كتاب :البداية والنهاية
الامام الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن كثير الدمشقي

إلى آخرها وأن يدخل بها في جميع الازقة، فإن اعترضه أحد فليدفعها إليه وليعرف ذلك المكان، فذهب الغلام فلم يعترضه أحد، فحمد الله وأثنى عليه، ومنع الروافض النياحة في يوم عاشوراء، وما يتعاطونه من الفرح في يوم ثامن عشر ذي الحجة الذي يقال له عيد غدير خم، وكان عادلا مصنفا.
خلف الواسطي صاحب الاطراف أيضا، خلف بن محمد بن علي بن حمدون، أبو محمد الواسطي، رحل إلى البلاد وسمع الكثير ثم عاد إلى بغداد، ثم رحل إلى الشام ومصر، وكتب الناس عنه بانتخابه، وصنف أطرافا على الصحيحين، وكانت له معرفة تامة، وحفظ جيد، ثم عاد إلى بغداد واشتغل بالتجارة وترك النظر في العلم حتى توفي في هذه السنة سامحه الله.
روى عنه الازهري.
أبو عبيد الهروي (1)
صاحب الغريبين، أحمد بن محمد بن أبي عبيد العبدي أبو عبيد الهروي اللغوي البارع، كان من علماء الناس في الادب واللغة، وكتاب الغريبين، في معرفة غريب القرآن والحديث، يدل على اطلاعه وتبحره في هذا الشأن، وكان من تلامذة أبي منصور الازهري.
قال ابن خلكان: وقيل كان يحب التنزه (2) ويتناول في خلوته ما لا يجوز، ويعاشر أهل الادب في مجلس اللذة والطرب، والله أعلم.
سامحه الله.
قال: وكانت وفاته في رجب سنة إحدى وأربعمائة، وذكر أبن خلكان أن في هذه السنة أو التي قبلها كان وفاة البستي الشاعر وهو: علي بن محمد بن الحسين بن يوسف الكاتب صاحب الطريقة الانيقة والتجنيس الانيس، البديع التأسيس، والحذاقة والنظم والنثر، وقد ذكرناه، ومما أورد له ابن خلكان قوله: من أصلح فاسده أرغم حاسده، ومن أطاع غظبه أضاع أدبه.
من سعادة جدك وقوفك عند حدك.
المنية تضحك من الامنية.
الرشوة رشا الحاجات، حد العفاف الرضى بالكفاف ومن شعره: إن هز أقلامه يوما لعملها * أنساك كل كمي هز عامله
__________
(1) الهروي: نسبة إلى هراة وهي إحدى مدن خراسان الكبار، وقد فتحها الاحنف بن قيس صلحا من قبل عبد الله بن عامر.
(2) في ابن خلكان المطبوع 1 / 96: البذلة .

وإن أمر على رق أنامله * أقر بالرق كتاب الانام له وله: إذا تحدثت في قوم لتؤنسهم * بما تحدث من ماض ومن آت فلا تعد لحديث إن طبعهم * موكل بمعاداة المعادات ثم دخلت سنة ثنتين وأربعمائة في المحرم منها أذن فخر الملك الوزير للروافض أن يعلموا بدعتهم الشنعاء، والفضيحة
الصلعاء، من الانتحاب والنوح والبكاء، وتعليق المسوح وأن تغلق الاسواق من الصباح إلى المساء، وأن تدور النساء حاسرات عن وجوههن ورؤوسهن، يلطمن خدودهن، كفعل الجاهلية الجهلاء، على الحسين بن علي، فلا جزاه الله خيرا، وسود الله وجهه يوم الجزاء، إنه سميع الدعاء.
وفي ربيع الآخر أمر القادر بعمارة مسجد الكف بقطيعة الدقيق، وأن يعاد إلى أحسن ما كان، ففعل ذلك وزخرف زخرفة عظيمة جدا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
الطعن من أئمة بغداد وعلمائهم في نسب الفاطميين وفي ربيع الآخر منها كتب هؤلاء ببغداد محاضر تتضمن الطعن والقدح في نسب الفاطميين وهم ملوك مصر وليسوا كذلك، وإنما نسبهم إلى عبيد بن سعد الجرمي، وكتب في ذلك جماعة من العلماء والقضاة والاشراف والعدول، والصالحين والفقهاء، والمحدثين، وشهدوا جميعا أن الحاكم بمصر هو منصور بن نزار الملقب بالحاكم، حكم الله عليه بالبوار والخزي والدمار، ابن معد بن إسماعيل بن عبد الله (1) بن سعيد، لا أسعده الله، فإن لما صار إلى بلاد المغرب تسمى بعبيد الله، وتلقب بالمهدي، وأن من تقدم من سلفه أدعياء خوارج، لا نسب لهم في ولد علي بن أبي طالب، ولا يتعلقون بسبب وأنه منزه عن باطلهم، وأن الذي ادعوه إليه باطل وزور، وأنهم لا يعلمون أحدا من أهل بيوتات علي بن أبي طالب توقف عن إطلاق القول في أنهم خوارج كذبة، وقد كان هذا الانكار لباطلهم شائعا في الحرمين، وفي أول أمرهم بالمغرب منتشرا انتشارا يمنع أن يدلس أمرهم على أحد، أو يذهب وهم إلى تصديقهم فيما ادعوه، وأن هذا الحاكم بمصر هو وسلفه كفار فساق فجار، ملحدون زنادقة، معطلون، وللاسلام جاحدون، ولمذهب المجوسية والثنوية معتقدون، قد عطلوا الحدود وأباحوا الفروج، وأحلوا الخمر وسفكوا الدماء، وسبوا الانبياء، ولعنوا السلف، وادعوا الربوبية.
وكتب في سنة اثنتين وأربعمائة، وقد كتب خطه في المحضر خلق كثير، فمن العلويين: المرتضى والرضي وابن الازرق الموسوي، وأبو طاهر بن أبي الطيب، ومحمد بن محمد بن عمرو بن
__________
(1) في مختصر أخبار البشر 2 / 143: عبد الرحمن .

أبي يعلى.
ومن القضاة أبو محمد بن الاكفاني وأبو القاسم الجزري (1)، وأبو العباس بن الشيوري (2).
ومن الفقهاء أبو حامد الاسفراييني وأبو محمد بن الكسفلي (3)، وأبو الحسن القدوري، وأبو عبد الله الصيمري، وأبو عبد الله البيضاوي، وأبو علي بن حمكان.
ومن الشهود أبو القاسم التنوخي في كثير منهم، وكتب فيه خلق كثير.
هذه عبارة أبي الفرج بن الجوزي.
قلت: ومما يدل على أن هؤلاء أدعياء كذبة، كما ذكر هؤلاء السادة العلماء، والائمة الفضلاء، وأنهم لا نسب لهم إلى علي بن أبي طالب، ولا إلى فاطمة كما يزعمون، قول ابن عمر للحسين بن علي حين أراد الذهاب إلى العراق، وذلك حين كتب عوام أهل الكوفة بالبيعة إليه فقال له ابن عمر: لا تذهب إليهم فإني أخاف عليك أن تقتل، وإن جدك قد خير بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة على الدنيا، وأنت بضعة منه، وإنه والله لا تنالها لا أنت ولا أحد من خلفك ولا من أهل بيتك.
فهذا الكلام الحسن الصحيح المتوجه المعقول، من هذا الصحابي الجليل، يقتضي أنه لا يلي الخلافة أحد من أهل البيت إلا محمد بن عبد الله المهدي الذي يكون في آخر الزمان عند نزول عيسى بن مريم، رغبة بهم عن الدنيا، وأن لا يدنسوا بها.
ومعلوم أن هؤلاء قد ملكوا ديار مصر مدة طويلة، فدل ذلك دلالة قوية ظاهرة على أنهم ليسوا من أهل البيت، كما نص عليه سادة الفقهاء.
وقد صنف القاضي الباقلاني كتابا في الرد على هؤلاء وسماه " كشف الاسرار وهتك الاستار " بين فيه فضائحهم وقبائحهم، ووضح أمرهم لكل أحد، ووضوح أمرهم ينبئ عن مطاوي أفعالهم، وأقوالهم، وقد كان الباقلاني يقول في عبارته عنهم، هم قوم يظهرون الرفض ويبطنون الكفر المحض.
والله سبحانه أعلم.
وفي رجب وشعبان ورمضان أجرى الوزير فخر الملك صدقات كثيرة على الفقراء والمساكين والمقيمين بالمشاهد والمساجد وغير ذلك، وزار بنفسه المساجد والمشاهد، وأخرج خلقا من المحبوسين وأظهر نسكا كثيرا، وعمر دارا عظيمة عند سوق الدقيق.
وفي شوال عصفت ريح شديدة فقصفت كثيرا من النخل وغيره، أكثر من عشرة الآف نخلة، وورد كتاب من يمين الدولة محمود بن سبكتكين صاحب غزنة بأنه ركب بجيشه إلى أرض العدو فجازوا بمفازة فأعوزهم الماء حتى كادوا يهلكون عن
آخرهم عطشا، فبعث الله لهم سحابة فأمطرت عليهم حتى شربوا وسقوا واستقوا، ثم تواقفوا هم وعدوهم، ومع عدوهم نحو من ستمائة قيل، فهزموا العدول وغنموا شيئا كثيرا من الاموال ولله الحمد.
وفيها عملت الشيعة بدعتهم التي كانوا يعملونها يوم غدير خم، وهو اليوم الثامن عشر من ذي الحجة، وزينت الحوانيت وتمكنوا بسبب الوزير وكثير من الاتراك تمكنا كثيرا.
__________
(1) في الكامل 9 / 236: الخرزي.
(2) في الكامل: الابيوردي.
(3) في الكامل: الكشفلي .

وفيها توفي من الاعيان..الحسن بن الحسن بن علي بن العباس ابن نوبخت أبو محمد النوبختي، ولد سنة عشرين وثلثمائة، وروى عن المحاملي وغيره، وعنه البرقاني وقال كان شيعيا معتزليا، إلا أنه تبين لي أنه كان صدوقا، وروى عنه الازهري وقال: كان رافضيا، ردئ المذهب.
وقال العقيقي: كان فقيرا في الحديث، ويذهب إلى الاعتزال والله أعلم.
عثمان بن عيسى: أبو عمرو الباقلاني (1) أحد الزهاد الكبار المشهورين، كانت له نخلات يأكل منها ويعمل بيده في البواري، ويأكل من ذلك، وكان في غاية الزهادة والعبادة الكثيرة، وكان لا يخرج من مسجده إلا من يوم الجمعة إلى يوم الجمعة، لاجل صلاة الجمعة ثم يعود إلى مسجده، وكان لا يجد شيئا يشعله في مسجده، فسأله بعض الامراء أن يقبل شيئا ولو زيتا يشعله في قناديل مسجده، فأبى الشيخ ذلك، ولهذا وأمثاله لما مات رأى بعضهم بعض الاموات من جيرانه في القبور فسأله عن جواره فقال: وأين هو، لما مات ووضع في قبره سمعنا قائلا يقول: إلى الفردوس الاعلى، إلى الفردوس الاعلى.
أو كما قال.
توفي في رجب (2) منها عن ست (3) وثمانين سنة.
محمد بن جعفر بن محمد ابن هارون بن فروة بن ناجية، أبو الحسن (4) النحوي، المعروف بابن النجار التميمي الكوفي، قدم بغداد وروى عن ابن دريد والصولي ونفطويه وغيرهم، توفي في جمادى الاولى منها عن سبع وسبعين سنة.
أبو الطيب سهل بن محمد الصعلوكي النيسابوري، قال أبو يعلى الخليلي: توفي فيها، وقد ترجمناه في سنة سبع وثمانين وثلثمائة.
__________
(1) في صفة الصفوة 2 / 482: أبو عمر الباقلاوي.
وقيل الباقلاني نسبة إلى بيع الباقلاء (شذرات الذهب 3 / 163).
قال أبو الفداء: وهذه نسبة شاذة مثل: صنعاني.
(3) كذا بالاصل، وفي الكامل 9 / 237: توفي في شهر رمضان، وفي صفة الصفوة 2 / 484: توفي في يوم (3) في الاصل ستة.
وهو خطأ.
الجمعة لسبع بقين من رمضان.
ودفن في مقبرة جامع المنصور.
(4) في الوافي 2 / 305 وبغية الوعاة: أبو الحسين.

ثم دخلت سنة ثلاث وأربعمائة في سادس عشر محرمها قلد الشريف الرضي أبو الحسن الموسوي نقابة الطالبيين في سائر الممالك وقرئ تقليده في دار الوزير فخر الملك، بمحضر الاعيان، وخلع عليه السواد، وهو أول طالبي خلع عليه السواد.
وفيها جئ بأمير بني خفاجة (1) أبو قلنبة قبحه الله وجماعة من رؤس قومه أسارى، وكانوا قد اعترضوا للحجاج في السنة التي قبلها وهم راجعون، وغوروا المناهل التي يردها الحجاج، ووضعوا فيها الحنظل بحيث إنه مات من الحجاج من العطش نحو من خمسة عشرألفا، وأخذوا بقيتهم فجعلوهم رعاة لدوابهم في أسوأ حال، وأخذوا جميع ما كان معهم، فحين حضروا عند دار الوزير سجنهم ومنعهم الماء، ثم صلبهم يرون صفاء الماء ولا يقدرون على شئ منه، حتى ماتوا عطشا جزاء وفاقا، وقد أحسن في هذا الصنع اقتداء بحديث أنس في الصحيحين.
ثم بعث إلى
أولئك الذين اعتقلوا في بلاد بني خفاجة من الحجاج فجئ بهم، وقد تزوجت نساؤهم وقسمت أموالهم، فردوا إلى أهاليهم وأموالهم.
قال ابن الجوزي: وفي رمضان منها انقض كوكب من المشرق إلى المغرب عليه ضوء على ضوء القمر، وتقطع قطعا وبفي ساعة طويلة.
قال: وفي شوال توفيت زوجة بعض رؤساء النصارى، فخرجت النوائح والصلبان معها جهارا، فأنكر ذلك بعض الهاشميين فضربه بعض غلمان ذلك الرئيس النصراني بدبوس في رأسه فشجه، فثار المسلمون بهم فانهزموا حتى لجأوا إلى كنيسة لهم هناك، فدخلت العامة إليها فنهبوا ما فيها، وما قرب منها من دور النصارى، وتتبعوا النصارى في البلد، وقصدوا الناصح وابن أبي إسرائيل فقاتلهم غلمانهم، وانتشرت الفتنة ببغداد، ورفع المسلمون المصاحف في الاسواق، وعطلت الجمع في بعض الايام، واستعانوا بالخليفة، فأمر بإحضار ابن أبي إسرائيل فامتنع، فعزم الخليفة على الخروج من بغداد، وقويت الفتنة جدا ونهبت دور كثير من النصارى، ثم أحضر ابن أبي إسرائيل فبذل أموالا جزيلة، فعفى عنه وسكنت الفتنة.
وفي ذي القعدة ورد كتاب يمين الدولة محمود إلى الخليفة يذكر أنه ورد إليه رسول من الحاكم صاحب مصر ومعه كتاب يدعوه إلى طاعته فبصق فيه وأمر بتحريقه، وأسمع رسوله غليظ ما يقال.
وفيها ما قلد أبو نصر بن مروان الكردي آمد وميا فارقين وديار بكر، وخلع عليه طوق وسواران، ولقب بناصر الدولة، ولم يتمكن ركب العراق وخراسان من الذهاب إلى الحج لفساد الطريق، وغيبة فخر الملك في إصلاح الاراضي.
وفيها عادت مملكة الامويين ببلاد الاندلس فتولى فيها سليمان بن الحكم (2) بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر الاموي، ولقب بالمستعين بالله، وبايعه الناس بقرطبة.
وفيها مات بهاء الدولة بن بويه الديلمي صاحب بغداد وغيرها، وقام بالامر من بعده ولده سلطان الدولة أبو شجاع.
وفيها
__________
(1) بنو خفاجة: بطن من بني عقيل بن كعب بن عامر بن صعصعة من العدنانية.
(نهاية الارب للقلقشندي ص 230).
(2) في الكامل 9 / 241: الحاكم .

مات ملك الترك الاعظم واسمه إيلك الخان، وتولى مكانه أخوه طغان خان.
وفيها هلك شمس المعالي قابوس بن وشمكير، أدخل بيتا باردا في الشتاء وليس عليه ثياب حتى مات كذلك، وولي الامر من بعده منوجهر، ولقب فلك المعالي، وخطب لمحمود بن سبكتكين، وقد كان شمس المعالي قابوس عالما فاضلا أديبا شاعرا، فمن شعره قوله: قل للذي بصروف الدهر عيرنا * عل عاند الدهر إلا من له خطر أما ترى البحر يطوف فوقه جيف * ويستقر بأقصى قعره الدرر فإن تكن نشبت أيدي الخطوب بنا * ومسنا من توالي صرفها ضرر ففي السماء نجوم غير ذي عدد (1) * وليس يكسف الا الشمس والقمر ومن مستجاد شعره قوله: خطرات ذكرك تستثير مودتي * فأحس منها في الفؤاد دبيبا لا عضو لي إلا وفيه صبابة * وكأن أعضائي خلقن قلوبا وفيها توفي من الاعيان..أحمد بن علي أبو الحسن الليثي كان يكتب للقادر وهو بالبطيحة، ثم كتب له على ديوان الخراج والبريد، وكان يحفظ القرآن حفظا حسنا، مليح الصوت والتلاوة، حسن المجالسة، ظريف المعاني، كثير الضحك والمجانة، خرج في بعض الايام هو والشريفان الرضي والمرتضى وجماعة من الاكابر لتلقي بعض الملوك، فخرج بعض اللصوص فجعلوا يرمونهم بالحراقات ويقولون: يا أزواج القحاب.
فقال الليثي: ما خرج هؤلاء علينا إلا بعين، فقالوا: ومن أين علمت هذا ؟ فقال: وإلا من أين علموا أنا أزواج قحاب.
الحسن بن حامد بن علي بن مروان الوراق الحنبلي، كان مدرس أصحاب أحمد وفقيههم في زمانه، وله المصنفات المشهورة، منها كتاب الجامع في اختلاف العلماء في أربعمائة جزء، وله في أصول الفقه والدين، وعليه اشتغل أبو يعلى بن الفراء، وكان معظما في النفوس، مقدما عند السلطان، وكان لا يأكل إلا من كسب يديه من
النسج، وروى الحديث عن أبي بكر الشافعي، وابن مالك القطيعي، وغيرهما، وخرج في هذه السنة إلى الحج فلما عطش الناس في الطريق استند هو إلى حجر في الحر الشديد، فجاءه رجل
__________
(1) في الكامل 9 / 240: ففي السماء نجوم لا عداد لها...

بقليل من ماء فقال له ابن حامد: من أين لك ؟ فقال: ما هذا وقت سؤالك اشرب، فقال: بلى هذا وقته عند لقاء الله عز وجل، فلم يشرب ومات من فوره رحمه الله.
الحسين بن الحسن ابن محمد بن حليم، أبو عبد الله الحليمي، صاحب المنهاج في أصول الديانة، كان أحد مشايخ الشافعية، ولد بجرجان وحمل إلى بخارى، وسمع الحديث الكثير حتى انتهت إليه رياسة المحدثين في عصره، وولي القضاء ببخارى.
قال ابن خلكان: انتهت إليه الرياسة فيما وراء النهر، وله وجوه حسنة في المذهب، وروى عنه الحاكم أبو عبد الله.
فيروز أبو نصر الملقب ببهاء الدولة بن عضد الدولة الديلمي، صاحب بغداد وغيرها، وهو الذي قبض على الطائع وولى القادر، وكان يحب المصادرات فجمع من الاموال ما لم يجمعه أحد قبله من بني بويه، وكان بخيلا جدا - توفي بأرجان في جمادى الآخرة منها عن ثنتين وأربعين سنة وثلاث أشهر (1)، وكان مرضه بالصرع، ودفن بالمشهد إلى جانب أبيه.
قابوس بن وشمكير كان أهل دولته قد تغيروا عليه فبايعوا ابنه منوجهر وقتلوه كما ذكرنا، وكان قد نظر في النجوم فرأى أن ولده يقتله، وكان يتوهم أنه ولده دارا، لما يرى من مخالفته له، ولا يخطر بباله منوجهر لما يرى من طاعته له، فكان هلاكه على يد منوجهر، وقد قدمنا شيئا من شعره في الحوادث.
القاضي أبو بكر الباقلاني محمد بن الطيب أبو بكر الباقلاني، رأس المتكلمين على مذهب الشافعي، وهو من أكثر الناس
كلاما وتصنيفا في الكلام، يقال إنه كان لا ينام كل ليلة حتى يكتب عشرين ورقة من مدة طويلة من عمره، فانتشرت عنه تصانيف كثيرة، منها التبصرة، ودقائق الحقائق، والتمهيد في أصوله الفقه، وشرح الابانة، وغير ذلك من المجاميع الكبار والصغار، ومن أحسنها كتابه في الرد على الباطنية، الذي سماه: " كشف الاسرار وهتك الاستار "، وقد اختلفوا في مذهبه في الفروع: فقيل شافعي وقيل مالكي، حكى ذلك عنه أبو ذر الهروي، وقيل إنه كان يكتب على الفتاوى: كتبه محمد بن
__________
(1) في الكامل 9 / 241: وتسعة أشهر ونصفا .

الطيب الحنبلي، وهذا غريب جدا، وقد كان في غاية الذكاء والفطنة، ذكر الخطيب وغيره عنه أن عضد الدولة بعثه في رسالة إلى ملك الروم، فلما انتهى إليه إذا هو لا يدخل عليه أحد إلا من باب قصيرة كهية الراكع، ففهم الباقلاني أن مراده أن ينحني الداخل عليه له كهيئة الراكع لله عز وجل، فدار إسته إلى الملك ودخل الباب بظهره يمشي إليه القهقرا، فلما وصل إليه انفتل فسلم عليه، فعرف الملك ذكاءه ومكانه من العلم والفهم، فعظمه ويقال إن الملك أحضر بين يديه آلة الطرب المسماة بالارغل، ليستفز عقله بها، فلما سمعها الباقلاني خاف على نفسه أن يظهر منه حركة ناقصة بحضرة الملك، فجعل لا يألوا جهدا أن جرح رجله حتى خرج منها الدم الكثير، فاشتغل بالالم عن الطرب، ولم يظهر عليه شئ من النقص والخفة، فعجب الملك من ذلك، ثم إن الملك استكشف الامر فإذا هو قد جرح نفسه بما أشغله عن الطرب، فتحقق الملك وفور همته وعلو عزيمته، فإن هذه الآلة لا يسمعها أحد إلا طرب شاء أم أبى.
وقد سأله بعض الاساقفة بحضرة ملكهم فقال: ما فعلت زوجة نبيكم ؟ وما كان من أمرها بما رميت به من الافك ؟ فقال الباقلاني مجيبا له على البديهة: هما امرأتان ذكرتا بسوء: مريم وعائشة، فبرأهما الله عز وجل، وكانت عائشة ذات زوج ولم يأت بولد، وأتت مريم بولد ولم يكن لها زوج - يعني أن عائشة أولى بالبراءة من مريم - وكلاهما بريئة مما قيل فيها، فإن تطرق في الذهن الفاسد احتمال ريبة إلى هذه فهو إلى تلك أسرع، وهما بحمد الله منزهتان مبرأتان من السماء بوحي الله عز وجل، عليهما السلام.
وقد سمع الباقلاني الحديث من أبي بكر بن مالك القطيعي وأبي محمد بن ماسي وغيرهما، وقد قبله الدار قطني يوما وقال: هذا يرد على أهل الاهواء باطلهم، ودعا له.
وكانت وفاته يوم السبت لسبع بقين من ذي القعدة، ودفن بداره ثم نقل إلى مقبرة باب حرب.
محمد بن موسى بن محمد أبو بكر الخوارزمي شيخ الحنفية وفقيههم، أخذ العلم عن أحمد بن علي الرازي، وأنتهت إليه رياسة الحنفية ببغداد، وكان معظما عند الملوك، ومن تلامذة الرضي والصيمري، قد سمع الحديث من أبي بكر الشافعي وغيره، وكان ثقة دينا حسن الصلاة على طريقة السلف، ويقول في الاعتقاد: ديننا دين العجائز، لسنا من الكلام في شئ، وكان فصيحا حسن التدريس، دعي إلى ولاية القضاء غير مرة فلم يقبل، توفي ليلة الجمعة الثامن عشر من جمادى الاولى سنة ثلاث وأربعمائة، ودفن بداره من درب عبده.
الحافظ أبو الحسن علي بن محمد بن خلف العامري (1) القابسي مصنف التلخيص، أصله قرويني (2) وإنما غلب عليه القابسي لان عمه
__________
(1) في تذكرة الحفاظ 1079: المعافري .

كان يتعمم قابسية (1)، فقيل لهم ذلك، وقد كان حافظا بارعا في علم الحديث، رجلا صالحا جليل القدر، ولما توفي في ربع الآخر من هذه السنة عكف الناس على قبره ليالي يقرأون القرآن ويدعون له، وجاء الشعراء من كل أوب يرثون ويترحمون، ولما أجلس للمناظرة أنشد لغيره: لعمر أبيك ما نسب المعلى * إلى كرم وفي الدنيا كريم ولكن البلاد إذا اقشعرت * وصوح نبتها رعي الهشيم ثم بكى وأبكى، وجعل يقول: أنا الهشيم أنا الهشيم.
رحمه الله.
الحافظ ابن الفرضي أبو الوليد عبد الله بن محمد بن يوسف بن نصر الازدي الفرضي، قاضي بلنسية (2) سمع الكثير
وجمع وصنف التاريخ، وفي المؤتلف والمختلف، ومشتبه النسبة وغير ذلك، وكان علامة زمانه، قتل شهيدا على يد البربر فسمعوه وهو جريح طريح يقرأ على نفسه الحديث الذي في الصحيح " ما يكلم أحد في سبيل الله، والله أعلم بمن يكلم في سبيله، إلا جاء يوم القيامة وكلمه يدمي، الون لون الدم، والريح ريح المسك " (3).
وقد كان سأل الله الشهادة عند أستار الكعبة فأعطاه إياها، ومن شعره قوله: أسير الخطايا عند بابك واقف * على وجل مما به أنت عارف يخاف ذنوبا لم يغب عنك غيها * ويرجوك فيها وهو راج وخائف ومن ذا الذي يرجى سواك ويتقي * ومالك في فصل القضاء مخالف فيا سيدي لا تخزني في صحيفتي * إذا نشرت يوم الحساب الصحائف وكن مؤنسي في ظلمة القبر عندما * يصد ذوو القربى ويجفوا الموالف لئن ضاق عني عفوك الواسع الذي * أرجى لاسرافي فإني تالف (4) ثم دخلت سنة أربع واربعمائة في يوم الخميس غرة ربيع الاول منها جلس الخليفة القادر في أبهة الخلافة وأحضر بين يديه
__________
(2) في الوفيات 3 / 321: القروي، وفي تذكرة الحفاظ: الفروي.
(1) قال في تذكرة الحفاظ: أي أن عمه كان يشد عمامته شدة أهل قابس.
(2) من تذكرة الحفاظ / 1077 وفيات الاعيان 3 / 106 وفي الاصل بكنسية.
(3) أخرجه مسلم في صحيحه 2 / 95.
(4) في تذكرة الحفاظ والوفيات: لتالف

سلطان الدولة والحجبة، فخلع عليه سبع خلع على العادة، وعممه بعمامة سوداء، وقلد سيفا وتاجا مرصعا، وسوارين وطوقا، وعقد له لواءين بيده، ثم أعطاه سيفا وقال للخادم: قلده به، فهو شرف له ولعقبه، يفتح شرق الارض وغربها، وكان ذلك يوما مشهودا، حضره القضاة
والامراء والوزراء.
وفيها غزا محمود بن سبكتكين بلاد الهند ففتح وقتل وسبى وغنم، وسلم، وكتب إلى الخليفة أن يوليه ما بيده من مملكة خراسان وغيرها من البلاد، فأجابه إلى ما سأل وفيها عاثت بنو خفاجة ببلاد الكوفة فبرز إليهم نائبها أبو الحسن بن مزيد فقتل منهم خلفا وأسر محمد بن يمان (1) وجماعة من رؤسهم، وانهزم الباقون، فأرسل الله عليهم ريحا حارة فأهلك منهم خمسمائة إنسان.
وحج بالناس أبو الحسن محمد بن الحسن الافساسي.
وفيها توفي من الاعيان...الحسن بن أحمد ابن جعفر بن عبد الله المعروف بابن البغدادي، سمع الحديث، وكان زاهدا عابدا كثير المجاهدة، لا ينام إلا عن غلبة، وكان لا يدخل الحمام ولا يغسل ثيابه إلا بماء، وجده الحسين بن عثمان بن علي أبو عبد الله المقري الضرير المجاهدي، قرأ على ابن مجاهد القرآن وهو صغير، وكان آخر من بقي من أصحابه، توفي في جمادى الاولى منها، وقد جاوز المائة سنة، ودفن في مقابر لزرادين.
علي بن سعيد بن الاصطخري أحد شيوخ المعتزلة، صنف للقادر بالله الرد على الباطنية فأجرى عليه جراية سنية، وكان يسكن درب رباح، توفي في شوال وقد جاوز الثمانين.
ثم دخت سنة خمس وأربعمائة فيها (2) منع الحاكم صاحب مصر النساء من الخروج من منازلهم، أو أن يطلعن من الاسطحة
__________
(1) في الكامل 9 / 245: ثمال.
(2) أصدر الحاكم مرسومه الشهير سنة 404 ه، وفي سنة 405 ه.
كرر أوامره القاسية الواردة في المرسوم السابق الذكر وشدد في تنفيذها نسخة المرسوم في تاريخ الانطاكي ص 208 والمقريزي في الخطط 3 / 73 وأشار إليه ابن خلكان ج 2 / 167 وابن الاثير ج 9 / 109 واتعاظ الحنفاء.
وانظر كتاب الحاكم بأمر الله تأليف الدكتور محمد عبد الله عنان ص 133 - 134 - 135 .

أو من الطاقات ومنع الخفافين من عمل الخفاف لهن، ومنعهن من الخروج إلى الحمامات، وقتل خلقا من النساء على مخالفته في ذلك، وهدم بعض الحمامات عليهن، وجهز نساء عجائز كثيرة يستعلمن أحوال النساء لمن يعشقن أو يعشقهن، بأسمائهن وأسماء من يتعرض لهن، فمن وجد منهن كذلك أطفأها وأهلكها، ثم إنه أكثر من الدوران بنفسه ليلا ونهارا في البلد، في طلب ذلك، وغرق خلقا من الرجال والنساء والصبيان ممن يطلع على فسقهم، فضاق الحال واشتد على النساء، وعلى الفساق ذلك، ولم يتمكن أحد منهن أن يصل إلى أحد إلا نادرا، حتى أن امرأة كانت عاشقة لرجل عشقا قويا كادت أن تهلك بسببه، لما حيل بينها وبينه، فوقفت لقاضي القضاة وهو مالك بن سعد الفارقي وحلفته بحق الحاكم لما وقف لها واستمع كلامها، فرحمها فوقف لها فبكت إليه بكاء شديدا مكرا وحيلة وخداعا، وقالت له: أيها القاضي إن لي أخا ليس لي غيره، وهو في السياق وإني أسألك بحق الحاكم عليك لما أوصلتني إلى منزله، لانظر إليه قبل أن يفارق الدنيا، وأجرك على الله.
فرق لها القاضي رقة شديدة وأمر رجلين كانا معه يكونان معها حتى يبلغانها إلى المنزل الذي تريده، فأغلقت بابها وأعطت المفتاح لجارتها، وذهبت معهما حتى وصلت إلى منزل معشوقها، فطرقت الباب ودخلت وقالت لهما: اذهبا هذا منزله فإذا رجل كانت تهواه وتحبه ويهواها ويحبها، فقال لها: كيف قدرت على الوصول إلي ؟ فأخبرته بما احتالت به من الحيلة على القاضي، فأعجبه ذلك من مكرها وحيلتها، وجاء زوجها من آخر النهار فوجد بابه مغلقا وليس في بيته أحد، فسأل الجيران عن أمرها فذكرت له جارتها ما صنعت فاستغاث على القاضي وذهب إليه وقال له: ما أريد امرأتي إلا منك الساعة، وإلا عرفت الحاكم، فإن امرأتي ليس لها أخ بالكلية، وإنما ذهبت إلى معشوقها، فخاف القاضي من معرة هذا الامر، فركب إلى الحاكم وبكى بين يديه، فسأله عن شأنه فأخبره بما اتفق له من الامر مع المرأة، فأرسل الحاكم مع ذنيك الرجلين من يحضر المرأة والرجل جميعا، على أي حال كانا عليه، فوجدهما متعانقين سكارى، فسألهما الحاكم من أمرهما فأخذ يعتذران بما لا يجدي شيئا، فأمر بتحريق المرأة في بادية وضرب الرجل ضربا مبرحا حتى أتلفه، ثم ازداد احتياطا وشدة على النساء حتى
جعلهن في أضيق من جحر ضب، ولا زال هذا دأبه حتى مات.
ذكره ابن الجوزي.
وفي رجب منها ولي أبو الحسن أحمد بن أبي الشوارب قضاء الحضرة بعد موت أبي محمد الاكفاني.
وفيها عمر فخر الدولة مسجد الشرقية ونصب عليه الشبابيك من الحديد.
وممن توفي فيها من الاعيان...بكر بن شاذان بن بكر أبو القاسم المقري الواعظ، سمع أبا بكر الشافعي، وجعفر الخلدي، وعنه الازهري والخلال، وكان ثقة أمينا صالحا عابدا زاهدا، له قيام ليل، وكريم أخلاق.
مات فيها عن نيف وثمانين سنة، ودفن بباب حرب.

بدر بن حسنويه بن الحسين أبو النجم الكردي، كان من خيار الملوك بناحية الدينور وهمدان، وله سياسة وصدقة كثيرة، كناه القادر بابي النجم، ولقبه ناصر الدولة، وعقد له لواء وأنفذه إليه، وكانت معاملاته وبلاده في غاية الامن والطيبة، بحيث إذا أعيى جمل أحد من المسافرين أو دابته عن حمله يتركها بما عليها في البرية فيرد عليه، ولو بعد حين لا ينقص منه شئ، ولما عاثت أمراؤه في الارض فسادا عمل لهم ضيافة حسنة، فقدمها إليهم ولم يأتهم بخبز، فجلسوا ينتظرون الخبز، فلما استبطاؤه سألوا عنه فقال لهم: إذا كنتم تهلكون الحرث وتظلمون الزراع، فمن أين تؤتون بخبز ؟ ثم قال لهم: لا أسمع بأحد أفسد في الارض بعد اليوم إلا أرقت دمه.
واجتاز مرة في بعض أسفاره برجل قد حمل حزمة حطب وهو يبكي فقال له: مالك تبكي ؟ فقال: إني كان معي رغيفان أريد أن أتقوتهما فأخذهما مني بعض الجند، فقال له: أتعرفه إذا رأيته ؟ قال: نعم فوقف به في موضع مضيق حتى مر عليه ذلك الرجل الذي أخذ رغيفيه، قال: هذا هو، فأمر به أن ينزل عن فرسه وأن يحمل حزمته التي احتطبها حتى يبلغ بها إلى المدينة، فأراد أن يفتدي من ذلك بمال جزيل فلم يقبل منه، حتى تأدب به الجيش كلهم وكان يصرف كل جمعة عشرين ألف درهم على الفقراء والارامل، وفي كل شهر عشرين ألف
درهم في تكفين الموتى، ويصرف في كل سنة ألف دينار إلى عشرين نفسا يحجون عن والدته، وعن عضد الدولة، لانه كان السبب في تمليكه، وثلاثة الألف دينار في كل سنة إلى الحدادين والحذائين لاجل المنقطعين من همذان وبغداد، يصلحون الاحذية ونعال دوابهم، ويصرف في كل سنة مائة ألف دينار إلى الحرمين صدقة على المجاورين، وعمارة المصانع، وإصلاح المياه في طريق الحجاز، وحفر الآبار.
وما أجتاز في طريقه وأسفاره بماء إلا بنى عنده قرية، وعمر في أيامه من المساجد والخانات ما ينيف على ألفي مسجد وخان، هذا كله خارجا عما يصرف من ديوانه من الجرايات، والنفقات والصدقات، والبر والصلات، وعلى أصناف الناس، من الفقهاء والقضاة، والمؤذنين والاشراف، والشهود والفقراء، والمساكين والايتام والارامل.
وكان مع هذا كثير الصلاة والذكر وكان له من الدواب المربوطة في سبيل الله وفي الحشر ما ينيف على عشرين ألف دابة.
توفي في هذه السنة رحمه الله عن نيف وثمانين سنة، ودفن في مشهد علي، وترك من الاموال أربعة عشر ألف بدرة، ونيفا وأربعين بدرة، البدرة عشر آلاف، رحمه الله.
الحسن بن الحسين حمكان أبو علي الهمداني، أحد الفقهاء الشافعية ببغداد، عني أولا بالحديث فسمع منه أبو حامد المروزي وروى عنه الازهري، وقال: كان ضعيفا ليس بشئ في الحديث.

عبد الله بن محمد بن عبد الله بن إبراهيم أبو محمد الاسدي المعروف بابن الاكفاني، قاضي قضاة بغداد، ولد سنة ست عشرة وثلثمائة وروى عن القاضي المحاملي، ومحمد بن خلف، وابن عقدة وغيرهم، وعنه البرقاني والتنوخي، يقال إنه أنفق على طلب العلم مائة ألف دينار، وكان عفيفا نزها، صين العرض.
توفي في هذه السنة عن خمس (1) وثمانين سنة، ولي الحكم منها أربعين سنة نيابة واستقلالا، رحمه الله.
عبد الرحمن بن محمد ابن محمد بن عبد الله بن إدريس بن سعد، الحافظ الاستراباذي المعروف بالادريسي، رحل
في طلب العلم والحديث، وعني به وسمع الاصم وغيره، وسكن سمرقند، وصنف لها تاريخا وعرضه على الدار قطني فاستحسنه، وحدث ببغداد فسمع منه الازهري والتنوخي، وكان ثقة حافظا.
أبو نصر عبد العزيز بن عمر ابن أحمد بن نباتة الشاعر المشهور، امتدح سيف الدولة بن حمدان، أظنه أخو الخطيب ابن نباتة أو غيره، وهو القائل البيت المطروق المشهور: ومن لم يمت بالسيف مات بغيره * تنوعت الاسباب والموت واحد عبد العزيز بن عمر بن محمد بن نباتة أبو نصر السعدي الشاعر وشعره موقوف ومن شعره قوله: وإذا عجزت عن العدو فداره * وامزج له إن المزاج وفاق كالماء بالنار الذي هو ضدها * يعطي النضاج وطبعها الاحراق توفي فيها عبد الغفار بن عبد الرحمن أبو بكر الدينوري الفقيه السفياني، وهو آخر من كان يفتي بمذهب سفيان الثوري ببغداد، في جامع المنصور، وكان إليه النظر في الجامع والقيام بأمره.
توفي فيها ودفن خلف جامع الحاكم.
__________
(1) قال الذهبي في تذكرة الحفاظ ص 1063: تسعا وثمانين سنة .

الحاكم النيسابوري صاحب المستدرك، محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه، بن نعيم بن الحكم، أبو عبد الله الحاكم الضبي الحافظ ويعرف بابن البيع، من أهل نيسابور، وكان من أهل العلم والحفظ والحديث، ولد سنة إحدى وعشرين وثلثمائة، وأول سماعه من سنة ثلاثين وثلثمائة، سمع الكثير وطاف الآفاق، وصنف الكتب الكبار والصغار، فمنها المستدرك على الصحيحين، وعلوم الحديث والاكليل وتاريخ نيسابور، وقد روى عن خلق، ومن مشايخه الدار قطني وابن أبي الفوارس
صاحب المستدرك، محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه، بن نعيم بن الحكم، أبو عبد الله الحاكم الضبي الحافظ ويعرف بابن البيع، من أهل نيسابور، وكان من أهل العلم والحفظ والحديث، ولد سنة إحدى وعشرين وثلثمائة، وأول سماعه من سنة ثلاثين وثلثمائة، سمع الكثير وطاف الآفاق، وصنف الكتب الكبار والصغار، فمنها المستدرك على الصحيحين، وعلوم الحديث والاكليل وتاريخ نيسابور، وقد روى عن خلق، ومن مشايخه الدار قطني وابن أبي الفوارس وغيرهما، وقد كان من أهل الدين والامانة والصيانة، والضبط، والتجرد، والورع، لكن قال الخطيب البغدادي: كان ابن البيع يميل إلى التشيع، فحدثني أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الارموي، قال: جمع الحاكم أبو عبد الله أحاديث زعم أنها صحاح على شرط البخاري ومسلم، يلزمهما إخراجها في صحيحيهما، فمنها حديث الطير، " ومن كنت مولاه فعلي مولاه "، فأنكر عليه أصحاب الحديث ذلك ولم يلتفتوا إلى قوله ولاموه في فعله.
وقال محمد بن طاهر المقدسي: قال الحاكم: حديث الطير لم يخرج في الصحيح وهو صحيح، قال ابن طاهر: بل موضوع لا يروى إلا عن إسقاط أهل الكوفة من المجاهيل، عن أنس، فأن كان الحاكم لا يعرف هذا فهو جاهل، وإلا فهو معاند كذاب.
وقال أبو عبد الرحمن السلمي: دخلت على الحاكم وهو مختف من الكرامية لا يستطيع يخرج منهم، فقلت له: لو خرجت حديثا في فضائل معاوية لا سترحت مما أنت فيه فقال: لا يجئ من قبلي، لا يجئ من قبلي.
توفي فيها عن أربع وثمانين سنة.
ابن كج (1) هو يوسف بن أحمد بن كج أبو القاسم القاضي، أحد أئمة الشافعية، وله في المذهب وجوه عريبة وكانت له نعمة عظيمة جدا، وولي القضاء بالدينور لبدر بن حسنويه فلما تغيرت البلاد بعد موت بدر وثب عليه جماعة من العيارين فقتلوه ليلة سبع وعشرين من رمضان من هذه السنة.
تم الجزء الحادي عشر من البداية والنهاية ويليه الجزء الثاني عشر وأوله سنة ست وأربعمائة وبالله التوفيق.
__________
(1) كج: بفتح الكاف وتشديد الجيم، وهو في اللغة اسم للجص الذي يبيض به الحيطان

البداية والنهاية - ابن كثير ج 12
البداية والنهاية
ابن كثير ج 12

البداية والنهاية للامام الحافظ ابي الفداء إسماعيل بن كثير الدمشقي المتوفي سنة 774 ه.
حققه ودقق اصوله وعلق حواشيه علي شيري الجزء الثاني عشر دار إحياء التراث العربي

بسم الله الرحمن الرحيم ثم دخلت سنة ست وأربعمائة في يوم الثلاثاء مستهل المحرم منها وقعت فتنة بين أهل السنة والروافض، ثم سكن الفتنة الوزير فخر الملك على أن تعمل الروافض بدعتهم يوم عاشوراء من تعليق المسوح والنوح.
وفي هذا الشهر ورد الخبر بوقوع وباء شديد في البصرة أعجز الحفارين، والناس عن دفن موتاهم، وأنه أظلت البلد سحابة في حزيران.
فأمطرتهم مطرا شديدا.
وفي يوم السبت ثالث صفر تولى المرتضى نقابة الطالبيين والمظالم والحج، وجميع ما كان يتولاه أخوه الرضي، وقرئ تقليده بحضرة الاعيان، وكان يوما مشهودا.
وفيها ورد الخبر عن الحجاج بأنه هلك منهم بسبب العطش أربعة عشر ألفا، وسلم ستة آلاف، وأنهم شربوا بول الابل من العطش.
وفيها غزا محمود بن سبكتكين بلاد الهند فأخذه الادلاء فسلكوا به على بلاد غريبة فانتهوا إلى أرض قد غمرها الماء من البحر فخاض بنفسه الماء أياما وخاض الجيش حتى خلصوا بعد ما غرق كثير من جيشه، وعاد إلى خراسان بعد جهد جهيد.
ولم يحج فيها من العراق ركب لفساد البلاد من الاعراب.
وفيها توفي من الاعيان...الشيخ أبو حامد الاسفرايني إمام الشافعية، أحمد بن محمد بن أحمد إمام الشافعية في زمانه، ولد في سنة أربع وأربعين وثلثمائة وقدم بغداد وهو صغير سنة ثلاث أو أربع وستين وثلثمائة، فدرس الفقه على أبي الحسن بن المزبان، ثم على أبي القاسم الداركي، ولم يزل تترقى به الاحوال حتى صارت إليه رياسة الشافعية، وعظم جاهه عند السلطان والعوام، وكان فقيها إماما، جليلا نبيلا، شرح المزني في تعليقه حافلة نحوا من خمسين مجلدا، وله تعليقة أخرى في أصول الفقه، وروى عن الاسماعيلي وغيره.
قال الخطيب: ورأيته غير مرة وحضرت تدريسه بمسجد عبد الله بن المبارك، في صدر قطيعة الربيع،

وحدثنا عنه الازجي والخلال، وسمعت من يذكر أنه كان يحضر تدريسه سبعمائة (1) متفقه، وكان الناس يقولون: لو رآه الشافعي لفرح به.
وقال أبو الحسن (2) القدوري: ما رأيت في الشافعية أفقه من أبي حامد، وقد ذكرت ترجمته مستقصاة في طبقات الشافعية: وذكر ابن خلكان أن القدوري قال: هو أفقه وأنظر من الشافعي.
قال الشيخ أبو إسحاق: ليس هذا مسلما إلى القدوري فإن أبا حامد وأمثاله بالنسبة إلى الشافعي كما قال الشاعر: نزلوا بمكة في قبائل نوفل * ونزلت بالبيداء أبعد منزل قال ابن خلكان: وله مصنفات: التعليقة الكبرى، وله كتاب البستان، وهو صغير فيه غرائب قال وقد اعترض عليه بعض الفقهاء في بعض المناظرات فأنشأ الشيخ أبو حامد يقول.
جفاء جرى جهرا لدى الناس وانبسط * وعذر أتى سرا فأكد ما فرط ومن ظن أن يمحو جلي جفائه * خفي اعتذار فهو في أعظم الغلط توفي ليلة السبت لاحدى عشرة بقيت من شوال منها، ودفن بداره بعدما صلي عليه بالصحراء وكان الجمع كثير والبكاء غزيرا، ثم نقل إلى مقبرة باب حرب في سنة عشر وأربعمائة.
قال ابن الجوزي: وبلغ من العمر إحدى وستين سنة وأشهرا (3).
أبو أحمد الفرضي
عبد الرحمن (4) بن محمد بن أحمد بن علي بن مهران، أبو مسلم الفرضي المقري.
سمع المحاملي ويوسف بن يعقوب، وحضر مجلس أبي بكر بن الانباري، وكان إماما ثقة، ورعا وقورا، كثير الخير، يقرأ القرآن كثيرا، ثم سمع الحديث، وكان إذا قدم على الشيخ أبي حامد الاسفراييني، نهض إليه حافيا فتلقاه إلى باب المسجد، توفي وقد جاوز الثمانين.
الشريف الرضي محمد بن الطاهر أبو أحمد الحسين بن موسى أبو الحسن العلوي لقبه بهاء الدولة بالرضي، ذي الحسبتين، ولقب أخاه المرتضى ذي المجدين، ولي نقابة الطالبيين ببغداد بعد أبيه، وكان شاعرا
__________
(1) في الكامل 9 / 262: أربعمائة، وفي ابن خلكان 1 / 73: أكثر من ثلثمائة.
(2) في ابن خلكان: أبو الحسين.
(3) في تذكرة الحفاظ / 1064 اثنتين وستين سنة.
(4) في الكامل 9 / 262: عبد السلام، وفي تذكرة الحافظ / 1064: عبد الرحمن.

مطبقا، سخيا جوادا.
وقال بعضهم: كان الشريف في كثرة أشعاره أشعر قريش فمن شعره المستجاد قوله: اشتر العز بما شئ * ت فما العز بغال بالقصار إن شئ * ت أو بالسمر الطوال ليس بالمغبون عقلا * من شرى عزا بمال إنما يذخر الما * ل لحاجات الرجال والفتى من جعل الاموا * ل أثمان المعالي وله أيضا: يا طائر البان غريدا على فنن * ما هاج نوحك لي يا طائر البان هل أنت مبلغ من هام الفؤاد به * إن الطليق يؤدي حاجة العاني
جناية ما جناها غير متلفنا * يوم الوداع ووا شوقي إلى الجاني لولا تذكر أيام بذي سلم * وعند رامة أو طاري وأوطاني لما قدحت بنار الوجد في كبدي * ولا بللت بماء الدمع أجفاني وقد نسب إلى الرضي قصيدة يتمنى فيها أن يكون عند الحاكم العبيدي، ويذكر فيها أباه ويا ليته كان عنده، حين يرى حاله ومنزلته عنده، وأن الخليفة لما بلغه ذلك أراد أن يسيره إليه ليقضي أربه ويعلم الناس كيف حاله.
قال في هذه القصيدة: ألبس الذل في بلاد الاعاد * ي وبمصر الخليفة العلوي ! وأبوه أبي ومولاه مولا * ي إذا ضامني البعيد القصي إلى آخرها، فلما سمع الخليفة القادر بأمر هذه القصيدة انزعج وبعث إلى أبيه الموسوي يعاتبه، فأرسل إلى ابنه الرضي فأنكر أن يكون قالها بالمرة، والروافض من شأنهم التزوير.
فقال له أبوه: فإذا لم تكن قلتها فقل أبياتا تذكر فيها أن الحاكم بمصر دعي لا نسب له، فقال: إني أخاف غائلة ذلك، وأصر على أن لا يقول ما أمره به أبوه، وترددت الرسائل من الخليفة إليهم في ذلك، وهم ينكرون ذلك حتى بعث الشيخ أبا حامد الاسفراييني والقاضي أبا بكر إليهما، فحلف لهما بالايمان المؤكدة أنه ما قالها والله أعلم بحقيقة الحال.
توفي في خامس (1) المحرم منها عن سبع وأربعين سنة،
__________
(1) في الوافي 2 / 378: بكرة الخميس سادس المحرم وقيل صفر.
وفي الوفيات 4 / 419: بكرة يوم الاحد سادس المحرم وقيل صفر.

وحضر جنازته الوزير والقضاة، وصلى عليه الوزير ودفن بداره بمسجد الانباري، وولي أخوه المرتضى ما كان يليه، وزيد على ذلك أشياء ومناصب أخرى، وقد رثى الرضي أخاه بمرثاة حسنة.
باديس بن منصور الحميري أبو المعز مناذر بن باديس (1) نائب الحاكم على بلاد إفريقية وابن نائبها، لقبه الحاكم بنصير الدولة، كان ذا همة وسطوة وحرمة وافرة، كان إذا هز رمحاه كسره، توفي فجأة ليلة الاربعاء سلخ ذي
القعدة منها، ويقال إن بعض الصالحين دعى عليه تلك الليلة، وقام في الامر بعده ولده المعز مناذر.
ثم دخلت سنة سبع وأربعمائة في ربيع الاول منها، احترق مشهد الحسين بن علي [ بكربلاء ] وأروقته، وكان سبب ذلك أن القومة أشعلوا شمعتين كبيرتين فمالتا في الليل على التازير، ونفذت النار منه إلى غيره حتى كان ما كان.
وفي هذا الشهر أيضا احترقت دار القطن ببغداد وأماكن كثيرة بباب البصرة، واحترق جامع سامرا.
وفيها ورد الخبر بتشعيث الركن اليماني من المسجد الحرام، وسقوط جدار بين يدي قبر الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وأنه سقطت القبة الكبيرة على صخرة بيت المقدس، وهذا من أغرب الاتفاقات وأعجبها.
وفي هذه السنة قتلت الشيعة الذين ببلاد إفريقية ونهبت أموالهم، ولم يترك منهم إلا من لا يعرف، وفيها كان ابتداء دولة العلويين ببلاد الاندلس، وليها علي بن حمود بن أبي العيس (2) العلوي، فدخل قرطبة في المحرم منها، وقتل سليمان بن الحكم الاموي، وقتل أباه أيضا، وكان شيخا صالحا، وبايعه الناس وتلقب بالمتوكل على الله، ثم قتل في الحمام في ثامن ذي القعدة منها (3) عن ثمان وأربعين سنة، وقام بالامر من بعده أخوه القاسم بن حمود، وتلقب بالمأمون، فأقام في الملك ست سنين، ثم قام ابن أخيه يحيى بن علي (4)، ثم ملك الامويون حتى ملك أمر المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين.
وفيها ملك محمود بن سبكتكين بلاد خوارزم بعد ملكها خوارزم شاه مأمون بن مأمون وفيها استوزر سلطان الدولة أبا الحسن علي بن الفضل الرامهرمزي، عوضا عن فخر الملك.
وخلع عليه.
ولم يحج أحد في هذه السنة من بلاد المغرب لفساد البلاد والطرقات.
__________
(1) في الكامل 9 / 256: باديس بن منصور بن يوسف بلكين (البيان المغرب 1 / 266 مختصر أخبار البشر 2 / 144 تاريخ ابن الوردي 1 / 493).
(2) في الكامل 9 / 269: ابن أبي العيش.
(مختصر أخبار البشر 2 / 146).
(3) في الكامل 9 / 272 والعبر 4 / 153 ومختصر أخبار البشر 2 / 146: ثمان وأربعمائة.
(4) من المصادر السابقة.
وفي الاصل إدريس وهو تحريف.

وفيها توفي من الاعيان.
أحمد بن يوسف بن دوست أبو عبد الله البزار، أحد حفاظ الحديث، وأحد الفقهاء على مذهب مالك، كان يذكر بحضرة الدارقطني ويتكلم على عالم الحديث، فيقال أن الدارقطني تلكم فيه لذلك السبب، وقد تكلم في غيره بما لا يقدح فيه كبير شئ.
قال الازهري: رأيت كتبه طرية، وكان يذكر أن أصوله العتق غرقت، وقد أملى الحديث من حفظه، والمخلص وابن شاهين حيان موجودان.
توفي في رمضان، عن أربع وثمانين سنة.
الوزير فخر الملك محمد بن علي بن خلف أبو غالب الوزير، كان من أهل واسط، وكان أبوه صيرفيا، فتنقلت به الاحوال إلى أن وزر لبهاء الدولة، وقد اقتنى أموالا جزيلة، وبنى دارا عظيمة، تعرف بالفخرية، وكانت أولا للخليفة المتقي لله، فأنفق عليها أموالا كثيرة، وكان كريما جوادا، كثير الصدقة، كسى في يوم واحد ألف فقير، وكان كثير الصلاة أيضا، وهو أول من فرق الحلاوة ليلة النصف من شعبان، وكان فيه ميل إلى التشيع، وقد صادره سلطان الدولة بالاهواز، وأخذ منه شيئا أزيد من ستمائة ألف دينار، خارجا عن الاملاك والجواهر والمتاع، قتله سلطان الدولة، وكان عمره يوم قتل ثنتين وخمسين سنة وأشهر وقيل إن سبب هلاكه أن رجلا قتله بعض غلمانه، فاستعدت امرأة الرجل على الوزير هذا، ورفعت إليه قصصتها، وكل ذلك لا يلتفت إليها، فقالت له ذات يوم: أيها الوزير أرأيت القصص التي رفعتها إليك، فلم تلتفت إليها قد رفعتها إلى الله عز وجل، وأنا أنتظر التوقيع عليها، فلما مسك قال: قد والله خرج توقيع المرأة، فكان من أمره ما كان.
ثم دخلت سنة ثمان وأربعمائة فيها وقعت فتنة عظيمة بين أهل السنة والروافض ببغداد، قتل فيها خلق كثير من الفريقين.
وفيها ملك أبو المظفر بن خاقان بلاد ما وراء النهر وغيرها، وتلقب بشرف الدولة، وذلك بعد وفاة
أخيه طغان خان، وقد كان طغان خان هذا دينا فاضلا، يحب أهل العلم والدين، وقد غزا الترك مرة فقتل منهم مائتي ألف مقاتل، وأسر منهم مائة ألف، وغنم من أواني الذهب والفضة، وأواني الصين شيئا لا يعهد لاحد مثله، فلما مات ظهرت ملوك الترك على البلاد الشرقية.
وفي جمادى الاولى

منها ولى أبو الحسين أحمد بن مهذب الدولة علي بن نصر بلاد البطائح بعد أبيه، فقاتله ابن عمه (1) فغلبه وقتله، ثم لم تطل مدته فيها (2) حتى قتل، ثم آلت تلك البلاد بعد ذلك إلى سلطان الدولة صاحب بغداد، وطمع فيهم العامة، فنزلوا إلى واسط فقاتلوهم مع الترك.
وفيها ولى نور الدولة أبو الاغردبيس بن أبي الحسن علي بن مزيد بعد وفاة أبيه.
وفيها قدم سلطان الدولة إلى بغداد، وضرب الطبل في أوقات الصلوات، ولم تجر بذلك عادة، وعقد عقده على بنت قرواش على صداق خمسين ألف دينار.
ولم يحج أحد من أهل العراق لفساد البلاد، وعيث الاعراب وضعف الدولة.
قال ابن الجوزي في المنتظم: أخبرنا سعد الله بن علي البزار أنبأ أبو بكر الطريثيثي، أنبأ هبة الله بن الحسن الطبري.
قال: وفي سنة ثمان وأربعمائة استتاب القادر بالله الخليفة فقهاء المعتزلة، فأظهروا الرجوع وتبرأوا من الاعتزال والرفض والمقالات المخالفة للاسلام، وأخذت خطوطهم بذلك، وأنهم متى خالفوا أحل فيهم من النكال والعقوبة ما يتعظ به أمثالهم، وامتثل محمود بن سبكتكين أمر أمير المؤمنين في ذلك واستن بسنته في أعماله التي استخلفه عليها من بلاد خراسان وغيرها، في قتل المعتزلة والرافضة والاسماعيلية والقرامطة والجهمية والمشبهة، وصلبهم وحبسهم ونفاهم، وأمر بلعنهم على المنابر، وأبعد جميع طوائف أهل البدع، ونفاهم عن ديارهم، وصار ذلك سنة في الاسلام.
وفيها توفي من الاعيان الحاجب الكبير...شباشي أبو نصر مولى شرف الدولة، ولقبه بهاء الدولة بالسعيد، وكان كثير الصدقة والاوقاف على وجوه القربات فمن ذلك أنه وقف دباها على المارستان وكانت تغل شيئا كثيرا من الزروع والثمار والخراج وبنى قنطرة الخندق والمارستان والناصرية وغير ذلك، ولما مات دفن بمقبرة الامام أحمد وأوصى أن لا
يبنى عليه فخالفوه، فعقدوا قبة عليه فسقطت بعد موته بنحو من سبعين سنة واجتمع نسوة عند قبره ينحن يبكين، فلما رجعن رأت عجوز منهن - كانت هي المقدمة فيهن - في المنام كأن تركيا خرج إليهن من قبره ومعه دبوس فحمل عليهن وزجرهن عن ذلك، وإذا هو الحاجب السعيد، فانتبهت مذعورة ثم دخلت سنة تسع وأربعمائة في يوم الخميس السابع عشر من المحرم قرئ بدار الخلافة في الموكب كتاب في مذهب أهل
__________
(1) في الكامل 9 / 303 ومختصر أخبار البشر 2 / 150: ابن أخت مهذب الدولة عبد الله بن يني (عند أبي الفداء بني) (2) كان ملكه أقل من ثلاثة أشهر (الكامل).

السنة وفيه أن من قال القرآن مخلوق فهو كافر حلال الدم.
وفي النصف من جمادى الاولى منها فاض البحر المالح وتدانى إلى الابلة، ودخل البصرة بعد يومين.
وفيها غزا محمود بن سبكتكين بلاد الهند وتواقع هو وملك الهند فاقتتل الناس قتالا عظيما، ثم انجلت عن هزيمة عظيمة على الهند، وأخذ المسلمون يقتلون فيهم كيف شاؤوا، وأخذوا منهم أموالا عظيمة من الجواهر والذهب والفضة، وأخذوا منهم مائتي فيل، واقتصوا آثار المنهزمين منهم، وهدموا معامل كثيرة.
ثم عاد إلى غزنة مؤيدا منصورا.
ولم يحج أحد من درب العراق فيها لفساد البلاد وعيث الاعراب.
وفيها توفي من الاعيان...رجاء بن عيسى بن محمد أبو العباس الانصناوي، نسبة إلى قرية من قرى مصر يقال لها أنصنا.
قدم بغداد فحدث بها وسمع منه الحافظ، وكان ثقة فقيها مالكيا عدلا عند الحكام، مرضيا.
ثم عاد إلى بلده وتوفي فيها، وقد جاوز الثمانين.
عبد الله بن محمد بن أبي علان
أبو أحمد قاضي الاهواز، كان ذا مال، وله مصنفات منها كتاب في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، جمع فيه ألف معجزة، وكان من كبار شيوخ المعتزلة، توفي فيها عن تسع وثمانين سنة.
علي بن نصر ابن أبي الحسن، مهذب الدولة، صاحب بلاد البطيحة، له مكارم كثيرة، وكان الناس يلجأون إلى بلاده في الشدائد فيؤويهم، ويحسن إليهم، ومن أكبر مناقبه إحسانه إلى أمير المؤمنين القادر لما استجار به ونزل عنده بالبطائح فارا من الطائع، فآواه وأحسن إليه، وكان في خدمته حتى ولي إمرة المؤمنين، وكان له بذلك عنده اليد البيضاء، وقد ولي البطائح ثنتين وثلاثين سنة وشهورا، وتوفي فيها عن ثنتين وسبعين سنة، وكان سبب موته أنه افتصد فانتفخ ذراعه فمات (1).
عبد الغني بن سعيد ابن علي بن بشر بن مروان بن عبد العزيز، أبو محمد الازدي المصري، الحافظ، كان عالما
__________
(1) ذكر وفاته ابن الاثير في الكامل 9 / 302 في سنة 408 قال: وكان مولده سنة 335 ه.

بالحديث وفنونه، وله فيه المصنفات الكثيرة الشهيرة.
قال أبو عبد الله الصوري الحافظ: ما رأت عيناي مثله في معناه، وقال الدارقطني: ما رأيت بمصر مثل شاب يقال له عبد الغني، كأنه شعلة نار، وجعل يفخم أمره ويرفع ذكره.
وقد صنف الحافظ عبد الغني هذا كتابا فيه أوهام الحاكم، فلما وقف الحاكم عليه جعل يقرأه على الناس ويعترف لعبد الغني بالفضل، ويشكره ويرجع فيه إلى ما أصاب فيه من الرد عليه، رحمهما الله، ولد عبد الغني لليلتين بقيتا من ذي القعدة سنة ثنتين [ وثلاثين ] (1) وثلثمائة وتوفي في (2) صفر من هذه السنة رحمه الله.
محمد بن أمير المؤمنين ويكنى بأبي الفضل، كان قد جعله ولي عهده من بعده، وضربت السكة باسمه وخطب له الخطباء على المنابر، ولقب بالغالب بالله، فلم يقدر ذلك.
توفي فيها عن سبع وعشرين سنة.
محمد بن إبراهيم بن محمد بن يزيد
أبو الفتح البزار الطرسوسي، ويعرف بابن البصري، سمع الكثير من المشايخ، وسمع منه الصوري ببيت المقدس، حين أقام بها، وكان ثقة مأمونا.
ثم دخلت سنة عشر وأربعمائة فيها ورد كتاب يمين الدولة محمود بن سبكتكين، يذكر فيه ما افتتحه من بلاد الهند في السنة الخالية، وفيه أنه دخل مدينة فيها ألف قصر مشيد، وألف بيت للاصنام.
وفيها من الاصنام شئ كثير، ومبلغ ما على الصنم من الذهب ما يقارب مائة ألف دينار، ومبلغ الاصنام الفضة زيادة على ألف صنم، وعندهم صنم معظم، يؤرخون له وبه بجهالتهم ثلثمائة ألف عام، وقد سلبنا ذلك كله وغيره مما لا يحصى ولا يعد، وقد غنم المجاهدون في هذه الغزوة شيئا كثيرا، وقد عمموا المدينة بالاحراق، فلم يتركوا منها إلا الرسوم، وبلغ عدد القتلى من الهنود خمسين ألفا، وأسلم منهم نحو من عشرين ألفا، وأفرد خمس الرقيق فبلغ ثلاثا وخمسين ألفا، واعترض من الافيال ثلثمائة وست وخمسين فيلا، وحصل من الاموال عشرون ألف ألف درهم، ومن الذهب شئ كثير.
وفي ربيع الآخر منها قرئ عهد أبي الفوارس ولقب قوام الدولة، وخلع عليه خلعا حملت إليه بولاية كرمان، ولم يحج في هذه السنة أحد من العراق.
__________
(1) سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
(2) في تذكرة الحفاظ / 1049: في سابع صفر.

وممن توفي فيها من الاعيان الاصيفر الذي كان يخفر الحجاج.
أحمد بن موسى بن مردويه ابن فورك، أبو بكر الحافظ الاصبهاني، توفي في رمضان منها.
هبة الله بن سلامة أبو القاسم الضرير المقرئ المفسر، كان من أعلم الناس وأحفظهم للتفسير، وكانت له حلقة في جامع المنصور، روى ابن الجوزي بسنده إليه قال: كان لنا شيخ نقرأ عليه فمات بعض أصحابه
فرآه في المنام فقال له: ما فعل الله بك ؟ قال: غفر لي.
قال: فما كان حالك مع منكر ونكير ؟ قال: لما أجلساني وسألاني ألهمني الله أن قلت: بحق أبي بكر وعمر دعاني، فقال أحدهما للآخر: قد أقسم بعظيمين فدعه، فتركاني وذهبا.
ثم دخلت سنة إحدى عشرة وأربعمائة فيها عدم الحاكم بمصر، وذلك أنه لما كان ليلة الثلاثاء لليلتين بقيتا من شوال فقد الحاكم بن المعز الفاطمي صاحب مصر، فاستبشر المؤمنون والمسلمون بذلك، وذلك لانه كان جبارا عنيدا، وشيطانا مريدا.
ولنذكر شيئا من صفاته القبيحة، وسيرته الملعونة، أخزاه الله.
كان كثير التلون في أفعاله وأحكامه وأقواله، جائرا، وقد كان يروم أن يدعي الالوهية كما ادعاها فرعون، فكان قد أمر الرعية إذا ذكر الخطيب على المنبر اسمه أن يقوم الناس على أقدامهم صفوفا، إعظاما لذكره واحتراما لاسمه، فعل ذلك في سائر ممالكه حتى في الحرمين الشريفين، وكان قد أمر أهل مصر على الخصوص إذا قاموا عند ذكره خروا سجدا له، حتى إنه ليسجد بسجودهم من في الاسواق من الرعاع وغيرهم، ممن كان لا يصلي الجمعة، وكانوا يتركون السجود لله في يوم الجمعة وغيره ويسجدون للحاكم، وأمر في وقت لاهل الكتابين بالدخول في دين لاسلام كرها، ثم أذن لهم في العود إلى دينهم، وخرب كنائسهم ثم عمرها، وخرب القمامة ثم أعادها، وابتنى المدارس.
وجعل فيها الفقهاء والمشايخ، ثم قتلهم وأخربها، وألزم الناس بغلق الاسواق نهارا، وفتحها ليلا، فامتثلوا ذلك دهرا طويلا، حتى اجتاز مرة برجل يعمل النجارة في أثناء النهار.
فوقف عليه فقال: ألم أنهكم ؟ فقال: يا سيدي لما كان الناس يتعيشون بالنهار كانوا يسهرون بالليل، ولما كانوا يتعيشون بالليل سهروا بالنهار فهذا من جملة السهر، فتبسم وتركه.
وأعاد الناس إلى أمرهم الاول، وكل هذا تغيير للرسوم، واختبار لطاعة العامة له، ليرقى في ذلك إلى ما هو أشر وأعظم منه.
وقد كان يعمل

الحسبة بنفسه فكان يدور بنفسه في الاسواق على حمار له - وكان لا يركب إلا حمارا - فمن وجده قد غش في معيشة أمر عبدا أسود معه يقال له مسعود، أن يفعل به الفاحشة العظمى، وهذا أمر منكر
ملعون، لم يسبق إليه، وكان قد منع النساء من الخروج من منازلهن (1) وقطع شجر الاعناب حتى لا يتخذ الناس منها خمرا (2)، ومنعهم من طبخ الملوخية (3)، وأشياء من الرعونات التي من أحسنها منع النساء من الخروج، وكراهة الخمر، وكانت العامة تبغضه كثيرا، ويكتبون له الاوراق بالشتيمة البالغة له ولاسلافه، في صورة قصص، فإذا قرأها ازداد غيظا وحنقا عليهم، حتى إن أهل مصر عملوا صورة امرأة من ورق بخفيها وإزارها.
وفي يدها قصة من الشتم واللعن والمخالفة شئ كثير، فلما رآها ظنها امرأة، فذهب من ناحيتها وأخذ القصة من يدها فقرأها فرأى ما فيها، فأغضبه ذلك جدا، فأمر بقتل المرأة، فلما تحققها من ورق ازداد غيظا إلى غيظه، ثم لما وصل إلى القاهرة أمر السودان أن يذهبوا إلى مصر فيحرقوها وينهبوا ما فيها من الاموال والمتاع والحريم، فذهبوا فامتثلوا ما أمر هم به، فقاتلهم أهل مصر قتالا شديدا، ثلاثة أيام، والنار تعمل في الدور والحريم، وهو في كل يوم قبحه الله، يخرج فيقف من بعيد وينظر ويبكي ويقول: من أمر هؤلاء العبيد بهذا ؟ ثم اجتمع الناس في الجوامع ورفعوا المصاحف وصاروا إلى الله عزوجل، واستغاثوا به، فرق لهم الترك والمشارقة وانحازوا إليهم، وقاتلوا معهم عن حريمهم ودورهم، وتفاقم الحال جدا، ثم ركب الحاكم لعنه الله ففصل بين الفريقين، وكف العبيد عنهم، وكان يظهر التنصل مما فعله العبيد وأنهم ارتكبوا ذلك من غير علمه وإذنه، وكان ينفذ إليهم السلاح ويحثهم على ذلك في الباطن، وما انجلى الامر حتى احترق من مصر نحو ثلثها، ونهب قريب من نصفها، وسبيت نساء وبنات كثيرة وفعل معهن الفواحش والمنكرات، حتى أن منهن من قتلت نفسها خوفا من العار والفضيحة، واشترى الرجال منهم من سبي لهم من النساء والحريم، قال ابن الجوزي: ثم ازداد ظلم الحاكم حتى عن له أن يدعي الربوبية، فصار قوم من الجهال إذا رأوه يقولون: يا واحد يا أحد يا محيي يا مميت قبحهم الله جميعا.
صفة مقتله لعنه الله كان قد تعدى شره إلى الناس كلهم حتى إلى أخته (4)، وكان يتهمها بالفاحشة، ويسمعها
__________
(1) أصدر مرسومه الشهير هذا في شعبان سنة 404 ه.
(2) صدر مرسوم في ربيع الاول سنة 399 ه وصدر مرسوم في محرم 402 وأتبعه بمرسوم جديد في جمادى الآخرة سنة 403 بشأن الخمر وتحريم المسكرات والفقاع والزبيب وجميع الاعناب، وهكذا خصت الخمر ومصادرها طوال عهد الحاكم بأقسى المطاردات وأعنفها (انظر الخطط للمقريزي 4 / 72 وابن خلكان 2 / 166).
(3) صدر مرسوم منع أكل الملوخية في المحرم سنة 395.
(4) واسمها ست الملك (الكامل - العبر).

اغلظ الكلام، فنبرمت منه، وعملت على قتله، فراسلت أكبر الامراء، أمير يقال له ابن داوس، فتوافقت هي وهو على قتله ودماره، وتواطآ على ذلك، فجهز من عنده عبدين، أسودين شهمين، وقال لهما: إذا كانت الليلة الفلانية فكونا في جبل المقطم، ففي تلك الليلة يكون الحاكم هناك في الليل لينظر في النجوم، وليس معه أحد إلا ركابي وصبي، فاقتلاه واقتلاهما معه، واتفق الحال على ذلك.
فلما كانت تلك الليلة قال الحاكم لامه: علي في هذه الليلة قطع عظيم، فإن نجوت منه عمرت نحوا من ثمانين سنة، ومع هذا فانقلي حواصلي إليك، فإن أخوف ما أخاف عليك من أختي، وأخوف ما أخاف على نفسي منها، فنقل حواصله إلى أمه، وكان له في صناديق قريب من ثلثمائة ألف دينار، وجواهر آخر.
فقالت له أمه: يا مولانا إذا كان الامر كما تقول فارحمني ولا تركب في ليلتك هذه إلى موضع وكان يحبها.
فقال: أفعل، وكان من عادته أن يدور حول القصر كل ليلة، فدار ثم عاد إلى القصر، فنام إلى قريب من ثلث الليل الاخير، فاستيقظ وقال: إن لم أركب الليلة، فاضت نفسي، فثار فركب فرسا وصحبه صبي وركابي، وصعد الجبل المقطم فاستقبله ذانك العبدان فأنزلاه عن مركوبه، وقطعا يديه ورجليه، وبقرا بطنه، فأتيا به مولاهما ابن دواس، فحمله إلى أخته فدفنته في مجلس دارها، واستدعت الامراء والاكابر والوزير وقد أطلعته على الجلية، فبايعوا لولد الحاكم أبي الحسن علي، ولقب بالظاهر لاعزاز دين الله، وكان بدمشق، فاستدعت به وجعلت تقول للناس: إن الحاكم قال لي: إن يغيب عنكم سبعة أيام ثم يعود، فاطمأن الناس، وجعلت ترسل ركابيين إلى الجبل فيصعدونه، ثم يرجعون فيقولون تركناه في الموضع الفلاني، ويقول الذين
بعدهم لامه: تركناه في موضع كذا وكذا.
حتى اطمأن الناس وقدم ابن أخيها واستصحب معه من دمشق ألف ألف دينار، وألفي ألف درهم، فحين وصل ألبسته تاج جد أبيه المعز، وحلة عظيمة، وأجلسته على السرير، وبايعه الامراء والرؤساء، وأطلق لهم الاموال، وخلعت على ابن دواس خلعة سنية هائلة، وعملت عزاء أخيها الحاكم ثلاثة أيام، ثم أرسلت إلى ابن دواس طائفة من الجند ليكونوا بين يديه بسيوفهم وقوفا في خدمته، ثم يقولوا له في بعض الايام: أنت قاتل مولانا، ثم يهبرونه بسيوفهم، ففعلوا ذلك، وقتلت كل من اطلع على سرها في قتل أخيها، فعظمت هيبتها وقويت حرمتها وثبتت دولتها.
وقد كان عمر الحاكم يوم قتل سبعا (1) وثلاثين سنة، ومدة ملكه من ذلك خمسا وعشرين سنة (2).
ثم دخلت سنة اثنتي عشرة وأربعمائة فيها تولى القاضي أبو جعفر أحمد بن محمد السمناني لحسبة والمواريث ببغداد، وخلع عليه
__________
(1) في الكامل 9 / 316 ستا وفي مختصر أخبار البشر 2 / 151: ستا وثلاثين سنة وتسعة أشهر.
(2) في الكامل 9 / 316: وعشرين يوما.
وفي مختصر أخبار البشر 2 / 151: وأياما

السواد وفيها قالت جماعة من العلماء والمسلمين للملك الكبير يمين الدولة، محمود بن سبكتكين: أنت أكبر ملوك الارض، وفي كل سنة تفتح طائفة من بلاد الكفر، وهذه طريق الحج، قد تعطلت من مدة ستين وفتحك لها أوجب من غيرها.
فتقدم إلى قاضي القضاة أبي محمد الناصحي أن يكون أمير الحج في هذه السنة، وبعث معه بثلاثين ألف دينار للاعراب، غير ما جهز من الصدقات، فسار الناس بصحبته، فلما كانوا بفيد اعترضهم الاعراب فصالحهم القاضي أبو محمد الناصحي بخمسة آلاف دينار، فامتنعوا وصمم كبيرهم - وهو جماز (1) بن عدي - على أخذ الحجيج، وركب فرسه وجال جولة واستنهض شياطين العرب، فتقدم إليه غلام من سمرقند فرماه بسهم فوصل إلى قلبه فسقط ميتا، وانهزمت الاعراب، وسلك الناس الطريق فحجوا ورجعوا سالمين ولله الحمد والمنة.
وممن توفي فيها من الاعيان...أبو سعد الماليني أحمد بن محمد بن أحمد بن إسماعيل بن حفص، أبو سعد الماليني، ومالين قرية من قرى هراة، كان من الحفاظ المكثرين الراحلين في طلب الحديث إلى الآفاق، وكتب كثيرا، وكان ثقة صدوقا صالحا، مات بمصر في شوال منها.
الحسن بن الحسين ابن محمد بن الحسين بن رامين القاضي، أبو محمد الاستراباذي، نزل بغداد وحدث بها عن الاسماعيلي وغيره، كان شافعيا كبيرا، فاضلا صالحا.
الحسن بن منصور بن غالب الوزير الملقب ذا السعادتين، ولد بسيراف سنة ثلاث (2) وخمسين وثلثمائة، ثم صار وزيرا ببغداد ثم قتل وصودر أبوه على ثمانين ألف دينار.
الحسين بن عمرو أبو عبد الله الغزال، سمع النجاد والخلدي وابن السماك وغيرهم.
قال الخطيب: كتبت عنه وكان ثقة صالحا كثير البكاء عند الذكر.
__________
(1) في ابن الاثير 9 / 325: حمار.
(2) في الكامل 9 / 310: اثنتين وخمسين.

محمد بن عمر أبو بكر العنبري الشاعر، كان أديبا ظريفا، حسن الشعر، فمن ذلك قوله: إني نظرت إلى الزما * ن وأهله نظرا كفاني فعرفته وعرفتهم * وعرفت عزي من هواني فلذاك أطرح الصد * يق فلا أراه ولا يراني وزهدت فيما في يدي * - ه ودونه نيل الاماني
فتعجبوا لمغالب * وهب الاقاصي للاداني وانسل من بين الزحا * م فما له في الغلب ثاني قال ابن الجوزي: وكان متصوفا ثم خرج عنهم وذمهم بقصائد ذكرتها في تلبيس إبليس توفي يوم الخميس ثاني عشر جمادى الاولى منها.
محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد ابن روق (1) بن عبد الله بن يزيد بن خالد، أبو الحسن البزار (2)، المعروف بابن رزقويه.
قال الخطيب: هو أول شيخ كتبت عنه في سنة ثلاث وأربعمائة، وكان يذكر أنه درس القرآن ودرس الفقه على مذهب الشافعي، وكان ثقة صدوقا كثير السماع والكتابة، حسن الاعتقاد، جميل المذهب، مديما لتلاوة القرآن، شديد على أهل البدع، واكب دهرا على الحديث، وكان يقول: لا أحب الدنيا إلا لذكر الله وتلاوة القرآن، وقراءتي عليكم الحديث، وقد بعث بعض الامراء إلى العلماء بذهب فقبلوا كلهم غيره، فإنه لم يقبل شيئا، وكانت وفاته يوم الاثنين السادس عشر من جمادى الاولى منها، عن سبع وثمانين سنة، ودفن بالقرب من مقبرة معروف الكرخي.
أبو عبد الرحمن السلمي محمد بن الحسين بن محمد بن موسى، أبو عبد الرحمن السلمي النيسابوري، روى عن الاصم وغيره، وعنه مشايخ البغداديين، كالازهري والعشاري وغيرهما، وروى عنه البيهقي وغيره.
قال ابن الجوزي: كانت له عناية بأخبار الصوفية، فصنف لهم تفسيرا على طريقتهم، وسننا وتاريخا، وجمع شيوخا وتراجم وأبوابا، له بنيسابور دار معروفة، وفيها صوفية وبها قبره، ثم ذكر كلام الناس
__________
(1) في الكامل 9 / 325: رزق.
(2) في تذكرة الحفاظ 1052 والكامل 9 / 325: البزاز.

في تضعيفه في الرواية، فحكى عن الخطيب عن محمد بن يوسف القطان أنه قال: لم يكن بثقة، ولم يكن سمع من الاصم شيئا كثيرا، فلما مات الحاكم روى عنه أشياء كثيرة جدا، وكان يضع للصوفية
الاحاديث.
قال ابن الجوزي: وكانت وفاته في ثالث شعبان منها.
أبو علي الحسن بن علي الدقاق النيسابوري كان يعظ الناس ويتكلم على الاحوال والمعرفة، فمن كلامه: من تواضع لاحد لاجل دنياه ذهب ثلثا دينه، لانه خضع له بلسانه وأركانه، فإن اعتقد تعظيمه بقلبه أو خضع له به ذهب دينه كله.
وقال في قوله تعالى (اذكروني أذكركم) [ البقرة: 152 ] اذكروني وأنتم أحياء أذكركم وأنتم أموات تحت التراب، وقد تخلى عنكم الاقارب والاصحاب والاحباب.
وقال: البلاء الاكبر أن تريد ولا تراد، وتدنو فترد إلى الطرد والابعاد، وأنشد عند قوله تعالى (فتولى عنهم وقال يا أسفي على يوسف) [ يوسف: 84 ] جننا بليلى وهي جنت بغيرنا * وأخرى بنا مجنونة لا نريدها وقال في قول صلى الله عليه وسلم " حفت الجنة بالمكاره " (1): إذا كان هذا المخلوق لا وصول إليه إلا بتحمل المشاق فما الظن بمن لم يزل ؟ وقال في قوله عليه السلام " جبلت القلوب على حب من أحسن إليها ".
يا عجبا لمن لم ير محسنا غير الله كيف لا يميل بكليته إليه ؟ قلت: كلامه على هذا الحديث جيد والحديث لا يصح بالكلية.
صريع الدلال الشاعر أبو الحسن علي بن عبيد الواحد (2)، الفقيه البغدادي، الشاعر الماجن، المعروف بصريع الدلال، قتيل الغواني (3) ذي الرقاعتين، له قصيدة مقصورة عارض بها مقصورة ابن دريد يقول فيها:
__________
(1) أخرجه البخاري في الرقاق باب (28) ومسلم في الجنة ج (1) وأبو داود في السنة باب (22) والترمذي في صفة الجنه باب (21) والنسائي في الايمان (3).
والدارمي في الرقاق باب (117) وأحمد في المسند 2 / 260، 333، 354، 373، 3 / 158، 254، 284.
(2) في الوفيات 3 / 383: عبد الواحد.
وفي ابن الوردي 1 / 504: عبد الرحمن.
وفي عبر الذهبي 3 / 110 ذكر باسم: محمد.
وسماه في تتمة اليتيمة 5 / 22: محمد بن عبد الواحد.
وقال: بصري المولد والمنشأ إلا أنه استوطن
بغداد.
(3) في الوفيات وابن الوردي ومختصر أخبار البشر: الغواشي.

وألف حمل من متاع تستر * أنفع للمسكين من لقط النوى من طبخ الديك ولا يذبحه * طار من القدر إلى حيث انتهى من دخلت في عينه مسلة * فسله من ساعته كيف العمى والذقن شعر في الوجوه طالع * كذلك العقصة من خلف القفى إلى أن ختمها بالبيت الذي حسد عليه وهو قوله: من فاته العلم وأخطاه الغنى * فذاك والكلب على حد سوى قدم مصر في سنة ثنتي عشرة وأربعمائة وامتدح فيها خليفتها الظاهر لاعزاز دين الله ابن الحاكم واتفقت وفاته بها في رجبها.
ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وأربعمائة فيها جرت كائنة غريبة عظيمة، ومصيبة عامة، وهي أن رجلا من المصريين من أصحاب الحاكم اتفق مع جماعة من الحجاج المصريين على أمر سوء، وذلك أنه لما كان يوم النفر الاول طاف هذا الرجل بالبيت، فلما انتهى إلى الحجر الاسود جاء ليقبله فضربه بدبوس كان معه ثلاث ضربات متواليات، وقال: إلى متى نعبد هذا الحجر ؟ ولا محمد ولا علي يمنعني مما أفعله، فإني أهدم اليوم هذا البيت، وجعل يرتعد، فاتقاه أكثر الحاضرين وتأخروا عنه، وذلك لانه كان رجلا طوالا جسيما أحمر اللون أشقر الشعر، وعلى باب الجامع جماعة من الفرسان، وقوف ليمنعوه ممن يريد منعه من هذا الفعل، وأراده بسوء، فتقدم إليه رجل من أهل اليمن معه خنجر فوجأه بها، وتكاثر الناس عليه فقتلوه وقطعوه قطعا، وحرقوه بالنار، وتتبعوا أصحابه فقتلوا منهم جماعة، ونهبت أهل مكة الركب المصري، وتعدى النهب إلى غيرهم، وجرت خبطة عظيمة، وفتنة كبيرة جدا، ثم سكن الحال بعد
أن تتبع أولئك النفر الذين تمالاوا على الالحاد في أشرف البلاد غير أنه قد سقط من الحجر ثلاث فلق مثل الاظفار، وبدا ما تحتها أسمر يضرب إلى صفرة، محببا مثل الخشخاش، فأخذ بنو شيبة تلك الفلق فعجنوها بالمسك والك وحشوا بها تلك الشقوق التي بدت، فاستمسك الحجر واستمر على ما هو عليه الآن، وهو ظاهر لمن تأمله.
وفيها فتح المارستان الذي بناه الوزير مؤيد الملك، أبو علي الحسن، وزير شرف الملك بواسط، ورتب له الخزان والاشربة والادوية والعقاقير، وغير ذلك مما يحتاج إليه.
وفيها توفي من الاعيان...ابن البواب الكاتب صاحب الخط المنسوب، علي بن هلال أبو الحسن بن البواب، صاحب أبي الحسين بن

سمعون الواعظ، وقد أثنى على ابن البواب غير واحد من دينه وأمانته، وأما خطه وطريقته فيه فأشهر من أن ننبه عليها، وخطه أوضح تعريبا من خط أبي علي بن مقلة، ولم يكن بعد ابن مقلة أكتب منه، وعلى طريقته الناس اليوم في سائر الاقاليم إلا القليل.
قال ابن الجوزي: توفي يوم السبت ثاني جمادى الآخرة منها، ودفن بمقبرة باب حرب، وقد رثاه بعضهم بأبيات منها قوله: فللقلوب التي أبهجتها حرق * وللعيون التي أقررتها سهر فما لعيش وقد ودعته أرج * وما لليل وقد فارقته سحر قال ابن خلكان: ويقال له الستري، لان أباه كان ملازما لستر الباب، ويقال له ابن البواب وكان قد أخذ الخط عن عبد الله بن محمد بن أسد بن علي بن سعيد البزاز، وقد سمع أسد هذا على النجاد وغيره، وتوفي سنة عشر وأربعمائة، وأما ابن البواب فإنه توفي في جمادى الاولى من هذه السنة، وقبل في سنة ثلاث وعشرين (1) وأربعمائة، وقد رثاه بعضهم فقال: استشعرت (2) الكتاب فقدك سالفا * وقضت بصحة ذلك الايام فلذاك سودت الدوي كآبة * أسفا عليك وشقت الاقلام ثم ذكر ابن خلكان أول من كتب بالعربية، فقيل إسماعيل عليه السلام، وقيل أول من كتب
بالعربية من قريش حرب بن أمية بن عبد شمس، أخذها من بلاد الحيرة عن رجل يقال له أسلم بن سدرة، وسأله ممن اقتبستها ؟ فقال: من واضعها رجل يقال له مرامر بن مروة، وهو رجل من أهل الانبار.
فأصل الكتابة في العرب من الانبار.
وقال الهيثم بن عدي: وقد كان لحمير كتابة يسمونها المسند، وهي حروف متصلة غير منفصلة (3)، وكانوا يمنعون العامة من تعلمها، وجميع كتابات الناس تنتهي إلى اثنى عشر صنفا وهي العربية، والحميرية، واليونانية، والفارسية، والرومانية (4)، والعبرانية، والرومية، والقبطية، والبربرية، والهندية، والاندلسية، والصينية.
وقد اندرس كثير منها فقل من يعرف شيئا منها.
وفيها توفي من الاعيان...علي بن عيسى ابن سليمان بن محمد بن أبان، أبو الحسن الفارسي المعروف بالسكري الشاعر، وكان يحفظ
__________
(1) في الوفيات 3 / 343 والكامل 9 / 325: ثلاث عشرة.
(2) في الوفيات: استشعر.
(3) في الوفيات 3 / 344: منفصلة غير متصلة.
(4) في الوفيات: السريانية.

القرآن ويعرف القراءات، وصحب أبا بكر الباقلاني، وأكثر شعره في مديح الصحابة وذم الرافضة.
وكانت وفاته في شوال من هذه السنة ودفن بالقرب من قبر معروف، وقد كان أوصى أن يكتب على قبره هذه الابيات التي عملها وهي قوله: نفس، يا نفس كم تمادين في تلفي * وتمشين في الفعال المعيب راقبي الله واحذري موقف العر * ض وخافي يوم الحساب العصيب لا تغرنك السلامة في العي * ش فإن السليم رهن الخطوب كل حي فللمنون ولا يد * فع كأس المنون كيد الاديب
واعلمي أن للمنية وقتا * سوف يأتي عجلان غير هيوب إن حب الصديق في موقف ال * حشر أمان للخائف المطلوب محمد بن أحمد بن محمد بن منصور أبو جعفر البيع، ويعرف بالعتيقي، ولد سنة إحدى وثلاثين وثلثمائة، وأقام بطرسوس مدة، وسمع بها وبغيرها، وحدث بشئ يسير.
ابن النعمان (1) شيخ الامامية الروافض، والمصنف لهم، والمحامي عن حوزتهم، كانت له وجاهة عند ملوك الاطراف، لميل كثير من أهل ذلك الزمان إلى التشيع، وكان مجلسه يحضره خلق كثير من العلماء من سائر الطوائف، وكان من جملة تلاميذه الشريف الرضي والمرتضى، وقد رثاه بقصيدة بعد وفاته في هذه السنة، منها قوله: من لعضل أخرجت منه حساما * ومعان فضضت عنها ختاما ؟ من يثير العقول من بعدما * كن همودا ويفتح الافهاما ؟ من يعير الصديق رأيا * إذا ما سل في الخطوب حساما ؟ ثم دخلت سنة أربع عشرة وأربعمائة فيها قدم الملك شرف الدولة إلى بغداد فخرج الخليفة في الطيارة لتلقيه، وصحبته الامراء والقضاة والفقهاء والوزراء والرؤساء، فلما واجهه شرف الدولة قبل الارض بين يديه مرات والجيش
__________
(1) وهو أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان البغدادي الكرخي ويعرف أيضا بابن المعلم.

واقف برمته، والعامة في الجانبين.
وفيها ورد كتاب من يمين الدولة محمود بن سبكتكين إلى الخليفة يذكر أنه دخل بلاد الهند أيضا، وأنه فتح بلادا، وقتل خلقا منهم، وأنه صالحه بعض ملوكهم وحمل إليه هدايا سنية، منها فيول كثيرة، ومنها طائر على هيئة القمري، إذا وضع عند الخوان وفيه سم دمعت عيناه وجرى منهما ماء، ومنها حجر يحك ويؤخذ منه ما تحصل منه فيطلى بها الجراحات ذات
الافواه الواسعة فيلحمها، وغير ذلك.
وحج الناس من أهل العراق ولكن رجعوا على طريق الشام لاحتياجهم إلى ذلك.
وفيها توفي من الاعيان...الحسن بن الفضل بن سهلان أبو محمد الرامهرمزي، وزير سلطان الدولة، وهو الذي بنى سور الحائر عند مشهد الحسين، قتل في شعبان منها (1).
الحسن بن محمد بن عبد الله أبو عبد الله الكشغلي (2) الطبري، الفقيه الشافعي، تفقه على أبي القاسم الداركي، وكان فهما فاضلا صالحا زاهدا، وهو الذي درس بعد الشيخ أبي حامد الاسفرائيني في مسجده، مسجد عبد الله بن المبارك في قطيعة الربيع، وكان الطلبة عنده مكرمين، اشتكى بعضهم إليه حاجة وأنه قد تأخرت عنه نفقته التي ترد إليه من أبيه، فأخذه بيده وذهب إلى بعض التجار فاستقرض له منه خمسين دينارا.
فقال التاجر: حتى تأكل شيئا، فمد السماط فأكلوا وقال: يا جارية هاتي المال، فأحضرت شيئا من المال فوزن منها خمسين دينارا ودفعها إلى الشيخ، فلما قام إذا بوجه ذلك الطالب قد تغير، فقال له الكشغلي: مالك ؟ فقال: يا سيدي قد سكن قلبي حب هذه الجارية، فرجع به إلى التاجر، فقال له: قد وقعنا في فتنة أخرى، فقال: وما هي ؟ فقال: إن هذا الفقيه قد هوى الجارية فأمر التاجر الجارية أن تخرج فتسلمها الفقيه، وقال ربما أن يكون قد وقع في قلبها منه مثل الذي قد وقع في قلبه منها، فلما كان عن قريب قدم على ذلك الطالب نفقته من أبيه ستمائة دينار، فوفى ذلك التاجر ما كان له عليه من ثمن الجارية والقرض، وذلك بسفارة الشيخ.
توفي في ربيع الآخر منها ودفن بباب حرب
__________
(1) وفي النجوم الزاهرة 4 / 259: توفي في السجن.
(2) في الكامل 9 / 334: الكشفلي.

علي بن عبد الله بن جهضم أبو الحسن الجهضمي الصوفي المكي، صاحب بهجة الاسرار، كان شيخ الصوفية بمكة، وبها توفي قال ابن الجوزي: وقد ذكر أنه كان كذابا، ويقال إنه الذي وضع حديث صلاة الرغائب.
القاسم بن جعفر بن عبد الواحد أبو عمر الهاشمي البصري، قاضيها، سمع الكثير، وكان ثقة أمينا، وهو راوي سنن أبي داود عن أبي علي اللؤلؤي، توفي فيها وقد جاوز التسعين (1).
محمد بن أحمد بن الحسن بن يحيى بن عبد الجبار أبو الفرج القاضي الشافعي، يعرف بابن سميكة، روى عن النجاد وغيره، وكان ثقة، توفي في ربيع الاول منها ودفن بباب حرب.
محمد بن أحمد أبو جعفر النسفي، عالم الحنفية في زمانه، وله طريقة في الخلاف، وكان فقير متزهدا، بات ليلة قلقا لما عنده من الفقر والحاجة، فعرض له فكر في فرع من الفروع كان أشكل عليه، فانفتح له فقام يرقص ويقول: أين الملوك ؟ فسألته امرأته عن خبره فأعلمها بما حصل له، فتعجبت من شأنه رحمه الله.
وكانت وفاته في شعبان منها.
هلال بن محمد ابن جعفر بن سعدان، أبو الفتح الحفار، سمع إسماعيل الصفار والنجاد وابن الصواف وكان ثقة توفي في صفر منها عن اثنتين وتسعين سنة.
ثم دخلت سنة خمس عشرة وأربعمائة فيها ألزم الوزير جماعة الاتراك والمولدين والشريف المرتضى ونظام الحضرة أبا الحسن الزينبي وقاضي القضاة أبا الحسن بن أبي الشوارب، والشهود، بالحضور لتجديد البيعة لشرف الدولة، فلما
__________
(1) في تذكرة الحفاظ / 1057: توفي في ذي القعدة عن اثنتين وتسعين سنة.

بلغ ذلك الخليفة توهم أن تكون هذه البيعة لنية فاسدة من أجله، فبعث إلى القاضي والرؤساء ينهاهم عن الحضور، فاختلفت الكلمة بين الخليفة وشرف الدولة، واصطلحا وتصافيا، وجددت البيعة لكل منهما من الآخر، ولم يحج فيها من ركب العراق ولا خراسان أحد، واتفق أن بعض الامراء (1) من جهة محمود بن سبكتكين شهد الموسم في هذه السنة، فبعث إليه صاحب مصر بخلع عظيمة ليحملها للملك محمود، فلما رجع بها إلى الملك أرسل بها إلى بغداد إلى الخليفة القادر فحرقت بالنار.
وممن توفي فيها من الاعيان...أحمد بن محمد بن عمر بن الحسن أبو الفرج المعدل المعروف بابن المسلمة، ولد سنة سبع وثلاثين وثلثمائة، وسمع أباه وأحمد بن كامل والنجاد والجهضمي ودعلج وغيرهم، وكان ثقة.
سكن الجانب الشرقي من بغداد، وكان يملي في أول كل سنة مجلسا في المحرم، وكان عاقلا فاضلا، كثير المعروف، داره مألف لاهل العلم، وتفقه بأبي بكر الرازي، وكان يصوم الدهر، ويقرأ في كل يوم سبعا، ويعيده بعينه في التهجد، توفي في ذي القعدة منها.
أحمد بن محمد بن أحمد ابن القاسم بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن سعيد بن أبان الضبي، أبو الحسن المحاملي، نسبة إلى المحامل التي يحمل عليها الناس في السفر، تفقه على أبي حامد الاسفراييني، وبرع فيه، حتى إن الشيخ كان يقول: هو أحفظ للفقه مني، وله المصنفات المشهورة، منها اللباب، والاوسط والمقنع وله في الخلاف، وعلق على أبي حامد تعليقة كبيرة.
قال ابن خلكان: ولد سنة ثمان وستين وثلثمائة، وتوفي في يوم الاربعاء لتسع بقين من ربيع الآخر منها، وهو شاب.
عبيد الله بن عبد الله ابن الحسين أبو القاسم الخفاف، المعروف بابن النقيب، كان من أئمة السنة، وحين بلغه موت ابن المعلم فقيه الشيعة سجد لله شكرا.
وجلس للتهنئة وقال: ما أبالي أي وقت مت بعد أن شاهدت موت ابن المعلم، ومكث دهرا طويلا يصلي الفجر بوضوء العشاء.
قال الخطيب: وسألته
عن مولده فقال في سنة خمس وثلاثمائة، وأذكر من الخلفاء المقتدر والقاهر والرضي والمتقي لله
__________
(1) وهو حسنك نائب يمين الدولة وكان على حجاج خراسان.

والمستكفي والمطيع والطائع والقادر والغالب بالله، الذي خطب له بولاية العهد، توفي في سلخ شعبان منها عن مائة وعشر سنين.
عمر بن عبد الله بن عمر أبو حفص الدلال، قال سمعت الشبلي ينشد قوله: وقد كان شئ سمى السرور * قديما سمعنا به ما فعل خليلي، إن دام هم النفو * س قليلا على ما نراه قتل يؤمل دنيا لتبقى له * فمات المؤمل قبل الامل محمد بن الحسن أبو الحسن الاقساسي العلوي، نائب الشريف المرتضى في إمرة الحجيج، حج بالناس سنين متعددة، وله فصاحة وشعر، وهو من سلالة زيد بن علي بن الحسين.
ثم دخلت سنة ست عشرة وأربعمائة فيها قوي أمر العيارين ببغداد ونهبوا الدور جهرة، وستهانوا بأمر السلطان، وفي ربيع الاول منها توفي شرف (1) الدولة بن بويه الديلمي صاحب بغداد والعراق وغير ذلك، فكثرت الشرور ببغداد ونهبت الخزائن، ثم سكن الامر على تولية جلال الدولة أبي الطاهر، وخطب له على المنابر، وهو إذ ذاك على البصرة، وخلع على شرف الملك أبي سعيد (2) بن ماكولا وزيره، ولقب علم الدين سعد الدولة أمين الملة شرف الملك، وهو أول من لقب بالالقاب الكثيرة، ثم طلب من الخليفة أن يبايع لابي كاليجار ولي عهد أبيه سلطان الدولة، الذي استخلفه بهاء الدولة عليهم، فتوقف في الجواب ثم وافقهم على ما أرادوا، وأقيمت الخطبة للملك أبي كاليجار يوم الجمعة سادس عشر شوال منها، ثم تفاقم الامر ببغداد من جهة العيارين، وكبسوا الدور ليلا ونهار وضربوا أهلها كما يضرب
المصادرون ويستغيث أحدهم فلا يغاث، واشتد حال وهربت الشرطة من بغداد ولم تغن الاتراك شيئا، وعملت السرايج على أفواه السكك فلم يفد ذلك شيئا، وأحرقت دار الشريف المرتضى فانتقل منها، وغلت الاسعار جدا.
ولم يحج أحد من أهل العراق وخراسان.
__________
(1) في الكامل 9 / 346 ومختصر أخبار البشر 2 / 155: مشرف.
(وانظر العبر 4 / 474).
(2) في الكامل 9 / 349: أبي سعد.

وممن توفي فيها من الاعيان...سابور بن أزدشير (1) وزر لبهاء الدولة ثلاث مرات، ووزر لشرف الدولة، وكان كاتبا سديدا عفيفا عن الاموال، كثير الخير، سليم الخاطر، وكان إذا سمع المؤذن لا يشغله شئ عن الصلاة، وقد وقف دارا للعلم في سنة إحدى وثمانين وثلثمائة، وجعل فيها كتبا كثيرة جدا، ووقف عليها غلة كبيرة فبقيت سبعين سنة ثم أحرقت عند مجئ الملك طغرلبك في سنة خمسين وأربعمائة، وكانت محلتها بين السورين، وقد كان حسن المعاشرة إلا أنه كان يعزل عماله سريعا خوفا عليهم من الاشر والبطر، توفي فيها وقد قارب التسعين (2).
عثمان النيسابوري الجداوي الواعظ.
قال ابن الجوزي: صنف كتبا في الوعظ من أبرد الاشياء، وفيه أحاديث كثيرة موضوعة، وكلمات مرذولة، إلا أنه كان خيرا صالحا، وكانت له وجاهة عند الخلفاء والملوك، وكان الملك محمود بن سبكتكين إذا رآه قام له، وكانت محلته حمى يحتمي بها من الظلمة، وقد وقع في بلده نيسابور موت، وكان يغسل الموتى محتسبا، فغسل نحوا من عشرة آلاف ميتا رحمه الله.
محمد بن الحسن بن صالحان أبو منصور الوزير لشرف الدولة ولبهاء الدولة، كان وزير صدق جيد المباشرة حسن الصلاة، محافظا على أوقاتها، وكان محسنا إلى الشعراء والعلماء، توفي فيها عن ست وسبعين سنة.
الملك شرف (3) الدولة أبو علي بن بهاء الدولة، أبي نصر بن عضد الدولة بن بويه، أصابه مرض حار فتوفي لثمان بقين من ربيع الآخر (4) عن ثلاث وعشرين سنة، وثلاثة أشهر وعشرين يوما.
__________
(1) في الكامل والمنتظم ووفيات الاعيان: أردشير.
(2) في الوفيات والمنتظم قارب الثمانين.
قال في الوفيات 2 / 356: مولده بشيراز سنة 336 ه.
(3) انظر حاشية (1) من صفحة (23).
(4) تقدم أنه توفي في ربيع الاول، وانظر الكامل 9 / 346 والعبر 4 / 474.
وذكر ابن الاثير أن عمره كان ثلاثا وعشرين سنة وثلاثة وأشهر.
وفي مختصر أخبار البشر 2 / 155: ثلاثا وعشرين وأشهرا.
وعند ابن الوردي في تاريخه: وستة أشهر.

التهامي الشاعر علي بن محمد التهامي أبو الحسن، له ديوان، مشهور وله مرثاة في ولده وكان قد مات صغيرا أولها: حكم المنية في البرية جاري * ما هذه الدنيا بدار قرار ومنها: إني لارحم حاسدي لحرما * ضمت صدورهم من الاوغار نظروا صنيع الله بي فعيونهم * في جنة وقلوبهم في نار ومنها في ذم الدنيا: جبلت على كدر وأنت ترومها (1) * صفوا من الاقذار والاكدار ومكلف الايام ضد طباعها * متطلب في الماء جذوة نار وإذا رجوت المستحيل فإنما * تبني الرجاء على شفير هار ومنها قوله في ولده بعد موته:
جاورت أعدائي وجاور ربه * شتان بين جواره وجواري وقد ذكر ابن خلكان أنه رآه بعضهم في المنام هيئة حسنة فقال له بعض أصحابه: بم نلت هذا ؟ فقال: بهذا البيت * شتان بين جواره وجواري * ثم دخلت سنة سبع عشرة وأربعمائة في العشرين من محرمها وقعت فتنة بين الاسفهلارية وبين العيارين، وركبت لهم الاتراك بالدبابات، كما يفعل في الحرب، وأحرقت دور كثيرة من الدور التي احتمى فيها العيارون، وأحرق من الكرخ جانب كبير، ونهب أهله، وتعدى بالنهب إلى غيرهم، وقامت فتنة عظيمة ثم خمدت الفتنة في اليوم الثاني، وقرر على أهل الكرخ مائة ألف دينار مصادرة، لاثارتهم الفتن والشرور.
وفي شهر ربيع الآخر منها شهد أبو عبد الله الحسين بن علي الصيمري عند قاضي القضاة ابن أبي الشوارب بعد ما كان استتابه عما ذكر عنه من الاعتزال.
وفي رمضان منها انقض كوكب سمع له دوي كدوي الرعد، ووقع في سلخ شوال برد لم يعهد مثله، واستمر ذلك إلى العشرين من ذي الحجة، وجمد الماء طول هذه المدة، وقاسى الناس شدة عظيمة، وتأخر المطر وزيادة دجلة، وقلت الزراعة، وامتنع كثير من الناس عن التصرف.
ولم يحج أحد من أهل العراق وخراسان في هذه السنة لفساد البلاد وضعف الدولة.
__________
(1) في الوفيات 3 / 380: طبعت على كدر وأنت تريدها.

وفيها توفي من الاعيان قاضي القضاة ابن أبي الشوارب.
أحمد بن محمد بن عبد الله ابن العباس بن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، أبو الحسن القرشي الاموي، قاضي قضاة بغداد بعد ابن الاكفاني بثنتي عشرة سنة، وكان عفيفا نزها، وقد سمع الحديث من أبي عمر الزاهد وعبد الباقي بن قانع، إلا أنه لم يحدث.
قاله ابن الجوزي: وحكى الخطيب عن شيخه أبي العلاء الواسطي: أن أبا الحسن هذا آخر من ولي الحكم ببغداد، من سلالة محمد بن عبد اللمك بن
أبي الشوارب وقد ولي الحكم من سلالته أربعة وعشرون، منهم ولوا قضاء قضاة بغداد (1) قال أبو العلاء: ما رأينا مثل أبي الحسن هذا، جلالة ونزاهة وصيانة وشرفا.
وقد ذكر القاضي الماوردي: أنه كان له صديقا وصاحبا، وأن رجلا من خيار الناس أوصى له بمائتي دينار، فحملها إليه الماوردي فأبى القاضي أن يقبلها، وجهد عليه كل الجهد فلم يفعل، وقال له: سألتك بالله لا تذكرن هذا لاحد ما دمت حيا، ففعل الماوردي، فلم يخبر عنه إلا بعد موته، وكان ابن أبي الشوارب فقيرا إليها، وإلى ما هو دونها فلم يقبلها رحمه الله.
توفي في شوال منها.
جعفر بن أبان أبو مسلم الختلي سمع ابن بطة ودرس فقه الشافعي على الشيخ أبي حامد الاسفراييني، وكان ثقة دينا، توفي في رمضان منها.
عمر بن أحمد بن عبدويه أبو حازم الهذلي النيسابوري، سمع ابن نجيد والاسماعيلي، وخلقا، وسمع منه الخطيب وغيره، وكان الناس ينتفعون بإفادته وانتخابه، توفي يوم عيد الفطر منها.
علي بن أحمد بن عمر بن حفص أبو الحسن المقري المعروف بالحمامي، سمع النجاد والخلدي وابن السماك و غيرهم، وكان صدوقا فاضلا، حسن الاعتقاد، وتفرد بأسانيد القراءات وعلوها، توفي في شعبان منها عن تسع وثمانين سنة.
__________
(1) في الوافي 8 / 35: ثمانية منهم تقلدوا (قضاء القضاة) ببغداد.

صاعد بن الحسن ابن عيسى الربعي البغدادي، صاحب كتاب الفصوص في اللغة على طريقة القالي في الامالي، صنفه للمنصور بن أبي عامر، فأجازه عليه خمسة آلاف دينار، ثم قيل له إنه كذاب متهم، فقال في ذلك بعض الشعراء:
قد غاص في الماء كتاب الفصوص * وهكذا كل ثقيل يغوص فلما بلغ صاعدا هذا البيت أنشد: عاد إلى عنصره إنما * يخرج من قعر البحور الفصوص قلت: كأنه سمى هذا الكتاب بهذا الاسم ليشاكل به الصحاح للجوهري، لكنه كان مع فصاحته وبلاغته وعلمه متهما بالكذب، فلهذا رفض الناس كتابه، ولم يشتهر، وكان ظريفا ماجنا سريع الجواب، سأله رجل أعمى على سبيل التهكم فقال له: ما الحر تقل (1) ؟ فأطرق ساعة وعرف أنه افتعل هذا من عند نفسه ثم رفع رأسه إليه فقال: هو الذي يأتي نساء العميان، ولا يتعداهن إلى غيرهن، فاستحى ذلك الاعمى وضحك الحاضرون.
توفي في هذه السنة سامحه الله.
القفال المروزي (2) أحد أئمة الشافعية الكبار، علما وزهدا وحفظا وتصنيفا، وإليه تنسب الطريقة الخراسانية، ومن أصحابه الشيخ أبو محمد الجويني، والقاضي حسين، وأبو علي السبخي (3)، قال ابن خلكان: وأخذ عنه إمام الحرمين (4)، وفيما قاله نظر.
لان سن إمام الحرمين لا يتحمل ذلك، فإن القفال هذا مات في هذه السنة وله تسعون سنة، ودفن بسجستان، وإمام الحرمين ولد سنة تسع عشرة وأربعمائة كما سيأتي، وإنما قيل له القفال لانه كان أولا يعمل الاقفال، ولم يشتغل إلا وهو ابن ثلاثين سنة رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة ثمان عشرة وأربعمائة في ربيع الاول منها وقع برد أهلك شيئا كثيرا من الزروع والثمار، وقتل خلقا كثيرا من
__________
(1) في الوفيات 2 / 489: ما الجرنفل ؟ (2) وهو عبد الله بن أحمد أبو بكر القفال.
(3) في الوفيات 3 / 46: السنجي.
(4) في الوفيات المطبوع: واشتغل عليه خلق كثير وانتفعوا منهم...والشيخ أبو محمد الجويني والد إمام الحرمين..وقد تخرج إمام الحرمين على والده الشيخ أبو محمد في نيسابور.

الدواب.
قال ابن الجوزي: وقد قيل إنه كان في برده كل بردة رطلان وأكثر، وفي واسط بلغت البردة أرطالا، وفي بغداد بلغت قدر البيض.
وفي ربيع الآخر سألت الاسفهلارية الغلمان الخليفة أن يعزل عنهم أبا كاليجار، لتهاونه بأمرهم، وفساده وفساد الامور في أيامه، ويولي عليهم جلال الدولة، الذي كانوا قد عزلوه عنهم، فماطلهم الخليفة في ذلك وكتب إلى أبي كاليجار أن يتدارك أمره، وأن يسرع الاوبة إلى بغداد، قبل أن يفوت الامر.
وألح أولئك على الخليفة في تولية جلال الدولة، وأقاموا له الخطبة ببغداد، وتفاقم الحال، وفسد النظام.
وفيها ورد كتاب من محمود بن سبكتكين يذكر أنه دخل بلاد الهند أيضا، وأنه كسر الصنم الاعظم الذي لهم المسمى بسومنات، وقد كانوا يفدون إليه من كل فج عميق، كما يفد الناس إلى الكعبة البيت الحرام وأعظم، وينفقون عنده النفقات والاموال الكثيرة، التي لا توصف ولا تعد، وكان عليه من الاوقاف عشرة آلاف قرية، ومدينة مشهورة، وقد امتلات خزائنه أموالا، وعنده ألف رجل يخدمونه، وثلثمائة رجل يحلقون رؤوس حجيجه، وثلثمائة رجل يغنون ويرقصون على بابه، لما يضرب على بابه الطبول والبوقات، وكان عنده من المجاورين ألوف يأكلون من أوقافه، وقد كان البعيد من الهنود يتمنى لو بلغ هذا الصنم، وكان يعوقه طول المفاوز وكثرة الموانع والآفات، ثم استخار الله السلطان محمود لما بلغه خبر هذا الصنم وعباده، وكثرة الهنود في طريقه، والمفاوز المهلكة، والارض الخطرة، في تجشم ذلك في جيشه، وأن يقطع تلك الاهوال إليه، فندب جيشه لذلك فانتدب معه ثلاثون ألفا من المقاتلة، ممن أختارهم لذلك، سوى المتطوعة، فسلمهم الله حتى انتهوا إلى بلد هذا الوثن، ونزلوا بساحة عباده، فإذا هو بمكان بقدر المدينة العظيمة، قال: فما كان بأسرع من أن ملكناه وقتلنا من أهله خمسين ألفا وقلعنا هذا الوثن وأوقدنا تحته النار.
وقد ذكر غير واحد أن الهنود بذلوا للسلطان محمود أموالا جزيلة ليترك لهم هذا الصنم الاعظم، فأشار من أشار من الامراء على السلطان محمود بأخذ الاموال وإبقاء هذا الصنم لهم، فقال: حتى أستخير الله عزوجل، فلما أصبح قال: إني فكرت في الامر الذي ذكر فرأيت أنه إذا نوديت يوم القيامة أين محمود الذي كسر الصنم ؟ أحب إلى من أن يقال
الذي ترك الصنم لاجل ما يناله من الدنيا، ثم عزم فكسره رحمه الله، فوجد عليه وفيه من الجواهر واللآلئ والذهب والجواهر النفيسة ما ينيف على ما بذلوه له بأضعاف مضاعفة، ونرجو من الله له في الآخرة الثواب الجزيل الذي مثقال دانق منه خير من الدنيا وما فيها، مع ما حصل له من الثناء الجميل الدنيوي، فرحمه الله وأكرم مثواه.
وفي يوم السبت ثالث رمضان دخل جلال الدولة إلى بغداد فتلقاه الخليفة في دجلة في طيارة، ومعه الاكابر والامراء، فلما واجه جلال الدولة الخليفة قبل الارض دفعات، ثم سار إلى دار الملك، وعاد الخليفة إلى داره، وأمر جلال الدولة أن يضرب له الطبل في أوقات الصلوات الثلاث، كما كان الامر في زمن عضد الدولة، وصمصامها وشرفها وبهائها، وكان الخليفة يضرب له الطبل في أوقات الخمس، فأراد جلال الدولة ذلك فقيل له يحمل هذه المساواة خليفة في ذلك، ثم صمم على ذلك في أوقات الخمس.
قال ابن الجوزي: وفيها وقع برد شديد

حتى جمد الماء والنبيذ وأبوال الدواب والمياه الكبار، وحافات دجلة، ولم يحج أحد من أهل العراق.
وفيها توفي من الاعيان...أحمد بن محمد بن عبد الله ابن عبد الصمد بن المهتدي بالله، أبو عبد الله الشاهد، خطب له في جامع المنصور في سنة ست وثمانين وثلثمائة، ولم يخطب له إلا بخطبة واحدة جمعات كثيرة متعددة، فكان إذا سمعها الناس منه ضجوا بالبكاء وخشعوا لصوته.
الحسين بن علي بن الحسين أبو القاسم المغربي الوزير، ولد بمصر في ذي الحجة سنة سبعين (1) وثلثمائة، وهرب منها حين قتل صاحبها الحاكم أباه وعمه محمدا، وقصد مكة ثم الشام، ووزر في عدة أماكن، وكان يقول الشعر الحسن، وقد تذاكر هو وبعض الصالحين فأنشده ذلك الصالح شعرا: إذا شئت أن تحيا غنيا فلا تكن * على حالة إلا رضيت بدونها فاعتزل المناصب والسلطان، فقال له بعض أصحابه: تركت المنازل والسلطان في عنفوان
شبابك ؟ فأنشأ يقول: كنت في سفر الجهل والبطالة * حينا (2) فحان مني القدوم تبت من كل مأثم فعسى * يمحي بهذا الحديث ذاك القديم بعد خمس وأربعين (3) تعدت * ألا إن الآله القديم كريم توفي بميا فارقين في رمضان منها عن خمس (4) وأربعين سنة، ودفن بمشهد علي.
محمد بن الحسن بن إبراهيم أبو بكر الوراق، المعروف بابن الخفاف، روى عن القطيعي وغيره، وقد اتهموه بوضع الحديث والاسانيد، قاله الخطيب وغيره.
__________
(1) من الوافي 12 / 441، وفي الاصل: تسعين تحريف.
(2) في الوافي، ووفيات الاعيان 2 / 176: في سفرة الغواية والجهل مقيما.
(3) في الوافي والوفيات: لقد ماطلت ألا أن الغريم كريم.
(4) في الكامل 9 / 362: ستا، وفي شذرات الذهب والعبر: عاش ثماني وأربعين سنة.

أبو القاسم اللالكائي هبة الله بن الحسن بن منصور: الرازي، وهو طبري الاصل، أحد تلامذة الشيخ أبي حامد الاسفراييني، كان يفهم ويحفظ، وعني بالحديث فصنف فيه أشياء كثيرة، ولكن عاجلته المنية قبل أن تشتهر كتبه، وله كتاب في السنة وشرفها، وذكر طريقة السلف الصالح في ذلك، وقع لنا سماعه على الحجار عاليا عنه، توفي بالدينور في رمضان منها، ورآه بعضهم في المنام فقال: ما فعل الله بك ؟ قال: غفر لي، قال بم ؟ قال بشئ قليل من السنة أحييته.
أبو القاسم بن أمير المؤمنين القادر توفي ليلة الاحد في جمادى الآخرة، وصلي عليه غير مرة، ومشى الناس في جنازته، وحزن عليه أبوه حزنا شديدا، وقطع الطبل أياما.
ابن طباطبا الشريف (1) كان شاعرا، وله شعر حسن.
أبو إسحاق وهو الاستاذ أبو إسحاق الاسفراييني إبراهيم بن محمد بن مهران.
الشيخ أبو إسحاق الامام العلامة، ركن الدين الفقيه الشافعي، المتكلم الاصولي، صاحب التصانيف في الاصلين جامع الحلى في مجلدات، والتعليقة النافعة في أصول الفقه، وغير ذلك، وقد سمع الكثير من الحديث من أبي بكر الاسماعيلي ودعلج وغيرهما، وأخذ عنه البيهقي والشيخ أبو الطيب الطبري، والحاكم النيسابوري، وأثنى عليه، توفي يوم عاشوراء منها بنيسابور، ثم نقل إلى بلده (2) ودفن بمشهده.
القدوري صاحب الكتاب المشهور في مذهب أبي حنيفة، أحمد بن محمد بن أحمد بن جعفر بن حمدان،
__________
(1) وهو أحمد بن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم طباطبا بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (رض) نقيب الطالبيين بمصر وكان من أكابر رؤسائها.
(مختصر أخبار البشر 2 / 156).
(2) أي إلى إسفراين، والاسفرايني نسبة إلى البلدة المذكورة وهي بلدة بخراسان بنواحي نيسابور على منتصف الطريق إلى جرجان (وفيات الاعيان 1 / 28 و 74).

أبو الحسن (1) القدوري الحنفي، صاحب المصنف المختصر، الذي يحفظ، كان إماما بارعا عالما، وثبتا مناظرا، وهو الذي تولى مناظرة الشيخ أبي حامد الاسفراييني من الحنفية، وكان القدوري يطريه ويقول: هو أعلم من الشافعي، وأنظر منه، توفي يوم الاحد الخامس من رجب منها (2)، عن ست وخمسين سنة، ودفن إلى جانب الفقيه أبي بكر الخوارزمي الحنفي.
ثم دخلت سنة تسع عشرة وأربعمائة فيها وقع بين الجيش وبين جلال الدولة ونهبوا دار وزيره، وجرت له أمور طويلة، آل الحال فيها إلى اتفاقهم على إخراجه من البلد، فهئ له برذون رث، فخرج وفي يده طبر نهارا، فجعلوا لا
يلتفتون إليه ولا يفكرون فيه، فلما عزم على الركوب على ذلك البرذون الرث رثوا له ورقوا له ولهيئته وقبلوا الارض بين يديه، وانصلحت قضيته بعد فسادها.
وفيها قل الرطب جدا بسبب هلاك النخل في السنة الماضية بالبرد، فبيع الرطب كل ثلاثة أرطال بدينار جلالي، ووقع برد شديد أيضا فأهلك شيئا كثيرا من النخيل أيضا.
ولم يحج أحد من أهل المشرق ولا من أهل الديار المصرية فيها، إلا أن قوما من خراسان ركبوا في البحر من مدينة كرمان فانتهوا إلى جدة فحجوا.
وممن توفي فيها من الاعيان...حمزة بن إبراهيم بن عبد الله أبو الخطاب المنجم، حظي عند بهاء الدولة وعلماء النجوم، وكان له بذلك وجاهة عنده، حتى أن الوزراء كانوا يخافونه ويتوسلون به إليه، ثم صار أمره طريدا بعيد حتى مات يوم مات بالكرخ من سامرا غريبا، فقير مفلوجا، قد ذهب ماله وجاهه وعقله (3).
محمد بن محمد بن إبراهيم بن مخلد أبو الحسن التاجر، سمع الكثير على المشايخ المتقدمين، وتفرد بعلو إلاسناد، وكان ذا مال جزيل فخاف من المصادرة ببغداد فانتقل إلى مصر فأقام بها سنة، ثم عاد إلى بغداد فاتفق مصارة أهل
__________
(1) في تذكرة الحفاظ / 1086 ووفيات الاعيان 1 / 78: أبو الحسين (وانظر الكامل 9 / 452 ومختصر أخبار البشر 2 / 161).
(2) في الوفيات وتذكرة الحفاظ: توفي سنة 428 ه.
وكان مولده سنة 362 وانظر الكامل 9 / 452.
والمختصر في أخبار البشر 2 / 161 وشذرات الذهب 3 / 233).
(3) ذكر ابن الاثير وفاته في سنة 418 ه (الكامل 9 / 363).

محلته فقسط عليه ما أفقره، ومات حين مات ولم يوجد له كفن ولم يترك شيئا فأرسل له القادر بالله ما كفن فيه.
مبارك الانماطي
كان ذا مال جزيل نحو ثلثمائة ألف دينار، مات ولم يترك وارثا سوى ابنة واحدة ببغداد، وتوفي هو بمصر.
أبو الفوارس بن بهاء الدولة كان ظالما، وكان إذا سكر يضرب الرجل من أصحابه أو وزيره مائتي مقرعة، بعد أن يحلفه بالطلاق أنه لا يتأوه، ولا يخبر بذلك أحدا.
فيقال إن حاشيته سموه، فلما مات نادوا بشعار أخيه كاليجار.
أبو محمد بن الساد وزير كاليجار، ولقبه معز الدولة، فلك الدولة، رشيد الامة، وزير الوزراء، عماد الملك، ثم سلم بعد ذلك إلى جلال الدولة فاعتقله ومات فيها.
أبو عبد الله المتكلم توفي فيها، هكذا رأيت ابن الجوزي ترجمه مختصرا.
ابن غلبون الشاعر عبد المحسن بن محمد بن أحمد بن غالب أبو محمد الشامي ثم الصوري، الشاعر المطبق، له ديوان مليح، كان قد نظم قصيدة بليغة في بعض الرؤساء (1)، ثم أنشدها لرئيس آخر يقال له ذو النعمتين (2)، وزاد فيها بيتا واحدا يقول فيه:
__________
(1) وهو علي بن الحسين والد أبي القاسم بن المغربي ومنها:...متكسبا بالشعر يا * بئس الصناعة في اليدين كانت كذلك قبل أن * يأتي علي بن الحسين (2) في وفيات الاعيان 3 / 233: ذو المنقبتين، وكان رئيس بعسقلان جاءه شاعر آخر غير عبد المحسن وأنشده القصيدة كلها وزاد فيها البيت الآتي وهو ليس من القصيدة وليس من نظم عبد المحسن.

ولك المناقب كلها * فلم اقتصرت على اثنتين
فأجازه جائزة سنية، فقيل له: إنه لم يقلها فيك، فقال: إن هذا البيت وحده بقصيدة، وله أيضا في بخيل نزل عنده: وأخ مسه نزولي بقرح * مثل ما مسني منه جرح (1) بت ضيفا له كما حكم الده * ر وفي حكمه على الحر فتح (2) فابتداني يقول وهو من ال * سكر بالهم (3) طافح ليس يصحو لم تغربت ؟ قلت قال رسول الل * - ه والقول منه نصح ونجح: " سافروا تغنموا " فقال وقد * قال تمام الحديث " صوموا تصحوا " ثم دخلت سنة عشرين وأربعمائة فيها سقط بناحية المشرق مطر شديد، معه برد كبار.
قال ابن الجوزي: حزرت البردة الواحدة منه مائة وخمسون رطلا، وغاصت في الارض نحوا من ذراع.
وفيها ورد كتاب من محمود بن سبكتكين أنه أحل بطائفة من أهل الري من الباطنية والروافض قتلا ذريعا، وصلبا شنيعا، وأنه انتهب أموال رئيسهم رستم بن علي الديلمي، فحصل منها ما يقارب ألف ألف دينار، وقد كان في حيازته نحو من خمسين امرأة حرة، وقد ولدن له ثلاثا وثلاثين ولدا بين ذكر وأنثى، وكانوا يرون إباحة ذلك.
وفي رجب منها انقض كواكب كثيرة شديدة الضوء شديدة الصوت.
وفي شعبان منها كثرة العملات وضعفت رجال المعونة عن مقاومة العيارين وفي يوم الاثنين منها ثامن عشر رجب غار ماء دجلة حتى لم يبق منه إلا القليل، ووقفت الارحاء عن الطحن، وتعذر ذلك.
وفي هذا اليوم جمع القضاة والعلماء في دار الخلافة، وقرئ عليهم كتاب جمعه القادر بالله، فيه مواعظ وتفاصيل مذاهب أهل البصرة، وفيه الرد على أهل البدع، وتفسيق من قال بخلق القرآن، وصفة ما وقع بين بشر المريسي وعبد العزيز بن يحيى الكتاني من المناظرة، ثم ختم القول بالمواعظ، والقول بالمعروف، والنهى عن المنكر.
وأخذ خطوط الحاضرين بالموافقة على ما سمعوه.
وفي يوم الاثنين غرة ذي القعدة جمعوا أيضا كلهم وقرئ عليهم كتاب آخر طويل يتضمن بيان السنة والرد على أهل البدع ومناظرة بشر المرسي والكتاني أيضا، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفضل الصحابة، وذكر فضائل أبي
بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، ولم يفرغوا منه إلا بعد العتمة، وأخذت خطوطهم
__________
(1) في يتيمة الدهر 1 / 368 وابن خلكان: قرح.
(2) في اليتيمة وابن خلكان: قبح.
(3) في اليتيمة: قال لي إذ نزلت وهو من السكرة والهم.

بموافقة ما سمعوه.
وعزل خطباء الشيعة، وولى خطباء السنة ولله الحمد والمنة على ذلك وغيره.
وجرت فتنة بمسجد براثا، وضربوا الخطيب السني بالآجر، حتى كسروا أنفه وخلعوا كتفه، فانتصر لهم الخليفة وأهان الشيعة وأذلهم، حتى جاؤوا يعتذرون مما صنعوا، وأن ذلك إنما تعاطاه السفهاء منهم.
ولم يتمكن أحد من أهل العراق وخراسان في هذه السنة من الحج.
وممن توفي فيها من الاعيان...الحسن بن أبي القين أبو علي الزاهد، أحد العباد والزهاد وأصحاب الاحوال، دخل عليه بعض الوزراء فقبل يده، فعوتب الوزير بذلك فقال: كيف لا أقبل يدا ما امتدت إلى إلى الله عزوجل.
علي بن عيسى بن الفرج بن صالح أبو الحسن الربعي النحوي، أخذ العربية أولا عن أبي سعيد السيرافي، ثم عن أبي علي الفارسي ولازمه عشرين سنة حتى كان يقول: قولوا له لو سار من المشرق إلى المغرب لم يجد أحدا أنحى منه، كان يوما يمشي على شاطئ دجلة إذ نظر إلى الشريفين الرضي والمرتضى في سفينة، ومعهما عثمان بن جني، فقال لهما: من أعجب الاشياء عثمان معكما، وعلي بعيد عنكما، يمشى على شاطئ الفرات.
(فضحكا وقالا: باسم الله).
توفي في المحرم منها عن ثنتين وتسعين سنة.
ودفن بباب الدير، ويقال إنه لم يتبع جنازته إلا ثلاثة أنفس.
أسد الدولة أبو علي صالح بن مرداس بن إدريس الكلابي، أول ملوك بني مرداس (1) بحلب، انتزعها من
يدي نائبها (2) عن الظاهر بن الحاكم العبيدي، في ذي الحجة سنة سبع عشرة وأربعمائة، ثم جاءه جيش كثيف من مصر فاقتتلوا فقتل أسد الدولة هذا في سنة تسع عشرة، وقام حفيده (3) نصر.
__________
(1) قال في العبر 4 / 271: وهو من بني كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة ومجالاتهم بضواحي حلب.
قال ابن حزم في جمهرة أنساب العرب ص 287: من بني عمرو بن كلاب.
(2) وهو: أنوشتكين (انظر العبر 4 / 272 والكامل 9 / 392).
(3) في الكامل والعبر: نصر بن صالح، وهو ابن صالح الاكبر وليس حفيده وكان لقبه شبل الدولة.

ثم دخلت سنة إحدى وعشرين وأربعمائة فيها توفي الملك الكبير المجاهد المغازي، فاتح بلاد الهند محمود بن سبكتكين رحمه الله، لما كان في ربيع الاول (1) من هذه السنة توفي الملك العادل الكبير الثاغر المرابط، المؤيد المنصور، يمين الدولة أبو القاسم محمود بن سبكتكين، صاحب بلاد غزنة ومالك تلك الممالك الكبار، وفاتح أكثر بلاد الهند قهرا، وكاسر أصنامهم وندودهم وأوثانهم وهنودهم، وسلطانهم الاعظم قهرا، وقد مرض رحمه الله نحوا من سنتين لم يضطجع فيهما على فراش، ولا توسد وسادا، بل كان يتكئ جالسا حتى مات وهو كذلك، وذلك لشهامته وصرامته، وقوة عزمه، وله من العمر ستون سنة رحمه الله.
وقد عهد بالامر من بعده لولده محمد، فلم يتم أمره حتى عافصه أخوه مسعود بن محمود المذكور، فاستحوذ على ممالك أبيه، مع ما كان يليه مما فتحه هو بنفسه من بلاد الكفار، من الرساتيق الكبار والصغار، فاستقرت له الممالك شرقا وغربا في تلك النواحي، وفي أواخر هذا العام، وجاءته الرسل بالسلام من كل ناحية ومن كل ملك همام، وبالتحية والاكرام، وبالخضوع التام، وسيأتي ذكر أبيه في الوفيات وفيها استحوذت السرية التي كان بعثها الملك المذكور محمود إلى بلاد الهند على أكثر مدائن الهنود وأكبرها مدينة، وهي المدينة المسماة نرسي، دخلوها في نحو من مائة ألف مقاتل، ما بين فارس وراجل، فنهبوا سوق العطر والجوهر بها نهارا كاملا، ولم يستطيعوا أن يحولوا ما فيه من أنواع الطيب والمسك والجواهر واللآلي واليواقيت، ومع هذا لم يدر أكثر أهل البلد بشئ من ذلك
لا تساعها، وذلك أنها كانت في غاية الكبر: طولها مسيرة منزلة من منازل الهند، وعرضها كذلك، وأخذوا منها من الاموال والتحف والاثاث ما لا يحد ولا يوصف، حتى قيل إنهم اقتسموا الذهب والفضة بالكيل، ولم يصل جيش من جيوش المسلمين إلى هذه المدينة قط، لا قبل هذه السنة ولا بعدها، وهذه المدينة من أكثر بلاد الهند خيرا ومالا، بل قيل إنه لا يوجد مدينة أكثر منها مالا ورزقا، مع كفر أهلها وعبادتهم الاصنام، فليسلم المؤمن على الدنيا سلام.
وقد كانت محل الملك، وأخذوا منها من الرقيق من الصبيان والبنات ما لا يحصى كثرة.
وفيها عملت الرافضة بدعتهم الشنعاء، وحادثتهم الصلعاء في يوم عاشوراء، من تعليق المسوح، وتغليق الاسواق، والنوح والبكاء في الازقة، فأقبل أهل السنة إليهم في الحديد فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتل من الفريقين طوائف كثيرة، وجرت بينهم فتن وشرور مستطيرة.
وفيها مرض أمير المؤمنين القادر بالله وعهد بولاية العهد من بعده إلى ولده أبي جعفر القائم بأمر الله، بمحضر من القضاة والوزراء والامراء، وخطب له بذلك، وضرب اسمه على السكة المتعامل بها.
وفيها أقبل ملك الروم من قسطنطينية في مائة (2) ألف مقاتل،
__________
(1) في الكامل 9 / 398: ربيع الآخر.
(2) في الكامل 9 / 404: في ثلاثمائة.

فسار حتى بلغ بلاد حلب، وعليها شبل الدولة نصر بن صالح بن مرداس، فنزلوا على مسيرة يوم منها، ومن عزم ملك الروم أن يستحوذ على بلاد الشام كلها، وأن يستردها إلى دين النصرانية، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده " (1) وقيصر هو من ملك الشام من الروم مع بلاد الروم فلا سبيل لملك الروم إلى هذا.
فلما نزل من حلب كما ذكرنا أرسل الله عليهم عطشا شديدا، وخالف بين كلمتهم، وذلك أنه كان معه الدمستق، فعامل طائفة من الجيش على قتله ليستقل هو بالامر من بعده، ففهم الملك ذلك فكر من فوره راجعا، فاتبعهم الاعراب ينهبونهم ليلا ونهارا، وكان من جملة ما أخذوا منهم أربعمائة فحل محجل محملة أموالا وثيابا للملك، وهلك أكثرهم جوعا وعطشا، ونهبوا من كل جانب ولله الحمد والمنة.
وفيها ملك جلال
الدولة واسطا واستناب عليها ولده وبعث وزيره أبا علي بن ماكولا إلى البطائح ففتحها، وسار في الماء إلى البصرة وعليها نائب لابي كاليجار، فهزمهم البصريون فسار إليهم جلال الدولة بنفسه فدخلها في شعبان منها.
وفيها جاء سيل عظيم بغزنة فأهلك شيئا كثيرا من الزروع والاشجار.
وفي رمضان منها تصدق مسعود بن محمود بن سبكتكين بألف ألف درهم، وأدر أرزاقا كثيرة للفقهاء والعلماء ببلاده، على عادة أبيه من قبله، وفتح بلادا كثيرة، واتسعت ممالكه جدا، وعظم شأنه، وقويت أركانه، وكثرت جنوده وأعوانه.
وفيها دخل خلق كثير من الاكراد إلى بغداد يسرقون خيل الاتراك ليلا، فتحصن الناس منهم فأخذوا الخيول كلها حتى خيل السلطان.
وفيها سقط جسر بغداد على نهر عيسى.
وفيها وقعت فتنة بين الاتراك النازلين بباب البصرة، وبين الهاشميين، فرفعوا المصاحف ورمتهم الاتراك بالنشاب، وجرت خبطة عظيمة ثم أصلح بين الفريقين.
وفيها كثرت العملات، وأخذت الدور جهرة، وكثر العيارون ولصوص الاكراد.
وفيها تعطل الحج أيضا سوى شرذمة من أهل العراق ركبوا من جمال البادية مع الاعراب، ففازوا بالحج.
ذكر من توفي فيها من الاعيان...أحمد بن عبد الله بن أحمد أبو الحسن الواعظ، المعروف بابن اكرات، صاحب كرامات ومعاملات، كان من أهل الجزيرة فسكن دمشق، وكان يعظ الناس بالرفادة القيلية، حيث كان يجلس القصاص.
قاله ابن عساكر.
قال: وصنف كتبا في الوعظ، وحكى حكايات كثيرة، ثم قال: سمعت أبا الحسن أحمد بن عبد الله اكرات الواعظ ينشد أبياتا: أنا ما أصنع باللذا * ت شغلي بالذنوب
__________
(1) تقدم تخريج الحديث.

إنما العيد لمن فا * ز بوصل من حبيب أصبح الناس على رو * ح وريحان وطيب
ثم أصبحت على نوح * وحزن ونحيب فرحوا حين أهلوا * شهرهم بعد المغيب وهلالي متوار * من ورا حجب الغيوب فلهذا قلت للذا * ت غيبي ثم غيبي وجعلت الهم والحز * ن من الدنيا نصيبي يا حياتي ومماتي * وشقائي وطبيبي جد لنفس تتلظى * منك بالرحب الرحيب الحسين بن محمد الخليع (1) الشاعر، له ديوان شعر حسن، عمر طويلا، وتوفي في هذه السنة الملك الكبير العادل محمود بن سبكتكين، أبو القاسم الملقب يمين الدولة، وأمين الملة، وصاحب بلاد غزنة، وما والاها، وجيشه يقال لهم السامانية، لان أباه كان قد تملك عليهم، وتوفي سنة سبع وثلاثين وثلثمائة فتملك عليهم بعده ولده محمود هذا، فسار فيهم وفي سائر رعاياه سيرة عادلة، وقام في نصر الاسلام قياما تاما، وفتح فتوحات كثيرة في بلاد الهند وغيرها، وعظم شأنه، واتسعت مملكته، وامتدت رعاياه، وطالت أيامه لعدله وجهاده، وما أعطاه الله إياه، وكان يخطب في سائر ممالكه للخليفة القادر بالله، وكانت رسل الفاطميين من مصر تفد إليه بالكتب والهدايا لاجل أن يكون من جهتهم، فيحرق بهم ويحرق كتبهم وهداياهم، وفتح في بلاد الكفار من الهند فتوحات هائلة، لم يتفق لغيره من الملوك، لا قبله ولا بعده، وغنم مغانم منهم كثيرة لا تنحصر ولا تنضبط، من الذهب والآلي، والسبي، وكسر من أصنامهم شيئا كثيرا، وأخذ من حليتها.
وقد تقدم ذلك مفصلا متفرقا في السنين المتقدمة من أيامه، ومن جملة ما كسر من أصنامهم صنم يقال له سومنان، بلغ ما تحصل من حليته من الذهب عشرين ألف ألف دينار، وكسر ملك الهند الاكبر الذي يقال له صينال، وقهر ملك الترك الاعظم الذي يقال له إيلك الخان، وأباد ملك السامانية، وقد ملكوا العالم في بلاد سمرقند وما
حولها، ثم هلكوا.
وبنى على جيحون جسرا تعجز الملوك والخلفاء عنه غرم عليه ألفي ألف دينار،
__________
(1) الخليع الشاعر هو الحسين بن الضحاك بن ياسر، أبو علي، وكانت وفاته سنة 250 ه انظر ترجمته في الاغاني 7 / 143 طبقات ابن المعتز، تاريخ بغداد 8 / 54 معجم الادباء 9 / 5.
ولم أصل فيما بين يدي من مراجع إلى الخليع الذي ذكره المؤلف.

وهذا شئ لم يتفق لغيره، وكان في جيشه أربعمائة فيل تقاتل، وهذا شئ عظيم هائل، وجرت له فصول يطول تفصيلها، وكان مع هذا في غاية الديانة والصيانة وكراهة المعاصي وأهلها، لا يحب منها شيئا، ولا يألفه، ولا أن يسمع بها، ولا يجسر أحد أن يظهر معصية ولا خمرا في مملكته، ولا غير ذلك، ولا يحب الملاهي ولا أهلها، وكان يحب العلماء والمحدثين ويكرمهم ويجالسهم، ويحب أهل الخير والدين والصلاح، ويحسن إليهم، وكان حنفيا ثم صار شافعيا على يدي أبي بكر القفال الصغير على ما ذكره إمام الحرمين وغيره، وكان على مذهب الكرامية في الاعتقاد، وكان من جملة من يجالسه منهم محمد بن الهيضم، وقد جرى بينه وبين أبي بكر بن فورك مناظرات بين يدي السلطان محمود في مسألة العرش، ذكرها ابن الهيضم في مصنف له، فمال السلطان محمود إلى قول ابن الهيضم، ونقم على ابن فورك كلامه، وأمر بطرده وإخراجه، لموافقته لرأي الجهمية، وكان عادلا جيدا، اشتكى إليه رجل أن ابن أخت الملك يهجم عليه في داره وعلى أهله في كل وقت، فيخرجه من البيت ويختلي بامرأته، وقد حار في أمره، وكلما اشتكاه لاحد من أولي الامر لا يجسر أحد عليه خوفا وهيبة للملك.
فلما سمع الملك ذلك غضب غضبا شديدا وقال للرجل، ويحك متى جاءك فائتني فأعلمني، ولا تسمعن من أحد منعك من الوصول إلى، ولو جاءك في الليل فائتني فأعلمني، ثم إن الملك تقدم إلى الحجبة وقال لهم: إن هذا الرجل متى جاءني لا يمنعه أحد من الوصول إلى من ليل أو نهار، فذهب الرجل مسرورا داعيا، فما كان إلا ليلة أو ليلتان حتى هجم عليه ذلك الشاب فأخرجه من البيت واختلى بأهله، فذهب باكيا إلى دار الملك فقيل له إن الملك نائم، فقال: قد تقدم إليكم أن لا أمنع منه ليلا ولا نهارا، فنبهوا الملك فخرج معه بنفسه وليس معه أحد، حتى جاء إلى منزل الرجل فنظر
إلى الغلام وهو مع المرأة في فراش واحد، وعندهما شمعة تقد، فتقدم الملك فأطفأ الضوء ثم جاء فاحتز رأس الغلام وقال للرجل: ويحك الحقني بشربة ماء، فأتاه بها فشرب ثم انطلق الملك ليذهب فقال له الرجل: بالله لم أطفأت الشمعة ؟ قال: ويحك إنه ابن أختي، وإني كرهت أن أشاهده حالة الذبح، فقال: ولم طلبت الماء سريعا ؟ فقال الملك: إني آليت على نفسي منذ أخبرتني أن لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أنصرك، وأقوم بحقك، فكنت عطشانا هذه الايام كلها، حتى كان ما كان مما رأيت.
فدعا له الرجل وانصرف الملك راجعا إلى منزله، ولم يشعر بذلك أحد.
وكان مرض الملك محمود هذا بسوء المزاج، اعتراه مع انطلاق البطن سنتين، فكان فيهما لا يضطجع على فراش، ولا يتكئ على شئ، لقوة بأسه وسوء مزاجه، وكان يستند على مخاد توضع له ويحضر مجلس الملك، ويفصل على عادته بين الناس، حتى مات كذلك في يوم الخميس لسبع بقين من ربيع الآخر من هذه السنة عن ثلاث وستين سنة (1)، ملكه منها ثلاث وثلاثون سنة، وخلف من الاموال
__________
(1) في ابن الاثير 9 / 398 كان مولده سنة 360 ه وفي وفيات الاعيان 5 / 181: سنة 361 ه.
يعني أنه لم يتجاوز الستين من عمره.

شيئا كثيرا، من ذلك سبعون رطلا من جوهر، الجوهرة منه لها قيمة عظيمة سامحه الله.
وقام بالامر من بعده ولده محمد، ثم صار الملك إلى ولده الآخر مسعود بن محمود فأشبه أباه، وقد صنف بعض العلماء مصنفا في سيرته وأيامه وفتوحاته وممالكه.
ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة فيها كانت وفاة القادر بالله الخليفة، وخلافة ابنه القائم بأمر الله على ما سيأتي تفصيله وبيانه.
وفيها وقعت فتنة عظيمة بين السنة والروافض، فقويت عليهم السنة وقتلوا خلقا منهم، ونهبوا الكرخ ودار الشريف المرتضى، ونهبت العامة دور اليهود لانهم نسبوا إلى معاونة الروافض، وتعدى النهب إلى دور كثيرة، وانتشرت الفتنة جدا، ثم سكنت بعد ذلك.
وفيها كثرت العملات وانتشرت المحنة بأمر العيارين في أرجاء البلد، وتجاسروا على أمور كثيرة، ونهبوا دورا وأماكن سرا وجهرا،
ليلا ونهارا، والله سبحانه أعلم.
خلافة القائم بالله أبي جعفر عبد الله بن القادر بالله، بويع له بالخلافة لما توفي أبوه العباس أحمد بن المقتدر بن المعتضد بن الامين أبو أحمد الموفق بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد بن المهدي بن المنصور، في ليلة الاثنين الحادي عشر (1) من ذي الحجة من هذه السنة، عن ست وثمانين سنة، وعشرة أشهر وإحدى عشر يوما (2)، ولم يعمر أحد من الخلفاء قبله هذا العمر ولا بعده، مكث من ذلك خليفة إحدى وأربعين سنة وثلاثة أشهر (3)، وهذا أيضا شئ لم يسبقه أحد إليه، وأمه أم ولد اسمها يمنى، مولاة عبد الواحد بن المقتدر، وقد كان حليما كريما، محبا لاهل العلم والدين والصلاح، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وكان على طريقة السلف في الاعتقاد، وله في ذلك مصنفات كانت تقرأ على الناس، وكان أبيض حسن الجسم طويل اللحية عريضها يخضبها، وكان يقوم الليل كثير الصدقة، محبا للسنة وأهلها، مبغضا للبدعة وأهلها، وكان يكثر الصوم ويبر الفقراء من أقطاعه، يبعث منه
__________
(1) كذا بالاصل والمنتظم والوافي والعبر، وفي نهاية الارب 23 / 217: في الحادي والعشرين.
(2) في الكامل 9 / 414: ست وثمانون وعشرة أشهر.
وفي العبر 3 / 148: وله سبع وثمانون.
وفي الوافي بالوفيات 6 / 240: سبع وثمانون سنة إلا شهرا وثمانية أيام.
وفي نهاية الارب 23 / 217: ست وثمانون وعشرة أشهر.
وفي دول الاسلام 1 / 252 والجوهر الثمين 1 / 191: ثلاث وتسعون.
(3) في الكامل 9 / 415 زيد: وعشرون يوما.
وفي نهاية الارب 23 / 217: إحدى وأربعين سنة وأربعة أشهر.
وفي الجوهر الثمين لابن دقماق 1 / 191: ثلاث وأربعين سنة وثلاثة أشهر.

إلى المجاورين بالحرمين وجامع المنصور، وجامع الرصافة، وكان يخرج من داره في زي العامة فيزور قبور الصالحين، وقد ذكرنا طرفا صالحا من سيرته عند ذكر ولايته في سنة إحدى وثمانين وثلثمائة، وجلسوا في عزائه سبعة أيام لعظم المصيبة به، ولتوطيد البيعة لولده المذكور، وأمه يقال لها قطر الندى (1)، أرمنية أدركت خلافته في هذه السنة، وكان مولده يوم الجمعة الثامن عشر من ذي القعدة
سنة إحدى وتسعين (2) وثلثمائة، ثم بويع له بحضرة القضاة والامراء والكبراء في هذه السنة، وكان أول من بايعه المرتضى وأنشده أبياتا: فأما مضى جبل وانقضى * فمنك لنا جبل قد رسى وأما فجعنا ببدر التمام * فقد بقيت منه شمس الضحى لنا حزن في محل السرور * فكم ضحك في محل البكا فيا صارما أغمدته يد * لنا بعدك الصارم المنتضى ولما حضرنا لعقد البياع * عرفنا بهديك طرق الهدى فقابلتنا بوقار المشيب * كمالا وسنك سن الفتى فطالبته الاتراك برسم البيعة فلم يكن مع الخليفة شئ يعطيهم، لان أباه لم يترك شيئا، وكادت الفتنة تقع بين الناس بسبب ذلك، حتى دفع عنه الملك جلال الدولة مالا جزيلا لهم، نحوا من ثلاثة آلاف دينار، واستوزر الخليفة أبا طالب محمد بن أيوب، واستقضى ابن ماكولا.
ولم يحج أحد من أهل المشرق سوى شرذمة خرجوا من الكوفة مع العرب فحجوا.
وفيها توفي من الاعيان غير الخليفة: الحسن بن جعفر أبو علي بن ماكولا الوزير لجلال الدولة، قتله غلام له وجارية تعاملا عليه فقتلاه، عن ست وخمسين سنة.
عبد الوهاب بن علي ابن نصر بن أحمد بن الحسن بن هارون بن مالك بن طوق، صاحب الرحبة، التغلبي
__________
(1) في مآثر الانافة 1 / 334: بدر الدجى.
وفي تاريخ الخلفاء ص 167: اسمها بدر الدجى وقيل قطر الندى.
وفي ابن الاثير 10 / 35 قطر الندى أو اسمها علم.
(2) في مآثر الانافة 1 / 334: سبع وثمانين وثلاثمائة.

البغدادي أحد أئمة المالكية، ومصنفيهم، له كتاب التلقين يحفظه الطلبة، وله غيره في الفروع والاصول، وقد أقام ببغداد دهرا، وولي قضاء داريا وماكسايا (1)، ثم خرج من بغداد لضيق حاله، فدخل مصر فأكرمه المغاربة وأعطوه ذهبا كثيرا، فتمول جدا، فأنشأ يقول متشوقا إلى بغداد: سلام على بغداد في كل موقف * وحق لها مني السلام مضاعف فو الله ما فارقتها عن ملالة * وإني بشطي جانبيها لعارف ولكنها ضاقت علي بأسرها * ولم تكن الارزاق فيها تساعف فكانت كخل كنت أهوى دنوه * وأخلاقه تنأى به وتخالف قال الخطيب: سمع القاضي عبد الوهاب من ابن السماك، وكتبت عنه، وكان ثقة، ولم تر المالكية أحدا أفقه منه.
قال ابن خلكان: وعند وصوله إلى مصر حصل له شئ من المال، وحسن حاله، مرض من أكلة اشتهاها فذكر عنه أنه كان يتقلب ويقول: لا إله إلا الله، عند ما عشنا متنا.
قال: وله أشعار رائقة فمنها قوله: ونائمة قبلتها فتنبهت * فقالت تعالوا واطلبوا اللص بالحد فقلت لها إني فديتك غاصب * وما حكموا في غاصب بسوى الرد خذيها وكفي عن أثيم طلابة (3) * وإن أنت لم ترضي فألفا على العد فقالت قصاص يشهد العقل أنه * على كبد الجاني ألذ من الشهد فباتت يميني وهي هميان خصرها * وباتت يساري وهي واسطة العقد فقالت ألم تخبر بأنك زاهد * فقلت بلى، ما زلت أزهد في الزهد ومما أنشده ابن خلكان للقاضي عبد الوهاب: بغداد دار لاهل المال طيبة * وللمفاليس دار الضنك والضيق ظللت حيران أمشي في أزقتها * كأنني مصحف في بيت زنديق ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة في سادس المحرم منها استسقى أهل بغداد لتأخر المطر عن أوانه، فلم يسقوا، وكثر الموت في
الناس، ولما كان يوم عاشوراء عملت الروافض بدعتهم، وكثر النوح والبكاء، وامتلات بذلك الطرقات والاسواق.
وفي صفر منها أمر الناس بالخروج إلى الاستسقاء فلم يخرج من أهل بغداد مع
__________
(1) في وفيات الاعيان 3 / 222.
بادرايا وباكسايا.
(2) في الوفيات: ظلامة.

اتساعها وكثرة أهلها مائة واحد.
وفيها وقع بين الجيش وبين جلال الدولة فاتفق على خروجه إلى البصرة منفيا، ورد كثيرا من جواريه، واستبقى بعضهن معه، وخرج من بغداد ليلة الاثنين سادس ربيع الاول منها.
وكتب الغلمان الاسفهلارية إلى الملك أبي كاليجار ليقدم عليهم، فلما قدم تمهدت البلاد ولم يبق أحد من أهل العناد والالحاد، ونهبوا دار جلال الدولة وغيرها، وتأخر مجئ أبي كاليجار، وذلك أن وزيره أشار عليه بعدم القدوم إلى بغداد.
فأطاعه في ذلك، فكثر العيارون وتفاقم الحال، وفسد البلد، وافتقر جلال الدولة بحيث أن احتاج إلى أن باع بعض ثيابه في الاسواق، وجعل أبو كاليجار يتوهم من الاتراك ويطلب منهم رهائن، فلم يتفق ذلك، وطال الفصل فرجعوا إلى مكاتبة جلال الدولة، وأن يرجع إلى بلده، وشرعوا يعتذرون إليه، وخطبوا له في البلد على عادته، وأرسل الخليفة الرسل إلى الملك كاليجار، وكان فيمن بعث إليه القاضي أبو الحسن الماوردي، فسلم عليه مستوحشا منه، وقد تحمل أمرا عظيما، فسأل من القضاة أن يلقب بالسلطان الاعظم مالك الامم، فقال الماوردي: هذا ما لا سبيل إليه، لان السلطان المعظم هو الخليفة، وكذلك مالك الامم، ثم اتفقوا على تلقيبه بملك الدولة، فأرسل مع الماوردي تحفا عظيمة منها ألف ألف دينار سابورية، وغير ذلك من الدراهم آلاف مؤلفة، والتحف والالطاف، واجتمع الجند على طلب من الخليفة فتعذر ذلك فراموا أن يقطعوا خطبته، فلم تصل الجمعة، ثم خطب له من الجمعة القابلة، وتخبط البلد جدا، وكثر العيارون.
ثم في ربيع الآخر منها حلف الخليفة لجلال الدولة بخلوص النية وصفائها، وأنه على ما يحب من الصدق وصلاح السريرة.
ثم وقع بينهما بسبب جلال الدولة وشربه النبيذ وسكره.
ثم اعتذر إلى الخليفة واصطلحا على فساد.
وفي رجب علت
الاسعار جدا ببغداد وغيرها، من أرض العراق.
ولم يحج أحد منهم.
وفيها وقع موتان عظيم ببلاد الهند وغزنة وخراسان وجرجان والري وأصبهان، وخرج منها في أدنى مدة أربعون ألف جنازة.
وفي نواحي الموصل والجبل وبغداد طرف قوي من ذلك بالجدري، بحيث لم تخل دار من مصاب به، واستمر ذلك في حزيران وتموز وآذار وأيلول وتشرين الاول والثاني، وكان في الصيف أكثر منه في الخريف.
قاله ابن الجوزي في المنتظم.
وقد رأى رجل في منامه من أهل أصبهان في هذه السنة مناديا ينادي بصوت جهوري: يا أهل أصبهان سكت، نطق سكت، نطق، فانتبه الرجل مذعورا فلم يدر أحد تأويلها ما هو، حتى قال رجل بيت أبي العتاهية فقال: احذروا يا أهل أصبهان فإني قرأت في شعر أبي العتاهية قوله: سكت الدهر زمانا عنهم * ثم أبكاهم دما حين نطق فما كان إلا قليل حتى جاء الملك مسعود بن محمود فقتل منهم خلقا كثيرا، حتى قتل الناس في الجوامع.
وفي هذه السنة ظفر الملك أبو كاليجار بالخادم جندل (1) فقتله، وكان قد استحوذ على
__________
(1) في الكامل 9 / 427: صندل.

مملكته ولم يبق معه سوى الاسم، فاستراح منه.
وفيها مات ملك الترك الكبير صاحب بلاد ما وراء النهر، واسمه قدرخان (1).
وفيها توفي من الاعيان...روح بن محمد بن أحمد أبو زرعة الرازي.
قال الخطيب: سمع جماعة، وفد علينا حاجا فكتبت عنه، وكان صدوقا فهما أديبا، يتفقه على مذهب الشافعي، وولي قضاء أصبهان.
قال: وبلغني أنه مات بالكرخ سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة.
علي بن محمد (2) بن الحسن ابن محمد بن نعيم بن الحسن البصري، المعروف بالنعيمي، الحافظ الشاعر، المتكلم الفقيه
الشافعي.
قال البرقاني: وهو كامل في كل شئ لولا بادرة فيه، وقد سمع على جماعة، ومن شعره قوله: إذا أضمأتك أكف اللئام * كفتك القناعة شبعا وريا فكن رجلا رجله في الثرى * وهامته همه في الثريا أبيا لنائل ذي نعمة * تراه بما في يديه أبيا فإن إراقة ماء الحيا * ة دون إراقة ماء المحيا محمد بن الطيب ابن سعد بن موسى أبو بكر الصباغ، حدث عن النجاد وأبي بكر الشافعي، وكان صدوقا، حكى الخطيب أنه تزوج تسعمائة امرأة، وتوفي عن خمس وتسعين سنة.
علي بن هلال الكاتب المشهور، ذكر ابن خلكان أنه توفي في هذه السنة، وقيل في سنة ثلاث عشرة كما تقدم.
__________
(1) وهو قدرخان يوسف بن بغراجان هرون بن سليمان ولما مات ملك بعده ابنه عمر بن قدرخان (المختصر في أخبار البشر 2 / 158).
(2) في الكامل 9 / 427 وتذكرة الحفاظ / 1112: أحمد.

ثم دخلت سنة أربع وعشرين وأربعمائة فيها تفاقم الحال بأمر العيارين، وتزايد أمرهم، وأخذوا العملات الكثيرة، وقوي أمر مقدمهم البرجمي، وقتل صاحب الشرطة غيلة، وتواترت العملات في الليل والنهار، وحرس الناس دورهم، حتى دار الخليفة منه، وكذلك سور البلد، وعظم الخطب بهم جدا، وكان من شأن هذا البرجمي أنه لا يؤذي امرأة ولا يأخذ مما عليها شيئا، وهذه مروءة في الظلم، وهذا كما قيل * حنانيك بعض الشر أهون من بعض * وفيها أخذ جلال الدولة البصرة وأرسل إليها ولده العزيز، فأقام بها
الخطبة لابيه، وقطع منها خطبة أبي كاليجار في هذه السنة والتي بعدها، ثم استرجعت، وأخرج منها ولده.
وفيها ثارت الاتراك بالملك جلال الدولة ليأخذوا أرزاقهم، وأخرجوه من داره، ورسموا عليه في المسجد، وأخرجت حريمه، فذهب في الليل إلى دار الشريف المرتضى فنزلها، ثم اصطلحت الاتراك عليه وحلفوا له بالسمع والطاعة، وردوه إلى داره، وكثر العيارون واستطالوا على الناس جدا.
ولم يحج أحدا من أهل العراق وخراسان لفساد البلاد.
وممن توفي فيها من الاعيان...أحمد بن الحسين بن أحمد أبو الحسين (1) الواعظ المعروف بابن السماك، ولد سنة ثلاثين وثلثمائة، وسمع جعفر الخلدي وغيره وكان يعظ بجامع المنصور وجامع المهدي، ويتكلم على طريق الصوفية، وقد تكلم بعض الائمة فيه، ونسب إليه الكذب.
توفي فيها عن أربع وتسعين سنة ودفن بباب حرب.
ثم دخلت سنة خمس وعشرين وأربعمائة فيها غزا السلطان مسعود بن محمود بلاد الهند، وفتح حصونا كثيرة، وكان من جملتها أنه حاصر قلعة حصينة (2) فخرجت من السور عجوز كبيرة ساحرة، فأخذت مكنسة فبلتها ورشتها من ناحية جيش المسلمين، فمرض السلطان تلك الليلة مرضا شديدا، فارتحل عن تلك القلعة، فلما استقل ذاهبا عنها عوفي عافية كاملة، فرجع إلى غزنة سالما.
وفيها ولي البساسيري حماية الجانب الشرقي (3) من بغداد، لما تفاقم أمر العيارين.
وفيها ولي سنان بن سيف الدولة بعد وفاة أبيه،
__________
(1) كذا بالاصل والوافي والمنتظم.
وفي الكامل 9 / 432: أبو الحسن.
وفي تاريخ أبي الفداء 2 / 158: القاضي ابن السماك، وورد في تاريخ ابن الوردي 1 / 514: القاضي ابن السمال.
(2) وهي قلعة " نغسى " كما في الكامل 9 / 434.
(3) في الكامل 9 / 437: الغربي.

فقصد عمه قرواشا فأقره وساعده على أموره.
وفيها هلك ملك الروم أرمانوس، فملكهم رجل ليس
من بيت ملكهم، قد كان صيرفيا في بعض الاحيان، إلا أنه كان من سلالة الملك قسطنطين.
وفيها كثرت الزلازل بمصر والشام فهدمت شيئا كثيرا، ومات تحت الردم خلق كثير، وانهدم من الرملة ثلثها، وتقطع جامعها تقطيعا، وخرج أهلها منها هاربين، فأقاموا بظاهرها ثمانية أيام، ثم سكن الحال فعادوا إليها، وسقط بعض حائط بيت المقدس، ووقع من محراب داود قطعة كبيرة، ومن مسجد إبراهيم قطعة، وسلمت الحجرة، وسقطت منارة عسقلان، ورأس منارة غزة، وسقط نصف بنيان نابلس، وخسف بقرية البارزاد وبأهلها وبقرها وغنمها، وساخت في الارض.
وكذلك قرى كثيرة هنالك، وذكر ذلك ابن الجوزي.
ووقع غلاء شديد ببلاد إفريقية، وعصفت ريح سوداء بنصيبين فألقت شيئا كثيرا من الاشجار كالتوت والجوز والعناب، واقتلعت قصرا مشيدا بحجارة وآجر وكلس فألقته وأهله فهلكوا، ثم سقط مع ذلك مطر أمثال الاكف، والزنود والاصابع، وجزر البحر من تلك الناحية ثلاث فراسخ، فذهب الناس خلف السمك فرجع البحر عليهم فهلكوا.
وفيها كثر الموت بالخوانيق حتى كان يغلق الباب على من في الدار كلهم موتى، وأكثر ذلك كان ببغداد، فمات من أهلها في شهر ذي الحجة سبعون ألفا.
وفيها وقعت الفتنة بين السنة والروافض حتى بين العيارين من الفريقين من ابنا الاصفهاني وهما مقدمي عيارين أهل السنة، منعا أهل الكرخ من ورود ماء دجلة فضاق عليهم الحال، وقتل ابن البرجمي وأخوه في هذه السنة.
ولم يحج أحد من أهل العراق.
وفيها توفي من الاعيان...أحمد بن محمد بن أحمد بن غالب الحافظ أبو بكر المعروف بالبرقاني (1)، ولد سنة ثلاث (2) وثلاثين وثلثمائة، وسمع الكثير، ورحل إلى البلاد، وجمع كتبا كثيرة جدا، وكان عالما بالقرآن والحديث والفقه والنحو، وله مصنفات في الحديث حسنة نافعة.
قال الازهري، إذا مات البرقاني ذهب هذا الشأن، وما رأيت أتقن منه.
وقال غيره: ما رأيت أعبد منه في أهل الحديث.
توفي يوم الخميس مستهل رجب، وصلى عليه أبو علي بن أبي موسى الهاشمي، ودفن في مقبرة الجامع ببغداد، وقد أورد له ابن عساكر من شعره:
أعلل نفسي بكتب الحديث * وأجمل فيه لها الموعدا وأشغل نفسي بتصنيفه * وتخريجه دائما سرمدا
__________
(1) البرقاني: نسبة إلى برقان قرية بخوارزم.
(2) في تذكرة الحفاظ / 1074: ست.

فطورا أصنفه في الشيو * خ وطورا أصنفه مسندا وأقفو البخاري فيماحوا * ه وصنفه جاهدا مجهدا ومسلم إذ كان زين الانام * بتصنيفه مسلما مرشدا وما لي فيه سوى أنني * أراه هوى صادف المقصدا وأرجوا الثواب بكتب الصلا * ة على السيد المصطفى أحمدا أحمد بن محمد بن عبد الرحمن بن سعيد أبو العباس الابيوردي، أحد أئمة الشافعية، من تلاميذ الشيخ أبي حامد الاسفراييني، كانت له حلقة في جامع المنصور للفتيا، وكان يدرس في قطيعة الربيع، وولي الحكم ببغداد نيابة عن ابن الاكفاني، وقد سمع الحديث، وكان حسن الاعتقاد جميل الطريقة، فصيح اللسان، صبورا على الفقر، كاتما له، وكان يقول الشعر الجيد، وكان كما قال تعالى (يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا) [ البقرة: 373 ] توفي في جمادى الآخرة، ودفن بمقبرة باب حرب: أبو علي البندنبجي الحسن (1) بن عبد الله بن يحيى، الشيخ أبو علي البندنيجي، أحد أئمة الشافعية، من تلاميذ أبي حامد أيضا، ولم يكن في أصحابه مثله، تفقه ودرس وأفتى وحكم ببغداد، وكان دينا ورعا.
توفي في جمادى الآخرة منها أيضا.
عبد الوهاب بن عبد العزيز
الحارث بن أسد، أبو الصباح (2) التميمي، الفقيه الحنبلي الواعظ، سمع من أبيه أثرا مسلسلا عن علي: " الحنان: الذي يقبل على من أعرض عنه، والمنان الذي يبدأ بالنوال قبل السؤال " توفي في ربيع الاول ودفن في مقبرة أحمد بن حنبل.
غريب بن محمد ابن مفتي سيف الدولة أبو سنان، كان قد ضرب السكة باسمه، وكان ملكا متمكنا في
__________
(1) في الكامل 9 / 439: الحسين.
(2) في الكامل 9 / 439: أبو الفرج.

الدولة، وخلف خمسمائة ألف دينار، وقام ابنه سنان بعده، وتقوى بعمه قرواش، واستقامت أموره، توفي بالكرخ سابور عن سبعين سنة.
ثم دخلت سنة ست وعشرين وأربعمائة في محرمها كثر تردد الاعراب في قطع الطرقات إلى حواشي بغداد وما حولها، بحيث كانوا يسلبون النساء ما عليهن، ومن أسروه أخذوا ما معه وطالبوه بفداء نفسه، واستفحل أمر العيارين وكثرت شرورهم، وفي مستهل صفر زادت دجلة بحيث ارتفع الماء على الضياع ذراعين، وسقط من البصرة في مدة ثلاثة نحو من ألفي دار.
وفي شعبان منها ورد كتاب من مسعود بن محمود بأنه قد فتح فتحا عظيما في الهند، وقتل منهم خمسين ألفا وأسر تسعين ألفا، وغنم شيئا كثيرا، ووقعت فتنة بين أهل بغداد والعيارين، ووقع حريق في أماكن من بغداد، واتسع الخرق على الراقع، ولم يحج أحد من هؤلاء ولا من أهل خراسان.
وممن توفي فيها من الاعيان...أحمد بن كليب الشاعر وهو أحد من هلك بالعشق، روى ابن الجوزي في المنتظم بسنده أن أحمد بن كليب هذا المسكين المغتر عشق غلاما يقال له أسلم بن أبي الجعد، من بني خلد (1) وكان فيهم وزارة، أي كانوا
وزراء للملوك وحجابا، فأنشد فيه أشعارا تحدث الناس بها، وكان هذا الشاب أسلم يطلب العلم في مجالس المشايخ فلما بلغه عن ابن كليب ما قال فيه استحى من الناس وانقطع في دارهم، وكان لا يجتمع بأحد من الناس، فازداد غرام ابن كليب به حتى مرضا شديدا، بحيث عاده منه الناس، ولا يدرون ما به، وكان في جملة من عاده بعض المشايخ من العلماء، فسأله عن مرضه فقال: أنتم تعلمون ذلك، ومن أي شئ مرضي، وفي أي شئ دوائي، لو زارني أسلم ونظر إلى نظرة ونظرته نظرة واحدة لبرأت، فرأى ذلك العالم من المصلحة أن لو دخل على أسلم وسأله أن يزوره ولو مرة واحدة مختفيا، ولم يزل ذلك الرجل العالم بأسلم حتى أجابه إلى زيارته، فانطلقا إليه فلما دخلا دربه ومحلته تجبن الغلام واستحى من الدخول عليه، وقال للرجل العالم: لا أدخل عليه، وقد ذكرني ونوه باسمي، وهذا مكان ريبة وتهمة، وأنا لا أحب أن أدخل مداخل التهم، فحرص به الرجل كل الحرص ليدخل عليه فأبى عليه، فقال له: إنه ميت لا محالة، فإذا دخلت عليه أحييته.
__________
(1) في الكامل 9 / 444 ومختصر أخبار البشر 2 / 159: أسلم بن أحمد بن سعيد.

فقال: يموت وأنا لا أدخل مدخلا يسخط الله علي ويغضبه، وأبى أن يدخل، وانصرف راجعا إلى دارهم، فدخل الرجل على ابن كليب فذكر له ما كان من أمر أسلم معه، وقد كان غلام ابن كليب دخل عليه قبل ذلك وبشره بقدوم معشوقه عليه، ففرح بذلك جدا، فلما تحقق رجوعه عنه اختلط كلامه واضطرب في نفسه، وقال لذلك الرجل الساعي بينهما: اسمع يا أبا عبد الله واحفظ عني ما أقول، ثم أنشده: أسلم يا راحة العليل * رفقا على الهائم النحيل وصلك أشهى إلى فؤادي * من رحمة الخالق الجليل فقال له الرجل: ويحك اتق الله تعالى، ما هذه العظيمة ؟ فقال: قد كان ما سمعت، أو قال القول ما سمعت.
قال فخرج الرجل من عنده فما توسط الدار حتى سمع الصراخ عليه، وسمع صيحة الموت وقد فارق الدنيا على ذلك.
وهذه زلة شنعاء، وعظيمة صلعاء، وداهية دهياء، ولولا
أن هؤلاء الائمة ذكروها ما ذكرتها، ولكن فيها عبرة لاولي الالباب، وتنبيه لذوي البصائر والعقول، أن يسألوا الله رحمته وعافيته، وأن يستعيذوا بالله من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وأن يرزقهم حسن الخاتمة عند الممات إنه كريم جواد.
قال الحميدي: وأنشدني أبو علي بن أحمد قال: أنشدني محمد بن عبد الرحمن لاحمد بن كليب وقد أهدى إلى أسلم كتاب الفصيح لثعلب: هذا كتاب الفصيح * بكل لفظ مليح وهبته لك طوعا * كما وهبتك روحي الحسن (1) بن أحمد ابن إبراهيم بن الحسن بن محمد بن شاذان بن حرب بن مهران البزاز، أحد مشايخ الحديث، سمع الكثير، وكان ثقة صدوقا، جاء يوما شاب غريب فقال له: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي: اذهب إلى أبي علي بن شاذان فسلم عليه وأقره مني السلام.
ثم انصرف الشاب فبكى الشيخ وقال: ما أعلم لي عملا استحق به هذا غير صبري على سماع الحديث، وصلاتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما ذكر.
ثم توفي بعد شهرين أو ثلاثة من هذه الرؤيا في محرمها، عن سبع وثمانين سنة ودفن بباب الدير.
__________
(1) في الكامل 9 / 445 الحسين، قال: وكان مولده سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة ببغداد.

الحسن بن عثمان ابن أحمد بن الحسين بن سورة، أبو عمر الواعظ المعروف بابن الغلو، سمع الحديث عن جماعة.
قال ابن الجوزي: وكان يعظ، وله بلاغة، وفيه كرم، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، ومن شعره قوله: دخلت على السلطان في دار عزه * بفقر ولم أجلب بخيل ولا رجل وقلت: انظروا ما بين فقري وملككم * بمقدار ما بين الولاية والعزل
توفي في صفر منها وقد قارب الثمانين، ودفن بمقبرة حرب إلى جانب ابن السماك رحمهما الله.
ثم دخلت سنة سبع وعشرين وأربعمائة في المحرم منها تكاملت قنطرة عيسى التي كانت سقطت، وكان الذي ولي مشارفة الانفاق عليها الشيخ أبو الحسين القدوري الحنفي، وفي المحرم وما بعده تفاقم أمر العيارين، وكبسوا الدور وتزايد شرهم جدا.
وفيها توفي صاحب مصر الظاهر أبو الحسن علي بن الحاكم الفاطمي، وله من العمر ثلاث وثلاثون سنة، وقام بالامر من بعده ولده المستنصر وعمره سبع سنين (1)، واسمه معد، وكنيته أبو تميم، وتكفل بأعباء المملكة بين يديه الافضل أمير الجيوش، واسمه بدر بن عبد الله الجمالي، وكان الظاهر هذا قد استوزر الصاحب أبا القاسم علي بن أحمد الجرجرائي، وكان مقطوع اليدين من المرفقين، في سنة ثماني عشرة، فاستمر في الوزارة مدة ولاية الظاهر، ثم لولده المستنصر، حتى توفي الوزير الجرجرائي المذكور في سنة ست وثلاثين، وكان قد سلك في وزارته العفة العظيمة، وكان الذي يعلم عنه القاضي أبو عبد الله القضاعي صاحب كتاب الشهاب، وكانت علامته الحمد لله شكرا لنعمه، وكان الذي قطع يديه من المرفقين الحاكم، لجناية ظهرت منه في سنة أربع وأربعمائة، ثم استعمله في بعض الاعمال سنة تسع، فلما فقد الحاكم في السابع والعشرين من شوال، سنة إحدى عشرة، تنقلت بالجر جرائي المذكور الاحوال حتى استوزر سنة ثماني عشرة كما ذكرنا، وقد هجاه بعض الشعراء فقال: يا أجمعا اسمع وقل * ودع الرقاعة والتحامق أأقمت نفسك في الثقا * ت وهبك فيما قلت صادق
__________
(1) في الكامل 9 / 447: ومولده بالقاهرة سنة عشر وأربعمائة.
وفي مختصر أخبار البشر 2 / 159: مولده سنة عشرين وأربعمائة.

أمن الامانة والتقى * قطعت يداك من المرافق
وممن توفي فيها من الاعيان...أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعالبي ويقال الثعلبي أيضا - وهو لقب أيضا وليس - بنسبة، النيسابوري المفسر المشهور، له التفسير الكبير، وله كتاب العرايس في قصص الانبياء عليهم السلام، وغير ذلك، وكان كثير الحديث واسع السماع، ولهذا يوجد في كتبه من الغرائب شئ كثير، ذكره عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي في تاريخ نيسابور، وأثنى عليه، وقال: هو صحيح النقل موثوق به، توفي في سنة سبع وعشرين وأربعمائة، وقال غيره: توفي يوم الاربعاء لسبع بقين من المحرم منها، ورئيت له منامات صالحة رحمه الله.
وقال السمعاني: ونيسابور كانت مقصبة (1) فأمر سابور الثاني ببنائها مدينة.
ثم دخلت سنة ثمان وعشرين وأربعمائة فيها خلع الخليفة على أبي تمام محمد بن محمد بن علي الزينبي، وقلده ما كان إلى أبيه من نقابة العباسيين والصلاة.
وفيها وقعت الفرقة بين الجند وبين جلال الدولة وقطعوا خطبته وخطبة الملك أبي كاليجار، ثم أعادوا الخطبة، واستوزر أبا المعالي بن عبد الرحيم، وكان جلال الدولة قد جمع خلقا كثيرا معه، منهم البساسيري، وديبس بن علي بن مرثد (2)، وقرواش بن مقلد، ونازل بغداد من جانبها الغربي حتى أخذها قهرا، واصطلح هو وأبو كاليجار نائب جلال الدولة على يدي قاضي القضاة الماوردي، وتزوج أبو منصور بن أبي كاليجار بابنة جلال الدولة على صداق خمسين ألف دينار واتفقت كلمتهما وحسن حال الرعية.
وفيها نزل مطر ببلاد قم الصلح ومعه سمك وزن السمكة رطل ورطلان، وفيها بعث ملك مصر بمال لاصلاح نهر بالكوفة إن أذن الخليفة العباسي في ذلك، فجمع الخليفة الفقهاء وسألهم عن هذا المال فأفتوا بأن هذا المال فئ للمسلمين، يصرف في مصالحهم.
فأذن في صرفه في مصالح المسلمين.
وفيها ثار العيارون ببغداد وفتحوا السجن بالجانب الشرقي، وأخذوا منه رجالا وقتلوا من رجال الشرط سبعة عشر رجلا، وانتشرت الشرور في البلد جدا.
ولم يحج أحد من أهل العراق وخراسان لاختلاف الكلمة.
__________
(1) من وفيات الاعيان 1 / 79 وفي الاصل مغصبة: والمقصبة الكثيرة القصب فأمر سابور بقطع القصب وبنى المدينة
فسميت نيسابور.
قال السمعاني: ني: القصب بالاعجمي.
(2) في الكامل 9 / 454: مزيد.

وممن توفي فيها من الاعيان...القدوري أحمد بن محمد ابن أحمد بن جعفر، أبو الحسن (1) القدوري الحنفي البغدادي، سمع الحديث ولم يحدث إلا بشئ يسير.
قال الخطيب: كتبت عنه.
وقد تقدمت وفاته، ودفن بداره في درب خلف (2).
الحسن بن شهاب ابن الحسن بن علي، أبو علي العكبري، الفقيه الحنبلي الشاعر، ولد سنة خمس وثلاثين وثلثمائة سمع من أبي بكر بن مالك وغيره، وكان كما قال البرقاني ثقة أمينا، وكان يسترزق من الوراقة - وهو النسخ - يقال إنه كان يكتب ديوان المتنبي في ثلاث ليال فيبيعه بمائتي درهم، ولما توفي أخذ السلطان من تركته ألف دينار سوى الاملاك، وكان قد أوصى بثلث ماله في متفقهة الحنابلة، فلم تصرف.
لطف الله أحمد بن عيسى أبو الفضل الهاشمي، ولي القضاء والخطابة بدرب ريحان، وكان ذا لسان، وقد أضر في آخر عمره، وكان يروي حكايات وأناشيد من حفظه، توفي في صفر منها.
محمد بن أحمد ابن علي بن موسى بن عبد المطلب، أبو علي الهاشمي، أحد أئمة الحنابلة وفضلائهم.
محمد بن الحسن ابن أحمد بن علي أبو الحسن الاهوازي، ويعرف بابن أبي علي الاصبهاني، ولد سنة خمس وأربعين وثلثمائة، وقدم بغداد وخرج له أبو الحسن النعيمي أجزاء من حديثه، فسمعها منه البرقاني، إلا أنه بان كذبه، حتى كان بعضهم يسميه جراب الكذب، أقام ببغداد سبع سنين، ثم
عاد إلى الاهواز فمات بها.
__________
(1) راجع حاشية (1) ص (31).
(2) راجع وفيات سنة 418 وقد تقدمت قريبا.

مهيار الديلمي الشاعر مهيار بن مرزويه أبو الحسين الكاتب الفارسي، ويقال له الديلمي، كان مجوسيا فأسلم (1)، إلا أنه سلك سبيل الرافضة، وكان ينظم الشعر القوي الفحل في مذاهبهم، من سب الصحابة وغيرهم، حتى قال له أبو القاسم بن برهان: يامهيار انتقلت من زاوية في النار إلى زاوية أخرى في النار، كنت مجوسيا فأسلمت فصرت تسب الصحابة، وقد كان منزله بدرب رباح من الكرخ، وله ديوان شعر مشهور، فمن مستجاد قوله: أستنجد الصبر فيكم وهو مغلوب * وأسأل النوم عنكم وهو مسلوب وأبتغي عندكم قلبا سمحت به * وكيف يرجع شئ وهو موهوب ماكنت أعرف مقدار حبكم * حتى هجرت وبعض الهجر تأديب ولمهيار أيضا: أجارتنا بالغور والركب منهم * أيعلم خال كيف بات المتيم رحلتم وجمر القلب فينا وفيكم * سواء ولكن ساهرون ونوم فبنتم عنا ظاعنين وخلفوا * قلوبا أبت أن اعرف الصبر عنهم ولما خلى التوديع عما حذرته * ولم يبق إلا نظرة لي تغنم بكيت على الوادي وحرمت ماءه * وكيف به ماء وأكثره دم قال ابن الجوزي: ولما كان شعره اكثره جيدا اقتصرت على هذا القدر.
توفي في جمادى الآخرة.
هبة الله بن الحسن (2)
أبو الحسين المعروف بالحاجب، كان من أهل الفضل والادب والدين، وله شعر حسن، فمنه قوله: يا ليلة سلك الزما * ن في طيبها كل مسلك إذ ترتقي روحي المسر * ة مدركا ما ليس يدرك والبدر قد فضح الزما * ن وسره فيه مهتك وكأنما زهر النجو * م بلمعها شعل تحرك
__________
(1) قال ابن الاثير في الكامل 9 / 456: أسلم في سنة 394 على يد الشريف الرضي.
(2) في الكامل 9 / 456: الحسين، والمعروف بابن أخت الفاضل.

والغيب أحيانا يلو * ح كأنه ثوب ممسك وكأن تجعيد الريا * ح لدجلة ثوب مفرك وكأن نشر المسك * ينفخ في النسيم إذا تحرك وكأنما المنثور مصفر * الذرى ذهب مسبك والنور يبسم في الريا * ض فإن نظرت إليه سرك شارطت نفسي أن أقو * م بحقها والشرط أملك حتى تولى الليل من * هزما وجاء الصبح يضحك وذا الفتى لو أنه * في طيب العيش يترك والدهر يحسب عمره * فإذا أتاه الشيب فذلك أبو علي بن سينا الطبيب الفيلسوف، الحسين (1) بن عبد الله بن سينا الرئيس، كان بارعا في الطب في زمانه، كان أبوه من أهل بلخ، وانتقل إلى بخارى، واشتغل بها فقرأ القرآن وأتقنه، وهو ابن عشر سنين، وأتقن الحساب والجبر والمقابلة وإقليدس والمجسطي، ثم اشتغل على أبي عبد الله الناتلي الحكيم، فبرع فيه وفاق أهل زمانه في ذلك، وتردد الناس إليه واشتغلوا عليه، وهو ابن ست عشرة سنة،
وعالج بعض الملوك السامانية، وهو الامير نوح بن نصر، فأعطاه جائزة سنية، وحكمه في خزانة كتبه، فرأى فيها من العجائب والمحاسن مالا يوجد في غيرها، فيقال إنه عزا بعض تلك الكتب إلى نفسه، وله في الالهيات والطبيعيات كتب كثيرة، قال ابن خلكان: له نحو من مائة مصنف، صغار وكبار، منها القانون، والشفا، والنجاة، والاشارات، وسلامان، وإنسان، وحي بن يقظان، وغير ذلك.
قال وكان من فلاسفة الاسلام، وأورد له من الاشعار قصيدته في نفسه (2) التي يقول فيها: هبطت إليك من المقام (3) الا رفع * ورقاء ذات تعزز وتمنع محجوبة عن كل مقلة عارف * وهي التي سفرت ولم تتبرقع وصلت على كره إليك وربما * كرهت فراقك وهي ذات تفجع وهي قصيدة طويلة وله:
__________
(1) من الوافي ووفيات الاعيان ومختصر أخبار البشر، وفي الاصل والجواهر المضية: " الحسن " تحريف.
(2) في الوافي والوفيات: في النفس.
(3) في الوافي 12 / 407 والوفيات 2 / 160: من المحل.

اجعل غذاءك كل يوم مرة * واحذر طعاما قبل هضم طعام واحفظ منيك ما استطعت فإنه * ماء الحياة يراق في الارحام وذكر أنه مات بالقولنج في همذان، وقيل بأصبهان، والاول أصح، يوم الجمعة في شهر رمضان منها، عن ثمان وخمسين سنة.
قلت: قد حصر الغزالي كلامه في مقاصد الفلاسفة، ثم رد عليه في تهافت الفلاسفة في عشرين مجلسا له، كفره في ثلاث منها، وهي قوله بقدم العالم، وعدم المعاد الجثماني، وأن الله لا يعلم الجزئيات، وبدعه في البواقي، ويقال إنه تاب عند الموت فالله أعلم.
ثم دخلت سنة تسع وعشرين وأربعمائة
فيها كان بدو ملك السلاجقة، وفيها استولى ركن الدولة أبو طالب طغرلبك محمد بن ميكائيل بن سلجوق، على نيسابور (1)، وجلس على سرير ملكها، وبعث أخاه داود إلى بلاد خراسان فملكها وانتزعها من نواب الملك مسعود بن محمود بن سبكتكين.
وفيها قتل جيش المصريين لصاحب حلب وهو شبل الدولة نصر بن صالح بن مرداس، واستولوا على حلب وأعمالها.
وفيها سأل جلال الدولة الخليفة أن يلقب ملك الدولة، فأجابه إلى ذلك بعد تمنع.
وفيها استدعى الخليفة بالقضاة والفقهاء وأحضر جاثليق النصارى ورأى جالوت اليهود، وألزموا بالغيار.
وفي رمضان منها لقب جلال الدولة شاهنشاه الاعظم ملك الملوك، بأمر الخليفة، وخطب له بذلك على المنابر، فنفرت العامة من ذلك ورموا الخطباء بالآجر، ووقعت فتنة شديدة بسبب ذلك، واستفتوا القضاة والفقهاء في ذلك فأفتى أبو عبد الله الصيمري أن هذه الاسماء يعتبر فيها القصد والنية، وقد قال تعالى (إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا) [ البقرة: 247 ] وقال (وكان وراءهم ملك) [ الكهف: 79 ] وإذا كان في الارض ملوك جاز أن يكون بعضهم فوق بعض، وأعظم من بعض، وليس في ذلك ما يوجب النكير والمماثلة بين الخالق والمخلوقين.
وكتب القاضي أبو الطيب الطبري: أن إطلاق ملك الملوك جائز، ويكون معناه ملك ملوك الارض، وإذا جاز أن يقال كافي الكفاة وقاضي القضاة، جاز أن يقال ملك الملوك، وإذا كان في اللفظ ما يدل على أن المراد به ملوك الارض، زالت الشبهة، ومنه قولهم: اللهم أصلح الملك، فيصرف الكلام إلى المخلوقين.
وكتب التميمي الحنبلي نحو ذلك، وأما الماوردي صاحب الحاوي الكبير فقد نقل عنه أنه أجاز ذلك أيضا، والمشهور عنه ما نقله ابن الجوزي والشيخ أبو منصور بن الصلاح في أدب المفتي أنه منع من ذلك وأصر على المنع من ذلك، مع صحبته للملك جلال الدولة، وكثرة ترداده إليه، ووجاهته عنده، وأنه
__________
(1) في العبر لابن خلدون 4 / 452: سنة إحدى وثلاثين.

امتنع من الحضور عن مجلسه حتى استدعاه جلال الدولة في يوم عيد، فلما دخل عليه، دخل وهو وجل خائف أن يوقع به مكروها، فلما واجهه قال له جلال الدولة: قد علمت أنه إنما منعك من
موافقة الذين جوزوا ذلك مع صحبتك إياي ووجاهتك عندي، دينك واتباعك الحق، وإن الحق آثر عندك من كل أحد، ولو حابيت أحدا من الناس لحابيتني، وقد زادك ذلك عندي صحبة ومحبة، وعلو مكانة.
قلت: والذي حمل القاضي الماوردي على المنع هو السنة التي وردت بها الاحاديث الصحيحة من غير وجه.
قال الامام أحمد: حدثنا سفيان بن عيينة، عن أبي الزناد، عن الاعرج، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أخنع اسم عند الله يوم القيامة رجل تسمى بملك الاملاك " (1).
قال الزهري: سألت أبا عمرو الشيباني عن أخنع أسم قال: أوضع.
وقد رواه البخاري عن علي بن المديني عن ابن عيينة، وأخرجه مسلم من طريق همام عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه رجل تسمى ملك الاملاك لا ملك إلا الله عزوجل ".
وقال الامام أحمد: حدثني محمد بن جعفر حدثنا عوف عن جلاس عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اشتد غضب الله على من قتله نبي، واشتد غضب الله على رجل تسمى بملك الاملاك، لا ملك إلا الله عزوجل ".
وممن توفي فيها من الاعيان...الثعالبي صاحب يتيمة الدهر أبو منصور عبد الملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبي النيسابوري، كان إماما في اللغة والاخبار وأيام الناس، بارعا مفيدا، له التصانيف الكبار في النظم والنثر والبلاغة والفصاحة، وأكبر كتبه يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر.
وفيها يقول بعضهم (2): أبيات أشعار اليتيمة * أبكار أفكار قديمة ماتوا وعاشت بعدهم * فلذاك سميت اليتيمة وإنما سمي الثعالبي لانه كان رفاء يخيط جلود الثعالب، وله أشعار كثيرة مليحة، ولد سنة خمسين وثلثمائة، ومات في هذه السنة.
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) وهو أبو الفتوح نصر الله بن قلاقس الاسكندري (وفيات الاعيان 3 / 180).

الاستاذ أبو منصور عبد القاهر بن طاهر بن محمد، البغدادي الفقيه الشافعي، أحد الائمة في الاصول والفروع، وكان ماهرا في فنون كثيرة من العلوم، منها علم الحساب والفرائض، وكان ذا مال وثروة أنفقه كله على أهل العلم، وصنف ودرس في سبعة عشر علما، وكان اشتغاله على أبي إسحاق الاسفرائيني، وأخذ عنه ناصر المروزي وغيره.
ثم دخلت سنة ثلاثين وأربعمائة فيها التقى الملك مسعود بن محمود، والملك طغرلبك السلجوقي، ومعه أخوه داود، في شعبان، فهزمهما مسعود، وقتل من أصحابهما خلقا كثيرا.
وفيها خطب شبيب بن ريان للقائم العباسي بحران والرحبة وقطع خطبة الفاطمي العبيدي.
وفيها خوطب أبو منصور بن جلال الدولة بالملك العزيز، وهو مقيم بواسط، وهذا العزيز آخر من ملك بغداد من بني بويه، لما طغوا وتمردوا وبغوا وتسموا بملك الاملاك، فسلبهم الله ما كان أنعم به عليهم، وجعل الملك في غيرهم، كما قال الله تعالى (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) الآية [ الرعد: 11 ].
وفيها خلع الخليفة على القاضي أبي عبد الله بن ماكولا خلعة تشريف.
وفيها وقع ثلج عظيم ببغداد مقدار شبر.
قال ابن الجوزي: وفي جمادى الآخرة تملك بنو سلجوق بلاد خراسان والحبل، وتقسموا الاطراف، وهو أول ملك السلجوقية ولم يحج أحد فيها من العراق وخراسان، ولا من أهل الشام ولا مصر إلا القليل.
وممن توفي فيها من الاعيان...الحافظ أبو نعيم الاصبهاني أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق بن موسى بن مهران، أبو نعيم الاصبهاني، الحافظ الكبير ذو التصانيف المفيدة الكثيرة الشهيرة، منها حلية الاولياء في مجلدات كثيرة، دلت على استاع روايته،
وكثرة مشايخه، وقوة اطلاعه على مخارج الحديث، وشعب طرقه، وله معجم الصحابة، وهو عندي بخطه، وله صفة الجنة ودلائل النبوة، وكتاب في الطب النبوي، وغير ذلك من المصنفات المفيدة.
وقد قال الخطيب البغدادي: كان أبو نعيم يخلط المسموع له بالمجاز، ولا يوضح أحدهما من الآخر.
وقال عبد العزيز النخشبي: لم يسمع أبو نعيم مسند الحارث بن أبي أسامة من أبي بكر بن خلاد بتمامه، فحدث به كله، وقال ابن الجوزي: سمع الكثير وصنف الكثير، وكان يميل إلى مذهب الاشعري في الاعتقاد ميلا كثيرا، توفي أبو نعيم في الثامن والعشرين من المحرم منها عن أربع وتسعين

سنة رحمه الله، لانه ولد فيما ذكره ابن خلكان في سنة ست وثلاثين وثلثمائة.
قال: وله تاريخ أصبهان.
وذكر أبو نعيم في ترجمة والده أن مهران أسلم، وأن ولاءهم لعبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب.
وذكر أن معنى أصبهان وأصله بالفارسية شاهان (1)، أي مجمع العساكر، وأن الاسكندر بناها.
الحسن بن حفص (2) أبو الفتوح العلوي أمير مكة الحسن بن الحسين، أبو علي البرجمي، وزر لشرف الدولة سنتين ثم عزل، وكان عظيم الجاه في زمانه، وهو الذي بنى مارستان واسط، ورتب فيه الاشربة والاطباء والادوية، ووقف عليه كفايته.
توفي في هذه السنة وقد قارب الثمانين رحمه الله.
الحسين بن محمد بن الحسن ابن علي بن عبد الله المؤدب، وهو أبو محمد الخلال، سمع صحيح البخاري من إسماعيل بن محمد الكشميهني، وسمع غيره، توفي في جمادى الاولى ودفن بباب حرب.
عبد الملك بن محمد ابن عبد الله بن محمد بن بشر بن مهران، أبو القاسم الواعظ، سمع النجاد ودعلج بن أحمد والآجري وغيرهم، وكان ثقة صدوقا، وكان يشهد عند الحكام فترك ذلك رغبة عنه ورهبة من الله، ومات في ربيع الآخر منها، وقد جاوز التسعين، وصلي عليه في جامع الرصافة، وكان الجمع كثيرا
حافلا، ودفن إلى جانب أبي طالب المكي، وكان قد أوصى بذلك.
محمد بن الحسين (3) بن خلف ابن الفراء، أبو حازم (4) القاضي أبو يعلى الحنبلي، سمع الدارقطني وابن شاهين، قال
__________
(1) في وفيات الاعيان 1 / 92: سباهان.
وسبا: العسكر، وهان: الجمع.
وفي معجم البلدان 1 / 207: أصبهان: اسم مركب لان الاصب: البلد بلسان الفرس.
وهان: اسم الفارس، فكأنه يقال: بلاد الفرسان.
(2) في الكامل 9 / 466 ومختصر أخبار البشر 2 / 162: الحسن بن جعفر.
(3) في الوافي 3 / 7: الحسين بن محمد بن خلف.
(4) في الوافي: أبو خازم وهو أخو القاضي أبي يعلى.
قال: والقاضي أبي يعلى توفي في رمضان سنة 458 ه.

الخطيب: كان لا بأس به، ورأيت له أصولا سماعه فيها، ثم إنه بلغنا أنه خلط في الحديث بمصر واشترى من الوراقين صحفا فروى منها، وكان يذهب إلى الاعتزال.
توفي بتنيس (1) من بلاد مصر.
محمد بن عبد الله أبو بكر الدينوري الزاهد، كان حسن العيش، وكان ابن القزويني يثني عليه، وكان جلال الدولة صاحب بغداد يزوره، وقد سأله مرة أن يطلق للناس مكث الملح، وكان مبلغه ألفي دينار فتركه من أجله، ولما توفي اجتمع أهل بغداد لجنازته وصلي عليه مرات، ودفن بباب حرب رحمه الله تعالى.
الفضل بن منصور أبو الرضى، ويعرف بابن الظريف، وكان شاعرا ظريفا ومن شعره قوله: يا قالة الشعر قد نصحت لكم * ولست أدهى إلا من النصح قد ذهب الدهر بالكرام * وفي ذاك أمور طويلة الشرح أتطلبون النوال من رجل * قد طبعت نفسه على الشح وأنتم تمدحون بالحسن والظرف * وجوها في غاية القبح
من أجل ذا تحرمون رزقكم * لانكم تكذبون في المدح صونوا القوافي فما أرى * أحدا يغتر فيه بالنجح فإن شككتم فيما أقول لكم * فكذبوني بواحد سمح هبة الله بن علي بن جعفر أبو القاسم بن ماكولا، وزر لجلال الدولة مرارا، وكان حافظا للقرآن، عارفا بالشعر والاخبار، خنق بهيت في جمادى الآخرة منها.
أبو زيد الدبوسي عبد الله بن عمر بن عيسى الفقيه الحنفي، أول من وضع علم الخلاف وأبرزه إلى الوجود.
__________
(1) توفي في سابع عشر المحرم وحمل إلى دمياط فدفن (الوافي).

قاله ابن خلكان، وكان يضرب به المثل، والدبوس نسبة إلى قرية (1) من أعمال بخارى، قال: وله كتاب الاسرار والتقويم للادلة، وغير ذلك من التصانيف والتعاليق، قال وروي أنه ناظر فقيها فبقي كلما ألزمه أبو زيد إلزاما تبسم أو ضحك، فأنشد أبو زيد في ذلك: ما لي إذا ألزمته حجة * قابلني بالضحك والقهقهة إن ضحك المرء من فقهه * فالدب بالصحراء ما أفقهه الحوفي صاحب إعراب القرآن أبو الحسن علي بن إبراهيم بن سعيد بن يوسف الحوفي النحوي، له كتاب في النحو كبير، وإعراب القرآن في عشر مجلدات، وله تفسير القرآن أيضا، وكان إماما في العربية والنحو والادب وله تصانيف كثيرة، انتفع بها الناس.
قال ابن خلكان: والحوفي نسبة لناحية بمصر يقال لها الشرقية، وقصبتها مدينة بلبيس، فجميع ريفها يسمون حوف، واحدهم حوفي وهو من قرية يقال لها شبرا النخلة من أعمال الشرقية المذكورة رحمه الله.
ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة
فيها زادت دجلة زيادة عظيمة بحيث حملت الجسر ومن عليه فألقتهم بأسفل البلد وسلموا، وفيها وقع بين الجند وبين جلال الدولة شغب، وقتل من الفريقين خلق، وجرت شرور يطول ذكرها.
ووقع فساد عريض واتسع الخرق على الراقع، ونهبت دور كثيرة جدا، ولم يبق للملك عندهم حرمة، وغلت الاسعار.
وفيها زار الملك أبو طاهر مشهد الحسين، ومشى حافيا في بعض تلك الازوار.
ولم يحج أحد من أهل العراق.
وفيها بعث الملك أبو كاليجار وزيره العادل إلى البصرة فملكها له.
وممن توفي فيها من الاعيان...إسماعيل بن أحمد ابن عبد الله أبو عبد الرحمن الضرير الخيري (2)، من أهل نيسابور، كان من أعيان الفضلاء
__________
(1) وهي دبوسية: بلد بين بخارى وسمرقند.
وفي معجم البلدان: بليد من أعمال الصفد من ما وراء النهر، منها أبو زيد الدبوسي وهو عبيد الله بن عمر بن عيسى صاحب كتاب الاسرار وتقويم الادلة.
مات ببخارى سنة 403 ه.
(2) في تذكرة الحفاظ / 1097 والوافي 9 / 84: الحيري.
قال في الوافي: والحيرة محلة بنيسابور وقال ياقوت هي اليوم خراب.

الاذكياء، والثقات الامناء، قدم بغداد حاجا في سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة، فقرأ عليه الخطيب جميع صحيح البخاري في ثلاث مجالس بروايته له عن أبي الهيثم الكشميهني، عن الفربري عن البخاري، توفي فيها وقد جاوز التسعين (1).
بشرى الفاتني وهو بشرى بن مسيس من سبي الروم، أهداه أمراء بني حمدان الفاتن غلام المطيع، فأدبه وسمع الحديث عن جماعة من المشايخ، وروى عنه الخطيب.
وقال: كان صدوقا صالحا دينا، توفي يوم عيد الفطر منها رحمه الله.
محمد بن علي
ابن أحمد بن يعقوب بن مروان أبو العلاء الواسطي، وأصله من فم الصلح، سمع الحديث وقرأ القراءات ورواها، وقد تكلموا في روايته في القراءات والحديث فالله أعلم.
توفي في جمادى الآخرة منها وقد جاوز الثمانين.
ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة فيها عظم شأن السلجوقية، وارتفع شأن ملكهم طغرلبك، وأخيه داود، وهما ابنا ميكائيل بن سلجوق بن بغاق (2)، وقد كان جدهم بغاق هذا من مشايخ الترك القدماء، الذين لهم رأي ومكيدة ومكانة عند ملكهم الاعظم، ونشأ ولده سلجوق نجيبا شهما، فقدمه الملك ولقبه شباسي (3)، فأطاعته الجيوش وانقاد له الناس بحيث تخوف منه الملك وأراد قتله، فهرب منه إلى بلاد المسلمين، فأسلم فازداد عزا وعلوا، ثم توفي عن مائة وسبع سنين (4)، وخلف أرسلان وميكائيل وموسى، فأما ميكائيل فإنه اعتنى بقتال الكفار من الاتراك، حتى قتل شهيدا، وخلف ولديه طغرلبك محمد، وجعفر بك داود، فعظم شأنهما في بني عمهما، واجتمع عليهما الترك من المؤمنين، وهم ترك الايمان الذين يقول لهم الناس تركمان، وهم السلاجقة بنو سلجوق جدهم هذا، فأخذوا بلاد خراسان بكمالها بعد موت محمود بن سبكتكين، وقد كان يتخوف منهم محمود بعض التخوف،
__________
(1) في الوافي: مولده سنة إحدى وستين وثلاثمائة ومات بعد الثلاثين والاربعمائة.
(2) في الكامل 9 / 473: تقاق، وفي مختصر أخبار البشر 2 / 163: دقاق.
(3) في الكامل: سباشي، ومعناه قائد الجيش: وفي الفخري ص 292: شباشي.
(4) في الفخري ص 293: مائة سنة.

فلما مات وقام ولده مسعود بعده قاتلهم وقاتلوه مرارا، فكانوا يهزمونه في أكثر المواقف، واستكمل لهم ملك خراسان بأسرها، ثم قصدهم مسعود في جنود يضيق بهم الفضاء فكسروه، وكبسه مرة داود فانهزم مسعود فاستحوذ على حواصله وخيامه، وجلس على سريره، وفرق الغنائم على جيشه، ومكث جيشه على خيولهم لا ينزلون عنها ثلاثة أيام، خوفا من دهمة العدو، وبمثل هذا تم لهم ما
راموه، وكمل لهم جميع ما أملوه، ثم كان من سعادتهم أن الملك مسعود توجه نحو بلاد الهند لسبي بها وترك مع ولده مودود جيشا كثيفا بسبب قتال السلاجقة، فلما عبر الجسر الذي على سيحون نهبت جنوده حواصله، واجتمعوا على أخيه محمد بن محمود، وخلعوا مسعودا فرجع إليهم مسعود فقاتلهم فهزموه وأسروه، فقال له أخوه: والله لست بقاتلك على شر صنيعك إلي، ولكن اختر لنفسك أي بلد تكون فيه أنت وعيالك، فاختار قلعة كبرى، وكان بها، ثم إن الملك محمدا أخا مسعود جعل لولده الامر من بعده، وبايع الجيش له، وكان ولده اسمه أحمد، وكان فيه هرج، فاتفق هو ويوسف بن سبكتكين على قتل مسعود ليصفو لهم الامر، ويتم لهم الملك، فسار إليه أحمد من غير علم أبيه فقتله، فلما علم أبوه بذلك غاظه وعتب على ابنه عتبا شديدا، وبعث إلى ابن أخيه يعتذر إليه ويقسم له أنه لم يعلم بذلك، حتى كان ما كان.
فكتب إليه مودود بن مسعود: رزق الله ولدك المعتوه عقلا يعيش به، فقد ارتكب أمرا عظيما، وقدم على إراقة دم مثل والدي الذي لقبه أمير المؤمنين بسيد الملوك والسلاطين، وستعلمون أي حيف تورطتم، وأي شر تأبطتم (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) [ الشعراء: 227 ] ثم سار إليهم في جنود فقاتلهم فقهرهم وأسرهم، فقتل عمه محمدا وابنه أحمد وبني عمه كلهم، إلا عبد الرحمن وخلقا من رؤس أمرائهم، وابتنى قرية هنالك وسماها فتحا أباذا، ثم سار إلى غزنة فدخلها في شعبان، فأظهر العدل وسلك سيرة جده محمود، فأطاعه الناس، وكتب إليه أصحاب الاطراف بالانقياد والاتباع والطاعة، غير أنه أهلك قومه بيده، وهذا من جملة سعادة السلاجقة.
وفيها اختلف أولاد حماد على العزيز (1) باديس صاحب إفريقية، فسار إليهم فحاصرهم قريب من سنتين، ووقع بإفريقية في هذه السنة غلاء شديد بسبب تأخر المطر، ووقع ببغداد فتنة عظيمة بين الروافض والسنة من أهل الكرخ، وأهل باب البصرة، فقتل بينهم خلق كثير من الفريقين.
ولم يحج أحد من أهل العراق وخراسان.
وممن توفي فيها من الاعيان...محمد بن الحسين ابن الفضل بن العباس، أبو يعلى البصري الصوفي، أذهب عمره في الاسفار والتغريب
__________
(1) في الكامل 9 / 492: المعزبن باديس.

وقدم بغداد في سنة ثنتين وثلاثين، فحدث بها عن أبي بكر بن أبي الحديد الدمشقي، وأبي الحسين بن جميع الغساني، وكان ثقة صدوقا دينا حسن الشعر.
ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة فيها ملك طغرلبك جرجان وطبرستان، ثم عاد إلى نيسابور مؤيدا منصورا.
وفيها ولي ظهير الدولة بن جلال الدولة أبي جعفر بن كالويه (1) بعد وفاة أبيه، فوقع الخلف بينه وبين أخويه أبي كاليجار وكرسانيف (2).
وفيها دخل أبو كاليجار همذان ودفع الغز عنها.
وفيها شعثت الاكراد ببغداد لسبب تأخر العطاء عنهم.
وفيها سقطت قنطرة بني زريق على نهر عيسى، وكذا القنطرة الكثيفة التي تقابلها.
وفيها دخل بغداد رجل من البلغار يريد الحج، وذكر أنه من كبارهم، فأنزل بدار الخلافة وأجرى عليه الارزاق، وذكر أنهم مولدون من الترك والصقالبة، وأنهم في أقصى بلاد الترك، وأن النهار يقصر عندهم حتى يكون ست ساعات، وكذلك الليل، وعندهم عيون وزروع وثمار، على غير مطر ولا سقي.
وفيها قرئ الاعتقاد القادري الذي جمعه الخليفة القادر، وأخذت خطوط العلماء والزهاد عليه بأنه اعتقاد المسلمين، ومن خالفه فسق وكفر، وكان أول من كتب عليه الشيخ أبو الحسن علي بن عمر القزويني، ثم كتب بعده العلماء، وقد سرده الشيخ أبو الفرج بن الجوزي بتمامه في منتظمه، وفيه جملة جيدة من اعتقاد السلف.
وممن توفي فيها من الاعيان...بهرام بن منافيه (3) أبو منصور الوزير لابي كاليجار، كان عفيفا نزها صينا، عادلا في سيرته، وقد وقف خزانة كتب في مدينة فيروزباذ، تشتمل على سبعة آلاف مجلد، من ذلك أربعة آلاف ورقة بخط أبي علي وأبي
عبد الله بن مقلة (4).
__________
(1) في الكامل 9 / 495 ومختصر أخبار البشر 2 / 195: كاكويه، وإنما قيل له كاكويه لانه ابن خال مجد الدولة بن بويه، والخال بلغتهم كاكويه.
(2) في الكامل وتاريخ أبي الفداء: كرشاسف.
(3) في الكامل 9 / 502: ما فنة.
(4) في هامش المطبوعة: كذا بالاصل، وابن مقلة هو أبو علي محمد بن علي.

محمد بن جعفر بن الحسين المعروف بالجهرمي (1)، قال الخطيب: هو أحد الشعراء الذين لقيناهم وسمعنا منهم، وكان يجيد القول، ومن شعره: يا ويح قلبي من تقلبه * أبدا نحن إلى معذبه قالوا: كتمت هواه عن جلد * لو أن لي جلد (2) لبحت به ما بي جننت غير مكترث * عني ولكن من تغيبه (3) حسبي رضاه من الحياة وما * يلقى (4) وموتي من تغضبه مسعود الملك بن الملك محمود ابن الملك سبكتيكن، صاحب غزنة وابن صاحبها، قتله ابن عمه أحمد بن محمد بن محمود، فانتقم له ابنه مودود بن مسعود، فقتل قاتل أبيه وعمه وابن عمه وأهل بيته، من أجل أبيه، واستتب له الامر وحده من غير منازع من قومه كما تقدم.
بنت أمير المؤمنين المتقي بالله تأخرت مدتها حتى توفيت في هذه السنة في رجب منها عن إحدى وتسعين سنة، بالحريم الظاهر، ودفنت بالرصافة.
ثم دخلت سنة أربع وثلاثين وأربعمائة فيها أمر الملك جلال الدولة أبا طاهر بجباية أموال الجوالي، ومنع أصحاب الخليفة من قبضها فانزعج لذلك الخليفة القائم بالله، وعزم على الخروج من بغداد.
وفيها كانت زلزلة عظيمة
بمدينة تبريز، فهدمت قلعتها وسورها ودورها، ومن دار الامارة عامة قصورها، ومات تحت الهدم خمسون ألفا، ولبس أهلها المسوح لشدة مصابهم.
وفيها استولى السلطان طغرلبك على أكثر البلاد الشرقية من ذلك مدينة خوارزم ودهستان وطيس والري وبلاد الجبل وكرمان وأعمالها، وقزوين.
وخطب له في تلك النواحي كلها، وعظم شأنه جدا، واتسع صيته.
وفيها ملك سماك بن صالح بن مرداس حلب، أخذها من الفاطميين، فبعث إليه المصريون من حاربه.
ولم يحج أحد من هل العراق وغيرها، ولا في اللواتي قبلها.
__________
(1) الجهرمي نسبة إلى جهرم مدينة بفارس يعمل فيها بسط فاخرة.
(معجم البلدان).
(2) في الكامل 9 / 503: رمقا.
(3) في الكامل: بأبي حبيبا...ويكثر من تعتبه.
(4) في الكامل: قلقي.

وممن توفي فيها من الاعيان...أبو ذر الهروي عبد الله بن أحمد بن محمد الحافظ المالكي، سمع الكثير ورحل إلى الاقاليم، وسكن مكة، ثم تزوج في العرب، وكان يحج كل سنة ويقيم بمكة أيام الموسم ويسمع الناس، ومنه أخذ المغاربة مذهب الاشعري عنه، وكان يقول إنه أخذ مذهب مالك عن الباقلاني، كان حافظا، توفي في ذي القعدة.
محمد بن الحسين ابن محمد بن جعفر، أبو الفتح الشيباني العطار، ويعرف بقطيط، سافر الكثير إلى البلاد، وسمع الكثير، وكان شيخا ظريفا، سلك طريق التصوف، وكان يقول: لما ولدت سميت قطيطا على أسماء البادية، ثم سماني بعض أهلي محمدا.
ثم دخلت سنة خمس وثلاثين وأربعمائة
فيها ردت الجوالي إلى نواب الخليفة.
وفيها ورد كتاب من الملك طغرلبك إلى جلال الدولة يأمره بالاحسان إلى الرعايا والوصاة بهم، قبل أن يحل به ما يسوءه.
أبو كاليجار يملك بغداد بعد أخيه جلال الدولة وفيها توفي جلال الدولة أبو طاهر بن بهاء الدولة، فملك بغداد بعده أخوه سلطان الدولة أبو كاليجار بن بهاء الدولة، وخطب له بها عن ممالاة أمرائها، وأخرجوا منها الملك العزيز أبا منصور بن جلال الدولة، فتنقل في البلاد وتسرب من مملكته إلى غيرها حتى توفي سنة إحدى وأربعين، وحمل فدفن عند أبيه بمقابر قريش.
وفيها أرسل الملك مودود بن مسعود عسكرا كثيفا إلى خراسان فبرز إليهم ألب أرسلان بن داود السلجوقي فاقتتلا قتالا عظيما، وفي صفر منها أسلم من الترك الذين كانوا يطرقون بلاد المسلمين نحو من عشرة آلاف خركاة، وضحوا في يوم عيد الاضحى بعشرين ألف رأس من الغنم، وتفرقوا في البلاد، ولم يسلم من خطا والتتر أحد وهم بنواحي الصين.
وفيها نفى ملك الروم من القسطنطينية كل غريب له فيها دون العشرين سنة.
وفيها خطب المعز أبو تميم صاحب إفريقية ببلاده للخليفة العباسي، وقطع خطبة الفاطميين وأحرق أعلامهم، وأرسل إليه الخليفة الخلع واللواء المنشور، وفيه تعظيم له وثناء عليه.
وفيها أرسل القائم بأمر الله أبا الحسن علي بن

محمد بن حبيب الماوردي قبل موت جلال الدولة إلى الملك طغرلبك ليصلح بينه وبين جلال الدولة وأبي كاليجار، فسار إليه فالتقاه بجرجان فتلقاه الملك على أربعة فراسخ إكراما للخليفة، وأقام عنده إلى السنة الآتية.
فلما قدم على الخليفة أخبره بطاعته وإكرامه لاجل الخليفة.
وفيها توفي من الاعيان...الحسين بن عثمان ابن سهل بن أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف العجلي، أبو سعد أحد الرحالين في طلب الحديث إلى البلاد المتباعدة، ثم أقام ببغداد مدة وحدث بها، وروى عنه الخطيب، وقال: كان صدوقا، ثم انتقل في آخر عمره إلى مكة فأقام بها حتى مات في شوال منها.
عبد الله بن أبي الفتح أحمد بن عثمان بن الفرج بن الازهر، أبو القاسم الازهري، الحافظ المحدث المشهور، ويعرف بابن السواري، سمع من أبي بكر بن مالك وخلق يطول ذكرهم، وكان ثقة صدوقا، دينا، حسن الاعتقاد والسيرة، توفي ليلة الثلاثاء تاسع عشر صفر منها عن ثمانين سنة وعشرة أيام.
الملك جلال الدولة أبو طاهر بن بهاء الدولة بن بويه الديلمي، صاحب العراق، كان يحب العباد ويزورهم، ويلتمس الدعاء منهم، وقد نكب مرات عديدة، وأخرج من داره، وتارة أخرج من بغداد بالكلية، ثم يعود إليها حتى اعتراه وجع كبده فمات من ذلك في ليلة الجمعة خامس شعبان منها، وله من العمر إحدى وخمسين سنة وأشهر، تولى العراق من ذلك ست (1) عشرة سنة وإحدى عشر شهرا والله أعلم.
ثم دخلت سنة ست وثلاثين وأربعمائة فيها دخل الملك أبو كاليجار بغداد وأمر بضرب الطبل في أوقات الصلوات الخمس، ولم تكن الملوك تفعل ذلك، إنما كان يضرب لعضد الدولة ثلاث أوقات، وما كان يضرب في الاوقات الخمس إلا للخليفة، وكان دخوله إليها في رمضان، وقد فرق على الجند أموالا جزيلة، وبعث إلى الخليفة بعشرة آلاف دينار، وخلع على مقدمي الجيوش وهم البساسيري، والنشاوري، والهمام أبو اللقاء، ولقبه الخليفة محيي الدولة، وخطب له في بلاد كثيرة بأمر ملوكها، وخطب له بهمذان، ولم
__________
(1) في الاصل ستة وهو خطأ.

يبق لنواب طغرلبك فيها أمر.
وفيها استوزر طغرلبك أبا القاسم (1) عبد الله الجويني، وهو أول وزير وزر له.
وفيها ورد أبو نصر أحمد بن يوسف الصاحب مصر، وكان يهوديا فأسلم بعد موت الجرجراي.
وفيها تولى نقابة الطالبيين أبو أحمد عدنان بن الرضي، وذلك بعد وفاة عمه المرتضى.
وفيها ولي القضاء أبو الطيب الطبري، قضاء الكرخ، مضافا إلى ما كان يتولاه من القضاء بباب الطاق، وذلك بعد موت القاضي الصيمري.
وفيها نظر رئيس الرؤساء أبو القاسم بن المسلم في
كتاب ديوان الخليفة، وكان عنده بمنزلة عالية.
ولم يحج فيها أحد من أهل العراق.
وممن توفي فيها من الاعيان...الحسين بن علي ابن محمد بن جعفر، أبو عبد الله الصيمري نسبة إلى نهر البصرة يقال له صيمر، عليه عدة قرى، أحد أئمة الحنفية، ولي قضاء المدائن ثم قضاء ربع الكرخ، وحدث عن أبي بكر المفيد، وابن شاهين وغيرهما، وكان صدوقا وافر العقل، جميل المعاشرة، حسن العبادة، عارفا بحقوق العلماء.
توفي في شوال عن خمس وثمانين سنة.
عبد الوهاب بن منصور ابن أحمد، أبو الحسن المعروف بابن المشتري الاهوازي، كان قاضيا بالاهواز (2) ونواحيها، شافعي المذهب، كان له منزلة كبيرة عند السلطان، وكان صدوقا كثير المال، حسن السيرة.
الشريف المرتضى علي بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، الشريف الموسوي، الملقب بالمرتضى، ذي المجدين، كان أكبر من أخيه ذي الحسبين وكان جيد الشعر على مذهب الامامية والاعتزال، يناظر على ذلك، وكان يناظر عنده في كل المذاهب، وله تصانيف في التشيع، أصولا وفروعا، وقد نقل ابن الجوزي أشياء من تفرداته في التشيع، فمن ذلك أنه لا يصح السجود إلا على الارض أو ما كان من جنسها، وأن الاستجمار إنما يجزئ في الغائط لا في البول، وأن الكتابيات حرام، وكذا ذبائح أهل الكتاب، وما ولدوه هم وسائر الكفار من الاطعمة
__________
(1) في الكامل 9 / 526: أبا القاسم علي بن عبد الله الجويني.
(2) في الكامل 9 / 527: قاضي خوزستان وفارس.

حرام، وأن الطلاق لا يقع إلا بحضرة شاهدين، والمعلق منه لا يقع وإن وجد شرطه، ومن نام عن صلاة العشاء حتى انتصف الليل وجب قضاؤها، ويجب عليه أن يصبح صائما كفارة لما وقع منه.
ومن
ذلك أن المرأة إذا جزت شعرها يجب عليها كفارة قتل الخطأ، ومن شق ثوبه في مصيبة وجب عليه كفارة اليمين، ومن تزوج امرأة لها زوج لا يعلمه وجب عليه أن يتصدق بخمسة دراهم، وأن قطع السارق من رؤوس الاصابع.
قال ابن الجوزي: نقلته من خط أبي الوفاء بن عقيل.
قال: وهذه مذاهب عجيبة، تخرق الاجماع، وأعجب منها ذم الصحابة رضي الله عنهم.
ثم سرد من كلامه شيئا قبيحا في تكفير عمر بن الخطاب وعثمان وعائشة وحفصة رضي الله عنهم وأخزاه الله وأمثاله من الارجالس الانجاس، أهل الرفض والارتكاس، إن لم يكن تاب، فقد روى ابن الجوزي قال: أنبأنا ابن ناصر، عن أبي الحسن بن الطيوري قال: سمعت أبا القاسم بن برهان يقول: دخلت على الشريف المرتضى وإذا هو قد حول وجهه إلى الجدار وهو يقول: أبو بكر وعمر وليا فعدلا واسترحما فرحما، فأنا أقول ارتدا بعدما أسلما ؟ قال: فقمت عنه فما بلغت عتبة داره حتى سمعت الزعقة عليه.
توفي في هذه السنة عن إحدى وثمانين سنة.
وقد ذكره ابن خلكان فملس عليه على عادته مع الشعراء في الثناء عليهم، وأورد له أشعارا رائقة.
قال ويقال: إنه هو الذي وضع كتاب نهج البلاغة.
محمد بن أحمد ابن شعيب بن عبد الله بن الفضل، أبو منصور الروياني، صاحب الشيخ أبي حامد الاسفراييني قال الخطيب: سكن بغداد وحدث بها، وكتبنا عنه، وكان صدوقا يسكن قطيعة الربيع.
توفي في ربيع الاول منها، ودفن بباب حرب.
أبو الحسين البصري المعتزلي محمد بن علي بن الخطيب (1)، أبو الحسين البصري المتكلم، شيخ المعتزلة والمنتصر لهم، والمحامي عن ذمهم بالتصانيف الكثيرة، توفي في ربيع الآخر منها، وصلى عليه القاضي أبو عبد الله الصيمري، ودفن في الشونيزي، ولم يرو من الحديث سوى حديث واحد، رواه الخطيب البغدادي في تاريخه: حدثنا محمد بن علي بن الطيب قرئ على هلال بن محمد بن أخي هلال الرأي، بالبصرة وأنا أسمع، قيل له حدثكم أبو مسلم الكجى وأبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي والغلابي
والمازني والزريقي قالوا: حدثنا القعنبي، عن شعبة، عن منصور، عن ربعي، عن أبي مسعود
__________
(1) في الوافي 4 / 125 ووفيات الاعيان 4 / 271: الطيب.

البدري.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن مما أدرك الناس من كلام النبوة إذا لم تستح فاصنع ما شئت ".
والغلابي اسمه محمد، والمازني اسمه محمد بن حامد (1)، والزريقي أبو علي محمد بن أحمد بن خالد البصري.
ثم دخلت سنة سبع وثلاثين وأربعمائة فيها بعث السلطان طغرلبك السلجوقي أخاه إبراهيم إلى بلاد الجبل فملكها، وأخرج عنها صاحبها كرشاسف بن علاء الدولة، فالتحق بالاكراد، ثم سار إبراهيم إلى الدينور فملكها أيضا، وأخرج صاحبها وهو أبو الشوك، فسار إلى حلوان فتبعه إبراهيم فملك حلوان قهرا، وأحرق داره وغنم أمواله، فعند ذلك تجهز الملك أبو كاليجار لقتال السلاجقة الذين تعدوا على أتباعه، فلم يمكنه ذلك لقلة الظهر، وذلك أن الآفة اعترت في هذه السنة الخيل فمات له فيها نحو من اثني عشر ألف فرس، بحيث جافت بغداد من جيف الخيل.
وفيها وقع بين الروافض والسنة ثم اتفق الفريقان على نهب دور اليهود، وإحراق الكنيسة العتيقة، التي لهم، واتفق موت رجل من أكابر النصارى بواسط فجلس أهله لعزائه على باب مسجد هناك وأخرجوا جنازته جهرا، ومعها طائفة من الاتراك يحرسونها، فحملت عليهم العامة فهزموهم وأخذوا الميت منهم وأستخرجوه من أكفانه فأحرقوه، ورموا رماده في دجلة، ومضوا إلى الدير فنهبوه، وعجز الاتراك عن دفعهم.
ولم يحج فيها أحد من أهل العراق.
وممن توفي فيها من الاعيان...فارس بن محمد بن عتاز (2) صاحب الدينور وغيرهم، توفي في هذا الاوان.
خديجة بنت موسى ابن عبد الله الواعظة، وتعرف ببنت البقال، وتكنى أم سلمة، قال الخطيب: كتبت عنها
وكانت فقيرة صالحة فاضلة.
أحمد بن يوسف السليكي المنازي (3) الشاعر الكاتب، وزير أحمد بن مروان الكردي، صاحب ميافارقين وديار بكر، كان فاضلا
__________
(1) في الوافي 4 / 125: حيان (2) في الكامل 9 / 531 وابن الوردي 1 / 527: عناز، وفي مختصر أخبار البشر 2 / 168: عنان.
(3) المنازي: نسبة إلى مناز جرد وهي خرت برت، وهي غير مناز كرد من عمل خلاط.

بارعا لطيفا، تردد في الترسل إلى القسطنطينية غير مرة، وحصل كتبا عزيزة أوقفها على جامعي آمد وميا فارقين، ودخل يوما على أبي العلاء المعري فقال له: إني معتزل الناس وهم يؤذونني، وتركت لهم الدنيا، فقال له الوزير: والآخرة أيضا.
فقال والآخرة يا قاضي ؟ قال نعم:.
وله ديوان قليل النظير عزيز الوجود، حرص عليه القاضي الفاضل فلم يقدر عليه، توفي فيها.
ومن شعره في وادي نزاعة (1): وقانا لفحة الرمضاء واد * وقاه مضاعف النبت العميم نزلنا دوحه فحنا علينا * حنو المرضعات على الفطيم وأرشفنا على ظمأ زلالا * ألذ من المدامة للنديم يراعي الشمس أنى قابلته * فيحجبها ليأذن للنسيم تروع حصاه حالية العذارى * فتلمس جانب العقد النظيم (2) قال ابن خلكان: وهذه الابيات بديعة في بابها.
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة استهلت هذه السنة والموتان كثير في الدواب جدا، حتى جافت بغداد قال ابن الجوزي: وربما أحضر بعض الناس الاطباء لاجل دوابهم فيسقونها ماء الشعير ويطببونها، وفيها حاصر السلطان بن طغرلبك أصبهان فصالحه أهلها على مال يحملونه إليه، وأن يخطب له بها، فأجابوه إلى ذلك.
وفيها ملك مهلهل (3) قرميسين والدينور.
وفيها تأمر على بني خفاجة رجل يقال له رجب بن أبي منيع بن
ثمال، بعد وفاة بدران بن سلطان بن ثمال، وهؤلاء الاعراب أكثر من يصد الناس عن بيت الله الحرام، فلا جزاهم الله خيرا.
وممن توفي فيها من الاعيان...الشيخ أبو محمد الجويني إمام الشافعية: عبد الله بن يوسف بن محمد بن حيويه (4) الشيخ أبو محمد الجويني، وهو والد
__________
(1) في تاريخ أبي الفداء 2 / 168 وابن الوردي 1 / 528: بزاعا: بضم الباء وهي قرية كبيرة ما بين حلب ومنبج في نصف الطريق.
(2) ينسب الاندلسيون هذه الابيات إلى الشاعرة حمدونة بنت زياد (انظر نفح الطيب 4 / 289).
(3) وهو مهلهل بن محمد بن عناز، بعد موت أخيه فارس أبي الشوك.
(4) من وفيات الاعيان 3 / 47 والانساب 3 / 29 طبقات المفسرين للسيوطي (15) طبقات المفسرين للداودي 1 / 258، وفي الاصل: حيسويه.

إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك بن أبي محمد، وأصله من قبيلة يقال لها سنبس، وجوين من نواحي نيسابور، سمع الحديث من بلاد شتى على جماعة، وقرأ الادب على أبيه، وتفقه بأبي الطيب سهل بن محمد الصعلوكي، ثم خرج إلى مرو إلى أبي بكر عبد الله بن أحمد القفال، ثم عاد إلى نيسابور وعقد مجلس المناظرة، وكان مهيبا لا يجري بين يديه إلا الجد، وصنف التصانيف الكثيرة في أنواع من العلوم وكان زاهدا شديد الاحتياط لدينه حتى ربما أخرج الزكاة مرتين.
وقد ذكرته في طبقات الشافعية وذكرت ما قاله الائمة في مدحه، توفي في ذي القعدة منها.
قال ابن خلكان: صنف التفسير الكبير المشتمل على أنواع العلوم، وله في الفقه التبصرة والتذكرة، وصنف مختصر المختصر والفرق والجمع، والسلسلة وغير ذلك، وكان أماما في الفقه والاصول والادب والعربية.
توفي في هذه السنة، وقيل سنة أربع وثلاثين.
قاله السمعاني في الانساب، وهو في سن الكهولة.
ثم دخلت سنة تسع وثلاثين وأربعمائة
فيها اصطلح الملك طغرلبك وأبو كاليجار، وتزوج طغرلبك بابنته، وتزوج أبو منصور بن كاليجار بابنة الملك داود أخي طغرلبك.
وفيها أسرت الاكراد سرخاب أخا أبي الشوك وأحضروه بين يدي أميرهم ينال، فأمر بقلع إحدى عينيه، وفيها استولى أبو كاليجار على بلاد البطيحة ونجا صاحبها أبو نصر بنفسه.
وفيها ظهر رجل يقال له الاصفر التغلبي، وادعى أنه من المذكورين في الكتب، فاستغوى خلقا، وقصد بلادا فغنم منها أموالا تقوى بها، وعظم أمره.
ثم اتفق له أسر وحمل إلى نصر الدولة بن مروان صاحب ديار بكر، فاعتقله وسد عليه باب السجن.
وفيها كان وباء شديد بالعراق والجزيرة، بسبب جيف الدواب التي ماتت، فمات فيها خلق كثير، حتى خلت الاسواق وقلت الاشياء التي يحتاج إليها المرضى، وورد كتاب من الموصل بأنه لا يصلي الجمعة من أهلها إلا نحو أربعمائة، وأن أهل الذمة لم يبق منهم إلا نحو مائة وعشرين نفسا.
وفيها وقع غلاء شديد أيضا ووقعت فتنة بين الروافض والسنة ببغداد، قتل فيها خلق كثير.
ولم يحج فيها أحد من ركب العراق.
وممن توفي فيها من الاعيان...أحمد بن محمد بن عبد الله بن أحمد أبو الفضل القاضي الهاشمي، الرشيدي، من ولد الرشيد، ولي القضاء بسجستان، وسمع الحديث من الغطريفي.
قال الخطيب، أنشدني لنفسه قوله: قالوا اقتصد في الجود إنك منصف * عدل وذو الانصاف ليس يجور

فأجبتهم إني سلالة معشر * لهم لواء في الندى منشور تالله إني شائد ما قدموا * جدي الرشيد وقبله المنصور عبد الواحد بن محمد ابن يحيى بن أيوب أبو القاسم الشاعر المعروف بالمطرز، ومن شعره قوله: يا عبد كم لك من ذنب ومعصية * إن كنت ناسيها فالله أحصاها
لا بد يا عبد من يوم تقوم به * ووقفة لك يدمي القلب ذكراها إذا عرضت على قلبي تذكرها * وساء ظني فقلت أستغفر الله محمد بن الحسن بن علي ابن عبد الرحيم أبو سعد الوزير، وزر للملك جلال الدولة ست مرات، ثم كان موته بجزيرة ابن عمر فيها عن ست وخمسين سنة.
محمد بن أحمد بن موسى أبو عبد الله الواعظ الشيرازي، قال الخطيب: قدم بغداد وأظهر الزهد والتقشف والورع، وعزوف النفس عن الدنيا، فافتتن الناس به، وكان يحضر مجلسه خلق كثير، ثم إنه بعد حين كان يعرض عليه الشئ فيقبله، فكثرت أمواله ولبس الثياب الناعمة وجرت له أمور، وكثرت أتباعه وأظهر أنه يريد الغزو فاتبعه نفر كثير، فعسكر بظاهر البلد، وكان يضرب له الطبل في أوقات الصلوات وسار إلى ناحية أذربيجان، فالتف عليه خلق كثير، وضاها أمير تلك الناحية، وكانت وفاته هنالك في هذه السنة.
قال الخطيب: وقد حدث ببغداد وكتبت عنه أحاديث يسيرة، وحدثني بعض أصحابنا عنه بشئ يدل على ضعفه، وأنشد هو لبعضهم: إذا ما أطعت النفس في كل لذة * نسبت إلى غير الحجى والتكرم إذا ما أجبت الناس في كل دعوة * دعتك إلى الامر القبيح المحرم المظفر بن الحسين ابن عمر بن برهان، أبو الحسن الغزال، سمع محمد بن المظفر وغيره، وكان صدوقا.

محمد بن علي بن إبراهيم أبو الخطاب الحنبلي (1) الشاعر، من شعره قوله: ما حكم الحب فهو ممتثل * وما جناه الحبيب محتمل يهوى ويشكو الضنى وكل هوى * لا ينحل الجسم فهو منتحل
وقد سافر إلى الشام فاجتاز بمعرة النعمان فامتدحه أبو العلاء المعري بأبيات، فأجابه مرتجلا عنها.
وقد كان حسن العينين حين سافر، فما رجع إلى بغداد إلا وهو أعمى.
توفي في ذي القعدة منها ويقال إنه كان شديد الرفض فالله أعلم.
الشيخ أبو علي السنجي الحسين بن شعيب بن محمد شيخ الشافعية في زمانه، أخذ عن أبي بكر القفال، وشرح الفروع لابن الحداد، وقد شرحها قبله شيخه، وقبله القاضي أبو الطيب الطبري، وشرح أبو علي السنجي كتاب التلخيص لابن القاص، شرحا كبيرا، وله كتاب المجموع، ومنه أخذ الغزالي في الوسيط.
قال ابن خلكان، وهو أول من جمع بين طريقة العراقيين والخراسانيين.
توفي سنة بضع وثلاثين وأربعمائة ثم دخلت سنة أربعين وأربعمائة في هذه السنة توفي الملك أبو كاليجار في جمادى الاولى منها، صاحب بغداد، مرض وهو في برية، ففصد في يوم ثلاث مرات، وحمل في محفة فمات ليلة الخميس، ونهبت الغلمان الخزائن، وأحرق الجواري الخيام، سوى الخيمة التي هو فيها، وولى بعده ابنه أبو نصر، وسموه الملك الرحيم، ودخل دار الخلافة فخلع عليه الخليفة سبع خلع، وسوره وطوقه وجعل على رأسه التاج والعمامة السوداء، ووصاه الخليفة، ورجع إلى داره وجاء الناس ليهنئوه.
وفيها دار السور على شيراز، وكان دوره اثني عشرة ألف ذراع، وارتفاعه ثمانية أذرع، وعرضه ستة أذرع، وفيه أحد عشر بابا.
وفيها غزا إبراهيم بن ينال بلاد الروم فغنم مائة ألف رأس، وأربعة آلاف درع، وقيل تسع عشرة ألف درع، ولم يبق بينه وبين القسطنطينة إلا خمسة عشر يوما، وحمل ما غنم على عشرة
__________
(1) في الكامل 9 / 543: الجيلي، وفي مختصر أخبار البشر 2 / 168: الشبلي.
وفي وفيات الاعيان 7 / 248: الجبلي نسبة إلى جبل وهي بليدة على دجلة بين بغداد وواسط.
وفي معجم البلدان (جبل) هو محمد بن علي بن محمد بن إبراهيم الجبلي.

آلاف عجلة.
وفيها خطب لذخيرة الدين أبي العباس أحمد بن الخليفة القائم بأمر الله، على المنابر بولاية العهد بعد أبيه، وحيى بذلك.
وفيها اقتتل الروافض والسنة، وجرت ببغداد فتن يطول ذكرها.
ولم يحج أحد من أهل العراق.
وممن توفي فيها من الاعيان...الحسن بن عيسى بن المقتدر أبو محمد العباسي (1)، ولد في المحرم سنة ثلاث وأربعين وثلثمائة، وسمع من مؤدبه أحمد بن منصور السكري، وأبي الازهر عبد الوهاب الكاتب، وكان فاضلا دينا، حافظا لاخبار الخلفاء، عالما بأيام الناس صالحا، أعرض عن الخلافة مع قدرته عليها، وآثر بها القادر.
توفي فيها عن سبع وتسعين (2) سنة.
وأوصى أن يدفن بباب حرب، فدفن قريبا من قبر الامام أحمد بن حنبل.
هبة الله (3) بن عمر بن أحمد بن عثمان أبو القاسم الواعظ المعروف بابن شاهين، سمع من أبي بكر بن ملك، وابن ماسي والبرقاني.
قال الخطيب: كتبت عنه وكان صدوقا، ولد في سنة إحدى وخمسين وثلثمائة، وتوفي في ربيع الآخر منها، ودفن بباب حرب.
علي بن الحسن ابن محمد بن المنتاب أبو محمد القاسم، المعروف بابن أبي عثمان الدقاق.
قال الخطيب: سمع القطيعي وغيره، وكان شيخا صالحا، صدوقا دينا، حسن المذهب.
محمد بن جعفر بن أبي الفرج الوزير الملقب بذي السعادات، وزر لابي كاليجار بفارس وبغداد، وكان ذا مروءة غزيرة، مليح الشعر والترسل، ومن محاسنه أنه كتب إليه في رجل مات عن ولد له ثمانية أشهر وله من المال ما
__________
(1) في الكامل لابن الاثير 9 / 552: أبو الحسن محمد بن الحسن بن عيسى وهو خطأ.
وانظر ترجمته في تاريخ بغداد 7 / 354 المنتظم 8 / 137 والعبر 3 / 192 واللباب 3 / 169.
(2) في اللباب: وفاته سنة 446 ه.
وفي شذرات الذهب والعبر: مات وله نيف وتسعون سنة.
(3) في الكامل 9 / 552: عبيد الله.

يقارب مائة ألف دينار، فكتب إليه الموصي، وقيل غيره، إن فلانا قد مات وخلف ولدا عمره ثمانية أشهر، وله من المال ما يقارب مائة ألف دينار، فإن رأى الوزير أن يقترض هذا المال إلى حين بلوغ الطفل.
فكتب الوزير على ظهر الورقة: المتوفى رحمه الله، واليتيم جبره الله، والمال ثمره الله، والساعي لعنه الله، ولا حاجة بنا إلى مال الايتام.
اعتقل ثم قتل في رمضان منها، عن إحدى وخمسين سنة.
محمد بن أحمد (1) بن إبراهيم ابن غيلان بن عبد الله بن غيلان بن حليم بن غيلان، أخو (2) طالب البزاز، يروي عن جماعة وهو آخر من حدث عن أبي بكر الشافعي، كان صدوقا دينار صالحا، قوي النفس على كبر السن، كان يملك ألف دينار، وكان يصبها كل يوم في حجره فيقبلها ثم يردها إلى موضعها، وقد خرج له الدارقطني الاجزاء الغيلانيات، وهي سماعنا.
توفي يوم الاثنين سادس شوال منها عن أربع وتسعين سنة، ويقال إنه بلغ المائة فالله أعلم.
الملك أبو كاليجار واسمه المرزبان بن سلطان الدولة بن بهاء الدولة، توفي عن أربعين سنة وأشهر، ولي العراق نحو من أربع سنين (3)، ونهبت له قلعة كان له فيها من المال ما يزيد على ألف ألف دينار، وقام بالامر من بعده ابنه الملك الرحيم أبو نصر.
ثم دخلت سنة إحدى وأربعين وأربعمائة في عاشر المحرم تقدم إلى أهل الكرخ أن لا يعملوا بدع النوح، فجرى بينهم وبين أهل باب البصرة ما يزيد على الحد، من الجراح والقتل، وبنى أهل الكرخ سورا على الكرخ، وبنى أهل السنة سورا على سوق القلائين، ثم نقض كل من الفريقين أبنيته، وحملوا الآجر إلى مواضع بالطبول والمزامير، وجرت بينهم مفاخرات في ذلك، وسخف لا تنحصر ولا تنضبط، وإنشاد أشعار في فضل
الصحابة.
وثلبهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ثم وقعت بينهم فتن يطول ذكرها، وأحرقوا دورا كثيرة جدا.
وفيها وقعت وحشة بين الملك طغرلبك وبين أخيه، فجمع أخوه جموعا كثيرا فاقتتل هو
__________
(1) في الكامل 9 / 552 والوافي 1 / 119: محمد.
(2) في المراجع المذكورة: أبو.
(3) في الكامل 9 / 547: أربع سنين وشهرين ونيفا وعشرين يوما.

وأخوه طغرلبك، ثم أسره من قلعة قد تحصن بها (1)، بعد محاصرة أربعة أيام، فاستنزله منها مقهورا، فأحسن إليه وأكرمه، وأقام عنده مكرما، وكتب ملك الروم إلى طغرلبك في فداء بعض ملوكهم ممن كان أسره إبراهيم بن ينال، وبذل له مالا كثيرا، فبعثه إليه مكرما من غير عوض، اشترط عليه فأرسل إليه ملك الروم هدايا كثيرة، وأمر بعمارة المسجد الذي بالقسطنطينية، وأقيمت فيه الصلاة والجمعة، وخطب فيه للملك طغرلبك، فبلغ هذا الامر العجيب سائر الملوك فعظموا الملك طغرلبك تعظيما زائدا، وخطب له نصر الدولة بالجزيرة.
وفيها ولي مسعود بن مودود بن مسعود بن محمود بن سبكتكين الملك بعد وفاة أبيه، وكان صغيرا، فمكث أياما ثم عدل عنه إلى عمه علي بن مسعود، وهذا أمر غريب جدا، وفيها ملك المصريون مدينة حلب وأجلوا عنها صاحبها ثمال بن صالح بن مرداس.
وفيها كان بين البساسيري وبين بني عقيل حرب.
وفيها ملك البساسيري الانبار من يد قرواش فأصلح أمورها.
وفي شعبان منها سار البساسير إلى طريق خراسان وقصد ناحية الدوران (2) وملكها، وغنم مالا كثيرا كان فيها، وقد كان سعدى بن أبي الشوك قد حصنها، قال ابن الجوزي: في ذي الحجة (3) منها ارتفعت سحابة سوداء فزادت على ظلمة الليل، وظهر في جوانب السماء كالنار المضيئة، فانزعج الناس وخافوا وأخذوا في الدعاء والتضرع، فانكشف في أثناء الليل بعد ساعة، وكانت قد هبت ريح شديدة جدا قبل ذلك، فأتلفت شيئا كثيرا من الاشجار، وهدمت رواشن كثيرة في دار الخلافة ودار المملكة.
ولم يحج أحد من أهل العراق.
وفيها توفي من الاعيان...أحمد بن محمد بن منصور أبو الحسن المعروف بالعتيقي، نسبة إلى جد له كان يسمى عتيقا، سمع من ابن شاهين وغيره، وكان صدوقا.
توفي في صفر منها وقد جاوز التسعين (4).
علي بن الحسن أبو القاسم العلوي ويعرف بابن محيي السنة.
قال الخطيب: سمع من ابن مظفر وكتب عنه، وكان صدوقا دينا حسن الاعتقاد، يورق بالاجرة ويأكل منه، ويتصدق.
توفي في رجب منها وقد جاوز الثمانين.
__________
(1) وهي قلعة سرماج، وهي قلعة حصينة بين همذان وخوزستان في الجبال (معجم البلدان).
(2) في الكامل 9 / 560: الدزدار، ولعلها دوران: من قرى فم الصلح من نواحي واسط (معجم البلدان).
(3) في الكامل 9 / 560: ذي القعدة.
(4) في الكامل 9 / 561: ومولده سنة سبع وستين وثلاثمائة.

عبد الوهاب بن القاضي الماوردي يكنى أبا الفائز (1) شهد عند ابن ماكولا في سنة إحدى وثلاثين فأجاز شهادته احتراما لابيه، توفي في المحرم منها.
الحافظ أبو عبد الله الصوري محمد بن علي بن عبد الله بن محمد أبو عبد الله الصوري الحافظ، طلب الحديث بعد ما كبر وأسن، ورحل في طلبه إلى الآفاق، وكتب الكثير وصنف واستفاد على الحافظ عبد الغني المصري، وكتب عن عبد الغني شيئا من تصانيفه، وكان من أعظم أهل الحديث، همه في الطلب وهو شاب ثم كان من أقوى الناس على العمل الصالح عزيمة في حال كبره، كان يسرد الصوم إلا يومي العيدين وأيام التشريق، وكان مع ذلك حسن الخلق جميل المعاشرة، وقد ذهبت إحدى عينيه، وكان يكتب بالاخرى المجلد في جزء.
قال أبو الحسن الطيوري: يقال إن عامة كتب الخطيب سوى التاريخ
مستفادة من كتب أبي عبد الله الصوري، كان قد مات الصوري وترك كتبه اثني عشر عدلا عند أخيه، فلما صار الخطيب أعطاه أخاه شيئا وأخذ بعض تلك الكتب فحولها في كتبه، ومن شعره: تولى الشباب بريعانه * وأتى المشيب بأحزانه فقلبي لفقدان ذا مؤلم * كئيب لهذا ووجد انه وإن كان ما جار في حكمه * ولا جاء في غير إبانه ولكن أتى مؤذنا بالرحي * ل فويلي من قرب إيذانه ولولا ذنوب تحملتها * لما راعني إتيانه ولكن ظهري ثقيل بما * جناه شبابي بطغيانه فمن كان يبكي شبابا مضى * ويندب طيب زمانه فليس بكائي وما قد ترو * ن مني لوحشة فقدانه ولكن لما كان قد رجره * علي بوثبات شيطانه فويلي وويحي إن لم يجد * على مليكي برضوانه ولم يتغمد ذنوبي وما قد * جنيت برحمته وغرانه ويجعل مصيري إلى جنة * يحل بها أهل رضوانه وغفرانه فإن كنت ما لي من طاعة * سوى حسن ظني باحسانه وإني مقر بتوحيده * عليم بعزة سلطانه
__________
(1) في الكامل 9 / 561: أبو القاسم.

أخالف في ذاك أهل الهوى * وأهل الفسوق وعدوانه وأرجو به الفوز في منزل * معد مهيأ لسكانه ولن يجمع الله أهل الجحو * د ومن أقر بنيرانه فهذا ينجيه إيمانه * وهذا يبوء بخسرانه وهذا ينعم في جنة * وذاك قرين لشيطانه
ومن شعره أيضا: قل لمن عاند الحديث وأضحى * عائبا أهله ومن يدعيه أبعلم تقول هذا ابن لي * أم بجهل فالجهل خلق السفيه أيعاب الذين هم حفظوا الد * ين من الترهات والتمويه وإلى قولهم ما قد رووه * راجع كل عالم وفقيه كان سبب موته أنه افتصد فورمت يده، وعلى ما ذكر أن ريشة الفاصد كانت مسمومة لغيره فغلط ففصده بها، فكانت فيها منيته، فحمل إلى المارستان فمات به، ودفن بمقبرة جامع المدينة، وقد نيف على الستين رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة فيها فتح السلطان طغرلبك أصبهان (1) بعد حصار سنة، فنقل إليها حواصله من الري وجعلها دار إقامته، وخرب قطعة من سورها، وقال: إنما يحتاج إلى السور من تضعف قوته، وإنما حصنني عساكري وسيفي، وقد كان فيها أبو منصور قرامز بن علاء الدولة أبي جعفر بن كالويه (2)، فأخرجه منها وأقطعه بعض بلادها.
وفيها سار الملك الرحيم إلى الاهواز وأطاعه عسكر فارس.
وفيها استولت الخوارج على عمان وأخربوا دار الامارة، وأسروا أبا المظفر بن أبي كاليجار.
وفيها دخلت العرب بإذن المستنصر الفاطمي بلاد إفريقية، وجرت بينهم وبين المعز بن باديس حروب طويلة، وعاثوا في الارض فسادا عدة سنين.
وفيها اصطلح الروافض والسنة ببغداد، وذهبوا كلهم لزيارة مشهد علي ومشهد الحسين، وترضوا في الكرخ على الصحابة كلهم، وترحموا عليهم، وهذا عجيب جدا، إلا أن يكون من باب التقية، ورخصت الاسعار ببغداد جدا.
ولم يحج أحد من أهل العراق.
وممن توفي فيها من الاعيان...
__________
(1) في مختصر أخبار البشر 2 / 170: أصفهان.
(2) تقدم شرحه وهو كاكويه (الكامل - مختصر أخبار البشر - العبر - ابن الوردي).

علي بن عمر بن الحسن أبو الحسن الحربي المعروف بالقزويني، ولد في مستهل المحرم في سنة ستين وثلثمائة، وهي الليلة التي مات فيها أبو بكر الآجري، وسمع أبا بكر بن شاذان وأبا حفص بن حيويه، وكان وافر العقل، من كبار عباد الله الصالحين، له كرامات كثيرة، وكان يقرأ القرآن ويروي الحديث، ولا يخرج إلا إلى الصلاة.
توفي في شوال منها.
فغلقت بغداد لموته يومئذ، وحضر الناس جنازته، وكان يوما مشهودا رحمه الله.
عمر بن ثابت الثمانيني النحوي الضرير.
شارح اللمع، كان في غاية العلم بالنحو، وكان يأخذ عليه.
وذكر ابن خلكان: أنه اشتغل على ابن جني، وشرح كلامه، وكان ماهرا في صناعة النحو، قال ونسبته إلى قرية من نواحي جزيرة ابن عمر عند الجبل الجودي، يقال لها ثمانين، باسم التمانين الذين كانوا مع نوح عليه السلام في السفينة.
قرواش بن مقلد أبو المنيع، صاحب الموصل والكوفة وغيرها، كان من الجبارين، وقد كاتبه الحاكم صاحب مصر في بعض الاحيان فاستماله إليه، فخطب له ببلاده ثم تركه، واعتذر إلى الخليفة فعذره، وقد جمع هذا الجبار بين أختين في النكاح، ولامته العرب، فقال: وأي شئ عملته ؟ إنما عملت ما هو مباح في الشريعة (1) وقد نكب في أيام المعز الفاطمي ونهبت حواصله، وحين توفي قام بالامر بعده ابن أخيه قريش بن بدران بن مقلد (2).
مودود بن مسعود ابن محمود بن سبكتكين، صاحب غزنة: توفي فيها وقام بالامر من بعده عمه عبد الرشيد بن محمود.
__________
(1) في مختصر أخبار البشر 2 / 172: قيل له إن الشريعة تحرم هذا.
فقال: وأي شئ عندنا تجيزه الشريعة ؟ (2) قال ابن الاثير في الكامل وأبو الفداء في مختصره: إن بركة بن المقلد زعيم الدولة - وأخا قرواش - هو الذي مات في
هذه السنة، وكان قرواش في محبسه وتسلم الملك ابن أخيه قريش بن بدران حيث أبقى على عمه قرواش محبوسا في قلعة الجراحية حيث مات في سنة 444 ه وقيل قتله قريش في مجلسه (مختصر أخبار البشر 2 / 172) وحمل ميتا إلى الموصل ودفن بتل توبة من مدينة نينوى شرقي الموصل (الكامل 9 / 587 - العبر لابن خلدون 4 / 264 مختصر أخبار البشر).

ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة في صفر منها وقع الحرب بين الروافض والسنة، فقتل من الفريقين خلق كثير، وذلك أن الروافض نصبوا أبراجا وكتبوا عليها بالذهب: محمد وعلي خير البشر، فمن رضي فقد شكر، ومن أبى فقد كفر.
فأنكرت السنة إقران علي مع محمد صلى الله عليه وسلم في هذا، فنشبت الحرب بينهم، واستمر القتال بينهم إلى ربيع الاول، فقتل رجل هاشمي فدفن عند الامام أحمد، ورجع السنة من دفنه فنهبوا مشهد موسى بن جعفر وأحرقوا من ضريح موسى ومحمد الجواد، وقبور بني بويه، وقبور من هناك من الوزرا وأحرق قبر جعفر بن المنصور، ومحمد الامين، وأمه زبيدة، وقبور كثيرة جدا، وانتشرت الفتنة وتجاوزوا الحدود، وقد قابلهم أولئك الرافضة أيضا بمفاسد كثيرة، وبعثروا قبورا قديمة، وأحرقوا من فيها من الصالحين، حتى هموا بقبر الامام أحمد، فمنعهم النقيب، وخاف من غائلة ذلك، وتسلطا على الرافضة عيار يقال له القطيعي، وكان يتبع رؤسهم وكبارهم فيقتلهم جهارا وغيلة، وعظمت المحنة بسببه جدا، ولم يقدر عليه أحد، وكان في غاية الشجاعة والبأس والمكر، ولما بلغ ذلك دبيس بن علي بن مزيد - وكان رافضيا - قطع خطبة الخليفة، ثم روسل فأعادها.
وفي رمضان منها جاءت من الملك طغرلبك رسل شكر للخليفة على إحسانه إليه بما كان بعثه له من الخلع والتقليد وأرسل إلى الخليفة بعشرين ألف دينار، وإلى الحاشية بخمسة آلاف، وإلى رئيس الرؤساء بألفي دينار، وقد كان طغرلبك حين عمر الري وخرب فيها أماكن وجد فيها دفائن كثيرة من الذهب والجوهر، فعظم شأنه بذلك، وقوي ملكه بسببه.
وممن توفي فيها من الاعيان...محمد بن محمد بن أحمد
أبو الحسن الشاعر البصروي، نسبة إلى قرية دون عكبرا يقال لها بصرى باسم المدينة التي هي أم حوران، وقد سكن بغداد، وكان متكلما مطبوعا، له نوادر، من شعره قوله: نرى الدنيا وشهوتها فنصبوا (1) * وما يخلو من الشهوات قلب فلا يغررك زخرف ما تراه * وعيش لين الاعطاف (2) رطب فضول العيش أكثرها هموم * وأكثر ما يضرك ما تحب إذا ما بلغة جاءتك عفوا * فخذها فالغنى مرعى وشرب إذا اتفق (3) القليل وفيه سلم * فلا ترد الكثير وفيه حرب
__________
(1) في الكامل 9 / 581 والكتبي 2 / 156: ترى الدنيا وزينتها فتصبو، وفي الوافي 1 / 120: وزهرتها.
(2) في الوافي: الاطراف.
(3) في الوافي: حصل.

ثم دخلت سنة أربع وأربعين وأربعمائة فيها كتبت تذكرة الخلفاء المصريين وأنهم أدعيا كذبة لا نسب لهم صحيحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، نسخا كثيرة، وكتب فيها الفقهاء والقضاة والاشراف.
وفيها كانت زلازل عظيمة في نواحي أرجان والاهواز وتلك البلاد، تهدم بسببها شئ كثير من العمران وشرفات القصور، وحكى بعض من يعتد قوله أنه انفراج إيوانه وهو يشاهد ذلك، حتى رأى السماء منه ثم عاد إلى حاله لم يتغير.
وفي ذي القعدة منها تجددت الحرب بين أهل السنة والروافض، وأحرقوا أماكن كثيرة، وقتل من الفريقين خلائق، وكتبوا على مساجدهم: محمد وعلي خير البشر، وأذنوا بحي على خير العمل، واستمرت الحرب بينهم، وتسلط القطيعي العيار على الروافض، بحيث كان لا يقر لهم معه قرار، وهذا من جملة الاقدار.
وفيها توفي من الاعيان..الحسن بن علي
ابن محمد بن علي بن أحمد بن وهب بن شنبل بن قرة بن واقد، أبو علي التميمي الواعظ، المعروف بابن المذهب، ولد سنة خمس وخمسين وثلثمائة، وسمع مسند الامام أحمد من أبي بكر بن مالك القطيعي عن عبد الله بن الامام أحمد، عن أبيه، وقد سمع الحديث من أبي بكر بن ماسي وابن شاهين والدار قطني وخلق، وكان دينا خيرا، وذكر الخطيب أنه كان صحيح السماع لمسند أحمد من القطيعي غير أنه ألحق اسمه في أجزاء.
قال ابن الجوزي: وليس هذا بقدح في سماعه، لانه إذا تحقق سماعه جاز أن يلحق اسمه فيما تحقق سماعه له، وقد عاب عليه الخطيب أشياء لا حاجة إليها.
علي بن الحسين ابن محمد، أبو الحسن المعروف بالشاشي البغدادي، وقد أقام بالبصرة واستحوذ هو وعمه على أهلها، وعمل أشياء من الحيل يوهم بها أنه من ذوي الاحوال والمكاشفات، وهو في ذلك كاذب قبحه الله وقبح عمه، وقد كان مع هذا رافضيا خبيثا قرمطيا، توفي في هذا العام فلله الحمد والشكر والانعام.

القاضي أبو جعفر محمد بن أحمد (1) بن أحمد، أبو جعفر السمناني القاضي، أحد المتكلمين على طريقة الشيخ أبي الحسن الاشعري، وقد سمع الدارقطني وغيره، كان عالما فاضلا سخيا، تولى القضاء بالموصل، وكان له في داره مجلس للمناظرة، وتوفي لما كف بصره بالموصل وهو قاضيها، في ربيع الاول منها وقد بلغ خمسا وثمانين سنة، سامحه الله.
ثم دخلت سنة خمس وأربعين وأربعمائة.
فيها تجدد الشر والقتال والحريق بين السنة والروافض، وسرى الامر وتفاقم الحال.
وفيها وردت الاخبار بأن المعز الفاطمي عازم على قصد العراق.
وفيها نقل إلى الملك طغرلبك أن الشيخ أبا الحسن الاشعري يقول بكذا وكذا، وذكر بشئ من الامور التي لا تليق بالدين والسنة، فأمر
بلعنه، وصرح أهل نيسابور بتكفير من يقول ذلك، فضج أبو القاسم القشيري عبد الكريم بن هوازن من ذلك، وصنف رسالة في شكاية أهل السنة لما نالهم من المحنة، واستدعى السلطان جماعة من رؤس الاشاعرة منهم القشيري فسألهم عما أنهي إليه من ذلك.
فأنكروا ذلك، وأن يكون الاشعري قال ذلك.
فقال السلطان: نحن إنما لعنا من يقول هذا..وجرت فتنة عظيمة طويلة.
وفيها استولى فولا بسور (2) الملك أبي كاليجار على شيراز، وأخرج منها أخاه أبا سعد، وفي شوال سار البساسيري إلى أكراد وأعراب أفسدوا في الارض فقهرهم وأخذ أموالهم.
ولم يحج فيها أحد من أهل العراق.
وفيها توفي من الاعيان...أحمد بن عمر بن روح أبو الحسن النهرواني، كان ينظر في العيار بدار الضرب، وله شعر حسن، قال: كنت يوما على شاطئ النهروان، فسمعت رجلا يتغنى في سفينة منحدرة يقول: وما طلبوا سوى قتلي * فهان علي ما طلبوا قال فاستوقفته وقلت: أضف إليه غيره فقال: على قتلي الاحب * ة في التمادي، بالجفا غلبوا (3)
__________
(1) في الوافي 2 / 65: محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد.
(3) في الكامل 9 / 595: فولاستون، وفي تاريخ أبي الفداء 2 / 172 وابن الوردي 1 / 535: فلاستون.
(3) في الكامل 9 / 604: على قلبي الاحبة با * لتمادي في الهوى غلبوا.
وذكر وفاته ابن الاثير سنة 446 ه.

وبالهجران من عيني * طيب النوم قد سلبوا وما طلبوا سوى قتلي * فهان علي ما طلبوا إسماعيل بن علي ابن الحسين بن محمد بن زنجويه، أبو سعيد (1) الرازي، المعروف بالسمان، شيخ المعتزلة،
سمع الحديث الكثير وكتب عن أربعة آلاف شيخ، وكان عالما عارفا فاضلا مع اعتزاله، ومن كلامه: من لم يكتب الحديث لم يتغرغر بحلاوة الاسلام، وكان حنفي المذهب، عالما بالخلاف والفرائض والحساب وأسماء الرجال، وقد ترجمه ابن عساكر في تاريخه فأطنب في شكره والثناء عليه.
عمر بن الشيخ أبي طالب المكي محمد بن علي بن عطية، سمع أباه وابن شاهين، وكان صدوقا يكنى بأبي جعفر.
محمد بن أحمد ابن عثمان بن الفرج الازهر، أبو طالب المعروف بابن السوادي، وهو أخو أبي القاسم الازهري توفي عن نيف وثمانين سنة.
محمد بن أبي تمام الزينبي نقيب النقباء، قام ببغداد بعد أبيه مقامه بالنقابة.
ثم دخلت سنة ست وأربعين وأربعمائة فيها غزا السلطان طغرلبك بلاد الروم بعد أخذه بلاد أذربيجان، فغنم من بلاد الروم وسبى وعمل أشياء حسنة، ثم عاد سالما فأقام بأذربيجان سنة.
وفيها أخذ قريش بن بدران الانبار، وخطب بها وبالموصل لطغرلبك، وأخرج منها نواب البساسيري.
وفيها دخل البساسيري بغداد مع بني خفاجة منصرفه من الوقعة، وظهرت منه آثار النفرة للخلافة، فراسلة الخليفة لتطيب نفسه،
__________
(1) في تذكرة الحفاظ 3 / 1121 وشذرات الذهب 3 / 273: أبو سعد.
وذكر الذهبي وفاته سنة 443 ه نقلا عن أبي القاسم بن عساكر.

وخرج في ذي الحجة إلى الانبار فأخذها، وكان معه دبيس بن علي بن مزيد، وخرب أماكن وحرق غيرها ثم أذن له الخليفة في الدخول إلى بيت النوبة ليخلع عليه، فجاء إلى أن حاذى بيت النوبة فقبل الارض وانصرف إلى منزله، ولم يعبر، فقويت الوحشة.
ولم يحج أحد من أهل العراق فيها.
وممن توفي فيها من الاعيان...الحسين بن جعفر بن محمد ابن داود، أبو عبد الله السلماسي، سمع ابن شاهين وابن حيويه والدارقطني، وكان ثقة مأمونا مشهورا باصطناع المعروف، وفعل الخير، وافتقاد الفقراء، وكثرة الصدقة، وكان قد أريد على الشهادة فأبى ذلك، وكان له في كل شهر عشرة دنانير نفقة لاهله.
عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن أبو عبد الله الاصبهاني، المعروف بابن اللبان، أحد تلامذة أبي حامد الاسفراييني، ولي قضاء الكرخ، وكان يصلي بالناس التراويح، ثم يقوم بعد انصرافهم فيصلي إلى أن يطلع الفجر، وربما انقضى الشهر عنه ولم يضطجع إلى الارض رحمه الله.
ثم دخلت سنة سبع وأربعين وأربعمائة فيها ملك طغرلبك بغداد، وهو أول ملوك السلجوقية، ملكها وبلاد العراق.
وفيها تأكدت الوحشة بين الخليفة والبساسيري، واشتكت الاتراك منه، وأطلق رئيس الرؤساء عبارته فيه، وذكر قبيح أفعاله، وأنه كاتب المصريين بالطاعة، وخلع ما كان عليه من طاعة العباسيين، وقال الخليفة وليس إلا إهلاكه.
وفيها غلت الاسعار بنواحي الاهواز حتى بيع الكر بشيراز بألف دينار.
وفيها وقعت الفتنة بين السنة والرافضة على العادة، فأقتتلوا قتالا مستمرا، ولا تمكن الدولة أن يحجزوا بين الفريقين.
وفيها وقعت الفتنة بين الاشاعرة والحنابلة، فقوي جانب الحنابلة قوة عظيمة، بحيث إنه كان ليس لاحد من الاشاعرة أن يشهد الجمعة ولا الجماعات.
قال الخطيب: كان أرسلان التركي المعروف بالبساسيري قد عظم أمره واستفحل، لعدم أقرانه من مقدمي الاتراك، واستولى على البلاد وطار اسمه، وخافته أمراء العرب والعجم، ودعي له على كثير من المنابر العراقية والاهواز ونواحيها، ولم يكن للخليفة قطع ولا وصل دونه، ثم صح عند الخليفة سوء عقيدته، وشهد عنده جماعة من الاتراك أنه عازم على نهب دار الخلافة، وأنه يريد

القبض على الخليفة، فعند ذلك كاتب الخليفة محمد بن ميكائيل بن سلجوق الملقب طغرلبك
يستنهضه على المسير إلى العراق، فانفض أكثر من كان مع البساسيري وعادوا إلى بغداد سريعا، ثم أجمع رأيهم على قصد دار البساسيري وهي في الجانب الغربي فأحرقوها، وهدموا أبنيتها، ووصل السلطان طغرلبك إلى بغداد في رمضان سنة سبع وأربعين، وقد تلقاه إلى أثناء الطريق الامراء والوزراء والحجاب، ودخل بغداد في أبهة عظيمة جدا، وخطب له بها ثم بعده للملك الرحيم، ثم قطعت خطبة الملك الرحيم، ورفع إلى القلعة (1) معتقلا عليه، وكان آخر ملوك بني بويه، وكانت مدة ولايتهم قريب المائة والعشر سنين، وكان ملك الملك الرحيم لبغداد ست سنين وعشرة ايام (2)، ونزل طغرلبك دار المملكة بعد الفراغ من عمارتها، ونزل أصحابه دور الاتراك وكان معه ثمانية أفيلة، ووقعت الفتنة بين الاتراك والعامة ونهب الجانب الشرقي بكماله، وجرت خبطة عظيمة.
وأما البساسيري فإنه فر من الخليفة إلى بلاد الرحبة وكتب إلى صاحب مصر بأنه على إقامة الدعوى له بالعراق، فأرسل إليه بولاية الرحبة ونيابته بها، ليكون على أهبة الامر الذي يريد.
وفي يوم الثلاثاء عاشر ذي القعدة قلد أبو عبد الله محمد بن علي الدامغاني قضاء القضاة، وخلع عليه به، وذلك بعد موت ابن ماكولا، ثم خلع الخليفة على الملك طغرلبك بعد دخوله بغداد بيوم، ورجع إلى داره وبين يديه الدبادب والبوقات.
وفي هذا الشهر توفي ذخيرة الدين أبو العباس محمد بن الخليفة القائم بأمر الله، وهو ولي عهد أبيه فعظمت الرزية به، وفيها استولى أبو كامل علي بن محمد الصليحي الهمداني على أكثر أعمال اليمن، وخطب للفاطميين، وقطع خطبة العباسيين.
وفيها كثر فساد الغز ونهبوا دواب النالس حتى بيع الثور بخمسة قراريط.
وفيها اشتد الغلاء بمكة وعدمت الاقوات، وأرسل الله عليهم جرادا فتعوضوا به عن الطعام.
ولم يحج أحد من أهل العراق.
وممن توفي فيها من الاعيان...الحسن بن علي ابن جعفر بن علي بن محمد بن دلف بن أبي دلف بن العجلي قاضي القضاة، المعروف بابن ماكولا الشافعي، وقد ولي القضاء بالبصرة، ثم ولي قضاء القضاة ببغداد سنة عشرين وأربعمائة في خلافة
المقتدر، وأقره ابنه القائم إلى أن مات في هذه السنة، عن تسع وسبعين سنة، منها في القضاء سبع
__________
(1) وهي قلعة السيروان (العبر - الكامل).
(2) في العبر 4 / 494: ست سنين.

وعشرون سنة، وكان صينا دينا لا يقبل من أحد هدية ولا من الخليفة، وكان يذكر أنه سمع من أبي عبد الله بن منده، وله شعر حسن فمنه: تصابى برهة من بعد شيب * فما أغنى المشيب عن التصابي وسود عارضيه بلون خضب * فلم ينفعه تسويد الخضاب وأبدى للاحبة كل لطف * فما زادوا سوى فرط اجتناب سلام الله عودا بعد بدئ * على أيام ريعان الشباب تولى عزمه يوما وأبقى * بقلبي حسرة ثم اكتئاب علي بن المحسن بن علي ابن محمد بن أبي الفهم أبو القاسم التنوخي، قال ابن الجوزي: وتنوخ اسم لعدة قبائل اجتمعوا بالبحرين، وتحالفوا على التناصر والتآزر، فسموا تنوخا (1).
ولد بالبصرة سنة خمس وخمسين (2) وثلثمائة، وسمع الحديث سنة سبعين، وقبلت شهادته عند الحكام في حداثته، وولي القضاء بالمدائن وغيرها، وكان صدوقا محتاطا، إلا أنه كان يميل إلى الاعتزال والرفض.
ثم دخلت سنة ثمان وأربعين وأربعمائة في يوم الخميس لثمان بقين من المحرم عقد الخليفة على خديجة بنت أخي السلطان طغرلبك على صداق مائة ألف دينار، وحضر هذا العقد عميد الملك الكندري، وزير طغرلبك، وبقية العلويين وقاضي القضاة الدامغاني والماوردي، ورئيس الرؤساء ابن المسلمة.
فلما كان شعبان ذهب رئيس الرؤساء إلى الملك طغرلبك وقال له: أمير المؤمنين يقول لك قال الله تعالى (إن الله يأمركم أن تؤدوا الامانات إلى أهلها) [ النساء: 58 ] وقد أمرني أن أنقل الوديعة إلى داره العزيزة، فقال:
السمع والطاعة، فذهبت أم الخليفة لدار الملك لاستدعاء العروس، فجاءت معها وفي خدمتها الوزير عميد الملك والحشم، فدخلوا داره وشافه الوزير الخليفة عن عمها وسأله اللطف بها والاحسان إليها، فلما دخلت إليه قبلت الارض مرارا بين يديه، فأدناها إليه وأجلسها إلى جانبه، وأفاض عليها خلعا سنية وتاجا من جوهر ثمين، وأعطاها من الغد مائة ثوب ديباجا، وقصبات من
__________
(1) قال أبو عبيد: التتنخ المقام، وتنوخ ثلاث أبطن: نزار والاحلاف وفهمي سموا بذلك لانهم حلفوا على المقام بمكان بالشام.
وقال الجوهري: هم حي من اليمن يعني من القحطانية.
وقال أبو الفداء: إنهم من قضاعة، وقال ابن حزم: تنوخ: مجتمعة من عدة بطون (نهاية الارب للقلقشندي وجمهرة أنساب العرب).
(3) في الكامل 9 / 615: وستين.

ذهب، وطاسة ذهب قد نبت فيها الجوهر والياقوت والفيروزج، وأقطعها في كل سنة من ضياعه ما يغل اثنا عشر ألف دينار، وغير ذلك.
وفيها أمر السلطان طغرلبك ببناء دار الملك العضدية فخربت محال كثيرة في عمارتها، ونهبت العامة أخشابا كثيرة من دور الاتراك، والجانب الغربي، وباعوه على الخبازين والطباخين، وغيرهم.
وفيها رجع غلاء شديد على الناس وخوف ونهب كثير ببغداد، ثم أعقب ذلك فناء كثير بحيث دفن كثير من الناس بغير غسل ولا تكفين، وغلت الاشربة وما تحتاج إليه المرضى كثيرا، واعترى الناس موت كثير، واغبر الجو وفسد الهواء.
قال ابن الجوزي: وعم هذا الوباء والغلاء مكة والحجاز وديار بكر والموصل وبلاد بكر وبلاد الروم وخراسان والجبال والدنيا كلها.
هذا لفظه في المنتظم.
قال: وورد كتاب من مصر أن ثلاثة من اللصوص نقبوا بعض الدور فوجدوا عند الصباح موتى أحدهم على باب النقب، والثاني على رأس الدرجة، والثالث على الثياب التي كورها ليأخذها فلم يمهل.
وفيها أمر رئيس الرؤساء بنصب أعلام سود في الكرخ، فانزعج أهلها لذلك، وكان كثير الاذية للرافضة، وإنما كان يدافع عنهم عميد الملك الكندري، وزير طغرلبك.
وفيها هبت ريح
شديدة وارتفعت سحابة ترابية وذلك ضحى، فأظلمت الدنيا، واحتاج الناس في الاسواق وغيرها إلى السرج.
قال ابن الجوزي: وفي العشر الثاني من جمادى الآخرة ظهر وقت السحر كوكب له ذؤابة طولها في رأي العين نحو من عشرة أذرع، وفي عرض نحو الذراع، ولبث كذلك إلى النصف من رجب، ثم اضمحل.
وذكروا أنه طلع مثله بمصر فملكت وخطب بها للمصريين.
وكذلك بغداد لما طلع فيها ملكت وخطب بها للمصريين.
وفيها ألزم الروافض بترك الاذان بحي على خير العمل، وأمروا أن ينادي مؤذنهم في أذان الصبح، وبعد حي على الفلاح: الصلاة خير من النوم، مرتين، وأزيل ما كان على أبواب المساجد ومساجدهم من كتابة: محمد وعلي خير البشر، ودخل المنشدون من باب البصرة إلى باب الكرخ، ينشدون بالقصائد التي فيها مدح الصحابة، وذلك أن نوء الرافضة اضمحل، لان بني بويه كانوا حكاما، وكانوا يقوونهم وينصرونهم، فزالوا وبادوا، وذهبت دولتهم، وجاء بعدهم قوم آخرون من الاتراك السلجوقية الذين يحبون أهل السنة ويوالونهم ويرفعون قدرهم، والله المحمود، أبدا على طول المدى.
وأمر رئيس الرؤساء الوالي بقتل أبي عبد الله بن الجلاب شيخ الروافض، لما كان تظاهر به من الرفض والغلو فيه، فقتل على باب دكانه، وهرب أبو جعفر الطوسي ونهبت داره.
وفيها جاء البساسيري قبحه الله إلى الموصل ومعه نور الدولة دبيس في جيش كثيف، فاقتتل مع صاحبها قريش ونصره قتلمش ابن عم طغرلبك، وهو جد ملوك الروم، فهزمهما البساسيري، وأخذ البلدا قهرا، فخطب بها للمصريين، وأخرج كاتبه من السجن، وقد كان أظهر الاسلام ظنا

منه أنه ينفعه، فلم ينفعه فقتل، وكذلك خطب للمصريين فيها بالكوفة وواسط وغيرها من البلاد.
وعزم طغرلبك على المسير إلى الموصل لمناجزة البساسيري فنهاه الخليفة عن ذلك لضيق الحال وغلاء الاسعار، فلم يقبل فخرج بجيشه قاصدا الموصل بجحافل عظيمة، ومعه الفيلة والمنجنيقات، وكان جيشه لكثرتهم ينهبون القرى، وربما سطوا على بعض الحريم، فكتب الخليفة إلى السلطان ينهاه عن ذلك، فبعث إليه يعتذر لكثرة من معه، واتفق أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فسلم عليه
فأعرض عنه، فقال: يا رسول الله لاي شئ تعرض عني ؟ فقال: يحكمك الله في البلاد ثم لا ترفق بخلقه ولا تخاف من جلال الله عزوجل.
فاستيقظ مذعورا وأمر وزيره أن ينادي في الجيش بالعدل، وأن لا يظلم أحد أحدا.
ولما اقترب من الموصل فتح دونها بلادا، ثم فتحها وسلمها إلى أخيه داود، ثم سار منها إلى بلاد بكر ففتح أماكن كثيرة هناك.
وفيها ظهرت دولة الملثمين (1) ببلاد المغرب، وأظهروا إعزاز الدين وكلمة الحق واستولوا على بلاد كثيرة منها سجلماسة وأعمالها والسوس، وقتلوا خلقا كثيرا من أهلها، وأول ملوك الملثمين رجل يقال له أبو بكر بن عمر، وقد أقام بسجلماسة إلى أن توفي سنة ثنتين وستين وكما سيأتي بيانه، ثم ولي بعده أبو نصر يوسف بن تاشفين، وتلقب بأمير المؤمنين، وقوي أمره، وعلا قدره ببلاد المغرب.
وفيها ألزم أهل الذمة بلبس الغيار ببغداد، عن أمر السلطان.
وفيه ولد لذخيرة الدين بعد موته من جارية له ولد ذكر، وهو أبو القاسم عبد الله المقتدي بأمر الله.
وفيها كان الغلاء والفناء أيضا مستمرين على الناس ببغداد وغيرها من البلاد، على ما كان عليه الامر في السنة الماضية ؟، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولم يحج أحد من أهل العراق فيها.
وفيها توفي من الاعيان...علي بن أحمد بن علي بن سلك أبو الحسن المؤدب، المعروف بالفالي، صاحب الامالي (2)، وفالة قرية قريبة من إيذج، أقام
__________
(1) الملثمون: وهم عدة قبائل ينتسبون إلى حمير أشهرها لمتونة وجدالة ولمطة.
كان أول مسيرهم من اليمن أيام أبي بكر الصديق (رض) فسيرهم إلى الشام ثم انتقلوا إلى مصر ودخلوا المغرب مع ابن نصبر وتوجهوا مع طارق إلى طنجة فأحبوا الانفراد فدخلوا الصحراء واستوطنوها إلى هذه الغاية.
وسموا بالملثمين لانهم كانوا يتلثمون في الصحراء من الحر والبرد كما يفعل العرب وقيل غير ذلك.
والغالب على ألوانهم السمرة (الكامل 9 / 621 - مختصر أخبار البشر 2 / 174 ابن الوردي 1 / 537).
(2) صاحب الامالي اسمه أبو علي اسماعيل بن القاسم ووفاته سنة 356 (وفيات الاعيان 1 / 227).
فجعله صاحب
الامالي خطأ بلا شك فالقالي نسبة إلى قالي قلا وهي من أعمال ديار بكر.
فأبو الحسن المذكور والمعروف بالفالي - بالفاء كما في النجوم الزاهرة والكامل لابن الاثير 9 / 632.

بالبصرة مدة، وسمع بها من عمر بن عبد الواحد الهاشمي وغيره، وقدم بغداد فاستوطنها، وكان ثقة في نفسه، كثير الفضائل.
ومن شعره الحسن: لما تبدلت المجالس أوجها * غير الذين عهدت من علمائها ورأيتها محفوفة بسوى الاولى * كانوا ولاة صدورها وفنائها أنشدت بيتا سائرا متقدما * والعين قد شرقت بجاري مائها أما الخيام فإنها كخيامهم * ورأى نساء الحي غير نسائها ومن شعره أيضا: تصدر للتدريس كل مهوس * بليد تسمى بالفقيه المدرس فحق لاهل العلم أن يتمثلوا * ببيت قديم شاع في كل مجلس لقد هزلت حتى بدا من هزالها * كلاها وحتى سامها كل مفلس محمد بن عبد الواحد بن محمد الصباغ الفقيه الشافعي، وليس بصاحب الشامل، ذاك متأخر وهذا من تلاميذ أبي حامد الاسفراييني، كانت له حلقة للفتوى بجامع المدينة، وشهد عند قاضي القضاة الدامغاني الحنفي فقبله، وقد سمع الحديث من ابن شاهين وغيره، وكان ثقة جليل القدر.
هلال بن المحسن ابن إبراهيم بن هلال، أبو الخير الكاتب الصابئ، صاحب التاريخ، وجده أبو إسحاق الصابئ صاحب الرسائل، وكان أبوه صابئيا أيضا، أسلم هلال هذا متأخرا، وحسن إسلامه، وقد سمع في حال كفره من جماعة من المشايخ، وذلك أنه كان يتردد إليهم يطلب الادب، فلما أسلم نفعه ذلك، وكان ذلك سبب إسلامه على ما ذكره ابن الجوزي: بسنده مطولا، أنه رأى رسول الله
صلى الله عليه وسلم في المنام مرارا يدعوه إلى الله عزوجل، ويأمره بالدخول في الاسلام، ويقول له: أنت رجل عاقل، فلم تدع دين الاسلام الذي قامت عليه الدلائل ؟ وأراه آيات في المنام شاهدها في اليقظة، فمنها أن قال له: إن امرأتك حامل بولد ذكر، فسمه محمدا، فولدت ذكرا، فسماه محمدا، وكناه أبا الحسن، في أشياء كثيرة سردها ابن الجوزي، فأسلم وحسن إسلامه، وكان صدوقا.
توفي عن تسعين سنة، منها في الاسلام نيف وأربعون سنة.

ثم دخلت سنة تسع وأربعين وأربعمائة فيها كان الغلاء والفناء مستمرين ببغداد وغيرها من البلاد، بحيث خلت أكثر الدور وسدت على أهلها أبوابها بما فيها، وأهلها موتى فيها، ثم صار المار في الطريق لا يلقى الواحد بعد الواحد وأكل الناس الجيف والنتن من قلة الطعام، ووجد مع امرأة فخذ كلب قد اخضر وشوى رجل صبية في الاتون وأكلها، فقيل وسقط طائر ميت من حائط فاحتوشته خمس أنفس فاقتسموه وأكلوه، وورد كتاب من بخارى أنه مات في يوم واحد منها ومن معاملتها ثمانية عشر ألف إنسان، وأحصي من مات في هذا الوباء من تلك البلاد إلى يوم كتب فيه هذا الكتاب بألف ألف، وخمسمائة (1) ألف وخمسين ألف إنسان، والناس يمرون في هذه البلاد فلا يرون إلا أسواقا فارغة وطرقات خالية، وأبوابا مغلقة، ووحشة وعدم أنس.
حكاه ابن الجوزي.
قال: وجاء الخبر من أذربيجان وتلك البلاد بالوباء العظيم، وأنه لم يسلم من تلك البلاد إلا العدد اليسير جدا.
قال: ووقع وباء بالاهواز وبواط وأعمالها وغيرها، حتى طبق البلاد، وكان أكثر سبب ذلك الجوع، كان الفقراء يشوون الكلاب وينبشون القبور ويشوون الموتى ويأكلونهم، وليس للناس شغل في الليل والنهار إلا غسل الاموات وتجهيزهم ودفنهم، فكان يحفر الحفير فيدفن فيه العشرون والثلاثون، وكان الانسان بينما هو جالس إذ انشق قلبه عن دم المهجة، فيخرج منه إلى الفم قطرة فيموت الانسان من وقته، وتاب الناس وتصدقوا بأكثر أموالهم فلم يجدوا أحدا يقبل منهم، وكان الفقير تعرض عليه الدنانير الكثيرة والدراهم والثياب فيقول: أنا أريد كسرة أريد ما يسد جوعي، فلا يجد ذلك، وأراق الناس الخمور
وكسروا آلات اللهو، ولزموا المساجد للعبادة وقراءة القرآن، وقل دار يكون فيها خمر إلا مات أهلها كلهم، ودخل على مريض له سبعة أيام في النزع فأشار بيده إلى مكان فوجدوا فيه خابية من خمر فأراقوها فمات من وقته بسهولة، ومات رجل في مسجد فوجدوا معه خمسين ألف درهم، فعرضت على الناس فلم يقبلها أحد فتركت في المسجد تسعة أيام لا يريدها أحد، فلما كان بعد ذلك دخل أربعة ليأخذوها فماتوا عليها، فلم يخرج من المسجد منهم أحد حي، بل ماتوا جميعا.
وكان الشيخ أبو محمد عبد الجبار بن محمد يشتغل عليه سبعمائة متفقه، فمات وماتوا كلهم إلا اثني عشر نفرا منهم، ولما اصطلح السلطان دبيس بن علي رجع إلى بلاده فوجدها خرابا لقلة أهلها من الطاعون، فأرسل رسولا منهم إلى بعض النواحي فتلقاه طائفة فقتلوه وشووه وأكلوه.
قال ابن الجوزي: وفي يوم الاربعاء لسبع بقين من جمادى الآخرة احترقت قطيعة عيسى وسوق الطعام والكنيس، وأصحاب السقط وباب الشعير، وسوق العطارين وسوق العروس والانماطيين والخشابين والجزارين والتمارين، والقطيعة وسوق مخول ونهر الزجاج وسويقة غالب والصفارين
__________
(1) في الكامل 9 / 637: وستمائة.

والصباغين وغير ذلك من المواضع، وهذه مصيبة أخرى إلى ما بالناس من الجوع والغلاء والفناء، ضعف الناس حتى طغت النار فعملت أعمالها، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفيها كثر العيارون ببغداد، وأخذوا الاموال جهارا، وكبسوا الدور ليلا ونهارا، وكبست دار أبي جعفر الطوسي متكلم الشيعة، وأحرقت كتبه ومآثره، ودفاتره التي كان يستعملها في ضلالته وبدعته، ويدعو إليها أهل ملته ونحلته، ولله الحمد.
وفيها دخل الملك طغرلبك بغداد عائدا إليها من الموصل فتلقاه الناس والكبراء إلى أثناء الطريق، وأحضر له ريئس الرؤساء خلعة من الخليفة مرصعة بالجوهر فلبسها، وقبل الارض ثم بعد ذلك دخل دار الخلافة، وقد ركب إليها فرسا من مراكب الخليفة، فلما دخل على الخليفة إذا هو على سرير طوله سبعة أذرع، وعلى كتفه البردة النبوية، وبيده القضيب، فقبل الارض وجلس على سرير دون سرير الخليفة، ثم قال الخليفة لرئيس الرؤساء: قل له: أمير المؤمنين
حامد لسعيك شاكر لفعلك، آنس بقربك، وقد ولاك جميع ما ولاه الله تعالى من بلاده، فاتق الله فيما ولاك، واجتهد في عمارة البلاد وإصلاح العباد ونشر العدل، وكف الظلم، ففسر له عميد الدولة ما قال الخليفة فقام وقبل الارض وقال: أنا خادم أمير المؤمنين وعبده، ومتصرف على أمره ونهيه، ومتشرف بما أهلني له واستخدمني فيه، ومن الله أستمد المعونة والتوفيق.
ثم أمره الخليفة أن ينهض للبس الخلعة فقام إلى بيت في ذلك البهو، فأفيض عليه سبع خلع وتاج، ثم عاد فجلس على السرير بعد ما قبل يد الخليفة، ورام تقبيل الارض فلم يتمكن من التاج، فأخرج الخليفة سيفا فقلده إياه وخوطب بملك الشرق والغرب، وأحضرت ثلاث ألوية فعقد منها الخليفة لواء بيده، وأحضر العهد إلى الملك، وقرئ بين يديه بحضرة الملك وأوصاه الخليفة بتقوى الله والعدل في الرعية، ثم نهض فقبل يد الخليفة ثم وضعها على عينيه، ثم خرج في أبهة عظيمة إلى داره وبين يديه الحجاب والجيش بكماله، وجاء الناس للسلام عليه، وأرسل إلى الخليفة بتحف عظيمة، منها خمسون ألف دينار، وخمسون غلاما أتراكا، بمراكبهم وسلاحهم ومناطقهم، وخمسمائة ثوب أنواعا، وأعطى رئيس الرؤساء خمسة آلاف دينار، وخمسين قطعة قماش وغير ذلك.
وفيها قبض صاحب مصر على وزيره أبي محمد الحسن بن عبد الرحمن البازري (1)، وأخذ خطه بثلاثة آلاف دينار، وأحيط على ثمانين من أصحابه، وقد كان هذا الوزير فقيها حنفيا، يحسن إلى أهل العلم وأهل الحرمين، وقد كان الشيخ أبو يوسف القزويني يثني عليه ويمدحه.
وممن توفي فيها من الاعيان...
__________
(1) في الكامل 9 / 635 ومختصر أخبار البشر 2 / 176: البازوري.
قال أبو الفداء: وهو الحسن بن عبد الله وكان قاضيا في الرملة على مذهب أبي حنيفة ثم تولى الوزارة.

أحمد بن عبد الله بن سليمان ابن محمد بن سليمان بن أحمد سليمان بن داود بن المطهر بن زياد بن ربيعة بن الحرث بن ربيعة بن أنور بن أسحم بن أرقم بن النعمان بن عدي بن غطفان بن عمرو بن بريح بن خزيمة (1) بن
تيم الله بن أسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة أبو العلاء المعري التنوخي الشاعر، المشهور بالزندقة، اللغوي، صاحب الدواوين والمصنفات في الشعر واللغة، ولد يوم الجمعة عند غروب الشمس لثلاث بقين من ربيع الاول سنة ثلاث وستين وثلاثمائة وأصابه جدري وله أربع سنين أو سبع، فذهب بصره، وقال الشعر وله إحدى أو ثنتا عشرة سنة، ودخل بغداد سنة تسع وتسعين وثلاثمائة، فأقام بها سنة وسبعة أشهر، ثم خرج منها طريدا منهزما ولانه سأل سؤالا بشعر يدل على قلة دينه وعلمه وعقله فقال: تناقض فما لنا إلا السكوت له * وأن نعوذ بمولانا من النار يد بخمس مئين عسجد وديت * ما بالها قطعت في ربع دينار وهذا من إفكه يقول: اليد ديتها خمسمائة دينار، فما لكم تقطعونها إذا سرقت ربع دينار، وهذا من قلة عقله وعلمه، وعمى بصيرته.
وذلك أنه إذا جنى عليه يناسب أن يكون ديتها كثيرة لينزجر الناس عن العدوان، وأما إذا جنت هي بالسرقة فيناسب أن تقل قيمتها وديتها لينزجر الناس عن أموال الناس وتصان أموالهم، ولهذا قال بعضهم: كانت ثمينة لما كانت أمينة، فلما خانت هانت.
ولما عزم الفقهاء على أخذه بهذا وأمثاله هرب ورجع إلى بلده، ولزم منزله فكان لا يخرج منه.
وكان يوما عند الخليفة وكان الخليفة يكره المتنبي ويضع منه، وكان أبو العلاء يحب المتنبي ويرفع من قدره ويمدحه، فجرى ذكر المتنبي في ذلك المجلس فذمه الخليفة، فقال أبو العلاء: لو لم يكن للمتنبي إلا قصيدته التي أولها * لك يا منازل في القلوب منازل * لكفاه ذلك.
فغضب الخليفة وأمر به فسحب برجله على وجهه وقال: أخرجوا عني هذا الكلب.
وقال الخليفة: أتدرون ما أراد هذا الكلب من هذه القصيدة ؟ وذكره لها ؟ أراد قول المتنبي فيها: وإذا أتتك مذمتي من ناقص * فهي الدليل علي أني كامل وإلا فالمتنبي له قصائد أحسن من هذه، وإنما أراد هذا.
وهذا من فرط ذكاء الخليفة، حيث تنبه لهذا.
وقد كان المعري أيضا من الاذكياء، ومكث المعري خمسا وأربعين سنة من عمره لا يأكل اللحم ولا اللبن ولا البيض، ولا شيئا من حيوان، على طريقة البراهمة الفلاسفة، ويقال إنه اجتمع
براهب في بعض الصوامع في مجيئه من بعض السواحل آواه الليل عنده، فشككه في دين الاسلام،
__________
(1) في وفيات الاعيان 1 / 113: جذيمة.

وكان يتقوت بالنبات وغيره، وأكثر ما كان يأكل العدس ويتحلى بالدبس وبالتين، وكان لا يأكل بحضرة أحد، ويقول: أكل الاعمى عورة، وكان في غاية الذكاء المفرط، وعلى ما ذكروه، وأما ما ينقلونه عنه من الاشياءة المكذوبة المختلقة من أنه وضع تحت سريره درهم فقال: إما أن تكون السماء قد انخفضت مقدار درهم أو الارض قد ارتفعت مقدار درهم، أي أنه شعر بارتفاع سريره عن الارض مقدار ذلك الدرهم الذي وضع تحته، فهذا لا أصل له.
وكذلك يذكرون عنه أنه مر في بعض أسفاره بمكان فطأطأ رأسه فقيل له في ذلك فقال: أما هنا شجرة ؟ قالوا: لا، فنظروا فإذا أصل شجرة كانت هنا في الموضع الذي طأطأ رأسه فيه، وقد قطعت، وكان قد اجتاز بها قديما مرة فأمره من كان معه بمطأطأة رأسه لما جازوا تحتها، فلما مر بها المرة الثانية طأطأ رأسه خوفا من أن يصيبه شئ منها، فهذا لا يصح.
وقد كان ذكيا، ولم يكن زكيا، وله مصنفات كثيرة أكثرها في الشعر، وفي بعض أشعاره ما يدل على زندقته، وانحلاله من الدين، ومن الناس من يعتذر عنه ويقول: إنه إنما كان يقول ذلك مجونا ولعبا، ويقول بلسانه ما ليس في قلبه، وقد كان باطنه مسلما.
قال ابن عقيل لما بلغه: وما الذي ألجأه أن يقول في دار الاسلام ما يكفره به الناس ؟ قال: والمنافقون مع قلة عقلهم وعلمهم أجود سياسة منه، لانهم حافظوا على قبائحهم في الدنيا وستروها، وهذا أظهر الكفر الذي تسلط عليه به الناس وزندقوه، والله يعلم أن ظاهره كباطنه.
قال ابن الجوزي: وقد رأيت لابي العلاء المعري كتابا سماه الفصول والغايات، في معارضة السور والآيات، على حروف المعجم في آخر كلماته وهو في غاية الركاكة والبرودة، فسبحان من أعمى بصره وبصيرته.
قال: وقد نظرت في كتابه المسمى لزوم ما لا يلزم، ثم أورد ابن الجوزي من أشعاره الدالة على استهتاره بدين الاسلام أشياء كثيرة.
فمن ذلك قوله:
إذا كان لا يحظى برزقك عاقل * وترزق مجنونا وترزق أحمقا فلا ذنب يا رب السماء على امرئ * رأى منك ما لا يشتهي فتزندقا وقوله: ألا إن البرية في ضلال * وقد نظر اللبيب لما اعتراها تقدم صاحب التوراة موسى * وأوقع في الخسار من افتراها فقال رجاله وحي أتاه * وقال الناظرون بل افتراها وما حجي إلى أحجار بيت * كروس الحمر تشرف في ذراها إذا رجع الحليم إلى حجاه * تهاون بالمذاهب وازدراها وقوله: عفت الحنيفة والنصارى اهتدت * ويهود جارت والمجوس مضلله

اثنان أهل الارض ذو عقل بلا * دين وآخر ذو دين ولا عقل له وقوله: فلا تحسب مقال الرسل حقا * ولكن قول زور سطروه فكان الناس في عيش رغيد * فجاؤوا بالمحال فكدروه وقلت أنا معارضة عليه: فلا تحسب مقال الرسل زورا * ولكن قول حق بلغوه وكان الناس في جهل عظيم * فجاؤوا بالبيان فأوضحوه وقوله: إن الشرائع ألقت بيننا إحنا * وأورثتنا افانين العداوات وهل أبيح نساء الروم عن عرض * للعرب إلا بأحكام النبوات وقوله:
وما حمدي لآدم أو بنيه * وأشهد أن كلهم خسيس وقوله: أفيقوا أفيقوا يا غواة فإنما * دياناتكم مكرا من القدما وقوله: صرف الزمان مفرق الالفين * فاحكم إلهي بين ذاك وبيني نهيت عن قتل النفوس تعمدا * وبعثت تقبضها مع الملكين وزعمت أن لها معادا ثانيا * ما كان أغناها عن الحالين وقوله: ضحكنا وكان الضحك منا سفاهة * وحق لسكان البسيطة أن يبكوا تحطمنا الايام حتى كأننا * زجاج ولكن لا يعود له سبك وقوله: أمور تستخف بها حلوم * وما يدري الفتى لمن الثبور كتاب محمد وكتاب موسى * وإنجيل ابن مريم والزبور وقوله: قالت معاشر لم يبعث إلهكم * إلى البرية عيساها ولا موسى وإنما جعلوا الرحمن مأكلة * وصيروا دينهم في الناس ناموسا

وذكر ابن الجوزي وغير أشياء كثيرة من شعره تدل على كفره، بل كل واحدة من هذه الاشياء تدل على كفره وزندقته وانحلاله، ويقال إنه أوصى أن يكتب على قبره: هذا جناه أبي علي * وما جنيت على أحد معناه أن أباه بتزوجه لامه أوقعه في هذه الدار، حتى صار بسبب ذلك إلى ما إليه صار، وهو لم يجن على أحد بهذه الجناية، وهذا كله كفر وإلحاد قبحه الله.
وقد زعم بعضهم أنه أقلع عن هذا كله وتاب منه، وأنه قال قصيدة يعتذر فيها من ذلك كله، ويتنصل منه، وهي القصيدة التي يقول فيها:
يا من يرى مد البعوض جناحها * في ظلمة الليل البهيم الاليل ويرى مناط عروقها في نحرها * والمخ في تلك العظام النحل أمنن علي بتوبة تمحو بها * ما كان مني في الزمان الاول توفي في ربيع الاول من هذه السنة بمعرة النعمان، عن ست وثمانين سنة إلا أربعة عشر يوما، وقد رثاه جماعة من أصحابه وتلامذته، وأنشدت عند قبره ثمانون مرثاة، حتى قال بعضهم (1) في مرثاة له: إن كنت لم ترق الدماء زهادة * فلقد أرقت اليوم من جفني دما قال ابن الجوزي: وهؤلاء الذين رثوه والذين اعتقدوه: إما جهال بأمره، وإما ضلال على مذهبه وطريقه.
وقد رأى بعضهم في النوم رجلا ضريرا على عاتقه حيتان مدليتان على صدره، رافعتان رأسيهما إليه، وهما ينهشان من لحمه، وهو يستغيث، وقائل يقول: هذا المعري الملحد وقد ذكره ابن خلكان فرفع في نسبه على عادته في الشعراء، كما ذكرنا.
وقد ذكر له من المصنفات كتبا كثيرة، وذكر أن بعضهم وقف على المجلد الاول بعد المائة من كتابه المسمى بالايك والغصون، وهو المعروف بالهمز والردف، وأنه أخذ العربية عن أبيه واشتغل بحلب على محمد بن عبد الله بن سعد النحوي، وأخذ عنه أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، والخطيب أبو زكريا يحيى بن علي التبريزي، وذكر أنه مكث خمسا وأربعين سنة لا يأكل اللحم على طريقة الحكماء، وأنه أوصى أن يكتب على قبره: هذا جناه أبي علي * وما جنيت على أحد قال ابن خلكان: وهذا أيضا متعلق باعتقاد الحكماء، فإنهم يقولون اتخاذ الولد وإخراجه إلى هذا الوجود جناية عليه، لانه يتعرض للحوادث والآفات.
قلت: وهذا يدل على أنه لم يتغير عن
__________
(1) وهو أبو الحسن علي بن همام.

اعتقاده، وهو ما يعتقده الحكماء إلى آخر وقت، وأنه لم يقلع عن ذلك كما ذكره بعضهم، والله أعلم
بظواهر الامور وبواطنها، وذكر ابن خلكان أن عينه اليمنى كانت ناتئة وعليها بياض، وعينه اليسرى غائرة، وكان نحيفا ثم أورد من أشعاره الجيدة أبياتا فمنها قوله: لا تطلبن بآلة لك رتبة * قلم البليغ بغير جد مغزل سكن السماء كان السماء كلاهما * هذا له رمح وهذا أعزل الاستاذ أبو عثمان الصابوني إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد بن إسماعيل بن عامر بن عابد النيسابوري، الحافظ الواعظ المفسر، قدم دمشق وهو ذاهب إلى الحج فسمع بها وذكر الناس، وقد ترجمه ابن عساكر ترجمة عظيمة، وأورد له أشياء حسنة من أقواله وشعره، فمن ذلك قوله: إذا لم أصب أموالكم ونوالكم * ولم آمل (1) المعروف منكم ولا البرا وكنتم عبيدا للذي أنا عبده * فمن أجل ماذا أتعب البدن الحرا ؟ وروى ابن عساكر عن إمام الحرمين أنه قال: كنت أتردد وأنا بمكة في المذاهب فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: عليك باعتقاد أبي عثمان الصابوني.
رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة خمسين وأربعمائة فيها كنت فتنة الخبيث البساسيري، وهو أرسلان التركي، وذلك أن إبراهيم ينال أخا الملك طغرلبك ترك الموصل الذي كان قد استعمله أخوه عليها، وعدل إلى ناحية بلاد الجبل، فاستدعاه أخوه وخلع عليه وأصلح أمره، ولكن في غضون ذلك ركب البساسيري ومعه قريش بن بدران أمير العرب إلى الموصل فأخذها، وأخرب قلعتها، فسار إليه الملك طغرلبك سريعا فاستردها وهرب منه البساسيري وقريش خوفا منه، فتبعمها إلى نصيبين، وفارقه أخوه إبراهيم، وعصى عليه، وهرب إلى همذان، وذلك بإشارة البساسيري عليه، فسار الملك طغرلبك وراء أخيه وترك عساكره وراءه فتفرقوا وقل من لحقه منهم، ورجعت زوجته الخاتون ووزيره الكندري إلى بغداد، ثم جاء الخبر بأن أخاه قد استظهر عليه، وأن طغرلبك محصور بهمذان، فانزعج الناس لذلك، واضطربت بغداد، وجاء الخبر بأن البساسيري على قصد بغداد، وأنه قد اقترب من الانبار، فقوي عزم الكندري على
__________
(1) في طبقات الشافعية للسبكي 4 / 282: ولم أنل.

الهروب، فأرادت الخاتون أن تقبض عليه فتحول عنها إلى الجانب الغربي، ونهبت داره وقطع الجسر الذي بين الجانبين، وركبت الخاتون في جمهور الجيش، وذهبت إلى همذان لاجل زوجها، وسار الكندري ومعه أنوشروان بن تومان وأم الخاتون المذكورة، ومعها بقية الجيش إلى بلاد الاهواز وبقيت بغداد ليس بها أحد من المقاتلة، فعزم الخليفة على الخروج منها، وليته فعل، ثم أحب داره والمقام مع أهله، فمكث فيها اغترارا ودعة، ولما خلى البلد من المقاتلة قيل للناس: من أراد الرحيل من بغداد فليذهب حيث شاء، فانزعج الناس وبكى الرجال والنساء والاطفال، وعبر كثير من الناس إلى الجانب الغربي، وبلغت المعبرة دينارا ودينارين لعدم الجسر.
قال ابن الجوزي: وطار في تلك الليلة على دار الخليفة نحو عشر بومات مجتمعات يصحن صياحا مزعجا، وقيل لرئيس الرؤساء المصلحة أن الخليفة يرتحل لعدم المقاتلة فلم يقبل، وشرعوا في استخدام طائفة من العوام، ودفع إليهم سلاح كثير من دار المملكة، فلما كان يوم الاحد الثامن من ذي القعدة من هذه السنة جاء البساسيري إلى بغداد ومعه الرايات البيض المصرية، وعلى رأسه أعلام مكتوب عليها اسم المستنصر بالله أبو تميم معد أمير المؤمنين، فتلقاه أهل الكرخ الرافضة وسألوه أن يجتاز من عندهم، فدخل الكرخ وخرج إلى مشرعة الزاويا، فخيم بها والناس إذ ذاك في مجاعة وضر شديد، ونزل قريش بن بدران في نحو من مائتي فارس على مشرعة باب البصرة، وكان البساسيري، قد جمع العيارين وأطمعهم في نهب دار الخلافة، ونهب أهل الكرخ دور أهل السنة بباب البصرة، ونهبت دار قاضي القضاة الدامغاني، وتملك أكثر السجلات والكتب الحكمية، وبيعت للعطارين، ونهبت دور المتعلقين بخدمة الخليفة، وأعادت الروافض الاذان بحي على خير العمل، وأذن به في سائر نواحي بغداد في الجمعات والجماعات وخطب ببغداد للخليفة المستنصر العبيدي، على منابرها وغيرها، وضربت له السكة على الذهب والفضة، وحوصرت دار الخلافة، فجاحف الوزير أبو القاسم بن المسلمة الملقب برئيس الرؤساء، بمن معه من المستخدمين دونه فلم يفد ذلك شيئا، فركب الخليفة
بالسواد والبردة، وعلى رأسه اللواء وبيده سيف مصلت، وحوله زمرة من العباسيين والجواري حاسرات عن وجوههن، ناشرات شعورهن، ومعهن المصاحف على رؤوس الرماح، وبين يديه الخدم بالسيوف، ثم إن الخليفة أخذ ذماما من أمير العرب قريش ليمنعه وأهله ووزيره ابن المسلمة، فأمنه على ذلك كله، وأنزله في خيمة، فلامه البساسيري على ذلك، وقال: قد علمت ما كان وقع الاتفاق عليه بيني وبينك، من أنك لا تبت برأي دوني، ولا أنا دونك، ومهما ملكنا بيني و بينك.
ثم إن البساسيري أخذ القاسم بن مسلمة فوبخه توبيخا مفضحا، ولامه لوما شديدا ثم ضربه ضربا مبرحا، واعتقله مهانا عنده، ونهبت العامة دار الخلافة، فلا يحصى ما أخذوا منها من الجواهر والنفائس، والديباج والذهب والفضة، والثياب والاثاث، والدواب وغير ذلك، مما لا يحد ولا يوصف.
ثم اتفق رأى البساسيري وقريش على أن يسيروا الخليفة إلى أمير حديثة عانة، وهو

مهارش بن مجلي (1) الندوي، وهو من بني عم قريش بن بدران، وكان رجلا فيه دين وله مروأة.
فلما بلغ ذلك الخليفة دخل على قريش أن لا يخرج من بغداد فلم يفد ذلك شيئا، وسيره مع أصحابهما في هودج إلى حديثة عانة، فكان عند مهارش حولا كاملا، وليس معه أحد من أهله، فحكى عن الخليفة أنه قال: لما كنت بحديثة عانة قمت ليلة إلى الصلاة فوجدت في قلبي حلاوة المناجاة، ثم دعوت الله عزوجل بما سنح لي، ثم قلت: اللهم أعدني إلى وطني، واجمع بيني وبين أهلي وولدي، ويسر أجتماعنا، وأعد روض الانس زاهرا، وربع القرب عامرا، وفلفل العزا وبرج الجفا، قال: فسمعت قائلا على شاطئ الفرات يقول: نعم نعم، فقلت: هذا رجل يخاطب آخر، ثم أخذت في السؤال والابتهال، فسمعت ذلك الصائح يقول: إلى الحول إلى الحول، فقلت: إنه هاتف أنطقه الله بما جرى الامر عليه، وكان كذلك، خرج من داره في ذي القعدة من هذه السنة، ورجع إليها في ذي القعدة من السنة المقبلة، وقد قال الخليفة القائم بأمر الله في مدة مقامه بالحديثة شعرا يذكر فيه حاله فمنه: ساءت ظنوني فيمن كنت آمله * ولم يجل ذكر من واليت في خلدي
تعلموا من صروف الدهر كلهم * فما أرى أحدا يحنو على أحد فما أرى من الايام إلا موعدا * فمتى أرى ظفري بذاك الموعد يومي يمر وكلما قضيته * عللت نفسي بالحديث إلى غد أقبح بنفس تستريح إلى المنى * وعلى مطامعها تروح وتغتدي وأما البساسيري وما اعتمده في بغداد: فإنه ركب يوم عيد الاضحى وألبس الخطباء والمؤذنين البياض، وكذلك أصحابه، وعلى رأسه الالوية المصرية، وخطب للخليفة المصري، والروافض في غاية السرور، والاذان بسائر العراق بحي على خير العمل، وانتقم البساسيري من أعيان أهل بغداد انتقاما عظيما، وغرق خلقا ممن كان يعاديه، وبسط على آخرين الارزاق ممن كان يحبه ويواليه، وأظهر العدل.
ولما كان يوم الاثنين لليلتين بقيتا من ذي الحجة أحضر إلى بين يديه الوزير ابن المسلمة الملقب رئيس الرؤساء، وعليه جبة صوف، وطرطور من لبد أحمر، وفي رقبته مخنقة من جلود كالتعاويذ، فأركب جملا أحمر وطيف به في البلد.
وخلفه من يصفعه بقطعة جلد، وحين اجتاز بالكرخ نثروا عليه خلقان المداسات، وبصقوا في وجهه ولعنوه وسبوه، وأوقف بإزاء دار الخلافة وهو في ذلك يتلو قوله تعالى (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شئ قدير) [ آل عمران: 26 ] ثم لما فرغوا من التطواف به جئ به إلى
__________
(1) في العبر لابن خلدون 4 / 266: مهارش بن نجلي.
وفي المختصر لابي الفداء 2 / 178 مهارس، وفي تتمة المختصر لابن الوردي: مهاوش، 1 / 548

المعسكر فألبس جلد ثور بقرنيه، وعلق بكلوب في شدقيه، ورفع إلى الخشبة، فجعل يضطرب إلى آخر النهار فمات رحمه الله.
وكان آخر كلامه أن قال: الحمد لله الذي أحياني سعيدا، وأماتني شهيدا.
وفيها وقع برد بأرض العراق أهلك كثيرا من الغلات، وقتل بعض الفلاحين، وزادت دجلة زيادة كثيرة، وزلزلت بغداد في هذه السنة قبل الفتنة بشهر زلزالا شديدا، فتهدمت دور كثيرة، ووردت الاخبار أن هذه الزلزلة اتصلت بهمذان وواسط، وتكريت، وعانة، وذكر أن
الطواحين وقفت من شدتها.
وفيها كثر النهب ببغداد حتى كانت العمائم تخطف عن الرؤوس، وخطفت عمامة الشيخ أبي نصر بن الصباغ، وطيلسانه وهو ذاهب إلى صلاة الجمعة.
وفي أواخر السنة خرج السلطان طغرلبك من همذان فقاتل أخاه وانتصر عليه، ففرح الناس وتباشروا بذلك، ولم يظهروا ذلك خوفا من البساسيري، واستنجد طغرلبك بأولاد أخيه داود - وكان قد مات - على أخيه إبراهيم فغلبوه وأسروه في أوائل سنة إحدى وخمسين، واجتمعوا على عمهم طغرلبك، فسار بهم نحو العراق فكان من أمرهم ما سيأتي ذكره في السنة الآتية إن شاء الله.
وفيها توفي من الاعيان...الحسن (1) بن محمد أبو عبد الله الوني الفرضي، وهو شيخ الحربي، وكان شافعي المذهب، قتل في بغداد في فتنة البساسيري ودفن في يوم الجمعة يوم عرفة منها.
داود أخو طغرلبك وكان الاكبر منهم، توفي فيها وقام أولاده مقامه.
أبو الطيب الطبري الفقيه، شيخ الشافعية، طاهر بن عبد الله بن طاهر بن عمر، ولد بآمل طبرستان سنة ثمان وأربعين وثلثمائة، سمع الحديث بجرجان من أبي أحمد الغطريفي، وبنيسابور من أبي الحسن الماسرجسي، وعليه درس الفقه أيضا وعلى أبي علي الزجاجي، وأبي القاسم بن كج، ثم اشتغل ببغداد على أبي حامد الاسفراييني، وشرح المختصر وفروع ابن الحداد، وصنف في الاصول
__________
(1) في وفيات الاعيان 2 / 138: الحسين.
وترجمته في طبقات السبكي 3 / 163 ونكت الهميان ص 145 وسيرد في وفيات سنة 451 ه.

والجدل، وغير ذلك من العلوم الكثيرة النافعة، وسمع ببغداد من الدارقطني وغيره، وولي القضاء بربع الكرخ بعد موت أبي عبد الله الصيمري، وكان ثقة دينا ورعا، عالما بأصول الفقه وفروعه،
حسن الخلق سليم الصدر مواظبا على تعليم العلم ليلا ونهارا.
وقد ترجمته في طبقات الشافعية، وحكى الشيخ أبو إسحاق الشيرازي عنه - وكان شيخه، وقد أجلسه بعده في الحلقة - أن أبا الطيب أسلم خفا له - وكان متقللا من الدنيا فقيرا - عند خفاف ليصلحه له فأبطأ عليه فكان كلما مر عليه أخذه فغمسه في الماء وقال: أيها الشيخ الساعة أصلحه، فقال الشيخ: أسلمته لتصلحه ولم أسلمه لتعلمه السباحة.
وحكى ابن خلكان: أنه كان له ولاخيه عمامة واحدة، وقميص واحد، إذا لبسهما هذا جلس الآخر في البيت لا يخرج منه، وإذا لبسهما هذا احتاج الآخر أن يقعد في البيت ولا يخرج منه، وإذا غسلاهما جلسا في البيت إلى أن ييبسا وقد قال في ذلك أبو الطيب: قوم إذا غسلوا ثياب جمالهم * لبسوا البيوت إلى فراغ الغاسل وقد توفي في هذه السنة عن مائة سنة وسنتين، وهو صحيح العقل، والفهم، والاعضاء، يفتي ويشتغل إلى أن مات، وقد ركب مرة سفينة فلما خرج منها قفز قفزة لا يستطيعها الشاب فقيل له: ما هذا يا أبا الطيب ؟ فقال: هذه أعضاء حفظناها في الشبيبة تنفعنا في الكبر رحمه الله.
القاضي الماوردي صاحب الحاوي الكبير، علي بن محمد بن حبيب، أبو الحسن الماوردي البصري، شيخ الشافعية، صاحب التصانيف الكثيرة في الاصول والفروع والتفسير والاحكام السلطانية، وأدب الدنيا والدين.
قال: بسطت الفقه في أربعة آلاف ورقة، يعني الاقناع.
وقد ولي الحكم في بلاد كثيرة، وكان حليما وقورا أديبا، لم ير أصحابه ذراعه يوما من الدهر من شدة تحرزه وأدبه، وقد استقصيت ترجمته في الطبقات، توفي عن ست وثمانين سنة، ودفن بباب حرب.
رئيس الرؤساء أبو القاسم بن المسلمة علي بن الحسن (1) بن أحمد بن محمد بن عمر، وزير القائم بأمر الله، كان أولا قد سمع الحديث من أبي أحمد الفرضي وغيره، ثم صار أحد المعدلين، ثم استكتبه القائم بأمر الله واستوزره، ولقبه رئيس الرؤساء، شرف الوزاء، جمال الوزراء، كان متضلعا بعلوم كثيرة مع سداد رأي، ووفور عقل، وقد مكث في الوزارة ثنتي عشرة سنة وشهرا، ثم قتله البساسيري بعد ما
شهره كما تقدم، وله من العمر ثنتان وخمسون سنة وخمسة أشهر.
__________
(1) في الفخري ص 295: الحسين

منصور بن الحسين أبو الفوارس الاسدي، صاحب الجزيرة، توفي فيها وأقاموا ولده بعده (1).
ثم دخلت سنة إحدى وخمسين وأربعمائة استهلت هذه السنة وبغداد في حكم البساسيري، يخطب فيها لصاحب مصر الفاطمي، والخليفة العباسي بحديثة عانة، ثم لما كان يوم الاثنين ثاني عشر صفر أحضر القضاة أبا عبد الله الدامغاني وجماعة من الوجوه والاعيان والاشراف، وأخذ عليهم البيعة لصاحب مصر المستنصر الفاطمي، ثم دخل دار الخلافة وهؤلاء المذكورون معه وأمر بنقض تاج دار الخلافة، فنقض بعض الشراريف، ثم قيل له إن القبح في هذا أكثر من المصلحة.
فتركه، ثم ركب إلى زيارة المشهد بالكوفة، وعزم على عبور نهر جعفر ليسوق الحائر لوفاء نذر كان عليه، وأمر بأن تنقل جثة ابن مسلمة إلى ما يقارب الحريم الظاهري، وأن تنصب على دجلة.
وكتبت إليه أم الخليفة - وكانت عجوزا كبيرة قد بلغت التسعين وهي مختفية في مكان - تشكو إليه الحاجة والفقر وضيق الحال، فأرسل إليها من نقلها إلى الحريم، وأخدمها جاريتين، ورتب لها كل يوم اثني عشر رطلا من خبز، وأربعة أرطال من لحم.
فصل ولما خلص السلطان طغرلبك من حصره بهمذان وأسر أخاه إبراهيم وقتله، وتمكن في أمره، وطابت نفسه، ولم يبق له في تلك البلاد منازع، كتب إلى قريش بن بدران يأمره بأن يعيد الخليفة إلى وطنه، وداره وتوعده على أنه إن لم يفعل ذلك وإلا أحل به بأسا شديدا، فكتب إليه قريش يتلطف به ويدخل عليه، ويقول: أنا معك على البساسيري بكل ما أقدر عليه، حتى يمكنك الله منه، ولكن أخشى أن أتسرع في أمر يكون فيه على الخليفة مفسدة، أو تبدر إليه بادرة سوء يكون علي عارها،
ولكن سأعمل على ما أمرتني به بكل ما يمكنني، وأمر برد امرأة الخليفة خاتون إلى دارها وقرارها، ثم إنه راسل البساسيري بعود الخليفة إلى داره، وخوفه من جهة الملك طغرلبك، وقال له فيما قال: إنك دعوتنا إلى طاعة المستنصر الفاطمي، وبيننا وبينه ستمائة فرسخ، ولم يأتنا رسول ولا أحد من عنده ولم يفكر في شئ مما أرسلنا إليه، وهذا الملك من ورائنا بالمرصاد، قريب منا، وقد جاءني منه كتاب عنوانه: إلى الامير الجليل علم الدين أبي المعالي قريش بن بدران، مولى أمير المؤمنين، من
__________
(1) وهو صدقة بن منصور بن الحسين (الكامل 9 / 650).

شاهنشاه المعظم ملك المشرق والمغرب طغرلبك، أبي طالب محمد بن ميكائيل بن سلجوق، وعلى رأس الكتاب العلامة السلطانية بخط السلطان.
حسبي الله ونعم الوكيل.
وكان في الكتاب: والآن قد سرت بنا المقادير إلى هلاك كل عدو في الدين، ولم يبق علينا من المهمات إلا خدمة سيدنا ومولانا القائم بأمر الله أمير المؤمنين، وإطلاع أبهة إمامته على سرير عزه، فإن الذي يلزمنا ذلك، ولا فسحة في التقصير فيه ساعة من الزمان، وقد أقبلنا بجنود المشرق وخيولها إلى هذا المهم العظيم، ونريد من الامير الجليل علم الدين إبانة النجح الذي وفق له وتفرد به وهو أن يتم وفاءه من إقامته وخدمته، في باب سيدنا ومولانا أمير المؤمنين، إما أن يأتي به مكرما في عزه وإمامته إلى موقف خلافته من مدينة السلام، ويتمثل بين يديه متوليا أمره ومنفذا حكمه، وشاهرا سيفه وقلمه، وذلك المراد، وهو خليفتنا وتلك الخدمة بعض ما يجيب له، ونحن نوليك العراق بأسرها ونصفي لك مشارع برها وبحرها، لا يطؤها حافر خيل من خيول العجم شبرا من أراضي تلك المملكة، إلا ملتمسا لمعاونتك ومظاهرتك، وإما أن تحافظ على شخصه الغالي بتحويله من القلعة إلى حين نحظى بخدمته، فليمتثل ذلك ويكون الامير الجليل مخيرا بين أن يلقانا أو يقيم حيث يشاء فنوليه العراق كلها، ونستخلفه في الخدمة الامامية، ونصرف أعيننا إلى الممالك الشرقية، فهمتنا لا تقتضي إلا هذا.
فعند ذلك كتب قريش إلى مهاوش بن مجلي الذي عنده الخليفة يقول له: إن المصلحة تقتضي تسليم الخليفة إلي، حتى آخذ لي ولك به أمانا، فامتنع عليه مهارش وقال قد غرني البساسيري
ووعدني بأشياء لم أرها، ولست بمرسله إليك أبدا، وله في عنقي أيمان كثيرة لا أغدرها، وكان مهارش هذا رجلا صالحا، فقال للخليفة: إن المصلحة تقتضي أن نسير إلى بلد بدر بن مهلهل، وننظر ما يكون من أمر السلطان طغرلبك، فإن ظهر دخلنا بغداد، وإن كانت الاخرى نظرنا لانفسنا، فإني أخشى من البساسيري أن يأتينا فيحضرنا.
فقال له الخليفة: افعل ما فيه المصلحة.
فسارا في الحادي عشر من ذي القعدة إلى أن حصلا بقلعة تل عكبرا، فتلقته رسل السلطان طغرلبك بالهدايا التي كان أنفذها، وجاءت الاخبار بأن السلطان طغرلبك قد دخل بغداد، وكان يوما مشهودا، غير أن الجيش نهبوا البلد غير دار الخليفة، وصودر خلق كثير من التجار، وأخذت منهم أموال كثيرة، وشرعوا في عمارة دار الملك، وأرسل السلطان إلى الخليفة مراكب كثيرة من أنواع الخيول وغيرها، وسرادق وملابس، وما يليق بالخليفة في السفر، أرسل ذلك مع الوزير عميد الملك الكندري، ولما انتهوا إلى الخليفة أرسلوا بتلك الآلات إليه قبل أن يصلوا إليه، وقالوا: اضربوا السرادق وليلبس الخليفة ما يليق به، ثم نجئ نحن ونستأذن عليه فلا يأذن لنا إلا بعد ساعة طويلة، فلما فعلوا ذلك دخل الوزير ومن معه فقبلوا الارض بين يديه، وأخبروه بسرور السلطان بسلامته، وبما حصل من العود إلى بغداد، وكتب عميد الملك كتابا إلى السلطان يعلمه بصفة ما جرى، وأحب أن يضع الخليفة علامته في أعلا الكتاب ليكون أقر لعين السلطان، وأحضر الوزير دواته ومعها سيف

وقال: هذه خدمة السيف والقلم، فأعجب الخليفة ذلك، وترحلوا من منزلهم ذلك بعد يومين، فلما وصلوا النهروان خرج السلطان لتلقي الخليفة، فلما وصل السلطان إلى سرادق الخليفة قبل الارض سبع مرات بين يدي الخليفة، فأخذ الخليفة مخدة فوضعها بين يديه فأخذها الملك فقبلها، ثم جلس عليها كما أشار الخليفة، وقدم إلى الخليفة الحبل الياقوت الاحمر الذي كان لبني بويه، فوضعه بين يديه، وأخرج اثنتي عشرة حبة من لؤلؤ كبار، وقال أرسلان خاتون - يعني زوجة الملك - تخدم الخليفة، وسأله أن يسبح بهذه المسبحة، وجعل يعتذر من تأخره عن الحضرة بسبب عصيان أخيه فقتله، واتفق موت أخي الاكبر أيضا، فاشتغلت بترتيب أولاده من بعده، وأنا شاكر لمهارش بما كان
منه من خدمة أمير المؤمنين، وأنا ذاهب إن شاء الله خلف الكلب البساسيري، فأقتله إن شاء الله، ثم أدخل الشام وأفعل بصاحب مصر ما ينبغي أن يجازى به من سوء المقابلة، فدعا له الخليفة، وأعطى الخليفة للملك سيفا كان معه، لم يبق معه من أمور الخلافة سواه، واستأذن الملك لبقية الجيش أن يخدموا الخليفة، فرفعت الاستار عن جوانب الحركات، فلما شاهد الاتراك الخليفة قبلوا الارض، ثم دخلوا بغداد يوم الاثنين لخمس بقين من ذي القعدة، وكان يوما مشهودا: الجيش كله معه والقضاة والاعيان والسلطان آخذ بلجام بغلته، إلى أن وصل باب الحجرة، ثم إنه لما وصل الخليفة إلى دار مملكته استأذنه السلطان في الذهاب وراء البساسيري، فأرسل جيشا (1) من ناحية الكوفة ليمنعوه من الدخول إلى الشام، وخرج هو والناس في التاسع والعشرين من الشهر.
وأما البساسيري فإنه مقيم بواسط في جمع غلات وأمور يهيئها لقتال السلطان، وعنده أن الملك طغرلبك ومن عنده ليسوا بشئ يخاف منه، وذلك لما يريده الله تعالى من إهلاكه إن شاء الله.
مقتل البساسيري على يدي السلطان طغرلبك لما سار السلطان وراءه وصلت السرية الاولى فلقوه بأرض واسط ومعه ابن مزيد، فاقتتلوا هنالك وانهزم أصحابه عنه، ونجا البساسيري بنفسه على فرس، فتبعه بعض الغلمان فرمي فرسه بنشابة فألقته إلى الارض، فجاء الغلام فضربه على وجهه ولم يعرفه، وأسره واحد منهم يقال له كمسكين (2)، فحز رأسه وحمله إلى السلطان، وأخذت الاتراك من جيش البساسيري من الاموال ما عجزوا عن حمله، ولما وصل الرأس إلى السلطان أمر أن يذهب به إلى بغداد، وأن يرفع على رمح، وأن يطاف به في المحال وأن يطوف معه الدبادب والبوقات والنفاطون، وأن يخرج الناس والنساء للفرجة عليه، ففعل ذلك، ثم نصب على الطيارة تجاه دار الخليفة، وقد كان مع البساسيري خلق من البغاددة خرجوا معه، ظانين أنه سيعود إلى بغداد، فهلكوا ونهبت أموالهم، ولم ينج من أصحابه
__________
(1) عليه خمارتكين الطغرائي في ألفي فارس (الكامل - العبر).
(2) في الكامل 9 / 649: كمشتكين دواتي عميد الملك الكندري، وفي العبر 3 / 465: لمتنكيرز.

إلا القليل، وفر ابن مزيد في ناس قليل إلى البطيحة، ومعه أولاد البساسيري وأمهم، وقد سلبتهم الاعراب فلم يتركوا لهم شيئا.
ثم استؤمن لابن مزيد من السلطان ودخل معه بغداد، وقد نهبت العساكر ما بين واسط والبصرة والاهواز، وذلك لكثرة الجيش وانتشاره وكثافته.
وأما الخليفة فإنه حين عاد إلى دار الخلافة جعل لله عليه أن لا ينام على وطاء ولا يأتيه أحد بطعام إذا كان صائما، ولا يخدمه في وضوئه وغسله أحد، بل يتولى ذلك كله بنفسه لنفسه، وعاهد الله أن لا يؤذي أحدا ممن آذاه، وأن يصفح عن من ظلمه، وقال: ما عاقبت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه.
وفيها تولى الملك ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق بلاد حران بعد وفاة أبيه، بتقرير عمه طغرلبك، وكان له من الاخوة سليمان وقاروت بك، وياقوتي، فتزوج طغرلبك بأم سليمان.
وفيها كان بمكة رخص لم يسمع بمثله، بيع التمر والبر كل مائتي رطل بدينار.
ولم يحج أحد من أهل العراق فيها.
ترجمة أرسلان أبو الحارس (1) البساسيري التركي كان من مماليك بهاء الدولة، وكان أولا مملوكا لرجل من أهل مدينة بسا (2)، فنسب إليه فقيل له البساسيري، وتلقب بالملك المظفر، ثم كان مقدما كبيرا عند الخليفة القائم بأمر الله، لا يقطع أمرا دونه، وخطب له على منابر العراق كلها، ثم طغى وبغى وتمرد، وعتا وخرج على الخليفة والمسلمين ودعا إلى خلافة الفاطميين، ثم انقضى أجله في هذه السنة، وكان دخوله إلى بغداد بأهله في سادس ذي القعدة من سنة خمسين وأربعمائة، ثم اتفق خروجهم منها في سادس ذي القعدة أيضا من سنة إحدى وخمسين، بعد سنة كاملة، ثم كان خروج الخليفة من بغداد في يوم الثلاثاء الثاني عشر من كانون الاول، واتفق قتل البساسيري في يوم الثلاثاء الثامن عشر من كانون الاول، بعد سنة شمسية، وذلك في ذي الحجة منها.
الحسن بن الفضل (3) أبو علي الشرمقاني المؤدب المقري الحافظ للقرآن والقراءات، واختلافها، كان ضيق الحال
__________
(1) في الكامل 9 / 650 ووفيات الاعيان 1 / 192 والوافي 8 / 340 والمنتظم 8 / 201: أبو الحارث.
(2) والعرب يقولون فسا والنسبة إليها فسوي (العبر 3 / 465 ووفيات الاعيان 1 / 193).
وفي الكامل 9 / 650: فساوى، فقال العرب: فساسيري بدل بساسيري، والنسبة شاذة على غير القياس.
(3) في الوافي 12 / 202، الحسن بن أبي الفضل وانظر ترجمته في تاريخ بغداد 7 / 402 المنتظم 8 / 212 غاية النهاية 1 / 227.

فرآه شيخه ابن العلاف ذات يوم وهو يأخذ أوراق الخس من دجلة ويأكلها، فأعلم ابن المسلمة بحاله، فأرسل ابن المسلمة غلاما له وأمره أن يذهب إلى الخزانة التي له بمسجده فيتخذ لها مفتاحا غير مفتاحه، ثم كان كل يوم يضع فيها ثلاثة أرطال من خبز السميد، ودجاجة، وحلاوة السكر، فظن أبو علي الشرمقاني أن ذلك كرامة أكرمه الله بها، وأن هذا الطعام الذي يجده في خزانته من الجنة، فكتمه زمانا وجعل ينشد: من أطلعوه على سر فباح به * لم يأمنوه على الاسرار ما عاشا وأبعدوه فلم يظفر بقربهم * وأبدلوه فكان الانس إيحاشا فلما كان في بعض الايام ذاكره ابن العلاف في أمره، وقال له فيما قال: أراك قد سمنت فما هذا الامر، وأنت رجل فقير ؟ فجعل يلوح ولا يصرح، ويكنى ولا يفصح، ثم ألح عليه فأخبره أنه يجد كل يوم في خزانته من طعام الجنة ما يكفيه، وأن هذا كرامة أكرمه الله بها، فقال له: ادع لابن المسلمة فإنه الذي يفعل ذلك، وشرح له صورة الحال، فكسره ذلك ولم يعجبه.
علي بن محمود بن إبراهيم بن ماجره أبو الحسن الزوزني (1)، شيخ الصوفية، وإليه ينسب الرباط الزوزني، وقد كان بنى لابي الحسن شيخه، وقد صحب أبا عبد الرحمن السلمي، وقال: صحبت ألف شيخ، وأحفظ عن كل شيخ حكاية توفي في رمضان عن خمس وثمانين سنة.
محمد بن علي ابن الفتح بن محمد بن علي بن أبي طالب الحربي، المعروف بالعشاري، لطول جسده، وقد
سمع الدارقطني وغيره، وكان ثقة دينا صالحا، توفي في جمادى الاولى منها، وقد نيف على الثمانين.
الوني الفرضي الحسين بن محمد بن عبد الله أبو عبد الله الوني، نسبة إلى ون قرية من أعمال جهستان (2)، الفرضي شيخ الحربي، وهو أبو حكيم عبد الله بن إبراهيم، كان الوني إماما في الحساب والفرائض، وانتفع الناس به، توفي فيها ببغداد شهيدا في فتنة البساسيري والله أعلم.
__________
(1) الزوزني: نسبة إلى زوزن بلد بين هراة ونيسابور، وفي المطبوعة: " الروزني " تحريف.
(2) في معجم البلدان ون بالفتح وتشديد النون قرية من قرى قوهستان وإليها ينسب الوني صاحب كتاب الفرائض.

ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة في يوم الخميس السابع عشر من صفر، دخل السلطان بغداد مرجعه من واسط، بعد قتل البساسيري، وفي يوم الحادي والعشرين جلس الخليفة في داره وأحضر الملك طغرلبك، ومد سماطا عظيما فأكل الامراء منه والعامة، ثم في يوم الخميس ثاني ربيع الاول عمل السلطان سماطا للناس، وفي يوم الثلاثاء تاسع جمادى الآخرة قدم الامير عدة الدين أبو القاسم عبد الله بن ذخيرة الدين بن أمير المؤمنين القائم بأمر الله.
وعمته، وله من العمر يومئذ أربع سنين، صحبة أبي الغنائم، فتلقاه الناس إجلالا لجده، وقد ولي الخلافة بعد ذلك، وسمي المقتدي بأمر الله.
وفي رجب وقف أبو الحسن محمد بن هلال العتابي دار كتب، وهي دار بشارع ابن أبي عوف من غربي بغداد، ونقل إليها ألف كتاب، عوضا عن دار أزدشير التي أحرقت بالكرخ.
وفي شعبان ملك محمود بن نصر حلب وقلعتها فامتدحه الشعراء.
وفيها ملك عطية بن مرداس الرحبة، وذلك كله منتزع من أيدي الفاطميين.
ولم يحج أحد من أهل العراق فيها، غير أن جماعة اجتمعوا إلى الكوفة وذهبوا مع الخفراء.
وممن توفي فيها من الاعيان...أبو منصور الجيلي
من تلاميذ أبي حامد، ولي القضاء بباب الطاق.
وبحريم دار الخلافة، وسمع الحديث من جماعة.
قال الخطيب: وكتبنا عنه وكان ثقة.
الحسن بن محمد ابن أبي الفضل أبو محمد الفسوي، الوالي، سمع الحديث، وكان ذكيا في صناعة الولاية، ومعرفة التهم والمتهومين من الغرماء، بلطيف من الصنيع، كما نقل عنه أنه أوقف بين يديه جماعة اتهموا بسرقة فأتى بكوز يشرب منه، فرمي به فانزعج الواقفون إلا واحدا، فأمر به أن يقرر، وقال السارق يكون جريئا قويا، فوجد الامر كذلك، وقد قتل مرة رجلا في ضرب بين يديه فادعى عليه عند القاضي أبي الطيب، فحكم عليه بالقصاص، ثم فادى عن نفسه بمال جزيل حتى خلص.
محمد بن عبيد الله ابن أحمد بن محمد بن عمروس، أبو الفضل البزار، انتهت إليه رياسة الفقهاء المالكيين

ببغداد، وكان من القراء المجيدين، وأهل الحديث المسندين، سمع ابن حبانة والمخلص وابن شاهين، وقد قبل شهادته أبو عبد الله الدامغاني، وكان أحد المعدلين.
قطر الندى ويقال الدجى، ويقال علم، أم الخليفة القائم بأمر الله، كانت عجوزا كبيرة، بلغت التسعين، وهي التي احتاجت في زمان البساسيري فأجرى عليها رزقا، وأخدمها جاريتين، ثم لم تمت حتى أقر الله عينها بولدها، ورجوعه إليها، واستمر أمرهم على ما كانوا عليه، ثم توفيت في هذه السنة، فحضر ولدها الخليفة جنازتها، وكانت حافلة جدا ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة فيها خطب الملك طغرلبك ابنة الخليفة، فانزعج الخليفة من ذلك، وقال: هذا شئ لم تجر العادة بمثله، ثم طلب شيئا كثيرا كهيئة الفرار.
من ذلك ما كان لزوجته التي توفيت من الاقطاعات بأرض واسط، وثلثمائة ألف دينار، وأن يقيم الملك ببغداد لا يرحل عنها ولا يوما واحدا، فوقع
الاتفاق على بعض ذلك، وأرسل إليها بمائة ألف دينار مع ابنة أخيه داود زوجة الخليفة، وأشياء كثيرة من آنية الذهب والفضة، والنثار والجواري، ومن الجواهر ألفان ومائتي قطعة، من ذلك سبعمائة قطعة من جوهر، وزن القطعة ما بين الثلاث مثاقيل إلى المثقال، وأشياء أخرى.
فتمنع الخليفة لفوات بعض الشروط، فغضب عميد الملك الوزير لمخدومه السلطان، وجرت شرور طويلة اقتضت أن أرسل السلطان كتابا يأمر الخليفة بانتزاع ابنة أخيه السيدة أرسلان خاتون، ونقلها من دار الخلافة إلى دار الملك، حتى تنفصل هذه القضية، فعزم الخليفة على الرحيل من بغداد، فانزعج الناس لذلك، وجاء كتاب السلطان إلى رئيس شحنة بغداد برشتق يأمره بعدم المراقبة وكثرة العسف في مقابلة رد أصحابه بالحرمان، ويعزم على نقل الخاتون إلى دار الملكة، وأرسل من يحملها إلى البلد التي هو فيها، كل ذلك غضبا على الخليفة.
قال ابن الجوزي: وفي رمضان منها رأى إنسان من الزمنى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وهو قائم ومعه ثلاثة أنفس، فجاءه أحدهم فقال له: ألا تقوم ؟ فقال: لا أستطيع، أنا رجل مقعد، فأخذ بيده فقال: قم، فقام وانتبه.
فإذا هو قد برأ وأصبح يمشي في حوائجه.
وفي ربيع الآخر استوزر الخليفة أبا الفتح منصور بن أحمد بن دارست الاهوازي، وخلع عليه وجلس في ملجس الوزارة.
وفي جمادى الآخرة (1) لليلتين بقيتا منه كسفت الشمس كسوفا عظيما، جميع القرص غاب، فمكث الناس أربع ساعات حتى بدت النجوم وآوت الطيور إلى
__________
(1) في الكامل 10 / 19: الاولى.

أوكارها، وتركت الطيران لشدة الظلمة.
وفيها ولي أبو تميم (1) بن معز الدولة بلاد إفريقية.
وفيها ولي ابن نصر الدولة أحمد بن مروان الكردي ديار بكر.
وفيها ولي (2) قريش بن بدران بلاد الموصل ونصيبين.
وفيها خلع على طراد بن محمد الزينبي الملقب بالكامل نقابة الطالبيين، ولقب المرتضى.
وفيها ضمن أبو إسحاق بن علاء اليهودي، ضياع الخليفة من صرصر إلى أواثى، كل سنة ستة وثمانين ألف دينار، وسبع عشرة ألف كر من غلة.
ولم يحج أحد من أهل العراق هذه السنة.
وممن توفي فيها من الاعيان...أحمد بن مروان أبو نصر الكردي، صاحب بلاد بكر وميا فارقين، لقبه القادر نصر الدولة، وملك هذه البلاد ثنتين وخمسين سنة، وتنعم تنعما لم يقع لاحد من أهل زمانه، ولا أدركه فيه أحد من أقرانه، وكان عنده خمسمائة سرية سوى من يخدمهن، وعنده خمسمائة خادم، وكان عنده من المغنيات شئ كثير كل واحدة مشتراها خمسة آلاف دينار، وأكثر، وكان يحضر في مجلسه من آلات اللهو والاواني ما يساوي مائتي ألف دينار، وتزوج بعدة من بنات الملوك، وكان كثير المهادنة للملوك، إذا قصدوه عدو أرسل إليه بمقدار ما يصالحه به، فيرجع عنه.
وقد أرسل إلى الملك طغرلبك بهدية عظمية حين ملك العراق، من ذلك حبل من ياقوت كان لبني بويه اشتراه منهم بشئ كثير، ومائة ألف دينار، وغير ذلك، وقد وزر له أبو القاسم المغربي مرتين، ووزر له أيضا أبو نصر محمد بن محمد بن جهير، وكانت بلاده آمن البلاد، وأطيبها وأكثرها عدلا، وقد بلغه أن الطيور تجوع فتجمع في الشتاء من الحبوب التي في القرى فيصطادها الناس، فأمر بفتح الاهراء وإلقاء ما يكفيها من الغلات في مدة الشتاء، فكانت تكون في ضيافته طول الشتاء مدة عمره، توفي في هذه السنة وقد قارب الثمانين (3).
قال ابن خلكان: قال ابن الازرق في تاريخه: إنه لم يصادر أحدا من رعيته سوى رجل واحد، ولم تفته صلاة مع كثرة مباشرته للذات، وكان له ثلاثمائة وستون حظية، يبيت عند كل واحدة ليلة في السنة، وخلف أولادا كثيرة، ولم يزل على ذلك إلى أن توفي في التاسع والعشرين من شوال منها.
__________
(1) كذا بالاصل، والصواب أن المعز بن باديس أبو تميم قد توفي في هذه السنة وتولى ابنه تميم بن المعز الملك في إفريقيا.
(الكامل 10 / 15 مختصر أخبار البشر 2 / 180).
(2) كذا بالاصل، والصحيح أن قريش قد توفي هذه السنة في نصيبين ودفن فيها وأجمع بنو عقيل فأمروا ابنه أبا المكارم مسلم بن قريش عليهم (الكامل 10 / 17 - تاريخ أبي الفداء 2 / 180).
(3) في الكامل 10 / 17 وتاريخ أبي الفداء 2 / 181: وكان عمره نيفا وثمانين سنة.

ثم دخلت سنة أربع وخمسين وأربعمائة فيها وردت الكتب الكثيرة من الملك طغرلبك يشكو من قلة إنصاف الخليفة، وعدم موافقته له، ويذكر ما أسداه إليه من الخير والنعم إلى ملوك الاطراف، وقاضي القضاة الدامغاثي، فلما رأى الخليفة ذلك، وأن الملك أرسل إلى نوابه بالاحتياط على أموال الخليفة، كتب إلى الملك يجيبه إلى ما سأل، فلما وصل ذلك إلى الملك فرح فرحا شديدا، وأرسل إلى نوابه أن يطلقوا أملاك الخليفة، واتفقت الكلمة بعد أن كادت تتفرق، فوكل الخليفة في العقد.
فوقع العقد بمدينة تبريز بحضرة الملك طغرلبك، وعمل سماطا عظيما، فلما جئ بالوكلة قام لها الملك وقبل الارض عند رؤيتها، ودعا للخليفة دعاء كثيرا، ثم أوجب العقد على صداق أربعمائة ألف دينار، وذلك في يوم الخميس الثالث عشر من شعبان من هذه السنة، ثم بعث ابنة أخيه الخاتون زوجة الخليفة في شوال بتحف كثيرة، وجوهر وذهب كثير، وجواهر عديدة ثمينة، وهدايا عظيمة لام العروس وأهلها، وقال الملك جهرة للناس: أنا عبد الخليفة ما بقيت، لا أملك شيئا سوى ما علي من الثياب.
وفيها عزل الخليفة وزير واستوزر أبا نصر محمد بن محمد بن جهير (1)، استقدمه من ميافارقين.
وفيها عم الرخص جميع الارض حتى بيع بالبصرة كل ألف رطل تمر بثمان قراريط، ولم يحج فيها أحد.
وممن توفي فيها من الاعيان...ثمال بن صالح معز الدولة، صاحب حلب، كان حليما كريما وقورا.
ذكر ابن الجوزي أن الفراش تقدم إليه ليغسل يده فصدمت بلبلة الابريق ثنيته فسقطت في الطست، فعفا عنه.
الحسن بن علي بن محمد أبو محمد الجوهري، ولد في شعبان سنة ثلاث وستين، وسمع الحديث على جماعة، وتفرد بمشايخ كثيرين، منهم أبو بكر بن مالك القطيعي، وهو آخر من حدث عنه، توفي في ذي القعدة منها.
__________
(1) من الفخري ص 293 والكامل لابن الاثير 10 / 23 وتاريخ أبي الفداء 2 / 181.
قال الفخري: وهو فخر الدولة
كان من عقلاء الرجال ودهاتهم، كان في ابتداء أمره فقيرا وترامت به الاسباب فأثرى ثروة ضخمة...حتى استوزره القائم وخلع عليه خلع الوزارة.

الحسين بن أبي زيد أبو علي الدباغ.
قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام.
فقلت: يا رسول الله ادع الله أن يميتني على الاسلام.
فقال: وعلى السنة.
سعد بن محمد بن منصور أبو المحاسن الجرجاني، كان رئيسا قديما، وجه رسولا إلى الملك محمود بن سبكتكين في حدود سنة عشر، وكان من الفقهاء العلماء، تخرج به جماعة، وروى الحديث عن جماعة، وعقد له مجلس المناظرة ببلدان كثيرة، وقتل ظلما باستراباذ في رجب منها رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة خمس وخمسين وأربعمائة فيها دخل السلطان طغرلبك بغداد، وعزم الخليفة على تلقيه، ثم ترك ذلك وأرسل وزيره أبا نصر عوضا عنه، وكان من الجيش أذية كثيرة للناس في الطريق، وتعرضوا للحريم حتى هجموا على النساء في الحمامات، فخلصهن منهم العامة بعد جهد.
فإنا لله وإنا إليه راجعون.
دخول الملك طغرلبك على بنت الخليفة لما استقر السلطان ببغداد أرسل وزيره عميد الملك إلى الخليفة يطالبه بنقل ابنته إلى دار المملكة فتمنع الخليفة من ذلك وقال: إنكم إنما سألتم أن يعقد العقد فقط بحصول التشريف والتزمتم لها بعود المطالبة، فتردد الناس في ذلك بين الخليفة والملك، وأرسل الملك زيادة على النقد مائة ألف دينار ومائة وخمسين ألف درهم، وتحفا أخر، وأشياء لطيفة، فلما كان ليلة الاثنين الخامس عشر من صفر زفت السيدة ابنة الخليفة إلى دار المملكة، فضربت لها السرادقات من دجلة إلى دار المملكة، وضربت الدبادب والبوقات عند دخولها إلى الدار، فلما دخلت أجلست على سرير مكلل بالذهب، وعلى وجهها برقع، ودخل الملك طغرلبك فوقف بين يديها فقبل الارض، ولم تقم له ولم تره، ولم
يجلس حتى انصرف إلى صحن الدار، والحجاب والاتراك يرقصون هناك فرحا وسرورا، وبعث لها مع الخاتون زوجة الخليفة عقدين فاخرين، وقطعة ياقوت حمراء، كبيرة هائلة، ودخل من الغد فقبل الارض وجلس على سرير مكلل بالفضة بإزائها ساعة، ثم خرج وأرسل لها جواهر كثيرة ثمينة وفرجية نسج بالذهب مكلل بالحب، وما زال كذلك كل يوم يدخل ويقبل الارض ويجلس على سرير بإزائها، ثم يخرج عنها ويبعث بالتحف والهدايا، ولم يكن منه إليها شئ، مقدار سبعة إيام، ويمد كل يوم من هذه الايام السبعة سماطا هائلا، وخلع في اليوم السابع على جميع الامراء، ثم عرض له

سفر واعتراه مرض فاستأذن الخليفة في الانصراف بالسيدة معه إلى تلك البلاد، ثم يعود بها، فأذن له بعد تمنع شديد، وحزن عظيم، فخرج بها وليس معها من دار الخلافة سوى ثلاث نسوة، برسم خدمتها، وقد تألمت والدتها لفقدها ألما شديدا، وخرج السلطان وهو مريض مدنف مأيوس منه.
فلما كانت ليلة الاحد الرابع والعشرين من رمضان جاء الخبر بأنه توفي في ثامن الشهر، فثار العيارون فقتلوا العميدي وسبعمائة من أصحابه، ونهبوا الاموال، وجعلوا يأكلون ويشربون على القتلى نهارا، حتى انسلخ الشهر وأخذت البيعة بعده لولد أخيه سليمان بن داود، وكان ظغرلبك قد نص عليه وأوصى إليه، لانه كان قد تزوج بأمه، واتفقت الكلمة عليه، ولم يبق عليه خوف إلا من جهة أخي سليمان، وهو الملك عضد الدولة ألب أرسلان، محمد بن داود، فإن الجيش كانوا يميلون إليه، وقد خطب له أهل الجبل ومعه نظام الملك أبو علي الحسن بن علي بن إسحاق وزيره، ولما رأى الكندري قوة أمره خطب له بالري، ثم من بعده لاخيه سليمان بن داود.
وقد كان الملك طغرلبك حليما كثير الاحتمال، شديد الكتمان للسر، محافظا على الصلوات، وعلى صوم الاثنين والخميس، مواظبا على لبس البياض، وكان عمره يوم مات سبعين سنة، ولم يترك ولدا، وملك بحضرة القائم بأمر الله سبع سنين وإحدى عشر شهرا، واثني عشر يوما، ولما مات اضطربت الاحوال وانتقضت بعده جدا، وعاثت الاعراب في سواد بغداد وأرض العراق، ينهبون، وتعذرت الزراعة إلا على المخاطرة، فانزعج الناس لذلك.
وفيها كانت زلزلة عظيمة بواسط وأرض الشام، فهدمت قطعة من سور طرابلس.
وفيها وقع بالناس موتان بالجدري والفجأة، ووقع بمصر وباء شديد، كان يخرج منها كل يوم ألف جنازة.
وفيها ملك الصليحي صاحب اليمن مكة، وجلب الاقوات إليها، وأحسن إلى أهلها.
وفي أوائلها طلبت الست أرسلان زوجة الخليفة النقلة من عنده إلى عمها، وذلك لما هجرها وبارت عنده، فبعثها مع الوزير الكندري إلى عمها، فلما وصلت إليه كان مريضا مدنفا، فأرسل إلى الخليفة يعتب عليه في تهاونه بها، فكتب الخليفة إليه ارتجالا: ذهبت شرتي وولى الغرام * وارتجاع الشباب ما لا يرام أذهبت مني الليالي جديدا * والليالي يضعفن والايام فعلى ما عهدته من شبابي * وعلى الغانيات مني السلام وممن توفي فيها من الاعيان...

زهير بن علي بن الحسن بن حزام (1) أبو نصر الحزامي، ورد بغداد وتفقه على الشيخ أبي حامد الاسفراييني، وسمع بالبصرة سنن أبي داود على القاضي أبي عمر، وحدث بالكثير، وكان يرجع إليه في الفتاوى، وحل المشكلات، وكانت وفاته بسرخس فيها.
سعيد بن مروان صاحب آمد، ويقال إنه سم، فانتقم صاحب ميافارقين ممن سمه، فقطعه قطعا.
الملك أبو طالب محمد بن ميكائيل بن سلجوق طغرلبك، كان أول ملوك السلاجقة، وكان خيرا مصليا، محافظا على الصلاة في أول وقتها، يديم صيام الاثنين والخميس، حليما عمن أساء إليه، كتوما للاسرار سعيدا في حركاته، ملك في أيام مسعود بن محمود عامة بلاد خراسان، واستناب أخاه داود وأخاه لامه إبراهيم بن ينال، وأولاد إخوته، على كثير من البلاد، ثم استدعاه الخليفة إلى ملك بغداد
كما تقدم ذلك كله مبسوطا.
توفي في ثامن رمضان من هذه السنة، وله من العمر سبعون سنة، وكان له في الملك ثلاثون سنة، منها في ملك العراق ثمان سنين إلا ثمانية عشر يوما.
ثم دخلت سنة ست وخمسين وأربعمائة فيها قبض السلطان ألب أرسلان على وزير عمه عميد الملك الكندري، وسجنه ببيته ثم أرسل إليه من قتله، واعتمد في الوزارة على نظام الملك، وكان وزير صدق، يكرم العلماء والفقراء، ولما عصى الملك شهاب الدولة قتلمش (2)، وخرج عن الطاعة، وأراد أخذ ألب أرسلان، خاف منه ألب أرسلان فقال له الوزير: أيها الملك لا تخف، فإني قد استدمت لك جندا ما بارزوا عسكرا إلا كسروه، كائنا من كان.
قال له الملك: من هم ؟ قال: جند يدعون لك وينصرونك بالتوجه في صلواتهم وخلواتهم، وهم العلماء والفقراء الصلحاء.
فطابت نفس الملك بذلك، فحين التقى مع قتلمش لم ينظره أن كسره، وقتل خلقا من جنوده، وقتل قتلمش في المعركة، واجتمعت الكلمة على
__________
(1) في الكامل 10 / 30: زهير بن الحسين بن علي، أبو نصر الجدامي.
(2) في العبر لابن خلدون 3 / 468: قطلمش، وفي تاريخ أبي الفداء 2 / 184: قطلومش.

ألب أرسلان.
وفيها أرسل ولده ملكشاه ووزيره نظام الملك هذا في جنود عظيمة إلى بلاد الكرج (1)، ففتحوا حصونا كثيرة، وغنموا أموالا جزيلة، وفرح المسلمون بنصرهم، وكتب كتاب ولده على ابنة الخان الاعظم صاحب ما وراء النهر، وزفت إليه، وزوج ابنه الآخر (2) بابنة صاحب غزنة، واجتمع شمل الملكين السلجوقي والمحمودي وفيها أذن ألب أرسلان لابنة الخليفة في الرجوع إلى أبيها، وأرسل معها بعض القضاة والامراء فدخلت بغداد في تجمل عظيم، وخرج الناس لينظروا إليها، فدخلت ليلا، ففرح الخليفة وأهلها بذلك، وأمر الخليفة بالدعاء لالب أرسلان على المنابر في الخطب، فقيل في الدعاء: اللهم وأصلح السلطان المعظم، عضد الدولة، وتاج الملة، ألب أرسلان أبا شجاع محمد بن داود، ثم أرسل الخليفة إلى الملك بالخلع والتقليد، مع الشريف نقيب النقباء، طراد بن محمد، وأبي محمد التميمي،
وموفق الخادم واستقر أمر السلطان ألب أرسلان على العراق.
قال ابن الجوزي: وفي ربيع الاول شاع في بغداد أن قوما من الاكراد خرجوا يتصيدون فرأوا في البرية خياما سودا، سمعوا بها لطما شديدا، وعويلا كثيرا، وقائلا يقول: قد مات سيدوك ملك الجن، وأي بلد لم يلطم به عليه، ولم يقم له مأتم فيه.
قال: فخرج النساء العواهر من حريم بغداد إلى المقابر يلطمن ثلاثة أيام، ويخرقن ثيابهن وينشرن شعورهن، وخرج رجال من الفساق يفعلون ذلك، وفعل هذا بواسط وخوزستان وغيرها من البلاد، قال: وهذا من الحمق لم ينقل مثله.
قال ابن الجوزي: وفي يوم الجمعة ثاني عشر شعبان هجم قوم من أصحاب عبد الصمد على أبي علي بن الوليد، المدرس للمعتزلة فسبوه وشتموه لامتناعه من الصلاة في الجامع، وتدريسه للناس بهذا المذهب، وأهانوه وجروه، ولعنت المعتزلة في جامع المنصور، وجلس أبو سعيد بن أبي عمامة وجعل يلعن المعتزلة.
وفي شوال ورد الخبر أن السلطان غزا بلدا عظيما فيه ستمائة ألف دنليز، وألف بيعة ودير، وقتل منهم خلقا كثيرا، وأسر خمسمائة ألف إنسان.
وفي ذي القعدة حدث بالناس وباء شديد ببغداد وغيرها من بلاد العراق.
وغلت أسعار الادوية، وقل التمر هندي، وزاد الحر في تشارين، وفسد الهواء، وفي هذا الشهر خلع على أبي الغنائم المعمر بن محمد بن عبيد الله العلوي بنقابة الطالبيين، وولاية الحج والمظالم، ولقب بالطاهر ذي المناقب، وقرئ تقليده في الموكب.
وحج أهل العراق في هذه السنة.
وممن توفي فيها من الاعيان...
__________
(1) من الكامل 10 / 38 وفي الاصل والعبر 3 / 469: الكرخ.
(2) ملكشاه تزوج بابنة خاقان، وارسلانشاه بابنة صاحب غزنة (الكامل - العبر).

ابن حزم الظاهري هو الامام الحافظ العلامة، أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح بن خلف بن معد بن سفيان بن يزيد، مولى يزيد بن أبي سفيان صخر بن حرب الاموي، أصل جده
من فارس، أسلم وخلف المذكور، وهو أول من دخل بلاد المغرب منهم، وكانت بلدهم قرطبة، فولد ابن حزم هذا بها في سلخ رمضان، سنة أربع وثمانين وثلثمائة، فقرأ القرآن واشتغل بالعلوم النافعة الشرعية، وبرز فيها وفاق أهل زمانه، وصنف الكتب المشهورة، يقال إنه صنف أربعمائة مجلد في قريب من ثمانين ألف ورقة، وكان أديبا طبيبا شاعرا فصيحا، له في الطب والمنطق كتب، وكان من بيت وزارة ورياسة، ووجاهة ومال وثروة، وكان مصاحبا للشيخ أبي عمر بن عبد البر النمري، وكان مناوئا للشيخ أبي الوليد سليمان بن خلف الباجي، وقد جرت بينهما مناظرات يطول ذكرها، وكان ابن حزم كثير الوقيعة في العلماء بلسانه وقلمه، فأورثه ذلك حقدا في قلوب أهل زمانه، وما زالوا به حتى بغضوه إلى ملوكهم، فطردوه عن بلاده، حتى كانت وفاته في قرية له في شعبان من هذه السنة وقد جاوز التسعين (1).
والعجب كل العجب منه أنه كان ظاهريا حائرا في الفروع، لا يقول: بشئ من القياس لا الجلي ولا غيره، وهذا الذي وضعه عند العلماء، وأدخل عليه خطأ كبيرا في نظره وتصرفه وكان مع هذا من أشد الناس تأويلا في باب الاصول، وآيات الصفات وأحاديث الصفات، لانه كان أولا قد تضلع من علم المنطق، أخذه عن محمد بن الحسن المذحجي الكناني القرطبي، ذكره ابن ماكولا وابن خلكان، ففسد بذلك حاله في باب الصفات.
عبد الواحد بن علي بن برهان أبو القاسم النحوي، كان شرس الاخلاق جدا، لم يلبس سراويل قط ولا غطى رأسه ولم يقبل عطاء لاحد، وذكر عنه أنه كان يقبل المردان من غير ريبة.
قال ابن عقيل: وكان على مذهب مرجئة المعتزلة وينفي خلود الكفار في النار، ويقول: دوام العقاب في حق من لا يجوز عليه التشفي لا وجه له، مع ما وصف الله به نفسه من الرحمة، ويتأول قوله تعالى (خالدين فيها أبدا) [ التوبة: 100 ] أي أبدا من الآباد.
قال ابن الجوزي: وقد كان ابن برهان يقدح في أصحاب أحمد ويخالف اعتقاد المسلمين لانه قد خالف الاجماع، ثم ذكر كلامه في هذا وغيره والله أعلم.
ثم دخلت سنة سبع وخمسين واربعمائة فيها سار جماعة من العراق إلى الحج بخفارة، فلم يمكنهم المسير فعدلوا إلى الكوفة ورجعوا.
__________
(1) كذا بالاصل، وهو خطأ، والصواب " السبعين " إذا نظرنا إلى تاريخ ولادته، وفي تذكرة الحفاظ / 1150: عاش اثنتين وسبعين سنة إلا أشهرا.
وذكر الذهبي وفاته سنة 457 ه.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55