كتاب :البداية والنهاية
الامام الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن كثير الدمشقي

المسلمين بسهم فقلع عينه ؟ حتى خرجت من قفاه.
فلم يلبث أن مات قبحه الله، فأعطى قتيبة الذي رماه عشرة آلاف، ثم دخل الليل، فلما أصبحوا رماهم بالمجانيق فثلم أيضا ثلمة وصعد المسلمون فوقها وتراموا هم واهل البلد بالنشاب، فقالت الترك لقتيبة: ارجع عنا يومك هذا ونحن نصالحك غدا، فرجع عنهم وصالحوه من الغد على: ألفي ألف ومائة ألف يحملونها إليه في كل عام، وعلى أن يعطوه في هذه السنة ثلاثين ألف رأس من الرقيق (1)، ليس فيهم صغير ولا شيخ ولا عيب، وفي رواية مائة ألف من رقيق، وعلى أن يأخذ حلية الاصنام وما في بيوت النيران، وعلى أن يخلوا المدينة من المقاتلة حتى يبني فيها قتيبه مسجدا، ويوضع له فيه منبر يخطب عليه، ويتغدى ويخرج.
فأجابوه إلى ذلك، فلما دخلها قتيبة دخلها ومعه أربعة آلاف من الابطال - وذلك بعد أن بنى المسجد ووضع فيه المنبر - فصلى في المسجد وخطب وتغدى وأتي بالاصنام التي لهم فسلبت بين يديه، وألقيت بعضها فوق بعض، حتى صارت كالقصر العظيم، ثم أمر بتحريقها، فتصارخوا وتباكوا وقال المجوس: إن فيها أصناما قديمة من أحرقها هلك، وجاء الملك غورك فنهى عن ذلك، وقال لقتيبة: إني لك ناصح، فقام قتيبة وأخذ في يده شعلة نار وقال: أنا أحرقها بيدي فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون، ثم قام إليها وهو يكبر الله عزوجل، وألقى فيها النار فاحترقت، فوجد من بقايا ما كان فيها من الذهب خمسون ألف مثقال من ذهب.
وكان من جملة ما أصاب قتيبة في السبي جارية من ولد يزدجرد، فأهداها إلى الوليد فولدت له يزيد بن
الوليد، ثم استدعى قتيبة بأهل سمرقند فقال لهم: إني لا أريد منكم أكثر مما صالحتكم عليه، ولكن لا بد من جند يقيمون عندكم من جهتنا.
فانتقل عنها ملكها غورك خان فتلا قتيبة (وأنه أهلك عادا الاولى وثمود فما أبقى) الآية [ النجم: 50 - 51 ] ثم ارتحل عنها قتيبة إلى بلاد مرو، واستخلف على سمرقند أخاه عبد الله بن مسلم، وقال له: لا تدع مشركا يدخل باب سمرقند إلا مختوم اليد، ثم لا تدعه بها إلا مقدار ما تجف طينة ختمه، فإن جفت وهو بها فاقتله، ومن رأيت منهم ومعه حديدة أو سكينة فاقتله بها وإذا أغلقت الباب فوجدت بها أحدا فاقتله، فقال في ذلك كعب الاشقري (2) - ويقال هي لرجل من جعفي: - كل يوم يحوي قتيبة نهبا * ويزيد الاموال مالا جديدا
__________
(1) كذا بالاصل والطبري.
وفي ابن الاثير 4 / 573: فصالحهم من الغد على ألفي ألف ومائتي ألف مثقال في كل عام، وان يعطوه تلك السنة ثلاثين ألف فارس.
وفي ابن الاعثم 7 / 243.
فصالحهم قتيبة على ألفي ألف درهم عاجلة ومائتي ألف درهم في كل سنة وعلى ثلاثة آلاف رأس من الرقيق.
وانظر فيه نسخة كتاب العهد الذي كتبه قتيبة لغوزك 7 / 244 وفيه ان الكتاب كتب سنة 94.
(2) كذا بالاصل والطبري وابن الاثير، وفي ابن الاعثم 7 / 244 وفيه، كعب بن معدان الاشقري وقال أبياتا مطلعها: وذكر بيتا واحدا: ألا أيها قتيبة غيبة * أبى الله إلا أن يكون مؤيدا

باهلي قد ألبس التاج حتى * شاب منه مفارق كن سودا دوخ الصغد بالكتائب حتى * ترك الصغد بالعراء قعودا فوليد يبكي لفقد أبيه * وأب موجع يبكي الوليدا كلما حل بلدة أو أتاها * تركت خيله بها أخدودا وفي هذه السنة عزل موسى بن نصير نائب بلاد المغرب مولاه طارقا عن الاندلس، وكان قد بعثه إلى مدينة طليطلة ففتحها فوجد فيها مائدة سليمان بن داود عليهما السلام، وفيها من الذهب
والجواهر شئ كثير جدا، فبعثوا بها إلى الوليد بن عبد الملك، فما وصلت إليه حتى مات وتولى أخوه سليمان بن عبد الملك، فوصلت مائدة سليمان عليه السلام إلى سليمان على ما سيأتي بيانه في موضعه، وكان فيها ما يبهر العقول، لم ير منظر أحسن منها.
واستعمل موسى بن نصير مكان مولاه ولده عبد العزيز بن موسى بن نصير.
وفيها بعث موسى بن نصير العساكر وبثها في بلاد المغرب، فافتتحوا مدنا كثيرة من جزيرة الاندلس منها قرطبة وطنجة، ثم سار موسى بنفسه إلى غرب الاندلس فافتتح مدينة باجة والمدينة البيضاء وغيرهما من المدن الكبار والاقاليم، ومن القرى والرساتيق شئ كثير، وكان لا يأتي مدينة فيبرح عنها حتى يفتحها أو ينزلوا على حكمه، وجهز البعوث والسرايا غربا وشرقا وشمالا، فجعلوا يفتتحون المغرب بلدا بلدا، وإقليما إقليما، ويغنمون الاموال ويسبون الذراري والنساء، ورجع موسى بن نصير بغنائم وأموال وتحف لا تحصى ولا تعد كثرة.
وفيها قحط أهل إفريقية وأجدبوا جدبا شديدا، فخرج بهم موسى بن نصير يستسقي بهم، فما زال يدعو حتى انتصف النهار، فلما أراد أن ينزل عن المنبر قيل له: ألا تدعو لامير المؤمنين ؟ قال: ليس هذا الموضع موضع ذاك، فلما قال هذه المقالة أرسل الله عليهم الغيث فأمطروا مطرا غزيرا وحسن حالهم، وأخصبت بلادهم.
وفيها ضرب عمر بن عبد العزيز خبيب بن عبد الله بن الزبير خمسين سوطا بأمر الوليد له في ذلك، وصب فوق رأسه قربة من ماء بارد، في يوم شتاء بارد، وأقامه على باب المسجد يوم ذلك فمات رحمه الله.
وكان عمر بن عبد العزيز بعد موت خبيب شديد الخوف لا يأمن، وكان إذا بشر بشئ من أمر الآخرة يقول: وكيف وخبيب لي بالطريق ؟ وفي رواية يقول هذا إذا لم يكن خبيب في الطريق، ثم يصيح صياح المرأة الثكلى، وكان إذا أثنى عليه يقول: خبيب وما خبيب إن نجوت منه فأنا بخير.
وما زال على المدينة إلى أن ضرب خبيبا فمات فاستقال وركبه الحزن والخوف من حينئذ، وأخذ في الاجتهاد في العبادة والبكاء، وكانت تلك هفوة منه وزلة، ولكن حصل له بسببها خير كثير، من عبادة وبكاء وحزن وخوف وإحسان وعدل وصدقة وبر وعتق وغير ذلك.

وفيها افتتح محمد بن القاسم - وهو ابن عم الحجاج بن يوسف (1).
مدينة الدبيل وغيرها من بلاد الهند وكان قد ولاه الحجاج غزو الهند وعمره سبع عشرة سنة، فسار في الجيوش فلقوا الملك داهر - وهو ملك الهند - في جمع عظيم ومعه سبع وعشرون فيلا منتخبة، فاقتتلوا فهزمهم الله وهرب الملك داهر، فلما كان الليل أقبل الملك ومعه خلق كثير جدا فاقتتلوا قتالا شديدا فقتل الملك داهر وغالب من معه، وتبع المسلمون من انهزم من الهنود فقتلوه.
ثم سار محمد بن القاسم فافتتح مدينة الكبرج وبرها ورجع بغنائم كثيرة وأموال لا تحصى كثرة، من الجواهر والذهب وغير ذلك.
فكانت سوق الجهاد قائمة في بني أمية ليس لهم شغل إلا ذلك، قد علت كلمة الاسلام في مشارق الارض ومغاربها، وبرها وبحرها، وقد أذلوا الكفر وأهله، وامتلات قلوب المشركين من المسلمين رعبا، لا يتوجه المسلمون إلى قطر من الاقطار إلا أخذوه، وكان في عساكرهم وجيوشهم في الغزو الصالحون والاوليا والعلماء من كبار التابعين، في كل جيش منهم شرذمة عظيمة ينصر الله بهم دينه.
فقتيبة بن مسلم يفتح في بلاد الترك، يقتل ويسبي ويغنم، حتى وصل إلى تخوم الصين، وأرسل إلى ملكه يدعوه، فخاف منه وأرسل له هدايا وتحفا وأموالا كثيرة هدية، وبعث يستعطفه مع قوته وكثرة جنده، بحيث أن ملوك تلك النواحي كلها تؤدي إليه الخراج خوفا منه.
ولو عاش الحجاج لما أقلع عن بلاد الصين، ولم يبق إلا أن يلتقي مع ملكها، فلما مات الحجاج رجع الجيش كما مر.
ثم إن قتيبة قتل بعد ذلك، قتله بعض المسلمين.
ومسلمة بن عبد الملك بن مروان وابن أمير المؤمنين الوليد وأخوه الآخر يفتحون في بلاد الروم ويجاهدون بعساكر الشام حتى وصلوا إلى القسطنطينية، وبنى بها مسلمة جامعا يعبد الله فيه، وامتلات قلوب الفرنج منهم رعبا.
ومحمد بن القاسم ابن أخي الحجاج يجاهد في بلاد الهند ويفتح مدنها في طائفة من جيش العراق وغيرهم.
وموسى بن نصير يجاهد في بلاد المغرب ويفتح مدنها وأقاليمها في جيوش الديار المصرية وغيرهم.
وكل هذه النواحي إنما دخل أهلها في الاسلام وتركوا عبادة الاوثان.
وقبل ذلك قد كان الصحابة في زمن عمر وعثمان فتحوا غالب هذه النواحي ودخلوا في مبانيها، بعد هذه الاقاليم الكبار، مثل الشام ومصر والعراق واليمن وأوائل بلاد
الترك، ودخلوا إلى ما وراء النهر وأوائل بلاد المغرب، وأوائل بلاد الهند.
فكان سوق الجهاد قائما في القرن الاول من بعد الهجرة إلى انقضاء دولة بني أمية وفي أثناء خلافة بني العباس مثل أيام المنصور وأولاده، والرشيد وأولاده، في بلاد الروم والترك والهند.
وقد فتح محمود سبكتكين وولده في أيام ملكهم بلادا كثيرة من بلاد الهند، ولما دخل طائفة ممن هرب من بني أمية إلى بلاد المغرب وتملكوها أقاموا سوق الجهاد في الفرنج بها.
ثم لما بطل الجهاد من هذه المواضع رجع العدو إليها فأخذ منها بلادا كثيرة، وضعف الاسلام فيها، ثم لما استولت دولة الفاطميين على الديار المصرية والشامية، وضعف الاسلام وقل ناصروه، وجاء الفرنج فأخذوا غالب بلاد الشام حتى أخذوا بيت المقدس وغيره من
__________
(1) هو محمد بن القاسم بن الحكم بن أبي عقيل الثقفي يجتمع هو والحجاج في الحكم (ابن الاثير 4 / 534).

البلاد الشامية، فأقام الله سبحانه بني أيوب مع نور الدين، فاستلبوها من أيديهم وطردوهم عنه، فلله الحمد والمنة، وسيأتي ذلك كله في مواضعه إن شاء الله تعالى.
وفيها عزل الوليد عمر بن عبد العزيز عن إمرة المدينة، وكان سبب ذلك، أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى الوليد يخبره عن أهل العراق أنهم في ضيم وضيق مع الحجاج من ظلمه وغشمه، فسمع بذلك الحجاج فكتب إلى الوليد: إن عمر ضعيف عن إمرة المدينة ومكة، وهذا وهن وضعف في الولاية، فاجعل على الحرمين من يضبط أمرهما.
فولى على المدينة عثمان بن حيان، وعلى مكة خالد بن عبد الله القسري، وفعل ما أمره به الحجاج.
فخرج عمر بن عبد العزيز من المدينة في شوال فنزل السويداء، وقدم عثمان بن حيان المدينة لليلتين بقيتا من شوال من هذه السنة.
وحج بالناس فيها عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك.
وممن توفي في هذه السنة من الاعيان أنس بن مالك ابن النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، أبو حمزة ويقال أبو ثمامة الانصاري النجاري، خادم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وصاحبه، وأمه أم حرام (1) مليكة بنت ملحان بن خالد بن زيد بن حرام، زوجة أبي طلحة زيد بن سهل الانصاري.
روى عن
رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أحاديث جمة، وأخبر بعلوم مهمة، وروى عن أبي بكر وعمر وعثمان وابن مسعود وغيرهم.
وحدث عنه خلق من التابعين.
قال أنس: قدم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) المدينة وأنا ابن عشر سنين (2).
وتوفي وأنا ابن عشرين سنة.
وقال محمد بن عبد الله الانصاري عن أبيه عن ثمامة قال قيل لانس: أشهدت بدرا ؟ فقال: وأين أغيب من بدر لا أم لك ؟ قال الانصاري: شهدها يخدم رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي: لم يذكر ذلك أحد من أصحاب المغازي، قلت: الظاهر أنه إنما شهد ما بعد ذلك من المغازي والله أعلم.
وقد ثبت أن أمه أتت به - وفي رواية عمه زوج أمه أبو طلحة - إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقالت: يا رسول الله هذا أنس خادم لبيب يخدمك، فوهبته منه فقبله، وسألته أن يدعو له فقال، " الهم أكثر ماله وولده وأدخله الجنة " (3).
وثبت عنه أنه قال: كناني رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بنخلة كنت
__________
(1) في ابن سعد 7 / 17 وصفة الصفوة 1 / 710 والاصابة 1 / 71 والاستيعاب على هامش الاصابة.
أم سليم.
(2) في طبقات ابن سعد: ثمان، وفي صفة الصفوة: تسع سنين ويقال ثمان ويقال عشر.
وفي المعارف ص 134: ثمان.
(3) الحديث أخرجه البخاري في الدعوات، ومسلم في فضائل أنس بن مالك.

أجتنيها (1).
وقد استعمله أبو بكر ثم عمر على عمالة البحرين وشكراه في ذلك، وقد انتقل بعد النبي (صلى الله عليه وسلم) فسكن البصرة، وكان له بها أربع دور، وقد ناله أذى من جهة الحجاج، وذلك في فتنة ابن الاشعث، توهم الحجاج منه أنه له مداخلة في الامر، وأنه أفتى فيه، فختمه الحجاج في عنقه، هذا عنق الحجاج، وقد شكاه أنس كما قدمنا إلى عبد الملك، فكتب إلى الحجاج يعنفه، ففزع الحجاج من ذلك وصالح أنسا.
وقد وفد أنس على الوليد بن عبد الملك في أيام ولايته، قيل في سنة ثنتين وتسعين، وهو يبني جامع دمشق، قال مكحول: رأيت أنسا يمشي في مسجد دمشق فقمت إليه فسألته عن الوضوء من الجنازة فقال: لا وضوء.
وقال الاوزاعي: حدثني إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر قال: قدم أنس على الوليد فقال له الوليد: ماذا سمعت من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يذكر به
الساعة ؟ فقال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: " أنتم والساعة كهاتين ".
ورواه عبد الرزاق بن عمر عن إسماعيل قال: قدم أنس على الوليد في سنة ثنتين وتسعين فذكره.
وقال الزهري: دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي فقلت: ما يبكيك ؟ قال: لا أعرف مما كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه إلا هذه الصلاة، وقد صنعتم فيها ما صنعتم.
وفي رواية وهذه الصلاة قد ضيعت - يعني ما كان يفعله خلفاء بني أمية من تأخير الصلاة إلى آخر وقتها الموسع - كانوا يواظبون على التأخير إلا عمر بن عبد العزيز أيام خلافته كما سيأتي، وقال عبد بن حميد، عن عبد الرزاق، عن جعفر بن سليمان، عن ثابت، عن أنس.
قال: جاءت بي أمي إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأنا غلام فقالت: يا رسول الله خويدمك أنيس فادع الله له.
فقال، " اللهم أكثر ماله وولده وأدخله الجنة ".
قال: فقد رأيت اثنتين وأنا أرجو الثالثة، وفي رواية قال أنس: فوالله إن مالي لكثير حتى نخلي وكرمي ليثمر في السنة مرتين، وإن ولدي وولد ولدي ليتعادون على نحو المائة، وفي رواية وإن ولدي لصلبي مائة وستة.
ولهذا الحديث طرق كثيرة وألفاظ منتشرة جدا، وفي رواية قال أنس: وأخبرتني بنتي آمنة أنه دفن لصلبي إلى حين مقدم الحجاج عشرون ومائة.
وقد تقصى ذلك بطرقه وأسانيده وأورد ألفاظه الحافظ ابن عساكر في ترجمة أنس، وقد أوردنا طرفا من ذلك في كتاب دلائل النبوة في أواخر السيرة ولله الحمد.
وقال ثابت لانس: هل مست يدك كف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ؟ قال: نعم ! قال فأعطنيها أقبلها، وقال محمد بن سعد عن مسلم بن إبراهيم عن المثنى بن سعيد الذراع (2) قال: سمعت أنس بن مالك يقول: ما من ليلة إلا وأنا أرى فيها حبيبي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ثم يبكي.
وقال محمد بن سعد عن أبي نعيم (3) عن يونس بن أبي إسحاق عن المنهال بن عمرو
__________
(1) قال في النهاية: أي كناه أبا حمزة.
وقال الازهري: البقلة التي جناها أنس كان في طعمها لذع فسميت حمزة، والحمزة التي في طعمها حموضة.
وفي القاموس: الحمزة الاسد وبقلة.
(2) في ابن سعد 7 / 22: الذارع.
(3) في ابن سعد 1 / 482: الفضل بن دكين، والمعروف بأبي نعيم الملائي وهو من كبار شيوخ البخاري.

قال: كان أنس صاحب نعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وإداوته، وقال أبو داود: ثنا الحكم بن عطية عن ثابت عن أنس.
قال: إني لارجو أن ألقى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فأقول: يا رسول الله خويدمك.
وقال الامام أحمد: حدثنا يونس، ثنا حرب بن ميمون، عن النضر بن أنس، عن أنس.
قال: سألت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يشفع لي يوم القيامة: " قال أنا فاعل، قلت فأين أطلبك يوم القيامة يا نبي الله ؟ قال: اطلبني أول ما تطلبني على الصراط، قلت، فإذا لم ألقك ؟ قال: فأنا عند الميزان، قلت: فإن لم ألقك عند الميزان ؟ قال: فأنا عند الحوض لا أخطئ هذه الثلاثة المواطن يوم القيامة " (1).
ورواه الترمذي وغيره من حديث حرب بن ميمون أبي الخطاب صاحب الاعمش الانصاري به وقال: حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وقال شعبة: عن ثابت قال: قال أبو هريرة: ما رأيت أحدا أشبه صلاة برسول الله (صلى الله عليه وسلم) من ابن أم سليم - يعني أنس بن مالك - وقال ابن سيرين: كان أحسن الناس صلاة في الحضر والسفر.
وقال أنس: خذ مني فأنا أخذت من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن الله عزوجل، ولست تجد أوثق مني.
وقال معتمر بن سليمان.
عن أبيه (2) سمعت أنسا يقول: ما بقي أحد صلى إلى القبلتين غيري.
وقال محمد بن سعد: حدثنا عفان، حدثني شيخ لنا يكنى أبا جناب سمعت الحريري (3) يقول: أحرم أنس من ذات عرق فما سمعناه متكلما إلا بذكر الله عزوجل حتى أحل، فقال لي: يابن أخي هكذا الاحرام.
وقال صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف: دخل علينا أنس يوم الجمعة ونحن في بعض أبيات أزواج النبي (صلى الله عليه وسلم) نتحدث فقال: مه، فلما أقيمت الصلاة قال: إني لاخاف أن أكون قد أبطلت جمعتي بقولي لكم: مه.
وقال ابن أبي الدنيا: ثنا بشار بن موسى الخفاف، ثنا جعفر بن سليمان، عن ثابت قال: كنت مع أنس فجاءت قهرمانة فقالت: يا أبا حمزة عطشت أرضنا، قال فقام أنس فتوضأ وخرج إلى البرية فصلى ركعتين ثم دعا فرأيت السحاب يلتئم ثم أمطرت حتى خيل إلينا أنها ملات كل شئ، فلما سكن المطر بعث أنس بعض أهله فقال: انظر أين بلغت السماء، فنظر فلم تعد أرضه إلا يسيرا.
وقال الامام أحمد: حدثنا معاذ بن معاذ، ثنا ابن عون، عن محمد قال: كان أنس إذا حدث
عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حديثا ففرغ منه قال: أو كما قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
وقال الانصاري عن ابن عوف عن محمد قال: بعث أمير من الامراء إلى أنس شيئا من الفئ فقال أخمس ؟ قال: لا، فلم
__________
(1) مسند أحمد 3 / 178.
(2) في صفة الصفوة 1 / 712 عن معتمر بن سليمان قال: سمعت أنس يقول...(3) في طبقات ابن سعد 7 / 22: اخبرنا محمد بن عبد الله الانصاري قال: حدثنا شيخ لنا يكنى أبا الحباب قال: سمعت الجريري يقول...

يقبله: وقال النضر بن شداد عن أبيه: مرض أنس فقيل له ألا ندعو لك الطبيب ؟ فقال: الطبيب أمرضني.
وقال حنبل بن إسحاق: ثنا أبو عبد الله الرقاشي، ثنا جعفر بن سليمان، ثنا علي بن يزيد قال: كنت في القصر مع الحجاج وهو يعرض الناس ليالي ابن الاشعث، فجاء أنس بن مالك فقال الحجاج: هي يا خبيث، جوال في الفتن، مرة مع علي، ومرة مع ابن الزبير، ومرة مع ابن الاشعث، أما والذي نفس الحجاج بيده لاستأصلنك كما تستأصل الصمغة، ولاجردنك كما تجرد الضب.
قال: يقول أنس: إياي يعني الامير ؟ قال إياك أعني، أصم الله سمعك، قال: فاسترجع أنس، وشغل الحجاج فخرج أنس فتبعناه إلى الرحبة، فقال: لولا أني ذكرت ولدي - وفي رواية لولا أني ذكرت أولادي الصغار - وخفته عليهم ما باليت أي قتل أقتل، ولكلمته بكلام في مقامي هذا لا يستخفني بعده أبدا.
وقد ذكر أبو بكر بن عياش: أن أنسا بعث إلى عبد الملك يشكو إليه الحجاج ويقول: والله لو أن اليهود والنصارى رأوا من خدم نبيهم لاكرموه، وأنا قد خدمت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عشر سنين.
فكتب عبد الملك إلى الحجاج كتابا فيه كلام جد وفيه: إذا جاءك كتابي هذا فقم إلى أبي حمزة فترضاه وقبل يده ورجله، وإلا حل بك مني ما تستحقه.
فلما جاء كتاب عبد الملك إلى الحجاج بالغلظة والشدة، هم أن ينهض إليه فأشار عليه إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر، الذي قدم بالكتاب أن لا يذهب إلى أنس، وأشار على أنس أن يبادر إلى الحجاج بالمصالحة (1) - وكان إسماعيل صديق الحجاج - فجاء أنس فقام إليه الحجاج يتلقاه، وقال: إنما مثلي
ومثلك إياك أعني واسمعي يا جارة.
أردت أن لا يبقى لاحد علي منطق.
وقال ابن قتيبة (2): كتب عبد الملك إلى الحجاج - لما قال لانس ما قال -: بابن المستقرمة بعجم (3) الزبيب لقد هممت أن أركلك ركلة تهوي بها إلى نار جهنم، قاتلك الله أخيفش العينين، أفيتل الرجلين، أسود العاجزين - ومعنى قوله المستقرمة عجم (3) الزبيب - أي تضيق فرجها عند الجماع به، ومعنى أركلك أي أرفسك برجلي، وسيأتي بسط ذلك في ترجمة الحجاج في سنة خمس وتسعين.
وقال أحمد بن صالح العجلي: لم يبتل أحد من الصحابة إلا رجلين، معيقيب كان به الجذام، وأنس بن مالك كان به وضح.
وقال الحميدي عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي جعفر قال: رأيت أنسا يأكل فرأيته يلقم لقما عظاما، ورأيت به وضحا شديدا.
وقال أبو يعلى: ثنا عبد الله بن معاذ بن يزيد عن أيوب قال: ضعف أنس عن الصوم فصنع طعاما ودعا ثلاثين
__________
(1) تقدم ذكر كتاب أنس إلى عبد الملك، وكتاب عبد الملك إلى الحجاج، وأن الحجاج صار إلى أنس واعتذر منه - انظر ذلك في فتنة ابن الاشعث.
(2) انظر الاخبار الطوال ص 324.
(3) من الاخبار الطوال.
والعجم كل ما كان في جوف مأكول كالزبيب.
واستقرمت المرأة بعجم الزبيب يعني أنها عالجت به فرجها ليضيق.

مسكينا فأطعمهم.
وذكره البخاري تعليقا.
وقال شعبه عن موسى السنبلاوي قلت لانس: أنت آخر من بقي من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ؟ قال: قد بقي قوم من الاعراب، فأما من أصحابه فأنا آخر من بقي، وقيل له في مرضه: ألا ندعوا لك طبيبا ؟ فقال: الطبيب أمرضني، وجعل يقول: لقنوني لا إله إلا الله وهو محتضر، فلم يزل يقولها حتى قبض.
وكانت عنده عصية من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فأمر بها فدفنت معه.
قال عمر بن شبة وغير واحد: مات وله مائة وسبع سنين، وقال الامام أحمد في مسنده: ثنا معتمر بن سليمان عن حميد: أن أنسا عمر مائة سنة غير سنة، قال الواقدي: وهو آخر من مات من
الصحابة بالبصرة، وكذا قال علي بن المديني والفلاس وغير واحد.
وقد اختلف المؤرخون في سنة وفاته، فقيل سنة تسعين، وقيل إحدى وتسعين، وقيل ثنتين وتسعين وقيل ثلاث وتسعين، وهذا هو المشهور وعليه الجمهور والله أعلم.
وقال الامام أحمد: حدثني أبو نعيم قال: توفي أنس بن مالك وجابر بن زيد في جمعة واحدة سنة ثلاث وتسعين.
وقال قتادة: لما مات أنس قال مؤرق العجلي: ذهب اليوم نصف العلم، قيل له وكيف ذاك يا أبا المعتمر ؟ قال: كان الرجل من أهل الاهواء إذا خالفونا في الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قلنا لهم: تعالوا إلى من سمعه منه.
عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة ابن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، الشاعر المشهور، يقال إنه ولد يوم توفي عمر بن الخطاب، وختن يوم مقتل عثمان، وتزوج يوم مقتل علي، فالله أعلم، وكان مشهورا بالتغزل المليح البليغ، كان يتغزل في امرأة يقال لها الثريا (1) بنت علي بن عبد الله الاموية، وقد تزوجها سهل (2) بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، فقال في ذلك عمر بن أبي ربيعة: - أيها المنكح الثريا سهيلا * عمرك الله كيف يلتقيان هي شامية (3) إذا ما استقلت * وسهيل إذا استقل يمان ومن مستجاد شعره ما أورده ابن خلكان: حي طيفا من الاحبة زارا * بعد ما برح (4) الكرى السمارا
__________
(1) قال السهيلي في الروض الانف: هي الثريا بنت عبد الله، ولم يذكر عليا، ثم قال: وقتيلة بنت النضر جدتها لانها كانت تحت الحارث بن أمية وعبد الله ولدها وهو والد الثريا (انظر ابن خلكان 1 / 436).
(2) في ابن خلكان: سهيل.
(3) في الاغاني 1 / 122 ويروى: هي غورية، نسبة إلى غور الاردن بالشام بين بيت المقدس ودمشق.
(4) في الديوان ص 224 وابن خلكان 1 / 439: صرع.

طارقا في المنام بعد دجى * الليل خفيا (1) بأن يزور نهارا
قلت ما بالنا جفينا وكنا * قبل ذاك الاسماع والابصارا قال: إنا كما عهدت ولكن * شغل الحلي أهله أن يعارا بلال بن أبي الدرداء ولي إمرة دمشق ثم ولي القضاء بها، ثم عزله عبد الملك بأبي إدريس الخولاني.
كان بلال حسن السيرة، كثير العبادة، والظاهر أن هذا القبر الذي بباب الصغير الذي يقال له قبر بلال، إنما هو قبر بلال بن أبي الدرداء، لا قبر بلال بن حمامة مؤذن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فإن بلالا المؤذن دفن بداريا والله أعلم.
بشر بن سعيد المزني السيد العابد الفقيه، كان من العباد المنقطعين، الزهاد المعروفين، توفي بالمدينة.
زرارة بن أوفى ابن حاجب العامري، قاضي البصرة، كان من كبار علماء أهل البصرة وصلحائها، له روايات كثيرة، قرأ مرة في صلاة الصبح سورة المدثر فلما بلغ (فإذا نقر في الناقور) [ الآية: 8 ] خر ميتا.
توفي بالبصرة وعمره نحو سبعين سنة.
خبيب بن عبد الله ابن عبد الله بن الزبير، ضربه عمر بن عبد العزيز بأمر الوليد له في ذلك فمات، ثم عزل عمر بعده بأيام قليلة، فكان يتأسف على ضربه له ويبكي.
مات بالمدينة.
حفص بن عاصم ابن عمر بن الخطاب المدني، له روايات كثيرة، وكان من الصالحين.
توفي بالمدينة.
سعيد بن عبد الرحمن ابن عتاب بن أسيد الاموي، أحد الاشراف بالبصرة، كان جوادا ممدحا، وهو أحد الموصوفين بالكرم، قيل إنه أعطى بعض الشعراء ثلاثين.
__________
(1) في الديوان وابن خلكان: ضنينا.

فروة بن مجاهد قيل إنه كان من الابدال، أسر مرة وهو في غزوة هو وجماعة معه فأتوا بهم الملك فأمر بتقييدهم وحبسهم في المكان والاحتراز عليهم إلى أن يصبح فيرى فيهم رأيه، فقال لهم فروة: هل لكم في المضي إلى بلادنا ؟ فقالوا: وما ترى ما نحن فيه من الضيق ؟ فلمس قيودهم بيده فزالت عنهم، ثم أتى باب السجن فلمسه بيده فانفتح، فخرجوا منه ومضوا، فأدركوا جيش المسلمين قبل وصولهم إلى البلد.
أبو الشعثاء جابر بن زيد كان لا يماكس في ثلاث، في الكرى إلى مكة، وفي الرقبة يشتريها لتعتق، وفي الاضحية.
وقال: لا تماكس في شئ يتقرب به إلى الله.
وقال ابن سيرين: كان أبو الشعثاء مسلما عبد الدينار والدرهم، قلت، كما قيل: - إني رأيت فلا تظنوا غيره * أن التورع عند هذا الدرهم فإذا قدرت عليه ثم تركه * فاعلم بأن تقاك تقوى المسلم وقال أبو الشعثاء: لان أتصدق بدرهم على يتيم ومسكين أحب إلي من حجة بعد حجة الاسلام.
كان أبو الشعثاء من الذين أوتوا العلم، وكان يفتي في البصرة، وكان الصحابة مثل جابر بن عبد الله إذا سأله أهل البصرة عن مسألة يقول: كيف تسألونا وفيكم أبو الشعثاء ؟ وقال له جابر بن عبد الله: يا بن زيد إنك من فقهاء البصرة وإنك ستستفتي فلا تفتين إلا بقرآن ناطق أو سنة ماضية، فانك إن فعلت غير ذلك فقد هلكت وأهلكت.
وقال عمرو بن دينار: ما رأيت أحدا أعلم بفتيا من جابر بن زيد.
وقال إياس بن معاوية: أدركت أهل البصرة ومفتيهم جابر بن زيد من أهل عمان.
وقال قتادة لما دفن جابر بن زيد: اليوم دفن أعلم أهل الارض.
وقال سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار قال أبو الشعثاء: كتب الحكم بن أيوب نفرا للقضاء أنا أحدهم - أي عمرو - فلو أني ابتليت بشئ منه لركبت راحلتي وهربت من الارض.
وقال أبو الشعثاء: نظرت في أعمال البر فإذا
الصلاه تجهد البدن ولا تجهد المال، والصيام مثل ذلك، والحج يجهد المال والبدن، فرأيت أن الحج أفضل من ذلك.
وأخذ مرة قبضة تراب من حائط، فلما أصبح رماها في الحائط، وكان الحائط لقوم قالوا: لو كان كلما مر به أخذ منه قبضة لم يبق منه شئ.
وقال أبو الشعثاء: إذا جئت يوم الجمعة إلى المسجد فقف على الباب وقل: اللهم اجعلني اليوم أوجه من توجه إليك، وأقرب من تقرب إليك، وأنجح من دعاك ورغب إليك.
وقال سيار: حدثنا حماد بن زيد ثنا الحجاج بن أبي عيينة.
قال: كان جابر بن زيد يأتينا في مصلانا، قال: فأتانا ذات يوم وعليه نعلان خلقان، فقال: مضى من

عمري ستون سنة نعلاي هاتان أحب إلي مما مضى منه إلا أن يكون خير قدمته.
وقال صالح الدهان: كان جابر بن زيد إذا وقع في يده ستوق كسره ورمى به لئلا يغر به مسلم.
الستوق الدرهم المغاير أو الدغل وقيل: هو المغشوش.
وروى الامام أحمد: حدثنا أبو عبد الصمد العمي، حدثنا مالك بن دينار قال: دخل علي جابر بن زيد وأنا أكتب المصحف فقلت له: كيف ترى صنعتي هذه يا أبا الشعثاء ؟ قال: نعم الصنعة صنعتك، تنقل كتاب الله ورقة إلى ورقة، وآية إلى آية، وكلمة إلى كلمة، هذا الحلال لا بأس به وقال مالك بن دينار: سألته عن قوله تعالى (إذا لاذقناك ضعف الحياة وضعف الممات) [ الاسراء: 75 ] قال ضعف عذاب الدنيا وضعف عذاب الآخرة (ثم لا تجد لك نصيرا) [ الاسراء: 75 ] وقال سفيان: حدثني أبو عمير الحارث بن عمير قال: قالوا لجابر بن زيد عند الموت: ما تشتهي وما تريد ؟ قال: نظرة إلى الحسن.
وفي رواية عن ثابت قال: لما ثقل على جابر بن زيد قيل له: ما تشتهي ؟ قال نظرة إلى الحسن.
قال ثابت: فأتيت الحسن فأخبرته فركب إليه، فلما دخل عليه قال لاهله: أقعدوني، فجلس فما زال يقول: أعوذ بالله من النار وسوء الحساب.
وقال حماد بن زيد: حدثنا حجاج بن أبي عيينة قال: سمعت هندا بنت المهلب بن أبي صفرة - وكانت من أحسن النساء - وذكروا عندها جابر بن زيد فقالوا: إنه كان إباضيا، فقالت: كان
جابر بن زيد أشد الناس انقطاعا إلي وإلى أمي، فما أعلم عنه شيئا، وكان لا يعلم شيئا يقربني إلى الله عزوجل إلا أمرني به، ولا شيئا يباعدني عن الله إلا نهاني عنه، وما دعاني إلى الاباضية (1) قط ولا أمرني بها، وكان ليأمرني أين أضع الخمار - ووضعت يدها على الجبهة - أسند عن جماعة من الصحابة، ومعظم روايته عن ابن عمر وابن عباس.
ثم دخلت سنة أربع وتسعين فيها غزا العباس بن الوليد أرض الروم، فقيل إنه فتح انطاكية، وغزا أخوه عبد العزيز بن الوليد فبلغ غزالة، وبلغ الوليد بن هشام المعيطي أرض برج الحمام، وبلغ يزيد بن أبي كبشة أرض
__________
(1) الاباضية: وهم أتباع عبد الله بن أباض، أحد بني مرة بن عبيدة من بني تميم، وهم فرقة من الخوارج قالت بإمامته وافترقت هذه الجماعة فيما بينها فرقا يجمعها القول بأن كفار هذه الامة براءاء من الشرك والايمان وانهم ليسوا مؤمنين ولا مشركين ولكنهم كفارا.
وهم فرق أربع: الحفصية والحارثية واليزيدية وأصحاب طاعة لا يراد الله بها.
(الفرق بين الفرق ص 70).

سورية.
وفيها كانت الرجفة بالشام، وفيها افتتح مسلمة بن عبد الملك سندرة من أرض الروم.
وفيها فتح الله على الاسلام فتوحات عظيمة في دولة الوليد بن عبد الملك، على يدي أولاده وأقربائه وأمرائه حتى عاد الجهاد شبيها بأيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وفيها افتتح القاسم بن محمد الثقفي أرض الهند وغنم أموالا لا تعد ولا توصف، وقد ورد في غزو الهند حديث رواه الحافظ ابن عساكر وغيره.
وفيها غزا قتيبة بن مسلم الشاش وفرغانة حتى بلغ خجندة، وكشان مدينتي فرغانة، وذلك بعد فراغه من الصغد وفتح سمرقند، ثم خاض تلك البلاد يفتح فيها حتى وصل إلى كابل فحاصرها وافتتحها، وقد لقيه المشركون في جموع هائلة من الترك فقاتلهم قتيبة عند خجندة فكسرهم مرارا وظفر بهم، وأخذ البلاد منهم، وقتل منهم خلقا وأسر آخرين (1)، وغنم أموالا كثيرة جدا.
قال ابن جرير: وقد قال سحبان وائل يذكر قتالهم بخجندة التي هي قريبة من بلاد الصين أبياتا في ذلك: -
فسل الفوارس في خجن * دة تحت مرهفة العوالي هل كنت أجمعهم إذا * هزموا واقدم في قتالي أم كنت أضرب هامة ال * عاتي وأصبر للنزال (2) هذا وأنت قريع قي * س كلها ضخم النوال وفضلت قيسا في الندى * وأبوك في الحجج الخوالي تمت مروءتكم ونا * غى عزكم غلب الجبال ولقد تبين حكمك * فيهم في كل مال هكذا ذكر ابن جرير هذا من شعر سحبان وائل في هذه الغزوة.
وقد ذكرنا ما أورده ابن الجوزي في منتظمه أن سحبان وائل مات في خلافة معاوية بن أبي سفيان بعد الخمسين فالله أعلم.
مقتل سعيد بن جبير رحمه الله قال ابن جرير: وفي هذه السنة قتل الحجاج بن يوسف سعيد بن جبير، وكان سبب ذلك أن الحجاج كان قد جعله على نفقات الجند حين بعثه مع ابن الاشعث إلى قتال رتبيل ملك الترك، فلما خلعه ابن الاشعث خلعه معه سعيد بن جبير، فلما ظفر الحجاج بابن الاشعث وأصحابه هرب سعيد بن جبير إلى أصبهان، فكتب الحجاج إلى نائبها أن يبعثه إليه، فلما سمع بذلك سعيد هرب
__________
(1) قال ابن الاعثم 7 / 250: وقتل ملك فرغانة باشك صبرا وبلغ الوليد فتح فرغانة فكتب إليه...وانظر نسخة الكتاب في الطبري 8 / 96 وسمط النجوم العوالي 3 / 184.
(2) في ابن الاثير 4 / 581 والطبري 8 / 91: للعوالي.

منها، ثم كان يعتمر في كل سنة ويحج، ثم إنه لجأ إلى مكة فأقام بها إلى أن وليها خالد بن عبد الله القسري، فأشار من أشار على سعيد بالهرب منها فقال سعيد: والله لقد استحييت من الله مما أفر ولا مفر من قدره ؟ وتولى على المدينة عثمان بن حيان بدل عمر بن عبد العزيز، فجعل يبعث من بالمدينة من أصحاب ابن الاشعث من العراق إلى الحجاج في القيود، فتعلم منه خالد بن الوليد القسري فعين
من عنده من مكة سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح، ومجاهد بن جبير، وعمرو بن دينار، وطلق ابن حبيب (1).
ويقال إن الحجاج أرسل إلى الوليد يخبره أن بمكة أقواما من أهل الشقاق، فبعث خالد بهؤلاء إليه ثم عفا عن عطاء وعمرو بن دينار لانهما من أهل مكة، وبعث بأولئك الثلاثة، فأما طلق فمات في الطريق قبل أن يصل، وأما مجاهد فحبس فما زال في السجن حتى مات الحجاج، وأما سعيد بن جبير فلما أوقف بين يدي الحجاج قال له: يا سعيد ألم أشركك في أمانتي ! ألم أستعملك ؟ ألم أفعل ألم أفعل ؟ كل ذلك يقول: نعم، حتى ظن من عنده أنه سيخلي سبيله، حتى قال له: فما حملك على الخروج علي وخلعت بيعة أمير المؤمنين ؟ فقال سعيد: إن ابن الاشعث أخذ مني البيعة على ذلك وعزم علي، فغضب عند ذلك الحجاج غضبا شديدا وانتفخ حتى سقط طرف ردائه عن منكبه، وقال له: ويحك ألم أقدم مكة فقتلت ابن الزبير وأخذت بيعة أهلها وأخذت بيعتك لامير المؤمنين عبد الملك ؟ قال: بلى، قال: ثم قدمت الكوفة واليا على العراق فجددت لامير المؤمنين البيعة فأخذت بيعتك له ثانية ؟ قال: بلى ! قال فتنكث بيعتين لامير المؤمنين وتفي بواحدة للحائك ابن الحائك ؟ يا حرسي اضرب عنقه.
قال: فضربت عنقه فبدر رأسه عليه لاطئة صغيرة بيضاء، وقد ذكر الواقدي نحو هذا، وقال له: أما أعطيتك مائة ألف ؟ أما فعلت أما فعلت.
قال ابن جرير: فحدثت عن أبي غسان مالك بن إسماعيل قال: سمعت خلف بن خليفة يذكر عن رجل قال: لما قتل الحجاج سعيد بن جبير فندر رأسه هلل ثلاثا، مرة يفصح بها، وفي الثنتين يقول مثل ذلك لا يفصح بها.
وذكر أبو بكرة الباهلي قال: سمعت أنس بن أبي شيخ يقول: لما أتي الحجاج بسعيد بن جبير قال: لعن ابن النصرانية - يعني خالد القسري وكان هو الذي أرسل به من مكة - أما كنت أعرف مكانه، بلى والله والبيت الذي هو فيه بمكة، ثم أقبل عليه فقال: يا سعيد ما أخرجك علي ؟ فقال: أصلح الله الامير، أنا امرؤ من المسلمين يخطئ مرة ويصيب أخرى، فطابت نفس الحجاج وانطلق وجهه، ورجا الحجاج أن يتخلص من أمره، ثم عاوده في شئ فقال سعيد، إنما كانت بيعة في عنقي، فغضب عند ذلك الحجاج فكان ما كان من قتله.
وذكر عتاب بن
__________
(1) في ابن الاعثم 7 / 158: دعا الحجاج اسماعيل بن الاوسط والمتلمس بن الاحوص وضم إليها نفرا من أصحابه
وأمرهما بطلب سعيد بن جبير فخرج القوم في طلبه يسألون عنه وعن موضعه...مروا براهب في صومعة فسألوه عنه...فسار القوم حتى ووقفوا عليه.
وفي حلية الاولياء لابي نعيم 4 / 291 أرسل قائدا من أهل الشام ومعه عشرون رجلا من أهل الشام من خاصة أصحابه...وانظر الطبري 8 / 95 وابن الاثير 4 / 580 ووفيات الاعيان 2 / 372 وتاريخ أصبهان 1 / 324.

بشر عن سالم الافطس قال: أتي الحجاج بسعيد بن جبير وهو يريد الركوب وقد وضع إحدى رجليه في الغرز، فقال: والله أركب حتى تتبوأ مقعدك من النار، اضربوا عنقه، فضربت عنقه.
قال: والتبس الحجاج في عقله مكانه، فجعل يقول: قيودنا قيودنا، فظنوا أنه يريد القيود التي على سعيد، فقطعوا رجليه من أنصاف ساقيه وأخذوا القيود: وقال محمد بن أبي حاتم: ثنا عبد الملك بن عبد الله [ عن هلال ] بن خباب، قال: جئ بسعيد بن جبير إلى الحجاج فقال: كتبت إلى مصعب بن الزبير ؟ فقال: بلى كتبت إلى مصعب، قال: لا والله لاقتلنك قال: إني إذا لسعيد كما سمتني أمي.
قال فقتله، فلم يلبث الحجاج بعده إلا أربعين يوما، وكان إذا نام يراه في المنام يأخذ بمجامع ثوبه ويقول: يا عدو الله فيم قتلتني ؟ فيقول الحجاج: مالي ولسعيد بن جبير، مالي ولسعيد بن جبير ؟ قال ابن خلكان (1): كان سعيد بن جبير بن هشام الاسدي مولى بني والبة (2) كوفيا أحد الاعلام من التابعين، وكان أسود اللون، وكان لا يكتب على الفتيا، فلما عمي ابن عباس كتب، فغضب ابن عباس من ذلك، وذكر مقتله كنحو ما تقدم، وذكر أنه كان في شعبان، وأن الحجاج مات بعده في رمضان، وقيل قبل بستة أشهر.
وذكر عن الامام أحمد أنه قال: قتل سعيد بن جبير وما على وجه الارض أحد إلا وهو محتاج - أو قال مفتقر - إلى علمه.
ويقال ان الحجاج لم يسلط بعده على أحد، وسيأتي في ترجمة الحجاج أيضا من هذا.
قال ابن جرير: وكان يقال لهذه السنة سنة الفقهاء، لانه مات فيها عامة فقهاء المدينة، مات في أولها علي ابن الحسين، زين العابدين، ثم عروة بن الزبير، ثم سعيد بن المسيب، وأبو بكر عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وسعيد بن جبير من أهل مكة، وقد ذكرنا تراجم هؤلاء في كتابنا التكميل،
وسنذكر طرفا صالحا ها هنا إن شاء الله تعالى.
قال ابن جرير: واستقضى الوليد بن عبد الملك في هذه السنة على الشام سليمان بن صرد (3) وحج بالناس فيها العباس (4) بن الوليد، ويقال مسلمة بن عبد الملك، وكان على نيابة مكة خالد القسري، وعلى المدينة عثمان بن حيان، وعلى المشرق بكماله الحجاج، وعلى خراسان قتيبة بن مسلم، وعلى الكوفة من جهة الحجاج زياد بن جرير، وعلى قضائها أبو بكر بن أبي موسى، وعلى إمرة البصرة من جهة الحجاج الجراح بن عبد الله الحكمي، وعلى قضائها عبد الله (5) بن أذينة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
__________
(1) وفيات الاعيان - ترجمة 261 ج 2 / 371.
(2) بنو والبة بن الحارث بطن من بني أسد بن خزيمة.
(3) في الطبري 8 / 95 وابن الاثير 4 / 582: حبيب.
(4) في الطبري وابن الاثير: عبد العزيز.
(5) في الطبري 8 / 95: عبد الرحمن بن أذينة، مصغرا العبدي الكوفي قاضي البصرة ثقة من الثالثة وهم من ذكره في الصحابة (تقريب التهذيب 1 / 472 / 860).

ذكر من توفي فيها من المشاهير والاعيان سعيد بن جبير الاسدي الوالبي مولاهم أبو محمد، ويقال أبو عبد الله، الكوفي المكي، من أكابر أصحاب ابن عباس، كان من أئمة الاسلام في التفسير والفقه وأنواع العلوم، وكثرة العمل الصالح، رحمه الله، وقد رأى خلقا من الصحابة، وروى عن جماعة منهم، وعنه خلق من التابعين، يقال إنه كان يقرأ القرآن في الصلاة فيما بين المغرب والعشاء ختمة تامة، وكان يقعد في الكعبة القعدة فيقرأ فيها الختمة، وربما قرأها في ركعة في جوف الكعبه.
وروي عنه أنه ختم القرآن مرتين ونصفا في الصلاة في ليلة في الكعبة.
وقال سفيان الثوري عن عمرو بن ميمون عن أبيه قال: لقد مات سعيد بن جبير وما على وجه الارض أحد إلا وهو محتاج إلى علمه.
وكان في جملة من خرج
مع ابن الاشعث على الحجاج، فلما ظفر [ الحجاج ] هرب سعيد إلى أصبهان، ثم كان يتردد في كل سنة إلى مكة مرتين، مرة للعمرة ومرة للحج، وربما دخل الكوفة في بعض الاحيان فحدث بها، وكان بخراسان لا يتحدث لانه كان لا يسأله أحد عن شئ من العلم هناك، وكان يقول: إن مما يهمني ما عندي من العلم، وددت أن الناس أخذوه.
واستمر في هذا الحال مختفيا من الحجاج قريبا من ثنتي عشرة سنة، ثم أرسله خالد القسري من مكة إلى الحجاج وكان من مخاطبته له ما ذكرناه قريبا.
وقال أبو نعيم في كتابه الحلية (1): ثنا أبو حامد بن جبلة، ثنا محمد بن إسحاق، ثنا محمد بن أحمد بن أبي خلف، ثنا شعبان عن سالم بن أبي حفصة.
وقال: لما أتي بسعيد بن جبير إلى الحجاج قال له: أنت الشقي بن كسير ؟ قال: لا ! إنما أنا سعيد بن جبير، قال لاقتلنك، قال: أنا إذا كما سمتني أمي سعيدا ! قال شقيت وشقيت أمك، قال: الامر ليس إليك.
ثم قال: اضربوا عنقه، فقال: دعوني أصلي ركعتين، قال: وجهوه إلى قبلة النصارى، قال: (فأينما تولوا فثم وجه الله) [ مريم: 17 ] قال: إني أستعيذ منك بما استعاذت به مريم، قال: وما عاذت به ؟ قال: قالت (إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا) [ البقرة: 115 ] قال سفيان: لم يقتل بعده إلا واحدا.
وفي رواية أنه قال له: لابدلنك بالدنيا نارا تلظى، قال: لو علمت أن ذلك بيدك لاتخذتك إلها.
وفي رواية أنه لما أراد قتله قال: وجهوه إلى قبلة النصارى، فقال: (أينما تولوا فثم وجه الله) فقال: اجلدوا به الارض، فقال: (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى) [ طه: 55 ] فقال: اذبح فما أنزعه لآيات الله منذ اليوم.
فقال: اللهم لا تسلطه على أحد بعدي.
وقد ذكر أبو نعيم هنا كلاما كثيرا في مقتل سعيد بن جبير، أحسنه هذا والله أعلم.
__________
(1) حلية الاولياء 4 / 291 وانظر ابن الاعثم 7 / 161 - 162 ووفيات الاعيان 2 / 372 - 373.
وصفة الصفوة 3 / 80 - 83.

وقد ذكرنا صفة مقتله إياه، وقد رويت آثار غريبة في صفة مقتله، أكثرها لا يصح، وقد عوقب الحجاج بعده وعوجل بالعقوبة، فلم يلبث بعده إلا قليلا ثم أخذه الله أخذ عزيز مقتدر، كما
سنذكر وفاته في السنة الآتية، فقيل إنه مكث بعده خمسة عشر يوما، وقيل أربعين يوما، وقيل ستة أشهر والله أعلم.
واختلفوا في عمر سعيد بن جبير رحمه الله حين قتل، فقيل تسعا وأربعين سنة، وقيل سبعا وخمسين فالله أعلم.
قال أبو القاسم اللالكائي: كان مقتله في سنة خمس وتسعين، وذكر ابن جرير مقتله في هذه السنة - سنة أربع وتسعين - فالله أعلم.
قلت: ها هنا كلمات حسان من كلام سعيد بن جبير أحببت أن أذكرها.
قال: إن أفضل الخشية أن تخشى الله خشية تحول بينك وبين معصيته، وتحملك على طاعته، فتلك هي الخشية النافعة.
والذكر طاعة الله، فمن أطاع الله فقد ذكره، ومن لم يطعه فليس بذاكر له، وإن كثر منه التسبيح وتلاوة القرآن.
قيل له: من أعبد الناس ؟ قال: رجل اقترف (1) من الذنوب، فكلما ذكر ذنبه احتقر عمله، وقال له الحجاج: ويلك ؟ فقال: الويل لمن زحزح عن الجنة وأدخل النار، فقال: اضربوا عنقه، فقال: إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، أستحفظك بها حتى ألقاك يوم القيامة فأنا خصمك عند الله، فذبح من قفاه، فبلغ ذلك الحسن فقال: اللهم يا قاصم الجبابرة اقصم الحجاج، فما بقي إلا ثلاثة حتى وقع من جوفه دود فأنتن منه فمات.
وقال سعيد للحجاج لما أمر بقتله وضحك فقال له: ما أضحكك ؟ فقال: أضحك من غيراتك علي (2) وحلم الله عنك.
سعيد بن المسيب ابن حزن بن أبي وهب (3) بن عائذ بن عمران بن مخزوم القرشي أبو محمد المدنف، سيد التابعين على الاطلاق، ولد لسنتين مضتا وقيل بقيتا من خلافة عمر بن الخطاب، وقيل لاربع مضين منها، وقول الحاكم أبي عبد الله إنه أدرك العشرة وهم منه والله أعلم.
ولكن أرسل عنهم كما أرسل كثيرا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عن عمر كثيرا، فقيل سمع منه، وعن عثمان وعلي وسعيد وأبي هريرة، وكان زوج ابنته، وأعلم الناس بحديثه، وروى عن جماعة من الصحابة، وحدث عن جماعة من التابعين، وخلق ممن سواهم، قال ابن عمر: كان سعيد أحد المتقنين، وقال الزهري: جالسته
سبع حجج وأنا لا أظن عند أحد علما غيره، وقال محمد بن إسحاق: عن مكحول قال: طفت
__________
(1) في صفة الصفوة 3 / 79: اجترح.
(2) في ابن الاعثم 7 / 163: عجبت من جرأتك على الله.
وانظر أيضا صفة الصفوة 3 / 82.
(3) في طبقات ابن سعد 5 / 119، ووفيات الاعيان 2 / 375: وهب بن عمرو بن عائذ...

الارض كلها في طلب العلم.
فما لقيت أعلم من سعيد بن المسيب.
وقال الاوزاعي: سئل الزهري ومكحول من أفقه من لقيتما ؟ قالا: سعيد بن المسيب.
وقال غيره: كان يقال له فقيه الفقهاء.
وقال مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب: كنت أرحل الايام والليالي في طلب الحديث الواحد، قال مالك: وبلغني أن ابن عمر كان يرسل إلى سعيد بن المسيب يسأله عن قضايا عمر وأحكامه، وقال الربيع عن الشافعي أنه قال: إرسال سعيد بن المسيب عندنا حسن.
وقال الامام أحمد بن حنبل هي صحاح: قال: وسعيد بن المسيب أفضل التابعين.
قال علي بن المديني: لا أعلم في التابعين أوسع علما منه، وإذا قال سعيد مضت السنة فحسبك به، وهو عندي أجل التابعين.
وقال أحمد بن عبد الله العجلي: كان سعيد رجلا صالحا فقيها، كان لا يأخذ العطاء، وكانت له بضاعة أربعمائة دينار، وكان يتجر في الزيت، وكان أعور.
وقال أبو زرعة: كان مدنيا ثقة إماما.
وقال أبو حاتم: ليس في التابعين أنبل منه، وهو أثبتهم في أبي هريرة، قال الواقدي: توفي في سنة الفقهاء، وهي سنة أربع وتسعين، عن خمس وسبعين سنة، رحمه الله.
وكان سعيد بن المسيب من أورع الناس فيما يدخل بيته وبطنه، وكان من أزهد الناس في فضول الدنيا، والكلام فيما لا يعني، ومن أكثر الناس أدبا في الحديث، جاءه رجل وهو مريض فسأله عن حديث فجلس فحدثه ثم اضطجع، فقال الرجل: وددت أنك لم تتعن، فقال: إني كرهت أن أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مضطجع، وقال برد مولاه: ما نودي للصلاة منذ أربعين إلا وسعيد في المسجد.
وقال ابن إدريس: صلى سعيد بن المسيب الغداة بوضوء العتمة خمسين سنة.
وقال سعيد: لا تملؤا أعينكم من أعوان الظلمة إلا بالانكار من قلوبكم، لكيلا تحبط أعمالكم
الصالحة.
وقال: ما يئس الشيطان من شئ إلا أتاه من قبل النساء.
وقال: ما أكرمت العباد أنفسها بمثل طاعة الله، ولا أهانت أنفسها إلا بمعصية الله تعالى.
وقال: كفى بالمرء نصرة من الله له أن يرى عدوه يعمل بمعصية الله.
وقال: من استغنى بالله افتقر الناس إليه.
وقال: الدنيا نذلة وهي إلى كل نذل أميل، وأنذل منها من أخذها من غير وجهها ووضعها في غير سبيلها.
وقال: إنه ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه.
وقال: من كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله (1): وقد زوج سعيد بن المسيب ابنته على درهمين لكثير (2) بن أبي وداعة - وكانت من أحسن النساء وأكثرهم أدبا وأعلمهم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعرفهم بحق الزوج - وكان فقيرا، فأرسل إليه بخمسة آلاف، وقيل: بعشرين ألفا، وقال: استنفق هذه.
وقصته في ذلك مشهورة،
__________
(1) انظر صفوة الصفوة 2 / 80 - 81.
(2) في وفيات الاعيان 2 / 376: زوجها من أبي وداعة، وفي طبقات ابن سعد 5 / 138: زوجها من ابن أخيه، وفي رواية أخرى عنده: من شاب من قريش.

وقد كان عبد الملك خطبها لابنه الوليد فأبي سعيد أن يزوجه بها، فاحتال عليه حتى ضربه بالسياط كما تقدم، لما جاءت بيعة الوليد إلى المدينة في أيام عبد الملك، ضربه نائبه على المدينة هشام بن إسماعيل وأطافه المدينة، وعرضوه على السيف فمضى ولم يبايع، فلما رجفوا به رأته امرأة فقالت: ما هذا الخزي يا سعيد ؟ فقال: من الخزي فررنا إلى ما ترين، أي لو أحببناهم وقعنا في خزي الدنيا والآخرة.
وكان يجعل على ظهره إهاب الشاة، وكان له مال يتجر فيه ويقول: اللهم إنك تعلم أني لم أمسكه بخلا ولا حرصا عليه، ولا محبة للدنيا ونيل شهواتها، وإنما أريد أن أصون به وجهي عن بني مروان حتى ألقى الله فيحكم في وفيهم، وأصل منه رحمي، وأؤدي منه الحقوق التي فيه، وأعود منه على الارملة والفقير والمسكين واليتيم والجار.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
طلق بن حبيب العنزي
تابعي جليل، روى عن أنس وجابر وابن الزبير وابن عباس، وعبد الله بن عمر وغيرهم، وعنه حميد الطويل والاعمش وطاووس، وهو من أقرانه وأثنى عليه عمرو بن دينار، وقد أثنى عليه غير واحد من الائمة، ولكن تكلموا فيه من جهة أنه كان يقول بالارجاء، وقد كان ممن خرج مع ابن الاشعث، وكان يقول تقووا بالتقوى، فقيل له: صف لنا التقوى، فقال: التقوى هي العمل بطاعة الله على نور من الله يرجو رحمة الله، وترك معصية الله على نور من الله يخاف عقاب الله.
وقال أيضا: إن حقوق الله أعظم من أن يقوم بها العباد، وإن نعم الله أكثر من أن تحصى، أو يقوم بشكرها العباد، ولكن أصبحوا تائبين، وأمسوا تائبين.
وكان طلق لا يخرج إلى صلاة إلا ومعه شئ يتصدق به، وإن لم يجد إلا بصلا، ويقول: قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة) [ المجادلة: 12 ] فتقديم الصدقة بين يدي مناجاة الله أعظم وأعظم.
قال مالك: قتله الحجاج وجماعة من القراء منهم سعيد بن جبير.
وقد ذكر ابن جرير فيما سبق أن خالد بن عبد الله القسري بعث من مكة ثلاثة إلى الحجاج، وهم مجاهد، وسعيد بن جبير، وطلق بن حبيب، فمات طلق في الطريق وحبس مجاهد، وكان من أمر سعيد ما كان والله أعلم.
عروة بن الزبير بن العوام القرشي الاسدي أبو عبد الله المدني، تابعي جليل، روى عن أبيه وعن العبادلة ومعاوية والمغيرة وأبي هريرة، وأمه أسماء، وخالته عائشة، وأم سلمة.
وعنه جماعة من التابعين، وخلق ممن سواهم.
قال محمد بن سعد: كان عروة ثقة كثير الحديث عالما مأمونا ثبتا.
وقال العجلي: مدني تابعي رجل صالح لم يدخل في شئ من الفتن.
وقال الواقدي: كان فقيها عالما حافظا ثبتا حجة عالما بالسير، وهو أول من صنف المغازي، وكان من فقهاء المدينة المعدودين، ولقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه، وكان أروى الناس للشعر، وقال ابنه هشام: العلم لواحد من ثلاثة، لذي حسب يزين به حسبه، أو ذي دين يسوس به دينه، أو مختلط بسلطان يتحفه بنعمه ويتخلص

منه بالعلم، فلا يقع في هلكة، وقال: ولا أعلم أحدا اشترطه لهذه الثلاثة إلا عروة بن الزبير،
وعمر بن عبد العزيز.
وكان عروة يقرأ كل يوم ربع القرآن ويقوم به في الليل، وكان أيام الرطب يثلم حائطه للناس فيدخلون ويأكلون، فإذا ذهب الرطب أعاده، وقال الزهري: كان عروة بحرا لا ينزف ولا تكدره الدلاء.
وقال عمر بن عبد العزيز: ما أحد أعلم من عروة وما أعلمه يعلم شيئا أجهله، وقد ذكره غير واحد في فقهاء المدينة السبعة الذين ينتهي إلى قولهم، وكان من جملة الفقهاء العشرة الذين كان عمر بن عبد العزيز يرجع إليهم في زمن ولايته على المدينة وقد ذكر غير واحد أنه وفد على الوليد بدمشق، فلما رجع أصابته في رجله الآكلة فأرادوا قطعها، فعرضوا عليه أن يشرب شيئا يغيب عقله حتى لا يحس بالالم ويتمكنوا من قطعها، فقال: ما ظننت أن أحدا يؤمن بالله يشرب شيئا يغيب عقله حتى لا يعرف ربه عزوجل، ولكن هلموا فاقطعوها فقطعوها من ركبته وهو صامت لا يتكلم، ولا يعرف أنه أن، وروى أنهم قطعوها وهو في الصلاة فلم يشعر لشغله بالصلاة فالله أعلم.
ووقع في هذه الليلة التي قطعت فيها رجله ولد له يسمى محمدا كان أحب أولاده من سطح فمات، فدخلوا عليه فعزوه فيه، فقال: اللهم لك الحمد، كانوا سبعة فأخذت واحدا وأبقيت ستة، وكان لي أطراف أربعة فأخذت واحدا وأبقيت ثلاثة، فلئن كنت قد أخذت فلقد أعطيت، ولئن كنت قد ابتليت فقد عافيت.
قلت: قد ذكر غير واحد أن عروة بن الزبير لما خرج من المدينة متوجها إلى دمشق ليجتمع بالوليد، وقعت الاكلة في رجله في واد قرب المدينة وكان مبدؤها هناك، فظن أنها لا يكون منها ما كان، فذهب في وجهه ذلك، فما وصل إلى دمشق إلا وهي قد أكلت نصف ساقه، فدخل على الوليد فجمع له الاطباء العارفين بذلك، فأجمعوا على أنه إن لم يقطعها وإلا أكلت رجله كلها إلى وركه.
وربما ترقت إلى الجسد فأكلته، فطابت نفسه بنشرها وقالوا له: ألا نسقيك مرقدا حتى يذهب عقلك منه فلا تحس بألم النشر ؟ فقال: لا ! والله ما كنت أظن أن أحدا يشرب شرابا ويأكل شيئا يذهب عقله، ولكن إن كنتم لابد فاعلين فافعلوا ذلك وأنا في الصلاة فإني لا أحسن بذلك، ولا أشعر به.
قال: فنشروا رجله من فوق الاكلة، من المكان الحي، احتياطا أنه لا يبقى منها شئ، وهو نائم يصلي، فما تضور ولا اختلج، فلما انصرف من الصلاة عزاه الوليد في رجله، فقال: اللهم لك الحمد، كان لي أطراف أربعة فأخذت واحدا فلئن كنت قد أخذت فقد
أبقيت، وإن كنت قد أبليت فلطالما عافيت، فلك الحمد على ما أخذت وعلى ما عافيت.
قال: وكان قد صحب معه بعض أولاده من جملتهم ابنه محمد، وكان أحبهم إليه، فدخل دار الدواب فرفسته فرس فمات، فأتوه فعزوه فيه، فقال: الحمد لله كانوا سبعة فأخذت منهم واحدا وأبقيت ستة، فلئن كنت قد ابتليت فلطالما عافيت، ولئن كنت قد أخذت فلطالما أعطيت.
فلما قضى حاجته من دمشق رجع إلى المدينة، قال: فما سمعناه ذكر رجله ولا ولده، ولا شكا ذلك إلى أحد حتى دخل وادي القرى، فلما كان في المكان الذي أصابته الاكلة فيه قال: (لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا) [ الكهف: 63 ] فلما دخل المدينة أتاه الناس يسلمون عليه ويعزونه في رجله وولده، فبلغه أن بعض

الناس قال: إنما أصابه هذا بذنب عظيم أحدثه.
فأنشد عروة في ذلك والابيات لمعن بن أوس: - لعمرك ما أهويت كفى لريبة * ولا حملتني نحو فاحشة رجلي ولا قادني سمعي ولا بصري لها * ولا دلني رأيي عليها ولا عقلي ولست بماش ما حييت لمنكر * من الامر لا يمشي إلى مثله مثلي ولا مؤثر نفسي على ذي قرابة * وأوثر ضيفي ما أقام على أهلي وأعلم أني لم تصبني مصيبة * من الدهر إلا قد أصابت فتى مثلي وفي رواية: اللهم إنه كان لي بنون أربعة فأخذت واحدا وأبقيت ثلاثة.
كذا ذكر هذا الحديث فيه هشام.
وقال مسلمة بن محارب: وقعت في رجل عروة الاكلة فقطعت ولم يمسكه أحد، ولم يدع في تلك الليلة ورده.
وقال الاوزاعي: لما نشرت رجل عروة قال: اللهم إنك تعلم أني لم أمش بها إلى سوء قط.
وأنشد البيتين المتقدمين.
رأى عروة رجلا يصلي صلاة خفيفة فدعاه فقال: يا أخي أما كانت لك إلى ربك حاجة في صلاتك ؟ إني لاسأل الله في صلاتي حتى أسأله الملح.
قال عروة: رب كلمة ذل احتملتها أو رثتني عزا طويلا.
وقال لبنيه: إذا رأيتم الرجل يعمل الحسنة فاعلموا أن لها عنده أخوات، وإذا رأيتم الرجل يعمل السيئة فاعلموا أن لها عنده أخوات، فإن الحسنة تدل على أختها، والسيئة تدل على أختها.
وكان عروة إذا دخل حائطه ردد هذه الآية (ولو لا إذ دخلت
جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله) [ الكهف: 39 ] حتى يخرج منه والله سبحانه وتعالى أعلم.
قيل إنه ولد في حياة عمر، والصحيح أنه ولد بعد عمر في سنة ثلاث وعشرين، وكانت وفاته في سنة أربع وتسعين على المشهور، وقيل سنة تسعين، وقيل سنة مائة، وقيل إحدى وتسعين، وقيل إحدى ومائة، وقيل سنة اثنتين أو ثلاث أو أربع أو خمس وتسعين، وقيل تسع وتسعين فالله أعلم.
علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي المشهور بزين العابدين، وأمه أم ولد اسمها سلامة (1)، وكان له أخ أكبر منه يقال له علي أيضا، قتل مع أبيه، روى علي هذا الحديث عن أبيه وعمه الحسن بن علي، وجابر وابن عباس والمسور بن مخرمة وأبي هريرة وصفية وعائشة وأم سلمة، أمهات المؤمنين.
وعنه جماعة منهم بنوه زيد وعبد الله وعمر، وأبو جعفر محمد بن علي بن قر، وزيد بن أسلم، وطاووس وهو من أقرانه، والزهري، ويحيى بن سعيد الانصاري، وأبو سلمة وهو من أقرانه، وخلق.
__________
(1) في وفيات الاعيان 3 / 267: سلافة بنت يزدجرد آخر ملوك فارس.
وفي صفة الصفوة 2 / 93 وطبقات ابن سعد 5 / 211: غزالة.

قال ابن خلكان: كانت أم سلمة (1) بنت يزدجرد آخر ملوك الفرس، وذكر الزمخشري في ربيع الابرار أن يزدجرد كان له ثلاث بنات سبين في زمن عمر بن الخطاب، فحصلت واحدة لعبد الله بن عمر فأولدها سالما، والاخرى لمحمد بن أبي بكر الصديق فأولدها القاسم، والاخرى للحسين بن علي فأولدها عليا زين العابدين هذا، فكلهم بنو خالة.
قال ابن خلكان: ولما قتل قتيبة بن مسلم فيروزبن يزدجرد بعث بابنتيه إلى الحجاج فأخذ إحداهما وبعث بالاخرى إلى الوليد، فأولدها الوليد يزيد الناقص.
وذكر ابن قتيبة في كتاب المعارف أن زين العابدين هذا كانت أمه سندية، يقال لها سلامة (2)، ويقال غزالة، وكان مع أبيه بكربلاء، فاستبقي لصغره، وقيل لمرضه، فإنه كان ابن ثلاث وعشرين سنة، وقيل أكثر من ذلك، وقد هم بقتله عبيد الله بن زياد،
ثم صرفه الله عنه، وأشار بعض الفجرة على يزيد بن معاوية بقتله أيضا فمنعه الله منه، ثم كان يزيد بعد ذلك يكرمه ويعظمه ويجلسه معه، ولا يأكل إلا وهو عنده، ثم بعثهم إلى المدينة، وكان علي بالمدينة محترما معظما.
قال ابن عساكر: ومسجده بدمشق المنسوب إليه معروف.
قلت: وهو مشهد علي بالناحية الشرقية من جامع دمشق.
وقد استقدمه عبد الملك بن مروان مرة أخرى إلى دمشق فاستشاره في جواب ملك الروم عن بعض ما كتب إليه فيه من أمر السكة وطراز القراطيس، قال الزهرمي: ما رأيت قرشيا أورع منه، ولا أفضل.
وكان مع أبيه يوم قتل ابن ثلاث وعشرين سنة وهو مريض، فقال عمر بن سعد: لا تعرضوا لهذا المريض.
وقال الواقدي: كان من أورع الناس وأعبدهم وأتقاهم لله عزوجل، وكان إذا مشى لا يخطر بيده، وكان يعتم بعمامة بيضاء يرخيها من ورائه، وكان كنيتة أبا الحسن، وقيل أبا محمد، وقيل أبا عبد الله.
وقال محمد بن سعد: كان ثقة مأمونا كثير الحديث عاليا رفيعا ورعا، وأمه غزالة خلف عليها بعد الحسين مولاه زبيد فولدت له عبد الله بن زبيد، وهو علي الاصغر، فأما الاكبر فقتل مع أبيه.
وكذا قال غير واحد، وقال سعيد بن المسيب وزيد بن أسلم ومالك وأبو حازم: لم يكن في أهل البيت مثله.
وقال يحيى بن سعيد الانصاري: سمعت علي بن الحسين وهو أفضل هاشمي أدركته يقول: يا أيها الناس أحبونا حب الاسلام، فما برح بنا حبكم حتى صار علينا عارا.
وفي رواية: حتى بغضتمونا إلى الناس.
وقال الاصمعي: لم يكن للحسين عقب إلا من علي بن الحسين، ولم يكن لعلي بن الحسين نسل إلا من ابن عمه الحسن، فقال له مروان بن الحكم: لو اتخذت السراري يكثر أولادك، فقال: ليس لي ما أتسرى به، فأقرضه مائة ألف فاشترى له السراري فولدت له وكثر نسله، ثم لما مرض مروان أوصى أن لا يؤخذ من علي بن الحسين شئ مما كان أقرضه، فجميع الحسينيين من نسله رحمه الله.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: أصح الاسانيد كلها الزهري عن علي بن الحسين عن أبيه عن جده، وذكروا أنه
__________
(1) انظر الحاشية السابقة.
(2) في المعارف ص 94 وفي رواية ابن خلكان عنه: سلافة.

احترق البيت الذي هو فيه وهو قائم يصلي، فلما انصرف قالوا له: مالك لم تنصرف ؟ فقال: إني اشتغلت عن هذه النار بالنار الاخرى، وكان إذا توضأ يصفر لونه، فإذا قام إلى الصلاة ارتعد من الفرق، فقيل له في ذلك فقال: ألا تدرون بين يدي من أقوام ولمن أناجي ؟ ولما حج أراد أن يلبي فارتعد وقال: أخشى أن أقول لبيك اللهم لبيك، فيقال لي: لا لبيك، فشجعوه على التلبية، فلما لبى غشي عليه حتى سقط عن الراحلة.
وكان يصلي في كل يوم وليلة ألف ركعة.
وقال طاووس: سمعته وهو ساجد عند الحجر يقول: عبيدك بفنائك.
سائلك بفنائك.
فقيرك بفنائك، قال طاووس: فوالله ما دعوت بها في كرب قط إلا كشف عني.
وذكروا أنه كان كثير الصدقة بالليل، وكان يقول صدقة الليل تطفئ غضب الرب، وتنور القلب والقبر، وتكشف عن العبد ظلمة يوم القيامة، وقاسم الله تعالى ماله مرتين.
وقال محمد بن إسحاق: كان ناس بالمدينة يعيشون لا يدرون من أين يعيشون ومن يعطيهم، فلما مات علي بن الحسين فقدوا ذلك فعرفوا أنه هو الذي كان يأتيهم في الليل بما يأتيهم به.
ولما مات وجدوا في ظهره وأكتافه أثر حمل الجراب إلى بيوت الارامل والمساكين في الليل.
وقيل إنه كان يعول مائة أهل بيت بالمدينة ولا يدرون بذلك حتى مات.
ودخل علي بن الحسين على محمد بن أسامة بن زيد يعوده فبكى ابن أسامة فقال له ما يبكيك ؟ قال: علي دين، قال: وكم هو ؟ قال خمسة عشر ألف دينار - وفي رواية سبعة عشر ألف دينار - فقال: هي علي وقال علي بن الحسين: كان أبو بكر وعمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته بمنزلتهما منه بعد وفاته.
ونال منه رجل يوما فجعل يتغافل عنه - يريه أنه لم يسمعه - فقال له الرجل: إياك أعني، فقال له علي: وعنك أغضي.
وخرج يوما من المسجد فسبه رجل فانتدب الناس إليه، فقال: دعوه، ثم أقبل عليه فقال: ما ستره الله عنك من عيوبنا أكثر، ألك حاجة نعينك عليها ؟ فاستحيا الرجل فألقى إليه خميصة كانت عليه، وأمر له بألف درهم، فكان الرجل بعد ذلك إذا رآه يقول: إنك من أولاد الانبياء.
قالوا: واختصم علي بن الحسين وحسن بن حسن - وكان بينهما منافسة - فنال منه حسن بن حسن وهو ساكت، فلما كان الليل ذهب علي بن الحسين إلى منزله فقال: يابن عم إن كنت صادقا يغفر الله لي، وإن كنت كاذبا
يغفر الله لك والسلام عليك، ثم رجع، فلحقه فصالحه.
وقيل له من أعظم الناس خطرا ؟ فقال: من لم ير الدنيا لنفسه قدرا، وقال أيضا: الفكرة مرآة تري المؤمن حسناته وسيئاته، وقال: فقد الاحية غربة، وكان يقول: إن قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وآخرون عبدوه رغبة فتلك عبادة التجار، وآخرون عبدوه محبة وشكرا فتلك عبادة الاحرار الاخيار.
وقال لابنه: يا بني لا تصحب فاسقا فإنه يبيعك بأكلة وأقل منها يطمع فيها ثم لا ينالها، ولا بخيلا فإنه يخذلك في ماله أحوج ما تكون إليه، ولا كذابا فإنه كالسراب يقرب منك البعيد ويباعد عنك القريب، ولا أحمق

فإنه يريد أن ينفعك فيضرك، ولا قاطع رحم فإنه ملعون في كتاب الله (1).
قال تعالى: (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الارض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم) [ محمد: 22 - 23 ].
وكان علي بن الحسين إذا دخل المسجد تخطى الناس حتى يجلس في حلقة زيد بن أسلم، فقال له نافع بن جبير بن مطعم: غفر الله لك، أنت سيد الناس تأتي تخطي حلق أهل العلم وقريش حتى تجلس مع هذا العبد الاسود ؟ فقال له علي بن الحسين: إنما يجلس الرجل حيث ينتفع، وإن العلم يطلب حيث كان.
وقال الاعمش عن مسعود بن مالك قال: قال لي علي بن الحسين: أتستطيع أن تجمع بيني وبين سعيد بن جبير ؟ فقلت: ما تصنع به ؟ قال أريد أسأله عن أشياء ينفعنا الله بها ولا منقصة، إنه ليس عندنا ما يرمينا به هؤلاء - وأشار بيده إلى العراق - وقال الامام أحمد حدثنا يحيى بن آدم ثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن زر بن عبيد (2) قال: كنت عند ابن عباس فأتى علي بن الحسين فقال ابن عباس: مرحبا بالحبيب ابن الحبيب.
وقال أبو بكر بن محمد بن يحيى الصولي: ثنا العلاء ثنا إبراهيم بن بشار عن سفيان بن عيينة عن أبي الزبير قال: كنا عند جابر بن عبد الله فدخل عليه علي بن الحسين فقال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليه الحسين بن علي فضمه إليه وقبله وأقعده إلى جنبه، ثم قال: " يولد لا بني هذا ابن يقال له علي، إذا كان يوم القيامة نادى مناد من بطنان العرش ليقم سيد العابدين، فيقوم هو " هذا حديث غريب
جدا أورده ابن عساكر.
وقال الزهري: كان أكثر مجالستي مع علي بن الحسين، وما رأيت أفقه منه، وكان قليل الحديث، وكان من أفضل أهل بيته وأحسنهم طاعة، وأحبهم إلى مروان وابنه عبد الملك، وكان يسمى زين العابدين.
وقال جويرية بن أسماء: ما أكل علي بن الحسين بقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم درهما قط.
رحمه الله ورضي عنه.
وقال محمد بن سعد: أنبأ علي بن محمد، عن سعيد بن خالد، عن المقبري قال: بعث المختار إلى علي بن الحسين بمائة ألف فكره أن يقبلها وخاف أن يردها، فاحتبسها عنده، فلما قتل المختار كتب إلى عبد الملك بن مروان: إن المختار بعث إلي بمائة ألف فكرهت أن أقبلها وكرهت أن أردها، فابعث من يقبضها.
فكتب إليه عبد الملك: يا بن عم ! خذها فقد طيبتها لك، فقبلها.
وقال علي بن الحسين: سادة الناس في الدنيا الاسخياء الاتقياء، وفي الآخرة أهل الدين وأهل الفضل والعلم الاتقياء.
لان العلماء ورثة الانبياء.
وقال
__________
(1) في صفة الصفوة 2 / 101 زاد: في ثلاثة مواضع.
قلت وهي في سورة الرعد الآية (25): والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الارض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار.
وفي سورة البقرة (الآية 27) وفيها وصف قاطعي الرحم بأنهم خاسرون ولم يصرح بلفظ اللعن فيها.
والآية (22 - 23) من سورة محمد والمثبتة في النص.
(2) كذا بالاصل، وفي هامش المطبوعة: لعله زر بن حبيش.

أيضا: إني لاستحي من الله عزوجل أن أرى الاخ من إخواني فأسأل الله له الجنة وأبخل عليه بالدنيا، فإذا كان يوم القيامة قيل لي فإذا كانت الجنة بيدك كنت بها أبخل، وأبخل وأبخل.
وذكروا أنه كان كثير البكاء فقيل له في ذلك فقال: إن يعقوب عليه السلام بكى حتى ابيضت عيناه على يوسف، ولم يعلم أنه مات، وإني رأيت بضعة عشر من أهل بيتي يذبحون في غداة واحدة، فترون حزنهم يذهب من قلبي أبدا ؟ وقال عبد الرزاق: سكبت جارية لعلي بن الحسين عليه ماء ليتوضأ فسقط الابريق من يدها على وجهه فشجه، فرفع رأسه إليها فقالت الجارية: إن الله يقول (والكاظمين الغيظ) [ آل عمران: 134 ]، فقال: وقد كظمت غيظي، قالت (والعافين عن
الناس) فقال: عفا الله عنك.
فقالت (والله يحب المحسنين) قال: أنت حرة لوجه الله تعالى.
وقال الزبير بن بكار: ثنا عبد الله بن إبراهيم بن قدامة اللخمي، عن أبيه، عن جده، عن محمد بن علي عن أبيه قال: جلس قوم من أهل العراق فذكروا أبا بكر وعمر فنالوا منهما، ثم ابتدأوا في عثمان فقال لهم: أخبروني أأنتم من المهاجرين الاولين الذين (أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله) [ الحشر: 8 ] ؟ قالوا: لا قال: فأنتم من الذين (تبوأ والدار والايمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم) [ الحشر: 9 ] ؟ قالوا: لا ! فقال لهم: أما أنتم فقد أقررتم وشهدتم على أنفسكم أنكم لستم من هؤلاء ولا من هؤلاء، وأنا أشهد أنكم لستم من الفرقة الثالثة الذين قال الله عزوجل فيهم (والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولا خواننا الذين سبقونا بالايمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا) [ الحشر: 10 ] الآية، فقوموا عني لا بارك الله فيكم، ولا قرب دوركم، أنتم مستهزئون بالاسلام، ولستم من أهله.
وجاء رجل فسأله متى يبعث علي ؟ فقال: يبعث والله يوم القيامة وتهمه نفسه.
وقال ابن أبي الدنيا: حدثت عن سعيد بن سليمان، عن علي بن هاشم، عن أبي حمزة الثمالي: أن علي بن الحسين كان إذا خرج من بيته قال: اللهم إني أتصدق اليوم - أو أهب عرضي اليوم - من استحله.
وروى ابن أبي الدنيا أن غلاما سقط من يده سفود وهو يشوي شيئا في التنور على رأس صبي لعلي بن الحسين فقتله، فنهض علي بن الحسين مسرعا، فلما نظر إليه قال للغلام: إنك لم تتعمد، أنت حر، ثم شرع في جهاز ابنه.
وقال المدائني: سمعت سفيان يقول: كان علي بن الحسين يقول: ما يسرني أن لي بنصيبي من الذل حمر النعم: ورواه الزبير بن بكار من غير وجه عنه.
ومات لرجل ولد مسرف على نفسه فجزع عليه من أجل إسرافه، فقال له علي بن الحسين: إن من وراء ابنك خلالا ثلاثا، شهادة أن لا إله إلا الله، وشفاعة رسول الله، ورحمة الله عزوجل.
وقال المدائني: قارف الزهري ذنبا فاستوحش منه وهام على وجهه وترك أهله وماله.
فلما اجتمع بعلي بن الحسين قال له: يا زهري قنوطك من رحمة الله التي وسعت كل شئ أعظم من ذنبك، فقال الزهري: (الله أعلم حيث يجعل رسالاته) [ الانعام: 124 ] وفي رواية أنه كان أصاب دما حراما خطأ فأمره علي بالتوبة والاستغفار

وأن يبعث الدية إلى أهله، ففعل ذلك، وكان الزهري يقول: علي بن الحسين أعظم الناس علي منة.
وقال سفيان بن عيينة كان علي بن الحسين يقول: لا يقول رجل في رجل من الخير مالا يعلم إلا أوشك أن يقول فيه من الشر ما لا يعلم، وما اصطحب اثنان على معصية إلا أوشك أن يفترقا على غير طاعة.
وذكروا أنه زوج أمه من مولى له وأعتق أمة فتزوجها فأرسل إليه عبد الملك يلومه في ذلك، فكتب إليه (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا) [ الاحزاب: 22 ] وقد أعتق صفية فتزوجها، وزوج مولاه زيد بن حارثة من بنت عمه زينب بنت جحش.
قالوا: وكان يلبس في الشتاء خميصة من خز بخمسين دينارا، فإذا جاء الصيف تصدق بها، ويلبس في الصيف الثياب المرقعة ودونها ويتلو قوله تعالى (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق) [ الاعراف: 31 ].
(وقد روي من طرق ذكرها الصولي والجريري وغير واحد أن هشام بن عبد الملك حج في خلافة أبيه وأخيه الوليد، فطاف بالبيت، فلما أراد أن يستلم الحجر لم يتمكن حتى نصب له منبر فاستلم وجلس عليه، وقام أهل الشام حوله، فبينما هو كذلك إذ أقبل علي بن الحسين، فلما دنا من الحجر ليستلمه تنحى عنه الناس إجلالا له وهيبة واحتراما، وهو في بزة حسنة، وشكل مليح، فقال أهل الشام لهشام: من هذا ؟ فقال لا أعرفه - استنقاصا به واحتقارا لئلا يرغب فيه أهل الشام - فقال الفرزدق - وكان حاضرا - أنا أعرفه، فقالوا: ومن هو ؟ فأشار الفرزدق يقول: هذا الذي تعرف البطحاء وطأته * والبيت يعرفه والحل والحرم هذا ابن خير عباد الله كلهم * هذا التقي النقي الطاهر العلم (1) إذا رأته قريش قال قائلها * إلى مكارم هذا ينتهي الكرم ينمى إلى ذروة العز التي قصرت * عن نيلها عرب الاسلام والعجم يكاد يمسكه عرفان راحته * ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
يغضي حياء ويغضى من مهابته * فما يكلم إلا حين يبتسم بكفه خيزران ريحها عبق * من كف أروع في عرنينه شمم مشتقة من رسول الله نبعته * طابت عناصرها (2) والخيم والشيم
__________
(1) بعده في ابن الاعثم 5 / 127 وليس البيت في الديوان: هذا حسين رسول الله والده * أمست بنور هداه تهتدي الامم (2) في الديوان: مغارسه، وفي المقتل لابي مخنف: أرومته.
والنبعة: شجرة صلبة الالياف تتخذ منها القسي، وكنى بها عن الاصل والارومة.
والخيم: الاصل والشرف.

ينجاب نور الهدى (1) من نور غرته * كالشمس ينجاب عن إشراقها الغيم حمال أثقال أقوام إذا فدحوا * حلو الشمائل تحلو عنده نعم هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله * بجده أنبياء الله قد ختموا من جده دان فضل الانبياء له * وفضل أمته دانت لها الامم عم البرية بالاحسان فانقشعت * عنها الغواية والاملاق والظلم كلتا يديه غياث عم نفعهما * يستوكفان ولا يعروهما العدم سهل الخليقة لا تخشى بوادره * يزينه اثنتان الحلم والكرم لا يخلف الوعد ميمون بغيبته * رحب الفناء أريب حين يعتزم من معشر حبهم دين وبغضهم * كفر وقربهم منجى ومعتصم يستدفع السوء (2) والبلوى بحبهم * ويستزاد (3) به الاحسان والنعم مقدم بعد ذكر الله ذكرهم * في كل حكم ومختوم به الكلم إن عد أهل التقى كانوا أئمتهم * أو قيل من خير أهل الارض قيل هم لا يستطيع جواد بعد غايتهم * ولا يدانيهم قوم وإن كرموا هم الغيوث إذا ما أزمة أزمت * والاسد أسد الشرى والبأس محتدم
يأبى لهم ان يحل الذم ساحتهم * خيم كرام وايد بالندى هضم لا ينقص العدم بسطا من أكفهم * سيان ذلك إن اثروا وإن عدموا أي الخلائق ليست في رقابهم * لاولية هذا أوله نعم (4) فليس قولك من هذا بضائره * العرب تعرف من أنكرت والعجم من يعرف الله يعرف أولية ذا * فالدين من بيت هذا ناله الامم (5)
__________
(1) في الديوان: ثوب الدجى.
(2) في الديوان: والاغاني 21 / 377 الشر، وفي ابن الاعثم: الضر.
(3) في الديوان والاغاني: ويسترب.
وفي ابن الاعثم: ويستقيم.
(4) النعم: أي ما في الخلائق مخلوق لا يدين بالنعمة له أو لاوليته، جدوده السابقين.
(5) الابيات (1 - 2 - 3 - 5 - 6 - 11 - 20 - 26) نسبها أبو تمام في حماسته إلى الحزين الليثي.
قال في الاغاني 15 / 327 ومن الناس أيضا من يروي هذه الابيات لداود بن سلم في قئم بن العباس، ومنهم من يرويها لخالد بن يزيد فيه.
ومنهم من قال انها لداود بن سلم في علي بن الحسين.
قال الاصفهاني: والصحيح انها للحزين في عبد بن عبد الملك.
وليست الابيات في ديوان الفرزدق الذي نشره الصاوي.
وزاد ابن الاعثم وليس في الديوان: بيوتهم من قريش يستضاء بها * في النائبات وعند الحكم إن حكموا

قال: فغضب هشام من ذلك وأمر بحبس الفرزدق بعسفان، بين مكة والمدينة، فلما بلغ ذلك علي بن الحسين بعث إلى الفرزدق باثني عشر ألف درهم، فلم يقبلها وقال: إنما قلت ما قلت لله عز وجل ونصرة للحق، وقياما بحق رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذريته، ولست أعتاض من ذلك بشئ.
فأرسل إليه علي بن الحسين يقول: قد علم الله صدق نيتك في ذلك، وأقسمت عليك بالله لتقبلنها فتقبلها منه ثم جعل يهجو هشاما وكان مما قال فيه:
تحبسني بين المدينة والتي * إليها قلوب الناس تهوى (1) منيبها يقلب رأسا لم يكن رأس سيد * وعينين حولاوين (2) باد عيوبها وقد روينا عن علي بن الحسين أنه كان إذا مرت به الجنازة يقول هذين البيتين: نراع إذا الجنائز قابلتنا * ونلهو حين تمضي ذاهبات كروعة ثلة لمغار سبع * فلما غاب عادت راتعات وروى الحافظ ابن عساكر من طريق محمد بن عبد الله المقري: حدثني سفيان بن عيينة عن الزهري قال: سمعت علي بن الحسين سيد العابدين يحاسب نفسه ويناجي ربه: - يا نفس حتام إلى الدنيا سكونك، وإلى عمارتها ركونك، أما اعتبرت بمن مضى من أسلافك ومن وارته الارض من الافك ؟ ومن فجعت به من إخوانك، ونقل إلى الثرى من أقرانك ؟ فهم في بطون الارض بعد ظهورها، محاسنهم فيها بوال دواثر.
خلت دورهم منهم وأقوت عراصهم * وساقتهم نحو المنايا المقادر وخلوا عن الدنيا وما جمعوا لها * وضمهم تحت التراب الحفائر كم خرمت أيدي المنون من قرون بعد قرون، وكم غيرت الارض ببلائها، وغيبت في ترابها، ممن عاشرت من صنوف وشيعتهم إلى الامارس، ثم رجعت عنهم إلى عمل أهل الافلاس: - وأنت على الدنيا مكب منافس * لخطابها فيها حريص مكاثر على خطر تمشي وتصبح لاهيا * أتدري بماذا لو عقلت تخاطر
__________
= وفي المقتل لابي مخنف أبيات وليست في الديوان: بدر له شاهد والشعب من أحد * والخندقان ويوم الفتح قد علموا وخيبر وحنين يشهدان له * وفي قريظة يوم صائم قنم مواطن قد علت في كل نائبة * عن الصحابة لم أكتم كما كتموا (1) في الاغاني: يهوى.
قوله: والتي: يعني مكة.
(2) في الاغاني: وعينا له حولاء.

وإن امرءا يسعى لدنياه دائبا * ويذهل عن أخراه لا شك خاسر فحتام على الدنيا إقبالك ؟ وبشهواتها اشتغالك ؟ وقد وخطك القتير، وأتاك النذير، وأنت عما يراد بك ساه وبلذة يومك وغدك لاه، وقد رأيت انقلاب أهل الشهوات، وعاينت ما حل بهم من المصيبات: وفي ذكر هول الموت والقبر والبلى * عن اللهو واللذات للمرء زاجر أبعد اقتراب الاربعين تربص * وشيب قذال منذر للكابر كأنك معنى بما هو ضائر * لنفسك عمدا وعن الرشد حائر انظر إلى الامم الماضية والملوك الفانية كيف اختطفتهم عقبان الايام، ووافاهم الحمام، فانمحت من الدنيا آثارهم، وبقيت فيها أخبارهم، وأضحوا رمما في التراب، إلى يوم الحشر والمآب: أمسحوا رميما في التراب وعطلت * مجالسهم منهم وأخلى مقاصر وحلوا بدار لا تزاور بينهم * وأنى لسكان القبور التزاور فما أن ترى الا قبورا قد ثووا بها * مسطحة تسفى عليها الاعاصر كم من ذي منعة وسلطان وجنود وأعوان، تمكن من دنياه، ونال فيها ما تمناه، وبنى فيها القصور والدساكر، وجمع فيها الاموال والذخائر، وملح السراري والحرائر.
فما صرفت كف المنية إذا أتت * مبادرة تهوي إليه الذخائر ولا دفعت عنه الحصون التي بنى * وحف بها أنهاره والدساكر ولا قارعت عنه المنية حيلة * ولا طمعت في الذب عنه العساكر أتاه من الله ما لا يرد، ونزل به من قضائه ما لا يصد، فتعالى الله الملك الجبار، المتكبر العزيز القهار، قاصم الجبارين، ومبيد المتكبرين، الذي ذل لعزه كل سلطان، وأباد بقوته كل ديان.
مليك عزيز لا يرد قضاؤه * حكيم عليم نافذ الامر قاهر
عنى كل عز لعزة وجهه * فكم من عزيز للمهيمن صاغر لقد خضعت واستسلمت وتضاءلت * لعزة ذي العرش الملوك الجبابر فالبدار البدار والحذار الحذار من الدنيا ومكايدها، وما نصبت لك من مصايدها، وتحلت لك من زينتها، وأظهرت لك من بهجتها، وأبرزت لك من شهواتها، وأخفت عنك من قواتلها وهلكاتها:

وفي دون ما عاينت من فجعاتها * إلى دفعها داع وبالزهد آمر فجد ولا تغفل وكن متيقظا * فعما قليل يترك الدار عامر فشمر ولا تفتر فعمرك زائل * وأنت إلى دار الاقامة صائر ولا تطلب الدنيا فإن نعيمها * وإن نلت منها غبه لك ضائر فهل يحرص عليها لبيب، أو يسر بها أريب ؟ وهو على ثقة من فنائها، وغير طامع في بقائها، أم كيف تنام عينا من يخشى البيات، وتسكن نفس من توقع في جميع أموره الممات: ألا لا ولكنا نغر نفوسنا * وتشغلنا اللذات عما نحاذر وكيف يلذ العيش من هو موقف * بموقف عدل يوم تبلى السرائر كأنا نرى أن لا نشور وأننا * سدى مالنا بعد الممات مصادر وما عسى أن ينال صاحب الدنيا من لذتها ويتمتع به من بهجتها، مع صنوف عجائبها وقوارع فجائعها، وكثرة عذابه في مصابها وفي طلبها، وما يكابد من أسقامها وأوصا بها وآلامها.
أما قد نرى في كل يوم وليلة * يروح علينا صرفها ويباكر تعاورنا آفاتها وهمومها * وكم قد ترى يبقى لها المتعاور فلا هو مغبوط بدنياه آمن * ولا هو عن تطلا بها النفس قاصر كم قد غرت الدنيا من مخلد إليها، وصرعت من مكب عليها، فلم تنعشه من عثرته، ولم تنقذه من صرعته، ولم تشفه من ألمه، ولم تبره من سقمه، ولم تخلصه من وصمه.
بل أوردته بعد عز ومنعة * موارد سوء ما لهن مصادر فلما رأى أن لا نجاة وأنه * هو الموت لا ينجيه منه التحاذر تندم إذ لم تغن عنه ندامة * عليه وأبكته الذنوب الكبائر إذ بكى على ما سلف من خطاياه، وتحسر على ما خلف من دنياه، واستغفر حتى لا ينفعه الاستغفار ولا ينجيه الاعتذار، عند هول المنية ونزول البلية.
أحاطت به أحزانه وهمومه * وأبلس لما أعجزته المقادر فليس له من كربة الموت فارج * وليس له مما يحاذر ناصر وقذ جشأت خوف المنية نفسه * ترددها منه اللها والحناجر هنالك خف عواده، وأسلمه أهله وأولاده، وارتفعت البرية بالعويل، وقد أيسوا من العليل، فغمضوا بأيديهم عينيه، ومد عند خروج روحه رجليه، وتخلى عنه الصديق، والصاحب الشفيق.

فكم موجع يبكي عليه مفجع * ومستنجد صبرا وما هو صابر ومسترجع داع له الله مخلصا * يعدد منه كل ما هو ذاكر وكم شامت مستبشر بوفاته * وعما قليل للذي صار صائر فشقت جيوبها نساؤه، ولطمت خدودها إماؤه، وأعول لفقده جيرانه، وتوجع لرزيته إخوانه، ثم أقبلوا على جهازه، وشمروا لابرازه.
كأنه لم يكن بينهم العزيز المفدى، ولا الحبيب المبدى.
وحل أحب القوم كان بقربه * يحث على تجهيزه ويبادر وشمر من قد احضروه لغسله * ووجه لما فاض للقبر حافر وكفن في ثوبين واجتمعت له * مشيعة إخوانه والعشائر فلو رأيت الاصغر من أولاده، قد غلب الحزن على فؤاده، ويخشى من الجزع عليه، وخضبت
الدموع عينيه، وهو يندب أباه ويقول: يا ويلاه واحراباه: - لعاينت من قبح المنية منظرا * يهال لمرآه ويرتاع ناظر أكابر أولاد يهيج اكتئابهم * إذا ما تناساه البنون الاصاغر وربة نسوان عليه جوازع * مدامعهم فوق الخدود غوازر ثم أخرج من سعة قصره، إلى ضيق قبره، فلما استقر في اللحد وهيئ عليه اللبن، احتوشته أعماله وأحاطت به خطاياه، وضاق ذرعا بما رآه، ثم حثوا بأيديهم عليه التراب، وأكثروا البكاء عليه والانتحاب، ثم وقفوا ساعة عليه، وأيسوا من النظر إليه، وتركوه رهنا بما كسب وطلب.
فولوا عليه معولين وكلهم * لمثل الذي لاقى أخوه محاذر كشاء رتاع آمنين بدا لها * بمدينة بادي الذراعين حاسر فريعت ولم ترتع قليلا وأجفلت * فلما نأى عنها الذي هو جازر عادت إلى مرعاها، ونسيت ما في أختها دهاها، أفبأفعال الانعام اقتدينا ؟ أم على عادتها جرينا ؟ عد إلى ذكر المنقول إلى دار البلى، واعتبر بموضعه تحت الثرى، المدفوع إلى هول ما ترى.
ثوى مفردا في لحده وتوزعت * مواريثه أولاده والاصاهر وأحنوا على أمواله يقسمونها * فلا حامد منهم عليها وشاكر فيا عامر الدنيا ويا ساعيا لها * ويا آمنا من أن تدور الدوائر كيف أمنت هذه الحالة وأنت صائر إليها لا محالة ؟ أم كيف ضيعت حياتك وهي مطيتك إلى

مماتك ؟ أم كيف تشبع من طعامك وأنت منتظر حمامك ؟ أم كيف تهنأ بالشهوات، وهي مطية الآفات.
ولم تتزود للرحيل وقد دنا * وأنت على حال وشيك مسافر فيا لهف نفسي كم أسوف توبتي * وعمري فان والردى لي ناظر وكل الذي أسلفت في الصحف مثبت * يجازي عليه عادل الحكم قادر
فكم ترقع بآخرتك دنياك، وتركب غيك وهواك، أراك ضعيف اليقين، يا مؤثر الدنيا على الدين أبهذا أمرك الرحمن ؟ أم على هذا نزل القرآن ؟ أما تذكر ما أمامك من شدة الحساب، وشر المآب أما تذكر حال من جمع وثمر، ورفع البناء وزخرف وعمر، أما صار جمعهم بورا، ومساكنهم قبورا: تخرب ما يبقى وتعمر فانيا * فلا ذاك موفور ولا ذاك عامر وهل لك إن وافاك حتفك بغتة * ولم تكتسب خيرا لدى الله عاذر أترضى بان تفنى الحياة وتنقضي * ودينك منقوص ومالك وافر وقد اختلف أهل التاريخ في السنة التي توفي فيها علي بن الحسين، زين العابدين، فالمشهور عن الجمهور أنه توفي في هذه السنة - أعني سنة أربع وتسعين - في أولها عن ثمان وخمسين سنة، وصلي عليه بالبقيع، ودفن به، قال الفلاس: مات علي بن الحسين وسعيد بن المسيب وعروة وأبو بكر بن عبد الرحمن سنة أربع وتسعين، وقال بعضهم: توفي سنة ثنتين أو ثلاث وتسعين، وأغرب المدائني في قوله: إنه توفي سنة تسع وتسعين والله أعلم.
انتهى ما ذكره المؤلف [ من ترجمة علي بن الحسين.
وقد رأيت له كلاما متفرقا وهو من جيد الحكمة، فأحببت أن أذكره لعل الله أن ينفع به من وقف عليه: قال حفص بن غياث: عن حجاج، عن أبي جعفر عن علي بن الحسين قال: إن الجسد إذا لم يمرض أشر وبطر، ولا خير في جسد يأشر ويبطر.
وقال أبو بكر بن الانباري: حدثنا أحمد بن الصلت حدثنا قاسم بن إبراهيم العلوي، حدثنا أبي، عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال: قال علي بن الحسين: فقد الاحبة غربة.
وكان يقول: اللهم إني أعوذ بك أن تحسن في لوامع العيون علانيتي، وتقبح في خفيات الغيوب سريرتي، اللهم كما أسأت وأحسنت إلي، فإذا عدت فعد إلي.
اللهم ارزقني مواساة من قترب عليه رزقك بما وسعت علي من فضلك.
وقال لابنه: يا بني اتخذ ثوبا للغائط فإني رأيت الذباب يقع على الشئ ثم يقع على الثوب.
ثم انتبه فقال: وما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلا ثوب واحد، فرفضه.
وعن أبي حمزة الثمالي قال: أتيت باب علي بن
الحسين فكرهت أن أصوت فقعدت على الباب حتى خرج فسلمت عليه ودعوت له فرد علي السلام

ودعا لي، ثم انتهى إلى حائط فقال، يا حمزة ترى هذا الحائط ؟ قلت: نعم ! قال: فإني اتكأت عليه يوما وأنا حزين فإذا رجل حسن الوجه حسن الثياب ينظر في تجاه وجهي، ثم قال: يا علي بن الحسين ! مالي أراك كئيبا حزينا على الدنيا ! فهي رزق حاضر يأخذ منها البر والفاجر.
فقلت: ما عليها أحزن لانها كما تقول، فقال على الآخرة ؟ فهي وعد صادق، يحكم فيها ملك قادر، فقلت: ما على هذا أحزن لانه كما تقول.
فقال: فعلام حزنك ؟ فقلت: ما أتخوف من الفتنة - يعني فتنة ابن الزبير - فقال لي: يا علي ! هل رأيت أحدا سأل الله فلم يعطه ؟ قلت: لا ! قال ويخاف الله فلم يكفه ؟ قلت: لا ! ثم غاب عني فقيل لي: يا علي إن هذا الخضر الذي جاءك لفظ الخضر مزاد فيه من بعض الرواة.
وقال الطبراني: حدثنا محمد بن عبد الله الخضري، حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير، عن عمر بن حارث.
قال: لما مات علي بن الحسين فغسلوه جعلوا ينظرون إلى آثار سواد في ظهره.
فقالوا: ما هذا ؟ فقيل: كان يحمل جرب الدقيق ليلا على ظهره يعطيه فقراء أهل المدينة.
وقال ابن عائشة: سمعت أهل المدينة يقولون: ما فقدنا صدقة السر حتى مات علي بن الحسين.
وروى عبد الله بن حنبل: عن ابن اشكاب، عن محمد بن بشر، عن أبي المنهال الطائي أن علي بن الحسين كان إذا ناول المسكين الصدقة قبله ثم ناوله.
وقال الطبري.
حدثنا يحيى بن زكريا الغلابي، حدثنا العتبي حدثني أبي قال: قال علي بن الحسين - وكان من أفضل بني هاشم الاربعة - يا بني اصبر على النوائب ولا تتعرض للحقوق، ولا تخيب أخاك إلا في الامر الذي مضرته عليك أكثر من منفعته لك.
وروى الطبراني باسناده عنه: أنه كان جالسا في جماعة فسمع داعية في بيته فنهض فدخل منزله ثم رجع إلى مجلسه، فقيل له.
أمن حدث كانت الداعية ؟ قال: نعم ! فعزوه وتعجبوا من صبره، فقال: إنا أهل بيت نطيع الله عزوجل فيما نحبه، ونحمده على ما نكره.
وروى الطبراني عنه قال: إذا كان يوم القيامة نادى مناد ليقم أهل الفضل فيقوم ناس من الناس فيقال لهم: انطلقوا
إلى الجنة.
فتلقاهم الملائكة فيقولون: إلى أين ؟ فيقولون: إلى الجنة.
فيقولون قبل الحساب ؟ قالوا: نعم: قالوا: من أنتم ؟ قالوا نحن أهل الفضل، قالوا: وما كان فضلكم ؟ قالوا: كنا إذا جهل علينا حملنا، وإذا ظلمنا صبرنا، وإذا أسئ إلينا غفرنا، قالوا لهم: ادخلوا الجنة فنعم أجر العالمين.
ثم ينادي مناد: ليقم أهل الصبر، فيقوم ناس من الناس فيقال لهم انطلقوا إلى الجنة، فتتلقاهم الملائكة فيقولون لهم مثل ذلك فيقولون: نحن أهل الصبر، قالوا: فما كان صبركم ؟ قالوا: صبرنا أنفسنا على طاعة الله، وصبرناها عن معصية الله، وصبرناها على البلاء.
فقالوا لهم: ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين.
ثم ينادي المنادي: ليقم جيران الله في داره ! فيقوم ناس من الناس وهم قليل، فيقال لهم: انطلقوا إلى الجنة، فتتلقاهم الملائكة فيقولون لهم مثل ذلك، فيقولون: بم استحققتم مجاورة الله عزوجل في داره ؟ فيقولون: كنا نتزاور في الله، ونتجالس في الله، ونتباذل في الله عزوجل.
فيقال لهم، ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين.

وقال علي بن الحسين: إن الله يحب المؤمن المذنب التواب.
وقال: التارك للامر بالمعروف والنهي عن المنكر كالنابذ كتاب الله وراء ظهره، إلا أن يتقي منهم تقاة.
قالوا: وما تقاه ؟ قال: يخاف جبارا عنيدا أن يسطو عليه وأن يطغى.
وقال رجل لسعيد بن المسيب: ما رأيت أحدا أورع من فلان.
فقال له سعيد: هل رأيت علي بن الحسين ؟ قال: لا ! قال: ما رأيت أورع منه.
وروى سفيان بن عيينة عن الزهري قال: دخلت على علي بن الحسين فقال: يا زهري فيم كنتم ؟ قلت: كنا نتذاكر الصوم، فأجمع رأيي ورأي أصحابي على أنه ليس من الصوم شئ واجب، إلا شهر رمضان فقال ! يا زهري ليس كما قلتم، الصوم على أربعين وجها، عشرة منها واجب كوجوب شهر رمضان، وعشرة منها حرام، وأربع عشرة منها صاحبها بالخيار، إن شاء صام وإن شاء أفطر، وصوم النذر واجب، وصوم الاعتكاف واجب، قال الزهري قلت: فسرهن يابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أما الواجب فصوم شهر رمضان، وصوم شهرين متتابعين في قتل الخطأ لمن لم يجد العتق، وصيام ثلاثة أيام كفارة اليمين لمن لم يجد إلا طعام، وصيام حلق الرأس، وصوم دم
المتعة لمن لم يجد الهدي وصوم جزاء الصيد، يقوم الصيد قيمته ثم يقسم ذلك الثمن على الحنطة.
وأما الذي صاحبه بالخيار فصوم الاثنين والخميس، وستة أيام من شوال بعد رمضان، وصوم عرفة ويوم عاشوراء، كل ذلك صاحبه بالخيار.
فأما صوم الاذن فالمرأة لا تصوم تطوعا إلا بإذن زوجها، وكذلك العبد والامة، وأما صوم الحرام فصوم يوم الفطر والاضحى، وأيام التشريق، ويوم الشك، نهينا أن نصومه لرمضان.
وصوم الوصال حرام، وصوم الصمت حرام، وصوم نذر المعصية حرام، وصوم الدهر، وصوم الضيف لا يصوم تطوعا إلا باذن صاحبه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من نزل على قوم فلا يصومن تطوعا إلا بإذنهم ".
وأما صوم الاباحة فمن أكل أو شرب ناسيا أجزأه صومه، وأما صوم المريض والمسافر فقال قوم: يصوم، وقال قوم لا يصوم، وقال قوم إن شاء صام وإن شاء أفطر " واما نحن فنقول: يفطر في الحالين، فإن صام في السفر والمرض فعليه القضاء ] (1).
أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث ابن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المدني أحد الفقهاء السبعة (2)، قيل اسمه محمد، وقيل اسمه أبو بكر، وكنيته أبو عبد الرحمن، والصحيح أن اسمه وكنيته واحد، وله من الاولاد والاخوة كثير، وهو تابعي جليل، روى عن عمار وأبي هريرة وأسماء بنت أبي بكر،
__________
(1) ما بين معكوفين زيادة من النسخة المصرية.
(2) الفقهاء السبعة خصوا بهذه التسمية لان الفتوى بعد الصحابة - في المدينة - صارت إليهم وشهروا بها.
وقد كان في عصرهم جماعة من العلماء التابعين ولكن الفتوى لم تكن إلا لهؤلاء.
قاله الحافظ السلف (راجع ابن خلكان 1 / 283 - ابن سعد 2 / 282).

وعائشة وأم سلمة وغيرهم، وعنه جماعة منهم بنوه سلمة وعبد الله وعبد الملك وعمر، ومولاه سمي، وعامر الشعبي وعمر بن عبد العزيز، وعمرو بن دينار، ومجاهد، والزهري، ولد في خلافة عمر، وكان يقال له راهب قريش (1)، لكثرة صلاته، وكان مكفوفا، وكان يصوم الدهر، وكان من الثقة
والامانة والفقه وصحة الرواية على جانب عظيم، قال أبو داود: وكان قد كف وكان إذا سجد يضع يده في طست لعلة كان يجدها.
والصحيح أنه مات في هذه السنة، وقيل في التي قبلها، وقيل في التي بعدها.
والله أعلم.
قلت: ونظم بعض الشعراء بيتين ذكر فيهما الفقهاء السبعة فقال: - ألا كل من لا يقتدي بأئمة * فقسمته حبرا (2) عن الحق خارجه فخذهم عبيد الله عروة قاسم * سعيد أبو بكر سليمان خارجه وفيها توفي الفضيل (3) بن زيد الرقاشي، أحد زهاد أهل البصرة، وله مناقب وفضائل كثيرة جدا، قال: لا يلهينك الناس عن ذات نفسك، فإن الامر يخلص إليك دونهم، ولا تقطع نهارك بكيت وكيت، فإنه محفوظ عليك ما قلت.
وقال: لم أر شيئا أحسن طلبا، ولا أسرع إدراكا من حسنة حديثة لذنب قديم.
أبو سلمة ابن عبد الرحمن بن عوف الزهري (4)، كان أحد فقهاء المدينة، وكان إماما عالما، له روايات كثيرة عن جماعة من الصحابة، وكان واسع العلم.
توفي بالمدينة.
عبد الرحمن بن عائذ الازدي، له روايات كثيرة، وكان عالما، وخلف كتبا كثيرة من علمه، روى عن جماعة من الصحابة، وأسر يوم وقعة ابن الاشعث فأطلقه الحجاج.
عبد الرحمن بن معاوية بن خزيمة، قاضي مصر لعمر بن عبد العزيز بن مروان وصاحب شرطته كان عالما فاضلا، روى الحديث وعنه جماعة.
ثم دخلت سنة خمس وتسعين فيها غزا العباس بن الوليد بلاد الروم، وافتتح حصونا كثيرة.
وفيها فتح مسلمة بن
__________
(1) وفي صفة الصفوة 2 / 92: عن الزبير بن بكار.
كان يقال له راهب المدينة.
(2) في ابن خلكان 1 / 283: ضيزى.
(3) من ابن سعد 6 / 129 وصفة الصفوة 3 / 213 / 487، وفي الاصل: الفضل بن زياد: تحريف.
(4) في ابن سعد 6 / 155 اسمه عبد الله الاصغر وأمه تماضر بنت الاصبغ بن عمرو بن ثعلبة بن الحارث الكلبية
القضاعية.
كان يكنى باسم ولده سلمة.
استقضاه سعيد بن العاص بن سعيد على المدينة.
توفي وهو ابن اثنتين وسبعين سنة.

عبد الملك مدينة في بلاد الروم، ثم حرقها ثم بناها بعد ذلك بعشر سنين، وفيها افتتح محمد بن القاسم مدينة المولينا (1) من بلاد الهند، وأخذ منها أموالا جزيلة، وفيها قدم موسى بن نصير من بلاد الاندلس إلى إفريقية ومعه الاموال على العجل تحمل من كثرتها، ومعه ثلاثون ألف رأس من السبي، وفيها غزا قتيبة بن مسلم بلاد الشاش، ففتح مدنا وأقاليم كثيرة، فلما كان هناك جاءه الخبر بموت الحجاج بن يوسف فقمعه ذلك ورجع بالناس إلى مدينة مرو وتمثل بقول بعض الشعراء: لعمري لنعم المرء من آل جعفر * بحوران أمسى أعلقته الحبائل فإن تحي لا أملك (2) حياتي وإن تمت * فما في حياتي بعد موتك طائل وفيها كتب الوليد إلى قتيبة بأن يستمر على ما هو عليه من مناجزة الاعداء، ويعده على ذلك ويجزيه خيرا، ويثني عليه بما صنع من الجهاد وفتح البلاد وقتال أهل الكفر والعناد.
وقد كان الحجاج استخلف على الصلاة ابنه عبد الله، فولى الوليد الصلاة والحرب بالمصرين - الكوفة والبصرة - يزيد بن أبي كبشة، وولى خراجهما يزيد بن مسلم، وقيل كان الحجاج يستخلفهما على ذلك فأقرهما الوليد، واستمر سائر نواب الحجاج على ما كانوا عليه.
وكانت وفاة الحجاج لخمس، وقيل لثلاث بقين من رمضان، وقيل مات في شوال من هذه السنة.
وحج بالناس فيها بشر بن الوليد بن عبد الملك، قاله أبو معشر والواقدي.
وفيها قتل الوضاحي بأرض الروم ومعه ألف من أصحابه، وفي هذه السنة كان مولد أبي جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس.
وهذه ترجمة الحجاج بن يوسف الثقفي وذكر وفاته هو الحجاج بن يوسف (3) بن أبي عقيل بن (4) مسعود بن عامر بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن ثقيف، وهو قسي بن منبه بن بكر بن هوازن، أبو محمد الثقفي، سمع
ابن عباس وروى عن أنس وسمرة بن جندب وعبد الملك بن مروان وأبي بردة بن أبي موسى، وروى عنه أنس بن مالك، وثابت البناني، وحميد الطويل، ومالك بن دينار، وجواد بن مجالد، وقتيبة بن مسلم، وسعيد بن أبي عروبة.
قاله ابن عساكر، قال: وكانت له بدمشق دور منها دار الراوية بقرب قصر ابن أبي الحديد، وولاه عبد الملك الحجاز فقتل ابن الزبير، ثم عزله عنها وولاه العراق.
وقدم دمشق وافدا على عبد الملك، ثم روى من طريق المغيرة بن مسلم، سمعت أبي يقول: خطبنا
__________
(1) كذا بالاصل، وفي ابن الاثير 4 / 588: الملتان.
(2) في ابن الاثير والطبري 8 / 95: أملل.
(3) في ابن خلكان 2 / 29 / 149 يوسف بن الحكم.
(4) في ابن الاثير 4 / 584: بن عامر بن مسعود.

الحجاج بن يوسف فذكر القبر، فما زال يقول: إنه بيت الوحدة، وبيت الغربة، حتى بكى وأبكى من حوله، ثم قال: سمعت أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان يقول: سمعت مروان يقول في خطبته: خطبنا عثمان بن عفان فقال في خطبته: " ما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قبر أو ذكره إلا بكى ".
وهذا الحديث له شاهد في سنن أبي داود وغيره، وساق من طريق أحمد بن عبد الجبار: ثنا يسار عن جعفر عن مالك بن دينار قال: دخلت يوما على الحجاج فقال لي: يا أيا يحيى ألا أحدثك بحديث حسن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقلت: بلى ! فقال: حدثني أبو بردة عن أبي موسى.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كانت له إلى الله حاجة فليدع بها في دبر صلاة مفروضة ".
وهذا الحديث له شاهد عن فضالة بن عبيد وغيره في السنن والمسانيد والله أعلم.
قال الشافعي: سمعت من يذكر أن المغيرة بن شعبة (1) دخل على امرأته وهي تتخلل - أي تخلل أسنانها لتخرج ما بينها من أذى - وكان ذلك في أول النهار، فقال: والله لئن كنت باكرت الغداء إنك لرعينة دنية، وإن كان الذي تخللين منه شئ بقي في فيك من البارحة إنك لقذرة، فطلقها فقالت: والله ما كان شئ مما ذكرت، ولكنني باكرت ما تباكره الحرة من السواك، فبقيت شظية في
فمي منه فحاولتها لاخرجها.
فقال المغيرة ليوسف أبي الحجاج: تزوجها فإنها لخليفة بأن تأتي برجل يسود، فتزوجها يوسف أبو الحجاج.
قال الشافعي: فأخبرت أن أبا الحجاج لما بنى بها واقعها فنام فقيل له في النوم: ما أسرع ما ألقحت بالمبير.
قال ابن خلكان: واسم أمه الفارعة بنت همام بن عروة بن مسعود الثقفي، وكان زوجها الحارث بن كلدة الثقفي طبيب العرب، وذكر عنه هذه الحكاية في السواك.
وذكر صاحب العقد (2) ان الحجاج كان هو وأبوه يعلمان الغلمان بالطائف، ثم قدم دمشق فكان عند روح بن زنباع وزير عبد الملك، فشكا عبد الملك إلى روح أن الجيش لا ينزلون لنزوله ولا يرحلون لرحليه، فقال روح: عندي رجل توليه ذلك، فولى عبد الملك الحجاج أمر الجيش، فكان لا يتأخر أحد في النزول والرحيل، حتى اجتاز إلى فسطاط روح بن زنباع وهم يأكلون فضربهم وطوف بهم وأحرق الفسطاط، فشكا روح ذلك إلى عبد الملك، فقال للحجاج: لم صنعت هذا ؟ فقال: لم أفعله إنما فعله أنت، فإن يدي يدك، وسوطي سوطك، وما ضرك إذا أعطيت روحا فسطاطين بدل فسطاطه، وبدل الغلام غلامين، ولا تكسرني في الذي وليتني ؟ ففعل ذلك وتقدم الحجاج عنده.
قال: وبنى واسط في سنة أربع وثمانين، وفرغ منها في سنة ست وثمانين، وقيل قبل ذلك قال: وفي أيامه نقطت
__________
(1) في مروج الذهب 3 / 151: أن أم الحجاج الفارعة بنت همام بن عورة بن مسعود الثقفي كانت تحت الحارث بن كلدة الثقفي.
وانظر ابن خلكان 2 / 29.
ورواية العقد الفريد كالاصل 3 / 6 وفي تلقيح فهوم أهل الاثر لابن الجوزي: ان الفارعة كانت تحت المغيرة...وذكر القصة.
(2) العقد الفريد - أخبار الحجاج ج 3 / 6

المصاحف، وذكر في حكايته ما يدل أنه كان أولا يسمى كليبا، ثم سمي الحجاج.
وذكر أنه ولد ولا مخرج له حتى فتق له مخرج، وأنه لم يرتضع أياما حتى سقوه دم جدي ثم دم سالخ (1) ولطخ وجهه بدمه فارتضع، وكانت فيه شهامة وحب لسفك الدماء، لانه أول ما ارتضع ذلك الدم الذي لطخ به وجهه، ويقال إنه أمه هي المتمنية لنصر بن حجاج بن علاط (2)، وقيل إنها أم أبيه والله أعلم.
وكانت فيه شهامة عظيمة، وفي سيفه رهق، وكان كثير قتل النفوس التي حرمها الله بأدنى شبهة، وكان يغضب غضب الملوك، وكان فيما يزعم يتشبه بزياد بن أبيه، وكان زياد يتشبه بعمر بن الخطاب فيما يزعم أيضا، ولا سواء ولا قريب.
وقد ذكر ابن عساكر في ترجمة سليم بن عنز التجيبي قاضي مصر، وكان من كبار التابعين.
وكان ممن شهد خطبة عمر بن الخطاب بالجابية، وكان من الزهادة والعبادة على جانب عظيم، وكان يختم القرآن في كل ليلة ثلاث ختمات في الصلاة وغيرها.
والمقصود أن الحجاج كان مع أبيه بمصر في جامعها فاجتاز بهما سليم بن عنز هذا فنهض إليه أبو الحجاج فسلم عليه، وقال له: إني ذاهب إلى أمير المؤمنين، فهل من حاجة لك عنده ؟ قال: نعم ! تسأله أن يعزلني عن القضاء.
فقال: سبحان الله ! والله لا أعلم قاضيا اليوم خيرا منك.
ثم رجع إلى ابنه الحجاج فقال له ابنه: يا أبة أتقوم إلى رجل من تجيب وأنت ثقفي ؟ فقال له: يا بني والله إني لاحسب أن الناس يرحمون بهذا وأمثاله.
فقال: والله ما على أمير المؤمنين أضر من هذا وأمثاله، فقال: ولم يا بني ؟ قال: لان هذا وأمثاله يجتمع الناس إليهم فيحدثونهم عن سيرة أبي بكر وعمر، فيحقر الناس سيرة أمير المؤمنين ولا يرونها شيئا عند سيرتهما فيخلعونه ويخرجون عليه ويبغضونه، ولا يرون طاعته، والله لو خلص لي من الامر شئ لاضربن عنق هذا وأمثاله.
فقال له أبوه: يا بني والله إني لاظن أن الله عزوجل خلقك شقيا.
وهذا يدل على أن أباه كان ذا وجاهة عند الخليفة (3) وأنه كان ذا فراسة صحيحة، فإنه تفرس في ابنه ما آل إليه أمره بعد ذلك.
قالوا: وكان مولد الحجاج في سنة تسع وثلاثين، وقيل في سنة أربعين، وقيل في سنة إحدى وأربعين، ثم نشأ شابا لبيبا فصيحا بليغا حافظا للقرآن، قال بعض السلف: كان الحجاج يقرأ القرآن كل ليلة، وقال أبو عمرو بن العلاء: ما رأيت أفصح منه ومن الحسن البصري، وكان الحسن أفصح منه.
وقال الدار قطني: ذكر سليمان بن أبي منيح عن صالح بن سليمان قال قال
__________
(1) السالخ: الاسود الخالص.
(2) كذا في ابن خلكان 2 / 32 وفي كتاب تلقيح فهوم أهل الاثر لابن الجوزي، ومختصر القصة: أن عمر بن الخطاب طاف ليلة في المدينة فسمع امرأة تنشد في خدرها:
هل من سبيل إلى خمر فأشربها * أم من سبيل إلى نصر بن حجاج فأتي عمر بنصر وسيره إلى البصرة...(3) قال في المعارف ص 173: فأما يوسف، والد الحجاج - فولى لعبد الملك بعض الولاية وكان معه بعض الالوية يوم قاتل الحنيف بن السجف جيش ابن دلجة.

عقبة بن عمرو: ما رأيت عقول الناس إلا قريبا بعضها من بعض، إلا الحجاج وإياس بن معاوية، فإن عقولهما كانت ترجح على عقول الناس.
وتقدم أن عبد الملك لما قتل مصعب بن الزبير سنة ثلاث وسبعين بعث الحجاج إلى أخيه عبد الله بمكة فحاصره بها وأقام للناس الحج عامئذ، ولم يتمكن ومن معه من الطواف بالبيت، ولا تمكن ابن الزبير ومن عنده من الوقوف، ولم يزل محاصره حتى ظفر به في جمادى سنة ثلاث وسبعين، ثم استنابه عبد الملك على مكة والمدينة والطائف واليمن، ثمن نقله إلى العراق بعد موت أخيه بشر، فدخل الكوفة كما ذكرنا، وقال لهم وفعل بهم ما تقدم إيراده مفصلا، فأقام بين ظهرانيهم عشرين سنة كاملة.
وفتح فيها فتوحات كثيرة، هائلة منتشرة، حتى وصلت خيوله إلى بلاد الهند والسند، ففتح فيها جملة مدن وأقاليم، ووصلت خيوله أيضا إلى قريب من بلاد الصين، وجرت له فصول قد ذكرناها.
ونحن نورد هنا أشياء أخر مما وقع له من الامور والجراءة والاقدام، والتهاون في الامور العظام، مما يمدح على مثله ومما يذم بقوله وفعله، مما ساقه الحافظ ابن عساكر وغيره: فروى أبو بكر بن أبي خيثمة، عن يحيى بن أيوب، عن عبد الله بن كثير ابن أخي إسماعيل بن جعفر المديني ما معناه: أن الحجاج بن يوسف صلى مرة بجنب سعيد بن المسيب - وذلك قبل أن يلي شيئا - فجعل يرفع قبل الامام ويقع قبله في السجود، فلما سلم أخذ سعيد بطرف ردائه - وكان له ذكر يقوله بعد الصلاة - فما زال الحجاج ينازعه رداءه حتى قضى سعيد ذكره، ثم أقبل عليه سعيد فقال له: يا سارق يا خائن، تصلي هذه الصلاة، لقد هممت أن أضرب بهذا النعل وجهك.
فلم يرد عليه ثم مضى الحجاج إلى الحج، ثم رجع فعاد إلى الشام، ثم جاء نائبا على الحجاز.
فلما قتل ابن
الزبير كر راجعا إلى المدينة نائبا عليها، فلما دخل المسجد إذا مجلس سعيد بن المسيب، فقصده الحجاج فخشي الناس على سعيد منه، فجاء حتى جلس بين يديه فقال له: أنت صاحب الكلمات ؟ فضرب سعيد صدره بيده وقال: نعم ! قال: فجزاك الله من معلم ومؤدب خيرا، ما صليت بعدك صلاة إلا وأنا أذكر قولك.
ثم قام ومضى.
وروى الرياشي عن الاصمعي وأبي زيد عن معاذ بن العلاء - أخي أبي عمرو بن العلاء - قال: لما قتل الحجاج ابن الزبير ارتجت مكة بالبكاء، فأمر الناس فجمعوا في المسجد ثم صعد المنبر فقال بعد حمد الله والثناء عليه: يا أهل مكة ! بلغني إكباركم قتل ابن الزبير، ألا وإن ابن الزبير كان من خيار هذه الامة، حتى رغب في الخلافة ونازع فيها أهلها، فنزع طاعة الله واستكن بحرم الله، ولو كان شئ مانع العصاة لمنعت آدم حرمة الله، إن الله خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وأباح له كرامته، وأسكنه جنته، فلما أخطأ أخرجه من الجنة بخطيئته، وآدم أكرم على الله من ابن الزبير والجنة أعظم حرمة من الكعبة، اذكروا الله يذكركم.
وقال الامام أحمد: حدثنا إسحاق بن يوسف، ثنا عون، عن أبي الصديق الناجي: أن الحجاج دخل على أسماء بنت أبي بكر بعد ما قتل ابنها عبد الله فقال: إن ابنك ألحد في هذا البيت،

وإن الله أذاقه من عذاب أليم، وفعل.
فقالت: كذبت، كان برا بوالديه، صواما قواما، والله لقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنه يخرج من ثقيف كذابان الآخر منهما شر من الاول، وهو مبير) (1).
ورواه أبو يعلى عن وهب بن بقية، عن خالد، عن عون، عن أبي الصديق.
قال: بلغني أن الحجاج دخل على أسماء فذكر مثله.
وقال أبو يعلى: ثنا زهير: ثنا جرير، عن يزيد بن أبي زياد، عن قيس بن الاحنف، عن أسماء بنت ابي بكر.
قالت: سمعت رسول الله نهى عن المثلة.
وسمعته يقول: " يخرج من ثقيف رجلان كذاب ومبير ".
قالت فقلت للحجاج: أما الكذاب فقد رأيناه، وأما المبير فأنت هو يا حجاج.
وقال عبيد بن حميد: أنبأ يزيد بن هارون أنبأ العوام بن حوشب حدثني من سمع أسماء بنت أبي بكر الصديق تقول للحجاج حين دخل عليها يعزيها في ابنها: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: " يخرج من ثقيف رجلان مبير وكذاب ".
فأما الكذاب فابن أبي عبيد - تعني المختار - وأما المبير فأنت.
وتقدم في صحيح مسلم من وجه آخر أوردناه عند مقتل ابنها عبد الله، وقد رواه غير أسماء عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو يعلى: ثنا أحمد بن عمر الوكيعي ثنا وكيع حدثتنا أم عراب عن امرأة يقال لها عقيلة عن سلامة بنت الحر قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " في ثقيف كذاب ومبير ".
تفرد به أبو يعلى.
وقد روى الامام أحمد: عن وكيع عن أم عراب - واسمها طلحة - عن عقيلة عن سلامة حديثا آخر في الصلاة، وأخرجه أبو داود وابن ماجه، وروى من حديث ابن عمر فقال أبو يعلى: ثنا أمية بن بسطام، ثنا يزيد بن ربيع، ثنا إسرائيل ثنا عبد الله بن عصمة قال: سمعت ابن عمر " أنبأنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن في ثقيف مبيرا وكذابا " وأخرجه الترمذي من حديث شريك عن عبد الله بن عاصم ويقال عصمة.
وقال: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث شريك.
وقال الشافعي: ثنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن نافع: أن ابن عمر اعتزل ليالي قتال ابن الزبير و والحجاج بمنى، فكان يصلي مع الحجاج.
وقال الثوري عن محمد بن المنكدر عن جابر أنه دخل على الحجاج فلم يسلم عليه ولم يكن يصلي وراءه.
وقال إسحاق بن راهويه: أنبأ جرير عن القعقاع بن الصلت قال: خطب الحجاج فقال: إن ابن الزبير غير كتاب الله، فقال ابن عمر: ما سلطه الله على ذلك، ولا أنت معه ولو شئت أقول: كذبت لفعلت.
وروى عن شهر بن حوشب وغيره أن الحجاج أطال الخطبة فجعل ابن عمر يقول: الصلاة الصلاة مرارا، ثم قال فأقام الصلاة فقام الناس، فصلى الحجاج بالناس، فلما انصرف قال لابن عمر: ما حملك على ذلك ؟ فقال: إنما نجئ للصلاة فصل الصلاة لوقتها ثم تفتق ما شئت بعد من تفتقه.
وقال الاصمعي: سمعت عمي يقول: بلغني أن الحجاج لما فرغ من ابن الزبير وقدم المدينة لقي شيخا خارجا من المدينة فسأله عن حال أهل المدينة، فقال: بشر حال، قتل ابن حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الحجاج: ومن قتله ؟ فقال: الفاجر اللعين الحجاج عليه لعائن الله
__________
(1) تقدم راجع مقتل ابن الزبير.

وتهلكته، من قليل المراقبة لله.
فغضب الحجاج غضبا شديدا ثم قال: أيها الشيخ ! أتعرف الحجاج إذا رأيته ؟ قال: نعم ! فلا عرفه الله خيرا ولا وقاه ضرا.
فكشف الحجاج عن لثامه وقال: ستعلم أيها الشيخ الآن إذا سال دمك الساعة.
فلما تحقق الشيخ الجد قال: والله إن هذا لهو العجب يا حجاج، لو كنت تعرفني ما قلت هذه المقالة، أنا العباس بن أبي داود، أصرع كل يوم خمس مرات، فقال الحجاج: انطلق فلا شفى الله الابعد من جنونه ولا عافاه.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الصمد، ثنا حماد بن سلمة، عن ابن أبي رافع، عن عبد الله بن جعفر (1)، قال خالد بن يزيد بن معاوية لعبد الملك: أتمكنه من ذلك ؟ فقال: وما بأس من ذلك.
قال: أشد الناس والله، قال: كيف ؟ قال: والله يا أمير المؤمنين لقد ذهب ما في صدري على آل الزبير منذ تزوجت (2) رملة بنت الزبير، قال: وكأنه كان نائما فأيقظه، فكتب إلى الحجاج يعزم عليه بطلاقها فطلقها.
وقال سعيد بن أبي عروبة: حج الحجاج مرة فمر بين مكة والمدينة فأتي بغدائه فقال لحاجبه: انظر ما يأكل معي، فذهب فإذا أعرابي نائم فضربه برجله وقال: أجب الامير، فقام فلما دخل على الحجاج قال له: اغسل يديك ثم تغد معي، فقال: إنه
__________
(1) كذا بالاصل، وفي الحديث تشويش نتج عن سقط فقرة من الحديث أخلق بالمعنى.
وتمامه من مسند أحمد ج 1 / 206: أنه زوج ابنته من الحجاج بن يوسف فقال لها: إذا دخل بك فقولي: لا إله إلا الله الحليم الكريم سبحان الله رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين - وزعم أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان إذا حزبه أمر قال هذا - قال حماد: فظننت أنه قال: فلم يصل إليها.
(2) كذا بالاصول والظاهر أن في مواضع من هذا الخبر تحريفا.
ولعل ما ورد في الكامل للمبرد 1 / 205 يلقي ضوءا على اختلال المعنى وتشويش قال أبو العباس: وذكر العتبي أن الحجاج بن يوسف بن الحكم الثقفي لما أكره عبد الله بن جعفر على أن زوجه ابنته استأجله في نقلها سنة.
ففكر عبد الله بن جعفر في الانفكاك منه، فألقي في روعه خالد بن يزيد فكتب إليه يعلمه ذلك، وكان الحجاج تزوجها بإذن عبد الملك فورد على خالد كتابه ليلا، فاستأذن من ساعته على عبد الملك، فقيل له: أفي هذا الوقت ؟ فقال: أنه أمر لا يؤخر.
فأعلم عبد الملك بذلك فأذن له، فلما دخل عليه قال له عبد الملك: فيم السرى يا أبا هاشم ؟ قال: أمر جليل لم آمن أن أوخره فتحدث علي حادثة فلا أكون
قضيت حق بيعتك.
قال: وما هو ؟ قال: أتعلم أنه ما كان بين حيين من العداوة والبغضاء ما كان بين آل الزبير وآل أبي سفيان.
قال: لا.
قال: فإن تزويجي إلى آل الزبير حلل ما كان لهم في قلبي، فما أهل بيت أحب إلي منهم.
قال: فإن ذلك ليكون.
قال: فكيف أذنت للحجاج أن يتزوج في بني هاشم، وأنت تعلم ما يقولون ويقال فيهم، والحجاج من سلطانك بحيث علمت.
قال: فجزاه خيرا وكتب إلى الحجاج بعزمة أن يطلقها، فطلقها فغدا الناس عليه يعزونه عنها.
فكان فيمن أتاه عمرو بن عتبة بن أبي سفيان فأوقع الحجاج بخالد فقال: كان الامر لآبائه فعجز عنه حتى انتزع منه فقال له عمرو بن عتبة: لا تقل ذا أيها الامير فإن لخالد قديما سبق إليه وحديثا لم يغلب عليه، ولو طلب الامر لطلبه بحذر جد ولكنه علم علما فسلم العلم إلى أهله.
فقال الحجاج: يا آل أبي سفيان انتم تحبون أن تحلموا ولا يكون الحلم إلا عن غضب فنحن نغضبكم في العاجل ابتغاء مرضاتكم في الآجل.
ثم قال الحجاج: والله لاتزوجن من هو امس به رحما ثم لا يمكنه فيه شئ.
فتزوج أم الجلاس بنت عبد الله بن خالد بن أسيد.

دعاني من هو خير منك، قال: ومن ؟ قال الله دعاني إلى الصوم فأجبته، قال: في هذا الحر الشديد ؟ قال: نعم صمت ليوم هو أشد حرا منه، قال: فأفطر وصم غدا، قال: إن ضمنت لي البقاء لغد.
قال: ليس ذلك لي، قال: فكيف تسألني عاجلا بآجل لا تقدر عليه ؟ قال: إن طعامنا طعام طيب، قال: لم تطيبه أنت ولا الطباخ، إنما طيبته العافية.
فصل قد ذكرنا كيفية دخول الحجاج الكوفة في سنة خمس وسبعين وخطبته إياهم بغتة، وتهديده ووعيده إياهم، وأنهم خافوه مخافة شديدة، وأنه قتل عمير بن ضابئ، وكذلك قتل كميل بن زياد صبرا، ثم كان من أمره في قتال ابن الاشعث ما قدمنا، ثم تسلط على من كان معه من الرؤساء والامراء والعباد والقراء، حتى كان آخر من قتل منهم سعيد بن جبير.
قال القاضي المعافى زكريا: ثنا أحمد بن محمد بن سعد الكلبي، ثنا محمد بن زكريا الغلابي، ثنا محمد - يعني ابن عبد الله بن عباس - عن عطاء - يعني ابن مصعب - عن عاصم قال: خطب الحجاج أهل العراق بعد دير الجماجم،
فقال: يا أهل العراق إن الشيطان قد استبطنكم فخالط اللحم والدم، والعصب والمسامع، والاطراف (1)، ثم أفضى إلى الاسماخ (2) والامخاخ، والاشباح والارواح، ثم ارتع فعشش، ثم باض وفرخ، ثم دب ودرج، فحشاكم نفاقا وشقاقا، وأشعركم خلافا، اتخذتموه دليلا تتبعونه، وقائدا تطيعونه، ومؤتمنا تشاورونه وتستأ مرونه، فكيف تنفعكم تجربة، أو ينفعكم بيان (3) ؟ ألستم أصحابي بالاهواز حيث منيتم المكر واجتمعتم على الغدر، واتفقتم على الكفر، وظننتم أن الله يخذل دينه وخلافته، وأنا والله أرميكم بطرفي وأنتم تتسللون لواذا، وتنهزمون سراعا.
ويوم الزاوية وما يوم الزاوية، مما كان من فشلكم وتنازعكم وتخاذلكم وبراءة الله منكم، ونكوس قلبوكم إذ وليتم كالابل الشاردة عن أوطانها النوازع، لا يسأل المرء منكم عن أخيه، ولا يلوي الشيخ على بنيه، حين عضكم السلاح، ونختعكم (4) الرماح.
ويوم دير الجماجم وما يوم دير الجماجم، بها كانت المعارك والملاحم: بضرب يزيل الهام عن مقيله * ويذهل الخليل عن خليله يا أهل العراق يا أهل الكفران بعد الفجران، والغدران بعد الخذلان (5)، والنزوة بعد النزوات، إن بعثناكم إلى ثغوركم غللتم وخنتم، وإن أمنتم أرجفتم، وإن خفتم نافقتم، لا
__________
(1) زيد في العقد الفريد: 2 / 152: والاعضاء والشغاف.
(2) في العقد والبيان والتبيين 2 / 120: الاصماخ.
وفي مروج الذهب 3 / 160: الاضلاع.
(3) زيد في العقد: أو تعظكم وقعة أو يحجزكم اسلام أو يردكم إيمان.
(4) في العقد: وقصمتكم، وفي مروج الذهب: وقصفتكم.
وفي البيان والتبيين ! ووقصتكم.
(5) في العقد والبيان والتبيين: الكفرات بعد الفجرات، والغدرات بعد الخترات.

تذكرون نعمة، ولا تشكرون معروفا، ما استخفكم ناكث، ولا استغواكم غاو، ولا استنقذكم عاص، ولا استنصركم ظالم، ولا استعضدكم خالع، إلا لبيتم دعوته، وأجبتم صيحته، ونفرتم إليه خفافا وثقالا، وفرسانا ورجالا.
يا أهل العراق هل شغب شاغب، أو نعب ناعب، أو زفر زافر
إلا كنتم أتباعه وأنصاره ؟ يا أهل العراق ألم تنفعكم المواعظ ؟ ألم تزجركم الوقائع ؟ ألم يشدد الله عليكم وطأته، ويذقكم حر سيفه، وأليم بأسه ومثلاته ؟ ثم التفت إلى أهل الشام فقال: يا أهل الشام إنما أنا لكم كالظليم الرامح عن فراخه ينفي عنها القذر (1)، ويباعد عنها الحجر، ويكنها من المطر، ويحميها من الضباب، ويحرسها من الذباب.
يا أهل الشام ! أنتم (2) الجنة والبرد، وأنتم الملاءة والجلد، أنتم الاولياء والانصار، والشعار والدثار، بكم يذب عن البيضة والحوذة، وبكم ترمى كتائب الاعداء ويهزم من عاند وتولى.
قال ابن أبي الدنيا: حدثني محمد بن الحسين، حدثنا عبيد الله بن محمد التميمي: سمعت شيخا من قريش يكنى أبا بكر التيمي قال: كان الحجاج يقول في خطبته - وكان لسنا - إن الله خلق آدم وذريته من الارض فأمشاهم على ظهرها، فأكلوا ثمارها وشربوا أنهارها وهتكوها بالمساحي والمرور، ثم أدال الله الارض منهم فردهم إليها فأكلت لحومهم كما أكلوا ثمارها، وشربت دماءهم كما شربوا أنهارها، وقطعتهم في جوفها وفرقت أوصالهم كما هتكوها بالمساحي والمرور.
ومما رواه غير واحد عن الحجاج أنه قال في خطبته في المواعظ: الرجل وكلكلم ذاك الرجل، رجل خطم نفسه وزمها فقادها بخطامها إلى طاعة الله، وكفها بزمامها عن معاصي الله، رحم الله امرءا رد نفسه، امرءا اتهم نفسه، امرءا اتخذ نفسه عدوة امرءا حاسب نفسه قبل أن يكون الحساب إلى غيره، امرءا نظر إلى ميزانه، امرءا نظر إلى حسابه، امرءا وزن عمله، أمرءا فكر فيما يقرأ غدا في صحيفته ويراه في ميزانه، وكان عند قلبه زاجرا، وعند همه آمرا، امرءا أخذ بعنان عمله كما يأخذ بعنان جمله، فان قاده إلى طاعة الله تبعه، وإن قاده إلى معصية الله كف، امرءا عقل عن الله أمره، امرءا فاق واستفاق، وأبغض المعاصي والنفاق، وكان إلى ما عند الله بالاشواق.
فما زال يقول امرءا امرءا، حتى بكى مالك بن دينار (3).
وقال المدائني: عن عوانة بن الحكم قال: قال الشعبي: سمعت الحجاج تكلم بكلام ما سبقه إليه أحد، يقول: أما بعد فإن الله تعالى كتب على الدنيا الفناء، وعلى الآخرة البقاء، فلا فناء لما كتب عليه البقاء ولا بقاء لما كتب عليه الفناء.
فلا يغرنكم شاهد الدنيا عن غائب الآخرة،
واقهروا طول الامل بقصر الاجل (4).
وقال المدائني عن أبي عبد الله الثقفي، عن عمه قال: سمعت
__________
(1) في العقد الفريد: المدر، وفي مروج الذهب: القذى.
والظليم: ذكر النعام.
الرامح: المدافع.
(2) في العقد: أنتم الجبة والرداء، وأنتم العدة والحذاء.
(3) انظر العقد الفريد 2 / 153.
(4) انظر مروج الذهب 3 / 185.

الحسن البصري يقول: وقذتني كلمة سمعتها من الحجاج سمعته يقول على هذه الاعواد: إن امرءا ذهبت ساعة من عمره في غير ما خلق له لحري أن تطول عليها حسرته إلى يوم القيامة.
وقال شريك القاضي عن عبد الملك بن عمير، قال، قال الحجاج يوما: من كان له بلاء أعطيناه على قدره، فقام رجل فقال: اعطني فإني قتلت الحسين، فقال: وكيف قتلته ؟ قال: دسرته بالرمح دسرا، وهبرته بالسيف هبرا، وما أشركت معي في قتله أحدا.
فقال: اذهب فوالله لا تجتمع أنت وهو في موضع واحد، ولم يعطه شيئا.
وقال الهيثم بن عدي: جاء رجل إلى الحجاج فقال: إن أخي خرج مع ابن الاشعث فضرب على اسمي في الديوان ومنعت العطاء وقد هدمت داري، فقال الحجاج، أما سمعت قول الشاعر: حنانيك من تجنى عليك وقد * تعدى الصحاح مبارك الجرب ولرب مأخوذ بذنب قريبه * ونجا المقارف صاحب الذنب ؟ فقال الرجل: أيها الامير ! إني سمعت الله يقول غير هذا، وقول الله أصدق من هذا، قال: وما قال ؟ قال (قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين، قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون) [ يوسف: 78 - 79 ] قال: يا غلام أعد اسمه في الديوان وابن داره، واعطه عطاءه، ومر مناديا ينادي: صدق الله وكذب الشاعر.
وقال الهيثم بن عدي عن ابن عباس: كتب عبد الملك إلى الحجاج أن ابعث إلي برأس أسلم بن عبد البكري، لما بلغني عنه، فأحضره الحجاج فقال: أيها الامير أنت الشاهد وأمير المؤمنين الغائب، وقال الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق
بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) [ الحجرات: 6 ] وما بلغه باطل، وإني أعول أربعة وعشرين امرأة ما لهن كاسب غيري وهن بالباب، فأمر الحجاج باحضارهن، فلما حضرن جعلت هذه تقول: أنا خالته، وهذه أنا عمته، وهذه أنا أخته، وهذه أنا زوجته، وهذه أنا بنته، وتقدمت إليه جارية فوق الثمان ودون العشرة، فقال لها الحجاج: من أنت ؟ فقالت: أنا ابنته، ثم قالت: أصلح الله الامير، وجثت على ركبتيها وقالت: - أحجاج لم تشهد مقام بناته * وعماته يندبنه الليل أجمعا أحجاج كم تقتل به إن قتلته * ثمانا وعشرا واثنتين وأربعا أحجاج من هذا يقوم مقامه * علينا فمهلا إن تزدنا تضعضعا أحجاج إما أن تجود بنعمة * علينا وإما أن تقتلنا معا قال: فبكى الحجاج وقال: والله لا أعنت عليكن ولا زدتكن تضعضعا، ثم كتب إلى عبد الملك بما قال الرجل، وبما قالت ابنته هذه، فكتب عبد الملك إلى الحجاج يأمره باطلاقه وحسن صلته وبالاحسان إلى هذه الجارية وتفقدها في كل وقت.
وقيل إن الحجاج خطب يوما فقال: أيها الناس الصبر عن محارم الله أيسر من الصبر على عذاب الله.
فقام إليه رجل فقال له:

ويحك يا حجاج ما أصفق وجهك وأقل حياءك، تفعل ما تفعل وتقول مثل هذا الكلام ؟ خبث وضل سعيك، فقال للحرس خذوه، فلما فرغ من خطبته قال له: ما الذي جرأك علي ؟ فقال: ويحك يا حجاج، أنت تجترئ على الله ولا اجترئ أنا عليك، ومن أنت حتى لا أجترئ عليك وأنت تجترئ على الله رب العالمين، فقال: خلوا سبيله، فأطلق.
وقال المدائني: أتي الحجاج بأسيرين من أصحاب ابن الاشعث فأمر بقتلهما، فقال أحدهما: إن لي عندك يدا، قال: وما هي ؟ قال: ذكر ابن الاشعث يوما أمك فرددت عليه، فقال: ومن يشهد لك ؟ قال: صاحبي هذا ! فسأله فقال: نعم ! فقال: ما منعك أن تفعل كما فعل ؟ قال: بغضك، قال اطلقوا هذا لصدقه، وهذا لفعله.
فأطلقوهما.
وذكر محمد بن زياد
عن ابن الاعرابي فيما بلغه أنه كان رجل من بني حنيفة يقال له جحدر بن مالك وكان فاتكا بأرض اليمامة، فأرسل الحجاج إلى نائبها يؤنبه ويلومه على عدم أخذه، فما زال نائبها في طلبه حتى أسره وبعث به إلى الحجاج، فقال له الحجاج: ما حملك على ما كنت تصنعه ؟ فقال: جراءة الجنان، وجفاء السلطان، وكلب الزمان، ولو اختبرني الامير لوجدني من صالح الاعوان، وشهم الفرسان، ولوجدني من أصلح رعيته، ذلك أني ما لقيت فارسا قط إلا كنت عليه في نفسي مقتدرا، فقال له الحجاج: إنا قاذفوك في حائر فيه أسد عاقر فإن قتلك كفافا مؤنتك، وإن قتلته خلينا سبيلك.
ثم أودعه السجن مقيدا مغلولة يده اليمنى إلى عنقه، وكتب الحجاج إلى نائبه بكسكر أن يبعث بأسد عظيم ضار، وقد قال جحدر هذا في محبسه هذا أشعارا يتحزن فيها على امرأته سليمى ام عمرو ويقول في بعضها: أليس الليل يجمع ام عمرو * وإيانا فذاك بنا تداني بلى وترى الهلال كما نراه * ويعلوها النهار إذا علاني إذا جاوزتما نخلات نجد * وأودية اليمامة فانعياني وقولا حجدر أمسى رهينا * يحاذر وقع مصقول يماني فلما قدم الاسد على الحجاج أمر به فجوع ثلاثة أيام، ثم أبرز إلى حائر - وهو البستان - وأمر بجحدر فأخرج في قيوده ويده اليمنى مغلولة بحالها، وأعطي سيفا في يده اليسرى وخلى بينه وبين الاسد وجلس الحجاج وأصحابه في منظرة، وأقبل جحدر نحو الاسد وهو يقول: ليث وليث في مجال ضنك * كلاهما ذو أنف ومحك وشدة في نفسه وفتك * إن يكشف الله قناع الشك * فهو أحق منزل بترك * فلما نظر إليه الاسد زأر زأرة شديدة وتمطى وأقبل نحوه فلما صار منه على قدر رمح وثب الاسد على جحدر وثبة شديدة فتلقاه جحدر بالسيف فضربه ضربة خالط ذباب السيف لهواته، فخر الاسد كأنه خيمة قد صرعتها الريح، من شدة الضربة، وسقط جحدر من شدة وثبة الاسد

وشدة موضع القيود عليه، فكبر الحجاج وكبر أصحابه وأشار جحدر يقول: يا جمل إنك لو رأيت كريهتي * في يوم هول مسدف وعجاج وتقدمي لليث أرسف موثقا * كيما أساوره على الاخراج شثن براثنه ؟ كأن نيوبه * زرق المعاول أو شباة زجاج يسمو بناظرتين تحسب فيهما * لهبا أحدهما شعاع سراج وكأنما خيطت عليه عباءة * برقاء أو خرقا من الديباج لعلمت أني ذو حفاظ ماجد * من نسل أقوام ذوي أبراج فعند ذلك خيره الحجاج إن شاء أقام عنده، وإن شاء انطلق إلى بلاده، فاختار المقام عند الحجاج، فأحسن جائزته وأعطاه أموالا.
وأنكر يوما أن يكون الحسين من ذرية رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لانه ابن بنته، فقال له يحيى بن يعمر: كذبت ! فقال الحجاج: لتأتيني على ما قلت بينة من كتاب الله أو لاضربن عنقك، فقال قال الله (ومن ذريته داود وسليمان) [ الانعام: 84 ] إلى قوله (وزكريا ويحيى وعيسى) [ الانعام: 85 ] فعيسى من ذرية إبرهيم، وهو إنما ينسب إلى أمه مريم، والحسين ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
فقال الحجاج: صدقت، ونفاه إلى خراسان.
وقد كان الحجاج مع فصاحته وبلاغته يلحن في حروف من القرآن أنكرها يحيى بن يعمر، منها أنه كان يبدل إن المكسورة بأن المفتوحة وعكسه، وكان يقرأ [ قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم ] إلى قوله [ أحب إليكم ] فيقرأها برفع أحب.
وقال الاصمعي وغيره: كتب عبد الملك إلى الحجاج يسأله عن أمس واليوم وغد، فقال للرسول: أكان خويلد بن يزيد بن معاوية عنده ؟ قال: نعم ! فكتب الحجاج إلى عبد الملك: أما أمس فأجل، وأما اليوم فعمل، وأما غدا فأمل.
وقال ابن دريد عن أبي حاتم السجستاني عن أبي عبيدة معمر بن المثنى.
قال: لما قتل الحجاج ابن الاشعث وصفت له العراق، وسع على الناس في العطاء، فكتب إليه عبد الملك: أما بعد فقد بلغ أمير المؤمنين أنك تنفق في اليوم ما لا ينفقه أمير المؤمنين في الاسبوع وتنفق في الاسبوع مالا ينفقه
أمير المؤمنين في الشهر، ثم قال منشدا: عليك بتقوى الله في الامر كله * وكن يا عبيد الله تخشى وتضرع ووفر خراج المسلمين وفيأهم * وكن لهم حصنا تجير وتمنع فكتب إليه الحجاج: لعمري لقد جاء الرسول بكتبكم * قراطيس تملا ثم تطوى فتطبع كتاب أتاني فيه لين وغلظة * وذكرث والذكرى لذى اللب تنفع وكانت أمور تعتريني كثيرة * فأرضخ أو اعتل حينا فأمنع إذا كنت سوطا من عذاب عليهم * ولم يك عندي بالمنافع مطمع

أيرضي بذاك الناس أو يسخطونه * أم احمد فيهم أم ألام فأقذع وكان بلاد جئتها حين جئتها * بها كل نيران العداوة تلمع فقاسيت منها ما علمت ولم أزل * أصارع حتى كدت بالموت أصرع وكم أرجفوا من رجفة قد سمعتها * ولو كان غيري طار مما يروع وكنت إذا هموا بإحدى نهاتهم * حسرت لهم رأسي ولا أتقنع فلو لم يذد عني صناديد منهم * تقسم أعضائي ذئاب وأضبع قال: فكتب إليه عبد الملك: أن أعمل برأيك.
وقال الثوري عن محمد بن المستورد الجمحي قال: أتي الحجاج بسارق فقال له: لقد كنت غنيا أن تكسب جناية فيؤتى بك إلى الحاكم فيبطل عليك عضوا من أعضائك، فقال الرجل: إذا قل ذات اليد سخت النفس بالمتالف.
قال: صدقت والله لو كان حسن اعتذار يبطل حدا لكنت له موضعا.
يا غلام سيف صارم ورجل قاطع، فقطع يده.
وقال أبو بكر بن مجاهد عن محمد بن الجهم عن الفراء قال: تغدى الحجاج يوما مع الوليد بن عبد الملك فلما انقضى غداؤهما دعاه الوليد إلى شرب النبيذ (1) فقال: يا أمير المؤمنين الحلال ما أحللت، ولكني أنهى عنه أهل العراق وأهل عملي، وأكره أن أخالف قول
العبد الصالح (وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه) [ هود: 88 ] وقال عمر بن شبة عن أشياخه قال: كتب عبد الملك إلى الحجاج يعتب عليه في إسرافه في صرف الاموال، وسفك الدماء، ويقول: إنما المال مال الله ونحن خزانه، وسيان منع حق أو إعطاء باطل (2).
وكتب في أسفل الكتاب هذه الابيات: - إذا أنت لم تترك أمورا كرهتها * وتطلب (3) رضائي في الذي أنا طالبه وتخشى الذي يخشاه مثلك هاربا * إلى الله منه ضيع الدر حالبه (4) فان تر مني غفلة قرشية (5) * فياربما قد غص بالماء شاربه وإن تر مني وثبة أموية * فهذا وهذا كله أنا صاحبه
__________
(1) في هامش المطبوعة: ما يسمى في هذا العصر نبيذا هو الخمر المحض، وهو غير ما كان يسميه سلفنا نبيذا.
والنبيذ عندهم هو التمر أو الزبيب يترك عليه الماء ويسمونه بعد ذلك نبيذا سواء أسكر أو لم يسكر.
وفي كلتا الحالتين فإنه أشبه بعصير القصب اليوم إن لم يكن دونه.
(2) نسخة الكتاب في مروج الذهب 3 / 162 وابن الاعثم 7 / 164.
(3) في ابن الاعثم: وتأبي.
(4) البيت في الفتوح: وتخشى الذي يخشاه مثلي فكن إذا * كذا الدر يوما ظن بالدر حالبه (5) في مروج الذهب: وثبة أموية.

فلا تعد ما يأتيك مني فان تعد * تقم فاعلمن يوما عليك نوادبه (1) فلما قرأه الحجاج كتب: أما بعد فقد جاءني كتاب أمير المؤمنين يذكر فيه سرفي في الاموال، والدماء، فوالله ما بالغت في عقوبة أهل المعصية، ولا قضيت حق أهل الطاعة، فإن كان ذلك سرفا فليحد لي أمير المؤمنين حدا أنتهي إليه ولا أتجاوزه (2)، وكتب في أسفل الكتاب: إذا أنا لم أطلب رضاك وأتقي * أذاك فيومي لا توارث (3) كواكبه
إذا قارف الحجاج فيك خطيئة * فقامت عليه في الصباح نوادبه أسالم من سالمته من ذي هوادة * ومن لا تسالمه فإني محاربه إذا أنا لم أدن الشفيق لنصحه * وأقص الذي تسري إلي عقاربه فمن يتقي يومي ويرجو إذا عدى * على ما أرى والدهر جم عجائبه (4) وعن الشافعي أنه قال: قال الوليد بن عبد الملك للغاز بن ربيعة أن يسأل الحجاج فيما بينه وبينه: هل يجد في نفسه مما أصاب من الدنيا شيئا ؟ فسأله كما أمره، فقال: والله ما أحب أن لي لبنان أو سبير ذهبا أنفقه في سبيل الله مكان ما أبلاني الله من الطاعة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصل فيما روي عنه من الكلمات النافعة والجراءة البالغة قال أبو داود: ثنا محمد بن العلاء، ثنا أبو بكر، عن عاصم قال: سمعت الحجاج وهو على المنبر يقول: اتقوا الله ما استطعتم، ليس فيها مثنوية، واسمعوا وأطعيوا ليس فيها مثنوية لامير المؤمنين عبد الملك، والله لو أمرت الناس أن يخرجوا من باب المسجد فخرجوا من باب آخر لحلت لي دماؤهم وأموالهم، والله لو أخذت ربيعة بمضر لكان ذلك لي من الله حلالا، وما عذيري من عبد
__________
(1) في ابن الاعثم: فلا تأمنني والحوادث جمة * فإنك مجزى بما أنت كاسبه وبعده فيه - وذكر أبياتا منها: ولا تمنعن الناس حقا علمته * ولا تعط مالا ليس للناس واجبه وهو في مروج الذهب: ولا تنقصن...* ولا تعطين ما ليس لله جانبه (2) نسخة الكتاب في مروج الذهب 3 / 163 والفتوح 7 / 165.
(3) في مروج الذهب: لا تزول.
(4) البيت في ابن الاعثم:
فمن يبغني يوما ويرجو مروتي * ويحذرني والدهر جم نوائبه وفي مروج الذهب: فمن ذا الذي يرجو نوالي ويتقي * مصاولتي، والدهر جم نوائبه

هذيل يزعم أن قرآنه من عند الله، والله ما هي إلا ارجز من رجز الاعراب ما أنزلها الله على نبيه (صلى الله عليه وسلم)، وعذيري من هذه الحمراء، يزعم أحدهم يرمي بالحجر فيقول لي إن تقع الحجر حدث أمر، فوالله لادعنهم كالامس الدابر.
قال: فذكرته للاعمش فقال: وأنا والله سمعته منه.
ورواه أبو بكر بن أبي خيثمة عن محمد بن يزيد، عن أبي بكر بن عياش، عن عاصم بن أبي النجود والاعمش أنهما سمعا الحجاج فبحه الله يقول ذلك، وفيه والله ولو أمرتكم أن تخرجوا من هذا الباب فخرجتم من هذا الباب لحلت لي دماؤكم، ولا أجد أحدا يقرأ على قراءة ابن أم عبد إلا ضربت عنقه، ولاحكنها من المصحف ولو بضلع خنزير.
ورواه غير واحد عن أبي بكر بن عياش بنحوه، وفي بعض الروايات: والله لو أدركت عبد هذيل لاضربن عنقه.
وهذا من جراءة الحجاج قبحه الله، وإقدامه على الكلام السئ، والدماء الحرام.
وإنما نقم على قرأة ابن مسعود رضي الله عنه لكونه خالف القراءة على المصحف الامام الذي جمع الناس عليه عثمان، والظاهر أن ابن مسعود رجع إلى قول عثمان وموافقيه والله أعلم.
وقال علي بن عبد الله بن مبشر، عن عباس الدوري، عن مسلم بن إبراهيم: ثنا الصلت بن دينار سمعت الحجاج على منبر واسط يقول: عبد الله بن مسعود رأس المنافقين، لو أدركته لاسقيت الارض من دمه.
قال وسمعته على منبر واسط وتلا هذه الآية (هب لي ملكا لا ينبغي لاحد من بعدي) [ ص: 35 ] قال: والله ان كان سليمان لحسودا.
وهذه جراءة عظيمة تفضي به إلى الكفر: قبحه الله وأخزاه، وأبعده وأقصاه.
قال أبو نعيم: حدثنا الاعمش عن إبراهيم عن علقمة.
قال: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال: إني جئتك من عند رجل يملي المصاحف عن ظهر قلب، ففزع عمر وغضب وقال: ويحك،
انظر ما تقول.
قال: ما جئتك إلا بالحق، قال: من هو ؟ قال عبد الله بن مسعود.
قال: ما أعلم أحدا أحق بذلك منه، وسأحدثك عن ذلك.
" إنا سهرنا ليلة في بيت عند أبي بكر في بعض ما يكون من حاجة النبي (صلى الله عليه وسلم) ثم خرجنا ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) يمشي بيني وبين أبي بكر، فلما انتهينا إلى المسجد إذا رجل يقرأ فقام النبي (صلى الله عليه وسلم) يستمع إليه، فقلت: يا رسول الله اعتمت، فغمزني بيده - يعني اسكت - قال: فقرأ وركع وسجد وجلس يدعو ويستغفر، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): سل نفطه ثم قال: من سره أن يقرأ القرآن رطبا كما أنزل فليقرأ قراءة ابن أم عبد، فعلمت أنا وصاحبي أنه عبد الله بن مسعود، فلما أصبحت غدوت إليه لا بشره فقال: سبقك بها أبو بكر، وما سابقته إلى خير قط إلا سبقني إليه " وهذا الحديث قد روي من طرق، فرواه حبيب بن حسان عن زيد بن وهب عن عمر مثله، ورواه شعبة وزهير وخديج عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن عبد الله، ورواه عاصم عن عبد الله، ورواه الثوري وزائدة عن الاعمش نحوه.
وقال أبو داود: حدثنا عمر بن ثابت، عن أبي إسحاق، عن حمير بن مالك قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول: " أخذت من في رسول الله (صلى الله عليه وسلم) سبعين سورة، وإن زيد بن ثابت لصبي مع الصبيان، فأنا لا أدع ما أخذت من في رسول الله

(صلى الله عليه وسلم)، وقد رواه الثوري وإسرافيل، عن أبي إسحاق به.
وفي رواية ذكرها الطبراني عنه قال: " لقد تلقيت من في رسول الله (صلى الله عليه وسلم) سبعين سورة أحكمتها قبل أن يسلم زيد بن ثابت، وله ذؤابة يلعب مع الغلمان ".
وقد روى أبو داود عنه وذكر قصة رعيه الغنم لعقبة بن أبي معيط، وأنه قال: قال لي رسول الله (صلى الله عليه وسلم): " إنك غلام معلم، قال: فأخذت من فيه سبعين سورة من ينازعني فيها أحد ".
ورواه أبو أيوب الافريقي وأبو عوانة عن عاصم عن زر عنه نحوه.
وقال له النبي (صلى الله عليه وسلم): " إذنك أن ترفع الحجاب وأن تسمع سوادي حتى أنهاك ".
وقد روي هذا عنه من طرق.
وروى الطبراني: عن عبد الله بن شداد بن الهاد: أن عبد الله كان صاحب الوساد والسواد والسواك والنعلين.
وروى غيره عن علقمة قال: قدمت الشام فجلست إلى أبي الدرداء فقال لي: ممن أنت ؟ فقلت: من أهل الكوفة، فقال: أليس فيكم صاحب الوساد والسواك ؟ وقال
الحارث بن أبي أسامة: حدثنا عبد العزيز بن أبان حدثنا قطر بن خليفة حدثنا أبو وائل قال سمعت حذيفة يقول وابن مسعود قائم: لقد علم المحفوظون من أصحاب محمد (صلى الله عليه وسلم)، من أقربهم وسيلة يوم القيامة.
وقد روي هذا عن حذيفة من طرق، فرواه شعبة عن أبي إسحاق عن أبي وائل عن حذيفة ورواه عن أبي وائل فاضل الاحدب وجامع بن أبي راشد، وعبيدة، وأبو سنان الشيباني، وحكيم بن جبير، ورواه عبد الرحمن بن يزيد عن حذيفة.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق قال: سمعت عبد الرحمن بن زيد يقول: قلنا لحذيفة أخبرنا برجل قريب الهدى والسمت من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حتى نلزمه، فقال: ما أعلم أحدا أقرب هديا وسمتا من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حتى يواريه جدار بيته من ابن أم عبد، ولقد علم المحفوظون من أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) أن ابن أم عبد أقربهم إلى الله وسيلة.
قلت: فهذا حذيفة بن اليمان صاحب سر رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وهذا قوله في عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
فكذب الحجاج وفجر، ولقم النار والحجر فيما يقوله فيه، وفي رميه له بالنفاق، وفي قوله عن قراءته: إنها شعر من شعر هذيل، وإنه لا بد أن يحكها من المصحف ولو بضلع خنزير، وأنه لو أدركه لضرب عنقه، فحصل على إثم ذلك كله بنيته الخبيثة.
وقال عفان: حدثنا حماد: حدثنا عاصم، عن زر عن عبد الله قال: كنت أجتني لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) سواكا من أراك، فكانت الريح تكفوه، وكان في ساقة دقة، فضحك القوم، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): " ما يضحككم ؟ قالوا: من دقة ساقيه، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أحد ".
ورواه جرير وعلي بن عاصم عن مغيرة عن أم موسى عن علي بن أبي طالب، وروى سلمة بن كهيل عن أبي الزعراء عن ابن مسعود قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): " تمسكوا بعهد عبد الله بن أم مسعود " ورواه الترمذي والطبراني.
وقال الامام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن أبي إسحاق.
قال: سمعت أبا الاحوص قال: شهدت أبا موسى وأبا مسعود حين توفي ابن مسعود وأحدهما يقول لصاحبه: أتراه ترك بعده مثله.
قال: إن قلت ذاك إنه كان ليؤذن له إذا حجبنا، ويشهد إذا غبنا.
وقال الاعمش:

يعني عبد الله بن مسعود.
وقال أبو معاوية: حدثنا الاعمش عن زيد بن وهب.
قال: أقبل عبد الله بن مسعود ذات يوم وعمر جالس فقال: كيف ملئ فقها.
وقال عمر بن حفص: حدثنا عاصم بن علي حدثنا المسعودي، عن أبي حصين، عن أبي عطية أن أبا موسى الاشعري قال: لا تسألونا عن شئ ما دام هذا الحبر بين أظهرنا من أصحاب محمد (صلى الله عليه وسلم) - يعني ابن مسعود - وروى جرير عن الاعمش عن عمرو بن عروة، عن أبي البختري قال: قالوا لعلي: حدثنا عن أصحاب محمد (صلى الله عليه وسلم)، قال: عن أيهم ؟ قالوا: حدثنا عن ابن مسعود.
قال: علم القرآن والسنة ثم انتهى، وكفى بذلك علما.
وفي رواية عن علي قال: علم القرآن ثم وقف عنده وكفى به.
فهداتنا والصحابة العالمون به، العارفون بما كان عليه، فهم أولى بالاتباع وأصدق أقوالا من أصحاب الاهواء الحائدين عن الحق، بل أقوال الحجاج وغيره من أهل الاهواء: هذيانات وكذب وافتراء وبعضها كفر وزندقة، فإن الحجاج كان عثمانيا أمويا، يميل إليهم ميلا عظيما.
ويرى أن خلافهم كفر.
ويستحل بذلك الدماء ولا تأخذه في ذلك لومة لائم.
من الطامات أيضا ما رواه أبو داود: ثنا إسحاق بن إسماعيل الطالقاني ثنا جرير.
وحدثنا زهير بن حرب، ثنا جرير، عن المغيرة، عن بزيع بن خالد الضبي قال: سمعت الحجاج يخطب فقال في خطبته: رسول أحدكم في حاجته أكرم عليه أم خليفته في أهله ؟ فقلت في نفسي: لله علي أن لا أصلي خلفك صلاة أبدا، وإن وجدت قوما يجاهدونك لاجاهدنك معهم.
زاد إسحاق فقاتل في الجماجم حتى قتل.
فإن صح هذا عنه فظاهره كفر إن أراد تفضيل منصب الخلافة على الرسالة، أو أراد أن الخليفة من بني أمية أفضل من الرسول.
وقال الاصمعي: ثنا أبو عاصم النبيل ثنا أبو حفص الثقفي قال: خطب الحجاج يوما فأقبل عن يمينه فقال: ألا إن الحجاج كافر، ثم أطرق فقال: إن الحجاج كافر، ثم أطرق فأقبل عن يساره فقال: ألا إن الحجاج كافر، فعل ذلك مرارا، ثم قال: كافر يا أهل العراق باللات والعزى.
وقال حنبل بن إسحاق: ثنا هارون بن معروف ثنا ضمرة ثنا ابن شوذب عن مالك بن دينار قال: بينما الحجاج يخطبنا يوما إذ قال: الحجاج كافر، قلنا: ماله ؟ أي شئ يريد ؟ قال: الحجاج كافر بيوم الاربعاء والبغلة الشهباء.
وقال الاصمعي قال عبد الملك يوما
للحجاج: ما من أحد إلا وهو يعرف عيب نفسه.
فصف عيب نفسك، فقال: اعفني يا أمير المؤمنين، فأبى، فقال: أنا لجوج حقود حسود، فقال عبد الملك: ما في الشيطان شر مما ذكرت، وفي رواية أنه قال: إذا بينك وبين إبليس نسب.
وبالجملة فقد كان الحجاج نقمة على أهل العراق بما سلف لهم من الذنوب والخروج على الائمة، وخذلانهم لهم، وعصيانهم، ومخالفتهم، والافتيات عليهم، قال يعقوب بن سفيان: حدثنا أبو صالح عبد الله بن صالح حدثني معاوية بن صالح، عن شريح بن عبيد عمن حدثه قال: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فأخبره أن أهل العراق حصبوا أميرهم فخرج غضبان، فصلى لنا صلاة فسها فيها، حتى جعل الناس يقولون: سبحان الله سبحان الله، فلما سلم أقبل على الناس

فقال: من ههنا من أهل الشام ؟ فقام رجل ثم قام آخر ثم قمت أنا ثالثا أو رابعا، فقال: يا أهل الشام استعدوا لاهل العراق، فإن الشيطان قد باض فيهم وفرخ، اللهم إنهم قد لبسوا عليهم فالبس عليهم وعجل عليهم بالغلام الثقفي، يحكم فيهم بحكم الجاهلية، لا يقبل من محسنهم ولا يتجاوز عن مسيئهم (1).
وقد رويناه في كتاب مسند عمر بن الخطاب من طريق أبي عذبة الحمصي عن عمر مثله.
وقال عبد الرزاق: ثنا جعفر بن سليمان عن مالك بن دينار، عن الحسن قال علي بن أبي طالب: اللهم كما ائمنتهم فخانوني، ونصحت لهم فغشوني فسلط عليهم فتى ثقيف الذيال الميال، يأكل خضرتها، ويلبس فروتها، ويحكم فيها بحكم الجاهلية.
قال يقول الحسن: وما خلق الحجاج يومئذ (2).
ورواه معتمر بن سليمان عن أبيه عن أيوب عن مالك بن أوس بن الحدثان عن علي أنه قال: الشاب الذيال أمير المصرين يلبس فروتها ويأكل خضرتها، ويقتل أشراف أهلها، يشتد منه الفرق، ويكثر منه الارق، ويسلطه الله على شيعته.
وقال الحافظ البيهقي في دلائل النبوة: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي: ثنا سعيد بن مسعود، ثنا يزيد بن هارون أنبأ العوام بن حوشب، حدثني حبيب بن أبي ثابت.
قال قال علي لرجل: لامت حتى تدرك فتى ثقيف، قال: وما فتى ثقيف ؟ قال: ليقالن
له يوم القيامة: اكفنا زاوية من زوايا جهنم، رجل يملك عشرين سنة، أو بضعا وعشرين سنة، لا يدع لله معصية إلا ارتكبها، حتى لو لم يبق إلا معصية واحدة، وكان بينه وبينها باب مغلق لكسره حتى يرتكبها، يقتل بمن أطاعه من عصاه (3).
وقال الطبراني: حدثنا القاسم بن زكريا ثنا إسماعيل بن موسى السدوسي، ثنا علي بن مسهر، عن الاجلح عن الشعبي، عن أم حكيم بنت عمر بن سنان الجدلية قالت: استأذن الاشعث بن قيس على علي فرده قنبر فأدمى أنفه فخرج علي فقال: مالك وله يا أشعث، أما والله لو بعبد ثقيف تحرشت لاقشعرت شعيرات استك، قيل له: يا أمير المؤمنين ومن عبد ثقيف ؟ قال: غلام يليهم لا يبقى أهل بيت من العرب إلا ألبسهم ذلا، قيل كم يملك ؟ قال عشرين إن بلغ.
وقال البيهقي أنبأنا الحاكم: أنبأ الحسن (4) بن الحسن بن أيوب، ثنا أبو حاتم الرازي، ثنا عبد الله بن يوسف التنيسي، ثنا ابن يحيى الغاني (5) قال قال عمر بن عبد العزيز: لو تخابثت الامم فجاءت كل أمة بخبيثها، وجئنا بالحجاج لغلبناهم.
وقال أبو بكر بن عياش: عن عاصم بن أبي
__________
(1) نقله البيهقي في الدلائل 6 / 486 - 487 عن أبي عذبة الحمصي.
(2) الحديث في دلائل البيهقي 6 / 488.
(3) المصدر السابق ص 489.
(4) في الدلائل 6 / 489: الحسين (5) في الدلائل: الغساني، وهو هشام بن يحيى.

النجود أنه قال: ما بقيت لله عز وجل حرمة إلا وقد ارتكبها الحجاج.
وقد تقدم الحديث " إن في ثقيف كذابا ومبيرا " وكان المختار هو الكذاب المذكور في هذا الحديث، وقد كان يظهر الرفض أولا ويبطن الكفر المحض، وأما المبير فهو الجاج بن يوسف هذا، وقد كان ناصبيا يبغض عليا وشيعته في هوى آل مروان بني أمية، وكان جبارا عنيدا، مقداما على سفك الدماء بأدنى شبهة.
وقد روي عنه ألفاظ بشعة شنيعة ظاهرها الكفر كما قدمنا.
فإن كان قد
تاب منها وأقلع عنها، وإلا فهو باق في عهدتها، ولكن قد يخشى أنها رويت عنه بنوع من زيادة عليه، فإن الشيعة كانوا يبغضونه جدا لوجوه، وربما حرفوا عليه بعض الكلم.
وزادوا فيما يحكونه عنه بشاعات وشناعات.
وقد روينا عنه أنه كان يتدين بترك المسكر، وكان يكثر تلاوة القرآن، ويتجنب المحارم، ولم يشتهر عنه شئ من التلطخ بالفروج، وإن كان متسرعا في سفك الدماء فالله تعالى أعلم بالصواب وحقائق الامور وساترها، وخفيات الصدور وضمائرها: قلت: الحجاج أعظم ما نقم عليه وصح من أفعاله سفك الدماء، وكفى به عقوبة عند الله عزوجل، وقد كان حريصا على الجهاد وفتح البلاد، وكان فيه سماحة بإعطاء المال لاهل القرآن، فكان يعطي على القرآن كثيرا، ولما مات لم يترك فيما قيل إلا ثلثمائة درهم.
والله أعلم.
وقال المعافى بن زكريا الجريري المعروف بابن طرار البغدادي: ثنا محمد بن القاسم الانباري، ثنا أبي، ثنا أحمد بن عبيد، ثنا هشام أبو محمد بن السائب الكلبي، ثنا عوانة بن الحكم الكلبي.
قال: دخل أنس بن مالك على الحجاج بن يوسف فلما وقف بين يديه قال له إيه إيه يا أنيس، يوم لك مع علي، ويوم لك مع ابن الزبير، ويوم لك مع ابن الاشعث، والله لاستأصلنك كما تستأصل الشاة.
ولادمغنك كما تدمغ الصمغة (1).
فقال أنس: إياي يعني الامير أصلحه الله ؟ قال: إياك أعني صك الله سمعك.
قال أنس: إنا لله وإنا إليه راجعون، والله لو لا الصبية الصغار ما باليت أي قتلة قتلت.
ولا أي ميتة مت، ثم خرج من عند الحجاج فكتب إلى عبد الملك بن مروان يخبره بما قال له الحجاج، فلما قرأ عبد الملك كتاب أنس استشاط غضبا، وشفق عجبا، وتعاظم ذلك من الحجاج، وكان كتاب أنس إلى عبد الملك: بسم الله الرحمن الرحيم إلى عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين من أنس بن مالك، أما بعد: فان الحجاج قال لي هجرا، وأسمعني نكرا، ولم أكن لذلك أهلا، فخذ لي على يديه، فإني أمت بخدمتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتي إياه، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
فبعث عبد الملك إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر - وكان مصادقا للحجاج فقال له: دونك كتابي هذين فخذهما
__________
(1) في الاخبار الطوال ص 323: يوما مع المختار، ويوما مع ابن الاشعث، جوال الفتن، والله لقد هممت أن أطحنك طحن الرحى بالثفال، وأجعلك غرضا للنبال.

واركب البريد إلى العراق، وابدأ بأنس بن مالك صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فارفع كتابي إليه وأبلغه مني السلام، وقل له: يا أبا حمزة قد كتبت إلى الحجاج الملعون كتابا إذا قرأه كان أطوع لك من أمتك، وكان كتاب عبد الملك إلى أنس بن مالك: بسم الله الرحمن الرحيم ! من عبد الملك بن مروان إلى أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم أما بعد فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت من شكايتك الحجاج، وما سلطته عليك ولا أمرته بالاساءة إليك، فإن عاد لمثلها اكتب إلي بذلك أنزل به عقوبتي، وتحسن لك معونتي.
والسلام.
فلما قرأ أنس كتاب أمير المؤمنين وأخبر برسالته قال: جزى الله أمير المؤمنين عني خيرا، وعافاه وكفاه وكافأه بالجنة، فهذا كان ظني به والرجاء منه.
فقال إسماعيل بن عبيد الله لانس: يا أبا حمزة إن الحجاج عامل أمير المؤمنين، وليس بك عنه غنى، ولا بأهل بيتك، ولو جعل لك في جامعة ثم دفع إليك، فقاربه وداره تعش معه بخير وسلام.
فقال أنس: أفعل إن شاء الله.
ثم خرج إسماعيل من عند أنس فدخل على الحجاج، فقال الحجاج: مرحبا برجل أحبه وكنت أحب لقاه، فقال إسماعيل: أنا والله كنت أحب لقاءك في غير ما أتيتك به، فتغير لون الحجاج وخاف وقال: ما أتيتني به ؟ قال: فارقت أمير المؤمنين وهو أشد الناس غضبا عليك، ومنك بعدا، قال: فاستوى الحجاج جالسا مرعوبا، فرمى إليه إسماعيل بالطومار فجعل الحجاج ينظر فيه مرة ويعرق، وينظر إلى إسماعيل أخرى، فلما فضه قال: قم بنا إلى أبي حمزة نعتذر إليه ونترضاه، فقال له إسماعيل: لا تعجل ! فقال: كيف لا أعجل وقد أتيتني بآبدة ؟ وكان في الطومار.
بسم الله الرحمن الرحيم، من أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان إلى الحجاج بن يوسف، أما بعد فإنك عبد طمت بك الامور، فسموت فيها وعدوت طورك، وجاوزت قدرك، وركبت داهية إدا، وأردت أن تبدو لي فإن سوغتكها مضيت قدما، وإن لم أسوغها رجعت القهقرى، فلعنك الله
من عبد أخفش العينين، منقوص (1) الجاعرتين.
أنسيت مكاسب آبائك بالطائف، وحفرهم الآبار، ونقلهم الصخور على ظهورهم في المناهل، يا بن المستفرية (2) بعجم الزبيب، والله لاغمرنك غمر الليث الثعلب، والصقر الارنب.
وثبت على رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، فلم تقبل له إحسانه، ولم تتجاوز له عن إساءته، جرأة منك على الرب عزوجل، واستخفافا منك بالعهد، والله لو أن اليهود والنصارى رأت رجلا خدم عزير بن عزرى، وعيسى بن مريم، لعظمته وشرفته وأكرمته وأحبته، بل لو رأوا من خدم حمار العزير أو خدم حواري المسيح لعظموه وأكرموه، فكيف وهذا أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثماني سنين (3)، يطلعه على سره، ويشاوره في
__________
(1) في العقد الفريد: ممسوح الجاعرتين أصك الرجلين.
(2) في الاخبار الطوال ص 324 والعقد الفريد 3 / 14: المستفرمة، وقد تقدم شرحها.
(3) في الاخبار الطوال: ست سنين.
وتقدم في ترجمة أنس: ثماني سنين وقيل تسع وقيل عشر.

أمره، ثم هو مع هذا بقية من بقايا أصحابه، فإذا قرأت كتابي هذا فكن أطوع له من خفه ونعله، وإلا أتاك مني سهم بكل حتف قاض، ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون وقد تكلم ابن طرار على ما وقع في هذا الكتاب من الغريب، وكذلك ابن قتيبة وغيرهما من أئمة اللغة والله أعلم.
وقال الامام أحمد: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان عن الزبير - يعني ابن عدي - قال: أتينا أنس بن مالك نشكو إليه ما نلقى من الحجاج، فقال: اصبروا فإنه لا يأتي عليكم عام أو زمان أو يوم إلا والذي بعده شر منه، حتى تلقوا ربكم عزوجل، سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم (1) وهذا رواه البخاري عن محمد بن يوسف، عن سفيان وهو الثوري عن الزبير بن عدي عن أنس قال: " لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شر منه " الحديث.
قلت: ومن الناس من يروي هذا الحديث بالمعنى فيقول: كل عام ترذلون.
وهذا اللفظ لا أصل له، وإنما هو مأخوذ من معنى هذا الحديث، والله أعلم.
قلت: قد مر بي مرة من كلام عائشة مرفوعا وموقوفا: كل يوم ترذلون.
ورأيت للامام أحمد
كلاما قال فيه: وروي في الحديث كل يوم ترذلون نسما خبيثا.
فيحتمل هذا أنه وقع للامام أحمد مرفوعا، ومثل أحمد لا يقول هذا إلا عن أصل، وقد روي عن الحسن مثل ذلك، والله أعلم.
فدل على أن له أصلا إما مرفوعا وإما من كلام السلف، لم يزل يتناوله الناس قرنا بعد قرن، وجيلا بعد جيل، حتى وصل إلى هذه الازمان، وهو موجود في كل يوم، بل في كل ساعة تفوح رائحته، ولا سيما من بعد فتنة تمرلنك، وإلى الآن نجد الرذالة في كل شئ، وهذا ظاهر لمن تأمله، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقد قال سفيان الثوري: عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي.
قال: يأتي على الناس زمان يصلون فيه على الحجاج.
وقال أبو نعيم عن يونس بن أبي إسحاق عن أبي السفر.
قال: قال الشعبي: والله لئن بقيتم لتمنون الحجاج.
وقال الاصمعي: قيل للحسن: إنك تقول: الآخر شر من الاول، وهذا عمر بن عبد العزيز بعد الحجاج.
فقال الحسن: لا بد للناس من تنفيسات.
وقال ميمون بن مهران: بعث الحجاج إلى الحسن وقد هم به، فلما قام بين يديه قال: يا حجاج كم بينك وبين آدم من أب ؟ قال: كثير، قال: فأين هم ؟ قال: ماتوا قال: فنكس الحجاج رأسه وخرج الحسن.
وقال أيوب السختياني: إن الحجاج أراد قتل الحسن مرارا فعصمه الله منه، وقد ذكر له معه مناظرات، على أن الحسن لم يكن ممن يرى الخروج عليه، وكان ينهى أصحاب ابن الاشعث عن ذلك، وإنما خرج معهم مكرها كما قدمنا، وكان الحسن يقول: إنما هو نقمة فلا تقابل نقمة الله بالسيف، وعليكم بالصبر والسكينة والتضرع.
وقال ابن دريد عن الحسن بن الخضر
__________
(1) مسند أحمد 3 / 177.

عن ابن عائشة، قال: أتى الوليد بن عبد الملك رجل من الخوارج فقيل له: ما تقول في أبي بكر وعمر ؟ فأثنى خيرا، قال فعثمان ؟ فأثنى خيرا، قيل له: فما تقول في علي ؟ فأثنى خيرا، فذكر له الخلفاء واحدا بعد واحد، فيثني على كل بما يناسبه، حتى قيل له: فما تقول في عبد الملك بن مروان ؟ فقال: الآن جاءت المسألة، ما أقول في رجل الحجاج خطيئة من بعض خطاياه ؟
وقال الاصمعي عن علي بن مسلم الباهلي قال: أتي الحجاج بامرأة من الخوارج فجعل يكلمها وهي لا تنظر إليه ولا ترد عليه كلاما، فقال لها بعض الشرط: يكلمك الامير وأنت معرضة عنه ؟ فقالت: إني لا ستحي من الله أن أنظر إلى من لا ينظر الله إليه، فأمر بها فقتلت.
وقد ذكرنا في سنة أربع وتسعين كيفية مقتل الحجاج لسعيد بن جبير، وما دار بينهما من الكلام والمراجعة.
وقد قال أبو بكر بن أبي خيثمة: ثنا أبو ظفر، ثنا جعفر بن سليمان، عن بسطام بن مسلم، عن قتادة قال قيل لسعيد بن جبير: خرجت على الحجاج ؟ قال: إني والله ما خرجت عليه حتى كفر، ويقال إنه لم يقتل بعده إلا رجلا واحدا اسمه ماهان، وكان قد قتل قبله خلقا كثيرا، أكثرهم ممن خرج مع ابن الاشعث.
وقال أبو عيسى الترمذي: ثنا أبو داود سليمان بن مسلم البلخي، ثنا النضر بن شميل، عن هشام بن حسان قال: أحصوا ما قتل الحجاج صبرا فبلغ مائة ألف وعشرين ألفا.
قال الاصمعي: ثنا أبوصم، عن عباد بن كثير، عن قحدم قال: أطلق سليمان بن عبد الملك في غداة واحدة أحدا وثمانين ألف أسير كانوا في سجن الحجاج، وقيل إنه لبث في سجنه ثمانون ألفا منهم ثلاثون ألف امرأة وعرضت السجون بعد الحجاج فوجدوا فيها ثلاثة وثلاثين ألفا، لم يجب على أحد منهم قطع ولا صلب، وكان فيمن حبس أعرابي وجد يبول في أصل ربض مدينة واسط، وكان فيمن أطلق فأنشأ يقول: إذا نحن جاوزنا مدينة واسط * خرينا وصلينا بغير حساب (1) وقد كان الحجاج مع هذا العنف الشديد لا يستخرج من خراج العراق كبير أمر، قال ابن أبي الدنيا وإبراهيم الحربي: ثنا سليمان بن أبي سنح، ثنا صالح بن سليمان قال قال عمر بن عبد العزيز: لو تخابثت الامم فجاءت كل أمة بخبيثها وجئنا بالحجاج لغلبناهم، وما كان الحجاج يصلح لدنيا ولا لآخرة لقد ولي العراق وهو أوفر ما يكون في العمارة، فأخس به إلى أن صيره إلى أربعين ألف ألف، ولقد أدى إلي عمالي في عامي هذا ثمانين ألف ألف، وإن بقيت إلى قابل رجوت أن يؤدى إلى ما أدي إلى عمر بن الخطاب مائة ألف ألف وعشرة آلاف ألف.
وقال أبو بكر بن المقري: ثنا أبو عروبة ثنا عمرو بن عثمان، ثنا أبي: سمعت جدي قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن
أرطاة: بلغني أنك تستن بسنن الحجاج فلا تستن بسننه، فإنه كان يصلي الصلاة لغير وقتها، ويأخذ
__________
(1) في العقد الفريد 3 / 17: خرينا وبلنا لا نخاف عقابا.

الزكاة من غير حقها وكان لما سوى ذلك أضيع.
وقال يعقوب بن سفيان: ثنا سعيد بن أسد، ثنا ضمرة، عن الريان بن مسلم.
قال: بعث عمر بن عبد العزيز بآل بيت أبي عقيل - أهل بيت الحجاج - إلى صاحب اليمن وكتب إليه: أما بعد فإني قد بعثت بآل أبي عقيل وهم شر بيت في العمل، ففرقهم في العمل على قدر هوانهم على الله وعلينا، وعليك السلام.
وإنما نفاهم.
وقال الاوزاعي: سمعت القاسم بن مخيمرة يقول: كان الحجاج ينقض عرى الاسلام، وذكر حكاية.
وقال أبو بكر بن عياش عن عاصم: لم يبق لله حرمة إلا ارتكبها الحجاج بن يوسف، وقال يحيى بن عيسى الرملي، عن الاعمش: اختلفوا في الحجاج فسألوا مجاهدا فقال: تسألون عن الشيخ الكافر.
وروى ابن عساكر عن الشعبي أنه قال: الحجاج مؤمن بالجبت والطاغوت، كافر بالله العظيم.
كذا قال والله أعلم.
وقال الثوري عن معمر، عن ابن طاووس عن أبيه قال: عجبا لاخواننا من أهل العراق يسمون الحجاج مؤمنا ؟ ! وقال الثوري عن ابن عوف: سمعت أبا وائل يسأل عن الحجاج أتشهد أنه من أهل النار ؟ قال أتأمروني أن أشهد على (1) الله العظيم، وقال الثوري عن منصور: سألت إبراهيم عن الحجاج أو بعض الجبابرة فقال: أليس الله يقول (ألا لعنة الله على الظالمين) [ هود: 18 ] وبه قال إبراهيم وكفى بالرجل عمى أن يعمى عن أمر الحجاج.
وقال سلام بن أبي مطيع لانا بالحجاج أرجى مني لعمرو بن عبيد، لان الحجاج قتل الناس على الدنيا، وعمرو بن عبيد أحدث للناس بدعة شنعاء، قتل الناس بعضهم بعضا، وقال الزبير: سببت الحجاج يوما عند أبي وائل فقال: لا تسبه لعله قال يوما اللهم ارحمني فيرحمه، إياك ومجالسة من يقول أرأيت أرأيت أرأيت.
وقال عوف: ذكر الحجاج عند محمد بن سيرين فقال: مسكين أبو محمد، إن يعذبه الله عزوجل فبذنبه، وإن يغفر له فهنيئا له، وإن يلق الله بقلب سليم فهو خير منا، وقد أصاب الذنوب من هو خير منه فقيل له ما القلب السليم ؟ قال: أن يعلم الله تعالى منه الحياء
والايمان، وأن يعلم أن الله حق، وأن الساعة حق قائمة، وأن الله يبعث من في القبور.
وقال أبو قاسم البغوي: ثنا أبو سعيد، ثنا أبو أسامة قال: قال رجل لسفيان الثوري: أتشهد على الحجاج وعلى أبي مسلم الخراساني أنهما في النار ؟ قال: لا ! إن أقرا بالتوحيد.
وقال الرياشي: حدثنا عباس الازرق عن السري بن يحيى قال: مر الحجاج في يوم جمعة فسمع استغاثة فقال: ما هذا ؟ فقيل أهل السجون يقولون قتلنا الحر، فقال: قولوا لهم احساوا فيها ولا تكلمون.
قال: فما عاش بعد ذلك إلا أقل من جمعة حتى قصمه الله قاصم كل جبار.
وقال بعضهم: رأيته وهو يأتي الجمعة وقد كاد يهلك من العلة.
وقال الاصمعي: لما مرض الحجاج أرجف الناس بموته فقال في خطبته: إن طائفة من أهل الشقاق والنفاق نزغ الشيطان بينهم (2) فقالوا: مات الحجاج، ومات
__________
(1) كذا بالاصول.
(2) في مروج الذهب 3 / 173: نفخ الشيطان في مناخرهم.

الحجاج فمه ؟ ! فهل يرجو الحجاج الخير إلا بعد الموت ؟ والله ما يسرني أن لا أموت وأن لي الدنيا وما فيها، وما رأيت الله رضي التخليد إلا لاهون (1) خلقه عليه إبليس، قال الله له (إنك من المنظرين) [ الاعراف: 14 ] فأنظره إلى يوم الدين، ولقد دعا الله العبد الصالح فقال (هب لي ملكا لا ينبغي لاحد من بعدي) [ ص: 35 ] فأعطاه الله ذلك إلا البقاء (2)، ولقد طلب العبد الصالح الموت بعد أن تم له أمره، فقال (توفني مسلما وألحقني بالصالحين) [ يوسف: 101 ] فما عسى أن يكون أيها الرجل، وكلكم ذلك الرجل، كأني والله بكل حي منكم ميتا، وبكل رطب يابسا، ثم نقل في أثياب أكفانه ثلاثة أذرع (3) طولا في ذراع عرضا، فأكلت لحمه، ومصت صديده، وانصرف الخبيث من ولده يقسم الخبيث من ماله، إن الذين يعقلون ما أقول، ثم نزل.
وقال إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني عن أبيه عن جده عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: ما حسدت الحجاج عدو الله على شئ حسدي إياه على حبه القرآن وإعطائه أهله عليه، وقوله حين حضرته الوفاة: اللهم اغفر لي فإن الناس يزعمون أنك لا تفعل.
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا
علي بن الجعد، حدثنا عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، عن محمد بن المنكدر.
قال: كان عمر بن عبد العزيز يبغض الحجاج فنفس عليه بكلمة قالها عند الموت: اللهم اغفر لي فإنهم يزعمون أنك لا تفعل.
قال: وحدثني بعض أهل العلم قال قيل للحسن: إن الحجاج قال عند الموت كذا وكذا، قال: قالها ؟ قالوا: نعم ! قال فما عسى.
وقال أبو العباس المري عن الرياشي عن الاصمعي قال: لما حضرت الحجاج الوفاة أنشأ يقول: يا رب قد حلف الاعداء واجتهدوا * بأنني رجل من ساكني النار أيحلفون عن عمياء ويحهم * ما علمهم بعظيم العفو غفار قال فأخبر بذلك الحسن فقال: بالله إن نجا لينجون بهما.
وزاد بعضهم في ذلك: - إن الموالي إذا شابت عبيدهم * في رقهم عتقوهم عتق أبرار وأنت يا خالقي أولى بذا كرما * قد شبت في الرق فأعتقني من النار وقال ابن أبي الدنيا: ثنا أحمد بن عبد الله التيمي قال: لما مات الحجاج لم يعلم أحد بموته حتى أشرفت جارية فبكت فقالت: ألا إن مطعم الطعام، وميتم الايتام، ومرمل النساء، ومفلق الهام، وسيد أهل الشام قد مات، ثم أنشأت تقول: -
__________
(1) في العقد 3 / 17: لابغض خلقه إليه وأهونهم عليه.
(2) في العقد ومروج الذهب: ثم اضمحل فكأن لم يكن.
(3) في مروج الذهب: فخد له في الارض أذرع طولا في ذراعين عرضا.

اليوم يرحمنا من كان يبغضنا * واليوم يأمننا من كان يخشانا وروى عبد الرزاق: عن معمر، عن ابن طاووس عن أبيه: أنه أخبر بموت الحجاج مرارا فلما تحقق وفاته قال: (فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين) [ الانعام: 45 ] وروى غير واحد أن الحسن لما بشر بموت الحجاج سجد شكرا لله تعالى، وكان مختفيا فظهر، وقال اللهم أمته فأذهب عنا سنته.
وقال حماد بن أبي سليمان: لما أخبرت إبراهيم النخعي بموت الحجاج
بكى من الفرح.
وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: ثنا سليمان بن أبي شيخ، ثنا صالح بن سليمان قال: قال زياد بن الربيع بن الحارث لاهل السجن يموت الحجاج في مرضه هذا في ليلة كذا وكذا، فلما كانت تلك الليلة لم ينم أهل السجن فرحا، جلسوا ينظرون حتى يسمعوا الناعية، وذلك ليلة سبع وعشرين من شهر رمضان، وقيل كان ذلك لخمس بقين من رمضان، وقيل في شوال من هذه السنة، وكان عمره إذ ذاك خمسا وخمسين سنة (1)، لان مولده كان عام الجماعة سنة أربعين، وقيل بعدها بسنة، وقيل قبلها بسنة، مات بواسط وعفى قبره، وأجري عليه الماء لكيلا ينبش ويحرق والله أعلم.
وقال الاصمعي: ما كان أعجب حال الحجاج، ما ترك إلا ثلاثمائة درهم.
وقال الواقدي: ثنا عبد الله بن محمد بن عبيد، حدثني عبد الرحمن بن عبيد الله بن فرق: ثنا عمي قال: زعموا أن الحجاج لما مات لم يترك إلا ثلاثمائة درهم ومصحفا وسيفا وسرجا ورحلا ومائة درع موقوفة، وقال شهاب بن خراش: حدثني عمي يزيد بن حوشب قال: بعث إلي أبو جعفر المنصور فقال: حدثني بوصية الحجاج بن يوسف، فقال: اعفني يا أمير المؤمنين، فقال: حدثني بها، فقلت: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به الحجاج بن يوسف أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأنه لا يعرف إلا طاعة الوليد بن عبد الملك، عليها يحيى، وعليها يموت، وعليها يبعث، وأوصى بتسعمائة درع حديد، ستمائة منها لمنافقي أهل العراق يغزون بها، وثلاثمائة للترك.
قال: فرفع أبو جعفر رأسه إلى أبي العباس الطوسي - وكان قائما على رأسه - فقال: هذه والله الشيعة لا شيعتكم.
وقال الاصمعي عن أبيه قال: رأيت الحجاج في المنام فقلت: ما فعل الله بك ؟ فقال: قتلني بكل قتلة قتلت بها إنسانا، قال: ثم رأيته بعد الحول فقلت: يا أبا محمد ما صنع الله بك ؟ فقال: يا ماص بظر أمه أما سألت عن هذا عام أول ؟ وقال القاضي أبو يوسف: كنت عند الرشيد فدخل عليه رجل فقال.
يا أمير المؤمنين رأيت الحجاج البارحة في النوم، قال: في أي زي رأيته ؟ قال: في زي قبيح.
فقلت: ما فعل الله بك ؟ فقال: ما أنت وذاك يا ماص بظر أمه ! فقال هارون: صدق والله، أنت رأيت الحجاج حقا، ما كان أبو محمد ليدع صرامته حيا
وميتا.
وقال حنبل بن إسحاق: ثنا هارون بن معروف ثنا ضمرة بن أبي شوذب عن أشعث الخراز.
__________
(1) في مروج الذهب 3 / 204 وابن الاثير 4 / 584 والاخبار الطوال ص 328: أربعا وخمسين.

قال: رأيت الحجاج في المنام في حالة سيئة فقلت: يا أبا محمد ما صنع بك ربك قال: ما قتلت أحدا قتلة إلا قتلني بها.
قال ثم أمر بي إلى النار، قلت ثم مه، قال ثم أرجو ما يرجو أهل لا إله إلا الله.
قال: وكان ابن سيرين يقول: إني لارجو له، فبلغ ذلك الحسن فقال: أما والله ليخلفن الله رجاءه فيه.
وقال أحمد بن أبي الحواري: سمعت أبا سليمان الداراني يقول: كان الحسن البصري لا يجلس مجلسا إلا ذكر فيه الحجاج فدعا عليه، قال: فرآه في منامه فقال له: أنت الحجاج ؟ قال: أنا الحجاج، قال: ما فعل الله بك ؟ قال: قتلت بكل قتيل قتلته ثم عزلت مع الموحدين.
قال: فأمسك الحسن بعد ذلك عن شتمه والله أعلم.
وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا حمزة بن العباس، حدثنا عبد الله بن عثمان، أنبأ ابن المبارك، أنبأنا سفيان.
قال: قدم الحجاج على عبد الملك بن مروان وافدا ومعه معاوية بن قرة، فسأل عبد الملك معاوية عن الحجاج فقال: إن صدقناكم قتلتمونا، وإن كذبناكم خشينا الله عزوجل، فنظر إلهى الحجاج فقال له عبد الملك: لا تعرض له، فنفاه إلى السند فكان له بها مواقف.
وممن توفي فيها من الاعيان إبراهيم بن يزيد النخعي قال: كنا إذا حضرنا جنازة أو سمعنا بميت عرف ذلك فينا أياما، لانا قد عرفنا أنه نزل به أمر صيره إلى الجنة أو إلى النار، وإنكم تتحدثون في جنائزكم بأحاديث دنياكم.
وقال: لا يستقيم رأي إلا بروية، ولا روية إلا برأي.
وقال: إذا رأيت الرجل يتهاون بالتكبيرة الاولى فاغسل يديك من فلاحه.
وقال: إني لارى الشئ مما يعاب فلا يمنعني من عيبه إلا مخافة أن أبتلي به.
وبكى عند موته فقيل له ما يبكيك ؟ فقال: انتظار ملك الموت، ما أدرى يبشرني بجنة أو بنار.
الحسن بن محمد بن الحنفية
كنيته أبو محمد، كان المقدم على إخوته، وكان عالما فقيها عارفا بالاختلاف والفقه، قال أيوب السختياني وغيره: كان أول من تكلم في الارجاء، وكتب في ذلك رسالة ثم ندم عليها.
وقال غيرهم: كان يتوقف في عثمان وعلي وطلحة والزبير، فلا يتولاهم ولا يذمهم، فلما بلغ ذلك أباه محمد بن الحنفية ضربه فشجه وقال: ويحك ألا تتولى أباك عليا ؟ وقال أبو عبيد: توفي سنة خمس وتسعين، وقال خليفة: توفي في أيام عمر بن عبد العزيز والله أعلم.
حميد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري وأمه أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وهي أخت عثمان بن عفان لامه، وكان حميد فقيها نبيلا عالما، له روايات كثيرة.

مطرف بن عبد الله بن الشخير تقدمت ترجمته، وهؤلاء كلهم لهم تراجم في كتاب التكميل.
وفيها كان موت الحجاج بواسط كما تقدم ذلك مبسوطا مستقصى ولله الحمد.
وفيها كان مقتل سعيد بن جبير في قول علي بن المدائني وجماعة، والمشهور أنه كان في سنة أربع وتسعين كما ذكره ابن جرير وغير واحد والله أعلم.
ثم دخلت سنة ست وتسعين وفيها فتح قتيبة بن مسلم رحمه الله تعالى كاشغر (1) من أرض الصين وبعث إلى ملك الصين رسلا (2) يتهدده ويتوعده ويقسم بالله لا يرجع حتى يطأ بلاده ويختم ملوكهم وأشرافهم، ويأخذ الجزية منهم أو يدخلوا في الاسلام.
فدخل الرسل على الملك الاعظم فيهم، وهو في مدينة عظيمة، يقال إن عليها تسعين بابا في سورها المحيط بها يقال لها خان بالق، من أعظم المدن وأكثرها ريعا ومعاملات وأموالا، حتى قيل إن بلاد الهند مع اتساعها كالشامة في ملك الصين لا يحتاجون إلى أن يسافروا في ملك غيرهم لكثرة أموالهم ومتاعهم، وغيرهم محتاج إليهم لما عندهم من المتاع والدنيا المتسعة، وسائر ملوك تلك البلاد تؤدي إلى ملك الصين الخراج، لقهره وكثرة جنده وعدده.
والمقصود أن الرسل لما دخلوا على ملك الصين وجدوا مملكة عظيمة حصينة ذات أنهار وأسواق وحسن
وبهاء، فدخلوا عليه في قلعة عظيمة حصينة، بقدر مدينة كبيرة، فقال لهم ملك الصين: ما أنتم ؟ - وكانوا ثلاثمائة رسول عليهم هبيرة - فقال الملك لترجمانه: قل لهم: ما أنتم وما تريدون ؟ فقالوا: نحن رسل قتيبة بن مسلم، وهو يدعوك إلى الاسلام، فإن لم تفعل فالجزية، فإن لم تفعل فالحرب.
فغضب الملك وأمر بهم إلى دار، فلما كان الغد دعاهم فقال لهم: كيف تكونون في عبادة إلهكم ؟ فصلوا الصلاة على عادتهم فلما ركعوا وسجدوا ضحك منهم، فقال: كيف تكونون في بيوتكم ؟ فلبسوا ثياب مهنهم، فأمرهم بالانصراف، فلما كان من الغد أرسل إليهم فقال: كيف تدخلون على ملوككم ؟ فلبسوا الوشي والعمائم والمطارف ودخلوا على الملك، فقال لهم: ارجعوا فرجعوا، فقال الملك لاصحابه، كيف رأيتم هؤلاء ؟ فقالوا، هذه أشبه بهيئة الرجال من تلك المرة الاولى، وهم أولئك.
فلما كان اليوم الثالث: أرسل إليهم فقال لهم كيف تلقون عدوكم ؟ فشدوا عليهم سلاحهم ولبسوا المغافر والبيض وتقلدوا السيوف ونكبوا (3) القسي وأخذوا الرماح وركبوا خيولهم ومضوا،
__________
(1) في الطبري 8 / 100: بعث قتيبة كثير بن فلان إلى كاشغر فسبى منها سبيا وختم أعناقهم وفي ابن الاثير 5 / 5: بعث جيشا مع كبير بن فلان.
وفي ابن الاعثم 7 / 251: دعا برجل من أصحابه يقال له كثير بن أيم الرياق فضم إليه سبعة الآف رجل من فارس وراجل.
(2) في الطبري 8 / 100 بعث اثنى عشر رجلا (وفي ابن الاثير: 5 / 5: عشرة) عليهم هبيرة بن المشمرخ الكلابي.
(3) في الطبري 8 / 100 تنكبوا.
وفي ابن الاثير 5 / 6: وأخذوا السيوف والرماح والقسي وركبوا.

فنظر إليهم ملك الصين فرأى أمثال الجبال مقبلة، فلما قربوا منه ركزوا رماحهم ثم أقبلوا نحوه مشمرين، فقيل لهم: ارجعوا - وذلك لما دخل قلوب أهل الصين من الخوف منهم - فانصرفوا فركبوا خيولهم واختلجوا رماحهم ثم ساقوا خيولهم كأنهم يتطاردون بها، فقال الملك لاصحابه: كيف ترونهم ؟ فقالوا: ما رأينا كهؤلاء قط.
فلما أمسوا بعث إليهم الملك أن ابعثوا إلي زعيمكم وأفضلكم، فبعثوا إليه هبيرة، فقال له الملك حين دخل عليه: قد رأيتم عظم ملكي، وليس أحد يمنعكم مني، وأنتم بمنزلة البيضة في كفي، وأنا سائلك عن أمر فإن تصدقني وإلا قتلتك، فقال:
سل ! فقال الملك: لم صنعتم ما صنعتم من زي أول يوم والثاني والثالث ؟ فقال: أما زينا أول يوم فهو لباسنا في أهلنا ونسائنا وطيبنا عندهم، وأما ما فعلنا ثاني يوم فهو زينا إذا دخلنا على ملوكنا، وأما زينا ثالث يوم فهو إذا لقينا عدونا.
فقال الملك: ما أحسن ما دبرتم دهركم، فانصرفوا إلى صاحبكم - يعني قتيبة - وقولوا له ينصرف راجعا عن بلادي، فإني قد عرفت حرصه وقلة أصحابه، وإلا بعثت إليكم من يهلككم عن آخركم.
فقال له هبيرة: تقول لقتيبة هذا ؟ ! فكيف يكون قليل الاصحاب من أول خيله في بلادك وآخرها في منابت الزيتون ؟ وكيف يكون حريصا من خلف الدنيا قادرا عليها، وغزاك في بلادك ؟ وأما تخويفك إيانا بالقتل فإنا نعلم أن لنا أجلا إذا حضر فأكرمها عندنا القتل، فلسنا نكرهه ولا نخافه.
فقال الملك: فما الذي يرضي صاحبكم ؟ فقال: قد حلف أنه لا ينصرف حتى يطأ أرضك ويختم ملوكك ويجبي الجزية من بلادك، فقال أنا أبر يمينه وأخرجه منها، أرسل إليه بتراب من أرضي، وأربع غلمان من أبناء الملوك، وأرسل إليه ذهبا كثيرا وحريرا وثيابا صينية لا تقوم ولا يدرى قدرها، ثم جرت لهم معه مقاولات كثيرة، ثم اتفق الحال على أن بعث صحافا من ذهب متسعة فيها تراب من أرضه ليطأه قتيبة، وبعث بجماعة من أولاده وأولاد الملوك ليختم رقابهم، وبعث بمال جزيل ليبر بيمين قتيبة، وقيل إنه بعث أربعمائة من أولاده وأولاد الملوك، فلما انتهى إلى قتيبة ما أرسله ملك الصين قبل ذلك منه، وذلك لانه كان قد انتهى إليه خبر موت الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين (1)، فانكسرت همته لذلك، وقد عزم قتيبة بن مسلم الباهلي على ترك مبايعة سليمان بن عبد الملك، وأراد الدعوة إلى نفسه لما تحت يده من العساكر، ولما فتح من البلاد والاقاليم فلم يمكنه ذلك، ثم قتل في آخر هذه السنة رحمه الله تعالى، فإنه يقال إنه ما كسرت له راية، وكان من المجاهدين في سبيل الله، واجتمع له من العساكر ما لم يجتمع لغيره.
وفيها غزا مسلمة بن عبد الملك الصائفة، وغزا العباس بن الوليد الروم، ففتح طولس والمرز بانين من بلاد الروم.
__________
(1) في الطبري وابن الاثير أن قتيبة قبل من ملك الصين ما أرسله إليه وأوفد إلى الوليد هبيرة يعلمه الخبر، فمات هبيرة وهو في طريقه بقرية من فارس وهذا يعني أن قتيبة لم يكن على علم بموت الوليد، أو لعل الوليد مات بعد ذلك بقليل
(الطبري 8 / 101 - الكامل 5 / 7).

وفيها تكامل بناء الجامع الاموي بدمشق على يد بانيه (1) أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك بن مروان رحمه الله تعالى وجزاه خيرا، وكان أصل موضع هذا الجامع قديما معبدا بنته اليونان الكلدا نيون الذين كانوا يعمرون دمشق (2)، وهم الذين وضعوها وعمروها أولا، فهم أول من بناها، وقد كانوا يعبدون الكواكب السبعة المتميزة، وهي القمر في السماء الدنيا، وعطارد في السماء الثانية، والزهرة في السماء الثالثة، والشمس في الرابعة، والمريخ في الخامسة، والمشتري في السادسة، وزحل في السابعة.
وقد كانوا صوروا على كل باب من أبواب دمشق هيكلا لكوكب من هذه الكواكب السبعة، وكانت أبواب دمشق سبعة وضعوها قصدا لذلك، فنصبوا هياكل سبعة لكل كوكب هيكل، وكان لهم عند كل باب من أبواب دمشق عيد في السنة، وهؤلاء هم الذين وضعوا الارصاد وتكلموا على حركات الكواكب واتصالاتها ومقارنتها، وبنوا دمشق واختاروا لها هذه البقعة إلى جانب الماء الوارد من بين هذين الجبلين، وصرفوه أنهارا تجري إلى الاماكن المرتفعة والمنخفضة، وسلكوا الماء في أفناء أبنية الدور بدمشق، فكانت دمشق في أيامهم من أحسن المدن، بل هي أحسنها، لما فيها من التصاريف العجيبة، وبنوا هذا المعبد وهو الجامع اليوم في جهة القطب، وكانوا يصلون إلى القطب الشمالي، وكانت محاريبهم إلى جهته، وكان باب معبدهم يفتح إلى جهة القبلة، خلف المحراب اليوم، كما شاهدنا ذلك عيانا، ورأينا محاريبهم إلى جهة القطب، ورأينا الباب وهو باب حسن مبني بحجارة منقوشة، وعليه كتاب بخطهم، وعن يمينه ويساره بابان صغيران بالنسبة إليه، وكان غربي المعبد قصر منيف جدا تحمله هذه الاعمدة التي بباب البريد، وشرقي المعبد قصر جيرون الملك، الذي كان ملكهم (3)، وكان هناك داران عظيمتان معدتان لمن يتملك دمشق قديما منهم،
__________
(1) عن ابي الحسن الخشني ذكر بعضهم أن النبي (صلى الله عليه وسلم) صلى في موضع مسجد دمشق ليلة أسري به وقد انكر ابن عساكر هذا وقال: هذا منقطع ومنكر جدا ونقل عن أبي زرعة قال: مسجد دمشق خطه أبو عبيدة بن الجراح حين الفتح وكذلك مسجد حمص.
(2) اختلف المؤرخون ونقلة الاخبار في أول من بنى مدينة دمشق، ففي بنائها أقوال كثيرة منها انها بنيت على عهد آدم، وذكر كعب الاحبار أن أول حائط وضع على وجه الارض بعد الطوفان حائط حران ودمشق.
وقال ابن الكلبي: أول من بناها دمشاق بن قاني بن لامك بن ارفخشد بن سام بن نوح.
وقيل إن الذي بناها جيرون بن سعد بن عاد بن ارم بن سام بن نوح.
وقال وهب بن منبه: بناها غلام لابراهيم ويسمى دمشاق.
وقيل أول من بناها بنو أراسف الكنعاني.
وقال صاحب عيون التواريخ أن الذي بناها غلام للاسكندر اسمه دمشقش فسميت باسمه.
وهو ما ذهب إليه ابن عساكر مع إشارته إلى قول بعضهم ان اليونا نيين بنوها (انظر تاريخ ابن عساكر - معجم البلدان).
(3) اختلفوا في جيرون، فقيل هو جيرون بن سعد بن عاد بن ارم بن سام بن نوح (صلى الله عليه وسلم) وهو أول من بنى دمشق وبه سمي باب جيرون.
وقيل هو رجل من الجبابرة بنى حصن جيرون بدمشق (تذكرة العماد - معجم البلدان - معجم ما استعجم)

ويقال إنه كان مع المعبد ثلاث دور عظيمة للملوك، ويحيط بهذه الدور والمعبد سور واحد عال منيف، بحجارة كبار منحوتة، وهن دار المطبق، ودار الخيل، ودار كانت تكون مكان الخضراء التي بناها معاوية.
قال ابن عساكر فيما حكاه عن كتب بعض الاوائل: إن اليونان مكثوا يأخذون الطالع لبناء دمشق وهذه الاماكن ثماني عشرة سنة، وقد حفروا أساس الجدران حتى واتاهم الوقت الذي طلع فيه الكوكبان اللذان أرادوا أن هذا المعبد لا يخرب أبدا ولا تخلو منه العبادة، وأن هذه الدار إذا بنيت لا تخلو من أن تكون دار الملك والسلطنة.
قلت: أما المعبد فلم يخل من العبادة.
قال كعب الاحبار: لا يخلو منها حتى تقوم الساعة، وأما دار الملك التي هي الخضراء فقد جدد بناءها معاوية، ثم أحرقت في سنة إحدى وستين وأربعمائة كما سنذكره، فبادت وصارت مساكن ضعفاء الناس وأراذلهم في الغالب إلى زماننا هذا.
والمقصود أن اليونان استمروا على هذه الصفة التي ذكرناها بدمشق مددا طويلة، تزيد على أربعة آلاف سنة، حتى أنه يقال إنه أول من بنى جدران هذا المعبد الاربعة هود
عليه الصلاة والسلام، وقد كان هود قبل إبراهيم الخليل بمدد طويلة، وقد ورد إبراهيم الخليل دمشق ونزل شمالها عند برزة (1)، وقاتل هناك قوما من أعدائه فظفر بهم، ونصره الله عليهم، وكان مقامه لمقاتلتهم عند برزة، فهذا المكان المنسوب إليه بها منصوص عليه في الكتب المتقدمة يأثرونه كابرا عن كابر وإلى زماننا والله أعلم.
وكانت دمشق إذ ذاك عامرة آهلة بمن فيها من اليونان، وكانوا خلقا لا يحصيهم إلا الله، وهم خصماء الخليل، وقد ناظرهم الخليل في عبادتهم الاصنام والكواكب وغيرها في غير موضع، كما قررنا ذلك في التفسير، وفي قصة الخليل من كتابنا هذا " البداية والنهاية " ولله الحمد وبالله المستعان.
والمقصود أن اليونان لم يزالوا يعمرون دمشق ويبنون فيها وفي معاملاتها من أرض حوران والبقاع وبعلبك وغيرها، البنايات الهائلة الغريبة العجيبة، حتى إذا كان بعد المسيح بمدة نحو من ثلاثمائة سنة تنصر أهل الشام على يد الملك قسطنطين بن قسطنطين، الذي بنى المدينة المشهورة به ببلاد الروم وهي القسطنطينية، وهو الذي وضع لهم القوانين، وقد كان أولا هو وقومه وغالب أهل الارض يونانا، ووضعت له بطاركته النصارى دينا مخترعا مركبا من أصل دين النصرانية، ممزوجا بشئ من عبادة الاوثان، وصلوا به إلى الشرق، وزادوا في الصيام، وأحلوا الخنزير، وعلموا أولادهم الامانة الكبيرة فما يزعمون، وإنما هي في الحقيقة خيانة كبيرة، وجناية كثيرة حقيرة، وهي مع ذلك في الحجم صغيرة.
وقد تكلمنا على ذلك فيما سلف وبيناه.
فبنى لهم هذا الملك الذي ينتسب إليه الطائفة الملكية من النصارى، كنائس كبيرة في دمشق وفي غيرها، حتى يقال إنه بنى اثنتي عشرة
__________
(1) في معجم البلدان (دمشق): ان ابراهيم عليه السلام ولد في غوطة دمشق في قرية يقال لها برزة في جبل قاسيون.

الف كنيسة، وأوقف عليها أوقافا دارة، من ذلك كنيسة بيت لحم، وقمامة في القدس، بنتها أم هيلانة الغند قانية، وغير ذلك.
والمقصود أنهم - يعني النصارى - حولوا بناء هذا المعبد الذي هو بدمشق معظما عند اليونان فجعلوه كنيسة يوحنا، وبنوا بدمشق كنائس كثيرة غيرها مستأنفة، واستمر النصارى على دينهم
بدمشق وغيرها نحوا من ثلاثمائة سنة، حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم، فكان من شأنه ما تقدم بعضه في كتاب السيرة من هذا الكتاب، وقد بعث إلى ملك الروم في زمانه - وهو قيصر ذلك الوقت - واسمه هرقل يدعوه إلى الله عزوجل، وكان من مراجعته ومخاطبته إلى أبي سفيان ما تقدم، ثم بعث امراءه الثلاثة، زيد بن حارثة، وجعفر، وابن رواحة، إلى البلقاء من تخوم الشام، فبعث الروم إليهم جيشا كبيرا فقتلوا هؤلاء الامراء وجماعة ممن معهم من الجيش، فعزم النبي صلى الله عليه وسلم على قتال الروم ودخول الشام عام تبوك، ثم رجع عام ذلك لشدة الحر، وضعف الحال، وضيقه على الناس.
ثم لما توفي بعث الصديق الجيوش إلى الشام بكمالها، ومن ذلك مدينة دمشق بأعمالها، وقد بسطنا القول في ذلك عند ذكر فتحها، فلما استقرت اليد الاسلامية عليها وأنزل الله رحمته فيها، وساق بره إليها، وكتب أمير الحرب أبو عبيدة إذ ذاك، وقيل خالد بن الوليد، لاهل دمشق كتاب أمان، أقروا أيدي النصارى على أربع عشرة كنيسة، وأخذوا منهم نصف هذه الكنيسة التي كانوا يسمونها كنيسة مريحنا، بحكم أن البلد فتحه خالد من الباب الشرقي بالسيف، وأخذت النصارى الامان من أبي عبيدة، وكان على باب الجابية الصلح، فاختلفوا ثم اتفقوا على أن جعلوا نصف البلد صلحا ونصفه عنوة، فأخذوا نصف هذه الكنيسة الشرقي فجعله أبو عبيدة مسجدا يصلي فيه المسلمون، وكان أول من صلى في هذا المسجد أبو عبيدة ثم الصحابة بعده في البقعة الشرقية منه، التي يقال لها محراب الصحابة.
ولكن لم يكن الجدار مفتوحا بمحراب محنى، وإنما كانوا يصلون عند هذه البقعة المباركة، والظاهر أن الوليد هو الذي فتق المحاريب في الجدار القبلي قلت: هذه المحاريب متجددة ليست من فتق الوليد، وإنما فتق الوليد محرابا واحدا، إن كان قد فعل، ولعله لم يفعل شيئا منها، فكان يصلي فيه الخليفة، وبقيتها فتقت قريبا، لكل إمام محراب، شافعي وحنفي ومالكي وحنبلي، وهؤلاء إنما حدثوا بعد الوليد بزمان.
وقد كره كثير من السلف مثل هذه المحاريب، وحعلوه من البدع المحدثة، وكان المسلمون والنصارى يدخلون هذا المعبد من باب واحد، وهو باب المعبد الاعلى من جهة القبلة، مكان المحراب الكبير الذي في المقصورة اليوم، فينصرف النصارى إلى جهة الغرب إلى كنيستهم، ويأخذ المسلمون يمنة إلى مسجدهم، ولا يستطيع النصارى أن يجهروا بقراءة كتابهم، ولا
يضربوا بناقوسهم، إجلالا للصحابة ومهابة وخوفا.
وقد بنى معاوية في أيام ولايته على الشام دار الامارة قبلي المسجد الذي كان للصحابة، وبنى فيها قبة خضراء، فعرفت الدار بكمالها بها، فكسنها معاوية أربعين سنة كما قدمنا.
ثم لم يزل الامر على ما ذكرنا من أمر هذه الكنيسة شطرين بين المسلمين والنصارى، من سنة أربع عشرة، إلى سنة ست وثمانين في ذي القعدة منها، وقد صارت الخلافة

إلى الوليد بن عبد الملك في شوال منها، فعزم الوليد على أخذ بقية هذه الكنيسة وإضافتها إلى ما بأيدي المسلمين منها، وجعل الجميع مسجدا واحدا، وذلك لان بعض المسلمين كان يتأذى بسماع قراءة النصارى للانجيل، ورفع أصواتهم في صلواتهم، فأحب أن يبعدهم عن المسلمين، وأن يضيف ذلك المكان إلى هذا، فيصير كله معبدا للمسلمين، ويتسع المسجد لكثرة المسلمين، فعند ذلك طلب النصارى وسأل منهم أن يخرجوا له عن هذا المكان، ويعوضهم إقطاعات كثيرة، وعرضها عليهم، وأن يبقى بأيديهم أربع كنائس لم تدخل في العهد، وهي كنيسة مريم، وكنيسة المصلبة داخل باب شرقي، وكنيسة تل الجبن، وكنيسة حميد بن درة التي بدرب الصقل، فأبوا ذلك أشد الاباء، فقال: ائتوني بعهودكم التي بأيديكم من زمن الصحابة، فأتوا بها فقرئت بحضرة الوليد، فإذا كنيسة توما - التي كانت خارج باب توما على حافة النهر - لم تدخل في العهد، وكانت فيما يقال أكبر من كنيسة مريحنا، فقال الوليد: أنا أهدمها وأجعلها مسجدا، فقالوا: بل يتركها أمير المؤمنين وما ذكر من الكنائس ونحن نرضى ونطيب له نفسا ببقية هذه الكنيسة، فأقرهم على تلك الكنائس، وأخذ منهم بقية هذه الكنيسة.
هذا قول (1)، ويقال إن الوليد لما أهمه ذلك وعرض ما عرض على النصارى فأبوا من قبوله.
دخل عليه بعض الناس فأرشده إلى أن يقيس من باب شرقي ومن باب الجابية، فوجدوا أن الكنيسة قد دخلت في العنوة وذلك أنهم قاسوا من باب شرقي ومن باب الجابية فوجدوا منتصف ذلك عند سوق الريحان تقريبا، فإذا الكنيسة قد دخلت في العنوة، فأخذها، وحكي عن المغيرة (2) مولى الوليد قال: دخلت على الوليد فوجدته مهموما فقلت: مالك يا أمير المؤمنين مهموما ؟ فقال: إنه قد كثر المسلمون وقد ضاق بهم المسجد، فأحضرت النصارى
وبذلت لهم الاموال في بقية هذه الكنيسة لاضيفها إلى المسجد فيتسع على المسلمين فأبوا، فقال المغيرة: يا أمير المؤمنين عندي ما يزيل همك، قال: وما هو ؟ قلت: الصحابة لما أخذوا دمشق دخل خالد بن الوليد من الباب شرقي بالسيف، فلما سمع أهل البلد بذلك فزعوا إلى أبي عبيدة يطلبون منه الامان فأمنهم، وفتحوا له باب الجابية، فدخل منه أبو عبيدة بالصلح، فنحن نماسحهم إلى أي موضع بلغ السيف أخدناه، وما بالصلح تركناه بأيديهم، وأرجو أن تدخل الكنيسة كلها في العنوة، فتدخل في المسجد.
فقال الوليد: فرجت عني، فتول أنت ذلك بنفسك، فتولاه المغيرة ومسح من الباب الشرقي إلى نحو باب الجابية إلى سوق الريحان فوجد السيف لم يزل عمالا حتى جاوز القنطرة الكبيرة بأربع أذرع وكسر، فدخلت الكنيسة في المسجد، فأرسل الوليد إلى النصارى فأخبرهم
__________
(1) نشك في الرواية حيث يظهر لنا أن الوليد إنما أخذ الكنيسة رغما عن أصحابها ونقول إنما ذلك كان رغبة الوليد في مشاورة النصارى واستئذانهم باضافة الكنيسة إلى الجامع بعد أن رأى ضرورة ذلك لاسباب أهمها: زيادة عدد المسلمين وضيق المكان.
(2) في ابن عساكر: المغيرة بن عبد الملك.

وقال: إن هذه الكنيسة كلها دخلت في العنوة فهي لنا دونكم، فقالوا: إنك أولا دفعت إلينا الاموال وأقطعتنا الاقطاعات فأبينا، فمن إحسان أمير المؤمنين أن يصالحنا فيبقى لنا هذه الكنائس الاربع بأيدينا، ونحن نترك له بقية هذه الكنيسة، فصالحهم على إبقاء هذه الاربع الكنائس والله أعلم.
وقيل إنه عوضهم منها كنيسة عند حمام القاسم عند باب الفراديس داخله فسموها مريحنا باسم تلك الكنيسة التي أخذت منهم، وأخذوا شاهدها فوضعوه فوق التي أخذوها بدلها، فالله أعلم.
ثم أمر الوليد بإحضار آلات الهدم واجتمع إليه الامراء والكبراء، وجاء إليه أساقفة النصارى وقساوستهم فقالوا: يا أمير المؤمنين إنا نجد في كتبنا أن من يهدم هذه الكنيسة يجن (1)، فقال الوليد: أنا أحب أن أجن في الله، ووالله لا يهدم فيها أحد شيئا قبلي، ثم صعد المنارة الشرقية ذات الاضالع المعروفة بالساعات، وكانت صومعة هائلة فيها راهب عندهم، فأمره الوليد بالنزول منها فأكبر
الراهب ذلك، فأخذ الوليد بقفاه فلم يزل يدفعه حتى أنزله منها، ثم صعد الوليد على أعلى مكان في الكنيسة فوق المذبح الاكبر منها، الذي يسمونه الشاهد، وهو تمثال في أعلى الكنيسة، فقال له الرهبان: احذر الشاهد، فقال: أنا أول ما أضع فأسي في رأس الشاهد، ثم كبر وضربه فهدمه، وكان على الوليد قباء أصفر لونه سفر جلي قد غرز أذياله في المنطقة، ثم أخذ فأسا بيده فضرب بها في أعلى حجر فألقاه، فتبادر الامراء إلى الهدم، وكبر المسلمون ثلاث تكبيرات، وصرخت النصارى بالعويل على درج جيرون، وكانوا قد اجتمعوا هنالك، فأمر الوليد أمير الشرطة وهو أبو نائل رياح الغساني، أن يضربهم حتى يذهبوا من هنالك، ففعل ذلك، فهدم الوليد والامراء جميع ما جدده النصارى في تربيع هذا المعبد من المذابح والابنية والحنايا، حتى بقي المكان صرحة مربعة، ثم شرع في بنائه بفكرة جيدة على هذه الصفة الحسنة الانيقة، التي لم يشتهر مثلها قبلها كما سنذكره.
وقد استعمل الوليد في بناء هذا المسجد خلقا كثيرا من الصناع والمهندسين والفعلة، وكان المستحث على عمارته أخوه وولي عهده من بعده سليمان بن عبد الملك، ويقال إن الوليد بعث إلى ملك الروم يطلب منه صناعا في الرخام وغير ذلك، ليستعين بهم على عمارة هذا المسجد على ما يريد، وأرسل يتوعده لئن لم يفعل ليغزون بلاده بالجيوش، وليخربن كل كنيسة في بلاده، حتى كنيسة القدس، وهي قمامة، وكنيسة الرها، وسائر آثار الروم، فبعث ملك الروم إليه صناعا كثيرة جدا، مائتي صانع (2)، وكتب إليه يقول: إن كان أبوك فهم هذا الذي تصنعه وتركه فإنه لوصمة عليك، وإن لم يكن فهمه وفهمت أنت لوصمة عليه، فلما وصل ذلك إلى الوليد أراد أن يجيب عن ذلك،
__________
(1) في معجم البلدان: خنق.
(2) قال المقدسي في أحسن التقاسيم ص 73: أن الوليد جمع لبنائه صناعا مهرة من الشام ومصر بلغ عددهم أكثر من عشرة آلاف استمروا يعملون فيه تسع سنوات (انظر معجم البلدان)

واجتمع الناس عنده لذلك، فكان فيهم الفرزدق الشاعر، فقال: أنا أجيبه يا أمير المؤمنين من كتاب الله.
قال الوليد: وما هو ويحك ؟ فقال: قال الله تعالى (ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما)
[ الانبياء: 79 ] وسليمان هو ابن داود، ففهمه الله ما لم يفهمه أبوه.
فأعجب ذلك الوليد فأرسل به جوابا إلى ملك الروم.
وقد قال الفرزدق في ذلك: - فرقت بين النصارى في كنائسهم * والعابدين مع الاسحار والعتم وهم جميعا إذا صلوا وأوجههم * شتى إذا سجدوا لله والصنم وكيف يجتمع الناقوس يضربه * أهل الصليب مع القراء لم تنم فهمت تحويلها عنهم كما فهما * إذ يحكمان لهم في الحرث والغنم داود والملك المهدي إذ جزآ * ولادها واجتزاز الصوف بالجلم فهمك الله تحويلا لبيعتهم * عن مسجد فيه يتلى طيب الكلم ما من أب حملته الارض نعلمه * خير بنين ولا خير من الحكم قال الحافظ عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم الدمشقي: بنى الوليد ما كان داخل حيطان المسجد وزاد في سمك الحيطان.
وقال الحسن بن يحيى الخشني: إن هودا عليه السلام هو الذي بنى الحائط القبلي من مسجد دمشق.
وقال غيره: لما أراد الوليد بناء القبة التي وسط الرواقات - وهي قبة النسر وهو اسم حادث لها، وكأنهم شبهوها بالنسر في شكله، لان الرواقات عن يمينها وشمالها كالاجنحة لها - حفر لاركانها حتى وصلوا إلى الماء وشربوا منه ماء عذبا زلالا، ثم إنهم وضعوا فيه زيادة الكرم، وبنوا فوقها بالحجارة، فلما ارتفعت الاركان بنوا عليها القبة فسقطت، فقال الوليد لبعض المهندسين: أريد أن تبني لي أنت هذه القبة، فقال: على أن تعطيني عهد الله وميثاقه على أن لا يبنيها أحد غيري، ففعل.
فبنى الاركان ثم غلفها بالبواري، وغاب عنها سنة كاملة لا يدري الوليد أين ذهب، فلما كان بعد السنة حضر، فهم به الوليد فأخذه ومعه رؤوس الناس، فكشف البواري عن الاركان فإذا هي قد هبطت بعد ارتفاعها حتى ساوت الارض، فقال له: من هذا أتيت، ثم بناها فانعقدت.
وقال بعضهم: أراد الوليد أن يجعل بيضة القبة من ذهب خالص ليعظم بذلك شأن هذا البناء، فقال له المعمار: إنك لا تقدر على ذلك، فضربه خمسين سوطا، وقال له: ويلك ! أنا لا
أقدر على ذلك وتزعم أني أعجز عنه ؟ وخراج الارض وأموالها تجبي إلي ؟ قال: نعم أنا أبين لك ذلك، قال: فبين ذلك، قال: اضرب لبنة واحدة من الذهب وقس عليها ما تريد هذه القبة من ذلك، فأمر الوليد فأحضر من الذهب ما ضرب منه لبنة فإذا هي قد دخلها ألوف من الذهب، فقال: يا أمير المؤمنين إنا نريد مثل هذه اللبنة كذا وكذا ألف لبنة، فإن كان عندك ما يكفي من ذلك عملناه، فلما تحقق صحة قوله أطلق له الوليد خمسين دينارا، وقال إني لا أعجز عما قلت، ولكن فيه

إسراف وضياع مال في غير وجهه اللائق به، ولان يكون ما أردنا من ذلك نفقة في سبيل الله، وردا على ضعفاء المسلمين خير من ذلك.
ثم عقدها على ما أشار به المعمار.
ولما سقف الوليد الجامع جعلوا سقفه جملونات، وباطنها مسطحا مقرنصا بالذهب، فقال له بعض أهله: أتعبت الناس بعدك في طين أسطحتهم، لما يريد هذا المسجد في كل عام من الطين الكثير - يشير إلى أن التراب يغلو والفعلة تقل لاجل العمل في هذا المسجد في كل عام - فأمر الوليد أن يجمع ما في بلاده من الرصاص ليجعله عوض الطين، ويكون أخف على السقوف.
فجمع من كل ناحية من الشام وغيره من الاقاليم، فعازوا فإذا عند امرأة منه قناطير مقنطرة، فساوموها فيه، فقالت: لا أبيعه إلا بوزنه فضة (1)، فكتبوا إلى الوليد فقال: اشتروه منها ولو بوزنه فضة (2)، فلما بذلوا لها ذلك قالت: أما إذا قلتم ذلك فهو صدقة لله يكون في سقف هذا المسجد، فكتبوا على ألواحها بطابع " لله " ويقال إنها كانت إسرائيلية، وإنه كتب على الالواح التي أخذت منها: هذا ما أعطته الاسرائيلية.
وقال محمد بن عائذ: سمعت المشايخ يقولون: ما تم بناء مسجد دمشق إلا بأداء الامانة، لقد كان يفضل عند الرجل من القوم أو الفعلة الفلس ورأس المسمار فيأتي به حتى يضعه في الخزانة.
وقال بعض مشايخ الدماشقة: ليس في الجامع من الرخام شئ إلا الرخامتان اللتان في المقام من عرش بلقيس والباقي كله مرمر.
وقال بعضهم: اشترى الوليد العمودين الاخضرين اللذين تحت النسر (3)، من حرب خالد بن يزيد بن معاوية بألف وخمسمائة دينار.
وقال دحيم عن الوليد بن مسلم: ثنا مروان بن جناح عن أبيه قال: كان في مسجد دمشق اثنا عشر ألف مرخم، وقال أبو
قصي عن دحيم عن الوليد بن مسلم عن عمرو بن مهاجر الانصاري: إنهم حسبوا ما أنفقه الوليد على الكرمة (4) التي في قبلي المسجد فإذا هو سبعون ألف دينار.
وقال أبو قصي: أنفق في مسجد دمشق أربعمائة صندوق من الذهب، في كل صندوق أربعة
__________
(1) في معجم البلدان (دمشق): ذهبا.
(2) في ياقوت: ولو بوزنه مرتين.
(3) في رواية خريدة العجائب نقلا عن ابن عساكر: تحت قبة النسر وهما على باب السنجق الكبير - اشتراهما من خالد بن يزيد بن معاوية.
(4) الكرمة: فسيسفاء على هيئة الكرم مؤلفة من قطع صغيرة من الزجاج المربع مبطن بالذهب أو الالوان.
وكان منها بقايا إلى أيام الحريق الاخير سنة 1310 ه ويوجد قريب منها في قبة الملك الظاهر بدمشق إلى اليوم.
وقد أرخ الشيخ عبد الرحمن القصار شاعر دمشق ذلك الحريق الذي أصاب محاسن الجامع وذهب بأركانه قال: يا مسجدا قد هدمت أركانه * أبشر بتشييد مع الاتقان واخلع ثياب الحزن عنك فإنها * قد بدلت لك في ثياب تهاني كم من فؤاد ذاب لما أرخوا * بأجيج حرقك في ربيع الثاني

عشر ألف دينار، وفي رواية في كل صندوق ثمانية وعشرون ألف دينار.
قلت: فعلى الاول يكون ذلك خمسة آلاف دينار، وستمائة ألف دينار، وعلى الثاني يكون المصروف في عمارة الجامع الاموي أحد عشر ألف ألف دينار، ومائتي ألف دينار.
وقيل إنه صرف أكثر من ذلك بكثير، والله أعلم.
قال أبو قصى: وأتى الحرسي إلى الوليد فقال: يا أمير المؤمنين إن الناس يقولون أنفق أمير المؤمنين بيوت الاموال في غير حقها.
فنودي في الناس الصلاة جامعة.
فاجتمع الناس فصعد الوليد المنبر وقال: إنه بلغني عنكم أنكم قلتم أنفق الوليد بيوت الاموال في غير حقها، ثم قال: يا عمرو بن مهاجر، قم فأحضر أموال بيت المال، فحملت على البغال إلى الجامع، ثم بسط لها الانطاع تحت قبة النسر، ثم أفرغ عليها المال ذهبا صبيبا، وفضة خالصة، حتى صارت كوما، حتى
كان الرجل إذا قام من الجانب الواحد لا يرى الرجل من الجانب الآخر، وهذا شئ كثير، ثم جئ بالقبانين فوزنت الاموال فإذا هي تكفي الناس ثلاث سنين مستقبلة، وفي رواية ست (1) عشرة سنة مستقبلة، لو لم يدخل للناس شئ بالكلية، فقال لهم الوليد: والله ما أنفقت في عمارة هذا المسجد درهما من بيوت المال، وإنما هذا كله من مالي.
ففرح الناس وكبروا وحمدوا الله عزوجل على ذلك، ودعوا للخليفة وانصرفوا شاكرين داعين.
فقال لهم الوليد: يا أهل دمشق، والله ما أنفقت في بناء هذا المسجد شيئا من بيوت المال، وإنما هذا كله من مالي، لم أرزأكم من أموالكم شيئا.
ثم قال الوليد: يا أهل دمشق، إنكم تفخرون على الناس بأربع، بهوائكم ومائكم وفاكهتكم وحماماتكم، فأحببت أن أزيدكم خامسة وهي هذا الجامع (2).
وقال بعضهم: كان في قبلة جامع دمشق ثلاث صفائح مذهبة بلازورد، في كل منها: بسم الله الرحمن الرحيم الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم.
لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا نعبد إلا إياه، ربنا الله وحده، وديننا الاسلام، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم أمر ببنيان هذا المسجد وهدم الكنيسة التي كانت فيه عبد الله أمير المؤمنين الوليد، في ذي القعدة سنة ست وثمانين، وفي صفيحة أخرى رابعة من تلك الصفائح: الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم إلى آخر الفاتحة، ثم النازعات، ثم عبس، ثم إذا الشمس كورت، قالوا: ثم محيت بعد مجئ المأمون إلى دمشق.
وذكروا أن أرضه كانت مفضضة كلها، وأن الرخام كان في جدرانه إلى قامات، وفوق الرخام كرمة عظيمة من ذهب، وفوق الكرمة الفصوص المذهبة والخضر والحمر والزرق والبيض، قد صوروا بها سائر البلدان المشهورة، الكعبة فوق المحراب، وسائر الاقاليم يمنة ويسرة، وصوروا ما في البلدان من الاشجار الحسنة المثمرة والمزهرة وغير ذلك، وسقفه مقرنص بالذهب، والسلاسل المعلقة فيها جميعها من ذهب وفضة، وأنوار الشموع
__________
(1) في معجم البلدان (دمشق): ثمان عشرة سنة.
(2) انظر الحدائق والعيون ص 4 - 5.

في أماكنه مفرقة.
قال: وكان في محراب الصحابة برنية حجر من بلور، ويقال بل كانت حجرا من جوهر وهي الدرة، وكانت تسمى القليلة، وكانت إذا طفئت القناديل تضئ لمن هناك بنورها، فلما كان زمن الامين بن الرشيد - وكان يحب البلور وقيل الجوهر - بعث إلى سليمان والي شرطة دمشق أن يبعث بها إليه، فسرقها الوالي خوفا من الناس وأرسلها إليه، فلما ولي المأمون ردها إلى دمشق ليشنع بذلك على الامين.
قال ابن عساكر: ثم ذهبت بعد ذلك فجعل مكانها برنية من زجاج، قال: وقد رأيت تلك البرنية ثم انكسرت بعد ذلك فلم يجعل مكانها شئ، قالوا: وكانت الابواب الشارعة من داخل الصحن ليس عليها أغلاق، وإنما كان عليها الستور مرخاة، وكذلك الستور على سائر جدرانه إلى حد الكرمة التي فوقها الفصوص المذهبة، ورؤوس الاعمدة مطلية بالذهب الخالص الكثير، وعملوا له شرفات تحيط به، وبنى الوليد المنارة الشمالية التي يقال لها مأذنة العروس، فأما الشرقية والغربية فكانتا فيه قبل ذلك بدهور متطاولة، وقد كان في كل زاوية من هذا المعبد صومعة شاهقة جدا، بنتها اليونان للرصد، ثم بعد ذلك سقطت الشما ليتان وبقيت القبليتان إلى الآن، وقد أحرق بعض الشرقية بعد الاربعين وسبعمائة، فنقضت وجدد بناؤها من أموال النصارى، حيث اتهموا بحريقها، فقامت على أحسن الاشكال (1)، بيضاء بذاتها وهي والله أعلم الشرفة التي ينزل عليها عيسى بن مريم في آخر الزمان بعد خروج الدجال، كما ثبت ذلك في صحيح مسلم عن النواس بن سمعان.
قلت: ثم أحرق أعلى هذه المنارة وجددت (2)، وكان أعلاها من خشب فبنيت بحجارة كلها في آخر السبعين وسبعمائة، فصارت كلها مبنية بالحجارة.
والمقصود أن الجامع الاموي لما كمل بناؤه لم يكن على وجه الارض بناء أحسن منه، ولا أبهى ولا أجمل منه، بحيث إنه إذا نظر الناظر إليه أو إلى جهة منه أو إلى بقعة أو مكان منه تحير فيها نظره لحسنه وجماله ولا يمل ناظره، بل كلما أدمن النظر بانت له أعجوبة ليست كالاخرى، وكانت فيه طلسمات من أيام اليونان فلا يدخل هذه البقعة شئ من الحشرات بالكلية، لا من الحيات ولا من العقارب، ولا الخنافس ولا العناكيب، ويقال ولا العصافير أيضا نعشش فيه، ولا الحمام ولا شئ
مما يتأذى به الناس، وأكثر هذه الطلسمات أو كلها كانت مودعة في سقف هذا المعبد، مما يلي السبع،
__________
(1) قال في العبر: وفي سنة 740 ه سادس عشر شوال وقع بدمشق حريق كبير شمل سوق اللبادين القبلية وما تحتها وما فوقها إلى عند سوق الكتب، واحترق سوق الوراقين وسوق الذهب وحاصل الجامع وما حوله والمأذنة الشرقية وعدم الناس فيه من الاموال والمتاع ما لا يحصر.
وقد ذهب بهذا الحريق أموال الناس وأتى على المباني بأجمعها.
(2) قال صاحب محاسن الشام أن المنارة - مئذنة عيسى - جددت من أموال النصارى لكونهم اتهموا بحريقها باقرار بعضهم.

فأحرقت لما أحرق ليلة النصف من شعبان بعد العصر، سنة إحدى وستين وأربعمائة (1)، في دولة الفاطميين كما سيأتي ذلك في موضعه.
وقد كانت بدمشق طلسمات وضعتها اليونان بعضها باق إلى يومنا هذا والله أعلم.
فمن ذلك العمود الذي في رأسه مثل الكرة في سوق الشعير عند قنطرة أم حكيم وهذا المكان يعرف اليوم بالعلبيين، ذكر أهل دمشق أنه من وضع اليونان لعسر بول الحيوان، فإذا داروا بالحيوان حول هذا العمود ثلاث دورات انطلق باطنه فبال، وذلك مجرب من عهد اليونان.
قال ابن تيمية عن هذا العمود: إن تحته مدفون جبار عنيد، كافر يعذب، فإذا داروا بالحيوان حوله سمع العذاب فراث وبال من الخوف، قال: ولهذا يذهبون بالدواب إلى قبور النصارى واليهود والكفار، فإذا سمعت أصوات المعذبين انطلق بولها.
والعمود المشار إليه ليس له سر، ومن اعتقد أن فيه منفعة أو مضرة فقد أخطأ خطأ فاحشا.
وقيل إن تحته كنزا وصاحبه عنده مدفون، وكان ممن يعتقد الرجعة إلى الدنيا كما قال تعالى (وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين) [ المؤمنون: 37 ] والله سبحانه وتعالى أعلم.
وما زال سليمان بن عبد الملك يعمل في تكملة الجامع الاموي بعد موت أخيه مدة ولايته، وجددت له فيه المقصورة، فلما ولي عمر بن عبد العزيز عزم على أن يجرده مما فيه من الذهب، ويقلع السلاسل والرخام والفسيفساء، ويرد ذلك كله إلى بيت المال، ويجعل مكان ذلك كله طينا، فشق
ذلك على أهل البلد واجتمع أشرافهم إليه، وقال خالد بن عبد الله القسري: أنا أكمله لكم، فقال له: يا أمير المؤمنين بلغنا عنك كذا وكذا، قال: نعم ! فقال خالد: ليس ذلك لك يا أمير المؤمنين، فقال عمر: ولم يابن الكافرة ؟ - وكانت أمه نصرانية رومية أم ولد - فقال: يا أمير المؤمنين إن كانت كافرة فقد ولدت رجلا مؤمنا، فقال: صدقت، واستحيا عمر ثم قال له: فلم قلت ذلك ؟ قال: يا أمير المؤمنين لان غالب ما فيه من الرخام إنما حمله المسلمون من أموالهم من سائر الاقاليم، وليس هو لبيت المال، فأطرق عمر.
قالوا: واتفق في ذلك الزمان قدوم جماعة من بلاد الروم رسلا من عند ملكهم، فلما دخلوا من باب البريد وانتهوا إلى الباب الكبير الذي تحت النسر، ورأوا ما بهر عقولهم من حسن الجامع الباهر، والزخرفة التي لم يسمع بمثلها، صعق كبيرهم وخر مغشيا عليه، فحملوه إلى منزلهم، فبقي أياما مدنفا، فلما تماثل سألوه عما عرض له فقال: ما كنت أظن أن يبني المسلمون مثل هذا البناء، وكنت أعتقد أن مدتهم تكون أقصر من هذا، فلما بلغ ذلك عمر بن عبد العزيز قال: أو إن الغيظ أهلك الكفار، دعوه.
وسألت النصارى في أيام عمر بن عبد العزيز أن يعقد لهم
__________
(1) قال صاحب تاريخ القلانسي أن سبب الحريق خلاف وقع بين العسكر وأهل دمشق، بين المغاربة والمشارقة، وطرحت النار في جانب دمشق فاحترقت واتصلت النار بجامعها فاحترق وقد ايده ابن عساكر وغيره في ذلك.

مجلسا في شأن ما كان أخذه الوليد منهم، وكان عمر عادلا، فأراد أن يرد عليهم ما كان أخذه الوليد منهم فأدخله في الجامع، ثم حقق عمر القضية، ثم نظر فإذا الكنائس التي هي خارج البلد لم تدخل في الصلح الذي كتبه لهم الصحابة، مثل كنيسة دير مران بسفح قاسيون، وهي بقرية المعظمية، وكنيسة الراهب، وكنيسة توما خارج باب توما، وسائر الكنائس التي بقرى الحواجز، فخيرهم بين رد ما سألوه وتخريب هذه الكنائس كلها، أو تبقى تلك الكنائس ويطيبوا نفسا للمسلمين بهذه البقعة، فاتفقت آراؤهم بعد ثلاثة أيام على إبقاء تلك الكنائس، ويكتب لهمه كتاب أمان بها، ويطيبوا نفسا بهذه البقعة، فكتب لهم كتاب أمان بها.
والمقصود أن الجامع الاموي كان حين تكامل بناؤه ليس له في الدنيا مثيل في حسنه وبهجته،
قال الفرزدق: أهل دمشق في بلادهم في قصر من قصور الجنة - يعني الجامع - وقال أحمد بن أبي الحواري عن الوليد بن مسلم عن ابن ثوبان: ما ينبغي لاحد من أهل الارض أن يكون أشد شوقا إلى الجنة من أهل دمشق، لما يرون من حسن مسجدها.
قالوا: ولما دخل أمير المؤمنين المهدي دمشق يريد زيارة القدس نظر إلى جامع دمشق فقال لكاتبه أبي عبيد الله الاشعري: سبقنا بنو أمية بثلاث، بهذا المسجد الذي لا أعلم على وجه الارض مثله، وبنبل الموالي، وبعمر بن عبد العزيز، لا يكون والله فينا مثله أبدا.
ثم لما أتى بيت المقدس فنظر إلى الصخرة - وكان عبد الملك بن مروان هو الذي بناها - قال لكاتبه: وهذه رابعة.
ولما دخل المأمون دمشق فنظر إلى جامعها وكان معه أخوه المعتصم، وقاضيه يحيى بن أكثم، قال: ما أعجب ما فيه ؟ فقال أخوه: هذه الا ذهاب التي فيه، وقال يحيى بن أكثم: الرخام وهذه العقد، فقال المأمون: إني إنما أعجب من حسن بنيانه على غير مثال متقدم، ثم قال المأمون لقاسم الثمار: أخبرني باسم حسن أسمي به جاريتي هذه، فقال: سمها مسجد دمشق، فإنه أحسن شئ.
وقال عبد الرحمن عن ابن عبد الحكم عن الشافعي قال: عجائب الدنيا خمسة: أحدها منارتكم هذه - يعني منارة ذي القرنين باسكندرية - والثانية أصحاب الرقيم وهم بالروم اثنا عشر رجلا، والثالثة مرآة بباب الاندلس على باب مدينتها، يجلس الرجل تحتها فينظر فيها صاحبه من مسافة مائة فرسخ.
وقيل ينظر من بالقسطنطينية، والرابع مسجد دمشق وما يوصف من الانفاق عليه، والخامس الرخام والفسيفساء، فإنه لا يدري لها موضع، ويقال إن الرخام معجون، والدليل على ذلك أنه يذوب على النار.
قال ابن عساكر: وذكر إبراهيم بن أبي الليث الكاتب - وكان قدم دمشق سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة - في رسالة له قال: ثم أمرنا بالانتقال فانتقلت منه إلى بلد تمت محاسنه، ووافق ظاهره باطنه، أزقته أرجة، وشوارعه فرجة، فحيث ما مشيت شممت طيبا، وأين سعيت رأيت منظرا عجيبا، وإن أفضيت إلى جامعه شاهدت منه ما ليس في استطاعة الواصف أن يصفه، ولا الرائي أن يعرفه، وجملته أنه كنز الدهر ونادرة الوقت، وأعجوبة الزمان، وغريبة الاوقات، ولقد أثبت الله عز

وجل به ذكرا يدرس، وخلف به أمرا لا يخفى ولا يدرس.
قال ابن عساكر: وأنشدني بعض المحدثين في جامع دمشق عمره الله بذكره وفي دمشق فقال: (1) دمشق قد شاع حسن جامعها * وما حوته ربى مرابعها بديعة الحسن في الكمال لما * يدركه الطرف من بدائعها طيبة أرضها مباركة * باليمن والسعد أخذ طالعها جامعها جامع المحاسن قد * فاقت به المدن في جوامعها بنية بالاتقان قد وضعت * لا ضيع الله سعي واضعها تذكر في فضله ورفعته * آثار صدق راقت لسامعها قد كان قبل الحريق مدهشة * فغيرت ناره بلاقعها فأذهبت بالحريق بهجته * فليس يرجى إياب راجعها إذا تفكرت في الفصوص وما * فيها تيقنت حذق راصعها أشجارها لا تزال مثمرة * لا ترهب الريح من مدافعها كأنها من زمرد غرست * في أرض تبر تغشى بنافعها فيها ثمار تخالها ينعت * وليس يخشى فساد يانعها تقطف باللحظ لا بجارحة ال * أيدي ولا تجتني لبايعها وتحتها من رخامة قطع * لا قطع الله كف قاطعها احكم ترخيمها المرخم قد * بان عليها إحكام صانعها وإن تفكرت في قناطره * وسقفه بان حذق رافعها وإن تبينت حسن قبته * تحير اللب في أضالعها (2) تخترق الريح في منافذها * عصفا فتقوى على زغازعها وأرضه بالرخام قد فرشت * ينفسح الطرف في مواضعها مجالس العلم فيه مؤنقة * ينشرح الصدر في مجامعها
وكل باب عليه مطهرة * قد أمن الناس دفع مانعها يرتفق الناس من مرافقها * ولا يصدون عن منافعها ولا تزال المياه جارية * فيها لما شق من مشارعها وسوقها لا تزال آهلة * يزدحم الناس في شوارعها لما يشاؤون من فواكهها * وما يريدون من بضائعها
__________
(1) وهو الصاحب صفي الدين.
كما في منتخبات تواريخ دمشق 3 / 1027.
(2) في منتخبات تواريخ دمشق: أصانعها.

كأنها جنة معجلة * في الارض لولا مسرى فجائعها دامت برغم العدى مسلمة * وحاطها الله من قوارعها فصل فيما روي في جامع دمشق من الآثار وما ورد في فضله من الاخبار عن جماعة من السادة الاخيار.
روي عن قتادة أنه قال في قوله تعالى (والتين) قال: هو مسجد دمشق (والزيتون) قال: هو مسجد بيت المقدس (وطور سينين) حيث كلم الله موسى (وهذا البلد الامين) [ التين: 1 - 3 ] وهو مكة (1).
رواه ابن عساكر.
وقال صفوان بن صالح، عن عبد الخالق بن زيد بن واقد، عن أبيه، عن عطية بن قيس الكلابي قال: قال كعب الاحبار: ليبنين في دمشق مسجد يبقى بعد خراب الدنيا أربعين عاما.
وقال الوليد بن مسلم، عن عثمان بن أبي العاتكة، عن علي بن زيد، عن القاسم أبي عبد الرحمن قال: أوحى الله تعالى إلى جبل قاسيون أن هب ظلك وبركتك إلى جبل بيت المقدس، قال ففعل فأوحى الله إليه أما إذا فعلت فإني سأبني لي في خطتك بيتا أعبد فيه بعد خراب الدنيا أربعين عاما، ولا تذهب الايام والليالي حتى أرد عليك ظلك وبركتك، قال فهو عند الله بمنزلة الرجل الضعيف المتضرع.
وقال دحيم: حيطان المسجد الاربعة من بناء هود
عليه السلام، وما كان من الفسيفساء إلى فوق فهو من بناء الوليد بن عبد الملك - يعني أنه رفع الجدار فعلاه من حد الرخام والكرمة إلى فوق - وقال غيره: إنما بنى هود الجدار القبلي فقط.
ونقل عثمان بن أبي العاتكة عن أهل العلم أنهم قالوا في قوله تعالى (والتين) قالوا: هو مسجد دمشق.
وقال أبو بكر أحمد بن عبد الله بن الفرج المعروف بابن البرامي الدمشقي: ثنا إبراهيم بن مروان، سمعت أحمد بن إبراهيم بن ملاس يقول: سمعت عبد الرحمن بن يحيى بن إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر قال: كان خارج باب الساعات صخرة يوضع عليها القربان، فما تقبل منه جاءت نار فأكلته، وما لم يتقبل منه بقي على حاله.
قلت: وهذه الصخرة نقلت إلى داخل باب الساعات، وهي موجودة الآن، وبعض العامة يزعم أنها الصخرة التي وضع عليها ابنا آدم قربانهما فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، فالله أعلم (2).
وقال هشام بن عمار: ثنا الحسن بن يحيى الخشني (3) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به " صلى في
__________
(1) في الاصل: " قال: دمشق " وصححناه من تاريخ ابن عساكر 1 / 196: وانظر معجم البلدان (دمشق).
(2) انظر معجم البلدان 2 / 464 (دمشق).
(3) من تاريخ ابن عساكر، وفي الاصل الحسني.

موضع مسجد دمشق " قال ابن عساكر: وهذا منقطع ومنكر جدا، ولا يثبت أيضا لا من هذا الوجه ولا من غيره.
وقال أبو بكر البرامي: حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الملك بن المغيرة المقري، حدثني أبي، عن أبيه أن الوليد بن عبد الملك تقدم إلى القوام ليلة من الليالي فقال: إني أريد أن أصلي الليلة في المسجد، فلا تتركوا أحدا يصلي الليلة، فقال له بعضهم: يا أمير المؤمنين هذا الخضر يصلي في المسجد في كل ليلة، وفي رواية أنه قال لهم: لا تتركوا أحدا يدخله، ثم إن الوليد أتى باب الساعات فاستفتح الباب ففتح له، فإذا رجل قائم بين الساعات وباب الخضراء الذي يلي المقصورة يصلي، وهو أقرب إلى باب الخضراء منه إلى باب الساعات، فقال الوليد للقوام: ألم آمركم أن لا تتركوا أحدا الليلة يصلي في المسجد ؟ فقال له بعضهم: يا أمير المؤمنين هذا الخضر يصلي كل ليلة في
المسجد ".
في إسناد هذه الحكاية وصحتها نظر، ولا يثبت بمثلها وجود الخضر بالكلية، ولا صلاته في المكان المذكور والله أعلم.
وقد اشتهر في الاعصار المتأخرة أن الزاوية القبلية عند باب المأذنة الغربية تسمى زاوية الخضر، وما أدري ما سبب ذلك، والذي ثبت بالتواتر صلاة الصحابة فيه، وكفى بذلك شرفا له ولغيره من المساجد التي صلوا فيها، وأول من صلى فيه إماما أبو عبيدة بن الجراح، وهو أمير الامراء بالشام، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأمين هذه الامة، وصلى فيه خلق من الصحابة مثل معاذ بن جبل وغيره لكن قبل أن يغيره الوليد إلى هذه الصفة، فأما بعد أن غير إلى هذا الشكل فلم يره أحد من الصحابة كذلك إلا أنس بن مالك، فإنه ورد دمشق سنة ثنتين وتسعين، وهو يبني فيه الوليد، فصلى فيه أنس ورأى الوليد وأنكر أنس على الوليد تأخير الصلاة إلى آخر وقتها كما قدمنا ذلك في ترجمة أنس، عند ذكر وفاته سنة ثلاث وتسعين، وسيصلي فيه عيسى بن مريم إذا نزل في آخر الزمان، إذا خرج الدجال وعمت البلوى به، وانحصر الناس منه بدمشق، فينزل مسيح الهدى فيقتل مسيح الضلالة، ويكون نزوله على المنارة الشرقية بدمشق وقت صلاة الفجر (1)، فيأتي وقد أقيمت الصلاة فيقول له إمام الناس: تقدم يا روح الله، فيقول: إنما أقيمت لك، فيصلي عيسى تلك الصلاة خلف رجل من هذه الامة، يقال إنه المهدي فالله أعلم.
ثم يخرج عيسى بالناس فيدرك الدجال عنه عقبة أفيق، وقيل بباب لد فيقتله بيده هنالك.
وقد ذكرنا ذلك مبسوطا عند قوله تعالى (وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمن به قبل موته) [ النساء: 158 ] وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده لينزلن فيكم ابن مريم حكما مقسطا، وإماما عادلا، فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية، ولا يقبل إلا الاسلام) (2)
__________
(1) الحديث في صحيح مسلم: كتاب الفتن - 20 باب - ح 110 ص 2250.
(2) صحيح مسلم - كتاب الايمان - (71) باب ح (242).
ص 1 / 135.

والمقصود أن عيسى ينزل على المنارة الشرقية بدمشق، والبلد محصور محصن من الدجال،
فينزل على المنارة - وهي هذه المنارة المبنية في زماننا من أموال النصارى (1) - ثم يكون نزول عيسى حتفا لهم وهلاكا ودمارا عليهم، ينزل بين ملكين واضعا يديه على مناكبهما، وعليه مهروذتان، وفي رواية ممصرنان (2) يقطر رأسه ماء كأنما خرج من ديماس، وذلك وقت الفجر، فينزل على المنارة وقد أقيمت الصلاة، وهذا إنما يكون في المسجد الاعظم بدمشق، وهو هذا الجامع.
وما وقع في صحيح مسلم من رواية النواس بن سمعان الكلابي: فينزل على المنارة البيضاء شرقي دمشق، كأنه والله أعلم مروي بالمعنى بحسب ما فهمه الراوي، وإنما هو ينزل على المنارة الشرقية بدمشق، وقد أخبرت ولم أقف عليه إلى الآن أنه كذلك، في بعض ألفاظ هذا الحديث، في بعض المصنفات، والله المسؤول المأمول أن يوفقني فيوقفني على هذه اللفظة، وليس في البلد منارة تعرف بالشرقية سوى هذه، وهي بيضاء بنفسها، ولا يعرف في بلاد الشام منارة أحسن منها، ولا أبهى ولا أعلى منها، ولله الحمد والمنة.
قلت: نزول عيسى على المنارة التي بالجامع الاموي غير مستنكر، وذلك أن البلاء بالدجال يكون قد عم فينحصر الناس داخل البلد، ويحصرهم الدجال بها، ولا يتخلف أحد عن دخول البلد إلا أن يكون متبعا للدجال، أو مأسورا معه، فإن دمشق في آخر الزمان تكون معقل المسلمين وحصنهم من الدجال، فإذا كان الامر كذلك فمن يصلي خارج البلد، والمسلمون كلهم داخل البلد، وعيسى إنما ينزل وقد أقيمت الصلاة فيصلي مع المسلمين، ثم يأخذهم ويطلب الدجال ليقتله، وبعض العوام يقول: إن المراد بالمنارة الشرقية بدمشق، منارة مسجد بلاشو، خارج باب شرقي.
وبعضهم يقول: المنارة التي على نفس باب شرقي.
فالله أعلم بمراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو سبحانه العالم بكل شئ، المحيط بكل شئ، القادر على كل شئ، القاهر فوق كل شئ، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الارض.
الكلام على ما يتعلق برأس يحيى بن زكريا عليهما السلام وروى ابن عساكر عن زيد بن واقد قال: وكلني الوليد على العمال في بناء جامع دمشق، فوجدنا مغارة فعرفنا الوليد ذلك، فلما كان الليل وافانا وبين يديه الشمع، فنزل فإذا هي كنيسة
__________
(1) = - حكما: أي حاكما بهذه الشريعة يعني أنه لا ينزل برسالة مستقلة وشريعة ناسخة.
- يضع الجزية: أي لا يقبلها ولا يقبل من الكفار إلا الاسلام أو القتل.
(1) تقدم انها بنيت بعد الحريق الذي أصاب الجامع والبناء بأكمله سنة 461 ه.
(2) مهروذتان: وتروى مهرودتان والوجهان مشهوران.
ومعناها: ثوبين مصبوغين بورس ثم بزعفران.
وقيل هما شقتان والشقة نصف الملاءة.
وممصرتان: الثياب التي فيها صفرة خفيفة.

لطيفة، ثلاثة أذرع في ثلاثة أذرع، وإذا فيها صندوق، ففتح الصندوق فإذا فيه سفط وفي السفط رأس يحيى بن زكريا عليهما السلام.
مكتوب عليه هذا رأس يحيى بن زكرياء، فأمر به الوليد فرد إلى مكانه، وقال: اجعلوا العمود الذي فوقه مغيرا من بين الاعمدة، فجعل عليه عمود مسفط الرأس، وفي رواية عن زيد بن واقد: أن ذلك الموضع كان تحت ركن من أركان القبة - يعني قبل أن تبنى - قال: وكان على الرأس شعر وبشر.
وقال الوليد بن مسلم على زيد بن واقد قال: حضرت رأس يحيى بن زكريا وقد أخرج من الليطة القبلية الشرقية التي عند مجلس بجيلة، فوضع تحت عمود الكاسة، قال الاوزاعي والوليد بن مسلم: هو العمود الرابع المسفط.
وروى أبو بكر بن البرامي: عن أحمد بن أنس بن مالك، عن حبيب المؤذن، عن أبي زياد وأبي أمية الشعناييين عن سفيان الثوري أنه قال: صلاة في مسجد دمشق بثلاثين ألف صلاة.
وهذا غريب جدا.
وروى ابن عساكر من طريق أبي مسهر عن المنذر بن نافع - مولى أم عمرو بنت مروان - عن أبيه - وفي رواية عن رجل قد سماه - أن واثلة بن الاسقع خرج من باب المسجد الذي يلي باب جيرون فلقيه كعب الاحبار فقال: أين تريد ؟ قال واثلة: أريد بيت المقدس.
فقال: تعال أريك موضعا في المسجد من صلى فيه فكأنما صلى في بيت المقدس، فذهب به فأراه ما بين الباب الاصفر الذي يخرج منه الوالي - يعني الخليفة - إلى الحنية - يعني القنطرة الغربية - فقال: من صلى فيما بين هذين فكأنما صلى في بيت المقدس، فقال واثلة: إنه لمجلسي ومجلس قومي.
قال كعب: هو ذاك.
وهذا أيضا غريب جدا ومنكر ولا يعتمد
على مثله.
وعن الوليد بن مسلم قال: لما أمر الوليد بن عبد الملك ببناء مسجد دمشق وجدوا في حائط المسجد القبلي لوحا من حجر فيه كتاب نقش، فبعثوا به إلى الوليد فبعثه إلى الروم فلم يستخرجوه، ثم بعث إلى من كان بدمشق من بقية الاسبان فلم يستخرجوه، فدل على وهب بن منبه فبعث إليه، فلما قدم عليه أخبره بموضع ذلك اللوح فوجدوه في ذلك الحائط - ويقال ذلك الحائط بناه هود عليه السلام - فلما نظر إليه وهب حرك رأسه وقرأه فإذا هو: بسم الله الرحمن الرحيم، ابن آدم لو رأيت يسير ما بقي من أجلك،.
لزهدت في طول ما ترجو من أملك، وإنما تلقى ندمك لو قد زل بك قدمك.
وأسلمك أهلك وحشمك، وانصرف عنك الحبيب وأسلمك الصاحب والقريب، ثم صرت تدعى فلا تجيب، فلا أنت إلى أهلك عائد، ولا إلا عملك زائد، فاعمل لنفسك قبل يوم القيامة، وقبل الحسرة والندامة، قبل أن يحل بك أجلك، وتنزع منك روحك، فلا ينفعك مال جمعته، ولا ولد ولدته، ولا أخ تركته، ثم تصير إلى برزخ الثرى، ومجاور الموتى، فاغتنم الحياة قبل الممات، والقوة قبل الضعف، والصحة قبل السقم، قبل أن تؤخذ بالكظم ويحال بينك وبين العمل، وكتب في زمن (1) داود عليهما السلام.
__________
(1) كذا بالاصول ولعله سقط منه لفظ " سليمان بن ".

وقال ابن عساكر: قرأت على أبي محمد السلمي، عن عبد العزيز التميمي، أنبأ تمام الرازي، ثنا ابن البرامي سمعت أبا مروان عبد الرحمن بن عمر المازني يقول: لما كان في أيام الوليد بن عبد الملك وبنائه المسجد احتفروا فيه موضعا فوجدوا بابا من حجارة مغلقا، فلم يفتحوه وأعلموا به الوليد، فخرج حتى وقف عليه، وفتح بين يديه، فإذا داخله مغارة فيها تمثال إنسان من حجارة، على فرس من حجارة، في يد التمثال الواحدة الدرة التي كانت في المحراب، ويده الاخرى مقبوضة، فأمر بها فكسرت، فإذا فيها حبتان، حبة قمح وحبة شعير، فسأل عن ذلك فقيل له لو تركت الكف لم تكسرها لم يسوس في هذا البلد قمح ولا شعير.
وقال الحافظ أبو حمدان الوراق - وكان
قد عمر مائة سنة -: سمعت بعض الشيوخ يقول: لما دخل المسلمون دمشق وجدوا على العمود الذي على المقسلاط - على السفود الحديد الذي في أعلاه - صنما مادا يده بكف مطبقة، فكسروه فإذا في يده حبة قمح، فسألوا عن ذلك فقيل لهم: هذه الحبة قمح جعلها حكماء اليونان في كف هذا الصنم طلسما، حتى لا يسوس القمح في هذه البلاد، ولو أقام سنين كثيرة.
قال ابن عساكر: وقد رأيت أنا في هذا السفود على قناطر كنيسة المقسلاط كانت مبنية فوق القناطر التي في السوق الكبير، عند الصابونيين والعطارين اليوم، وعندها اجتمعت جيوش الاسلام يوم فتح دمشق، أبو عبيدة من باب الجابية، وخالد من باب الشرقي، ويزيد بن أبي سفيان من باب الجابية الصغير.
وقال عبد العزيز التميمي عن أبي نصر عبد الوهاب بن عبد الله المري: سمعت جماعة من شيوخ أهل دمشق يقولون: إن في سقف الجامع طلاسم عملها الحكماء في السقف مما يلي الحائط القبلي، فيها طلاسم للصنو نيات، لا تدخله ولا تعشش فيه من جهة الاوساخ التي تكون منها، ولا يدخله غراب، وطلسم للفأر والحيات والعقارب، فما رأى الناس من هذا شيئا إلا الفأر، ويشك أن يكون قد عدم طلسمها، وطلسم للعنكبوت حتى لا ينسج فيه، وفي رواية فيركبه الغبار والوسخ.
قال الحافظ ابن عساكر: وسمعت جدي أبا الفضل يحيى بن علي يذكر أنه أدرك في الجامع قبل حريقه طلسمات لسائر الحشرات، معلقة في السقف فوق البطائن مما يلي السبع، وأنه لم يكن يوجد في الجامع شئ من الحشرات قبل الحريق.
فلما احترقت الطلسمات حين أحرق الجامع ليلة النصف من شعبان بعد العصر سنة إحدى وستين وأربعمائة، وقد كانت بدمشق طلسمات كثيرة، ولو يبق منها سوى العمود الذي بسوق العلبيين الذي في أعلاه مثل الكرة العظيمة، وهي لعسر بول الدواب، إذا داروا بالدابة حوله ثلاث مرات انطلق باطنها.
وقد كان شيخنا ابن تيمية رحمه الله يقول: إنما هذا قبر مشرك مفرد مدفون هنالك يعذب، فإذا سمعت الدابة صراخه فزعت فانطلق باطنها وطبعها، قال: ولهذا يذهبون بالدواب إلى مقابر اليهود والنصارى إذا مغلت فتنطلق طباعها وتروث، وما ذاك إلا أنها تسمع أصواتهم وهم يعذبون والله أعلم.

ذكر الساعات التي على بابه قال القاضي عبد الله بن أحمد بن زبر: إنما سمي باب الجامع القبلي باب الساعات لانه عمل هناك بلشكار الساعات، كان يعمل بها كل ساعة تمضي من النهار، عليها عصافير من نحاس، وحية من نحاس وغراب، فإذا تمت الساعة خرجت الحية فصفرت العصافير وصاح الغراب وسقطت حصاة في الطست فيعلم الناس أنه قد ذهب من النهار ساعة، وكذلك سائرها.
قلت: هذا يحتمل أحد شيئين إما أن تكون الساعات كانت في الباب القبلي من الجامع، وهو الذي يسمى باب الزيادة، ولكن قد قيل إنه محدث بعد بناء الجامع، ولا ينفي ذلك أن الساعات كانت عنده في زمن القاضي ابن زبر، وإما أنه قد كان في الجامع في الجانب الشرقي منه في الحائط القبلي باب آخر في محاكاة باب الزيادة، وعنده الساعات ثم نقلت بعد هذا كله إلى باب الوراقين اليوم، وهو باب الجامع من الشرق والله أعلم.
قلت: باب الوراقين قبلي أيضا، فيضاف إلى الجامع نسبة إلى من يدخل منه إلى الجامع والله أعلم، أو لمجارته للجامع ولبابه.
قلت: فأما القبة التي في وسط صحن الجامع التي فيها الماء الجاري، ويقول العامة لها قبة أبي نواس فكان بناؤها في سنة تسع وستين وثلاثمائة أرخ ذلك ابن عساكر عن خط بعض الدماشقة.
وأما القبة الغربية العالية التي في صحن الجامع التي يقال لها قبة عائشة، فسمعت شيخنا الذهبي يقول: إنها إنما بنيت في حدود سنة ستين ومائة في أيام المهدي بن منصور العباسي، وجعلوها لحواصل الجامع وكتب أوقافه، وأما القبة الشرقية التي على باب مسجد علي فيقال: إنها بنيت في زمن الحاكم العبيدي في حدود سنة أربع مائة، وأما الفوارة التي تحت درج جيرون فعملها الشريف فخر الدولة أبو علي حمزة بن الحسين بن العباس الحسني، وكأنه كان ناظرا بالجامع، وجر إليها قطعة من حجر كبير من فصر حجاج، وأجرى منها الماء ليلة الجمعة لسبع ليال خلون من ربيع الاول سنة سبع عشرة وأربعمائة وعملت حولها قناطر، وعقد عليها قبة، ثم سقطت القبة بسبب جمال تحاكت عندها وازدحمت، وذلك في صفر سنة سبع وخمسين وأربعمائة، فأعيدت ثم سقطت أعمدتها وما عليها من حريق
اللبادين والحجارة في شوال سنة اثنتين وستين وخمسمائة، ذكر ذلك كله الحافظ ابن عساكر.
قلت: وأما القصعة التي كانت في الفوارة، فما زالت وسطها، وقد أدركتها كذلك، ثم رفعت بعد ذلك.
وكان بطهارة جيرون قصعة أخرى مثلها، فلم تزل بها إلى أن تهدمت اللبادين بسبب حريق النصارى في سنة إحدى وأربعين (1) وسبعمائة، ثم استؤنف بناء الطهارة على وجه آخر
__________
(1) في العبر للذهبي: في سادس عشر شوال سنة 740 ه.

أحسن مما كانت، وذهبت تلك القصعة فلم يبق لها أثر، ثم عمل الشاذروان الذي شرقي فوارة جيرون، بعد الخمسمائة - أظنه سنة أربع عشرة وخمسمائة والله سبحانه وتعالى أعلم.
ذكر ابتداء أمر السبع بالجامع الاموي قال أبو بكر بن أبي داود: ثنا أبو عباس موسى بن عامر المري ثنا الوليد - هو ابن مسلم - قال قال أبو عمر الاوزاعي، عن حسان بن عطية قال: الدراسة محدثة أحدثها هشام بن إسماعيل المخزومي، في قدمة قدمها على عبد الملك، فحجبه عبد الملك فجلس بعد الصبح في مسجد دمشق فسمع قراءة فقال: ما هذا ؟ فأخبر أن عبد الملك يقرأ في الخضراء، فقرأ هشام بن إسماعيل، فجعل عبد الملك يقرأ بقراءة هشام، فقرأ بقراءته مولى له، فاستحسن ذلك من يليه من أهل المسجد فقرأوا بقراءته.
وقال هشام بن عمار خطيب دمشق: ثنا أيوب بن حسان ثنا الاوزاعي ثنا خالد بن دهقان قال: أول من أحدث القراءة في مسجد دمشق هشام بن إسماعيل بن المغيرة المخزومي، وأول من أحدث القراءة بفلسطين الوليد بن عبد الرحمن الجرشي.
قلت: هشام بن إسماعيل كان نائبا على المدينة النبوية، وهو الذي ضرب سعيد بن المسيب لما امتنع من البيعة للوليد بن عبد الملك، قبل أن يموت أبوه، ثم عزله عنها الوليد وولى عليها عمر بن عبد العزيز، كما ذكرنا.
وقد حضر هذا السبع جماعات من سادات السلف من التابعين بدمشق، منهم هشام بن إسماعيل ومولاه رافع وإسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر، وكان مكتبا لاولاد عبد الملك بن مروان، وقد ولى إمرة إفريقية لهشام بن عبد الملك وابنيه عبد الرحمن ومروان.
وحضره من القضاة
أبو إدريس الخولاني، ونمير بن أوس الاشعري، ويزيد بن أبي الهمداني، وسالم بن عبد الله المحاربي، ومحمد بن عبد الله بن لبيد الاسدي.
ومن الفقهاء والمحدثين والحفاظ المقرئين أبو عبد الرحمن القاسم بن عبد الرحمن مولى معاوية ومكحول وسليمان بن موسى الاشدق، وعبد الله بن العلاء بن زبر، وأبو إدريس الاصغر عبد الرحمن بن عراك، وعبد الرحمن بن عامر اليحصبي - أخو عبد الله بن عامر - ويحيى بن الحارث الدماري، وعبد الملك بن نعمان المري، وأنس بن أنس العذري، وسليمان بن بذيغ القاري، وسليمان بن داود الخشني، وعران - أو هران - بن حكيم القرشي، ومحمد بن خالد بن أبي ظبيان الازدي، ويزيد بن عبيدة بن أبي المهاجر، وعباس بن دينار وغيرهم.
وهكذا أوردهم ابن عساكر.
قال: وقد روى عن بعضهم أنه كره اجتماعهم وأنكره، ولا وجه لانكاره.
ثم ساق من طريق أبي بكر بن أبي داود: ثنا عمرو بن عثمان ثنا الوليد - هو ابن سلم - عن عبد الله بن العلاء قال: سمعت الضحاك بن عبد الرحمن بن عروب ينكر الدراسة ويقول: ما رأيت ولا سمعت وقد أدركت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن عساكر: وكان الضحاك بن

عبد الرحمن أميرا على دمشق في أواخر سنة ست وثمانين (1) في خلافة عمر بن العزيز.
فصل كان ابتداء عمارة جامع دمشق في أواخر سنة ست وثمانين، هدمت الكنيسة التي كانت موضعه في ذي القعدة منها، فلما فرغوا من الهدم شرعوا في البناء، وتكامل في عشر سنين (2)، فكان الفراغ منه في هذه السنة - أعني سنة ست وتسعين - وفيها توفي بانيه الوليد بن عبد الملك، وقد بقيت فيه بقايا فكملها أخوه سليمان كما ذكرنا.
فأما قول يعقوب بن سفيان: سألت هشام بن عمار عن قصة مسجد دمشق وهذه الكنيسة قال: كان الوليد قال للنصارى: ما شئتم أنا أخذنا كنيسة توما عنوة وكنيسة الداخلة صلحا، فأنا أهدم كنيسة توما - قال هشام وتلك أكبر من هذه الداخلة - قال فرضوا أن يهدم كنيسة الداخلة وأدخلها في المسجد، قال: وكان بابها قبلة المسجد اليوم، وهو المحراب الذي يصلى فيه، قال: وهدم الكنيسة في أول خلافة
الوليد سنة ست وثمانين، ومكثوا في بنائها سبع سنين حتى مات الوليد ولمت يتم بناءه، فأتمه هشام من بعده ففيه فوائد وفيه غلط، وهو قوله إنهم مكثوا في بنائه سبع سنين، والصواب عشر سنين، فإنه لا خلاف أن الوليد بن عبد الملك توفي في هذه السنة - أعني سنة ست وتسعين - وقد حكى أبو جعفر بن جرير على ذلك إجماع أهل السير، والذي أتم ما بقي من بنائه أخوه سليمان لا هشام والله سبحانه وتعالى أعلم.
قلت: نقل من خط ابن عساكر وقد تقدم، وقد جددت فيه بعد ذلك أشياء، منها القباب الثلاث التي في صحنه.
وقد تقدم ذكرها.
وقيل إن القبة الشرقية عمرت في أيام المستنصر العبيدي في سنة خمسين وأربعمائة وكتب عليه اسمه واسم الاثني عشر الذين تزعم الرافضة أنهم أئمتهم، وأما العمودان الموضوعان في صحنه فجعلا للتنوير ليالي الجمع، وصنعا في رمضان سنة إحدى وأربعين وأربعمائة، بأمر قاضي البلد أبي محمد.
وهذه ترجمة الوليد بن عبد الملك باني جامع دمشق وذكر وفاته في هذا العام هو الوليد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، أبو العباس الاموي، بويع له بالخلافة بعد أبيه بعهد منه في شوال (3) سنة ست وثمانين، وكان أكبر ولده، والولي من بعده، وأمه ولادة بنت العباس بن حزن بن الحارث بن زهير العبسي.
__________
(1) كذا بالاصول، والصواب: في سنة تسع وتسعين.
(2) في معجم البلدان (دمشق): تسع سنين.
(3) في مروج الذهب 3 / 192 للنصف من جمادى الآخرة.

وكان مولده سنة خمسين، وكان أبواه يترفانه، فشب بلا أدب، وكان لا يحسن العربية، وكان طويلا أسمر به أثر جدري خفي، أفطس الانف سائله، وكان إذا مشى يتوكف في المشية - أي يتبختر - وكان جميلا وقيل دميما، قد شاب في مقدم لحيته، وقد رأى سهل بن سعد وسمع أنس بن مالك لما قدم عليه سأله ما سمع في أشراط الساعة، كما تقدم في ترجمة أنس، وسمع سعيد بن المسيب
وحكى عن الزهري وغيره.
وقد روي أن عبد الملك أراد أن يعهد إليه ثم توقف لانه لا يحسن العربية فجمع الوليد جماعة من أهل النحو عنده فأقاموا سنة، وقيل ستة أشهر، فخرج يوم خرج أجهل مما كان، فقال عبد الملك: قد أجهد وأعذر، وقيل إن أباه عبد الملك أوصاه عند موته فقال له: لا ألفينك إذا مت تجلس تعصر عينيك، وتحن حنين الامة، ولكن شمر واتزر، ودلني في حفرتي، وخلني وشأني، وادع الناس إلى البيعة، فمن قال برأسه هكذا فقل بسيفك هكذا.
وقال الليث: وفي سنة ثمان وتسعين (2) غزا الوليد بلاد الروم، وفيها حج بالناس أيضا.
وقال غيره: غزا في التي قبلها وفي التي بعدها بلاد ملطية وغيرها، وكان نقش خاتمه أو من بالله مخلصا.
وقيل كان نقشه يا وليد إنك ميت، ويقال إن آخر ما تكلم به سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله، وقال إبراهيم بن أبي عبلة قال لي الوليد بن عبد الملك يوما: في كم تختم القرآن ؟ قلت في كذا وكذا، فقال: أمير المؤمنين على شغله يختمه في كل ثلاث، وقيل في كل سبع، قال: وكان يقرأ في شهر رمضان سبع عشرة ختمة.
قال إبراهيم رحمه الله: الوليد وأين مثله ؟ بنى مسجد دمشق، وكان ويعطيني قطع الفضة فأقسمها على قراء بيت المقدس.
وروى ابن عساكر بإسناد رجاله كلهم ثقات عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن أبيه قال: خرج الوليد يوما من الباب الاصغر فرأى رجلا عند المئذنة الشرقية يأكل شيئا، فأتاه فوقف عليه فإذا هو يأكل خبزا وترابا، فقال له: ما حملك على هذا ؟ قال: القنوع يا أمير المؤمنين، فذهب إلى مجلسه ثم استدعى به فقال: إن لك لشأنا فأخبرني به وإلا ضربت الذي فيه عيناك، فقال: نعم يا أمير المؤمنين كنت رجلا حمالا، فبينما أنا أسير من مرج الصفر قاصدا إلى الكسوة، إذ زرمني البول فعدلت إلى خربة لابول، فإذا سرب فحفرته فإذا مال صبيب، فملات منه غرائري، ثم انطلقت أقود برواحلي وإذا بمخلاة معي فيها طعام فألقيته منها، وقلت: إني سأتي الكسوة، ورجعت إلى الخربة لاملا تلك المخلاة من ذلك المال فلم أهتد إلى المكان بعد الجهد في الطلب، فلما أيست رجعت إلى الرواحل فلم أجدها ولم أجد الطعام، فآليت على نفسي أني لا آكل إلا خبزا وترابا.
قال: فهل
لك عيال ؟ قال نعم، ففرض له في بيت المال.
__________
(1) في وفيات الاعيان 6 / 254: أبيض.
(2) كذا بالاصول، وهو تحريف، والمشهور أن الوليد قد مات سنة 96 ه.

قال ابن جرير: وبلغنا أن تلك الرواحل سارت حتى أتت بيت المال فتسلمها حارسه فوضعها في بيت المال، وقيل إن الوليد قال له: ذلك المال وصل إلينا واذهب إلى إبلك فخذها، وقيل إنه دفع إليه شيئا من ذلك المال يقيته وعياله.
وقال نمير بن عبد الله الشعناني عن أبيه قال: قال الوليد بن عبد الملك: لو لا أن الله ذكر قوم لوط في القرآن ما ظننت أن ذكرا يفعل هذا بذكر.
قلت: فنفى عن نفسه هذه الخصلة القبيحة الشنيعة، والفاحشة المذمومة، التي عذب الله أهلها بأنواع العقوبات، وأحل بهم أنواعا من المثلات، التي لم يعاقب بها أحدا من الامم السالفات وهي فاحشة اللواط التي قد ابتلى بها غالب الملوك والامراء، والتجار والعوام والكتاب، والفقهاء والقضاة ونحوهم، إلا من عصم الله منهم، فإن في اللواط من المفاسد ما يفوت الحصر والتعداد، ولهذا تنوعت عقوبات فاعليه، ولان يقتل المفعول به خير من أن يؤتى في دبره، فإنه يفسد فسادا لا يرجى له بعده صلاح أبدا، إلا أن يشاء الله ويذهب خبر المفعول به.
فعلى الرجل حفظ ولده في حال صغره وبعد بلوغه، وأن يجنبه مخالطة هؤلاء الملاعين، الذين لعنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد اختلف الناس: هل يدخل الجنة مفعول به ؟ على قولين، والصحيح في المسألة أن يقال إن المفعول به إذا تاب توبة صحيحة نصوحا، ورزق إنابة إلى الله وصلاحا، وبدل سيئاته بحسنات، وغسل عنه ذلك بأنواع الطاعات، وغض بصره وحفظ فرجه، وأخلص معاملته لربه، فهذا إن شاء الله مغفور له، وهو من أهل الجنة، فإن الله يغفر الذنوب للتائبين إليه (ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون) [ الحجرات: 11 ] (ومن تاب وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم) [ المائدة: 39 ] وأما مفعول به صار في كبره شرا منه في صغره، فهذا توبته متعذرة، وبعيد
أن يؤهل لتوبة صحيحة، أو لعمل صالح يمحو به ما قد سلف، ويخشى عليه من سوء الخاتمة، كما قد وقع ذلك لخلق كثير ماتوا بأدرانهم وأوساخهم، لم يتطهروا منها قبل الخروج من الدنيا، وبعضهم ختم له بشر خاتمة، حتى أوقعه عشق الصور في الشرك الذي لا يغفره الله.
وفي هذا الباب حكايات كثيرة وقعت للوطية وغيرهم من أصحاب الشهوات يطول هذا الفصل بذكرها.
والمقصود أن الذنوب والمعاصي والشهوات تخذل صاحبها عند الموت مع خذلان الشيطان له.
فيجتمع عليه الخذلان مع ضعف الايمان.
فيقع في سوء الخاتمة.
قال الله تعالى (وكان الشيطان للانسان خذولا) [ الفرقان: 29 ] بل قد وقع سوء الخاتمة لخلق لم يفعلوا فاحشة اللواط، وقد كانوا متلبسين بذنوب أهون منها.
وسوء الخاتمة أعاذنا الله منها لا يقع فيها من صلح ظاهره وباطنه مع الله، وصدق في أقواله وأعماله، فإن هذا لم يسمع به كما ذكره عبد الحق الاشبيلي، وإنما يقع سوء الخاتمة لمن فسد باطنه عقدا، وظاهره عملا، ولمن له جرأة على الكبائر، وإقدام على الجرائم، فربما غلب ذلك عليه حتى ينزل به الموت قبل التوبة.

والمقصود أن مفسدة اللواط من أعظم المفاسد، وكانت لا تعرف بين العرب قديما كما قد ذكر ذلك غير واحد منهم.
فلهذا قال الوليد بن عبد الملك: لو لا أن الله عزوجل قص علينا قصة قوم لوط في القرآن ما ظننت أن ذكرا يعلو ذكرا.
وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به " (1).
رواه أهل السنن وصححه ابن حيان وغيره.
وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم من عمل عمل قوم لوط ثلاث مرات، ولم يلعن على ذنب ثلاث مرات إلا عليه، وإنما أمر بقتل الفاعل والمفعول به لانه لا خير في بقائهما بين الناس، لفساد طويتهما، وخبث بواطنهما، فمن كان بهذه المثابة فلا خير للخلق في بقائه، فإذا أراح الله الخلق منهما صلح لهم أمر معاشهم ودينهم.
وأما اللعنة فهي الطرد والبعد، ومن كان مطرودا مبعدا عن الله وعن رسوله وعن كتابه وعن صالح عباده فلا خير فيه ولا في قربه.
ومن رزقه الله تعالى توسما وفراسة، ونورا وفرقانا عرف من سحن الناس ووجوههم أعمالهم، فإن أعمال العمال بائنة ولائحة على
وجوههم وفي أعينهم وكلامهم.
وقد ذكر الله اللوطية وجعل ذلك آيات للمتوسمين فقال تعالى: (فأخذتهم الصيحة مشرقين، فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجين إن في ذلك لآيات للمتوسمين) [ الحجر: 73 - 75 ] وما بعدها.
وقال تعالى: (أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لم يخرج الله أضغانهم، ولو نشاء لاريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم، ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم) [ محمد: 29 - 31 ] ونحو ذلك من الآيات والاحاديث.
فاللوطي قد عكس الفطرة، وقلب الامر، فأتى ذكرا فقلب الله قلبه، وعكس عليه أمره، بعد صلاحه وفلاحه، إلا من تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى.
وخصال التائب قد ذكرها الله في آخر سورة براءة، فقال: (التائبون العابدون) [ التوبة: 113 ] فلا بد للتائب من العبادة والاشتغال بالعمل للآخرة، وإلا فالنفس همامة متحركة، إن لم تشغلها بالحق وإلا شغلتك بالباطل، فلا بد للتائب من أن يبدل تلك الاوقات التي مرت له في المعاصي بأوقات الطاعات، وأن يتدارك ما فرط فيها وأن يبدل تلك الخطوات بخطوات إلى الخير، ويحفظ لحظاته وخطواته، ولفظاته وخطراته.
قال رجل للجنيد: أوصني، قال: توبة تحل الاصرار، وخوف يزيل العزة، ورجاء مزعج إلى طرق الخيرات، ومراقبة الله في خواطر القلب.
فهذه صفات التائب.
ثم قال الله تعالى (الحامدون السائحون الراكعون الساجدون) الآية [ التوبة: 113 ] فهذه خصال التائب كما قال تعالى: (التائبون) فكأن قائلا يقول: من هم ؟ قيل هم العابدون السائحون إلى آخر الآية، وإلا فكل تائب لم يتلبس بعد توبته بما يقربه إلى من
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الحدود.
باب (27).
والترمذي في الحدود باب (24) وابن ماجه في الحدود (12).

تاب إليه فهو في بعد وإدبار، لا في قرب وإقبال، كما يفعل من اغتر بالله من المعاصي المحظورات، ويدع الطاعات، فإن ترك الطاعات وفعل المعاصي أشد وأعظم من ارتكاب المحرمات بالشهوة النفسية.
فالتائب هو من اتقى المحذورات، وفعل المأمورات، وصبر على المقدورات، والله
سبحانه وتعالى هو المعين الموفق، وهو عليم بذات الصدور.
قالوا: وكان الوليد لحانا كما جاء من غير وجه أن الوليد خطب يوما فقرأ في خطبته (يا ليتها كانت القاضية) فضم التاء من ليتها، فقال عمر بن عبد العزيز: يا ليتها كانت عليك وأراحنا الله منك، وكان يقول: يا أهل المدينة.
وقال عبد الملك يوما لرجل من قريش (1): إنك لرجل لو لا أنك تلحن، فقال: وهذا ابنك الوليد يلحن، فقال: لكن ابني سليمان لا يلحن، فقال الرجل: وأخي أبو فلان لا يلحن.
وقال ابن جرير: حدثني عمر ثنا علي - يعني ابن محمد المدائني - قال: كان الوليد بن عبد الملك عند أهل الشام أفضل خلائفهم، بنى المساجد بدمشق (2)، ووضع المنائر، وأعطى الناس، وأعطى المجذومين، وقال لهم: لا تسألوا الناس، وأعطى كل مقعد خادما، وكل ضرير قائدا (3)، وفتح في ولايته فتوحات كثيرة عظاما، وكان يرسل بنيه في كل غزوة إلى بلاد الروم، ففتح الهند والسند والاندلس وأقاليم بلاد العجم، حتى دخلت جيوشه إلى الصين وغير ذلك، قال: وكان مع هذا يمر بالبقال فيأخذ حزمة البقل بيده ويقول: بكم تبيع هذه ؟ فيقول: بفلس، فيقول: زد فيها فإنك تربح.
وذكروا أنه كان يبر حملة القرآن ويكرمهم ويقضي عنهم ديونهم، قالوا: وكانت همة الوليد في البناء، وكان الناس كذلك يلقى الرجل الرجل فيقول: ماذا بنيت ؟ ماذا عمرت ؟ وكانت همة أخيه سليمان في النساء، وكان الناس كذلك، يلقى الرجل الرجل فيقول: كم تزوجت ؟ ماذا عندك من السراري ؟ وكانت همة عمر بن عبد العزيز في قراءة القرآن، وفي الصلاة والعبادة، وكان الناس كذلك، يلقى الرجل الرجل فيقول: كم وردك ؟ كم تقرأ كل يوم ؟ ماذا صليت البارحة ؟ والناس يقولون: الناس على دين مليكهم، إن كان خمارا كثر الخمر.
وإن كان لوطيا فكذلك وإن كان شحيحا حريصا كان الناس كذلك، وإن كان جوادا كريما شجاعا كان الناس كذلك، وإن كان طماعا ظلوما غشوما فكذلك، وإن كان ذا دين وتقوى وبر وإحسان كان الناس كذلك وهذا يوجد في بعض الازمان وبعض الاشخاص، والله أعلم.
__________
(1) تقدم أن الحادثة حصلت بين عبد الملك وخالد بن يزيد بن معاوية.
(2) في الطبري 8 / 97: مسجد دمشق ومسجد المدينة.
(3) قال ابن خلكان 6 / 254: رتب للزمنى والاضراء من يقودهم ويخدمهم لانه أصابه رمد بعينيه فأقام مدة لا يبصر شيئا فقال: إن أعادهما الله تعالى علي قمت بحقه فيهما.
فلما برئ رأى أن شكر هذه النعمة الاحسان إلى العميان.

وقال الواقدي: كان الوليد جبارا ذا سطوة شديدة لا يتوقف إذا غضب، لجوجا كثير الاكل والجماع مطلاقا، يقال إنه تزوج ثلاثا وستين امرأة غير الاماء.
قلت: يراد بهذا الوليد بن يزيد الفاسق لا الوليد بن عبد الملك باني الجامع والله أعلم.
قلت: بنى الوليد الجامع على الوجه الذي ذكرنا فلم يكن له في الدنيا نظير، وبنى صخرة بيت المقدس عقد عليها القبة (1)، وبنى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ووسعه حتى دخلت الحجرة التي فيها القبر فيه (2)، وله آثار حسان كثيرة جدا، ثم كانت وفاته في يوم السبت للنصف من جمادى الآخرة من هذه السنة، قال ابن جرير: هذا قول جميع أهل السير، وقال عمر بن علي الفلاس وجماعة: كانت وفاته يوم السبت للنصف من ربيع الاول من هذه السنة، عن ست وقيل ثلاث وقيل تسع وقيل أربع وأربعين سنة، وكانت وفاته بدير مران، فحمل على أعناق الرجال حتى دفن بمقابر باب الصغير، وقيل بمقابر باب الفراديس، حكاه ابن عساكر.
وكان الذي صلى عليه عمر بن عبد العزيز لان أخاه سليمان كان بالقدس الشريف، وقيل صلى عليه ابنه عبد العزيز.
وقيل بل صلى عليه أخوه سليمان، والصحيح عمر بن عبد العزيز والله أعلم.
وهو الذي أنزله إلى قبره وقال حين أنزله: لننزلنه غير موسد ولا ممهد، قد خلفت الاسلاب وفارقت الاحباب، وسكنت التراب، وواجهت الحساب، فقيرا إلى ما قدمت، غنيا عما أخرت.
وجاء من غير وجه عن عمر أنه أخبره أنه لما وضعه - يعني الوليد - في لحده ارتكض في أكفانه، وجمعت رجلاه إلى عنقه.
وكانت خلافته تسع سنين وثمانية أشهر على المشهور.
والله أعلم.
قال المدائني: وكان له من الولد تسعة عشر (3) ولدا ذكرا، وهم عبد العزيز، ومحمد،
والعباس، وإبراهيم، وتمام وخالد وعبد الرحمن ومبشر ومسرور وأبو عبيدة وصدقة ومنصور ومروان وعنبسة وعمر وروح وبشر ويزيد ويحيى.
فأم عبد العزيز ومحمد أم البنين بنت عمه عبد العزيز بن مروان، وأم أبي عبيدة فزارية، وسائرهم من أمهات أولاد شتى.
قال المدائني: وقد رثاه جرير فقال: - يا عين جودي بدمع هاجه الذكر * فما لدمعك بعد اليوم مدخر
__________
(1) ابن خلدون المقدمة ص 282.
(2) كان بناء المسجد في عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) بسيطا - فناء ضيق يحيط به جدار من اللبن - وفيه مكان واحد مسقوف يغطيه الجريد المثبت على جذوع النخل، في أيام أبي بكر لم يزد فيه شيئا وفي أيام عمر فقد وسعه بأن أطال جداره وادخل فيه بعض الدور، وفي أيام عثمان هدمه واعاد بناءه وجعل عمده حجارة وسقفه بالساج.
وكلف الوليد عامله عمر بن عبد العزيز بهدمه وبنائه وزاد فيه حجر ازواج النبي (صلى الله عليه وسلم) مع احتفاظه بطابع المسجد الاصلي وشق فيه الاروقة والمحراب وبنيت المقصورة وفتحت فيه الابواب وأقيمت عليه الآذن.
(3) في مروج الذهب 3 / 192: أربعة عشر.
وانظر المعارف لابن قتيبة ص 157.

إن الخليفة قد وارت شمائله * غبراء ملحدة في جولها زور أضحى بنوه وقد جلت مصيبتهم * مثل النجوم هوى من بينها القمر كانوا جميعا فلم يدفع منيته * عبد العزيز ولا روح ولا عمر وممن هلك أيام الوليد بن عبد الملك زياد بن حارث التميمي الدمشقي، كانت داره غربي قصر الثقفيين، روى عن حبيب بن مسلمة الفهري في النهي عن المسألة لمن له ما يغديه ويعشيه، وفي النفل.
ومنهم من زعم أن له صحبة، والصحيح أنه تابعي.
روى عنه عطية بن قيس ومكحول ويونس بن ميسرة بن حلبس، ومع هذا قال فيه أبو حاتم: شيخ مجهول، ووثقه النسائي وابن حيان، روى ابن عساكر أنه دخل يوم الجمعة إلى مسجد دمشق وقد أخرت الصلاة، فقال: والله ما بعث الله نبيا بعد محمد صلى الله عليه وسلم أمركم بهذه الصلاة هذا الوقت، قال.
فأخذ فأدخل الخضراء فقطع
رأسه، وذلك في زمن الوليد بن عبد الملك.
عبد الله بن عمر بن عثمان أبو محمد، كان قاضي المدينة، وكان شريفا كثير المعروف جوادا ممدحا والله أعلم.
خلافة سليمان بن عبد الملك بويع له بالخلافة بعد موت أخيه الوليد يوم مات، وكان يوم السبت للنصف من جمادى الآخرة سنة ست وتسعين، وكان سليمان بالرملة، وكان ولي العهد من بعد أخيه عن وصية أبيهما عبد الملك.
وقد كان الوليد قد عزم قبل موته على خلع أخيه سليمان، وأن يجعل ولاية العهد من بعده لولده عبد العزيز بن الوليد، وقد كان الحجاج طاوعه على ذلك وأمره به، وكذلك قتيبة بن مسلم وجماعة، وقد أنشد في ذلك جرير وغيره من الشعراء قصائد، فلم ينتظم ذلك له حتى مات، وانعقدت البيعة إلى سليمان، فخافه قتيبة بن مسلم وعزم على أن لا يبايعه، فعزله سليمان وولى على إمرة العراق ثم خراسان يزيد بن المهلب (1)، فأعاده إلى إمرتها بعد عشر سنين، وأمره بمعاقبة آل
__________
(1) في الطبري 8 / 103 وابن الاثير 5 / 11: عزل سليمان يزيد بن أبي مسلم عن العراق وأمر عليه يزيد بن المهلب وجعل صالح بن عبد الرحمن على الخراج.
وفي ابن الاعثم 7 / 252: ان سليمان عزم على تولية يزيد العراقين البصرة والكوفة فقال له يزيد: أنا رجل من أهل العراق ومتى وليته وقدمت عليهم أخذتهم بالخراج والخراج لا يستخرج إلا بالضرب والشتم ومتى فعلت هذا بهم أكون عندهم كالحجاج فتغلظ علي قلوبهم...فدله على صالح بن عبد الرحمن مولى بني تميم فعقد له عقدا وولاه العراق وعقد ليزيد بن المهلب بلاد خراسان حربها وخراجها كما كان في أول مرة.

الحجاج بن يوسف، وكان الحجاج هو الذي عزل يزيد عن خراسان.
ولسبع بقين من رمضان من هذه السنة عزل سليمان عن إمرة المدينة عثمان بن حيان وولى عليها أبا بكر بن محمد بن عمرو بن
حزم، وكان أحد العلماء، وقد كان قتيبة بن مسلم حين بلغه ولاية سليمان الخلافة كتب إليه كتابا يعزيه في أخيه، ويهنئه بولايته، ويذكر فيه بلاءه وعناه وقتاله وهيبته في صدور الاعداء، وما فتح الله من البلاد والمدن والاقاليم الكبار على يديه، وأنه له على مثل ما كان للوليد من الطاعة والنصيحة، إن لم يعزله عن خراسان، ونال في هذا الكتاب من يزيد بن المهلب، ثم كتب كتابا ثانيا يذكر ما فعل من القتال والفتوحات وهيبته في صدور الملوك والاعاجم، ويذم يزيد بن المهلب أيضا، ويقسم فيه لئن عزله وولى يزيد ليخلعن سليمان عن الخلافة، وكتب كتابا ثالثا فيه خلع سليمان بالكلية، وبعث بها مع البريد (1) وقال له: ادفع إليه الكتاب الاول، فإن قرأه ودفعه إلى يزيد بن المهلب فادفع إليه الثاني، فإن قرأه ودفعه إلى يزيد بن المهلب فادفع إليه الثالث، فلما قرأ سليمان الكتاب الاول - واتفق حضور يزيد عند سليمان - دفعه إلى يزيد فقرأه، فناوله البريد الكتاب الثاني فقرأه ودفعه إلى يزيد، فناوله البريد الكتاب الثالث فقرأه فإذا فيه التصريح بعزله وخلعه، فتغير وجهه، ثم ختمه وامسكه بيده ولم يدفعه إلى يزيد، وأمر بانزال البريد في دار الضيافة، فلما كان من الليل بعث إلى البريد فأحضره ودفع إليه ذهبا وكتابا فيه ولاية قتيبة على خراسان، وأرسل مع ذلك البريد بريدا آخر من جهته (2) ليقرره عليها، فلما وصلا بلاد خراسان (3) بلغهما أن قتيبة قد خلع الخليفة، فدفع بريد سليمان الكتاب الذي معه إلى بريد قتيبة، ثم بلغهما مقتل قتيبة قبل أن يرجع بريد سليمان.
مقتل قتيبة بن مسلم رحمه الله وذلك أنه جمع الجند والجيوش وعزم على خلع سليمان بن عبد الملك من الخلافة وترك طاعته، وذكر لهم همته وفتوحه وعدله فيهم، ودفعه الاموال الجزيلة إليهم، فلما فرغ من مقالته لم يجبه أحد منهم إلى مقالته، فشرع في تأنيبهم وذمهم، قبيلة قبيلة، وطائفة طائفة، فغضبوا عند ذلك ونفروا عنه وتفرقوا، وعملوا على مخالفته، وسعوا في قتله، وكان القائم بأعباء ذلك رجل يقال له وكيع بن أبي سود (4)، فجمع جموعا كثيرة، ثم ناهضه فلم يزل به حتى قتله في ذي الحجة من هذه السنة،
__________
(1) في الطبري 8 / 104 وابن الاثير 5 / 12: مع رجل من باهلة.
وفي ابن الاعثم 7 / 257: مع مولى له وفيه ان قتيبة كتب إلى سليمان - قبل هذه الكتب الثلاثة - كتابا يهنئه بالخلافة ويعزيه عن أخيه الوليد ووجهه مع رجل من الازد
(انظر ص 253).
(2) في الطبري 8 / 104: من عبد القيس ثم أحد بني ليث يقال له صعصعة - انظر أيضا ابن الاعثم 7 / 257.
(3) في ابن الاثير 5 / 13 والطبري 8 / 104 وابن الاعثم 7 / 258: حلوان.
(4) في وفيات الاعيان 4 / 87: وكيع بن حسان بن قيس بن يوسف بن كلب بن عوف بن مالك بن عدانة.
وهو وكيع أبو المطرف الغداني قتله وهو بفرغانة.

وقتل معه أحد عشر رجلا من إخوته وأبناء إخوته، ولم يبق منهم سوى ضرار بن مسلم، وكانت أمه الغراء بنت ضرار بن القعقاع بن معبد بن سعد بن زرارة، فحمته أخواله، وعمرو بن مسلم كان عامل الجوزجان وقتل قتيبة و عبد الرحمن وعبد الله وعبيد الله وصالح ويسار (1)، وهؤلاء أبناء مسلم، وأربعة من أبنائهم (2) فقتلهم كلهم وكيع بن سود.
وقد كان قتيبة بن مسلم بن عمرو بن حصين بن ربيعة أبو حفص الباهلي، من سادات الامراء وخيارهم، وكان من القادة النجباء الكبراء، والشجعان وذوي الحروف والفتوحات السعيدة، والآراء الحميدة، وقد هدى الله على يديه خلقا لا يحصيهم إلا الله، فأسلموا ودانوا لله عز وجل، وفتح من البلاد والاقاليم الكبار والمدن العظام شيئا كثيرا كما تقدم ذلك مفصلا مبينا، والله سبحانه لا يضيع سعيه ولا يخيب تعبه وجهاده.
ولكن زل زلة كان فيها حتفه، وفعل فعلة رغم فيها أنفه، وخلع الطاعة فبادرت المنية إليه، وفارق الجماعة فمات ميتة جاهلية، لكن سبق له من الاعمال الصالحة ما قد يكفر الله به سيئاته، ويضاعف به حسناته، والله يسامحه ويعفو عنه، ويتقبل منه ما كان يكابده من مناجزة الاعداء، وكانت وفاته بفرغاته من أقصى بلاد خراسان، في ذي الحجة من هذه السنة، وله من العمر ثمان وأربعون سنة، وكان أبوه أبو صالح مسلم فيمن قتل مع مصعب بن الزبير، وكانت ولايته على خراسان عشر سنين، واستفاد وأفاد فيها خيرا كثيرا، وقد رثاه عبد الرحمن بن جمانة الباهلي فقال: - كأن أبا حفص قتيبة لم يسر * بجيش إلى جيش ولم يعمل منبرا
ولم تخفق الرايات والقوم حوله * وقوف ولم يشهد له الناس عسكرا دعته المنايا فاستجاب لربه * وراح إلى الجنات عفا مطهرا فما رزئ الاسلام بعد محمد * بمثل أبي حفص فبكيه عبهرا ولقد بالغ هذا الشاعر في بيته الاخير.
وعبهر (3) ولد له.
وقال الطرماح في هذه الوقعة التي قتل فيها على يد وكيع بن سود: لو لا فوارس مذحج ابنة مذحج * والازد زعزع واستبيح العسكر وتقطعت بهم البلاد ولم يؤب * منهم إلى أهل العراق مخبر واستضلعت عقد الجماعة وازدرى * أمر الخليفة واستحل المنكر
__________
(1) زيد في الطبري وابن الاثير وابن الاعثم: عبد الكريم وحصين.
وزاد ابن الاعثم: وزياد.
(2) ذكر الطبري 8 / 109: كثير بن قتيبة ومغلس بن عبد الرحمن بن مسلم وإياس بن عمرو.
(3) عبهر: أم ولد لقتيبة بن مسلم.
(الطبري 8 / 112 وابن الاثير 5 / 20).

قوم همو قتلوا قتيبة عنوة * والخيل جامحة عليها العثير (1) بالمرج مرج الصين حيث تبينت * مضر العراق من الاعز الاكبر إذ حالفت جزعا ربيعة كلها * وتفرقت مضر ومن يتمضر وتقدمت ازد العراق ومذحج * للموت يجمعها أبوها الاكبر قحطان تضرب رأس كل مدجج * تحمى بصائرهن إذ لا تبصر والازد تعلم أن تحت لوائها * ملكا قراسية وموت أحمر فبعزنا نصر النبي محمد * وبنا تثبت في دمشق المنبر وقد بسط ابن جرير هذه القصيدة بسطا كثيرا وذكر أشعارا كثيرة جدا.
وقال ابن خلكان وقال جرير يرثي قتيبة بن مسلم رحمه الله وسامحه، وأكرم مثواه وعفا عنه: ندمتم على قتل الامير (2) ابن مسلم * وانتم إذا لاقيتم الله أندم
لقد كنتم من غزوه في غنيمة * وانتم لمن لاقيتم اليوم مغنم على أنه أفضى إلى حور جنة * وتطبق بالبلوى عليكم جهنم قال: وقد ولي من أولاده وذريته جماعة الامرة في البلدان، فمنهم عمر (3) بن سعيد بن قتيبة بن مسلم وكان جوادا ممدحا، رثاه حين مات أبو عمر وأشجع بن عمرو السلمي المري (4) نزيل البصرة يقول: مضى ابن سعيد حيث (5) لم يبق مشرق * ولا مغرب إلا له فيه مادح وما كنت أدري ما فواضل كفه * على الناس حتى غيبته الصفائح (6) وأصبح في لحد من الارض ضيق (7) * وكانت به حيا تضيق الضحاضح سأبكيك ما فاضت دموعي فإن تغض * فحسبك مني ما تجر (8) الجوانح فما أنا من رزئي وإن جل جازع * ولا بسرور بعد موتك فارح
__________
(1) العثير: الغبار، وفي الطبري 8 / 111 جانحة بدل جامحة.
(2) في ابن خلكان 4 / 88: الاغر.
(3) في ابن خلكان: عمرو، وهو عمرو بن سعيد بن مسلم بن قتيبة بن مسلم وقد تولى أبوه سعيد أرمينية والموصل والسند وطبرستان وسجستان والجزيرة وتوفي سنة سبع عشرة ومائتين.
(4) في ابن خلكان: الرقي.
(5) في ابن خلكان، وشرح الحماسة للتبريزي 2 / 168: حين.
(6) الصفائح: أحجار عراض يسقف بها القبور.
(7) في الحماسة: ميتا..الصحاصح.
(8) في ابن خلكان والحماسة: ما تجن.
والجوانح الضلوع سميت بذلك لا نحنائها والجنوح: الميل.

كأن لم يمت حي سواك ولم تقم * على أحد إلا عليك النوائح لئن حسنت فيك المراثي وذكرها * لقد حسنت من قبل فيك المدائح
قال ابن خلكان: وهي من أحسن المراثي وهي في الحماسة، ثم تكلم على باهلة وأنها قبيلة مرذولة عند العرب، قال: وقد رأيت في بعض المجاميع أن الاشعث بن قيس قال: يا رسول الله أتتكافأ دماؤنا ؟ قال: " نعم ! ولو قتلت رجلا من باهلة لقتلتك ".
وقيل لبعض العرب: أيسرك أن تدخل الجنة وأنت باهلي ؟ قال: بشرط أن لا يعلم أهل الجنة بذلك.
وسأل بعض الاعراب رجلا ممن أنت ؟ فقال: من باهلة، فجعل يرثي له قال: وأزيدك أني لست من الصميم وإنما أنا من مواليهم.
لجعل يقبل يديه ورجليه، فقال: ولم تفعل هذا ؟ فقال: لان الله تعالى ما ابتلاك بهذه الرزية في الدنيا إلا ليعوضك الجنة في الآخرة.
ثم قال ابن جرير: وفي هذه السنة توفي قرة بن شريك العبسي أمير مصر وحاكمها.
قلت: هو قرة بن شريك أمير مصر من جهة الوليد، وهو الذي بنى جامع الفيوم.
وفيها حج بالناس أبو بكر محمد بن عمرو بن حزم، وكان هو الامير على المدينة، وكان على مكة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وعلى حرب العراق وصلاتها يزيد بن المهلب، وعلى خراجها صالح بن عبد الرحمن، وعلى نيابة البصرة ليزيد بن المهلب سفيان بن عبد الله الكندي، وعلى قضائها عبد الرحمن بن أذينة، وعلى قضاء الكوفة أبو بكر بن أبي موسى، وعلى حرب خراسان وكيع بن أبي سود والله سبحانه وتعالى أعلم.
ثم دخلت سنة سبع وتسعين وفيها جهز سليمان بن عبد الملك الجيوش إلى القسطنطينية، وفيها أمر ابنه داود على الصائفة، ففتح حصن المرأة، قال الواقدي: وفيها غزا مسلمة بن عبد الملك أرض الوضاحية ففتح الحصن الذي [ بناه ] الوضاح صاحب الوضاحية.
وفيها غزا مسلمة أيضا برجمة ففتح حصونا وبرجمة وحصن الحديد وسررا، وشتى بأرض الروم.
وفيها غزا عمر بن هبيرة الفزاري في البحر أرض الروم وشتى بها.
وفيها قتل عبد العزيز بن موسى بن نصير، وقدم برأسه على سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين.
مع حبيب بن أبي عبيد الفهري، وفيها ولى سليمان نيابة خراسان ليزيد بن المهلب مضافا إلى ما بيده من إمرة العراق، وكان سبب ذلك أن وكيع بن أبي سود لما قتل قتيبة بن مسلم وذريته،
بعث برأس قتيبة إلى سليمان فحظي عنده وكتب له بإمرة خراسان، فبعث يزيد بن المهلب عبد الرحمن (1) ابن الاهتم إلى سليمان بن عبد الملك ليحسن عنده أمر يزيد بن المهلب في إمرة
__________
(1) في الطبري 8 / 114: وابن الاثير 5 / 24 وابن الاعثم 7 / 278: عبد الله.
وقال ابن الاعثم 7 / 256: إن سليمان بن عبد الملك كتب إلى يزيد فأشخصه عن البصرة - وكان قد ولاه قبلا =

خراسان، وينتقص عنده وكيع بن [ أبي ] سود، فسار ابن الاهتم - وكان ذا دهاء ومكر - إلى سليمان بن عبد الملك، فلم يزل به حتى عزل وكيعا عن خراسان وولى عليها يزيد مع إمرة العراق، وبعث بعهده مع ابن الاهتم، فسار في سبع حتى جاء يزيد، فأعطاه عهد خراسان مع العراق، وكان يزيد وعده بمائة ألف فلم يف بها، وبعث يزيد ابنه مخلدا بين يديه إلى خراسان، ومعه كتاب أمير المؤمنين مضمونه أن قيسا زعموا أن قتيبة بن مسلم لم يكن خلع الطاعة، فإن كان وكيع قد تعرض له وثار عليه بسبب أنه خلع ولم يكن خلع فقيده وابعث به إلي، فتقدم مخلد فأخذ وكيعا فعاقبه وحبسه قبل أن يجئ أبوه، فكانت إمرة وكيع بن أبي سود الذي قتل قتيبة تسعة أشهر، أو عشرة أشهر، ثم قدم يزيد بن المهلب فتسلم خراسان وأقام بها، واستناب في البلاد نوابا ذكرهم ابن جرير (1).
قال: ثم سار يزيد بن المهلب فغزا جرجان، ولم يكن يومئذ مدينة بأبواب وصور، وإنما هي جبال وأودية، وكان ملكها يقال له صول، فتحول عنها إلى قلعة هناك، وقيل إلى جزيرة في بحيرة هناك، ثم أخذوه من البحيرة وقتلوا من أهلها خلقا كثيرا وأسروا وغنموا.
قال: وفيها حج بالناس سليمان بن عبد الملك، ونواب البلادهم المذكورون في التي قبلها، غير أن خراسان عزل عنها وكيع بن [ أبي ] سود، ووليها يزيد بن المهلب بن أبي صفرة مع العراق.
وممن توفي فيها من الاعيان: الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب أبو محمد القرشي الهاشمي، روى عن أبيه عن جده مرفوعا: " من عال أهل بيت من
المسلمين يومهم وليلتهم غفر الله له ذنوبه ".
وعن عبد الله بن جعفر عن علي في دعاء الكرب، وعن زوجته فاطمة بنت الحسين، وعنه ابنه عبد الله وجماعة، وفد على عبد الملك بن مروان فأكرمه ونصره على الحجاج، وأقره وحده على ولاية صدقة علي، وقد ترجمه ابن عساكر فأحسن، وذكر عنه آثارا تدل على سيادته، قيل إن الوليد بن عبد الملك كتب إلى عامله بالمدينة: إن الحسن بن الحسن كاتب أهل العراق، فإذا جاءك كتابي هذا فاجلده مائة ضربة، وقفه للناس، ولا تراني إلا قاتله.
فأرسل
__________
خراسان - وكان مقتل قتيبة واستيلاء وكيع على خراسان فأقام بها تسعة أشهر يولي ويجبي ويعزل، وسليمان يحب أن يولي يزيد بن المهلب خراسان..ثم ارتأى توليه عبد الملك بن المهلب.
فكتب يزيد إلى سليمان يطلب ولاية خراسان وأرسل وكيع رسولا إلى سليمان يطلب الولاية لنفسه فدعا سليمان عبد الله بن الاهتم سأله رأيه فيمن يوليه خراسان.
(1) ذكر الطبري 8 / 115 وابن الاثير 5 / 25 نواب يزيد بن المهلب في البلاد: في واسط: الجراح بن عبد الله الحكمي، وعلى البصرة عبد الله بن هلال الكلابي، وفي ابن الاثير: وعلى الكوفة حرملة بن عمير اللخمي ثم عزله ببشير بن حيان النهدي.

خلفه فعلمه علي بن الحسين (1) كلمات الكرب فقالها حين دخل عليه فنجاه الله منهم، وهي: لا إله إلا الله الحليم الكريم، لا إله إلا الله العلي العظيم، لا إله إلا الله رب السموات السبع ورب الارض رب العرش العظيم.
توفي بالمدينة، وكانت أمه خولة بنت منظور الفزاري.
وقال يوما لرجل من الرافضة: والله إن قتلك لقربة إلى الله عزوجل، فقال له الرجل: إنك تمزح، فقال: الله ما هذا مني بمزح ولكنه الجد.
وقال له آخر منهم: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كنت مولاه فعلي مولاه " ؟.
فقال: بلى، ولو أراد الخلافة لخطب الناس فقال: أيها الناس اعلموا أن هذا ولي أمركم من بعدي، وهو القائم عليكم، فاسمعوا له وأطيعوا، والله لئن كان الله ورسوله اختار عليا لهذا الامر ثم تركه علي لكان أول من ترك أمر الله ورسوله، وقال لهم أيضا: والله لئن ولينا من الامر شيئا لنقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف، ثم لا نقبل لكم توبة، ويلكم غررتمونا من أنفسنا، ويلكم
لو كانت القرابة تنفع بلا عمل لنفعت أباه وأمه، لو كان ما تقولون فينا حقا لكان آباؤنا إذ لم يعلمونا بذلك قد ظلمونا وكتموا عنا أفضل الامور، والله إني لاخشى أن يضاعف العذاب للعاصي منا ضعفين، كما أني لارجو للمحسن منا أن يكون له الاجر مرتين، ويلكم أحبونا إن أطعنا الله على طاعته، وأبغضونا إن عصينا الله على معصيته.
موسى بن نصير (2) أبو عبد الرحمن اللخمي مولاهم، كان مولى لامرأة منهم، وقيل كان مولى لبني أمية، افتتح بلاد المغرب، وغنم منها أموالا لا تعد ولا توصف، وله بها مقامات مشهورة هائلة، ويقال إنه كان أعرج، ويقال إنه ولد في سنة تسع عشرة، وأصله من عين التمر، وقيل إنه من أراشة من بلي، سبي أبوه من جبل الخليل من الشام في أيام الصديق، وكان اسم أبيه نصرا فصغر، روى عن تميم الداري، وروى عنه ابنه عبد العزيز، ويزيد بن مسروق اليحصبي، وولي غزو البحر لمعاوية، فغزا قبرص، وبنى هنالك حصونا كالماغوصة وحصن بانس وغير ذلك من الحصون التي بناها بقبرص، وكان نائب معاوية عليها بعد أن فتحها معاوية في سنة سبع وعشرين، وشهد مرج راهط مع الضحاك بن قيس، فلما قتل الضحاك لجأ موسى بن نصير لعبد العزيز بن مروان، ثم لما دخل مروان بلاد مصر كان معه فتركه عند ابنه عبد العزيز، ثم لما أخذ عبد الملك بلاد العراق جعله وزيرا عند أخيه بشر بن مروان.
وكان موسى بن نصير هذا ذا رأي وتدبير وحزم وخبرة بالحرب، قال البغوي (3): ولي موسى ابن نصير إمرة بلاد إفريقية سنة تسع وسبعين فافتتح بلادا كثيرة جدا مدنا وأقاليم، وقد ذكرنا أنه
__________
(1) كذا بالاصول، وقد تقدم ان وفاته كانت سنة 94، ولعله كان قد علمه دعاء الكرب قبل ذلك.
(2) في البيان المغرب لابن عذارى ص 1 / 39: قيل إنه من لخم وقيل من بكر بن وائل وذكر ابن بشكوال في الصلة: موسى بن نصير بن عبد الرحمن بن زيد.
كان على خراج البصرة قدمه عليها عبد الملك بن مروان.
(انظر الامامة والسياسة 2 / 59).

افتتح بلاد الاندلس، وهي بلاد ذات مدن وقرى وريف، فسبى منها ومن غيرها خلقا كثيرا، وغنم
أموالا كثيرة جزيلة، ومن الذهب والجواهر النفيسة شيئا لا يحصى ولا يعد، وأما الآلات والمتاع والدواب فشئ لا يدرى ما هو، وسبى من الغلمان الحسان والنساء الحسان شيئا كثيرا، حتى قيل إنه لم يسلب أحد مثله من الاعداء (1)، وأسلم أهل المغرب على يديه، وبث فيهم الدين والقرآن، وكان إذا سار إلى مكان تحمل الاموال معه على العجل لكثرتها وعجز الدواب عنها.
وقد كان موسى بن نصير هذا يفتح في بلاد المغرب، وقتيبة يفتح في بلاد المشرق، فجزاهما الله خيرا، فكلاهما فتح من الاقاليم والبلدان شيئا كثيرا، ولكن موسى بن نصير حظي بأشياء لم يحظ بها قتيبة، حتى قيل إنه لما فتح الاندلس جاءه رجل فقال له: ابعث معي رجالا حتى أدلك على كنز عظيم، فبعث معه رجالا فأتى بهم إلى مكان فقال: احفروا، فحفروا فأفضى بهم الحفر إلى قاعة عظيمة ذات لواوين حسنة، فوجدوا هناك من اليواقيت والجواهر والزبرجد ما أبهتهم، وأما الذهب فشئ لا يعبر عنه، ووجدوا في ذلك الموضع الطنافس، الطنفسة منها منسوجة بقضبان الذهب، منظومة باللؤلؤ الغالي المفتخر، والطنفسة منظومة بالجوهر المثمن، واليواقيت التي ليس لها نظير في شكلها وحسنها وصفاتها، ولقد سمع يومئذ مناد ينادي لا يرون شخصه: أيها الناس، إنه قد فتح عليكم باب من أبواب جهنم فخذوا حذركم.
وقيل إنهم وجدوا في هذا الكنز مائدة سليمان بن داود التي كان يأكل عليها.
وقد جمع أخباره وما جرى له في حروبه وغزواته رجل من ذريته يقال له أبو معاوية معارك بن مروان بن عبد الملك بن مروان بن موسى بن نصير النصيري.
وروى الحافظ ابن عساكر: أن عمر بن عبد العزيز سأل موسى بن نصير حين قدم دمشق أيام الوليد عن أعجب شئ رأيت في البحر، فقال: انتهينا مرة إلى جزيرة فيها ست عشرة جرة مختومة بخاتم سليمان بن داود عليهما السلام، قال: فأمرت بأربعة منها فأخرجت، وأمرت بواحدة منها فنقبت فإذا قد خرج منها شيطان ينفض رأسه ويقول: والذي أكرمك بالنبوة لا أعود بعدها أفسد في الارض، قال: ثم إن ذلك الشيطان نظر فقال: إني لا أرى بهاء سليمان وملكه، فانساخ في الارض فذهب، قال: فأمرت بالثلاث البواقي فرددن إلى مكانهن.
وقد ذكر السمعاني وغيره عنه أنه سار إلى مدينة النحاس التي بقرب البحر المحيط الاخضر، في
أقصى بلاد المغرب، وأنهم لما أشرفوا عليها رأوا بريق شرفاتها وحيطانها من مسافة بعيدة، وأنهم لما أتوها نزلوا عندها، ثم أرسل رجلا من أصحابه ومعه مائة فارس من الابطال، وأمره أن يدور حول سورها لينظر هل لها باب أو منفذ إلى داخلها، فقيل: إنه سار يوما وليلة حول سورها، ثم رجع إليه فأخبره أنه لم يجد بابا ولا منفذا إلى داخلها، فأمرهم فجمعوا ما معهم من المتاع بعضه على بعض،
__________
(1) قال ابن عذارى 1 / 43: لم يسمع قط بمثل سبايا موسى بن نصير في الاسلام.

فلم يبلغوا أعلى سورها، فأمر فعمل سلالم فصعدوا عليها، وقيل إنه أمر رجلا فصعد على سورها، فلما رأى ما في داخلها لم يملك نفسه أن ألفاها في داخلها فكان آخر العهد به، ثم آخر فكذلك، ثم امتنع الناس من الصعود إليها، فلم يحط أحد منهم بما في داخلها علما، ثم ساروا عنها فقطعوها إلى بحيرة قريبة منها، فقيل: إن تلك الجرار المذكورة وجدها فيها، ووجد عليها رجلا قائما، فقال له: ما أنت ؟ قال: رجل من الجن وأبي محبوس في هذه البحيرة حبسه سليمان، فأنا أجئ إليه في كل سنة مرة أزوره.
فقال له: هل رأيت أحدا خارجا من هذه المدينة أو داخلا إليها ؟ قال: لا، إلا أن رجلا يأتي في كل سنة إلى هذه البحيرة يتعبد عليها أياما ثم يذهب فلا يعود إلى مثلها، والله أعلم ما هو، ثم رجع إلى إفريقية، والله أعلم بصحة ذلك، والعهدة على من ذكر ذلك أولا.
وقد استسقى موسى بن نصير بالناس في سنة ثلاث وتسعين حين أقحطوا بأفريقية، فأمرهم بصيام ثلاثة أيام قبل الاستسقاء، ثم خرج بين الناس وميز أهل الذمة عن المسلمين، وفرق بين البهائم وأولادها، ثم أمر بارتفاع الضجيج والبكاء، وهو يدعو الله تعالى حتى انتصف النهار، ثم نزل فقيل له: ألا دعوت لامير المؤمنين ؟ فقال: هذا موطن لا يذكر فيه إلا الله عزوجل، فسقاهم عزوجل لما قال ذلك.
وقد وفد موسى بن نصير على الوليد بن عبد الملك في آخر أيامه، فدخل دمشق في يوم جمعة والوليد على المنبر، وقد لبس موسى ثيابا حسنة وهيئة حسنة، فدخل ومعه ثلاثون غلاما من أبناء الملوك الذين أسرهم، والاسبان، وقد ألبسهم تيجان الملوك مع ما معهم من الخدم والحشم والابهة العظيمة، فلما نظر إليهم الوليد وهو يخطب الناس على منبر جامع دمشق بهت إليهم لما رأى
عليهم من الحرير والجواهر والزينة البالغة، وجاء موسى بن نصير فسلم على الوليد وهو على المنبر، وأمر أؤلئك فوقفوا عن يمين المنبر وشماله، فحمد الله الوليد وشكره على ما أيده به ووسع ملكه، وأطال الدعاء والتحميد والشكر حتى خرج وقت الجمعة، ثم نزل فصلى بالناس، ثم استدعى بموسى بن نصير فأحسن جائزته وأعطاه شيئا كثيرا، وكذلك موسى بن نصير قدم معه بشئ كثير، من ذلك مائدة سليمان بن داود عليهما السلام، التي كان يأكل عليها، وكانت من خليطين ذهب وفضة، وعليها ثلاثة أطواق لؤلؤ وجوهر لم ير مثله، وجدها في مدينة طليطلة من بلاد الاندلس مع أموال كثيرة.
وقيل إنه بعث ابنه مروان على جيش فأصاب من السبي مائة ألف رأس، وبعث ابن أخيه في جيش فأصاب من السبي مائة ألف رأس أيضا من البرير، فلما جاء كتابه إلى الوليد وذكر فيه أن خمس الغنائم أربعون ألف رأس قال الناس: إن هذا أحمق، من أين له أربعون ألف رأس خمس الغنائم ؟ فبلغه ذلك فأرسل أربعين ألف رأس وهي خمس ما غنم، ولم يسمع في الاسلام بمثل سبايا موسى بن نصير أمير المغرب.
وقد جرت له عجائب في فتحه بلاد الاندلس وقال: ولو انقاد الناس لي لقدتهم حتى أفتح بهم مدينة رومية - وهي المدينة العظمى في بلاد الفرنج - ثم ليفتحها الله على يدي إن شاء الله تعالى، ولما

قدم على الوليد قدم معه بثلاثين ألفا من السبي غير ما ذكرناه، وذلك خمس ما كان غنمه في آخر غزاة غزاها ببلاد المغرب، وقدم معه من الاموال والتحف واللآلي والجواهر ما لا يحد ولا يوصف، ولم يزل مقيما بدمشق حتى مات الوليد وتولى سليمان، وكان سليمان عاتبا على موسى فحبسه عنده وطالبه بأموال عظيمة (1).
ولم يزل في يده حتى حج بالناس سليمان في هذه السنة وأخذه معه فمات بالمدينة، وقيل بوادي القرى (2)، وقد قارب الثمانين، وقيل توفي في سنة تسع وتسعين فالله أعلم ورحمه الله وعفا عنه بمنه وفضله آمين.
ثم دخلت سنة ثمان وتسعين ففي هذه السنة جهز سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين أخاه مسلمة بن عبد الملك لغزو
القسطنطينية وراء الجيش الذين هم بها، فسار إليها ومعه جيش عظيم، ثم التف عليه ذلك الجيش الذين هم هناك وقد أمر كل رجل من الجيش أن يحمل معه على ظهر فرسه مدين من طعام، فلما وصل إليها جمعوا ذلك فإذا هو أمثال الجبال، فقال لهم مسلمة: أتركوا هذا الطعام وكلوا مما تجدونه في بلادهم، وازرعوا في أماكن الزرع واستغلوه، وابنوا لكم بيوتا من خشب، فإنا لا نرجع عن هذا البلد إلا أن نفتحها إن شاء الله.
ثم إن مسلمة داخل رجلا من النصارى يقال له إليون (3)، وواطأه في الباطن ليأخذ له بلاد الروم، فظهر منه نصح في بادئ الامر، ثم إنه توفي ملك القسطنطينية، فدخل إليون في رسالة من مسلمة وقد خافته الروم خوفا شديدا، فلما دخل إليهم إليون قالوا له: رده عنا ونحن نملكك علينا فخرج فأعمل الحيلة في الغدر والمكر، ولم يزل قبحه الله حتى أحرق ذلك الطعام الذي للمسلمين، وذلك أنه قال لمسلمة: إنه ما داموا يرون هذا الطعام يظنون أنك تطاولهم في القتال، فلو أحرقته لتحققوا منك العزم، وسلموا إليك البلد سريعا، فأمر مسلمة بالطعام
__________
(1) في الامامة والسياسة 2 / 83 كان سليمان بن عبد الملك بعث إلى موسى من لقيه في الطريق، قبل قدومه على الوليد يأمره بالتثبط في مسيره وألا يعجل وكان قدومه على الوليد في آخره شكايته التي توفي فيها - فآلى سليمان لئن ظفر بموسى ليصلبنه..وقال ابن عذارى في البيان المغرب 1 / 45: وصل إلى الوليد قبل موته بثلاثة أيام.
فقال سليمان: لئن ظفرت به لاصلبنه.
(2) في البيان المغرب 1 / 46: فلما وصلا المدينة مات وعمره تسعا وسبعين سنة وكانت وفاته سنة 98 ه.
وفي ابن خلكان 5 / 329: قيل بمر الظهران.
وفي ابن الاثير 5 / 26: كان موته بطريق مكة.
وفي الامامة والسياسة ص 2 / 102 مات بالمدينة سنة ثمان وتسعين وكان عمره ست وسبعين سنة.
(3) هو إليون المرعشي حاكم عمورية ويبدو أنه من أصل سوري من عناصر الجراجمة الساكنة على حدود الشام قاله المؤرخ الارمني دينيس فجاء إلى سليمان يطلب مساعدته للوصول إلى عرش الروم على أن يحكم باسمه.
ويقول دينيس: إن قصده في الحقيقة كان خداع العرب وإيقاف سفك دماء بني وطنه.
وهذا بالفعل ما وقع منه.

فأحرق، ثم انشمر إليون في السفن وأخذ ما أمكنه من أمتعة الجيس في الليل، وأصبح وهو في البلد محاربا للمسلمين، وأظهر العداوة الاكيدة، وتحصن واجتمعت عليه الروم، وضاق الحال على المسلمين حتى أكلوا كل شئ إلا التراب، فلم يزل ذلك دأبهم حتى جاءتهم وفاة سليمان بن عبد الملك وتولية عمر بن عبد العزيز، فكروا راجعين إلى الشام، وقد جهدوا جهدا شديدا، لكن لم يرجع مسلمة حتى بنى مسجدا بالقسطنطينية (1) شديد البناء محكما، رحب الفناء شاهقا في السماء (2).
وقال الواقدي: لما ولي سليمان بن عبد الملك أراد الاقامة ببيت المقدس، ثم يرسل العساكر إلى القسطنطينية، فأشار عليه موسى بن نصير بأن يفتح ما دونها من المدن والرساتيق والحصون، حتى يبلغ المدينة، فلا يأتيها إلا وقد هدمت حصونها ووهنت قوتها، فإذا فعلت ذلك لم يبق بينك وبينها مانع، فيعطوا بأيديهم ويسلموا لك البلد، ثم استشار أخاه مسلمة فأشار عليه بأن يدع ما دونها من البلاد ويفتحها عنوة، فمتى ما فتحت فإن باقي ما دونها من البلاد والحصون بيدك، فقال سليمان: هذا هو الرأي، ثم أخذ في تجهيز الجيوش من الشام والجزيرة فجهز في البرمائة وعشرين ألفا، وفي البحر مائة وعشرين ألفا من المقاتلة، وأخرج لهم الاعطية، وأنفق فيهم الاموال الكثيرة، وأعلمهم بغزو القسطنطينية والاقامة إلى أن يفتحوها، ثم سار سليمان من بيت المقدس فدخل دمشق وقد اجتمعت له العساكر فأمر عليهم أخاه مسلمة، ثم قال: سيروا على بركة الله، وعليكم بتقوى الله والصبر والتناصح والتناصف.
ثم سار سليمان حتى نزل مرج دابق، فاجتمع إليه الناس أيضا من المتطوعة المحتسبين أجورهم على الله، فاجتمع له جند عظيم لم ير مثله، ثم أمر مسلمة أن يرحل بالجيوش وأخذ معه إليون الرومي المرعشي، ثم ساروا حتي نزلوا على القسطنطينية فحاصرها إلى أن برح بهم وعرض أهلها الجزية على مسلمة فأبى إلا أن يفتحها عنوة، قالوا: فابعث إلينا إليون نشاوره، فأرسله إليهم، فقالوا له: رد هذه العساكر عنا ونحن نعطيك ونملك علينا، فرجع إلى مسلمة: فقال: قد أجابوا إلى فتحها غير أنهم لا يفتحونها حتى تتنحى عنهم، فقال مسلمة: إني أخشى غدرك، فحلف له أن يدفع إليه مفاتيحها وما فيها، فلما تنحى عنهم أخذوا في ترميم ما تهدم من أسوارها واستعدوا للحصار.
وغدر إليون بالمسلمين قبحه الله.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة أخذ سليمان بن عبد الملك العهد لولده أيوب أنه الخليفة من بعده، وذلك بعد موت أخيه مروان بن عبد الملك، فعدل عن ولاية أخيه يزيد إلى ولاية ولده أيوب، وتربص بأخيه الدوائر، فمات أيوب في حياة أبيه، فبايع سليمان إلى ابن عمه عمر بن
__________
(1) كان مسلمة قد بنى مدنية القهر حذاء مدينة القسطنطينية وبها بنى مسجدا عظيما.
(2) انظر الكامل ج 5 / 29 والطبري 8 / 118 والعيون والحدائق ص 25 التنبيه والاشراف ص 165 ورواية لابن الاعثم مطولة مختلفة 7 / 298 وما بعدها.

عبد العزيز أن يكون الخليفة من بعده، ونعم ما فعل (1).
وفيها فتحت مدينة الصقالبة.
قال الواقدي: وقد أغارت البرجان على جيش مسلمة وهو في قلة من الناس في هذه السنة.
فبعث إليه سليمان جيشا فتقاتل البرجان حتى هزمهم الله عزوجل.
وفيها غزا يزيد بن المهلب قهستان (2) من أرض الصين فحاصرها وقاتل عندها قتالا شديدا، ولم يزل حتى تسلمها، وقتل من الترك الذين بها أربعة آلاف صبرا، وأخذ منها من الاموال والاثاث والامتعة ما لا يحد ولا يوصف كثرة وقيمة وحسنا، ثم سار منها إلى جرجان فاستجاش صاحبها بالديلم، فقدموا لنجدته فقاتلهم يزيد بن المهلب وقاتلوه، فحمل محمد بن عبد الرحمن بن أبي سبرة الجعفي - وكان فارسا شجاعا باهرا - على ملك الديلم فقتله وهزمهم الله، ولقد بارز ابن أبي سبرة هذا يوما بعض فرسان الترك، فضربه التركي بالسيف على البيضة فنشب فيها، وضربه ابن أبي سبرة فقتله، ثم أقبل إلى المسلمين وسيفه يقطر دما وسيف التركي ناشب في خوذته، فنظر إليه يزيد بن المهلب فقال: ما رأيت منظرا أحسن من هذا، من هذا الرجل ؟ قالوا: ابن أبي سبرة.
فقال: نعم الرجل لولا انهماكه في الشراب.
ثم صمم يزيد على محاصرة جرجان وما زال يضيق على صاحبها حتى صالحه على سبعمائة ألف درهم وأربعمائة ألف دينار، ومائتي ألف ثوب، وأربعمائة حمار موقرة زعفرانا، وأربعمائة رجل على رأس كل رجل ترس: على الترس طيلسان وجام من فضة وسرقة من حريرة (3)، وهذه المدينة كان سعيد بن العاص فيها فتحها صلحا على أن يحملوا الخراج
في كل سنة مائة ألف، وفي سنة مائتي ألف، وفي بعض السنين ثلاثمائة ألف، ويمنعون ذلك في بعض السنين، ثم امتنعوا جملة وكفروا، فغزاهم يزيد بن المهلب وردها صلحا على ما كانت عليه في زمن سعيد بن العاص.
قالوا: وأصاب يزيد بن المهلب من غيرها أموالا كثيرة جدا، فكان من جملتها تاج فيه جواهر نفيسة، فقال: أترون أحدا يزهد في هذا ؟ قالوا: لا نعلمه، فقال: والله إني لاعلم رجلا لو عرض عليه هذا وأمثاله لزهد فيه، ثم دعا بمحمد بن واسع - وكان في الجيش مغازيا - فعرض عليه أخذ التاج فقال: لا حاجة لي فيه، فقال: أقسمت عليك لتأخذنه، فأخذه وخرج به من عنده، فأمر يزيد رجلا أن يتبعه فينظر ماذا يصنع بالتاج، فمر بسائل فطلب منه شيئا فأعطاه
__________
(1) في الاخبار الطوال ص 329 قال: " لما ثقل كتب كتابا وختمه ثم قال لصاحب شرطه: " اجمع إليه اخوتي وعمومتي وجميع أهل بيتي وعظماء أجناد الشام واحملهم على البيعة لمن سميت في هذا الكتاب، فمن أبى منهم أن يبايع، فاضرب عنقه " وقال: إن اخوي يزيد هشام ويزيد لم يبلغا أن يؤتمنا على الامة فجعلتها للرجل الصالح، عمر بن عبد العزيز، فإذا توفي عمر رجع الامر إليهما.
(انظر مروج الذهب 3 / 224) وفي الامامة والسياسة 2 / 114 نسخة كتاب سليمان بعهده إلى عمر مطولا.
(2) في الطبري 8 / 118 وابن الاعثم 7 / 287: دهستان.
(3) كذا بالاصل وفي رواية للطبري 8 / 120، وفي رواية أخرى للطبري: على ثلاثمائة ألف وهي رواية ابن الاعثم أيضا وزاد وعلى مائتي رأس رقيق وولى عليهم أسد بن عبد الله الازدي 7 / 289.

[ التاج ] بكماله وانصرف، فبعث يزيد إلى ذلك السائل فأخذ منه التاج وعوضه عنه ما لا كثيرا.
وقال علي بن محمد المدائني قال أبو بكر الهذلي: كان شهر بن حوشب على خزائن يزيد بن المهلب فرفعوا إليه أنه أخذ خريطة فيها مائة دينار، فسأله عنها فقال: نعم وأحضرها، فقال له يزيد: هي لك، ثم استدعى الذي وشى به فشتمه، فقال في ذلك القطامي الكلبي، ويقال إنها لسنان بن مكمل النميري: لقد باع شهر دينه بخريطة * فمن يأمن القراء بعدك يا شهر
أخذت به شيئا طفيفا وبعته * من ابن جونبوذان هذا هو الغدر وقال مرة بن النخعي (1): يابن المهلب ما أردت إلى امرئ * لولاك كان كصالح القراء قال ابن جرير: ويقال إن يزيد بن المهلب كان في غزوة جرجان في مائة ألف وعشرين ألفا، منهم ستون ألفا من جيش الشام أثابهم الله، وقد تمهدت تلك البلاد بفتح جرجان وسلكت الطرق، وكانت قبل ذلك مخوفة جدا، ثم عزم يزيد على المسير إلى خوزستان، وقدم بين يديه سرية هي أربعة آلاف من سراة الناس، فلما التقوا اقتتلوا قتالا شديدا، وقتل من المسلمين في المعركة أربعة آلاف وإنا لله وإنا إليه راجعون.
ثم إن يزيد عزم على فتح البلاد لا محالة، وما زال حتى صالحه صاحبها - وهو الاصبهبذ - بمال كثير، سبعمائة ألف في كل عام، وغير ذلك من المتاع والرقيق.
وممن توفي فيها من الاعيان: عبد الله بن عبد الله بن عتبة كان إماما حجة، وكان مؤدب عمر بن عبد العزيز، وله روايات كثيرة عن جماعات من الصحابة، أبو الحفص النخعي.
عبد الله بن محمد بن الحنفية.
وقد ذكرنا تراجمهم في التكميل والله سبحانه وتعالى أعلم.
ثم دخلت سنة تسع وتسعين فيها كانت وفاة سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين يوم الجمعة لعشر مضين، وقيل بقين من صفر منها، عن خمس وأربعين سنة، وقيل عن ثلاث وأربعين، وقيل إنه لم يجاوز الاربعين.
وكانت خلافته سنتين وثمانية أشهر، وزعم أبو أحمد الحاكم: أنه توفي يوم الجمعة لثلاث عشر بقيت من رمضان منها، وأنه استكمل في خلافته ثلاث سنين وثلاثة أشهر وخمسة أيام، وله من العمر تسع وثلاثون سنة، والصحيح قول الجمهور وهو الاول، والله أعلم.
__________
(1) في ابن الاثير 5 / 33: الحنفي.

وهو سليمان بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس القرشي الاموي، أبو أيوب.
كان مولده بالمدينة في بني جذيلة، ونشأ بالشام عند أبيه، وروى الحديث عن أبيه عن جده عن عائشة أم المؤمنين في قصة الافك، رواه ابن عساكر من طريق ابنه عبد الواحد بن سليمان عنه، وروى عن عبد الرحمن بن هنيدة أنه صحب عبد الله بن عمر إلى الغابة قال فسكت فقال لي ابن عمر: مالك ؟ فقال: إني كنت أتمنى.
فقال ابن عمر: فما تتمنى يا أبا عبد الرحمن ؟ فقال لي: لو أن لي أحدا هذا ذهبا أعلم عدده وأخرج زكاته ما كرهت ذلك، أو قال: ما خشيت أن يضر بي.
رواه محمد بن يحيى الذهلي عن أبي صالح عن الليث عن عبد الرحمن بن خالد بن مسافر عن الزهري عنه.
قال ابن عساكر: وكانت داره بدمشق موضع ميضأة جيرون الآن في تلك المساحة جميعها، وبنى دارا كبيرة مما يلي باب الصغير، موضع الدرب المعروف بدرب محرز، وجعلها دار الامارة، وعمل فيها قبة صفراء تشبيها بالقبة الخضراء، قال: وكان فصيحا مؤثرا للعدل محبا للغزو وقد أنفذ الجيش لحصار القسطنطينية حتى صالحوهم على بناء الجامع بها.
وقد روى أبو بكر الصولي: أن عبد الملك جمع بينه، الوليد وسليمان ومسلمة، بين يديه فاستقرأهم القرآن فأجادوا القراءة، ثم استنشدهم الشعر فأجادوا، غير أنهم لم يكملوا أو يحكموا شعر الاعشى، فلامهم على ذلك، ثم قال: لينشدني كل رجل منكم أرق بيت قالته العرب ولا يفحش، هات يا وليد، فقال الوليد: ما مركب وركوب الخيل يعجبني * كمركب بين دملوج وخلخال فقال عبد الملك: وهل يكون من الشعر أرق من هذا ؟ هات يا سليمان، فقال: حبذا رجعها يديها إليها * في يدي درعها تحل الازارا فقال: لم تصب، هات يا مسلمة، فأنشده قول امرئ القيس: وما ذرفت عيناك إلا لتضربي * بسهميك في أعشار قلب مقتل فقال: كذب امرؤ القيس ولم يصب، إذا ذرفت عيناها بالوجد فما بقي إلا اللقاء، وإنما ينبغي
للعاشق أن يغتضي منها الجفاء ويكسوها المودة، ثم قال: أنا مؤجلكم في هذا البيت ثلاثة أيام فمن أتاني به فله حكمه، أي مهما طلب أعطيته، فنهضوا من عنده فبينما سليمان في موكب إذا هو بأعرابي يسوق إبله وهو يقول:

لو ضربوا بالسيف رأسي في مودتها * لمال يهوي سريعا نحوها رأسي فأمر سليمان بالاعرابي فاعتقل، ثم جاء إلى أبيه فقال: قد جئتك بما سألت، فقال: هات، فأنشده البيت فقال: أحسنت، وأنى لك هذا ؟ فأخبره خبر الاعرابي، فقال: سل حاجتك ولا تنس صاحبك.
فقال: يا أمير المؤمنين إنك عهدت بالامر من بعدك للوليد، وإني أحب أن أكون ولي العهد من بعده، فأجابه إلى ذلك، وبعثه على الحج في إحدى وثمانين، وأطلق له مائة ألف درهم، فأعطاها سليمان لذلك الاعرابي الذي قال ذلك البيت من الشعر، فلما مات أبوه سنة ست وثمانين وصارت الخلافة إلى أخيه الوليد، كان بين يديه كالوزير والمشير، وكان هو المستحث على عمارة جامع دمشق، فلما توفي أخوه الوليد يوم السبت للنصف من جمادى الآخرة سنة ست وتسعين، كان سليمان بالرملة، فلما أقبل تلقاه الامراء ووجوه الناس، وقيل إنهم ساروا إليه إلى بيت المقدس فبايعوه هناك، وعزم على الاقامة بالقدس، وأتته الوفود إلى بيت المقدس، فلم يروا وفادة هناك، وكان يجلس في قبة في صحن المسجد مما يلي الصخرة من جهة الشمال، وتجلس أكابر الناس على الكراسي، وتقسم فيهم الاموال، ثم عزم على المجئ إلى دمشق.
فدخلها وكمل عمارة الجامع.
وفي أيامه جددت المقصورة واتخذ ابن عمه عمر بن عبد العزيز مستشارا ووزيرا، وقال له: إنا قد ولينا ما ترى وليس لنا علم بتدبيره، فما رأيت من مصلحة العامة فمر به فليكتب، وكان من ذلك عزل نواب الحجاج وإخراج أهل السجون منها، وإطلاق الاسرى، وبذل الاعطية بالعراق، ورد الصلاة إلى ميقاتها الاول، بعد أن كانوا يؤخرونها إلى آخر وقتها، مع أمور حسنة كان يسمعها من عمر بن عبد العزيز، وأمر بغزو القسطنطينية فبعث إليها من أهل الشام والجزيرة والموصل في البر نحوا من مائة ألف وعشرين ألف مقاتل، وبعث من أهل مصر وإفريقية ألف مركب في البحر عليهم
عمر بن هبيرة، وعلى جماعة الناس كلهم أخوه مسلمة، ومعه ابنه داود بن سليمان بن عبد الملك في جماعة من أهل بيته، وذلك كله عن مشورة موسى بن نصير: حين قدم عليه من بلاد المغرب، والصحيح أنه قدم في أيام أخيه الوليد والله أعلم.
قال ابن أبي الدنيا: حدثني محمد بن أسماعيل بن إبراهيم الكوفي، عن جابر بن عون الاسدي.
قال: أول كلام تكلم به سليمان بن عبد الملك حين ولي الخلافة أن قال: الحمد لله الذي ما شاء صنع وما شاء رفع وما شاء وضع، ومن شاء أعطى ومن شاء منع.
إن الدنيا دار غرور، ومنزل باطل، وزينة تقلب (1)،، تضحك باكيا وتبكي ضاحكا، وتخيف آمنا وتؤمن خائفا، تفقر مثريها، وتثري (2) فقيرها، ميالة لاعبة بأهلها.
يا عباد الله اتخذوا كتاب الله إماما، وارضوا به
__________
(1) في مروج الذهب 3 / 213: وتقلب بأهلها.
(2) في العقد الفريد 2 / 143: وتثري مقترا هيالة غرارة لعابة بأهلها.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55