كتاب :البداية والنهاية
الامام الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن
كثير الدمشقي
كان قد بناها ودكها إلى الارض.
وفي شعبان منها هدمت القنطرة الرومانية عند الباب الشرقي، ونشرت حجارتها ليبلط بها الجامع الاموي بسفارة الوزير صفي الدين بن شكر، وزير العادل، وكمل تبليطه في سنة أربع وستمائة.
وفيها توفي من الاعيان: شرف الدين أبو الحسن علي بن محمد بن علي جمال الاسلام الشهرزوري، بمدينة حمص، وقد كان أخرج إليها من دمشق، وكان قبل ذلك مدرسا بالامينية والحلقة بالجامع تجاه البرادة، وكان لديه علم جيد
بالمذهب والخلاف.
التقي عيسى بن يوسف ابن أحمد العراقي الضرير، مدرس الامينية أيضا، كان يسكن المنارة الغربية، وكان عنده شاب يخدمه ويقود به فعدم للشيخ دراهم فاتهم هذا الشاب بها فلم يثبت له عنده شيئا، واتهم الشيخ عيسى هذا بأنه يلوط به، ولم يكن يظن الناس أن عنده من المال شئ، فضاع المال واتهم عرضه، فأصبح يوم الجمعة السابع من ذي القعدة مشنوقا ببيته بالمأذنة الغربية، فامتنع الناس من الصلاة عليه لكونه قتل نفسه، فتقدم الشيخ فخر الدين عبد الرحمن بن عساكر فصلى عليه، فائتم به بعض الناس قال أبو شامة: وإنما حمله على ما فعله ذهاب ماله والوقوع في عرضه، قال وقد جرى لي أخت هذه القضية فعصمني الله سبحانه بفضله، قال وقد درس بعده في الامينية الجمال المصري وكيل بيت المال.
أبو الغنائم المركيسهلار البغدادي كان يخدم مع عز الدين نجاح السراي، وحصل أموالا جزيلة، كان كلما تهيأ له مال اشترى به ملكا وكتبه باسم صاحب له يعتمد عليه، فلما حضرته الوفاة أوصى ذلك الرجل أن يتولى أولاده وينفق عليهم من ميراثه مما تركه لهم، فمرض الموصى إليه بعد قليل فاستدعى الشهود ليشهدهم على نفسه أن ما في يده لورثة أبي الغنائم، فتمادى ورثته بإحضار الشهود وطولوا عليه وأخذته سكتة فمات فاستولى ورثته على تلك الاموال والاملاك، ولم يقضوا أولاد أبي الغنائم منها شيئا مما ترك لهم.
أبو الحسن علي بن سعاد الفارسي (1) تفقه ببغداد وأعاد بالنظامية وناب في تدريسها واستقل بتدريس المدرسة التي أنشأتها أم الخليفة وأزيد على نيابة القضاء عن أبي طالب البخاري فامتنع فألزم به فباشره قليلا، ثم دخل يوما إلى مسجد فلبس على رأسه مئزر صوف، وأمر الوكلاء والجلاوذة أن ينصرفوا عنه، وأشهد على
نفسه بعزلها عن نيابة القضاء، واستمر على الاعادة والتدريس رحمه الله.
وفي يوم الجمعة العشرين من ربيع الاول توفيت: الخاتون أم السلطان الملك المعظم عيسى بن العادل، فدفنت بالقبة بالمدرسة المعظمية بسفح قاسيون (2).
الامير مجير الدين طاشتكين المستنجدي أمير الحاج وزعيم بلاد خوزستان، كان شيخا خيرا حسن السيرة كثير العبادة، غاليا في التشيع، توفي بتستر ثاني جمادى الآخرة وحمل تابوته إلى الكوفة فدفن بمشهد علي لوصيته بذلك، هكذا ترجمه ابن الساعي في تاريخه، وذكر أبو شامة في الذيل: أنه طاشتكين بن عبد الله المقتفوي أمير الحاج، حج بالناس ستا وعشرين سنة، كان يكون في الحجاز كأنه ملك، وقد رماه الوزير ابن يونس بأنه يكاتب صلاح الدين فحبسه الخليفة، ثم تبين له بطلان ما ذكر عنه فأطلقه وأعطاه خوزستان ثم أعاده إلى إمرة الحج، وكانت الحلة الشيعية إقطاعه، وكان شجاعا جوادا سمحا قليل الكلام، يمضي عليه الاسبوع لا يتكلم فيه بكلمة، وكان فيه حلم واحتمال، استغاث به رجل على بعض نوابه فلم يرد عليه، فقال له الرجل المستغيث: أحمار أنت ؟ فقال: لا.
وفيه يقول ابن التعاويذي: وأمير على البلاد مولى * لا يجيب الشاكي بغير السكوت كلما زاد رفعة حطنا الل * ه بتفيله إلى البهموت وقد سرق فراشه حياجبة له فأرادوا أن يستقروه عليها، وكان قد رآه الامير طاشتكين حين أخذها فقال: لا تعاقبوا أحدا، قد أخذها من لا يردها، ورآه حين أخذها من لا ينم عليه، وقد كان بلغ من العمر تسعين سنة، واتفق أنه استأجر أرضا مدة ثلاثمائة سنة للوقف، فقال فيه بعض
__________
(1) في تاريخ ابن الاثير: علي بن علي بن سعادة الفارقي.
(2) في نسخ البداية المطبوعة: قايسون.
المضحكين: هذا لا يوقن بالموت، عمره تسعون سنة واستأجر أرضا ثلاثمائة سنة، فاستضحك القوم والله سبحانه وتعالى أعلم.
ثم دخلت سنة ثلاث وستمائة فيها جرت أمور طويلة بالمشرق بين الغورية والخوارزمية، وملكهم خوارزم شاه بن تكش ببلاد الطالقان.
وفيها ولى الخليفة القضاء ببغداد لعبد الله بن الدامغاني.
وفيها قبض الخليفة على عبد السلام بن عبد الوهاب بن الشيخ عبد القادر الجيلاني، بسبب فسقه وفجوره، وأحرقت كتبه وأمواله قبل ذلك لما فيها من كتب الفلاسفة، وعلوم الاوائل، وأصبح يستعطي بين الناس، وهذا بخطيئة قيامه على أبي الفرج بن الجوزي، فإنه هو الذي كان وشى به إلى الوزير ابن القصاب حتى أحرقت بعض كتب ابن الجوزي، وختم على بقيتها، ونفي إلى واسط خمس سنين، والناس يقولون: في الله كفاية وفي القرآن، وجزاء سيئة سيئة مثلها، والصوفية يقولون: الطريق يأخذ.
والاطباء يقولون الطبيعة مكافئة.
وفيها نازلت الفرنج حمص فقاتلهم ملكها أسد الدين شيركوه، وأعانه بالمدد الملك الظاهر صاحب حلب فكف الله شرهم.
وفيها اجتمع شابان (1) ببغداد على الخمر فضرب أحدهما الآخر بسكين فقتله وهرب، فأخذ فقتل فوجد معه (2) رقعة فيها بيتان من نظمه أمر أن تجعل بين أكفانه: قدمت على الكريم بغير زاد * من الاعمال بالقلب السليم وسوء الظن أن تعتد زادا * إذا كان القدوم على كريم وفيها توفي من الاعيان: الفقيه أبو منصور عبد الرحمن بن الحسين بن النعمان النبلي، الملقب بالقاضي شريح لذكائه وفضله وبرعاته وعقله وكمال أخلاقه، ولي قضاء بلده ثم قدم بغداد فندب إلى المناصب الكبار فأباها، فحلف عليه الامير طاشتكين أن يعمل عنده في الكتابة فخدمه عشرين سنة، ثم وشى به الوزير ابن مهدي إلى
المهدي فحبسه في دار طاشتكين إلى أن مات في هذه السنة، ثم إن الوزير الواشي عما قريب حبس بها أيضا، وهذا مما نحن فيه من قوله: كما تدين تدان.
__________
(1) قال في النجوم الزاهرة 6 / 193: أحدهما أبو القاسم أحمد بن المقرئ صاحب ديوان الخليفة.
داعب ابن الامير أصبه، وكان شابا جميلا فرماه بسكين فقتله.
فسلمه الخليفة إلى أولاد ابن أصبه فقتلوه.
قال ابن الاثير: وعمر كل واحد منهما يقارب عشرين سنة (الكامل 12 / 257).
(2) قال ابن الاثير إنه طلب دواة وورقة بيضاء وكتب البيتين لما أرادوا قتله.
(12 / 257).
عبد الرزاق بن الشيخ عبد القادر كان ثقة عابدا زاهدا ورعا، لم يكن في أولاد الشيخ عبد القادر الجيلاني خير منه، لم يدخل فيما دخلوا فيه من المناصب والولايات، بل كان متقللا من الدنيا مقبلا على أمر الآخرة، وقد سمع الكثير وسمع عليه أيضا.
أبو الحزم مكي بن زيان (1) ابن شبة بن صالح الماكسيني (2)، من أعمال سنجار، ثم الموصلي النحوي، قدم بغداد وأخذ على ابن الخشاب وابن القصار، والكمال الانباري، وقدم الشام فانتفع به خلق كثير منهم الشيخ علم الدين السخاوي وغيره وكان ضريرا، وكان يتعصب لابي العلاء المعري لما بينهما من القدر المشترك في الادب والعمى، ومن شعره: إذا احتاج النوال إلى شفيع * فلا تقبله تصبح قرير عين إذا عيف النوال لفرد من * فأولى أن يعاف لمنتين ومن شعره أيضا: نفسي فداء لاغيد غنج * قال لنا الحق حين ودعنا من ود شيئا من حبه طمعا * في قتله للوداع ودعنا إقبال الخادم جمال الدين أحد خدام صلاح الدين، واقف الاقباليتين الشافعية والحنفية، وكانتا دارين
فجعلهما مدرستين، ووقف عليهما وقفا الكبيرة للشافعية والصغيرة للحنفية، وعليها ثلث الوقف.
توفي بالقدس رحمه الله.
ثم دخلت سنة أربع وستمائة فيها رجع الحجاج إلى العراق وهم يدعون الله ويشكون إليه ما لقوا من صدر جهان البخاري الحنفي، الذي كان قدم بغداد في رسالة فاحتفل به الخليفة، وخرج إلى الحج في هذه السنة،
__________
(1) في وفيات الاعيان 5 / 278 وأنباه الرواة 3 / 320 والشذرات 5 / 11: ديان.
(2) الماكسيني: نسبة إلى ماكسين: وهي بليدة من أعمال الجزيرة الفراتية على نهر الخابور ورغم صغرها تشابه المدن في حسن بنائها.
فضيق على الناس في المياه والميرة، فمات بسبب ذلك ستة آلاف من حجيج العراق، وكان فيما ذكروا يأمر غلمانه فتسبق إلى المناهل فيحجزون على المياه ويأخذون الماء فيرشونه حول خيمته في قيظ الحجاز ويسقونه للبقولات التي كانت تحمل معه في ترابها، ويمنعون منه الناس وابن السبيل، الآمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا، فلما رجع مع الناس لعنته العامة ولم تحتفل به الخاصة ولا أكرمه الخليفة ولا أرسل إليه أحدا، وخرج من بغداد والعامة من ورائه يرجمونه ويلعنونه، وسماه الناس صدر جهنم، نعوذ بالله من الخذلان، ونسأله أن يزيدنا شفقة ورحمة لعباده، فإنه إنما يرحم من عباده الرحماء.
وفيها قبض الخليفة على وزيره ابن مهدي العلوي، وذلك أنه نسب إليه أنه يروم الخلافة، وقيل غير ذلك من الاسباب، والمقصود أنه حبس بدار طاشتكين حتى مات بها، وكان جبارا عنيدا، حتى قال بعضهم فيه: خليلي قولا للخليفة وانصحا (1) * توق وقيت السوء ما أنت صانع وزيرك هذا بين أمرين فيهما * صنيعك يا خير البرية ضائع فإن كان حقا من سلالة حيدر (2) * فهذا وزير في الخلافة طامع وإن كان فيما يدعي غير صادق * فأضيع ما كانت لديه الصنائع
وقيل: إنه كان عفيفا عن الاموال حسن السيرة جيد المباشرة فالله أعلم بحاله.
وفي رمضان منها رتب الخليفة عشرين دارا للضيافة يفطر فيها الصائمون من الفقراء، يطبخ لهم في كل يوم فيها طعام كثير ويحمل إليها أيضا من الخبز النقي والحلواء شئ كثير، وهذا الصنيع يشبه ما كانت قريش تفعله من الرفادة في زمن الحج، وكان يتولى ذلك عمه أبو طالب، كما كان العباس يتولى السقاية، وقد كانت فيهم السفارة واللواء والندوة له، كما تقدم بيان ذلك في مواضعه، وقد صارت هذه المناصب كلها على أتم الاحوال في الخلفاء العباسيين.
وفيها أرسل الخليفة الشيخ شهاب الدين الشهرزوري وفي صحبته سنقر السلحدار إلى الملك العادل بالخلعة السنية، وفيها الطوق والسواران، وإلى جميع أولاده بالخلع أيضا.
وفيها ملك الاوحد بن العادل صاحب ميافارقين مدينة خلاط بعد قتل صاحبها شرف الدين بكتمر، وكان شابا جميل الصورة جدا، قتله بعض مماليكهم (3) ثم قتل القاتل أيضا، فخلا البلد عن ملك فأخذها الا وحد بن العادل.
وفيها ملك خوارزم شاه محمد بن تكش بلاد ما وراء النهر بعد حروب طويلة.
اتفق له في بعض
__________
(1) صدره في ابن الاثير: ألا مبلغ عني الخليفة أحمدا.
(2) في ابن الاثير 12 / 276: أحمد.
(3) انظر حاشية 1 صفحة 10 فيمن توفي من الاعيان في سنة 589 ه.
أقول وبعد مقتل هزار ديناري ملك بلبان خلاط وقد قتله ابن قلج ارسلان غدرا وطمعا في خلاط.
لكن أهلها منعوه منها وأرسلوا يدعون نجم الدين ليملكوه فحضر عندهم وملك خلاط.
المواقف أمر عجيب، وهو أن المسلمين انهزموا عن خوارزم شاه وبقي معه عصابة قليلة من أصحابه، فقتل منهم كفار الخطا من قتلوا، وأسروا خلقا منهم، وكان السلطان خوارزم شاه في جملة من أسروا، أسره رجل وهو لا يشعر به ولا يدري أنه الملك، وأسر معه أميرا يقال له مسعود، فلما وقع ذلك وتراجعت العساكر الاسلامية إلى مقرها فقدوا السلطان فاختبطوا فيما بينهم واختلفوا اختلافا كثيرا وانزعجت خراسان بكمالها، ومن الناس من حلف أن السلطان قد قتل، وأما ما كان من أمر
السلطان وذاك الامير فقال الامير للسلطان: من المصلحة أن تترك اسم الملك عنك في هذه الحالة، وتظهر أنك غلام لي، فقبل منه ما قال وأشار به، ثم جعل الملك يخدم ذلك الامير يلبسه ثيابه ويسقيه الماء ويصنع له الطعام ويضعه بين يديه، ولا يألو جهدا في خدمته، فقال الذي أسرهما: إني أرى هذا يخدمك فمن أنت ؟ فقال: أنا مسعود الامير، وهذا غلامي، فقال: والله لو علم الامراء أني قد أسرت أميرا وأطلقته لاطلقتك، فقال له: إني إنما أخشى على أهلي، فإنهم يظنون أني قد قتلت ويقيمون المأتم، فإن رأيت أن تفاديني على مال وترسل من يقبضه منهم فعلت خيرا، فقال: نعم، فعين رجلا من أصحابه فقال له الامير مسعود: إن أهلي لا يعرفون هذا ولكن إن رأيت أن أرسل معه غلامي هذا فعلت ليبشرهم بحياتي فإنهم يعرفونه، ثم يسعى في تحصيل المال، فقال: نعم، فجهز معهما من يحفظهما إلى مدينة خوارزم شاه.
فلما دنوا من مدينة خوارزم سبق الملك إليها.
فلما رآه الناس فرحوا به فرحا شديدا، ودقت البشائر في سائر بلاده، وعاد الملك إلى نصابه، واستقر السرور بإيابه، وأصلح ما كان وهى من مملكته بسبب ما اشتهر من قتله، وحاصر هراة وأخذها عنوة.
وأما الذي كان قد أسره فإنه قال يوما للامير مسعود الذي يتوجه لي وينوهون به أن خوارزم شاه قد قتل، فقال: لا، هو الذي كان في أسرك، فقال له: فهلا أعلمتني به حتى كنت أرده موقرا معظما ؟ فقال: خفتك عليه، فقال: سر بنا إليه، فسارا إليه فأكرمهما إكراما زائدا، وأحسن إليهما.
وأما غدر صاحب سمرقند فإنه قتل كل من كان في أسره من الخوارزمية، حتى كان الرجل يقطع قطعتين ويعلق في السوق كما تعلق الاغنام، وعزم على قتل زوجته بنت خوارزم شاه ثم رجع عن قتلها وحبسها في قلعة وضيق عليها، فلما بلغ الخبر إلى خوارزم شاه سار إليه في الجنود فنازله وحاصر سمرقند فأخذها قهرا وقتل من أهلها نحوا من مائتي ألف، وأنزل الملك من القلعة وقتله صبرا بين يديه، ولم يترك له نسلا ولا عقبا، واستحوذ خوارزم شاه على تلك الممالك التي هنالك، وتحارب الخطا وملك التتار كشلي خان المتاخم لمملكة الصين، فكتب ملك الخطا لخوارزم شاه يستنجده على التتار ويقول: متى غلبونا خلصوا إلى بلادك، وكذا وكذا.
وكتب التتار إليه أيضا يستنصرونه على الخطا ويقولون: هؤلاء أعداؤنا وأعداؤك، فكن معنا عليهم، فكتب إلى كل من الفريقين يطيب
قلبه، وحضر الوقعة بينهم وهو متحيز عن الفريقين، وكانت الدائرة على الخطا، فهلكوا إلا القليل منهم، وغدر التتار ما كانوا عاهدوا عليه خوارزم شاه، فوقعت بينهم الوحشة الاكيدة، وتواعدوا للقتال، وخاف منهم خوارزم شاه وخرب بلادا كثيرة متاخمة لبلاد كشلي خان خوفا عليها أن يملكها،
ثم إن جنكيز خان خرج على كشلي خان، فاشتغل بمحاربته عن محاربة خوارزم شاه، ثم إنه وقع من الامور الغريبة ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وفيها كثرت غارات الفرنج من طرابلس على نواحي حمص، فضعف صاحبها أسد الدين شيركوه عن مقاومتهم، فبعث إليه الظاهر صاحب حلب عسكرا قواه بهم على الفرنج، وخرج العادل من مصر في العساكر الاسلامية، وأرسل إلى جيوش الجزيرة فوافوه على عكا فحاصرها، لان القبارصة أخذوا من أسطول المسلمين قطعا فيها جماعة من المسلمين، فطلب صاحب عكا الامان والصلح على أن يرد الاسارى، فأجابه إلى ذلك، وسار العادل فنزل على بحيرة قدس قريبا من حمص، ثم سار إلى بلاد طرابلس، فأقام اثني عشر يوما يقتل ويأسر ويغنم، حتى جنح الفرنج إلى المهادنة (1)، ثم عاد إلى دمشق.
وفيها ملك صاحب آذربيجان الامير نصير (2) الدين أبو بكر بن البهلول مدينة مراغة لخلوها عن ملك قاهر، لان ملكها مات وقام بالملك بعده ولد له صغير، فدبر أمره خادم له.
وفي غرة ذي القعدة شهد محيي الدين أبو محمد يوسف بن عبد الرحمن بن الجوزي عند قاضي القضاة أبي القاسم بن الدامغاني، فقبله وولاه حسبة جانبي بغداد، وخلع عليه خلعة سنية سوداء بطرحة كحلية (3)، وبعد عشرة أيام جلس للوعظ مكان أبيه أبي الفرج بباب درب الشريف، وحضر عنده خلق كثير.
وبعد أربعة أيام من يومئذ درس بمشهد أبي حنيفة ضياء الدين أحمد بن مسعود الركساني الحنفي، وحضر عنده الاعيان والاكابر.
وفي رمضان منها وصلت الرسل من الخليفة إلى العادل بالخلع، فلبس هو وولداه المعظم والاشرف ووزيره صفي الدين بن شكر، وغير واحد من الامراء، ودخلوا القلعة وقت صلاة الظهر من باب الحديد، وقرأ التقليد الوزير وهو قائم، وكان يوما مشهودا.
وفيها درس شرف
الدين عبد الله بن زين القضاة عبد الرحمن بالمدرسة الرواحية بدمشق.
وفيها انتقل الشيخ الخير بن البغدادي من الحنبلية إلى مذهب الشافعية، ودرس بمدرسة أم الخليفة، وحضر عنده الاكابر من سائر المذاهب.
وفيها توفي من الاعيان:
__________
(1) قال ابن خلدون 5 / 341: إن الفرنج راسلوا العادل في الصلح فلم يجبهم وأظله الشتاء، وقد عاد من طرابلس إلى قدس، فأذن لعساكر الجزيرة في العودة إلى بلادهم ثم عاد دمشق وشتى بها.
(انظر تاريخ ابن الاثير 12 / 274).
(2) في ابن الاثير: نصرة الدين.
(3) والخلعة جبة أطلس أسود بطراز مذهب وعمامة سوداء بطراز مذهب وطوق ذهب مجوهر تطوق به الملك العادل وسيف جميع قرابه ملبس ذهبا تقلد به وحصان أشهب بمركب ذهب ونشر على رأسه علم أسود مكتوب فيه بالبياض اسم الخليفة (تاريخ أبي الفداء 3 / 109).
الامير بنيامين بن عبد الله (1) أحد أمراء الخليفة الناصر، كان من سادات الامراء عقلا وعفة ونزاهة، سقاه بعض الكتاب من النصارى سما فمات.
وكان اسم الذي سقاه ابن ساوا، فسلمه الخليفة إلى غلمان بنيامين فشفع فيه ابن مهدي الوزير وقال: إن النصارى قد بذلوا فيه خمسين ألف دينار، فكتب الخليفة على رأس الورقة: إن الاسود أسود الغاب همتها * يوم الكريهة في المسلوب لا السلب فتسلمه غلمان بنيامين فقتلوه وحرقوه، وقبض الخليفة بعد ذلك على الوزير ابن مهدي كما تقدم.
حنبل بن عبد الله ابن الفرج بن سعادة الرصافي الحنبلي، المكبر بجامع المهدي، راوي مسند أحمد عن ابن
الحصين عن ابن المذهب عن أبي مالك عن عبد الله عن أبيه، عمر تسعين سنة وخرج من بغداد فأسمعه بإربل، واستقدمه ملوك دمشق إليها فسمع الناس بها عليه المسند، وكان المعظم يكرمه ويأكل عنده على السماط من الطيبات، فتضيبه التخمة كثيرا، لانه كان فقيرا ضيق الامعاء من قلة الاكل، خشن العيش ببغداد، وكان الكندي إذا دخل على المعظم يسأل عن حنبل فيقول المعظم هو متخوم، فيقول أطعمه العدس فيضحك المعظم، ثم أعطاه المعظم ما لا جزيلا ورده إلى بغداد فتوفي بها، وكان مولده سنة عشر وخمسمائة، وكان معه ابن طبرزد، فتأخرت وفاته عنه إلى سنة سبع وستمائة.
عبد الرحمن بن عيسى ابن أبي الحسن المروزي (2) الواعظ البغدادي، سمع من ابن أبي الوقت وغيره، واشتغل على ابن الجوزي بالوعظ، ثم حدثته نفسه بمضاهاته وشمخت نفسه، واجتمع عليه طائفة من أهل باب النصيرة ثم تزوج في آخر عمره وقد قارب السبعين، فاغتسل في يوم بارد فانتفخ ذكره فمات في هذه السنة.
__________
(1) في شذرات الذهب 5 / 9: أيتمس مملوك الخليفة الناصر.
(2) في شذرات الذهب 5 / 13 البزوري: نسبة إلى قرية بزورا وهي إحدى قرى دجيل.
الامير زين الدين قراجا الصلاحي صاحب صرخد، كانت له دار عند باب الصغير عند قناة الزلاقة، وتربته بالسفح في قبة على جادة الطريق عند تربة ابن تميرك، وأقر العادل ولده يعقوب على صرخد.
عبد العزيز الطبيب توفي فجأة، وهو والد سعد الدين الطبيب الاشرفي، وفيه يقول ابن عنين: فراري ولا خلف الخطيب جماعة * وموت ولا عبد العزيز طبيب وفيها توفي:
العفيف بن الدرحي إمام مقصورة الحنفية الغربية بجامع بني أمية.
أبو محمد جعفر بن محمد ابن محمود بن هبة الله بن أحمد بن يوسف الاربلي، كان فاضلا في علوم كثيرة في الفقه على مذهب الشافعي، والحساب والفرائض والهندسة والادب والنحو، وما يتعلق بعلوم القرآن العزيز وغير ذلك.
ومن شعره: لا يدفع المرء ما يأتي به القدر * وفي الخطوب إذا فكرت معتبر فليس ينجي من الاقدار إن نزلت * رأي وحزم ولا خوف ولا حذر فاستعمل الصبر في كل الامور ولا * تجزع لشئ فعقبى صبرك الظفر كم مسنا عسر فصرفه ال * اله عنا وولى بعده يسر لا ييئس المرء من روح الاله فما * ييأس منه إلا عصبة كفروا إني لاعلم أن الدهر ذو دول * وأن يوميه ذا أمن وذا خطر ثم دخلت سنة خمس وستمائة في محرمها كمل بناء دار الضيافة ببغداد التي أنشأها الناصر لدين الله بالجانب الغربي منها للحجاج والمارة لهم الضيافة ما داموا نازلين بها، فإذا أراد أحدهم السفر منها زود وكسي وأغطي بعد ذلك دينارا، جزاه الله خيرا.
وفيها عاد أبو الخطاب ابن دحية الكلبي من رحلته العراقية
فاجتاز بالشام فاجتمع في مجلس الوزير الصفي هو والشيخ تاج الدين أبو اليمن الكندي شيخ اللغة والحديث، فأورد ابن دحية في كلامه حديث الشفاعة حتى انتهى إلى قول إبراهيم عليه السلام " إنما كنت خليلا من وراء وراء " بفتح اللفظتين، فقال الكندي من وراء وراء بضمهما، فقال ابن دحية للوزير ابن شكر: من هذا ؟ فقال: هذا أبو اليمن الكندي، فنال منه ابن دحية، وكان جريئا، فقال الكندي: هو من كلب ينبح كما ينبح الكلب.
قال أبو شامة: وكلتا اللفظتين
محكية، وحكى فيهما الجر أيضا.
وفيها عاد فخر الدين ابن تيمية خطيب من حران من الحج إلى بغداد وجلس بباب بدر للوعظ، مكان محيي الدين يوسف بن الجوزي، فقال في كلامه ذلك: وابن اللبون إذا ما لز في قرن * لم يستطع صولة البزل القناعيس كأنه يعرض بابن الجوزي يوسف، لكونه شابا ابن خمس وعشرين سنة والله أعلم.
وفي يوم الجمعة تاسع محرم دخل مملوك إفرنجي من باب مقصورة جامع دمشق وهو سكران وفي يده سيف مسلول، والناس جلوس ينتظرون صلاة الفجر، فمال على الناس يضربهم بسيفه فقتل اثنين أو ثلاثة، وضرب المنبر بسيفه فانكسر سيفه فأخذ وأودع المارستان، وشنق في يومه ذلك على جسر اللبادين.
وفيها عاد الشيخ شهاب الدين السهروردي من دمشق بهدايا الملك العادل فتلقاه الجيش ومعه أموال كثيرة أيضا لنفسه، وكان قبل ذلك فقيرا زاهدا، فلما عاد منع من الوعظ وأخذت منه الربط التي يباشرها، ووكل إلى ما بيده من الاموال، فشرع في تفريقها على الفقراء والمساكين، فاستغنى منه خلق كثير، فقال المحيي ابن الجوزي في مجلس وعظه: لا حاجة بالرجل يأخذ أموالا من غير حقها ويصرفها إلى من يستحقها، ولو ترك على ما كان تركها أولى به من تناولها، وإنما أراد أن ترتفع منزلته ببذلها.
ويعود على حاله كما كان مباشره لما بذلها، فليحذر العبد الدنيا فإنها خداعة غرارة تسترق فحول العلماء والعباد، وقد وقع ابن الجوزي فيما بعد فيما وقع فيه السهروردي وأعظم.
وفيها قصدت الفرنج حمص وعبروا على العاصي يجسر عدوة، فلما عرف بهم العساكر ركبوا في آثارهم فهربوا منهم فقتلوا خلقا كثيرا منهم وغنم المسلمون منهم غنيمة جيدة ولله الحمد.
وفيها قتل صاحب الجزيرة، وكان من أسوأ الناس سيرة وأخبثهم سريرة، وهو الملك سنجر شاه بن غازي بن مودود بن زنكي بن آقسنقر الاتابكي، ابن عم نور الدين صاحب الموصل، وكان الذي تولى قتله ولده غازي، توصل إليه حتى دخل عليه وهو في الخلاء سكران، فضربه بسكين أربع عشرة ضربة، ثم ذبحه، وذلك كله ليأخذ الملك من بعده فحرمه الله إياه، فبويع بالملك لاخيه محمود وأخذ غازي القاتل فقتله من يومه، فسلبه الله الملك والحياة، ولكن أراح الله المسلمين من
ظلم أبيه وغشمه وفسقه.
وفيها توفي من الاعيان:
أبو الفتح محمد بن أحمد بن بخيتار ابن علي الواسطي المعروف بابن السنداي (1)، آخر من روى المسند عن أحمد [ بن حنبل عن ] (2) ابن الحصين، وكان من بيت فقه وقضاء وديانة، وكان ثقة عدلا متورعا في النقل، ومما أنشده من حفظه: ولو أن ليلى مطلع الشمس دونها * وكانت من وراء الشمس حين تغيب لحدثت نفسي بانتظار نوالها * وقال المنى لي: إنها لقريب قاضي القضاة لمصر صدر الدين عبد الملك بن درباس المارداني الكردي والله أعلم.
ثم دخلت سنة ست وستمائة في المحرم وصل نجم الدين خليل شيخ الحنفية من دمشق إلى بغداد في الرسلية عن العادل، ومعه هدايا كثيرة، وتناظر هو وشيخ النظامية مجد الدين يحيى بن الربيع في مسألة وجوب الزكاة في مال اليتيم والمجنون، وأخذ الحنفي يستدل على عدم وجوبها، فاعترض عليه الشافعي فأجاد كل منهما في الذي أورده، ثم خلع على الحنفي وأصحابه بسبب الرسالة، وكانت المناظرة بحضرة نائب الوزير ابن شكر.
وفي يوم السبت خامس جمادى الآخرة وصل الجمال يونس بن بدران المصري رئيس الشافعية بدمشق إلى بغداد في الرسلية عن العادل، فتلقاه الجيش مع حاجب الحجاب، ودخل معه ابن أخي صاحب إربل مظفر الدين كوكري (3)، والرسالة تتضمن الاعتذار عن صاحب إربل والسؤال في الرضا عنه، فأجيب إلى ذلك.
وفيها ملك العادل الخابور ونصيبين وحاصر مدينة سنجار مدة فلم يظفر بها ثم صالح صاحبها ورجع عنها (4).
وفيها توفي من الاعيان:
__________
(1) في ابن الاثير: المنداي، وفي الوافي 2 / 116: المنداءي، وفي غاية النهاية 2 / 56: الميداني.
(2) سقطت من الاصل، واستدركت من ابن الاثير.
(3) في ابن الاثير: كوكبري.
(4) تم الصلح بينهما على اقتسام البلاد التي لقطب الدين محمد بن زنكي بن مودود صاحب سنجار تكون للعادل، وتكون الجزيرة لنور الدين ارسلان صاحب الموصل.
(ابن الاثير 12 / 284).
القاضي الاسعد بن مماتي أبو المكارم أسعد بن الخطير أبي سعيد مهذب بن مينا بن زكريا الاسعد بن مماتي بن أبي قدامة بن أبي مليح المصري الكاتب الشاعر، أسلم في الدولة الصلاحية وتولى نظر الدواوين بمصر مدة قال ابن خلكان: وله فضائل عديدة، ومصنفات كثيرة، ونظم " سيرة صلاح الدين " و " كليلة ودمنة "، وله ديوان شعر.
ولما تولى الوزير ابن شكر هرب منه إلى حلب فمات بها وله ثنتان وستون سنة.
فمن شعره في ثقيل زاره بدمشق: حكى نهرين وما في الار * ض من يحكيهما أبدا حكى في خلقه ثورا * أراد وفي أخلاقه بردا (1) أبو يعقوب يوسف بن إسماعيل ابن عبد الرحمن بن عبد السلام اللمعاني، أحد الاعيان من الحنفية ببغداد، سمع الحديث ودرس بجامع السلطان، وكان معتزليا في الاصول، بارعا في الفروع، اشتغل على أبيه وعمه، وأتقن الخلاف وعلم المناظرة، وقارب التسعين.
أبو عبد الله محمد بن الحسن المعروف بابن الخراساني، المحدث الناسخ، كتب كثيرا من الحديث وجمع خطبا له ولغيره وخطه جيد مشهور.
أبو المواهب معتوق بن منيع
ابن مواهب الخطيب البغدادي، قرأ النحو واللغة على ابن الخشاب، وجمع خطبا كان يخطب منها، وكان شيخا فاضلا له ديوان شعر، فمنه قوله: ولا ترجو الصداقة من عدو * يعادي نفسه سرا وجهرا فلو أجدت مودته انتفاعا * لكان النفع منه إليه أجرا ابن خروف شارح سيبويه، علي بن محمد بن يوسف أبو الحسن بن خروف الاندلسي النحوي شرح
__________
(1) ثورى وبردى نهران مشهوران بدمشق.
سيبويه، وقدمه إلى صاحب المغرب فأعطاه ألف دينار، وشرح جمل الزجاجي، وكان ينتقل في البلاد ولا يسكن إلا في الخانات، ولم يتزوج ولا تسرى، ولذلك علة تغلب على طباع الاراذل، وقد تغير عقله في آخر عمره، فكان يمشي في الاسواق مكشوف الرأس، توفي عن خمس وثمانين سنة (1).
أبو علي يحيى بن الربيع ابن سليمان بن حرار الواسطي البغدادي، اشتغل بالنظامية على فضلان وأعاد عنه، وسافر إلى محمد بن يحيى فأخذ عنه طريقته في الخلاف، ثم عاد إلى بغداد ثم صار مدرسا بالنظامية وناظرا على أوقافها، وقد سمع الحديث وكان لديه علوم كثيره، ومعرفة حسنة بالمذهب، وله تفسير في أربع مجلدات كان يدرس منه، واختصر تاريخ الخطيب والذيل عليه لابن السمعاني وقارب الثمانين.
ابن الاثير صاحب جامع الاصول والنهاية المبارك بن محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد مجد الدين أبو السعادات الشيباني الجزري الشافعي، المعروف بابن الاثير، وهو أخو الوزير وزير الافضل ضياء الدين نصر الله، وأخو الحافظ عز الدين أبي الحسن علي صاحب الكامل في التاريخ، ولد أبو السعادات هذا في
إحدى الربيعين سنة أربع وأربعين وخمسمائة، وسمع الحديث الكثير وقرأ القرآن وأتقن علومه وحررها، وكان مقامه بالموصل، وقد جمع في سائر العلوم كتبا مفيدة، منها جامع الاصول الستة الموطأ والصحيحين وسنن أبي داود والنسائي والترمذي، ولم يذكر ابن ماجه فيه، وله كتاب النهاية في غريب الحديث وله شرح مسند الشافعي والتفسير في أربع مجلدات، وغير ذلك في فنون شتى، وكان معظما عند ملوك الموصل، فلما آل الملك إلى نور الدين أرسلان شاه، أرسل إليه مملوكه لؤلؤ أن يستوزره فأبى فركب السلطان إليه فامتنع أيضا وقال له: قد كبرت سني واشتهرت بنشر العلم، ولا يصلح هذا الامر إلا بشئ من العسف والظلم، ولا يليق بي ذلك، فأعفاه.
قال أبو السعادات: كنت أقرأ علم العربية على سعيد بن الدهان، وكان يأمرني بصنعة الشعر فكنت لا أقدر عليه، فلما توفي الشيخ رأيته في بعض الليالي، فأمرني بذلك، فقلت له: ضع لي مثالا أعمل عليه فقال: حب العلا مدمنا إن فاتك الظفر * فقلت أنا: وخد خد الثرى والليل معتكر فالعز في صهوات الليل مركزه * والمجد ينتجه الاسراء والسهر
__________
(1) ذكر أبو الفداء وفاته سنة 609 ه.
(تاريخ أبي الفداء 3 / 115).
فقال: أحسنت، ثم استيقظت فأتممت عليها نحوا من عشرين بيتا.
كانت وفاته في سلخ ذي الحجة عن ثنتين وستين سنة، وقد ترجمه أخوه في الذيل فقال: كان عالما في عدة علوم منها الفقه وعلم الاصول والنحو والحديث واللغة، وتصانيفه مشهورة في التفسير والحديث والفقه والحساب وغريب الحديث، وله رسائل مدونة، وكان مغلقا يضرب به المثل ذا دين متين، ولزم طريقة مستقيمة رحمه الله، فلقد كان من محاسن الزمان.
قال ابن الاثير وفيها توفي: المجد المطرزي النحوي الخوارزمي كان إماما في النحو له فيه تصانيف حسنة.
قال أبو شامة.
وفيها توفي:
الملك المغيث فتح الدين عمر بن الملك العادل، ودفن في تربة أخيه المعظم بسفح قاسيون (1).
والملك المؤيد: مسعود بن صلاح الدين بمدرسة رأس العين فحمل إلى حلب فدفن بها.
وفيها توفي: الفخر الرازي المتكلم صاحب التيسير والتصانيف، يعرف بابن خطيب الري، واسمه محمد بن عمر بن الحسين بن علي القرشي التيمي البكري، أبو المعالي وأبو عبد الله المعروف بالفخر الرازي، ويقال له ابن خطيب الري، أحد الفقهاء الشافعية المشاهير بالتصانيف الكبار والصغار نحو من مائتي مصنف، منها التفسير الحافل والمطالب العالية، والمباحث الشرقية، والاربعين، وله أصول الفقه والمحصول وغيره (2)، وصنف ترجمة الشافعي في مجلد مفيد، وفيه غرائب لا يوافق عليها، وينسب إليه أشياء عجيبة، وقد ترجمته في طبقات الشافعية، وقد كان معظما عند ملوك خوارزم وغيرهم، وبنيت له مدارس كثيرة في بلدان شتى، وملك من الذهب العين ثمانين ألف دينار، وغير ذلك من الامتعة والمراكب والاثاث والملابس، وكان له خمسون مملوكا من الترك، وكان يحضر
__________
(1) في الاصل: قايسون.
(2) ذكر الوافي بالوفيات تصانيف كثيرة للفخر الرازي انظر ج 4 / 255 ووفيات الاعيان 4 / 249.
في مجلس وعظه الملوك والوزراء والعلماء والامراء والفقراء والعامة، وكانت له عبادات وأوراد، وقد وقع بينه وبين الكرامية في أوقات وكان يبغضهم ويبغضونه ويبالغون في الحط عليه، ويبالغ هو أيضا في ذمهم.
وقد ذكرنا طرفا من ذلك فيما تقدم، وكان مع غزارة علمه في فن الكلام يقول: من لزم مذهب العجائز كان هو الفائز، وقد ذكرت وصيته (1) عند موته وأنه رجع عن مذهب الكلام فيها إلى طريقة السلف وتسليم ما ورد على وجه المراد اللائق بجلال الله سبحانه.
وقال
الشيخ شهاب الدين أبو شامة في الذيل في ترجمته: كان يعظ وينال من الكرامية وينالون منه سبا وتكفيرا بالكبائر، وقيل إنهم وضعوا عليه من سقاه سما فمات ففرحوا بموته، وكانوا يرمونه بالمعاصي مع المماليك وغيرهم، قال: وكانت وفاته في ذي الحجة، ولا كلام في فضله ولا فيما كان يتعاطاه، وقد كان يصحب السلطان ويحب الدنيا ويتسع فيها اتساعا زائدا، وليس ذلك من صفة العلماء، ولهذا وأمثاله كثرت الشناعات عليه، وقامت عليه شناعات عظيمة بسبب كلمات كان يقولها مثل قوله: قال محمد البادي، يعني العربي يريد به النبي صلى الله عليه وسلم، نسبة إلى البادية.
وقال محمد الرازي يعني نفسه، ومنها أنه كان يقرر الشبهة من جهة الخصوم بعبارات كثيرة ويجيب عن ذلك بأدنى إشارة وغير ذلك، قال وبلغني أنه خلف من الذهب العين مائتي ألف دينار غير ما كان يملكه من الدواب والثياب والعقار والآلات، وخلف ولدين أخذ كل واحد منهما أربعين ألف دينار، وكان ابنه الاكبر قد تجند وخدم السلطان محمد بن تكش.
وقال ابن الاثير في الكامل: وفيها توفي فخر الدين الرازي محمد بن عمر بن خطيب الري الفقيه الشافعي صاحب التصانيف المشهورة والفقه والاصول (2)، كان إمام الدنيا في عصره، بلغني أن مولده سنة ثلاث (3) وأربعين وخمسمائة ومن شعره قوله: إليك إله الخلق وجهي ووجهتي * وأنت الذي أدعوه في السر والجهر وأنت غياثي عند كل ملمة * وأنت ملاذي في حياتي وفي قبري ذكره ابن الساعي عن ياقوت الحموي عن ابن لفخر الدين عنه وبه قال: تتمة أبواب السعادة للخلق * بذكر جلال الواحد الاحد الحق مدبر كل الممكنات بأسرها * ومبدعها بالعدل والقصد والصدق أجل جلال الله عن شبه خلقه * وأنصر هذا الدين في الغرب والشرق إله عظيم الفضل والعدل والعلى * هو المرشد المغوي هو المسعد المشقي ومما كان ينشده:
__________
(1) نسخة وصيته في الوافي بالوفيات 4 / 250.
(2) في ابن الاثير: في الفقه والاصول وغيرهما.
(3) في الوافي: أربع.
وانظر وفيات الاعيان 4 / 252.
وأرواحنا في وحشة من جسومنا * وحاصل دنيانا أذى (1) ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا (2) * سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا ثم يقول: لقد اختبرت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فلم أجدها تروي غليلا ولا تشفي عليلا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الاثبات (الرحمن على العرش استوى) [ طه: 5 ] (إليه يصعد الكلم الطيب) [ فاطر: 10 ] وفي النفي (ليس كمثله شئ) [ الشورى: 11 ] (هل تعلم له سميا) [ مريم: 65 ].
ثم دخلت سنة سبع وستمائة ذكر الشيخ أبو شامة أن في هذه السنة تمالات ملوك الجزيرة: صاحب الموصل وصاحب سنجار وصاحب إربل والظاهر صاحب حلب وملك الروم، على مخالفة العادل ومنابذته ومقاتلته واصطلام الملك من يده، وأن تكون الخطبة للملك كنجر بن قلج أرسلان صاحب الروم، وأرسلوا إلى الكرج ليقدموا لحصار خلاط، وفيها الملك الاوحد ابن العادل، ووعدهم النصر والمعاونة عليه.
قلت: وهذا بغي وعدوان ينهى الله عنه، فأقبلت الكرج بملكهم إيواني فحاصروا خلاط فضاق بهم الاوحد ذرعا وقال: هذا يوم عصيب، فقدر الله تعالى أن في يوم الاثنين تاسع عشر ربيع الآخر اشتد حصارهم للبلد وأقبل ملكهم إيواني وهو راكب على جواده وهو سكران فسقط به جواده في بعض الحفر التي قد أعدت مكيدة حول البلد، فبادر إليه رجال البلد فأخذوه أسيرا حقيرا، فأسقط في أيدي الكرج، فما أوقف بين يدي الاوحد أطلقه ومن عليه وأحسن إليه، وفاداه على مائتي ألف دينار وألفي أسير (3) من المسلمين، وتسليم إحدى وعشرين قلعة متاخمة لبلاد الاوحد، وأن يزوج ابنته من أخيه الاشرف موسى (4)، وأن يكون عونا له على من يحاربه، فأجابه إلى ذلك كله فأخذت منه الايمان بذلك وبعث الاوحد إلى أبيه يستأذنه في ذلك كله وأبوه نازل بظاهر
حراب في أشد حدة مما قد داهمه من هذا الامر الفظيع، فبينما هو كذلك إذ أتاه هذا الخبر والامر الهائل من الله العزيز الحكيم، لا من حولهم ولا من قوتهم، ولا كان في بالهم، فكاد يذهل من شدة الفرح والسرور، ثم أجاز جميع ما شرطه ولده، وطارت الاخبار بما وقع بين الملوك فخضعوا وذلوا عند ذلك، وأرسل كل منهم يعتذر مما نسب إليه ويحيل على غيره، فقبل منهم اعتذاراتهم وصالحهم صلحا أكيدا واستقبل الملك عصرا جديدا، ووفى ملك الكرج الاوحد بجميع ما شرطه
__________
(1) في الوافي: ردى.
(2) في الوافي: دهرنا..قلت وقالوا.
(3) في تاريخ أبي الفداء: 3 / 113: خمسة الآف أسير ومائة ألف دينار وعقد الهدنة ثلاثين سنة مع المسلمين.
(4) في ابن خلدون 5 / 342 وتاريخ أبي الفداء 3 / 113: أن يزوج ابنته من الملك الاوحد.
عليه، وتزوج الاشرف ابنته.
ومن غريب ما ذكره أبو شامة في هذه الكائنة أن قسيس الملك كان ينظر في النجوم فقال للملك قبل ذلك بيوم: اعلم أنك تدخل غدا إلى قلعة خلاط ولكن بزي غير ذلك أذان العصر، فوافق دخوله إليها أسيرا أذان العصر.
ذكر وفاة صاحب الموصل نور الدين أرسل الملك نور الدين شاه بن عز الدين مسعود بن قطب الدين مودود بن زنكي صاحب الموصل يخطب ابنة السلطان الملك العادل، وأرسل وكيله لقبول العقد على ثلاثين ألف دينار، فاتفق موت نور الدين ووكيله سائر في أثناء الطريق، فعقد العقد بعد وفاته، وقد أثنى عليه ابن الاثير في كامله كثيرا وشكر منه ومن عدله وشهامته وهو أعلم به من غيره، وذكر أن مدة ملكه سبع عشرة سنة وإحدى عشر شهرا، وأما أبو المظفر السبط فإنه قال: كان جبارا ظالما بخيلا سفاكا للدماء فالله أعلم به.
وقام بالملك ولده القاهر عز الدين مسعود، وجعل تدبير مملكته إلى غلامه بدر الدين لؤلؤ الذي صار الملك إليه فيما بعد.
قال أبو شامة: وفي سابع شوال شرع في عمارة المصلى، وبنى له أربع جدر مشرفة، وجعل
له أبوابا صونا لمكانه من الميار ونزول القوافل، وجعل في قبلته محرابا من حجارة ومنبرا من حجارة وعقدت فوق ذلك قبة.
ثم في سنة ثلاث عشرة عمل في قبلته رواقان وعمل له منبر من خشب ورتب له خطيب وإمام راتبان، ومات العادل ولم يتم الرواق الثاني منه، وذلك كله على يد الوزير الصفي ابن شكر.
قال وفي ثاني شوال منها جددت أبواب الجامع الاموي من ناحية باب البريد بالنحاس الاصفر، وركبت في أماكنها.
وفي شوال أيضا شرع في إصلاح الفوارة والشاذروان والبركة وعمل عندها مسجد، وجعل له إمام راتب، وأول من تولاه رجل يقال له النفيس المصري، وكان يقال له بوق الجامع لطيب صوته إذا قرأ على الشيخ أبي منصور الضرير المصدر فيجتمع عليه الناس الكثيرون.
وفي ذي الحجة منها توجهت مراكب من عكا إلى البحر إلى ثغر دمياط وفيها ملك قبرص المسمى إليان فدخل الثغر ليلا فأغار على بعض البلاد فقتل وسبى وكر راجعا فركب مراكبه ولم يدركه الطلب، وقد تقدمت له مثلها قبل هذه، وهذا شئ لم يتفق لغيره لعنه الله.
وفيها عاثت الفرنج بنواحي القدس فبرز إليهم الملك المعظم، وجلس الشيخ شمس الدين أبو المظفر بن قر علي الحنفي وهو سبط ابن الجوزي ابن ابنته رابعة، وهو صاحب مرآة الزمان، وكان فاضلا في علوم كثيرة، حسن الشكل طيب الصوت، وكان يتكلم في الوعظ جيدا وتحبه العامة على صيت جده، وقد رحل من بغداد فنزل دمشق وأكرمه ملوكها، وولي التدريس بها، وكان يجلس كل يوم سبت عند باب مشهد علي بن الحسين زين العابدين إلى السارية التي يجلس
عندها الوعاظ في زماننا هذا، فكان يكثر الجمع عنده حتى يكونوا من باب الناطفانيين إلى باب المشهد إلى باب الساعات، الجلوس غير الوقوف، فحزر جمعه في بعض الايام ثلاثين ألفا من الرجال والنساء، وكان الناس يبيتون ليلة السبت في الجامع ويدعون البساتين، يبيتون في قراءة ختمات وأذكار ليحصل لهم أماكن من شدة الزحام، فإذا فرغ من وعظه خرجوا إلى أماكنهم وليس لهم كلام إلا فيما قال يومهم ذلك أجمع، يقولون قال الشيخ وسمعنا من الشيخ فيحثهم ذلك على
العمل الصالح والكف عن المساوي، وكان يحضر عنده الاكابر، حتى الشيخ تاج الدين أبو اليمن الكندي، كان يجلس في القبة التي عند باب المشهد هو ووالي البلد المعتمد ووالي البر ابن تميرك وغيرهم.
والمقصود أنه لما جلس يوم السبت خامس ربيع الاول كما ذكرنا حث الناس على الجهاد وأمر بإحضار ما كان تحصل عنده من شعور التائبين، وقد عمل منه شكالات تحمل الرجال، فلما رآها الناس ضجوا ضجة واحدة وبكوا بكاء كثيرا وقطعوا من شعورهم نحوها، فلما انقضى المجلس ونزل عن المنبر فتلقاه الوالي مبادر الدين المعتمد بن إبراهيم، وكان من خيار الناس، فمشى بين يديه إلى باب الناطفيين يعضده حتى ركب فرسه والناس من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، فخرج من باب الفرج وبات بالمصلى ثم ركب من الغد في الناس إلى الكسوة ومعه خلائق كثيرون خرجوا بنية الجهاد إلى بلاد القدس، وكان من جملة من معه ثلاثمائة من جهة زملكا بالعدد الكثيرة التامة، قال: فجئنا عقبة أفيق والطير لا يتجاسر أن يطير من خوف الفرنج، فلما وصلنا نابلس تلقانا المعظم، قال ولم أكن اجتمعت به قبل ذلك، فلما رأى الشكالات من شعور التائبين جعل يقبلها ويمرغها على عينيه ووجهه ويبكي، وعمل أبو المظفر ميعادا بنابلس وحث على الجهاد وكان يوما مشهودا، ثم سار هو ومن معه وصحبته المعظم نحو الفرنج فقتلوا خلقا وخربوا أماكن كثيرة، وغنموا وعادوا سالمين، وشرع المعظم في تحصين جبل الطور وبنى قلعة فيه ليكون إلبا على الفرنج، فغرم أموالا كثيرة في ذلك، فبعث الفرنج إلى العادل يطلبون منه الامان والمصالحة، فهادنهم وبطلت تلك العمارة وضاع ما كان المعظم غرم عليها والله أعلم.
وفيها توفي من الاعيان: الشيخ أبو عمر باني المدرسة بسفح قاسيون (1) للفقراء المشتغلين في القرآن رحمه الله، محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة الشيخ الصالح أبو عمر المقدسي، باني المدرسة التي بالسفح يقرأ بها القرآن العزيز، وهو أخو الشيخ موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة، وكان أبو عمر أسن منه، لانه ولد سنة ثمان وعشرين وخمسمائة بقرية الساويا، وقيل بجماعيل، والشيخ أبو عمر ربى
الشيخ موفق الدين وأحسن إليه وزوجه، وكان يقوم بمصالحه، فلما قدموا من الارض المقدسة نزلوا بمسجد أبي صالح خارج باب شرقي ثم انتقلوا منه إلى السفح، وليس به من العمارة شئ سوى
__________
(1) في الاصل قايسون.
دير الحوراني، قال فقيل لنا الصالحيين نسبة إلى مسجد أبي صالح لا أنا صالحون، وسميت هذه البقعة من ذلك الحين بالصالحية نسبة إلينا، فقرأ الشيخ أبو عمر القرآن على رواية أبي عمرو، وحفظ مختصر الخرقي في الفقه، ثم إن أخاه الموفق شرحه فيما بعد فكتب شرحه بيده، وكتب تفسير البغوي والحلية لابي نعيم والابانة لابن بطة، وكتب مصاحف كثيرة بيده للناس ولاهله بلا أجرة، وكان كثير العبادة والزهادة والتهجد، ويصوم الدهر وكان لا يزال متبسما، وكان يقرأ كل يوم سبعا بين الظهر والعصر ويصلي الضحى ثماني ركعات يقرأ فيهن ألف مرة قل هو الله أحد، وكان يزور مغارة الدم في كل يوم اثنين وخميس، ويجمع في طريقه الشيخ فيعطيه الارامل والمساكين، ومهما تهيأ له من فتوح وغيره يؤثر به أهله والمساكين، وكان متقللا في الملبس وربما مضت عليه مدة لا يلبس فيها سراويل ولا قميصا، وكان يقطع من عمامته قطعا يتصدق بها أو في تكميل كفن ميت، وكان هو وأخوه وابن خالهم الحافظ عبد الغني وأخوه الشيخ العماد لا ينقطعون عن غزاة يخرج فيها الملك صلاح الدين إلى بلاد الفرنج، وقد حضروا معه فتح القدس والسواحل وغيرها، وجاء الملك العادل يوما إلى ختمهم أي خصهم لزيارة أبي عمر وهو قائم يصلي، فما قطع صلاته ولا أوجز فيها، فجلس السلطان واستمر أبو عمر في صلاته ولم يلتفت إليه حتى قضى صلاته رحمه الله والشيخ أبو عمر هو الذي شرع في بناء المسجد الجامع أولا بمال رجل فامي، فنفد ما عنده وقد ارتفع البناء قامة فبعث صاحب إربل الملك المظفر كوكري (1) مالا فكمل به، وولى خطابته الشيخ أبو عمر، فكان يخطب به وعليه لباسه الضعيف وعليه أنوار الخشية والتقوى والخوف من الله عزوجل، والمسك كيف خبأته ظهر عليك وبان، وكان المنبر الذي فيه يومئذ ثلاث مراق والرابعة للجلوس، كما كان المنبر النبوي، وقد حكى أبو المظفر: أنه حضر يوما عنده الجمعة وكان الشيخ
عبد الله البوتاني حاضرا الجمعة أيضا عنده، فلما انتهى في خطبته إلى الدعاء للسلطان قال: اللهم أصلح عبدك الملك العادل سيف الدين أبا بكر بن أيوب، فلما قال ذلك نهض الشيخ عبد الله البوتاني وأخذ نعليه وخرج من الجامع وترك صلاة الجمعة، فلما فرغنا ذهبت إلى البوتاني فقلت له: ماذا نقمت عليه في قوله ؟ فقال يقول لهذا الظالم العادل ؟ لا صليت معه، قال فبينما نحن في الحديث إذ أقبل الشيخ أبو عمر ومعه رغيف وخيارتان فكسر ذلك الرغيف وقال الصلاة، ثم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم " بعثت في زمن الملك العادل كسرى " فتبسم الشيخ عبد الله البوتاني ومد يده فأكل فلما فرغوا قام الشيخ أبو عمر فذهب فلما ذهب قال لي البوتاني يا سيدنا ماذا إلا رجل صالح.
قال أبو شامة كان البوتاني من الصالحين الكبار، وقد رأيته وكانت وفاته بعد أبي عمر بعشر سنين فلم يسامح الشيخ أبا عمر في تساهله مع ورعه، ولعله كان مسافرا والمسافر لا جمعة عليه، وعذر الشيخ أبي عمر أن هذا قد جرى مجرى الاعلام العادل الكامل الاشرف ونحوه، كما يقال
__________
(1) في ابن الاثير: كوكبري.
سالم وغانم ومسعود ومحمود، وقد يكون ذلك على الضد والعكس في هذه الاسماء، فلا يكون سالما ولا غانما ولا مسعودا ولا محمودا، وكذلك اسم العادل ونحوه من أسماء الملوك وألقابهم، والتجار وغيرهم، كما يقال شمس الدين وبدر الدين وعز الدين وتاج الدين ونحو ذلك قد يكون معكوسا على الضد والانقلاب ومثله الشافعي والحنبلي وغيرهم، وقد تكون أعماله ضد ما كان عليه إمامه الاول من الزهد والعبادة ونحو ذلك، وكذلك العادل يدخل إطلاقه على المشترك والله أعلم.
قلت: هذا الحديث الذي احتج به الشيخ أبو عمر لا أصل له، وليس هو في شئ من الكتب المشهورة، وعجبا له ولابي المظفر ثم لابي شامة في قبول مثل هذا وأخذه منه مسلما إليه فيه والله أعلم.
ثم شرع أبو المظفر في ذكر فضائل أبي عمر ومناقبه وكراماته وما رآه هو وغيره من أحواله الصالحة.
قال: وكان على مذهب السلف الصالح سمتا وهديا، وكان حسن العقيدة متمسكا
بالكتاب والسنة والآثار المروية يمرها كما جاءت من غير طعن على أئمة الدين وعلماء المسلمين، وكان ينهى عن صحبة المتبدعين ويأمر بصحبة الصالحين الذين هم على سنة سيد المرسلين وخاتم النبيين، وربما أنشدني لنفسه في ذلك: أوصيكم بالقول في القرآن * بقول أهل الحق والاتقان ليس بمخلوق ولا بفان * لكن كلام الملك الديان آياته مشرقة المعاني * متلوة لله باللسان محفوظة في الصدر والجنان * مكتوبة في الصحف بالبنان والقول في الصفات يا إخواني * كالذات والعلم مع البيان إمرارها من غير ما كفران * من غير تشبيه ولا عطلان قال وأنشدني لنفسه: ألم يك ملهاة عن اللهو أنني * بدا لي شيب الرأس والضعف والالم ألم بي الخطب الذي لو بكيته * حياتي حتى يذهب الدمع لم ألم قال ومرض أياما فلم يترك شيئا مما كان يعمله من الاوراد، حتى كانت وفاته وقت السحر في ليلة الثلاثاء التاسع والعشرين من ربيع الاول فغسل في الدير وحمل إلى مقبرته في خلق كثير لا يعلمهم إلا الله عزوجل، ولم يبق أحد من الدولة والامراء والعلماء والقضاة وغيرهم إلا حضر جنازته، وكان يوما مشهودا، وكان الحر شديدا فأظلت الناس سحابة من الحر، كان يسمع منها كدوي النحل، وكان الناس ينتهبون أكفانه وبيعت ثيابه بالغالي الغالي، ورثاه الشعراء بمراث حسنة، ورئيت له منامات صالحة رحمه الله.
وترك من الاولاد ثلاثة ذكور: عمر، وبه كان يكنى، والشرف عبد الله وهو الذي ولي الخطابة بعد أبيه، وهو والد العز أحمد.
وعبد الرحمن.
ولما توفي الشرف عبد الله
صارت الخطابة لاخيه شمس الدين عبد الرحمن بن أبي عمر، وكان من أولاد أبيه الذكور، فهؤلاء أولاد الذكور، وترك من الاناث بنات كما قال الله تعالى (مسلمات مؤمنات قانتات نائبات عابدات
سائحات ثيبات وأبكارا) [ التحريم: 5 ] قال وقبره في طريق مغارة الجوع في الزقاق المقابل لدير الحوراني رحمه الله وإيانا.
ابن طبرزد شيخ الحديث عمر بن محمد بن معمر بن يحيى المعروف بأبي حفص بن طبرزد البغدادي الدراقزي، ولد سنة خمس عشرة وخمسمائة، سمع الكثير وأسمع، وكان خليعا ظريفا ماجنا، وكان يؤدب الصبيان بدار القز قدم مع حنبل بن عبد الله المكبر إلى دمشق فسمع أهلها عليهما، وحصل لهما أموال وعادا إلى بغداد فمات حنبل سنة ثلاث وتأخر هو إلى هذه السنة في تاسع شهر رجب فمات وله سبع وتسعون (1) سنة، وترك مالا جيدا ولم يكن له وارث إلا بيت المال، ودفن بباب حرب.
السلطان الملك العادل أرسلان شاه نور الدين صاحب الموصل، وهو ابن أخي نور الدين الشهيد، وقد ذكرنا بعض سيرته في الحوادث، كان شافعي المذهب، ولم يكن بينهم شافعي سواه، وبنى للشافعية مدرسة كبيرة بالموصل وبها تربته، توفي في صفر (2) ليلة الاحد من هذه السنة.
ابن سكينة عبد الوهاب بن علي ضياء الدين المعروف بابن سكينة (3) الصوفي، كان يعد من الابدال، سمع الحديث الكثير وأسمعه ببلاد شتى، ولد في سنة تسع عشرة وخمسمائة، وكان صاحبا لابي الفرج بن الجوزي ملازما لمجلسه وكان يوم جنازته يوما مشهودا لكثرة الخلق ولكثرة ما كان فيه من الخاصة والعامة رحمه الله.
مظفر بن ساسير الواعظ الصوفي البغدادي، ولد سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة، وسمع الحديث، وكان
__________
(1) في شذرات الذهب 5 / 26: عاش تسعين سنة وسبعة أشهر.
وقد ذكر ولادته سنة 516 ه فعلى قوليهما يكون عند وفاته لم يتجاوز 71 سنة.
(2) في ابن الاثير: أواخر رجب، وفي وفيات الاعيان 1 / 193 والوافي 8 / 341: توفي 29 رجب.
(3) وهي جدته.
يعظ في الاعزية والمساجد والقرى، وكان ظريفا مطبوعا قام إليه إنسان فقال له فيما بينه وبينه: أنا مريض جائع، فقال: احمد ربك فقد عوفيت.
واجتاز مرة على قصاب يبيع لحما ضعيفا وهو يقول أين من حلف لا يغبن، فقال له حتى تحنثه.
قال: وعملت مرة مجلسا بيعقوبا فجعل هذا يقول عندي للشيخ نصفية وهذا يقول عندي للشيخ نصفية وهذا يقول مثله حتى عدوا نحوا من خمسين نصفية، فقلت في نفسي: استغنيت الليلة فأرجع إلى البلد تاجرا، فلما أصبحت إذا صبرة من شعير في المسجد فقيل لي هذه النصافي التي ذكر الجماعة، وإذا هي بكيلة يسمونها نصفية مثل الزبدية، وعملت مرة مجلسا بباصرا فجمعوا لي شيئا لا أدري ما هو، فلما أصبحنا إذا شئ من صوف الجواميس وقرونها، فقام رجل ينادي عليكم عندكم في قرون الشيخ وصوفه، فقلت لا حاجة لي بهذا وأنتم في حل منه.
ذكره أبو شامة.
ثم دخلت سنة ثمان وستمائة استهلت والعادل مقيم على الطور لعمارة حصنه، وجاءت الاخبار من بلاد المغرب بأن عبد المؤمن قد كسر الفرنج بطليطلة كسرة عظيمة، وربما فتح البلد عنوة وقتل منهم خلقا كثيرا.
وفيها كانت زلزلة عظيمة شديدة بمصر والقاهرة، هدمت منها دورا كثيرة، وكذلك بالكرك والشوبك هدمت من قلعتها أبراجا، ومات خلق كثير من الصبيان والنسوان تحت الهدم، ورئي دخان نازل من السماء فيما بين المغرب والعشاء عند قبر عاتكة غربي دمشق.
وفيها أظهرت الباطنية الاسلام وأقامت الحدود على من تعاطى الحرام، وبنوا الجوامع والمساجد، وكتبوا إلى إخوانهم بالشام بمضات وأمثالها بذلك، وكتب زعيمهم جلال الدين إلى الخليفة يعلمه بذلك، وقدمت أمة منهم إلى بغداد لاجل الحج فأكرموا وعظموا بسبب ذلك، ولكن لما كانوا بعرفات ظفر واحد منهم على قريب لامير مكة قتادة الحسيني فقتله ظانا أنه قتادة فثارت فتنة بين سودان مكة وركب العراق، ونهب الركب وقتل منهم خلق كثير.
وفيها اشترى الملك الاشرف جوسق الريس من النيرب من
ابن عم الظاهر خضر بن صلاح الدين وبناه بناء حسنا، وهو المسمى بزماننا بالدهشة.
وفيها توفي من الاعيان: الشيخ عماد الدين محمد بن يونس الفقيه الشافعي الموصلي صاحب التصانيف والفنون الكثيرة، كان رئيس الشافعية بالموصل، وبعث رسولا إلى بغداد بعد موت نور الدين أرسلان، وكان عنده وسوسة كثيرة في الطهارة، وكان يعامل في الاموال بمسألة العينة كما قيل تصفون البعوض من شرابكم وتستر بطون الجمال بأحمالها، ولو عكس الامر لكان خيرا له، فلقيه يوما قضيب الباب الموكه فقال
له: يا شيخ بلغني عنك أنك تغسل العضو من أعضائك بإبريق من الماء فلم لا تغسل اللقمة التي تأكلها لتستنظف قلبك وباطنك ؟ ففهم الشيخ ما أراد فترك ذلك.
توفي بالموصل في رجب عن ثلاث وسبعين سنة.
ابن حمدون تاج الدين أبو سعد الحسن بن محمد بن حمدون، صاحب التذكرة الحمدونية (1)، كان فاضلا بارعا، اعتنى بجمع الكتب المنسوبة وغيرها، وولاه الخليفة المارستان العضدي، توفي بالمدائن وحمل إلى مقابر قريش فدفن بها.
صاحب الروم خسروشاه ابن قلج أرسلان، مات فيها وقام بالملك بعده ولده كيكايرس (2)، فلما توفي في سنة خمس عشرة ملك أخوه كيقباذ صارم الدين برغش العادلي نائب القلعة بدمشق، مات في صفر ودفن بتربته غربي الجامع المظفري، وهذا الرجل هو الذي نفى الحافظ عبد الغني المقدسي إلى مصر وبين يديه كان عقد المجلس، وكان في جملة من قام عليه ابن الزكي والخطيب الدولعي، وقد توفوا أربعتهم وغيرهم ممن قام عليه واجتمعوا عند ربهم الحكم العدل سبحانه.
الامير فخر الدين سركس
ويقال له جهاركس أحد أمراء الدولة الصلاحية وإليه تنسب قباب سركس بالسفح تجاه تربة خاتون وبها قبره.
قال ابن خلكان: هذا هو الذي بنى القيسارية الكبرى بالقاهرة المنسوبة إليه وبنى في أعلاها مسجدا معلقا وربعا، وقد ذكر جماعة من التجار أنهم لم يروا لها نظيرا في البلدان في حسنها وعظمها وإحكام بنائها.
قال: وجهاركس بمعنى أربعة أنفس.
قلت: وقد كان نائبا للعادل على بانياس وتينين وهو بين، فلما توفي ترك ولدا صغيرا فأقره العادل على ما كان يليه أبوه وجعل له مدبرا وهو الامير صارم الدين قطلبا التنيسي، ثم استقل بها بعد موت الصبي إلى سنة خمس عشرة.
__________
(1) قال ابن الاثير: وهو ولد مصنف التذكرة، (انظر الكامل 12 / 299) ووالده أبو المعالي محمد بن الحسن بن محمد بن علي بن حمدون كافي الكفاة بهاء الدين وقد توفي محبوسا سنة 562.
انظر الوافي 2 / 357 ابن خلكان 4 / 380 الفوات 2 / 377 والنجوم الزاهرة 5 / 374.
(2) في تاريخ أبي الفداء 3 / 115: كيكاوس.
الشيخ الكبير المعمر الرحلة أبو القاسم أبو بكر أبو الفتح منصور بن عبد المنعم بن عبد الله بن محمد بن الفضل الفراوي النيسابوري، سمع أباه وجد أبيه وغيرهما، وعنه ابن الصلاح وغيره، توفي بنيسابور في شعبان في هذه السنة عن خمس وثمانين سنة.
قاسم الدين التركماني العقيبي والد والي البلد، كانت وفاته في شوال منها والله أعلم.
ثم دخلت سنة تسع وستمائة فيها اجتمع العادل وأولاده الكامل والمعظم والفائز بدمياط من بلاد مصر في مقاتلة الفرنج فاغتنم غيبتهم سامة (1) الجبلي أحد أكابر الامراء، وكانت بيده قلعة عجلون وكوكب فسار مسرعا إلى دمشق ليستلم البلدين، فأرسل العادل في إثره ولده المعظم فسبقه إلى القدس وحمل عليه فرسم
عليه في كنيسة صهيون، وكان شيخا كبيرا قد أصابه النقرس، فشرع يرده إلى الطاعة بالملاطفة فلم ينفع فيه فاستولى على حواصله وأملاكه وأمواله وأرسله إلى قلعة الكرك فاعتقله بها، وكان قيمة ما أخذه منه قريبا من ألف ألف دينار، من ذلك داره وحمامه داخل باب السلامة، وداره هي التي جعلها البادرائي مدرسة للشافعية، وخرب حصن كوكب ونقلت حواصله إلى حصن الطور الذي استجده العادل وولده المعظم.
وفيها عزل الوزير ابن شكر واحتيط على أمواله ونفي إلى الشرق، وهو الذي كان قد كتب إلى الديار المصرية بنفي الحافظ عبد الغني منها بعد نفيه من الشام، فكتب أن ينفى إلى المغرب، فتوفي الحافظ عبد الغني رحمه الله قبل أن يصل الكتاب، وكتب الله عزوجل بنفي الوزير إلى الشرق محل الزلازل والفتن والشر، ونفاه عن الارض المقدسة جزاء وفاقا.
ولما استولى صاحب قبرص على مدينة أنطاكية حصل بسببه شر عظيم وتمكن من الغارات على بلاد المسلمين، لا سيما على التراكمين الذين حول انطاكية، قتل منهم خلقا كثيرا وغنم من أغنامهم شيئا كثيرا، فقدر الله عزوجل أن أمكنهم منه في بعض الاودية فقتلوه وطافوا برأسه في تلك البلاد، ثم أرسلوا رأسه إلى الملك العادل إلى مصر فطيف به هنالك، وهو الذي أغار على بلاد مصر من ثغر دمياط مرتين فقتل وسبى وعجز عنه الملوك.
وفي ربيع الاول منها توفي الملك الاوحد.
__________
(1) في ابن الاثير: اسامة.
نجم الدين أيوب ابن العادل صاحب خلاط، يقال إنه كان قد سفك الدماء وأساء السيرة فقصف الله عمره، ووليها بعده أخوه الملك الاشرف موسى، وكان محمود السيرة جيد السريرة فأحسن إلى أهلها فأحبوه كثيرا.
وفيها توفي من الاعيان: فقيه الحرم الشريف بمكة محمد بن إسماعيل بن أبي الصيف اليمني، وأبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن أبي بكر
القفصي المقري المحدث، كتب كثيرا وسمع الكثير ودفن بمقابر الصوفية.
أبو الفتح محمد بن سعد بن محمد الديباجي من أهل مرو، له كتاب المحصل في شرح المفصل للزمخشري في النحو.
كان ثقة عالما سمع الحديث توفي فيها عن ثنتين وتسعين سنة.
الشيخ الصالح الزاهد العابد أبو البقاء محمود بن عثمان بن مكارم النعالي الحنبلي، كان له عبادات ومجاهدات وسياحات، وبنى رباطا بباب الازج يأوي إليه أهل العلم من المقادسة وغيرهم، وكان يؤثرهم ويحسن إليهم، وقد سمع الحديث وقرأ القرآن، وكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
توفي وقد جاوز الثمانين.
ثم دخلت سنة عشر وستمائة فيها أمر العادل أيام الجمع بوضع سلاسل على أفواه الطرق إلى الجامع لئلا تصل الخيول إلى قريب الجامع صيانة للمسلمين عن الاذى بهم، ولئلا يضيقوا على المارين إلى الصلاة.
وفيها ولد الملك العزيز للظاهر غازي صاحب حلب، وهو والد الملك الناصر صاحب دمشق واقف الناصريتين داخل دمشق، إحداهما داخل باب الفراديس، والاخرى بالسفح ذات الحائط الهائل والعمارة المتينة، التي قيل إنه لا يوجد مثلها إلا قليلا، وهو الذي أسره التتار الذين مع هلاكو ملك التتار.
وفيها قدم بالفيل من مصر فحمل هدية إلى صاحب الكرج فتعجب الناس منه جدا، ومن بديع خلقه.
وفيها قدم الملك الظافر خضر بن السلطان صلاح الدين من حلب قاصدا الحج، فتلقاه الناس وأكرمه ابن عمه المعظم، فلما لم يبق بينه وبين مكة إلا مراحل يسيرة تلقته
حاشية الكامل صاحب مصر وصدوه عن دخول مكة، وقالوا إنما جئت لاخذ اليمن، فقال لهم قيدوني وذروني أقضي المناسك، فقالوا: ليس معنا مرسوم وإنما أمرنا بردك وصدك، فهم طائفة من الناس بقتالهم فخاف من وقوع فتنة فتحلل من حجه ورجع إلى الشام، وتأسف الناس على ما
فعل به وتباكوا لما ودعهم، تقبل الله منه.
وفيها وصل كتاب من بعض فقهاء الحنفية بخراسان إلى الشيخ تاج الدين أبو اليمن الكندي يخبر به أن السلطان خوارزم شاه محمد بن تكش تنكر في ثلاثة نفر من أصحابه، ودخل بلاد التتر ليكشف أخبارهم بنفسه، فأنكروهم فقبضوا عليهم فضربوا منهم اثنين حتى ماتا ولم يقرا بما جاؤوا فيه واستوثقوا من الملك وصاحبه الآخر أسرا، فلما كان في بعض الليالي هربا ورجع السلطان إلى ملكه وهذه المرة غير نوبة أسره في المعركة مع مسعود الامير.
وفيها ظهرت بلاطة وهم يحفرون في خندق حلب فوجد تحتها من الذهب خمسة وسبعون رطلا، ومن الفضة خمسة وعشرون بالرطل الحلبي.
وفيها توفي من الاعيان: شيخ الحنفية مدرس مشهد أبي حنيفة ببغداد، الشيخ أبو الفضل أحمد بن مسعود بن علي الرساني، وكان إليه المظالم، ودفن بالمشهد المذكور.
والشيخ أبو الفضل بن إسماعيل ابن علي بن الحسين فخر الدين الحنبلي، يعرف بابن الماشطة، ويقال له الفخر غلام ابن المنى، له تعليقة في الخلاف وله حلقة بجامع الخليفة، وكان يلي النظر في قرايا الخليفة، ثم عزله فلزم بيته فقيرا لا شئ له إلى أن مات رحمه الله، وكان ولده محمد مدبرا شيطانا مريدا كثير الهجاء والسعاية بالناس إلى أولياء الامر بالباطل، فقطع لسانه وحبس إلى أن مات.
والوزير معز الدين أبو المعالي سعيد بن علي بن أحمد بن حديدة، من سلالة الصحابي قطبة بن عامر بن حديدة الانصاري، ولي الوزارة للناصر في سنة أربع وثمانين، ثم عزله عن سفارة ابن مهدي فهرب إلى مراغة، ثم عاد بعد موت ابن مهدي فأقام ببغداد معظما محترما، وكان كثير الصدقات والاحسان إلى الناس إلى أن مات رحمه الله (1).
__________
(1) ذكر الفخري ص 324: وفاته سنة 616 معزولا ببغداد.
قال وجاءه أبو جعفر محمد بن أبي طالب الشاعر متظلما
من ناظر البصرة فأنشده قصيدة منها:
وسنجر بن عبد الله الناصري الخليفتي، كانت له أموال كثيرة وأملاك وإقطاعات متسعة، وكان مع ذلك بخيلا ذليلا ساقط النفس، اتفق أنه خرج أمير الحاج في سنة تسع وثمانين وخمسمائة، فاعترضه بعض الاعراب في نفر يسير، ومع سنجر خمسمائة فارس، فدخله الذل من الاعرابي، فطلب منه الاعرابي خمسين ألف دينار فجباها سنجر من الحجيج ودفعها إليه، فلما عاد إلى بغداد أخذ الخليفة منه خمسين ألف دينار ودفعها إلى أصحابها وعزله وولى طاشتكين مكانه.
قاضي السلامية ظهير الدين أبو إسحاق إبراهيم بن نصر بن عسكر، الفقيه الشافعي الاديب، ذكره العماد في الجريدة وابن خلكان في الوفيات، وأثنى عليه وأنشد من شعره، في شيخ له زاوية، وفي أصحابه يقال له مكي: ألا قل لمكي قول النصوح * وحق النصيحة أن تستمع متى سمع الناس في دينهم * بأن الغنا سنة تتبع ؟ وأن يأكل المرء أكل البعير * ويرقص في الجمع حتى يقع ولو كان طاوي الحشا جائعا * لما دار من طرب واستمع وقالوا: سكرنا بحب الاله * وما أسكر القوم إلا القصع كذاك الحمير إذا أخصبت * يهيجها (1) ريها والشبع تراهم يهزوا لحاهم إذا * ترنم حاديهم بالبدع فيصرخ هذا وهذا يئن * ويبس لو تلين ما انصدع وتاج الامناء أبو الفضل أحمد بن محمد بن الحسن بن هبة الله بن عساكر من بيت الحديث والرواية، وهو
أكبر من إخوته زين الفخر والامناء، سمع عميه الحافظ أبي القاسم والصائن، وكان صديقا للكندي توفي يوم الاحد ثاني رجب ودفن قبلي محراب مسجد القدم.
__________
= وقبائل الانصار غير قليلة لكن بنو غنم هم الاخيار ولقد نزلت عليك مثل نزوله في دار جدك والنزيل يجار فعلام أظلم والنبي محمد أنمى إليه، وقومك الانصار (1) في ابن خلكان 1 / 38: ينقزها.
والنسابة الكلبي كان يقال له تاج العلي الحسيني، اجتمع بآمد بابن دحية، وكان ينسب إلى دحية الكلبي، ودحية الكلبي لم يعقب، فرماه ابن دحية بالكذب في مسائله الموصلية.
قال ابن الاثير: وفي المحرم منها توفي: المهذب الطبيب المشهور وهو علي بن أحمد بن مقبل (1) الموصلي، سمع الحديث وكان أعلم أهل زمانه بالطب، وله فيه تصنيف حسن، وكان كثير الصدقة حسن الاخلاق.
الجزولي صاحب المقدمة المسماة بالقانون وهو أبو موسى عيسى بن عبد العزيز الجزولي - بطن من البربر - ثم البردكيني النحوي المصري، مصنف المقدمة المشهورة البديعة، شرحها هو وتلامذته، وكلهم يعترفون بتقصيرهم عن فهم مراده في أماكن كثيرة منها، قدم مصر وأخذ عن ابن بري، ثم عاد إلى بلاده وولي خطابة مراكش، توفي في هذه السنة وقيل قبلها فالله أعلم.
ثم دخلت سنة إحدى عشرة وستمائة فيها أرسل الملك خوارزم شاه أميرا من أخصاء أمرائه عنده، وكان قبل ذلك سيروانيا فصار أميرا خاصا، فبعثه في جيش ففتح له كرمان ومكران وإلى حدود بلاد السند، وخطب له بتلك البلاد، وكان خوارزم شاه لا يصيف إلا بنواحي سمرقند خوفا من التتار وكشلي خان أن يثبوا على أطراف تلك البلاد التي تتاخمهم.
قال أبو شامة: وفيها شرع في تبليط داخل الجامع الاموي وبدأوا من ناحية السبع الكبير، وكانت أرض الجامع قبل ذلك حفرا وجورا، فاستراح الناس في تبليطه.
وفيها وسع الخندق مما يلي القيمازية فأخربت دور كثيرة وحمام قايماز وفرن كان هناك وقفا على دار الحديث النورية.
وفيها بنى المعظم الفندق المنسوب إليه بناحية قبر عاتكة ظاهر باب الجابية.
وفيها أخذ المعظم قلعة صرخد من ابن قراجا وعوضه عنها وسلمها إلى مملوكه عز الدين أيبك المعظمي، فثبتت في يده إلى أن انتزعها منه نجم الدين أيوب سنة أربع وأربعين.
وفيها حج الملك المعظم ابن العادل ركب من الكرك على الهجن في حادي عشر ذي القعدة ومعه ابن موسك ومملوك أبيه وعز الدين أستاذ داره وخلق، فسار على طريق تبوك والعلا.
وبنى البركة المنسوبة إليه، ومصانع
__________
(1) في ابن الاثير: ابن هبل.
(انظر شذرات الذهب 5 / 42).
اخر.
فلما قدم المدينة النبوية تلقاه صاحبها سالم وسلم إليه مفاتيحها وخدمه خدمة تامة، وأما صاحب مكة قتادة فلم يرفع به رأسا، ولهذا لما قضى نسكه، وكان قارنا، وأنفق في المجاورين ما حمله إليهم من الصدقات وكر راجعا استصحب معه سالما صاحب المدينة وتشكى إلى أبيه عند رأس الماء ما لقيه من صاحب مكة، فأرسل العادل، مع سالم جيشا يطردون صاحب مكة، فلما انتهوا إليها هرب منهم في الاودية والجبال والبراري، وقد أثر المعظم في حجته هذه آثارا حسنة بطريق الحجاز أثابه الله.
وبها تعامل أهل دمشق في القراطيس السود العادلية ثم بطلت بعد ذلك ودفنت.
وفيها مات صاحب اليمن وتولاها سليمان بن شاهنشاه بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب باتفاق
الامراء عليه، فأرسل العادل إلى ولده الكامل أن يرسل إليها ولده أضسيس، فأرسله فتملكها فظلم بها وفتك وغشم، وقتل من الاشراف نحوا من ثمانمائة، وأما من عداهم فكثير، وكان من أفجر الملوك وأكثرهم فسقا وأقلهم حياء ودينا، وقد ذكروا عنه ما تقشعر منه الابدان وتنكره القلوب، نسأل الله العافية وفيها توفي من الاعيان: إبراهيم بن علي ابن محمد بن بكروس الفقيه الحنبلي، أفتى وناظر وعدل عند الحكام، ثم انسلخ من هذا كله وصار شرطيا بباب النوى يضرب الناس ويؤذيهم غاية الاذى، ثم بعد ذلك ضرب إلى أن مات وألقي في دجلة وفرح الناس بموته، وقد كان أبوه رجلا صالحا.
الركن عبد السلام بن عبد الوهاب ابن الشيخ عبد القادر، كان أبوه صالحا وكان هو متهما بالفلسفة ومخاطبة النجوم، ووجد عنده كتب في ذلك، وقد ولي عدة ولايات، وفيه وفي أمثاله يقال: نعم الجدود ولكن بئس ما نسلوا.
رأى عليه أبوه يوما ثوبا بخاريا فقال: سمعنا بالبخاري ومسلم، وأما بخاري وكافر فهذا شئ عجيب، وقد كان مصاحبا لابي القاسم بن الشيخ أبي الفرج بن الجوزي، وكان الآخر مدبرا فاسقا، وكانا يجتمعان على الشراب والمردان قبحهما الله.
أبو محمد عبد العزيز بن محمود بن المبارك البزار المعروف بابن الاخضر البغدادي المحدث المكثر الحافظ المصنف المحرر، له كتب
مفيدة متقنة، وكان من الصالحين، وكان يوم جنازته يوما مشهودا رحمه الله (1).
الحافظ أبو الحسن علي بن الانجب أبي المكارم المفضل [ بن أبي الحسن علي بن أبي الغيث مفرج بن حاتم بن الحسن بن جعفر بن إبراهيم بن الحسن ] (2) اللخمي المقدسي، ثم الاسكندراني المالكي، سمع السلفي وعبد الرحيم المنذري وكان مدرسا للمالكية بالاسكندرية، ونائب الحكم بها.
ومن شعره قوله:
أيا نفس بالمأثور عن خير مرسل * وأصحابه والتابعين تمسكي عساكي إذا بالغت في نشر دينه * بما طاب من عرف له أن تمسكي وخافي غدا يوم الحساب جهنما * إذا لفحت نيرانها أن تمسكي توفي بالقاهرة في هذه السنة قاله ابن خلكان.
ثم دخلت سنة اثنتي عشرة وستمائة فيها شرع في بناء المدرسة العادلية الكبيرة بدمشق، وفيها عزل القاضي ابن الزكي وفوض الحكم إلى القاضي جمال الدين بن الحرستاني، وهو ابن ثمانين أو تسعين سنة، فحكم بالعدل وقضى بالحق، ويقال إنه كان يحكم بالمدرسة المجاهدية قريبا من النورية عند باب القواسين.
وفيها أبطل العادل ضمان الخمر والقيان جزاه الله خيرا، فزال بزوال ذلك عن الناس ومنهم شر كثير.
وفيها حاصر الامير قتادة أمير مكة المدينة ومن بها وقطع نخلا كثيرا، فقاتله أهلها فكر خائبا خاسرا حسيرا، وكان صاحب المدينة بالشام فطلب من العادل نجدة على أمير مكة، فأرسل معه جيشا فأسرع في الاوبة فمات في أثناء الطريق، فاجتمع الجيش على ابن أخيه جماز فقصد مكة فالتقاه أميرها بالصفراء فاقتتلوا قتالا شديدا، فهرب المكيون وغنم منهم جماز شيئا كثيرا، وهرب قتادة إلى الينبع فساروا إليه فحاصروه بها وضيقوا عليه.
وفيها أغارت الفرنج على بلاد الاسماعيلية فقتلوا ونهبوا.
وفيها أخذ ملك الروم كيكاوس مدينة إنطاكية من أيدي الفرنج ثم أخذها منه ابن لاون ملك الارمن، ثم منه إبريس طرابلس.
وفيها ملك خوارزم شاه محمد بن تكش مدينة غزنة بغير قتال.
وفيها كانت وفاة ولي العهد أبي الحسن علي بن أمير المؤمنين الناصر لدين الله، ولما توفي حزن
__________
(1) جنابذي الاصل، بغدادي المولد، يوم الخميس في 18 رجب سنة 524 ه مات بين العشاءين سادس شوال عن 87 سنة.
وجنابذي نسبة إلى جنابذ، ويقال كنابذ قرية بنيسابور (انظر ابن الاثير - شذرات الذهب).
(2) ما بين معكوفين زيد في عامود نسبه من ابن خلكان 3 / 290.
الخليفة عليه حزنا عظيما، وكذلك الخاصة والعامة لكثرة صدقاته وإحسانه إلى الناس، حتى قيل إنه لم يبق بيت ببغداد إلا حزنوا عليه، وكان يوم جنازته يوما مشهودا وناح أهل البلد عليه ليلا ونهارا، ودفن عند جدته بالقرب من قبر معروف (1)، توفي يوم الجمعة العشرين من ذي القعدة وصلي عليه بعد صلاة العصر، وفي هذا اليوم قدم بغداد برأس منكلي الذي كان قد عصي (2) على الخليفة وعلى أستاذه، فطيف به ولم يتم فرحه ذلك اليوم لموت ولده وولي عهده، والدنيا لا تسر بقدر ما تضر، وترك ولدين أحدهما المؤيد أبو عبد الله الحسين، والموفق أبو الفضل يحيى.
وفيها توفي من الاعيان: الحافظ عبد القادر الرهاوي ابن عبد القادر بن عبد الله بن عبد الرحمن أبو محمد الحافظ المحدث المخرج المفيد المحرر المتقن البارع المصنف، كان مولى لبعض المواصلة، وقيل لبعض الجوابين، اشتغل بدار الحديث بالموصل، ثم انتقل إلى حران، وقد رحل إلى بلدان شتى، وسمع الكثير من المشايخ، وأقام بحران إلى أن توفي بها، وكان مولده في سنة ست وثلاثين وخمسمائة، كان دينا صالحا رحمه الله.
الوجيه الاعمى أبو بكر المبارك بن سعيد بن الدهان النحوي الواسطي الملقب بالوجيه، ولد بواسط وقدم بغداد فاشتغل بعلم العربية، فأتقن ذلك وحفظ شيئا من أشعار العرب، وسمع الحديث وكان حنبليا ثم انتقل إلى مذهب أبي حنيفة، ثم صار شافعيا، وولي تدريس النحو بالنظامية، وفيه يقول الشاعر (3): فمن مبلغ عني الوجيه رسالة * وإن كان لا تجدي إليه الرسائل (4) تمذهبت للنعمان بعد ابن حنبل * وذلك لما أعوزتك المآكل وما أخذت برأي الشافعي ديانة (5) * ولكنما تهوى الذي هو حاصل
__________
(1) أي معروف الكرخي.
(2) منكلي وهو صاحب همذان وأصفهان والري وما بينهما من البلاد، قتل في مدينة ساوة وارسل رأسه إلى الخليفة
ببغداد.
(3) وهو أبو البركات بن زيد التكريتي، وقد تقدمت وفاته، والابيات.
(4) في ابن الاثير: لديه الرسائل.
(5) في الوافي 2 / 116 وابن الاثير 12 / 312: وما اخترت رأي الشافعي تدينا.
وعما قليل أنت لا شك صائر * إلى مالك فانظر (1) إلى ما أنت قائل وكان يحفظ شيئا كثيرا من الحكايات والامثال والملح، ويعرف العربية والتركية والعجمية والرومية والحبشية والزنجية، وكانت له يد طولى في نظم الشعر.
فمن ذلك قوله: ولو وقفت في لجة البحر قطرة * من المزن يوما ثم شاء لما زها ولو ملك الدنيا فأضحى ملوكها * عبيدا له في الشرق والغرب مازها وله في التجنيس: أطلت ملامي في اجتنابي لمعشر * طغام لئام جودهم غير مرتجى حموا ما لهم والدين والعرض منهم * مباح، فما يخشون من عاب أو هجا إذا شرع الاجواد في الجود منهجا * لهم شرعوا في البخل سبعين منهجا وله مدائح حسنة وأشعار رائقة ومعان فائقة، وربما عرض شعر البحتري بما يقاربه ويدانيه، قالوا وكان الوجيه لا يغضب قط، فتراهن جماعة مع واحد أنه إن أغضبه كان له كذا وكذا، فجاء إليه فسأله عن مسألة في العربية فأجابه فيها بالجواب، فقال له السائل: أخطأت أيها الشيخ، فأعاد عليه الجواب بعبارة أخرى، فقال: كذبت وما أراك إلا قد نسيت النحو، فقال الوجيه: أيها الرجل فلعلك لم تفهم ما أقول لك، فقال بلى ولكنك تخطئ في الجواب، فقال له: فقل أنت ما عندك لنستفيد منك، فأغلظ له السائل في القول فتبسم ضاحكا وقال له: إن كنت راهنت فقد غلبت، وإنما مثلك مثل البعوضة - يعني الناموسة - سقطت على ظهر الفيل، فلما أرادت أن تطير قالت له استمسك فإني أحب أن أطير، فقال لها الفيل: ما أحسست بك حين سقطت، فما أحتاج أن
أستمسك إذا طرت، كانت وفاته رحمه الله في شعبان منها ودفن بالوردية (2).
أبو محمد عبد العزيز بن أبي المعالي ابن غنيمة المعروف بابن منينا، ولد سنة خمس عشرة وخمسمائة وسمع الكثير وأسمعه، توفي في ذي الحجة منها عن سبع وتسعين سنة.
الشيخ الفقه كمال الدين مودود ابن الشاغوري الشافعي كان يقرئ بالجامع الاموي الفقه وشرح التنبيه للطلبة، ويتأنى
__________
(1) في الوافي: فافطن لما أنت.
وفي ابن خلكان: فافطن لما أنا (انظر ابن الاثير وتاريخ أبي الفداء).
(2) الوردية: مقبرة بغداد بعد باب أبرز من الجانب الشرقي قريبة من باب الظفرية (ياقوت).
عليهم حتى يفهموا احتسابا تجاه المقصورة.
ودفن بمقابر باب الصغير شمالي قبور الشهداء وعلى قبره شعر ذكره أبو شامة والله سبحانه أعلم.
ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وستمائة قال أبو شامة: فيها أحضرت الاوتاد الخشب الاربعة لاجل قبة النسر، طول كل واحد اثنان وثلاثون ذراعا بالنجار.
وفيها شرع في تجديد خندق باب السر المقابل لدار الطعم العتيقة إلى جانب بانياس.
قلت: هي التي يقال لها اليوم اصطبل السلطان، وقد نقل السلطان بنفسه التراب ومماليكه تحمل بين يديه على قربوس السروج القفاف من التراب فيفرغونها في الميدان الاخضر، وكذلك أخوه الصالح ومماليكه يعمل هذا يوما وهذا يوما.
وفيها وقعت فتنة بين أهل الشاغور وأهل العقيبة فاقتتلوا بالرحبة والصيارف، فركب الجيش إليهم ملبسين وجاء المعظم بنفسه فمسك رؤوسهم وحبسهم.
وفيها رتب بالمصلى خطيب مستقل، وأول من باشره الصدر معيد الفلكية، ثم خطب به بعد بهاء الدين بن أبي اليسر، ثم بنو حسان وإلى الآن.
وفيها توفي من الاعيان: الملك الظاهر أبو منصور
غازي بن صلاح الدين يوسف بن أيوب، وكان من خيار الملوك وأسدهم سيرة، ولكن كان فيه عسف ويعاقب على الذنب اليسير كثيرا، وكان يكرم العلماء والشعراء والفقراء، أقام في الملك ثلاثين سنة (1) وحضر كثيرا من الغزوات مع أبيه، وكان ذكيا له رأي جيد وعبارة سديدة وفطنة حسنة، بلغ أربعا وأربعين سنة، وجعل الملك من بعده لولده العزيز غياث الدين محمد، وكان حينئذ ابن ثلاث سنين، وكان له أولاد كبار ولكن ابنه هذا الصغير الذي عهد إليه كان من بنت عمه العادل وأخواله الاشرف والمعظم والكامل، وجده وأخواله لا ينازعونه، ولو عهد لغيره من أولاده لاخذوا الملك منه، وهكذا وقع سواء، بايع له جده العادل وأخواله، وهم المعظم بنقض ذلك وبأخذ الملك منه فلم يتفق له ذلك، وقام بتدبير ملكه الطواشي شهاب الدين طغرلبك الرومي الابيض، وكان دينا عاقلا.
وفيها توفي من الاعيان: زيد بن الحسن ابن زيد بن الحسن (2) بن سعيد بن عصمة الشيخ الامام وحيد عصره تاج الدين أبو اليمن
__________
(1) في تاريخ أبي الفداء 3 / 117: إحدى وثلاثين.
(2) في الوافي زاد: ابن الحسن، كرر الحسن ثلاث مرات.
الكندي، ولد ببغداد ونشأ بها واشتغل وحصل، ثم قدم دمشق فأقام بها وفاق أهل زمانه شرقا وغربا في اللغة والنحو وغير ذلك من فنون العلم، وعلو الاسناد وحسن الطريقة والسيرة وحسن العقيدة، وانتفع به علماء زمانه وأثنوا عليه وخضعوا له.
وكان حنبليا ثم صار حنفيا.
ولد في الخامس والعشرين من شعبان سنة عشرين وخمسمائة، فقرأ القرآن بالروايات وعمره عشر سنين، وسمع الكثير من الحديث العالي على الشيوخ الثقات، وعنى به وتعلم العربية واللغة واشتهر بذلك، ثم دخل الشام في سنة ثلاث وستين وخمسمائة، ثم سكن مصر واجتمع بالقاضي الفاضل، ثم انتقل إلى دمشق فسكن بدار العجم منها وحظي عند الملوك والوزراء والامراء،
وتردد إليه العلماء والملوك وأبناؤهم، كان الافضل بن صلاح الدين وهو صاحب دمشق يتردد إليه إلى منزله، وكذلك أخوه المحسن والمعظم ملك دمشق، كان ينزل إليه إلى درب العجم يقرأ عليه في المفصل للزمخشري، وكان المعظم يعطي لمن حفظ المفصل ثلاثين دينارا جائزة، وكان يحضر مجلسه بدرب العجم جميع المصدرين بالجامع، كالشيخ علم الدين السخاوي ويحيى بن معطي الوجيه اللغوي، والفخر التركي وغيرهم، وكان القاضي الفاضل يثني عليه.
قال السخاوي: كان عنده من العلوم ما لا يوجد عند غيره.
ومن العجب أن سيبويه قد شرح عليه كتابه وكان اسمه عمرو، واسمه زيد.
فقلت في ذلك: لم يكن في عهد (1) عمرو مثله * وكذا الكندي في آخر عصر فهما زيد وعمرو إنما * بني النحو على زيد وعمرو قال أبو شامة: وهذا كما قال فيه ابن الدهان المذكور في سنة ثنتين وتسعين وخمسمائة: يا زيد زادك ربي من مواهبه * نعما يقصر عن إدراكها الامل النحو أنت أحق العالمين به * أليس باسمك فيه يضرب المثل وقد مدحه السخاوي بقصيدة حسنة وأثنى عليه أبو المظفر سبط ابن الجوزي، فقال قرأت عليه وكان حسن القصيدة ظريف الخلق لا يسأم الانسان من مجالسته، وله النوادر العجيبة والخط المليح والشعر الرائق، وله ديوان شعر كبير، وكانت وفاته يوم الاثنين سادس شوال منها وله ثلاث وتسعون سنة وشهر وسبعة عشر يوما وصلي عليه بجامع دمشق ثم حمل إلى الصالحية فدفن بها، وكان قد وقف كتبه - وكانت نفيسة - وهي سبعمائة وإحدى وستون مجلدا، على معتقه نجيب الدين ياقوت، ثم على العلماء في الحديث والفقه واللغة وغير ذلك، وجعلت في خزانة كبيرة في مقصورة ابن سنان الحلبية المجاورة لمشهد علي بن زين العابدين، ثم إن هذه الكتب تفرقت وبيع كثير منها ولم يبق بالخزانة المشار إليها إلا القليل الرث، وهي بمقصورة الحلبية، وكانت قديما يقال لها
__________
(1) في الوافي بالوفيات 15 / 52: عصر.
مقصورة ابن سنان، وقد ترك نعمة وافرة وأموالا جزيلة، ومماليك متعددة من الترك الحسان، وقد كان رقيق الحاشية حسن الاخلاق يعامل الطلبة معاملة حسنة من القيام والتعظيم، فلما كبر ترك القيام لهم وأنشأ يقول: تركت قيامي للصديق يزورني * ولا ذنب لي إلا الاطالة في عمري فإن بلغوا من عشر تسعين نصفها * تبين في ترك القيام لهم عذري ومما مدح فيه الملك المظفر شاهنشاه ما ذكره ابن الساعي في تاريخه: وصال الغواني كان أورى وأرجا * وعصر التداني كان أبهى وأبهجا ليالي كان العمر أحسن شافع * تولى وكان اللهو أوضح منهجا بدا الشيب فانجابت طماعية الصبا * وقبح لي ما كان يستحسن الحجا بلهنية ولت كأن لم أكن بها * أجلى بها وجه النعيم مسرجا ولا اختلت في برد الشباب مجررا * ذيولي إعجابا به وتبرجا أعارك غيداء المعاطف طفلة * وأغيد معسول المراشف أدعجا نقضت لياليها بطيب كأنه * لتقصيره منها مختطف الدجا فإن أمس مكروب الفؤاد حزينه * أعاقر من در الصبابة منهجا وحيدا على أني بفضلي متيم * مروعا بأعداء الفضائل مزعجا فيا رب ديني قد سررت وسرني * وأبهجته بالصالحات وأبهجا ويارب ناد قد شهدت وماجد * شهدت دعوته فتلجلجا (1) صدعت بفضلي نقصه فتركته * وفي قلبه شجو وفي حلقه شجا كأن ثنائي في مسامع حسدي * وقد ضم أبكار المعاني وأدرجا حسام تقي الدين في كل مارق * يقد إلى الارض الكمي المدججا وقال يمدح أخاه معز الدين فروخشاه بن شاهنشاه بن أيوب: هل أنت راحم عبرة ومدله * ومجير صب عند ما منه وهي (2)
هيهات يرحم قاتل مقتوله * وسنانه في القلب غير منهنه مذ بل من ذاك الغرام فإنني * مذ حل بي مرض الهوى لم أنقه (3) إني بليت بحب أغيد ساحر * بلحاظه رخص البنان بزهوه
__________
(1) كذا بالاصل والبيت غير مستقيم.
(2) في الوافي 15 / 55: وتوله..دهي.
(3) في الوافي: داء الغرام فإنني...لم أنته.
أبغي شفاء تدلهي من واله * ومتى يرق مدلل لمدله كم آهة لي في هواه وأنة * لو كان ينفعني عليه تأوهي ومآرب في وصله لو أنها * تقضى لكانت عند مبسمه الشهي يا مفردا بالحسن إنك منته * فيه كما أنا في الصبابة منتهي قد لام فيك معاشر كي أنتهي * باللوم عن حب الحياة وأنت هي أبكي لديه فإن أحس بلوعة * وتشهق أرمي بطرف مقهقه يا من محاسنه وحالي عنده * حيران بين تفكر وتكفه ضدان قد جمعا بلفظ واحد * لي في هواه بمعنيين موجه أو لست رب فضائل لو حاز أد * ناها وما أزهى بها غيري زهي والذي أنشده تاج الدين الكندي في قتل عمارة اليمني حين كان مالا الكفرة والملحدين على قتل الملك صلاح الدين، وأرادوا عودة دولة الفاطميين فظهر على أمره فصلب مع من صلب في سنة تسع وتسعين وخمسمائة: عمارة في الاسلام أبدى خيانة * وحالف فيها بيعة وصليبا فأمسى شريك الشرك في بعض أحمد * وأصبح في حب الصليب صليبا وكان طبيب الملتقي إن عجمته * تجد منه عودا في النفاق صليبا (1)
وله: صحبنا الدهر أياما حسانا * نعوم بهن في اللذات عوما وكانت بعد ما ولت كأني * لدى نقصانها حلما ونوما أناخ بي المشيب فلا براح * وإن أوسعته عتبا ولوما نزيل لا يزال على التأني * يسوق إلى الردى يوما فيوما وكنت أعد لي عاما فعاما * فصرت أعد لي يوما فيوما العز محمد بن الحافظ عبد الغني المقدسي ولد سنة ست وستين وخمسمائة وأسمعه والده الكثير ورحل بنفسه إلى بغداد وقرأ بها مسند أحمد وكانت له حلقة بجامع دمشق، وكان من أصحاب المعظم، وكان صالحا دينا ورعا حافظا رحمه الله ورحم أباه.
__________
(1) تقدمت الابيات في الجزء الثاني عشر، وتعليقات أبي شامة عليها.
أبو الفتوح محمد بن علي بن المبارك الخلاخلي البغدادي، سمع الكثير، وكان يتردد في الرسلية بين الخليفة والملك الاشرف بن العادل وكان عاقلا دينا ثقة صدوقا.
الشريف أبو جعفر يحيى بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن علي العلوي الحسيني، نقيب الطالبيين بالبصرة بعد أبيه، كان شيخا أديبا فاضلا عالما بفنون كثيرة لا سيما علم الانساب وأيام العرب وأشعارها، يحفظ كثيرا منها، وكان من جلساء الخليفة الناصر، ومن لطيف شعره قوله: ليهنك سمع لا يلائمه العذل * وقلب قريح لا يمل ولا يسلو كأن علي الحب أضحى فريضة * فليس لقلبي غيره أبدا شغل وإني لاهوى الهجر ما كان أصله * دلالا ولولا الهجر ما عذب الوصل
وأما إذا كان الصدود ملالة * فأيسر ما هم الحبيب به القتل أبو علي مزيد بن علي ابن مزيد المعروف بابن الخشكري الشاعر المشهور، من أهل النعمانية جمع لنفسه ديوانا أورد له ابن الساعي قطعة من شعره فمن ذلك قوله: سألتك يوم النوى نظرة * فلم تسمحي فعزالا سلم فأعجب كيف تقولين لا * ووجهك قد خط فيه نعم أما النون يا هذه حاجب * أما العين عين أما الميم فم أبو الفضل رشوان بن منصور ابن رشوان الكردي المعروف بالنقف ولد بإربل وخدم جنديا وكان أديبا شاعرا خدم مع الملك العادل، ومن شعره قوله: سلي عني الصوارم والرماحا * وخيلا تسبق الهوج الرياحا وأسدا حبيسها سمر العوالي * إذا ما الاسد حاولت الكفاحا فإني ثابت عقلا ولبا * إذا ما صائح في الحرب صاحا وأورد مهجتي لجج المنايا * إذا ماجت ولم أخف الجراحا
وكم ليل سهرت وبت فيه * أراعي النجم أرتقب الصباحا وكم في فدفد فرسي ونضوي * بقائلة الهجير غدا وراحا لعينك في العجاجة ما ألاقي * وأثبت في الكريهة لا براحا محمد بن يحيى ابن هبة الله أبو نصر النحاس الواسطي كتب إلى السبط من شعره: وقائلة لما عمرت وصار لي * ثمانون عاما: عش كذا وابق واسلم ودم وانتشق روح الحياة فإنه * لاطيب من بيت بصعدة مظلم
فقلت لها: عذري لديك ممهد * ببيت زهير فاعلمي وتعلمي " سئمت تكاليف الحياة ومن يعش * ثمانين حولا لا محالة يسأم " (1) ثم دخلت سنة أربع عشرة وستمائة في ثالث المحرم منها كمل تبليط داخل الجامع الاموي وجاء المعتمد مبارز الدين إبراهيم المتولي بدمشق، فوضع آخر بلاطة منه بيده عند باب الزيارة فرحا بذلك.
وفيها زادت دجلة ببغداد زيادة عظيمة وارتفع الماء حتى ساوى القبور إلا مقدار أصبعين، ثم طفح الماء من فوقه وأيقن الناس بالهلكة واستمر ذلك سبع ليال وثمانية أيام حسوما، ثم من الله فتناقص الماء وذهبت الزيادة، وقد بقيت بغداد تلولا وتهدمت أكثر البنايات.
وفيها درس بالنظامية محمد بن يحيى بن فضلان وحضر عنده القضاة والاعيان.
وفيها صدر الصدر بن حمويه رسولا من العادل إلى الخليفة.
وفيها قدم ولده الفخر بن الكامل إلى المعظم يخطب منه ابنته على ابنه أقسيس صاحب اليمن، فعقد العقد بدمشق على صداق هائل.
وفيها قدم السلطان علاء الدين خوارزم شاه محمد بن تكش من همدان قاصدا إلى بغداد في أربعمائة ألف مقاتل، وقيل في ستمائة ألف، فاستعد له الخليفة واستخدم الجيوش وأرسل إلى الخليفة يطلب منه أن يكون بين يديه على قاعدة من تقدمه من الملوك السلاجقة، وأن يخطب له ببغداد، فلم يجبه الخليفة إلى ذلك، وأرسل إليه الشيخ شهاب الدين السهروردي، فلما وصل شاهد عنده من العظمة وكثرة الملوك بين يديه وهو جالس في حركاة من ذهب على سرير ساج، وعليه قباء بخاري ما يساوي خمسة دراهم، وعلى رأسه جلدة ما تساوي درهما، فسلم عليه فلم يرد عليه من الكبر ولم يأذن له في الجلوس، فقام إلى جانب السرير وأخذ في خطبة هائلة فذكر فيها فضل بني العباس وشرفهم، وأورد حديثا في النهي
__________
(1) الابيات في الوافي 5 / 199 والبيت الاخير في ديوان زهير ص 16.
والشعراء الستة ص 96.
عن أذاهم والترجمان يعيد على الملك، فقال الملك أما ما ذكرت من فضل الخليفة فإنه ليس كذلك، ولكني إذا قدمت بغداد أقمت من يكون بهذه الصفة، وأما ما ذكرت من النهي عن أذاهم
فإني لم أوذ منهم أحدا ولكن الخليفة في سجونه منهم طائفة كثيرة يتناسلون في السجون، فهو الذي آذى بني العباس، ثم تركه ولم يرد عليه جوابا بعد ذلك، وانصرف السهروردي راجعا، وأرسل الله تعالى على الملك وجنده ثلجا عظيما ثلاثة أيام حتى طم الحزاكي والخيام، ووصل إلى قريب رؤوس الاعلام، وتقطعت أيدي رجال وأرجلهم، وعمهم من البلاء ما لا يحد ولا يوصف، فردهم الله خائبين والحمد لله رب العالمين.
وفيها انقضت الهدنة التي كانت بين العادل والفرنج واتفق قدوم العادل من مصر فاجتمع هو وابنه المعظم ببيسان، فركبت الفرنج من عكا وصحبتهم ملوك السواحل كلهم وساقوا كلهم قاصدين معافصة العادل، فلما أحس بهم فر منهم لكثرة جيوشهم وقلة من معه، فقال ابنه المعظم إلى أين يا أبة ؟ فشتمه بالعجمية وقال له أقطعت الشام مماليكك وتركت أبناء الناس، ثم توجه العادل إلى دمشق وكتب إلى واليها المعتمد ليحصنها من الفرنج وينقل إليها من الغلات من داريا إلى القلعة، ويرسل الماء على أراضي داريا وقصر حجاج والشاغور، ففزع الناس من ذلك وابتهلوا إلى الله بالدعاء وكثر الضجيج بالجامع، وأقبل السلطان فنزل مرج الصفر وأرسل إلى ملوك الشرق ليقدموا لقتال الفرنج، فكان أول من قدم صاحب حمص أسد الدين، فتلقاه الناس فدخل من باب الفرج وجاء فسلم على ست الشام بدارها عند المارستان، ثم عاد إلى داره، ولما قدم أسد الدين سرى عن الناس فلما أصبح توجه نحو العادل إلى مرج الصفر.
وأما الفرنج فإنهم قدموا بيسان فنهبوا ما كان بها من الغلات والدواب، وقتلوا وسبوا شيئا كثيرا، ثم عاثوا في الارض فسادا يقتلون وينهبون ويأسرون ما بين بيسان إلى بانياس، وخرجوا إلى أراضي الجولان إلى نوى وغيرها، وسار الملك المعظم فنزل على عقبة اللبن بين القدس ونابلس خوفا على القدس منهم، فإنه هو الاهم الاكبر، ثم حاصر الفرنج حصن الطور حصارا هائلا (1) ومانع عنه الذين به من الابطال ممانعة هائلة، ثم كر الفرنج راجعين إلى عكا ومعهم الاسارى من المسلمين، وجاء الملك المعظم إلى الطور فخلع على الامراء الذين به وطيب نفوسهم، ثم اتفق هو وأبوه على هدمه كما سيأتي.
وفيها توفي من الاعيان: الشيخ الامام العلامة الشيخ العماد أخو الحافظ عبد الغني، أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي،
__________
(1) استمروا عليه سبعة عشر يوما (ابن الاثير - العبر لابن خلدون).
الشيخ العمادي أصغر من أخيه الحافظ عبد الغني بسنتين، وقدم مع الجماعة إلى دمشق سنة إحدى وخمسين وخمسمائة، ودخل بغداد مرتين وسمع الحديث وكان عابدا زاهدا ورعا كثير الصيام، يصوم يوما ويفطر يوما، وكان فقيها مفتيا، وله كتاب الفروع وصنف أحكاما ولم يتمه، وكان يؤم بمحراب الحنابلة مع الشيخ الموفق، وإنما كانوا يصلون بغير محراب، ثم وضع المحراب في سنة سبع عشرة وستمائة، وكان أيضا يؤم بالناس لقضاء الفوائت، وهو أول من فعل ذلك.
صلى المغرب ذات ليلة وكان صائما ثم رجع إلى منزله بدمشق فأفطر ثم مات فجأة، فصلي عليه بالجامع الاموي، صلى عليه الشيخ الموفق عند مصلاهم، ثم صعدوا به إلى السفح، وكان يوم موته يوما مشهودا من كثرة الناس.
قال سبط ابن الجوزي كان الخلق من الكهف إلى مغارة الدم إلى المنطور لو بذر السمسم ما وقع إلا على رؤوس الناس، قال فلما رجعت تلك الليلة فكرت فيه وفي جنازته وكثرة من شهدها وقلت: هذا كان رجلا صالحا ولعله أن يكون نظر إلى ربه حين وضع في قبره، ومر بذهني أبيات الثوري التي أنشدها بعد موته في المنام: نظرت إلى ربي كفاحا فقال لي * هنيئا رضائي عنك يا بن سعيد لقد كنت قواما إذا أظلم الدجى * بعبرة مشتاق وقلب عميد فدونك فاختر أي قصر أردته * وزرني فإني عنك غير بعيد ثم قلت أرجو أن يكون العماد رأى ربه كما رآه الثوري، فنمت فرأيت الشيخ العماد في المنام وعليه حلة خضراء وعمامة خضراء، وهو في مكان متسع كأنه روضة، وهو يرقى في درج متسعة، فقلت: يا عماد الدين كيف بت فإني والله مفكر فيك ؟ فنظر إلي وتبسم على عادته التي كنت أعرفه
فيها في الدنيا ثم قال: رأيت إلهي حين أنزلت حفرتي * وفارقت أصحابي وأهلي وجيرتي وقال: جزيت الخير عني فإنني * رضيت فها عفوي لديك ورحمتي دأبت زمانا تأمل العفو والرضا * فوقيت نيراني ولقيت جنتي قال فانتبهت وأنا مذعور وكتبت الابيات والله أعلم.
القاضي جمال الدين ابن الحرستاني عبد الصمد بن محمد بن أبي الفضل أبو القاسم الانصاري ابن الحرستاني قاضي القضاة بدمشق ولد سنة عشرين وخمسمائة، وكان أبوه من أهل حرستان، فنزل داخل باب توما وأم بمسجد الزينبي ونشأ ولده هذا نشأة حسنة سمع الحديث الكثير وشارك الحافظ ابن عساكر في كثير من شيوخه، وكان يجلس للاسماع بمقصورة الخضر، وعندها كان يصلي دائما لا تفوته الجماعة
بالجامع، وكان منزله بالحورية ودرس بالمجاهدية وعمر دهرا طويلا على هذا القدم الصالح والله أعلم.
وناب في الحكم عن ابن أبي عصرون، ثم ترك ذلك ولزم بيته وصلاته بالجامع، ثم عزل العادل القاضي ابن الزكي وألزم هذا بالقضاء وله ثنتان وتسعون سنة وأعطاه تدريس العزيزية.
وأخذ التقوية أيضا من ابن الزكي وولاها فخر الدين ابن عساكر.
قال ابن عبد السلام: ما رأيت أحدا أفقه من ابن الحرستاني، كان يحفظ الوسيط للغزالي.
وذكر غير واحد أنه كان من أعدل القضاة وأقومهم بالحق، لا تأخذه في الله لومة لائم، وكان ابنه عماد الدين يخطب بجامع دمشق، وولي مشيخة الاشرفية ينوب عنه، وكان القاضي جمال الدين يجلس للحكم بمدرسته المجاهدية، وأرسل إليه السلطان طراحة ومسندة لاجل أنه شيخ كبير، وكان ابنه يجلس بين يديه، فإذا قام أبوه جلس في مكانه، ثم إنه عزل ابنه عن نيابته لشئ بلغه عنه، واستناب شمس الدين بن الشيرازي، وكان يجلس تجاهه في شرقي الايوان، واستناب معه شمس الدين ابن سنا الدولة، واستناب شرف الدين ابن الموصلي الحنفي، فكان يجلس في محراب المدرسة، واستمر حاكما سنتين
وأربعة أشهر، ثم مات يوم السبت رابع [ ذي ] الحجة وله من العمر خمس وتسعون سنة، وصلي عليه بجامع دمشق ثم دفن بسفح قاسيون.
الامير بدر الدين محمد بن أبي القاسم الهكاري باني المدرسة التي بالقدس، كان من خيار الامراء، وكان يتمنى الشهادة دائما فقتله الفرنج بحصن الطور، ودفن بالقدس بتربة عاملها وهو يزار إلى الآن رحمه الله.
الشجاع محمود المعروف بابن الدماغ كان من أصدقاء العادل يضحكه، فحصل أموالا جزيلة منهم، كانت داره داخل باب الفرنج فجعلتها زوجته عائشة مدرسة للشافعية والحنفية، ووقفت عليها أوقافا دارة.
الشيخة الصالحة العابدة الزاهدة شيخة العالمات بدمشق، تلقب بدهن اللوز، بنت نورنجان، وهي آخر بناته وفاة وجعلت أموالها وقفا على تربة أختها بنت العصبة المشهورة.
ثم دخلت سنة خمس عشرة وستمائة استهلت والعادل بمرج الصفر لمناجزة الفرنج وأمر ولده المعظم بتخريب حصن الطور فأخر به
ونقل ما فيه من آلات الحرب وغيرها إلى البلدان خوفا من الفرنج (1).
وفي ربيع الاول (2) نزلت الفرنج على دمياط وأخذوا برج السلسلة في جمادى الاولى، وكان حصنا منيعا، وهو قفل بلاد مصر.
وفيها التقى المعظم والفرنج على القيمون فكسرهم وقتل منهم خلقا وأسر من الداوية مائة فأدخلهم إلى القدس منكسة أعلامهم.
وفيها جرت خطوب كثيرة ببلد الموصل بسبب موت ملوكها أولاد قرا أرسلان واحدا بعد واحد، وتغلب مملوك أبيهم بدر الدين لؤلؤ على الامور والله أعلم.
وفيها أقبل ملك الروم كيكاريس (3) سنجر يريد أخذ مملكة حلب، وساعده على ذلك الافضل بن صلاح الدين صاحب سميساط، فصده عن ذلك الملك الاشرف موسى بن العادل وقهر ملك الروم وكسر جيشه ورده خائبا.
وفيها تملك الاشرف مدينة سنجار مضافا إلى ما بيده من
الممالك (4).
وفيها توفي السلطان الملك العادل أبو بكر بن أيوب، فأخذت الفرنج دمياط ثم ركبوا وقصدوا بلاد مصر من ثغر دمياط فحاصروه مدة أربعة شهور، والملك الكامل يقاتلهم ويمانعهم، فتملكوا برج السلسلة وهو كالقفل على ديار مصر، وصفته في وسط جزيرة في النيل عند انتهائه إلى البحر، ومنه إلى دمياط، وهو على شاطئ البحر وحافة سلسلة منه إلى الجانب الآخر، وعليه الجسر وسلسلة أخرى لتمنع دخول المراكب من البحر إلى النيل، فلا يمكن الدخول، فلما ملكت الفرنج هذا البرج شق ذلك على المسلمين، وحين وصل الخبر إلى الملك العادل وهو بمرج الصفر تأوه لذلك تأوها شديدا ودق بيده على صدره أسفا وحزنا على المسلمين وبلادها، ومرض من ساعته مرض الموت لامر يريده الله عز وجل، فلما كان يوم الجمعة سابع جمادى الآخرة توفي بقرية غالقين (5)، فجاءه ولده المعظم مسرعا فجمع حواصله وأرسله في محفة ومعه خادم بصفة أن السلطان مريض، وكلما جاء أحد من الامراء ليسلم عليه بلغهم الطواشي عنه، أي أنه ضعيف، عن الرد عليهم، فلما انتهى به إلى القلعة دفن بها مدة ثم حول إلى تربته بالعادلية الكبيرة، وقد كان الملك سيف الدين أبو بكر بن أيوب بن شادي من خيار الملوك وأجودهم سيرة، دينا عاقلا صبورا وقورا، أبطل المحرمات والخمور والمعازف من مملكته كلها وقد كانت ممتدة من أقصى بلاد مصر واليمن والشام والجزيرة إلى همدان كلها، أخذها بعد أخيه صلاح الدين سوى حلب فإنه
__________
(1) كان السبب في تخريب قلعة الطور قربها من عكا وتعذر حفظها والدفاع عنها في الظروف المعروفة انذاك.
(2) في صفر كما في ابن الاثير وابن خلدون.
(3) في ابن الاثير وتاريخ أبي الفداء: كيكاوس.
(4) قال ابن الاثير ان صاحب سنجار أرسل إلى الاشرف بتسليمها إليه ويعوضه بها الرقة فأجابه الاشرف إلى ذلك وتسلم سنجار مستهل جمادى الاولى سنة سبع عشرة وستمائة (12 / 344).
(5) في ابن الاثير: عالقين، وفي تاريخ أبي الفداء: عالقين وهي عند عقبة أفيق.
وفي تاريخ ابن خلدون 5 / 345 خانقين.
أقرها بيد ابن أخيه الظاهر غازي لانه زوج ابنته صفية الست خاتون.
وكان العادل حليما صفوحا صبورا على الاذى كثير الجهاد بنفسه ومع أخيه حضر معه مواقفه كلها أو أكثرها في مقاتلة الفرنج، وكانت له في ذلك اليد البيضاء، وكان ماسك اليد وقد أنفق في عام الغلاء بمصر أموالا كثيرة على الفقراء وتصدق على أهل الحاجة من أبناء الناس وغيرهم شيئا كثيرا جدا، ثم إنه كفن في العام الثاني من بعد عام الغلاء في الفناء مائة ألف إنسان من الغرباء والفقراء، وكان كثير الصدقة في أيام مرضه حتى كان يخلع جميع ما عليه ويتصدق به وبمركوبه، وكان كثير الاكل ممتعا بصحة وعافية مع كثرة صيامه، كان يأكل في اليوم الواحد أكلات جيدة، ثم بعد هذا يأكل عند النوم رطلا بالدمشقي من الحلوى السكرية اليابسة، وكان يعتريه مرض في أنفه في زمن الورد وكان لا يقدر على الاقامة بدمشق حتى يفرغ زمن الورد، فكان يضرب له الوطاق بمرج الصفر ثم يدخل البلد بعد ذلك.
توفي عن خمس وسبعين سنة (1)، وكان له من الاولاد جماعة (2): محمد الكامل صاحب مصر، وعيسى المعظم صاحب دمشق، وموسى الاشرف صاحب الجزيرة، وخلاط وحران وغير ذلك، والاوحد أيوب مات قبله، والفائز إبراهيم، والمظفر غازي صاحب الرها، والعزيز عثمان والامجد حسن وهما شقيقا المعظم، والمقيت محمود، والحافظ أرسلان صاحب جعبر، والصالح إسماعيل، والقاهر إسحاق، ومجير الدين يعقوب، وقطب الدين أحمد، وخليل وكان أصغرهم، وتقي الدين عباس وكان آخرهم وفاة، بقي إلى سنة ستين وستمائة، وكان له بنات أشهرهن الست صفية خاتون زوجة الظاهر غازي صاحب حلب وأم الملك العزيز والد الناصر يوسف الذي ملك دمشق، وإليه تنسب الناصريتان إحداهما بدمشق والاخرى بالسفح وهو الذي قتله هلاكو كما سيأتي.
صفة أخذ الفرنج دمياط لما اشتهر الخبر بموت العادل ووصل إلى ابنه الكامل وهو بثغر دمياط مرابط الفرنج، أضعف ذلك أعضاء المسلمين وفشلوا، ثم بلغ الكامل خبر آخر أن الامير ابن المشطوب وكان أكبر أمير
بمصر، قد أراد أن يبايع للفائز عوضا عن الكامل، فساق وحده جريدة فدخل مصر ليستدرك هذا الخطب الجسيم، فلما فقده الجيش من بينهم انحل نظامهم واعتقدوا أنه قد حدث أمر أكبر من موت العادل، فركبوا وراءه فدخلت الفرنج بأمان إلى الديار المصرية، واستحوذوا على معسكر الكامل وأثقاله، فوقع خبط عظيم جدا، وذلك تقدير العزيز العليم، فلما دخل الكامل مصر لم يقع مما ظنه شئ، وإنما هي خديعة من الفرنج، وهرب منه ابن المشطوب إلى الشام، ثم ركب
__________
(1) زيد في ابن الاثير: وشهورا.
(2) قال أبو الفداء في تاريخه 3 / 120: خلف ستة عشر ولدا ذكرا غير البنات.
أما ابن إياس في بدائع الزهور قال: خلف من الاولاد ثلاثة.
من فوره في الجيش إلى الفرنج (1) فإذا الامر قد تزايد، وتمكنوا من البلدان وقتلوا خلقا وغنموا كثيرا، وعاثت الاعراب التي هنالك على أموال الناس، فكانوا أضر عليهم من الفرنج، فنزل الكامل تجاه الفرنج يمانعهم عن دخولهم إلى القاهرة بعد أن كان يمانعهم عن دخول الثغر، وكتب إلى إخوانه يستحثهم ويستنجدهم ويقول الوحا الوحا العجل العجل، أدركوا المسلمين قبل تملك الفرنج جميع أرض مصر.
فأقبلت العساكر الاسلامية إليه من كل مكان، وكان أول من قدم عليه أخوه الاشرف بيض الله وجهه، ثم المعظم وكان من أمرهم مع الفرنج ما سنذكره بعد هذه السنة.
وفيها ولي حسبة بغداد الصاحب محيي الدين يوسف بن أبي الفرج ابن الجوزي، وهو مع ذلك يعمل ميعاد الوعظ على قاعدة أبيه، وشكر في مباشرته للحسبة.
وفيها فوض إلى المعظم النظر في التربة البدرية تجاه الشبلية عند الجسر الذي على ثور، ويقال له جسر كحيل، وهي منسوبة إلى حسن بن الداية، كان هو وإخوته من أكابر أمراء نور الدين محمود بن زنكي، وقد جعلت في حدود الاربعين وستمائة جامعا يخطب فيه يوم الجمعة.
وفيها أرسل السلطان علاء الدين محمد بن تكش إلى الملك العادل وهو مخيم بمرج الصفر رسولا، فرد إليه مع الرسول خطيب
دمشق جمال الدين محمد بن عبد الملك الدولعي، واستنيب عنه في الخطابة الشيخ الموفق عمر بن يوسف خطيب بيت الابار، فأقام بالعزيزية يباشر عنه، حتى قدم وقد مات العادل.
وفيها توفي الملك القاهر (2) صاحب الموصل.
فأقيم ابنه الصغير (3) مكانه.
ثم قتل وتشتت شمل البيت الاتابكي، وتغلب على الامور بدر الدين لؤلؤ غلام أبيه.
وفيها كان عود الوزير صفي الدين عبد الله بن علي بن شكر من بلاد الشرق بعد موت العادل، فعمل فيه علم الدين مقامة بالغ في مدحه فيها، وقد ذكروا أنه كان متواضعا يحب الفقراء والفقهاء، ويسلم على الناس إذا اجتاز بهم وهو راكب في أبهة وزارته، ثم إنه نكب في هذه السنة، وذلك أن الكامل هو الذي كان سبب طرده وإبعاده كتب إلى أخيه المعظم فيه، فاحتاط على أمواله وحواصله، وعزل ابنه عن النظر من الدواوين، وقد كان ينوب عن أبيه في مدة غيبته.
وفي رجب منها أعاد المعظم ضمان القيان والخمور والمغنيات وغير ذلك من الفواحش والمنكرات التي كان أبوه قد أبطلها، بحيث إنه لم
__________
(1) أما ابن الاثير فيقول انه اتصل بالملك الاشرف وصار من جنده (وانظر تاريخ ابن خلدون 5 / 345).
وابن المشطوب هو عماد الدين أحمد بن سيف الدين علي بن أحمد المشطوب وكان مقدما عظيما في الاكراد الهكارية.
(2) وهو عز الدين مسعود بن أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن زنكي بن آقسنقر، وكانت وفاته بالحمى ليلة الاثنين لثلاث بقين من ربيع الاول، وكانت ولايته سبع سنين وتسعة أشهر.
وانقرض بموته ملك البيت الاتابكي، فقد تدبر أمر مملكته بدر الدين لؤلؤ وصيا على ولدين صغيرين ثم استأثر بالمملكة.
(ابن الاثير - تاريخ أبي الفداء).
وهو أرسلان شاه وكان عمره نحو عشر سنين.
يكن أحد يتجاسر أن ينقل ملء كف خمر إلى دمشق إلا بالحيلة الخفية، فجزى الله العادل خيرا، ولا جزى المعظم خيرا على ما فعل، واعتذر المعظم في ذلك بأنه إنما صنع هذا المنكر لقلة الاموال على الجند، واحتياجهم إلى النفقات في قتال الفرنج.
وهذا من جهله وقلة دينه وعدم معرفته بالامور، فإن هذا الصنيع يديل عليهم الاعداء وينصرهم عليهم، ويتمكن منهم الداء ويثبط الجند عن القتال، فيولون بسببه الادبار، وهذا مما يدمر ويخرب الديار ويديل الدول، كما في الاثر
" إذا عصاني من يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني ".
وهذا ظاهر لا يخفى على فطن.
وممن توفي فيها من الاعيان: القاضي شرف الدين أبو طالب عبد الله بن زين القضاة عبد الرحمن بن سلطان بن يحيى اللخمي الضرير البغدادي، كان ينسب إلى علم الاوائل، ولكنه كان يتستر بمذهب الظاهرية، قال فيه ابن الساعي: الداودي المذهب، المعري أدبا واعتقادا، ومن شعره: إلى الرحمن أشكو ما ألافي * غداة عدوا على هوج النياق سألتكم بمن زم المطايا * أمر بكم أمر من الفراق ؟ وهل ذل أشد من التنائي * وهل عيش ألذ من التلاق ؟ قاضي قضاة بغداد.
عماد الدين أبو القاسم عبد الله بن الحسين بن الدامغاني الحنفي، سمع الحديث وتفقه على مذهب أبي حنيفة، وولي القضاء ببغداد مرتين نحوا من أربع عشرة سنة، وكان مشكور السيرة عارفا بالحساب والفرائض وقسمة التركات.
أبو اليمن نجاح بن عبد الله الحبشي السوداني نجم الدين مولى الخليفة الناصر، كان يسمى سلمان دار الخلافة، وكان لا يفارق الخليفة، فلما مات وجد عليه الخليفة وجدا كثيرا، وكان يوم جنازته يوما مشهودا، كان بين يدي نعشه مائة بقرة وألف شاة وأحمال من التمر والخبز والماورد، وقد صلى عليه الخليفة بنفسه تحت التاج، وتصدق عنه بعشرة آلاف دينار على المشاهد، ومثلها على المجاورين بالحرمين، وأعتق مماليكه ووقف عنه خمسمائة مجلد.
أبو المظفر محمد بن علوان
ابن مهاجر بن علي بن مهاجر الموصلي، تفقه بالنظامية وسمع الحديث، ثم عاد إلى الموصل فساد أهل زمانه بها، وتقدم في الفتوى والتدريس بمدرسة بدر الدين لؤلؤ وغيرها، وكان صالحا دينا.
أبو الطيب رزق الله بن يحيى ابن رزق الله بن يحيى بن خليفة بن سليمان بن رزق الله بن غانم بن غنام التأخدري المحدث الجوال الرحال الثقة الحافظ الاديب الشاعر، أبو العباس أحمد بن برتكش بن عبد الله العمادي، وكان من أمراء سنجار، وكان أبوه من موالي الملك عماد الدين زنكي صاحبها، وكان أحمد هذا دينا شاعرا ذا مال جزيل، وأملاك كثيرة، وقد احتاط على أمواله قطب الدين محمد بن عماد الدين زنكي وأودعه سجنا فنسي فيه ومات كمدا، ومن شعره: تقول وقد ودعتها ودموعها * على خدها من خشية البين تلتقي مضى أكثر العمر الذي كان نافعا * رويدك فاعمل صالحا في الذي بقي ثم دخلت سنة ست عشرة وستمائة فيها أمر الشيخ محيي الدين بن الجوزي محتسب بغداد بإزالة المنكر وكسر الملاهي عكس ما أمر به المعظم، وكان أمره في ذلك في أول هذه السنة ولله الحمد والمنة.
ظهور جنكيزخان وعبور التتار نهر جيحون وفيها عبرت التتار نهر جيحون صحبة ملكهم جنكزخان من بلادهم، وكانوا يسكنون جبال طمغاج (1) من أرض الصين ولغتهم مخالفة للغة سائر التتار، وهم من أشجعهم وأصبرهم على القتال، وسبب دخولهم نهر جيحون أن جنكزخان بعث تجارا له ومعهم أموال كثيرة إلى بلاد خوارزم شاه يبتضعون له ثيابا للكسوة، فكتب نائبها إلى خوارزم شاه يذكر له ما معهم من كثرة الاموال، فأرسل إليه بأن يقتلهم ويأخذ ما معهم، ففعل ذلك، فلما بلغ جنكزخان خبرهم أرسل يتهدد خوارزم شاه، ولم يكن ما فعله خوارزم شاه فعلا جيدا، فلما تهدده أشار من أشار على خوارزم شاه بالمسير إليهم، فسار إليهم وهم في شغل شاغل بقتال كشلي خان، فنهب خوارزم شاه
__________
(1) في تاريخ أبي الفداء: طوغاج: وهي واسطة الصين.
أموالهم وسبى ذراريهم وأطفالهم، فأقبلوا إليه محروبين فاقتتلوا معه أربعة أيام قتالا لم يسمع بمثله، أولئك يقاتلون عن حريمهم والمسلمون عن أنفسهم، يعلمون أنهم متى ولوا استأصلوهم، فقتل من الفريقين خلق كثير، حتى أن الخيول كانت تزلق في الدماء، وكان جملة من قتل من المسلمين نحوا من عشرين ألفا، ومن التتار أضعاف ذلك، ثم تحاجز الفريقان وولى كل منهم إلى بلاده ولجأ خوارزم شاه وأصحابه إلى بخارى وسمرقند فحصنها وبالغ في كثرة من ترك فيها من المقاتلة، ورجع إلى بلاده ليجهز الجيوش الكثيرة، فقصدت التتار بخارى وبها عشرون ألف مقاتل فحاصرها جنكزخان ثلاثة أيام، فطلب منه أهلها الامان فأمنهم ودخلها فأحسن السيرة فيهم مكرا وخديعة، وامتنعت عليه القلعة فحاصرها واستعمل أهل البلد في طم خندقها وكانت التتار يأتون بالمنابر والربعات فيطرحونها في الخندق يطمونه بها ففتحوها قسرا في عشرة أيام (1)، فقتل من كان بها.
ثم عاد إلى البلد فاصطفى أموال تجارها وأحلها لجنده فقتلوا من أهلها خلقا لا يعلمهم إلا الله عزوجل، وأسروا الذرية والنساء، وفعلوا معهن الفواحش بحضرة أهليهن، فمن الناس من قاتل دون حريمه حتى قتل، ومنهم من أسر فعذب بأنواع العذاب، وكثر البكاء والضجيج بالبلد من النساء والاطفال والرجال، ثم ألقت التتار النار في دور بخارى ومدارسها ومساجدها فاحترقت حتى صارت بلاقع خاوية على عروشها، ثم كروا راجعين عنها قاصدين سمرقند، وكان من أمرهم ما سنذكره في السنة الآتية.
وفي مستهل هذه السنة خرب سور بيت المقدس عمره الله بذكره، أمر بذلك المعظم خوفا من استيلاء الفرنج عليه بعد مشورة من أشار بذلك، فإن الفرنج إذا تمكنوا من ذلك جعلوه وسيلة إلى أخذ الشام جميعه، فشرع في تخريب السور في أول يوم المحرم فهرب منه أهله خوفا من الفرنج أن يهجموا عليهم ليلا أو نهارا، وتركوا أموالهم وأثاثهم وتمزقوا في البلاد كل ممزق، حتى قيل إنه بيع القنطار الزيت بعشرة دراهم والرطل النحاس بنصف درهم.
وضج الناس وابتهلوا إلى الله
عند الصخرة وفي الاقصى، وهي أيضا فعلة شنعاء من المعظم مع ما أظهر من الفواحش في العام الماضي، فقال بعضهم يهجو المعظم بذلك.
في رجب حلل الحميا * وأخرب القدس في المحرم وفيها استحوذت الفرنج على مدينة دمياط ودخلوها بالامان فغدروا بأهلها وقتلوا رجالها وسبوا نساءها وأطفالها، وفجروا بالنساء وبعثوا بمنبر الجامع والربعات ورؤوس القتلى إلى الجزائر، وجعلوا الجامع كنيسة.
وفيها غضب المعظم على القاضي زكي الدين بن الزكي، وسببه أن عمته ست الشام بنت أيوب مرضت في دارها التي جعلتها بعدها مدرسة فأرسلت إلى القاضي لتوصي إليه، فذهب
__________
(1) في ابن الاثير: اثني عشر يوما.
إليها بشهود معه فكتب الوصية كما قالت، فقال المعظم يذهب إلى عمتي بدون إذني، ويسمع هو والشهود كلامها ؟ واتفق أن القاضي طلب من جابي العزيزية حسابها وضربه بين يديه بالمقارع، وكان المعظم يبغض هذا القاضي من أيام أبيه، فعند ذلك أرسل المعظم إلى القاضي ببقجة فيها قباء وكلوتة، القباء أبيض والكلوتة صفراء.
وقيل بل كانا حمراوين مدرنين، وحلف الرسول عن السلطان ليلبسنهما ويحكم بين الخصوم فيهما، وكان من لطف الله أن جاءته الرسالة بهذا وهو في دهليز داره التي بباب البريد، وهو منتصب للحكم، فلم يستطع إلا أن يلبسهما وحكم فيهما، ثم دخل داره واستقبل مرض موته، وكانت وفاته في صفر من السنة الآتية بعدها، وكان الشرف بن عنين الزرعي الشاعر قد أظهر النسك والتعبد، ويقال: إنه اعتكف بالجامع أيضا فأرسل إليه المعظم بخمر ونرد ليشتغل بهما.
فكتب إليه ابن عنين: يا أيها الملك المعظم سنة * أحدثتها تبقى على الآباد تجري الملوك على طريقك بعدها * خلع القضاة وتحفة الزهاد وهذا من أقبح ما يكون أيضا، وقد كان نواب ابن الزكي أربعة: شمس الدين بن الشيرازي إمام مشهد علي، كان يحكم بالمشهد بالشباك، وربما برز إلى طرف الرواق تجاه البلاطة السوداء.
وشمس الدين ابن سنى الدولة، كان يحكم في الشباك الذي في الكلاسة تجاه تربة صلاح الدين عند الغزالية، وكمال الدين المصري وكيل بيت المال كان يحكم في الشباك الكمالي بمشهد عثمان، وشرف الدين الموصلي الحنفي كان يحكم بالمدرسة الطرخانية بجبرون والله تعالى أعلم.
وفيها توفي من الاعيان: ست الشام واقفة المدرستين البرانية والجوانية الست الجليلة المصونة خاتون ست الشام بنت أيوب بن شادي، أخت الملوك وعمة أولادهم، وأم الملوك، كان لها من الملوك المحارم خمسة وثلاثون ملكا، منهم شقيقها المعظم توران شاه بن أيوب صاحب اليمن، وهو مدفون عندها في القبر القبلي من الثلاثة، وفي الاوسط منها زوجها وابن عمها ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه بن شادي صاحب حمص، وكانت قد تزوجته بعد أبي ابنها حسام الدين عمر بن لاجين، وهي وابنها حسام الدين عمر في القبر الثالث، وهو الذي يلي مكان الدرس، ويقال للتربة والمدرسة الحسامية نسبة إلى ابنها هذا حسام الدين عمر بن لاجين، وكان من أكابر العلماء عند خاله صلاح الدين، وكانت ست الشام من أكثر النساء صدقة وإحسانا إلى الفقراء والمحاويج، وكانت تعمل في كل سنة في دارها بألوف من الذهب أشربة وأدوية وعقاقير وغير ذلك وتفرقه على الناس، وكانت وفاتها يوم الجمعة آخر النهار السادس عشر من ذي القعدة من هذه السنة في دارها التي جعلتها مدرسة، وهي
عن المارستان وهي الشامية الجوانية، ونقلت منها إلى تربتها بالشامية البرانية، وكانت جنازتها حافلة رحمها الله.
أبو البقاء صاحب الاعراب واللباب عبد الله بن الحسين بن عبد الله، الشيخ أبو البقاء العكبري الضرير النحوي الحنبلي صاحب: " إعراب القرآن العزيز " (1) وكتاب " اللباب في (2) النحو "، وله حواش على المقامات ومفصل الزمخشري وديوان المتنبي وغير ذلك، وله في الحساب وغيره، وكان صالحا دينا، مات
وقد قارب الثمانين رحمه الله، وكان إماما في اللغة فقيها مناظرا عارفا بالاصلين والفقه، وحكى القاضي ابن خلكان عنه أنه ذكر في شرح المقامات أن عنقاء مغرب كانت تأتي إلى جبل شاهق (3) عند أصحاب الرس، فربما اختطفت بعض أولادهم فشكوها إلى نبيهم حنظلة بن صفوان فدعا عليها فهلكت.
قال: وكان وجهها كوجه الانسان وفيها شبه من كل طائر، وذكر الزمخشري في كتابه: " ربيع الابرار " أنها كانت في زمن موسى لها أربعة أجنحة من كل جانب، ووجه كوجه الانسان، وفيها شبه كثير من سائر الحيوان، وأنها تأخرت إلى زمن خالد بن سنان العبسي الذي كان في الفترة فدعا عليها فهلكت والله أعلم.
وذكر ابن خلكان: أن المعز الفاطمي جئ إليه بطائر غريب الشكل من الصعيد يقال له عنقاء مغرب.
قلت: وكل واحد من خالد بن سنان وحنظلة بن صفوان كان في زمن الفترة، وكان صالحا ولم يكن نبينا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنا أولى الناس بعيسى بن مريم لانه ليس بيني وبينه نبي " (4) وقد تقدم ذلك.
الحافظ عماد الدين أبو القاسم علي بن الحافظ بهاء الدين أبي محمد القاسم بن الحافظ الكبير أبي القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر الدمشقي، سمع الكثير ورحل فمات ببغداد في هذه السنة، ومن لطيف شعره قوله في المروحة: ومروحة تروح كل هم * ثلاثة أشهر لا بد منها حزيران وتموز وآب * وفي أيلول يغني الله عنها ابن الداوي الشاعر وقد أورد له ابن الساعي جملة صالحة من شعره.
__________
(1) في ابن خلكان 3 / 100: الكريم.
وفي تاريخ ابن النجار: اعرب القرآن.
(2) في وفيات الاعيان: اللباب في علل النحو.
وذكره ابن النجار: اللباب في علل البناء والاعراب.
(3) في الوفيات: جبل رمخ.
(4) أخرجه مسلم في الفضائل ح (145).
وأبو سعيد بن الوزان الداوي وكان أحد المعدلين ببغداد وسمع البخاري من أبي الوقت.
وأبو سعيد محمد بن محمود بن عبد الرحمن المروزي الاصل الهمداني المولد البغدادي المنشأ والوفاة، كان حسن الشكل كامل الاوصاف له خط حسن ويعرف فنونا كثيرة من العلوم، شافعي المذهب، يتكلم في مسائل الخلاف حسن الاخلاق ومن شعره قوله: أرى قسم الارزاق أعجب قسمة * لذي دعة ومكدية لذي كد وأحمق ذو مال وأحمق معدم * وعقل بلا حظ وعقل له حد يعم الغنى والفقر ذا الجهل والحجا * ولله من قبل الامور ومن بعد أبو زكريا يحيى بن القاسم ابن الفرج بن درع بن الخضر الشافعي شيخ تاج الدين التكريتي قاضيها، ثم درس بنظامية بغداد، وكان متقنا لعلوم كثيرة منها التفسير والفقه والادب والنحو واللغة، وله المصنفات في ذلك كله وجمع لنفسه تاريخا حسنا.
ومن شعره قوله: لا بد للمرء من ضيق ومن سعة * ومن سرور يوافيه ومن حزن والله يطلب منه شكر نعمته * ما دام فيها ويبغي الصبر في المحن فكن مع الله في الحالين معتنقا * فرضيك هذين في سر وفي علن فما على شدة يبقى الزمان يكن * ولا على نعمة تبقى على الزمن وله أيضا: إن كان قاضي الهوى علي ولي * ما جار في الحكم من علي ولي يا يوسفي الجمال عندك لم * تبق لي حيلة من الحيل إن كان قد القميص من دبر * ففيك قد الفؤاد من قبل صاحب الجواهر الشيخ الامام جمال الدين أبو محمد عبد الله بن نجم بن شاس (1) بن نزار بن عشائر بن عبد الله بن محمد بن شاس (1) الجذامي المالكي الفقيه، مصنف كتاب: " الجواهر الثمينة في مذهب
عالم المدينة "، وهو من أكثر الكتب فوائد في الفروع، رتبه على طريقة الوجيز للغزالي.
قال ابن خلكان: وفيه دلالة على غزارة علمه وفضله والطائفة المالكية بمصر عاكفة عليه لحسنه وكثرة فوائده، وكان مدرسا بمصر ومات بدمياط رحمه الله، والله سبحانه أعلم.
__________
(1) من وفيات الاعيان 3 / 61 وفي الاصل: ساس.
ثم دخلت سنة سبع عشرة وستمائة في هذه السنة عم البلاء وعظم العزاء بجنكزخان المسمى بتموجين لعنه الله تعالى، ومن معه من التتار قبحهم الله أجمعين، واستفحل أمرهم واشتد إفسادهم من أقصى بلاد الصين إلى أن وصلوا بلاد العراق وما حولها حتى انتهوا إلى إربل وأعمالها، فملكوا في سنة واحدة وهي هذه السنة سائر الممالك إلا العراق والجزيرة والشام ومصر، وقهروا جميع الطوائف التي بتلك النواحي الخوارزمية والقفجاق والكرج واللان والخزر وغيرهم، وقتلوا في هذه السنة من طوائف المسلمين وغيرهم في بلدان متعددة كبار ما لا يحد ولا يوصف، وبالجملة فلم يدخلوا بلدا إلا قتلوا جميع من فيه من المقاتلة والرجال، وكثيرا من النساء والاطفال، وأتلفوا ما فيه بالنهب إن احتاجوا إليه، وبالحريق إن لم يحتاجوا إليه، حتى أنهم كانوا يجمعون الحرير الكثير الذي يعجزون عن حمله فيطلقون فيه النار وهم ينظرون إليه، ويخربون المنازل وما عجزوا عن تخريبه يحرقوه، وأكثر ما يحرقون المساجد والجوامع، وكانوا يأخذون الاسارى من المسلمين فيقاتلون بهم ويحاصرون بهم، وإن لم ينصحوا في القتال قتلوهم.
وقد بسط ابن الاثير في كامله خبرهم في هذه السنة بسطا حسنا مفصلا، وقدم على ذلك كلاما هائلا في تعظيم هذا الخطب العجيب، قال فنقول: هذا فصل يتضمن ذكر الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التي عقمت (1) الليالي والايام عن مثلها، عمت الخلائق وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم منذ خلق الله آدم وإلى الآن، لم يبتلوا بمثلها لكان صادقا، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا يدانيها، ومن أعظم ما يذكرون من الحوادث ما فعل بخت نصر ببني إسرائيل من القتل، وتخريب
بيت المقدس، وما البيت المقدس بالنسبة إلى ما خرب هؤلاء الملاعين من البلاد، التي كل مدينة منها أضعاف البيت المقدس، وما بنو إسرائيل بالنسبة لما قتلوا، فإن أهل مدينة واحدة ممن قتلوا أكثر من بني إسرائيل، ولعل الخلائق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم، وتفنى الدنيا إلا يأجوج ومأجوج، وأما الدجال فإنه يبقي على من اتبعه، ويهلك من خالفه، وهؤلاء لم يبقوا على أحد، بل قتلوا الرجال والنساء والاطفال، وشقوا بطون الحوامل، وقتلوا الاجنة.
فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، لهذه الحادثة التي استطار شررها، وعم ضررها، وسارت في البلاد كالسحاب استدبرته الريح، فإن قوما خرجوا من أطراف الصين، فقصدوا بلاد تركستان مثل كاشغر وبلاساغون، ثم منها إلى بلاد ما وراء النهر مثل سمرقند وبخارا وغيرهما، فيملكونها، ويفعلون بأهلها ما نذكره، ثم تعبر طائفة منهم إلى خراسان فيفرغون منها ملكا، وتخريبا وقتلا ونهبا، ثم يجاوزونها إلى الري وهمذان وبلد الجبل وما فيه من البلاد إلى حد العراق، ثم يقصدون بلاد أذربيجان وأرانية ويخربونه، ويقتلون
__________
(1) في ابن الاثير 12 / 358: عقت.
أكثر أهلها ولم ينج منهم إلا الشريد النادر في أقل من سنة، هذا ما لم يسمع بمثله، ثم (1) ساروا إلى دربند شروان فملكوا مدنه، ولم يسلم غير قلعته التي بها ملكهم، وعبروا عندها إلى بلد اللان، [ و ] اللكز ومن في ذلك الصقع من الامم المختلفة، فأوسعوهم قتلا ونهبا وتخريبا، ثم قصدوا بلاد قفجاق، وهم من أكثر الترك عددا، فقتلوا كل من وقف لهم وهرب الباقون إلى الغياض وملكوا عليهم بلادهم، وسارت طائفة أخرى إلى غزنة وأعمالها، وما يجاورها من بلاد الهند وسجستان وكرمان، ففعلوا فيها مثل أفعال هؤلاء وأشد، هذا ما لم يطرق الاسماع مثله، فإن الاسكندر الذي اتفق المؤرخون على أنه ملك الدنيا لم يملكها في سنة واحدة (2)، إنما ملكها في نحو عشر سنين، ولم يقتل أحدا بل رضي من الناس بالطاعة، وهؤلاء قد ملكوا أكثر المعمور من الارض وأطيبه وأحسنه عمارة، وأكثره أهلا وأعدلهم أخلاقا وسيرة في نحو سنة، ولم يتفق (3) لاحد من
أهل البلاد التي لم يطرقوها بقاء إلا وهو خائف مترقب وصولهم، وهم مع ذلك يسجدون للشمس إذا طلعت، ولا يحرمون شيئا، ويأكلون ما وجدوه من الحيوانات والميتات لعنهم الله تعالى.
قال: وإنما استقام لهم هذا الامر لعدم المانع لان السلطان خوارزم شاه محمدا كان قد قتل الملوك من سائر الممالك واستقر في الامور، فلما انهزم منهم في العام الماضي وضعف عنهم وساقوا وراءه فهرب فلا يدري أين ذهب، وهلك في بعض جزائر البحر، خلت البلاد ولم يبق لها من يحميها (ليقضي الله أمرا كان مفعولا) [ الانفال: 44 ]، وإلى الله ترجع الامور.
ثم شرع في تفصيل ما ذكره مجملا، فذكر أولا ما قدمنا ذكره في العام الماضي من بعث جنكزخان أولئك التجار بما له ليأتونه بثمنه كسوة ولباسا، وأخذ خوارزم شاه تلك الاموال فحنق عليه جنكزخان وأرسل يهدده فسار إليه خوارزم شاه بنفسه وجنوده فوجد التتار مشغولين بقتال كشلي خان، فنهب أثقالهم ونساءهم وأطفالهم فرجعوا وقد انتصروا على عدوهم، وازدادوا حنقا وغيظا، فتواقعوا هم وإياه وابن جنكزخان ثلاثة أيام فقتل من الفريقين خلق كثير، ثم تحاجزوا ورجع خوارزم شاه إلى أطراف بلاده فحصنها ثم كر راجعا إلى مقره ومملكته بمدينة خوارزم شاه، فأقبل جنكزخان فحصر بخارا كما ذكرنا فافتتحها صلحا وغدر بأهلها حتى افتتح قلعتها قهرا وقتل الجميع، وأخذ الاموال وسبى النساء والاطفال وخرب الدور والمحال، وقد كان بها عشرون ألف مقاتل، فلم يغن عنهم شيئا، ثم سار إلى سمرقند فحاصرها في أول المحرم من هذه السنة وبها خمسون ألف مقاتل من سمرقند فنكلوا وبرز إليهم سبعون ألفا من العامة فقتل الجميع في ساعة واحدة وألقى إليه الخمسون ألف السلم فسلبهم سلاحهم وما يمتنعون به، وقتلهم في ذلك اليوم واستباح البلد فقتل الجميع وأخذ الاموال وسبى الذرية وحرقه وتركه بلاقع، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وأقام لعنه الله هنالك وأرسل السرايا إلى
__________
(1) العبارة في ابن الاثير: ثم لما فرغوا من أذربيجان وأرانية ساروا..(2) في ابن الاثير: لم يملكها في هذه السرعة.
(3) في ابن الاثير: ولم يبق.
البلدان فأرسل سرية إلى بلاد خراسان وتسميها التتار المغربة، وأرسل أخرى وراء خوارزم شاه، وكانوا عشرين ألفا قال: اطلبوه فأدركوه ولو تعلق بالسماء فساروا وراءه فأدركوه وبينهم وبينه نهر جيحون وهو آمن بسببه، فلم يجدوا سفنا فعملوا لهم أحواضا يحملون عليها الاسلحة ويرسل أحدهم فرسه ويأخذ بذنبها فتجره الفرس بالماء وهو يجر الحوض الذي فيه سلاحه، حتى صاروا كلهم في الجانب الآخر، فلم يشعر بهم خوارزم شاه إلا وقد خالطوه، فهرب منهم إلى نيسابور ثم منها إلى غيرها (1) وهم في أثره لا يمهلونه يجمع لهم فصار كلما أتى بلدا ليجتمع فيه عساكره له يدركونه فيهرب منهم، حتى ركب في بحر طبرستان وسار إلى قلعة في جزيرة فيه فكانت فيها وفاته، وقيل إنه لا يعرف بعد ركوبه في البحر ما كان من أمره بل ذهب فلا يدري أين ذهب، ولا إلى أي مفر هرب، وملكت التتار حواصله فوجدوا في خزانته عشرة آلاف ألف دينار، وألف حمل من الاطلس وغيره وعشرون ألف فرس وبغل، ومن الغلمان والجواري والخيام شيئا كثيرا، وكان له عشرة آلاف مملوك كل واحد مثل ملك، فتمزق ذلك كله، وقد كان خوارزم شاه فقيها حنفيا فاضلا له مشاركات في فنون من العلم، يفهم جيدا، وملك بلادا متسعة وممالك متعددة إحدى وعشرين سنة وشهورا، ولم يكن بعد ملوك بني سلجوق أكثر حرمة منه ولا أعظم ملكا منه، لانه إنما كانت همته في الملك لا في اللذات والشهوات، ولذلك قهر الملوك بتلك الاراضي وأحل بالخطا بأسا شديدا، حتى لم يبق ببلاد خراسان وما وراء النهر وعراق العجم وغيرها من الممالك سلطان سواه، وجميع البلاد تحت أيدي نوابه.
ثم ساروا إلى مازندران وقلاعها من أمنع القلاع، بحيث أن المسلمين لم يفتحوها إلا في سنة تسعين من أيام سليمان بن عبد الملك، ففتحها هؤلاء في أيسر مدة ونهبوا ما فيها وقتلوا أهاليها كلهم وسبوا وأحرقوا، ثم ترحلوا عنها نحو الري فوجدوا في الطريق أم خوارزم شاه ومعها أموال عظيمة جدا، فأخذوها وفيها كل غريب ونفيس مما لم يشاهد مثله من الجواهر وغيرها، ثم قصدوا الري فدخلوها على حين غفلة من أهلها فقتلوهم وسبوا وأسروا، ثم ساروا إلى همذان فملكوها ثم إلى زنجان فقتلوا وسبوا، ثم قصدوا قزوين فنهبوها وقتلوا من أهلها نحوا من أربعين ألفا، ثم تيمموا بلاد أذربيجان فصالحهم ملكها أزبك بن
البهلوان على مال حمله إليهم لشغله بما هو فيه من السكر وارتكاب السيئآت والانهماك على الشهوات، فتركوه وساروا إلى موقان فقاتلهم الكرج في عشرة آلاف مقاتل فلم يقفوا بين أيديهم طرفة عين حتى انهزمت الكرج فأقبلوا إليهم بحدهم وحديدهم، فكسرتهم التتار وقعة ثانية أقبح هزيمة وأشنعها.
وههنا قال ابن الاثير (2): ولقد جرى لهؤلاء التتر ما لم يسمع بمثله من قديم الزمان وحديثه: طائفة تخرج من حدود الصين، لا تنقضي عليهم سنة حتى يصل بعضهم إلى حدود بلاد أرمينية من هذه الناحية، ويجاوزون العراق من ناحية همذان، وتالله لا أشك أن من يجئ بعدنا إذا
__________
(1) في ابن الاثير: رحل من نيسابور إلى مازندران.
(2) انظر الكامل 12 / 375.
بعد العهد، ويرى هذه الحادثة مسطورة ينكرها ويستبعدها، والحق بيده، فمتى استبعد ذلك فلينظر أننا سطرنا نحن وكل من جمع التاريخ في أزماننا هذه في وقت كل من فيه يعلم هذه الحادثة، قد استوى في معرفتها العالم والجاهل لشهرتها، يسر الله للمسلمين والاسلام من يحفظهم ويحوطهم، فلقد دفعوا من العدو إلى أمر عظيم، ومن الملوك المسلمين إلى من لا تتعدى همته بطنه وفرجه، وقد عدم سلطان المسلمين خوارزم شاه.
قال: وانقضت هذه السنة وهم في بلاد الكرج، فلما رأوا منهم ممانعة ومقاتلة يطول عليهم بها المطال عدلوا إلى غيرهم، وكذلك كانت عادتهم فساروا إلى تبريز فصالحهم أهلها بمال.
ثم ساروا إلى مراغة فحصروها ونصبوا عليها المجانيق وتترسوا بالاسارى من المسلمين، وعلى البلد امرأة - ولن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة - ففتحوا البلد بعد أيام وقتلوا من أهله خلقا لا يعلم عدتهم إلا الله عزوجل، وغنموا منه شيئا كثيرا، وسبوا وأسروا على عادتهم لعنهم الله لعنة تدخلهم نار جهنم، وقد كان الناس يخافون منهم خوفا عظيما جدا حتى إنه دخل رجل منهم إلى درب من هذه البلد وبه مائة رجل لم يستطع واحد منهم أن يتقدم إليه، وما زال يقتلهم واحدا بعد واحد حتى قتل الجميع ولم يرفع منهم أحد يده إليه، ونهب ذلك الدرب وحده.
ودخلت امرأة منهم في زي رجل [ دارا ] (1) فقتلت كل من في
ذلك البيت وحدها ثم استشعر أسير معها أنها امرأة فقتلها لعنها الله، ثم قصدوا مدينة إربل فضاق المسلمون لذلك ذرعا وقال أهل تلك النواحي هذا أمر عصيب، وكتب الخليفة إلى أهل الموصل والملك الاشرف صاحب الجزيرة يقول: إني قد جهزت عسكرا فكونوا معه لقتال هؤلاء التتار، فأرسل الاشرف يعتذر إلى الخليفة بأنه متوجه نحو أخيه الكامل إلى الديار المصرية بسبب ما قد دهم المسلمين هناك من الفرنج، وأخذهم دمياط الذي قد أشرفوا بأخذهم له على أخذ الديار المصرية قاطبة، وكان أخوه المعظم قد قدم على والي حران يستنجده لاخيهما الكامل ليتحاجزوا الفرنج بدمياط وهو على أهبة المسير إلى الديار المصرية، فكتب الخليفة إلى مظفر الدين صاحب إربل ليكون هو المقدم على العساكر التي يبعثها الخليفة وهي عشرة آلاف مقاتل، فلم يقدم عليه منهم ثمانمائة فارس ثم تفرقوا قبل أن يجتمعوا، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولكن الله سلم بأن صرف همة التتار إلى ناحية همذان فصالحهم أهلها وترك عندهم التتار شحنة، ثم اتفقوا على قتل شحنتهم فرجعوا إليهم فحاصروهم حتى فتحوها قسرا وقتلوا أهلها عن آخرهم، ثم ساروا إلى أذربيجان ففتحوا أردبيل (2) ثم تبريز (3) ثم إلى بيلقان فقتلوا من أهلها خلقا كثيرا وجما غفيرا، وحرقوها
__________
(1) من ابن الاثير.
(2) في ابن الاثير: أردويل.
(3) قال ابن الاثير في تاريخه: وسمعوا بما أهل البلد عليه من اجتماع الكلمة على قتالهم، أرسلوا يطلبون منهم مالا وثيابا، فاستقر الامر بينهم على قدر معلوم من ذلك، فسيروه إليهم، فأخذوه ورحلوا إلى مدينة سراو فنهبوها وقتلوا كل من فيها (12 / 382).
وكانوا يفجرون بالنساء ثم يقتلونهن ويشقون بطونهن عن الاجنة ثم عادوا إلى بلاد الكرج وقد استعدت لهم الكرج فاقتتلوا معهم فكسروهم أيضا كسرة فظيعة، ثم فتحوا بلدانا كثيرة يقتلون أهلها ويسبون نساءها ويأسرون من الرجال ما يقاتلون بهم الحصون، يجعلونهم بين أيديهم ترسا يتقون بهم الرمي وغيره، ومن سلم منهم قتلوه بعد انقضاء الحرب، ثم ساروا إلى بلاد اللان
والقبجاق فاقتتلوا معهم قتالا عظيما فكسروهم وقصدوا أكبر مدائن القبجاق وهي مدينة سوداق وفيها من الامتعة والثياب والتجائر من البرطاسي والقندر والسنجاب شئ كثير جدا، ولجأت القبجاق إلى بلاد الروس وكانوا نصارى فاتفقوا معهم على قتال التتار فالتقوا معهم فكسرتهم التتار كسرة فظيعة جدا، ثم ساروا نحو بلقار في حدود العشرين وستمائة ففرغوا من ذلك كله ورجعوا نحو ملكهم جنكزخان لعنه الله وإياهم.
هذا ما فعلته هذه السرية المغربة، وكان جنكزخان قد أرسل سرية في هذه السنة إلى كلانة وأخرى إلى فرغانة فملكوها، وجهز جيشا آخر نحو خراسان فحاصروا بلخ فصالحهم أهلها، وكذلك صالحوا مدنا كثيرة أخرى، حتى انتهوا إلى الطالقان فأعجزتهم قلعتها (1) وكانت حصينة فحاصروها ستة أشهر حتى عجزوا فكتبوا إلى جنكزخان فقدم بنفسه فحاصرها أربعة أشهر أخرى حتى فتحها قهرا، ثم قتل كل من فيها وكل من في البلد بكماله خاصة وعامة، ثم قصدوا مدينة مرو مع جنكزخان فقد عسكر بظاهرها نحو من مائتي ألف مقاتل من العرب وغيرهم فاقتتلوا معه قتالا عظيما حتى انكسر المسلمون فإنا لله وإنا إليه راجعون، ثم حصروا البلد خمسة أيام واستنزلوا نائبها خديعة ثم غدروا به وبأهل البلد فقتلوهم وغنموهم وسلبوهم وعاقبوهم بأنواع العذاب، حتى إنهم قتلوا في يوم واحد سبعمائة ألف إنسان، ثم ساروا إلى نيسابور ففعلوا فيها ما فعلوا بأهل مرو، ثم إلى طوس فقتلوا وخربوا مشهد علي بن موسى الرضى سلام الله عليه وعلى آبائه، وخربوا تربة الرشيد الخليفة فتركوه خرابا، ثم ساروا إلى غزنة فقاتلهم جلال الدين بن خوارزم شاه فكسرهم ثم عادوا إلى ملكهم جنكزخان لعنه الله وإياهم، وأرسل جنكزخان طائفة أخرى إلى مدينة خوارزم فحاصروها حتى فتحوا البلد قهرا فقتلوا من فيها قتلا ذريعا، ونهبوها وسبوا أهلها وأرسلوا الجسر الذي يمنع ماء جيحون منها فغرقت دورها وهلك جميع أهلها ثم عادوا إلى جنكزخان وهو مخيم على الطالقان فجهز منهم طائفة إلى غزنة فاقتتل معهم جلال الدين بن خوارزم شاه فكسرهم جلال الدين كسرة عظيمة، واستنقذ منهم خلقا من أسارى المسلمين، ثم كتب إلى جنكزخان يطلب منه أن يبرز بنفسه لقتاله، فقصده جنكزخان فتواجها وقد تفرق على جلال الدين بعض جيشه ولم يبق بد من القتال، فاقتتلوا ثلاثة أيام لم يعهد قبلها
مثلها من قتالهم، ثم ضعفت أصحاب جلال الدين فذهبوا فركبوا بحر الهند فسارت التتار إلى غزنة فأخذوها بلا كلفة ولا ممانعة، كل هذا أو أكثره وقع في هذه السنة.
__________
(1) وهي قلعة منصوركوه، وهي قلعة حصينة لا ترام علوا وارتفاعا.
وفيها أيضا ترك الاشرف موسى بن العادل لاخيه شهاب الدين غازي ملك خلاط وميا فارقين وبلاد أرمينية واعتاض عن ذلك بالرها وسروج، وذلك لاشتغاله عن حفظ تلك النواحي بمساعدة أخيه الكامل ونصرته على الفرنج لعنهم الله تعالى.
وفي المحرم منها هبت رياح ببغداد وجاءت بروق وسمعت رعود شديدة وسقطت صاعقة بالجانب الغربي على المنارة المجاورة لعون ومعين فثلمتها، ثم أصلحت، وغارت الصاعقة في الارض.
وفي هذه السنة نصب محراب الحنابلة في الرواق الثالث الغربي من جامع دمشق بعد ممانعة من بعض الناس لهم، ولكن ساعدهم بعض الامراء في نصبه لهم، وهو الامير ركن الدين المعظمي، وصلى فيه الشيخ موفق الدين بن قدامة.
قلت: ثم رفع في حدود سنة ثلاثين وسبعمائة وعوضوا عنه بالمحراب الغربي عند باب الزيارة، كما عوض الحنفية عن محرابهم الذي كان في الجانب الغربي من الجامع بالمحراب المجدد لهم شرقي باب الزيارة، حين جدد الحائط الذي هو فيه في الايام التنكزية، على يدي ناظر الجامع تقي الدين ابن مراجل أثابه الله تعالى كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى.
وفيها قتل صاحب سنجار أخاه فملكها مستقلا بها الملك الاشرف بن العادل.
وفيها نافق الامير عماد الدين بن المشطوب على الملك الاشرف وكان قد آواه وحفظه من أذى أخيه الكامل حين أراد أن يبايع للفائز، ثم إنه سعى في الارض فسادا في بلاد الجزيرة فسجنه الاشرف حتى مات كمدا وذلا وعذابا (1).
وفيها أوقع الكامل بالفرنج الذين على دمياط بأسا شديدا فقتل منهم عشرة آلاف، وأخذ منهم خيولهم وأموالهم ولله الحمد.
وفيها عزل المعظم المعتمد مفاخر الدين إبراهيم عن ولاية دمشق وولاها للعزيز خليل، ولما خرج الحاج إلى مكة شرفها الله تعالى كان أميرهم المعتمد فحصل به خير كثير، وذلك أنه كف عبيد
مكة عن نهب الحجاج بعد قتلهم أمير حاج العراقيين أقباش الناصري، وكان من أكبر الامراء عند الخليفة الناصر وأخصهم عنده، وذلك لانه قدم معه بخلع للامير حسين بن أبي عزيز قتادة بن إدريس بن مطاعن بن عبد الكريم العلوي الحسني الزيدي بولايته لامرة مكة بعد أبيه، وكانت وفاته في جمادى الاولى من هذه السنة، فنازع في ذلك راجح وهو أكبر أولاد قتادة، وقال لا يتأمر عليها غيري، فوقعت فتنة أفضى الحال إلى قتل أقباش غلطا، وقد كان قتادة من أكابر الاشراف الحسنيين الزيديين وكان عادلا منصفا منعما، نقمة على عبيد مكة والمفسدين بها، ثم عكس هذا السير فظلم وجدد المكوس ونهب الحاج غير مرة فسلط الله عليه ولده حسنا فقتله وقتل عمه وأخاه أيضا، فلهذا لم يمهل الله حسنا أيضا، بل سلبه الملك وشرده في البلاد، وقيل بل قتل كما ذكرنا، وكان قتادة شيخا طويلا مهيبا لا يخاف من أحد من الخلفاء والملوك، ويرى أنه أحق بالامر من كل
__________
(1) قال أبو الفداء في تاريخه: نقله من حبس الموصل وحطه مقيدا في جب بمدينة حران حتى مات سنة 619 ه.
(3 / 125)
أحد، وكان الخليفة يود لو حضر عنده فيكرمه، وكان يأبى من ذلك ويمتنع عنه أشد الامتناع، ولم يفد إلى أحد قط ولا ذل لخليفة ولا ملك، وكتب إليه الخليفة مرة يستدعيه فكتب إليه: ولي كف ضرغام أذل ببطشها * وأشرى بها بين الورى وأبيع تظل ملوك الارض تلثم ظهرها * وفي بطنها (1) للمجد بين ربيع أأجعلها تحت الرحى ثم أبتغي * خلاصا لها ؟ إني إذا لرقيع وما أنا إلا المسك في كل بقعة (2) * يضوع وأما عندكم فيضيع وقد بلغ من السنين سبعين سنة، وقد ذكر ابن الاثير وفاته في سنة ثماني عشرة فالله أعلم.
وفيها توفي من الاعيان: الملك الفائز غياث الدين إبراهيم بن العادل، كان قد انتظم له الامر في الملك بعد أبيه على الديار
المصرية على يدي الامير عماد الدين بن المشطوب، لولا أن الكامل تدارك ذلك سريعا، ثم أرسله أخوه في هذه السنة إلى أخيهما الاشرف موسى يستحثه في سرعة المسير إليهم بسبب الفرنج، فمات بين سنجاب والموصل، وقد ذكر أنه سم فرد إلى سنجاب فدفن بها رحمه الله تعالى.
شيخ الشيوخ صدر الدين أبو الحسن محمد بن شيخ الشيوخ عماد الدين محمود بن حمويه الجويني، من بيت رياسة وإمرة عند بني أيوب، وقد كان صدر الدين هذا فقيها فاضلا، درس بتربة الشافعي بمصر، وبمشهد الحسين وولي مشيخة سعيد السعداء والنظر فيها، وكانت له حرمة وافرة عند الملوك، أرسله الكامل إلى الخليفة يستنصره على الفرنج فمات بالموصل بالاسهال، ودفن بها عند قضيب البان عن ثلاث وسبعين سنة.
صاحب حماه الملك المنصور محمد بن الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، وكان فاضلا له تاريخ في عشر مجلدات سماه المضمار، وكان شجاعا فارسا، فقام بالملك بعده ولده الناصر قليج أرسلان، ثم عزله عنها الكامل وحبسه حتى مات رحمه الله تعالى وولى أخاه المظفر بن المنصور.
__________
(1) في ابن الاثير: وفي وسطها.
(2) في ابن الاثير: في كل بلدة.
صاحب آمد الملك الصالح ناصر الدين محمود بن محمد بن قرا أرسلان بن أرتق، وكان شجاعا محبا للعلماء، وكان مصاحبا للاشرف موسى بن العادل يجئ إلى خدمته مرارا، وملك بعده ولده المسعود، وكان بخيلا فاسقا، فأخذه معه الكامل وحبسه بمصر ثم أطلقه فأخذ أمواله وسار إلى التتار، فأخذته منه (1).
الشيخ عبد الله اليونيني
الملقب أسد الشام رحمه الله ورضي عنه من قرية ببعلبك يقال لها يونين، وكانت له زاوية يقصد فيها للزيارة، وكان من الصالحين الكبار المشهورين بالعبادة والرياضة والامر بالمعروف والنهي عن المنكر، له همة عالية في الزهد والورع، بحيث إنه كان لا يقتني شيئا ولا يملك مالا ولا ثيابا، بل يلبس عارية ولا يتجاوز قميصا في الصيف وفروة فوقه في الشتاء، وعلى رأسه قبعا من جلود المعز، شعره إلى ظاهر، وكان لا ينقطع عن غزاة من الغزوات، ويرمي عن قوس زنته ثمانون رطلا، وكان يجاور في بعض الاحيان بجبل لبنان، ويأتي في الشتاء إلى عيون العاسريا في سفح الجبل المطل على قرية دومة شرقي دمشق، لاجل سخونة الماء، فيقصده الناس للزيارة هناك، ويجئ تارة إلى دمشق فينزل بسفح قاسيون عند القادسية وكانت له أحوال ومكاشفات صالحة، وكان يقال له أسد الشام، حكى الشيخ أبو المظفر سبط ابن الجوزي عن القاضي جمال الدين يعقوب الحاكم بكرك البقاع أنه شاهد مرة الشيخ عبد الله وهو يتوضأ من ثور عند الجسر الابيض إذ مر نصراني ومعه حمل بغل خمرا فعثرت الدابة عند الجسر فسقط الحمل فرأى الشيخ وقد فرغ من وضوئه ولا يعرفه، واستعان به على رفع الحمل فاستدعاني الشيخ فقال: تعال يا فقيه، فتساعدنا على تحميل ذلك الحمل على الدابة وذهب النصراني فتعجبت من ذلك وتبعت الحمل وأنا ذاهب إلى المدينة، فانتهى به إلى العقبة فأورده إلى الخمار بها فإذا خل فقال له الخمار: ويحك هذا خل، فقال النصراني أنا أعرف من أين أتيت، ثم ربط الدابة في خان ورجع إلى الصالحية فسأل عن الشيخ فعرفه فجاء إليه فأسلم على يديه، وله أحوال وكرامات كثيرة جدا، وكان لا يقوم لاحد دخل عليه ويقول: إنما يقوم الناس لرب العالمين، وكان الامجد إذا دخل عليه جلس بين يديه فيقول له: يا أمجد فعلت كذا وكذا ويأمره بما يأمره، وينهاه عما ينهاه عنه، وهو يتمثل جميع ما يقوله له، وما ذاك إلا لصدقه في زهده وورعه وطريقه، وكان يقبل الفتوح، وكان لا يدخر منه شيئا لغد، وإذا اشتد جوعه أخذ من ورق اللوز ففركه واستفه ويشرب فوقه الماء البارد رحمه الله تعالى وأكرم مثواه، وذكروا أنه كان يحج في بعض السنين في الهواء، وقد وقع هذا لطائفة كبيرة من
__________
(1) كذا بالاصل وتاريخ أبي الفداء، وقد ذكر ابن الاثير وفاته سنة 619 ه.
الزهاد وصالحي العباد، ولم يبلغنا هذا عن أحد من أكابر العلماء، وأول من يذكر عنه هذا حبيب العجمي، وكان من أصحاب الحسن البصري، ثم من بعده من الصالحين رحمهم الله أجمعين.
فلما كان يوم جمعة من عشر ذي الحجة من هذه السنة صلى الصبح عبد الله اليونيني وصلاة الجمعة بجامع بعلبك، وكان قد دخل الحمام يومئذ قبل الصلاة وهو صحيح، فلما انصرف من الصلاة قال للشيخ داود المؤذن، وكان يغسل الموتى، انظر كيف تكون غدا، ثم صعد الشيخ إلى زاويته فبات يذكر الله تعالى تلك الليلة ويتذكر أصحابه، ومن أحسن إليه ولو بأدنى شئ ويدعو لهم، فلما دخل وقت الصبح صلى بأصحابه ثم استند يذكر الله وفي يده سبحة، فمات وهو كذلك جالس لم يسقط، ولم تسقط السبحة من يده، فلما انتهى الخبر إلى الملك الامجد صاحب بعلبك فجاء إليه فعاينه كذلك فقال لو بنينا عليه بنيانا هكذا يشاهد الناس منه آية، فقيل له: ليس هذا من السنة، فنحي وكفن وصلي عليه ودفن تحت اللوزة التي كان يجلس تحتها يذكر الله تعالى، رحمه الله ونور ضريحه.
وكانت وفاته يوم السبت وقد جاوز ثمانين عاما أكرمه الله تعالى، وكان الشيخ محمد الفقيه اليونيني من جملة تلاميذه، وممن يلوذ به وهو جد هؤلاء المشايخ بمدينة بعلبك.
أبو عبد الله الحسين بن محمد بن أبي بكر المجلي الموصلي، ويعرف بابن الجهني، شاب فاضل ولي كتابة الانشاء لبدر الدين لؤلؤ زعيم الموصل، ومن شعره: نفسي فداء الذي فكرت فيه وقد * غدوت أغرق في بحر من العجب يبدو بليل على صبح على قمر * على قضيب على وهم على كثب ثم دخلت سنة ثمان عشرة وستمائة فيها استولت التتر على كثير من البلدان بكلادة وهمذان وأردبيل وتبريز وكنجة، وقتلوا أهاليها ونهبوا ما فيها، واستأسروا ذراريها، واقتربوا من بغداد فانزعج الخليفة لذلك وحصن بغداد واستخدم الاجناد، وقنت الناس في الصلوات والاوراد.
وفيها قهروا الكرج واللان، ثم قاتلوا
القبجاق فكسروهم، وكذلك الروس، وينهبون ما قدروا عليه، ثم قاتلوهم وسبوا نساءهم وذراريهم، وفيها سار المعظم إلى أخيه الاشرف فاستعطفه على أخيه الكامل، وكان في نفسه موجدة عليه فأزالها وسارا جميعا نحو الديار المصرية لمعاونة الكامل على الفرنج الذين قد أخذوا ثغر دمياط واستحكم أمرهم هنالك من سنة أربع عشرة، وعرض عليهم في بعض الاوقات أن يرد إليهم بيت المقدس وجميع ما كان صلاح الدين فتحه من بلاد الساحل ويتركوا دمياط، فامتنعوا من ذلك ولم
يفعلوا (1)، فقدر الله تعالى أنهم ضاقت عليهم الاقوات فقدم عليهم مراكب فيها ميرة لهم فأخذها الاسطول البحري وأرسلت المياه على أراضي دمياط من كل ناحية فلم يمكنهم بعد ذلك أن يتصرفوا في نفسهم، وحصرهم المسلمون من الجهة الاخرى حتى اضطروهم إلى أضيق الاماكن، فعند ذلك أنابوا إلى المصالحة بلا معاوضة، فجاء مقدموهم إليه وعنده أخواه المعظم عيسى وموسى الاشرف، وكانا قائمين بين يديه، وكان يوما مشهودا، فوقع الصلح (2) على ما أراد الكامل محمد بيض الله وجهه، وملوك الفرنج والعساكر كلها واقفة بين يديه، ومد سماطا عظيما، فاجتمع عليه المؤمن والكافر والبر والفاجر، وقام راجح الحلي الشاعر فأنشد: هنيئا فإن السعد راح مخلدا * وقد أنجز الرحمن بالنصر موعدا حبانا إله الخلق فتحا بدا لنا * مبينا وإنعاما وعزا مؤبدا تهلل وجه الدهر بعد قطوبه * وأصبح وجه الشرك بالظلم أسودا ولما طغى البحر الخضم بأهله الط * غاة وأضحى بالمراكب مزبدا أقام لهذا الدين من سل عزمه * صقيلا كما سل الحسام مجردا فلم ينج إلا كل شلو مجدل * ثوى منهم أو من تراه مقيدا ونادى لسان الكون في الارض رافعا * عقيرته في الخافقين ومنشدا أعباد عيسى إن عيسى وحزبه * وموسى جميعا يخدمون محمدا قال أبو شامة: وبلغني أنه أشار عند ذلك إلى المعظم عيسى والاشرف موسى والكامل محمد،
قال: وهذا من أحسن شئ اتفق، وكان ذلك يوم الاربعاء التاسع عشر رجب من هذه السنة، وتراجعت الفرنج إلى عكا وغيرها، ورجع المعظم إلى الشام واصطلح الاشرف والكامل على أخيهما المعظم.
وفيها ولى الملك المعظم قضاء دمشق كمال الدين المصري الذي كان وكيل بيت المال بها، وكان فاضلا بارعا يجلس في كل يوم جمعة قبل الصلاة بالعادلية بعد فراغها لاثبات المحاضر، ويحضر عنده في المدرسة جميع الشهود من كل المراكز حتى يتيسر على الناس إثبات كتبهم في الساعة الواحدة، جزاه الله خيرا.
وممن توفي فيها من الاعيان:
__________
(1) وقد شرطوا لاتمام الصلح أيضا اعطاءهم ثلاثمائة ألف دينار عوضا عن تخريب القدس ليعمروه بها، إضافة إلى الكرك والشوبك (ابن الاثير - تاريخ أبي الفداء).
(2) وكان ذلك تاسع رجب سنة 618 ه في اليوم الذي وصلت فيه للفرنج نجدة بالبحر وقد تسلمها المسلمون، ولو سبقوا إليها لامتنعوا عن تسليم دمياط إلى المسلمين (ابن الاثير 12 / 330 - تاريخ أبي الفداء 3 / 130 وفيه تم الصلح تاسع عشر رجب).
ياقوت الكاتب الموصلي رحمه الله أمين الدين المشهور بطريقة ابن البواب.
قال ابن الاثير: لم يكن في زمانه من يقاربه، وكانت لديه فضائل جمة والناس متفقون على الثناء عليه، وكان نعم الرجل.
وقد قال فيه نجيب الدين [ الحسين بن علي ] (1) الواسطي يمدحه بها: جامع شارد العلوم ولولا * ه لكانت أم الفضائل ثكلى ذو يراع تخاف ريقته الاس * د، وتعنو له الكتائب ذلا وإذا افتر ثغره عن بياض (2) * في سواد فالسمر والبيض خجلا أنت بدر والكاتب ابن هلال * كأبيه لا فخر فيمن تولى إن يكن أولى فإنك بالتفض * يل أولى فقد سبقت وصلى
جلال الدين الحسن من أولاد الحسن بن الصباح مقدم الاسماعيلية، وكان قد أظهر في قومه شعائر الاسلام، وحفظ الحدود والمحرمات والقيام فيها بالزواجر الشرعية.
الشيخ الصالح شهاب الدين محمد بن خلف بن راجح المقدسي الحنبلي الزاهد العابد الناسك، كان يقرأ على الناس يوم الجمعة الحديث النبوي وهو جالس على أسفل منبر الخطابة بالجامع المظفري، وقد سمع الحديث الكثير، ورحل وحفظ مقامات الحريري في خمسين ليلة، وكانت له فنون كثيرة، وكان ظريفا مطبوعا رحمه الله.
والخطيب موفق الدين أبو عبد الله عمر بن يوسف بن يحيى بن عمر بن كامل المقدسي، خطيب بيت الابار، وقد ناب في دمشق عن الخطيب جمال الدين الدولعي حين سار في الرسلية إلى خوارزم شاه، حتى عاد.
المحدث تقي الدين أبو طاهر إسماعيل بن عبد الله بن عبد المحسن بن الانماطي، قرأ الحديث ورحل وكتبه، وكان
__________
(1) من ابن الاثير.
(2) في ابن الاثير 12 / 405: سواد في بياض فالبيض والسمر خجلى.
حسن الخط متقنا في علوم الحديث، حافظا له، وكان الشيخ تقي الدين بن الصلاح يثني عليه ويمدحه، وكانت له كتب بالبيت الغربي من الكلاسة الذي كان للملك المحسن بن صلاح الدين، ثم أخذ من ابن الانماطي وسلم إلى الشيخ عبد الصمد الدكائي، واستمر بيد أصحابه بعد ذلك، وكانت وفاته بدمشق ودفن بمقابر الصوفية وصلى عليه بالجامع الشيخ موفق الدين، وبباب النصر الشيخ فخر الدين بن عساكر، وبالمقبرة قاضي القضاة جمال الدين المصري رحمه الله تعالى.
أبو الغيث شعيب بن أبي طاهر بن كليب ابن مقبل الضرير الفقيه الشافعي، أقام ببغداد إلى أن توفي، وكانت لديه فضائل وله رسائل، ومن شعره قوله: إذا كنتم للناس أهل سياسة * فسوسوا كرام الناس بالجود والبذل وسوسوا لئام الناس بالذل يصلحوا * عليه، فإن الذل أصلح للنذل أبو العز شرف بن علي ابن أبي جعفر بن كامل الخالصي المقري الضرير الفقيه الشافعي، تفقه بالنظامية وسمع الحديث ورواه، وأنشد عن الحسن بن عمرو الحلبي: تمثلتم لي والديار بعيدة * فخيل لي أن الفؤاد لكم معنى وناجاكم قلبي على البعد بيننا * فأوحشتم لفظا وآنستم معنى أبو سليمان داود بن إبراهيم ابن مندار الجيلي، أحد المعيدين بالمدرسة النظامية، ومما أنشده: أيا جامعا أمسك عنانك مقصرا * فإن مطايا الدهر تكبو وتقصر ستقرع سنا أو تعض ندامة * إذا خان الزمان واقصر (1) ويلقاك رشد بعد غيك واعظ * ولكنه يلقاك والامر مدبر أبو المظفر عبد الودود بن محمود بن المبارك ابن علي بن المبارك بن الحسن الواسطي الاصل، البغدادي الدار والمولد، كمال الدين
__________
(1) كذا بالاصل، والبيت مكسور.
المعروف والده بالمجيد، تفقه على أبيه وقرأ عليه علم الكلام، ودرس بمدرسته عند باب الازج، ووكله الخليفة الناصر واشتهر بالديانة والامانة، وباشر مناصب كبارا، وحج مرارا عديدة، وكان متواضعا حسن الاخلاق وكان يقول:
وما تركت ست وستون حجة * لنا حجة أن نركب اللهو مركبا وكان ينشد: العلم يأتي كل ذي خف * ض ويأبى على كل آبي كالماء ينزل في الوها * د وليس يصعد في الروابي ثم دخلت سنة تسع عشرة وستمائة فيها نقل تابوت العادل من القلعة إلى تربته العادلية الكبيرة، فصلي عليه أولا تحت النسر بالجامع الاموي، ثم جاؤوا به إلى التربة المذكورة فدفن فيها، ولم تكن المدرسة كملت بعد، وقد تكامل بناؤها في هذه السنة أيضا، وذكر الدرس بها القاضي جمال الدين المصري، وحضر عنده السلطان المعظم فجلس في الصدر وعن شماله القاضي وعن يمينه صدر الدين الحصيري شيخ الحنفية، وكان في المجلس الشيخ تقي الدين بن الصلاح إمام السلطان، والشيخ سيف الدين الآمدي إلى جانب المدرس، وإلى جانبه شمس الدين بن سناء الدولة، ويليه النجم خليل قاضي العسكر، وتحت الحصيري شمس الدين بن الشيرازي، وتحته محيي الدين التركي، وفيه خلق من الاعيان والاكابر، وفيهم فخر الدين بن عساكر.
وفيها أرسل الملك المعظم الصدر الكشهني (1) محتسب دمشق إلى جلال الدين بن خوارزم شاه يستعينه على أخويه الكامل والاشرف اللذين قد تمالآ عليه، فأجابه إلى ذلك بالسمع والطاعة، ولما عاد الصدر المذكور أضاف إليه مشيخة الشيوخ.
وحج في هذه السنة الملك مسعود بن أقسيس بن الكامل صاحب اليمن فبدت منه أفعال ناقصة بالحرم من سكر ورشق حمام المسجد بالبندق من أعلا قبة زمزم، وكان إذا نام في دار الامارة يضرب الطائفون بالمسعى بأطراف السيوف لئلا يشوشوا عليه وهو نوم سكر قبحه الله، ولكن كان مع هذا كله مهيبا محترما والبلاد به آمنة مطمئنة، وقد كاد يرفع سنجق أبيه يوم عرفة على سنجق الخليفة فيجري بسبب ذلك فتنة عظيمة، وما مكن من طلوعه وصعوده إلى الجبل إلا في آخر النهار بعد جهد جهيد.
وفيها كان بالشام جراد كثير أكل الزرع والثمار والاشجار.
وفيها وقعت حروب كثيرة بين القبجاق والكرج، وقتال كثير بسبب ضيق بلاد القبجاق عليهم.
وفيها ولي قضاء
القضاة ببغداد أبو عبد الله محمد بن فلان.
ولبس الخلعة في باب دار الوزارة مؤيد الدين محمد بن محمد القيمق بحضرة الاعيان والكبراء وقرئ تقليده بحضرتهم وساقه ابن الساعي بحروفه.
__________
(1) هو صدر الدين أبو الحسن محمد بن أبي الفتح.
وممن توفي فيها من الاعيان: عبد القادر بن داود أبو محمد الواسطي الفقيه الشافعي الملقب بالمحب، استقل بالنظامية دهرا، واشتغل بها، وكان فاضلا دينا صالحا، ومما أنشده من الشعر: الفرقدان كلاهما شهدا له * والبدر ليلة تمه بسهاده دنف إذا اعتبق الظلام تضرمت * نار الجوى في صدره وفؤاده فجرت مدامع جفنه في خده * مثل المسيل يسيل من أطواره شوقا إلى مضنيه لم أر هكذا * مشتاق مضنى جسمه ببعاده ليت الذي أضناه سحر جفونه * قبل الممات يكون من عواده أبو طالب يحيى بن علي اليعقوبي الفقيه الشافعي أحد المعيدين ببغداد، كان شيخا مليح الشيبة جميل الوجه، كان يلي بعض الاوقاف، ومما أنشده لبعض الفضلاء: لحمل تهامة وجبال أحد * وماء البحر ينقل بالزبيل ونقل الصخر فوق الظهر عريا * لاهون من مجالسة الثقيل ولبعضهم أيضا، وهو مما أنشده المذكور: وإذا مضى للمرء من أعوامه * خمسون وهو إلى التقى لا يجنح عكفت عليه المخزيات فقولها * حالفتنا، فأقم كذا لا تبرح وإذا رأى الشيطان غرة وجهه * حيا، وقال فديت من لا يفلح
اتفق أنه طولب بشئ من المال فلم يقدر عليه فاستعمل شيئا من الافيون المصري فمات من يومه ودفن بالوردية.
وفيها توفي: قطب الدين العادل بالفيوم ونقل إلى القاهرة.
وفيها توفي إمام الحنابلة بمكة الشيخ نصر بن أبي الفرج المعروف بابن الحصري، جاور بمكة
مدة لم يسافر، ثم ساقته المنية إلى اليمن، فمات بها (1) في هذه السنة.
وقد سمع الحديث من جماعة من المشايخ (2).
وفيها في ربيع الاول توفي بدمشق الشهاب عبد الكريم بن نجم النيلي أخو البهاء والناصح، وكان فقيها مناظرا بصيرا بالمحاكمات، وهو الذي أخرج مسجد الوزير من يد الشيخ علم الدين السخاوي رحمه الله تعالى بمنه وكرمه.
ثم دخلت سنة عشرين وستمائة فيها عاد الاشرف موسى بن العادل من عند أخيه الكامل صاحب مصر.
فتلقاه أخوه المعظم وقد فهم أنهما تمالآ عليه، فبات ليلة بدمشق وسار من آخر الليل ولم يشعر أخوه بذلك، فسار إلى بلاده فوجد أخاه الشهاب غازي الذي استنابه على خلاط وميا فارقين وقد قووا رأسه وكاتبه المعظم صاحب إربل وحسنوا له مخالفة الاشرف، فكتب إليه الاشرف ينهاه عن ذلك فلم يقبل، فجمع له العساكر ليقاتله.
وفيها سار أقسيس الملك مسعود صاحب اليمن ابن الكامل من اليمن إلى مكة شرفها الله تعالى فقاتله ابن قتادة ببطن مكة بين الصفا والمروة، فهزمه أقسيس وشرده، واستقل بملك مكة مع اليمن، وجرت أمور فظيعة وتشرد حسن بن قتادة قاتل أبيه وعمه وأخيه في تلك الشعاب والاودية.
وممن توفي فيها من الاعيان الشيخ الامام: موفق الدين عبد الله بن أحمد ابن محمد بن قدامة بن مقدام بن نصر.
شيخ الاسلام.
مصنف المغني في المذهب، أبو
محمد المقدسي إمام عالم بارع.
لم يكن في عصره، بل ولا قبل دهره بمدة أفقه منه، ولد بجماعيل في شعبان سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، وقدم مع أهله إلى دمشق في سنة إحدى وخمسين، وقرأ القرآن وسمع الحديث الكثير، ورحل مرتين إلى العراق إحداهما في سنة إحدى وستين مع ابن عمه الحافظ عبد الغني، والاخرى سنة سبع وستين، وحج في سنة ثلاث وسبعين، وتفقه ببغداد على مذهب الامام أحمد، وبرع وأفتى وناظر وتبحر في فنون كثيرة، مع زهد وعبادة وورع وتواضع
__________
(1) قال في تذكرة الحفاظ ص 1383: توفي بالمهجم - من اليمن - في المحرم.
وقال ابن مسدي: أدركه الاجل بالمهجم في ربيع الآخر.
وفي غاية النهاية 2 / 338: مات في المحرم وله 83 سنة.
(2) ومنهم: مسعود بن عبد الواحد الشيباني، وأبو الكرم الشهرزوري، وأبو بكر الزاغوني، وأحمد بن علي بن السمين، وسعد الله بن الدجاجي وعلي بن أحمد الازدي وغيرهم (غاية النهاية 2 / 338).
وحسن أخلاق وجود وحياء وحسن سمت ونور وبهاء وكثرة تلاوة وصلاة وصيام وقيام وطريقة حسنة واتباع للسلف الصالح، وكانت له أحوال ومكاشفات، وقد قال الشافعي رحمه الله تعالى: إن لم تكن العلماء العاقلون أولياء الله فلا أعلم لله وليا، وكان يؤم الناس للصلاة في محراب الحنابلة هو والشيخ العماد، فلما توفي العماد استقل هو بالوظيفة، فإن غاب صلى عنه أبو سليمان بن الحافظ عبد الرحمن بن الحافظ عبد الغني، وكان يتنفل بين العشاءين بالقرب من محرابه، فإذا صلى العشاء انصرف إلى منزله بدرب الدولعي بالرصيف وأخذ معه من الفقراء من تيسر يأكلون معه من طعامه، وكان منزله الاصلي بقاسيون فينصرف بعض الليالي بعد العشاء إلى الجبل، فاتفق في بعض الليالي أن خطف رجل عمامته وكان فيها كاغد فيه رمل، فقال له الشيخ: خذ الكاغد وألق العمامة، فظن الرجل أن ذلك نفقة فأخذه وألقى العمامة.
وهذا يدل على ذكاء مفرط واستحضار حسن في الساعة الراهنة، حتى خلص عمامته من يده بتلطف.
وله مصنفات عديدة مشهورة، منها المغني في شرح مختصر الخرقي في عشرة مجلدات، والشافي في مجلدين والمقنع للحفظ، والروضة في أصول الفقه، وغير ذلك من التصانيف المفيدة، وكانت وفاته في يوم عيد الفطر في
هذه السنة، وقد بلغ الثمانين، وكان يوم سبت وحضر جنازته خلق كثير، ودفن بتربته المشهورة، ورئيت له منامات صالحة رحمه الله تعالى، وكان له أولاد ذكور وإناث، فلما كان حيا ماتوا في حياته.
ولم يعقب منهم سوى ابنه عيسى ولدين ثم ماتا وانقطع نسله، قال أبو المظفر سبط ابن الجوزي: نقلت من خط الشيخ موفق رحمه الله تعالى: لا تجلسن بباب من * يأبى عليك وصول داره وتقول حاجاتي إلي * ه يعوقها إن لم أداره واتركه واقصد ربها * تقضى ورب الدار كاره ومما أنشده الشيخ موفق الدين لنفسه رحمه الله تعالى ورضي عنه قوله: أبعد بياض الشعر أعمر مسكنا * سوى القبر، إني إن فعلت لاحمق يخبرني شيبي بأني ميت * وشيكا , فينعاني إلي ويصدق يخرق عمري كل يوم وليلة * فهل مستطاع رقع (1) ما يتخرق كأني بجسمي فوق نعشي ممددا * فمن ساكت أو معول يتحرق إذا سئلوا عني أجابوا وعولوا * وأدمعهم تنهل هذا الموفق وغيبت في صدع من الارض ضيق * وأودعت لحدا فوقه الصخر مطبق ويحثو علي الترب أوثق صاحب * ويسلمني للقبر من هو مشفق
__________
(1) في شذرات الذهب 5 / 91: رفو.
فيا رب كن لي مؤنسا يوم وحشتي * فإني بما أنزلته لمصدق وما ضرني أني إلى الله صائر * ومن هو من أهلي أبر وأرفق فخر الدين ابن عساكر عبد الرحمن بن الحسن بن هبة الله بن عساكر أبو منصور الدمشقي شيخ الشافعية بها، وأمه اسمها أسماء بنت محمد بن الحسن بن طاهر
القدسية المعروف والدها بأبي البركات ابن المران، وهو الذي جدد مسجد القدم في سنة سبع عشرة وخمسمائة وبه قبره وقبرها، ودفن هناك طائفة كبيرة من العلماء، وهي أخت آمنة والدة القاضي محيي الدين محمد بن علي بن الزكي، اشتغل الشيخ فخر الدين من صغره بالعلم الشريف على شيخه قطب الدين مسعود النيسابوري، فتزوج بابنته ودرس مكانه بالجاروجية، وبها كان يسكن في إحدى القاعتين اللتين أنشأهما وبها توفي غربي الايوان، ثم تولى تدريس الصلاحية الناصرية بالقدس الشريف، ثم ولاه العادل تدريس التقوية، وكان عنده أعيان الفضلاء، ثم تفرغ فلزم المجاورة في الجامع في البيت الصغير إلى جانب محراب الصحابة يخلو فيه للعبادة والمطالعة والفتاوى، وكانت تفد إليه من الاقطار، وكان كثير الذكر حسن السمت، وكان يجلس تحت النسر في كل اثنين وخميس مكان عمه لاسماع الحديث بعد العصر، فيقرأ عليه دلائل النبوة وغيره، وكان يحضر مشيخة دار الحديث النورية، ومشهد ابن عروة أول ما فتح، وقد استدعاه الملك العادل بعد ما عزل قاضيه ابن الزكي فأجلسه إلى جانبه وقت السماط، وسأل منه أن يلي القضاء بدمشق، فقال حتى أستخير الله تعالى، ثم امتنع من ذلك فشق على السلطان امتناعه، وهم أن يؤذيه فقيل له أحمد الله الذي فيه مثل هذا.
ولما توفي العادل وأعاد ابنه المعظم الخمور أنكر عليه الشيخ فخر الدين، فبقي في نفسه منه، فانتزع منه تدريس التقوية، ولم يبق معه سوى الجاروجية ودار الحديث النورية ومشهد ابن عروة، وكانت وفاته يوم الاربعاء بعد العصر عاشر رجب من هذه السنة وله خمس وستون سنة، وصلي عليه بالجامع وكان يوما مشهودا، وحملت جنازته إلى مقابر الصوفية فدفن في أولها قريبا من قبر شيخه قطب الدين مسعود بن عروة.
سيف الدين محمد بن عروة الموصلي المنسوب إليه مشهد ابن عروة بالجامع الاموي، لانه أول من فتحه، وقد كان مشحونا بالحواصل الجامعية وبنى فيه البركة ووقف فيه على الحديث درسا، ووقف خزائن كتب فيه، وكان مقيما بالقدس الشريف ولكنه كان من خواص أصحاب الملك المعظم، فانتقل إلى دمشق حين خرب سور بيت المقدس إلى أن توفي بها، وقبره عند قباب أتابك طغتكين قبلي المصلى رحمه الله.
الشيخ أبو الحسن الروزبهاري دفن بالمكان المنسوب إليه عند باب الفراديس.
الشيخ عبد الرحمن اليمني كان مقيما بالمنارة الشرقية، كان صالحا زاهدا ورعا وفيه مكارم أخلاق، ودفن بمقابر الصوفية.
الرئيس عز الدين المظفر بن أسعد ابن حمزة التميمي بن القلانسي، أحد رؤساء دمشق وكبرائها، وجده أبو يعلى حمزة له تاريخ ذيل به على ابن عساكر، وقد سمع عز الدين هذا الحديث من الحافظ أبي القاسم بن عساكر وغيره، ولزم مجالسة الكندي وانتفع به.
الامير الكبير أحد حجاب الخليفة محمد بن سليمان بن قتلمش بن تركانشاه بن منصور السمرقندي، وكان من أولاد الامراء، وولي حاجب الحجاب بالديوان العزيز الخليفتي، وكان يكتب جيدا وله معرفة حسنة بعلوم كثيرة، منها الادب وعلوم الرياضة، وعمر دهرا، وله حظ من نظم الشعر الحسن ومن شعره قوله: سئمت تكاليف هذي الحياة * وكذا الصباح بها والمساء وقد كنت كالطفل في عقله * قليل الصواب كثير الهراء أنام إذا كنت في مجلس * وأسهر عند دخول الغناء وقصر خطوي قيد المشيب * وطال على ما عناني عناء وغودرت كالفرخ في عشه * وخلفت حلمي وراء وراء وما جر ذلك غير البقاء * فكيف بدا سوء فعل البقاء وله أيضا، وهو من شعره الحسن رحمه الله: إلهي يا كثير العفو عفوا * لما أسلفت في زمن الشباب
فقد سودت في الآثام وجها * ذليلا خاضعا لك في التراب فبيضه بحسن العفو عني * وسامحني وخفف من عذابي ولما توفي صلي عليه بالنظامية ودفن بالشونيزية ورآه بعضهم في المنام فقال ما فعل بك ربك ؟ فقال: تحاشيت اللقاء لسوء فعلي * وخوفا في المعاد من الندامة
فلما أن قدمت على إلهي * وحاقق في الحساب على قلامه وكان العدل أن أصلى جحيما * تعطف بالمكارم والكرامة وناداني لسان العفو منه * ألا يا عبد يهنيك السلامه أبو علي الحسن بن أبي المحاسن زهرة بن علي بن زهرة العلوي الحسيني الحلبي، نقيب الاشراف بها، كان لديه فضل وأدب وعلم بأخبار الناس والتواريخ والسير والحديث، ضابطا حافظا للقرآن المجيد، وله شعر جيد فمنه قوله: لقد رأيت المعشوق وهو من ال * هجر تنبو النواظر عنه أثر الدهر فيه آثار سوء * وأدالت يد الحوادث منه عاد مستذلا ومستبدلا * عزا بذل كأن لم يصنه أبو علي يحيى بن المبارك ابن الجلاجلي من أبناء التجار، سمع الحديث وكان جميل الهيئة يسكن بدار الخلافة وكان عنده علم وله شعر حسن، فمنه قوله: خير إخوانك المشارك في المر * وأين الشريك في المر أينا الذي إن شهدت سرك في القو * م وإن غبت كان أذنا وعينا مثل العقيق إن مسه النا * ر جلاه الجلاء فازداد زينا وأخو السوء إن يغب عنك يش * نئك وإن يحتضر يكن ذاك شينا
جيبه غير ناصح ومناه أن * يصب الخليل إفكا ومينا فاخش منه ولا تلهف عليه * إن غرما له كنقدك دينا ثم دخلت سنة إحدى وعشرين وستمائة فيها وصلت سرية من جهة جنكزخان غير الاولتين إلى الري، وكانت قد عمرت قليلا فقتلوا أهلها أيضا، ثم ساروا إلى ساوة، ثم إلى قم وقاسان (1)، ولم تكونا طرقتا إلا هذه المرة، ففعلوا بها مثل ما تقدم من القتل والسبي، ثم ساروا إلى همذان فقتلوا أيضا وسبوا، ثم ساروا إلى خلف
__________
(1) في ابن الاثير: قاشان.
الخوارزمية إلى أذربيجان فكسروهم وقتلوا منهم خلقا كثيرا، فهربوا منهم إلى تبريز فلحقوهم وكتبوا إلى ابن البهلوان: إن كنت مصالحا لنا فابعث لنا بالخوارزمية وإلا فأنت مثلهم، فقتل منهم خلقا وأرسل برؤوسهم إليهم، مع تحف وهدايا كثيرة، هذا كله وإنما كانت هذه السرية ثلاثة آلاف والخوارزمية وأصحاب البهلوان أضعاف أضعافهم، ولكن الله تعالى ألقى عليهم الخذلان والفشل، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفيها ملك غياث الدين بن خوارزم شاه بلاد فارس مع ما في يده من مملكة أصفهان وهمذان وفيها استعاد الملك الاشرف مدينة خلاط من أخيه شهاب الدين غازي، وكان قد جعلها إليه مع جميع بلاد أرمينية وميا فارقين وجاي وجبل حور (1)، وجعله ولي عهده من بعده، فلما عصي عليه وتشغب دماغه بما كتب إليه المعظم من تحسينه له مخالفته، فركب إليه وحاصره بخلاط فسلمت إليه وامتنع أخوه في القلعة، فلما كان الليل نزل إلى أخيه معتذرا فقبل عذره ولم يعاقبه بل أقره على ميافارقين وحدها، وكان صاحب إربل والمعظم متفقين مع الشهاب غازي على الاشرف، فكتب الكامل إلى المعظم يتهدده لئن ساعد على الاشرف ليأخذنه وبلاده، وكان بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل مع الاشرف، فركب إليه صاحب إربل فحاصره بسبب قلة جنده لانه أرسلهم إلى الاشرف حين نازل خلاط، فلما انفصلت الامور على ما ذكرنا ندم صاحب إربل، والمعظم بدمشق أيضا.
وفيها أرسل المعظم ولده الناصر داود إلى صاحب إربل يقويه على مخالفة الاشرف، وأرسل صوفيا من الشميساطية يقال له الملق إلى جلال الدين بن خوارزم شاه - وكان قد أخذ أذربيجان في هذه السنة وقوي جأشه - يتفق معه على أخيه الاشرف، فوعده النصر والرفادة.
وفيها قدم الملك مسعود أقسيس ملك اليمن على أبيه الكامل بالديار المصرية ومعه شئ كثير من الهدايا والتحف، من ذلك مائتا خادم وثلاثة أفيلة هائلة، وأحمال عود وند ومسك وعنبر، وخرج أبوه الكامل لتلقيه ومن نية أقسيس أن ينزع الشام من يد عمه المعظم.
وفيها كمل عمارة دار الحديث الكاملية بمصر (2)، وولى مشيختها الحافظ أبو الخطاب ابن دحية الكلبي، وكان مكثارا كثير الفنون، وعنده فوائد وعجائب رحمه الله.
وممن توفي فيها من الاعيان: أحمد بن محمد ابن علي القادسي الضرير الحنبلي، والد صاحب الذيل على تاريخ ابن الجوزي، وكان
__________
(1) في ابن الاثير: حاني وجبل جور.
(2) قال ابن إياس في بدائع الزهور 1 / 1 / 264: أكمل الملك الكامل بناء مدرسته التي بين القصرين، المعروفة بالكاملية - سنة 630 - وسماها دار الحديث وهي أول دار بنيت للحديث في القاهرة وكان قد باشر في بنائها سنة 623 ه.
القادسي هذا يلازم حضور مجلس الشيخ أبي الفرج بن الجوزي، ويزهره لما يسمعه من الغرائب، ويقول والله إن ذا مليح فاستقرض منه الشيخ مرة عشرة دنانير فلم يعطه، وصار يحضر ولا يتكلم، فقال الشيخ مرة: هذا القادسي لا يقرضنا شيئا ولا يقول والله إن ذا مليح ؟ رحمهم الله تعالى، وقد طلب القادسي مرة إلى دار المستضئ ليصلي بالخليفة التراويح فقيل له والخليفة يسمع: ما مذهبك ؟ فقال حنبلي، فقال له لا تصل بدار الخلافة وأنت حنبلي، فقال أنا حنبلي ولا أصلي بكم، فقال الخليفة اتركوه لا يصلي بنا إلا هو.
أبو الكرم المظفر بن المبارك ابن أحمد بن محمد البغدادي الحنفي شيخ مشهد أبي حنيفة وغيره، ولي الحسبة بالجانب الغربي من بغداد، وكان فاضلا دينا شاعرا ومن شعره: فصن بجميل الصبر نفسك واغتنم * شريف المزايا لا يفتك ثوابها وعش سالما والقول فيك مهذب * كريما وقد هانت عليك صعابها وتندرج الايام والكل ذاهب * قليل ويقنى عذبها وعذابها وما الدهر إلا مر يوم وليلة * وما العمر إلا طيها وذهابها وما الحزم إلا في إخاء عزيمة * وفيك المعالي صفوها ولبابها ودع عنك أحلام الاماني فإنه * سيسفر يوما غيها وصوابها محمد بن أبي الفرج بن بركة الشيخ فخر الدين أبو المعالي الموصلي، قدم بغداد واشتغل بالنظامية وأعاد بها، وكانت له معرفة بالقراءات، وصنف كتابا في مخارج الحروف، وأسند الحديث وله شعر لطيف.
أبو بكر بن حلبة الموازيني البغدادي كان فردا في علم الهندسة وصناعة الموازين يخترع أشياء عجيبة، من ذلك أنه ثقب حبة خشخاش سبعة ثقوب وجعل في كل ثقب شعرة، وكان له حظوة عند الدولة.
أحمد بن جعفر بن أحمد ابن محمد أبو العباس الدبيبي البيع الواسطي، شيخ أديب فاضل له نظم ونثر، عارف بالاخبار والسير، وعنده كتب جيدة كثيرة، وله شرح قصيدة لابي العلاء المعري في ثلاث مجلدات، وقد أورد له ابن الساعي شعرا حسنا فصيحا حلوا لذيذا في السمع لطيفا في القلب.
ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين وستمائة فيها عاثت الخوارزمية حين قدموا مع جلال الدين بن خوارزم شاه من بلاد غزنة مقهورين
من التتار إلى بلاد خوزستان ونواحي العراق، فأفسدوا فيه وحاصروا مدنه ونهبوا قراه.
وفيها استحوذ جلال الدين بن خوارزم شاه على بلاد أذربيجان وكثيرا من بلاد الكرج، وكسر الكرج وهم في سبعين ألف مقاتل، فقتل منهم عشرين ألفا من المقاتلة، واستفحل أمره جدا وعظم شأنه، وفتح تفليس فقتل منها ثلاثين ألفا.
وزعم أبو شامة أنه قتل من الكرج سبعين ألفا في المعركة، وقتل من تفليس تمام المائة ألف، وقد اشتغل بهذه الغزوة عن قصد بغداد، وذلك أنه لما حاصر دقوقا سبه أهلها ففتحها قسرا وقتل من أهلها خلقا كثيرا، وخرب سورها وعزم على قصد الخليفة ببغداد لانه فيما زعم عمل على أبيه حتى هلك، واستولت التتر على البلاد، وكتب إلى المعظم بن العادل يستدعيه لقتال الخليفة ويحرضه على ذلك، فامتنع المعظم من ذلك، ولما علم الخليفة بقصد جلال الدين بن خوارزم شاه بغداد انزعج لذلك وحصن بغداد واستخدم الجيوش والاجناد، أنفق في الناس ألف ألف دينار، وكان جلال الدين قد بعث جيشا إلى الكرج فكتبوا إليه أن أدركنا قبل أن نهلك عن آخرنا، وبغداد ما تفوت، فسار إليهم وكان من أمره ما ذكرنا.
وفيها كان غلاء شديد بالعراق والشام بسبب قلة الامطار وانتشار الجراد، ثم أعقب ذلك فناء كثير بالعراق والشام أيضا، فمات بسببه خلق كثير في البلدان، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفاة الخليفة الناصر لدين الله وخلافة ابنه الظاهر لما كان يوم الاحد آخر يوم (1) من شهر رمضان المعظم من هذه السنة توفي الخليفة الناصر لدين الله أبو العباس أحمد بن المستضئ بأمر الله، أبي المظفر يوسف بن المقتفي لامر الله، أبي عبد الله محمد بن المستظهر بالله، أبي عبد الله أحمد بن المقتدي بأمر الله، أبي القاسم عبد الله بن الذخيرة محمد بن القائم بأمر الله، أبي جعفر عبد الله بن القادر بالله، أبي العباس أحمد بن الموفق أبي أحمد بن محمد المتوكل أبي جعفر عبد الله بن القادر بالله أبي العباس أحمد بن إسحاق بن المقتدر بالله أبي الفضل جعفر بن المعتضد بالله أبي العباس أحمد بن الموفق، أبي أحمد بن محمد المتوكل على الله جعفر بن المعتصم بالله أبي إسحاق محمد بن هارون الرشيد بن المهدي محمد بن عبد الله أبي جعفر المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي العباسي، أمير
المؤمنين، ولد ببغداد سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة، وبويع له بالخلافة بعد موت أبيه سنة خمس
__________
(1) في مرآة الزمان 8 / 635 والوافي بالوفيات 6 / 310 والعبر 5 / 88: توفي في سلخ رمضان، وفي الجوهر الثمين: وفاته يوم السبت ثاني شوال.
وفي تاريخ أبي الفداء 3 / 135: أول شوال.
وسبعين [ وخمسمائة ]، وتوفي في هذه السنة وله من العمر تسع وستون سنة وشهران وعشرون يوما (1)، وكانت مدة خلافته سبعا وأربعين سنة إلا شهرا (2)، ولم يقم أحد من الخلفاء العباسيين قبله في الخلافة هذه المدة الطويلة، ولم تطل مدة أحد من الخلفاء مطلقا أكثر من المستنصر العبيدي، أقام بمصر حاكما ستين سنة، وقد انتظم في نسبه أربعة عشر خليفة، وولى عهد على ما رأيت، وبقية الخلفاء العباسيين كلهم من أعمامه وبني عمه.
وكان مرضه قد طال به وجمهوره من عسار البول، مع أنه كان يجلب له الماء من مراحل عن بغداد ليكون أصفى، وشق ذكره مرات بسبب ذلك، ولم يغن عنه هذا الحذر شيئا، وكان الذي ولي غسله محيي الدين ابن الشيخ أبي الفرج ابن الجوزي، وصلى عليه ودفن في دار الخلافة، ثم نقل إلى الترب من الرصافة في ثاني ذي الحجة من هذه السنة، وكان يوما مشهودا، قال ابن الساعي: أما سيرته فقد تقدمت في الحوادث، وأما ابن الاثير في كامله فإنه قال: وبقي الناصر لدين الله ثلاث سنين عاطلا من الحركة بالكلية، وقد ذهبت إحدى عينيه والاخرى يبصر بها إبصارا ضعيفا، وآخر الامر أصابه دوسنطارية عشرين يوما ومات (3)، وزر له عدة وزراء، وقد تقدم ذكرهم، ولم يطلق في أيام مرضه ما كان أحدثه من الرسوم الجائرة، وكان قبيح السيرة في رعيته ظالما لهم، فخرب في أيامه العراق وتفرق أهله في البلاد، وأخذ أموالهم وأملاكهم، وكان يفعل الشئ وضده، فمن ذلك أنه عمل دورا للافطار في رمضان ودورا لضيافة الحجاج، ثم أبطل ذلك، وكان قد أسقط مكوسا ثم أعادها وجعل جل همه في رمي البندق والطيور المناسيب وسراويلات الفتوة.
قال ابن الاثير: وإن كان ما ينسبه العجم إليه صحيحا من أنه هو الذي أطمع التتار في البلاد وراسلهم فهو الطامة الكبرى التي يصغر عندها كل ذنب عظيم.
قلت، وقد ذكر عنه أشياء غريبة، من ذلك أنه كان يقول للرسل
الوافدين عليه فعلتم في مكان كذا وكذا، وفعلتم في الموضع الفلاني كذا، حتى ظن بعض الناس أو أكثرهم أنه كان يكاشف أو أن جنيا يأتيه بذلك، والله أعلم.
خلافة الظاهر بن الناصر لما توفي الخليفة الناصر لدين الله كان قد عهد إلى ابنه أبي نصر محمد هذا ولقبه بالظاهر، وخطب له على المنابر، ثم عزله عن ذلك بأخيه علي، فتوفي في حياة أبيه سنة ثنتي عشرة، فاحتاج إلى إعادة هذا لولاية العهد فخطب له ثانيا، فحين توفي بويع بالخلافة، وعمره يومئذ ثنتان
__________
(1) في ابن الاثير 12 / 439 وتاريخ أبي الفداء 3 / 136: نحو سبعين سنة تقريبا.
(2) في ابن الاثير: ستا وأربعين سنة وعشرة أشهر وثمانية وعشرين يوما.
وفي أبي الفداء: نحو سبع وأربعين سنة.
وفي الوافي ودول الاسلام 2 / 126: سبعا وأربعين سنة.
وفي مرآة الزمان 8 / 635: سبعا وأربعين سنة إلا شهورا وأياما.
(3) انظر تاريخ أبي الفداء: 3 / 135 والكامل لابن الاثير 12 / 440.
وخمسون سنة، فلم يل الخلافة من بني العباس أسن منه، وكان عاقلا وقورا دينا عادلا محسنا، رد مظالم كثيرة وأسقط مكوسا كان قد أحدثها أبوه، وسار في الناس سيرة حسنة، حتى قيل: إنه لم يكن بعد عمر بن عبد العزيز أعدل منه لو طالت مدته، لكنه لم يحل إلى الحول، بل كانت مدته تسعة أشهر (1) أسقط الخراج الماضي عن الاراضي التي قد تعطلت، ووضع عن أهل بلدة واحدة وهي يعقوبا سبعين ألف دينار كان أبوه قد زادها عليهم في الخراج، وكانت صنجة المخزن تزيد على صنجة البلد نصف دينار في كل مائة إذا قبضوا وإذا أقبضوا دفعوا بصنجة البلد، فكتب إلى الديوان (ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين) [ سورة 83: 1 ] فكتب إليه بعض الكتاب يقول: يا أمير المؤمنين إن تفاوت هذا عن العام الماضي خمسة وثلاثون ألفا، فأرسل ينكر عليه ويقول: هذا يترك وإن كان تفاوته ثلثمائة ألف وخمسين ألفا، رحمه الله.
وأمر
للقاضي أن كل من ثبت له حق بطريق شرعي يوصل إليه بلا مراجعة، وأقام في النظر على الاموال الجردة رجلا صالحا واستخلص على القضاء الشيخ العلامة عماد الدين أبا صالح نصر بن عبد الرزاق بن الشيخ عبد القادر الجيلي في يوم الاربعاء ثامن ذي الحجة، فكان من خيار المسلمين ومن القضاة العادلين، رحمهم الله أجمعين.
ولما عرض عليه القضاء لم يقبله إلا بشرط أن يورث ذوي الارحام، فقال: اعط كل ذي حق حقه واتق الله ولا تتق سواه، وكان من عادة أبيه أن يرفع إليه حراس الدروب في كل صباح بما كان عندهم في المحال من الاجتماعات الصالحة والطالحة، فلما ولي الظاهر أمر بتبطيل ذلك كله وقال: أي فائدة في كشف أحوال الناس وهتك أستارهم ؟ فقيل له: إن ترك ذلك يفسد الرعية، فقال نحن ندعو الله لهم أن يصلحهم، وأطلق من كان في السجون معتقلا على الاموال الديوانية، ورد عليهم ما كان استخرج منهم قبل ذلك من المظالم وأرسل إلى القاضي بعشرة آلاف دينار يوفي بها ديون من في سجونه من المدينين الذين لا يجدون وفاء، وفرق في العلماء بقية المائة ألف، وقد لامه بعض الناس في هذه التصرفات فقال: إنما فتحت الدكان بعد العصر، فذروني أعمل صالحا وأفعل الخير، فكم مقدار ما بقيت أعيش ؟ ! ولم تزل هذه سيرته حتى توفي في العام الآتي كما سيأتي.
ورخصت الاسعار في أيامه وقد كانت قبل ذلك في غاية الغلاء حتى أنه فيما حكى ابن الاثير: أكلت الكلاب والسنانير ببلاد الجزيرة والموصل، فزال ذلك والحمد لله.
وكان هذا الخليفة الظاهر حسن الشكل مليح الوجه أبيض مشربا حلو الشمائل شديد القوى.
__________
(1) في خلاصة الذهب المسبوك ص 285: تسعة أشهر وأربعة عشر يوما.
وفي الوافي بالوفيات 2 / 96 والعبر 5 / 95: تسعة أشهر ونصفا.
وفي دول الاسلام 2 / 129 فكالاصل.
وفي ابن الاثير 12 / 456: تسعة أشهر وأربعة وعشرين يوما.
وممن توفي فيها من الاعيان: أبو الحسن علي الملقب بالملك الافضل
نور الدين بن السلطان صلاح الدين بن يوسف بن أيوب، كان ولي عهد أبيه، وقد ملك دمشق بعده مدة سنتين ثم أخذها منه عمه العادل، ثم كان أن يملك الديار المصرية بعد أخيه العزيز فأخذها منه عمه العادل أبو بكر، ثم اقتصر على ملك صرخد فأخذها منه أيضا عمه العادل، ثم آل به الحال أن ملك سميساط وبها توفي في هذه السنة، وكان فاضلا شاعرا جيد الكتابة، ونقل إلى مدينة حلب فدفن بها بظاهرها.
وقد ذكر ابن خلكان أنه كتب إلى الخليفة الناصر لدين الله يشكو إليه عمه أبا بكر وأخاه عثمان وكان الناصر شيعيا مثله: مولاي إن أبا بكر وصاحبه * عثمان قد غصبا بالسيف حق علي وهو الذي كان قد ولاه والده * عليهما فاستقام الامر حين ولي فخالفاه وحلا عقد بيعته * والامر بينهما والنص فيه جلي فانظر إلى حظ هذا الاسم كيف لقى * من الاواخر ما لاقى من الاول الامير سيف الدين علي ابن الامير علم الدين بن سليمان بن جندر، كان من أكابر الامراء بحلب، وله الصدقات الكثيرة ووقف بها مدرستين إحداهما على الشافعية والاخرى على الحنفية، وبنى الخانات والقناطر وغير ذلك من سبل الخيرات والغزوات رحمه الله.
الشيخ علي الكردي الموله المقيم بظاهر باب الجابية، قال أبو شامة: وقد اختلفوا فيه فبعض الدماشقة يزعم أنه كان صاحب كرامات، وأنكر ذلك آخرون، وقالوا ما رآه أحد يصلي ولا يصوم ولا لبس مداسا، بل كان يدوس النجاسات ويدخل المسجد على حاله، وقال آخرون كان له تابع من الجن يتحدث على لسانه حكى السبط عن امرأة قالت جاء خبر بموت أمي باللاذقية أنها ماتت وقال لي بعضهم: إنها لم تمت، قالت فمررت به وهو عند المقابر فوقفت عنده فرفع رأسه وقال لي: ماتت ماتت إيش تعملين ؟ فكان كما قال.
وحكى لي عبد الله صاحبي قال: صبحت يوما وما كان معي شئ فاجتزت به فدفع إلي نصف درهم وقال: يكفي هذا للخبز والفت بدبس، وقال: مر يوما على
الخطيب جمال الدين الدولعي فقال له: يا شيخ علي، أكلت اليوم كسيرات يابسة وشربت عليها
الماء فكفتني، فقال له الشيخ علي الكردي: وما تطلب نفسك شيئا آخر غير هذا ؟ قال: لا، فقال: يا مسلمين من يقنع بكسرة يابسة يحبس نفسه في هذه المقصورة ولا يقضي ما فرضه الله عليه من الحج.
الفخر ابن تيمية محمد بن أبي القاسم بن محمد الشيخ فخر الدين أبو عبد الله بن تيمية الحراني، عالمها وخطيبها وواعظها، اشتغل على مذهب الامام أحمد وبرع فيه وبرز وحصل وجمع تفسيرا حافلا في مجلدات كثيرة وله الخطب المشهورة المنسوبة إليه، وهم عم الشيخ مجد الدين صاحب المنتقى في الاحكام، قال أبو المظفر سبط ابن الجوزي: سمعته يوم جمعة بعد الصلاة وهو يعظ الناس ينشد: أحبابنا قد ندرت مقلتي * ما تلتقي بالنوم أو نلتقي رفقا بقلب مغرم واعطفوا * على سقام الجسد المحرق (1) كم تمطلوني بليالي اللقا * قد ذهب العمر ولم نلتق وقد ذكرنا أنه قدم بغداد حاجا بعد وفاة شيخه أبي الفرج بن الجوزي ووعظ بها في مكان وعظه.
الوزير ابن شكر صفي الدين أبو محمد عبد الله بن علي بن عبد الخالق بن شكر، ولد بالديار المصرية بدميرة بين مصر واسكندرية سنة أربعين وخمسمائة، ودفن بتربته عند مدرسته بمصر، وقد وزر للملك العادل وعمل أشياء في أيامه منها تبليط جامع دمشق وأحاط سور المصلى عليه، وعمل الفوارة ومسجدها وعمارة جامع المزة، وقد نكب وعزل سنة خمس عشرة وستمائة وبقي معزولا إلى هذه السنة فكانت فيها وفاته، وقد كان مشكور السيرة ومنهم من يقول كان ظالما فالله أعلم.
أبو إسحاق إبراهيم بن المظفر ابن إبراهيم بن علي المعروف بابن البذي الواعظ البغدادي، أخذ الفن عن شيخه أبي الفرج ابن الجوزي وسمع الحديث الكثير، ومن شعره قوله في الزهد: ما هذه الدنيا بدار مسرة * فتخوفي مكرا لها وخداعا
__________
(1) في الوفيات 4 / 387: المغرق.
بينا الفتى فيها يسر بنفسه * وبماله يستمتع استمتاعا حتى سقته المنية شربة * وحمته فيه بعد ذاك رضاعا فغدا بما كسبت يداه رهينة * لا يستطيع لما عرته دفاعا لو كان ينطق قال من تحت الثرى * فليحسن العمل الفتى ما اسطاعا أبو الحسن علي بن الحسن الرازي ثم البغدادي الواعظ، عنده فضائل وله شعر حسن، فمنه قوله في الزهد: استعدي يا نفس للموت واسعي * لنجاة فالحازم المستعد قد تبينت أنه ليس للحي * خلود ولا من الموت بد إنما أنت مستعيرة ما سو * ف تردين والعواري ترد أنت تسهين والحوادث لا * تسهو وتلهين والمنايا تجد لا نرجى البقاء في معدن المو * ت ولا أرضا بها لك ورد أي ملك في الارض أم أي حظ * لامرئ حظه من الارض لحد ؟ كيف يهوى امرؤ لذاذة أيا * م عليه الانفاس فيها تعد البها السنجاري أبو السعادات أسعد بن محمد (1) بن موسى الفقيه الشافعي الشاعر، قال ابن خلكان: كان فقيها وتكلم في الخلاف إلا أنه غلب عليه الشعر، فأجاد فيه واشتهر بنظمه وخدم به الملوك،
وأخذ منهم الجوائز وطاف البلاد، وله ديوان بالتربة (2) الاشرفية بدمشق، ومن رقيق شعره ورائقه قوله: وهواك ما خطر السلو بباله * ولانت أعلم في الغرام بحاله ومتى وشى واش إليك بأنه * سال هواك فذاك من عذاله أو ليس للكلف المعنى شاهد * من حاله يغنيك عن تسأله جددت ثوب سقامه وهتكت ست * ر غرامه وصرمت حبل وصاله وهي قصيدة طويلة امتدح فيها القاضي كمال الدين الشهرزوري.
وله: لله أيامي على رامة * وطيب أوقاتي على حاجر
__________
(1) في ابن خلكان 1 / 214 وشذرات الذهب 5 / 104: يحيى.
(2) يعني في خزانة كتب التربة الاشرفية.
تكاد للسرعة في مرها * أولها يعثر بالآخر (1) وكانت وفاته في هذه السنة عن تسعين سنة رحمه الله بمنه وفضله.
عثمان بن عيسى ابن درباس بن قسر بن جهم بن عبدوس الهدباني الماراني ضياء الدين أخو القاضي صدر الدين عبد الملك حاكم الديار المصرية في الدولة الصلاحية، وضياء الدين هذا هو شارح المهذب إلى كتاب الشهادات في نحو من عشرين مجلدا، وشرح اللمع في أصول الفقه والتنبيه للشيرازي، وكان بارعا عالما بالمذهب رحمه الله.
أبو محمد عبد الله بن أحمد بن الرسوي البواريجي ثم البغدادي، شيخ فاضل له رواية، ومما أنشده: ضيق العذر في الضراعة أنا * لو قنعنا بقسمنا لكفانا ما لنا نعبد العباد إذا كان * إلى الله فقرنا وغنانا
أبو الفضل عبد الرحيم بن نصر الله ابن علي بن منصور بن الكيال الواسطي من بيت الفقه والقضاء، وكان أحد المعدلين ببغداد ومن شعره: فتبا لدنيا لا يدوم نعيمها * تسر يسيرا ثم تبدي المساويا تريك رواء في النقاب وزخرفا * وتسفر عن شوهاء طحياء عاميا ومن ذلك قوله: إن كنت بعد الطاعتين تسامحت * بالفحص أجفاني فما أجفاني أو كنت من بعد الاحبة ناظرا * حسنا بإنساني فما أنساني الدهر مغفور له زلاته * إن عاد أوطاني على أوطاني أبو علي الحسن بن علي ابن الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمار بن فهر بن وقاح الياسري نسبة إلى عمار بن
__________
(1) الابيات في وفيات الاعيان 1 / 214 و 216.
ياسر، شيخ بغدادي فاضل، له مصنفات في التفسير والفرائض، وله خطب ورسائل وأشعار حسنة وكان مقبول الشهادة عند الحكام.
أبو بكر محمد بن يوسف بن الطباخ الواسطي البغدادي الصوفي، باشر بعض الولايات ببغداد، ومما أنشده: ما وهب الله لامرئ هبة * أحسن من عقله ومن أدبه نعما جمال الفتى فإن فقدا * ففقده للحياة أجمل به ابن يونس شارح التنبيه أبو الفضل أحمد بن الشيخ كمال الدين أبي الفتح موسى بن يونس بن محمد بن منعة بن مالك بن محمد بن سعد بن سعيد بن عاصم بن عابد (1) بن كعب بن قيس بن إبراهيم الاربلي
الاصل ثم الموصلي من بيت العلم والرياسة، اشتغل على أبيه في فنونه وعلومه فبرع وتقدم.
وقد درس وشرح التنبيه واختصر إحياء علوم الدين للغزالي مرتين صغيرا وكبيرا، وكان يدرس منه.
قال ابن خلكان: وقد ولي بإربل مدرسة الملك المظفر بعد موت والدي في سنة عشر وستمائة، وكنت أحضر عنده وأنا صغير ولم أر أحدا يدرس مثله، ثم صار إلى بلده سنة سبع عشرة، ومات يوم الاثنين الرابع والعشرين من ربيع الآخر من هذه السنة عن سبع وأربعين سنة رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وستمائة فيها التقى الملك جلال الدين بن خوارزم شاه الخوارزمي مع الكرج فكسرهم كسرة عظيمة، وصمد إلى أكبر معاقلتهم تفليس ففتحها عنوة وقتل من فيها من الكفرة وسبى ذراريهم ولم يتعرض لاحد من المسلمين الذين كانوا بها، واستقر ملكه عليها، وقد كان الكرج أخذوها من المسلمين في سنة خمس عشرة وخمسمائة، وهي بأيديهم إلى الآن حتى استنقذها منهم جلال الدين هذا، فكان فتحا عظيما ولله المنة.
وفيها سار إلى خلاط ليأخذها من نائب الملك الاشرف فلم يتمكن من أخذها وقاتله أهلها قتالا عظيما فرجع عنهم بسبب اشتغاله بعصيان نائبه (2) بمدينة كرمان وخلافه له، فسار إليهم وتركهم.
وفيها اصطلح الملك الاشرف مع أخيه المعظم وسار إليه إلى دمشق، وكان المعظم ممالئا عليه مع جلال الدين وصاحب إربل وصاحب ماردين وصاحب
__________
(1) في ابن خلكان 1 / 108: عائد.
(2) وهو بلاق حاجب.
الروم، وكان مع الاشرف أخوه الكامل وصاحب الموصل بدر الدين لؤلؤ، ثم استمال أخاه المعظم إلى ناحيته يقوي جانبه، وفيها كان قتال كبير بين إبرنش (1) إنطاكية وبين الارمن، وجرت خطوب كثيرة بينهم وفيها أوقع الملك جلال الدين بالتركمان الايوانية بأسا شديدا، وكانوا يقطعون الطرق على المسلمين.
وفيها قدم محيي الدين يوسف بن الشيخ جمال الدين بن الجوزي من بغداد في الرسلية إلى
الملك المعظم بدمشق، ومعه الخلع والتشاريف لاولاد العادل من الخليفة الظاهر بأمر الله، ومضمون الرسالة نهيه عن موالاة جلال الدين بن خوارزم شاه، فإنه خارجي من عزمه قتال الخليفة وأخذ بغداد منهم، فأجابه إلى ذلك وركب القاضي محيي الدين بن الجوزي إلى الملك الكامل بالديار المصرية، وكان ذلك أول قدومه إلى الشام ومصر، وحصل له جوائز كثيرة من الملوك، منها كان بناء مدرسته الجوزية بالنشابين بدمشق.
وفيها ولي تدريس الشبلية بالسفح شمس الدين محمد بن قزغلي سبط ابن الجوزي بمرسوم الملك المعظم، وحضر عنده أول يوم القضاة والاعيان.
وفاة الخليفة الظاهر وخلافة ابنه المستنصر كانت وفاة الخليفة رحمه الله يوم الجمعة ضحى الثالث عشر (2) من رجب من هذه السنة، أعني سنة ثلاث وعشرين وستمائة، ولم يعلم الناس بموته إلا بعد الصلاة، فدعا له الخطباء يومئذ على المنابر على عادتهم فكانت خلافته تسعة أشهر وأربعة عشر يوما (3)، وعمره اثنتان وخمسون سنة، وكان من أجود بني العباس وأحسنهم سيرة وسريرة، وأكثرهم عطاء وأحسنهم منظرا ورواء، ولو طالت مدته لصلحت الامة صلاحا كثيرا على يديه، ولكن أحب الله تقريبه وإزلافه لديه، فاختار له ما عنده وأجزل له إحسانا ورفده، وقد ذكرنا ما اعتمده في أول ولايته من إطلاق الاموال الديوانية ورد المظالم وإسقاط المكوس، وتخفيف الخراج عن الناس، وأداء الديون عمن عجز عن أدائها، والاحسان إلى العلماء والفقراء وتولية ذوي الديانة والامانة، وقد كان كتب كتابا لولاة الرعية فيه " بسم الله الرحمن الرحيم، اعلموا أنه ليس إمهالنا إهمالا، ولا إغضاؤنا احتمالا (4)، ولكن لنبلوكم أيكم أحسن عملا، وقد غفرنا لكم ما سلف من إخراب البلاد، وتشريد الرعايا وتقبيح الشريعة، وإظهار الباطل الجلي في صورة الحق الخفي، حيلة ومكيدة،
__________
(1) في ابن الاثير: البرنس الفرنجي، صاحب أنطاكية.
(2) في ابن الاثير: 12 / 456 ونهاية الارب 23 / 320 وتاريخ أبي الفداء 3 / 136 الرابع عشر.
(3) انظر حاشية 1 من صفحة 126.
(4) في ابن الاثير 12 / 456: إغفالا.
وتسمية الاستئصال والاجتياح استيفاء واستدراكا لاغراض انتهزتم فرصها مختلسة من براثن ليث باسل، وأنياب أسد مهيب، تنفقون بألفاظ مختلفة على معنى واحد، وأنتم أمناؤه وثقاته فتميلون رأيه إلى هواكم، وتمزجون باطلكم بحقه، فيطيعكم وأنتم له عاصون، ويوافقكم وأنتم له مخالفون والآن قد بدل الله سبحانه بخوفكم أمنا، وبفقركم غنى، وبباطلكم حقا، ورزقكم سلطانا يقيل العثرة، ولا يؤاخذ إلا من أصر، ولا ينتقم إلا ممن استمر، يأمركم بالعدل وهو يريده منكم، وينهاكم عن الجور وهو يكرهه لكم، يخاف الله تعالى فيخوفكم مكره، ويرجو الله تعالى ويرغبكم في طاعته فإن سلكتم مسالك خلفاء الله في أرضه وأمنائه على خلقه، وإلا هلكتم و السلام ".
ووجد في داره رقاع مختومة لم يفتحها سترا للناس ودرءا عن أعراضهم رحمه الله، وقد خلف من الاولاد عشرة ذكورا وإناثا، منهم ابنه الاكبر الذي بويع له بالخلافة من بعده أبو جعفر المنصور، ولقب بالمستنصر بالله، وغسله الشيخ محمد الخياط الواعظ، ودفن في دار الخلافة، ثم نقل إلى الترب من الرصافة.
خلافة المستنصر بالله العباسي أمير المؤمنين أبي جعفر منصور بن الظاهر محمد بن الناصر أحمد، بويع بالخلافة يوم مات أبوه يوم جمعة ثالث عشر (1) رجب من هذه السنة، سنة ثلاث وعشرين وستمائة، استدعوا به من التاج فبايعه الخاصة والعامة من أهل العقد والحل، وكان يوما مشهودا، وكان عمره يومئذ خمسا وثلاثين سنة وخمسة أشهر وأحد عشر يوما، وكان من أحسن الناس شكلا وأبهاهم منظرا، وهو كما قال القائل: كأن الثريا علقت في جبينه * وفي خده الشعرى وفي وجهه القمر وفي نسبه الشريف خمسة عشر خليفة، منهم خمسة من آبائه ولوا نسقا، وتلقى هو الخلافة عنهم وراثة كابرا عن كابر، وهذا شئ لم يتفق لاحد من الخلفاء قبله، وسار في الناس كسيرة أبيه الظاهر في
الجود وحسن السيرة والاحسان إلى الرعية، وبنى المدرسة الكبيرة المستنصرية التي لم تبن مدرسة في الدنيا مثلها، وسيأتي بيان ذلك في موضعه إن شاء الله، واستمر أرباب الولايات الذين كانوا في عهد أبيه على ما كانوا عليه، ولما كان يوم الجمعة المقبلة خطب للامام المستنصر بالله على المنابر ونثر الذهب والفضة عند ذكر اسمه، وكان يوما مشهودا، وأنشد الشعراء المدائح والمراثي، وأطلقت لهم الخلع والجوائز، وقدم رسول من صاحب الموصل يوم غرة شعبان من الوزير ضياء الدين أبي الفتح نصر الله بن الاثير، فيها التهنئة والتعزية بعبارة فصيحة بليغة.
__________
(1) راجع حاشية 2 صفحة 132.
ثم إن المستنصر بالله كان يواظب على حضور الجمعة راكبا ظاهرا للناس، وإنما معه خادمان وراكب دار، وخرج مرة وهو راكب فسمع ضجة عظيمة فقال: ما هذا ؟ فقيل له التأذين، فترجل عن مركوبه وسعى ماشيا، ثم صار يدمن المشي إلى الجمعة رغبة في التواضع والخشوع، ويجلس قريبا من الامام ويستمع الخطبة، ثم أصلح له المطبق فكان يمشي فيه إلى الجمعة، وركب في الثاني والعشرين من شعبان ركوبا ظاهرا للناس عامة، ولما كانت أول ليلة من رمضان تصدق بصدقات كثيرة من الدقيق والغنم والنفقات على العلماء والفقراء والمحاويج، إعانة لهم على الصيام، وتقوية لهم على القيام.
وفي يوم السابع والعشرين من رمضان نقل تابوت الظاهر من دار الخلافة إلى التربة من الرصافة، وكان يوما مشهودا، وبعث الخليفة المستنصر يوم العيد صدقات كثيرة وإنعاما جزيلا إلى الفقهاء والصوفية وأئمة المساجد، على يدي محيي الدين بن الجوزي.
وذكر ابن الاثير أنه كانت زلزلة عظيمة في هذه السنة، هدمت شيئا كثيرا من القرى والقلاع ببلادهم، وذكر أنه ذبح شاة ببلدهم فوجد لحمها مرا حتى رأسها وأكارعها [ ومعاليقها وجميع أجزائها ] (1).
وممن توفي فيها من الاعيان بعد الخليفة الظاهر كما تقدم: الجمال المصري يونس بن بدران بن فيرور جمال الدين المصري، قاضي القضاة في هذا الحين، اشتغل
وحصل وبرع واختصر كتاب " الام " للامام الشافعي، وله كتاب مطول في الفرائض، وولي تدريس الامينية بعد التقي صالح الضرير، الذي قتل نفسه، ولاه إياه الوزير صفي الدين بن شكر، وكان معتنيا بأمره ثم ولي وكالة بيت المال بدمشق، وترسل إلى الملوك والخلفاء عن صاحب دمشق، ثم ولاه المعظم قضاء القضاة بدمشق بعد عزله الزكي بن الزكي، وولاه تدريس العادلية الكبيرة، حين كمل بناؤها فكان أول من درس بها وحضره الاعيان كما ذكرنا.
وكان يقول أولا درسا في التفسير حتى أكمل التفسير إلى آخره، ويقول درس الفقه بعد التفسير، وكان يعتمد في أمر إثبات السجلات اعتمادا حسنا، وهو أنه كان يجلس في كل يوم جمعة بكرة ويوم الثلاثاء ويستحضر عنده في إيوان العادلية جميع شهود البلد، ومن كان له كتاب يثبته حضر واستدعى شهوده فأدوا على الحاكم وثبت ذلك سريعا، وكان يجلس كل يوم جمعة بعد العصر إلى الشباك الكمالي بمشهد عثمان فيحكم حتى يصلي المغرب، وربما مكث حتى يصلي العشاء أيضا، وكان كثير المذاكرة للعلم كثير الاشتغال حسن الطريقة، لم ينقم عليه أنه أخذ شيئا لاحد.
قال أبو شامة: وإنما كان ينقم عليه أنه كان يشير على بعض الورثة بمصالحة بيت المال، وأنه استناب ولده التاج محمدا ولم يكن مرضى الطريقة، وأما هو فكان عفيفا في نفسه نزها مهيبا.
قال أبو شامة: وكان يدعي أنه قرشي شيبي
__________
(1) من ابن الاثير 12 / 467.
فتكلم الناس فيه بسبب ذلك، وتولى القضاء بعده شمس الدين أحمد بن الخليلي الجويني.
قلت: وكانت وفاته في ربيع الاول من هذه السنة، ودفن بداره التي في رأس درب الريحان من ناحية الجامع، ولتربته شباك شرق المدرسة الصدرية اليوم، وقد قال فيه ابن عنين وكان هجاء: ما أقصر المصري في فعله * إذ جعل التربة في داره أراح للاحياء من رجمه * وأبعد الاموات من ناره المعتمد والي دمشق المبارز إبراهيم المعروف بالمعتمد والي دمشق، من خيار الولاة وأعفهم وأحسنهم سيرة
وأجودهم سريرة، أصله من الموصل، وقدم الشام فخدم فروخشاه بن شاهنشاه بن أيوب، ثم استنابه البدر مودود أخو فروخشاه، وكان شحنة دمشق، فحمدت سيرته في ذلك، ثم صار هو شحنة دمشق أربعين سنة، فجرت في أيامه عجائب وغرائب، وكان كثير الستر على ذوي الهيئات، ولا سيما من كان من أبناء الناس وأهل البيوتات، واتفق في أيامه أن رجلا حائكا كان له ولد صغير في آذانه حلق فعدا عليه رجل من جيرانهم فقتله غيلة وأخذ ما عليه من الحلي ودفنه في بعض المقابر، فاشتكوا عليه فلم يقر، فبكت والدته من ذلك وسألت زوجها أن يطلقها، فطلقها فذهبت إلى ذلك الرجل وسألته أن يتزوجها وأظهرت له أنها أحبته فتزوجها، ومكثت عنده حينا، ثم سألته في بعض الاوقات عن ولدها الذي اشتكوا عليه بسببه فقال: نعم أنا قتلته.
فقالت أشتهي أن تريني قبره حتى أنظر إليه، فذهب بها إلى قبر خشنكاشة ففتحه فنظرت إلى ولدها فاستعبرت وقد أخذت معها سكينا أعدتها لهذا اليوم، فضربته حتى قتلته ودفنته مع ولدها في ذلك القبر، فجاء أهل المقبرة فحملوها إلى الوالي المعتمد هذا فسألها فذكرت له خبرها، فاستحسن ذلك منها وأطلقها وأحسن إليها، وحكى عنه السبط قال: بينما أنا يوما خارج من باب الفرج، وإذا برجل يحمل طبلا وهو سكران، فأمرت به فضرب الحد، وأمرتهم فكسروا الطبل، وإذا ذكرة كبيرة جدا فشقوها [ فإذا فيها خمر ] وكان العادل قد منع أن يعصر خمر ويحمل إلى دمشق شئ منه بالكلية، فكان الناس يتحيلون بأنواع الحيل ولطائف المكر، قال السبط فسألته من أين علمت أن في الطبل شيئا ؟ قال: رأيته يمشي ترجف سيقانه فعرفت أنه يحمل شيئا ثقيلا في الطبل.
وله من هذا الجنس غرائب، وقد عزله المعظم وكان في نفسه منه وسجنه في القلعة نحوا من خمس سنين، ونادى عليه في البلد فلم يجئ أحد ذكر أنه أخذ منه حبة خردل، ولما مات رحمه الله دفن بتربته المجاورة لمدرسة أبي عمر من شامها قبلي السوق، وله عند تربته مسجد يعرف به رحمه الله.
واقف الشبلية التي بطريق الصالحية شبل الدولة كافور الحسامي نسبة إلى حسام الدين محمد بن لاجين، ولد ست الشام، وهو
الذي كان مستحثا على عمارة الشامية البرانية لمولاته ست الشام، وهو الذي بنى الشبلية للحنفيه والخانقاه على الصوفية إلى جانبها، وكانت منزله، ووقف القناة والمصنع والساباط، وفتح للناس طريقا من عند المقبرة غربي الشامية البرانية إلى طريق عين الكرش، ولم يكن الناس لهم طريق إلى الجبل من هناك، إنما كانوا يسلكون من عند مسجد الصفي بالعقبية، وكانت وفاته في رجب ودفن إلى جانب مدرسته، وقد سمع الحديث على الكندي وغيره رحمه الله تعالى.
واقف الرواحية بدمشق وحلب أبو القاسم هبة الله المعروف بابن رواحة، كان أحد التجار، وفي الثروة والمقدار ومن المعدلين بدمشق، وكان في غاية الطول والعرض ولا لحية له، وقد ابتنى المدرسة الرواحية داخل باب الفراديس ووقفها على الشافعية، وفوض نظرها وتدريسها إلى الشيخ تقي الدين بن الصلاح الشهرزوري، وله بحلب مدرسة أخرى مثلها، وقد انقطع في آخر عمره في المدرسة التي بدمشق وكان يسكن البيت الذي في إيوانها من الشرق، ورغب فيما بعد أن يدفن فيه إذا مات فلم يمكن من ذلك، بل دفن بمقابر الصوفية، وبعد وفاته شهد محيي الدين ابن عربي الطائي الصوفي، وتقي الدين خزعل النحوي المصري ثم المقدسي إمام مشهد علي شهدا على ابن رواحة بأنه عزل الشيخ تقي الدين عن هذه المدرسة، فجرت خطوب طويلة ولم ينتظم ما راماه من الامر، ومات خزعل في هذه السنة أيضا فبطل ما سلكوه.
أبو محمد محمود بن مودود بن محمود البلدجي الحنفي الموصلي، وله بها مدرسة تعرف به، وكان من أبناء الترك، وصار من مشايخ العلماء وله دين متين وشعر حسن جيد، فمنه قوله: من ادعى أن له حالة * تخرجه عن منهج الشرع فلا تكونن له صاحبا * فإنه خرء بلا فع كانت وفاته بالموصل في السادس والعشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة، وله نحو من ثمانين سنة.
ياقوت ويقال له يعقوب بن عبد الله نجيب الدين متولي الشيخ تاج الدين الكندي، وقد وقف إليه الكتب التي بالخزانة بالزاوية الشرقية الشمالية من جامع دمشق، وكانت سبعمائة وإحدى وستين مجلدا، ثم على ولده من بعده
ثم على العلماء فتمحقت هذه الكتب وبيع أكثرها، وقد كان ياقوت هذا لديه فضيلة وأدب وشعر جيد، وكانت وفاته ببغداد في مستهل رجب، ودفن بمقبرة الخيزران بالقرب من مشهد أبي حنيفة.
ثم دخلت سنة أربع وعشرين وستمائة فيها كانت عامة أهل تفليس الكرج فجاؤوا إليهم فدخلوها فقتلوا العامة والخاصة، ونهبوا وسبوا وخربوا وأحرقوا، وخرجوا على حمية، وبلغ ذلك جلال الدين فسار سريعا ليدركهم فلم يدركهم.
وفيها قتلت الاسماعيلية أميرا كبيرا من نواب جلال الدين بن خوارزم شاه، فسار إلى بلادهم فقتل منهم خلقا كثيرا، وخرب مدينتهم وسبى ذراريهم ونهب أموالهم، وقد كانوا قبحهم الله من أكبر العون على المسلمين، لما قدم التتار إلى الناس، وكانوا أضر على الناس منهم.
وفيها تواقع جلال الدين وطائفة كبيرة من التتار (1) فهزمهم وأوسعهم قتلا وأسرا، وساق وراءهم أياما فقتلهم حتى وصل إلى الري فبلغه أن طائفة قد جاؤوا لقصده فأقام يثبطهم، وكان من أمره وأمرهم ما سيأتي في سنة خمس وعشرين.
وفيها دخلت عساكر الملك الاشرف بن العادل إلى أذربيجان فملكوا منها مدنا كثيرة وغنموا أموالا جزيلة، وخرجوا معهم بزوجة جلال الدين بنت طغرل، وكانت تبغضه وتعاديه، فأنزلوها مدينة خلاط وسيأتي ما كان من خبرهم في السنة الآتية.
وفيها قدم رسول الانبور ملك الفرنج في البحر إلى المعظم يطلب منه ما كان فتحه عمه السلطان الملك الناصر صلاح الدين من بلاد السواحل، فأغلظ لهم المعظم في الجواب وقال له: قل لصاحبك ما عندي إلا السيف والله أعلم.
وفيها جهز الاشرف أخاه شهاب الدين غازي إلى الحج في محمل عظيم يحمل ثقله ستمائة جمل، ومعه خمسون هجينا، على كل هجين مملوك، فسار من ناحية العراق وجاءته هدايا من الخليفة إلى أثناء الطريق، وعاد على طريقه التي حج منها.
وفيها
ولي قضاء القضاة ببغداد نجم الدين أبو المعالي عبد الرحمن بن مقبل الواسطي، وخلع عليه كما هي عادة الحكام، وكان يوما مشهودا.
وفيها كان غلاء شديد ببلاد الجزيرة وقل اللحم حتى حكى ابن الاثير: أنه لم يذبح بمدينة الموصل في بعض الايام سوى خروف واحد في زمن الربيع، قال: وسقط فيها عاشر أذار ثلج كثير بالجزيرة والعراق مرتين فأهلك الازهار وغيرها، قال: وهذا شئ لم يعهد مثله، والعجب كل العجب من العراق مع كثرة حره كيف وقع فيه مثل هذا.
وممن توفي فيها من الاعيان: جنكيزخان السلطان الاعظم عند التتار والد ملوكهم اليوم، ينتسبون إليه ومن عظم القان إنما يريد هذا
__________
(1) وذلك في مدينة دامغان بالقرب من الري (انظر ابن الاثير 12 / 470).
الملك وهو الذي وضع لهم السياسا (1) التي يتحاكمون إليها، ويحكمون بها، وأكثرها مخالف لشرائع الله تعالى وكتبه، وهو شئ اقترحه من عند نفسه، وتبعوه في ذلك، وكانت تزعم أمه أنها حملته من شعاع الشمس، فلهذا لا يعرف له أب، والظاهر أنه مجهول النسب (2)، وقد رأيت مجلدا جمعه الوزير ببغداد علاء الدين الجويني في ترجمته فذكر فيه سيرته، وما كان يشتمل عليه من العقل السياسي والكرم والشجاعة والتدبير الجيد للملك والرعايا، والحروب، فذكر أنه كان في ابتداء أمره خصيصا عند الملك أزبك خان، وكان إذ ذاك شابا حسنا وكان اسمه أولا تمرجي، ثم لما عظم سمى نفسه جنكيزخان، وكان هذا الملك قد قربه وأدناه، فحسده عظماء الملك ووشوا به إليه حتى أخرجوه عليه، ولم يقتله ولم يجد له طريقا في ذنب يتسلط عليه به، فهو في ذلك إذ تغضب الملك على مملوكين صغيرين فهربا منه ولجآ إلى جنكيزخان فأكرمهما وأحسن إليهما فأخبراه بما يضمره الملك أزبك خان من قتله، فأخذ حذره وتحيز بدولة واتبعه طوائف من التتار وصار كثير من أصحاب أزبك خان ينفرون إليه ويفدون عليه فيكرمهم ويعطيهم حتى قويت شوكته وكثرت جنوده، ثم حارب بعد ذلك أزبك خان فظفر به وقتله واستحوز على مملكته وملكه، وانضاف إليه
عدده وعدده، وعظم أمره وبعد صيته وخضعت له قبائل الترك ببلاد طمغاج (3) كلها حتى صار يركب في نحو ثمانمائة ألف مقاتل، وأكثر القبائل قبيلته التي هو منها يقال لهم قيان، ثم أقرب القبائل إليه بعدهم قبيلتان كبيرتا العدد وهما أزان وقنقوران (4) وكان يصطاد من السنة ثلاثة أشهر والباقي للحرب والحكم.
قال الجويني: وكان يضرب الحلقة يكون ما بين طرفيها ثلاثة أشهر ثم تتضايق فيجتمع فيها من أنواع الحيوانات شئ كثير لا يحد كثرة، ثم نشبت الحرب بينه وبين الملك علاء الدين خوارزم شاه صاحب بلاد خراسان والعراق وأذربيجان وغير ذلك والاقاليم والملك، فقهره جنكيزخان وكسره وغلبه وسلبه، واستحوذ على سائر بلاده بنفسه وبأولاده في أيسر مدة كما ذكرنا ذلك في الحوادث، وكان ابتداء ملك جنكزخان سنة تسع وتسعين وخمسمائة، وكان قتاله لخوارزم شاه في حدود سنة ست عشرة وستمائة، ومات خوارزم شاه في سنة سبع عشرة كما ذكرنا، فاستحوذ حينئذ على الممالك بلا منازع ولا ممانع، وكانت وفاته في سنة أربع وعشرين وستمائة
__________
(1) السياسا: وفي ابن خلدون 5 / 526: السياسة الكبيرة.
والسياسا كلمة مركبة من سي بمعنى ثلاثة.
ويسا بمعنى الترتيب.
ثم حرفها العرب فقالوا: سياسة.
قال ابن خلدون في تاريخه: كتب جنكيزخان كتاب السياسة وذكر فيه أحكام السياسة في الملك والحروب والاحكام العامة شبه أحكام الشرائع وأمر أن يوضع في خزانته وأن تختص بقرابته.
ولم يكن يؤتى بمثله.
(2) قال ابن خلدون في تاريخه: كان اسمه تمرجين ثم أصاروه جنكزوخان - وهو بمعنى الملك عندهم - وأما نسبته فهي هكذا جنكز بن بيسوكى بن بهادر بن تومان بن برتيل خان بن تومينه بن باد سنقر بن تيدوان ديوم بن بقا بن مودنجه.
(3) في ابن خلدون 5 / 526: طوغاج.
(4) في رواية ابن خلدون عن الجويني: أورات ومنفورات.
فجعلوه في تابوت من حديد وربطوه بسلاسل وعلقوه بين جبلين هنالك وأما كتابه الياسا فإنه يكتب في مجلدين بخط غليظ، ويحمل على بعير عندهم، وقد ذكر بعضهم أنه كان يصعد جبلا ثم ينزل
ثم يصعد ثم ينزل مرارا حتى يعيى ويقع مغشيا عليه، ويأمر من عنده أن يكتب ما يلقى على لسانه حينئذ، فإن كان هذا هكذا فالظاهر أن الشيطان كان ينطق على لسانه بما فيها.
وذكر الجويني أن بعض عبادهم كان يصعد الجبال في البرد الشديد للعبادة فسمع قائلا يقول له إنا قد ملكنا جنكيزخان وذريته وجه الارض قال الجويني: فمشايخ المغول يصدقون بهذا ويأخذونه مسلما.
ثم ذكر الجويني نتفا من الياسا من ذلك: أنه من زنا قتل، محصنا كان أو غير محصن، وكذلك من لاط قتل، ومن تعمد الكذب قتل، ومن سحر قتل، ومن تجسس قتل، ومن دخل بين اثنين يختصمان فأعان أحدهما قتل، ومن بال في الماء الواقف قتل، ومن انغمس فيه قتل، ومن أطعم أسيرا أو سقاه أو كساه بغير إذن أهله قتل، ومن وجد هاربا ولم يرده قتل، ومن أطعم أسيرا أو رمى إلى أحد شيئا من المأكول قتل، بل يناوله من يده إلى يده، ومن أطعم أحدا شيئا فليأكل منه أولا ولو كان المطعوم أميرا لا أسيرا، ومن أكل ولم يطعم من عنده قتل، ومن ذبح حيوانا ذبح مثله بل يشق جوفه ويتناول قلبه بيده يستخرجه من جوفه أولا.
وفي ذلك كله مخالفة لشرائع الله المنزلة على عباده الانبياء عليهم الصلاة والسلام، فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الانبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن تحاكم إلى الياسا وقدمها عليه ؟ من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين.
قال الله تعالى (أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون) [ المائدة: 50 ] وقال تعالى (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) صدق الله العظيم [ النساء: 65 ].
ومن آدابهم: الطاعة للسلطان غاية الاستطاعة، وأن يعرضوا عليه أبكارهم الحسان ليختار لنفسه ومن شاء من حاشيته ما شاء منهن، ومن شأنهم أن يخاطبوا الملك باسمه، ومن مر بقوم يأكلون فله أن يأكل معهم من غير استئذان ولا يتخطى موقد النار ولا طبق الطعام، ولا يقف على أسكفة الخركاه ولا يغسلون ثيابهم حتى يبدو وسخها، ولا يكلفون العلماء من كل ما ذكر شيئا من الجنايات، ولا يتعرضون لمال ميت، وقد ذكر علاء الدين الجويني طرفا كبيرا من أخبار جنكيزخان
ومكارم كان يفعلها لسجيته وما أداه إليه عقله وإن كان مشركا بالله كان يعبد معه غيره، وقد قتل من الخلائق ما لا يعلم عددهم إلا الذي خلقهم، ولكن كان البداءة من خوارزم شاه، فإنه لما أرسل جنكيزخان تجارا من جهته معهم بضائع كثيرة من بلاده فانتهوا إلى إيران فقتلهم نائبها من جهة خوارزم شاه، وهو والد زوجة كشلي خان، وأخذ جميع ما كان معهم، فأرسل جنكيزخان إلى خوارزم شاه يستعلمه هل وقع هذا الامر عن رضى منه أو أنه لا يعلم به، فأنكره وقال له فيما
أرسل إليه: من المعهود من الملوك أن التجار لا يقتلون لانهم عمارة الاقاليم، وهم الذين يحملون إلى الملوك ما فيه التحف والاشياء النفيسة، ثم إن هؤلاء التجار كانوا على دينك فقتلهم نائبك، فإن كان أمرا أمرت به طلبنا بدمائهم، وإلا فأنت تنكره وتقتص من نائبك.
فلما سمع خوارزم شاه ذلك من رسول جنكيزخان لم يكن له جواب سوى أنه أمر بضرب عنقه فأساء التدبير، وقد كان خرف وكبرت سنه، وقد ورد الحديث " اتركوا الترك ما تركوكم " فلما بلغ ذلك جنكيزخان تجهز لقتاله وأخذ بلاده، فكان بقدر الله تعالى ما كان من الامور التي لم يسمع بأغرب منها ولا أبشع، فمما ذكره الجويني أنه قدم له بعض الفلاحين بالصيد ثلاث بطيخات فلم يتفق أن عند جنكيزخان أحد من الخزندارية، فقال لزوجته خاتون أعطيه هذين القرطين اللذين في أذنيك، وكان فيهما جوهرتان نفيستان جدا، فشحت المرأة بهما وقالت: أنظره إلى غد، فقال إنه يبيت هذه الليلة مقلقل الخاطر، وربما لا يجعل له شئ بعد هذا، وإن هذين لا يمكن أحد إذا اشتراهما إلا جاء بهما إليك فانتزعتهما فدفعتهما إلى الفلاح فطار عقله بهما وذهب بهما فباعهما لاحد التجار بألف دينار، ولم يعرف قيمتهما، فحملهما التاجر إلى الملك فردهما على زوجته، ثم أنشد الجويني عند ذلك: ومن قال إن البحر والقطر أشبها * نداه فقد أثنى على البحر والقطر قالوا: واجتاز يوما في سوق فرأى عند بقال عنابا فأعجبه لونه ومالت نفسه إليه فأمر الحاجب أن يشتري منه ببالس، فاشترى الحاجب بربع بالس، فلما وضعه بين يديه أعجبه وقال: هذا كله ببالس ؟ قال وبقي منه هذا - وأشار إلى ما بقي معه من المال - فغضب وقال: من يجد من يشتري منه
مثلي تمموا له عشرة بوالس.
قالوا: وأهدى له رجل جام زجاج من معمول حلب فاستحسنه جنكيزخان فوهن أمره عنده بعض خواصه وقال: خوند هذا زجاج لا قيمة له، فقال: أليس قد حمله من بلاد بعيدة حتى وصل إلينا سالما ؟ أعطوه مائتي بالس.
قال: وقيل له إن في هذا المكان كنزا عظيما إن فتحته أخذت منه مالا جزيلا، فقال الذي في أيدينا يكفينا، ودع هذا يفتحه الناس ويأكلونه فهم أحق به منا، ولم يتعرض له (1) قال واشتهر عن رجل في بلاده يقول أنا أعرف موضع كنز ولا أقول إلا للقان، وألح عليه الامراء أن يعلمهم فلم يفعل، فذكروا ذلك للقان فأحضره على خيل الاولاق - يعني البريد - سريعا فلما حضر إلى بين يديه سأله عن الكنز فقال: إنما كنت أقول ذلك حيلة لارى وجهك.
فلما رأى تغير كلامه غضب وقال له: قد حصل لك ما قلت، ورده إلى موضعه سالما ولم يعطه شيئا.
قال: وأهدى له إنسان رمانة فكسرها وفرق حبها على الحاضرين وأمر له بعدد حبها بوالس ثم أنشد:
__________
(1) في هامش المطبوعة: وجد في هامش التركية ما نصه: هذا منقول عن ابنه قان الذي قام مقامه.
ولعله هو الصحيح لان قان هذا المنسوب إلى الكرم الجبلي العظيم والسخاء المفرط.
ويحكى عنه حكايات عظيمة في هذا الشأن.
وأما أبوه جنكيزخان فإنه متوسط في الجود بل وفي سائر سجاياه وأخلاقه وأفعاله إلا في أمر سفك الدماء قبحه الله تعالى.
فلذاك تزدحم الوفود ببابه * مثل ازدحام الحب في الرمان قال: وقدم عليه رجل كافر يقول رأيت في النوم جنكيزخان يقول قل لابي يقتل المسلمين، فقال له هذا كذب، وأمر بقتله (1).
قال وأمر بقتل ثلاثة قد قضت الياسا بقتلهم، فإذا امرأة تبكي وتطلم.
فقال: ما هذه ؟ أحضروها، فقالت: هذا ابني، وهذا أخي، وهذا زوجي، فقال اختاري واحدا منهم حتى أطلقه لك، فقالت: الزوج يجئ مثله، والابن كذلك، والاخ لا عوض له، فاستحسن ذلك منها وأطلق الثلاثة لها.
قال: وكان يحب المصارعين وأهل الشطارة، وقد اجتمع عنده منهم جماعة، فذكر له إنسان بخراسان فأحضره فصرع جميع من عنده، فأكرمه وأعطاه وأطلق له بنتا من بنات الملوك حسناء.
فمكثت عنده مدة لا يتعرض لها، فاتفق مجيئها إلى الاردوا
فجعل السلطان يمازحها ويقول: كيف رأيت المستعرب ؟ فذكرت له أنه لم يقربها، فتعجب من ذلك وأحضره فسأله عن ذلك فقال: يا خوند أنا إنما حظيت عندك بالشطارة ومتى قربتها نقصت منزلتي عندك، فقال لا بأس عليك وأحضر ابن عم له وكان مثله، فأراد أن يصارع الاول فقال السلطان: أنتما قرابة ولا يليق هذا بينكما وأمر له بمال جزيل.
قال: ولما احتضر أوصى أولاده بالاتفاق وعدم الافتراق، وضرب لهم في ذلك الامثال، وأحضر بين يديه نشابا وأخذ سهما أعطاه لواحد منهم فكسره، ثم أحضر حزمة ودفعها إليهم مجموعة فلم يطيقوا كسرها، فقال: هذا مثلكم إذا اجتمعتم واتفقتم، وذلك مثلكم إذا انفردتم واختلفتم، قال: وكان له عدة أولاد ذكور وإناث منهم أربعة هم عظماء أولاده أكبرهم يوسي وهريول وباتو وبركة وتركجار (2)، وكان كل منهم له وظيفة عنده.
ثم تكلم الجويني على ملك ذريته إلى زمان هولاكو خان، وهو يقول في اسمه ياذشاه زاره هولاكو، وذكر ما وقع في زمانه من الاوابد والامور المعروفة المزعجة كما بسطناه في الحوادث والله أعلم.
السلطان الملك المعظم عيسى بن العادل أبي بكر بن أيوب، ملك دمشق والشام، كانت وفاته يوم الجمعة سلخ ذي القعدة من هذه السنة، وكان استقلاله بملك دمشق لما توفي أبوه سنة خمس عشرة، وكان شجاعا
__________
(1) بهامش المطبوعة: فيه تخليط والصحيح: أن اعرابيا جاء إلى قان وقال له: رأيت في النوم أباك جنكزخان فقال لي: قل لابني قان يقتل المسلمين، وكان قان يميل إلى المسلمين، فقال للرجل: هل تعرف اللغة المغولية ؟ فقال: لا.
فقال الملك له: أنت كاذب لان أبي ما كان يعرف من اللغات ودرس غير المغولية.
فأمر بضرب عنقه وأراح المسلمين من كيده.
(2) ذكر ابن خلدون نقلا عن ابن الحكيم قال: وخلف من الولد: ناخو وبركة وداوردة وطوفل.
ونقل عن شمس الدين انه لم يترك إلا ولدين: ناظو وبركة (5 / 527).
باسلا عالما فاضلا، اشتغل في الفقه على مذهب أبي حنيفة على الحصيري مدرس النورية، وفي
اللغة والنحو على التاج الكندي، وكان محفوظه مفصل الزمخشري، وكان يجيز من حفظه بثلاثين دينارا وكان قد أمر أن يجمع له كتاب في اللغة يشمل صحاح الجوهري والجمهرة لابن دريد والتهذيب للازهري (1) وغير ذلك، وأمر أن يرتب له مسند الامام أحمد (2)، وكان يحب العلماء ويكرمهم، ويجتهد في متابعة الخير ويقول أنا على عقيدة الطحاوي، وأوصى عند وفاته أن لا يكفن إلا في البياض، وأن يلحد له ويدفن في الصحراء ولا يبنى عليه، وكان يقول: واقعة دمياط أدخرها عند الله تعالى وأرجو أن يرحمني بها - يعني أنه أبلى بها بلاء حسنا - رحمه الله تعالى، وقد جمع له بين الشجاعة والبراعة والعلم ومحبة أهله، وكان يجئ في كل جمعة إلى تربة والده فيجلس قليلا ثم إذا ذكر المؤذنون ينطلق إلى تربة عمه صلاح الدين فيصلي فيها الجمعة، وكان قليل التعاظم، يركب في بعض الاحيان وحده ثم يلحقه بعض غلمانه سوقا.
وقال فيه بعض أصحابه وهو محب الدين بن أبي السعود البغدادي: لئن غودرت تلك المحاسن في الثرى * بوال فما وجدي عليك ببال ومذ غبت عني ما ظفرت بصاحب * أخي ثقة إلا خطرت ببالي وملك بعده دمشق ولده الناصر داود بن المعظم، وبايعه الامراء.
أبو المعالي أسعد بن يحيى (3) ابن موسى بن منصور بن عبد العزيز بن وهب الفقيه الشافعي البخاري، شيخ أديب فاضل خير، له نظم ونثر ظريف، وله نوادر حسنة وجاوز التسعين.
قد استوزره صاحب حماة في وقت وله شعر رائق أورد منه ابن الساعي قطعة جيدة.
فمن ذلك قوله: وهواك ما خطر السلو بباله * ولانت أعلم في الغرام بحاله فمتى وشى واش إليك بشأنه * سائل هواك فذاك من أعداله أو ليس للدنف المعنى شاهد * من حاله يغنيك عن تسأله جددت ثوب سقامه، وهتكت ست * ر غرامه، وصرمت حبل وصاله
__________
(1) في ابن الاثير 12 / 472: للارموي.
(2) يعني ترتيبه على الابواب، ويرد كل حديث إلى الباب الذي يقتضيه معناه، مثاله: أن يجمع أحاديث الطهارة، وكذلك يفعل في الصلاة وغيرها من الرقائق، والتفسير، والغزوات...(3) تقدم في وفيات سنة 622، وذكره المؤلف هناك بلقبه المعروف البهاء السنجاري، ولعل ايراده هنا سهو من الناسخ، أو التبس عليه لقبه بأبي المعالي.
يا للعجائب من أسير دأبه * يفدي الطليق بنفسه وبماله وله أيضا: لام العواذل في هواك فأكثروا * هيهات ميعاد السلو المحشر جهلوا مكانك في القلوب وحاولوا * لو أنهم وجدوا كوجدي أقصروا صبرا على عذب الهوى وعذابه * وأخو الهوى أبدا يلام ويعذر أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد ابن أحمد بن حمدان الطبي المعروف بالصائن، أحد المعيدين بالنظامية، ودرس بالثقفية، وكان عارفا بالمذهب والفرائض والحساب، صنف شرحا للتنبيه.
ذكره ابن الساعي.
أبو النجم محمد بن القاسم بن هبة الله التكريتي الفقيه الشافعي، تفقه على أبي القاسم بن فضلان ثم أعاد بالنظامية ودرس بغيرها، وكان يشتغل كل يوم عشرين درسا، ليس له دأب إلا الاشتغال وتلاوة القرآن ليلا ونهارا، وكان بارعا كثير العلوم، قد أتقن المذهب والخلاف، وكان يفتي في مسألة الطلاق الثلاث بواحدة فتغيظ عليه قاضي القضاة أبو القاسم عبد الله بن الحسين الدامغاني، فلم يسمع منه، ثم أخرج إلى تكريت فأقام بها، ثم استدعي إلى بغداد، فعاد إلى الاشتغال وأعاده قاضي القضاة نصر بن عبد الرزاق إلى إعادته بالنظامية، وعاد إلى ما كان عليه من الاشتغال والفتوى والوجاهة إلى أن توفي في هذه السنة رحمه الله تعالى.
وهذا ذكره ابن الساعي.
ثم دخلت سنة خمس وعشرين وستمائة
فيها كانت حروب كثيرة بين جلال الدين والتتر، كسروه غير مرة، ثم بعد ذلك كله كسرهم كسرة عظيمة (1)، وقتل منهم خلقا وأمما لا يحصون، وكان هؤلاء التتر قد انفردوا وعصوا على جنكيزخان فكتب جنكيزخان إلى جلال الدين يقول له: إن هؤلاء ليسوا منا ونحن أبعدناهم، ولكن سترى منا ما لا قبل لك به.
وفيها قدمت طائفة كبيرة من الفرنج من ناحية صقلية فنزلوا عكا وصور وحملوا على مدينة صيدا فانتزعوها من أيدي المؤمنين، وعبروها وقويت شوكتهم، وجاء الانبرور ملك الجزيرة القبرصية ثم سار فنزل عكا فخاف المسلمون من شره وبالله المستعان.
وركب الملك الكامل محمد بن العادل صاحب مصر إلى بيت المقدس الشريف فدخله،
__________
(1) وكان ذلك في أصفهان، وتبع جلال الدين فلولهم إلى الري يقتلهم ويأسرهم.
ثم سار إلى نابلس فخاف الناصر داود بن المعظم من عمه الكامل، فكتب إلى عمه الاشرف فقدم عليه جريدة، وكتب إلى أخيه الكامل يستعطفه ويكفه عن ابن أخيه، فأجابه الكامل: بأني إنما جئت لحفظ بيت المقدس وصونه عن الفرنج الذين يريدون أخذه، وحاشى لله أن أحاصر أخي أو ابن أخي، وبعد أن جئت أنت إلى الشام فأنت تحفظها وأنا راجع إلى الديار المصرية، فخشي الاشرف وأهل دمشق إن رجع الكامل أن تمتد أطماع الفرنج إلى بيت المقدس، فركب الاشرف إلى أخيه الكامل فثبطه عن الرجوع، وأقاما جميعا هنالك جزاهما الله خيرا، يحوطان جناب القدس عن الفرنج لعنهم الله.
واجتمع إلى الملك جماعة من ملوكهم، كأخيه الاشرف وأخيهما الشهاب غازي بن العادل وأخيهم الصالح إسماعيل بن العادل، وصاحب حمص أسد الدين شيركوه بن ناصر الدين، وغيرهم، واتفقوا كلهم على نزع الناصر داود عن ملك دمشق وتسليمها إلى الاشرف موسى.
وفيها عزل الصدر التكريتي عن حسبة دمشق ومشيخة الشيوخ وولي فيها اثنان غيره.
قال أبو شامة: وفي أوائل رجب توفي الشيخ الصالح الفقيه أبو الحسن علي ابن المراكشي المقيم بالمدرسة المالكية، ودفن بالمقبرة التي وقفها الزين خليل بن زويزان قبلي مقابر الصوفية،
وكان أول من دفن بها رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة ست وعشرين وستمائة استهلت هذه السنة وملوك بني أيوب مفترقون مختلفون، قد صاروا أحزابا وفرقا، وقد اجتمع ملوكهم إلى الكامل محمد صاحب مصر، وهو مقيم بنواحي القدس الشريف، فقويت نفوس الفرنج (1) لعنهم الله بكثرتهم بمن وفد إليهم من البحر، وبموت المعظم واختلاف من بعده من الملوك، فطلبوا من المسلمين أن يردوا إليهم ما كان الناصر صلاح الدين أخذ منهم، فوقعت المصالحة بينهم وبين الملوك أن يردوا لهم بيت المقدس وحده، وتبقى بأيديهم بقية البلاد (2)،
__________
(1) قال رنسيمان صاحب تاريخ الحروب الصليبية 3 / 330 إن وراء قوة الفرنج أسبابا هامة ذكرها قال: 1 - قوة فردريك وتفوقه في المساومة بالمفاوضات الجارية مع الكامل.
2 - حصار الكامل لدمشق لم يلحق الضرر بالناصر داود ابن أخيه.
3 - اخذ جلال الدين خوارزمشاه يوجه اهتمامه من جديد صوب الغرب.
4 - أتم فردريك عمارة استحكامات يافا.
(2) ذكر رنسيمان بنود معاهدة المصلح الموقعة في 18 فبراير سنة 1229 مع ممثلي الكامل، 3 / 330: - تحصل مملكة بيت المقدس على مدينة القدس ذاتها وبيت لحم.
- مع شريط من الارض يخترق لد وينتهي عند يافا على البحر فضلا عن الناصرة وغرب الجليل مع حصني مونتفورت وتبنين.
=
فتسلموا القدس الشريف، وكان المعظم قد هدم أسواره، فعظم ذلك على المسلمين جدا وحصل وهن شديد وإرجاف عظيم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ثم قدم الملك الكامل فحاصر دمشق وضيق على أهلها فقطع الانهار ونهبت الحواصل وغلت الاسعار، ولم يزل الجنود حولها حتى أخرج منها ابن أخيه صلاح الدين الملك الناصر داود بن المعظم، على أن يقيم ملكا بمدينة الكرك والشوبك ونابلس وبرا ما بين الغور والبلقاء ويكون الامير عز الدين أيبك أستاذ دار المعظم صاحب
صرخد، ثم تقايض الاشرف وأخاه الكامل فأخذ الاشرف دمشق وأعطى أخاه حران والرها والرقة ورأس العين وسروج، ثم سار الكامل فحاصر حماه وكان صاحبها الملك المنصور بن تقي الدين عمر قد توفي وعهد بالامر من بعده إلى أكبر ولده المظفر محمد، وهو زوج بنت الكامل، فاستحوذ على حماة أخوه صلاح الدين قلج أرسلان فحاصره الكامل حتى أنزله من قلعتها وسلمها إلى أخيه المظفر محمد، ثم سار فتسلم البلاد التي قايض بها عن دمشق من أخيه الملك الاشرف كما ذكرنا، وكان الناس بدمشق قد اشتغلوا بعلم الاوائل في أيام الملك الناصر داود، وكان يعاني ذلك وقديما نسبه بعضهم إلى نوع من الانحلال فالله أعلم، فنادى الملك الاشرف بالبلدان أن لا يشتغل الناس بذلك وأن يشتغلوا بعلم التفسير والحديث والفقه، وكان سيف الدين الآمدي مدرسا بالعزيزية فعزله عنها وبقي ملازما منزله حتى مات في سنة إحدى وثلاثين كما سيأتي.
وفيها كان الناصر داود قد أضاف إلى قاضي القضاة شمس الدين بن الخولي القاضي محيي الدين يحيى بن محمد بن علي بن الزكي، فحكم أياما بالشباك، شرقي باب الكلاسة، ثم صار الحكم بداره، مشاركا لابن الخولي.
وممن توفي فيها من الاعيان: الملك المسعود اقسيس (1) بن الكامل صاحب اليمن، وقد ملك مكة سنة تسع عشرة فأحسن بها المعدلة، ونفى الزيدية منها، وأمنت الطرقات والحجاج، ولكنه كان مسرفا على نفسه، فيه عسف وظلم أيضا.
وكانت وفاته بمكة ودفن بباب المعلى.
__________
(1) = - يظل بأيدي المسلمين من بيت المقدس، منطقة المعبد بما تحتوي عليه من قبة الصخرة والمسجد الاقصى.
- للمسلمين الحق في التردد إليها وحرية العبادة.
- اطلاق سراح الاسرى عند كل من الجانبين.
- أجلها عشر سنين (مسيحية) الموافقة عشر سنين وخمسة شهور (هجرية) وانظر تاريخ أبي الفداء 3 / 141.
(1) في تاريخ أبي الفداء: يوسف الملقب أطسز والمعروف بأقسيس: وأقسيس بلغة اليمن: الموت.
وكانت مدة ملكه
على اليمن 14 سنة وكان عمره يوم مات 26 سنة.
محمد السبتي النجار كان يعده بعضهم من الابدال، قال أبو شامة: وهو الذي بنى المسجد غربي دار الزكاة عن يسار المار في الشارع من ماله، ودفن بالجبل.
وكانت جنازته مشهودة رحمه الله تعالى.
أبو الحسن علي بن سالم ابن يزبك بن محمد بن مقلد العبادي الشاعر من الحديثة، قدم بغداد مرارا وامتدح المستظهر وغيره، وكان فاضلا شاعرا يكثر التغزل.
أبو يوسف يعقوب بن صابر الحراني ثم البغدادي المنجنيقي، كان فاضلا في فنه، وشاعرا مطبقا لطيف الشعر حسن المعاني، قد أورد له ابن الساعي قطعة صالحة، ومن أحسن ما أورد له قصيدة فيها تعزية عظيمة لجميع الناس وهي: هل لمن يرتجي البقاء خلود * وسوى الله كل شئ يبيد والذي كان من تراب وإن * عاش طويلا للتراب يعود فمصير الانام طرا إلى ما * صار فيه آباؤهم والجدود أين حواء أين آدم إذ فا * تهم الخلد والثوى والخلود ؟ أين هابيل أين قابيل إذ ه * ذا لهذا معاند وحسود ؟ أين نوح ومن نجامعه بالفل * ك والعالمون طرا فقيد أسلمته الايام كالطفل للمو * ت ولم يغن عمره الممدود أين عاد ؟ بل أين جنة عاد * أم ترى أين صالح وثمود ؟ أين إبراهيم الذي شاد بي * ت الله فهو المعظم المقصود حسدوا يوسفا أخاهم فكادو * ه ومات الحاسد والمحسود
وسليمان في النبوة والملك * قضى مثل ما قضى داود فغدوا بعد ما أطيع لذا الخل * ق وهذا له ألين الحديد وابن عمران بعد آياته التس * ع وشق الخضم فهو صعيد والمسيح ابن مريم وهو روح الل * ه كادت تقضي عليه اليهود وقضى سيد النبيين والها * دي إلى الحق أحمد المحمود وبنوه وآله الطاهرو * ن الزهر صلى عليهم المعبود ونجوم السماء منتثرات * بعد حين وللهواء ركود
ولنار الدنيا التي توقد الصخ * ر خمود وللماء جمود وكذا للثرى غداة يؤم الن * اس منها تزلزل وهمود هذه الامهات نار وترب * وهواء رطب وماء برود سوف يفنى كما فنينا فلا * يبقى من الخلق والد ووليد لا الشقي الغوي من نوب الايا * م ينجو ولا السعيد الرشيد ومتى سلت المنايا سيوفا * فالموالي حصيدها والعبيد وممن توفي فيها: أبو الفتوح نصر بن علي البغدادي الفقيه الشافعي ويلقب بثعلب، اشتغل في المذهب والخلاف ومن شعره قوله: جسمي معي غير أن الروح عندكم * فالجسم في غربة والروح في وطن فليعجب الناس مني أن لي بدنا * لا روح فيه ولي روح بلا بدن أبو الفضل جبرائيل بن منصور ابن هبة الله بن جبريل بن الحسن بن غالب بن يحيى بن موسى بن يحيى بن الحسن بن غالب ابن الحسن بن عمرو بن الحسن بن النعمان بن المنذر المعروف بابن زطينا البغدادي كاتب الديوان
بها، أسلم - وكان نصرانيا - فحسن إسلامه، وكان من أفصح الناس وأبلغهم موعظة، ومن ذلك قوله " خير أوقاتك ساعة صفت لله، وخلصت من الفكرة لغيره والرجاء لسواه، وما دمت في خدمة السلطان فلا تغتر بالزمان، اكفف كفك واصرف طرفك وأكثر صومك وأقلل نومك يؤمنك، واشكر ربك يحمد أمرك.
وقال: زاد المسافر يقدم على رحيله، فأعد الزاد تبلغ بالمعاد المراد وقال: إلى متى تتمادى في الغفلة كأنك قد أمنت عواقب المهلة، عمر اللهو مضى وعمر الشبيبة انقضى، وما حصلت من ربك على ثقة بالرضا، وقد انتهى بك الامر إلى سن التخاذل وزمن التكاسل، وما حظيت بطائل.
وقال: روحك تخضع وعينك لا تدمع، وقلبك يخشع ونفسك تجشع، وتظلم نفسك وأنت لها تتوجع، وتظهر الزهد في الدنيا وفي الحال تطمع، وتطلب ما ليس لك بحق، وما وجب عليك من الحق لا تدفع، وتروم فضل ربك وللماعون تمنع، وتعيب نفسك الامارة وهي عن اللهو لا ترجع، وتوقظ الغافلين بإنذارك وتتناوم عن سهمك وتهجع، وتخص غيرك بخيرك ونفسك الفقيرة لا تنفع، وتحوم على الحق وأنت بالباطل مولع، وتتعثر في المضايق وطرق النجاة مهيع، وتتهجم على الذنوب وفي المجرمين تشفع، وتظهر القناعة بالقليل وبالكثير لا تشبع، وتعمر الدار الفانية ودارك الباقية خراب بلقع، وتستوطن في منزل رحيل كأنك إلى ربك لا
ترجع، وتظن أنك بلا رقيب وأعمالك إلى المراقب ترفع، تقدم على الكبائر وعن الصغائر تتورع، وتؤمل الغفران وأنت عن الذنوب لا تقلع، وترى الاهوال محيطة بك وأنت في ميدان اللهو ترتع، وتستقبح أفعال الجهال وباب الجهل تقرع، وقد آن لك أن تأنف من التعنيف وعن الدنايا تترفع، وقد سار المخفون وتخلفت فماذا تتوقع ".
وقد أورد ابن الساعي له شعرا حسنا فمنه: إن سهرت عيناك في طاعة * فذاك خير لك من نوم أمسك قد فات بعلاته * فاستدرك الفائت في اليوم وله:
إن ربا هداك بعد ضلال * سبل الرشد مستحق للعباده فتعبد له تجد منه عتقا * واستدم فضله بطول الزهاده وله: إذا تعففت عن حرام * عوضت بالطيب الحلال فاقنع تجد في الحرام حلا * فضلا من الله ذي الجلال ثم دخلت سنة سبع وعشرين وستمائة فيها كانت وقعة عظيمة بين الاشرف موسى بن العادل وبين جلال الدين بن خوارزم شاه، وكان سببها أن جلال الدين كان قد أخذ مدينة خلاط في الماضي وخربها وشرد أهلها، وحاربه علاء الدين كيقباذ ملك الروم وأرسل إلى الاشرف يستحثه على القدوم عليه ولو جريدة وحده، فقدم الاشرف في طائفة كبيرة من عسكر دمشق، وانضاف إليهم عسكر بلاد الجزيرة ومن تبقى من عسكر خلاط، فكانوا خمسة آلاف مقاتل، معهم العدة الكاملة، والخيول الهائلة، فالتقوا مع جلال الدين بأذربيجان وهو في عشرين ألف مقاتل، فلم يقم لهم ساعة واحدة، ولا صبر فتقهقر وانهزم واتبعوه على الاثر، ولم يزالوا في طلبهم إلى مدينة خوي وعاد الاشرف إلى مدينة خلاط فوجدها خاوية على عروشها، فمهدها وأطدها، ثم تصالح وجلال الدين وعاد إلى مستقر ملكه حرسها الله وفيها تسلم الاشرف قلعة بعلبك من الملك الامجد بهرام شاه بعد حصار طويل (1)، ثم استخلف على دمشق أخاه الصالح إسماعيل، ثم سار إلى الاشرف بسبب أن جلال الدين
__________
(1) قال أبو الفداء في تاريخه: وعوضه الملك الاشرف عنها الزبداني وقصير دمشق الذي هو شماليها ومواضع أخر.
وتوجه الملك الامجد وأقام بداره التي داخل باب النصر بدمشق " دار السعادة " (3 / 145 ابن خلدون 5 / 352).
الخوارزمي استحوذ على بلاد خلاط وقتل من أهلها خلقا كثيرا ونهب أموالا كثيرة، فالتقى معه الاشرف واقتتلوا قتالا عظيما فهزمه الاشرف هزيمة منكرة، وهلك من الخوارزمية خلق كثير، ودقت
البشائر في البلاد فرحا بنصرة الاشرف على الخوارزمية، فإنهم كانوا لا يفتحون بلدا إلا قتلوا من فيه ونهبوا أموالهم، فكسرهم الله تعالى.
وقد كان الاشرف رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام قبل الوقعة وهو يقول له: يا موسى أنت منصور عليهم ولما فرغ من كسرتهم عاد إلى بلاد خلاط فرمم شعثها وأصلح ما كان فسد منها.
ولم يحج أحد من أهل الشام في هذه السنة ولا في التي قبلها، وكذا فيما قبلها أيضا، فهذه ثلاث سنين لم يسر من الشام أحد إلى الحج.
وفيها أخذت الفرنج جزيرة سورقة وقتلوا بها خلقا وأسروا آخرين، فقدموا بهم إلى الساحل فاستقبلهم المسلمون فأخبروا بما جرى عليهم من الفرنج.
وممن توفي فيها من الاعيان: زين الامناء الشيخ الصالح أبو البركات بن الحسن بن محمد بن الحسن بن هبة الله بن زين الامناء بن عساكر الدمشقي الشافعي، سمع على عميه الحافظ أبي القاسم والصائن وغير واحد، وعمر وتفرد بالرواية وجاوز الثمانين بنحو من ثلاث سنين، وأقعد في آخر عمره فكان يحمل في محفة إلى الجامع وإلى دار الحديث النورية لاسماع الحديث، وانتفع به الناس مدة طويلة، ولما توفي حضر الناس جنازته ودفن عند أخيه الشيخ فخر الدين بن عساكر بمقابر الصوفية رحمه الله تعالى.
الشيخ بيرم المارديني كان صالحا منقطعا محبا للعزلة عن الناس، وكان مقيما بالزاوية الغربية من الجامع، وهي التي يقال لها الغزالية، وتعرف بزاوية الدولعي وبزاوية القطب النيسابوري، وبزاوية الشيخ أبي نصر المقدسي، قاله الشيخ شهاب الدين أبو شامة، وكان يوم جنازته مشهودا، ودفن بسفح قاسيون رحمه الله تعالى وعفا عنه بمنه وكرمه.
ثم دخلت سنة ثمان وعشرين وستمائة استهلت هذه السنة والملك الاشرف موسى بن العادل مقيم بالجزيرة مشغول فيها بإصلاح ما كان جلال الدين الخوارزمي قد أفسده من بلاده، وقد قدمت التتار في هذه السنة إلى الجزيرة وديار
بكر فعاثوا بالفساد يمينا وشمالا، فقتلوا ونهبوا وسبوا على عادتهم خذلهم الله تعالى.
وفيها رتب إمام بمشهد أبي بكر من جامع دمشق وصليت فيه الصلوات الخمس.
وفيها درس الشيخ تقي
الدين بن الصلاح الشهرزوري الشافعي في المدرسة الجوانية في جانب المارستان في جمادى الاولى منها.
وفيها درس الناصر ابن الحنبلي بالصالحية بسفح قاسيون التي أنشأتها الخاتون ربيعة خاتون بنت أيوب أخت ست الشام.
وفيها حبس الملك الاشرف الشيخ علي الحريري بقلعة عزتا.
وفيها كان غلاء شديد بديار مصر وبلاد الشام وحلب والجزيرة بسبب قلة المياه السماوية والارضية، فكانت هذه السنة كما قال الله تعالى (ولنبلونكم بشئ من الخوف والجوع ونقص من الاموال والانفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون) [ البقرة: 155 ] وذكر ابن الاثير كلاما طويلا مضمونه (1) خروج طائفة من التتار مرة أخرى من بلاد ما وراء النهر، وكان سبب قدومهم هذه السنة أن الاسماعيلية كتبوا إليهم يخبرونهم بضعف أمر جلال الدين بن خوارزم شاه، وأنه قد عادى جميع الملوك حوله حتى الخليفة، وأنه قد كسره الاشرف بن العادل مرتين، وكان جلال الدين قد ظهرت منه أفعال ناقصة تدل على قلة عقله، وذلك أنه توفي له غلام خصي يقال له: قلج، وكان يحبه، فوجد عليه وجدا عظيما بحيث إنه أمر الامراء أن يمشوا بجنازته فمشوا فراسخ، وأمر أهل البلد أن يخرجوا بحزن وتعداد عليه فتوانى بعضهم في ذلك فهم بقتلهم حتى تشفع فيهم بعض الامراء ثم لم يسمح بدفن قلج فكان يحمل معه بمحفة، وكلما أحضر بين يديه طعام يقول احملوا هذا إلى قلج فقال له بعضهم: أيها الملك إن قلج قد مات، فأمر بقتله فقتل، فكانوا بعد ذلك يقولون: قبله وهو يقبل الارض، ويقول هو الآن أصلح مما كان - يعني أنه مريض وليس بميت - فيجد الملك بذلك راحة من قلة عقله ودينه قبحه الله.
فلما جاءت التتار اشتغل بهم وأمر بدفن قلج وهرب من بين أيديهم وامتلا قلبه خوفا منهم، وكان كلما سار من قطر لحقوه إليه وخربوا ما اجتازوا به من الاقاليم والبلدان حتى انتهوا إلى الجزيرة وجاوزوها إلى سنجار
وماردين وآمد، يفسدون ما قدروا عليه قتلا ونهبا وأسرا، وتمزق شمل جلال الدين وتفرق عنه جيشه، فصاروا شذر مذر، وبدلوا بالامن خوفا، وبالعز ذلا، وبالاجتماع تفريقا، فسبحان من بيده الملك لا إله إلا هو.
وانقطع خبر جلال الدين فلا يدرى أين سلك، ولا أين ذهب، وتمكنت التتار من الناس في سائر البلاد لا يجدون من يمنعهم ولا من يردعهم، وألقى الله تعالى الوهن والضعف في قلوب الناس منهم، كانوا كثيرا يقتلون الناس فيقول المسلم: لا بالله، لا بالله، فكانوا يلعبون على الخيل ويغنون ويحاكون الناس لا بالله لا بالله، وهذه طامة عظمي وداهية كبرى، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وحج الناس في هذه السنة من الشام وكان ممن حج فيها الشيخ تقي الدين أبو عمر بن الصلاح، ثم لم يحج الناس بعد هذه السنة أيضا لكثرة الحروب والخوف من التتار والفرنج، فإنا
__________
(1) تاريخ ابن الاثير 12 / 495.
لله وإنا إليه راجعون.
وفيها تكامل بناء المدرسة التي بسوق العجم ببغداد المنسوبة إلى إقبال الشرابي، وحضر الدرس بها، وكان يوما مشهودا، اجتمع فيه جميع المدرسين والمفتيين ببغداد، وعمل بصحنها قباب الحلوى فحمل منها إلى جميع المدارس والربط، ورتب فيها خمسة وعشرين فقيها لهم الجوامك الدارة في كل يوم، والحلوى في أوقات المواسم، والفواكه في زمانها، وخلع على المدرس والمعيدين والفقهاء في ذلك اليوم، وكان وقتا حسنا تقبل الله تعالى منه.
وفيها سار الاشرف أبو العباس أحمد ابن القاضي الفاضل في الرسلية عن الكامل محمد صاحب مصر إلى الخليفة المستنصر بالله، فأكرم وأعيد معظما.
وفيها دخل الملك المظفر أبو سعيد كوكبري بن زين الدين صاحب إربل إلى بغداد ولم يكن دخلها قط، فتلقاه الموكب وشافهه الخليفة بالسلام مرتين في وقتين، وكان ذلك شرفا له غبطه به سائر ملوك الآفاق وسألوا أن يهاجروا ليحصل لهم مثل ذلك، فلم يمكنوا لحفظ الثغور، ورجع إلى مملكته معظما مكرما.
وممن توفي فيها من الاعيان:
يحيى بن معطي بن عبد النور النحوي صاحب الالفية وغيرها من المصنفات النحوية المفيدة، ويلقب زين الدين، أخذ عن الكندي وغيره، ثم سافر إلى مصر فكانت وفاته بالقاهرة في مستهل ذي الحجة (1) من هذه السنة، وشهد جنازته الشيخ شهاب الدين أبو شامة، وكان قد رحل إلى مصر في هذه السنة، وحكي أن الملك الكامل شهد جنازته أيضا، وأنه دفن قريبا من قبر المزني بالقرافة في طريق الشافعي عن يسرة المار رحمه الله.
الدخوار (2) الطبيب مهذب الدين عبد الرحيم بن علي بن حامد، المعروف بالدخوار شيخ الاطباء بدمشق، وقد وقف داره بدرب العميد بالقرب من الصاغة العتيقة على الاطباء بدمشق مدرسة لهم، وكانت وفاته بصفر من هذه السنة، ودفن بسفح قاسيون، وعلى قبره قبة على أعمدة في أصل الجبل شرقي الركتية، وقد ابتلي بستة أمراض متعاكسة، منها ريح اللقوة، وكان مولده سنة خمس وستين وخمسمائة وكان عمره ثلاثا وستين سنة قال ابن الاثير: وفيها توفي:
__________
(1) في تاريخ أبي الفداء 3 / 151 وفي شذرات الذهب 5 / 129: في ذي القعدة.
وذكر ابن إياس في بدائع الزهور وفاته سنة 620 ه.
انظر 1 / 1 / 259.
تاريخ الزمان لابن العبري ص 279: دكوار، وقد ذكر وفاته سنة 630.
القاضي أبو (1) غانم بن العديم الشيخ الصالح، وكان من المجتهدين في العبادة والرياضة، من العاملين بعلمهم، ولو قال قائل إنه لم يكن في زمانه أعبد منه لكان صادقا، فرضي الله تعالى عنه وأرضاه، فإنه من جماعة شيوخنا، سمعنا عليه الحديث وانتفعنا برؤيته وكلامه، قال: وفيها أيضا في الثاني عشر من ربيع الاول توفي صديقنا:.
أبو القاسم عبد المجيد بن العجمي الحلبي
وهو وأهل بيته مقدمو السنة بحلب، وكان رجلا ذا مروءة غزيرة، وخلق حسن، وحلم وافر ورياسة كثيرة، يحب إطعام الطعام، وأحب الناس إليه من أكل من طعامه ويقبل يده، وكان يلقى أضيافه بوجه منبسط، ولا يقعد عن إيصال راحة وقضاء حاجة، فرحمه الله تعالى رحمة واسعة.
قلت وهذا آخر ما وجد من الكامل في التاريخ للحافظ عز الدين أبي الحسن علي بن محمد ابن الاثير رحمه الله تعالى.
أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الكريم ابن أبي السعادات بن كريم الموصلي، أحد الفقهاء الحنفيين، شرح قطعة كبيرة من القدوري، وكتب الانشاء لصاحبها بدر الدين لؤلؤ، ثم استقال من ذلك، وكان فاضلا شاعرا، من شعره: دعوة كما شاء الغرام يكون * فلست وإن خان العهود أخون ولينوا له في قولكم ما استطعتم * عسى قلبه القاسي علي يلين وبثوا صباباتي إليه وكرروا * حديثي عليه فالحديث شجون بنفسي الاولى بانوا عن العين حصة * وحبهم في القلب ليس يبين وسلوا على العشاق يوم تحملوا * سيوفا لها وطف الجفون جفون المجد البهنسي وزير الملك الاشرف ثم عزله وصادره، ولما توفي دفن بتربته التي أنشأها بسفح قاسيون وجعل كتبه بها وقفا، وأجرى عليها أوقافا جيدة دارة رحمه الله تعالى.
__________
(1) في الكامل 12 / 505: القاضي ابن غنائم بن العديم الحلبي.
جمال الدولة خليل بن زويزان رئيس قصر حجاج، كان كيسا ذا مروءة، له صدقات كثيرة، وله زيارة في مقابر الصوفية من ناحية القبلة، ودفن بتربته عند مسجد قلوس رحمه الله تعالى.
وفيها كانت وفاة: الملك الامجد واقف المدرسة الامجدية.
بهرام شاه بن فروخشاه بن شاهنشاه ابن أيوب صاحب بعلبك، لم يزل بها حتى قدم الاشرف موسى بن العادل إلى دمشق فملكها في سنة ست وعشرين، فانتزع من يده بعلبك في سنة سبع وعشرين، وأسكنه عنده بدمشق بدار أبيه (1)، فلما كان شهر شوال من هذه السنة عدا عليه مملوك من مماليكه تركي فقتله ليلا، وكان قد اتهمه في صاحبة له وحبسه، فتغلب عليه في بعض الليالي فقتله وقتل المملوك بعده، ودفن الامجد في تربته التي إلى جانب تربة أبيه في الشرق الشمالي رحمه الله تعالى، وقد كان شاعرا فاضلا له ديوان شعر، وقد أورد له ابن الساعي قطعة جيدة من شعره الرائق الفائق، وترجمته في طبقات الشافعية، ولم يذكره أبو شامة في الذيل، وهذا عجيب منه، ومما أورد له ابن الساعي في شاب رآه يقطع قضبان بان فأنشأ على البديهة: من لي بأهيف قال حين عتبته * في قطع كل قضيب بان رائق تحكي شمائله الرشاء إذا انثنى * ريان بين جداول وحدائق سرقت غصون البان لين شمائلي * فقطعتها والقطع حد السارق ومن شعره أيضا رحمه الله تعالى: يؤرقني حنين وادكار * وقد خلت المرابع والديار تناءى الظاعنون ولي فؤاد * يسير مع الهوادج حيث ساروا حنين مثلما شاء التنائي * وشوق كلما بعد المزار وليل بعد بينهم طويل * فأين مضت ليالي القصار ؟ وقد حكم السهاد على جفوني * تساوى الليل عندي والنهار سهادي بعد نأيهم كثير * ونومي بعد ما رحلوا غرار (2)
__________
(1) انظر حاشية 1 ص 148.
(2) غرار: الغرار القليل النوم، وقيل: لبن الناقة.
وهنا الغرار: بمعنى الغفلة.
فمن ذا يستعير لنا عيونا * تنام وهل ترى عينا تعار فلا ليلي له صبح منير * ولا وجدي يقال له: عثار (1) وكم من قائل والحي غاد * يحجب ظعنه النقع المثار (2) وقوفك في الديار وأنت حي * وقد رحل الخليط عليك عار وله دو بيت: كم يذهب هذا العمر في الخسران * ما أغفلني فيه وما أنساني ضيعت زماني كله في لعب * يا عمر هل بعدك عمر ثاني وقد رآه بعضهم في المنام فقال له: ما فعل الله تعالى بك ؟ فقال: كنت من ديني على وجل * زال عني ذلك الوجل أمنت نفسي بوائقها * عشت لما مت لما رجل رحمه الله وعفا عنه.
جلال الدين تكش وقيل محمود بن علاء الدين خوارزم شاه محمد بن تكش الخوارزمي، وهم من سلالة طاهر بن الحسين، وتكش جدهم هو الذي أزال دولة السلجوقية.
كانت التتار قهروا أباه حتى شردوه في البلاد فمات في بعض جزائر البحر، ثم ساقوا وراء جلال الدين هذا حتى مزقوا عساكره شذر مذر وتفرقوا عنه أيدي سبأ، وانفرد هو وحده فلقيه فلاح من قرية بأرض ميافارقين فأنكره لما عليه من الجواهر الذهب، وعلى فرسه، فقال له: من أنت ؟ فقال: أنا ملك الخوارزمية - وكانوا قد قتلوا للفلاح أخا - فأنزله وأظهر إكرامه، فلما نام قتله بفأس كانت عنده، وأخذ ما عليه، فبلغ الخبر إلى شهاب الدين غازي بن العادل صاحب ميافارقين فاستدعى بالفلاح فأخذ ما كان عليه من الجواهر وأخذ الفرس أيضا، وكان الاشرف يقول هو سد ما بيننا وبين التتار، كما أن السد بيننا
وبين يأجوج ومأجوج.
ثم دخلت سنة تسع وعشرين وستمائة فيها عزل القاضيان بدمشق: شمس الخوي وشمس الدين بن سنى الدولة، وولي قضاء القضاة عماد الدين بن الحرستاني، ثم عزل في سنة إحدى وثلاثين وأعيد شمس الدين بن سنى
__________
(1) عثار: الزلل.
(2) النقع المثار: الغبار.
الدولة كما سيأتي.
وفيها سابع عشر شوالها عزل الخليفة المستنصر وزيره مؤيد الدين محمد بن محمد بن عبد الكريم القمي، وقبض عليه وعلى أخيه حسن وابنه فخر الدين أحمد بن محمد القمي وأصحابهم وحبسوا، واستوزر الخليفة مكانه أستاذ الدار شمس الدين أبا الازهر، أحمد بن محمد بن الناقد، وخلع عليه خلعة سنية وفرح الناس بذلك.
وفيه أقبلت طائفة من التتار فوصلوا إلى شهزور فندب الخليفة صاحب إربل مظفر الدين كوكبري بن زين الدين، وأضاف إليه عساكر من عنده، فساروا نحوهم فهربت منهم التتار وأقاموا في مقابلتهم مدة شهور، ثم تمرض مظفر الدين وعاد إلى بلده إربل، وتراجعت التتار إلى بلادها.
وممن توفي فيها من الاعيان: الحافظ محمد بن عبد الغني ابن أبي بكر البغدادي، أبو بكر بن نقطة الحافظ المحدث الفاضل، صاحب الكتاب النافع المسمى بالتقييد في تراجم رواة الكتب والمشاهير من المحدثين، وكان أبوه فقيها فقيرا منقطعا في بعض مساجد بغداد (1)، يؤثر أصحابه بما يحصل له، ونشأ ولده هذا معني بعلم الحديث وسماعه والرحلة فيه إلى الآفاق شرقا وغربا، حتى برز فيه على الاقران، وفاق أهل ذلك الزمان، ولد سنة تسع (2) وسبعين وخمسمائة، وتوفي يوم الجمعة الثاني والعشرين من صفر من هذه السنة، رحمهم الله تعالى.
الجمال عبد الله بن الحافظ عبد الغني المقدسي كان فاضلا كريما حييا، سمع الكثير، ثم خالط الملوك وأبناء الدنيا، فتغيرت أحواله ومات ببستان ابن شكر عند الصالح إسماعيل بن العادل، وهو الذي كفنه ودفن بسفح قاسيون.
أبو علي الحسين بن أبي بكر المبارك ابن أبي عبد الله محمد بن يحيى بن مسلم الزبيدي ثم البغدادي، كان شيخا صالحا حنفيا فاضلا ذا فنون كثيرة، ومن ذلك علم الفرائض والعروض، وله فيه أرجوزة حسنة، انتخب منها ابن الساعي من كل بحر بيتين، وسرد ذلك في تاريخه.
__________
(1) توفي ببغداد في رابع جمادى الآخرة سنة 583 ه.
(2) في الوافي بالوفيات 3 / 267: ولد في نيف وسبعين وخمسمائة.
أبو الفتح مسعود بن إسماعيل ابن علي بن موسى السلماسي، فقيه أديب شاعر، له تصانيف، وقد شرح المقامات والجمل في النحو، وله خطب وأشعار حسنة رحمه الله تعالى.
أبو بكر محمد بن عبد الوهاب ابن عبد الله الانصاري فخر الدين ابن الشيرجي الدمشقي، أحد المعدلين بها، ولد سنة تسع وأربعين وخمسمائة، وسمع الحديث وكان يلي ديوان الخاتون ست الشام بنت أيوب، وفوضت إليه أمر أوقافها.
قال السبط: وكان ثقة أمينا كيسا متواضعا.
قال وقد وزر ولده شرف الدين للناصر داود مدة يسيرة، وكانت وفاة فخر الدين في يوم عيد الاضحى ودفن بمقابر باب الصغير رحمه الله تعالى وعفا عنه.
حسام بن غزي ابن يونس عماد الدين أبو المناقب المحلي المصري، ثم الدمشقي، كان شيخا صالحا فاضلا فقيها شافعيا حسن المحاضرة وله أشعار حسنة.
قال أبو شامة: وله في معجم القوصي ترجمة
حسنة، وذكر أنه توفي عاشر ربيع الآخر ودفن بمقابر الصوفية.
قال السبط: وكان مقيما بالمدرسة الامينية، وكان لا يأكل لاحد شيئا ولا للسلطان، بل إذا حضر طعاما كان معه في كمه شئ يأكله، وكان لا يزال معه ألف دينار على وسطه، وحكي عنه قال: خلع علي الملك العادل ليلة طيلسانا فلما خرجت مشى بين يدي تعاط يحسبني القاضي، فلما وصلت باب البريد عند دار سيف خلعت الطيلسان وجعلته في كمي وتباطأت في المشي، فالتفت فلم ير وراءه أحدا، فقال لي: أين القاضي ؟ فأشرت إلى ناحية النورية وقلت: ذهب إلى داره، فلما أسرع إلى ناحية النورية هرولت إلى المدرسة الامينية واسترحت منه.
قال ابن الساعي كان مولده سنة ستين وخمسمائة، وخلف أموالا كثيرة ورثتها عصبته، قال: وكانت له معرفة حسنة بالاخبار والتواريخ وأيام الناس، مع دين وصلاح وورع، وأورد له ابن الساعي قطعا من شعره فمن ذلك قوله: قيل لي من هويت قد عبث الش * عر في خديه.
قلت ما ذاك عاره حمرة الخد أحرقت عنبر الخا * ل فمن ذاك الدخان عذاره وله: شوقي إليكم دون أشواقكم * لكن لا بد أن يشرح لانني عن قلبكم غائب * وأنتم في القلب لن تبرحوا
أبو عبد الله محمد بن علي ابن محمد بن الجارود الماراني، الفقيه الشافعي، أحد الفضلاء، ولي القضاء بإربل وكان ظريفا خليعا، وكان من محاسن الايام، وله أشعار رائقة ومعان فائقة منها قوله: مشيب أتى وشباب رحل * أحل العناية حيث حل وذنبك جم، ألا فارجعي * وعودي فقد حان وقت الاجل وديني الاله ولا تقصري * ولا يخدعنك طول الامل أبو الثناء محمود بن رالي
ابن علي بن يحيى الطائي الرقي نزيل إربل، وولي النظر بها للملك مظفر الدين، وكان شيخا أديبا فاضلا، ومن شعره قوله: وأهيف ما الخطي إلا قوامه * وما الغصن إلا ما يثنيه لينه وما الدعص إلا ما تحمل خصره * وما النبل إلا ما تريش جفونه وما الخمر إلا ما يروق ثغره * وما السحر إلا ما تكن عيونه وما الحسن إلا كله فمن الذي * إذا ما رآه لا يزيد جنونه ابن معطي النحوي يحيى ترجمه أبو شامة في السنة الماضية، وهو أضبط لانه شهد جنازته بمصر، وأما ابن الساعي فإنه ذكره في هذه السنة، وقال إنه كان حظيا عند الكامل محمد صاحب مصر، وإنه كان قد نظم أرجوزة في القراءات السبع، ونظم ألفاظ الجمهرة، وكان قد عزم على نظم صحاح الجوهري.
ثم دخلت سنة ثلاثين وستمائة فيها باشر خطابة بغداد ونقابة العباسيين العدل مجد الدين أبو القاسم هبة الله بن المنصوري، وخلع عليه خلعة سنية، وكان فاضلا قد صحب الفقراء والصوفية وتزهد برهة من الزمان، فلما دعي إلى هذا الامر أجاب سريعا وأقبلت عليه الدنيا بزهرتها، وخدمه الغلمان الاتراك، ولبس لباس المترفين وقد عاتبه بعض تلامذته بقصيدة طويلة، وعنفه على ما صار إليه، وسردها ابن الساعي بطولها في تاريخه.
وفيها سار القاضي محيي الدين يوسف بن الشيخ جمال الدين أبي الفرج في الرسلية من الخليفة إلى الكامل صاحب مصر، ومعه كتاب هائل فيه تقليده الملك، وفيه أوامر كثيرة مليحة من إنشاء الوزير نصر الدين أحمد بن الناقد، سرده ابن الساعي أيضا
بكماله.
وقد كان الكامل مخيما بظاهر آمد من أعمال الجزيرة، قد افتتحها بعد حصار طويل وهو مسرور بما نال من ملكها.
وفيها فتحت دار الضيافة ببغداد للحجيج حين قدموا من حجهم، وأجريت عليهم النفقات والكساوي والصلات وفيها سارت العساكر المستنصرية صحبة الامير
سيف الدين أبي الفضائل إقبال الخاص المستنصري إلى مدينة إربل وأعمالها، وذلك لمرض مالكها مظفر الدين كوكبري بن زين الدين، وأنه ليس له من بعده من يملك البلاد، فحين وصلها الجيش منعه أهل البلد فحاصروه حتى افتتحوه عنوة في السابع عشر من شوال في هذه السنة، وجاءت البشائر بذلك فضربت الطبول ببغداد بسبب ذلك، وفرح أهلها، وكتب التقليد عليها لاقبال المذكور، فرتب فيها المناصب وسار فيها سيرة جيدة، وامتدح الشعراء هذا الفتح من حيث هو، وكذلك مدحوا فاتحها إقبال، ومن أحسن ما قال بعضهم في ذلك: يا يوم سابع عشر شوال الذي * رزق السعادة أولا وأخيرا هنيت فيه بفتح إربل مثلما * هنيت فيه وقد جلست وزيرا يعني أن الوزير نصير الدين بن العلقمي، قد كان وزر في مثل هذا اليوم من العام الماضي، وفي مستهل رمضان من هذه السنة شرع في عمارة دار الحديث الاشرفية بدمشق، وكانت قبل ذلك دارا للامير قايماز وبها حمام فهدمت وبنيت عوضها.
وقد ذكر السبط في هذه السنة أن في ليلة النصف من شعبان فتحت دار الحديث الاشرفية المجاورة لقلعة دمشق، وأملى بها الشيخ تقي الدين بن الصلاح الحديث، ووقف عليها الاشرف الاوقاف، وجعل بها نعل النبي صلى الله عليه وسلم.
قال وسمع الاشرف صحيح البخاري في هذه السنة على الزبيدي، قلت: وكذا سمعوا عليه بالدار وبالصالحية.
قال: وفيها فتح الكامل آمد وحصن كيفا ووجد عند صاحبها خمسمائة حرة للفراش فعذبه الاشرف عذابا أليما.
وفيها قصد صاحب ماردين وجيش بلاد الروم الجزيرة فقتلوا وسبوا وفعلوا ما لم يفعله التتار بالمسلمين.
وممن توفي فيها من الاعيان في هذه السنة من المشاهير: أبو القاسم علي بن الشيخ أبي الفرج بن الجوزي كان شيخا لطيفا ظريفا، سمع الكثير وعمل صناعة الوعظ مدة، ثم ترك ذلك، وكان يحفظ شيئا كثيرا من الاخبار والنوادر والاشعار، ولد سنة إحدى وخمسين وخمسائة، وكانت وفاته في هذه السنة وله تسع وسبعون سنة.
وقد ذكر السبط وفاة:
الوزير صفي الدين بن شكر في هذه السنة، وأثنى عليه وعلى محبته للعلم وأهله، وأن له مصنفا سماه البصائر، وأنه
تغضب عليه العادل ثم ترضاه الكامل وأعاده إلى وزارته وحرمته، ودفن بمدرسته المشهورة بمصر وذكر أن أصله من قرية يقال له دميرة بمصر.
الملك ناصر الدين محمود ابن عز الدين مسعود بن نور الدين أرسلان شاه بن قطب الدين مودود بن عماد الدين بن زنكي بن آقسنقر صاحب الموصل، كان مولده في سنة ثلاث عشرة وستمائة، وقد أقامه بدر الدين لؤلؤ صورة حتى تمكن أمره وقويت شوكته، ثم حجر عليه فكان لا يصل إلى أحد من الجواري ولا شئ من السراري، حتى لا يعقب، وضيق عليه في الطعام والشراب، فلما توفي جده لامه مظفر الدين كوكبرى صاحب إربل منعه حينئذ من الطعام والشراب ثلاثة عشر (1) يوما حتى مات كمدا وجوعا وعطشا رحمه الله، وكان من أحسن الناس صورة، وهو آخر ملوك الموصل من بيت الاتابكي.
القاضي شرف الدين إسماعيل بن إبراهيم أحد مشايخ الحنفية، وله مصنفات في الفرائض وغيرها، وهو ابن خالة القاضي شمس الدين بن الشيرازي الشافعي، وكلاهما كان ينوب عن ابن الزكي وابن الحرستاني، وكان يدرس بالطرخانية.
وفيها سكنه، فلما أرسل إليه المعظم أن يفتي بإباحة نبيذ التمر وماء الرمان امتنع من ذلك وقال أنا على مذهب محمد بن الحسن في ذلك، والرواية عن أبي حنيفة شاذة، ولا يصح حديث ابن مسعود في ذلك، ولا الاثر عن عمر أيضا.
فغضب عليه المعظم وعزله عن التدريس وولاه لتلميذه الزين بن العتال، وأقام الشيخ بمنزله حتى مات.
قال أبو شامة: ومات في هذه السنة جماعة من السلاطين منهم المغيث بن المغيث بن العادل، والعزيز عثمان بن العادل، ومظفر الدين صاحب إربل.
قلت أما صاحب إربل فهو:
الملك المظفر أبو سعيد كوكبري (2) ابن زين الدين علي بن تبكتكين أحد الاجواد والسادات الكبراء والملوك الامجاد، له آثار حسنة وقد عمر الجامع المظفري بسفح قاسيون، وكان قد هم بسياقة الماء إليه من ماء بذيرة فمنعه المعظم من ذلك، واعتل بأنه قد يمر على مقابر المسلمين بالسفوح، وكان يعمل المولد الشريف في
__________
(1) في الاصل: ثلاث عشرة.
(2) كوكبري: وهو اسم تركي معناه بالعربية: ذئب أزرق.
ربيع الاول ويحتفل به احتفالا هائلا، وكان مع ذلك شهما شجاعا فاتكا بطلا عاقلا عالما عادلا رحمه الله وأكرم مثواه.
وقد صنف الشيخ أبو الخطاب ابن دحية له مجلدا في المولد النبوي سماه: " التنوير في مولد البشير النذير "، فأجازه على ذلك بألف دينار، وقد طالت مدته في الملك في زمان الدولة الصلاحية، وقد كان محاصر عكا وإلى هذه السنة محمود السيرة والسريرة، قال السبط: حكى بعض من حضر سماط المظفر في بعض الموالد كان يمد في ذلك السماط خمسة آلاف رأس مشوي، وعشرة آلاف دجاجة، ومائة ألف زبدية، وثلاثين ألف صحن حلوى، قال: وكان يحضر عنده في المولد أعيان العلماء والصوفية فيخلع عليهم ويطلق لهم ويعمل للصوفية سماعا من الظهر إلى الفجر، ويرقص بنفسه معهم، وكانت له دار ضيافة للوافدين من أي جهة على أي صفة، وكانت صدقاته في جميع القرب والطاعات على الحرمين وغيرهما، ويتفك من الفرنج في كل سنة خلقا من الاسارى، حتى قيل إن جملة من استفكه من أيديهم ستون ألف أسير، قالت زوجته ربيعة خاتون بنت أيوب (1) - وكان قد زوجه إياها أخوها صلاح الدين، لما كان معه على عكا - قالت: كان قميصه لا يساوي خمسة دراهم فعاتبته بذلك فقال: لبسي ثوبا بخمسة وأتصدق بالباقي خير من أن ألبس ثوبا مثمنا وأدع الفقير المسكين، وكان يصرف على المولد في كل سنة ثلاثمائة ألف دينار، وعلى دار الضيافة في كل سنة مائة ألف دينار.
وعلى الحرمين والمياه بدرب الحجاز ثلاثين ألف دينار سوى صدقات السر، رحمه الله تعالى، وكانت وفاته بقلعة إربل،
وأوصى أن يحمل إلى مكة فلم يتفق (2) فدفن بمشهد علي.
والملك العزيز بن عثمان بن العادل وهو شقيق المعظم، كان صاحب بانياس وتملك الحصون التي هنالك، وهو الذي بنى المعظمية.
وكان عاقلا قليل الكلام مطيعا لاخيه المعظم، ودفن عنده وكانت وفاته يوم الاثنين عاشر رمضان ببستانه الناعمة من لهيا (3) رحمه الله وعفا عنه.
أبو المحاسن محمد بن نصر الدين بن نصر ابن الحسين بن علي بن محمد بن غالب الانصاري، المعروف بابن عنين الشاعر.
قال ابن الساعي أصله من الكوفة وولد بدمشق ونشأ بها، وسافر عنها سنين، فجاب الاقطار والبلاد شرقا
__________
(1) قال ابن خلكان 4 / 120: توفيت بدمشق في شعبان سنة 643، وغالب ظني أنها جاوزت ثمانين سنة، ودفنت في مدرستها الموقوفة على الحنابلة بسفح قاسيون.
(2) قال في الوفيات: سيروه مع الركب إلى الحجاز، فرجع الحاج تلك السنة من لينة - وهي منزلة في طريق الحجاز من جهة العراق - لعدم الماء وقاسوا مشقة عظيمة، ولم يصلوا إلى مكة فردوه ودفنوه بالكوفة بالقرب من المشهد.
(3) وهي قرية بيت لهيا.
من صالحية دمشق.
وغربا ودخل الجزيرة وبلاد الروم والعراق وخراسان وما وراء النهر والهند واليمن والحجاز وبغداد، ومدح أكثر أهل هذه البلاد، وحصل أموالا جزيلة، وكان ظريفا شاعرا مطيقا مشهورا، حسن الاخلاق جميل المعاشرة، وقد رجع إلى بلده دمشق فكان بها حتى مات هذه السنة في قول ابن الساعي، وأما السبط وغيره فأرخوا وفاته في سنة ثلاث وثلاثين، وقد قيل إنه مات في سنة إحدى وثلاثين والله أعلم.
والمشهور أن أصله من حوران مدينة زرع، وكانت إقامته بدمشق في الجزيرة قبلي الجامع، وكان هجاء له قدرة على ذلك، وصنف كتابا سماه مقراض الاعراض، مشتمل على نحو من خمسمائة بيت، قل من سلم من الدماشقة من شره، ولا الملك صلاح الدين ولا أخوه العادل، وقد كان يزن بترك الصلاة المكتوبة فالله أعلم.
وقد نفاه الملك الناصر صلاح الدين إلى
الهند فامتدح ملوكها وحصل أموالا جزيلة، وصار إلى اليمن فيقال إنه وزر لبعض ملوكها، ثم عاد في أيام العادل إلى دمشق ولما ملك المعظم استوزره فأساء السيرة واستقال هو من تلقاء نفسه فعزله، وكان قد كتب إلى الدماشقة من بلاد الهند: فعلام أبعدتم أخا ثقة * لم يقترف ذنبا ولا سرقا ؟ انفوا المؤذن من بلادكم * إن كان ينفى كل من صدقا ومما هجا به الملك الناصر صلاح الدين رحمه الله تعالى: سلطاننا أعرج وكاتبه * ذو عمش ووزيره أحدب والدولعي الخطيب معتكف * وهو على قشر بيضة يثب ولابن باقا وعظ يغش به الن * اس وعبد اللطيف محتسب وصاحب الامر خلقه شرس * وعارض الجيش داؤه عجب وقال في السلطان الملك العادل سيف الدين رحمه الله تعالى وعفا عنه: إن سلطاننا الذي نرتجيه * واسع المال ضيق الانفاق هو سيف كما يقال ولكن * قاطع للرسوم والارزاق وقد حضر مرة مجلس الفخر الرازي بخراسان وهو على المنبر يعظ الناس، فجاءت حمامة خلفها جارح فألقت نفسها على الفخر الرازي كالمستجيرة به، فأنشأ ابن عنين يقول: جاءت سليمان الزمان حمامة (1) * والموت يلمع من جناحي خاطف فرم لواه الجوع حتى ظله * بإزائه [ يجري ] (2) بقلب واجف
__________
(1) في ابن خلكان 4 / 251: بشكوها بدل حمامة.
(2) من ابن خلكان.
من أعلم (1) الورقاء أن محلكم * حرم وأنك ملجأ للخائف الشيخ شهاب الدين السهروردي
صاحب عوارف المعارف، عمر بن محمد بن عبد الله بن محمد بن محمد بن حمويه (2)، واسمه عبد الله البكري البغدادي، شهاب الدين أبو حفص السهروردي، شيخ الصوفية ببغداد، كان من كبار الصالحين وسادات المسلمين، وتردد في الرسلية بين الخلفاء والملوك مرارا، وحصلت له أموال جزيلة ففرقها بين الفقراء والمحتاجين، وقد حج مرة وفي صحبته خلق من الفقراء لا يعلمهم إلا الله عزوجل، وكانت فيه مروءة وإغاثة للملهوفين، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وكان يعظ الناس وعليه ثياب البذلة، قال مرة في ميعاده هذا البيت وكرره: ما في الصحاب أخو وجد تطارحه * إلا محب له في الركب محبوب فقام شاب وكان في المجلس فأنشده: كأنما يوسف في كل راحلة * وله وفي كل بيت منه يعقوب فصاح الشيخ ونزل عن المنبر وقصد الشاب ليعتذر إليه فلم يجده ووجد مكانه حفرة فيها دم كثير من كثرة ما كان يفحص برجليه عند إنشاد الشيخ البيت.
وذكر له ابن خلكان أشياء كثيرة من أناشيده وأثنى عليه خيرا، وأنه توفي في هذه السنة (3) وله ثلاث وتسعون سنة رحمه الله تعالى.
ابن الاثير مصنف أسد الغابة والكامل هو الامام العلامة عز الدين أبو الحسن علي بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري الموصلي المعروف بابن الاثير مصنف كتاب أسد الغابة في أسماء الصحابة، وكتاب الكامل في التاريخ وهو من أحسنها حوادث، ابتدأه من المبتدأ إلى سنة ثمان وعشرين وستمائة، وقد كان يتردد إلى بغداد خصيصا عند ملوك الموصل، ووزر لبعضهم كما تقدم بيانه، وأقام بها في آخر عمره موقرا معظما إلى أن توفي بها في شعبان في هذه السنة، عن خمس وسبعين سنة رحمه الله.
وأما أخوه أبو السعادات المبارك فهو مصنف كتاب جامع الاصول وغيره، وأخوهما الوزير ضياء الدين أبو الفتح نصر الله كان وزيرا للملك الافضل علي بن الناصر فاتح بيت المقدس، صاحب دمشق كما
__________
(1) في ابن خلكان: من نبأ.
(2) ذكره ابن خلكان 3 / 446: عمر بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عمويه.
(3) في الوفيات المطبوع 3 / 448: توفي في مستهل المحرم 632 ببغداد، ودفن من الغد بالوردية.
تقدم، وجزيرة ابن عمر، قيل إنها منسوبة إلى رجل يقال له عبد العزيز بن عمر، من أهل برقعيد، وقيل بل هي منسوبة إلى ابني عمر، وهما أوس وكامل ابنا عمر بن أوس.
ابن المستوفي الاربلي مبارك بن أحمد بن مبارك بن موهوب بن غنيمة بن غالب العلامة شرف الدين أبو البركات اللخمي الاربلي، كان إماما في علوم كثيرة كالحديث وأسماء الرجال والادب والحساب، وله مصنفات كثيرة وفضائل غزيرة، وقد بسط ترجمته القاضي شمس الدين ابن خلكان في الوفيات، فأجاد وأفاد.
رحمهم الله (1).
ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين وستمائة فيها كمل بناء المدرسة المستنصرية ببغداد ولم يبن مدرسة قبلها مثلها، ووقفت على المذاهب الاربعة من كل طائفة اثنان وستون فقيها، وأربعة معيدين، ومدرس لكل مذهب، وشيخ حديث وقارئان وعشرة مستمعين، وشيخ طب، وعشرة من المسلمين يشتغلون بعلم الطب، ومكتب للايتام وقدر للجميع من الخبز واللحم والحلوى والنفقة ما فيه كفاية وافرة لكل واحد.
ولما كان يوم الخميس خامس رجب حضرت الدروس بها وحضر الخليفة المستنصر بالله بنفسه الكريمة وأهل دولته من الامراء والوزراء والقضاة والفقهاء والصوفية والشعراء، ولم يتخلف أحد من هؤلاء، وعمل سماط عظيم بها أكل منه الحاضرون، وحمل منه إلى سائر دروب بغداد من بيوتات الخواص والعوام، وخلع على جميع المدرسين بها والحاضرين فيها، وعلى جميع الدولة والفقهاء والمعيدين، وكان يوما مشهودا، وأنشدت الشعراء الخليفة المدائح الرائقة والقصائد الفائقة، وقد ذكر ذلك ابن الساعي في تاريخه مطولا مبسوطا شافيا كافيا، وقدر لتدريس الشافعية بها الامام محيي الدين أبو عبد الله بن فضلان، وللحنفية الامام العلامة رشيد الدين أبو حفص عمر بن محمد الفرغاني، وللحنابلة الامام العالم محيي الدين يوسف بن الشيخ أبي الفرج بن الجوزي، ودرس عنه يومئذ ابنه
عبد الرحمن نيابة لغيبته في بعض الرسالات إلى الملوك، ودرس للمالكية يومئذ الشيخ الصالح العالم أبو الحسن المغربي المالكي نيابة أيضا، حتى يعين شيخ غيره، ووقفت خزائن كتب لم يسمع بمثلها في كثرتها وحسن نسخها وجودة الكتب الموقوفة بها.
وكان المتولي لعمارة هذه المدرسة مؤيد الدين أبو طالب محمد بن العلقمي الذي وزر بعد ذلك، وقد كان إذ ذاك أستاذ دار الخلافة، وخلع عليه يومئذ وعلى الوزير نصير الدين.
ثم عزل مدرس الشافعية في رابع عشر ذي القعدة بقاضي القضاة
__________
(1) ذكر ابن خلكان وفاته بالموصل في 5 محرم سنة 637 وكان مولده سنة 564 بقلعة اربل (4 / 151 شذرات الذهب 5 / 186).
أبي المعالي عبد الرحمن بن مقبل، مضافا إلى ما بيده من القضاء، وذلك بعد وفاة محيي الدين بن فضلان، وقد ولي القضاء مدة ودرس بالنظامية وغيرها، ثم عزل ثم رضي عنه ثم درس آخر وقت بالمستنصرية كما ذكرنا، فلما توفي وليها بعده ابن مقبل رحمهم الله تعالى.
وفيها عمر الاشرف مسجد جراح ظاهر باب الصغير.
وفيها قدم رسول الانبرور ملك الفرنج إلى الاشرف ومعه هدايا منها دب أبيض شعره مثل شعر الاسد، وذكروا أنه ينزل إلى البحر فيخرج السمك فيأكله.
وفيها طاووس أبيض أيضا.
وفيها كملت عمارة القيسارية التي هي قبل النحاسين، وحول إليها سوق الصاغة وشغر سوق اللؤلؤ الذي كان فيه الصاغة العتيقة عند الحدادين.
وفيها جددت الدكاكين التي بالزيادة.
قلت وقد جددت شرقي هذه الصاغة الجديدة قيساريتان في زماننا وسكنها الصياغ وتجار الذهب، وهما حسنتان وجميعهما وقف الجامع المعمور.
وممن توفي في هذه السنة من الاعيان: أبو الحسن علي بن أبي علي ابن محمد بن سالم الثعلبي (1)، الشيخ سيف الدين الآمدي (2)، ثم الحموي ثم الدمشقي، صاحب المصنفات في الاصلين وغير ذلك، من ذلك: " أبكار الافكار في الكلام "، و " دقائق الحقائق في الحكمة "، و " أحكام الاحكام في أصول الفقه "، وكان حنبلي المذهب فصار
شافعيا أصوليا منطقيا جدليا خلافيا، وكان حسن الاخلاق سليم الصدر كثير البكاء رقيق القلب، وقد تكلموا فيه بأشياء الله أعلم بصحتها، والذي يغلب على الظن أنه ليس لغالبها صحة، وقد كانت ملوك بني أيوب كالمعظم والكامل يكرمونه وإن كانوا لا يحبونه كثيرا، وقد فوض إليه المعظم تدريس العزيزية، فلما ولي الاشرف دمشق عزله عنها ونادى بالمدارس أن لا يشتغل أحد بغير التفسير والحديث والفقه، ومن اشتغل بعلوم الاوائل نفيته، فأقام الشيخ سيف الدين بمنزله إلى أن توفي بدمشق في هذه السنة في صفر، ودفن بتربته بسفح قاسيون.
وذكر القاضي ابن خلكان: أنه اشتغل ببغداد على أبي الفتح نصر بن فتيان بن المنى الحنبلي، ثم انتقل إلى مذهب الشافعي فأخذ عن ابن فضلان وغيره، وحفظ طريقة الخلاف للشريف وزوائد طريقة أسعد الميهني، ثم انتقل إلى الشام واشتغل بعلوم المعقول، ثم إلى الديار المصرية فأعاد بمدرسة الشافعية بالقرافة الصغرى، وتصدر بالجامع الظافري، واشتهر فضله وانتشرت فضائله، فحسده أقوام فسعوا فيه وكتبوا خطوطهم باتهامه بمذهب الاوائل والتعطيل والانحلال، فطلبوا من بعضهم أن يوافقهم فكتب:
__________
(1) كذا بالاصل وتاريخ أبي الفداء وشذرات الذهب، وفي ابن خلكان 3 / 293: التغلبي.
(2) الآمدي: نسبة إلى آمد وهي مدينة كبيرة في ديار بكر مجاورة لبلاد الروم.
(الوفيات).
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه * فالقوم أعداء له وخصوم فانتقل سيف الدين إلى حماه ثم تحول إلى دمشق فدرس بالعزيزية، ثم عزل عنها ولزم بيته إلى أن مات في هذه السنة، وله ثمانون عاما رحمه الله تعالى وعفا عنه.
واقف الركنية الامير ركن الدين منكورس الفلكي غلام فلك الدين أخي الملك العادل، لانه وقف الفلكية كما تقدم، وكان هذا الرجل من خيار الامراء، ينزل في كل ليلة وقت السحر إلى الجامع وحده بطوافه ويواظب على حضور الصلوات فيه مع الجماعة، وكان قليل الكلام كثير الصدقات، وقد بنى المدرسة الركنية بسفح
قاسيون، ووقف عليها أوقافا كثيرة وعمل عندها تربة، وحين توفي بقرية حدود (1) حمل إليها رحمه الله تعالى.
الشيخ الامام العالم رضي الدين أبو سليمان بن المظفر بن غنائم الجيلي الشافعي، أحد فقهاء بغداد والمفتيين بها والمشغلين للطلبة مدة طويلة، له كتاب في المذهب نحو من خمسة عشر مجلدا، يحكي فيه الوجوه الغريبة والاقوال المستغربة وكان لطيفا ظريفا، توفي رحمه الله يوم الاربعاء ثالث ربيع الاول من هذه السنة ببغداد.
الشيخ طي المصري أقام مدة بالشام في زاوية له بدمشق، وكان لطيفا كيسا زاهدا، يتردد إليه الاكابر ودفن بزاويته المذكورة رحمه الله تعالى.
الشيخ عبد الله الارمني (2) أحد العباد الزهاد الذين جابوا البلاد وسكنوا البراري والجبال والوهاد، واجتمعوا بالاقطاب والابدال والاوتاد، وممن كانت له الاحوال والمكاشفات والمجاهدات والسياحات في سائر النواحي والجهات، وقد قرأ القرآن في بدايته وحفظ كتاب القدوري على مذهب أبي حنيفة، ثم اشتغل
__________
(1) في معجم البلدان: جرود، قرية من أعمال غوطة دمشق.
(2) في شذرات الذهب 5 / 146: الارموي.
بالمعاملات والرياضات، ثم أقام آخر عمره بدمشق حتى مات بها ودفن بسفح قاسيون، وقد حكي عنه أشياء حسنة منها أنه قال: اجتزت مرة في السياحة ببلدة فطالبتني نفسي بدخولها فآليت أن لا أستطعم منها بطعام، ودخلتها فمررت برجل غسال فنظر إلي شزرا فخفت منه وخرجت من البلد هاربا، فلحقني ومعه طعام فقال: كل فقد خرجت من البلد، فقلت له: وأنت في هذا المقام وتغسل الثياب في الاسواق ؟ فقال: لا ترفع رأسك ولا تنظر إلى شئ من عملك، وكن
عبدا لله فإن استعملك في الحش فارض به، ثم قال رحمه الله.
ولو قيل لي مت قلت سمعا وطاعة * وقلت لداعي الموت أهلا ومرحبا وقال اجتزت مرة في سياحتي براهب في صومعة فقال لي: يا مسلم ما أقرب الطرق عندكم إلى الله عزوجل ؟ قلت: مخالفة النفس، قال فرد رأسه إلى صومعته، فلما كنت بمكة زمن الحج إذا رجل يسلم علي عند الكعبة فقلت من أنت ؟ فقال أنا الراهب، قلت: بم وصلت إلى ها هنا ؟ قال بالذي قلت.
وفي رواية عرضت الاسلام على نفسي فأبت، فعلمت أنه حق فأسلمت وخالفتها، فأفلح وأنجح.
وقال بينا أنا ذات يوم بجبل لبنان إذا حرامية الفرنج فأخذوني فقيدوني وشدوا وثاقي فكنت عندهم في أضيق حال، فلما كان النهار شربوا وناموا، فبينا أنا موثوق إذا حرامية المسلمين قد أقبلوا نحوهم فأنبهتهم فلجأوا إلى مغارة هنالك فسلموا من أولئك المسلمين، فقالوا: كيف فعلت هذا وقد كان خلاصك على أيديهم ؟ فقلت إنكم أطعمتموني فكان من حق الصحبة أن لا أغشكم، فعرضوا علي شيئا من متاع الدنيا فأبيت وأطلقوني.
وحكى السبط قال: زرته مرة ببيت المقدس وكنت قد أكلت سمكا مالحا، فلما جلست عنده أخذني عطش جدا وإلى جانبه إبريق فيه ماء بارد فجعلت أستحيي منه، فمد يده إلى الابريق وقد احمر وجهه وناولني وقال خذ، كم تكاسر، فشربت.
وذكر أنه لما ارتحل من بيت المقدس كان سورها بعد قائما جديدا على عمارة الملك صلاح الدين قبل أن يخربه المعظم، فوقف لاصحابه يودعهم ونظر إلى السور، وقال: كأني بالمعاول وهي تعمل في هذا السور عما قريب، فقيل له معاول المسلمين أو الفرنج ؟ فقال بل معاول المسلمين، فكان كما قال.
وقد ذكرت له أحوال كثيرة حسنة، ويقال إن أصله أرمني وإنه أسلم على يدي الشيخ عبد الله اليونيني، وقيل بل أصله رومي من قونية، وأنه قدم على الشيخ عبد الله اليونيني وعليه برنس كبرانس الرهبان، فقال له: أسلم فقال: أسلمت لرب العالمين.
وقد كانت أمه داية امرأة الخليفة، وقد جرت له كائنة غريبة فسلمه الله بسبب ذلك، وعرفه الخليفة فأطلقه.
ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين وستمائة فيها خرب الملك الاشرف بن العادل خان الزنجاري الذي كان بالعقيبة فيه خواطئ وخمور
ومنكرات متعددة، فهدمه وأمر بعمارة جامع مكانه سمي جامع التوبة، تقبل الله تعالى منه.
وفيها توفي: القاضي بهاء الدين يوسف بن رافع بن تميم بن شداد (1) الحلبي، أحد رؤسائها من بيت العلم والسيادة، له علم بالتواريخ وأيام الناس وغير ذلك، وقد سمع الكثير وحدث، والشيخ شهاب الدين عبد السلام بن المطهر بن عبد الله بن محمد بن أبي عصرون الحلبي أيضا، كان فقيها زاهدا عابدا كانت له نحو من عشرين سرية، وكان شيخا يكثر من الجماع، فاعترته أمراض مختلفة فأتلفته ومات بدمشق ودفن بقاسيون، وهو والد قطب الدين وتاج الدين، والشيخ الامام العالم صائن الدين أبو محمد عبد العزيز الجيلي الشافعي أحد الفقهاء المفتيين المشتغلين بالمدرسة النظامية ببغداد، وله شرح على التنبيه للشيخ أبي إسحاق، توفي في ربيع الاول (1) رحمه الله تعالى.
والشيخ الامام العالم الخطيب الاديب أبو محمد حمد بن حميد بن محمود بن حميد بن أبي الحسن بن أبي الفرج بن مفتاح التميمي الدينوري، الخطيب بها والمفتي لاهلها، الفقيه الشافعي، تفقه ببغداد بالنظامية، ثم عاد إلى بلده المشار إليها، وقد صنف كتبا.
وأنشد عنه ابن الساعي سماعا منه: روت لي أحاديث الغرام صبابتي * بإسنادها عن بانة العلم الفرد وحدثني مر النسيم عن الحمى * عن الدوح عن وادي الغضا عن ربانجد بأن غرامي والاسى قد تلازما * فلن يبرحا حتى أوسد في لحدي وقد أرخ أبو شامة في الذيل وفاة الشهاب السهروردي صاحب عوارف المعارف في هذه السنة، وذكر أن مولده في سنة تسع وثلاثين وخمسمائة، وأنه جاوز التسعين.
وأما السبط فإنما أرخ وفاته في سنة ثلاثين كما تقدم.
قاضي القضاة بحلب أبو المحاسن يوسف بن رافع بن تميم بن عتبة بن محمد الاسدي الموصلي الشافعي، كان رجلا فاضلا أديبا مقرئا ذا وجاهة عند الملوك، أقام بحلب وولي القضاء بها، وله تصانيف وشعر،
توفي في هذه السنة رحمه الله تعالى.
ابن الفارض ناظم التائية (2) في السلوك على طريقة المتصوفة المنسوبين إلى الاتحاد، هو أبو حفص عمر بن
__________
(1) قال أبو الفداء في تاريخه: لم يكن في أيامه من اسمه شداد بل لعل ذلك في نسب أمه فاشتهر به وغلب عليه، أصله من الموصل، مات في صفر وعمره نحو 93 سنة (3 / 156).
(2) وهي مقدار ستمائة بيت، ولعله يقصد التائية المشهورة ومطلعها: نعم بالصبا قلبي صبا لاحبتي * فيا حبذا ذاك الشذا حين هبت
أبي الحسن علي بن المرشد بن علي، الحموي الاصل، المصري المولد والدار والوفاة، وكان أبوه يكتب فروض النساء والرجال، وقد تكلم فيه غير واحد من مشايخنا بسبب قصيدته المشار إليها، وقد ذكره شيخنا أبو عبد الله الذهبي في ميزانه وحط عليه.
مات في هذه السنة وقد قارب السبعين (1).
ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين وستمائة فيها قطع الكامل وأخوه الاشرف الفرات وأصلحا ما كان أفسده جيش الروم من بلادهما، وخرب الكامل قلعة الرها وأحل بدنيسر بأسا شديدا، وجاء كتاب بدر الدين صاحب الموصل بأن الروم أقبلوا بمائة طلب كل طلب بخمسمائة فارس، فرجع الملكان إلى دمشق سريعا وعاد جيش الروم إلى بلادهما بالجزيرة وأعادوا الحصار كما كان، ورجعت التتار عامهم ذلك إلى بلادهم والله تعالى أعلم.
وممن توفي فيها من الاعيان والمشاهير ابن عنين الشاعر وقد تقدمت ترجمته في سنة ثلاثين.
الحاجري (2) الشاعر صاحب الديوان المشهور، وهو عيسى بن سنجر بن بهرام بن جبريل بن خمارتكين بن طاشتكين الاربلي شاعر مطبق، ترجمه ابن خلكان (3) وذكر أشياء من شعره كثيرة، وذكر أنه كان
صاحبهم وأنه كتب إليه أخيه ضياء الدين عيسى يستوحش منه: الله يعلم ما أبقى سوى رمق * مني فراقك يا من قربه الامل فابعث كتابك واستودعه تعزية * فربما مت شوقا قبل ما يصل وذكر له في الخال رحمه الله تعالى: ومهفهف من شعره وجبينه * أمسى الورى في ظلمة وضياء لا تنكروا الخال الذي في خده * كل الشقيق بنقطة سوداء
__________
(1) قال ابن إياس في بدائع الزهور 1 / 1 / 266: مولده في رابع ذي القعدة سنة 577، فكانت مدة حياته 54 سنة وستة أشهر.
وفي ابن خلكان 3 / 455: ولد سنة 576.
(2) الحاجري: نسبة إلى حاجر، كانت بليدة بالحجاز لم يبق منها إلا الاثار، ولم يكن الحاجري منها فهو من اربل أصلا ومولدا ومنشأ لكنه استعمل حاجرا كثيرا في شعره فنسب إليها.
(3) ذكر ابن خلكان وفاته ثاني شوال سنة 632 ودفن بمقبرة باب الميدان، وتقدير عمره 50 سنة (انظر شذرات الذهب 5 / 156).
ابن دحية أبو الخطاب عمر بن الحسن بن علي بن محمد بن فرج بن خلف بن قومس بن مزلال بن بلال (1) بن بدر بن أحمد بن دحية بن خليفة الكلبي الحافظ، شيخ الديار المصرية في الحديث، وهو أول من باشر مشيخة دار الحديث الكاملية بها، قال السبط: وقد كان كابن عنين في ثلب المسلمين والوقيعة فيهم، ويتزيد في كلامه فترك الناس الرواية عنه وكذبوه، وقد كان الكامل مقبلا عليه، فلما انكشف له حاله أخذ منه دار الحديث وأهانه، توفي في ربيع الاول بالقاهرة ودفن بقرافة مصر، وقد قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة: وللشيخ السخاوي فيه أبيات حسنة.
وقال القاضي ابن خلكان بعد سياق نسبه كما تقدم، وذكر أنه كتبه من خطه، قال وذكر أن أمه أمة الرحمن بنت أبي عبد الله بن [ أبي ] البسام موسى بن عبد الله بن الحسين بن جعفر بن علي بن
محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، فلهذا كان يكتب بخطه ذو النسبين ابن دحية بن الحسن والحسين.
قال ابن خلكان: وكان من أعيان العلماء ومشاهير الفضلاء متقنا لعلم الحديث وما يتعلق به، عارفا بالنحو واللغة وأيام العرب وأشعارها، اشتغل ببلاد المغرب ثم رحل إلى الشام ثم إلى العراق واجتاز بإربل سنة أربع وستمائة، فوجد ملكها المعظم مظفر الدين بن زين الدين يعتني بالمولد النبوي، فعمل له كتاب " التنوير في مولد السراج المنير " وقرأه عليه بنفسه، فأجازه بألف دينار، قال وقد سمعناه على الملك المعظم في ستة مجالس في سنة ست وعشرين وستمائة.
قلت وقد وقفت على هذا الكتاب وكتبت منه أشياء حسنة مفيدة.
قال ابن خلكان: وكان مولده في سنة أربع وأربعين وخمسمائة، وقيل ست أو تسع وأربعين وخمسمائة، وتوفي في هذه السنة، وكان أخوه أبو عمرو عثمان قد باشر بعده دار الحديث الكاملية بمصر، وتوفي بعده بسنة.
قلت: وقد تكلم الناس فيه بأنواع من الكلام، ونسبه بعضهم إلى وضع حديث في قصر صلاة المغرب، وكنت أود أن أقف على إسناده لنعلم كيف رجاله، وقد أجمع العلماء كما ذكره ابن المنذر وغيره على أن المغرب لا يقصر، والله سبحانه وتعالى يتجاوز عنا وعنه بمنه وكرمه.
ثم دخلت سنة أربع وثلاثين وستمائة فيها حاصرت التتار إربل بالمجانيق ونقبوا الاسوار حتى فتحوها عنوة فقتلوا أهلها وسبوا ذراريهم، وامتنعت عليهم القلعة مدة، وفيها النائب من جهة الخليفة، فدخل فصل الشتاء فأقلعوا عنها وانشمروا إلى بلادهم، وقيل إن الخليفة جهز لهم جيشا فانهزم التتار.
وفيها استخدم الصالح أيوب بن الكامل صاحب حصن كيفا الخوارزمية الذين تبقوا من جيش جلال الدين
__________
(1) في ابن خلكان 3 / 448: ملال.
وانفصلوا عن الرومي، فقوي جأش الصالح أيوب.
وفيها طلب الاشرف موسى بن العادل من أخيه الكامل الرقة لتكون قوة له وعلفا لدوابه إذا جاز الفرات مع أخيه في البواكير، فقال الكامل:
أما يكفيه أن معه دمشق مملكة بني أمية ؟ فأرسل الاشرف الامير فلك الدين بن المسيري إلى الكامل في ذلك، فأغلظ له الجواب، وقال: إيش يعمل بالملك ؟ يكفيه عشرته للمغاني وتعلمه لصناعتهم.
فغضب الاشرف لذلك وبدت الوحشة بينهما، وأرسل الاشرف إلى حماه وحلب وبلاد الشرق مخالف أولئك الملوك على أخيه الكامل، فلو طال عمر الاشرف لافسد الملك على أخيه، وذلك لكثرة ميل الملوك إليه لكرمه وشجاعته وشح أخيه الكامل، ولكنه أدركته منيته في أول السنة الداخلة رحمه الله تعالى.
وممن توفي فيها من الاعيان: الملك العزيز الظاهر صاحب حلب محمد بن السلطان الملك الظاهر غياث الدين غازي بن الملك الناصر صلاح الدين فاتح القدس الشريف، وهو وأبوه وابنه الناصر أصحاب ملك حلب من أيام الناصر، وكانت أم العزيز الخاتون بنت الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وكان حسن الصورة كريما عفيفا، توفي وله من العمر أربع (1) وعشرون سنة، وكان مدبر دولته الطواشي شهاب الدين، وكان من الامراء رحمه الله تعالى.
وقام في الملك بعده ولده الناصر صلاح الدين يوسف (2)، والله سبحانه وتعالى أعلم.
صاحب الروم كيقباذ الملك علاء الدين صاحب بلاد الروم، كان من أكابر الملوك وأحسنهم سيرة، وقد زوجه العادل ابنته وأولدها، وقد استولى على بلاد الجزيرة في وقت وأخذ أكثرها من يد الكامل محمد، وكسر الخوارزمية مع الاشرف موسى رحمهما الله (3).
الناصح الحنبلي في ثالث المحرم توفي الشيخ ناصح الدين عبد الرحمن بن نجم بن عبد الوهاب بن الشيخ أبي
__________
(1) قال أبو الفداء في تاريخه: ثلاث وعشرون سنة وشهورا، وقد توفي في ربيع الاول (وفي العبر: في المحرم) بعد حمى قوية أصابته واشتد مرضه.
(2) وكان عمره نحو سبع سنين، وكان المرجع في الامور كلها، ضيفة خاتون والدة الملك العزيز وابنة العادل.
(3) بعد وفاته ملك بلاد الروم ابنه غياث الدين كيخسرو بن كيقباذ.
الفرج الشيرازي، وهم ينتسبون إلى سعد بن عبادة رضي الله عنه، ولد الناصح سنة أربع وخمسين وخمسمائة، وقرأ القرآن وسمع الحديث، وكان يعظ في بعض الاحيان.
وقد ذكرنا قبل أنه وعظ في حياة الشيخ الحافظ عبد الغني، وهو أول من درس بالصالحية التي بالجبل، وله بنيت، وله مصنفات.
وقد اشتغل على ابن المنى البغدادي، وكان فاضلا صالحا، وكانت وفاته بالصالحية ودفن هناك رحمه الله.
الكمال بن المهاجر التاجر كان كثير الصدقات والاحسان إلى الناس، مات فجأة في جمادى الاولى بدمشق فدفن بقاسيون، واستحوذ الاشرف على أمواله، فبلغت التركة قريبا من ثلثمائة ألف دينار، من ذلك سبحة فيها مائة حبة لؤلؤ، كل واحدة مثل بيضة الحمامة.
الشيخ الحافظ أبو عمرو عثمان بن دحية أخو الحافظ أبي الخطاب بن دحية، كان قد ولي دار الحديث الكاملية حين عزل أخوه عنها، حتى توفي في عامه هذا، وكان ندر في صناعة الحديث أيضا رحمه الله تعالى.
القاضي عبد الرحمن التكريتي الحاكم بالكرك، ومدرس مدرسة الزبداني، فلما أخذت أوقافها سار إلى القدس ثم إلى دمشق، فكان ينوب بها عن القضاة، وكان فاضلا نزها عفيفا دينا رحمه الله تعالى ورضي عنه.
ثم دخلت سنة خمس وثلاثين وستمائة فيها كانت وفاة الاشرف ثم أخوه الكامل، أما الاشرف موسى بن العادل باني دار الحديث الاشرفية وجامع التوبة وجامع جراح، فإنه توفي في يوم الخميس رابع المحرم من هذه السنة، بالقلعة المنصورة، ودفن بها حتى نجزت تربته التي بنيت له شمالي الكلاسة، ثم حول إليها رحمه
الله تعالى، في جمادى الاولى، وقد كان ابتداء مرضه في رجب من السنة الماضية، واختلفت عليه الادواء حتى كان الجرائحي يخرج العظام من رأسه وهو يسبح الله عزوجل، فلما كان آخر السنة تزايد به المرض واعتراه إسهال مفرط فخارت قوته فشرع في التهئ للقاء الله عزوجل، فأعتق مائتي غلام وجارية، ووقف دار فروخشاه التي يقال لها دار السعادة، وبستانه بالنيرب على ابنيه، وتصدق بأموال جزيلة، وأحضر له كفنا كان قد أعده من ملابس الفقراء والمشايخ الذين لقيهم من الصالحين.
وقد كان رحمه الله تعالى شهما شجاعا كريما جوادا لاهل العلم، لا سيما أهل الحديث،
ومقاربيته الصالحة، وقد بنى لهم دار حديث بالسفح وبالمدينة للشافعية أخرى، وجعل فيها نعل النبي صلى الله عليه وسلم الذي ما زال حريصا على طلبه من النظام ابن أبي الحديد التاجر، وقد كان النظام ضنينا به فعزم الاشرف أن يأخذ منه قطعة، ثم ترك ذلك خوفا من أن يذهب بالكلية، فقدر الله موت ابن أبي الحديد بدمشق فأوصى للملك الاشرف به، فجعله الاشرف بدار الحديث، ونقل إليها كتبا سنية نفيسة، وبنى جامع التوبة بالعقبية، وقد كان خانا للزنجاري فيه من المنكرات شئ كثير، وبنى مسجد القصب وجامع جراح ومسجد دار السعادة، وقد كان مولده في سنة ست وسبعين وخمسمائة، ونشأ بالقدس الشريف بكفالة الامير فخر الدين عثمان الزنجاري، وكان أبوه يحبه، وكذلك أخوه المعظم ثم استنابه أبوه على مدن كثيرة بالجزيرة منها الرها وحران، ثم اتسعت مملكته حين ملك خلاط، وكان من أعف الناس وأحسنهم سيرة وسريرة، لا يعرف غير نسائه وسراريه، مع أنه قد كان يعاني الشراب، وهذا من أعجب الامور.
حكى السبط عنه قال: كنت يوما بهذه المنظرة من خلاط إذ دخل الخادم فقال: بالباب امرأة تستأذن، فدخلت فإذا صورة لم أر أحسن منها، وإذا هي ابنة الملك الذي كان بخلاط قبلي، فذكرت أن الحاجب علي قد استحوذ علي قرية لها، وأنها قد احتاجت إلى بيوت الكرى، وأنها إنما تتقوت من عمل النقوش للنساء، فأمرت برد ضيعتها إليها وأمرت لها بدار تسكنها، وقد كنت قمت لها حين دخلت وأجلستها بين يدي وأمرتها بستر وجهها حين أسفرت عنه، ومعها عجوز، فحين قضت شغلها
قلت لها انهضي على اسم الله تعالى، فقالت العجوز: يا خوند إنما جاءت لتحظى بخدمتك هذه الليلة، فقلت: معاذ الله لا يكون هذا، واستحضرت في ذهني ابنتي ربما يصيبها نظير ما أصاب هذه، فقامت وهي تقول بالارمني: سترك الله مثل ما سترتني، وقلت لها: مهما كان من حاجة فانهيها إلي أقضها لك، فدعت لي وانصرفت، فقالت لي نفسي: في الحلال مندوحة عن الحرام، فتزوجها، فقلت: لا والله لا كان هذا أبدا، أين الحياء والكرم والمروءة ؟ قال: ومات مملوك من مماليكي وترك ولدا ليس يكون في الناس بتلك البلاد أحسن شبابا، ولا أحلى شكلا منه، فأحببته وقربته، وكان من لا يفهم أمري يتهمني به، فاتفق أنه عدا علي إنسان فضربه حتى قتله، فاشتكى عليه إلي أولياء المقتول، فقلت أثبتوا أنه قتله، فأثبتوا ذلك فحاجفت عنه مماليكي وأرادوا إرضاءهم بعشر ديات فلم يقبلوا، ووقفوا لي في الطريق وقالوا: قد أثبتنا أنه قتله، فقلت خذوه فتسلموه فقتلوه، ولو طلبوا مني ملكي فداء له لدفعته إليهم، ولكن استحيت من الله أن أعارض شرعه بحظ نفسي رحمه الله تعالى وعفا عنه.
ولما ملك دمشق في سنة ست وعشرين وستمائة نادى مناديه فيها أن لا يشتغل أحد من الفقهاء بشئ من العلوم سوى التفسير والحديث والفقه، ومن اشتغل بالمنطق وعلوم الاوائل نفي من البلد.
وكان البلد به في غاية الامن والعدل، وكثرة الصدقات والخيرات، كانت القلعة لا تغلق في ليالي رمضان كلها، وصحون الحلاوات خارجة منها إلى الجامع والخوانق والربط،