كتاب :البداية والنهاية
الامام الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن
كثير الدمشقي
عليه السلام في دار بني النجار واختيار الله له ذلك منقبة عظيمة وقد كان في المدينة دور كثيرة تبلغ تسعا كل دار محلة مستقلة بمساكنها ونخيلها وزروعها وأهلها، كل قبيلة من قبائلهم قد اجتمعوا في محلتهم وهي كالقرى المتلاصقة، فاختار الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم دار بني مالك بن النجار.
وقد ثبت في الصحيحين من حديث شعبة: سمعت قتادة، عن أنس بن مالك.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خير دور الانصار بنو النجار، ثم بنو عبد الاشهل، ثم بنو الحارث بن الخزرج، ثم بنو ساعدة، وفي كل دور الانصار خير " فقال سعد بن عبادة: ما أرى النبي صلى الله عليه وسلم إلا قد فضل علينا فقيل قد فضلكم على كثير: هذا لفظ البخاري.
وكذلك رواه البخاري ومسلم من
حديث أنس وأبي سلمة عن أبي أسيد مالك بن ربيعة، ومن حديث عبادة بن سهل عن أبي حميد عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله سواء.
زاد في حديث أبي حميد، فقال أبو أسيد لسعد بن عبادة: ألم تر أن النبي صلى الله عليه وسلم خير الانصار فجعلنا آخرا، فأدرك سعد النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله خيرت دور الانصار فجعلتنا آخرا ؟ قال: " أو ليس بحسبكم أن تكونوا من الاخيار " قد ثبت لجميع من أسلم من أهل المدينة وهم الانصار الشرف والرفعة في الدنيا والآخرة.
قال الله تعالى: (والسابقون الاولون من المهاجرين والانصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم) [ التوبة: 100 ] وقال تعالى: (والذين تبوؤا الدار والايمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) [ الحشر: 9 ] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لولا الهجرة لكنت أمرءا من الانصار، ولو سلك الناس واديا وشعبا لسلكت وادي الانصار وشعبهم، الانصار شعار والناس دثار " وقال: " الانصار كرشي وعيبتي " وقال: " أنا سلم لمن سالمهم، وحرب لمن حاربهم " وقال البخاري حدثنا حجاج بن منهال ثنا شعبة حدثني عدي بن ثابت قال سمعت البراء بن عازب يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - أو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -: " الانصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق.
فمن أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله " وقد أخرجه بقية الجماعة إلا أبا داود من حديث شعبة به.
وقال البخاري أيضا حدثنا مسلم بن إبراهيم ثنا شعبة عن عبد الرحمن بن عبد الله بن جبير عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " آية الايمان حب الانصار، وآية النفاق بغض الانصار " ورواه البخاري أيضا عن أبي الوليد [ و ] الطيالسي ومسلم من حديث خالد بن الحارث وعبد الرحمن بن مهدي أربعتهم عن شعبة به.
والآيات والاحاديث في فضائل الانصار كثيرة جدا.
وما أحسن ما قال أبو قيس صرمة بن أبي أنس المتقدم ذكره أحد شعراء الانصار في قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ونصرهم إياه ومواساتهم له ولاصحابه رضي الله عنهم أجمعين.
قال ابن إسحاق: وقال أبو قيس صرمة بن أبي أنس أيضا يذكر ما أكرمهم الله به من
الاسلام وما خصهم به من رسوله عليه السلام:
ثوى في قريش بضع عشرة حجة * يذكر لو يلقى صديقا مواتيا ويعرض في أهل المواسم نفسه * فلم ير من يؤوي ولم ير داعيا فلما أتانا واطمأنت به النوى (1) * وأصبح مسرورا بطيبة راضيا وألفى صديقا واطمأنت به النوى * وكان له عونا من الله باديا يقص لنا ما قال نوح لقومه * وما قال موسى إذ أجاب المناديا فأصبح لا يخشى من الناس واحدا * قريبا ولا يخشى من الناس نائيا بذلنا له الاموال من جل مالنا * وأنفسنا عند الوغى والتآسيا (2) نعادي الذي عادى من الناس كلهم * جميعا ولو كان الحبيب المواسيا ونعلم أن الله لا شئ غيره * وإن كتاب الله أصبح هاديا (3) أقول إذا صليت في كل بيعة * حنانيك لا تظهر علينا الاعاديا (4) أقول إذا جاوزت أرضا مخيفة * تباركت اسم الله أنت المواليا فطا معرضا إن الحتوف كثيرة * وانك لا تبقي لنفسك باقيا (5) فوالله ما يدري الفتى كيف سعيه * إذا هو لم يجعل له الله واقيا ولا تحفل النخل المعيمة ربها * إذا أصبحت ريا وأصبح ثاويا (6) ذكرها ابن إسحاق وغيره، ورواها عبد الله بن الزبير الحميدي وغيره عن سفيان بن عيينة عن يحيى بن سعيد الانصاري عن عجوز من الانصار قالت: رأيت عبد الله بن عباس يختلف إلى صرمة بن قيس يروي هذه الابيات.
رواه البيهقي.
فصل وقد شرفت المدينة أيضا بهجرته عليه السلام إليها وصارت كهفا لاولياء الله وعباده
__________
(1) في ابن هشام: فلما أتانا أظهر الله دينه.
(2) في ابن هشام: من حل، وتروى من جل بالجيم ومعناه: العظيم الكبير من الابل، أو معظم كل شئ.
(3) في ابن هشام: ونعلم أن الله أفضل هاديا.
(4) في ابن هشام: ورد البيت والذي بعده: أقول إذا أدعوك في كل بيعة * تباركت قد أكثرت لاسمك داعيا أقول إذا جاوزت أرضا مخوفة * حنانيك لا تظهر علي الاعاديا (5) قال ابن هشام: هذا البيت والذي يليه لافنون التغلبي، وهو صريم بن معشر في أبيات له وبعدهما: كفى حزنا أن يرحل الركب غدوة * واترك في جنب الالهة ثاويا قالهما لما أحس بالموت، بعد أن بركت ناقته على حية فنهشته الحية فمات.
(6) في الاصل المقيمة، والتصويب من ابن هشام وشرح السيرة لابي ذر.
والمعيمة: العاطشة.
الصالحين، ومعقلا وحصنا منيعا للمسلمين، ودار هدى للعالمين.
والاحاديث في فضلها كثيرة جدا لها موضع آخر نوردها فيه إن شاء الله.
وقد ثبت في الصحيحين من طريق حبيب بن يساف عن جعفر بن عاصم عن أبي هريرة.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الايمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها " (1) ورواه مسلم أيضا عن محمد بن رافع عن شبابة عن عاصم بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
وفي الصحيحين أيضا من حديث مالك عن يحيى بن سعيد أنه سمع أبا الحباب سعيد بن يسار سمعت أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أمرت بقرية تأكل القرى، يقول: يثرب، وهي المدينة، تنقي الناس كما ينقي الكير خبث الحديد " (2) وقد انفرد الامام مالك عن بقية الائمة الاربعة بتفضيلها على مكة.
وقد قال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرني أبو الوليد، وأبو بكر بن عبد الله قالا ثنا الحسن بن سفيان ثنا ابو موسى الانصاري، ثنا سعيد بن سعيد، حدثني أخي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم إنك أخرجتني من أحب البلاد إلي فاسكني أحب البلاد إليك " فأسكنه الله المدينة " (3)،.
وهذا حديث غريب جدا والمشهور عن
الجمهور أن مكة أفضل من المدينة إلا المكان الذي ضم جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد استدل الجمهور على ذلك بأدلة يطول ذكرها ههنا ومحلها ذكرناها في كتاب المناسك من الاحكام إن شاء الله تعالى.
وأشهر دليل لهم في ذلك ما قال الامام أحمد: حدثنا أبو اليمان ثنا شعيب عن الزهري أخبرنا أبو سلمة بن عبد الرحمن أن عبد الله بن عدي بن الحمراء أخبره أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف بالحزورة في سوق مكة يقول: " والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلي، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت " وكذا رواه أحمد عن يعقوب بن إبراهيم عن أبيه عن صالح بن كيسان عن الزهري به.
وهكذا رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث الليث عن عقيل عن الزهري به.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقد رواه يونس عن الزهري به.
ورواه محمد بن عمرو عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة، وحديث الزهري عندي أصح.
قال الامام أحمد: حدثنا
__________
(1) رواه مسلم في 1 كتاب الايمان 65 باب ح 233.
والبخاري في 29 كتاب فضائل المدينة 6 باب ح 1876 فتح الباري 4 / 93 عن خبيب بن عبد الرحمن بن يساف.
وأخرجه الترمذي في الايمان وابن ماجه في المناسك وأحمد في المسند 1 / 184.
(2) أخرجه البخاري في 29 فضائل المدينة (2) باب فتح الباري 4 / 87 ومسلم في 15 كتاب الحج 88 باب ح 488 وأحمد في 2 / 237، 247، 384.
أمرت بقرية: اي أمرني ربي بالهجرة إلى قرية - يثرب -.
- تأكل القرى: تغلبها وتظهر عليها.
- تنقي، وفي النهاية: تنفي: تخرجه عنها من النفي، وتنقي من إخراج النقي وهو المخ أو من التنقية وهي إفراد الجيد من الردئ.
(3) دلائل النبوة ج 2 / 519.
عبد الرزاق، ثنا معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحزورة فقال: " علمت أنك خير أرض الله وأحب الارض إلى الله،
ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت " (1) وكذا رواه النسائي من حديث معمر به.
قال الحافظ البيهقي وهذا وهم من معمر، وقد رواه بعضهم عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة وهو أيضا وهم والصحيح رواية الجماعة (2).
وقال أحمد ايضا حدثنا إبراهيم بن خالد، ثنا رباح، عن معمر.
عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري عن أبي سلمة عن بعضهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو في سوق الحزورة: " والله إنك لخير أرض الله وأحب الارض إلى الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت " ورواه الطبراني عن أحمد بن خليد الحلبي عن الحميدي عن الدراوردي عن ابن أخي الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم عن عبد الله بن عدي بن الحمراء به.
فهذه طرق هذا الحديث، وأصحها ما تقدم والله أعلم.
وقائع السنة الاولى من الهجرة اتفق الصحابة رضي الله عنهم في سنة ست عشرة - وقيل سنة سبع عشرة، أو ثماني عشرة - في الدولة العمرية على جعل ابتداء التاريخ الاسلامي من سنة الهجرة، وذلك أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه رفع إليه صك - أي حجة - لرجل على آخر وفيه، إنه يحل عليه في شعبان.
فقال عمر: أي شعبان ؟ أشعبان هذه السنة التي نحن فيها أو السنة الماضية، أو الآتية ؟ ثم جمع الصحابة فاستشارهم في وضع تاريخ يتعرفون به حلول الديون وغير ذلك.
فقال قائل: أرخوا كتاريخ الفرس فكره ذلك، وكانت الفرس يؤرخون بملوكهم واحدا بعد واحد.
وقال قائل: أرخوا بتاريخ الروم.
وكانوا يؤرخون بملك اسكندر بن فلبس المقدوني فكره ذلك.
وقال آخرون أرخوا بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال آخرون بل بمبعثه، وقال آخرون بل بهجرته، وقال آخرون بل بوفاته عليه السلام.
فمال عمر رضي الله عنه إلى التاريخ بالهجرة لظهوره واشتهاره.
واتفقوا معه على ذلك.
وقال البخاري في صحيحة: التاريخ ومتى أرخوا التاريخ.
حدثنا عبد الله بن مسلم ثنا عبد العزيز عن أبيه عن سهل بن سعد.
قال: ما عدوا من مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ولا من وفاته، ما عدوا إلا من مقدمة المدينة.
__________
(1) أخرجه الترمذي في المناقب باب في فضل مكة ح 3925 وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح.
وأخرجه ابن ماجه في المناسك.
والنسائي في المناسك في سننه الكبرى على ما ذكره المزي في تحفة الاشراف 5 / 316 و 11 / 54.
(2) دلائل النبوة ج 2 / 518.
وقال الواقدي: حدثنا ابن أبي الزناد عن أبيه.
قال: استشار عمر في التاريخ فأجمعوا على الهجرة.
وقال أبو داود الطيالسي عن قرة (1) بن خالد السدوسي عن محمد بن سيرين قال: قام رجل إلى عمر فقال أرخوا.
فقال ما أرخوا ؟ فقال شئ تفعله الاعاجمم يكتبون في شهر كذا من سنة كذا.
فقال عمر: حسن فأرخوا، فقالوا من أي السنين نبدأ.
فقالوا من مبعثه، وقالوا من وفاته، ثم أجمعوا على الهجرة، ثم قالوا وأي الشهور نبدأ ؟ قالوا رمضان، ثم قالوا المحرم فهو مصرف (2) الناس من حجهم وهو شهر حرام فاجتمعوا (3) على المحرم.
وقال ابن جرير: حدثنا قتيبة ثنا نوح بن قيس الطائي (4) عن عثمان بن محصن أن ابن عباس كان يقول في قوله تعالى: (والفجر وليال عشر) هو المحرم فجر السنة وروى عن عبيد بن عمير.
قال: إن المحرم شهر الله وهو رأس السنة يكسي البيت، ويؤرخ به الناس (5)، ويضرب فيه الورق.
وقال أحمد: حدثنا روح بن عبادة ثنا زكريا بن إسحاق عن عمرو بن دينار قال: إن أول من ورخ الكتب يعلى بن أمية باليمن، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة في ربيع الاول وأن الناس أرخوا لاول السنة.
وروى محمد بن إسحاق عن الزهري وعن محمد بن صالح عن الشعبي أنهما قالا: أرخ بنو اسماعيل من نار إبراهيم، ثم أرخوا من بنيان إبراهيم واسماعيل البيت (6)، ثم أرخوا من موت كعب بن لؤي، ثم أرخوا من الفيل، ثم أرخ عمر بن الخطاب من الهجرة وذلك سنة سبع عشرة
- أو ثماني عشرة - وقد ذكرنا هذا الفصل محررا بأسانيده وطرقه في السيرة العمرية ولله الحمد، والمقصود أنهم جعلوا ابتداء التاريخ الاسلامي من سنة الهجرة، وجعلوا أولها من المحرم فيما اشتهر عنهم وهذا هو قول جمهور الائمة.
__________
(1) من الطبري، وفي الاصل فروة وهو تحريف.
(2) في الطبري: منصرف.
(3) من الطبري وفي الاصل فأجتمعوا.
(4) في الطبري: 2 / 253: الطاحي.
(5) في الطبري: ويؤرخ التاريخ.
(6) في رواية الطبري: فكان كلما خرج قوم من تهامة أرخوا بمخرجهم ومن بقي بتهامة من بني اسماعيل يؤرخون من خروج سعد ونهد وجهينة وبني زيد من تهامة حتى مات كعب بن لؤي.
وعلق الطبري على رواية ابن اسحاق قال: وهذا الذي رواه علي بن مجاهد عن ابن إسحاق غير بعيد من الحق لانهم لم يكونوا يؤرخون على أمر معروف يعمل به عامتهم وإنما كان المؤرخ منهم يؤرخ بزمان قحمة كانت في ناحية من نواحي من نواحي بلادهم.
وحكى السهيلي وغيره عن الامام مالك أنه قال: أول السنة الاسلامية ربيع الاول لانه الشهر الذي هاجر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد استدل السهيلي على ذلك في موضع آخر بقوله تعالى: (لمسجد أسس على التقوى من أول يوم) أي من أول يوم حلول النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وهو أول يوم من التاريخ كما اتفق الصحابة على أول سني التاريخ عام الهجرة.
ولا شك أن هذا الذي قاله الامام مالك رحمه الله مناسب، ولكن العمل على خلافه، وذلك لان أول شهور العرب المحرم فجعلوا السنة الاولى سنة الهجرة.
وجعلوا أولها المحرم كما هو المعروف لئلا يختلط النظام والله أعلم.
فنقول وبالله المستعان: استهلت سنة الهجرة المباركة ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقيم بمكة، وقد بايع
الانصار بيعة العقبة الثانية كما قدمنا في أوسط أيام التشريق وهي ليلة الثاني عشر من ذي الحجة قبل سنة الهجرة، ثم رجع الانصار وأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين في الهجرة إلى المدينة فهاجر من هاجر من أصحابه إلى المدينة حتى لم يبق بمكة من يمكنه الخروج إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه في الطريق كما قدمنا ثم خرجا على الوجه الذي تقدم بسطه وتأخر علي بن أبي طالب بعد النبي صلى الله عليه وسلم بأمره ليؤدي ما كان عنده عليه السلام من الودائع ثم لحقهم بقباء فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين قريبا من الزوال وقد اشتد الضحاء.
قال الواقدي وغيره: وذلك لليلتين خلتا من شهر ربيع الاول.
وحكاه ابن إسحاق إلا أنه لم يعرج عليه ورجح أنه لثنتي عشرة ليلة خلت منه، وهذا هو المشهور الذي عليه الجمهور.
وقد كانت مدة إقامته عليه السلام بمكة بعد البعثة (1) ثلاث عشرة سنة في أصح الاقوال، وهو رواية حماد بن سلمة عن أبي جمرة (2) الضبعي عن ابن عباس.
قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لاربعين سنة، وأقام بمكة ثلاث عشرة سنة.
وهكذا روى ابن جرير عن محمد بن معمر عن روح بن عبادة عن زكريا بن إسحاق عن عمرو بن دينار عن ابن عباس أنه قال: مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاث عشرة.
وتقدم أن ابن عباس كتب أبيات صرمة بن أبي أنس بن قيس: ثوى في قريش بضع عشرة حجة * يذكر لو يلقى صديقا مواتيا وقال الواقدي عن إبراهيم بن اسماعيل عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أنه استشهد بقول صرمة:
__________
(1) يعني هنا من أول الوقت الذي استنبى فيه، عن عروة عن عائشة قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم.
(2) من الطبري، وفي الاصل: أبي حمزة الضبي.
وأبو جمرة الضبعي، واسمه نصر بن عمران بن عصام الضبعي، البصري نزيل خراسان مشهور بكنيته، ثقة ثبت من الثالثة مات سنة ثمان وعشرين.
تقريب التهذيب 2 / 72 / 300.
ثوى في قريش بضع عشرة حجة * يذكر لو يلقى صديقا مواتيا وهكذا رواه ابن جرير عن الحارث عن محمد بن سعد عن الواقدي خمس عشرة حجة، وهو قول غريب جدا، وأغرب منه ما قال ابن جرير: حدثت عن روح بن عبادة ثنا سعيد عن قتادة قال: نزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثماني سنين بمكة، وعشرا بالمدينة.
وكان الحسن يقول: عشرا بمكة، وعشرا بالمدينة، وهذا القول الآخر الذي ذهب إليه الحسن البصري من أنه أقام بمكة عشر سنين ذهب إليه أنس بن مالك وعائشة وسعيد بن المسيب وعمرو بن دينار فيما رواه ابن جرير عنهم، وهو رواية عن ابن عباس رواها أحمد بن حنبل عن يحيى بن سعيد عن هشام عن عكرمة عن ابن عباس.
قال: أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وأربعين، فمكث بمكة عشرا وقد قدمنا عن الشعبي أنه قال: قرن إسرافيل برسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين يلقى إليه الكلمة والشئ وفي رواية يسمع حسه ولا يرى شخصه، ثم كان بعد ذلك جبريل.
وقد حكى الواقدي عن بعض مشايخه أنه أنكر قول الشعبي هذا، وحاول ابن جرير (1) أن يجمع بين قول من قال إنه عليه السلام أقام بمكة عشرا، وقول من قال ثلاث عشرة بهذا الذي ذكره الشعبي والله أعلم.
فصل ولما حل الركاب النبوي بالمدينة، وكان أول نزوله بها في دار بني عمرو بن عوف وهي قباء كما تقدم فأقام بها - أكثر ما قيل - ثنتين وعشرين ليلة، وقيل ثماني عشرة ليلة.
وقيل بضع عشرة ليلة وقال موسى بن عقبة: ثلاث ليال.
والاشهر ما ذكره ابن إسحاق وغيره أنه عليه السلام أقام فيهم بقباء من يوم الاثنين إلى يوم الجمعة، وقد أسس في هذه المدة المختلف في مقدارها - على ما ذكرناه - مسجد قباء، وقد ادعى السهيلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسسه في أول يوم قدم إلى قباء وحمل على ذلك قوله تعالى: (لمسجد أسس على التقوى من أول يوم) ورد قول من أعربها: من تأسيس أول يوم، وهو مسجد شريف فاضل نزل فيه قوله تعالى: (لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه، فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين) [ التوبة: 108 ] كما تكلمنا على تقرير ذلك في التفسير وذكرنا الحديث الذي في صحيح (2) مسلم أنه مسجد المدينة
والجواب عنه.
وذكرنا الحديث الذي رواه الامام أحمد: حدثنا حسن بن محمد ثنا أبو إدريس ثنا
__________
(1) قال ابن جرير في 2 / 251: فلعل الذين قالوا كان مقامه بمكة بعد الوحي عشرا عدوا مقامه بها من حين أتاه جبريل بالوحي من الله عزوجل وأظهر الدعاء إلى توحيد الله وعد الذين قالوا كان مقامه ثلاث عشرة سنة من أول الوقت الذي استنبى فيه وكان اسرافيل المقرون به وهي السنون الثلاث التي لم يكن أمر فيها بإظهار الدعوة.
أنظر الحاشية قبل السابقة.
(2) صحيح مسلم في مناسك الحج، باب بيان أن المسجد الذي أسس على التقوى عن أبي بكر بن أبي شيبة وسعيد بن عمرو الاشعثي كلاهما عن حاتم بن إسماعيل عن حميد الخراط.
شرحبيل عن عويم بن ساعدة أنه حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم في مسجد قباء فقال: " إن الله قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم فما هذا الطهور الذي تطهرون به ؟ " قالوا: والله يا رسول الله ما نعلم شيئا إلا أنه كان لنا جيران من اليهود فكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط فغسلنا كما غسلوا (1).
وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه وله شواهد أخر.
وروى عن خزيمة بن ثابت ومحمد بن عبد الله بن سلام وابن عباس.
وقد روى أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث يونس بن الحارث عن إبراهيم بن أبي ميمونة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: نزلت هذه الآية في أهل قباء (فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين).
قال كانوا يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه الآية.
ثم قال الترمذي غريب من هذا الوجه.
قلت: ويونس بن الحارث هذا ضعيف والله أعلم.
وممن قال بأنه المسجد الذي أسس على التقوى ما رواه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير.
ورواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وحكى عن الشعبي والحسن البصري وقتادة وسعيد بن جبير وعطية العوفي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يزوره فيما بعد ويصلي فيه، وكان يأتي قباء كل سبت تارة راكبا وتارة ماشيا وفي الحديث: " صلاة في مسجد قباء كعمرة " وقد ورد في حديث أن جبرائيل عليه السلام هو الذي أشار للنبي صلى الله عليه وسلم إلى موضع قبلة مسجد قباء، فكان هذا
المسجد أو مسجد بني في الاسلام بالمدينة، بل أول مسجد جعل لعموم الناس في هذه الملة.
واحترزنا بهذا عن المسجد الذي بناه الصديق بمكة عند باب داره يتعبد فيه ويصلي لان ذاك كان لخاصة نفسه لم يكن للناس عامة والله أعلم.
وقد تقدم اسلام سلمان في البشارات، [ و ] أن سلمان الفارسي لما سمع بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ذهب إليه وأخذ معه شيئا فوضعه بين يديه وهو بقباء قال هذا صدقة فكف رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يأكله وأمر أصحابه فأكلوا منه، ثم جاء مرة أخرى ومعه شئ فوضعه وقال هذه هدية فأكل منه وأمر أصحابه فأكلوا.
تقدم الحديث بطوله.
فصل في إسلام عبد الله بن سلام قال الامام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، ثنا عوف، عن زرارة، عن عبد الله بن سلام.
قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس، فكنت فيمن انجفل، فلما تبينت وجهه عرفت أنه ليس بوجه كذاب.
فكان أول شئ سمعته يقول: " [ يا أيها الناس ] (2) افشوا السلام وأطعموا
__________
(1) مسند أحمد ج 3 / 422.
(2) من دلائل البيهقي .
الطعام [ وصلوا الارحام ] (1) وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام " (2) ورواه الترمذي وابن ماجه من طرق عن عوف الاعرابي عن زرارة بن أبي أوفى به عنه.
وقال الترمذي صحيح.
ومقتضى هذا السياق يقتضي أنه سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم ورآه أول قدومه حين أناخ بقباء في بني عمرو بن عوف.
وتقدم في رواية عبد العزيز بن صهيب عن أنس أنه اجتمع به حين أناخ عند دار أبي أيوب عند ارتحاله من قباء إلى دار بني النجار كما تقدم، فلعله رآه أول ما رآه بقباء، واجتمع به بعد ما صار إلى دار بني النجار.
والله أعلم.
وفي سياق البخاري من طريق عبد العزيز عن أنس.
قال: فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم جاء عبد الله بن سلام فقال أشهد أنك رسول الله وأنك جئت بحق، وقد علمت يهود أني سيدهم وابن سيدهم وأعلمهم وابن أعلمهم فأدعهم فسلهم عني قبل أن يعلموا
أني قد أسلمت فإنهم إن يعلموا اني قد أسلمت قالوا في ما ليس في.
فأرسل نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى اليهود فدخلوا عليه.
فقال لهم: " يا معشر اليهود ويلكم اتقوا الله فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقا وأني جئتكم بحق فأسلموا " قالوا ما نعلمه.
قالوا [ ذلك ] للنبي صلى الله عليه وسلم قالها ثلاث مرار.
قال: " فأي رجل فيكم عبد الله (3) بن سلام ؟ قالوا ذاك سيدنا وابن سيدنا وأعلمنا وابن أعلمنا.
قال: أفرأيتم إن أسلم، قالوا حاش لله ما كان ليسلم (4).
قال: " يا ابن سلام اخرج عليهم " فخرج فقال: يا معشر يهود اتقوا الله فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله وأنه جاء بالحق.
فقالوا: كذبت.
فأخرجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم (5).
هذا لفظه.
وفي رواية (6) فلما خرج عليهم شهد شهادة الحق قالوا: شرنا وابن شرنا، وتنقصوه فقال: يا رسول الله هذا الذي كنت أخاف.
وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرنا الاصم حدثنا محمد بن إسحاق الصنعاني (7) ثنا عبد الله بن أبي بكر، ثنا حميد.
عن أنس.
قال: سمع عبد الله بن سلام
__________
(1) من المسند.
(2) رواه أحمد في المسند 5 / 451، والترمذي في الزهد باب حديث افشوا السلام..عن محمد بن بشار عن عبد الوهاب الثقفي، وغندر وابن أبي عدي ويحيى بن سعيد أربعتهم عن عوف بن أبي جميلة.
وأخرجه ابن ماجة في كتاب الصلاة - باب ما جاء في قيام الليل عن بندار، وفي أول كتاب الاطعمة عن أبي بكر بن أبي شيبة.
والبيهقي في الدلائل 2 / 531 من طريق يعقوب بن سفيان، ومن طريق علي بن أحمد بن عبدان.
كلاهما عن عوف.
(3) في ابن هشام: الحصين بن سلام.
(4) في الصحيح كررت العبارة: حاش لله ماكان ليسلم ثلاث مرات مؤكدا عليهم.
(5) أخرجه البخاري في 63 كتاب مناقب الانصار 45 باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة ح 3911 ورواه البيهقي من طريق عبد الوارث عن ابن صهيب عن أنس 2 / 526.
(6) في رواية حميد الطويل عن أنس.
ونقلها البيهقي في الدلائل 2 / 528.
(7) في دلائل البيهقي: الصغاني.
بقدوم النبي صلى الله عليه وسلم.
- وهو في أرض له - فأتى النبي صلى الله عليه وسلم: فقال إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي، ما أول أشراط الساعة ؟ وما أول طعام يأكله (1) أهل الجنة ؟ وما بال الولد إلى أبيه أو إلى أمه (2) ؟ قال: " أخبرني بهن جبريل آنفا " قال جبريل ؟ قال: " نعم ! " قال: عدو اليهود من الملائكة.
ثم قرأ: " من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك باذن الله) [ البقرة: 97 ] قال: " أما أول أشراط الساعة: فنار تخرج على الناس من المشرق تسوقهم (3) إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت، وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد [ إلى أبيه ] (4)، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت الولد " فقال.
أشهد أن لا إله إلا الله أو (و) أنك رسول الله.
يا رسول الله إن اليهود قوم بهت وأنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني.
فجاءت اليهود.
فقال: " أي رجل عبد الله [ بن سلام ] (5) فيكم ؟ " قالوا خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا.
قال: " أرأيتم إن أسلم ؟ " قالوا أعاذه الله من ذلك.
فخرج عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله.
قالوا: شرنا وابن شرنا وانتقصوه.
قال هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله.
ورواه البخاري عن عبد بن منير (6) عن عبد الله بن أبي بكر به ورواه عن حامد بن عمر عن بشر بن المفضل عن حميد به.
قال محمد إبن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر عن يحيى بن عبد الله عن رجل من آل عبد الله بن سلام: قال: كان من حديث عبد الله بن سلام حين أسلم - وكان حبرا عالما -.
قال: لما سمعت برسول الله وعرفت صفته واسمه وهيئته و [ زمانه ] الذي كنا نتوكف له، فكنت بقباء مسرا بذلك صامتا عليه حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، المدينة فلما قدم نزل بقباء في بني عمرو بن عوف.
فأقبل رجل حتى أخبر بقدومه، وأنا في رأس نخلة لي أعمل فيها، وعمتي خالدة بنت الحارث تحتي جالسة، فلما سمعت الخبر بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم كبرت، فقالت [ لي ] عمتي حين سمعت تكبيري: لو كنت سمعت بموسى بن عمران ما زدت، قال: قلت لها: أي عمة.
والله هو أخو موسى بن عمران وعلى دينه بعث بما بعث به.
قال فقالت له: يا ابن أخي أهو الذي كنا
نخبر أنه يبعث مع نفس الساعة ؟ قال: قلت لها: نعم ! قالت فذاك إذا.
قال فخرجت إلى
__________
(1) سقطت من البيهقي.
(2) عبارة البيهقي: وما ينزع الولد إلى أبيه وإلى أمه.
(3) سقطت من البيهقي، وفي الصحيح: تحشرهم.
(4) من البيهقي.
(5) سقطت من الاصل والبيهقي واستدركت من الصحيح.
(6) أخرجه البخاري في كتاب التفسير، تفسير سورة البقرة 6 باب فتح الباري 8 / 165 عن عبد الله بن منير، ولعله تحريف من الناسخ والصواب عبد بن حميد.
ورواه في 63 كتاب مناقب الانصار 51 باب حدثني حامد بن عمر فتح الباري 7 / 272.
رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت ثم رجعت إلى أهل بيتي فأمرتهم فأسلموا وكتمت إسلامي من اليهود وقلت (1): يا رسول الله إن اليهود قوم بهت، وإني أحب أن تدخلني في بعض بيوتك فتغيبني عنهم، ثم تسألهم عني فيخبروك كيف أنا فيهم قبل أن يعلموا بإسلامي، فإنهم إن يعلموا بذلك بهتوني وعابوني، وذكر نحو ما تقدم.
قال فأظهرت إسلامي وإسلام أهل بيتي وأسلمت عمتي خالدة بنت الحارث [ فحسن إسلامها ] (2).
وقال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق حدثني عبد الله بن أبي بكر حدثني محدث عن صفية بنت حيي قالت: لم يكن أحد من ولد أبي وعمي أحب إليهما مني، لم ألقهما في ولد لهما قط اهش إليهما إلا أخذاني دونه، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم قباء - قرية بني عمرو بن عوف - غدا إليه أبي وعمي أبو ياسر بن أخطب مغلسين، فوالله ماجاآنا إلا مع مغيب الشمس.
فجاآنا فاترين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينا، فهششت إليهما كما كنت أصنع فوالله ما نظر إلي واحد منهما، فسمعت عمي أبا ياسر يقول لابي: أهو هو ؟ قال: نعم والله ! قال تعرفه بنعته وصفته ؟ قال نعم والله ! قال: فماذا في نفسك منه ؟ قال عداوته والله ما بقيت (3).
وذكر موسى بن عقبة عن الزهري أن أبا ياسر بن أخطب حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ذهب إليه
وسمع منه وحادثه ثم رجع إلى قومه فقال: يا قوم أطيعون فإن الله قد جاءكم بالذي كنتم تنتظرون، فاتبعوه ولا تخالفوه فانطلق أخوه حيي بن أخطب - وهو يومئذ سيد اليهود، وهما من بني النضير - فجلس إلى رسول الله وسمع منه، ثم رجع إلى قومه - وكان فيهم مطاعا - فقال: أتيت من عند رجل والله لا أزال له عدوا أبدا.
فقال له أخوه أبو ياسر يا ابن أم أطعني في هذا الامر واعصني فيما شئت بعده لا تهلك، قال لا والله لا أطيعك أبدا، واستحوذ عليه الشيطان واتبعه قومه على رأيه.
قلت: أما أبو ياسر واسمه وأما حيي بن أخطب فلا أدري ما آل إليه أمره، وأما حيي بن أخطب والد صفية بنت حيي فشرب عداوة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولم يزل ذلك دأبه لعنه الله حتى قتل صبرا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قتل مقاتلة بني قريظة كما سيأتي، إن شاء الله.
فصل ولما ارتحل عليه السلام من قباء وهو راكب ناقته القصواء وذلك يوم الجمعة أدركه وقت الزوال وهو في دار بني سالم بن عوف، فصلى بالمسلمين الجمعة هنالك، في واد يقال له وادي رانواناء فكانت أول جمعة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسلمين بالمدينة، أو مطلقا لانه والله أعلم لم يكن
__________
(1) في ابن هشام: ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: (2) من ابن هشام 2 / 164 ونقل الخبر البيهقي عنه في الدلائل: 2 / 530.
(3) سيرة ابن هشام 2 / 165 والبيهقي في الدلائل 2 / 532.
يتمكن هو وأصحابه بمكة من الاجتماع حتى يقيموا بها جمعة ذات خطبة وإعلان بموعظة وما ذاك إلا لشدة مخالفة المشركين له، وأذيتهم إياه.
ذكر خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ قال ابن جرير: حدثني يونس بن عبد الاعلى، أخبرنا ابن وهب عن سعيد بن عبد الرحمن الجمحي أنه بلغه عن خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في أول جمعة صلاها بالمدينة في بني سالم بن عمرو بن عوف
رضي الله عنهم: " الحمد لله أحمده واستعينه، وأستغفره واستهديه، وأومن به ولا أكفره، وأعادي من يكفره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق والنور والموعظة على فترة من الرسل، وقلة من العلم، وضلالة من الناس، وانقطاع من الزمان، ودنو من الساعة، وقرب من الاجل.
من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد وغى وفرط وضل ضلالا بعيدا، وأوصيكم بتقوى الله فإنه خير ما أوصى به المسلم المسلم أن يحضه على الآخرة، وأن يأمره بتقوى الله، فاحذروا ما حذركم الله من نفسه، ولا أفضل من ذلك نصيحة، ولا أفضل من ذلك ذكرا.
وإنه تقوى لمن عمل به على وجل ومخافة [ من ربه ] (1)، وعون صدق على ما تبتغون من أمر الآخرة، ومن يصلح الذي بينه وبين الله من أمر (2) السر والعلانية لا ينوي بذلك إلا وجه الله يكن له ذكرا في عاجل أمره وذخرا فيما بعد الموت، حين يفتقر المرء إلى ما قدم، وما كان من سوى ذلك يود لو أن بينه وبينه أمدا بعيدا، ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد.
والذي صدق قوله، وأنجز وعده، لاخلف لذلك فإنه يقول تعالى: (ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد) واتقوا الله في عاجل أمركم وآجله في السر والعلانية فإنه: (من يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا) (ومن يتق الله فقد فاز فوزا عظيما) وإن تقوى الله توقي مقته، وتوقي عقوبته، وتوقي سخطه.
وإن تقوى الله تبيض الوجه، وترضي الرب، وترفع الدرجة، خذوا بحظكم ولا تفرطوا في جنب الله قد علمكم الله كتابه، ونهج لكم سبيله ليعلم الذين صدقوا وليعلم الكاذبين فاحسنوا كما أحسن الله إليكم، وعادوا أعداءه وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وسماكم المسلمين ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة ولا قوة إلا بالله، فأكثروا ذكر الله واعملوا لما بعد الموت (3) فإنه من أصلح ما بينه وبين الله يكفه ما بينه وبين الناس ذلك بأن الله يقضي على الناس ولا يقضون عليه، ويملك من الناس ولا يملكون منه،
__________
(1) من الطبري.
(2) في الطبري: من أمره في السر والعلانية.
(3) كذا في الاصل والقرطبي نقلا عن ابن جرير، وفي الطبري: لما بعد اليوم.
الله أكبر ولا قوة إلا بالله العلي العظيم " هكذا أوردها ابن جرير وفي السند إرسال (1).
وقال البيهقي: باب - أول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة -: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرنا أبو العباس الاصم، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، ثنا يونس بن بكير عن ابن إسحاق: حدثني المغيرة بن عثمان بن محمد بن عثمان والاخنس (2) بن شريق عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال: كانت أول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة أن قام فيهم فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: " أما بعد أيها الناس فقدموا لانفسكم، تعلمن والله ليصعقن أحدكم، ثم ليدعن غنمه ليس لها راع، ثم ليقولن له ربه - ليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه - ألم يأتك رسولي فبلغك، وآتيتك مالا، وأفضلت عليك، فما قدمت لنفسك ؟ فينظر يمينا وشمالا فلا يرى شيئا، ثم ينظر قدامه فلا يرى غير جهنم، فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق تمرة فليفعل، ومن لم يجد فبكلمة طيبة فإن بها تجزى الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف والسلام على رسول الله (3) ورحمة الله وبركاته " ثم خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة أخرى فقال: " أن الحمد لله أحمده واستعينه، نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله [ وحده لا شريك له ] (4)، إن أحسن الحديث كتاب الله، قد أفلح من زينه الله في قلبه وأدخله في الاسلام بعد الكفر واختاره على ما سواه من أحاديث الناس، إنه أحسن الحديث وأبلغه، أحبوا من أحب الله، أحبوا الله من كل قلوبكم [ ولا تملوا كلام الله وذكره ولا تقسى عنه قلوبكم ] (5) فإنه من (6) يختار الله ويصطفي فقد سماه خيرته من الاعمال، وخيرته من العباد، والصالح من الحديث ومن كل ما أوتي الناس من الحلال والحرام فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا واتقوه حق تقاته، واصدقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم وتحابوا بروح الله بينكم إن الله يغضب أن ينكث عهده والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته " (7).
وهذه الطريق أيضا مرسلة إلا أنها مقوية لما قبلها وإن اختلفت الالفاظ.
__________
(1) ذكر الخطبة القرطبي في تفسيره بنحوها مطولا بلا اسناد ج 18 / 98.
وانظر تاريخ الطبري ج 2 / 255 - 256 دار القاموس الحديث.
(2) في البيهقي: بن الاخنس.
(3) في ابن هشام: والسلام عليكم وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(4) من ابن سحاق والبيهقي.
(5) سقطت من الاصل واستدركت من ابن هشام والبيهقي.
(6) في ابن هشام: فإنه كل يختار.
(7) الخطبتان في ابن هشام ج 2 / 146 - 147 ودلائل البيهقي 2 / 524 - 525.
فصل في بناء مسجده الشريف ومقامه بدار أبي أيوب وقد اختلف في مدة مقامه بها، فقال الواقدي: سبعة أشهر، وقال غيره أقل من شهر والله أعلم.
قال البخاري: حدثنا إسحاق بن منصور، أخبرنا عبد الصمد، قال سمعت أبي يحدث فقال حدثنا أبوالتياح يزيد بن حميد الضبي، حدثنا أنس بن مالك.
قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة نزل في علو المدينة في حي يقال لهم بنو عمرو بن عوف، فأقام فيهم أربع عشرة ليلة ثم أرسل إلى ملا بني النجار فجاؤا متقلدي سيوفهم، قال: وكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته وأبو بكر ردفه، وملا بني النجار حوله حتى ألقى بفناء أبي أيوب، قال: فكان يصلي حيث أدركته الصلاة، ويصلي في مرابض الغنم، قال: ثم إنه أمر ببناء المسجد، فأرسل إلى ملا بني النجار فجاؤوا فقال: " يا بني النجار ثامنوني بحائطكم هذا " فقالوا لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله عز وجل، قال (1): فكان فيه ما أقول لكم، كانت فيه قبور المشركين، وكانت فيه خرب، وكان فيه نخل، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين فنبشت، وبالخرب فسويت، وبالنخل فقطع.
قال فصفوا النخل قبلة المسجد، وجعلوا عضادتيه حجارة، قال: فجعلوا ينقلون ذلك الصخر وهم
يرتجزون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم معهم يقول (2): " اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة * فانصر الانصار والمهاجرة " وقد رواه البخاري (3) في مواضع أخر ومسلم من حديث أبي عبد الصمد وعبد الوارث بن سعيد.
وقد تقدم في صحيح البخاري عن الزهري عن عروة أن المسجد الذي كان مربدا - وهو بيدر التمر - ليتيمين كانا في حجر أسعد بن زرارة وهما سهل وسهيل، فساومهما فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله فأبى حتى ابتاعه منهما وبناه مسجدا.
قال وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو ينقل معهم التراب: هذا الحمال لا حمال خيبر * هذا أبر ربنا وأطهر
__________
(1) قال: أي أنس.
(2) في البخاري: ويقولون.
(3) أخرجه البخاري في 63 كتاب مناقب الانصار 46 باب مقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة ح 3932 وأخرجه أيضا في كتاب الصلاة - باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية ؟ وأخرجه مسلم في كتاب المساجد باب ابتناء مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.
وأخرجه أبو داود في الصلاة عن مسدد.
وابن ماجة في الصلاة.
ويقول: لا هم إن الاجر أجر الآخرة * فارحم الانصار والمهاجرة وذكر موسى بن عقبة أن أسعد بن زرارة عوضهما منه نخلا له في بياضة، قال وقيل ابتاعه منهما رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قلت: وذكر محمد بن إسحاق أن المربد كان لغلامين يتيمين في حجر معاذ بن عفراء وهما سهل وسهيل ابنا عمرو فالله أعلم.
وروى البيهقي: من طريق أبي بكر بن أبي الدنيا، حدثنا الحسن بن حماد الضبي، ثنا
عبد الرحيم بن سليمان عن اسماعيل بن مسلم عن الحسن.
قال: لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد أعانه عليه أصحابه وهو معهم يتناول اللبن حتى اغبر صدره، فقال: " ابنوه عريشا كعريش موسى " فقلت للحسن: ما عريش موسى ؟ قال إذا رفع يديه بلغ العريش - يعني السقف - وهذا مرسل.
وروى من حديث حماد بن سلمة عن أبي سنان عن يعلى بن شداد بن أوس، عن عبادة: أن الانصار جمعوا مالا فأتوا به النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله ابن هذا المسجد وزينه، إلى متى نصلي تحت هذا الجريد ؟ فقال: " ما بي رغبة عن أخي موسى، عريش كعريش موسى " (1) وهذا حديث غريب من هذا الوجه.
وقال أبو داود: حدثنا محمد بن حاتم، حدثنا عبد الله بن موسى عن سنان (2) عن فراس عن عطية العوفي عن ابن عمر أن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم كانت سواريه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من جذوع النخل، أعلاه مظلل بجريد النخل، ثم إنها تخربت (3) في خلافة أبي بكر، فبناها بجذوع وبجريد النخل، ثم انها تخربت في خلافة عثمان فبناها بالآجر، فما زالت ثابتة حتى الآن.
وهذا غريب.
وقد قال أبو داود أيضا: حدثنا مجاهد بن موسى، حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثني أبي عن أبي صالح ثنا نافع عن ابن عمر أخبره أن المسجد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مبنيا باللبن، وسقفه الجريد، وعمده خشب النخل، فلم يزد فيه أبو بكر شيئا، وزاد فيه عمر، وبناه على بنائه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم باللبن والجريد وأعاد عمده خشبا.
وغيره عثمان رضي الله عنه وزاد فيه زيادة كثيرة، وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقصة (4) وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه بالساج وهكذا رواه البخاري عن علي بن المديني عن يعقوب بن إبراهيم به (5).
__________
(1) دلائل البيهقي: ج 2 / 540.
(2) في سنن أبي داود والبيهقي: عن عبيدالله بن موسى، عن شيبان.
(3) في أبي داود والبيهقي نقلا عنه: نخرت بدل تخربت في الموضعين.
(4) القصة: هي الجص كما في النهاية، وفي البيهقي: والفضة.
(5) رواه البخاري في 8 كتاب الصلاة 62 باب المساجد فتح الباري 1 / 54 ورواه أبو داود في كتاب الصلاة باب بناء =
قلت: زاده عثمان بن عفان رضي الله عنه متأولا قوله صلى الله عليه وسلم: " من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة " ووافقه الصحابة الموجودون على ذلك ولم يغيروه بعده، فيستدل بذلك على الراجح من قول العلماء أن حكم الزيادة حكم المزيد فتدخل الزيادة في حكم سائر المسجد من تضعيف الصلاة فيه وشد الرحال إليه، وقد زيد في زمان الوليد بن عبد الملك باني جامع دمشق زاده له بأمره عمر بن عبد العزيز حين كان نائبه على المدينة وأدخل الحجرة النبوية فيه كما سيأتي بيانه في وقته، ثم زيد زيادة كثيرة فيما بعد، وزيد من جهة القبلة حتى صارت الروضة والمنبر بعد الصفوف المقدمة كما هو المشاهد اليوم.
قال ابن إسحاق: ونزل رسول الله على أبي أيوب حتى بنى مسجده ومساكنه ؟ وعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرغب المسلمين في العمل فيه.
فعمل فيه المهاجرون والانصار ودأبوا فيه.
فقال قائل من المسلمين: لئن قعدنا والنبي يعمل * لذلك منا العمل المضلل وارتجز المسلمون وهم يبنونه يقولون: لا عيش إلا عيش الآخرة * اللهم ارحم الانصار والمهاجرة فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا عيش إلا عيش الآخرة، اللهم ارحم المهاجرين والانصار " قال فدخل عمار بن ياسر وقد اثقلوه باللبن فقال: يا رسول قتلوني يحملون علي ما لا يحملون.
قالت أم سلمة: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفض وفرته بيده - وكان رجلا جعدا - وهو يقول: " ويح ابن سمية ليسوا بالذين يقتلونك إنما يقتلك الفئة الباغية " وهذا منقطع من هذا الوجه بل هو معضل بين محمد بن إسحاق وبين أم سلمة وقد وصله مسلم في صحيحه من حديث شعبة عن خالد الحذاء عن سعيد والحسن - يعني ابني أبي الحسن البصري - عن أمهما خيرة مولاة أم سلمة عن أم سلمة قالت: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تقتل عمار الفئة الباغية " ورواه من حديث ابن علية عن ابن عون عن الحسن عن أمه عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار وهو ينقل الحجارة:
" ويح لك يا ابن سمية تقتلك الفئة الباغية " (1) وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الحسن يحدث عن أمه عن أم سلمة قالت: لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يبنون المسجد، جعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يحمل كل واحد لبنة لبنة، وعمرا يحمل لبنتين لبنة عنه ولبنة عن النبي صلى الله عليه وسلم فمسح ظهره.
وقال " ابن سمية، للناس أجر ولك أجران، وآخر زادك شربة من لبن وتقتلك الفئة
__________
= المساجد ح 451 و 452 ج 1 / 123.
ونقل الحديثان البيهقي في الدلائل ج 2 / 541.
(1) - أخرج الحديث مسلم عن أم سلمة من طرق متعددة في كتاب الفتن 4 / 2335 - 2336.
الباغية " (1) وهذا إسناد على شرط الصحيحين.
وقد أورد البيهقي وغيره من طريق جماعة عن خالد الحذاء عن عكرمة عن أبي سعيد الخدري.
قال: كنا نحمل في بناء المسجد لبنة لبنة، وعمار يحمل لبنتين لبنتين.
فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فجعل ينفض التراب عنه ويقول: " ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار " قال: يقول عمار: أعوذ بالله من الفتن (2).
لكن روى هذا الحديث الامام البخاري عن مسدد عن عبد العزيز بن المختار عن خالد الحذاء، وعن ابراهيم بن موسى عن عبد الوهاب الثقفي عن خالد الحذاء به إلا أنه لم يذكر قوله تقتلك الفئة الباغية.
قال البيهقي: وكأنه إنما تركها لما رواه مسلم من طريق عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال أخبرني من هو خير مني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار حين جعل يحفر الخندق، جعل يمسح رأسه ويقول: " بؤس ابن سمية تقتلك فئة باغية " (3) وقد رواه مسلم أيضا من حديث شعبة عن أبي مسلم عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال حدثني من هو خير مني - أبو قتادة - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار بن ياسر " بؤسا لك يا ابن سمية تقتلك الفئة الباغية " وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا وهيب عن داود بن أبي هند، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حفر الخندق كان الناس يحملون لبنة لبنة، وعمار - ناقه من وجع كان به - فجعل يحمل لبنتين لبنتين قال أبو سعيد
فحدثني بعض أصحابي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينفض التراب عن رأسه ويقول: " ويحك ابن سمية تقتلك الفئة الباغية " (4).
قال البيهقي: فقد فرق بين ما سمعه بنفسه وما سمعه من أصحابه (5).
__________
(1) أخرجه البيهقي في الدلائل من طريق اسماعيل الصفار، وهو جزء من حديث أخرجه الحاكم في المستدرك 3 / 289 وقال: صحيح على شرطهما ولم يخرجاه، وأخرجه الامام أحمد في مسنده 4 / 319.
(2) رواه البيهقي في الدلائل ج 2 / 546.
ورواه البخاري في 8 كتاب الصلاة 63 باب فتح الباري 1 / 541 عن مسدد، وأخرجه البخاري في كتاب الجهاد عن إبراهيم بن موسى.
وأخرجه مسلم في كتاب الفتن 4 / 2335، والترمذي في مناقب عمار بن ياسر 5 / 669 وأحمد في مسنده 2 / 161.
وقال البيهقي: وفي رواية البخاري عن إبراهيم بن موسى عن عبد الوهاب ترك لفظة " تقتلك الفئة الباغية " وكأنه إنما تركها لمخالفة أبي نضرة عن أبي سعيد عكرمة في ذلك.
(3) دلائل النبوة ج 2 / 548، ومسلم في كتاب الفتن 4 / 2335.
(4) مسلم في كتاب الفتن باب لا تقوم الساعة حتى تعبد دوس ذا الخلصة 4 / 2335 ورواه الامام أحمد في مسنده 3 / 5.
(5) العبارة في الدلائل: 2 / 549: وقد بين عن أبي نضرة، عن أبي سعيد في هذه الرواية ما سمع من غيره من هذا =
قال: ويشبه أن يكون قوله: الخندق وهما أو أنه قال له ذلك في بناء المسجد وفي حفر الخندق والله أعلم.
قلت: حمل اللبن في حفر الخندق لا معنى له، والظاهر أنه اشتبه على الناقل والله أعلم.
وهذا الحديث من دلائل النبوة حيث أخبر صلوات الله وسلامه عليه عن عمار أنه تقتله الفئة الباغية وقد قتله أهل الشام في وقعة صفين وعمار مع علي وأهل العراق كما سيأتي بيانه وتفصيله في موضعه.
وقد كان علي أحق بالامر من معاوية.
ولا يلزم من تسمية أصحاب معاوية بغاة تكفيرهم كما يحاوله جهلة الفرقة الضالة من الشيعة وغيرهم لانهم وإن كانوا بغاة في نفس الامر فإنهم كانوا
مجتهدين فيما تعاطوه من القتال وليس كل مجتهد مصيبا بل المصيب له أجران والمخطئ له أجر، ومن زاد في هذا الحديث بعد تقتلك الفئة الباغية - لا أنالها الله شفاعتي يوم القيامة - فقد افترى في هذه الزيادة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يقلها إذ لم تنقل من طريق تقبل والله أعلم.
وأما قوله يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار، فإن عمارا وأصحابه يدعون أهل الشام إلى الالفة واجتماع الكلمة.
وأهل الشام يريدون أن يستأثروا بالامر دون من هو أحق به، وأن يكون الناس أوزاعا على كل قطر إمام برأسه، وهذا يؤدي إلى افتراق الكلمة واختلاف الامة فهو لازم مذهبهم وناشئ عن مسلكهم، وإن كانوا لا يقصدونه والله أعلم.
وسيأتي تقرير هذه المباحث إذا انتهينا إلى وقعة صفين من كتابنا هذا بحول الله وقوته وحسن تأييده وتوفيقه والمقصود ههنا أنما هو قصة بناء المسجد النبوي على بانيه أفضل الصلاة والتسليم.
وقد قال الحافظ البيهقي في الدلائل (1): حدثنا أبو عبد الله الحافظ املاء، ثنا أبو بكر بن إسحاق، أخبرنا عبيد بن شريك، ثنا نعيم بن حماد، ثنا عبد الله بن المبارك، أخبرنا حشرج بن نباتة، عن سعيد بن جمهان عن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: [ لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد ] (2) جاء أبو بكر بحجر فوضعه، ثم جاء عمر بحجر فوضعه، ثم جاء عثمان بحجر فوضعه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هؤلاء ولاة الامر بعدي ".
ثم رواه من حديث يحيى بن عبد الحميد الحماني عن حشرج عن سعيد عن سفينة.
قال: لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وضع حجرا.
ثم قال " ليضع ابو بكر حجرا إلى جنب حجري، ثم ليضع عمر حجره إلى جنب حجر أبي بكر، ثم ليضع عثمان حجره إلى جنب حجر عمر " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هؤلاء الخلفاء من بعدي " وهذا الحديث بهذا السياق غريب جدا، والمعروف ما رواه الامام أحمد عن أبي النضر عن
__________
(1) = الحديث ونقل فيها حمل اللبنة واللبنتين كما نقلها عكرمة.
(1) دلائل النبوة ج 2 / 553.
(2) سقطت من الاصل واستدركت من الدلائل.
حشرج بن نباتة العبسي (1) وعن بهز وزيد بن الحباب وعبد الصمد وحماد بن سلمة كلاهما عن سعيد بن جمهان عن سفينة قال سمعت رسول الله يقول: " الخلافة ثلاثون عاما، ثم يكون من بعد ذلك الملك " ثم قال سفينة أمسك، خلافة أبي بكر سنتين، وخلافة عمر عشر سنين وخلافة عثمان اثنتا عشرة سنة وخلافة علي ست سنين، هذا لفظ أحمد.
ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من طرق عن سعيد بن جمهان، وقال الترمذي: حسن لا نعرفه إلا من حديثه ولفظه " الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم يكون ملكا عضوضا " وذكر بقيته.
قلت: ولم يكن في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أول ما بني منبر يخطب الناس عليه، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس وهو مستندا إلى جذع عند مصلاه في الحائط القبلي فلما اتخذ له عليه السلام المنبر كما سيأتي بيانه في موضعه وعدل إليه ليخطب عليه، فلما جاوز ذلك الجذع خار ذلك الجذع وحن حنين النوق العشار لما كان يسمع من خطب الرسول عليه السلام عنده، فرجع إليه النبي صلى الله عليه وسلم فاحتضنه حتى سكن كما يسكن المولود الذي يسكت كما سيأتي تفصيل ذلك من طرق عن سهل بن سعد الساعدي وجابر وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وأنس بن مالك وأم سلمة رضي الله عنهم.
وما أحسن ما قال الحسن البصري بعدما روي هذا الحديث عن أنس بن مالك: يا معشر المسلمين الخشبة تحن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شوقا إليه، أو ليس الرجال الذين يرجون لقاءه أحق أن يشتاقوا إليه (2) ؟ ! تنبيه على فضل هذا المسجد الشريف قال الامام أحمد: حدثنا يحيى بن أنيس بن أبي يحيى، حدثني أبي.
قال: سمعت أبا سعيد الخدري قال: اختلف رجلان رجل من بني خدرة ورجل من بني عمرو بن عوف في المسجد الذي أسس على التقوى، فقال الخدري هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال العمري هو مسجد قباء، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن ذلك فقال: " هو هذا المسجد " لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال " في ذلك خير كثير " يعني مسجد قباء.
ورواه الترمذي عن قتيبة، عن حاتم بن إسماعيل، عن أنيس بن أبي يحيى الاسلمي به وقال حسن صحيح.
وروى الامام أحمد عن إسحاق بن عيسى، عن
الليث بن سعد والترمذي والنسائي جميعا عن قتيبة عن الليث عن عمران بن أبي أنس عن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه.
قال: تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى،
__________
(1) كذا في الاصل، وهو حشرج بن نباتة الاشجعي.
والحديث في مسند أحمد 4 / 273 و 5 / 445، 220 ورواه أبو داود في كتاب السنة 4 / 211، والترمذي في كتاب الفتن 4 / 503.
(2) دلائل النبوة للبيهقي 2 / 559.
وذكر نحو ما تقدم.
وفي صحيح مسلم من حديث حميد الخراط عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه سأل عبد الرحمن بن أبي سعيد كيف سمعت أباك في المسجد الذي أسس على التقوى ؟ قال أبي أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن المسجد الذي أسس على التقوى فأخذ كفا من حصباء فضرب به الارض.
ثم قال: " هو مسجدكم هذا " وقال الامام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا ربيعة بن عثمان التميمي، عن عمران بن أبي أنس عن سهل بن سعد.
قال: اختلف رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد في الذي أسس على التقوى.
فقال أحدهما هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الآخر هو مسجد قباء، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه فقال: " هو مسجدي هذا " وقال الامام أحمد حدثنا أبو نعيم حدثنا عبد الله بن عامر الاسلمي عن عمران بن أبي أنس عن سهل بن سعد عن أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " المسجد الذي أسس على التقوى مسجدي هذا " فهذه طرق متعددة لعلها تقرب من إفادة القطع بأنه مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى هذا ذهب عمر وابنه عبد الله وزيد بن ثابت، وسعيد بن المسيب، واختاره ابن جرير.
وقال آخرون لا منافاة بين نزول الآية في مسجد قباء كما تقدم بيانه، وبين هذه الاحاديث.
لان هذا المسجد أولى بهذه الصفة.
من ذلك لان هذا أحد المساجد الثلاثة التي تشد الرحال إليها كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، مسجدي هذا والمسجد الحرام، ومسجد بيت المقدس " وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تشد
الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد " وذكرها.
وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام " وفي مسند أحمد بإسناد حسن زيادة حسنة وهي قوله: " فإن ذلك أفضل " وفي الصحيحين من حديث يحيى القطان عن حبيب عن حفص بن عاصم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي " والاحاديث في فضائل هذا المسجد الشريف كثيرة جدا وسنوردها في كتاب المناسك من كتاب الاحكام الكبير إن شاء الله وبه الثقة وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.
وقد ذهب الامام مالك وأصحابه إلى أن مسجد المدينة أفضل من المسجد الحرام لان ذاك بناه إبراهيم، وهذا بناه محمد صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل من إبراهيم عليه السلام.
وقد ذهب الجمهور إلى خلاف ذلك وقرروا أن المسجد الحرام أفضل لانه في بلد حرمه الله يوم خلق السموات والارض، وحرمه إبراهيم الخليل عليه السلام، ومحمد خاتم المرسلين، فاجتمع فيه من الصفات ما ليس في غيره، وبسط هذه المسألة موضع آخر وبالله المستعان.
فصل وبنى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حول مسجده الشريف حجر لتكون مساكن له ولاهله وكانت مساكن
قصيرة البناء قريبة الفناء قال الحسن بن أبي الحسن البصري - وكان غلاما مع أمه خيرة مولاة أم سلمة - لقد كنت أنال أطول سقف في حجر النبي صلى الله عليه وسلم بيدي.
قلت: إلا أنه قد كان الحسن البصري شكلا ضخما طوالا رحمه الله.
وقال السهيلي في الروض: كانت مساكنه عليه السلام مبنية من جريد عليه طين بعضها من حجارة مرضومة (1) وسقوفها كلها م جريد.
وقد حكى عن الحسن البصري ما تقدم.
قال وكانت حجره من شعر مربوطة بخشب من عرعر.
قال وفي تاريخ البخاري أن بابه عليه السلام كان يقرع بالاظافير، فدل على أنه لم يكن لابوابه حلق.
قال وقد أضيفت الحجر كلها بعد موت
أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد.
قال الواقدي وابن جرير وغيرهما: ولما رجع عبد الله بن أريقط الدئلي إلى مكة بعث معه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر زيد بن حارثة وأبا رافع موليا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأتوا بأهاليهم من مكة وبعثا معهم بحملين وخمسمائة درهم ليشتروا بها إبلا من قديد، فذهبوا فجاؤوا ببنتي النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة وأم كلثوم وزوجتيه سودة وعائشة، وأمها أم رومان وأهل النبي صلى الله عليه وسلم وآل أبي بكر صحبة عبد الله بن أبي بكر وقد شرد بعائشة وأمها أم رومان الجمل في أثناء الطريق فجعلت أم رومان تقول: واعروساه، وابنتاه ! قالت عائشة: فسمعت قائلا يقول: أرسلي خطامه، فأرسلت خطامه فوقف بإذن الله وسلمنا الله عزوجل.
فتقدموا فنزلوا بالسنح.
ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعائشة في شوال بعد ثمانية أشهر كما سيأتي، وقدمت معهم أسماء بنت أبي بكر امرأة الزبير بن العوام وهي حامل متم بعبد الله بن الزبير كما سيأتي بيانه في موضعه من آخر هذه السنة.
فصل فيما أصاب المهاجرين من حمى المدينة قال البخاري: حدثنا عبد الله بن وهب بن يوسف، ثنا مالك عن (2) هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وعك أبو بكر وبلال، قالت: فدخلت عليهما فقلت: يا أبه كيف تجدك ؟ ويا بلال كيف تجدك ؟ قالت وكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول: كل امرئ مصبح في أهله * والموت أدنى من شراك نعله (3)
__________
(1) مرضومة: أي مضمومة بعضها فوق بعض - والرضام من الجبل دون الهضاب.
(2) صحيح البخاري 5 / 168 باب ما جاء في هجرة النبي ح 404 وفيه: مالك عن هشام وفي الاصل مالك بن هشام وهو تحريف.
(3) مصبح: أي مصاب بالموت صباحا.
وكان بلال إذا أقلع عنه الحمى يرفع عقيرته (1) ويقول:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة * بواد وحولي اذخر وجليل (2) وهل أردن يوما مياه مجنة * وهل يبدون لي شامة وطفيل (3) قالت عائشة: فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: " اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد وصححها وبارك لنا في صاعها ومدها، وانقل حماها فاجعلها بالجحفة (4).
ورواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن هشام مختصرا.
وفي رواية البخاري (5) له عن أبي أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة فذكره وزاد بعد شعر بلال ثم يقول: اللهم العن عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة وأمية بن خلف كما أخرجونا [ من أرضنا ] (6) إلى أرض الوباء (7).
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، اللهم بارك لنا في صاعها وفي مدها (8) وصححها لنا وانقل حماها إلى الجحفة " قالت وقدمنا المدينة وهي أوبأ أرض الله، وكان بطحان يجري نجلا (9) - يعني ماء آجنا - وقال زياد عن محمد بن اسحاق حدثني هشام بن عروة وعمر بن عبد الله بن عروة بن الزبير [ عن عروة بن الزبير ] (10) عن عائشة قالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قدمها وهي أوبأ أرض الله من الحمى، فأصاب أصحابه منها بلاء وسقم، وصرف الله ذلك عن نبيه، قالت: فكان أبو بكر وعامر بن فهيرة وبلال موليا أبي بكر في بيت واحد، فأصابتهم الحمى، فدخلت عليهم أعودهم (11) وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب، وبهم ما لا يعلمه إلا الله من شدة الوعك فدنوت من أبي بكر فقلت [ له ] كيف تجدك يا أبه ؟ فقال (12): كل امرئ مصبح في أهله * والموت أدنى من شراك نعله
__________
(1) رفع الصوت بكاء أو غناء.
(2) هو نبت ضعيف يحشى به خصاص البيوت.
(3) مجنة: على بريد من مكة.
شامة وطفيل: جبلان بقرب مكة.
(4) الجحفة: ميقات أهل مصر والشام والمغرب.
(5) صحيح البخاري ج 3 / 55 ح 461.
(6) من البخاري، سقطت من الاصل.
(7) الوباء: المرض العام الذي أصاب المدينة.
(8) في البخاري: في صاعنا وفي مدنا.
(9) نجلا: أي نزا وهو الماء القليل كما في النهاية لابن الاثير.
(10) ما بين معكوفين من ابن هشام ج 2 / 238.
(11) من ابن هشام، وفي الاصل: أدعوهم وهو تحريف.
(12) الابيات لعمرو بن مامة.
قالت: فقلت: والله ما يدري أبي ما يقول، قالت ثم دنوت إلى عامر بن فهيرة فقلت [ له ] كيف تجدك يا عامر ؟ قال: لقد وجدت الموت قبل ذوقه * إن الجبان حتفه من فوقه كل امرئ مجاهد بطوقه * كالثور يحمي جلده بروقه قال فقلت والله ما يدري ما يقول، قالت وكان بلال إذا أدركته الحمى اضطجع بفناء البيت ثم رفع عقيرته فقال: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة * بفخ وحولي إذخر وجليل وهل أردن يوما مياه مجنة * وهل يبدون لي شامة وطفيل قالت عائشة: فذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمعت منهم وقلت إنهم ليهذون وما يعقلون من شدة الحمى فقال: " اللهم حبب إلينا المدينة، كما حببت الينا مكة أو أشد، وبارك لنا في مدها وصاعها، وانقل وباءها إلى مهيعة " ومهيعة هي الجحفة.
وقال الامام أحمد: حدثنا يونس، ثنا ليث، عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي بكر بن إسحاق بن يسار عن عبد الله بن عروة عن عروة عن عائشة قالت لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة اشتكى أبو بكر وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر وبلال، فاستأذنت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيادتهم فأذن لها، فقالت لابي بكر كيف تجدك ؟ فقال:
كل امرئ مصبح في أهله * والموت أدنى من شراك نعله وسألت عامرا فقال: إني وجدت الموت قبل ذوقه * إن الجبان حتفه من فوقه (1) وسألت بلالا فقال: يا ليت شعري هل أبيتن ليلة * بفخ وحولي إذخر وجليل (2) فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم - فأخبرته، فنظر إلى السماء وقال: اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة أو أشد، اللهم بارك لنا في صاعها وفي مدها، وانقل وباءها إلى مهيعة.
وهي الجحنة فيما زعموا.
وكذا رواه النسائي عن قتيبة عن الليث به ورواه الامام أحمد من طريق عبد الرحمن بن الحارث عنها مثله.
وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو.
قالا: ثنا أبو العباس الاصم، حدثنا أحمد بن عبد الجبار ثنا يونس بن بكير، عن هشام بن عروة، عن
__________
(1) في رواية: لقد وجدت، وفي رواية أخرى: قد ذقت طعم الموت قبل ذوقه.
(2) في رواية: بواد، وفخ: قال الدينوري بالخاء المعجمة: موضع خارج مكة.
أبيه، عن عائشة قالت: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهي أوبأ أرض الله، وواديها بطحان نجل [ يجري عليه الاثل ] (1).
قال هشام: وكان وباؤها معروفا في الجاهلية، وكان إذا كان الوادي وبيئا فأشرف عليها الانسان قيل له أن ينهق نهيق الحمار، فإذا فعل ذلك لم يضره وباء ذلك الوادي.
وقد قال الشاعر حين أشرف على المدينة: لعمري لئن عبرت من خيفة الردى * نهيق الحمار إنني لجزوع (2) وروى البخاري (3) من حديث موسى بن عقبة: عن سالم [ بن عبد الله ] عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " رأيت كأن امرأة سوداء ثائرة الرأس خرجت من المدينة حتى قامت بمهيعة - وهي الجحفة فأولتها أن وباء المدينة نقل إلى مهيعة - وهي الجحفة - " هذا لفظ البخاري ولم يخرجه مسلم ورواه الترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه من حديث موسى بن عقبة.
وقد روى حماد بن زيد
عن هشام بن عروة عن عائشة قالت: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهي وبيئة، فذكر الحديث بطوله إلى قوله وانقل حماها إلى الجحفة.
قال هشام: فكان المولود يولد بالجحفة فلا يبلغ الحلم حتى تصرعه الحمى.
ورواه البيهقي في دلائل النبوة (4).
وقال يونس عن ابن إسحاق: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهي وبيئة.
فأصاب أصحابه بها بلاء وسقم حتى أجهدهم ذلك، وصرف الله ذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلم وقد ثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابعة - يعني مكة - عام عمرة القضاء.
فقال المشركون: إنه يقدم عليكم وفد قد وهنهم حمى يثرب، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرملوا [ الاشواط الثلاثة ] (5) وأن يمشوا ما بين الركنين، ولم يمنعه أن يرملوا الاشواط كلها إلا الابقاء عليهم.
قلت: وعمرة القضاء كانت في سنة سبع في ذي القعدة (6) فأما أن يكون تأخر دعاؤه
__________
(1) ما بين معكوفين سقط من الاصل واستدرك من دلائل النبوة ج 2 / 567.
(2) في الدلائل: عشرت بدلا من عبرت.
(3) صحيح البخاري 2 / 37 ونقله البيهقي من طريق فضيل بن سليمان.
(4) ج 2 / 568 وفيه: وبئة بدل وبيئة.
(5) الخبر في البخاري عن سليمان بن حرب 25 كتاب الحج 55 باب ح 1602 فتح الباري 3 / 368 وأعاده في المغازي باب عمرة القضاء.
ورواه مسلم في 15 كتاب الحج 29 باب من طريق حماد بن زيد عن أيوب بن أبي تميمة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس.
ح 240.
- ما بين معكوفين من الصحيحين.
- وهنهم، وفي مسلم وهنتهم: أي أضعفتهم، قال الفراء وغيره: يقال وهنته وأوهنته الحمى لغتان.
ويثرب كان اسم المدينة في الجاهلية.
- يمشوا ما بين الركنين: أي حيث لا تقع عليهم أعين المشركين، فإنهم لم يكونوا في تلك الجهة.
(6) في الكامل لابن الاثير: في ذي الحجة.
وما أثبتناه عن الطبري 3 / 100 وانظر في عمرة القضاء: الطبري =
عليه السلام بنقل الوباء إلى قريب من ذلك، أو أنه رفع وبقي آثار منه قليل.
أو أنهم بقوا في خمار وما كان أصابهم من ذلك إلى تلك المدة والله أعلم.
وقال زياد عن ابن إسحاق: وذكر ابن شهاب الزهري عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة هو وأصحابه أصابتهم حمى المدينة حتى جهدوا مرضا، وصرف الله ذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلم حتى كانوا وما يصلون إلا وهم قعود، قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يصلون كذلك فقال لهم: " إعلموا أن صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم " فتجشم المسلمون القيام على ما بهم من الضعف والسقم التماس الفضل (1).
فصل في عقده عليه السلام الالفة بين المهاجرين والانصار بالكتاب الذي أمر به فكتب بينهم والمؤاخاة التي أمرهم بها وقررهم عليها وموادعته اليهود الذين كانوا بالمدينة وكان بها من أحياء اليهود بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة، وكان نزولهم بالحجاز قبل الانصار أيام بخت نصر حين دوخ بلاد المقدس فيما ذكره الطبري.
ثم لما كان سيل العرم وتفرقت شذر مذر نزل الاوس والخزرج المدينة عند اليهود فحالفوهم وصاروا يتشبهون بهم لما يرون لهم عليهم من الفضل في العلم المأثور عن الانبياء لكن من الله على هؤلاء الذين كانوا مشركين بالهدى والاسلام وخذل أولئك لحسدهم وبغيهم واستكبارهم عن اتباع الحق.
وقال الامام أحمد: حدثنا عفان، ثنا حماد بن سلمة، ثنا عاصم الاحول، عن أنس بن مالك.
قال: حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والانصار في دار أنس بن مالك.
وقد رواه الامام أحمد أيضا والبخاري ومسلم وأبو داود من طرق متعددة عن عاصم بن سليمان الاحول عن أنس بن مالك.
قال: حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين قريش والانصار في داري.
وقال الامام أحمد: حدثنا نصر بن باب عن حجاج - هو ابن أرطأة - قال وحدثنا سريج ثنا عباد عن حجاج عن
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب كتابا بين المهاجرين والانصار أن يعقلوا
__________
= 3 / 100 صحيح البخاري 5 / 141 طبقات ابن سعد 3 / 120 سيرة ابن هشام 3 / 319 عيون الاثر 2 / 192 المغازي للواقدي 2 / 731 أنساب الاشراف 1 / 169 المسيرة الحلبية 3 / 71.
(1) سيرة ابن هشام: 2 / 220.
معاقلهم، وأن يفدوا عانيهم بالمعروف والاصلاح بين المسلمين.
قال أحمد: وحدثنا سريج ثنا عباد عن حجاج عن الحكم عن قاسم عن ابن عباس مثله، تفرد به الامام أحمد، وفي صحيح مسلم عن جابر.
كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم على كل بطن عقولة.
[ دستور المدينة ] (1) وقال محمد بن إسحاق: " وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا بين المهاجرين والانصار، وادع فيه يهود وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم، واشترط عليهم وشرط لهم.
" بسم الله الرحمن الرحيم " هذا كتاب من محمد النبي بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم.
1 - أنهم أمة واحدة من دون الناس (2).
2 - المهاجرون من قريش على ربعتهم (3) يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم (4) بالمعروف والقسط [ بين المؤمنين ] (5).
3 - وبنو عوف على ربعتهم يتعاقبون معاقلهم الاولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين (6).
ثم ذكر كل بطن من بطون الانصار وأهل كل دار: 4 - [ وبنو الحرث على ربعتهم ] (7) (حسب المقطع الثالث).
5 - وبنو ساعدة على ربعتهم (حسب المقطع الثالث).
__________
استدرك من كتاب محمد في المدينة - وات.
قال وات: ص 337: احتفظ ابن إسحاق بوثيقة قديمة تسمى عادة دستور المدينة، وهو بعد أن يقدم له ببضع كلمات، لا يذكر شيئا عن الطريقة التي وصلت بها إليه الوثيقة، ولا متى وكيف طبق هذا الدستور.
أما وضع الوثيقة في مطلع حديثه عن الفترة المدنية فليس له من سبب سوى التسلسل المنطقي.
(2) أي متميزين عن الناس، ويمكن أن يعني ذلك اليهود، ولكن هذا بعيد.
(3) يقول لين إن " على ربعتهم " تعني وضعهم الاول، ولا مجال للقول أن هذا إشارة إلى الربع بل يعني إما أن كل جماعة تبقى منفصلة أو أنها تستمر في اتباع عاداتها.
وينص البند على وجوب اتباع تقسيم عادل بين مختلف الجماعات داخل القبائل.
(4) العاني: الاسير.
(5) ما بين معكوفين سقط من الاصل واستدرك من ابن هشام.
(6) على معاقلهم الاولى: أي دفع الديات يجري حسب القوانين السائدة سابقا، " وبين المؤمنين " يمكن أن تعني استبعاد غير المؤمنين المنتمين لبني عوف.
(7) من ابن هشام.
6 - وبنو جشم على ربعتهم (حسب المقطع الثالث).
7 - وبنو النجار على ربعتهم (حسب المقطع الثالث).
8 - وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم (حسب المقطع الثالث).
9 - وبنو النبيت على ربعتهم (حسب المقطع الثالث).
10 - [ وبنو أوس على ربعتهم ] (1) (حسب المقطع الثالث).
إلى أن قال: 11 - وان المؤمنين لا يتركون مفرحا (2) بينهم وان يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل.
12 - ولا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه.
13 - وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى، دسيعة (3) ظلم أو اثم أو عدوان أو
فساد بين المؤمنين وإن أيديهم عليه جميعا ولو كان ولد أحدهم.
14 - ولا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر ولا ينصر كافرا على مؤمن.
15 - وإن ذمة الله واحدة: يجير عليهم أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس 16 - وإن من تبعنا من يهود فإن له النصر والاسوة غير مظلومين ولا تناصر عليهم.
17 - وإن سلم المؤمنين واحدة: لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم.
18 - وإن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضا (4).
19 - وإن المؤمنين يبئ (5) بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه.
20 - وانه لا يجبر مشرك مالا لقريش ولا نفسا ولا يحول دونه على مؤمن.
21 - وانه من اعتبط (6) مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود به إلا أن يرضى ولي القتول، وان المؤمنين عليه كافة ولا يحل لهم إلا قيام عليه.
22 - وانه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثا (7) ولا
__________
(1) من ابن هشام.
وقولنا حسب كل مقطع زيادة استدركناه للايضاح.
(2) مفرحا: قال ابن هشام: المفرح المثقل بالدين، والكثير العيال.
(3) دسيعة: من ابن هشام، وفي الاصل دسيسة ظلم، وعند وات: وسبقه ظلم.
(4) يمكن أن تطبق هذه الجملة على ركوب البعير، راجع قلهوزن وابن هشام.
أو على أي واجب عسكري، راجع كايتاني.
(5) يبئ: من البواء أي المساواة.
(6) من ابن هشام، وفي الاصل اغتبطه.
واعتبطه: قتله بلا جناية أو ذنب يوجب قتله.
(7) محدثا: المحدث الشخص الذي يحدث اضطرابا في الوضع القائم.
يأويه وإنه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل.
23 - وانكم مهما اختلفتم فيه من شئ فان مرده إلى الله عزوجل وإلى محمد صلى الله عليه وسلم.
24 - وان اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
25 - وان يهود بني عوف امة مع المؤمنين: لليهود دينهم وللمسلمين دينهم ومواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ (1) إلا نفسه وأهل بيته.
26 - وان ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف.
27 - وان ليهود بني الحرث مثل ما ليهود بني عوف.
28 - وان ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف.
29 - وان ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف.
30 - وان ليهود بني الاوس مثل ما ليهود بني عوف.
31 - وان ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف إلا من ظلم واثم فإنه لا يوتع إلا نفسه وأهل بيته.
32 - وإن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم (2).
33 - وإن لبني الشطيبة (3) مثل ما ليهود بني عوف وان البر دون الاثم (4).
34 - وان موالي ثعلبة كأنفسهم.
35 - وان بطانة يهود كأنفسهم (5) 36 - وانه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد وانه لا ينحجر (6) على ثأر جرح وانه من فتك نفسه فتك وأهل بيته إلا من ظلم وان الله على ابر (7) من هذا.
37 - وان على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وان بينهم النصر على من حارب أهل
__________
(1) يوتغ: يهلك.
(2) من وات.
(3) في الاصل الشطنة، وفي فنسنك الشطبة راجع السمهودي.
وأثبتنا ما في ابن هشام.
(4) العبارة من رقم 26 إلى 33 من وات، وجاءت العبارة في الاصل وابن هشام: وإن ليهود بني النجار، وبني الحارث وبني ساعدة وبني جشم وبني الاوس وبني ثعلبة وجفنة وبني الشطنة (الشطيبة) مثل ما ليهود بني عوف.
(5) معنى بطانة غامض، ربما تعنى الذين تربطهم روابط وثيقة مع بعض يهود المدينة.
وهذه روابط الصداقة وليس الدم راجع القرآن سورة 3 / 114 - 118 الاغاني ج 17 / 56، 22 ويقول فنسنك: إنها تعني العرب الذين انضموا لليهود قبل مجئ الاوس والخزرج.
(6) في ابن هشام: ينحجز وعند وات: ينجز، ومعنى ينحجر: كما في النهاية: اتحجر جرحه للبرء انفجر، يعني التأم بعد اجتماعه.
(7) في الاصل: أثر هذا .
هذه الصحيفة، وان بينهم النصح والنصيحة والبر دون الاثم، وانه لم يأثم امرؤ بحليفه وان النصر للمظلوم.
38 - [ وان اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين ] (1).
39 - وان يثرب حرام جوفها (2) لاهل هذه الصحيفة.
40 - وان الجار كالنفس غير مضار ولا آثم.
41 - وانه لا تجار حرمة إلا باذن أهلها.
42 - وانه ماكان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فان مرده إلى الله عزوجل وإلى محمد رسول الله وان الله على اتقى ما في هذه الصحيفة وابره.
43 - وانه لا تجار قريش ولا من نصرها.
44 - وان بينهم النصر على من دهم يثرب.
45 - وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه فانهم يصالحونه ويلبسونه وانهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين (3) إلا من حارب في الدين، على كل اناس حصتهم من جانبهم الذي
قبلهم.
[ 46 - وان يهود الاوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لاهل هذه الصحيفة مع البر الحسن من أهل هذه الصحيفة، وان البر دون الاثم.
47 - لا يكسب كاسب إلا على نفسه (4)، وان الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وابره ] (5) وانه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وانه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة إلا من ظلم واثم وان الله جار لمن بر واتقى، [ ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ] (6) (7).
كذا أورده ابن إسحاق بنحوه.
وقد تكلم عليه أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله في كتاب الغريب وغيره بما يطول.
__________
(1) من ابن هشام، وكررها وات أيضا كما عند ابن هشام وقد ذكرت العبارة تحت بند رقم 24.
(2) من ابن هشام، وفي الاصل حرفها، ولعل المناسب أكثر والاقرب للصواب ما في النهاية: جرفها، والجرف: موضع قريب من المدينة.
(3) ربما يعني ذلك: أن هذا دين على المؤمنين راجع ف.
رأيت " النحو العربي ".
(4) أو يعني: عليهم أن يحكموا دون الاهتمام بالمؤمنين.
(5) ما بين معكوفين زيادة من ابن هشام، سقطت من الاصل.
(6) ما بين معكوفين سقط من الاصل واستدرك من ابن هشام.
(7) تنظيم وترقيم مواد الشروط التي شرطها رسول الله صلى الله عليه وسلم على يهود أخذت من كتاب " محمد في المدينة - وات ".
فصل في مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والانصار كما قال تعالى [ والذين تبوؤا الدار والايمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ] [ الحشر: 9 ] وقال تعالى: [ والذين عاقدت ايمانكم فآتوهم نصيبهم
إن الله كان على كل شئ شهيدا ] [ النساء: 33 ].
قال البخاري: حدثنا الصلت بن محمد، ثنا أبو أسامة، عن إدريس، عن طلحة بن مصرف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس [ ولكل جعلنا موالي) قال: ورثة (والذين عاقدت ايمانكم) كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجري الانصاري دون ذوي رحمه للاخوة التي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، فلما نزلت (ولكل جعلنا موالي) نسخت ثم قال: (والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم) من النصر والرفادة والنصيحة، وقد ذهب الميراث ويوصى له.
وقال الامام أحمد قرئ على سفيان سمعت عاصما عن أنس قال: حالف النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والانصار في دارنا قال سفيان: كأنه يقول آخي.
وقال محمد بن إسحاق: وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه من المهاجرين والانصار، فقال: - فيما بلغنا ونعوذ بالله أن نقول عليه ما لم يقل - " تأخوا في الله أخوين أخوين " ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب فقال " هذا أخي " فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد المرسلين، وإمام المتقين، ورسول رب العالمين، الذي ليس له خطير (1) ولا نظير من العباد، وعلي بن أبي طالب أخوين، وكان حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله وعم رسول الله صلى الله عليه وسلم وزيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخوين وإليه أوصى حمزة يوم أحد، وجعفر بن أبي طالب ذو الجناحين ومعاذ بن جبل أخوين.
قال ابن هشام: كان جعفر يومئذ غائبا بأرض الحبشة (2).
قال ابن إسحاق: وكان أبو بكر وخارجة بن زيد الخزرجي أخوين، وعمر بن الخطاب وعتبان بن مالك أخوين، وأبو عبيدة وسعد بن معاذ أخوين وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع أخوين، والزبير بن العوام وسلمة بن سلامة بن وقش أخوين، ويقال بل كان الزبير وعبد الله بن مسعود (3) أخوين،
__________
(1) خطير: النظير والمثل.
(2) قال الواقدي: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين معاذ بن جبل وعبد الله بن مسعود لا اختلاف فيه عندنا، وأما في رواية ابن إسحاق خاصة فلم يذكره غيره.
وقال الواقدي معلقا على روايته: كيف يكون هذا ؟ وإنما كانت المؤاخاة بينهم بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وقبل يوم بدر، وجعفر قد هاجر قبل ذلك من مكة إلى الحبشة،
وقدم بعد ذلك بسبع سنين.
هذا وهل من ابن اسحاق.
راجع طبقات ابن سعد 3 / 584.
(3) في الطبقات ج 3 / 102: كان الزبير وطلحة أخوين، وفي رواية له عن عروة وأخرى عن بشير بن =
وعثمان بن عفان وأوس بن ثابت بن المنذر النجاري أخوين، وطلحة [ بن عبيدالله ] (2) وكعب بن مالك أخوين، وسعيد (2) بن زيد وأبي بن كعب أخوين، ومصعب بن عمير وأبو أيوب أخوين، وأبو حذيفة بن عتبة وعباد بن بشر أخوين، وعمار وحذيفة بن اليمان العبسى حليف عبد الاشهل أخوين.
ويقال بل كان عمار وثابت بن قيس بن شماس أخوين.
قلت: وهذا السند من وجهين.
قال: وأبو ذر برير بن جنادة (3) والمنذر بن عمرو المعنق ليموت أخوين، وحاطب بن أبي بلتعة (4) وعويم بن ساعدة أخوين، وسلمان وأبو الدرداء [ عويمر بن ثعلبة ] أخوين وبلال وأبو رويحة (5) عبد الله بن عبد الرحمن الخثعمي ثم أحد الفزع (6) أخوين.
قال فهؤلاء ممن سمى لنا ممن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بينهم من أصحابه رضي الله عنهم.
قلت: وفي بعض ما ذكره نظر، أما مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم وعلي فإن من العلماء من ينكر ذلك ويمنع صحته ومستنده في ذلك أن هذه المؤاخاة إنما شرعت لاجل ارتفاق بعضهم من بعض وليتألف قلوب بعضهم على بعض، فلا معنى لمؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم لاحد منهم، ولا مهاجري لمهاجري آخر كما ذكره من مؤاخاة حمزة وزيد بن حارثة اللهم إلا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل مصلحة علي إلى غيره فإنه كان ممن ينفق عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من صغره في حياة أبيه أبي طالب كما تقدم عن مجاهد وغيره.
وكذلك يكون حمزة قد التزم بمصالح مولاهم زيد بن حارثة فآخاه بهذا الاعتبار والله أعلم.
وهكذا ذكره لمؤاخاة جعفر ومعاذ بن جبل فيه نظر كما أشار إليه عبد الملك بن هشام، فان جعفر بن أبي طالب إنما قدم في فتح خيبر في أول سنة سبع كما سيأتي بيانه، فكيف يؤاخي بينه وبين
__________
= عبد الرحمن بن كعب بن مالك: كان الزبير وكعب بن مالك اخوين.
(1) من ابن هشام.
(2) في ابن هشام: سعد.
وفي الطبقات لابن سعد: سعيد وقد آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين رافع بن مالك الزرقي.
(3) وقال ابن هشام: يقال أبو ذر: جندب بن جنادة.
قال ابن سعد في الطبقات: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المنذر بن عمرو وطليب بن عمرو.
وعلق محمد بن عمر على قول ابن إسحاق قال: كيف يكون هكذا، وإنما آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه قبل بدر وأبو ذر يومئذ غائب عن المدينة ولم يشهد بدرا ولا أحدا ولا الخندق وإنما قدم المدينة بعد ذلك.
(4) واسم أبي بلتعة: عمرو بن أشد بن معاذ.
قال الواقدي: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عويم وعمر بن الخطاب.
(5) في طبقات ابن سعد: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين بلال وعبيدة بن الحارث بن المطلب، وعلق الواقدي على رواية ابن إسحاق قال: ليس ذلك بثبت ولم يشهد أبو رويحة بدرا.
(6) قال السهيلي: الفزع بالفتح عند أهل النسب هو ابن شهران بن عفرس، وبالسكون ابن عبد الله بن ربيعة.
(راجع ابن حبيب في مؤتلف القبائل ومختلفها).
معاذ بن جبل أول مقدمه عليه السلام إلى المدينة اللهم إلا أن يقال إنه أرصد لاخوته إذا قدم حين يقدم، وقوله وكان أبو عبيدة وسعد بن معاذ أخوين يخالف لما رواه الامام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا حماد، ثنا ثابت، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بين أبي عبيدة بن الجراح وبين أبي طلحة.
وكذا رواه مسلم منفردا به عن حجاج بن الشاعر عن عبد الصمد بن عبد الوارث به وهذا أصح مما ذكره ابن إسحاق من مؤاخاة أبي عبيدة وسعد بن معاذ والله أعلم (1).
وقال البخاري باب كيف آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه.
وقال عبد الرحمن بن عوف: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بيني وبين سعد بن الربيع لما قدمنا المدينة.
وقال أبو جحيفة: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان الفارسي وأبي الدرداء رضي الله عنهما: حدثنا محمد بن يوسف، ثنا سفيان، عن حميد، عن أنس قال: قدم عبد الرحمن بن عوف [ المدينة ] فآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الانصاري،
فعرض عليه أن يناصفه أهله وماله فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلني على السوق.
فربح شيئا من أقط وسمن، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم بعد أيام وعليه وضر من صفرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " مهيم يا عبد الرحمن ؟ " قال: يا رسول الله تزوجت امرأة من الانصار.
قال: " فما سقت فيها ؟ " قال وزن نواة من ذهب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أولم ولو بشاة " تفرد به من هذا الوجه.
وقد رواه ايضا في مواضع أخر، ومسلم من طرق عن حميد به (2).
وقال الامام أحمد حدثنا عفان ثنا حماد ثنا ثابت وحميد عن أنس: أن عبد الرحمن بن عوف قدم المدينة فآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الانصاري، فقال له سعد: أي أخي أنا أكثر أهل المدينة مالا فانظر شطر مالي فخذه وتحتي امرأتان فانظر أيهما أعجب إليك حتى أطلقها.
فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلوني على السوق.
فدلوه فذهب فاشترى وباع فربح فجاء بشئ من أقط وسمن.
ثم لبث ما شاء الله أن يلبث فجاء وعليه ودع زعفران (3) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مهيم ؟ " فقال: يا رسول الله تزوجت امرأة، قال: " ما أصدقتها ؟ " قال وزن نواة من ذهب، قال " أولم ولو بشاة ".
قال عبد الرحمن: فلقد رأيتني ولو رفعت حجرا لرجوت أن
__________
(1) قال في طبقات ابن سعد عن الواقدي: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أبي عبيدة ومحمد بن مسلمة.
وفي رواية أخرى للواقدي عن محمد بن إبراهيم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بين أبي عبيدة وسالم مولى أبي حذيفة.
وقال الواقدي: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سعد بن معاذ وسعد بن أبي وقاص.
وبشأن أبي طلحة قال عن عاصم بن عمر بن قتادة قال: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أبي طلحة وأرقم بن الارقم المخزومي (راجع طبقات ابن سعد 3 / 410 و 421 و 505).
(2) وأخرجه البخاري من حديث حماد بن زيد في 67 كتاب النكاح 56 باب كيف يدعى للمتزوج وأخرجه مسلم في 16 كتاب النكاح 12 باب الصداق.
(3) كذا في الاصل: ودع زعفران، وفي البيهقي ردع: بفتح الراء وسكون الدال: أثر الطيب.
أصيب ذهبا وفضة (1).
وتعليق البخاري هذا الحديث عن عبد الرحمن بن عوف غريب فإنه لا
يعرف مسندا إلا عن أنس اللهم إلا أن يكون أنس تلقاه عنه فالله أعلم.
وقال الامام أحمد: حدثنا يزيد، أخبرنا حميد عن أنس.
قال: قال المهاجرون يا رسول الله ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل، ولا أحسن بذلا من كثير، لقد كفونا المؤونة وأشركونا في المهنأ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالاجر كله.
قال: " لا ! ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله لهم " هذا حديث ثلاثي الاسناد على شرط الصحيحين ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة من هذا الوجه، وهو ثابت في الصحيح من (2).
وقال البخاري: أخبرنا الحكم بن نافع، أخبرنا شعيب ثنا أبو الزناد، عن الاعرج، عن أبي هريرة.
قال قالت الانصار: أقسم بيننا وبين إخواننا النخيل.
قال: لا.
قالوا أفتكفوننا المؤونة ونشرككم في الثمرة، قالوا سمعنا وأطعنا.
تفرد به.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للانصار " إن إخوانكم قد تركوا الاموال والاولاد وخرجوا إليكم " فقالوا أموالنا بيننا قطائع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أو غير ذلك ؟ " قالوا وما ذاك يا رسول الله ؟ قال: " هم قوم لا يعرفون العمل، فتكفونهم وتقاسمونهم الثمر ".
قالوا نعم ! وقد ذكرنا ما ورد من الاحاديث والآثار في فضائل الانصار وحسن سجاياهم عند قوله تعالى: (والذين تبوؤا الدار والايمان من قبلهم) الآية.
فصل في موت أبي أمامة أسعد بن زرارة (3) ابن عدس بن عبيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار أحد النقباء الاثني عشر ليلة العقبة على قومه بني النجار، وقد شهد العقبات الثلاث وكان أول من بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة الثانية في قول وكان شابا وهو أول من جمع بالمدينة في نقيع الخضمات في هزم النبيت كما تقدم.
قال محمد بن إسحاق: وهلك في تلك الاشهر (4) أبو أمامة أسعد بن زرارة والمسجد يبنى أخذته الذبحة - أو الشهقة -.
وقال ابن جرير في التاريخ: أخبرنا محمد بن عبد الاعلى ثنا يزيد بن
__________
(1) وأخرجه في كتاب النكاح - أبو داود - باب قلة المهرح 2109 ص 2 / 235 عن موسى بن إسماعيل.
(2) بياض في الاصل قدر كلمة: ولعله: من غيره.
(3) يكنى أبا أمامة وأمه سعاد ويقال الفريعة بنت رافع بن معاوية بن عبيد بن الابجر وهو ابن خالة سعد بن معاذ ولم يعقب ذكرا.
(4) قال الواقدي: مات أسعد بن زرارة في شوال على رأس تسعة أشهر من الهجرة، وذلك قبل بدر وقال الطبري في تاريخه: مات أسعد في سنة مقدمه صلى الله عليه وسلم وكانت وفاته قبل أن يفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من بناء مسجده.
زريع عن معمر عن الزهري عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كوى أسعد بن زرارة في الشوكة.
رجاله ثقات.
قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بئس الميت أبو أمامة، ليهود ومنافقي العرب، يقولون: لو كان نبيا لم يمت صاحبه، ولا أملك لنفسي ولا لصاحبي من الله شيئا " وهذا يقتضي أنه أول من مات بعد مقدم النبي صلى الله عليه وسلم، وقد زعم أبو الحسن بن الاثير في [ أسد ] الغابة أنه مات في شوال بعد مقدم النبي صلى الله عليه وسلم بسبعة أشهر.
فالله أعلم.
وذكر محمد بن إسحاق: عن عاصم بن عمر بن قتادة: أن بني النجار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقيم لهم نقيبا بعد أبي أمامة أسعد بن زرارة فقال: " أنتم أخوالي وأنا بما فيكم وأنا نقيبكم " وكره أن يخص بها بعضهم دون بعض.
فكان من فضل بني النجار الذي يعتدون به على قومهم أن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نقيبهم.
قال ابن الاثير: وهذا يرد قول أبي نعيم وابن منده في قولهما أن أسعد بن زرارة كان نقيبا على بني ساعدة، إنما كان على بني النجار، وصدق ابن الاثير فيما قال.
وقد قال أبو جعفر بن جرير في التاريخ (1): كان أول من توفي بعد مقدمه عليه السلام المدينة من المسلمين - فيما ذكر - صاحب منزله كلثوم بن الهدم، لم يلبث بعد مقدمه إلا يسيرا حتى مات، ثم توفي بعده أسعد بن زرارة وكانت وفاته في سنة مقدمه قبل أن يفرغ بناء المسجد بالذبحة أو الشهقة.
قلت: وكلثوم بن الهدم بن امرئ القيس بن الحارث بن زيد بن عبيد بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الاوس الانصاري الاوسي وهو من بني عمرو بن عوف وكان
شيخا كبيرا أسلم قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ونزل بقباء نزل في منزل هذا في الليل، وكان يتحدث بالنهار مع أصحابه في منزل سعد بن الربيع (2) رضي الله عنهما إلى أن ارتحل إلى دار بني النجار كما تقدم.
قال ابن الاثير: وقد قيل إنه أول من مات من المسلمين بعد مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بعده أسعد بن زرارة.
ذكره الطبري (3).
__________
(1) تاريخ الطبري ج 2 / 256 دار القاموس الحديث.
(2) قال في الطبقات: وكان يتحدث في منزل سعد بن خيثمة.
(3) راجع الكامل في التاريخ 2 / 110 وتاريخ الطبري 2 / 256 وطبقات ابن سعد 3 / 623 و 3 / 611.
وقال ابن الاثير في أسد الغابة: قيل أنه أول من مات من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قدومه المدينة ولم يدرك شيئا من مشاهده.
4 / 253.
فصل في ميلاد عبد الله بن الزبير في شوال سنة الهجرة فكان أول مولود ولد في الاسلام من المهاجرين كما أن النعمان بن بشير أول مولود ولد للانصار بعد الهجرة رضي الله عنهما.
وقد زعم بعضهم أن ابن الزبير ولد بعد الهجرة بعشرين شهرا قاله أبو الأسود.
ورواه الواقدي: عن محمد بن يحيى بن سهل بن أبي حثمة، عن أبيه عن جده، وزعموا أن النعمان ولد قبل الزبير بستة أشهر على رأس أربعة عشر شهرا من الهجرة، والصحيح ما قدمنا.
فقال البخاري حدثنا زكريا بن يحيى ثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء أنها حملت بعبد الله بن الزبير قالت فخرجت وأنا متم فأتيت المدينة ونزلت بقباء فولدته بقباء، ثم أتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه في حجره ثم دعا بتمرة فمضغها ثم تفل في فيه فكان أول شئ دخل جوفه ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم حنكه بتمرة، ثم دعا له وبرك عليه.
فكان أول مولود ولد في الاسلام.
تابعه خالد بن مخلد عن علي بن مسهر عن هشام عن أبيه عن أسماء أنها هاجرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهي حبلى.
حدثنا قتيبة عن أبي أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة
قالت: أول مولود ولد في الاسلام عبد الله بن الزبير، أتوا به النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم تمرة فلاكها ثم أدخلها في فيه فأول ما دخل بطنه ريق النبي صلى الله عليه وسلم فهذا حجة على الواقدي وغيره لانه ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث مع عبد الله بن أريقط لما رجع إلى مكة زيد بن حارثة وأبا رافع ليأتوا بعياله وعيال أبي بكر فقدموا بهم أثر هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأسماء حامل متم أي مقرب قد دنا وضعها لولدها، فلما ولدته كبر المسلمون تكبيرة عظيمة فرحا بمولده لانه كان قد بلغهم عن اليهود أنهم سحروهم حتى لا يولد لهم بعد هجرتهم ولد، فأكذب الله اليهود فيما زعموا.
فصل وبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعائشة في شوال من هذه السنة قال الامام أحمد: حدثنا وكيع [ بن الجراح ] ثنا سفيان عن إسماعيل بن أمية عن عبد الله بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال، وبنى بي في شوال، فأي نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحظى عنده مني ؟ وكانت عائشة تستحب أن تدخل نساءها في شوال.
ورواه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه من طرق عن سفيان الثوري به (1).
وقال
__________
(1) روى ابن سعد عن محمد بن عمر عن عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة عن عائشة: الحديث بنحوه وفيه زيادة: وأعرس بي في شوال على رأس ثمانية أشهر من المهاجر.
الترمذي حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديث سفيان الثوري فعلى هذا يكون دخوله بها عليه السلام بعد الهجرة بسبعة أشهر - أو ثمانية أشهر - وقد حكى القولين ابن جرير، وقد تقدم في تزويجه عليه السلام بسودة كيفية تزويجه ودخوله بعائشة بعد ما قدموا المدينة وان دخوله بها كان بالسنح نهارا وهذا خلاف ما يعتاده الناس اليوم، وفي دخوله عليه السلام بها في شوال ردا لما يتوهمه (1) بعض الناس من كراهية الدخول بين العيدين خشية المفارقة بين الزوجين وهذا ليس بشئ لما قالته عائشة رادة على من توهمه من الناس في ذلك الوقت: تزوجني في شوال، وبنى بي في شوال - أي دخل بي - في شوال، فأي نسائه كان أحظى عنده مني ؟ فدل هذا على أنها فهمت منه
عليه السلام أنها أحب نسائه إليه، وهذا الفهم منها صحيح لما دل على ذلك من الدلائل الواضحة، ولو لم يكن إلا الحديث الثابت في صحيح البخاري عن عمرو بن العاص: قلت يا رسول الله أي الناس أحب إليك ؟ قال: " عائشة " قلت من الرجال قال " أبوها ".
فصل قال ابن جرير: وفي هذه السنة - يعني السنة الاولى من الهجرة - زيد في صلاة الحضر - فيما قيل - ركعتان، وكانت صلاة الحضر والسفر ركعتين، وذلك بعد مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة بشهر في ربيع الآخر لمضي ثنتي عشرة ليلة مضت، وقال: وزعم الواقدي أنه لا خلاف بين أهل الحجاز فيه.
قلت: قد تقدم الحديث الذي رواه البخاري: من طريق معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: فرضت الصلاة أول ما فرضت ركعتين، فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر.
وروى من طريق الشعبي عن مسروق عنها.
وقد حكى البيهقي عن الحسن البصري أن صلاة الحضر أول ما فرضت فرضت أربعا والله أعلم.
وقد تكلمنا على ذلك في تفسير سورة النساء عند قوله تعالى: (وإذا ضربتم في الارض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) الآية [ النساء: 101 ].
__________
(1) قال أبو عاصم: إنما كره الناس أن يدخلوا النساء في شوال لطاعون وقع في شوال في الزمن الاول.
فإن صح قول أبي عاصم يكون النبي صلى الله عليه وسلم قصد رفع هذا الوهم والتوهم عند الناس في كراهية الدخول بالنساء في شوال.
(راجع طبقات ابن سعد 8 / 60).
فصل في الاذان ومشروعيته قال ابن إسحاق: فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة واجتمع إليه إخوانه من المهاجرين واجتمع كبائر (1) الانصار استحكم أمر الاسلام، فقامت الصلاة وفرضت الزكاة والصيام، وقامت
الحدود وفرض الحلال والحرام وتبوأ الاسلام بين أظهرهم وكان هذا الحي من الانصار هم الذين تبوؤا الدار والايمان وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدمها إنما يجتمع الناس إليه للصلاة لحين مواقيتها بغير دعوة، فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل بوقا (2) كبوق يهود الذي يدعون به لصلاتهم، ثم كرهه، ثم أمر بالناقوس فنحت ليضرب به للمسلمين للصلاة، فبينا هم على ذلك رأى عبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه (3) أخو بلحارث بن الخزرج، النداء، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنه طاف بي هذه الليلة طائف، مر بي رجل عليه ثوبان أخضران يحمل ناقوسا في يده، فقلت يا عبد الله أتبيع هذا الناقوس ؟ فقال: وما تصنع به ؟ قال قلت ندعو به إلى الصلاة، قال ألا أدلك على خير من ذلك ؟ قلت وما هو ؟ قال تقول، الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أگبر، أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله.
فلما أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنها لرؤيا حق إن شاء الله، فقم مع بلال فألقها عليه، فليؤذن بها فانه أندى (4) صوتا منك " فلما أذن بها بلال سمعه عمر بن الخطاب وهو في بيته، فخرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يجر رداءه وهو يقول: يا نبي الله والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل الذي رأى.
فقال رسول الله فلله الحمد [ على ذلك ].
قال ابن إسحاق: فحدثني بهذا الحديث محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن محمد بن عبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه عن أبيه.
وقد روى هذا الحديث أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن خزيمة من طرق عن محمد بن إسحاق به، وصححه الترمذي وابن خزيمة وغيرهما.
وعند أبي داود أنه علمه الاقامة قال: ثم تقول إذا أقمت
__________
(1) في ابن هشام: أمر.
(2) في رواية البخاري بوقة وفي رواية لمسلم والنسائي قرنا وقيل القنع وقيل الشبور وهذه الالفاظ الاربعة (القنع - الشبور - البوقة - القرن) بمعنى واحد وهو الذي ينفخ فيه ليخرج منه الصوت.
(3) هو عبد الله بن زيد بن عبد ربه بن ثعلبة الانصاري الخزرجي المدني البدري، من سادة الصحابة، شهد العقبة وبدرا، وهو الذي أري الآذان، وكان ذلك في السنة الاولى من الهجرة له أحاديث كثيرة توفي سنة اثنتين وثلاثين
(ترجمته في العبر للذهبي 1 / 33 تهذيب التهذيب 5 / 223 الاصابة 2 / 213، طبقات ابن سعد 3 / 536 تاريخ يعقوب بن سفيان الفسوي 1 / 260.
(4) اندى: أقوى وأبعد.
الصلاة: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله.
وقد روى ابن ماجه هذا الحديث: عن أبي عبيد محمد بن عبيد بن ميمون عن محمد بن سلمة الحراني عن ابن إسحاق كما تقدم (1).
ثم قال: قال أبو عبيد: وأخبرني أبو بكر الحكمي أن عبد الله بن زيد الانصاري قال في ذلك: الحمد لله ذي الجلال وذي الا * كرام حمدا على الاذان كبيرا إذ أتاني به البشير من الل * ه فأكرم به لدي بشيرا في ليال والى بهن ثلاث * كلما جاء زادني توقيرا قلت: وهذا الشعر غريب وهو يقتضي أنه رأى ذلك ثلاث ليال حتى أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فالله أعلم.
ورواه الامام أحمد من حديث محمد بن إسحاق قال: وذكر الزهري عن سعيد بن المسيب عن عبد الله بن زيد به نحو رواية ابن إسحاق عن محمد بن إبراهيم التيمي ولم يذكر الشعر وقال ابن ماجه: حدثنا محمد بن خالد بن عبد الله الواسطي، ثنا أبي، عن عبد الرحمن بن اسحاق عن الزهري عن سالم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استشار الناس لما يهمهم من الصلاة، فذكروا البوق فكرهه من أجل اليهود، ثم ذكروا الناقوس فكرهه من أجل النصارى.
فأري النداء تلك الليلة رجل من الانصار يقال له عبد الله بن زيد وعمر بن الخطاب، فطرق الانصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلا فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا فأذن به.
قال الزهري: وزاد بلال في نداء صلاة الغداة، الصلاة خير من النوم مرتين، فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: يا رسول الله رأيت مثل الذي رأى ولكنه سبقني، وسيأتي تحرير هذا الفصل في باب الاذان من كتاب الاحكام الكبير إن
شاء الله تعالى وبه الثقة.
فأما الحديث الذي أورده السهيلي بسنده من طريق البزار: حدثنا محمد بن عثمان بن مخلد ثنا أبي، عن زياد بن المنذر عن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب فذكر حديث الاسراء وفيه: فخرج ملك من وراء الحجاب فأذن بهذا الاذان وكلما قال كلمة صدقه الله تعالى، ثم أخذ الملك بيد محمد صلى الله عليه وسلم فقدمه فأم بأهل السماء وفيهم آدم ونوح.
ثم قال السهيلي وأخلق بهذا الحديث أن يكون صحيحا لما يعضده ويشاكله من حديث الاسراء.
فهذا الحديث ليس كما زعم السهيلي أنه صحيح بل هو منكر تفرد به زياد بن المنذر أبو الجارود الذي تنسب إليه الفرقة الجارودية (2) وهو من المتهمين.
ثم لو كان هذا قد سمعه
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ح 499 وابن ماجة ح 708 والامام أحمد في مسنده 4 / 43 والبيهقي في دلائل النبوة 7 / 17 - 18 والسنن الكبرى 1 / 390 وابن إسحاق دون ذكر حديث الاقامة في السيرة 2 / 154.
(2) قال الاسفرايني في الفرق بين الفرق: ص 22: الجارودية فرقة من الفرق الزيدية من اتباع المنذر بن عمرو المعروف بأبي الجارود كفروا الصحابة لتركهم بيعة علي، وقالوا ان النبي صلى الله عليه وسلم نص على إمامة علي بالنص دون =
رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الاسراء لاوشك أن يأمر به بعد الهجرة في الدعوة إلى الصلاة والله أعلم.
قال ابن هشام: وذكر ابن جريج.
قال: قال لي عطاء: سمعت عبيد بن عمير يقول: ائتمر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه [ بالناقوس ] (1) للاجتماع للصلاة، فبينا عمر بن الخطاب يريد أن يشتري خشبتين للناقوس إذ رأى عمر في المنام لا تجعلوا الناقوس بل أذنوا للصلاة.
فذهب عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليخبره بما رأى وقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم الوحي بذلك فما راع عمر إلا بلال يؤذن: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخبره بذلك " قد سبقك بذلك الوحي " وهذا يدل على أنه قد جاء الوحي بتقرير ما رآه عبد الله بن زيد بن عبد ربه كما صرح به بعضهم والله تعالى أعلم.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير عن امرأة من بني النجار قالت: كان بيتي من أطول بيت حول المسجد، فكان بلال يؤذن عليه للفجر كل غداة، فيأتي بسحر، فيجلس على البيت ينتظر الفجر، فإذا رآه تمطى، ثم قال: اللهم أحمدك واستعينك
على قريش أن يقيموا دينك، قالت ثم يؤذن، قالت والله ما علمته كان تركها ليلة واحدة - يعني هذه الكلمات - ورواه أبو داود من حديثه منفردا به (2).
فصل في سرية حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه قال ابن جرير: وزعم الواقدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد في هذه السنة في شهر رمضان على رأس سبعة أشهر من مهاجره لحمزة بن عبد المطلب لواء أبيض في ثلاثين رجلا من المهاجرين (3) ليعترض لعيرات قريش وأن حمزة لقي أبا جهل (4) في ثلاثمائة رجل من قريش فحجز بينهم مجدي بن عمرو ولم يكن بينهم قتال، قال وكان الذي يحمل لواء حمزة أبو مرثد الغنوي (5).
__________
الاسم.
وافترقت الجارودية في الامام المنتظر فرقا: فمنهم من لم يعين واحدا بالانتظار ومنهم من ينتظر محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب.
ومنهم من ينتظر محمد بن القاسم صاحب الطالقان ومنهم من ينتظر محمد بن عمر الذي خرج بالكوفة.
(1) من ابن هشام.
ج 2 / 155.
(2) سنن ابن داود كتاب الصلاة باب الاذان فوق المنارة ح 519 ص 1 / 143 وسيرة ابن هشام ج 2 / 156.
(3) قال ابن سعد: قال بعضهم كانوا شطرين من المهاجرين والانصار.
والمجتمع عليه أنهم كانوا جميعا من المهاجرين ولم يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا من الانصار مبعثا حتى غزا بهم بدر وذلك أنهم شرطوا له أنهم يمنعونه في دارهم، وهذا الثبت عندنا.
(4) التقى حمزة وأبو جهل سيف البحر، يعني ساحله من ناحية العيص، وكانت عير قريش قد جاءت من الشام تريد مكة.
(5) أبو مرثد واسمه كناز بن الحصين الغنوي حليف حمزة بن عبد المطلب، قال ابن سعد: كانت راية حمزة أول راية =
فصل في سرية عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب
قال ابن جرير: وزعم الواقدي أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم عقد في هذه السنة على رأس ثمانية أشهر في شوال لعبيدة بن الحارث [ بن المطلب بن عبد مناف ] لواء أبيض وأمره بالمسير إلى بطن رابغ (1).
وكان لواؤه مع مسطح بن أثاثة فبلغ ثنية المرة وهي بناحية الجحفة في ستين من المهاجرين ليس فيهم أنصاري، وأنهم التقوا هم والمشركون على ماء يقال له أحياء (2) وكان بينهم الرمي دون المسابقة.
قال الواقدي: وكان المشركون مائتين عليهم أبو سفيان صخر بن حرب وهو المثبت عندنا، وقيل كان عليهم مكرز بن حفص (3).
فصل [ في سرية سعد بن أبي وقاص إلى الخرار ] (4) قال الواقدي: وفيها - يعني في السنة الاولى في ذي القعدة (5) - عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص إلى الخرار (6) لواء أبيض يحمله المقداد بن الاسود، فحدثني أبو بكر بن إسماعيل عن أبيه عن عامر بن سعد [ عن أبيه ] (7).
قال: خرجت في عشرين رجلا على أقدامنا، أو قال أحد وعشرين رجلا، فكنا نكمن النهار ونسير الليل حتى صبحنا الخرار صبح خامسة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عهد إلي أن لا أجاوز الخرار، وكانت العير قد سبقتني قبل ذلك بيوم.
قال
__________
= عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم لاحد في الاسلام - وإلى ذلك ذهب إبن عبد البر - وقال بعضهم أن راية عبيدة كانت الاولى.
وقال ابن سعد قال ابن إسحاق بل كانت راية عبيدة بن الحارث.
وقال ابن الاثير في الكامل: قال بعضهم كان لواء أبي عبيدة أول لواء عقده، وإنما اشتبه ذلك لقرب بعضها ببعض.
(1) بطن رابغ: وهي على عشرة أميال من الجحفة وأنت تريد قديد.
(2) أحياء: وفي رواية ابن إسحاق: ماء بالحجاز بأسفل ثنية المرة.
(3) في رواية ابن إسحاق: كان على القوم عكرمة بن أبي جهل.
(4) عنوان سقط من الاصل، زيادة استدر كناها للايضاح.
(5) على راس تسعة أشهر من الهجرة.
(6) في الكامل لابن الاثير: إلى الابواء، وفي ابن هشام أن غزوة قام بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفر على رأس اثني عشر
شهرا من مقدمه المدينة.
(7) من الطبري.
الواقدي: كانت العير ستين وكان من مع سعد كلهم من المهاجرين.
قال أبو جعفر بن جرير (رح) وعند ابن إسحاق (رح) أن هذه السرايا الثلاث التي ذكرها الواقدي كلها في السنة الثانية من الهجرة من وقت التاريخ.
قلت: كلام ابن إسحاق ليس بصريح فيما قاله أبو جعفر (رح) لمن تأمله كما سنورده في أول كتاب المغازي في أول السنة الثانية من الهجرة وذلك تلوما نحن فيه إن شاء الله، ويحتمل أن يكون مراده أنها وقعت هذه السرايا في السنة الاولى، وسنزيدها بسطا وشرحا إذا انتهينا إليها إن شاء الله تعالى.
والواقدي (رح) عنده زيادات حسنة، وتاريخ محرر غالبا فإنه من أئمة هذا الشأن الكبار وهو صدوق في نفسه مكثار كما بسطنا القول في عدالته وجرحه في كتابنا الموسوم بالتكميل في معرفة الثقات والضعفاء والمجاهيل ولله الحمد والمنة.
فصل وممن ولد في هذه السنة المباركة - وهي الاولى من الهجرة - عبد الله بن الزبير فكان أول مولود ولد في الاسلام بعد الهجرة كما رواه البخاري عن أمه أسماء وخالته عائشة أم المؤمنين ابنتي الصديق رضي الله عنهما، ومن الناس من يقول ولد النعمان بن بشير قبله بستة أشهر، فعلى هذا يكون ابن الزبير أول مولود ولد بعد الهجرة من المهاجرين ومن الناس من يقول إنهما ولدا في السنة الثانية من الهجرة والظاهر الاول كما قدمنا بيانه ولله الحمد والمنة، وسنشير في آخر السنة الثانية إلى القول الثاني إن شاء الله تعالى.
قال ابن جرير: وقد قيل إن المختار بن أبي عبيد وزياد بن سمية ولدا في هذه السنة الاولى (1) فالله أعلم.
وممن توفي في هذه السنة الاولى من الصحابة، كلثوم بن الهدم الاوسي الذي نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسكنه بقباء إلى حين ارتحل منها إلى دار بني النجار كما تقدم، وبعده - - فيها أبو
أمامة أسعد بن زرارة نقيب بني النجار توفي ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبني المسجد كما تقدم رضي الله عنهما وارضاهما.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة - يعني الاولى من الهجرة - مات أبو أحيحة بما له بالطائف ومات الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل السهمي فيها بمكة.
قلت: وهؤلاء ماتوا على شركهم لم يسلموا لله عزوجل.
__________
(1) من الطبري، وفي الاصل: السنة الثانية وهو تحريف.
بسم الله الرحمن الرحيم ذكر ما وقع في السنة الثانية من الهجرة وقع فيها كثير من المغازي والسرايا ومن أعظمها وأجلها بدر الكبرى التي كانت في رمضان منها، وقد فرق الله بها بين الحق والباطل، والهدى والغي.
وهذا أوان ذكر المغازي والبعوث فنقول وبالله المستعان كتاب المغازي قال الامام محمد بن إسحاق بن يسار في كتاب السيرة بعد ذكر أحبار اليهود ونصبهم العداوة للاسلام وأهله وما نزل فيهم من الآيات، فمنهم حيي بن أخطب وأخواه أبو ياسر وجدي، وسلام (1) بن مشكم، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وسلام بن أبي الحقيق وهو أبو رافع الاعور، تاجر أهل الحجاز وهو الذي قتله الصحابة بأرض خيبر كما سيأتي، والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق، وعمرو بن جحاش، وكعب بن الاشرف وهو من طئ ثم أحد بني نبهان وأمه من بني النضير، وقد قتله الصحابة قبل أبي رافع كما سيأتي، وحليفاه الحجاج بن عمرو وكردم بن قيسم لعنهم الله فهؤلاء من بني النضير، ومن بني ثعلبة بن الفطيون عبد الله بن صوريا، ولم يكن
بالحجاز - بعد - أعلم بالتوراة منه.
قلت: وقيل إنه أسلم، وابن صلوبا ومخيريق وقد أسلما يوم أحد كما سيأتي وكان حبر قومه، ومن بني قينقاع زيد بن اللصيت، وسعد بن حنيف، ومحمود بن شيخان (2) وعزيز بن أبي عزيز وعبد الله بن ضيف، وسويد بن الحارث، ورفاعة بن قيس، وفنحاص وأشيع ونعمان بن ضا، وبحري بن عمرو، وشاش بن عدى، وشاش بن قيس، وزيد بن الحارث، ونعمان بن عمير (3) وسكين بن أبي سكين، وعدي بن زيد، ونعمان بن أبي أوفى أبو أنس، ومحمود بن
__________
(1) سلام: يروى بتخفيف اللام كما يروى بتشديدها.
ومن رواها بالتخفيف استشهد بقول الشاعر: سقاني فأرواني كميتا مدامة * على عجل مني سلام بن شكم (2) في ابن هشام: محمود بن سبحان (3) في ابن هشام: عمرو.
دحية، ومالك بن صيف (1) وكعب بن راشد، وعازر ورافع بن أبي رافع، وخالد وازار بن أبي ازار.
قال ابن هشام: ويقال آزر بن أبي آزر، ورافع بن حارثة، ورافع بن حريملة، ورافع بن خارجة، ومالك بن عوف، ورفاعة بن زيد بن التابوت، وعبد الله بن سلام.
قلت: وقد تقدم إسلامه رضي الله عنه.
قال ابن إسحاق: وكان حبرهم وأعلمهم، وكان اسمه الحصين فلما أسلم سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله.
قال ابن إسحاق: ومن بني قريظة الزبير بن باطا بن وهب، وعزال بن شموال وكعب بن أسد وهو صاحب عقدهم الذي نقضوه عام الاحزاب وشمويل بن زيد، وجبل بن عمرو بن سكينة، والنحام بن زيد، وكردم بن كعب (2) ووهب بن زيد ونافع بن أبي نافع، [ وأبو نافع ] (3) وعدي بن زيد، والحارث بن عوف، وكردم بن زيد، وأسامة بن حبيب، ورافع بن زميلة (4)، وجبل بن أبي قشير، ووهب بن يهوذا.
قال ومن بني زريق، لبيد بن أعصم وهو الذي سحر (5) رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن يهود بني حارثة، كنانة بن صوريا.
ومن يهود بني عمرو بن عوف قردم بن عمرو، ومن يهود بني النجار، سلسلة
ابن برهام.
قال ابن إسحاق: فهؤلاء أحبار يهود وأهل الشرور والعداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله عنهم، وأصحاب المسألة الذين يكثرون الاسئلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه التعنت والعناد والكفر قال وأصحاب النصب لامر الاسلام ليطفئوه إلا ما كان من عبد الله بن سلام ومخيريق، ثم ذكر إسلام عبد الله بن سلام (6) واسلام عمته خالدة [ بنت الحارث ] كما قدمناه وذكر إسلام مخيريق يوم أحد كما سيأتي وأنه قال لقومه - وكان يوم السبت - يا معشر يهود والله إنكم لتعلمون أن نصر محمد عليكم لحق، قالوا: إن اليوم يوم السبت، قال لا سبت لكم.
ثم أخذ سلاحه وخرج
__________
(1) ويروى: الضيف وهما روايتان فيه.
(2) في ابن هشام: قردم بن كعب.
(3) من ابن هشام، سقطت من الاصل.
(4) في ابن هشام: رميلة بالراء.
(5) في ابن هشام: أخذ، وأخد من الاخذة وهو ضرب من السحر.
قال السهيلي: وهذا الحديث مشهور عند الناس ثابت عند أهل الحديث غير أني لم أجد في الكتب المشهورة لم لبث رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك السحر حتى شفي منه.
ووجدت في جامع معمر بن راشد: روى معمر عن الزهري قال: سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة.
والحديب أخرجه البخاري عن أنس بن عياض في 80 كتاب الدعوات 57 باب فتح الباري 11 / 192 ورواه البخاري عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة وأخرجاه من أوجه أخر عن هشام ورواه البيهقي في الدلائل عن الكلبي عن أبي صالح، أبي النضر الكوفي، عن ابن عباس ج 6 / 247 - 248.
(6) قال السهيلي: سلام بتخفيف اللام ولا يوجد من اسمه سلام بالتخفيف في المسلمين ويقال سلام بالتشديد، وسلام بالتخفيف في اليهود.
وعهد إلى من وراءه من قومه إن قتلت هذا اليوم فأموالي لمحمد يرى فيها ما أراه الله - وكان كثير الاموال - ثم لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتل حتى قتل رضي الله عنه، قال فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
فيما بلغني " مخيريق خير يهود " (1).
فصل ثم ذكر ابن إسحاق من مال إلى هؤلاء الاضداد من اليهود من المنافقين من الاوس والخزرج فمن الاوس زوى بن الحارث، وجلاس بن سويد بن الصامت الانصاري وفيه نزل: (يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم) [ التوبة: 74 ] وذلك أنه قال حين تخلف عن غزوة تبوك لئن كان هذا الرجل صادقا لنحن شر من الحمر، فنماها ابن امرأته عمير بن سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكر الجلاس ذلك وحلف ما قال فنزل فيه ذلك.
قال وقد زعموا أنه تاب وحسنت توبته حتى عرف منه الاسلام والخير قال وأخوه الحارث بن سويد، وهو الذي قتل المجذر بن ذياد البلوي وقيس بن زيد أحد بني ضبيعة يوم أحد، خرج مع المسلمين وكان منافقا فلما التقى الناس عدا عليهما فقتلهما ثم لحق بقريش.
قال ابن هشام: وكان المجذر قد قتل أباه سويد بن الصامت في بعض حروب (2) الجاهلية فأخذ بثأر أبيه منه يوم أحد، كذا قال ابن هشام.
وقد ذكر ابن إسحاق أن الذي قتل سويد بن الصامت إنما هو معاذ بن عفراء قتله في غير حرب قبل يوم بعاث رماه بسهم فقتله.
وأنكر ابن هشام أن يكون الحارث قتل قيس بن زيد، قال لان ابن إسحاق لم يذكره في قتلى أحد.
قال ابن إسحاق: وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أمر عمر بن الخطاب بقتله ان هو ظفر به، فبعث الحارث إلى أخيه الجلاس يطلب له التوبة ليرجع إلى قومه، فأنزل الله - فيما بلغني عن ابن عباس (كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين) [ آل عمران: 86 ] إلى آخر القصة.
قال: وبجاد بن عثمان بن عامر، ونبتل بن الحارث وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أحب أن ينظر إلى شيطان فلينظر إلى هذا " وكان جسيما أدلم (3) ثائر شعر الرأس أحمر العينين أسفع الخدين، وكان يسمع الكلام من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ينقله إلى المنافقين وهو الذي قال: إنما محمد أذن، من حدثه بشئ صدقه.
__________
(1) علل السهيلي قوله: مخيريق خير يهود قال: ومخيريق مسلم، ولا يجوز أن يقال في مسلم: هو خير النصارى ولا
خير اليهود، فإن قيل وكيف جاز هذا ؟ قلنا: لانه قال:: خير يهود، ولم يقل: خير اليهود، ويهود اسم علم كثمود..(2) تقدم التعليق على مقتله، وكان ذلك يوم بعاث.
(3) الادلم: الاسود الطويل، وقيل هو المسترحي الشفتين.
فأنزل الله فيه: (ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن) [ التوبة: 61 ] الآية.
قال: وأبو حبيبة بن الازعر وكان ممن بنى مسجد الضرار، وثعلبة بن حاطب ومعتب بن قشير، وهما اللذان عاهدا الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ثم نكثا، فنزل فيهما ذلك، ومعتب هو الذي قال يوم أحد: لو كان لنا من الامر شئ ما قتلنا ههنا فنزل فيه (1) الآية.
وهو الذي قال يوم الاحزاب كان محمد يعدنا أنا نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يؤمن أن يذهب إلى الغائط فنزل فيه: (وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا).
قال ابن إسحاق: والحراث بن حاطب.
قال ابن هشام.
ومعتب بن قشير وثعلبة والحارث ابنا حاطب، وهما من بني أمية بن زيد من أهل بدر وليسوا من المنافقين فيما ذكر لي من أثق به من أهل العلم.
قال وقد ذكر ابن إسحاق ثعلبة والحارث في بني أمية بن زيد في أسماء أهل بدر (2).
قال ابن إسحاق: وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف وبخرج وكان ممن بنى مسجد الضرار وعمرو بن حرام (3) وعبد الله بن نبتل، وجارية بن عامر بن العطاف، وابناه يزيد (4) ومجمع ابنا جارية وهم ممن اتخذ مسجد الضرار، وكان مجمع غلاما حدثا قد جمع أكثر القرآن و [ كان ] يصلي بهم فيه، فلما خرب مسجد الضرار - كما سيأتي بيانه بعد غزوة تبوك - وكان في أيام عمر سأل أهل قباء عمر أن يصلي بهم مجمع فقال: لا والله، أو ليس إمام المنافقين في مسجد الضرار ؟ فحلف بالله ما علمت بشئ من أمرهم فزعموا أن عمر تركه فصلى بهم.
قال ووديعة بن ثابت وكان ممن بنى مسجد الضرار وهو الذي قال: إنما كنا نخوض ونلعب فنزل فيه ذلك (5).
قال
وخذام بن خالد وهو الذي أخرج مسجد الضرار من داره.
قال ابن هشام مستدركا على ابن إسحاق في منافقي بني النبيت من الاوس وبشر ورافع ابنا زيد.
قال ابن إسحاق: ومربع بن قيظي - وكان أعمى - وهو الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أجاز في حائطه وهو ذاهب إلى أحد: لا أحل لك إن كنت نبيا أن تمر في حائطي وأخذ في يده حفنة من تراب ثم قال: والله لو أعلم أني لا
__________
(1) نزل فيه قوله تعالى: (وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون لو كان لنا من الامر شئ...).
(2) ذكرهما الواقدي في المغازي في أهل بدر، وقال: الحارث بن حاطب رده من الروحاء وضرب له بسهمه وأجره 1 / 159.
(3) في ابن هشام: عمرو بن خذام.
(4) في ابن هشام: زيد.
(5) نزل فيه قوله تعالى: (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون).
أصيب بها غيرك لرميتك بها، فابتدره القوم ليقتلوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " دعوه فهذا الاعمى أعمى القلب أعمى البصر " (1) وقد ضربه سعد بن زيد الاشهلي بالقوس فشجه.
قال وأخوه أوس بن قيظي وهو الذي قال [ لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق ] (2): إن بيوتنا عورة.
قال الله: (وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا) [ الاحزاب: 13 ] قال وحاطب بن أمية بن رافع وكان شيخا جسيما قد عسا (3) في جاهليته، وكان له ابن من خيار المسلمين يقال له يزيد بن حاطب أصيب يوم أحد حتى أثبتته الجراحات، فحمل إلى دار بني ظفر.
فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة فأنه اجتمع إليه من بها من رجال المسلمين ونسائهم وهو يموت فجعلوا يقولون: أبشر بالجنة يا ابن حاطب.
قال: فنجم نفاق أبيه فجعل يقول: أجل جنة من حرمل، غررتم والله هذا المسكين من نفسه.
قال وبشير بن أبيرق أبو طعمة سارق الدرعين الذي أنزل الله فيه: (ولا تجادل عن
الذين يختانون أنفسهم) الآيات (4).
قال وقزمان حليف لبني ظفر الذي قتل يوم أحد سبعة (5) نفر، ثم لما آلمته الجراحة قتل نفسه وقال: والله ما قاتلت إلا حمية على قومي ثم مات لعنه الله.
قال ابن إسحاق: ولم يكن في بني عبد الاشهل منافق ولا منافقة يعلم إلا أن الضحاك بن ثابت كان يتهم بالنفاق وحب يهود فهؤلاء كلهم من الاوس.
قال ابن إسحاق: ومن الخزرج رافع بن وديعة، وزيد بن عمرو، وعمرو بن قيس، وقيس بن عمرو بن سهل، والجد بن قيس وهو الذي قال: [ يا محمد ] ائذن لي ولا تفتني، وعبد الله بن أبي بن سلول، وكان رأس المنافقين ورئيس الخزرج والاوس أيضا، كانوا قد أجمعوا على أن يملكوه عليهم في الجاهلية، فلما هداهم الله للاسلام قبل ذلك شرق اللعين بريقه وغاظه ذلك جدا، وهو الذي قال (6): لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الاعز منها الاذل، وقد نزلت فيه آيات كثيرة جدا، وفيه وفي وديعة - رجل من بني عوف - ومالك بن أبي قوقل وسويد وداعس وهتم من رهطة نزل قوله تعالى: (لئن أخرجوا لا يخرجون
__________
(1) في ابن هشام: أعمى البصيرة.
(2) من ابن هشام.
(3) عسا: أي كبر وأسن.
(4) وأما قصة نزول هذه الآيات فهي: أن بني ابيرق - بشر ومبشر وبشير، نقب أحدهم أو كلهم مشربة لرفاعة بن زيد وسرقوا له طعاما وادراعا، فجاء ابن أخيه قتادة يشكو الامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء أحد بني الابيرق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مستغربا هذه التهمة ومدافعا ومنكرا وطالب بالبينة وجعل يجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أغضبه على قتادة ورفاعة فأنزل الله تعالى (ولا تجادل) وكان البرئ الذي اتهم بالسرقة لبيد بن سهل وقد رماه بالسرقة بنو الابيرق، فبرأه الله فهرب بنو الابيرق - هرب من سرق منهم - إلى مكة ونزل على سلافة بنت سعد بن شهيب..فقال فيها حسان شعرا، فأخرجته من بيتها فهرب إلى خيبر..حيث مات وهو يسرق بيتا وقع حائطه عليه فقتله.
(5) في نسخة لابن هشام: تسعة.
وفي نسخة أخرى: بضعة نفر.
(6) وكان ذلك في غزوة بني المصطلق، وفي قوله ذلك نزلت سورة المنافقين بأسرها فيه وفي رهطه المنافقين.
معهم) الآيات حين مالوا في الباطن إلى بني النضير.
فصل [ في إسلام بعض أحبار يهود نفاقا ] (1) ثم ذكر ابن إسحاق من أسلم من أحبار اليهود على سبيل التقية فكانوا كفارا في الباطن فاتبعهم بصنف المنافقين وهم من شرهم، سعد بن حنيف، وزيد بن اللصيت، وهو الذي قال حين ضلت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يزعم محمد أنه يأتيه خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " والله لا أعلم إلا ما علمني الله، وقد دلني الله عليها فهي في هذا الشعب قد حبستها شجرة بزمامها " فذهب رجال من المسلمين فوجدوها كذلك.
قال ونعمان بن أوفى، وعثمان بن أوفى، ورافع بن حريملة، وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات - فيما بلغنا -: " قد مات اليوم عظيم من عظماء المنافقين " ورفاعة بن زيد بن التابوت: وهو الذي هبت الريح الشديدة يوم موته عند مرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك (2) فقال: " إنها هبت لموت عظيم من عظماء الكفار " فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة قد مات في ذلك اليوم وسلسلة بن برهام وكنانة بن صوريا.
فهؤلاء ممن أسلم من منافقي اليهود قال: فكان هؤلاء المنافقون يحضرون المسجد ويسمعون أحاديث المسلمين ويسخرون ويستهزئون بدينهم، فاجتمع في المسجد يوما منهم أناس فرآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدثون بينهم خافضي أصواتهم، قد لصق بعضهم إلى بعض، فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجوا من المسجد إخراجا عنيفا، فقام أبو أيوب إلى عمرو بن قيس أحد بني النجار - وكان صاحب آلهتهم في الجاهلية - فأخذ برجله فسحبه حتى أخرجه وهو يقول - لعنه الله - أتخرجني يا أبا أيوب من مربد بني ثعلبة ؟ ثم أقبل أبو أيوب إلى رافع بن وديعة النجاري فلببه بردائه، ثم نتره نترا شديدا (3) ولطم وجهه فأخرجه من المسجد وهو يقول: أف لك منافقا خبيثا.
وقام عمارة بن حزم إلى زيد بن عمرو - وكان طويل اللحية - فأخذ بلحيته وقاده بها قودا عنيفا حتى أخرجه من المسجد، ثم جمع عمارة يديه جميعا فلدمه بهما لدمة في صدره خر منها قال يقول: خدشتني يا عمارة، فقال عمارة.
أبعدك الله يا منافق، فما أعد الله لك من العذاب أشد من ذلك، فلا تقربن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام أبو محمد مسعود بن أوس بن زيد بن أصرم بن زيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار - وكان بدريا - إلى قيس بن عمرو بن سهل وكان شابا - وليس في المنافقين شاب سواه - فجعل يدفع
__________
(1) زيادة استدركت لمزيد من التوضيح.
(2) في ابن هشام: من غزوة بني المصطلق.
(3) في النهاية: النتر جذب فيه قوة وجفوة.
في قفاه حتى أخرجه.
وقام رجل من بني خدرة (1) إلى رجل يقال له الحارث بن عمرو - وكان ذا جمة - فأخذ بجمته فسحبه بها سحبا عنيفا على ما مر به من الارض حتى أخرجه، فجعل يقول المنافق: قد أغلظت يا أبا (2) الحارث، فقال: إنك أهل لذلك أي عدو الله لما أنزل فيك، فلا تقربن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنك نجس، وقام رجل من بني عمرو بن عوف إلى أخيه زوى بن الحارث فأخرجه إخراجا عنيفا وأفف منه وقال: غلب عليك الشيطان وأمره، ثم ذكر ابن إسحاق ما نزل فيهم من الآيات من سورة البقرة، ومن سورة التوبة، وتكلم على تفسير ذلك فأجاد وأفاد رحمه الله (3).
أول المغازي وهي غزوة الابواء أبو غزوة ودان وهو بعث حمزة بن عبد المطلب أو عبيدة بن الحارث كما سيأتي في المغازي.
قال البخاري " كتاب المغازي " (4).
قال ابن إسحاق: أول ما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم الابواء.
ثم بواط، ثم العشيرة.
ثم روى عن زيد بن أرقم أنه سئل كم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: تسع عشرة شهد منها سبع عشرة أولهن العسيرة - أو العشيرة -.
وسيأتي الحديث باسناده ولفظه والكلام عليه عند غزوة العشيرة إن شاء الله وبه الثقة.
وفي صحيح البخاري عن بريدة قال: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم ست عشرة غزوة ولمسلم عنه أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ست عشرة غزوة، وفي رواية له عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا تسع عشرة غزوة، وقاتل في ثماني منهن.
قال الحسين بن واقد عن ابن بريدة
عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا سبع عشرة غزوة وقاتل في ثمان، يوم بدر، وأحد، والاحزاب، والمريسيع، وقديد، وخيبر، ومكة، وحنين.
وبعث أربعا وعشرين سرية وقال يعقوب بن سفيان حدثنا محمد بن عثمان الدمشقي التنوخي ثنا الهيثم بن حميد أخبرني النعمان عن مكحول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا ثمانية عشر غزوة، قاتل في ثمان غزوات، أولهن بدر، ثم أحد، ثم الاحزاب، ثم قريظة، ثم بئر معونة ثم غزوة بني المصطلق من خزاعة، ثم غزوة خيبر، ثم غزوة مكة، ثم حنين والطائف (5) قوله بئر معونة بعد قريظة فيه نظر، والصحيح أنها بعد أحد كما سيأتي.
قال يعقوب حدثنا سلمة بن شبيب ثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري سمعت سعيد بن المسيب يقول: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثماني عشرة غزوة، وسمعته مرة أخرى يقول أربعا
__________
(1) ذكر ابن هشام في السيرة اسم الرجل: عبد الله بن الحارث من بني الخزرج.
(2) في ابن هشام: يا بن الحارث.
(3) راجع سيرة ابن هشام ج 2 / 177 وما بعدها.
(4) في البخاري: كتاب المغازي - باب غزوة العشيرة أو العسيرة ج 5 / 176.
(5) الغزوات المذكورة تسع لا ثماني.
وعشرين.
فلا أدري أكان ذلك وهما أو شيئا سمعه بعد ذلك.
وقد روى الطبراني عن الدبري (1) عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري.
قال: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعا وعشرين غزوة وقال عبد الرحمن بن حميد في مسنده: حدثنا سعيد بن سلام ثنا زكريا بن إسحاق حدثنا أبو الزبير عن جابر.
قال: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى وعشرين غزوة.
وقد روى الحاكم من طريق هشام عن قتادة: أن مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسراياه كانت ثلاثا وأربعين.
ثم قال الحاكم: لعله أراد السرايا (2) دون الغزوات، فقد ذكرت في الاكليل على الترتيب بعوث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسراياه زيادة على المائة.
قال وأخبرني الثقة من أصحابنا ببخارى أنه قرأ في كتاب أبي عبد الله بن نصر، السرايا والبعوث دون الحروب نيفا وسبعين.
وهذا الذي ذكره الحاكم غريب جدا، وحمله كلام قتادة على
ما قال فيه نظر.
وقد روى الامام أحمد: عن أزهر بن القاسم الراسبي عن هشام الدستوائي عن قتادة أن مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسراياه ثلاث وأربعون: أربع وعشرون بعثا، وتسع عشرة غزوة.
خرج في ثمان منها بنفسه، بدر، وأحد، والاحزاب، والمريسيع، وخيبر، وفتح مكة وحنين.
وقال موسى بن عقبة عن الزهري: هذه مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم التي قاتل فيها، يوم بدر في رمضان سنة ثنتين، ثم قاتل يوم أحد في شوال سنة ثلاث، ثم قاتل يوم الخندق - وهو يوم الاحزاب وبني قريظة - في شوال من سنة أربع، ثم قاتل بني المصطلق وبني لحيان في شعبان سنة خمس، ثم قاتل يوم خيبر سنة ست، ثم قاتل يوم الفتح في رمضان سنة ثمان، ثم قاتل يوم حنين وحاصر أهل الطائف في شوال سنة ثمان (3)، ثم حج أبو بكر سنة تسع، ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع سنة عشر، وغزا ثنتي عشرة غزوة ولم يكن فيها قتال، وكانت أول غزاة غزاها
__________
(1) في الاصل: الدري، والصواب الدبري وهو إسحاق بن إبراهيم الدبري.
(2) اتفق أصحاب السير والرواة أن الغزوة هي الحرب التي يحضرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه ويقاتل فيها، وأما البعث أو السرية فيكلف فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد أصحابه أو طائفة منهم.
وقد اختلف أصحاب السير في عدد غزواته وسراياه.
والاقرب للصحة أنه خرج في سبع وعشرين غزوة قاتل في تسع منها - وقال ابن سعد ويقال قاتل في بني النضير ووادي القرى وقاتل في الغابة - وبلغ عدد بعوثه وسراياه سبعا وأربعين.
وذكر الصالحي أسماء الغزوات في السيرة الشامية 4 / 16 قال هي: غزوة الابواء - (ودان) - غزوة بواط - غزوة سفوان - بدر الاولى - غزوة العشيرة - غزوة بدر الكبرى - غزوة بني سليم - (قرقر الكدر) غزوة السويق، غزوة غطفان، غزوة الفرع، غزوة بني قينقاع، غزوة أحد، غزوة حمراء الاسد، غزوة بني النضير، غزوة بدر الموعد، غزوة دومة الجندل، غزوة المريسيع، غزوة الخندق، غزوة بني قريظة، غزوة بني لحيان، غزوة الحديبية، غزوة ذي قرد، غزوة خيبر، غزوة ذات الرقاع، غزوة عمرة القضاء، غزوة فتح مكة، غزوة حنين، غزوة الطائف، غزوة تبوك.
(3) قال الواقدي في المغازي 1 / 6: وحج الناس سنة ثمان، ويقال إن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل عتاب بن أسيد على
الحج، ويقال حج الناس أوزاعا (متفرقين) بلا أمير.
الابواء.
وقال حنبل بن هلال عن إسحاق بن العلاء عن عبد الله بن جعفر الرفى (الرقى) عن مطرف بن مازن اليماني عن معمر عن الزهري قال: أول آية نزلت في القتال: (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا) الآية بعد مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فكان أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر يوم الجمعة لسبع عشرة من رمضان، إلى أن قال ثم غزا بني النضير، ثم غزا أحدا في شوال - يعني من سنة ثلاث - ثم قاتل يوم الخندق في شوال سنة أربع (1)، ثم قاتل بني لحيان في شعبان سنة خمس (2)، ثم قاتل يوم خيبر سنة ست (3)، ثم قاتل يوم الفتح في شعبان (4) سنة ثمان، وكانت حنين في رمضان (5) سنة ثمان.
وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة غزوة لم يقاتل فيها، فكانت أول غزوة غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم الابواء.
ثم العشيرة، ثم غزوة غطفان، ثم غزوة بني سليم، ثم غزوة الابواء (6) ثم غزوة بدر الاولى، ثم غزوة الطائف، ثم غزوة الحديبية، ثم غزوة الصفراء، ثم غزوة تبوك آخر غزوة.
ثم ذكر البعوث، هكذا كتبته من تاريخ الحافظ ابن عساكر وهو غريب جدا، والصواب ما سنذكره فيما بعد إن شاء الله مرتبا.
وهذا الفن مما ينبغي الاعتناء به والاعتبار بأمره والتهيؤ له كما رواه محمد بن عمر الواقدي عن عبد الله بن عمر بن علي عن أبيه سمعت علي بن الحسين يقول: كنا نعلم مغازي النبي صلى الله عليه وسلم كما نعلم السورة من القرآن.
قال الواقدي: وسمعت محمد بن عبد الله يقول سمعت عمي الزهري يقول: في علم المغازي علم الآخرة والدنيا وقال محمد بن إسحاق (رح) في المغازي بعد ذكره ما تقدم مما سقناه عنه من تعيين رؤس الكفر من اليهود والمنافقين لعنهم الله أجمعين وجمعهم في أسفل سافلين.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تهيأ لحربه وقام فيما أمره الله به من جهاد عدوه وقتال من أمره به ممن يليه من المشركين، قال: وقد قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة يوم الاثنين حين اشتد الضحاء وكادت الشمس تعتدل لثنتي عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الاول، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ابن ثلاث وخمسين سنة، وذلك بعد أن بعثه الله بثلاث عشرة سنة فأقام بقية شهر ربيع الاول، وشهر ربيع الآخر وجمادين ورجبا وشعبان وشهر
رمضان وشوالا وذا القعدة وذا الحجة وولى تلك الحجة المشركون.
والمحرم، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم غازيا في صفر على رأس اثني عشر (7) شهرا من مقدمه المدينة.
قال ابن
__________
(1) في مغازي الواقدي: في ذي القعدة سنة خمس.
(2) في الواقدي: في ربيع الاول سنة ست.
(3) في الواقدي: في جمادي الاولى سنة سبع.
(4) في الواقدي: لثلاث عشرة مضت من رمضان.
(5) في الواقدي: في شوال.
(6) كذا في الاصل: كرر غزوة الابواء مرتين، وفي ابن هشام: الابواء، بواط، العشيرة..الخ.
(7) في الواقدي: أحد عشر شهرا، وفي كامل ابن الاثير أنه صلى الله عليه وسلم عقد لسعد بن أبي وقاص وسيره إلى الايواء في ذي القعدة من السنة الاولى لمقدمه المدينة.
وقال الطبري في تاريخه: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول جميع أهل السير فيها ؟ - أي في السنة الثانية - في ربيع الاول بنفسه غزوة الابواء.
وقال الواقدي: غاب خمس عشرة ليلة.
هشام: واستعمل على المدينة سعد بن عبادة.
قال ابن إسحاق: حتى بلغ ودان (1) وهي غزوة الابواء (2)، قال ابن جرير: ويقال لها غزوة ودان أيضا، يريد قريشا وبني ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، فوادعته فيها بنو ضمرة وكان الذي وادعه (3) منهم مخشى بن عمرو الضمري، وكان سيدهم في زمانه ذلك.
ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ولم يلق كيدا فأقام بها بقية صفر وصدرا من شهر ربيع الاول.
قال ابن هشام: وهي أول غزوة غزاها عليه السلام.
قال الواقدي وكان لواؤه مع عمه حمزة، وكان أبيض.
[ سرية عبيدة بن الحارث ] (4) قال ابن إسحاق: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقامه ذلك بالمدينة عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف بن قصي في ستين - أو ثمانين - راكبا من المهاجرين ليس فيهم من الانصار أحد، فسار حتى بلغ ماء بالحجاز بأسفل ثنية المرة فلقي بها جمعا عظيما من قريش، فلم يكن بينهم
قتال إلا أن سعد بن أبي وقاص قد رمى يومئذ بسهم، فكان أول سهم رمي به في سبيل الله في الاسلام.
ثم انصرف القوم عن القوم، وللمسلمين حامية.
وفر من المشركين إلى المسلمين المقداد بن عمرو البهراني حليف بني زهرة، وعتبة بن غزوان بن جابر المازني حليف بني نوفل بن عبد مناف، وكانا مسلمين ولكنهما خرجا ليتوصلا بالكفار قال ابن إسحاق: وكان على المشركين يومئذ عكرمة بن أبي جهل.
وروى ابن هشام عن أبي عمرو بن العلاء (5) عن أبي عمرو المدني أنه قال: كان عليهم مكرز بن حفص.
قلت: وقد تقدم عن حكاية الواقدي قولان، أحدهما أنه مكرز، والثاني أنه أبو سفيان صخر بن حرب وأنه رجح أنه أبو سفيان فالله أعلم.
ثم ذكر ابن إسحاق القصيدة المنسوبة إلى أبي [ بكر ] الصديق في هذه السرية التي أولها: أمن طيف سلمى بالبطاح الدمائث * أرقت وأمر في العشيرة حادث
__________
(1) ودان: بفتح الواو: قرية جامعة من أمهات القرى من عمل الفرع، وقيل: واد على الطريق يقطعه المصعدون من حجاج المدينة.
وتبعد عن الابواء ستة أميال هي بحذائها: قاله الطبري.
(2) الابواء: قرية من عمل الفرع بينها وبين الجحفة من جهة المدينة ثلاثة وعشرون ميلا.
(3) في مغازي الواقدي: وادعهم على ألا يكثروا عليه، ولا يعينوا عليه أحدا، ثم كتب بينهم وبينه كتابا.
أنظر في غزوة الابواء ابن هشام ج 2 وابن سعد ج 2 والواقدي ج 1 والطبري ج 2 والدرر لابن عبد البر 96 وسبل الهدى ج 4 ودلائل البيهقي ج 3.
(4) سقط من الاصل، عنوان استدركناه من كتب السير والمغازي.
لمزيد من التوضيح والتبويب.
(5) في سيرة ابن هشام: قال ابن هشام: حدثني ابن أبي عمرو بن العلاء.
ترى من لؤي فرقة لا يصدها * عن الكفر تذكير ولا بعث باعث رسول أتاهم صادق فتكذبوا * عليه وقالوا لست فينا بماكث إذا ما دعوناهم إلى الحق أدبروا * وهروا هرير المحجرات اللواهث (1)
القصيدة إلى آخرها، وذكر جواب عبد الله بن الزبعري في مناقضتها التي أولها: أمن رسم دار أقفرت بالعثاعث * بكيت بعين دمعها غير لابث (2) ومن عجيب الايام - والدهر كله * له عجب - من سابقات وحادث لجيش أتانا ذي عرام يقوده * عبيدة يدعى في الهياج ابن حارث لنترك أصناما بمكة عكفا * مواريث موروث كريم لوارث وذكر تمام القصيدة وما منعنا من إيرادها بتمامها إلا أن الامام عبد الملك بن هشام (رح) وكان إماما في اللغة ذكر أن أكثر أهل العلم بالشعر ينكر هاتين القصيدتين (3).
قال ابن إسحاق وقال سعد بن أبي وقاص في رميته تلك فيما يذكرون: ألا هل أتى رسول الله أني * حميت صحابتي بصدور نبلي أذود بها أوائلهم ذيادا * بكل حزونة وبكل سهل فما يعتد رام في عدو * بسهم يا رسول الله قبلي وذلك أن دينك دين صدق * وذو حق أتيت به وفضل (4) ينجى المؤمنون به ويخزى * به الكفار عند مقام مهل فمهلا قد غويت فلا تعبني * غوي الحي ويحك يا ابن جهل (5) قال ابن هشام: وأكثر أهل العلم بالشعر ينكرها لسعد.
قال ابن إسحاق: فكانت راية عبيدة - فيما بلغنا - أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاسلام لاحد من المسلمين.
وقد خالفه الزهري وموسى بن عقبة والواقدي فذهبوا إلى أن بعث حمزة قبل بعث عبيدة بن الحارث والله أعلم وسيأتي في حديث سعد بن أبي وقاص أن أول امراء السرايا عبد الله بن جحش الاسدي.
__________
(1) هروا: وثبوا كما تثب الكلاب: المحجرات وفي ابن هشام: المجحرات: وهي الكلاب التي أجحرت أي ألجئت إلى مواضعها.
(2) العثاعث: واحدها عثعث وهي أكداس الرمل التي لا تنبت شيئا.
(3) يرجح قول ابن هشام في نفيه القصيدة ونسبتها إلى أبي بكر، ما روى عروة عن عائشة ابنة أبي بكر أنها قالت:
كذب من أخبركم أن أبا بكر قال بيت شعر في الاسلام.
(4) في ابن هشام: وعدل مكان وفضل.
(5) المراد عكرمة بن أبي جهل، وكان كما في رواية على القوم سيدهم وأميرهم.
قال ابن إسحاق: وبعض العلماء يزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه حين أقبل من غزوة الابواء قبل أن يصل إلى المدينة وهكذا حكى موسى بن عقبة عن الزهري.
فصل [ في سرية حمزة بن عبد المطلب ] (1) قال ابن إسحاق: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقامه ذلك حمزة بن عبد المطلب بن هاشم إلى سيف البحر من ناحية العيص في ثلاثين راكبا من المهاجرين ليس فيهم من الانصار (2) أحد فلقي أبا جهل بن هشام بذلك الساحل في ثلاثمائة راكب من أهل مكة فحجز بينهم مجدي بن عمرو الجهني وكان موادعا للفريقين جميعا، فانصرف بعض القوم عن بعض ولم يكن بينهم قتال.
قال ابن إسحاق: وبعض الناس يقول كانت راية حمزة أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم لاحد من المسلمين، وذلك أن بعثه وبعث عبيدة كانا معا فشبه ذلك على الناس.
قلت: وقد حكى موسى بن عقبة عن الزهري أن بعث حمزة قبل عبيدة بن الحارث، ونص على أن بعث حمزة كان قبل غزوة الابواء.
فلما قفل عليه السلام من الابواء بعث عبيدة بن الحارث في ستين من المهاجرين، وذكر نحو ما تقدم.
وقد تقدم عن الواقدي أنه قال: كانت سرية حمزة في رمضان من السنة الاولى، وبعدها سرية عبيدة في شوال منها والله أعلم.
وقد أورد ابن إسحاق عن حمزة رضي الله عنه شعرا يدل على أن رايته أول راية عقدت في الاسلام، لكن قال ابن إسحاق: فان كان حمزة قال ذلك فهو كما قال، لم يكن يقول إلا حقا، والله أعلم أي ذلك كان.
فأما ما سمعنا من أهل العلم عندنا فعبيدة أول.
والقصيدة هي قوله: ألا يا لقومي للتحلم والجهل * وللنقض من رأي الرجال وللعقل
وللرا كبينا بالمظالم لم نطأ * لهم حرمات من سوام ولا أهل كأنا بتلناهم ولا بتل (3) عندنا * لهم غير أمر بالعفاف وبالعدل
__________
(1) زيادة استدر كناها من كتب المغازي لما يقتضيه حسن التبويب.
(2) قال الواقدي: بعثه في ثلاثين راكبا شطرين: خمسة عشر من المهاجرين وخمسة عشر من الانصار وسمى من المهاجرين تسعة وذكر من الانصار: أبي بن كعب، وعمارة بن حزم، وعبادة بن الصامت، وعبيد بن أوس، وأوس بن خولي، وأبو دجانة، والمنذر بن عمرو، ورافع بن مالك، وعبد الله بن عمرو بن حرام وقطبة بن عامر بن حديدة.
وما ذكره الواقدي بعيد، لان المجمع عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبعث أحدا من الانصار حتى غزا بهم بدرا، قال الواقدي في آخر حديثه: وهو المثبت عندنا.
(3) البتل: القطع، وفي ابن هشام: تبلناهم ولا تبل: التبل: العداوة، وتبلناهم: عاديناهم وتروى: نبلناهم =
وأمر باسلام فلا يقبلونه * وينزل منهم مثل منزلة الهزل فما برحوا حتى انتدبت لغارة * لهم حيث حلوا أبتغي راحة الفضل بأمر رسول الله أول خافق * عليه لواء لم يكن لاح من قبل لواء لديه النصر من ذي كرامة * إله عزيز فعله أفضل الفعل عشية ساروا حاشدين وكلنا * مراجله من غيظ أصحابه تغلي فلما تراءينا أناخوا فعقلوا * مطايا وعقلنا مدى غرض النبل وقلنا لهم حبل الاله نصيرنا * وما لكم إلا الضلالة من حبل فثار أبو جهل هنالك باغيا * فخاب ورد الله كيد أبي جهل وما نحن إلا في ثلاثين راكبا * وهم مائتمان بعد واحدة فضل فيال لؤي لا تطيعوا غواتكم * وفيئوا إلى الاسلام والمنهج السهل فإني أخاف أن يصب عليكم * عذاب فتدعوا بالندامة والثكل
قال فأجابه أبو جهل بن هشام لعنه الله فقال: عجبت لاسباب الحفيظة والجهل * وللشاغبين بالخلاف وبالبطل وللتاركين ما وجدنا جدودنا * عليه ذوي الاحساب والسؤدد الجزل ثم ذكر تمامها.
قال ابن هشام وأكثر أهل العلم بالشعر ينكر هاتين القصيدتين لحمزة رضي الله عنه ولابي جهل لعنه الله.
غزوة بواط (1) من ناحية رضوى قال ابن إسحاق: ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الاول - يعني من السنة الثانية - يريد قريشا.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة السائب بن عثمان بن مظعون.
وقال الواقدي: استخلف عليها سعد بن معاذ.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مائتي راكب، وكان لواؤه مع سعد بن أبي وقاص وكان مقصده أن يعترض لعير قريش وكان فيه أمية بن خلف ومائة رجل وألفان وخمسمائة بعير.
قال ابن إسحاق: حتى بلغ بواط من ناحية رضوى، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدا فلبث
__________
= ولا نبل: بالنون، يعني نرميهم بالنبل.
(1) بواط: جبال من جبال جهينة، بقرب ينبع بينها وبين المدينة نحو أربعة برد، وهي قريب من ذي خشب مما يلي طريق الشام.
قال السهيلي: بواط: جبلان فرغان لاصل واحد، أحدهما جلسى والآخر غورى.
بها بقية شهر ربيع الآخر وبعض جمادى [ الاولى ].
غزوة العشيرة (1) قال ابن هشام: واستعمل على المدينة أبا سلمة بن عبد الاسد.
قال الواقدي: وكان لواؤه مع حمزة بن عبد المطلب.
قال وخرج عليه السلام يتعرض لعيرات قريش ذاهبة إلى الشام.
قال ابن إسحاق: فسلك على نقب بني دينار، ثم على فيفاء الخيار، فنزل تحت شجرة ببطحاء ابن أزهر يقال لها: ذات الساق فصلى عندها فثم مسجده، فصنع له عندها طعام فأكل
منه وأكل الناس معه، فرسوم أثافي البرمة معلوم هناك، واستسقى له من ماء يقال له المشيرب ثم ارتحل فترك الخلائق (2) بيسار وسلك شعبة عبد الله، ثم صب للشاد (3) حتى هبط ملل (4)، فنزل بمجتمعه ومجتمع الضبوعة ثم سلك فرش ملل حتى لقي الطريق بصخيرات اليمام،، ثم اعتدل به الطريق حتى نزل العشيرة من بطن ينبع فأقام بها جمادى الاولى وليال من جمادى الآخرة ووادع فيها بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدا.
وقد قال البخاري (5): حدثنا عبد الله [ بن محمد ] ثنا وهب ثنا شعبة عن أبي إسحاق.
قال: كنت إلى جنب زيد بن أرقم فقيل له كم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة ؟ قال: تسع عشرة.
قلت كم غزوت أنت معه ؟ قال سبع عشرة غزوة، قلت فأيهن كان أول ؟ قال العشير - أو العسير - فذكرت لقتادة فقال: العشير.
وهذا الحديث ظاهر في أن أول الغزوات العشيرة، ويقال بالسين وبهما مع حذف التاء، وبهما مع المد اللهم إلا أن يكون المراد غزاة شهدها مع النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن أرقم العشيرة وحينئذ لا ينفي أن يكون قبلها غيرها لم يشهدها زيد بن أرقم وبهذا يحصل الجمع بين ما ذكره محمد بن إسحاق وبين هذا الحديث والله أعلم.
قال محمد بن إسحاق: ويومئذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي ما قال.
فحدثني يزيد بن محمد بن خثيم (6) عن محمد بن كعب القرظي، حدثني أبو يزيد محمد بن خثيم عن عمار بن ياسر.
قال: كنت أنا وعلي بن أبي طالب رفيقين في غزوة العشيرة من بطن ينبع، فلما نزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام
__________
(1) العشيرة: من ناحية ينبع بين مكة والمدينة.
(2) الخلائق: البئر التي لا ماء فيها.
وقال السهيلي: بالحاء المهملة: آبار معلومة.
وقال ياقوت: وكان لعبد الله بن أحمد بن جحش أرض يقال لها الخلائق بنواحي المدينة.
(3) في ابن هشام: لليسار.
(4) في ابن هشام: يليل، وهي قرية قرب وادي الصفراء من أعمال المدينة، وفيه عين كبيرة تسمى البحيرة.
(5) كتاب المغازي - باب غزوة العشيرة ح 1 ص 5 / 176.
(6) في ابن هشام: ابن خيثم.
في الموضعين.
بها شهرا فصالح بها بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة فوادعهم، فقال لي علي بن أبي طالب: هل لك يا أبا اليقظان أن نأتي هؤلاء النفر - من بني مدلج يعملون في عين لهم - ننظر كيف يعملون ؟ فأتيناهم فنظرنا إليهم ساعة فغشينا النوم فعمدنا إلى صور من النخل في دقعاء (1) من الارض فنمنا فيه.
فوالله ما أهبنا إلا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يحركنا بقدمه فجلسنا وقد تتربنا من تلك الدقعاء فيومئذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: " يا أبا تراب " لما عليه من التراب، فأخبرناه بما كان من أمرنا فقال: " ألا أخبركم بأشقى الناس رجلين ؟ " قلنا بلى يا رسول الله فقال: " أحيمر (2) ثمود الذي عقر الناقة والذي يضربك يا علي على هذه - ووضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على رأسه - حتى تبل منها هذه - ووضع يده على لحيته - " وهذا حديث غريب من هذا الوجه له شاهد من وجه آخر في تسمية علي أبا تراب كما في صحيح البخاري: أن عليا خرج مغاضبا فاطمة، فجاء المسجد فنام فيه فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها عنه فقالت خرج مغاضبا فجاء إلى المسجد فأيقظه وجعل يمسح التراب عنه ويقول: " قم أبا تراب قم أبا تراب " (3).
غزوة بدر - الاولى (4) قال ابن إسحاق: ثم لم يقم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة حين رجع من العشيرة إلا ليال قلائل لا تبلغ العشرة، حتى أغار كرز بن جابر الفهري على سرح المدينة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه حتى بلغ واديا يقال له سفوان من ناحية بدر، وهي غزوة بدر الاولى، وفاته كرز فلم يدركه.
وقال الواقدي: وكان لؤلؤه مع علي بن أبي طالب.
قال ابن هشام والواقدي: وكان قد استخلف على المدينة زيد بن حارثة.
قال ابن إسحاق: فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام جمادى ورجبا وشعبان وقد كان بعث بين يدي ذلك سعدا في ثمانية رهط من المهاجرين، فخرج حتى بلغ الخرار من أرض الحجاز.
قال ابن هشام: ذكر بعض أهل العلم أن بعث سعد هذا كان بعد حمزة ثم رجع ولم يلق كيدا.
هكذا ذكره (1) دقعاء: التراب اللين.
(2) أحيمر ثمود: هو الذي عقر ناقة صالح واسمه قدار بن سالف وقد تقدم.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه: في كتاب الصلاة باب نوم الرجال في المسجد عن سهل بن سعد.
وأخرجه أيضا في كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم باب مناقب علي - عن سهل بن سعد.
وأخرجه في كتاب الادب باب التكني بأبي تراب.
(4) قال الواقدي: غزوة بدر الاولى وقعت قبل غزوة العشيرة، وكانت في ربيع الاول على رأس ثلاثة عشر شهرا، وأما غزوة العشيرة فكانت في جمادى الآخرة على رأس ستة عشر شهرا.
(أنظر مغازي الواقدي 1 / 12 - ابن سعد 2 / 9 - الطبري 2 / 291).
ابن إسحاق مختصرا وقد تقدم ذكر الواقدي لهذه البعوث الثلاثة، أعني بعث حمزة في رمضان، وبعث عبيدة في شوال، وبعث سعد في ذي القعدة كلها في السنة الاولى.
وقد قال الامام أحمد: حدثني عبد المتعال بن عبد الوهاب، حدثني يحيى بن سعيد.
وقال عبد الله بن الامام أحمد: وحدثني سعيد بن يحيى بن سعيد الاموي حدثنا أبي، ثنا المجالد، عن زياد بن علاقة عن سعد بن أبي وقاص.
قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جاءته جهينة فقالوا إنك قد نزلت بين أظهرنا فأوثق حتى نأتيك وقومنا، فأوثق لهم فأسلموا قال فبعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجب ولا نكون مائة وأمرنا أن نغير على حي من بني كنانة إلى جنب جهينة فأغرنا عليهم وكانوا كثيرا فلجأنا إلى جهينة فمنعونا وقالوا لم تقاتلون في الشهر الحرام ؟ فقال بعضنا لبعض ما ترون ؟ فقال بعضنا نأتي نبي الله فنخبره، وقال قوم لا بل نقيم ههنا، وقلت أنا في أناس معي لا بل نأتي عير قريش فنقتطعها.
وكان الفئ إذ ذاك من أخذ شيئا فهو له، فانطلقنا إلى العير وانطلق أصحابنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه الخبر فقام غضبان محمر الوجه.
فقال: " أذهبتم من عندي جميعا ورجعتم متفرقين إنما أهلك من كان قبلكم الفرقة، لابعثن عليكم رجلا ليس بخيركم أصبركم على الجوع والعطش " فبعث علينا عبد الله بن جحش الاسدي فكان أول أمير في الاسلام.
وقد رواه البيهقي في الدلائل من حديث يحيى بن أبي زائدة عن مجالد به نحوه وزاد بعد قولهم
لاصحابه: لم تقاتلون في الشهر الحرام فقالوا نقاتل في الشهر الحرام من أخرجنا من البلد الحرام ثم رواه من حديث أبي أسامة عن مجالد عن زياد بن علاقة عن قطبة بن مالك عن سعد بن أبي وقاص فذكر نحوه.
فأدخل بين سعد وزياد قطبة بن مالك وهذا أنسب والله أعلم (1).
وهذا الحديث يقتضي أن أول السرايا عبد الله بن جحش الاسدي وهو خلاف ما ذكره ابن إسحاق أن أول الرايات عقدت لعبيدة بن الحارث بن المطلب، وللواقدي حديث زعم أن أول الرايات عقدت لحمزة بن عبد المطلب والله أعلم.
باب سرية عبد الله بن جحش التي كان سببها لغزوة بدر العظمى (2) وذلك يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شئ قدير.
قال ابن إسحاق: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش بن رئاب (3) الاسدي في
__________
(1) دلائل البيهقي ج 3 / 14 - 15.
(2) كذا العبارة في الاصل، ولعل الصواب: التي كانت سببا لغزوة بدر العظمى.
(3) عبد الله بن جحش بن رئاب بن يعمر الاسدي، أحد السابقين، هاجر إلى الحبشة وإلى المدينة، آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين عاصم بن ثابت شهد بدرا وكان أحد أعظم أبطال غزوة أحد واستشهد فيها، قتله أبو الحكم الاخنس بن شريق وقد مثل به، دفن هو وحمزة في قبر واحد، وهو ابن أميمة بنت عبد المطلب، كان له يوم قتل نيف وأربعون سنة.
رجب مقفله من بدر الاولى وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين ليس فيهم من الانصار أحد، وهم أبو حذيفة بن عتبة، وعكاشة بن محصن بن حرثان حليف بني أسد بن خزيمة، وعتبة بن غزوان حليف بني نوفل، وسعد بن أبي وقاص الزهري، وعامر بن ربيعة الوائلي حليف بني عدي، وواقد بن عبد الله بن عبد مناف بن عرين بن ثعلبة بن يربوع التميمي حليف بني عدي أيضا، وخالد بن البكير أحد بني سعد بن ليث حليف بني عدي أيضا، وسهل بن بيضاء الفهري (1) فهؤلاء سبعة ثامنهم أميرهم عبد الله بن جحش رضي الله عنه.
وقال يونس عن ابن
إسحاق: كانوا ثمانية وأميرهم التاسع فالله أعلم.
قال ابن إسحاق: وكتب له كتابا وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه، فيمضي لما أمره به، ولا يستكره من أصحابه أحدا.
فلما سار بهم يومين فتح الكتاب فإذا فيه: إذا نظرت في كتابي فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف، فترصد بها قريشا وتعلم لنا من أخبارهم، فلما نظر في الكتاب قال: سمعا وطاعة وأخبر أصحابه بما في الكتاب.
وقال: قد نهاني أن أستكره أحدا منكم فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع فأما أنا فماض لامر رسول الله صلى الله عليه وسلم فمضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف منهم أحد.
وسلك على الحجاز حتى إذا كان بمعدن، فوق الفرع يقال له بحران، أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرا لهما كانا يعتقبانه فتخلفا في طلبه ومضى عبد الله بن جحش وبقية أصحابه حتى نزل نخلة، فمرت عير لقريش فيها عمرو بن الحضرمي، قال ابن هشام: واسم الحضرمي عبد الله بن عباد [ أحد ] (2) الصدف (3) وعثمان بن عبد الله بن المغيرة المخزومي وأخوه نوفل والحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة، فلما رآهم القوم هابوهم وقد نزلوا قريبا منهم فأشرف لهم عكاشة بن محصن وكان قد حلق رأسه.
فلما رأوه أمنوا، وقال عمار: لا بأس عليكم منهم، وتشاور الصحابة فيهم وذلك في آخر يوم من رجب، فقالوا: والله لئن تركتموهم هذه الليلة ليدخلن الحرم فليمتنعن به منكم، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام فتردد القوم، وهابوا الاقدام عليهم، ثم شجعوا أنفسهم عليهم، وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم، وأخذ ما معهم، فرمى واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، واستأسر عثمان بن عبد الله، والحكم بن كيسان وأفلت القوم نوفل بن عبد الله فأعجزهم، وقابل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والاسيرين حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكر بعض آل عبد الله بن جحش
__________
(1) لم يأت الواقدي على ذكره، وفي رواية للطبري عن السدي ذكر عمار بن ياسر وعامر بن فهيرة، وقال كانوا سبعة نفر عليهم ابن جحش.
وقال الواقدي: سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان لم يشهدا الواقعة.
وقال ابن سعد: بعثه في اثني عشر رجلا من المهاجرين.
(2) من ابن هشام.
(3) قال ابن هشام: واسم الصدف: عمرو بن مالك.
أن عبد الله قال لاصحابه: إن لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما غنمنا الخمس فعزله، وقسم الباقي بين أصحابه وذلك قبل أن ينزل الخمس.
قال لما نزل الخمس نزل كما قسمه عبد الله بن جحش كما قاله ابن إسحاق، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام " فوقف العير والاسيرين وأبى أن يأخذ من ذلك شيئا (1) فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أسقط في أيدي القوم، وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنفهم أخوانهم من المسلمين فيما صنعوا، وقالت قريش: قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدم، وأخذوا فيه الاموال، وأسروا فيه الرجال، فقال من يرد عليهم من المسلمين ممن كان بمكة: إنما أصابوا ما أصابوا في شعبان، وقالت يهود: تفائل بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله، عمرو عمرت الحرب، والحضرمي حضرت الحرب وواقد بن عبد الله وقدت الحرب فجعل الله ذلك عليهم لا لهم، فلما أكثر الناس في ذلك أنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم: (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا) [ البقرة: 217 ] أي إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام فقد صدوكم عن سبيل الله مع الكفر به، وعن المسجد الحرام، وإخراجكم منه وأنتم أهله أكبر عند الله من قتل من قتلتم منهم والفتنة أكبر من القتل أي قد كانوا يفتنون المسلم عن دينه، حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه، فذلك أكبر عند الله من القتل، ثم هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه، غير تائبين ولا نازعين، ولهذا قال الله تعالى: (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا) الآية.
قال ابن إسحاق: فلما نزل القرآن بهذا الامر، وفرج الله عن المسلمين ما كانوا فيه من الشفق، قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم العير والاسيرين، وبعثت قريش في فداء عثمان والحكم بن كيسان
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا نفد يكموهما حتى يقدم صاحبانا " يعني سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان - فإنا نخشاكم عليهما.
فإن تقتلوهما نقتل صاحبيكم.
فقدم سعد وعتبة فافداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأما الحكم بن كيسان فأسلم فحسن إسلامه وأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل يوم بئر معونة شهيدا، وأما عثمان بن عبد الله فلحق بمكة فمات بها كافرا.
قال ابن إسحاق: فلما تجلى عن عبد الله بن جحش وأصحابه ما كانوا فيه حين نزل القرآن، طمعوا في الاجر، فقالوا يا رسول الله أنطمع أن تكون لنا غزاة نعطى فيها أجر المجاهدين ؟ فأنزل الله فيهم: (إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم) [ البقرة: 218 ] فوصفهم (2) الله من ذلك على أعظم الرجاء.
قال ابن إسحاق: والحديث في ذلك
__________
(1) قال الواقدي عن أبي بردة بن نيار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف غنائم أهل نخلة، ومضى إلى بدر، حتى رجع من بدر فقسمها مع غنائم أهل بدر، وأعطى كل قوم حقهم.
(2) في ابن هشام: فوضعهم.
عن الزهري ويزيد بن رومان عن عروة بن الزبير.
وهكذا ذكر موسى بن عقبة في مغازيه عن الزهري وكذا روى شعيب عن الزهري عن عروة نحوا من هذا وفيه، وكان ابن الحضرمي أول قتيل قتل بين المسلمين والمشركين.
وقال عبد الملك بن هشام: هو أول قتيل قتله المسلمون، وهذه أول غنيمة غنمها المسلمون، وعثمان والحكم بن كيسان أول من أسره المسلمون (1).
قلت: وقد تقدم فيما رواه الامام أحمد: عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: فكان عبد الله بن جحش أول أمير في الاسلام.
وقد ذكرنا في التفسير لما أورده ابن إسحاق شواهد مسندة فمن ذلك ما رواه الحافظ أبو محمد بن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي، حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه حدثني الحضرمي عن أبي السوار عن جندب بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رهطا وبعث عليهم أبا عبيدة بن الجراح.
أو عبيدة بن الحارث، فلما ذهب بكى صبابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس، فبعث عليهم مكانه عبد الله بن جحش وكتب له كتابا
وأمره أن [ لا يقرأه حتى يبلغ مكان كذا وكذا.
وقال " لا تكرهن أحدا على المسير معك من أصحابك " فلما قرأ الكتاب استرجع وقال سمعا وطاعة لله ولرسوله، فخبرهم الخبر وقرأ عليهم الكتاب فرجع منهم رجلان (2) وبقي بقيتهم فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب أو من جمادى، فقال المشركون للمسلمين: قتلتم في الشهر الحرام، فأنزل الله: (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير) الآية.
وقال إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير في تفسيره: عن أبي مالك، عن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود عن جماعة من الصحابة (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير) وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية وكانوا سبعة نفر عليهم عبد الله بن جحش وفيهم عمار بن ياسر وأبو حذيفة بن عتبة وسعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان وسهل بن بيضاء وعامر بن فهيرة وواقد بن عبد الله اليربوعي حليف لعمر بن الخطاب، وكتب لابن جحش كتابا وأمره أن لا يقرأه حتى ينزل بطن ملل فلما نزل بطن ملل فتح الكتاب فإذا فيه: أن سر حتى تنزل بطن نخلة فقال لاصحابه: من كان يريد الموت فليمض وليوص فإنني موص وماض لامر رسول الله صلى الله عليه وسلم فسار وتخلف عنه سعد وعتبة أضلا راحلة لهما فأقاما (3) يطلبانها، وسار هو وأصحابه حتى نزل بطن نخلة فإذا هو بالحكم بن كيسان والمغيرة بن عثمان وعبد الله بن المغيرة.
فذكر قتل واقد لعمرو بن الحضرمي ورجعوا بالغنيمة والاسيرين فكانت أول غنيمة غنمها المسلمون.
وقال المشركون إن محمدا يزعم أنه يتبع طاعة الله وهو أول من استحل الشهر الحرام وقتل صاحبنا في رجب.
وقال المسلمون إنما
__________
(1) مغازي الواقدي 1 / 13 النويري 17 / 6 ابن هشام 2 / 257 الدرر ص 99.
دلائل النبوة للبيهقي 3 / 17.
(2) في الطبري: رجلا.
وفي البيهقي عن الزهري: تخلف رجلان.
(3) في الطبري: فأتيا بحران يطلبانها.
قتلناه في جمادي.
قال السدي (1): وكان قتلهم له في أول ليلة من رجب وآخر ليلة من جمادى الآخرة.
قلت: لعل جمادى كان ناقصا فاعتقدوا بقاء الشهر ليلة الثلاثين، وقد كان الهلال رؤى تلك الليلة فالله أعلم.
وهكذا روى العوفي عن ابن عباس أن ذلك كان في آخر ليلة من جمادى، وكانت أول ليلة من رجب ولم يشعروا وكذا تقدم في حديث جندب الذي رواه ابن أبي حاتم.
وقد تقدم في سياق ابن إسحاق أن ذلك كان في آخر ليلة من رجب وخافوا إن لم يتداركوا هذه الغنيمة وينتهزوا هذه الفرصة دخل أولئك في الحرم فيتعذر عليهم ذلك فأقدموا عليهم عالمين بذلك وكذا قال الزهري عن عروة رواه البيهقي فالله أعلم أي ذلك كان: قال الزهري عن عروة فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عقل ابن الحضرمي وحرم الشهر الحرام كما كان يحرمه حتى أنزل الله براءة رواه البيهقي (2).
قال ابن إسحاق: فقال أبو بكر الصديق في غزوة عبد الله بن جحش جوابا للمشركين فيما قالوا من إحلال الشهر الحرام.
قال ابن هشام هي لعبدالله بن جحش: تعدون قتلا في الحرام عظيمة * وأعظم منه لو يرى الرشد راشد صدودكم عما يقول محمد * وكفر به والله راء وشاهد وإخراجكم من مسجد الله أهله * لئلا يرى لله في البيت ساجد فانا وإن عيرتمونا بقتله * وأرجف بالاسلام باغ وحاسد سقينا من ابن الحضرمي رماحنا * بنخلة لما أوقد الحرب واقد دما وابن عبد الله عثمان بيننا * ينازعه غل من القيد عاند فصل في تحويل القبلة في سنة ثنتين من الهجرة قبل وقعة بدر وقال بعضهم: كان ذلك في رجب من سنة ثنتين وبه قال قتادة وزيد بن أسلم وهو رواية عن محمد بن إسحاق.
وقد روى أحمد عن ابن عباس ما يدل على ذلك وهو ظاهر حديث البراء بن عازب كما سيأتي والله أعلم.
وقيل في شعبان منها.
قال ابن إسحاق بعد غزوة عبد الله بن جحش: ويقال صرفت القبلة (3) في شعبان على رأس ثمانية عشر شهرا من مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) في الطبري: وقيل، متابعا السدي كلامه.
(2) دلائل النبوة 3 / 17.
(3) كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إلى صخرة بيت المقدس، وكان أول ما فرضت القبلة إليها والنبي صلى الله عليه وسلم بمكة، وكان يحب =
المدينة.
وحكى هذا القول ابن جرير من طريق السدي فسنده عن ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة.
قال الجمهور الاعظم: إنما صرفت في النصف من شعبان على رأس ثمانية عشر شهرا من الهجرة.
ثم حكى عن محمد بن سعد عن الواقدي أنها حولت يوم الثلاثاء النصف من شعبان، وفي هذا التحديد نظر والله أعلم.
وقد تكلمنا على ذلك مستقصى في التفسير عند قوله تعالى: (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وأن الذين أورثوا الكتاب يعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما تعملون) [ البقرة: 144 ].
وما قبلها وما بعدها من اعتراض سفهاء اليهود والمنافقين والجهلة الطغام على ذلك لانه أول نسخ وقع في الاسلام هذا وقد أحال الله قبل ذلك في سياق القرآن تقرير جواز النسخ عند قوله: (ما ننسخ من آية، أو ننسأها (1) نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير) وقد قال البخاري: حدثنا أبو نعيم سمع زهيرا عن أبي إسحاق عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا - أو سبعة عشر شهرا - وكان يعجبه أن تكون قبلته إلى البيت، وأنه صلى أول صلاة صلاها إلى الكعبة العصر وصلى معه قوم فخرج رجل ممن كان معه فمر على أهل مسجد وهم راكعون فقال: أشهد بالله لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل مكة فداروا كما هم قبل البيت، وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحول رجال قتلوا لم ندر ما نقول فيهم فأنزل الله: (وما كان ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤف رحيم) [ البقرة: 143 ] رواه مسلم من وجه آخر (2).
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة حدثنا الحسن بن عطية حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء.
قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلى نحو بيت المقدس ستة عشر - أو سبعة عشر - شهرا، وكان يحب أن يوجه نحو الكعبة فأنزل الله:
(قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام) [ البقرة: 144 ].
قال فوجه نحو الكعبة وقال السفهاء من الناس - وهم اليهود - ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها.
فأنزل الله: (قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) وحاصل الامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي بمكة إلى بيت المقدس والكعبة بين يديه كما رواه الامام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنه، فلما هاجر إلى المدينة لم يمكنه أن يجمع بينهما فصلى إلى بيت المقدس أول مقدمه المدينة واستدبر الكعبة ستة عشر شهرا - أو سبعة شهرا - وهذا = استقبال الكعبة وكان يصلي بمكة ويجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس، فلما هاجر إلى المدينة لم يمكنه ذلك.
وكان يؤثر أن يصرف إلى الكعبة فأمره الله أن يستقبل الكعبة.
(1) ننسأها: كذا في الاصل، وهي قراءة أبي عمرو، وصورتها في القرآن الكريم: ننسها.
(2) أخرجه مسلم في (5) كتاب المساجد 2 باب ح 11 و 13 والبخاري في 8 كتاب الصلاة 31 باب التوجه نحو القبلة.
والحديث رواه الشافعي في الرسالة، وأخرجه مالك في الموطأ في 14 كتاب القبلة (4) باب ما جاء في القبلة ح 6 ص 1 / 195.
يقتضي أن يكون ذلك إلى رجب من السنة الثانية والله أعلم.
وكان عليه السلام يحب أن يصرف قبلته نحو الكعبة قبلة إبراهيم وكان يكثر الدعاء والتضرع والابتهال إلى الله عزوجل فكان مما يرفع يديه وطرفه إلى السماء سائلا ذلك فأنزل الله عزوجل: (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام) الآية.
فلما نزل الامر بتحويل القبلة خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين وأعلمهم بذلك كما رواه النسائي عن أبي سعيد بن المعلى وأن ذلك كان وقت الظهر.
وقال بعض الناس نزل تحويلها بين الصلاتين قاله مجاهد وغيره ويؤيد ذلك ما ثبت في الصحيحين عن البراء أن أول صلاة صلاها عليه السلام إلى الكعبة بالمدينة العصر والعجب أن أهل قباء لم يبلغهم خبر ذلك إلى صلاة الصبح من اليوم الثاني كما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر.
قال: بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد
أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة، فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة، وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك نحو ذلك (1).
والمقصود أنه لما نزل تحويل القبلة إلى الكعبة ونسخ به الله تعالى حكم الصلاة إلى بيت المقدس طعن طاعنون من السفهاء والجهلة والاغبياء قالوا ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها هذا والكفرة من أهل الكتاب يعلمون أن ذلك من الله لما يجدونه من صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم من أن المدينة مهاجره وأنه سيؤمر بالاستقبال إلى الكعبة كما قال: (وإن الذين أورثوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم) الآية وقد أجابهم الله تعالى مع هذا كله عن سؤالهم، ونعتهم فقال: (سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) أي هو المالك المتصرف الحاكم الذي لا معقب لحكمه الذي يفعل ما يشاء في خلقه ويحكم ما يريد في شرعه وهو الذي يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ويضل من يشاء عن الطريق القويم وله في ذلك الحكمة التي يجب لها الرضا والتسليم ثم قال تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) أي خيارا (لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) أي وكما اخترنا لكم أفضل الجهات في صلاتكم وهديناكم إلى قبلة أبيكم إبراهيم والد الانبياء بعد التي كان يصلي بها موسى فمن قبله من المرسلين كذلك جعلناكم خيار الامم وخلاصة العالم وأشرف الطوائف وأكرم التالد والطارف لتكونوا يوم القيامة شهداء على الناس لاجماعهم عليكم وإشارتهم يومئذ بالفضيلة إليكم كما ثبت في صحيح البخاري: عن أبي سعيد مرفوعا من استشهاد نوح بهذه الامة يوم القيامة وإذا استشهد بهم نوح مع تقدم زمانه فمن بعده بطريق الاولى والاحرى.
ثم قال تعالى مبينا حكمته في حلول نقمته بمن شك وارتاب بهذه الواقعة.
وحلول نعمته على من صدق وتابع هذه الكائنة.
فقال: (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول).
قال ابن عباس: إلا لنرى من يتبع
__________
(1) فتح الباري 8 كتاب الصلاة 32 باب وفي مسلم 5 كتاب المساجد 2 باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة ح 13.
الرسول ممن ينقلب على عقبيه، وإن كانت لكبيرة أي وإن كانت هذه الكائنة العظيمة الموقع كبيرة المحل شديدة الامر إلا على الذي هدى الله أي فهم مؤمنون بها مصدقون لها لا يشكون ولا يرتابون بل يرضون ويؤمنون ويعملون لانهم عبيد للحاكم العظيم القادر المقتدر الحليم الخبير اللطيف العليم وقوله: (وما كان الله ليضيع إيمانكم) أي بشرعته استقبال بيت المقدس والصلاة إليه (إن الله بالناس لرؤف رحيم) والاحاديث والآثار في هذا كثيرة جدا يطول استقصاؤها وذلك مبسوط في التفسير وسنزيد ذلك بيانا في كتابنا الاحكام الكبير.
وقد روى الامام أحمد: حدثنا علي بن عاصم، حدثنا حصين بن عبد الرحمن، عن عمرو بن قيس، عن محمد بن الاشعث، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني في أهل الكتاب -: " إنهم لم يحسدونا على شئ كما يحسدوننا على يوم الجمعة التي هدانا الله إليها وضلوا عنها، وعلى القبلة التي هدانا الله لها وضلوا، وعلى قولنا خلف الامام آمين ".
فصل في فريضة شهر رمضان سنة ثنتين قبل وقعة بدر قال ابن جرير (1): وفي هذه السنة فرض صيام شهر رمضان وقد قيل إنه فرض في شعبان (2) منها، ثم حكى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسألهم عنه فقالوا هذا يوم نجى الله فيه موسى [ وغرق فيه آل فرعون ] (3).
فقال: " نحن أحق بموسى منكم " فصامه وأمر (4) الناس بصيامه، وهذا الحديث ثابت في الصحيحين عن ابن عباس وقد قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون، شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) الآية [ البقرة: 183 - 185 ] وقد تكلمنا على ذلك في التفسير بما فيه كفاية من إيراد الاحاديث المتعلقة بذلك والآثار المروية في ذلك والاحكام
المستفادة منه ولله الحمد.
__________
(1) تاريخ الطبري ج 2 / 265.
(2) قال ابن سيد الناس: فرض صوم شهر رمضان في شعبان على رأس ثمانية عشر شهرا، وقال القرطبي: الصحيح سبعة عشر شهرا وهو قول مالك وابن المسيب وابن اسحاق وقال الواقدي: الثبت عندنا الاول.
(3) زيادة من الطبري.
(4) قال ابن الاثير: لما فرض رمضان لم يأمرهم بصوم عاشوراء ولم ينههم عنه.
وقد قال الامام أحمد: حدثنا أبو النضر، حدثنا المسعودي، حدثنا عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل.
قال: أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال، وأحيل الصيام ثلاثة أحوال فذكر أحوال الصلاة.
وقال وأما أحوال الصيام فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فجعل يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، وصام عاشوراء ثم إن الله فرض عليه الصيام وأنزل: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم) إلى قوله: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) فكان من شاء صام ومن شاء أطعم مسكينا فأجزأ ذلك عنه، ثم إن الله أنزل الآية الاخرى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) إلى قوله: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) فأثبت صيامه على المقيم الصحيح ورخص فيه للمريض والمسافر وأثبت الاطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام فهذان حولان.
قال وكانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا، فإذا ناموا امتنعوا.
ثم إن رجلا من الانصار يقال له صرمة كان يعمل صائما حتى أمسى فجاء إلى أهله فصلى العشاء ثم نام فلم يأكل ولم يشرب حتى أصبح فأصبح صائما، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جهد جهدا شديدا فقال: " مالي أراك قد جهدت جهدا شديدا " فأخبره، قال وكان عمر قد أصاب من النساء بعد ما نام فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فأنزل الله: (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم) إلى قوله: (ثم أتموا الصيام إلى الليل).
ورواه أبو داود في سننه والحاكم في مستدركه من حديث المسعودي نحوه وفي الصحيحين من حديث
الزهري عن عروة عن عائشة أنها قالت: كان عاشوراء يصام، فلما نزل رمضان كان من شاء صام ومن شاء أفطر.
وللبخاري عن ابن عمر وابن مسعود مثله.
ولتحرير هذا، موضع آخر من التفسير ومن الاحكام الكبير وبالله المستعان.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة أمر الناس بزكاة الفطر، وقد قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس قبل الفطر بيوم - أو يومين - وأمرهم بذلك، قال وفيها صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العيد وخرج بالناس إلى المصلى فكان أول صلاة عيد صلاها وخرجوا بين يديه بالحربة (1) وكان للزبير وهبها له النجاشي فكانت تحمل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاعياد.
قلت: وفي هذه السنة فيما ذكره غير واحد من المتأخرين فرضت الزكاة ذات النصب (2) كما سيأتي تفصيل ذلك كله بعد وقعة بدر إن شاء الله تعالى وبه الثقة وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
__________
(1) في الطبري وابن الاثير: العنزة وهي عصا في رأسها سنان مثل سنان الرمح.
(2) أي زكاة المال.
بسم الله الرحمن الرحيم غزوة بدر العظمى * يوم الفرقان يوم التقى الجمعان قال الله تعالى: (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون) [ آل عمران: 123 ] وقال الله تعالى: (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم يريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون) وما بعدها إلى تمام القصة من سورة الانفال وقد تكلمنا عليها هنالك وسنورد هاهنا في كل موضع ما يناسبه.
قال ابن إسحاق رحمه الله بعد ذكره سرية عبد الله بن جحش: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع
بأبي سفيان صخر بن حرب مقبلا من الشام في عير لقريش عظيمة فيها أموال وتجارة، وفيها ثلاثون رجلا - أو أربعون - منهم مخرمة بن نوفل وعمرو بن العاص.
قال موسى بن عقبة عن الزهري: كان ذلك بعد مقتل ابن الحضرمي بشهرين، قال وكان في العير ألف بعير تحمل أموال قريش بأسرها إلا حويطب بن عبد العزى فلهذا تخلف عن بدر.
قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن مسلم بن شهاب، وعاصم بن عمر بن قتادة، وعبد الله بن أبي بكر ويزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير وغيرهم من علمائنا عن ابن عباس، كل قد حدثني بعض الحديث فاجتمع حديثهم فيما سقت من حديث (1) بدر قالوا: لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان مقبلا من الشام ندب المسلمين إليهم وقال: " هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها، فانتدب الناس فخفف بعضهم وثقل بعض، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حربا، وكان أبو سفيان حين دنا من الحجاز يتجسس (2) من لقي من الركبان تخوفا على أموال (3) الناس حتى أصاب خبرا من بعض الركبان أن
__________
(1) بدر: اسم بئر حفرها رجل من غفار اسمه بدر، قيل هو بدر بن قريش بن يخلد، وبه - في قول - سميت قريش، وقيل إن بدرا: رجل كانت له بئر بدر وهي على أربع مراحل من المدينة.
قال ابن سعد: كانت بدر موسما من مواسم الجاهلية يجتمع بها العرب، وبين بدر والمدينة ثمانية برد وميلان.
(معجم البلدان - شرح المواهب - الروض الانف - طبقات ابن سعد).
(2) في ابن هشام والواقدي: يتحسس بالحاء.
قال السهيلي: التحسس أن تتسمع الاخبار بنفسك، والتجسس بالجيم هو أن تفحص عنها بغيرك.
(3) في ابن هشام: على أمر الناس.
محمدا قد استنفر أصحابه لك ولعيرك فحذر عند ذلك، فاستأجر ضمضم بن (1) عمرو الغفاري فبعثه إلى مكة، وأمره أن يأتي قريشا فيستنفرهم إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمدا قد عرض لها في أصحابه، فخرج ضمضم بن عمرو سريعا إلى مكة.
قال ابن أسحاق: فحدثني من لا أتهم عن
عكرمة، عن ابن عباس، ويزيد بن رومان عن عروة بن الزبير.
قالا: وقد رأت عاتكة بنت عبد المطلب قبل قدوم ضمضم إلى مكة بثلاث ليال رؤيا أفزعتها، فبعثت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب فقالت له يا أخي والله لقد رأيت الليلة رؤيا أفظعتني (2) وتخوفت أن يدخل على قومك منها شر ومصيبة فاكتم علي ما أحدثك، قال لها وما رأيت ؟ قالت رأيت راكبا أقبل على بعير له، حتى وقف بالابطح، ثم صرخ بأعلا صوته ألا انفروا يا آل غدر (3) لمصارعكم في ثلاث، فأرى الناس اجتمعوا إليه ثم دخل المسجد والناس يتبعونه فبينما هم حوله مثل به بعيره على ظهر الكعبة ثم صرخ بمثلها.
ألا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس فصرخ بمثلها، ثم أخذ صخرة فأرسلها فأقبلت تهوى حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضت فما بقي بيت من بيوت مكة ولا دار إلا دخلتها منها فلقة.
قال العباس: والله إن هذه لرؤيا وأنت فاكتميها لا تذكريها لاحد، ثم خرج العباس فلقي الوليد بن عتبة - وكان له صديقا - فذكرها له واستكتمه إياها فذكرها الوليد لابيه (4) عتبة ففشا الحديث حتى تحدثت به قريش [ في أنديتها ]، قال العباس: فغدوت لاطوف بالبيت وأبو جهل بن هشام في رهط (5) من قريش قعود يتحدثون برؤيا عاتكة، فلما رآني أبو جهل قال: يا أبا الفضل إذا فرغت من طوافك فاقبل إلينا، فلما فرغت أقبلت حتى جلست معهم فقال أبو جهل: يا بني عبد المطلب، متى حدثت فيكم هذه النبية ؟ قال: قلت: وما ذاك ؟ قال تلك الرؤيا التي رأت عاتكة، قال: قلت: وما رأت ؟ قال يا بني عبد المطلب أما رضيتم أن يتنأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم ! قد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال: انفروا في ثلاث، فسنتربص بكم هذه الثلاث فإن يك حقا ما تقول فسيكون، وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شئ نكتب عليكم كتابا أنكم أكذب أهل بيت في العرب، قال العباس: فوالله ما كان مني إليه كبير شئ (6) إلا أني جحدت ذلك وأنكرت أن تكون رأت شيئا، قال: ثم تفرقنا فلما
__________
(1) في ابن سعد: وكان بلغ المشركين بالشام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرصد انصرافهم فبعثوا ضمضم بن عمرو حين فصلوا من الشام إلى قريش بمكة يخبرونهم بما بلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(2) أفظعتني: اشتدت علي، وفي ابن الاثير: افزعتها.
(3) في ابن هشام: بالغدر، وتروى يا أهل غدر شرحها السهيلي: جمع غدور، وهي بضم الغين والدال، وهي تحريض لهم، أي إن تخلفتم فأنتم غدر لقومكم.
قال أبو عبيد تقول: يا غدر، أي يا غادر فإذا جمعت قلت: يا آل غدر.
(4) من ابن هشام وابن الاثير، وفي الاصل: لابنه.
(5) ذكرهم ابن عقبة في روايته: أبا جهل وعتبة وشيبة ابني ربيعة وأمية وأبي بن خلف وزمعة بن الاسود وأبا البختري في نفر من قريش.
(6) قال ابن عقبة أن العباس رد عليه قال: هل أنت منته، فإن الكذب فيك وفي أهل بيتك، فقال من حضرهما: =
أمسيت لم تبق امرأة من بني عبد المطلب إلا أتتني، فقالت: أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم، ثم قد تناول النساء وأنت تسمع، ثم لم يكن عندك غيرة لشئ مما سمعت ؟ قال: قلت: قد والله فعلت ما كان مني إليه من كبير، وايم الله لا تعرضن له، فإذا عاد لاكفيكنه، قال فغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة وأنا حديد مغضب أرى أني قد فاتني منه أمر أحب أن أدركه منه.
قال: فدخلت المسجد فرأيته، فوالله إني لامشي نحوه أتعرضه ليعود لبعض ما قال فأقع به، وكان رجلا خفيفا حديد الوجه، حديد اللسان، حديد النظر، قال: إذ خرج نحو باب المسجد يشتد، قال: قلت في نفسي: ماله لعنه الله أكل هذا فرق مني أن أشاتمه ؟ ! وإذا هو قد سمع ما لم أسمع صوت ضمضم بن عمرو الغفاري وهو يصرخ ببطن الوادي واقفا على بعيره قد جدع بعيره، وحول رحله وشق قميصه وهو يقول: يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة (1)، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث الغوث.
قال: فشغلني عنه وشغله عني ما جاء من الامر، فتجهز الناس سراعا وقالوا أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي ؟ [ كلا ] (2) والله ليعلمن غير ذلك.
وذكر موسى بن عقبة رؤيا عاتكة كنحو من سياق ابن إسحاق.
قال فلما جاء ضمضم بن عمرو على تلك الصفة خافوا من رؤيا عاتكة فخرجوا على الصعب والذلول.
قال ابن إسحاق: فكانوا بين رجلين إما خارج وإما باعث مكانه رجلا، وأوعبت قريش فلم يتخلف من أشرافها أحد إلا أن أبا لهب بن عبد المطلب بعث مكانه العاصي بن هشام بن المغيرة، استأجره بأربعة آلاف درهم كانت له عليه قد أفلس بها.
قال ابن إسحاق: وحدثني ابن أبي نجيح: أن أمية بن خلف كان قد أجمع القعود وكان شيخا جليلا جسيما ثقيلا، فأتاه عقبة بن أبي معيط (3) وهو جالس في المسجد بين ظهراني قومه بمجمرة يحملها، فيها نار ومجمر، حتى وضعها بين يديه ثم قال: يا أبا علي، استجمر فإنما أنت من النساء قال: قبحك الله وقبح ما جئت به، قال ثم تجهز وخرج مع الناس هكذا قال ابن إسحاق في هذه القصة.
وقد رواها البخاري على نحو آخر فقال: حدثني أحمد بن عثمان حدثنا شريح بن مسلمة، ثنا إبراهيم بن يوسف، عن أبيه عن أبي إسحاق، حدثني عمرو بن ميمون أنه سمع عبد الله بن مسعود حدث عن سعد بن معاذ أنه كان صديقا لامية بن خلف وكان أمية إذا مر بالمدينة نزل على سعد بن معاذ، وكان سعد إذا مر بمكة نزل على أمية، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انطلق سعد بن معاذ معتمرا فنزل على أمية
__________
= ما كنت يا أبا الفضل جهولا ولا خرقا.
(1) اللطيمة: جميع ما حملت الابل للتجارة قاله أبو الزناد، وقال غيره: اللطيمة: العطر خاصة.
(2) من ابن هشام.
(3) قال الواقدي: آتاه عقبة بن أبي معيط وأبو جهل، وعقبة معه مجمرة فيها بخور ومع أبي جهل مكحلة ومرود.
فأدخلها عقبة تحته وقال: تبخر.
فإنما أنت امرأة.
وقال أبو جهل: اكتحل، فإنما أنت امرأة.
بمكة، قال سعد لامية أنظر لي ساعة خلوة لعلي أطوف بالبيت، فخرج به قريبا من نصف النهار، فلقيهما أبو جهل، فقال يا [ أبا ] (1) صفوان من هذا معك ؟ قال هذا سعد.
قال له أبو جهل: ألا أراك تطوف بمكة آمنا وقد أو يتم الصباة وزعمتم أنكم تنصرونهم وتعينونهم أما والله لولا أنك مع أبي صفوان ما رجعت إلى أهلك سالما، فقال له سعد - ورفع صوته عليه - أما والله لئن منعتني هذا لامنعنك ما هو أشد عليك منه طريقك على المدينة.
فقال له أمية: لا ترفع صوتك يا سعد على أبي
الحكم فإنه سيد أهل الوادي، قال سعد دعنا عنك يا أمية فوالله لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنهم قاتلوك " قال بمكة ؟ قال لا أدري ؟ ففزع لذلك أمية فزعا شديدا فلما رجع إلى أهله قال يا أم صفوان ألم تري ما قال لي سعد ؟ قالت: وما قال لك ؟ قال: زعم أن محمدا أخبرهم أنهم قاتلي، فقلت له بمكة.
قال: لا أدري.
فقال أمية والله لا أخرج من مكة.
فلما كان يوم بدر.
استنفر أبو جهل الناس فقال أدركوا عيركم، فكره أمية أن يخرج فأتاه أبو جهل فقال: يا أبا صفوان إنك متى يراك الناس قد تخلفت وأنت سيد أهل الوادي تخلفوا معك، فلم يزل به أبو جهل حتى قال أما إذ عبتني (2) فوالله لاشترين (3) أجود بعير بمكة، ثم قال أمية: يا أم صفوان جهزيني فقالت له: يا أبا صفوان وقد نسيت ما قال لك أخوك اليثربي ؟ قال: لا، وما أريد أن أجوز معهم إلا قريبا، فلما خرج أمية أخذ لا ينزل منزلا إلا عقل بعيره فلم يزل كذلك حتى قتله الله ببدر.
وقد رواه البخاري في موضع آخر عن محمد بن إسحاق، عن عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق به نحوه، تفرد به البخاري.
وقد رواه الامام أحمد: عن خلف بن الوليد وعن أبي سعيد كلاهما عن إسرائيل وفي رواية إسرائيل قالت له امرأته: والله إن محمدا لا يكذب (4).
قال ابن إسحاق: ولما فرغوا من جهازهم وأجمعوا المسير، ذكروا ما كان (5) بينهم وبين بني بكر بن عبد مناة بن كنانة من الحرب.
فقالوا إنا نخشى أن يأتونا من خلفنا، وكانت الحرب التي كانت بين قريش وبين بني بكر في ابن لحفص بن الاخيف من بني عامر بن لؤي قتله رجل من بني بكر بإشارة عامر بن يزيد بن عامر بن الملوح، ثم أخذ بثأره أخوه مكرز بن حفص فقتل عامرا
__________
(1) من صحيح البخاري.
(2) في صحيح البخاري ودلائل البيهقي: إذ غلبتني.
(3) قال الواقدي: ابتاعوا له جملا بثلاثمائة درهم من نعم بني قشير، فغنمه المسلمون يوم بدر، فصار في سهم خبيب بن اساف، وفي رواية يساف.
(4) رواه البخاري في 64 كتاب المغازي 2 باب ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من يقتل ببدر ح 3950 فتح الباري 7 / 282 وفي 61
كتاب المناقب 25 باب ح 3632 فتح الباري 6 / 629 عن أحمد بن إسحاق.
ورواه البيهقي من طريقيه في دلائله 3 / 25.
(5) من ابن هشام، وفي الاصل: كانوا تحريف.
وخاص بسيفه في بطنه ثم جاء من الليل فعلقه بأستار الكعبة فخافوهم بسبب ذلك الذي وقع بينهم.
قال ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير قال: لما اجمعت قريش المسير ذكرت الذي كان بينها وبين بني بكر فكاد ذلك أن يثنيهم، فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي وكان من أشراف بني كنانة.
فقال: أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشئ تكرهونه، فخرجوا سراعا.
قلت: وهذا معنى قوله تعالى: " ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط، وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني برئ منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب) [ الانفال: 47 - 48 ] غرهم لعنه الله حتى ساروا وسار معهم منزلة منزلة ومعه جنوده وراياته كما قاله غير واحد منهم، فأسلمهم لمصارعهم.
فلما رأى الجد والملائكة تنزل للنصر وعاين جبريل نكص على عقبيه وقال إني برئ منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله.
وهذا كقوله تعالى: (كمثل الشيطان إذ قال للانسان اكفر فلما كفر قال إني برئ منك إني أخاف الله رب العالمين) [ الحشر: 16 ] وقد قال الله تعالى: (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) [ الاسراء: 81 ] فابليس لعنه الله لما عاين الملائكة يومئذ تنزل للنصر فر ذاهبا فكان أول من هزم يومئذ بعد أن كان هو المشجع لهم المجير لهم كما غرهم ووعدهم ومناهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا.
وقال يونس عن ابن إسحاق: خرجت قريش على الصعب والذلول في تسعمائة وخمسين مقاتلا معهم مائتا فرس (1) يقودونها ومعهم القيان (2) يضربن بالدفوف ويغنين بهجاء المسلمين.
وذكر المطعمين لقريش يوما يوما، وذكر الاموي أن أول من نحر لهم حين خرجوا من مكة أبو جهل نحر لهم عشرا (3)، ثم نحر لهم أمية بن خلف بعسفان تسعا، ونحر لهم سهيل بن عمرو بقديد عشرا، ومالوا من قديد إلى مياه نحو البحر فظلوا فيها وأقاموا بها يوما فنحر لهم شيبة بن ربيعة تسعا، ثم أصبحوا بالجحفة فنحر لهم يومئذ عتبة بن ربيعة عشرا، ثم أصبحوا بالابواء فنحر لهم نبيه ومنبه ابنا الحجاج عشرا، ونحر لهم العباس بن عبد المطلب عشرا، [ ونحر لهم الحارث بن عامر بن نوفل تسعا ] (4) ونحر لهم على ماء بدر أبو البختري عشرا، [ ونحر لهم مقبس الجمحي
__________
(1) في رواية الواقدي وابن الاثير: مائة فرس.
(2) ذكر الواقدي اسماءهن: سارة مولاة عمرو بن هاشم بن المطلب، وعزة مولاة الاسود بن المطلب، ومولاة أمية بن خلف.
(3) نحر لهم بمر.
(4) زيادة من رواية موسى بن عقبة، دلائل البيهقي 3 / 109.
على ماء بدر تسعا ] (1) ثم أكلوا من أزوادهم.
قال الاموي: حدثنا أبي حدثنا أبو بكر الهذلي قال: كان مع المشركين ستون فرسا وستمائة درع وكان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسان وستون درعا.
هذا ما كان من أمر هؤلاء في نفيرهم من مكة ومسيرهم إلى بدر.
وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ابن إسحاق: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليال (2) مضت من شهر رمضان في أصحابه واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة بالناس، ورد أبا لبابة من الروحاء واستعمله على المدينة، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير وكان أبيض، وبين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم رايتان سوداوان إحداهما مع علي بن أبي طالب يقال لها العقاب، والاخرى مع بعض الانصار.
قال ابن هشام كانت راية الانصار مع سعد بن معاذ وقال الاموي كانت مع الحباب بن المنذر.
قال ابن إسحاق: وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الساقة قيس بن أبي صعصعة أخا بني مازن بن النجار.
وقال الاموي: وكان معهم فرسان على إحداهما مصعب بن عمير وعلى الاخرى الزبير بن العوام (3) ومن سعد بن خيثمة ومن المقداد بن
الاسود.
وقد روى الامام أحمد من حديث أبي إسحاق: عن حارثة بن مضرب عن علي قال ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد (4).
وروى البيهقي: من طريق ابن وهب عن أبي صخر عن أبي معاوية البلخي (5) عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن عليا قال له: ما كان معنا إلا فرسان فرس للزبير وفرس للمقداد بن الاسود - يعني يوم بدر - وقال الاموي: حدثنا أبي، حدثنا اسماعيل بن أبي خالد عن التيمي قال: كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر فارسان، الزبير بن العوام على الميمنة، والمقداد بن الاسود على الميسرة (6).
قال ابن إسحاق: وكان معهم سبعون بعيرا يعتقبونها، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي ومرثد بن
__________
(1) زيادة من رواية ابن عقبة، دلائل البيهقي 3 / 110.
(2) قال ابن هشام: خرج يوم الاثنين لثمان ليال خلون من شهر رمضان.
وقال الواقدي: يوم الاحد لاثنتي عشرة خلت من رمضان، وفي ابن الاثير والطبري لثلاث ليال خلون من شهر رمضان.
وعند ابن سعد يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رمضان على رأس تسعة عشر شهرا من مهاجره.
(3) العبارة غير مستقيمة في الاصل.
ورواية البيهقي عن ابن عقبة - ولعلها أصوب - على إحداهما مصعب بن عمير وعلى الآخر سعد بن خيثمة، ومرة الزبير بن العوام، ومرة المقداد بن الاسود.
(4) وفي رواية للنسائي: على فرس أبلق، ولقد رأيتنا وما فينا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت سمرة يصلي ويبكي حتى أصبح.
رواه في الصلاة تحفة الاشراف 7 / 357 ورواه البيهقي في الدلائل ج 3 / 49.
والمقداد بن الاسود من أول من أظهر الاسلام، وكان من الفضلاء النجباء الخيار الكبار من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
(5) دلائل النبوة ج 3 / 39 وفيه: البجلي بدل البلخي.
(6) في رواية للواقدي: كان معهم فرسان: فرس للمقداد - ولا اختلاف عندنا أن المقداد له فرس - وفرس لمرثد بن أبي مرثد الغنوي وقبل للزبير (ابن الاثير) وكان اسم فرس المقداد: سبحة وفرس مرثد: السيل.
وفي رواية لقتيبة عند ابن سعد: كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أفراس وذكر الفرسان الثلاثة.
والاول أرجح
أبي مرثد يعتقبون بعيرا، وكان حمزة وزيد بن حارثة وأبو كبشة وأنسة (1) يعتقبون بعيرا.
كذا قال ابن إسحاق رحمه الله تعالى.
وقد قال الامام أحمد: حدثنا عفان، عن حماد بن سلمة حدثنا عاصم بن بهدلة عن زربن حبيش عن عبد الله بن مسعود.
قال: كنا يوم بدر كل ثلاثة على بعير، كان أبو لبابة وعلي زميلي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال فكانت عقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا نحن نمشي عنك.
فقال: " ما أنتما بأقوى مني ولا أنا بأغنى عن الاجر منكما " وقد رواه النسائي عن الفلاس عن ابن مهدي عن حماد بن سلمة به (2).
قلت: ولعل هذا كان قبل أن يرد أبا لبابة من الروحاء، ثم كان زميلاه علي ومرثد بدل أبي لبابة (3) والله أعلم.
وقال الامام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن زرارة بن أبي أوفى عن سعد بن هشام عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالاجراس أن تقطع من أعناق الابل يوم بدر، وهذا على شرط الصحيحين.
وإنما رواه النسائي عن أبي الاشعث، عن خالد بن الحارث عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة به.
قال شيخنا الحافظ المزي في الاطراف وتابعه سعيد بن بشر عن قتادة.
وقد رواه هشام عن قتادة عن زرارة عن أبي هريرة فالله أعلم.
وقال البخاري: حدثنا يحيى بن بكير، ثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن عبد الله بن كعب.
قال سمعت كعب بن مالك يقول: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها إلا في غزوة تبوك غير أني تخلفت عن غزوة بدر ولم يعاتب الله أحدا تخلف عنها، إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد تفرد به (4).
قال ابن إسحاق: فسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم طريقه من المدينة إلى مكة، على نقب المدينة، ثم على العقيق، ثم على ذي الحليفة ثم على أولات الجيش ثم مر على تربان (5) ثم على ملل ثم على غميس الحمام ثم على صخيرات اليمامة ثم على السيالة ثم على فج الروحاء ثم على شنوكة، وهي الطريق المعتدلة حتى إذا كان بعرق الظبية لقي رجلا من الاعراب، فسألوه عن الناس، فلم يجدوا عنده خبرا، فقال له الناس: سلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أوفيكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا: نعم ! فسلم عليه ثم قال: لئن كنت رسول الله فأخبرني عما في بطن ناقتي هذه، قال له سلمة بن
__________
(1) أبو كبشة وانسة موليا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(2) رواه البيهقي في الدلائل ج 3 / 39 والنسائي في السير تحفة الاشراف 7 / 26 والحاكم في المستدرك 3 / 20 وقال: صحيح على شرط الشيخين.
(3) المشهور عند أهل المغازي أن أبا لبابة رده النبي صلى الله عليه وسلم من الروحاء واستخلفه على المدينة، وعده ابن سعد من المتخلفين في المدينة ولم يذكر مسيرة إلى الروحاء، وفي ابن الاثير أن زميلي النبي صلى الله عليه وسلم علي وزيد بن حارثة.
(4) أخرجه البخاري مطولا في كتاب الاحكام باب هل للامام أن يمنع المجرمين، وأهل المعصية من الكلام معه والزيارة ونحوه ؟ وللحديث طرق أخرى ذكرها المزي في تحفة الاشراف 8 / 311 - 312.
(5) تربان: بالضم دار بين الحفير والمدينة.
سلامة بن وقش: لا تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل علي فأنا أخبرك عن ذلك، نزوت عليها، ففي بطنها منك سخلة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مه أفحشت على الرجل، ثم أعرض عن سلمة.
ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم سجسج وهي بئر الروحاء ثم ارتحل منها حتى إذا كان منها بالمنصرف (1) ترك طريق مكة بيسار، وسلك ذات اليمين على النازية يريد بدرا ؟ فسلك في ناحية منها حتى إذا جزع (2) واديا يقال له وحقان بين النازية وبين مضيق الصفراء ثم على المضيق ثم انصب منه حتى إذا كان قريبا من الصفراء بعث بسبس (3) بن عمرو الجهني، حليف بني ساعدة، وعدي بن أبي الزغباء حليف بني النجار إلى بدر يتجسسان (4) الاخبار عن أبي سفيان صخر بن حرب وعيره.
وقال موسى بن عقبة بعثهما قبل أن يخرج من المدينة فلما رجعا فأخبراه بخبر العير استنفر الناس إليها فإن كان ما ذكره موسى بن عقبة وابن إسحاق محفوظا فقد بعثهما مرتين والله أعلم.
قال ابن إسحاق رحمه الله: ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قدمهما فلما استقبل الصفراء وهي قرية بين جبلين سأل عن جبليها ما أسماؤهما (5) ؟ فقالوا: يقال لاحدهما: مسلح وللآخر: مخرئ، وسأل عن أهلهما فقيل بنو النار، وبنو حراق، بطنان من غفار، فكرههما رسول الله صلى الله عليه وسلم والمرور بينهما وتفاءل باسمائهما واسماء أهلهما فتركهما والصفراء بيسار وسلك ذات اليمين على واد،
يقال له: ذفران فجزع فيه، ثم نزل وأتاه الخبر عن قريش ومسيرهم ليمنعوا عيرهم، فاستشار الناس، وأخبرهم عن قريش فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله امض لما أراك الله، فنحن معك والله لا نقول لك كما قال بنو اسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أشيروا علي أيها الناس " وإنما يريد الانصار، وذلك أنهم كانوا عدد الناس وأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف أن لا تكون الانصار ترى عليها نصره إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى: عدو من بلادهم.
فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله ؟ قال:
__________
(1) المنصرف: موضع بين مكة وبدر وبينهما أربعة برد (معجم البلدان).
(2) جزع الوادي: قطعه عرضا، ولا يجزع الوادي إلا عرضا.
(3) في مصنف أبي داود: بسبسة: قاله السهيلي ونسبه ابن الاثير لجهينة وغيره إلى ذبيان وقال: هو بسبس بن عمرو بن ثعلبة بن خرشة بن عمرو بن سعد بن ذبيان.
(4) وفي رواية: يتحسسان تقدم شرحها.
(5) كذا في الاصل، وهو تحريف، وفي ابن هشام: ما اسماهما ؟ وهو أصح.
" أجل " قال فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، على السمع والطاعة لك، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا إنا لصبر في الحرب صدق عند اللقاء.
لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر على
بركة الله.
قال: فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ونشطه ثم قال: " سيروا وابشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم " هكذا رواه ابن إسحاق رحمه الله.
وله شواهد من وجوه كثيرة فمن ذلك ما رواه البخاري في صحيحه: حدثنا أبو نعيم حدثنا إسرائيل عن مخارق عن طارق بن شهاب قال: سمعت ابن مسعود يقول: شهدت من المقداد بن الاسود مشهدا لان أكون صاحبه [ كان ] أحب إلي مما عدل به، أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين.
فقال: لا نقول كما قال قوم موسى لموسى إذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، ولكن نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك، [ قال ] فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم أشرق وجهه [ لذلك ] وسره انفرد به البخاري دون مسلم فرواه في مواضع من صحيحه من حديث مخارق به (1) ورواه النسائي من حديثه وعنده: وجاء المقداد بن الاسود يوم بدر على فرس فذكره.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبيدة - هو ابن حميد - عن حميد الطويل عن أنس قال: استشار النبي صلى الله عليه وسلم مخرجه إلى بدر فأشار عليه أبو بكر، ثم استشارهم فأشار عليه عمر، ثم استشارهم فقال بعض الانصار: إياكم يريد رسول الله يا معشر الانصار.
فقال بعض الانصار: يا رسول الله إذا لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ولكن والذي بعثك بالحق لو ضربت أكبادها إلى برك الغماد لاتبعناك.
وهذا إسناد ثلاثي صحيح على شرط الصحيح.
وقال أحمد أيضا: حدثنا عفان ثنا حماد عن ثابت عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شاور (2) حين بلغه إقبال أبي سفيان قال: فتكلم أبو بكر فأعرض عنه، ثم تكلم عمر فأعرض عنه، فقال سعد بن عبادة، إيانا يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحار لاخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها (3) إلى برك الغماد لفعلنا، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس.
قال فانطلقوا
__________
(1) أخرجه البخاري في 64 كتاب المغازي (4) باب فتح الباري 7 / 287، وأعاده في التفسير مرتين، مرة عن أبي نعيم، ومرة عن حمدان بن عمر، تفسير سورة المائدة باب قوله: (فاذهب أنت وربك فقاتلا..) وما بين معكوفين في الحديث زيادة من الصحيح.
(2) في الحديثين مشاورة النبي للناس: قال فيها العلماء إنما قصد النبي صلى الله عليه وسلم الانصار، لانه لم يكن بايعهم على أن
يخرجوا معه للقتال وطلب العدو، وإنما بايعهم على أن يمنعوه، فلما عرض الخروج لابي سفيان - في بدر - أراد أن يعلم موقفهم من الموضوع المطروح، وهل أنهم يوافقون على ذلك أم لا ؟ فكانت إصابتهم له كاملة، واستعدادهم للقتال حسن.
(3) كتابة عن ركضها، فإن الفارس إذا أراد ركض مركوبه يحرك رجليه من جانبيه، ضاربا على موضع كبده
حتى نزلوا بدرا، ووردت عليهم روايا قريش وفيهم غلام أسود لبني الحجاج، فأخذوه وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه عن أبي سفيان وأصحابه فيقول مالي علم بأبي سفيان ولكن هذا أبو جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وأمية بن خلف فإذا قال ذلك ضربوه فإذا ضربوه.
قال: نعم ! أنا أخبركم هذا أبو سفيان فإذا تركوه فسألوه قال مالي بأبي سفيان علم ولكن هذا أبو جهل وعتبة وشيبة وأمية، فإذا قال هذا أيضا ضربوه ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي، فلما رأى ذلك انصرف فقال والذي نفسي بيده انكم لتضربونه إذا صدق وتتركونه إذا كذبكم.
قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا مصرع فلان يضع يده على الارض ههنا وههنا، فما أماط أحدهم عن موضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) ورواه مسلم عن أبي بكر عن عفان به نحوه.
وقد روى ابن أبي حاتم في تفسيره وابن مردويه - واللفظ له - من طريق عبد الله بن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن أسلم عن أبي عمران أنه سمع أبا أيوب الانصاري يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بالمدينة: " إني أخبرت عن عير أبي سفيان أنها مقبلة فهل لكم أن نخرج قبل هذه العير لعل الله يغنمناها ؟ " فقلنا نعم ! فخرج وخرجنا فلما سرنا يوما أو يومين قال لنا: " ما ترون في القوم فإنهم قد أخبروا بمخرجكم ؟ " فقلنا لا والله ما لنا طاقة بقتال القوم ولكنا أردنا العير، ثم قال: " ترون في قتال القوم ؟ " فقلنا مثل ذلك.
فقام المقداد بن عمرو [ فقال ]: إذا لا نقول لك يا رسول كما قال قوم موسى لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، قال فتمنينا معشر الانصار لو أنا قلنا مثل ما قال المقداد أحب إلينا من أن يكون لنا مال عظيم فأنزل الله عزوجل على رسوله: (كما أخرجك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون) وذكر تمام الحديث.
وروى ابن مردويه أيضا من طريق محمد بن
عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي، عن أبيه، عن جده.
قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر حتى إذا كان بالروحاء خطب الناس فقال: " كيف ترون ؟ " فقال أبو بكر يا رسول الله بلغنا أنهم بكذا وكذا، قال ثم خطب الناس فقال: " كيف ترون ؟ " فقال عمر مثل قول أبي بكر ثم خطب الناس فقال: " كيف ترون ؟ " فقال سعد بن معاذ يا رسول الله إيانا تريد ؟ فوالذي أكرمك وأنزل عليك الكتاب ما سلكتها قط ولا لي بها علم، ولئن سرت حتى تأتي برك الغماد من ذي يمن لنسيرن معك ولا نكون كالذين قالوا لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم متبعون، ولعل أن تكون خرجت لامر وأحدث الله إليك غيره فانظر الذي أحدث الله إليك فامض فصل حبال من شئت واقطع حبال من شئت وعاد من شئت وسالم من شئت وخذ من أموالنا ما شئت.
فنزل القرآن على قول سعد: " كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون) الآيات.
وذكره الاموي في مغازيه وزاد بعد قوله وخذ من أموالنا ما شئت وأعطنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت.
وما أمرت به من أمر فأمرنا تبع لامرك
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب الجهاد باب الاسير ينال منه ويضرب.
وأخرجه مسلم في 32 كتاب الجهاد 30 باب غزوة بدر ح 83 ص 3 / 1403.
فوالله لئن سرت حتى تبلغ البرك من غمدان لنسيرن معك (1).
قال ابن إسحاق: ثم ارتحل رسول الله من ذفران فسلك على ثنايا يقال لها الاصافر، ثم انحط منها إلى بلد يقال له الدية (2) وترك الحنان بيمين وهو كئيب عظيم كالجبل العظيم، ثم نزل قريبا من بدر فركب هو ورجل من أصحابه (3).
قال ابن هشام هو أبو بكر.
قال ابن إسحاق - كما حدثني محمد بن يحيى بن حبان - حتى وقف على شيخ من العرب فسأله عن قريش، وعن محمد وأصحابه، وما بلغه عنهم.
فقال الشيخ: لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أخبرتنا أخبرناك فقال أو ذاك بذاك ؟ قال: نعم ! قال الشيخ فإنه بلغني أن محمدا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا
للمكان الذي به رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغني أن قريشا خرجوا يوم كذا وكذا فإن كان الذي أخبرني صدقني فهم اليوم بمكان كذا وكذا.
للمكان الذي به قريش، فلما فرغ من خبره قال ممن أنتما ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم نحن من ماء " ثم انصرف عنه.
قال يقول الشيخ: ما من ماء أمن ماء العراق ؟ قال ابن هشام: يقال لهذا الشيخ سفيان الضمري.
قال ابن إسحاق: ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه فلما أمسى بعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام (4) وسعد بن أبي وقاص في نفر من أصحابه إلى ماء بدر يلتمسون الخبر له كما حدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير فأصابوا راوية لقريش فيها أسلم غلام بني الحجاج (5) وعريض أبو يسار غلام بني العاص بن سعيد، فأتوا بهما فسألوهما، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي فقالوا: نحن سقاة قريش بعثونا نسقيهم من الماء، فكره القوم خبرهما، ورجوا أن يكونا لابي سفيان فضربوهما، فلما أذلقوهما (6) قالا: نحن لابي سفيان فتركوهما، وركع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد سجدتيه وسلم.
وقال: " إذا صدقاكم ضربتموهما، وإذا كذباكم تركتموهما، صدقا والله إنهما لقريش، أخبراني عن قريش ؟ قالا: هم [ والله ] وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة
__________
(1) نقله البيهقي في الدلائل 3 / 107 بنحوه في باب سياق قصة بدر عن مغازي موسى بن عقبة.
(2) كذا في الاصل، وفي ابن هشام والواقدي وتاريخ الطبري ومعجم البلدان: الدبة: وهي بلد بين الاصافر وبدر.
(3) في الواقدي: معه قتادة بن النعمان، ويقال عبد الله بن كعب المازني، ويقال: معاذ بن جبل.
(4) في الواقدي: بسبس بن عمرو بدلا من الزبير بن العوام، وفي روايته أنه صلى الله عليه وسلم أنه التفى صلى الله عليه وسلم قبل ذلك ببسبس فأخبره خبر قريش.
وقد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم بعث بسبس وعدي بن أبي الزغباء يتحسسان أخبار قريش (الطبري - ابن الاثير - سيرة ابن هشام طبقات ابن سعد).
(5) في ابن الاثير: الجحجاح، وفي الواقدي ذكر ثلاثة: أسلم غلام منبه بن الحجاج، ويسار غلام عبيد بن سعيد بن العاص، وأبو رافع غلام أمية بن خلف.
(6) أذلقوهما: بالغوا في ضربهما وآذوهما.
القصوى، والكثيب العقنقل.
فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم كم القوم ؟ قالا كثير.
قال ما عدتهم، قالا: لا ندري، قال: كم ينحرون كل يوم ؟ قالا: يوما تسعا ويوما عشرا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " القوم ما بين التسعمائة إلى الالف " ثم قال لهما: فمن فيهم من أشراف قريش ؟ قالا: عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو البختري بن هشام، وحكيم بن حزام، ونوفل بن خويلد، والحارث بن عامر بن نوفل، وطعيمة بن عدي بن نوفل، والنضر بن الحارث، وزمعة بن الاسود وأبو جهل بن هشام وأمية بن خلف، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وسهيل بن عمرو، وعمرو بن عبدود.
قال: فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس فقال: " هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها ".
قال ابن إسحاق: وكان بسبس بن عمرو وعدي بن ابي الزغباء قد مضيا حتى نزلا بدرا فأناخا إلى تل قريب من الماء ثم أخذا شنا لهما يستقيان فيه.
ومجدي بن عمرو الجهني على الماء، فسمع عدي وبسبس جاريتين من جواري الحاضر وهما يتلازمان على الماء والملزومة تقول لصاحبتها: إنما تأتي العير غدا أو بعد غد فأعمل لهم، ثم أقضيك الذي الذي لك.
قال مجدي: صدقت ثم خلص بينهما.
وسمع ذلك عدي وبسبس فجلسا على بعيريهما، ثم انطلقا حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبراه بما سمعا، وأقبل أبو سفيان حتى تقدم العير حذرا حتى ورد الماء.
فقال لمجدي بن عمرو: هل أحسست أحدا ؟ قال ما رأيت أحدا أنكره، إلا أني قد رأيت راكبين قد أناخا إلى هذا التل، ثم استقيا في شن لهما، ثم انطلقا، فأتى أبو سفيان مناخهما فأخذ من أبعار بعيريهما ففته فإذا فيه النوى.
فقال: هذه والله علائف يثرب فرجع إلى أصحابه سريعا فضرب وجه عيره عن الطريق فساحل بها وترك بدرا بيسار وانطلق حتى أسرع.
وأقبلت قريش، فلما نزلوا الجحفة رأى جهيم بن الصلت بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف رؤيا.
فقال: إني رأيت فيما يرى النائم، واني لبين النائم واليقظان إذ نظرت إلى رجل قد أقبل على فرس حتى وقف، ومعه بعير له ثم قال: قتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة وأبو الحكم بن هشام وأمية بن خلف،
وفلان وفلان فعد رجالا ممن قتل يوم بدر من أشراف قريش، ثم رأيته ضرب في لبة بعيره ثم أرسله في العسكر فما بقي خباء من أخبية العسكر إلا أصابه نضح من دمه.
فبلغت أبا جهل لعنه الله فقال هذا أيضا نبي آخر من بني المطلب سيعلم غدا من المقتول إن نحن التقينا.
قال ابن إسحاق: ولما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره، أرسل إلى قريش: إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، فقد نجاها الله فارجعوا، فقال أبو جهل بن هشام: والله لا نرجع حتى نرد بدرا وكان بدر موسما من مواسم العرب يجتمع لهم به سوق كل عام فنقيم عليه ثلاثا فننحر الجزور، ونطعم الطعام، ونسقى الخمر وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا فلا يزالون يهابوننا أبدا فامضوا وقال الاخنس بن
شريق بن عمرو بن وهب الثقفي - وكان حليفا لبني زهرة - وهم بالجحفة (1): يا بني زهرة قد نجى الله لكم أموالكم، وخلص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل، وإنما نفرتم لتمنعوه وماله، فاجعلوا بي جبنها وارجعوا فإنه لا حاجة لكم بأن تخرجوا في غير ضيعة (2) لا ما يقول هذا.
قال فرجعوا فلم يشهدها زهري واحد، أطاعوه وكان فيهم مطاعا ولم يكن بقي بطن من قريش إلا وقد نفر منهم ناس إلا بني عدي لم يخرج منهم رجل واحد، فرجعت بنو زهرة مع الاخنس فلم يشهد بدرا من هاتين القبيلتين أحد (3).
قال: ومضى القوم وكان بين طالب بن أبي طالب (4) - وكان في القوم - وبين بعض قريش محاورة.
فقالوا: والله لقد عرفنا يا بني هاشم - وإن خرجتم معنا - أن هواكم مع محمد، فرجع طالب إلى مكة مع من رجع.
وقال في ذلك: لا هم إما يغزون طالب * في عصبة محالف محارب (5) في مقنب من هذه المقانب * فليكن المسلوب غير السالب (6) وليكن المغلوب غير الغالب قال ابن إسحاق: ومضت قريش حتى نزلوا بالعدوة القصوى من الوادي، خلف العقنقل وبطن الوادي وهو يليل، بين بدر وبين العقنقل، الكثيب الذي خلفه قريش، والقليب ببدر في
العدوة الدنيا من بطن يليل إلى المدينة.
قلت: وفي هذا قال تعالى: (إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم) أي من ناحية الساحل (ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا) الآيات [ الانفال: 42 ].
وبعث الله السماء وكان الوادي دهسا (7) فأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) الجحفة: كانت قرية كبيرة على طريق المدينة، من مكة على أربع مراحل (معجم البلدان 3 / 62).
(2) في السيرة الحلبية وفي الواقدي: في غير منفعة.
(3) في الواقدي: وكانوا مائة، والاثبت أقل من مائة.
وأما بنو عدي فرجعوا من الطريق، وقيل من مر الظهران.
وقال ابن سعد: كانت بنو عدي بن كعب مع النفير فلما بلغوا ثنية لفت عدلوا في السحر إلى الساحل منصرفين إلى مكة.
(4) في رواية للطبري عن ابن الكلبي أن طالب أخرج كرها مع المشركين.
وأنه رجع إلى مكة فيمن رجع قبل بدر.
ج 2 / 276.
وفي رواية لابن الاثير والطبري: أنه لم يوجد في الاسرى ولا في القتلى ولا فيمن رجع إلى مكة.
(5) في رواية ابن عقبة: إما يخرجن طالب * في نفر مقاتل محارب وفي الطبري الشطر الاول: يا رب إما يغزون طالب (6) مقنب: المقنب الجماعة من الخيل، نحو ثلاثمائة.
(7) الدهس: كل مكان لين لم يبلغ أن يكون رملا.
وأصحابه منها ماء لبدلهم الارض ولم يمنعهم من السير، وأصاب قريشا منها ماء لم يقدروا على أن يرتحلوا معه.
قلت وفي هذا قوله تعالى: (وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الاقدام) [ الانفال: 12 ] فذكر أنه طهرهم ظاهرا وباطنا،
وأنه ثبت أقدامهم وشجع قلوبهم وأذهب عنهم تخذيل الشيطان وتخويفه للنفوس ووسوسته الخواطر، وهذا تثبيت الباطن والظاهر وأنزل النصر عليهم من فوقهم في قوله: (إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الاعناق) [ الانفال: 13 ] أي على الرؤوس (واضربوا منهم كل بنان) أي لئلا يستمسك منهم السلاح (ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب، ذلكم فذقوه وأن للكافرين عذاب النار) [ الانفال: 14 ].
قال ابن جرير: حدثني هارون بن إسحاق ثنا مصعب بن المقدام ثنا اسرائيل ثنا أبو إسحاق عن حارثة عن علي بن أبي طالب.
قال: أصابنا من الليل طش من المطر - يعنى الليلة التي كانت في صبيحتها وقعة بدر - فانطلقنا تحت الشجر والحجف نستظل تحتها من المطر، وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني قائما يصلي - وحرض على القتال.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن شعبة عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب عن علي (1).
قال: ما كان فينا فارس يوم بدر إلا المقداد، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح، وسيأتي هذا الحديث مطولا.
ورواه النسائي عن بندار عن غندر عن شعبة به (2): وقال مجاهد: أنزل عليهم المطر فأطفأ به الغبار وتلبدت به الارض وطابت به أنفسهم وثبتت به أقدامهم.
قلت: وكانت ليلة بدر ليلة الجمعة السابعة عشر من شهر رمضان سنة ثنتين من الهجرة، وقد بات رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة يصلي إلى جذم شجرة هناك، ويكثر في سجوده أن يقول " يا حي يا قيوم " يكرر ذلك ويلظ به عليه السلام.
قال ابن إسحاق: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يبادرهم إلى الماء حتى جاء أدنى ماء من بدر نزل به.
قال ابن إسحاق: فحدثت عن رجال من بني سلمة أنهم ذكروا أن الحباب بن منذر بن الجموح.
قال: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر
__________
(1) تاريخ الطبري: 2 / 269.
(2) أخرجه النسائي في السنن الكبرى، في الصلاة، عن محمد بن المثنى، عن محمد، عن شعبة، عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب تحفة الاشراف 7 / 357
عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ قال بل هو الرأي والحرب والمكيدة.
قال يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل فأمض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم، فننزله، ثم نغور (1) ما وراءه من القلب، ثم نبني عليه حوضا فنملؤه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد أشرت بالرأي ".
قال الاموي: حدثنا أبي قال: وزعم الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس.
قال بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع الاقماص (2) وجبريل عن يمينه إذا أتاه ملك من الملائكة فقال يا محمد إن الله يقرأ عليك السلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هو السلام ومنه السلام وإليه السلام " فقال الملك (3) إن الله يقول لك أن الامر [ هو ] الذي أمرك به الحباب بن المنذر.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا جبريل هل تعرف هذا ؟ فقال ما كل أهل السماء أعرف وأنه لصادق وما هو بشيطان فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الناس فسار حتى أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه ثم أمر بالقلب فعورت، وبنى حوضا على القليب الذي نزل عليه فملئ ماء ثم قذفوا فيه الآنية.
وذكر بعضهم أن الحباب بن المنذر لما أشار بما أشار به على رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل ملك من السماء وجبريل عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال الملك يا محمد ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك إن الرأي ما أشار به الحباب، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جبريل فقال ليس كل الملائكة أعرفهم وأنه ملك وليس بشيطان.
وذكر الاموي (4) أنهم نزلوا على القليب الذي يلي المشركين نصف الليل وأنهم نزلوا فيه واستقوا منه وملؤا الحياض حتى أصبحت ملاء وليس للمشركين ماء.
قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر أنه حدث: أن سعد بن معاذ.
قال: يا نبي الله ألا نبني لك عريشا تكون فيه ونعد عندك ركائبك، ثم نلقى عدونا فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا، كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الاخرى، جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا
من قومنا، فقد تخلف عنك أقوام ما نحن بأشد حبالك منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم يناصحونك ويجاهدون معك.
فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له بخير، ثم بنى لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريش كان فيه.
قال ابن إسحاق: وقد ارتحلت قريش حين أصبحت فأقبلت، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) كذا في الاصل وابن هشام والواقدي نغور: نفسد قاله أبو ذر في شرح السيرة، وفي ابن سعد وكامل ابن الاثير نعور: أي ندفن.
(2) كذا في الاصل، ولم نعثر في أي من الكتب التي بأيدينا على هذا النص، ولعلها الاقباص: جمع قبص والقبص الجماعة من الناس.
(3) في ابن سعد: إن جبريل نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: الرأي ما أشار به الحباب.
(4) أنظر دلائل البيهقي ج 3 / 110.
تصوب من العقنقل - وهو الكثيب الذي جاؤا منه إلى الوادي - قال: " اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك (1) وتكذب رسولك اللهم فنصرك الذي وعدتني اللهم أحنهم (2) الغداة ".
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وقد رأى عتبة بن ربيعة في القوم وهو على جمل له أحمر " إن يكن في أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الاحمر " إن يطيعوه يرشدوا قال: وقد كان خفاف بن أيماء بن رحضة أو أبوه أيماء بن رحضة الغفاري، بعث إلى قريش ابنا له بجزائر أهداها لهم.
وقال: " إن أحببتم أن نمدكم بسلاح ورجال فعلنا " قال: فأرسلوا إليه مع ابنه أن وصلتك رحم، وقد قضيت الذي عليك، فلعمري إن كنا إنما نقاتل الناس ما بنا ضعف عنهم، وإن كنا إنما نقاتل الله، كما يزعم محمد فما لاحد بالله من طاقة.
قال: فلما نزل الناس أقبل نفر من قريش حتى وردوا حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم حكيم بن حزام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوهم فما شرب منه رجل يومئذ إلا قتل، إلا ما كان من حكيم بن حزام فإنه لم يقتل ثم أسلم بعد ذلك فحسن إسلامه فكان إذا اجتهد في يمينه قال لا والذي نجاني يوم بدر.
قلت: وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا كما سيأتي بيان ذلك في فصل نعقده بعد الوقعة، ونذكر أسماءهم على حروف المعجم إن شاء الله.
ففي صحيح البخاري عن البراء.
قال: كنا نتحدث أن أصحاب بدر ثلثمائة ويضع عشرة على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر، وما جاوزه معه إلا مؤمن (3).
وللبخاري أيضا عنه.
قال: استصغرت أنا وابن عمر يوم بدر وكان المهاجرون يوم بدر نيفا على ستين، والانصار نيفا وأربعون ومائتان (4).
وروى الامام أحمد: عن نصر بن رئاب عن حجاج عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس أنه قال: كان أهل بدر ثلثمائة وثلاثة عشر، وكان المهاجرون ستة وسبعين وكان هزيمة أهل بدر لسبع عشرة مضين من شهر رمضان يوم الجمعة.
وقال الله تعالى: (إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الامر ولكن الله سلم) [ الانفال: 43 ] الآية.
وكان ذلك في منامه تلك الليلة وقيل إنه نام في العريش وأمر الناس أن لا يقاتلوا حتى يأذن لهم، فدنا القوم منهم فجعل الصديق يوقظه ويقول يا رسول الله دنوا منا فاستيقظ، وقد أراه الله إياهم في منامه قليلا.
ذكره الاموي (5) وهو غريب جدا.
وقال تعالى:
__________
(1) تحادك: تعاديك.
(2) أحنهم: أي أهلكهم.
(3) أخرجه البخاري في 64 كتاب المغازي 6 باب عدة أصحاب بدر ح 3959 وأخرجه ابن ماجه في كتاب الجهاد عن أبي عامر العقدي.
(4) رواه البخاري من طريقين فتح الباري 64 كتاب المغازي 6 باب ح 3958، 7 / 290 عن مسلم بن إبراهيم، وعن ابن أبي شيبة فتح الباري 7 / 391.
(5) نقله البيهقي في الدلائل 3 / 113.
(وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا) [ الانفال: 44 ].
فعندما تقابل الفريقان قلل الله كلا منهما في أعين الآخرين ليجترئ هؤلاء على
هؤلاء وهؤلاء على هؤلاء لما له في ذلك من الحكمة البالغة، وليس هذا معارض لقوله تعالى في سورة آل عمران: (قد كان لكم آية في فئتين التقتا، فئة تقاتل في سبيل الله، وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأى العين والله يؤيد بنصره من يشاء) فإن المعنى في ذلك على أصح القولين أن الفرقة الكافرة ترى الفرقة المؤمنة مثلي عدد الكافرة على الصحيح أيضا، وذلك عند التحام الحرب والمسابقة (1) أوقع الله الوهن والرعب في قلوب الذين كفروا فاستدرجهم أولا بأن أراهم إياهم عند المواجهة قليلا، ثم أيد المؤمنين بنصره فجعلهم في أعين الكافرين على الضعف منهم حتى وهنوا وضعفوا وغلبوا.
ولهذا قال: (والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لاولي الابصار).
قال إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي عبيد (2) وعبد الله [ قال ]: لقد قللوا في أعيننا يوم بدر حتى أني لاقول لرجل إلى جنبي أتراهم سبعين ؟ فقال أراهم مائة.
قال ابن إسحاق: وحدثني أبي إسحاق بن يسار وغيره من أهل العلم عن أشياخ من الانصار قالوا: لما أطمأن القوم بعثوا عمير بن وهب الجمحي فقالوا: احزر لنا القوم أصحاب محمد، قال فاستجال بفرسه حول العسكر ثم رجع إليهم، فقال: ثلاثمائة (3) رجل يزيدون قليلا، أو ينقصون ولكن أمهلوني حتى أنظر أللقوم كمين أو مدد.
قال: فضرب في الوادي حتى أبعد فلم ير شيئا، فرجع إليهم فقال: ما رأيت شيئا، ولكن قد رأيت يا معشر قريش البلايا (4) تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، والله ما أرى أن يقتل رجل منهم، حتى يقتل رجلا منكم، فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك فروا رأيكم [ يا معشر قريش ] (5) ؟ فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في الناس، فأتى عتبة بن ربيعة فقال: يا أبا الوليد إنك كبير قريش وسيدها، والمطاع فيها، هل لك إلى أن لا تزال تذكر فيها بخير إلى آخر الدهر ؟ قال وما ذاك يا حكيم ؟ قال ترجع بالناس وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمي، قال: قد فعلت.
أنت علي بذلك، إنما هو حليفي فعلي عقله وما أصيب من ماله.
فأت ابن الحنظلية (6) - يعني ابا جهل - فإني لا أخشى أن يشجر (7) أمر الناس غيره، ثم قام عتبة
__________
(1) في الاصل: السابقة وهو تحريف.
(2) في دلائل البيهقي ج 3 / 67: أبي عبيد.
(3) في رواية البيهقي: عنه: ثلاثمائة وخمسون.
(4) البلايا: جمع بلية، قيل هي الناقة أو الدابة تربط على قبر الميت فلا تعلف ولا تسقى حتى تموت.
وفي ابن الاثير: الولايا وهي جمع ولية: البرذعة.
(5) من دلائل البيهقي 3 / 65 والخبر في سيرة ابن هشام 2 / 274 وكامل ابن الاثير 2 / 123.
(6) قال ابن هشام: الحنظلية أم أبي جهل، وهي أسماء بنت مخربة أحد بني نهشل بن دارم بن مالك بن حنظلة بن =
خطيبا فقال: يا معشر قريش، إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه شيئا، والله لئن اصبتموه لا يزال الرجل ينظر إلى وجه رجل يكره النظر إليه، قتل ابن عمه - أو ابن خاله - أو رجلا من عشيرته فارجوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب، فإن أصابوه فذلك الذي أردتم، وإن كان غير ذلك ألفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون.
قال حكيم: فانطلقت حتى جئت أبا جهل، فوجدته قد نثل درعا فهو يهنئها (1) فقلت له يا أبا الحكم إن عتبة أرسلني إليك بكذا وكذا.
فقال: انتفخ والله سحره حين رأى محمدا وأصحابه، فلا والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، وما بعتبة ما قال، ولكنه رأى محمدا وأصحابه أكلة جزور، وفيهم ابنه فقد تخوفكم عليه، ثم بعث إلى عامر بن الحضرمي.
فقال: هذا حليفك يريد أن يرجع الناس، وقد رأيت ثأرك بعينك فقم فأنشد خفرتك ومقتل أخيك، فقام عامر بن الحضرمي فأكتشف ثم صرخ: واعمراه واعمراه.
قال: فحميت الحرب وحقب أمر الناس واستوثقوا (2) على ما هم عليه من الشر وأفسد على الناس الرأي الذي دعاهم إليه عتبة.
فلما بلغ عتبة قول أبي جهل انتفخ والله سحره قال: سيعلم مصفر استه من انتفخ سحره أنا أم هو، ثم التمس عتبة بيضة ليدخلها في رأسه فما وجد في الجيش بيضة تسعه من عظم رأسه فلما رأى ذلك اعتجر على رأسه ببرد له (3).
وقد روى ابن جرير: من طريق مسور بن عبد الملك اليربوعي، عن أبيه، عن سعيد بن المسيب قال: بينا نحن عند مروان بن الحكم إذ دخل حاجبه فقال: حكيم بن حزام يستأذن،
قال: ائذن له فلما دخل قال: مرحبا يا أبا خالد أدن، فحال عن صدر المجلس حتى جلس بينه وبين الوسادة ثم استقبله فقال: حدثنا حديث بدر.
فقال: خرجنا حتى إذا كنا بالجحفة رجعت قبيلة من قبائل قريش بأسرها فلم يشهد أحد من مشركيهم بدرا، ثم خرجنا حتى نزلنا العدوة التي قال الله تعالى، فجئت عتبة بن ربيعة فقلت يا أبا الوليد هل لك في أن تذهب بشرف هذا اليوم ما بقيت ؟ قال أفعل ماذا ؟ قلت إنكم لا تطلبون من محمد إلا دم ابن الحضرمي وهو حليفك، فتحمل بديته ويرجع الناس.
فقال أنت علي بذلك وأذهب إلى ابن الحنظلية - يعني أبا جهل - فقل له هل لك أن ترجع اليوم بمن معك عن ابن عمك ؟ فجئته فإذا هو في جماعة من بين يديه ومن خلفه، وإذا ابن الحضرمي واقف على رأسه وهو يقول: فسخت عقدي من عبد شمس، وعقدي اليوم إلى بني مخزوم فقلت له: يقول لك عتبة بن ربيعة هل لك أن ترجع اليوم بمن معك ؟ قال أما وجد رسولا غيرك ؟ قلت: لا ! ولم أكن لاكون رسولا لغيره.
قال حكيم: فخرجت مبادرا إلى
__________
= مالك بن زيد بن مناة بن تميم.
(7) من ابن هشام وفي الاصل: يسجر.
(1) يهنها: أي يتفقدها قاله أبو ذر.
وفي الكامل لابن الاثير: يهيئها: يتفقدها ويصلحها (2) في ابن هشام: استوسقوا: اجتمع أمرهم.
(3) سيرة ابن هشام 2 / 275 والبيهقي في الدلائل 3 / 65 وابن الاثير 2 / 124.
عتبة لئلا يفوتني من الخبر شئ وعتبة متكئ على ايماء بن رحضة الغفاري، وقد أهدى إلى المشركين عشرة جزائر.
فطلع أبو جهل الشر في وجهه فقال لعتبة: انتفخ سحرك ؟ فقال له عتبة: ستعلم، فسل أبو جهل سيفه فضرب به متن فرسه، فقال إيماء بن رحضة بئس الفأل هذا، فعند ذلك قامت الحرب (1).
وقد صف رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وعباهم أحسن تعبية فروى الترمذي عن عبد الرحمن بن عوف.
قال: صفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ليلا.
وروى الامام أحمد من حديث ابن لهيعة حدثني يزيد بن أبي حبيب أن أسلم أبا عمران حدثه أنه سمع أبا أيوب يقول: صفنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر فبدرت منا بادرة أمام الصف، فنظر إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " معي معي " تفرد به أحمد وهذا إسناد حسن.
وقال ابن إسحاق: وحدثني حبان بن واسع بن حبان عن أشياخ من قومه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدل صفوف أصحابه يوم بدر، وفي يده قدح يعدل به القوم، فمر بسواد بن غزية حليف بني عدي ابن النجار وهو مستنتل من الصف، فطعن في بطنه بالقدح وقال " استويا سواد " فقال: يا رسول الله أوجعتني، وقد بعثك الله بالحق والعدل، فأقدني فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه فقال: استقد، قال: فاعتنقه فقبل بطنه، فقال: ما حملك على هذا يا سواد ؟ قال: يا رسول الله، حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك، فدعا له رسول الله بخير صلى الله عليه وسلم وقاله.
قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن عوف بن الحارث - وهو ابن عفراء - قال يا رسول الله ما يضحك الرب من عبده ؟ قال: " غمسه يده في العدو حاسرا " فنزع درعا كانت عليه فقذفها، ثم أخذ سيفه فقاتل حتى قتل رضي الله عنه.
قال ابن إسحاق: ثم عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفوف ورجع إلى العريش فدخله ومعه أبو بكر ليس معه فيه غيره.
وقال ابن إسحاق: وغيره وكان سعد بن معاذ رضي الله عنه واقفا على باب العريش متقلدا بالسيف ومعه رجال من الانصار يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم خوفا عليه من أن يدهمه العدو من المشركين والجنائب النجائب مهيأة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن احتاج إليها ركبها ورجع إلى المدينة كما أشار به سعد بن معاذ.
وقد روى البزار في مسنده من حديث محمد بن عقيل عن علي أنه خطبهم فقال: يا أيها الناس من أشجع الناس ؟ فقالوا أنت يا أمير المؤمنين، فقال أما إني ما بارزني أحد إلا انتصفت منه، ولكن هو أبو بكر، إنا جعلنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشا فقلنا من يكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لئلا يهوي إليه أحد من المشركين، فوالله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر شاهرا بالسيف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يهوي إليه أحد إلا أهوى إليه فهذا أشجع الناس.
قال ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذته قريش فهذا يحاده، وهذا يتلتله ويقولون أنت جعلت الآلهة إلها واحدا فوالله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر يضرب ويجاهد هذا ويتلتل هذا وهو يقول: ويلكم أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ثم
__________
(1) تاريخ الطبري ج 2 / 278.
رفع علي بردة كانت عليه فبكى حتى اخضلت لحيته ثم قال: أنشدكم الله أمؤمن آل فرعون خير أم هو ؟ فسكت القوم، فقال علي: فوالله لساعة من أبي بكر خير من ملء الارض من مؤمن آل فرعون، ذاك رجل يكتم إيمانه وهذا رجل أعلن إيمانه.
ثم قال البزار لا نعلمه يروى إلا من هذا الوجه.
فهذه خصوصية للصديق حيث هو مع الرسول في العريش كما كان معه في الغار رضي الله عنه وأرضاه.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر الابتهال والتضرع والدعاء ويقول فيما يدعو به " اللهم إنك أن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعدها في الارض " وجعل يهتف بربه عزوجل ويقول: " اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم نصرك " ويرفع يديه إلى السماء حتى سقط الرداء عن منكبيه.
وجعل أبو بكر رضي الله عنه يلتزمه من ورائه ويسوي عليه رداءه ويقول مشفقا عليه من كثرة الابتهال: يا رسول الله بعض مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك.
هكذا حكى السهيلي عن قاسم بن ثابت أن الصديق إنما قال بعض مناشدتك ربك من باب الاشفاق لما راى من نصبه في الدعاء والتضرع حتى سقط الرداء عن منكبيه فقال: بعض هذا يا رسول الله أي لم تتعب نفسك هذا التعب والله قد وعدك بالنصر، وكان رضي الله عنه رقيق القلب شديد الاشفاق على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحكى السهيلي عن شيخه أبي بكر بن العربي بأنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقام الخوف والصديق في مقام الرجاء وكان مقام الخوف في هذا الوقت - يعني أكمل - قال لان لله أن يفعل ما يشاء فخاف أن لا يعبد في الارض بعدها، فخوفه ذلك عبادة.
قلت وأما قول بعض الصوفية إن هذا المقام في مقابلة ما كان يوم الغار فهو قول مردود على قائله إذ لم يتذكر هذا القائل عور ما قال ولا لازمه ولا ما يترتب عليه والله أعلم.
هذا وقد تواجه الفئتان وتقابل الفريقان وحضر الخصمان بين يدي الرحمن واستغاث بربه سيد الانبياء وضج الصحابة بصنوف الدعاء إلى رب الارض والسماء سامع الدعاء وكاشف البلاء فكان أول من قتل من المشركين الاسود بن عبد الاسد المخزومي.
قال ابن إسحاق: وكان رجلا
شرسا سئ الخلق فقال: أعاهد الله لاشربن من حوضهم أو لاهدمنه أو لاموتن دونه، فلما خرج خرج إليه حمزة بن عبد المطلب، فلما التقيا ضربه حمزة فأطن (1) قدمه بنصف ساقه وهو دون الحوض فوقع على ظهره تشخب رجله دما نحو أصحابه، ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه يريد - زعم - أن تبر يمينه (2) واتبعه حمزة فضربه حتى قتله في الحوض.
قال الاموي: فحمى عند ذلك عتبة بن ربيعة وأراد أن يظهر شجاعته، فبرز بين أخيه شيبة وابنه الوليد، فلما توسطوا بين الصفين دعوا إلى البراز فخرج إليهم فتية من الانصار ثلاثة وهم عوف ومعاذ ابنا الحارث وأمهما عفراء،
__________
(1) أطن: أطار (شرح أبي ذر).
(2) في الواقدي: زحف الاسود حتى وقع في الحوض فهدمه برجله الصحيحة، وشرب منه.
وقال موسى بن عقبة في روايته: فأقبل يحبو حتى وقع في جوف الحوض فهدم منه واتبعه حمزة حتى قتله (أنظر دلائل البيهقي 3 / 113 - مغازي الواقدي 1 / 68).
والثالث عبد الله بن رواحة (1) - فيما قيل - فقالوا من أنتم ؟ قالوا رهط من الانصار.
فقالوا مالنا بكم من حاجة.
وفي رواية فقالوا: أكفاء كرام ولكن أخرجوا إلينا من بني عمنا، ونادى مناديهم: يا محمد اخرج إلينا أكفاءنا من قومنا.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " قم يا عبيدة بن الحارث، وقم يا حمزة، وقم يا علي " وعند الاموي أن النفر من الانصار لما خرجوا كره (2) ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لانه أول موقف واجه فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أعداءه فأحب أن يكون أولئك من عشيرته فأمرهم بالرجوع وأمر أولئك الثلاثة بالخروج.
قال ابن إسحاق فلما دنوا منهم قالوا من أنتم ؟ - وفي هذا دليل أنهم كانوا ملبسين لا يعرفون من السلاح - فقال عبيدة: عبيدة، وقال حمزة: حمزة، وقال علي: علي.
قالوا نعم ! كفاء كرام.
فبارز عبيدة وكان أسن القوم، عتبة، وبارز حمزة شيبة، وبارز علي الوليد بن عتبة.
فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله، وأما علي فلم يمهل الوليد أن قتله، واختلف عبيدة وعتبة بينهما بضربتين كلاهما أثبت صاحبه، وكر حمزة وعلي بأسيافهما على عتبة فذففا عليه، واحتملا صاحبهما
فحازاه إلى أصحابهما (3) رضي الله عنه.
وقد ثبت في الصحيحين: من حديث أبي مجلز، عن قيس بن عباد، عن أبي ذر: أنه كان يقسم قسما أن هذه الآية: (هذان خصمان اختصموا في ربهم) [ الحج: 19 ] نزلت في حمزة وصاحبه، وعتبة وصاحبه يوم برزوا في بدر (4).
هذا لفظ البخاري في تفسيرها.
وقال البخاري: حدثنا حجاج بن منهال حدثنا المعتمر بن سليمان سمعت أبي ثنا أبو مجلز عن قيس بن عباد عن علي بن أبي طالب.
أنه قال: أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن عزوجل في الخصومة يوم القيامة.
قال قيس: وفيهم نزلت: (هذان خصمان اختصموا في ربهم) قال هم الذين بارزوا يوم بدر علي وحمزة وعبيدة وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة، تفرد به البخاري (5).
وقد أوسعنا الكلام عليها في التفسير بما فيه كفاية ولله الحمد والمنة.
وقال الاموي: حدثنا معاوية بن عمرو عن أبي إسحاق عن ابن المبارك عن اسماعيل بن أبي خالد عن عبد الله البهي.
قال: برز عتبة وشيبة والوليد وبرز إليهم حمزة وعبيدة وعلي.
فقالوا تكلموا نعرفكم.
فقال حمزة: أنا أسد الله وأسد رسول الله أنا حمزة بن عبد المطلب.
فقال كفؤ
__________
(1) قال الواقدي: الثبت عندنا، بنو عفراء الثلاثة: معاذ ومعوذ وعوف.
(2) في الواقدي وابن سعد: استحيى من ذلك.
(3) في ابن هشام: إلى أصحابه.
وقال ابن الاثير في تاريخه: وقد قطعت رجله، فلما أتوا به النبي صلى الله عليه وسلم قال: ألست شهيدا يا رسول الله ؟ قال: بلى.
(4) أخرجه البخاري في كتاب التفسير 3 باب (هذان خصمان..) فتح الباري 8 / 443.
(5) أخرجه البخاري عن محمد بن عبد الله الرقاشي عن معتمر في كتاب المغازي باب قتل أبي جهل.
كريم.
وقال علي: أنا عبد الله وأخو رسول الله، وقال عبيدة: أنا الذي في الحلفاء (1)، فقام كل رجل إلى رجل فقاتلوهم فقتلهم الله.
فقالت هند [ بنت عتبة ] في ذلك: أعيني جودي بدمع سرب * على خير خندف لم ينقلب (2)
تداعى له رهطه غدوة * بنو هاشم وبنو المطلب يذيقونه حد أسيافهم * يعلونه بعد ما قد عطب (3) ولها نذرت هند أن تأكل من كبد حمزة.
قلت: وعبيدة هذا هو ابن الحارث بن المطلب بن عبد مناف ولما جاؤا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أضجعوه إلى جانب موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشرفه (4) رسول الله صلى الله عليه وسلم قدمه فوضع خده على قدمه الشريفة وقال: يا رسول الله لو رآني أبو طالب لعلم أني أحق بقوله: ونسلمه حتى نصرع دونه * ونذهل عن أبنائنا والحلائل (5) ثم مات رضي الله عنه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أشهد أنك شهيد " رواه الشافعي رحمه الله.
وكان أول قتيل من المسلمين في المعركة مهجع (6) مولى عمر بن الخطاب رمي بسهم فقتله.
قال ابن إسحاق فكان أول من قتل، ثم رمي بعده حارثة بن سراقة أحد بني عدي بن النجار وهو يشرب من الحوض بسهم فأصاب نحره فمات.
وثبت في الصحيحين عن أنس أن حارثة بن سراقة قتل
__________
(1) في الواقدي: وقال عتبة: وأنا أسد الحلفاء..يعني بالحلفاء الاجمة.
علق ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 3 / 334 قال: قد رويت هذه الكلمة على صيغة أخرى " وأنا أسد الحلفاء " وروى " وأنا أسد الاحلاف " أراد أنه سيد حلف المطيبين.
ورد قوم هذا التأويل فقالوا: إن المطيبين لم يكن يقال لهم الحلفاء ولا الاحلاف، وإنما ذلك لقب خصومهم وأعدائهم.
وقال قوم: إنما عنى حلف الفضول وكان بعد حلف المطيبين، بزمان وهذا التفسير بعيد وغير صحيح لان بني عبد شمس لم يكونوا في حلف الفضول.
فقد بان أن ما ذكره الواقد أصح وأنبت.
(2) في رواية البيهقي: أيا عيني بدل أعيني.
(3) البيت في رواية ابن عقبة: يذيقونه حر أسيافهم.
يعلونه بعد ما قد ضرب (4) في السيرة الحلبية وانسان العيون: فأفرشه.
(5) في الواقدي وابن الاثير: حوله بدلا من دونه.
وقبله في الواقدي: كذبتم وبيت الله نخلى محمدا * ولما نطاعن دونه ونناظل (6) في ابن سعد: قتله عامر بن الحضرمي.
وكان حارثة أول قتيل من الانصار قتله حبان العرقة.
ويقال عمير بن الحمام وقد قتله خالد بن الاعلم العقيلي.
وفي رواية ابن عقبة ان عمير أول قتيل قتل (دلائل البيهقي 3 / 113 - ابن سعد 2 / 12، ابن الاثير 2 / 126.
يوم بدر وكان في النظارة أصابه سهم غرب فقتله، فجاءت أمه فقالت يا رسول الله أخبرني عن حارثة فإن كان في الجنة صبرت وإلا فليرين الله ما أصنع - يعني من النياح - وكانت لم تحرم بعد.
فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم " ويحك أهبلت، إنها جنان ثمان وان ابنك أصاب الفردوس الاعلى ".
قال ابن إسحاق: ثم تزاحف الناس ودنا بعضهم من بعض.
وقد (1) أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن لا يحملوا حتى يأمرهم، وقال إن اكتنفكم القوم فانضحوهم عنكم بالنبل.
وفي صحيح البخاري عن أبي أسيد.
قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر إذا أكثبوكم - يعني المشركين فارموهم واستبقوا نبلكم (2).
وقال البيهقي: أخبرنا الحاكم أخبرنا الاصم حدثنا أحمد بن عبد الجبار عن يونس بن بكير عن ابن (3) إسحاق حدثني عبد الله بن الزبير.
قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شعار المهاجرين يوم بدر يا بني عبد الرحمن، وشعار الخزرج يا بني عبد الله وشعار الاوس يا بني عبيدالله، وسمى خيله خيل الله.
قال ابن هشام: كان شعار الصحابة يوم بدر أحد أحد.
قال ابن إسحاق: ورسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش معه أبو بكر رضي الله عنه - يعني وهو يستغيث الله عزوجل - كما قال تعالى: (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم) [ الانفال: 9 - 10 ].
قال الامام أحمد: حدثنا أبو نوح قراد، ثنا عكرمة بن عمار، ثنا سماك الحنفي أبو زميل، حدثني ابن عباس حدثني عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم
بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم ثلاثمائة ونيف، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة فاستقبل النبي صلى الله عليه وسلم القبلة وعليه رداؤه وإزاره ثم قال: " اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الاسلام فلا تعبد بعد في الارض أبدا " فما زال يستغيث بربه ويدعوه حتى سقط رداؤه.
فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فرده ثم التزمه من ورائه ثم قال: يا رسول الله كفاك (4) مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك فأنزل الله: (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين) [ الانفال: 9 ] وذكر تمام الحديث كما سيأتي (5) وقد رواه مسلم
__________
(1) أخرجه البخاري في 64 كتاب المغازي 10 باب فتح الباري 7 / 306 وأخرجه أبو داود في الجهاد وأحمد في مسنده 3 / 498.
(2) من دلائل البيهقي، وفي الاصل أبي وهو تحريف.
وفيه: ابن إسحاق: حدثني عمر بن عبد الله بن عروة عن عروة بن الزبير.
(3) من ابن هشام، وفي الاصل: وقال وهو تحريف.
(4) في الاصل ورواية البيهقي: كذلك والتصحيح من مسند أحمد.
(5) أخرجه الامام أحمد في مسنده: ج 1 / 30 ومسلم في كتاب الجهاد (32) (18) باب الامداد بالملائكة ح (58) ص 3 / 1383 والبيهقي في الدلائل 3 / 51.
وأبو داود والترمذي وابن جرير وغيرهم من حديث عكرمة بن عمار اليماني وصححه على ابن المديني والترمذي، وهكذا قال غير واحد عن ابن عباس والسدي وابن جرير وغيرهم إن هذه الآية نزلت في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر، وقد ذكر الاموي وغيره أن المسلمين عجوا إلى الله عزوجل في الاستغانة بجنابه والاستعانة به وقوله تعالى: (بألف من الملائكة مردفين) أي ردفا لكم ومددا لفئتكم رواه العوفي عن ابن عباس.
وقاله مجاهد وابن كثير وعبد الرحمن بن زيد وغيرهم.
وقال أبو كدينة عن قابوس عن ابن عباس (مردفين) وراء كل ملك ملك.
وفي رواية عنه بهذا الاسناد (مردفين) بعضهم على أثر بعض وكذا قال أبو ظبيان والضحاك وقتادة.
وقد روى
علي بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس قال: وأمد الله نبيه والمؤمنين بألف من الملائكة، وكان جبريل في خمسمائة مجنبة، وميكائيل في خمسمائة مجنبة، وهذا هو المشهور.
ولكن قال ابن جرير: حدثني المثنى حدثنا إسحاق، ثنا يعقوب بن محمد الزهري، حدثني عبد العزيز بن عمران عن الربعي، عن أبي الحويرث عن محمد بن جبير عن علي.
قال: نزل جبريل في ألف من الملائكة على ميمنة النبي صلى الله عليه وسلم وفيهما أبو بكر، ونزل ميكائيل في ألف من الملائكة على ميسرة النبي صلى الله عليه وسلم وأنا في الميسرة، ورواه البيهقي في الدلائل من حديث محمد بن جبير عن علي فزاد: ونزل اسرافيل في الف من الملائكة وذكر أنه طعن يومئذ بالحربة حتى اختضبت إبطه من الدماء، فذكر أنه نزلت ثلاثة آلاف من الملائكة، وهذا غريب وفي إسناده ضعف ولو صح لكان فيه تقوية لما تقدم من الاقوال ويؤيدها قراءة من قرأ (بألف من الملائكة مردفين) بفتح الدال والله أعلم.
وقال البيهقي أخبرنا الحاكم، أخبرنا الاصم، ثنا محمد بن سنان القزاز، ثنا عبيدالله (1) بن عبد المجيد أبو علي الحنفي، حدثنا عبيدالله بن عبد الرحمن بن موهب، أخبرني إسماعيل بن عوف (2) بن عبد الله بن أبي رافع عن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب عن أبيه عن جده [ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ] (3) قال: لما كان يوم بدر قاتلت شيئا من قتال، ثم جئت مسرعا لانظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعل، قال: فجئت فإذا هو ساجد يقول: " يا حي يا قيوم، يا حي يا قيوم " لا يزيد عليها فرجعت إلى القتال، ثم جئت وهو ساجد يقول ذلك أيضا، فذهبت إلى القتال، ثم جئت وهو ساجد يقول ذلك أيضا، حتى فتح الله على يده (4).
وقد رواه النسائي في اليوم والليلة عن بندار عن عبيدالله بن عبد المجيد أبي علي الحنفي.
وقال الاعمش عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود.
قال ما سمعت مناشدا ينشد [ حقا له ] (5) أشد من مناشدة
__________
(1) في البيهقي: عبد الله.
(2) في البيهقي: اسماعيل بن عون عن عبيدالله، وفي ابن سعد: اسماعيل بن عون بن عبيدالله.
(3) من البيهقي.
(4) دلائل النبوة للبيهقي ج 3 / 49.
والخبر في طبقات ابن سعد 2 / 26.
(5) من دلائل البيهقي ج 2 / 50.
محمد صلى الله عليه وسلم يوم بدر، جعل يقول: " اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد " ثم التفت وكأن شق وجهه القمر.
وقال " كأني أنظر إلى مصارع القوم عشية " (1) رواه النسائي من حديث الاعمش به.
وقال لما التقينا يوم بدر قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فما رأيت مناشدا ينشد حقا له أشد مناشدة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكره.
وقد ثبت إخباره عليه السلام بمواضع مصارع رؤوس المشركين يوم بدر في صحيح مسلم عن أنس بن مالك كما تقدم، وسيأتي في صحيح مسلم أيضا عن عمر بن الخطاب.
ومقتضى حديث ابن مسعود أنه أخبر بذلك يوم الوقعة وهو مناسب، وفي الحديثين الآخرين عن أنس وعمر ما يدل على أنه أخبر بذلك قبل ذلك بيوم ولا مانع من الجمع بين ذلك بأن يخبر به قبل بيوم وأكثر، وان يخبر به قبل ذلك بساعة يوم الوقعة والله أعلم.
وقد روى البخاري (2): من طرق عن خالد الحذاء، عن عكرمة، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو في قبة له يوم بدر: " اللهم أنشدك عهدك ووعدك، الله إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبدا " فأخذ أبو بكر بيده وقال: حسبك يا رسول الله ألححت على ربك، فخرج وهو يثب في الدرع وهو يقول: (سيهزم الجمع ويولون الدبر بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر) [ القمر: 45 - 46 ] وهذه الآية مكية وقد جاء تصديقها يوم بدر كما رواه ابن أبي حاتم: حدثنا أبي ثنا أبو الربيع الزهراني، ثنا حماد، عن أيوب عن عكرمة قال لما نزلت: (سيهزم الجمع ويولون الدبر) قال عمر: أي جمع يهزم وأي جمع يغلب ؟ قال عمر فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع وهو يقول: (سيهزم الجمع ويولون الدبر بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر) فعرفت تأويلها يومئذ وروى البخاري من طريق ابن جريج عن يوسف بن ماهان سمع عائشة تقول نزل على محمد بمكة - وإني لجارية العب - (بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر).
قال ابن إسحاق: وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يناشد ربه ما وعده من النصر ويقول فيما يقول: " اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد " وأبو بكر يقول: يا نبي الله بعض مناشدتك ربك
فان الله منجز لك ما وعدك، وقد خفق النبي صلى الله عليه وسلم [ خفقة ] (3) وهو في العريش ثم انتبه فقال: " أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده، على ثناياه النقع " يعني الغبار.
قال ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس فحرضهم.
وقال: " والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر، إلا أدخله الله الجنة " قال عمير بن الحمام أخو بني سلمة وفي يده تمرات يأكلهن: بخ بخ أفما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء ؟
__________
(1) رواه البيهقي في الدلائل 3 / 50 ومسلم مطولا في 32 كتاب الجهاد (18) باب الامداد بالملائكة في غزوة بدر ح 58 وأحمد في مسنده 1 / 30 - 32.
(2) في 65 كتاب التفسير - تفسير سورة القمر (5) باب قوله: (سيهزم الجمع) ح 4875 فتح الباري 8 / 619 وأخرجه في كتاب الجهاد.
باب: ما قيل في درع النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي كتاب المغازي باب: إذ تستغيثون ربكم.
(3) من ابن اسحاق، وخفق: نام نوما سريعا.
قال: ثم قذف الثمرات من يده وأخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل رحمه الله (1).
وقال الامام أحمد: حدثنا هاشم بن سليمان، عن ثابت، عن أنس.
قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبسا (2) عينا ينظر ما صنعت عير أبي سفيان، فجاء وما في البيت أحد غيري وغير النبي صلى الله عليه وسلم قال لا أدري ما استثني من بعض نسائه، قال فحدثه الحديث.
قال فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكلم فقال: " إن لنا طلبة فمن كان ظهره حاضر فليركب معنا " فجعل رجال يستأذنونه في ظهورهم في علو المدينة قال " لا إلا من كان ظهره حاضرا " وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر، وجاء المشركون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يتقد من أحد منكم إلى شئ حتى أكون أنا دون " فدنا المشركون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قوموا إلى جنة عرضها السموات والارض " قال: يقول عمير بن الحمام الانصاري يا رسول الله جنة عرضها السموات والارض ؟ قال: نعم ! قال بخ بخ ؟ فقال رسول الله: " ما يحملك على قول بخ بخ ؟ قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: فإنك من أهلها " قال فأخرج تمرات من قرنه
فجعل يأكل منهن ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل ثمراتي هذه إنها حياة طويلة، قال فرمى ما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل رحمه الله (3).
ورواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وجماعة عن أبي النضر هاشم بن القاسم عن سليمان بن المغيرة به، وقد ذكر ابن جرير (4) أن عميرا قاتل وهو يقول رضي الله عنه: ركضا إلى الله بغير زاد * إلا التقى وعمل المعاد والصبر في الله على الجهاد * وكل زاد عرضة النفاد غير التقى والبر والرشاد وقال الامام أحمد: حدثنا حجاج، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب عن علي.
قال: لما قدمنا المدينة أصبنا من ثمارها فاجتو يناها (5) وأصابنا بها وعك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحيز (6) عن بدر فلما بلغنا أن المشركين قد أقبلوا سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر - وبدر
__________
(1) الخبر في سيرة ابن هشام ج 2 / 279.
(2) عند مسلم: بسيسة، وفي كتب السيرة بسبس وهو بسبس بن عمرو، ويقال ابن بشر من الانصاري.
قال النووي: يجوز أن يكون أحد اللفظين اسما له، والآخر لقبا.
(3) ورواه البيهقي من طريق أبي النضر 3 / 68 ومسلم في 33 كتاب الامارة 41 باب ثبوت الجنة ح 145 ص 1509 وأبو داود مختصرا في كتاب الجهاد باب بعث العيون عن هارون بن عبد الله.
(4) تاريخ الطبري ج 2 / 281.
(5) اجتويناه: أصابنا الجوى، وهو المرض والتعب والارهاق، وقد أصاب بعض الصحابة مرض من جو المدينة بعد الهجرة وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد دعا للمدينة وأهلها.
(6) في البيهقي: يتخبر: أي يتعرف.
بئر - فسبقنا المشركين إليها فوجدنا فيها رجلين: رجلا من قريش ومولى لعقبة بن أبي معيط فأما القرشي فانفلت، وأما المولى فوجدناه فجعلنا نقول له كم القوم ؟ فيقول هم والله كثير عددهم
شديد بأسهم فجعل المسلمون إذا قال ذلك ضربوه حتى انتهوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له كم القوم ؟ قال هم والله كثير عددهم شديد بأسهم.
فجهد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخبره كم هم فأبى ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم سأله كم ينحرون من الجزر فقال عشرا كل يوم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم " القوم ألف، كل جزور لمائة وتبعها " (1) ثم إنه أصابنا من الليل طش من مطر فانطلقنا تحت الشجر والحجف (2) نستظل تحتها من المطر، وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ربه ويقول: " اللهم إنك إن تهلك هذه الفئة لا تعبد " فلما طلع الفجر نادى الصلاة عباد الله (3) فجاء الناس من تحت الشجر والحجف فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرض على القتال ثم قال " إن جمع قريش تحت هذه الضلع الحمراء من الجبل " فلما دنا القوم منا وصاففناهم إذا رجل منهم على جمل له أحمر يسير في القوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا علي ناد حمزة " وكان أقربهم من المشركين من صاحب الجمل الاحمر، فجاء حمزة فقال: هو عتبة بن ربيعة وهو ينهي عن القتال ويقول لهم يا قوم أعصبوها برأسي وقولوا جبن عتبة بن ربيعة، وقد علمتم أني لست باجبنكم (4).
فسمع بذلك أبو جهل فقال: أنت تقول ذلك والله لو غيرك يقوله لا عضضته (5) قد ملات رئتك جوفك رعبا.
فقال: إياي تعير يا مصفر استه (6) ؟ سيعلم اليوم أينا الجبان فبرز عتبة وأخوه شيبة وابنه الوليد حمية فقالوا: من يبارز فخرج فتية من الانصار مشببة فقال عتبة: لا نريد هؤلاء، ولكن نبارز من بني عمنا من بني عبد المطلب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قم يا حمزة، وقم يا علي، وقم يا عبيدة بن الحارث بن المطلب " فقتل الله عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة، وجرح عبيدة فقتلنا منهم سبعين، وأسرنا سبعين وجاء رجل من الانصار بالعباس بن عبد المطلب أسيرا، فقال العباس: يا رسول الله والله إن هذا ما أسرني لقد أسرني رجل أجلح من أحسن الناس وجها على فرس أبلق ما أراه في القوم.
فقال الانصاري: أنا أسرته يا رسول الله.
فقال: " اسكت، فقد أيدك الله بملك كريم " قال: فأسرنا من بني عبد المطلب العباس وعقيلا ونوفل بن الحارث هذا سياق حسن وفيه شواهد لما تقدم ولما سيأتي.
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده 1 / 86 و 126 و 1 / 156 دون ذكر بدر.
ورواه البيهقي من طريق الحسن بن محمد الزعفراني وفيه: أخذنا رجلين: أحدهما عربي والآخر مولى.
وروى ابن هشام بنحوه في السيرة 2 / 255 - 256.
(2) في رواية البيهقي: والجحف.
(3) في رواية البيهقي: الصلاة جامعة.
(4) زاد البيهقي، يا قوم إني أرى أقواما مستميتين لا تصلون إليهم وفيكم خير.
(5) أي قلت له: أعضض بأير أبيك.
(6) يا مصفر استه: قال في النهاية: رماه بالابنة، وانه كان يزعفر استه ! وقيل كلمة تقال للمتنعم المترف الذي لم تحنكه التجارب.
وقد تفرد بطوله الامام أحمد (1).
وروى أبو داود بعضه من حديث اسرائيل به، ولما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من العريش وحرض الناس على القتال والناس على مصافهم صابرين ذاكرين الله كثير كما قال الله تعالى آمرا لهم: " يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا) الآية [ الانفال: 45 ].
وقال الاموي: حدثنا معاوية بن عمرو، عن أبي إسحاق.
قال: قال الاوزاعي: كان يقال قلما ثبت قوم قياما، فمن استطاع عند ذلك أن يجلس أو يغض طرفه ويذكر الله رجوت أن يسلم من الرياء.
وقال عتبة بن ربيعة يوم بدر لاصحابه: ألا ترونهم - يعني أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جثيا على الركب كأنهم حرس يتلمظون كما تتلمظ الحيات - أو قال الافاعي -.
قال الاموي في مغازيه: وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حين حرض المسلمين على القتال قد نفل كل امرئ ما أصاب.
وقال " والذي نفسي بيده لا يقاتلهم اليوم رجل [ فيقتل ] صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة " وذكر قصة عمير بن الحمام كما تقدم، وقد قاتل بنفسه الكريمة قتالا شديدا ببدنه، وكذلك أبو بكر الصديق كما كانا في العريش يجاهدان بالدعاء والتضرع، ثم نزلا فحرضا وحثا على القتال وقاتلا بالابدان جمعا بين المقامين الشريفين.
قال الامام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا اسرائيل، عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب عن علي قال: لقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
أقربنا من العدو، وكان من أشد الناس يومئذ بأسا.
ورواه النسائي من حديث أبي إسحاق عن حارثة عن علي قال: كنا إذا حمى البأس ولقى القوم اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم (2).
وقال الامام أحمد: حدثنا أبو نعيم حدثنا مسعر عن أبي عون، عن أبي صالح الحنفي عن علي.
قال: قيل لعلي ولابي بكر رضي الله عنهما يوم بدر: مع أحدكما جبريل ومع الآخر ميكائيل، واسرافيل ملك عظيم يشهد القتال ولا يقاتل - أو قال يشهد الصف (3) - وهذا يشبه ما تقدم من الحديث أن أبا بكر كان في الميمنة ولما تنزل الملائكة يوم بدر تنزيلا كان جبريل على أحد المجنبتين في خمسمائة من الملائكة، فكان في الميمنة من ناحية أبي بكر الصديق، وكان ميكائيل على المجنبة الاخرى في خمسمائة من الملائكة فوقفوا في المسيرة وكان علي بن أبي طالب فيها (4) وفي حديث رواه أبو يعلى من طريق محمد بن جبير بن مطعم عن علي.
قال: كنت أسبح على القليب يوم بدر فجاءت ريح شديدة ثم
__________
(1) الحديث بطوله في مسند أحمد 1 / 117 وذكره الهيثمي في الزوائد 6 / 75 وقال: رواه أحمد والبزار، ورجال أحمد رجال الصحيح غير حارثة بن مضرب وهو ثقة.
وروى أبو داود بعضه في كتاب الجهاد باب: في المبارزة.
(2) مسند أحمد 1 / 126 وأعاده في 1 / 156 واختصره في 1 / 86.
(3) مسند أحمد 2 / 255 ونقله السيوطي في الخصائص الكبرى 1 / 201 والصالحي في السيرة الشامية وعزاه للامام أحمد والبزار والحاكم: في 4 / 63.
(4) رواه البيهقي في الدلائل 3 / 55 وأبو يعلى والحاكم عن علي رضي الله عنه.
وذكره الهيثمي في الزوائد 6 / 77 وقال: رواه أبو يعلى ورجاله ثقات، ونقله الصالحي في السيرة الشامية 4 / 61.
أخرى ثم أخرى فنزل ميكائيل في ألف من الملائكة فوقف على يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهناك أبو بكر، واسرافيل في ألف في الميسرة وأنا فيها، وجبريل في ألف قال ولقد طفت يومئذ حتى بلغ إبطي وقد ذكر صاحب العقد وغيره أن أفخر بيت قالته العرب قول حسان بن ثابت: وببئر بدر إذ يكف مطيهم * جبريل تحت لوائنا ومحمد وقد قال البخاري: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا جرير، عن يحيى بن سعيد، عن
معاذ بن رفاعة بن رافع الزرقي عن أبيه - وكان أبوه من أهل بدر - قال: جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما تعدون أهل بدر فيكم ؟ قال: من أفضل المسلمين - أو كلمة نحوها - قال وكذلك من شهد بدرا من الملائكة.
انفرد به البخاري.
وقد قال الله تعالى: " إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الاعناق - يعني الرؤس - واضربوا منهم كل بنان) وفي صحيح مسلم: من طريق عكرمة بن عمار، عن أبي زميل حدثني ابن عباس.
قال: بينما رجل من المسلمين يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت الفارس [ يقول: ] أقدم حيزوم إذ نظر إلى المشرك أمامه قد خر مستلقيا، فنظر إليه فإذا هو حطم [ أنفه ] وشق وجهه كضربة السوط واخضر (1) ذلك أجمع فجاء الانصاري فحدث ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة " فقتلوا يومئذ سبعين، وأسروا سبعين (2).
قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم عمن حدثه عن ابن عباس عن رجل من بني غفار.
قال: حضرت أنا وابن عم لي بدرا ونحن على شركنا، وإنا لفي جبل (3) ننتظر الوقعة على من تكون الدائرة (4)، فأقبلت سحابة، فلما دنت من الجبل سمعنا منها حمحمة الخيل، وسمعنا قائلا يقول: (قدم حيزوم، فأما صاحبي فانكشف قناع قلبه فمات مكانه، وأما أنا لكدت أن أهلك ثم انتعشت (5).
بعد ذلك.
وقال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن ابي بكر عن بعض
__________
(1) واخضر: من مسلم، وفي الاصل وحضر وهو تحريف.
(2) رواه مسلم في 32 كتاب الجهاد (28) باب: الامداد بالملائكة في غزوة بدر ح 58 ص 1383.
- حيزوم: اسم فرس الملك، وهو منادى بحذف حرف النداء، أي: يا حيزوم.
- أبو زميل: وهو سماك الحنفي.
- ما بين معكوفين في الحديث من صحيح مسلم.
(3) الخبر في الواقدي 1 / 76: ونحن على احدى عجمتي بدر العجمة الشامية - العجمة من رمل.
(4) في ابن هشام: الدبرة، وهي الدائرة.
(5) العبارة في ابن هشام وأبي نعيم والواقدي: وأما أنا فكدت أن أهلك ثم تماسكت.
بني ساعدة (1)، عن أبي أسيد مالك بن ربيعة - وكان شهد بدرا - قال - بعد أن ذهب بصره - لو كنت اليوم ببدر ومعي بصري لاريتكم الشعب (2) الذي خرجت منه الملائكة لا أشك فيه ولا أتمارى.
فلما نزلت الملائكة ورآها إبليس وأوحى الله إليهم: (أني معكم فثبتوا الذي آمنوا).
وتثبتهم أن الملائكة كانت تأتي الرجل في صورة الرجل يعرفه فيقول له أبشروا فإنهم ليسوا بشئ والله معكم كروا عليهم.
وقال الواقدي: حدثني ابن أبي حبيبة عن داود (3) بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان الملك يتصور في صورة من يعرفون [ من الناس يثبتونهم ] (4) فيقول: إني قد دنوت منهم وسمعتهم يقولون: لو حملوا علينا ما ثبتنا، ليسوا بشئ، إلى غير ذلك من القول فذلك قوله: (إذ يوحى ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا) الآية [ الانفال: 12 ].
ولما رأى إبليس الملائكة نكص على عقبيه وقال: إني برئ منكم إني أرى ما لا ترون وهو في صورة سراقة وأقبل أبو جهل يحرض أصحابه ويقول: لا يهولنكم خذلان سراقة إياكم، فإنه كان على موعد من محمد وأصحابه ثم قال: واللات والعزى لا نرجع حتى نفرق محمدا وأصحابه في الجبال (5) فلا تقتلوهم وخذوهم أخذا.
وروى البيهقي: من طريق سلامة، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال قال أبو أسيد - بعدما ذهب بصره - يا ابن أخي والله لو كنت أنا وأنت ببدر ثم أطلق الله بصري لاريتك الشعب الذي خرجت علينا منه الملائكة من غير شك ولا تمار.
وروى البخاري (6) عن إبراهيم بن موسى، عن عبد الوهاب، عن خالد عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر " هذا جبريل آخذ برأس فرسه وعليه اداة الحرب ".
وقال الواقدي: حدثنا ابن أبي حبيبة عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس وأخبرني موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي عن أبيه.
وحدثني عابد (7) بن يحيى عن أبي الحويرث
عن عمارة بن أكيمة الليثي عن عكرمة عن حكيم بن حزام قالوا: لما حضر القتال ورسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) روى الخبر البيهقي في الدلائل 3 / 53 عن سهل بن سعد عن أبي أسيد الساعدي وذكره.
(2) في الواقدي: وهو الملص، وهو موضع بعينه، أنشد أبو حنيفة: اللسان 7 / 95.
فما زال يسقى بطن ملص وعرعرا * وأرضهما حتى أطمأن جسيمها (3) من الواقدي 1 / 79 وفي نسخ البداية المطبوعة: دواد، وهو تحريف.
(4) من الواقدي.
(5) عبارة البيهقي: حتى نقرن محمدا وأصحابه في الحبال.
(6) في 64 كتاب المغازي (11) باب ح 3995 فتح الباري 7 / 312.
(7) في الواقدي: عائذ بن يحيى.
الخبر في المغازي ج 1 / 81: وفيه عمارة بن أكيمة عن حكيم بن حزام، وسقط من الاسناد اسم: عكرمة.
رافع يديه يسأل الله النصر وما وعده يقول " اللهم إن ظهروا على هذه العصابة ظهر الشرك ولا يقوم لك دين " وأبو بكر يقول: والله لينصرنك الله وليبيضن وجهك، فأنزل الله ألفا من الملائكة مردفين عند اكتناف العدو.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أبشر يا أبا بكر هذا جبريل معتجر بعمامة صفراء آخذ بعنان فرسه بين السماء والارض، فلما نزل إلى الارض تغيب عني ساعة ثم طلع وعلى ثناياه النقع يقول أتاك نصر الله إذ دعوته ".
وروى البيهقي عن أبي أمامة بن سهل عن أبيه.
قال: يا بني لقد رأيتنا يوم بدر وأن أحدنا ليشير إلى رأس المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف (1).
وقال ابن إسحاق: حدثني والدي، حدثني رجال من بني مازن عن أبي واقد (2) الليثي قال: إني لاتبع رجلا من المشركين لاضربه فوقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي فعرفت أن غيري قد قتله.
وقال يونس بن بكير عن عيسى بن عبد الله التيمي عن الربيع بن أنس.
قال: كان الناس [ يوم بدر ] يعرفون قتلى الملائكة ممن قتلوهم بضرب فوق الاعناق وعلى البنان مثل سمة النار
وقد أحرق به (3).
وقال ابن إسحاق: حدثني من لا أتهم عن مقسم (4) عن ابن عباس.
قال: كانت سيماء الملائكة يوم بدر عمائم بيض قد أرخوها على ظهورهم إلا جبريل فإنه كانت عليه عمامة صفراء.
وقد قال ابن عباس لم تقاتل الملائكة في يوم سوى يوم بدر من الايام، وكانوا يكونون فيما سواه من الايام عددا ومددا لا يضربون (5).
وقال الواقدي: حدثني عبد الله بن موسى [ بن عبد الله ] بن أبي أمية عن مصعب بن عبد الله عن مولى لسهيل بن عمرو سمعت سهيل بن عمرو يقول: لقد رأيت يوم بدر رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والارض معلمين يقتلون ويأسرون.
وكان أبو أسيد يحدث بعد أن ذهب بصره.
قال: لو كنت معكم الآن ببدر ومعي بصري، لاريتكم الشعب الذي خرجت منه الملائكة لا أشك ولا أمتري.
قال: وحدثني خارجة بن إبراهيم عن أبيه.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: " من القائل يوم بدر من الملائكة أقدم حيزوم ؟ " فقال جبريل: يا محمد ما كل أهل السماء أعرف (6).
قلت: وهذا الاثر مرسل، وهو يرد قول من زعم أن حيزوم اسم فرس جبريل كما قاله السهيلي وغيره والله أعلم.
وقال الواقدي حدثني إسحاق بن
__________
(1) دلائل النبوة 3 / 56 ونقله الصالحي في السيرة الشامية 4 / 63 عن البيهقي وأبي نعيم.
(2) كذا في الاصل والبيهقي عن ابن إسحاق، وفي السيرة لابن هشام: أبي داود المازني، قال السهيلي: اسم أبي داود هذا: عمرو، وقيل: عمير بن عامر.
(3) رواه البيهقي في الدلائل ج 3 / 56 ونقله الصالحي في السيرة الشامية 4 / 63 عن البيهقي.
(4) مقسم: وهو مولى عبد الله بن الحارث.
(5) سيرة ابن هشام ج 2 / 286.
(6) مغازي الواقدي 1 / 76 و 77.
يحيى عن حمزة بن صهيب عن أبيه قال فما ادري كم يد مقطوعة وضربة جائفة (1) لم يدم كلمها وقد رأيتها يوم بدر.
وحدثني محمد بن يحيى عن أبي عقيل (2) [ عن رافع بن خديج ] عن أبي بردة بن
نيار قال: جئت يوم بدر بثلاثة أرؤس فوضعتهن بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت أما رأسان فقتلتهما، وأما الثالث فإني رأيت رجلا طويلا [ ضربه فتدهدى أمامه ] فأخذت رأسه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ذاك فلان من الملائكة " وحدثني موسى بن محمد بن إبراهيم عن أبيه.
قال: كان السائب بن أبي حبيش يحدث في زمن عمر يقول: والله ما أسرني أحد من الناس، فيقال فمن ؟ يقول: لما انهزمت قريش انهزمت معها فأدركني رجل أشعر طويل على فرس أبيض (3) فأوثقني رباطا وجاء عبد الرحمن بن عوف فوجدني مربوطا فنادى في العسكر من أسر هذا ؟ حتى انتهى بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من أسرك ؟ قلت: لا أعرفه وكرهت أن أخبره بالذي رأيت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أسرك ملك من الملائكة " اذهب يا ابن عوف بأسيرك.
وقال الواقدي: حدثني عابد بن يحيى (4) حدثنا أبو الحويرث عن عمارة بن أكيمة عن حكيم بن حزام قال: لقد رأيتنا يوم بدر وقد وقع بجاد (5) من السماء قد سد الافق فإذا الوادي يسيل نهلا فوقع في نفسي أن هذا شئ من السماء أيد به محمد، فما كانت إلا الهزيمة ولقي الملائكة وقال إسحاق بن راهويه: حدثنا وهب بن جرير بن حازم، حدثني أبي، عن محمد بن إسحاق، حدثني أبي عن جبير بن مطعم.
قال: رأيت قبل هزيمة القوم - والناس يقتتلون - مثل البجاد الاسود قد نزل من السماء مثل النمل الاسود، فلم أشك أنها الملائكة فلم يكن إلا هزيمة القوم ولما تنزلت الملائكة للنصر ورآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أغفى إغفاءة ثم استيقظ وبشر بذلك أبا بكر وقال: " أبشر يا أبا بكر هذا جبريل يقود فرسه على ثناياه النقع " يعني من المعركة ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من العريش في الدرع فجعل يحرض على القتال ويبشر الناس بالجنة ويشجعهم بنزول الملائكة والناس بعد على مصافهم لم يحملوا على عدوهم حصل لهم السكينة والطمأنينة وقد حصل النعاس الذي هو دليل على الطمأنينة والثبات والايمان، كما قال: " (إذ يغشيكم النعاس أمنة منه) وهذا كما حصل لهم بعد ذلك يوم أحد بنص القرآن، ولهذا قال ابن مسعود: النعاس في المصاف من الايمان.
والنعاس في الصلاة من النفاق.
وقال الله تعالى: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وإن الله مع المؤمنين) [ الانفال: 19 ].
قال
__________
(1) جائفة: طعنة تبلغ الجوف (قاموس).
(2) في الواقدي: أبي عفير.
وما بين معكوفين سقط من الاصل واستدرك من المغازي 1 / 78.
(3) في الواقدي: فيدركني رجل أبيض طويل على فرس أبلق بين السماء والارض.
(4) في الواقدي: عائذ.
(5) البجاد: كساء، وفي النهاية: وفي حديث جبير بن مطعم: نظرت والناس يقتتلون يوم حنين إلى مثل البجاد: الاسود يهوي من السماء، أراد الملائكة (ج 1 / 60).
الامام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، ثنا محمد بن إسحاق حدثني الزهري عن عبد الله بن ثعلبة أن أبا جهل قال - حين التقى القوم - اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة.
فكان هو المستفتح وكذا ذكره ابن إسحاق في السيرة ورواه النسائي من طريق صالح بن كيسان عن الزهري (1)، ورواه الحاكم من حديث الزهري أيضا ثم قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وقال الاموي حدثنا أسباط بن محمد القرشي عن عطية عن مطرف في قوله: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) قال: قال أبو جهل: اللهم [ اعن ] أعز الفئتين، وأكرم القبيلتين، وأكثر الفريقين.
فنزلت: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم) [ الانفال: 7 ] قال أقبلت عير أهل مكة تريد الشام فبلغ ذلك أهل المدينة فخرجوا ومعهم رسول صلى الله عليه وسلم يريدون العير، فبلغ ذلك أهل مكة فأسرعوا إليها لكيلا يغلب عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فسبقت العير رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الله قد وعدهم إحدى الطائفتين، وكانوا يحبون أن يلقوا العير، وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسلمين يريد القوم، وكره القوم مسيرهم لشوكة القوم.
فنزل النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون، وبينهم وبين الماء رملة دعصة فأصاب المسلمون ضعف شديد وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ يوسوسهم تزعمون أنكم أولياء الله وفيكم رسوله، وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم كذا (2) ! فأمطر الله
عليهم مطرا شديدا فشرب المسلمون وتطهروا فاذهب الله عنهم رجز الشيطان فصار الرمل لبدا (3) ومشى الناس عليه والدواب، فساروا إلى القوم وأيد الله نبيه والمؤمنين بألف من الملائكة.
فكان
__________
الاستفتاح: طلب النصر، وكان للمسلمين، وقد بان الامر للكفار وانكشف الحق لهم.
وفي ذلك ثلاثة أقوال: أ - يكون خطابا للكفار، لانهم استفتحوا - قول أبي جهل - فقالوا: اللهم أقطعنا الرحم.
وقول النضر: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء..فقتل يوم بدر.
قال القاضي: إذا حملنا الفتح على البيان والحكم والقضاء فقد يراد به الكفار.
ب - يكون خطابا للمؤمنين: أي إن تستنصروا فقد جاءكم النصر، وفتح الله عليكم.
قال القاضي: وهذا القول أولى لان قوله (فقد جاءكم النصر) لا يليق إلا بالمؤمنين.
ج - يحتمل كونه خطابا للمؤمنين، ثم للكفار وهو توعده لهم إن عادوا إلى الايقاع بالمسلمين والتعدي عليهم نعد إلى مثل بدر.
قال القشيري: والصحيح أنه خطاب للكفار.
وقاله الحسن ومجاهد والسدي.
(أنظر تفسير الرازي ج 15 / تفسير الآية) (2) في رواية أن بعضهم كانوا محدثين من الاحتلام.
(3) في رواية البيهقي: كدا.
جبريل في خمسمائة من الملائكة مجنبة وميكائيل في خمسمائة من الملائكة (1) مجنبة وجاء إبليس في جند من الشياطين ومعه ذريته (2) وهم في صورة رجال من بني مدلج والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم، وقال الشيطان للمشركين: لا غالب لكم اليوم من الناس، وإني جار لكم، فلما اصطف الناس قال أبو جهل: اللهم أولانا بالحق فانصره، ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه، فقال: " يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الارض أبدا ".
فقال له جبريل: خذ قبضة من التراب، فأخذ قبضة من التراب فرمى بها وجوههم، فما من المشركين من أحد إلا وأصاب
عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة، فولوا مدبرين.
وأقبل جبريل إلى إبليس فلما رآه - وكانت يده في يد رجل من المشركين - انتزع إبليس يده ثم ولى مدبرا وشيعته، فقال الرجل: يا سراقة أما زعمت أنك لنا جار ؟ قال: (إني أرى ما لا ترون، إني أخاف الله والله شديد العقاب) [ الانفال: 48 ] وذلك حين رأى الملائكة رواه البيهقي في الدلائل (3).
وقال الطبراني حدثنا مسعدة بن سعد العطار، ثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي، ثنا عبد العزيز بن عمران، ثنا هشام بن سعد، عن عبد ربه بن سعيد بن قيس الانصاري عن رفاعة بن رافع.
قال: لما رأى إبليس ما فعل الملائكة بالمشركين يوم بدر أشفق أن يخلص إليه، فتشبث به الحارث بن هشام وهو يظن أنه سراقة بن مالك، فوكز في صدر الحارث ثم خرج هاربا حتى ألقى نفسه في البحر ورفع يديه فقال: اللهم إني أسألك نظرتك إياي وخاف أن يخلص القتل إليه.
وأقبل أبو جهل فقال: يا معشر الناس لا يهولنكم خذلان سراقة بن مالك فإنه كان على ميعاد من محمد، ولا يهولنكم قتل شيبة وعتبة والوليد فإنهم قد عجلوا، فوللات والعزى لا نرجع حتى نفرقهم بالجبال، فلا ألفين رجلا منكم قتل رجلا ولكن خذوهم أخذا حتى تعرفوهم سوء صنيعهم من مفارقتهم إياكم ورغبتهم عن اللات والعزى.
ثم قال أبو جهل متمثلا: ما تنقم الحرب الشموس مني * بازل عامين حديث سني لمثل هذا ولدتني أمي وروى الواقدي عن موسى بن يعقوب الزمعي [ عن عمه ] عن أبي بكر بن أبي سليمان بن (4) أبي حثمة سمعت مروان بن الحكم يسأل حكيم بن حزام عن يوم بدر فجعل الشيخ يكره ذلك، فألح عليه فقال حكيم: التقينا فاقتتلنا فسمعت صوتا وقع من السماء إلى الارض مثل وقعة الحصاة
__________
(1) في رواية البيهقي: في خمسمائة مجنبة.
(2) في البيهقي: معه راية في صورة.
(3) دلائل النبوة ج 3 / 78 - 79 عن طريق عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي عن ابن عباس.
(4) في الاصل تحريف، الصواب أثبتناه من الواقدي.
والعبارة في الاصل: موسى بن يعقوب الزمعي عن ابي
بكر بن أبي سليمان عن أبي حتمة.