي، وحضرها في يوم

الاربعاء سابع عشره، ونزل عن خطابة بطنا للشيخ جمال الدين الملاتي المالكي، فخطب بها يوم الجمعة تاسع عشره.
وفي أواخر هذا الشهر قدم نائب حلب الامير سيف الدين أرغون إلى دمشق قاصدا باب السلطان، فتلقاه نائب دمشق وأنزله بداره التي عند جامعه، ثم سار نحو مصر فغاب
نحوا من أربعين يوما، ثم عاد راجعا إلى نيابة حلب.
وفي عاشر رجب طلب الصاحب تقي الدين ابن عمر بن الوزير شمس الدين بن السلعوس إلى مصر فولي نظر الدواوين بها حتى مات عن قريب.
وخرج الركب يوم السبت تاسع شوال وأميره سيف الدين بلطي، وقاضيه شهاب الدين القيمري وفي الحجاج زوجة ملك الامراء تنكز، وفي خدمتها الطواشي شبل الدولة وصدر الدين المالكي، وصلاح الدين ابن أخي الصاحب تقي الدين توبة، وأخوه شرف الدين، والشيخ علي المغربي، والشيخ عبد الله الضرير وجماعة.
وفي بكرة الاربعاء ثالث شوال جلس القاضي ضياء الدين علي بن سليم بن ربيعة للحكم بالعادلية الكبيرة نيابة عن قاضي القضاة القونوي، وعوضا عن الفخر المصري بحكم نزوله عن ذلك وإعراضه عنه تاسع عشر رمضان من هذه السنة.
وفي يوم الجمعة سادس ذي القعدة بعد أذان الجمعة صعد إلى منبر جامع الحكم بمصر شخص من مماليك الجاولي يقال له أرصى، فادعى أنه المهدي وسجع سجعات يسيرة على رأي الكهان، فأنزل في شرخيبة، وذلك قبل حضور الخطيب بالجامع المذكور.
وفي ذي القعدة وما قبله وما بعده من أواخر هذه السنة وأوائل الاخرى وسعت الطرقات والاسواق داخل دمشق وخارجها، مثل سوق السلاح والرصيف والسوق الكبير وباب البريد ومسجد القصب إلى الزنجبيلية (1)، وخارج باب الجابية إلى مسجد الدبان، وغير ذلك من الاماكن التي كانت تضيق عن سلوك الناس، وذلك بأمر تنكز، وأمر بإصلاح القنوات، واستراح الناس من ترتيش الماء عليهم بالنجاسات.
ثم في العشر الاخير من ذي الحجة رسم بقتل الكلاب فقتل منه شئ كثير جدا، ثم جمعوا خارج باب الصغير مما يلي باب كيسان في الخندق، وفرق بين الذكور منهم والاناث ليموتوا سريعا، ولا يتوالدوا، وكانت الجيف والميتات تنقل إليهم فاستراح الناس من النجاسة من الماء والكلاب، وتوسعت لهم الطرقات.
وفي يوم الجمعة ثاني عشر ذي الحجة حضر مشيخة الشيوخ بالسمساطية قاضي القضاة شرف الدين المالكي بعد وفاة قاضي القضاة القونوي الشافعي، وقرئ تقليده بالسبحة بها وحضره
الاعيان وأعيد إلى ما كان عليه.
__________
(1) المدرسة الزنجبيلية (الزنجيلية) هي المدرسة الزنجارية، أنشأها الامير عثمان بن علي الزنجيلي (الزنجبيلي) المتوفى سنة 626 ه.
(الدارس 1 / 526).

وممن توفي فيها من الاعيان: الامام العالم نجم الدين نجم الدين أبو عبد الله محمد بن عقيل بن أبي الحسن بن عقيل البالسي الشافعي، شارح التنبيه (1)، ولد سنة ستين وستمائة، وسمع الحديث واشتغل بالفقه وغيره من فنون العلم، فبرع فيها ولازم ابن دقيق العيد وناب عنه في الحكم، ودرس بالمغربية والطيبرسية وجامع مصر، وكان مشهورا بالفضيلة والديانة وملازمة الاشتغال.
توفي ليلة الخميس رابع عشر المحرم ودفن بالقرافة، وكانت جنازته حافلة، رحمه الله.
الامير سيف الدين قطلوبك التشنكير الرومي كان من أكابر الامراء وولي الحجوبية في وقت، وهو الذي عمر القناة بالقدس، توفي يوم الاثنين سابع ربيع الاول ودفن بتربته شمال باب الفراديس، وهي مشهورة حسنة، وحضر جنازته بسوق الخيل النائب والامراء.
محدث اليمن شرف الدين أحمد بن فقيه زبيد أبي الحسين بن منصور الشماخي المذحجي، روى عن المكيين وغيرهم، وبلغت شيوخه خمسمائة أو أزيد، وكان رحلة تلك البلاد ومفيدها الخير، وكان فاضلا في صناعة الحديث والفقه وغير ذلك، توفي في ربيع الاول من هذه السنة.
نجم الدين أبو الحسن علي بن محمد بن عمر بن عبد الرحمن بن عبد الواحد أبو محمد بن المسلم أحد رؤساء دمشق المشهورين، له بيت كبير ونسب عريق، ورياسة باذخة وكرم زائد، باشر نظر الايتام مدة،
وسمع الكثير وحدث، وكان لديه فضائل وفوائد، وله الثروة الكثيرة، وله سنة تسع وأربعين وستمائة، ومات يوم الاثنين ضحوة خامس ربيع الآخر، وصلي عليه بعد الظهر بالاموي، ودفن بسفح قاسيون بتربة أعدها لنفسه، وقبران عنده، وكتب على قبره (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمه الله إن الله يغفر الذنوب جميعا) الآية [ الزمر: 53 ]، وسمعنا عليه الموطأ وغيره.
__________
(1) وهو كتاب التنبيه في فروع الشافعية للشيخ أبي إسحاق ابراهيم بن علي الفقيه الشافعي المتوفى سنة 476 ه (كشف الظنون 1 / 489).

الامير بكتمر الحاجب صاحب الحمام المشهور خارج باب النصر في طريق مقابر الصوفية من ناحية الميدان، كانت وفاته بالقاهرة في عشرين ربيع الآخر، ودفن بمدرسته التي أنشأها إلى جانب داره هناك.
الشيخ شرف الدين عيسى بن محمد بن قراجا بن سليمان السهروردي الصوفي الواعظ، له شعر ومعرفة بالالحان والانغام، ومن شعره قوله: بشراك يا سعد هذا الحي قد بانا * فحلها سيبطل الابل والبانا (1) منازل ما وردنا طيب منزلها * حتى شربنا كؤوس الموت أحيانا متنا غراما وشوقا في المسير لها * فمنذوا في نسيم القرب أحيانا توفي في ربيع الآخر.
شيخنا العلامة برهان الدين الفزاري هو الشيخ الامام العالم العلامة شيخ المذهب وعلمه ومفيد أهله، شيخ الاسلام مفتي الفرق بقية السلف برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم ابن الشيخ تاج الدين أبي محمد عبد الرحمن ابن الشيخ الامام المقري المفتي برهان الدين أبي إسحاق إبراهيم بن سباع بن ضياء الفزاري المصري الشافعي، ولد في ربيع الاول سنة ستين وستمائة، وسمع الحديث واشتغل على أبيه وأعاد
في حلقته وبرع وساد أقرانه، وسائر أهل زمانه من أهل مذهبه في دارية المذهب ونقله وتحريره، ثم كان في منصب أبيه في التدريس بالبادرائية، وأشغل الطلبة بالجامع الاموي فانتفع به المسلمون، وقد عرضت عليه المناصب الكبار فأباها، فمن ذلك أنه باشر الخطابة بعد عمه العلامة شرف الدين مدة ثم تركها وعاد إلى البادرائية، وعرض عليه قضاء قضاة الشام بعد ابن صصرى وألح نائب الشام عليه بنفسه وأعوانه من الدولة فلم يقبل، وصمم وامتنع أشد الامتناع، وكان مقبلا على شأنه عارفا بزمانه مستغرقا أوقاته في الاشتغال والعبادة ليلا ونهارا، كثير المطالعة وإسماع الحديث، وقد سمعنا عليه صحيح مسلم وغيره، وكان يدرس بالمدرسة المذكورة، وله تعليق كثير على التنبيه، فيه من الفوائد ما ليس يوجد في غيره، وله تعليق على مختصر ابن الحاجب في أصول الفقه، وله مصنفات في غير ذلك كبار.
وبالجملة فلم أر شافعيا من مشايخنا مثله، وكان حسن الشكل عليه البهاء والجلالة والوقار، حسن الاخلاق، فيه حدة ثم يعود قريبا، وكرمه زائد
__________
(1) كذا بالاصل، العجز غير مستقيم الوزن.

وإحسانه إلى الطلبة كثير، وكان لا يقتني شيئا ويصرف مرتبه وجامكية مدرسته في مصالحه، وقد درس بالادرائية من سنة سبعين وستمائة إلى عامه هذا، توفي بكرة يوم الجمعة سابع جمادى الاولى بالمدرسة المذكورة، وصلي عليه عقب الجمعة بالجامع وحملت جنازته على الرؤوس وأطراف الانامل، وكانت حافلة، ودفن عند أبيه وعمه وذويه بباب الصغير رحمه الله تعالى.
الشيخ الامام العالم الزاهد الورع مجد الدين إسماعيل الحراني الحنبلي، ولد سنة ثمان (1) وأربعين وستمائة، وقرأ القراءات وسمع الحديث في دمشق حين انتقل مع أهله إليها سنة إحدى وسبعين، واشتغل على الشيخ شمس الدين بن أبي عمر، ولازمه وانتفع به، وبرع في الفقه وصحة النقل وكثرة الصمت عما لا يعنيه، ولم يزل مواظبا على جهاته ووظائفه لا ينقطع عنها إلا من عذر شرعي، إلى أن توفي ليلة الاحد تاسع جمادى الاولى ودفن بباب الصغير رحمه الله.
وفي هذا الحين توفي:
الصاحب شرف الدين يعقوب بن عبد الله (2) الذي كان ناظر الدواوين بحلب، ثم انتقل إلى نظرها بطرابلس.
توفي بحماة، وكان محبا للعلماء وأهل الخير، وفيه كرم وإحسان، وهو والد القاضي ناصر الدين كاتب السر بدمشق، وقاضي العساكر الحلبية ومشيخة الشيوخ بالسمساطية، ومدرس الاسدية بحلب، والناصرية والشامية الجوانية بدمشق.
القاضي معين الدين هبة الله بن علم الدين مسعود بن أبي المعالي عبد الله بن أبي الفضل بن الخشيشي (3) الكاتب وناظر الجيش بمصر في بعض الاحيان، ثم بدمشق مدة طويلة مستقلا ومشاركا لقطب الدين ابن شيخ السلامية، وكان خبيرا بذلك يحفظه على ذهنه، وكانت له يد جيدة في العربية والادب والحساب وله نظم جيد، وفيه تردد وتواضع.
توفي بمصر (4) في نصف جمادى الآخرة ودفن بتربة الفخر كاتب المماليك.
__________
(1) في شذرات الذهب 6 / 89: سنة خمس أو ست وأربعين وستمائة.
__________
(2) في تذكرة النبيه 2 / 196 ورد اسمه: يعقوب بن عبد الكريم المصري.
__________
(3) في تذكرة النبيه 2 / 197 وشذرات الذهب 6 / 92: ابن حشيش.
__________
(4) في تذكرة النبيه 2 / 197: بالقاهرة، ومولده سنة 666 ه.

قاضي القضاة علاء الدين القونوي علاء الدين القونوي، أبو الحسن علي بن إسماعيل بن يوسف القونوي التبريزي الشافعي ولد بمدينة قونية في سنة ثمان وستين وستمائة تقريبا واشتغل هناك، وقدم دمشق سنة ثلاث وتسعين، وهو معدود من الفضلاء فازداد بها اشتغالا، وسمع الحديث وتصدر للاشتغال بجامعها ودرس بالاقبالية ثم سافر إلى مصر فدرس بها في عدة مدارس كبار، وولي مسيخة الشيوخ بها وبدمشق، ولم يزل يشتغل بها وينفع الطلبة إلى أن قدم دمشق قاضيا عليها في سنة سبع وعشرين،
وله تصانيف في الفقه وغيره، وكان يحرز علوما كثيرة منها النحو والتصريف والاصلان والفقه، وله معرفة جيدة بكشاف الزمخشري، وفهم الحديث، وفيه إنصاف كثير وأوصاف حسنة، وتعظيم لاهل العلم، وخرجت له مشيخة سمعناها عليه، وكان يتواضع لشيخنا المزي كثيرا، توفي ببستانه بالسهم يوم سبت بعد العصر رابع عشر ذي القعدة، وصلي عليه من الغد، ودفن بسفح قاسيون سامحه الله.
الامير حسام الدين لاجين المنصور الحسامي ويعرف بلاجين الصغير، ولي البر بدمشق مدة، ثم نيابة غزة ثم نيابة البيرة، وبها مات في ذي القعدة، ودفن هناك، وكان ابنتى تربة لزوجته ظاهر باب شرقي فلم يتفق دفنه بها (وما تدري نفس بأي أرض تموت) [ لقمان: 34 ].
الصاحب عز الدين أبو يعلى حمزة بن مؤيد الدين أبي المعالي أسعد بن عز الدين أبي غالب المظفر ابن الوزير مؤيد الدين أبي المعالي بن أسعد بن العميد أبي يعلى بن حمزة بن أسد بن علي بن محمد التميمي الدمشقي بن القلانسي، أحد رؤساء دمشق الكبار، ولد سنة تسع وأربعين وستمائة، وسمع الحديث من جماعة، ورواه وسمعنا عليه، وله رياسة باذخة وأصالة كثيرة وأملاك هائلة كافية لما يحتاج إليه من أمور الدنيا ولم يزل معه صناعة للوظائف إلى أن ألزم بوكالة بيت السلطان ثم بالوزارة في سنة عشر كما تقدم، ثم عزل، وقد صودر في بعض الاحيان، وكانت له مكارم على الخواص والكبار، وله إحسان إلى الفقراء والمحتاجين.
ولم يزل معظما وجيها عند الدولة من النواب والملوك والامراء وغيرهم إلى أن توفي ببستانه ليلة السبت سادس الحجة، وصلي عليه من الغد ودفن بتربته بسفح قاسيون، وله في الاملحية رباط حسن بمأذنة، وفيه دار حديث وبر وصدقة رحمه الله.
ثم دخلت سنة ثلاثون وسبعمائة استهلت بالاربعاء والحكام بالبلاد هم المذكورون بالتي قبلها سوى الشافعي فإنه توفي وولي

مكانه في رابع المحرم منها علم الدين محمد بن أبي بكر بن عيسى بن بدران السبكي الاخنائي الشافعي وقدم دمشق في الرابع والعشرين منه صحبة نائب السلطنة تنكز، وقد زار القدس وحضر معه تدريس التنكزية التي أنشأها بها.
ولما قدم دمشق نزل بالعادلية الكبيرة على العادة، ودرس بها وبالغزالية، واستمر نيابة المنفلوطي، ثم استناب زين الدين بن المرحل، وفي صفر باشر شرف الدين محمود بن الخطيري شد الاوقاف وانفصل عنها نجم الدين بن الزيبق إلى ولاية نابلس.
وفي ربيع الآخر شرع بترخيم الجانب الشرقي من الاموي نسبة الجانب الغربي، وشاور ابن مراجل النائب والقاضي على جمع الفصوص من سائر الجامع في الحائط القبلي، فرسما له بذلك.
وفي يوم.
الجمعة أقيمت الجمعة في إيوان الشافعية بالمدرسة الصالحية بمصر، وكان الذي أنشأها ذلك الامير جمال الدين نائب الكرك، بعد أن استفتى العلماء في ذلك.
وفي ربيع الآخر تولى القضاء بحلب شمس الدين بن النقيب (1) عوضا عن فخر الدين بن البارزي (2)، توفي، وولي شمس الدين بن مجد البعلبكي قضاء طرابلس عوضا عن ابن النقيب.
وفي آخر جمادى الاولى باشر نيابة الحكم عن الاخنائي محيي الدين بن جميل عوضا عن المنفلوطي توفي وفي هذا الشهر وقف الامير الوزير علاء الدين مغلطاي الناصري مدرسة على الحنفية وفيها صوفية أيضا، ودرس بها القاضي علاء الدين بن التركماني، وسكنها الفقهاء.
وفي جمادى الآخرة زينت البلاد المصرية والشامية ودقت البشائر بسبب عافية السلطان من وقعة انصدعت منها يده، وخلع على الامراء والاطباء بمصر، وأطلقت الحبوس.
وفي جمادى الآخرة قدم على السلطان رسل من الفرنج (3) يطلبون منه بعض البلاد الساحلية فقال لهم: لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكم، ثم سيرهم إلى بلادهم خاسئين.
وفي يوم الاحد سادس رجب حضر الدرس الذي أنشأه القاضي فخر الدين كاتب المماليك على الحنفية بمحرابهم بجامع دمشق، ودرس به الشيخ شهاب الدين ابن قاضي الحصين، أخو قاضي القضاة برهان الدين بن عبد الحق بالديار المصرية، وحضر عنده القضاة والاعيان، وانصرفوا من عنده إلى عند ابن أخيه صلاح الدين بالجوهرية، ودرس بها عوضا عن حموه شمس
الدين بن الزكي نزل له عنها وفي آخر رجب خطب بالجامع الذي أنشأها الامير سيف الدين
__________
(1) وهو قاضي القضاة شمس الدين أبو عبد الله محمد بن الشيخ بدر الدين أبي بكر بن ابراهيم بن عبد الرحمن بن نجدة بن حمدان النقيب المتوفى سنة 745 ه.
__________
(2) وهو أبو عمرو عثمان بن كمال الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الرحيم بن ابراهيم بن هبة الله بن البارزي الجهني الحموي الشافعي، توفي فجأة بعد وضوئه لصلاة العصر في صفر، وكان مولده سنة 668 ه.
__________
(3) وهم رسل فيليب السادس ملك فرنسا، وقد بلغ عددهم 120 رجلا، وطالبوا السلطان ناصر محمد بتسليم القدس وسواحل الشام (انظر السلوك 2 / 2 / 319).

ألماس (1) الحاجب ظاهر القاهرة بالشارع، وخطب بالجامع الذي أنشأه قوصون (2) بين جامع طولون والصالحية، يوم الجمعة حادي عشر رمضان وحضر السلطان وأعيان الامراء الخطبة، خطب به يومئذ قاضي القضاة جلال الدين القزويني الشافعي، وخلع عليه خلعة سنية، واستقل في خطابته بدر الدين بن شكري.
وخرج الركب الشامي يوم السبت حادي عشر شوال وأميره سيف الدين المرساوي صهر بلبان البيري، وقاضيه شهاب الدين ابن المجد عبد الله مدرس الاقبالية، ثم تولى قضاء القضاة كما سيأتي، وممن حج في هذه السنة رضي الدين بن المنطيقي، والشمس الاردبيلي شيخ الجاروخية (3) وصفي الدين بن الحريري، وشمس الدين ابن خطيب بيروذ، والشيخ محمد النيرباني وغيرهم، فلما قضوا مناسكهم رجعوا إلى مكة لطوا ف الوداع، فبينما هم في سماع الخطبة إذ سمعوا جلبة الخيل من بني حسن وعبيدهم، قد حطموا على الناس في المسجد الحرام، فثار إلى قتالهم الاتراك فاقتتلوا فقتل أمير من الطبلخانات بمصر، يقال له سيف الدين جخدار وابنه خليل، ومملوك له، وأمير عشيرة يقال له الباجي، وجماعة من الرجال والنساء ونهبت أموال كثيرة، ووقعت خبطة عظيمة في المسجد، وتهارب الناس إلى منازلهم بأبيار الزاهر، وما كادوا يصلون إليها وما أكملت الجمعة إلا بعد جهد، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
واجتمعت الامراء كلهم على الرجعة
إلى مكة للاخذ بالثأر منهم، ثم كروا راجعين وتبعهم العبيد حتى وصلوا إلى مخيم الحجيج، وكادوا ينهبون الناس عامة جهرة، وصار أهل البيت في آخر الزمان يصدون الناس عن المسجد الحرام، وبنو الاتراك هم الذين ينصرون الاسلام وأهله ويكفون الاذية عنهم بأنفسهم وأموالهم، كما قال تعالى (إن أولياؤه إلا المتقون) [ الانفال: 34 ].
وممن توفي فيها من الاعيان: علاء الدين بن الاثير كاتب السر بمصر، علي بن أحمد بن سعيد بن محمد بن الاثير الحلبي الاصل، ثم المصري، كانت له حرمة ووجاهة وأموال وثروة ومكانة عند السلطان، حتى ضربه الفالج في آخر عمره فانعزل عن الوظيفة وباشرها ابن فضل الله في حياته.
__________
(1) في الاصل، الماشي، وهو ألماس بن عبد الله الحاجب الناصري، الامير سيف الدين، قتل سنة 734 ه كما في السلوك 2 / 365 والدرر 1 / 438 وفي درة الاسلاك ص 279 ذكر انه توفي سنة 733، وعن جامع ألماس انظر المواعظ والاعتبار للمقريزي 2 / 307).
__________
(2) هو قوصون بن عبد الله الناصري الساقي، الامير سيف الدين، قتل في الحبس بالاسكندرية سنة 742 (النجوم الزاهرة 10 / 75 وعن جامعه انظر المواعظ والاعتبار للمقريزي 2 / 307).
__________
(3) في الاصل، الجاروضية وقد تقدمت الاشارة إليها

الوزير العالم أبو القاسم محمد بن محمد بن سهل بن محمد بن سهل الازدي الغرناطي الاندلسي، من بيت الرياسة والحشمة ببلاد المغرب، قدم علينا إلى دمشق في جمادى الاولى سنة أربع وعشرين، وهو بعزم الحج، سمعت بقراءته صحيح مسلم في تسعة مجالس على الشيخ نجم الدين بن العسقلاني.
قراءة صحيحة، ثم كانت وفاته في القاهرة في ثاني عشرين المحرم، وكانت له فضائل كثيرة في الفقه والنحو والتاريخ والاصول، وكان عالي الهمة شريف النفس محترما ببلاده جدا، بحيث إنه
يولي الملوك ويعزلهم، ولم يل هو مباشرة شئ ولا أهل بيته، وإنما كان يلقب بالوزير مجازا.
شيخنا الصالح العباد الناسك الخاشع شمس الدين أبو عبد الله محمد بن الشيخ الصالح العابد شرف الدين أبي الحسن بن حسين ابن غيلان البعلبكي الحنبلي، إمام مسجد السلالين بدار البطيخ العتيقة، سمع الحديث وأسمعه، وكان يقرئ القرآن طرفي النهار، وعليه ختمت القرآن في سنة أحد عشر وسبعمائة، وكان من الصالحين الكبار، والعباد الاخيار، توفي يوم السبت سادس صفر وصلي عليه بالجامع ودفن بباب الصغير، وكانت جنازته حافلة.
وفي هذا الشهر - أعني صفر - كانت وفاة والي القاهرة القديدار وله آثار غريبة ومشهورة.
بهادرآص الامير الكبير رأس ميمنة الشام، سيف الدين بهادرآص المنصوري أكبر أمراء دمشق، وممن طال عمره في الحشمة والثروة، وهو ممن اجتمعت فيه الآية الكريمة (زين للناس حب الشهوات من النساء) الآية [ آل عمران: 14 ]، وقد كان محببا إلى العامة، وله بر وصدقة وإحسان، توفي ليلة الثلاثاء ودفن بتربته خارج الجابية، وهي مشهورة أيضا.
الحجار ابن الشحنة الشيخ الكبير المسند المعمر الرحلة شهاب الدين أبو العباس أحمد بن أبي طالب بن نعمة بن حسن بن علي بن بيان الدير مقرني ثم الصالحي الحجار المعروف بابن الشحنة، سمع البخاري على الزبيدي سنة ثلاثين وستمائة بقاسيون، وإنما ظهر سماعه سنة ست وسبعمائة ففرح بذلك المحدثون وأكثروا السماع عليه، فقرئ البخاري عليه نحوا من ستين (1) مرة وغيره، وسمعنا
__________
(1) في تذكرة النبيه 2 / 200: سبعين مرة.

عليه بدار الحديث الاشرفية في أيام الشتويات نحوا من خمسمائة جزء بالاجازات والسماع، وسماعه من الزبيدي وابن اللتي، وله إجازة من بغداد فيها مائة وثمانية وثلاثون شيخا من العوالي
المسندين، وقد مكث مدة مقدم الحجارين نحوا من خمس وعشرين سنة، ثم كان يخيط في آخر عمره، واستقرت عليه جامكيته لما اشتغل بإسماع الحديث، وقد سمع عليه السلطان الملك الناصر، وخلع عليه وألبسه الخلعة بيده، وسمع عليه من أهل الديار المصرية والشامية أمم لا يحصون كثيرا، وانتفع الناس بذلك، وكان شيخا حسنا بهي المنظر سليم الصدر ممتعا بحواسه وقواه، فإنه عاش مائة سنة محققا، وزاد عليها، لانه سمع البخاري من الزبيدي في سنة ثلاثين وستمائة وأسمعه هو في ثلاثين وسبعمائة في تاسع صفر بجامع دمشق، وسمعنا عليه يومئذ ولله الحمد، ويقال إنه أدرك موت المعظم عيسى بن العادل لما توفي، والناس يسمعهم يقولون مات المعظم، وقد كانت وفاة المعظم في سنة أربع وعشرين وستمائة، وتوفي الحجار يوم الاثنين خامس عشرين صفر من هذه السنة، وصلي عليه بالمظفري يوم الثلاثاء ودفن بتربة له عند زاوية الدومي، بجوار جامع الافرم.
وكانت جنازته حافلة رحمه الله.
الشيخ نجم الدين بن عبد الرحيم بن عبد الرحمن أبي نصر المحصل المعروف بابن الشحام، اشتغل ببلده ثم سافر وأقام بمدينة سراي من مملكة إربل، ثم قدم دمشق في سنة أربع وعشرين فدرس بالظاهرية البرانية ثم بالجاروخية، وأضيف إليه مشيخة رباط القصر، ثم نزل عن ذلك لزوج ابنته نور الدين الاردبيلي، توفي في ربيع الاول وكان يعرف طرفا من الفقه والطب.
الشيخ إبراهيم الهدمة أصله كردي من بلاد المشرق، فقدم الشام، وأقام بين القدس والخليل، في أرض كانت مواتا فأحياها وغرسها وزرع فيها أنواعا، وكان يقصد للزيارة، ويحكي الناس عنه كرامات صالحة، وقد بلغ مائة سنة، وتزوج في آخر عمره ورزق أولادا صالحين توفي في جمادى الآخرة رحمه الله.
الست صاحبة التربة بباب الخواصين الخوندة المعظمة المحجة المحرمة: ستيته بنت الامير سيف الدين
كركاي المنصوري، زوجة نائب الشام تنكز، توفيت بدار الذهب وصلي عليها بالجامع ثالث رجب، ودفنت بالتربة التي أمرت بإنشائها بباب الخواصين، وفيها مسجد وإلى جانبها رباط

للنساء ومكتب للايتام.
وفيها صدقات وبر وصلات، وقراء عليها، كل ذلك أمرت به، وكانت قد حجت في العام الماضي رحمها الله.
قاضي قضاة طرابلس شمس الدين محمد بن عيسى بن محمود البعلبكي المعروف بابن المجد الشافعي، اشتغل ببلده وبرع في فنون كثيرة، وأقام بدمشق مدة يدرس بالقوصية وبالجامع، ويؤم بمدرسة أم الصالح، ثم انتقل إلى قضاء طرابلس فأقام بها أربعة أشهر، ثم توفي سادس رمضان وتولاها بعده ولده تقي الدين وهو أحد الفضلاء المشهورين، ولم تطل مدته حتى عزل عنها وأخرج منها.
الشيخ الصالح عبد الله بن أبي القاسم بن يوسف بن أبي القاسم الحوراني، شيخ طائفتهم وإليه مرجع زاويتهم بحوران، كان عنده تفقه بعض شئ، وزهادة ويزار، وله أصحاب يخدمونه، وبلغ السبعين سنة، وخرج لتوديع بعض أهله إلى ناحية الكرك من ناحية الحجاز فأدركه الموت هناك، فمات في أول ذي القعدة.
الشيخ حسن بن علي ابن أحمد الانصاري الضرير كان بفرد عين أولا، ثم عمي جملة، وكان يقرأ القرآن ويكثر التلاوة ثم انقطع إلى المنارة الشرقية، وكان يحضر السماعات ويستمع ويتواجد، ولكثير من الناس فيه اعتقاد على ذلك، ولمجاورته في الجامع وكثرة تلاوته وصلاته والله يسامحه، توفي يوم السبت في العشر الاول من ذي الحجة بالمأذنة الشرقية، وصلي عليه بالجامع، ودفن بباب الصغير.
محيي الدين أبو الثناء محمود ابن الصدر شرف الدين القلانسي، توفي في ذي الحجة ببستانه، ودفن بتربتهم بسفح
قاسيون وهو جد الصدر جلال الدين بن القلانسي، وأخيه علاء، وهم ثلاثتهم رؤساء.
الشاب الرئيس صلاح الدين يوسف بن القاضي قطب الدين موسى ابن شيخ السلامية، ناظر الجيش أبوه، نشأ هذا الشاب في نعمة وحشمة وترفه وعشرة واجتماع بالاصحاب، توفي يوم السبت تاسع

عشرين ذي الحجة فاستراح من حشمته وعشرته إن لم تكن وبالا عليه، ودفن بتربتهم تجاه الناصرية بالسفح، وتأسف عليه أبواه ومعارفه وأصحابه سامحه الله.
ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها، وقد ذكرنا ما كان من عبيد مكة إلى الحجاج، وأنه قتل من المصريين أميران، فلما بلغ الخبر السلطان عظم عليه ذلك، وامتنع من الاكل على السماط فيما يقال أياما، ثم جرد ستمائة فارس وقيل ألفا، والاول أصح، وأرسل إلى الشام أن يجرد مقدما آخر، فجرد الامير سيف الدين الجي بغا العادلي.
وخرج من دمشق يوم دخلها الركب في سادس عشرين المحرم، وأمر أن يسير إلى إيلة ليجتمع مع المصريين، وأن يسيروا جميعا إلى الحجاز.
وفي يوم الاربعاء تاسع صفر وصل نهر الساجور (1) إلى مدينة حلب، وخرج نائب حلب أرغون ومعه الامراء مشاة إليه في تهليل وتكبير وتحميد، يتلقون هذ النهر، ولم يكن أحد من المعالي ولا غيرهم أن يتكلم بغير ذكر الله تعالى، وفرح الناس بوصوله إليهم فرحا شديدا، وكانوا قد وسعوا في تحصيله من أماكن بعيدة احتاجوا فيها إلى نقب الجبال، وفيها ضخور ضخام وعقدوا له قناطر على الاودية، وما وصل إلا بعد جهد جهيد، وأمر شديد، فلله الحمد وحده لا شريك له.
وحين رجع نائب حلب أرغون مرض مرضا شديدا ومات (2) رحمه الله.
وفي سابع صفر وسع تنكز الطرقات بالشام ظاهر باب الجابية، وخرب كل ما يضيق الطرقات.
وفي ثاني ربيع الاول لبس علاء الدين القلانسي خلعة سنية لمباشرة نظر الدواوين ديوان
ملك الامراء، وديوان نظر المارستان، عوضا عن ابن العادل، ورجع ابن العادل إلى حجابة الديوان الكبير.
وفي يوم ثاني ربيع الاول لبس عماد الدين بن الشيرازي خلعة نظر الاموي عوضا عن ابن مراجل عزل عنه لا إلى بدل عنه، وباشر جمال الدين بن القويرة نظر الاسرى بدلا عن ابن الشيرازي.
وفي يوم الخميس آخر ربيع الاول لبس القاضي شرف الدين بن عبد الله بن شرف الدين حسن بن الحافظ أبي موسى عبد الله بن الحافظ عبد الغني المقدسي خلعة قضاء الحنابلة عوضا عن عز الدين بن التقي سليمان، توفي رحمه الله، وركب من دار السعادة إلى الجامع، فقرئ تقليده تحت النسر بحضرة القضاة والاعيان، ثم ذهب إلى الجوزية فحكم بها، ثم إلى الصالحية وهو لابس الخلعة، واستناب يومئذ ابن أخيه النقي عبد الله بن شهاب الدين أحمد.
وفي
__________
(1) نهر الساجور: نهر بمنبج (معجم البلدان).
__________
(2) وكانت وفاته في ربيع الاول (مختصر أخبار البشر 4 / 102 - شذرات الذهب 6 / 95 - تذكرة النبيه 2 / 211).

سلخ ربيع الآخر اجتاز الامير علاء الدين الطنبغا بدمشق وهو ذاهب إلى بلاد حلب نائبا عليها، عوضا عن أرغون توفي إلى رحمة الله، وقد تلقاه النائب والجيش.
وفي مستهل جمادى الاولى حضر الامير الشريف رميثة بن أبي نمي إلى مكة، فقرئ تقليده بأمرة مكة من جهة السلطان، صحبة التجريدة (1)، وخلع عليه وبايعه الامراء المجردون من مصر والشام داخل الكعبة، وقد كان وصول التجاريد إلى مكة في سابع ربيع الاول (2)، فأقاموا بباب المعلى، وحصل لهم خير كثير من الصلاة والطواف، وكانت الاسعار رخيصة معهم.
وفي يوم السبت سابع ربيع الآخر خلع على القاضي عز الدين بن بدر الدين بن جماعة بوكالة السلطان ونظر جامع طولون ونظر الناصرية، وهنأه الناس عوضا عن التاج ابن إسحاق عبد الوهاب، توفي ودفن بالقرافة.
وفي هذا الشهر تولى عماد الدين ابن قاضي القضاة الاخنائي تدريس الصارمية وهو صغير بعد وفاة النجم هاشم بن عبد الله البعلبكي الشافعي، وحضرها في رجب وحضر عنده الناس خدمة لابيه، وفي حادي عشرين جمادي الآخرة رجعت التجريدة من
الحجاز صحبة الامير سيف الدين الجي بغا، وكانت غيبتهم خمسة أشهر وأياما (3) وأقاموا بمكة شهرا واحدا ويوما واحدا وحصل للعرب منهم رعب شديد، وخوف أكيد، وعزلوا عن مكة عطية وولوا أخاه رميثة وصلوا وطافوا واعتمروا، ومنهم من أقام هناك ليحج.
وفي ثاني رجب خلع على ابن أبي الطيب بنظر ديوان بيت المال عوضا عن ابن الصاين توفي.
وفي أوائل شعبان حصل بدمشق هواء شديد مزعج كسر كثيرا من الاشجار والاغصان، وألقى بعض الحيطان والجدران، وسكن بعد ساعة بإذن الله، فلما كان كان يوم تاسعه سقط برد كبار مقدار بيض الحمام، وكسر بعض جامات الحمام.
وفي شهر شعبان هذا خطب بالمدرسة المعزية على شاطئ النيل أنشأها الامير سيف الدين طغزدمر، أمير مجلس الناصري، وكان الخطيب عز الدين عبد الرحيم بن الفرات الحنفي.
وفي نصف رمضان قدم الشيخ تاج الدين عمر بن علي بن سالم الملحي بن الفاكهاني المالكي، نزل عند القاضي الشافعي، وسمع عليه شيئا من مصنفاته، وخرج إلى الحج عامئذ مع الشاميين، وزار القدس قبل وصوله إلى دمشق.
وفي هذا الشهر وطئ سوق الخيل وركبت فيه حصبات كثيرة، وعمل فيه نحو من أربعمائة نفس في أربعة أيام حتى ساووه وأصلحوه، وقد كان قبل ذلك يكون فيها مياه كثيرة، وملقات.
وفيه أصلح سوق الدقيق داخل باب الجابية إلى الثابتية وسقف عليه السقوف.
__________
(1) التجريدة دوريات منظمة لمنع قرصنة العدو في البحر، أو فرقة من الجيش (التعريف بمصطلحات صبح الاعشى ص 73).
__________
(2) في مختصر أخبار البشر 4 / 103: سابع عشر ربيع الآخرة.
__________
(3) في مختصر اخبار البشر 4 / 103: خمسة اشهر سوى اربعة أيام.

وخر الركب الشامي يوم الاثنين ثامن شوال وأميره عز الدين أيبك، أمير علم، وقاضيه شهاب الدين الظاهري.
وممن حج فيه شهاب الدين بن جهبل وأبو النسر وابن جملة والفخر المصري والصدر المالكي وشرف الدين الكفوي الحنفي، والبهاء ابن إمام المشهد وجلال الدين
الاعيالي ناظر الايتام، وشمس الدين الكردي، وفخر الدين البعلبكي، ومجد الدين بن أبي المجد، وشمس الدين بن قيم الجوزية، وشمس الدين ابن خطيب بيرة، وشرف الدين قاسم العجلوني، وتاج الدين بن الفاكهاني والشيخ عمر السلاوي وكاتبه إسماعيل بن كثير، وآخرون من سائر المذاهب، حتى كان الشيخ بدر الدين يقول: اجتمع في ركابنا هذا أربعمائة فقيه وأربع مدارس وخانقاه، ودار حديث، وقد كان معنا من المفتيين ثلاثة عشر نفسا، وكان في المصريين جماعة من الفقهاء منهم قاضي المالكية تقي الدين الاخنائي، وفخر الدين النويري، وشمس الدين بن الحارثي، ومجد الدين الاقصرائي، وشيخ الشيوخ الشيخ محمد المرشدي.
وفي ركب العراق الشيخ أحمد السروجي أشد وكان من المشاهير.
وفي الشاميين الشيخ علي الواسطي صحبة ابن المرجاني، وأمير المصريين مغلطاي الجمالي الذي كان وزيرا في وقت، وكان إذ ذاك مريضا، ومررنا بعين تبوك وقد أصلحت في هذه السنة، وصينت إمن دوس الجمال والجمالين، وصار ماؤها في غاية الحسن والصفاء والطيب، وكانت وقفة الجمعة ومطرنا بالطواف، وكانت سنة مرخصة آمنة.
وفي نصف ذي الحجة رجع تنكز من ناحية قلعة جعبر، وكان في خدمته أكثر الجيش الشامي، وأظهر أبهة عظيمة في تلك النواحي.
وفي سادس عشر ذي الحجة وصل توقيع القاضي علاء الدين بن القلانسي بجميع جهات أخيه جمال الدين بحكم وفاته مضافا إلى جهاته، فاجتمع له من المناصب الكبار ما لم يجتمع لغيره من الرؤساء في هذه الاعصار، فمن ذلك: وكالة بيت المال، وقضاء العسكر وكتابة الدست، ووكالة ملك الامراء، ونظر البمارستان، ونظر الحرمين، ونظر ديوان السعيد، وتدريس الامينية (1) والظاهرية (2) والعصرونية (3) وغير ذلك انتهى.
وممن توفي فيها من الاعيان: قاضي القضاة عز الدين المقدسي عز الدين أبو عبد الله محمد بن قاضي القضاة تقي الدين سليمان بن حمزة بن أحمد بن عمر
__________
(1) المدرسة الامينية: أول مدرسة للشافعية بدمشق أنشأها أتابك العساكر بدمشق ابن الدولة كمشتكين بن عبد الله
الطغتكيني المتوفى سنة 541 (الدارس في تاريخ المدارس 1 / 178).
__________
(2) هي الظاهرية الجوانية التي أنشأها الملك الظاهر بيبرس وكانت للحنفية والشافعية، قيل إن أول من درس بها زكي الدين أبو إسحاق من المالكية (الدارس 1 / 348 كرد علي: خطط الشام 6 / 82).
__________
(3) العصرونية بدمشق أنشأها فقيه الشام عبد الله بن محمد بن أبي عصرون المتوفى سنة 585 (الدارس 1 / 391).

ابن الشيخ أبي عمر المقدسي الحنبلي، ولد سنة خمس وستين وستمائة، وسمع الحديث واشتغل على والده واستنابه في أيام ولايته، فلما ولي ابن مسلم (1) لزم بيته يحصر درس الجوزية ودار الحديث الاشرفية بالجبل ويأوي إلى بيته، فلما توفي ابن مسلم ولي قضاء الحنابلة بعده نحوا من أربع سنين، وكان فيه تواضع وتودد وقضاء لحوائج الناس، وكانت وفاته يوم الاربعاء تاسع صفر، وكان يوما مطيرا، ومع هذا شهد الناس جنازته، ودفن بتربتهم رحمهم الله، وولي بعده نائبه شرف الدين ابن الحافظ، وقد قارب الثمانين.
وفي نصف صفر توفي: الامير سيف الدين قجليس سيف النعمة، وقد كان سمع على الحجار ووزيرة بالقدس الشريف.
وفي منتصف صفر (2) توفي الامير الكبير سيف الدين أرغون بن عبد الله الدويدار الناصري، وقد عمل على نيابة مصر مدة طويلة، ثم غضب عليه السلطان فأرسله إلى نيابة حلب، فمكث بها مدة ثم توفي بها في سابع ربيع الاول، ودفن بتربة اشتراها بحلب، وقد كان عنده فهم وفقه، وفيه ديانة واتباع للشريعة، وقد سمع البخاري على الحجار وكتبه جميعه بخطه، وأذن له بعض العلماء في الافتاء، وكان يميل إلى الشيخ تقي الدين بن تيمية وهو بمصر، توفي ولم يكمل الخمسين سنة، وكان يكره اللهو رحمه الله.
ولما خرج يلتقي نهر الساجور خرج في ذل ومسكنة، وخرج معه الامراء كذلك مشاة في تكبير وتهليل وتحميد، ومنع المغاني ومنت اللهو واللعب في ذلك رحمه الله.
القاضي ضياء الدين
أبو الحسن علي بن سليم بن ربيع (3) بن سليمان الاذرعي (4) الشافعي، تنقل في ولاية الاقضية بمدارس كثيرة، مدة ستين سنة، وحكم بطرابلس وعجلون وزرع وغيرها، وحكم بدمشق نيابة عن القونوي نحوا من شهر، وكان عنده فضيلة وله نظم كثير.
نظم التنبيه في نحو ستة عشر (5) ألف بيت، وتصحيحها في ألف وثلثمائة بيت، وله مدائح ومواليا وأزجال وغير ذلك، ثم كانت وفاته بالرملة يوم الجمعة ثالث عشرين ربيع الاول عن خمس وثمانين سنة رحمه
__________
(1) وهو محمد بن مسلم بن مالك بن مزروع بن جعفر الصالحي الحنبلي المتوفى سنة 729 ه.
__________
(2) كذا بالاصل وهو تصحيف، وسيرد بعد قليل وفاته في ربيع الاول
__________
(3) في تذكرة النبيه 2 / 212 وشذرات الذهب 6 / 96 والدرر 3 / 123: ربيعة.
__________
(4) في البداية المطبوعة: الازرعي وهتحريف، والاذرعي نسبة إلى أذرعات: وهي بلد في أطراف الشام يجاور البلقاء وعمان.
(معجم البلدان).
__________
(5) في الاصل ست عشرة.

الله، وله عدة أولاد منهم عبد الرزاق أحد الفضلاءة، وهو ممن جمع بين علمي الشريعة والطبيعة.
أبو دبوس عثمان بن سعيد المغربي تملك في وقت بلاد قابس ثم تغلب عليه جماعة فاتنزعوها منه فقصد مصر فأقام بها وأقطع اقطاعا، وكان يركب مع الجند في زي المغاربة متقلدا سيفا، وكان حسن الهيئة يواظب على الخدمة إلى أن توفي في جمادى الاولى.
الامام العلامة ضياالدين أبو العباس أحمد بن قطب الدين محمد بن عبد الصمد بن عبد القادر السنباطي الشافعي، مدرس لحسامية ونائب الحكم بمصر، وأعاد في أماكن كثيرة، وتفقه على والده، توفي في جمادى الآخرة وتولى الحسامية بعده ناصر الدين التبريزي.
الصدر الكبير تاج الدين الكارمي المعروف بان الرهايلي، كان أكبر تجار دمشق الكارمية وبمصر، توفي في جمادى الآخرة، يقال إنه خلف مائة ألف دينار غير البضائع والاثاث والاملاك.
الامام العلامة فخر الدين عثمان بن إبراهيم بن مصطفى بن سليمان بن المارداني التركماني الحنفي شرخ فخر الدين هذا الجامع (1) وألقاه دروسا في مائة كراس، توفي في رجب وله إحدى وسبعون سنة، كان شجاعا عالما فاضلا، وقورا فصيحا حسن المفاكهة، وله نظم حسن.
وولي بعده المنصورية (2) ولده تاج الدين.
تقي الدين عمر ابن الوزير شمس الدين محمد بن عثمان بن السلعوس، كان صغيرا لما مات أبوه تحت العقوبة، ثم نشأ في الخدم ثم
__________
(1) وهو كتاب " الجامع الكبير في الفروع " للامام محمد بن الحسن الشيباني المتوفي سنة 187 ه (كشف الظنون 1 / 569).
__________
(2) المدرسة المنصورية بالقاهرة، أنشأها الملك منصور قلاوون الصالحي، وهي داخل باب المارستان المنصوري الكبير (انظر المواعظ والاعتبار للمقريزي 2 / 379).

طلبه السلطان في آخر وقت فولاه نظر الدواوين بمصر، فباشره يوما واحدا وحضر بين يدي السلطان يوم الخميس، ثم خرج من عنده وقد اضطرب حاله فما وصل إلى منزله إلا في محفة، ومات بكرة يوم السبت سادس عشرين ذي القعدة، وصلي عليه بجامع عمرو بن العاص، ودفن عند والده بالقرافة وكانت جنازته حافلة.
جمال الدين أبو العباس أحمد بن شرف الدين بن جمال الدين محمد بن أبي الفتح نصر الله بن أسد بن حمزة بم أسد ابن علي بن محمد التميمي الدمشقي بن القلانسي، قاضي العساكر ووكيل بيت المال ومدرس
الامينية وغيرها حفظ التنبيه ثم المحرر للرافعي، وكا يستحضره، واشتغل على الشيخ تاج الدين الفزاري، وتقدم لطلب العلم والرئاسة، وباشر جهات كبارا، ودرس بأماكن وتفرد في وقته بالرياسة والبيت والمناصب الدينية والدنيوية، وكان فيه تواضع وحسن سمت وتودد وإحسان وبر بأهل العلم والفقراء والصالحين وهو ممن أذن له في الافتاء وكتب إنشاء ذلك وأنا حاضر على البديهة فأفاد وأجاد، وأحسن التعبير وعظم في عيني.
توفي يوم الاثنين ثامن عشرين ذي القعدة، ودفن بتربتهم بالسفح، وقد سمع الحديث على جماعة من المشايخ وخرج له فخر الدين البعلبكي مشيخة سمعناها عليه رحمه الله.
ثم دخلت سنة اثنتي وثلاثين وسيعمائة استهلت وحكام البلاد هم هم، وفي أولها فتحت القيسارية التي كانت مسبك الفولاذ جوا باب الصغير حولها تنكز قيسارية ببركة.
وفي يوم الاربعاء ذكر الدرس بالامينية والظاهرية علاء الدين بن القلانسي عوضا عن أخيه جمال الدين، وذكر ابن أخيه أمين الدين محمد بن جمال الدين الدرس في العصرونية، تركها له عمه، وحضر عندهما جماعة من الاعيان.
وفي تاسع المحرم جاء إلى حمص سيل عظيم غرق بسببه خلق كثير وجم غفير، وهلك للناس أشياء كثيرة.
وممن مات فيه نحو مائتي امرأة (1) بحمام النائب، كن مجتمعات على عروس أو عروسين فهلكن جميعا.
وفي صفر أمر تنكز ببياض الجدران المقابلة لسوق الخيل إلى باب الفراديس، وأمر بتجديد خان الظاهر، فغرم عليه نحوا من سبعين ألفا.
وفي هذا الشهر وصل تابوت لاجين الصغير من البيرة فدفن بتربته خارج باب شرقي.
وفي تاسع ربيع الآخر حضر الدرس بالقيمازية عماد الدين الطرسوسي الحنفي عوضا عن الشيخ رضي الدين المنطيقي، توفي، وحضر عنده القضاة
__________
(1) في مختصر أخبار البشر 4 / 104، مات بحمام تنكز نحو مائتي امرأة وصغير وصغيرة وجماعة رجال دخلوا ليخلصوا النساء (انظر تذكرة النبيه 2 / 219).

والاعيان.
وفي أول ربيع الآخر خلع على الملك الافضل محمد (1) بن الملك المؤيد صاحب حماة
وولاة السلطان الملك الناصر مكان أبيه بحكم وفاته، وركب بمصر بالعصائب (2) والشبابة والغاشية أمامه.
وفي نصف هذا الشهر سافر الشيخ شمس الدين الاصفهاني شارح المختصر ومدرس الرواحية إلى الديار المصرية على خيل البريد وفارق دمشق وأهلها واستوطن القاهرة.
وفي يوم الجمعة تاسع جمادى الآخرة خطب بالجامع الذي أنشأه الامير سيف الدين آل ملك واستقر فيه خطيبا نور الدين علي بن شبيب الحنبلي.
وفيه أرسل السلطان جماعة من الامراء إلى الصعيد فأحاطوا على ستمائة رجل ممن كان يقطع الطريق فأتلف بعضهم.
وفي جماى الآخرة تولى شد الدواوين بدمشق نور الدين بن الخشاب عوضا عن الطرقشي.
وفي يوم الاربعاء حادي عشر رجب خلع على قاضي القضاة علاء الدين بن الشيخ زين الدين بن المنجا بقضاء الحنابلة عوضا عن شرف الدين بن الحافظ، وقرئ تقليده بالجامع، وحضر القضاة والاعيان.
وفي اليوم الثاني استناب برهان الدين الزرعي.
وفي رجب باشر شمس الدين موسى بن التاج إسحاق نظر الجيوش بمصر عوضا عن فخر الدين (3) كاتب المماليك توفي، وباشر ألنشو مكانه في نظر الخاص، وخلع عليه بطرحه، فلما كان في شعبان عزل هو وأخوه العلم ناظر الدواوين وصودروا وضربوا ضربا عظيما، وتولى نظر الجيش المكين بن قروينة، ونظر الدواوين أخوه شمس الدين بن قروينة.
وفي شعبان كان عرش أنوك، ويقال كان اسمه محمد بن السلطان الملك الناصر، على بنت الامير سيف الدين بكتمر الساقي، وكان جهازها بألف ألف دينار، وذبح في هذا العرس من الاغنام والدجاج والاوز والخيل والبقر نحو من عشرين ألفا، وحملت حلوى بنحو ثمانية عشر ألف قنطار، وحمل له من الشمع ثلاثة آلاف قنطار (4)، قاله الشيخ أبو بكر، وكان هذا العرس ليلة الجمعة حادي عشر شعبان.
وفي شعبان هذا حول القاضي محيي الدين بن فضل الله من كتابة السر بمصر إلى كتابة السر بالشام، ونقل شرف الدين بن شمس الدين بن الشهاب محمود إلى كتابة السر بمصر، وأقيمت الجمعة بالشامية البرانية في خامس عشر شعبان، وحضرها القضاة والامراء، وخطب بها الشيخ زين الدين عبدالنور المغربي وذلك بإشارة الامير حسام الدين اليشمقدار الحاجب بالشام، ثم خطب عنه كمال الدين بن الزكي، وفيه أمر نائب السلطنة
__________
(1) من مختصر أخبار البشر 4 / 104 وتذكرة النبيه 2 / 225 والدرر 4 / 8، وفي الاصل: علي تصحيف.
وقد ولي حكم حماه حتى عزله الاشرف كجك سنة 742 ه وقرره أمير مائة بدمشق فتوفي في نفس السنة.
__________
(2) العصائب جمع عصابة وهي راية عظيمة من حرير أصفر مطرزة بالذهب عليها ألقابه واسمه (صبح الاعشى 4 / 7).
__________
(3) وهو فخر الدين محمد بن فضل الله المصري ناظر الجيوش المنصورة بالديار المصرية، مولده في حدود 660 (الدرر 4 / 255 تذكرة النبيه 2 / 227).
__________
(4) في مختصر أخبار البشر 4 / 106: ألف قنطار من الشمع، وفي تذكرة النبيه 2 / 221: ثلاثة الآف شمعة.

بتبييض البيوت من سوق الخيل إلى ميدان الحصا، ففعل ذلك.
وفيه زادت الفرات زيادة عظيمة لم يسمع بمثلها، واستمرت نحوا من اثني عشر يوما فأتلفت بالرحبة أموالا كثيرة، وكسرت الجسر الذي عند دير بسر، وغلت الاسعار هناك فشرعوا في إصلاح الجسر، ثم انكسر مرة ثانية.
وفي يوم السبت تاسع شوال خرج الركب الشامي وأميره سيف الدين أوزان، وقاضيه جمال الدين بن الشريشي، وهو قاضي حمص الآن، وحج السلطان في هذه السنة وصحبته قاضي القضاة القزويني وعز الدين بن جماعة، وموفق الدين الحنبلي، وسبعون أميرا.
وفي ليلة الخميس حادي عشرين شوال رسم على الصاحب عز الدين غبريال بالمدرسة النجيبية الجوانية، وصودر وأخذت منه أموال كثيرة، وأفرج عنه في المحرم من السنة الآتية.
وممن توفي فيها من الاعيان: الشيخ عبد الرحمن بن أبي محمد بن محمد ابن سلطان القرامذي، أحد المشاهير بالعبادة والزهادة وملازمة الجامع الاموي، وكثرة التلاوة والذكر، وله أصحاب يجلسون إليه، وله مع هذا ثروة وأملاك، توفي في مستهل المحرم عن خمس أو ست وثمانين سنة، ودفن بباب الصغير، وكان قد سمع الحديث واشتغل بالعلم ثم ترك ذلك واشتغل بالعبادة إلى أن مات.
الملك المؤيد صاحب حماه عماد الدين إسماعيل بن الملك الافضل نور الدين علي بن الملك المظفر تقي الدين محمود بن الملك المنصور ناصر الدين محمد بن الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، كانت له فضائل كثيرة في علوم متعددة من الفقه والهيئة والطب وغير ذلك، وله مصنفات عديدة، منها تاريخ حافل في مجلدين كبيرين، وله نظم الحاوي وغير ذلك، وكان يحب العلماء ويشاركهم في فنون كثيرة، وكان من فضلاء بني أيوب، ولي ملك حماه من سنة إحدى وعشرين إلى هذا الحين، وكان الملك الناصر يكرمه ويعظمه، وولي بعده ولده الافضل علي (1) ، توفي في سحر يوم الخميس ثامن عشرين المحرم، ودفن ضحوة عند والديه بظاهر حماه.
القاضي الامام تاج الدين السعدي تاج الدين أبو القاسم عبد الغفار بن محمد بن عبد الكافي بن عوض بن سنان بن عبد الله
__________
(1) انظر حاشية 1 ص 181.
(وانظر بدائع الزهور 1 / 463).

السعدي الفقيه الشافعي، سمع الكثير وخرج لنفسه معجما في ثلات مجلدات، وقرأ بنفسه الكثير، وكتب الخط الجيد، وكان متقنا عارفا بهذا الفن، يقال إنه كتب بخطه نحوا من خمسمائة مجلد، وقد كان شافعيا مفتيا، ومع هذا ناب في وقت عن القاضي الحنبلي، وولي مشيخة الحديث بالمدرسة الصاحبية، وتوفي بمصر في مستهل ربيع الاول عن ثنتين وثمانين سنة، رحمه الله.
الشيخ رضي الدين بن سليمان (1) المنطقي الحنفي، أصله من أب كرم، من بلاد قونية، وأقام بحماه ثم بدمشق.
ودرس بالقيمازية، وكان فاضلا في المنطق والجدل، واشتغل عليه جماعة في ذلك، وبلغ من العمر ستا ثمانين سنة، وحج سبع مرات، توفي ليلة الجمعة سادس عشرين ربيع الاول، وصلي عليه بعد الصلاة ودفن بالصوفية.
وفي ربيع الاول توفي:
الامام علاء الدين طنبغا (2) ودفن بتربته بالصالحية.
وكذلك الامير سيف الدين زولاق، ودفن بتربته أيضا.
قاضي القضاة شرف الدين أبو محمد عبد الله بن الحسن بن عبد الله بن الحافظ عبد الغني المقدسي الحنبلي، ولد سنة ست وأربعين وستمائة، وباشر نيابة ابن مسلم مدة، ثم ولي القضاء في السنة الماضية، ثم كانت وفاته فجأة في مستهل جمادى الاولى ليلة الخميس، ودفن من الغد بتربة الشيخ أبي عمر.
الشيخ ياقوت الحبشي الشاذلي الاسكندراني، بلغ الثمانين، وكان له أتباع، وأصحاب منهم شمس الدين بن اللبان الفقيه الشافعي، وكان يعظمه ويطريه وينسب إليه مبالغات الله أعلم بصحتها وكذبها، توفي في جماد وكانت جنازته حافلة جدا.
__________
(1) وهو ابراهيم بن سليمان الرومي الحنفي المعروف بالمنطقي.
__________
(2) من مختصر أخبار البشر 4 / 105، وفي الاصل: طيبغا.
وهو علاء الدين الطنبغا الصالحي العلائي السلحدار عمل نيابة حمص ثم غزة وبها مات (الدرر 1 / 436).

النقيب ناصح الدين محمد بن عبد الرحيم بن قاسم بن إسماعيل الدمشقي، نقيب المتعممين، تتلمذ أولا للشهاب المقري ثم كان بعده في المحافل العزاء والهناء، وكان يعرف هذ الفن جيدا، وكان كثير الطلب من الناس، ويطلبه الناس لذلك، ومع هذا مات وعليه ديون كثيرة، توفي في أواخر رجب.
القاضي فخر الدين كاتب المماليك وهو محمد بن فضل الله ناظر الجيوش بمصر، أصله قبطي فأسلم وحسن إسلامه، وكانت له أوقاف كثيرة، وبر وإحسان إلى أهل العلم، وكان صدرا معظما، حصل له من السلطان حظ
وافر، وقد جاوز السبعين وإليه تنسب الفخرية بالقدس الشريف، توفي في نصف رجب واحتيط على أمواله وأملاكه بعد وفاته رحمه الله.
الامير سيف الدين الجاي الدويدآر الملكي الناصري كان فقيها حنفيا فاضلا، كتب بخطه ربعة وحصل كتبا كثيرة معتبرة، وكان كثير الاحسان إلى أهل العلم، توفي في سلخ رجب رحمه الله.
الطبيب الماهر الحاذق الفاضل أمين الدين سليمان بن داود بن سليمان، كان رئيس الاطباء بدمشق ومدرسهم مدة، ثم عزل بجمال الدين بن الشهاب الكحال مدة قبل موته لامر تعصب عليه فيه نائب السلطنة، توفي يوم السبت سادس عشرين شوال ودفن بالقبيبات.
الشيخ الامام العالم المقري شيخ القراء برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم بن عمر إبراهيم بن خليل الجعبري، ثم الخليلي الشافعي، صاحب المصنفات الكثيرة في القراءات وغيرها، ولد سنة أربعين وستمائة بقلعة جعبر، واشتغل ببغداد، ثم قدم دمشق وأقام ببلد الخليل نحو أربعين سنة يقرئ الناس، وشرح الشاطبية وسمع الحديث، وكانت له إجازة من يوسف بن خليل الحافظ، وصنف بالعربية والعروض والقراءات نظما ونثرا، وكان من المشايخ المشهورين بالفضائل والرياسة والخير والديانة

والعفة والصيانة، توفي يوم الاحد خامس شهر رمضان، ودفن ببلد الخليل تحت الزيتونة، وله ثنتان وتسعون سنة رحمه الله.
قاضي القضاة علم الدين أبو عبد الله محمد بن القاضي شمس الدين أبي بكر بن عيسى بن بدران بن رحمة الاخنائي السعدي المصري الشافعي الحاكم بدمشق وأعمالها، كان عفيفا نزها ذكيا سار العبارة محبا للفضائل، معظما لاهلها كثير الاسماع الحديث في العادلية الكبيرة، توفي يوم الجمعة ثالث عشر ذي القعدة ودفن بسفح قاسيون عند زوجته تجاه تربة العادل كتبغا من ناحية الجبل.
قطب الدين موسى ابن أحمد بن الحسين ابن شيخ السلامية ناظر الجيوش الشامية، كانت له ثروة وأموال كثيرة، وله فضائل وإفضال وكرم وإحسان إلى أهل الخير، وكان مقصدا في المهمات، توفي يوم الثلاثاء ثاني [ ذي ] الحجة وقد جاوز السبعين، ودفن بتربته تجاه الناصرية بقاسيون، وهو والد الشيخ الامام العلامة عز الدين حمزة مدرس الحنبلية (1).
ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة استهلت يوم الاربعاء والحكام هو المذكورون في التي قبلها، وليس للشافعية قاض، وقاضي الحنفية عماد الدين الطرسوسي، وقاضي المالكية شرف الدين الهمداني، وقاضي الحنابلة علاء الدين بن المنجا، وكاتب السر محيي الدين بن فضل الله، وناظر الجامع عماد الدين بن الشيرازي.
وفي ثاني المحرم قدم البشير بسلامة السلطان من الحجاز وباقتراب وصوله إلى البلاد، فدقت البشائر وزينت البلد.
وأخبر البشير بوفاة الامير سف الدين بكتمر الساقي وولده شهاب الدين أحمد وهما راجعان في الطريق، بعد أن حجا قريبا من مصر: الوالد أولا، ثم من بعده ابنه (2) بثلاثة أيام بعيون القصب، ثم نقلا إلى تربتهما بالقرافة (3)، ووجد لبكتمر من الاموال والجواهر
__________
(1) وهي المدرسة الحنبلية الشريفة، بدمشق (الدارس 2 / 60 خطط الشام 6 / 100).
__________
(2) في الاصل، أبوه تحريف، وما أثبتناه يقتضيه السياق - انظر بدائع الزهور 1 / 1 / 464.
__________
(3) في بدائع الزهور 1 / 1 / 464: مات بكتمر بعيون القصب ودفن بها، ومات ولده أحمد بنخل ودفن بها.
وفي السنة التالية رسم السلطان بنقلهما ودفنا في الخانقاه بالقرافة الصغرى وعن سبب موت بكتمر وولده - وهو صهر السلطان =.

واللآلي والقماش والامتعة والحواصل شئ كثير، لا يكا ينحصر ولا ينضبط، وأفرج عن الصاحب شمس الدين غبريال في المحرم، وطلب في صفر إلى مصر فتوجه على خيل البريد، واحتيط على أهله بعد مسيره وأخذت منهم أموال كثيرة لبيت المال.
وفي أواخر صفر قدم الصاحب أمين الملك (1) على نظر الدواوين بدمشق عوضا عن غبريال، وبعده بأربعة أيام قدم القاضي فخر الدين بن الحلي على نظر الجيش بعد وفاة قطب الدين ابن شيخ السلامية.
وفي نصف ربيع الاول لبس ابن جملة خلعة القضاء للشافعية بدمشق بدار السعادة، ثم جاء إلى الجامع وهي عليه، وذهب إلى العادلية وقرئ تقليده بها بحضرة الاعيان، ودرس بالعادلية والغزالية يوم الاربعاء ثاني عشر الشهر المذكور.
وفي يوم الاثنين رابع عشرينه حضر ابن أخيه جمال الدين محمود إعادة القيمرية نزل له عنها، ثم استنابه بعد ذلك في المجلس، وخرج إلى العادلية فحكم بها، ثم لم يستمر بعد ذلك، عزل عن النيابة بيومه، واستناب بعده جمال الدين إبراهيم بن شمس الدين محمد بن يوسف الحسباني، وله همة وعنده نزاهة وخبرة بالاحكام.
وفي ربيع الاول ولي شهاب قرطاي نيابة طرابلس وعزل عنها طينال (2) إلى نيابة غزة وتولى نائ ب غزة حمص، وحصل للذي جاء بتقاليدهم مائة ألف درهم منهم، وفي ربيع الآخر أعيد القاضي محيي الدين بن فضل الله وولده إلى كتابة سر مصر، ورجع شرف الدين بن الشهاب محمود إلى كتابة سر الشام كما كان.
وفي منتصف هذا الشهر ولي نقابة الاشراف عماد الين موسى الحسيني عوضا عن أخيه شرف الين عدنان توفي في الشهر الماضي ودفن بتربتهم عند مسجد الدبان.
وفيه درس الفخر المصري بالدولعية عوضا عن ابن جملة بحكم ولايته القضاء.
وفي خامس عشرين رجب درس بالبادرائية القاضي علاء الدين علي بن شريف ويعرف بابن الوحيد، عوضا عن ابن جهبل توفي في الشهر الماضي، وحضر عنده القضاة والاعيان، وكنت إذ ذاك بالقدس أنا والشيخ شمس الدين بن عبد الهادي وآخرون، وفيه رسم السلطان الملك الناصر =
__________
زوح أخته - أنه بلغ السلطان أن بكتمر يقصد الوثوب عليه هناك، فدس عليه من أسقاه سما.
وكان الاتابكي بكتمر يحجر على السلطان إذا رأى منه الجور في حق الرعية، وكان السلطان يخشى منه ولا يخالفه فيما يأمره به، وكان لا يتصرف في شئ من أمور المملكة إلا بعد مشورة الاتابكي بكتمر.
ولما صار صاحب الحل والعقد في دولة الملك الناصر ثقل أمره عليه إلى الغاية (تذكرة النبيه 2 / 236).
ولما لم يمكن السلطان من القبض عليه دس عليه من سقاه السم (بدائع الزهور 1 / 1 / 236).
__________
(1) كذا بالاصل، والصواب أمين الدين، ففي دولة المماليك جرت العادة على تغيير أسماء رجال الدولة من القبط الذين أسلموا باضافة الاسم الاصلي إلى لفظ الدين (صبح الاعشى 5 / 490).
__________
(2) في الاصل طبلان تصحيف، وهو طينال الاشرفي الحاجب، سيف الدين الناصري المتوفي سنة 743 (الدرر 2 / 334 السلوك 2 / 637.

بالمنع من رمي البندق، وأن لا تباع قسيها ولا تعمل، وذلك لافساد رماة البندق أولاد الناس، وأن الغالب على من تعاناه اللواط والفسق وقلة الدين، ونودي بذلك في البلاد المصرية والشامية.
قال البرزالي: وفي نصف شعبان أمر السلطان بتسليم المنجمين إلى والي القاهرة فضربوا وحبسوا لافسادهم حال النساء، فمات منهم أربعة تحت العقوبة، وثلاثة من المسلمين ونصراني، وكتب إلي بذلك الشيخ أبو بكر الرحبي.
وفي أول رمضان وصل البريد بتولية الامير فخر الين ابن الشمس لؤلؤ ولاية البر بدمشق بعد وفاة شهاب الدين بن المرواني، ووصل كتاب من مكة إلى دمشق في رمضان يذكر فيه أنها وقعت صواعق ببلاد الحجاز فقتلت جماعة متفرقين في أماكن شتى، وأمطار كثيرة جدا، وجاء البريد في رابع رمضان بتولية القاضي محيي الدين بن جميل قضاء طرابلس فذهب إليها، ودرس ابن المجد عبد الله بالرواحية عوضا عن الاصبهاني بحكم إقامته بمصر.
وفي آخر رمضان أفرج عن الصاحب علاء الدين وأخيه شمس الدين موسى بن التاج إسحاق بعد سجنهما سنة ونصفا.
وخرج الركب الشامي يوم الخميس عاشر شوال وأميره بدر الدين بن معبد وقاضيه علاء الدين بن منصور مدرس الحنفية بمدرسة تنكز، وفي الحجاج صدر الدين المالكي، وشهاب الدين الظهيري، ومحيي الدين بن الاعقف وآخرون وفي يوم الاحد ثالث عشرة درس بالاتابكية ابن جملة عوضا عن ابن جميل تولى قضاء طرابلس، وفي يوم الاحد عشرينه حكم القاضي شمس الدين محمد بن كامل التدمري، الذي كان في خطابة الخليل بدمشق نيابة عن ابن جملة، وفرح الناس بدينه وفضيلته.
وفي ذي القعدة مسك تنكز دواداره ناصر الدين محمد، وكان عنده بمكانة عظيمة جدا، وضربه بين يديه ضربا مبرحا، واستخلص منه أموالا كثيرة، ثم حسبه بالقلعة ثم نفاه إلى القدس، وضرب جماعة من أصحابه منهم علاء الدين بن مقلد حاجب العرب، وقطع لسانه مرتين، ومات وتغيرت الدولة وجاءت دولة أخرى مقدمها عنده حمزة الذي كان سميره وعشيره في هذه المدة الاخيرة، وانزاحت النعمة عن الدوادار ناصر الدين وذويه ومن يليه.
وفي يوم الثلاثاء ثامن عشرين ذي القعدة ركب على الكعبة باب حديد أرسله السلطان مرصعا من البسط (1) الاحمر كأنه آبنوس، مركب عليه صفائح من فضة زنتها خمسة وثلاثون ألفا وثلثمائة وكسر، وقلع الباب العتيق، وهو من خشب الساج (2)، وعليه صفائح تسلمها بنو
__________
(1) كذا بالاصل، وفي تذكرة النبيه 2 / 246: السنط، والسنط قرظ ينبت في الصعيد، وهو أجود حطب يستوقد به الناس (لسان العرب).
__________
(2) في تذكرة النبيه 2 / 247: من خشب الساسم، قال في حاشية رقم 2: وهو خشب أسود يشبه الابنوس.

شيبة، وكان زنتها ستين رطلا فباعوها كل درهم بدرهمين، لاجل التبرك.
وهذا خطأ وهو ربا وكان ينبغي أن يبيعوها بالذهب لئلا يحصل ربا بذلك - وترك خشب الباب العتيق داخل الكعبة، وعليه اسم صاحب اليمن في الفردتين، واحدة عليها: اللهم يا ولي يا علي اغفر ليوسف بن عمر ابن علي.
وممن توفي فيها من الاعيان: الشيخ العالم تقي الدين محمود علي ابن محمود بن مقبل الدقوقي أبو الثناء البغدادي محدث بغداد منذ خمسين سنة، يقرأ لهم الحديث وقد ولي مشيخة الحديث بالمستنصرية، وكان ضابطا محصلا بارعا، وكان يعظ ويتكلم في الاعزية والاهنية، وكان فردا في زمانه وبلاده رحمه الله، توفي في المحرم وله قريب السبعين سنة، وشهد جنازته خلق كثير، ودفن بتربة الامام أحمد، ولم يخلف درهما واحدا، وله قصيدتان رثا بهما
الشيخ تقي الدين بن تيمية كتب بهما إلى الشيخ الحافظ البرزالي رحمه الله تعالى.
الشيخ الامام العالم عز القضاة فخر الدين أبو محمد عبد الواحد بن منصور بن محمد بن المنير المالكي الاسكندري، أحد الفضلاء المشهورين، له تفسير في ست مجلدات، وقصائد في رسول الله صلى الله عليه وسلم حسنة، وله في كان وكان، وقد سمع الكثير وروى، توفي في جماد الاولى عن ثنتين وثمانين سنة، ودفن بالاسكندرية رحمه الله.
ابن جماعة قاضي القضاة العالم شيخ الاسلام بدر الدين أبو عبد الله محمد بن الشيخ الامام الزاهد أبي إسحاق إبراهيم ابن سعد الله بن جماعة بن حازم بن صخر الكناني الحموي الاصل، ولد ليلة السبت رابع ربيع لآخر سنة تسع وثلاثين وستمائة بحماة، وسمع الحديث واشتغل بالعلم، وحصل علوما متعددة، وتقدم وساد أقرانه، وباشر تدريس القيمرية، ثم ولي الحكم والخطابة بالقدس الشريف، ثم نقل منه إلى قضاء مصر في الايام الاشرفية، ثم باشر تداريس كباريها في ذلك الوقت، ثم ولي قضاء الشام وجمع له معه الخطابة ومشيخة الشيوخ وتدريس العادلية وغيرها مدة طويلة، كل هذا مع الرياسة والديانة والصيانة والورع، وكف الاذى، وله التصانيف الفائقة النافعة، وجمع له خطبا كان يخطب بها في طيب صوت فيها وفي قراءته في المحراب وغيره، ثم نقل إلى قضاء الديار المصرية بعد وفاة الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، فلم يزل حاكما بها إلى أن أضر

وكبر وضعفت أحواله، فاستقال فأقيل وتولى مكانه القزويني، وبقيت منه بعض الجهات ورتبت له الرواتب الكثيرة الدارة إلى أن توفي ليلة الاثنين بعد عشاء الآخرة حادي عشرين جمادى الاولى، وقد أكمل أربعا وتسعين سنة وشهرا وأياما، وصلي عليه من الغ الظهر بالجامع الناصري بمصر، ودفن بالقرافة، وكانت جنازته حافلة هائلة رحمه الله.
الشيخ الامام الفاضل مفتي المسلمين
شهاب الدين أبو العباس أحمد بن محيي الدين يحيى بن تاج الدين إسماعيل بن طاهر بن نصر الله بن جهبل الحلبي الاصل ثم الدمشقي الشافعي، كان من أعيان الفقهاء، ولد سنة سبعين وستمائة واشتغل بالعلم ولزم المشايخ ولزم الشيخ الصدر بن الوكيل، ودرس بالصلاحية (1) بالقدس، ثم تركها إلى دمشق فباشر مشيخة دار الحديث الظاهرية مدة، ثم ولي مشيخة البادرائية فترك الظاهرية وأقام بتدريس البادرائية إلى أن مات، ولم يأخذ معلوما من واحدة منهما، توفي يوم الخميس بعد العصر تاسع جمادى الآخرة وصلي عليه بعد الصلاة ودفن بالصوفية، وكانت جنازته حافلة.
تاج الدين عبد الرحمن بن أيوب مغسل الموتى في سنة ستين وستمائة، يقال إنه غسل ستين ألف ميت، وتوفي في رجب وقد جاوز الثمانين.
الشيخ فخر الدين أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد العظيم بن السقطي الشافعي، كان مباشرا شهادة الخزانة، وناب في الحكم عند باب النصر ودفن بالقرافة.
الامام الفاضل مجموع الفضائل شهاب الدين أبو العباس أحمد بن عبد الوهاب البكري، نسبة إلى أبو بكر الصديق رضي الله عنه، كان لطيف المعاني ناسخا مطيقا يكتب في ثلاث كراريس، وكتب البخاري ثماني مرات ويقابله ويجلده ويبيع النسخة من ذلك بألف ونحوه، وقد جمع تاريخا في ثلاثين مجلدا، وكان
__________
(1) المدرسة الصلاحية بالقدس أوقفها السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب للفقهاء الشافعية سنة 588 (محمد كرد علي: خطط الشام 6 / 122).

ينسخه ويبيعه أيضا بأزيد من ألف، وذكر أن له كتابا سماه منتهى الارب في علم الادب في ثلاثين مجلدا أيضا وبالجملة كام نادرا في وقته، توفي يوم الجمعة عشرين رمضان رحمه الله.
الشيخ الصالح الزاهد الناسك الكثير الحج علي بن الحسن بن أحمد الواسطي المشهور بالخير والصلاح، وكثرة العبادة والتلاوة والحج، يقال إنه حج أزيد من أربعين حجة، وكانت عليه مهابة ولديه فضيلة، توفي وهو محرم يوم الثلاثاء ثامن عشرين ذي القعدة، وقد قارب الثمانين رحمه الله.
الامير عز الدين إبراهيم بن عبد الرحمن ابن أحمد بن القواس، كان مباشرا الشد في بعض الجهات السلطانية، وله دار حسنة بالعقيبة الصغيرة، فلما جاءت الوفاة أوصى أن تجعل مدرسة، ووقف عليها أوقافا، وجعل تدريسها للشيخ عماد الدين الكردي الشافعي، توفي يوم الاربعاء عشرين [ ذي ] الحجة.
ثم دخلت سنة أربع وثلاثين وسبعمائة استهلت بيوم الاحد وحكام البلاد هم المذكورون في التي قبلها.
وفي يوم الجمعة ثاني ربيع الاول أقيمت الجمعة بالخاتونية البرانية، وخطب بها شمس الدين النجار المؤذن المؤقت بالاموي، وترك خطابة جامع القابون.
وفي مستهل هذا الشهر سافر الامير شمس الدين محمد التدمري إلى القدس حاكما به، وعزل عن نيابة الحكم بدمشق.
وفي ثالثه قدم من مصر زين الدين عبد الرحيم ابن قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة بخطابة القدس، فخلع عليه من دمشق ثم سافر إليها.
وفي آخر ربيع الاول باشر الامير ناصر الدين بن بكتاش الحسامي شد الاوقاف عوضا عن شرف الدين محمود بن الخطيري، سافر بأهله إلى مصر أميرا نيابة بها عن أخيه بدر الدين مسعود، وعزل القاضي علاء الدين بن القلانسي، وسائر الدواوين والمباشرين الذين في باب ملك الامراء تنكز وصودروا بمائتي ألف درهم، واستدعي من غزة ناظرها جمال الدين يوسف صهر السني المستوفي، فباشر نظر ديوان النائب ونظر المارستان النوري أيضا على العادة.
وفي شهر ربيع الاول أمر تنكز بإصلاح باب توما فشرع فيه بابه عشرة أذرع، وجددت حجارته وحديده في أسرع وقت، وفي هذا الوقت حصل بدمشق سيل خرب بعض الجدران ثم تناقص، وفي أوائل ربيع الآخر قدم من مصر جمال الدين آقوش نائب الكرك مجتازا إلى طرابلس

نائبها عوضا عن قرطاي (1) توفي.
وفي جمادى الاولى طلب القاضي شهاب الدين بن المجد عبد الله إلى دار السعادة فولي وكالة بيت المال عوضا عن بن القلانسي، ووصل تقليده من مصر بذلك، وهنأه الناس.
وفيه طلب الامير نجم الدين بن الزيبق من ولاية نابلس فولي شد الدواوين بدمشق، وقد شغر منصبه شهورا بعد ابن الخشاب.
وفي رمضان خطب الشيخ بدر الدين أبو اليسر بن الصائغ بالقدس عوضا عن زين الدين بن جماعة لاعراضه عنها واختياره العود إلى بلده.
قضية القاضي ابن جملة لما كان في العشر الاخير من رمضان وقع بين القاضي ابن جملة وبين الظهير شيخ مالك الامراء - وكان هو السفير في تولية ابن جملة القضاء - فوقع بينهما منافسة ومحاققة في أمور كانت بينه وبين الدوادار المتقدم ذكره ناصر الدين، فحلف كل واحد منهما على خلاف ما حلف به الآخر عليه، وتفاضلا من دار السعادة في المسجد، فلما رجع القاضي إلى منزله بالعادلية أرسل إليه الشيخ الظهير ليحكم فيه بما فيه المصلحة، وذلك عن مرسوم النائب، وكأنه خديعة في الباطن وإظهارا لنصرة القاضي عليه في الظاهر، فبدر به القاضي بادي الرأي فعزره بين يديه، ثم خرج من عنده فتسلمه أعوان ابن جملة فطافوا به البلد على حمار يوم الاربعاء سابع عشرين رمضان، وضربوه ضربا عنيفا، ونادوا عليه: هذا جزاء من يكذب ويفتات على الشرع، فتألم الناس له لكونه في الصيام.
وفي العشر الاخير من رمضان، يوم سبع وعشرين، وهو شيخ كبير صائم، فيقال: إنه ضرب يومئذ ألفين ومائة وإحدى وسبعين درة والله أعلم، فما أمسى حتى استفتى على القاضي المذكور وداروا على المشايخ بسبب ذلك عن مرسوم النائب، فلما كان يوم تاسع عشرين رمضان عقد نائب السلطنة بين يديه بدار السعادة مجلسا حافلا بالقضاة وأعيان المفتيين من سائر المذاهب، وأحضر ابن حملة قاضي الشافعية والمجلس قد احتفل بأهله، ولم يأذنوا لابن جملة في الجلوس، بل قام قائما ثم أجلس بعد ساعة جيدة في طرف الحلقة، إلى جانب المحفة التي فيها
الشيخ الظهير، وادعى عليه عند بقية القضاة أنه حكم فيه لنفسه، واعتدى عليه في العقوبة، وأفاض الحاضرون في ذلك، وانتشر الكلام وفهموا من نفس النائب الحط على ابن جملة، والميل عنه بعد أن كان إليه، فما انفصل المجلس حتى حكم القاضي شرف الدين المالكي بفسقه وعزله وسجنه، فانفض المجلى على ذلك، ورسم على ابن جملة بالعذراوية ثم نقل إلى القلعة جزاء وفاقا والحمد لله وحده، وكان له في القضاء سنة ونصف إلا أياما، وكان يباشر الاحكام جيدا،
__________
(1) هو قرطاي بن عبد الله الاشرفي المنصوري الجوكندار، الامير شهاب الدين الناصري، كان كبيرا خبيرا، عمر بطرابلس مدرسة محكمة البناء في غاية الحسن " وهي المدرسة القرطائية " وهي من أفخم مدارس طرابلس وبها دفن.

وكذا الاقاف المتعلقة به، وفيه نزاهة وتمييز الاوقاف بين الفقهاء والفقراء، وفيه صرامة وشهامة وإقدام، لكنه أخطأ في هذه الواقعة، وتعدى فيها فآل إلى هذا.
وخرج الركب يوم الاثنين عاشر شوال وأميره الجي بغا وقاضيه مجد الدين بن حيان المصري.
وفي يوم الاثنين رابع عشرينه درس بالاقبالية الحنفية نجم الدين ابن قاضي القضاة عماد الدين الطرسوسي الحنفي عوضا عن شمس الدين محمد بن عثمان بن محمد الاصبهاني بن العجمي الحبطي، ويعرف بابن الحنبلي، وكان فاضلا دينا متقشفا كثير الوسوسة في الماء جدا، وأما المدارس مكانه وهو نجم الدين بن الحنفي فإنه ابن خمس عشرة سنة، وهو في النباهة والفهم، وحسن الاشتغال والشكل والوقار، بحيث غبط الحاضرون كلهم أباه على ذلك، ولذا آل أمره أن تولى قضاء القضاة في حياة أبيه، نزل له عنه وحمدت سيرته وأحكامه.
وفي هذا الشهر أثبت محضر في حق الصاحب شمس الدين غبريال المتوفى هذه السنة أنه كان يشتري أملاكا من بيت المال ويوقفها ويتصرف فيها تصرف الملاك بنفسه، وشهد بذلك كمال الدين الشيرازي وابن أخيه عماد الدين وعلاء الدين القلانسي وابن خاله عماد الدين القلانسي،
وعز الدين بن المنجا، وتقي الدين بن مراجل، وكمال الدين بن الغويرة، وأثبت على القاضي برهان الدين الزرعي الحنبلي ونفذه بقية القضاة، وامتنع المحتسب عز الدين بن القلانسي من الشهادة فرسم عليه بالعذراوية قريبا من شهر، ثم أفرج عنه وعزل عن الحسبة، واستمر على نظر الخزانة.
وفي يوم الاحد ثامن عشرين ذي القعدة حملت خلعة القضاء إلى الشيخ شهاب الدين بن المجد وكيل بيت المال يومئذ، فلبسها وركب إلى دار السعادة وقرئ تقليده بحضرة نائب السلطنة والقضاة ثم رجع إلى مدرسته الاقبالية فقرئ بها أيضا وحكم بين خصمين، وكتب على أوراق السائلين، ودرس بالعادلية والغزالية والاتابكيتين مع تدريس الاقبالية عوضا عن ابن جملة.
وفي يوم الجمعة حضر الامير حسام الدين مهنا بن عيسى وفي صحبته صاحب حماة الافضل، فتلقاهما تنكز وأكرمهما، وصليا الجمعة عند النائب ثم توجها إلى مصر، فتلقاهما أعيان الامراء وأكرم السلطان منها بن عيسى وأطلق له أموالا جزيلة كثيرة، من الذهب والفضة والقماش، وأقطعه عدة قرى ورسم له بالعود إلى أهله، ففرح الناس بذلك، قالوا وكان جميع ما أنعم به عليه السلطان قيمة مائة ألف دينار، وخلع عليه وعلى أصحابه مائة سبعين خلعة.
وفي يوم الاحد سادس [ ذي ] الحجة حضر درس الرواحية الفخر المصري عوضا عن قاضي القضاة ابن المجد وحضر عنده القضاة الاربعة وأعيان الفضلاء.
وفي يوم عرفة خلع على نجم

الدين بن أبي الطيب بوكالة بيت المال، عوضا عن ابن المجد، وعلى عماد الدين بن الشيرازي بالحسبة عوضا عن عز الدين بن القلانسي وخرج الثلاثة من دار السعادة بالطرحات.
وممن توفي فيها من الاعيان: الشيخ الاجل التاجر بدر الدين بدر الدين لؤلؤ بن عبد الله عتيق النقيب شجاع الدين إدريس، وكان رجلا حسنا يتجر في الجوخ، مات فجأة عصر يوم الخميس خامس محرم، وخلف أولادا وثروة، ودفن بباب الصغير،
وله بروصدقة ومعروف، وسبع بمسجد ابن هشام.
الصدر أمين الدين محمد بن فخر الدين أحمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن محمد بن يوسف بن أبي العيش الانصاري الدمشقي باني المسجد المشهور بالربوة، على حافة بردى، والطهارة الحجارة إلى جانبه، والسوق الذي هناك، وله بجامع النيرب ميعاد.
ولد سنة ثمان وخمسين وستمائة، وسمع البخاري وحدث به، وكان من أكابر التجار ذوي اليسار، توفي بكر ة الجمعة سادس المحرم ودفن بتربته بقاسيون رحمه الله.
الخطيب الامام العالم عماد الدين أبو حفص عمر الخطيب، ظهير الدين عبد الرحيم بن يحيى بن إبراهيم بن علي ابن جعفر بن عبد الله بن الحسن القرشي الزهري النابلسي، خطيب القدس، وقاضي طرابلس مدة طويلة، ثم جمع له بين خطابة القدس وقضائها، وله اشتغال وفيه فضيلة، وشرح صحيح مسلم في مجلدات، وكان سريع الحفظ سريع الكتابة، توفي ليلة الثلاثاء عاشر المحرم ودفن بماملا رحمه الله.
الصدر شمس الدين محمد بن إسماعيل بن حماد التاجر بقيسارية الشرب، كتب المنسوب وانتفع به الناس، وولي التجار لامانته وديانته، وكانت له معرفة ومطالعة في الكتب، توفى تاسع صفر عن نحو ستين سنة.
ودفن بقاسيون رحمه الله.

جمال الدين قاضي القضاة الزرعي هو أبو الربيع سليمان بن الخطيب مجد الدين (1) عمر بن سالم بن عمر بن عثمان الاذرعي الشافعي ولد سنة خمس وأربعين وستمائة بأذرعات، واشتغل بدمشق فحصل، وناب في الحكم بزرع مدة فعرف بالزرعي لذلك، وإنما هو من أذرعات وأصله من بلاد المغرب، ثم ناب بدمشق
ثم انتقل إلى مصر فناب في الحكم بها، ثم استقل بولاية القضاء بها نحوا من سنة، ولي قضاء الشام مدة مع مشيخة نحوا من سنة، ثم عزل وبقي على مشيخة الشيوخ نحوا من سنة مع تدريس الاتابكية، ثم تحول إلى مصر فولي بها التدريس وقضاء العسكر، ثم توفي بها يوم الاحد سادس صفر وقد قارب السبعين رحمه الله، وقد خرج له البرزالي مشيخة سمعناها عليه وهو بدمشق عن اثنتين وعشرين شيخا.
الشيخ الامام العالم الزاهد زين الدين أبو محمد عبد الرحمن بن محمود بن عبيدان البعلبكي الحنبلي، أحد فضلاء الحنابلة، ومن صنف في الحديث والفقه والتصوف وأعمال القلوب وغير ذلك، كان فاضلا له أعمال كثيرة، وقد وقعت له كائنة في أيام الظاهر أنه أصيب في عقله أو زوال فكره، أو قد عمل على الرياضة فاحترق باطنه من الجوع، فرأى خيالات لا حقيقة لها فاعتقد أنها أمر خارجي، وإنما هو خيال فكري فاسد.
وكانت وفاته في نصف صفر ببعلبك، ودفن بباب سطحا ولم يكمل الستين، وصلي عليه بدمشق صلاة الغائب، وعلى القاضي الزرعي معا.
الامير شهاب الدين نائب طرابلس له أوقاف وصدقات، وبروصلات، توفي بطرابلس يوم الجمعة ثامن عشر صفر ودفن هناك رحمه الله.
الشيخ عبد الله بن يوسف بن أبي بكر الاسعردي الموقت كان فاضلا في صناعة الميقات وعلم الاصطرلاب وما جرى مجراه، بارعا في ذلك، غير أنه لا ينفع به لسوء أخلاقه وشراستها، ثم إنه ضعف بصره فسقط من قيسارية بحسى عشية السبت عاشر ربيع الاول، ودفن بباب الصغير.
__________
(1) في تذكرة النبيه 2 / 249: سراج الدين، وفي النجوم الزاهرة 9 / 4 ذكره مجد الدين.

الامير سيف الدين بلبان
طرفا بن عبد الله الناصري، كان من المقدمين بدمشق، وجرت له فصول يطول ذكرها، ثم توفي بداره عند مأذنة فيروز ليلة الابعاء حادي عشرين ربيع الاول، ودفن بتربة اتخذها إلى جانب داره، ووقف عليها مقرئين، وبنى عندها مسجدا بإمام ومؤذن.
شمس الدين محمد بن يحيى بن محمد بن قاضي حران ناظر الاوقاف بدمشق، مات الليلة التي مات فيها الذي قبله، ودفن بقاسيون، وتولى مكانه عماد الدين الشيرازي.
الشيخ الامام ذو الفنون تاج الدين أبو حفص عمر بن علي بن سالم بن عبد الله اللخمي الاسكندراني، المعروف بابن الفاكهاني، ولد سنة أربع وخمسين وستمائة، وسمع الحديث واشتغل بالفقه على مذهب مالك، وبرع وتقدم بمعرفة النحو وغيره، وله مصنفات في أشياء متفرقة، قدم دمشق في سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة في أيام الاخنائي، فأنزله في دار السعادة وسمعنا عليه ومعه، وحج من دمشق عامئذ وسمع عليه في الطريق، ورجع إلى بلاده، توفي ليلة الجمعة سابع جمادى الاولى، وصلي عليه بدمشق حين بلغهم خبر موته.
الشيخ الصالح العابد الناسك أيمن أمين الدين أيمن بن محمد، وكان يذكر أن اسمه محمد بن محمد إلى سبعة (1) عشر نفسا كلهم اسمه محمد، وقد جاور بالمدينة مدة سنين إلى أن توفي ليلة الخميس ثامن ربيع الاول، ودفن بالبقيع وصلي عليه بدمشق صلاة الغائب.
الشيخ نجم الدين القباني الحموي عبد الرحمن بن الحسن بن يحيى اللخمي القبابي، قرية من قرى أشمون الرمان، أقام بحماة في زاوية يزار ويلتمس دعاؤه، وكان عابدا ورعا زاهدا آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر، حسن الطريقة إلى أن توفي بها آخر نهار الاثنين رابع عشر رجب، عن ست وستين سنة، وكانت جنازته حافلة هائلة جدا، ودفن شمالي حماة، وكان عنده فضيلة، واشتغل على مذهب الامام
أحمد بن حنبل، وله كلام حسن يؤثر عنه رحمه الله.
__________
(1) في الاصل سبع.

الشيخ فتح الدين بن سيد الناس الحافظ العلامة البارع، فتح الدين بن أبي الفتح محمد بن الامام أبي عمروا محمد بن الامام الحافظ الخطيب أبي بكر محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن يحيى بن سيد الناس الربعي اليعمري الاندلسي الاشبيلي ثم المصري، ولد في العشر الاول من ذي الحجة سنة إحدى وسبعين وستمائة، وسمع الكثير وأجاز له الرواية عنهم جماعات من المشايخ، ودخل دمشق سنة تسعين فسمع من الكندي وغيره، واشتغل بالعلم فبرع وساد أقرانه في علوم شتى من الحديث والفقه والنحو من العربية، وعلم السير والتواريخ وغير ذلك من الفنون، وقد جمع سيرة حسنة في مجلدين، وشرح قطعة حسنة من أول جامع الترمذي، رأيت منها مجلدا بخطه الحسن، وقد حرر وحبر وأفاد وأجاد، ولم يسلم من بعض الانتقاد، وله الشعر الرائق والفائق، والنثر الموافق، والبلاغة التامة، وحسن الترصيف والتصنيف، وجودة البديهية، وحسن الطويلة، وله العقيدة السالفية الموضوعة على الآي والاخبار والآثار والاقتفاء بالآثار النبوية، ويذكر عنه سوء أدب في أشياء أخر (1) سامحه الله فيها، وله مدائح في رسول الله صلى الله عليه وسلم حسان، وكان شيخ الحديث بالظاهرية بمصر، وخطب بجامع الخندق، ولم يكن في مصر في مجموعه مثله في حفظ الاسانيد والمتون والعلل والفقه والملح والاشعار والحكايات، توفي فجأة يوم السبت حادي عشر شعبان، وصلي عليه من الغد، وكانت جنازته حافلة، ودفن عند ابن أبي حمزة رحمه الله.
القاضي مجد الدين بن حرمي ابن قاسم بن يوسف العامري الفاقوسي الشافعي، وكيل بيت المال، ومدرس الشافعي وغيره، كانت له همة ونهضة، وعلت سنه وهو مع ذلك يحفظ ويشغل ويشتغل، ويلقي الدروس من حفظه إلى أن توفي ثاني ذي الحجة، وولي تدريس الشافعي بعده شمس الدين بن القماح،
والقطبية بهاء الدين بن عقيل، والوكالة نجم الدين الاسعردي المحتسب، وهو كان وكيل بيت الظاهر.
ثم دخلت سنة خمس وثلاثين وسبعمائة استهلت وحكام البلاد هم المذكورون في التي قبلها، وناظر الجامع عز الدين بن المنجا.
والمحتسب عماد الدين الشيرازي وغيرهم.
وفي مستهل المحرم يوم الخميس درس بأم الصالح الشيخ خطيب تبرور عوضا عن قاضي القضاة شهاب الدين بن المجد، وحضر عنده القضاة والاعيان.
وفي سادس رجع مهنا بن عيسى من عند السلطان فتلقاه النائب والجيش، وعاد
__________
(1) العبارة في شذرات الذهب 6 / 109: " وتذكر عنه شؤون أخر الله يتولاه فيها ".

إلى أهله في عز وعافية.
وفيه أمر السلطان بعمارة جامع القلعة وتوسيعه، وعمارة جامع مصر العتيق.
وقدم إلى دمشق القاضي جمال الدين محمد (1) بن عماد الدين بن الاثير كاتب سر بها عوضا عن ابن الشهاب محمود (2).
ووقع في هذا لشهر والذي بعده موت كثير في الناس بالخانوق.
وفي ربيع الاول مسك الامير نجم الدين بن الزيبق مشد الدواوين، وصودر وبيعت خيوله وحواصله، وتولاه بعده سيف الدين تمر مملوك بكتمر الحاجب، وهو مشاد الزكاة.
وفيه كملت عمارة حمام الامير شمس الدين حمزة الذي تمكن عند تكنز بعد ناصر الدين الدوادار، ثم وقعت الشناعة عليه بسبب ظلمه في عمارة هذا الحمام فقابله النائب على ذلك وانتصف للناس منه، وضربه بين يديه وضربه بالبندق بيده في وجهه، وسائر جسده، ثم أودعه القلعة ثم نقله إلى بحيرة طبرية فغرقه فيها، وعزل الامير جمال الدين نائب الكرك عن نيابة طرابلس حسب سؤاله في ذلك، وراح إليها طيغال وقدم نائب الكرك إلى دمشق وقد رسم له بالاقامة في سلخد، فلما تلقاه نائب السلطنة والجيش نزل في دار السعادة وأخذ سيفه بها نقل إلى القلعة، ثم نقل إلى صفد (3) ثم إلى الاسكندرية، ثم كان آخر العهد به.
وفي جمادى الاولى احتيط على دار الامير بكتمر الحاجب الحسامي بالقاهرة، ونبشت وأخذ
منها شئ كثير جدا، وكان جد أولاده نائب الكرك المذكور.
وفي يوم السبت تاسع جمادى الآخرة باشر حسام الدين أبو بكر بن الامير عز الدين أيبك النجيبي شد الاوقاف عوضا عن ابن بكتاش، اعتقل، وخلع على المتولي وهنأه الناس.
وفي منتصف هذا الشهر علق الستر الجديد على خزانة المصحف العثماني، وهو من خز طويلة ثمانية أذرع وعرضه أربعة أذرع ونصف، غرم عليه أربعة آلاف وخمسمائة، وعمل في مدة سنة ونصف.
وخرج الركب الشامي يوم الخميس تاسع شوال وأميره علاء الدين المرسي، وقاضيه شهاب الدين الظاهري.
وفيه رجع جيش حلب إليها وكانوا عشرة آلاف سوى من تبعهم من التركمان، وكانوا في بلاد أذنة وطرسوس وإياس، وقد خربوا وقتلوا خلقا كثيرا، ولم يعدم منهم سوى رجل واحد غرق بنهر جاهان، ولكن كان قتل الكفار من كان عندهم من المسلمين نحوا من ألف رجل، يوم عيد الفطر فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفيه وقع حريق عظيم بحماة فاحترق منه أسواق كثيرة، وأملاك وأوقاف، وهلكت أموال
__________
(1) ذكره صاحب مختصر أخبار البشر 4 / 114 وتذكرة النبيه 2 / 258: جمال الدين عبد الله بن القاضي كمال الدين محمد بن المولى عماد الدين إسماعيل بن أحمد بن سعيد بن الاثير المتوفى سنة 778 (انظر شذرات الذهب 6 / 257).
__________
(2) وهو حفيد الامام شهاب الدين محمود بن سلمان الحلبي، المولى شهاب الدين أبي بكر بن شمس الدين محمد.
المتوفى سنة 744 ه (مختصر أخبار البشر 4 / 115 تذكرة النبيه 2 / 258)
__________
(3) في الاصل صفت.

لا تحصر، وكذلك احترق أكثر مدينة إنطاكية، فتألم المسلمون لذلك.
وفي ذي الحجة خرب المسجد الذى كان في الطريق بين باب النصر وبين باب الجابية، عن حكم القضاة بأمر نائب السلطنة، وبنى غربيه مسجد أحسن وأنفع من الاول.
وتوفي فيها من الاعيان:
الشيخ الصالح المعمر رئيس المؤذنين بجامع دمشق برهان الدين إبراهيم بن محمد بن أحمد بن محمد الواني، ولد سنة ثلاث وأربعين وستمائة، وسمع الحديث، وروى، وكان حسن الصوت والشكل، محببا إلى العوام، توفي يوم الخميس سادس صفر ودفن الصغير، وقام من بعده في الرياسة ولده أمين الدين محمد الواني المحدث المفيد، وتوفي بعده ببضع (1) وأربعين يوما رحمهما الله.
الكاتب المطبق المجود المحرر بهاء الدين محمود ابن خطيب بعلبك محيي الدين محمد بن عبد الرحيم بن عبد الوهاب السلمي، ولد سنة ثمان وثمانين وستمائة، واعتنى بهذه الصناعة فبرع فيها، وتقدم على أهل زمانه قاطبة في النسخ وبقية الاقلام، وكان حسن الشكل طيب الاخلاق، طيب الصوت حسن التودد، توفي في سلخ ربيع الاول ودفن بتربة الشيخ أبي عمر رحمه الله.
علاء الدين السنجاري واقف دار القرآن عند باب الناطفانيين شمالس الاموي بدمشق، علي بن إسماعيل بن محمود كان أحد التجار الصدق الاخيار، ذوي اليسار المسارعين إلى الخيرات، توفي بالقاهرة ليلة الخميس ثالث عشر جمادى الآخرة، ودفن عند قبر القاضي شمس الدين بن الحريري.
العدل نجم الدين التاجر عبد الرحيم بن أبي القاسم عبد الرحمن الرحبي باني التربة المشهورة بالمزة، وقد جعل لها مسجدا ووقف عليها أوقافا دارة، وصدقات هناك، وكان من أخيار أبناء جنسه، عدل مرضى
__________
(1) في شذرات الذهب 6 / 111: مات بعد والده بشهر، وكان مولده - كما في تذكرة النبيه - سنة 684 ه بدمشق وانظر الدرر 3 / 379.

عند جميع الحكام، وترك أولادا وأموالا جمة، ودارا هائلة، وبساتين بالمزة، وكانت وفاته يوم الاربعاء سابع عشرين جمادى الآخرة ودفن بتربته المذكورة بالمزة رحمه الله.
الشيخ الامام الحافظ قطب الدين أبو محمد عبد الكريم بن عبد النور بن منير بن عبد الكريم بن علي بن عبد الحق بن عبد الصمد بن عبدالنور الحلبي الاصل ثم المصري، أحد مشاهير المحدثين بها، والقائمين بحفظ الحديث وروايته وتدوينه وشرحه والكلام عليه، ولد سنة أربع وستين وستمائة بحلب، وقرأ القرآن بالروايات، وسمع الحديث وقرأ الشاطبية والالفية، وبرع في فن الحديث، وكان حنفي المذهب وكتب كثيرا وصنف شرحا لاكثر البخاري، وجمع تاريخا لمصر ولم يكملهما، وتكلم على السيرة التي جمعها الحافظ عبد الغني وخرج لنفسه أربعين حديثا متباينة الاسناد، وكان حسن الاخلاق مطرحا للكلفة طاهر اللسان كثير المطالعة والاشتغال، إلى أن توفي يوم الاحد سلخ رجب، ودفن من الغد مستهل شعبان عند خاله نصر المنبجي، وخلف تسعة أولاد رحمه الله.
القاضي الامام زين الدين أبو محمد عبد الكافي بن علي بن تمام بن يوسف السبكي، قاضي المحلة، ووالده العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي الشافعي، سمع من ابن الانماطي وابن خطيب المزة، وحدث وتوفي تاسع شعبان، وتبعته زوجته ناصرية بنت القاضي جمال الدين إبراهيم بن الحسين السبكي، ودفنت القرافة، وقد سمعت من ابن الصابوني شيئا من سنن النسائي، وكذلك إبنتها محمدية، وقد توفيت قبلها.
تاج الدين علي بن إبرهيم ابن عبد الكريم المصري، ويعرف بكاتب قطلبك، وهو والد العلامة فخر الدين شيخ الشافعية ومدرسهم في عدة مدارس، ووالده هذا لم يزل في الخدمة والكتابة إلى أن توفي عنده بالعادلية الصغيرة ليلة الثلاثاء ثالث عشر شعبان، وصلي عليه من الغد بالجامع، ودفن بباب الصغير.
الشيخ الصالح عبد الكافي ويعرف بعبيد بن أبي الرجال بن حسين بن سلطان بن خليفة المنيني، ويعرف بابن أبي

الازرق، مولده في سنة أربع وأربعين وستمائة بقريته من بلاد بعلبك، ثم أقام بقرية منين، وكان مشهورا بالصلاح وقرئ عليه شئ من الحديث وجاوز التسعين.
الشيخ محمد بن عبد الحق ابن شعبان بن علي الانصاري، المعروف بالسياح، له زاوية بسفح قاسيون بالوادي الشمالي مشهورة به، وكان قد بلغ التسعين، وسمع الحديث وأسمعه، وكانت له معرفة بالامور وعنده بعض مكاشفة، وهو رجل حسن، توفي أواخر شوال من هذه السنة.
الامير سلطان العرب حسام الدين مهنا بن عيسى بن مهنا، أمير العرب بالشام، وهم يزعمون أنهم من سلالة جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي، من ذرية الولد الذي جاء من العباسة أخت الرشيد فالله أعلم.
وقد كان كبير القدر محترما عند الملوك كلهم، بالشام ومصر والعراق، وكان دينا خيرا متحيزا للحق، وخلف أولادا وورثة وأموالا كثيرة، وقد بلغ سنا عالية، وكان يحب الشيخ تقي الدين بن تيمية حبا زائدا، هو وذريته وعربه، وله عندهم منزلة وحرمة وإكرام، يسمعون قوله ويمتثلونه، وهو الذي نهاهم أن يغير بعضهم على بعض، وعرفهم أن ذلك حرام، وله في ذلك مصنف جليل، وكانت وفاة مهنا هذا ببلاد سلمية (1) في ثامن عشر ذي القعدة، ودفن هناك رحمه الله.
الشيخ الزاهد فضل العجلوني فضل بن عيسى بن قنديل العجلوني الحنبلي المقيم بالمسمارية، أصله ؟ بلاد حبراحي، كان متقللا من الدنيا يلبس ثيابا طوالا وعمامة هائلة، وهي بأرخص الاثمان، وكان يعرف تعبير الرؤيا ويقصد لذلك، وكان لا يقبل من أحد شيئا، وقد عرضت عليه وظائف بجوامك كثيرة فلم يقبلها.
بل رضي بالرغيد الهني من العيش الخشن إلى أن توفي في ذي الحجة، وله نحو تسعين
سنة، ودفن بالقرب من قبر الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمهما الله، وكانت جنازته حافلة جدا.
__________
(1) سلمية: من أعمال حماة، وكانت تعد من أعمال حمص (تقويم البلدان لابي الفداء ص 264، معجم البلدان ياقوت الحموي).

ثم دخلت سنة ست وثلاثين وسبعمائة استهلت بيوم الجمعة والحكام هم المذكورون في التي قبلها.
وفي أول يوم منها ركب تنكز إلى قلعة جعبر ومعه الجيش والمناجنيق فغابوا شهرا وخمسة أيام وعادوا سالمين.
وفي ثامن صفر فتحت الخانقاه التي أنشأها سيف الدين قوصون الناصري خارج باب القرافة (1)، وتولى مشيختها الشيخ شمس الدين الاصبهاني المتكلم.
وفي عاشر صفر خرج ابن جملة من السجن بالقلعة وجاءت الاخبار بموت ملك التتار أبي سعيد بن خربندا بن أرغون بن أبغا بن هولاكو بن تولى بن جنكزخان، في يوم الخميس ثاني عشر ربيع الآخر بدار السلطنة بقراباغ، وهي منزلهم في الشتاء، ثم نقل إلى تربته بمدينته التي أنشأها قريبا من السلطانية (2) مدينة أبيه، وقد كان من خيار ملوك التتار وأحسنهم طريقة وأثبتهم على السنة وأقومهم بها، وقد عز أهل السنة بزمانه وذلت الرافضة، بخلاف دولة أبيه، ثم من بعده لم يقم للتتار قائمة، بل اختلفوا فتفرقوا شذر مذر إلى زماننا هذا، وكان القائم من بعده بالامر ارتكاوون من ذرية أبغا، ولم يستمر له الامر إلا قليلا (3).
وفي يوم الاربعاء عاشر جمادى الاولى درس بالناصرية الجوانية بدر الدين الاردبيلي عوضا عن كمال الدين بن الشيرازي توفي، وحضر عنده القضاة.
وفيه درس بالظاهرية البرانية الشيخ الامام المقري سيف الدين أبو بكر الحريري عوضا عن بدر الدين الاردبيلي، تركها لما حصلت له الناصرية الجوانية، وبعده بيوم درس بالنجيبية كاتبه إسماعيل بن كثير عوضا عن الشيخ جمال الدين ابن قاضي الزبداني تركها حين تعين له تدريس الظاهرية الجوانية، وحضر عنده القضاة والاعيان وكان درسا حافلا أثنى عليه الحاضرون وتعجبوا من جمعه وترتيبه، وكان ذلك في تفسير قوله تعالى (إنما يخشى الله من عباده العلماء) [ فاطر: 28 ] وانساق الكلام إلى مسألة ربا الفضل
وفي يوم الاحد رابع عشره ذكر الدرس بالظاهرية المذكورة ابن قاضي الزبداني عوضا عن علاء الدين بن القلانسي توفي، وحضر عنده القضاة والاعيان، وكان يوما مطيرا.
وفي أول جمادى الآخرة وقع غلاء شديد بديار مصر واشتد ذلك إلى شهر رمضان، وتوجه خلق كثير في رجب إلى مكة نحوا من ألفين وخمسمائة، منهم عز الدين بن جماعة، وفخر الدين النويري وحسن السلامي، وأبو الفتح السلامي، وخلق وفي رجب كملت عمارة جسر باب الفرج وعمل عليه باشورة (4) ورسم باستمرار فتحه إلى بعد العشاء الآخرة كبقية سائر الابواب،
__________
(1) وتقع شمال القرافة مما يلي قلعة الجبل تجاه جامع قوصون (المواعظ والاعتبار للمقريزي 2 / 325) وهي محكمة البناء حسنة العمارة والترتيب.
__________
(2) السلطانية: وهي فنغرلان، وهي مدينة محدثة بناها خربندا بن ارغون، وجعلها عاصمة ملكه وهي بالقرب من جبال كيلان (تقويم البلدان لابي الفداء ص 306).
__________
(3) لم يتم له الامر، فاستمر مدة يسيرة نحو شهرين.
__________
(4) في الاصل " باسورة " تحريف.
والباشورة بناء ذو منعطفات أمام كل باب أو خلفه، يقصد به تعويق هجوم =.

وكان قبل ذلك يغلق من المغرب.
وفي سلخ رجب أقيمت الجمعة بالجامع الذي أنشأه نجم الدين ابن خيلخان تجاه باب كيسان من القبلة، وخطب فيه الشيخ الامام العلامة شمس الدين ابن قيم الجوزية.
وفي ثاني شعبان باشركتابة السر بدمشق القاضي علم الدين محمد بن قطب الدين أحمد ابن مفضل، عوضا عن كمال الدين (1) ابن الاثير، عزل وراح إلى مصر.
وفي يوم الاربعاء رابع رمضان ذكر الدرس بالامينية الشيخ بهاء الدين ابن إمام المشهد عوضا عن علاء الدين بن القلانسي.
وفي العشرين منه خلع على الصدر نجم الدين بن أبي الطيب بنظر الخزانة مضافا إلى ما بيده من وكالة بيت المال، بعد وفاة ابن القلانسي بشهور.
وخرج الركب الشامي يوم الاثنين ثامن شوال وأميره قطلودمر الخليلي.
وممن حج فيه قاضي طرابلس محيي الدين بن جهبل، والفخر المصري، وابن قاضي الزبداني، وابن العز الحنفي،
وابن غانم والسخاوي وابن قيم الجوزية، وناصر الدين بن البربوه الحنفي، وجاءت الاخبار بوقعة جرت بين التتار قتل فيها خلق كثير منهم، وانتصر علي باشا وسلطانه الذى كان قد أقامه، وهو موسى كاوون على اربا كاوون وأصحابه، فقتل هو ووزيره ابن رشيد الدولة، وجرت خطوب كثيرة طويلة، وضربت البشائر بدمشق.
وفي ذي القعدة خلع على ناظر الجامع الشيخ عز الدين بن المنجا بسبب إكماله البطائن في الرواق الشمالي والغربي والشرقي، ولم يكن قبل ذلك له بطائن.
وفي يوم الاربعاء سابع الحجة ذكر الدرس بالشبلية القاضي نجم الدين ابن قاضى القضاة عماد الدين الطرسوسي الحنفي، وهو ابن سبع عشرة سنة، وحضر عند القضاة والاعيان، وشكروا من فضله ونباهته، وفرحوا لابيه فيه.
وفيها عزل ابن النقيب عن قضاء حلب ووليها ابن خطيب جبرين (2)، وولي الحسبة بالقاهرة ضياء الدين يوسف بن أبي بكر بن محمد خطيب بيت الابار، خلع عليه السلطان.
وفي ذي القعدة رسم السلطان باعتقال الخليفة المستكفي وأهله، وأن يمنعوا من الاجتماع، فآل أمرهم كما كان أيام الظاهر والمنصور (3).
__________
= العساكر على الباب وقت الحصار، وتعويق دخول الخيل إلى المدينة في مجموعة كبيرة دفعة واحدة.
وفي معجم دوزي: الباشورة والجمع بواشير: هي الحائط الظاهري من الحصن يختفي وراءه الجند عند القتال.
(انظر ألفاظ الحنفا ص 180 حاشية 3).
__________
(1) كذا بالاصل، وقد تقدم انه جمال الدين عبد الله بن كمال الدين محمد..انظر صفحة 197 حاشية رقم 1.
__________
(2) في الاصل " جسرين " تصحيف، وجبرين قرية من قرى حلب، وابن خطيب جبرين هو: قاضي القضاة فخر الدين أبو محمد عثمان بن الخطيب زين الدين أبي الحسن علي بن عثمان بن اسماعيل الطائي الشافعي المتوفى سنة 739 ه.
(الدرر 3 / 58).
__________
(3) استمر منعه عن الناس ومنعهم من الاجتماع بالخليفة نحو خمسة أشهر حتى شفع فيه بعض الامراء عند السلطان فرسم له بالنزول إلى مناظر الكبش، على عادته والسكن بها.
(بدائع الزهور 1 / 1 / 472).

وممن توفي فيها من الاعيان: السلطان أبو سعيد ابن خربندا وكان آخر من اجتمع شمل التتار عليه، ثم تفرقوا من بعده (1).
الشيخ البندنيجي شمس الدين علي بن محمد بن ممدود بن عيسى البندنيجي الصوفي، قدم علينا من بغداد شيخا كبيرا راويا لاشياء كثيرة، فيها صحيح مسلم والترمذي وغير ذلك، وعنده فوائد، وله سنة أربع وأربعين وستمائة، وكان والده محدثا فأسمعه أشياء كثيرة على مشايخ عدة، وكان موته بدمشق رابع المحرم.
قاضي قضاة بغداد قطب الدين أبو الفضائل محمد بن عمر بن الفضل التبريزي الشافعي المعروف بالاجوس، سمع شيئا من الحديث واشتغل بالفقه والاصول والمنطق والعربية والمعاني والبيان، وكان بارعا في فنون كثيرة ودرس بالمستنصرية بعد العاقولي.
وفي مدارس كبار، وكان حسن الخلق كثير الخير على الفقراء والضعفاء، متواضعا يكتب حسنا أيضا، توفي في آخر المحرم ودفن بتربة له عند داره ببغداد رحمه الله (2).
الامير صارم الدين إبراهيم بن محمد بن أبي القاسم بن أبي الزهر، المعروف بالمغزال، كانت له مطالعة وعنده شئ من التاريخ، ويحاضر جيدا، ولما توفي يوم الجمعة وقت الصلاة السادس والعشرين من المحرم دفن بتربة له عند حمام العديم.
الامير علاء الدين مغلطاي الخازن نائب القلعة وصاحب التربة تجاه الجامع المظفري من الغرب، كان رجلا جيدا، له أوقاف وبر وصدقات، توفي يوم الجمعة بكرة عاشر صفر، ودفن بتربته المذكورة.
__________
(1) قال في مختصر أخبار البشر 4 / 118 مات وله بضع وثلاثون سنة - وفي تذكرة النبيه 2 / 272: ثلاثون - وكانت
دولته عشرين سنة.
__________
(2) كان مولده سنة 668 ه بتبريز وتوفي ببغداد (تذكرة النبيه 2 / 2 66).

القاضي كمال الدين أحمد بن محمد بن محمد بن عبد الله بن هبة الله بن الشيرازي الدمشقي، ولد سنة سبعين، وسمع الحديث وتفقه على الشيخ تاج الدين الفزاري، والشيخ زين الدين الفارقي، وحفظ مختصر المزني (1) ودرس في وقت بالبادرائية، وفي وقت بالشامية البرانية، ثم ولي تدريس الناصرية الجوانية مدة سنين إلى حين وفاته، وكان صدرا كبيرا، ذكر لقضاء قضاة دمشق غير مرة، وكان حسن المباشرة والشكل، توفي في ثالث صفر ودفن بتربتهم بسفح قاسيون رحمه الله.
الامير ناصر الدين محمد بن الملك المسعود جلال الدين عبد الله بن الملك الصالح إسماعيل بن العادل، كان شيخا مسنا قد اعتنى بصحيح البخاري يختصره، وله فهم جيد ولديه فضيلة، وكان يسكن المزة وبها توفي ليلة السبت خامس عشرين صفر، وله أربع وسبعون سنة، ودفن بتربتهم بالمزة رحمه الله.
علاء الدين علي بن شرف الدين محمد بن القلانسي قاضي العسكر ووكيل بيت المال، وموقع الدست، ومدرس الامينية (2) والظاهرية وغير ذلك من المناصب، ثم سلبها كلها سوى التدريسين، وبقي معزولا إلى حين أن توفي بكرة السبت خامس وعشرين صفر، ودفن بتربتهم.
عز الدين أحمد بن الشيج زين الدين محمد بن أحمد بن محمود العقيلي، ويعرف بابن القلانسي، محتسب دمشق وناظر الخزانة، كان محمود المباشرة، ثم عزل عن الحسبة واستمر بالخزانة إلى أن توفي يوم الاثنين تاسع عشر جمادى الاولى ودفن بقاسيون.
الشيخ علي بن أبي المجد بن شرف بن أحمد الحمصي
ثم الدمشقي مؤذن البربوة خمسا وأربعين سنة، وله ديوان شعر وتعاليق وأشياء كثيرة مما ينكر أمرها، وكان محمولا في دينه، توفي في جمادى الاولى أيضا.
__________
(1) وهو مختصر المزني في فروع الشافعية، لاسماعيل بن يحيى المزني المتوفى سنة 264 ه (كشف الظنون 2 / 1635).
__________
(2) المدرسة الامينية بدمشق، نشأها يمين الدين كمشتكين أتابك العساكر بدمشق، المتوفى سنة 541 ه (الدارس 1 / 178).

الامير شهاب الدين بن برق (1) متولي دمشق، شهد جنازته خلق كثير، توفي ثاني شعبان ودفن بالصالحية وأثنى عليه الناس.
الامير فخر الدين ابن الشمس لؤلؤ متولي البر، كان مشكورا أيضا، توفي رابع شعبان، وكان شيخا كبيرا، توفي ببستانه ببيت لهيا ودفن بتربته هناك وترك ذرية كثيرة رحمه الله.
عماد الدين إسماعيل ابن شرف الدين محمد بن الوزير فتح الدين عبد الله بن محمد بن أحمد (2) بن خالد بن صغير ابن القيسراني، أحد كتاب الدست، وكان من خيار الناس، محببا إلى الفقراء والصالحين، وفيه مروءة كثيرة، وكتب بمصر ثم صار إلى حلب كاتب سرها، ثم انتقل إلى دمشق فأقام بها إلى أن مات ليلة الاحد ثالث عشر القعدة، وصلي عليه من الغد بجامع دمشق، ودفن بالصوفية عن خمس وستين سنة، وقد سمع شيئا من الحديث على الابرقوهي وغيره.
وفي ذي القعدة توفي شهاب الدين ابن القديسة المحدث بطريق الحجاز الشريف.
وفي ذي الحجة توفي الشمس محمد المؤذن المعروف بالنجار ويعرف بالبتي، وكان يتكلم وينشد في المحافل والله سبحانه أعلم.
ثم دخلت سنة سبع وثلاثين وسبعمائة
استهلت بيوم الجمعة والخليفة المستكفي بالله قد اعتقله السلطان الملك الناصر، ومنعه من الاجتماع بالناس، ونائب الشام تنكز بن عبد الله الناصري، والقضاة والمباشرون هم المذكورون في التي قبلها، سوى كاتب السر فإنه علم الدين بن القطب، ووالي البر الامير بدر الدين بن قطلوبك بن شنشنكير، ووالي المدينة حسام الدين طرقطاي الجو كنداري.
وفي أول منها يوم الجمعة وصلت الاخبار بأن علي باشا كسر جيشه، وقيل إنه قتل،
__________
(1) وهو أحمد بن سيف الدين أبي بكر بن برق الدمشقي، ولي دمشق ثلاث عشرة سنة توفي وله 64 سنة (شذرات الذهب 6 / 113).
__________
(2) في تذكرة النبيه 2 / 60: محمد.

ووصلت كتب الحجاج في الثاني والعشرين من المحرم تصف مشقة كثيرة حصلت للحجاج من موت الجمال وإلقاء الاحمال ومشي كثير من النساء والرجال، فإنا لله وإنا إليه راجعون، والحمد لله على كل حال.
وفي آخر المحرم قدم إلى دمشق القاضي حسام الدين حسن بن محمد الغوري قاضي بغداد، وكان والوزير نجم الدين محمود بن علي بن شروان الكردي، وشرف الدين عثمان بن حسن البلدي فأقاموا ثلاثة أيام ثم توجهوا إلى مصر فحصل لهم قبول تام من السلطان، فاستقضى الاول على الحنفية كما سيأتي، واستوزر الثاني وأمر الثالث.
وفي يوم عاشوراء أحضر شمس الدين محمد ابن الشيخ شهاب الدين بن اللبان الفقيه الشافعي إلى مجلس الحكم الجلالي، وحضر معه شهاب الدين بن فضل الله مجد الدين الاقصرائي شيخ الشيوخ، وشهاب الدين الاصبهاني، فادعى عليه بأشياء منكرة من الحلول والاتحاد والغلو في القرمطة وغير ذلك، فأقر ببعضها فحكم عليه بحقن دمه ثم توسط في أمره وأبقيت عليه جهاته، ومنع من الكلام على الناس، وقام في صفه جماعة من الامراء والاعيان.
وفي صفر احترق بقصر حجاج حريق عظيم أتلف دورا ودكاكين عديدة.
وفي ربيع الاول ولد للسلطان ولد فدقت البشائر وزينت البلد أياما.
وفي منتصف ربيع
الآخر أمر الامير صارم الدين إبراهيم الحاجب الساكن تجاه جامع كريم الدين طبلخاناه، وهو من كبار أصحاب الشيخ تقي الدين رحمه الله، وله مقاصد حسنة صالحة، وهو في نفسه رجل جيد.
وفيه أفرج عن الخليفة المستكفي وأطلق من البرج في حادي عشرين ربيع الآخر ولزم بيته (1).
وفي يوم الجمعة عشرين جمادى الآخرة أقيمت الجمعة في جامعين بمصر، أحدهما أنشأه الامير عز الدين أيدمر بن عبد الله الخطيري، ومات بعد ذلك بإثني عشر يوما رحمه الله، والثاني أنشأته امرأة يقال لها الست حدق دادة السلطان الناصر عند قنطرة السباع.
وفي شعبان سافر القاضي شهاب الدين أحمد بن شرف بن منصور النائب في الحكم بدمشق إلى قضاء طرابلس، وناب بعده الشيخ شهاب الدين أحمد بن النقيب البعلبكي.
وفيه خلع على عز الدين بن جماعة بوكالة بيت المال بمصر، وعلى ضياء الدين ابن الخطيب بيت الابار بالحسبة بالقاهرة، مع ما بيده من نظر الاوقاف وغيره.
وفيه أمر الامير ناظر القدس بطلب لخاناه ثم عاد إلى دمشق.
وفي عاشر رمضان قدمت من مصر مقدمتان ألفان إلى دمشق سائرة إلى بلاد سيس، وفيهم علاء الدين (2)، فاجتمع به أهل العلم وهو من أفاضل الحنفية، وله مصنفات في الحديث وغيره.
وخر الركب الشامي يوم الاثنين عاشر شوال وأميره بهادر قبجق، وقاضيه محيي الدين
__________
انظر صفحة 202 حاشية رقم 3

الطرابلسي مدرس الحمصية، وفي الركب تقي الدين شيخ الشيوخ وعماد الدين بن الشيرازي، ونجم الدين الطرسوسي، وجمال الدين المرداوي، وصاحبه شمس الدين بن مفلح، والصدر المالكي والشرف ابن القيسراني، والشيخ خالد المقيم عند دار الطعم، وجمال الدين بن الشهاب محمود.
وفي ذي القعدة وصلت الاخبار بأن الجيش تسلموا من بلاد سيس سبع قلاع (1)، وحصل لهم خير كثير ولله الحمد، وفرح المسلمون بذلك.
وفيه كانت وقعة هائلة بين التتار انتصر فيها الشيخ وذووه.
وفيها (2) نفى السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون الخليفة وأهله وذويه، وكانوا
قريبا من مائة نفس إلى بلاد قوص، ورتب لهم هناك ما يقوم بمصالحهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وممن توفي فيها من الاعيان: الشيخ علاء الدين بن غانم أبو الحسن علي بن محمد بن سليمان بن حمائل بن علي المقدسي (3) أحد كبار المشهورين بالفضائل وحسن الترسل، وكثرة الادب والاشعار والمروءة التامة، مولده سنة إحدى وخمسين وستمائة، وسمع الحديث الكثير، وحفظ القرآن والتنبيه، وباشر الجهات، وقصده الناس في الامور المهمات وكان كثير الاحسان إلى الخاص والعام.
توفي مرجعه من الحج في منزلة تبوك يوم الخميس ثالث عشر المحرم، ودفن هناك رحمه الله، ثم تبعه أخوه شهاب الدين أحمد في شهر رمضان، وكان أصغر منه سنا بسنة، وكان فاضلا أيضا بارعا كثير الدعابة.
__________
(1) ذكر الخبر ابن حبيب في تذكرة النبيه 2 / 279 قال: " وتسلم المسلمون القلاع العامرة - شرقي نهر جيحان - وهي قلاع: إياس وكاورا وسوندكار والهارونية ونجيمة " وزاد عليها أبو الفداء في مختصره 4 / 118..والمصيصة وباناس والنقير ".
__________
(2) ذكر صاحب بدائع الزهور 1 / 1 / 474 أن: " ذلك يوم السبت ثاني عشر ذي الحجة سنة 738 ه (انظر تذكرة النبيه 2 / 297 ومختصر أخبار البشر 4 / 122) وقال صاحب البدائع: فهو أول خليفة نفي من مصر من غير جنحة ولا سبب، فشق ذلك على الناس ولم يستحسنوا منه هذه الفعلة.
وتابع قائلا -: وكان سبب ذلك أن الخليفة رفعت إليه قصة بأن شخصا له على الملك الناصر دعوة شرعية فكتب عليها الخليفة " ليحضر أو ليوكل " وأرسلها إلى الملك الناصر، فلما قرأها شق ذلك عليه، وبقي في خاطره منه، فتغافل عنه مدة ثم رسم بإخراجه إلى قوص - إحدى قرى الصعيد وذكر صاحب السلوك سببا آخر في ذلك انظر 2 / 416 - 417.
__________
(3) في شذرات الذهب 6 / 114: المنشي.

الشرف محمود الحريري المؤذن بالجامع الاموي، بنى حماما بالنيرب، ومات في آخر المحرم.
الشيخ الصالح العابد ناصر الدين [ محمد ] بن الشيخ إبراهيم بن معضاد بن شداد بن ماجد بن مالك الجعبري ثم المصري، ولد سنة خمسين وستمائة بقلعة جعبر، وسمع صحيح مسلم وغيره، وكان يتكلم على الناس ويعظهم ويستحضر أشياء كثيرة من التفسير وغيره، وكان فيه صلاح وعبادة، توفي في الربع والعشرين من المحرم، ودفن بزاويتهم عند والده خارج باب النصر.
الشيخ شهاب الدين عبد الحق الحنفي أحمد بن علي بن أحمد بن علي بن يوسف ابن قاضي الحنفيين ويعرف بابن عبد الحق الحنفي، شيخ المذهب ومدرس الحنفية وغيرها، وكان بارعا فاضلا دينا، توفي في ربيع الاول.
الشيخ عماد الدين إبراهيم بن علي بن عبد الرحمن بن عبد المنعم بن نعمة المقدسي النابلسي الحنبلي الامام العالم العابد شيخ الحنابلة بها وفقيههم من مدة طويلة، توفي في ربيع الاول.
الشيخ الامام العابد الناسك محب الدين عبد الله بن أحمد بن المحب عبد الله بن أحمد بن أبي بكر محمد بن إبراهيم بن أحمد بن عبد الرحمن بن إسماعيل بن منصور المقدسي الحنبلي، سمع كثير وقرأ بنفسه، وكتب الطباق وانتفع الناس به، وكانت له مجالس وعظ من الكتاب والسنة في الجامع الاموي وغيره، وله صوت طيب بالقراءة جدا، وعليه روح وسمينة ووقار، وكانت مواعيده مفيدة ينتفع بها الناس، وكان شيخ الاسلام تقي الدين بن تيمية يحبه ويحب قراءته، توفي يوم الاثنين سابع ربيع الاول، وكانت جنازته حافلة، ودفن بقاسيون وشهد الناس له بخير، رحمه الله تعالى، وبلغ خمسا وخمسين سنة.
المحدث البارع المحصل المفيد المجيد
ناصر الدين محمد بن طغربل بن عبد الله الصيرفي أبوه، الخوارزمي الاصل، سمع الكثير

وقرأ بنفسه، وكان سريع القراءة، وقرأ الكتب الكبار والصغار، وجمع وخرج شيئا كثيرا، وكان بارعا في هذا الشأن، رجل فأدركته منيته بحماة يوم السبت ثاني ربيع الاول، ودفن من الغد بمقابر طيبة رحمه الله.
شيخنا الامام العالم العابد شمس الدين أبو محمد عبد الله بن العفيف محمد بن الشيخ تقي الدين يوسف بن عبد المنعم ابن نعمة المقدسي النابلسي الحنبلي، إمام مسجد الحنابلة بها، ولد سنة سبع وأربعين وستمائة، وسمع الكثير وكان كثير العبادة حسن الصوت، عليه البهاء والوقار وحسن الشكل والسمت، قرأت عليه عام ثلاث وثلاثين وسبعمائة مرجعنا من القدس كثيرا من الاجزاء والفوائد، وهو والد صاحبنا الشيخ جمال الدين يوسف أحد مفتية الحنابلة وغيرهم، والمشهورين بالخير والصلاح، توفي يوم الخميس ثاني عشرين ربيع الآخر ودفن هناك رحمه الله.
الشيخ محمد بن عبد الله بن المجد إبراهيم المرشدي المقيم بمنية مرشد (1)، يقصده الناس للزيارة، ويضيف الناس على حسب مراتبهم وينفق نفقات كثيرة جدا، ولم يكن يأخذ من أحد شيئا فيما يبدوا للناس، والله أعلم بحاله، وأصله من قرية دهروط (2)، وأقام بالقاهرة مدة واشتغل بها، ويقال إنه قرأ التنبيه في الفقه، ثم انقطع بمنية مرشد واشتهر أمره في الناس وحج مرات، وكان إذا دخل القاهرة يزدحم عليه الناس، ثم كانت وفاته يوم الخميس ثامن رمضان ودفن بزاويته، وصلي عليه بالقاهرة ودمشق وغيرها.
الامير أسد الدين عبد القادر بن المغيث عبد العزيز بن الملك المعظم عيسى بن العادل، ولد سنة ثنتين وأربعين وستمائة، وسمع الكثير وأسمع، وكان يأتي كل سنة من مصر إلى دمشق ويكرم أهل الحديث،
ولم يبق من بعده من بني أيوب أعلا سنا منه، توفي بالرملة في سلخ رمضان رحمه الله.
الشيخ الصالح الفاضل حسن بن إبراهيم بن حسن الحاكي الحكري إمام مسجد هناك، ومذكر الناس في كل
__________
(1) في تذكرة النبيه 2 / 279: بديروط.
__________
(2) ديروط (دهروط) من القرى القديمة وكانت تابعة لثغر الاسكندرية ثم لمركز رشيد، وحاليا تابعة لمركز المحمودية (القاموس الجغرافي 2 / 2 / 270).

جمعة، ولديه فضائل، وفي كلامه نفع كثير إلى أن توفي في العشرين من شوال، ولم ير الناس مثل جنازته بديار مصر رحمه الله.
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة استهلت بيوم الاربعاء والخليفة المستكفي منفي ببلاد قوص (1)، ومعه أهله وذووه، ومن يلوذ به، وسلطان البلاد الملك الناصر محمد بن الملك المنصور، ولا نائب بديار مصر ولا وزير، ونائبه بدمشق تنكز، وقضاة البلاد ونوابها ومباشروها هم المذكورون في التي قبلها.
وفي ثالث ربيع الاول رسم السلطان بتسفير علي ومحمد ابني داود بن سليمان بن داود بن العاضد آخر خلفاء الفاظميين إلى الفيوم يقيمون به.
وفي يوم الجمعة ثاني عشر ربيع الآخر عزل القاضي علم الدين ابن القطب عن كتابة السر وضرب وصودر، ونكب بسببه القاضي فخر الدين المصري، وعزل عن مدرسته الدولعية وأخذها ابن جملة، والعادلية الصغيرة باشرها ابن النقيب، ورسم عليه بالعذراوية مائة يوم، وأخذ شئ من ماله.
وفي ليلة الاحد ثالث عشرين ربيع الاول بعد المغرب هبت ريح شديدة بمصر وأعقبها رعد وبرق وبرد بقدر الجوز، وهذا شئ لم يشاهدوا مثله من أعصار متطاولة بتلك البلاد.
وفي عاشر جمادى الاولى استهل الغيث بمكة من أول الليل، فلما انتصف الليل جاء سيل عظيم هائل لم ير مثله من دهر طويل، فخرب دورا كثيرة نحوا من ثلاثين أو أكثر، وغرق جماعة وكسر أبواب المسجد،
ودخل الكعبة وارتفع فيها نحوا من ذراع أو أكثر، وجرى أمر عظيم حكاه الشيخ عفيف الدين الطبري.
وفي سابع عشرين من جمادى الاولى عزل القاضي جلال الدين (2) عن قضاء مصر، واتفق وصول خبر موت قاضي الشام ابن المجد (3) بعد أن عزل بيسير، فولاه السلطان قضاء الشام فسار إليها راجعا عودا على بدء، ثم عزل السلطان برهان الدين بن عبد الحق قاضي الحنفية، وعزل قاضي الحنابلة تقي الدين، ورسم على ولده صدر الدين بأداء ديوان الناس إليهم، وكانت قريبا من ثلثمائة ألف، فلما كان يوم الاثنين تاسع عشر جمادى الآخرة بعد سفر جلال الدين بخمسة أيام طلب السلطان أعيان الفقهاء إلى بين يديه فسألهم عن من يصلح للقضاء بمصر فوقع الاختيار على القاضي عز الدين بن جماعة، فولاه في الساعة الراهنة، وولى قضاء الحنفية لحسام الدين حسن بن محمد الغوري قاضي بغداد، وخرجا من بين يديه إلى المدرسة الصالحية (4)،
__________
(1) انظر ما سبق ص 207 حاشية رقم 2
__________
(2) وهو جلال الدين أبو المعالي محمد بن عبد الرحمن بن عمر القزويني الشافعي.
__________
(3) وهو قاضي القضاة شهاب الدين أبي عبد الله محمد بن مجد الدين عبد الله بن الحسين بن علي الاربلي الدمشقي الشافعي.
__________
(4) المدرسة الصالحية بالقاهرة وهي على يمنة الطالب إلى بين القصرين وباب النصر والخانقاه وخان برجوان والطرق المتفرقة، أنشأها الملك الصالح نجم الدين أيوب.
وقد بدأ ببنائها سنة 639 ه.
(تذكرة النبيه 1 / 342).

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55