كتاب :البداية والنهاية
الامام الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن كثير الدمشقي

الاتقياء واعزبها عن سبل الخبثاء، وما كان لك من فضل فأعن به من دونك، وما كان فيمن دونك من نقص فأعنه عليه حتى يبلغه، فإن الحكيم من جمع فواضله وعاد بها على من دونه، وينظر في نقائص من دونه فيقويها ويرجيها حتى يبلغه، إن كان فقيها حمل من لا فقه له إذا رأى أنه يريد صحابته ومعونته وإذا كان له مال أعطى منه من لا مال له، وإذا كان مصلحا استغفر للمذنب ورجا توبته، وإذا كان محسنا أحسن إلى من أساء إليه واستوجب بذلك أجره، ولا يعتر بالقول حتى يحسن منه الفعل، فإذا أحسن الفعل نظر إلى فضل الله وإحسانه إليه، ولا يتمنى الفعل حتى يفعله، فإذا بلغ من طاعة الله مبلغا حمد الله على ما بلغ منها ثم طلب ما لم يبلغ منها، وإذا ذكر خطيئة سترها عن الناس واستغفر الله الذي هو قادر على أن يغفرها، وإذا علم من الحكمة شيئا لم يشبعه بل يطلب ما لم يبلغ منها، ثم لا يستعين بشئ من الكذب، فإن الكذب كالاكلة في الجسد تكاد تأكله، أو كالاكلة في الخشب، يرى ظهرها حسنا وجوفها نخر تغر من يراها حتى تنكسر على ما فيها وتهلك من اغتر بها.
وكذلك الكذب في الحديث لا يزال صاحبه يغتر به، يظن أنه معينه على حاجته ورائد له في رغبته، حتى يعرف ذلك منه، ويتبين لذوي العقول غروره، فتستنبط الفقهاء ما كان يستخفي به عنه، فإذا اطلعوا على ذلك من أمره وتبين لهم، كذبوا خبره، وأباروا شهادته، واتهموا صدقه، وحقروا شأنه، وأبغضوا مجلسه، واستخفوا منه بسرائرهم، وكتموه حديثهم، وصرفوا عنه أماناتهم، وغيبوا عنه أمرهم، وحذروه على دينهم ومعيشتهم، ولم يحضروه شيئا من محاضرتهم، ولم يأمنوه على شئ من سرهم، ولم يحكموه فيما شجر بينهم.
وروى عبد المنعم بن إدريس عن أبيه عن وهب قال: قال لقمان لابنه: إن مثل أهل الذكر والغفلة كمثل النور والظلمة.
وقال: قرأت في التوراة أربعة أسطر متواليات: من قرأ كتاب الله فظن أنه لا يغفر له فهو من المستهزئين بآيات الله، ومن شكا مصيبة نزلت به فإنما يشكو ربه عز وجل، ومن أسف على ما فاته من الدنيا سخط قضاء ربه عز وجل، ومن تضعضع لغني ذهب ثلث دينه.
وقال وهب: قرأت في التوراة: أيما دار بنيت بقوة الضعفاء جعلت عاقبتها إلى الخراب، وأيما مال جمع من غير حله أسرع الفقر إلى أهله.
وقال عبد الله بن المبارك: حدثنا معمر، عن محمد بن عمرو قال: سمعت وهب بن منبه يقول: وجدت في بعض الكتب: يقول الله تعالى: إذا أطاعني عبدي استجبت له من قبل أن يدعوني، وأعطيته من قبل أن يسألني، وإن عبدي إذا أطاعني لو أن أهل السموات وأهل الارض أجلبوا عليه جعلت له المخرج من ذلك، وإن عبدي إذا عصاني قطعت يديه من أبواب السماء، وجعلته في الهواء فلا يمتنع من شئ أراده من خلقي.
وقال ابن المبارك أيضا: حدثنا بكار بن عبد الله قال: سمعت وهب بن منبه يقول: قال الله تعالى فيما يعيب به أحبار بنى إسرائيل: تفقهون لغير الدين، وتتعلمون لغير العمل، وتبتاعون الدنيا بعمل الآخرة، وتلبسون جلود الضأن، وتحملون

نفس الذباب، وتتغذون الغداء من شرابكم، وتبتلعون أمثال الجبال من الحرام، وتثقلون الدين على الناس أمثال الجبال، ثم لا تعينوهم برفع الخناصر، وتبتلعون الصلاة وتبيضون الثياب،
تنتقصون بذلك مال اليتيم والارملة، فبعزتي حلفت لاضربنكم بفتنة يضل فيها رأي ذي الرأي وحكمة الحكيم.
وقال الطبراني: حدثنا عبد الله بن محمد الصنعاني، حدثنا همام بن مسلمة، حدثنا غوث بن جابر، حدثنا عقيل بن معقل قال: سمعت وهب بن منبه يقول: إن الله ليس يحمد أحدا على طاعة، ولا ينال أحد من الله خيرا إلا برحمته، وليس يرجو الله خير الناس ولا يخاف شرهم، ولا يعطف الله على الناس إلا برحمته إياهم، إن مكروا به أباد مكرهم، وإن خادعوه رد عليهم خداعهم، وإن كاذبوه كذب بهم، وإن أدبروا قطع دابرهم، وإن أقبلوا قبل منهم ولا يقبل منهم شيئا من حيلة، ولا مكر ولا خداع ولا سخط ولا مشادة، وإنما يأتي بالخير من الله تعالى رحمته، ومن لم يبتغ الخير من قبل رحمته لا يجد بابا غير ذلك يدخل منه، فإن الله تعالى لا ينال الخير منه إلا بطاعته، ولا يعطف الله على الناس شئ إلا تعبدهم له، وتضرعهم إليه حتى يرحمهم، فإذا رحمهم استخرجت رحمته منه حاجتهم، وليس ينال الخير من الله من وجه غير ذلك، وليس إلى رحمة الله سبيل تؤتى من قبله إلا تعبد العباد له وتضرعهم إليه، فإن رحمة الله عزوجل باب كل خير يبتغى من قبله، وإن مفتاح ذلك الباب التضرع إلى الله عزوجل والتعبد له، فمن ترك المفتاح لم يفتح له، ومن جاء بالمفتاح فتح له به، وكيف يفتح الباب بغير مفتاح، ولله خزائن الخير كله، وباب خزائن الله رحمته، ومفتاح رحمة الله التذلل والتضرع والافتقار إلى الله، فمن حفظ ذلك المفتاح فتحت له الخزائن ودخل، فله فيها ما تشتهي الانفس وتلذ الاعين وفيها ما تشاؤون وما تدعون في مقام أمين، لا يحولون عنه ولا يخافون ولا ينصبون ولا يهرمون ولا يفتقرون ولا يموتون، في نعيم مقيم، وأجر عظيم، وثواب كريم، نزلا من غفور رحيم.
وقال سفيان بن عيينة: قال وهب: أعون الاخلاق على الدين الزهادة في الدنيا، وأسرعها ردا اتباع الهوى وحب المال والشرف، ومن حب المال والشرف تنتهك المحارم، ومن انتهاك المحارم بغضب الرب، وغضب الله ليس له دواء.
وقال: يقول الله تعالى في بعض كتبه يعتب به بني إسرائيل: إني إذا أطمعت رضيت، وإذا رضيت باركت، وليس لبركتي نهاية، وإذا عصيت غضبت
وإذا غضبت لعنت، وإن اللعنة متى تبلغ السابع من الولد.
وقال: كان في بني إسرائيل رجل عصى الله عزوجل مائتي سنة، ثم مات فأخذوا برجله فألقوه على مزبلة، فأوحى الله إلى موسى: ان صل عليه، فقال: يا رب إن بني إسرائيل شهدوا أنه قد عصاك مائتي سنة، قال الله له: نعم هكذا كان، إلا أنه كان كلما نشر التوراة ورأى اسم محمد (صلى الله عليه وسلم) قبله ووضعه على عيينه وصلى عليه فشكرت ذلك له فغفرت له ذنوبه وزوجته سبعين حوراء.
كذا روي وفيه علل، ولا يصح مثله

وفي إسناده غرابة وفي متنه نكارة شديدة.
وروى ابن ادريس عن أبيه عن وهب قال: قال موسى: يا رب احبس عني كلام الناس، فقال الله له: يا موسى ما فعلت هذا بنفس: وقال لما دعي يوسف إلى الملك وقف بالباب وقال: حسبي ديني من دنياي، حسبي ربي من خلقه، عز جارك وجل ثناؤك، ولا إله غيرك ثم دخل على الملك، فلما نظر إليه الملك نزل عن سريره وخر له ساجدا ثم أقعده الملك معه على السرير، وقال: (إنك اليوم لدينا مكين أمين) [ يوسف: 54 ] فقال: (اجعلني على خزائن الارض إني حفيظ عليم) [ يوسف: 55 ] حفيظ بهذه السنين وما استودعتني فيها، عليم بلغة من يأتيني.
وقال الامام أحمد: حدثنا منذر بن النعمان الافطس أنه سمع وهبا يقول: لما أمر الله الحوت أن لا يضره ولا يكلمه - يعني يونس - قال: (فلو لا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون) [ الصافات: 143 - 145 ] قال: من العابدين قبل ذلك، فذكره الله بعبادته المتقدمة، فلما خرج من البحر نام فأنبت الله شجرة من يقطين - وهو الدباء - فلما رآها قد أظلته ورأى خضرتها فأعجبته، ثم نام فاستيقظ فإذا هي قد يبست، فجعل يتحزن عليها، فقيل له: أنت لم تخلق ولم تسق ولم تنبت وتحزن عليها، وأنا الذي خلقت مائة ألف من النار أو يزيدون ثم رحمتهم فشق ذلك عليك.
وقال الامام أحمد: حدثنا إبراهيم بن خالد الغساني، حدثنا رباح، حدثني عبد الملك بن عبد المجيد بن خشك، عن وهب قال: لما أمر نوح أن يحمل من كل زوجين اثنين، قال: يا رب
كيف أصنع بالاسد والبقر ؟ وكيف أصنع بالعناق والذئب ؟ وكيف أصنع بالحمام والهر ؟ قال: من ألقى بينهم العداوة ؟ قال: أنت يا رب، قال: فإني أؤلف بينهم حتى لا يتضرون.
وقال وهب لعطاء الخراساني: ويحك يا عطاء، ألم أخبر أنك تحمل علمك إلى أبواب الملوك وأبناء الدنيا، وأبواب الامراء ؟ ويحك يا عطاء، أتأتي من يغلق عنك بابه، ويظهر لك فقره، ويواري عنك غناه، وتترك باب من يقول: (ادعوني أستجب لكم) ؟ [ غافر: 60 ] ويحك يا عطاء، إن كان يغنيك ما يكفيك فأوهى ما في الدنيا يكفيك، وإن كان لا يغنيك ما يكفيك فليس في الدنيا شئ يكفيك، ويحك يا عطاء، إنما بطنك بحر من البحور، وواد من الاودية، لا يملاه شئ إلا التراب.
وسئل وهب عن رجلين يصليان، أحدهما أطول قنوتا وصمتا، والآخر أطول سجودا، فأيهما أفضل ؟ فقال: أنصحهما لله عزوجل.
وقال: من خصال المنافق أن يحب الحمد ويكره الذم، أي يحب أن يحمد على ما لم يفعل، ويكره أن يذم بما فيه.
قال: وقال لقمان لابنه: يا بني اعقل عن الله فإن أعقل الناس من عقل عن الله، وإن الشيطان ليفر من العاقل ما يستطيع أن يكايده.
وقال لرجل من جلسائه: ألا أعلمك طبا لا يتعايا (1) فيه الاطباء، وفقها لا يتعايا فيه
__________
(1) يتعايا: من أعيا عليه الامر أي صعب.

الفقهاء، وحلما لا يتعايا فيه الحلماء، قال: بلى يا أبا عبد الله، قال: أما الطب فلا تأكل طعاما إلا سميت الله على أوله وحمدته على آخره، وأما الفقه فإن سئلت عن شئ عندك فيه علم فأخبر بما تعلم وإلا فقل: لا أدري، وأما الحلم فأكثر الصمت إلا أن تسأل عن شئ.
وقال: إذا كان الصبي خلقان، الحياء والرهبة، طمع في رشده.
وقال: لما بلغ ذو القرنين مطلع الشمس قال له ملك هناك: صف لي الناس، فقال محادثتك من لا يعقل كمن يغني الموتى، ومحادثتك من لا يعقل كمن يبل الصخر الاصم كي يلين، وكمن يطبخ الحديد يلتمس أدمه، ومحادثتك من لا يعقل كمن يضع المائدة لاهل القبور، ونقل الحجارة من رؤوس الجبال أيسر من محادثة من لا يعقل.
وقال: قرأت في بعض الكتب أن مناديا ينادي من السماء
الرابعة كل صباح: أبناء الاربعين زرع قد دنا حصاده، أبناء الخمسين ماذا قدمتم ؟ أبناء الستين لا عذر لكم، ليت الخلق لم يخلقوا، وليتهم إذا خلقوا علموا لماذا خلقوا، قد أتتكم الساعة فخذوا حذركم.
وقال: قال دانيال: يا لهفي على زمن يلتمس فيه الصالحون فلا يوجد منهم أحد، إلا كالسنبلة في أثر الحاصد، أو كالخصلة في أثر القاطف، يوشك نوائح أولئك وبواكيهم أن تبكيهم.
وروى عبد الرزاق عن عبد الصمد بن معقل.
قال: سمعت وهبا يقول في قوله تعالى: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة) [ الانبياء: 47 ] قال: إنما يوزن من الاعمال خواتيمها، وإذا أراد الله بعبد خيرا ختم له بخير عمله.
وإذا أراد الله بعبد شرا ختم له بشر عمله.
وقال وهب: إن الله تعالى لما فرغ من الخلق نظر إليهم حين مشوا على وجه الارض فقال: أنا الله لا إله إلا أنا الذي خلقتكم وأفنيكم بحكمي حق قضائي ونافذ أمري، أنا أعيدكم كما خلقتكم، وأفنيكم حتى أبقى وحدي، فإن الملك والخلود لا يحق إلا لي، أدعو خلقي وأجمعهم بقضائي، يوم أحشر أعدائي، وتجل القلوب من هيبتي.
وتتبرأ الآلهة ممن عبدها دوني.
قال: وذكر وهب أن الله لما فرغ من خلقه يوم الجمعة أقبل يوم السبت فمدح نفسه بما هو أهله وذكر عصمته وجبروته وكبرياءه وسلطانه وقدرته وملكه وربوبيته، فأنصت كل شئ وأطرق له، فقال: أنا الملك لا إله إلا أنا ذو الرحمة الواسعة والاسماء الحسنى، أنا الله لا إله إلا أنا ذو العرش المجيد والامثال العلا، أنا الله لا إله إلا أنا ذو الطول والمن والآلاء والكبرياء، أنا الله لا إله إلا أنا بديع السموات والارض، ملات كل شئ عظمتي، وقهر كل شئ ملكي، وأحاطت بكل شئ قدرتي، وأحصى كل شئ علمي، ووسعت كل شئ رحمتي، وبلغ كل شئ لطفي، فأنا الله يا معشر الخلائق فاعرفوا مكاني، فليس شئ في السموات والارضين إلا أنا، وخلقي كلهم لا يقوم ولا يدوم إلا بي، ويتقلب في قبضتي، ويعيش برزقي، وحياته وموته وبقاؤه وفناؤه بيدي، فليس له محيص ولا ملجأ غيري، لو تخليت عنه طرفة عين لدمر كله، وكنت أنا على حالي لا ينقصني ذلك شيئا، ولا ينقص ذلك ملكي شيئا، وأنا مستغن بالعز كله في جبروتي وملكي، وبرهان نوري،

وشديد بطشي، وعلو مكاني وعظمة شأني، فلا شئ مثلي، ولا إله غيري، وليس ينبغي لشئ خلقته أن يعدل بي ولا ينكرني، وكيف ينكرني من خلقته يوم خلقته على معرفتي ؟ أم كيف يكابرني من قهر قهره ملكي ؟ أم كيف يعجزني من ناصيته بيدي ؟ أم كيف يعدل بي من أعمره وأسقم جسمه وأنقص عقله وأتو في نفسه وأخلقه وأهرمه فلا يمتنع مني ؟ أم كيف يستنكف عن عبادتي عبدي وابن عبدي وابن أمتي، ومن لا ينسب إلى خالق ولا وارث غيري ؟ أم كيف يعبد دوني من تخلقه الايام، ويفني أجله اختلاف الليل والنهار ؟ وهما شعبة يسيرة من سلطاني ؟ فإلي إلي يا أهل الموت والفناء، لا إلى غيري، فإني كتبت الرحمة علي نفسي وقضيت العفو والمغفرة لمن استغفرني، أغفر الذنوب جميعا، صغيرها وكبيرها لمن استغفرني، ولا يكبر ذلك علي ولا يتعاظمني، فلا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ولا تقنطوا من رحمتي، فإن رحمتي سبقت غضبي، وخزائن الخير كلها بيدي، ولم أخلق شيئا مما خلقت لحاجة كانت مني إليه، ولكن لابين به قدرتي، ولينظر الناظرون في ملكي، ويتدبروا حكمتي، وليسبحوا بحمدي ويعبدوني لا يشركوا بي شيئا، ولتعنو (1) الوجوه كلها إلي.
وقال أشرس عن وهب قال: قال داود: إلهي أين أجدك ؟ قال عند المنكسرة قلوبهم من مخافتي.
وقال كان رجل من بني إسرائيل صام سبعين أسبوعا يفطر في كل يوما وهو يسأل الله أن يريه كيف يغوي الشيطان الناس، فلما أن طال ذلك عليه ولم يجب، قال في نفسه: لو أقبلت على خطيئتي وعلى ذنوبي وما بيني وبين ربي لكان خيرا من هذا الامر الذي أطلب، ثم أقبل على نفسه فقال: يا نفس من قبلك أتيت، لو علم الله فيك خيرا لقضى حاجتك.
فأرسل الله ملكا إلى نبيهم: أن قل لفلان العابد: إزراؤك على نفسك وكلامك الذي تكلمت به، أعجب إلي مما مضى من عبادتك، وقد أجاب الله سؤالك، وفتح بصرك فانظر الآن، فنظر فإذا أحبولة لابا قد أحاطت بالارض، وإذا ليس أحد من بني آدم إلا وحوله شياطين مثل الذباب، فقال: إي رب.
ومن ينجو من هؤلاء ؟ قال صاحب القلب الوادع اللين.
وقال وهب: كان رجل من السائحين فأتى على أرض فيها قثاء فدعته نفسه إلى أخذ شئ منه، فعاقبها فقام مكانه يصلي ثلاثة أيام، فمر به رجل وقد لوحته الشمس والريح، فلما نظر إليه قال:
سبحان الله ! ! لكأنما أحرق هذا الانسان بالنار، فقال السائح: هكذا بلغ مني ما ترى خوف النار، فكيف بي لو قد دخلتها ؟ ! وقال: كان رجل من الاولين أصاب ذنبا فقال: لله علي أن لا يظلني سقف بيت أبدا حتى تأتيني براءة من النار، فكان بالصحراء في الحر والقر، فمر به رجل فرأى شدة حاله فقال: يا عبد الله ما بلغ بك ما أرى ؟ فقال: بلغ ما ترى ذكر جهنم، فكيف بي إذا أنا وقعت فيها ! ؟.
وقال: لا
__________
(1) ولتعنو: أي لتخضع.

يكون البطال من الحكماء أبدا، ولا يرث الزناة من ملكوت السماء.
وقال وهب في موعظته: اليوم يعظ السعيد، ويستكثر من منافعه اللبيب، يابن آدم إنما جمعت من منافع هذا اليوم لدفع ضرر الجهالة عنك، وإنما أوقدت فيه مصابيح الهدى لتنبه لحزبك، فلم أر كاليوم ضل مع نوره متحير داع لمداواة سليم، يابن آدم ! إنه لا أقوى من خالق، ولا أضعف من مخلوق، ولا أقدر ممن طلبته في يده، ولا أضعف ممن هو في يد طالبه، يا بن آدم إنه قد ذهب منك ما لا يرجع إليك، وأقام عندك (1) ما سيذهب، فما الجزع مما لا بد منه ؟ وما الطمع فيما لا يرتجى ؟ وما الحيلة في بقاء ما سيذهب ؟ يا بن آدم أقصر عن طلب ما لا تدرك، وعن تناول ما لا تناله، وعن ابتغاء ما لا يوجد.
واقطع الرجاء عنك كما قعدت به (2) عنك الاشياء، واعلم أنه رب مطلوب هو شر لطالبه، يا بن آدم إنما الصبر عند المصيبة، وأعظم من المصيبة سوء الخلق منها، يا بن آدم أي أيام الدهر ترتحبى ؟ يوم يجئ في عتم (3) أو يوم تستأخر عاقبته عن أوان مجيئه ؟ فانظر إلى الدهر تجده ثلاثة أيام: يوم مضى لا ترجوه، ويوم لا بد منه، ويوم يجئ لا تأمنه، فأمس شاهد عليك مقبول، وأمين مؤد، وحكيم مؤدب، قد فجعك بنفسه، وخلف فيك حكمته.
واليوم صديق مودع، كان طويل الغيبة عنك، وهو سريع الظعن إياك (4) ولم يأته، وقد مضى قبله شاهد عدل، فإن كان ما فيه لك فاشفعه بمثله أوثق لك باجتماع شهادتهما عليك.
يا بن آدم إنما أهل الدينا سفر لا يحلون عقد رحالهم إلا في غيرها، وإنما يتبلغون بالعواري فما أحسنه - يعني الشكر - للمنعم والتسليم للمعاد، يا بن آدم إنما الشئ من مثله
وقد مضت قبلنا أصول نحن فروعها، فما بقاء الفرع بعد ذهاب أصله ؟ ! إنما يقر الفرع بعد الاصل، يا بن آدم إنه لا أعظم رزية في عقله ممن ضيع اليقين وأخطأ العمل.
أيها الناس ! إنما البقاء بعد الفناء، وقد خلقنا ولم نكن، وسنبلى ثم نعود، ألا وإنما العواري اليوم والهنات غدا، ألا وإنه قد تقارب منا سلب فاحش، أو عطاء جزيل، فأصلحوا ما تقدمون عليه بما تظعنون عنه.
أيها الناس ! ! إنما أنتم في هذه الدنيا غرض تنتضل فيه المنايا، وإن ما أنتم فيه من دنياكم نهب للمصائب، لا تنالون فيها نعمة إلا بفراق الاخرى، ولا يستقبل منكم معمر يوما من عمره إلا بهدم آخر من أجله، ولا يتخذ له زيادة في ماله إلا بنفاد ما قبله من رزقه، ولا يحيى له أثر إلا مات له أثر.
نسأل الله أن يبارك لنا ولكم فيما مضى من هذه العظة.
وقال قتيبة بن سعيد: حدثنا كثير بن هشام، حدثنا جعفر بن مروان، عن وهب بن منبه.
__________
(1) في صفة الصفوة 2 / 291: معك.
(2) في صفة الصفوة: عما فقدت من الاشياء.
(3) في صفة الصفوة: أيوما يجئ في غرة.
(4) أتاك ولم تأته (صفة الصفوة 2 / 292).

عن الطريق ولم تستقم (1) لسائقها، وإن فتر سائقها حزنت، ولم تتبع قائدها: فإذا اجتمعا استفامت طوعا أو كرها، ولا تستطيع الدين إلا بالطوع والكره، وإن كان كلما كره الانسان شيئا من دينه تركه، أوشك أن لا يبقى معه من دينه شئ.
وقال وهب: إن من حكمة الله عزوجل أنه خلق الخلق مختلفا خلقه ومقاديره، فمنه خلق يدوم ما دامت الدنيا، لا تنقصه الايام ولا تهرمه وتبليه ويموت، ومنه خلق لا يطعم ولا يرزق، ومنه خلق يطعم ويرزق، خلقه الله وخلق معه رزقه، ثم خلق الله من ذلك خلقا في البر وخلقا في البحر، ثم جعل رزق ما خلق في البحر وفي البر، ولا ينفع رزق دواب البر دواب البحر، ولا رزق دواب البحر داب البر، لو خرج ما في البحر إلا البر هلك، ولو دخل ما في البر إلى البحر هلك، ففي ذلك ممن خلق الله في البر والبحر عبرة لمن أهمته قسمة
الارزاق والمعيشة فليعتبر ابن آدم فيما قسم الله من الارزاق، فإنه لا يكون فيها شئ إلا كما قسمه سبحانه بين خلقه، لا يستطيع أحد أن يغيرها ولا أن يخلطها، كما لا تستطيع دواب البر أن تعيش بأرزاق دواب البحر، ولا دواب البحر بأرزاق دواب البر، ولو اضطرت إليه هلكت كلها، فإذا استقرت كل دابة منها فيما رزقت أصلحها ذلك وأحياها، وكذلك ابن آدم إذا استقر وقنع بما قسم الله له من رزقه أحياه ذلك وأصلحه، فإذا تعاطى رزق غيره نقصه ذلك وضره وفضحه.
وقال لعطاء الخراساني: كان العلماء قبلكم قد استغنوا بعلمهم عن دنيا غيرهم، فكانوا لا يلتفتون إلى أهل الدنيا، ولا إلى ما في أيديهم، فكان أهل الدنيا يبذلون إليهم دنياهم رغبة في علمهم، فأصبح أهل العلم فينا اليوم يبذلون لاهل الدنيا علمهم رغبة في الدنيا، فأصبح أهل الدنيا قد زهدوا في علمهم لما رأوا من سوء موضعه عندهم، فإياك يا عطاء وأبواب السلطان فإن عند أبوابهم فتنا كمبارك الابل، لا تصيب من دنياهم شيئا إلا أصابوا من دينك مثله.
وقال إبراهيم الجنيد: حدثنا عبد الله بن أبي بكر المقدمي، حدثنا جعفر بن سليمان، حدثنا عمر بن عبد الرحمن الصنعاني قال: سمعت وهب بن منبه يقول: لقي عالم عالما هو فوقه في العلم، فقال: كيف صلاتك ؟ فقال: ما أحسب أحدا سمع بذكر الجنة والنار يأتي عليه ساعة لا يصلي فيها، قال: فكيف ذكرك للموت ؟ قال: ما أرفع قدما ولا أضع أخرى إلا رأيت أني ميت.
فقال: فكيف صلاتك أنت أيها الرجل ؟ فقال: إني لاصلي وأبكي حتى ينبت العشب من دموعي، فقال العالم: أما أنك إن تضحك وأنت معترف بخطيئتك خير لك من أن تبكي وأنت مدل بعلمك، فإن المدل لا يرفع له عمل فقال: أوصني فإني أراك حكيما، فقال أزهد في الدنيا ولا تنازع أهلها فيها، وكن فيها كالنخلة، إن أكلت أكلت طيبا، وإن وضعت وضعت طيبا، وإن وقعت على عدو لم تكسره، وانصح لله نصح الكلب لاهله، فإنهم يجيعونه ويطردونه ويضربونه وهو يأبى إلا أن يحوطهم ويحفظهم، وينصح لهم.
فكان وهب إذا ذكر هذا الحديث قال: واسوأتاه إذا كان الكلب أنصح
__________
(1) كذا بالاصل وفيه تحريف ونقص ظاهر.

لاهله منك يا بن آدم لله عزوجل.
وفي رواية أنه قال: إني لاصلي حتى ترم قدماي، فقال له: إنك إن تبت تائبا، وتصبح نادما، خير لك من أن تبيت قائما وتسبح معجبا، إلى آخره.
وروى سفيان عن رجل من أهل صنعاء عن وهب فذكر الحديث كما تقدم.
وقال عثمان بن أبي شيبة: حدثنا محمد بن عمران بن أبي ليلى حدثنا الصلت بن عاصم المرادي، عن أبيه عن وهب قال: لما أهبط آدم من الجنة استوحش لفقد أصوات الملائكة، فهبط عليه جبريل فقال: يا آدم ألا أعلمك شيئا تنتفع به في الدنيا والآخرة ؟ قال: بلى.
قال قل: اللهم تمم لي النعمة حتى تهنيني المعيشة، اللهم اختم لي بخير حتى لا تضرني ذنوبي، اللهم اكفني مؤنة الدنيا وكل هول في القيامة حتى تدخلني الجنة في عافية.
وقال عبد الرزاق: حدثني بكار بن عبد الله عن وهب قال: قرأت في بعض الكتب فوجدت الله تعالى يقول: يا بن آدم ما أنصفتني، تذكر بي وتنساني، وتدعو إلي وتفر مني، خيري إليك نازل، وشرك إلي صاعد، ولا يزال ملك كريم قد نزل اليك من أجلك، يا بن آدم إن أحب ما تكون إلي وأقرب ما تكون مني إذا رضيت بما قسمت لك.
وأبغض ما تكون إلي، وأبعد ما تكون مني إذا سخطت بما قسمت لك.
يا بن آدم أطعني فيما أمرتك، ولا تعلمني بما يصلحك، إني عالم بخلقي، وأنا أعلم بحاجتك التي ترفعك من نفسك، إني إنما أكرم من أكرمني، وأهين من هان عليه أمري، لست بناظر في حق عبدي حتى ينظر العبد في حقي.
وقال وهب: قرأت نيفا (1) وتسعين كتابا من كتب الله تعالى فوجدت في جميعها: أن من وكل إلى نفسه شيئا من المشيئة فقد كفر.
وقال: لا يسكن ابن آدم، إن الله هو قسم الارزاق متفاضلة ومختلفة، فإن تقلل ابن آدم شيئا من رزقه فليزدد إلى الله رغبة، ولا يقولن: لو اطلع الله على هذا من حالي، أو شعر به غيره ؟ فكيف لا يطلع على شئ الذي خلقه وقدره ؟ أو يعتبر ابن آدم في غير ذلك مما يتفاضل فيه الناس، كأن الله فاضل بينهم في الاجسام والاموال والالوان والعقول والاحلام، فلا يكبر على ابن آدم أن يفضل عليه في الرزق والمعيشة، ولا يكبر عليه أن يفضل عليه في الحلم والعلم والعقل والدين، أو لا يعلم ابن آدم أن الذي رزقه في ثلاثة أزمان من عمره لم يكن له في واحد منها كسب ولا حيلة، أنه سوف يرزقه في
الزمن الرابع.
أول زمان من أزمانه حين كان في بطن أمه، يخلق فيه ويرزق من غير مال كسبه، وهو في قرار مكين، لا يؤذيه فيه حر ولا برد، ولا شئ ولا هم ولا حزن، وليس له هناك يد تبطش، ولا رجل تسعى، ولا لسان ينطق.
فساق الله عزوجل إليه رزقه هناك على أتم الوجوه وأهناها وأمراها، ثم إن الله عزوجل أراد أن يحوله من تلك المنزلة إلى غيرها.
ويحدث له في الزمن الثاني رزقا من أمه يكفيه ويغنيه، من غير حول منه ولا قوة، ولا بطش ولا سعي، بل تفضلا من الله وجودا، ورزقا
__________
(1) في طبقات ابن سعد 5 / 543: اثنين وتسعين.

أجراه وساقه إليه، ثم أراد الله سبحانه أن ينقله من الزمن الثاني إلى الزمن الثالث من ذلك اللبن إلى رزق يحدثه له من كسب أبويه، بأن يجعل له الرحمة في قلوبهما حتى يؤثراه على نفسهما بكسبهما، ويغنياه ويغذياه بأطيب ما يقدران عليه من الاغذية، وهو لا يعينهما على شئ من ذلك بكسب ولا حيلة، حتى إذا عقل حدث نفسه بأنه إنما يرزق بحيلته ومكسبه وسعيه، ثم يدخل عليه في الزمن الرابع إساءة الظن بربه عزوجل، فيضيع أوامر الله في طلب المعاش وزيادة المال وكثرته، وينظر إلى أبناء الجنس وما عليه من التنافس في طلب الدنيا، فيكسب بذلك ضعف اليقين والايمان، ويمتلئ قلبه فقرا وخوفا منه مع المتاع، ويبتلي بموت القلب وعدم العقل، ولو نظر ابن آدم نظر معرفة وعقل لعلم أنه لن يغنيه في الزمن الرابع إلا من أغناه ورزقه في الازمان الثلاثة قبل، فلا مقال له ولا معذرة مما سلط عليه في الزمان الرابع إلا برحمة الله، فإن ابن آدم كثير الشك يقصر به حكمه وعلمه عن علم الله والتفكر في أمره، ولو تفكر حتى يفهم، وتفهم حتى يعلم، علم أن علامة الله التي بها يعرف، خلقه ثم رزقه لما خلق، وقدره لما قدر.
وقال عطاء الخراساني: لقيت وهبا في الطريق فقلت: حدثني حديثا أحفظه عنك في مقامي هذا وأوجز.
فقال: أوحى الله عزوجل إلى داود عليه السلام: يا داود، أما وعزتي وعظمتي لا ينتصر بي عبد من عبادي دون خلقي أعلم ذلك من نيته، فتكيده السموات السبع ومن فيهن، والارضون السبع ومن فيهن، إلا جعلت له منهن فرجا ومخرجا، أما وعزتي وجلالي لا يعتصم عبد
من عبادي بمخلوق دوني أعلم ذلك من نيته، إلا قطعت أسباب السموات من يده، وأسخت الارض من تحته ولا أبالي في أي واد هلك.
وقال أبو بلال الاشعري عن أبي هشام الصنعاني قال: حدثني عبد الصمد بن معقل قال: سمعت وهب بن منبه يقول: وجدت في بعض الكتب أن الله تعالى يقول: كفاني للعبد مآلا، إذا كان عبدي في طاعتي أعطيته قبل أن يسألني، وأستجيب له من قبل أن يدعوني، فإني أعلم بحاجته التي ترفق به من نفسه.
وقال: قرأت في بعض الكتب أن الشيطان لم يكابد شيئا أشد عليه من مؤمن عاقل لانه إذا كان مؤمنا عاقلا ذا بصيرة فهو أثقل على الشيطان من الجبال الصم، إنه ليزالل المؤمن العاقل فلا يستطيعه، فيتحول عنه إلى الجاهل فيستأمره ويتمكن من قياده.
وقال: قام موسى عليه السلام فلما رأته بنو إسرائيل قاموا، فقال: على مكانكم، ثم ذهب إلى الطور فإذا هو بنهر أبيض فيه مثل رؤوس الكثبان كافور محفوف بالرياحين، فلما رآه أعجبه فدخل عليه فاغتسل وغسل ثوبه، ثم خرج وجفف ثوبه، ثم رجع إلى الماء فاستنضح فيه إلى أن جف ثوبه، فلبسه ثم أخذ نحو الكثيب الآخر الذي فوق الطور، فإذا هو برجلين يحفران قبرا، فقام عليهما فقال: ألا أعينكما ؟ قالا: بلى فنزل فحفر، فقال لهما: لتحدثاني مثل من الرجل ؟ فقالا: على طولك وهيئتك، فاضطجع فيه لينظروا فالتأمت عليه الارض، فلم ينظر إلى قبر موسى عليه السلام إلا الرخم،

فأصمها الله وأبكمها.
وقال: يقول الله عزوجل: لو لا أني كتبت النتن على الميت لحبسه الناس في بيوتهم، ولو لا أني كتبت الفساد على اللحم لحرمه الاغنياء على الفقراء.
وقال: مر عابد براهب فقال له: منذكم أنت في هذه الصومعة ؟ قال: منذ ستين سنة، قال: وكيف صبرت فيها ستين سنة ؟ قال: مر فإن الزمان يمر، وإن الدنيا تمر، ثم قال له: يا راهب كيف ذكرك للموت ؟ قال: ما أحسب عبدا يعرف الله تأتي عليه ساعة إلا يذكر الموت فيها، وما أرفع قدما إلا وأنا أظن أن لا أضعها حتى أموت، وما أضع قدما إلا وأنا أظن أن لا أرفعها حتى أموت، فجعل العابد يبكي، فقال له الراهب: هذا بكاؤك إذا خلوت ؟ - أو قال: كيف أنت إذا
خلوت ؟ - فقال العابد: إني لابكي عند إفطاري فأشرب شرابي بدموعي، ويصرعني النوم فأبل متاعي بدموعي، فقال له الراهب: إنك إن تضحك وأنت معترف بذنبك خير لك من أن تبكي وأنت مدل على الله بعلمك.
فقال: أوصني بوصية، قال: كن في الدنيا بمنزلة النخلة، إن أكلت أكلت طيبا، وإن وضعت وضعت طيبا، وإن سقطت على شئ لم تضره، ولا تكن في الدنيا بمنزلة الحمار إنما همته أن يشبع ثم يرمي بنفسه في التراب، وانصح لله نصح الكلب لاهله، فانهم يجيعونه ويطردونه، وهو يأبى إلا أن يحرسهم ويحفظهم.
قال أبو عبد الرحمن أشرس: وكان طاوس إذا ذكر هذا الحديث بكى وقال: عز علينا أن تكون الكلاب أنصح لاهلها منا لمولانا عزوجل.
وقد تقدم نحو هذا المتن.
وقال وهب: تخلى راهب في صومعته في زمن المسيح: فأراد إبليس أن يكيده فلم يقدر عليه، فأتاه بكل مراد فلم يقدر عليه، فأتاه متشبها بالمسيح فناداه: أيها الراهب اشرف علي أكلمك فأنا المسيح، فقال: إن كنت المسيح فما لي إليك من حاجة، أليس قد أمرتنا بالعبادة ؟ ووعدتنا القيامة ؟ انطلق لشأنك فلا حاجة لي فيك.
قال: فذهب عنه الشيطان خاسئا وهو حسير، فلم يعد إليه.
ومن طريق أخرى عنه قال: أتى إبليس راهبا في صومعته فاستفتح عليه، فقال له: من أنت ؟ قال: أنا المسيح، فقال الراهب: والله لئن كنت إبليس لاخلون بك، ولئن كنت المسيح فما عسى أن أصنع بك اليوم شيئا، لقد بلغتنا رسالة ربك عزوجل فقبلناها عنك، وشرعت لنا الدين فنحن عليه، فاذهب فلست بفاتح لك فقال: صدقت، أنا إبليس ولا أريد إضلالك بعد اليوم أبدا فسلني عما بدا لك أخبرك به.
قال: وأنت صادق ؟ قال لا تسألني عن شئ إلا صدقتك فيه.
قال: فأخبرني أي أخلاق بني آدم أوثق في أنفسكم أن تضلوهم به ؟ قالا ثلاثة أشياء: الجدة، والشح، والشكر.
وقال وهب: قال موسى: يا رب أي عبادك ؟ قال: من لا تنفعه موعظة، ولا يذكرني إذا خلا، قال: إلهي فما جزاء من ذكرك بلسانه وقلبه ؟ قال: يا موسى أظله يوم القيامة بظل عرشي، وأجعله في كنفي.
وقال وهب: لقي عالم عالما هو فوقه في العلم فقال له: رحمك الله ما هذا البناء الذي لا إسراف فيه ؟ قال: ما سترك من الشمس، وأكنك من الغيث.
قال: فما هذا الطعام الذي

لا إسراف فيه ؟ قال: فوق الجوع ودون الشبع من غير تكلف.
قال: فما هذا اللباس الذي لا إسراف فيه ؟ قال: هو ما ستر العورة ومنع الحر والبرد من غير تنوع ولا تلون.
قال: فما هذا الضحك الذي لا إسراف فيه ؟ قال: هو ما أسفر وجهك ولا يسمع صوتك.
قال: فما هذا البكاء الذي لا إسراف فيه ؟ قال: لا تمل من البكاء من خشية الله عزوجل، ولا تبك على شئ من الدنيا.
قال: كم أخفي من عملي ؟ قال: ما أظن بك أنك لم تعمل حسنة.
قال: ما أعلن من عملي ؟ قال: الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما يأتم بك الحريص، واحذر النظر إلى الناس.
وقال لكل شئ طرفان ووسط، فإذا أمسكت بأحد الطرفين مال الآخر، وإذا أمسكت بالوسط اعتدلا، فعليكم بالوسط من الاشياء.
وقال: أربعة أحرف في التوراة: من لم يشاور يندم، ومن استغنى استأثر، والفقر الموت الاحمر، وكما تدين تدان، ومن تجر فجر.
وقال عبد الله بن المبارك: حدثنا بكار بن عبد الله أنه سمع وهب بن منبه يقول: كان رجل من أفضل أهل زمانه، وكان يزار فيعظهم، فاجتمعوا إليه ذات يوم فقال: إنا قد خرجنا عن الدنيا وفارقنا الاهل والاموال مخافة الطغيان، وقد خفنا أن يكون قد دخل علينا في حالنا هذه من الطغيان أعظم وأكثر مما يدخل على أهل الاموال في أموالهم، وعلى الملوك في ملكهم، أرانا يحب أحدنا أن تقضى له الحاجة، وإذا اشترى شيئا أن يحابي لمكان دينه، وأن يعظم إذا لقي الناس لمكان دينه، وجعل يعدد آفات العلماء والعباد الذين يدخل عليهم في دينهم من حب الشرف والتعظيم.
قال: فشاع ذلك الكلام عنه حتى بلغ ملك تلك البلاد، فعجب منه الملك وقال لرؤوس دولته: ينبغي لهذا أن يزار، ثم اتعدوا لزيارته يوما، فركب إليه الملك ليسلم عليه، فأشرف العابد - وكان عالما جيد العلم بآفات العلوم والاعمال ودسائس النفوس - فرأى الارض التي تحت مكانه قد سدت بالخيل والفرسان، فقال ما هذا ؟ فقيل له: هذا الملك قاصد إليك يسلم عليك لما بلغه من حسن كلامك فقال: إنا لله، وما أصنع به ؟ هلكنا والله إن لم نلقن الحجة من عند الله مع هذا الرجل، وينصرف عنا وهو ماقت لنا، ثم سأل خادمه: هل عندك طعام ؟ قال: نعم.
قال: فأت به فضعه بين
أيدينا، قال: هو شئ من ثمر الشجر، وهو شئ من بقل وزيتون، قال: فأت به، فأتى به، ثم أمر بجماعته فاجتمعوا حول ذلك الطعام، فقال: إذا دخل عليكم هذا الرجل فلا يلتفت أحد منكم إليه، ولا يقم له أحد، وأقبلوا على الاكل العنيف، ولا يرفع أحد منكم رأسه، لعل الله يصرفه عنا وهو كاره لنا فإني أخاف الفتنة والشهرة وامتلاء القلب منهما، فلا نخلص إلا بنار جهنم.
قال: فبكى القوم وبكى ذلك الرجل العالم، فلما قترب الملك من جبلهم الذي هم فيه، ترجل الملك ومن معه من أعيان دولته وصعد في الجبل، فلما وصل إلى قرب مكانهم أخذوا في الاكل العنيف، فدخل عليهم الملك وهم يأكلون فلم يرفعوا رؤوسهم إليه، وجعل ذلك العالم الفاضل يلف البقل مع الزيتون مع الكسرة الكبيرة من الخبز ويدخلها في فمه، فسلم عليهم الملك وقال: أيكم العابد ؟

فأشاروا إليه، فقال له الملك: كيف أنت أيها الرجل ؟ فقال له: كالناس - وهو يأكل ذلك الاكل العنيف - فقال الملك: ليس عند هذا خير، ثم أدبر الملك خارجا عنه، وقال: ما عند هذا من علم.
فلما نزل الملك من الجبل نظر إليه العابد من كوة وقال: أيها الملك ! الحمد لله الذي صرفك عني وأنت لي كاره - أو قال: الحمد لله الذي صرفك عني بما صرفك به - وفي رواية ذكر ابن المبارك أنه قال: الحمد لله الذي صرفه عني وهو لي لائم.
وفي رواية أن هذا العابد كان ملكا، وكان قد زهد في الدنيا وتركها، لانه كان قد دخل عليه رجل من بقايا أهل الجنة والعمل الصالح فوعظه، فاتعد معه أن يصحبه، وأنه يخرج عن الملك طلبا لما عنده في الدار الآخرة، وأنه وافقه جماعة من بنيه وأهله ورؤوس دولته، فخرجوا برمتهم، لا يدري أحد أين ذهبوا، وكان هذا الملك من أهل العدل والخير والخوف من الله عزوجل، وكان متسع الملك والمملكة، كثير الاموال والرجال، فساروا حتى أتوا جبلا في أطراف مملكته، كثير الشجر والمياه، فأقاموا به حينا، فقال الملك: إن نحن طال أمرنا ومقامنا في هذا الجبل، سمع بنا الناس من أهل مملكتنا فلا يدعونا، وأني أرى أن نذهب إلى غير مملكتنا فننزل مكانا بعيدا عن الناس، لعل أن نسلم منهم ويسلموا منا، فساروا من ذلك الجبل طالبين بلادا لا يعرفون، فوجدوا بها جبلا
نائيا عن الناس، كثير الاشجار والمياه، قليل الطوارق، وإذا في ذروته عين ماء جارية وأرض متسعة، تزرع لمن أراد الزرع بها، فنزلوا به وبنوا به أماكن للعبادة والسكنى، وزرعوا لهم على ماء تلك العين بعض بقول يأتدمون بها، وأشجار زيتون، وجعلوا يزرعون بأيديهم ويأكلون ثم شاع أمرهم في بعض تلك البلاد القريبة من جبلهم، فجعلوا يأتونهم ويزورونهم، إلى أن شاع ذلك الكلام المتقدم عن ذلك العالم، فبلغ ملك تلك البلاد فقصدهم للزيارة، فذكر القصة كما تقدم، والله أعلم.
وقال وهب: أزهد الناس في الدنيا - وإن كان عليها حريصا - من لم يرض منها إلا بالكسب الحلال الطيب، مع حفظ الامانات، وأرغب الناس فيها وإن كان عنها معرضا، من لم يبال من أين كسبه منها حلالا أو حراما، وإن أجود الناس في الدنيا من جاد بحقوق الله عزوجل، وإن رآه الناس بخيلا فيما سوى ذلك، وإن أبخل الناس في الدنيا من بخل بحقوق الله عزوجل وإن رآه الناس جوادا فيما سوى ذلك.
وقال الطبراني: حدثنا معاذ بن المثنى حدثنا علي بن المديني حدثنا محمد بن عمرو بن مقسم قال: سمعت عطاء بن مسلم يقول: سمعت وهب بن منبه يقول: إن الله تعالى كلم موسى عليه السلام في ألف مقام، وكان إذا كلمه رؤي النور على وجه موسى ثلاثة أيام، ولم يمس موسى امرأة منذ كلمه ربه عزوجل.
وقال عثمان بن أبي شيبة: حدثنا عبد الله بن عامر بن زرارة حدثنا عبد الله بن الاجلح عن محمد بن إسحاق قال: حدثني ربيعة بن أبي عبد الرحمن قال: سمعت ابن

منبه اليماني يقول: إن للنبوة أثقالا ومؤنة لا يحملها إلا القوي، وإن يونس بن متى كان عبدا صالحا، وكان في خلقه ضيق، فلما حملت عليه النبوة تفسخ تحتها تفسخ الربع تحت الحمل، فرفضها من يده وخرج هاربا، فقال الله تعالى لنبيه (صلى الله عليه وسلم): (فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل) [ الاحقاف: 35 ] وقال: (فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم) الآية [ القلم: 48 ] وقال يونس بن بكير، عن أبي إسحاق بن وهب بن منبه عن أبيه قال: أمر الله
الريح أن لا يتكلم أحد من الخلائق بشئ في الارض إلا ألقته في أذن سليمان، فلذلك سمع كلام النملة.
وروى سفيان عن عمرو بن دينار عن وهب قال: كان الرجل من بني إسرائيل إذا ساح أربعين سنة أري شيئا، كأن يرى علامة القبول، قال: فساح رجل من ولد ربيعة أربعين سنة فلم ير شيئا، فقال: يا رب إذا أحسنت وأساء والداي فما ذنبي ؟ قال: فأري ما كان يرى غيره.
وفي رواية أنه قال: يا رب إذا كان والداي قد أكلا أضرس أنا ؟ وفي رواية عنه أنه قال: يا رب إذا كان والداي قد أساءا أحرم أنا إحسانك وبرك ؟ فأظلته غمامة.
وروى عبد الله بن المبارك عن رباح بن زيد، عن عبد العزيز بن مروان.
قال: سمعت وهب ابن منبه يقول: مثل الدنيا والآخرة مثل ضرتين، إن أرضيت إحداهما أسخطت الاخرى، وقال: إن أعظم الذنوب عند الله بعد الشرك بالله السحر.
وروى عبد الرزاق قال: أخبرني أبي عن وهب قال: إذا صام الانسان زاغ بصره، فإذا أفطر على حلاوة عاد بصره.
وقال ابن المبارك عن بكر بن عبد الله قال سمعت وهبا يقول: مر رجل عابد على رجل عابد فرآه مفكرا، فقال له: مالك ؟ فقال له: أعجب من فلان، إنه كان قد بلغ من عبادته ما بلغ، ثم مالت به الدنيا.
فقال: لا تعجب ممن مال كيف مال، ولكن اعجب ممن استقام كيف استقام.
وقال عبد الله بن الامام أحمد بن حنبل: حدثني أبي، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا بكار بن عبد الله قال: سمعت وهب بن منبه يقول: إن بني إسرائيل أصابتهم عقوبة وشدة، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): وددنا أن نعلم ما الذي يرضى ربنا فنتبعه، فأوحى الله عزوجل إليه: إن قومك يقولون: إذا أرضوهم رضيت، وإذا أسخطوهم أسخطت.
وقال عبد الله بن أحمد أيضا: حدثنا أبي حدثنا إبراهيم بن خالد حدثني عمر بن عبد الرحمن قال: سمعت وهب بن منبه يقول: إن عيسى عليه السلام كان واقفا على قبر ومعه الحواريون - أو نفر من أصحابه - قال: وصاحب القبر يدلى فيه، قال: فذكروا من ظلمة القبر وضيقه، فقال عيسى: قد كنتم فيما هو أضيق من ذلك، في أرحام أمهاتكم، فإذا أحب الله أن يوسع وسع، أو كما قال.
وقال عبد الله بن المبارك: حدثنا بكار بن عبد الله قال: سمعت وهب بن منبه يقول: كان رجل عابد من السياح أراده الشيطان من قبل الشهوة والرغبة والغضب، فلم يستطع منه شيئا من

ذلك، فتمثل له حية وهو يصلي، فمضى ولم يلتفت إليه، فالتوى على قدميه فلم يلتفت إليه، فدخل ثيابه وأخرج رأسه من عند رأسه فلم يلتفت ولم يستأخر، فلما أراد أن يسجد التوى في موضع سجوده، فلما وضع رأسه ليسجد فتح فاه ليلتقم رأسه، فوضع رأسه فجعل يعركه حتى استمكن من السجود على الارض.
ثم جاءه على صورة رجل فقال له: أنا صاحبك الذي أخوفك، أتيتك من قبل الشهوة والغضب والرغبة، وأنا الذي كنت أتمثل لك بالسباع والحيات فلم أستطع منك شيئا، وقد بدا لي أن أصادقك ولا آتيك في صلاتك بعد اليوم.
فقال له العابد: لا يوم خوفتني خفتك، ولا اليوم بي حاجة في مصادقتك.
قال: سلني عما شئت أخبرك.
قال فما عسيت أن أسألك ؟ قال: ألا تسألني عن مالك ما فعل به بعدك ؟ قال: لو أردت ذلك ما فارقته.
قال: أفلا تسألني عن أهلك من مات منهم ومن بقي ؟ قال: أنا مت قبلهم.
قال: أفلا تسألني عما أضل به الناس ؟ قال: أنت أضلهم.
فأخبرني عن أوثق ما في نفسك تضل به بني آدم.
قال: ثلاثة أخلاق، الشح، والحدة، والسكر.
فإن الرجل إذا كان شحيحا قللنا ماله في عينه ورغبناه في أموال الناس، وإذا كان حديدا تداولناه بيننا كما يتداول الصبيان الكرة، ولو كان يحيي الموتى بدعوته لم نيأس منه، وكل ما يبنيه نهدمه، لنا كلمة واحدة.
وإذا سكر قدناه إلى كل شر وفضيحة وخزي وهوان كما تقاد القط إذا أخذ بأذنها كيف شئنا.
وقال وهب: أصاب أيوب البلاء سبع سنين، وترك يوسف في السجن سبع سنين، ومسخ بختنصر في السباع سبع سنين.
وسئل وهب عن الدنانير والدراهم فقال: هي خواتيم رب العالمين، فالارض لمعايش بني آدم لا تؤكل ولا تشرب، فأينما ذهبت بخاتم رب العالمين قضيت حاجتك، وهي أزمة المنافقين بها يقادون إلى الشهوات.
وروى داود بن عمر الضبي، عن ابن المبارك، عن معمر، عن سماك بن المفضل عن وهب قال: مثل الذي يدعو بغير عمل مثل الذي
يرمي بغير وتر.
وقال ابن المبارك: أخبرني عمر بن عبد الرحمن بن مهرب قال: سمعت وهبا يقول: قال حكيم من الحكماء: إني لاستحي من الله عزوجل أن أعبده رجاء ثواب الجنة فقط، فأكون كالاجير السوء، إن أعطي عمل وإن لم يعط لم يعمل، وإني لاستحي من الله أن أعبده مخافة النار فقط، فأكون كالعبد السوء إن رهب عمل وإن ترك لم يعمل، وإني ليستخرج مني حب الله ما لا يستخرج مني غيره.
وقال السري بن يحيى: كتب وهب إلى مكحول: إنك قد أصبت بما ظهر من علم الاسلام عند الناس محبة وشرفا، فاطلب بما بطن من علم الانسان عند الله محبة وزلفى، واعلم أن إحدى المحبتين تمنع الاخرى - أو قال: سوف تمنعك الاخرى - وقال زافر بن سليمان عن أبي سنان الشيباني قال: بلغنا أن وهب بن منبه قال: قال لقمان لابنه: يا بني: اتخذ طاعة الله تجارة تريد بها ربح الدنيا والآخرة والايمان سفينتك التي تحمل عليها، والتوكل على الله شراعها، والدنيا بحرك، والايام

موجك، والاعمال الصالحة تجارتك التي ترجو ربحها، والنافلة هي هديتك التي ترجو بها كرامتك، والحرص عليها يسيرها ويزجيها، ورد النفس عن هواها مراسيها، والموت ساحلها، والله ملكها وإليه مصيرها.
وأحب التجار إلى الله وأفضلهم وأقربهم منه أكثرهم بضاعة وأصفاهم نية، وأخلصهم هدية.
وأبغضهم إليه أقلهم بضاعة، وأردأهم هدية، وأخبثهم طوية، فكلما حسنت تجارتك ازداد ربحك، وكلما خلصت هديتك، تكرم.
وفي رواية عنه أنه قال: قال لقمان لابنه: يا بني اتخذ طاعة الله بضاعة تأتك الارباح من كل مكان، واجعل سفينتك تقوى الله، وحشوها التوكل على الله، وشراعها الايمان بالله، وبحرك العلم النافع والعمل الصالح لعلك أن تنجو، وما أراك بناج.
وقال عبد الله بن المبارك عن رباح بن زيد عن رجل قال: إن للعلم طغيانا كطغيان المال.
وقال الطبراني: حدثنا عبيد بن محمد الصنعاني، حدثنا أبو قدامة همام بن مسلمة بن عقبة، حدثنا غوث بن جابر، حدثنا عقيل بن منبه قال: سمعت عمي وهب بن منبه يقول: الاجر من الله عزوجل معروض، ولكن لا يستوجبه من لا يعمل، ولا يجده من لا يبتغيه، ولا يبصره من لا ينظر
إليه، وطاعة الله قريبة ممن يرغب فيها، بعيدة ممن زهد فيها، ومن يحرص عليها يصل إليها، ومن لا يحبها لا يجدها، لا تسبق من سعى إليها، ولا يدركها من أبطأ عنها، وطاعة الله تشرف من أكرمها، وتهين من أضاعها، وكتاب الله يدل عليها، والايمان بالله يحض عليها.
وقال الامام أحمد: حدثنا إبراهيم بن خالد، حدثنا عمر بن عبد الرحمن، سمعت وهب بن منبه يقول قال داود عليه السلام: يا رب أي عبادك أحب إليك ؟ قال: مؤمن حسن الصورة حسن العمل.
قال: يا رب أي عبادك أبغض إليك ؟ قال: كافر حسن الصورة كفر أو شكر، هذان.
وفي رواية ذكرها أحمد بن حنبل: أي عبادك أبغض إليك ؟ قال: عبد استخارني في أمر فخرت له فلم يرض به.
وقال إبراهيم بن الجنيد: حدثني إبراهيم بن سعيد، عن عبد المنعم بن إدريس، حدثنا عبد الصمد بن معقل، عن وهب بن منبه قال: كان سائح يعبد الله تعالى، فجاءه إبليس أو شيطان فتمثل بانسان فجعل يريه أنه يعبد الله تعالى، وجعل يزيد عليه في العبادة، فأحبه ذلك السائح لما رأى من اجتهاده وعبادته، فقال له الشيطان - والسائح في مصلاه -: لو دخلنا إلى المدينة فخالطنا الناس وصبرنا على أذاهم وأمرنا ونهينا، كان أعظم لاجرنا، فأجابه السائح إلى ذلك، فلما أخرج السائح إحدى رجليه من باب مكانه لينطلق معه، هتف به هاتف فقال: إن هذا شيطان أراد أن يفتنك.
فقال السائح.
رجل خرجت في معصية الله وطاعة الشيطان لا تدخل معي، فما حولها من موضعها ذلك حتى فارق الدنيا، فأنزل الله تعالى ذكره في بعض كتبه فقال: وذو الرجل.
وقال وهب: أتى رجل من أفضل أهل زمانه إلى ملك كان يفتن الناس على أكل لحم الخنزير،

فأعظم الناس مكانه، وهالهم أمره، فقال له صاحب شرطة الملك - سرا بينه وبينه -: أيها العالم، أذبح جديا مما يحل لك أكله ثم ادفعه إلي حتى أصنعه لك على حدته، فإذا دعا الملك بلحم الخنزير أمرت به فوضع بين يديك، فتأكل منه حلالا ويرى الملك والناس أنك إنما أكلت لحم الخنزير، فذبح ذلك العالم جديا، ثم دفعه إلى صاحب الشرطة فصنعه له، وأمر الطباخين إذا أمر الملك بأن يقدم إلى
هذا العالم لحم الخنزير، أن يضعوا بين يديه لحم هذا الجدي واجتمع الناس، لينظروا أمر هذا العالم فيه أيأكل أم لا، وقالوا إن أكل أكلنا وإن امتنع امتنعنا.
فجاء الملك فدعا لهم بلحوم الخنازير فوضعت بين أيديهم، ووضع بين يدي ذلك العالم لحم ذلك الجدي الحلال المذكي، فألهم الله ذلك العالم فألقى في روعه وفكره، فقال: هب أني أكلت لحم الجدي الذي أعلم حله أنا، فماذا أصنع بمن لا يعلم ؟ والناس إنما ينتظرون أكلي ليقتدوا بي، وهم لا يعلمون إلا أني إنما أكلت لحم الخنزير فيأكلون اقتداء بي، فأكون ممن يحمل أوزارهم يوم القيامة، لا أفعل والله وإن قتلت وحرقت بالنار، وأبى أن يأكل، فجعل صاحب الشرطة يغمز إليه ويومي إليه ويأمره بأكله، أي إنما هو لحم الجدي، فأبى أن يأكل، ثم أمره الملك أن يأكل فأبى، فألحوا عليه فأبى، فأمر الملك صاحب الشرطة بقتله، فلما ذهبوا به ليقتلوه.
قال له صاحب الشرطة: ما منعك أن تأكل من اللحم الذي ذكيته أنت ودفعته ألي ؟ أظننت أني أتيتك بغيره وخنتك فيما أئتمنتني عليه ؟ ما كنت لافعل والله.
فقال له العالم قد علمت أنه هو، ولكن خفت أن يتأسى الناس بي، وهم إنما ينتظرون أكلي منه، ولا يعلمون إلا أني إنما أكلت لحم الخنزير، وكذلك كل من أريد على أكله فيما يأتي من الزمان يقول: قد أكله فلان، فأكون فتنة لهم.
فقتل رحمه الله.
فينبغي للعالم أن يحذر المعايب، ويجتنب المحذورات، فإن زلته وناقصته منظورة يقتدي بها الجاهل.
وقال معاذ بن جبل: اتقوا زيغة الحكيم، وقال غيره: اتقوا زلة العالم، فإنه إذا زل زل بزلته عالم كبير.
ولا ينبغي له أن يستهين بالزلة وإن صغرت، ولا يفعل الرخص التي اختلف فيها العلماء، فإن العالم هو عصاة كل أعمى من العوام، بها يصول على الحق ليدحضه، ويقول: رأيت فلانا العالم، وفلانا وفلانا يفعلون ويفعلون.
وليجتنب العوائد النفسية، فإنه قد يفعل أشياء على حكم العادة فيظنها الجاهل جائزة أو سنة أو واجبة، كما قيل: سل العالم يصدقك ولا تقتد بفعله الغريب، ولكن سله عنه يصدقك إن كان ذا دين، وكم أفسد النظر إلى غالب علماء زمانك هذا من خلق، فما الظن بمخالطتهم ومجالستهم ولكن (من يهدي الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا) [ الكهف: 17 ].
وقال محمد بن عبد الملك بن زنجويه: حدثنا عبد الرزاق عن أبيه قال: قلت لوهب بن
منيه: كنت ترى الرؤيا فتخبرنا بها، فلا نلبث أن نراها كما رأيتها، قال: ذهب ذلك عني منذ وليت القضاء.
قال عبد الرزاق: فحدثت به معمرا فقال: والحسن بعد ما ولي القضاء لم يحمدوا فهمه، فمن يأمن القراء بعدك يا شهر ؟ فكيف حال من قد غرق في قاذورات الدنيا من علماء زمانك هذا،

ولا سيما من بعد فتنة تمرلنك ؟ فإن القلوب قد امتلات بحب الدنيا، فلا يجد العلم فيها موضعا، فجالس من شئت منهم لتنظر مبادئ مجالستهم وغاياتها، ولا تستخفك البدوات، فإنما الامور بعواقبها وخواتيمها ونتائجها، وغاياتها.
(ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب) [ الطلاق: 2 - 3 ] وقال وهب: البلاء للمؤمن كالشكال للدابة.
وقال أبو بلال الاشعري: عن أبي شهاب الصنعاني، عند عبد الصمد، عن وهب قال: من أصيب بشئ من البلاء فقد سلك به طريق الانبياء.
وقال عبد الله بن الامام أحمد بن حنبل: حدثنا عبد الرزاق قال: أنبأنا منذر قال: سمعت وهبا يقول: قرأت في كتاب رجل من الحواريين: إذا سلك بك طريق - أو قال سبيل - أهل البلاء فطب نفسا، فقد سلك بك طريق الانبياء والصالحين.
وقال الامام أحمد: حدثنا أحمد بن جعفر، حدثنا إبراهيم بن خالد، حدثني أمية بن شبل، عن عثمان بن بزدويه قال: كنت مع وهب وسعيد بن جبير يوم عرفة تحت نخيل ابن عامر، فقال وهب لسعيد: يا أبا عبد الله ! كم لك منذ خفت من الحجاج ؟ قال: خرجت عن امرأتي وهي حامل فجاءني الذي في بطنها وقد خرج [ شعر ] وجهه، فقال له وهب: إن من كان قبلكم كان إذا أصابه بلاء عده رجاء، وإذا أصابه رجاء عده بلاء.
وروى عبد الله بن أحمد بسنده عن وهب قال: قرأت في بعض الكتب: ليس من عبادي من سحر أو سحر له، أو تكهن أو تكهن له، أو تطير أو تطير له، فمن كان كذلك فليدع غيري، فإنما هو أنا وخلقي كلهم لي.
وقال الامام احمد: حدثنا إبراهيم بن خالد، حدثنا رباح، عن جعفر بن محمد، عن التيمي، عن وهب أنه قال: دخول الجمل في سم الخياط أيسر من دخول الاغنياء الجنة.
قلت: هذا إنما هو لشدة الحساب وطول وقوف الاغنياء في الكرب، كما قد ضربت الامثال للشدائد.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق: حدثنا بكار قال سمعت وهبا يقول: ترك المكافأة من التطفيف.
وقال الامام أحمد: حدثنا الحجاج وأبو النصر: قالا: حدثنا محمد بن طلحة، عن محمد بن جحادة عن وهب قال: من يتعبد يزدد قوة، ومن يتكسل يزدد فترة.
وقد قال غيره: إن حوراء جاءته في المنام في ليلة باردة فقالت له: قم إلى صلاتك فهي خير لك من نومة توهن بدنك.
ورأيت في ذلك حديثا لم يحضرني الآن.
وهذا أمر مجرب أن العبادة تنشط البدن وتلينه، وأن النوم يكسل البدن فيقسيه، وقد قال بعض السلف لما تبع ضلة ابن أشيم حين دخل تلك الغيضة، وأنه قام ليلته إلى أن أصبح، قال فأصبح كأنه بات على الحشايا، وأصبحت ولي من الكسل والفتور ما لا يعلمه إلا الله عزوجل.
وقد قيل للحسن: ما بال المتعبدين أحسن الناس وجوها ؟ قال: لانهم خلوا بالجليل فألبسهم نورا من نوره وقال يحيى بن أبي كثير: والله ما رجل يخلو بأهله عروسا أقر ما كانت نفسه وآنس، بأشد سرورا منهم بمناجاة ربهم تعالى إذا خلوا به.
وقال عطاء الخراساني: قيام الليل محياة للبدن،

ونور في القلب، وضياء في الوجه، وقوة في البصر والاعضاء كلها، وإن الرجل إذا قام بالليل أصبح فرحا مسرورا، وإذا نام عن حزبه أصبح حزينا مكسور القلب كأنه قد فقد شيئا، وقد فقد أعظم الامور له نفعا.
وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا أبو جعفر: أحمد بن منيع، حدثنا هاشم بن القاسم أبو النصر، حدثنا بكر بن حبيش عن محمد القرشي، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني، عن بلال قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): " عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وإن قيام الليل قربة إلى الله تعالى، ومنهاة عن الاثم، وتكفير عن السيئات، ومطردة للشيطان عن الجسد " وقد رواه غيره من طرق: " عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم) ويكفي في هذا الباب ما رواه أهل الصحيح والمسانيد عن أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " يعقد الشيطان على قافية أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب مكان كل عقدة: عليك ليل طويل فارقد.
فإذا استيقظ وذكر الله
انحلت عقدة، وإذا توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقدة فأصبح نشيطا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان " وهذا باب واسع.
وقد قال هود فيما أخبر الله عنه: (اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) [ المؤمنون: 32 ] ثم قال: (ويزدكم قوة إلى قوتكم) [ هود: 52 ] وهذه القوة تشمل جميع القوى، فيزيد الله عابديه قوة في إيمانهم ويقينهم ودينهم وتوكلهم، وغير ذلك مما هو من جنس ذلك، ويزدهم قوة في أسماعهم وأبصارهم وأجسادهم وأموالهم وأولادهم وغير ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقال الامام أحمد: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، حدثني عبد الصمد أنه سمع وهبا يقول: تصدق صدقة رجل يعلم أنه إنما قدم بين يديه ماله وما خلف ومال غيره.
قلت: وهذا كما في الحديث " أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله ؟ فقالوا: كلنا ماله أحب إليه من مال وارثه، فقال: إن ماله ما قدم، ومال وارثه ما أخر ".
قال: وسمعت وهبا على المنبر يقول: احفظوا عني ثلاثا، إياكم وهوى متبعا، وقرين سوء، وإعجاب المرء بنفسه.
وقد رويت هذه الالفاظ في حديث.
وقال الامام أحمد: حدثنا يونس بن عبد الصمد بن معقل، حدثنا إبراهيم بن الحجاج، قال: سمعت وهبا يقول: أحب بني آدم إلى الشيطان النؤوم الاكول.
وقال الامام أحمد: حدثنا غوث بن جابر، حدثنا عمران بن عبد الرحمن أبو الهذيل أنه سمع وهبا يقول: إن الله عزوجل يحفظ بالعبد الصالح القيل من الناس.
وقال أحمد أيضا: حدثنا إبراهيم بن عقيل، حدثنا عمران أبو الهذيل من الانباء عن وهب بن منبه قال: ليس من الآدميين أحد إلا ومعه شيطان موكل به، فأما الكافر فيأكل معه ويشرب معه، وينام معه على فراشه.
وأما المؤمن فهو مجانب له ينتظر متى يصيب منه غفلة أو غرة.
وأحب الآدميين إلى الشيطان الاكول النؤوم.
وقال محمد بن غالب: حدثنا أبو المعتمر ابن أخي بشر بن منصور، عن داود بن أبي هند

عن وهب.
قال: قرأت في بعص الكتب الذي أنزلت من السماء على بعض الانبياء: أن الله تعالى قال لابراهيم عليه الصلاة والسلام: أتدري لم اتخذتك خليلا ؟ قال: لا يا رب، قال: لذل
مقامك بين يدي في الصلاة.
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: حدثنا محمد بن أيوب، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن إدريس بن وهب بن منبه قال: حدثني أبي قال: كان لسليمان بن داود ألف بيت أعلاه قوارير وأسلفه حديد فركب الريح يوما فمر بحراث فنظر إليه الحراث فاستعظم ما أوتي سليمان من الملك، فقال: لقد أوتي آل داود ملكا عظيما، فحملت الريح كلام الحراث فألقته في أذن سليمان، قال: فأمر الريح فوقفت، ثم نزل يمشي حتى أتى الحراث فقال له: إني قد سمعت قولك، وإنما مشيت إليك لئلا تتمنى مالا تقدر عليه مما أقدرني الله عليه تفضلا وإحسانا منه علي، لانه هو الذي أقامني لهذا وأعانني.
ثم قال: والله لتسبيحة واحدة يقبلها الله عزوجل منك أو من مؤمن خير مما أوتي آل داود من الملك، لان ما أوتي آل داود من ملك الدنيا يفنى، والتسبيحة تبقى، وما يبقى خير مما يفنى.
فقال الحراث: أذهب الله همك كما أذهبت همي.
وقال الامام أحمد: حدثنا إبراهيم بن عقيل بن معقل، حدثني أبي، عن وهب بن منبه.
قال: إن الله عزوجل أعطى موسى عليه السلام نورا، فقال له هارون: هبه لي يا أخي، فوهبه له، فأعطاه هارون ابنه، وكان في بيت المقدس آنية تعظمها الانبياء والملوك، فكان ابنا هارون يسقيان في تلك الآنية الخمر، فنزلت نار من السماء فاختطفت ابني هارون فصعدت بهما، ففزع هارون لذلك فقام مستغيثا متوجها بوجهه إلى السماء بالدعاء والتضرع، فأوحى الله إليه: يا هارون هكذا أفعل بمن عصاني من أهل طاعتي، فكيف فعلي بمن عصاني من أهل معصيتي ؟.
وقال الحكم بن أبان: نزل بي ضيف من أهل صنعاء فقال: سمعت وهب بن منبه يقول: إن الله عزوجل في السماء السابعة دارا يقال لها البيضاء يجمع فيها أرواح المؤمنين، فإذا مات الميت من أهل الدنيا تلقته الارواح فيسألونه عن أخبار الدنيا كما يسأل الغائب أهله إذا قدم عليهم.
وقال: من جعل شهوته تحت قدمه فزع الشيطان من ظلمه، فمن غلب علمه هواه فذلك العالم الغلاب.
وقال فضيل بن عياض: أوحى الله تعالى إلى بعض أنبيائه: بعيني ما يتحمل المتحملون من أجلي، وما يكابدون في طلب مرضاتي، فكيف بهم إذا صاروا إلى داري، وتبحبحوا في رياض نعمتي ؟ هنالك فليبشر
المضعفون لله أعمالهم بالنظر العجيب من الحبيب القريب، أتراني أنسى لهم عملا ؟ وكيف وأنا ذو الفضل العظيم أجود على المولين المعرضين عني، فكيف بالمقبلين علي ؟ وما غضبت على شئ كغضبي على من أخطأ خطيئة فاستعظمها في جنب عفوي، ولو تعاجلت بالعقوبة أحدا، أو كانت العجلة من شأني، لعاجلت القانطين من رحمتي.
ولو رآني عبادي المؤمنون كيف استوهبهم ممن

اعتدوا عليه، ثم أحكم لمن وهبهم بالخلد المقيم، اتهموا فضلي وكرمي، أنا الديان الذي لا تحل معصيتي، والذي أطاعني أطاعني برحمتي، ولا حاجة لي بهوان من خاف مقامي.
ولو رآني عبادي يوم القيامة كيف أرفع قصورا تحار فيها الابصار فيسألوني: لمن ذا ؟ فأقول: لمن وهب لي ذنبا ما لم يوجب على نفسه معصيتي والقنوط من رحمتي، وإني مكافئ على المدح فامدحوني.
وقال سلمة بن شبيب: حدثنا سلمة بن عاصم، حدثنا عبد الله بن محمد بن عقبة، حدثنا عبد الرحمن أبو طالوت حدثني مهاجر الاسدي عن وهب.
قال: مر عيسى بن مريم ومعه الحواريون بقرية قد مات أهلها، إنسها وجنها، وهو امها وأنعامها وطيورها، فقام عليها ينظر إليها ساعة ثم أقبل على أصحابه فقال: إنما مات هؤلاء بعذاب من عند الله، ولو لا ذلك لماتوا متفرقين.
ثم ناداهم عيسى: يا أهل القرية، فأجابه مجيب: لبيك يا روح الله، فقال: ما كانت جنايتكم وسبب هلاككم ؟ قال عبادة الطاغوت وحب الدنيا، قال: وما كانت عبادتكم للطاغوت ؟ قال: طاعة أهل المعاصي هي عبادة الطاغوت.
قال: وما كان حبكم للدنيا ؟ قال: كحب الصبي لامه، كنا إذا أقبلت فرحنا، وإذا أدبرت حزنا، مع أمل بعيد، وإدبار عن طاعة الله، وإقبال على مساخطه.
قال: فكيف كان هلاككم ؟ قال: بتنا ليلة في عافية وأصبحنا في هاوية، قال: وما الهاوية ؟ قال: سجين، قال: وما السجين ؟ قال: جمرة من نار مثل أطباق الدنيا كلها دفنت أرواحنا فيها، قال: فما بال أصحابك لا يتكلمون ؟ قال: لا يستطيعون أن يتكلموا.
قال: وكيف ذلك ؟ قال: هم ملجمون بلجم من نار.
قال: وكيف كلمتني أنت من بينهم ؟ قال: كنت فيهم لما أصابهم العذاب ولم أكن منهم ولا على أعمالهم، فلما جاء البلاء عمني معهم، وأنا معلق بشعرة في الهاوية لا أدري
أكردس (1) فيها أم أنجو.
فقال عيسى عليه السلام عند ذلك لاصحابه: بحق أقول لكم: لخبز الشعير وشرب الماء القراح والنوم على المزابل كثير مع عافية الدنيا والآخرة.
وروى الطبراني عنه أنه قال: لا يكون المرء حكيما حتى يطيع الله عز وجل، وما عصى الله حكيم، ولا يعصى الله إلا أحمق، وكما لا يكمل النهار إلا بالشمس، ولا يعرف الليل إلا بالظلام، كذلك لا تكمل الحكمة إلا بطاعة الله عز وجل، ولا يعصى الله حكيم، كما لا يطير الطير إلا بجناحين، ولا يستطيع من لا جناح له أن يطير، كذلك لا يطيع الله من لا يعمل له، ولا يطيق عمل الله من لا يطيعه.
وكما لا مكث للنار في الماء حتى تطفأ، كذلك لا مكث لعمل الرياء حتى يبور.
وكما يبدي سر الزانية وفضيحتها فعلها، كذلك يفتضح بالفعل السئ من كان يقرأ لجليسه بالقول الحسن ولم يعمل به.
وكما تكذب معذرة السارق بالسرقة إذا ظهر عليها عنده، كذلك تكذب معصية القارئ لله قراءته إذا كان يقرأها لغير الله تعالى.
__________
(1) أكردس فيها: أمشي وأنا مقارب الخطو كالمقيد.

وقال الطبراني: حدثنا محمد بن النضر، حدثنا علي بن بحر بن بري، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، حدثنا عبد الصمد بن معقل.
قال سمعت وهبا يقول: في مزامير آل داود: طوبى لمن يسلك سبيل الحطابين ولا يجالس البطالين، وطوبى لمن يسك طريق الائمة ويستقيم على عبادة ربه، فمثله كمثل شجرة نابتة على ساقية لا تزال فيها الحياة، ولا تزال خضراء.
وروى الطبراني أيضا عنه قال: إذا قامت الساعة صرخت الحجارة صراخ النساء، وقطرت العضاه دما.
وروي عنه أنه قال: ما من شئ إلا يبدو صغيرا ثم يكبر، إلا المصيبة فإنها تبدو كبيرة ثم تصغر وروي عنه أيضا أنه قال: وقف سائل على باب داود عليه السلام، فقال: يا أهل بيت النبوة تصدقوا علينا بشئ رزقكم الله رزق التاجر المقيم في أهله.
فقال داود: أعطوه، فوالذي نفسي بيده إنها لفي الزبور.
وقال: من عرف بالكذب لم يجز صدقه، ومن عرف بالصدق ائتمن على حديثه، ومن أكثر الغيبة والبغضاء لم يوثق منه بالنصيحة، ومن عرف بالفجور والخديعة لم يؤمن إليه في المحنة، ومن انتحل فوق قدره
جحد قدره، ولا تستحسن فيك ما تستقبح في غيرك.
هذه الآثار رواها الطبراني عنه من طرق.
وروى داود بن عمرو عن إسماعيل بن عياش عن عبد الله بن عثمان بن خيثم.
قال: قدم علينا وهب مكة فطفق لا يشرب ولا يتوضأ إلا من زمزم، فقيل له: مالك في الماء العذب ؟ فقال: ما أنا بالذي أشرب وأتوضأ إلا من زمزم حتى أخرج منها، إنكم لا تدرون ما ماء زمزم، والذي نفسي بيده إنها لفي كتاب الله طعام طعم، وشفاء سقم، ولا يعمد أحد إليها يتضلع منها ريا، ابتغاء بركتها، إلا نزعت منه داء وأحدثت له شفاء.
وقال: النظر في زمزم عبادة.
وقال: النظر فيها يحط الخطايا حطا.
وقال وهب: مسخ بختنصر أسدا فكان ملك السباع، ثم مسخ نسرا فكان ملك الطيور، ثم مسخ ثورا فكان ملك الدواب، وهو في كل ذلك يعقل عقل الانسان، وكان ملكه قائما يدبر، ثم رد الله عليه روحه إلى حالة الانسان، فدعا إلى توحيد الله وقال: كل إله باطل إلا إله السماء.
فقيل له: أمات مؤمنا ؟ فقال: وجدت أهل الكتاب قد اختلفوا فيه، فقال بعضهم: آمن قبل أن يموت، وقال بعضهم: قتل الانبياء، وحرق الكتب، وحرق بيت المقدس، فلم يقبل منه التوبة.
هكذا رواه الطبراني عن محمد بن أحمد بن الفرج، عن عباس بن يزيد، عن عبد الرزاق، عن بكار بن عبد الله، قال: سمعت وهب بن منبه يقول، فذكره.
وقال وهب: كان رجل بمصر فسألهم ثلاثة أيام أن يطعموه فلم يطعموه، فمات في اليوم الرابع فكفنوه ودفنوه، فأصبحوا فوجدوا الكفن في محرابهم مكتوب عليه: قتلتموه حيا وبررتموه ميتا ؟ قال يحيى: فأنا رأيت القرية التي مات فيها ذلك الرجل، وما بها أحد إلا وله بيت ضيافة، لا غني ولا فقير هكذا رواه يحيى بن عبد الباقي عن علي بن الحسن، عن عبد الله بن أخي وهب، قال: حدثني عمي وهب بن منبه فذكره.
قال: وأهل القرية يعترفون بذلك.
فمن ثم اتخذوا بيوتا للضيفان والفقراء خوفا من ذلك.
وقال عبد الرزاق عن بكار عن وهب.
قال: إذا دخلت الهدية من الباب

خرج الحق من الكوة.
وقال إبراهيم بن الجنيد: حدثنا إبراهيم بن سعيد، عن عبد المنعم بن إدريس، عن عبد الصمد، عن وهب بن منبه قال: مر نبي من الانبياء على عابد في كهف جبل،
فمال إليه فسلم عليه وقال له: يا عبد الله منذكم أنت هاهنا ؟ قال: منذ ثلثمائة سنة.
قال: من أين معيشتك ؟ قال: من ووق الشجر، قال: فمن أين شرابك ؟ قال: من ماء العيون، قال: فأين تكون في الشتاء ؟ قال: تحت هذا الجبل، قال: فكيف صبرك على العبادة ؟ قال: وكيف لا أصبر وإنما هو يومي إلى الليل، وأما أمس فقد مضى بما فيه، وأما غد فلم يأت بعد.
قال فعجب النبي من قوله: إنما هو يومي إلى الليل.
وبهذا الاسناد أن رجلا من العباد قال لمعلمه: قطعت الهوى فلست أهوى من الدنيا شيئا.
فقال له معلمه: أتفرق بين النساء والدواب إذا رأيتهن معا ؟ قال: نعم، قال أتفرق بين الدنانير والدراهم والحصا ؟ قال: نعم، قال: يا بني إنك لم تقطع الهوى عنك ولكنك قد أوثقته فاحذر انفلاته وانقلابه.
وقال غوث بن جابر بن غيلان بن منبه: حدثني عقيل بن معقل، عن وهب قال: اعمل في نواحي الدين الثلاث، فإن للدين نواحي ثلاثا، هن جماع الاعمال الصالحة لمن أراد جمع الصالحات " أولاهن " تعمل شكر الله على الانعم الكثيرات الغاديات الرائحات (1)، الظاهرات الباطنات، الحادثات القديمات، يعمل المؤمن شكرا لهن ورجاء تمامهن " والناحية الثانية من الدين " رغبة في الجنة التي ليس لها ثمن وليس لها مثل، ولا يزهد فيها وفي العمل لها إلا سفيه فاجر، أو منافق كافر " والناحية الثالثة من الدين " أن يعمل المؤمن فرارا من النار التي ليس لاحد عليها صبر، ولا لاحد بها طاقة ولا يدان، وليست مصيبتها كالمصيبات، ولا حزن أهلها كالاحزان، نبأها عظيم، وشأنها شديد، والآخرة وحزنها فظيع، ولا يغفل عن الفرار والتعوذ بالله منها إلا سفيه أحمق خاسر، (قد خسر الدنيا ذلك هو الخسران المبين) [ الحج: 11 ].
وقال إسحاق بن راهويه: حدثنا عبد الملك بن محمد الدمادي، قال: أخبرني محمد بن سعيد بن رمانة قال: أخبرني أبي قال: قيل لوهب: أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله ؟ قال: بلى، ولكن ليس من مفتاح إلا وله أسنان، فمن أتى الباب بمفتاح بأسنانه فتح له، ومن لم يأت الباب بمفتاح بأسنانه لم يفتح له.
وقال محمد: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، حدثنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهبا يقول: ركب ابن ملك في جند من قومه وهو شاب، فصرع عن فرسه فدق عنقه فمات في
أرض قريبة من القرى، فغضب أبوه وحلف أن يقتل أهل تلك القرية عن آخرهم، وأن يطأهم بالافيال، فما أبقت الافيال وطئته الخيل، فما أبقت الخيل وطئته الرجال، فتوجه إليهم بعد أن سقى
__________
(1) الغاديات: مفردها الغادية وهي السحابة تنشأ غدوة.
والرائحات: الامطار أو السحب التي تجئ رواحا أي عند العشي.

الافيال والخيل الخمر وقال: طأوهم بالافيال، وإلا فما أبقت الافيال فلتطأه الخيل، فما أخطأنه الخيل فلتطأه الرجال فلما سمع بذلك أهل تلك القرية وعرفوا أنه قد قصدهم لذلك، خرجوا بأجمعهم فجأروا إلى الله سبحانه وعجوا إليه وابتهلوا يدعونه تعالى ليكشف عنهم شر هذا الملك الظالم، وما قصده هلاكهم.
فبينما الملك وجيشه سائرون على ذلك، وأهل القرية في الابتهال والدعاء والتضرع إلى الله تعالى، إذ نزل فارس من السماء فوقع بينهم، فنفرت الافيال فطغت على الخيل وطغت الخيل على الرجال، فقتل الملك ومن معه وطأ بالافيال والخيل، ونجى الله أهل تلك القرية من بأسهم وشرهم.
وروى عبد الرزاق عن المنذر بن النعمان أنه سمع وهبا يقول: قال الله تعالى لصخرة بيت المقدس: لاضعن عليك عرشي، ولاحشرن عليك خلقي، وليأتينك داود يومئذ راكبا.
وروى سماك بن المفضل عن وهب قال: إني لا تفقد أخلاقي وما فيها شئ يعجبني.
وروى عبد الرزاق عن أبيه قال قال وهب: ربما صليت الصبح بوضوء العتمة.
وقال بقية بن الوليد: حدثنا زيد بن خالد عن خالد بن معدان عن وهب قال: كان نوح عليه السلام من أجمل أهل زمانه، وكان يلبس البرقع فأصابهم مجاعة في السفينة، فكان نوح إذا تجلى لهم شبعوا.
وقال: قال عيسى: الحق أقول لكم: إن أشدكم جزعا على المصيبة أشدكم حبا للدنيا.
وقال جعفر بن برقان: بلغنا أن وهبا كان يقول: طوبى لمن نظر في عيبه عن عيب غيره، وطوبى لمن تواضع لله من غير مسكنة، ورحم أهل الذل والمسكنة، وتصدق من مال جمعه من غير معصية، وجالس أهل العلم والحلم والحكمة، ووسعته السنة ولم يتعدها إلى البدعة.
وروى سيار عن جعفر، عن عبد الصمد بن معقل عن وهب قال:
وجدت في زبور داود: يا داود هل تدري من أسرع الناس مرا على الصراط ؟ الذين يرضون بحكمي، وألسنتهم رطبة بذكري.
وقيل إن عابدا عبد الله تعالى خمسين سنة فأوحى الله إلى نبيهم: إني قد غفرت له، فأخبره ذلك النبي، فقال: أي رب، وأي ذنب تغفر لي ؟ فأمر عرقا في عنقه فضرب عليه، فلم ينم ولم يهدأ ولم يصل ليلته، ثم سكن العرق، فشكا ذلك إلى النبي، فقال: ما لاقيت من عرق ضرب علي في عنقي ثم سكن.
فقال له النبي: إن الله يقول: إن عبادتك خمسين سنة ما تعدل سكون هذا العرق.
وقال وهب: رؤوس النعم ثلاثة " إحداها " نعمة الاسلام التي لا تتم نعمة إلا بها.
" والثانية " نعمة العافية التي لا تطيب الحياة إلا بها.
" والثالثة " نعمة الغنى التي لا يتم العيش إلا بها.
ومر وهب بمبتلى أعمى مجذوم مقعد عريان به وضح وهو يقول: الحمد لله على نعمه، فقال له رجل كان مع وهب: أي شئ بقي عليك من النعمة تحمد الله عليه ؟ فقال المبتلى: أدم بصرك إلى أهل المدينة وانظر إلى كثرة أهلها، أولا أحمد الله أنه ليس فيها أحد يعرفه غيري ؟.
وقال وهب: المؤمن يخالط ليعلم، ويسكت ليسلم، ويتكلم ليفقههم، ويخلو ليقيم.
وقال: المؤمن مفكر مذكر مدخر، تذكر فغلبته السكينة، سكن فتواضع فلم يتهم، رفض الشهوات فصار حرا، ألقى عنه الحسد فظهرت له المحبة، زهد في كل فإن فاستكمل العقل، رغب في كل باق

فعقل المعرفة، قلبه متعلق بهمه، وهمه موكل بمعاده، لا يفرح إذا فرح أهل الدنيا، بل حزنه عليه سرمد، وفرحه إذا نامت العيون يتلو كتاب الله ويردده على قلبه، فمرة يفزع قلبه ومرة تدمع عينه، يقطع عنه الليل بالتلاوة، ويقطع عنه النهار بالخلوة والعزلة، مفكرا في ذنوبه، مستصغرا لاعماله.
وقال وهب: فهذا ينادي يوم القيامة في ذلك الجمع العظيم على رؤوس الخلائق: قم أيها الكريم فادخل الجنة.
وقال إبراهيم بن سعيد، عن عبد الرحمن بن مسعود، عن ثور بن يزيد.
قال: قال وهب بن منبه: الويل لكم إذا سماكم الناس صالحين، وأكرموكم على ذلك.
وقال الطبراني: حدثنا عبيد بن محمد الكشوري، حدثنا همام بن سلمة بن عقبة، حدثنا غوث بن جابر، حدثنا عقيل بن
معقل بن منبه قال: سمعت عمي وهب بن منبه يقول: يا بني ! اخلص طاعة الله بسريرة ناصحة يصدق بها فعلك في العلانية، فإن من فعل خيرا ثم أسره إلى الله فقد أصاب مواضعه، وأبلغه قراره، ووضعه عند حافظه وإن من أسر عملا صالحا لم يطلع عليه إلا الله، فقد أطلع عليه من هو حسبه، واستحفظه واستودعه حفيظا لا يضيع أجره، فلا تخافن يا بني على من عمل صالحا أسره إلى الله عزوجل ضياعا، ولا تخافن ظلمة ولا هضمة، ولا تظنن أن العلانية هي أنجح من السريرة، فإن مثل العلانية مع السريرة كمثل ورق الشجرة مع عرقها، العلانية ورقها والسريرة أصلها، إن يحرق العرق هلكت الشجرة كلها، وإن صلح الاصل صلحت الشجرة، ثمرها وورقها، والورق يأتي عليه حين يجف ويصير هباء تذروه الرياح، بخلاف العرق، فإنه لا يزال ما ظهر من الشجرة في خير وعافية ما كان عرقها مستخفيا لا يرى منه شئ، كذلك الدين والعلم والعمل، لا يزال صالحا ما كان له سريرة صالحة يصدق الله بها علانية العبد، فإن العلانية تنفع مع السريرة الصالحة، ولا تنفع العلانية مع السريرة الفاسدة، كما ينفع عرق الشجرة صلاح فرعها، وإن كان حياته من قبل عرقها، فإن فرعها زينتها وجمالها، وإن كانت السريرة هي ملاك الدين، فإن العلانية معها تزين الدين وتجمله إذا عملها مؤمن لا يريد بها إلا رضاء ربه عزوجل.
وقال الهيثم بن جميل: حدثنا صالح المري عن أبان عن وهب قال: قرأت في الحكمة: الكفر أربعة أركان، ركن منه الغضبة، وركن منه الشهوة، وركن منه الطمع، وركن منه الخوف.
وقال: أوحى الله تعالى إلى موسى: إذا دعوتني فكن خائفا مشفقا وجلا، وعفر خدك بالتراب، واسجد لي بمكارم وجهك ويديك، وسلني حين تسألني بخشية من قلبك ووجل، واخشني أيام الحياة، وعلم الجهال آلائي، وقل لعبادي لا يتمادوا في غي ما هم فيه فإن أخذي أليم شديد.
وقال وهب: إذا هم الوالي بالجور أو عمل به دخل النقص على أهل مملكته، وقلت البركات في التجارات والزراعات والضروع والمواشي، ودخل المحق في ذلك، وأدخل الله عليه الذل في ذاته وفي ملكه.
وإذا هم بالعدل والخير كان عكس ذلك، من كثرة الخير ونمو البركات.
وقال وهب: كان في مصحف

إبراهيم عليه السلام أيها الملك المبتلى، إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض، ولا لتبني البنيان، وإنما بعثتك لترفع لي دعوة المظلوم فإني لا أردها ولو كانت من كافر.
وروى ابن أبي الدنيا عن محمد بن إسحاق، عن وهب بن منبه: أن ذا القرنين قال لبعض الملوك: ما بال ملتكم واحدة، وطريقتكم مستقيمة ؟ قال: من قبل أنا لا نخادع ولا يغتاب بعضنا بعضا.
وروى ابن أبي الدنيا عنه أنه قال: ثلاث من كن فيه أصاب البر، سخاوة النفس، والصبر على الاذى، وطيب الكلام.
وقال ابن أبي الدنيا: حدثني سلمة بن شبيب حدثنا سهل بن عاصم عن سلمة بن ميمون عن المعافى بن عمران عن إدريس قال: سمعت وهبا يقول: كان في بني اسرائيل رجلان بلغت بهما عبادتهما أنهما مشيا على الماء، فبينما هم يمشيان على البحر إذا هما برجل يمشي في الهواء، فقالا له: يا عبد الله بأي شئ أدركت هذه المنزلة ؟ قال: بيسير من البر فعلته، ويسير من الشر تركته، فطمت نفسي عن الشهوات، وكففت لساني عما لا يعنيني، ورغبت فيما دعاني إليه خالقي، ولزمت الصمت فإن أقسمت على الله عزوجل أبر قسمي، وإن سألته أعطاني.
وقال: حدثني أبو العباس البصري الازدي عن شيخ من الازد.
قال: جاء رجل إلى وهب بن منبه فقال: علمني شيئا ينفعني الله به، قال: أكثر من ذكر الموت، واقصر أملك، وخصلة ثالثة إن أنت أصبتها بلغت الغاية القصوى، وظفرت بالعبادة الكبرى قال: وما هي ؟ قال: التوكل.
وممن توفي فيها من الاعيان: سليمان بن سعد كان جميلا فصيحا عالما بالعربية، وكان يعلمها الناس هو وصالح بن عبد الرحمن الكاتب، وتوفي صالح بعده بقليل، وكان صالح فصيحا جميلا عارفا بكتابة الديوان، وبه يخرج أهل العراق من كتابة الديوان وقد ولاه سليمان بن عبد الملك خراج العراق.
أم الهذيل لها روايات كثيرة، وقد قرأت القرآن وعمرها اثنتي عشرة سنة، وكانت فقيه عالمة، من خيار النساء، عاشت سبعين سنة.
عائشة بنت طلحة بن عبد الله التميمي أمها أم كلثوم بنت أبي بكر، تزوجت بابن خالها عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر، ثم تزوجت بعده بمصعب بن الزبير، وأصدقها مائة ألف دينار، وكانت بارعة الجمال، عظيمة الحسن لم يكن في زمانها أجمل منها.
توفيت بالمدينة.

عبد الله بن سعيد بن جبير له روايات كثيرة، وكان من أفضل أهل زمانه.
عبد الرحمن بن أبان ابن عثمان بن عفان.
له روايات كثيرة عن جماعة من الصحابة.
ثم دخلت سنة احدى عشرة ومائة ففيها غزا معاوية بن هشام الصائفة اليسرى، وغزا سعيد بن هشام الصائفة اليمنى (1)، حتى بلغ قيسارية من بلاد الروم.
وفيها عزل هشام بن عبد الملك أشرس بن عبد الله السلمي عن إمرة خراسان وولى عليها الجنيد بن عبد الرحمن، فلما قدم خراسان تلقته خيول الاتراك منهزمين من المسلمين، وهو في سبعة آلاف فتصافوا واقتتلوا قتالا شديدا، وطمعوا فيه وفيمن معه لقلتهم بالنسبة إليهم، ومعهم ملكهم خاقان، وكاد الجنيد أن يهلك، ثم أظفره الله بهم فهزمهم هزيمة منكرة، وأسر ابن أخي ملكهم، وبعث به إلى الخليفة.
وحج بالناس فيها إبراهيم بن هشام المخزومي، وهو أمير الحرمين والطائف، وأمير العراق خالد القسري، وأمير خراسان الجنيد بن عبد الرحمن المري (2).
ثم دخلت سنة ثنتي عشرة ومائة فيها غزا معاوية بن هشام الصائفة فافتتح حصونا (3) من ناحية ملاطية.
وفيها سارت الترك من اللان فلقيهم الجراح بن عبد الله الحكمي فيمن معه من أهل الشام وأذربيجان، فاقتتلوا قبل أن يتكامل إليه جيشه، فاستشهد الجراح رحمه الله وجماعة معه بمرج أردبيل (4)، وأخذ العدو أردبيل.
فلما
بلغ ذلك هشام بن عبد الملك بعث سعيد بن عمرو الحرشي بجيش وأمره بالاسراع إليهم، فلحق الترك وهم يسيرون بأسارى المسلمين نحو ملكهم خاقان، فاستنقذ منهم الاسارى ومن كان معهم من
__________
(1) الصائفة اليسرى: أي البلاد الواقعة في ساحل بلاد الاناضول.
والصائفة اليمنى أي بر الاناضول من جهة البلاد الداخلية.
(2) في الطبري 8 / 204: المزني.
وفي ابن الاثير 5 / 156: الجنيد بن عبد الرحمن بن عمرو بن الحارث بن خارجة بن سنان بن أبي حارثة المري.
(3) افتتح حصن خرشنة كما في ابن الاثير 5 / 171 والطبري 8 / 205 وحرق فرندية (4) في فتوح ابن الاعثم 8 / 39 في سفح جبل سبلان (وسبلان جبل عظيم مشرف على مدينة أردبيل من أرض أذربيجان - معجم البلدان).

نساء المسلمين، ومن أهل الذمة أيضا، وقتل من الترك مقتلة عظيمة جدا، وأسر منهم خلقا كثيرا فقتلهم صبرا، وشفى ما كان تغلث من القلوب، ولم يكتف الخليفة بذلك حتى أرسل أخاه مسلمة بن عبد الملك في أثر الترك، فسار إليهم في برد شديد وشتاء عظيم، فوصل إلى باب الابواب واستخلف عنه أميرا وسار هو بمن معه في طلب الاتراك وملكهم خاقان، وكان من أمره معهم ما سنذكره.
ونهض أمير خراسان في طلب الاتراك أيضا في جيش كثيف، فوصل إلى نهر بلخ ووجه إليهم سرية ثمانية عشر ألفا، وأخرى عشرة آلاف يمنة ويسرة، وجاشت الترك وجيشت، فأتوا سمرقند فكتب أميرها (1) إليه يعلمه بهم، وأنه لا يقدر على صون سمرقند منهم، ومعهم ملكهم الاعظم خاقان، فالغوث الغوث.
فسار الجنيد مسرعا في جيش كثيف هو نحو سمرقند حتى وصل إلى شعب سمرقند وبقي بينه وبينها أربعة فراسخ، فصحبه خاقان في جمع عظيم، فحمل خاقان على مقدمة الجنيد فانحازوا إلى العسكر والترك تتبعهم من كل جانب، فتراءى الجمعان والمسلمون يتغدون ولا يشعرون بانهزام مقدمتهم وانحيازها إليهم، فنهضوا إلى السلاح واصطفوا على منازلهم، وذلك في مجال واسع، ومكان بارز، فالتقوا وحملت الترك على ميمنة المسلمين وفيها بنو تميم والازد، فقتل
منهم ومن غيرهم خلق كثير، ممن أراد الله كرامته بالشهادة، وقد برز بعض شجعان المسلمين لجماعة من شجعان الترك فقتلهم، فناداه منادي خاقان: إن صرت إلينا جعلناك ممن يرقص الصنم الاعظم فنعبدك، فقال: ويحكم، إنما أقاتلكم على أن تعبدوا الله وحده لا شريك له، ثم قاتلهم حتى قتل رحمه الله.
ثم تناخى المسلمون وتداعت الابطال والشجعان من كل مكان، وصبروا وصابروا، وحملوا على الترك حملة رجل واحد، فهزمهم الله عزوجل، وقتلوا منهم خلقا كثيرا، ثم عطفت الترك عليهم فقتلوا من المسلمين خلقا حتى لم يبق سوى ألفين، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وقتل يومئذ سودة بن الحر (1) واستأسروا من المسلمين جماعة كثيرة فحملوهم إلى الملك خاقان فأمر بقتلهم عن آخرهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون وهذه الوقعة يقال لها وقعة الشعب.
وقد بسطها ابن جرير جدا.
وممن توفي فيها من الاعيان: رجاء بن حيوة الكندي أبو المقدام، ويقال أبو نصر، وهو تابعي جليل، كبير القدر، ثقة فاضل عادل، وزير صدق لخلفاء بني أمية، وكان مكحول إذا سئل يقول: سلوا شيخنا وسيدنا رجاء بن حيوة، وقد أثنى عليه غير واحد من الائمة ووثقوه في الرواية، وله روايات وكلام حسن رحمه الله.
__________
(1) في الطبري 8 / 206 وابن الاثير 5 / 162: أميرها سورة بن الحر.
(2) من الطبري وابن الاثير، وفي الاصل: أبجر

شهر بن حوشب الاشعري الحمصي ويقال إنه دمشقي، تابعي جليل، روى عن مولاته أسماء بنت يزيد بن السكن وغيرها، وحدث عنه جماعة من التابعين وغيرهم، وكان عالما عابدا ناسكا، لكن تكلم فيه جماعة بسبب أخذه خريطة من بيت المال بغير إذن ولي الامر، فعابوه وتركوه عرضة، وتركوا حديثه وأنشدوا فيه الشعر، منهم شعبة وغيره، ويقال إنه سرق غيرها فالله أعلم.
وقد وثقه جماعات آخرون وقبلوا روايته وأثنوا عليه وعلى عبادته ودينه واجتهاده، وقالوا: لا يقدح في روايته ما أخذه من بيت المال إن صح عنه،
وقد كان واليا عليه متصرفا فيه فالله أعلم.
قال الواقدي: توفي شهر في هذه السنة - أعني سنة اثنتي عشرة ومائة وقيل قبلها بسنة وقيل سنة مائة فالله أعلم.
ثم دخلت سنة ثلاث عشرة ومائة ففيها غزا معاوية بن هشام أرض الروم من ناحية مرعش، وفيها صار جماعة من دعاة بني العباس إلى خراسان وانتشروا فيها، وقد أخذ أميرهم رجلا منهم فقتله وتوعد غيره بمثل ذلك.
وفيها وغل مسلمة بن عبد الملك في بلاد الترك فقتل منهم خلقا كثيرا، ودانت له تلك الممالك من ناحية بلنجر وأعمالها.
وفيها حج بالناس إبراهيم بن هاشم المخزومي، فالله أعلم.
ونواب البلادهم المذكورون في التي قبلها.
وممن توفي فيها من الاعيان قال ابن جرير: فيها كان مهلك.
الامير عبد الوهاب بن بخت وهو مع البطال عبد الله بأرض الروم قتل شهيدا وهذه ترجمته: هو عبد الوهاب بن بخت أبو عبيدة ويقال أبو بكر، مولى آل مروان مكي، سكن الشام ثم تحول إلى المدينة، روى عن ابن عمر وأنس وأبي هريرة وجماعة من التابعين.
وعنه خلق منهم أيوب ومالك بن أنس ويحيى بن سعيد الانصاري وعبيد الله العمري، حديثه عن أنس مرفوعا " نضر الله امرأ سمع مقالتي هذه فوعاها ثم بلغها غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغل عليهن صدر مؤمن، إخلاص العمل لله، ومناصحة أولي الامر، ولزوم جماعة المسلمين، كأن دعوتهم تحيط من ورائهم ".
وروى عن أبي الزناد عن الاعرج عن أبي هريرة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
" إذا لقي أحدكم أخاه فليسلم عليه فإن حالت بينهما شجرة ثم لقيه فليسلم عليه ".
وقد وثق عبد الوهاب هذا جماعات من أئمة العلماء.
وقال مالك: كان كثير الحج والعمرة والغزو، حتى استشهد ولم يكن أحق بما في رحله من رفقائه، وكان سمحا جوادا، استشهد ببلاد الروم مع الامير أبي محمد عبد الله البطال، ودفن هناك رحمه الله.
توفي في هذه السنة قاله خليفة وغيره، وذلك أنه لقي العدو ففر بعض المسلمين، فجعل ينادي ويركض فرسه نحو العدو: أن هلموا إلى الجنة ويحكم

أفرارا من الجنة ؟ أتفرون من الجنة ؟ إلى أين ويحكم لا مقام لكم في الدنيا ولا بقاء ؟ ثم قاتل حتى قتل رحمه الله.
مكحول الشامي (1) تابعي جليل القدر، إمام أهل الشام في زمانه، وكان مولى لامرأة من هذيل، وقيل مولى امرأة من آل سعيد بن العاص، وكان نوبيا وقيل من سبي كابل، وقيل كان من الابناء من سلالة الاكاسرة وقد ذكرنا نسبه في كتابنا التكميل.
وقال محمد بن إسحاق: سمعته يقول: طفت الارض كلها في طلب العلم: وقال الزهري: العلماء أربعة (2)، سعيد بن المسيب بالحجاز، والحسن البصري بالبصرة، والشعبي بالكوفة، ومكحول بالشام.
وقال بعضهم: كان لا يستطيع أن يقول: قل، وإنما يقول: كل وكان له وجاهة عند الناس، مهما أمر به من شئ يفعل.
وقال سعيد بن عبد العزيز: كان أفقه أهل الشام، وكان أفقه من الزهري.
وقال غير واحد: توفي في هذه السنة، وقيل بعدها فالله أعلم: مكحول الشامي هو ابن أبي مسلم، واسم أبي مسلم شهزاب بن شاذل (3).
كذا نقلته من خط عبد الهادي، وروى ابن أبي الدنيا عنه أنه قال: من نظف ثوبه قل همه، ومن طاب ريحه زيد في عقله.
وقال مكحول في قوله تعالى (ثم لتسألن يومئذ عن النعيم) [ التكاثر: 8 ] قال: بارد الشراب، وضلال المساكن وشبع البطون، واعتدال الخلق، ولذاذة النوم، وقال: إذا وضع المجاهدون أثقالهم عن دوابهم أتتها الملائكة، فمسحت ظهورها ودعت لها بالبركة، إلا دابة في عنقها جرس.
ثم دخلت سنة أربع عشرة ومائة فيها غزا معاوية بن هشام الصائفة اليسرى وعلى اليمنى سليمان بن هشام بن عبد الملك، وهما ابنا أمير المؤمنين هشام: وفيها التقى عبد الله البطال وملك الروم المسمى فيهم قسطنطين، وهو ابن
__________
(1) ترجمته في تذكرة الحفاظ 1 / 101 تهذيب التهذيب 10 / 289 حلية الاولياء 5 / 177 تاريخ الاسلام للذهبي 5 / 3 - 6 وفيات الاعيان 2 / 122 ميزان الاعتدال 3 / 198.
(2) في تذكرة الحفاظ 1 / 108 عن الزهري: العلماء ثلاثة وذكر منهم مكحولا.
(3) في وفيات الاعيان 5 / 281: (قال الخطيب كان شاذل من أهل هراة فتزوج ابنة ملك من ملوك كابل ثم هلك عنها وهي حامل، فانصرفت إلى أهلها، فولدت شهراب فلم يزل في أخواله بكابل حتى ولد له مكحول، فلما ترعرع سبي، ثم وقع إلى سعيد بن العاص فوهبه لامرأة من هذيل فأعتقته ".
(انظر ابن ماكولا وهامش صفحة 5 / 1).

هرقل الاول الذي كتب إليه النبي (صلى الله عليه وسلم) فأسره البطال، فأرسله إلى سليمان بن هشام، فسار به إلى أبيه.
وفيها عزل هشام عن إمرة مكة والمدينة والطائف إبراهيم بن هشام بن إسماعيل، وولى عليها أخاه محمد بن هشام (1) فحج بالناس في هذه السنة في قول، وقال الواقدي وأبو معشر: إنما حج بالناس خالد بن عبد الملك بن مروان والله أعلم.
وممن توفي فيها من الاعيان: عطاء بن أبي رباح (2) الفهري مولاهم أبو محمد المكي، أحد كبار التابعين الثقات الرفعاء، يقال إنه أدرك مائتي صحابي وقال ابن سعد: سمعت بعض أهل العلم يقول: كان عطاء أسود أعور أفطس (3) أشل أعرج، ثم عمي بعد ذلك، وكان ثقة فقيها عالما كثير الحديث، وقال أبو جعفر الباقر وغير واحد: ما بقي أحد في زمانه أعلم بالمناسك منه، وزاد بعضهم، وكان قد حج سبعين حجة، وعمر مائة سنة، وكان في آخر عمره يفطر في رمضان من الكبر والضعف ويفدي عن إفطاره، ويتأول الآية (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) [ البقرة: 184 ] وكان ينادي منادي بني أمية في أيام منى: لا يفتي الناس في الحج إلا عطاء بن أبي رباح، وقال أبو جعفر الباقر: ما رأيت فيمن لقيت أفقه منه، وقال الاوزاعي: مات عطاء يوم مات وهو أرضى أهل الارض عندهم.
وقال ابن جريج: كان في المسجد فراش عطاء عشرين سنة، وكان من أحسن الناس به صلاة.
وقال قتادة: كان سعيد بن المسيب والحسن وإبراهيم وعطاء هؤلاء أئمة الامصار.
وقال عطاء: إن الرجل ليحدثني بالحديث فأنصت له كأني لم أكن سمعته، وقد سمعته قبل أن يولد، فأريه أني إنما سمعته
الآن منه.
وفي رواية: أنا أحفظ منه له فأريه أني لم أسمعه.
الجمهور على أنه مات في هذه السنة رحمه الله تعالى والله أعلم.
فصل أسند أبو محمد عطاء بن أبي رباح - واسم أبي رباح أسلم - عن عدد كثير من الصحابة، منهم ابن عمر وابن عمرو، وعبد الله بن الزبير، وأبو هريرة، وزيد بن خالد الجهني، وأبو سعيد.
وسمع من ابن عباس التفسير وغيره.
وروى عنه من التابعين عدة، منهم الزهري، وعمرو بن دينار، وأبو الزبير، وقتادة، ويحيى بن كثير، ومالك بن دينار، وحبيب بن أبي ثابت، والاعمش، وأيوب السختياني، وغيرهم من الائمة والاعلام كثير.
قال أبو هزان: سمعت
__________
(1) في الطبري 8 / 217 وابن الاثير 5 / 179: ولى محمد بن هشام على مكة.
وعلى المدينة خالد بن عبد الملك بن الحارث بن الحكم.
(2) ترجمته في طبقات ابن سعد 5 / 467 صفة الصفوة 2 / 211 وفيات الاعيان.
(3) في صفة الصفوة 2 / 212 عن ابراهيم بن اسحاق الحربي قال: كان أنفه كأنه باقلاة.

عطاء بن أبي رباح يقول: من جلس مجلس ذكر كفر الله عنه بذلك المجلس عشر مجالس من مجالس الباطل.
قال أبو هزان قلت لعطاء: ما مجلس الذكر ؟ قال: مجالس الحلال والحرام، كيف تصلي، كيف تصوم، كيف تنكح وتطلق وتبيع وتشتري.
وقال الطبراني: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا عبد الرزاق، عن يحيى بن ربيعة الصنعاني.
قال: سمعت عطاء بن أبي رباح يقول في قوله تعالى: (وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الارض ولا يصلحون) [ النمل: 48 ] قال: كانوا يقرضون الدراهم، قيل كانوا يقصون منها ويقطعونها.
وقال الثوري عن عبد الله بن الوليد - يعني الوصافي - قال: قلت لعطاء: ما ترى في صاحب قلم إن هو كتب به عاش هو وعياله في سعة، وإن هو تركه افتقر ؟ قال: من الرأس ؟ قلت القسري لخالد.
قال عطاء: قال العبد الصالح: (رب بما أنعمت علي فلن أكون
ظهيرا للمجرمين) [ القصص: 17 ].
وقال: أفضل ما أوتي العباد العقل عن الله وهو الدين.
وقال عطاء: ما قال العبد: يا رب، ثلاث مرات إلا نظر الله إليه، قال: فذكرت ذلك للحسن فقال: أما تقرأون القرآن (ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للايمان أن آمنوا بربكم فآمنا، ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا) [ آل عمران: 193 ] إلى قوله: (فاستجاب لهم ربهم) الآيات [ آل عمران: 195 ].
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: حدثنا أبو عبد الله السلمي، حدثنا ضمرة، عن عمر بن الورد قال: قال عطاء: إن استطعت أن تخلو بنفسك عشية عرفة فافعل.
وقال سعيد بن سلام البصري: سمعت أبا حنيفة النعمان يقول: لقيت عطاء بمكة فسألته عن شئ فقال: من أين أنت ؟ فقلت: من أهل الكوفة.
قال: أنت من أهل القرية الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعا ؟ قلت: نعم ! قال: فمن أي الاصناف أنت ؟ قلت: ممن لا يسب السلف ويؤمن بالقدر، ولا يكفر أحدا من أهل القبلة بذنب: فقال عطاء: عرفت فالزم.
وقال عطاء: ما اجتمعت عليه الامة أقوى عندنا من الاسناد.
وقيل لعطاء: إن هاهنا قوما يقولون: الايمان لا يزيد ولا ينقص، فقال: (والذين اهتدوا زادهم هدى) [ محمد: 17 ] فما هذا الهدى الذي زادهم ؟ قلت: ويزعمون أن الصلاة والزكاة ليستا من دين الله، فقال: قال تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة) [ البينة: 5 ] فجعل ذلك دينا.
وقال يعلى بن عبيد: دخلنا على محمد بن سوقة فقال: ألا أحدثكم بحديث لعله أن ينفعكم، فإنه نفعني، قال لي عطاء بن أبي رباح: يابن أخي إن من كان قبلكم كانوا يكرهون فضول الكلام، وكانوا يعدون فضول الكلام إثما، ما عدا كتاب الله أن يقرأ، وأمر بمعروف أو نهي عن منكر، أو ينطلق العبد بحاجته في معيشته التي لا بد له منها، أتنكرون: (وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين) [ الانفطار: 11 ] و: (عن اليمين وعن الشمال قعيد، ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) [ ق:

17 - 18 ] أما يستحي أحدكم لو نشرت عليه صيحفته التي أملاها صدر نهاره فرأى أكثر ما فيها ليس
من أمر دينه ولا دنياه ؟.
وقال: إذا أنت خفت الحر من الليل فاقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
وروى الطبراني وغيره أن الحلقة في المسجد الحرام كانت لابن عباس، فلما مات ابن عباس كانت لعطاء بن أبي رباح.
وروى عثمان بن أبي شيبة، عن أبيه، عن الفضل بن دكين، عن سفيان، أن سلمة بن كهيل قال: ما رأيت أحدا يطلب بعمله ما عند الله تعالى إلا ثلاثة، عطاء، وطاوس، ومجاهد.
وقال الامام أحمد: حدثنا ابن نمير، حدثنا عمر بن ذر قال: ما رأيت مثل عطاء قط، وما رأيت على عطاء قميصا قط، ولا رأيت عليه ثوبا يساوي خمسة دراهم.
وقال أبو بلال الاشعري: حدثنا قيس، عن عبد الملك بن جريج عن عطاء: أن يعلى بن أمية كانت له صحبة، وكان يقعد في المسجد ساعة ينوي فيها الاعتكاف.
وروى الاوزاعي عن عطاء قال: إن كانت فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لتعجن، وأن كانت قصتها لتضرب بالجفنة.
وعن الاوزاعي عنه قال: (ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله) [ النور: 2 ] قال: ذلك في إقامة الحد عليهما.
وقال الاوزاعي: كنت باليمامة وعليها رجل وال يمتحن الناس من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إنه منافق وما هو بمؤمن، ويأخذ عليهم بالطلاق والعتاق أن يسمي المسئ منافقا وما يسميه مؤمنا، فأطاعوه على ذلك وجعلوه له، قال: فلقيت عطاء فيما بعد فسألته عن ذلك فقال: ما أرى بذلك بأسا يقول الله تعالى: (إلا أن تتقوا منهم تقاة) [ ال عمران: 28 ].
وقال الامام أحمد: حدثنا سفيان بن عيينة، حدثنا إسماعيل بن أمية قال: كان عطاء يطيل الصمت فإذا تكلم تخيل إلينا أنه يؤيد.
وقال في قوله تعالى: (لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله) [ آل عمران: 28 ] قال: لا يلهيهم بيع ولا شراء عن مواضع حقوق الله تعالى التي افترضها عليهم أن يؤدوها في أوقاتها وأوائلها.
وقال ابن جرير: رأيت عطاء يطوف بالبيت فقال لقائده: امسكوا احفظوا عني خمسا: القدر خيره وشره، حلوه ومره من الله عزوجل، وليس للعباد فيه مشيئة ولا تفويض.
وأهل قبلتنا مؤمنون حرام دماؤهم وأموالهم إلا بحقها.
وقتال الفئة الباغية بالايدي والنعال والسلاح، والشهادة على الخوارج بالضلالة.
وقال ابن عمر: تجمعون لي المسائل وفيكم عطاء بن
أبي رباح.
وقال معاذ بن سعيد (1): كنت جالسا عند عطاء فحدث بحديث، فعرض رجل له في حديثه فغضب عطاء وقال: ما هذه الاخلاق ؟ وما هذه الطبائع ؟ والله إني لاسمع الحديث من الرجل وأنا أعلم به منه فأريه أني لا أحسن شيئا منه (2).
وكان عطاء يقول: لان أرى في بيتي شيطانا خير من أن أرى فيه
__________
(1) من ابن سعد 5 / 469 وصفة الصفوة 2 / 214.
وفي الاصل سعد وهو تحريف.
(2) في ابن سعد: كأني لم أسمعه قبل ذلك.
(5 / 469).

وسادة، لانها تدعو إلى النوم.
وروى عثمان بن أبي شيبة عن علي بن المديني، عن يحيى بن سعيد، عن ابن جريج (1) قال: كان عطاء بعد ما كبر وضعف يقوم إلى الصلاة فيقرأ مائتي آية من سورة البقرة وهو قائم لا يزول منه شئ ولا يتحرك.
وقال ابن عيينة: قلت لابن جريج (1): ما رأيت مصليا مثلك.
فقال: لو رأيت عطاء ؟.
وقال عطاء: إن الله لا يحب الفتى يلبس الثوب المشهور، فيعرض الله عنه حتى يضع ذلك الثوب.
وكان يقال: ينبغي للعبد أن يكون كالمريض لا بد له من قوت، وليس كل الطعام يوافقه.
وكان يقال: الدعوة تعمي عين الحكيم فكيف بالجاهل ؟ ولا تغبطن ذا نعمة بما هو فيه فإنك لا تدري إلى ماذا يصير بعد الموت.
ثم دخلت سنة خمس عشرة ومائة ففيها وقع طاعون بالشام، وحج بالناس فيها محمد بن هشام بن إسماعيل وهو نائب الحرمين والطائف.
والنواب في سائر البلادهم المذكورون في التي قبلها والله أعلم.
وممن توفي فيها من الاعيان: أبو جعفر الباقر وهو محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي أبو جعفر الباقر، وأمه ام عبد الله بنت الحسن بن علي، هو تابعي جليل، كبير القدر كثيرا، أحد أعلام هذه الامة علما وعملا وسيادة وشرفا، وهو احد من تدعي فيه طائفة الشيعة أنه أحد الائمة الاثني عشر، ولم يكن الرجل
على طريقهم ولا على منوالهم، ولا يدين بما وقع في أذهانهم وأوهامهم وخيالهم، بل كان ممن يقدم أبا بكر وعمر، وذلك عنده صحيح في الاثر، وقال أيضا: ما أدركت أحدا من أهل بيتي إلا وهو يتولاهما رضي الله عنهما.
وقد روى عن غير واحد من الصحابة (2)، وحدث عنه جماعة من كبار التابعين وغيرهم.
فمن روى عنه ابنه جعفر الصادق، والحكم بن عتيبة، وربيعة، والاعمش، وأبو إسحاق السبيعي، والاوزاعي والاعرج، وهو أسن منه، وابن جريج وعطاء وعمرو بن دينار والزهري.
وقال سفيان بن عيينة عن جعفر الصادق قال: حدثني أبي وكان خير محمدي يومئذ على وجه الارض، وقال العجلي: هو مدني تابعي ثقة، وقال محمد بن سعد: كان ثقة كثير (3) الحديث، وكانت وفاته في هذه السنة في قول وقيل في التي قبلها، وقيل في التي بعدها أو في التي هي بعدها وبعد بعدها والله أعلم.
وقد جاوز السبعين وقيل لم يجاوز الستين فالله أعلم.
__________
(1) من صفة الصفوة 2 / 212 وفي الاصل ابن جرير وهو تحريف.
(2) ومنهم جابر بن عبد الله وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وابن عباس وأنس.
(3) في ابن سعد 5 / 324: كثير العلم والحديث.

فصل أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، كان أبوه علي زين العابدين، وجده الحسين قتلا شهيدين بالعراق.
وسمي الباقر لبقره العلوم واستنباطه الحكم، كان ذاكرا خاشعا صابرا وكان من سلالة النبوة، رفيع النسب عالي الحسب، وكان عارفا بالخطرات، كثير البكاء والعبرات معرضا عن الجدال والخصومات.
قال أبو بلال الاشعري: حدثنا محمد بن مروان، عن ثابت، عن محمد بن علي بن الحسين في قوله تعالى: (أولئك يجزون الغرفة بما صبروا) [ الفرقان: 75 ] قال: الغرفة الجنة بما صبروا على الفقر في الدنيا.
وقال عبد السلام بن حرب، عن زيد بن خيثمة عن أبي جعف قال: الصواعق تصيب المؤمن وغير المؤمن، ولا تصيب الذاكر.
قلت: وقد روي نحو هذا عن ابن عباس قال: لو
نزل من السماء صواعق عدد النجوم لم تصب الذاكر.
وقال جابر الجعفي: قال لي محمد بن علي: يا جابر إني لمحزون، وإني لمشتغل القلب.
قلت: وما حزنك وشغل قلبك ؟ قال: يا جابر إنه من دخل قلبه صافي دين الله عزوجل شغله عما سواه، يا جابر ما الدنيا ؟ وما عسى أن تكون ؟ هل هي إلا مركبا ركبته ؟ أو ثوبا لبسته ؟ أو امرأة أصبتها ؟ يا جابر ! إن المؤمنين لم يطمئنوا إلى الدنيا لبقاء فيها، ولم يأمنوا قدوم الآخرة عليهم، ولم يصمهم عن ذكر الله ما سمعوا بآذانهم من الفتنة، ولم يعمهم عن نور الله ما رأوا بأعينهم من الزينة ففازوا بثواب الابرار.
إن أهل التقوى أيسر أهل الدنيا مؤنة، وأكثرهم لك معونة، إن نسيت ذكروك، وإن ذكرت أعانوك، قوالين بحق الله، قوامين بأمر الله، قطعوا لمحبة ربهم عزوجل، ونظروا إلى الله وإلى محبته بقلوبهم، وتوحشوا من الدنيا لطاعة محبوبهم، وعلموا أن ذلك من أمر خالقهم، فأنزلوا الدنيا حيث أنزلها مليكهم كمنزل نزلوه ثم ارتحلوا عنه وتركوه، وكماء (1) أصبته في منامك فلما استيقظت إذا ليس في يدك منه شئ، فاحفظ الله فيما استرعاك من دينه وحكمته.
وقال خالد بن يزيد: سمعت محمد بن علي يقول: قال عمر بن الخطاب: إذا رأيتم القارئ يحب الاغنياء فهو صاحب الدنيا، وإذا رأيتموه يلزم السلطان فهو لص، وكان أبو جعفر يصلي كل يوم وليلة بالمكتوبة.
وروى ابن أبي الدنيا عنه قال: سلاح اللئام قبيح الكلام.
وروى أبو الأحوص عن منصور عنه قال: لكل شئ آفة، وآفة العلم النسيان.
وقال لابنه: إياك والكسل والضجر فإنهما مفتاح كل خبيثة، إنك إذا كسلت لم تؤد حقا، وإن ضجرت لم تصبر على حق.
وقال: أشد الاعمال ثلاثة ذكر الله على كل حال، وإنصافك من نفسك، ومواساة الاخ في المال.
وقال خلف بن
__________
(1) في صفة الصفوة 2 / 109: وكمال.

حوشب: قال أبو جعفر: الايمان ثابت في القلب، واليقين خطرات، فيمر اليقين بالقلب فيصير كأنه زبر الحديد، ويخرج منه فيصير كأنه خرقة بالية، وما دخل قلب عبد شئ من الكبر إلا نقص من عقله بقدره أو أكثر منه.
وقال لجابر الجعفي: ما يقول فقهاء العراق في قوله تعالى: (لو لا أن رأى برهان ربه) [ يوسف: 24 ] ؟ قال: رأى يعقوب عاضا على إبهامه.
فقال: لا ! حدثني أبي عن جدي علي بن أبي طالب أن البرهان الذي رآه أنها حين همت به وهم بها أي طمع فيها، قامت إلى صنم لها مكلل بالدر والياقوت في ناحية البيت فسترته بثوب أبيض خشية أن يراها، أو استحياء منه.
فقال لها يوسف: ما هذا ؟ فقالت إلهي أستحي منه أن يراني على هذه الصورة.
فقال يوسف: تستحين من صنم لا ينفع ولا يضر، ولا يسمع ولا يبصر، أفلا أستحي أنا من إلهي الذي هو قائم على كل نفس بما كسبت ؟ ثم قال: والله لا تنالين مني أبدا.
فهو البرهان.
وقال بشر بن الحارث الحافي: سمعت سفيان الثوري يقول: سمعت منصورا يقول: سمعت محمد بن علي يقول: الغنى والعز يجولان في قلب المؤمن، فإذا وصلا إلى مكان فيه التوكل أوطناه.
وقال: إن الله يلقي في قلوب شيعتنا الرعب، فإذا قام قائمنا، وظهر مديننا كان الرجل منهم أجرأ من ليث وأمضى من سيف.
وقال: شيعتنا من أطاع الله عزوجل واتقاه.
وقال: إياكم والخصومة فإنها تفسد القلب، وتورث النفاق، وقال: (الذين يخوضون في آيات الله) [ الانعام: 68 ] هو أصحاب الخصومات.
وقال عروة بن عبد الله: سألت أبا جعفر محمد بن علي عن حلية السيف فقال: لا بأس به، قد حلى أبو بكر الصديق سيفه.
قال: قلت: وتقول الصديق ؟ قال: فوثب وثبة واستقبل القبلة ثم قال: نعم الصديق، نعم الصديق، فمن لم يقل الصديق فلا صدق الله له قولا في الدنيا والآخرة.
وقال جابر الجعفي: قال لي محمد بن علي: يا جابر ! بلغني أن قوما بالعراق يزعمون أنهم يحبونا ويتناولون أبا بكر وعمر ويزعمون أني أمرتهم بذلك، فأبلغهم عني أني إلى الله منهم برئ، والذي نفس محمد بيده - يعني نفسه - لو وليت لتقربت إلى الله بدمائهم، لا نالتني شفاعة محمد (صلى الله عليه وسلم) إن لم أكن أستغفر لهما، وأترحم عليهما، إن أعداء الله لغافلون عن فضلهما وسابقتهما، فأبلغهم أني برئ منهم وممن تبرأ من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
وقال: من لم يعرف فضل أبي بكر وعمر فقد جهل السنة.
وقال في قوله تعالى: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا) الآية [ المائدة: 55 ]، قال: هم أصحاب محمد (صلى الله عليه وسلم)، قال: قلت يقولون: هو علي قال: علي من أصحاب محمد
(صلى الله عليه وسلم).
وقال عبد الله بن عطاء: ما رأيت العلماء عند أحد أصغر منهم عند أبي جعفر محمد بن علي، قال: رأيت الحكم عنده كأنه متعلم، وقال: كان لي أخ في عيني عظيم، وكان الذي عظمه في عيني صغر الدينا في عينه، وقال جعفر بن محمد: ذهبت بغلة أبي فقال: لئن ردها الله علي لاحمدنه بمحامد

يرضاها، فما كان بأسرع من أن أتي بها بسرجها لم يفقد منها شئ، فقام فركبها، فلما استوى عليها وجمع إليه ثيابه رفع رأسه إلى السماء وقال: الحمد لله، لم يزد على ذلك، فقيل له في ذلك، فقال: فهل تركت أو أبقيت شيئا ؟ جعلت الحمد كله لله عزوجل.
وقال عبد الله بن المبارك: قال محمد بن علي: من أعطي الخلق والرفق فقد أعطي الخير والراحة، وحسن حاله في دنياه وآخرته، ومن حرمهما كان ذلك سبيلا إلى كل شر وبلية، إلا من عصمه الله.
وقال: أيدخل أحدكم يده في كم صاحبه فيأخذ ما يريد تاما إلا قال: فلستم إخوانا كما تزعمون، وقال: اعرف مودة أخيك لك بما له في قلبك من المودة فإن القلوب تتكافأ.
وسمع عصافير يصحن فقال: أتدري ماذا يقلن ؟ قلت: لا ! ! قال: يسبحن الله ويسألنه رزقهن يوما بيوم.
وقال: تدعو الله بما تحب، وإذا وقع الذي تكره لم تخالف الله عزوجل فيما أحب.
وقال: ما من عبادة أفضل من عفة بطن أو فرج، وما من شئ أحب إلى الله عزوجل من أن يسأل.
وما يدفع القضاء إلا الدعاء.
وإن أسرع الخير ثوابا البر، وأسرع الشر عقوبة البغي، وكفى بالمرء عيبا أن يبصر من الناس ما يعمى عليه من نفسه، وأن يأمر الناس بما لا يستطيع أن يفعله، وينهى الناس بما لا يستطيع أن يتحول عنه.
وأن يؤذي جليسه بما لا يعنيه.
هذا كلمات جوامع موانع لا ينبغي لعاقل أن يفعلها.
وقال القرآن كلام الله عزوجل غير مخلوق.
وقال أبو جعفر: صحب عمر بن الخطاب رجل إلى مكة فمات في الطريق، فاحتبس عليه عمر حتى صلى عليه ودفنه، فقل يوم إلا كان عمر يتمثل بهذا البيت: وبالغ أمر كان يأمل دونه * ومختلج من دون ما كان يأمل
وقال أبو جعفر: والله لموت عالم أحب إبليس من موت ألف عابد.
وقال: ما اغرو رقت عين عبد بمائها إلا حرم الله وجه صاحبها على النار، فإن سالت على الخدين لم يرهق وجهه قتر ولا ذلة، وما من شئ إلا وله جزاء إلا الدمعة فإن الله يكفر بها بحور الخطايا، ولو أن باكيا بكى من خشية الله في أمة رحم الله تلك الامة.
وقال: بئس الاخ أخ يرعاك غنيا ويقطعك فقيرا.
قلت: البيت الذي كان يتمثل به قبله بيتان وهو ثالثهما، وهذه الابيات تتضمن حكما وزهدا في الدنيا قال: لقد غرت الدنيا رجالا فأصبحوا * بمنزلة ما بعدها متحول فساخط أمر لا يبدل غيره * وراض بأمر غيره سيبدل وبالغ أمر كان يأمل دونه * ومختلج من دون ما كان يأمل ثم دخلت سنة ست عشرة ومائة ففيها غزا معاوية بن هشام الصائفة، وفيها وقع طاعون عظيم بالشام والعراق، وكان معظم ذلك في واسط.
وفي المحرم منها توفي الجنيد بن عبد الرحمن المري أمير خراسان من مرض أصابه في

بطنه، وكان قد تزوج الفاضلة بنت يزيد بن المهلب فتغضب عليه أمير المؤمنين هشام بن عبد الملك فعزله وولى مكانه عاصم بن عبد الله على خراسان، وقال له: إن أدركته قبل أن يموت فأزهق روحه.
فما قدم عاصم بن عبد الله خراسان حتى مات الجنيد في المحرم منها بمرو، وقال فيه أبو الجويرية (1) عيسى بن عصمة يرثيه: هلك الجود والجنيد جميعا * فعلى الجود والجنيد السلام أصبحا ثاويين في بطن (2) مرو * ما تغنى على الغصون الحمام كنتما نزهة الكرام فلما * مت مات الندى ومات الكرام ولما قدم عاصم خراسان أخذ نواب الجنيد بالضرب البليغ وأنواع العقوبات، وعسفهم في المصادرات والجنايات، فخرج عن طاعته الحارث بن سريح (3) فبارزه بالحرب، وجرت بينهما أمور يطول ذكرها، ثم آل الامر إلى أن انكسر الحارث بن سريج (3) وظهر عاصم عليه.
قال الواقدي:
وفيها حج بالناس الوليد بن يزيد وهو ولي الامر من بعد عمه هشام بن عبد الملك أمير المؤمنين كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
ثم دخلت سنة سبع عشرة ومائة فيها غزا معاوية بن هشام الصائفة اليسرى، وسليمان بن هشام الصائفة اليمنى، وهما ابنا أمير المؤمنين هشام.
وفيها بعث مروان بن محمد - وهو مروان الحمار - وهو على أرمينية بعثين ففتح حصونا من بلاد اللان، ونزل كثير منهم على الايمان: وفيها عزل هشام عاصم بن عبد الله الهلالي الذي ولاه في السنة قبلها خراسان مكان الجنيد، فعزله عنها وضمها إلى عبد الله بن خالد القسري مع العراق معادة إليه جريا على ما سبق له من العادة، وكان ذلك عن كتاب عاصم بن عبد الله الهلالي المعزول عنها، وذلك أنه كتب إلى أمير المؤمنين هشام: إن ولاية خراسان لا تصلح إلا مع ولاية العراق، رجاء أن يضيفها إليه، فانعكس الامر عليه فأجابه هشام إلى ذلك قبولا إلى نصيحته، وأضافها إلى خالد القسري.
وفيها توفي:
__________
(1) من الطبري 8 / 319 وفي الاصل أبو الجرير وهو تحريف.
(2) في الطبري.
أرض.
(3) من الطبري 8 / 221 وابن الاثير 5 / 183 وفي الاصل شريح وهو تحريف.

قتادة بن دعامة السدوسي (1) أبو الخطاب البصري الاعمى، أحد علماء التابعين، والائمة العاملين، روى عن أنس بن مالك وجماعة من التابعين، منهم سعيد بن المسيب، والبصري، وأبو العالية، وزرارة بن أوفي، وعطاء ومجاهد، ومحمد بن سيرين، ومسروق، وأبو مجلز وغيرهم، وحدث عنه جماعات من الكبار كأيوب وحماد بن مسلمة، وحميد الطويل، وسعيد بن أبي عروبة، والاعمش، وشعبة، والاوزاعي، ومسعر، ومعمر، وهمام.
قال ابن المسيب: ما جاءني عراقي أفضل (2) منه.
وقال بكر المزني: ما رأيت أحفظ منه.
وقال محمد بن سيرين: هو من أحفظ الناس، وقال مطر: كان
قتادة إذا سمع الحديث يأخذه العويل والزويل حتى يحفظه، وقال الزهري: هو أعلم من مكحول.
وقال معمر: ما رأيت أفقه من الزهري وحماد وقتادة.
وقال قتادة: ما سمعت شيئا إلا وعاه قلبي.
وقال أحمد بن حنبل: هو أحفظ أهل البصرة، لا يسمع شيئا إلا حفظه.
وقرئ عليه صحيفة جابر مرة واحدة فحفظها.
وذكر يوما فأثنى على علمه وفقهه ومعرفته بالاختلاف والتفسير وغير ذلك، وقال أبو حاتم: كانت وفاته بواسط في الطاعون - يعني في هذه السنة - وعمره ست أو سبع وخمسون سنة.
قال قتادة: من وثق (3) بالله كان الله معه، ومن يكن الله معه تكن معه الفئة التي لا تغلب، والحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضل، والعالم الذي لا ينسى.
وقال: في الجنة كوة إلى النار، فيقولون (4): ما بال الاشقياء دخلوا النار، وإنما دخلنا الجنة بفضل تأديبكم، فقالوا: إنا كنا نأمركم ولا نأتمر، وننهاكم ولا ننتهي.
وقال: باب من العلم يحفظه الرجل يطلب به صلاح نفسه وصلاح دينه وصلاح الناس، أفضل من عبادة حول كامل.
وقال قتادة: لو كان يكتفي من العلم بشئ لاكتفى موسى عليه السلام بما عنده، ولكنه طلب الزيادة.
وفيها توفي: أبو الحباب سعيد بن يسار والاعرج، وابن أبي مليكة، وعبد الله بن أبي زكريا الخزاعي، وميمون بن مهران بن موسى بن وردان.
فصل فأما سعيد بن يسار فكان من العباد الزهاد، روى عن جماعة من الصحابة، وكذلك الاعرج وابن أبي مليكة وأما ميمون بن مهران فهو من أجلاء علماء التابعين وزهادهم وعبادهم وأئمتهم.
كان
__________
(1) ترجمته في تذكرة الحفاظ 1 / 122 وفيات الاعيان 4 / 85 طبقات ابن سعد 7 / 229 شذرات الذهب 1 / 153 تهذيب التهذيب 8 / 351 ميزان الاعتدال 3 / 385 صفة الصفوة 3 / 259.
(2) في تذكرة الحفاظ 1 / 123: أحفظ من قتادة.
(3) في صفة الصفوة 3 / 259: من يتق الله...(4) في صفة الصفوة: فيطلع أهل الجنة من تلك الكوى إلى النار فيقولون:

ميمون إمام أهل الجزيرة.
روى الطبراني عنه أنه قيل له: مالك لا يفارقك أخ لك عن قلى ؟ قال: لاني لا أماريه ولا أشايه.
قال عمر بن ميمون: ما كان أبي يكثر الصلاة ولا الصيام، ولكن كان يكره أن يعصى الله عزوجل.
وروى ابن أبي عدي عن يونس عنه قال: لا تمارين عالما ولا جاهلا، فإنك إن ماريت عالما حزن عنك علمه، وإن ماريت جاهلا خشن بصدرك.
وقال عمر بن ميمون: خرجت بأبي أقوده في بعض سكك البصرة، فمررنا بجدول فلم يستطع الشيخ أن يتخطاه، فاضطجعت له فمر على ظهري، ثم قمت فأخذت بيده.
ثم دفعنا إلى منزل الحسن فطرقت الباب فخرجت إلينا جارية سداسية، فقالت: من هذا ؟ فقلت: هذا ميمون بن مهران أراد لقاء الحسن، فقالت: كاتب عمر بن عبد العزيز ؟ قلت لها: نعم ! قالت: يا شقي ما بقاؤك إلى هذا الزمان السوء ؟: قال: فبكى الشيخ فسمع الحسن بكاءه فخرج إليه فاعتنقا ثم دخلا، فقال ميمون: يا أبا سعيد ! إني قد أنست من قلبي غلظة فاستكن لي منه، فقرأ الحسن: (أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون.
ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون) [ الشعراء: (205 - 207) ] فسقط الشيخ مغشيا عليه، فرأيته يفحص برجليه كما تفحص الشاة إذا ذبحت، فأقام طويلا ثم جاءت الجارية فقالت: قد أتعبتم الشيخ، قوموا تفرقوا، فأخذت بيد أبي فخرجت فقلت: يا أبت أهذا هو الحسن ؟ قال: نعم.
قلت: قد كنت أحسب في نفسي أنه أكبر من هذا، قال: فوكز في صدري وكزة ثم قال: يا بني لقد قرأ علينا آية لو فهمتها بقلبك لالفيت لها فيه كلوما.
وروى الطبراني عنه أنه قال: ما أحب أني أعطيت درهما في لهو وأن لي مكانه مائة ألف، أخشى أن تصيبني هذه الآية: (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله) الآية: [ لقمان: 6 ] وقال جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران قال: كنت عند عمر بن عبد العزيز فلما قمت قال عمر: إذا ذهب هذا وأضرابه لم يبق من الناس إلا مجاجة (1).
وروى الامام أحمد عن معمر بن سليمان الرقي، عن فرات بن سليمان، عن ميمون بن مهران قال: ثلاث لا تبلون نفسك بهن: لا تدخل على سلطان وإن قلت آمره بطاعة الله، ولا تدخل على امرأة وإن قلت أعلمها كتاب الله، ولا تصغين بسمعك إلى ذي هوى فإنك لا تدري ما يعلق بقلبك
من هواه.
وروى عبد الله بن أحمد عنه في قوله تعالى: (إن جهنم كانت مرصادا) [ النبأ: 21 ] و (إن ربك لبالمرصاد) [ الفجر: 14 ] فقال: التمسوا هذين المرصادين جوازا.
وفي قوله تعالى: (ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون) [ ابراهيم: 42 ] فيها وعيد شديد للظالم، وتعزية للمظلوم.
وقال: لو أن أهل القرآن صلحوا لصلح الناس.
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: حدثنا عيسى بن سالم الشاشي، حدثنا أبو المليح قال: سمعت ميمون بن مهران يقول: لا خير في
__________
(1) في رواية تذكرة الحفاظ عن جعفر 1 / 99: صار الناس رجراجة.

الدينا إلا رجلين، رجل تائب - أو قال: يتوب - من الخطيئات، ورجل يعمل في الدرجات، فلا خير في العيش والبقاء في الدنيا إلا لهذين الرجلين، رجل يعمل في الكفارات ورجل يعمل في الدرجات، وبقاء ما سواهما وبال عليه.
وقال جعفر بن برقان: سمعت ميمون بن مهران يقول: إن هذا القرآن قد خلق في صدور كثير من الناس فالتمسوا ما سواه من الاحاديث، وإن فيمن يتبع هذا العلم قوما يتخذونه بضاعة يلتمس بها الدنيا، ومنهم من يريد أن يمارى به، وخيرهم من يتعلمه ويطيع الله عزوجل به.
وقال: من اتبع القرآن قاده القرآن حتى يحل به الجنة، ومن ترك القرآن لم يدعه القرآن يتبعه حتى يقذفه في النار.
وقال الامام أحمد: حدثنا خالد بن حيان، حدثنا جعفر بن برقان، عن ميمون بن مهران قال: لا يسلم للرجل الحلال حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزا من الحلال.
وقال ميمون: من كان يريد أن يعلم ما منزلته عند الله فلينظر في عمله فإنه قادم عليه كائنا ما كان.
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: حدثنا يحيى بن عثمان الحربي، حدثنا أبو المليح، عن ميمون بن مهران.
قال: نظر رجل من المهاجرين إلى رجل يصلي فأخفى الصلاة فعاتبه، فقال: إني ذكرت ضيعة لي.
فقال: أكبر الضيعة أضعته.
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: حدثنا جعفر بن محمد الدسعني، حثنا أبو جعفر النفيلي، حدثنا عثمان بن عبد الرحمن عن طلحة بن زيد قال: قال ميمون: لا تعرف الامير ولا تعرف من يعرفه.
وروى عبد الله بن أحمد عنه أيضا قال: لان أوتمن على بيت مال أحب إلي من أن
أؤتمن على امرأة.
وقال أبو يعلى الموصلي: حدثنا هاشم بن الحارث، حدثنا أبو المليح الرقي، عن حبيب بن أبي مرزوق، قال قال ميمون: وددت أن إحدى عيني (1) ذهبت وبقيت الاخرى أتمتع بها، وإني لم أل عملا قط.
قلت: ولا لعمر بن عبد العزيز ؟ قال: ولا لعمر بن عبد العزيز، لا خير في العمل لا لعمر ولا لغيره.
وقال أحمد: حدثنا زيد بن الحباب حدثنا سفيان حدثنا جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران قال: ما عرضت قولي على عملي إلا وجدت من نفسي اعتراضا.
وقال الطبراني: حدثنا المقدام بن داود، حدثنا علي بن معبد، حدثنا خالد بن حيان، حدثنا جعفر عن ميمون قال: قال لي ميمون: قال لي في وجهي ما أكره، فإن الرجل لا ينصح أخاه حتى يقول له في وجهه ما يكره.
وروى عبد الله ابن أحمد عنه في قوله تعالى: (خافضة رافعة) [ الواقعة: 3 ] قال: تخفض أقواما وترفع
__________
(1) في ابن سعد 7 / 478: حدقتي سقطت وفي رواية صفة الصفوة 4 / 192 وتذكرة الحفاظ 1 / 99: قال: " وددت أن أصبعي قطعت من ها هنا وأني لم أل لا لعمر بن عبد العزيز ولا لغيرة " والمشهور أن عمرا قد ولاه خراج الجزيرة وقضائها.
وكان ابنه عمر بن ميمون على الديوان.

آخرين.
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: حدثني عيسى بن سالم، حدثنا أبو المليح، حدثنا بعض أصحابي قال: كنت أمشي مع ميمون فنظر فرأى علي ثوب كتان فقال: أما بلغك أنه لا يلبس الكتان إلا غني أو غاو ؟ وبهذا الاسناد سمعت ميمون بن مهران يقول: أول من مشت الرجال معه وهو راكب الاشعث بن قيس الكندي، ولقد أدركت السلف وهم إذا نظروا إلى رجل راكب ورجل يحضر معه، قالوا: قاتله جبار.
وقال عبد الله بن أحمد: بلغني عن عبد الله بن كريم بن حبان - وقد رأيته - حدثنا أبو المليح قال قال ميمون: ما أحب أن لي ما بين باب الرها إلى حوران بخمسة دراهمه.
وقال ميمون: يقول أحدهم: اجلس في بيتك واغلق عليك بابك وانظر هل يأتيك رزقك ؟ نعم والله لو كان له مثل يقين مريم وإبراهيم عليهما السلام، وأغلق عليه بابه، وأرخى عليه ستره، لجاءه رزقه.
وقال: لو أن
كل إنسان منا يتعاهد كسبه فلم يكسب إلا طيبا، فأخرج ما عليه، ما احتيج إلى الاغنياء، ولا احتاج الفقراء.
وقال أبو المليح عن ميمون قال: ما بلغني عن أخ لي مكروه قط إلا كان إسقاط المكروه عنه أحب إلي من تخفيفه عليه، فإن قال: لم أقل، كان قوله لم أقل أحب إلي من ثمانية يشهدون عليه، فإن قال: قلت ولم يعتذر، أبغضته من حيث أحببته.
وقال: سمعت ابن عباس يقول: ما بلغني عن أخ لي مكروه قط إلا أنزلته إحدى ثلاث منازل، إن كان فوقي عرفت له قدره، وإن كان نظيري تفضلت عليه، وإن كان دوني لم أحفل به.
هذه سيرتي في نفسي، فمن رغب عنها فإن أرض الله واسعة.
وقال أبان بن أبي راشد القشيري: كنت إذا أردت الصائفة أتيت ميمون بن مهران أودعه، فما يزيدني على كلمتين.
اتق الله ولا يغرنك طمع ولا غضب.
وقال أبو المليح عن ميمون قال: العلماء هم ضالتي في كل بلدة، وهم أحبتي في كل مصر، ووجدت صلاح قلبي في مجالسة العلماء.
وقال في قوله تعالى: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) [ الزمر: 10 ] قال: عزقا.
وقال: لان أتصدق بدرهم في حياتي أحب إلي من أن أتصدق بمائة درهم بعد موتي.
وقال: كان يقال: الذكر ذكران، ذكر الله باللسان (1)، وأفضل من ذلك أن تذكره عندما أحل وحرم، وعند المعصية فتكف عنها وقد أشرفت.
وقال: ثلاث الكافر والمؤمن فيهن سواء، الامانة تؤديها إلى من أئتمنك عليها من مسلم وكافر، وبر الوالدين وإن كانا كافرين، والعهد تفي به للمؤمن والكافر.
وقال صفوان عن خلف بن حوشب عن ميمون قال: أدركت من لم يكن يملا عينيه من السماء فوقا من ربه عزوجل.
وقال أحمد بن بزيغ: حدثنا يعلى بن عبيد، حدثنا هارون أبو محمد البريري، أن عمر بن
__________
(1) زيد في صفة الصفوة 4 / 194: حسن.

عبد العزيز استعمل ميمون بن مهران على الجزيرة وعلى قضائها وخراجها، فمكث حينا ثم كتب إلى عمر يستعفيه عن ذلك، وقال: كلفتني ما لا أطيق، أقضي بين الناس وأنا شيخ كبير ضعيف رقيق
فكتب إليه عمر: أجب من الخراج الطيب (1)، واقض بما استبان لك، فإذا التبس عليك أمر فارفعه إلى، فإن الناس لو كان إذا كبر عليهم أمر تركوه ما قام لهم دين ولا دنيا.
وقال قتيبة بن سعيد: حدثنا كثير بن هشام، حدثنا جعفر بن برقان قال: سمعت ميمون بن مهران يقول: إن العبد إذا أنب ذنبا نكت في قلبه نكتة سوداء، فإذا تاب محيت من قلبه فترى قلب المؤمن مجليا مثل المرآة، ما يأتيه الشيطان من ناحية إلا أبصره، وأما الذي يتتابع في الذنوب فإنه كلما أذنب نكتت في قلبه نكته سوداء حتى يسود قلبه فلا يبصر الشيطان من أين يأتيه.
وقال الامام أحمد: حدثنا علي بن ثابت، حدثنا جعفر عن ميمون قال: ما أقل أكياس الناس: ألا يبصر الرجل أمره حتى ينظر إلى الناس وإلى أدوابه، وإلى ما قد أكبوا عليه من الدنيا، فيقول: ما هؤلاء إلا أمثال الاباعر، لا هم لها إلا ما تجعل في أجوافها، حتى إذا أبصر غفلتهم نظر إلى نفسه فقال: والله إني لاراني من شرهم بعيرا واحدا.
وبهذا الاسناد عنه: ما من صدقة أفضل من كلمة حق عند إمام جائر.
وقال: لا تعذب المملوك ولا تضر به على كل ذنب، ولكن احفظ ذلك له، فإذا عصى الله عز وجل فعاقبه على معصية الله وذكره الذنوب التي أذنب بينك وبينه.
وقال قتيبة: حدثنا جعفر بن برقان، سمعت ميمون بن مهران يقول: لا يكون الرجل من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة الشريك شريكه، حتى يعلم من أين مطعمه، ومن أين مشربه (2)، أمن حلال ذلك أم من حرام ؟.
وقال أبو زرعة الدارمي: حدثنا سعيد بن حفص النفيلي، حدثنا أبو المليح، عن ميمون قال: الفاسق بمنزلة السبع فإذا كلمت فيه فخليت سبيله فقد خليت سبعا على المسلمين.
وقال جعفر بن برقان: قلت لميمون بن مهران: إن فلانا يستبطئ نفسه في زيارتك، قال: إذا ثبتت المودة في القلوب فلا بأس وإن طال المكث.
وقال أحمد: حدثنا ميمون الرقي حدثنا الحسن أبو المليح عن ميمون قال: لا تجد غريما أهون عليك من بطنك أو ظهرك.
وقال الامام أحمد أيضا: حدثنا عبد الله بن الميمون، حدثنا الحسن، عن حبيب بن أبي مرزوق قال: رأيت على ميمون جبة صوف تحت ثيابه فقلت له: ما هذا ؟ قال: نعم ! فلا تخبر به أحدا.
وقال عبد الله بن أحمد: حدثني
يحيى بن عثمان، حدثنا أبو المليح، عن ميمون قال: من أساء سرا فليتب سرا، ومن أساء علانية فليتب علانية، فإن الله يغفر ولا يعير، وإن الناس يعيرون ولا يغفرون.
__________
(1) في طبقات ابن سعد 7 / 478: إنما هو درهم تأحذه من حقه وتضعه في حقه فما استعفاؤك من هذا ؟ (2) زيد في صفة الصفوة 4 / 194: ومن أين ملبسه.

وقال جعفر قال ميمون: في المال ثلاث آفات، إن نجا صاحبه من واحدة لم ينج من اثنتين، وإن نجا من اثنتين كان قمينا أن لا ينجو من الثالثة، ينبغي أن يكون حلالا طيبا، فأيكم الذي يسلم كسبه فلم يدخله إلا طيبا ؟ فإن سلم من هذه فينبغي أن يؤدي الحقوق التي تلزمه في ماله، فإن سلم من هذه فينبغي أن يكون في نفقته ليس بمسرف ولا مقتر.
وقال: سمعت ميمونا يقول: أهون الصوم ترك الطعام والشراب.
وقال عبد الله بن أحمد: حدثنا يحيى بن عثمان الحربي، حدثنا أبو المليح، عن ميمون بن مهران قال: ما نال رجل من جسيم الخير نبي أو غيره إلا بالصبر.
وبهذا الاسناد قال: الدنيا حلوة خضرة قد حفت بالشهوات، والشيطان عدو حاضر، فيظن أن أمر الآخرة آجل، وأمر الدنيا عاجل.
وقال يونس بن عبيدة: كان طاعون قبل بلاد ميمون بن مهران، فكتبت إليه أسأله عن أهله، فكتب إلي: بلغني كتابك تسألني عن أهلي، وأنه مات من أهلي وخاصتي سبعة عشر إنسانا، وإني أكره البلاء إذا أقبل، فإذا أدبر لم يسرني أنه لم يكن، وأما أنت فعليك بكتاب الله، فإن الناس قد بهتوا عنه - يعني أيسوا - واختاروا الاحاديث، أحادث الرجال، وإياك والمرائي في الدين.
قال أبو عبيد في الغريب بهئوا به مهموزا، ومعناه: أنسوا به.
وقال عمر بن ميمون: كنت مع أبي ونحن نطوف بالكعبة فلقي أبي شيخ فعانقه، ومع الشيخ فتى نحو مني، فقال له أبي: من هذا ؟ قال: ابني.
فقال: كيف رضاك عنه ؟ فقال: ما بقيت خصلة يا أبا أيوب من خصال الخير إلا وقد رأيتها فيه، إلا واحدة.
قال: وما هي ؟ قال: أن يموت فأوجر فيه - أو قال فأحتسبه - ثم فارقه أبي، فقلت: من هذا الشيخ ؟ فقال: مكحول.
وقال: شر الناس العيابون، ولا يلبس الكتان إلا غني أو غوي.
وروى الامام أحمد عنه قال: يا بن آدم خفف عن ظهرك فإن ظهرك لا يطيق كل هذا الذي يحمل، من ظلم هذا، وأكل مال هذا، وغشم هذا، وكل هذا على ظهرك تحمله، فخفف عن ظهرك.
وقال: إن أعمالكم قليلة فأخلصوا هذا القليل.
وقال: ما أتي قوم في ناديهم المنكر إلا حق هلاكهم.
وروى عبد الله بن أحمد عنه أنه قرأ (وامتازوا اليوم أيها المجرمون) [ يس: 59 ] ثم فارق حتى بكى، ثم قال: ما سمع الخلائق بنعت قط أشد منه.
وقال أبو عوانة: حدثنا إبراهيم بن عبد الله، حدثنا محمد بن إسحاق، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا خالد، عن حصين بن عبد الرحمن عن ميمون قال: أربع لا تكلم فيهم: علي، وعثمان، والقدر، والنجوم.
وقال: احذروا كل هوى يسمى بغير الاسلام.
وروى شبابة عن فرات بن السائب قال: سألت ميمون أعلي أفضل عندك أم أبو بكر وعمر ؟ فارتعد حتى سقطت عصاه من يده ثم قال: ما كنت أظن أن أبقى إلى زمان يعدل بهما غيرهما، إنهما كانا رداءي الاسلام، ورأس الاسلام، ورأس الجماعة.
فقلت: فأبو بكر كان أول إسلاما أم علي ؟ فقال: والله لقد آمن من أبو بكر بالنبي (صلى الله عليه وسلم) زمن بحيرا الراهب حين مر به، وكان أبو بكر هو

الذي يختلف بينه وبين خديجة حتى أنكحها إياه.
وذلك كله قبل أن يولد علي، وكان صاحبه وصديقه قبل ذلك.
وروى ميمون بن مهران عن ابن عمر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): " قل ما يوجد في آخر الزمان درهم من حلال، أو أخ يوثق به ".
وروى عن ابن عمر أيضا عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: " شر المال في آخر الزمان المماليك ".
وروى ابن أبي الدنيا عنه قال: من طلب مرضاة الاخوان بلا شئ فليصادق أهل القبور.
وقال: من ظلم أحدا ففاته أن يخرج من مظلمته فاستغفر له دبر كل صلاة خرج من مظلمته.
وهذا إن شاء الله يدخل فيه الاعراض والاموال وسائر المظالم.
وقال ميمون: القاتل والآمر والمأمور والظالم والراضي بالظلم، كلهم في الوزر سواء.
وقال: أفضل الصبر الصبر على ما تكره نفسك.
من طاعة الله عزوجل.
روى ميمون عن جماعة من الصحابة (1)، وكان يسكن الرقة، رحمه الله تعالى.
نافع مولى ابن عمر أبو عبد الله المدني أصله من بلاد المغرب، وقيل من نيسابور، وقيل من كابل، وقيل غير ذلك.
روى عن مولاه عبد الله بن عمر وجماعة من الصحابة، مثل رافع بن خديج، وأبي سعيد وأبي هريرة وعائشة وأم سلمة وغيرهم.
وروى عنه خلق من التابعين وغيرهم، وكان من الثقات النبلاء، والائمة الاجلاء، قال البخاري: أصح الاسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر، وقال غيره كان عمر بن عبد العزيز قد بعثه إلى مصر يعلم الناس السنن، وقد أثنى عليه غير واحد من الائمة ووثقوه ومات في هذه السنة على المشهور.
ذو الرمة الشاعر (2) واسمه غيلان بن عقبة (3) بن بهيس (4)، من بني عبد مناة بن أد بن طابخة بن الياس بن مضر، أبو الحارث أحد فحول الشعراء، وله ديوان مشهور، وكان يتغزل في مي (5) بنت مقاتل بن طلبة بن قيس بن عاصم المنقري، وكانت جميلة، وكان هو دميم الخلق أسود اللون، ولم يكن بينهما
__________
(1) ومنهم: عائشة وابن عمر، وابن عباس وابي هريرة.
(انظر تذكرة الحفاظ 1 / 99 صفة الصفوة 4 / 195).
(2) انظر ترجمته في: طبقات ابن سلام: 465 شرح شواهد المغني 52 الخزانة 1 / 50 وفيات الاعيان 4 / 11 الشعر والشعراء ص 437 الاغاني 18 / 1 الموشح ص 170 سمط اللآلي: 81 الشريشي 2 / 53 تزيين الاسواق 1 / 88.
(3) من المرجع السابقة، وفي الاصل عتبة.
(4) في ابن خلكان والمشتبه والقاموس واللآلي: بهيش، وفي الشريشي: غيلان بن عقبة بن بيهس، وفي الاغاني وتزيين الاسواق: غيلان بن عقبة بن مسعود.
(5) في الاغاني وابن خلكان: مية.

فحش ولا خنا ولم يكن رآها قط ولا رأته، وإنما كانت تسمع به ويسمع بها، ويقال: إنها كانت تنذر إن هي رأته أن تذبح جزورا، فلما رأته قالت: واسوأتاه واسوأتاه، ولم تبلد له وجهها قط إلا مرة
واحدة، فأنشأ يقول: على وجه مي لمحة من حلاوة * وتحت الثياب العار لو كان باديا (1) قال فانسلخت من ثيابها فقال: ألم تر أن الماء يخبث طعمه * وإن كان لون الماء أبيض (2) صافيا فقالت: تريد أن تذوق طعمه ؟ فقال: إي والله، فقالت: تذوق الموت قبل أن تذوقه.
فأنشأ يقول: فواضيعة الشعر الذي راح وانقضى * بمي ولم أملك ضلال فؤاديا قال ابن خلكان: ومن شعره السائر بين الناس ما أنشده: إذا هبت الارياح من نحو جانب * به أهل مي هاج شوقي (3) هبوبها هوى تذرف العينان منه وإنما * هوى كل نفس أين حل (4) حبيبها وأنشد عند الموت: يا قابض الارواح في جسمي إذا احتضرت * وغافر الذنب زحزحني عن النار (5)
__________
(1) البيت في الاغاني 18 / 26: على وجه مي مسحة من ملاحة * وتحت الثياب الخزي...وفي الخزانة 1 / 109: الشين.
(2) في الاغاني: في العين صافيا.
والشعر في ابن سلام 476 وأمالي الزجاجي والحماسة 4 / 53 والشعر والشعراء 519.
وأكثر المصادر على ان البيتين موضوعة على لسان ذي الرمة، وقد أنشدتهما كثيرة ابنة عم لمية من ولد قيس وهي أم سهم بن بردة، وكان ذو الرمة يمتعض من ذلك وحلف بجهد أيمانه أنه ما قالهما.
(3) في ابن خلكان 4 / 13 وديوانه 66 قلبي.
(4) في ابن خلكان: حيث كان.
(5) البيت في الاغاني: 18 / 44 وديوانه ص 667.
يا مخرج الروح من جسمي إذا احتضرت * وفارج الكرب...

ثم دخلت سنة ثماني عشرة ومائة فيها غزا معاوية وسليمان ابنا أمير المؤمنين هشام بن عبد الملك بلاد الروم، وفيها قصد شخص يقال له: عمار بن يزيد، ثم سمى بخداش، إلى بلاد خراسان ودعا الناس إلى خلافة محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، فاستجاب له خلق كثير، فلما التفوا عليه دعاهم إلى مذهب الخرمية (1) الزنادقة، وأباح لهم نساء بعضهم بعضا، وزعم لهم أن محمد بن علي يقول ذلك، وقد كذب عليه فأظهر الله عليه الدولة فأخذ فجئ به إلى خالد بن عبد الله القسري أمير العراق وخراسان، فأمر به فقطعت يده وسل لسانه ثم صلب بعد ذلك.
وفيها حج بالناس محمد بن هشام بن إسماعيل أمير المدينة، وقيل إن إمرة المدينة كانت مع خالد بن عبد الملك بن مروان، والصحيح أنه كان قد عزل وولي مكانه محمد بن هشام بن إسماعيل، وكان أمير العراق القسري.
وفيها كانت وفاة: علي بن عبد الله بن عباس (2) ابن عبد المطلب القرشي الهاشمي أبو الحسن، ويقال أبو محمد، وأمه زرعة بنت مسرح بن معد يكرب الكندي، أحد الملوك الاربعة الاقيال المذكورين في الحديث الذي رواه أحمد، وهم مسرح، وحمل، ومخولس، وأبضعة: وأختهم العمردة وكان مولد علي هذا يوم قتل علي بن أبي طالب، فسماه أبوه باسمه، وكناه بكنيته، وقيل إنه ولد في حياة علي وهو الذي سماه وكناه ولقبه بأبي الاملاك، فلما وفد على عبد الملك بن مروان أجلسه معه على السرير وسأله عن اسمه وكنيته فأخبره فقال له: ألك ولد ؟ قال: نعم ولد لي ولد سميته محمدا، فقال له: أنت أبو محمد، وأجزل عطيته، وأحسن إليه.
وقد كان علي هذا في غاية العبادة والزهادة والعلم والعمل وحسن الشكل والعدالة والثقة كان يصلي في كل يوم وليلة ألف ركعة، قال عمرو بن علي الفلاس: كان من خيار الناس، وكانت وفاته بالجهمة (3) من أرض البلقاء في هذه السنة، وقد قارب الثمانين.
وقد ذكر ابن خلكان أنه تزوج لبابة بنت عبد الله بن جعفر، التي كانت تحت عبد الملك بن مروان، فطلقها،
وكان سبب طلاقه إياها أنه عض تفاحة ثم رمى بها إليها فأخذت السكين فحزت من التفاحة ما مس فمه منها، فقال: ولم تفعلين هذا ؟ فقالت: أزيل الاذى عنها - وذلك لان عبد الملك كان أبخر -
__________
(1) الخرمية: قال الاسفرائيني: هؤلاء صنفان صنف منهم كان قبل دولة الاسلام كالمزدكية الذين استباحوا المحرمات وزعموا ان الناس شركاء في الاموال والنساء، ودامت فتنة هؤلاء إلى أن قتلهم أنوشروان في زمانه.
والصنف الثاني: الخر مدينية ظهروا في دولة الاسلام (ص 201).
(2) ترجمته في وفيات الاعيان 4 / 274 طبقات ابن سعد 5 / 312 صفة الصفوة 3 / 59 العبر للذهبي 1 / 148 شذرات الذهب 1 / 148، وتاريخ الطبري 8 / 230 ابن الاثير 5 / 198.
(3) في ابن الاثير 5 / 198: من أرض الشام (وانظر الطبري 8 / 230).

فطلقها عبد الملك، فلما تزوجها علي بن عبد الله بن عباس هذا نقم عليه الوليد بن عبد الملك لاجل ذلك، فضربه بالسياط، وقال إنما أردت أن تذل بنيها من الخلفاء، وضربه مرة ثانية لانه اشتهر عنه أنه قال: الخلافة صائرة إلى بيته، فوقع الامر كذلك (1).
وذكر المبرد أنه دخل على هشام بن عبد الملك ومعه ابناه السفاح والمنصور وهما صغيران، فأكرمه هشام وأدنى مجلسه، وأطلق له مائة وثلاثين ألفا (2)، وجعل علي بن عبد الله يوصيه بابنيه خيرا، ويقول: إنهما سيليان الامر، فجعل هشام يتعجب من سلامة باطنه وينسبه في ذلك إلى الحمق، فوقع الامر كما قال.
قالوا: وقد كان علي في غاية الجمال وتمام القامة، كان بين الناس كأنه راكب، وكان إلى منكب أبيه عبد الله، وكان عبد الله إلى منكب أبيه العباس، وكان العباس إلى منكب أبيه عبد المطلب، وقد بايع كثير من الناس لابنه محمد بالخلافة قبل أن يموت علي هذا قبل هذه السنة بسنوات، ولكن لم يظهر أمره حتى مات فقام بالامر من بعده ولده عبد الله أبو العباس السفاح، وكان ظهوره في سنة اثنتين وثلاثين كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
عمرو بن شعيب، وعبادة بن نسي، وأبو صخرة جامع بن شداد، وأبو عياش المعافري.
ثم دخلت سنة تسع عشرة ومائة
ففيها غزا الوليد بن القعقاع بلاد الروم.
وفيها قتل أسد بن عبد الله القسري ملك الترك الاعظم خاقان، وكان سبب ذلك أن أسد بن عبد الله أمير خراسان عمل نيابة عن أخيه خالد بن عبد الله على العراق، ثم سار بجيوشه إلى مدينة ختل فافتتحها، وتفرقت في أرضها جنوده يقتلون ويأسرون ويغنمون، فجاءت العيون إلى ملك الترك خاقان أن جيش أسد قد تفرق في بلاد ختل، فاغتنم خاقان هذه الفرصة فركب من فوره في جنوده قاصدا إلى أسد، وتزود خاقان وأصحابه سلاحا كثيرا، وقديدا وملحا، وساروا في حنق عظيم، وجاء إلى أسد فأعلموه بقصد خاقان له في جيش عظيم كثيف، فتجهز لذلك وأخذ أهبته، فأرسل من فوره إلى أطراف جيشه، فلمها وأشاع بعض الناس أن خاقان قد هجم على أسد بن عبد الله فقتله وأصحابه، ليحصل بذلك خذلان لاصحابه، فلا يجتمعون إليه، فرد الله كيدهم في نحورهم، وجعل تدميرهم في تدبيرهم، وذلك أن المسلمين لما سمعوا بذلك أخذتهم حمية الاسلام وازدادوا حنقا على عدوهم، وعزموا على الاخذ بالثأر، فقصدوا الموضع الذي فيه أسد، فإذا هو حي قد اجتمعت عليه العساكر من كل جانب، وسار أسد نحو خاقان حتى أتى جبل الملح، وأراد أن يخوض نهر بلخ، وكان معهم أغنام كثيرة، فكره أسد أن يتركها
__________
(1) وفيات الاعيان 3 / 275 - 276.
(2) انظر الكامل للمبرد 1 / 368.
وفيه: ثلاثون ألف درهم.

وراء ظهره، فأمر كل فارس أن يحمل بين يديه شاة وعلى عنقه شاة، وتوعد من لم يفعل ذلك بقطع اليد، وحمل هو معه شاة وخاضوا النهر، فما خلصوا منه جيدا حتى دهمهم خاقان من ورائهم في خيل دهم، فقتلوا من وجدوه لم يقطع النهر وبعض الضعفة، فلما وقفوا على حافة النهر أحجموا وظن المسلمون أنهم لا يقطعون إليهم النهر، فتشاور الاتراك فيما بينهم، ثم اتفقوا على أن يحملوا حملة واحدة - وكانوا خمسين ألفا - فيقتحمون النهر، فضربوا بكؤساتهم ضربا شديدا حتى ظن المسلمون أنهم معهم في عسكرهم، ثم رموا بأنفسهم في النهر رمية واحدة، فجعلت خيولهم تنخر أشد النخير، وخرجوا منه إلى ناحية المسلمين فثبت المسلمون في معسكرهم، وكانوا قد خندقوا حولهم
خندقا لا يخلصون إليهم منه، فبات الجيشان تتراءى ناراهما، فلما أصبحا مال خاقان على بعض الجيش الذي للمسلمين فقتل منهم خلقا وأسر أمما وإبلا موقرة، ثم ان الجيشين تواجهوا في يوم عيد الفطر حتى خاف جيش أسد أن لا يصلوا صلاة العيد، فما صلوها إلا على وجل، ثم سار أسد بمن معه حتى نزل مرج بلخ، حتى انقضى الشتاء، فلما كان يوم عيد الاضحى خطب أسد الناس واستشارهم في الذهاب إلى مرو أو في لقاء خاقان، أو في التحصن ببلخ.
فمنهم من أشار بالتحصن، ومنهم من أشار بملتقاه والتوكل على الله، فوافق ذلك رأي أسد الاسد، فقصد بجيشه نحو خاقان، وصلى بالناس ركعتين أطال فيهما، ثم دعا بدعاء طويل، ثم انصرف وهو يقول: نصرتم إن شاء الله، ثم سار بمن معه من المسلمين فالتقت مقدمته بمقدمة خاقان، فقتل المسلمون منهم خلقا وأسروا أميرهم وسبعة أمراء معه، ثم ساق أسد فانتهى إلى أغنامهم فاستاقها، فإذا هي مائة ألف وخمسون ألف شاة، ثم التقى معهم، وكان خاقان إنما معه أربعة آلاف أو نحوها، ومعه رجل من العرب قد خامر إليه، يقال له الحارث بن سريج (1)، فهو يدلهم على عورات المسلمين، فلما أقبل الناس هربت الاتراك في كل جانب، وانهزم خاقان ومعه الحارث بن سريج (1) يحميه ويتبعه، فتبعهم أسد، فلما كان عند الظهيرة انخذل خاقان في أربعمائة من أصحابه، عليهم الخز ومعهم الكؤسات، فلما أدركه المسلمون أمر بالكؤسات فضربت ضربا شديدا ضرب الانصراف ثلاث مرات فلم يستطيعوا الانصراف، فتقدم المسلمون فاحتاطوا على معسكرهم فاحتازوه بما فيه من الامتعة العظيمة، والاواني من الذهب والفضة، والنساء والصبيان، من الاتراك ومن معهم من الاسارى من المسلمات وغيرهم، مما لا يحد ولا يوصف لكثرته وعظمه وقيمته وحسنه.
غير أن خاقان لما أحس بالهلاك ضرب امرأته بخنجر فقتلها، فوصل المسلمون إلى المعسكر وهي في آخر رمق تتحرك، ووجدوا قدورهم تغلي باطعماتهم، وهرب خاقان بمن معه حتى دخل بعض المدن فتحصن بها، فاتفق أنه لعب بالنرد مع بعض الامراء (2) فغلبه الامير فتوعده خاقان بقطع اليد، فحنق عليه
__________
(1) من الطبري وابن الاثير وابن الاعثم، وفي الاصل شريح وهو تحريف.
(2) في ابن الاثير 5 / 205: كور صول.
وانظر الطبري 8 / 238.

ذلك الامير ثم عمل على قتله فقتله، وتفرقت الاتراك يعدو بعضهم على بعض، وينهب بعضهم بعضا، وبعث أسد إلى أخيه خالد يعلمه بما وقع من النصر والظفر بخاقان، وبعث إليه بطبول خاقان - وكانت كبارا لها أصوات كالرعد وبشئ كثير من حواصله وأمتعته، فأوفدها خالد إلى أمير المؤمنين هشام ففرح بذلك فرحا شديدا، وأطلق للرسل أموالا جزيلة كثيرة من بيت المال وقد قال بعض الشعراء في أسد يمدحه على ذلك: - لو سرت في الارض تقيس الارضا * تقيس منها طولها والعرضا لم تلق خيرا إمرة ونقضا * من الامير أسد وأمضى افضى إلينا الخير حتى افضا * وجمع الشمل وكان ارفضا ما فاته خاقان إلا ركضا * قد فض من جموعه ما فضا يا بن سريج (1) قد لقيت حمضا * حمضا به تشفى صداع المرضى وفيها قتل خالد بن عبد الله القسري المغيرة بن سعيد وجماعة من أصحابه الذين تابعوه على باطله، وكان هذا الرجل (2) ساحرا فاجرا شيعيا خبيثا، قال ابن جرير: ثنا ابن حميد، ثنا جرير، عن الاعمش قال: سمعت المغيرة بن سعيد يقول: لو أراد أن يحيى عادا وثمودا وقرونا بين ذلك لاحياهم.
قال الاعمش: وكان المغيرة هذا يخرج إلى المقبرة فيتكلم فيرى مثل الجراد على القبور، أو نحو هذا من الكلام.
وذكر ابن جرير له غير ذلك من الاشياء التي تدل على سحره وفجوره.
ولما بلغ خالدا أمره أمر بإحضاره فجئ به في ستة نفر أو سبعة نفر، فأمر خالد فأبرز سريره إلى المسجد، وأمر باحضار أطناب القصب والنفط فصب فوقها، وأمر المغيرة أن يحتضن طنبا منها، فامتنع فضرب حتى احتضن منها طنبا واحدا وصب فوق رأسه النفط، ثم أضرم بالنار.
وكذلك فعل ببقية أصحابه.
وفي هذه السنة خرج رجل يقال له بهلول بن بشر ويلقب بكثارة، واتبعه جماعات من الخوارج دون المائة، وقصدوا قتل خالد القسري، فبعث إليهم البعوث فكسروا الجيوش واستفحل أمرهم جدا لشجاعتهم وجلدهم، وقلة نصح من يقاتلهم من الجيوش، فردوا العساكر من الالوف
المؤلفة، ذوات الاسلحة والخيل المسومة، هذا وهم لم يبلغوا المائه، ثم إنهم راموا قدوم الشام لقتل الخليفة هشام، فقصدوا نحوها، فاعترضهم جيش بأرض الجزيرة فاقتتلوا معهم قتالا عظيما، فقتلوا
__________
(1) من الطبري، وفي الاصل شريح.
(2) كان المغيرة بن سعيد من القائلين بالتجسيم أي أن الله على صورة رجل على رأسه تاج، وإن أعضاءه على عدد حروف الهجاء ويقول ما لا ينطق به لسان، ويقول بتكفير أبي بكر وعمر وان الله تعالى لما أراد أن يخلق تكلم باسمه الاعظم فطار فوقع على تاجه ثم كتب باصبعه على كفه أعمال عباده من المعاصي والطاعات.
(الفرق بين الفرق ص 181 - 182 ابن الاثير 5 / 208).

عامة أصحاب بهلول الخارجي.
ثم إن رجلا من جديلة يكنى أبا الموت ضرب بهلولا ضربة فصرعه وتفرقت عنه بقية أصحابه، وكانوا جميعهم سبعين رجلا (1)، وقد رثاهم بعض أصحابهم (2) فقال: بدلت بعد أبي بشر وصحبته * قوما علي مع الاحزاب أعوانا بانوا كأن لم يكونوا من صحابتنا * ولم يكونوا لنا بالامس خلانا يا عين أذري دموعا منك تهتانا * وابكي لنا صحبة بانوا وجيرانا خلوا لنا ظاهر الدنيا وباطنها * وأصبحوا في جنان الخلد جيرانا ثم تجمع طائفة منهم أخرى على بعض أمرائهم (3) فقاتلوا وقتلوا وقتلوا، وجهزت إليهم العساكر من عند خالد القسري، ولم يزل حتى أباد خضراءهم ولم يبق لهم باقية.
وفيها غزا أسد القسري بلاد الترك، فعرض عليه ملكهم طرخان خان ألف ألف فلم يقبل منه شيئا، وأخذه قهرا فقتله صبرا بين يديه، وأخذ مدينته وقلعته وحواصله ونساءه وأمواله.
وفيها خرج الصحارى بن شبيب الخارجي واتبعه طائفة قليلة نحو من ثلاثين رجلا، فبعث إليهم خالد القسري جندا فقتلوه وجميع أصحابه، فلم يتركوا منهم رجلا واحدا.
وحج بالناس في هذه السنة أبو شاكر مسلمة بن هشام بن عبد الملك، وحج معه ابن شهاب الزهري ليعلمه مناسك الحج، وكان أمير مكة والمدينة
والطائف محمد بن هشام بن إسماعيل، وأمير العراق والمشرق وخراسان خالد القسري، ونائبه على خراسان بكمالها أخوه أسد بن عبد الله القسري، وقد قيل إنه توفي في هذه السنة، وقيل في سنة عشرين فالله أعلم.
ونائب أرمينية وأذربيجان مروان الحمار.
والله أعلم.
سنة عشرين ومائة من الهجرة فيها غزا سليمان بن هشام بلاد الروم وافتتح فيها حصونا، وفيها غزا إسحاق بن مسلم العقيلي تومان شاه، وافتتحها وخرب أراضيها، وفيها غزا مروان بن محمد بلاد الترك، وفيها كانت وفاة أسد ابن عبد لله القسري أمير خراسان، وكانت وفاته بسبب أنه كانت له دبيلة في جوفه، فلما كان مهرجان هذه السنة قدمت الدهاقين - وهم أمراء المدن الكبار - من سائر البلدان بالهدايا والتحف على أسد، وكان فيمن قدم نائب هراة ودهقانها، واسم دهقانها خراسان شاه، فقدم بهدايا عظيمة وتحف عزيزة، وكان من جملة ذلك قصر من ذهب، وقصر من فضة، وأبا ريق من ذهب، وصحاف من
__________
(1) في ابن الاثير 5 / 210 والطبري 8 / 242 أربعون رجلا.
(2) هو الضحاك بن قيس كما في الطبري 8 / 244.
(3) ومنهم: عمرو اليشكري قتل فخرج العنزي صاحب الاشهب فقتل ثم خرج وزير السختياني.

ذهب وفضة، وتفاصيل من حرير تلك البلاد ألوان ملونة، فوضع ذلك كله بين يدي أسد حتى امتلا المجلس، ثم قام الدهقان خطيبا فامتدح أسدا بخصال حسنة، على عقله ورياسته وعدله ومنعه أهله وخاصته أن يظلموا أحدا من الرعايا بشئ قل أو كثر، وأنه قهر الخان الاعظم، وكان في مائة ألف فكسره وقتله، وأنه يفرح بما يفد إليه من الاموال، وهو بما خرج من يده أفرح وأشد سرورا، فاثنى عليه أسد وأجلسه، ثم فرق أسد جميع تلك الهدايا والاموال وما هناك أجمع على الامراء والاكابر بين يديه، حتى لم يبق منه شئ، ثم قام من مجلسه وهو عليل من تلك الدبيلة، ثم أفاق إفاقة وجئ بهدية كمثرى فجعل يفرقها على الحاضرين واحدة واحدة، فألقى إلى دهقان خراسان واحدة فانفجرت دبيلته وكان فيها حتفه، واستخلف على عمله جعفر بن حنظلة البهراني، فمكت أميرا
أربعة أشهر حتى جاء عهد نصر بن سيار في رجب منها، فعلى هذا تكون وفاة أسد في صفر من هذه السنة، وقد قال فيه ابن عرس العبدي يرثيه: نعى أسد بن عبد الله ناع * فريع القلب للملك المطاع ببلخ وافق المقدار يسري * وما لقضاء ربك من دفاع فجودي عين بالعبرات سحا * ألم يحزنك تفريق الجماع أتاه حمامه في جوف صيغ * وكم بالصيغ من بطل شجاع كتائب قد يجيبون المنادي * على جرد مسومة سراع سقيت الغيث إنك كنت غيثا * مريعا عند مرتاد النجاع وفيها عزل هشام خالد بن عبد الله القسري عن نيابة العراق، وذلك أنه انحصر منه لما كان يبلغه من إطلاق عبارة فيه، وأنه كان يقول عنه ابن الحمقاء، وكتب إليه كتابا فيه غلظة، فرد عليه هشام ردا عنيفا (1)، ويقال إنه حسده على سعة ما حصل له من الاموال والحواصل والغلات، حتى قيل إنه كان دخله في كل سنة ثلاثة عشر ألف ألف دينار، وقيل درهم، ولولده يزيد بن خالد عشرة آلاف ألف، وقيل إنه وفد إليه رجل من الزام أمير المؤمنين من قريش يقال له ابن عمرو (2)، فلم يرحب به ولم يعبأ به، فكتب إليه هشام يعنفه ويبكته على ذلك، وأنه حال وصول هذا الكتاب إليه يقوم من فوره بمن حوله من أهل مجلسه فينطلق على قدميه حتى يأتي باب ابن عمرو صاغرا ذليلا مستأذنا عليه، متنصلا إليه مما وقع، فإن أذن لك وإلا فقف على بابه حولا غير متحلل من مكانك ولا زائل، ثم أمرك إليه إن شاء عزلك وإن شاء أبقاك، وإن شاء انتصر، وإن شاء عفا.
وكتب إلى ابن عمرو يعلمه بما كتب إلى خالد، وأمره إن وقف بين يديه أن يضربه عشرين سوطا على رأسه، إن رأى
__________
(1) انظر نسخة كتاب خالد إلى هشام ورد هشام عليه في الطبري 8 / 251.
(2) من آل عمرو بن سعيد بن العاص.

ذلك مصلحة.
ثم إن هشاما عزل خالدا وأخفى ذلك، وبعث البريد إلى نائبه على اليمن وهو يوسف
ابن عمر فولاه إمرة العراق، وأمره بالمسير إليها والقدوم عليها في ثلاثين راكبا، فقدموا الكوفة وقت السحر، فدخلوها، فلما أذن المؤذن أمره يوسف بالاقامة: فقال: إلى أن يأتي الامام - يعني خالدا - فانتهره وأمره بالاقامة وتقدم يوسف فصلى وقرأ (إذا وقعت الواقعة) و (سأل سائل) ثم انصرف فبعث إلى خالد وطارق (1) وأصحابهما، فاحضروا فأخذ منهم أموالا كثيرة، صادر خالدا بمائة ألف ألف درهم، وكانت ولاية خالد في شوال سنة خمس ومائة، وعزل عنها في جمادى الاولى من هذه السنة - أعني سنة عشرين ومائة - وفي هذا الشهر قدم يوسف بن عمر على ولاية العراق مكان خالد بن عبد الله القسري، واستناب على خراسان جديع بن علي الكرماني، وعزل جعفر بن حنظلة الذي كان استنابه أسد، ثم إن يوسف بن عمر عزل جديعا في هذه السنة عن خراسان، وولى عليها نصر ابن سيار، وذهب جميع ما كان اقتناه وحصله خالد من العقار والاملاك وهلة واحدة، وقد كان أشار عليه بعض أصحابه لما بلغهم عتب هشام عليه أن يبعث إليه يعرض عليه بعض أملاكه، فما أحب منها أخذه وما شاء ترك، وقالوا له: لان يذهب البعض خير من أن يذهب الجميع مع العزل والاخراق فامتنع من ذلك واغتر بالدنيا وعزت نفسه عليه أن يذل، ففجأه العزل، وذهب ما كان حصله وجمعه ومنعه، واستقرت ولاية يوسف بن عمر على العراق وخراسان، واستقرت نيابة نصر بن سيار على خراسان، فتمهدت البلاد وأمن العباد ولله الحمد والمنة.
وقد قال سوار بن الاشعري في ذلك: أضحت خراسان بعد الخوف آمنة * من ظلم كل غشوم الحكم جبار لما أتى يوسفا أخبار ما لقيت * اختار نصرا لها نصر بن سيار وفي هذه السنة استبطأت شيعة آل العباس كتاب محمد بن علي إليهم، وقد كان عتب عليهم في اتباعهم ذلك الزنديق الملقب بخداش، وكان خرميا، وهو الذي أحل لهم المنكرات ودنس المحارم والمصاهرات، فقتله خالد القسري كما تقدم، فعتب عليهم محمد بن علي في تصديقهم له واتباعهم إياه على الباطل، فلما استبطأوا كتابه إليهم بعث إليهم رسولا يخبر لهم أمره، وبعثواهم أيضا رسولا، فلما جاء رسولهم أعلمه محمد بماذا عتب عليهم بسبب الخرمي، ثم أرسل مع الرسول
كتابا مختوما، فلما فتحوه لم يجدوا فيه سوى: بسم الله الرحمن الرحيم، تعلموا أنه إنما عتبنا عليكم بسبب الخرمي.
ثم أرسل رسولا إليهم فلم يصدقه كثير منهم وهموا به، ثم جاءت من جهته عصى ملويا عليها حديد ونحاس، فعلموا أن هذا إشارة لهم إلى أنهم عصاة، وأنهم مختلفون كاختلاف ألوان النحاس والحديد.
قال ابن جرير: وحج بالناس فيها محمد بن هشام المخزومي فيما قاله أبو
__________
(1) وهو طارق بن أبي زياد.

معشر، قال: وقد قيل إن الذي حج بالناس سليمان بن هشام بن عبد الملك، وقيل ابنه يزيد بن هشام فالله سبحانه وتعالى أعلم.
ثم دخلت سنة إحدى وعشرين ومائة ففيها غزا مسلمة بن هشام الروم فافتتح مطامير وهو حصن، وافتتح مروان بن محمد بلاد صاحب الذهب، وأخذ قلاعه وخرب أرضه، فأذعن له بالجزية في كل سنة بألف رأس يؤديها إليه، وأعطاه رهنا على ذلك.
وفيها في صفر قتل زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، الذي تنسب إليه الطائفة الزيدية، في قول الواقدي، وقال هشام الكلبي: إنما قتل في صفر من سنة ثنتين وعشرين فالله أعلم.
وقد ساق محمد بن جرير سبب مقتله في هذه السنة تبعا للواقدي، وهو أن زيدا هذا وفد على يوسف بن عمر فسأله هل أودع خالد القسري (1) عندك مالا ؟ فقال له زيد بن علي: كيف يودعني مالا وهو يشتم آبائي على منبره في كل جمعة ؟ فأحلفه أنه ما أودع عنده شيئا، فأمر يوسف بن عمر باحضار خالد بن السجن فجئ به في عباءة، فقال: أنت أودعت هذا شيئا نستخلصه منه ؟ قال: لا، وكيف وأنا أشتم أباه كل جمعة ؟ فتركه عمر وأعلم أمير المؤمنين بذلك فعفا عن ذلك، ويقال بل استحضرهم فحلفوا بما حلفوا.
ثم إن طائفة من الشيعة التفت على زيد بن علي، وكانوا نحوا من أربعين ألفا، فنهاه بعض النصحاء عن الخروج، وهو محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، وقال له: إن جدك خير منك، وقد التفت على بيعته من أهل العراق ثمانون ألفا، ثم خانوه أحوج ما كان إليهم، وإني أحذرك من أهل العراق.
فلم يقبل بل استمر يبايع
الناس في الباطن في الكوفة، على كتاب الله وسنة رسوله حتى استفحل أمره بها في الباطن، وهو يتحول من منزل إلى منزل، وما زال كذلك حتى دخلت سنة ثنتين وعشرين ومائة، فكان فيها مقتله كما سنذكره قريبا.
وفيها غزا نصر بن سيار أمير خراسان غزوات متعددة في الترك، وأسر ملكهم كور صول في بعض تلك الحروب وهو لا يعرفه، فلما تيقنه وتحققه، سأل منه كور صول أن يطلقه على أن يرسل له ألف (2) بعير من إبل الترك - وهي البخاتي - وألف برذون، وهو مع ذلك شيخ كبير جدا، فشاور نصر من بحضرته من الامراء في ذلك، فمنهم من أشار باطلاقه، ومنهم من أشار بقتله.
ثم سأله نصر بن سياركم غزوت من غزوة ؟ فقال: ثنتين وسبعين غزوة، فقال له نصر: ما مثلك يطلق، وقد شهدت هذا كله، ثم أمر به فضربت عنقه وصلبه، فلما بلغ ذلك جيشه من قتله باتوا تلك الليلة يجعرون ويبكون عليه، وجذوا لحاهم وشعورهم وقطعوا آذانهم وحرقوا خياما
__________
(1) في رواية عند الطبري 8 / 260 وابن الاثير 5 / 230 وابن الاعثم 8 / 109 - 110 أن زيد بن خالد هو الذي ادعى انه اودع مالا لدى زيد بن علي ومحمد بن عمر بن علي بن أبي طالب (رض).
(2) في ابن الاثير 5 / 237: أربعة آلاف.

كثيرة، وقتلوا أنعاما كثيرة، فلما أصبح أمر نصر بإحراقه لئلا يأخذوا جثته، فكان حريقه أشد عليهم من قتله، وانصرفوا خائبين صاغرين خاسرين، ثم كر نصر على بلادهم فقتل منهم خلقا وأسر أمما لا يحصون كثرة، وكان فيمن حضر بين يديه عجوز كبيرة جدا من الاعاجم أو الاتراك، وهي من بيت مملكة، فقالت لنصر بن سيار: كل ملك لا يكون عنده ستة أشياء فهو ليس بملك، وزير صادق يفصل خصومات الناس ويشاوره ويناصحه، وطباخ يصنع له ما يشتهيه، وزوجة حسناء إذا دخل عليها مغتما فنظر إليها سرته وذهب غمه وحصن منيع إذا فزع رعاياه لجأوا إليه فيه، وسيف إذا قارع به الاقران لم يخش خيانته، وذخيرة إذا حملها فأين ما وقع من الارض عاش بها.
وحج بالناس فيها محمد بن هشام بن إسماعيل نائب مكة والمدينة والطائف، ونائب العراق يوسف بن عمر، ونائب خراسان نصر بن سيار، وعلى أرمينية مروان بن محمد.
ذكر من توفي فيها من الاعيان: زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب والمشهور أنه قتل في التي بعدها كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
مسلمة بن عبد الملك ابن مروان القرشي الاموي، أبو سعيد وأبو الاصبغ الدمشقي، قال ابن عساكر: وداره بدمشق في حجلة القباب عند باب الجامع القبلي، ولي الموسم أيام أخيه الوليد، وغزا الروم غزوات وحاصر القسطنطينية، وولاه أخوه يزيد إمرة العراقين، ثم عزله وتولى أرمينية.
وروى الحديث عن عمر بن عبد العزيز، وعنه عبد الملك بن أبي عثمان، وعبيد الله بن قزعة، وعيينة والد سفيان بن عيينة وابن أبي عمران، ومعاوية بن خديج، ويحيى بن يحيى الغساني.
قال الزبير بن بكار: كان مسلمة من رجال بني أمية، وكان يلقب بالجرادة الصفراء، وله آثار كثيرة، وحروب ونكاية في العدو من الروم وغيرهم.
قلت: وقد فتح حصونا كثيرة من بلاد الروم.
ولما ولي أرمينية غزا الترك فبلغ باب الابواب فهدم المدينة التي عنده، ثم أعاد بناءها بعد تسع سنين.
وفي سنة ثمان وتسعين غزا القسطنطينية فحاصرها وافتتح مدينة الصقالبة، وكسر ملكهم البرجان، ثم عاد إلى محاصرة القسطنطينية.
قال الاوزاعي: فأخذه وهو يغازيهم صداع عظيم في رأسه، فبعث ملك الروم إليه بقلنسوة وقال: ضعها على رأسك يذهب صداعك، فخشي أن تكون مكيدة فوضعها على رأس بهيمة فلم ير إلا خيرا، ثم وضعها على رأس بعض أصحابه فلم ير إلا خيرا، فوضعها على رأسه فذهب صداعه، ففتقها فإذا فيها سبعون سطرا هذه الآية (إن الله يمسك السموات والارض أن تزولا) [ فاطر: 41 ] الآية مكررة لا غير، رواه ابن عساكر.

وقد لقي مسلمة في حصاره القسطنطينية شدة عظيمة، وجاع المسلمون عندها جوعا شديدا، فلما ولي عمر بن عبد العزيز أرسل إليهم البريد يأمرهم بالرجوع إلى الشام، فحلف مسلمة أن لا يقلع عنهم حتى يبنوا له جامعا كبيرا بالقسطنطينية، فبنوا له جامعا ومنارة، فهو بها إلى الآن يصلي فيه
المسلمون الجمعة والجماعة، قلت: وهي آخر ما يفتحه المسلمون قبل خروج الدجال في آخر الزمان، كما سنورده في الملاحم والفتن من كتابنا هذا إن شاء الله.
ونذكر الاحاديث الواردة في ذلك هناك، وبالجملة كانت لمسلمة مواقف مشهورة، ومساعي مشكورة، وغزوات متتالية منثورة، وقد افتتح حصونا وقلاعا، وأحيا بعزمه قصورا وبقاعا، وكان في زمانه في الغزوات نظير خالد بن الوليد في أيامه، في كثرة مغازيه، وكثرة فتوحه، وقوة عزمه، وشده بأسه، وجودة تصرفه في نقضه وإبرامه.
وهذا مع الكرم والفصاحة، وقال يوما لنصيب الشاعر: سلني، قال: لا، قال: ولم ؟ قال: لان كفك بالجزيل أكثر من مسألتي باللسان.
فأعطاه ألف دينار.
وقال أيضا: الانبياء لا يتنابون كما يتناب الناس من ناب نبي قط وقد أوصى بثلث ماله لاهل الادب، وقال: إنها صنعة جحف أهلها.
وقال الوليد بن مسلم وغيره: توفي يوم الاربعاء لسبع مضين من المحرم سنة إحدى وعشرين ومائة، وقيل في سنة عشرين ومائة، وكانت وفاته بموضع يقال له الحانوت، وقد رثاه بعضهم، وهو ابن أخيه الوليد بن يزيد بن عبد الملك فقال: أقول وما العبد إلا الردى * أمسلم لا تبعدن مسلمه فقد كنت نورا لنا في البلاد * مضيئا فقد أصبحت مظلمه ونكتم موتك نخشى اليقين * فأبدى اليقين لنا الجمجه نمير بن قيس (1) الاشعري قاضي دمشق، تابعي جليل، روى عن حذيفة مرسلا وأبي موسى مرسلا وأبي الدرداء وعن معاوية مرسلا وغير واحد من التابعين، وحدث عنه جماعة كثيرون، منهم الاوزاعي وسعيد بن عبد العزيز ويحيى بن الحارث الذماري.
ولاه هشام بن عبد الملك القضاء بدمشق بعد عبد الرحمن بن الخشخاش العذري، ثم استعفى هشاما فعفاه وولى مكانه يزيد بن عبد الرحمن بن أبي ملك.
وكان نمير هذا لا يحكم باليمين مع الشاهد، وكان يقول: الادب من الآباء، والصلاح من الله.
قال غير واحد: توفي سنة إحدى وعشرين ومائة، وقيل سنة ثنتين وعشرين ومائة، وقيل سنة خمس عشرة ومائة، وهو غريب والله سبحانه أعلم.
__________
(1) في طبقات ابن سعد 7 / 456: أوس.

ثم دخلت سنة ثنتين وعشرين ومائة ففيها كان مقتل زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وكان سبب ذلك أنه لما أخذ البيعة ممن بايعه من أهل الكوفة، أمرهم في أول هذه السنة بالخروج والتأهب له، فشرعوا في أخذ الاهبة لذلك.
فانطلق رجل يقال له سليمان بن سراقة إلى يوسف بن عمر نائب العراق فأخبره - وهو بالحيرة يومئذ - خبر زيد بن علي هذا ومن معه من أهل الكوفة، فبعث يوسف بن عمر يتطلبه ويلح في طلبه، فلما علمت الشيعة ذلك اجتمعو عند زيد بن علي فقالوا له: ما قولك يرحمك الله في أبي بكر وعمر ؟ فقال: غفر الله لهما، ما سمعت أحدا من أهل بيتي تبرأ منهما، وأنا لا أقول فيها إلا خيرا، قالوا: فلم تطلب إذا بدم أهل البيت ؟ فقال: إنا كنا أحق الناس بهذا الامر، ولكن القوم استأثروا علينا به ودفعونا عنه، ولم يبلغ ذلك عندنا بهم كفرا، قد ولوا فعدلوا، وعملوا بالكتاب والسنة.
قالوا: فلم تقاتل هؤلاء إذا ؟ قال: إن هؤلاء ليسوا كأولئك، إن هؤلاء ظلموا الناس وظلموا أنفسهم، وإني أدعو إلى كتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وسلم)، وإحياء السنن وإماتة البدع، فإن تسمعوا يكن خيرا لكم ولي، وإن تابوا فلست عليكم بوكيل.
فرفضوه وانصرفوا عنه ونقضوا بيعته وتركوه، فلهذا سموا الرافضة من يومئذ، ومن تابعه من الناس على قوله سموا الزيدية، وغالب أهل الكوفة منهم رافضة، وغالب أهل مكة إلى اليوم على مذهب الزيدية، وفي مذهبم حق، وهو تعديل الشيخين، وباطل وهو اعتقاد تقديم علي عليهما، وليس علي مقدما عليهما، بل ولا عثمان على أصح قولي أهل السنة الثابتة، والآثار الصحيحة الثابتة عن الصحابة، وقد ذكرنا ذلك في سيرة أبي بكر وعمر فيما تقدم.
ثم إن زيدا عزم على الخروج بمن بقي معه من أصحابه، فواعدهم ليلة الاربعاء من مستهل صفر من هذه السنة.
فبلغ ذلك يوسف بن عمر، فكتب إلى نائبه على الكوفة وهو الحكم بن الصلت يأمره بجمع الناس كلهم في المسجد الجامع، فجمع الناس لذلك في يوم الثلاثاء سلخ المحرم، قبل خروج زيد بيوم، وخرج زيد ليلة الاربعاء في برد شديد، ورفع أصحابه النيران،
وجعلوا ينادون يا منصور يا منصور، فلما طلع الفجر إذا قد اجتمع معه مائتان وثمانية عشر (1) رجلا، فجعل زيد يقول: سبحان الله ! ! أين الناس ؟ فقيل: هم في المسجد محصورون.
وكتب الحكم إلى يوسف يعلمه بخروج زيد بن علي، فبعث إليه سرية إلى الكوفة، وركبت الجيوش مع نائب الكوفة، وجاء يوسف بن عمر أيضا في طائفة كبيرة من الناس، فالتقى بمن معه جرثومة منهم فيهن خمسمائة فارس، ثم أتى الكناسة فحمل على جمع من أهل الشام فهزمهم، ثم اجتاز بيوسف بن عمر وهو واقف فوق تل، وزيد في مائتي فارس ولو قصد يوسف بن عمر لقتله، ولكن أخذ ذات اليمين، وكلما لقي طائفة هزمهم، وجعل أصحابه ينادون: يا أهل الكوفة اخرجوا إلى الدين والعز والدنيا،
__________
(1) في ابن الاعثم 8 / 118: مائتان وعشرون رجلا.

فإنكم لستم في دين ولا عز ولا دنيا، ثم لما أمسوا انضاف إليه جماعة من أهل الكوفة، وقد قتل بعض أصحابه في أول يوم، فلما كان اليوم الثاني اقتتل هو وطائفة من أهل الشام فقتل منهم سبعين رجلا، وانصرفوا عنه بشر حال، وأمسوا فعبأ يوسف بن عمر جيشه جدا، ثم أصبحوا فالتقوا مع زيد فكشفهم حتى أخرجهم إلى السبخة، ثم شد عليهم حتى أخرجهم إلى بني سليم، ثم تبعهم في خيله ورجله حتى أخذوا على الساه (1)، ثم اقتتلوا هناك قتالا شديدا جدا، حتى كان جنح الليل رمي زيد بسهم فأصاب جانب جبهته اليسرى، فوصل إلى دماغه، فرجع ورجع أصحابه، ولا يظن أهل الشام أنهم رجعوا إلا لاجل المساء والليل، وأدخل زيد في دار في سكة البريد، وجئ بطبيب فانتزع ذلك السهم من جبهته، فما عدا أن انتزعه حتى مات من ساعته رحمه الله.
فاختلف أصحابه أين يدفنونه، فقال بعضهم: ألبسوه درعه وألقوه في الماء، وقال بعضهم: احتزوا رأسه وأتركوا جثته في القتلى، فقال ابنه: لا والله لا تأكل أبي الكلاب.
وقال بعضهم: أدفنوه في العباسية، وقال بعضهم: أدفنوه في الحفرة التي يؤخذ منها الطين (2)، ففعلوا ذلك وأجروا على قبره الماء لئلا يعرف، وانفتل أصحابه حيث لم يبق لهم رأس يقاتلون به، فما أصبح الفجر ولهم قائمة ينهضون بها، وتتبع يوسف بن عمر الجرحى هل يجد زيدا بينهم، وجاء مولى لزيد سندي قد شهد
دفنه فدل على قبره فأخذ من قبره، فأمر يوسف بن عمر بصلبه على خشبة بالكناسة، ومعه نضر بن خزيمة ومعاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة الانصاري، وزياد النهدي، ويقال إن زيدا مكث مصلوبا أربع سنين، ثم أنزل بعد ذلك وأحرق فالله أعلم.
وقد ذكر أبو جعفر بن جرير الطبري: أن يوسف بن عمر لم يعلم بشئ من ذلك حتى كتب له هشام بن عبد الملك: إنك لغافل، وإن زيد بن علي غارز ذنبه بالكوفة يبايع له، فألح في طلبه واعطه الامان، وإن لم يقبل فقاتله، فتطلبه يوسف حتى كان من أمره ما تقدم، فلما ظهر على قبره حز رأسه وبعثه إلى هشام، وقام من بعده الوليد بن يزيد فأمر به فأنزل وحرق في أيامه قبح الله الوليد بن يزيد.
فأما ابنه يحيى بن زيد بن علي فاستجار بعبد الملك بن بشر بن مروان، فبعث إليه يوسف بن عمر يتهدده حتى يحضره، فقال له عبد الملك بن بشر: ما كنت لآوي مثل هذا الرجل وهو عدونا وابن عدونا.
فصدقه يوسف بن عمر في ذلك، ولما هدأ الطلب عنه سيره إلى خراسان فخرج يحيى بن زيد في جماعة من الزيدية إلى خراسان فأقاموا بها هذه المدة.
قال أبو مخنف: ولما قتل زيد خطب يوسف بن عمر أهل الكوفة فتهددهم وتوعدهم وشتمهم
__________
(1) في الطبري 8 / 275: المسناة.
(2) في ابن الاعثم 8 / 122: دفن في السبخة.
وفي مروج الذهب 3 / 251: دفن في ساقية ماء وجعلوا على قبره التراب والحشيش وأجري الماء على ذلك.

وقال لهم فيما قال: والله لقد استأذنت أمير المؤمنين في قتل خلق منكم، ولو أذن لي لقتلت مقاتلتكم وسبيت ذراريكم، وما صعدت لهذا المنبر إلا لاسمعكم ما تكرهون.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة قتل عبد الله البطال في جماعة من المسلمين بأرض الروم، ولم يزد ابن جرير على هذا، وقد ذكر هذا الرجل الحافظ ابن عساكر في تاريخه الكبير فقال: عبد الله أبويحيى المعروف بالبطال كان ينزل إنطاكية، حكى عنه أبو مروان الانطاكي، ثم روى باسناده أن عبد الملك بن مروان
حين عقد لابنه مسلمة على غزو بلاد الروم، ولى على رؤساء أهل الجزيرة والشام البطال، وقال لابنه: سيره على طلائعك، وأمره فليعس بالليل العسكر، فإنه أمين ثقة مقدام شجاع.
وخرج معهم عبد الملك يشيعهم إلى باب دمشق.
قال: فقدم مسلمة البطال على عشرة آلاف يكونون بين يديه ترسا من الروم أن يصلوا إلى جيش المسلمين.
قال محمد بن عائذ الدمشقي: ثنا الوليد بن مسلمة حدثني أبو مروان - شيخ من أهل إنطاكية - قال: كنت أغازي مع البطال وقد أوطأ الروم ذلا، قال البطال فسألني بعض ولاة بني أمية عن أعجب ما كان من أمري في مغازي فيهم، فقلت له: خرجت في سرية ليلا فدفعنا إلى قرية فقلت لاصحابي: ارخوا لجم خيلكم ولا تحركوا أحدا بقتل ولا بشئ حتى تستمكنوا من القرية ومن سكانها، ففعلوا وافترقوا في أزقتها، فدفعت في أناس من أصحابي إلى بيت يزهر سراجه، وإذا امرأة تسكت ابنها من بكائه، وهي تقول له: لتسكتن أو لادفعنك إلى البطال يذهب بك، وانتشلته من سريره وقالت: خذه يا بطال، قال: فأخذته.
وروى محمد بن عائذ، عن الوليد بن مسلم، عن أبي مروان الانطاكي عن البطال قال: انفردت مرة ليس معي أحد من الجند، وقد سمطت خلفي مخلاة فيها شعير، ومعي منديل فيه خبز وشواء، فبينا أنا أسير لعلي ألقى أحدا منفردا، أو أطلع على خبر، إذا أنا ببستان فيه بقول حسنة، فنزلت وأكلت من ذلك البقل بالخبز والشواء مع النقل، فأخذني إسهال عظيم قمت منه مرارا، فخفت أن أضعف من كثرة الاسهال، فركبت فرسي والاسهال مستمر على حاله، وجعلت أخشى إن أنا نزلت عن فرسي أن أضعف عن الركوب، وأفرط بي الاسهال في السير حتى خشيت أن أسقط من الضعف، فأخذت بعنان الفرس ونمت على وجهي لا أدري أين يسير الفرس بي، فلم أشعر إلا بقرع نعاله على بلاط، فأرفع رأسي فإذا دير، وإذا قد خرج منه نسوة صحبة امرأة حسناء جميلة جدا، فجعلت تقول بلسانها: أنزلنه، فأنزلنني فغسلن عني ثيابي وسرجي وفرسي، ووضعنني على سرير وعملن لي طعاما وشرابا، فمكثت يوما وليلة مستويا، ثم أقمت بقية ثلاثة أيام حتى ترد إلي حالي، فبينا أنا كذلك إذا أقبل البطريق وهو يريد أن يتزوجها، فأمرت بفرسي فحول وعلق على الباب الذي أنا فيه، وإذا هو بطريق كبير فيهم، وهو إنما جاء لخطبتها، فأخبره من كان هنالك بأن هذا البيت فيه
رجل وله فرس، فهم بالهجوم علي فمنعته المرأة من ذلك، وأرسلت تقول له: إن فتح عليه الباب لم

أقض حاجته، فثناه ذلك عن الهجوم علي، وأقام البطريق إلى آخر النهار في ضيافتهم، ثم ركب فرسه وركب معه أصحابه وانطلق.
قال البطال: فنهضت في أثرهم فهمت أن تمنعني خوفا علي منهم فلم أقبل، وسقت حتى لحقتهم، فحملت عليه فانفرج عنه أصحابه، وأراد الفرار فألحقه فأضرب عنقه واستلبته وأخذت رأسه مسمطا على فرسي، ورجعت إلى الدير، فخرجن إلي ووقفن بين يدي، فقلت: اركبن، فركبن ما هنالك من الدواب وسقت بهن حتى أتيت أمير الجيش فدفعتهن إليه، فنفلني ما شئت منهن، فأخذت تلك المرأة الحسناء بعينها، فهي أم أولادي.
والبطريق في لغة ؟ مبارة عن الامير الكبير فيهم، وكان أبوها بطريقا كبيرا فيهم - يعني تلك المرأة - وكان البطال بعد ذلك يكاتب أباها ويهاديه.
وذكر أن عبد الملك بن مروان لما ولاه المصيصة بعث البطال سرية إلى أرض الروم، فغاب عنه خبرهم فلم يدر ما صنعوا، فركب بنفسه وحده على فرس له وسار حتى وصل عمورية، فطرق بابها ليلا فقال له البواب: من هذا ؟ قال البطال: فقلت أنا سياف الملك ورسوله إلى البطريق، فأخذ لي طريقا إليه، فلما دخلت عليه إذا هو جالس على سرير فجلست معه على السرير إلى جانبه، ثم قلت له: إني قد جئتك في رسالة فمر هؤلاء فلينصرفوا، فأمر من عنده فذهبوا، قال: ثم قام فأغلق باب الكنيسة علي وعليه، ثم جاء فجلس مكانه، فاخترطت سيفي وضربت به رأسه صفحا وقلت له: أنا البطال فأصدقني عن السرية التي أرسلتها إلى بلادك وإلا ضربت عنقك الساعة، فأخبرني ما خبرها، فقال: هم في بلادي ينتهبون ما تهيأ لهم، وهذا كتاب قد جاءني يخبر أنهم في وادي كذا وكذا، والله لقد صدقتك.
فقلت: هات الامان، فأعطاني الامان، فقلت: إيتني بطعام، فأمر أصحابه فجاؤوا بطعام فوضع لي، فأكلت فقمت لانصرف فقال لاصحابه: اخرجوا بين يدي رسول الملك فانطلقوا يتعادون بين يدي، وانطلقت إلى ذلك الوادي الذي ذكر فإذا أصحابي هنالك، فأخذتهم ورجعت إلى المصيصة.
فهذا أغرب ما جرى.
قال الوليد: وأخبرني بعض شيوخنا أنه رأى البطال وهو قافل من حجته، وكان قد شغل بالجهاد عن الحج، وكان يسأل الله دائما الحج ثم الشهادة، فلم يتمكن من حجة الاسلام إلا في السنة التي استشهد فيها رحمه الله تعالى، وكان سبب شهادته أن ليون ملك الروم خرج من القسطنطينية في مائة ألف فارس، فبعث البطريق - الذي البطال متزوج بابنته التي ذكرنا أمرها - إلى البطال يخبره بذلك، فأخبر البطال أمير عساكر المسلمين بذلك، وكان الامير مالك بن شبيب، وقال له: المصلحة تقتضي أن نتحصن في مدينة حران، فنكون بها حتى يقدم علينا سليمان بن هشام في الجيوش الاسلامية، فأبى عليه ذلك ودهمهم الجيش، فاقتتلوا قتالا شديدا والابطال تحوم بين يدي البطال ولا يتجاسر أحد أن ينوه باسمه خوفا عليه من الروم، فاتفق أن ناداه بعضهم وذكر اسمه غلطا منه، فلما سمع ذلك فرسان الروم حملوا عليه حملة واحدة، فاقتلعوه من سرجه برماحهم فألقوه إلى

الارض، ورأى الناس يقتلون ويأسرون، وقتل الامير الكبير مالك بن شبيب، وانكسر المسلمون وانطلقوا إلى تلك المدينة الخراب فتحصنوا فيها، وأصبح إليون فوقف على مكان المعركة فإذا البطال بآخر رمق فقال له ليون: ما هذا يا أبا يحيى ؟ فقال: هكذا تقتل الابطال، فاستدعى ليون بالاطباء ليداووه فإذا جراحه قد وصلت إلى مقاتله، فقال له ليون: هل من حاجة يا أبا يحيى ؟ قال: نعم، فأمر من معك من المسلمين أن يلوا غسلي والصلاة علي ودفني، ففعل الملك ذلك وأطلق لاجل ذلك أولئك الاسارى، وانطلق ليون إلى جيش المسلمين الذين تحصنوا فحاصرهم، فبينما هم في تلك الشدة والحصار إذ جاءتهم البرد بقدوم سليمان بن هشام في الجيوش الاسلامية، ففر ليون في جيشه الخبيث هاربا راجعا إلى بلاده، قبحه الله، فدخل القسطنطينية وتحصن بها.
قال خليفة بن خياط: كانت وفاة البطال ومقتله بأرض الروم في سنة إحدى وعشرين ومائة، وقال ابن جرير: في سنة ثنتين وعشرين ومائة، وقال ابن حسان الزيادي: قتل في سنة ثلاث عشرة ومائة، قيل وقد قاله غيره وإنه قتل هو والامير عبد الوهاب بن بخت في سنة ثلاث عشرة ومائة كما ذكرنا ذلك فالله أعلم، ولكن ابن جرير لم يؤرخ وفاته إلا في هذه السنة فالله أعلم.
قلت: فهذا ملخص ابن عساكر في ترجمة البطال مع تفصيله للاخبار واطلاعه عليها، وأما ما يذكره العامة عن البطال من السيرة المنسوبة إلى دلهمة والبطال والامير عبد الوهاب والقاضي عقبة، فكذب وافتراء ووضع بارد، وجهل وتخبط فاحش، لا يروج ذلك إلا على غبي أو جاهل ردي.
كما يروج عليهم سيرة عنترة العبسي المكذوبة، وكذلك سيرة البكري والدنف وغير ذلك، والكذب المفتعل في سيرة البكري أشد إثما وأعظم جرما من غيرها، لان واضعها يدخل في قول النبي (صلى الله عليه وسلم): " من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ".
وممن توفي في هذه السنة من الاعيان: أياس الذكي (1) وهو إياس بن معاوية بن مرة (2) بن إياس بن هلال بن رباب (3) بن عبيد بن دريد بن أوس بن سواه بن عمرو بن سارية بن ثعلبة بن ذبيان بن ثعلبة بن أوس بن عثمان بن عمرو بن أد بن طابخة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، هكذا نسبه خليفة بن خياط، وقيل غير ذلك
__________
(1) ترجمته في حلية الاولياء 3 / 123 الاذكياء لابن الجوزي 1 / 113 ميزان الاعتدال 1 / 283 وفيات الاعيان: 1 / 247 المعارف لابن قتيبة: 467 واخباره منثورة في البيان والتبيين والحيوان والكامل للمبرد والعقد الفريد وغيرها.
(2) في وفيات الاعيان 1 / 247: قرة.
(3) في ابن سعد 7 / 234: رئاب بن عبيد سواءة بن سارية بن ذبيان بن ثعلبة بن سليم بن أوس بن مزينة.

في نسبه، وهو أبو واثلة المزني قاضي البصرة، وهو تابعي ولجده صحبة، وكان يضرب المثل بذكائه.
روى عن أبيه عن جده مرفوعا في الحياء عن أنس وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب ونافع وأبي مجلز، وعنه الحمادان وشعبة والاصمعي وغيرهم.
قال عنه محمد بن سيرين: إنه لفهم إنه لفهم، وقال محمد بن سعد والعجلي وابن معين والنسائي: ثقة.
زاد بن سعد وكان عاقلا من الرجال فطنا، وزاد العجلي وكان فقيها عفيفا، وقدم دمشق في أيام عبد الملك بن مروان، ووفد على عمر بن عبد العزيز، ومرة أخرى حين عزله عدي بن أرطأة عن قضاء البصرة.
قال أبو عبيدة وغيره: تحاكم
إياس وهو صبي شاب وشيخ إلى قاضي عبد الملك بن مروان بدمشق، فقال له القاضي: إنه شيخ وأنت شاب فلا تساوه في الكلام، فقال إياس: إن كان كبيرا فالحق أكبر منه، فقال له القاضي: اسكت، فقال: ومن يتكلم بحجتي إذا سكت ؟ فقال القاضي: ما أحسبك تنطق بحق في مجلسي هذا حتى تقوم، فقال إياس: أشهد أن لا إله إلا الله، زاد غيره فقال القاضي: ما أظنك إلا ظالما له، فقال: ما على ظن القاضي خرجت من منزلي.
فقام القاضي فدخل على عبد الملك فأخبره خبره فقال: اقض حاجته واخرجه الساعة من دمشق لا يفسد على الناس.
وقال بعضهم: لما عزله عدي بن أرطاة عن قضاء البصرة فرمنه إلى عمر بن عبد العزيز فوجده قد مات، فكان يجلس في حلقة في جامع دمشق، فتكلم رجل من بني أمية فرد عليه إياس، فأغلظ له الاموى فقام إياس، فقيل للاموي: هذا إياس بن معاوية المزني، فلما عاد من الغد اعتذر له الاموي وقال: لم أعرفك، وقد جلست إلينا بثياب السوقة وكلمتنا بكلام الاشراف فلم نحتمل ذلك.
وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا نعيم بن حماد، ثنا ضمرة، عن أبي شوذب قال: كان يقال يولد في كل مائة سنة رجل تام العقل، فكانوا يرون أن إياس بن معاوية منهم.
وقال العجلي: دخل على إياس ثلاث نسوة فلما رآهن قال: أما إحداهن فمرضع، والاخرى بكر، والاخرى ثيب، فقيل له بم علمت هذا ؟ فقال: أما المرضع فكلما قعدت أمسكت ثديها بيدها، وأما البكر فكلما دخلت لم تلتفت إلى أحد، وأما الثيب فكلما دخلت نظرت ورمت بعينها.
وقال يونس بن صعلب.
ثنا الاحنف بن حكيم بأصبهان، ثنا حماد بن سلمة، سمعت إياس بن معاوية يقول: أعرف الليلة التي ولدت فيها، وضعت أمي على رأسي جفنة.
وقال المدائني: قال إياس بن معاوية لامه: ما شئ سمعته وأنت حامل بي وله جلبة شديدة ؟ قالت: ذاك طست من نحاس سقط من فوق الدار إلى أسفل، ففزعت فوضعتك تلك الساعة.
وقال أبو بكر الخرائطي عن عمر بن شيبة النميري قال: بلغني أن إياسا قال: ما يسرني أن أكذب كذبة يطلع عليها أبي معاوية.
وقال: ما خاصمت أحدا من أهل الاهواء بعقلي كله إلا القدرية، قلت لهم أخبروني عن الظلم ما
هو ؟ قالوا: أخذ الانسان ما ليس له، قلت: فإن الله له كل شئ قال بعضهم عن إياس قال:

كنت في الكتاب وأنا صبي فجعل أولاد النصارى يضحكون من المسلمين ويقولون: إنهم يزعمون أنه لا فضلة لطعام أهل الجنة، فقلت للفقيه - وكان نصرانيا (1): ألست تزعم أن في الطعام ما ينصرف في غذاء البدن ؟ قال: بلى، قلت فما ينكر أن يجعل الله طعام أهل الجنة كله غذاء لابدانهم ؟ فقال له معلمه: ما أنت إلا شيطان.
وهذا الذي قاله إياس وهو صغير بعقله قد ورد به الحديث الصحيح كما سنذكره إن شاء الله في أهل الجنة أن طعامهم ينصرف جشاء وعرقا كالمسك، فإذا البطن ضامر.
وقال سفيان: وحين قدم إياس واسط فجاءه ابن شبرمة بمسائل قد أعدها، فقال له: أتأذن لي أن أسألك ؟ قال: سل وقد ارتبت حين استأذنت، فسأله عن سبعين مسألة يجيبه فيها، ولم يختلفا إلا في أربع مسائل، رده إياس إلى قوله، ثم قال له إياس: أتقرأ القرآن ؟ قال: نعم ! قال أتحفظ قوله (اليوم أكملت لكم دينكم) ؟ [ المائدة: 3 ] قال: نعم ! قال: وما قبلها وما بعدها ؟ قال: نعم ! قال: فهل أبقت هذه الآية لآل شبرمة رأيا ؟ وقال عباس بن يحيى بن معين: حدثنا سعيد بن عامر بن عمر بن علي قال: قال رجل لاياس بن معاوية: يا أبا واثلة حتى متى يبقى الناس ؟ وحتى متى يتوالد الناس ويموتون ؟ فقال لجلسائه: أجيبوه فلم يكن عندهم جواب، فقال إياس: حتى تتكامل العدتان، عدة أهل الجنة، وعدة أهل النار.
وقال بعضهم: اكترى إياس بن معاوية بن الشام قاصدا الحج، فركب معه في المحارة غيلان القدري، ولا يعرف أحدهما صاحبه، فمكثا ثلاثا لا يكلم أحدهما الآخر، فلما كان بعد ثلاث تحادثا فتعارفا وتعجب كل واحد منهما من اجتماعه مع صاحبه، لمباينة ما بينهما في الاعتقاد في القدر، فقال له إياس: هؤلاء أهل الجنة يقولون حين يدخلون الجنة: (الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لو لا أن هدانا الله) [ الاعراف: 43 ] ويقول أهل النار (ربنا غلبت علينا شقوتنا) [ المؤمنون: 106 ] وتقول الملائكة (سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا)
[ البقرة: 32 ] ثم ذكر له من أشعار العرب وأمثال العجم ما فيه من إثبات القدر ثم اجتمع مرة أخرى إياس وغيلان عند عمر بن عبد العزيز فناظر بينهما فقهره إياس، وما زال يحصره في الكلام حتى اعترف غيلان بالعجز وأظهر التوبة، فدعا عليه عمر بن عبد العزيز إن كان كاذبا، فاستجاب الله منه فأمكن من غيلان فقتل وصلب بعد ذلك ولله الحمد والمنة.
ومن كلام إياس الحسن: لان يكون في فعال الرجل فضل عن مقاله خير من أن يكون في مقاله فضل عن فعاله.
وقال سفيان بن حسين: ذكرت رجلا بسوء عن إياس بن معاوية فنظر في وجهي وقال: أغزوت الروم ؟ قلت: لا ! قال: السند والهند والترك، قلت: لا.
قال: أفسلم منك
__________
(1) الخبر في وفيات الاعيان 1 / 248 وفيه ان الفقيه كان يهوديا.

الروم والسند والهند والترك ولم يسلم منك أخوك المسلم ؟ قال: فلم أعد بعدها.
وقال الاصمعي عن أبيه: رأيت إياس بن معاوية في بيت ثابت البناني، وإذا هو أحمر طويل الذراع غليظ الثياب، يلون عمامته، وهو قد غلب على الكلام فلا يتكلم معه أحد إلا علاه، وقد قال له بعضهم: ليس فيك عيب سوى كثرة كلامك (1)، فقال: بحق أتكلم أم بباطل ؟ فقيل بل بحق، فقال: كلما كثر الحق فهو خير، ولامه بعضهم في لباسه الثياب الغليظة فقال: إنما ألبس ثوبا يخدمني ولا ألبس ثوبا أخدمه، وقال الاصمعي قال إياس بن معاوية: إن أشرف خصال الرجل صدق اللسان، ومن عدم فضيلة الصدق فقد فجع بأكرم أخلاقه.
وقال بعضهم: سأل رجل إياسا عن النبيذ فقال: هو حرام، فقال الرجل: فأخبرني عن الماء فقال: حلال، قال: فالكسور، قال: حلال، قال: فالتمر ؟ قال حلال، قال: فما باله إذا اجتمع حرم ؟ فقال إياس: أرأيت لو رميتك بهذه الحفنة من التراب أتوجعك ؟ قال: لا، قال: فهذه الحفنة من التبن ؟ قال لا توجعني، قال: فهذه الغرفة من الماء ؟ قال لا توجعني شيئا، قال: أفرأيت إن خلطت هذا بهذا وهذا بهذا حتى صار طينا ثم تركته حتى استحجر ثم رميتك أيوجعك ؟ قال: إي والله وتقتلني، قال: فكذلك تلك الاشياء إذا اجتمعت.
وقال المدائني: بعث عمر بن عبد العزيز عدي بن أرطاة على البصرة نائبا وأمره أن يجمع
بين إياس والقاسم بن ربيعة الجوشني (2)، فأيهما كان أفقه فليوله القضاء، فقال إياس وهو يريد أن لا يتولى: أيها الرجل سل فقيهي البصرة، الحسن وابن سيرين، وكان إياس لا يأتيهما، فعرف القاسم أنه إن سألهما أشارا به - يعني بالقاسم - لانه كان يأتيهما، فقال القاسم لعدي: والله الذي لا إله إلا هو إن إياسا أفضل مني وأفقه مني، وأعلم بالقضاء، فإن كنت صادقا فوله، وإن كنت كاذبا فما ينبغي أن تولي كاذبا القضاء.
فقال إياس: هذا رجل أوقف على شفير جهنم فافتدي منها بيمين كاذبة يستغفر الله، فقال عدي: أما إذ فطنت إلى هذا فقد وليتك القضاء.
فمكث سنة يفصل بين الناس ويصلح بينهم، وإذا تبين له الحق حكم به، ثم هرب إلى عمر بن عبد العزيز بدمشق فاستعفاه القضاء، فولى عدي بعده الحسن البصري.
قالوا: لما تولى إياس القضاء بالبصرة فرح به العلماء حتى قال أيوب: لقد رموها بحجرها، وجاءه الحسن وابن سيرين فسلما عليه، فبكى إياس وذكر الحديث (القضاة ثلاثة، قاضيان في النار وواحد في الجنة).
فقال الحسن (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث) إلى قوله (وكلا آتينا حكما علما) [ الانبياء: 78 - 79 ] قالوا: ثم جلس للناس في المسجد واجتمع عليه الناس للخصومات، فما قام حتى فصل سبعين قضية، حتى يشبه بشريح القاضي.
وروى أنه كان إذا أشكل عليه شئ بعث
__________
(1) الخبر في ابن سعد 7 / 234 وفيه: قال إياس: إن من لا يعرف عيبه أحمق، قالوا: يا أبا واثلة فما عيبك أنت ؟ قال: كثرة الكلام...(2) في وفيات الاعيان 1 / 249: الحرشي.

إلى محمد بن سيرين فسأله منه.
وقال إياس: إني لاكلم الناس بنصف عقلي، فإذا اختصم إلي اثنان جمعت لهما عقلي كله.
وقال له رجل: إنك لتعجب برأيك فقال: لولا ذلك لم أقض به، وقال له آخر: إن فيك خصالا لا تعجبني، فقال: ما هي ؟ فقال تحكم قبل أن تفهم، ولا تجالس كل أحد، وتلبس الثياب الغليظة.
فقال له: أيها أكثر الثلاثة أو الاثنان ؟ قال: الثلاثة.
فقال: ما أسرع ما فهمت وأجبت، فقال أو يجهل هذا أحد ؟ فقال: وكذلك ما أحكم أنا به، وأما مجالستي لكل أحد فلان
أجلس مع من يعرف لي قدري أحب إلي من أن أجلس مع من لا يعرف لي قدري، وأما الثياب الغلاظ فأنا ألبس منها ما يقيني لا ما أقيه أنا.
قالوا، وتحاكم إليه اثنان فادعى أحدهما عند الآخر مالا، وجحده الآخر، فقال إياس للمودع: أين أودعته ؟ قال: عند شجرة في بستان.
فقال: انطلق إليها فقف عندها لعلك تتذكر، وفي رواية أنه قال له: هل تستطيع أن تذهب إليها فتأتي بورق منها ؟ قال: نعم ! قال فانطلق، وجلس الآخر فجعل إياس يحكم بين الناس ويلاحظه، ثم استدعاه فقال له: أوصل صاحبك بعد إلى المكان ؟ فقال: لا بعد أصلحك الله.
فقال له: قم يا عدو الله فأد إليه حقه، وإلا جعلتك نكالا.
وجاء ذلك الرجل فقام معه فدفع إليه وديعته بكمالها.
وجاء آخر فقال له: إني أودعت عند فلان مالا وقد جحدني، فقال له: اذهب الآن وائتني غدا، وبعث من فوره إلى ذلك الرجل الجاحد فقال له: إنه قد اجتمع عندنا ههنا مال فلم نر له أمينا نضعه عنده إلا أنت، فضعه عندك في مكان حريز.
فقال له سمعا وطاعة، فقال له: اذهب الآن وائتني غدا، وأصبح ذلك الرجل صاحب الحق فجاء فقال له: اذهب الآن إليه فقل له أعطني حقي وإلا رفعتك إلى القاضي، فقال له ذلك فخاف أن لا يودع إذا سمع الحاكم خبره، فدفع إليه ماله بكماله، فجاء إلى إياس فأعلمه، ثم جاء ذلك الرجل من الغدر رجاء أن يودع فانتهره إياس وطرده وقال له: أنت خائن.
وتحاكم إليه اثنان في جارية فادعى المشتري أنها ضعيفة العقل، فقال لها إياس: أي رجليك أطول ؟ فقالت: هذه، فقال لها: أتذكرين ليلة ولدت ؟ فقالت نعم فقال للبائع ردرد.
وروى ابن عساكر أن إياسا سمع صوت امرأة من بيتها فقال: هذه امرأة حامل بصبي، فلما ولدت ولدت كما قال، فسئل بم عرفت ذلك ؟ قال: سمعت صوتها ونفسها معه فعلمت أنها حامل، وفي صوتها ضحل فعلمت أنه غلام.
قالوا ثم مر يوما ببعض المكاتب فإذا صبي هنالك فقال: إن كنت أدري شيئا فهذا الصبي ابن تلك المرأة، فإذا هو ابنها.
وقال مالك عن الزهري عن أبي بكر قال شهد رجل عند إياس فقال له: ما اسمك ؟ فقال أبو العنفر فلم يقبل شهادته.
وقال الثوري عن الاعمش: دعوني إلى إياس فإذا رجل كلما فرغ من حدث أخذ في آخر.
وقال إياس:
كل رجل لا يعرف عيب نفسه فهو أحمق، فقيل له: ما عيبك ؟ فقال كثرة الكلام.
قالوا: ولما ماتت أمه بكى عليها فقيل له في ذلك فقال: كان لي بابان مفتوحان إلى الجنة فغلق أحدهما.
وقال له أبوه:

إن الناس يلدون أبناء وولدت أنا أبا.
وكان أصحابه يجلسون حوله ويكتبون عنه الفراسة، فبينماهم حوله جلوس إذ نظر إلى رجل قد جاء فجلس على دكة حانوت، وجعل كلما مر أحد ينظر إليه، ثم قام فنظر في وجه رجل ثم عاد، فقال لاصحابه: هذا فقيه كتاب قد أبق له غلام أعور فهو يتطلبه، فقاموا إلى ذلك الرجل فسألوه فوجدوه كما قال إياس، فقالوا لاياس: من أين عرفت ذلك ؟ فقال: لما جلس على دكة الحانوت علمت أنه ذو ولاية، ثم نظرت فإذا هو لا يصلح إلا لفقهاء المكتب، ثم جعل ينظر إلى كل من مر به فعرفت أنه قد فقد غلاما، ثم لما قام فنظر إلى وجه ذلك الرجل من الجانب الآخر، عرفت أن غلامه أعور.
وقد أورد ابن خلكان أشياء كثيرة في ترجمته، من ذلك أنه شهد عنده رجل في بستان فقال له: كم عدد أشجاره ؟ فقال له: كم عدد جذوع هذا المجلس الذي أنت فيه من مدة سنين ؟ فقلت: لا أدري وأقررت شهادته.
ثم دخلت سنه ثلاث عشرين ومائة ذكر المدائني عن شيوخه: أن خاقان ملك الترك لما قتل في ولاية أسد بن عبد الله القسري على خراسان، تفرق شمل الاتراك، وجعل بعضهم يغير على بعض، وبعضهم يقتل بعضا، حتى كادت أن تخرب بلادهم، واشتغلوا عن المسلمين.
وفيها سأل أهل الصغد من أمير خراسان نصر بن سيار أن يردهم إلى بلادهم، وسألوه شروطا أنكرها العلماء، منها أن لا يعاقب من ارتد منهم عن الاسلام، ولا يؤخذ أسير المسلمين منهم، وغير ذلك، فأراد أن يوافقهم على ذلك لشدة نكايتهم في المسلمين، فعاب عليه الناس ذلك، فكتب إلى هشام في ذلك فتوقف، ثم لما رأى أن هؤلاء إذا استمروا على معاندتهم للمسلمين كان ضررهم أشد، أجابهم إلى ذلك، وقد بعث يوسف بن عمر أمير العراق وفدا إلى أمير المؤمنين يسأل منه أن يضم إليه نيابة خراسان، وتكلموا في نصر بن سيار بأنه وإن كان شهما شجاعا، إلا أنه قد كبر وضعف بصره فلا يعرف الرجل إلا من قريب بصوته،
وتكلموا فيه كلاما كثيرا، فلم يلتفت إلى ذلك هشام، واستمر به على إمرة خراسان وولايتها.
قال ابن جرير: وحج بالناس فيها يزيد بن هشام بن عبد الملك، والعمال فيها من تقدم ذكرهم في التي قبلها.
وتوفي في هذه السنة ربيعة بن يزيد القصير من أهل دمشق، وأبو يونس سليمان بن جبير، وسماك بن حرب، ومحمد بن واسع بن حيان (1)، وقد ذكرنا تراجمهم في كتابنا التكميل ولله الحمد.
قال محمد بن واسع: أول من يدعى يوم القيامة إلى الحساب القضاة.
وقال: خمس خصال
__________
(1) في طبقات ابن سعد 7 / 241: هو محمد بن واسع بن جابر بن الاخنس بن عابد بن خارجة بن زياد بن شمس من ولد عمرو بن نصر بن الازد.
وكان يكنى أبا عبد الله.
له ترجمة في تاريخ الاسلام للذهبي 5 / 159 وتهذيب التهذيب 9 / 499.

تميت القلب: الذنب على الذنب، ومجالسة الموتى، قيل له: ومن الموتى ؟ قال: كل غني عرف، وسلطان جائر.
وكثرة مشاقة النساء، وحديثهن، ومخالطة أهله.
وقال مالك بن دينار: إني لاغبط الرجل يكون عيشه كفافا فيقنع به.
فقال محمد بن واسع: أغبط منه والله عندي من يصبح جائعا وهو عن الله راض.
وقال: ما آسي عن الدنيا إلا على ثلاث: صاحب إذا اعوججت قومني، وصلاة في جماعة يحمل عني سهوها وأفوز بفضلها، وقوت من الدنيا ليس لاحد فيه منة، ولا لله علي فيه تبعة.
وروى رواد بن الربيع قال: رأيت محمد بن واسع بسوق بزور وهو يعرض حمارا له للبيع، فقال له رجل: أترضاه لي ؟ فقال له رضيته لم أبعه.
ولما ثقل محمد بن واسع كثر عليه الناس في العيادة، قال بعض أصحابه: فدخلت عليه فإذا قوم قعود وقوم قيام، فقال: ماذا يعني هؤلاء عني إذا أخذ بناصيتي وقدمي غدا وألقيت في النار ؟ ! وبعث بعض الخلفاء مالا مستكثرا إلى البصرة ليفرق في فقراء أهلها، وأمر أن يدفع إلى محمد بن واسع منه فلم يقلبه ولم يلتمس منه شيئا، وأما مالك بن دينار فإنه قبل ما أمر له به، واشترى به أرقاء وأعتقهم ولم يأخذ لنفسه منه شيئا، فجاءه محمد بن واسع يلومه على قبوله جوائز السلطان.
فقال
له: يا مالك قبلت جوائز السلطان ؟ فقال له مالك: يا أبا عبد الله ! سل أصحابي ماذا فعلت منه، فقالوا له: إنه اشترى به أرقاء وأعتقهم، فقال له: سألتك بالله أقلبك الآن لهم مثل ما كان قبل أن يصلوك.
فقام مالك وحثى على رأسه التراب وقال: إنما يعرف الله محمد بن واسع، إنما مالك حمار إنما مالك حمار، وكلام محمد بن واسع كثير جدا رحمه الله.
ثم دخلت سنة أربع وعشرين ومائة فيها غزا سليمان بن هشام بن عبد الملك بلاد الروم فلقي ملك الروم إليون فقاتله فسلم سليمان وغنم.
وفيها قدم جماعة من دعاة (1) بني العباس من بلاد خراسان قاصدين إلى مكة فمروا بالكوفة (2) فبلغهم أن في السجن جماعة من الامراء من نواب خالد القسري، قد حبسهم يوسف بن عمر، فاجتمعوا بهم في السجن فدعوهم إلى البيعة لبني العباس، وإذا عندهم من ذلك جانب كبير، فقبلوا منهم ووجدوا عندهم في السجن أبا مسلم الخراساني، وهو إذ ذاك غلام يخدم عيسى بن معقل (3) العجلي، وكان محبوسا فأعجبهم شهامته وقوته واستجابته مع مولاه إلى هذا الامر، فاشتراه بكر بن
__________
(1) في الاخبار الطوال ص 337 ذكرهم: سليمان بن كثير، ومالك بن الهيثم ولاهز بن قرط وقحطبة بن شبيب.
(انظر ابن الاثير 5 / 254).
(2) في الاخبار الطوال: بواسط.
(3) من الطبري 8 / 283 وابن الاثير 5 / 255 والاخبار الطوال ص 337.
وفي الاصل " مقبل " تحريف.

ماهان منه بأربعمائة درهم (1) وخرجوا به معهم فاستندبوه لهذا الامر، فكانوا لا يوجهونه إلى مكان إلا ذهب ونتج ما يوجهونه إليه، ثم كان من أمره ما سنذكره إن شاء الله تعالى فيما بعد.
قال الواقدي: ومات في هذه السنة محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وهو الذي يدعو إليه دعاة بني العباس، فقام مقامه ولده أبو العباس السفاح، والصحيح أنه إنما توفي في التي بعدها.
قال الواقدي وأبو معشر: وحج بالناس فيها عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك، ومعه امرأته أم مسلم (2) بن هشام بن عبد الملك، وقيل إنما حج بالناس محمد بن هشام بن إسماعيل قاله الواقدي، والاول ذكره
ابن جرير والله أعلم.
وكان نائب الحجاز محمد بن هشام بن إسماعيل يقف على باب أم مسلم (2) ويهدي إليها الالطاف والتحف ويعتذر إليها من التقصير، وهي لا تلتفت إلى ذلك، ونواب البلاد هم المذكورون في التي قبلها.
وفيها توفي: القاسم بن أبي بزة أبو عبد الله المكي القارئ، مولى عبد الله بن السائب، تابعي جليل، روى عن أبي الطفيل عامر بن واثلة، وعنه جماعة، ووثقه الائمة.
توفي في هذه السنة على الصحيح، وقيل بعدها بسنة، وقيل سنة أربع عشرة، وقيل سنة خمس عشرة فالله أعلم.
الزهري محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة، أبو بكر القرشي الزهري أحد الاعلام من أئمة الاسلام، تابعي جليل، سمع غير واحد من التابعين وغيرهم.
روى الحافظ ابن عساكر عن الزهري قال: أصاب أهل المدينة جهد شديد فارتحلت إلى دمشق، وكان عندي عيال كثرة، فجئت جامعها فجلست في أعظم حلقة، فإذا رجل قد خرج من عند أمير المؤمنين عبد الملك، فقال: إنه قد نزل بأمير المؤمنين مسألة - وكان قد سمع من سعيد بن
__________
(1) ابو مسلم الخراساني: اختلفوا في نسبه اختلافا كثيرا فقال بعضهم هو من أصبهان وقال بعضهم من خراسان وقيل من العرب وادعى هو انه من سليط بن علي بن عبد الله بن عباس ونسبه أبو دلامة إلى الاكراد (المعارف ص 185) وفي وفيات الاعيان 3 / 145: قيل هو من ولد بزرجمهر الفارسي وكان أبوه من قرية سنجرد وفي مروج الذهب 3 / 289 انه من قرية يقال لها خرطينة من أهل البرس وكان قهرمانا لادريس بن ابراهيم العجلي.
وفي الطبري 8 / 283 وابن الاثير 5 / 255: من السراجين.
وقال ابن الاثير وكان اسمه ابراهيم ويلقب حيكان وسماه عبد الرحمن وكناه أبا مسلم ابراهيم الامام.
(2) في الطبري 8 / 283: ام سلمة بنت هشام.

المسيب فيها شيئا وقد شذ عنه في أمهات الاولاد يرويه عن عمر بن الخطاب - فقلت: إني أحفظ عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب،: فأخذني فأدخلني على عبد الملك: فسألني ممن أنت ؟ فانتسبت له، وذكرت له حاجتي وعيالي، فسألني هل تحفظ القرآن ؟ قلت: نعم والفرائض والسنن، فسألني عن ذلك كله فأجبته، فقضى ديني وأمر لي بجائزة، وقال لي: اطلب العلم فإني أرى لك عينا حافظة وقلبا ذكيا، قال: فرجعت إلى المدينة أطلب العلم وأتتبعه، فبلغني أن امرأة بقباء رأت رؤيا عجيبة، فأتيتها فسألتها عن ذلك، فقالت: إن بعلي غاب وترك لنا خادما وداجنا ونخيلات، نشرب من لبنها، ونأكل من ثمرها، فبينما أنا بين النائمة واليقظي رأيت كأن ابني الكبير - وكان مشتدا - قد أقبل فأخذ الشفرة فذبح ولد الداجن، فقال: إنه هذا يضيق علينا اللبن، ثم نصب القدر وقطعها ووضعها فيه، ثم أخذ الشفرة فذبح بها أخاه، وأخوه صغير كما قد جاء، ثم استيقظت مذعورة، فدخل ولدي الكبير فقال: أين اللبن ؟ فقلت: يا بني شربه ولد الداجن، فقال: إنه قد ضيق علينا اللبن، ثم أخذ الشفرة فذبحه وقطعه في القدر، فبقيت مشفقة خائفة مما رأيت، فأخذت ولدي الصغير فغيبته في بعض بيوت الجيران، ثم أقبلت إلى المنزل وأنا مشفقة جدا مما رأيت، فأخذتني عيني فنمت فرأيت في المنام قائلا يقول: مالك مغتمة ؟ فقلت: إني رأيت مناما فأنا أحذر منه فقال: يا رؤيا يا رؤيا، فأقبلت امرأة حسناء جميلة، فقال: ما أدرت إلى هذه المرأة الصالحة ؟ قالت: ما أردت إلا خيرا، ثم قال يا أحلام يا أحلام، فأقبلت امرأة دونها في الحسن والجمال، فقال: ما أردت إلى هذه المرأة الصالحة ؟ فقالت: ما أردت إلا خيرا، ثم قال: يا أضغاث يا أضغاث، فأقبلت امرأة سوداء شنيعة فقال: ما أردت إلى هذه المرأة الصالحة ؟ فقالت إنها امرأة صالحة فأحببت أن أعلمها ساعة، ثم استيقظت فجاء ابني فوضع الطعام وقال: أين أخي ؟ فقلت: درج إلى بيوت الجيران، فذهب وراءه فكأنما هدي إليه، فأقبل به يقبله، ثم جاء فوضعه وجلسنا جميعا فأكلنا من ذلك الطعام.
ولد الزهري في سنة ثمان وخمسين (1) في آخر خلافة معاوية، وكان قصيرا قليل اللحية، له شعرات طوال خفيف العارضين.
قالوا: وقد قرأ القرآن في نحو من ثمان وثمانين (2) يوما، وجالس
سعيد بن المسيب ثمان سنين، تمس ركبته ركبته، وكان يخدم عبيد الله بن عبد الله يستسقي له الماء المالح، ويدور على مشايخ الحديث، ومعه ألواح يكتب عنهم فيها الحديث، ويكتب عنهم كل ما سمع منهم، حتى صار من أعلم الناس وأعلمهم في زمانه، وقد احتاج أهل عصره إليه.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن الزهري قال: كنا نكره كتاب العلم حتى أكرهنا عليه
__________
(1) في وفيات الاعيان 4 / 178: سنة احدى وخمسين، وفي تذكرة الحفاظ 1 / 108: سنة خمسين وقال ابن الاثير 5 / 260 ولد سنة ثمان وخمسين، وقيل سنة خمسين.
(2) في تذكرة الحفاظ 1 / 110: في ثمانين يوما.

هؤلاء الامراء، فرأينا أن لا نمنعه أحدا من المسلمين.
وقال أبو إسحاق: كان الزهري يرجع من عند عروة فيقول لجارية عنده فيها لكنة: ثنا عروة ثنا فلان، ويسرد عليها ما سمعه منه، فتقول له الجارية: والله ما أدري ما تقول، فيقول لها: اسكتي لكاع، فإني لا أريدك، إنما أريد نفسي.
ثم وفد على عبد الملك بدمشق كما تقدم فأكرمه وقضى دينه وفرض له في بيت المال، ثم كان بعد من أصحابه وجلسائه، ثم كان كذلك عند أولاده من بعده، الوليد وسليمان، وكذا عند عمر بن عبد العزيز، وعند يزيد بن عبد الملك، واستقضاه يزيد مع سليمان بن حبيب، ثم كان حظيا عند هشام، وحج معه وجعله معلم أولاده إلى أن توفي في هذه السنة، قبل هشام بسنة.
وقال ابن وهب: سمعت الليث يقول: قال ابن شهاب: ما استودعت قلبي شيئا قط فنسيته، قال: وكان يكره أكل التفاح وسؤر الفأرة، ويقول: إنه ينسي، وكان يشرب العسل ويقول إنه يذكي، وفيه يقول فايد بن أقرم.
زرذا وأثن على الكريم محمد * واذكر فواضله على الاصحاب وإذا يقال من الجواد بماله * قيل الجواد محمد بن شهاب أهل المدائن يعرفون مكانه * وربيع ناديه على الاعراب يشري وفاء جفانه ويمدها * بكسور انتاج وفتق لباب
وقال ابن مهدي: سمعت مالكا يقول: حدث الزهري يوما بحديث فلما قام أخذت بلجام دابته فاستفهمته فقال: أتستفهمني ؟ ما استفهمت عالما قط، ولا رددت على عالم قط، ثم جعل ابن مهدي يقول فتلك الطوال وتلك المغازي.
وروى يعقوب بن سفيان: عن هشام بن خالد السلامي عن الوليد بن مسلم، عن سعيد - يعني ابن عبد العزيز - أن هشام بن عبد الملك سأل الزهري أن يكتب لبنيه شيئا من حديثه، فأملى على كاتبه أربعمائة حديث ثم خرج على أهل الحديث فحدثهم بها، ثم إن هشاما قال للزهري: إن ذلك الكتاب ضاع، فقال: لا عليك، فأملى عليهم تلك الاحاديث فأخرج هشام الكتاب الاول فإذا هو لم يغادر حرفا واحدا، وإنما أراد هشام امتحان حفظه.
وقال عمر بن عبد العزيز: ما رأيت أحدا أحسن سوقا للحديث إذا حدث من الزهري.
وقال سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار: ما رأيت أحدا أنص للحديث من الزهري، ولا أهون من الدينار والدرهم عنده، وما الدراهم والدنانير عند الزهري إلا بمنزلة البعر.
قال عمرو بن دينار: ولقد جالست جابرا وابن عباس وابن عمر وابن الزبير فما رأيت أحدا أسيق للحديث من الزهري.
وقال الامام أحمد: أحسن الناس حديثا وأجودهم إسنادا الزهري، وقال النسائي: أحسن الاسانيد الزهري عن علي بن الحسين عن أبيه عن جده علي عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
وقال سعيد عن

الزهري: مكثت خمسا وأربعين سنة أختلف من الحجاز إلى الشام، ومن الشام إلى الحجاز، فما كنت أسمع حديثا أستطرفه.
وقال الليث: ما رأيت عالما قط أجمع من ابن شهاب، ولو سمعته يحدث في الترغيب والترهيب لقلت: ما يحسن غير هذا، وإن حدث عن الانبياء وأهل الكتاب قلت لا يحسن إلا هذا، وإن حدث عن الاعراب والانساب قلت: لا يحسن إلا هذا، وإن حدث عن القرآن والسنة كان حديثه بدعا جامعا، وكان يقول: اللهم إني أسألك من كل خير أحاط به علمك وأعوذ بك من كل شر أحاط به علمك في الدنيا والآخرة.
قال الليث: وكان الزهري أسخى من رأيت، يعطي كل من جاء وسأله، حتى إذا لم يبق عنده شئ استسلف.
وكان يطعم الناس الثريد ويسقيهم
العسل، وكان يستمر على شراب العسل كما يستمر أهل الشراب على شرابهم، ويقول اسقونا وحدثونا، فإذا نعس أحدهم يقول له: ما أنت من سمار قريش، وكانت له قبة معصفرة، وعليه ملحفة معصفرة، وتحته بساط معصفر، وقال الليث: قال يحيى بن سعد: ما بقي عند أحد من العلم ما بقي عند ابن شهاب.
وقال عبد الرزاق: أنبأ معمر قال: قال عمر بن عبد العزيز: عليكم بابن شهاب فإنه ما بقي أحد أعلم بسنة ماضية منه، وكذا قال مكحول.
وقال أيوب: ما رأيت أحدا أعلم من الزهري، فقيل له: ولا الحسن ؟ فقال: ما رأيت أعلم من الزهري، وقيل لمكحول: من أعلم من لقيت ؟ قال: الزهري، قيل: ثم من ؟ قال: الزهري.
قيل: ثم من ؟ قال الزهري: وقال مالك: كان الزهري إذا دخل المدينة لم يحدث بها أحدا حتى يخرج.
وقال عبد الرزاق عن ابن عيينة: محدثو أهل الحجاز ثلاثة، الزهري ويحيى بن سعيد وابن جريج.
وقال علي بن المديني: الذين أفتوا أربعة، الزهري، والحكم، وحماد وقتادة، والزهري أفقههم عندي.
وقال الزهري: ثلاثة إذا كن في القاضي فليس بقاض إذا كره الملاوم وأحب المحامد، وكره العزل.
وقال أحمد بن صالح: كان يقال فصحاء زمانهم الزهري وعمر بن عبد العزيز وموسى بن طلحة وعبيد الله، رحمهم الله.
وقال مالك عن الزهري: أنه قال: إن هذا العلم الذي أدب الله به رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وأدب رسول الله به أمته أمانة الله إلى رسوله ليؤديه على ما أدي إليه، فمن سمع علما فليجعله أمامه حجة فيما بينه وبين الله عز وجل.
وقال محمد بن الحسين عن يونس عن الزهري قال: الاعتصام بالستة نجاة، وقال الوليد عن الاوزاعي عن الزهري قال: أمروا أحاديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كما جاءت.
وقال محمد بن إسحاق عن الزهري: إن من غوائل العلم أن يترك العالم حتى يذهب علمه، وفي رواية أن يترك العالم العمل بالعلم حتى يذهب، فإن من غوائله قلة انتفاع العالم بعلمه، ومن غوائله النسيان والكذب، وهو أشد الغوائل.
وقال أبو زرعة عن نعيم بن حماد، عن محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري قال: القراءة على العالم والسماع عليه سواء إن شاء الله تعالى.

وقال عبد الرزاق عن معمر عن الزهري: إذا طال المجلس كان للشيطان فيه حظ ونصيب، وقد قضى عنه هشام مرة ثمانين ألف درهم، وفي رواية سبعة عشر ألفا، وفي رواية عشرين ألفا.
وقال الشافعي: عتب رجاء بن حيوة على الزهري في الاسراف وكان يستدين، فقال له: لا آمن أن يحبس هؤلاء القوم ما بأيديهم عنك فتكون قد حملت على أمانيك، قال: فوعده الزهري أن يقصر، فمر به بعد ذلك وقد وضع الطعام ونصب موائد العسل، فوقف به رجاء وقال: يا أبا بكر ما هذا بالذي فارقتنا عليه، فقال له الزهري: انزل فإن السخي لا تؤدبه التجارب.
وقد أنشد بعضهم في هذا المعنى: له سحائب جود في أنامله * أمطارها الفضة البيضاء والذهب يقول في العسر إن أيسرت ثانية * أقصرت عن بعض ما أعطى وما أهب حتى إذا عاد أيام اليسار له * رأيت أمواله في الناس تنتهب وقال الواقدي: ولد الزهري سنة ثمان وخمسين، وقدم في سنة أربع وعشرين ومائة إلى أمواله بثلاث بشعب زبدا، فأقام بها فمرض هناك ومات وأوصى أن يدفن على قارعة الطريق، وكانت وفاته لسبع عشرة من رمضان في هذه السنة، وهو ابن خمس وسبعين سنة، قالوا: وكان ثقة كثير الحديث والعلم والرواية، فقيها جامعا، وقال الحسين (1) بن المتوكل العسقلاني: رأيت قبر الزهري بشعب زبدا (2) من فلسطين مسنما مجصصا، وقد وقف الاوزاعي يوما على قبره فقال: يا قبركم فيك من علم ومن حلم * يا قبركم فيك من علم ومن كرم * وكم جمعت روايات وأحكاما.
وقال الزبير بن بكار: توفي الزهري بأمواله بشعب ثنين، ليلة الثلاثاء لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان سنة أربع وعشرين ومائة، عن ثنتين وسبعين سنة، ودفن على قارعة الطريق ليدعو له المارة، وقيل إنه توفي سنة ثلاث وعشرين ومائة، وقال أبو معشر: سنة خمس وعشرين ومائة، والصحيح الاول والله أعلم.
فصل وروى الطبراني: عن إسحاق بن إبراهيم، حدثنا عبد الرزاق عن معمر قال: أخبرني
صالح بن كيسان قال: اجتمعت أنا والزهري ونحن نطلب العلم فقلنا: نحن نكتب السنن، فكتبنا ما جاء عن النبي (صلى الله عليه وسلم)، ثم قال لي: هلم فلنكتب ما جاء عن أصحابه فإنه سنة، فقلت:
__________
(1) في صفة الصفوة 2 / 139: الحسن.
(2) في صفة الصفوة عن الحسن بن المتوكل: بأدامي وهي أول عمل فلسطين وآخر عمل الحجاز وقال ابن خلكان 4 / 178: دفن بأدامي وقيل أدمي وهي خلف شغب وبدا وهما واديان بين فلسطين والحجاز.

إنه ليس بسنة فلا نكتب، قال: فكتب ما جاء عنهم ولم أكتب، فأنحج وضيعت.
وروى الامام أحمد عن معمر قال: كنا نرى أنا قد أكثرنا عن الزهري حتى قتل الوليد، فإذا الدفاتر قد حملت على الدواب من خزانته يقول: من علم الزهري.
وروي عن الليث بن سعد قال: وضع الطست بين يدي ابن شهاب فتذكر حديثا فلم تزل يده في الطست حتى طلع الفجر وصححه، وروى أصبغ بن الفرج عن ابن وهب عن يونس عن الزهري قال: للعلم وإد فإذا هبطت وادية فعليك بالتؤدة حتى تخرج منه، فإنك لا تقطعه حتى يقطع بك.
وقال الطبراني: حدثنا أحمد بن يحيى تغلب حدثنا الزبير بن بكار، حدثني محمد بن الحسن بن زبالة، عن مالك بن أنس، عن الزهري قال: خدمت عبيد الله بن عتبة، حتى أن كان خادمه ليخرج فيقول: من بالباب ؟ فتقول الجارية: غلامك الاعيمش، فتظن أني غلامه، وإن كنت لاخدمه حتى أستقي له وضوءه.
وروى عبد الله بن أحمد، عن محمد بن عباد، عن الثوري، عن مالك بن أنس، أراه عن الزهري.
قال: تبعت سعيد بن المسيب ثلاثة أيام في طلب حديث.
وروى الاوزاعي عن الزهري قال: كنا نأتي العالم فيما نتعلم من أدبه أحب إلينا من علمه.
وقال سفيان: كان الزهري يقول حدثني فلان، وكان من أوعية العلم، ولا يقول كان عالما.
وقال مالك: أول من دون العلم ابن شهاب.
وقال أبو المليح: كان هشام هو الذي أكره الزهري على كتابة الحديث، فكان الناس يكتبون بعد ذلك.
وقال رشيد بن سعد قال الزهري: العلم خزائن وتفتحها المسائل.
وقال الزهري: كان يصطاد العلم بالمسألة كما يصاد الوحش.
وكان ابن شهاب
ينزل بالاعراب يعلمهم لئلا ينسى العلم، وقال: إنما يذهب العلم النسيان وترك المذاكرة.
وقال: إن هذا العلم إن أخذته بالمكابرة غلبك ولم تظفر منه بشئ، ولكن خذه مع الايام والليالي أخذا رفيقا تظفر به.
وقال: ما أحدث الناس مروءة أعجب إلي من الفصاحة.
وقال: العلم ذكر لا يحبه إلا الذكور من الرجال ويكرهه مؤنثوهم.
ومر الزهري على أبي حازم وهو يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فقال: مالي أرى أحاديث ليس لها خطم ولا أزمة ؟.
وقال: ما عبد الله بشئ أفضل من العلم.
وقال ابن مسلم أبي عاصم: حدثنا دحيم، حدثنا الوليد بن مسلم، عن القاسم بن هزان: أنه سمع الزهري يقول: لا يوثق الناس علم عالم لا يعمل به، ولا يؤمن بقول عالم لا يرضي.
وقال: ضمرة، عن يونس، عن الزهري قال: إياك وغلول الكتب، قلت: وما غلولها ؟ قال: حبسها عن أهلها.
وروى الشافعي عن الزهري قال: حضور المجلس بلا نسخة ذل.
وروى الاصمعي عن مالك بن أنس، عن ابن شهاب قال: جلست إلى ثعلبة بن أبي معين فقال: أراك تحب العلم ؟ قلت: نعم ! قال: فعليك بذاك الشيخ - يعني سعيد بن المسيب - قال: فلزمت سعيدا سبع سنين ثم تحولت عنه إلى عروة ففجرت ثبج بحره.
وقال الليث: قال ابن شهاب: ما صبر أحد على العلم صبري، وما نشره أحد قط نشري، فأما عروة بن الزبير فبئر لا تكدره الدلاء، وأما ابن المسيب

فانتصب للناس فذهب اسمه كل مذهب.
وقال مكي بن عبدان: حدثنا محمد بن عبد العزيز بن عبد الله الاوسي، حدثنا مالك بن أنس: أن ابن شهاب سأله بعض بني أمية عن سعيد بن المسيب فذكر علمه بخير وأخبره بحاله، فبلغ ذلك سعيدا فلما قدم ابن شهاب المدينة جاء فسلم على سعيد فلم يرد عليه ولم يكلمه، فلما انصرف سعيد مشى الزهري معه فقال: مالي سلمت عليك فلم تكلمني ؟ ماذا بلغك عني وما قلت إلا خيرا ؟ قال له: ذكرتني لبني مروان ؟.
وقال أبو حاتم: حدثنا مكي بن عبدان حدثنا محمد بن يحيى، حدثني عطاف بن خالد المخزومي، عن عبد الاعلى بن عبد الله بن أبي فروة عن ابن شهاب قال: أصاب أهل المدينة حاجة زمان فتنة عبد اللمك بن مروان، فعمت أهل البلد، وقد خيل إلي أنه قد أصابنا أهل البيت من ذلك ما لم
يصب أحدا من أهل البلد، وذلك لخبرتي بأهلي، فتذكرت: هل من أحد أمت إليه برحم أو مودة أرجوا إن خرجت إليه أن أصيب عنده شيئا ؟ فما علمت من أحد أخرج إليه، ثم قلت: إن الرزق بيد الله عزوجل، ثم خرجت حتى قدمت دمشق فوضعت رجلي ثم أتيت المسجد فنظرت إلى أعظم حلقة رأيتها وأكبرها فجلست فيها، فبينا نحن على ذلك إذ خرج رجل من عند أمير المؤمنين عبد الملك، كأجسم الرجال وأجملهم وأحسنهم هيئة، فجاء إلى المجلس الذي أنا فيه فتحثحثوا له - أي أوسعوا - فجلس فقال: لقد جاء أمير المؤمنين اليوم كتاب ما جاءه مثله منذ استخلفه الله، قالوا: ما هو ؟ قال: كتب إليه عامله على المدينة هشام بن إسماعيل يذكر أن ابنا لمصعب بن الزبير من أم ولد مات، فأرادت أمه أن تأخذ ميراثا منه فمنعها عروة بن الزبير، وزعم أنه لا ميراث لها، فتوهم أمير المؤمنين حديثا في ذلك سمعه من سعيد بن المسيب يذكر عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في أمهات الاولاد، ولا يحفظه الآن، وقد شذ عنه ذلك الحديث.
قال ابن شهاب فقلت: أنا أحدثه به، فقام إلى قبيصة حتى أخذ بيدي ثم خرج حتى دخل الدار على عبد الملك فقال: السلام عليك، فقال له عبد الملك مجيبا: وعليك السلام.
فقال قبيصة: أندخل ؟ فقال عبد الملك ادخل، فدخل قبيصة على عبد الملك وهو آخذ بيدي وقال: هذا يا أمير المؤمنين يحدثك بالحديث الذي سمعته من ابن المسيب في أمهات الاولاد.
فقال عبد الملك: إيه، قال الزهري فقلت: سمعت سعيد بن المسيب يذكر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر بأمهات الاولاد أن يقومن في أموال أبنائهن بقيمة عدل ثم يعتقن، فكتب عمر بذلك صدرا من خلافته، ثم توفي رجل من قريش كان له ابن من أم ولد، وقد كان عمر يعجب بذلك الغلام، فمر ذلك الغلام على عمر في المسجد بعد وفاة أبيه بليال، فقال له عمر: ما فعلت يا بن أخي في أمك ؟ قال: فعلت يا أمير المؤمنين خيرا، خيروني بين أن يسترقوا أمي (1) فقال عمر: أو لست إنما أمرت في ذلك بقيمة عدل ؟ ما أرى رأيا وما أمرت بأمر إلا قلتم فيه، ثم قام فجلس على المنبر فاجتمع الناس إليه حتى إذا رضي من جماعتهم قال: أيها
__________
(1) كذا بالاصل، وفي السياق نقص ظاهر.

الناس ! إني قد كنت أمرت في أمهات الاولاد بأمر قد علمتموه، ثم حدث رأي غير ذلك، فأنما امرئ كان عنده أم ولد فملكها بيمينه ما عاش، فإذا مات فهي حرة لا سبيل له عليها.
فقال لي عبد الملك: من أنت ؟ قلت أنا محمد بن مسلم بن عبيد بن شهاب، فقال: أما والله إن كان أبوك لابا نعارا في الفتنة مؤذيا لنا فيها.
قال الزهري فقلت: يا أمير المؤمنين قل كما قال العبد الصالح: (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم) [ يوسف: 92 ] فقال: أجل ! (لاتثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم) قال: فقلت: يا أمير المؤمنين افرض لي فإني منقطع من الديوان، فقال: إن بلدك ما فرضنا فيه لاحد منذ كان هذا الامر.
ثم نظر إلى قبيصة وأنا وهو قائمان بين يديه، فكأنه أوما إليه أن افرض له، فقال: قد فرض إليك أمير المؤمنين، فقلت: إني والله ما خرجت من عند أهلي إلا وهم في شدة وحاجة ما يعلمها إلا الله، وقد عمت الحاجة أهل البلد.
قال: قد وصلك أمير المؤمنين.
قال قلت: يا أمير المؤمنين وخادم يخدمنا، فإن أهلي ليس لهم خادم إلا أختي، فإنها الآن تعجن وتخبز وتطحن قال: قد أخدمك أمير المؤمنين.
وروى الاوزاعي عن الزهري أنه روى أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ".
فقلت للزهري: ما هذا ؟ فقال: من الله العلم، وعلى رسوله البلاغ، وعلينا التسليم، أمروا أحاديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كما جاءت.
وعن ابن أخي ابن شهاب عن عمه قال: (2) كان عمر بن الخطاب يأمر برواية قصيدة لبيد بن ربيعة التي يقول فيها: إن تقوى ربنا خير نفل * وباذن الله ريثي والعجل أحمد الله فلا ند له * بيديه الخير ما شاء فعل من هداه سبل الخير اهتدى * ناعم البال ومن شاء أضل وقال الزهري: دخلت على عبيد الله بن عبد الله بن عتبة منزلة فإذا هو مغتاظ ينفخ، فقلت: مالي أراك هكذا ؟ فقال: دخلت على أميركم آنفا - يعني عمر بن عبد العزيز - ومعه عبد الله بن عمرو بن عثمان فسلمت عليهما فلم يردا علي السلام، فقلت: لا تعجبا أن تؤتيا فتكلما * فما حشى الاقوام شرا من الكبر
ومسا تراب الارض منه خلقتما * وفيها المعاد والمصير إلى الحشر فقلت: يرحمك الله ! ! مثلك في فقهك وفضلك وسنك تقول الشعر ؟ ! فقال: إن المصدور إذا نفث برأ.
وجاء شيخ إلى الزهري فقال: حدثني، فقال: إنك لا تعرف اللغة، فقال الشيخ: لعلي أعرفها، فقال: فما تقول في قول الشاعر: صريع ندامى يرفع الشرب رأسه * وقد مات منه كل عضو ومفصل ؟

ما المفصل ؟ قال: اللسان، قال: عد علي أحدثك.
وكان الزهري يتمثل كثيرا بهذا: ذهب الشباب فلا يعود جمانا * وكأن ما قد كان لم يك كانا فطويت كفي يا جمان على العصا * وكفى جمان بطيها حدثانا وكان نقش خاتم الزهري: محمد يسأل الله العافية.
وقيل لابن أخي الزهري: هل كان عمك يتطيب ؟ قال: كنت أشم ريح المسك من سوط دابة الزهري.
وقال: استكثروا من شئ لا تمسه النار، قيل: وما هو ؟ قال: المعروف.
وامتدحه رجل مرة فأعطاه قميصه، فقيل له: أتعطي على كلام الشيطان ؟ فقال: إن من ابتغاء الخير اتقاء الشر.
وقال سفيان: سئل الزهري عن الزاهد فقال: من لم يمنع الحلال شكره، ولم يغلب الحرام صبره.
وقال سفيان: قالوا للزهري: لو أنك الآن في آخر عمرك أقمت بالمدينة، فقعدت إلى مسجد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ودرجت وجلسنا إلى عمود من أعمدته فذكرت الناس وعلمتهم ؟ فقال: لو أني فعلت ذلك لوطئ عقبي، ولا يبغي لي أن أفعل ذلك حتى أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة.
وكان الزهري يحدث أنه هلك في جبال بيت المقدس بضعة وعشرون نبيا، ماتوا من الجوع والعمل.
كانوا لا يأكلون إلا ما عرفوا، ولا يلبسون إلا ما عرفوا وكان يقول: العبادة هي الورع والزهد، والعلم هو الحسنة، والصبر هو احتمال المكاره، والدعوة إلى الله على العمل الصالح.
وممن توفي في خلافة هشام بن عبد الملك ما أورده ابن عساكر: بلال بن سعد
ابن تميم السكوني أبو عمرو، وكان من الزهاد الكبار، والعباد الصوام القوام، روى عن أبيه وكان أبوه له صحبة، وعن جابر وابن عمر وأبي الدرداء وغيرهم، وعنه جماعات منهم أبو عمر الاوزاعي وكان الاوزاعي يكتب عنه ما يقوله من الفوائد العظيمة في قصصه ووعظه، وقال: ما رأيت واعظا قط مثله.
وقال أيضا: ما بلغني عن أحد من العبادة ما بلغني عنه، كان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة.
وقال غيره وهو الاصمعي: كان إذا نعس في ليل الشتاء ألقى نفسه في ثيابه في البركة، فعاتبه بعض أصحابه في ذلك فقال: إن ماء البركة أهون من عذاب جهنم.
وقال الوليد بن مسلم: كان إذا كبر في المحراب سمعوا تكبيره من الاوزاع.
قلت: وهي خارج باب الفراديس.
وقال أحمد بن عبد الله العجلي: هو شامي تابعي ثقة.
وقال أبو زرعة الدمشقي: كان أحد العلماء قاصا حسن القصص، وقد اتهمه رجاء بن حيوة بالقدر حتى قال بلال يوما في وعظه: رب مسرور مغرور، ورب مغرور لا يشعر، فويل لمن له الويل وهو لا يشعر، يأكل ويشرب، ويضحك، وقد حق عليه في قضاء الله أنه من أهل النار، فياويل لك روحا، يا ويل لك جسدا، فلتبك ولتبك عليك البواكي لطول الابد.

وقد ساق ابن عساكر شيئا حسنا من كلامه في مواعظه البليغة، فمن ذلك قوله: والله لكفى به ذنبا أن الله يزهدنا في الدنيا ونحن نرغب فيها، زاهدكم راغب، وعالمكم جاهل، ومجتهدكم مقصر.
وقال أيضا: أخ لك كلما لقيك ذكرك بنصيبك من الله، وأخبرك بعيب فيك، أحب إليك، وخير لك من أخ كلما لقيك وضع في كفك دينارا.
وقال أيضا: لا تكن وليا لله في العلانية وعدوه في السر ولا تكن عدو إبليس والنفس والشهوات في العلانية وصديقهم في السر، ولا تكن ذا وجهين وذا لسانين فتظهر للناس أنك تخشى الله ليحمدوك وقلبك فاجر.
وقال أيضا: أيها الناس إنكم لم تخلقوا للفناء وإنما خلقتم للبقاء، ولكنكم تنتقلون من دار إلى دار، كما نقلتم من الاصلاب إلى الارحام، ومن الارحام إلى الدنيا، ومن الدنيا إلى القبور، ومن القبور إلى الموقف، ومن الموقف إلى الجنة والنار.
وقال أيضا: عباد الرحمن: إنكم تعملون في أيام قصار لايام طوال، وفي دار زوال إلى دار
مقام، وفي دار حزن ونصب لدار نعيم وخلود، فمن لم يعمل على يقين فلا تنفعن، عباد الرحمن لو قد غفرت خطاياكم الماضية لكان فيما تستقبلون لكم شغلا، ولو عملتم بما تعلمون لكان لكم مقتدا وملتجأ، عباد الرحمن أماما وكلتم به فتضيعونه، وأما ما تكفل الله لكم به فتطلبونه، ما هكذا نعت الله عباده الموقنين، أذوو عقول في الدنيا وبله في الآخرة، وعمي عما خلقتم له بصراء في أمر الدنيا ؟ فكما ترجون رحمة الله بما تؤدون من طاعته، فكذلك اشفقوا من عذابه بما تنتهكون من معاصيه، عباد الرحمن ! هل جاءكم مخبر يخبركم أن شيئا من أعمالكم قد تقبل منكم ؟ أو شيئا من خطاياكم قد غفر لكم ؟ (أم حسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون) [ المؤمنون: 116 ] والله لو عجل لكم الثواب في الدنيا لاستقللتم ما فرض عليكم.
أترغبون في طاعة الله لدار معمورة بالآفات ؟ ولا ترغبون وتنافسون في جنة أكلها دائم وظلها، وعرضها عرض الارض والسموات (تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار) [ الرعد: 35 ] وقال أيضا: الذكر ذكران ذكر الله باللسان حسن جميل، وذكر الله عندما أحل وحرم أفضل.
عباد الرحمن يقال لاحدنا: تحب أن تموت ؟ فيقول: لا ! فيقال له: لم ؟ فيقول: حتى أعمل، فيقال له: اعمل، فيقول سوف أعمل، فلا تحب أن تموت، ولا تحب أن تعمل، وأحب شئ إليه يحب أن يؤخر عمل الله، ولا يحب أن يؤخر الله عنه عرض دنياه.
عباد الرحمن إن العبد ليعمل الفريضة الواحدة من فرائض الله وقد أضاع ما سواها، فما يزال يمنيه الشيطان ويزين له حتى ما يرى شيئا دون الجنة، مع إقامته على معاصي الله.
عباد الرحمن قبل أن تعملوا أعمالكم فانظروا ماذا تريدون بها، فإن كانت خالصة فامضوها وإن كانت لغير الله فلا تشقوا على أنفسكم، فإن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصا، فإنه قال (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) [ فاطر: 10 ] وقال أيضا: إن الله ليس إلى عذابكم بالسريع، يقبل المقبل ويدعو المدبر، وقال أيضا: إذا رأيت الرجل متحرجا لحوحا مماريا معجبا برأيه فقد تمت خسارته.
وقال الاوزاعي: خرج الناس بدمشق يستسقون فقام بهم بلال بن سعد فقال: يا معشر من حضر ! ألستم مقرين بالاساءة ؟ قالوا: نعم، فقال: اللهم

إنك قلت (ما على المحسنين من سبيل) [ التوبة: 91 ] وقد أقررنا بالاساءة فاعف عنا واغفر لنا.
قال: فسقوا يومهم ذلك.
وقال أيضا: سمعته يقول: لقد أدركت أقواما يشتدون بين الاغراض، ويضحك بعضهم إلى بعض، فإذا جثهم الليل كانوا رهبانا.
وسمعته أيضا يقول: لا تنظر إلى صغر الذنب وانظر إلى من عصيت.
وسمعته يقول: من بادأك بالود فقد استرقك بالشكر.
وكان من دعائه: اللهم إني أعوذ بك من زيغ القلوب، ومن تبعات الذنوب، ومن مرديات الاعمال ومضلات العين.
وقال الاوزاعي عنه أنه قال: عباد الرحمن لو أنتم لم تدعوا إلى الله طاعة إلا عملتموها ولا معصية إلا اجتنبتموها، إلا أنكم تحبون الدنيا لكفاكم ذلك عقوبة عند الله عز وجل.
وقال: إن الله يغفر الذنوب لمن تاب منها، ولكن لا يمحوها من الصحيفة حتى يوقف العبد عليها يوم القيامة.
ترجمة الجعد بن درهم هو أول من قال بخلق القرآن، وهو الذي ينسب إليه مروان الجعدي، وهو مروان الحمار، آخر خلفاء بني أمية.
كان شيخه الجعد بن درهم، أصله من خراسان، ويقال إنه من موالي بني مروان، سكن الجعد دمشق، وكانت له بها دار بالقرب من القلاسيين إلى جانب الكنيسة، ذكره ابن عساكر.
قلت: وهي محلة من الخواصين اليوم غربيها عند حمام القطانين الذي يقال له حمام قلينس.
قال ابن عساكر وغيره: وقد أخذ الجعد بدعته عن بيان بن سمعان، وأخذها بيان عن طالوت ابن اخت لبيد بن أعصم، زوج ابنته، وأخذها لبيد بن أعصم الساحر الذي سحر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن يهودي باليمن، وأخذ عن الجعد الجهم بن صفوان الخزري، وقيل الترمذي، وقد أقام ببلخ، وكان يصلي مع مقاتل بن سليمان في مسجده ويتناظران، حتى نفي إلى ترمذ، ثم قتل الجهم بأصبهان، وقيل بمرو، قتله نائبها سلم بن أحوز رحمه الله وجزاه عن المسلمين خيرا، وأخذ بشر المريسي عن الجهم، وأخذ أحمد بن أبي دواد عن بشر، وأما الجعد فإنه أقام بدمشق حتى أظهر القول بخلق القرآن، فتطلبه بنو أمية فهرب منهم فسكن الكوفة، فلقيه فيها الجهم بن صفوان فتقلد هذا القول عنه، ثم إن خالد بن عبد الله القسري قتل الجعد يوم عيد الاضحى بالكوفة، وذلك أن خالدا خطب الناس فقال في خطبته تلك: أيها الناس ضحوا يقبل الله ضحاياكم، فإني مضح
بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا.
ولم يكلم موسى تكليما، تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا.
ثم نزل فذبحه في أصل المنبر.
وقد ذكر هذا غير واحد من الحفاظ منهم البخاري وابن أبي حاتم والبيهقي وعبد الله بن أحمد وذكره ابن عساكر في التاريخ، وذكر أنه كان يتردد إلى وهب بن منبه، وأنه كان كلما راح إلى وهب يغتسل ويقول: أجمع للعقل، وكان يسأل وهبا عن صفات الله عزوجل فقال له وهب يوما: ويلك يا جعد، اقصر المسألة عن ذلك، إني لاظنك من الهالكين، لو لم يخبرنا الله في كتابه أن له يدا ما قلنا ذلك، وأن له عينا ما قلنا ذلك، وأن له نفسا ما قلنا ذلك، وأن له سمعا ما قلنا ذلك، وذكر

الصفات من العلم والكلام وغير ذلك، ثم لم يلبث الجعد أن صلب ثم قتل.
ذكره ابن عساكر، وذكر في ترجمته أنه قال للحجاج بن يوسف ويروى لعمران بن حطان: ليث علي وفي الحروب نعامة * فتخاء تجفل من صفير الصافر هلا برزت إلى غزالة في الوغى * بل كان قلبك في جناحي طائر ثم دخلت سنة خمس وعشرين ومائة قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا رزق الله بن موسى ثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك ثنا عبد الملك بن زيد عن مصعب بن مصعب عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه قال قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): ترفع زينة الدنيا سنة خمس وعشرين ومائة، وكذا رواه أبو يعلى في مسنده عن أبي كريب، عن ابن أبي فديك، عن عبد الملك بن سعيد بن زيد بن نفيل، عن مصعب بن مصعب عن الزهري به.
قلت: وهذا حديث غريب منكر، ومصعب بن مصعب بن عبد الرحمن بن عوف الزهري تكلم فيه وضعفه علي بن الحسين بن الجنيد: وكذا تكلم في الراوي عنه أيضا والله أعلم.
وفيها غزا النعمان بن يزيد بن عبد الملك الصائفة من بلاد الروم، وفي ربيع الآخر منها توفي أمير المؤمنين هشام بن عبد الملك بن مروان.
ذكر وفاته وترجمته رحمه الله
هو هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، أبو الوليد القرشي الاموي الدمشقي، أمير المؤمنين.
وأمه أم هشام بنت هشام بن إسماعيل المخزومي، وكانت داره بدمشق عند باب الخواصين، وبعضها اليوم مدرسة نور الدين الشهيد التي يقال لها النورية الكبيرة، وتعرف بدار القبابين - يعني الذين يبيعون القباب وهي الخيام - فكانت تلك المحلة داره والله أعلم.
وقد بويع له بالخلافة بعد أخيه يزيد بن عبد الملك بعهد منه إليه، وذلك يوم الجمعة لاربع بقين من شعبان (1) سنة خمس ومائة (2)، وكان له من العمر يومئذ أربع وثلاثون سنة، وكان جميلا أبيض أحول يخضب بالسواد، وهو الرابع من ولد عبد الملك الذين ولوا الخلافة، وقد كان عبد الملك رأى في المنام كأنه بال في المحراب أربع مرات، فدس إلى سعيد بن المسبب من سأله عنها ففسرها له بأنه يلي الخلافة من ولده أربعة، فوقع ذلك، فكان هشام آخرهم، وكان في خلافته حازم الرأي جماعا للاموال يبخل، وكان ذكيا مدبرا له بصر بالامور جليلها وحقيرها، وكان فيه حلم وأناة، شتم مرة رجلا من الاشراف فقال: أتشتمني وأنت خليفة الله في
__________
(1) في مروج الذهب 3 / 249: لخمس بقين من شوال.
(2) في الامامة والسياسة 2 / 125: ست ومائة.

الارض ؟ فاستحيا وقال: اقتص مني بدلها أو قال بمثلها، فقال: إذا أكون سفيها مثلك، قال فخذ عوضا قال: لا أفعل، قال: فاتركها لله، قال: هي لله ثم لك، فقال هشام عند ذلك: والله لا أعود إلى مثلها.
وقال الاصمعي: أسمع رجل هشاما كلاما فقال له: أتقول لي مثل هذا وأنا خليفتك ؟ وغضب مرة على رجل فقال له: اسكت وإلا ضربتك سوطا، وكان علي بن الحسين قد اقترض من مروان بن الحكم مالا أربعة آلاف دينار، فلم يتعرض له أحد من بني مروان، حتى استخلف هشام فقال: ما فعل حقنا قبلك ؟ قال: موفور مشكور، فقال ! هو لك.
قلت: هذا الكلام فيه نظر، وذلك أن علي بن الحسين مات سنة الفقهاء، وهي سنة أربع
وتسعين، قبل أن يلي هشام الخلافة بإحدى عشرة سنة، فإنه إنما ولي الخلافة سنة خمس ومائة، فقول المؤلف: إن أحدا من خلفاء بني مروان لم يتعرض لمطالبة علي بن الحسين حتى ولي هشام فطالبه بالمال المذكور، فيه نظر ولا يصح، لتقدم موت علي على خلافة هشام، والله سبحانه وتعالى أعلم وكان هشام من أكره الناس لسفك الدماء، ولقد دخل عليه من مقتل زيد بن علي وابنه يحيى أمر شديد وقال: وددت أني افتديتهما بجميع ما أملك وقال المدائني عن رجل من حيي عن بشر مولى هشام قال: أتي هشام برجل عنده قيان وخمر وبربط، فقال: اكسروا الطنبور على رأسه، فبكى الشيخ، قال بشر: فضربه (1)، قال أتراني أبكي للضرب، إنما أبكي لا حتقارك البربط حتى سميته طنبورا.
وأغلظ لهشام رجل يوما في الكلام فقال: ليس لك أن تقول هذا لامامك.
وتفقد أحد ولده يوم الجمعة فبعث إليه مالك لم تشهد الجمعة ؟ فقال: إن بغلتي عجزت عني، فبعث إليه أما كان يمكنك المشي، ومنعه أن يركب سنة، وأن يشهد الجمعة ماشيا.
وذكر المدائني أن رجلا أهدى إلى هشام طيرين فأوردهما السفير إلى هشام، وهو جالس على سرير وسط داره، فقال له: أرسلهما في الدار، فأرسلهما، ثم قال: جائزتي يا أمير المؤمنين فقال: ويحك وما جائزتك على هدية طيرين ؟ خذ أحدهما، فجعل الرجل يسعى خلف أحدهما، فقال: ويحك ما بالك ؟ فقال أختار أجودهما: قال: وتختار أيضا الجيد وتترك الردئ ؟ ثم أمر له بأربعين أو خمسين درهما.
وذكر المدائني عن قحذم (2)، كاتب يوسف بن عمر.
قال: بعثني يوسف إلى هشام بياقوتة حمراء ولؤلؤة كانتا لرابعة (3)، جارية خالد بن عبد الله القسري، مشترى الياقوتة ثلاثة وسبعون ألف دينار، قال: فدخلت عليه وهو على سرير فوقه فرش لم أر رأس هشام من علو تلك
__________
(1) في رواية ابن الاثير 5 / 262: فقال (يعني بشر): عليك بالصبر.
(2) من الطبري 8 / 288 وفي الاصل محرم.
تحريف.
(3) في الطبري: رائقة.

الفرش، فأوريتها له، فقال: كم زنتها ؟ فقلت: إن مثل هذه لا مثل لها، فسكت.
قالوا: ورأى
قوما يفرطون الزيتون فقال القطوه لقطا ولا تنفضوه نفضا، فتفقأ عيونه وتكسر غصونه، وكان يقول: ثلاثة لا يضعن الشريف: تعاهد الصنيعة، وإصلاح المعيشة، وطلب الحق وإن قل.
وقال أبو بكر الخرائطي: يقال إن هشاما لم يقل من الشعر سوى هذا البيت: إذا أنت تعص الهوى قادك الهوى * إلى كل ما فيه عليك مقال وقد روي له شعر غير هذا، وقال المدائني عن ابن يسار الاعرجي: حدثني ابن أبي بجيلة، عن عقال بن شبة قال: دخلت على هشام وعليه قباء فتك أخضر، فوجهني إلى خراسان، ثم جعل يوصيني وأنا أنظر إلى القباء، ففطن فقال: مالك ؟ قلت: عليك قباء فتك أخضر، كنت رأيت عليك مثله قبل أن تلي الخلافة، فجعلت أتأمل هذا هو ذاك أم غيره، والله الذي لا إله غيره هو ذاك، مالي قباء غيره، وما ترون من جمعي لهذا المال وصونه إلا لكم.
قال عقال: وكان هشام محشوا بخلا.
وقال عبد الله بن علي عم السفاح: جمعت دواوين بني أمية فلم أر أصلح للعامة والسلطان من ديوان هشام.
وقال المدائني عن هشام بن عبد الحميد: لم يكن أحد من بني مروان أشد نظرا في أصحابه ودواوينه، ولا أشد مبالغة في الفحص عنهم من هشام، وهو الذي قتل غيلان القدري، ولما أحضر بين يديه قال له: ويحك قل ما عندك، إن كان حقا اتبعناه، وإن كان باطلا رجعت عنه، فناظره ميمون بن مهران فقال لميمون أشياء فقال له: أيعصي الله كارها ؟ فسكت غيلان فقيده حينئذ هشام وقتله (1).
وقال الاصمعي عن أبي الزناد عن منذر بن أبي منذر قال: أصبنا في خزائن هشام اثني عشر ألف قميص كلها قد أثر بها.
وشكى هشام إلى أبيه ثلاثا إحداهن: أنه يهاب الصعود إلى المنبر، والثانية قلة تناول الطعام، والثالثة أن عنده في القصر مائة جارية من حسان النساء لا يكاد يصل إلى واحدة منهن.
فكتب إليه أبوه: أما صعودك إلى المنبر فإذا علوت فوقه فارم ببصرك إلى مؤخر الناس فإنه أهون عليك، وأما قلة الطعام فمر الطباخ فليكثر الالوان فعلك أن تتناول من كل لون لقمة، وعليك بكل بيضاء بضة، ذات جمال وحسن.
وقال أبو عبد الله الشافعي: لما بنى هشام بن عبد الملك الرصافة قال: أحب أن أخلو بها يوما لا يأتيني فيه خبر غم، فما انتصف النهار حتى أتته
ريشة دم من بعض الثغور، فقال: ولا يوما واحدا ؟ ! وقال سفيان بن عيينة: كان هشام لا يكتب إليه بكتاب فيه ذكر الموت.
وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: ثنا إبراهيم بن المنذر الخزامي ثنا حسين بن زيد (2) عن شهاب بن عبد ربه، عن عمر بن علي قال: مشيت مع محمد بن علي - يعني ابن الحسين
__________
(1) في الطبري 8 / 285: فأمر بقطع يديه ورجليه.
وفي ابن الاثير 5 / 263: فقطعت يداه ورجلاه ثم امر به فصلب.
(2) في الطبري 8 / 288: يزيد.

ابن علي بن أبي طالب - إلى داره عند الحمام فقلت له: إنه قد طال ملك هشام وسلطانه، وقد قرب من العشرين سنة، وقد زعم الناس أن سليمان سأل ربه ملكا لا ينبغي لاحد من بعده، فزعم الناس أنها العشرون، فقال: ما أدري ما أحاديث الناس، ولكن أبي حدثني عن أبيه عن علي عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: " لن يعمر الله ملكا في أمة نبي مضى قبله ما بلغ ذلك النبي من العمر في أمته، فإن الله عمر نبيه (صلى الله عليه وسلم) ثلاث عشرة سنة بمكة وعشرا بالمدينة ".
وقال ابن أبي خيثمة: ليس حديث فيه توقيت غير هذا، قرأه يحيى بن معين على كتابي فقال: من حدثك به ؟ فقلت: إبراهيم، فتلهف أن لا يكون سمعه، وقد وراه ابن جرير في تاريخه عن أحمد بن زهير عن إبراهيم بن المنذر الحزامي.
وروى مسلم بن إبراهيم، ثنا القاسم بن الفضل، حدثني عباد بن المعرا الفتكي عن عاصم بن المنذر بن الزبير عن عبد الله بن الزبير أنه سمع عليا يقول: هلاك ملك بني أمية على رجل أحول - يعني هشاما -.
وروى أبو بكر بن أبي الدنيا، عن عمر بن أبي معاذ النميري، عن أبيه، عن عمرو بن كليع، عن سالم كاتب هشام بن عبد الملك ؟ قال خرج علينا يوما هشام وعليه كآبة وقد ظهر عليه الحزن، فاستدعى الابرش بن الوليد فجاءه فقال: يا أمير المؤمنين مالي أراك هكذا ؟ فقال: مالي لا أكون وقد زعم أهل العلم بالنجوم أني أموت إلى ثلاث وثلاثين من يومي هذا.
قال: فكتبنا ذلك، فلما كان آخر ليلة من ذلك جاءني رسوله في الليل يقول: احضر معك دواء للذبحة، وكان قد أصابته
قبل ذلك، فاستعمل منه فعوفي، فذهبت إليه ومعي ذلك الدواء فتناوله وهو في وجع شديد، واستمر فيه عامة الليل، ثم قال: يا سالم اذهب إلى منزلك فقد وجدت خفة وذر الدواء عندي، فذهبت فما هو إلا أن وصلت إلى منزلي حتى سمعت الصياح عليه، فجئت فإذا هو قد مات.
وذكر غيره أن هشاما نظر إلى أولاده وهم يبكون حوله فقال: جاد لكم هشام بالدنيا وجدتم عليه بالبكاء، وترك لكم ما جمع، وتركتم له ما كسب، ما أسوأ منقلب هشام إن لم يغفر الله له.
ولما مات جاءت الخزنة فختموا على حواصله وأرادوا تسخين الماء فلم يقدروا له على فحم حتى استعاروا له، وكان نقش خاتمه الحكم للحكم الحكيم.
وكانت وفاة بالرصافة يوم الاربعاء لست بقين (1) من ربيع الآخر سنة خمس وعشرين ومائة، وهو ابن بضع وخمسين سنة، وقيل إنه جاوز الستين، وصلى عليه الوليد بن يزيد بن عبد الملك (2)، الذي ولى الخلافة بعده، وكانت خلافة هشام تسع عشرة سنة وسبعة أشهر وأحد عشر يوما، وقيل وثمانية أشهر وأيام فالله أعلم.
وقال ابن أبي فديك: ثنا عبد الملك بن زيد، عن مصعب، عن الزهري، عن أبي سلمة بن
__________
(1) في الطبري 8 / 283 وابن الاثير 5 / 261 ومروج الذهب 3 / 258 خلون.
(2) في الطبري وابن الاثير: صلى عليه ابنه مسلمة بن هشام.
وفي الامامة والسياسة 2 / 130: مات هشام والوليد غائب فلم يدفن حتى قدم.

عبد الرحمن، عن أبيه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " ترفع زينة الدنيا سنة خمس وعشرين ومائة ".
قال ابن أبي فديك: زينتها نور الاسلام وبهجته، وقال غيره - يعني الرجال - والله أعلم.
قلت: لما مات هشام بن عبد الملك مات ملك بني أمية، وتولى وأدبر أمر الجهاد في سبيل الله واضطرب أمرهم جدا، وإن كانت قد تأخرت أيامهم بعده نحوا من سبع سنين، ولكن في اختلاف وهيج، وما زالوا كذلك حتى خرجت عليهم بنو العباس فاستلبوهم نعمتهم وملكهم، وقتلوا منهم خلقا وسلبوهم الخلافة كما سيأتي إن شاء الله تعالى ذلك مبسوطا مقدرا في مواضع، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وذكر غيره أن هشاما نظر إلى أولاده وهم يبكون حوله فقال: جاد لكم هشام بالدنيا وجدتم عليه بالبكاء، وترك لكم ما جمع، وتركتم له ما كسب، ما أسوأ منقلب هشام إن لم يغفر الله له.
ولما مات جاءت الخزنة فختموا على حواصله وأرادوا تسخين الماء فلم يقدروا له على فحم حتى استعاروا له، وكان نقش خاتمه الحكم للحكم الحكيم.
وكانت وفاة بالرصافة يوم الاربعاء لست بقين (1) من ربيع الآخر سنة خمس وعشرين ومائة، وهو ابن بضع وخمسين سنة، وقيل إنه جاوز الستين، وصلى عليه الوليد بن يزيد بن عبد الملك (2)، الذي ولى الخلافة بعده، وكانت خلافة هشام تسع عشرة سنة وسبعة أشهر وأحد عشر يوما، وقيل وثمانية أشهر وأيام فالله أعلم.
وقال ابن أبي فديك: ثنا عبد الملك بن زيد، عن مصعب، عن الزهري، عن أبي سلمة بن
__________
(1) في الطبري 8 / 283 وابن الاثير 5 / 261 ومروج الذهب 3 / 258 خلون.
(2) في الطبري وابن الاثير: صلى عليه ابنه مسلمة بن هشام.
وفي الامامة والسياسة 2 / 130: مات هشام والوليد غائب فلم يدفن حتى قدم.

عبد الرحمن، عن أبيه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " ترفع زينة الدنيا سنة خمس وعشرين ومائة ".
قال ابن أبي فديك: زينتها نور الاسلام وبهجته، وقال غيره - يعني الرجال - والله أعلم.
قلت: لما مات هشام بن عبد الملك مات ملك بني أمية، وتولى وأدبر أمر الجهاد في سبيل الله واضطرب أمرهم جدا، وإن كانت قد تأخرت أيامهم بعده نحوا من سبع سنين، ولكن في اختلاف وهيج، وما زالوا كذلك حتى خرجت عليهم بنو العباس فاستلبوهم نعمتهم وملكهم، وقتلوا منهم خلقا وسلبوهم الخلافة كما سيأتي إن شاء الله تعالى ذلك مبسوطا مقدرا في مواضع، والله سبحانه وتعالى أعلم.
* * * بحمد الله قد تم الجزء التاسع من البداية والنهاية ويليه الجزء العاشر وأوله خلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك

البداية والنهاية - ابن كثير ج 10
البداية والنهاية
ابن كثير ج 10

البداية والنهاية للامام الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن كثير الدمشقي المتوفى سنة 774 ه حققه ودقق اصوله وعلق حواشيه علي شيري الجزء العاشر دار إحياء التراث العربي

خلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك قال الواقدي: بويع له بالخلافة يوم مات عمه هشام بن عبد الملك يوم الاربعاء لست خلون من ربيع الآخر سنة خمس وعشرين ومائة.
وقال هشام بن الكلبي: بويع له يوم السبت في ربيع الآخر، وكان عمره إذ ذاك أربعا وثلاثين سنة (1).
وكان سبب ولايته أن أباه يزيد بن عبد الملك كان قد جعل الامر من بعده لاخيه هشام ثم من بعده لولده الوليد هذا، فلما ولي هشام أكرم ابن أخيه الوليد حتى ظهر عليه أمر الشراب وخلطاء السوء ومجالس اللهو، فأراد هشام أن يقطع ذلك عنه فأمره على الحج سنة ست (2) عشرة ومائة، فأخذ معه كلاب الصيد خفية من عمه، حتى يقال إنه جعلها في صناديق فسقط منها صندوق فيه كلب فسمع صوته فأحالوا ذلك على الجمال فضرب على ذلك.
قالوا: واصطنع الوليد قبة على قدر الكعبة، ومن عزمه أن ينصب تلك القبة فوق سطح الكعبة ويجلس هو وأصحابه هنالك، واستصحب معه الخمور وآلات الملاهي وغير ذلك من المنكرات، فلما وصل إلى مكة هاب أن يفعل ما كان قد عزم عليه، من الجلوس فوق ظهر الكعبة خوفا من الناس ومن إنكارهم عليه ذلك، فلما تحقق عمه ذلك منه نهاه مرارا فلم ينته، واستمر على حاله القبيح، وعلى فعله الردئ، فعزم عمه على خلعه من الخلافة - وليته فعل - وأن يولي بعده مسلمة بن هشام، وأجابه إلى
ذلك جماعة من الامراء، ومن أخواله، ومن أهل المدينة ومن غيرهم، وليت ذلك تم.
ولكن لم ينتظم حتى قام هشام يوما للوليد: ويحك ! والله ما أدري أعلى الاسلام أنت أم لا، فإنك لم تدع شيئا من المنكرات إلا أتيته غير متحاش ولا مستتر.
فكتب إليه الوليد:
__________
(1) في مروج الذهب 3 / 258: كانت ولايته سنة وشهرين واثنين وعشرين يوما، وقتل هو ابن اربعين سنة، يعني يكون لما تولى الخلافة ابن ثمان وثلاثين وأشهر.
(2) في الطبري 8 / 288: تسع عشرة.
ولعله سهو منه لانه عاد وذكر أن هشام ولى ابنه مسلمة على الموسم سنة 119.

يا أيها السائل عن ديننا * ديني (1) على دين أبي شاكر نشربها صرفا وممزوجة * بالسخن أحيانا وبالفاتر فغضب هشام على ابنه مسلمة، وكان يسمى أبا شاكر، وقال له: تشبه الوليد بن يزيد وأنا أريد أن أرقيك إلا الخلافة، وبعثه على الموسم سنة تسع (2) عشرة ومائة فأظهر النسك والوقار، وقسم بمكة والمدينة أموالا، فقال مولى لاهل المدينة: يا أيها السائل عن ديننا * نحن على دين أبي شاكر الواهب الجرد (3) بأرسانها * ليس بزنديق ولا كافر ووقعت بين هشام وبين الوليد بن يزيد وحشة عظيمة بسبب تعاطي الوليد ما كان يتعاطاه من الفواحش والمنكرات فتنكر له هشام وعزم على خلعه وتولية ولده مسلمة ولاية العهد، ففر منه الوليد إلى الصحراء (4)، وجعلا يتراسلان بأقبح المراسلات، وجعل هشام يتوعده وعيدا شديدا، ويتهدده، ولم يزل كذلك حتى مات هشام والوليد في البرية، فلما كانت الليلة التي قدم في صبيحتها عليه البرد بالخلافة، قلق الوليد تلك الليلة قلقا شديدا، وقال لبعض أصحابه: ويحك قد أخذني الليلة قلق عظيم فاركب لعلنا نبسط، فسارا ميلين يتكلمان في هشام وما يتعلق به، من كتبه إليه بالتهديد والوعيد، ثم رأيا من بعد رهجا وأصواتا وغبارا، ثم انكشف ذلك عن برد يقصدونه بالولاية، فقال لصاحبه: ويحك ! إن هذه رسل هشام، اللهم اعطنا خيرها، فلما اقتربت البرد منه
وتبينوه ترجلوا إلى الارض وجاؤوا فسلموا عليه بالخلافة، فبهت وقال: ويحكم أمات هشام ؟ قالوا: نعم، قال: فمن بعثكم ؟ قالوا: سالم بن عبد الرحمن صاحب ديوان الرسائل، وأعطوه الكتاب فقرأه ثم سألهم عن أحوال الناس وكيف مات عمه هشام، فأخبروه.
فكتب من فوره بالاحتياط على أموال هشام وحواصله بالرصافة وقال: ليت هشاما عاش حتى يرى * مكياله الاوفر قد طبعا كلناه بالصاع الذي كاله * وما ظلمناه به إصبعا
__________
(1) في الطبري 8 / 289 وابن الاثير 5 / 265: نحن.
قال في الاغاني 7 / 3: ويقال: قال ذلك عبد الصمد بن عبد الاعلى - مؤدبه - ونحله إياه وذكر في الفخري أبياتا كتب بها الوليد إلى هشام ص 134 ومنها فيه وفي الاغاني 7 / 8: كفرت يدا من منعم لو شكرتها * جزاك بها الرحمن ذو الفضل والمن (2) في الاغاني 7 / 4: سبع عشرة.
(3) في الاغاني: البزل.
والبازل من الابل: الذي استكمل السنة الثامنة وطعن في التاسعة.
(4) نزل بالازرق بين أرض بلقين وفزارة على ماء يقال له الاغدف (ابن الاثير 5 / 265 الطبري 8 / 289) وفي الاغاني 7 / 8: بالابرق.

وما أتينا ذاك عن بدعة * أحله الفرقان لي أجمعا وقد كان الزهري يحث هشاما على خلع الوليد هذا ويستنهضه في ذلك، فيحجم هشام عن ذلك خوف الفضيحة من الناس، ولئلا تتنكر قلوب الاجناد من أجل ذلك، وكان الوليد يفهم ذلك من الزهري ويبغضه ويتوعده ويتهدده، فيقول له الزهري: ما كان الله ليسلطك علي يا فاسق، ثم مات الزهري قبل ولاية الوليد، ثم فر الوليد من عمه إلى البرية فلم يزل بها حتى مات، فاحتاط على أموال عمه ثم ركب من فوره من البرية وقصد دمشق، واستعمل العمال وجاءته البيعة من الآفاق، وجاءته الوفود، وكتب إليه مروان بن محمد - وهو إذ ذاك نائب أرمينية - يبارك له في خلافة الله له على
عباده والتمكين في بلاده، ويهنئه بموت هشام وظفره به، والتحكم في أمواله وحواصله، ويذكر له أنه جدد البيعة له في بلاده وأنهم فرحوا واستبشروا بذلك، ولولا خوفه من الثغر لاستناب عليه وركب بنفسه شوقا إلى رؤيته، ورغبة في مشافهته، ثم إن الوليد سار في الناس سيرة حسنة بادي الرأي وأمر باعطاء الزمنى والمجذومين والعميان لكل إنسان خادما، وأخرج من بيت المال الطيب والتحف لعيالات المسلمين، وزاد في أعطيات الناس، ولا سيما أهل الشام والوفود، وكان كريما ممدحا شاعرا مجيدا، لا يسأل شيئا قط فيقول لا، ومن شعره قوله يمدح نفسه بالكرم: ضمنت لكم إن لم تعقني عوائق * بأن سماء الضر عنكم ستقلع سيوشك إلحاق معا وزيادة * وأعطية مني إليكم (1) تبرع محرمكم ديوانكم وعطاؤكم * به يكتب الكتاب شهرا وتطبع وفي هذه السنة عقد الوليد البيعة لابنه الحكم ثم عثمان، على أن يكونا وليي العهد من بعده، وبعث البيعة إلى يوسف بن عمر أمير العراق وخراسان، فأرسلها إلى نائب خراسان نصر بن سيار، فخطب بذلك نصر خطبة عظيمة بليغة طويلة، ساقها ابن جرير بكمالها، واستوثق للوليد الممالك في المشارق والمغارب، وأخذت البيعة لولديه من بعده في الآفاق، وكتب الوليد إلى نصر بن سيار بالاستقلال بولاية خراسان، ثم وفد يوسف بن عمر على الوليد فسأله أن يرد إليه ولاية خراسان فردها إليه كما كانت في أيام هشام، وأن يكون نصر بن سيار ونوابه من تحت يده، فكتب عند ذلك يوسف بن عمر إلى نصر بن سيار يستوفده إلى أمير المؤمنين بأهله وعياله، وأن يكثر من استصحاب الهدايا والتحف.
فحمل نصر بن سيار ألف مملوك على الخيل، وألف وصيفة وشيئا كثيرا من أباريق الفضة والذهب، وغير ذلك من التحف، وكتب إليه الوليد يستحثه سريعا ويطلب منه أن يحمل معه طنابير وبرابط ومغنيات وبازات وبراذين فره، وغير ذلك من آلات الطرب والفسق، فكره الناس ذلك منه وكرهوه.
وقال المنجمون لنصر بن سيار: إن الفتنة قريبا ستقع بالشام، فجعل يتثاقل في
__________
(1) في الطبري 8 / 294 وابن الاثير 5 / 268: عليكم.

سيره، فلما أن كان ببعض الطريق جاءته البرد فأخبروه بأن الخليفة الوليد قد قتل وهاجت الفتنة العظيمة في الناس بالشام، فعدل بما معه إلى بعض المدن فأقام بها، وبلغه أن يوسف بن عمر قد هرب من العراق واضطربت الامور، وذلك بسبب قتل الخليفة على ما سنذكره، وبالله المستعان.
وفي هذه السنة ولى الوليد يوسف بن محمد بن يوسف الثقفي ولاية المدينة ومكة والطائف وأمره أن يقيم إبراهيم ومحمدا ابني هشام بن إسماعيل المخزومي بالمدينة مهانين لكونهما خالي هشام، ثم يبعث بهما إلى يوسف بن عمر نائب العراق فبعثهما إليه.
فما زال يعذبهما حتى ماتا وأخذ منهما أموالا كثيرة.
وفي هذه السنة ولى يوسف بن محمد يحيى بن سعيد الانصاري قضاء المدينة، وفيها بعث الوليد بن يزيد إلى أهل قبرص جيشا مع أخيه وقال: خيرهم فمن شاء أن يتحول إلى الشام، ومن شاء أن يتحول إلى الروم، فكان منهم من اختار جوار المسلمين بالشام، ومنهم من انتقل إلى بلاد الروم.
قال ابن جرير: وفيها قدم سليمان بن كثير ومالك بن الهيثم ولاهز بن قريظ وقحطبة بن شبيب [ مكة ] (1) فلقوا - في قول بعض أهل السير - محمد بن علي فأخبروه بقصة أبي مسلم فقال: أحر هو أم لا ؟ فقالوا: أما هو فيزعم أنه حر، وأما مولاه فيزعم أنه عبده، فاشتروه فأعتقوه، ودفعوا إلى محمد بن علي مائتي ألف درهم وكسوة بثلاثين ألفا، وقال لهم: لعلكم لا تلقوني بعد عامكم هذا، فإن مت فإن صاحبكم إبراهيم بن محمد - يعني ابنه - فإنه ابني، فأوصيكم به.
ومات محمد بن علي في مستهل ذي القعدة في هذه السنة بعد أبيه بسبع سنين.
وفيها قتل يحيى بن زيد بن علي بخراسان.
وحج بالناس فيها يوسف بن محمد الثقفي أمير مكة والمدينة والطائف.
وأمير العراق يوسف بن عمر، وأمير خراسان نصر بن سيار، وهو في همة الوفود إلى الوليد بن يزيد أمير المؤمنين بما معه من الهدايا والتحف، فقتل الوليد قبل أن يجتمع به.
وممن توفي فيها من الاعيان: محمد بن علي ابن عبد الله بن عباس أبو عبد الله المدني، وهو أبو السفاح والمنصور، روى عن أبيه وجده وسعيد بن جبير وجماعة، وحدث عنه جماعة منهم ابناه الخليفتان، أبو العباس عبد الله السفاح، وأبو
جعفر عبد الله المنصور، وقد كان عبد الله بن محمد بن الحنفية أوصى إليه بالامر من بعده وكان عنده علم بالاخبار، فبشره بأن الخلافة ستكون في ولدك، فدعا إلى نفسه في سنة سبع وثمانين، ولم يزل أمره يتزايد حتى توفي في هذه السنة، وقيل في التي قبلها، وقيل في التي بعدها، عن ثلاث وستين سنة، وكان من أحسن الناس شكلا، فأوصى بالامر من بعده لولده إبراهيم، فما أبرم الامر إلا لولده السفاح، فاستلب من بني أمية الامر في سنة ثنتين وثلاثين كما سيأتي.
__________
(1) من الطبري 8 / 299 وابن الاثير 5 / 274 سقطت من الاصل.

وأما يحيى بن يزيد ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب فإنه لما قتل أبوه زيد في سنة إحدى وعشرين ومائة، لم يزل يحيى مختفيا في خراسان عند الحريش بن عمرو بن داود ببلخ، حتى مات هشام، فكتب عند ذلك يوسف بن عمر إلى نصر بن سيار يخبره بأمر يحيى بن زيد، فكتب نصر بن سيار إلى نائب بلخ مع عقيل بن معقل العجلي، فأحضر الحريش فعاقبه ستمائة سوط فلم يدل عليه، وجاء ولد الحريش فدلهم عليه فحبس، فكتب نصر بن سيار إلى يوسف بذلك، فبعث إلى الوليد بن يزيد يخبره بذلك، فكتب الوليد إلى نصر بن سيار يأمره باطلاقه من السجن وإرساله إليه صحبة أصحابه، فأطلقهم وأطلق لهم وجهزهم إلى دمشق، فلما كانوا ببعض الطريق توسم نصر منه غدرا، فبعث إليه جيشا عشرة آلاف فكسرهم يحيى بن زيد، وإنما معه سبعون رجلا، وقتل أميرهم (1) واستلب منهم أموالا كثيرة، ثم جاءه جيش آخر (2) فقتلوه واحتزوا رأسه وقتلوا جميع أصحابه رحمهم الله.
ثم دخلت سنة ست وعشرين ومائة فيها كان مقتل الوليد بن يزيد بن عبد الملك وهذه ترجمته هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم، أبو العباس الاموي الدمشقي، بويع له بالخلافة بعد عمه هشام في السنة الخالية بعهد من أبيه كما قدمنا.
وأمه أم الحجاج بنت محمد بن يوسف الثقفي.
وكان مولده سنة تسعين، وقيل ثنتين وتسعين، وقيل سبع وثمانين، وقتل يوم
الخميس لليلتين بقيتا في جمادى الآخرة سنة ست وعشرين ومائة، ووقعت بسبب ذلك فتنة عظيمة بين الناس بسبب قتله، ومع ذلك إنما قتل لفسقه، وقيل وزندقته.
وقد قال الامام أحمد: حدثنا أبو المغيرة ثنا ابن عياش، حدثني الاوزاعي وغيره عن الزهري عن سعيد بن المسيب، عن عمر بن الخطاب قال: ولد لاخي أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم غلام فسموه الوليد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (سميتموه باسم فراعينكم، ليكونن: في هذه الامة رجل يقال له الوليد، لهو أشد فسادا لهذه الامة من فرعون لقومه " (3).
قال الحافظ ابن عساكر: وقد رواه الوليد بن مسلم ومعقل بن زياد ومحمد بن كثير وبشر بن بكر عن الاوزاعي فلم يذكروا عمر في إسناده وأرسلوه، ولم يذكر ابن كثير سعيد بن المسيب، ثم ساق طرقه هذه كلها بأسانيدها وألفاظها.
وحكي عن البيهقي أنه قال: هو مرسل حسن، ثم ساق من طريق محمد عن محمد بن عمر بن عطاء، عن زينب بنت أم سلمة عن أمها
__________
(1) وهو عمرو بن زرارة وكان ذلك في بيهق (انظر الطبري 8 / 301 وابن الاثير 5 / 271).
(2) وذلك بالجوزجان وقاتله سالم بن أحوز (مروج الذهب 3 / 258 الطبري 8 / 301 ابن الاثير 5 / 271).
(3) رواه البيهقي في الدلائل 6 / 505.

قالت: " دخل النبي صلى الله عليه وسلم وعندي غلام من آل المغيرة اسمه الوليد، فقال: من هذا يا أم سلمة ؟ قالت: هذا الوليد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم قد اتخذتم الوليد خنانا (حسانا) غيروا اسمه، فإنه سيكون في هذه الامة فرعون يقال له الوليد ".
وروى ابن عساكر من حديث عبد الله بن محمد بن مسلم، ثنا محمد بن غالب الانطاكي، ثنا محمد بن سليمان بن أبي داود، ثنا صدقة، عن هشام بن الغاز، عن مكحول، عن أبي ثعلبة الخشني، عن أبي عبيدة بن الجراح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يزال هذا الامر قائما بالقسط حتى يثلمه رجل من بني أمية " (1).
مقتله وزوال دولته كان هذا الرجل مجاهرا بالفواحش مصرا عليها، منتهكا محارم الله عز وجل، لا يتحاشى من معصية.
وربما اتهمه بعضهم بالزندقة والانحلال من الدين، فالله أعلم، لكن الذي يظهر أنه كان
عاصيا شاعرا ماجنا متعاطيا للمعاصي، لا يتحاشاها من أحد، ولا يستحي من أحد، قبل أن يلي الخلافة وبعد أن ولي، وقد روي أن أخاه سليمان كان من جملة من سعى في قتله، قال: أشهد أنه كان شروبا للخمر ما جنا فاسقا، ولقد أرادني على نفسي الفاسق.
وحكى المعافى بن زكريا عن ابن دريد، عن أبي حاتم، عن العتبي: أن الوليد بن يزيد نظر إلى نصرانية من حسان نساء النصارى اسمها سفري فأحبها، فبعث يراودها عن نفسها فأبت عليه، فألح عليها وعشقها فلم تطاوعه، فاتفق اجتماع النصارى في بعض كنائسهم لعيد لهم، فذهب الوليد إلى بستان هناك فتنكر وأظهر أنه مصاب، فخرج النساء من الكنيسة إلى ذلك البستان، فرأينه فأحدقن به، فجعل يكلم سفري ويحادثها وتضاحكه ولا تعرفه، حتى اشتفى من النظر إليها، فلما انصرفت قيل لها: ويحك أتدرين من هذا الرجل ؟ فقالت: لا ! فقيل لها هو الوليد.
فلما تحققت ذلك حنت عليه بعد ذلك وكانت عليه أحرص منه عليها قبل أن تحن عليه.
فقال الوليد في ذلك أبياتا: أضحك (2) فؤادك يا وليد عميدا * صبا قديما للحسان صيودا في حب واضحة العوارض طفلة * برزت لنا نحو الكنيسة عيدا ما زلت أرمقها بعيني وامق * حتى بصرت بها تقبل عودا عود الصليب فويح نفسي من رأى * منكم صليبا مثله معبودا فسألت ربي أن أكون مكانه * وأكون في لهب الجحيم وقودا وقال فيها أيضا لما ظهر أمره وعلم بحاله الناس، وقيل إن هذا وقع قبل أن يلي الخلافة: ألا حبذا سفري وإن قيل إنني * كلفت بنصرانية تشرب الخمرا
__________
(1) رواه البيهقي في الدلائل 6 / 467.
(2) في حاشية امالي المرتضى 1 / 131: أضحى.

يهون علينا أن نظل نهارنا * إلى الليل لا ظهرا نصلي ولا عصرا (1) قال القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريا الجريري المعروف بابن طرار النهرواني بعد إيراده هذه
الاشياء: للوليد في نحو هذا من الخلاعة والمجون وسخافة الدين ما يطول ذكره، وقد ناقضناه في أشياء من منظوم شعره المتضمن ركيك ضلاله وكفره.
وروى ابن عساكر بسنده أن الوليد سمع بخمار صلف بالحيرة فقصده حتى شرب منه ثلاثة أرطال من الخمر، وهو راكب على فرسه، ومعه اثنان من أصحابه، فلما انصرف أمر للخمار بخمسمائة دينار.
وقال القاضي أبو الفرج: أخبار الوليد كثيرة قد جمعها الاخباريون مجموعة ومفردة، وقد جمعت شيئا من سيرته وأخباره، ومن شعره الذي ضمنه ما فجر به من جرأته وسفاهته وحمقه وهزله ومجونه وسخافة دينه، وما صرح به من الالحاد في القرآن العزيز، والكفر بمن أنزله وأنزل عليه، وقد عارضت شعره السخيف بشعر حصيف، وباطله بحق نبيه شريف، وترجيت رضاء الله عزوجل واستيجاب مغفرته.
وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: ثنا سليمان بن أبي شيخ، ثنا صالح بن سليمان، قال: أراد الوليد بن يزيد الحج وقال: أشرب فوق ظهر الكعبة الخمر، فهموا أن يفتكوا به إذا خرج، فجاؤوا إلى خالد بن عبد الله القسري فسألوه أن يكون معهم فأبى، فقالوا له: فاكتم علينا، فقال: أما هذا فنعم، فجاء إلى الوليد فقال: لا تخرج فإني أخاف عليك، فقال: ومن هؤلاء الذين تخافهم علي ؟ قال: لا أخبرك بهم.
قال: إن لم تخبرني بهم بعثت بك إلى يوسف بن عمر، قال: وإن بعثت بي إلى يوسف بن عمر، فبعثه إلى يوسف فعاقبه حتى قتله.
وذكر ابن جرير أنه لما امتنع أن يعلمه بهم سجنه ثم سلمه إلى يوسف بن عمر يستخلص منه أموال العراق فقتله، وقد قيل إن يوسف لما وفد إلى الوليد اشترى منه خالد بن عبد الله القسري بخمسين ألف ألف يخلصها منه، فما زال يعاقبه ويستخلص منه حتى قتله، فغضب أهل اليمن من قتله، وخرجوا على الوليد.
قال الزبير بن بكار: حدثنا مصعب بن عبد الله قال: سمعت أبي يقول: كنت عند المهدي فذكر الوليد بن يزيد فقال رجل في المجلس: كان زنديقا، فقال المهدي: خلافة الله عنده أجل من أن يجعلها في زنديق.
وقال أحمد بن عمير بن حوصاء الدمشقي: ثنا عبد الرحمن بن الحسن، ثنا الوليد بن مسلم، ثنا حصين بن الوليد، عن الازهري بن الوليد قال: سمعت أم الدرداء تقول: إذا قتل الخليفة الشاب من بني أمية بين الشام والعراق مظلوما لم يزل طاعة مستخف بها ودم مسفوك على وجه الارض
بغير حق.
قال الامام أبو جعفر بن جرير الطبري:
__________
(1) في امالي المرتضى: يهون علي أن تظل نهارها * إلى الليل لا أولى نصلي ولا عصرا

قتل يزيد بن الوليد الناقص للوليد بن يزيد قد ذكرنا بعض أمر الوليد بن يزيد وخلاعته ومجانته وفسقه وما ذكر عن تهاونه بالصلوات واستخفافه بأمر دينه قبل خلافته وبعدها.
فإنه لم يزدد في الخلافة إلا شرا ولهوا ولذة وركوبا للصيد وشرب المسكر ومنادمة الفساق، فما زادته الخلافة على ما كان قبلها إلا تماديا وغرورا، فثقل ذلك على الامراء والرعية والجند، وكرهوه كراهة شديدة، وكان من أعظم ما جنى على نفسه حتى أورثه ذلك هلاكه، إفساده على نفسه بني عميه هشام والوليد بن عبد الملك مع إفساده اليمانية، وهي أعظم جند خراسان (1)، وذلك أنه لما قتل خالد بن عبد الله القسري وسلمه إلى غريمه يوسف بن عمر الذي هو نائب العراق إذ ذاك، فلم يزل يعاقبه حتى هلك، انقلبوا عليه وتنكروا له وساءهم قتله كما سنذكره في ترجمته.
ثم روى ابن جرير بسنده أن الوليد بن يزيد ضرب ابن عمه سليمان بن هشام مائة سوط وحلق رأسه ولحيته وغربه إلى عمان فحبسه بها، فلم يزل هناك حتى قتل الوليد، وأخذ جارية كانت لآل عمه الوليد بن عبد الملك، فكلمه فيها عمر بن الوليد فقال: لا أردها، فقال: إذا تكثر الصواهل حول عسكرك.
وحبس الافقم يزيد بن هشام، وبايع لولديه الحكم وعثمان، وكانا دون البلوغ، فشق ذلك على الناس أيضا ونصحوه فلم ينتصح، ونهوه فلم يرتدع ولم يقبل.
قال المدائني في روايته: ثقل ذلك على الناس ورماه بنو هاشم وبنو الوليد بالكفر والزندقة وغشيان أمهات أولاد أبيه، وباللواط وغيره، وقالوا: قد اتخذ مائة جامعة على كل جامعة اسم رجل من بني هاشم ليقتله بها، ورموه بالزندقة، وكان أشدهم فيه قولا يزيد بن الوليد بن عبد الملك، وكان الناس إلى قوله أميل، لانه أظهر النسك والتواضع، ويقول ما يسعنا الرضا بالوليد حتى حمل الناس على الفتك به، قالوا: وانتدب للقيام عليه جماعة من قضاعة واليمانية وخلق من أعيان الامراء وآل
الوليد بن عبد الملك، وكان القائم بأعباء ذلك كله والداعي إليه يزيد بن الوليد بن عبد الملك، وهو من سادات بني أمية، وكان ينسب إلى الصلاح والدين والورع، فبايعه الناس على ذلك، وقد نهاه أخوه العباس بن الوليد فلم يقبل، فقال: والله لو لا أني أخاف عليك لقيدتك وأرسلتك إليه، واتفق خروج الناس من دمشق من وباء وقع بها، فكان ممن خرج الوليد بن يزيد أمير المؤمنين في طائفة من أصحابه نحو المائتين، إلى ناحية مشارف دمشق (2)، فانتظم إلى يزيد بن الوليد أمره وجعل أخوه العباس ينهاه عن ذلك أشد النهي، فلا يقبل، فقال العباس في ذلك: إني أعيذكم بالله من فتن * مثل الجبال تسامى ثم تندفع إن البرية قد ملت سياستكم * فاستمسكوا بعمود الدين وارتدعوا
__________
(1) في الطبري 9 / 3: أهل الشام.
(2) في ابن الاثير 5 / 286: نزل بالاغدف من عمان

لا تلحمن ذئاب الناس أنفسكم * إن الذباب (1) إذا ما ألحمت رتعوا لا تبقرن بأيديكم بطونكم * فثم لا حسرة تغني ولا جزع فلما استوثق ليزيد بن الوليد أمره، وبايعه من بايعه من الناس، قصد دمشق فدخلها في غيبة الوليد فبايعه أكثر أهلها في الليل، وبلغه أن أهل المزة قد بايعوا كبيرهم معاوية بن مصاد، فمضى إليه يزيد ماشيا في نفر من أصحابه، فأصابهم في الطريق خطر شديد، فأتوه فطرقوا بابه ليلا ثم دخلوا فكلمه يزيد في ذلك فبايعه معاوية بن مصاد، ثم رجع يزيد من ليلته إلى دمشق على طريق القناة وهو على حمار أسود، فحلف أصحابه أنه لا يدخل دمشق إلا في السلاح، فلبس سلاحا من تحت ثيابه فدخلها، وكان الوليد قد استناب على دمشق في غيبته عبد الملك بن محمد بن الحجاج بن يوسف الثقفي، وعلى شرطتها أبو العاج كثير بن عبد الله السلمي، فلما كان ليلة الجمعة اجتمع أصحاب يزيد بين العشائين عند باب الفراديس، فلما أذن العشاء الآخرة دخلوا المسجد، فلما لم يبق في المسجد غيرهم بعثوا إلى يزيد بن الوليد فجاءهم فقصدوا باب المقصورة ففتح لهم خادم، فدخلوا فوجدوا أبا
العاج وهو سكران، فأخذوا خزائن بيت المال وتسلموا الحواصل، وتقووا بالاسلحة، وأمر يزيد بإغلاق أبواب البلد، وأن لا يفتح إلا لمن يعرف، فلما أصبح الناس قدم أهل الحواضر من كل جانب فدخلوا من سائر أبواب البلد، كل أهل محلة من الباب الذي يليهم، فكثرت الجيوش حول يزيد بن الوليد بن عبد الملك في نصرته، وكلهم قد بايعه بالخلافة.
وقد قال فيه بعض العشراء في ذلك: فجاءتهم أنصارهم حين أصبحوا * سكاسكها أهل البيوت الصنادد وكلب فجاءوهم بخيل وعدة * من البيض والابدان ثم السواعد فأكرم بها أحياء أنصار سنة * هم منعوا حرماتها كل جاحد وجاءتهم شيبان والازد شرعا * وعبس ولخم بين حام وذائد وغسان والحيان قيس وتغلب * وأحجم عنها كل وإن وزاهد فما أصبحوا إلا وهم أهل ملكها * قد استوثقوا من كل عات ومارد وبعث يزيد بن الوليد عبد الرحمن بن مصاد في مائتي فارس إلى قطنا (2) ليأتوه بعبد الملك بن محمد بن الحجاج نائب دمشق وله الامان، وكان قد تحصن هناك، فدخلوا عليه فوجدوا عنده خرجين في كل واحد منهما ثلاثون ألف دينار، فلما مروا بالمزة قال أصحاب ابن مصاد: خذ هذا المال فهو خير من يزيد بن الوليد، فقال: لا والله لا تحدث العرب أني أول من خان، ثم أتوا به يزيد بن الوليد فاستخدم من ذلك المال جندا للقتال قريبا من ألفي فارس، وبعث به مع أخيه عبد العزيز بن
__________
(1) في الطبري 9 / 8 وابن الاثير 5 / 284: دئاب...إن الذئاب.
(2) في الطبري 9 / 10: قطن، وفي ابن الاثير 5 / 285: ليأخذوه من قصره.

الوليد بن عبد الملك خلف الوليد بن يزيد ليأتوا به، وركب بعض موالي الوليد فرسا سابقا فساق به حتى انتهى إلا مولاه من الليل، وقد نفق الفرس من السوق، فأخبره الخبر فلم يصدقه وأمر بضربه، ثم تواترت عليه الاخبار فأشار عليه بعض أصحابه أن يتحول من منزله إلى حمص فإنها حصينة.
وقال الابرش سعيد بن الوليد الكلبي: أنزل على قومي بتدمر، فأبى أن يقبل شيئا من ذلك، بل ركب بمن
معه، وهو في مائتي فارس، وقصد أصحاب يزيد فالتقوا بثقلة في أثناء الطريق فأخذوه، وجاء الوليد فنزل حصن البخراء الذي كان للنعمان بن بشير، وجاءه رسول العباس بن الوليد إني آتيك - وكان من أنصاره - فأمر الوليد بإبراز سريره فجلس عليه وقال: أعلي يتوثب الرجال وأنا أثب على الاسد وأتخصر للافاعي ؟ وقدم عبد العزيز بن الوليد بمن معه، وإنما كان قد خلص معه من الالفي فارس ثمانمائة فارس، فتصافوا فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتل من أصحاب العباس جماعة حملت رؤوسهم إلى الوليد، وقد كان جاء العباس بن الوليد لنصرة الوليد بن يزيد، فبعث إليه أخوه عبد العزيز فجئ به قهرا حتى بايع لاخيه يزيد بن الوليد، واجتمعوا على حرب الوليد بن يزيد، فلما رأى الناس اجتماعهم فروا من الوليد إليهم، وبقي الوليد في دل وقل من الناس، فلجأ إلى الحصن فجاؤوا إليه وأحاطوا به من كل جانب يحاصرونه، فدنا الوليد من باب الحصن فنادى ليكلمني رجل شريف، فكلمه يزيد بن عنبسة السكسكي، فقال الوليد: ألم أدفع الموت (1) عنكم ؟ ألم أعط فقراءكم ؟ ألم أخدم نساءكم (2) ؟ فقال يزيد (3): إنما ننقم عليك انتهاك المحارم وشرب الخمور ونكاح أمهات أولاد أبيك، واستخفافك بأمر الله عزوجل.
فقال، حسبك يا أخا السكاسك، لقد أكثرت وأغرقت، وإن فيما أحل الله لي لسعة عما ذكرته.
ثم قال: أما والله لئن قتلتموني لا ترتقن فتنتكم ولا يلم شعثكم ولا تجتمع كلمتكم.
ورجع إلى القصر فجلس ووضع بين يديه مصحفا فنشره وأقبل يقرأ فيه وقال: يوم كيوم عثمان، واستسلم، وتسور عليه أولئك الحائط، فكان أول من نزل إليه يزيد بن عنبسة، فتقدم إليه وإلى جانبه سيف فقال: نحه عنك، فقال الوليد: لو أردت القتال به لكان غير هذا، فأخذ بيده وهو يريد أن يحبسه حتى يبعث به إلى يزيد بن الوليد، فبادره عليه عشرة من الامراء فأقبلوا على الوليد يضربونه على رأسه ووجهه بالسيوف حتى قتلوه (4)، ثم جروه برجله ليخرجوه، فصاحت النسوة فتركوه، واحتز أبو علاقة القضاعي رأسه، واحتاطوا على ما كان معه مما كان خرج به في وجهه ذلك، وبعثوا به إلى يزيد مع عشرة نفر، منهم منصور بن جمهور وروح بن مقبل وبشر مولى كنانة من بني كلب، وعبد الرحمن
__________
(1) في الطبري 9 / 15 وابن الاثير 5 / 287: المؤن.
(2) في الطبري وابن الاثير: زمناكم.
(3) في الامامة والسياسة 2 / 135: عبد السلام.
وذكر كلاما له علاقة بمقتل خالد بن عبد الله القسري.
(4) في ابن الاثير 5 / 288: ضربه عبد السلام اللخمي على رأسه وضربه السندي بن زياد بن أبي كبشة في وجهه.
ثم احتز رأسه عبد السلام (انظر الطبري).

الملقب بوجه الفلس، فلما انتهوا إليه بشروه بقتل الوليد وسلموا عليه بالخلافة، فأطلق لكل رجل من العشرة عشرة آلاف، فقال له روح بن بشر بن مقبل: أبشر يا أمير المؤمنين بقتل الوليد الفاسق، فسجد شكرا لله ورجعت الجيوش إلى يزيد، فكان أول من أخذ يده للمبايعة يزيد بن عنبسة السكسكي فانتزع يده من يده وقال: اللهم إن كان هذا رضى لك فأعني عليه، وكان قد جعل لمن جاءه برأس الوليد مائة ألف درهم، فلما جئ به - وكان ذلك ليلة الجمعة وقيل يوم الاربعاء - لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة ست وعشرين ومائة.
فأمر يزيد بنصب رأسه على رمح وأن يطاف به في البلد، فقيل له إنما ينصب رأس الخارجي، فقال: والله لانصبنه، فشهره في البلد على رمح ثم أودعه عند رجل شهرا ثم بعث به إلى أخيه سليمان بن يزيد، فقال أخوه بعدا له: أشهد أنك كنت شروبا للخمر ماجنا فاسقا ولقد أرادني على نفسي هذا الفاسق وأنا أخوه، لم يأنف من ذلك.
وقد قيل إن رأسه لم يزل معلقا بحائط جامع دمشق الشرقي مما يلي الصحن حتى انقضت دولة بني أمية، وقيل إنما كان ذلك أثر دمه، وكان عمره يوم قتل ستا وثلاثين سنة، وقيل ثمانيا وثلاثين، وقيل إحدى وثلاثين، وقيل ثنتان وقيل خمس، وقيل ست وأربعون سنة.
ومدة ولايته سنة وستة أشهر على الاشهر، وقيل ثلاثة أشهر.
قال ابن جرير: كان شديد البطش طويل أصابع الرجلين، كانت تضرب له سكة الحديد في الارض ويربط فيها خيط إلى رجله ثم يثب على الفرس فيركبها ولا يمس الفرس، فتنقلع تلك السكة من الارض مع وثبته.
خلافة يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان وهو الملقب بالناقص لنقصه الناس من أعطياتهم ما كان زاده الوليد بن يزيد في أعطياتهم، وهي عشرة عشرة، ورده إياهم إلى ما كانوا عليه في زمن هشام (1)، ويقال إن أول من لقبه بذلك مروان بن
محمد، بويع له بالخلافة بعد مقتل الوليد بن يزيد، وذلك ليلة الجمعة لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة من هذه السنة - حتى سنة ست وعشرين ومائة - وكان فيه صلاح وورع قبل ذلك، فأول ما عمل انتقاصه من أرزاق الجند ما كان الوليد زادهم، وذلك في كل سنة عشرة عشرة، فسمي الناقص لذلك، ويقال في المثل الاشج والناقص أعدلا خلفاء بني مروان - يعني عمر بن عبد العزيز وهذا - ولكن لم تطل أيامه، فإنه توفي من آخر هذه السنة، واضطربت عليه الامور، وانتشرت الفتن واختلفت كلمة بني مروان فنهض سليمان بن هشام، وكان معتقلا في سجن الوليد بعمان فاستحوز على أموالها وحواصلها، وأقبل إلى دمشق فجعل يلعن الوليد ويعيبه ويرميه بالكفر، فأكرمه يزيد ورد عليه أمواله التي كان أخذها من الوليد، وتزوج يزيد أخت سليمان، وهي أم هشام بنت هشام، ونهض أهل
__________
(1) في فوات الوفيات 4 / 333: قال المدائني: ناقص الوركين، ولذلك قيل له الناقص.

حمص إلى دار العباس بن الوليد التي عندهم فهدموها، وحبسوا أهله وبنيه، وهرب هو من حمص فلحق بيزيد بن الوليد إلى دمشق، وأظهر أهل حمص الاخذ بدم الوليد بن يزيد، وأغلقوا أبواب البلد، وأقاموا النوائح والبواكي على الوليد، وكاتبوا الاجناد في طلب الاخذ بالثأر، فأجابهم إلى ذلك طائفة كبيرة منهم، على أن يكون الحكم بن الوليد بن يزيد الذي أخذ له العهد هو الخليفة، وخلعوا نائبهم، وهو مروان بن عبد الله بن عبد الملك بن مروان، ثم قتلوه وقتلوا ابنه وأمروا عليهم معاوية بن يزيد بن حصين، فلما انتهى خبرهم إلى يزيد بن الوليد كتب إليهم كتابا مع يعقوب بن هانئ، ومضمون الكتاب أنه يدعو إلى أن يكون الامر شورى، فقال عمرو بن قيس: فإذا كان الامر كذلك فقد رضينا بولي عهدنا الحكم بن الوليد، فأخذ يعقوب بلحيته وقال: ويحك ! لو كان هذا الذي تدعو إليه يتيما تحت حجرك لم يحل لك أن تدفع إليه ماله، فكيف أمر الامة، فوثب أهل حمص على رسل يزيد بن الوليد فطردوهم عنهم وأخرجوهم من بين أظهرهم.
وقال لهم أبو محمد السفياني: لو قدمت دمشق لم يختلف علي منهم اثنان، فركبوا معه وساروا نحو دمشق وقد أمروا عليهم السفياني، فتلقاهم سليمان بن هشام في جيش كثيف قد جهزهم معه يزيد، وجهز أيضا عبد العزيز بن الوليد (1) في ثلاثة
آلاف يكونون عند ثنية العقاب، وجهز هشام بن مصاد المزي في ألف وخمسمائة ليكونوا على عقبة السلمية (2)، فخرج أهل حمص فساروا وتركوا جيش سليمان بن هشام ذات اليسار وتعدوه، فلما سمع بهم سليمان ساق في طلبهم فلحقهم عند السليمانية فجعلوا الزيتون عن أيمانهم والجبل عن شمائلهم والجباب (3) من خلفهم، ولم يبق تخلص إليهم إلا من جهة واحدة، فاقتتلوا هنالك في قبالة الحر قتالا شديدا، فقتل طائفة كثيرة من الفريقين، فبينما هم كذلك إذ جاء عبد العزيز بن الوليد بمن معه فحمل على أهل حمص فاخترق جيشهم حتى ركب التل الذي في وسطهم، وكانت الهزيمة، فهرب أهل حمص وتفرقوا، فأتبعهم الناس يقتلون ويأسرون، ثم تنادوا بالكف عنهم على أن يبايعوا ليزيد بن الوليد، وأسروا منهم جماعة، منهم أبو محمد السفياني ويزيد بن خالد [ بن يزيد ] (4) بن معاوية، ثم ارتحل سليمان وعبد العزيز فنزلا عذراء ومعهم الجيوش وأشراف الناس، وأشراف أهل حمص من الاسارى ومن استجاب من غير أسر، بعدما قتل منهم ثلاثمائة نفس، فدخلوا بهم على يزيد بن الوليد، فأقبل عليهم وأحسن إليهم وصفح عنهم، وأطلق الاعطيات لهم، لا سيما لاشرافهم، وولى عليهم الذي اختاروه وهو معاوية بن يزيد بن الحصين، وطابت عليه أنفسهم، وأقاموا عنده في دمشق سامعين مطيعين له.
__________
(1) في الطبري 9 / 24 وابن الاثير 5 / 293: ابن الحجاج.
(2) في الطبري: حقبة السلامية (انظر ابن الاثير).
(3) من الطبري، وفي الاصل: والحيات وهو تحريف.
(4) من الطبري 9 / 25 وابن الاثير 5 / 294، وقد سقطت من الاصول.

وفيها بايع أهل فلسطين يزيد بن سليمان بن عبد الملك، وذلك أن بني سليمان كانت لهم أملاك هناك، وكانوا يتركونها يبذلونها لهم، وكان أهل فلسطين يحبون مجاورتهم، فلما قتل الوليد بن يزيد كتب سعيد بن روح بن زنباع - وكان رئيس تلك الناحية - إلى يزيد بن سليمان بن عبد الملك يدعوهم إلى المبايعة له، فأجابوه إلى ذلك.
فلما بلغ أهل الاردن خبرهم بايعوا أيضا محمد بن عبد
الملك بن مروان، وأمروه عليهم، فلما انتهى خبرهم إلى يزيد بن الوليد أمير المؤمنين بعث إليهم الجيوش مع سليمان بن هشام في الدماشقة وأهل حمص الذين كانوا مع السفياني، فصالحهم أهل الاردن أولا ورجعوا إلى الطاعة، وكذلك أهل فلسطين.
وكتب يزيد بن الوليد ولاية الامرة بالرملة وتلك النواحي إلى أخيه إبراهيم بن الوليد (1)، واستقرت الممالك هنالك، وقد خطب أمير المؤمنين يزيد بن الوليد الناس بدمشق فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: أما بعد أيها الناس، أما والله ما خرجت أشرا ولا بطرا ولا حرصا على الدنيا، ولا رغبة في الملك، وما بي إطراء نفسي إني لظلوم لنفسي، إن لم يرحمني ربي فإني هالك، ولكني خرجت غضبا لله ولرسوله ولدينه، وداعيا إلى الله وكتابه وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، لما هدمت معالم الدين، وأطفئ نور أهل التقوى، وظهر الجبار العنيد المستحل لكل حرمة، والراكب كل بدعة (2)، مع أنه والله ما كان مصدقا بالكتاب، ولا مؤمنا بيوم الحساب، وإنه لابن عمي في النسب، وكفوي في الحسب، فلما رأيت ذلك استخرت الله في أمره، وسألته أن لا يكلني إلى نفسي، ودعوت إلى ذلك من أجابني من أهل ولايتي، وسعيت فيه حتى أراح الله منه العباد والبلاد، بحول الله وقوته لا بحولي ولا بقوتي.
أيها الناس ! إن لكم علي أن لا أضع حجرا على حجر، ولا لبنة على لبنة، ولا أكرى نهرا ولا أكثر مالا ولا أعطيه زوجة، ولا ولدا.
ولا أنقل مالا من بلد إلى بلد حتى أسد ثغر ذلك البلد، وخصاصة أهله بما يغنيهم، فإن فضل عن ذلك فضل نقلته إلى البلد الذي يليه ممن هو أحوج إليه، ولا أجمركم في ثغوركم فأفتنكم وأفتن أهليكم، ولا أغلق بابي دونكم فيأكل قويكم ضعيفكم، ولا أحمل على أهل جزيتكم ما يجليهم عن بلادهم ويقطع سبلهم (3)، وإن لكم عندي أعطياتكم في كل سنة، وأرزاقكم في كل شهر، حتى تستدر المعيشة بين المسلمين، فيكون أقصاهم كأدناهم، فإن أنا وفيت لكم بما قلت فعليكم السمع والطاعة وحسن المؤازرة، وإن أنا لم أوف لكم أن تخلعوني وإلا أن تستتيبوني، فإن تبت قبلتم مني، وإن
__________
(1) في الطبري 90 / 26 وابن الاثير 5 / 295: استعمل ضبعان بن روح على فلسطين، وابراهيم بن الوليد على الاردن.
(2) بعدها في العقد الفريد 2 / 144: فلما رأيت ذلك اشفقت إذ غشيتكم ظلمة لا تقلع على كثير من ذنوبكم وقسوة من
قلوبكم واشفقت ان يدعو كثيرا من الناس إلى ما هو عليه فيجيبه من أجابه منكم فاستخرت الله...(الفخري ص 136).
(3) في الطبري 9 / 27: نسلكم.

علمتم أحدا من أهل الصلاح والدين يعطيكم من نفسه مثل ما أعطيكم فأردتم أن تبايعوه فأنا أول من يبايعه ويدخل في طاعته.
أيها الناس ! إنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق (1)، إنما الطاعة طاعة الله فمن أطاع الله فأطيعوه ما أطاع الله، فإذا عصى أو دعا إلى معصية فهو أهل أن يعصى ولا يطاع، بل يقتل ويهان، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
وفي هذه السنة عزل يزيد بن الوليد يوسف بن عمر عن إمرة العراق لما ظهر منه من الحنق على اليمانية، وهم قوم خالد بن عبد الله القسري، حتى قتل الوليد بن يزيد، وكان قد سجن غالب من ببلاده منهم، وجعل الارصاد على الثغور خوفا من جند الخليفة، فعزله عنها أمير المؤمنين يزيد بن الوليد، وولى عليها منصور بن جمهور مع بلاد السند وسجستان وخراسان، وقد كان منصور بن جمهور أعرابيا جلفا، وكان يدين بمذهب الغيلانية القدرية، ولكن كانت له آثار حسنة، وعناء كثير في مقتل الوليد بن يزيد، فحظي بذلك عند يزيد بن الوليد، ويقال إنه لما فرغ الناس من الوليد ذهب من فوره إلى العراق فأخذ البيعة من أهلها.
إلى يزيد، وقرر بالاقاليم نوابا وعمالا وكر راجعا إلى دمشق في آخر رمضان، فلذلك ولاه الخليفة ما ولاه والله أعلم.
وأما يوسف بن عمر فإنه فر من العراق فلحق ببلاد البلقاء، فبعث إليه أمير المؤمنين يزيد فأحضره إليه، فلما وقف بين يديه أخذ بلحيته - وكان كبير اللحية جدا، ربما كانت تجاوز سرته وكان قصير القامة - فوبخه وأنبه ثم سجنه وأمر باستخلاص الحقوق منه.
ولما انتهى منصور بن جمهور إلى العراق قرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين إليهم في كيفية مقتل الوليد، وأن الله أخذه أخذ عزيز مقتدر، وأنه قد ولى عليهم منصور بن جمهور لما يعلم من شجاعته ومعرفته بالحرب، فبايع أهل العراق ليزيد بن الوليد، وكذلك أهل السند وسجستان.
وأما نصر بن سيار نائب خراسان فإنه امتنع من السمع والطاعة لمنصور بن جمهور، وأبى أن ينقاد لاوامره، وقد كان نصر هذا جهز هدايا كبيرة للوليد بن يزيد فاستمرت له.
وفي هذه السنة كتب مروان الملقب بالحمار كتابا إلى عمر بن يزيد أخي الوليد بن يزيد، يحثه على القيام بطلب دم أخيه الوليد، وكان مروان يومئذ أميرا على أذربيجان وأرمينية، ثم إن يزيد بن الوليد عزل منصور بن جمهور عن ولاية العراق وولى عليها عبد الله بن عمر بن عبد العزيز، وقال له: إن أهل العراق يحبون أباك فقد وليتكها، وذلك في شوال، وكتب له إلى أمراء الشام الذين بالعراق يوصيهم به خشية أن يمتنع منصور بن جمهور من تسليم البلاد إليه، فسلم إليه وسمع وأطاع وسلم.
وكتب الخليفة إلى نصر بن سيار باستمراره بولاية خراسان مستقلا بها، فخرج عليه رجل يقال له الكرماني، لانه ولد بكرمان، وهو أبو علي جديع بن علي بن شبيب المعني، واتبعه خلق كثير بحيث أنه كان يشهد الجمعة في نحو من
__________
(1) زيد في الطبري: ولا وفاء له بنقض عهد.

ألف وخمسمائة، وكان يسلم على نصر بن سيار ولا يجلس عنده، فتحير نصر بن سيار وأمراؤه فيما يصنع به، فاتفق رأيهم بعد جهد على سجنه، فسجن قريبا من شهر، ثم أطلقه فاجتمع إليه ناس كثير، وجم غفير، وركبوا معه، فبعث إليهم نصر من قاتلهم فقتلهم وقهرهم وكسرهم واستخف جماعات من أهل خراسان بنصر بن سيار وتلاشوا أمره وحرمته، وألحوا عليه في أعطياتهم وأسمعوه غليظ ما يكره وهو على المنبر، بسفارة سلم بن أحوز أدى إليه ذلك، وخرجت الباعة من المسجد الجامع وهو يخطب، وانفض كثير من الناس عنه، فقال لهم نصر فيما قال: والله لقد نشرتكم وطويتكم وطويتكم ونشرتكم فما عندي عشرة منكم على دين، فاتقوا الله فوالله لئن اختلف فيكم سيفان ليتمنين الرجل منكم أن ينخلع من أهله وماله وولده، ولم يكن رآها، ثم تمثل بقول النابغة: فإن يغلب شقاؤكم عليكم * فإني في صلاحكم سعيت وقال الحارث بن عبد الله بن الحشرج بن الورد بن المغيرة الجعد: - أبيت أرعى النجوم مرتفقا * إذا استقلت نحوي (1) أوائلها
من فتنة أصبحت مجللة * قد عم أهل الصلاة شاملها من بخراسان والعراق ومن * بالشام كل شجاه شاغلها يمشي السفيه الذي يعنف بال * جهل سواء فيها وعاقلها فالناس منها في لون مظلمة * دهماء ملتجة غياطلها والناس في كربة يكاد لها * تنبذ أولادها حواملها يغدون منها في كل مبهمة * عمياء تمنى لهم غوائلها لا ينظر الناس من (2) عواقبها * إلا التي لا يبين قائلها كرغوة البكر أو كصيحة حب * لى طرقت حولها قوابلها فجاء فينا تزرى (3) بوجهته * فيها خطوب حمر زلازلها وفي هذه السنة أخذ الخليفة البيعة من الامراء وغيرهم بولاية العهد من بعده لاخيه إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك، ثم من بعد إبراهيم لعبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك بن مروان، وذلك بسبب مرضه الذي مات فيه.
وكان ذلك في شهر [ ذي ] الحجة منها، وقد حرضه على ذلك جماعة من الامراء والاكابر والوزراء.
وفيها عزل يزيد عن إمرة الحجاز يوسف بن محمد الثقفي وولى عليها عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، فقدمها في أواخر ذي القعدة منها، وفيها أظهر مروان الحمار الخلاف
__________
(1) في الطبري: 9 / 38: تجري.
(2) في الطبري: في.
(3) في الطبري: أزرى.

ليزيد بن الوليد، وخرج من بلاد أرمينية يظهر أنه يطلب بدم الوليد بن يزيد، فلما وصل إلى حران أظهر الموافقة وبايع لامير المؤمنين يزيد بن الوليد.
وفيها أرسل إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس أبا هاشم بكير بن ماهان إلى أرض خراسان، فاجتمع بجماعة من أهل خراسان بمرو، فقرأ عليهم كتاب إبراهيم بن محمد الامام إليه وإليهم، ووصيته، فتلقوا ذلك بالقبول، وأرسلوا معه ما
كان عندهم من النفقات.
وفي سلخ ذي القعدة، وقيل في سلخ ذي الحجة، وقيل لعشر مضين منه، وقيل بعد الاضحى منها كان وفاة أمير المؤمنين.
يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان هو يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاصي بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي.
أبو خالد الاموي، أمير المؤمنين، بويع له بالخلافة أول ما بويع بها في قرية المزة، من قرى دمشق، ثم دخل دمشق فغلب عليها، ثم أرسل الجيوش إلى ابن عمه الوليد بن يزيد فقتله، واستحوذ على الخلافة في أواخر جمادى الآخرة من هذه السنة، وكان يلقب بالناقص لنقصه الناس العشرات التي زادهم إياها الوليد بن يزيد، وقيل إنما سماه بذلك مروان الحمار، وكان يقول: الناقص ابن اليد، وأمه شاهفرند بنت فيروز بن يزدجرد بن كسرى، كسروية.
وقال ابن جرير: وأمه شاه آفزيد (1) بنت فيروز بن يزدجرد بن شهريار بن كسرى، وهو القائل: أنا ابن كسرى وأبي مروان * وقيصر جدي وجدي خاقان وإنما قال ذلك لان جده فيروز، وأم أمه بنت قيصر، وأمه شيرويه وهي بنت خاقان ملك الترك، وكانت قد سباها قتيبة بن مسلم، هي وأخت لها فبعثهما إلى الحجاج، فأرسل بهذه إلى الوليد واستبقى عنده الاخرى، فولدت هذه الوليد بن يزيد الناقص هذا، وهذه أخذها الحجاج فكانت عنده بالعراق، وكان مولده في سنة تسعين، وقيل في سنة ست وتسعين، وقد روى عنه الاوزاعي مسألة السلم.
وقد ذكرنا كيفية ولايته فيما سلف في هذه السنة، وأنه كان عادلا دينا محبا للخير مبغضا للشر.
قاصدا للحق.
وقد خرج يوم عيد الفطر من هذه السنة إلى صلاة العيد بين صفين من الخيالة والسيوف مسللة عن يمينه وشماله، ورجع من المصلى إلى الخضراء كذلك، كان رجلا صالحا، يقال في المثل الاشج والناقص أعدلا بني مروان، والمراد عمر بن عبد العزيز وهذا.
وقد قال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثني إبراهيم بن محمد المروزي، عن أبي عثمان الليثي قال: قال يزيد بن الوليد الناقص:
__________
(1) في مروج الذهب 3 / 273: سارية.

يا بني أمية إياكم والغناء فإنه ينقص الحياء ويزيد في الشهوة ويهدم المروءة، وإنه لينوب عن الخمر ويفعل ما يفعل المسكر، فإن كنتم لا بد فاعلين فجنبوه النساء فإنه داعية الزنا.
وقال ابن عبد الحكيم عن الشافعي: لما ولي يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان الذي يقال له الناقص دعا الناس إلى القدر وحملهم عليه وقرب غيلان.
قاله ابن عساكر.
قال: ولعله قرب أصحاب غيلان، لان غيلان قتله هشام بن عبد الملك.
وقال محمد بن المبارك: آخر ما تكلم به يزيد بن الوليد الناقص واحزناه واشقاآه.
وكان نقش خاتمه العظمة لله.
وكانت وفاته بالخضراء (1) من طاعون أصابه، وذلك يوم السبت لسبع مضين من ذي الحجة، وقيل يوم الاضحى منه، وقيل بعده بأيام، وقيل لعشر بقين منه، وقيل في سلخه، وقيل في سلخ ذي القعدة من هذه السنة.
وأكثر ما قيل في عمره ست وأربعون سنة، وقيل ثلاثون سنة، وقيل غير ذلك فالله أعلم.
وكانت مدة ولايته ستة أشهر على الاشهر، وقيل خمسة أشهر وأيام (2).
وصلى عليه أخوه إبراهيم بن الوليد، وهو ولي العهد من بعده رحمه الله.
وذكر سعيد بن كثير بن عفير أنه دفن بين باب الجابية وباب الصغير، وقيل إنه دفن بباب الفراديس، وكان أسمر نحيفا حسن الجسم حسن الوجه.
وقال علي بن محمد المديني: كان يزيد أسمر طويلا صغير الرأس بوجهه خال، وكان جميلا، في فمه بعض السعة وليس بالمفرط.
وحج بالناس فيها عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز وهو نائب الحجاز، وأخوه عبد الله نائب العراق، ونصر بن سيار على نيابة خراسان، والله سبحانه أعلم.
وممن توفي في هذه السنة من الاعيان: خالد بن عبد الله بن يزيد ابن أسد بن كرز بن عامر بن عبقري، أبو الهيثم البجلي القسري الدمشقي، أمير مكة والحجاز للوليد ثم لسليمان، وأمير العراقين لهشام خمس عشرة سنة.
قال ابن عساكر: كانت داره بدمشق في مربعة القز وتعرف اليوم بدار الشريف اليزيدي، وإليه ينسب الحمام الذي داخل باب توما، روى عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: " يا أسد (3) أتحب الجنة ؟ قال: نعم ! قال: فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك ".
رواه أبو يعلى عن عثمان بن أبي شيبة عن هيثم عن سيار من أبي
الحكم أنه سمعه على المنبر يقول ذلك.
وممن روى عنه إسماعيل بن أوسط وإسماعيل بن أبي خالد، وحبيب بن أبي حبيب، وحميد الطويل.
وروى أنه روى عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم في تكفير المرض الذنوب.
وكانت أمه نصرانية، وذكره أبو بكر بن عياش في الاشراف، فيمن أمه نصرانية.
وقال
__________
(1) في مروج الذهب 3 / 268 وابن الاعثم 8 / 141: بدمشق.
(2) في مدة ولايته ومقدار عمره عندما توفي اختلاف انظر الطبري 9 / 46، ابن الاثير 5 / 310 مروج الذهب 3 / 268 ابن الاعثم 8 / 141 الامامة والسياسة 2 / 136 الفخري ص 136 المعارف ص 160 الاخبار الطوال ص 350.
(3) في ابن عساكر 5 / 67: يا يزيد بن أسد.
(انظر المعارف ص 175).

المدائني: أول ما عرف من رياسته أنه وطأ صبيا بدمشق بفرسه فحمله فأشهد طائفة من الناس أنه هو صاحبه، فإن مات فعليه ديته، وقد استنابه الوليد على الحجاز من سنة تسع وثمانين إلى أن توفي الوليد ثم سليمان، وفي سنة ست ومائة استنابه هشام على العراق إلى سنة عشرين ومائة، وسلمه إلى يوسف بن عمر الذي ولاه مكانه فعاقبه وأخذ منه أموالا ثم أطلقه، وأقام بدمشق إلى المحرم من هذه السنة فسلمه الوليد بن يزيد إلى يوسف بن عمر يستخلص منه خمسين ألف ألف، فمات تحت العقوبة البليغة، كسر قدميه ثم ساقيه ثم فخذيه، ثم صدره (1)، فمات ولا يتكلم كلمة واحدة، ولا تأوه حتى خرجت روحه رحمه الله.
قال الليثي عن أبيه: خطب خالد القسري يوما فأرتج عليه فقال: أيها الناس ! إن هذا الكلام يجئ أحيانا ويعزب أحيانا، فيتسبب عند مجيئه سببه ويتعذر عند عزوبه مطلبه، وقد يرد إلى السليط بيانه ويثيب إلى الحصر كلامه، وسيعود إلينا ما تحبون، ونعود لكم كما تريدون.
وقال الاصمعي وغيره: خطب خالد القسري يوما بواسط فقال: يا أيها الناس تنافسوا في المكارم وسارعوا إلى المغانم واشتروا الحمد بالجود، ولا تكتسبوا بالمطل ذما، ولا تعتدوا بمعروف لم تعجلوه، ومهما تكن لاحد منكم نعمة عند أحد لم يبلغ شكرها فالله أحسن له جزاء، وأجزل عطاء، واعلموا أن حوائج الناس
إليكم نعم فلا تملوها فتحول نقما، فإن أفضل المال ما كسب أجرا وأورث ذكرا، ولو رأيتم المعروف لرأيتموه رجلا حسنا جميلا يسر الناس إذا نظروا إليه، ويفوق العالمين.
ولو رأيتم البخل لرأيتموه رجلا مشوها قبيحا تنفر منه القلوب وتغض دونه الابصار.
إنه من جاد ساد، ومن بخل ذل، وأكرم الناس من أعطى من لا يرجوه، ومن عفا عن قدرة، وأفضل الناس من وصل عن قطيعة، ومن لم يطب حرثه لم يزك نبته، والفروع عند مغارسها تنمو، وبأصولها تسمو.
وروى الاصمعي عن عمر بن الهيثم أن أعرابيا قدم على خالد فأنشده قصيدة امتدحه بها يقول فيها: إليك ابن كرز الخير أقبلت راغبا * لتخبر مني ماؤها وتبددا إلى الماجد البهلول ذي الحلم والندى * وأكرم خلق الله فرعا ومحتدا إذا ما أناس قصروا بفعالهم * نهضت فلم تلق هنالك مفقدا فيا لك بحرا يغمر الناس موجه * إذا يسأل المعروف جاش وأزبدا بلوت ابن عبد الله في كل موطن * فألفيت خير الناس نفسا وأمجدا فلو كان في الدنيا من الناس خالد * لجود بمعروف لكنت مخلدا فلا تحرمني منك ما قد رجوته * فيصبح وجهي كالح اللون أربدا
__________
(1) في الاخبار الطوال ص 348: وضع (يوسف بن عمر) على خالد المضرسة - وهي حجر غليظ جدا خشن الوطئ.
وجعل يعذبه بها حتى قتله.

قال: فحفظها خالد، فلما اجتمع الناس عند خالد قام الاعرابي ينشدها فابتدره إليها خالد فأنشدها قبله وقال: أيها الشيخ إن هذا شعر قد سبقناك إليه.
فنهض الشيخ فولى ذاهبا فأتبعه خالد من يسمع ما يقول فإذا هو ينشد هذه الابيات: ألا في سبيل الله ما كنت أرتجي * لديه وما لاقيت من نكد الجهد دخلت على بحر يجرد بماله * ويعطي كثير المال في طلب الحمد فخالفني الجد المشوم لشقوتي * وقاربني نحسي وفارقني سعدي
فلو كان لي رزق لديه لنلته * ولكنه أمر من الواحد الفرد فرده خالد وأعلمه بما كان يقول فأمر له بعشرة آلاف درهم.
وقال الاصمعي: سأل أعرابي خالدا القسري أن يملا له جرابه دقيقا فأمر بملئه له دراهم، فقيل للاعرابي حين خرج: ما فعل معك ؟ فقال: سألته بما أشتهي فأمر لي بما يشتهي هو.
وقال بعضهم: بينما خالد يسير في موكبه إذ تلقاه أعرابي فسأله أن يضرب عنقه، فقال ويحك ولم ؟ أقطعت السبيل ؟ أأخرجت يدا من طاعة ؟ فكل ذلك يقول لا ! قال: فلم ؟ قال: من الفقر والفاقة.
فقال: سل حاجتك، قال ثلاثين ألفا.
فقال خالد: ما ربح أحد مثل ما ربحت اليوم، إني وضعت في نفسي أن يسألني مائة ألف فسأل ثلاثين فربحت سبعين.
ارجعوا بنا اليوم، وأمر له بثلاثين ألفا.
وكان إذا جلس يوضع [ المال ] بين يديه ويقول: إن هذه الاموال ودائع لا بد من تفرقتها.
وسقط خاتم لجاريته رابعة يساوي ثلاثين ألفا، في بالوعة الدار، فسألت أن تؤتى بمن يخرجه، فقال: إن يدك أكرم علي من أن تلبسه بعد ما صار إلى هذا الموضع القذر، وأمر لها بخمسة آلاف دينار بدله.
وقد كان لرابعة هذه من الحلى شئ عظيم، من جملة ذلك يا قوتة وجوهرة، كل واحد بثلاثة وسبعين ألف دينار.
وقد روى البخاري في كتاب أفعال العباد، وابن أبي حاتم في كتاب السنة، وغير واحد ممن صنف في كتب السنة أن خالد بن عبد الله القسري خطب الناس في عيد أضحى فقال: أيها الناس، ضحوا يقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما، تعالى الله عما يقول الجعد بن درهم علوا كبيرا، ثم نزل فذبحه في أصل المنبر.
قال غير واحد من الائمة: ؟ الجعد بن درهم من أهل الشام، وهو مؤدب مروان الحمار، ولهذا يقال له مروان الجعدي، فنسب إليه، وهو شيخ الجهم بن صفوان الذي تنسب إليه الطائفة الجهمية الذين يقولون إن الله في كل مكان بذاته، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، وكان الجعد بن درهم قد تلفى هذا المذهب الخبيث عن رجل يقال له أبان بن سمعان، وأخذه أبان عن طالوت ابن أخت لبيد بن أعصم، عن خاله لبيد بن أعصم اليهودي الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم في مشط وماشطة وجف طلعة ذكر له، وتحت راعوفة ببئر ذي أروان كان ماؤها نقاعة الحناء.
وقد ثبت الحديث بذلك في الصحيحين
وغيرهما.
وجاء في بعض الاحاديث أن الله أنزل بسبب ذلك سورتي المعوذتين.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55