كتاب :البداية والنهاية
الامام الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن
كثير الدمشقي
الامامة وتدريس الغزالية، ثم ترك المناصب والدنيا، وأقبل على العبادة، وللناس فيه اعتقاد حسن صالح، يقبلون يده ويسألونه الدعاء، وقد جاوز الثمانين، ودفن بالسفح عند أهله في أواخر ربيع الآخر.
الشيخ محب الدين الطبري المكي (1) الشافعي، سمع الكثير وصنف في فنون كثيرة، من ذلك كتاب الاحكام في مجلدات كثيرة مفيدة، وله كتاب على ترتيب جامع المسانيد أسمعه لصاحب اليمن، وكان مولده يوم الخميس السابع والعشرين من جمادى الآخرة منها (2)، ودفن بمكة، وله شعر جيد فمنه قصيدته في المنازل التي بين مكة والمدبنة تزيد على ثلثمائة بيت، كتبها عنه الحافظ شرف الدين الدمياطي في معجمه.
الملك المظفر صاحب اليمن يوسف بن المنصور نور الدين عمر بن علي بن رسول، أقام في مملكة اليمن بعد أبيه سبعا وأربعين سنة، وعمر ثمانين سنة، وكان أبوه قد ولي أزيد من مدة عشرين سنة بعد الملك أقسيس ابن الكامل محمد، وكان عمر بن رسول مقدم عساكر أقسيس، فلما مات اقسيس وثب على الملك فتم له الامر وتسمى بالملك المنصور، واستمر أزيد من عشرين سنة، ثم ابنه المظفر سبعا وأربعين سنة، ثم قام من بعده في الملك ولده الملك الاشرف ممهد الدين فلم يمكث سنة (3) حتى مات، ثم قام أخوه المؤيد عز الدين داود بن المظفر فاستمر في الملك مدة، وكانت وفاة الملك المظفر المذكور في رجب من هذه السنة، وقد جاوز الثمانين، وكان يحب الحديث وسماعه، وقد جمع لنفسه أربعين حديثا.
شرف الدين المقدسي الشيخ الامام الخطيب المدرس المفتي، شرف الدين أبو العباس أحمد بن الشيخ كمال الدين أحمد بن نعمة بن أحمد بن جعفر بن حسين بن حماد المقدسي الشافعي، ولد سنة ثنتين وعشرين وستمائة، وسمع الكثير وكتب حسنا وصنف فأجاد وأفاد، وولي القضاء نيابة بدمشق
__________
(1) واسمه أحمد بن عبد الله بن محمد بن بكر بن محمد بن ابراهيم الطبري المكي الشافعي.
(2) كذا بالاصل، وفيه نقص ظاهر، وتمامه: ولد بمكة سنة 615 ه.
وبمكة كانت وفاته.
وفي السلوك: توفي بمكة عن 79 سنة 1 / 811 وانظر تذكرة النبيه 1 / 176.
(3) في تذكرة النبيه 1 / 177: عشرين شهرا (انظر أبي الفداء 4 / 33).
والتدريس والخطابة بدمشق، وكان مدرس الغزالية (1) ودار الحديث النورية مع الخطابة، ودرس في وقت بالشامية البرانية (2) وأذن في الافتاء من الفضلاء منهم الشيخ الامام العلامة شيخ الاسلام أبو العباس بن تيمية، وكان يفتخر بذلك ويفرح به ويقول: أنا أذنت لابن تيمية بالافتاء، وكان يتقن فنونا كثيرة من العلوم، وله شعر حسن، وصنف كتابا في أصول الفقه جمع فيه شيئا كثيرا، وهو عندي بخطه الحسن، توفي يوم الاحد سابع عشر رمضان وقد جاوز السبعين، ودفن بمقابر باب كيسان عند والده رحمه الله ورحم أباه.
وقد خطب بعده يوم العيد الشيخ شرف الدين الفزاري خطيب جامع جراح ثم جاء المرسوم لابن جماعة بالخطابة.
ومن شعر الخطيب شرف الدين بن المقدسي: أحجج إلى الزهر لتسعى به * وارم جمار الهم مستنفرا من لم يطف بالزهر في وقته * من قبل أن يحلق قد قصرا واقف الجوهرية الصدر نجم الدين أبو بكر محمد بن عياش بن أبي المكارم التميمي الجوهري، واقف الجوهرية على الحنفية بدمشق توفي ليلة الثلاثاء تاسع عشر شوال، ودفن بمدرسته وقد جاوز الثمانين، وكانت له خدم
على الملوك، فمن دونهم.
الشيخ الامام العالم المفتي الخطيب الطبيب، مجد الدين أبو محمد عبد الوهاب بن أحمد بن أبي الفتح بن سحنون التنوخي الحنفي، خطيب النيرب ومدرس الدماغية للحنفية، وكان طبيبا ماهرا حاذقا، توفي بالنيرب وصلي عليه بجامع الصالحية، وكان فاضلا وله شعر حسن، وروى شيئا من الحديث، توفي ليلة السبت خامس ذي القعدة عن خمس وسبعين سنة.
الفاروثي الشيخ الامام العابد الزاهد الخطيب عز الدين أبو العباس أحمد بن الشيخ محيي الدين إبراهيم بن عمر بن الفرج (3) بن
__________
(1) المدرسة الغزالية وهي من زوايا الجامع الاموي بدمشق، وتنسب إلى الشيخ نصر المقدسي وإلى الشيخ الغزالي لاقامتهما بها (الدارس 1 / 413 خطط الشام 6 / 87).
(2) الشامية البرانية وهي بدمشق: أنشأتها ست الشام ابنة نجم الدين أيوب بن شادي أخت السلطان صلاح الدين (الدارس 1 / 277).
(3) في السلوك 1 / 811 وتذكرة النبيه 1 / 183:..فرج بن أحمد بن سابور..
سابور بن علي بن غنيمة الفاروثي (1) الواسطي، ولد سنة أربع عشرة (2) وستمائة، وسمع الحديث ورحل فيه، وكانت له فيه يد جيدة، وفي التفسير والفقه والوعظ والبلاغة، وكان دينا ورعا زاهدا، قدم إلى دمشق في دولة الظاهر فأعطى تدريس الجاروضية وإمام مسجد ابن هشام، ورتب له فيه شئ على المصالح، وكان فيه إيثار وله أحوال صالحة، ومكاشفات كثيرة، تقدم يوما في محراب ابن هشام ليصلي بالناس فقال - قبل أن يكبر للاحرام والتفت عن يمينه - فقال: اخرج فاغتسل، فلم يخرج أحد، ثم كرر ذلك ثانية وثالثة، قلم يخرج أحد، فقال: يا عثمان أخرج فاغتسل، فخرج رجل من الصف فاغتسل ثم عاد وجاء إلى الشيخ يعتذر إليه، وكان الرجل صالحا في نفسه، ذكر أنه أصابه فيض من غير أن يرى شخصا، فاعتقد أنه لا يلزمه غسل، فلما
قال الشيخ ما قال اعتقد أنه يخاطب غيره، فلما عينه باسمه علم أنه المراد.
ثم قال الفاروثي مرة أخرى في أواخر أيام المنصور قلاوون فخطب بجامع دمشق مدة شهور، ثم عزل بموفق الدين الحموي، وتقدم ذكر ذلك، وكان قد درس بالنجيبية وبدار الحديث الظاهرية، فترك ذلك كله وسافر إلى وطنه، فمات بكرة يوم الاربعاء مستهل ذي الحجة، وكان يوم موته يوما مشهودا بواسط، وصلى عليه بدمشق وغيرهما رحمه الله، وكان قد لبس خرقة التصوف من السهروردي، وقرأ القراءات العشرة وخلف ألفي مجلد ومائتي مجلدا، وحدث بالكثير، وسمع منه البرزالي كثيرا صحيح البخاري وجامع الترمذي وسنن ابن ماجه، ومسند الشافعي، ومسند عبد بن حميد، ومعجم الطبراني الصغير، ومسند الدارمي وفضائل القرآن لابي عبيد، وثمانين جزء وغير ذلك.
الجمال المحقق أحمد بن عبد الله بن الحسين الدمشقي، اشتغل بالفقه على مذهب الشافعي، وبرع فيه وأفتى وأعاد، وكان فاضلا في الطب، وقد ولي مشيخة الدخوارية لتقدمه في صناعة الطب على غيره، وعاد المرضى بالمارستان النوري على قاعدة الاطباء، وكان مدرسا للشافعية بالفرخشانية، ومعيدا بعدة مدارس، وكان جيد الذهن مشاركا في فنون كثيرة سامحه الله.
الست خاتون بنت الملك الاشرف موسى بن العادل زوجة ابن عمها المنصور بن الصالح إسماعيل بن العادل، وهي التي أثبت سفهها زمن المنصور قلاوون حتى اشترى منها حزرما وأخذت الزنبقية من زين الدين السامري (3).
__________
(1) الفاروثي: نسبة إلى فاروث وهي قرية على شاطئ دجلة بين بلدتي واسط والمذار (معجم البلدان).
(2) في تذكرة النبيه 1 / 183: مولده سنة اثني عشر وستمائة، وفي السلوك 1 / 811 مات عن ثمانين سنة بواسط.
(3) راجع حوادث سنة 686 ه.
الصدر جمال الدين يوسف بن علي بن مهاجر التكريتي أخو الصاحب تقي الدين توبة، ولي حسبة دمشق في
وقت ودفن بتربة أخيه بالسفح، وكانت جنازته حافلة، وكان له عقل وافر وثروة ومروءة، وخلف ثلاث بنين: شمس الدين محمد، وعلاء الدين علي، وبدر الدين حسن.
ثم دخلت سنة خمس وتسعين وستمائة استهلت وخليفة الوقت الحاكم بأمر الله العباس أحمد العباسي، وسلطان البلاد الملك العادل زين الدين كتبغا، ونائبه بمصر الامير حسام الدين لاجين السلحداري المنصوري، ووزيره فخر الدين بن الخليلي، وقضاة مصر والشام هم المذكورون في التي قبلها، ونائب الشام عز الدين الحموي، ووزيره تقي الدين توبة، وشاد الدواوين الاعسر، وخطيب البلد وقاضيها ابن جماعة.
وفي المحرم ولي نظر الايتام برهان الدين بن هلال عوضا عن شرف الدين بن الشيرجي.
وفي مستهل هذه السنة كان الغلاء والفناء بديار مصر شديدا جدا، وقد تفانى الناس إلا القليل، وكانوا يحفرون الحفيرة فيدفنون فيها الفئام من الناس، والاسعار في غاية الغلاء، والاقوات في غاية القلة والغلاء، والموت عمال، فمات بها في شهر صفر مائة ألف ونحو من ثلاثين ألفا (1)، ووقع غلاء بالشام فبلغت الغرارة إلى مائتين (2)، وقدمت طائفة من التتر العويراتية (3) لما بلغهم سلطنة كتبغا إلى الشام لانه منهم، فتلقاهم الجيش بالرحب والسعة، ثم سافروا إلى الديار المصرية مع الامير قراسنقر المنصوري، وجاء الخبر باستداد الغلاء والفناء بمصر حتى قيل إنه بيع الفروج بالاسكندرية بستة وثلاثين درهما، وبالقاهرة بتسعة عشر، والبيض كل ثلاثة بدرهم، وأفنيت الحمر والخيل والبغال والكلاب من أكل الناس لها، ولم يبق شئ من هذه الحيوانات يلوح إلا أكلوه.
وفي يوم السبت الثاني عشر من جمادى الاولى ولي قضاء القضاة بمصر الشيخ العلامة تقي الدين بن دقيق العيد عوضا عن تقي الدين ابن بنت الاعز، ثم وقع الرخص بالديار المصرية وزال الضر والجوع في جمادى الآخرة ولله الحمد.
__________
(1) في السلوك 1 / 815: مائة ألف وسبعة وعشرين ألف.
(2) في السلوك 1 / 815: مائة وسبعين درهما.
(3) ويقال أو يراتية، نسبة إلى أويرات وهو اسم جنس يطلق على عدة قبائل مغولية سكنت الجزء الاعلى من حوض نهر ينيسي بأواسط آسيا وهم أصل جنس الكالموك وكانت هذه القبائل قد خضعت قديما لسلطة جنكيزخان وساعدته في حروبه.
وفي يوم الاربعاء ثاني شهر رجب درس القاضي إمام الدين بالقيمرية عوضا عن صدر الدين ابن رزين الذي توفي.
قال البرزالي: وفيها وقعت صاعقة على قبة زمزم فقتلت الشيخ علي بن محمد بن عبد السلام مؤذن المسجد الحرام، كان يؤذن على سطح القبة المذكورة، وكان قد روى شيئا من الحديث.
وفيها قدمت امرأة الملك الظاهر ئم سلامش من بلاد الاشكري إلى دمشق في أواخر (1) رمضان فبعث إليها نائب البلد بالهدايا والتحف ورتبت لها الرواتب والاقامات، وكان قد نفاهم خليل بن المنصور لما ولي السلطنة.
قال الجزري: وفي رجب درس كمال الدين بن القلانسي عوضا عن جلال الدين القزويني.
وفي يوم الاربعاء سابع عشر شعبان درس الشيخ الامام العلامة شيخ الاسلام تقي الدين بن تيمية الحراني بالمدرسة الحنبلية عوضا عن الشيخ زين الدين بن المنجى توفي إلى رحمة الله، ونزل ابن تيمية عن حلقة العماد بن المنجا لشمس الدين بن الفخر البعلبكي.
وفي آخر شوال ناب القاضي جمال الدين الزرعي الذي كان حاكما بزرع، وهو سليمان بن عمر بن سالم الازرعي عن ابن جماعة بدمشق، فشكرت سيرته.
وفيها خرج السلطان كتبغا من مصر قاصدا الشام في أواخر شوال (2)، ولما جاء البريد بذلك ضربت البشائر بالقلعة ونزلوا بالقلعة السلطان ونائبه لاجين ووزيره ابن الخليلي.
وفي يوم الاحد سادس عشر ذي القعدة ولي قضاء الحنابلة الشيخ تقي الدين سليمان بن حمزة المقدسي عوضا عن شرف الدين (3) مات رحمه الله، وخلع عليه وعلى بقية الحكام وأرباب الولايات الكبار وأكابر الامراء، وولي نجم الدين بن أبي الطيب وكالة بيت المال عوضا عن ابن الشيرازي وخلع عليه مع الجماعة، ورسم على [ سنقر ] (4) الاعسر وجماعة من أصحابه وخلق من الكتبة والولاة وصودروا بمال كثير، واحتيط على أموالهم وحواصلهم، وعلى
بنت ابن السلعوس وابن عدنان وخلق، وجرت خبطة عظيمة، وقدم ابنا الشيخ علي الحريري حسن وشيث من بسر لزيارة السلطان فحصل لهما منه رفد وإسعاف وعادا إلى بلادهما، وضيفت القلندرية السلطان بسفح جبل المزة، فأعطاه نحوا من عشرة آلاف، وقدم صاحب حماة (5) إلى خدمة السلطان ولعب معه الكرة بالميدان، واشتكت الاشراف من نقيبهم زين الدين بن عدنان، فرفع الصاحب يده عنهم وجعل أمرهم إلى القاضي الشافعي، فلما كان يوم الجمعة الثاني
__________
(1) في السلوك 1 / 816: حادي عشر رمضان.
(2) في السلوك 1 / 816: يوم السبت سابع عشر شوال.
وكان سبب سفره إلى الشام تلك السنة حسبما قال ابن أبي الفضائل في النهج ص 428: " انه أراد أن يعزل الامير عز الدين أيبك الحموي عن نيابة السلطنة بالشام ويولي مكانه اغرلو مملوكه.
ويرتب أحوال هؤلاء التتار الوافدين من الاويراتية ".
(3) وهو شرف الدين حسن بن عبد الله بن محمد بن قدامة المقدسي وكان قد توفي ثاني عشرين شوال.
(4) سقط من الاصل.
(5) كان قدومه في رابع وعشرين ذي القعدة (السلوك 1 / 816).
والعشرين (1) من ذي القعدة صلى السلطان الملك العادل كتبغا بمقصورة الخطابة، وعن يمينه صاحب حماة، وتحته بدر الدين أمير سلاح، وعن يساره أولاد الحريري حسن أخواه، وتحتهم نائب المملكة حسام الدين لاجين، وإلى جانبه نائب الشام عز الدين الحموي، وتحته بدر الدين بيسرى، وتحته قراسنقر وإلى جانبه الحاج بهادر، وخلفهم أمراء كبار، وخلع على الخطيب بدر الدين بن جماعة خلعة سنية.
ولما قضيت الصلاة سلم على السلطان وزار السلطان المصحف العثماني.
ثم أصبح يوم السبت فلعب الكرة بالميدان.
وفي يوم الاثنين ثاني ذي الحجة عزل الامير عز الدين الحموي عن نيابة الشام وعاتبه السلطان عتابا كثيرا على أشياء صدرت منه، ثم عفاعنه وأمره بالمسير معه إلى مصر، واستنتاب الشام الامير سيف الدين غرلو العادلي، وخلع على المولى وعلى المعزول، وحضر السلطان دار العدل وحضر
عنده الوزير القضاة والامراء، وكان عادلا كما سمي، ثم سافر السلطان في ثاني عشر ذي الحجة نحو بلاد حلب فاجتاز على حرستا، ثم أقام بالبرية أياما ثم عاد فنزل حمص، وجاء إليه نواب البلاد وجلس الامير غرلو نائب دمشق بدار العدل فحكم وعدل، وكان محمود السيرة سديد الحكم رحمه الله تعالى.
وممن توفي فيها من الاعيان: الشيخ زين الدين بن منجى الامام العالم العلامة مفتي المسلمين، الصدر الكامل، زين الدين أبو البركات بن المنجى ابن الصدر عز الدين أبي عمر عثمان بن أسعد بن المنجى بن بركات بن المتوكل التنوخي، شيخ الحنابلة وعالمهم، ولد سنة إحدى وثلاثين وستمائة، وسمع الحديث وتفقه، فبرع في فنون من العلم كثيرة من الاصول والفروع والعربية والتفسير وغير ذلك، وانتهت إليه رياسة المذهب، وصنف في الاصول، وشرح المقنع، وله تعاليق في التفسير، وكان قد جمع له بين حسن السمت والديانة والعلم والوجاهة وصحة الذهن والعقيدة والمناظرة وكثرة الصدقة، ولم يزل يواظب على الجامع للاشتغال متبرعا حتى توفي في يوم الخميس رابع شعبان، وتوفيت معه زوجته أم محمد ست البها بنت صدر الدين الخجندي، وصلي عليهما بعد الجمعة بجامع دمشق، وحملا جميعا إلى سفح قاسيون شمالي الجامع المظفري تحت الروضة فدفنا في تربة واحدة رحمهما الله تعالى.
وهو والد قاضي القضاة علاء الدين، وكان شيخ المسمارية ثم وليها بعده ولداه شرف الدين وعلاء الدين، وكان شيخ الحنبلية فدرس بها بعده الشيخ تقي الدين بن تيمية كما ذكرنا ذلك في الحوادث.
__________
(1) يوم الجمعة ثامن عشريه (السلوك 1 / 816).
المسعودي صاحب الحمام بالمزة أحد كبار الامراء، هو الامير الكبير بدر الدين لؤلؤ بن عبد الله المسعودي، أحد الامراء المشهورين بخدمة الملوك، توفي ببستانه بالمزه يوم السبت سابع عشرين شعبان، ودفن صبح يوم
الاحد بتربته بالمزة، وحضر نائب السلطنة جنازته، وعمل عزاؤه تحت النسر بجامع دمشق.
الشيخ الخالدي هو الشيخ الصالح إسرائيل بن علي بن حسين الخالدي، له زاوية خارج باب السلامة، كان يقصد فيها للزيارة، وكان مشتملا على عبادة وزهادة، وكان لا يقوم لاحد، ولو كان من كان، وعنده سكون وخشوع ومعرفة بالطريق، وكان لا يخرج من منزله إلا إلى الجمعة، حتى كانت وفاته بنصف رمضان ودفن بقاسيون رحمه الله تعالى.
الشرف حسين المقدسي (1) هو قاضي القضاة شرف الدين أبو الفضل الحسين بن الامام الخطيب شرف الدين أبي بكر عبد الله بن الشيخ أبي عمر المقدسي، سمع الحديث وتفقه وبرع في الفروع واللغة، وفيه أدب وحسن محاضرة، مليح الشكل، تولى القضاء بعد نجم الدين بن الشيخ شمس الدين في أواخر سنة سبع وثمانين، ودرس بدار الحديث الاشرفية بالسفح، توفي ليلة الخميس الثاني والعشرين من شوال، وقد قارب الستين (2)، ودفن من الغد بمقبرة جده بالسفح، وحضر نائب السلطنة والقضاة والاعيان جنازته، وعمل من الغد عزاؤه بجامع المظفري، وباشر القضاء بعده تقي الدين سليمان بن حمزة، وكذا مشيخة دار الحديث الاشرفية بالسفح، وقد وليها شرف الدين الغابر الحنبلي النابلسي مدة شهور، ثم صرف عنها واستقرت بيد التقي سليمان المقدسي.
الشيخ الامام العالم الناسك أبو محمد بن أبي حمزة المغربي المالكي، توفي بالديار المصرية في ذي القعدة، وكان قوالا بالحق، أمارا بالمعروف ونهاءا عن المنكر.
__________
(1) في السلوك 1 / 817 وتذكرة النبيه 1 / 189: الحسن.
(2) في السلوك 1 / 817: سبع وخمسين سنة، وفي تذكرة النبيه 1 / 189: كان مولده سنة 638 ه.
الصاحب محيي الدين بن النحاس
أبو عبد الله محمد بن بدر الدين يعقوب بن إبراهيم بن عبد الله (1) بن طارق بن سالم بن النحاس الاسدي الحلبي الحنفي، ولد سنة أربع عشرة وستمائة بحلب، واشتغل وبرع وسمع الحديث وأقام بدمشق مدة، ودرس بها بمدارس كبار، منها الظاهرية والريحانية (2)، وولي قضاء بحلب والوزارة بدمشق، ونظر الخزانة ونظر الدواوين والاوقاف، ولم يزل مكرما معظما معروفا بالفضيلة والانصاف في المناظرة، محبا للحديث وأهله على طريقة السلف، وكان يحب الشيخ عبد القادر وطائفته، توفي بالمزة عشية الاثنين سلخ ذي الحجة، وقد جاوز الثمانين، ودفن يوم الثلاثاء مستهل سنة ست وتسعين بمقبرة له بالمزة، وحضر جنازته نائب السلطنة والقضاة.
قاضي القضاة تقي الدين أبو القاسم عبد الرحمن بن قاضي القضاة تاج الدين أبي محمد عبد الوهاب بن القاضي الاعز أبي القاسم خلف بن بدر العلائي الشافعي، توفي في جمادى الاولى ودفن بالقرافة بتربتهم.
ثم دخلت سنة ست وتسعين وستمائة استهلت والخليفة والسلطان ونائب مصر ونائب الشام والقضاة هم المذكورون في التي قبلها والسلطان الملك العادل كتبغا في نواحي حمص يتصيد، ومعه نائب مصر لاجين وأكابر الامراء، ونائب الشام بدمشق وهو الامير سيف الدين غرلو العادلي.
فلما كان يوم الاربعاء ثاني المحرم دخل السلطان كتبغا إلى دمشق وصلى الجمعة بالمقصورة وزار قبر هود وصلى عنده، وأخذ من الناس قصصهم بيده، وجلس دار العدل في يوم السبت ووقع على القصص هو ووزيره فخر الدين الخليلي.
وفي هذا الشهر حضر شهاب الدين بن محيي الدين بن النحاس في مدرستي أبيه الريحانية (2) والظاهرية وحضر الناس عنده، ثم حضر السلطان دار العدل يوم الثلاثاء وجاء يوم الجمعة فصلى الجمعة بالمقصورة ثم صعد في هذا اليوم إلى مغارة الدم لزيارتها، ودعا هنالك وتصدق بجمله من المال، وحضر الوزير الخليلي ليلة الاحد ثالث عشر المحرم إلى الجامع بعد العشاء فجلس عند شباك الكاملية وقرأ القراؤن بين يديه، ورسم بأن يكمل داخل الجامع بالفرش
__________
(1) في تذكرة النبيه 1 / 190: هبة الله.
انظر السلوك 1 / 817.
(2) في الاصل: الزنجانية تحريف.
والمدرسة الريحانية بدمشق أنشأها خواجا ريحان الطواشي خادم نور الدين محمود بن زنكي في سنة 565 ه (الدارس 1 / 522).
ففعلوا ذلك، واستمر ذلك نحوا من شهرين ثم عاد إلى ما كان عليه.
وفي صبيحة هذا اليوم درس القاضي شمس الدين بن الحريري بالقيمازية عوضا عن ابن النحاس باتفاق بينهم، وحضر عنده جماعة، ثم صلى السلطان الجمعة الاخرى بالمقصورة ومعه وزيره ابن الخليلي وهو ضعيف من مرض أصابه، وفي سابع عشر المحرم أمر للملك الكامل بن الملك السعيد بن الصالح إسماعيل بن العادل بطبلخانة (1) ولبس الشربوش، ودخل القلعة ودقت له الكوسات على بابه، ثم خرج السلطان العادل كتبغا بالعساكر من دمشق بكرة الثلاثاء ثاني عشرين المحرم، وخرج بعده الوزير فاجتاز بدار الحديث، وزار الاثر النبوي، وخرج إليه الشيخ زين الدين الفارقي وشافهه بتدريس الناصرية، وترك زين الدين تدريس الشامية البرانية فوليها القاضي كمال الدين بن الشريشي، وذكر أن الوزير أعطى الشيخ شيئا من حطام الدنيا فقبله، وكذلك أعطى خادم الاثر وهو المعين خطاب.
وخرج الاعيان والقضاة مع الوزير لتوديعه.
ووقع في هذا اليوم مطر جيد استشفى الناس به وغسل آثار العساكر من الاوساخ وغيرها، وعاد التقي توبة من توديع الوزير وقد فوض إليه نظر الخزانة وعزل عنها شهاب الدين بن النحاس، ودرس الشيخ ناصر الدين بالناصرية الجوانية عوضا عن القاضي بدر الدين بن جماعة في يوم الاربعاء آخر يوم من المحرم.
وفي هذا اليوم تحدث الناس فيما بينهم بوقوع تخبيط بين العساكر، وخلف وتشويش، فغلق باب القلعة الذي يلي المدينة، ودخل الصاحب شهاب الدين إليها من ناحية الخوخة، وتهيأ النائب والامراء وركب طائفة من الجيش على باب النصر وقوفا، فلما كان وقت العصر وصل السلطان الملك العادل كتبغا إلى القلعة في خمسة أنفس أو ستة من مماليكه، فدخل القلعة فجاء إليه الامراء
وأحضر ابن جماعة وحسام الدين الحنفي، وجددوا الحلف للامراء ثانية فحلفوا، وخلع عليهم، وأمر بالاحتياط على نواب الامير حسام الدين لاجين وحواصله، وأقام العادل بالقلعة هذه الايام، وكان الخلف الذي وقع بينهم بوادي فحمة يوم الاثنين التاسع والعشرين من المحرم، وذلك أن الامير حسام الدين لاجين كان قد واطأ جماعة من الامراء في الباطن على العادل، وتوثق منهم وأشار على العادل حين خرجوا من دمشق أن يستصحب معه الخزانة، وذلك لئلا يبقى بدمشق شئ من المال يتقوى به العادل إن فاتهم ورجع إلى دمشق، ويكون قوة له هو في الطريق على ما عزم عليه من الغدر، فلما كانوا بالمكان المذكور قتل لاجين الامير سيف الدين بيحاص (2) وبكتوت الازرق
__________
(1) الطبلخانة: كلمة فارسية معناها فرقة الموسيقى السلطانية أو بيت الطبل ويشتمل على الطبول والابواق.
والطبلخانة أيضا المكان المخصص من حواصل السلطان لطبول الفرقة وأبواقها وتوابعها من الآلات.
ويحكم على ذلك أمير من أمراء العشرات ويعرف بأمير علم.
(التعريف بمصطلحات صبح الاعشى ص 228).
(2) في مختصر أبي الفداء 4 / 34 والسلوك 1 / 820: بتخاص.
وانظر بدائع الزهور 1 / 1 / 391.
العادليين، وأخذ الخزانة من بين يديه والعسكر، وقصدوا الديار المصرية، فلما سمع العادل بذلك خرج في الدهليز وساق جريدة إلى دمشق فدخلها كما ذكرنا، وتراجع إليه بعض مماليكه كزين الدين غلبك وغيره، ولزم شهاب الدين الحنفي القلعة لتدبير المملكة، ودرس ابن الشريشي بالشامية البرانية بكرة يوم الخميس مستهل صفر، وتقلبت أمور كثيرة في هذه الايام، ولزم السلطان القلعة لا يخرج منها، وأطلق كثيرا من المكوس، وكتب بذلك تواقيع وقرئت على الناس، وغلا السعر جدا فبلغت الغرارة مائتين، واشتد الحال وتفاقم الامر، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
سلطنة الملك منصور لاجين السلحداري وذلك أنه لما استاق الخزانة وذهب بالجيوش إلى الديار المصرية دخلها في أبهة عظيمة، وقد اتفق معه جمهور الامراء الكبار وبايعوه وملكوه عليهم، وجلس على سرير الملك يوم الجمعة عاشر
صفر، ودقت بمصر البشائر، وزينت البلد، وخطب له على المنابر، وبالقدس والخليل، ولقب بالملك المنصور، وكذلك دقت له البشائر بالكرك ونابلس وصفد، وذهبت إليه طائفة من أمراء دمشق، وقدمت التجريدة من جهة الرحبة صحبة الامير سيف الدين كجكن فلم يدخلوا البلد بل نزلوا بميدان الحصن (1)، وأظهروا مخالفة العادل وطاعة المنصور لاجين صاحب مصر، وركب إليه الامراء طائفة بعد طائفة، وفوجا بعد فوج، فضعف أمر العادل جدا، فلما رأى انحلال أمره قال للامراء: هو خشداشي وأنا وهو شئ واحد، وأنا سامع له مطيع، وأنا أجلس في أي مكان من القلعة أراد، حتى تكاتبوه وتنظروا ما يقول.
وجاءت البريدية بالمكاتبات بالامر بالاحتياط على القلعة وعلى العادل وبقي الناس في هرج وأقوال ذات ألوان مختلفة، وأبواب القلعة مغلقة، وأبواب البلد سوى باب النصر إلا الخوخة، والعامة حول القلعة قد ازدحموا حتى سقطت طائفة منهم بالخندق فمات بعضهم، وأمسى الناس عشية السبت وقد أعلن باسم الملك المنصور لاجين، ودقت البشائر بذلك بعد العصر ودعا له المؤذنون في سحر ليلة الاحد بجامع دمشق، وتلوا قوله تعالى (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء) الآية [ آل عمران: 26 ].
وأصبح الناس يوم الاحد فاجتمع القضاة والامراء وفيهم غرلو العادلي بدار السعادة فحلفوا للمنصور لاجين، ونودي بذلك في البلد، وأن يفتح الناس دكاكينهم، واختفى الصاحب شهاب الدين وأخوه زين الدين المحتسب، فعمل الوالي ابن النشابي حسبة البلد، ثم ظهر زين الدين فباشرها على عادته.
وكذلك ظهر أخوه شهاب الدين، وسافر نائب البلد غرلو والامير جاعان إلى
__________
(1) في السلوك 1 / 824: ميدان الحصا قريبا من مسجد القدم.
الديار المصرية يعلمان السلطان بوقوع التحليف على ما رسم به، وجاء كتاب السلطان أنه جلس على السرير يوم الجمعة عاشر صفر، وشق القاهرة في سادس عشره (1) في أبهة المملكة، وعليه الخلعة الخليفية (2) والامراء بين يديه، وأنه قد استناب بمصر الامير سيف الدين سنقر المنصوري،
وخطب للمنصور لاجين بدمشق أول يوم ربيع الاول، وحضر المقصورة القضاة وشمس الدين الاعسر وكجكن، واستدمر وجماعة من أمراء دمشق، وتوجه القاضي إمام الدين القزويني وحسام الدين الحنفي وجمال الدين المالكي إلى الديار المصرية مطلوبين، وقدم الامير حسام الدين أستاذ دار السلطان، وسيف الدين جاعان من جهة السلطان فحلفوا الامراء ثانية ودخلوا على العادل القلعة ومعهم القاضي بدر الدين بن جماعة وكجكن فحلفوه أيمانا مؤكدة بعد ما طال بينهم الكلام بالتركي، وذكروا بالتركي في مبايعته أنه راض من البلدان أي بلد كان، فوقع التعيين بعد اليمين على قلعة صرخد، وجاءت المراسيم بالوزارة لتقي الدين توبة، وعزل شهاب الدين الحنفي، وبالحسبة لامين الدين يوسف الارمني الرومي صاحب شمس الدين الايكي، عوضا عن زين الدين الحنفي، ودخل الامير سيف الدين قبجق المنصوري على نيابة الشام إلى دمشق بكرة السبت السادس عشر من ربيع الاول، ونزل دار السعادة عوضا عن سيف الدين غرلو العادلي، وقد خرج الجيش بكماله لتلقيه، وحضر يوم الجمعة إلى المقصورة فصلى بها وقرأ بعد الجمعة كتاب سلطاني حسامي بإبطال الضمانات من الاوقاف والاملاك بغير رضى أصحابها، قرأه القاضي محيي الدين ابن فضل الله صاحب ديوان الانشاء، ونودي في البلد من له مظلمة فليأت يوم الثلاثاء إلى دار العدل، وخلع على الامراء والمقدمين وأرباب المناصب من القضاة والكتبة، وخلع على ابن جماعة خلعتين واحدة للقضاء والاخرى للخطابة.
ولما كان في شهر جمادى الآخرة وصل البريد فأخبر بولاية إمام الدين القزويني (3) القضاء بالشام عوضا عن بدر الدين بن جماعة، وإبقاء ابن جماعة على الخطابة، وتدريس القيمرية التي كانت بيد إمام الدين، وجاء كتاب السلطان بذلك وفيه احترام وإكرام له، فدرس بالقيمرية (4)
__________
(1) في السلوك 1 / 822: يوم الخميس خامس عشر صفر.
الخلعة الخليفية وكانت تتألف من جبة سوداء بزيق وأكمام واسعة (السلوك 1 / 823)، قلت والزيق من القميص ما أحاط منه بالعنق، والزيق في النسائج عند العامة الخط الدقيق المنسوج فيها مخالفا لونها، وقد يراد بالزيق أيضا قدة من الثوب (محيط المحيط).
(3) وهو إمام الدين عمر بن عبد الرحمن بن عمر بن أحمد بن عبد الكريم القزويني الشافعي، وكان السلطان قد عرض عليه قضاء القضاة بديار مصر فلم يقبل واختار دمشق، فولاه قضاء القضاة بدمشق في رابع جمادى الاولى.
(4) المدرسة القيمرية الكبرى بدمشق، أنشأها القيمري الامام مقدم الجيوش ناصر الدين حسين بن عبد العزيز المتوفى سنة 665 ه (الدارس 1 / 441).
يوم الخميس ثاني رجب، ودخل إمام الدين إلى دمشق عقيب صلاة الظهر يوم الاربعاء الثامن من رجب فجلس بالعادلية وحكم بين الناس وامتدحه الشعراء بقصائد، منها قصيدة لبعضهم يقول في أولها: تبدلت الايام من بعد عسرها يسرا * فأضحت ثغور الشام تفتر بالبشرى وكان حال دخوله عليه خلعة السلطان ومعه القاضي جمال الدين الزواوي، قاضي قضاة المالكية وعليه خلعة أيضا، وقد شكر سيرة إمام الدين في السفر، وذكر من حسن أخلاقه ورياضته ما هو حسن جميل ودرس بالعادلية بكرة الاربعاء منتصف رجب، وأشهد عليه بعد الدرس بولاية أخيه جلال الدين نيابة الحكم، وجلس في الديوان الصغير وعليه الخلعة، وجاء الناس يهنئونه وقرئ تقليده يوم الجمعة بالشباك الكمالي بعد الصلاة بحضرة نائب السلطنة وبقية القضاة، قرأه شرف الدين الفزاري.
وفي شعبان وصل الخبر بأن شمس الدين الاعسر تولى بالديار المصرية شد الدواوين والوزارة، وباشر المنصبين جميعا، وباشر نظر الدواوين بدمشق فخر الدين بن السيرجي عوضا عن زين الدين بن صصرى، ثم عزل بعد قليل بشهر أو أقل بأمين الدين بن هلال، وأعيدت الشامية البرانية إلى الشيخ زين الدين الفارقي مع الناصرية بسبب غيبة كمال الدين بن الشريشي بالقاهرة.
وفي الرابع عشر من ذي القعدة أمسك الامير شمس الدين قراسنقر المنصوري نائب الديار المصرية لاجين هو وجماعة من الامراء معه، واحتيط على حواصلهم وأموالهم بمصر والشام (1)، وولى السلطان نيابة مصر للامير سيف الدين منكوتمر الحسامي، وهؤلاء الامراء الذين مسكهم هم الذين
كانوا قد أعانوه وبايعوه على العادل كتبغا، وقدم الشيخ كمال الدين الشريشي ومعه توقيع بتدريس الناصرية عوضا عن الشامية البرانية، وأمسك الامير شمس الدين سنقر الاعسر وزير مصر وشاد الدواوين يوم السبت الثالث والعشرين من ذي الحجة، واحتيط على أمواله وحواصله بمصر والشام.
ونودي بمصر في ذي الحجة أن لا يركب أحد من أهل الذمة فرسا ولا بغلا، ومن وجد منهم راكبا ذلك أخذ منه.
وفيها ملك اليمن السلطان الملك المؤيد هزبر الدين داود بن الملك المظفر المتقدم ذكره في التي قبلها.
وممن توفي فيها من الاعيان: قاضي قضاة الحنابلة بمصر عز الدين عمر بن عبد الله بن عمر بن عوض المقدسي الحنبلي، سمع الحديث وبرع في
__________
(1) قال في النجوم الزاهرة 8 / 87: كان السبب في القبض عليه خروجه عن الآداب الملوكية وجاء في تذكرة النبيه 1 / 195: انه أظهر من الحمق والكبر فيها ما غير به خواطر العسكر عليه وعلى استاذه.
المذهب وحكم بمصر، وكان مشكورا في سيرته وحكمه، توفي في صفر ودفن بالمقطم، وتولى بعده شرف الدين عبد الغني بن يحيى بن محمد بن عبد الله بن نصر الحراني بديار مصر.
الشيخ الامام الحافظ القدوة عفيف الدين أبو محمد عبد السلام بن محمد بن مزروع بن أحمد بن عزاز البصري (1) الحنبلي، توفي بالمدينة النبوية في أواخر صفر، ولد سنة خمس وعشرين وستمائة، وسمع الحديث الكثير، وجاور بالمدينة النبوية خمسين سنة، وحج فيها أربعين حجة متوالية، وصلي عليه بدمشق صلاة الغائب رحمه الله.
الشيخ شيث بن الشيخ علي الحريري توفي بقرية بسر من حوران يوم الجمعة ثالث عشر ربيع الآخر وتوجه أخوه حسن والفقراء من دمشق إلى هناك لتعزية أخيهم حسن الاكبر فيه.
الشيخ الصالح المقري جمال الدين عبد الواحد بن كثير بن ضرغام المصري، ثم الدمشقي، نقيب السبع الكبير والغزالية، كان قد قرأ على السخاوي وسمع الحديث، توفي في أواخر رجب وصلي عليه بالجامع الاموي ودفن بالقرب من قبة الشيخ رسلان.
واقف السامرية الصدر الكبير سيف الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن علي بن جعفر البغدادي السامري (2) واقف السامرية التي إلى جانب الكروسية بدمشق، وكانت داره التي يسكن بها، ودفن بها ووقفها دار حديث وخانقاه، وكان قد انتقل إلى دمشق وأقام بها بهذه الدار مدة، وكانت قديما تعرف بدار ابن قوام، بناها من حجارة منحوتة كلها، وكان السامري كثير الاموال حسن الاخلاق معظما عند الدولة، جميل المعاشرة، له أشعار رائقة ومبتكرات فائقة، توفي يوم الاثنين ثامن عشر شعبان،
__________
(1) من السلوك 1 / 1 / 831 وتذكرة النبيه 1 / 198، وفي الاصل: المصري تحريف.
وانظر شذرات الذهب 5 / 435 العيني: عقد الجمان حوادث سنة 696 ه.
(2) ورد في بعض المصادر السرمرآي، وفي الحالتين الاسم صحيح فهو نسبة إلى سر من رأى وهي نفسها مدينة سامرا (انظر معجم البلدان، والصقاعي في تالي وفيات الاعيان ص 25 / تر: 38).
وقد كان ببغداد له حظوة عند الوزير ابن العلقمي، وامتدح المعتصم وخلع عليه خلعة سوداء سنية، ثم قدم دمشق في أيام الناصر صاحب حلب فحظي عنده أيضا فسعى فيه أهل الدولة فصنف فيهم أرجوزة فتح عليهم بسببها بابا فصادرهم الملك بعشرين ألف دينار، فعظموه جدا وتوسلوا به إلى أغراضهم، وله قصيدة في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كتب عنه الحافظ الدمياطي شيئا من شعره.
واقف النفيسية التي بالرصيف الرئيس نفيس الدين أبو الفداء إسماعيل بن محمد بن عبد الواحد بن إسماعيل بن سلام بن
علي بن صدقة الحراني، كان أحد شهود القيمة بدمشق، وولي نظر الايتام في وقت، وكان ذا ثروة من المال، ولد سنة ثمان وعشرين وستمائة، وسمع الحديث ووقف داره دار حديث، توفي يوم السبت بعد الظهر الرابع من ذي القعدة، ودفن بسفح قاسيون بكرة يوم الاحد بعد ما صلي عليه بالاموي.
الشيخ أبو الحسن المعروف بالساروب الدمشقي يلقب بنجم الدين، ترجمه الحريري فأطنب، وذكر له كرامات وأشياء في علم الحروف وغيرها والله أعلم بحاله.
وفيها قتل قازان الامير نوروز (1) الذي كان إسلامه على يديه، كان نوروز هذا هو الذي استسلمه ودعاه للاسلام فأسلم وأسلم معه أكثر التتر، فإن التتر شوشوا خاطر قازان عليه واستمالوه منه وعنه، فلم يزل به حتى قتله وقتل جميع من ينسب إليه، وكان نوروز هذا من خيار أمراء التتر عند قازان وكان ذا عبادة وصدق في إسلامه وأذكاره وتطوعاته، وقصده الجيد رحمه الله وعفا عنه، ولقد أسلم على يديه منهم خلق كثير لا يعلمهم إلا الله، واتخذوا السبح والهياكل وحضروا الجمع والجماعات وقرأوا القرآن والله أعلم.
ثم دخلت سنة سبع وتسعين وستمائة استهلت والخليفة الحاكم والسلطان لاجين ونائب مصر منكوتمر ونائب دمشق قبجق.
وفي عاشر صفر تولى جلال الدين بن حسام الدين القضاء مكان أبيه بدمشق، وطلب أبوه إلى مصر
__________
(1) ذكر أبو الفداء في مختصر 4 / 37 قتله في سنة 697 ه قال: وقتله لانه نسبه إلى مكاتبة المسلمين ورتب موضع نيروز قطلوشاه (انظر السلوك 1 / 837).
فأقام عند السلطان وولاه قضاء قضاة مصر للحنفية عوضا عن شمس الدين السروجي، واستقر ولده بدمشق قاضي قضاة الحنفية، ودرس بمدرستي أبيه الخاتونية والمقدمية، وترك مدرسة القصاعين والشبلية وجاء الخبر على يدي البريد بعافية السلطان من الوقعة التي كان وقعها فدقت
البشائر وزينت البلد، فإنه سقط عن فرسه وهو يلعب بالكرة، فكان كما قال الشاعر: حويت بطشا وإحسانا ومعرفة * وليس يحمل هذا كله الفرس وجاء على يديه تقليد وخلعة لنائب السلطنة، فقرأ التقليد وباس العتبة.
وفي ربيع الاول درس بالجوزية عز الدين ابن قاضي القضاة تقي الدين سليمان وحضر عنده إمام الدين الشافعي وأخوه جلال الدين وجماعة من الفضلاء، وبعد التدريس جلس وحكم عن أبيه بإذنه في ذلك.
وفي ربيع الاول غضب قاضي القضاة تقي الدين بن دقيق العيد وترك الحكم بمصر أياما، ثم استرضي وعاد وشرطوا عليه أن لا يستنيب ولده المحب، وفي يوم الجمعة عاشر ربيع الآخر أقيمت الجمعة بالمدرسة المعظمية وخطب فيها مدرسها القاضي شمس الدين بن المعز الحنفي، واشتهر في هذا الحين القبض على بدر الدين بيسرى واحتيط على أمواله بديار مصر، وأرسل السلطان بجريدة صحبة علم الدين الدويداري إلى تل حمدون ففتحه بحمد الله ومنه، وجاء الخبر بذلك إلى دمشق في الثاني عشر من رمضان، وخربت به الخليلية (1) وأذن بها الظهر، وكان أخذها يوم الاربعاء سابع رمضان، ثم فتحت مرعش بعدها فدقت البشائر، ثم انتقل الجيش إلى قلعة حموص (2) فأصيب جماعة من الجيش منهم الامير علم الدين سنجر طقصبا أصابه زيار في فخذه (3)، وأصاب الامير علم الدين الدويداري حجر في رجله (4).
ولما كان يوم الجمعة سابع عشر شوال عمل الشيخ تقي الدين بن تيمية ميعادا في الجهاد وحرض فيه وبالغ في أجور المجاهدين، وكان ميعادا حافلا جليلا.
__________
(1) في السلوك 1 / 839: نجيمة، وبعد تسلمها أقام بها من يحفظها.
(2) كذا بالاصل وتاريخ أبي الفداء، وفي السلوك 1 / 840: حميص، والصواب ما أثبتناه، وقلعة حموص موقعها شرقي تل حمدون.
(3) أما في السلوك فقال: وقتل في هذه النوبة الامير علم الدين طقصبا الناصري 1 / 840.
(4) أصابه حجر منجنيق فقطع مشط رجله وسقط عن فرسه وكادوا يأخذونه إلا أن جماعة بادرت وحملته إلى وطاقه ولزم الفراش فعاد إلى حلب ومنها إلى القاهرة واستشهد في وقعة شقحب سنة 702 ه (السلوك 1 / 840 ابن
حجر: الدرر الكامنة 3 / 357).
وفي هذا الشهر عاد الملك المسعود بن خضر بن الظاهر من بلاد الاشكري إلى ديار مصر بعد أن مكث هناك من زمن الاشرف بن المنصور، وتلقاه السلطان بالموكب وأكرمه وعظمه.
وحج الامير خضر بن الظاهر في هذه السنة مع المصريين وكان فيهم الخليفة الحاكم بأمر الله العباسي.
وفي شهر شوال جلس المدرسون بالمدرسة التي أنشأها نائب السلطنة بمصر وهي المنكوتمرية داخل باب القنطرة.
وفيها دقت البشائر لاجل أخذ قلعتي حميمص ونجم من بلاد سيس.
وفيها وصلت الجريدة من بلاد مصر قاصدين بلاد سيس مددا لاصحابهم، وهي نحو ثلاثة آلاف مقاتل، وفي منتصف ذي الحجة أمسك الامير عز الدين أيبك الحموي الذي كان نائب الشام هو وجماعة من أهله وأصحابه من الامراء.
وفيها قلت المياه بدمشق جدا حتى بقي ثورا في بعض الاماكن لا يصل إلى ركبة الانسان، وأما بردى فإنه لم يبق فيه مسكة ماء ولا يصل إلى جسر حسرين، وغلا سعر الثلج بالبلد.
وأما نيل مصر فإنه كان في غاية الزيادة والكثرة.
وممن توفي فيها من الاعيان: الشيخ حسن بن الشيخ علي الحريري في ربيع الاول بقرية بسر، وكان من كبار الطائفة، وللناس إليه ميل لحسن أخلاقه وجودة معاشرته، ولد سنة إحدى وعشرين وستمائة.
الصدر الكبير شهاب الدين أبو العباس أحمد بن عثمان بن أبي الرجا بن أبي الزهر التنوخي المعروف بابن السلعوس، أخو الوزير، قرأ الحديث وسمع الكثير، وكان من خيار عباد الله، كثير الصدقة والبر، توفي بداره في جمادى الاولى، وصلي عليه بالجامع ودفن بباب الصغير، وعمل عزاؤه بمسجد ابن هشام، وقد ولي في وقت نظر الجامع وشكرت سيرته، وحصل له وجاهة عظيمة عريضة أيام وزارة أخيه، ثم عاد إلى ما كان عليه قبل ذلك حتى توفي، وشهد جنازته خلق كثير من الناس.
الشيخ شمس الدين الايكي محمد بن أبي بكر بن محمد الفارسي، المعروف بالايكي، أحد الفضلاء الحلالين للمشكلات، الميسرين المعضلات، لا سيما في علم الاصلين والمنطق، وعلم الاوائل، باشر في
وقت مشيخة الشيوخ (1) بمصر، وأقام مدرس الغزالية قبل ذلك، توفي بقرية المزة يوم جمعة، ودفن يوم السبت ومشى الناس في جنازته، منهم قاضى القضاة إمام الدين القزويني، وذلك في الرابع من رمضان (2) ودفن بمقابر الصوفية إلى جانب الشيخ شملة وعمل عزاؤه بخانقاه السميساطية، وحضر جنازته خلق كثير، وكان معظما في نفوس كثير من العلماء وغيرهم.
الصدر ابن عقبة إبراهيم بن أحمد بن عقبة بن هبة الله بن عطاء البصراوي، درس وأعاد، وولي في وقت قضاء حلب، ثم سافر قبل وفاته إلى مصر فجاء بتوقيع فيه قضاة حلب، فلما اجتاز دمشق، توفي بها في رمضان من هذه السنة، وله سبع وثمانون سنة.
يشيب المرء ويشب معه خصلتان الحرص وطول الامل.
الشهاب العابر أحمد بن عبد الرحمن بن عبد المنعم بن نعمة المقدسي الحنبلي شهاب الدين عابر الرؤيا، سمع الكثير وروى الحديث.
وكان عجبا في تفسير المنامات، وله فيه اليد الطولى، وله تصنيف فيه ليس كالذي يؤثر عنه من الغرائب والعجائب، ولد سنة ثمان وعشرين وستمائة، توفي في ذي القعدة ودفن بباب الصغير وكانت جنازته حافلة رحمه الله.
تم الجزء الثالث عشر من البداية والنهاية.
ويليه الجزء الرابع عشر.
وأوله سنة ثمان وتسعين وستمائة
__________
(1) مشيخة الشيوخ: ويقصد بها الخانكاه الصلاحية دار سعيد السعداء التي أوقفها برسم الفقراء الصوفية السلطان صلاح الدين الايوبي وعرف شيخها باسم شيخ الشيوخ حتى سنة 806 ه عندما تلاشت الالقاب وأصبح يطلق على كل شيخ خانكاه
وقت مشيخة الشيوخ (1) بمصر، وأقام مدرس الغزالية قبل ذلك، توفي بقرية المزة يوم جمعة، ودفن يوم السبت ومشى الناس في جنازته، منهم قاضى القضاة إمام الدين القزويني، وذلك في الرابع من رمضان (2) ودفن بمقابر الصوفية إلى جانب الشيخ شملة وعمل عزاؤه بخانقاه السميساطية، وحضر جنازته خلق كثير، وكان معظما في نفوس كثير من العلماء وغيرهم.
الصدر ابن عقبة إبراهيم بن أحمد بن عقبة بن هبة الله بن عطاء البصراوي، درس وأعاد، وولي في وقت قضاء حلب، ثم سافر قبل وفاته إلى مصر فجاء بتوقيع فيه قضاة حلب، فلما اجتاز دمشق، توفي بها في رمضان من هذه السنة، وله سبع وثمانون سنة.
يشيب المرء ويشب معه خصلتان الحرص وطول الامل.
الشهاب العابر أحمد بن عبد الرحمن بن عبد المنعم بن نعمة المقدسي الحنبلي شهاب الدين عابر الرؤيا، سمع الكثير وروى الحديث.
وكان عجبا في تفسير المنامات، وله فيه اليد الطولى، وله تصنيف فيه ليس كالذي يؤثر عنه من الغرائب والعجائب، ولد سنة ثمان وعشرين وستمائة، توفي في ذي القعدة ودفن بباب الصغير وكانت جنازته حافلة رحمه الله.
تم الجزء الثالث عشر من البداية والنهاية.
ويليه الجزء الرابع عشر.
وأوله سنة ثمان وتسعين وستمائة
__________
(1) مشيخة الشيوخ: ويقصد بها الخانكاه الصلاحية دار سعيد السعداء التي أوقفها برسم الفقراء الصوفية السلطان صلاح الدين الايوبي وعرف شيخها باسم شيخ الشيوخ حتى سنة 806 ه عندما تلاشت الالقاب وأصبح يطلق على كل شيخ خانكاه لقب شيخ الشيوخ (أنظر المواعظ والاعتبار للمقريزي 2 / 415).
(2) كان مولده سنة 631، قال في السلوك 1 / 851: توفي بدمشق عن ست وستين سنة.
أنظر تذكرة النبيه 1 / 209 تم الجزء
البداية والنهاية - ابن كثير ج 14
البداية والنهاية
ابن كثير ج 14
البداية والنهاية للامام الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن كثير الدمشقي المتوفى سنة 774 ه.
حققه ودقق اصوله وعلق حواشيه علي شيري الجزء الرابع عشر دار إحياء التراث العربي
بسم الله الرحمن الرحيم ثم دخلت سنة ثمان وتسعين وستمائة استهلت والخليفة الحاكم العباسي وسلطان البلاد المنصور لاجين ونائبه بمصر مملوكه سيف الدين منكوتمر، وقاضي الشافعية تقي الدين بن دقيق العيد، والحنفي حسام الدين الرازي، والمالكي والحنبلي كما تقدم، ونائب الشام سيف الدين قبجق المنصوري، وقضاة الشام هم المذكورون في التي قبلها، والوزير تقي الدين توبة، والخطيب بدر الدين بن جماعة.
ولما كان في أثناء المحرم رجعت طائفة من الجيش من بلاد سيس بسبب المرض الذي أصاب بعضهم، فجاء كتاب السلطان بالعتب الاكيد والوعيد الشديد لهم، وأن الجيش يخرج جميعا صحبة نائب السلطنة قبجق إلى هناك ونصب مشانق لمن تأخر بعذر أو غيره، فخرج نائب السلطنة الامير سيف الدين قبجق وصحبته الجيوش وخرج أهل البلد للفرجة على الاطلاب على ما جرت به العادة، فبرز نائب السلطنة في أبهة عظيمة فدعت له العامة وكانوا يحبونه، واستمر الجيش سائرين قاصدين بلاد سيس، فلما وصلوا إلى حمص بلغ الامير سيف الدين قبجق وجماعة من الامراء أن السلطان قد تغلت خاطره بسبب سعي منكوتمر فيهم (1)، وعلموا أن السلطان لا يخالفه لمحبته له،
فاتفق جماعة منهم على الدخول إلى بلاد التتر والنجاة بأنفسهم، فساقوا من حمص فيمن أطاعهم، وهم قبجق وبزلي وبكتمر السلحدار والايلي، واستمروا ذاهبين، فرجع كثير من الجيش إلى دمشق، وتخبطت الامور وتأسفت لعوام على قبجق لحسن سيرته، وذلك في ربيع الآخر من هذه السنة فإنا لله وإنا إليه راجعون.
__________
(1) ذكر المقريزي في السلوك 1 / 833 وما بعدها: أن منكوتمر أمل أن يكون ولي عهد السلطان لاجين خاصة أن السلطان كان قد مرض ولم يكن له ولد ذكر وليا لعهده فعمل على ابعاد منافسيه من الامراء الذين بمصر وتمكن من السعي بهم والقبض عليهم، كما مر معنا في السنة السابقة، وبدا أن السلطان يميل إلى الاحتجاب وتفويض أمور السلطنة إلى منكوتمر.
وبقي عليه أزاحة أمراء الشام وإقامة غيرهم من مماليك السلطان وفي مصر والشام - ليتمكن من مراده.
ذكر مقتل المنصور لاجين وعود الملك إلى محمد بن قلاوون لما كان يوم السبت التاسع عشر من ربيع الآخر وصل جماعة من البريدية وأخبروه بقتل السلطان الملك المنصور لاجين ونائبه سيف الدين منكوتمر، وأن ذلك كان ليلة الجمعة حادي عشره، على يد الامير سيف الدين كرجي الاشرفي (1) ومن وافقه من الامراء، وذلك بحضور القاضي حسام الدين الحنفي وهو جالس في خدمته يتحدثان، وقيل كانا يلعبان بالشطرنج، فلم يشعرا إلا وقد دخلوا عليهم فبادروا إلى السلطان بسرعة جهرة ليلة الجمعة فقتلوه وقتل نائبه صبرا صبيحة يوم الجمعة وألقي على مزبلة، واتفق الامراء على إعادة ابن أستاذهم الملك الناصر محمد بن قلاوون، فأرسلوا وراءه، وكان بالكرك ونادوا له بالقاهرة، وخطب له على المنابر قبل قدومه، وجاءت الكتب إلى نائب الشام قبجق فوجدوه قد فر خوفا من غائلة لاجين، فسارت إليه البريدية فلم يدركوه إلا وقد لحق بالمغول عند رأس العين، من أعمال ماردين، وتفارط الحال ولا قوة إلا بالله.
وكان الذي شمر العزم وراءهم وساق ليردهم الامير سيف الدين بلبان، وقام بأعباء البلد نائب القلعة علم الدين أرجواش، والامير سيف الدين جاعان، واحتاطوا على ما كان له
اختصاص بتلك الدولة، وكان منهم جمال الدين يوسف الرومي محتسب البلد، وناظر المارستان، ثم أطلق بعد مدة وأعيد إلى وظائفه، واحتيط أيضا على سيف الدين جاعان وحسام الدين لاجين والي البر، وأدخلا القلعة، وقتل بمصر الامير سيف الدين (2) طغجي، وكان قد ناب عن الناصر أربعة أيام، وكرجي الذي تولى قتل لاجين فقتلا وألقيا على المزابل، وجعل الناس من العامة وغيرهم يتأملون صورة طغجي، وكان جميل الصورة، ثم بعد الدلال والمال والملك وارتهم هناك قبور، فدفن السلطان لاجين وعند رجليه نائبه منكوتمر، ودفن الباقون في مضاجعهم هنالك.
وجاءت البشائر بدخول الملك الناصر إلى مصر يوم السبت رابع جمادى الاولى (3)، وكان يوما مشهودا، ودقت البشائر ودخل القضاة وأكابر الدولة إلى القلعة، وبويع بحضرة علم الدين أرجواش، وخطب له على المنابر بدمشق وغيرها بحضرة أكابر العلماء والقضاة والامراء، وجاء الخبر بانه قد ركب وشق القاهرة وعليه خلعة الخليفة، والجيش معه مشاة، فضربت البشائر
__________
(1) وهو كرجي بن عبد الله، مقدم المماليك البرجية وهو الذي قتل حسام الدين لاجين فقتله أعوان المنصور لاجين (السلوك 1 / 868 عقد الجمان حوادث سنة 698 ه).
__________
(2) طغجي، ويقال طقجي بن عبد الله (بالقاف) كان أميرا في دولة العادل كتبغا.
__________
(3) قال أبو الفداء في مختصره 4 / 140 واستقر على سرير ملكه يوم السبت رابع عشر جمادى الاولى وفي السلوك 1 / 872: يوم الاثنين سادسه، وجددت له البيعة، وقال في مكان آخر 1 / 869: فأقام التخت بقلعة الجبل خاليا من سلطان (بين مقتل طغجي ووصول الملك الناصر) خمسة وعشرين يوما.
أيضا.
وجاءت مراسيمه فقرئت على السدة وفيها الرفق بالرعايا والامر بالاحسان إليهم، فدعوا له، وقدم الامير جمال الدين آقوش الافرم نائبا على دمشق، فدخلها يوم الاربعاء قبل العصر ثاني عشرين جمادى الاولى، فنزل بدار السعادة على العادة، وفرح الناس بقدومه، وأشعلوا له الشموع، وكذلك يوم الجمعة أشعلوا له لما جاء إلى صلاة الجمعة بالمقصورة.
وبعد أيام أفرج عن جاعان ولاجين والي البر، وعادا إلى ما كانا عليه، واستقر الامير حسام الدين الاستادار أتابكا
للعساكر المصرية، والامير سيف الدين سلار نائبا بمصر، وأخرج الاعسر في رمضان من الحبس وولي الوزارة بمصر، وأخرج قراسنقر المنصوري من الحبس وأعطي نيابة الصبيبة، ثم لما مات صاحب حماة الملك المظفر نقل قراسنقر إليها.
وكان قد وقع في أواخر دولة لاجين بعد خروج قبجق من البلد محنة للشيخ تقي الدين بن تيمية قام عليه جماعة من الفقهاء وأرادوا إحضاره إلى مجلس القاضي جلال الدين الحنفي، فلم يحضر فنودي في البلد في العقيدة التي كان قد سأله عنها أهل حماة المسماة بالحموية، فانتصر له الامير سيف الدين جاعان، وأرسل يطلب الذين قاموا عنده فاختفى كثير منهم، وضرب جماعة ممن نادى على العقيدة فسكت الباقون، فلما كان يوم الجمعة عمل الشيخ تقي الدين الميعاد بالجامع على عادته، وفسر في قوله تعالى (وإنك لعلى خلق عظيم) [ القلم: 4 ] ثم اجتمع بالقاضي إمام الدين يوم السبت واجتمع عنده جماعة من الفضلاء وبحثوا في الحموية وناقشوه في أماكن فيها، فأجاب عنها بما أسكتهم بعد كلام كثير، ثم ذهب الشيخ تقي الدين وقد تمهدت الامور، وسكنت الاحوال، وكان القاضي إمام الدين معتقده حسنا ومقصده صالحا.
وفيها وقف علم الدين سنجر الدويدار رواقه داخل باب الفرج مدرسة ودار الحديث، وولى مشيخته الشيخ علاء الدين بن العطار وحضر عنده القضاة والاعيان، وعمل لهم ضيافة، وأفرج عن قراسنقر.
وفي يوم السبت حادي عشر شوال فتح مشهد عثمان الذي جدده ناصر الدين بن عبد السلام ناظر الجامع، وأضاف إليه مقصورة الخدم من شماليه، وجعل له إماما راتبا، وحاكي به مشهد علي بن الحسين زين العابدين.
وفي العشر الاولى من ذي الحجة عاد القاضي حسام الدين الرازي إلى قضاء الشام، وعزل عن قضاء مصر، وعزل ولده عن قضاء الشام.
وفيها في ذي القعدة كثرت الاراجيف بقصد التتر بلاد الشام وبالله المستعان.
وممن توفي فيها عن الاعيان: الشيخ نظام الدين أحمد بن الشيخ جمال الدين محمود بن أحمد بن عبد السلام الحصري الحنفي، مدرس
النورية ثامن المحرم، ودفن في تاسعه يوم الجمعة في مقابر الصوفية، كان فاضلا، ناب في الحكم
في وقت ودرس بالنورية بعد أبيه، ثم درس بعده الشيخ شمس الدين بن الصدر سليمان بن النقيب.
المفسر الشيخ العالم الزاهد جمال الدين أبو (1) عبد الله محمد بن سليمان بن حسن بن الحسين البلخي، ثم المقدسي الحنفي، ولد في النصف من شعبان سنة إحدى عشرة وستمائة بالقدس، واشتغل بالقاهرة وأقام مدة بالجامع الازهر ودرس في بعض المدارس هناك، ثم انتقل إلى القدس فاستوطنه إلى أن مات في المحرم منها، وكان شيخا فاضلا في التفسير، وله فيه مصنف حافل كبير جمع فيه خمسين مصنفا من التفسير، وكان الناس يقصدون زيارته بالقدس الشريف ويتبركون به.
الشيخ أبو يعقوب المغربي المقيم بالقدس كان الناس يجتمعون به وهو منقطع بالمسجد الاقصى، وكان الشيخ تقي الدين بن تيمية يقول فيه: هو على طريقة ابن عربي وابن سبعين، توفي في المحرم من هذه السنة.
التقي توبة الوزير تقي الدين توبة بن علي بن مهاجر بن شجاع بن توبة الربعي التكريتي، ولد سنة عشرين وستمائة يوم عرفة بعرفة، وتنقل بالخدم إلى أن صار وزيرا بدمشق مرات عديدة (2)، حتى توفي ليلة الخميس ثاني (3) جمادى الآخر ة، وصلي عليه غدوة بالجامع وسوق الخيل، ودفن بتربته تجاه دار الحديث الاشرفية بالسفح، وحضر جنازته القضاة والاعيان، وياشر بعده نظر الدواوين فخر الدين بن الشيرجي، وأخذ أمين الدين بن الهلال نظر الخزانة.
الامير الكبير شمس الدين بيسرى، كان من أكابر الامراء المتقدمين في خدمة الملوك، من زمن قلاوون وهلم جرا، توفي في السجن بقلعة مصر، وعمل له عزاء بالجامع الاموي، وحضره نائب السلطنة
الافرم والقضاة والاعيان.
__________
(1) من السلوك 1 / 881 وتذكره النبيه 1 / 215 والوافي 3 / 136 وفي الاصل: جمال الدين عبد الله بن محمد...وانظر عقد الجمان للعيني حوادث سنة 698 ه.
__________
(2) في السلوك 1 / 881، وتذكره النبيه.
1 / 217: سبع مرات.
__________
(3) في السلوك 1 / 881: ثامن.
السلطان الملك المظفر تقي الدين محمود بن ناصر الدين محمد بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب صاحب حماة، وابن ملوكها كابرا عن كابر، توفي يوم الخميس الحادي والعشرين ين من ذي القعدة، ودفن ليلة الجمعة (1).
الملك الاوحد نجم الدين يوسف بن الملك داود بن المعظم ناظر القدس، توفي به ليلة الثلاثاء 4 رابع (2) ذي القعدة ودفن برباطه عند باب حطة عن سبعين سنة، وحضر جنازته خلق كثير، وكان من خيار أبناء الملوك دينا وفضيلة وإحسانا إلى الضعفاء.
القاضي شهاب الدين يوسف ابن الصالح محب (3) الدين بن النحاس أحد رؤساء الحنفية، ومدرس الزنجانية والظاهرية، توفي ببستانه بالمزة ثالث عشر ذي الحجة، ودرس بعده بالزنجانية القاضي جلال الدين بن حسام الدين.
الصاحب نصر الدين أبو الغنائم سالم بن محمد بن سالم بن هبة الله بن محفوظ بن صصرى التغلبي، كان أحسن حالا من أخيه القاضي نجم الدين، وقد سمع الحديث وأسمعه، كان صدرا معظما، ولي نظر الدواوين ونظر الخزانة، ثم ترك المناصب وحج وجاور بمكة، ثم قدم دمشق فأقام بها دون السنة ومات،
توفي يوم الجمعة ثامن وعشرين ذي الحجة، وصلي عليه بعد الجمعة بالجامع، ودفن بتربتهم بسفح قاسيون، وعمل عزاؤه بالصاحبية.
ياقوت بن عبد الله أبو الدر المستعصمي الكاتب، لقبه جمال الدين، وأصله رومي، كان فاضلا مليح الخط
__________
(1) ومولده بحماه ليلة الاحد 15 محرم سنة 659 ه ومدة ملكه خمس عشرة سنة وشهرا ويوما.
ومات وله إحدى وأربعين سنة، وبعد وفاته خرجت حماة عن البيت التقوي وتولاها - كما مر - شمس الدين قراسنقر المنصوري.
(السلوك 1 / 881 تذكرة النبيه 1 / 214).
__________
(2) في السلوك 1 / 881: في رابع عشري ذي الحجة بالقدس.
__________
(3) في السلوك 1 / 882: محي الدين.
مشهورا بذلك كتب ختما حسانا، وكتب الناس عليه ببغداد، وتوفي بها في هذه السنة، وله شعر رائق، فمنه ما أورده البرزالي في تاريخه عنه: تجدد الشمس شوقي كلما طلعت * إلى محياك يا سمعي ويا بصري (1) وأسهر الليل في أنس بلا ونس * إذ طيب ذكراك في ظلماته يسري (2) وكل يوم مضى لا أراك به * فلست محتسبا ماضيه من عمري ليلي نهار إذا ما درت في خلدي * لان ذكرك نور القلب والبصر ثم دخلت سنة تسع وتسعين وستمائة وفيها كانت وقعة قازان (3)، وذلك أن هذه السنة استهلت والخليفة والسلطان هما المذكوران في التي قبلها، ونائب مصر سلار، ونائب الشام آقوش الافرم، وسائر الحكام هم المذكورون في التي قبلها، وقد تواترت الاخبار بقصد التتار بلاد الشام، وقد خاف الناس من ذلك خوفا شديدا، وجفل الناس من بلاد حلب وحماة، وبلغ كري الخيل من حماة إلى دمشق نحو المائتي درهم، فلما كان يوم الثلاثاء ثاني المحرم ضربت البشائر بسبب خروج السلطان من مصر قاصدا
الشام، فلما كان يوم الجمعة ثامن ربيع الاول دخل السلطان إلى دمشق في مطر شديد ووحل كثير، ومع هذا خرج الناس لتلقيه، وكان قد أقام بغزة قريبا من شهرين، وذلك لما بلغه قدوم التتار إلى الشام، فتهيأ لذلك وجاء فدخل دمشق فنزل بالطارمة، وزينت له والبلد، وكثرت له الادعية وكان وقتا شديدا، وحالا صعبا، وامتلا البلد من الجافين النازحين عن بلادهم، وجلس الاعسر وزير الدولة وطالب العمال واقترضوا أموال الايتام وأموال الاسرى لاجل تقوية الجيش وخرج السلطان بالجيش من دمشق يوم الاحد سابع عشر ربيع الاول ولم يتخلف أحد من الجيوش، وخرج معهم خلق كثير من المتطوعة، وأخذ الناس في الدعاء والقنوت في الصلوات بالجامع وغيره، وتضرعوا واستغاثوا وابتهلوا إلى الله بالادعية.
وقعة قازان لما وصل السلطان إلى وادي الخزندار عند وادي سلمية، فالتقى التتر هناك يوم الاربعاء
__________
(1) عجزه في عقد الجمان (وفيات سنة 698 ه): إلى محياك يا شمسي ويا قمري.
(2) في تذكرة النبيه 1 / 219: واسهر الليل ذا أنس بوحشته * إذ طيب ذكرك في ظلمائه سمري وفي درة الاسلاك لابن حبيب ص 145: وأسمر الليل...* في أنفاسه سمري (3) كذا بالاصل ومختصر أبي الفداء، وفي السلوك 1 / 882 وتذكرة النبيه 1 / 220: غازان.
السابع والعشرين (1) من ربيع الاول فالتقوا معهم فكسروا المسلمين وولى السلطان هاربا فإنا لله وإنا إليه راجعون، وقتل جماعة من الامراء وغيرهم ومن العوام خلق كثير، وفقد في المعركة قاضي قضاة الحنفية (2)، وقد صبروا وأبلوا بلاء حسنا، ولكن كان أمر الله قدرا مقدورا، فولى المسلمون لا يلوي أحد على أحد، ثم كانت العاقبة بعد ذلك للمتقين، غير أنه رجعت العساكر على أعقابها للديار المصرية واجتاز كثير منهم على دمشق، وأهل دمشق في خوف شديد على أنفسهم وأهليهم
وأموالهم، ثم إنهم استكانوا واستسلموا للقضاء والقدر، وماذا يجدي الحذر إذا نزل القدر، ورجع السلطان في طائفة من الجيش على ناحية بعلبك والبقاع، وأبواب دمشق مغلقة، والقلعة محصنة والغلاء شديد والحال ضيق وفرج الله قريب، وقد هرب جماعة من أعيان البلد وغيرهم إلى مصر، كالقاضي إمام الدين الشافعي، وقاضي المالكية الزواوي، وتاج الدين الشيرازي، وعلم الدين الصوابي والي البر، وجمال الدين بن النحاس والي المدينة، والمحتسب وغيرهم من التجار والعوام، وبقي البلد شاغرا ليس فيهم حاكم سوى نائب القلعة.
وفي ليلة الاحد ثاني ربيع الاول كسر المحبوسون بحبس ابا الصغير الحبس وخرجوا منه على حمية، وتفرقوا في البلد، وكانوا قريبا من مائتي رجل فنهبوا ما قدروا عليه وجاءوا إلى باب الجابية فكسروا أقفال الباب البراني وخرجوا منه إلى بر البلد، فتفرقوا حيث شاؤوا لا يقدر أحد على ردهم، وعاثت الحرافشة في ظاهر البلد فكسروا أبواب البساتين وقلعوا من الابواب والشبابيك شيئا كثيرا، وباعوا ذلك بأرخص الاثمان، هذا وسلطان التتار قد قصد دمشق بعد الوقعة، فاجتمع أعيان البلد (3) والشيخ تقي الدين بن تيمية في مشهد علي واتفقوا على المسير إلى قازان لتلقيه، وأخذ الامان منه لاهل دمشق، فتوجهوا يوم الاثنين ثالث ربيع الآخر فاجتمعوا به عند النبك (4)، وكلمه الشيخ تقي الدين كلاما قويا شديدا فيهم مصلحة عظيمة عاد نفعها على المسلمين ولله الحمد.
ودخل المسلمون ليلتئذ من جهة قازان فنزلوا بالبدرانية وغلقت أبواب البلد سوى باب توما، وخطب الخطيب بالجامع يوم الجمعة، ولم يذكر سلطانا في خطبته، وبعد الصلاة قدم الامير إسماعيل ومعه جماعة من الرسل فنزلوا ببستان الظاهر عند الطرن.
وحضر الفرمان بالامان وطيف به في البلد، وقرئ يوم السبت ثامن الشهر بمقصورة الخطابة، ونثر شئ من الذهب والفضة.
__________
(1) في السلوك 1 / 886: ثامن عشريه (انظر تذكرة النبيه 1 / 220 ومختصر أبي الفداء 4 / 43).
__________
(2) وهو حسام الدين حسن بن أحمد الرومي الحنفي.
__________
(3) ومنهم: قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة، والشريف زين الدين..بن عدنان، والصاحب فخر الدين..بن الشيرجي، وعز الدين حمزة بن القلانسي...وغيرهم.
(السلوك 1 / 889) زاد ابن إياس في
بدائع الزهور 1 / 1 / 404: والقاضي نجم الدين بن الصصري، والقاضي عز الدين بن الزكي، والقاضي جلال الدين القزويني..
__________
(4) النبك: قرية بين حمص ودمشق (معجم البلدان).
وفي ثاني يوم من المناداة بالامان طلبت الخيول والسلاح والاموال المخبأة عند الناس من جهة الدولة، وجلس ديوان الاستخلاص إذ ذاك بالمدرسة القيمرية، وفي يوم الاثنين عاشر الشهر قدم سيف الدين قبجق المنصوري فنزل في الميدان واقترب جيش التتر وكثر العيث في ظاهر البلد، وقتل جماعة وغلت الاسعار بالبلد جدا، وأرسل قبجق إلى نائب القلعة ليسلمها إلى التتر فامتنع أرجواش من ذلك أشد الامتناع، فجمع له قبجق أعيان البلد فكلموه أيضا فلم يجبهم إلى ذلك، وصمم على ترك تسليمها إليهم وبها عين تطرف، فإن الشيخ تقي الدين بن تيمية أرسل إلى نائب القلعة يقول له ذلك، لو لم يبق فيها إلا حجر واحد فلا تسلمهم ذلك إن استطعت، وكان في ذلك مصلحة عظيمة لاهل الشام فإن الله حفظ لهم هذا الحصن والمعقل الذي جعله الله حرزا لاهل الشام التي لا تزال دار إيمان وسنة، حتى ينزل بها عيسى ابن مريم.
وفي يوم دخول قبجق إلى دمشق دخل السلطان ونائبه سلار إلى مصر كما جاءت البطاقة بذلك إلى القلعة، ودقت البشائر بها فقوي جأش الناس بعض قوة، ولكن الامر كما قال: كيف السبيل إلى سعاد ودونها * قلل الجبال ودونهن حتوف الرجل حافية وما لي مركب * والكف صفر والطريق مخوف وفي يوم الجمعة رابع عشر ربيع الآخر خطب لقازان على منبر دمشق بحضور المغول بالمقصورة ودعي له على السدة بعد الصلاة وقرئ عليها مرسوم بنيابة قبجق على الشام، وذهب إليه الاعيان فهنؤه بذلك، فأظهر الكرامة وأنه في تعب عظيم مع التتر، ونزل شيخ المشايخ محمود بن علي الشيباني بالمدرسة العادلية الكبيرة.
وفي يوم السبت النصف النصف من ربيع الآخر شرعت التتار وصاحب سيس في نهب الصالحية ومسجد الاسدية ومسجد خاتون ودار الحديث الاشرفية بها واحترق جامع التوبة
بالعقيبية، وكان هذا من جهة الكرج والارمن من النصارى الذين هم مع التتار قبحهم الله.
وسبوا من أهلها خلقا كثيرا وجما غفيرا، وجاء أكثر الناس إلى رباط الحنابلة فاحتاطت به التتار فحماه منهم شيخ الشيوخ المذكور، وأعطى في الساكن مال له صورة ثم أقحموا عليه فسبوا منه خلقا كثيرا من بنات المشايخ وأولادهم فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولما نكب دير الحنابلة في ثاني جمادى الاولى قتلوا خلقا من الرجال وأسروا من النساء كثيرا، ونال قاضي القضاة تقي الدين أذى كثير، ويقال إنهم قتلوا من أهل الصالحية قريبا من أربعمائة، وأسروا نحوا من أربعة آلاف أسير، ونهبت كتب كثيرة من الرباط الناصري والضيائية، وخزانة ابن البزوري، وكانت تباع وهي مكتوب عليها الوقفية، وفعلوا بالمزة مثل ما فعلوا بالصالحية، وكذلك بداريا وبغيرها، وتحصن الناس منهم في الجامع بداريا ففتحوه قسرا وقتلوا منهم خلقا وسبوا نساءهم وأولادهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وخرج الشيخ ابن تيمية في جماعة من أصحابه يوم الخميس العشرين من ربيع الآخر إلى ملك
التتر وعاد بعد يومين ولم يتفق اجتماعه به، حجبه عنه الوزير سعد الدين والرشيد مشير الدولة المسلماني ابن يهودي، والتزما له بقضاء الشغل، وذكرا له أن التتر لم يحصل لكثير منهم شئ إلى الآن، ولا بد لهم من شئ، واشتهر بالبلد أن التتر يريدون دخول دمشق فانزعج الناس لذلك وخافوا خوفا شديدا، وأرادوا الخروج منها والهرب على وجوههم، وأين الفرار ولات حين مناص، وقد أخذ من البلد فوق العشرة آلاف فرس، ثم فرضت أموال كثيرة على البلد موزعة على أهل الاسواق كل سوق بحسبه من المال، فلا قوة إلا بالله.
وشرع التتر في عمل مجانيق بالجامع ليرموا بها القلعة من صحن الجامع، وغلقت أبوابه ونزل التتار في مشاهده يحرسون أخشاب المجانيق، وينهبون ما حوله من الاسواق، وأحرق أرجوان ما حول القلعة من الابنية، كدار الحديث الاشرفية وغير ذلك، إلى حد العادلية الكبيرة، وأحرق دار السعادة لئلا يتمكنوا من محاصرة القلعة من أعاليها، ولزم الناس منازلهم لئلا يسخروا في طم الخندق، وكانت الطرقات لا يرى بها أحد إلا القليل،
والجامع لا يصلي فيه أحد إلا اليسير، ويوم الجمعة لا يتكامل فيه الصف الاول وما بعده إلا بجهد جهيد، ومن خرج من منزله في ضرورة يخرج بثياب زيهم ثم يعود سريعا، ويظن أنه لا يعود إلى أهله، وأهل البلد قد أذاقهم الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
والمصادرات والتراسيم والعقوبات عمالة في أكابر أهل البلد ليلا ونهارا، حتى أخذ منهم شئ كثير من الاموال والاوقاف، كالجامع وغيره، ثم جاء مرسوم بصيانة الجامع وتوفير أوقافه وصرف ما كان يؤخذ بخزائن السلاح وإلى الحجاز، وقرئ ذلك المرسوم بعد صلاة الجمعة بالجامع في تاسع عشر (1) جمادى الاولى، وفي ذلك اليوم توجه السلطان قازان وترك نوابه بالشام في ستين ألف مقاتل نحو بلاد العراق، وجاء كتابه إنا قد تركنا نوابنا بالشام في ستين ألف مقاتل، وفي عزمنا العود إليها في زمن الخريف، والدخول إلى الديار المصرية وفتحها، وقد أعجزتهم القلعة أن يصلوا إلى حجر منها، وخرج سيف الدين قبجق لتوديع قطلوشاه نائب قازان وسار وراءه وضربت البشائر بالقلعة فرحا لرحيلهم، ولم تفتح القلعة، وأرسل أرجواش ثاني يوم من خروج قبجق القلعية إلى الجامع فكسروا أخشاب المنجنيقات المنصوبة به، وعادوا إلى القلعة سريعا سالمين، واستصحبوا معهم جماعة ممن كانوا يلوذون بالتتر قهرا إلى القلعة، منهم الشريف القمي، وهو شمس الدين محمد بن محمد بن أحمد بن أبي القاسم المرتضي العلوي، وجاءت الرسل من قبجق إلى دمشق فنادوا بها طيبوا أنفسكم وافتحوا دكاكينكم وتهيئوا غدا لتلقي سلطان الشام سيف الدين قبجق، فخرج الناس إلى أماكنهم فأشرفوا عليها فرأوا ما بها من الفساد والدمار، وانفك رؤساء البلد من التراسيم بعد ما ذاقوا شيئا كثيرا.
قال الشيخ علم الدين البرزالي: ذكر لي الشيخ وجيه الدين بن المنجا أنه حمل إلى خزانة قازان
__________
(1) في السلوك 1 / 895: ثاني عشر (انظر بدائع الزهور 1 / 1 / 404).
ثلاثة آلاف ألف وستمائه ألف درهم، سوى ما تمحق من التراسيم والبراطيل وما أخذ غيره من الامراء والوزراء، وأن شيخ المشايخ حصل له نحو من ستمائة ألف درهم، والاصيل بن النصير
الطوسي مائة ألف (1)، والصفي السخاوي (2) ثمانون ألفا، وعاد سيف الدين قبجق إلى دمشق يوم الخميس بعد الظهر خامس عشرين جمادى الاولى ومعه الالبكي وجماعة، وبين يديه السيوف مسللة وعلى رأسه عصابة فنزل بالقصر ونودي بالبلد نائبكم قبجق قد جاء فافتحوا دكاكينكم واعملوا معاشكم ولا يغرر أحد بنفسه هذا الزمان والاسعار في غاية الغلاء والقلة، قد بلغت الغرارة إلى أربعمائة، واللحم بنحو العشرة، والخبز كل رطل بدرهمين ونصف، والعشرة الدقيق بنحو الاربعين، والجبن الاوقية بدرهم، والبيض كل خمسة بدرهم، ثم فرج عنهم في أواخر الشهر، ولما كان في أواخر الشهر نادى قبجق بالبلد أن يخرج الناس إلى قراهم وأمر جماعة وانضاف إليه خلق من الاجناد، وكثرت الاراجيف على بابه، وعظم شأنه ودقت البشائر بالقلعة وعلى باب باب قبجق يوم الجمعة رابع جمادى الآخرة، وركب قبجق بالعصائب في البلد والشاويشية بين يديه، وجهز نحوا من ألف فارس نحو خربة اللصوص، ومشى مشي الملوك في الولايات وتأمير الامراء والمراسيم العالية النافذة، وصار كما قال الشاعر: يالك من قنبرة بمعمري * خلا لك الجو فبيضي واصفري ونقري ما شئت أن تنقري ثم إنه ضمن الخمارات ومواضع الزنا من الحانات وغيرها، وجعلت دار ابن جرادة خارج من باب توما خمارة وحانة أيضا، وصار له على ذلك في كل يوم ألف درهم، وهي التي دمرته ومحقت آثاره وأخذ أموالا أخر من أوقاف المدارس وغيرها، ورجع بولاي من جهة الاغوار وقد عاث في الارض فسادا، ونهب البلاد وخرب ومعه طائفة من التتر كثيرة، وقد خربوا قرى كثيرة، وقتلوا من أهلها وسبواخلقا من أطفالها، وجبى لبولاي من دمشق أيضا جباية أخرى، وخرج طائفة من القلعة فقتلوا طائفة من التتر ونهبوهم، وقتل جماعة من المسلمين في غبون ذلك، وأخذوا طائفة ممن كان يلوذ بالتتر ورسم قبجق لخطيب البلد وجماعة من الاعيان أن يدخلوا القلعة فيتكلموا مع نائبها في المصالحة فدخلوا عليه يوم الاثنين ثاني عشر جمادى الآخرة، فكلموه وبالغوا معه فلم يجب إلى ذلك وقد أجاد وأحسن وأرجل في ذلك بيض الله وجهه.
وفي ثامن رجب طلب قبجق القضاة والاعيان فحلفهم على المناصحة للدولة المحمودية - يعني قازان - فحلفوا له، وفي هذا اليوم خرج الشيخ تقي الدين بن تيمية إلى مخيم بولاي فاجتمع به في
__________
(1) في السلوك 1 / 894: مائتي ألف درهم.
__________
(2) في السلوك 1 / 894: السنجاري، وأخذ مائة ألف درهم.
فكاك من كان معه من أسارى المسلمين، فاستنقذ كثيرا منهم من أيديهم، وأقام عنده ثلاثة أيام ثم عاد، ثم راح إليه جماعة من أعيان دمشق ثم عا دوا من عنده فشلحوا عند باب شرقي وأخذ ثيابهم وعمائمهم ورجعوا في شر حالة، ثم بعث في طلبهم فاختفى أكثرهم وتغيبوا عنه، ونودي بالجامع بعد الصلاة ثالث رجب من جهة نائب القلعة بأن العساكر المصرية قادمة إلى الشام، وفي عشية يوم السبت رحل بولاي وأصحابه من التتر وانشمروا عن دمشق وقد أراح الله منهم وساروا من على عقبة دمر فعاثوا في تلك النواحي فسادا، ولم يأت سابع الشهر وفي حواشي البلد منهم أحد، وقد أزاح الله عز وجل شرهم عن العباد والبلاد، ونادى قبجق في الناس قد أمنت الطرقات ولم يبق بالشام من التتر أحد، وصلى قبجق يوم الجمعة عاشر رجب بالمقصورة، ومعه جماعة عليهم لامة الحرب من السيوف والقسي والتراكيش فيها النشاب، وأمنت البلاد، وخرج الناس للفرجة في غيض السفرجل على عادتهم فعاثت عليهم طائفة من التتر، فلما رأوهم رجعوا إلى البلد هاربين مسرعين، ونهب بعض الناس بعضا ومنهم من ألقى نفسه في النهر، وإنما كانت هذه ا الطائفة مجتازين ليس لهم قرار، وتقلق قبجق من البلد ثم إنه خرج منها في جماعة من رؤسائها وأعيانها منهم عز الدين ين القلانسي ليتلقوا الجيش المصري وذلك أن جيش مصر خرج إلى الشام في تاسع رجب وجاءت البريدية بذلك، وبقي البلد ليس به أحد، ونادى أرجواش في البلد احفظوا الاسوار وأخرجوا ما كان عندكم من الاسلحة ولا تهملوا الاسوار والابواب، ولا يبيتن أحد إلا على السور، ومن بات في داره شنق، فاجتمع الناس على الاسوار لحفظ البلاد، وكان الشيخ تقي الدين بن تيمية يدور كل ليلة على الاسوار يحرض الناس على الصبر والقتال ويتلو عليهم آيات
الجهاد والرباط.
وفي يوم الجمعة سابع عشر رجب أعيدت الخطبة بدمشق لصاحب مصر ففرح الناس بذلك، وكان يخطب لقازان بدمشق وغيرها من بلاد الشام مائة يوم سواء.
وفي بكرة يوم الجمعة المذكور دار الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله وأصحابه على الخمارات والحانات فكسروا آنية الخمور وشققوا الظروف (1) وأراقوا الخمور، وعزروا جماعة من أهل الحانات المتخذة لهذه الفواحش، ففرح الناس بذلك، ونودي يوم السبت ثامن عشر رجب بأن تزين البلد لقدوم العساكر المصرية، وفتح باب الفرج مضافا إلى باب النصر يوم الاحد تاسع عشر رجب، ففرح الناس بذلك وانفرجوا لانهم لم يكونوا يدخلون إلا من باب النصر،، وقدم الجيش الشامي صحبة نائب دمشق جمال الدين آقوش الافرم يوم السبت عاشر شعبان، وثاني يوم دخل بقية العساكر وفيهم الاميران شمس الدين قراسنقر المنصوري وسيف الدين قطلبك في تجمل، وفي هذا اليوم فتح باب العريش، وفيه درس القاضي جلال الدين القزويني بالامينية عوضا عن أخيه قاضي
__________
(1) الظروف، جمع ظرف، وهو الوعاء وكل ما يستقر فيه غيره (محيط المحيط).
القضاء إمام الدين توفي بمصر، وفي يوم الاثنين والثلاثاء والاربعاء تكامل دخول العساكر صحبة نائب مصر سيف الدين سلار، وفي خدمته الملك العادل كتبغا، وسيف الدين الطراخي في تجمل باهر، ونزلوا في المرج، وكان السلطان قد خرج عازما على المجئ فوصل إلى الصالحية ثم عاد إلى مصر.
وفي يوم الخميس النصف من شعبان أعيد القاضي بدر الدين بن جماعة إلى قضاء القضاة بدمشق مع الخطابة بعد إمام الدين، ولبس معه في هذا اليوم أمين الدين العجمي خلعة الحسبة، وفي يوم سابع عشره لبس خلعة نظر الدواوين تاج الدين الشيرازي عوضا عن فخر الدين بن الشيرجي، ولبس أقبجاشد الدواوين في باب الوزير شمس الدين سنقر الاعسر، وباشر الامير عز الدين أيبك الدويدار النجيبي ولاية البر، بعد ما جعل من أمراء الطبلخانة، ودرس الشيخ كمال
الدين بن الزملكاني بأم الصالح عوضا عن جلال الدين القزويني يوم الاحد الحادي والعشرين من شعبان، وفي هذا اليوم ولي قضاء الحنفية شمس الدين بن الصفي الحريري عوضا عن حسام الدين الرومي، فقد يوم المعركة في ثاني رمضان، ورفعت الستائر عن القلعة في ثالث رمضان.
وفي مستهل رمضان جلس الامير سيف الدين سلار بدار العدل في الميدان الاخضر وعنده القضاة والامراء يوم السبت، وفي السبت الآخر خلع على عز الدين القلانسي خلعة سنية وجعل ولده عماد الدين شاهدا في الخزانة.
وفي هذا اليوم رجع سلار بالعساكر إلى مصر وانصرفت العساكر الشامية إلى مواضعها وبلدانها.
وفي يوم الاثنين عاشر رمضان درس علي بن الصفي بن أبي القاسم البصراوي الحنفي بالمدينة المقدمية.
وفي شوال فيها عرفت جماعة ممن كان يلوذ بالتتر ويؤذي المسلمين، وشنق منهم طائفة وسمر آخرون وكحل بعضهم وقطعت ألسن وجرت أمور كثيرة.
وفي منتصف شوال درس بالدولعية قاضي القضاة جمال الدين الزرعي نائب الحكم عوضا عن جمال الدين بن الباجريقي، وفي يوم الجمعة العشرين منه ركب نائب السلطنة جمال الدين آقوش الافرم في جيش دمشق إلى جبال الجرد وكسروان، وخرج الشيخ تقي الدين بن تيمية ومعه خلق كثير من المتطوعة والحوارنة لقتال أهل تلك الناحية، بسبب فساد نيتهم وعقائدهم وكفرهم وضلالهم، وما كانوا عاملوا به العساكر لما كسرهم التتر وهربوا حين اجتازوا ببلادهم، وثبوا عليهم ونهبوهم وأخذوا أسلحتهم وخيولهم، وقتلوا كثيرا منهم، فلما وصلوا إلى بلادهم جاء رؤساؤهم إلى الشيخ تقي الدين بن تيمية فاستتابهم وبين للكثير منهم الصواب وحصل بذلك خير كثير، وانتصار كبير على أولئك المفسدين، والتزموا برد ما كانوا أخذوه من أموال الجيش، وقرر عليهم أموالا كثيرة يحملونها إلى بيت المال، وأقطعت أراضيهم وضياعهم، ولم يكونوا قبل ذلك يدخلون في طاعة الجند ولا يلتزمون أحكام الملة، ولا يديدون دين الحق، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، وعاد نائب السلطنة يوم الاحد ثالث عشر
ذي القعدة وتلقاه الناس بالشموع إلى طريق بعلبك وسط النهار.
وفي يوم الاربعاء سادس عشره
نودي في البلد أن يعلق الناس الاسلحة بالدكاكين، وأن يتعلم الناس الرمي فعملت الاماجات في أماكن كثيرة من البلد، وعلقت الاسلحة بالاسواق، ورسم قاضي القضاة بعمل الاماجات في المدارس، وأن يتعلم الفقهاء الرمي ويستعدوا لقتال العدو إن حضر، وبالله المستعان.
وفي الحادي والعشرين من ذي القعدة استعرض نائب السلطنة أهل الاسواق بين يديه وجعل على كل سوق مقدما وحوله أهل سوقه، وفي الخميس رابع عشرينه عرضت الاشراف مع نقيبهم نظام الملك الحسيني بالعدد والتجمل الحسن، وكان يوما مشهودا، ومما كان من الحوادث في هذه السنة أن جدد إمام راتب عند رأس قبر زكريا، وهو الفقيه شرف الدين أبو بكر الحموي، وحضر عنده يوم عاشوراء القاضي إمام الدين الشافعي، وحسام الدين الحنفي وجماعة، ولم تطل مدته إلا شهورا ثم عاد الحموي إلى بلده وبطلت هذه الوظيفة إلى الآن ولله الحمد.
وممن توفي فيها من الاعيان: القاضي حسام الدين أبو الفضائل الحسن بن القاضي تاج الدين أبي المفاخر أحمد بن الحسن أنو شروان الرازي الحنفي، ولي قضاء ملطية مدة عشرين سنة، ثم قدم دمشق فوليها مدة، ثم انتقل إلى مصر فوليها مدة، وولده جلال الدين بالشام ثم صار إلى الشام فعاد إلى الحكم بها، ثم لما خرج الجيش إلى لقاء قازان بوادي الخزندار عند وادي سلمية خرج معهم فقد من الصف ولم يدر ما خبره، وقد قارب السبعين، وكان فاضلا بارعا رئيسا، له نظم حسن، ومولده بإقسيس (1) من بلاد الروم في المحرم سنة إحدى وثلاثين وستمائة فقد يوم الاربعاء الرابع والعشرين (2) من ربيع الاول منها، وقد قتل يومئذ عدة من مشاهير الامراء ثم ولي بعده القضاء شمس الدين الحريري (3).
القاضي الامام العالي إمام الدين أبو المعالي عمر بن القاضي سعد الدين أبي القاسم عبد الرحمن بن الشيخ إمام الدين أبي حفص عمر بن أحمد بن محمد القزويني الشافعي، قدم دمشق هو وأخوه جلال الدين
__________
(1) في تذكرة النبيه 1 / 227: أقسرا، وقيل: قصرا، وهي من بلاد الروم بينهما وبين قونية ثلاث مراحل (تقويم
البلدان ص 382).
__________
(2) في السلوك 1 / 906: السابع عشري ربيع الاول.
__________
(3) وهو محمد بن عثمان بن أبي الحسن الحنفي الانصاري، وقد تولى قضاء القضاة في شعبان، وكانت وفاته سنة 72 ه.
فقررا في مدارس، ثم انتزع إمام الدين قضاء القضاة بدمشق من بدر الدين بن جماعة كما تقدم في سنة سبع وسبعين، وناب عنه أخوه، وكان جميل الاخلاق كثير الاحسان رئيسا، قليل الاذى، ولما أزف قدوم التتار سافر إلى مصر، فلما وصل إليها لم يقم بها سوى أسبوع وتوفي ودفن بالقرب من قبة الشافعي عن ست وأربعين سنة، وصار المنصب إلى بدر الدين بن جماعة، مضافا إلى ما بيده من الخطابة وغيرها، ودرس أخوه بعده بالامينية.
المسند المعمر الرحلة شرف الدين أحمد بن هبة الله بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسن بن عساكر الدمشقي، وله سنة أربع عشرة وستمائة، وسمع الحديث وروى، توفي خامس عشر (1) جمادى الاولى عن خمس وثمانين سنة.
الخطيب الامام العالم موفق الدين أبو المعالي محمد بن محمد بن الفضل النهرواني القضاعي الحموي، خطيب حماة، ثم خطب بدمشق عوضا عن الفاروثي، ودرس بالغزالية ثم عزل بابن جماعة، وعاد إلى بلده، ثم قدم دمشق عام قازان فمات بها.
الصدر شمس الدين محمد بن سليمان (2) بن حمايل بن علي المقدسي المعروف بابن غانم، وكان من أعيان الناس وأكثرهم مرؤة، ودرس بالعصرونية (3)، توفي وقد جاوز الثمانين كان من الكتاب المشهورين المشكورين، وهو والد الصدر علاء الدين بن غانم:
الشيخ جمال الدين أبو محمد عبد الرحيم بن عمر بن عثمان الباجريقي (4) الشافعي، أقام مدة بالموصل يشتغل ويفتي،
__________
(1) في شذرات الذهب 5 / 445: في الخامس والعشرين من أحد الجمادين.
__________
(2) كذا بالاصل، والسلوك 1 / 906 وفي تاريخ الاسلام للذهبي (سلمان).
__________
(3) المدرسة العصرونية بدمشق أنشأها فقيه الشام شرف الدين أبو سعيد عبد الله بن محمد بن أبي عصرون (الدارس 1 / 391).
__________
(4) الباجريقي نسبة إلى بلدة باجريق قرية شمال العراق بين البقعاء ونصيبين (معجم البلدان).
ثم قدم دمشق عام قازان فمات بها، وكان قد أقام بها مدة كذلك، ودرس بالقليجية والدولعية، وناب في الخطابة ودرس بالغزالية نيابة عن الشمس الايكي، وكان قليل الكلام مجموعا عن الناس، وهو والد الشمس محمد المنسوب إلى الزندقة والانحلال، وله أتباع ينسبون إلى ما ينسب إليه، ويعكفون على ما كان يعكف عليه، وقد حدث جمال الدين المذكور بجامع الاصول عن بعض أصحاب مصنفات ابن الاثير، وله نظم ونثر حسن، والله سبحانه أعلم.
ثم دخلت سنة سبعمائة من الهجرة النبوية استهلت والخليفة والسلطان ونواب البلاد والحكام بها هم المذكورون في التي قبلها، غير الشافعي والحنفي، ولما كان ثالث المحرم جلس المستخرج لاستخلاص أجرة أربعة أشهر عن جميع أملاك الناس وأوقافهم بدمشق، فهرب أكثر الناس من البلد، وجرت خبطة قوية وشق ذلك على الناس جدا.
وفي مستهل صفر وردت أخبار بقصد التتر بلاد الشام، وأنهم عازمون على دخول مصر، فانزعج الناس لذلك وازدادوا ضعفا على ضعفهم، وطاشت عقولهم وألبابهم، وشرع الناس في الهرب إلى بلاد مصر والكرك والشوبك والحصون المنيعة، فبلغت الحمارة إلى مصر خمسمائة وبيع الجمل بألف والحمار بخمسمائة، وبيعت الامتعة والثياب والغلات بأرخص الاثمان، وجلس
الشيخ تقي الدين بن تيمية في ثاني صفر بمجلسه في الجامع وحرض الناس على القتال، وساق لهم الآيات والاحاديث الواردة في ذلك، ونهى عن الاسراع في الفرار، ورغب في إنفاق الاموال في الذب عن المسلمين وبلادهم وأموالهم، وأن ما ينفق في أجرة الهرب إذا أنفق في سبيل الله كان خيرا، وأوجب جهاد التتر حتما في هذه الكرة، وتابع المجالس في ذلك، ونودي في البلاد لا يسافر أحد إلا بمرسوم وورقة فتوقف الناس عن السير وسكن جأشهم، وتحدث الناس بخروج السلطان من القاهرة بالعساكر ودقت البشائر لخروجه، لكن كان قد خرج جماعة من بيوتات دمشق كبيت ابن صصرى وبيت ابن فضل الله وابن منجا وابن سويد وابن الزملكاني وابن جماعة.
وفي أول ربيع الآخر قوي الارجاف بأمر التتر، وجاء الخبر بأنهم قد وصلوا إلى البيرة ونودي في البلد أن تخرج العامة من العسكر، وجاء مرسوم النائب من المرج بذلك، فاستعرضوا في أثناء الشهر فعرض نحو خمسة آلاف من العامة بالعدة والاسلحة على قدر طاقتهم، وقنت الخطيب ابن جماعة في الصلوات كلها، واتبعه أئمة المساجد، وأشاع المرجفون بأن التتر قد وصلوا إلى حلب وأن نائب حلب تقهقر إلى حماة، ونودي في البلد بتطييب قلوب الناس وإقبالهم على معايشهم، وأن السلطان والعساكر واصلة، وأبطل ديوان المستخرج وأقيموا، ولكن كانوا قد استخرجوا أكثر مما
أمروا به وبقيت بواقي على الناس الذين قد اختفوا فعفى عما بقي، ولم يرد ما سلف، لا جرم أن عواقب هذه الافعال خسر ونكر، وأن أصحابها لا يفلحون، ثم جاءت الاخبار بأن سلطان مصر رجع عائدا إلى مصر بعد أن خرج منها قاصدا الشام (1)، فكثر الخوف واشتد الحال، وكثرت الامطار جدا، وصار بالطرقات من الاوحال والسيول ما يحول بين المرء وبين ما يريده من الانتشار في الارض والذهاب فيها، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وخرج كثير من الناس خفافا وثقالا يتحملون بأهليهم وأولادهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، وجعلوا يحملون الصغار في الوحل الشديد والمشقة على الدواب والرقاب، وقد ضعفت الدواب من قلة العلف مع كثرة الامطار والزلق والبرد الشديد والجوع وقلة الشئ فلا حول ولا قوة
إلا بالله.
واستهل جمادى الاولى والناس على خطة صعبة من الخوف، وتأخر السلطان واقرب العدو، وخرج الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله تعالى في مستهل هذا الشهر وكان يوم السبت إلى نائب الشام في المرج فثبتهم وقوى جأشهم وطيب قلوبهم ووعدهم النصر والظفر على الاعداء، وتلا قوله تعالى (ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغى عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور) [ الحج: 60 ] وبات عند العسكر ليلة الاحد ثم عاد إلى دمشق وقد سأله النائب والامراء أن يركب على البزيد ؟ إلى مصر يستحث السلطان على المجئ فساق وراء السلطان، وكان السلطان قد وصل إلى الساحل فلم يدركه إلا وقد دخل القاهرة وتفارط الحال، ولكنه استحثهم على تجهيز العساكر إلى الشام إن كان لهم به حاجة، وقال لهم فيما قال: إن كنتم أعرضتم عن الشام وحمايته أقمنا له سلطانا يحوطه ويحميه ويستغله في زمن الامن، ولم يزل بهم حتى جردت العساكر إلى الشام، ثم قال لهم: لو قدر أنكم لستم حكام الشام ولا ملوكه واستنصركم أهله وجب عليكم النصر، فكيف وأنتم حكامه وسلاطينه وهم رعاياكم وأنتم مسؤولون عنهم، وقوى جأشهم وضمن لهم النصر هذه الكرة، فخرجوا إلى الشام، فلما تواصلت العساكر إلى الشام فرح الناس فرحا شديدا بعد أن كانوا قد يئسوا من أنفسهم وأهليهم وأموالهم، ثم قويت الاراجيف بوصول التتر، وتحقق عود السلطان إلى مصر، ونادى ابن النحاس متولي البلد في الناس من قدر على السفر فلا يقعد بدمشق، فتصايح النساء والولدان، ورهق الناس ذلة عظيمة وخمدة، وزلزلوا زلزالا شديدا، وغلقت الاسواق وتيقنوا أن لا ناصر لهم إلا الله عز وجل، وأن نائب الشام لما كان فيه قوة مع السلطان عام أول لم يقو على التقاء جيش التتر فكيف به الآن وقد عزم على الهرب ؟ ويقولون: ما بقي أهل دمشق إلا
__________
(1) جاء في بدائع الزهور 1 / 1 / 409: قيل في سبب رجوعه - (من غزة - إلى مصر) - أن العسكر تقلب عليه هنالك، وطلبوا منه نفقة ثانية لان التبن والشعير كان لا يوجد أصلا.
(انظر السلوك 1 / 908 ومختصر أبي الفداء 4 / 45).
طعمة العدو، ودخل كثير من الناس إلى البراري والقفار والمغر بأهاليهم من الكبار والصغار، ونودي في الناس من كانت نيته الجهاد فليلتحق بالجيش فقد اقترب وصول التتر، ولم يبق بدمشق من أكابرها إلا القليل، وسافر ابن جماعة والحريري وابن صصرى وابن منجا، وقد سبقهم بيوتهم إلى مصر، وجاءت الاخبار بوصول التتر إلى سرقين وخرج الشيخ زين الدين الفارقي والشيخ إبراهيم الرقي وابن قوام وشرف الدين بن تيمية وابن خبارة إلى نائب السلطنة الافرم فقووا عزمه على ملاقاة العدو، واجتمعوا بمهنا أمير العرب فحضروه على قتال العدو فأجابهم بالسمع والطاعة، وقويت نياتهم على ذلك، وخرج طلب سلار من دمشق إلى ناحية المرج، واستعدوا للحرب والقتال بنيات صادقة.
ورجع الشيخ تقي الدين بن تيمية من الديار المصرية في السابع والعشرين من جمادى الاولى على البريد، وأقام بقلعة مصر ثمانية أيام يحثهم على الجهاد والخروج إلى العدو، وقد اجتمع بالسلطان والوزير وأعيان الدولة فأجابوه إلى الخروج، وقد غلت الاسعار بدمشق جدا، حتى بيع خاروفان بخمسمائة درهم، واشتد الحال، ثم جاءت الاخبار بأن ملك التتار قد خاض الفرات راجعا عامه ذلك لضعف جيشه وقلة عددهم، فطابت النفوس لذلك وسكن الناس، وعادوا إلى منازلهم منشرحين آمنين مستبشرين.
ولما جاءت الاخبار بعدم وصول التتار إلى الشام في جمادى الآخرة تراجعت أنفس الناس إليهم وعاد نائب السلطنة إلى دمشق، وكان مخيما في المرج من مدة إربعه أشهر متتابعة، وهو من أعظم الرباط، وتراجع الناس إلى أوطانهم: وكان الشيخ زين الدين الفارقي قد درس بالناصرية لغيبة مدرسها كمال الدين بن الشريشي بالكرك هاربا، ثم عاد إليها في رمضان، وفي أواخر الشهر درس ابن الزكي بالدولعية عوضا عن جمال الدين الزرعي لغيبته.
وفي يوم الاثنين قرئت شروط الذمة على أهل الذمة وألزم بها واتفقت الكلمة على عزلهم عن الجهات، وأخذوا بالصغار، ونودي بذلك في البلد وألزم النصارى بالعمائم الزرق، واليهود بالصفر، والسامرة (1) بالحمر، فحصل بذلك خير كثير وتميزوا عن المسلمين، وفي عاشر رمضان جاء المرسوم بالمشاركة بين أرجواش والامير سيف الدين أقبجا في نيابة القلعة، وأن يركب كل
واحد منهما يوما، ويكون الآخر بالقلعة يوما، فامتنع أرجواش من ذلك.
وفي شوال درس بالاقبالية الشيخ شهاب الدين بن المجد عوضا عن علاء الدين القونوي بحكم إقامته بالقاهرة، وفي يوم الجمعة الثالث عشر من ذي القعدة عزل شمس الدين بن الحريري عن قضاء الحنفية بالقاضي جلال الدين بن حسام الدين على قاعدته وقاعدة أبيه، وذلك باتفاق من الوزير شمس الدين سنقر الاعسر ونائب السلطان الافرم.
وفيها وصلت رسل ملك
__________
(1) السامرة أو السمرة طائفة من اليهود، وهم أتباع السامري الذي أخبر الله تعالى عنه بقوله: (واضلهم السامري) انظر صبح الاعشى 13 / 268 المواعظ والاعتبار 2 / 472.
التتار إلى دمشق (1)، فأنزلوا بالقلعة ثم ساروا إلى مصر.
وممن توفي فيها من الاعيان.
الشيخ حسن الكردي المقيم بالشاغور في بستان له يأكل من غلته ويطعم من ورد عليه، وكان يزار، فلما احتضر اغتسل وأخذ من شعره واستقبل القبلة وركع ركعات، ثم توفي رحمه الله يوم الاثنين الرابع من جمادى الاولى، وقد جاوز المائة سنة.
الطواشي صفي الدين جوهر التفليسي المحدث، اعتنى بسماع الحديث وتحصيل الاجزاء وكان حسن الخلق صالحا لين الجانب رجلا حاميا زكيا، ووقف أجزاءه التي ملكها على المحدثين.
الامير عز الدين محمد بن أبي الهيجاء بن محمد الهيدباني (2) الاربلي متولي دمشق، كان له فضائل كثيرة في التواريخ والشعر وربما جمع شيئا في ذلك، وكان يسكن بدرب سعور فعرف به، فيقال درب ابن أبي الهيجاء، وهو أول منزل نزلناه حين قدمنا دمشق في سنة ست وسبعمائة، ختم الله لي بخير في عافية آمين، توفي ابن أبي الهيجاء في طريق مصر وله ثمانون سنة، وكان مشكورا السيرة حسن
المحاصرة.
الامير جمال الدين آقوش الشريفي والي الولاة بالبلاد القبلية، توفي في شوال وكانت له هيبة وسطوة وحرمة.
ثم دخلت سنة إحدى وسبعمائة استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها، والامير سيف الدين سلار بالشام، ونائب دمشق الافرم، وفي أولها عزل الامير قطلبك عن نيابة البلاد الساحلية وتولاها الامير سيف الدين
__________
(1) وكان وصولهم إلى دمشق يوم الثلاثاء ثالث عشري ذي القعدة، وهم نحو عشرين رجلا، حمل منهم ثلاثة إلى مصر في ثامن عشرية (انظر السلوك 1 / 910).
__________
(2) في السلوك 1 / 918: الهمذاني.
استدمر، وعزل عن وزار مصر شمس الدين الاعسر، وتولى سيف الدين أقجبا المنصوري نيابة غزة، وجعل عوضه بالقلعة الامير سيف الدين بها در السيجري، وهو من الرحبة، وفي صفر (1) رجعت رسل ملك التتر من مصر إلى دمشق فتلقاهم نائب السلطنة والجيش والعامة في نصف صفر ولي تدريس النور ية الشيخ صدر الدين علي البصراوي الحنفي عوضا عن الشيخ ولي الدين السمرقندي وإنما كان وليها ستة أيام ودرس بها أربعة دروس بعد بني الصدر سليمان، توفي وكان من كبار الصالحين، يصلي كل يوم مائة ركعة، وفي يوم الاربعاء تاسع عشر ربيع الاول جلس قاضي القضاة وخطيب الخطباء بدر الدين بن جماعة بالخانقاه الشمساطية شيخ الشيوخ بها عن طلب الصوفية له بذلك، ورغبتهم فيه، وذلك بعد وفاة الشيخ يوسف بن حمويه الحموي، وفرحت الصوفية به وجلسوا حوله، ولم تجتمع هذه المناصب لغيره قبله، ولا بلغنا أنها اجتمعت إلى أحد بعده إلى زماننا هذا: القضاء والخطابة ومشيخة الشيوخ.
وفي يوم الاثنين الرابع والعشرين من ربيع الاول قتل الفتح أحمد بن الثقفي (2) بالديار المصرية، حكم فيه القاضي زين الدين بن مخلوف المالكي بما ثبت عنده من تنقيصه للشريعة واستهزائه بالآيات المحكمات،
ومعارضة المشتبهات بعضها ببعض، يذكر عنه أنه كان يحل المحرمات من اللواط والخمر وغير ذلك، لمن كان يجتمع فيه من الفسقة من الترك وغيرهم من الجهلة، هذا وقد كان له اشتغال وهيئة جميلة في الظاهر، وبزته ولبسته جيدة، ولما أوقف عند شباك دار الحديث الكاملية بين القصرين استغاث بالقاضي تقي الدين بن دقيق العيد فقال: ما تعرف مني ؟ فقال: أعرف منك الفضيلة، ولكن حكمك إلى القاضي زين الدين، فأمر القاضي للوالي أن يضرب عنقه، فضرب عنقه وطيف برأسه في البلد، ونودي عليه هذا جزاء من طعن في الله ورسوله.
قال البر زالي في تاريخه: وفي وسط شهر ربيع الاول ورد كتاب من بلاد حماة من جهة قاضيها يخبر فيه أنه وقع في هذه الايام ببارين من عمل حماة برد كبار على صور الحيوانات مختلفة شتى، سباع وحيات وعقارب وطيور ومعز ونساء، ورجال في أوساطهم حوائص، وأن ذلك ثبت بمحضر عند قاضي الناحية، ثم نقل ثبوته إلى قاضي حماة.
وفي يوم الثلاثاء عاشر ربيع الآخر شنق الشيخ علي الحوير الي بواب الظاهرية على بابها، وذلك أنه اعترف بقتل الشيخ زين الدين السمرقندي.
وفي النصف منه حضر القاضي بدر الدين بن جماعة تدريس الناصرية الجوانية عوضا عن كمال الدين بن الشريشي، وذلك أنه ثبت محضر أنها لقاضي الشافعية بدمشق، فانتزعها من يد ابن الشريشي.
وفي يوم الثلاثاء التاسع والعشرين من جمادى الاولى قدم الصدر علاء الدين بن شرف الدين بن
__________
(1) في السلوك 1 / 918: في المحرم عادت رسل غازان مع رسل السلطان بجوابه، وانظر نسخة كتاب ملك التتار إلى السلطان وجوابه عليه في السلوك ملحق رقم 14 (1 / 1016).
__________
(2) في السلوك 1 / 923: البققي، وانظر تفاصيل هذه القضية فيه صفحة 925.
القلانسي على أهله من التتر بعد أسر سنتين وأياما وقد حبس مدة ثم لطف الله به وتلطف حتى تخلص منهم ورجع إلى أهله، ففرحوا به.
وفي سادس جمادى الآخرة قدم البريد من القاهرة وأخبر بوفاة أمير المؤمنين الخليفة الحاكم بأمر الله العباسي، وأن ولده ولي الخلافة من بعده، وهو أبو الربيع سليمان، ولقب بالمستكفي بالله،
وأنه حضر جنازته الناس كلهم مشاة، ودفن بالقرب من الست نفيسة، وله أربعون سنة في الخلافة، وقدم مع البريد تقليد بالقضاء لشمس الدين الحريري الحنفي، ونظر الدواوين لشرف الدين بن مزهر، واستمرت الخاتونية الجوانية بيد القاضي جلال الدين بن حسام الدين بإذن نائب السلطنة.
وفي يوم الجمعة تاسع جمادى الآخرة خطب للخليفة المستكفي بالله وترحم على والده بجامع دمشق وأعيدت الناصرية إلى ابن الشريشي وعزل عنها ابن جماعة ودرس بها يوم الاربعاء الرابع عشر من جمادى الآخرة وفي شوال قدم إلى الشام جراد عظيم أكل الزرع والثمار وجرد الاشجار حتى صارت مثل العصي، ولم يعهد مثل هذا، وفي هذا الشهر عقد مجلس لليهود الخيابرة وألزموا بأداء الجزية أسوة أمثالهم من اليهود، فأحضروا كتابا معهم يزعمون أنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضع الجزية عنهم، فلما وقف عليه الفقهاء تبينوا أنه مكذوب مفتعل لما فيه من الالفاظ الركيكة، والتواريخ المحبطة، واللحن الفاحش، وحاققهم عليه شيخ الاسلام ابن تيمية، وبين لهم خطأهم وكذبهم، وأنه مزور مكذوب، فأنابوا إلى أداء الجزية، وخافوا من أن تستعاد منهم الشؤون الماضية.
قلت: وقد وقفت أنا على هذا الكتاب فرأيت فيها شهادة سعد بن معاذ عام خيبر، وقد توفي سعد قبل ذلك بنحو من سنتين، وفيه: وكتب علي بن أبي طالب وهذا لحن لا يصدر عن أمير المؤمنين علي، لان علم النحو إنما أسند إليه من طريق أبي الاسود الدؤلي عنه، وقد جمعت فيه جزءا مفردا، وذكرت ما جرى فيه أيام القاضي الماوردي، وكتاب أصحابنا في ذلك العصر، وقد ذكره في الحاوي وصاحب الشامل في كتابه وغير واحد، وبينها ؟ خطأه ولله الحمد والمنة.
وفي هذا الشهر ثار جماعة من الحسدة على الشيخ تقي الدين بن تيمية وشكوا منه أنه يقيم الحدود ويعزر ويحلق رؤوس الصبيان، وتكلم هو أيضا فيمن يشكو منه ذلك، وبين خطأهم، ثم سكنت الامور.
وفي ذي القعدة ضربت البشائر بقلعة دمشق أياما بسبب فتح أماكن من بلاد سيس عنوة، ففتحها المسلمون ولله الحمد.
وفيه قدم عز الدين بن ميسر على نظر الدواوين عوضا عن ابن مزهر.
وفي يوم الثلاثاء رابع ذي الحجة حضر عبد السيد بن المهذب ديان اليهود إلى دار العدل
ومعه أولاده فأسلموا كلهم، فأكرمهم نائب السلطنة وأمر أن يركب بخلعة وخلفه الدبادب تضرب والبوقات إلى داره، وعمل ليلتئذ ختمة عظمية حضرها القضاة والعلماء، وأسلم على يديه جماعة كبيرة من اليهود، وخرجوا يوم العيد كلهم يكبرون مع المسلمين، وأكرمهم الناس إكراما زائدا.
وقدمت رسل ملك التتار في سابع عشر ذي الحجة فنزلوا بالقلعة وسافروا إلى القاهرة بعد ثلاثة أيام (1) وبعد مسيرهم بيومين مات أرجواس، وبعد موته بيومين قدم الجيش من بلاد سيس وقد فتحوا جانبا منها، فخرج نائب السلطنة والجيش لتلقيهم، وخرج الناس للفرجة على العادة، وفرحوا بقدومهم ونصرهم.
وممن توفي فيها من الاعيان: أمير المؤمنين الخليفة الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد بن المسترشد بالله الهاشمي العباسي البغدادي المصري، بويع بالخلافة بالدولة الظاهر ية في أول سنة إحدى وستين وستمائة، فاستكمل أربعين سنة (2) في الخلافة، وتوفي ليلة الجمعة ثامن عشر جمادى الاولى، وصلي عليه وقت صلاة العصر بسوق الخيل، وحضر جنازته الاعيان والدولة كلهم مشاة.
وكان قد عهد بالخلافة إلى ولده المذكور أبي الربيع سليمان.
خلافة المستكفي بالله أمير المؤمنين ابن الحاكم بأمر الله العباسي لما عهد إليه كتب تقليده وقرئ بحضرة السلطان والدولة يوم الاحد العشرين من ذى الحجة (3) من هذه السنة، وخطب له على المنابر بالبلاد المصرية والشامية، وسارت بذلك البريدية إلى جميع البلاد الاسلامية.
وتوفي فيها: الامير عز الدين أيبك بن عبد الله النجيبي الدويدار والي دمشق، وأحد أمراء الطبلخانة بها، وكان مشكور
السيرة، ولم تطل مدته، ودفن بقاسيون، توفي يوم الثلاثاء سادس عشر ربيع الاول.
__________
(1) تقدم أن قدومهم إلى دمشق كان في أواخر سنة 700 ه انظر حاشية رقم 1 صفحة 20 - 21.
__________
(2) في بدائع الزهور 1 / 410: نيفا وأربعين، وفي تذكرة النبيه 1 / 240: أربعين سنة وشهورا.
__________
(3) كذا بالاصل، والسلوك للمقريز وهو خطأ واضح، والصواب " جمادى الاولى " وهو ما تشير إليه التفاصيل السابقة.
الشيخ الامام العالم شرف الدين أبو الحسن (1) علي بن الشيخ الامام العالم العلامة الحافظ الفقيه تقي الدين أبي عبد الله محمد بن الشيخ أبي الحسن (2) أحمد بن عبد الله بن عيسى بن أحمد بن محمد اليونيني البعلبكي وكان أكبر من أخيه الشيخ قطب الدين ابن الشيخ الفقيه، ولد شرف الدين سنة إحدى وعشرين وستمائة فأسمعه أبوه الكثير، واشتغل وتفقه، وكان عابدا عاملا كثير الخشوع، دخل عليه إنسان وهو بخزانة الكتب فجعل يضربه بعصا في رأسه ثم بسكين فبقي متمرضا أياما، ثم توفي إلى رحمة الله يوم الخميس حادي عشر رمضان ببعلبك، ودفن بباب بطحا، وتأسف الناس عليه لعلمه وعمله وحفظه الاحاديث وتودده إلى الناس وتواضعه وحسن سمته ومرؤته تغمده الله برحمته.
الصدر ضياء الدين أحمد بن الحسين ابن شيخ السلامية، والد القاضي قطب الدين موسى الذي تولى فيما بعد نظر الجيش بالشام وبمصر أيضا، توفي يوم الثلاثاء عشرين ذي القعدة ودفن بقاسيون، وعمل عزاؤه بالرواحية.
الامير الكبير المرابط المجاهد علم الدين أرجواش بن عبد الله المنصوري، نائب القلعة بالشام، كان ذا هيبة وهمة وشهامة وقصد صالح، قدر الله على يديه حفظ معقل المسلمين لما ملكت التتار الشام أيام قازان، وعصت عليهم القلعة ومنعها الله منهم على يدي هذا الرجل، فإنه التزم أن لا يسلمها إليهم ما دام
بها عين تطرف واقتدت بها بقية القلاع الشامية، وكانت وفاته بالقلعة ليلة السبت الثاني والعشرين من ذي الحجة وأخرج منها ضحوة يوم السبت فصلي عليه وحضر نائب السلطنة فمن دونه جنازته، ثم حمل إلى سفح قاسيون ودفن بتربته رحمه الله.
الابرقوهي المسند المعمر المصري هو الشيخ الجليل المسند الرحلة، بقية السلف شهاب الدين أبو المعالي أحمد بن إسحاق بن محمد بن المؤيد بن علي بن إسماعيل بن أبي طالب، الابرقوهي الهمداني ثم المصري، ولد بأبرقوه (2) من بلاد شيراز في رجب أو شعبان سنة خمس عشرة وستمائة، وسمع الكثير من الحديث
__________
(1) في السلوك 1 / 924 وتذكرة النبيه 1 / 224: أبو الحسين.
__________
(2) أبرقوه: بلد مشهور بأرض فارس بنواحي أصبهان (معجم البلدان - وتقويم البلدان الفداء ص 324).
على المشايخ الكثيرين، وخرجت له مشيخات، وكان شيخا حسنا لطيفا مطيقا، توفي بمكة بعد خروج الحجيج بأربعة أيام رحمه الله.
وفيها توفي: صاحب مكة الشريف أبو نمى محمد بن الامير أبي سعد حسن بن علي بن قتادة الحسني صاحب مكة منذ أربعين سنة، وكان حليما وقورا ذا رأي وسياسة وعقل ومرؤة.
وفيها ولد كاتبه إسماعيل بن عمر ابن كثير القرشي المصري الشافعي عفا الله عنه، والله سبحانه أعلم.
ثم دخلت سنة اثنتين وسبعمائة من الهجرة استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها، وفي يوم الاربعاء ثاني (1) صفر فتحت جزيرة أرواد بالقرب من أنطرسوس، وكانت من أضر الاماكن على أهل السواحل، فجاءتها المراكب من الديار المصرية في البحر وأردفها جيوش طرابلس، ففتحت ولله الحمد نصف النهار، وقتلوا من أهلها قريبا من ألفين، وأسروا قريبا من خمسمائة، وكان فتحها من تمام فتح السواحل، وأراح الله المسلمين من شر أهلها.
وفي يوم الخميس السابع عشر من شهر صفر وصل البريد إلى دمشق فأخبر
بوفاة قاضي القضاة ابن دقيق العيد، ومعه كتاب من السلطان إلى قاضي القضاة ابن جماعة، فيه تعظيم له واحترام وإكرام يستدعيه إلى قربه ليباشر وظيفة القضاء بمصر على عادته فتهيأ لذلك، ولما خرج خرج معه نائب السلطنة الافرم وأهل الحل والعقد، وأعيان الناس ليودعوه، وستأتي ترجمة ابن دقيق العيد في الوفيات، ولما وصل ابن جماعة إلى مصر أكرمه السلطان إكراما زائدا، وخلع عليه خلعة صوف وبغلة تساوي ثلاثة آلاف درهم، وباشر الحكم بمصر يوم السبت رابع ربيع الاول، ووصلت رسل التتار في أواخر ربيع الاول (2) قاصدين بلاد مصر، وباشر شرف الدين الفزاري مشيخة دار الحديث الظاهرية يوم الخميس ثامن ربيع الآخر عوضا عن شرف الدين الناسخ، وهو أبو حفص عمر بن محمد بن حسن بن خواجا إمام الفارسي، توفي بها عن سبعين سنة، وكان فيه بر ومعروف وأخلاق حسنة، رحمه الله.
وذكر الشيخ شرف الدين المذكور درسا مفيدا وحضر عنده جماعة من الاعيان، وفي يوم الجمعة حادي عشر جمادى الاولى خلع على قاضي القضاة نجم الدين بن صصرى بقضاء الشام عوضا عن ابن جماعة، وعلى الفارقي بالخطابة، وعلى الامير ركن الدين بيبرس العلاوي (3) بشد
__________
(1) في مختصر أبي الفداء 4 / 47: في المحرم، وفي السلوك 1 / 929: ثامن عشر صفر.
__________
(2) في السلوك 1 / 927: في ثامن المحرم قدمت رسل غازان بكتابه فأعيدوا بالجواب.
__________
(3) في السلوك 1 / 929: التلاوي.
الدواوين وهنأهم الناس، وحضر نائب السلطنة والاعيان المقصورة لسماع الخطبة، وقرئ تقليد ابن صصرى بعد الصلاة ثم جلس في الشباك الكمالي وقرئ تقليده مرة ثانية، وفي جمادى الاولى وقع بيد نائب السلطنة كتاب مزور فيه أن الشيخ تقي الدين بن تيمية والقاضي شمس الدين بن الحريري وجماعة من الامراء والخواص الذين بباب السلطنة يناصحون التتر ويكاتبوهم، ويريدون تولية قبجق على الشام وأن الشيخ كمال الدين بن الزملكاني يعلمهم بأحوال الامير جمال الدين الافرم، وكذلك كمال الدين بن العطار، فلما وقف عليه نائب السلطنة عرف أن هذا مفتعل،
ففحص عن واضعه فإذا هو فقير كان مجاورا بالبيت الذي كان مجاور محراب الصحابة، يقال له اليعفوري، وآخر معه يقال له أحمد الغناري، وكانا معروفين بالشر والفضول، ووجد معهما مسودة هذا الكتاب، فتحقق نائب السلطنة ذلك فعزرا تعزيرا عنيفا، ثم وسطا بعد ذلك وقطعت يد الكاتب الذي كتب لهما هذا الكتاب، وهو التاج المناديلي.
وفي أواخر جمادى الاولى انتقل الامير سيف الدين بلبان الجوكندار المنصوري إلى نيابة القلعة عوضا عن أرجواش.
عجيبة من عجائب البحر قال الشيخ علم الدين البرزالي في تاريخه: قرأت في بعض الكتب الواردة من القاهرة أنه لما كان بتاريخ يوم الخميس رابع جمادى الآخرة ظهرت دابة من البحر عجيبة الخلقة من بحر النيل إلى أرض المنوفية، بين بلاد منية مسعود واصطباري والراهب، وهذه صفتها: لونها لون الجاموس بلا شعر، وأذناها كأذن الجمل (1)، وعيناها وفرجها مثل الناقة، يغطي فرجها ذن ب طوله شبر ونصف [ طرفه ] (2) كذنب السمكة، ورقبتها مثل غلظ [ التليس ] (3) المحشو تبنا، وفمها وشفتاها مثل الكربال (4)، ولها أربعة أنياب اثنان فوق واثنان من أسفل، طول كل واحد دون الشبر في عرض أصبعين، وفي فمها ثمان وأربعون ضرسا وسن مثل بيادق الشطرنج، وطول يديها من باطنها إلى الارض شبران ونصف ومن ركبتها إلى حافرها مثل بطن الثعبان، أصفر مجعد، ودور حافرها مثل السكرجة بأربعة أظافير مثل أظافير الجمل، وعرض ظهرها مقدار ذراعين ونصف، وطولها من فمها إلى ذنبها خمسة عشر قدما وفي بطنها ثلاثة كروش، ولحمها أحمر وزفر مثل السمك، وطعمه كلحم الجمل، وغلظة أربعة أصابع ما تعمل فيه السيوف، وحمل جلدها على خمسة جمال في مقدار ساعة من ثقله على جمل وأحضروه إلى بين يدي السلطان بالقلعة وحشوه تبنا وأقاموه بين يديه والله أعلم.
__________
(1) من السلوك 1 / 929 وفي الاصل: وآذانها كآذان الجمل.
__________
(2) من السلوك.
__________
(3) من السلوك، وفي الاصل: التنين، تصحيف.
والتليس معناه هنا الكيس الذي يستعمل لتعبئة الغلال
والاتبان، ويقال له تليسة أيضا، وفي محيط المحيط: التليس هي الخصية.
__________
(4) الكربال: مندف القطن، وما تكربل به الحنطة أيضا (محيط المحيط).
وفي شهر رجب قويت الاخبار بعزم التتار على دخول بلاد الشام، فانزعج الناس لذلك واشتد خوفهم جدا، وقنت الخطيب في الصلوات وقرئ البخاري، وشرع الناس في الجفل إلى الديار المصرية والكرك والحصون المنيعة، وتأخر مجئ العساكر المصرية عن إبانها فاشتد لذلك الخوف.
وفي شهر رجب باشر نجم الدين بن أبي الطيب نظر الخزانة عوضا عن أمين الدين سليمان، وفي يوم السبت ثالث شعبان باشرمشيخة الشيوخ بعد ابن جماعة القاضي ناصر الدين عبد السلام، وكان جمال الدين الزرعي يسد الوظيفة إلى هذا التاريخ.
وفي يوم السبت عاشر شعبان ضربت البشائر بالقلعة وعلى أبواب الامراء بخروج السلطان بالعساكر من مصر لمناجزة التتار المخذولين، وفي هذا اليوم بعينه كانت وقعة عرض (1) وذلك أنه التقى جماعة من أمراء الاسلام فيهم استدمر وبهادر أخي (2) وكجكن وغرلو العادلي، وكل منهم سيف من سيوف الدين في ألف وخمسمائة فارس، وكان التتار في سبعة آلاف فاقتتلوا وصبر المسلمون صبرا جيدا، فنصرهم الله وخذل التتر، فقتلوا منهم خلقا وأسروا آخرين، وولوا عند ذلك مدبرين، وغنم المسلمون منهم غنائم، وعادوا سالمين لم يفقد منهم إلا القليل ممن أكرمه الله بالشهادة، ووقعت البطاقة بذلك، ثم قدمت الاسارى يوم الخميس نصف شعبان، وكان يوم خميس النصارى.
أوائل وقعة شقحب وفي ثامن عشر قدمت طائفة كبيرة من جيش المصريين فيهم الامير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، والامير حسام الدين لاجين المعروف بالاستادار المنصوري، والامير سيف الدين كراي المنصوري، ثم قدمت بعضهم طائفة أخرى فيهم بدر الدين أمير سلاح وأيبك الخزندار فقويت القلوب واطمأن كثير من الناس، ولكن الناس في حفل عظيم من بلاد حلب وحماة وحمص وتلك النواحي وتقهقر الجيش الحلبي والحموي إلى حمص، ثم خافوا أن يدهمهم التتر فجاؤوا فنزلوا المرج
يوم الاحد خامس شعبان، ووصل التتار إلى حمص وبعلبك وعاثوا في تلك الاراضي فسادا، وقلق الناس قلقا عظيما، وخافوا خوفا شديدا، واختبط البلد لتأخر قدوم السلطان ببقية الجيش، وقال الناس لا طاقة لجيش الشام مع هؤلاء المصريين بلقاء التتار لكثرتهم، وإنما سبيلهم أن يتأخروا عنهم مرحلة مرحلة، وتحدث الناس بالاراجيف فاجتمع الامراء يوم الاحد المذكور بالميدان وتحالفوا على لقاء العدو، وشجعوا أنفسهم، ونودي بالبلد أن لا يرحل أحد منه، فسكن الناس وجلس القضاة بالجامع وحلفوا جماعة من الفقهاء والعامة على القتال، وتوجه الشيخ تقي الدين بن تيمية
__________
(1) عرض: بلدة في برية الشام، من أعمال حلب، بين تدمر والرصافة (معجم البلدان).
وفي مختصر أبي الفداء 4 / 48 في موضع يقال له: الكوم قريبا من عرض.
__________
(2) في السلوك: 1 / 931 بهادر آص.
إلى العسكر الواصل من حماة فاجتمع بهم في القطيعة فأعلمهم بما تحالف عليه الامراء والناس من لقاء العدو، فأجابوا إلى ذلك وحلفوا معهم، وكان الشيخ تقي الدين بن تيمية يحلف للامراء والناس إنكم في هذه الكرة منصورون، فيقول له الامراء: قل إن شاء الله، فيقول إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا.
وكان يتأول في ذلك أشياء من كتاب الله منها قوله تعالى (ومن بغى عليه لينصرنه الله) [ الحج: 6 0 ].
وقد تكلم الناس في كيفية قتال هؤلاء التتر من أي قبيل هو، فإنهم يظهرون الاسلام وليسوا بغاة على الامام، فإنهم لم يكونوا في طاعته في وقت ثم خالفوه.
فقال الشيخ تقي الدين: هؤلاء من جنس الخوارج الذين خرجوا على علي ومعاوية، ورأوا أنهم أحق بالامر منهما، وهؤلاء يزعمون أنهم أحق بإقامة الحق من المسلمين، ويعيبون على المسلمين ما هم متلبسون به من المعاصي والظلم، وهم متلبسون بما هو أعظم منه بأضعاف مضاعفة، فتفطن العلماء والناس لذلك، وكان يقول للناس: إذا رأيتموني من ذلك الجانب وعلى رأسي مصحف فاقتلوني، فتشجع الناس في قتال التتار وقويت قلوبهم ونياتهم ولله الحمد.
ولما كان يوم الرابع والعشرين من شعبان خرجت العساكر الشامية فخيمت على الجسورة من ناحية الكسوة، ومعهم القضاة، فصار الناس فيهم فريقين فريق يقولون إنما ساروا ليختاروا موضعا للقتال فإن المرج فيه مياه كثيرة فلا يستطيعون معها القتال، وقال فريق: إنما ساروا لتلك الجهة ليهربوا وليلحقوا بالسلطان.
فلما كانت ليلة الخميس ساروا إلى ناحية الكسوة فقويت ظنون الناس في هربهم، وقد وصلت التتار إلى قارة، و قيل إنهم وصلوا إلى القطيعة (1)، فانزعج الناس لذلك شديدا ولم يبق حول القرى والحواضر أحد، وامتلات القلعة والبلد وازدحمت المنازل والطرقات، واضطرب الناس وخرج الشيخ تقي الدين بن تيمية صبيحة يوم الخميس من الشهر المذكور من باب النصر بمشقة كبيرة، وصحبته جماعة ليشهد القتال بنفسه ومن معه، فظنوا إنما خرج هاربا فحصل اللوم من بعض الناس وقالوا أنت منعتنا من الجفل وها أنت هارب من البلد ؟ فلم يرد عليهم وبقي البلد ليس فيه حاكم، وجلس اللصوص والحرافيش فيه وفي بساتين الناس يخربون وينتهبون ما قدروا عليه، ويقطعون المشمش قبل أوانه والباقلاء والقمح وسائر الخضراوات، وحيل بين الناس وبين خبر الجيش، وانقطعت الطرق إلى الكسوة وظهرت الوحشة على البلد والحواضر، وليس للناس شغل غير الصعود إلى المآذن ينظرون يمينا وشمالا، وإلى ناحية الكسوة فتارة يقولون: رأينا غبرة فيخافون أن تكون من التتر، ويتعجبون من الجيش مع كثرتهم وجودة عدتهم وعددهم، أين ذهبوا ؟ فلا يدرون ما فعل الله بهم، فانقطعت الآمال وألح الناس في الدعاء والابتهال وفي الصلوات وفي كل حال، وذلك يوم الخميس التاسع والعشرين من
__________
(1) في مختصر أبي الفداء 4 / 48: القطيفة.
شعبان، وكان الناس في خوف ورعب لا يعبر عنه، لكن كان الفرج من ذلك قريبا، ولكن أكثرهم لا يفلحون، كما جاء في حديث أبي رزين " عجب ربك من قنوط عباده وقرب غيره ينظر إليكم أزلين قنطين فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب " (1).
فلما كان آخر هذا اليوم وصل الامير فخر الدين إياس المرقبي أحد أمراء دمشق، فبشر
الناس بخير، هو أن السلطان قد وصل وقت اجتمعت العساكر المصرية والشامية، وقد أرسلني أكشف هل طرق البلد أحد من التتر، فوجد الامر كما يحب لم يطرقها أحد منهم، وذلك أن التتار عرجوا من دمشق إلى ناحية العساكر المصرية، ولم يشتغلوا بالبلد، وقد قالوا إن غلبنا فإن البلد لنا، وإن غلبنا فلا حاجة لنا به، ونودي بالبلد في تطييب الخواطر، وأن السلطان قد وصل، فاطمأن الناس وسكنت قلوبهم، وأثبت الشهر ليلة الجمعة القاضي تقي الدين الحنبلي، فإن السماء كانت مغيمة فعلقت القناديل وصليت التراويح واستبشر الناس بشهر رمضان وبركته، وأصبح الناس يوم الجمعة في هم شديد وخوف أكيد، لانهم لا يعلمون ما خبر الناس.
فبينما هم كذلك إذ جاء الامير سيف الدين غرلو العادلي فاجتمع بنائب القلعة ثم عاد سريعا إلى العسكر، ولم يدر أحد ما أخبر به، ووقع الناس في الاراجيف والخوض.
صفة وقعة شقحب (2) أصبح الناس يوم السبت (3) على ما كانوا عليه من الخوف وضيق الامر، فرأوا من المآذن سوادا وغبرة من ناحية العسكر والعدو، فغلب على الظنون أن الوقعة في هذا اليوم، فابتهلوا إلى الله عز وجل بالدعاء في المساجد والبلد، وطلع النساء والصغار على الاسطحة وكشفوا رؤوسهم وضج البلد ضجة عظيمة، ووقع في ذلك الوقت مطر عظيم غزير، ثم سكن الناس، فلما كان بعد الظهر قرئت بطاقة بالجامع تتضمن أن في الساعة الثانية من نهار السبت هذا اجتمعت الجيوش الشامية والمصرية مع السلطان في مرج الصفر، وفيها طلب الدعاء من الناس والامر بحفظ القلعة.
والتحرز على الاسوار فدعا الناس في المآذن والبلد، وانقضى النهار وكان يوما مزعجا هائلا، وأصبح الناس يوم الاحد يتحدثون بكسر التتر، وخرج الناس إلى ناحية الكسوة فرجعوا ومعهم شئ من المكاسب، ومعهم رؤوس من رؤوس التتر، وصارت كسرة التتار تقوى وتتزايد قليلا قليلا حتى اتضحت جملة، ولكن الناس لما عندهم من شدة الخوف وكثرة التتر لا يصدقون، فلما كان بعد الظهر قرئ كتاب السلطان إلى متولي القلعة يخبر فيه باجتماع الجيش ظهر يوم السبت
__________
(1) في هامش المطبوعة: " في سنن ابن ماجة في كتاب السنة: " ضحك ربنا الخ " والازل: شدة القنوط ".
(2) شقحب: قرية في الشمال الغربي من جبل غباغب من أعمال حوران من نواحي دمشق، معجم البلدان، وسلوك المقريزي 1 / 932).
(3) وذلك في الثاني من رمضان (مختصر أبي الفداء 4 / 48، السلو / 932 تذكرة النبيه 1 / 246)
بشقحب وبالكسوة، ثم جاءت بطاقة بعد العصر من نائب السلطان جمال الدين آقوش الافرم إلى نائب القلعة مضمونها أن الوقعة كانت من العصر يوم السبت إلى الساعة الثانية من يوم الاحد، وأن السيف كان يعمل في رقاب التتر ليلا ونهارا وأنهم هربوا وفروا واعتصموا بالجبال والتلال، وأنه لم يسلم منهم إلا القليل، فأمسى الناس وقد استقرت خواطرهم وتباشروا لهذا الفتح العظيم والنصر المبارك، ودقت البشائر بالقلعة من أول النهار المذكور، ونودي بعد الظهر بإخراج الجفال من القلعة لاجل نزول السلطان بها، وشرعوا في الخروج.
وفي يوم الاثنين رابع الشهر رجع الناس من الكسوة إلى دمشق فبشروا الناس بالنصر.
وفيه دخل الشيخ تقي الدين بن تيمية البلد ومعه أصحابه من الجهاد، ففرح الناس به ودعوا له وهنأوه بما يسر الله على يديه من الخير، وذلك أنه ندبه العسكر الشامي أن يسير إلى السلطان يستحثه على السير إلى دمشق فسار إليه فحثه على المجئ إلى دمشق بعد أن كاد يرجع إلى مصر، فجاء هو وإياه جميعا فسأله السلطان أن يقف معه في معركة القتال، فقال له الشيخ: السنة أن يقف الرجل تحت راية قومه، ونحن من جيش الشام لا نقف إلا معهم، وحرض السلطان على القتال وبشره بالنصر وجعل يحلف بالله الذي لا إله إلا هو إنكم منصورون عليهم في هذه المرة، فيقول له الامراء: قل إن شاء الله، فيقول إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا.
وأفتى الناس بالفطر مدة قتالهم وأفطر هو أيضا، وكان يدور على الاجناد والامراء فيأكل من شئ معه في يده ليعلمهم أن افطارهم ليتقووا على القتال أفضل فيأكل الناس، وكان يتأول في الشاميين قوله صلى الله عليه وسلم " إنكم ملاقوا العدو غدا، والفطر أقوى لكم " (1) فعزم عليهم في الفطر عام الفتح كما في حديث أبي سعيد الخدري.
وكان الخليفة أبو الربيع سليمان في صحبة السلطان، ولما اصطفت العساكر والتحم القتال ثبت السلطان ثباتا
عظيما، وأمر بجواده فقيد حتى لا يهرب، وبايع الله تعالى في ذلك الموقف، وجرت خطوب عظيمة، وقتل جماعة من سادات الامراء يومئذ، منهم الامير حسام الدين لاجين الرومي أستاذ دار السلطان، وثمانية من الامراء المتقدمين معه (2)، وصلاح الدين بن الملك السعيد الكامل بن السعيد بن الصالح إسماعيل، وخلق من كبار الامراء، ثم نزل النصر على المسلمين قريب العصر يومئذ، واستظهر المسلمون عليهم ولله الحمد والمنة.
فلما جاء الليل لجأ التتر إلى اقتحام التلول والجبال والآكام، فأحاط بهم المسلمون يحرسونهم من الهرب، ويرمونهم عن قوس واحدة إلى وقت الفجر، فقتلوا منهم ما لا يعلم عدده إلا الله عز
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب الصوم - باب في الرخصة للمحارب في الافطار.
__________
(2) ذكر المقريزي منهم في السلوك 1 / 933: أوليا بن قرمان وسنقر الكافري وايدمر الشمسي القشاش، وأقوش الشمسي الحاجب، والحسام علي بن باخل، وزاد في بدائع الزهور 1 / 1 / 41 4:..والامير أيدمر المعروف بالرفا، والامير أيدمر نقيب الجيوش، والامير علاء الدين بن التركماني، والامير بهادر الدكاجكي.
وجل، وجعلوا يجيئون بهم في الحبال فتضرب أعناقهم، ثم اقتحم منهم جماعة الهزيمة فنجا منهم قليل، ثم كانوا يتساقطون في الاودية والمهالك، ثم بعد ذلك غرق منهم جماعة في الفرات بسبب الظلام، وكشف الله بذلك عن المسلمين غمة عظيمة شديدة، ولله الحمد والمنة.
ودخل السلطان إلى دمشق يوم الثلاثاء خامس رمضان وبين يديه الخليفة، وزينت البلد، وفرح كل واحد من أهل الجمعة والسبت والاحد، فنزل السلطان في القصر الابلق والميدان، ثم تحول إلى القلعة سوم الخميس وصلى بها الجمعة وخلع على نواب البلاد وأمرهم بالرجوع إلى بلادهم، واستقرت الخواطر، وذهب اليأس وطابت قلوب الناس، وعزل السلطان ابن النحاس عن ولاية المدينة وجعل مكانه الامير علاء الدين أيدغدي أمير علم، وعزل صارم الدين إبراهيم والي الخاص عن ولاية البر وجعل مكانه الامير حسام الدين لاجين الصغير، ثم عاد السلطان إلى الديار المصرية يوم الثلاثاء ثالث شوال بعد أن صام رمضان وعيد بدمشق.
وطلب الصوفية من نائب دمشق الافرم أن يولي عليهم مشيخة الشيوخ للشيخ صفي الدين الهندي، فأذن له في المباشرة يوم الجمعة سادس شوال عوضا عن ناصر الدين بن عبد السلام، ودخل السلطان القاهرة يوم الثلاثاء ثالث عشرين شوال، وكان يوما مشهودا، وزينت القاهرة.
وفيها جاءت زلزلة عظيمة يوم الخميس بكرة الثالث والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة، وكان جمهورها بالديار المصرية، تلاطمت بسببها البحار فكسرت المراكب وتهدمت الدور ومات خلق كثير لا يعلمهم إلا الله، وشققت الحيطان ولم ير مثلها في هذه الاعصار، وكان منها بالشام طائفة لكن كان ذلك أخف من سائر البلاد غيرها.
وفي ذي الحجة باشر الشيخ أبو الوليد بن الحاج الاشبيلي المالكي إمام محراب المالكية بجامع دمشق بعد وفاة الشيخ شمس الدين محمد الصنهاجي.
وممن توفي فيها من الاعيان: ابن دقيق العيد (1) الشيخ الامام العالم العلامة الحافظ قاضي القضاة تقي الدين ابن دقيق العيد القشيري المصري، ولد يوم السبت الخامس والعشرين من شعبان سنة خمس وعشرين وستمائة بساحل مدينة ينبع من أرض الحجاز، سمع الكثير ورحل في طلب الحديث وخرج وصنف فيه إسنادا ومتنا مصنفات عديدة، فريدة مفيدة، وانتهت إليه رياسة العلم في زمانه، وفاق أقرانه ورحل إليه
__________
(1) واسمه محمد بن الشيخ مجد الدين أبي الحسن علي بن وهب بن مطيع القشيري الشافعي (السلوك 1 / 948 تذكرة النبيه 1 / 254 الطالع السعيد ص 336 شذرات الذهب 6 / 5 الوافي 4 / 193 الدرر الكامنة 4 / 210).
الطلبة ودرس في أماكن كثيرة، ثم ولي القضاء الديار المصرية في سنة خمس وتسعين وستمائة، ومشيخة دار الحديث الكاملية، وقد اجتمع به الشيخ تقي الدين بن تيمية، فقال له تقي الدين بن دقيق العيد لما رأى تلك العلوم منه: ما أظن بقي يخلق مثلك، ومان وقورا قليل الكلام غزير الفوائد كثير العلوم في ديانة ونزاهة، وله شعر رائق، توفي يوم الجمعة حادي عشر شهر صفر،
وصلي عليه يوم الجمعة المذكور بسوق الخيل وحضر جنازته نائب السلطنة والامراء، ودفن بالقرانة الصغرى رحمه الله.
الشيخ برهان الدين الاسكندري إبراهيم بن فلاح بن محمد بن حاتم، سمع الحديث وكان دينا فاضلا، ولد سنة ست وثلاثين وستمائة، وتوفي يوم الثلاثاء رابع وعشرين شوال عن خمس وستين سنة.
وبعد شهور بسواء (1) كانت وفاة: الصدر جمال الدين بن العطار كاتب الدرج منذ أربعين سنة، أبو العباس أحمد بن أبي الفتح بن محمود بن أبي الوحش أسد ابن سلامة بن فتيان الشيباني، كان من خيار الناس وأحسنهم تقية، ودفن بتربة لهم تحت الكهف بسفح قاسيون، وتأسف الناس عليه لاحسانه إليهم رحمه الله.
الملك العادل زين الدين كتبغا توفي بحماة نائبا عليها بعد صرخد يوم الجمعة يوم عيد الاضحى ونقل إلى تربته بسفح قاسيون غربي الرباط الناصري، يقال لها العادلية، وهي تربة مليحة ذات شبابيك وبوابة ومأذنة، وله عليها أوقاف دارة على وظائف من قراءة وأذان وإمامة وغير ذلك، وكان من كبار الامراء المنصورية، وقد ملك البلاد بعد مقتل الاشرف خليل بن المنصور، ثم انتزع الملك منه لاجين وجلس في قلعة دمشق، ثم تحول إلى صرخد وكان بها إلى أن قتل لاجين وأخذ الملك الناصر بن قلاوون، فاستنابه بحماة حتى كانت وفاته كما ذكرنا، وكان من خيار الملوك وأعدلهم وأكثرهم برا، وكان من خيار الامراء والنواب رحمه الله (2).
__________
(1) وذلك رابع عشرين ذي القعدة (السلوك 1 / 946).
__________
(2) وهو السلطان الملك زين الدين كتبغا المنصوري، مرض في حماه وطال مرضه واسترخى حتى لم يقدر على حركة يديه ورجليه ومات عن بضع وخمسين سنة فتولى نيابة حماه بعده الامير سيف الدين قبجاق المنصوري نائب الشوبك (السلوك 1 / 947 تذكرة النبيه 1 / 254).
تم دخلت سنة ثلاث وسبعمائة استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها.
وفي صفر تولى الشيخ كمال الدين بن الشريشي نظارة الجامع الاموى وخلع عليه وباشره مباشرة مشكوره، وساوى بين الناس وعزل نفسه في رجب منها.
وفي شهر صفر تولى الشيخ شمس الدين الذهبي خطابة كفر بطنا وأقام بها.
ولما توفي الشيخ زين الدين الفارقي في هذه السنة كان نائب السلطنة في نواحي البلقاء يكشف بعض الامور، فلما قدم تكلموا معه في وظائف الفارقي فعين الخطابة لشرف الدين الفزاري، وعين الشامية البرانية ودار الحديث للشيخ كمال الدين بن الشريشي، وذلك بإشارة الشيخ تقي الدين بن تيمية، وأخذ منه الناصرية للشيخ كمال الدين بن الزملكاني ورسم بكتابة التواقيع بذلك، وباشر الشيخ شرف الدين الامامة والخطابة، وفرح الناس به لحسن قراءته وطيب صوته وجودة سيرته، فلما كان بكرة يوم الاثنين ثاني عشرين ربيع الاول وصل البريد من مصر صحبة الشيخ صدر الدين بن الوكيل، وقد سبقه مرسوم السلطان له بجميع جهات الفارقي مضافا إلى ما بيده من التدريس، فاجتمع بنائب السلطنة بالقصر، وخرج من عنده إلى الجامع ففتح له باب دار الخطابة فنزلها وجاءه الناس يهنؤنه، وحضر عنده القراء والمؤذنون، وصلى بالناس العصر وباشر الامامة يومين فأظهر الناس التألم من صلاته وخطابته، وسعوا فيه إلى نائب السلطنة فمنعه من الخطابة وأقره على التداريس ودار الحديث، وجاء توقيع سلطاني للشيخ شرف الدين الفزاري بالخطابة، فخطب يوم الجمعة سابع عشر جمادى الاولى، وخلع عليه بطرحة، وفرح الناس به، وأخذ الشيخ كمال الدين بن الزملكاني تدريس الشامية البرانية من يد ابن الوكيل، وباشرها في مستهل جمادى الاولى واستقرت دار الحديث بيد ابن الوكيل مع مدرستيه الاوليتين، وأظنهما العذراوية والشامية الجوانية.
ووصل البريد في ثاني عشر جمادى الاولى بإعادة السنجري إلى نيابة القلعة وتولية نائبها الامير سيف الدين الجوكندراني نيابة حمص عوضا عن عز الدين الحموي، توفي.
وفي يوم السبت ثاني
عشر رمضان قدمت ثلاثة آلاف فارس من مصر وأضيف إليها ألفان من دمشق وساروا وأخذوا معهم نائب حمص الجوكندراني ووصلوا إلى حماة فصحبهم نائبها الامير سيف الدين قبجق، وجاء إليهم استدمر نائب طرابلس، وأنضاف إليهم قراسنقر نائب حلب وانفصلوا كلهم عنها فافترقوا فرقتين فرقة سارت صحبة قبجق إلى ناحية ملطية، وقلعة الروم، والفرقة الاخرى صحبة قراسنقر حتى دخلوا الدربندات وحاصروا تل حمدون فتسلموه عنوة في ثالث ذي القعدة بعد حصار طويل، فدقت البشائر بدمشق لذلك، ووقع مع صاحب سيس على أن يكون للمسلمين من نهر جيهان إلى حلب وبلاد ما وراء النهر إلى ناحيتهم لهم، وأن يعجلوا حمل سنتين، ووقعت الهدنة على ذلك، وذلك بعد أن قتل خلق من أمراء الارمن ورؤسائهم، وعادت العساكر إلى دمشق مؤيدين
منصورين، ثم توجهت العساكر المصرية صحبة مقدمهم أمير سلاح إلى مصر.
وفي أواخر السنة كان موت قازان وتولية أخيه خربندا (1).
وهو ملك التتار قازان واسمه محمود بن أرغون بن أبغا، وذلك في رابع عشر شوال أو حادي عشره أو ثالث عشره، بالقرب من همدان ونقل إلى تربته بيبرين بمكان يسمى الشام، ويقال إنه مات مسموما، وقام في الملك بعده أخوه خربندا محمد بن أرغون، ولقبوه الملك غياث الدين، وخطب له على منابر العراق وخراسان وتلك البلاد.
وحج في هذه السنة الامير سيف الدين سلار نائب مصر وفي صحبته أربعون أميرا، وجميع أولاد الامراء، وحج معهم وزير مصر الامير عز الدين البغدادي، وتولى مكانه بالبركة ناصر الدين محمد الشيخي، وخرج سلار في أبهة عظيمة جدا، وأمير ركب المصريين الحاج إباق الحسامي، وترك الشيخ صفي الدين مشيخة الشيوخ فوليها القاضي عبد الكريم بن قاضي القضاة محيي الدين ابن الزكي، وحضر الخانقاه يوم الجمعة الحادي عشر من ذي القعدة وحضر عنده ابن صصرى وعز الدين القلانسي، والصاحب ابن ميسر، والمحتسب وجماعة.
وفي ذي القعدة وصل من التتر مقدم كبير قد هرب منهم إلى بلاد الاسلام وهو الامير بدر
الدين جنكي (2) بن البابا، وفي صحبته نحو من عشرة، فحضروا الجمعة في الجامع، وتوجهوا إلى مصر، فأكرم وأعطي إمرة ألف، وكان مقامه ببلاد آمد، وكان يناصح السلطان ويكاتبه ويطلعه على عورات التتر، فلهذا عظم شأنه في الدولة الناصرية.
وممن توفي فيها من أعيان ملك التتر قازان.
الشيخ القدوة العابد أبو إسحاق أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن محمد بن معالي بن عبد الكريم الرقي الحنبلي، كان أصله من بلاد الشرق، ومولده بالرقة في سنة سبع وأربعين وستمائة، واشتغل وحصل وسمع شيئا من الحديث، وقدم دمشق فسكن بالمأذنة الشرقية في أسفلها بأهله إلى جانب الطهارة بالجامع، وكان معظما عند الخاص والعام، فصيح العبارة كثير العبادة، خشن العيش حسن المجالسة لطيف الكلام كثير التلاوة، قوي التوجه من أفراد العالم، عارفا بالتفسير والحديث والفقه والاصلين، وله
__________
(1) هو: خدابندا، والعامة تطلق عليه خربندا واسمه بالعربية عبد الله، وعندما ولي السلطة تسمى باسم أولجاتيو محمد خدا بندا.
وكان قد جلس على تخت الملك في ثالث عشري ذي الحجة من هذه السنة ومات سنة 716 ه (السلوك 1 / 954 الدرر الكامنة 3 / 468 تذكرة النبيه 1 / 257 النجوم الزاهرة 9 / 238).
__________
(2) في السلوك 1 / 950: جنغلى.
مصنفات وخطب، وله شعر حسن، توفي بمنزله ليلة الجمعة خامس عشر المحرم وصلي عليه عقيب الجمعة ونق إلى تربة الشيخ أبي عمر بالسفح، وكانت جنازته حافة رحمه الله وأكرم مثواه.
وفي هذا الشهر توفي الامير زين الدين قراجا أستاذ دار الافرم ودفن بتربته بميدان الحصا عند النهر.
والشيخ شمس الدين محمد بن إبراهيم بن عبد السلام عرف بابن الحبلى، وكان من خيار الناس يتردد إلى عكا أياما حين ما كانت في أيدي الفرنج، في فكاك أسارى المسلمين، جزاه الله خيرا وعتقه من النار وأدخله الجنة برحمته.
الخطيب ضياء الدين أبو محمد عبد الرحمن بن الخطيب جمال الدين أبي الفرج عبد الوهاب بن علي بن أحمد بن عقيل السلمي خطيب بعلبك نحوا من ستين سنة، هو ووالده، ولد سنة أربع عشرة وستمائة وسمع الكثير وتفرد عن القزويني، وكان رجلا جيدا حسن القراءة من كبار العدول، توفي ليلة الاثنين ثالث صفر، ودفن بباب سطحا.
الشيخ زين الدين الفارقي عبد الله بن مروان بن عبد الله بن فهر (1) بن الحسن، أبو محمد الفارقي شيخ الشافعية، ولد سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، وسمع الحديث الكثير، واشتغل ودرس بعدة مدارس، وأفتى مدة طويلة وكانت له همة وشهامة وصرامة، وكان يباشر الاوقاف جيدا، وهو الذي عمر دار الحديث بعد خرابها بيد قازان، وقد باشرها سبعة وعشرين سنة من بعد النواوي إلى حين وفاته، وكانت معه الشامية البرانية وخطابة الجامع الاموي تسعة أشهر، باشر به الخطابة قبل وفاته، وقد انتقل إلى دار الخطابة وتوفي بها يوم الجمعة بعد العصر (2)، وصلي عليه ضحوة السبت، صلى عليه ابن صصرى عند باب الخطابة وبسوق الخيل قاضي الحنفية شمس الدين بن الحريري، وعند جامع الصالحية قاضي الحنابلة تقي الدين سليمان، ودفن بتربة أهله شمالي تربة الشيخ أبي عمر رحمه الله، وباشر بعده الخطابة شرف الدين الفزاري ومشيخة دار الحديث ابن الوكيل، والشامية البرانية ابن الزملكاني وقد تقدم ذلك.
__________
(1) في السلوك 1 / 957: فير، وفي شذرات الذهب، عن الدرر الكامنة: فيروز / 8.
__________
(2) وذلك في حادي عشري صفر (السلوك 1 / 957).
الامير الكبير عز الدين أيبك الحموي ناب بدمشق مدة ثم عزل عنها إلى صرخد، ثم نقل قبل موته بشهر إلى نيابة حمص، وتوفي بها يوم العشرين (1) من ربيع الآخر، ونقل إلى تربته بالسفح غربي زاوية ابن قوام، وإليه ينسب
الحمام بمسجد القصب الذي يقال له حمام الحموي، عمره في أيام نيابته.
الوزير فتح الدين أبو محمد عبد الله بن محمد بن أحمد بن خالد بن محمد بن نصر بن صقر القرشي المخزومي ابن القيسراني، كان شيخا جليلا أديبا شاعرا مجودا من بيت رياسة ووزارة، ولي وزارة دمشق مدة ثم أقام بمصر موقعا مدة، وكان له اعتناء بعلوم الحديث وسماعه، وله مصنف في أسماء الصحابة (2) الذين خرج لهم في الصحيحين، وأورد شيئا من أحاديثهم في مجلدين كبيرين موقوفين بالمدرسة الناصرية بدمشق، وكان له مذاكرة جيدة محررة باللفظ والمعنى، وقد خرج عنه الحافظ الدمياطي، وهو آخر من توفي من شيخوخه، توفي بالقاهرة في يوم الجمعة الحادي والعشرين (3) من ربيع الآخر، وأصلهم من قيسارية الشام.
وكان جده موفق الدين أبو البقاء خالد وزيرا لنور الدين الشهيد، وكان من الكتاب المجيدين المتقنين، له كتابة جيدة محررة جدا، توفي في أيام صلاح الدين سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، وأبوه محمد بن نصر بن صقر ولد بعكة قبل أخذ الفرنج لهاسنة ثمان وسبعين وأربعمائة، فلما أخذت بعد السبعين وأربعمائة انتقل أهلهم إلى حلب وكانوا بها، وكان شاعرا مطبقا له ديوان مشهور، وكان له معرفة جيدة بالنجوم وعلم الهيئة وغير ذلك.
ترجمة والد ابن كثير مؤلف هذا التاريخ وفيها توفي الوالد وهو الخطيب شهاب الدين أبو حفص عمر بن كثير بن ضوبن كثير بن ضو ابن درع القرشي من بني حصلة، وهم ينتسبون إلى الشرف وبأيديهم نسب، وقف على بعضها شيخنا المزي فأعجبه ذلك وابتهج به، فصار يكتب في نسبي بسبب ذلك: القرشي، من قرية يقال لها الشركوين غربي بصرى، بينها وبين أذرعات، ولد بها في حدود سنة أربعين وستمائة، واشتغل بالعلم عند أخواله بني عقبة ببصرى، فقرأ البداية في مذهب أبي حنيفة، وحفظ جمل
__________
(1) في السلوك 1 / 956: التاسع عشر.
__________
(2) هو كتاب " معرفة الصحابة " كشف الظنون لحاجي خليفة 2 / 1739.
__________
(3) في السلوك 1 / 957: خامس عشري ربيع الآخرة، وفي تذكرة النبيه 1 / 261: في ربيع الآخرة، وكان مولده سنة ثلاث وعشرين وستمائة، عاش ثمانين سنة.
الزجاجي، وعني بالنحو والعربية واللغة، وحفظ أشعار العرب حتى كان يقول الشعر الجيد الفائق الرائق في المدح والمراثي وقليل من الهجاء، وقرر بمدارس بصرى بمنزل الناقة شمالي البلد حيث يزار، وهو المبرك المشهور عند الناس والله أعلم بصحة ذلك، ثم انتقل إلى خطابة القرية شرقي بصرى وتمذهب للشافعي، وأخذ عن النواوي والشيخ تقي الدين الفزاري، وكان يكرمه ويحترمه فيما أخبرني شيخنا العلامة ابن الزملكاني، فأقام بها نحوا من ثنتي عشرة سنة، ثم تحول إلى خطابة مجيدل القرية التي منها الوالدة، فأقاما بها مدة طويلة في خير وكفاية وتلاوة كثيرة، وكان يخطب جيدا، وله مقول عند الناس، ولكلامه وقع لديانته وفصاحته وحلاوته، وكان يؤثر الاقامة في البلاد لما يرى فيها من الرفق ووجود الحلال له ولعياله، وقد ولد له عدة أولاد من الوالدة ومن أخرى قبلها، أكبرهم إسماعيل ثم يونس وإدريس، ثم من الوالدة عبد الوهاب وعبد العزيز ومحمد وأخوات عدة، ثم أنا أصغرهم، وسميت باسم الاخ إسماعيل لانه كان قد قدم دمشق فاشتغل بها بعد أن حفظ القرآن على والده وقرأ مقدمة في النحو، وحفظ التنبيه وشرحه على العلامة تاج الدين الفزاري وحصل المنتخب في أصول الفقه، قاله لي شيخنا ابن الزملكاني، ثم إنه سقط من سطح الشامية البرانية فمكث أياما ومات، فوجد الوالد عليه وجدا كثيرا ورثاه بأبيات كثيرة، فلما ولدت له أنا بعد ذلك سماني باسمه، فأكبر أولاده إسماعيل وآخرهم وأصغرهم إسماعيل، فرحم الله من سلف وختم بخير لمن بقي، توفي والدي في شهر جمادى الاولى سنة ثلاث وسبعمائة، في قرية مجيدل القرية، ودفن بمقبرتها الشمالية عند الزيتون وكنت إذ ذاك صغيرا ابن ثلاث سنين أو نحوها لا أدركه إلا كالحلم، ثم تحولنا من بعده في سنة سبع وسبعمائة إلى دمشق صحبة كمال الدين عبد الوهاب، وقد كان لنا شقيقا، وبنا رفيقا شفوقا، وقد تأخرت وفاته إلى سنة خمسين، فاشتغلت على يديه في العلم فيسر الله تعالى منه ما يسر، وسهل منه ما تعسر والله أعلم.
وقد قال شيخنا الحافظ علم الدين البرزالي في معجمه فيما أخبرني عنه شمس الدين محمد بن سعد المقدسي مخرجه له، ومن خط المحدث شمس الدين بن سعد هذا نقلت، وكذلك وقفت على خط الحافظ البرزالي مثله في السفينة الثانية من السفن الكبار: قال عمر بن كثير القرشي خطيب القرية وهي قرية من أعمال بصرى رجل فاضل له نظم جيد ويحفظ كثيرا من اللغز وله همة وقوة.
كتبت عنه من شعره بحضور شيخنا تاج الدين الفزاري.
وتوفي في جمادى الاولى سنة ثلاث وسبعمائة بمجيدل القرية من عمل بصرى، أنشدنا الخطيب شهاب الدين أبو حفص عمر بن كثير القرشي خطيب القرية بها لنفسه في منتصف شعبان من سنة سبع وثمانين وستمائة: نأى النوم عن جفني فبت مسهدا * أخا كلف حلف الصبابة موجدا سمير الثريا والنجوم مدلها * فمن ولهي خلت الكواكب ركدا طريحا على فرش الصبابة والاسى * فما ضركم لو كنتم لي عودا
تقلبني أيدي الغرام بلوعة * أرى النار من تلقائها لي أبردا ومزق صبري بعد جيران حاجز * سعير غرام بات في القلب موقدا فأمطرته دمعي لعل زفيره * يقل فزادته الدموع توقدا فبت بليل نابغي ولا أرى * على النأي من بعد الاحبة صعدا فيا لك من ليل تباعدا فجره * علي إلى أن خلته قد تخلدا غراما ووجدا لا يحد أقله * بأهيف معسول المراشف أغيدا له طلعة كالبدر زان جمالها * بطرة شعر حالك اللون أسودا يهز من القد الرشيق مثقفا * ويشهر من جفينه سيفا مهندا وفي ورد خديه وآس عذاره * وضوء ثناياه فنيت تجلدا غدا كل حسن دونه متقاصرا * وأضحى له رب الجمال موحدا إذا مارنا واهتزا عند لقائه
سباك، فلم تملك لسانا ولا يدا وتسجد إجلالا له وكرامة * وتقسم قد أمسيت في الحسن أوحدا ورب أخي كفر تأمل حسنه * فأسلم من إجلاله وتشهدا وأنكر عيسى والصليب ومريما * وأصبح يهوى بعد بغد محمدا أيا كعبة الحسن التي طاف حولها * فؤادي، أما للصد عندك من فدا ؟ قنعت بطيف من خيالك طارق * وقد كنت لا أرضى بوصلك سرمدا فقد شفني شوق تجاوزا حده * وحسبك من شوق تجاوز واعتدا سألتك إلا ما مررت بحينا * بفضلك يا رب الملاحة والندا لعل جفوني أن تغيض دموعها * ويسكن قلب مذ هجرت فما هدا غلطت بهجراني ولو كنت صبيا * لما صدك الواشون عني ولا العدا وعدتها ثلات وعشرون بيتا والله يغفر له ما صنع من الشعر.
ثم دخلت سنة أربع وسبعمائة استهلت والخليفة والسلطان والحكام والمباشرون هم المذكرون في التي قبلها، وفي يوم الاحد ثالث ربيع الاول حضرت الدروس والوظائف التي أنشأها الامير بيبرس الجاشنكير المنصوري بجامع الحاكم بعد أن جدده من خرابه بالزلزلة التي طرأت على ديار مصر في آخر سنة ثنتين وسبعمائة، وجعل القضاة الاربعة عم المدرسين للمذاهب، وشيخ الحديث سعد الدين الحارثي، وشيخ النحو أثير الدين أبو حيان، وشيخ القراءات السبع الشيخ نور الدين الشطنوفي، وشيخ إفادة العلوم الشيخ علاء الدين القونوي.
وفي جمادى الآخرة باشر الامير ركن الدين بيبرس الحجوبية مع الامير سيف الدين بكتمر، وصارا حاجبين كبيرين في دمشق.
وفي رجب أحضر إلى
الشيخ تقي الدين بن تيمية شيخ كان يلبس دلقا كبيرا متسعا جدا يسمى المجاهد إبراهيم القطان، فأمر الشيخ بتقطيع ذلك الدلق فتناهبه الناس من كل جانب وقطعوه حتى لم يدعوا فيه شيئا وأمر
بحلق رأسه، وكان ذا شعر، وقلم أظافره وكانوا طوالا جدا، وحف شاربه المسبل على فمه المخالف للسنة، واستتابه من كلام الفحش وأكل ما يغير العقل من الحشيشة وما لا يجوز من المحرمات وغيرها.
وبعده استحضر الشيخ محمد الخباز البلاسي فاستتابه أيضا عن أكل المحرمات ومخالطة أهل الذمة، وكتب عليه مكتوبا أن لا يتكلم في تعبير المنامات ولا في غيرها بما لا علم له به.
وفي هذا الشهر بعينه راح الشيخ تقي الدين ين تيمية إلى مسجد النارنج (1) وأمر أصحابه ومعهم حجارون بقطع صخرة كانت هناك بنهر قلوط تزار وينذر لها، فقطعها وأرح المسلمين منها ومن الشرك بها، فأزاح عن المسلمين شبهة كان شرها عظيما، وبهذا وأمثالها حسدوه وأبرزوا له العداوة، وكذلك كلامه بابن عربي وأتباعه، فحسد على ذلك وعودي، ومع هذا لم تأخذه في الله لومة لائم، ولا بالى، ولم يصلوا إليه بمكروه، وأكثر ما نالوا منه الحبس مع أنه لم ينقطع في بحث لا بمصر ولا بالشام، ولم يتوجه لهم عليه ما يشين وإنما أخذوه وحبسوه بالجاه كما سيأتي، وإلى الله إياب الخلق وعليه حسابهم.
وفي رجب جلس قاضي القضاة نجم الدين بن صصرى بالمدرسة العادلية الكبيرة وعملت التخوت بعد ما جددت عمارة المدرسة، ولم يكن أحد يحكم بها بعد وقعة قازان بسبب خرابها، وجاء المرسوم للشيخ برهان الدين الفزاري بوكالة بيت المال فلم يقبل، وللشيخ كمال الدين بن الزملكاني بنظر الخزانة فقبل وخلع عليه بطرحة، وحظر بها يوم الجمعة، وهاتان الوظيفتان كانتا مع نجم الدين بن أبي الطيب توفي إلى رحمة الله.
وفي شعبان سعى جماعة في تبطيل الوقيد ليلة النصف وأخذوا خطوط العلماء في ذلك، وتكلموا مع نائب السلطنة فلم يتفق ذلك، بل أشعلوا وصليت صلاة ليلة النصف أيضا.
وفي خامس رمضان وصل الشيخ كمال الدين بن الشريشي من مصر بوكالة بيت المال، ولبس الخلعة سابع رمضان، وحضر عند ابن صصرى بالشباك الكمالي.
وفي سابع شوال عزل وزير مصر ناصر الدين بن الشيخي وقطع إقطاعه ورسم عليه وعوقب إلى أن مات في ذي القعدة، وتولى الوزارة سعد الدين محمد بن محمد ابن عطاء وخلع عليه.
وفي يوم الخميس الثاني والعشرين من ذي القعدة حكم قاضي القضاة جمال الدين الزواوي بقتل الشمس محمد بن جمال الدين بن عبد الرحمن الباجريقي، وإراقة دمه وإن تاب
وإن أسلم، بعد إثبات محضر عليه يتضمن كفر الباجريقي المذكور، وكان ممن شهد فيه عليه الشيخ مجد الدين التونسي النحوي الشافعي، فهرب الباجريقي إلى بلاد الشرق (2) فمكث بها مدة
__________
(1) من بدائع الزهور، وفي الاصل " التاريخ "، وذكر ابن إياس هذه الحادثة في حوادث سنة 702 ه (1 / 1 / 417).
__________
(2) اقام مدة بمصر بالجامع الازهر - بعد الحكم عليه - ثم هرب إلى دمشق ونزل القابون قرب دمشق واقام به إلى أن مات سنة 724 ه.
وله ستون سنة (شذرات الذهب 6 / 64 الوافي 3 / 249 ابن حجر الدرر الكامنة 4 / 130).
سنين ثم جاء بعد موت الحاكم المذكور كما سيأتي.
وفي ذي القعدة كان نائب السلطنة في الصيد فقصدهم في الليل طائفة من الاعراب فقاتلهم الامراء فقتلوا من العرب نحو النصف، وتوغل في العرب أمير يقال له سيف الدين بهادر تمر احتقارا بالعرب، فضربه واحد منهم برمح فقتله، فكرت الامراء عليهم فقتلوا منهم خلقا أيضا، وأخذوا واحد منهم زعموا أنه هو الذي قتله فصلب تحت القلعة، ودفن الامير المذكور بقبر الست.
وفي ذي القعدة تكلم الشيخ شمس الدين بن النقيب وجماعة من العلماء في الفتاوى الصادرة من الشيخ علاء الدين بن العطار شيخ دار الحديث النورية والقوصية، وأنها مخالفة لمذهب الشافعي، وفيها تخبيط كثير، فتوهم من ذلك وراح إلى الحنفي فحقن دمه وأبقاه على وظائفه، ثم بلغ ذلك نائب السلطنة فأنكر على المنكرين عليه، ورسم عليهم ثم اصطلحوا، ورسم نائب السلطنة أن لا تثار الفتن بين الفقهاء.
وفي مستهل ذي الحجة ركب الشيخ تقي الدين بن تيمية ومعه جماعة من أصحابه إلى جبل الجرد والكسروانيين ومعه نقيب الاشراف زين الدين بن عدنان فاستنابوا خلقا منهم وألزموهم بشرائع الاسلام ورجع مؤيدا منصورا.
وممن توفي فيها من الاعيان: الشيخ تاج الدين بن شمس الدين بن الرفاعي
شيخ الاحمدية بأم عبيدة من مدة مديدة، وعنه تكتب إجازات الفقراء، ودفن هناك عند سلفه بالبطائح.
الصدر نجم الدين بن عمر ابن أبي القاسم بن عبد المنعم بن محمد بن الحسن بن أبي الكتائب بن محمد بن أبي الطيب، وكيل بيت المال وناظر الخزانة، وقد ولي في وقت نظر المارستان النوري وغير ذلك، وكان مشكور السيرة رجلا جيدا، وقد سمع الحديث وروى أيضا، توفي ليلة الثلاثاء الخامس عشر من جمادى الآخرة، ودفن بتربتهم بباب الصغير.
ثم دخلت سنة خمس وسبعمائة استهلت والخليفة المستكفي والسلطان الملك الناصر، والمباشرون هم المذكورون فيما مضى، وجاء الخبر أن جماعة من التتر كمنوا لجيش حلب وقتلوا منهم خلقا من الاعيان وغيرهم، وكثر النوح ببلاد حلب بسبب ذلك.
وفي مستهل المحرم حكم جلال الدين القزويني أخو قاضي القضاة إمام الدين نيابة عن ابن صصرى، وفي ثانيه خرج نائب السلطنة بمن بقي من الجيوش
الشامية، وقد كان تقدم بين يديه طائفة من الجيش مع ابن تيمية في ثاني المحرم، فساروا إلى بلاد الجرد والرفض والتيامنة فخرج نائب السلطنة الافرم بنفسه بعد خروج الشيخ لغزوهم، فنصرهم الله عليهم وأبادوا خلقا كثيرا منهم ومن فرقتهم الضالة، ووطئوا أراضي كثيرة من صنع بلادهم، وعاد نائب السلطنة إلى دمشق في صحبته الشيخ ابن تيمية والجيش، وقد حصل بسبب شهود الشيخ هذه الغزوة خير كثير، وأبان الشيخ علما وشجاعة في هذه الغزوة، وقد امتلات قلوب أعدائه حسدا له وغما.
وفي مستهل جمادى الاولى قدم القاضي أمين الدين أبو بكر بن القاضي وجيه الدين عبد العظيم بن الرفاقي المصري من القاهرة على نظر الدواوين بدمشق، عوضا عن عز الدين بن مبشر.
ما جرى للشيخ تقي الدين بن تيمية مع الاحمدية وكيف عقدت له المجالس الثلاثة
وفي يوم السبت تاسع جمادى الاولى حضر جماعة كثيرة من الفقراء الاحمدية إلى نائب السلطنة بالقصر الابلق وحضر الشيخ تقي الدين بن تيمية فسألوا من نائب السلطنة بحضرة الامراء أن يكف الشيخ تقي الدين إمارته عنهم، وأن يسلم لهم حالهم، فقال لهم الشيخ: هذا ما يمكن.
ولا بد لكل أحد أن يدخل تحت الكتاب والسنة، قولا وفعلا، ومن خرج عنهما وجب الانكار عليه.
فأرادوا أن يفعلوا شيئا من أحوالهم الشيطانية التي يتعاطونها في سماعاتهم، فقال الشيخ تلك أحوال شيطانية باطلة، وأكثر أحوالهم من باب الحيل والبهتان، ومن أراد منهم أن يدخل النار فليدخل أولا إلى الحمام وليغسل جسده غسلا جيدا ويدلكه بالخل والاشنان ثم يدخل بعد ذلك إلى النار إن كان صادقا، ولو فرض أن أحدا من أهل البدع دخل النار بعد أن يغتسل فإن ذلك لا يدل على صلاحه ولا على كرامته، بل حاله من أحوال الدجاجلة المخالفة للشريعة إذا كان صاحبها على السنة، فما الظن بخلاف ذلك، فابتدر شيخ المنيبع الشيخ الصالح وقال: نحن أحوالنا إنما تنفق عند التتر ليست تنفق عند الشرع، فضبط الحاضرون عليه تلك الكلمة، وكثر الانكار عليهم من كل أحد، ثم اتفق الحال على أنهم يخلعون الاطواق الحديد من رقابهم، وأن من خرج عن الكتاب والسنة ضربت عنقه.
وصنف الشيخ جزءا في طريقة الاحمدية، وبين فيه أحوالهم ومسالكهم وتخيلاتهم، وما في طريقتهم من مقبول ومردود بالكتاب، وأظهر الله السنة على يديه وأخمد بدعتهم ولله الحمد والمنة.
وفي العشر الاوسط من هذا الشهر خلع على جلال الدين بن معبد وعز الدين خطاب، وسيف الدين بكتمر مملوك بكتاش الحسامي بالامرة ولبس التشاريف، وركبوا بها وسلموا لهم جبل الجرد والكسروان والبقاع.
وفي يوم الخميس ثالث رجب خرج الناس للاستسقاء إلى سطح المزة
ونصبوا هناك منبرا وخرج نائب السلطنة وجميع الناس من القضاة والعلماء والفقراء، وكان مشهدا هائلا وخطبة عظيمة بليغة، فاستسقوا فلم يسقوا يومهم ذلك.
أول المجالس الثلاثة لشيخ الاسلام ابن تيمية
وفي يوم الاثنين ثامن رجب حضر القضاة والعلماء وفيهم الشيخ تقي الدين بن تيمية عند نائب السلطنة بالقصر وقرئت عقيدة الشيخ تقي الدين الواسطية، وحصل بحث في أماكن منها، وأخرت مواضع إلى المجلس الثاني، فاجتمعوا يوم الجمعة بعد الصلاة ثاني عشر الشهر المذكور وحضر الشيخ صفي الدين الهندي، وتكلم مع الشيخ تقي الدين كلاما كثيرا، ولكن ساقيته لاطمت بحرا، ثم اصطلحوا على أن يكون الشيخ كمال الدين بن الزملكاني هو الذي يحاققه من غير مسامحة، فتناظرا في ذلك، وشكر الناس من فضائل الشيخ كمال الدين بن الزملكاني وجودة ذهنه وحسن بحثه حيث قاوم ابن تيمية في البحث، وتكلم معه، ثم انفصل الحال على قبول العقيدة، وعاد الشيخ إلى منزله معظما مكرما، وبلغني أن العامة حملوا له الشمع من باب النصر إلى القصاعين على جاري عادتهم في أمثال هذه الاشياء، وكان الحامل على هذه الاجتماعات كتاب ورد من السلطان في ذلك، كان الباعث على إرساله قاضي المالكية ابن مخلوف، والشيخ نصر المنبجي شيخ الجاشنكير وغيرهما من أعدائه، وذلك أن الشيخ تقي الدين بن تيمية كان يتكلم في المنجبي وينسبه إلى اعتقاد ابن عربي وكان للشيخ تقي الدين من الفقهاء جماعة يحسدونه لتقدمه عند الدولة، وانفراده بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وطاعة الناس له ومحبتهم له وكثرة أتباعه وقيامه في الحق، وعلمه وعمله، ثم وقع بدمشق خبط كثير وتشويش بسبب غيبة نائب السلطنة، وطلب القاضي جماعة من أصحاب الشيخ وعزر بعضهم ثم اتفق أن الشيخ جمال الدين المزي الحافظ قرأ فصلا بالرد على الجهمية من كتاب أفعال العباد للبخاري تحت قبة النسر بعد قراءة ميعاد البخاري بسبب الاستسقاء، فغضب بعض الفقهاء الحاضرين وشكاه إلى قاضي الشافعي ابن صصرى، وكان عدو الشيخ فسجن المزي، فبلغ الشيخ تقي الدين فتألم لذلك وذهب إلى السجن فأخرجه منه بنفسه، وراح إلى القصر فوجد القاضي هنالك، فتقاولا بسبب الشيخ جمال الدين المزي، فحلف ابن صصرى لا بد أن يعيده إلى السجن وإلا عزل نفسه فأمر النائب بإعادته تطييبا لقلب القاضي فحبسه عنده في القوصية أياما ثم أطلقه.
ولما قدم نائب السلطنة ذكر له الشيخ تقي الدين ما جرى في حقه وحق أصحابه في غيبته، فتألم النائب لذلك ونادى في البلد أن لا يتكلم أحد
في العقائد، ومن عاد إلى تلك الحال ماله ودمه ورتبت داره وحانوته، فسكنت الامور.
وقد رأيت فصلا من كلام الشيخ تقي الدين في كيفية ما وقع في هذه المجالس الثلاثة من المناظرات.
ثم عقد المجلس الثالث في يوم سابع شعبان بالقصر واجتمع جماعة على الرضى بالعقيدة المذكورة وفي هذا اليوم عزل ابن صصرى نفسه عن الحكم بسبب كلام سمعه من بعض الحاضرين
في المجلس المذكور، وهو من الشيخ كمال الدين بن الزملكاني، ثم جاء كتاب السلطان في السادس والعشرين من شعبان فيه إعادة ابن صصرى إلى القضاء، وذلك بإشارة المنبجي، وفي الكتاب إنا كنا سمعنا بعقد مجلس للشيخ تقي الدين بن تيمية، وقد بلغنا ما عقد له من المجالس، وأنه على مذهب السلف وإنما أردنا بذلك براءة ساحته مما نسب إليه، ثم جاء كتاب آخر في خامس رمضان يوم الاثنين وفيه الكشف عن ما كان وقع للشيخ تقي الدين بن تيمية في أيام جاغان، والقاضي إمام الدين القزويني وأن يحمل هو والقاضي ابن صصرى إلى مصر، فتوجها على البريد نحو مصر، وخرج مع الشيخ خلق من أصحابه وبكوا وخافوا عليه من أعدائه، وأشار عليه نائب السلطنة ابن الافرم بترك الذهاب إلى مصر، وقال له أنا أكاتب السلطان في ذلك وأصلح القضايا، فامتنع الشيخ من ذلك، وذكر له أن في توجهه لمصر مصلحة كبيرة، ومصالح كثيرة، فلما توجه لمصر ازدحم الناس لوداعه ورؤيته حتى انتشروا من باب داره إلى قرب الجسورة، فيما بين دمشق والكسوة، وهم فيما بين باك وحزين ومتفرج ومتنزه ومزاحم متغال فيه.
فلما كان يوم السبت دخل الشيخ تقي الدين غزة فعمل في جامعها مجلسا عظيما، ثم دخلا معا إلى القاهرة والقلوب معه وبه متعلقة، فدخلا مصر يوم الاثنين الثاني والعشرين من رمضان، وقيل انهما دخلاها يوم الخميس، فلما كان يوم الجمعة بعد الصلاة عقد للشيخ مجلس بالقلعة اجتمع فيه القضاة وأكابر الدولة وأراد أن يتكلم على عادته فلم يتمكن من البحث والكلام، وانتدب له الشمس ابن عدنان خصما احتسابا، وادعى عليه عند ابن مخلوف المالكي أنه يقول إن الله فوق العرش حقيقة، وأن الله يتكلم بحرف وصوت، فسأله القاضي جوابه فأخذ الشيخ في حمد الله والثناء عليه، فقيل له أجب
ما جئنا بك لتخطب، فقال: ومن الحاكم في ؟ فقيل له: القاضي المالكي.
فقال له الشيخ كيف تحكم في وأنت خصمي، فغضب غضبا شديدا وانزعج وأقيم مرسما عليه وحبس في برج أياما ثم نقل منه ليلة العيد إلى الحبس المعروف بالجب، هو وأخوه شرف الدين عبد الله وزين الدين عبد الرحمن.
وأما ابن صصرى فإنه جدد له توقيع بالقضاء بإشارة المنبجي شيخ الجاشنكير حاكم مصر، وعاد إلى دمشق يوم الجمعة سادس ذي القعدة والقولب له ماقتة، والنفوس منه نافرة، وقرئ تقليده بالجامع وبعده قرئ كتاب فيه الحط على الشيخ تقي الدين ومخالفته في العقيدة، وأن ينادى بذلك في البلاد الشامية، وألزم أهل مذهبه بمخالفته، وكذلك وقع بمصر، قام عليه جاشنكير وشيخه نصر المنبجي، وساعدهم جماعة كثيرة من الفقهاء والفقراء، وجرت فتن كثيرة منتشرة، نعوذ بالله من الفتن، وحصل للحنابلة بالديار المصرية إهانة عظيمة كثيرة، وذلك أن قاضيهم كان قليل العلم مزجى البضاعة، وهو شرف الدين الحراني، فلذلك نال أصحابهم ما نالهم، وصارت حالهم حالهم، وفي شهر رمضان جاء كتاب من مقدم الخدام بالحرم النبوي يستأذن السلطان في بيع طائفة من قناديل الحرم النبوي لينفق ذلك ببناء مأذنة عند باب السلام الذي عند المطهرة، فرسم
له بذلك، وكان في جملة القناديل قنديلان من ذهب زنتهما ألف دينار، فباع ذلك وشرع في بنائها وولي سراج الدين عمر قضاءها مع الخطابة فشق ذلك على الروافض.
وفي يوم الخميس ثاني عشر ذي القعدة وصل البريد من مصر بتولية القضاء لشمس الدين محمد بن إبراهيم بن داود الاذرعي الحنفي قضاء الحنفية عوضا عن شمس الدين بن الحسيني معزولا وبتولية الشيخ برهان الدين بن الشيخ تاج الدين الفزاري خطابة دمشق عوضا عن عمه الشيخ شرف الدين توفي إلى رحمة الله، فخلع عليهما بذلك وباشرا في يوم الجمعة ثالث عشر الشهر وخطب الشيخ برهان الدين خطبة حسنة حضرها الناس والاعيان، ثم بعد خمسة أيام عزل نفسه عن الخطابة وآثر بقاءه على تدريس البدرائية حين بلغه أنها طلبت لتأخذ منه، فبقي منصب
الخطابة شاغرا بقاءه على تدريس البادرائية حين بلغه أنها طلبت لتؤخذ منه، فبقي منصب الخطابة شاغرا ونائب الخطيب يصلي بالناس ويخطب، ودخل عيد الاضحى وليس للناس خطيب، وقد كاتب نائب السلطنة في ذلك فجاء المرسوم بإلزامه بذلك، وفيه: لعلمنا بأهليته وكفايته واستمراره على ما بيده من تدريس البادرائية، فباشرها القيسي جمال الدين بن الرحبي، سعى في البادرائية فأخذها وباشرها في صفر من السنة الآتية بتوقيع سلطاني، فعزل الفزاري نفسه عن الخطابة ولزم بيته، فراسله نائب السلطنة بذلك، فصمم على العزل وأنه لا يعود إليها أبدا، وذكر أنه عجز عنها، فلما تحقق نائب السلطنة ذلك أعاد إليه مدرسته وكتب له بها توقيعا بالعشر الاول من ذي الحجة وخلع على شمس الدين الخطيري بنظر الخزانة عوضا عن ابن الزملكاني.
وحج بالناس الامير شرف الدين حسن بن حيدر.
وممن توفي فيها من الاعيان: الشيخ عيسى بن الشيخ سيف الدين الرحبي ابن سابق بن الشيخ يونس القيسي ودفن بزاويتهم التي بالشرق الشمالي بدمشق غربي الوراقة والعزية يوم الثلاثاء سابع المحرم.
الملك الاوحد ابن الملك تقي الدين شادي بن الملك الزاهر مجير الدين داود بن الملك المجاهد أسد الدين شيركوه بن ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه بن شادي، توفي بجبل الجرد في آخر نهار الاربعاء ثاني صفر، وله من العمر سبع وخمسون سنة فنقل إلى تربتهم بالسفح، وكان من خيار الملوك والدولة معظما عند الملوك والامراء، وكان يحفظ القرآن وله معرفة بعلوم، ولديه فضائل.
الصدر علاء الدين علي بن معالي الانصاري الحراني الحاسب، يعرف بابن الزريز، وكان فاضلا بارعا في
صناعة الحساب انتفع به جماعة، توفي في آخر هذه السنة فجأة ودفن بقاسيون، وقد أخذت
الحساب عن الحاضري عن علاء الدين الطيوري عنه.
الخطيب شرف الدين أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن سباع بن ضياء الفزاري، الشيخ الامام العلامة أخو العلامة شيخ الشافعية تاج الدين عبد الرحمن، ولد سنة ثلاثين وسمع الحديث الكثير، وانتفع على المشايخ في ذلك العصر كابن الصلاح وابن السخاوي وغيرهما، وتفقه وأفتى وناظر وبرع وساد أقرانه، وكان أستاذا في العربية واللغة والقراءات وإيراد الاحاديث النبوية، والتردد إلى المشايخ للقراءة عليهم، وكان فصيح العبارة حلو المحاضرة، لا تمل مجالسته، وقد درس بالطبية، وبالرباط الناصري مدة، ثم تحول عنه إلى خطابة جامع جراح، ثم انتقل إلى خطابة جامع دمشق بعد الفارقي في سنة ثلاث ولم يزل به حتى توفي يوم الاربعاء عشية التاسع من شوال، عن خمس وسبعين سنة، وصلي عليه صبيحة يوم الخميس على باب الخطابة، ودفن عند أبيه وأخيه بباب الصغير رحمهم الله، وولي الخطابة ابن أخيه.
شيخنا العلامة برهان الدين الحافظ الكبير الدمياطي وهو الشيخ الامام العالم الحافظ شيخ المحدثين شرف الدين أبو محمد عبد المؤمن بن خلف ابن أبي الحسن بن شرف بن الخضر بن موسى الدمياطي، حامل لواء هذا الفن - أعني صناعة الحديث وعلم اللغة - في زمانه مع كبر السن والقدر، وعلو الاسناد وكثرة الرواية، وجودة الدراية، وحسن التآليف وانتشار التصانيف، وتردد الطلبة إليه من سائر الآفاق، ومولده في آخر سنة ثلاث عشرة وستمائة، وقد كان أول سماعه في سنة ثنتين وثلاثين بالاسكندرية، سمع الكثير على المشايخ ورحل وطاف وحصل وجمع فأوعى، ولكن ما منع ولا بخل، بل بذل وصنف ونشر العلم، وولي المناصب بالديار المصرية، وانتفع الناس به كثيرا، وجمع معجما لمشايخه الذين لقيهم بالشام والحجاز والجزيرة والعراق وديار مصر يزيدون على ألف وثلثمائة شيخ، وهو مجلدان، وله ؟ الاربعون المتباينة الاسناد وغيرها وله كتاب في الصلاة والوسطى مفيد جدا، ومصنف في صيام ستة ؟ أيام من شوال أفاد فيه وأجاد، وجمع ما لم يسبق إليه، وله كتاب الذكر والتسبيح عقيب
الصلوات، وكتاب التسلي في الاغتباط بثواب من يقدم من الافراط، وغير ذلك من الفوائد الحسان، ولم يزل في إسماع الحديث إلى أن أدركته وفاته وهو صائم في مجلس الاملاء غشي عليه فحمل إلى منزله فمات من ساعته يوم الاحد عاشر ذي القعدة بالقاهرة، ودفن من الغد بمقابر باب النصر وكانت جنازته حافلة جدا رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة ست وسبعمائة استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها والشيخ تقي الدين بن تيمية مسجون بالجب من قلعة الجبل، وفي يوم الاربعاء جاء البريد بتولية الخطابة للشيخ شمس الدين (1) إمام الكلاسة وذلك في ربيع الاول، وهنئ بذلك فأظهر التكره لذلك والضعف عنه، ولم يحصل له مباشرة لغيبة نائب السلطنة في الصيد، فلما حضر أذن له فباشر يوم الجمعة العشرين من الشهر، فأول صلاة صلاها الصبح يوم الجمعة، ثم خلع عليه وخطب بها يومئذ، وفي يوم الاربعاء ثامن عشر ربيع الاول باشر نيابة الحكم عن القاضي نجم الدين أحمد بن عبد المحسن بن حسن المعروف بالدمشقي عوضا عن تاج الدين بن صالح بن تامر بن خان الجعبري، وكان معمرا قديم الهجرة كثير الفضائل، دينا ورعا، جيد المعاشرة، وكان وقد ولي الحكم في سنة سبع وخمسين وستمائة، فلما ولي ابن صصرى كره بيابته.
وفي يوم الاحد العشرين من ربيع الآخر قدم البريد من القاهرة ومعه تجديد توقيع للقاضي شمس الدين الازرعي الحنفي، فظن الناس أنه بولاية القضاء لابن الحريري فذهبوا ليهنئوه مع البريد إلى الظاهرية، واجتمع الناس لقراءة التقليد على العادة فشرع الشيخ علم الدين البرزالي في قراءته فلما وصل إلى الاسم تبين له أنه ليس له وأنه للازرعي، فبطل القارئ وقام الناس مع البريدي إلى الازرعي، وحصلت كسرة وخمدة على الحريري والحاضرين، ووصل مع البريدي أيضا كتاب فيه طلب الشيخ كمال الدين بن الزملكاني إلى القاهرة، فتوهم من ذلك وخاف أصحابه عليه بسبب انتسابه إلى الشيخ تقي الدين بن تيمية، فتلطف به نائب السلطنة، ودارى عنه حتى أعفي من الحضور إلى مصر، ولله الحمد.
وفي يوم الخميس تاسع جمادى الاولى دخل الشيخ ابن براق إلى دمشق وبصحبته مائة فقير كلهم محلقي ذقونهم موفري شواربهم عكس ما وردت به السنة، وعلى رؤوسهم قرون لبابيد.
ومعهم أجراس وكعاب وجواكين خشب، فنزلوا بالمنيبع وحضروا الجمعة برواق الحنابلة، ثم توجهوا نحو القدس فزاروا، ثم استأذنوا في الدخول إلى الديار المصرية فلم يؤذن لهم، فعادوا إلى دمشق فصاموا بها رمضان ثم انشمروا راجعين إلى بلاد الشرق، إذ لم يجدوا بدمشق قبولا، وقد كان شيخهم براق روميا من بعض قرى دوقات من أبناء الاربعين، وقد كانت له منزلة عند قازان ومكانة، وذلك أنه سلط عليه نمرا فزجره فهرب منه وتركه، فحظي عنده وأعطاه في يوم واحد ثلاثين ألفا ففرقها كلها فأحبه، ومن طريقة أصحابه أنهم لا يقطعون لهم صلاة، ومن ترك صلاة ضربوه أربعين جلدة، وكان يزعم أن طريقه الذي سلكه إنما سلكه ليخرب على نفسه، ويرى أنه زي المسخرة، وأن هذا هو الذي يليق بالدنيا، والمقصود إنما هو الباطن والقلب وعمارة ذلك، ونحن إنما نحكم بالظاهر، والله أعلم بالسرائر.
__________
(1) وهو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الخلاطي، مولده سنة 644 ه ووفاته هذه السنة في شوال منها.
وفي يوم الاربعاء سادس جمادى الآخر حضر مدرس النجيبية بهاء الدين يوسف بن كمال الدين أحمد بن عبد العزيز العجمي الحلبي، عوضا عن الشيخ ضياء الدين الطوسي توفي، وحضر عنده ابن صصرى وجماعة من الفضلاء، وفي هذه السنة صليت صلاة الرغائب في النصف بجامع دمشق بعد أن كانت قد أبطلها ابن تيمية منذ أربع سنين، ولما كانت ليلة النصف حضر الحاجب ركن الدين بيبرس العلائي ومنع الناس من الوصول إلى الجامع ليلتئذ، وغلقت أبوابه فبات كثير من الناس في الطرقات وحصل للناس أذى كثير، وإنما أراد صيانة الجامع من اللغو والرفث، والتخطيط.
وفي سابع عشر رمضان حكم القاضي تقي الدين الحنبلي بحقن دم محمد الباجريقي، وأثبت عنده محضرا بعداوة ما بينه وبين الشهود الستة الذين شهدوا عليه عند المالكي، حين حكم بإراقة دمه، وممن شهد بهذه العداوة ناصر الدين بن عبد السلام وزين الدين بن الشريف عدنان،
وقطب الدين ابن شيخ السلامية وغيرهم.
وفيها باشر كمال الدين بن الزملكاني نظر ديوان ملك الامراء عوضا عن شهاب الدين الحنفي، وذلك في آخر رمضان، وخلع عليه بطيلسان وخلعة، وحضر بها دار العدل.
وفي ليلة عيد الفطر أحضر الامير سيف الدين سلار نائب مصر القضاة الثلاثة وجماعة من الفقهاء فالقضاة الشافعي والمالكي والحنفي، والفقهاء الباجي والجزري والنمراوي، وتكلموا في إخراج الشيخ تقي الدين بن تيمية من الحبس، فاشترط بعض الحاضرين عليه شروطا بذلك، منها أنه يلتزم بالرجوع عن بعض العقيدة وأرسلوا إليه ليحضر ليتكلموا معه في ذلك، فامتنع من الحضور وصمم، وتكررت الرسل إليه ست مرات، فصمم على عدم الحضور، ولم يلتفت إليهم ولم يعدهم شيئا، فطال عليهم المجلس فتفرقوا وانصرفوا غير مأجورين.
وفي يوم الاربعاء ثاني شوال أذن نائب السلطنة الافرم للقاضي جلال الدين (1) القزويني أن يصلي بالناس ويخطب بجامع دمشق عوضا عن الشيخ شمس الدين إمام الكلاسة توفي، فصلى الظهر يومئذ وخطب الجمعة واستمر بالامامة والخطابة حتى وصل توقيعه بذلك من القاهرة، وفي مستهل ذي القعدة حضر نائب السلطنة والقضاة والامراء والاعيان وشكرت خطبته.
وفي مستهل ذي القعدة كمل بناء الجامع الذي ابتناه وعمره الامير جمال الدين نائب السلطنة الافرم عند الرباط الناصري بالصالحية، ورتب فيه خطيبا يخطب يوم الجمعة وهو القاضي شمس الدين محمد بن العز الحنفي، وحضر نائب السلطنة والقضاة وشكرت خطبة الخطيب به، ومد الصاحب شهاب الدين الحنفي سماطا بعد صلاة بالجامع المذكور وهو الذي كان الساعي في عمارته، والمستحث عليها، فجاء في غاية الاتقان والحسن، تقبل الله منهم.
__________
(1) وهو محمد بن عبد الرحمن بن أحمد بن محمد بن عبد الكريم بن أبي دلف العجلي القزويني، كانت وفاته سنة 739 ه.
(الدرر الكامنة 4 / 120 الوافي 3 / 242).
وفي ثالث ذي القعدة استناب اصصرى القاضي صدر الدين سليمان بن هلال بن شبل
الجعبري خطيب داريا في الحكم عوضا عن جلال الدين القزويني، بسبب اشتغاله بالخطابة عن الحكم، وفي يوم الجمعة التاسع والعشرين من ذي القعدة قدم قاضي القضاة صدر الدين أبو الحسن علي بن الشيخ صفي الدين الحنفي البصراوي إلى دمشق من القاهرة متوليا قضاء الحنفية عوضا عن الازرعي، مع ما بيده من تدريس النورية والمقدمية وخرج الناس لتلقيه وهنأوه، وحكم بالنورية وقرئ تقليده بالمقصورة الكندية في الزاوية الشرقية، من جامع بني أمية.
وفي ذي الحجة ولي الامير عز الدين بن صبرة على البلاد القبلية والي الولاة، عوضا عن الامير جمال الدين آقوش الرستمي، بحكم ولايته شد الدواوين بدمشق، وجاء كتاب من السلطان بولاية وكالته للرئيس عز الدين بن حمزة القلانسي عوضا عن ابن عمه شرف الدين، فكره ذلك.
وفي اليوم الثامن والعشرين من ذي الحجة أخبر نائب السلطنة بوصول كتاب من الشيخ تقي الدين من الحبس الذي يقال له: الجب، فأرسل في طلبه فجئ به فقرئ على الناس فجعل يشكر الشيخ ويثني عليه وعلى علمه وديانته وشجاعته وزهده، وقال: ما رأيت مثله، وإذا هو كتاب مشتمل على ما هو عليه في السجن من التوجه إلى الله، وأنه لم يقبل من أحد شيئا لا من النفقات السلطانية ولا من الكسوة ولا من الادرارات ولا غيرها، ولا تدنس بشئ من ذلك.
وفي هذا الشهر يوم الخميس السابع والعشرين منه طلب أخوا الشيخ تقي الدين شرف الدين وزين الدين من الحبس إلى مجلس نائب السلطان سلار، وحضر ابن مخلوف المالكي وطال بينهم كلام كثير فظهر شرف الدين بالحجة على القاضي المالكي بالنقل والدليل والمعرفة، وخطأه في مواضع أدعى فيها دعاوى باطلة، وكان الكلام في مسألة العرش ومسألة الكلام، وفي مسألة النزول.
وفي يوم الجمعة ثاني عشرين ذي الحجة وصل على البريد من مصر نصر الدين محمد بن الشيخ فخر الدين ابن أخي قاضي القضاة البصراوي، وزوج ابنته على الحسبة بدمشق عوضا عن جمال الدين يوسف العجمي وخلع عليه بطيلسان ولبس الخلعة ودار بها في البلد في مستهل سنة سبع وسبعمائة، وفي هذه السنة عمر في حرم مكة بنحو مائة ألف.
وحج بالناس من الشام الامير
ركن الدين بيبرس المجنون.
وممن توفي فيها من الاعيان: القاضي تاج الدين صالح بن أحمد (1) بن خامد بن علي الجعدي الشافعي نائب الحكم بدمشق ومفيد ؟
__________
(1) في تذكرة النبيه 1 / 275: ثامر.
الناصرية، كان ثقة دينا عدلا مرضيا زاهدا، حكم من سنة سبع وخمسين وستمائة، له فضائل وعلوم، وكان حسن الشكل والهيئة، توفي في ربيع الاول عن ست وسبعين سنة، ودفن بالسفح وناب في الحكم بعده نجم الدين الدمشقي.
الشيخ ضياء الدين الطوسي أبو محمد عبد العزيز بن محمد بن علي الشافعي مدرس النجيبية شارح الحاوي (1)، ومختصر (2) ابن الحاجب كان شيخا فاضلا بارعا، وأعاد في الناصرية أيضا، توفي يوم الاربعاء بعد مرجعه من الحمام تاسع عشر من جمادى الاولى، وصلي عليه يوم الخميس ظاهر باب النصر، وحضر نائب السلطنة وجماعة من الامراء والاعيان، ودفن بالصوفية، ودرس بعده بالمدرسة بهاء الدين بن العجمي.
الشيخ جمال الدين إبراهيم بن محمد بن سعد الطيبي المعروف بابن السوابلي، والسوابل الطاسات.
كان معظما ببلاد الشرق جدا، كان تاجرا كبيرا توفي في هذا الشهر المذكور.
الشيخ الجليل سيف الدين الرجيحي ابن سابق بن هلال بن يونس شيخ اليونسية بمقامهم، صلي عليه سادس رجب بالجامع ثم أعيد إلى داره التي سكنها داخل باب توما، وتعرف بدار أمين الدولة فدفن بها، وحضر جنازته خلق كثير من الاعيان والقضاة والامراء، وكانت له حرمة كبيرة عند الدولة وعند طائفته، وكان
ضخم الهامة جدا محلوق الشعر، وخلف أموالا وأولادا.
الامير فارس الدين الروادي توفي في العشر الاخير من رمضان، وكان قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بأيام وهو يقول له: أنت مغفور لك، أو نحو هذا، وهو من أمراء حسام الدين لاجين.
الشيخ العابد خطيب دمشق شمس الدين شمس الدين محمد بن الشيخ أحمد بن عثمان الخلاطي إمام الكلاسة، كان شيخا حسنا
__________
(1) هو كتاب الحاوي الصغير في الفروع لعبد الغفار بن عبد الكريم القزويني المتوفى سنة 668 ه.
وقد شرحه الطوسي وسماه المصباح (كشف الظنون لحاجي خليفة 6 / 625 مرآة الجنان 4 / 167).
__________
(2) وهو مختصر كتاب منتهى السؤل والامل في علمي الاصول والجدل لابن الحاجب (كشف الظنون 2 / 1625).
بهي المنظر كثير العبادة، عليه سكون ووقار، باشر إمامة الكلاسة قريبا من اربعين سنة ثم طلب إلى أن يكون خطيبا بدمشق بالجامع من غير سؤال منه ولا طلب، فباشرها ستة أشهر ونصف أحسن مباشرة، وكان حسن الصوت طيب النغمة عارفا بصناعة الموسيقى، مع ديانة وعبادة، وقد سمع الحديث توفي فجأة بدار الخطابة يوم الاربعاء ثامن شوال عن ثنتين وستين سنة، وصلي عليه بالجامع وقد امتلا بالناس، ثم صلي عليه بسوق الخيل وحضر نائب السلطنة والامراء والعامة، وقد غلقت الاسواق ثم حمل إلى سفح قاسيون رحمه الله.
ثم دخلت سنة سبع وسبعمائة استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها، والشيخ تقي الدين بن تيمية معتقل في قلعة الجبل بمصر، وفي أوائل المحرم أظهر السلطان الملك الناصر الغضب على الامير ابن سلار والجاشنكير وامتنع من العلامة (1) وأغلق القلعة وتحصن فيها، ولزم الاميران بيوتهما، واجتمع عليهما جماعة من الامراء وحوصرت القلعة وجرت خبطة عظيمة، وغلقت الاسواق، ثم راسلوا السلطان فتأطدت الامور وسكنت الشرور على دخن، وتنافر قلوب.
وقوي الاميران أكثر مما كانا
قبل ذلك وركب السلطان ووقع الصلح على دخن.
وفي المحرم وقعت الحرب بن التتر وبين أهل كيلان (2)، وذلك أن ملك التتر طلب منهم أن يجعلوا في بلادهم طريقا إلى عسكره فامتنعوا من ذلك، فأرسل ملك التتر خربندا جيشا كثيفا ستين ألفا من المقاتلة، أربعين ألفا مع قطلوشاه وعشرين ألفا مع جوبان، فأمهلهم أهل كيلان حتى توسطوا بلادهم، ثم أرسلوا عليهم خليجا من البحر ورموهم بالنفط فغرق كثير منهم واحترق آخرون، وقتلوا بأيديهم طائفة كثيرة، فلم يفلت منهم إلا القليل، وكان فيمن قتل أمير التتر الكبير قطلوشاه، فاشتد غضب خربندا على أهل كيلان، ولكنه فرح بقتل قطلوشاه فإنه كان يريد قتل خربندا فكفى أمره عنهم، ثم قتل بعده بولاي.
ثم إن ملك التتر أرسل الشيخ براق الذي قدم الشام فيما تقدم إلى أهل كيلان يبلغهم عنه رسالة فقتلوه وأراحوا الناس منه، وبلادهم من أحصن البلاد وأطيبها لا تستطاع، وهم أهل سنة وأكثرهم حنابلة لا يستطيع مبتدع أن يسكن بين أظهرهم.
وفي يوم الجمعة رابع عشر صفر اجتمع القضاة بدر الدين بن جماعة بالشيخ تقي الدين بن تيمية في دار الاوحدي من قلعة الجبل، وطال بينهما الكلام ثم تفرقا قبل الصلاة، والشيخ تقي الدين مصمم على عدم الخروج من السجن، فلما كان يوم الجمعة الثالث والعشرين
__________
(1) العلامة: هي ما يكتبه السلطان بخطه على صورة اصطلاحية.
وكان لكل سلطان علامة وتوقيع (التعريف بمصطلحات صبح الاعشى ص 253، المواعظ والاعتبار للمقريزي 2 / 211 وصبح الاعشى 6 / 314).
__________
(2) كيلان أو جيلان: غربي طبرستان (معجم البلدان، وتقويم البلدان لابي الفداء ص 426).
من ربيع الاول جاء الامير حسام الدين مهنا بن عيسى ملك العرب إلى السجن بنفسه وأقسم على الشيخ تقي الدين ليخرجن إليه، فلما خرج أقسم عليه ليأتين معه إلى دار سلار، فاجتمع به بعض الفقهاء بدار سلار وجرت بينهم بحوث كثيرة.
ثم فرقت بينهم الصلاة، ثم اجتمعوا إلى المغرب وبات الشيخ تقي الدين عند سلار، ثم اجتمعوا يوم الاحد بمرسوم السلطان جميع النهار، ولم يحضر أحد من القضاة بل اجتمع من الفقهاء خلق كثير، أكثر من كل يوم، منهم الفقيه نجم
الدين بن رفع وعلاء الدين التاجي، وفخر الدين ابن بنت أبي سعد، وعز الدين النمراوي، وشمس الدين بن عدنان وجماعة من الفقهاء وطلبوا القضاة فاعتذروا بأعذار، بعضهم بالمرض، وبعضهم بغيره، لمعرفتهم بما ابن تيمية منطوي عليه من العلوم والادلة، وأن أحدا من الحاضرين لا يطيقه، فقبل عذرهم نائب السلطنة ولم يكلفهم الحضور بعد أن رسم السلطان بحضورهم أو بفصل المجلس على خير، وبات الشيخ عند نائب السلطنة وجاء الامير حسام الدين مهنا يريد أن يستصحب الشيخ تقي الدين معه إلى دمشق، فأشار سلار بإقامة الشيخ بمصر عنده ليرى الناس فضله وعلمه، وينتفع الناس به ويشتغلوا عليه.
وكتب الشيخ كتابا إلى الشام يتضمن ما وقع له من الامور.
قال البرزالي: وفي شوال منها شكى الصوفية بالقاهرة على الشيخ تقي الدين وكلموه في ابن عربي وغيره إلى الدولة، فردوا الامر في ذلك إلى القاضي الشافعي، فعقد له مجلس وادعى عليه ابن عطاء بأشياء فلم يثبت عليه منها شئ، لكنه قال لا يستغاث إلا بالله، لا يستغاث بالنبي استغاثة بمعنى العبارة، ولكن يتوسل به ويتشفع به إلى الله (1) فبعض الحاضرين قال ليس عليه في هذا شئ، ورأى القاضي بدر الدين بن جماعة أن هذا فيه قلة أدب، فحضرت رسالة إلى القاضي أن يعمل معه ما تقتضيه الشريعة، فقال القاضي قد قلت له ما يقال لمثله، ثم إن الدولة خيروه بين أشياء إما أن يسير إلى دمشق أو الاسكندرية بشروط أو الحبس، فاختار الحبس فدخل عليه جماعة في السفر إلى دمشق ملتزما ما شرط، فأجاب أصحابه إلى ما اختاروا جبرا لخواطرهم، فركب خيل البريد ليلة الثامن عشر من شوال ثم أرسلوا خلفه من الغد بريدا آخرا، فردوه وحضر عند قاضي القضاة ابن جماعة وعنده جماعة من الفقهاء، فقال له بعضهم: إن الدولة ما ترضى إلا بالحبس، فقال القاضي وفيه مصلحة له، واستناب شمس الدين التونسي المالكي وأذن له أن يحكم عليه بالحبس فامتنع وقال: ما ثبت عليه شي، فأذن لنور الدين الزواوي المالكي فتحير، فلما رأى الشيخ توقفهم في حبسه قال أنا أمضي إلى الحبس وأتبع ما تقتضيه المصلحة، فقال نور الدين الزواوي: يكوفي موضع يصلح لمثله فقيل له الدولة ما ترضى إلا بمسمى الحبس، فأرسل إلى حبس القضاة في المكان الذي كان فيه تقي الدين ابن بنت الاعز حين سجن، وأذن له أن
يكون عنده من يخدمه، وكان ذلك كله بإشارة نصر المنبجي لوجاهته في الدولة، فإنه كان قد استحوذ على عقل الجاشنكير الذي تسلطن فيما بعد، وغيره من الدولة، والسلطان مقهور معه،
__________
(1) في هامش المطبوعة: " المعروف في كتب ابن تيمية وترجمته لابن عبد الهادي: أنه لا يجيز هذا.
".
واستمر الشيخ في الحبس يستفتي ويقصده الناس ويزورونه، وتأتيه الفتاوى المشكلة التي لا يستطيعها الفقهاء من الامراء وأعيان الناس، فيكتب عليها بما يحير العقول من الكتاب والسنة.
ثم عقد للشيخ مجلس بالصالحية بعمد ذلك كله، ونزل الشيخ بالقاهرة بدار ابن شقير، وأكب الناس على الاجتماع به ليلا ونهارا.
وفي سادس رجب باشر الشيخ كمال الدين بن الزملكاني نظر ديوان المارستان عوضا عن يوسف العجمي توفي، وكان محتسبا بدمشق مدة فأخذها منه نجم الدين بن البصراوي قبل هذا بستة أشهر، وكان العجمي موصوفا بالامانة.
وفي ليلة النصف من شعبان أبطلت صلاة ليلة النصف لكونها بدعة وصين الجامع من الغوغاء والرعاع، وحصل بذلك خير كثير ولله الحمد والمنة.
وفي رمضان قدم الصدر نجم الدين البصراوي ومعه توقيع بنظر الخزانة عوضا عن شمس الدين الخطيري مضافا إلى ما بيده من الحبسة، ووقع في أواخر رمضان مطر قوي شديد، وكان الناس لهم مدة لم يمطروا، فأستبشروا بذلك، ورخصت الاسعار، ولم يمكن الناس الخروج إلى المصلى من كثرة المطر، فصلوا بالجامع، وحضر النائب السلطنة فصلى بالمقصورة، وخرج المحمل، وأمير الحج عامئذ سيف الدين بلبان البدري التتري.
وفيها حج القاضي شرف الدين البارزي من حماة.
وفي ذي الحجة وقع حريق عظيم بالقرب من الظاهرية مبدأه من الفرن تجاهها الذي يقال له فرن العوتية، ثم لطف الله وكف شرها وشررها.
قلت: وفي هذه السنة كان قدومنا من بصرى إلى دمشق بعد وفاة الوالد، وكان أول ما سكنا بدرب سعور الذي يقال له درب ابن أبي الهيجاء بالصاغة العتيقة عند الطوريين، ونسأل الله حسن العاقبة والخاتمة آمين.
وممن توفي فيها من الاعيان: الامير ركن الدين بيبرس العجمي الصالحي، المعروف بالجالق (1) كا رأس الجمدارية في أيام الملك الصالح نجم الدين أيوب وأمره الملك الظاهر.
كان من أكابر الدولة كثير الاموال، توفي بالرملة لانه كان في قسم إقطاعه في نصف جمادى الاولى، ونقل إلى القدس فدفن به.
الشيخ صالح الاحمدي الرفاعي شيخ المينبع، كان التتر يكرمونه لما قدموا دمشق، ولما جاء قطلوشاه نائب التتر نزل عنده،
__________
(1) الجالق: بفتح الجيم، وهي كلمة تركية: اسم للفرس الحاد المزاج الكثير اللعب.
وهو الذي قال للشيخ تقي الدين بن تيمية بالقصر: نحن ما ينفق حالنا إلا عند التتر، وأما عند الشرع فلا.
ثم دخلت سنة ثمان وسبعمائة استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها، والشيخ تقي الدين قد أخرج من الحبس، والناس قد عكفوا عليه زيارة وتعلما واستفتاء وغير ذلك، وفي مستهل ربيع الاول أفرج عن الامير نجم الدين خضر بن الملك الظاهر، فأخرج من البرج وسكن دار الافرم بالقاهرة، ثم كانت وفاته في خامس رجب من هذه السنة.
وفي أواخر جمادى الاولى تولى نظر ديوان ملك الامراء زين الدين الشريف ابن عدنان عوضا عن ابن الزملكاني، ثم أضيف إليه نظر الجامع أيضا عوضا عن ابن الخطيري، وتولى نجم الدين بن الدمشقي نظر الايتام عوضا عن نجم الدين بن هلال.
وفي رمضان عزل الصاحب أمين الدين الرفاقي عن نظر الدواوين بدمشق وسافر إلى مصر.
وفيها عزل كمال الدين بن الشريشي نفسه عن وكالة بيت المال وصمم على الاستمرار على العزل وعرض عليه العود فلم يقبل، وحملت إليه الخلعة لما خلع على المباشرين فلم يلبسها، واستمر معزولا إلى يوم عاشوراء من السنة الآتية، فجدد تقليده وخلع عليه في الدولة الجديدة.
وفيها خرج الملك الناصر محمد بن قلاوون من الديار المصرية قاصدا الحج، وذلك في السادس والعشرين (1) من رمضان، وخرج معه جماعة من الامراء لتوديعه فردهم، ولما اجتاز بالكرك عدل إليها فنصب له الجسر، فلما توسطه كسر به (2) فسلم من كان أمامه وقفز به الفرس فسلم، وسقط من كان وراءه وكانوا خمسين فمات منهم أربعة (3) وتهشم أكثرهم في الوادي الذي تحت الجسر، وبقي نائب الكرك الامير جمال الدين آقوش خجلا يتوهم أن يكون هذا يظنه السلطان عن قصد، وكان قد عمل للسلطان ضيافة غرم عليها أربعة عشر ألفا فلم يقع الموقع لاشتغال السلطان بهم وما جرى له ولاصحابه ثم خلع على النائب وأذن له في الانصراف إلى مصر فسافر، واشتغل السلطان بتدبير المملكة في الكرك وحدها، وكان يحضر دار العدل ويباشر الامور بنفسه، وقدمت عليه زوجته من مصر، فذكرت له ما كانوا فيه من ضيق الحال وقلة النفقات.
__________
(1) في السلوك 2 / 43: في الخامس والعشرين، وفي تذكرة النبيه 1 / 286: في شوال.
وفي بدائع الزهور 1 / 421 في خامس عشرينه وفي مختصر أبي الفداء 4 / 54: يوم السبت الخامس والعشرين من رمضان.
__________
(2) يعلل المقريزي وابن تغردى بردى ذلك قالا: ومد الجسر، وكان له مدة سنين لم يمد، وقد ساس خشبه لطول مكثه، فلما عبرت عليه الدواب وأتى السلطان في آخره انكسر (السلوك 2 / 44 النجوم الزاهرة 8 / 176).
__________
(3) في مختصر أخبار البشر 4 / 55 والنجوم الزاهرة 8 / 177: " لم يهلك من المماليك غير شخص واحد لم يكن من الخواص " وانظر بدائع الزهور 1 / 422.
ذكر سلطنة الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير بشيخ (1) المنبجي عدو ابن تيمية لما استقر الملك ناصر بالكرك وعزم على الاقامة بها كتب كتابا إلى الديار المصرية يتضمن عزل نفسه عن المملكة (2)، فأثبت ذلك على القضاة بمصر، ثم نفذ على قضاة الشام وبويع الامير ركن الدين بيبرس الجاشنكير في السلطنة في الثالث والعشرين من شوال يوم السبت بعد العصر، بدار الامير سيف الدين سلار، اجتمع بها أعيان الدولة من الامراء وغيرهم وبايعوه وخاطبوه بالملك
المظفر، وركب إلى القلعة ومشوا بين يديه، وجلس على سرير المملكة بالقلعة، ودقت البشائر وسارت البريدية بذلك إلى سائر البلدان.
وفي مستهل ذي القعدة وصل الامير عز الدين البغدادي إلى دمشق فاجتمع بنائب السلطنة والقضاة والامراء والاعيان بالقصر الابلق فقرأ عليهم كتاب الناصر إلى أهل مصر، وأنه قد نزل عن الملك وأعرض عنه، فأثبته القضاة وامتنع الحنبلي من إثباته وقال: ليس أحد يترك الملك مختارا، ولو لا أنه مضطهد ما تركه، فعزل وأقيم غيره، واستحلفهم للسلطان الملك المظفر، وكتبت العلامة على القلعة، وألقابه على محال المملكة، ودقت البشائر وزينت البلد، ولما قرئ كتاب الملك الناصر على الامراء بالقصر، وفيه: إني قد صحبت الناس عشر سنين ثم اخترت المقام بالكرك، تباكى جماعة من الامراء وبايعوا كالمكرهين، وتولى مكان الامير ركن الدين بيبرس الجاشنكير الامير سيف الدين بن علي، ومكان ترعكي سيف الدين بنخاص، ومكان بنخاص الامير جمال الدين آقوش الذي كان نائب الكرك، وخطب للمظفر يوم الجمعة على المنابر بدمشق وغيرها، وحضر نائب السلطنة الافرم والقضاة، وجاءت الخلع وتقليد نائب السلطنة في تاسع عشر ذي القعدة، وقرأ تقليد النائب كاتب السر القاضي محيي الدين بن فضل الله بالقصر بحضرة الامراء، وعليهم الخلع كلهم.
وركب المظفر بالخلعة السوداء الخليفية، والعمامة المدورة والدولة بين يديه عليهم الخلع يوم السبت سابع ذي القعدة، والصاحب ضياء الدين النساي حامل تقليد السلطان من جهة الخليفة في كيس أطلس أسود، وأوله: إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم، ويقال إنه خلع في القاهرة قريب ألف خلعة
__________
(1) كذا بالاصل.
في هامش المطبوعة: ولعلها " بسعي " أو نحوها.
__________
(2) مضمون كتاب السلطان إلى الامراء في النجوم الزاهرة 8 / 180 ويرى أبو الفداء أن السبب هو: استيلاء سلار وبيبرس الجاشنكير على المملكة واستبداد هما بالامور وتجاوز الحد في الانفراد بالاموال والامر والنهى ولم يتركا لمولانا السلطان غير الاسم مع ما كان منهما من محاصرة مولانا السلطان في القلعة وغير ذلك مما لا تنكمش النفس منه (مختصر أخبار البشر 4 / 55 وانظر بدائع الزهور 1 / 421).
ويشير ابن أيبك في كنز الدرر 9 / 157: إلى اختلاف هذا الكتاب وتزويره على الناصر محمد بن قلاوون قائلا: " وكانوا قد اختلفوا على مولانا السلطان كتابا
كثير التزوير والبهتان..وقرئ ذلك الكتاب المزور الوارد بزعمهم عن ذلك الملك البدر المصور، وكان القارئ له باعلان وإظهار بهاء الدين أرسلان الدوادار.
ومائتي خلعة، وكان يوما مشهودا، وفرح بنفسه أياما يسير ة، وكذا شيخه المنبجي، ثم أزال الله عنهما نعمته سريعا.
وفيها خطب ابن جماعة بالقلعة وباشر الشيخ علاء الدين القونوي تدريس الشريفية.
وممن توفي فيها من الاعيان.
الشيخ الصالح عثمان الحلبوني أصله من صعيد مصر، فأقام مدة بقرية حلبون وغيرها من تلك الناحية، ومكث مدة لا يأكل الخبز، واجتمع عليه جماعة من المريدين وتوفي بقرية برارة (1) في أواخر المحرم، ودفن بها وحضر جنازته نائب الشام والقضاة وجماعة من الاعيان.
الشيخ الصالح أبو الحسن علي بن محمد بن كثير الحراني الحنيلي إمام مسجد عطية، ويعرف بابن القري روى الحديث وكان فقيها بمدارس الحنابلة.
ولد بحران سنة ربع وثلاثين وستمائة، وتوفي بدمشق في العشر الاخير من رمضان، ودفن بسفح قاسيون، وتوفي قبله الشيخ زين الدين الحراني بغزة، وعمل عزاؤه بدمشق رحمهما الله.
السيد الشريف زين الدين أبو علي الحسن (2) بن محمد بن عدنان الحسيني نقيب الاشراف، كان فاضلا بارعا فصيحا متكلما، يعرف طريقة الاعتزال ويباحث الامامية، ويناظر على ذلك بحضرة القضاة وغيرهم، وقد باشر قبل وفاته بقليل نظر الجامع ونظر ديوان الافرم، توفي يوم الخامس من ذي القعدة عن خمس وخمسين سنة، ودفن بتربتهم بباب الصغير.
الشيخ الجليل ظهير الدين
أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي الفضل بن منعة البغدادي، شيخ الحرم الشريف بمكة بعد عمه عفيف الدين منصور بن منعة، وقد سمع الحديث وأقام ببغداد مدة طويلة، ثم سار إلى مكة، بعد وفاة عمه، فتولى مشيخة الحرم إلى أن توفي (3).
__________
(1) في شذرات الذهب 6 / 17: برزة.
__________
(2) في تذكرة النبيه 1 / 290: الحسين.
__________
(3) في شذرات الذهب 6 / 17: توفي بالمهجم من نواحي اليمن عن بو سبعين سنة
ثم دخلت سنة تسع وسبعائة استهلت وخليفة الوقت المستكفي أمير المؤمنين بن الحاكم بأمر الله العباسي، وسلطان البلاد الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير، ونائبه بمصر الامير سيف الدين سلار، وبالشام آقوش الافرم، وقضاة مصر والشام هم المذكورون في التي قبلها.
وفي ليلة سلخ صفر توجه الشيخ تقي الدين بن تيمية من القاهرة إلى الاسكندرية صحبة أمير مقدم، فأدخله دار السلطان وأنزله في برج منها فسيح الاكناف، فكان الناس يدخلون عليه ويشتغلون في سائر العلوم، ثم كان بعد ذلك يحضر الجمعات ويعمل المواعيد على عادته في الجامع، وكان دخوله إلى الاسكندرية يوم الاحد، وبعد عشرة أيام وصل خبره إلى دمشق فحصل عليه تألم وخافوا عليه غائلة الجاشنكير وشيخه المنبجي، فتضاعف له الدعاء، وذلك أنهم لم يمكنوا أحدا من أصحابه أن يخرج معه إلى الاسكندرية، فضاقت له الصدور، وذلك إنه تمكن منه عدوه نصر المنبجي.
وكان سبب عداوته له أن الشيخ تقي الدين كان ينال من الجاشنكير ومن شيخه نصر المنبجي، ويقول: زالت أيامه وانتهت رياسته، وقرب انقضاء أجله، ويتكلم فيهما وفي ابن عربي وأتباعه، فأرادوا أن يسيروه إلى الاسكندرية كهيئة المنفي لعل أحدا من أهلها يتجاسر عليه فيقتله غيلة، فما زاد ذلك الناس إلا محبة فيه وقربا منه وانتفاعا به واشتغالا عليه، وحنوا وكرامة له.
وجاء كتاب من أخيه يقول فيه: إن الاخ الكريم قد نزل بالثغر المحروس على نية الرباط، فإن أعداء الله قصدوا بذلك أمورا
يكيدونه بها ويكيدون الاسلام وأهله، وكانت تلك كرامة في حقنا، وظنوا أن ذلك يؤدي إلى هلاك الشيخ فانقلبت عليهم مقاصدهم الخبيثة وانعكست من كل الوجوه، وأصبحوا وأمسوا وما زالوا عند الله وعند الناس العارفين سود الوجوه يتقطعون حسرات وندما على ما فعلوا، وانقلب أهل الثغر أجمعين إلى الاخ مقبلين عليه مكرمين له وفي كل وقت ينشر من كتاب الله وسنة رسوله ما تقر به أعين المؤمنين، وذلك شجي في حلوق الاعداء واتفق أنه وجد بالاسكندرية إبليس قد باض فيها وفرخ وأضل بها فرق السبعينية والعربية فمزق الله بقدومه عليهم شملهم، وشتت جموعهم شذر مذر، وهتك أستارهم وفضحهم، واستتاب جماعة كثيرة منهم، وتوب رئيسا من رؤسائهم واستقر عند عامة المؤمنين وخواصهم من أمير وقاض وفقيه، ومفت وشيخ وجماعة المجتهدين، إلا من شذ من الاغمار الجهال، مع الذلة والصغار - مجبة الشيخ وتعظيمه وقبول كلامه والرجوع إلى أمره ونهيه، فعلت كلمة الله بها على أعداء الله ورسوله، ولعنوا سرا وجهرا وباطنا وظاهرا، في مجامع الناس بأسمائهم الخاصة بهم، وصار ذلك عند نصر المنبجي المقيم المقعد، ونزل به من الخوف والذل ما لا يعبر عنه، وذكر كلاما كثيرا.
والمقصود أن الشيخ تقي الدين أقام بثغر الاسكندرية ثمانية أشهر مقيما ببرج متسع مليح نظيف له شباكان أحدهما إلى جهة البحر والآخر إلى جهة المدينة، وكان يدخل عليه من شاء،
ويتردد إليه الاكابر والاعيان والفقهاء، يقرأون عليه ويستفيدون منه، وهو في أطيب عيش وأشرح صدر.
وفي آخر ربيع الاول عزل الشيخ كمال الدين بن الزملكاني عن نظر المارستان بسبب انتمائه إلى ابن تيمية بإشارة المنبجي، وباشره شمس الدين عبد القادر بن الخطيري.
وفي يوم الثلاثاء ثالث ربيع الآخر ولي قضاء الحنابلة بمصر الشيخ الامام الحافظ سعد الدين أبو محمود مسعود بن أحمد بن مسعود بن زين الدين الحارثي، شيخ الحديث بمصر، بعد وفاة القاضي شرف الدين أبي محمد عبد الغني بن يحيى بن محمد بن عبد الله بن نصر بن أبي بكر الحراني.
وفي جمادى الاولى
برزت المراسيم السلطانية المظفرية إلى البلاد السواحلية بإبطال الخمور وتخريب الحانات ونفي أهلها، ففعل ذلك وفرح المسلمون بذلك فرحا شديدا.
وفي مستهل جمادى الآخرة وصل بريد بتولية قضاء الحنابلة بدمشق للشيخ شهاب الدين أحمد بن شريف الدين حسن بن الحافظ جمال الدين أبي موسى عبد الله بن الحافظ عبد الغني المقدسي، عوضا عن التقي سليمان بن حمزة بسبب تكلمه في نزول الملك الناصر عن الملك، وأنه إنما نزل عنه مضطهدا بذلك، ليس بمختار، وقد صدق فيما قال.
وفي عشرين جمادى الآخرة وصل البريد بولاية شد الدواوين للامير سيف الدين بكتمر الحاجب، عوضا عن الرستمي فلم يقبل، وبنظر الخزانة للامير عز الدين أحمد بن زين الدين محمد بن أحمد بن محمود المعروف بابن القلانسي، فباشرهما وعزل عنها البصراوي محتسب البلد.
وفي هذا الشهر باشر قاضي القضاة ابن جماعة مشيخة سعيد السعداء بالقاهرة بطلب الصوفية له، ورضوا منه بالحضور عندهم في الجمعة مرة واحدة، وعزل عنها الشيخ كريم الدين الايكي، لانه عزل منها الشهود، فثاروا عليه وكتبوا في حقه محاضر بأشياء قادحة في الدين، فرسم بصرفه عنهم، وعومل بنظير ما كان يعامل به الناس، ومن جملة ذلك قيامه على شيخ الاسلام ابن تيمية وافتراؤه عليه الكذب، مع جهله وقلة ورعه، فعجل الله له هذا الخزي على يدي أصحابه وأصدقائه جزاء وفاقا.
وفي شهر رجب كثر الخوف بدمشق وانتقل الناس من ظاهرها إلى داخلها، وسبب ذلك أن السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون ركب من الكرك قاصدا دمشق يطلب عوده إلى الملك، وقد مالاه جماعة من الامراء وكاتبوه في الباطن وناصحوه، وقفز إليه جماعة من أمراء المصريين، وتحدث الناس بسفر نائب دمشق الافرم إلى القاهرة، وأن يكون مع الجم الغفير، فاضطرب الناس ولم تفتح أبواب البلد إلى ارتفاع النهار، وتخبطت الامور، فاجتمع القضاة وكثير من الامراء بالقصر وجددوا البيعة للملك المظفر، وفي آخر نهار السبت غلقت أبواب البلد بعد العصر وازدحم الناس بباب النصر وحصل لهم تعب عظيم، وازدحم البلد بأهل القرى وكثر الناس بالبلد، وجاء البريد بوصول الملك الناصر إلى الخمان، فانزعج نائب الشام لذلك وأظهر أنه يريد قتاله ومنعه من دخول
البلد، وقفز إليه الاميران ركن الدين بيبرس المجنون، وبيبرس العلمي، وركب إليه الامير سيف الدين بكتمر حاجب الحجاب يشير عليه بالرجوع، ويخبره بأنه لا طاقة له بقتال المصريين، ولحقه الامير سيف الدين بهادرا يشير عليه بمثل ذلك، ثم عاد إلى دمشق يوم الثلاثاء خامس رجب وأخبره أن السلطان الملك الناصر قد عاد إلى الكرك، فسكن الناس ورجع نائب السلطنة إلى القصر، وتراجع بعض الناس إلى مساكنهم، واستقروا بها.
صفة عود الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون إلى الملك وزوال دولة المظفر الجاشنكير بيبرس وخذلانه وخذلان شيخه نصر المنبجي الاتحادي الحلولي لما كان ثالث عشر (1) شعبان جاء الخبر بقدوم الملك الناصر إلى دمشق، فساق إليه الاميران سيف الدين قطلوبك والحاج بهادر إلى الكرك، وحضاه على المجئ إليها، واضطرب نائب دمشق وركب في جماعة من أتباعه على الهجن في سادس عشر شعبان ومعه ابن صبح صاحب شقيف أرنون (2)، وهيئت بدمشق أبهة السلطنة والاقامات اللائقة به، والعصائب والكوسات، وركب من الكرك في أبهة عظيمة، وأرسل الامان إلى الافرم، ودعا له المؤذنون في المأذنة ليلة الاثنين سابع عشر شعبان، وصبح بالدعاء له والسرور بذكره، ونودى في الناس بالامان، وأن يفتحوا دكاكينهم ويأمنوا في أوطانهم، وشرع الناس في الزينة ودقت البشائر ونام الناس في الاسطحة ليلة الثلاثاء ليتفرجوا على السلطان حين يدخل البلد، وخرج القضاة، والامراء والاعيان لتلقيه.
قال كاتبه ابن كثير: وكنت فيمن شاهد دخوله يوم الثلاثاء وسط النهار في أبهة عظيمة وبسط له من عند المصلى وعليه أبهة الملك وبسطت الشقاق الحرير تحت أقدام فرسه، كلما جاوز شقة طويت من ورائه، والجد على رأسه والامراء السلحدارية عن يمينه وشماله، وبين يديه، والناس يدعون له ويضجون بذلك ضجيجا عاليا، وكان يوما مشهودا.
قال الشيخ علم الدين البرزالي: وكان على السلطان يومئذ عمامة بيضاء، وكلوثة حمراء، وكان الذي حمل الغاشية على رأس
السلطان الحاج بهادر وعليه خلعة معظمة مذهبة بفرو فاخم.
ولما وصل إلى القلعة نصب له الجسر ونزل إليها نائبها الامير سيف الدين السنجري، فقبل الارض بين يديه، فأشار إليه إني الآن لا أنزل ههنا، وسار بفرسه إلى جهة القصر الابلق (3) والامراء بين يديه، فخطب له يوم الجمعة.
__________
(1) في النجوم الزاهرة 8 / 265: يوم الثلاثاء ثاني عشر شعبان.
__________
(2) من الجوهر الثمين 2 / 140 وفي الاصل " أربون ".
__________
(3) القصر الابلق: بدمشق.
أنشأه السلطان الملك الظاهر بيبرس سنة 666 ه بالميدان الاخضر على نهر بردى.
=
وفي بكرة يوم السبت الثاني والعشرين من الشهر وصل الامير جمال الدين آقوش الافرم نائب دمشق مطيعا للسلطان، فقبل الارض بين يديه، فترجل له السلطان وأكرمه وأذن له في مباشرة النيابة على عادته وفرح الناس بطاعة الافرم له، ووصل إليه أيضا الامير سيف الدين قبجق نائب حماة، والامير سيف الدين استدمر نائب طرابلس يوم الاثنين الرابع والعشرين من شعبان، وخرج الناس لتلقيهما، وتلقاهما السلطان كما تلقى الافرم.
وفي هذا اليوم رسم السلطان بتقليد قضاء الحنابلة وعوده إلى تقي الدين سليمان، وهنأه الناس وجاء إلى السلطان إلى القصر فسلم عليه ومضى إلى الجوزية وكم بها ثلاثة أشهر، وأقيمت الجمعة الثانية بالميدان وحضر السلطان والقضاة إلى جانبه، وأكابر الامراء والدولة، وكثير من العامة.
وفي هذا اليوم وصل إلى السلطان الامير قراسنقر المنصوري نائب حلب وخرج دهليز السلطان يوم الخميس رابع رمضان ومعه القضاة والقراء وقت العصر، وأقيمت الجمعة خامس رمضان بالميدان أيضا، ثم خرج السلطان من دمشق يوم الثلاثاء تاسع رمضان، وفي صحبته ابن صصرى وصدر الدين الحنفي قاضي العساكر، والخطيب جلال الدين، والشيخ كمال الدين بن الزملكاني، والموقعون وديوان الجيش وجيش الشام بكماله قد اجتمعوا عليه من سائر مدنه وأقاليمه بنوابه وأمرائه، فلما انتهى السلطان إلى غزة دخلها في أبهة عظيمة، وتلقاه الامير سيف الدين بهادر هو وجماعة من أمراء المصريين، فأخبروه أن الملك المظفر قد خلع نفسه من المملكة، ثم تواتر قدوم الامراء من مصر إلى السلطان،
وأخبروه بذلك، فطابت قلوب الشاميين واستبشروا بذلك ودقت البشائر وتأخر مجئ البريد بصورة الناصري.
واتفق في يوم هذا العيد أنه خرج نائب الخطيب الشيخ تقي الدين الجزري المعروف بالمقضاي في السناجق إلى المصلى على العادة، واستناب في البلد الشيخ مجد الدين التونسي، فلما وصلوا إلى المصلى وجدوا خطيب المصلى قد شرع في الصلاة فنصبت السناجق في صحن المصلى وصلى بينهما تقي الدين المقضاي ثم خطب، وكذلك فعل ابن حسان داخل المصلى، فعقد فيه صلاتان وخطبتان يومئذ، ولم يتفق مثل هذا فيما نعلم.
وكان دخول السلطان الملك الناصر إلى قلعة الجبل آخر يوم عيد الفطر من هذه السنة، ورسم لسلار أن يسافر إلى الشوبك، واستناب بمصر الامير سيف الدين بكتمر الجوكندار الذي كان نائب صفد، وبالشام الامير قراسنقر المنصوري، وذلك في العشرين من شوال، واستوزر الصاحب فخر الدين الخليلي بعدها بيومين، وباشر القاضي فخر الدين كاتب الممالك نظر الجيوش بمصر بعد بهاء الدين عبد الله بن أحمد بن علي بن المظفر الحلي، توفي ليلة الجمعة عاشر شوال،
__________
= وأشرف على عمارته الامير أقوش النجيبي نائب دمشق، وظل عامرا تنزله الملوك إلى أن هدمه تيمورلنك سنة 803 ه.
(السلوك 1 / 561 خطط الشام 5 / 285).
]
وكان من صدور المصريين وأعيان الكبار، وقد روى شيئا من الحديث، وصرف الامير جمال الدين آقوش الافرم إلى نيابه صرخد وقدم إلى دمشق الامير زين الدين كتبغا رأس نوبة الجمدارية شد الدواوين، وأستاذ دار الاستادارية عوضا عن سيف الدين أقجبا، وتغيرت الدولة وانقلبت قلبة عظيمة.
قال الشيخ علم الدين البرزالي: ولما دخل السلطان إلى مصر يوم عيد الفطر لم يكن له دأب إلا طلب الشيخ تقي الدين بن تيمية من الاسكندرية معززا مكرما مبجلا، فوجه إليه في ثاني يوم من شوال بعد وصوله بيوم أو يومين، فقدم الشيخ تقي الدين على السلطان في يوم ثامن الشهر
وخرج مع الشيخ خلق من الاسكندرية يودعونه، واجتمع بالسلطان يوم الجمعة فأكرمه وتلقاه ومشى إليه في مجلس حفل، فيه قضاة المصريين والشاميين، وأصلح بينه وبينهم، ونزل الشيخ إلى القاهرة وسكن بالقرب من مشهد الحسين، والناس يترددون إليه، والامراء والجند وكثير من الفقهاء والقضاة منهم من يعتذر إليه ويتنصل مما وقع منه، فقال أنا حاللت كل من أذاني.
قلت: وقد أخبرني القاضي جمال الدين بن القلانسي بتفاصيل هذا المجلس وما وقع فيه من تعظيمه وإكرامه مما حصل له من الشكر والمدح من السلطان والحاضرين من الامراء، وكذلك أخبرني بذلك قاضي القضاة منصور الدين الحنفي، ولكن أخبار ابن القلانسي أكثر تفصيلا، وذلك أنه كان إذ ذاك قاضي العساكر، وكلاهما كان حاضرا هذا المجلس، ذكر لي أن السلطان لما قدم عليه الشيخ تقي الدين بن تيمية نهض قائما للشيخ أول ما رآه، ومشى له إلى طرف الايوان (1) واعتنقا هناك هنيهة، ثم أخذ معه ساعة إلى طبقة فيها شباك إلى بستان فجلسا ساعة يتحدثان، ثم جاء ويد الشيخ في يد السلطان، فجلس السلطان وعن يمينه ابن جماعة قاضي مصر، وعن يساره ابن الخليلي والوزير، وتحته ابن صصرى، ثم صدر الدين علي الحنفي، وجلس الشيخ تقي الدين بين يدي السلطان على طرف طراحته، وتكلم الوزير في إعادة أهل الذمة إلى لبس العمائم البيض بالعلائم، وأنهم قد التزموا للديوان بسبع مائة ألف في كل سنة، زيادة على الحالية، فسكت الناس وكان فيهم قضاة مصر والشام وكبار العلماء من أهل مصر والشام من جملتهم ابن الزملكاني.
قال ابن القلانسي: وأنا في مجلس السلطان إلى جنب ابن الزملكاني، فلم يتكلم أحد من العلماء ولا من القضاة، فقال لهم السلطان: ما تقولون ؟ يستفتيهم في ذلك، فلم يتكلم أحد، فجثى الشيخ تقي الدين على ركبتيه وتكلم مع السلطان في ذلك بكلام غليظ ورد على الوزير ما قاله ردا عنيفا، وجعل يرفع صوته والسلطان يتلافاه ويسكته بترفق وتؤدة وتوقير.
وبالغ
__________
(1) الايوان: أنشاه المنصور قلاوون ثم جدده الاشرف خليل واستمر جلوس نائب دار العدل به، فلما عمل الملك الناصر محمد بن قلاوون الروك، أمر بهدمه وأعاد بناءه وزاد فيه وأنشأ به قبة جليلة..(خطط المقريزي 2 / 206) وقد اندثر هذا الايوان وبني مكانه جامع محمد علي باشا الكبير وملحقاته بقلعة الجبل بالقاهرة.
الشيخ في الكلام، وقال ما لا يستطيع أحد أن يقوم بمثله، ولا بقريب منه، وبالغ في التشنيع على من يوافق في ذلك.
وقال للسلطان: حاشاك أن يكون أول مجلس جلسته في أبهة الملك تنصر فيه أهل الذمة لاجل حطام الدنيا الفانية، فاذكر نعمة الله عليك إذ رد ملكك إليك، وكبت عدوك ونصرك على أعدائك فذكر أن الجاشنكير هو الذي جدد عليهم ذلك، فقال: والذي فعله الجاشنكير كان من مراسيمك لانه إنما كان نائبا لك، فأعجب السلطان ذلك واستمر بهم على ذلك، وجرت فصول يطول ذكرها.
وقد كان السلطان أعلم بالشيخ من جميع الحاضرين، ودينه وزينته وقيامه بالحق وشجاعته، وسمعت الشيخ تقي الدين يذكر ما كان بينه وبين السلطان من الكلام لما انفردا في ذلك الشباك الذي جالسا فيه، وأن السلطان استفتى الشيخ في قتل بعض القضاة بسبب ما كانوا تكلموا فيه، وأخرج له فتاوى بعضهم عزله من الملك ومبايعة الجاشنكير، وأنهم قاموا عليك وآذوك أنت أيضا، وأخذ يحثه بذلك على أن يفتيه في قتل بعضهم، وإنما كان حنقه عليهم بسبب ما كانوا سعوا فيه من عزله ومبايعة الجاشنكير، ففهم الشيخ مراد السلطان فأخذ في تعظيم القضاة والعلماء، وينكر أن ينال أحدا منهم بسوء، وقال له: إذا قتلت هؤلاء لا تجد بعدهم مثلهم، فقال له إنهم قد آذوك وأرادوا قتلك مرارا، فقال الشيخ من آذاني فهو في حل، ومن آذى الله ورسوله فالله ينتقم منه، وأنا لا أنتصر لنفسي، وما زال به حتى حلم عنهم السلطان وصفح.
قال وكان قاضي المالكية ابن مخلوف يقول: ما رأينا مثل ابن تيمية حرضنا عليه فلم نقدر عليه وقدر علينا فصفح عنا وحاجج عنا، ثم إن الشيخ بعد اجتماعه بالسلطان نزل إلى القاهرة وعاد إلى بث العلم ونشره، وأقبلت الخلق عليه ورحلوا إليه يشتغلون عليه ويستفتونه ويجيبهم بالكتابة والقول، وجاء الفقهاء يعتذرون مما وقع منهم في حقه فقال: قد جعلت الكل في حل، وبعث الشيخ كتابا إلى أهله يذكر ما هو فيه من نعم الله وخيره الكثير، ويطلب منهم جملة من كتب العلم التي له ويستعينوا على ذلك بجمال الدين المزي، فإنه يدري كيف يستخرج له ما يريده من
الكتب التي أشار إليها، وقال في هذا الكتاب: والحق كل ماله في علو وازدياد وانتصار، والباطل في انخفاض وسفول واضحلال، وقد أذل الله رقاب الخصوم، وطلب أكابرهم من السلم ما يطول وصفه، وقد اشترطنا عليهم من الشروط ما فيه عز الاسلام والسنة، وما فيه قمع الباطل والبدعة، وقد دخلوا تحت ذلك كله وامتنعنا من قبول ذلك منهم، حتى يظهر إلى الفعل، فلم نثق لهم بقول ولا عهد، ولم نجبهم إلى مطلوبهم حتى يصير المشروط معمولا، والمذكور مفعولا، ويظهر من عز الاسلام والسنة للخاصة والعامة ما يكون من الحسنات التي تمحو سيئاتهم، وذكر كلاما طويلا يتضمن ما جرى له مع السلطان في قمع اليهود والنصارى وذلهم، وتركهم على ما هم عليه من الذلة والصغار والله سبحانه أعلم.
وفي شوال أمسك السلطان جماعة من الامراء قريبا من عشرين (1) أميرا، وفي سادس عشر شوال وقع بين أهل حوران من قيس ويمن فقتل منهم مقتلة عظيمة جدا، قتل من الفريقين نحو من ألف نفس بالقرب من السوداء، وهم يسمونها السويداء، وكانت الكسرة على يمن فهربوا من قيس حتى دخل كثير منهم إلى دمشق في أسوأ الحال وأضعفه، وهربت قيس خوفا من الدولة، وبقيت القرى خالية والزروع سائبة.
فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفي يوم الاربعاء سادس ذي القعدة قدم الامير سيف الدين قبجق المنصوري نائبا على حلب فنزل القصر ومعه جماعة من أمراء المصريين، ثم سافر إلى حلب بمن معه من الامراء والاجناد واجتاز الامير سيف الدين بهادر بدمشق ذاهبا إلى طرابلس نائبا والفتوحات السواحلية عوضا عن الامير سيف الدين استدمر، ووصل جماعة ممن كان قد سافر مع السلطان إلى مصر في ذي القعدة منهم قاضي قضاة الحنفية صدر الدين، ومحيي الدين بن فضل الله وغيرهما، فقمت وجلست يوما إلى القاضي صدر الدين الحنفي بعد مجيئه من مصر فقال لي: أتحب ابن تيمية ؟ قلت: نعم، فقال لي وهو يضحك: والله لقد أحببت شيئا مليحا، وذكر لي قريبا مما ذكر ابن القلانسي، لكن سياق ابن القلانسي أتم.
مقتل الجاشنكيري كان قد فر الخبيث في جماعة من أصحابه، فلما خرج الامير سيف الدين قراسنقر المنصوري من مصر متوجها إلى نيابة الشام عوضا عن الافرم، فلما كان بغزة في سابع ذي القعدة ضرب حلقة لاجل الصيد، فوقع في وسطها الجاشنكير في ثلاثمائة من أصحابه فأحيط بهم وتفرق عنه أصحابه فأمسكوه ورجع معه قراسنقر وسيف الدين بهادر على الهجن، فلما كان بالخطارة تلقاهم استدمر فتسلمه منهم ورجعا إلى عسكرهم، ودخل به استدمر على السلطان فعاتبه ولامه، وكان آخر العهد به (2)، قتل ودفن بالقرافة (3) ولم ينفعه شيخه المنبجي ولا أمواله، بل قتل شر قتلة ودخل قراسنقر دمشق يوم الاثنين الخامس والعشرين من ذي القعدة فنزل بالقصر، وكان في صحبته ابن صصرى وابن الزملكاني وابن القلانسي وعلاء الدين بن غانم وخلق من الامراء المصريين والشاميين، وكان الخطيب جلال الدين القزويني قد وصل قبلهم يوم الخميس الثاني والعشرين من
__________
(1) في بدائع الزهور 1 / 435: أربعة عشر أميرا، وفي تذكرة النبيه 2 / 21: اثنان وعشرون أميرا.
ومثله في النجوم الزاهرة 9 / 12 وزاد: " ولم يفلت سوى جوكتمر بن بهادر رأس نوبة ".
__________
(2) في بدائع الزهور 1 / 434: خنق حتى مات وقضى نحبه - بين يدي السلطان - وكانت وفاته يوم الخميس رابع عشر ذي القعدة (انظر السلوك 2 / 71 وعقد الجمان حوادث سنة 709).
__________
(3) في بدائع الزهور 1 / 434: رسم بنقله، ودفنه في خانقته التي أنشأها عند الدرب الاصفر، بالقرب من خانقة سعيد السعداء، فدفن بها في أواخر سنة 709 ه.
الشهر، وخطب يوم الجمعة على عادته، فلما كان يوم الجمعة الاخرى وهو التاسع والعشرون من الشهر خطب بجامع دمشق القاضي بدر الدين محمد بن عثمان بن يوسف بن حداد الحنبلي عن إذن نائب السلطنة، وقرئ تقليده على المنبر بعد الصلاة بحضرة القضاة والاكابر والاعيان، وخلع عليه عقيب ذلك خلعة سنية، واستمر يباشر الامامة والخطابة اثنين وأربعين يوما، ثم أعيد الخطيب جلال الدين بمرسوم سلطاني وباشر يوم الخميس ثاني عشر المحرم من السنة الآتية.
وفي ذي الحجة درس كمال الدين بن الشيرازي بالمدرسة الشامية البرانية، انتزعها من يد الشيخ كمال الدين بن الزملكاني، وذلك أن استدمر ساعده على ذلك.
وفيها أظهر ملك التتر خربندا الرفض في بلاده، وأمر الخطباء أولا أن لا يذكروا في خطبتهم إلا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأهل بيته، ولما وصل خطيب بلاد الازج إلى هذا الموضع من خطبته بكى بكاءا شديدا وبكى الناس معه ونزل ولم يتمكن من إتمام الخطبة، فأقيم من أتمها عنه وصلى بالناس وظهر على الناس بتلك البلاد من أهل السنة أهل البدعة فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولم يحج فيها أحد من أهل الشام بسبب تخبيط الدولة وكثرة الاختلاف.
وممن توفي فيها من الاعيان.
الخطيب ناصر الدين أبو الهدى أحمد بن الخطيب بدر الدين يحيى بن الشيخ عز الدين بن عبد السلام خطيب العقيبة بداره بها وقد باشر نظر الجامع الاموي وغير ذلك، توفي يوم الاربعاء النصف من المحرم، وصلي عليه بجامع العقيبة، ودفن عند والده بباب الصغير، وقد روى الحديث وباشر الخطابة بعد والده بدر الدين وحضر عنده نائب السلطنة والقضاة والاعيان.
قاضي الحنابلة بمصر شرف الدين أبو محمد عبد الغني بن يحيى بن محمد بن عبد الله بن نصر بن أبي بكر الحراني ولد بحران سنة خمس وأربعين وستمائة، وسمع الحديث وقدم مصر فباشر نظر الخزانة وتدريس الصالحية ثم أضيف إليه القضاء، وكان مشكور السيرة كثير المكارم توفي ليلة الجمعة رابع عشر ربيع الاول ودفن بالقرافة، وولي بعده سعد الدين الحارثي (1) كما تقدم.
الشيخ نجم الدين أيوب بن سليمان بن مظفر المصري المعروف بمؤذن النجيبي، كان رئيس المؤذنين بجامع
__________
(1) الحارثي: نسبة إلى الحارثية، احدى قرى بغداد (درة الاسلاك ص 190).
دمشق ونقيب الخطباء، وكان حسن الشكل رفيع الصوت، واستمر بذلك نحوا من خمسين سنة إلى أن توفي في مستهل جمادى الاولى.
وفي هذا الشهر توفي: الامير شمس الدين سنقر الاعسر المنصوري تولى الوزارة بمصر مع شد الدواوين معا، وباشر شد الدواوين بالشام مرات، وله دار وبستان بدمشق مشهوران به، وكان فيه نهضة وله همة عالية وأموال كثيرة، توفي بمصر.
الامير جمال الدين آقوش بن عبد الله الرسيمي شاد الدواوين بدمشق، وكان قبل ذلك والي الولاة بالجهة القبلية بعد الشريفي، وكانت له سطوة توفي يوم الاحد تاسع عشر جمادى الاولى ودفن ضحوة بالقبة التي بناهاتجاه قبة الشيخ رسلان، وكان فيه كفاية وخبرة.
وباشر بعده شد الدواوين أقبجا.
وفي شعبان أو في رجب توفي: التاج [ أحمد ] (1) بن سعيد الدولة وكان مسلمانيا وكان سفير الدولة، وكانت له مكانة عند الجاشنكير بسبب صحبته لنصر المنبجي شيخ الجاشنكير، وقد عرضت عليه الوزارة فلم يقبل، ولما توفي تولى وظيفته ابن أخته كريم الدين الكبير.
الشيخ شهاب الدين أحمد بن محمد بن أبي المكرم بن نصر الاصبهاني رئيس المؤذنين بالجامع الاموي، ولد سنة اثنتين وستمائة، وسمع الحديث وباشر وظيفة الاذان من سنة خمس وأربعين إلى أن توفي ليلة الثلاثاء خامس ذي القعدة، وكان رجلا جيدا والله سبحانه أعلم.
ثم دخلت سنة عشر وسبعمائة استهلت وخليفة الوقت المستكفي بالله أبو الربيع سليمان العباسي، وسلطان البلاد الملك الناصر محمد بن المنصور قلاوون، والشيخ تقي الدين بن تيمية بمصر معظما مكرما، ونائب مصر الامير سيف الدين بكتمر أمير خزندار، وقضاته هم المذكورون في التي قبلها، سوى الحنبلي
__________
(1) من تذكرة النبيه 2 / 27، انظر السلوك 2 / 85 والنجوم الزاهرة 8 / 279.
فإنه سعد الدين الحارثي، والوزير بمصر فخر الدين الخليلي، وناظر الجيوش فخر الدين كاتب المماليك، ونائب الشام قراسنقر المنصوري، وقضاة دمشق هم هم، ونائب حلب قبجق، ونائب طرابلس الحاج بهادر والافرم بصرخد.
وفي محرم منها باشر الشيخ أمين الدين سالم بن أبي الدرين وكيل بيت المال إمام مسجد هشام تدريس الشامية الجوانية (1)، والشيخ صدر الدين سليمان بن موسى الكردي تدريس العذراوية، كلاهما انتزعها من ابن الوكيل بسبب إقامته بمصر وكان قد وفد إلى المظفر فألزمه رواتب لانتمائه إلى المنبجي، ثم عاد بتوقيع سلطاني إلى مدرستيه، فأقام بهما شهرا أو سبعة وعشرين يوما، ثم استعاداهما منه ورجعتا إلى المدرسين الاولين: الامين سالم، والصدر الكردي، ورجع الخطيب جلال الدين إلى الخطابة في سابع عشر المحرم، وعزل عنها البدر بن الحداد، وباشر الصاحب شمس الدين نظر الجامع والاسرى والاوقاف قاطبة يوم الاثنين، ثم خلع عليه وأضيف إليه شرف الدين بن صصرى في نظر الجامع، وكان ناظره مستقلا به قبلهما.
وفي يوم عاشوراء قدم استدمر إلى دمشق متوليا نيابة حماة، وسافر إليها بعد سبعة أيام.
وفي المحرم باشر بدر الدين بن الحداد نظر المارستان عوضا عن شمس الدين بن الخطيري ووقعت منازعة بين صدر الدين بن المرحل وبين الصدر سليمان الكردي بسبب العذراوية، وكتبوا إلى الوكيل محضرا يتضمن من القبائح والفضائح والكفريات على ابن الوكيل، فبادر ابن الوكيل إلى القاضي تقي الدين سليمان الحنبلي، فحكم بإسلامه وحقن دمه، وحكم بإسقاط التعزير عنه والحكم بعدالته واستحقاقه إلى المناصب.
وكانت هذه هفوة من الحنبلي، ولكن خرجت عنه المدرستان العذراوية لسليمان الكردي، والشامية الجوانية للامين سالم، ولم يبق معه سوى دار الحديث الاشرفية.
وفي ليلة الاثنين السابع من صفر وصل النجم محمد بن عثمان البصراوي من مصر متوليا الوزارة بالشام، ومعه توقيع بالحسبة لاخيه فخر الدين سليمان، فباشرا المنصبين بالجامع، ونزلا بدرب سفون الذي يقال له درب ابن أبي الهيجاء، ثم انتقل الوزير إلى دار الاعسر
عند باب البريد، واستمر نظر الخزانة لعز الدين بن القلانسي أخي الشيخ جلال الدين.
وفي مستهل ربيع الاول باشر القاضي جمال الدين الزرعي قضاء القضاة بمصر عوضا عن ابن جماعة، وكان قد أخذ منه قبل ذلك في ذي الحجة مشيخة الشيوخ، وأعيدت إلى الكريم الايكي، وأخذت منه الخطابة أيضا.
وجاء البريد إلى الشام بطلب القاضي شمس الدين بن الحريري لقضاء الديار المصرية، فسار في العشرين من ربيع الاول وخرج معه جماعة لتوديعه، فلما قدم على
__________
(1) المدرسة الشامية الجوانية بدمشق أنشأتها ست الشام بنت نجم الدين أيوب أخت صلاح الدين الايوبي (الدارس 1 / 301).
السلطان أكرمه وعظمه وولاه قضاء الحنفية وتدريس الناصرية والصالحية، وجامع الحاكم، وعزل عن ذلك القاضي شمس الدين السروجي فمكث أياما ثم مات.
وفي نصف هذا الشهر مسك من دمشق سبعة أمراء ومن القاهرة أربعة عشر أميرا.
وفي ربيع الآخر اهتم السلطان بطلب الامير سيف الدين سلار فحضر هو بنفسه إليه فعاتبه ثم استخلص منه أمواله وحواصله في مدة شهر، ثم قتل بعد ذلك (1) فوجد معه من الاموال والحيوان والاملاك والاسلحة والمماليك والبغال والحمير أيضا والرباع شيئا كثيرا، وأما الجواهر والذهب والفضة فشئ لا يحد ولا يوصف في كثرته (2)، وحاصل الامر أنه قد استأثر لنفسه طائفة كبيرة من بيت المال (3) وأموال المسلمين تجري إليه، ويقال إنه كان مع ذلك كثير العطاء كريما محببا إلى الدولة والرعية والله أعلم.
وقد باش نيابة السلطنة بمصر من سنة ثمان وتسعين إلى أن قتل يوم الاربعاء رابع عشرين هذا الشهر، ودفن بتربته ليلة الخميس بالقرافة، سامحه الله.
وفي ربيع الآخر درس القاضي شمس الدين بن المعز الحنفي بالظاهرية عوضا عن شمس الدين الحريري، وحضر عنده خاله الصدر علي قاضي قضاة الحنفية وبقية القضاة والاعيان.
وفي هذا الشهر كان الامير سيف الدين استدمر قد قدم دمشق لبعض أشغاله، وكان له حنو على الشيخ صدر الدين بن الوكيل، فاستنجز
له مرسوما بنظر دار الحديث وتدريس العذراوية، فلم يباشر ذلك حتى سافر استدمر، فاتفق أنه وقعت له بعد يومين كائنة بدار ابن درباس بالصالحية، وذكر أنه وجد عنده شئ من المنكرات، واجتمع عليه جماعة من أهل الصالحية مع الحنابلة وغيرهم، وبلغ ذلك نائب السلطنة فكاتب فيه، فورد الجواب بعزله عن المناصب الدينية، فخرجت عنه دار الحديث الاشرفية وبقي بدمشق وليس بيده وظيفة لذلك، فلما كان في آخر رمضان سافر إلى حلب فقرر له نائبها استدمر شيئا على الجامع، ثم ولاه تدريسا هناك وأحسن إليه، وكان الامير استدمر قد انتقل إلى نيابة حلب في جمادى الآخرة عوضا عن سيف الدين قبجق توفي، وباشر مملكة حماة بعده الامير عماد الدين إسماعيل بن الافضل علي بن محمود بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، وانتقل جمال الدين آقوش الافرم من صرخد إلى نيابة طرابلس عوضا عن الحاج بهادر.
وفي يوم الخميس سادس عشر
__________
(1) في تذكرة النبيه 2 / 29: اعتقل ومنع من الزاد - في سلخ ربيع الآخرة - فمات بعد أيام جوعا.
(انظر بدائع الزهور 1 / 436 السلوك 1 / 873).
__________
(2) انظر تفاصيل فيما صودر به من أموال وأملاك وغيرها بدائع الزهور 1 / 436 - 437 وفيه: قال بعض المؤرخين: عجبت من أمر سلار في جمع هذه الاموال العظيمة، وكانت مدته في نيابة السلطنة إحدى عشرة سنة، فكيف حوى هذه الاموال العظيمة في هذه المدة اليسيرة ؟ (ص 438).
(3) كانت مفاتيح بيت المال بيده عندما توجه الملك الناصر إلى الكرك، فالارجح أنه اصطفى لنفسه ما قدر عليه (بدائع الزهور 1 / 438).
شعبان بالشيخ كمال الدين بن الزملكاني مشيخة دار الحديث الاشرفية عوضا عن ابن الوكيع، وأخذ في التفسير والحديث والفقه، فذكر من ذلك دروسا حسنة، ثم لم يستمر بها سوى خمسة عشر يوما حتى انتزعها منه كمال الدين الشريشي فباشرها يوم الاحد ثالث شهر رمضان.
وفي شعبان رسم قراسنقر نائب الشام بتوسعة المقصورة، فأخرت سدة المؤذنين إلى الركنين المؤخرين تحت قبة النسر، ومنعت الجنائز من دخول الجامع أياما ثم أذن في دخولهم.
وفي خامس رمضان قدم فخر الدين إياس كان نائبا في قلعة الروم إلى دمشق شاد الدواوين عوضا عن زين الدين كتبغا المنصوري.
وفي شوال باشر الشيخ علاء الدين علي بن إسماعيل القونوي مشيخة الشيوخ بالديار المصرية عوضا عن الشيخ كريم الدين عبد الكريم بن الحسين الايكي توفي، وكان له تحرير وهمة، وخلع على القونوي خلعة سنية، وحضر سعيد السعداء بها.
وفي يوم الخميس ثالث ذي القعدة خلع على الصاحب عز الدين القلانسي خلعة الوزراء بالشام عوضا عن النجم البصراوي بحكم إقطاعه إمرة عشرة وإعراضه عن الوزارة.
وفي يوم الاربعاء سادس عشر ذي القعدة عاد الشيخ كمال الدين بن الزملكاني إلى تدريس الشامية البرانية.
وفي هذا اليوم لبس تقي الدين ابن الصاحب شمس الدين بن السلعوس خلعة النظر على الجامع الاموي، ومسك الامير سيف الدين استدمر نائب حلب في ثاني ذي الحجة ودخل إلى مصر، وكذلك مسك نائب البيرة سيف الدين ضرغام بعده بليال.
وممن توفي فيها من الاعيان: قاضي القضاة شمس الدين أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن عبد الغني السروجي الحنفي، شارح الهداية (1)، كان بارعا في علوم شتى، وولي الحكم بمصر مدة وعزل قبل موته بأيام، توفي يوم الخميس ثاني عشر ربيع الآخر ودفن بقرب الشافعي وله اعتراضات على الشيخ تقي الدين بن تيمية في علم الكلام، أضحك فيها على نفسه، وقد رد عليه الشيخ تقي الدين في مجلدات، وأبطل حجته * وفيها توفي سلار مقتولا كما تقدم.
الصاحب أمين الدولة أبو بكر بن الوجيه عبد العظيم بن يوسف المعروف بابن الرقاقي * والحاج بهادر نائب
__________
(1) وهو " الهداية في الفروع " لشيخ الاسلام برهان الدين بن علي بن أبي بكر المرغيناني الحنفي المتوفى سنة 593 ه ولكنه لم يكمله ثم أكمله سعد الدين محمد الديري المتوفى سنة 867 ه / كشف الظنون 2 / 2031، 2033.
طرابلس مات بها.
والامير سيف الدين قبجق نائب حلب مات بها ودفن بتربته بحماه، ثاني جمادى الآخرة (1) وكان شهما شجاعا، وقد ولي نيابة دمشق في أيام لاجين، ثم قفز إلى التتر خوفا من لاجين ثم جاء مع التتر.
وكان على يديه فرج المسلمين كما ذكرنا عام قازان، ثم تنقلت به الاحوال إلى أن مات بحلب، ثم وليها بعده استدمر ومات أيضا في آخر السنة.
وفيها توفي: الشيخ كريم الدين بن الحسين الايكي شيخ الشيوخ بمصر، كان له صلة بالامراء، وقد عزل مرة عن المشيخة بابن جماعة، توفي ليلة السبت سابع شوال بخانقاه سعيد السعداء، وتولاها بعده الشيخ علاء الدين القونوي كما تقدم.
الفقيه عز الدين عبد الجليل النمراوي الشافعي، كان فاضلا بارعا، وقد صحب سلار نائب مصر وارتفع في الدنيا بسببه.
ابن الرفعة هو الامام العلامة نجم الدين أحمد بن محمد شارح التنبيه (2)، وله غير ذلك، وكان فقيها فاضلا وإماما في علوم كثيرة رحمهم الله.
ثم دخلت سنة إحدى عشرة وسبعمائة استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها غير الوزير بمصر فإنه عزل وتولى سيف الدين بكتمر وزيرا، والنجم البصراوي عزل أيضا بعز الدين القلانسي، وقد انتقل الافرم إلى نيابة طرابلس بإشارة ابن تيمية على السلطان بذلك، ونائب حماة الملك المؤيد عماد الدين على قاعدة أسلافه، وقد مات نائب حلب استدمر وهي شاغرة عن نائب فيها، وأرغون الدوادار الناصري قد وصل إلى دمشق لتسفير قراسنقر منها إلى حلب وإحضار سيف الدين كراي إلى نيابة دمشق،
__________
(1) في تذكرة النبيه 2 / 29: الاولى (انظر السلوك 2 / 96 النجوم الزاهرة 9 / 216).
__________
(2) وهو كتاب التنبيه في فروع الشافعية للشيخ أبي إسحاق ابراهيم بن علي الفقيه الشيرازي الشافعي المتوفى سنة 476 ه شرحه ابن الرفعة وسماه " كفاية التنبيه في شرح التنبيه " انظر كشف الظنون 1 / 489.
وغالب العساكر بحلب والاعراب محدقة بأطراف البلاد، فخرج قراسنقر المنصوري من دمشق في ثالث المحرم في جميع حواصله وحاشيته وأتباعه، وخرج الجيش لتوديعه، وسار معه أرغون لتقريره بحلب وجاء المرسوم إلى نائب القلعة الامير سيف الدين بهادر السنجري أن يتكلم في أمور دمشق إلى أن يأتيه نائب، فحضر عنده الوزير والموقعون وباشر النيابة، وقويت شوكته وقويت شوكة الوزير إلى أن ولي ولايات عديدة منها لابن أخيه عماد الدين نظر الاسرار، واستمر في يده، وقدم نائب السلطنة سيف الدين كراي المنصوري إلى دمشق نائبا عليها.
وفي يوم الخميس الحادي عشرين من المحرم خرج الناس لتلقيه وأوقدوا الشموع، وأعيدت مقصورة الخطابة إلى مكانها رابع عشرين المحرم، وانفرج الناس ولبس النجم البصراوي خلعة الامرة يوم الخميس ثالث عشر صفر على قاعدة الوزراء بالطرحة، وركب مع المقدمين الكبار وهو أمير عشرة بأقطاع يضاهي إقطاع كبار الطبلخانات.
وفي يوم الاربعاء سابع عشر ربيع الاول جلس القضاة الاربعة بالجامع لانفاذ أمر الشهود بسبب تزوير وقع من بعضهم، فاطلع عليه نائب السلطنة فغضب وأمر بذلك، فلم يكن منه كبير شئ، ولم يتغير حال.
وفي هذا اليوم ولي الشريف نقيب الاشراف أمين الدين جعفر بن محمد بن محيي الدين عدنان نظر الدواوين عوضا عن شهاب الدين الواسطي، وأعيد تقي الدين بن الزكي إلى مشيخة الشيوخ.
وفيه ولي ابن جماعة تدريس الناصرية بالقاهرة، وضياء الدين النسائي تدريس الشافعي، والميعاد العام بجامع طولون، ونظر الاحباس أيضا.
وولي الوزارة بمصر أمين الملك أبو سعيد (1) عوضا عن سيف الدين بكتمر الحاجب في ربيع الآخر (2).
وفي هذا الشهر احتيط على الوزير عز الدين بن القلانسي بدمشق، ورسم عليه مدة شهرين، وكان نائب السلطنة كثير الحنق عليه، ثم أفرج عنه وأعيد بدر الدين بن جماعة إلى الحكم بديار مصر في حادي عشر
ربيع الآخر، مع تدريس دار الحديث الكاملية، وجامع طولون والصالحية والناصرية، وجعل له إقبال كثير من السلطان، واستقر جمال الدين الزرعي على قضاء العسكر وتدريس جامع الحاكم، ورسم له أن يجلس مع القضاة بين الحنفي والحنبلي عند السلطان.
وفي مستهل جمادي الاولى أشهد القاضي نجم الدين الدمشقي نائب ابن صصرى على نفسه بالحكم ببطلان البيع في الملك الذي اشتراه ابن القلانسي من تركة المنصوري في الرمثا والثوجة والفصالية لكونه بدون ثمن المثل، ونفذه بقيه الحكام، وأحضر ابن القلانسي إلى دار السعادة
__________
(1) وهو الامير ركن الدين بيبرس الدواداري المنصوري، المؤرخ المعروف صاحب كتاب زبدة الفكرة وإليه تنسب المدرسة الدوادارية وكانت وفاته سنة 725 ه (انظر تذكرة النبيه 2 / 39 وبدائع الزهور 1 / 440 ومختصر أبي الفداء 4 / 65).
__________
(2) في تذكرة النبيه: جمادى الاولى.
وادعى عليه بريع ذلك، ورسم عليه بها، ثم حكم قاضي القضاة تقي الدين الحنبلي بصحة هذا البيع وبنقض ما حكم به الدمشقي، ثم نفذ بقية الحكام ما حكم به الحنبلي.
وفي هذا الشهر قرر على أهل دمشق ألف وخمسمائة فارس لكل فارس خمسمائة درهم، وضربت على الاملاك والاوقاف، فتألم الناس من ذلك تألما عظيما وسعى إلى الخطيب جلال الدين فسعى إلى القضاة واجتمع الناس بكرة يوم الاثنين ثالث عشر الشهر واحتفلوا بالاجتماع وأخرجوا معهم المصحف العثماني والاثر النبوي والسناجق الخليفية، ووقفوا في الموكب فلما رآهم كراي تغيظ عليهم وشتم القاضي والخطيب، وضرب مجد الدين التونسي ورسم عليهم ثم أطلقهم بضمان وكفالة، فتألم الناس من ذلك كثيرا، فلم يمهله الله إلا عشرة أيام فجاءه الامر فجأة فعزل وحبس، ففرح الناس بذلك فرحا شديدا، ويقال إن الشيخ تقي الدين بلغه ذلك الخبر عن أهل الشام فأخبر السلطان بذلك فبعث من فوره فمسكه شر مسكة، وصفة مسكه أن تقدم الامير سيف الدين أرغون الدوادار فنزل في القصر، فلما كان يوم الخميس الثالث والعشرين من جمادى الاولى خلع على الامير
سيف الدين كراي خلعة سنية، فلبسها وقبل العتبة، وحضر الموكب ومد السماط، فقيد بحضرة الامراء وحمل على البريد إلى الكرك بصحبة غرلو العادلي، وبيبرس المجنون.
وخرج عز الدين القلانسي من الترسيم من دار السعادة، فصلى في الجامع الظهر ثم عاد إلى داره وقد أوقدت له الشموع ودعا له الناس، ثم رجع إلى دار الحديث الاشرفية فجلس فيها نحوا من عشرين يوما، حتى قدم الامير جمال الدين نائب الكرك.
وفي هذا الشهر مسك نائب صفت (1) الامير سيف الدين بكتمر أمير خزندار، وعوض عنه بالكرك بيبرس الدوادار المنصوري، ومسك نائب غزة، وعوض عنه بالجاولي، فاجتمع في حبس الكرك استدمر نائب حلب، وبكتمر نائب مصر (2)، وكراي نائب دمشق، والذي كان نائب صفت (1)، وقلطتمز نائب غزة وبنخاص.
وقدم جمال الدين آقوش المنصوري الذي كان نائب الكرك عن نيابة دمشق إليها في يوم الاربعاء رابع عشر ربيع الآخر، وتلقاه الناس وأشعلت له الشموع، وفي صحبته الخطيري لتقريره في النيابة، وقد باشر نيابة الكرك من سنة تسعين وستمائة إلى سنة تسع وسبعمائة وله بها آثار حسنة، وخرج عز الدين القلانسي لتلقي النائب.
وقرئ يوم الجمعة كتاب السلطان على السدة بحضرة النائب والقضاة والاعيان، وفيه الامر بالاحسان إلى الرعية وإطلاق البواقي التي كانت قد فرضت عليهم أيام كراي، فكثرت الادعية للسلطان وفرح الناس.
وفي يوم الاثنين التاسع عشر خلع على الامير سيف الدين بهادراص بنيابة صفت (1) فقبل العتبة وسار إليها يوم الثلاثاء، وفيه لبس الصدر بدر الدين بن أبي الفوارس خلعة نظر الدواوين
__________
(1) كذا بالاصل، وهي صفد مدينة بجبال عاملة المطلة على حمص (معجم البلدان).
__________
(2) انظر سبب القبض عليه النجوم الزاهرة 9 / 24 - 25 وكنز الدر (ج 9) الدر الفاخر في سيرة الملك الناصر ص 212 لابن أيبك الدواداري.
بدمشق مشاركا للشريف ابن عدنان وبعد ذلك بيومين قدم تقليد عز الدين بن القلانسي وكالة السلطان على ما كان عليه، وأنه إعفي عن الوزارة لكراهته لذلك.
وفي رجب باشر ابن السلعوس نظر الاوقاف عوضا عن شمس الدين عدنان.
وفي شعبان ركب نائب السلطنة بنفسه إلى أبواب السجون فأطلق المحبوسين بنفسه، فتضاعف له الادعية في الاسواق وغيرها.
وفي هذا اليوم قدم الصاحب عز الدين بن القلانسي من مصر فاجتمع بالنائب وخلع عليه ومعه كتاب يتضمن احترامه وإكرامه واستمراره على وكالة السلطان، ونظر الخاص والانكار لما ثبت عليه بدمشق، وأن السلطان لم يعلم بذلك ولا وكل فيه، وكان المساعد له على ذلك كريم الدين ناظر الخاص السلطاني، والامير سيف الدين أرغون الدوادار.
وفي شعبان منع ابن صصرى الشهود والعقاد من جهته، وامتنع غيرهم أيضا وردهم المالكي.
وفي رمضان جاء البريد بتولية زين الدين كتبغا المنصوري حجوبية الحجاب، والامير بدر الدين ملتوبات القرماني شد الدواوين عوضا عن طوغان، وخلع عليهما معا، وفيها ركب بهادر السنجري نائب قلعة دمشق على البريد إلى مصر وتولاها سيف الدين بلبان البدري، ثم عاد السنجري في آخر النهار على نيابة البيرة، فسار إليها وجاء الخبر بأنه قد احتيط على جماعة من قصاد المسلمين ببغداد، فقتل منهم ابن العقاب وابن البدر، وخلص عبيدة وجاء سالما.
وخرج المحمل في شوال وأمير الحاج الامير علاء الدين طيبغا أخو بهادراص.
وفي آخر ذي القعدة جاء الخبر بأن الامير قراسنقر رجع من طريق الحجاز بعد أن وصل إلى بركة زيرا، وأنه لحق بمهنا بن عيسى فاستجار به خائفا على نفسه ومعه جماعة من خواصه، ثم سار من هناك إلى التتر بعد ذلك كله، وصحبه الافرم والزردكش (1).
وفي العشرين من ذي القعدة وصل الامير سيف الدين أرغون في خمسة آلاف إلى دمشق وتوجهوا إلى ناحية حمص، وتلك النواحي.
وفي سابع ذي الحجة وصل الشيخ كمال الدين بن الشريشي من مصر مستمرا على وكالته ومعه توقيع بقضاء العسكر الشامي، وخلع عليه في يوم عرفة.
وفي هذا اليوم وصلت ثلاثة آلاف عليهم سيف الدين ملي من الديار المصرية فتوجهوا وراء أصحابهم إلى البلاد الشمالية.
وفي آخر الشهر وصل شهاب الدين الكاشنغري من القاهرة ومعه توقيع بمشيخة الشيوخ، فنزل في الخانقاه وباشرها بحضرة القضاة والاعيان، وانفصل ابن الزكي عنها.
وفيه باشر الصدر علاء
الدين بن تاج الدين بن الاثير كتابة السر بمصر، وعزل عنها شرف الدين بن فضل الله، إلى كتابة
__________
(1) قيل كان ذلك في ربيع الاول من السنة التالية 712 ه.
راجع السلوك 2 / 115 كنز الدرر 9 / 218، 235 المختصر في أخبار البشر 4 / 66.
السر بدمشق عوضا عن أخيه محيي الدين، واستمر محيي الدين على كتابة الدست (1) بمعلوم أيضا والله أعلم.
ومن توفي فيها من الاعيان.
الشيخ الرئيس بدر الدين محمد بن رئيس الاطباء أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن طرخان الانصاري من سلالة سعد بن معاذ السويدي، من سويداء حوران، سمع الحديث وبرع في الطب، توفي في ربيع الاول ببستانه بقرب الشبلية، ودفن في تربة له في قبة فيها عن ستين سنة.
الشيخ شعبان بن أبي بكر بن عمر الاربلي شيخ الحلبية بجامع بني أمية، كان صالحا مباركا فيه خير كثير، كان كثير العبادة وإيجاد الراحة للفقراء، وكانت جنازته حافلة جدا، صلي عليه بالجامع بعد ظهر يوم السبت تاسع عشرين رجب ودفن بالصوفية وله سبع وثمانون سنة، وروى شيئا من الحديث وخرجت له مشيخة حضرها الاكابر رحمه الله.
الشيخ ناصر الدين يحيى بن إبراهيم ابن محمد بن عبد العزيز العثماني، خادم المصحف العثماني نحوا من ثلاثين سنة، وصلي عليه بعد الجمعة سابع رمضان ودفن بالصوفية، وكان لنائب السلطنة الافرم فيه اعتقاد ووصلة منه افتقاد، وبلغ خمسا وستين سنة.
الشيخ الصالح الجليل القدوة أبو عبد الله محمد بن الشيخ القدوة إبراهيم بن الشيخ عبد الله الاموي، توفي في العشرين
من رمضان بسفح قاسيون، وحضر الامراء والقضاء والصدور جنازته وصلي عليه بالجامع المظفري، ثم دفن عند والده وغلق يومئذ سوق الصالحية له، وكانت له وجاهة عند الناس وشفاعة مقبولة، وكان عنده فضيلة وفيه تودد، وجمع أجزاء في أخبار جيدة، وسمع الحديث وقارب السبعين رحمه الله.
__________
(1) الدست: وظيفة من أجل الوظائف وأسناها وأنفسها وأعلاها والقائم بها سفير الرعية إلى الملك في حاجتهم، منفذ آمر مليكه ونهيه، مبلغ ذا الحاجة من أنعامه جوده وبره، ويتولى هذه الوظيفة كاتب الدست (التعريف بمصطلحات صبح الاعشى ص 136).
ابن الوحيد الكاتب هو الصدر شرف الدين أبو عبد الله محمد بن شريف بن يوسف الزرعي (1) المعروف بابن الوحيد، كان موقعا بالقاهرة وله معرفة بالانشاء وبلغ الغاية في الكتابة في زمانه، وانتفع الناس به، وكان فاضلا مقداما شجاعا، توفي بالمارستان المنصوري بمصر سادس عشر شوال (2).
الامير ناصر الدين محمد بن عماد الدين حسن بن النسائي أحد أمراء الطبلخانات، وهو حاكم البندق، ولي ذلك بعد سيف الدين بلبان، توفي في العشرين الاخر من رمضان.
التميمي الداري توفي يوم عيد الفطر ودفن بالقرافة الصغرى، وقد ولي الوزارة بمصر، وكان خبيرا كافيا، مان معزولا، وقد سمع الحديث وسمع عليه بعض الطلبة.
وفي ذي القعدة جاء الخبر إلى دمشق بوفاة الامير الكبير استدمر وبنخاص في السجن بقلعة الكرك.
القاضي الامام العلامة الحافظ سعد الدين مسعود الحارثي الحنبلي الحاكم بمصر، سمع الحديث، وجمع وخرج وصنف،
وكانت له يد طولى في هذه الصناعة والاسانيد والمتون، وشرح قطعة من سنن أبي داود فأجاد وأفاد، وحسن الاسناد، رحمه الله تعالى، والله أعلم.
ثم دخلت سنة اثنتي عشرة وسبعمائة استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها، وفي خامس المحرم توجه الامير عز الدين ازدمر الزردكاش وأميران معه إلى الافرم، وساروا بأجمعهم حتى لحقوا بقراسنقر وهو عند مهنا، وكاتبوا السلطان وكانوا كالمستجيرين من الرمضاء بالنار، وجاء البريد في صفر بالاحتياط على حواصل الافرم وقراسنقر والزرد كاش وجميع ما يتعلق بهم، وقطع خبز مهنا وجعل مكانه في الامرة
__________
(1) الزرعي: نسبة إلى مدينة زرع احدى مدن حوران (تقويم البلدان لابي الفداء ص 259).
__________
(2) في تذكرة النبيه 2 / 43: في شعبان، وكان مولده بدمشق سنة 647 ه.
أخاه محمدا، وعادت العساكر صحبة أرغون (1) من البلاد الشمالية، وقد حصل عند الناس من قراسنقر وأصحابه هم وغم وحزن، وقدم سودي (2) من مصر على نيابة حلب فاجتاز بدمشق فخرج الناس والجيش لتلقيه، وحضر السماط وقرئ المنشور بطلب جمال الدين نائب دمشق إلى مصر، فركب من ساعته على البريد إلى مصر وتكلم في نيابته لغيبة لاجين.
وطلب في هذا اليوم قطب الدين موسى شيخ السلامية ناظر الجيش إلى مصر، فركب في آخر النهار إليها فتولى بها نظر الجيش عوضا عن فخر الدين الكاتب كاتب المماليك بحكم عزله ومصادرته وأخذ أمواله الكثيرة منه، في عاشر ربيع الاول.
وفي الحادي عشر منه باشر الحكم للحنابلة بمصر القاضي تقي الدين أحمد بن المعز عمر بن عبد الله بن عمر بن عوض المقدسي، وهو ابن بنت الشيخ شمس الدين بن العماد أول قضاة الحنابلة، وقدم الامير سيف الدين تمر على نيابة طرابلس ؟ عوضا عن الافرم بحكم هربه إلى التتر.
وفي ربيع الآخر مسك بيبرس العلائي نائب حمص وبيبرس المجنون وطوغان وجماعة آخرون من الامراء ستة في نهار واحد وسيروا إلى الكرك معتقلين بها.
وفيه مسك نائب مصر الامير ركن الدين بيبرس الدوادار المنصوري، وولي بعده أرغون الدوادار، ومسك نائب الشام
جمال الدين نائب الكرك وشمس الدين سنقر الكمالي حاجب بمصر، وخمسة أمراء آخرون وحبسوا كلهم بقلعة الكرك، في برج هناك.
وفيه وقع حريق داخل باب السلامية احترق فيه دور كثيرة منها دار ابن أبي الفوارس، ودار الشريف القباني.
نيابة تنكز على الشام في يوم الخميس العشرين من ربيع الآخر دخل الامير سيف الدين تنكز بن عبد الله المالكي الناصري نائبا على دمشق بعد مسك نائب الكرك ومعه جماعة من مماليك السلطان منهم الحاج ارقطاي على حيز بيبرس العلائي، وخرج الناس لتلقيه وفرحوا به كثيرا، ونزل بدار السعادة ووقع عند قدومه مصر فرح عظيم، وكان ذلك اليوم يوم الرابع والعشرين من آب، وحضر يوم الجمعة الخطبة بالمقصورة وأشعلت له الشموع في طريقه، وجاء توقيع لابن صصرى بإعادة قضاء العسكر إليه، وأن ينظر الاوقاف فلا يشاركه أحد في الاستنابة في البلاد الشامية على عادة من تقدمه من قضاة الشافعية، وجاء مرسوم لشمس الدين أبي طالب بن حميد بنظر الجيش عوضا عن ابن شيخ السلامية بحكم إقامته بمصر، ثم بعد أيام وصل الصدر معين الدين هبة الله بن خشيش ناظر الجيش وجعل ابن حميد بوظيفة ابن الصدر، وسافر ابن البدر على نظر جيش طرابلس، وتولى
__________
(1) وهو أرغون شاه بن عبد الله الدوادار الناصري، الامير سيف الدين، ولي نيابة السلطنة في الديار المصرية في جمادى الاولى وكانت وفاته سنة 731 ه (الدرر 1 / 374 شذرات 6 / 95).
__________
(2) وهو الامير سيف الدين، سودي بن عبد الله الناصري من مماليك الملك الناصر محمد ومن خواص توفي سنة 714 ه.
(النجوم الزاهرة 9 / 229 الدرر الكامنة 2 / 275.
أرغون نيابة مصر وعاد فخر الدين كاتب المماليك إلى وظيفته مع استمرار قطب الدين ابن شيخ السلامية مباشرا معه.
وفي هذا الشهر قام الشيخ محمد بن قوام ومعه جماعة من الصالحين على ابن زهرة المغربي الذي كان يتكلم بالكلاسة وكتبوا عليه محضرا يتضمن استهانته بالمصحف، وأنه يتكلم في أهل
العلم، فأحضر إلى دار العدل فاستسلم وحقن دمه وعزر تعزيرا بليغا عنيفا وطيف به في البلد باطنه وظاهره، وهو مكشوف الرأس ووجهه مقلوب وظهره مضروب، ينادى عليه هذا جزاء من يتكلم في العلم بغير معرفة، ثم حبس وأطلق فهرب إلى القاهرة، ثم عاد على البريد في شعبان ورجع إلى ما كان عليه.
وفيها قدم بهادراص من نيابة صفد إلى دمشق وهنأه الناس، وفيها قدم كتاب من السلطان إلى دمشق أن لا يولي أحد بمال ولا برشوة فإن ذلك يفضي إلى ولاية من لا يستحق الولاية، وإلى ولاية غير الاهل، فقرأه ابن الزملكاني على السدة وبلغه عنه ابن حبيب المؤذن، وكان سبب ذلك الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله.
وفي رجب وشعبان حصل للناس خوف بدمشق بسبب أن التتر قد تحركوا للمجئ إلى الشام، فانزعج الناس من ذلك وخافوا، وتحول كثير منهم إلى البلد، وازدحموا في الابواب، وذلك في شهر رمضان وكثرت الاراجيف بأنهم قد وصلوا إلى الرحبة (1)، وكذلك جرى واشتهر بأن ذلك بإشارة قراسنقر وذويه فالله أعلم.
وفي رمضان جاء كتاب السلطان أن من قتل لا يجني أحد عليه، بل يتبع القاتل حتى يقتص منه بحكم الشرع الشريف، فقرأه ابن الزملكاني على السدة بحضرة نائب السلطنة ابن تنكز وسببه ابن تيمية، هو أمر بذلك وبالكتاب الاول قبله.
وفي أول رمضان وصل التتر إلى الرحبة فحاصروها عشرين يوما (2) وقاتلهم نائبها الامير بدر الدين موسى الازدكشي خمسة أيام قتالا عظيما، ومنعهم منها فأشار رشيد الدولة بأن ينزلوا إلى خدمة السلطان خربندا ويهدوا له هدية ويطلبون منه العفو، فنزل القاضي نجم الدين إسحاق وأهدوا له خمسة رؤوس خيل، وعشرة أباليج سكر، فقبل ذلك ورجع إلى بلاده، وكانت بلاد حلب وحماه وحمص قد أجلوا منها وخرب أكثرها ثم رجعوا إليها لما تحققوا رجوع التتر عن الرحبة، وطابت الاخبار وسكنت النفوس ودقت البشائر وتركت الائمة القنوت، وخطب الخطيب يوم العيد وذكر الناس بهذه النعمة.
وكان سبب رجوع التتر قلة العلف وعلاء الاسعار وموت كثير منهم، وأشار على سلطانهم بالرجوع الرشيد وجوبان.
وفي ثامن شوال دقت البشائر بدمشق بسبب خروج السلطان من مصر لاجل ملاقاة التتر.
__________
(1) الرحبة: (رحبة مالك بن طرحة): مدينة على شاطئ الفرات بين الرقة وبغداد (تقويم البلدان ص 280 - معجم البلدان).
__________
(2) في مختصر أبي الفداء 4 / 70: نحو شهر، وفي تذكرة النبيه 2 / 45: ثلاثة وعشرين يوما.
وخرج الركب في نصف شوال وأميرهم حسام الدين الصغير، الذي كان والي البر، وقدمت العساكر المصرية أرسالا، وكان قدوم السلطان ودخوله دمشق ثالث عشرين شوال، واحتفل الناس لدخوله ونزل القلعة وزينت البلد وضربت البشائر، ثم انتقل بعد ليلتئذ إلى القصر وصلى الجمعة بالجامع بالمقصورة وخلع على الخطيب، وجلس في دار العدل يوم الاثنين، وقدم وزيره أمين الملك يوم الثلاثاء عشرين الشهر، وقدم صحبة السلطان الشيخ الامام العالم العلامة تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية إلى دمشق يوم الاربعاء مستهل ذي القعدة وكانت غيبته عنها سبع سنين، ومعه أخواه وجماعة من أصحابه، وخرج خلق كثير لتلقيه وسروا بقدومه وعافيته ورؤيته، واستبشروا به حتى خرج خلق من النساء أيضا لرؤيته، وقد كان السلطان صحبه معه من مصر فخرج معه بنية الغزاة، فلما تحقق عدم الغزاة وأن التتر رجعوا إلى بلادهم فارق الجيش من غزة وزار القدس وأقام به أياما، ثم سافر على عجلون وبلاد السواد وزرع، ووصل دمشق في أول يوم من ذي القعدة، فدخلها فوجد السلطان قد توجه إلى الحجاز الشريف في أربعين أميرا من خواصه يوم الخميس ثاني ذي القعدة، ثم إن الشيخ بعد وصوله إلى دمشق واستقراره بها لم يزل ملازما لاشتغال الناس في سائر العلوم ونشر العلم وتصنيف الكتب وإفتاء الناس بالكلام والكتابة المطولة والاجتهاد في الاحكام الشرعية ففي بعض الاحكام يفتي بما أدى إليه اجتهاده من موافقة أئمة المذاهب الاربعة، وفي بعضها يفتي بخلافهم وبخلاف المشهور في مذاهبهم، وله اختيارات كثيرة مجلدات عديدة أفتى فيها بما أدى إليه اجتهاده، واستدل على ذلك من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والسلف.
فلما سار السلطان إلى الحج فرق العساكر والجيوش بالشام وترك أرغون بدمشق.
وفي يوم
الجمعة لبس الشيخ كمال الدين الزملكاني خلعة وكاة بيت المال عوضا عن ابن الشريشي، وحضر بها الشباك وتكلم وزير السلطان في البلد، وطلب أموالا كثيرة وصادر وضرب بالمقارع وأهان جماعة من الرؤساء منهم ابن فضل الله محيي الدين.
وفيه عين شهاب الدين بن جهبل لتدريس الصلاحية بالمقدس عوضا عن نجم الدين داود الكردي توفي، وقد كان مدرسا من نحو ثلاثين سنة.
فسافر ابن جهبل إلى القدس بعد عيد الاضحى.
وفيها مات ملك القفجاق المسمى طغطاي خان، وكان له من الملك ثلاث وعشرون سنة، وكان عمره ثمانيا وثلاثين سنة، وكان شهما شجاعا لى دين التتر في عبادة الاصنام والكواكب، يعظم المجسمة والحكماء والاطباء ويكرم المسلمين أكثر من جميع الطوائف، كان جيشه هائلا لا يجسر أحد على قتاله لكثرة جيشه وقوتهم وعددهم، ويقال إنه جرد مرة تجريدة من كل عشرة من جيشه واحدا فبلغت التجريدة ومائتي ألف وخمسين ألفا، توفي في رمضان منها وقام في الملك من بعده ابن أخيه أزبك خان، وكان مسلما فأظهر دين الاسلام ببلاده، وقتل خلقا من
أمراء الكفرة وعلت الشرائع المحمدية على سائر الشرائع هناك ولله الحمد والمنة على الاسلام والسنة.
وممن توفي فيها من الاعيان.
الملك المنصور صاحب ماردين وهو نجم الدين أبو الفتح غازي بن الملك المظفر قرارسلان بن الملك السعيد نجم الدين غازي بن الملك المنصور ناصر الدين ارتق بن غازي بن المني بن تمرتاش بن غازي بن أرتق الاريفي ؟ أصحاب ماردين من عدة سنين، كان شيخا حسنا مهيبا كامل الخلقة بدينا سمينا إذا ركب يكون خلفه محفة.
خوفا من أن يمسه لغوب فيركب فيها، توفي في تاسع ربيع الآخر ودفن بمدرسته تحت القلعة، وقد بلغ من العمر فوق السبعين، ومكث في الملك قريبا من عشرين سنة، وقام من بعده في الملك ولده العادل فمكث سبعة عشر (1) يوما، ثم ملك أخوه المنصور (2).
وفيها مات:
الامير سيف الدين قطلوبك الشيخي كان من أمراء دمشق الكبار.
الشيخ الصالح نور الدين أبو الحسن على بن محمد بن هارون بن محمد بن علي بن حميد الثعلبي الدمشقي، قارئ الحديث بالقاهرة ومسندها، روى عن ابن الزبيدي وابن الليثي (3) وجعفر الهمداني وابن الشيرازي وخلق، وقد خرج له الامام العلامة تقي السبكي مشيخة، وكان رجلا صالحا توفي بكرة الثلاثاء تاسع عشر ربيع الآخر، وكانت جنازته حافلة.
الامير الكبير الملك المظفر شهاب الدين غازي بن الملك الناصر داود بن المعظم، سمع الحديث وكان رجلا متواضعا توفي بمصر ثاني عشر رجب، ودفن بالقاهرة.
__________
(1) في مختصر أخبار البشر 4 / 67: نحو ثلاثة عشر يوما، وفي تذكرة النبيه 2 / 48: مات بعد أيام.
__________
(2) في مختصر أبي الفداء وتذكرة النبيه: الملك الصالح واستقر أمره وتوفي سنة 766 - وانظر الدرر 2 / 301 ترجمة 1969.
__________
(3) في شذرات الذهب 6 / 31: ابن اللتي.
قاضي القضاة شمس الدين أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن داود بن حازم الازرعي (1) الحنفي، كان فاضلا درس وأفتى قضاء الحنفية بدمشق سنة ثم عزل واستمر على تدريس الشبلية (2) مدة ثم سافر إلى مصر فأقام بسعيد السعداء خمسه أيام وتوفي يوم الاربعاء ثاني عشرين رجب فالله أعلم.
ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وسبعمائة استهلت والحكام هم هم، والسلطان في الحجاز لم يقدم بعد، وقد قدم الامير سيف الدين تجليس يوم السبت مستهل المحرم من الحجاز وأخبر بسلامة السلطان وأنه فارقه من المدينة النبوية،
أنه قد قارب البلاد، فدقت البشائر فرحا بسلامته، ثم جاء البريد فأخبر بدخوله إلى الكرك ثاني المحرم يوم الاحد، فلما كان يوم الثلاثاء حادي عشر المحرم دخل دمشق وقد خرج الناس لتلقيه على العادة، وقد رأيته مرجعه من هذه الحجة على شفته ورقة قد ألصقها عليها، فنزل بالقصر وصلى الجمعة رابع عشر المحرم بمقصورة الخطابة، وكذلك الجمعة التي تليها، ولعب في الميدان بالكرة يوم السبت النصف من المحرم، وولي نظر الدواوين للصاحب شمس الدين غبريال يوم الاحد حادي عشر المحرم وشد الدواوين لفخر الدين إياس الاعسري عوضا عن القرماني، وسافر القرماني إلى نيابة الرحبة وخلع عليهما وعلى وزيره، وخلع على إبن صصرى وعلى الفخر كاتب المماليك، وكان مع السلطان في الحج، وولى شرف الدين بن صصرى حجابة الديوان وباشر فخر الدين ابن شيخ السلامية نظر الجامع، وباشر بهاء الدين بن عليم نظر الاوقاف، والمنكورسي شد الاوقاف.
وتوجه السلطان راجعا إلى الديار المصرية بكرة الخميس السابع والعشرين من المحرم، وتقدمت الجيوش بين يديه ومعه.
وفي أواخر صفر اجتاز على البريد في الرسلية إلى مهنا الشيخ صدر الدين الوكيل به مهنا والامير علاء الدين الطنبغا فاجتمعوا به في تدمر ثم عاد الطنبغا وابن الوكيل إلى القاهرة.
وفي جمادى الآخرة مسك أمين الملك وجماعة من الكبار معه وصودروا بأموال كثيرة، وأقيم عوضه بدر الدين بن التركماني الذي كان والي الخزانة.
وفي رجب كملت أربعة مناجيق واحد لقلعة دمشق وثلاثة تحمل إلى الكرك، ورمي باثنين على باب الميدان وحضر نائب السلطنة تنكز والعامة وفي شعبان تكامل حفر النهر الذي عمله سودي نائب حلب بها، وكان طوله من نهر
__________
(1) في تذكرة النبيه 2 / 52 ودرة الاسلاك ص 194 والدرر 3 / 365: محمد بن ابراهيم بن إبراهيم بن داود بن حازم الاذرعي.
والاذرعي نسبة إلى أذرعات في أطراف الشام بجوار أرض البلقاء وعمان (معجم البلدان)
__________
(2) الشبلية، وهي المدرسة الشبلية البرانية أنشأها شبل الدولة الحسامي محمد بن لاجين ولدست الشام المتوفى سنة 623 ه (الدارس 1 / 530).
الساجور إلى نهر قويق أربعين ألف ذراع في عرض ذراعين وعمق ذراعين، وغرم عليه ثلثمائة ألف درهم، وعمل بالعدل ولم يظلم فيه أحدا.
وفي يوم السبت ثامت شوال خرج الركب من دمشق وأميره سيف الدين بلباي التتري، وحج صاحب حماة في هذه السنة وخلق من الروم والغرباء.
وفي يوم السبت السادس والعشرين من ذي الحجة وصل القاضي قطب الدين موسى ابن شيخ السلامية من مصر على نظر الجيوش الشامية كما كان قبل ذلك، وراح معين الدين بن الخشيش إلى مصر في رمضان صحبة الصاحب شمس الدين بن غبريال وبعد وصول ناظر الجيوش بيومين وصلت البشائر بمقتضى إزالة الاقطاعات لما رآه السلطان بعد نظره في ذلك أربعة أشهر.
وممن توفي فيها من الاعيان: الشيخ الامام المحدث فخر الدين أبو عمر وعثمان (1) بن محمد بن عثمان بن أبي بكر بن داود التوزري (2) بمكة يوم الاحد حادي ربيع الآخر، وقد سمع الكثير، وأجازه خلق يزيدون على ألف شيخ، وقرأ الكتب الكبار وغيرها، وقرأ صحيح البخاي أكثر من ثلاثين مرة رحمه الله.
عز الدين محمد بن العدل شهاب الدين أحمد بن عمر بن إلياس الرهاوي، كان يباشر استيفاء الاوقاف وغير ذلك، وكان من أخصاء أمين الملك، فلما مسك بمصر أرسل إلى هذا وهو معتقل بالعذراوية ليحضر على البريد فمرض فمات بالمدرسة العذراوية ليلة الخميس التاسع عشر من جمادى الآخرة، وله من العمر خمس وثلاثون سنة، وكان قد سمع من ابن طبرزد الكندي، ودفن من الغد بباب الصغير، وترك من بعده ولدين ذكرين جمال الدين محمد، وعز الدين.
الشيخ الكبير المقرئ شمس الدين المقصاي، هو أبو بكر بن عمر بن السبع الجزري المعروف بالمقصاي نائب الخطيب وكان يقرئ الناس بالقراءات السبع وغيرها من الشواذ، وله إلمام بالنحو، وفيه ورع
__________
(1) من تذكرة النبيه 2 / 57 وشذرات الذهب 6 / 33، وفي الاصل عفان تحريف.
__________
(2) من شذرات الذهب والدرر 3 / 64 وفي الاصل: التوزي تحريف.
والتوزري نسبة إلى مدينة توزر من بلاد الجريد بأفريقيا (تونس) (تقويم البلدان ص 144، معجم البلدان).
واجتهاد، توفي ليلة السبت حادي عشرين جمادى الآخرة ودفن من الغد بسفح قاسيون تجاه الرباط الناصري، وقد جاوز الثمانين رحمه الله.
ثم دخلت سنة أربع عشرة وسبعمائة استهلت والحكام هم هم في التي قبلها إلا الوزير أمين الملك فمكانه بدر الدين التركماني وفي رابع المحرم عاد الصاحب شمس الدين غبريال من مصر على نظر الدواوين وتلقاه أصحابه وفي عاشر المحرم يوم الجمعة قرئ كتاب السلطان على السدة بحضرة نائب السلطنة والقضاة والامراء يتضمن بإطلاق البواقي (1) من سنة ثمان وتسعين وستمائة إلى آخر سنة ثلاث عشرة وسبعمائة، فتضاعفت الادعية للسلطان وكان القارئ جمال الدين بن القلانسي ومبلغه صدر الدين بن صبح المؤذن، ثم قرئ في الجمعة الاخرى مرسوم آخر فيه الافراج عن المسجونين وأن لا يؤخذ من كل واحد إلا نصف درهم، ومرسوم آخر فيه إطلاق السخر في الغصب وغيره من الفلاحين، قرأه ابن الزملكاني وبلغه عنه أمين الدين محمد بن مؤذن النجيبي.
وفي المحرم استحضر السلطان إلى بين يديه الفقيه نور الدين علي البكري وهم بقتله شفع فيه الامراء فنفاه ومنعه من الكلام في الفتوى والعلم، وكان قد هرب لما طلب من جهة الشيخ تقي الدين بن تيمية فهرب واختفى، وشفع فيه أيضا، ثم لما ظفر به السلطان الآن وأراد قتله شفع فيه الامراء فنفاه ومنعه من الكلام والفتوى، وذلك لاجترائه وتسرعه على التكفير والقتل والجهل الحامل له على هذا وغيره.
وفي يوم الجمعة مستهل صفر قرأ ابن الزملكاني كتابا سلطانيا على السدة بحضرة نائب السلطان القاضي وفيه الامر بإبطال ضمان القواسير وضمان النبيذ وغير ذلك، فدعا الناس للسلطان.
وفي أواخر ربيع الاول اجتمع القضاة بالجامع للنظر في أمر الشهود ونهوهم عن الجلوس في المساجد، وأن لا يكون أحد منهم في مركزين، وأن لا يتولوا ثبات الكتب ولا يأخذوا أجرا على
أداء الشهادة وأن لا يغتابوا أحدا وأن يتناصفوا في المعيشة ثم جلسوا مرة ثانية لذلك وتواعدوا ثالثة فلم يتفق اجتماعهم، ولم يقطع أحد من مركزه.
وفي يوم الاربعاء الخامس والعشرين منه عقد مجلس في دار ابن صصرى لبدر الدين بن بضيان وأنكر عليه شئ من القراءات فالتزم بترك الاداء ؟ بالكلية ثم استأذن بعد أيام في الاقراء فأذن له فجلس بين الظهر والعصر بالجامع وصارت له حلقة على العادة.
وفي منتصف رجب توفي نائب حلب الامير سيف الدين سودي ودفن بتربته (2) وولى مكانه علاء الدين الطنبغا الصالحي
__________
(1) البواقي هو ما يتأخر كل سنة عند الضمان والمتقبلين من مال الخراج (المواعظ والاعتبار 1 / 85).
__________
(2) وتربته بنيت له خارج باب المقام، وهو جبانة حلب جنوب جبل جوشن وعرفت الناحية بالمقام لوجود مقام لابراهيم عليه السلام بها (تذكرة النبيه 2 / 58 ومعجم البلدان " مادة حلب ").
الحاجب بمصر، قبل هذه النيابة.
وفي تاسع شعبان خلع على الشريف شرف الدين عدنان بنقابة الاشراف بعد والده أمين الدين جعفر توفي في الشهر الماضي.
وفي خامس شوال دفن الملك شمس الدين دوباج بن ملكشاه بن رستم صاحب كيلان بتربته المشهورة بسفح قاسيون، وكان قد قصد الحج في هذا العام، فلما كان بغباغب أدركته منيته يوم السبت السادس عشرين رمضان فحمل إلى دمشق وصلي عليه ودفن في هذه التربة (1) ، اشتريت له وتممت وجاءت حسنة وهي مشهورة عند المكارية شرقي الجامع المظفري، وكان له في مملكة كيلان خمس (2) وعشرون سنة، وعمر أربعا وخمسين سنة، وأوصى أن يحج عنه جماعة ففعل ذلك وخرج الركب في ثالث شوال وأميره سيف الدين سنقر الابراهيمي، وقاضيه محيي الدين قاضي الزبداني.
وفي يوم الخميس سابع ذي القعدة قدم القاضي بدر الدين بن الحداد من القاهرة متوليا حسبة دمشق فخلع عليه عوضا عن فخر الدين سليمان البصراوي، وعزل فسافر سريعا إلى البرية ليشتري خيلا للسلطان يقدمها رشوة على المنصب المذكور، فاتفق موته في البرية في سابع عشر الشهر المذكور، وحمل إلى بصرى فدفن بها عند أجداده في ثامن ذي القعدة، وكان شابا حسنا
كريم الاخلاق حسن الشكل.
وفي أواخره مسك نائب صفد بلبان طوباي المنصوري وسجن وتولى مكانه سيف الدين بلباي البدري.
وفي سادس ذي الحجة تولى ولاية البر الامير علاء الدين علي بن محمود بن معبد البعلبكي عوضا عن شرف الدين عيس بن البركاسي، وفي يوم عيد الاضحى وصل الامير علاء الدين بن صبح من مصر وقد أخرج عنه فسلم عليه الامراء.
وفي هذا الشهر أعيد أمين الملك إلى نظر النظار بمصر فخلع على الصاحب بهاء الدين النسائي بنظر الخزانة عوضا عن سعد الدين حسن بن الاقفاصي.
وفيه وردت البريدية بأمر السلطان للجيوش الشامية بالمسير إلى حلب وأن يكون مقدم العساكر كلها تنكز نائب الشام، وقدم من مصر ستة آلاف مقاتل عليهم الامير سيف الدين بكتمر الابو بكري، وفيهم تجليس وبدر الدين الوزيري، وكتشلي وابن طيبرس وشاطي وابن سلار وغيرهم، فتقدموا إلى البلاد الحلبية بين يدي نائب الشام تنكز.
وممن توفي فيها من الاعيان: سودي نائب حلب في رجب ودفن بتربته، وهو الذي كان السبب في إجراء نهر إليها، غرم عليه ثلثمائة ألف درهم، وكان مشكور السيرة حميد الطريقة رحمه الله.
وفي شعبان توفي:
__________
(1) في تذكرة النبيه 2 / 63: بناحية الصالحية، والصالحية قرية في لحف جبل قاسيون المطل على دمشق (معجم البلدان).
__________
(2) في الاصل: خمسة.
الصاحب شرف الدين يعقوب بن مزهر وكان بارا بأهله وقرابته رحمه الله (1).
والشيخ رشيد أبو الفداء إسماعيل (2) أبو محمد القرشي الحنفي المعروف بابن المعلم، كان من أعلام الفقهاء والمفتيين، ولديه علوم شتى وفوائد وفرائد، وعنده زهد وانقطاع عن الناس، وقد درس بالبلخية مدة ثم تركها
لولده وسار إلى مصر فأقام بها، وعرض عليه قضاء دمشق فلم يقبل، وقد جاوز السبعين (3) من العمر، توفي سحر يوم الاربعاء رجب ودفن بالقرافة رحمه الله تعالى.
وفي شوال توفي: الشيخ سليمان التركماني الموله الذي كان يجلس على مصطبته بالعلبيين، وكان قبل ذلك مقيما بطهارة باب البريد، وكان لا يتحاشى من النجاسات ولا يتقيها، ولا يصلي الصلوات ولا يأتيها، وكان بعض الناس من الهمج له فيه عقيدة قاعدة الهمج الرعاع الذي هم أتباع كل ناعق من المولهين والمجانين، ويزعمون أنه يكاشف وأنه رجل صالح، ودفن بباب الصغير في يوم كثير الثلج.
وفي يوم عرفة توفيت: الشيخة الصالحة العابدة الناسكة أم زينب فاطمة بنت عباس بن أبي الفتح بن محمد البغدادية بظاهر القاهرة، وشهدها خلق كثير، وكانت من العالمات الفاضلات، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتقوم على الاحمدية في مواخاتهم النساء والمردان، وتنكر أحوالهم وأصول أهل البدع وغيرهم، وتفعل من ذلك ما لا تقدر عليه الرجال، وقد كانت تحضر مجلس الشيخ تقي الدين بن تيمية فاستفادت منه ذلك وغيره، وقد سمعت الشيخ تقي الدين يثني عليها ويصفها بالفضيلة والعلم، ويذكر عنها أنها كانت تستحضر كثيرا من المغنى أو أكثره، وأنه كان يستعد لها من كثرة مسائلها وحسن سؤالاتها وسرعة فهمها، وهي التي ختمت نساء كثيرا القرآن، منهن أم زوجتي عائشة بنت صديق، زوجة الشيخ
__________
(1) مولده بنابلس سنة 628 ه كان ناظر الدواوين بحلب عاش نيفا وثمانين سنة مات في شعبان (تذكرة النبيه 2 / 62 والنجوم الزاهرة 9 / 277 الدرر 5 / 211).
__________
(2) وهو اسماعيل بن عثمان بن المعلم القرشي الدمشقي (السلوك 2 / 140 الدرر 1 / 394).
__________
(3) في تذكرة النبيه 2 / 61: إحدى وتسعين سنة.
جمال الدين المزي، وهي التي أقرأت ابتنها زوجتي أمة الرحيم زينب رحمهن الله وأكرمهن برحمته
وجنته آمين.
ثم دخلت سنة خمش عشرة وسبعمائة استهلت والحكام في البلاد هم المذكورون في التي قبلها.
فتح ملطية في يوم الاثنين مستهل المحرم خرج سيف الدين تنكز في الجيوش قاصدا ملطية (1) وخرجت الاطلاب (2) على راياتها وأبرزوا ما عندهم من العدد وآلات الحرب، وكان يوما مشهودا، وخرج مع الجيش ابن صصرى لانه قاضي العساكر وقاضي قضاة الشامية، فساروا حتى خلوا حلب في الحادي عشر من الشهر، ومنها وصلوا في السادس عشر إلى بلاد الروم إلى ملطية، فشرعوا في محاصرتها في الحادي والعشرين من المحرم، وقد حصنت ومنعت وغلقت أبوابها، فلما رأوا كثرة الجيش نزل متوليها وقاضيها وطلبوا الامان فأمنوا المسلمين ودخلوها، فقتلوا من الارمن خلقا ومن النصارى وأسروا ذرية كثيرة، وتعدى ذلك إلى بعض المسلمين وغنموا شيئا كثيرا، وأخذت أموال كثير من المسلمين ورجعوا عنها بعد ثلاثة أيام يوم الاربعاء رابع عشرين المحرم إلى عين تاب إلى مرج دابق، وزينت دمشق ودقت البشائر.
وفي أول صفر رحل نائب ملطية متوجها إلى السلطان.
وفي نصف الشهر وصل قاضيها الشريف شمس الدين ومعه خلق من المسلمين من أهلها، وفي بكرة نهار الجمعة سادس عشر ربيع الاول دخل تنكز دمشق وفي خدمته الجيوش الشامية والمصرية، وخرج الناس للفرجة عليهم على العادة، وأقام المصريون قليلا ثم ترحلوا إلى القاهرة.
وقد كانت ملطية إقطاعا للجوبان أطلقها له ملك التتر فاستناب بها رجلا كرديا فتعدى وأساء وظلم، وكاتب أهلها السلطان الناصر وأحبوا أن يكونوا من رعيته، فلما ساروا إليها وأخذوها وفعلوا ما فعلوا فيها جاءها بعد ذلك الجوبان فعمرها ورد إليها خلقا من الارمن وغيرهم.
وفي التاسع عشر من هذا الشهر وصل إلينا بمسك بكتمر الحاجب وأيدغدي شقير وغيرهما وكان ذلك يوم الخميس مستهل هذا الشهر، وذلك أنهم اتفقوا على السلطان فبلغه الخبر
__________
(1) ملطية: مدينة قديمة، شمالي أعالي الفرات، جنوب سيواس (تقويم البلدان ص 384، ومعجم البلدان).
__________
(2) الاطلاب، مفردها طلب، لفظ كردي معناه الامير الذي يقود مائتي فارس في ميدان القتال، ويطلق كذلك على قائد المئة أو السبعين، أول ما استعمل في مصر والشام أيام صلاح الدين، ثم عدل مدلوله فأصبح يطلق على الكتيبة من الجيش (السلوك 1 / 248 حاشية 2) وعن سبب غزو ملطية انظر السلوك للمقريزي ج 2 / 1 / 14 3 ومختصر أبي الفداء 4 / 74.
فمسكهم واحتيط على أموالهم وحواصلهم، وظهر لبكتمر أموال كثيرة وأمتعة وأخشاب وحواصل كثيرة وقدم مجليس من القاهرة فاجتاز بدمشق إلى ناحية طرابلس ثم قدم سريعا ومعه الامير سيف الدين تمير نائب طرابلس تحت الحوطة، ومسك بدمشق الامير سيف الدين بهادراص المنصوري فحمل الاول إلى القاهرة، وجعل مكانه في نيابة طرابلس كسناي، وحمل الثاني وحزن الناس عليه ودعوا له.
وفي يوم الخميس الحادي والعشرين من ربيع الآخر قدم عز الدين بن مبشر دمشق محتسبا وناظر الاوقاف وانصرف ابن الحداد عن الحسبة، وبهاء الدين عن نظر الاوقاف.
وفي ليلة الاثنين ثالث عشر جمادى الاولى وقع حريق قبالة مسجد الشنباشي داخل باب الصغير، احترق فيه دكاكين ودور وأموال وأمتعة.
وفي يوم الاربعاء سادس عشر جمادى الآخرة درس قاضي ملطية الشريف شمس الدين بالمدرسة الاختونية البرانية عوضا عن قاضي القضاة الحنفي البصروي، وحضر عنده الاعيان، وهو رجل له فضيلة وخلق حسن، كان قاضيا بملطية وخطيبا بها نحوا من عشرين سنة.
وفي يوم الخميس رابع جمادى الآخرة أعيد ابن الحداد إلى الحسبة واستمر ابن مبشر ناظر الاوقاف.
وفي يوم الاربعاء تاسع جمادى الآخرة درس ابن صصرى بالاتابكية عوضا عن الشيخ صفي الدين الهندي.
في يوم الاربعاء الآخر حضر ابن الزملكاني درس الظاهرية الجوانية عوضا عن الهندي أيضا بحكم وفاته كما ستأتي ترجمته.
وفي أو اخر رجب أخرج الامير آقوش نائب الكرك من سجن القاهرة وأعيد إلى الامرة.
وفي شعبان توجه خمسة آلاف من بلاد حلب فأغاروا على بلاد آمد، وفتحوا بلدانا كثيرة، وقتلوا وسبوا وعادوا سالمين، وخمسوا ما سبوا فبلغ سهم الخمس أربعة
آلاف رأس وكسور.
وفي أواخر رمضان وصل قراسنقر المنصوري إلى بغداد ومعه زوجته الخاتون بنت أبغا ملك التتر، وجاء في خدمته خربندا واستأذنه في الغارة على أطراف بلاد المسلمين فلم يأذن له، ووثب عليه رجل فداوي من جهة صاحب مصر فلم يقدر عليه وقتل الفداوي وفي يوم الاربعاء سادس عشر رمضان درس بالعادلية الصغيرة الفقيه الامام فخر الدين محمد بن علي المصري المعروف بابن كاتب قطلوبك، بمقتضى نزول مدرسها كمال الدين بن الزملكاني له عنها، وحضر عنده القضاة والاعيان والخطيب وابن الزملكاني أيضا.
وفي هذا الشهر كملت عمارة القيسارية المعروفة بالدهشة عند الوراقين واللبادين وسكنها التجار، فتميزت بذلك أوقاف الجامع، وذلك بمباشرة الصاحب شمس الدين.
وفي ثامن شوال قتل أحمد الزومي ؟ شهد عليه بالعظائم من ترك الواجبات واستحلال المحرمات واستهانته وتنقيصه بالكتاب والسنة، فحكم المالكي بإراقة دمه وإن أسلم، فاعتقل ثم قتل.
وفي هذا اليوم كان خروج الركب الشامي وأميره سيف الدين طقتمر وقاضيه قاضي ملطية.
وحج فيه قاضي حماة وحلب وماردين ومحيي الدين كاتب ملك الامراء تنكز وصهره فخر الدين المصري.
وممن توفي فيها من الاعيان:
شرف الدين أبو عبد الله محمد بن العدل عماد الدين محمد بن أبي الفضل محمد بن أبي الفتح نصر الله بن المظفر بن أسعد بن حمزة بن أسد (1) بن علي بن محمد التميمي الدمشقي ابن القلانسي، ولد سنة ست وأربعين وستمائة وباشر نظر الخاص.
وقد شهد قبل ذلك في القيمة ثم تركها، وقد ترك أولادا وأموالا جمة، توفي ليلة السبت ثاني عشر صفر ودفن بقاسيون.
الشيخ صفي الدين الهندي أبو عبد الله محمد بن عبد الرحيم بن محمد الارموي الشافعي المتكلم، ولد بالهند سنة أربع وأربعين وستمائة، واشتغل على جده لامه، وكان فاضلا، وخرج من دهلي في رجب سنة سبع
وستين فحج وجاور بمكة أشهرا ثم دخل اليمن فأعطاه ملكها المظفر أربعمائة دينار، ثم دخل مصر فأقام بها أربع سنين، ثم سافر إلى الروم على طريق إنطاكية فأقام إحدى عشرة سنة بقونية وبسيواس خمسا وبقيسارية سنة، واجتمع بالقاضي سراج الدين فأكرمه، ثم قدم إلى دمشق في سنة خمس وثمانين فأقام بها واستوطنها ودرس بالرواحية والدولعية والظاهرية والاتابكية (2) وصنف في الاصول والكلام، وتصدى للاشتغال والافتاء، ووقف كتبه بدار الحديث الاشرفية وكان فيه بر وصلة، توفي ليلة الثلاثاء تاسع عشرين صفر (3) ودفن بمقابر الصوفية، ولم يكن معه وقت موته سوى الظاهرية وبها مات، فدرس بعده فيها ابن الزملكاني، وأخذ ابن صصرى الاتابكية.
القاضي المسند المعمر الرحلة تقي الدين سليمان بن حمزة بن أحمد بن عمر بن الشيخ أبي عمر المقدسي الحنبلي الحاكم بدمشق ولد في نصف رجب سنة ثمان وعشرين وستمائة، وسمع الحديث الكثير وقرأ بنفسه وتفقه وبرع، وولي الحكم وحدث، وكان من خيار الناس وأحسنهم خلقا وأكثرهم مرؤة، توفي فجأة بعد مرجعه من البلد وحكمه بالجوزية، فلما صار إلى منزله بالدير تغيرت حاله ومات عقيب صلاة المغرب ليلة الاثنين حادي عشرين ذي القعدة، ودفن من الغد بتربة جده، وحضر جنازته خلق كثير وجم غفير رحمه الله.
__________
(1) في تذكرة النبيه 2 / 67: أسعد.
__________
(2) الاتابكية بدمشق أنشأتها خاتون بنت عز الدين مسعود المتوفاة سنة 640 ه (الدارس 1 / 129).
__________
(3) في تذكرة النبيه 2 / 72، وفي شذرات الذهب 6 / 37: توفي بدمشق.
الشيخ علي بن الشيخ علي الحريري كان مقدما في طائفته، مات أبوه وعمره سنتان، توفي في قرية نسر في جمادى الاولى.
الحكيم الفاضل البارع بهاء الدين عبد السيد بن المهذب إسحاق بن يحيى الطبيب الكحال المتشرف بالاسلام، ثم
قرأ القرآن جميعه لانه أسلم على بصيرة، وأسلم على يديه خلق كثير من قومه وغيرهم، وكان مباركا على نفسه وعليهم، وكان قبل ذلك ديان اليهود، فهداه الله تعالى، وتوفي يوم الاحد سادس جمادى الآخرة ودفن من يومه بسفح قاسيون، أسلم على يدي شيخ الاسلام ابن تيمية لما بين له بطلان دينهم وما هم عليه وما بدلوه من كتابهم وحرفوه من الكلم عن مواضعه رحمه الله.
ثم دخلت سنة ست عشرة وسبعمائة استهلت وحكام البلاد هم المذكورون في التي قبلها غير الحنبلي بدمشق فإنه توفي في السنة الماضية.
وفي المحرم تكملت تفرقة المثالات السلطانية بمصر بمقتضى إزالة الاجناد، وعرض الجيش على السلطان، وأبطل السلطان المكس بسائر البلاد القبلية والشامية.
وفيه وقعت فتنة بين الحنابلة والشافعية بسبب العقائد، وترافعوا إلى دمشق فحضروا بدار السعادة عند نائب السلطنة تنكز فأصلح بينهم، وانفصل الحال على خير من غير محاققة ولا تشويش على أحد من الفريقين، وذلك يوم الثلاثاء سادس عشر المحرم.
وفي يوم الاحد سادس عشر صفر قرئ تقليد قاضي القضاة شمس الدين أبو عبد الله محمد بن مسلم بن مالك بن مزروع الحنبلي، بقضاء الحنابلة والنظر بأوقافهم عوضا عن تقي الدين سليمان بحكم وفاته رحمه الله (1)، وتاريخ التقليد من سادس ذي الحجة، وقرئ بالجامع الاموي بحضور القضاة والصاحب والاعيان، ثم مشوا معه وعليه الخلعة إلى دار السعادة فسلم على النائب وراح إلى الصالحية، ثم نزل من الغد إلى الجوزية فحكم بها على عادة من تقدمه، واستناب بعد أيام الشيخ شرف الدين بن الحافظ.
وفي يوم الاثنين سابع صفر وصل الشيخ كمال الدين بن الشريشي من مصر على البريد ومعه توقيع بعود الوكالة إليه، فخلع عليه وسلم على النائب والخلعة عليه.
وفي هذا الشهر مسك الوزير عز الدين بن القلانسي واعتقل بالعذراوية وصودر بخمسين ألفا ثم أطلق له ما كان أخد منه وانفصل من ديوان نظر الخاص.
وفي ربيع الآخر وصل من مصر فضل بن عيسى وأجري له ولابن أخيه موسى بن مهنا إقطاعات صيدا، وذلك بسبب دخول مهنا إلى بلاد التتر واجتماعهم بملكهم خربندا.
وفي يوم الاثنين سادس عشر جمادى الاولى باشر ابن صصرى مشيخة الشيوخ بالسميساطية
__________
(1) كانت وفاته في ذي القعدة سنة 715 ه عن ثمان وثمانين سنة (تذكره النبيه 2 / 71).
بسؤال الصوفية وطلبهم له من نائب السلطنة، فحضرها وحضر عنده الاعيان في هذا اليوم عوضا عن الشريف شهاب الدين أبي القاسم محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحيم بن عبد الكريم بن محمد بن علي بن الحسن بن الحسين بن يحيى بن موسى بن جعفر الصادق، وهو الكاشنغر، توفي عن ثلاث وستين سنة ودفن بالصوفية.
وفي جمادى الآخرة باشر بهاء الدين إبراهيم بن جمال الدين يحيى الحنفي المعروف بابن علية وهو ناظر ديوان النائب بالشام نظر الدواوين عوضا عن شمس الدين محمد بن عبد القادر الخطيري الحاسب الكاسب توفي، وقد كان مباشرا عدة من الجهات الكبار، مثل نظر الخزانة ونظر الجامع ونظر المارستان وغير ذلك، واستمر نظر المارستان من يومئذ بأيدي ديوان نائب السلطنة من كان، وصارت عادة مستمرة.
وفي رجب (1) نقل صاحب حمص الامير شهاب الدين قرطاي إلى نيابة طرابلس عوضا عن الامير سيف الدين التركستاني بحكم وفاته، وولي الامير سيف الدين إرقطاي نيابة حمص، وتولى نيابة الكرك سيف الدين طقطاي الناصري عوضا عن سيف الدين تيبغا.
وفي يوم الاربعاء عاشر رجب درس بالنجيبية القاضي شمس الدين الدمشقي عوضا عن بهاء الدين يوسف بن جمال (2) الدين أحمد بن الظاهري العجمي الحلبي، سبط الصاحب كمال الدين ابن العديم، توفي ودفن عند خاله ووالده بتربة العديم.
وفي أواخر شعبان وصل القاضي شمس الدين بن عز الدين يحيى الحراني أخو قاضي قضاة الحنابلة بمصر شرف الدين عبد الغني، إلى دمشق متوليا نظر الاوقاف بها عوضا عن الصاحب عز الدين أحمد بن محمد بن أحمد بن مبشر، توفي في مستهل رجب بدمشق، وقد باشر نظر الدواوين بها وبمصر والحسبة وبالاسكندرية وغير ذلك، ولم يكن بقي معه في آخر وقت سوى نظر الاوقاف بدمشق، وقد قارب الثمانين ودفن بقاسيون.
وفي آخر شوال خرج الركب الشامي وأميرهم سيف الدين أرغون السلحدار الناصري
الساكن عند دار الطراز بدمشق، وحج من مصر سيف الدين الدوادار وقاضي القضاة ابن جماعة، وقد زار القدس الشريف في هذه السنة بعد وفاة ولده الخطيب جمال الدين عبد الله، وكان قد رأس وعظم شأنه.
وفي ذي القعدة سار الامير سيف الدين تنكز إلى زيارة القدس فغاب عشرين يوما، وفيه وصل الامير سيف الدين بكتمر الحاجب إلى دمشق من مصر وقد كان معتقلا في السجن فأطلق وأكرم وولي نيابة صفد فسار إليها بعد ما قضى أشغاله بدمشق، ونقل القاضي حسام الدين القزويني (3) من قضاء صفد إلى قضاء طرابلس، وأعيدت ولاية قضاء صفد إلى قاضي دمشق فولى
__________
(1) في مختصر أخبار البشر 4 / 80: تاسع عشر ربيع الآخر.
__________
(2) في تذكرة النبيه 2 / 79.
__________
(3) وهو أبو محمد، الحسن بن معين الدين أبي البركات بن رمضان بن الحسن القرمي الشافعي، وكانت وفاته سنة 746 ه (الدرر الكامنة 2 / 97 تذكرة النبيه 2 / 75).
فيها ابن صصرى شرف الدين الهاوندي، وكان متواليا طرابلس قبل ذلك، ووصل مع بكتمر الحاجب الطواشي ظهير الدين مختار المعروف بالزرعي، متواليا الخزانة بالقلعة عوضا عن الطواشي ظهير الدين مختار البلستين توفي.
وفي هذا الشهر أعني ذا القعدة وصلت الاخبار بموت ملك التتر خربندا محمد بن أرغون بن أبغا بن هولاكوقان ملك العراق وخراسان وعراق العجم والروم وأذربيجان والبلاد الارمينية وديار بكر.
توفي في السابع والعشرين من رمضان ودفن بتربته بالمدينة التي أنشأها، التي يقال لها السلطانية وقد جاوز الثلاثين من العمر، وكان موصوفا بالكرم ومحبا للهو واللعب والعمائر، وأظهر الرفض، أقام سنة على السنه ثم تحول إلى الرفض أقام شعائره في بلاده وحظي عنده الشيخ جمال الدين بن مطهر الحلي، تلميذ نصير الدين الطوسي، وأقطعه عدة بلاد، ولم يزل على هذا المذهب الفاسد إلى أن مات في هذه السنة، وقد جرت في أيامه فتن كبار ومصائب عظام، فأراح الله منه العباد والبلاد، وقام في الملك بعده ولده أبو سعيد وله إحدى عشرة سنة (1)، ومدبر
الجيوش والممالك له الامير جوبان، واستمر في الوزارة على شاه التبريزي، وأخذ أهل دولته بالمصادرة وقتل الاعيان ممن اتهمهم بقتل أبيه مسموما، ولعب كثير من الناس به في أول دولته ثم عدل إلى العدل وإقامة السنة، فأمر بإقامة الخطبة بالترضى عن الشيخين أولا ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم، ففرح الناس بذلك وسكنت بذلك الفتن والشرور والقتال الذي كان بين أهل تلك البلاد وبهراة وأصبهان وبغداد وإربل وساوه وغير ذلك، وكان صاحب مكة الامير خميصة (1) ابن أبي نمي الحسني، قد قصد ملك التتر خربندا لينصره على أهل مكة فساعده الروافض هناك وجهزوا معه جيشا كثيفا من خراسان، فلما مات خربندا لبطل ذلك بالكلية، وعاد خميصة (2) خائبا خاسئا.
وفي صحبته أمير من كبار الروافض من التتر يقال له الدلقندي (3)، وقد جمع لخميصة أموالا كثيرة ليقيم بها الرفض في بلاد الحجاز، فوقع بهما الامير محمد بن عيسى أخو مهنا، وقد كان في بلاد التتر أيضا ومعه جماعة من العرب، فقهرهما ومن كان معهما، ونهب ماكان معهما من الاموال وحضرت الرجال، وبلغت أخبار ذلك إلى الدولة الاسلامية فرضى عنه الملك الناصر وأهل دولته، وغسل ذلك ذنبه عنده، فاستدعى به السلطان إلى حضرته فحضر سامعا مطيعا، فأكرمه نائب الشام، فلما وصل إلى السلطان أكرمه أيضا، ثم إنه استفتى الشيخ تقي الدين بن تيمية، وكذلك أرسل إليه السلطان يسأله عن الاموال التي أخذت من الدلقندي (2)، فأفتاهم أنها
__________
(1) في مختصر أخبار البشر 4 / 81: نحو عشر سنين.
__________
(2) في مختصر أخبار البشر 4 / 80: حمضة.
__________
(3) في تاريخ أبي الفداء: 4 / 81: الدرفندي.
تصرف في المصالح التي يعنفعها على المسلمين، لانها كانت معدة لعناد الحق ونصرة أهل البدعة على السنة.
وممن توفي فيها من الاعيان: عز الدين المبشر، والشهاب الكاشنغري شيخ الشيوخ والبهاء العجمي مدرس النجيبية.
وفيها قتل خطيب المزة قتله رجل جبلي ضربه بفأس اللحام في رأسه في السوق فبقي أياما ومات، وأخذ القاتل فشنق في السوق الذي قتل فيه، وذلك يوم الاحد ثالث عشر ربيع الآخر، ودفن هناك وقد جاوز الستين.
الشرف صالح بن محمد بن عربشاه ابن أبي بكر الهمداني، مات في جمادى الآخرة ودفن بمقابر النيرب، وكان مشهورا بطيب القراءة وحسن السيرة، وقد سمع الحديث وروى جزءا.
ابن عرفه صاحب التذكرة الكندية الشيخ الامام المقرئ المحدث النحوي الاديب علاء الدين علي بن المظفر بن إبراهيم بن عمر بن زيد هبة الله الكندي الاسكندراني، ثم الدمشقي، مع الحديث على أزيد من مائتي شيخ وقرأ القراءات السبع، وحصل علوما جيدة، ونظم الشعر الحسن الرائق الفائق، وجمع كتابا في نحو من خمسين مجلدا، فيه علوم جمة أكثرها أدبيات سماها التذكرة الكندية (1)، وقفها بالسميساطية وكتب حسنا وحسب جيدا، وخدم في عدة خدم، وولي مشيخة دار الحديث النفيسية في مدة عشر سنين وقرأ صحيح البخار مرات عديدة، وأسمع الحديث، وكان يلوذ بشيخ الاسلام ابن تيمية، وتوفي ببستان عند قبة المسجد ليلة الاربعاء سابع عشر رجب، ودفن بالمزة عن ست وسبعين سنة.
الطواشي ظهير الدين مختار البكنسي الخزندار بالقلعة وأحد أمراء الطبلخانات بدمشق، كان، زكيا خبيرا فاضلا، يحفظ القرآن ويؤديه بصوت طيب، ووقف مكتبا للايتام على باب قلعة دمشق، ورتب لهم الكسوة والجامكية، وكان يمتحنهم بنفسه ويفرح بهم، وعمل تربة خارج باب الجابية ووقف عليها القريتين وبنى عندها مسجدا حسنا ووقفه بإمام وهي من أوائل ما عمل من الترب بذلك الخط، ودفن بها في
__________
(1) ويقال لها التذكرة العلائية (كشف الظنون 1 / 389).
يوم الخميس عاشر شعبان رحمه الله، وكان حسن الشكل والاخلاق، عليه سكينة ووقار وهيبة وله
وجاهة في الدولة سامحه الله، وولي بعده الخزانة سميه ظهير الدين مختار الزرعي.
الامير بدر الدين محمد بن الوزيري، كان من الامراء المقدمين، ولديه فضيلة ومعرفة وخبرة، وقد ناب عن السلطان بدار العدل مرة بمصر، وكان حاجب الميسرة، وتكلم في الاوقاف وفيما يتعلق بالقضاة والمدرسين، ثم نقل إلى دمشق فمات بها في سادس عشر شعبان، ودفن بميدان الحصى فوق خان النجيبي، وخلف تركة عظيمة.
الشيخة الصالحة ست الوزراء بنت عمر بن أسعد بن المنجا، راوية صحيح البخاري وغيره، جاوزت التسعين سنة، وكانت من الصالحات، توفيت ليلة الخميس ثامن عشر شعبان ودفنت بتربتهم فوق جامع المظفري بقاسيون.
القاضي محب الدين أبو الحسن ابن قاضي القضاة تقي الدين بن دقيق العيد، استنابه أبوه في أيامه وزوجه بابنة الحاكم بأمر الله، ودرس بالكهارية (1) ورأس بعد أبيه، وكانت وفاته يوم الاثنين تاسع عشر رمضان، وقد قارب الستين، ودفن عند أبيه بالقرافة.
الشيخة الصالحة ست المنعم بنت عبد الرحمن بن علي بن عبدوس الحرانية، والدة الشيخ تقي بن تيمية عمرت فوق السبعين سنة، ولم ترزق بنتا قط، توفيت يوم الاربعاء العشرين من شوال ودفنت بالصوفية وحضر جنازتها خلق كثير وجم غفير رحمها الله.
الشيخ نجم موسى بن علي بن محمد الجيلي ثم الدمشقي، الكاتب الفاضل المعروف بابن البصيص، شيخ صناعة الكتابة في
__________
(1) المدرسة الكهارية بالقاهرة بدرب الكهارية بجوار حارة الجودرية المسلوك إليه من القماحية (المواعظ والاعتبار للمقريزي 2 / 41).
زمانه لاسيما في المزوج والمثلث، وقد أقام يكتب الناس خمسين سنة، وأنا ممن كتب عليه أثابه الله.
وكان شيخا حسنا بهي المنظر يشعر جيدا، توفي يوم الثلاثاء عاشر ذي القعدة ودفن بمقابر الباب الصغير وله خمس وستون سنة.
الشيخ تقي الدين الموصلي أبو بكر بن أبي الكرم شيخ القراءة عند محراب الصحابة، وشيخ ميعاد ابن عامر مدة طويلة وقد انتفع الناس به نحوا من خمسين سنة في التلقين والقراءات، وختم خلقا كثيرا، وكان يقصد لذلك ويجمع تصديقات يقولها الصبيان ليالي ختمهم، وقد سمع الحديث وكان خيرا دينا، توفي ليلة الثلاثاء سابع عشر ذي القعدة، ودفن بباب الصغير رحمه الله.
الشيخ الصالح الزاهد المقري أبو عبد الله محمد بن الخطيب سلامة بن سالم بن الحسن بن ينبوب الماليني، أحد الصلحاء المشهورين بجامع دمشق، سمع الحديث وأقرأ الناس نحوا من خمسين سنة، وكان يفصح الاولاد في الحروف الصعبة، وكان مبتلى في فمه يحمل طاسة تحت فمه من كثر ما يسيل منه من الريال وغيره وقد جاوز الثمانين بأربع سنين، توفي بالمدرسة الصارمية يوم الاحد ثاني عشر ذي القعدة، ودفن بباب الصغير بالقرب من القندلاوي، وحضر جنازته خلق كثير جدا نحوا من عشرة آلاف رحمه الله تعالى.
الشيخ الصدر ابن الوكيل هو العلامة أبو عبد الله محمد بن الشيخ الامام مفتي المسلمين زين الدين عمر بن مكي بن عبد الصمد المعروف بابن المرحل وبابن الوكيل شيخ الشافعية في زمانه، وأشهرهم في وقته بالفضيلة وكثرة الاشتغال والمطالعة والتحصيل والافتنان بالعلوم العديدة، وقد أجاد معرفة المذهب والاصلين، ولم يكن بالنحو بذاك القوي، وكان يقع منه اللحن الكثير، مع أنه قرأ منه المفصل للزمخشري، وكانت له محفوظات كثيرة، ولد في شوال سنة خمس ستين وستمائة، وسمع الحديث
على المشايخ، من ذلك مسند أحمد على ابن علان، والكتب الستة، وقرئ عليه قطعة كبيرة من صحيح مسلم بدار الحديث عن الامير الاربلي والعامري والمزي، وكان يتكلم على الحديث بكلام مجموع من علوم كثيرة، من الطب والفلسفة وعلم الكلام، وليس ذلك بعلم، وعلوم الاوائل، وكان يكثر من ذلك، وكان يقول الشعر جيدا، وله ديوان مجموع مشتمل على أشياء لطيفة، وكان له أصحاب يحسدونه ويحبونه، وآخرون يحسدونه ويبغضونه، وكانوا يتكلمون فيه بأشياء ويرمونه
بالعظائم، وقد كان مسرفا على نفسه قد ألقى جلباب الحياء فيما يتعاطاه من القاذورات والفواحش، وكان ينصب العداوة للشيخ ابن تيمية ويناظره في كثير من المحافل والمجالس، وكان يعترف للشيخ تقي الدين بالعلوم الباهرة ويثني عليه، ولكنه كان يجاحف عن مذهبه وناحيته وهواه، وينافح عن طائفته.
وقد كان شيخ الاسلام ابن تيمية يثني عليه وعلى علومه وفضائله ويشهد له بالاسلام إذا قيل له عن أفعاله وأعماله القبيحة، وكان يقول: كان مخلطا على نفسه متبعا مراد الشيطان منه، يميل إلى الشهوة والمحاضرة، ولم يكن كما يقول فيه بعض أصحابه ممن يحسده ويتكلم فيه هذا أو ما هو في معناه.
وقد درس بعدة مدارس بمصر والشام، ودرس بدمشق بالشاميتين والعذراوية ودار الحديث الاشرفية وولي في وقت الخطابة أيام يسيرة كما تقدم، ثم قام الخلق عليه وأخرجوها من يده، ولم يرق منبرها، ثم خالط نائب السلطنة الافرم فجرت له أمور لا يمكن ذكرها ولا يحسبن من القبائح ثم آل به الحال على أن عزم على الانتقال من دمشق إلى حلب لاستحوازه على قلب نائبها، فأقام بها ودرس، ثم تردد في الرسلية بين السلطان ومهنا صحبة أرغون والطنبغا، ثم استقر به المنزل بمصر ودرس فيها بمشهد الحسين إلى أن توفي بها بكرة نهار الاربعاء رابع عشرين ذي الحجة (1) بداره قريبا من جامع الحاكم، ودفن من يومه قريبا من الشيخ محمد بن أبي جمرة بتربة القاضي ناظر الجيش بالقرافة، ولما بلغت وفاته دمشق صلي عليه بجامعها صلاة الغائب بعد الجمعة ثالث المحرم من السنة الآتية، ورثاه جماعة منهم ابن غانم علاء الدين، والقجقازي والصفدي، لانهم كانوا من عشرائه.
وفي يوم عرفة توفي: الشيخ عماد الدين إسماعيل الفوعي وكيل قجليس، وهو الذي بنى له الباشورة على باب الصغير بالبرانية الغربية، وكانت فيه نهضة وكفاية، وكان من بيت الرفض، اتفق أنه استحضره نائب السلطنة فضربه بين يديه، وقام النائب إليه بنفسه فجعل يضربه بالمهاميز في وجهه فرفع من بين يديه وهو تالف فمات في يوم عرفة، ودفن من يومه بسفح قاسيون وله دار ظاهر باب الفراديس.
ثم دخلت سنة سبع عشرة وسبعمائة استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها.
وفي صفر شرع في عمارة الجامع الذي أنشأه ملك الامراء تنكز نائب الشام ظاهر باب النصر تجاه حكر السماق، على نهر بانياس بدمشق،
__________
(1) في تذكرة النبيه 2 / 77: توفي في شوال.
وتردد القضاة والعلماء في تحرير قبلته، فاستقر الحال في أمرها على ما قاله الشيخ تقي الدين بن تيمية في يوم الاحد الخامس والعشرين منه، وشرعوا في بنائه بأمر السلطان، ومساعدته لنائبه في ذلك.
وفي صفر هذا جاء سيل عظيم بمدينة بعلبك أهلك خلقا كثيرا من الناس، وخرب دورا وعمائر كثيرة، وذلك في يوم الثلاثاء سابع وعشرين صفر.
وملخص ذلك أنه قبل ذلك جاءهم رعد وبرق عظيم معهما برد ومطر، فسالت الاودية، ثم جاءهم بعده سيل هائل خسف من سور البلد من جهة الشمال شرق مقدار أربعين ذراعا، مع أن سمك الحائط خمسة أذرع، وحمل برجا صحيحا ومعه من جانبيه مدينتين، فحمله كما هو حتى مر فحفر في الارض نحو خمسمائة ذراع سعة ثلاثين ذراعا، وحمل السيل ذلك إلى غربي البلد، لا يمر على شئ إلا أتلفه، ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فأتلف ما يزيد على ثلثها، ودخل الجامع فارتفع فيه على قامة ونصف، ثم قوي على حائطه الغربي فأخر به وأتلف جميع ما فيه الحواصل والكتب والمصاحف وأتلف شيئا كثيرا من رباغ الجامع، وهلك تحت الهدم خلق كثير من
الرجال والنساء والاطفال، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وغرق في الجامع الشيخ علي بن محمد بن الشيخ علي الحريري هو وجماعة معه من الفقراء، ويقال كان من جملة من هلك في هذه الكائنة من أهل بعلبك مائة وأربعة وأربعون نفسا سوى الغرباء، وجملة الدور التي خربها والحوانيت التي أتلفها نحو من ستمائة دار وحانوت، وجملة البساتين التي جرف أشجارها عشرون بستانا، ومن الطواحين ثمانية سوى الجامع والامينية وأما الاماكن التي دخلها وأتلف ما فيها ولم تخرب فكثير جدا.
وفي هذه السنة زاد النيل زيادة عظيمة لم يسمع بمثلها من مدد، وغرق بلادا كثيرة، وهلك فيها ناس كثير أيضا، وغرق منية السيرج فهلك للناس فيها شئ كثير، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفي مستهل ربيع الآخر منها أغار جيش حلب على مدينة آمد فنهبوا وسبوا وعادوا سالمين.
وفي يوم السبت تاسع وعشرين منه قدم قاضي المالكية إلى الشام من مصر وهو الامام العلامة فخر الدين أبو العباس أحمد بن سلامة بن أحمد بن أحمد بن سلامة الاسكندري المالكي، على قضاء دمشق عوضا عن قاضي القضاة جمال الدين الزواوي لضعفه واشتداد مرضه، فالتقاه القضاة والاعيان، وقرئ تقليده بالجامع ثاني يوم وصوله، وهو مؤرخ بثاني عشر الشهر، وقدم نائبه الفقيه نور الدين السخاوي درس بالجامع في جمادى الاولى، وحضر عنده الاعيان، وشكرت فضائله وعلومه ونزاهته وصرامته وديانته، وبعد ذلك بتسعة أيام توفي الزواوي المعزول، وقد باشر القضاء بدمشق ثلاثين سنة.
وفيها أفرج عن الامير سيف الدين بهادرآص من سجن الكرك وحمل إلى القاهرة وأكرمه السلطان، وكان سجنه بها مطاوعة لاشارة نائب الشام بسبب ما كان وقع بينهما بملطية.
وخرج المحمل في يوم الخميس تاسع شوال، وأمير الحج سيف الدين كجكني
المنصوري.
وممن حج قاضي القضاة نجم الدين بن صصرى وابن أخيه شرف الدين وكمال الدين بن الشيرازي والقاضي جلال الدين الحنفي والشيخ شرف الدين بن تيمية وخلق.
وفي سادس هذا الشهر درس بالجاروضيه (1) القاضي جلال الدين محمد بن الشيخ كمال الدين
الشريشي بعد وفاة الشيخ شرف الدين بن أبي سلام، وحضر عنده الاعيان.
وفي التاسع عشر منه درس ابن الزملكانى بالعذراوية عوضا عن ابن سلام، وفيه درس الشيخ شرف الدين بن تيمية بالحنبلية عن إذن أخيه له بذلك بعد وفاة أخيهما لامهما بدر الدين قاسم بن محمد بن خالد، ثم سافر الشيخ شرف الدين إلى الحج، وحضر الشيخ تقي الدين الدرس بنفسه، وحضر عنده خلق كثير من الاعيان وغيرهم حتى عاد أخوه، وبعد عوده أيضا، وجاءت الاخبار بأنه قد أبطلت الخمور والفواحش كلها من بلاد السواحل وطرابلس وغيرها، ووضعت مكوس كثيرة عن الناس هنالك، وبنيت بقرى النصيرية في كل قرية مسجد ولله الحمد والمنة.
وفي بكرة نهار الثلاثاء الثامن والعشرين من شوال وصل الشيخ الامام العلامة شيخ الكتاب شهاب الدين محمود بن سليمان الحلبي على البريد من مصر إلى دمشق متوليا كتابة السر بها، عوضا عن شرف الدين عبد الوهاب بن فضل الله توفي إلى رحمة الله.
وفي ذي القعدة يوم الاحد درس بالصمصامية التي جددت للمالكية وقد وقف عليها صاحب شمس الدين غبريال درسا، ودرس بها فقهاء، وعين تدريسها لنائب الحكم الفقيه نور الدين علي بن عبد البصير المالكي، وحضر عنده القضاة والاعيان، وممن حضر عنده الشيخ تقي الدين بن تيمية، وكان يعرفه من اسكندرية، وفيه درس بالدخوارية الشيخ جمال الدين محمد بن الشيخ شهاب الدين أحمد الكحال، ورتب في رياسة الطب عوضا عن أمين الدين سليمان الطبيب، بمرسوم نائب السلطنة تنكز، واختاره لذلك.
واتفق أنه في هذا الشهر تجمع جماعة من التجار بماردين وانضاف إليهم خلق من الجفال من الغلا قاصدين بلاد الشام، حتى إذا كانوا بمرحلتين من رأس العين لحقهم ستون فارسا من التتار فمالوا عليهم بالنشاب وقتلوهم عن آخرهم، ولم يبق منهم سوى صبيانهم نحو سبعين صبيا، فقالوا من يقتل هؤلاء ؟ فقال واحد منهم: أنا بشرط أن تنفلوني بمال من الغنيمة فقتلهم كلهم عن آخرهم، وكان جملة من قتل من التجار ستمائة، ومن الجفلان ثلثمائة من المسلمين، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وردموا بهم خمس صهاريج هناك حتى امتلات بهم رحمهم الله، ولم يسلم من الجميع سوى رجل واحد تركماني، هرب وجاء إلى رأس العين فأخبر
الناس بما رأى وشاهد من هذا الامر الفظيع المؤلم الوجيع، فاجتهد متسلم ديار بكر سوياي في
__________
(1) كذا بالاصل، وفي الدارس 1 / 225 وتذكرة النبيه 2 / 87: الجاروخية: وهي بدمشق أنشأها جاروخ التركماني الملقب بسيف الدين، بناهم برسم الامام محمود بن المبارك المعروف بالمجير الواسطي البغدادي المتوفى سنة 592 ه.