كتاب :البداية والنهاية
الامام الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن كثير الدمشقي

وفي دي الحجة منها شرع في بناء المدرسة النظامية، ونقض لاجلها دور كثيرة من مشرعة الزوايا، وباب البصرة وفيها كانت حروب كثيرة بين تميم بن المعز بن باديس (1)، وأولاد حماد، والعرب والمغاربة بصنهاجة وزناتة.
وحج بالناس من بغداد النقيب أبو الغنائم.
وفيها كان مقتل عميد الملك الكندري، وهو منصور بن محمد أبو نصر الكندري، وزير طغرلبك، وكان مسجونا سنة تامة، ولما قتل حمل فدفن عند أبيه بقرية كندرة (2)، من عمل طريثيث وليست بكندرة التي هي بالقرب من قزوين.
واستحوذ السلطان على أمواله وحواصله، وقد كان ذكيا فصيحا شاعرا، لديه فضائل جمة، حاضر الجواب سريعه.
ولما أرسله طغرلبك إلى الخليفة يطلب ابنته، وامتنع الخليفة من ذلك وأنشد متمثلا بقول الشاعر * ما كل ما يتمنى المرء يدركه * فأجابه الوزير تمام قوله * تجري الرياح بما لا تشتهي السفن * فسكت الخليفة وأطرق.
قتل عن نيف وأربعين سنة.
ومن شعره قوله: إن كان في الناس ضيق عن منافستي (3) * فالموت قد وسع الدنيا على الناس مضيت والشامت المغبون يتبعني * كل لكاس المنايا شارب حاسي وقد بعثه للملك طغرلبك يخطب له امرأة خوارزم شاه فتزوجها هو، فخصاه الملك وأمره على عمله فدفن ذكره بخوارزم، وسفح دمه حين قتل بمرو الروذ، ودفن جسده بقريته، وحمل رأسه فدفن بنيسابور، ونقل قحف رأسه إلى كرمان، وأنا أشهد أن الله جامع الخلائق إلى ميقات يوم معلوم أين كانوا، وحيث كانوا، وعلى أي صفة كانوا سبحانه وتعالى.
ثم دخلت سنة ثمان وخمسين وأربعمائة في يوم عاشوراء أغلق أهل الكرخ دكاكينهم وأحضروا نساء ينحن على الحسين، كما جرت به عادتهم السالفة في بدعتهم المتقدمة المخالفة، فحين وقع ذلك أنكرته العامة، وطلب الخليفة أبا
الغنائم وأنكر عليه ذلك.
فاعتذر إليه بأنه لم يعلم به، وأنه حين علم أزاله، وتردد أهل الكرخ إلى الديوان يعتذرون من ذلك، وخرج التوقيع بكفر من سب الصحابة وأظهر البدع.
قال ابن الجوزي: في ربيع الاول ولد بباب الازج صبية لها رأسان ووجهان ورقبتان وأربع أيد، على بدن كامل ثم ماتت.
قال: وفي جمادى الآخرة كانت بخراسان زلزلة مكثت أياما، تصدعت منها
__________
(1) من الكامل 10 / 45 والبيان المغرب 1 / 298، وفي الاصل: تميم بن العزيز وباديس.
(2) في معجم البلدان 4 / 482: كندر، وإليها ينسب عميد الملك أبو نصر محمد بن أبي صالح منصور بن محمد الكندري الجراحي قتل سنة 459 ه.
(3) في الكامل 10 / 32 مناقشتي.

الجبال، وهلك جماعة، وخسف بعدة قرى، وخرج الناس إلى الصحراء وأقاموا هنالك، ووقع حريق بنهر معلى (1) فاحترق مائة دكان وثلاثة دور، وذهب للناس شئ كثير، ونهب بعضهم بعضا.
قال ابن الجوزي: وفي شعبان وقع قتال بدمشق فأحرقوا دارا كانت قريبة من الجامع، فاحترق جامع دمشق.
كذا قال ابن الجوزي: والصحيح المشهور أن حريق جامع دمشق إنما هو في ليلة النصف من شعبان سنة إحدى وستين وأربعمائة بعد ثلاث سنين مما قال، وأن غلمان الفاطميين اقتتلوا مع غلمان العباسيين فألقيت نار بدار الامارة، وهي الخضراء، فاحترقت وتعدى حريقها حتى وصل إلى الجامع فسقطت سقوفه، وبادت زخرفته، وتلف رخامه، وبقي كأنه خربة، وبادت الخضراء فصارت كوما من تراب بعد ما كانت في غاية الاحكام والاتقان، وطيب الفناء، ونزهة المجالس، وحسن المنظر، فهي إلى يومنا هذا لا يسكنها لرداءة مكانها إلا سفلة الناس وأسقاطهم، بعد ما كانت دار الخلافة والملك والامارة، منذ أسسها معاوية بن أبي سفيان، وأما الجامع الاموي فإنه لم يكن على وجه الارض شئ أحسن منه ولا أبهى منظرا، إلى أن احترق فبقي خرابا مدة طويلة ثم شرع الملوك في تجديده وترميمه، حتى بلط في زمن العادل أبي بكر بن أيوب، ولم يزالوا في تحسين معالمه إلى زماننا هذا، فتماثل وهو بالنسبة إلى حاله الاول كلا شئ، ولا زال التحسين فيه إلى أيام الامير سيف الدين
بتكنزين عبد الله الناصري، في حدود سنة ثلاث وسبعمائة، وما قبلها وما بعدها بيسير.
وفيها رخصت الاسعار ببغداد رخصا كثيرا، ونقصت دجلة نقصا بينا.
وفيها أخذ الملك ألب أرسلان العهد بالملك من بعده لولده ملكشاه، ومشى بين يديه بالغاشية والامراء يمشون بين يديه، وكان يوما مشهودا.
وحج بالناس فيها نور الهدى أبو طالب الحسين بن نظام الحضرتين الزينبي وجاور بمكة.
وفيها توفي من الاعيان...الحافظ الكبير أبو بكر البيهقي أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله بن موسى أبو بكر البيهقي، له التصانيف التي سارت بها الركبان إلى سائر الامصار، ولد سنة أربع وثمانين وثلثمائة، وكان أوحد أهل زمانه في الاتقان والحفظ والفقه والتصنيف، كان فقيها محدثا أصوليا، أخذ العلم عن الحاكم أبي عبد الله النيسابوري، وسمع على غيره شيئا كثيرا، وجمع أشياء كثيرة نافعة، لم يسبق إلى مثلها، ولا يدرك فيها، منها كتاب السنن الكبير، ونصوص الشافعي كل في عشر مجلدات، والسنن الصغير،
__________
(1) من الكامل ومعجم البلدان، وفي الاصل " يعلى ".
وقيل: المعلى، نسبة إلى المعلى بن طريف مولى المهدي وكان من كبار قواد الرشيد.

والآثار، والمدخل، والآداب وشعب الايمان، والخلافيات، ودلائل النبوة، والبعث والنشور، وغير ذلك من المصنفات الكبار والصغار المفيدة، التي لا تسامى ولا تدانى، وكان زاهدا متقللا من الدنيا، كثير العبادة والورع، توفي بنيسابور، ونقل تابوته إلى بيهق في جمادى الاولى منها.
الحسن بن غالب ابن علي بن غالب بن منصور صعلوك، أبو علي التميمي، ويعرف بابن المبارك المقري، صحب ابن سمعون، وقرأ القرآن على حروف أنكرت عليه، وجرب عليه الكذب، إما عمدا وإما خطأ، واتهم في رواية كثيرة، وكان أبو بكر القزويني ممن ينكر عليه، وكتب عليه محضر بعدم الاقراء
بالحروف المنكرة، قال أبو محمد السمرقندي: كان كذابا، توفي فيها عن ثنتين وثمانين سنة، ودفن عند إبراهيم الحربي.
قال ابن خلكان: أخذ الفقه عن أبي الفتح نصر بن محمد العمري المروزي، ثم غلب عليه الحديث واشتهر به، ورحل في طلبه.
القاضي أبو يعلى بن الفرا الحنبلي محمد بن الحسن (1) بن محمد بن خلف بن أحمد الفرا القاضي، أبو يعلى شيخ الحنابلة، وممهد مذهبهم في الفروع، ولد في محرم سنة ثمانين وثلثمائة، وسمع الحديث الكثير، وحدث عن ابن حبابة.
قال ابن الجوزي: وكان من سادات العلماء الثقات، وشهد عند ابن ماكولا وابن الدامغاني فقبلاه، وتولى النظر في الحكم بحريم الخلافة، وكان إماما في الفقه، له التصانيف الحسان الكثيرة في مذهب أحمد، ودرس وأفتى سنين، وانتهت إليه رياسة المذهب، وانتشرت تصانيفه وأصحابه، وجمع الامامة والفقه والصدق، وحسن الخلق، والتعبد والتقشف والخشوع، وحسن السمت، والصمت عما لا يعني توفي في العشرين من رمضان منها عن ثمان وسبعين سنة، واجتمع في جنازته القضاة والاعيان، وكان يوما حارا، فأفطر بعض من اتبع جنازته، وترك من البنين عبيد الله أبا القاسم، وأبا الحسين وأبا حازم، ورآه بعضهم في المنام فقال: ما فعل الله بك ؟ فقال: رحمني وغفر لي وأكرمني، ورفع منزلتي، وجعل يعد ذلك بأصبعه، فقال: بالعلم ؟ فقال: بل بالصدق.
ابن سيده صاحب المحكم في اللغة، أبو الحسين (2) علي بن إسماعيل المرسي (3)، كان إماما حافظا في
__________
(1) في الكامل 10 / 52 وتذكرة الحفاظ / 1135: الحسين.
انظر ترجمته في العبر 3 / 243 المنتظم 8 / 243 الوافي 3 / 7 تاريخ بغداد 2 / 256 المنهج الاحمد 2 / 128.
(2) في ابن خلكان 3 / 330 وشذرات الذهب 3 / 305: أبو الحسن.
(انظر مختصر أخبار البشر 2 / 186).

اللغة، وكان ضرير البصر، أخذ علم العربية واللغة عن أبيه، وكان أبوه ضريرا أيضا، واشتغل على أبي العلاء صاعد البغدادي، وله المحكم في مجلدات عديدة، وله شرح الحماسة في ست
مجلدات، وغير ذلك، وقرأ على الشيخ أبي عمر الطملنكي كتاب الغريب لابي عبيد سرها من حفظه، فتعجب الناس لذلك، وكان الشيخ يقابل بما يقرأ في الكتاب، فسمع الناس بقراءته من حفظه، توفي في ربيع الاول (1) منها وله ستون سنة، وقيل إنه توفي في سنة ثمان وأربعين، والاول أصح، والله أعلم.
ثم دخلت سنة تسع وخمسين وأربعمائة فيها بنى أبو سعيد (2) المستوفي الملقب بشرف الملك، مشهد الامام أبي حنيفة ببغداد، وعقد عليه قبة، وعمل بإزائه مدرسة، فدخل أبو جعفر بن البياضي زائرا لابي حنيفة فأنشد: ألم تر أن العلم كان مضيعا (3) * فجمعه هذا المغيب في اللحد كذلك كانت هذه الارض ميتة * فأنشرها جود العميد أبي السعد وفيها هبت ريح حارة فمات بسببها خلق كثير، وورد أن ببغداد تلف شجر كثير من الليمون والاترج.
وفيها احترق قبر معروف الكرخي، وكان سببه أن القيم طبخ له ماء الشعير لمرضه فتعدت النار إلى الاخشاب فاحترق المشهد.
وفيها وقع غلاء وفناء بدمشق وحلب وحران، وأعمال خراسان بكمالها، ووقع الفناء في الدواب: كانت تنتفخ رؤوسها وأعينها حتى كان الناس يأخذون حمر الوحش بالايدي، وكانوا يأنفون من أكلها.
قال ابن الجوزي في المنتظم: وفي يوم السبت عاشر ذي القعدة جمع العميد أبو سعد الناس ليحضروا الدرس بالنظامية ببغداد، وعين لتدريسها ومشيختها الشيخ أبا إسحاق الشيرازي، فلما تكامل اجتماع الناس وجاء أبو إسحاق ليدرس لقيه فقيه شاب فقال: يا سيدي تذهب تدرس في مكان مغصوب ؟ فامتنع أبو إسحاق من الحضور ورجع إلى بيته، فأقيم الشيخ أبو نصر الصباغ فدرس، فلما بلغ نظام الملك ذلك تغيظ على العميد وأرسل إلى الشيخ أبي إسحاق فرده إلى التدريس بالنظامية، في ذي الحجة من هذه السنة، وكان لا يصلي فيها مكتوبة، بل كان يخرج إلى بعض المساجد فيصلي، لما بلغه من أنها مغصوبة، وقد كان مدة تدريس ابن الصباغ فيها عشرين يوما، ثم
__________
(3) المرسي نسبة إلى مدينة مرسية وهي مدينة في شرق الاندلس.
(1) في ابن خلكان: ربيع الآخر يوم الاحد لاربع بقين منه.
وفي شذرات الذهب: سادس عشر جمادى الآخرة.
(2) في الكامل 10 / 54: أبو سعد.
(3) في الكامل: مشتتا.

عاد أبو إسحاق إليها.
وفي ذي القعدة من هذه السنة قتل الصليحي أمير اليمن وصاحب مكة قتله بعض أمراء اليمن، وخطب للقائم بأمر الله العباسي.
وفيها حج بالناس أبو الغنائم النقيب.
وممن توفي فيها من الاعيان...محمد بن إسماعيل بن محمد أبو علي الطرسوسي، ويقال له العراقي (1)، لظرفه وطول مقامه بها، سمع الحديث من أبي طاهر المخلص، وتفقه على أبي محمد الباقي، ثم على الشيخ أبي حامد الاسفراييني، وولي قضاء بلدة طرسوس وكان من الفقهاء الفضلاء المبرزين.
ثم دخلت سنة ستين وأربعمائة قال ابن الجوزي: في جمادى الاولى كانت زلزلة بأرض فلسطين، أهلكت بلد الرملة، ورمت شراريف من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولحقت وادي الصفر وخيبر، وانشقت الارض عن كنوز كثيرة من المال، وبلغ حسها إلى الرحبة والكوفة، وجاء كتاب بعض التجار فيه ذكر هذه الزلزلة وذكر فيه أنها خسفت الرملة جميعا حتى لم يسلم منها إلا داران فقط، وهلك منها خمس عشرة (2) ألف نسمة، وانشقت صخرة بيت المقدس، ثم عادت فالتأمت، وغار البحر مسيرة يوم، وساخ في الارض وظهر في مكان الماء أشياء من جواهر وغيرها، ودخل الناس في أرضه يلتقطون، فرجع عليهم فأهلك كثيرا منهم، أو أكثرهم.
وفي يوم النصف من جمادى الآخرة قرئ الاعتقاد القادري الذي فيه مذهب أهل السنة، والانكار على أهل البدع، وقرأ أبو مسلم الكجي البخاري المحدث كتاب التوحيد لابن خزيمة على الجماعة الحاضرين.
وذكر بمحضر من الوزير ابن جهير وجماعة الفقهاء وأهل الكلام، واعترفوا بالموافقة، ثم قرئ الاعتقاد القادري على الشريف أبي جعفر بن المقتدي بالله بباب
البصرة، وذلك لسماعه له من الخليفة القادر بالله مصنفه.
وفيها عزل الخليفة وزيره أبا نصر محمد بن محمد بن جهير، الملقب فخر الدولة، وبعث إليه يعاتبه في أشياء كثيرة، فاعتذر منها وأخذ في الترفق والتذلل، فأجيب بأن يرحل إلى أي جهة شاء، فاختار ابن مزيد فباع أصحابه أملاكهم وطلقوا نساءهم وأخذ أولاه وأهله وجاء ليركب في سفينة لينحدر منها إلى الحلة (2)، والناس يتباكون حوله لبكائه، فلما اجتاز بدار الخلافة قبل الارض دفعات
__________
(1) ذكره ابن الاثير في تاريخه 10 / 56 أبو علي الطوسي، قاضيها، وهو عمر بن إسماعيل بن محمد.
(2) في رواية ابن الاثير في تاريخه 10 / 57: خمسة وعشرون ألف نسمة.
(3) في الكامل 10 / 57: الفلوجة.

والخليفة في الشباك، والوزير يقول يا أمير المؤمنين ارحم شيبتي وغربتي وأولادي، فأعيد إلى الوزارة بشفاعة دبيس بن مزيد، في السنة الآتية، وامتدحه الشعراء، وفرح الناس برجوعه إلى الوزارة وكان يوما مشهودا.
وفيها توفي من الاعيان...عبد الملك بن محمد بن يوسف بن منصور الملقب بالشيخ الاجل، كان أوحد زمانه بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمبادرة إلى فعل الخيرات، واصطناع الايادي عند أهلها، من أهل السنة، مع شدة القيام على أهل البدع ولعنهم، وافتقاد المستورين بالبر والصدقة، وإخفاء ذلك جهده وطاقته، ومن غريب ما وقع له أنه كان يصل إنسانا في كل يوم بعشرة دنانير، كان يكتب بها معه إلى ابن رضوان، فلما توفي الشيخ جاء الرجل إلى ابن رضوان فقال: ادفع إلى ما كان يصرف لي الشيخ، فقال له ابن رضوان: إنه قد مات ولا أصرف لك شيئا، فجاء الرجل إلى قبر الشيخ الاجل فقرأ شيئا من القرآن ودعا له وترحم عليه، ثم التفت فإذا هو بكاغد فيه عشرة دنانير، فأخذها وجاء بها إلى ابن رضوان فذكر له ما جرى له، فقال: هذه سقطت مني اليوم عند قبره فخذها ولك عندي في كل يوم مثلها.
توفي في نصف المحرم منها عن خمس
وستين سنة، وكان يوم موته يوما مشهودا، حضره خلق لا يعلم عددهم إلا الله عزوجل، فرحمه الله تعالى.
أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي فقيه الشيعة، ودفن في مشهد علي، وكان مجاورا به حين أحرقت داره بالكرخ، وكتبه، سنة ثمان وأربعين إلى محرم هذه السنة فتوفي ودفن هناك.
ثم دخلت سنة إحدى وستين وأربعمائة في ليلة النصف من شعبان منها كان حريق جامع دمشق، وكان سببه أن غلمان الفاطميين والعباسيين اختصموا فألقيت نار بدار الملك، وهي الخضراء المتاخمة للجامع من جهة القبلة، فاحترقت، وسرى الحريق إلى الجامع فسقطت سقوفه وتناثرت فصوصه المذهبة، وتغيرت معالمه، وتقلعت الفسيفساء التي كانت في أرضه، وعلى جدرانه، وتبدلت بضدها، وقد كانت سقوفه مذهبة كلها، والجملونات من فوقها، وجدرانه مذهبة ملونة مصور فيها جميع بلاد الدنيا، بحيث إن الانسان إذا أراد أن يتفرج في إقليم أو بلد وجده في الجامع مصورا كهيئته، فلا يسافر إليه ولا يعنى في

طلبه، فقد وجده من قرب الكعبة ومكة فوق المحراب والبلاد كلها شرقا وغربا، كل إقليم في مكان لائق به، ومصور فيه كل شجرة مثمرة وغير مثمرة، مصور مشكل في بلدانه وأوطانه، والستور مرخاة على أبوابه النافذة إلى الصحن، وعلى أصول الحيطان إلى مقدار الثلث منها ستور، وباقي الجدران بالفصوص الملونة، وأرضه كلها بالفصوص، ليس فيها بلاط، بحيث أنه لم يكن في الدنيا بناء أحسن منه، لا قصور الملوك ولا غيرها، ثم لما وقع هذا الحريق فيه تبدل الحال الكامل بضده، وصارت أرضه طينا في زمن الشتاء، وغبارا في زمن الصيف، محفورة مهجورة، ولم يزل كذلك حتى بلط في زمن العادل أبي بكر بن أيوب، بعد الستمائة سنة من الهجرة، وكان جميع ما سقط منه من الرخام والفصوص والاخشاب وغيرها، مودعا في المشاهد الاربعة، حتى فرغها من ذلك كمال الدين الشهر زوري، في زمن العادل نور الدين محمود بن زنكي، حين ولاه نظره مع القضاء ونظر الاوقاف
كلها، ونظر دار الضرب وغير ذلك، ولم تزل الملوك تجدد في محاسنه إلى زماننا هذا، فتقارب حاله في زمن تنكيز نائب الشام، وقد تقدم أن ابن الجوزي أرخ ما ذكرنا في سنة ثمان وخمسين، وتبعه ابن الساعي أيضا في هذه السنة، وكذلك شيخنا الذهبي مؤرخ الاسلام، وغير واحد.
والله أعلم.
وفيها نقمت الحنابلة على الشيخ أبي الوفا بن عقيل، وهو من كبرائهم، بتردده إلى أبي علي بن الوليد المتكلم المعتزلي، واتهموه بالاعتزال، وإنما كان يتردد إليه ليحيط علما بمذهبه، ولكن شرقه الهوى فشرق شرقة كادت روحه تخرج معها، وصارت فيه نزعة منه، وجرت بينه وبينهم فتنة طويلة وتأذى بسببها جماعة منهم، وما سكنت الفتنة بينهم إلى سنة خمس وستين، ثم اصطلحوا فيما بينهم، بعد اختصام كبير.
وفيها زادت دجلة على إحدى وعشرين ذراعا حتى دخل الماء مشهد أبي حنيفة.
وفيها ورد الخبر بأن الافشين دخل بلاد الروم حتى انتهى إلى غورية، فقتل خلقا وغنم أموالا كثيرة.
وفيها كان رخص عظيم في الكوفة حتى بيع السمك كل أربعين رطلا بحبة.
وفيها حج بالناس أبو الغنائم العلوي.
وممن توفي فيها من الاعيان...الفوراني صاحب الابانة أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن فوران الفوراني (1)، المروزي، أحد أئمة الشافعية، ومصنف الابانة التي فيها من النقول الغريبة، والاقوال والاوجه التي لا توجد إلى فيها،
__________
(1) ذكر ابن الاثير في تاريخه وفاتة سنة 463 ه (10 / 68).

كان بصيرا بالاصول والفروع، أخذ الفقه عن القفال، وحضر إمام الحرمين عنده وهو صغير، فلم يلتفت إليه، فصار في نفسه منه، فهو يخطئه كثيرا في النهاية.
قال ابن خلكان: فمتى قال في النهاية: وقال بعض المصنفين كذا وغلط في ذلك وشرع في الوقوع فيه فمراده أبو القاسم الفوراني.
توفي الفوراني في رمضان منها بمرو، عن ثلاث وسبعين سنة، وقد كتب تلميذه أبو سعد عبد
الرحمن بن محمد المأمون المعري المدرس بالنظامية بعد أبي إسحاق وقبل ابن الصباغ، وبعده أيضا، كتابا على الابانة، فسماه تتمة الابانة، انتهى فيه إلى كتاب الحدود.
ومات قبل إتمامه، فتممه أسعد العجلي وغيره، لم يلحقوا شأوه ولا حاموا حوله، وسموه تتمة التتمة.
ثم دخلت سنة اثنتين وستين وأربعمائة قال ابن الجوزي: فمن الحوادث فيها أنه كان على ثلاث ساعات في يوم الثلاثاء الحادي عشر من جمادى الاولى، وهو ثامن عشرين أذار، كانت زلزلة عظيمة بالرملة وأعمالها، فذهب أكثرها وانهدم سورها، وعم ذلك بيت المقدس ونابلس، وانخسفت إيليا، وجفل البحر حتى انكشفت أرضه، ومشى ناس فيه ثم عاد وتغير، وانهدم إحدى زوايا جامع مصر، وتبعت هذه الزلزلة في ساعتها زلزلتان أخريان.
وفيها توجه ملك الروم من قسطنطينية إلى الشام في ثلثمائة ألف مقاتل، فنزل على منبج وأحرق القرى ما بين منبج إلى أرض الروم، وقتل رجالهم وسبى نساءهم وأولادهم، وفرع المسلمون بحلب وغيرها منه فزعا عظيما، فأقام ستة عشر يوما ثم رده الله خاسئا وهو حسير، وذلك لقلة ما معهم من الميرة وهلاك أكثر جيشه بالجوع، ولله الحمد والمنة.
وفيها ضاقت النفقة على أمير مكة فأخذ الذهب من أستار الكعبة والميزاب وباب الكعبة، فضرب ذلك دراهم ودنانير، وكذا فعل صاحب المدينة بالقناديل التي في المسجد النبوي.
وفيها كان غلاء شديد بمصر فأكلوا الجيف والميتات والكلاب، فكان يباع الكلب بخمسة دنانير، وماتت الفيلة فأكلت ميتاتها، وأفنيت الدواب فلم يبق لصاحب مصر سوى ثلاثة أفراس، بعد أن كان له العدد الكثير من الخيل والدواب، ونزل الوزير يوما عن بغلته فغفل الغلام عنها لضعفه من الجوع فأخذها ثلاثة نفر فذبحوها وأكلوها فأخذوا فصلبوا فما أصبحوا إلا وعظامهم بادية، قد أخذ الناس لحومهم فأكلوها، وظهر على رجل يقتل الصبيان والنساء ويدفن رؤوسهم وأطرافهم، ويبيع لحومهم، فقتل وأكل لحمه، وكانت الاعراب يقدمون بالطعام يبيعونه في ظاهر البلد، لا يتجاسرون يدخلون لئلا يخطف وينهب منهم، وكان لا يجسر أحد أن يدفن ميته نهارا، وإنما يدفنه ليلا خفية، لئلا ينبش فيؤكل.
واحتاج صاحب مصر حتى باع أشياء من نفائس ما عنده، من ذلك إحدى عشر ألف درع،
وعشرون ألف سيف محلى، وثمانون ألف قطعة بلور كبار، وخمسة وسبعون ألف قطعة من الديباج

القديم، وبيعت ثياب النساء والرجال وغير ذلك بأرخص ثمن، وكذلك الاملاك وغيرها، وقد كان بعض هذه النفائس للخليفة، مما نهب من بغداد في وقعة البساسيري.
وفيها وردت التقادم من الملك ألب أرسلان إلى الخليفة.
وفيها اسم ولي العهد ابن الخليفة على الدنانير والدراهم، ومنع التعامل بغيرها، وسمي المضروب عليه الاميري.
وفيها ورد كتاب صاحب مكة إلى الملك ألب أرسلان وهو بخراسان يخبره بإقامة الخطبة بمكة للقائم بأمر الله وللسلطان، وقطع خطبة المصريين، فأرسل إليه بثلاثين ألف دينار وخلعة سنية، وأجرى له في كل سنة عشرة آلاف دينار.
وفيها تزوج عميد الدولة بن جهير بابنة نظام الملك بالري.
وحج بالناس أبو الغنائم العلوي، وفيها توفي من الاعيان والمشاهير: الحسن بن علي ابن محمد أبو الجوائز الواسطي، سكن بغداد دهرا طويلا، وكان شاعرا أديبا ظريفا، ولد سنة ثنتين وخمسين وثلثمائة، ومات في هذه السنة عن مائة وعشر سنين.
ومن مستجاد شعره قوله: واحسرتي من قولها * قد خان عهدي ولها وحق من صيرني * وقفا عليها ولها ما خطرت بخاطري * إلا كستني ولها محمد بن أحمد بن سهل المعروف بابن بشران النحوي الواسطي، ولد سنة ثمانين وثلثمائة، وكان عالما بالادب، وانتهت إليه الرحلة في اللغة، وله شعر حسن، فمنه قوله: يا شائدا للقصور مهلا * أقصر فقصر الفتى الممات لم يجتمع شمل أهل قصر * إلا قصاراهم (1) الشتات وإنما العيش مثل ظل * منتقل ماله ثبات
وقوله: ودعتهم ولي الدنيا مودعة * ورحت ما لي سوى ذكراهم وطر وقلت يا لذتي بيني لبينهم * كأن صفو حياتي بعدهم كدر
__________
(1) في الوافي 2 / 82: وقصراهم.

لولا تعلل قلبي بالرجاء لهم * ألفيته إن حدوا بالعيس ينفطر يا ليت عيسهم يوم النوى نحرت * أوليتها للضواري بالفلا جزر يا ساعة البين أنت الساعة اقتربت * يا لوعة البين أنت النار تستعر وقوله: طلبت صديقا في البرية كلها * فأعيا طلابي أن أصيب صديقا بلى من سمي بالصديق مجازه * ولم يك في معنى الوداد صدوقا فطلقت ود العالمين ثلاثة * وأصبحت من أسر الحفاظ طليقا ثم دخلت سنة ثلاث وستين وأربعمائة وفيها أقبل ملك الروم أرمانوس في جحافل أمثال الجبال من الروم والكرج (1) والفرنج، وعدد عظيم وعدد، ومعه خمسة وثلاثون ألفا من البطارقة، مع كل بطريق مائتا ألف فارس، ومعه من الفرنج خمسة وثلاثون ألفا، ومن الغزاة الذين يسكنون القسطنطينية، خمسة عشر ألفا، ومعه مائة ألف نقاب وحفار، وألف روزجاري، ومعه أربعمائة عجلة تحمل النعال والمسامير، وألفا عجلة تحمل السلاح والسروج والغرادات والمناجيق، منها منجنيق عدة ألف ومائتا رحل، ومن عزمه قبحه الله أن يبيد الاسلام وأهله، وقد أقطع بطارقته البلاد حتى بغداد، واستوصى نائبها بالخليفة خيرا، فقال له: ارفق بذلك الشيخ فإنه صاحبنا، ثم إذا استوثقت ممالك العراق وخراسان لهم مالوا على الشام وأهله ميلة واحدة، فاستعادوه من أيدي المسلمين، والقدر يقول: (لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون) [ الحجر: 72 ] فالتقاه السلطان ألب أرسلان في جيشه وهم قريب من عشرين ألفا (2)،
بمكان يقال له الزهوة، في يوم الاربعاء لخمس بقين من ذي القعدة، وخاف السلطان من كثرة جند ملك الروم (3)، فأشار عليه الفقيه أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاري بأن يكون وقت الوقعة يوم الجمعة بعد الزوال حين يكون الخطباء يدعون للمجاهدين، فلما كان ذلك الوقت وتواقف الفريقان وتواجه الفتيان، نزل السلطان عن فرسه وسجد لله عزوجل، ومرغ وجهه في التراب ودعا الله واستنصره، فأنزل نصره على المسلمين، ومنحهم أكتافهم فقتلوا منهم خلقا كثيرا، وأسر ملكهم
__________
(1) من الكامل 10 / 65، وفي الاصل: والكرخ.
تحريف.
وفي شذرات الذهب 3 / 311: الكزج بالزاي والجيم..(2) في الكامل 10 / 65: خمسة عشر ألف فارس (العبر 5 / 4).
(3) قال ابن الاثير في تاريخه: فلما تقارب العسكران، أرسل السلطان إلى ملك الروم يطلب منه المهادنة فقال: لا هدنة إلا في الري، فانزعج السلطان لذلك (10 / 65 ومختصر أخبار البشر 2 / 187 وتاريخ ابن الوردي 1 / 563).

أرمانوس، أسره غلام رومي، فلما أوقف بين يدي الملك ألب أرسلان ضربه بيده ثلاث مقارع وقال: لو كنت أنا الاسير بين يديك ما كنت تفعل ؟ قال: كل قبيح، قال: فما ظنك بي ؟ فقال: إما أن تقتل وتشهرني في بلادك، وإما أن تعفو وتأخذ الفداء وتعيدني.
قال: ما عزمت على غير العفو والفداء.
فافتدى نفسه منه بألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار.
فقام بين يدي الملك وسقاه شربة من ماء وقبل الارض بين يديه، وقبل الارض إلى جهة الخليفة إجلالا وإكراما، وأطلق له الملك عشرة آلاف دينار ليتجهز بها، وأطلق معه جماعة من البطارقة وشيعه فرسخا، وأرسل معه جيشا يحفظونه إلى بلاده، ومعهم راية مكتوب عليها لا إله إلا الله محمد رسول الله، فلما انتهى إلى بلاده وجد الروم قد ملكوا عليهم غيره، فأرسل إلى السلطان يعتذر إليه، وبعث من الذهب والجواهر ما يقارب ثلاثمائة ألف دينار وتزهد ولبس الصوف ثم استغاث بملك الارمن فأخذه وكحله وأرسله إلى السلطان يتقرب إليه بذلك.
وفيها خطب محمود بن مرداس للقائم وللسلطان ألب أرسلان، فبعث إليه الخليفة بالخلع
والهدايا والتحف، والعهد مع طراد.
وفيها حج بالناس أبو الغنائم العلوي، وخطب بمكة للقائم، وقطعت خطبة المصريين منها، وكان يخطب لهم فيها من نحو مائة سنة، فانقطع ذلك.
وفيها توفي من الاعيان...أحمد بن علي ابن ثابت بن أحمد بن مهدي، أبو بكر الخطيب البغدادي، أحد مشاهير الحفاظ، وصاحب تاريخ بغداد وغيره من المصنفات العديدة المفيدة، نحو من ستين مصنفا، ويقال بل مائة مصنف.
فالله أعلم.
ولد سنة إحدى وتسعين وثلثمائة، وقيل سنة ثنتين وتسعين، وأول سماعه سنة ثلاث وأربعمائة، ونشأ ببغداد، وتفقه على أبي طالب الطبري وغيره من أصحاب الشيخ أبي حامد الاسفراييني، وسمع الحديث الكثير، ورحل إلى البصرة ونيسابور وأصبهان وهمذان والشام والحجاز، وسمي الخطيب لانه كان يخطب بدرب ريحان، وسمع بمكة على القاضي أبي عبد الله محمد بن سلامة القضاعي، وقرأ صحيح البخاري على كريمة بنت أحمد في خمسة أيام، ورجع إلى بغداد وحظي عند الوزير أبي القاسم بن مسلمة، ولما ادعى اليهود الخيابرة أن معهم كتابا نبويا فيه إسقاط الجزية عنهم أوقف ابن مسلمة الخطيب على هذا الكتاب.
فقال: هذا كذب، فقال له: وما الدليل على كذبه ؟ فقال: لان فيه شهادة معاوية بن أبي سفيان ولم يكن أسلم يوم خيبر، وقد كانت خيبر في سنة سبع من الهجرة، وإنما أسلم معاوية يوم الفتح، وفيه شهادة سعد بن معاذ، وقد مات قبل خيبر عام الخندق سنة خمس.
فأعجب الناس ذلك.
وقد سبق الخطيب إلى هذا النقل، سبقه محمد بن جرير كما ذكرت في مصنف مفرد، ولما وقعت فتنة البساسيري ببغداد سنة خمسين خرج الخطيب إلى الشام فأقام

بدمشق بالمأذنة الشرقية من جامعها، وكان يقرأ على الناس الحديث، وكان جهوري الصوت، يسمع صوته من أرجاء الجامع كلها، فاتفق أنه قرأ على الناس يوما فضائل العباس فثار عليه الروافض من أتباع الفاطميين، فأرادوا قتله فتشفع بالشريف الزينبي فأجاره، وكان مسكنه بدار العقيقي، ثم خرج من دمشق فأقام بمدينة صور، فكتب شيئا كثيرا من مصنفات أبي عبد الله
الصوري بخطه كان يستعيرها من زوجته، فلم يزل مقيما بالشام إلى سنة ثنتين وستين، ثم عاد إلى بغداد فحدث بأشياء من مسموعاته، وقد كان سأل الله أن يملك ألف دينار، وأن يحدث بالتاريخ بجامع المنصور، فملك ألف دينار أو ما يقاربها ذهبا، وحين احتضر كان عنده قريب من مائتي دينار، فأوصى بها لاهل الحديث، وسأل السلطان أن يمضي ذلك، فإنه لا يترك وارثا، فأجيب إلى ذلك، وله مصنفات كثيرة مفيدة، منها كتاب التاريخ، وكتاب الكفاية، والجامع، وشرف أصحاب الحديث، والمتفق والمفترق، والسابق واللاحق، وتلخيص المتشابه في الرسم، وفضل الوصل، ورواية الآباء عن الابناء، ورواية الصحابة عن التابعين، واقتضاء العلم للعمل، والفقيه والمتفقه، وغير ذلك.
وقد سردها ابن الجوزي في المنتظم.
قال ويقال: إن هذه المصنفات أكثرها لابي عبد الله الصوري، أو ابتدأها فتممها الخطيب، وجعلها لنفسه، وقد كان الخطيب حسن القراءة فصيح اللفظ عارفا بالادب يقول الشعر، وكان أولا يتكلم على مذهب الامام أحمد بن حنبل، فانتقل عنه إلى مذهب الشافعي، ثم صار يتكلم في أصحاب أحمد ويقدح فيهم ما أمكنه، وله دسائس عجيبة في ذمهم، ثم شرع ابن الجوزي ينتصر لاصحاب أحمد ويذكر مثالب الخطيب ودسائسه، وما كان عليه من محبة الدنيا والميل إلى أهلها بما يطول ذكره، وقد أورد ابن الجوزي من شعره قصيدة جيدة المطلع حسنة المنزع أولها قوله: لعمرك ما شجاني رسم دار * وقفت به ولا رسم المغاني ولا أثر الخيام أراق دمعي * لاجل تذكري عهد الغواني ولا ملك الهوى يوما قيادي * ولا عاصيته فثنى عناني ولم أطمعه في وكم قتيل * له في الناس ما تحصى دعاني عرفت فعاله بذوي التصابي * وما يلقون من ذل الهوان...- اصحيح الود محظى * سليم الغيب محفوظ اللسان...- رف من الاخوان إلا * نفاقا في التباعد والتداني وعالم دهرنا لا خير فيهم * ترى صورا تروق بلا معاني
ووصف جميعهم هذا فما أن * أقول سوى فلان أو فلان ولما لم أجد حرا يواتى * على ما ناب من صرف الزمان صبرت تكرما لقراع دهري * ولم أجزع لما منه دهاني

ولم أك في الشدائد مستكينا * أقول لها ألا كفي كفاني ولكني صليب العود عود * ربيط الجأش مجتمع الجنان أبي النفس لا أختار رزقا * يجئ بغير سيفي أو سناني فعز في لظى باغيه يهوى * ألذ من المذلة في الجنان وقد ترجمه ابن عساكر في تاريخه ترجمة حسنة كعادته وأورد له من شعره قوله لا يغبطن أخا الدنيا لزخرفها * ولا للذة عيش عجلت فرحا فالدهر أسرع شئ في تقلبه * وفعله بين للخلق قد وضحا كم شارب عسلا فيه منيته * وكم مقلد سيفا من قربه ذبحا توفي يوم الاثنين (1) ضحى من ذي الحجة منها، وله ثنتان وسبعون سنة، في حجرة كان يسكنها بدرب السلسلة، جوار المدرسة النظامية، واحتفل الناس بجنازته، وحمل نعشه فيمن حمل الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، ودفن إلى جانب قبر بشر الحافي، في قبر رجل كان قد أعده لنفسه، فسئل أن يتركه للخطيب فشح به ولم تسمح نفسه، حتى قال له بعض الحاضرين: بالله عليك لو جلست أنت والخطيب إلى بشر أيكما كان يجلسه إلى جانبه ؟ فقال: الخطيب، فقيل له: فاسمح له به، فوهبه منه فدفن فيه رحمه الله وسامحه، وهو ممن قيل فيه وفي أمثاله قول الشاعر: ما زلت تدأب في التاريخ مجتهدا * حتى رأيتك في التاريخ مكتوبا حسان بن سعيد ابن حسان بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن منيع بن خالد بن عبد الرحمن بن خالد بن الوليد المخزومي المنيعي، كان في شبابه يجمع بين الزهد والتجارة حتى ساد أهل زمانه، ثم ترك
ذلك، وأقبل على العبادة والزهد والبر والصلة والصدقة وغير ذلك، وبناء المساجد والرباطات، وكان السلطان يأتي إليه ويتبرك به، ولما وقع الغلاء كان يعمل كل يوم شيئا كثيرا من الخبز والاطعمة، ويتصدق به وكان يكسو في كل سنة قريبا من ألف فقير ثيابا وجبابا، وكذلك كان يكسو الارامل وغيرهن من النساء، وكان يجهز البنات الايتام وبنات الفقراء، وأسقط شيئا كثيرا من المكوس والوظائف السلطانية عن بلاد نيسابور، وقرأها وهو مع ذلك في غاية التبذل والثياب والاطمار، وترك الشهوات ولم يزل كذلك إلى أن توفي في هذه السنة، في بلدة مرو الروذ، تغمده الله برحمته، ورفع درجته ولا خيب الله له سعيا.
__________
(1) زيد في ابن خلكان 1 / 93 وتذكرة الحفاظ / 1144: سابع ذي الحجة.
وقال السمعاني توفي في شوال.

أمين بن محمد بن الحسن بن حمزة أبو علي (1) الجعفري فقيه الشيعة في زمانه.
محمد بن وشاح بن عبد الله أبو علي مولى أبي تمام محمد بن علي بن الحسن الزينبي، سمع الحديث، وكان أديبا شاعرا، وكان ينسب إلى الاعتزال والرفض، ومن شعره قوله: حملت العصا لا الضعف أوجب حملها * علي ولا أني نحلت من الكبر (2) ولكنني ألزمت نفسي حملها (3) * لا علمها أن المقيم على سفر الشيخ الاجل أبو عمر بن عبد البر النمري صاحب التصانيف المليحة الهائلة، منها التمهيد، والاستذكار (4)، والاستيعاب، وغير ذلك.
ابن زيدون الشاعر أحمد بن عبد الله بن أحمد بن غالب بن زيدون أبو الوليد، الشاعر الماهر الاندلسي القرطبي، اتصل بالامير المعتمد بن عباد، صاحب إشبيلية، فحظي عنده وصار مشاورا في منزلة
الوزير، ثم وزر له ولولده أبي بكر بن أبي الوليد، وهو صاحب القصيدة الفراقية التي يقول فيها: بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا * شوقا إليكم ولا جفت مآقينا تكاد حين تناجيكم ضمائرنا * يقضي عليها الاسى لولا تأسينا حالت لبعدكم أيامنا فغدت * سودا وكانت بكم بيضا ليالينا بالامس كنا ولا نخشى تفرقنا * واليوم نحن ولا يرجى تلاقينا
__________
(1) ذكره ابن الاثير في تاريخه: أبو يعلى محمد بن الحسين بن حمزة الجعفري فقيه الامامية، قال: وتوفي في شهر رمضان.
(2) في الوافي بالوفيات 5 / 174: ولا أني تحنيت من كبر، بتسكين القافية.
(3) في الوافي: بحملها.
(4) التمهيد والاستذكار كتابان ألفهما ابن عبد البر في الموطأ، فالتمهيد لما في الموطأ من المعاني والاسانيد ورتب فيه أسماء شيوخ مالك على حروف المعجم وهو كتاب لم يتقدمه أحد إلى مثله.
والاستذكار لمذاهب علماء الامصار فيما تضمنه الموطأ من المعاني والآثار وشرح فيه الموطأ على وجهه ونسق أبوابه.

وهي طويلة وفيها صنعة قوية مهيجة على البكاء لكل من قرأها أو سمعها، لانه ما من أحد إلا فارق خلا أو حبيبا أو نسيبا، وله أيضا: بيني وبينك ما لو شئت لم يصع * سر إذا ذاعت الاسرار لم يذع يا بائعا حظه مني ولو بذلت * لي الحياة بحظي منه لم أبع يكفيك أنك لو حملت قلبي ما * لا تستطيع قلوب الناس يستطيع ته احتمل واستطل أصبر وعزهن (1) * وول أقبل وقل أسمع ومر أطع توفي في رجب منها واستمر ولده أبو بكر وزيرا للمعتمد بن عباد، حتى أخذ ابن ياسين قرطبة من يده في سنة أربع وثمانين، فقتل يومئذ.
قاله ابن خلكان.
كريمة بنت أحمد ابن محمد بن أبي حاتم المروزية، كانت عالمة صالحة، سمعت صحيح البخاري على
الكشميهني، وقرأ عليها الائمة كالخطيب وأبي المظفر السمعاني وغيرهما.
ثم دخلت سنة أربع وستين وأربعمائة فيها قام الشيخ أبو إسحاق الشيرازي مع الحنابلة في الانكار على المفسدين، والذين يبيعون الخمور، وفي إبطال المواجرات وهن البغايا، وكتبوا إلى السلطان في ذلك فجاءت كتبه في الانكار.
وفيها كانت زلزلة عظيمة ببغداد ارتجت لها الارض ست مرات.
وفيها كان غلاء شديد وموتان ذريع في الحيوانات، بحيث أن بعض الرعاة بخراسان قام وقت الصباح ليسرح بغنمه فإذا هن قد متن كلهن، وجاء سيل عظيم وبرد كبار أتلف شيئا كثيرا من الزروع والثمار بخراسان.
وفيها تزوج الامير عدة الدين ولد الخليفة بابنة السلطان ألب أرسلان " سفري خاتون " وذلك بنيسابور، وكان وكيل السلطان نظام الملك، ووكيل الزوج عميد الدولة بن جهير، وحين عقد العقد نثر على الناس جواهر نفيسة.
وممن توفي فيها من الاعيان...زكريا بن محمد بن حيده أبو منصور النيسابوري، كان يزعم أنه من سلالة عثمان بن عفان، وروى الحديث عن أبي بكر بن المذهب، وكان ثقة.
توفي في المحرم منها وقد قارب الثمانين.
__________
(1) في وفيات الاعيان 1 / 140 وتاريخ ابن الوردي 1 / 564: وعزأهن.

محمد بن أحمد ابن محمد بن عبد الله بن عبد الصمد بن المهتدي بالله، أبو الحسن (1) الهاشمي، خطيب جامع المنصور، كان ممن يلبس القلانس الطوال، حدث عن ابن رزقويه وغيره، روى عنه الخطيب، وكان ثقة عدلا شهد عند ابن الدامغاني وابن ماكولا فقبلاه توفي عن ثمانين سنة ودفن بقرب قبر بشر الحافي.
محمد بن أحمد بن شاره
ابن جعفر أبو عبد الله الاصفهاني، ولي القضاء بدجيل، وكان شافعيا، روى الحديث عن أبي عمرو بن مهدي، توفي ببغداد ونقل إلى دجيل من عمل واسط، والله سبحانه أعلم.
ثم دخلت سنة خمس وستين وأربعمائة في يوم الخميس حادي عشر المحرم حضر إلى الديوان أبوالوفا علي بن محمد بن عقيل العقيلي الحنبلي، وقد كتب على نفسه كتابا يتضمن توبته من الاعتزال، وأنه رجع عن اعتقاد كون الحلاج من أهل الحق والخير، وأنه قد رجع عن الجزء الذي عمله في ذلك، وأن الحلاج قد قتل بإجماع علماء أهل عصره على زندقته، وأنهم كانوا مصيبين في قتله وما رموه به، وهو مخطئ، وأشهد عليه جماعة من الكتاب، ورجع من الديوان إلى دار الشريف أبي جعفر فسلم عليه وصالحه واعتذر إليه، فعظمه.
وفاة السلطان ألب أرسلان وملك ولده ملكشاه كان السلطان قد سار في أول هذه السنة يريد أن يغزو بلاد ما وراء النهر، فاتفق في بعض المنازل أنه غضب على رجل يقال له يوسف الخوارزمي، فأوقف بين يديه فشرع يعاتبه في أشياء صدرت منه، ثم أمر أن يضرب له أربعة أوتاد ويصلب بينها، فقال للسلطان: يا مخنث ومثلي يقتل هكذا ؟ فاحتد السلطان من ذلك وأمر بإرساله وأخذ القوس فرماه بسهم فأخطأه، وأقبل يوسف نحو السلطان فنهض السلطان عن السرير خوفا منه، فنزل عنه فعثر فوقع فأدركه يوسف فضربه بخنجر كان معه في خاصرته فقتله، وأدرك الجيش يوسف فقتلوه، وقد جرح السلطان جرحا منكرا، فتوفي في يوم السبت عاشر ربيع الاول من هذه السنة، ويقال إن أهل بخارى لما اجتاز بهم نهب عسكره أشياء كثيرة لهم، فدعوا عليه فهلك.
__________
(1) في الكامل لابن الاثير 10 / 72: أبو الحسين.

ولما توفي جلس ولده ملكشاه على سرير الملك وقام الامراء بين يديه، فقال له الوزير نظام الملك: تكلم أيها السلطان، فقال: الاكبر منكم أبي والاوسط أخي والاصغر ابني، وسأفعل معكم ما لم أسبق إليه.
فأمسكوا فأعاد القول فأجابوه بالسمع والطاعة.
وقام بأعباء أمره الوزير نظام الملك
فزاد في أرزاق الجند سبعمائة ألف دينار، وساروا إلى مرو فدفنوا بها السلطان، ولما بلغ موته أهل بغداد أقام الناس له العزاء، وغلقت الاسواق وأظهر الخليفة الجزع، وخلعت ابنة السلطان زوجة الخليفة ثيابها، وجلست على التراب، وجاءت كتب ملكشاه إلى الخليفة يتأسف فيها على والده، ويسأل أن تقام له الخطبة بالعراق وغيرها.
ففعل الخليفة ذلك، وخلع ملكشاه على الوزير نظام الملك خلعا سنية، وأعطاه تحفا كثيرة، من جملتها عشرون ألف دينار، ولقبه أتابك الجيوش، ومعناه الامير الكبير الوالد، فسار سيرة حسنة، ولما بلغ قاورت موت أخيه ألب أرسلان ركب في جيوش كثيرة قاصدا قتال ابن أخيه ملكشاه، فالتقيا فاقتتلا فانهزم أصحاب قاورت وأسر هو، فأنبه ابن أخيه ثم اعتقله ثم أرسل إليه من قتله.
وفيها جرت فتنة عظيمة بين أهل الكرخ وباب البصرة والقلايين فاقتتلوا فقتل منهم خلق كثير، واحترق جانب كبير من الكرخ، فانتقم المتولي لاهل الكرخ من أهل باب البصرة، فأخذ منهم أموالا كثيرة جناية لهم على ما صنعوا.
وفيها أقيمت الدعوة العباسية ببيت المقدس.
وفيها ملك صاحب سمرقند وهو محمد التكين مدينة ترمذ.
وفيها حج بالناس أبو الغنائم العلوي.
وفيها توفي من الاعيان...السلطان ألب ارسلان الملقب بسلطان العالم، ابن داود جغرى بك، بن ميكائيل، بن سلجوق التركي، صاحب الممالك المتسعة، ملك بعد عمه طغرلبك سبع (1) سنين وستة أشهر وأياما، وكان عادلا يسير في الناس سيرة حسنة، كريما رحيما، شفوقا على الرعية، رفيقا على الفقراء، بارا بأهله وأصحابه ومماليكه، كثير الدعاء بدوام النعم به عليه، كثير الصدقات، يتفقد الفقراء في كل رمضان بخمسة عشر ألف دينار، ولا يعرف في زمانه جناية ولا مصادرة، بل كان يقنع من الرعية بالخراج في قسطين، رفقا بهم.
كتب إليه بعض السعاة في نظام الملك وزيره وذكر ماله في ممالكه فاستدعاه فقال له: خذ إن كان هذا صحيحا فهذب أخلاقك وأصلح أحوالك، وإن كذبوا فاغفر له زلته، وكان شديد الحرص على حفظ مال الرعايا، بلغه أن غلاما من غلمانه أخذ إزارا لبعض أصحابه فصلبه
__________
(1) في الكامل 10 / 74 ومختصر أخبار البشر 2 / 189: تسع.
وفي العبر لابن خلدون 3 / 472: تسع سنين ونصف.

فارتدع سائر المماليك به خوفا من سطوته، وترك من الاولاد ملكشاه وإياز ونكشر (1) وبوري برس (2) وأرسلان وأرغو، وسارة، وعائشة وبنتا أخرى، توفي في هذه السنة عن إحدى وأربعين سنة (3)، ودفن عند والده بالري رحمه الله.
أبو القاسم القشيري صاحب الرسالة، عبد الكريم بن هوازن بن عبد المطلب بن طلحة، أبو القاسم القشيري، وأمه من بني سليم، توفي أبوه وهو طفل فقرأ الادب والعربية، وصحب الشيخ أبا علي الدقاق، وأخذ الفقه عن أبي بكر بن محمد الطوسي، وأخذ الكلام عن أبي بكر بن فورك وصنف الكثير، وله التفسير والرسالة التي ترجم فيها جماعة من المشايخ الصالحين، وحج صحبة إمام الحرمين وأبي بكر البيهقي، وكان يعظ الناس، توفي بنيسابور في هذه السنة عن سبعين سنة، ودفن إلى جانب شيخه أبي علي الدقاق، ولم يدخل أحد من أهله بيت كتبه إلا بعد سنين، احتراما له، وكان له فرس يركبها قد أهديت له، فلما توفي لم تأكل علفا حتى نفقت بعده بيسير فماتت، ذكره ابن الجوزي، وقد أثنى عليه ابن خلكان ثناء كثيرا وذكر شيئا من شعره من ذلك قوله: سقى الله وقتا كنت أخلوا بوجهكم * وثغر الهوى في روضة الانس ضاحك أقمنا زمانا والعيون قريرة * وأصبحت يوما الجفون سوافك وقوله: لو كنت ساعة بيننا ما بيننا * وشهدت حين فراقنا (4) التوديعا أيقنت أن من الدموع محدثا * وعلمت أن من الحديث دموعا وقوله: ومن كان في طول الهوى ذاق سلوة * فإني من ليلى لها غير ذائق وأكثر شئ نلته من وصالها * أماني لم تصدق كخطفة بارق
__________
(1) في الكامل: وتكش، وتتش.
(2) في الكامل: برش.
(3) في الكامل ومختصر أخبار البشر: أربعين سنة وشهورا.
(4) في وفيات الاعيان 3 / 207: وشهدت كيف تكرر...

ابن صربعر الشاعر اسمه علي بن الحسين (1) بن علي بن الفضل، أبو منصور الكاتب المعروف بابن صربعر وكان نظام الملك يقول له: أنت صردر لا صربعر، وقد هجاه بعضهم (2) فقال: لئن لقب الناس قدما أباك * وسموه من شحه صربعرا فإنك تنثر ما صره * عقوقا له وتسميه شعرا قال ابن الجوزي: وهذا ظلم فاحش فإن شعره في غاية الحسن، ثم أورد له أبياتا حسانا فمن ذلك: أيه أحاديث نعمان وساكنه * أن الحديث عن الاحباب أسمار أفتش الريح عنكم كلما نفحت * من نحو أرضكم مسكا ومعطار قال: وقد حفظ القرآن وسمع الحديث من ابن شيران وغيره وحدث كثيرا، وركب يوما دابة هو ووالدته فسقطا بالشونيزية عنها في بئر فماتا فدفنا ببرر، وذلك في صفر من هذه السنة، قال ابن الجوزي: قرأت بخط ابن عقيل صربعر جارنا بالرصافة، وكان ينبذ بالالحاد، وقد أورد له ابن خلكان شيئا من أشعاره، وأثنى عليه في فنه والله أعلم بحاله.
محمد بن علي ابن محمد بن عبد الله بن عبد الصمد بن المهتدي بالله، أبو الحسين، ويعرف بابن العريف (3)، ولد سنة سبعين وثلثمائة وسمع الدارقطني، وهو آخر من حدث عنه في الدنيا، وابن شاهين وتفرد عنه، وسمع خلقا آخرين، وكان ثقة دينا كثير الصلاة والصيام، وكان يقال له راهب
بني هاشم، وكان غزير العلم والعقل، كثير التلاوة، رقيق القلب غزير الدمعة، وقد رحل إليه الطلبة من الآفاق، ثم ثقل سمعه، وكان يقرأ على الناس، وذهبت إحدى عينيه، وخطب وله ست عشرة سنة، وشهد عند الحكام سنة ست وأربعمائة، وولي الحكم سنة تسع وأربعمائة، وأقام حطيبا بجامع المنصور وجامع الرصافة ستا وسبعين سنة، وحكم ستا وخمسين سنة، وتوفي في سلخ ذي
__________
(1) في الكامل 10 / 88 ووفيات الاعيان 3 / 385 وشذرات الذهب 3 / 322: الحسن.
(2) وهو الشريف أبو جعفر مسعود المعروف بالشاعر البياضي.
والبيتان في وفيات الاعيان 3 / 386 والكامل 10 / 88 باختلاف.
(3) في الكامل 10 / 88 والوافي بالوفيات 4 / 137: ابن الغريق.

القعدة من هذه السنة وقد جاوز تسعين سنة، وكان يوم جنازته يوما مشهودا، ورئيت له منامات صالحة حسنة، رحمه الله وسامحه ورحمنا وسامحنا، إنه قريب مجيب، رحيم ودود.
ثم دخلت سنة ست وستين واربعمائة في صفر منها جلس الخليفة جلوسا عاما وعلى رأسه حفيده الامير عدة الدين، أبو القاسم عبد الله بن المهتدي بالله، وعمره يومئذ ثماني عشرة سنة، وهو في غاية الحسن، وحضر الامراء والكبراء فعقد الخليفة بيده لواء السلطان ملكشاه، كثر الزحام يومها، وهنأ الناس بعضهم بعضا بالسلامة.
غرق بغداد في جمادى الآخرة نزل مطر عظيم وسيل قوي كثير، وسالت دجلة وزادت حتى غرقت جانبا كبيرا من بغداد، حتى خلص ذلك إلى دار الخلافة، فخرج الجواري حاسرات عن وجوههن، حتى صرن إلى الجانب الغربي، وهرب الخليفة من مجلسه فلم يجد طريقا يسلكه، فحمله بعض الخدم إلى التاج، وكان ذلك يوما عظيما، وأمرا هائلا، وهلك للناس أموال كثيرة جدا.
ومات تحت الردم خلق كثير من أهل بغداد والغرباء وجاء على وجه السيل من الاخشاب والاحطاب والوحوش والحيات شئ كثير جدا، وسقطت دور كثيرة في الجانبين، وغرقت قبور كثيرة، من ذلك قبر الخيزران ومقبرة
أحمد بن حنبل.
ودخل الماء من شبابيك المارستان العضدي وأتلف السيل في الموصل شيئا كثيرا، وصدم سور سنجار فهدمه، وأخذ بابه من موضعه إلى مسيرة أربعة فراسخ.
وفي ذي الحجة منها جاءت ريح شديدة في أرض البصرة فانجعف منها نحو من عشرة آلاف نخلة.
وممن توفي فيها من الاعيان...أحمد بن محمد بن الحسن السمناني الحنفي الاشعري.
قال ابن الجوزي: وهذا من الغريب، تزوج قاضي القضاة ابن الدامغاني ابنته وولاه نيابة القضاة، وكان ثقة نبيلا من ذوي الهيئات، جاوز الثمانين.
عبد العزيز بن أحمد (1) بن علي ابن سليمان، أبو محمد الكتاني الحافظ الدمشقي، سمع الكثير، وكان يملي من حفظه، وكتب عنه الخطيب حديثا واحدا، وكان معظما ببلده، ثقة نبيلا جليلا.
__________
(1) في تذكرة الحفاظ / 1170، وفي الكامل 10 / 93 زيد: أحمد بن محمد بن علي.

الماوردية ذكر ابن الجوزي أنها كانت عجوزا صالحة من أهل البصرة تعظ النساء بها، وكانت تكتب وتقرأ، ومكثت خمسين سنة من عمرها لا تفطر نهارا ولا تنام ليلا، وتقتات بخبز الباقلا، وتأكل من التين اليابس لا الرطب، وشيئا يسيرا من العنب والزيت، وربما أكلت من اللحم اليسير، وحين توفيت تبع أهل البلد جنازتها ودفنت في مقابر الصالحين.
ثم دخلت سنة سبع وستين وأربعمائة في صفر منها مرض الخليفة القائم بأمر الله مرضا شديدا انتفخ منه حلقه، وامتنع من الفصد، فلم يزل الوزير فخر الدولة عليه حتى افتصد وانصلح الحال، وكان الناس قد انزعجوا ففرحوا بعافيته وجاء في هذا الشهر سيل عظيم قاسى الناس منه شدة عظيمة، ولم تكن أكثر أبنية بغداد تكاملت من الغرق الاول، فخرج الناس إلى الصحراء فجلسوا على رؤوس التلول تحت المطر، ووقع وباء عظيم
بالرحبة، فمات من أهلها قريب من عشرة آلاف، وكذلك وقع بواسط والبصرة وخوزستان وأرض خراسان وغيرها والله أعلم.
موت الخليفة القائم بأمر الله لما افتصد في يوم الخميس الثامن والعشرين من رجب من بواسير كانت تعتاده من عام الغرق، ثم نام بعد ذلك فانفجر فصاده، فاستيقظ وقد سقطت قوته، وحصل الاياس منه، فاستدعى بحفيده وولي عهده عدة الدين أبي القاسم عبد الله بن محمد بن القائم، وأحضر إليه القضاة والفقهاء وأشهدهم عليه ثانيا بولاية العهد له من بعده، فشهدوا، ثم كانت وفاته ليلة الخميس الثالث عشر من شعبان عن أربع وتسعين سنة، وثمانية أشهر، وثمانية أيام (1)، وكانت مدة خلافته أربعا وأربعين سنة وثمانية أشهر وخمسة وعشرين يوما (2)، ولم يبلغ أحد من العباسيين قبل هذه المدة، وقد جاوزت خلافة أبيه قبله أربعين سنة، فكان مجموع أيامهما خمسا وثمانين سنة وأشهرا، وذلك مقاوم لدولة بني أميه جميعها، وقد كان القائم بأمر الله جميلا ملحيا حسن الوجه، أبيض مشربا بحمرة، فصيحا ورعا زاهدا، أديبا كاتبا بليغا، شاعرا، كما تقدم ذكر شئ من شعره، وهو بحديثة عانة سنة
__________
(1) في الكامل 10 / 94 وفي نهاية الارب 23 / 240: ستا وسبعين سنة وثلاثة أشهر وخمسة أيام.
وفي مختصر أخبار البشر 2 / 191: وأياما.
وفي العبر 3 / 264: ست وسبعون سنة.
(2) في دول الاسلام للذهبي 1 / 275 وفوات الوفيات 1 / 431 والعبر لابن خلدون 3 / 472: خمسا وأربعين سنة.
وفي الكامل لابن الاثير فكالاصل إلا أنه ذكر: وأياما.
وفي العبر للذهبي 3 / 264: أربعا وأربعين سنة وتسعة أشهر.

خمسين.
وكان عادلا كثير الاحسان إلى الناس رحمه الله.
وغسله الشريف أبو جعفر بن أبي موسى الحنبلي عن وصية الخليفة بذلك، فلما غسله عرض عليه ما هنالك من الاثاث والاموال، فلم يقبل منه شيئا، وصلى على الخليفة في صبيحة يوم الخميس المذكور، ودفن عند أجداده، ثم نقل إلى الرصافة، فقبره يزار إلى الآن وغلقت الاسواق لموته، وعلقت المسوح، وناحت عليه نساء الهاشميين وغيرهم، وجلس الوزير ابن جهير وابنه للعزاء على الارض، وخرق الناس ثيابهم، وكان يوما
عصيبا، واستمر الحال كذلك ثلاثة أيام، وقد كان من خيار بني العباس دينا واعتقادا ودولة، وقد امتحن من بينهم بفتنة البساسيري التي اقتضت إخراجه من داره ومفارقته أهله وأولاده ووطنه، فأقام بحديثة عانة سنة كاملة ثم أعاد الله تعالى نعمته وخلافته.
قال الشاعر: فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم * إذ هم قريش وإذ ما مثلهم بشر وقد تقدم له في ذلك سلف صالح كما قال تعالى (ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب) [ ص: 34 ] وقد ذكرنا ملخص ما ذكره المفسرون في سورة ص، وبسطنا الكلام عليه في هذه القصة العباسية والفتنة البساسيرية في سنة خمسين، وإحدى وخمسين وأربعمائة.
خلافة المقتدي بأمر الله وهو أبو القاسم عدة الدين عبد الله بن الامير ذخيرة الدين أبي القاسم محمد بن الخليفة القائم بأمر الله بن القادر العباسي، وأمه أرمنية تسمى أرجوان، وتدعى قرة العين، وقد أدركت خلافة ولدها هذا، وخلافة ولديه من بعده، المستظهر والمسترشد.
وقد كان أبوه توفي وهو حمل، فحين ولد ذكرا فرح به جده والمسلمون فرحا شديدا، إذ حفظ الله على المسلمين بقاء الخلافة في البيت القادري، لان من عداهم كانوا يتبذلون في الاسواق، ويختلطون مع العوام، وكانت القلوب تنفر من تولية مثل أولئك الخلافة على الناس، ونشأ هذا في حجر جده القائم بأمر الله يربيه بما يليق بأمثاله، ويدربه على أحسن السجايا ولله الحمد، وقد كان المقتدي حين ولي الخلافة عمره عشرين سنة، وهو في غاية الجمال خلقا وخلقا، وكانت بيعته يوم الجمعة الثالث عشر من شعبان من هذه السنة، وجلس في دار الشجرة، بقميص أبيض، وعمامة بيضاء لطيفة، وطرحة قصب أدريه، وجاء الوزراء والامراء والاشراف ووجوه الناس فبايعوه، فكان أول من بايعه الشريف أبو جعفر بن أبي موسى الحنبلي، وأنشده قول الشاعر: * إذا سيد منا مضى قام سيد * ثم ارتج عليه فلم يدر ما بعده، فقال الخليفة قؤول بما قال الكرام فعول * وبايعه من شيوخ العلم الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، والشيخ أبو نصر بن الصباغ،

الشافعيان، والشيخ أبو محمد التميمي الحنبلي، وبزز فصلى بالناس العصر ثم بعد ساعة أخرج تابوت جده بسكون ووقار من غير صراخ ولا نوح، فصلى عليه وحمل إلى المقبرة، وقد كان المقتدي شهما شجاعا أيامه كلها مباركة، والرزق دار والخلافة معظمة جدا، وتصاغرت الملوك له، وتضاءلوا بين يديه، وخطب له بالحرمين وبيت المقدس والشام كلها، واسترجع المسلمون الرها وانطاكية من أيدي العدو، وعمرت بغداد وغيرها من البلاد، واستوزر ابن جهير ثم أبا شجاع، ثم أعاد ابن جهير وقاضيه الدامغاني، ثم أبو بكر الشاشي، وهؤلاء من خيار القضاة والوزراء ولله الحمد.
وفي شعبان منها أخرج المفسدات من الخواطئ من بغداد، وأمرهن أن ينادين على أنفسهن بالعار والفضيحة، وخرب الخمارات ودور الزواني والمغاني، وأسكنهن الجانب الغربي مع الذل والصغار، وخرب أبرجة الحمام، ومنع اللعب بها، وأمر الناس باحتراز عوراتهم في الحمامات ومنع أصحاب الحمامات أن يصرفوا فضلاتها إلى دجلة، وألزمهم بحفر آبار لتلك المياه القذرة صيانة لماء الشرب.
وفي شوال منها وقعت نار في أماكن متعددة في بغداد، حتى في دار الخلافة، فأحرقت شيئا كثيرا من الدور والدكاكين، ووقع بواسط حريق في تسعة أماكن، واحترق فيها أربعة وثمانون دارا وستة خانات، وأشياء كثيرة غير ذلك، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفيها عمل الرصد للسلطان ملكشاه اجتمع عليه جماعة من أعيان المنجمين وأنفق عليه أموالا كثيرة، وبقي دائرا حتى مات السلطان فبطل.
وفي ذي الحجة منها أعيدت الخطب للمصريين وقطعت خطبة العباسيين، وذلك لما قوي أمر صاحب مصر بعدما كان ضعيفا بسبب غلاء بلده، فلما رخصت تراجع الناس إليها، وطاب العيش بها، وقد كانت الخطبة للعباسيين بمكة منذ أربعين سنة وخمسة أشهر، وستعود كما كانت على ما سيأتي بيانه في موضعه، وفي هذا الشهر انجفل أهل السواد من شدة الوباء وقلة ماء دجلة ونقصها.
وحج بالناس الشريف أبو طالب الحسيني بن محمد الزينبي، وأخذ البيعة للخليفة المقتدي بالحرمين.
وممن توفي فيها من الاعيان...الخليفة القائم بأمر الله عبد الله، وقد ذكرنا شيئا من ترجمته عند وفاته.
الداوودي راوي صحيح البخاري، عبد الرحمن بن محمد بن المظفر بن محمد بن داود، أبو الحسن، بن أبي طلحة الداوودي، ولد سنة أربع وسبعين وثلاثمائة، سمع الكثير وتفقه على الشيخ أبي حامد

الاسفراييني، وأبي بكر القفال، وصحب أبا علي الدقاق وأبا عبد الرحمن السلمي، وكتب الكثير ودرس وأفتى وصنف، ووعظ الناس.
وكانت له يد طولى في النظم والنثر، وكان مع ذلك كثير الذكر، لا يفتر لسانه عن ذكر الله تعالى، دخل يوما عليه الوزير نظام الملك فجلس بين يديه فقال له الشيخ: إن الله قد سلطك على عباده فانظر كيف تجيبه إذا سألك عنهم.
وكانت وفاته ببوشنج (1) في هذه السنة وقد جاوز التسعين.
ومن شعره الجيد القوي قوله: كان في الاجتماع بالناس نور * ذهب النور وادلهم الظلام فسد الناس والزمان جميعا * فعلى الناس والزمان السلام أبو الحسن علي بن الحسن ابن علي بن أبي الطيب الباخرزي الشاعر المشهور، اشتغل أولا على الشيخ أبي محمد الجويني ثم ترك ذلك وعمد إلى الكتابة والشعر، ففاق أقرانه، وله ديوان مشهور فمنه: وإني لاشكو لسع أصداغك التي * عقاربها في وجنتيك نجوم وأبكي لدر الثغر منك ولي أب * فكيف نديم الضحك وهو يتيم ثم دخلت سنة ثمان وستين وأربعمائة قال ابن الجوزي: جاء جراد في شعبان بعدد الرمل والحصا، فأكل الغلات وآذى الناس، وجاعوا فطحن الخروب بدقيق الدخن فأكلوه، ووقع الوباء، ثم منع الله الجراد من الفساد، وكان يمر ولا يضر، فرخصت الاسعار.
قال: ووقع غلاء شديد بدمشق واستمر ثلاث سنين.
وفيها ملك
نصر بن محمود بن صالح بن مرداس مدينة منبج، وأجلى عنها الروم ولله الحمد والمنة في ذي القعدة منها.
وفيها ملك الاقسيس مدينة دمشق، وانهزم عنها المعلى بن حيدر (2) نائب المستنصر العبيدي إلى مدينة بانياس، وخطب فيها للمقتدي، وقطعت خطبة المصريين عنها إلى الآن ولله الحمد والمنة.
فاستدعى المستنصر نائبه فحبسه عنده إلى أن مات في السجن.
قلت: الاقسيس هذا هو أتسز بن أوف (3) الخوارزمي، ويلقب بالملك المعظم، وهو أول من
__________
(1) من معجم البلدان والكامل لابن الاثير 10 / 101، وفي الاصل: يوشح.
تحريف.
وبوشنج بفتح الشين بلدة من نواحي هراة بينهما عشرة فراسخ.
وذكر ابن الاثير في تاريخه وفاته سنة 468 ه.
(2) في الكامل 10 / 99: حيدرة.
(3) في الوافي بالوفيات 6 / 195: أوق.

استعاد بلاد الشام من أيدي الفاطميين، وأزال الاذان منها بحي على خير العمل، بعد أن كان يؤذن به على منابر دمشق وسائر الشام، مائة وست سنين، كان على أبواب الجوامع والمساجد مكتوب لعنة الصحابة رضي الله عنهم، فأمر هذا السلطان المؤذنين والخطباء أن يترضوا عن الصحابة أجمعين، ونشر العدل وأظهر السنة، وهو أول من أسس القلعة بدمشق، ولم يكن فيها قبل ذلك معقل يلتجئ إليه المسلمون من العدو، فبناها في محلتها هذه التي هي فيها اليوم، وكان موضعها بباب البلدة يقال له باب الحديد، وهو تجاه دار رضوان منها، وكان ابتداء ذلك في السنة الآتية، وإنما أكملها بعده الملك المظفر تتش بن ألب أرسلان السلجوقي كما سيأتي بيانه.
وحج بالناس فيها مقطع الكوفة.
وهو الامير السكيني جنفل التركي، ويعرف بالطويل، وكان قد شرد خفاجة في البلاد وقهرهم، ولم يصحب معه سوى ستة عشر تركيا، فوصل إلى مكة سالما، ولما نزل ببعض دورها كبسه بعض العبيد.
فقتل منهم مقتلة عظيمة، وهزمهم هزيمة شنيعة، ثم إنه بعد ذلك إنما كان ينزل بالزاهر.
قاله ابن الساعي في تاريخه، وأعيدت الخطبة في هذه السنة للعباسيين في ذي الحجة (1) منها، وقطعت خطبة المصريين ولله الحمد والمنة.
وممن توفي فيها من الاعيان...محمد بن علي ابن أحمد بن عيسى بن موسى، أبو تمام بن أبي القاسم بن القاضي أبي علي الهاشمي، نقيب الهاشميين، وهو ابن عم الشريف أبي جعفر بن أبي موسى الفقيه الحنبلي، روى الحديث وسمع منه أبو بكر بن عبد الباقي، ودفن بباب حرب.
محمد بن القاسم ابن حبيب بن عبدوس، أبو بكر الصفار من أهل نيسابور، سمع الحاكم وأبا عبد الرحمن السلمي وخلقا، وتفقه على الشيخ أبي محمد الجويني، وكان يخلفه في حلقته.
محمد بن محمد بن عبد الله أبو الحسين البيضاوي الشافعي، ختن أبي الطيب الطبري على ابنته، سمع الحديث وكان ثقة خيرا، توفي في شعبان منها، وتقدم للصلاة عليه الشيخ أبو نصر بن الصباغ، وحضر جنازته أبو عبد الله الدامغاني مأموما، ودفن بداره في قطيعة الكرخ.
__________
(1) في الوافي: في ذي القعدة

محمد بن نصر بن صالح ابن أمير حلب، وكان قد ملكها في سنة تسع وخمسين، وكان من أحسن الناس شكلا وفعلا.
مسعود بن المحسن ابن الحسن بن عبد الرزاق بن جعفر البياضي الشاعر ومن شعره: ليس لي صاحب معين سوى الل * يل إذا طال بالصدود عليا أنا أشكو بعد الحبيب إليه * وهو يشكو بعد الصباح إلينا وله أيضا: يامن لبست لهجره طول الضنا (1) * حتى خفيت إذا (2) عن العواد
وأنست بالسهر الطويل فأنسيت * أجفان عيني كيف كان رقادي إن كان يوسف بالجمال مقطع ال * أيدي فأنت مفتت الاكباد الواحدي المفسر علي بن حسن بن أحمد بن علي بن بويه (3) الواحدي، قال ابن خلكان: ولا أدري هذه النسبة إلى ماذا (3)، وهو صاحب التفاسير الثلاثة: البسيط، والوسيط والوجيز.
قال: ومنه أخذ الغزالي أسماء كتبه.
قال: وله أسباب النزول، والتحبير في شرح الاسماء الحسنى، وقد شرح ديوان المتنبي، وليس في شروحه مع كثرتها مثله.
قال: وقد رزق السعادة في تصانيفه، وأجمع الناس على حسنها وذكرها المدرسون في دروسهم، وقد أخذ التفسير عن الثعالبي، وقد مرض مدة، ثم كانت وفاته بنيسابور في جمادى الآخرة منها.
ناصر بن محمد ابن علي أبو منصور التركي الصافري، وهو والد الحافظ محمد بن ناصر، قرأ القرآن، وسمع الكثير، وهو الذي تولى قراءة التاريخ على الخطيب بجامع المنصور، وكان ظريفا صبيحا، مات شابا
__________
(1) في الكامل 10 / 102: لبعده ثوب الضنى...به عن العواد.
(2) في الكامل 10 / 101 ووفيات الاعيان 3 / 303، علي بن أحمد بن محمد بن علي بن متويه.
(3) في تاريخ أبي الفداء 2 / 192: الواحدي نسبة إلى الواحد بن ميسرة، وفي تاريخ ابن الوردي: نسبة إلى الواحد بن مهرة 1 / 569.

دون الثلاثين سنة في ذي القعدة منها، وقد رثاه بعضهم بقصيدة طويلة أوردها كلها في المنتظم ابن الجوزي.
يوسف بن محمد بن الحسن أبو القاسم الهمداني، سمع وجمع وصنف وانتشرت عنه الرواية، توفي في هذه السنة وقد قارب التسعين.
ثم دخلت سنة تسع وستين وأربعمائة فيها كان ابتداء عمارة قلعة دمشق، وذلك أن الملك المعظم أتسز بن أوف (1) الخوارزمي لما انتزع دمشق من أيدي العبيديين في السنة الماضية، شرع في بناء هذا الحصن المنيع بدمشق في هذه السنة وكان في مكان القلعة اليوم أحد أبواب البلد، باب يعرف بباب الحديد، وهو الباب المقابل لدار رضوان منها اليوم، داخل البركة البرانية منها، وقد ارتفع بعض أبرجتها فلم يتكامل حتى انتزع ملك البلد منه الملك المظفر تاج الملوك تتش بن ألب أرسلان السلجوقي، فأكملها وأحسن عمارتها، وابتنى بها دار رضوان للملك، واستمرت على ذلك البناء في أيام نور الدين محمود بن زنكي، فلما كان الملك صلاح الدين بن يوسف بن أيوب جدد فيها شيئا، وابتنى له نائبه ابن مقدم فيها دارا هائلة لمملكة، ثم إن الملك العادل أخا صلاح الدين، اقتسم هو وأولاده أبرجتها، فبنى كل ملك منهم برجا منها جدده وعلاه وأطده وأكده.
ثم جدد الملك الظاهر بيبرس منها البرج الغربي القبلي، ثم ابتنى بعده في دولة الملك الاشرف خليل بن المنصور، نائبه الشجاعي، الطارمة الشمالية والقبة الزرقاء وما حولها، وفي المحرم منها مرض الخليفة مرضا شديدا فأرجف الناس به، فركب حتى رآه الناس جهرة فسكنوا، وفي جمادى الآخرة منها زادت دجلة زيادة كثيرة، إحدى وعشرين ذراعا ونصفا، فنقل الناس أموالهم وخيف على دار الخلافة، فنقل تابوت القائم بأمر الله ليلا إلى الترب بالرصافة.
وفي شوال منها وقعت الفتنة بين الحنابلة والاشعرية.
وذلك أن ابن القشيري قدم بغداد فجلس يتكلم في النظامية وأخذ يذم الحنابلة وينسبهم إلى التجسيم، وساعده أبو سعد الصوفي، ومال معه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وكتب إلى نظام الملك يشكو إليه الحنابلة ويسأله المعونة عليهم، وذهب جماعة إلى الشريف أبي جعفر بن أبي موسى شيخ الحنابلة، وهو في مسجده فدافع عنه آخرون، واقتتل الناس بسبب ذلك وقتل رجل خياط من سوق التبن، وجرح آخرون، وثارت الفتنة، وكتب الشيخ أبو إسحاق وأبو بكر الشاشي إلى نظام الملك في كتابه إلى فخر الدولة ينكر ما
__________
(1) في الوافي: أوق.

وقع، ويكره أن ينسب إلى المدرسة التي بناها شئ من ذلك.
وعزم الشيخ أبو إسحاق على الرحلة من بغداد غضبا مما وقع من الشر، فأرسل إليه الخليفة يسكنه، ثم جمع بينه وبين الشريف أبي جعفر وأبي سعد الصوفي، وأبي نصر بن القشيري، عند الوزير، فأقبل الوزير على أبي جعفر يعظمه في الفعال والمقال، وقام إليه الشيخ أبو إسحاق فقال: أنا ذلك الذي كنت تعرفه وأنا شاب، وهذه كتبي في الاصول، ما أقول فيها خلافا للاشعرية، ثم قبل رأس أبي جعفر، فقال له أبو جعفر: صدقت، إلا أنك لما كنت فقيرا لم تظهر لنا ما في نفسك، فلما جاء الاعوان والسلطان وخواجه بزك - يعني نظام الملك - وشبعت، أبديت ما كان مختفيا في نفسك.
وقام الشيخ أبو سعد الصوفي وقبل رأس الشريف أبي جعفر أيضا وتلطف به، فالتفت إليه مغضبا وقال: أيها الشيخ أما الفقهاء إذا تكلموا في مسائل الاصول فلهم فيها مدخل، وأما أنت فصاحب لهو وسماع وتغبير، فمن زاحمك منا على باطلك ؟ ثم قال: أيها الوزير أنى تصلح بيننا ؟ وكيف يقع بيننا صلح ونحن نوجب ما نعتقده وهم يحرمون ويكفرون ؟ وهذا جد الخليفة القائم والقادر قد أظهرا اعتقادهما للناس على رؤوس الاشهاد على مذهب أهل السنة والجماعة والسلف، ونحن على ذلك كما وافق عليه العراقيون والخراسانيون، وقرئ على الناس في الدواوين كلها، فأرسل الوزير إلى الخليفة يعلمه بما جرى، فجاء الجواب بشكر الجماعة وخصوصا الشريف أبا جعفر، ثم استدعى الخليفة أبا جعفر إلى دار الخلافة للسلام عليه، والتبرك بدعائه.
قال ابن الجوزي: وفي ذي القعدة منها كثرت الامراض في الناس ببغداد وواسط والسواد، وورد الخبر بأن الشام كذلك.
وفي هذا الشهر أزيلت المنكرات والبغايا ببغداد، وهرب الفساق منها.
وفيها ملك حلب نصر بن محمود بن مرداس بعد وفاة أبيه (1).
وفيها تزوج الامير علي بن أبي منصور بن قرامز بن علاء الدولة بن كالويه (2) الست أرسلان خاتون بنت داود عم (3) السلطان ألب أرسلان، وكانت زوجة القائم بأمر الله.
وفيها حاصر الاقسيس صاحب دمشق مصر وضيق على صاحبها المستنصر بالله، ثم كر راجعا إلى دمشق.
وحج بالناس فيها الامير جنفل التركي (4) مقطع الكوفة.
وممن توفي فيها من الاعيان...
__________
(1) كذا بالاصل وابن الاثير، وقال أبو الفداء في تاريخه: إن محمود مرض سنة 467 وحدث به قروح في المعي مات بها (في السنة التي مرض بها أي سنة 467) وملك حلب بعده ابنه نصر.
وأن نصر قتله أحد الاتراك مستهل شوال سنة 468 ه.
ولما قتل نصر ملك حلب أخوه سابق بن محمود.
(2) في الكامل 10 / 105: فرامرز بن علاء الدولة أبي جعفر بن كاكويه.
(3) في الكامل: عمة..(4) في هامش المطبوعة: يعني هو نكل.
كذا بهامش نسخة الاستانة.

اسفهدوست (1) بن محمد بن الحسن أبو منصور الديلمي الشاعر، لقي أبا عبد الله بن الحجاج وعبد العزيز بن نباتة وغيرهما من الشعراء، وكان شيعيا فتاب، وقال في قصيدة له في ذلك قوله في اعتقاده: وإذا سئلت عن اعتقادي قلت ما * كانت عليه مذاهب الابرار وأقول خير الناس بعد محمد * صديقه وأنيسه في الغار ثم الثلاثة بعده خير الورى * أكرم بهم من سادة أطهار هذا اعتقادي والذي أرجو به * فوزي وعتقي من عذاب النار طاهر بن أحمد بن بابشاذ أبو الحسن البصري النحوي، سقط من سطح جامع عمرو بن العاص بمصر فمات من ساعته في رجب من هذه السنة.
قال ابن خلكان: كان بمصر إمام عصره في النحو، وله المصنفات المفيدة من ذلك مقدمته وشرحها وشرح الجمل للزجاجي.
قال: وكانت وظيفته بمصر أنه لا تكتب الرسائل في ديوان الانشاء إلا عرضت عليه فيصلح منها ما فيه خلل ثم تنفذ إلى الجهة التي عينت لها، وكان له على ذلك معلوم وراتب جيد.
قال فاتفق أنه كان يأكل يوما مع بعض أصحابه طعاما فجاءه قط فرموا له شيئا فأخذه وذهب سريعا، ثم أقبل فرموا له شيئا أيضا فانطلق به سريعا ثم جاء فرموا له شيئا أيضا فعلموا أنه لا يأكل هذا كله فتتبعوه فإذا هو يذهب به إلى قط آخر أعمى في سطح هناك، فتعجبوا من
ذلك، فقال الشيخ: يا سبحان الله هذا حيوان بهيم قد ساق الله إليه رزقه على يد غيره أفلا يرزقني وأنا عبده وأعبده.
ثم ترك ما كان له من الراتب وجمع حواشيه وأقبل على العبادة والاشتغال والملازمة في غرفة في جامع عمرو بن العاص إلى أن مات كما ذكرنا.
وقد جمع تعليقه في النحو وكان قريبا من خمسة عشر مجلدا، فأصحابه كابن بري وغيره ينقلون منها وينتفعون بها، ويسمونها تعليق الغرفة عبد الله بن محمد بن عبد الله ابن عمر بن أحمد بن المجمع بن محمد بن يحيى بن معبد بن هزار مرد، أبو محمد الصريفيني، ويعرف بابن المعلم، أحد مشايخ الحديث المسندين المشهورين، تفرد فيه عن جماعة من المشايخ لطول عمره، وهو آخر من حدث بالجعديات عن ابن حبانة عن أبي القاسم البغوي عن علي بن الجعد، وهو سماعنا، ورحل إليه الناس بسببه، وسمع عليه جماعة من الحفاظ منهم الخطيب، وكان ثقة محمود الطريقة، صافي الطوية، توفي بصريفين في جمادى الاولى عن خمس وثمانين سنة.
__________
(1) في الكامل 10 / 106 والوافي بالوفيات 8 / 384 وفوات الوفيات 1 / 15: اسبهدوست.

حيان بن خلف ابن حسين بن حيان بن محمد بن حيان بن وهب بن حيان أبو مروان القرطبي، مولى بني أمية، صاحب تاريخ المغرب في ستين مجلدا، أثنى عليه الحافظ.
أبو علي الغساني في فصاحته وصدقه وبلاغته.
قال: وسمعته يقول: التهنئة بعد ثلاث استخفاف بالمودة، والتعزية بعد ثلاث إغراء بالمصيبة.
قال ابن خلكان: توفي في ربيع الاول منها، ورآه بعضهم في المنام فسأله عن حاله فقال: غفر لي.
وأما التاريخ فندمت عليه، ولكن الله بلطفه أقالني وعفا عني.
أبو نصر السجزي الوابلي (1) نسبة إلى قرية من قرى سجستان يقال لها وابل، سمع الكثير وصنف وخرج وأقام بالحرم، وله كتاب الابانة في الاصول، وله في الفروع أيضا.
ومن الناس من كان يفضله في الحفظ على الصوري.
محمد بن علي بن الحسين أ بو عبد الله الانماطي، المعروف بابن سكينة، ولد سنة تسعين وثلاثمائة، وكان كثير السماع، ومات عن تسع وسبعين سنة والله سبحانه وتعالى أعلم.
ثم دخلت سنة سبعين وأربعمائة قال ابن الجوزي: في ربيع الاول منها وقعت صاعقة بمحلة النوبة من الجانب الغربي، على نخلتين في مسجد فأحرقت أعاليهما، وصعد الناس فأطفأوا النار، ونزلوا بالسعف وهو يشتعل نارا.
قال: وورد كتاب من نظام الملك إلى الشيخ أبي إسحاق الشيرازي في جواب كتابه إليه في شأن الحنابلة، ثم سرده ابن الجوزي ومضمونه: أنه لا يمكن تغيير المذاهب ولا نقل أهلها عنها، والغالب على تلك الناحية هو مذهب الامام أحمد، ومحله معروف عند الائمة والناس، وقدره معلوم في السنة.
في كلام طويل.
قال: وفي شوال منها وقعت فتنة بين الحنابلة وبين فقهاء النظامية، وحمى لكل من الفريقين طائفة من العوام، وقتل بينهم نحو من عشرين قتيلا، وجرح آخرون، ثم سكنت الفتنة.
قال: وفي تاسع عشر شوال ولد للخليفة المقتدي ولده المستظهر أبو العباس أحمد، وزينت
__________
(1) وهو عبيد الله بن سعيد بن حاتم بن أحمد.
قال في تذكرة الحفاظ 3 / 1118: الوائلي البكري ومات سنة أربع وأربعين وأربعمائة.

البلاد وجلس الوزير للهناء، ثم في يوم الاحد السادس والعشرين من شوال ولد له ولد آخر وهو أبو محمد هارون.
قال: ولي تاج الدولة أرسلان الشام وحاصر حلب.
وحج بالناس جنفل مقطع الكوفة، وذكر ابن الجوزي: أن الوزير ابن جهير كان قد عمل منبرا هائلا لتقام عليه الخطبة بمكة، فحين وصل إليها إذا الخطبة قد أعيدت للمصريين، فكسر ذلك المنبر وأحرق.
وممن توفي فيها من الاعيان...أحمد بن محمد بن أحمد بن يعقوب ابن أحمد أبو بكر اليربوعي المقري آخر من حدث عن أبي الحسين بن سمعون وقد كان ثقة
متعبدا حسن الطريقة، كتب عنه الخطيب وقال: كان صدوقا.
توفي في هذه السنة عن سبع وثمانين سنة.
أحمد بن محمد ابن أحمد بن عبد الله أبو الحسن (1) بن النقور البزاز، أحد المسندين المعمرين تفرد بنسخ كثيرة عن ابن حبان عن البغوي عن أشياخه، كنسخة هدبة وكامل بن طلحة وعمرو بن زرارة وأبي السكن البكري، وكان متكثرا متبحرا وكان يأخذ على إسماع حديث طالوت بن عبادة دينار، وقد أفتاه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي بجواز أخذ الاجرة على إسماع الحديث، لا شتغاله به عن الكسب.
توفي عن تسع وثمانين سنة.
أحمد بن عبد الملك ابن علي بن أحمد، أبو صالح المؤذن النيسابوري الحافظ، كتب الكثير وجمع وصنف، كتب عن ألف شيخ، وكان يعظ ويؤذن، مات وقد جاوز الثمانين (2).
عبد الله بن الحسن بن علي أبو القاسم بن أبي محمد الحلالي، آخر من حدث عن أبي حفص الكتاني، وقد سمع الكثير روى عنه الخطيب ووثقه، توفي عن خمس وثمانين سنة ودفن بباب حرب.
__________
(1) في الكامل 10 / 108 وتذكرة الحفاظ / 1164 وشذرات الذهب 3 / 335: أبو الحسين.
(2) في تذكرة الحفاظ / 1163 وشذرات الذهب 3 / 335: اثنتين وثمانين سنة.

عبد الرحمن بن منده ابن محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن إبراهيم أبو القاسم بن أبي عبد الله الامام، سمع أباه وابن مردويه وخلقا في أقاليم شتى، سافر إليها وجمع شيئا كثيرا، وكان ذا وقار وسمت حسن، واتباع للسنة وفهم جيد، كثير الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يخاف في الله لومة لائم، وكان مسعد بن محمد الريحاني يقول: حفظ الله الاسلام به، وبعبد الله الانصاري الهروي.
توفي ابن منده
هذا بأصبهان عن سبع وثمانين سنة، وحضر جنازته خلق كثير لا يعلمهم إلا الله عزوجل.
عبد الملك بن محمد ابن عبد العزيز بن محمد بن المظفر بن علي أبو القاسم الهمداني أحد الحفاظ الفقهاء الاولياء، كان يلقب ببجير وقد سمع الكثير، وكان يكثر للطلبة ويقرأ لهم، توفي بالري في المحرم من هذه السنة، ودفن إلى جانب إبراهيم الخواص.
الشريف أبو جعفر الحنبلي عبد الخالق بن عيسى بن أحمد بن محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن معبد بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي بن أبي موسى الحنبلي العباسي، كان أحد الفقهاء العلماء العباد الزهاد المشهورين بالديانة والفضل والعبادة والقيام في الله بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا تأخذه في الله لومة لائم، ولد سنة إحدى عشرة وأربعمائة، واشتغل على القاضي أبي يعلى بن الفراء، وزكاه شيخه عند ابن الدامغاني فقبله، ثم ترك الشهادة بعد ذلك، وكان مشهورا بالصلاح والديانة، وحين اختصر الخليفة القائم بأمر الله أوصى أن يغسله الشريف أبو جعفر هذا وأوصى له بشئ كثير، ومال جزيل، فلم يقبل من ذلك شيئا، وحين وقعت الفتنة بين الحنابلة والاشعرية بسبب ابن القشيري اعتقل هو في دار الخلافة مكرما معظما، يدخل عليه الفقهاء وغيرهم، ويقبلون يده ورأسه، ولم يزل هناك حتى اشتكى فأذن له في المسير إلى أهله فتوفي عندهم ليلة الخميس النصف في صفر منها، ودفن إلى جانب الامام أحمد، فاتخذت العامة قبره سوقا كل ليلة أربعاء يترددون إليه ويقرأون الختمات عنده حتى جاء الشتاء، وكان جملة ما قرئ عليه وأهدي له عشرة آلاف ختمة والله أعلم.
محمد بن محمد بن عبد الله أبو الحسن البيضاوي، أحد الفقهاء الشافعيين بربع الكرخ ودفن عند والده.

ثم دخلت سنة إحدى وسبعين وأربعمائة فيها ملك السلطان الملك المظفر تاج الملوك تتش بن ألب أرسلان السلجوقي دمشق وقتل ملكها
إقسيس، وذلك أن إقسيس بعث إليه يستنجده على المصريين، فلما وصل إليه لم يركب لتلقيه فأمر بقتله فقتل لساعته، ووجد في خزائنه حجر ياقوت أحمر وزنه سبعة عشر مثقالا، وستين حبة لؤلؤ كل حبة منها أزيد من مثقال، وعشرة آلاف دينار ومائتي سرج ذهب وغير ذلك، وقد كان إقسيس هذا هو أتسز بن أوف (1) الخوارزمي، كان يلقب بالمعظم، وكان من خيار الملوك وأجودهم سيرة، وأصحهم سريرة، أزال الرفض عن أهل الشام، وأبطل الاذان بحي على خير العمل، وأمر بالترضي عن الصحابة أجمعين.
وعمر بدمشق القلعة التي هي معقل الاسلام بالشام المحروس، فرحمه الله وبل بالرحمة ثراه، وجعل جنة الفردوس مأواه.
وفيها عزل الوزير ابن جهير بإشارة نظام الملك، بسبب ممالاته على الشافعية، ثم كاتب المقتدي نظام الملك في إعادته فأعيد ولده وأطلق هو.
وفيها قدم سعد الدولة جوهرا أميرا إلى بغداد، وضرب الطبول على بابه في أوقات الصلوات، وأساء الادب على الخليفة، وضرب طوالات الخيل على باب الفردوس، فكوتب السلطان بأمره فجاء الكتاب من السلطان بالانكار عليه.
وحج بالناس مقطع الكوفة جنفل التركي.
أثابه الله.
وممن توفي فيها من الاعيان...سعد بن علي ابن محمد بن علي بن الحسين أبو القاسم الزنجاني، رحل إلى الآفاق، وسمع الكثير، وكان إماما حافظا متعبدا، ثم انقطع في آخر عمره بمكة، وكان الناس يتبركون به.
قال ابن الجوزي: ويقبلون يده أكثر مما يقبلون الحجر الاسود (2).
سليم بن الجوزي (3) نسبة إلى قرية من قرى دجيل، كان عابدا زاهدا يقال إنه مكث مدة يتقوت كل يوم بزبيبة، وقد سمع الحديث وقرئ عليه رحمه الله.
__________
(1) في الكامل: أوق.
قال ابن خلدون في العبر 3 / 474: " قال ابن الاثير والشاميون في هذا الاسم أفسلس والصحيح أنه أتز وهو اسم تركي ".
(2) قال الذهبي في تذكرة الحفاظ 3 / 1176: ولد في حدود سنة 380 ومات في أول سنة 471 أو في آخر التي قبلها
وعاش تسعين سنة.
(3) في الكامل 10 / 112: سليم الجوري.
بناحية جور من دجيل.

عبد الله بن شمعون أبو أحمد الفقيه المالكي القيرواني، توفي ببغداد ودفن بباب حرب والله سبحانه وتعالى أعلم.
ثم دخلت سنة ثنتين وسبعين وأربعمائة فيها ملك محمود (1) بن مسعود بن محمود بن سبكتكين صاحب غزنة قلاعا كثيرة حصينة من بلاد الهند، ثم عاد إلى بلاده سالما غانما.
وفيها ولد الامير أبو جعفر بن المقتدي بالله، وزينت له بغداد وفيها ملك صاحب الموصل الامير شرف الدولة مسلم بن قريش بن بدران العقيلي بعد وفاة أبيه (2).
وفيها ملك منصور بن مروان بلاد بكر بعد أبيه.
وفيها أمر السلطان بتغريق ابن علان اليهودي ضامن البصرة، وأخذ من ذخائره أربعمائة ألف دينار، فضمن خمارتكين البصرة بمائة ألف دينار ومائة فرس في كل سنة.
وفيها فتح عبيد الله بن نظام الملك تكريت.
وحج بالناس جنفل التركي وقطعت خطبة المصريين بمكة وخطب للمقتدي وللسلطان ملكشاه السلجوقي.
وممن توفي فيها من الاعيان...عبد الملك بن الحسن بن أحمد بن حيرون أبو نصر سمع الكثير وكان زاهدا عابدا، يسرد الصوم، ويختم في كل ليلة ختمة رحمه الله.
محمد بن محمد بن أحمد (3) ابن الحسين بن عبد العزيز بن مهران العكبري، سمع هلال الحفار، وابن رزقويه والحمامي وغيرهم، وكان فاضلا جيد الشعر، فمن شعره قوله: أطيل فكري في أي ناس * مضوا قدما وفيمن خلفونا (4) هم الاحياء بعد الموت ذكرا * ونحن من الخمول الميتونا توفي في رمضان منها وله سبعون سنة (5).
__________
(1) في الكامل 10 / 113 ومختصر أخبار البشر 2 / 194: إبراهيم.
(2) زيد في الكامل 10 / 114: مدينة حلب.
(3) في الوافي بالوفيات 1 / 273: محمد.
(4) البيت في الوافي: أطيل الفكر مني في أناس * مضوا عنا وفي من خلفونا.
(5) في الكامل 10 / 117 مولده سنة أربع وثمانين وثلاثمائة.
وفي الوافي: ولد في شهر رجب سنة اثنتين وثمانين ووفاته في شهر رمضان اثنتين وسبعين وأربعمائة.

هياج بن عبد الله (1) الخطيب الشامي، سمع الحديث وكان أوحد زمانه زهدا وفقها واجتهادا في العبادة، أقام بمكة مدة يفتي أهلها ويعتمر في كل يوم ثلاث مرات على قدميه، ولم يلبس نعلا منذ أقام بمكة، وكان يزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم مع أهل مكة ماشيا، وكذلك كان يزور قبر ابن عباس بالطائف، وكان لا يدخر شيئا، ولا يلبس إلا قميصا واحدا، ضربه بعض أمراء مكة في بعض فتن الروافض فاشتكى أياما ومات، وقد نيف على الثمانين رحمه الله، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة فيها استولى تكش أخو السلطان ملك شاه على بعض بلاد خراسان.
وفيها أذن للوعاظ في الجلوس للوعظ، وكانوا قد منعوا في فتنة ابن القشيري.
وفيها قبض على جماعة من الفتيان كانوا قد جعلوا عليهم رئيسا يقال له عبد القادر الهاشمي، وقد كاتبوه من الاقطار، وكان الساعي له رجلا يقال له: ابن رسول، وكانوا يجتمعون عند جامع براثا، فخيف من أمرهم أن يكونوا ممالئين للمصريين، فأمر بالقبض عليهم.
وحج بالناس جنفل.
وممن توفي فيها من الاعيان...أحمد بن محمد بن عمر ابن محمد بن إسماعيل، أبو عبد الله بن الاخضر المحدث، سمع علي بن شاذان (2)، وكان على مذهب الظاهرية، وكان كثير التلاوة حسن السيرة، متقللا من الدنيا قنوعا، رحمه الله.
الصليحي المتغلب على اليمن، أبو الحسن علي بن محمد بن علي الملقب بالصليحي، كان أبوه قاضيا.
باليمن، وكان سنيا، ونشأ هذا فتعلم العلم وبرع في أشياء كثيرة من العلوم، وكان شيعيا على مذهب القرامطة، ثم كان يدل بالحجيج مدة خمس عشرة سنة، وكان اشتهر أمره بين الناس أنه سيملك اليمن، فنجم ببلاد اليمن بعد قتله نجاح صاحب تهامة، واستحوذ على بلاد اليمن بكمالها في أقصر مدة، واستوثق له الملك بها سنة خمس وخمسين، وخطب للمستنصر العبيدي صاحب
__________
(1) في معجم البلدان (حطين): هياج بن محمد بن عبيد بن حسين الحطيني - أبو محمد - نزيل مكة الزاهد.
(2) في الوافي 8 / 70: الحسن بن أحمد بن شاذان.

مصر، فلما كان في هذا العام خرج إلى الحج في ألفي فارس، فاعترضه سعيد بن نجاح بالموسم، في نفر يسير، فقاتلهم فقتل هو وأخوه واستحوذ سعيد بن نجاح على مملكته وحواصله، ومن شعر الصليحي هذا قوله: أنكحت بيض الهند سمر رماحهم * فرؤوسهم عرض النثار نثار وكذا العلا لا يستباح نكاحها * إلا بحيث تطلق الاعمار محمد بن الحسين ابن عبد الله بن أحمد بن يوسف بن الشبلي، أبو علي الشاعر البغدادي، أسند الحديث، وله الشعر الرائق فمنه قوله: لا تظهرن لعاذل أو عاذر * حاليك في السراء والضراء فلرحمة المتوجعين مرارة (1) * في القلب مثل شماتة الاعداء وله أيضا: يفني البخيل بجمع المال مدته * وللحوادث والوراث (2) ما يدع كدودة القز ما تبنيه يخنقها (3) * وغيرها بالذي تبنيه ينتفع
يوسف بن الحسن ابن محمد بن الحسن، أبو القاسم العسكري، من أهل خراسان من مدينة زنجان، ولد سنة خمس وتسعين وثلاثمائة، وتفقه على أبي إسحاق الشيرازي، وكان من أكبر تلاميذه، وكان عابدا ورعا خاشعا، كثير البكاء عند الذكر، مقبلا على العبادة، مات وقد قارب الثمانين.
ثم دخلت سنة أربع وسبعين وأربعمائة فيها ولي أبو كامل منصور بن نور الدولة دبيس ما كان يليه أبوه من الاعمال، وخلع عليه السلطان والخليفة، وفيها ملك شرف الدولة مسلم بن قريش حران، وصالح صاحب الرهاء.
وفيها فتح تتش بن ألب أرسلان صاحب دمشق مدينة انطرطوس.
وفيها أرسل الخليفة ابن جهير إلى
__________
(1) في الوافي بالوفيات 3 / 11: حزازة.
(2) في الوافي: والايام.
(3) في الوافي: يهدمها.

السلطان ملك شاه يتزوج ابنته فأجابت أمها بذلك، بشرط أن لا يكون له زوجة ولا سرية سواها، وأن يكون سبعة أيام عندها، فوقع الشرط على ذلك.
وفيها توفي من الاعيان...داود بن السلطان بن ملك شاه فوجد عليه أبوه وجدا كثيرا، بحيث إنه كاد أو هم أن يقتل نفسه، فمنعه الامراء من ذلك، وانتقل عن ذلك البلد وأمر النساء بالنوح عليه.
ولما وصل الخبر لبغداد جلس وزير الخليفة للعزاء.
القاضي أبو الوليد الباجي سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب التجيبي الاندلسي الباجي الفقيه المالكي، أحد الحفاظ المكثرين في الفقه والحديث، سمع الحديث ورحل فيه إلى بلاد المشرق سنة ست وعشرين وأربعمائة، فسمع هناك الكثير، واجتمع بأئمة ذلك الوقت، كالقاضي أبي الطيب الطبري، وأبي
إسحاق الشيرازي، وجاور بمكة ثلاث سنين مع الشيخ أبي ذر الهروي، وأقام ببغداد ثلاث سنين، وبالموصل سنة عند أبي جعفر السمناني قاضيها، فأخذ عنه الفقه والاصول، وسمع الخطيب البغدادي وسمع منه الخطيب أيضا، وروى عنه هذين البيتين الحسنين: إذا كنت أعلم علما يقينا * بأن جميع حياتي كساعة فلم لا أكون كضيف (1) بها * وأجعلها في صلاح وطاعة ثم عاد إلى بلده بعد ثلاث عشرة سنة، وتولى القضاء هناك، ويقال إنه تولى قضاء حلب أيضا، قاله ابن خلكان.
قال: وله مصنفات عديدة منها المنتقى في شرح الموطأ، وإحكام الفصول في أحكام الاصول، والجرح والتعديل، وغير ذلك، وكان مولده سنة ثلاث وأربعمائة، وتوفي ليلة الخميس بين العشاءين التاسع والعشرين من رجب من هذه السنة، رحمه الله.
أبو الاغر دبيس بن علي بن مزيد الملقب نور الدولة، توفي في هذه السنة عن ثمانين سنة: مكث منها أميرا نيفا وستين (2) سنة وقام بالامر من بعده ولده أبو كامل، ولقب بهاء الدولة.
__________
(1) في الوافي 15 / 374: ضنينا بها.
(2) كذا بالاصل والنجوم الزاهرة، وفي تاريخ ابن الاثير 10 / 121، وكانت إمارته سبعا وخمسين سنة.

عبد الله بن أحمد بن رضوان أبو القاسم البغدادي، كان من الرؤساء، ومرض بالشقيقة ثلاث سنين، فمكث في بيت مظلم لا يرى ضوءا ولا يسمع صوتا.
ثم دخلت سنة خمس وسبعين وأربعمائة فيها قدم مؤيد الملك فنزل في مدرسة أبيه، وضربت الطبول على بابه في أوقات الصلوات الثلاث.
وفيها نفذ الشيخ أبو إسحاق الشيرازي رسولا إلى السلطان ملكشاه والوزير نظام الملك (1)، وكان أبو إسحاق كلما مر على بلدة خرج أهلها يتلقونه بأولادهم ونسائهم، يتبركون به
ويتمسحون بركابه، وربما أخذوا من تراب حافر بغلته، ولما وصل إلى ساوة خرج إليه أهلها، وما مر بسوق منها إلا نثروا عليه من لطيف ما عندهم، حتى اجتاز بسوق الاساكفة، فلم يكن عندهم إلا مداساة الصغار فنثروها عليه، فجعل يتعجب من ذلك.
وفيها جددت الخطبة لبنت السلطان ملكشاه من جهة الخليفة، فطلبت أمها أربعمائة ألف دينار، ثم اتفق الحال على خمسين ألف دينار.
وفيها حارب السلطان أخاه تتش فأسره ثم أطلقه، واستقرت يده على دمشق وأعمالها.
وحج بالناس جنفل.
وتوفي فيها من الاعيان...عبد الوهاب بن محمد ابن إسحاق بن محمد بن يحيى بن منده، أبو عمر الحافظ من بيت الحديث، رحل إلى الآفاق وسمع الكثير، وتوفي بأصبهان.
ابن ماكولا الامير أبو نصر علي بن الوزير أبي القاسم هبة الله بن علي بن جعفر بن علكان بن محمد بن دلف ابن أبي دلف التميمي، الامير سعد الملك، أبو نصر بن ما كولا، أحد أئمة الحديث وسادات الامراء، رحل وطاف وسمع الكثير، وصنف الاكمال في المشتبه من أسماء الرجال، وهو كتاب
__________
(1) قال ابن الاثير في تاريخه: إن الخليفة بعث أبا إسحاق وحمله رسالة تتضمن الشكوى من العميد أبي الفتح بن أبي الليث، وأمره أن ينهي ما يجري على البلاد من النظارة (10 / 125 والعبر لابن خلدون 3 / 474 وفيها أن إرساله كان سنة خمس وخمسين وهو تحريف ظاهر).

جليل لم يسبق إليه، ولا يلحق فيه، إلا ما استدرك عليه ابن نقطة في كتاب سماه الاستدراك.
قتله مماليكه في كرمان في هذه السنة، وكان مولده في سنة عشرين وأربعمائة، وعاش خمسا وخمسين سنة.
قال ابن خلكان: وقيل إنه قتل في سنة تسع وسبعين، وقيل في سنة سبع وثمانين.
قال: وقد كان أبوه وزير القائم بأمر الله، وعمه عبد الله بن الحسين ولي قضاء بغداد.
قال: ولم أدر لم سمي الامير
إلا أن يكون منسوبا إلى جده الامير أبي دلف، وأصله من جرباذقان، وولد في عكبرا في شعبان سنة إحدى وعشرين وأربعمائة.
قال: وقد كان الخطيب البغدادي صنف كتاب المؤتنف جمع فيه بين كتابي الدارقطني وعبد الغني بن سعيد في المؤتلف والمختلف، فجاء ابن ماكولا وزاد على الخطيب وسماه كتاب الاكمال، وهو في غاية الافادة ورفع الالتباس والضبط.
ولم يوضع مثله، ولا يحتاج هذا الامير بعده إلى فضيلة أخرى، ففيه دلالة على كثرة اطلاعه وضبطه وتحريره وإتقانه.
ومن الشعر المنسوب إليه قوله: قوض خيامك عن أرض تهان بها * وجانب الذل إن الذل يجتنب وارحل إذا كان في الاوطان منقصة * فالمندل الرطب في أوطانه حطب ثم دخلت سنة ست وسبعين وأربعمائة فيها عزل عميد الدولة بن جهير عن وزارة الخلافة فسار بأهله وأولاده إلى السلطان، وقصدوا نظام الملك وزير السلطان، فعقد لولده فخر الدولة على بلاد ديار بكر، فسار إليها بالخلع والكوسات والعساكر، وأمر أن ينتزعها من ابن مروان، وأن يخطب لنفسه وأن يذكر اسمه على السكة، فما زال حتى انتزعها من أيديهم، وباد ملكهم على يديه كما سيأتي بيانه، وسد وزارة الخلافة أبو الفتح مظفر ابن رئيس الرؤساء، ثم عزل في شعبان واستوزر أبو شجاع محمد بن الحسين، ولقب ظهير الدين، وفي جمادى الآخرة ولى مؤيد الملك أبا سعيد (1) عبد الرحمن بن المأمون، المتولي تدريس النظامية بعد وفاة الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وفيها عصى أهل حران على شرف الدولة مسلم بن قريش، فجاء فحاصرها ففتحها وهدم سورها وصلب قاضيها ابن حلبة وابنيه على السور.
وفي شوال منها قتل أبو المحاسن بن أبي الرضا، وذلك لانه وشى إلى السلطان في نظام الملك، وقال له سلمهم إلي حتى أستخلص لك منهم ألف ألف دينار، فعمل نظام الملك سماطا هائلا، واستحضر غلمانه وكانوا ألوفا من الاتراك، وشرع يقول للسلطان: هذا كله من أموالك، وما وقفته من المدارس والربط، وكله شكره لك في الدنيا وأجره لك في الآخرة، وأموالي وجميع ما أملكه بين يديك، وأنا أقنع بمرقعة وزاوية، فعند ذلك أمر السلطان بقتل أبي المحاسن، وقد كان حضيا عنده، وخصيصا به وجيها
__________
(1) في الكامل 10 / 132: أبا سعد

لديه، وعزل أباه عن كتابة الطغراء (1) وولاها مؤيد الملك.
وحج بالناس الامير جنفل التركي مقطع الكوفة.
وممن توفي فيها من الاعيان: الشيخ أبو إسحاق الشيرازي إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروز آبادي، وهي قرية من قرى فارس، وقيل هي مدينة خوارزم، شيخ الشافعية، ومدرس النظامية ببغداد، ولد سنة ثلاث وقيل ست وتسعين وثلاثمائة، وتفقه بفارس على أبي عبد الله البيضاوي، ثم قدم بغداد سنة خمس عشرة وأربعمائة، فتفقه على القاضي أبي الطيب الطبري، وسمع الحديث من ابن شاذان والبرقاني، وكان زاهدا عابدا ورعا، كبير القدر معظما محترما إماما في الفقه والاصول والحديث، وفنون كثيرة، وله المصنفات الكثيرة النافعة، كالمهذب في المذهب، والتنبيه، والنكت في الخلاف، واللمع في أصول الفقه، والتبصرة، وطبقات الشافعية وغير ذلك.
قلت: وقد ذكرت ترجمته مستقصاة مطولة في أول شرح التنبيه، توفي ليلة الاحد الحادي والعشرين من جمادى الآخرة في دار أبي المظفر ابن رئيس الرؤساء، وغسله أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي وصلى عليه بباب الفردوس من دار الخلافة، وشهد الصلاة عليه المقتدي بأمر الله، وتقدم للصلاة عليه أبو الفتح المظفر ابن رئيس الرؤساء، وكان يومئذ لابسا ثياب الوزارة، ثم صلي عليه مرة ثانية بجامع القصر، ودفن بباب إبرز في تربة مجاورة للناحية رحمه الله تعالى، وقد امتدحه الشعراء في حياته وبعد وفاته، وله شعر رائق، فمما أنشده ابن خلكان من شعره قوله: سألت الناس عن خل وفي * فقالوا ما إلى هذا سبيل تمسك إن ظفرت بذيل حر (2) * فإن الحر في الدنيا قليل قال ابن خلكان: ولما توفي عمل الفقهاء عزاءه بالنظامية، وعين مؤيد الملك أبا سعد المتولي
مكانه، فلما بلغ الخبر إلى نظام الملك كتب يقول: كان من الواجب أن تغلق المدرسة سنة لاجله، وأمر أن يدرس الشيخ أبو نصر بن الصباغ في مكانه.
طاهر بن الحسين ابن أحمد بن عبد الله القواس، قرأ القرآن وسمع الحديث وتفقه على القاضي أبي الطيب
__________
(1) الطعراء علامة ترسم على مناشير السلطان ومسكوكاته يدرج فيها اسمه واسم والده مع لقبه.
(محيط المحيط).
(2) في الوافي 6 / 66 ومختصر أخبار البشر 2 / 194: بود حر.

الطبري وأفتى ودرس، وكانت له حلقة بجامع المنصور للمناظرة والفتوى، وكان ورعا زاهدا ملازما لمسجده خمسين سنة، توفي عن ست وثمانين سنة، ودفن قريبا من الامام أحمد، رحمه الله وإيانا.
محمد بن أحمد بن إسماعيل أبو طاهر الانباري الخطيب، ويعرف بابن أبي الصقر، طاف البلاد وسمع الكثير، وكان ثقة صالحا فاضلا عابدا، وقد سمع منه الخطيب البغدادي، وروى عنه مصنفاته، توفي بالانبار في جمادى الآخرة عن نحو من مائة سنة (1)، رحمه الله.
محمد بن أحمد بن الحسين بن جرادة أحد الرؤساء ببغداد، وهو من ذوي الثروة والمروءة، كان يحزر ماله بثلاثمائة ألف دينار، وكان أصله من عكبرا فسكن بغداد، وكانت له بها دار عظيمة تشتمل على ثلاثين مسكنا مستقلا، وفيها حمام وبستان ولها بابان، على كل باب مسجد، إذا أذن المؤذن في إحداهما لا يسمع الآخر من اتساعها، وقد كانت زوجة الخليفة القائم حين وقعت فتنة البساسيري في سنة خمسين وأربعمائة، نزلت عنده في جواره، فبعث إلى الامير قريش بن بدران أمير العرب بعشرة آلاف دينار، ليحمي له داره، وهو الذي بنى المسجد المعروف به ببغداد، وقد ختم فيه القرآن ألوف من الناس، وكان لا يفارق زي التجار.
وكانت وفاته في عاشر ذي القعدة من هذه السنة، ودفن في التربة المجاورة لتربة القزويني، رحمه الله وإيانا آمين.
ثم دخلت سنة سبع وسبعين وأربعمائة فيها كانت الحرب بين فخر الدولة بن جهير وزير الخليفة وبين ابن مروان صاحب ديار بكر، فاستولى ابن جهير على ملك العرب وسبى حريمهم وأخذ البلاد ومعه سيف الدولة صدقة بن منصور بن دبيس بن علي بن مزيد الاسدي، فافتدى خلقا من العرب فشكره الناس على ذلك، وامتدحه الشعراء.
وفيها بعث السلطان عميد الدولة بن جهير في عسكر كثيف ومعه قسيم الدولة اقسنقر جد بني أتابك ملوك الشام والموصل، فسار إلى الموصل فملكوها.
وفي شعبان منها ملك سليمان بن قتلمش أنطاكية، فأراد شرف الدولة مسلم بن قريش أن يستنقذها منه، فهزمه سليمان وقتله، وكان مسلم هذا من خيار الملوك سيرة، له في كل قرية وال وقاض وصاحب خبر، وكان
__________
(1) في شذرات الذهب 3 / 354: وله ثمانون سنة.

يملك من السندية إلى منبج.
وولى بعده أخوه إبراهيم بن قريش، وكان مسجونا من سنين فأطلق وملك.
وفيها ولد السلطان سنجر بن ملكشاه في العشرين (1) من رجب بسنجار.
وفيها عصى تكش أخو السلطان فأخذه السلطان فسمله وسجنه.
وحج بالناس في هذه السنة الامير خمارتكين الحسناني، وذلك لشكوى الناس من شدة سير جنفل بهم، وأخذ المكوسات منهم، سافر مرة من الكوفة إلى مكة في سبعة عشر يوما.
وممن توفي فيها من الاعيان...أحمد بن محمد بن دوبست (2) أبو سعد النيسابوري، شيخ الصوفية، له رباط بمدينة نيسابور يدخل من بابه الجمل براكبه، وحج مرات على التجريد على البحرين، حين انقطعت طريق مكة، وكان يأخذ جماعة من الفقراء ويتوصل من قبائل العرب حتى يأتي مكة، توفي في هذه السنة (3) وقد جاوز التسعين، رحمه الله وإيانا، وأوصى أن يخلفه ولده إسماعيل فأجلس في مشيخة الرباط.
ابن الصباغ
صاحب الشامل، عبد السيد بن محمد بن عبد الواحد بن أحمد بن جعفر، الامام أبو نصر بن الصباغ، ولد سنة أربعمائة، وتفقه ببغداد على أبي الطيب الطبري حتى فاق الشافعية بالعراق، وصنف المصنفات المفيدة، منها الشامل في المذهب، وهو أول من درس بالنظامية، توفي في هذه السنة ودفن بداره في الكرخ، ثم نقل إلى باب حرب رحمه الله، قال ابن خلكان: كان فقيه العراقين، وكان يضاهي أبا إسحاق، وكان ابن الصباغ أعلم منه بالمذهب، وإليه الرحلة فيه، وقد صنف الشامل في الفقه والعمدة في أصول الفقه، وتولى تدريس النظامية أولا، ثم عزل بعد عشرين يوما بالشيخ أبي إسحاق، فلما مات الشيخ أبو إسحاق تولاها أبو سعد المتولي، ثم عزل ابن الصباغ بابن المتولي، وكان ثقة حجة صالحا، ولد سنة أربعمائة، أضر في آخر عمره، رحمه الله وإيانا.
مسعود بن ناصر ابن عبد الله بن أحمد بن إسماعيل، أبو سعد السجري (4) الحافظ، رحل في الحديث وسمع
__________
(1) في الكامل 10 / 141: في الخامس والعشرين.
(2) في الوافي 8 / 14: دوست.
(3) ذكر وفاته في الوافي سنة 379 وانظر شذرات الذهب 3 / 363.
(4) في تذكرة الحفاظ 4 / 1216: السجزي.
وفي شذرات الذهب 3 / 357: الشحري.
وفيهما أبو سعيد.

الكثير، وجمع الكتب النفيسة، وكان صحيح الخط، صحيح النقل، حافظا ضابطا، رحمه الله وإيانا.
ثم دخلت سنة ثمان وسبعين وأربعمائة في المحرم منها زلزلت أرجان فهلك خلق كثير من الروم ومواشيهم.
وفيها كثرت الامراض بالحمى والطاعون بالعراق والحجاز والشام، وأعقب ذلك موت الفجأة، ثم ماتت الوحوش في البراري ثم تلاها موت البهائم، حتى عزت الالبان واللحمان، ومع هذا كله وقعت فتنة عظيمة بين الرافضة والسنة فقتل خلق كثير فيها.
وفي ربيع الاول هاجت ريح سوداء وسفت رملا وتساقطت
أشجار كثيرة من النخل وغيرها، ووقعت صواعق في البلاد حتى ظن بعض الناس أن القيامة قد قامت، ثم انجلى ذلك ولله الحمد.
وفيها ولد للخليفة ولده أبو عبد الله الحسين، وزينت بغداد وضربت الطبول والبوقات، وكثرت الصدقات.
وفيها استولى فخر الدولة بن جهير على بلاد كثيرة، منها آمد وميا فارقين، وجزيرة ابن عمر، وانقضت بنو مروان على يده في هذه السنة.
وفي ثاني عشر رمضان منها ولي أبو بكر محمد بن مظفر الشامي قضاء القضاة ببغداد، بعد وفاة أبي عبد الله الدامغاني، وخلع عليه في الديوان.
وحج بالناس جنفل، وزار النبي صلى الله عليه وسلم ذاهبا وآيبا.
قال: أظن أنها آخر حجتي.
وكان كذلك.
وفيها خرج توقيع الخليفة المقتدي بأمر الله بتجديد الامر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل محلة، وإلزام أهل الذمة بلبس الغيار، وكسر آلات الملاهي، وإراقة الخمور، وإخراج أهل الفساد من البلاد، أثابه الله ورحمه.
وممن توفي فيها من الاعيان...أحمد بن محمد بن الحسن ابن محمد بن إبراهيم بن أبي أيوب، أبو بكر الفوركي، سبط الاستاذ أبي بكر بن فورك، استوطن بغداد وكان متكلما يعظ الناس في النظامية، فوقعت بسببه فتنة بين أهل المذاهب.
قال ابن الجوزي: وكان مؤثرا للدنيا لا يتحاشى من لبس الحرير، وكان يأخذ مكس الفحم ويوقع العداوة بين الحنابلة والاشاعرة، مات وقد ناف على الستين سنة، ودفن إلى جانب قبر الاشعري بمشرعة الزوايا.
الحسن بن علي أبو عبد الله المردوسي، كان رئيس أهل زمانه، وأكملهم مروءة، كان خدم في أيام بني بويه

وتأخر لهذا الحين، وكانت الملوك تعظمه وتكاتبه بعبده وخادمه، وكان كثير الصدقة والصلات والبر، وبلغ من العمر خمسا وتسعين سنة، وأعد لنفسه قبرا وكفنا قبل موته بخمس سنين.
أبو سعد المتولي
عبد الرحمن بن المأمون بن علي أبو سعد المتولي: مصنف التتمة، ومدرس النظامية بعد أبي إسحاق الشيرازي، وكان فصيحا بليغا، ماهرا بعلوم كثيرة، كانت وفاته في شوال من هذه السنة وله ست (1) وخمسون سنة، رحمه الله وإيانا، وصلى عليه القاضي أبو بكر الشاشي.
إمام الحرمين عبد الملك بن الشيخ أبي محمد عبد الله بن يوسف بن عبد الله بن يوسف بن محمد بن حيويه، أبو المعالي الجويني، وجوين من قرى نيسابور، الملقب بإمام الحرمين، لمجاورته بمكة أربع سنين، كان مولده في تسع عشرة وأربعمائة، سمع الحديث وتفقه على والده الشيخ أبي محمد الجويني، ودرس بعده في حلقته، وتفقه على القاضي حسين، ودخل بغداد وتفقه بها، وروى الحديث وخرج إلى مكة فجاور فيها أربع سنين، ثم عاد إلى نيسابور فسلم إليه التدريس والخطابة والوعظ، وصنف نهاية المطلب في دراية المذهب، والبرهان في أصول الفقه، وغير ذلك في علوم شتى، واشتغل عليه الطلبة ورحلوا إليه من الاقطار، وكان يحضر مجلسه ثلاثمائة متفقه، وقد استقصيت ترجمته في الطبقات، وكانت وفاته في الخامس والعشرين من ربيع الاول من هذه السنة، عن سبع وخمسين سنة، ودفن بداره ثم نقل إلى جانب والده.
قال ابن خلكان: كانت أمه جارية اشتراها والده من كسب يده من النسخ، وأمرها أن لا تدع أحد يرضعه غيرها، فاتفق أن امرأة دخلت عليها فأرضعته مرة فأخذه الشيخ أبو محمد فنكسه ووضع يده في بطنه ووضع أصبعه في حلقه ولم يزل به حتى قاء ما في بطنه من لبن تلك المرأة.
قال: وكان إمام الحرمين ربما حصل له في مجلسه في المناظرة فتور ووقفة فيقول: هذا من آثار تلك الرضعة.
قال: ولما عاد من الحجاز إلى بلده نيسابور سلم إليه المحراب والخطابة والتدريس ومجلس التذكير يوم الجمعة، وبقي ثلاثين سنة غير مزاحم ولا مدافع، وصنف في كل فن، وله النهاية التي ما صنف في الاسلام مثلها.
قال الحافظ أبو جعفر، سمعت الشيخ أبا إسحاق الشيرازي يقول لامام الحرمين: يا مفيد أهل المشرق والمغرب، أنت اليوم إمام الائمة.
ومن تصانيفه الشامل في أصول الدين، والبرهان في أصول الفقه، وتلخيص التقريب، والارشاد، والعقيدة النظامية، وغباث الامم وغير ذلك مما سماه ولم يتمه.
وصلى عليه
ولده أبو القاسم وغلقت الاسواق وكسر تلاميذه أقلامهم - وكانوا أربعمائة - ومحابرهم، ومكثوا كذلك سنة، وقد رثي بمراث كثيرة فمن ذلك قول بعضهم:
__________
(1) في الاصل ستة وهو خطأ.

قلوب العالمين على المقالي * وأيام الورى شبه الليالي أيثمر غصن أهل العلم يوما * وقد مات الامام أبو المعالي محمد بن أحمد بن عبد الله بن أحمد أبو علي بن الوليد، شيخ المعتزلة، كان مدرسا لهم فأنكر أهل السنة عليه، فلزم بيته خمسين سنة إلى أن توفي في ذي الحجة منها، ودفن في مقبرة الشونيزي، وهذا هو الذي تناظر هو والشيخ أبو يوسف القزويني المعتزلي المفسر في إباحة الولدان في الجنة، وأنه يباح لاهل الجنة وطئ الولدان في أدبارهم، كما حكى ذلك ابن عقيل عنهما، وكان حاضرهما، فمال هذا إلى إباحة ذلك، لانه مأمون المفسدة هنالك، وقال أبو يوسف: إن هذا لا يكون لا في الدنيا ولا في الآخرة، ومن أين لك أن يكون لهم أدبار ؟ وهذا العضو - وهو الدبر - إنما خلق في الدنيا لحاجة العباد إليه، لانه مخرج للاذى عنهم، وليس في الجنة شئ من ذلك، وإنما فضلات أكلهم عرق يفيض من جلودهم، فإذا هم ضمر فلا يحتاجون إلى أن يكون لهم أدبار، ولا يكون لهذه المسألة صورة بالكلية.
وقد روى هذا الرجل حديثا واحدا عن شيخه أبي الحسين البصري بسنده المتقدم، من طريق شعبة، عن منصور، عن ربعي، عن أبي مسعود البدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا لم تستح فاصنع ما شئت " وقد رواه القعنبي عن شعبة، ولم يرو عنه سواه، فقيل: إنه لما رحل إليه دخل عليه وهو يبول في البالوعة فسأله أن يحدثه فامتنع فروى له هذا الحديث كالواعظ له به، والتزم أن لا يحدثه بغيره، وقيل: لان شعبة مر على القعنبي قبل أن يشتغل بعلم الحديث - وكان إذ ذاك يعاني الشراب - فسأله أن يحدثه فامتنع، فسل سكينا وقال: إن لم تحدثني وإلا قتلتك، فروى له هذا الحديث، فتاب وأناب، ولزم مالكا، ثم فاته السماع من شعبة فلم يتفق
له عنه غير هذا الحديث فالله أعلم.
أبو عبد الله الدامغاني القاضي محمد بن علي (1) بن الحسين بن عبد الملك بن عبد الوهاب بن حمويه الدامغاني، قاضي القضاة ببغداد، مولده في سنة ثمان عشرة وأربعمائة (2)، فتفقه بها على أبي عبد الله الصيمري، وأبي
__________
(1) في الوافي بالوفيات 4 / 139، والجواهر المضيئة 2 / 96 وتاريخ بغداد 3 / 109 والنجوم الزاهرة 5 / 121 هو محمد بن علي بن محمد بن حسن بن عبد الوهاب بن حسنويه.
(2) في الكامل 10 / 146: سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة

الحسن (1) القدوري، وسمع الحديث منهما ومن ابن النقور والخطيب وغيرهم، وبرع في الفقه، وكان له عقل وافر، وتواضع زائد، وانتهت إليه رياسة الفقهاء، وكان فصيحا كثير العبادة، وقد كان فقيرا في ابتداء طلبه، عليه أطمار رثة، ثم صارت إليه الرياسة والقضاء بعد ابن ماكولا، في سنة تسع وأربعين وكان القائم بأمر الله يكرمه، والسلطان طغرلبك يعظمه، وباشر الحكم ثلاثين سنة في أحسن سيرة، وغاية الامانة والديانة، مرض أياما يسيرة ثم توفي في الرابع والعشرين من رجب من هذه السنة، وقد ناهز الثمانين، ودفن بداره بدرب العلابين، ثم نقل إلى مشهد أبي حنيفة رحمه الله.
محمد بن علي بن المطلب أبو سعد الاديب، كان قد قرأ النحو والادب واللغة والسير وأخبار الناس، ثم أقلع عن ذلك كله، وأقبل على كثرة الصلاة والصدقة والصوم، إلى أن توفي في هذه السنة عن ست وثمانين سنة رحمه الله.
محمد بن طاهر العباسي ويعرف بابن الرجيحي، تفقه على ابن الصباغ، وناب في الحكم، وكان محمود الطريقة، وشهد عند ابن الدامغاني فقبله.
منصور بن دبيس بن علي بن مزيد، أبو كامل الامير بعد سيف الدولة، كان كثير الصلاة والصدقة، توفي في رجب من هذه السنة، وقد كان له شعر وأدب، وفيه فضل فمن شعره قوله: فإن أنا لم أحمل عظيما ولم أقد * لهاما ولم أصبر على كل (2) معظم ولم أحجز الجاني وأمنع جوره (3) * غداة أنادي للفخار وأنتمي فلا نهضت لي همة عربية * إلى المجد ترقي بي ذرى كل محرم
__________
(1) في الكامل: أبي الحسين.
(2) في الكامل 10 / 150: على فعل معظم، وقد ذكر ابن الاثير وفاته سنة 479 ه.
(3) في الكامل: ولم أجر الجاني، وأمنع حوزه.

هبة الله بن أحمد (1) بن السيبي [ قاضي الحريم بنهر معلى، و ] (2) مؤدب الخليفة المقتدي بأمر الله، سمع الحديث، وتوفي في محرم هذه السنة، وقد جاوز الثمانين، وله شعر جيد، فمنه قوله: رجوت الثمانين من خالقي * لما جاء فيها عن المصطفى فبلغنيها فشكرا له * وزاد ثلاثا بها إذ وفا وإني لمنتظر وعده * لينجزه لي، فعل أهل الوفا ثم دخلت سنة تسع وسبعين وأربعمائة وفيها كانت الوقعة بين تتش صاحب دمشق وبين سليمان بن قتلمش صاحب حلب وأنطاكية وتلك الناحية، فانهزم أصحاب سليمان وقتل هو نفسه بخنجر كانت معه، فسار السلطان ملكشاه من أصبهان إلى حلب فملكها، وملك ما بين ذلك من البلاد التي مر بها، مثل حران والرها وقلعة جعبر، وكان جعبر شيخا كبيرا قد عمي، وله ولدان، وكان قطاع الطريق يلجأون إليها فيتحصنون بها، فراسل السلطان سابق بن جعبر في تسليمها فامتنع عليه، فنصب عليها المناجيق والعرادات
ففتحها وأمر بقتل سابق، فقالت زوجته: لا تقتله حتى تقتلني معه، فألقاه من رأسها فتكسر، ثم أمر بتوسيطهم بعد ذلك فألقت المرأة نفسها وراءه فسلمت، فلامها بعض الناس فقالت: كرهت أن يصل إلي التركي فيبقى ذلك عارا علي، فاستحسن منها ذلك، واستناب السلطان على حلب قسيم الدولة أقسنقر، التركي وهو جد نور الدين الشهيد، واستناب على الرحبة وحران والرقة وسروج والخابور محمد بن شرف الدولة مسلم وزوجه بأخته زليخا خاتون، وعزل فخر الدولة بن جهير عن ديار بكر، وسلمها إلى العميد أبي علي البلخي، وخلع على سيف الدولة صدقة بن دبيس الاسدي، وأقره على عمل أبيه، ودخل بغداد في ذي القعدة (3) من هذه السنة، وهي أول دخلة دخلها، فزار المشاهد والقبور ودخل على الخليفة فقبل يده ووضعها على عينيه، وخلع عليه الخليفة خلعا سنية، وفوض إليه أمور الناس، واستعرض الخليفة أمراءه ونظام الملك واقف بين يديه، يعرفه بالامراء واحدا بعد واحد، باسمه وكم جيشه وأقطاعه، ثم أفاض عليه الخليفة خلعا سنية، وخرج من بين يديه فنزل بمدرسة النظامية، ولم يكن رآها قبل ذلك، فاستحسنها إلا أنه استصغرها، واستحسن أهلها ومن بها وحمد الله وسأل الله أن يجعل ذلك خالصا لوجهه الكريم، ونزل بخزانة كتبها وأملى جزأ
__________
(1) في الكامل 10 / 146: محمد.
(2) استدركت من الكامل، سقطت من الاصل.
(3) في الكامل 10 / 155: ذي الحجة.

من مسموعاته، فسمعه المحدثون منه، وورد الشيخ أبو القاسم علي بن الحسين الحسني الدبوسي إلى بغداد في تجمل عظيم، فرتبه مدرسا بالنظامية بعد أبي سعد المتولي.
وفي ربيع الآخر فرغت المنارة بجامع القصر وأذن فيها، وفي هذه السنة كانت زلازل هائلة بالعراق والجزيرة والشام، فهدمت شيئا كثيرا من العمران، وخرج أكثر الناس إلى الصحراء ثم عادوا.
وحج بالناس الامير خمارتكين الحسناني، وقطعت خطبة المصريين من مكة والمدينة، وقلعت الصفائح التي على باب الكعبة التي عليها ذكر الخليفة المصري، وجدد غيرها عليها، وكتب عليها
اسم المقتدي.
قال ابن الجوزي: وظهر رجل بين السندية وواسط يقطع الطريق وهو مقطوع اليد اليسرى، يفتح القفل في أسرع مدة، ويغوص دجلة في غوصتين، ويقفز القفزة خمسة وعشرين ذراعا، ويتسلق الحيطان الملس، ولا يقدر عليه أحد، وخرج من العراق سالما.
قال: وفيها توفي فقير في جامع المنصور فوجد في مرقعته ستمائة دينار مغربية، أي صحاحا كبارا، من أحسن الذهب.
قال وفيها عمل سيف الدولة صدقة سماطا للسلطان جلال الدولة أبي الفتح ملكشاه، اشتمل على ألف رأس من الغنم، ومائة جمل وغيرها، ودخله عشرون ألف من السكر، وجعل عليه من أصناف الطيور والوحوش، ثم أردفه من السكر شئ كثير، فتناول السلطان بيده منه شيئا يسيرا، ثم أشار فانتهب عن آخره، ثم انتقل من ذلك المكان إلى سرادق عظيم لم ير مثله من الحرير، وفيه خمسمائة قطعة من الفضة، وألوان من تماثيل الند والمسك والعنبر وغير ذلك، فمد فيه سماطا خاصا فأكل السلطان حينئذ، وحمل إليه عشرين ألف دينار، وقدم إليه ذلك السرادق بما فيه بكماله، وانصرف والله أعلم.
وممن توفي فيها من الاعيان...الامير جعبر بن سابق القشيري الملقب بسابق الدين، كان قد تملك قلعة جعبر (1) مدة طويلة فنسبت إليه، وإنما كان يقال لها قبل ذلك الدوشرية (2)، نسبة إلى غلام النعمان بن المنذر، ثم إن هذا الامير كبر وعمي، وكان له ولدان يقطعان الطريق، فاجتاز به السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان السلجوقي وهو ذاهب إلى حلب فأخذ القلعة وقتله كما تقدم.
__________
(1) جعبر: قال ياقوت في معجم البلدان، والجعبر في اللغة: الغليظ القصير، وقلعة جعبر على الفرات بين بالس والرقة قرب صفين، فملكها رجل من بني قشير أعمى يقال له جعبر بن مالك.
(2) في معجم البلدان: دوسر.

الامير جنفل قتلغ
أمير الحاج، كان مقطعا للكوفة وله وقعات مع العرب أعربت عن شجاعته، وأرعبت قلوبهم وشتتهم في البلاد شذر مذر، وقد كان حسن السيرة محافظا على الصلوات، كثير التلاوة، وله آثار حسنة بطريق مكة، في إصلاح المصانع والاماكن التي تحتاج إليها الحجاج وغيرهم، وله مدرسة على الحنفية بمشهد يونس بالكوفة، وبنى مسجدا بالجانب الغربي من بغداد على دجلة، بمشرعة الكرخ.
توفي في جمادى الاولى منها رحمه الله، ولما بلغ نظام الملك وفاته قال: مات ألف رجل، والله أعلم.
علي بن فضال المشاجعي (1) أبو علي (2) النحوي المغربي، له المصنفات الدالة على علمه وغزارة فهمه، وأسند الحديث.
توفي في ربيع الاول منها ودفن بباب إبرز.
علي بن أحمد التستري كان مقدم أهل البصرة في المال والجاه، وله مراكب تعمل في البحر، قرأ القرآن وسمع الحديث وتفرد برواية سنن أبي داود.
توفي في رجب منها.
يحيى بن إسماعيل الحسيني كان فقيها على مذهب زيد بن علي بن الحسين، وعنده معرفة بالاصول والحديث.
ثم دخلت سنة ثمانين وأربعمائة في المحرم منها نقل جهاز ابنة السلطان ملكشاه إلى دار الخلافة على مائة وثلاثين جملا مجللة بالديباج الرومي، غالبها أواني الذهب والفضة، وعلى أربع وسبعين بغلة مجللة بأنواع الديباج الملكي وأجراسها وقلائدها من الذهب والفضة، وكان على ستة منها اثنا عشر صندوقا من الفضة، فيها أنواع الجواهر والحلى، وبين يدي البغال ثلاث وثلاثون فرسا عليها مراكب الذهب، مرصعة بالجواهر، ومهد عظيم مجلل بالديباج الملكي عليه صفائح الذهب مرصع بالجوهر، وبعث الخليفة لتلقيهم الوزير أبا شجاع، وبين يديه نحو من ثلاثمائة موكبية غير المشاعل لخدمة الست خاتون امرأة
__________
(1) في الكامل 10 / 159.
المجاشعي (شذرات الذهب 3 / 363).
(2) في الكامل وشذرات الذهب: أبو الحسن.

السلطان تركان خاتون، حماة الخليفة، وسألها أن تحمل الوديعة الشريفة إلى دار الخليفة، فأجابت إلى ذلك، فحضر الوزير نظام الملك وأعيان الامراء وبين أيديهم من الشموع والمشاعل ما لا يحصى، وجاءت نساء الامراء (1) كل واحدة منهن في جماعتها وجواريها، وبين أيديهن الشموع والمشاعل، ثم جاءت الخاتون ابنة السلطان زوجة الخليفة بعد الجميع، في محفة مجللة، وعليها من الذهب والجواهر ما لا تحصى قيمته، وقد أحاط بالمحفة مائتا جارية تركية، بالمراكب المزينة العجيبة مما يبهرن الابصار، فدخلت دار الخلافة على هذه الصفة وقد زين الحريم الطاهر وأشعلت فيه الشموع، وكانت ليلة مشهودة للخليفة، هائلة جدا، فلما كان من الغد أحضر الخليفة أمراء السلطان ومد سماطا لم ير مثله، عم الحاضرين والغائبين، وخلع على الخاتون زوجة السلطان أم العروس، وكان أيضا يوما مشهودا، وكان السلطان متغيبا في الصيد، ثم قدم بعد أيام، وكان الدخول بها في أول السنة، ولدت من الخليفة في ذي القعدة ولدا ذكرا زينت له بغداد.
وفيها ولد للسلطان ملكشاه ولد سماه محمودا، وهو الذي ملك بعده.
وفيها جعل السلطان ولده أبا شجاع أحمد ولي العهد من بعده، ولقبه ملك الملوك، عضد الدولة، وتاج الملة، عدة أمير المؤمنين، وخطب له بذلك على المنابر، ونثر الذهب على الخطباء عند ذكر اسمه.
وفيها شرع في بناء التاجية في باب إبرز وعملت بستان وغرست النخيل والفواكه هنالك وعمل سور بأمر السلطان، والله أعلم.
وممن توفي فيها من الاعيان...إسماعيل بن إبراهيم ابن موسى بن سعيد، أبو القاسم النيسابوري، رحل في الحديث إلى الآفاق حتى جاوز ما وراء النهر، وكان له حظ وافر في الادب، ومعرفة العربية، توفي بنيسابور في جمادى الاولى منها.
طاهر بن الحسين البندنيجي أبو الوفا الشاعر، له قصيدتان في مدح نظام الملك إحداهما معجمة والاخرى غير منقوطة،
أولها: لاموا ولو علموا ما اللوم ما لاموا * ورد لومهم هم وآلام توفي ببلده في رمضان عن نيف وسبعين سنة.
__________
(1) من الكامل 10 / 161 وفي الاصل " الاميرات ".

محمد بن أمير المؤمنين المقتدي عرض له جدري فمات فيها وله تسع سنين، فحزن عليه والده والناس، وجلسوا للعزاء، فأرسل إليهم يقول: إن لنا في رسول الله أسوة حسنة، حين توفي ابنه إبراهيم، وقال الله تعالى (والذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون) [ البقرة: 156 ] ثم عزم على الناس فانصرفوا.
محمد بن محمد بن زيد ابن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أبو الحسن الحسيني، الملقب بالمرتضى ذي الشرفين، ولد سنة خمس وأربعمائة، وسمع الحديث الكثير، وقرأ بنفسه على الشيوخ، وصحب الحافظ أبا بكر الخطيب، فصارت له معرفة جيدة بالحديث، وسمع عليه الخطيب شيئا من مروياته، ثم انتقل إلى سمرقند وأملى الحديث بأصبهان وغيرها، وكان يرجع إلى عقل كامل، وفضل ومروءة، وكانت له أموال جزيلة، وأملاك متسعة، ونعمة وافرة، يقال إنه ملك أربعين قرية، وكان كثير الصدقة والبر والصلة للعلماء والفقراء، وبلغت زكاة ماله الصامت عشرة آلاف دينار غير العشور، وكان له بستان ليس لملك مثله، فطلبه منه ملك ما وراء النهر، واسمه الخضر بن إبراهيم، عارية ليتنزه فيه، فأبى عليه وقال: أعيره إياه ليشرب فيه الخمر بعد ما كان مأوى أهل العلم والحديث والدين ؟ فأعرض عنه السلطان وحقد عليه، ثم استدعاه إليه ليستشيره في بعض الامور على العادة، فلما حصل عنده قبض عليه وسجنه في قلعته، واستحوذ على جميع أملاكه وحواصله وأمواله، وكان يقول: ما تحققت صحة نسبي إلا في هذه المصادرة: فإني
ربيت في النعيم فكنت أقول: إن مثلي لا بد أن يبتلى، ثم منعوه الطعام والشراب حتى مات رحمه الله.
محمد بن هلال بن الحسن (1) أبو الحسن الصابي، الملقب بغرس النعمة، سمع أباه وابن شاذان، وكانت له صدقة كثيرة، ومعروف، وقد ذيل على تاريخ أبيه الذي ذيله على تاريخ ثابت بن سنان، الذي ذيله على تاريخ ابن جرير الطبري، وقد أنشأ دارا ببغداد، ووقف فيها أربعة آلاف مجلد، في فنون من العلوم، وترك حين مات سبعين ألف دينار، ودفن بمشهد علي.
__________
(1) في الوافي 5 / 168: المحسن، قال: وكان جده المحسن فاضلا، كتب الخط المليح، وأبو جده إبراهيم صاحب الفضل المشهور والتقدم في النظم والنثر وكان على دين الصابئة.
ولد غرس النعمة سنة 416 ه.
وولي ديوان الانشاء أيام الامام القائم.

هبة الله بن علي ابن محمد بن أحمد بن المجلي أبو نصر، جمع خطبا ووعظا، وسمع الحديث على مشايخ عديدة، وتوفي شابا قبل أوان الرواية.
أبو بكر بن عمر أمير الملثمين كان في أرض فرغانة، اتفق له من الناموس ما لم يتفق لغيره من الملوك، كان يركب معه إذا سار لقتال عدو خمسمائة ألف مقاتل، كان يعتقد طاعته، وكان مع هذا يقيم الحدود ويحفظ محارم الاسلام، ويحوط الدين ويسير في الناس سيرة شرعية، مع صحة اعتقاده ودينه، وموالاة الدولة العباسية، أصابته نشابة في بعض غزواته في حلقه فقتلته في هذه السنة.
فاطمة بنت علي المؤدبة الكاتبة، وتعرف ببنت الاقرع، سمعت الحديث من أبي عمر بن مهدي وغيره، وكانت تكتب المنسوب على طريقة ابن البواب، ويكتب الناس عليها، وبخطها كانت الهدنة من
الديوان إلى ملك الروم، وكتبت مرة إلى عميد الملك الكندري رقعة فأعطاها ألف دينار، توفيت في المحرم من هذه السنة ببغداد، ودفنت بباب إبرز.
ثم دخلت سنة إحدى وثمانين وأربعمائة فيها كانت فتن عظيمة بين الروافض والسنة ببغداد، وجرت خطوب كثيرة.
وفي ربيع الاول أخرجت الاتراك من حريم الخلافة، فكان في ذلك قوة للخلافة.
وفيها ملك مسعود بن الملك المؤيد إبراهيم بن مسعود بن محمود بن سبكتكين بلاد غزنة بعد أبيه (1).
وفيها فتح ملكشاه مدينة سمرقند.
وحج بالناس الامير خمارتكين.
وممن توفي فيها من الاعيان...أحمد بن السلطان ملكشاه وكان ولي عهد أبيه.
توفي وعمره إحدى عشرة سنة، فمكث الناس في العزاء سبعة أيام لم
__________
(1) قال أبو الفداء في تاريخه: والاقوى أنه مات سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، وكان ملكه في سنة إحدى وخمسين وأربعمائة ولما توفي ملك بعده ابنه مسعود، وقد ذكر ابن الاثير وفاته في هذه السنة (الكامل 10 / 161 مختصر أخبار البشر 2 / 199).

يركب أحد فرسا، والنساء (1) ينحن عليه في الاسواق، وسود أهل البلاد التي لابيه أبو ابهم.
عبد الله بن محمد ابن علي بن محمد، أبو إسماعيل الانصاري الهروي، روى الحديث وصنف، وكان كثير السهر بالليل، وكانت وفاته بهراة في ذي الحجة عن ست وثمانين سنة.
وحج بالناس فيها الوزير أبو أحمد، واستناب ولده أبا منصور ونقيب النقباء طراد بن محمد الزينبي.
ثم دخلت سنة ثنتين وثمانين وأربعمائة في المحرم درس أبو بكر الشاشي في المدرسة التاجية بباب إبرز، التي أنشأها الصاحب تاج الدين أبو الغنائم على الشافعية، وفيها كانت فتن عظيمة بين الروافض والسنة، ورفعوا المصاحف،
وجرت حروب طويلة، وقتل فيها خلق كثير، نقل ابن الجوزي في المنتظم من خط ابن عقيل: أنه قتل في هذه السنة قريب من مائتي رجل، قال.
وسب أهل الكرخ الصحابة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فلعنة الله على من فعل ذلك من أهل الكرخ، وإنما حكيت هذا ليعلم ما في طوايا الروافض من الخبث والبغض لدين الاسلام وأهله، ومن العداوة الباطنة الكامنة في قلوبهم، لله ولرسوله وشريعته.
وفيها ملك السلطان ملكشاه ما وراء النهر وطائفة كبيرة من تلك الناحية، بعد حروب عظيمة، ووقعات هائلة.
وفيها استولى جيش المصريين على عدة بلاد من بلاد الشام (2).
وفيها عمرت منارة جامع حلب.
وفيها أرسلت الخاتون بنت السلطان امرأة الخليفة تشكو إلى أبيها إعراض الخليفة عنها فبعث إليها أبوها الطواشي صواب والامير مران ليرجعاها إليه، فأجاب الخليفة إلى ذلك، وبعث معها بالنقيب وجماعة من أعيان الامراء، وخرج ابن الخليفة أبو الفضل والوزير فشيعاها إلى النهروان وذلك في ربيع الاول، فلما وصلت إلى عند أبيها توفيت في شوال (3) من هذه السنة، بأصبهان، فعمل عزاها ببغداد سبعة أيام، وأرسل الخليفة إلى السلطان أميرين لتعزيته فيها.
وحج بالناس خمارتكين.
وممن توفي فيها من الاعيان...
__________
(1) من الكامل، وفي الاصل: " والناس ".
(2) قال ابن الاثير في تاريخه: سلمت إليهم صور، وصنيدا، وافتتحوا عكا، وملكوا جبيل.
واستعمل أمير الجيوش (المصرية) على هذه البلاد الامراء والعمال (10 / 176).
(3) في الكامل 10 / 176: ذي القعدة.

عبد الصمد بن أحمد بن علي المعروف بطاهر النيسابوري الحافظ، رحل وسمع الكثير، وخرج، وعاجله الموت في هذه السنة بهمذان وهو شاب.
علي بن أبي يعلى
أبو القاسم الدبوسي، مدرس النظامية بعد المتولي، سمع شيئا من الحديث، وكان فقيها ماهرا، وجدليا باهرا.
عاصم بن الحسن ابن محمد بن علي بن عاصم بن مهران، أبو الحسين العاصمي، من أهل الكرخ، سكن باب الشعير ولد سنة سبع وتسعين وثلثمائة (1)، وكان من أهل الفضل والادب، وسمع الحديث من الخطيب وغيره، وكان ثقة حافظا، ومن شعره قوله: لهفي على قوم بكاظمة * ودعتهم والركب معترض لم تترك العبرات مذ بعدوا * لي مقلة ترنو وتغتمض رحلوا فدمعي واكف هطل * حار وقلبي حشوه مرض وتعوضوا لا ذقت فقدهم * عني وما لي عنهم عوض أقرضتهم قلبي على ثقة * منهم فما ردوا الذي اقترضوا محمد بن أحمد بن حامد ابن عبيد، أبو جعفر البخاري المتكلم المعتزلي، أقام ببغداد وتعرف بقاضي حلب، وكان حنفي المذهب في الفروع، معتزليا في الاصول، مات ببغداد في هذه السنة، ودفن بباب حرب.
محمد بن أحمد بن عبد الله ابن محمد بن إسماعيل الاصبهاني، المعروف بمسلرفة، أحد الحفاظ الجوالين الرحالين، سمع
__________
(1) ذكره ابن الاثير فيمن توفي هذه السنة ثم قال: والصحيح أنه توفي سنة ثلاث وثمانين، وذكره صاحب شذرات الذهب فيمن توفي سنة 483 وقال توفي في جمادى الآخرة عن ست وثمانين سنة (الكامل 10 / 180 - 181 - شذرات 3 / 368).

الكثير وجمع الكتب، وأقام بهراة، وكان صالحا كثير العبادة، توفي بنيسابور في ذي الحجة من هذه السنة والله أعلم.
ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة في المحرم منها ورد إلى الفقيه أبي عبد الله الطبري منشور نظام الملك بتدريس النظامية، فدرس بها، ثم قدم الفقيه أبو محمد عبد الوهاب الشيرازي في ربيع الآخر منها بمنشور بتدريسها فاتفق الحال على أن يدرس هذا يوما وهذا يوما، وفي جمادى الاولى دهم أهل البصرة رجل يقال له بليا (1)، كان ينظر في النجوم، فاستغوى خلقا من أهلها وزعم أنه المهدي، وأحرق من البصرة شيئا كثيرا، من ذلك دار كتب وقفت على المسلمين لم ير في الاسلام مثلها، وأتلف شيئا كثيرا من الدواليب والمصانع وغير ذلك.
وفيها خلع على أبي القاسم طراد الزينبي بنقابة العباسيين بعد أبيه.
وفيها استفتى على معلمي الصبيان أن يمنعوا من المساجد صيانة لها، فأفتوا بمنعهم، ولم يستثن منهم سوى رجل كان فقيها شافعيا يدري كيف تصان المساجد، واستدل المفتي بقوله عليه الصلاة والسلام " سدوا كل خوخة إلا خوخة أبي بكر " (2) وحج بالناس خمارتكين على العادة.
وممن توفي فيها من الاعيان...الوزير أبو نصر بن جهير ابن محمد بن محمد بن جهير عميد الدولة أحد مشاهير الوزراء، وزر للقائم، ثم لولده المقتدي، ثم عزل ملكشاه السلطان وولي ولده فخر الدولة ديار بكر وغيرها، مات بالموصل وهي بلده التي ولده بها وفيها كان مقتل صاحب اليمن الصليحي وقد تقدم ذكره.
ثم دخلت سنة أربع وثمانين وأربعمائة في المحرم منها كتب المنجم الذي أحرق البصرة إلى أهل واسط يدعوهم إلى طاعته، ويذكر في كتابه أنه المهدي صاحب الزمان الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويهدي الخلق إلى الحق، فإن أطعتم أمنتم من العذاب، وإن عدلتم خسف بكم، فآمنوا بالله وبالامام المهدي، وفيها ألزم أهل
__________
(1) في الكامل 10 / 183: تليا.
(2) اخرجه البخاري في الصلاة باب (80) وأحمد في المسند 1 / 270، ومسلم في فضائل الصحابة ح (2) والترمذي في المناقب باب (15).

الذمة بلبس الغيار وبشد الزنار، وكذاك نساؤهم في الحمامات وغيرها.
وفي جمادى الاولى قدم الشيخ أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي من أصبهان إلى بغداد على تدريس النظامية، ولقبه نظام الملك زين الدين شرف الائمة.
قال ابن الجوزي: وكان كلامه مقبولا، وذكاؤه شديدا.
وفي رمضان منها عزل الوزير أبو شجاع عن وزارة الخلافة فأنشد عند عزله: تولاها وليس له عدو * وفارقها وليس له صديق ثم جاءه كتاب نظام الملك بأن يخرج من بغداد، فخرج منها إلى عدة أماكن، فلم تطب له، فعزم على الحج، ثم طابت نفس النظام عليه فبعث إليه يسأله أن يكون عديله في ذلك، وناب ابن الموصلايا في الوزارة، وقد كان أسلم قبل هذه المباشرة في أول هذه السنة.
وفي رمضان منها دخل السلطان ملكشاه بغداد ومعه الوزير نظام الملك، وقد خرج لتلقيه قاضي القضاة أبو بكر الشاشي، وابن الموصلايا المسلماني، وجاءت ملوك الاطراف إليه للسلام عليه، منهم أخوه تاج الدولة تتش صاحب دمشق، وإتابكه قسيم الدولة اقسنقر صاحب حلب.
وفي ذي القعدة خرج السلطان ملكشاه وابنه وابن ابنته من الخليفة في خلق كثير من الكوفة.
وفيها استوزر أبو منصور بن جهير وهي النوبة الثانية لوزارته للمقتدي، وخلع عليه، وركب إليه نظام الملك فهنأه في داره بباب العامة، وفي ذي الحجة عمل السلطان الميلاد في دجلة، وأشعلت نيران عظيمة، وأوقدت شموع كثيرة، وجمعت المطربات في السمريات، وكانت ليلة مشهودة عجيبة جدا، وقد نظم فيها الشعراء الشعر، فلما أصبح النهار من هذه الليلة جئ بالخبيث المنجم الذي حرق البصرة وادعى أنه المهدي، محمولا على جمل ببغداد وجعل يسب الناس والناس يلعنونه، وعلى رأسه طرطورة بودع، والدرة تأخذه من كل جانب، فطافوا به بغداد ثم صلب بعد ذلك.
وفيها أمر السلطان ملكشاه جلال الدولة بعمارة جامعه المنسوب إليه بظاهر السور.
وفي هذه السنة ملك أمير المسلمين يوسف بن تاشفين بعد صاحب بلاد المغرب كثيرا من بلاد الاندلس، وأسر صاحبها المعتمد بن عباد وسجنه وأهله، وقد كان المعتمد هذا موصوفا بالكرم والادب والحلم، حسن السيرة والعشرة والاحسان إلى الرعية، والرفق بهم، فحزن
الناس عليه، وقال في مصابه الشعراء فأكثروا.
وفيها ملكت الفرنج مدينة صقلية من بلاد المغرب، ومات ملكهم فقام ولده مقامه فسار في الناس سيرة ملوك المسلمين، حتى كأنه منهم، لما ظهر منه من الاحسان إلى المسلمين.
وفيها كانت زلازل كثيرة بالشام وغيرها، فهدمت بنيانا كثيرا، من جملة ذلك تسعون برجا من سور إنطاكية، وهلك تحت الهدم خلق كثير.
وحج بالناس خمارتكين.
وممن توفي فيها من الاعيان...

عبد الرحمن بن أحمد (1) أبو طاهر ولد بأصبهان، وتفقه بسمرقند، وهو الذي كان سبب فتحها على يد السلطان ملك شاه، وكان من رؤساء الشافعية، وقد سمع الحديث الكثير.
قال عبد الوهاب بن منده: لم نر فقيها في وقتنا أنصف منه، ولا أعلم.
وكان فصيح اللهجة كثير المروءة غزير النعمة، توفي ببغداد، ومشى الوزراء والكبراء في جنازته، غير أن النظام ركب واعتذر بكبر سنه، ودفن إلى جانب الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وجاء السلطان إلى التربة.
قال ابن عقيل: جلست بكرة العزاء إلى جانب نظام الملك والملوك قيام بين يديه، اجترأت على ذلك بالعلم.
حكاه ابن الجوزي.
محمد بن أحمد بن علي أبو نصر المروزي (2)، كان إماما في القراءات، وله فيها المصنفات، وسافر في ذلك كثيرا، واتفق له أنه غرق في البحر في بعض أسفاره، فبينما الموج يرفعه ويضعه إذ نظر إلى الشمس قد زالت، فنوى الوضوء وانغمس في الماء ثم صعد فإذا خشبة فركبها وصلى عليها، ورزقه الله السلامة ببركة امتثاله للامر، واجتهاده على العمل، وعاش بعد ذلك دهرا، وتوفي في هذه السنة، وله نيف وتسعون سنة.
محمد بن عبد الله بن الحسن (3) أبو بكر الناصح الفقيه الحنفي المناظر المتكلم المعتزلي، ولي القضاء بنيسابور، ثم عزل لجنونه وكلامه وأخذه الرشا، وولي قضاء الري، وقد سمع الحديث، وكان من أكابر العلماء.
توفي في
رجب (4) منها.
أرتق بن ألب التركماني جد الملوك الارتقية الذي هم ملوك ماردين، كان شهما شجاعا عالي الهمة، تغلب على بلاد كثيرة وقد ترجمه ابن خلكان وأرخ وفاته بهذه السنة.
ثم دخلت سنة خمس وثمانين وأربعمائة فيها أمر السلطان ملكشاه ببناء سور سوق المدينة المعروفة بطغرلبك، إلى جانب دار الملك،
__________
(1) في الكامل 10 / 200 عبد الرحمن بن محمد بن علك.
وفي شذرات الذهب 3 / 372: عبد الرحمن بن أحمد بن علك بن دات.
(2) في الوافي وتذكرة الحفاظ: المقرئ ابن حامد الكركانجي.
نسبة إلى كركانج وهي مدينة خوارزم (3) في الكامل 1 / 201 والوافي بالوفيات 3 / 338: الحسين.
(4) كذا بالاصل وابن الاثير، وذكرت وفاته في الوافي سنة 485 ه.

وجدد خاناتها وأسواقها ودورها، وأمر بتجديد الجامع الذي تم على يد هارون الخادم، في سنة أربع وعشرين وخمسمائة، ووقف على نصب قبلته بنفسه، ومنجمه إبراهيم حاضر، ونقلت أخشاب جامع سامرا، وشرع نظام الملك في بناء دار له هائلة، وكذلك تاج الملوك أبو الغنائم، شرع في بناء دار هائلة أيضا، واستوطنوا بغداد.
وفي جمادى الاولى وقع حريق عظيم ببغداد في أماكن شتى، فما طفئ حتى هلك للناس شئ كثير، فما عمروا بقدر ما حرق وما غرموا.
وفي ربيع الاول خرج السلطان إلى أصبهان، وفي صحبته ولد الخليفة أبو الفضل جعفر، ثم عاد إلى بغداد في رمضان، فبينما هو في الطريق (1) يوم عاشوراء عدا صبي من الديلم على الوزير نظام الملك، بعد أن أفطر، فضربه بسكين فقضى عليه بعد ساعة (2)، وأخذ الصبي الديلمي فقتل، وقد كان من كبار الوزراء وخيار الامراء وسنذكر شيئا من سيرته عند ذكر ترجمته، وقدم السلطان بغداد في رمضان بنية غير صالحة، فلقاه الله في نفسه ما تمناه لاعدائه، وذلك أنه لما استقر ركابه ببغداد، وجاء الناس للسلام
عليه، والتهنئة بقدومه، وأرسل إليه الخليفة يهنئه، فأرسل إلى الخليفة يقول له: لا بد أن تنزل لي عن بغداد، وتتحول إلى أي البلاد شئت.
فأرسل إليه الخليفة يستنظره شهرا، فرد عليه: ولا ساعة واحدة، فأرسل إليه يتوسل في إنظاره عشرة أيام، فأجاب إلى ذلك بعد تمنع شديد، فما استتم الاجل حتى خرج السلطان يوم عيد الفطر إلى الصيد فأصابته حمى شديدة، فافتصد فما قام منها حتى مات قبل العشرة أيام ولله الحمد والمنة (3).
فاستحوذت زوجته زبيدة (4) خاتون على الجيش، وضبطت الاموال والاحوال جيدا، وأرسلت إلى الخليفة تسأل منه أن يكون ولدها محمود ملكا بعد أبيه، وأن يخطب له على المنابر، فأجابها إلى ذلك، وأرسل إليه بالخلع، وبعث يعزيها ويهنئها مع وزيره عميد الدولة بن جهير، وكان عمر الملك محمود هذا يومئذ خمس سنين (5)، ثم أخذته والدته في الجيوش وسارت به نحو أصبهان ليتوطد له الملك، فدخلوها وتم لهم مرادهم، وخطب لهذا الغلام في البلدان حتى في الحرمين، واستوزر له تاج الملك أبا الغنائم المرزبان بن خسرو، وأرسلت أمه إلى الخليفة تسأله أن تكون ولايات العمال إليه، فامتنع الخليفة ووافقه الغزالي على ذلك، وأفتى العلماء بجواز ذلك، منهم المتطبب بن محمد الحنفي، فلم يعمل إلا بقول الغزالي، وانحاز أكثر جيش السلطان إلى ابنه الآخر بركيارق فبايعوه وخطبوا له بالري، وانفردت الخاتون وولدها ومعهم شرذة
__________
(1) بالقرب من نهاوند (الكامل - العبر لابن خلدون - مختصر أخبار البشر).
وفي شذرات الذهب وروضات الجنات: قرية يقال لها: سحنة.
(2) قال في الوافي 12 / 125: ويقال: إن السلطان دس عليه من قتله لانه سئم طول حياته، واستكثر ما بيده من الاقطاعات.
ولم يعش السلطان بعده سوى خمسة وثلاثين يوما.
(3) يذكر ابن الاثير هنا رواية أخرى.
انظر (الكامل 10 / 210 والعبر لابن خلدون 3 / 478).
(4) في الكامل: تركان.
وفي العبر: تركمان.
أما زبيدة بنت عم ملك شاه فهى أم بركيارق (العبر).
(5) في الكامل 10 / 214: أربع سنين وشهور، وفي العبر 3 / 478: أربع سنين.

قليلة من الجيش والخاصكية، فأنفقت فيهم ثلاثين ألف ألف دينار لقتال بركيارق بن ملكشاه،
فالتقوا في ذي الحجة فكانت الخاتون هي المنهزمة ومعها ولدها.
وفي صحيح البخاري " لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة " (1).
وفي ذي القعدة اعترضت بنو خفاجة للحجيج فقاتلهم من في الحجيج من الجند مع الامير خمارتكين، فهزموهم، ونهبت أموال الاعراب ولله الحمد والمنة.
وفيها جاء برد شديد عظيم بالبصرة، وزن الواحدة منها خمسة أرطال، إلى ثلاثة عشر رطلا، فأتلفت شيئا كثيرا من النخيل والاشجار، وجاء ريح عاصف قاصف فألقى عشرات الالوف من النخيل، فإنا لله وإنا إليه راجعون (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) [ الشورى: 30 ] وفيها ملك تاج الدولة تتش صاحب دمشق مدينة حمص، وقلعة عرقة، وقلعة فامية (2)، ومعه قسيم الدولة أقسنقر، وكان السلطان قد جهز سرية إلى اليمن صحبة سعد كوهرائين الدولة وأمير آخر من التركمان، فدخلاها وأساءا فيها السيرة فتوفي سعد كوهرائين يوم دخوله إليها في مدينة عدن ولله الحمد والمنة.
وممن توفي فيها من الاعيان...جعفر بن يحيى بن عبد الله أبو الفضل التميمي، المعروف بالحكاك المكي، رحل في طلب الحديث إلى الشام والعراق وأصبهان وغير ذلك من البلاد، وسمع الكثير وخرج الاجزاء، وكان حافظا متقنا، ضابطا أديبا، ثقة صدوقا، وكان يراسل صاحب مكة، وكان من ذوي الهيئات والمروءات، قارب الثمانين (3)، رحمه الله ! نظام الملك الوزير الحسن بن علي بن إسحاق، أبو علي، وزر للملك ألب أرسلان وولده ملكشاه تسعا وعشرين سنة (4)، كان من خيار الوزراء.
ولد بطوس (5) سنة ثمان وأربعمائة، وكان أبوه من أصحاب
__________
(1) أخرجه البخاري في المغازي باب (82) وفي الفتن باب (18) والترمذي في الفتن (75).
والنسائي في القضاء باب (8) والامام أحمد في المسند 5 / 43، 51، 38، 47.
(2) في الكامل: أفامية.
(3) في تذكرة الحافظ 4 / 1214: قارب السبعين (انظر شذرات الذهب 3 / 373).
(4) في الكامل: 10 / 204: بقي وزير السلطان ثلاثين سنة سوى ما وزر للسلطان ألب أرسلان قبل أن يتولى السلطنة.
(انظر العبر لابن خلدون 3 / 478).
(5) في الوافي: نوقان.

محمود بن سبكتكين، وكان من الدهاقين، فأشغل ولده هذا، فقرأ القرآن وله إحدى عشرة سنة.
وأشغله بالعلم والقراءات والتفقه على مذهب الشافعي، وسماع الحديث واللغة والنحو، وكان عالي الهمة، فحصل من ذلك طرفا صالحا، ثم ترقى في المراتب حتى وزر للسلطان ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق ثم من بعده لملكشاه تسعا وعشرين سنة، لم ينكب في شئ منها، وبنى المدارس النظامية ببغداد ونيسابور وغيرهما، وكان مجلسه عامرا بالفقهاء والعلماء، بحيث يقضي معهم غالب نهاره، فقيل له: إن هؤلاء شغلوك عن كثير من المصالح، فقال: هؤلاء جمال الدنيا والآخرة، ولو أجلستهم على رأسي لما استكثرت ذلك، وكان إذا دخل عليه أبو القاسم القشيري وأبو المعالي الجويني قام لهما وأجلسهما معه في المقعد، فإذا دخل أبو علي الفارمدي (1) قام وأجلسه مكانه، وجلس بين يديه، فعوتب في ذلك فقال: إنهما إذا دخلا علي قال: انت وأنت، يطروني ويعظموني، ويقولوا في ما ليس في، فأزداد بهما ما هو مركوز في نفس البشر، وإذا دخل علي أبو علي الفارندي (1) ذكرني عيوبي وظلمي، فانكسر فأرجع عن كثير من الذي أنا فيه.
وكان محافظا على الصلوات في أوقاتها، لا يشغله بعد الاذان شغل عنها وكان يواظب على صيام الاثنين والخميس، وله الاوقاف الدارة، والصدقات البارة.
وكان يعظم الصوفية تعظيما زائدا، فعوتب في ذلك، فقال: بينما أنا أخدم بعض الملوك جاءني يوما إنسان فقال لي: إلى متى أنت تخدم من تأكله الكلاب غدا ؟ أخدم من تنفعك خدمته، ولا تخدم من تأكله الكلاب غدا.
فلم أفهم ما يقول، فاتفق أن ذلك الامير سكر تلك الليلة فخرج في أثناء الليل وهو ثمل، وكانت له كلاب تفترس الغرباء بالليل، فلم تعرفه فمزقته، فأصبح وقد أكلته
الكلاب، قال: فأنا أطلب مثل ذلك الشيخ.
وقد سمع الحديث في أماكن شتى ببغداد وغيرها، وكان يقول: إني لاعلم بأني لست أهلا للرواية ولكني أحب أن أربط في قطار نقلة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال أيضا: رأيت ليلة في المنام إبليس فقلت له: ويحك خلقك الله وأمرك بالسجود له مشافهة فأبيت، وأنا لم يأمرني بالسجود له مشافهة وأنا أسجد له في كل يوم مرات، وأنشأ يقول: من لم يكن للوصال أهلا * فكل إحسانه ذنوب وقد أجلسه المقتدي مرة بين يديه وقال له: يا حسن، رضي الله عنك برضا أمير المؤمنين عنك، وقد ملك ألوفا من الترك، وكان له بنون كثيرة، وزر منهم خمسة، وزر ابنه أحمد للسلطان محمد بن ملك شاه، ولامير المؤمنين المسترشد بالله (2).
__________
(1) في الكامل: الفارمدي.
(2) كذا بالاصل ولعل هناك سقطا: وتمامه في الوافي: وعلي وزر لتاج الدولة تتش (بن ألب أرسلان - انظر أمراء دمشق) ولقبه فخر الملك، ومؤيد الملك عبيد الله، وزر كياروق.
ومن أولاده: عز الملك، وعبد الرحيم.

وخرج نظام الملك مع السلطان من أصبهان قاصدا بغداد في مستهل رمضان من هذه السنة، فلما كان اليوم العاشر اجتاز في بعض طريقه بقرية بالقرب من نهاوند، وهو يسايره في محفة، فقال: قد قتل ههنا خلق من الصحابة زمن عمر، فطوبى لمن يكون عندهم (1)، فاتفق أنه لما أفطر جاءه صبي في هيئة مستغيث به ومعه قصة، فلما انتهى إليه ضربه بسكين في فؤاده وهرب، وعثر بطنب الخيمة فأخذ فقتل، ومكث الوزير ساعة، وجاءه السلطان يعوده فمات وهو عنده، وقد اتهم السلطان في أمره أنه هو الذي مالا عليه، فلم تطل مدته بعده سوى خمسة وثلاثين يوما، وكان في ذلك عبرة لاولى الالباب.
وكان قد عزم على إخراج الخليفة أيضا من بغداد، فما تم له ما عزم عليه، ولما بلغ أهل بغداد موت النظام حزنوا عليه، وجلس الوزير والرؤساء للعزاء ثلاثة أيام، ورثاه الشعراء بقصائد، منهم مقاتل بن عطية فقال: كان الوزير نظام الملك لؤلؤة * يتيمة (2) صاغها الرحمن من شرف
عزت فلم تعرف الايام قيمتها * فردها غيرة منه إلى الصدف وأثنى عليه غير واحد حتى ابن عقيل وابن الجوزي وغيرهما رحمه الله.
عبد الباقي بن محمد بن الحسين ابن داود بن ياقيا (2)، أبو القاسم الشاعر، من أهل الحريم الظاهري، ولد سنة عشر وأربعمائة، وكان ماهرا، وقد رماه بعضهم باعتقاد الاوائل، وأنكر أن يكون في السماء نهر من ماء أو نهر من لبن، أو نهر من خمر، أو نهر من عسل، يعني في الجنة، وما سقط من ذلك قطرة إلى الارض إلا هذا الذي هو يخرب البيوت ويهدم الحيطان والسقوف، وهذا الكلام كفر من قائله، نقله عنه ابن الجوزي في المنتظم، وحكى بعضهم أنه وجد في كفنه مكتوبا حين مات هذين البيتين: نزلت بجار لا يخيب ضيفه * أرجي نجاتي من عذاب جهنم وإني على خوفي من الله واثق * بأنعامه والله أكرم منعم مالك بن أحمد بن علي ابن إبراهيم، أبو عبد الله البانياسي الشامي، وقد كان له اسم آخر سمته به أمه علي أبو الحسن
__________
(1) في الوافي: " لمن كان منهم "، وفي وفيات الاعيان: " لمن كان معهم ".
(2) في الروضتين: لؤلؤة ثمينة، وفي الوافي: نفيسة.
(3) في الكامل 10 / 218: ناقيا.

فغلب عليه ما سماه به أبوه، وما كناه به، سمع الحديث على مشايخ كثيرة، وهو آخر من حدث عن أبي الحسن بن الصلت، هلك في حريق سوق الريحانيين، وله ثمانون سنة، كان ثقة عند المحدثين.
السلطان ملكشاه جلال الدين والدولة، أبو الفتح ملكشاه، ابن أبي شجاع ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق تقاق التركي، ملك بعد أبيه وامتدت مملكته من أقصى بلاد الترك إلى أقصى بلاد
اليمن، وراسله الملوك من سائر الاقاليم، حتى ملك الروم والخزر واللان، وكانت دولته صارمة، والطرقات في أيامه آمنة، وكان مع عظمته يقف للمسكين والضعيف، والمرأة فيقضي حوائجهم، وقد عمر العمارات الهائلة، وبنى القناطر، وأسقط المكوس والضرائب، وحفر الانهار الكبار، وبنى مدرسة أبي حنيفة والسوق، وبنى الجامع الذي يقال له جامع السلطان ببغداد، وبنى منارة القرون من صيوده بالكوفة، ومثلها فيما وراء النهر، وضبط ما صاده بنفسه في صيوده فكان ذلك نحوا من عشرة آلاف صيد، فتصدق بعشرة آلاف درهم، وقال: إني خائف من الله تعالى أن أكون أزهقت نفس حيوان لغير مأكلة، وقد كانت له أفعال حسنة، وسيرة صالحة، من ذلك أن فلاحا أنهى إليه أن غلمانا له أخذوا له حمل بطيخ، ففتشوا فإذا في خيمة الحاجب بطيخ فحملوه إليه، ثم استدعى بالحاجب فقال: من أين لك هذا البطيخ ؟ قال: جاء به الغلمان، فقال: أحضرهم، فذهب وأمرهم بالهرب فأحضره وسلمه للفلاح، وقال: خذ بيده فإنه مملوكي ومملوك أبي، وإياك أن تفارقه، ثم رد على الفلاح الحمل البطيخ، فخرج الفلاح يحمله وبيده الحاجب، فاستنقذ الحاجب نفسه من الفلاح بثلاثمائة دينار.
ولما توجه لقتال أخيه تتش اجتاز بطوس فدخلها لزيارة قبر علي بن موسى الرضى، ومعه نظام الملك فلما خرجا قال للنظام: بم دعوت الله ؟ قال: دعوت الله أن يظفرك على أخيك.
قال: لكني قلت اللهم إن كان أخي أصلح للمسلمين فظفره بي، وإن كنت أنا أصلح لهم فظفرني به، وقد سار بعسكره من أصبهان إلى أنطاكية فما عرف أن أحدا من جيشه ظلم حدا من الرعية، وكان مئين ألوف، واستعدى إليه مرة تركماني أن رجلا افتض بكارة أبنته وهو يريد أن يمكنه من قتله، فقال له: يا هذا إن ابنتك لو شاءت ما مكنته من نفسها، فإن كنت لا بد فاعلا فاقتلها معه، فسكت الرجل، فقال له الملك: أو تفعل خيرا من ذلك ؟ قال: وما هو ؟ قال: فإن بكارتها قد ذهبت، فزوجها من ذلك الرجل وأنا أمهرها من بيت المال كفايتهما، ففعل.
وحكى له بعض الوعاظ أن كسرى اجتاز يوما في بعض أسفاره بقرية وكان منفردا من جيشه، فوقف على باب دار فاستسقى فأخرجت إليه جارية إناء فيه ماء قصب السكر بالثلج، فشرب منه فأعجبه فقال: كيف تصنعون هذا ؟ فقالت: إنه سهل علينا اعتصاره على أيدينا، فطلب منها شربة أخرى فذهبت

نيه بها فوقع في نفسه أن يأخذ هذا المكان منهم ويعوضهم عنه غيره، فأبطأت عليه ثم خرجت وليس معها شئ، فقال: ما لك ؟ فقالت: كأن نية سلطاننا تغيرت علينا، فتعسر علي اعتصاره - وهي لا تعرف أنه السلطان - فقال: اذهبي فإنك الآن تقدرين عليه، وغير نيته إلى غيرها، فذهبت وجاءته بشربة أخرى سريعا فشربها وانصرف.
فقال له السلطان: هذه تصلح لي ولكن قص على الرعية أيضا حكاية كسرى الاخرى حين اجتاز ببستان وقد أصابته صفراء في رأسه وعطش، فطلب من ناطوره عنقودا من حصرم، فقال له الناطور: إن السلطان لم يأخذ حقه منه، فلا أقدر أن أعطيك منه شيئا، قال: فعجب الناس من ذكاء الملك وحسن استحضاره هذه في مقابلة تلك.
واستعداه رجلان من الفلاحين على الامير خمارتكين أنه أخذ منهما مالا جزيلا وكسر ثنيتهما، وقالا: سمعنا بعدلك في العالم، فإن أقدتنا منه كما أمرك الله وإلا استعدينا عليك الله يوم القيامة، وأخذا بركابه، فنزل عن فرسه، وقال لهما: خذا بكمي واسحباني إلى دار نظام الملك، فهابا ذلك، فعزم عليهما أن يفعلا، ما أمرهما به، فلما بلغ النظام مجئ السلطان إليه خرج مسرعا فقال له الملك: إني إنما قلدتك الامر لتنصف المظلوم ممن ظلمه، فكتب من فوره فعزل خمارتكين وحل أقطاعه، وأن يرد إليهما أموالهما، وأن يقلعا ثنيتيه إن قامت عليه البينة وأمر لها الملك من عنده بمائة دينار، وأسقط مرة بعض المكوس، فقال له رجل من المستوفين: يا سلطان العالم، إن هذا الذي أسقطته يعدل ستمائة ألف دينار وأكثر، فقال: ويحك إن المال مال الله، والعباد عباد الله، والبلاد بلاده، وإنما أردت أن يبقى هذا لي عند الله، ومن نازعني في هذا ضربت عنقه.
وغنته امرأة حسناء فطرب وتاقت نفسه إليها، فهم بها فقالت: أيها الملك إني أغار على هذا الوجه الجميل من النار، وبين الحلال والحرام كلمة واحدة، فاستدعى القاضي فزوجه بها.
وقد ذكر ابن الجوزي: عن ابن عقيل أن السلطان ملك شاه كان قد فسدت عقيدته بسبب معاشرته لبعض الباطنية ثم تنصل من ذلك وراجع الحق.
وذكر ابن عقيل أنه كتب له شيئا في إثبات الصانع، وقد ذكرنا أنه لما رجع آخر مرة إلى بغداد فعزم على الخليفة أن يخرج منها، فاستنظره عشرة
أيام فمرض السلطان ومات قبل انقضاء العشرة أيام، وكانت وفاته في ليلة الجمعة النصف من شوال عن سبع وثلاثين سنة وخمسة أشهر، وكان مدة ملكه من ذلك تسع عشرة سنة وأشهرا، ودفن بالشونيزي، ولم يصل عليه أحد لكتمان الامر، وكان مرضه بالحمى، وقيل إنه سم، والله أعلم.
باني التاجية ببغداد المرزبان بن خسرو، تاج الملك، الوزير أبو الغنائم باني التاجية، وكان مدرسها أبو بكر الشاشي وبنى تربة الشيخ أبي إسحاق، وقد كان السلطان ملكشاه أراد أن يستوزره بعد نظام الملك

فمات سريعا، فاستوزر لولده محمود، فلما قهره أخوه بركيارق قتله غلمان النظام وقطعوه إربا إربا في ذي الحجة (1) من هذه السنة.
هبة الله بن عبد الوارث ابن علي بن أحمد نوري، أبو القاسم الشيرازي، أحد الرحالين الجوالين في الآفاق، كان حافظا ثقة دينار ورعا، حسن الاعتقاد والسيرة، له تاريخ حسن، ورحل إليه الطلبة من بغداد وغيرها والله أعلم.
ثم دخلت سنة ست وثمانين وأربعمائة فيها قدم إلى بغداد رجل يقال له أردشير بن منصور أبو الحسين العبادي، مرجعه من الحج، فنزل النظامية فوعظ الناس وحضر مجلسه الغزالي مدرس المكان، فازدحم الناس في مجلسه، وكثروا في المجالس بعد ذلك، وترك كثير من الناس معايشهم، وكان يحضر مجلسه في بعض الاحيان أكثر من ثلاثين ألفا من الرجال والنساء، وتاب كثير من الناس ولزموا المساجد، وأريقت الخمور وكسرت الملاهي، وكان الرجل في نفسه صالحا، له عبادات، وفيه زهد وافر، وله أحوال صالحة، وكان الناس يزدحمون على فضل وضوئه، وربما أخذوا من البركة التي يتوضأ منها ماء للبركة، ونقل ابن الجوزي: أنه اشتهى مرة على بعض أصحابه توتا شاميا وثلجا فطاف البلد بكماله فلم يجده، فرجع فوجد الشيخ في خلوته، فسأل هل جاء اليوم إلى الشيخ أحد ؟ فقيل له جاءت امرأة
فقالت: إني غزلت بيدي غزلا وبعته وأنا أحب أن أشتري للشيخ طرفة فامتنع من ذلك فبكت فرحمها، وقال: اذهبي فاشتري، فقالت ماذا تشتهي ؟ فقال: ما شئت، فذهبت فأتته بتوت شامي وثلج فأكله.
وقال بعضهم: دخلت عليه وهو يشرب مرقا فقلت في نفسي: ليته أعطاني فضله لاشربه لحفظ القرآن فناولني فضله فقال: اشربها على تلك النية، قال: فرزقني الله حفظ القرآن.
وكانت له عبادات ومجاهدات، ثم اتفق أنه تكلم في بيع القراضة بالصحيح فمنع من الجلوس وأخرج من البلد.
وفيها خطب تتش بن ألب أرسلان لنفسه بالسلطنة، وطلب من الخليفة أن يخطب له بالعراق فحصل التوقف عن ذلك بسبب ابن أخيه بركيارق بن ملكشاه، فسار إلى الرحبة وفي صحبته وطاعته أقسنقر صاحب حلب، وبوران (2) صاحب الرها، ففتح الرحبة، ثم سار إلى الموصل فأخذها من يد
__________
(1) قال ابن الاثير في تاريخه: وكان قتله في المحرم سنة ست وثمانين (وأربعمائة).
(10 / 216 العبر لابن خلدون 3 / 479).
(2) في الكامل 10 / 220: بوزان.

صاحبها إبراهيم بن قريش بن بدران، وهزم جيوشه من بني عقيل، وقتل خلقا من الامراء صبرا، وكذلك أخذ ديار بكر، واستوزر الكافي بن فخر الدولة بن جهير، وكذلك أخذ همدان وخلاط، وفتح أذربيجان واستفحل أمره، ثم فارقه الاميران أقسنقر وبوران فسار إلى الملك بركيارق وبقي تتش وحده، فطمع فيه أخوه بركيارق فرجع تتش فلحقه قسيم الدولة اقسنقر وبوران بباب حلب فكسرهما وأسر بوران واقسنقر فصلبهما وبعث برأس بوران فطيف به حران والرها وملكها من بعده.
وفيها وقعت الفتنة بين الروافض والسنة، وانتشرت بينهم شرور كثيرة، وفي ثاني شعبان ولد للخليفة ولده المسترشد بالله أبو منصور الفضل بن أبي العباس أحمد المستظهر، ففرح الخليفة به وفي ذي القعدة دخل السلطان بركيارق بغداد، وخرج إليه الوزير أبو منصور بن جهير، وهنأه عن الخليفة بالقدوم.
وفيها أخذ المستنصر العبيدي مدينة صور من أرض الشام.
ولم يحج فيها أحد من أهل
العراق.
وممن توفي فيها من الاعيان...جعفر بن المقتدي بالله من الخاتون بنت السلطان ملكشاه، في جمادى الاولى، وجلس الوزير للعزاء والدولة ثلاثة، أيام.
سليمان بن إبراهيم ابن محمد بن سليمان، أبو مسعود الاصبهاني، سمع الكثير وصنف وخرج على الصحيحين، وكانت له معرفة جيدة بالحديث، سمع ابن مردويه وأبا نعيم والبرقاني، وكتب عن الخطيب وغيره، توفي في ذي القعدة عن تسع وثمانين سنة.
عبد الواحد بن أحمد بن المحسن الدشكري، أبو سعد الفقيه الشافعي، صحب أبا إسحاق الشيرازي، وروى الحديث، وكان مؤلفا لاهل العلم، وكان يقول: ما مشى قدمي هاتين في لذة قط، توفي في رجب منها ودفن باب حرب.
علي بن أحمد بن يوسف أبو الحسن الهكاري، قدم بغداد ونزل برباط الدوري، وكانت له أربطة قد أنشأها، سمع

الحديث وروى عنه غير واحد من الحفاظ، وكان يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام في الروضة فقلت: يا رسول الله أوصني، فقال: عليك باعتقاد أحمد بن حنبل، ومذهب الشافعي، وإياك ومجالسة أهل البدع.
توفي في المحرم منها.
علي بن محمد بن محمد أبو الحسن الخطيب الانباري، ويعرف بابن الاخضر، سمع أبا محمد الرضى وهو آخر من حدث عنه، توفي في شوال منها عن خمس وتسعين سنة.
أبو نصر علي بن هبة الله، ابن ماكولا ولد سنة ثنتين وأربعمائة، وسمع الكثير وكان من الحفاظ، وله كتاب الاكمال في المؤتلف والمختلف، جمع بين كتاب عبد الغني وكتاب الدارقطني وغيرهما، وزاد عليهما أشياء كثيرة، بهمة حسنة مفيدة نافعة، وكان نحويا مبرزا، فصيح العبارة حسن الشعر.
قال ابن الجوزي: وسمعت شيخنا عبد الوهاب يطعن في دينه ويقول: المعلم يحتاج إلى دين.
وقتل في خوزستان (1) في هذه السنة أو التي بعدها، وقد جاوز الثمانين.
كذا ذكره ابن الجوزي.
ثم دخلت سنة سبع وثمانين وأربعمائة فيها كانت وفاة الخليفة المقتدي وخلافة ولده المستظهر بالله.
صفة موته لما قدم السلطان بركيارق بغداد، سأل من الخليفة أن يكتب له بالسلطنة كتابا فيه العهد إليه فكتب ذلك، وهيئت الخلع وعرضت على الخليفة، وكان الكتاب يوم الجمعة (2) الرابع عشر من المحرم ثم قدم إليه الطعام فتناول منه على العادة وهو في غاية الصحة، ثم غسل يده وجلس ينظر في العهد بعد ما وقع عليه، وعنده قهرمانة تسمى شمس النهار، قالت: فنظر إلي وقال: من هؤلاء الاشخاص الذين قد دخلوا علينا بغير إذن ؟ قالت: فالتفت فلم أر أحدا، ورأيته قد تغيرت حالته
__________
(1) في الكامل 10 / 227: كرمان.
(2) في الكامل 10 / 229: يوم السبت خامس عشر المحرم.
وفي العبر لابن خلدون 3 / 480: منتصف المحرم.
وفي المنتظم 9 / 84 ونهاية الارب 12 / 252: يوم الجمعة خامس عشر المحرم.
وفي العبر للذهبي: ثامن عشر المحرم.

واستزخت يداه ورجلاه، وانحلت قواه، وسقط إلى الارض.
قالت: فظننت أنه غشي عليه، فحللت أزرار ثيابه فإذا هو لا يجيب داعيا، فأغلقت عليه الباب وخرجت فأعلمت ولي العهد بذلك، وجاء الامراء ورؤس الدولة يعزونه بأبيه، ويهنئونه بالخلافة، فبايعوه.
شئ من ترجمة المقتدي بأمر الله
هو أمير المؤمنين المقتدي بالله أبو عبد الله بن الذخيرة، الامير ولي العهد أبي العباس أحمد، ابن أمير المؤمنين القائم بأمر الله، بن القادر بالله العباسي، أمه أم ولد اسمها أرجوان أرمنية، أدركت خلافة ولدها وخلافة ولده المستظهر وولد ولده المسترشد أيضا، وكان المقتدي أبيض حلو الشمائل، عمرت في أيامه محال كثيرة من بغداد، ونفي عن بغداد المغنيات وأرباب الملاهي والمعاصي، وكان غيورا على حريم الناس، آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، حسن السيرة، رحمه الله، توفي يوم الجمعة رابع عشر المحرم من هذه السنة، وله من العمر ثمان وثلاثون سنة وثمان شهور وتسعة أيام (1)، خلافته من ذلك تسع عشرة سنة وثمان شهور إلا يومين (2)، وأخفي موته ثلاثة أيام حتى توطدت البيعة لابنه المستظهر، ثم صلي عليه ودفن في تربتهم والله أعلم.
خلافة المستظهر بأمر الله أبي العباس لما توفي أبوه يوم الجمعة أحضروه وله من العمر ست عشرة سنة وشهران، فبويع بالخلافة، وأول من بايعه الوزير أبو منصور بن جهير، ثم أخذ البيعة له من الملك ركن الدولة بركيارق بن ملكشاه ثم من بقية الامراء والرؤساء، وتمت البيعة تؤخذ له إلى ثلاثة أيام، ثم أظهر التابوت يوم الثلاثاء الثامن عشر من المحرم، وصلى عليه ولده الخليفة، وحضر الناس، ولم يحضر السلطان، وحضر أكثر أمرائه، وحضر الغزالي والشاشي وابن عقيل، وبايعوه يوم ذلك، وقد كان المستظهر كريم الاخلاق حافظا للقرآن فصيحا بليغا شاعرا مطيقا، ومن لطيف شعره قوله: أذاب حر الجوى في القلب ما جمدا * يوما مددت على رسم الوداع يدا فكيف أسلك نهج الاصطبار وقد * أرى طرائق من يهوى الهوى قددا قد أخلف الوعد بدر قد شغفت به * من بعد ما قد وفي دهرا بما وعدا إن كنت أنقض عهد الحب في خلدي * من بعد هذا فلا عاينته أبدا
__________
(1) في الكامل 10 / 230 ونهاية الارب 23 / 252:.
وسبعة أيام.
وفي تاريخ أبي الفداء 2 / 204:...وأياما.
وفي المنتظم 9 / 84: وكان عمره ثمانيا وعشرين سنة وثمانية أشهر وسبعة أيام.
(2) في تاريخ ابن خلدون 3 / 480: تسع عشرة سنة وثمانية أشهر.
وفي الجوهر الثمين 1 / 198: وثلاثة أشهر.

وفوض المستظهر أمور الخلافة إلى وزيره أبي منصور عميد الدولة بن جهير، فدبرها أحسن تدبير، ومهد الامور أتم تمهيد، وساس الرعايا، وكان من خيار الوزراء.
وفي ثالث عشر شعبان عزل الخليفة أبا بكر الشاشي عن القضاء، وفوضه إلى أبي الحسن بن الدامغاني.
وفيها وقعت فتنة بين السنة والروافض فأحرقت محال كثيرة، وقتل ناس كثير، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولم يحج أحد لاختلاف السلاطين.
وكانت الخطبة للسلطان بركيارق ركن الدولة يوم الجمعة الرابع عشر من المحرم وهو اليوم الذي توفي فيه الخليفة المقتدي بعد ما علم على توقيعه.
وممن توفي فيها من الاعيان...اقسنقر الاتابك الملقب قسيم الدولة السلجوقي، ويعرف بالحاجب، صاحب حلب وديار بكر والجزيرة.
وهو جد الملك نور الدين الشهيد بن زنكي بن أقسنقر، كان أولا من أخص أصحاب السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان السلجوقي، ثم ترقت منزلته عنده حتى أعطاه حلب وأعمالها بإشارة الوزير نظام الملك وكان من أحسن الملوك سيرة وأجودهم سريرة، وكانت الرعية معه في أمن ورخص وعدل، ثم كان موته على يد السلطان تاج الدولة تتش صاحب دمشق، وذلك أنه استعان به وبصاحب حران والرها على قتال ابن أخيه بركيارق بن ملكشاه، ففرا عنه وتركاه، فهرب إلى دمشق، فلما تمكن ورجعا قاتلهما بباب حلب فقتلهما وأخذ بلادهما إلا حلب فإنها استقرت لولد آقسنقر وزنكي فيما بعد، وذلك في سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة كما سيأتي بيانه.
وذكر ابن خلكان أنه كان مملوكا للسلطان ملكشاه، هو وبوزان صاحب الرها، فلما ملك تتش حلب استنابه بها فعصى عليه فقصده وكان قد مك دمشق أيضا فقاتله فقتله في هذه السنة في جمادى الاولى منها، فلما قتل دفنه ولده عماد الدين زنكي، وهو أبو نور الدين، فقبره بحلب أدخله ولده إليها من فوق الصور، فدفنه بها.
أمير الجيوش بدر الجمالي صاحب جيوش مصر ومدبر الممالك الفاطمية، كان عاقلا كريما محبا للعلماء، ولهم عليه رسوم
دارة تمكن في أيام المستنصر تمكنا عظيما، ودارت أزمة الامور على آرائه، وفتح بلادا كثيرة، وامتدت أيامه وبعد صيته وامتدحته الشعراء.
ثم كانت وفاته في ذي القعدة منها، وقام بالامر من بعده ولده الافضل.
الخليفة المقتدي وقد تقدم شئ من ترجمته.

الخليفة المستنصر الفاطمي أبو تميم معد بن أبي الحسن علي بن الحاكم، استمرت أيامه ستين سنة (1)، ولم يتفق هذا لخليفة قبله ولا بعده، وكان قد عهد بالامر إلى ولده نزار، فخلعه الافضل بن بدر الجمالي بعد موت أبيه.
وأمر الناس فبايعوا أحمد بن المستنصر أخاه، ولقبه بالمستعلي، فهرب نزار إلى الاسكندرية فجمع الناس عليه فبايعوه، وتولى أمره قاضي الاسكندرية: جلال الدولة بن عمار، فقصده الافضل فحاصره وقاتلهم نزار وهزمهم الافضل وأسر القاضي ونزار، فقتل القاضي وحبس نزار بين حيطين حتى مات، واستقر المستعلي في الخلافة، وعمره إحدى وعشرون سنة.
محمد بن أبي هاشم أمير مكة، كانت وفاته فيها عن نيف وتسعين سنة.
محمود بن السلطان ملكشاه كانت أمه قد عقدت له الملك، وأنفقت بسببه الاموال، فقاتله بركيارق فكسره، ولزم بلده أصبهان، فمات بها في هذه السنة، وحمل إلى بغداد فدفن بها بالتربة النظامية، كان من أحسن الناس وجها وأظرفهم شكلا، توفي في شوال منها، وماتت أمه الخاتون تركيان شاه في رمضان، فانحل نظامه، وكانت قد جمعت عليه العساكر، وأسندت أزمة أمور المملكة إليه، وملكت عشرة آلاف مملوك تركي، وأنفقت في ذلك قريبا من ثلاثة آلاف ألف دينار، فانحل النظام ولم تحصل على طائل، والله سبحانه أعلم.
ثم دخلت سنة ثمان وثمانين وأربعمائة فيها قدم يوسف بن أبق التركماني من جهة تتش صاحب دمشق إلى بغداد لاجل إقامة الدعوة له ببغداد، وكان تتش قد توجه لقتال ابن أخيه بناحية الري، فلما دخل رسوله بغداد هابوه وخافوه واستدعاه الخليفة فقربه وقبل الارض بين يدي الخليفه، وتأهب أهل بغداد له، وخافوا أن ينهبهم، فبينما هو كذلك إذ قدم عليه رسول ابن أخيه فأخبره أن تتش قتل في أول من قتل في الوقعة، وكانت وفاته في سابع عشر صفر من هذه السنة، فاستفحل أمر بركيارق، واستقل بالامور.
وكان دقاق بن
__________
(1) في الكامل 10 / 237:...وأربعة أشهر.

تتش مع أبيه حين قتل، فسار إلى دمشق فملكها، وكان نائب أبيه عليها الامير ساوتكين، واستوزر أبا القاسم الخوارزمي، وملك عبد الله بن تتش مدينة حلب، ودبر أمر مملكته جناح الدولة بن اتكين، ورضوان بن تتش صاحب مدينة حماه، وإليه تنسب بنو رضوان بها.
وفي يوم الجمعة التاسع عشر من ربيع الاول منها خطب لولي العهد أبي المنصور الفضل بن المستظهر، ولقب بذخيرة الدين.
وفي ربيع الآخر خرج الوزير ابن جهير فاختط سورا على الحريم، وأذن للعوام في العمل والتفرج فأظهروا منكرات كثيرة، وسخافات عقول ضعيفة، وعملوا أشياء منكرة، فبعث إليه ابن عقيل رقعة فيها كلام غليظ، وإنكار بغيض.
وفي مضان خرج السلطان بركيارق فعدا عليه فداوى، فلم يتمكن منه، فمسك فعوقب فأقر على آخرين فلم يقرا فقتل الثلاثة.
وجاء الطواشي من جهة الخليفة مهنئا به بالسلامة.
وفي ذي القعدة منها خرج أبو حامد الغزالي من بغداد متوجها إلى بيت المقدس تاركا لتدريس النظامية، زاهدا في الدنيا، لا بسا خشن الثياب بعد ناعمها، وناب عنه أخوه في التدريس ثم حج في السنة التالية ثم رجع إلى بلده، وقد صنف كتاب الاحياء في هذه المدة، وكان يجتمع إليه الخلق الكثير كل يوم في الرباط فيسمعونه.
وفي يوم عرفة خلع على القاضي أبي الفرج عبد الرحمن بن هبة الله بن البستي، ولقب بشرف القضاة، ورد إلى ولاية القضاء بالحريم وغيره.
وفيها اصطلح أهل الكرخ من الرافضة والسنة مع بقية المحال، وتزاوروا وتواصلوا وتواكلوا، وكان هذا
من العجائب، وفيها قتل أحمد بن خاقان صاحب سمرقند، وسببه أنه شهد عليه بالزندقة فخنق وولي مكانه ابن عمه مسعود.
وفيها دخل الاتراك إفريقية وغدروا بيحيى بن تميم بن المعز بن باديس، وقبضوا عليه، وملكوا بلاده وقتلوا خلقا، بعد ما جرت بينه وبينهم حروب شديدة، وكان مقدمهم رجل يقال له: شاه ملك، وكان من أولاد بعض أمراء المشرق، فقدم مصر وخدم بها ثم هرب إلى المغرب، ومعه جماعة ففعل ما ذكر.
ولم يحج أحد من أهل العراق فيها.
وممن توفي فيها من الاعيان...الحسن (1) بن أحمد بن خيرون أبو الفضل المعروف بابن الباقلاني، سمع الكثير، وكتب عنه الخطيب، وكانت له معرفة جيدة، وهو من الثقات، وقبله الدامغاني، ثم صار أمينا له، ثم ولي إشراف خزانة الغلات.
توفي في رجب عن ثنتين وثمانين سنة.
__________
(1) كذا بالاصل.
وذكروه باسم: أحمد بن الحسن وترجمته في الوافي رقم 2823، المنتظم 9 / 87 تذكرة الحفاظ ص 1207 العبر للذهبي 3 / 319 ميزان الاعتدال 1 / 43 شذرات الذهب 3 / 383.
كامل ابن الاثير 10 / 253.

تتش أبو المظفر تاج الدولة بن ألب أرسلان، صاحب دمشق وغيرها من البلاد، وقد تزوج امرأة علي ابن أخيه بركيارق بن ملكشاه، ولكن قدر الله وماتت، وقد قال المتنبي: ولله سر في علاك وإنما * كلام العدى ضرب من الهذيان قال ابن خلكان: كان صاحب البلاد الشرقية فاستنجده أتسز في محاربة أمير الجيوش من جهة صاحب مصر، فلما قدم دمشق لنجدته وخرج إليه أتسز، أمر بمسكه وقتله، واستحوذ هو على دمشق وأعمالها في سنة إحدى وسبعين، ثم حارب أتسز فقتله، ثم تحارب هو وأخوه بركيارق ببلاد الري، فكسره أخوه وقتل هو في المعركة، وتملك ابنه رضوان حلب، وإليه تنسب بنو رضوان بها، وكان ملكه عليها إلى سنة سبع وخمسين وخمسمائة، سمته أمه في عنقود عنب، فقام من بعده ولده تاج
الملك بوري أربع سنين، ثم ابنه الآخر شمس الملك إسماعيل ثلاث سنين، ثم قتلته أمه أيضا، وهي زمرد خاتون بنت جاولي، وأجلست أخاه شهاب الدين محمود بن بوري، فمكث أربع سنين ثم ملك أخوه محمد بن بوري طغركين سنة، ثم تملك مجير الدين أبق من سنة أربع وثلاثين إلى أن انتزع الملك منه نور الدين محمود زنكي كما سيأتي.
وكان أتابك العساكر بدمشق أيام أتق معين الدين، الذي تنسب إليه المعينية بالغور، والمدرسة المعينية بدمشق.
رزق الله بن عبد الوهاب ابن عبد العزيز أبو محمد التميمي أحد أئمة القراء والفقهاء على مذهب أحمد، وأئمة الحديث، وكان له مجلس للوعظ، وحلقة للفتوى بجامع المنصور، ثم بجامع القصر، وكان حسن الشكل مخببا إلى العامة له شعر حسن، وكان كثير العبادة، فصيح العبارة، حسن المناظرة.
وقد روى عن آبائه حديثا مسلسلا عن علي بن أبي طالب أنه قال: هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل.
وقد كان ذا وجاهة عند الخليفة، يفد في مهام الرسائل إلى السلطان.
توفي يوم الثلاثاء النصف من جمادى الاولى من هذه السنة، عن ثمان وثمانين سنة، ودفن بداره بباب المراتب بإذن الخليفة، وصلى عليه ابنه أبو الفضل.
أبو سيف القزويني عبد السلام بن محمد بن سيف بن بندار الشيخ، شيخ المعتزلة، قرأ على عبد الجبار بن أحمد الهمداني، ورحل إلى مصر، وأقام بها أربعين سنة، وحصل كتبا كثيرة، وصنف تفسيرا في سبعمائة

مجلد.
قال ابن الجوزي: جمع فيه العجب، وتكلم على قوله تعالى (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان) [ البقرة: 102 ] في مجلد كامل.
وقال ابن عقيل: كان طويل اللسان بالعلم تارة، وبالشعر أخرى، وقد سمع الحديث من أبي عمر بن مهدي وغيره، ومات ببغداد عن ست وتسعين سنة.
وما تزوج إلا في آخر عمره.
أبو شجاع الوزير
محمد بن الحسين بن عبد الله بن إبراهيم، أبو شجاع، الملقب ظهير الدين، الروذراوري (1) الاصل الاهوازي المولد، كان من خيار الوزراء كثير الصدقة والاحسان إلى العلماء والفقهاء، وسمع الحديث من الشيخ أبي إسحاق الشيرازي وغيره، وصنف كتبا، منها كتابه الذي ذيله على تجارب الامم.
ووزر للخليفة المقتدي وكان يملك ستمائة ألف دينار، فأنفقها في سبيل الخيرات والصدقات، ووقف الوقوف الحسنة، وبنى المشاهد، وأكثر الانعام على الارامل والايتام.
قال له رجل: إلى جانبنا أرملة لها أربعة أولاد وهم عراة وجياع، فبعث إليهم مع رجل من خاصته نفقة وكسوة وطعاما، ونزع عنه ثيابه في البرد الشديد، وقال: والله لا ألبسها حتى ترجع إلى بخبرهم، فذهب الرجل مسرعا بما أرسله على يديه إليهم، ثم رجع إليه فأخبره أنهم فرحوا بذلك ودعوا للوزير، فسر بذلك ولبس ثيابه.
وجئ إليه مرة بقطائف سكرية فلما وضعت بين يديه تنغص عليه بمن لا يقدر عليها، فأرسلها كلها إلى المساجد، وكانت كثيرة جدا، فأطعمها الفقراء والعميان وكان لا يجلس في الديوان إلا وعنده الفقهاء، فإذا وقع له أمر مشكل سألهم عنه فحكم بما يفتونه، وكان كثير التواضع مع الناس، خاصتهم وعامتهم، ثم عزل عن الوزارة فسار إلى الحج وجاور بالمدينة ثم مرض، فلما ثقل في المرض جاء إلى الحجرة النبوية فقال: يا رسول الله قال الله تعالى (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما) [ النساء: 64 ] وها أنا قد جئتك أستغفر الله من ذنوبي وأرجو شفاعتك يوم القيامة، ثم مات من يومه ذلك رحمه الله، ودفن في البقيع.
القاضي أبو بكر الشاشي (2) محمد بن المظفر بن بكران (3) الحموي أبو بكر الشاشي (2)، ولد سنة أربعمائة، وتفقه ببلده،
__________
(1) الروذراوري: نسبة إلى روذراور، وهي بليدة بنواحي همذان.
(2) في الكامل 10 / 253 والوافي بالوفيات 5 / 34: الشامي.
(3) في الوافي بكر.

ثم حج في سنة سبع عشرة وأربعمائة، وقدم بغداد فتفقه على أبي الطيب الطبري وسمع بها الحديث، وشهد عند ابن الدامغاني فقبله، ولازم مسجده خمسا وخمسين سنة، يقرئ الناس ويفقههم، ولما مات الدامغاني أشار به أبو شجاع الوزير فولاه الخليفة المقتدي القضاء، وكان من أنزه الناس وأعفهم، لم يقبل من سلطان عطية، ولا من صاحب هدية، ولم يغير ملبسه ولا مأكله، ولم يأخذ على القضاء أجرا ولم يستنب أحدا، بل كان يباشر القضاء بنفسه، ولم يحاب مخلوقا، وقد كان يضرب بعض المنكرين حيث لا بينة، إذا قامت عنده قرائن التهمة، حتى يقروا، ويذكر أن في كلام الشافعي ما يدل على هذا.
وقد صنف كتابا في ذلك، ونصره ابن عقيل فيما كان يتعاطاه من الحكم بالقرائن، واستشهد له بقوله تعالى (إن كان قميصه قد من قبل) الآية [ يوسف: 26 ].
وشهد عنده رجل من كبار الفقهاء والمناظرين يقال له المشطب بن أحمد بن أسامة الفرغاني، فلم يقبله، لما رأى عليه من الحرير وخاتم الذهب، فقال له المدعي: إن السلطان ووزيره نظام الملك يلبسان الحرير والذهب، فقال القاضي الشاشي (1): والله لو شهدا عندي على باقة بقلة ما قبلتهما، ولرددت شهادتهما.
وشهد عنده مرة فقيه فاضل من أهل مذهبه فلم يقبله، فقال: لاي شئ ترد شهادتي وهي جائزة عند كل حاكم إلا أنت ؟ فقال له: لا أقبل لك شهادة، فإني رأيتك تغتسل في الحمام عريانا غير مستور العورة، فلا أقبلك.
توفي يوم الثلاثاء عاشر شعبان من هذه السنة عن ثمان وثمانين سنة، ودفن بالقرب من ابن شريح.
أبو عبد الله الحميدي محمد بن أبي نصر فتوح بن عبد الله بن حميد، الاندلسي، من جزيرة يقال لها برقة (2) قريبة من الاندلس، قدم بغداد فسمع بها الحديث، وكان حافظا مكثرا أديبا ماهرا، عفيفا نزها، وهو صاحب الجمع بين الصحيحين، وله غير ذلك من المصنفات، وقد كتب مصنفات ابن حزم والخطيب، وكانت وفاته ليلة الثلاثاء السابع عشر من ذي الحجة، وقد جاوز التسعين (3)، وقبره قريب من قبر بشر الحافي ببغداد.
هبة الله بن الشيخ أبي الوفاء بن عقيل
كان قد حفظ القرآن وتفقه وظهر منه نجابة، ثم مرض فأنفق عليه أبوه أموالا جزيلة فلم يفد شيئا فقال له ابنه ذات يوم: يا أبت إنك قد أكثرت الادوية والادعية، ولله في اختيار فدعني
__________
(1) في الكامل 10 / 253 والوافي بالوفيات 5 / 34: الشامي.
(2) في وفيات الاعيان 4 / 282: ميورقة.
قال: وأصله من قرطبة من ربض الرصافة.
(3) في وفيات الاعيان والوافي بالوفيات: كانت ولادته قبل العشرين والاربعمائة وفي شذرات الذهب 3 / 392: توفي عن نحو سبعين سنة.
(انظر الكامل 10 / 254 - تذكرة الحفاظ 1218).

واختيار الله في، قال أبوه: فعلمت أنه لم يوفق لهذا الكلام إلا وقد اختير للحظوة والله سبحانه أعلم.
ثم دخلت سنة تسع وثمانين وأربعمائة قال ابن الجوزي في المنتظم: في هذه السنة حكم جهلة المنجمين أنه سيكون في هذه السنة طوفان قريب من طوفان نوح، وشاع الكلام بذلك بين العوام وخافوا، فاستدعى الخليفة المستظهر ابن عشبون (1) المنجم فسأله عن هذا الكلام فقال: إن طوفان نوح كان في زمن اجتمع في بحر الحوت الطوالع السبعة (2)، والآن فقد اجتمع فيه ستة ولم يجتمع معها زحل، فلا بد من وقوع طوفان في بعض البلاد، والاقرب أنها بغداد.
فتقدم الخليفة إلى وزيره بإصلاح المسيلات والمواضع التي يخشى انفجار الماء منها، وجعل الناس ينتظرون، فجاء الخبر بأن الحجاج حصلوا بوادي المناقب (3) بعد نخلة فأتاهم سيل عظيم، فما نجا منهم إلا من تعلق برؤوس الجبال، وأخذ المال الجمال والرجال والرحال، فخلع الخليفة على ذلك المنجم وأجرى له جارية.
وفيها ملك الامير قوام الدولة أبو سعيد كربوقا مدينة الموصل، وقتل شرف الدولة محمد بن مسلم بن قريش، وغرقه بعد حصار تسعة أشهر.
وفيها ملك تميم بن المعز المغربي مدينة قابس وأخرج منها أخاه عمر، فقال خطيب سوسة في ذلك أبياتا: ضحك الزمان وكان يلقى عابسا * لما فتحت بحد سيفك قابسا
وأتيتها بكرا وما أمهرتها * إلا قنا وصوارما وفوارسا الله يعلم ما جنيت ثمارها * إلا وكان أبوك قبلا غارسا (4) من كان في زرق الاسنة خاطبا * كانت له قلل البلاد عرائسا وفي صفر منها درس الشيخ أبو عبد الله الطبري بالنظامية، ولاه إياها فخر الملك بن نظام الملك وزير بركيارق.
وفيها أغارت خفاجة على بلاد سيف الدولة صدقة بن مزيد بن منصور بن دبيس وقصدوا مشهد الحسين بالحائر، وتظاهروا فيه بالمنكرات والفساد، فكبسهم فيه الامير صدقة المذكور، فقتل منهم خلقا كثيرا عند الضريح.
ومن العجائب أن أحدهم ألقى نفسه وفرسه من فوق السور فسلم وسلمت فرسه.
وحج بالناس الامير خمارتكين الحسناني.
__________
(1) في الكامل: عيسون.
(2) وهي: الشمس والقمر والمشتري والزهرة والمريخ وعطارد وزحل.
(3) في الكامل: بوادي المياقت.
(4) في الكامل: ما حويت ثمارها...قبل الغارسا.

ومنن توفي فيها من الاعيان...عبد الله بن إبراهيم بن عبد الله أخو أبي حكيم الخيري، وخير: إحدى بلاد فارس، سمع الحديث وتفقه على الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وكانت له معرفة بالفرائض والادب واللغة، وله مصنفات، وكان مرضى الطريقة، وكان يكتب المصاحف بالاجرة، فبينما هو ذات يوم يكتب وضع القلم من يده واستند وقال: والله لئن كان هذا موتا إنه لطيب، ثم مات.
عبد المحسن بن أحمد الشنجي (1) التاجر، ويعرف بابن شهداء مكة، بغدادي، سمع الحديث الكثير، ورحل وأكثر عن الخطيب وهو بصور، وهو الذي حمله إلى العراق، فلهذا أهدى إليه الخطيب تاريخ بغداد بخطه،
وقد روى عنه في مصنفاته، وكان يسميه عبد الله، وكان ثقة.
عبد الملك بن إبراهيم ابن أحمد أبو الفضل المعروف بالهمداني، تفقه على الماوردي، وكانت له يد طولى في العلوم الشرعية والحساب وغير ذلك، وكان يحفظ غريب الحديث لابي عبيد والمجمل لابن فارس، وكان عفيفا زاهدا، طلبه المقتدي ليوليه قاضي القضاة فأبى أشد الاباء، واعتذر له بالعجز وعلو السن، وكان ظريفا لطيفا، كان يقول: كان أبي إذا أراد أن يؤدبني أخذ العصا بيده ثم يقول: نويت أن أضرب ولدي تأديبا كما أمر الله، ثم يضربني.
قال: وإلى أن ينوي ويتمم النية كنت أهرب.
توفي في رجب (2) منها ودفن عند قبر ابن شريح.
محمد بن أحمد بن عبد الباقي بن منصور أبو بكر الدقاق، ويعرف بابن الخاضبة (3)، كان معروفا بالافادة وجودة القراءة وحسن الخط وصحة النقل، جمع بين علم القراءات والحديث، وأكثر عن الخطيب وأصحاب المخلص.
قال: لما غرقت بغداد غرقت داري وكتبي فلم يبق لي شئ، فاحتجت إلى النسخ فكتبت صحيح مسلم في
__________
(1) في تذكرة الحفاظ ص 1227: عبد المحسن بن محمد بن علي الشيحي السفار (انظر شذرات الذهب 3 / 392).
(2) في الكامل 10 / 261: في رمضان.
(3) من الوافي 2 / 89 وتذكرة الحفاظ ص 1224 وفيه: توفي في ثاني ربيع الاول (انظر الكامل 10 / 260).

تلك السنة سبع مرات، فنمت فرأيت ذات ليلة كأن القيامة قد قامت وقائل يقول: أين ابن الخاضبة ؟ فجئت فأدخلت الجنة فلما دخلتها استلقيت على قفاي ووضعت إحدى رجلي على الاخرى وقلت: استرحت من النسخ، ثم استيقظت والقلم في يدي والنسخ بين يدي.
أبو المظفر السمعاني (1) منصور بن محمد بن عبد الجبار بن أحمد بن محمد، أبو المظفر السمعاني، الحافظ، من أهل مرو، تفقه أولا على أبيه في مذهب أبي حنيفة، ثم انتقل إلى مذهب الشافعي فأخذ عن أبي إسحاق
وابن الصباغ، وكانت له يد طولى في فنون كثيرة، وصنف التفسير وكتاب الانتصار في الحديث، والبرهان والقواطع في أصول الفقه، والاصطلام وغير ذلك، ووعظ في مدينة نيسابور، وكان يقول: ما حفظت شيئا فنسيته، وسئل عن أخبار الصفات فقال: عليكم بدين العجائز وصبيان الكتاتيب، وسئل عن الاستواء فقال: جئتماني لتعلما سر سعدى * تجداني بسر سعدى شحيحا إن سعدى لمنية المتمني * جمعت عفة ووجها صبيحا توفي في ربيع الاول من هذه السنة، ودفن في مقبرة مرو رحمه الله تعالى وإيانا آمين.
ثم دخلت سنة تسعين وأربعمائة من الهجرة فيها كان ابتداء ملك الخوارزمية، وذلك أن السلطان بركيارق ملك فيها بلاد خراسان بعد مقتل عمه أرسلان أرغون بن ألب أرسلان وسلمها إلى أخيه المعروف بالملك سنجر، وجعل إتابكه الامير قماج، ووزيره أبو الفتح علي بن الحسين الطغرائي، واستعمل على خراسان الامير حبشي بن البرشاق (2)، فولى مدينة خوارزم شابا يقال له محمد بن أنوشتكين، وكان أبوه من أمراء السلاجقة، ونشأ هو في أدب وفضيلة وحسن سيرة، ولما ولي مدينة خوارزم لقب خوارزم شاه، وكان أول ملوكهم، فأحسن السيرة وعامل الناس بالجميل، وكذلك ولده من بعد إتسز (3) جرى على سيرة أبيه، وأظهر العدل، فحظي عند السلطان سنجر وأحبه الناس، وارتفعت منزلته.
وفيها خطب الملك رضوان بن تاج الملك تتش للخليفة الفاطمي المستعلي، وفي شوال قتل رجل باطني عند باب
__________
(1) السمعاني نسبة إلى سمعان: بطن من تميم.
قال الذهبي في تذكرة الحفاظ مات وله ثلاث وستون سنة.
(2) في الكامل 10 / 267: التونتاق.
(3) في مختصر أخبار البشر 2 / 209: اطسز.

النوبى كان قد شهد عليه عدلان أحدهما ابن عقيل أنه دعاهما إلى مذهبه فجعل يقول أتقتلونني وأنا أقول لا إله إلا الله ؟ فقال ابن عقيل قال الله تعالى (فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده) الآية وما
بعدها، [ غافر: 84 ] وفي رمضان منها قتل برسق أحد أكابر الامراء وكان أول من تولى شحنة بغداد.
وحج بالناس فيها خمارتكين الحسناني، وفي يوم عاشوراء كبست دار بهاء الدولة أبو نصر بن جلال الدولة أبي طاهر بن بويه لامور ثبتت عليه عند القاضي فأريق دمه ونقضت داره وعمل مكانها مسجدان للحنفية والشافعية، وقد كان السلطان ملكشاه قد أقطعه المدائن ودير عاقول وغيرهما.
وممن توفي فيها من الاعيان..أحمد بن محمد بن الحسن ابن علي بن زكريا بن دينار، أبو يعلى العبدي البصري، ويعرف بابن الصواف، ولد سنة أربعمائة، وسمع الحديث، وكان زاهدا متصوفا، وفقيها مدرسا، ذا سمت ووقار، وسكينة ودين، وكان علامة في عشرة علوم، توفي في رمضان منها عن تسعين سنة رحمه الله.
المعمر بن محمد ابن المعمر بن أحمد بن محمد (1)، أبو الغنائم الحسيني، سمع الحديث، وكان حسن الصورة كريم الاخلاق كثير التعبد، لا يعرف أنه آذى مسلما ولا شتم صاحبا.
توفي عن نيف وستين سنة، وكان نقيبا ثنتين وثلاثين سنة، وكان من سادات قريش، وتولى بعده ولده أبو الفتوح حيدرة، ولقب بالرضى ذي الفخرين، ورثاه الشعراء بابيات ذكرها ابن الجوزي.
يحيى بن أحمد بن محمد البستي (2) سمع الحديث ورحل فيه، وكان ثقة صالحا صدوقا أديبا، عمر مائة سنة وثنتي عشرة سنة وثلاثة أشهر، (3)، وهو مع ذلك صحيح الحواس، يقرأ عليه القرآن والحديث، رحمه الله وإيانا آمين.
ثم دخلت سنة إحدى وتسعين وأربعمائة في جمادى الاولى منها ملك الافرنج مدينة إنطاكية بعد حصار شديد، بمواطأة بعض
__________
(1) ذكره ابن الاثير في تاريخه: محمد بن عبد الله، النقيب الطاهر أبو الغنائم (10 / 271).
(2) في الكامل 10 / 271: السيبي ; وفي شذرات الذهب 3 / 396: السبتي القصري.
(3) في الكامل: مائة سنة وسنتين.
(شذرات الذهب 3 / 396).

المستحفظين على بعض الابراج، وهرب صاحبها باغيسيان في نفر يسير، وترك بها أهله وماله، ثم إنه ندم في أثناء الطريق ندما شديدا على ما فعل، بحيث إنه غشي عليه وسقط عن فرسه، فذهب أصحابه وتركوه، فجاء راعي غنم فقطع رأسه وذهب به إلى ملك الفرنج، ولما بلغ الخبر إلى الامير كربوقا صاحب الموصل جمع عساكر كثيرة، واجتمع عليه دقاق صاحب دمشق، وجناح الدولة صاحب حمص، وغيرهما، وسار إلى الفرنج فالتقوا معهم بأرض إنطاكية فهزمهم الفرنج وقتلوا منهم خلقا كثيرا، وأخذوا منهم أموالا جزيلة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ثم صارت الفرنج إلى معرة النعمان فأخذوها بعد حصار فلا حول ولا قوة إلا بالله.
ولما بلغ هذا الامر الفظيع إلى الملك بركيارق شق عليه ذلك وكتب إلى الامراء ببغداد أن يتجهزوا هم والوزير ابن جهير لقتال الفرنج، فبرز بعض الجيش إلى ظاهر البلد بالجانب الغربي ثم انفسخت هذه العزيمة لانهم بلغهم أن الفرنج في ألف ألف مقاتل فلا حول ولا قوة إلا بالله.
وحج بالناس فيها خمارتكين.
وممن توفي فيها من الاعيان...طراد بن محمد بن علي ابن الحسن بن محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم الامام بن محمد بن علي بن عباس، أبو الفوارس بن أبي الحسن بن أبي القاسم بن أبي تمام، من ولد زيد ابن بنت سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس، وهي أم ولده عبد الله بن محمد بن إبراهيم الامام بن محمد بن عبد الله بن عباس، سمع الحديث الكثير، والكتب الكبار، وتفرد بالرواية عن جماعة، ورحل إليه من الآفاق وأملى الحديث في بلدان شتى، وكان يحضر مجلسه العلماء والسادات وحضر أبو عبد الله الدامغاني مجلسه، وباشر نقابة الطالبيين مدة طويلة، وتوفي عن نيف وتسعين سنة، ودفن في مقابر الشهداء رحمه الله.
المظفر أبو الفتح ابن رئيس الرؤساء أبو القاسم ابن المسلمة كانت داره مجمعا لاهل العلم والدين والادب، وبها توفي الشيخ أبو إسحاق
الشيرازي، ودفن عند الشيخ أبي إسحاق في تربته.
ثم دخلت سنة ثنتين وتسعين وأربعمائة وفيها أخذت الفرنج بيت المقدس.
لما كان ضحى يوم الجمعة لسبع بقين من شعبان سنة ثنتين وتسعين وأربعمائة، أخذت الفرنج.

لعنهم الله بيت المقدس شرفه الله، وكانوا في نحو ألف ألف مقاتل، وقتلوا في وسطه أزيد من ستين (1) ألف قتيل من المسلمين، وجاسوا خلال الديار، وتبروا ما علوا تتبيرا.
قال ابن الجوزي: وأخذوا من حول الصخرة اثنين وأربعين قنديلا من فضة، زنة كل واحد منها ثلاثة آلاف وستمائة درهم، وأخذوا تنورا من فضة (2) زنته أربعون رطلا بالشامي، وثلاثة وعشرين قنديلا من ذهب (3)، وذهب الناس على وجوههم هاربين من الشام إلى العراق، مستغثين على الفرنج إلى الخليفة والسلطان، منهم القاضي أبو سعد الهروي، فلما سمع الناس ببغداد هذا الامر الفظيع هالهم ذلك وتباكوا، وقد نظم أبو سعد الهروي كلاما قرئ في الديوان وعلى المنابر، فارتفع بكاء الناس، وندب الخليفة الفقهاء إلى الخروج إلى البلاد ليحرضوا الملوك على الجهاد، فخرج ابن عقيل وغير واحد من أعيان الفقهاء فساروا في الناس فلم يفد ذلك شيئا، فإنا لله وإنا إليه راجعون، فقال في ذلك أبو المظفر الابيوردي شعرا: مزجنا دمانا بالدموع السواجم * فلم يبق منا عرضة للمراجم وشر سلاح المرء دمع يريقه (4) * إذا الحرب شبت نارها بالصوارم فأيها بني الاسلام إن وراءكم * وقائع يلحقن الذرى بالمناسم وكيف تنام العين ملء جفونها * على هفوات أيقظت كل نائم وإخوانكم بالشام يضحي مقيلهم * ظهورا المذاكي أو بطون القشاعم (5) تسومهم الروم الهوان وأنتم * تجرون ذيل الخفض فعل المسالم ومنها قوله:
وبين اختلاس الطعن والضرب وقفة * تظل لها الولدان شيب القوادم وتلك حروب من يغب عن غمارها * ليسلم يقرع بعدها سن نادم سللن بأيدي المشركين قواضبا * ستغمد منهم في الكلى (6) والجماجم
__________
(1) في الكامل 10 / 283 والعبر لابن خلدون 5 / 184 وتاريخ ابن العبري ص 196 ومختصر أخبار البشر 2 / 211 ما يزيد على السبعين ألفا.
قلت: وهذا غلولا يدخل تحت التصديق، وإن غدفري تسارع إلى كف الجيش عن القتل.
قال ابن العبري: وغنموا منه ما لا يقع تحت الاحصاء.
(2) في بدائع الزهور 1 / 1 / 220: التنور النحاسي الكبير.
(3) زيد في الكامل 10 / 284: ومائة وخمسين قنديلا نقرة من الصغار.
وفي بدائع الزهور: وأخذوا نحو أربعين قنديلا ن الذهب والفضة، وزن كل قنديل ألف درهم.
(4) في الكامل وتاريخ أبي الفداء: يفيضه.
(5) القشاعم: النسور، والمذاكي: الجياد.
(6) في الكامل: الطلى.

يكاد لهن المستجير بطيبة * ينادي بأعلا الصوت يا آل هاشم أرى أمتي لا يشرعون إلى العدا * رماحهم والدين واهي الدعائم ويجتنبون النار خوفا من الردى * ولا يحسبون العار ضربة لازم أيرضى (1) صناديد الاعاريب بالاذى * ويغضي على ذل كماة الاعاجم فليتهمو إذ لم يذودوا حمية * عن الدين ضنوا غيرة بالمحارم وإن زهدوا في الاجر إذ حمس الوغى * فهلا أتوه رغبة في المغانم وفيها كان ابتداء أمر السلطان محمد بن ملكشاه، وهو أخو السلطان سنجر لابيه وأمه، واستفحل إلى أن خطب له ببغداد في ذي الحجة من هذه السنة.
وفيها سار إلى الري فوجد زبيدة خاتون أم أخيه بركيارق فأمر بخنقها، وكان عمرها إذ ذاك ثنتين وأربعين سنة، في ذي الحجة منها
وكانت له مع بركيارق خمس وقعات هائلة.
وفيها غلت الاسعار جدا ببغداد، حتى مات كثير من الناس جوعا، وأصابهم وباء شديد حتى عجزوا عن دفن الموتى من كثرتهم.
وممن توفي فيها من الاعيان..السلطان إبراهيم بن السلطان محمود ابن مسعود بن السلطان محمود بن سبكتكين، صاحب غزنة وأطراف الهند، وعدا ذلك، كانت له حرمة وأبهة عظيمة، وهيبة وافر جدا، حكى الكيا الهراسي حين بعثه السلطان بركيارق في رسالته إليه عما شاهده عنده من أمور السلطنة في ملبسه ومجلسه، وما رأى عنده من الاموال والسعادة الدنيوية، قال: رأيت شيئا عجيبا، وقد وعظه بحديث " لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من هذا " (2) فبكى.
قال: وكان لا يبني لنفسه منزلا إلا بنى قبله مسجدا أو مدرسة أو رباطا.
توفي في رجب منها وقد جاوز التسعين، وكان مدة ملكه منها ثنتين وأربعين سنة.
عبد الباقي بن يوسف ابن علي بن صالح، أبو تراب البراعي، ولد سنة إحدى وأربعمائة وتفقه على أبي الطيب الطبري وسمع الحديث عليه وعلى غيره، ثم أقام بنيسابور، وكان يحفظ شيئا كثيرا من الحكايات
__________
(1) في الكامل وتاريخ أبي الفداء: أترضى.
ويغضي: يطرق.
(2) أخرجه البخاري في الهبة، باب (28) وبدء الخلق (8) ومناقب الانصار باب (12) واللباس: (26) ومسلم في فضائل الصحابة ج (126) و (127) والترمذي في اللباس باب (50) والمناقب باب (50) وابن ماجه في المقدمة باب (3) وأحمد في المسند: 3 / 111، 122، 207، 209، 229، 234، 4 / 289، 301، 302.

والملح، وكان صبورا متقللا من الدنيا، على طريقة السلف، جاءه منشور بقضاء همدان فقال: أنا منتظر منشورا من الله عزوجل، على يدي ملك الموت بالقدوم عليه، والله لجلوس ساعة في هذه المسلة على راحة القلب أحب إلي من ملك العراقين، وتعليم مسألة لطالب أحب إلى مما على الارض من شئ، والله لا أفلح قلب يعلق بالدنيا وأهلها، وإنما العلم دليل، فمن لم يدله علمه على الزهد
في الدنيا وأهلها لم يحصل على طائل من العلم، ولو علم ما علم، فإنما ذلك ظاهر من العلم، والعلم النافع وراء ذلك، والله لو قطعت يدي ورجلي وقلعت عيني أحب إلى من ولاية فيها انقطاع عن الله والدار الآخرة، وما هو سبب فوز المتقين، وسعادة المؤمنين.
توفي رحمه الله في ذي القعدة من هذه السنة عن ثلاث (1) وتسعين سنة رحمه الله آمين.
أبو القاسم ابن إمام الحرمين قتله بعض الباطنية بنيسابور رحمه الله ورحم أباه.
ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة في صفر منها دخل السلطان بركيارق إلى بغداد، ونزل بدار الملك، وأعيدت له الخطبة، وقطعت خطبة أخيه محمد، وبعث إليه الخليفة هدية هائلة، وفرح به العوام والنساء، ولكنه في ضيق من أمر أخيه محمد، لاقبال الدولة عليه، واجتماعهم إليه، وقلة ما معه من الاموال، ومطالبة الجند له بأرزاقهم، فعزم على مصادرة الوزير ابن جهير، فالتجأ إلى الخليفة فمنعه من ذلك، ثم اتفق الحال على المصالحة عنه بمائة ألف وستين ألف دينار، ثم سار فالتقى هو وأخوه محمد بمكان قريب من همدان (2) فهزمه أخوه محمد ونجا هو بنفسه في خمسين فارسا، وقتل في هذه الوقعة سعد الدولة جوهر آيين الخادم، وكان قديم الهجرة في الدولة، وقد ولي شحنة بغداد، وكان حليما حسن اسيرة، لم يتعمد ظلم أحد ولم ير خادم ما رأى، من الحشمة والحرمة وكثرة الخدم، وقد كان يكثر الصلاة بالليل، ولا يجلس إلا على وضوء، ولم يمرض مدة حياته ولم يصدع قط، ولما جرى ما جرى في هذه الوقعة ضعف أمر السلطان بركيارق، ثم تراجع إليه جيشه وانضاف إليه الامير داود (3) في عشرين ألفا، فالتقى هو وأخوه مع أخيه سنجر فهزمهم سنجر أيضا وهرب في شرذمة قليلة، وأسر الامير داود (3) فقتله الامير برغش (4) أحد أمراء سنجر، فضعف بركيارق وتفرقت عنه رجاله، وقطعت
__________
(1) في شذرات الذهب 3 / 398: إحدى.
(2) في الكامل 10 / 294: باسبيذروذ، ومعناه النهر الابيض، وهو على عدة فراسخ من همذان وفي مختصر أخبار البشر: على عشرة فراسخ (انظر العبر لابن خلدون 3 / 483).
(3) في الكامل وتاريخ أبي الفداء: داذ (داذا).
(4) في الكامل: بزغش.

خطبته من بغداد في رابع عشر رجب وأعيدت خطبة السلطان محمد.
وفي رمضان منها قبض على الوزير عميد الدولة بن جهير، وعلى أخويه زعيم الرؤساء أبي القاسم، وأبي البركات الملقب بالكافي، وأخذت منهم أموال كثيرة، وحبس بدار الخلافة حتى مات في شوال منها.
وفي ليلة السابع والعشرين منه قتل الامير بلكابك سرمز رئيس شحنة أصبهان، ضربه باطني بسكين في خاصرته وقد كان يتحرز منهم كثيرا، وكان يدرع تحت ثيابه سوى هذه الليلة، ومات من أولاده في هذه الليلة جماعة، خرج من داره خمس جنائز من صبيحتها.
وفيها أقبل ملك الفرنج في ثلاثمائة ألف مقاتل فالتقى معه ستكين بن انشمند (1) طايلو، إتابك دمشق الذي يقال له أمين الدولة، واقف الامينية بدمشق وببصري، لا التي ببعلبك، فهزم الافرنج وقتل منهم خلقا كثيرا، بحيث لم ينج منهم سوى ثلاثة آلاف، وأكثرهم جرحى - يعني الثلاثة آلاف - وذلك في ذي القعدة منها، ولحقهم إلى ملطية فملكها وأسر ملكها ولله الحمد.
وحج بالناس الامير التونتاش التركي وكان شافعي المذهب.
وممن توفي فيها من الاعيان..عبد الرزاق الغزنوي الصوفي شيخ رباط عتاب: حج مرات على التجريد، مات وله نحو مائة سنة، ولم يترك كفنا، وقد قالت له امرأته لما احتضر: سنفتضح اليوم.
قال لم ؟ قالت له: لانه لا يوجد لك كفن، فقال لها: لو تركت كفنا لافتضحت، وعكسه أبو الحسن البسطامي شيخ رباط ابن المحلبان، كان لا يلبس إلا الصوف شتاء وصيفا، ويظهر الزهد، وحين توفي وجد له أربعة آلاف دينار مدفونة، فتعجب الناس من حاليهما فرحم الله الاول وسامح الثاني.
الوزير عميد الدولة بن جهير محمد بن أبي نصر بن محمد بن جهير الوزير، أبو منصور، كان أحد رؤساء الوزراء، خدم ثلاثة من الخلفاء، وزر لاثنين منهم، وكان حليما قليل العجلة، غير أنه كان يتكلم فيه بسبب
الكبر، وقد ولي الوزارة مرات، يعزل ثم يعاد، ثم كان آخرها هذه المرة حبس بدار الخلافة فلم يخرج من السجن إلا ميتا، في شوال منها.
ابن جزلة الطبيب يحيى بن عيسى بن جزلة صاحب المنهاج في الطب، كان نصرانيا ثم كان يتردد إلى الشيخ أبي
__________
(1) في الكامل: كمشتكين بن الدانشمند (في العبر: كمستكين ويعرف بطابلوا)، ومعنى الدانشمند المعلم ; لان أباه كان معلم التركمان - والمعلم عندهم اسمه الدانشمند (تاريخ أبي الفداء).

علي بن الوليد المغربي يشتغل عليه في المنطق، وكان أبو علي يدعوه إلى الاسلام ويوضح له الدلالات حتى أسلم وحسن إسلامه، واستخلفه الدامغاني في كتب السجلات، ثم كان يطبب الناس بعد ذلك بلا أجر، وربما ركب لهم الادوية من ماله تبرعا، وقد أوصى بكتبه أن تكون وقفا بمشهد أبي حنيفة رحمه الله وإيانا آمين.
ثم دخلت سنة أربع وتسعين وأربعمائة فيها عظم الخطب بأصبهان ونواحيها بالباطنية فقتل السلطان منهم خلقا كثيرا، وأبيحت ديارهم وأموالهم للعامة، ونودي فيهم إن كل من قدرتم عليه منهم فاقتلوه وخذوا ماله، وكانوا قد استحوذوا على قلاع كثيرة، وأول قلعة ملكوها في سنة ثلاث وثمانين (1)، وكان الذي ملكها الحسن بن صباح، أحد دعاتهم، وكان قد دخل مصر وتعلم من الزنادقة الذين بها، ثم صار إلى تلك النواحي ببلاد أصبهان، وكان لا يدعو إليه من الناس إلا غبيا جاهلا، لا يعرف يمينه من شماله، ثم يطعمه العسل بالجوز والشونيز، حتى يحرق مزاجه ويفسد دماغه، ثم يذكر له أشياء من أخبار أهل البيت، ويكذب له من أقاويل الرافضة الضلال، أنهم ظلموا ومنعوا حقهم الذي أوجبه الله لهم ورسوله، ثم يقول له فإذا كانت الخوارج تقاتل بني أمية لعلي، فأنت أحق أن تقاتل في نصرة إمامك علي بن أبي طالب، ولا يزال يسقيه العسل وأمثاله ويرقيه حتى يستجيب له ويصير أطوع له من أمه وأبيه، ويظهر له أشياء من المخرقة والنيرنجيات والحيل التي لا تروج إلا على الجهال، حتى التف
عليه بشر كثير، وجم غفير، وقد بعث إليه السلطان ملكشاه يتهدده وينهاه عن ذلك، وبعث إليه بفتاوى العلماء، فلما قرأ الكتاب بحضرة الرسول قال لمن حوله من الشباب: إني أريد أن أرسل منكم رسولا إلى مولاه، فاشرأبت وجوه الحاضرين، ثم قال لشاب منهم: اقتل نفسك، فأخرج سكينا فضرب بها غلصمته فسقط ميتا، وقال لآخر منهم: ألق نفسك من هذا الموضع، فرمى نفسه من رأس القلعة إلى أسفل خندقها فتقطع، ثم قال لرسول السلطان: هذا الجواب.
فمنها امتنع السلطان من مراسلته.
هكذا ذكره ابن الجوزي، وسيأتي ما جرى للسلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب فاتح بيت المقدس وما جرى له مع سنان صاحب الايوان مثل هذا إن شاء الله تعالى.
وفي شهر رمضان أمر الخليفة المستظهر بالله بفتح جامع القصر وأن لا يبيض وأن يصلى فيه التراويح وأن يجهر بالبسملة، وأن يمنع النساء من الخروج ليلا للفرجة.
وفي أول هذه السنة دخل السلطان بركيارق إلى بغداد فخطب له بها ثم لحقه أخواه محمد وسنجر فدخلاها (2) وهو مريض فعبرا
__________
(1) وهي قلعة الموت ; وهي من نواحي قزوين (الكامل - تاريخ أبي الفداء).
(2) قال ابن الاثير: في السابع والعشرين من ذي الحجة.

في الجانب الغربي فقطعت خطبته وخطب لهما بها، وهرب بركيارق إلى واسط، ونهب جيشه ما اجتازوا به من البلاد والاراضي، فنهاه بعض العلماء عن ذلك ووعظه فلم يفد شيئا.
وفي هذه السنة ملكت الفرنج قلاعا كثيرة منها: قيسارية وسروج، وسار ملك الفرنج كندر (1) - وهو الذي أخذ بيت المقدس - إلى عكا فحاصرها فجاءه سهم في عنقه فمات من فوره لعنه الله.
وممن توفي فيها من الاعيان...أحمد بن محمد ابن عبد الواحد بن الصباح (2)، أبو منصور، سمع الحديث وتفقه على القاضي أبي الطيب الطبري ثم على ابن عمه أبي نصر بن الصباح (2)، وكان فقيها فاضلا كثير الصلاة يصوم الدهر، وقد ولي القضاء بربع الكرخ والحسبة بالجانب الغربي.
عبد الله بن الحسن ابن أبي منصور أبو محمد الطبسي، رحل إلى الآفاق وجمع وصنف، وكان أحد الحفاظ المكثرين ثقة صدوقا عالما بالحديث ورعا حسن الخلق.
عبد الرحمن بن أحمد ابن محمد أبو محمد الرزاز السرخسي، نزل مرو وسمع الحديث وأملى ورحل إليه العلماء، وكان حافظا لمذهب الشافعي متدينا ورعا، رحمه الله.
عزيز بن عبد الملك منصور أبو المعالي الجيلي القاضي الملقب سيدله (3)، كان شافعيا في الفروع أشعريا في الاصول، وكان حاكما بباب الازج، وكان بينه وبين أهل باب الازج من الحنابلة شنآن كبير، سمع رجلا ينادي على حمار له ضائع فقال: يدخل الازج ويأخذ بيد من شاء.
وقال يوما للنقيب طراد الزينبي: لو حلف إنسان أنه لا يرى إنسان فرأى أهل باب الازج لم يحنث.
فقال له الشريف: من عاشر قوما أربعين يوما فهو منهم.
ولهذا لما مات فرحوا بموته كثيرا.
__________
(1) في الكامل 10 / 324: كند فرى، وفي تاريخ ابن خلدون 5 / 186: كبريري.
(2) في الكامل 10 / 326: الصباغ.
(3) في وفيات الاعيان 3 / 259: شيذلة، وفي طبقات السبكي 3 / 287: شيلد.

محمد بن أحمد ابن عبد الباقي بن الحسن بن محمد بن طوق، أبو الفضائل الربعي الموصلي، تفقه على الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وسمع من القاضي أبي الطيب الطبري، وكان ثقة صالحا.
كتب الكثير.
محمد بن الحسن أبو عبد الله المرادي، نزل أوان وكان مقرئا فقيها صالحا، له كرامات ومكاشفات، أخذ عن القاضي أبي يعلى بن الفراء الحديث وغيره.
قال ابن الجوزي: بلغني أن ابنا له صغيرا طلب منه
غزالا وألح عليه، فقال له: يا بني غدا يأتيك غزال.
فلما كان الغد أتت غزال فصارت تنطح الباب بقرنيها حتى فتحته، فقال له أبوه: يا بني أتتك الغزال.
محمد بن علي بن عبيد الله ابن أحمد بن صالح بن سليمان بن ودعان، أبو نصر الموصلي القاضي، قدم بغداد سنة ثلاث وتسعين، وحدث عن عمه بالاربعين الودعانية، وقد سرقها عمه أبو الفتح بن ودعان من زيد بن رفاعة الهاشمي، فركب لها أسانيد إلى من بعد زيد بن رفاعة، وهي موضوعة كلها، وإن كان في بعضها معان صحيحة والله أعلم.
محمد بن منصور أبو سعد المستوفي شرف الملك الخوارزمي، جليل القدر، وكان متعصبا لاصحاب أبي حنيفة، ووقف لهم مدرسة بمرو، ووقف فيها كتبا كثيرة، وبنى مدرسة ببغداد عند باب الطاق، وبنى القبة على قبر أبي حنيفة، وبنى أربطة في المفاوز، وعمل خيرا كثيرا، وكان من آكل الناس مأكلا ومشربا، وأحسنهم ملبسا، وأكثرهم مالا، ثم نزل العمالة بعد هذا كله، وأقبل على العبادة والاشتغال بنفسه إلى أن مات.
محمد بن منصور القسري (1) المعروف بعميد خراسان، قدم بغداد أيام طغرلبك وحدث عن أبي حفص عمر بن أحمد بن مسرور، وكان كثير الرغبة في الخير، وقف بمرو مدرسة على أبي بكر بن أبي المظفر السمعاني وورثته.
__________
(1) في الوافي بالوفيات 5 / 74: النسوي.

قال ابن الجوزي: فهم يتولونها إلى الآن، وبنى بنيسابور مدرسة، وفيها تربته.
وكانت وفاته في شوال من هذه السنة.
نصر بن أحمد ابن عبد الله بن البطران (1) الخطابي البزار القارئ.
ولد سنة ثمان وتسعين وثلثمائة، وسمع
الكثير وتفرد عن ابن رزقويه وغيره، وطال عمره، ورحل إليه من الآفاق، وكان صحيح السماع.
ثم دخلت سنة خمس وتسعين وأربعمائة في ثالث المحرم منها قبض على أبي الحسن علي بن محمد المعروف بالكيا الهراسي، وعزل عن تدريس النظامية، وذلك أنه رماه بعضهم عند السلطان بأنه باطني، فشهد له جماعة من العلماء - منهم ابن عقيل - ببراءته من ذلك، وجاءت الرسالة من دار الخلافة يوم الثلاثاء بخلاصه.
وفيها في يوم الثلاثاء الحادي عشر من المحرم جلس الخليفة المستظهر بدار الخلافة وعلى كتفيه البردة والقضيب بيده، وجاء الملكان الاخوان محمد وسنجر أبناه ملكشاه، فقبلا الارض وخلع عليهما الخلع السلطانية، على محمد سيفا وطوقا وسوار لؤلؤ وأفراسا من مراكبه، وعلى سنجر دون ذلك، وولى السلطان محمد الملك، واستنابه في جميع ما يتعلق بأمر الخلافة، دون ما أغلق عليه الخليفة بابه، ثم خرج السلطان محمد في تاسع عشر الشهر فأرجف الناس، وخرج بركيارق فأقبل السلطان محمد فالتقوا وجرت حروب كثيرة وانهزم محمد وجرى عليه مكروه شديد، كما سيأتي بيانه.
وفي رجب منها قبل القاضي أبو الحسن بن الدامغاني شهادة أبي الحسين وأبي حازم ابني القاضي أبي يعلى بن الفراء.
وفيها قدم عيسى بن عبد الله القونوي فوعظ الناس وكان شافعيا أشعريا، فوقعت فتنة بين الحنابلة والاشعرية ببغداد.
وفيها وقع حريق عظيم ببغداد، وحج بالناس حميد العمري صاحب سيف الدولة صدقة بن منصور بن دبيس، صاحب الحلة.
أبو القاسم صاحب مصر الخليفة الملقب بالمستعلي، في ذي الحجة (2) منها، وقام بالامر بعده ابنه علي (3) وله تسع سنين (4)، ولقب بالآمر بأحكام الله.
__________
(1) في الكامل 10 / 327: البطر ; وفي شذرات الذهب 3 / 402: النظر البزاز.
(2) في الكامل 10 / 328: لسبع عشرة خلت من صفر (تاريخ أبي الفداء 2 / 214).
(3) في بدائع الزهور 1 / 1 / 221 والكامل 10 / 328 تاريخ أبي الفداء 2 / 215: أبي علي المنصور.
(4) في الكامل: مولده سنة تسعين وأربعمائة.
وبويع له وله خمس سنين وشهر وأربعة أيام.

محمد بن هبة الله أبو نصر القاضي البندنيجي الضرير الفقيه الشافعي، أخذ عن الشيخ أبي إسحاق ثم جاور بمكة أربعين سنة، يفتي ويدرس ويروي الحديث ويحج، ومن شعره قوله: عدمتك نفسي ما تملي بطالتي * وقد مر أصحابي وأهل مودتي أعاهد ربي ثم أنقض عهده * وأترك عزمي حين تعرض شهوتي وزادي قليل ما أراه مبلغي * أللزاد أبكي أم لبعد مسافتي ؟ ثم دخلت سنة ست وتسعين وأربعمائة فيها حاصر السلطان بركيارق أخاه محمدا بأصبهان، فضاقت على أهلها الارزاق، واشتد الغلاء عندهم جدا، وأخذ السلطان محمد أهلها بالمصادرة والحصار حولهم من خارج البلد، فاجتمع عليهم الخوف والجوع، ونقص من الاموال والانفس والثمرات، ثم خرج السلطان محمد من أصبهان هاربا فأرسل أخوه في أثره مملوكه إياز، فلم يتمكن من القبض عليه، ونجا بنفسه سالما.
قال ابن الجوزي: وفي صفر منها زيد في ألقاب قاضي القضاة أبي الحسن بن الدامغاني تاج الاسلام.
وفي ربيع الاول قطعت الخطبة للسلاطين ببغداد، واقتصر على ذكر الخليفة فيها، والدعاء له، ثم التقى الاخوان بركيارق ومحمد، فانهزم محمد أيضا ثم اصطلحا.
وفيها ملك دقاق بن تتش صاحب دمشق مدينة الرحبة.
وفيها قتل أبو المظفر الخجندي الواعظ بالري، وكان فقيها شافعيا مدرسا، قتله رافضي علوي في الفتنة، وكان عالما فاضلا، كان نظام الملك يزوره ويعظمه.
وحج بالناس خمارتكين.
وممن توفي فيها من الاعيان..أحمد بن علي ابن عبد الله بن سوار، أبو طاهر المقري، صاحب المصنفات في علوم القرآن، كان ثقة ثبتا
مأمونا عالما بهذا الشأن، قد جاوز الثمانين.
أبو المعالي أحد الصلحاء الزهاد، ذوي الكرامات والمكاشفات، وكان كثير العبادة متقللا من الدنيا، لا يلبس صيفا ولا شتاء إلا قميصا واحدا، فإذا اشتد البرد وضع على كتفه مئزرا، وذكر أنه أصابته فاقة

شديدة في شهر رمضان، فعزم على الذهاب إلى بعض الاصحاب ليستقرض منه شيئا، قال: فبينما أنا أريده إذا بطائر قد سقط على كتفي، وقال يا أبا المعالي أنا الملك الفلاني، لا تمض إليه نحن نأتيك به، قال فبكر إلى الرجل.
رواه ابن الجوزي في منتظمه من طرق عدة، كانت وفاته في هذه السنة، ودفن قريبا من قبر أحمد.
السيدة بنت القائم بأمر الله أمير المؤمنين التي تزوجها طغرلبك، ودفنت بالرصافة، وكانت كثيرة الصدقة، وجلس لعزائها في بيت النوبة الوزير، والله أعلم.
ثم دخلت سنة سبع وتسعين وأربعمائة فيها قصد الفرنج لعنهم الله الشام فقاتلهم المسلمون فقتلوا من الفرنج اثني عشر ألفا، ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا، وقد أسر في هذه الوقعة بردويل صاحب الرها.
وفيها سقطت منارة واسط وقد كانت من أحسن المنائر، كان أهل البلد يفتخرون بها وبقبة الحجاج، فلما سقطت سمع لاهل البلد بكاء وعويل شديد، ومع هذا لم يهلك بسببها أحد، وكان بناؤها في سنة أربع وثلاثمائة في زمن المقتدر.
وفيها تأكد الصلح بين الاخوين السلطانين بركيارق ومحمد، وبعث إليه بالخلع وإلى الامير إياز.
وفيها أخذت مدينة عكا وغيرها من السواحل.
وفيها استولى الامير سيف الدولة صدقة بن منصور صاحب الحلة على مدينة واسط.
وفيها توفي الملك دقاق بن تتش صاحب دمشق، فأقام مملوكه طغتكين ولدا له صغيرا مكانه، وأخذ البيعة له، وصار هو أتابكه بدير المملكة مدة بدمشق.
وفيها عزل السلطان سنجر وزيره أبا الفتح الطغرائي ونفاه إلى غزنة.
وفيها ولي أبو
نصر نظام الحضريين ديوان الانشاء وفيها قتل الطبيب الماهر الحاذق أبو نعيم (1)، وكانت له إصابات عجيبة.
وحج بالناس فيها الامير خمارتكين.
وممن توفي فيها من الاعيان..أزدشير بن منصور أبو الحسن العبادي الواعظ، تقدم أنه قدم بغداد فوعظ بها فأحبته العامة في سنة ست وثمانين وقد كانت له أحوال جيدة فيما يظهر والله أعلم.
__________
(1) وهو أبو نعيم بن ساوة الطبيب الواسطي.

إسماعيل بن محمد ابن أحمد بن عثمان، أبو الفرج القومساني، من أهل همدان، سمع من أبيه وجده، وكان حافظا حسن المعرفة بالرجال وأنواع الفنون، مأمونا.
العلا بن الحسن بن وهب ابن الموصلايا، سعد الدولة، كاتب الانشاء ببغداد، وكان نصرانيا فأسلم في سنة أربع وثمانين فمكت في الرياسة مدة طويلة، نحوا من خمس وستين سنة، وكان فصيح العبارة، كثير الصدقة، وتوفي عن عمر طويل.
محمد بن أحمد بن عمر أبو عمر النهاوندي.
قاضي البصرة مدة طويلة، وكان فقيها، سمع من أبي الحسن الماوردي وغيره مولده في سنة سبع، وقيل تسع، وأربعمائة والله أعلم.
ثم دخلت سنة ثمان وتسعين وأربعمائة فيها توفي السلطان بركيارق وعهد إلى ولده الصغير ملكشاه، وعمره أربع سنين وشهورا (1)، وخطب له ببغداد، ونثر عند ذكره الدنانير والدراهم، وجعل أتابكه الامير إياز ولقب جلال الدولة، ثم جاء السلطان محمد إلى بغداد فخرج إليه أهل الدولة ليتلقوه وصالحوه، وكان الذي أخذ البيعة
بالصلح الكيا الهراسي، وخطب له بالجانب الغربي، ولابن أخيه بالجانب الشرقي، ثم قتل الامير إياز وحملت إليه الخلع والدولة والدست، وحضر الوزير سعد الدولة عند الكيا الهراسي، في درس النظامية، ليرغب الناس في العلم، وفي ثامن رجب أزيل الغيار عن أهل الذمة الذين كانوا ألزموه في سنة أربع وثمانين وأربعمائة، ولا يعرف ما سبب ذلك.
وفيها كانت حروب كثيرة ما بين المصريين والفرنج، فقتلوا من الفرنج خلقا كثيرا، ثم أديل عليهم الفرنج فقتلوا منهم خلقا.
وممن توفي فيها من الاعيان..السلطان بركيارق بن ملكشاه ركن الدولة السلجوقي، جرت له خطوب طويلة وحروب هائلة، خطب له ببغداد ست
__________
(1) في الكامل 10 / 380: وثمانية أشهر.
وفي العبر لابن خلدون 3 / 491: خمس سنين.

مرات، ثم تنقطع الخطبة له ثم تعاد، مات وله من العمر أربع وعشرون سنة وشهور (1)، ثم قام من بعده ولده ملكشاه، فلم يتم له الامر بسبب عمه محمد.
عيسى بن عبد الله القاسم أبو الوليد الغزنوي الاشعري، كان متعصبا للاشعري، خرج من بغداد قاصدا لبلده فتوفي باسفرايين.
محمد بن أحمد بن إبراهيم ابن سلفة الاصبهاني، أبو أحمد، كان شيخا عفيفا ثقة، سمع الكثير، وهو والد الحافظ أبي طاهر السلفي الحافظ.
أبو علي الخيالي (2): الحسين بن محمد ابن أحمد الغساني الاندلسي، مصنف تقييد المهمل على الالفاظ، وهو كتاب مفيد كثير النفع وكان حسن الخط عالما باللغة والشعر والادب، وكان يسمع في جامع قرطبة، توفي ليلة الجمعة لثنتي عشرة خلت من شعبان، عن إحدى وسبعين سنة.
محمد بن علي بن الحسن بن أبي الصقر أبو الحسن الواسطي، سمع الحديث وتفقه بالشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وقرأ الادب وقال الشعر.
من ذلك قوله: من قال لي جاه ولي حشمة * ولي قبول عند مولانا ولم يعد ذاك بنفع على * صديقه لا كان ما كانا ثم دخلت سنة تسع وتسعين وأربعمائة في المحرم منها ادعى رجل النبوة بنواحي نهاوند، وسمى أربعة من أصحابه بأسماء الخلفاء
__________
(1) في الكامل 10 / 381: خمسا وعشرين سنة.
(تاريخ أبي الفداء 2 / 218).
(2) في تذكرة الحفاظ ص 1233 ووفيات الاعيان 2 / 180 والصلة ص 141: الجياني ; والجياني نسبة إلى جيان، وهي مدينة كبيرة بالاندلس..وقال ابن بشكوال: أن أبا علي لم يكن من جيان وإنما أصلهم من الزهراء، وانتقل أبوه في الفتنة البربرية (حوالي 400) إلى جيان.

الاربعة فاتبعه على ضلالته خلق من الجهلة الرعاع، وباعوا أملاكهم ودفعوا أثمانها إليه، وكان كريما يعطي من قصده ما عنده، ثم إنه قتل بتلك الناحية.
ورام رجل آخر من ولد ألب أرسلان بتلك الناحية الملك فلم يتم أمره، بل قبض عليه في أقل من شهرين، وكانوا يقولون ادعى رجل النبوة وآخر الملك، فما كان بأسرع من زوال دولتهما.
وفي رجب منها زادت دجلة زيادة عظيمة، فأتلفت شيئا كثيرا من الغلات، وغرقت دور كثيرة ببغداد.
وفيها كسر طغتكين أتابك عساكر دمشق الفرنج، وعاد مؤيدا منصورا إلى دمشق، وزينت البلد زينة عجيبة مليحة، سرورا بكسره الفرنج.
وفيها في رمضان منها حاصر الملك رضوان بن تتش صاحب حلب مدينة نصيبين، وفيها ورد إلى بغداد ملك من الملوك وصحبته رجل يقال له: الفقيه، فوعظ الناس في جامع القصر.
وحج بالناس رجل من أقرباء الامير سيف الدولة صدقة.
وممن توفي فيها من الاعيان..أبو الفتح الحاكم سمع الحديث من البيهقي وغيره، وعلق عن القاضي حسين طريقه وشكره في ذلك، وكان قد تفقه أولا على الشيخ أبي علي السنجي، ثم تفقه وعلق عن إمام الحرمين في الاصول بحضرته، واستجاده وولي بلده مدة طويلة، وناظر، ثم ترك ذلك كله وأقبل على العبادة وتلاوة القرآن.
قال ابن خلكان: وبنى للصوفية رباطا من ماله، ولزم التعبد إلى أن مات في مستهل المحرم من هذه السنة.
محمد بن أحمد ابن محمد بن علي بن عبد الرزاق، أبو منصور الخياط (1)، أحد القراء والصلحاء، ختم ألوفا من الناس، وسمع الحديث الكثير، وحين توفي اجتمع العالم في جنازته اجتماعا لم يجتمع لغيره مثله، ولم يعهد له نظير في تلك الازمان.
وكان عمره يوم توفي سبعا وتسعين سنة رحمه الله، وقد رثاه الشعراء، ورآه بعضهم في المنام فقال له: ما فعل بك ربك ؟ فقال: غفر لي بتعليمي الصبيان الفاتحة.
__________
(1) من الكامل 10 / 415، وفي الاصل: الحناط.

محمد بن عبيد الله بن الحسن ابن الحسين، أبو الفرج البصري قاضيها، سمع أبا الطيب الطبري والماوردي وغيرهما ورحل في طلب الحديث، وكان عابدا خاشعا عند الذكر.
مهارش بن مجلي أمير العرب بحديثة عانة، وهو الذي أودع عنده القائم بأمر الله، حين كانت فتنة البساسيري، فأكرم الخليفة حين ورد عليه، ثم جازاه الخليفة الجزاء الاوفى، وكان الامير مهارش هذا كثير الصدقة والصلاة، توفي في هذه السنة عن ثمانين سنة رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة خمسمائة من الهجرة
قال أبو داود في سننه: حدثنا حجاج بن إبراهيم، حدثنا ابن وهب، حدثني معاوية بن صالح، عن عبد الرحمن بن جبير، عن أبيه، عن أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لن يعجز الله هذه الامة من نصف يوم " (1).
حدثنا عمرو بن عثمان، حدثنا أبو المغيرة: حدثني صفوان، عن شريح بن عبيد، عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إني لارجو أن لا يعجز أمتي عند ربها أن يؤخرها نصف يوم.
قيل لسعد: وكم نصف يوم ؟ قال: خمسمائة سنة " (2).
وهذا من دلائل النبوة.
وذكر هذه المدة لا ينفي زيادة عليها، كما هو الواقع، لانه عليه السلام ذكر شيئا من أشراط الساعة لا بد من وقوعها كما أخبر سواء بسواء.
وسيأتي ذكرها فيما بعد زماننا، وبالله المستعان.
ومما وقع في هذه السنة من الحوادث أن السلطان محمد بن ملكشاه حاصر قلاعا كثيرة من حصون الباطنية، فافتتح منها أماكن كثيرة، وقتل خلقا منهم، منها قلعة حصينة كان أبوه قد بناها بالقرب من أصبهان (3)، في رأس جبل منيع هناك، وكان سبب بنائه لها أنه كان مرة في بعض صيوده فهرب منه كلب فاتبعه إلى رأس الجبل فوجده، وكان معه رجل من رسل الروم، فقال الرومي: لو كان هذا الجبل ببلادنا لاتخذنا عليه قلعة، فحدا هذا الكلام السلطان إلى أن ابتنى في رأسه قلعة أنفق عليها ألف ألف دينار، ومائتي ألف دينار، ثم استحوذ عليها بعد ذلك رجل من الباطنية يقال له
__________
(1) أخرجه أبو داود في السنن - كتاب الملاحم - باب (18).
(2) أخرجه أبو داود في الملاحم باب (18).
وأحمد في المسند: 1 / 170، 4 / 193.
(3) وهي قلعة: شاه دز، وكان صاحبها أحمد بن عبد الملك بن عطاش.

أحمد بن عبد الله بن عطاء (1)، فتعب المسلمون بسببها، فحاصرها ابنه السلطان محمد سنة حتى افتتحها، وسلخ هذا الرجل وحشى جلده تبنا وقطع رأسه، وطاف به في الاقاليم، ثم نقض هذه القلعة حجرا حجرا، وألقت امرأته نفسها من أعلى القلعة فتلفت، وهلك ما كان معها من الجواهر النفيسة، وكان الناس يتشاءمون بهذه القلعة، يقولون: كان دليلها كلبا، والمشير بها كافرا،
والمتحصن بها زنديقا.
وفيها وقعت حروب كثيرة بين بني خفاجة وبين بني عبادة، فقهرت عبادة خفاجة وأخذت بثأرها المتقدم منها، وفيها استحوذ سيف الدولة صدقة على مدينة تكريت بعد قتال كثير.
وفيها أرسل السلطان محمد الامير جاولي سقاوو إلى الموصل وأقطعه إياها، فذهب فانتزعها من الامير جكرمش بعد ما قاتله وهزم أصحابه وأسره، ثم قتله بعد ذلك ; وقد كان جكرمش من خيار الامراء سيرة وعدلا وإحسانا، ثم أقبل قلج أرسلان بن قتلمش فحاصر الموصل فانتزعها من جاولي، فصار جاولي إلى الرحبة، فأخذها ثم أقبل إلى قتال قلج فكسره وألقى قلج نفسه في النهر الذي للخابور فهلك.
وفيها نشأت حروب بين الروم والفرنج فاقتتلوا قتالا عظيما ولله الحمد، وقتل من الفريقين طائفة كبيرة، ثم كانت الهزيمة على الفرنج لله الحمد رب العالمين.
قتل فخر الملك أبو المظفر وفي يوم عاشوراء منها قتل فخر الملك أبو المظفر بن نظام الملك، وكان أكبر أولاد أبيه، وهو وزيره السلطان سنجر بنيسابور، وكان صائما، قتله باطني، وكان قد رأى في تلك الليلة الحسين بن علي وهو يقول له: عجل إلينا وأفطر عندنا الليلة، فأصبح متعجبا، فنوى الصوم ذلك اليوم، وأشار إليه بعض أصحابه أن لا يخرج ذلك اليوم من المنزل، فما خرج إلا في آخر النهار فرأى شابا يتظلم وفي يده رقعة فقال: ما شأنك ؟ فناوله الرقعة فبينما هو يقرأها إذ ضربه بخنجر بيده فقتله، فأخذ الباطني فرفع إلى السلطان فقرره فأقر على جماعة من أصحاب الوزير أنهم أمروه بذلك، وكان كاذبا، فقتل وقتلوا أيضا.
وفي رابع عشر صفر عزل الخليفة الوزير أبا القاسم علي بن جهير وخرب داره التي كان قد بناها أبوه، من خراب بيوت الناس، فكان في ذلك عبرة وموعظة لذوي البصائر والنهي، واستنيب في الوزارة القاضي أبو الحسن الدامغاني، ومعه آخر.
وحج بالناس فيها الامير تركمان واسمه أليرن، من جهة الامير محمد بن ملكشاه.
وفيها توفي من الاعيان..
__________
(1) تقدم أنه أحمد بن عبد الملك بن عطاش.

أحمد بن محمد بن المظفر أبو المظفر الخوافي الفقيه الشافعي.
قال ابن خلكان: كان أنظر أهل زمانه، تفقه على إمام الحرمين، وكان أوجه تلامذته، وقد ولي القضاء بطوس ونواحيها، وكان مشهورا بحسن المناظرة وإفحام الخصوم.
قال والخوافي بفتح الخاء والواو نسبة إلى خواف، ناحيه من نواحي نيسابور.
جعفر بن محمد ابن الحسين بن أحمد بن جعفر السراج، أبو محمد القاري البغدادي، ولد سنة ست عشرة وأربعمائة، وقرأ القرآن بالروايات، وسمع الكثير من الاحاديث النبويات، من المشايخ والشيخات في بلدان متباينات، وقد خرج له الحافظ أبو بكر الخطيب أجزاء مسموعاته، وكان صحيح الثبت، جيد الذهن، أديبا شاعرا، حسن النظم، نظم كتابا في القراءات، وكتاب التنبيه والخرقي وغير ذلك، وله كتاب مصارع العشاق وغير ذلك، ومن شعر قوله: قتل الذين بجهلهم * أضحوا يعيبون المحابر والحاملين لها من ال * أيدي بمجتمع الاساور لولا المحابر والمقا * لم والصحائف والدفاتر والحافظون شريعة ال * مبعوث من خير العشائر والناقلون حديثه عن * كابر ثبت وكابر لرأيت من بشع الضلا * ل عساكرا تتلو عساكر كل يقول بجهله * والله للمظلوم ناصر سميتهم أهل الحديث * أولي النهي وأولي البصائر هم حشو جنات النعيم * على الاسرة والمنابر رفقاء أحمد كلهم * عن حوضه ريان صادر
وذكر له ابن خلكان أشعارا رائقة منها قوله: ومدع شرخ الشباب وقد * عممه الشيب على وفرته يخضب بالوشمة عثنونه * يكفيه أن يكذب في لحيته عبد الوهاب بن محمد ابن عبد الوهاب بن عبد الواحد بن محمد الشيرازي الفارسي، سمع الحديث الكثير، وتفقه

وولاه نظام الملك تدريس النظامية ببغداد، في سنة ثلاث وثمانين، فدرس بها مدة، وكان يملي الاحاديث، وكان كثير التصحيف، روى مرة حديث " صلاة في إثر صلاة كتاب في عليين ".
فقال: كتاب في غلس.
ثم أخذ يفسر ذلك بأنه أكثر لاضاءتها.
محمد بن إبراهيم ابن عبيد الاسدي الشاعر، لقي الخنيسي التهامي، وكان مغرما بما يعارض شعره، وقد أقام باليمن وبالعراق ثم بالحجاز ثم بخراسان، ومن شعره: قلت ثقلت إذ أتيت مرارا * قال ثقلت كاهلي بالايادي قلت طولت قال بل تطولت * قلت مزقت قال حبل ودادي يوسف بن علي أبو القاسم الزنجاني الفقيه، كان من أهل الديانة، حكى عن الشيخ أبي إسحاق الشيرازي عن القاضي أبي الطيب، قال: كنا يوما بجامع المنصور في حلقة فجاء شاب خراساني فذكر حديث أبي هريرة في المطر فقال الشاب: غير مقبول، فما استتم كلامه حتى سقطت من سقف المسجد حية فنهض الناس هاربين وتبعت الحية ذلك الشاب من بينهم، فقيل له تب تب.
فقال: تبت، فذهبت فلا ندري أين ذهبت.
رواها ابن الجوزي عن شيخه أبي المعمر الانصاري عن أبي القاسم هذا والله أعلم.
ثم دخلت سنة إحدى وخمسمائة من الهجرة
فيها جدد الخليفة الخلع على وزيره الجديد أبي المعالي هبة الله بن محمد بن المطلب، وأكرمه وعظمه.
وفي ربيع الآخر منها دخل السلطان محمد إلى بغداد فتلقاه الوزير والاعيان، وأحسن إلى أهلها، ولم يتعرض أحد من جيشه إلى شئ.
وغضب السلطان على صدقة بن منصور الاسدي صاحب الحلة وتكريت بسبب أنه آوى رجلا من أعدائه يقال له أبو دلف سرحان (1) الديلمي، صاحب ساوة، وبعث إليه ليرسله إليه فلم يفعل، فأرسل إليه جيشا فهزموا جيش صدقة.
وقد كان جيشه عشرين ألف فارس وثلاثين ألف راجل، وقتل صدقة في المعركة (2)، وأسر جماعة من رؤس
__________
(1) في الكامل لابن الاثير 10 / 441: سرخاب بن كيخسرو ; وفي تاريخ أبي الفداء: شرخاب.
(2) وكان عمره تسعا وخمسين سنة، وإمارته إحدى وعشرين سنة، وحمل رأسه إلى بغداد.
وأسر ابنه دبيس بن صدقة (الكامل 10 / 448).

أصحابه وأخذوا من زوجته خمسمائة ألف دينار، وجواهر نفيسة.
قال ابن الجوزي: وظهر في هذه السنة صبية عمياء تتكلم على أسرار الناس، وما في نفوسهم من الضمائر والنيات، وبالغ الناس في أنواع الحيل عليها ليعلموا حالها فلم يعلموا.
قال ابن عقيل: وأشكل أمرها على العلماء والخواص والعوام، حتى سألوها عن نقوش الخواتم المقلوبة الصعبة، وعن أنواع الفصوص وصفات الاشخاص وما في داخل البنادق من المشمع والطين المختلف، والخرق وغير ذلك فتخبر به سواء بسواء، حتى بالغ أحدهم ووضع يده على ذكره وسألها عن ذلك فقالت: يحمله إلى أهله وعياله.
وفيها قدم القاضي فخر الملك أبو عبيد علي (1) صاحب طرابلس إلى بغداد يستنفر المسلمين على الفرنج، فأكرمه السلطان غياث الدين محمد إكراما زائدا، وخلع عليه وبعث معه الجيوش الكثيرة لقتال الفرنج.
وممن توفي فهيا من الاعيان..تميم بن المعز بن باديس صاحب إفريقية، كان من خيار الملوك حلما وكرما، وإحسانا، ملك ستا وأربعين سنة (2).
وعمر تسعا وتسعين (3) سنة، وترك من البنين أنهد من مائة، ومن البنات ستين بنتا، وملك من بعده ولده يحيى، ومن أحسن ما مدح به الامير تميم قول الشاعر: أصح وأعلى ما سمعناه في الندا * من الخبر المروي منذ قديم أحاديث ترويها السيول عن الحيا * عن البحر عن كف الامير تميم صدقة بن منصور ابن دبيس بن علي بن مزيد الاسدي، الامير سيف الدولة، صاحب الحلة وتكريت وواسط وغيرها، كان كريما عفيفا ذا ذمام، ملجأ لكل خائف يأمن في بلاده، وتحت جناحه، وكان يقرأ الكتب المشكلة ولا يحسن الكتابة، وقد اقتنى كتبا نفيسة جدا، وكان لا يتزوج على امرأة قط، ولا يتسرى على سرية حفظا للذمام، ولئلا يكسر قلب أحد، وقد مدح بأوصاف جميلة كثيرة جدا.
قتل في بعض الحروب، قتله غلام اسمه برغش، وكان له من العمر تسع وخمسون سنة رحمه الله تعالى.
__________
(1) ذكره أبو الفداء في مختصره: أبو علي بن عمار، فخر الملك (وانظر الكامل 10 / 452).
(2) زيد في الكامل 10 / 451: وعشرة أشهر وعشرين يوما.
وفي البيان المغرب 1 / 303: نحو سبع وأربعين سنة وفي 304: ست وأربعين سنة وعشرة أشهر ونصفا.
(3) في الكامل 10 / 451: وسبعين.
انظر البيان المغرب 1 / 304.

ثم دخلت سنة ثنتين وخمسمائة في يوم الجمعة الثاني والعشرين من شعبان تزوج الخليفة المستظهر بالخاتون بنت ملكشاه أخت السلطان محمد، على صداق مائة ألف دينار، ونثر الذهب، وكتب العقد بأصبهان.
وفيها كانت الحروب الكثيرة بين الاتابك طغتكين صاحب دمشق وبين الفرنج.
وفيها ملك سعيد بن حميد العمري الحلة السيفية.
وفيها زادت دجلة زيادة كثيرة فغرقت الغلات فغلت الاسعار بسبب ذلك غلاء شديدا.
وحج بالناس الامير قيماز.
وممن توفي فيها من الاعيان..الحسن العلوي (1) أبو هاشم ابن رئيس همدان، وكان ذا مال جزيل، صادره السلطان في بعض الاوقات بتسعمائة (2) ألف دينار، فوزنها ولم يبع فيها عقارا ولا غيره.
الحسن بن علي أبو الفوارس بن الخازن، الكاتب المشهور بالخط المنسوب.
توفي في ذي الحجة منها.
قال ابن خلكان: كتب بيده خمسمائة ختمة، مات فجأة.
الروياني صاحب البحر عبد الواحد بن إسماعيل، أبو المحاسن الروياني، من أهل طبرستان، أحد أئمة الشافعية، ولد سنة خمس عشرة وأربعمائة، ورحل إلى الآفاق حتى بلغ ما وراء النهر، وحصل علوما جمة وسمع الحديث الكثير، وصنف كتبا في المذهب، من ذلك البحر في الفروع، وهو حافل كامل شامل للغرائب وغيرها، وفي المثل " حدث عن البحر ولا حرج " وكان يقول: لو احترقت كتب الشافعي أمليتها من حفظي، قتل ظلما يوم الجمعة، وهو يوم عاشوراء في الجامع بطبرستان، قتله رجل من أهلها رحمه الله.
قال ابن خلكان: أخذ الفقه عن ناصر المروزي وعلق عنه، وكان للروياني الجاه العظيم، والحرمة الوافرة، وقد صنف كتبا في الاصول والفروع، منها بحر المذهب، وكتاب مناصيص الامام الشافعي، وكتاب الكافي، وحلية المؤمن، وله كتب في الخلاف أيضا.
__________
(1) ذكره ابن الاثير في تاريخه: أبو هاشم زيد الحسني، العلوي رئيس همدان.
(2) في الكامل لابن الاثير 10 / 474: سبعمائة.

يحيى بن علي ابن محمد بن الحسن بن بسطام، الشيباني التبريزي، أبو زكريا، أحمد أئمة اللغة والنحو، قرأ على أبي العلاء وغيره، وتخرج به جماعة منهم منصور بن الجواليقي.
قال ابن ناصر: وكان ثقة في النقل، وله المصنفات الكثيرة.
وقال ابن خيرون: لم يكن مرضى الطريقة، توفي في جمادى الآخرة
ودفن إلى جانب الشيخ أبي إسحاق الشيرازي بباب إبرز والله أعلم.
ثم دخلت سنة ثلاث وخمسمائة فيها أخذت الفرنج مدينة طرابلس وقتلوا من فيها من الرجال، وسبوا الحريم والاطفال ; وغنموا الامتعة والاموال، ثم أخذوا مدينة جبلة (1) بعدها بعشر ليال، فلا حول ولا قوة إلا بالله الكبير المتعال.
وقد هرب منهم فخر الملك بن عمار، فقصد صاحب دمشق طغتكين فأكرمه وأقطعه بلادا كثيرة.
وفيها وثب بعض الباطنية على الوزير أبي نصر بن نظام الملك فجرحه ثم أخذ الباطني فسقي الخمر فأقر على جماعة من الباطنية فأخذوا فقتلوا.
وحج بالناس الامير قيماز.
وممن توفي فيها من الاعيان..أحمد بن علي ابن أحمد، أبو بكر العلوي، كان يعمل في تجصيص الحيطان، ولا ينقش صورة، ولا يأخذ من أحد شيئا، وكانت له أملاك ينتفع منها ويتقوت، وقد سمع الحديث من القاضي أبي يعلى، وتفقه عليه بشئ من الفقه، وكان إذا حج يزور القبور بمكة، فإذا وصل إلى قبر الفضيل بن عياض يخط إلى جانبه خطا بعصاه ويقول يا رب ههنا.
فقيل إنه حج في هذه السنة فوقف بعرفات محرما فتوفي بها من آخر ذلك اليوم، فغسل وكفن وطيف به حول البيت ثم دفن إلى جانب الفضيل بن عياض في ذلك المكان الذي كان يخطه بعصاه، وبلغ الناس وفاته ببغداد فاجتمعوا للصلاة عليه صلاة الغائب، حتى لو مات بين أظهرهم لم يكن عندهم مزيد على ذلك الجمع، رحمه الله.
عمر بن عبد الكريم ابن سعدويه الفتيان (2) الدهقاني (3)، رحل في طلب الحديث، ودار الدنيا، وخرج
__________
(1) في الكامل 10 / 476 وتاريخ ابن خلدون 5 / 192: جبيل.
(2) في تذكرة الحفاظ ص 1237: أبو الفتيان، وفي معجم البلدان: أبو حفص.
(3) كذا بالاصل ; وفي معجم البلدان: الدهستاني (تذكرة الحفاظ ص 1237) والدهستاني: نسبة إلى دهستان وهي مدينة عند مازندران (معجم البلدان).

وانتخب، وكان له فقه في هذا الشأن، وكان ثقة، وقد صحح عليه أبو حامد الغزالي كتاب الصحيحين.
وكانت وفاته بسرخس في هذه السنة.
محمد ويعرف بأخي حماد وكان أحد الصلحاء الكبار، كان به مرض مزمن، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فعوفي، فلزم مسجدا له أربعين سنة، لا يخرج إلا إلى الجمعة، وانقطع عن مخالطة الناس، كانت وفاته في هذه السنة، ودفن في زاوية بالقرب من قبر أبي حنيفة رحمه الله.
ثم دخلت سنة أربع وخمسمائة في أولها تجهز جماعة من البغاددة من الفقهاء وغيرهم، ومنهم ابن الذاغوني، للخروج إلى الشام لاجل الجهاد، وقتال الفرنج، وذلك حين بلغهم أنهم فتحوا مدائن عديدة، من ذلك مدينة صيدا في ربيع الاول (1)، وكذا غيرها من المدائن، ثم رجع كثير منهم حين بلغهم كثرة الفرنج.
وفيها قدمت خاتون بنت ملكشاه زوجة الخليفة إلى بغداد فنزلت في دار أخيها السلطان محمد، ثم حمل جهازها على مائة واثنين وستين جملا، وسبعة وعشرين بلغلا، وزينت بغداد لقدومها، وكان دخولها على الخليفة في الليلة العاشرة من رمضان، وكانت ليلة مشهودة.
وفيها درس أبو بكر الشاشي بالنظامية مع التاجية، وحضر عنده الوزير والاعيان.
وحج بالناس قيماز، ولم يتمكن الخراسانيون من الحج من العطش وقلة الماء.
وممن توفي فيها من الاعيان..إدريس بن حمزة أبو الحسن (2) الشاشي الرملي العثماني، أحد فحول المناظرين عن مذهب الشافعي، تفقه أولا على نصر بن إبراهيم، ثم ببغداد على أبي إسحاق الشيرازي، ودخل خراسان حتى وصل إلى ما وراء النهر، وأقام بسمرقند ودرس بمدرستها إلى أن توفي فيها في هذه السنة.
علي بن محمد
ابن علي بن عماد الدين، أبو الحسن الطبري، ويعرف بالكيا الهراسي، أحد الفقهاء
__________
(1) في الكامل 10 / 479: الآخر.
(انظر تاريخ ابن خلدون 5 / 193 وتاريخ أبي الفداء 2 / 225).
(2) في الكامل: أبو الحسين، وهو من أهل الرملة بفلسطين.

الكبار، من رؤس الشافعية، ولد سنة خمسين وأربعمائة، واشتغل على إمام الحرمين، وكان هو والغزالي أكبر التلامذة، وقد ولي كل منهما تدريس النظامية ببغداد، وقد كان أبو الحسن هذا فصيحا جهوري الصوت جميلا، وكان يكرر لعن إبليس على كل مرقاة من مراقي النظامية بنيسابور سبع مرات، وكانت المراقي سبعين مرقاة، وقد سمع الحديث الكثير، وناظر وأفتى ودرس، وكان من أكابر الفضلاء وسادات الفقهاء، وله كتاب يرد فيه على ما انفرد به الامام أحمد بن حنبل في مجلد، وله غيره من المصنفات، وقد اتهم في وقت بأنه يمالئ الباطنية، فنزع منه التدريس ثم شهد جماعة من العلماء ببراءته من ذلك منهم ابن عقيل، فأعيد إليه.
توفي في يوم الخميس مستهل محرم من هذه السنة عن أربع وخمسين سنة ودفن إلى جانب الشيخ أبي إسحاق الشيرازي.
وذكر ابن خلكان: أنه كان يحفظ الحديث ويناظر به، وهو القائل: إذا جالت فرسان الاحاديث في ميادين الكفاح، طارت رؤوس المقاييس في مهاب الرياح، وحكى السلفي عنه: أنه استفتي في كتبة الحديثة هل يدخلون في الوصية للفقهاء ؟ فأجاب: نعم لقوله صلى الله عليه وسلم " من حفظ على أمتي أربعين حديثا بعثه الله عالما ".
واستفتي في يزيد بن معاوية فذكر عنه تلاعبا وفسقا، وجوز شتمه، وأما الغزالي فإنه خالف في ذلك، ومنع من شتمه ولعنه، لانه مسلم، ولم يثبت بأنه رضي بقتل الحسين، ولو ثبت لم يكن ذلك مسوغا للعنه، لان القاتل لا يلعن، لا سيما وباب التوبة مفتوح، والذي يقبل التوبة من عباده غفور رحيم.
قال الغزالي: وأما الترحم عليه فجائز، بل مستحب، بل نحن نترحم عليه في جملة المسلمين والمؤمنين، عموما في الصلوات.
ذكره ابن خلكان مبسوطا بلفظه في ترجمة الكيا هذا، قال: والكيا كبير القدر مقدم معظم والله أعلم.
ثم دخلت سنة خمس وخمسمائة.
فيها بعث السلطان غياث الدين جيشا كثيفا، صحبة الامير مودود بن زنكي صاحب الموصل، في جملة أمراء ونواب، منهم سكمان القطبي، صاحب تبريز، وأحمد يل صاحب مراغة، والامير إيلغازي صاحب ماردين (1)، وعلى الجميع الامير مودود صاحب الموصل، لقتال الفرنج بالشام، فانتزعوا من أيدي الفرنج حصونا كثيرة، وقتلوا منهم خلقا كثيرا ولله الحمد، ولما دخلوا دمشق دخل الامير مودود إلى جامعها ليصلي فيه فجاءه باطني في زي سائل فطلب منه شيئا فأعطاه، فلما اقترب منه ضربه في فؤاده فمات من ساعته (2)، ووجد رجل أعمى في سطح الجامع ببغداد معه
__________
(1) لم يشارك الامير إيلغازي في الجيش، بل سير ولده إياز وأقام هو.
(الكامل 10 / 485) وفي تاريخ ابن خلدون 5 / 194: إياز أخو أبي الغازي صاحب ماردين.
(2) قال ابن الاثير في تاريخه أن قتله كان سنة 507 ه في ربيع الاول، وفي رواية أخرى قال: وقيل خافه طغتكين فوضع عليه من قتله.
وهذا أيضا ما أشار إليه ابن خلدون 5 / 195.

سكين مسموم فقيل إنه كان يريد قتل الخليفة.
وفيها ولد للخليفة من بنت السلطان ولد فضربت الدبادب والبوقات، ومات له ولد وهكذا الدنيا فرضي بوفاته وجلس الوزير للهناء والعزاء.
وفي رمضان عزل الوزير أحمد بن النظام، وكانت مدة وزارته أربع سنين وإحدى عشر شهرا.
وفيها حاصرت الفرنج مدينة صور، وكانت بأيدي المصريين، عليها عز الملك الاعز من جهتهم، فقاتلهم قتالا شديدا، ومنعها منعا جيدا، حتى فني ما عنده من النشاب والعدد، فأمده طغتكين صاحب دمشق، وأرسل إليه العدد والآلات فقوي جأشه وترحلت عنه الفرنج في شوال منها.
وحج بالناس أمير الجيوش قطز الخادم، وكانت سنة مخصبة مرخصة.
وممن توفي فيها من الاعيان أبو حامد الغزالي.
محمد بن محمد بن محمد أبو حامد الغزالي (1)، ولد سنة خمسين وأربعمائة، وتفقه على إمام الحرمين، وبرع في علوم كثيرة، وله مصنفات منتشرة في فنون متعددة، فكان من أذكياء العالم في كل ما يتكلم فيه، وساد في
شبيبته حتى أنه درس بالنظامية ببغداد، في سنة اربع وثمانين، وله أربع وثلاثون سنة، فحضر عنده رؤس العلماء، وكان ممن حضر عنده أبو الخطاب وابن عقيل، وهما من رؤس الحنابلة، فتعجبوا من فصاحته واطلاعه، قال ابن الجوزي: وكتبوا كلامه في مصنفاتهم، ثم إنه خرج عن الدنيا بالكلية وأقبل على العبادة وأعمال الآخرة، وكان يرتزق من النسخ، ورحل إلى الشام فأقام بها بدمشق وبيت المقدس مدة، وصنف في هذه المدة كتابه إحياء علوم الدين، وهو كتاب عجيب، يشتمل على علوم كثيرة من الشرعيات، وممزوج بأشياء لطيفة من التصوف وأعمال القلوب، لكن فيه أحاديث كثيرة غرائب ومنكرات وموضوعات، كما يوجد في غيره من كتب الفروع التي يستدل بها على الحلال والحرام، فالكتاب الموضوع للرقائق والترغيب والترهيب أسهل أمرا من غيره، وقد شنع عليه أبو الفرج بن الجوزي، ثم ابن الصلاح، في ذلك تشنيعا كثيرا، وأراد المازري أن يحرق كتابه إحياء علوم الدين، وكذلك غيره من المغاربة، وقالوا: هذا كتاب إحياء علوم دينه، وأما ديننا فإحياء علومه كتاب الله وسنة رسوله، كما قد حكيت ذلك في ترجمته في الطبقات، وقد زيف ابن شكر مواضع إحياء علوم الدين، وبين زيفها في مصنف مفيد، وقد كان الغزالي يقول: أنا مزجي البضاعة في الحديث، ويقال إنه مال في آخر عمره إلى سماع الحديث والتحفظ للصحيحين، وقد صنف ابن الجوزي كتابا على الاحياء وسماه علوم (2) الاحيا بأغاليط الاحيا، قال ابن الجوزي: ثم
__________
(1) في الوافي بالوفيات 1 / 277: " قال في بعض مصنفاته: ونسبني قوم إلى الغزال، وإنما أنا الغزالي نسبة إلى قرية يقال لها غزالة.
بتخفيف الزاي ".
(2) في الوافي 1 / 275: إعلام.

ألزمه بعض الوزراء بالخروج إلى نيسابور فدرس بنظاميتها، ثم عاد إلى بلده طوس فأقام بها، وابتنى رباطا واتخذ دارا حسنة، وغرس فيها بستانا أنيقا، وأقبل على تلاوة القرآن وحفظ الاحاديث الصحاح، وكانت وفاته في يوم الاثنين الرابع عشر من جمادى الآخرة من هذه السنة، ودفن بطوس رحمه الله تعالى، وقد سأله بعض أصحابه وهو في السياق فقال: أوصني، فقال: عليك
بالاخلاص، ولم يزل يكررها حتى مات رحمه الله.
ثم دخلت سنة ست وخمسمائة في جمادى الآخرة منها جلس ابن الطبري مدرسا بالنظامية وعزل عنها الشاشي.
وفيها دخل الشيخ الصالح أحد العباد يوسف بن داود (1) إلى بغداد، فوعظ الناس، وكان له القبول التام، وكان شافعيا تفقه بالشيخ أبي إسحاق الشيرازي، ثم اشتغل بالعبادة والزهادة، وكانت له أحوال صالحة، جاراه رجل مرة يقال له ابن السقافي مسألة فقال له: اسكت فإني أجد من كلامك رائحة الكفر، ولعلك أن تموت على غير دين الاسلام، فاتفق بعد حين أنه خرج ابن السقا إلى بلاد الروم في حاجة، فتنصر هناك، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقام إليه مرة وهو يعظ الناس ابنا أبي بكر الشاشي فقالا له: إن كنت تتكلم على مذهب الاشعري وإلا فاسكت، فقال: لا متعتما بشبابكما، فماتا شابين، ولم يبلغا سن الكهولة.
وحج بالناس فيها أمير الجيوش بطز الخادم، ونالهم عطش.
وممن توفي فيها من الاعيان..صاعد بن منصور ابن إسماعيل بن صاعد، أبو العلاء الخطيب النيسابوري، سمع الحديث الكثير، وولي الخطابة بعد أبيه والتدريس والتذكير، وكان أبو المعالي الجويني يثني عليه، وقد ولي قضاء خوارزم.
محمد بن موسى بن عبد الله أبو عبد الله البلاساغوني (2) التركي الحنفي، ويعرف باللامشي، أورد عنه الحافظ ابن عساكر حديثا وذكر أنه ولي قضاء بيت المقدس، فشكوا منه فعزل عنها، ثم ولي قضاء دمشق، وكان غاليا في مذهب أبي حنيفة، وهو الذي رتب الاقامة مثنى، قال إلى أن أزال الله ذلك بدولة الملك صلاح
__________
(1) ذكره ابن الاثير في تاريخه باسم: يوسف بن أيوب الهمذاني، الواعظ.
(2) البلاساغوني: نسبة إلى بلاساغون، بلد في ثغور الترك وراء نهر سيحون قريب من كاشغر (معجم البلدان).

الدين.
قال: وكان قد عزم على نصب إمام حنفي بالجامع، فامتنع أهل دمشق من ذلك، وامتنعوا
من الصلاة خلفه، وصلوا بأجمعهم في دار الخيل، وهي التي قبل الجامع مكان المدرسة الامينية، وما يجاورها وحدها الطرقات الاربعة، وكان يقول: لو كانت لي الولاية لاخذت من أصحاب الشافعي الجزية، وكان مبغضا لاصحاب مالك أيضا.
قال: ولم تكن سيرته في القضاء محمودة، وكانت وفاته يوم الجمعة الثالث عشر من جمادى الآخرة منها.
قال: وقد شهدت جنازته وأنا صغير في الجامع.
المعمر بن المعمر أبو سعد بن أبي عمار (1) الواعظ، كان فصيحا بليغا ماجنا ظريفا ذكيا، له كلمات في الوعظ حسنة ورسائل مسموعة مستحسنة، توفي في ربيع الاول منها، ودفن بباب حرب.
أبو علي المعري كان عابدا زاهدا، يتقوت بأدنى شئ، ثم عن له أن يشتغل بعلم الكيمياء.
فأخذ إلى دار الخلافة فلم يظهر له خبر بعد ذلك.
نزهة أم ولد الخليفة المستظهر بالله، كانت سوداء محتشمة كريمة النفس، توفيت يوم الجمعة ثاني عشر شوال منها.
أبو سعد السمعاني (2) مصنف الانساب وغيره، وهو تاج الاسلام عبد الكريم بن محمد بن أبي المظفر المنصور عبد الجبار السمعاني، المروزي، الفقيه الشافعي، الحافظ المحدث، قوام الدين أحد الائمة المصنفين رحل وسمع الكثير حتى كتب عن أربعة آلاف شيخ، وصنف التفسير والتاريخ والانساب والذيل على تاريخ الخطيب البغدادي، وذكر له ابن خلكان مصنفات عديدة جدا، منها كتابه الذي جمع فيه ألف حديث عن مائة شيخ، وتكلم عليها إسنادا ومتنا، وهو مفيد جدا رحمه الله.
__________
(1) في الكامل 10 / 493: عمامة، وفي شذرات الذهب 4 / 14: عمارة (2) ذكره بن خلكان 3 / 209 قال ولادته كانت سنة ست وخمسمائة في 21 شعبان (تذكرة الحفاظ ص 1316) ومات سنة 562 ه بمرو، طبقات السبكي 4 / 259 عبر الذهبي 4 / 178 النجوم الزاهرة 5 / 563.
وإيراده هنا في وفيات
506 خطأ واضح.

ثم دخلت سنة سبع وخمسمائة فيها كانت وقعة عظيمة بين المسلمين والفرنج في أرض طبرية، كان فيها ملك دمشق الاتابك (1) طغتكين، ومعه صاحب سنجار وصاحب ماردين، وصاحب الموصل، فهزموا الفرنج هزيمة فاضحة، وقتلوا منهم خلقا كثيرا، وغنموا منهم أموالا جزيلة، وملكوا تلك النواحي كلها، ولله الحمد والمنة، ثم رجعوا إلى دمشق فذكر ابن الساعي في تاريخه مقتل الملك مودود صاحب الموصل في هذه السنة، قال صلى هو والملك طغتكين يوم الجمعة بالجامع ثم خرجا إلى الصحن ويد كل واحد منهما في يد الآخر فطفر باطني على مودود فقتله رحمه الله، فيقال إن طغتكين هو الذي مالا عليه فالله أعلم، وجاء كتاب من الفرنج إلى المسلمين وفيه: إن أمة قتلت عميدها في يوم عيدها في بيت معبودها لحقيق على الله أن يبيدها.
وفيها ملك حلب ألب أرسلان بن رضوان بن تتش بعد أبيه، وقام بأمر سلطنته لؤلؤ الخادم، فلم يبق معه سوى الرسم.
وفيها فتح المارستان الذي أنشأه كمشتكين الخادم ببغداد.
وحج بالناس زنكي بن برشق.
وممن توفي فيها من الاعيان..إسماعيل بن الحافظ أبي بكر بن الحسين البيهقي سمع الكثير وتنقل في البلاد، ودرس بمدينة خوارزم، وكان فاضلا من أهل الحديث، مرضى الطريقة، وكانت وفاته ببلده بيهق في هذه السنة.
شجاع بن أبي شجاع فارس بن الحسين بن فارس أبو غالب الذهلي الحافظ، سمع الكثير، وكان فاضلا في هذا الشأن وشرع في تتميم تاريخ الخطيب ثم غسله، وكان يكثر من الاستغفار والتوبة لانه كتب شعر ابن الحجاج سبع مرات، توفي في هذا العام عن سبع وسبعين سنة.
محمد بن أحمد
ابن محمد بن أحمد بن إسحاق بن الحسين بن منصور بن معاوية بن محمد بن عثمان بن عتبة بن
__________
(1) أتابك: مركبة من أتا ومعناها أب وبك معروفة.
وكان هذا اللقب يعطى لمن يفوضه السلطان تربية أحد أولاده الصغار، وكان الاتابك يدبر باسم الولد المدينة التي كانت العادة أن يوليها السلطان لابنه.
ثم توسعوا في معنى هذا اللقب ومنحوه لاول المتوظفين لامير الجيوش.
ثم صار السلطان يعطيه للعظماء كلقب شرف.

عنبسة بن معاوية بن أبي سفيان بن صخر بن حرب، الاموي أبو المظفر بن أبي العباس الابيوردي (1) الشاعر، كان عالما باللغة والانساب، سمع الكثير وصنف تاريخ أبي ورد، وأنساب العرب، وله كتاب في المؤتلف والمختلف، وغير ذلك، وكان ينسب إلى الكبر والتيه الزائد، حتى كان يدعو في صلاته: اللهم ملكني مشارق الارض ومغاربها، وكتب مرة إلى الخليفة الخادم المعاوي، فكشط الخليفة الميم فبقت العاوي، ومن شعره قوله: تنكر لي دهري ولم يدر أنني * أعز وأحداث الزمان تهون وظل يريني الدهر كيف اغتراره (2) * وبت أريه الصبر كيف يكون محمد بن طاهر ابن علي بن أحمد، أبو الفضل المقدسي الحافظ، ولد سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، وأول سماعه سنة ستين، وسافر في طلب الحديث إلى بلاد كثيرة، وسمع كثيرا، وكان له معرفة جيدة بهذه الصناعة، وصنف كتبا مفيدة، غير أنه صنف كتابا في إباحة السماع، وفي التصوف، وساق فيه أحاديث منكرة جدا، وأورد أحاديث صحيحة في غيره وقد أثنى على حفظه غير واحد من الائمة.
وذكر ابن الجوزي في كتابه هذا الذي سماه: " صفة التصوف " وقال عنه يضحك منه من رآه، قال وكان داودي المذهب، فمن أثنى عليه أثنى لاجل حفظه للحديث، وإلا فما يجرح به أولى.
قال: وذكره أبو سعد السمعاني وانتصر له بغير حجة، بعد أن قال سألت عنه شيخنا إسماعيل بن أحمد الطلحي فأكثر الثناء عليه، وكان سئ الرأي فيه.
قال وسمعنا أبا الفضل بن ناصر يقول: محمد بن طاهر لا يحتج به، صنف في جواز النظر إلى المرد، وكان يذهب مذهب الاباحية، ثم أورد
له من شعره قوله في هذه الابيات: دع التصوف والزهد الذي اشتغلت * به خوارج (3) أقوام من الناس وعج على دير داريا فإنه به الره * بان ما بين قسيس وشماس واشرب معتقة من كف كافرة * تسقيك خمرين من لحظ ومن كاس ثم استمع رنة الاوتار من رشأ * مهفهف طرفه أمضى من الماس غنى بشعر امرئ في الناس مشتهر * مدون عندهم في صدر قرطاس لولا نسيم بدا منكم (4) يروحني * لكنت محترقا من حر أنفاسي
__________
(1) الابيوردي نسبة إلى أبيورد، ويقال لها أبا ورد، وباورد وهي بلدة بخراسان.
(2) في الكامل 10 / 500: وظل يريني الخطب كيف اعتداؤه..(3) في الوافي 3 / 167: جوارح.
(4) في الوافي: بذكراكم.

ثم قال السمعاني: لعله قد تاب من هذا كله.
قال ابن الجوزي: وهذا غير مرضي أن يذكر جرح الائمة له ثم يعتذر عن ذلك باحتمال توبته، وقد ذكر ابن الجوزي أنه لما احتضر جعل يردد هذا البيت: وما كنتم تعرفون الجفا * فممن نرى قد تعلمتم ثم كانت وفاته بالجانب الغربي من بغداد في ربيع الاول منها.
أبو بكر الشاشي صاحب المستظهري محمد بن أحمد بن الحسين الشاشي، أحد أئمة الشافعية في زمانه، ولد في المحرم سنة سبع (1) وعشرين وأربعمائة، وسمع الحديث على أبي يعلى بن الفراء، وأبي بكر الخطيب، وأبي إسحاق الشيرازي، وتفقه عليه وعلى غيره، وقرأ الشامل على مصنفه ابن الصباغ، واختصره في كتابه الذي جمعه للمستظهر بالله، وسماه حلية العلماء بمعرفة مذاهب الفقهاء، ويعرف
بالمستظهري، وقد درس بالنظامية ببغداد ثم عزل عنها وكان ينشد: تعلم يا فتى والعود غض * وطينك لين والطبع قابل فحسبك يا فتى شرفا وفخرا * سكوت الحاضرين وأنت قائل توفي سحر يوم السبت السادس عشر من شوال منها، ودفن إلى جانب أبي إسحاق الشيرازي بباب إبرز.
المؤتمن بن أحمد ابن علي بن الحسين بن عبيد الله، أبو نصر الساجي المقدسي، سمع الحديث الكثير، وخرج وكان صحيح النقل، حسن الحظ، مشكور السيرة لطيفا، اشتغل في الفقه على الشيخ أبي إسحاق الشيرازي مدة، ورحل إلى أصبهان وغيرها، وهو معدود من جملة الحفاظ، لا سيما للمتون، وقد تكلم فيه ابن طاهر.
قال ابن الجوزي: وهو أحق منه بذلك، وأين الثريا من الثرى ؟ توفي المؤتمن يوم السبت ثاني عشر صفر منها، ودفن بباب حرب والله أعلم.
ثم دخلت سنة ثمان وخمسمائة فيها وقع حريق عظيم ببغداد.
وفيها كانت زلزلة هائلة بأرض الجزيرة، هدمت منها ثلاثة
__________
(1) في الوافي 2 / 73: تسع وعشرين.
(انظر وفيات الاعيان 3 / 221).

عشر برجا، ومن الرها بيوتا كثيرة، وبعض دور خراسان، ودورا كثيرة في بلاد شتى، فهلك من أهلها نحو من مائة ألف، وخسف بنصف قلعة حران وسلم نصفها، وخسف بمدينة سمسياط وهلك تحت الردم خلق كثير.
وفيها قتل صاحب تاج الدولة ألب أرسلان بن رضوان بن تتش، قتله غلمانه، وقام من بعده أخوه سلطان شاه بن رضوان.
وفيها ملك السلطان سنجر بن ملكشاه بلاد غزنة، وخطب له بها بعد مقاتلة عظيمة، وأخذ منها أموالا كثيرة لم ير مثلها، من ذلك خمس تيجان قيمة كل تاج منها ألف (1) ألف دينار، وسبعة عشر سريرا من ذهب وفضة، وألف وثلاثمائة قطعة مصاغ مرصعة، فأقام بها أربعين يوما، وقرر في ملكها بهرام شاه، رجل من بيت سبكتكين، ولم
يخطب بها لاحد من السلجوقية غير سنجر هذا، وإنما كان لها ملوك سادة أهل جهاد وسنة، لا يجسر أحد من الملوك عليهم، ولا يطيق أحد مقاومتهم، وهم بنو سبكتكين.
وفيها ولى السلطان محمد للامير آقسنقر البرسقي الموصل وأعمالها، وأمره بمقاتلة الفرنج، فقاتلهم في أواخر هذه السنة فأخذ منهم الرها وحريمها وبروج (2) وسميساط، ونهب ماردين وأسر ابن ملكها إياز إيلغازي، فأرسل السلطان محمد إليه من يتهدده ففر منه إلى طغتكين صاحب دمشق، فاتفقا على عصيان السلطان محمد، فجرت بينهما وبين نائب حمص قرجان بن قراجة حروب كثيرة، ثم اصطلحوا.
وفيها ملكت زوجة مرعش الافرنجية بعد وفاة زوجها لعنهما الله.
وحج بالناس فيها أمير الجيوش أبو الخير يمن الخادم، وشكر الناس حجهم معه.
ثم دخلت سنة تسع وخمسمائة فيها جهز السلطان غياث الدين محمد بن ملكشاه صاحب العراق جيشا كثيفا مع الامير برشق (3) بن إيلغازي صاحب ماردين إلى صاحب دمشق طغتكين، وإلى آقسنقر البرشقي ليقاتلهما، لاجل عصيانهما عليه، وقطع خطبته، وإذا فرغ منهما عمد لقتال الفرنج.
فلما اقترب الجيش من بلاد الشام هربا منه وتحيزا إلى الفرنج، وجاء الامير برشق إلى كفر طاب ففتحها عنوة، وأخذ ما كان فيها من النساء والذرية، وجاء صاحب إنطاكية روجيل في خمسمائة فارس وألفي راجل، فكبس المسلمين فقتل منهم خلقا كثيرا، وأخذ أموالا جزيلة وهرب برشق في طائفة قليلة، وتمزق الجيش الذي كان معه شذر مذر، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفي ذي القعدة منها قدم السلطان محمد إلى
__________
(1) في الكامل لابن الاثير 10 / 507: ألفي.
(2) في الكامل: سروج (وانظر تاريخ ابن خلدون 5 / 166: سروج وشمشاط).
(3) في تاريخ العبر 5 / 166: جهز العساكر مع الامير برسق (بن برسق) صاحب همذان..وأمرهم بغزو الفرنج بعد الفراغ من شأن أبي الغازي (إيلغازي) وطغركين (طغدكين: عند أبن العبري) (انظر الكامل 10 / 509 وتاريخ أبي الفداء 2 / 228).

بغداد، وجاء إلى طغتكين صاحب دمشق معتذرا إليه، فخلع عليه، ورضي عنه ورده إلى عمله وفيها توفي من الاعيان..إسماعيل بن محمد ابن أحمد بن علي أبو عثمان الاصبهاني أحد الرحالين في طلب الحديث، وقد وعظ في جامع المنصور ثلاثين مجلسا، واستملي عليه محمد بن ناصر، وتوفي بأصبهان.
منجب بن عبد الله المستظهري أبو الحسن الخادم، كان كثير العبادة، وقد أثنى عليه محمد بن ناصر، قال: وقف على أصحاب الحديث وقفا.
عبد الله بن المبارك ابن موسى، أبو البركات السقطي، سمع الكثير ورحل فيه، وكان فاضلا عارفا باللغة.
ودفن بباب حرب.
يحيى بن تميم بن المعز بن باديس صاحب إفريقية، كان من خيار الملوك، عارفا حسن السيرة محبا للفقراء والعلماء، وله عليهم أرزاق، مات وله اثنتان وخمسون سنة (1)، وترك ثلاثين ولدا، وقام بالامر من بعده ولده علي.
ثم دخلت سنة عشر وخمسمائة فيها وقع حريق ببغداد احترقت فيه دور كثيرة، منها دار نور الهدى الزينبي، ورباط نهر زور ودار كتب النظامية، وسلمت الكتب لان الفقهاء نقلوها.
وفيها قتل صاحب مراغة في مجلس السلطان محمد، قتله الباطنية، وفي يوم عاشوراء وقعت فتنة عظيمة بين الروافض والسنة بمشهد علي بن موسى الرضا بمدينة طوس، فقتل فيها خلق كثير.
وفيها سار السلطان إلى فارس بعد موت نائبها خوفا عليها من صاحب كرمان.
وحج بالناس بطز الخادم، وكانت سنة مخصبة آمنة ولله الحمد.
__________
(1) زيد في الكامل: وخمسة عشر يوما.
مات يوم الاضحى فجأة وكانت ولايته ثماني سنين ونصف السنة.

عقيل بن الامام أبي الوفا علي بن عقيل الحنبلي، كان شابا قد برع وحفظ القرآن وكتب وفهم المعاني جيدا، ولما توفي صبر أبوه وشكر وأظهر التجلد، فقرأ قارئ في العزاء [ قوله تعالى ]: (قالوا: يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا) [ يوسف: 78 ] الآية، فبكى ابن عقيل بكاء شديدا.
علي (1) بن أحمد بن محمد ابن الرزاز، آخر من حدث عن ابن مخلد بجزء الحسن بن عرفة، وتفرد بأشياء غيره.
توفي فيها عن سبع وتسعين سنة.
محمد بن منصور ابن محمد بن عبد الجبار، أبو بكر السمعاني، سمع الكثير وحدث ووعظ بالنظامية ببغداد، وأملى بمرو مائة وأربعين مجلسا، وكانت له معرفة تامة بالحديث، وكان أديبا شاعرا فاضلا، له قبول عظيم في القلوب، توفي بمرو عن ثلاث وأربعين سنة (2).
محمد بن أحمد بن طاهر ابن أحمد بن منصور الخازن، فقيه الامامية ومفتيهم بالكرخ، وقد سمع الحديث من التنوخي وابن غيلان، توفي في رمضان منها.
محمد بن علي بن محمد أبو بكر النسوي، الفقيه الشافعي، سمع الحديث، وكانت إليه تزكية الشهود ببغداد، وكان فاضلا أديبا ورعا.
__________
(1) ذكره ابن الاثير في تاريخه: علي بن محمد بن أحمد بن بيان الرزاز.
وما أثبتناه أصح.
(تذكرة الحفاظ ص 1261.
شذرات الذهب 4 / 27).
(2) ذكر في الوافي 5 / 75 أنه وفاته كانت في سنة 509 ه.
وقال ابن الاثير في تاريخه: ومولده سنة ست وأربعين وأربعمائة وهذا وهم منه إذ أخذنا ما قاله.
ولده في الذيل.
قال: ولد سنة ست وستين وأربعمائة وتوفي في صفر سنة
عشر وخمسمائة..

محفوظ بن أحمد ابن الحسن، أبو الخطاب الكلوذاني (1)، أحد أئمة الحنابلة ومصنفيهم، سمع الكثير وتفقه بالقاضي أبي يعلى، وقرأ الفرائض على الوني، ودرس وأفتى وناظر وصنف في الاصول والفروع، وله شعر حسن، وجمع قصيدة يذكر فيها اعتقاده ومذهبه يقول فيها: دع عنك تذكار الخليط المتحد (2) * والشوق نحو الآنسات الخرد والنوح في تذكار (3) سعدى إنما * تذكار سعدى شغل من لم يسعد واسمع معاني (4) إن أردت تخلصا * يوم الحساب وخذ بقولي تهتدي وذكر تمامها وهي طويلة، كانت وفاته في جمادى الآخرة من هذه السنة عن ثمان وسبعين سنة، وصلى عليه بجامع القصر، وجامع المنصور، ودفن بالقرب من الامام أحمد.
ثم دخلت سنة إحدى عشرة وخمسمائة في رابع (5) صفر منها انكسف القمر كسوفا كليا، وفي تلك الليلة هجم الفرنج على ربض حماه فقتلوا خلقا كثيرا، ورجعوا إلى بلادهم.
وفيها كانت زلزلة عظيمة ببغداد سقط منها دور كثيرة بالجانب الغربي وغلت الغلات بها جدا، وفيها قتل لؤلؤ الخادم الذي كان استحوذ على مملكة حلب بعد موت أستاذه رضوان بن تتش، قتله جماعة من الاتراك، وكان قد خرج من حلب متوجها إلى جعبر، فنادى جماعة من مماليكه وغيرهم أرنب، أرنب، فرموه بالنشاب موهمين أنهم يصيدون أرنبا فقتلوه.
وفيها كانت وفاة غياث الدين السلطان محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق، سلطان بلاد العراق وخراسان وغير ذلك من البلاد الشاسعة.
والاقاليم الواسعة.
كان من خيار الملوك وأحسنهم سيرة، عادلا رحيما، سهل الاخلاق، محمود العشرة، ولما حضرته الوفاة استدعى ولده محمودا وضمه إليه وبكى كل منهما، ثم أمره بالجلوس على سرير المملكة، وعمره إذ ذاك أربع عشرة (6) سنة، فجلس وعليه التاج والسواران وحكم، ولما توفي أبوه
صرف الخزائن إلى العساكر وكان فيها إحدى عشر ألف ألف دينار، واستقر الملك له، وخطب له
__________
(1) كذا بالاصل.
وفي معجم البلدان: الكلواذي ويقال الكلوذي الفقيه، وذكر وفاته سنة 515 ه.
(2) في المنهج الاحمد 2 / 234: المنجد.
(3) في المنهج الاحمد: أطلال.
(4) في المنهج الاحمد: مقالي...وخذ بهذا تهتدي.
(5) في الكامل: رابع عشر صفر.
(6) في الكامل: عمره قد زاد على أربع عشرة سنة.
وفي العبر لابن خلدون 3 / 494: وهو يومئذ غلام محتلم.

ببغداد وغيرها من البلاد، ومات السلطان محمد عن تسع وثلاثين سنة وأربعة أشهر وأياما (1).
وفيها ولد الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بن آقسنقر، صاحب حلب بدمشق.
وممن توفي فيها من الاعيان..القاضي المرتضى أبو محمد عبد الله بن القاسم بن المظفر بن علي بن القاسم الشهرزوري، والد القاضي جمال الدين عبد الله الشهرزوري، قاضي دمشق في أيام نور الدين، اشتغل ببغداد وتفقه بها، وكان شافعي المذهب، بارعا دينا، حسن النظم، وله قصيدة في علم التصوف، وكان يتكلم على القلوب، أورد قصيدته بتمامها ابن خلكان لحسنها وفصاحتها وأولها: لمعت نارها وقد عسعس اللي * ل ومل الحادي وحار الدليل فتأملتها وفكري من البي * ن عليل ولحظ عيني كليل وفؤادي ذاك الفؤاد المعنى * وغرامي ذاك الغرام الدخيل وله: يا ليل ما جئتكم زائرا * إلا وجدت الارض تطوى لي ولا ثنيت العزم عن بابكم * إلا تعثرت بأذيالي
وله: يا قلب إلى متى لا يفيد النصح * دع مزحك كم جنى عليك المزح ما جارحة منك غذاها (2) جرح * ما تشعر بالخمار حتى تصحو توفي في هذه السنة.
قال ابن خلكان: وزعم عماد الدين في الخريدة أنه توفي بعد العشرين وخمسمائة فالله أعلم.
محمد بن سعد (3) ابن نبهان، أبو علي الكاتب، سمع الحديث وروى وعمر مائة سنة وتغير قبل موته، وله شعر
__________
(1) في الكامل لابن الاثير 10 / 525: سبعا وثلاثين سنة وأربعة أشهر وستة أيام.
وفي الوافي 5 / 62: سبعا وثلاثين سنة وأشهرا.
(2) في الوفيات 3 / 51: عداها.
(3) في الوافي 3 / 104: سعيد.

حسن، فمنه قوله في قصيدة له: لي رزق قدره الله * نعم ورزق أتوقاه حتى إذا استوفيت منه * الذي قدر لي لا أتعداه قال كرام كنت أغشاهم * في مجلس كنت أغشاه صار ابن نبهان إلى ربه * يرحمنا الله وإياه أمير الحاج يمن بن عبد الله بن أبو الخير المستظهري، كان جوادا كريما ممدحا ذا رأي وفطنة ثاقبة، وقد سمع الحديث من أبي عبد الله الحسين بن طلحة النعالي بإفادة أبي نصر الاصبهاني، وكان يؤم به في الصلوات، ولما قدم رسولا إلى أصبهان حدث بها.
توفي في ربيع الآخر من هذه السنة ودفن بأصبهان
ثم دخلت سنة اثنتي عشرة وخمسمائة فيها خطب للسلطان محمد (1) بن ملكشاه بأمر الخليفة المستظهر بالله، وفيها سأل دبيس بن صدقة الاسدي من السلطان محمود أن يرده إلى الحلة وغيرها، مما كان أبوه يتولاه من الاعمال، فأجابه إلى ذلك، فعظم وارتفع شأنه.
وفاة الخليفة المستظهر بالله هو أبو العباس أحمد بن المقتدي، كان خيرا فاضلا ذكيا بارعا، كتب الخط المنسوب، وكانت أيامه ببغداد كأنها الاعياد، وكان راغبا في البر والخير، مسارعا إلى ذلك، لا يرد سائلا، وكان جميل العشرة لا يصغي إلى أقوال الوشاة من الناس، ولا يثق بالمباشرين، وقد ضبط أمور الخلافة جيدا، وأحكمها وعلمها، وكان لديه علم كثير، وله شعر حسن.
قد ذكرناه أولا عند ذكر خلافته، وقد ولي غسله ابن عقيل وابن السني، وصلى عليه ولده أبو منصور الفضل وكبر أربعا، ودفن في حجرة كان يسكنها، ومن العجب أنه لما مات السلطان ألب أرسلان مات بعده الخليفة القائم، ثم لما مات
__________
(1) تقدم أن السلطان محمد بن ملكشاه قد توفي سنة 511 وملك بعده ابنه محمود، وهو الذي أرسل إلى الخليفة المستظهر بالله يطلب أن يخطب له ببغداد، فخطب له في الجمعة ثالث عشر المحرم من سنة 512 ه.
أنظر الكامل 10 / 533 العبر 3 / 494.

السلطان ملكشاه مات بعده المقتدي، ثم لما مات السلطان محمد مات بعده المستظهر هذا، في سادس عشر (1) ربيع الآخر، وله من العمر إحدى وأربعون سنة، وثلاثة أشهر وأحد عشر يوما (2).
خلافة المسترشد أمير المؤمنين أبو منصور الفضل بن المستظهر: لما توفي أبوه كما ذكرنا بويع له بالخلافة، وخطب له على المنابر وقد كان ولي العهد من بعده مدة ثلاث وعشرين سنة، وكان الذي أخذ البيعة له قاضي القضاة أبو الحسن الدامغاني، ولما استقرت البيعة له هرب أخوه أبو الحسن في سفينة ومعه ثلاثة نفر، وقصد دبيس بن صدقة بن منصور بن دبيس بن علي بن مزيد الاسدي بالحلة، فأكرمه وأحسن إليه، فقلق
أخوه الخليفة المسترشد من ذلك، فراسل دبيسا في ذلك مع نقيب النقباء الزينبي، فهرب أخو الخليفة من دبيس فأرسل إليه جيشا فأ ؟ جأوه إلى البرية، فلحقه عطش شديد، فلقيه بدويان فسقياه ماء وحملاه إلى بغداد، فأحضره أخوه إليه فأعتنقا وتباكيا، وأنزله الخليفة دارا كان يسكنها قبل الخلافة، وأحسن إليه، وطيب نفسه، وكانت مدة غيبته عن بغداد إحدى عشر شهرا، واستقرت الخلافة بلا منازعة للمسترشد.
وفيها كان غلاء شديد ببغداد، وانقطع الغيث وعدمت الاقوات، وتفاقم أمر العيارين ببغداد، ونهبوا الدور نهارا جهارا، ولم يستطع الشرط دفع ذلك.
وحج بالناس في هذه السنة الخادم.
وممن توفي فيها من الاعيان..الخليفة المستظهر كما تقدم.
ثم توفيت بعده جدته أم أبيه المقتدي.
أرجوان الارمنية وتدعى قرة العين، كان لها بر كثير، ومعروف، وقد حجت ثلاث حجات، وأدركت خلافة ابنها المقتدي، وخلافة ابنه المستظهر، وخلافة ابنه المسترشد، ورأت للمسترشد ولدا.
__________
(1) في العبر 3 / 495: منتصف ربيع الآخر.
وفي مرآة الزمان 8 / 73: ليلة الخميس السادس والعشرين من ربيع الآخر، وفي العبر للذهبي 4 / 26: في الثالث والعشرين من ربيع الآخر ; وفي الوافي بالوفيات 7 / 115: ليلة الاحد سابع عشر شهر ربيع الآخر، وفي المنتظم 9 / 200: ليلة الخميس ثالث عشر ربيع الآخر (2) في الكامل 10 / 534: وستة أشهر وستة أيام ; وفي العبر 4 / 46: وله اثنتان وأربعون سنة.

بكر بن محمد بن علي ابن الفضل أبو الفضل الانصاري، روى الحديث، وكان يضرب به المثل في مذهب أبي حنيفة، وتفقه على عبد العزيز بن محمد الحلواني، وكان يذكر الدروس من أي موضع سئل من غير مطالعة ولا مراجعة، وربما كان في ابتداء طلبه يكرر المسألة أربعمائة مرة.
توفي في شعبان منها.
الحسين بن محمد بن عبد الوهاب (1) الزينبي، قرأ القرآن، وسمع الحديث، وتفقه على أبي عبد الله الدامغاني، فبرع وأفتى ودرس بمشهد أبي حنيفة، ونظر في أوقافها، وانتهت إليه رياسة مذهب أبي حنيفة، ولقب نور الهدى، وسار في الرسلية إلى الملوك، وولي نقابة الطالبيين والعباسيين، ثم استعفى بعد شهور فتولاها أخوه طراد.
توفي يوم الاثنين الحادي عشر من صفر، وله من العمر ثنتان وتسعون سنة، وصلى عليه ابنه أبو القاسم علي، وحضرت جنازته الاعيان والعلماء، ودفن عند قبر أبي حنيفة داخل القبة.
يوسف بن أحمد أبو طاهر ويعرف بابن الجزري، صاحب المخزن في أيام المستظهر، وكان لا يوفي المسترشد حقه من التعظيم وهو ولي العهد، فلما صارت إليه الخلافة صادره بمائة ألف دينار، ثم استقر غلاما له فأومأ إلى بيت فوجد فيه أربعمائة ألف دينار، فأخذها الخليفة ثم كانت وفاته بعد هذا بقليل بهذا العام.
أبو الفضل (2) بن الخازن كان أديبا لطيفا شاعرا فاضلا فمن شعره قوله: وافيت منزله فلم أر صاحبا (3) * إلا تلقاني بوجه ضاحك والبشر في وجه الغلام نتيجة (4) * لمقدمات ضياء وجه المالك ودخلت جنته وزرت جحيمه * فشكرت رضوانا ورأفة مالك
__________
(1) في الكامل 10 / 545: علي بن الحسن الزينبي، وفي تذكرة الحفاظ ص 1249: ابن علي الهاشمي الزينبي.
(2) وهو أحمد بن محمد بن الفضل بن عبد الخالق المعروف بابن الخازن ; أصله من دينور، بغدادي المولد والوفاة.
ترجمه في الوفيات 1 / 149 الوافي بالوفيات 8 / 78 المنتظم 9 / 204.
(3) في الوافي والوفيات: حاجبا..بسن ضاحك.
(4) في الوافي والوفيات: أمارة..لمقدمات حياء..

ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وخمسمائة
فيها كانت الحروب الشديدة بين السلطان محمود بن محمد وبين عمه السلطان سنجر بن ملكشاه وكان النصر فيها لسنجر، فخطب له ببغداد في سادس عشر (1) جمادى الاولى من هذه السنة، وقطعت خطبة ابن أخيه في سائر أعماله.
وفيها سارت الفرنج إلى مدينة حلب ففتحوها عنوة وملكوها، وقتلوا من أهلها خلقا، فسار إليهم صاحب ماردين إيلغازي بن أرتق في جيش كثيف، فهزمهم ولحقهم إلى جبل (2) قد تحصنوا به، فقتل منهم هنالك مقتلة عظيمة، ولله الحمد.
ولم يفلت منه إلا اليسير، وأسر من مقدميهم نيفا وتسعين (3) رجلا، وقتل فيمن قتل سيرجال صاحب إنطاكية، وحمل رأسه إلى بغداد، فقال بعض الشعراء في ذلك وقد بالغ مبالغة فاحشة: قل ما تشاء فقولك المقبول * وعليك بعد الخالق التعويل واستبشر القرآن حين نصرته * وبكى لفقد رجاله الانجيل وفيها قتل الامير منكوبرس الذي كان شحنة بغداد، وكان ظالما غاشما سئ السيرة، قتله لسلطان محمود بن محمد صبرا بين يديه لامور: منها أنه تزوج سرية أبيه قبل انقضاء عدتها، ونعم ما فعل وقد أراح الله المسلمين منه ما كان أظلمه وأغشمه.
وفيها تولى قضاء قضاة بغداد الاكمل أبو القاسم بن علي بن أبي طالب بن محمد الزينبي، وخلع عليه بعد موت أبي الحسن الدامغاني، وفيها ظهر قبر إبراهيم الخليل عليه السلام وقبر ولديه إسحاق ويعقوب، وشاهد ذلك الناس، لم تبل أجسادهم، وعندهم قناديل من ذهب وفضة، ذكر ذلك ابن الخازن في تاريخه، وأطال نقله من المنتظم لابن الجوزي والله أعلم.
وممن توفي فيها من الاعيان..ابن عقيل علي بن عقيل بن محمد، أبو الوفا شيخ الحنابلة ببغداد، وصاحب الفنون وغيرها من التصانيف المفيدة، ولد سنة إحدى وأربعمائة، وقرأ القرآن على ابن سبطا (4)، وسمع الحديث الكثير، وتفقه بالقاضي أبي يعلى بن الفراء، وقرأ الادب على ابن برهان، والفرائض على عبد الملك
__________
(1) في الكامل 10 / 552: السادس والعشرين.
(2) في تل يقال له تل عفرين.
(3) في الكامل: وسبعون.
(3) في شذرات الذهب 4 / 36: أبي الفتح بن شيطا.
(المنهج الاحمد 2 / 252).

الهمداني، والوعظ على أبي طاهر بن العلاف، صاحب ابن سمعون، والاصول على أبي الوليد المعتزلي، وكان يجتمع بجميع العلماء من كل مذهب، فربما لامه بعض أصحابه فلا يلوي عليهم، فلهذا برز على أقرانه وساد أهل زمانه في فنون كثيرة، مع صيانة وديانة وحسن صورة وكثرة اشتغال، وقد وعظ في بعض الاحيان فوقعت فتنة فترك ذلك، وقد متعه الله بجميع حواسه إلى حين موته، توفي بكرة الجمعة ثاني جمادى الاولى من هذه السنة، وقد جاوز الثمانين، وكان جنازته حافلة جدا، ودفن قربيا من قبر الامام أحمد، إلى جانب الخادم مخلص رحمه الله.
أبو الحسن علي بن محمد الدامغاني قاضي القضاة ابن قاضي القضاة، ولد في رجب سنة ست (1) وأربعين وأربعمائة، وولي القضاء بباب الطاق من بغداد وله من العمر ست وعشرون سنة، ولا يعرف حاكم قضى لاربعة من الخلفاء غيره إلا شريح، ثم ذكر إمامته وديانته وصيانته مما يدل على نخوته، وتفوقه وقوته، تولى الحكم أربعا وعشرين سنة وستة أشهر، وقبره عند مشهد أبي حنيفة.
المبارك بن علي ابن الحسين (2) أبو سعد المخرمي (3)، سمع الحديث وتفقه على مذهب أحمد، وناظر وأفتى ودرس، وجمع كتبا كثيرة لم يسبق إلى مثلها، وناب في القضاء وكان حسن السيرة جميل الطريق، سديد الاقضية، وقد بنى مدرسة بباب الازج وهي المنسوبة إلى الشيخ عبد القادر الجيلي الحنبلي، ثم عزل عن القضاء وصودر بأموال جزيلة، وذلك في سنة إحدى عشرة وخمسمائة، وتوفي في المحرم من هذه السنة ودفن إلى جانب أبي بكر الخلال عند قبر أحمد.
ثم دخلت سنة أربع عشرة وخمسمائة
في النصف من ربيع الاول منها كانت وقعة عظيمة بين الاخوين السلطان محمود ومسعود ابني محمد بن ملكشاه عند عقبة اسداباذ، فانهزم عسكر مسعود وأسر وزيره الاستاذ أبو إسماعيل وجماعة
__________
(1) في الكامل 10 / 561: تسع.
(2) في شذرات الذهب 4 / 40: الحسن.
والصواب ما أثبتناه وترجمته في مختصر الطبقات ص 412 وفي ذيل الطبقات ترجمة 67 وفي المنتظم 9 / 215 وفي المنهج الاحمد 2 / 250.
(3) المخرمي: بكسر الراء - منسوب إلى المخرم محلة ببغداد شرقيها نزلها بعض ولد يزيد بن المخرم فنسبت إليه.
وللمخرمي ذرية فيهم شيوخ تصوف ورؤساء ذوو ولايات ورواة حديث (المنهج الاحمد 2 / 251).

من أمرائه، فأمر السلطان محمود بقتل الوزير أبي إسماعيل، فقتل وله نيف وستون سنة، وله تصانيف في صناعة الكيمياء.
ثم أرسل إلى أخيه مسعود الامان واستقدمه عليه، فلما التقيا بكيا واصطلحا.
وفيها نهب دبيس صاحب الحلة البلاد، وركب بنفسه إلى بغداد، ونصب خيمته بإزاء دار الخلافة، وأظهر ما في نفسه من الضغائن، وذكر كيف طيف برأس أبيه في البلاد، وتهدد المسترشد، فأرسل إليه الخليفة يسكن جأشه ويعده أنه سيصلح بينه وبين السلطان محمود، فلما قدم السلطان محمود بغداد أرسل دبيس يستأمن فأمنه وأجراه على عادته، ثم إنه نهب جسر السلطان فركب بنفسه السلطان لقتاله واستصحب معه ألف سفينة ليعبر فيها، فهرب دبيس والتجأ إلى إيلغازي فأقام عنده سنة، ثم عاد إلى الحلة وأرسل إلى الخليفة والسلطان يعتذر إليهما مما كان منه، فلم يقبلا منه، وجهز إليه السلطان جيشا فحاصروه وضيقوا عليه قريبا من سنة، وهو ممتنع في بلاده لا يقدر الجيش على الوصول إليه.
وفيها كانت وقعة عظيمة بين الكرج والمسلمين بالقرب من تفليس، ومع الكرج كفار الفقجاق فقتلوا من المسلمين خلقا كثيرا، وغنموا أموالا جزيلة، وأسروا نحوا من أربعة آلاف أسير، فإنه لله وإنا إليه راجعون.
ونهب الكرج تلك النواحي وفعلوا أشياء منكرة، وحاصروا تفليس مدة ثم ملكوها عنوة، بعد ما أحرقوا القاضي والخطيب حين خرجوا إليهم يطلبون منهم الامان، وقتلوا عامة أهلها، وسبوا الذرية واستحوذوا على الاموال، فلا حول ولا قوة
إلا بالله.
وفيها أغار جوسكين (1) الفرنجي على خلق من العرب والتركمان (2) فقتلهم وأخذ أموالهم، وهذا هو صاحب الرها.
وفيها تمردت العيارون ببغداد وأخذوا الدور جهارا ليلا ونهارا، فحسبنا الله ونعم الوكيل.
وفيها كان ابتداء ملك محمد بن تومرت ببلاد المغرب، كان ابتداء أمر هذا الرجل أنه قدم في حداثة سنه من بلاد المغرب (3) فسكن النظامية ببغداد، واشتغل بالعلم فحصل منه جانبا جيدا من الفروع والاصول، على الغزالي وغيره، وكان يظهر التعبد والورع، وربما كان ينكر على الغزالي حسن ملابسه، ولا سيما لما لبس خلع التدريس بالنظامية، أظهر الانكار عليه جدا، وكذلك على غيره، ثم إنه حج وعاد إلى بلاده، وكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويقرئ الناس القرآن ويشغلهم في الفقه، فطار ذكره في الناس، واجتمع به يحيى بن تميم بن المعز بن باديس صاحب بلاد إفريقية، فعظمه وأكرمه، وسأله الدعاء، فاشتهر أيضا بذلك، وبعد صيته، وليس معه إلا ركوة
__________
(1) كذا بالاصل وتاريخ ابن خلدون، وفي الكامل وابن العبري وأبي الفداء: جوسلين.
(2) وكانوا نازلين بصفين، غربي الفرات.
(2) هو أبو عبد الله، محمد بن عبد الله بن تومرت العلوي الحسني من قبيلة المصامدة وتعرف بهرغة في جبل السوس من بلاد المغرب وقد نزلوا به لما فتحه المسلمون مع موسى بن نصير.
(وانظر تاريخ ابن خلدون 6 / 223 - 225) وابن خلكان 5 / 45 والوافي بالوفيات 3 / 329.

وعصا، ولا يسكن إلا المساجد، ثم جعل ينتقل من بلد إلى بلد حتى دخل مراكش ومعه تلميذه عبد المؤمن بن علي، وقد كان توسم النجابة والشهامة فيه، فرأى في مراكش من المنكرات أضعاف ما رأى في غيرها، من ذلك أن الرجال يتلثمون والنساء يمشين حاسرات عن وجوههن، فأخذ في إنكار ذلك حتى أنه اجتازت به في بعض الايام أخت أمير المسلمين يوسف ملك مراكش وما حولها، ومعها نساء مثلها راكبات حاسرات عن وجوههن، فشرع هو وأصحابه في الانكار عليهن، وجعلوا يضربون وجوه الدواب فسقطت أخت الملك عن دابتها، فأحضره الملك وأحضر الفقهاء فظهر عليهم
بالحجة، وأخذ يعظ الملك في خاصة نفسه، حتى أبكاه، ومع هذا نفاه الملك عن بلده فشرع يشنع عليه ويدعو الناس إلى قتاله، فاتبعه على ذلك خلق كثير، فجهز إليه الملك جيشا كثيفا فهزمهم ابن تومرت، فعظم شأنه وارتفع أمره، وقويت شوكته، وتسمى بالمهدي، وسمى جيشه جيش الموحدين وألف كتابا في التوحيد وعقيدة تسمى المرشدة، ثم كانت له وقعات مع جيوش صاحب مراكش، فقتل منهم في بعض الايام نحوا من سبعين ألفا، وذلك بإشارة أبي عبد الله التومرتي (1)، وكان ذكر أنه نزل إليه ملك وعلمه القرآن والموطأ، وله بذلك ملائكة يشهدون به في بئر سماه، فلما اجتاز به وكان قد أرصد فيه رجالا، فلما سألهم عن ذلك والناس حضور معه على ذلك البئر شهدوا له بذلك، فأمر حينئذ بطم البئر علبهم فماتوا عن آخرهم، ولهذا يقال من أعان ظالما سلط عليه.
ثم جهز ابن تومرت الذي لقب نفسه بالمهدي جيشا عليهم أبو عبد الله التومرتي، وعبد المؤمن، لمحاصرة مراكش، فخرج إليهم أهلها فاقتتلوا قتالا شديدا، وكان في جملة من قتل أبو عبد الله التومرتي هذا الذي زعم أن الملائكة تخاطبه، ثم افتقدوه في القتلى فلم يجدوه، فقالوا: إن الملائكة رفعته، وقد كان عبد المؤمن دفنه والناس في المعركة، وقتل ممن معه من أصحاب المهدي خلق كثير، وقد كان حين جهز الجيش مريضا مدنفا، فلما جاءه الخبر ازداد مرضا إلى مرضه، وساءه قتل أبي عبد الله التومرتي، وجعل الامر من بعده لعبد المؤمن بن علي، ولقبه أمير المؤمنين.
وقد كان شابا حسنا حازما عاقلا، ثم مات ابن تومرت (2) وقد أتت عليه إحدى وخمسون سنة (3)، ومدة ملكه عشر (4) سنين، وحين صار إلى عبد المؤمن بن علي الملك أحسن إلى الرعايا، وظهرت له سيرة جيدة فأحبه الناس، واتسعت ممالكه، وكثرت جيوشه ورعيته، ونصب العداوة إلى تاشفين صاحب مراكش، ولم يزل الحرب بينهما إلى سنة خمس وثلاثين، فمات تاشفين فقام ولده من بعده، فمات في سنة تسع
__________
(1) في الكامل والوافي بالوفيات: الونشريشي، وفي وفيات الاعيان: الونشريسي.
(2) في ابن خلدون 6 / 229: سنة ثنتين وعشرين، واتفق ابن الاثير والوافي وابن خلكان أن وفاته كانت سنة أربع وعشرين وخمسمائة.
(3) في الوافي ووفيات الاعيان: كان مولده سنة 485 ه.
فإن صح فيكون له عند وفاته 59 سنة.
(4) في الكامل: عشرين سنة.

وثلاثين ليلة سبع وعشرين من رمضان، فتولى أخوه إسحاق بن علي بن يوسف بن تاشفين، فسار إليه عبد المؤمن فملك تلك النواحي، وفتح مدينة مراكش، وقتل هنالك أمما لا يعلم عددهم إلا الله عزوجل، قتل ملكها إسحاق وكان صغير السن في سنة ثنتين وأربعين، وكان إسحاق هذا آخر ملوك المرابطين، وكان ملكهم سبعين سنة.
والذين ملكوا منهم أربعة: علي وولده يوسف، وولداه أبو سفيان وإسحاق ابنا علي المذكور، فاستوطن عبد المؤمن مدينة مراكش، واستقر ملكه بتلك الناحية، وظفر في سنة ثلاث وأربعين بدكالة وهي قبيلة عظيمة نحو مائتي ألف راجل وعشرين ألف فارس مقاتل، وهم من الشجعان الابطال، فقتل منهم خلقا كثيرا، وجما غفيرا، وسبى ذراريهم وغنم أموالهم حتى إنه بيعت الجارية الحسناء بدراهم معدودة، وقد رأيت لبعضهم في سيرة ابن تومرت هذا مجلدا في أحكامه وإمامته، وما كان في أيامه، وكيف تملك بلاد المغرب، وما كان يتعاطاه من الاشياء التي توهم أنها أحوال برة، وهي محالات لا تصدر إلا عن فجرة، وما قتل من الناس وأزهق من الانفس.
وممن توفي فيها من الاعيان..أحمد بن عبد الوهاب بن السني (1) أبو البركات، أسند الحديث وكان يعلم أولاد الخليفة المستظهر، فلما صارت الخلافة إلى المسترشد ولاه المخزن، وكان كثير الاموال والصدقات، يتعاهد أهل العلم، وخلف مالا كثيرا حزر بمائتي ألف دينار، أوصى منه بثلاثين ألف دينار لمكة والمدينة، توفي فيها عن ست وخمسين سنة وثلاثة أشهر، وصلى عليه الوزير أبو علي بن صدقة، ودفن بباب حرب.
عبد الرحيم بن عبد الكبير ابن هوازن، أبو نصر القشيري، قرأ على أبيه وإمام الحرمين، وروى الحديث عن جماعة، وكان ذا ذكاء وفطنة، وله خاطر حاضر جرئ، ولسان ماهر فصيح، وقد دخل بغداد فوعظ بها
فوقع بسببه فتنة بين الحنابلة والشافعية، فحبس بسببها الشريف أبو جعفر بن أبي موسى، وأخرج ابن القشيري من بغداد لاطفاء الفتنة فعاد إلى بلده، توفي في هذه السنة.
عبد العزيز بن علي ابن حامد أبو حامد الدينوري، كان كثير المال والصدقات، ذا حشمة وثروة ووجاهة عند
__________
(1) في الكامل 10 / 587: السيبي.

الخليفة، وقد روى الحديث ووعظ، وكان مليح الايراد حلو المنطق، توفي بالري والله أعلم.
ثم دخلت سنة خمس عشرة وخمسمائة فيها أقطع السلطان محمود الامير إيلغازي مدينة ميافارقين، فبقيت في يد أولاده إلى أن أخذها صلاح الدين يوسف بن أيوب، في سنة ثمانين وخمسمائة.
وفيها أقطع آقسنقر البرشقي مدينة الموصل لقتال الفرنج، وفيها حاصر ملك (1) بن بهرام وهو ابن أخي إيلغازي مدينة الرها فأسر ملكها جوسكين (2) الافرنجي وجماعة من رؤس أصحابه وجماعة من رؤس أصحابه وسجنهم بقلعة خرتبرت.
وفيها هبت ريح سوداء فاستمرت ثلاثة أيام فأهلكت خلقا كثيرا من الناس والدواب.
وفيها كانت زلزلة عظيمة بالحجاز فتضعضع بسببها الركن اليماني، وتهدم بعضه، وتهدم شئ من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفيها ظهر رجل علوي بمكة كان قد اشتغل بالنظامية في الفقه وغيره، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فاتبعه ناس كثير فنفاه صاحبها ابن أبي هاشم إلى البحرين.
وفيها احترقت دار السلطان بأصبهان، فلم يبق فيها شئ من الآثار والقماش والجواهر والذهب والفضة سوى الياقوت الاحمر، وقبل ذلك بأسبوع احترق جامع أصبهان، وكان جامعا عظيما، فيه من الاخشاب ما يساوي ألف دينار، ومن جملة ما احترق فيه خمسمائة مصحف، من جملتها مصحف بخط أبي بن كعب، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفي شعبان منها جلس الخليفة المسترشد في دار الخلافة في أبهة الخلافة، وجاء الاخوان السلطان محمود ومسعود فقبلا الارض ووقفا بين يديه، فخلع على محمود سبع خلع وطوقا وسوارين وتاجا، وأجلس على كرسي ووعظه الخليفة، وتلا عليه قوله تعالى (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال
ذرة شرا يره) [ الزلزلة: 7 - 8 ] وأمره بالاحسان إلى الرعايا، وعقد له لواءين بيده، وقلده الملك، وخرجا من بين يديه مطاعين معظمين، والجيش بين أيديهما في أبهة عظيمة جدا.
وحج بالناس قطز الخادم.
وممن توفي فيها: ابن القطاع اللغوي أبو القاسم علي بن جعفر بن محمد ابن الحسين بن أحمد بن محمد بن زيادة الله بن محمد بن الاغلب السعدي الصقلي، ثم المصري اللغوي المصنف كتاب الافعال، الذي برز فيه على ابن القوطية، وله مصنفات كثيرة، قدم مصر في
__________
(1) في ابن خلدون 5 / 198: مالك ; وفي الكامل 10 / 593 وتاريخ أبي الفداء 2 / 235: بلك.
(2) انظر حاشية (1) ص (230).

حدود سنة خمسمائة لما أشرفت الفرنج على أخذ صقلية، فأكرمه المصريون وبالغوا في إكرامه، وكان ينسب إلى التساهل في الدين، وله شعر جيد قوي، مات وقد جاوز الثمانين (1).
أبو القاسم شاهنشاه الافضل بن أمير الجيوش بمصر، مدبر دولة الفاطميين، وإليه تنسب قيسرية أمير الجيوش بمصر، والعامة تقول مرجوش، وأبوه باني الجامع الذي بثغر الاسكندرية بسوق العطارين، ومشهد الرأس بعسقلان أيضا، وكان أبوه نائب المستنصر على مدينة صور، وقيل على عكا، ثم استدعاه إليه في فصل الشتاء فركب البحر فاستنابه على ديار مصر، فسدد الامور بعد فسادها، ومات في سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، وقام في الوزارة ولده الافضل هذا، وكان كأبيه في الشهامة والصرامة، ولما مات المستنصر أقام المستعلي واستمرت الامور على يديه، وكان عادلا حسن السيرة، موصوفا بجودة السريرة فالله أعلم، ضربه فداوى وهو راكب فقتله في رمضان من هذه السنة، عن سبع وخمسين سنة، وكانت إمارته من ذلك بعد أبيه ثمان وعشرين سنة، وكانت داره دار الوكالة اليوم بمصر، وقد وجد له أموال عديدة جدا، تفوق العد والاحصاء، من القناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل
المسومة والانعام والحرث، والجواهر النفائس، فانتقل ذلك كله إلى الخليفة الفاطمي فجعل في خزانته، وذهب جامعه إلى سواء الحساب، على الفتيل من ذلك والنقير والقطمير واعتاض عنه الخليفة بأبي عبد الله البطائحي، ولقبه المأمون.
قال ابن خلكان: ترك الافضل من الذهب العين ستمائة ألف ألف دينار مكررة، ومن الدراهم مائتين وخمسين أردبا، وسبعين ثوب ديباج أطلس، وثلاثين راحلة أحقاق ذهب عراقي، ودواة ذهب فيها جوهرة بإثني عشر ألف دينار، ومائة مسمار ذهب زنة كل مسمار مائة مثقال، في عشرة مجالس كان يجلس فيها، على كل مسمار منديل مشدود بذهب، كل منديل على لون من الالوان من ملابسه، وخمسمائة صندوق كسوة للبس بدنه، قال: وخلف من الرقيق والخيل والبغال والمراكب والمسك والطيب والحلى ما لا يعلم قدره إلا الله عزوجل، وخلف من البقر والجواميس والغنم ما يستحيي الانسان من ذكره، وبلغ ضمان ألبانها في سنة وفاته ثلاثين ألف دينار، وترك صندوقين كبيرين مملوءين إبر ذهب برسم النساء.
عبد الرزاق بن عبد الله ابن علي بن إسحاق الطوسي، ابن أخي نظام الملك، تفقه بإمام الحرمين، وأفتى ودرس وناظر، ووزر للملك سنجر.
__________
(1) 82 سنة.
ومولده سنة 433 ه.
(تاريخ الفداء 2 / 236).

خاتون السفرية حظية السلطان ملكشاه، وهي أم السلطانين محمد وسنجر، كانت كثيرة الصدقة والاحسان إلى الناس، لها في كل سنة سبيل يخرج مع الحجاج.
وفيها دين وخير، ولم تزل تبحث حتى عرفت مكان أمها وأهلها، فبعثت الاموال الجزيلة حتى استحضرتهم، ولما قدمت عليها أمها كان لها عنها أربعين سنة لم ترها، فأحبت أن تستعلم فهمها فجلست بين جواريها، فلما سمعت أمها كلامها عرفتها فقامت إليها فاعتنقا وبكيا، ثم أسلمت أمها على يديها جزاها الله خيرا.
وقد تفردت بولادة ملكين من ملوك المسلمين، في دولة الاتراك والعجم، ولا يعرف لها نظير في ذلك إلا اليسير من
ذلك، وهي ولادة بنت العباس، ولدت لعبد الملك الوليد وسليمان، وشاهوند ولدت للوليد يزيد وإبراهيم، وقد وليا الخلافة أيضا، والخيزران ولدت للمهدي الهادي والرشيد.
الطغرائي صاحب لامية العجم، الحسين بن علي بن عبد الصمد، مؤيد الدين الاصبهاني، العميد فخر الكتاب الليثي الشاعر، المعروف بالطغرائي، ولي الوزارة بأربل مدة، أورد له ابن خلكان قصيدته اللامية التي ألفها في سنة خمس وخمسمائة، في بغداد، يشرح فيها أحواله وأموره، وتعرف بلامية العجم أولها: أصالة الرأي صانتني عن الخطل * وحلية الفضل زانتني لدى العطل مجدي أخيرا ومجدي أولا شرع * والشمس رأد الضحى كالشمس في الطفل فيم الاقامة بالزوراء ؟ لا سكني * بها ولا ناقتي فيها ولا جملي وقد سردها ابن خلكان بكمالها، وأورد له غير ذلك من الشعر والله أعلم.
ثم دخلت سنة ست عشرة وخمسمائة في المحرم منها رجع السلطان طغرلبك إلى طاعة أخيه محمود، بعد ما كان قد خرج عنها، وأخذ بلاد أذربيجان.
وفيها أقطع السلطان محمود مدينة واسط لاقسنقر مضافا إلى الموصل، فسير إليها عماد الدين زنكي بن آقسنقر، فأحسن السيرة بها وأبان عن حزم وكفاية.
وفي صفر منها قتل الوزير السلطان محمود أبو طالب السميرمي، قتله باطني، وكان قد برز للمسير إلى همذان، وكانت قد خرجت زوجته في مائة جارية بمراكب الذهب، فلما بلغهن قتله رجعن حافيات حاسرات عن وجوههن، قد هن بعد العز، واستوزر السلطان مكانه شمس الدين الملك عثمان بن نظام الملك.
وفيها التقى آقسنقر ودبيس بن صدقة، فهزمه دبيس وقتل خلقا من جيشه، فأوثق السلطان

منصور بن صدقة أخا دبيس وولده، ورفعهما إلى القلعة، فعند ذلك آذى دبيس تلك الناحية ونهب البلاد، وجز شعره ولبس السواد، ونهبت أموال الخليفة أيضا، فنودي في بغداد للخروج لقتاله،
وبرز الخليفة في الجيش وعليه قباء أسود وطرحة، وعلى كتفيه البردة وبيده القضيب، وفي وسطه منطقة حرير صيني، ومعه وزيره نظام الدين أحمد بن نظام الملك، ونقيب النقباء علي بن طراد الزينبي، وشيخ الشيوخ صدر الدين بن إسماعيل، وتلقاه آقسنقر البرشقي ومعه الجيش فقبلوا الارض ورتب البرشقي الجيش، ووقف القراء بين يدي الخليفة، وأقبل دبيس وبين يديه الاماء يضربن بالدفوف والمخانيث بالملاهي، والتقى الفريقان، وقد شهر الخليفة سيفه وكبر واقترب من المعركة، فحمل عنتر بن أبي العسكر على ميمنة الخليفة فكسرها وقتل أميرها ثم حمل مرة ثانية فكشفهم كالاولى فحمل عليه عماد الدين زنكي بن آقسنقر فأسر عنتر وأسر معه بديل (1) بن زائدة، ثم انهزم عسكر دبيس وألقوا أنفسهم في الماء، فغرق كثير منهم، فأمر الخليفة بضرب أعناق الاسارى صبرا بين يديه، وحصل نساء دبيس وسراريه تحت الاسر، وعاد الخليفة إلى بغداد فدخلها في يوم عاشوراء من السنة الآتية، وكانت غيبته عن بغداد ستة عشر يوما، وأما دبيس فإنه نجا بنفسه وقصد غزية ثم إلى المنتفق فصحبهم إلى البصرة فدخلها ونهبها وقتل أميرها، ثم خاف من البرشقي فخرج منها وسار على البرية والتحق بالفرنج، وحضر معهم حصار حلب، ثم فارقهم والتحق بالملك طغرل أخي السلطان محمود.
وفيها ملك السلطان سهام (2) الدين تمراش بن إيلغازي ابن أرتق قلعة ماردين بعد وفاة أبيه، وملك أخوه سليمان ميافارقين.
وفيها ظهر معدن نحاس بديار بكر قريبا من قلعة ذي القرنين.
وفيها دخل جماعة من الوعاظ إلى بغداد فوعظوا بها، وحصل لهم قبول تام من العوام.
وحج بالناس قطز الخادم.
وممن توفي فيها من الاعيان..عبد الله بن أحمد ابن عمر بن أبي الاشعث، أبو محمد السمرقندي، أخو أبي القاسم، وكان من حفاظ الحديث، وقد زعم أن عنده منه ما ليس عند أبي زرعة الرازي، وقد صحب الخطيب مدة وجمع وألف وصنف ورحل إلى الآفاق، توفي يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الاول (3) بها عن ثمانين سنة (4).
__________
(1) في الكامل 10 / 609: بريك.
(2) في الكامل 10 / 604 وتاريخ أبي الفداء: حسام الدين ; تمرتاش.
(3) في تذكرة الحفاظ ص 1264: ربيع الآخر.
(4) في الكامل 10 / 605 وتذكرة الحفاظ ص 1264: كان مولده سنة أربع وأربعين وأربعمائة، أي 72 سنة - انظر شذرات الذهب 4 / 49.

علي بن أحمد السميري نسبة إلى قرية بأصبهان، كان وزير السلطان محمود، وكان مجاهرا بالظلم والفسق، وأحدث على الناس مكوسا، وجددها بعد ما كانت قد أزيلت من مدة متطاولة، وكان يقول: قد استحييت من كثرة ظلم من لا ناصر له، وكثرة ما أحدثت من السنن السيئة، ولما عزم على الخروج إلى همذان أحضر المنجمين فضربوا له تخت رمل لساعة خروجه ليكون أسرع لعودته، فخرج في تلك الساعة وبين يديه السيوف المسلولة، والمماليك الكثيرة بالعدد الباهرة، فما أغنى عنه ذلك شيئا، بل جاءه باطني فضربه فقتله، ثم مات الباطني بعده، ورجع نساؤه بعد أن ذهبن بين يديه على مراكب الذهب، حاسرات عن وجوههن، قد أبدلهن الله الذل بعد العز، والخوف بعد الامن، والحزن بعد السرور والفرح، جزاء وفاقا، وذكل يوم الثلاثاء سلخ صفر، وما أشبه حالهن بقول أبي العتاهية في الخيزران وجواريها حين مات المهدي: رحن في الوشي عليهن المسوح * كل بطاح من الناس له يوم يطوح لتموتن ولو عمرت ما عمر نوح * فعلى نفسك نح إن كنت لا بد تنوح الحريري صاحب المقامات القاسم بن علي بن محمد بن محمد بن عثمان، فخر الدولة أبو محمد الحريري.
مؤلف المقامات التي سارت بفصاحتها الركبان، وكاد يربو فيها على سحبان، ولم يسبق إلى مثلها ولا يلحق، ولد سنة ست وأربعين وأربعمائة وسمع الحديث واشتغل باللغة والنحو، وصنف في ذلك كله، وفاق أهل
زمانه، وبرز على أقرانه، وأقام ببغداد وعمل صناعة الانشاء مع الكتاب في باب الخليفة، ولم يكن ممن تنكر بديهته ولا تتعكر فكرته وقريحته.
قال ابن الجوزي: صنف وقرأ الادب واللغة، وفاق أهل زمانه بالذكاء والفطنة والفصاحة، وحسن العبارة، وصنف المقامات المعروفة التي من تأملها عرف ذكاء منشئها، وقدره وفصاحته، وعلمه.
توفي في هذه السنة بالبصرة.
وقد قيل إن أبا زيد والحارث بن همام المطهر لا وجود لهما، وإنما جعل هذه المقامات من باب الامثال، ومنهم من يقول أبو زيد بن سلام السروجي كان له وجود، وكان فاضلا، وله علم ومعرفة باللغة فالله أعلم.
وذكر ابن خلكان أن أبا زيد كان اسمه المطهر بن سلام (1)، وكان بصريا فاضلا في النحو واللغة، وكان يشتغل عليه الحريري بالبصرة، وأما الحارث بن همام فإنه غني بنفسه، لما جاء في الحديث كلكم حارث وكلكم همام.
كذا قال ابن خلكان.
وإنما اللفظ المحفوظ " أصدق الاسماء حارث وهمام " لان كل أحد
__________
(1) في ابن خلكان 4 / 64 وأنباه الرواة 3 / 276: سلار.

إما حارث وهو الفاعل، أو همام من الهمة وهو العزم والخاطر، وذكر أن أول مقامة عملها الثامنة والاربعون وهي الحرامية، وكان سببها أنه دخل عليهم في مسجد البصرة رجل ذو طمرين فصيح اللسان، فاستسموه، فقال: أبو زيد السروجي، فعمل فيه هذه المقامة، فأشار عليه وزير الخليفة المسترشد جلال الدين عميد الدولة أبو علي الحسن بن أبي المعز بن صدقة، أن يكمل عليها تمام خمسين مقامة.
قال ابن خلكان: كذا رأيته في نسخة بخط المصنف، على حاشيتها، وهو أصح من قول من قال إنه الوزير شرف الدين أبو نصر أنوشروان بن محمد بن خالد بن محمد القاشاني، وهو وزير المسترشد أيضا، ويقال إن الحريري كان قد عملها أربعين مقامة، فلما قدم بغداد ولم يصدق في ذلك لعجز الناس عن مثلها، فامتحنه بعض الوزراء أن يعمل مقامة فأخذ الدواة والقرطاس وجلس ناحية فلم يتيسر له شئ، فلما عاد إلى بلده عمل عشرة أخرى فأتمها خمسين مقامة، وقد قال فيه أبو القاسم علي بن أفلح الشاعر، وكان من جملة المكذبين له فيها: شيخ لنا من ربيعة الفرس * ينتف عثنونه من الهوس
أنطقه الله بالمشان كما * رماه وسط الديوان بالخرس ومعنى قوله بالمشان هو مكان بالبصرة، وكان الحريري صدر ديوان المشان، ويقال إنه كان ذميم الخلق، فاتفق أن رجلا رحل إليه فلما رآه ازدراه ففهم الحريري ذلك فأنشأ يقول: ما أنت أول سار غره قمر * ورائدا أعجبته خضرة الدمن فاختر لنفسك غيري إنني رجل * مثل المعيدي فاسمع بي ولا ترني ويقال إن المعيدي اسم حصان جواد كان في العرب ذميم الخلق والله أعلم.
البغوي المفسر الحسين بن مسعود بن محمد البغوي، صاحب التفسير وشرح السنة والتهذيب في الفقه، والجمع بين الصحيحين والمصابيح في الصحاح والحسان، وغير ذلك، اشتغل على القاضي حسين وبرع في هذه العلوم، وكان علامة زمانه فيها، وكان دينا ورعا زاهدا عابدا صالحا.
توفي في شوال منها وقيل في سنة عشر فالله أعلم.
ودفن مع شيخه القاضي حسين بالطالقان.
والله أعلم.
ثم دخلت سنة سبع عشرة وخمسمائة في يوم عاشوراء منها عاد الخليفة من الحلة إلى بغداد مؤيدا منصورا من قتال دبيس.
وفيها عزم الخليفة على طهور أولاد أخيه، وكانوا اثني عشر ذكرا، فزينت بغداد سبعة أيام بزينة لم ير مثلها.
وفي

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55