كتاب :البداية والنهاية
الامام الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن كثير الدمشقي

[ النحل: 145 ] وقال تعالى (ولا تجادلوا أهل الكتاب الا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم الآية) [ العنكبوت: 46 ] قال الحسن البصري (فقولا له قولا لينا) أعذرا إليه قولا له وإن لك ربا ولك معادا وإن بين يديك جنة ونارا.
وقال وهب بن منبه: قولا له إن لي العفو والمغفرة أقرب مني إلى الغضب والعقوبة.
قال يزيد الرقاشي عند هذه الآية يا من ينحبب إلى من يعاديه فكيف بمن يتولاه ويناديه (قالا ربنا إنا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى) [ طه: 201 ] وذلك أن فرعون كان جبارا عنيدا وشيطانا مريدا له سلطان في بلاد مصر طويل عريض وجاه وجنود وعساكر وسطوة فهاباه من حيث البشرية وخافا أن يسطو عليهما في بادئ الامر فثبتهما تعالى وهو العلي الاعلى فقال (لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى) [ طه: 46 ] كما قال في الآية الاخرى (إنا معكم مستمعون) [ الشعراء: 15.
].
(فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدي.
إنا قد أوحى إلينا أن العذاب على من كذب وتولى) [ طه: 47 - 48 ] يذكر تعالى أنه أمرهما أن يذهبا إلى فرعون فيدعواه إلى الله تعالى أن يعبده وحده لا شريك له وأن يرسل معهم بني إسرائيل ويطلقهم من أسره وقهره ولا يعذبهم (1).
(قد جئناك بآية من ربك) [ طه: 47 ] وهو البرهان العظيم في العصى
واليد (والسلام على من إتبع الهدى) تقيد مفيد بليغ عظيم.
ثم تهدداه وتوعداه على التكذيب فقالا (إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى) أي كذب بالحق بقلبه وتولى عن العمل بقالبه.
وقد ذكر السدي وغيره أنه لما قدم من بلاد مدين دخل على أمه وأخيه هرون وهما يتعشيان من طعام فيه الطفشيل وهو اللفت فأكل معهما * ثم قال: يا هرون إن الله أمرني وأمرك أن ندعو فرعون إلى عبادته فقم معي ؟ فقاما يقصدان باب فرعون، فإذا هو مغلق فقال: موسى للبوابين والحجبة: أعلموه أن رسول الله بالباب فجعلوا يسخرون منه ويستهزؤن به (2).
وقد زعم بعضهم أنه لم يؤذن لهما عليه إلا بعد حين طويل.
وقال محمد بن اسحق أذن لهما بعد سنتين لانه لم يك أحد يتجاسر على الاستئذان لهما فالله أعلم * ويقال إن موسى تقدم إلى الباب فطرقه بعصاه فانزعج فرعون وأمر بإحضارهما فوقفا بين يديه فدعواه إلى الله عزوجل كما أمرهما.
__________
(1) أي لا يعذبهم بالسخرة والتعب في العمل، وكانت بنو إسرائيل عند فرعون في عذاب شديد، يذبح أبناءهم ويستخدم نساءهم ويكلفهم من العمل في الطين واللبن وبناء المدائن ما لا يطيقونه.
(2) الخبر رواه الطبري في تاريخه 1 / 208 وفيه: فانطلقا إليه ليلا، فأتيا الباب فضرباه ففزع فرعون وفزع البواب، وقال فرعون: من هذا الذي يضرب بابي في هذه الساعة ؟ فأشرف عليهما البواب فكلمهما فقال له موسى: إنا رسول رب العالمين، ففزع البواب، فأتى فرعون، فأخبره ان ههنا إنسانا مجنونا يزعم انه رسول رب العالمين، قال: فادخله.
فدخل..

وعند أهل الكتاب أن الله قال لموسى عليه السلام إن هرون اللاوي يعني من نسل لاوى بن يعقوب سيخرج ويتلقاك وأمره أن يأخذ معه مشايخ بني إسرائيل إلى عند فرعون وأمره أن يظهر ما أتاه من الآيات * وقال له سأقسى قلبه فلا يرسل الشعب وأكثر آياتي وأعاجيبي بأرض مصر * وأوحى الله إلى هرون أن يخرج إلى أخيه يتلقاه بالبرية عند جبل حوريب فلما تلقاه أخبره موسى بما أمره به ربه * فلما دخلا مصر جمعا شيوخ بني إسرائيل وذهبا إلى فرعون فلما بلغاه رسالة الله قال:
من هو الله لا أعرفه ولا أرسل بني إسرائيل.
وقال الله مخبرا عن فرعون (قال فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى قال فما بال القرون الاولى قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى الذي جعل لكم الارض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لاولي النهى.
منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى) [ طه: 49 - 55 ].
يقول تعالى مخبرا عن فرعون إنه أنكر إثبات الصانع تعالى قائلا (فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى) أي هو الذي خلق الخلق وقدر لهم أعمالا وأرزاقا و آجالا * وكتب ذلك عنده في كتابه اللوح المحفوظ ثم هدى كل مخلوق إلى ما قدره له فطابق عمله فيهم على الوجه الذي قدره وعلمه لكمال علمه وقدرته وقدره وهذه الآية كقوله تعالى (سبح اسم ربك الاعلى.
الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى) [ الاعلى: 1 - 3 ] أي قدر قدرا وهدى الخلائق إليه.
(قال فما بال القرون الاولى) [ طه: 51 ] يقول فرعون لموسى: فإذا كان ربك هو الخالق المقدر الهادي الخلائق لما قدره، وهو بهذه المثابة من أنه لا يستحق العبادة سواه، فلم عبد الاولون غيره وأشركوا به من الكواكب والانداد، ما قد علمت فهلا إهتدى إلى ما ذكرته القرون الاولى (قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى) [ طه: 52 ] أي هم وإن عبدوا غيره فليس ذلك بحجة لك ولا يدل على خلاف ما أقول لانهم جهلة مثلك، كل شئ فعلوه مستطر عليهم في الزبر، من صغير وكبير، وسيجزيهم على ذلك ربي عزوجل ولا يظلم أحدا مثقال ذرة، لان جميع أفعال العباد مكتوبة عنده في كتاب لا يضل عنه شئ ولا ينسى ربي شيئا.
ثم ذكر له عظمة الرب وقدرته على خلق الاشياء وجعله الارض مهادا (1) والسماء سقفا محفوظا وتسخيره السحاب والامطار لرزق العباد ودوابهم وأنعامهم كما قال: (كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لاولي النهى) [ طه: 54 ] أي لذوي العقول الصحيحة المستقيمة والفطر القويمة غير السقيمة فهو تعالى الخالق الرازق.
وكما قال تعالى (يا أيها الناس أعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون.
الذي جعل لكم الارض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء
فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون) [ البقرة: 21 - 22 ] ولما
__________
(1) مهادا: جمع مهد، وقيل جاز أن يكون مفردا كفراش، أي فراشا وقرارا تستقرون عليها.

ذكر أحياء الارض بالمطر واهتزازها بإخراج نباتها فيه نبه به على المعاد فقال (منها) أي من الارض خلقناكم (وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى) كما قال تعالى (كما بدأكم تعودون).
قال تعالى (وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الاعلى في السموات والارض وهو العزيز الحكيم) [ الروم: 27 ] ثم قال تعالى (ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى.
قال موعدكم يوم الزينة وإن يحشر الناس ضحى) [ طه: 56: 58 ].
يخبر تعالى عن شقاء فرعون وكثرة جهله وقلة عقله في تكذيبه بآيات الله واستكباره عن إتباعها وقوله لموسى إن هذا الذي جئت به سحر ونحن نعارضك بمثله ثم طلب من موسى أن يواعده إلى وقت معلوم ومكان معلوم وكان هذا من أكبر مقاصد موسى عليه السلام أن يظهر آيات الله وحججه وبراهينه جهرة بحضرة الناس ولهذا قال (موعدكم يوم الزينة) وكان يوم عيد من أعيادهم ومجتمع لهم (وإن يحشر الناس ضحى) أي من أول النهار في وقت اشتداد ضياء الشمس فيكون الحق أظهر وأجلى ولم يطلب أن يكون ذلك ليلا في ظلام كيما يروج عليهم محالا وباطلا بل طلب أن يكون نهارا جهرة لانه على بصيرة من ربه ويقين أن الله سيظهر كلمته ودينه وإن رغمت أنوف القبط.
قال الله تعالى (فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى.
قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى فأجمعوا كيدكم ثم أئتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى) [ طه: 60 - 64 ].
يخبر تعالى عن فرعون أنه ذهب فجمع من كان ببلاده (1) من السحرة وكانت بلاد مصر في
ذلك الزمان مملوءة سحرة فضلاء، في فنهم غاية، فجمعوا له من كل بلد ومن كل مكان فاجتمع منهم خلق كثير وجم غفير، فقيل: كانوا ثمانين ألفا قاله محمد بن كعب * وقيل سبعين ألفا قاله القاسم بن أبي بردة.
وقال السدي بضعة وثلاثين ألفا (2).
وعن أبي أمامة تسعة عشر ألفا وقال محمد بن اسحاق خمسة عشر ألفا.
وقال كعب الاحبار كانوا إثني عشر ألفا * وروي ابن أبي حاتم عن ابن عباس كانوا سبعين رجلا وروى عنه أيضا أنهم كانوا أربعين غلاما من بني إسرائيل أمرهم فرعون أن يذهبوا إلى العرفاء فيتعلموا السحر ولهذا قالوا وما أكرهتنا عليه من السحر وفي هذا نظر.
__________
(1) في نسخة: من كان في بلاده.
(2) في نسخة بضعة وثمانين ألفا.
وفي أخرى وأربعين ألفا.

وحضر فرعون وأمراؤه وأهل دولته وأهل بلده عن بكرة أبيهم.
وذلك أن فرعون نادى فيهم أن يحضروا هذا الموقف العظيم فخرجوا وهم يقولون (لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين) [ الشعراء: 40 ].
وتقدم موسى عليه السلام إلى السحرة فوعظهم وزجرهم عن تعاطي السحر الباطل الذي فيه معارضة لآيات الله وحججه فقال (ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى فتنازعوا أمرهم بينهم) [ طه: 61 - 62 ] قيل معناه: أنهم اختلفوا (1) فيما بينهم، فقائل يقول: هذا كلام نبي وليس بساحر، وقائل منهم يقول: بل هو ساحر فالله أعلم * وأسروا التناجي بهذا وغيره (قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما) [ طه: 63 ] يقولون إن هذا وأخاه هرون ساحران عليمان مطبقان متقنان لهذه الصناعة ومرادهم أن يجتمع الناس عليهما ويصولا على الملك وحاشيته ويستأصلاكم عن آخركم ويستأمرا عليكم بهذه الصناعة (فأجمعوا كيدكم ثم اتوا صفا وقد أفلح اليوم من أستعلى) * وإنما قالوا الكلام الاول ليتدبروا ويتواصوا ويأتوا بجميع ما عندهم من المكيدة والمكر والخديعة والسحر والبهتان.
وهيهات كذبت والله الظنون واخطأت الآراء.
أنى يعارض البهتان.
والسحر والهذيان.
خوارق العادات التي أجراها الديان.
على يدي عبده الكليم.
ورسوله الكريم المؤيد بالبرهان الذي يبهر الابصار وتحار فيه العقول والاذهان وقولهم (فأجمعوا كيدكم) أي جميع (2) ما عندكم (ثم اتوا صفا) أي جملة واحدة ثم حضوا بعضهم بعضا على التقدم في هذا المقام لان فرعون كان قد وعدهم ومناهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا (قالوا يا موسى إما أن تلقى وإما أن نكون أول من ألقى قال بل القوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى فأوجس في نفسه خيفة موسى.
قلنا لا تخف إنك أنت الاعلى وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى) [ طه 65 - 69 ].
لما اصطف السحرة، ووقف موسى وهرون عليهما السلام تجاههم قالوا له: إما أن تلقي قبلنا (3)، وإما أن نلقي قبلك (قال بل القوا) أنتم وكانوا قد عمدوا إلى حبال وعصي فاودعوها الزئبق وغيره من الآلات التي تضطرب بسببها تلك الحبال والعصي اضطرابا يخيل للرائي أنها تسعى باختيارها * وإنما تتحرك بسبب ذلك.
فعند ذلك سحروا أعين الناس واسترهبوهم وألقوا حبالهم وعصيهم وهم يقولون (بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون) [ الشعراء: 44 ].
قال الله تعالى (فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤا بسحر عظيم) [ الاعراف: 116 ].
وقال تعالى (فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى.
فأوجس في نفسه خيفة موسى)
__________
(1) في القرطبي: تشاوروا.
(2) أي جميع ما عندكم من كيد وحيلة واعزموا وجدوا واحكموا أمركم.
(3) في قولهم (إما أن تلقي) فيه أدب تجاه موسى وكان ذلك إشارة إلى - قرب إيمانهم - وأحد أسبابه.

أي خاف على الناس أن يفتتنوا بسحرهم ومحالهم قبل أن يلقي ما في يده فإنه لا يضع شيئا قبل أن يؤمر فأوحى الله إليه في الساعة الراهنة (لا تخف إنك أنت الاعلى وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيت أتى) فعند ذلك ألقى موسى عصاه وقال (ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين ويحق الله الحق بكلماته ولو
كره المجرمون) [ يونس: 81 - 82 ] وقال تعالى: (وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون * فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين.
وألقي السحرة ساجدين.
قالوا آمنا برب العالمين.
رب موسى وهرون) [ الاعراف: 117 - 122 ].
وذلك أن موسى عليه السلام لما ألقاها صارت حية عظيمة ذات قوائم، فيما ذكره غير واحد من علماء السلف، وعنق عظيم وشكل هائل مزعج بحيث إن الناس انحازوا منها وهربوا سراعا وتأخروا عن مكانها وأقبلت هي على ما ألقوه (1) من الحبال والعصي فجعلت تلقفه واحدا واحدا في أسرع ما يكون من الحركة والناس ينظرون إليها ويتعجبون منها.
وأما السحرة فإنهم رأوا ما هالهم وحيرهم في أمرهم واطلعوا على أمر لم يكن في خلدهم ولا بالهم ولا يدخل تحت صناعاتهم وأشغالهم.
فعند ذلك وهنالك تحققوا بما عندهم من العلم أن هذا ليس بسحر ولا شعبذة (2) ولا محال ولا خيال ولا زور ولا بهتان ولا ضلال بل حق لا يقدر عليه إلا الحق الذي ابتعث هذا المؤيد به بالحق وكشف الله عن قلوبهم غشاوة الغفلة، وأنارها بما خلق فيها من الهدى وأزاح عنها القسوة، وأنابوا إلى ربهم وخروا له ساجدين، وقالوا جهرة للحاضرين ولم يخشوا عقوبة ولا بلوى (آمنا برب موسى وهرون) كما قال تعالى (فألقى السحرة سجدا قالوا آمنا برب هرون وموسى قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلاقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولاصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى.
قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى.
ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى.
جنات عدن تجري من تحتها الانهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى): [ طه: 70 - 76 ].
قال سعيد بن جبير وعكرمة والقاسم بن أبي بردة والاوزاعي وغيرهم لما سجد السحرة رأوا منازلهم وقصورهم في الجنة تهيأ لهم وتزخرف لقدومهم ولهذا لم يلتفتوا إلى تهويل فرعون وتهديده ووعيده.
وذلك لان فرعون لما رأى هؤلاء السحرة قد أسلموا واشهروا ذكر موسى وهرون في الناس
على هذه الصفة الجميلة، أفزعه ذلك، ورأى أمرا بهره، وأعمى بصيرته وبصره، وكان فيه كيد
__________
(1) في نسخة: على ما ألقوا - وفي أخرى: على ما أقبلت.
(2) في نسخة: شعوذة.

ومكر وخداع، وصنعة بليغة في الصد عن سبيل الله، فقال مخاطبا للسحرة بحضرة الناس: (آمنتم له قبل أن آذن لكم) [ الاعراف: 123 ] أي هلا شاورتموني فيما صنعتم من الامر الفظيع بحضرة رعيتي ثم تهدد وتوعد وأبرق وأرعد وكذب فأبعد قائلا (إنه لكبيركم الذي علمكم السحر) وقال في الآية الاخرى (إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون) [ الاعراف: 123 ].
وهذا الذي قاله من البهتان [ الذي ] يعلم كل فرد عاقل ما فيه من الكفر والكذب والهذيان بل لا يروج مثله على الصبيان فإن الناس كلهم من أهل دولته وغيرهم يعلمون أن موسى لم يره هؤلاء يوما من الدهر فكيف يكون كبيرهم الذي علمهم السحر * ثم هو لم يجمعهم ولا علم بإجتماعهم حتى كان فرعون هو الذي إستدعاهم واجتباهم من كل فج عميق وواد سحيق ومن حواضر بلاد مصر والاطراف ومن المدن والارياف.
قال الله تعالى في سورة الاعراف (ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملائه فظلموا بها فانظر كيف كان عاقبة المفسدين.
وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين.
حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل قال إن كنت جئت بآية فات بها إن كنت من الصادقين فألقى.
عصاه فإذا هي ثعبان مبين.
ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين.
قال الملا من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم.
يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون.
قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين.
يأتوك بكل ساحر عليم وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لاجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم لمن المقربين قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين.
قال القوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس وأسترهبوهم وجاؤا بسحر عظيم وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون فوقع الحق وبطل ما كانوا
يعملون.
فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين.
وألقى السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين.
رب موسى وهرون قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون.
لاقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لاصلبنكم أجمعين.
قالوا إنا إلى ربنا منقلبون.
وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين) [ الاعراف: 103 - 126 ].
وقال تعالى في سورة يونس (ثم بعثنا من بعدهم موسى وهرون إلى فرعون وملائه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين.
فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين.
قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا ولا يفلح الساحرون.
قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الارض وما نحن لكما بمؤمنين.
وقال فرعون إئتوني بكل ساحر عليم.
فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين.
ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون) [ يونس: 75 - 82 ] وقال تعالى في سورة الشعراء (قال لئن اتخذت إلها غيري لاجعلنك من

المسجونين.
قال أو لو جئتك بشئ مبين.
قال فأت به إن كنت من الصادقين.
فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين.
ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين قال للملا حوله إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون.
قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل سحار عليم.
فجمع السحرة لميقات يوم معلوم.
وقيل للناس هل أنتم مجتمعون.
لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين.
فلما جاء السحرة قالوا لفرعون إن لنا لاجرا ان كنا نحن الغالبين * قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون.
فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون.
فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون.
فالقى السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهرون * قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون.
لاقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف
ولاصلبنكم أجمعين.
قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين).
[ الشعراء: 19 - 51 ].
والمقصود أن فرعون كذب وافترى وكفر غاية الكفر في قوله (إنه لكبيركم الذي علمكم السحر) وأتي ببهتان يعلمه العالمون بل العالمون في قوله (إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون) [ الاعراف: 123 ] وقوله (لاقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف) يعني يقطع اليد اليمني والرجل اليسرى وعكسه (ولاصلبنكم أجمعين) أي ليجعلهم (1) مثلة ونكالا لئلا يقتدي بهم أحد من رعيته وأهل ملته ولهذا قال (ولاصلبنكم في جذوع النخل) أي على جذوع النخل لانها أعلى وأشهر (ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى) يعني في الدنيا (قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات) أي لن نطيعك ونترك ما وقر في قلوبنا من البينات والدلائل القاطعات (والذي فرطنا) قيل معطوف.
وقيل قسم (فاقض ما أنت قاض) أي فافعل ما قدرت عليه (إنما تقضي هذه الحياة الدنيا) أي إنما حكمك علينا في هذه الحياة الدنيا فإذا أنتقلنا منها إلى الدار الآخرة صرنا إلى حكم الذي أسلمنا له واتبعنا رسله (إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى) أي وثوابه خير مما وعدتنا به من التقريب (2) والترغيب وأبقى أي وأدوم من هذه الدار الفانية وفي الآية الاخرى (قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا) [ الشعراء: 50 - 51 ] أي (3) ما جترمناه من المآثم والمحارم (أن كنا أول المؤمنين) أي من القبط، بموسى وهرون عليهما لسلام * وقالوا له أيضا (وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا) أي
__________
1) في نسخة: أي ليجعلنهم.
2) في نسخة: الترهيب.
3) في القرطبي: أي الشرك الذي كانوا عليه.

ليس لنا عندك ذنب إلا إيماننا بما جاءنا به رسولنا، وإتباعنا آيات ربنا لما جاءتنا (ربنا
أفرغ علينا صبرا) أي ثبتنا على ما أبتلينا به من عقوبة هذا الجبار العنيد والسلطان الشديد بل الشيطان المريد (وتوفنا مسلمين) وقالوا أيضا يعظونه ويخوفونه بأس ربه العظيم (إنه من يأت ربه مجرما (1) فان له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى) يقولون له فإياك أن تكون منهم فكان منهم (ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى) أي المنازل العالية (جنات عدن تجري من تحتها الانهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى) فاحرص أن تكون منهم فحالت بينه وبين ذلك الاقدار التي لا تغالب ولا تمانع وحكم العلي العظيم بأن فرعون لعنه الله من أهل الجحيم ليباشر العذاب الاليم يصب من فوق رأسه الحميم * ويقال له على وجه التقريع والتوبيخ وهو المقبوح المنبوح والذميم اللئيم (ذق إنك أنت العزيز الكريم) [ الدخان: 49 ].
والظاهر من هذه السياقات أن فرعون لعنه الله صلبهم وعذبهم رضي الله عنهم.
قال عبد الله بن عباس وعبيد بن عمير كانوا من أول النهار سحرة صاروا من آخره شهداء بررة * ويؤيد هذا قولهم (ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين).
فصل ولما وقع ما وقع من الامر العظيم وهو الغلب الذي غلبته القبط في ذلك الموقف الهائل وأسلم السحرة الذين استنصروا ربهم لم يزدهم ذلك إلا كفرا وعنادا وبعدا عن الحق.
قال الله تعالى بعد قصص ما تقدم في سورة الاعراف: (وقال الملا من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الارض ويذرك وآلهتك.
قال سنقتل أبناءهم ونستحيى نساءهم وإنا فوقهم قاهرون.
قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا ان الارض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.
قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا.
قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الارض فينظر كيف تعلمون) [ الاعراف: 127 - 129 ].
يخبر تعالى عن الملا من قوم فرعون وهم الامراء والكبراء أنهم حرضوا ملكهم فرعون على أذية نبي الله موسى عليه السلام ومقابلته بدل التصديق بما جاء به بالكفر والرد والاذى قالوا (أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الارض ويذرك وآلهتك) يعنون - قبحهم الله - أن دعوته إلى عبادة الله
وحده لا شريك له والنهي عن عبادة ما سواه فساد بالنسبة إلى إعتقاد القبط لعنهم الله.
وقرأ بعضهم (ويذرك وآلهتك) أي وعبادتك ويحتمل شيئين أحدهما ويذر دينك وتقويه القراءة الاخرى.
الثاني ويذر أن يعبدك فإنه كان يزعم أنه إله لعنه الله (قال سنقتل أبناءهم ونستحي نساءهم) أي لئلا يكثر مقاتلتهم (وإنا فوقهم قاهرون) أي غالبون (وقال موسى لقومه *
__________
(1) المجرم: المراد به المشرك.

استعينوا بالله واصبروا إن الارض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين) أي إذا هموا هم بأذيتكم والفتك بكم فاستعينوا أنتم بربكم واصبروا على بليتكم (إن الارض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة لمتقين) أي فكونوا أنتم المتقين لتكون لكم العاقبة كما قال في الآية الاخرى (وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين.
فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين.
ونجنا برحمتك من القوم الكافرين) [ يونس: 84 - 86 ] وقولهم (قالوا أوذينا (1) من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا) أي قد كانت الابناء تقتل قبل مجيئك وبعد مجيئك إلينا (قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الارض فينظر كيف تعملون) [ الاعراف: 129 ] وقال الله تعالى في سورة حم المؤمن (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا (2) وسلطان مبين إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب) [ غافر: 23 - 24 ] وكان فرعون الملك وهامان الوزير.
وكان قارون إسرائيليا من قوم موسى إلا أنه كان على دين فرعون وملائه وكان ذا مال جزيل جدا كما ستأتي قصته فيما بعد إن شاء الله تعالى.
(فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم وما كيد الكافرين إلا في ضلال) [ غافر: 25 ] وهذا القتل للغلمان من بعد بعثة موسى إنما كان على وجه الاهانة والاذلال (3)، والتقليل لملا بني إسرائيل، لئلا يكون لهم شوكة يمتنعون بها، ويصولون على القبط بسببها وكانت القبط منهم يحذرون، فلم ينفعهم ذلك ولم يرد عنهم قدر الذي يقول للشئ كن فيكون (وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الارض الفساد) [ غافر: 26 ].
ولهذا يقول الناس على سبيل التهكم: صار فرعون مذكرا، وهذا منه، فإن فرعون في زعمه يخاف على الناس أن يضلهم موسى عليه السلام.
(وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب) [ غافر: 27 ] أي عذت بالله ولجأت إليه [ واستجرت ] (4) بجنابه أن يسطو فرعون وغيره علي بسوء وقوله (من كل متكبر) أي جبار عنيد لا يرعوي ولا ينتهي ولا يخاف عذاب الله وعقابه لانه لا يعتقد معادا ولا جزاء.
ولهذا قال (من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب.
وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا
__________
(1) قيل في الاذى: - في ابتداء ولادته صلى الله عليه وسلم كان الاذى قتل الابناء واسترقاق النساء.
- تسخير بنى إسرائيل في الاعمال نصف النهار.
- الاذى بعد مجيئه: تسخيرهم جميع النهار كله.
- قال الحسن: الاذى قبل وبعد: واحد هو الجزية.
(القرطبي 7 / 263).
(2) وهي الآيات التسع المذكورة في قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات) قيل هي: العصا واليد واللسان والبحر والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم.
وقيل وفيها: السنين والنقص من الثمرات.
(3) زاد القرطبي: ليمتنعوا من الايمان ولئلا يكثر جمعهم.
(4) سقطت من النسخ المطبوعة.

أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدى من هو مسرف كذاب.
يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الارض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) [ غافر: 28 - 29 ] وهذا الرجل هو ابن عم فرعون (1) وكان يكتم إيمانه من قومه خوفا منهم على نفسه * وزعم بعض الناس أنه كان إسرائيليا وهو بعيد ومخالف لسياق الكلام لفظا ومعنى والله أعلم.
قال ابن جريج قال ابن عباس لم يؤمن من القبط بموسى إلا هذا والذي جاء من أقصى
المدينة (2) وامرأة فرعون.
رواه ابن أبي حاتم * قال الدارقطني لا يعرف من اسمه شمعان بالشين المعجمة إلا مؤمن آل فرعون * حكاه السهيلي * وفي تاريخ الطبراني أن اسمه خير فالله أعلم.
والمقصود أن هذا الرجل كان يكتم إيمانه فلما هم فرعون لعنه الله بقتل موسى عليه السلام وعزم على ذلك وشاور ملاه فيه خاف هذا المؤمن على موسى فتلطف في رد فرعون بكلام جمع فيه الترغيب والترهيب فقال على وجه المشورة والرأي وقد ثبت في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر " (3).
وهذا من أعلى مراتب هذا المقام فإن فرعون لاشد جورا منه وهذا الكلام لا أعدل منه لان فيه عصمة نبي * ويحتمل أنه [ كاشفهم ] (4) بإظهار إيمانه وصرح لهم بما كان يكتمه والاول أظهر.
والله أعلم.
قال (أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله) أي من أجل أنه قال ربي الله فمثل هذا لا يقابل بهذا بل بالاكرام والاحترام والموادعة وترك الانتقام يعني لانه (قد جاءكم بالبينات من ربكم) أي بالخوارق التي دلت على صدقه، فيما جاء به عمن أرسله، فهذا إن وادعتموه كنتم في سلامة لانه (إن يك كاذبا فعليه كذبه) ولا يضركم ذلك (وإن يك صادقا) وقد تعرضتم له (يصبكم بعض الذي يعدكم) أي وأنتم تشفقون أن ينالكم أيسر جزاء مما يتوعدكم به فكيف بكم إن حل جميعه عليكم.
وهذا الكلام في هذا المقام من أعلى مقامات التلطف والاحتراز والعقل التام.
وقوله
__________
(1) اختلفوا في اسمه: قيل حبيب وقيل شمعان.
وقال الطبري: خبرك وقيل حزقيل.
والاكثر من العلماء على انه: قبطي ; ابن عم فرعون.
(2) والمراد به: الرجل الذي ذكر اسمه في قوله تعالى: (وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملا يأتمرون بك ليقتلوك).
وقد تقدم التعليق.
فليراجع.
(3) أخرجه أحمد في مسنده ج 3 / 19 عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وفيه علي بن زيد بن جدعان ; وفيه: كلمة حق بدل من كلمة عدل.
ورواه ابن ماجة، وأبو داود في سننه في كتاب الملاحم باب الامر والنهي.
والترمذي في 34 كتاب الفتن (13) باب ما جاء في أفضل الجهاد ح 2174 ولفظة: إن من أعظم الجهاد قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب.
(4) في بعض النسخ: كاشرهم وهو تحريف.

(يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الارض) [ غافر: 29 ] يحذرهم أن يسلبوا هذا الملك العزيز فإنه من تعرض الدول للدين إلا سلبوا ملكهم وذلوا بعد عزهم وكذا وقع لآل فرعون ما زالوا في شك وريب، ومخالفة ومعاندة لما جاءهم موسى به حتى أخرجهم الله مما كانوا فيه من الملك والاملاك والدور والقصور، والنعمة والحبور، ثم حولوا إلى البحر مهانين، ونقلت أرواحهم بعد العلو والرفعة إلى أسفل السافلين.
ولهذا قال هذا الرجل المؤمن المصدق، البار الراشد التابع للحق، الناصح لقومه الكامل العقل: (يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الارض) أي عالين على الناس حاكمين عليهم (فمن ينصرنا من بأس الله ان جاءنا) أي لو كنتم أضعاف ما أنتم فيه من العدد والعدة والقوة والشدة لما نفعنا ذلك ولا رد عنا بأس مالك الممالك.
(قال فرعون) أي في جواب هذا كله (ما أريكم إلا ما أرى) أي ما أقول لكم إلا ما عندي (وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) وكذب في كل من هذين القولين وهاتين المقدمتين فإنه قد كان يتحقق في باطنه وفي نفسه أن هذا الذي جاء به موسى من عند الله لا محالة وإنما كان يظهر خلافه بغيا وعدوانا وعتوا وكفرانا قال الله تعالى إخبارا عن موسى (لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والارض بصائر وإني لا أظنك يا فرعون مثبورا فأراد أن يستفزهم من الارض فأغرقناه ومن معه جميعا.
وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الارض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا) [ الاسراء: 102 - 104 ] وقال تعالى (فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين.
وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين) [ النمل: 13 - 14 ] وأما قوله (وما أهديكم إلا سبيل الرشاد).
فقد كذب أيضا فإنه لم يكن على رشاد من الامر بل كان على سفه وضلال وخبل وخيال فكان أولا ممن يعبد الاصنام والامثال.
ثم دعا قومه الجهلة الضلال إلى أن اتبعوه وطاوعوه (1) وصدقوه فيما زعم من الكفر المحال في دعواه أنه رب تعالى الله ذو الجلال.
قال الله تعالى (ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك
مصر.
وهذه الانهار تجري من تحتي أفلا تبصرون أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين فلولا ألقى عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين فاستخف قومه فأطاعوه أنهم كانوا قوما فاسقين.
فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين.
فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين) [ الزخرف: 51 - 56 ] وقال تعالى: (فأراه الآية الكبرى فكذب وعصى ثم أدبر يسعى فحشر فنادى فقال أنا ربكم الاعلى فأخذه الله نكال الآخرة والاولى.
إن في ذلك لعبرة لمن يخشى) [ النازعات: 20 - 26 ] وقال تعالى: (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين.
إلى فرعون وملائه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد يقدم قومه يوم القيمة فأوردهم النار وبئس الورد المورود.
وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيمة بئس الرفد المرفود) [ هود: 96 - 99 ].
__________
(1) في نسخة: وأطاعوه ; وفي أخرى: وطاعوه.

والمقصود بيان كذبه في قوله (ما أريكم إلا ما أرى) وفي قوله (وما أهديكم إلا سبيل الرشاد).
(وقال الذين آمن يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الاحزاب مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد.
ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد.
يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد.
ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب.
الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار) [ غافر: 30 - 35 ] يحذرهم ولي الله إن كذبوا برسول الله موسى أن يحل بهم ما حل بالامم من قبلهم من النقمات والمثلات مما تواتر عندهم وعند غيرهم ما حل بقوم نوح وعاد وثمود ومن بعدهم إلى زمانهم ذلك مما أقام به الحجج على أهل الارض قاطبة في صدق ما جاءت به الانبياء لما أنزل من النقمة بمكذبيهم من الاعداء وما أنجى (1) الله من اتبعهم من الاولياء وخوفهم يوم القيمة وهو يوم التناد أي حين ينادي الناس بعضهم بعضا حين يولون [ مدبرين ] (2) إن قدروا على ذلك ولا إلى ذلك سبيل (يقول الانسان
يومئذ أين المفر كلا لا وزر - إلى ربك يومئذ المستقر) [ القيامة: 10 - 12 ] وقال تعالى (يا معشر الجن والانس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والارض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان.
فبأي آلاء ربكما تكذبان يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران فبأي آلاء ربكما تكذبان) [ الرحمن: 33 - 36 ] وقرأ بعضهم (يوم التناد) بتشديد الدال، أي يوم الفرار.
ويحتمل أن يكون يوم القيامة، ويحتمل أن يكون يوم يحل الله بهم البأس، فيودون الفرار ولات حين مناص.
(فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون، لا تركضوا وارجعوا إلى ما اترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون) [ الانبياء: 12 - 13 ] ثم أخبرهم عن نبوة يوسف في بلاد مصر ما كان منه من الاحسان إلى الخلق في دنياهم وأخراهم وهذا من سلالته وذريته ويدعو الناس إلى توحيد الله وعبادته وأن لا يشركوا به أحدا من بريته وأخبر عن أهل الديار المصرية في ذلك الزمان أي من سجيتهم التكذيب بالحق ومخالفة الرسل ولهذا قال (فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا) [ غافر: 34 ] أي وكذبتم في هذا ولهذا قال (كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب.
الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم) [ غافر: 34 - 35 ] أي يريدون حجج الله وبراهينه ودلائل توحيده بلا حجة ولا دليل عندهم من الله فإن هذا أمر يمقته الله غاية المقت أي يبغض من تلبس به من الناس ومن اتصف به من الخلق (كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار) [ غافر: 35 ] قرئ بالاضافة وبالنعت وكلاهما
__________
(1) في نسخة: ونجى.
(2) سقطت من النسخ المطبوعة.

متلازم أي هكذا إذا خالفت القلوب الحق - ولا تخالفه إلا بلا برهان - فإن الله يطبع عليها، أي يختم عليها [ بما فيها ] (1).
(وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الاسباب أسباب السموات فاطلع إلى إله موسى وإني لاظنه كاذبا وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في
تباب) [ غافر: 36 - 37 ] كذب فرعون موسى عليه السلام في دعواه أن الله أرسله وزعم فرعون لقومه ما كذبه وافتراه في قوله لهم (ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي ياهامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لاظنه كاذبا) [ القصص: 33 ] وقال ههنا (لعلي أبلغ الاسباب أسباب السموات) أي طرقها ومسألكها (فاطلع إلى إله موسى وإني لاظنه كاذبا) ويحتمل هذا معنيين أحدهما وإني لاظنه كاذبا في قوله إن للعالم ربا غيري والثاني في دعواه أن الله أرسله.
والاول أشبه بظاهر حال فرعون فإنه كان ينكر ظاهر إثبات الصانع والثاني أقرب إلى اللفظ حيث قال (فاطلع إلى إله موسى) أي فاسأله هل أرسله أم لا (وإني لاظنه كاذبا) أي في دعواه ذلك.
وإنما كان مقصود فرعون أن يصد الناس عن تصديق موسى عليه السلام أن يحثهم على تكذيبه قال الله تعالى (وكذلك زين لفرعون سوء علمه وصد عن السبيل) [ غافر: 37 ] وقرئ (وصد عن السبيل ما كيد فرعون إلا في تباب) قال ابن عباس ومجاهد يقول إلا في خسار إي باطل لا يحصل له شئ من مقصوده الذي رامه فإنه لا سبيل للبشر أن يتوصلوا بقواهم إلى نيل السماء أبدا.
أعني السماء الدنيا فكيف بما بعدها من السموات العلى، وما فوق ذلك من الارتفاع، الذي لا يعلمه إلا الله عزوجل.
وذكر غير واحد من المفسرين أن هذا الصرح، وهو القصر الذي بناه وزيره هامان له، لم ير بناء أعلى منه وإن كان مبنيا من الآجر المشوي بالنار ولهذا قال (فأوقد لي ياهامان على الطين فاجعل لي صرحا) [ القصص: 38 ] وعند أهل الكتاب أن بني إسرائيل كانوا يسخرون في ضرب اللبن وكان مما حملوا من التكاليف الفرعونية أنهم لا يساعدون على شئ مما يحتاجون إليه فيه بل كانوا هم الذين يجمعون ترابه وتبنه وماءه، ويطلب منهم كل يوم قسط معين، إن لم يفعلوه وإلا (2) ضربوا وأهينوا غاية الاهانة وأوذوا غاية الاذية.
ولهذا قالوا لموسى (أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعدما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الارض فينظر كيف تعملون) فوعدهم بأن العاقبة لهم على القبط وكذلك وقع وهذا من دلائل النبوة.
ولنرجع إلى نصيحة المؤمن وموعظته واحتجاجه، قال الله تعالى (وقال الذي آمن يا قوم
__________
(1) سقطت من النسخ المطبوعة ; واستدركت من مطبوعة السعادة مصر.
(2) في نسخة: ضربوا وأهينوا - بدون إلا - وفي أخرى - ضربوهم وهانوهم.

اتبعوني أهدكم سبيل الرشاد يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب) [ غافر: 38 - 40 ] يدعوهم رضي الله عنه إلى طريق الرشاد والحق وهي متابعة نبي الله موسى وتصديق فيما جاء به من ربه، ثم زهدهم في الدنيا الدنية الفانية المنقضية لا محالة، ورغبهم في طلب الثواب عند الله الذي لا يضيع عمل عامل لديه.
القدير الذي ملكوت كل شئ بيديه، الذي يعطي على القليل كثيرا، ومن عدله لا يجازي على السيئة إلا مثلها.
وأخبرهم أن الآخرة هي دار القرار التي من وافاها - مؤمنا قد عمل الصالحات - فلهم الجنات (1) العاليات، والغرف (2) الآمنات، والخيرات الكثيرة الفائقات، والارزاق الدائمة التي لا تبيد.
والخير الذي كل ما لهم منه في مزيد.
ثم شرع في إبطال ما هم عليه وتخويفهم مما يصيرون إليه فقال (ويا قوم مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار تدعونني لاكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار.
لا جرم أن ما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد.
فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب.
النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) [ غافر: 41 - 46 ] كان يدعوهم إلى عبادة رب السموات والارض الذي يقول لشئ كن فيكون وهم يدعونه إلى عبادة فرعون الجاهل الضال الملعون، ولهذا قال لهم على سبيل الانكار (ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار تدعونني لاكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار) ثم بين لهم
بطلان ما هم عليه من عبادة ما سوى الله من الانداد والاوثان وأنها لا تملك من نفع ولا إضرار (3) فقال (لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار) أي لا تملك تصرفا ولا حكما في هذه الدار فكيف تملكه يوم القرار * وأما الله عزوجل فإنه الخالق الرازق للابرار والفجار وهو الذي أحيا العباد ويميتهم ويبعثهم فيدخل طائعهم الجنة وعاصيهم إلى النار.
ثم توعدهم إن هم استمروا على العناد بقوله (فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد) قال الله (فوقاه الله سيئات ما مكروا) أي بإنكاره سلم (4) مما أصابهم
__________
(1) في نسخة: الدرجات العاليات.
(2) في نسخة: والغرف والخيرات.
(3) في نسخة: لا تملك لا نفعا ولا ضرا.
(4) بعد تهديده ووعيده لهم، تأمروا عليه لقتله - أي لمؤمن آل فرعون - ففوض أمره لله.
قال مقاتل: فهرب إلى الجبل ولم يقدروا عليه، وقال قتادة: نجاه الله مع بني إسرائيل.

من العقوبة على كفرهم بالله ومكرهم في صدهم عن سبيل الله مما أظهروا للعامة من الخيالات والمحالات التي لبسوا (1) بها على عوامهم وطغامهم ولهذا قال (وحاق) أي أحاط (بآل فرعون سوء العذاب.
النار يعرضون عليها غدوا وعشيا) أي تعرض أرواحهم في برزخهم (2) صباحا ومساء على النار (ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) [ غافر: 45 - 46 ] وقد تكلمنا على دلالة هذه الآية على عذاب القبر في التفسير ولله الحمد.
والمقصود أن الله تعالى لم يهلكهم إلا بعد إقامة الحجج عليهم وإرسال الرسول إليهم وازاحة الشبه عنهم، وأخذ الحجة عليهم منهم، بالترهيب (3) تارة والترغيب أخرى كما قال تعالى.
(ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون.
فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون.
وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين.
فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين) [ الاعراف: 130 - 133 ].
يخبر تعالى أنه ابتلى آل فرعون وهم قومه من القبط بالسنين وهي أعوام الجدب التي لا يستغل فيها زرع ولا ينتفع بضرع وقوله (ونقص من الثمرات) وهي قلة الثمار من الاشجار (لعلهم يذكرون) أي فلم ينتفعوا ولم يرعوا بل تمردوا واستمروا على كفرهم وعنادهم (فإذا جاءتهم الحسنة) والخصب ونحوه (قالوا لنا هذه) أي هذا الذي نستحقه وهذا الذي يليق بنا (وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه) أي يقولون هذا بشؤمهم أصابنا هذا، ولا يقولون في الاول أنه ببركتهم وحسن مجاورتهم [ لهم ] (4) ولكن قلوبهم منكرة مستكبرة نافرة عن الحق إذا جاء الشر أسندوه إليه، وإن رأوا خيرا ادعوه لانفسهم.
قال الله تعالى (ألا إنما طائرهم عند الله) أي الله يجزيهم على هذا أوفر الجزاء (ولكن أكثرهم لا يعلمون) [ الاعراف: 132 ] (وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بهما فما نحن لك بمؤمنين) [ الاعراف: 133 ] أي مهما جئتنا به من الآيات - وهي الخوارق للعادات (5) فلسنا نؤمن بك ولا نتبعك ولا نطيعك ولو جئتنا لكل اية (6) وهكذا أخبر الله عنهم في قوله (إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا
__________
(1) في النسخ المطبوعة: ألبسوا.
(2) في نسخة: في البرزخ.
(3) في النسخ المطبوعة: فبالترغيب.
(4) سقطت من النسخ المطبوعة.
(5) في نسخة: وهي خوارق العادات (6) قال القرطبي في تفسيره: بقي موسى في القبط بعد إلقاء السحرة سجدا عشرين سنة يرميهم الآيات إلى أن أغرق الله فرعون: وعن نوف قال: أربعين سنة.

العذاب الاليم) [ يونس: 96 - 97 ] قال الله تعالى (فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين) [ الاعراف: 133 ] أما الطوفان فعن ابن عباس هو كثرة الامطار المتلفة للزروع والثمار.
وبه قال سعيد بن جبير وقتادة والسدي والضحاك * وعن ابن عباس وعطاء هو كثرة الموت * وقال مجاهد الطوفان الماء والطاعون على كل حال * وعن ابن عباس أمر طاف بهم * وقد روى ابن جرير وابن مردويه من طريق يحيى بن يمان، عن المنهال بن خليفة، عن الحجاج عن الحكم بن مينا، عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم [ أنه قال ] (1): " الطوفان الموت " (2) وهو غريب * وأما الجراد فمعروف * وقد روى أبو داود عن أبي عثمان عن سلمان الفارسي قال سئل رسول الله عن الجراد فقال: " أكثر جنود الله لا آكله ولا أحرمه " (3) وترك النبي صلى الله عليه وسلم أكله إنما هو على وجه التقذر له، كما ترك أكل الضب، وتنزه عن أكل البصل والثوم والكراث، لما ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن أبي أوفى قال غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد (4).
وقد تكلمنا على ما ورد فيه من الاحاديث والآثار في التفسير.
والمقصود أنه استاق خضراءهم فلم يترك لهم زرعا ولا ثمارا ولا سبدا ولا لبدا (5).
وأما القمل فعن ابن عباس: هو السوس الذي يخرج من الحنطة وعنه: أنه الجراد الصغار الذي لا أجنحة له.
وبه قال مجاهد وعكرمة وقتادة وقال سعيد بن جبير والحسن هو دواب سود صغار * وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم [ القمل ] (6) هي البراغيث * وحكى ابن جرير عن أهل العربية: أنها الحمنان (7) وهو صغار القردان - فوق القمقامة - فدخل معهم البيوت والفرش فلم يقر لهم قرار ولم يمكنهم معه الغمض ولا العيش.
وفسره عطاء بن السائب بهذا القمل المعروف.
وقرأها الحسن البصري كذلك بالتخفيف.
وأما الضفادع فمعروفة لبستهم حتى كانت
__________
(1) سقطت من النسخ المطبوعة.
(2) رواه السيوطي في الفتح الكبير 2 / 219.
(3) أخرجه أبو داود في سننه - في كتاب الاطعمة - باب في أكل الجراد.
ج 3813 ص ج 3 / 357 بيروت.
وفيه محمد بن الفرج البغدادي.
صدوق.
(4) أخرجه مسلم في 34 / 8 / 52 والبخاري في 72 / 13 وأبو داود في سننه باب في أكل الجراد ح 3812 وفيه: ست أو سبع غزوات نأكله معه.
(5) لا سبدا ولا لبدا: أي لا قليلا ولا كثيرا.
(6) سقطت من النسخ المطبوعة.
(7) الحمنان: جمع حمنانة فالقراد أول ما يكون - قمقامة ثم يصير حمنانة - ثم يصير قرادا ثم يصير حلمة.
قال والقمل واحدتها قملة وهي من جنس القردان، وهي أصغر منها، وهو يتخلق من عرق البعير ومن الوسخ والتلطخ بالثلوط والابوال كتاب الحيوان للجاحظ ج 5 / 438 وما بعدها.

تسقط في أطعماتهم وأوانيهم حتى إن أحدهم إذا فتح فمه (1) لطعام أو شراب سقطت في فيه ضفدعة من تلك الضفادع.
وأما الدم فكان قد مزج ماؤهم كله به فلا يستقون من النيل شيئا إلا وجدوه دما عبيطا ولا من نهر ولا بئر ولا شئ إلا كان دما في الساعة الراهنة.
هذا كله لم ينل بني إسرائيل من ذلك شئ بالكلية.
وهذا من تمام المعجزة الباهرة والحجة القاطعة أن هذا كله يحصل لهم من فعل موسى عليه السلام فينالهم عن آخرهم، ولا يحصل هذا لاحد من بني إسرائيل وفي هذا أدل دليل.
قال محمد بن اسحق فرجع عدو الله فرعون حين آمنت السحرة مغلوبا مفلولا ثم أبي إلا الاقامة على الكفر والتمادي في الشر وتابع الله عليه بالآيات: فأخذه بالسنين فأرسل عليه الطوفان، ثم الجراد، ثم القمل، ثم الضفادع، ثم الدم، آيات مفصلات (2) فأرسل الطوفان وهو الماء ففاض على وجه الارض ثم ركد.
لا يقدرون على أن يخرجوا ولا أن يعملوا شيئا حتى جهدوا جوعا فلما بلغهم ذلك (قالوا يا موسى أدع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل) [ الاعراف: 134 ] فدعا موسى ربه فكشفه (3) عنهم فلما لم يفوا له بشئ فأرسل الله عليهم الجراد فأكل الشجر فيما بلغني حتى أن كان ليأكل مسامير الابواب من الحديد حتى تقع دورهم ومساكنهم، فقالوا مثل ما قالوا فدعا ربه فكشف عنهم فلم
يفوا له بشئ مما قالوا فأرسل الله عليهم القمل.
فذكر لي أن موسى عليه السلام أمر أن يمشي إلى كثيب حتى يضربه بعصاه فمشى إلى كثيب أهيل عظيم فضربه بها فانثال عليهم قملا حتى غلب على البيوت والاطعمة ومنعهم النوم والقرار فلما جهدهم قالوا له مثل ما قالوا له فدعا ربه فكشف عنهم فلما لم يفوا له بشئ مما قالوا أرسل الله عليهم الضفادع فملات البيوت والاطعمة والآنية فلم يكشف أحد ثوبا ولا طعاما إلا وجد فيه الضفادع قد غلب عليه فلما جهدهم ذلك قالوا له مثل ما قالوا فدعا ربه فكشف عنهم فلم يفوا بشئ مما قالوا فأرسل الله عليهم الدم فصارت مياه آل فرعون دما لا يستقون من بئر ولا نهر يغترفون من إناء إلا عاد دما عبيطا وقال زيد بن أسلم المراد بالدم الرعاف رواه ابن أبي حاتم.
قال الله تعلى (ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى أدع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل.
فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون.
فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين) [ الاعراف: 134 - 136 ].
يخبر تعالى عن كفرهم وعتوهم واستمرارهم على الضلال والجهل والاستكبار عن إتباع
__________
(1) في نسخة: فاه.
(2) قال القرطبي: قال مفصلات لانه كان بين الآية والآية ثمانية أيام، وقيل: أربعون يوما.
وقيل: شهر.
(3) أي العذاب، وقال ابن جبير: كان العذاب بالطاعون.
والسياق يقتضي أن الرجز قد يكون ما تقدم من إظهار الآيات.

آيات الله وتصديق رسوله مع ما أيد به من الآيات العظيمة الباهرة والحجج البليغة القاهرة التي أراهم الله إياها عيانا وجعلها عليهم دليلا وبرهانا * وكلما شاهدوا آية وعاينوها وجهدهم وأضنكهم حلفوا وعاهدوا موسى لئن كشف عنهم هذه ليؤمنن به وليرسلن معه من هو من حزبه فكلما رفعت عنهم تلك الآية عادوا إلى شر مما كانوا عليه وأعرضوا عما جاءهم به من الحق ولم يلتفتوا إليه فيرسل الله عليهم آية أخرى هي أشد مما كانت قبلها وأقوى فيقولون فيكذبون.
ويعدون ولا يفون لئن
كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك، ولنرسلن معك بني إسرائيل فيكشف عنهم ذلك العذاب الوبيل.
ثم يعودون إلى جهلهم العريض الطويل هذا والعظيم الحليم القدير ينظرهم، ولا يعجل عليهم، ويؤخرهم ويتقدم بالوعيد إليهم * ثم أخذهم بعد إقامة الحجة عليهم والانذار إليهم أخذ عزيز مقتدر فجعلهم عبرة ونكالا وسلفا لمن أشبههم من الكافرين ومثلا لمن اتعظ بهم من عباده المؤمنين، كما قال تبارك وتعالى وهو أصدق القائلين في سورة حم والكتاب المبين (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملائه فقال إني رسول رب العالمين.
فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون.
وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون.
وقالوا يا أيها الساحر أدع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون.
فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون.
ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الانهار تجري من تحتي أفلا تبصرون.
أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين.
فلولا ألقى عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين.
فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين.
فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين) [ الزخرف: 46 - 56 ].
يذكر تعالى إرساله عبده الكليم الكريم، إلى فرعون الخسيس اللئيم وأنه تعالى أيد رسوله بآيات بينات واضحات، تستحق أن تقابل بالتعظيم والتصديق، وأن يرتدعوا عما هم فيه من الكفر، ويرجعوا إلى الحق والصراط المستقيم، فإذا هو منها يضحكون، وبها يستهزئون وعن سبيل الله يصدون، وعن الحق، [ ينصرفون ] (1) فأرسل الله عليهم الآيات تترى يتبع بعضها بعضا، وكل آية أكبر من التي تتلوها، لان التوكيد أبلغ مما قبله (وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون.
وقالوا يا أيها الساحر أدع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون) لم يكن لفظ الساحر في زمنهم نقصا ولا عيبا لان علماءهم في ذلك الوقت هم السحرة ولهذا خاطبوه به في حال احتياجهم إليه وضراعتهم لديه قال الله تعالى.
(فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون) ثم أخبر تعالى عن تبجح فرعون بملكه وعظمة بلده وحسنها وتخرق الانهار فيها * وهي الخلجانات التي يكسرونها أمام زيادة النيل ثم تبجح بنفسه وحليته وأخذ يتنقص رسول الله موسى عليه السلام ويزدريه بكونه
(لا يكاد يبين) يعني كلامه بسبب ما كان في لسانه من بقية تلك اللثغة التي هي شرف له وكمال
__________
(1) في النسخ المطبوعة: يصدون.

وجمال.
ولم تكن مانعة له أن كلمه الله تعالى وأوحى إليه، وأنزل بعد ذلك التوراة عليه، وتنقصه فرعون لعنه الله بكونه لا أساور في بدنه ولا زينة عليه، وإنما ذلك من حلية النساء، لا يليق بشهامة الرجال، فكيف بالرسل الذين هم أكمل عقلا وأتم معرفة وأعلى همة وأزهد في الدنيا وأعلم بما أعد الله لاوليائه في الاخرى وقوله (أو جاء معه الملائكة مقترنين) لا يحتاج الامر إلى ذلك إن كان المراد أن تعظمه الملائكة فالملائكة يعظمون ويتواضعون لمن هو دون موسى عليه السلام بكثير كما جاء في الحديث: " إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضي بما يصنع " (1) فكيف يكون تواضعهم وتعظيمهم لموسى الكليم عليه الصلاة والتسليم والتكريم * وإن كان المراد شهادتهم له بالرسالة فقد أيد من المعجزات بما يدل قطعا لذوي الالباب ولمن قصد إلى الحق والصواب ويعمى عما جاء به من البينات والحجج الواضحات من نظر إلى القشور وترك لب اللباب وطبع على قلبه رب الارباب وختم عليه بما فيه من الشك والارتياب كما هو حال فرعون القبطي العمى الكذاب قال الله تعالى (فاستخف قومه فأطاعوه) أي استخف عقولهم ودرجهم من حال إلى حال إلى أن صدقوه في دعواه الربوبية، لعنه الله وقبحهم (إنهم كانوا قوما فاسقين فلما أسفونا) أي أغضبونا (انتقمنا منهم) أي بالغرق والاهانة وسلب العز والتبدل بالذل وبالعذاب بعد النعمة والهوان بعد الرفاهية والنار بعد طيب العيش عياذا بالله العظيم وسلطانه القديم من ذلك (فجعلناهم سلفا) أي لمن اتبعهم في الصفات (ومثلا) أي لمن اتعظ بهم وخاف من وبيل مصرعهم ممن بلغه جلية خبرهم وما كان من أمرهم كما قال الله تعالى.
(فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في أبائنا الاولين.
وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون.
وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلى أطلع إلى آله موسى وإني لاظنه من الكاذبين واستكبر هو وجنوده في الارض
بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين.
وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيمة لا ينصرون وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيمة هم من المقبوحين) [ القصص: 36 - 42 ] يخبر تعالى أنهم لما استكبروا عن اتباع الحق وادعى ملكهم الباطل، ووافقوه عليه، وأطاعوه فيه، اشتد غضب الرب القدير العزيز الذي لا يغالب، ولا يمانع عليهم، فانتقم منهم أشد الانتقام، واغرقه هو وجنوده في صبيحة واحدة، فلم يفلت منهم أحد، ولم يبق منهم ديار، بل كل قد غرق فدخل النار وأتبعوا في هذه الدار لعنة بين العالمين ويوم القيامة بئس الرفد المرفود ويوم القيامة هم من المقبوحين.
__________
(1) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه والبيهقي.
عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الترمذي: لا يعرف إلا من حديث عاصم بن رجاء بن حيوة، وليس إسناده عندي بمتصل.
وقد روي عن الاوزاعي عن كثير بن يزيد بن سمرة عنه.
قال البخاري: وهذا أصح (الترغيب والترهيب للمنذري ج 1 / 94).

هلاك فرعون وجنوده لما تمادى قبط مصر على كفرهم وعتوهم وعنادهم، متابعة لملكهم فرعون، ومخالفة لنبي الله ورسوله وكليمه موسى بن عمران عليه السلام، وأقام الله على أهل مصر الحجج العظيمة القاهرة، وأراهم من خوارق العادات ما بهر الابصار وحير العقول، وهم مع ذلك لا يرعون ولا ينتهون ولا ينزعون ولا يرجعون، ولم يؤمن منهم إلا القليل.
قيل ثلاثة وهم إمرأة فرعون، ولا علم لاهل الكتاب بخبرها، ومؤمن آل فرعون، الذي تقدمت حكاية موعظته ومشورته وحجته عليهم، والرجل الناصح، الذي جاء يسعى من أقصى المدينة فقال: (يا موسى إن الملا يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين) قاله ابن عباس فيما رواه ابن أبي حاتم عنه ومراده غير السحرة فإنهم كانوا من القبط * وقيل بل آمن طائفة من القبط من قوم فرعون والسحرة كلهم وجميع شعب بني إسرائيل.
ويدل على هذا قوله تعالى (فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف
من فرعون وملائهم أن يفتنهم وإن فرعون لعال في الارض وإنه لمن المسرفين) [ يونس: 83 ] فالضمير في قوله (إلا ذرية من قومه) عائد على فرعون (1) لان السياق يدل عليه.
وقيل على موسى لقربه والاول أظهر كما هو مقرر في التفسير وإيمانهم كان خفية لمخافتهم من فرعون وسطوته وجبروته وسلطته ومن ملائهم أن ينموا عليهم إليه فيفتنهم عن دينهم قال الله تعالى مخبرا عن فرعون وكفى بالله شهيدا (وإن فرعون لعال في الارض) أي جبار عنيد مستعل بغير الحق (وإنه لمن المسرفين) (2) أي في جيمع أموره وشئونه وأحواله ولكنه جرثومة قد حان إنجعافها (3) وثمرة خبيثة قد آن قطافها ومهجة ملعونة قد حتم اتلافها.
وعند ذلك قال موسى (يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين.
فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين.
ونجنا برحمتك من القوم الكافرين) [ يونس: 84 - 86 ] يأمرهم بالتوكل على الله والاستمالة به والالتجاء إليه فأتمروا بذلك فجعل الله لهم مما كانوا فيه فرجا ومخرجا.
(وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين) [ يونس: 87 ] أوحى الله تعالى إلى موسى وأخيه هارون عليهما السلام أن يتخذوا لقومهما بيوتا متميزة فيما بينهم عن بيوت القبط ليكونوا على أهبة في الرحيل إذا أمروا به ليعرف بعضهم بيوت بعض وقوله (واجعلوا
__________
(1) قال القرطبي: عن ابن عباس: من قومه: يعني من قوم فرعون، منهم مؤمن آل فرعون وخازن فرعون وامرأته وماشطة ابنته وامرأة خازنه.
وقيل: هم أقوام أباؤهم من القبط وأمهاتهم من بني إسرائيل فسموا ذرية.
قال الفراء: وعلى هذا فالكفاية في قومه: ترجع إلى موسى للقرابة من جهة الامهات، وإلى فرعون إذا كانوا من القبط.
(2) قال القرطبي: أي المجاوزين الحد في الكفر، لانه كان عبدا فادعى الربوبية.
(3) انجعافها: استئصالها وإهلاكها.

بيوتكم قبلة) قيل مساجد، وقيل معناه كثرة الصلاة فيها، قاله مجاهد وأبو مالك وإبراهيم النخعي والربيع والضحاك وزيد بن أسلم وابنه عبد الرحمن وغيرهم.
ومعناه على هذا الاستعانة
على ما هم فيه من الضر والشدة والضيق بكثرة الصلاة كما قال تعالى (واستعينوا بالصبر والصلاة) [ البقرة: 45 ] وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى.
وقيل معناه أنهم لم يكونوا حينئذ يقدرون على إظهار عبادتهم في مجتمعاتهم ومعابدهم فأمروا أن يصلوا في بيوتهم عوضا عما فاتهم من إظهار شعار الدين الحق في ذلك الزمان الذي اقتضى حالهم اخفاءه خوفا من فرعون وملائه.
والمعنى الاول أقوى لقوله (وبشر المؤمنين) وإن كان لا ينافي الثاني أيضا والله أعلم.
وقال سعيد بن جبير (واجعلوا بيوتكم قبلة) أي متقابلة (وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملاه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الاليم.
قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون) [ يونس: 88 - 89 ] هذه دعوة عظيمة دعا بها كليم الله موسى على عدو الله فرعون غضبا عليه لتكبره عن اتباع الحق، وصده عن سبيل الله، ومعاندته وعتوه وتمرده واستمراره على الباطل، ومكابرته الحق الواضح الجلي الحسي والمعنوي والبرهان القطعي فقال (ربنا إنك آتيت فرعون وملاه) يعني قومه من القبط ومن كان على ملته ودان بدينه (زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك) أي وهذا يغتر به من يعظم أمر الدنيا، فيحسب الجاهل أنهم على شئ لكون هذه الاموال وهذه الزينة من اللباس والمراكب الحسنة الهنية، والدور الانيقة، والقصور المبنية، والمآكل الشهية، والمناظر البهية، والملك العزيز، والتمكين والجاه العريض في الدنيا لا الدين (ربنا اطمس على أموالهم) قال ابن عباس ومجاهد أي أهلكها [ حتى لا ترى ] (3) وقال أبو العالية والربيع بن أنس والضحاك اجعلها حجارة منقوشة كهيئة ما كانت، وقال قتادة: بلغنا أن زروعهم [ وأموالهم ] (1) صارت حجارة.
وقال محمد بن كعب: جعل سكرهم حجارة وقال أيضا صارت أموالهم كلها حجارة.
ذكر ذلك لعمر بن عبد العزيز فقال عمر ابن عبد العزيز لغلام له: قم ايتني بكيس، فجاءه بكيس (2) فإذا فيه حمص وبيض قد حول حجارة * رواه ابن أبي حاتم.
وقوله (واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الاليم) [ يونس: 88 ] قال ابن عباس: أي أطبع عليها (3)، وهذه دعوة غضب لله تعالى، ولدينه، ولبراهينه.
فاستجاب الله
تعالى لها وحققها وتقبلها، كما استجاب لنوح في قومه حيث قال (رب لا تذر على الارض من الكافرين ديارا.
إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا) [ نوح: 26 - 27 ]
__________
(1) ما بين معكوفين زيادة من القرطبي.
(2) في الطبري: بخريطة ; والخريطة: كيس.
(3) أطبع عليها حتى لا تنشرح للايمان، وبمعنى آخر أي أمنعهم الايمان.

ولهذا قال تعالى مخاطبا لموسى حين دعا على فرعون وملائه وأمن (1) أخوه هارون على دعائه فنزل ذلك منزلة الداعي أيضا (قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون) [ يونس: 89 ] قال المفسرون وغيرهم من أهل الكتاب استأذن بنو إسرائيل فرعون في الخروج إلى عيد لهم، فأذن لهم وهو كاره، ولكنهم تجهزوا للخروج، وتأهبوا له وإنما كان في نفس الامر، مكيدة بفرعون وجنوده ليتخلصوا منهم ويخرجوا عنهم وأمرهم الله تعالى فيما ذكره أهل الكتاب أن يستعيروا حليا منهم فأعاروهم شيئا كثيرا فخرجوا بليل فساروا مستمرين ذاهبين من فورهم طالبين بلاد الشام فلما علم بذهابهم فرعون حنق عليهم كل الحنق واشتد غضبه عليهم، وشرع في استحثاث جيشه، وجمع جنوده ليلحقهم ويمحقهم، قال الله تعالى (وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون.
فارسل فرعون في المدائن حاشرين إن هؤلاء لشرذمة قليلون.
وإنهم لنا لغائظون وإنا لجميع حاذرون فأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم كذلك وأورثناها بني اسرائيل فاتبعوهم مشرقين.
فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون.
قال كلا إن معي ربي سيهدين.
فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم.
وأزلفنا ثم الآخرين.
وأنجينا موسى ومن معه أجمعين.
ثم أغرقنا الآخرين.
إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين.
وإن ربك لهو العزيز الرحيم) [ الشعراء: 52 - 68 ] قال علماء التفسير: لما ركب فرعون في جنوده طالبا (2) بني إسرائيل يقفو أثرهم كان في جيش كثيف عرمرم حتى قيل كان في خيوله مائة ألف فحل (3) أدهم، وكانت عدة جنوده تزيد على ألف ألف
وستمائة ألف فالله أعلم.
وقيل إن بني إسرائيل كانوا نحوا من ستمائة ألف مقاتل غير الذرية وكان بين خروجهم من مصر صحبة موسى عليه السلام ودخولهم إليها صحبة أبيهم إسرائيل أربعمائة سنة وستا وعشرين سنة شمسية.
والمقصود أن فرعون لحقهم بالجنود فأدركهم عند شروق الشمس وتراءى الجمعان ولم يبق ثم ريب ولا لبس وعاين كل من الفريقين صاحبه وتحققه ورآه ولم يبق إلا المقاتلة والمجاولة (4) والمحاماة فعندها قال أصحاب موسى وهم خائفون إنا لمدركون وذلك لانهم اضطروا في طريقهم إلى البحر فليس لهم طريق ولا محيد إلا سلوكه وخوضه.
وهذا ما لا يستطيعه أحد ولا يقدر عليه والجبال عن يسرتهم وعن أيمانهم وهي شاهقة منيفة وفرعون قد غالقهم وواجههم وعاينوه في جنوده وجيوشه وعدده وعدده وهم منه في غاية الخوف والذعر لما قاسوا في سلطانه من الاهانة والمنكر فشكوا إلى نبي
__________
(1) كان الذي دعا موسى، وأمن هارون، والتأمين على الدعاء أن يقول: آمين، فقولك آمين دعاء أي رب استجب لي.
(2) في نسخة: في طلب بني إسرائيل.
(3) هنا: من الخيل، ولم يكن معه من الخيل أنثى بل ذكورها.
(4) وفي النسخ المطبوعة: المجادلة، وما أثبتناه مناسب للسياق.

الله ما هم فيه مما قد شاهدوه وعاينوه فقال لهم الرسول الصادق المصدوق (كلا إن معي ربي سيهدين) وكان في الساقة فتقدم إلى المقدمة ونظر إلى البحر وهو يتلاطم بأمواجه ويتزايد زبد أجاجه وهو يقول: ههنا أمرت ومعه أخوه هرون ويوشع بن نون، وهو يومئذ من سادات بني إسرائيل، وعلمائهم، وعبادهم الكبار، وقد أوحى الله إليه وجعله نبيا بعد موسى وهرون عليهما السلام، كما سنذكره فيما بعد إن شاء الله * ومعهم أيضا مؤمن آل فرعون وهم وقوف وبنو إسرائيل بكمالهم عليهم عكوف * ويقال إن مؤمن آل فرعون جعل يقتحم بفرسه مرارا في البحر هل يمكن سلوكه، فلا يمكن ويقول لموسى عليه السلام: يا نبي الله أههنا أمرت ؟ فيقول نعم.
فلما تفاقم
الامر، وضاق الحال، واشتد الامر، واقترب فرعون وجنوده في جدهم: وحدهم وحديدهم وغضبهم وحنقهم، وزاغت الابصار، وبلغت القلوب الحناجر، فعند ذلك أوحى الحليم العظيم القدير رب العرش الكريم إلى موسى الكليم (أن أضرب بعصاك البحر) فلما ضربه يقال إنه قال له: انفلق باذن الله، ويقال: إنه كناه بأبي خلد فالله أعلم، قال الله تعالى: (فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم) [ الشعراء: 63 ] ويقال: إنه انفلق اثنتي عشرة طريقا لكل سبط (1) طريق يسيرون فيه حتى قيل إنه صار أيضا شبابيك ليرى بعضهم بعضا، وفي هذا نظر، لان الماء جرم شفاف إذا كان من ورائه ضياء حكاه.
وهكذا كان ماء البحر قائما مثل الجبال مكفوفا بالقدرة العظيمة الصادرة من الذي يقول للشئ كن فيكون.
وأمر الله ريح الدبور (2) فلقحت حال (3) البحر فأذهبته حيت صار يابسا لا يعلق في سنابك الخيول والدواب.
قال الله تعالى (ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى.
فاتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم وأضل فرعون قومه وما هدى) [ طه: 77 - 79 ] والمقصود أنه لما آل أمر البحر إلى هذه الحال بإذن الرب العظيم، الشديد المحال، أمر موسى عليه السلام أن يجوزه ببني إسرائيل فانحدروا فيه مسرعين، مستبشرين مبادرين، وقد شاهدوا من الامر العظيم ما يحير الناظرين، ويهدي قلوب المؤمنين، فلما جاوزوه وجاوزه وخرج آخرهم منه، وانفصلوا عنه، كان ذلك عند قدوم أول جيش فرعون إليه ووفودهم عليه، فأراد موسى عليه السلام أن يضرب البحر بعصاه ليرجع كما كان عليه لئلا يكون لفرعون وجنوده وصول إليه.
ولا سبيل عليه فأمره القدير ذو الجلال أن يترك البحر على هذه الحال، كما قال وهو الصادق في المقال (ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم أن أدوا إلى عباد الله إني لكم رسول أمين.
وان لا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين.
واني عذت بربي وربكم أن ترجمون.
وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون.
فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون.
فأسر بعبادي
__________
(1) سبط: كان بنو إسرائيل اثني عشر سبطا.
والجمع أسباط.
(2) ريح الدبور: الريح الغربية.
(3) حال البحر: الطين الاسود الذي يكون في أرضه.

ليلا إنكم متبعون واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون.
كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين.
كذلك وأورثناها قوما آخرين.
فما بكت عليهم السماء والارض وما كانوا منظرين.
ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين.
من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين.
ولقد اخترناهم على علم على العالمين وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين) [ الدخان: 17 - 23 ] فقوله تعالى (وأترك البحر رهوا) أي ساكنا على هيئته لا تغيره عن هذه الصفة، قاله عبد الله بن عباس ومجاهد وعكرمة والربيع والضحاك وقتادة وكعب الاحبار وسماك بن حرب وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم * فلما تركه على هيئته وحالته وانتهى فرعون فرأى ما رأى وعاين ما عاين.
هاله هذا المنظر العظيم، وتحقق ما كان يتحققه قبل ذلك، من أن هذا من فعل رب العرش الكريم فأحجم (1) ولم يتقدم، وندم في نفسه على خروجه في طلبهم والحالة هذه، حيث لا ينفعه الندم لكنه أظهر لجنوده تجلدا (2) وعاملهم معاملة العدا، وحملته النفس الكافرة، والسجية الفاجرة، على أن قال لمن استخفهم فأطاعوه، وعلى باطله تابعوه، أنظروا كيف أنحسر البحر لي لادرك عبيدي الآبقين من يدي، الخارجين عن طاعتي، وبلدي، وجعل يوري في نفسه أن يذهب خلفهم، ويرجو أن ينجو، وهيهات ويقدم تارة ويحجم تارات.
فذكروا أن جبريل عليه السلام تبدى في صورة فارس راكب على رمكة (1) حايل فمر بين يدي فحل فرعون لعنه الله، فحمحم إليها، وأقبل عليها، وأسرع جبريل بين يديه، فاقتحم البحر واستبق الجواد وقد أجاد فبادر مسرعا ; هذا وفرعون لا يملك من نفسه ضرا ولا نفعا فلما رأته الجنود قد سلك البحر، اقتحموا وراءه مسرعين، فحصلوا في البحر أجمعين أكتعين أبصعين، حتى هم أولهم بالخروج منه، فعند ذلك أمر الله تعالى كليمه، فيما أوحاه إليه أن يضرب البحر بعصاه فضربه فارتطم عليهم البحر كما كان، فلم ينج منهم إنسان قال الله تعالى (وأنجينا موسى ومن معه أجمعين.
ثم أغرقنا الآخرين إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين.
وإن ربك لهو العزيز
الرحيم) [ يونس: 90 - 92 ] أي في انجائه أولياءه فلم يغرق منهم أحد، وإغراقه أعداءه، فلم يخلص منهم أحد، آية عظيمة، وبرهان قاطع، على قدرته - تعالى - العظيمة.
وصدق رسوله فيما جاء به عن ربه من الشريعة الكريمة، والمناهج المستقيمة، وقال تعالى (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فاتبعه فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين.
فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وأن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون) [ الشعراء: 65 - 68 ] يخبر تعالى عن كيفية غرق فرعون، زعيم كفرة القبط، وأنه لما جعلت الامواج تخفضه تارة، وترفعه أخرى،
__________
(1) في نسخة: فخاف.
(2) قوله تجلدا في نسخة الجلد.
(3) رمكة حايل: الفرس التي لم تلد.

وبنو إسرائيل ينظرون إليه، وإلى جنوده، ماذا احل الله به، وبهم من الباس العظيم، والخطب الجسيم، ليكون أقر لاعين بني إسرائيل، وأشفى لنفوسهم، فلما عاين فرعون الهلكة وأحيط به، وباشر سكرات الموت أناب حينئذ وتاب، وآمن حين لا ينفع نفسا إيمانها كما قال تعالى (إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الاليم) [ يونس: 96 - 97 ] وقال تعالى (فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين.
فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون) [ غافر: 84 - 85 ] وهكذا دعا موسى على فرعون وملئه أن يطمس على أموالهم ويشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا (حتى يروا العذاب الاليم) أي حين لا ينفعهم ذلك ويكون حسرة عليهم وقد قال تعالى لهما أي لموسى وهرون حين دعوا بهذا (قد أجيب دعوتكما) فهذا من إجابة الله تعالى دعوة كليمه وأخيه هرون عليهما السلام.
ومن ذلك الحديث الذي رواه الامام أحمد: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد (1) عن يوسف بن مهران، عن ابن
عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال فرعون (آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل) قال: " قال لي جبريل لو رأيتنني وقد أخذت من حال البحر فدسسته في فيه مخافة أن تناله الرحمة " ورواه الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم عند هذه الآية من حديث حماد بن سلمة وقال الترمذي حديث حسن.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة، عن عدي بن ثابت (2) وعطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قال لي جبريل لو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في فم فرعون مخافة أن تدركه (3) الرحمة ".
ورواه الترمذي وابن جرير من حديث شعبة وقال الترمذي حسن غريب صحيح.
وأشار ابن جرير في رواية إلى وقفه.
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الاشج، حدثنا أبو خالد الاحمر، عن عمر بن عبد الله بن يعلى الثقفي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما أغرق الله فرعون أشار بإصبعه ورفع صوته (آمنت انه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل) قال: فخاف جبريل أن تسبق رحمة الله فيه غضبه، فجعل يأخذ الحال بجناحيه، فيضرب به وجهه فيرمسه (4) * ورواه ابن جرير من حديث أبي خالد
__________
(1) وهو علي بن زيد بن عبد الله بن زهير بن عبد الله بن جدعان التيمي البصري الضرير.
ضعيف من الرابعة، ليس بالثبت سمع سعيد بن المسيب وجماعة.
قال الدارقطني: لا يزال عندي فيه لين مات سنة 131 تقريب التهذيب 2 / 37 / 342 الكاشف 2 / 248 والحديث أخرجه أحمد في مسنده ج 1 / 345.
(2) هو عدي بن ثابت الانصاري تابعي كوفي في نسبه اختلاف روى عن أبيه والبراء وابن أبي أوفى، ثقة قاضي الشيعة وإمام مسجدهم بالكوفة توفي سنة 116.
الكاشف 2 / 226 ; تقريب التهذيب 2 / 16 / 135 والحديث أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده 2 / 54 / 2307.
(3) في النسخ المطبوعة: أن تناله، وأثبتنا ما في مسند الطيالسي: أن تدركه.
(4) يرمسه: يدفنه ;

به.
وقد رواه ابن جرير من طريق كثير بن زاذان (1) وليس بمعروف، وعن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قال قال لي جبريل يا محمد لو رأيتني وأنا أغطه وأدس من الحال في فيه
مخافة أن تدركه رحمة الله يغفر له ".
يعني فرعون.
وقد أرسله غير واحد من السلف كإبراهيم التيمي، وقتادة، وميمون بن مهران، ويقال: إن الضحاك بن قيس خطب به الناس.
وفي بعض الروايات: إن جبريل قال: ما بغضت أحدا بغضي لفرعون حين قال: أنا ربكم الاعلى ولقد جعلت أدس في فيه الطين حين قال ما قال.
وقوله تعالى (الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين) إستفهام إنكار ونص على عدم قبوله تعالى منه ذلك لانه - والله أعلم: لو رد إلى الدنيا كما كان لعاد إلى ما كان عليه، كما أخبر تعالى عن الكفار إذا عاينوا النار وشاهدوها أنهم يقولون (يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين) [ الانعام: 27 ] قال الله (بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون) [ الانعام: 28 ] وقوله (فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلقك آية) [ يونس: 92 ] قال ابن عباس وغير واحد: شك بعض بني إسرائيل في موت فرعون حتى قال بعضهم: إنه لا يموت، فأمر الله البحر فرفعه على مرتفع.
قيل على وجه الماء وقيل على نجوة من الارض وعليه درعه التي يعرفونها من ملابسه ليتحققوا بذلك هلاكه ويعلموا قدرة الله عليه.
ولهذا قال (فاليوم ننجيك ببدنك) أي مصاحبا درعك المعروفة بك (لتكون) أي أنت آية (لمن خلفك) أي من بني إسرائيل (2) دليلا على قدرة الله الذي أهلكه.
ولهذا قرأ بعض السلف لتكون لمن خلقك آية.
ويحتمل أن يكون المارد ننجيك مصاحبا لتكون درعك علامة لمن وراءك من بني إسرائيل على معرفتك وإنك هلكت والله أعلم.
وقد كان هلاكه وجنوده في يوم عاشوراء، كما قال الامام البخاري في صحيحه: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة واليهود تصوم يوم عاشوراء.
فقالوا: هذا يوم ظهر فيه موسى على فرعون.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أنتم أحق بموسى منهم فصوموا " وأصل هذا الحديث في الصحيحين (3) وغيرهما.
والله أعلم.
__________
(1) كثير بن زاذان النخعي الكوفي، عن عاصم بن ضمرة وعنه عنبسة قاضي الري، لا يثبت حديثه أبو حاتم وأبو زرعة جهلاء.
الكاشف ج 3 / 4 تقريب التهذيب 2 / 131 / 9.
(2) زاد في القرطبي: ولمن بقي من قوم فرعون ممن لم يدركه الغرق ولم ينته إليه هذا الخبر.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه 65 / 10 / 2 / 4680 فتح الباري.
وأخرجه مسلم في صحيحه 13 / 19 / 127 وفيه: " نحن أولى بموسى منكم " فأمر بصومه.
وأخرجه ابن ماجة بنحوه: وفيه " نحن أحق بموسى منكم ".
فصامه، وأمر بصيامه.

[ فصل فيما كان من ] (1) أمر بني اسرائيل بعد هلاك فرعون قال الله تعالى: (فانتقمنا منهم فاغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين.
وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الارض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون.
وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم.
قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون.
إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون.
قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين.
وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم) [ الاعراف: 136 - 141 ] يذكر تعالى ما كان من أمر فرعون وجنوده في غرقهم وكيف سلبهم عزهم وما لهم وأنفسهم وأورث بني إسرائيل جميع أموالهم وأملاكهم كما قال (كذلك وأورثناها بني إسرائيل) [ الشعراء: 59 ] وقال (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين) وقال ههنا (وأرثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الارض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون) [ الاعراف: 137 ] أي أهلك ذلك جميعه وسلبهم عزهم العزيز العريض في الدنيا وهلك الملك وحاشيته وامراؤه وجنوده ولم يبق ببلد مصر سوى العامة والرعايا.
فذكر ابن عبد الحكم في تاريخ مصر أنه من ذلك الزمان تسلط نساء مصر على رجالها بسبب أن نساء الامراء والكبراء تزوجن بمن دونهن من العامة فكانت لهن السطوة عليهم واستمرت
هذه سنة نساء مصر إلى يومنا هذا (2).
وعند أهل الكتاب: أن بني إسرائيل لما أمروا بالخروج من مصر، جعل الله ذلك الشهر أول سنتهم، وأمروا أن يذبح كل أهل بيت حملا من الغنم، فإن كانوا لا يحتاجون إلى حمل فليشترك الجار وجاره فيه فإذا ذبحوه فلينضحوا من دمه على أعتاب أبوابهم ليكون علامة لهم على بيوتهم ولا يأكلونه مطبوخا ولكن مشويا برأسه وأكارعه وبطنه ولا يبقوا منه شيئا ولا يكثروا له عظما ولا يخرجوا منه شيئا إلى خارج بيوتهم، وليكن خبزهم فطيرا سبعة أيام، ابتداؤها من الرابع عشر من الشهر الاول من سنتهم، وكان ذلك في فصل الربيع، فإذا أكلوا فتكن أوساطهم مشدودة، وخفافهم في أرجلهم، وعصيهم في أيديهم، وليأكلوا بسرعة قياما.
ومهما فضل عن عشائهم فما بقي إلى الغد فليحرقوه بالنار، وشرع لهم هذا عيدا لاعقابهم ما دامت التوراة معمولا بها، فإذا نسخت بطل شرعها وقد وقع.
قالوا وقتل الله عزوجل في تلك الليلة أبكار القبط وأبكار دوابهم ليشتغلوا
__________
(1) ما بين معكوفين سقط من النسخ المطبوعة.
(2) في النسخ المطبوعة: يومك ; وما أثبتناه الصواب.

عنهم وخرج بنو إسرائيل حين انتصف النهار وأهل مصر في مناحة عظيمة على أبكار أولادهم، وأبكار أموالهم، ليس من بيت إلا وفيه عويل.
وحين جاء الوحي إلى موسى خرجوا مسرعين، فحملوا العجين قبل اختماره، وحملوا الازواد في الاردية، وألقوها على عواتقهم * وكانوا قد استعاروا من أهل مصر حليا كثيرا فخرجوا وهم ستمائة ألف رجل سوى الذراري بما معهم من الانعام وكانت مدة مقامهم بمصر أربعمائة سنة وثلاثين سنة.
هذا نص كتابهم.
وهذه السنة عندهم تسمى سنة الفسخ وهذا العيد عيد الفسخ.
ولهم عيد الفطير وعيد الحمل وهو أول السنة * وهذه الاعياد الثلاثة آكد أعيادهم منصوص عليها في كتابهم، ولما خرجوا من مصر أخرجوا معهم تابوت يوسف (1) عليه السلام وخرجوا على طريق بحر سوف.
وكانوا في النهار يسيرون والسحاب بين أيديهم يسير أمامهم فيه عامود نور وبالليل أمامهم عامود نار فانتهى بهم
الطريق إلى ساحل البحر فنزلوا هنالك وأدركهم فرعون وجنوده من المصريين وهم هناك حلول على شاطئ اليم فقلق كثير من بني إسرائيل حتى قال قائلهم: كان بقاؤنا بمصر أحب إلينا من الموت بهذه البرية.
وقال موسى عليه السلام لمن قال هذه المقالة: لا تخشوا فإن فرعون وجنوده لا يرجعون إلى بلدهم بعد هذا.
قالوا: وأمر الله موسى عليه السلام أن يضرب البحر بعصاه وأن يقسمه ليدخل بنو إسرائيل في البحر واليبس.
وصار الماء من ههنا وههنا كالجبلين وصار وسطه يبسا لان الله سلط عليه ريح الجنوب والسموم فجاز بنو إسرائيل البحر، واتبعهم فرعون وجنوده، فلما توسطوه أمر الله موسى فضرب البحر بعصاه، فرجع الماء كما كان عليهم.
لكن عند أهل الكتاب أن هذا كان في الليل وأن البحر ارتطم عليهم عند الصبح وهذا من غلطهم وعدم فهمهم في تعريبهم والله أعلم.
قالوا ولما أغرق الله فرعون وجنوده حينئذ سح موسى وبنو إسرائيل بهذا التسبيح للرب وقالوا: نسبح الرب البهي، الذي قهر الجنود، ونبذ فرسانها في البحر المنيع المحمود: وهو تسبيح طويل.
قالوا وأخذت مريم (2) النبية - أخت هارون - دفا بيدها وخرج النساء في أثرها كلهن بدفوف وطبول وجعلت مريم ترتل لهن، وتقول سبحان الرب القهار، الذي قهر الخيول وركبانها إلقاء في البحر.
هكذا رأيته في كتابهم.
ولعل هذا هو من الذي حمل محمد بن كعب القرظي على زعمه أن مريم بنت عمران أم عيسى هي أخت هرون وموسى مع قوله يا أخت هرون * وقد بينا غلطه في ذلك وأن هذا لا يمكن أن يقال ولم يتابعه أحد عليه بل كل واحد خالفه فيه، ولو قدر أن هذا محفوظ فهذه مريم بنت عمران أخت موسى وهرون عليها السلام وأم عيسى عليها السلام وافقتها في الاسم واسم الاب واسم الاخ لانهم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمغيرة بن شعبة لما سأله أهل نجران عن قوله يا أخت هرون فلم يدر ما يقول لهم، حتى سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) روى الطبري عن عروة بن الزبير عن أبيه أن الله أمر موسى أن يحتمل معه يوسف حتى يضعه بالارض، فاستخرج موسى تابوت يوسف - في ناحية من النيل - صندوقا من مرمر.
1 / 216.
(2) وهي مريم بنت عمران أخت موسى، وليست مريم بنت عمران أم عيسى عليهم السلام.

عن ذلك فقال: " أما علمت أنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم، رواه مسلم (1).
وقولهم النبية كما يقال للمرأة من بيت الملك ملكة ومن بيت الامرة أميرة وإن لم تكن مباشرة شيئا من ذلك فكذا هذه استعارة لها لا أنها نبية حقيقة يوحى إليها وضربها بالدف في مثل هذا اليوم الذي هو أعظم الاعياد عندهم، دليل على أنه قد كان شرع من قبلنا ضرب الدف في العيد * وهذا مشروع لنا أيضا في حق النساء لحديث الجاريتين اللتين كانتا عند عائشة يضربان بالدف في أيام منى ورسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجع مولى ظهره إليهم ووجهه إلى الحائط فلما دخل أبو بكر زجرهن (2)، وقال: أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " دعهن يا أبا بكر فإن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا ".
وهكذا يشرع عندنا في الاعراس، ولقدوم الغياب، كما هو مقرر في موضعه والله أعلم.
وذكروا أنهم لما جاوزوا البحر وذهبوا قاصدين إلى بلاد الشام مكثوا ثلاثة أيام لا يجدون ماء فتكلم من تكلم منهم بسبب ذلك فوجدوا ماء زعاقا أجاجا (3) لم يستطيعوا شربه فأمر الله موسى فأخذ خشبة فوضعها فيه فحلا وساغ شربه وعلمه الرب هنالك فرائض وسننا ووصاه وصايا كثيرة.
وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز المهيمن على ما عداه من الكتب (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فاتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا الها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون.
إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون) [ الاعراف: 138 ].
قالوا هذا الجهل والضلال وقد عاينوا من آيات الله وقدرته ما دلهم على صدق ما جاءهم به رسول ذي الجلال والاكرام، وذلك أنهم مروا على قوم (4) يعبدون أصناما قيل كانت على صور البقر فكأنهم سألوهم لم يعبدونها فزعموا لهم أنها تنفعهم وتضرهم ويسترزقون بها عند الضرورات فكأن بعض الجهال منهم صدقوهم في ذلك فسألوا نبيهم الكليم الكريم العظيم أن يجعل لهم آلهة كما لاولئك آلهة فقال لهم مبينا لهم أنهم لا يعقلون ولا يهتدون إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون.
ثم ذكرهم نعمة الله عليهم في تفضيله إياهم على عالمي زمانهم بالعلم والشرع والرسول الذي بين أظهرهم وما أحسن به إليهم وما امتن به عليهم من إنجائهم من قبضة فرعون الجبار العنيد وإهلاكه إياه وهم ينظرون وتوريثه إياهم ما كان فرعون وملاؤه يجمعونه من الاموال والسعادة، وما كانوا يعرشون (4)، وبين لهم أنه لا تصلح العبادة
إلا لله وحده لا شريك له، لانه الخالق الرازق القهار، وليس كل بني إسرائيل سأل هذا السؤال
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه 38 كتاب الآداب (1) باب النهي عن التكني بأبي القاسم 9 / 2135 ص 3 / 1685 وفيه: انهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم.
(2) زجرهن: صرخ بهن وصاح.
(3) زعاقا أجاجا: المر الغليظ، والمالح الذي لا يطاق شربه.
(4) قال قتادة: كانوا قوما من لخم ; وكانوا نزولا بالريف.
(5) يعرشون: قال الزجاج: عرش يعرش إذا بنى.
هنا: يرفعون من الابنية المشيدة في السماء كصرح هامان وفرعون.

بل هذا الضمير عائذ على الجنس في قوله (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة) [ الاعراف: 138 ] أي قال بعضهم (1) كما في قوله (وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعدا) [ الكهف: 47 - 48 ] فالذين زعموا هذا، بعض الناس، لا كلهم، وقد قال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن الزهري عن سنان بن أبي سنان الديلي، عن أبي واقد (2) الليثي قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حنين، فمررنا بسدرة فقلنا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما للكفار ذات أنواط وكان الكفار ينوطون (3) سلاحهم بسدرة، ويعكفون حولها فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: " الله أكبر هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة انكم تركبون سنن الذين من قبلكم " (4).
ورواه النسائي عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق به.
ورواه الترمذي عن سعيد بن عبد الرحمن المخزومي عن سفيان بن عيينة عن الزهري به.
ثم قال حسن صحيح.
وقد روى ابن جرير من حديث محمد بن اسحق ومعمر وعقيل عن الزهري عن سنان بن أبي سنان عن أبي واقد الليثي، أنهم خرجوا من مكة، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، قال وكان للكفار سدرة يعكفون عندها
ويعلقون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط (5) قال فمررنا بسدرة خضراء عظيمة قال: فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط قال: " قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى لموسى (اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون.
إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون ".
والمقصود أن موسى عليه السلام لما انفصل من بلاد مصر وواجه بلاد بيت المقدس وجد فيها قوما من الجبارين من الحيثانيين والفزاريين والكنعانيين وغيرهم فأمرهم موسى عليه السلام بالدخول عليهم ومقاتلتهم وإجلائهم إياهم عن بيت المقدس، فإن الله كتبه لهم، ووعدهم إياه على لسان إبراهيم الخليل، وموسى الكليم الجليل، فأبوا، ونكلوا عن الجهاد، فسلط الله عليهم
__________
(1) قال الرازي في تفسيره: قال بعضهم، لانه كان مع موسى عليه السلام السبعون المختارون وكان فيهم من يرتفع عن مثل هذا السؤال الباطل ; قال: والاقرب انهم طلبوا من موسى عليه السلام أن يعين لهم أصناما وتماثيل يتقربون بعبادتها إلى الله تعالى.
وقولهم كفر لان الانبياء اجمعوا على أن عبادة غير الله تعالى كفر سواء اعتقد في ذلك، الغير كونه إلها للعالم، أو اعتقدوا فيه أن عبادته تقربهم إلى الله تعالى.
(2) أبو واقد الليثي المدني صحابي قيل اسمه الحارث بن مالك وقيل ابن عوف وقيل عوف بن الحارث.
روى عنه أبناه وابن المسيب وعروة مات سنة 68 ه.
الكاشف ج 3 / 343 - تقريب التهذيب 2 / 2 / 486.
(3) ينوطون: يعلقون بها سلاحهم.
(4) مسند أحمد: ج 5 / 218 ورواه الترمذي في 34 / 18 / 2180.
(5) ذات انواط: أي ينوطون بها، يعلقون بها سلاحهم.

الخوف، وألقاهم في التيه، يسيرون ويحلون ويرتحلون ويذهبون ويجيئون، في مدة من السنين طويلة هي من العدد أربعون.
كما قال الله تعالى (وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين.
يا قوم ادخلوا الارض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين قالوا يا موسى إن فيها
قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فانا داخلون قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما أدخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فانكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين.
قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون.
قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين.
قال فانها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الارض فلا تأس على القوم الفاسقين) [ المائدة: 20 - 26 ] يذكرهم نبي الله نعمة الله عليهم، إحسانه عليهم بالنعم الدينية والدنيوية، ويأمرهم بالجهاد في سبيل الله، ومقاتلة أعدائه فقال (يا قوم ادخلوا الارض المقدسة (1) التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم) أي تنكصوا على أعقابكم وتنكلوا على قتال أعدائكم (فتنقلبوا خاسرين) أي فتخسروا بعد الربح وتنقصوا بعد الكمال (قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين) أي عتاة كفرة متمردين (وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا فانا داخلون) خافوا من هؤلاء الجبارين وقد عاينوا هلاك فرعون، وهو أجبر من هؤلاء وأشد بأسا وأكثر جمعا وأعظم جندا وهذا يدل على أنهم ملومون في هذه المقالة ومذومون على هذه الحالة من الذلة عن مصاولة الاعداء ومقاومة المردة الاشقياء.
وقد ذكر كثير من المفسرين ههنا آثارا فيها مجازفات كثيرة باطلة، يدل العقل والنقل على خلافها، من أنهم كانوا أشكالا هائلة ضخاما جدا حتى إنهم ذكروا أن رسل بني اسرائيل لما قدموا عليهم، تلقاهم رجل من رسل الجبارين، فجعل يأخذهم واحدا واحدا ويلفهم في أكمامه وحجزة سراويله، وهم إثنا عشر رجلا فجاء بهم، فنثرهم بين يدي ملك الجبارين، فقال: ما هؤلاء ؟ ولم يعرف أنهم من بني آدم حتى عرفوه وكل هذه هذيانات وخرافات لا حقيقية لها (2).
وأن الملك بعث معهم عنبا كل عنبة تكفي الرجل، وشيئا من ثمارهم ليعلموا ضخامة أشكالهم وهذا ليس بصحيح.
وذكروا ههنا أن عوج بن عنق خرج من عند الجبارين إلى بني إسرائيل ليهلكهم وكان طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلاثمائة ذراع وثلاثة وثلاثين ذراعا وثلث ذراع هكذا ذكره البغوي وغيره، وليس بصحيح، كما قدمنا بيانه عند قوله صلى الله عليه وسلم: " إن الله خلق آدم
__________
(1) تظاهرت الاخبار في الارض المقدسة ; قيل دمشق كانت قاعدة الجبارين ; والمقدسة: المطهرة قال قتادة: هي الشام وقال مجاهد: الطور وقال ابن زيد: اريحياء وقال الزجاج: دمشف وفلسطين وبعض الاردن.
(2) قال الالوسي: هذه الاخبار عندي كأخبار (عوج بن عوق) وهي حديث خرافة.

طوله ستون ذراعا، ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن ".
قالوا فعمد عوج إلى قمة جبل فاقتلعها ثم أخذها بيديه ليلقيها على جيش موسى فجاء طائر فنقر تلك الصخرة، فخرقها فصارت طوقا في عنق عوج بن عنق (1).
ثم عمد موسى إليه فوثب في الهواء عشرة أذرع وطوله عشرة أذرع وبيده عصاه، وطولها عشره أذرع، فوصل إلى كعب قدمه فقتله.
يروى هذا عن عوف البكالي ونقله ابن جرير عن ابن عباس وفي اسناده إليه نظر * ثم هو مع هذا كله من الاسرائيليات وكل هذه من وضع جهال بني اسرائيل، فإن الاخبار الكذبة قد كثرت عندهم ولا تميز لهم بين صحتها وباطلها.
ثم لو كان هذا صحيحا لكان بنو إسرائيل معذورين في النكول عن قتالهم، وقد ذمهم الله على نكولهم، وعاقبهم بالتيه على ترك جهادهم، ومخالفتهم رسولهم، وقد أشار عليهم رجلان صالحان، منهم بالاقدام ونهياهم عن الاحجام * ويقال إنهما يوشع بن نون وكالب بن يوقنا (2) قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة وعطية والسدي والربيع بن أنس وغير واحد (قال رجلان من الذين يخافون) أي يخافون الله وقرأ بعضهم يخافون أي يهابون (أنعم الله عليهما) أي بالاسلام والايمان والطاعة والشجاعة (ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فانكم غالبون.
وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين) أي إذا توكلتم على الله، واستعنتم به، ولجأتم إليه، نصركم على عدوكم، وأيدكم عليهم وأظفركم بهم.
(قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا انا ههنا قاعدون) فصمم ملاؤهم على النكول عن الجهاد، ووقع أمر عظيم ووهن كبير.
فيقال إن يوشع وكالب لما سمعا هذا الكلام شقا ثيابهما، وإن موسى وهرون سجدا إعظاما لهذا الكلام وغضبا لله عزوجل، وشفقة عليهم من وبيل هذه المقالة (قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين) [ المائدة: 35 ] قال ابن عباس (اقض
بيني وبينهم).
(قال فانها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الارض فلا تأس على القوم الفاسقين) [ المائدة: 30 ] عوقبوا على نكولهم بالتيهان (3) في الارض يسيرون إلى غير مقصد ليلا ونهارا وصباحا ومساء ويقال إنه لم يخرج أحد من التيه ممن دخله بل ماتوا كلهم في مدة أربعين سنة ولم يبق إلا ذراريهم سوى يوشع وكالب عليهما السلام.
لكن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يوم بدر لم يقولوا
__________
(1) عوج بن عنق هكذا في الاصول.
قال صاحب القاموس مادة (عوق): " وعوق كنوح والدعوج الطويل ومن قال: عوج بن عنق فقد أخطأ " وقال في شرحه: هذا الذي خطأه هو المشهور على الالسنة ; قال شيخنا: وزعم قوم من حفاظ التواريخ أن عنق هي أم عوج وعوج أباه فلا خطأ ولا غلط.
(2) كانا من النقباء الاثني عشر الذين أرسلهم موسى - من أسباط بني إسرائيل - إلى أريحياء من بلاد فلسطين يتجسسون الاخبار.
(3) التيهان: من التيه وأصل التيه في اللغة الحيرة فيها.
فكانوا سيارة لا قرار لهم يسيرون في فراسخ قليلة.

له كما قال قوم موسى لموسى، بل لما استشارهم في الذهاب إلى النفير تكلم الصديق فأحسن [ وتكلم غيره ] (1) من المهاجرين ثم جعل يقول: " أشيروا علي " حتى قال سعد بن معاذ: كأنك تعرض بنا يا رسول الله، فوالذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته، لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن يلقى بنا عدونا غدا إنا لصبر في الحرب صدق في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله.
فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد وبسطه ذلك.
وقال الامام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن مخارق بن عبد الله الاحمسي، عن طارق - وهو ابن شهاب - أن المقداد قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر: يا رسول الله إنا لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى (اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون) ولكن: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون (2) * وهذا إسناد جيد من هذا الوجه وله طرق أخرى.
قال أحمد: حدثنا أسود بن عامر، حدثنا إسرائيل، عن مخارق، عن طارق بن شهاب، قال: قال عبد الله بن مسعود: لقد شهدت من المقداد مشهدا لان أكون أنا صاحبه أحب إلي مما عدل به أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهو يدعو على المشركين فقال (3): والله يا رسول الله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون) ولكنا نقاتل عن يمينك، وعن يسارك ومن بين يديك ومن خلفك.
فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم: يشرق لذلك وسر بذلك، رواه البخاري في التفسير والمغازي من طرق عن مخارق به (4).
وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه: حدثنا علي بن الحسن بن علي، حدثنا أبو حاتم الرازي، حدثنا محمد بن عبد الله الانصاري، حدثنا حميد، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سار إلى بدر استشار المسلمين فأشار عليه عمر، ثم أستشارهم فقالت الانصار: يا معشر الانصار (5) إياكم يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: إذا لا نقول له كما قال بنو إسرائيل لموسى (إذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون) والذي بعثك بالحق إن ضربت أكبادها (6) إلى برك الغماد (7) لاتبعناك رواه الامام أحمد عن عبيدة بن حميد، عن حميد
__________
(1) في النسخ المطبوعة وغيره بحذف تكلم وما أثبتناه الصواب.
(2) مسند أحمد ج 4 / 314.
(3) في النسخ المطبوعة: قال.
(4) أخرجه البخاري في 64 كتاب المغازي (4) باب فتح الباري 7 / 287 وأعاد في التفسير مرتين: مرة عن أبي نعيم ومرة عن حمدان بن عمر (تفسير سورة المائدة).
وأخرجه أحمد في مسنده ج 1 / 390، 428 - 4 / 184، 314).
(5) قال العلماء: إنما قصد صلى الله عليه وسلم اختيار الانصار، لانه لم يكن بايعهم على أن يخرجوا معه للقتال وطلب العدو، وإنما بايعهم على أن يمنعوه ممن يقصده، فلما عرض الخروج لعير أبى سفيان أراد أن يعلم انهم يوافقون على ذلك.
فأجابوه أحسن جواب.
(6) كناية عن ركضها، فالفارس يركض بركوبه بتحريك رجليه على جانبيه ويضرب على موضع كبده.
(7) برك الغماد: موضع بناحية الساحل من وراء مكة، وقيل موضع بأقاصي حجر.

الطويل، عن أنس به ورواه النسائي عن محمد بن المثنى عن خالد بن الحارث عن حميد، عن أنس به نحوه، وأخرجه ابن حبان في صحيحه عن أبي يعلى عن عبد الاعلى بن حماد عن معتمر عن حميد، عن أنس به نحوه (1).
[ فصل في ] (2) دخول بني اسرائيل التيه وما [ جرى لهم ] (2) فيه من الامور العجيبة قد ذكرنا نكول بني اسرائيل عن قتال الجبارين، وأن الله تعالى عاقبهم بالتيه، وحكم بأنهم لا يخرجون منه إلى أربعين سنة، ولم أر في كتاب أهل الكتاب قصة نكولهم عن قتال الجبارين، ولكن فيها: أن يوشع جهزه موسى لقتال طائفة من الكفار، وأن موسى وهرون وخور جلسوا على رأس أكمة، ورفع موسى عصاه، فكلما رفعها انتصر يوشع عليهم، وكلما مالت يده بها من تعب أو نحوه غلبهم أولئك وجعل هرون وخور يدعمان يديه عن يمينه وشماله ذلك اليوم إلى غروب الشمس، فانتصر حزب يوشع عليه السلام.
وعندهم أن " يثرون " كاهن مدين وختن موسى عليه السلام بلغه ما كان من أمر موسى وكيف أظفره الله بعدوه فرعون، فقدم على موسى مسلما ومعه ابنته صفورا زوجة موسى وابناها منه، جرشون وعازر فتلقاه موسى وأكرمه، واجتمع به شيوخ بني اسرائيل وعظموه وأجلوه.
وذكروا أنه رأى كثرة اجتمع بني اسرائيل على موسى في الخصومات التي تقع بينهم، فأشار على موسى أن يجعل على الناس رجالا أمناء أتقياء أعفاء، يبغضون الرشاء والخيانة، فيجعلهم على الناس رؤس مئين، ورؤس خمسين، ورؤس عشرة، فيقضوا بين الناس، فإذا أشكل عليهم أمر جاؤك ففصلت بينهم ما أشكل عليهم، ففعل ذلك موسى عليه السلام.
قالوا ودخل بنو اسرائيل البرية عند سيناء في الشهر الثالث من خروجهم من مصر وكان خروجهم في أول السنة التي شرعت لهم وهي أول فصل الربيع فكأنهم دخلوا التيه في أول فصل الصيف والله أعلم.
قالوا ونزل بنو اسرائيل حول طور سيناء وصعد موسى الجبل فكلمه ربه وأمره أن يذكر بني إسرائيل ما أنعم الله به عليهم من إنجائه إياهم من فرعون وقومه، وكيف حملهم على مثل جناحي نسر من يده، وقبضته، وأمره أن يأمر بني اسرائيل بأن يتطهروا،
ويغتسلوا ويغسلوا ثيابهم، وليستعدوا إلى اليوم الثالث، فإذا كان في اليوم الثالث، فليجتمعوا حول الجبل، ولا يقتربن أحد منهم إليه، فمن دنا منه قتل حتى ولا شئ من البهائم، ما داموا يسمعون صوت القرن (3)، فإذا سكن القرن، فقد حل لكم أن ترتقوه فسمع بنو إسرائيل ذلك
__________
(1) وأخرجه مسلم بنحوه في 32 كتاب الجهاد والسير 30 باب غزوة بدر ح 83 / 1403 - 1404 وأخرجه البيهقي في الدلائل بنحوه ج 3 / 47.
(2) سقطت من النسخ المطبوعة.
(3) القرن البوق.

وأطاعوا واغتسلوا وتنظفوا وتطيبوا، فلما كان اليوم الثالث ركب (1) الجبل غمامة عظيمة وفيها أصوات وبروق وصوت الصور شديد جدا ففزع بنو إسرائيل من ذلك فزعا شديدا، وخرجوا فقاموا في سفح الجبل، وغشي الجبل دخان عظيم، في وسطه عمود [ من ] (2) نور، وتزلزل الجبل كله، زلزلة شديدة واستمر صوت الصور وهو البوق واشتد وموسى عليه السلام فوق الجبل والله يكلمه ويناجيه، وأمر الرب عزوجل موسى أن ينزل، فأمر بني اسرائيل أن يقتربوا من الجبل ليسمعوا وصية الله ويأمر الاحبار - وهم علمائهم - أن يدنوا فيصعدوا الجبل ليتقدموا بالقرب وهذا نص في كتابهم على وقوع النسخ لا محالة فقال موسى: يا رب إنهم لا يستطيعون أن يصعدوه، وقد نهيتهم عن ذلك، فأمره الله تعالى أن يذهب، فيأتي معه بأخيه هرون وليكن الكهنة - وهم العلماء - والشعب - وهم بقية بني إسرائيل غير بعيد - ففعل موسى وكلمه ربه عزوجل فأمره حينئذ بالعشر كلمات.
وعندهم أن بني إسرائيل سمعوا كلام الله ولكن لم يفهموا حتى فهمهم موسى وجعلوا يقولون لموسى بلغنا أنت عن الرب عزوجل فإنا نخاف أن نموت، فبلغهم عنه، فقال: هذه العشر الكلمات: وهي الامر بعبادة الله وحده لا شريك له، والنهي عن الحلف بالله كاذبا، والامر بالمحافظة على السبت، ومعناه تفرغ يوم من الاسبوع للعبادة * وهذا حاصل بيوم الجمعة الذي
نسخ الله به السبت.
أكرم أباك وأمك ليطول عمرك في الارض، الذي يعطيك الله ربك، لا تقتل.
لا تزن.
لا تسرق.
لا تشهد على صاحبك شهادة زور، لا تمد عينك إلى بيت صاحبك، ولا تشته إمرأة صاحبك ولا عبده ولا أمته ولا ثوره ولا حماره ولا شيئا من الذي لصاحبك.
ومعناه النهي عن الحسد.
وقد قال كثير من علماء السلف وغيرهم مضمون هذه العشر الكلمات في آيتين من القرآن وهما قوله تعالى في سورة الانعام (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده.
وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون.
وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه الآية) [ الانعام: 151 - 153 ] وذكروا بعد العشر الكلمات وصايا كثيرة، وأحكاما متفرقة عزيزة، كانت فزالت، وعمل بها حينا من الدهر * ثم طرأ عليها عصيان من المكلفين بها ثم عمدوا إليها فبدلوها وحرفوها، وأولوها.
ثم بعد ذلك كله سلبوها فصارت منسوخة مبدلة، بعد ما كانت مشروعة مكملة، فلله الامر من قبل ومن بعد،
__________
(1) في نسخة: ركبت الجبل.
(2) سقطت من النسخ المطبوعة.
وفي نسخة عمود نار.

وهو الذي يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد، ألا له الخلق والامر، تبارك الله رب العالمين.
وقد قال الله تعالى (يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الايمن ونزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى.
وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى) [ طه: 80 - 82 ] بذكر تعالى منته وإحسانه إلى بني إسرائيل، بما أنجاهم من أعدائهم وخلصهم من الضيق والحرج وأنه وعدهم صحبة نبيهم إلى جانب الطور الايمن، أي منهم لينزل عليه أحكاما
عظيمة (1) فيها مصلحة لهم، في دنياهم وأخراهم وأنه تعالى أنزل عليهم في حال شدتهم (3) وضرورتهم في سفرهم في الارض.
التي ليس فيها زرع ولا ضرع، منا من السماء، يصبحون فيجدونه خلال بيوتهم، فيأخذون منه قدر حاجتهم في ذلك اليوم إلى مثله من الغد، ومن ادخر منه لاكثر من ذلك فسد.
ومن أخذ منه قليلا.
كفاه، أو كثيرا لم يفضل عنه، فيصنعون منه مثل الخبز، وهو في غاية البياض والحلاوة فإذا كان من آخر النهار غشيهم طير السلوى فيقتنصون منه بلا كلفة ما يحتاجون إليه حسب كفايتهم لعشاهم * وإذا كان فصل الصيف ظلل الله عليهم الغمام وهو السحاب الذي يستر عنهم حر الشمس وضوأها الباهر.
كما قال تعالى في سورة البقرة (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون.
وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون) [ البقرة: 40 - 41 ] إلى أن قال (وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم.
بلاء من ربكم عظيم.
وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون.
وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون.
ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون.
واذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون.
وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم.
واذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون.
ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون.
وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) [ البقرة: 49 - 57 ] إلى أن قال (وإذ إستسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه إثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الارض مفسدين.
وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الارض من بقلها وقثائها وفومها
__________
(1) أي التوراة ; وكان موسى قد خرج إلى الطور - طور سيناء - في سبعين من خيار بني إسرائيل وصعدوا الجبل.
(2) أي خلال وقوعهم في التيه ثم رحمهم فمن عليهم بالسلوى.

وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) [ البقرة: 60 - 61 ] فذكر تعالى إنعامه عليهم وإحسانه إليهم بما يسر لهم من المن والسلوى طعامين شهيين بلا كلفة ولا سعي لهم فيه بل ينزل الله المن باكرا (1) ويرسل عليهم طير السلوى عشيا وأنبع الماء لهم بضرب موسى عليه السلام حجرا كانوا يحملونه معهم بالعصا فتفجر منه اثنتا عشرة عينا لكل سبط عين منه تنبجس * ثم تتفجر ماءا زلالا فيستقون ويسقون دوابهم ويدخرون كفايتهم.
وظلل عليهم الغمام من الحر * وهذه نعم من الله عظيمة وعطيات جسيمة فما رعوها حق رعايتها ولا قاموا بشكرها وحق عبادتها ثم ضجر كثير [ منهم ] (2) منها وتبرموا بها وسألوا أن يستبدلوا منها ببدلها مما تنبت الارض من بقلها وقثائها وفومها (3) وعدسها وبصلها.
فقرعهم الكليم ووبخهم وأنبهم على هذه المقالة وعنفهم قائلا (أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فان لكم ما سألتم) [ البقرة: 61 ] أي هذا الذي تطلبونه وتريدونه بدل هذه النعم التي أنتم فيها حاصل لاهل الامصار الصغار والكبار موجود بها وإذا هبطتم إليها أي ونزلتم عن هذه المرتبة التي لا تصلحون لمنصبها تجدوا بها ما تشتهون وما ترومون مما ذكرتم من المآكل الدنية والاغذية الردية (4) ولكني لست أجيبكم إلى سؤال ذلك ههنا ولا أبلغكم ما تعنتم به من المنى وكل هذه الصفات المذكورة عنهم الصادرة منهم تدل على أنهم لم ينتهوا عما نهوا عنه كما قال تعالى (ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد
__________
(1) قال القرطبي: المن: هو الترنجبين: (وهو طلل يقع من السماء وهو ندى شبيه بالعسل جامد متحبب قاله ابن البيطار) وقيل صمغة حلوة وقيل عسل.
وروي انه كان ينزل عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.
كالثلج.
فيأخذ الرجل ما يكفيه ليومه، فإن ادخر منه شيئا فسد عليه، إلا في يوم الجمعة، فانهم كانوا يدخرون ليوم السبت فلا يفسد عليهم لان يوم السبت يوم عبادة، وما كان ينزل عليهم يوم السبت شئ.
(2) سقطت من النسخ المطبوعة.
(3) فوم: اختلف في الفوم فقيل هو الثوم: وقيل: الفوم الحنطة وقال ابن دريد: السنبلة وقال عطاء وقتادة: الفوم كل حب يختبز.
(4) قال القرطبي في تعليله فضل المن والسلوى على الاشياء التي طلبوها.
قال وجوه خمسة توجب فضلهما: 1 - إن البقول لما كانت لا خطر لها بالنسبة إلى المن والسلوى كانا أفضل ; قاله الزجاج.
2 - لما كان المن والسلوى طعاما من الله به عليهم وأمرهم بأكله وكان في استدامة أمر الله وشكر نعمته أجر وذخر في الآخرة، والذي طلبوه عار من هذه الخصال، كان أدنى في هذا الوجه.
3 - لما كان الله ما من به عليهم أطيب وألذ من الذي سألوه، كان ما سألوه أذنى من هذا الوجه لا محالة.
4 - لما كان ما أعطوه لا كلفة فيه ولا تعب، والذي طلبوه لا يجئ إلا بالحرث والزراعة والتعب، كان أدنى.
5 - لما كان ما ينزل عليهم لا مرية في حله وخلوصه لنزوله من عند الله، والحبوب والارض يتخللها البيوع والغصب وتدخلها الشبه، كانت أدنى من هذا الوجه.

هوى) [ طه: 81.
أي فقد هلك وحق له والله الهلاك والدمار وقد حل عليه غضب الملك الجبار ولكنه تعالى مزج هذا الوعيد الشديد بالرجاء لمن أناب وتاب (1) ولم يستمر على متابعة الشيطان المريد فقال (وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى) [ طه: 82 ].
سؤال الرؤية قال تعالى (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لاخيه هرون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين.
ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن أنظر إلى الجبل فان استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا.
فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين.
قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين.
وكتبنا له في الالواح من كل شئ موعظة وتفصيلا لكل شئ فخذها بقوة وأمر قومك
يأخذونها بأحسنها سأريكم دار الفاسقين سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الارض بغير الحق.
وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا.
ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين.
والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا يعملون) [ الاعراف: 142 - 147 ].
قال جماعة من السلف منهم ابن عباس ومسروق ومجاهد: الثلاثون ليلة هي شهر ذي القعدة بكماله، وأتمت أربعين ليلة بعشر ذي الحجة.
فعلى هذا يكون كلام الله له يوم عيد النحر، وفي مثله أكمل الله عزوجل لمحمد صلى الله عليه وسلم دينه وأقام حجته وبراهينه.
والمقصود أن موسى عليه السلام لما استكمل الميقات.
وكان فيه صائما يقال إنه لم يستطعم الطعام، فلما كمل الشهر أخذ لحا (2) شجرة فمضغه ليطيب ريح فمه، فأمر الله أن يمسك عشرا أخرى، فصارت أربعين ليلة.
ولهذا ثبت في الحديث: " أن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك " (3).
فلما عزم على الذهاب استخلف على شعب بني إسرائيل أخاه هرون، المحبب المبجل الجليل، وهو ابن أمه وأبيه، ووزيره في الدعوة إلى مصطفيه، فوصاه، وأمره وليس في هذا لعلو منزلته في نبوته منافاة، قال الله تعالى (ولما جاء موسى لميقاتنا) أي في الوقت الذي أمر بالمجئ فيه (وكلمه ربه) أي كلمه الله من وراء حجاب، إلا أنه أسمعه الخطاب، فناداه وناجاه، وقربه وأدناه، وهذا مقام رفيع ومعقل منيع، ومنصب شريف ومنزل منيف، فصلوات الله عليه تترى، وسلامه عليه في الدنيا
__________
(1) أي تاب من الشرك.
وأقام على إيمانه حتى مات عليه دون شك فيه.
(2) قال القرطبي: بعود خرنوب.
(3) أخرجه البخاري في كتاب الصوم (9) باب: هل يقول إني صائم (ج 2 / 228 دار الفكر) من طريق ابن جريج عن عطاء عن أبي صالح الزيات عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ولفظه: لخلوف فم الصائم..

والاخرى * ولما أعطى هذه المنزلة العلية والمرتبة السنية، وسمع الخطاب، سأل رفع الحجاب، فقال للعظيم الذي لا تدركه الابصار القوي البرهان: (ربي ارني أنظر إليك قال لن تراني).
ثم
بين تعالى أنه لا يستطيع أن يثبت عند تجليه تبارك وتعالى لان الجبل الذي هو أقوى وأكبر ذاتا وأشد ثباتا من الانسان، لا يثبت عند التجلي من الرحمان ولهذا قال (ولكن أنظر إلى الجبل فان استقر مكانه فسوف تراني).
وفي الكتب المتقدمة أن الله تعالى قال له: يا موسى إنه لا يراني حي إلا مات ولا يابس إلا تدهده (1) وفي الصحيحين (2) عن أبي موسى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " حجابه النور.
وفي رواية النار (3) لو كشفه لاحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه " (4).
وقال ابن عباس في قوله تعالى (لا تدركه الابصار) ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى لشئ لا يقوم له شئ ولهذا قال تعالى (فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين).
قال مجاهد (ولكن أنظر إلى الجبل فان استقر مكانه فسوف تراني) فإنه أكبر منك وأشد خلقا فلما تجلى ربه للجبل فنظر إلى الجبل لا يتمالك وأقبل الجبل فدك على أوله ورأى موسى ما يصنع الجبل فخر صعقا * وقد ذكرنا في التفسير ما رواه الامام أحمد والترمذي وصححه ابن جرير والحاكم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت.
زاد ابن جرير وليث عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: (فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا) قال هكذا بإصبعه ووضع للنبي صلى الله عليه وسلم الابهام على المفصل الاعلى من الخنصر، فساخ الجبل لفظ ابن جرير.
وقال السدي عن عكرمة وعن ابن عباس ما تجلى يعني من العظمة إلا قدر الخنصر، فجعل الجبل دكا قال ترابا (وخر موسى صعقا) أي مغشيا عليه وقال قتادة ميتا.
والصحيح الاول لقوله (فلما أفاق) فإن الافاقة إنما تكون عن غشى قال (سبحانك) تنزيه وتعظيم وإجلال أن يراه بعظمته أحد (تبت إليك) أي فلست أسأل بعد هذا الرؤية (وأنا أول المؤمنين) أنه لا يراك حي إلا مات ولا يابس إلا
__________
(1) تدهده: خسف به وتدحرج.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه 1 / 79 / 293 ورواه أحمد في مسنده 4 / 401 - 405 وابن ماجة في سننه المقدمة 13 / 195.
(3) وهي رواية أبي بكر - انظر المرجع السابق.
(4) السبحات جمع سبحة.
قال صاحب العين والهروي معنى سبحات وجهه: نوره وجلاله وبهاؤه.
والحجاب: المنع والستر.
وحقيقة الحجاب إنما تكون للاجسام المحدودة، والله تعالى منزه عن الحد والجسم، والمراد هنا المانع من رؤيته، ولذلك سمي المانع نورا أو نارا لانهما يمنعان من الادراك في العادة لشعاعهما.
والوجه - هنا - الذات.
(5) البخاري في 44 كتاب الخصومات 1 باب ما يذكر في الاشخاص..ومسلم في 43 كتاب الفضائل (ح 163) ص 4 / 1845.
ورواه أحمد في مسنده من طريق أبي هريرة.
ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجة والبيهقي في الدلائل ج 5 / 493.

تدهده.
وقد ثبت في الصحيحين من طريق عمرو بن يحيى بن عمارة بن أبي حسن المازني الانصاري عن أبيه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تخيروني من بين الانبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أفاق قبلي أو جوزي بصعقة الطور " لفظ البخاري وفي أوله قصة اليهودي الذي لطم وجهه الانصاري حين قال لا والذي اصطفى موسى على البشر فقال رسول الله: " لا تخيروني من بين الانبياء " (1).
وفي الصحيحين من طريق الزهري عن أبي سلمة وعبد الرحمن الاعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه وفيه: " لا تخيروني على موسى " (2) وذكر تمامه.
وهذا من باب الهضم والتواضع أو نهي عن التفصيل بين الانبياء على وجه الغضب والعصبية أو ليس هذا إليكم بل الله هو الذي رفع بعضهم فوق بعض درجات وليس ينال هذا بمجرد الرأي بل بالتوقيف.
ومن قال: إن هذا قاله قبل أن يعلم أنه أفضل ثم نسخ باطلاعه على أفضليته عليهم كلهم ففي قوله نظر، لان هذا من رواية أبي سعيد وأبي هريرة وما هاجر أبو هريرة إلا عام حنين متأخرا فيبعد أنه لم يعلم بهذا، إلا بعد هذا، والله أعلم، ولا شك أنه صلوات الله وسلامه عليه أفضل البشر، بل الخليفة.
قال الله تعالى (وكنتم خير أمة أخرجت للناس) آل عمران: 110 ] وما كملوا إلا بشرف نبيهم.
وثبت بالتواتر عنه، صلوات الله وسلامه عليه، أنه قال: " أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر " (3) ثم ذكر اختصاصه بالمقام المحمود الذي يغبطه به الاولون والآخرون، الذي
تحيد عنه الانبياء والمرسلون، حتى أولو العزم الاكملون، نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: " فأكون أول من يفيق فأجد موسى باطشا بقائمة العرش) أي آخذا بها، " فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور " (4) دليل على أن هذا الصعق الذي يحصل للخلائق في عرصات القيامة، حين يتجلى الرب لفصل القضاء بين عباده، فيصعقون من شدة الهيبة والعظمة والجلاء (5) فيكون أولهم إفاقة محمد خاتم الانبياء، ومصطفى رب الارض والسماء على سائر الانبياء، فيجد موسى باطشا بقائمة العرش قال الصادق المصدوق: " لا أدري أصعق فأفاق قبلي ؟ " أي وكانت صعقته خفيفة، لانه قد ناله بهذا السبب في الدنيا صعق " أو جوزي بصعقة الطور ؟ " يعني فلم يصعق بالكلية.
وهذا فيه شرف كبير لموسى عليه السلام من هذه الحيثية.
ولا يلزم تفضيله بها مطلقا من كل وجه * ولهذا نبه رسول الله صلى الله عليه وسلم على شرفه وفضيلته بهذه الصفة،
__________
(1) صحيح البخاري 60 / 13 / 3408 فتح الباري.
(2) في صحيح مسلم (ح 160) والبخاري كتاب الخصومات (44) (1) باب.
(3) أخرجه البيهقي في الدلائل ج 5 / 481 عن ابن عباس من طريق علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف، تقدم التعليق.
(4) تقدم التعليق وتخريج الحديث ; فليراجع.
(5) في نسخة مطبوعة: " والجلال " وهو تحريف.

لان المسلم لما ضرب وجه اليهودي حين قال: لا والذي اصطفى موسى على البشر، قد يحصل في نفوس المشاهدين لذلك هضم بجناب موسى عليه السلام فبين النبي صلى الله عليه وسلم فضيلته وشرفه.
وقوله تعالى (قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي) [ الاعراف: 144 ] أي في ذلك الزمان، لا ما قبله، لان إبراهيم الخليل أفضل منه، كما تقدم بيان ذلك في قصة إبراهيم، ولا ما بعده، لان محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل منهما، كما ظهر شرفه ليلة الاسراء على جميع المرسلين والانبياء، وكما ثبت أنه قال: " سأقوم مقاما يرغب إلى الخلق حتى إبراهيم " وقوله تعالى (فخذ ما
آتيتك وكن من الشاكرين) [ الاعراف: 144 ] أي فخذ ما أعطيتك من الرسالة والكلام، ولا تسأل زيادة عليه، وكن من الشاكرين على ذلك.
قال الله تعالى (وكتبنا له في الالواح من كل شئ موعظة وتفصيلا لكل شئ) [ الاعراف: 145 ] وكانت الالواح من جوهر نفيس، ففي الصحيح: أن الله كتب له التوراة بيده وفيها مواعظ من الآثام، وتفصيل لكل ما يحتاجون إليه من الحلال والحرام.
(فخذها بقوة) أي بعزم ونية صادقة قوية (وأمر قومك يأخذوا بأحسنها) [ الاعراف: 145 ] أي يضعوهما على أحسن وجوهها وأجمل محاملها (سأريكم دار الفاسقين) أي ستر وعاقبة الخارجين عن طاعتي، المخالفين لامري، المكذبين لرسلي.
(سأصرف عن آياتي) عن فهمها وتدبرها، وتعقل معناها، الذي أريد منها ودل عليه مقتضاها (الذين يتكبرون في الارض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها) [ الاعراف: 146 ] أي ولو شاهدوا مهما شاهدوا من الخوارق والمعجزات لا ينقادوا لاتباعها (وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا) أي لا يسلكوه ولا يتبعوه (وإن يرو سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا) أي صرفناهم عن ذلك لتكذيبهم بآياتنا، وتغافلهم عنها، وإعراضهم عن التصديق بها، والتفكر في معناها وترك العمل بمقتضاها (والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا يعملون) [ الاعراف: 147 ].
قصة عبادتهم العجل في غيبة [ كليم الله عنهم ] (1) قال الله تعالى (واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين.
ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين.
ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم وألقي الالواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال يا ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الاعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين.
قال رب اغفر لي ولاخي وادخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين.
إن الذين اتخذوا العجل سينالهم
__________
(1) في نسخة: موسى.

غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين.
والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الالواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون) [ الاعراف: 148 - 154 ].
وقال تعالى (وما أعجلك عن قومك يا موسى قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى قال فانا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فاخلفتم موعدي قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي أفلا يرون أن لا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا * وقد قال لهم هرون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري.
قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع الينا موسى.
قال يا هرون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا أن لا تتبعن أفعصيت أمري قال يابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني اسرائيل ولم ترقب قولي فما خطبك يا سامري قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي.
قال فاذهب فان لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شئ علما) [ طه: 93 - 98 ] يذكر تعالى ما كان من أمر بني إسرائيل حين ذهب موسى عليه السلام إلى ميقات ربه، فمكث على الطور يناجيه ربه، ويسأله موسى عليه السلام عن أشياء كثيرة، وهو تعالسى يجيبه عنها، فعمد رجل منهم يقال له: هرون السامري (1) فأخذ ما كان استعاره من الحلي فصاغ منه عجلا، وألقيى فيه قبضة من التراب، كان أخذها من أثر فرس جبريل حين رأه - يوم أغرق الله فرعون على يديه، فلما ألقاها فيه خار كما يخور العجل الحقيقي.
ويقال إنه استحال عجلا جسدا أي لحما ودما حيا يخور.
قاله قتادة وغيره، وقيل: بل كانت الريح إذا دخلت من
دبره خرجت من فمه فيخور كما تخور البقرة، فيرقصون حوله ويفرحون: (فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسى) أي فنسيي موسى ربه عندنا، وذهب يتطلبه وهو ههنا ! تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، وتقدست أسماؤه وصفاته، وتصاعفت آلاؤه وهباته (2).
قال الله تعالى مبينا بطلان ما ذهبوا إليه، وما عولوا عليه من إلهية هذا الذي قصاراه أن يكون حيوانا بهيما وشيطانا رجيما (أفلا يرون أن لا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا) وقال (ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم
__________
(1) السامري واسمه موسى بن ظفر، ينسب أل قرية تدعى سامرة، ولد عام قتل الابناء - بعد مجئ موسى مصر - وأخفته أمه في كهف جبل فغذاه جبريل فعرفه لذلك.
انظر القرطبي أحكام القرآن 7 / 284.
(2) في النسخ المطبوعة: عداته.
وهو تحريف.

سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين) [ الاعراف: 148 ] فذكر أن هذا الحيوان لا يتكلم ولا يرد جوابا، ولا يملك ضرا ولا نفعا، ولا يهدي إلى رشد، اتخذوه وهم ظالمون لانفسهم، عالمون في أنفسهم بطلان ما هم عليه من الجهل، والضلال.
(ولما سقط في أيديهم) أي ندموا على ما صنعوا (ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين).
ولما رجع موسى عليه السلام إليهم، ورأى ما هم عليه من عبادة العجل، ومعه الالواح المتضمنة التوراة ألقاها فيقال إنه كسرها.
وهكذا هو عند أهل الكتاب وإن الله أبدله غيرها، وليس في اللفظ القرآني ما يدل على ذلك، إلا أنه القاها حين عاين ما عاين.
وعند أهل الكتاب: أنهما كانا لوحين، وظاهر القرآن أنها ألواح متعددة، ولم يتأثر بمجرد الخبر من الله تعالى عن عبادة العجل فأمره بمعاينة ذلك.
ولهذا جاء في الحديث الذي رواه الامام أحمد وابن حبان عن ابن عباس قال قال رسول الله: " ليس الخبر كالمعاينة " (1) ثم أقبل عليهم فعنفهم ووبخهم وهجنهم في صنيعهم هذا القبيح فاعتذروا إليه بما ليس بصحيح قالوا إنا (حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري) [ طه: 87 ] تحرجوا من تملك حلى آل فرعون، وهم أهل حرب، وقد أمرهم الله بأخذه وأباحه لهم، ولم يتحرجوا بجهلهم، وقلة علمهم، وعقلهم، من عبادة العجل
الجسد الذي له خوار مع الواحد الاحد الفرد الصمد القهار.
ثم أقبل على أخيه هرون عليهما السلام قائلا له (يا هرون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا أن لا تتبعن) [ طه: 92 ] أي هلا لما رأيت ما صنعوا اتبعتني فأعلمتني بما فعلوا فقال (إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل) أي تركتهم وجئتني وأنت قد أستخلفتني فيهم (قال رب اغفر لي ولاخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين) [ الاعراف: 151 ].
وقد كان هرون عليه السلام نهاهم عن هذا الصنيع الفظيع أشد النهي، وزجرهم عنه، أتم الزجر قال الله تعالى (ولقد قال لهم هرون من قبل يا قوم إنما فتنتم به) أي إنما قدر الله أمر هذا العجل، وجعله يخور فتنة واختبارا لكم (وإن ربكم الرحمن) أي لا هذا (فاتبعوني) أي فيما أقول لكم (وأطيعوا أمري.
قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى) [ طه: 90 - 91 ] يشهد الله لهرون عليه السلام (وكفى بالله شهيدا) أنه نهاهم وزجرهم عن ذلك فلم يطيعوه ولم يتبعوه ثم أقبل موسى على السامري (قال ما خطبك يا سامري) أي ما حملك على ما صنعت (قال بصرت بما لم يبصروا به) أي رأيت جبرائيل وهو راكب فرسا (فقبضت قبضة من أثر الرسول) [ طه: 96 ] أي من أثر فرس جبريل.
وقد ذكر بعضهم أنه رآه وكلما وطئت بحوافرها على موضع أخضر وأعشب فأخذ من أثر حافرها فلما ألقاه في هذا العجل المصنوع من الذهب كان من أمره ما كان ولهذا قال (فنبذتها
__________
(1) مسند أحمد ج 1 / 215 - 271 ورواه الحاكم في مستدركه مطولا 2 / 321 وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.

وكذلك سولت لي نفسي.
قال فاذهب فان لك في الحياة أن تقول لا مساس) [ طه: 96 - 97 ] وهذا دعاء عليه بأن لا يمس أحدا معاقبة له على مسه ما لم يكن له مسه.
هذا معاقبة له في الدنيا ثم توعده في الاخرى فقال (وإن لك موعدا لن تخلفه) وقرئ لن نخلفه (وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا) [ طه: 97 ] قال فعمد موسى عليه السلام إلى هذا العجل فحرقه [ قيل ] (1) بالنار كما قاله قتادة وغيره.
وقيل بالمبارد (2) كما قاله علي وابن عباس
وغيرهما وهو نص أهل الكتاب ثم ذراه في البحر وأمر بني إسرائيل فشربوا فمن كان من عابديه علق على شفاههم من ذلك الرماد منه ما يدل عليه، وقيل بل اصفرت ألوانهم ثم قال تعالى إخبارا عن موسى أنه قال لهم (إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شئ علما) [ طه: 98 ] وقال تعالى (إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين) [ الاعراف: 152 ] وهكذا وقع وقد قال بعض السلف (وكذلك نجزي المفترين) مسجلة لكل صاحب بدعة إلى يوم القيامة.
ثم أخبر تعالى عن حلمه ورحمته بخلقه وإحسانه على عبيده في قبوله توبة من تاب إليه بتوبته عليه فقال (والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم) [ الاعراف: 153 ] لكن لم يقبل الله توبة عابدي العجل إلا بالقتل كما قال تعالى (وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم) [ البقرة: 154 ] فيقال إنهم أصبحوا يوما وقد أخذ من لم يعبد العجل في أيديهم السيوف وألقى الله عليهم ضبابا (3) حتى لا يعرف القريب قريبه ولا النسيب نسيبه.
ثم مالوا على عابديه فقتلوهم وحصدوهم فيقال إنهم قتلوا في صبيحة واحدة سبعين ألفا.
ثم قال تعالى (ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الالواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون) [ الاعراف: 154 ] إستدل بعضهم بقوله وفي نسختها على أنها تكسرت وفي هذا الاستدلال نظر وليس في اللفظ ما يدل على أنها تكسرت والله أعلم.
وقد ذكر ابن عباس في حديث الفتون كما سيأتي أن عبادتهم العجل كانت على أثر خروجهم من البحر وما هو ببعيد لانهم حين خرجوا (قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة) [ الاعراف: 138 ].
وهكذا عند أهل الكتاب فإن عبادتهم العجل كانت قبل مجيئهم بلاد بيت المقدس وذلك أنهم لما أمروا بقتل من عبد العجل قتلوا في أول يوم ثلاثة آلاف.
ثم ذهب موسى يستغفر لهم فغفر لهم بشرط أن يدخلوا الارض المقدسة.
(واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة
__________
(1) سقطت من النسخ المطبوعة.
(2) يقال للمبرد: المحرق.
(3) عند القرطبي: ظلاما.

قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وآنت خير الغافرين.
واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا اليك قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شئ فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون.
الذين يتبعون الرسول النبي الامي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والاغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون) [ الاعراف: 155 - 157 ] ذكر السدي وابن عباس وغيرهما أن هؤلاء السبعين كانوا علماء بني إسرائيل ومعهم موسى وهرون ويوشع (1) وناذاب وابيهوا ذهبوا مع موسى عليه السلام ليعتذروا عن بني إسرائيل في عبادة من عبد منهم العجل.
وكانوا قد أمروا أن يتطيبوا ويتطهروا ويغتسلوا، فلما ذهبوا معه واقتربوا من الجبل وعليه الغمام وعمود النور ساطع وصعد موسى الجبل.
فذكر بنو إسرائيل أنهم سمعوا كلام الله.
وهذا قد وافقهم عليه طائفة من المفسرين وحملوا عليه قوله تعالى (وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون) [ البقرة: 75 ] وليس هذا بلازم لقوله تعالى (فأجره حتى يسمع كلام الله) أي مبلغا.
وهكذا هؤلاء سمعوه مبلغا من موسى عليه السلام وزعموا أيضا أن السبعين رأوا الله وهذا غلط منهم لانهم لما سألوا الرؤية أخذتهم الرجفة كما قال تعالى (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون.
ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون) [ البقرة: 55 ] وقال ههنا (فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي الآية) [ الاعراف: 155 ] قال محمد بن اسحق اختار موسى من بني إسرائيل سبعين رجلا الخير
فالخير.
وقال انطلقوا إلى الله فتوبوا إليه مما صنعتم وسلوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقته له ربه وكان لا يأتيه إلا باذن منه وعلم فطلب منه السبعون أن يسمعوا كلام الله فقال: أفعل فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل كله ودنا موسى فدخل في الغمام وقال للقوم: أدنوا وكان موسى إذا كلمة الله وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه فضرب دونه بالحجاب ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجودا فسمعوه وهو يكلم موسى يأمر وينهاه افعل ولا تفعل * فلما فرغ الله من أمره وانكشف عن موسى الغمام أقبل إليهم قالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الرجفة وهي الصاعقة فالتقت أرواحهم فماتوا جميعا فقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ويقول (رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا)
__________
(1) ذكر الرازي ان موسى اختار من قومه اثني عشر سبطا من كل سبط ستة، فصاروا اثنان وسبعين، فقال ليختلف منكم رجلان فتشاجروا: فقال إن لمن قعد منكم مثل أجر من تخلف ; فقعد كالب ويوشع.

أي لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء (1) الذين عبدوا العجل منا فإنا براء مما عملوا.
وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن جريج إنما أخذتهم الرجفة لانهم لم ينهوا قومهم عن عبادة العجل وقوله (إن هي إلا فتنتك) أي اختبارك وابتلاؤك وامتحانك قاله ابن عباس وسعيد بن جبير وأبو العالية والربيع بن أنس وغير واحد من علماء السلف والخلف.
يعني أنت الذي قدرت هذا وخلقت ما كان من أمر العجل إختبارا تختبرهم به كما (قال لهم هرون من قبل يا قوم إنما فتنتم به) [ طه: 90 ] أي اختبرتم ولهذا قال (تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء) أي من شئت أضللته باختبارك إياه ومن شئت هديته * لك الحكم والمشيئة ولا مانع ولا راد لما حكمت وقضيت (أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك) [ الاعراف: 155 - 156 ] أي تبنا إليك ورجعنا وأنبنا قاله ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وأبو العالية وإبراهيم التيمي والضحاك والسدي وقتادة وغير واحد وهو كذلك في
اللغة.
(قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شئ) أي أنا أعذب من شئت بما أشاء من الامور التي أخلقها وأقدرها (ورحمتي وسعت كل شئ) كما ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله لما فرغ من خلق السموات والارض كتب كتابا فهو موضوع عنده فوق العرش إن رحمتي تغلب غضبي " (2) (فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون) [ الاعراف: 156 ] أي فسأوحيها حتما لمن يتصف بهذه الصفات (الذين يتبعون الرسول النبي الامي الآية) [ الاعراف: 157 ] وهذا فيه تنويه بذكر محمد صلى الله عليه وسلم وأمته من الله لموسى عليه السلام في جملة ما ناجاه به وأعلمه وأطلعه عليه * وقد تكلمنا على هذه الآية وما بعدها في التفسير بما فيه كفاية ومقنع ولله الحمد والمنة.
وقال قتادة قال موسى يا رب أجد في الالواح أمة خير أمة أخرجت الناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر رب اجعلهم أمتي قال تلك أمة أحمد.
قال رب إني أجد في الالواح أمة هم الآخرون في الخلق السابقون في دخول الجنة رب اجعلهم أمتي.
قال: تلك أمة أحمد.
قال: رب إني أجد في الالواح أمة أناجيلهم في صدورهم يقرأونها وكان من قبلهم يقرأون كتابهم نظرا حتى إذا رفعوها لم يحفظوا شيئا ولم يعرفوه وإن الله أعطاكم أيتها الامة من الحفظ شيئا لم يعطه أحدا عن الامم قال رب اجعلهم أمتي قال: تلك أمة أحمد قال: رب إني أجد في الالواح أمة يؤمنون بالكتاب الاول وبالكتاب الآخر ويقاتلون فصول الضلالة حتى يقاتلوا الاعور الكذاب فاجعلهم أمتي.
قال: تلك أمة أحمد.
قال رب إني أجد في الالواح أمة صدقاتهم يأكلونها في بطونهم ويؤجرون عليها وكان من قبلهم إذا تصدق بصدقة فقبلت منه بعث الله عليها نارا فأكلتها وإن ردت عليه تركت فتأكلها السباع والطير وإن الله أخذ صدقاتكم من
__________
(1) قال القرطبي: قيل المرد بالسفهاء: السبعون ; والمعنى أتهلك بني إسرائيل بما فعل هؤلاء السفهاء في قولهم " أرنا الله جهرة ".
(2) تقدم تخريجه في هذا الجزء فليراجع.

غنيكم لفقيركم قال رب فاجعلهم أمتي.
قال: تلك أمة أحمد.
قال رب فإني أجد في الالواح أمة
إذا هم أحدهم بحسنة ثم لم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشر أمثالها إلى سبعماية ضعف قال رب اجعلهم أمتي قال: تلك أمة أحمد.
قال ربي إني أجد في الالواح أمة هم المشفعون المشفوع لهم فاجعلهم أمتي قال: تلك أمة أحمد * قال قتادة فذكر لنا أن موسى عليه السلام نبذ الالواح وقال اللهم اجعلني من أمة أحمد.
وقد ذكر كثير من الناس ما كان من مناجاة موسى عليه السلام وأوردوا أشياء كثيرة لا أصل لها ونحن نذكر ما تيسر ذكره من الاحاديث والآثار بعون الله وتوفيقه وحسن هدايته ومعونته وتأييده.
قال الحافظ أبو حاتم محمد بن حاتم بن حبان في صحيحه: ذكر سؤال كليم الله ربه عز وجل عن أدنى أهل الجنة وأرفعهم منزلة " أخبرنا عمر بن سعيد الطائي ببلخ (1) حدثنا حامد بن يحيى البلخي، حدثنا سفيان، حدثنا مطرف بن طريف وعبد الملك بن أبجر شيخان صالحان [ قالا ]: سمعنا الشعبي يقول: سمعت المغيرة بن شعبة يقول على المنبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إن موسى عليه السلام سأل ربه عزوجل: أي أهل الجنة أدنى منزلة ؟ فقال: رجل يجيئ بعدما يدخل أهل الجنة الجنة، فيقال [ له ] أدخل الجنة.
فيقول: كيف أدخل الجنة وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخاذاتهم (2) ؟ فيقال له: [ أ ] ترضى أن يكون لك من الجنة مثل ما كان لملك من ملوك الدنيا ؟ فيقول: نعم أي رب، فيقال: لك هذا ومثله ومثله فيقول: أي رب رضيت، فيقال له: لك مع هذا ما اشتهت نفسك ولذت عينك.
وسأل ربه: أي أهل الجنة أرفع منزلة ؟ قال: سأحدثك عنهم، غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها، فلا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر " * ومصداق ذلك في كتاب الله عزوجل (فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين الآية) وهكذا رواه مسلم والترمذي (3) كلاهما عن ابن أبي عمر عن سفيان - وهو ابن عيينة - به ولفظ مسلم: " فيقال له أترضى أن يكون لك مثل ملك ملك من ملوك الدنيا ؟ فيقول: رضيت رب فيقول (4): لك ذلك ومثله ومثله ومثله، فيقول في الخامسة: رضيت رب فيقال: هذا لك وعشرة أمثاله.
ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك، فيقول رضيت رب.
قال: رب فأعلاهم منزلة ؟ قال: أولئك الذين أردت غرس (5) كرامتهم بيدي وختمت عليها، فلم تر عين
__________
(1) في النسخ المطبوعة: بمنبج وهو تحريف.
(2) أخاذاتهم: قال القاضي: هو ما أخذوه من كرامة مولاهم، وحصلوه.
(3) أخرجه مسلم في 1 كتاب الايمان 84 باب أدنى أهل الجنة ح 312 / 189 ص 1 / 176 والترمذي في 48 كتاب تفسير القرآن باب 33 ومن سورة السجدة ح 3198.
(4) في نسخة: فيقال له، واثبتنا ما جاء عند مسلم.
(5) أردت: اخترت واصطفيت.
غرس: وعند مسلم غرست معناه: اصفطيتهم وتوليتهم فلا يتطرق إلى كرامتهم تغيير.

ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر (1) " قال ومصداقه (2) من كتاب الله (فلا تعلم نفس ما اخفى لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون) [ السجدة: 17 ] وقال الترمذي حسن صحيح.
قال: ورواه بعضهم عن الشعبي عن المغيرة فلم يرفعه، والمرفوع أصح.
وقال ابن حبان: " ذكر سؤال الكليم ربه عن خصال سبع ": حدثنا عبد الله بن محمد بن مسلم ببيت المقدس، حدثنا حرملة بن يحيى، حدثنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، أن أبا السمح حدثه عن ابن حجيرة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " سأل موسى ربه عزوجل عن ست خصال كان يظن أنها له خالصة، والسابعة لم يكن موسى يحبها: قال: يا رب أي عبادك اتقى ؟ قال: الذي يذكر ولا ينسى.
قال: فأي عبادك أهدى ؟ قال: الذى يتبع الهدى.
قال: فأي عبادك أحكم ؟ قال: الذي يحكم للناس كما يحكم لنفسه.
قال: فأي عبادك أعلم ؟ قال: عالم لا يشبع من العلم، يجمع علم الناس إلى علمه.
قال: فأي عبادك أعز ؟.
قال: الذي إذا قدر غفر.
قال: فأي عبادك أغنى ؟ قال: الذي يرضى بما يؤتى.
قال: فأي عبادك أفقر ؟ قال: صاحب منقوص ".
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس الغنى عن ظهر إنما الغنى غنى النفس "، وإذا أراد الله بعبد خيرا جعل غناه في نفسه وتقاه في قلبه، وإذا أراد بعبد شرا جعل فقره بين عينيه " (3).
قال ابن حبان قوله " صاحب منقوص " يريد به منقوص حالته يستقل ما أوتي ويطلب
الفضل.
وقد رواه ابن جرير في تاريخه عن ابن حميد عن يعقوب [ القمي عن هارون بن عنترة ] (4) عن أبيه عن ابن عباس قال: سأل موسى ربه عزوجل فذكر نحوه وفيه: " قال: أي رب فأي عبادك أعلم ؟ قال: الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يجد (5) كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى.
قال: أي رب فهل في الارض أحد أعلم مني ؟ قال: نعم [ قال: رب فمن هو ؟ قال ]: (6) الخضر.
فسأل السبيل إلى لقيه.
فكان ما سنذكره بعد إن شاء الله وبه الثقة.
__________
(1) لم يخطر على قلب بشر: أي لم يخطر على قلب بشر ما أكرمتهم به وأعددته لهم.
(2) مصداقه: دليله وما يصدقه.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه 81 / 5 / 6446 فتح الباري من طريق أبي هريرة ولفظه فيه: " ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى عنى النفس " وبلفظه أخرجه مسلم في 12 كتاب الزكاة 40 باب ليس الغنى عن كثرة العرض 120 / 105 ص 2 / 726 عن أبي هريرة وأخرجه أحمد في مسنده ج 2 / 243 - 261.
(4) ما أثبتناه من الطبري 1 / 191 وما في الاصول يعقوب التميمي، وهارون بن عبيرة تحريف.
- ويعقوب القمي: بن عبد الله بن سعد الاشعري، أبو الحسن القمي صدوق من الثامنة مات سنة أربع وسبعين وقيل 172.
تقريب التهذيب 2 / 376 الكاشف 3 / 255.
- وهارون بن عنترة: ابن عبد الرحمن الشيباني، أبو عبد الرحمن ثقة تقريب التهذيب 3 / 312 الكاشف 3 / 6018 / 189.
(5) في الطبري: يصيب.
(6) زيادة من الطبري.

حديث آخر بمعنى ما ذكره ابن حبان قال الامام أحمد: حدثنا يحيى بن اسحق، حدثنا ابن لهيعة، عن دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " إن موسى قال: أي رب عبدك المؤمن مقتر عليه في الدنيا.
قال: ففتح له باب من الجنة فنظر إليها قال يا موسى: هذا ما أعددت له.
فقال
موسى: يا رب وعزتك وجلالك لو كان مقطع اليدين والرجلين يسحب على وجهه، منذ يوم خلقته إلى يوم القيامة وكان هذا مصيره لم ير بوءسا قط.
قال: ثم قال: أي رب عبدك الكافر موسع عليه في الدنيا.
قال: ففتح له باب إلى النار فيقول: يا موسى هذا ما أعددت له فقال: أي رب وعزتك وجلالك لو كانت له الدنيا منذ يوم خلقته إلى يوم القيامة وكان هذا مصيره لم ير خيرا قط " (1).
تفرد به أحمد من هذا الوجه.
وفي صحته نظر والله أعلم.
وقال ابن حبان: " ذكر سؤال كليم الله ربه جل وعلا أن يعلمه شيئا يذكره به " حدثنا ابن سلمة، حدثنا حرملة بن يحيى، حدثنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث إن دراجا حدثه عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " قال موسى: " يا رب علمني شيئا أذكرك به وأدعوك به " قال: قل يا موسى (لا إله إلا الله) قال: يا رب كل عبادك يقول هذا.
قال: قل لا إله إلا الله.
قال: إنما أريد شيئا تخصني به.
قال: يا موسى لو أن أهل السموات السبع والارضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهم لا إله إلا الله " (2).
ويشهد لهذا الحديث البطاقة.
وأقرب شئ إلى معناه الحديث المروي في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: " قال أفضل الدعاء دعاء عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبييون من قبلي (لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد، وهو على كل شئ قدير) (3) وقال ابن أبي حاتم عند تفسير آية الكرسي: حدثنا أحمد بن القاسم بن عطية، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الدسكي، حدثني أبي عن أبيه، حدثنا أشعث بن اسحق، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أن بني إسرائيل قالوا لموسى: هل ينام ربك ؟ قال: أتقوا الله فناداه ربه: يا موسى سألوك هل ينام ربك ؟ فخذ زجاجتين في يديك فقم الليل، ففعل موسى، فلما ذهب من الليل ثلث نعس فوقع لركبتيه ثم انتعش فضبطهما، حتى إذا كان آخر الليل نعس فسقطت الزجاجتان فانكسرتا.
فقال: يا موسى لو كنت أنام لسقطت السموات والارض فهلكن كما هلكت الزجاجتان في يديك.
قال: وأنزل الله على رسوله آية الكرسي.
وقال ابن
__________
(1) مسند الامام أحمد ج 4 / 322 - 345 - 346.
(2) رواه النسائي والحاكم من طريق دراج عن أبي الهيثم عنه وقال الحاكم صحيح الاسناد.
مالت بهم: رجع ثوابها وزاد أجرها.
الترغيب والترهيب كتاب الدعاء - فضل لا إله إلا الله ج 2 / 415.
(3) أخرجه المنذري في الترهيب كتاب الدعاء - الترغيب في قول لا إله إلا الله وحده لا شريك له: عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رفعه: ورواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب.
ج 2 / 419.

جرير حدثنا اسحق بن أبي إسرائيل حدثنا هشام بن يوسف عن أمية بن شبل عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي عن موسى عليه السلام على المنبر قال: " وقع في نفس موسى عليه السلام هل ينام الله عزوجل ؟ فأرسل الله إليه ملكا فأرقه ثلاثا ثم أعطاه قارورتين.
في كل يد قارورة، وأمره أن يحتفظ بهما قال: فجعل ينام وكادت يداه تلتقيان - فيستيقظ فيحبس إحداهما على الاخرى حتى نام نومة فاصطفقت يداه، فانكسرت القارورتان قال: ضرب الله له مثلا أن لو كان ينام لم يستمسك السماء والارض ".
وهذا حديث غريب رفعه.
والاشبه أن يكون موقوفا.
وأن يكون أصله إسرائيليا.
وقال الله تعالى (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون.
ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين) [ البقرة: 63 - 64 ] وقال تعالى (وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون) [ الاعراف 171 ] قال ابن عباس وغير واحد من السلف لما جاءهم موسى بالالواح فيها التوراة أمرهم بقبولها والاخذ بها بقوة وعزم فقالوا: أنشرها علينا، فإن كانت أوامرها ونواهيها سهلة قبلناها، فقال: بل اقبلوها بما فيها، فراجعوه مرارا فأمر الله الملائكة فرفعوا الجبل على رؤوسهم حتى صار كأنه ظلة أي غمامة على رؤوسهم، وقيل لهم: إن لم تقبلوها بما فيها وإلا سقط هذا الجبل عليكم، فقبلوا ذلك وأمروا بالسجود، فسجدوا فجعلوا ينظرون إلى الجبل بشق وجوههم، فصارت سنة لليهود إلى اليوم، يقولون لا سجدة أعظم من سجدة رفعت عنا العذاب.
وقال سنيد بن داود، عن حجاج بن محمد، عن أبي بكر بن عبد الله قال: فلما نشرها لم يبق على وجه الارض جبل ولا شجر ولا حجر إلا اهتز، فليس على وجه الارض يهودي صغير
ولا كبير تقرأ عليه التوراة إلا اهتز ونفض لها رأسه.
قال الله تعالى (ثم توليتم من بعد ذلك) أي ثم بعد مشاهدة هذا الميثاق العظيم والامر الجسيم نكثتم عهودكم ومواثيقكم (فلولا فضل الله عليكم ورحمته) بأن تدارككم بالارسال إليكم وإنزال الكتب عليكم (لكنتم من الخاسرين).
قصة بقرة بني إسرائيل قال الله تعالى (وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة.
قالوا أتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين.
قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون.
قالوا دع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين.
قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الارض ولا تسقى الحرث مسلمة لا شية فيها.
قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون.
وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون.
فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم

تعقلون) [ البقرة: 67 - 73 ] قال ابن عباس وعبيدة السلماني وأبو العالية ومجاهد والسدي وغير واحد من السلف: كان رجل (1) في بني إسرائيل كثير المال، وكان شيخا كبيرا، وله بنو أخ وكانوا يتمنون موته ليرثوه، فعمد أحدهم فقتله في الليل وطرحه في مجمع الطرق، ويقال على باب رجل منهم، فلما أصبح الناس اختصموا فيه، وجاء ابن أخيه فجعل يصرخ ويتظلم، فقالوا ما لكم تختصمون ولا تأتون نبي الله، فجاء ابن أخيه فشكى أمر عمه إلى (2) رسول الله موسى عليه السلام فقال موسى عليه السلام: أنشد الله رجلا عنده علم من أمر هذا القتيل إلا أعلمنا به فلم يكن عند أحد منهم علم منه، وسألوه أن يسأل في هذه القضية ربه عزوجل فسأل ربه عزوجل في ذلك فأمره الله أن يأمرهم بذبح بقرة ؟ فقال: (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا) يعنون نحن نسأل عن أمر هذا القتيل، وأنت تقول هذا (قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) أي أعوذ بالله أن أقول عنه غير ما أوحى إلي.
وهذا هو الذي أجابني حين سألته عما سألتموني عنه أن
أسأله فيه.
قال ابن عباس وعبيدة ومجاهد وعكرمة والسدي وأبو العالية وغير واحد فلو أنهم عمدوا إلى أي بقرة فذبحوها لحصل المقصود منها، ولكنهم شددوا، فشدد عليهم، وقد ورد فيه حديث مرفوع.
وفي إسناده ضعف فسألوا عن صفتها ثم عن لونها ثم عن سنها فأجيبوا بما عز وجوده عليهم، وقد ذكرنا في تفسير ذلك كله في التفسير.
والمقصود أنهم أمروا بذبح بقرة عوان وهي الوسط بين النصف (3)، الفارض وهي الكبيرة (4)، والبكر وهي الصغيرة، قاله ابن عباس ومجاهد وأبو العالية وعكرمة والحسن وقتادة وجماعة.
ثم شددوا وضيقوا على أنفسهم فسألوا عن لونها فأمروا بصفراء فاقع لونها أي مشرب بحمرة تسر الناظرين * وهذا اللون عزيز.
ثم شددوا أيضا (فقالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون) ففي الحديث المرفوع الذي رواه ابن أبي حاتم وابن مردوية: " لولا أن بني إسرائيل إستثنوا لما أعطوا (5) وفي صحته نظر، والله أعلم (قال انه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الارض ولا تسقي الحرث مسلمة لاشية فيها.
قالوا ألآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون) وهذه الصفات أضيق مما تقدم حيث أمروا بذبح بقرة ليست بالذلول وهي المذللة بالحراثة وسقي الارض بالسانية مسلمة وهي
__________
(1) اسمه عاميل كما في أحكام القرآن.
(2) وكان هذا الامر قبل نزول القسامة في التوراة ; والقسامة أن يبدأ المدعون بالايمان فإن حلفوا استحقوا، وإن نكلوا حلف المدعي عليهم خمسين يمينا وبرءوا.
(3) عوان: النصف التي ولدت بطنا أو بطنين.
(4) الفارض: أي المسنة، وقيل التي ولدت بطونا كثيرة فيتسع جوفها لذلك.
(5) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد 6 / 314 وقال: رواه البزار وفيه عباد بن منصور وهو ضعيف وبقية رجاله ثقات.
عباد بن منصور: الناجي، قال النسائي ليس بالقوي / الكاشف ج 2 / 56.
أبو سلمة البصري صدوق رمي بالقدر وكان يدلس تغير بآخرة تقريب التهذيب 2 / 107 / 393.

الصحيحة، التي لا عيب فيها ; قاله أبو العالية وقتادة.
وقوله (لا شية فيها) أي ليس فيها لون
يخالف لونها بل هي مسلمة من العيوب ومن مخالطة سائر الالوان غير لونها فلما حددها بهذه الصفات وحصرها بهذه النعوت والاوصاف (قالوا الآن جئت بالحق) ويقال إنهم لم يجدوا هذه البقرة بهذه الصفة إلا عند رجل منهم كان بارا بأبيه فطلبوها منه، فأبى عليهم، فأرغبوه في ثمنها حتى أعطوه فيما ذكره السدي بوزنها ذهبا فأبى عليهم حتى أعطوه بوزنها عشر مرات، فباعها منهم فأمرهم نبي الله موسى بذبحها (فذبحوها وما كادوا يفعلون) أي وهم يترددون في أمرها.
ثم أمرهم عن الله أن يضربوا ذلك القتيل ببعضها.
قيل بلحم فخذها.
وقيل بالعظم الذي يلي الغضروف.
وقيل بالبضعة التي بين الكتفين فلما ضربوه ببعضها أحياه الله تعالى فقام وهو يشخب أوداجه فسأله نبي الله من قتلك قال قتلني ابن أخي.
ثم عاد ميتا كما كان، قال الله تعالى (كذلك يحي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون) [ البقرة: 73 ] أي كما شاهدتم إحياء هذا القتيل عن امر الله له كذلك أمره في سائر الموتى إذا شاء إحياءهم أحياهم في ساعة واحدة كما قال (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة الآية) [ لقمان: 28 ].
قصة موسى والخضر عليهما السلام قال الله تعالى (وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا.
فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا.
قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا.
قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا.
فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما.
قال له موسى هل اتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا.
قال إنك لن تستطيع معي صبرا.
وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا.
قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا.
قال فان اتبعتني فلا تسألني عن شئ حتى أحدث لك منه ذكرا.
فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها.
قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا أمرا.
قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا.
قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا.
فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا
نكرا.
قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا قال إن سألتك عن شئ بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عزرا فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا.
قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غضبا.
وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما.
وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من

ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا) [ الكهف: 60 - 82 ].
قال بعض أهل الكتاب إن موسى هذا الذي رحل إلى الخضر هو موسى بن ميشا بن يوسف بن يعقوب بن اسحاق بن إبراهيم الخليل وتابعهم على ذلك بعض من يأخذ من صحفهم وينقل عن كتبهم منهم نوف بن فضالة الحميري الشامي البكالي.
ويقال إنه دمشقي وكانت أمه زوجة كعب الاحبار * والصحيح (1) الذي دل عليه ظاهر سياق القرآن ونص الحديث الصحيح الصريح المتفق عليه أنه موسى بن عمران صاحب بني إسرائيل.
قال البخاري: حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا عمرو بن دينار، أخبرني سعيد بن جبير قال قلت لابن عباس: إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل.
قال ابن عباس كذب عدو الله.
حدثنا أبي بن كعب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل أي الناس أعلم ؟ فقال: أنا فعتب الله عليه، إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك.
قال موسى: يا رب وكيف لي به ؟ قال تأخذ معك حوتا فتجعله بمكتل (2) فحيثما فقدت الحوت فهو ثم.
فأخذ حوتا فجعله بمكتل ثم انطلق وانطلق معه فتاه يوشع بن نون حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤسهما فناما واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه، فسقط في البحر واتخذ سبيله في البحر سربا.
وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه
مثل الطاق فلما استيقظ.
نسي صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كان من الغد (قال موسى لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا) [ الكهف: 62 ] ولم يجد موسى النصب (3) حتى جاوز المكان الذي آمره الله به [ قال ] له فتاه: (أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا) [ الكهف: 63 ] قال فكان للحوت سربا ولموسى ولفتاه عجبا (قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا) قال فرجعا يقصان أثرهما حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا رجل مسجى بثوب فسلم عليه موسى فقال الخضر وإني بأرضك السلام قال أنا موسى فقال: موسى بني إسرائيل ؟ قال: نعم أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا (قال إنك لن تستطيع معي صبرا) يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه أنت وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه فقال (ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا) قال له الخضر (فان اتبعتني فلا تسألني عن شئ حتى أحدث لك منه ذكرا) فانطلقا يمشيان على ساحل البحر [ ليس لهما سفينة ] فمرت
__________
(1) قال الطبري في معرض تشكيكه: ويزعم أهل التوراة أن الذي طلب الخضر موسى بن ميشا ; ويتابع في رواية أخرى: وكان الخضر في أيام موسى بن عمران.
(2) مكتل: زنبيل يسع خمسة عشر صاعا.
(3) في البخاري: مسا من النصب.

[ بهما ] سفينة فكلمهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر [ فحملوهما ] بغير نول.
فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدوم فقال له موسى قوم حملونا بغير نول (1) عمدت إلى سفينتهم فخرقتها (لتغرق أهلها لقد جئت شيئا أمرا.
قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا) قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الاولى من موسى نسيانا قال: " وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة فقال له الخضر ما علمي وعلمك في علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا
البحر.
ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ بصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه بيده فقتله فقال له موسى (أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا قال ألم أقل لك انك لن تستطيع معي صبرا) قال وهذه أشد من الاولى (قال إن سألتك عن شئ بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض) قال: مائل.
فقال الخضر بيده (فأقامه) فقال موسى قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا (لو شئت لا تخذت عليه أجرا.
قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما " (2).
قال سعيد بن جبير فكان ابن عباس يقرأ وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا وكان يقرأ وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين.
ثم رواه البخاري أيضا عن قتيبة عن سفيان بن عيينة بإسناده نحوه.
وفيه فخرج موسى ومعه فتاه يوشع بن نون ومعهما الحوت حتى انتهيا إلى الصخرة فنزلا عندها قال فوضع موسى رأسه فنام قال سفيان وفي حديث غير عمرو قال: وفي أصل الصخرة عين يقال لها الحياة لا يصيب من مائها شئ إلا حيى، فأصاب الحوت من ماء تلك العين، قال: فتحرك وانسل من المكتل، ودخل البحر فلما استيقظ (قال موسى لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا) وساق الحديث وقال ووقع عصفور على حرف السفينة فغمس منقاره في البحر فقال الخضر لموسى ما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلا مقدار ما غمس هذا العصفور منقاره وذكر تمام الحديث.
وقال البخاري: حدثنا إبراهيم بن موسى، حدثنا هشام بن يوسف أن ابن جريج أخبرهم قال: أخبرني يعلى بن مسلم وعمرو بن دينار عن سعيد بن جبير يزيد أحدهما على صاحبه.
وغيرهما قد سمعته يحدثه عن
__________
(1) نول: أجر.
(2) في البخاري: أمرهما وفي الطبري: قصصهم.
أخرجه البخاري في (3) كتاب العلم 44 باب ما يستحب للعالم إذا سئل ح: 22 فتح الباري وأخرجه مسلم في صحيحه 43 / 46 / 170 والترمذي في سننه 48 / 19 / 3149 ورواه الطبري بإسناده في تاريخه ج 1 / 189 -
190.
ما بين معكوفين في الحديث زيادة من البخاري.

سعيد بن جبير قال: إنا لعند ابن عباس في بيته إذ قال: سلوني فقلت: أي أبا عباس جعلني الله فداك بالكوفة رجل قاص يقال له نوف يزعم أنه ليس بموسى بني إسرائيل أما عمرو فقال لي: قال: قد كذب عدو الله، وأما يعلى فقال لي: قال ابن عباس حدثني أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " موسى رسول الله قال: ذكر الناس يوما حتى إذا فاضت العيون ورقت القلوب ولى، فأدركه رجل فقال أي رسول الله هل في الارض أحد أعلم منك ؟ قال: لا.
فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إلى الله * قيل: بلى قال: أي رب فأين قال بمجمع البحرين، قال: أي رب اجعل لي علما أعلم ذلك به قال لي عمرو قال: حيث يفارقك الحوت وقال لي يعلى قال خذ حوتا ميتا حيث ينفخ فيه الروح، فأخذ حوتا فجعله في مكتل فقال لفتاه لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت، قال: ما كلفت كبيرا فذلك قوله (وإذ قال موسى لفتاه) يوشع بن نون.
ليست عن سعيد بن جبير قال فبينما هو في ظل صخرة في مكان ثريان إذ تضرب الحوت وموسى نائم فقال فتاه: لا أوقظه حتى إذا استيقظ نسي أن يخبره، وتضرب الحوت حتى دخل البحر فأمسك الله عنه جرية البحر حتى كأن أثره في حجر قال لي عمرو، هكذا كان أثره في حجر وحلق بين إبهاميه واللتين تليان (لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا) قال وقد قطع الله عنك النصب ليست هذه عن سعيد أخبره فرجعا فوجدا خضرا قال لي عثمان بن أبي سليمان على طنفسة خضراء على كبد البحر قال سعيد: مسجى بثوبه قد جعل طرفه تحت رجليه، وطرفه تحت رأسه، فسلم عليه موسى فكشف عن وجهه وقال: هل بأرض من سلام من أنت ؟ قال: أنا موسى قال: موسى بني إسرائيل ؟ قال: نعم.
قال فما شأنك ؟ قال: جئتك (لتعلمني مما علمت رشدا) قال أما يكفيك أن التوراة بيديك ؟ وأن الوحي يأتيك يا موسى ؟ إن لي علما لا ينبغي لك أن تعلمه وإن لك علما لا ينبغي لي أن أعلمه فأخذ طائر بمنقاره من البحر، فقال: والله ما علمي وعلمك في جنب
علم الله إلا كما أخذ هذا الطائر بمنقاره من البحر (حتى إذا ركبا في السفينة) وجدا معابر صغارا تحمل أهل هذا الساحل إلى أهل هذا الساحل الآخر عرفوه فقالوا عبد الله الصالح.
قال فقلنا لسعيد " خضر " قال نعم.
لا نحمله بأجر (فخرقها) ووتد فيها وتدا (قال) موسى (أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا) قال مجاهد منكرا (1) (قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا) كانت الاولى نسيانا والوسطى شرطا والثالثة عمدا (قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا.
فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله) قال يعلى قال سعيد وجد غلمانا يلعبون فأخذ غلاما كافرا ظريفا فاضجعه ثم ذبحه بالسكين (قال أقتلت نفسا زكية) لم تعمل بالخبث (2) * ابن عباس قرأها زكية زاكية مسلمة كقولك غلاما زكيا (فانطلقا فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه) قال بيده هكذا ورفع يده فاستقام قال يعلى: حسبت أن سيعدا قال:
__________
(1) قال القتبي: إمرا: معناه عجبا، وقال أبو عبيدة: الامر: الداهية العظيمة.
(2) وقيل: بالحنث: لانها لم تبلغ الحلم ; وهو تفسير لقوله نفسا زكية.

فمسحه بيده فاستقام (قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا) قال سعيد: أجرا نأكله (وكان وراءهم) وكان أمامهم قرأها ابن عباس أمامهم (1).
ملك يزعمون - عن غير سعيد - أنه هدد بن بدد والغلام المقتول يزعمون جيسور (2) (ملك يأخذ كل سفينة غصبا) فإذا هي مرت به يدعها بعيبها فإذا جاوزوا أصلحوها فانتفعوا بها.
منهم من يقول سدوها بقارورة ومنهم من يقول بالقار (كان أبواه مؤمنين) وكان كافرا (فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا) أي يحملهما حبه على أن يتابعاه على دينه (فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة) لقوله أقتلت نفسا زكية (وأقرب رحما) هما به أرحم منهما بالاول الذي قتل خضر * وزعم سعيد بن جبير أنه ابن لا جارية وأما داود بن أبي عاصم فقال عن غير واحد إنها جارية * وقد رواه عبد الرزاق عن معمر عن أبي إسحق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال خطب موسى بني اسرائيل فقال: ما أحد أعلم بالله وبأمره مني فأمر أن يلقى هذا الرجل.
فذكر نحو ما تقدم وهكذا رواه محمد بن اسحق عن الحسن بن عمارة
عن الحكم بن عيينة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كنحو ما تقدم أيضا.
ورواه العوفي عنه موقوفا * وقال الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس أنه تمارى هو والحر بن قيس بن حصن الفزاري في صاحب موسى فقال ابن عباس: هو خضر فمر بهما أبي بن كعب فدعاه ابن عباس فقال: إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل السبيل إلى لقيه فهل سمعت من رسول الله فيه شيئا قال: نعم.
وذكر الحديث وقد تقصينا طرق هذا الحديث وألفاظه في تفسير سورة الكهف ولله الحمد.
وقوله (وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة) قال السهيلي وهما أصرم وصريم ابنا كاشح.
(وكان تحته كنز لهما) قيل كان ذهبا قاله عكرمة، وقيل علما قاله ابن عباس (3).
والاشبه أنه كان لوحا من ذهب مكتوبا
__________
(1) قال الماوردي: اختلف أهل العربية في استعمال وراء موضع أمام على ثلاثة أقوال: - أحدها: يجوز استعمالها بكل حال وفي كل مكان وهو من الاضداد قال الله تعالى: (من ورائهم جهنم) أي من أمامهم.
- الثاني: أن وراء تستعمل في موضع أمام في المواقيت والازمان.
- الثالث: أنه يجوز في الاجسام التي لا وجه لها كحجرين متقابلين كل واحد منهما وراء الآخر ولا يجوز في غيرهما.
(2) قال الكلبي: شمعون وقال الضحاك: حيسون، وقال وهب: اسم أبيه سلاس واسم أمه رحمى أما السهيلي فقال: اسم أبيه: كازير واسم أمه: سهوى.
واسم الملك: قيل هود بن بدد - كما في البخاري - وقيل الجلندي قاله السهيلي وقيل جيسور راجع أحكام القرآن ج 11 / 36.
(3) قال القرطبي: وعن ابن عباس أيضا: قال: كان لوحا من ذهب مكتوبا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن، عجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب، عجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح، عجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل، عجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن لها، لا إله إلا الله محمد رسول الله.
ج 11 / 38.

فيه علم.
قال البزار: حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، حدثنا بشر بن المنذر، حدثنا الحرث بن عبد الله اليحصبي، عن عياش بن عباس الغساني، عن بن حجيرة، عن أبي ذر رفعه قال إن الكنز الذي ذكر الله في كتابه لوح من الذهب مصمت: عجبت لمن أيقن بالقدر كيف نصب وعجبت لمن ذكر النار لم ضحك، وعجبت لمن ذكر الموت كيف غفل لا إله إلا الله.
وهكذا روي عن الحسن البصري وعمر مولى عفرة وجعفر الصادق نحو هذا وقوله (وكان أبوهما صالحا) وقد قيل إنه كان الاب السابع وقيل العاشر.
وعلى كل تقدير فيه دلالة على أن الرجل الصالح يحفظ في ذريته فالله المستعان.
وقوله (رحمة من ربك) دليل على أنه كان نبيا وأنه ما فعل شيئا من تلقاء نفسه بل بأمر ربه فهو نبي وقيل رسول وقيل ولي وأغرب من هذا من قال كان ملكا قلت وقد أغرب جدا من قال هو ابن فرعون وقيل إنه ابن ضحاك الذي ملك الدنيا ألف سنة.
قال ابن جرير (1): والذي عليه جمهور أهل الكتاب أنه كان في زمن أفريدون ويقال: إنه كان على مقدمة ذي القرنين الذي قيل إنه كان أفريدون، وذو الفرس هو الذي كان في زمن الخليل.
وزعموا أنه شرب من ماء الحيوة فخلد وهو باق إلى الآن.
وقيل إنه من ولد بعض من آمن بإبراهيم وهاجر معه من أرض بابل وقيل إسمه ملكان وقيل أرميا بن خلقيا وقيل كان نبيا في زمن سباسب بن لهراسب قال ابن جرير وقد كان بين أفريدون وبين سباسب (2) دهور طويلة لا يجهلها أحد من أهل العلم بالانساب.
قال ابن جرير: والصحيح أنه كان في زمن أفريدون واستمر حيا إلى أن أدركه موسى عليه السلام وكانت نبوة موسى في زمن منوشهر الذي هو من ولد ايرج بن أفريدون أحد ملوك الفرس وكان إليه الملك بعد جده أفريدون لعهده وكان عادلا (3) وهو أول من خندق الخنادق وأول من جعل في كل قرية دهقانا (4) وكانت مدة ملكه قريبا من مائة وخمسين سنة ويقال إنه كان من سلالة إسحاق بن إبراهيم (5) وقد ذكر عنه من الخطب الحسان والكليم البليغ النافع الفصيح ما يبهر العقل ويحير السامع وهذا يدل على أنه من سلالة الخليل.
والله أعلم.
وقد قال الله تعالى (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمه ثم جائكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أءقررتم الآية) [ آل عمران: 84 ].
فأخذ الله ميثاق كل نبي على أن يؤمن بمن يجئ بعده من الانبياء وينصره [ واستلزم ذلك الايمان وأخذ الميثاق لمحمد صلى الله عليه وسلم لانه خاتم الانبياء فحق على كل نبي أدركه أن يؤمن به
__________
(1) تاريخ الطبري: 1 / 188.
(2) في الطبري: يشتاسب في المكانين.
(3) زاد الطبري 1 / 195: وكان منوشهر يوصف بالعدل والاحسان وهو أول من جمع آلة الحرب.
(4) زاد الطبري: وجعل أهلها له خولا وعبيدا والبسهم لباس المذلة وأمرهم بطاعته.
(5) قال الطبري: وقد زعم بعض أهل الاخبار أنه: منوشهر بن منشخرنر بن افريقيس بن إسحاق بن إبراهيم وقد أنكر الفرس هذا النسب، ولم تقر بالملك لغيرهم.

وينصره ] (1).
فلو كان الخضر حيا في زمانه، لما وسعه إلا اتباعه والاجتماع به والقيام بنصره، ولكان من جملة من تحت لوائه يوم بدر، كما كان تحتها جبريل وسادات من الملائكة.
وقصارى الخضر عليه السلام أن يكون نبيا، وهو الحق، أو رسولا كما قيل أو ملكا فيما ذكر وأياما كان فجبريل رئيس الملائكة، وموسى أشرف من الخضر، ولو كان حيا لوجب عليه الايمان بمحمد ونصرته فكيف إن كان الخضر وليا كما يقوله طوائف كثيرون ؟ فأولى أن يدخل في عموم البعثة وأحرى.
ولم ينقل في حديث حسن بل ولا ضعيف يعتمد أنه جاء يوما واحدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا اجتمع به وما ذكر من حديث التعزية فيه، وإن كان الحاكم قد رواه فإسناده ضعيف والله أعلم وسنفرد لخضر ترجمة على حدة بعد هذا.
[ ذكر الحديث الملقب ] (2) بحديث الفنون المتضمن قصة موسى من أولها إلى آخرها قال الامام أبو عبد الرحمن النسائي في " كتاب التفسير " من سننه عند قوله تعالى في سورة طه (وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا) [ طه: 40 ] حديث الفتون (3) حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا اصبغ بن زيد، حدثنا القاسم بن
أبي أيوب، أخبرني سعيد بن جبير قال: سألت عبد الله بن عباس عن قول الله تعالى [ لموسى ] (4) (وفتناك فتونا) فسألته عن الفتون ما هو ؟ فقال: استأنف النهار يا ابن جبير فإن لها حديثا طويلا فلما أصبحت غدوت إلى ابن عباس لانتجز منه ما وعدني من حديث الفتون، فقال: تذاكر فرعون وجلساؤه ما كان الله وعد إبراهيم عليه السلام أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكا فقال بعضهم: إن بني إسرائيل ينتظرون ذلك ما يشكون فيه، وكانوا يظنون أنه يوسف بن يعقوب، فلما هلك قالوا: ليس هكذا كان وعد إبراهيم، فقال فرعون: فكيف ترون ؟ فأتمروا وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالا معهم الشفار يطوفون في بني إسرائيل فلا يجدون مولودا ذكرا إلا
__________
(1) سقطت من النسخ المطبوعة ومن نسخة مطبعة السعادة واستدركت من النسخة المحفوظة بدار الكتب الوطنية مصر - مصور عن نسخة الاستانة - رقم (تاريخ 1110).
(2) سقطت من النسخ المطبوعة.
(3) رواه ابن كثير في تفسيره مطولا (ج 3 / 245 - 252 احياء التراث - بيروت) وقال في نهايته معقبا: هكذا رواه النسائي في السنن الكبرى وأخرجه أبو جعفر بن جرير (الطبري) وابن أبي حاتم في تفسيريهما، كلهم من حديث يزيد بن هارون به، وهو موقوف من كلام ابن عباس وليس فيه مرفوع إلا قليل منه وكأنه تلقاه ابن عباس رضي لله عنهما مما أبيح نقله من الاسرائيليات عن كعب الاحبار، أو غيره، والله أعلم.
وسمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول ذلك أيضا.
(4) سقطت من النسخ المطبوعة واستدركت من النسائي.

ذبحوه، ففعلوا ذلك، فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم، والصغار يذبحون قالوا: توشكون أن تفنوا بني إسرائيل فتصيروا إلى أن تباشروا من الاعمال والخدمة التي (1) كانوا يكفونكم، فاقتلوا عاما كل مولود ذكر واتركوا (2) بناتهم، ودعوا عاما فلا تقتلوا منهم أحدا، فيشب الصغار مكان من يموت من الكبار، فإنهم لن يكثروا بمن تستحيون منهم، فتخافوا مكاثرتهم إياكم، ولن تفتنوا بمن تقتلون وتحتاجون إليهم، فأجمعوا أمرهم على ذلك فحملت أم موسى
بهارون في العام الذي لا يذبح (3) فيه الغلمان فولدته علانية آمنة.
فلما كان من قابل، حملت بموسى عليه السلام فوقع في قلبها الهم والحزن، وذلك من الفتون - يا ابن جبير - ما دخل عليه في بطن أمه مما يراد [ به ] (4) فأوحى الله إليها أن لا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين، فأمرها إذا ولدت أن تجعله في تابوت وتلقيه في اليم، فلما ولدت فعلت ذلك، فلما توارى عنها ابنها أتاها الشيطان فقالت في نفسها: ما فعلت بابني لو ذبح عندي فواريته وكفنته كان أحب إلي من أن ألقيه إلى دواب البحر وحيتانه.
فانتهى الماء به حتى أوفى عند فرضة مستقي (5) جواري امرأة فرعون، فلما رأينه أخذنه فهممن أن يفتحن التابوت فقال بعضهن: إن في هذا مالا وإنا إن فتحناه لم تصدقنا امرأة الملك بما وجدنا فيه، فحملته كهيئته لم يخرجن منه شيئا حتى دفعنه إليها، فلما فتحته رأت فيه غلاما، فألقى عليه منها محبة لم تلق منها على أحد قط (أصبح فؤاد أم موسى فارغا) [ من ] (6) ذكر كل شئ إلا من ذكر موسى.
فلما سمع الذباحون بأمره أقبلوا بشفارهم إلى امرأة فرعون ليذبحوه، وذلك من الفتون - يا ابن جبير - فقالت لهم أقروه فإن هذا الواحد لا يزيد في بني إسرائيل حتى آتي فرعون فأستوهبه منه، فإن وهبه مني كنتم قد أحسنتم وأجملتم، وإن أمر بذبحه لم ألمكم فأتت فرعون فقالت: (قرة عين لي ولك) فقال فرعون: يكون لك، فأما لي فلا حاجة لي فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والذي يحلف به لو أقر فرعون أن يكون قرة عين له، كما أقرت امرأته لهداه الله كما هداها، ولكن حرمه ذلك " فأرسلت إلى من حولها إلى كل امرأة لها لان تختار [ له ] (7) ظئرا فجعل كلما أخذته امرأة منهن لترضعه لم يقبل على ثديها، حتى أشفقت امرأة فرعون أن يمتنع من اللبن فيموت، فأحزنها ذلك فأمرت به، فأخرج إلى السوق ومجمع الناس ترجو أن تجد له ظئرا تأخذه منها فلم يقبل.
وأصبحت أم موسى والها، فقالت لاخته: قصي أثره واطلبيه
__________
(1) في نسخة الذي.
وما أثبتناه المناسب.
(2) في نسخة: فتقل.
(3) في نسخة: لا تقتل.
(4) سقطت من النسخ المطبوعة.
(5) في نسخة: تستقي منها.
(6) سقطت من النسخ المطبوعة.
(7) سقطت من النسخ المطبوعة.

هل تسمعين له ذكرا ؟ أحي إبني أم قد أكلته الدواب ؟ ونسيت ما كان الله وعدها فيه (فبصرت به) أخته (عن جنب وهم لا يشعرون) والجنب أن يسمو بصر الانسان إلى شئ بعيد وهو إلى جنبه لا يشعر به.
فقالت من الفرح حين أعياهم الظؤرات أنا (أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون) [ فأخذوها ] (1) فقالوا ما يدريك ما نصحهم [ له ] (2) هل [ تعرفينه ] (3) حتى شكوا في ذلك.
وذلك من الفتون - يا ابن جبير - فقالت: نصحهم إله وشفقتهم عليه ورغبتهم في صهر الملك ورجاء منفعة الملك.
فأرسلوها فانطلقت إلى أمها فأخبرتها الخبر، فجاءت أمه، فلما وضعته في حجرها نزا إلى ثديها فمصه حتى امتلا جنباه ريا، وانطلق البشير إلى امرأة فرعون يبشرها أن قد وجدنا لابنك ظئرا.
فأرسلت إليها فأتت بها وبه.
فلما رأت ما يصنع بها قالت: أمكثي ترضعي ابني هذا، فإني لم أحب شيئا حبه قط، قالت أم موسى: لا أستطيع أن أترك بيتي وولدي فيضيع، فإن طابت نفسك أن تعطينيه، فأذهب به إلى بيتي فيكون معي لا آلوه خيرا، فعلت، فإني غير تاركة بيتي وولدي وذكرت أم موسى ما كان الله وعدها، فتعاسرت على امرأة فرعون، وأيقنت أن الله منجز موعوده، فرجعت إلى بيتها من يومها وأنبته الله نباتا حسنا وحفظه لما قد قضى فيه.
فلم يزل بنو اسرائيل وهم في ناحية القرية ممتنعين من السخرة والظلم.
ما كان فيهم، فلما ترعرع قالت امرأة فرعون لام موسى: أزيريني ابني فوعدتها يوما [ تزيرها ] (4) إياه فيه، وقالت امرأة فرعون لخزانها وظئورها وقهارمتها، لا يبقين أحد منكم إلا استقبل ابني اليوم بهدية وكرامة لارى ذلك فيه، وأنا باعثة أمينا يحصي كل ما يصنع كل إنسان منكم فلم تزل الهدايا والكرامة والنحل (5) تستقبله من حين خرج من بيت أمه إلى أن دخل على امرأة فرعون.
فلما دخل عليها
نحلته وأكرمته وفرحت به ونحلت أمه بحسن أثرها عليه.
ثم قالت لآتين به فرعون فلينحلنه وليكرمنه، فلما دخلت به عليه جعله في حجره، فتناول موسى لحية فرعون فمدها إلى الارض، فقال الغواة من أعداء الله لفرعون: ألا ترى ما وعد الله إبراهيم نبيه ؟ أنه زعم أن يرثك ويعلوك ويصرعك، فأرسل إلى الذباحين ليذبحوه.
وذلك من الفتون - يا بن جبير - بعد كل بلاء ابتلى به وأريد به، فجاءت امرأة فرعون تسعى إلى فرعون.
فقالت ما بدا لك في هذا الغلام الذي وهبته لي ؟ فقال: ألا ترينه يزعم أنه يصرعني ويعلوني ؟ فقالت: اجعل بيني وبينك أمرا تعرف فيه الحق، أئت بجمرتين ولؤلؤتين فقربهن إليه ! فإن بطش باللؤلؤتين واجتنب الجمرتين عرفت أنه
__________
(1) سقطت من النسخ المطبوعة.
(2) سقطت من النسخ المطبوعة.
(3) في نسخة: يعرفونه.
(4) في نسخة: أريني ابني فوعدتها يوما تريها.
(5) النحل: العطايا.

يعقل، وإن تناول الجمرتين ولم يرد اللؤلؤتين، علمت أن أحدا لا يؤثر الجمرتين على اللؤلؤتين وهو يعقل، فقرب إليه فتناول الجمرتين، فانتزعهما منه مخافة أن يحرقا يده، فقالت المرأة ألا ترى ؟ فصرفه الله عنه بعدما كان هم به، وكان الله بالغا فيه أمره.
فلما بلغ أشده وكان من الرجال لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل معه بظلم ولا سخرة، حتى امتنعوا كل الامتناع.
فبينما موسى عليه السلام يمشي في ناحية المدينة إذا هو برجلين يقتتلان أحدهما فرعوني والآخر إسرائيلي.
فاستغاثه الاسرائيلي على الفرعوني فغضب موسى غضبا شديدا لانه تناوله وهو يعلم منزلته من بني إسرائيل وحفظه لهم [ لا يعلم الناس إلا أنه من الرضاع إلا أم موسى، إلا أن يكون الله أطلع موسى من ذلك على ] (1) ما لم يطلع عليه غيره.
فوكز موسى الفرعوني فقتله، وليس يراهما أحد إلا الله عزوجل والاسرائيلي فقال موسى حين قتل الرجل (هذا من عمل الشيطان إنه
عدو مضل مبين) [ القصص: 15 ] ثم قال (رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين فأصبح في المدينة خائفا يترقب) [ القصص: 16 ] الاخبار فأتي فرعون، فقيل له: إن بني اسرائيل قتلوا رجلا من آل فرعون، فخذ لنا بحقنا ولا ترخص لهم، فقال: ابغوني قاتله من يشهد عليه فإن الملك وإن كان صفوة مع قومه، لا ينبغي له أن يقتل بغير بينة، ولا ثبت، فاطلبوا لي علم ذلك آخذ لكم بحقكم، فبينما هم يطوفون لا يجدون بينة، إذا موسى من الغد قد رأى ذلك الاسرائيلي يقاتل رجلا من آل فرعون آخر، فاستغاثه الاسرائيلي على الفرعوني فصادف موسى قد ندم على ما كان منه وكره الذي رأى، فغضب الاسرائيلي وهو يريد أن يبطش بالفرعوني، فقال للاسرائيلي لما فعل بالامس واليوم (إنك لغوي مبين) فنظر الاسرائيلي إلى موسى بعدما قال له ما قال، فإذا هو غضبان كغضبه بالامس الذي قتل فيه الفرعوني فخاف أن يكون بعدما قال له إنك لغوي مبين أن يكون إياه أراد، ولم يكن أراده، إنما أراد الفرعوني فخاف الاسرائيلي * وقال: (يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالامس) وإنما قال له مخافة أن يكون إياه أراد موسى ليقتله، فتتاركا وانطلق الفرعوني فأخبرهم بما سمع من الاسرائيلي من الخبر حين يقول: (أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالامس) فأرسل فرعون الذباحين ليقتلوا موسى، فأخذ رسل فرعون الطريق الاعظم يمشون على هينتهم يطلبون موسى، وهم لا يخافون أن يفوتهم فجاء رجل من شيعة موسى من أقصى المدينة، فاختصر طريقا حتى سبقهم إلى موسى فأخبره.
وذلك من الفتون - يا ابن جبير - فخرج موسى متوجها نحو مدين لم يلق بلاء قبل ذلك، وليس له بالطريق علم، إلا حسن ظنه بربه عزوجل، فإنه قال (عسى ربي ان يهديني سواء السبيل.
ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان) يعني بذلك حابستين غنمهما فقال لهما (ما خطبكما) معتزلتين
__________
(1) سقطت من النسخ المطبوعة، واستدركت من مخطوطه بدار الكتب المصرية رقم 2442 وقورنت على حديث النسائي ورواية ابن كثير في التفسير.

لا تسقيان مع الناس ؟ قالتا: ليس لنا قوة تزاحم القوم وإنما ننتظر فضول حياضهم، فسقى لهما فجعل يغترف (1) من الدلو ماء كثيرا حتى كان أول الرعاء وانصرفتا بغنمهما إلى أبيهما، وانصرف موسى فاستظل بشجرة وقال: (رب إني لما انزلت الي من خير فقير) واستنكر أبوهما سرعة صدورهما بغنمهما حفلا (2) بطانا فقال: إن لكما اليوم لشأنا، فأخبرتاه بما صنع موسى فأمر إحداهما أن تدعوه، فأتت موسى فدعته فلما كلمه (قال: لا تخف نجوت من القوم الظالمين) ليس لفرعون ولا قومه علينا من سلطان ولسنا في مملكته فقالت احداهما: (يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الامين) [ القصص: 27 ] فاحتملته الغيرة على أن قال لها: ما يدريك ما قوته وما أمانته ؟ فقالت: أما قوته فما رأيت منه في الدلو حين سقى لنا لم أر رجلا قط أقوى في ذلك السقي منه.
وأما الامانة فإنه نظر إلي حين أقبلت إليه وشخصت له، فلما علم أني امرأة صوب رأسه فلم يرفعه حتى بلغته رسالتك.
ثم قال لي: امشي خلفي وانعتي لي الطريق فلم يفعل هذا إلا وهو أمين.
فسرى عن أبيها وصدقها، وظن به الذي قالت.
فقال له هل لك (إن أنكحك احدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن اتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين) [ القصص: 27 ] ففعل فكانت على نبي الله موسى ثمان سنين واجبة، وكانت السنتان عدة منه، فقضى الله عنه عدته فأتمها عشرا.
قال سعيد - هو ابن جبير - فلقيني رجل من أهل النصرانية من علمائهم، قال: هل تدري أي الاجلين قضى موسى ؟ قلت: لا.
وأنا يومئذ لا أدري.
فلقيت ابن عباس فذكرت ذلك له، فقال: أما علمت أن ثمانية كانت على نبي الله واجبة، لم يكن نبي الله لينقص منها شيئا ؟ وتعلم أن الله كان قاضيا عن موسى عدته التي وعده ; فإنه قضى عشر سنين.
فلقيت النصراني فأخبرته ذلك، فقال: الذي سألته فأخبرك أعلم منك بذلك ؟ قلت: أجل وأولى.
فلما سار موسى بأهله كان من أمر النار والعصى ويده، ما قص الله عليك في القرآن.
فشكا إلى الله تعالى ما يتخوف من آل فرعون في القتيل وعقدة لسانه، فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام، وسأل ربه أن يعينه بأخيه هرون، يكون له ردأ ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه، فأتاه الله عزوجل [ سؤله ] (3) وحل
عقدة من لسانه، وأوحى الله إلى هرون فأمره أن يلقاه.
فاندفع موسى بعصاه حتى لقى هرون.
فانطلقا جميعا إلى فرعون، فأقاما على بابه حينا لا يؤذن لهما.
ثم أذن لهما بعد حجاب شديد فقالا: (إنا رسولا ربك) فقال: فمن ربكما ؟ فأخبره بالذي قص الله عليك في القرآن.
قال: فما تريدان ؟ وذكره القتيل فاعتذر بما قد سمعت، قال: أريد أن تؤمن بالله وترسل معي بني إسرائيل، فأبى عليه وقال (أئت بآية إن كنت من الصادقين) فألقى عصاه فإذا هي [ حية
__________
(1) في نسخة: يغرف.
(2) حفلا بطانا: درت ضروعها وشبعت بطونها.
(3) سقطت من النسخ المطبوعة.

تسعى ] (1) عظيمة فاغرة فاها مسرعة إلى فرعون، فلما رآها (2) فرعون قاصدة إليه خافها فأقتحم عن سريره واستغاث بموسى أن يكفها عنه ففعل.
ثم أخرج يده من جيبه فرآها بيضاء من غير سوء، يعني من غير برص.
ثم ردها فعادت إلى لونها الاول.
فاستشار الملا حوله فيما رأى فقالوا له (هذان ساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى) يعني ملكهم الذي هم فيه والعيش، وأبوا على موسى أن يعطوه شيئا مما طلب، وقالوا له: إجمع السحرة فإنهم بأرضك كثير، حتى تغلب بسحرك سحرهما.
فأرسل إلى المدائن فحشر به كل ساحر متعالم (2) فلما أتوا فرعون قالوا: بم يعمل [ هذا الساحر ] ؟ (3) قالوا: يعمل بالحيات، قالوا: فلا والله ما أحد [ في (4) الارض يعمل بالسحر بالحيات والحبال والعصي الذي نعمل، وما أجرنا إن نحن غلبنا ؟ قال: لهم: أنتم أقاربي وخاصتي، وأنا صانع إليكم كل شئ أحببتم فتواعدوا (يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى) قال سعيد: فحدثني ابن عباس أن يوم الزينة اليوم الذي أظهر الله فيه موسى على فرعون والسحرة، وهو يوم عاشوراء.
فلما اجتمعوا في صعيد قال الناس بعضهم لبعض: انطلقوا فلنحضر هذا الامر لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين يعنون موسى وهرون استهزاء بهما فقالوا يا موسى بعد تريثهم بسحرهم (إما أن
تلقى وإما أن نكون نحن الملقين) [ الاعراف: 115 ] قال بل ألقوا (فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون) فرأى موسى من سحرهم ما أوجس في نفسه خيفة فأوحى الله إليه (أن ألق عصاك) فلما ألقاها صارت ثعبانا عظيمة فاغرة فاها فجعلت العصى تلتبس بالحبال حتى صارت جرزا على الثعبان أن تدخل فيه (5) حتى ما أبقت عصا ولا حبلا إلا ابتلعته.
فلما عرف السحرة ذلك، قالوا: لو كان هذا سحرا لم يبلغ (6) من سحرنا كل هذا، ولكنه أمر من الله تعالى، آمنا بالله وبما جاء به موسى، ونتوب إلى الله مما كنا عليه.
فكسر الله ظهر فرعون في ذلك الموطن وأشياعه وظهر الحق وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين وامرأة فرعون بارزة مبتذلة تدعو الله بالنصر لموسى على فرعون وأشياعه، فمن رآها من آل فرعون ظن أنها إنما ابتذلت للشفقة على فرعون وأشياعه، وإنما كان حزنها وهمها لموسى فلما طال مكث موسى بمواعيد فرعون الكاذبة، كلما جاء بآية وعده عندها أن يرسل معه بني إسرائيل، فإذا مضت أخلف من غده، وقال: هل يستطيع ربك أن يصنع غير هذا ؟ فأرسل الله على قومه الطوفان والجراد
__________
(1) في نسخة: ثعبان.
(2) في نسخة: رأى.
(3) في نسخة: السحر.
(4) في نسخة: من.
(5) في نسخة: صارت حرزا للثعابين تدخل فيه.
(6) في النسخ المطبوعة: يبلع.

والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات.
كل ذلك يشكو إلى موسى ويطلب إليه أن يكفها عنه، ويوافقه (1) على أن يرسل معه بني إسرائيل، فإذا كف ذلك عنه أخلف بوعده ونكث عهده حتى أمر موسى بالخروج بقومه فخرج بهم ليلا، فلما أصبح فرعون ورأى أنهم قد مضوا أرسل في المدائن حاشرين فتبعه بجنود عظيمة كثيرة وأوحى الله إلى البحر إذا ضربك موسى عبدي بعصاه فانفلق
اثنتي عشرة فرقة حتى يجوز موسى ومن معه * ثم التق على من بقي بعد من فرعون وأشياعه.
فنسي موسى أن يضرب البحر بالعصى وانتهى إلى البحر وله قصيف (2) مخافة أن يضربه موسى بعصاه وهو غافل فيصير عاصيا لله عزوجل فلما تراءى الجمعان وتقاربا قال أصحاب موسى: (إنا لمدركون) إفعل ما أمرك به ربك فإنه لم يكذب ولم تكذب قال: وعدني ربي إذا أتيت البحر انفرق اثنتي عشرة فرقة حتي أجاوزه، ثم ذكر بعد ذلك العصى فضرب البحر بعصاه حين دنا أوائل جند فرعون من أواخر جند موسى، فانفرق البحر كما أمره ربه وكما وعد موسى فلما [ أن ] (3) جاوز موسى وأصحابه كلهم البحر ودخل فرعون وأصحابه، التقى عليهم البحر كما أمر، فلما جاوز موسى [ البحر ] (4) قال أصحابه: إنا نخاف أن لا يكون فرعون غرق ولا نؤمن بهلاكه، فدعا ربه فأخرجه له ببدنه حتى استيقنوا بهلاكه.
ثم مروا بعد ذلك على قوم يعكفون على أصنام لهم (قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون) [ الاعراف: 138 ] قد رأيتم من العبر وسمعتم ما يكفيكم.
ومضى فأنزلهم موسى منزلا وقال: أطيعوا هارون فإن الله قد استخلفه عليكم، فإني ذاهب إلى ربي، وأجلهم ثلاثين يوما أن يرجع إليهم فيها.
فلما أتى ربه عزوجل وأراد أن يكلمه في ثلاثين يوما، وقد صامهن ليلهن ونهارهن، وكره أن يكلم ربه وريح فيه ريح فم الصائم، فتناول موسى شيئا من نبات (5) الارض فمضغه، فقال له ربه حين أتاه: لم أفطرت ؟ - وهو أعلم بالذي كان - قال: يا رب إني كرهت أن أكلمك إلا وفمي طيب الريح.
قال: أوما علمت يا موسى أن ريح فم الصائم أطيب [ عندي ] من ريح المسك ؟ إرجع فصم عشرا ثم ائتني، ففعل موسى ما أمره به ربه.
فلما رأى قوم موسى أنه لم يرجع إليهم في الاجل ساءهم ذلك، وكان هارون قد خطبهم فقال: إنكم خرجتم من مصر ولقوم فرعون عندكم عواري وودائع (6) ولكم فيها مثل ذلك، وأنا
__________
(1) في نسخة: ليوافقه، وعند النسائي: ويواثقه.
(2) قصيف: هشيم الشجر، هنا: صليل البحر وهديره.
(3) سقطت من النسخ المطبوعة واثبتت من النسائي وتفسير ابن كثير.
(4) سقطت من النسخ المطبوعة.
واستدركت من النسائي وتفسير ابن كثير.
(5) عود من خرنوب.
(6) كان بنو إسرائيل قد استعاروا حلى وزينة من آل فرعون ليلة خروجهم من مصر بحجة التزين بها في عيد لهم - عيد الزينة.

أرى أن تحتسبوا مالكم عندهم، ولا أحل لكم وديعة استودعتموها ولا عارية، ولسنا برادين إليهم شيئا من ذلك ولا ممسكيه لانفسنا، فحفر حفيرا وأمر كل قوم عندهم من ذلك متاع أو حلية أن يقذفوه في ذلك الحفير.
ثم أوقد عليه النار فأحرقه، فقال: لا يكون لنا ولا لهم.
وكان السامري من قوم يعبدون البقر، جيران لبني إسرائيل، ولم يكن من بني إسرائيل فاحتمل مع موسى وبني اسرائيل حين احتملوا فقضى له أن رأى أثرا فقبض منه قبضة فمر بهارون، فقال له هارون: يا سامري ألا تلقي ما في يديك (1) ؟ وهو قابض عليه لا يراه أحد طوال ذلك، فقال هذه قبضة من أثر الرسول الذي جاوز بكم البحر، ولا ألقيها لشئ، إلا أن تدعو الله إذا ألقيتها أن يكون ما أريد، فألقاها ودعا له هارون.
فقال أريد أن تكون عجلا فاجتمع ما كان في الحفرة من متاع أو حلية أو نحاس أو حديد، فصار عجلا أجوف، ليس فيه روح له خوار.
قال ابن عباس لا والله ما كان فيه صوت قط إنما كانت الريح تدخل من دبره وتخرج من فيه، فكان ذلك الصوت من ذلك، فتفرق بنو اسرائيل فرقا فقالت فرقة: يا سامري ما هذا وأنت أعلم به ؟ قال: هذا ربكم، ولكن موسى أضل الطريق.
وقالت فرقة: لا نكذب بهذا حتى يرجع إلينا موسى، فإن كان ربنا لم نكن ضيعناه وعجزنا (2) فيه حتى رأيناه وإن لم يكن ربنا فإنا نتبع قول موسى، وقالت فرقة: هذا من عمل الشيطان، وليسر بربنا ولا نؤمن به ولا نصدق، وأشرب فرقة في قلوبهم الصدق: بما قال السامري في العجل وأعلنوا التكديب به.
فقال لهم هارون عليه السلام (يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن) [ طه: 90 ] ليس هذا.
قالوا فما بال موسى وعدنا ثلاثين يوما ثم أخلفنا.
هده أربعون يوما قد مضت، قال سفهاؤهم: أخطأ ربه فهو
يطلبه ويبتغيه.
فلما كلم الله موسى وقال له ما قال، أخبره بما لقى قومه من بعده، (فرجع إلى قومه غضبان أسفا) فقال لهم: ما سمعتم ما في القرآن ؟ (وأخذ برأس أخيه يجره إليه) وألقى الالواح من الغضب، ثم إنه عذر أخاه بعذره واستغفر له فانصرف إلى السامري فقال له ما حملك على ما صنعت ؟ قال: قبضت قبضة من أثر الرسول، وفطنت لها وعميت عليكم فقذفتها (وكذلك سولت لي نفسي قال فاذهب فان لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى الهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لنننسفنه في اليم نسفا) [ طه: 96 - 97 ] ولو كان إلها لم يخلص إلى ذلك منه فاستيقن بنو اسرائيل بالفتنة، واغتبط الذين كان رأيهم فيه مثل رأي هرون، فقالوا لجماعتهم: يا موسى سل لنا [ ربك ] أن يفتح لنا باب توبة نصنعها فتكفر عنا ما عملنا، فاختار موسى [ من ] قومه سبعين رجلا لذلك، لا يألوا الخير خيار بني إسرائيل، ومن لم يشرك في الحق، فانطلق بهم يسأل لهم التوبة فرجفت بهم الارض.
__________
(1) في سنن النسائي وتفسير ابن كثير: يدك.
(2) في نسخة: وعكفنا ; وفي النسائي وتفسير ابن كثير فكالاصل.

فاستحيا نبي الله عليه السلام من قومه ومن وفده حين فعل بهم ما فعل فقال: (رب لو شئت لاهلكتهم من قبل وإياي، أتهلكنا بما فعل السفهاء منا) وفيهم من كان الله اطلع منه على ما أشرب قلبه من حب العجل وإيمانه به.
فلذلك رجفت بهم الارض فقال (رحمتي وسعت كل شئ فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون.
الذين يتبعون الرسول النبي الامي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل) فقال يا رب سألتك التوبة لقومي، فقلت: إن رحمتي كتبتها لقوم غير قومي فليتك أخرتني حتى تخرجني في أمة ذلك الرجل المرحوم (1) فقال له: إن توبتهم أن يقتل كل رجل [ منهم ] من لقي من والد وولد، فيقتله بالسيف ولا يبالي من قتل في ذلك الموطن.
وتاب أولئك الذين كان خفي على موسى وهرون [ أمرهم ] واطلع الله من ذنوبهم فاعترفوا بها، وفعلوا ما أمروا وغفر الله للقاتل والمقتول.
ثم سار
بهم موسى عليه السلام متوجها نحو الارض المقدسة، وأخذ الالواح بعد ما سكت عنه الغضب، فأمرهم بالذي أمر به من الوظائف فثقل ذلك عليهم وأبوا أن يقروا بها وفتق (2) الله عليهم الجبل كأنه ظلة، ودنا منهم حتى خافوا أن يقع عليهم، وأخذوا الكتاب بأيمانهم وهم مصغون ينظرون إلى الجبل والكتاب بأيديهم وهم من وراء الجبل مخافة أن يقع عليهم.
ثم مضوا حتى أتوا الارض المقدسة، فوجدوا مدينة فيها قوم جبارون، خلقهم خلق منكر، وذكر من ثمارهم أمرا عجبا (3) من عظمها، فقالوا: (يا موسى إن فيها قوما جبارين) لا طاقة لنا بهم، ولا ندخلها ما داموا فيها (فإن يخرجوا منها فإنا داخلون).
(قال رجلان من الذين يخافون) قيل ليزيد: هكذا قرأه ؟ قال: نعم، من الجبارين، آمنا بموسى وخرجنا إليه، فقالوا: نحن أعلم بقومنا إن كنتم إنما تخافون ما رأيتم من أجسامهم وعددهم فإنهم لا قلوب لهم ولا منعة عندهم، فادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون ويقول أناس: إنهم من قوم موسى.
فقال الذين يخافون من بني إسرائيل (قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون) فاغضبوا موسى، فدعا عليهم وسماهم فاسقين ولم يدع عليهم قبل ذلك لما رأى منهم من المعصية وإساءتهم، حتى كان يومئذ فاستجاب الله له، وسماهم كما سماهم [ موسى ] فاسقين فحرمها عليهم أربعين سنة يتيهون في الارض يصبحون كل يوم فيسيرون ليس لهم قرار ثم ظلل عليهم الغمام في التيه، وأنزل عليهم المن والسلوى، وجعل لهم ثيابا لا تبلى ولا تتسخ وجعل بين ظهرانيهم حجرا مربعا، وأمر موسى فضربه بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، في كل ناحية ثلاثة أعين وأعلم كل سبط عينهم التي يشربون منها، فلا يرتحلون من محلة - إلا وجدوا
__________
(1) في تفسير ابن كثير: المرحومة.
(2) في نسخة: ونتق.
(3) في تفسير ابن كثير: عجيبا.

ذلك الحجر [ بينهم ] بالمكان الذي كان فيه [ بالمنزل الاول ] (1) بالامس * رفع ابن عباس هذا
الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم وصدق ذلك عندي أن معاوية سمع ابن عباس [ يحدث ] هذا الحديث فأنكر عليه أن يكون الفرعوني الذي أفشى على موسى أمر القتيل الذي قتل.
فقال: كيف يفشى عليه ولم يكن علم به ولا ظهر عليه إلا الاسرائيلي الذي حضر ذلك ؟ فغضب ابن عباس، فأخذ بيد معاوية فانطلق به إلى سعد بن مالك الزهري فقال له: يا أبا اسحق، هل تذكر يوم حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتيل موسى الذي قتل من آل فرعون ؟ الاسرائيلي الذي أفشى عليه أم الفرعوني ؟ قال: إنما أفشى عليه الفرعوني بما سمع [ من ] الاسرائيلي الذي شهد ذلك وحضره.
هكذا ساق هذا الحديث الامام النسائي وأخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم في تفسيرهما من حديث يزيد بن هرون والاشبه والله أعلم أنه موقوف وكونه مرفوعا فيه نظر.
وغالبه متلقى من الاسرائيليات وفيه شئ يسير مصرح برفعه في أثناء الكلام.
وفي بعض ما فيه نظر ونكارة، والاغلب أنه [ من ] كلام كعب الاحبار وقد سمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزى يقول ذلك [ أيضا ]، والله أعلم (2).
[ ذكر ] (3) بناء قبة الزمان قال أهل الكتاب وقد أمر الله موسى عليه السلام بعمل قبة من خشب الشمشاز وجلود الانعام وشعر الاغنام وأمر بزينتها بالحرير المصبغ والذهب والفضة على كيفيات مفصلة عند أهل الكتاب، ولها عشر سرادقات، طول كل واحد ثمانية وعشرون ذراعا وعرضه أربعة أذرع ولها أربعة أبواب وأطناب من حرير ودمقس مصبغ، وفيها رفوف وصفائح من ذهب وفضة ولكل زاوية بابان وأبواب أخر كبيرة، وستور من حرير مصبغ وغير ذلك مما يطول ذكره.
وبعمل تابوت من خشب الشمشاز يكون طوله ذراعين ونصفا، وعرضه ذراعين وارتفاعه ذراعا ونصفا، ويكون مضببا بذهب خالص من داخله وخارجه، وله أربع حلق في أربع زواياه، ويكون على حافتيه كروبيان من ذهب - يعنون صفة ملكين بأجنحة، وهما متقابلان صنعه (4) رجل اسمه بصليال.
وأمراه أن يعمل مائدة من خشب الشمشاز طولها ذراعان وعرضها ذراعان ونصف لها ضباب ذهب وإكليل ذهب، بشفة مرتفعة بإكليل من ذهب، وأربع حلق من نواحيها من ذهب، مغرزة في مثل الرمان من خشب ملبس ذهبا [ وأن يعمل ] صحافا ومصافي وقصاعا على المائدة، [ وأن
__________
(1) سقطت من النسخ المطبوعة.
(2) ما ذكر بين معكوفين في حديث الفنون سقط مجمله من نسخ البداية والنهاية المطبوعة واستدرك بمقارنته بنص النسائي وتفسير ابن كثير.
(3) سقطت من النسخ المطبوعة.
(4) في نسخة: صفة وهو تحريف.

يصنع ] (1) منارة من الذهب دلى فيها ست قصبات من ذهب، من كل جانب ثلاثة.
على كل قصبة ثلاث سرج، وليكن في المنارة أربع قناديل، ولتكن هي وجميع هذه الآنية من قنطار من ذهب صنع ذلك بصليال أيضا، وهو الذي عمل المذبح أيضا.
ونصب هذه القبة أول يوم من سنتهم، وهو أول يوم من الربيع ونصب تابوت الشهادة وهو - والله أعلم - المذكور في قوله تعالى (ان آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة ان في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين) [ البقرة: 248 ] وقد بسط هذا الفصل في كتابهم مطولا جدا (2)، وفيه شرائع لهم وأحكام وصفة قربانهم، وكيفيته وفيه إن قبة الزمان كانت موجودة قبل عبادتهم العجل الذي هو متقدم على مجئ بيت المقدس، وأنها كانت لهم كالكعبة يصلون فيها وإليها، ويتقربون عندها، وأن موسى عليه السلام كان إذا دخلها يقفون عندها، وينزل عمود الغمام على بابها، فيخرون عند ذلك سجدا لله عزوجل.
ويكلم الله موسى عليه السلام من ذلك العمود الغمام الذي هو نور ويخاطبه ويناجيه، ويأمره وينهاه وهو واقف عند التابوت صامد إلى ما بين الكروبيين فإذا فصل الخطاب يخبر بني إسرائيل بما أوحاه الله عزوجل، إليه من الاوامر والنواهي.
وإذا تحاكموا إليه في شئ ليس عنده من الله فيه شئ يجئ إلى قبة الزمان، ويقف عند التابوت ويصمد لما بين ذينك الكروبيين فيأتيه الخطاب بما فيه فصل تلك الحكومة وقد كان هذا مشروعا لهم في زمانهم أعني استعمال الذهب والحرير المصبغ واللآلئ في معبدهم وعند مصلاهم فأما في شريعتنا فلا بل قد نهينا عن زخرفة المساجد وتزيينها لئلا تشغل المصلين كما قال عمر بن
الخطاب رضي الله عنه لما وسع في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي وكله على عمارته: ابن للناس ما يكنهم وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس * وقال ابن عباس لنزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى كنائسهم وهذا من باب التشريف والتكريم والتنزيه فهذه الامة غير مشابهة من كان قبلهم من الامم، إذ جمع الله همهم في صلاتهم على التوجه إليه والاقبال عليه، وصان أبصارهم وخواطرهم عن الاشتغال والتفكر في غير ما هم بصدده، من العبادة العظيمة.
فلله الحمد والمنة.
وقد كانت قبة الزمان هذه مع بني اسرائيل في التيه، يصلون إليها وهي قبلتهم وكعبتهم وإمامهم كليم الله موسى عليه السلام، ومقدم القربان أخوه هارون عليه السلام * فلما مات هارون ثم موسى عليهما السلام استمر بنو هارون في الذي كان يليه أبوهم، من أمر القربان وهو فيهم إلى الآن.
وأقام بأعباء النبوة بعد موسى وتدبير الامر بعده فتاه يوشع بن نون عليه السلام، وهو الذي دخل بهم بيت المقدس كما سيأتي بيانه.
والمقصود هنا أنه لما استقرت يده على البيت المقدس نصب هذه القبة على صخرة بيت المقدس فكانوا يصلون إليها، فلما بادت صلوا إلى محلتها وهي الصخرة، فلهذا كانت قبلة الانبياء بعده إلى زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد صلى إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) في نسخة: واعمل صحافا ; واصنع منارة.
(2) التوراة المتداولة - سفر التثنية الذي تذكر فيه شرائعهم وأحكامهم.

قبل الهجرة، وكان يجعل الكعبة بين يديه * فلما هاجر أمر بالصلاة إلى بيت المقدس فصلى إليها ستة عشر - وقيل سبعة عشر - شهرا * ثم حولت القبلة إلى الكعبة وهي قبلة إبراهيم في شعبان سنة ثنتين في وقت صلاة العصر وقيل الظهر، كما بسطنا ذلك في التفسير عند قوله تعالى (سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها - إلى قوله - قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام) الآيات [ البقرة 142 - 143 وما بعدها ].
قصة قارون مع موسى عليه السلام
قال الله تعالى (إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولى القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما احسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الارض إن الله لا يحب المفسدين قال إنما أوتيته على علم عندي أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا ياليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم.
وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون - فخسفنا به وبداره الارض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين.
وأصبح الذين تمنوا مكانه بالامس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الارض ولا فسادا والعاقبة للمتقين) [ القصص: 76 - 83 ] قال الاعمش عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان قارون ابن عم موسى، وكذا قال إبراهيم النخعي وعبد الله بن الحرث بن نوفل، وسماك بن حرب وقتادة ومالك بن دينار، وابن جريج وزاد فقال: هو قارون بن يصهر بن قاهث، وموسى بن عمران بن قاهث (1): قال ابن جريج (2) وهذا قول أكثر أهل العلم: أنه كان ابن عم موسى.
ورد قول ابن اسحاق إنه كان عم موسى، قال قتادة: وكان يسمى المنور لحسن صوته بالتوراة، ولكن عدو الله نافق كما نافق السامري، فأهلكه البغي لكثرة ماله.
وقال شهر بن حوشب زاد في ثيابه شبرا طولا ترفعا على قومه.
وقد ذكر الله تعالى كثرة كنوزه، حتى أن مفاتيحه كان يثقل حملها
__________
(1) في نسخة: هافت وهو تحريف والصواب ما أثبتناه.
(2) هكذا في الاصول: ابن جريج وهو تحريف والصواب ابن جرير، ولعل هناك سهوا في النسخ والعبارة كما في الطبري، وأما أهل العلم من سلف أمتنا ومن أهل الكتابين فعلى ما قال ابن جريج.

على الفئام (1) من الرجال الشداد، وقد قيل إنها كانت من الجلود وإنها كانت تحمل على ستين (2) بغلا، فالله أعلم.
وقد وعظه النصحاء من قومه قائلين " لا تفرح " أي لا تبطر بما أعطيت وتفخر على غيرك (ان الله لا يحب الفرحين وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة) يقولون لتكن همتك مصروفة لتحصيل ثواب الله في الدار الآخرة، فإنه خير وأبقى، ومع هذا (لا تنس نصيبك من الدنيا) أي وتناول منها بمالك ما أحل الله لك، فتمتع لنفسك بالملاذ الطيبة الحلال (وأحسن كما أحسن الله اليك) أي وأحسن إلى خلق الله كما أحسن الله خالقهم، وبارئهم إليك (ولا تبغ الفساد في الارض) أي ولا تسئ إليهم، ولا تفسد فيهم، فتقابلهم ضد ما أمرت فيهم فيعاقبك ويسلبك ما وهبك (إن الله لا يحب المفسدين) فما كان جواب قومه.
لهذه النصيحة الصحيحة الفصيحة إلا أن (قال إنما أوتيته على علم عندي) يعني أنا لا أحتاج إلى استعمال ما ذكرتم ولا إلى ما إليه أشرتم فإن الله إنما أعطاني هذا لعلمه أني أستحقه وأني أهل له ولولا أني حبيب إليه وحظي عنده لما أعطاني ما أعطاني قال الله تعالى ردا عليه ما ذهب إليه (أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسئل عن ذنوبهم المجرمون) أي قد أهلكنا من الامم الماضين بذنوبهم وخطاياهم من هو أشد من قارون قوة وأكثر أموالا وأولادا فلو كان ما قال صحيحا لم نعاقب أحدا ممن كان أكثر مالا منه ولم يكن ماله دليلا على محبتنا له واعتنائنا به كما قال تعالى (وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا) [ سبأ: 56 ] وقال تعالى (أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين.
نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون) [ المؤمنون: 55 - 56 ] وهذا الرد عليه يدل على صحة ما ذهبنا إليه من معنى قوله (إنما أوتيته على علم عندي) وأما من زعم أن المراد من ذلك أنه كان يعرف صنعة الكيمياء أو أنه كان يحفظ الاسم الاعظم فاستعمله في جمع الاموال فليس بصحيح لان الكيمياء تخييل وصبغة لا تحيل الحقائق ولا تشابه صنعة الخالق والاسم الاعظم لا يصعد الدعاء به من كافر به، وقارون وكان كافرا في الباطن منافقا في الظاهر.
ثم لا يصح جوابه لهم بهذا على هذا التقدير ولا يبقى بين الكلامين تلازم وقد وضحنا هذا في كتابنا التفسير ولله الحمد.
قال الله تعالى (فخرج على قومه في
زينته) ذكر كثير من المفسرين أنه خرج في تجمل عظيم من ملابس (3) ومراكب وخدم وحشم فلما رآه من يعظم زهرة الحياة الدنيا تمنوا أن لو كانوا مثله وغبطوه بما عليه وله فلما سمع مقالتهم العلماء ذوو الفهم الصحيح الزهاد الالباء قالوا لهم: (ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا) أي ثواب الله في الدار الآخرة خير وأبقى وأجل وأعلى قال الله تعالى ولا يلقاها الا الصابرون، أي وما
__________
(1) الفئام: جمع فئة وهي الجماعة.
(2) في رواية للطبري: أربعين بغلا.
وذكر القشيري: سبعين بغلا.
(3) قال الغزنوي: خرج يوم السبت، وكان أول من صبغ له الثياب المعصفرة.
وقال مجاهد: كان ذلك أول يوم رؤى فيه المعصفر.

يلقى هذه النصيحة وهذه المقالة وهذه الهمة السامية إلى الدار الآخرة العلية عند النظر إلى زهرة هذه الدنيا الدنية إلا من هدى الله قلبه، وثبت فؤاده، وأيد لبه، وحقق مراده، وما أحسن ما قال بعض السلف إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات والعقل الكامل عند حلول الشهوات.
قال الله تعالى فخسفنا به وبداره الارض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين لما ذكر تعالى خروجه في زينته واختياله فيها، وفخره على قومه بها، قال: فخسفنا به وبداره الارض كما روى البخاري من حديث الزهري، عن سالم عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " بينا رجل يجر إزاره إذ خسف به فهو يتجلجل (1) في الارض إلى يوم القيامة (2) ".
ثم رواه البخاري من حديث جرير بن زيد عن سالم عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
وقد ذكر ابن عباس والسدي أن قارون أعطى امرأة بغيا مالا على أن تقول لموسى عليه السلام وهو في ملاء من الناس إنك فعلت بي كذا وكذا فيقال إنها قالت له ذلك، فأرعد من الفرق (3) وصلى ركعتين.
ثم أقبل عليها فاستحلفها من ذلك على ذلك وما حملك عليه، فذكرت أن قارون هو الذي حملها على ذلك، واستغفرت الله وتابت إليه، فعند ذلك خر موسى لله ساجدا ودعا الله على قارون، فأوحى الله إليه إني قد أمرت الارض أن تطيعك فيه فأمر موسى الارض أن تبتلعه وداره فكان ذلك فالله
أعلم.
وقد قيل إن قارون لما خرج على قومه في زينته مر بجحفله وبغاله وملابسه على مجلس موسى عليه السلام، وهو يذكر قومه بأيام الله فلما رآه الناس، انصرفت وجوه كثير من الناس ينظرون إليه فدعا موسى عليه السلام فقال له: ما حملك على هذا فقال: يا موسى أما لئن كنت فضلت علي بالنبوة فلقد فضلت عليك بالمال، ولئن شئت لتخرجن فلتدعون علي ولادعون عليك فخرج وخرج قارون في قومه فقال له موسى: تدعو أو أدعو ؟ قال: ادعو أنا، فدعى قارون، فلم يجب في موسى، فقال موسى أدعو ؟ قال: نعم.
فقال موسى: اللهم مر الارض فلتطغى اليوم فأوحى الله إليه إني قد فعلت فقال موسى: يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى أقدامهم، ثم قال خذيهم، فأخذتهم إلى ركبهم ثم إلى مناكبهم ثم قال اقبلي بكنوزهم وأموالهم فأقبلت بها حتى نظروا إليها ثم أشار موسى بيده فقال: اذهبوا بني لاوي فاستوت بهم الارض.
وقد روي عن قتادة أنه قال يخسف بهم كل يوم قامة إلى يوم القيامة.
وعن ابن عباس أنه قال خسف بهم إلى الارض السابعة.
وقد ذكر كثير من المفسرين ههنا إسرائيليات كثيرة أضربنا عنها صفحا وتركناها قصدا.
وقوله تعالى (فما
__________
(1) يتجلجل: أي يغوص في الارض حين يخسف به.
والجلجلة: حركة مع الصوت.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه 77 / 5 / 5790 فتح الباري وأخرجه مسلم في 37 كتاب اللباس 10 باب تحريم التبختر في المشي 49 / 2088 بنحوه عن أبي هريرة.
ورواه النسائي في سننه 48 / 101 والدارمي في سننه المقدمة 40 / 443 وأحمد في مسنده 2 / 66 - 267 - 315 - 390 - 456.
(3) الفرق: بالفتح: الخوف والفزع.

كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين) لم يكن له ناصر من نفسه ولا من غيره كما قال (فما له من قوة ولا ناصر) [ الطارق: 10 ] ولما حل به ما حل من الخسف وذهاب الاموال وخراب الدار وإهلاك النفس والاهل والعقار ندم من كان تمنى مثل ما أوتي، وشكروا الله تعالى الذي يدبر عباده بما يشاء من حسن التدبير المخزون ولهذا قالوا (لولا أن من الله علينا لخسف
بنا وبك انه لا يفلح الكافرون) وقد تكلمنا على لفظ ويك في التفسير وقد قال قتادة ويكأن بمعنى ألم تر أن وهذا قول حسن من حيث المعنى والله أعلم.
ثم أخبر تعالى (أن الدار الآخرة) وهي دار القرار وهي الدار التي يغبط من أعطيها ويعزى من حرمها إنما هي سعدة للذين لا يريدون علوا في الارض ولا فسادا.
فالعلو هو التكبر والفخر والاشر والبطر والفساد هو عمل المعاصي اللازمة (1)، والمتعدية من أخذ أموال الناس وإفساد معايشهم والاساءة إليهم وعدم النصح لهم ثم قال تعالى (والعاقبة للمتقين) وقصة قارون هذه قد تكون قبل خروجهم من مصر لقوله فخسفنا به وبداره الارض فإن الدار ظاهرة في البنيان وقد تكون بعد ذلك في التيه وتكون الدار عبارة عن المحلة التي تضرب فيها الخيام كما قال عنترة.
يا دار عبلة بالجواء تكلمي * وعمي صباحا دار عبلة واسلمي والله أعلم.
وقد ذكر الله تعالى مذمة قارون في غير ما آية من القرآن.
قال الله (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب) [ غافر: 23 - 24 ] وقال تعالى في سورة العنكبوت بعد ذكر عاد وثمود.
وقارون وفرعون وهامان (ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات فاستكبروا في الارض وما كانوا سابقين فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الارض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) [ العنكبوت: 30 - 40 ] (2) فالذي خسف به الارض قارون كما تقدم والذي أغرق فرعون وهامان وجنودهما أنهم كانوا خاطئين.
وقد قال الامام أحمد: حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا سعيد، حدثنا كعب بن علقمة، عن عيسى بن هلال الصدفي، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الصلاة يوما فقال: " من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف " (3).
انفرد به أحمد رحمه الله.
__________
(1) في نسخة القاصرة.
واللازمة هي المعاصي التي يقتصر ضررها على فاعلها دون تعديه للغير.
(2) وفيها: ولقد جاءهم موسى بالبينات.
(3) مسند أحمد 2 / 169.

باب [ ذكر ] (1) فضائل موسى عليه السلام وشمائله وصفاته ووفائه قال الله تعالى (واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا وناديناه من جانب الطور الايمن وقربنا نجيا ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا) [ مريم: 51 - 53 ] وقال تعالى (قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي) [ الاعراف: 144 ].
وتقدم في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تفضلوني على موسى فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فأجد موسى باطشا بقائمة العرش فلا أدري أصعق فأفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور " (2) وقدمنا أنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب الهضم والتواضع وإلا فهو صلوات الله وسلامه عليه خاتم الانبياء وسيد ولد آدم في الدنيا والآخرة قطعا جزما لا يحتمل النقيض.
وقال تعالى (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم واسماعيل واسحق ويعقوب والاسباط) [ النساء: 163 ] إلى أن قال (ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما) [ النساء: 164 ] وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها) [ الاحزاب: 69 ].
قال الامام أبو عبد الله البخاري: حدثنا اسحق بن ابراهيم بن روح بن عبادة، عن عوف، عن الحسن.
ومحمد وخلاس، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن موسى كان رجلا حييا ستيرا لا يرى جلده شئ استحياء منه فأذاه من أذاه من بني إسرائيل، فقالوا ما يستتر هذا التستر إلا من عيب بجلده، إما برص أو أدرة (3) وإما آفة، وأن الله عزوجل أراد أن يبرأه مما قالوا لموسى فخلا يوما وحده فوضع ثيابه على الحجر ثم اغتسل، فلما فرغ، أقبل على ثيابه ليأخذها، وأن الحجر عدا بثوبه فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر فجعل يقول ثوبي حجر ثوبي حجر حتى انتهى إلى ملا من بني اسرائيل، فرأوه عريانا أحسن ما خلق الله، وبرأه مما يقولون، وقام الحجر
فأخذ ثوبه فلبسه وطفق بالحجر ضربا بعصاه فوالله إن بالحجر لندبا من أثر ضربه ثلاثا أو أربعا أو خمسا قال فذلك قوله عزوجل: (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها) [ الاحزاب: 69 ] (4).
وقد رواه الامام أحمد من حديث عبد الله بن
__________
(1) سقطت من النسخ المطبوعة.
واستدركت من قصص الانبياء لابن كثير.
(2) تقدم تخريجه قريبا في هذا الجزء فليراجع.
(3) أدرة: فتق في إحدى الخصيتين (قاموس).
(4) أخرجه البخاري في صحيحه 5 / 20، 60 / 28 وأخرجه مسلم في صحيحه 43 / 155 / 156 والترمذي في سننه 44 / 33 وأحمد في مسنده 2 / 315 - 324 - 392 - 535.

شقيق وهمام بن منبه عن أبي هريرة به وهو في الصحيحين من حديث عبد الرزاق عن معمر عن همام عنه به ورواه مسلم من حديث عبد الله بن شقيق العقيلي عنه.
قال بعض السلف كان من وجاهته أنه شفع في أخيه عند الله وطلب منه أن يكون معه وزيرا فأجابه الله إلى سؤاله وأعطاه طلبته وجعله نبيا كما قال (ووهبنا له من رحمتنا أخاه هرون نبيا) ثم قال البخاري: حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة، حدثنا الاعمش.
سألت أبا وائل قال: سمعت عبد الله قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسما فقال رجل إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فغضب، حتى رأيت الغضب في وجهه ثم قال: " يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر " (1) وكذا رواه مسلم من غير وجه عن سليمان بن مهران الاعمش به.
وقال الامام أحمد: حدثنا أحمد بن حجاج، سمعت إسرائيل بن يونس، عن الوليد بن أبي هاشم - مولى لهمدان بن عن زيد بن أبي زائد، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لاصحابه: " لا يبلغني أحد عن أحد شيئا فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر " (2).
قال وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم مال فقسمه قال: فمررت برجلين، وأحدهما يقول لصاحبه ; والله ما أراد محمد بقسمته وجه الله، ولا الدار الآخرة فثبت حتى سمعت ما قالا.
ثم أتيت رسول الله، فقلت:
يا رسول الله، إنك قلت لنا: " لا يبلغني أحد عن أحد من أصحابي شيئا " وإني مررت بفلان وفلان وهما يقولان كذا وكذا فاحمر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وشق عليه.
ثم قال: " دعنا منك فقد أوذي موسى أكثر من ذلك فصبر ".
وهكذا رواه أبو داود والترمذي من حديث إسرائيل، عن الوليد بن أبي هاشم به، وفي رواية للترمذي ولابي داود من طريق ابن عبد عن إسرائيل عن السدي، عن الوليد به، وقال الترمذي غريب من هذا الوجه.
وقد ثبت في الصحيحين في أحاديث الاسراء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بموسى وهو قائم يصلي في قبره.
ورواه مسلم عن أنس.
وفي الصحيحين من رواية قتادة عن أنس عن مالك بن صعصعة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مر ليلة أسري به بموسى في السماء السادسة فقال له جبريل: هذا موسى، فسلم عليه، قال: " فسلمت عليه " فقال: مرحبا بالنبي الصالح والاخ الصالح.
" فلما تجاوزت " بكى.
قيل له: ما يبكيك قال: أبكي لان غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي (3).
وذكر إبراهيم في السماء السابعة.
وهذا هو المحفوظ وما وقع في حديث شريك ابن أبي نمر عن أنس من أن ابراهيم في السادسة وموسى في السابعة بتفضيل كلام الله فقد ذكر غير واحد من الحفاظ أن الذي عليه
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه 80 / 19 / 6336 فتح الباري وأخرجه مسلم في صحيحه 12 / 46 / 140.
(2) مسند أحمد ج 1 / 396.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه في رواية طويلة في 18 / 1 / 349 فتح الباري.
وأخرجه مسلم في صحيحه 1 كتاب الايمان / 259 والنسائي في سننه في (5) كتاب الصلاة (1) باب فرض الصلاة في رواية طويلة.

الجادة أن موسى في السادسة وإبراهيم في السابعة وأنه مسند ظهره إلى البيت المعمور الذي يدخله كل يوم سبعون ألفا من الملائكة ثم لا يعودون إليه آخر ما عليهم.
واتفقت الروايات كلها على أن الله تعالى لما فرض على محمد صلى الله عليه وسلم وأمته خمسين صلاة في اليوم والليلة فمر بموسى قال: ارجع إلى ربك فسله التخفيف لامتك، فإني قد عالجت بني إسرائيل قبلك أشد المعالجة وإن أمتك أضعف اسماعا وأبصارا وأفئدة فلم يزل يتردد بين موسى وبين الله عزوجل ويخفف عنه في كل مرة حتى
صارت إلى خمس صلوات في اليوم والليلة.
وقال الله تعالى هي خمس وهي خمسون (1) أي بالمضاعفة فجزى الله عنا محمدا صلى الله عليه وسلم خيرا وجزى الله عنا موسى عليه السلام خيرا.
وقال البخاري: حدثنا مسدد، حدثنا حصين بن نمير، عن حصين بن عبد الرحمن، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم: يوما فقال: " عرضت علي الامم ورأيت سوادا كثيرا سد الافق فقيل هذا موسى في قومه ".
هكذا روى البخاري هذا الحديث ههنا مختصرا.
وقد رواه الامام أحمد مطولا فقال: حدثنا شريح، حدثنا هشام، حدثنا حصين بن عبد الرحمن.
قال: كنت عند سعيد بن جبير فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة قلت: أنا ثم قلت: إني لم أكن في صلاة ولكن لدغت.
قال وكيف فعلت قلت استرقيت.
قال وما حملك على ذلك ؟ قال: قلت: حديث حدثناه الشعبي عن بريدة الاسلمي أنه قال: لا رقية إلا من عين أو حمة فقال سعيد - يعني ابن جبير - قد أحسن من انتهى إلى ما سمع ثم قال: حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: عرضت علي الامم فرأيت النبي ومعه الرهط والنبي معه الرجل والرجلان والنبي وليس معه أحد إذ رفع لي سواد عظيم فقلت: هذه أمتي فقيل هذا موسى وقومه ولكن انظر إلى الافق فإذا سواد عظيم * ثم قيل انظر إلى هذا الجانب فإذا سواد عظيم فقيل: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب، ولا عذاب ثم نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل فخاض القوم في ذلك فقالوا: من هؤلاء الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ؟ فقال بعضهم لعلهم الذين صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال بعضهم لعلهم الذين ولدوا في الاسلام ولم يشركوا بالله شيئا قط وذكروا أشياء فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " ما هذا الذي كنتم تخوضون فيه ؟ " فأخبروه بمقالتهم فقال: " هم الذين لا يكنوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون " فقام عكاشة بن محيصن الاسدي فقال: أنا منهم يا رسول الله ؟ قال: " أنت منهم " * ثم قام آخر فقال: أنا منهم يا رسول الله ؟ فقال: " سبقك بها عكاشة " (2).
وهذا الحديث له طرق كثيرة جدا وهو في الصحاح والحسان وغيرها وسنوردها إن شاء الله تعالى في باب صفة الجنة عند ذكر أحوال القيامة وأهوالها.
وقد ذكر الله تعالى موسى عليه السلام في القرآن كثيرا، وأثنى عليه، وأورد قصته في كتابه
__________
(1) قال السيوطي في شرح سنن النسائي 1 / 221: المراد خمس عددا باعتبار الفعل وخمسون اعتداد باعتبار الثواب.
(2) مسند الامام أحمد ج 1 / 271 - 401 - 403 - 420 - 454، 2 / 302 - 351 - 456، 4 / 436.

العزيز مرارا وكررها كثيرا، مطولة ومبسوطة ومختصرة، وأثنى عليه بليغا.
وكثيرا ما يقرنه الله ويذكره ويذكر كتابه مع محمد صلى الله عليه وسلم وكتابه كما قال في سورة البقرة (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون) [ البقرة: 101 ] وقال تعالى (آلم الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والانجيل من قبل هدى للناس وانزل الفرقان أن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام) [ آل عمران: 1 - 4 ] وقال تعالى في سورة الانعام (وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شئ قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباءكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون.
وهذا كتاب انزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالاخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون) [ الانعام: 91 - 92 ] فأثنى تعالى على التوراة، ثم مدح القرآن العظيم مدحا عظيما وقال تعالى في آخرها (ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شي وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون.
وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون) [ الانعام: 154 ] وقال تعالى في سورة المائدة (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين اسلموا للذين هادوا والربانيون والاحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) [ المائدة: 44 ] إلى أن قال: (وليحكم أهل الانجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون.
وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه
الآية) [ المائدة: 47 - 48 ] فجعل القرآن حاكما على سائر الكتب غيره وجعله مصدقا لها ومبينا ما وقع فيها من التحريف والتبديل فإن أهل الكتاب استحفظوا على ما بأيديهم من الكتب، فلم يقدروا على حفظها، ولا على ضبطها، وصونها، فلهذا دخلها ما دخلها من تغييرهم وتبديلهم لسوء فهو مهم وقصورهم في علومهم وردائة قصودهم، وخيانتهم لمعبودهم، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة ولهذا يوجد في كتبهم من الخطأ البين على الله وعلى رسوله ما لا يحد ولا يوصف وما لا يوجد مثله ولا يعرف.
وقال تعالى في سورة الانبياء (ولقد آتينا موسى وهرون الفرقان وضياء وذكرى للمتقين.
الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون.
وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون) [ الانبياء: 48 - 50 ] وقال الله تعالى في سورة القصص.
(فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون.
قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين) [ القصص: 48 - 49 ] فأثنى الله على الكتابين وعلى الرسولين عليهما السلام.
وقالت الجن

لقومهم إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى.
وقال ورقة بن نوفل لما قص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى من أول الوحي وتلا عليه (اقرأ باسم ربك الذي خلق.
خلق الانسان من علق.
اقرأ وربك الاكرم الذي علم بالقلم.
علم الانسان ما لم يعلم) [ العلق: 1 - 5 ] قال سبوح سبوح هذا الناموس الذي انزل على موسى بن عمران، وبالجملة فشريعة موسى عليه السلام كانت عظيمة وأمته كانت أمة كثيرة ووجد فيها أنبياء، وعلماء، وعباد، وزهاد، وألباء، وملوك، وأمراء، وسادات، وكبراء.
لكنهم كانوا فبادوا، وتبدلوا، كما بدلت شريعتهم ومسخوا قردة وخنازير، ثم نسخت بعد كل حساب ملتهم، وجرت عليهم خطوب، وأمور يطول ذكرها، ولكن سنورد ما فيه مقنع لمن أراد أن يبلغه خبرها إن شاء الله * وبه الثقة وعليه التكلان.
[ ذكر حجه ] (1) عليه السلام إلى البيت العتيق [ وصفته ] (1)
قال الامام أحمد: حدثنا هشام (2)، حدثنا داود بن أبي هند، عن أبي العالية، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بوادي الازرق فقال: أي واد هذا ؟ ".
قالوا وادي الازرق.
قال: " كأني أنظر إلى موسى وهو هابط من الثنية وله جؤار إلى الله عزوجل بالتلبية " حتى أتى على ثنية هرشاء.
فقال: " أي ثنية هذه ؟ " قالوا هذه ثنية هرشاء.
قال: " كأني أنظر إلى يونس بن متى على ناقة حمراء عليه جبة من صوف خطام ناقته خلبة " (3).
قال هشيم يعني ليفا وهو يلبي.
أخرجه مسلم من حديث داود بن أبي هند به.
وروى الطبراني عن ابن عباس مرفوعا إن موسى حج على ثور أحمر وهذا غريب جدا.
وقال الامام أحمد: حدثنا محمد بن أبي عدي، عن ابن عون، عن مجاهد قال كنا عند ابن عباس فذكروا الدجال فقال إنه مكتوب بين عينيه (ك ف ر) قال ما يقولون قال يقولون مكتوب بين عينيه (ك ف ر) فقال ابن عباس لم أسمعه قال ذلك ولكن.
قال: أما ابراهيم فانظروا إلى صاحبكم، وأما موسى: فرجل آدم جعد الشعر على جمل أحمر مخطوم بخلبة كأني أنظر إليه وقد انحدر من الوادي يلبي " (4) قال هشيم الخلبة الليف * ثم رواه الامام أحمد: عن أسود، عن إسرائيل، عن عثمان بن المغيرة، عن مجاهد عن ابن عباس قال: قال
__________
(1) سقطت من النسخ المطبوعة.
وفي نسخة: حجته بدل حجة.
(2) أخرجه أحمد في مسنده ج 1 / 215 - 216 وفيه: عن هشيم وقد ورد صحيحا في نهاية الحديث، وأخرجه مسلم في صحيحه (1) كتاب الايمان 74 / 268 وابن ماجة في سننه 25 / 4 / 2891.
(3) في الحديث: - وادي الازرق: خلف أمج إلى مكة بميل.
وقد يجمع فيقال الازارق معجم ما استعجم 1 / 146.
- جؤار: قال ابن الاثير في النهاية: الجؤار رفع الصوت والاستغاثة.
- ثنية هرشاء: جبل على طريق الشام والمدينة قريب من الجحفة.
- خطام: حبل يجعل على خطم البعير، ويقاد به.
(4) أخرجه أحمد في مسنده ج 1 / 215 - 216 والبخاري في صحيحه 60 / 8 / 3355 فتح الباري.

رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رأيت عيسى بن مريم وموسى بن إبراهيم، فأما عيسى: فأبيض جعد عريض الصدر.
وأما موسى فآدم جسيم ".
قالوا فإبراهيم ؟ قال: " أنظروا إلى صاحبكم " (1).
وقال الامام أحمد حدثنا يونس، حدثنا شيبان، قال: حدث قتادة عن أبي العالية، حدثنا ابن عم نبيكم ابن عباس قال: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: " رأيت ليلة أسري بي موسى بن عمران رجلا طوالا جعدا كأنه من رجال شنؤة، ورأيت عيسى بن مريم مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض سبط الرأس " (1) وأخرجاه من حديث قتادة به.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، قال الزهري وأخبرني سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " حين أسري به لقيت موسى فنعته.
فقال رجل: قال: حسبته - قال: مضطرب رجل الرأس، كأنه من رجال شنؤة، [ قال ]: ولقيت عيسى.
فنعته رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " ربعة أحمر كأنما خرج من ديماس يعني حماما قال ورأيت إبراهيم وأنا أشبه [ ولده ] به الحديث (3) وقد تقدم غالب هذه الاحاديث في ترجمة الخليل.
ذكر وفاته عليه السلام قال البخاري في صحيحه: " وفاة موسى عليه السلام ": حدثنا يحيى بن موسى، حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر، عن إبن طاووس، عن أبيه، عن أبي هريرة قال أرسل ملك الموت إلى موسى عليه السلام، فلما جاءه صكه (4) فرجع إلى ربه عزوجل.
فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت قال: ارجع إليه فقل له يضع يده على متن ثور، فله بما غطت يده بكل شعرة سنة قال: أي رب ثم ماذا ؟ قال: ثم الموت، قال: فالآن.
قال: فسأل الله عزوجل أن يدنيه من الارض المقدسة رمية بحجر.
قال أبو هريرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فلو كنت ثم لاريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الاحمر " (5) قال: (6) وأنبأنا معمر عن همام عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
وقد روى مسلم الطريق الاول من حديث عبد الرزاق به ورواه الامام أحمد من حديث
__________
(1) أحمد المصدر السابق وأخرجه البخاري في 60 / 48 / 3438.
(2) أخرجه مسلم في 1 / كتاب الايمان 74 باب الاسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم ح 267 ص 1 / 151 والبخاري في أحاديث
الانبياء، ومسلم في كتاب الايمان ح 272 كلاهما من حديث شعبة عن قتادة مختصرا.
وأخرجاه عن أبي هريرة بنحوه.
وأخرجه الترمذي في أول تفسير سورة الاسراء عن محمود بن غيلان.
(3) تقدم تخريجه - راجع الحاشية رقم 6 القسم الاخير منها.
(4) صكه: لطمه.
(5) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب المناقب (60) 31 باب / 3407 فتح الباري.
وأخرجه مسلم في صحيحه في 43 كتاب الفضائل 42 / 157 والنسائي في سننه 21 / 120، وأخرجه الامام أحمد في مسنده 2 / 269 - 315 - 351 - 522.
(6) قال: أي البخاري.

حماد بن سلمة عن عمار بن أبي عمار عن أبي هريرة مرفوعا وسيأتي.
وقال الامام أحمد: حدثنا الحسن، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا أبو يونس - يعني سليم بن جبير - عن أبي هريرة، قال الامام أحمد: لم يرفعه.
قال جاء ملك الموت إلى موسى عليه السلام فقال: أجب ربك فلطم موسى عين ملك الموت.
ففقأها.
فرجع الملك إلى الله فقال إنك بعثتني إلى عبد لك لا يريد الموت.
قال: وقد فقأ عيني قال: فرد الله عينه، وقال: ارجع إلى عبدي فقل له الحياة تريد فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور فما وارت يدك من شعره فإنك تعيش بها سنة.
قال: ثم مه ؟ قال: ثم الموت قال: فالآن يا رب من قريب ".
تفرد به أحمد وهو موقوف بهذا اللفظ.
وقد رواه ابن حبان في صحيحه من طريق معمر عن ابن طاووس عن أبيه، عن أبي هريرة، قال معمر: وأخبرني من سمع الحسن عن رسول الله فذكره.
ثم استشكله ابن حبان وأجاب عنه بما حاصله: أن ملك الموت لما قال له هذا لم يعرفه لمجيئه له على غير صورة يعرفها موسى عليه السلام، كما جاء جبريل في صورة أعرابي وكما وردت الملائكة على إبراهيم ولوط في صورة شباب فلم يعرفهم ابراهيم ولا لوط أولا، وكذلك موسى لعله لم يعرفه، لذلك ولطمه ففقأ عينه لانه دخل داره بغير أذنه، وهذا موافق لشريعتنا في جواز فق ء عين من نظر إليك في دارك بغير إذن * ثم أورد الحديث من طريق
عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " جاء ملك الموت إلى موسى ليقبض روحه، قال له: أجب ربك، فلطم موسى عين ملك الموت ففقأ عينه وذكر تمام الحديث.
كما أشار إليه البخاري ثم تأوله على أنه لما رفع يده ليلطمه، قال له أجب ربك، وهذا التأويل لا يتمشى على ما ورد به اللفظ من تعقيب قوله أجب ربك بلطمه ولو أستمر على الجواب الاول لتمشى له، وكأنه لم يعرفه في تلك الصورة، ولم يحمل قوله هذا على أنه مطابق، إذ لم يتحقق في الساعة الراهنة أنه ملك كريم، لانه كان يرجو أمورا كثيرة، كان يحب وقوعها في حياته من خروجه من التيه، ودخولهم الارض المقدسة، وكان قد سبق في قدرة الله أنه عليه السلام يموت في التيه بعد هرون أخيه، كما سنبينه إن شاء الله تعالى.
وقد زعم بعضهم أن موسى عليه السلام هو الذي خرج بهم من التيه ودخل بهم الارض المقدسة.
وهذا خلاف ما عليه أهل الكتاب وجمهور المسلمين.
ومما يدل على ذلك قوله لما اختار الموت: رب أدنني إلى الارض المقدسة رمية حجر.
ولو كان قد دخلها لم يسأل ذلك، ولكن لما كان مع قومه بالتيه، وحانت وفاته عليه السلام أحب أن يتقرب إلى الارض التي هاجر إليها، وحث قومه عليها، ولكن حال بينهم وبينها القدر رمية بحجر.
ولهذا قال سيد البشر، ورسول الله إلى أهل الوبر والمدر: " فلو كنت ثم لاريتكم قبره عند الكثيب الاحمر ".
وقال الامام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد، حدثنا ثابت، وسليمان التيمي، عن أنس بن مالك، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لما أسري بي مررت بموسى وهو قائم يصلي في قبره عند الكثيب الاحمر " (1) ورواه مسلم من حديث حماد بن سلمة به وقال السدي، عن
__________
(1) مسند أحمد ج 3 / 148 - 248 وأخرجه مسلم في 43 كتاب الفضائل حديث / 164، والنسائي في قيام الليل.

أبي مالك، وأبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة قالوا: ثم إن الله تعالى أوحى إلى موسى إني متوف هرون فائت به جبل كذا وكذا فانطلق موسى وهرون نحو ذلك الجبل فإذا هم بشجرة.
لم تر شجرة مثلها، وإذا هم ببيت مبنى وإذا هم بسرير عليه فرش، وإذا فيه ريح طيبة، فلما نظر هرون إلى ذلك الجبل والبيت وما فيه أعجبه، قال: يا موسى
إني أحب أن أنام على هذا السرير قال له موسى: فنم عليه قال: إني أخاف أن يأتي رب هذا البيت فيغضب علي قال: له: لا ترهب أنا أكفيك رب هذا البيت فنم.
قال: يا موسى نم معي، فإن جاء رب هذا البيت غضب علي وعليك جميعا.
فلما ناما أخذ هرون الموت فلما وجد حسه قال: يا موسى خدعتني فلما قبض رفع ذلك البيت، وذهبت تلك الشجرة، ورفع السرير به إلى السماء، فلما رجع موسى إلى قومه وليس معه هرون قالوا: فإن موسى قتل هرون وحسده حب بني إسرائيل له، وكان هرون أكف عنهم وألين لهم من موسى، وكان في موسى بعض الغلظة عليهم، فلما بلغه ذلك قال لهم: ويحكم كان أخي أفتروني أقتله.
فلما أكثروا عليه قام فصلى ركعتين ثم دعا الله فنزل السرير حتى نظروا إليه بين السماء والارض.
ثم إن موسى عليه السلام بينما هو يمشي ويوشع فتاه إذ أقبلت ريح سوداء، فلما نظر إليها يوشع ظن أنها الساعة فالتزم موسى وقال: تقوم الساعة وأنا ملتزم موسى نبي الله فاستل موسى عليه السلام من تحت القميص وترك القميص في يدي يوشع.
فلما جاء يوشع بالقميص آخذته بنو إسرائيل وقالوا: قتلت نبي الله.
فقال: لا والله ما قتلته ولكنه أستل مني فلم يصدقوه وأرادوا قتله.
قال: فإذا لم تصدقوني فأخروني ثلاثة أيام، فدعا الله فأتى كل رجل ممن كان يحرسه في المنام فأخبر أن يوشع لم يقتل موسى وإنا قد رفعناه إلينا فتركوه، ولم يبق أحد ممن أبى أن يدخل قرية الجبارين مع موسى إلا مات، ولم يشهد الفتح وفي بعض هذا السياق نكارة وغرابة والله أعلم.
وقد قدمنا أنه لم يخرج أحد من التيه ممن كان مع موسى سوى يوشع بن نون وكالب بن يوقنا وهو زوج مريم أخت موسى وهرون وهما الرجلان المذكوران فيما تقدم، اللذان أشارا على ملا بني إسرائيل بالدخول عليهم وذكر وهب بن منبه أن موسى عليه السلام مر بملا من الملائكة يحفرون قبرا فلم ير أحسن منه، ولا أنضر، ولا أبهج، فقال: يا ملائكة الله لمن تحفرون هذا القبر، فقالوا لعبد من عباد الله كريم، فإن كنت تحب أن تكون هذا العبد فادخل هذا القبر، وتمدد فيه وتوجه إلى ربك، وتنفس أسهل تنفس ففعل ذلك فمات صلوات الله وسلامه عليه فصلت عليه الملائكة ودفنوه * وذكر أهل الكتاب وغيرهم أنه مات وعمره مائة وعشرون سنة.
وقد قال الامام أحمد: حدثنا أمية بن خالد ويونس قالا: حدثنا حماد بن
سلمة، عن عمار بن أبي عمار (1) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال يونس رفع هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم - قال: كان ملك الموت يأتي الناس عيانا قال فأتى موسى عليه السلام فلطمه ففقأ عينه
__________
= وأخرجه البيهقي في دلائل النبوة ج 2 / 387.
(1) عمار هذا مولى بني هاشم.

فأتى ربه فقال يا رب عبدك موسى فقأ عيني ولولا كرامته عليك لعتبت عليه.
وقال يونس لشققت عليه.
قال له: اذهب إلى عبدي.
فقل له: فليضع يده على جلد (أو) مسك ثور فله بكل شعرة وارت يده سنة، فأتاه فقال له فقال ما بعد هذا قال الموت قال فالان قال فشمه شمة فقبض روحه.
قال يونس فرد الله عليه عينه وكان يأتي الناس خفية * وكذا رواه ابن جرير عن أبي كريب عن مصعب بن المقدام عن حماد بن سلمة به فرفعه أيضا (1).
[ ذكر ] (2) نبوة يوشع وقيامه باعباء بني اسرائيل بعد موسى وهرون [ عليهما السلام ] (2) هو يوشع بن نون بن أفرائيم يوسف بن يعقوب بن اسحق بن إبرهيم الخليل عليهم السلام وأهل الكتاب يقولون يوشع ابن عم هود.
وقد ذكره الله تعالى في القرآن غير مصرح باسمه في قصة الخضر كما تقدم من قوله (وإذ قال موسى لفتاه) [ الكهف: 60 ] * فلما جاوزا قال لفتاه) [ الكهف: 62 ] وقدمنا ما ثبت في الصحيح من رواية أبي بن كعب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنه يوشع بن نون وهو متفق على نبوته عند أهل الكتاب فان طائفة منهم وهم السامرة لا يقرون بنبوة أحد بعد موسى إلا يوشع بن نون لانه مصرح به في التوراة ويكفرون بما وراءه وهو الحق [ مصدقا لما معهم ] (4) من ربهم فعليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة.
وأما ما حكاه ابن جرير وغيره من المفسرين عن محمد بن اسحق من أن النبوة حولت (3) من موسى إلى يوشع في آخر عمر موسى فكان موسى يلقى يوشع فيسأله ما أحدث الله [ إليه ] (4) من الاوامر والنواهي حتى قال له يا كليم الله إني كنت لا أسألك عما يوحي الله اليك حتى تخبرني أنت
ابتداء من تلقاء نفسك فعند ذلك كره موسى الحياة وأحب الموت، ففي هذا نظر لان موسى عليه السلام لم يزل الامر والوحي والتشريع والكلام من الله إليه من جميع أحواله حتى توفاه الله عزوجل ولم يزل معززا مكرما مدللا وجيها عند الله كما قدمنا في الصحيح من قصة فقئه عين ملك الموت، ثم بعثه الله إليه ان كان يريد الحياة فليضع يده على جلد ثور، فله بكل شعرة وارت يده سنة يعيشها، قال: ثم ماذا ؟ قال: الموت.
قال: فالآن يا رب وسأل الله أن يدنيه إلى بيت المقدس رمية بحجر.
وقد أجيب إلى ذلك صلوات الله وسلامه عليه فهذا الذي ذكره محمد بن اسحق إن كان إنما يقوله من كتب أهل الكتاب ففي كتابهم الذي يسمونه التوراة: أن الوحي لم يزل ينزل على
__________
(1) تاريخ الطبري ج 1 / 224.
(2) ما بين معكوفين سقط من النسخ المطبوعة.
(3) في نسخة: تحولت، وفي الطبري: فحولت.
(4) ما بين معكوفين سقط من نسخ البداية والنهاية المطبوعة ; واستدرك من نسخة قصص الانبياء لابن كثير المطبوعة.

موسى في كل حين يحتاجون إليه إلى آخر مدة موسى كما هو المعلوم من سياق كتابهم عند تابوت الشهادة في قبة الزمان.
وقد ذكروا في السفر الثالث أن الله أمر موسى وهارون أن يعدا بني اسرائيل على أسباطهم، وأن يجعلا على كل سبط من الاثني عشر أميرا، وهو النقيب وما ذاك إلا ليتأهبوا للقتال قتال الجبارين عند الخروج من التيه وكان هذا عند اقتراب انقضاء الاربعين سنة.
ولهذا قال بعضهم إنما فقأ موسى عليه السلام عين ملك الموت لانه لم يعرفه في صورته تلك، ولانه كان قد أمر بأمر كان يرتجي وقوعه في زمانه، ولم يكن في قدر الله أن يقع ذلك في زمانه، بل في زمان فتاه يوشع بن نون عليه السلام: كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد أراد غزو الروم بالشام فوصل إلى تبوك، ثم رجع عامه ذلك في سنة تسع.
ثم حج في سنة عشر، ثم رجع فجهز جيش أسامة إلى الشام، طليعة بين يديه، ثم كان على عزم الخروج إليهم امتثالا لقوله تعالى (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا
الكتاب حتى يعطو الجزية عن يد وهم صاغرون) [ التوبة: 29 ] ولما جهز رسول الله جيش أسامة توفي عليه الصلاة والسلام، وأسامة مخيم بالجرف (1)، فنفذه صديقه وخليفته أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، ثما لما لم شعث جزيرة العرب وما كان دهى من أمر أهلها، وعاد الحق إلى نصابه، جهز الجيوش يمنة ويسرة إلى العراق أصحاب كسرى ملك الفرس، وإلى الشام أصحاب قيصر ملك الروم، ففتح الله لهم ومكن لهم وبهم، وملكهم نواصي اعدائهم كما سنورده عليك في موضعه.
إذا انتهينا إليه مفصلا إن شاء الله بعونه وتوفيقه وحسن ارشاده * وهكذا موسى عليه السلام كان الله قد أمره أن يجند بني إسرائيل وأن يجعل عليهم نقباء كما قال تعالى (ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم أثني عشر نقيبا، وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعززتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لاكفرن عنكم سيأتكم ولادخلنكم جنات تجري من تحتها الانهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل) [ المائدة: 12 ] يقول لهم: لئن قمتم بما أوجبت عليكم، ولم تنكلوا عن القتال كما نكلتم أول مرة، لاجعلن ثواب هذه مكفرا لما وقع عليكم من عقاب تلك، كما قال تعالى لمن تخلف من الاعراب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية (قل للمخلفين من الاعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فان تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما) [ الفتح: 16 ].
وهكذا قال تعالى لبني إسرائيل - فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل) ثم ذمهم تعالى على سوء صنيعهم ونقضهم مواثيقهم كما ذم من بعدهم من النصارى على اختلافهم في دينهم وأديانهم.
وقد ذكرنا ذلك في التفسير مستقصى ولله الحمد.
والمقصود أن الله تعالى أمر موسى عليه السلام أن يكتب أسماء المقاتلة من بني إسرائيل ممن
__________
(1) الجرف: موضع عن ثلاثة أميال من المدينة نحو الشام، وبه كانت أموال لعمر بن الخطاب ولاهل المدينة وفيه بئر جشم وبئر جمل ياقوت 2 / 128.

يحمل السلاح ويقاتل ممن بلغ عشرين سنة فصاعدا وأن يجعل على كل سبط نقيبا منهم.
السبط
الاول سبط روبيل لانه بكر يعقوب كان عدة المقاتلة منهم ستة وأربعين ألفا وخمسمائة.
ونقيبهم منهم وهو اليصور بن شديئورا.
السبط الثاني سبط شمعون وكانوا تسعة وخمسين ألفا وثلاثمائة.
ونقيبهم شلوميئيل بن هوريشداي.
السبط الثالث سبط يهوذا وكانوا أربعة وسبعين ألفا وستمائة.
ونقيبهم نحشون بن عميناداب.
السبط الرابع سبط ايساخر وكانوا أربعة وخمسين ألفا وأربعمائة ونقيبهم نشائيل بن صوغر.
السبط الخامس سبط يوسف عليه السلام وكانوا أربعين ألفا وخمسمائة ونقيبهم يوشع بن نون.
السبط السادس سبط ميشا وكانوا أحدا وثلاثين ألفا ومائتين (1) ونقيبهم جمليئيل بن فدهصور.
السبط السابع سبط بنيامين وكانوا خمسة وثلاثين ألفا وأربعمائة ونقيبهم أبيدن بن جد عون.
السبط الثامن سبط حاد وكانوا خمسة وأربعة ألفا وستمائة وخمسين رجلا ونقيبهم الياساف بن رعوئيل.
السبط التاسع سبط أشير وكانوا أحدا وأربعين ألفا وخمسمائة ونقيبهم فجعيئيل بن عكرن.
السبط العاشر سبط دان وكانوا إثنين وستين ألفا وسبعمائة ونقيبهم أخيعزر بن عمشداي.
السبط الحادي عشر سبط نفتالي وكانوا ثلاثة وخمسين الفا وأربعمائة.
ونقيبهم أخيرع بن عين السبط الثاني عشر سبط زبولون وكانوا سبعة وخمسين ألفا وأربعمائة ونقيبهم الباب بن حيلون.
هذا نص كتابهم الذي بأيديهم والله أعلم.
وليس منهم بنو لاوي فأمر الله موسى أن لا يعدهم معهم، لانهم موكلون بحمل قبة الشهادة وضربها [ وخزنها ] (2) ونصبها وحملها إذا ارتحلوا وهم سبط موسى وهرون عليهما السلام وكانوا اثنين وعشرين ألفا من ابن شهر فما فوق ذلك * وهم في أنفسهم قبائل من كل قبيلة طائفة من قبة الزمان يحرسونها ويحفظونها ويقومون بمصالحها ونصبها وحملها، وهم كلهم حولها، ينزلون ويرتحلون أمامها ويمنتها وشمالها ووراءها.
وجملة ما ذكر من المقاتلة غير بني لاوي خمسمائة ألف وأحد وسبعون ألفا وستمائة وستة وخمسون.
لكن قالوا: فكان عدد بني إسرائيل ممن عمره عشرون سنة فما فوق ذلك، ممن حمل السلاح ستمائة ألف وثلاثة آلاف وخمسمائة وخمسة وخمسين رجلا سوى بني لاوي وفي هذا نظر.
فإن جميع الجمل المتقدمة إن كانت كما وجدنا في كتابهم لا تطابق الجملة التي ذكروها والله أعلم.
فكان بنو لاوي الموكلون بحفظ قبة الزمان يسيرون في وسط بني إسرائيل، وهم
القلب، ورأس الميمنة بنو روبيل، ورأس الميسرة بنودان (3) وبنو نفتالي يكونون ساقة * وقرر موسى عليه السلام - بأمر الله تعالى له - الكهانة في بني هرون كما كانت لابيهم من قبلهم، وهم ناداب وهو بكره، وأبيهو، والعازر، ويثمر.
والمقصود أن بني إسرائيل لم يبق منهم أحد ممن كان نكل
__________
(1) في نسخة: ومائة، وفي نسخة وأربعمائة.
(2) سقطت من النسخ المطبوعة.
(3) في نسخة ران.

عن دخول مدينة الجبارين الذين قالوا (فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون) [ المائدة: 24 ] قاله الثوري عن أبي سعيد، عن عكرمة، عن ابن عباس.
وقال قتادة وعكرمة.
ورواه السدي، عن ابن عباس.
وابن مسعود وناس من الصحابة، حتى قال ابن عباس وغيره من علماء السلف والخلف ومات موسى وهرون قبله كلاهما في التيه جميعا (1).
وقد زعم ابن اسحق أن الذي فتح بيت المقدس هو موسى وإنما كان يوشع على مقدمته وذكر في مروره (2) إليها قصة بلعام بن باعور الذي قال تعالى فيه (وأتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فاتبعه الشيطان فكان من الغاوين * ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الارض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب أن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث.
ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون.
ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون) [ الاعراف: 175 - 177 ] وقد ذكرنا قصته في التفسير وأنه كان فيما قاله ابن عباس وغيره يعلم الاسم الاعظم، وأن قومه سألوه أن يدعو على موسى وقومه، فامتنع عليهم ولما ألحوا عليه ركب حمارة له ; ثم سار نحو معسكر بني إسرائيل فلما أشرف عليهم ربضت به حمارته فضربها حتى قامت، فسارت غير بعيد وربضت، فضربها ضربا أشد من الاول، فقامت ثم ربضت، فضربها فقالت له يا بلعام أين تذهب، أما ترى الملائكة أمامي تردني عن وجهي هذا أتذهب إلى نبي الله والمؤمنين تدعو عليهم، فلم ينزع عنها فضربها حتى سارت به، حتى أشرف عليهم من رأس جبل
حسبان.
ونظر إلى معسكر موسى وبني إسرائيل فأخذ يدعو علبهم فجعل لسانه لا يطيعه إلا أن يدعو لموسى وقومه، ويدعو على قوم نفسه فلاموه على ذلك، فاعتذر إليهم بأنه لا يجري على لسانه إلا هذا، واندلع لسانه حتى وقع على صدره، وقال لقومه: ذهبت مني الآن الدنيا والآخرة ولم يبق إلا المكر والحيلة.
ثم أمر قومه أن يزينوا النساء ويبعثوهن بالامتعة يبعن عليهم ويتعرضن لهم حتى لعلهم يقعون في الزنا، فإنه متى زنى رجل منهم كفيتموهم، ففعلوا وزينوا نساءهم، وبعثوهن إلى المعسكر فمرت إمرأة منهم (3) اسمها كستى برجل من عظماء بني إسرائيل وهو زمري بن شلوم.
يقال إنه كان رأس سبط بني شمعون بن يعقوب فدخل بها قبته، فلما خلا بها أرسل الله الطاعون على بني إسرائيل، فجعل يحوس فيهم، فلما بلغ الخبر إلى فنحاص بن العزار بن هرون (4) أخذ حربته، وكانت من حديد، فدخل عليها القبة فانتظمهما جميعا فيها، ثم خرج بهما على الناس والحربة في يده، وقد اعتمد على خاصرته وأسندها إلى لحيته ورفعهما نحو السماء وجعل يقول: اللهم هكذا
__________
(1) انظر الطبري ج 1 / 225.
(2) نقل الخبر الطبري ج 1 / 322 وفيه: ان موسى نزل أرض بني كنعان من أرض الشام وكان بلعم ببالعة قرية من قرى البلقاء.
(3) في الطبري: من الكنعانيين واسمها: كسبى ابنة صور.
(4) في الطبري: فنحاص بن العيزار بن هارون صاحب أمر موسى.

تفعل بمن يعصيك، ورفع الطاعون فكان جملة من مات في تلك الساعة سبعين ألفا والمقلل يقول عشرين ألفا وكان فنحاص بكر أبيه العزار بن هرون فلهذا يجعل بنو اسرائيل لولد فنحاص من الذبيحة اللية (1) والذراع واللحى ولهم البكر من كل أموالهم وأنفسهم.
وهذا الذي ذكره ابن اسحق من قصة بلعام صحيح قد ذكره غير واحد من علماء السلف لكن لعله لما أراد موسى دخول بيت المقدس أول مقدمه من الديار المصرية ولعله مراد بن اسحاق، ولكنه ما فهمه بعض الناقلين عنه وقد قدمنا عن نص التوراة ما يشهد لبعض هذا والله أعلم.
ولعل هذه قصة أخرى
كانت في خلال سيرهم في التيه فإن في هذا السياق ذكر حسبان وهي بعيدة عن أرض بيت المقدس أو لعله كان هذا لجيش موسى الذين عليهم يوشع بن نون حين خرج بهم من التيه قاصدا بيت المقدس كما صرح به السدي.
والله أعلم.
وعلى كل تقدير فالذي عليه الجمهور أن هرون توفي بالتيه قبل موسى أخيه بنحو من سنتين.
وبعده موسى في التيه أيضا كما قدمنا وأنه سأل ربه أن يقرب إلى بيت المقدس فأجيب إلى ذلك فكان الذي خرج بهم من التيه وقصد بهم بيت المقدس هو يوشع بن نون عليه السلام فذكر أهل الكتاب وغيرهم من أهل التاريخ أنه قطع بني اسرائيل نهر الاردن وانتهى إلى أريحا وكانت من أحصن المدائن سورا وأعلاها قصورا وأكثرها أهلا فحاصرها ستة أشهر.
ثم إنهم أحاطوا بها يوما وضربوا بالقرون يعني الابواق وكبروا تكبيرة رجل واحد فتفسخ سورها وسقط وجبة واحدة فدخلوها وأخذوا ما وجدوا فيها من الغنائم، وقتلوا إثني عشر ألفا من الرجال والنساء، وحاربوا ملوكا كثيرة.
ويقال إن يوشع ظهر على أحد وثلاثين ملكا من ملوك الشام.
وذكروا أنه انتهى محاصرته لها إلى يوم جمعة بعد العصر.
فلما غربت الشمس أو كادت تغرب ويدخل عليهم السبت الذي جعل عليهم وشرع لهم ذلك الزمان قال لها إنك مأمورة وأنا مأمور اللهم احبسها علي فحبسها الله عليه حتى تمكن من فتح البلد، وأمر القمر فوقف عند الطلوع، وهذا يقتضي أن هذه الليلة كانت الليلة الرابعة عشرة من الشهر الاول، وهو قصة الشمس المذكورة في الحديث الذي سأذكره.
وأما قصة القمر فمن عند أهل الكتاب ولا ينافي الحديث بل فيه زيادة تستفاد فلا تصدق ولا تكذب ولكن ذكرهم أن هذا في فتح اريحا فيه نظر، والاشبه والله أعلم أن هذا كان في فتح بيت المقدس الذي هو المقصود الاعظم وفتح اريحا كان وسيلة إليه والله أعلم.
قال الامام أحمد: حدثنا أسود بن عامر، حدثنا أبو بكر، عن هشام، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الشمس لم تحبس لبشر إلا ليوشع ليالي سار إلى بيت المقدس " (2).
انفرد به أحمد من هذا الوجه وهو على شرط البخاري.
وفيه دلالة على أن الذي فتح بيت المقدس هو يوشع بن نون عليه السلام لا موسى، وأن حبس الشمس كان في فتح بيت
__________
(1) في الطبري: القبة.
(2) مسند أحمد ج 2 / 325.

المقدس لا أريحا (1) كما قلنا.
وفيه أن هذا كان من خصائص يوشع عليه السلام، فيدل على ضعف الحديث الذي رويناه أن الشمس رجعت حتى صلى علي بن أبي طالب صلاة العصر بعد ما فاتته بسبب نوم النبي صلى الله عليه وسلم على ركبته فسأل رسول الله أن يردها عليه حتى يصلي العصر فرجعت.
وقد صححه علي بن صالح المصري ولكنه منكر ليس في شئ من الصحاح ولا الحسان وهو مما تتوفر الدواعي على نقله وتفردت بنقله امرأة من أهل البيت مجهولة لا يعرف حالها والله أعلم.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن همام، عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " غزا نبي من الانبياء فقال لقومه: لا يتبعني رجل قد ملك بضع امرأة، وهو يريد أن يبني بها ولما يبن.
ولا آخر قد بنى بنيانا، ولم يرفع سقفها، ولا آخر قد اشترى غنما أو خلفات (2) وهو ينتظر أولادها، فغزا فدنا من القرية حين صلى العصر أو قريبا من ذلك، فقال للشمس: أنت مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علي شيئا (3)، فحبست عليه حتى فتح الله عليه، فجمعوا ما غنموا، فأتت النار لتأكله فأبت أن تطعمه، فقال فيكم غلول، فليبايعني من كل قبيلة رجل، فبايعوه فلصقت يد رجل بيده، فقال فيكم الغلول ولتبايعني قبيلتك، فبايعته قبيلته، فلصق بيد رجلين أو ثلاثة فقال فيكم الغلول أنتم غللتم.
فأخرجوا له مثل رأس بقرة من ذهب، قال فوضعوه بالمال وهو بالصعيد، فأقبلت النار فأكلته، فلم تحل الغنائم لاحد من قبلنا ذلك بأن الله رأى ضعفنا وعجزنا فطيبها لنا " (4).
انفرد به مسلم من هذا الوجه.
وقد روى البزار من طريق مبارك بن فضالة، عن عبيدالله عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
قال ورواه محمد بن عجلان، عن سعيد المقبري، قال ورواه قتادة عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والمقصود أنه لما دخل بهم باب المدينة أمروا أن يدخلوها سجدا أي ركعا متواضعين شاكرين لله عزوجل على ما من به عليهم من الفتح العظيم الذي كان الله وعدهم
إياه وأن يقولوا حال دخولهم " حطة أي حط عنا خطيانا التي سلفت من نكولنا الذي تقدم منا.
ولهذا لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم فتحها دخلها وهو راكب ناقته، وهو متواضع حامد شاكر، حتى أن عثنونه - وهو طرف لحيته - ليمس مورك رحله، مما يطأطئ رأسه خضعانا لله عزوجل ومعه الجنود والجيوش ممن لا يرى منه إلا الحدق، ولا سيما الكتيبة الخضراء التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) روى الطبري الخبر وفيه أن يوشع مات [ وهو يقاتل سائر ملوك الشام ] ودفن في جبل افراييم وقام بعده سبط يهوذا وسبط شمعون بحرب الكنعانيين ودخلوا أورشليم وحارب بنو يهوذا سائر الكنعانيين واستولوا على أرضهم ج 1 / 229.
(2) خلفات: جمع خلفة ; وهي الحامل من الابل.
(3) قال القاضي: اختلف في حبس الشمس المذكور هنا.
فقيل ردت على أدراجها.
وقيل وقفت ولم ترد.
وقيل أبطئ بحركتها.
(4) أخرجه الامام أحمد في مسنده 2 / 318 وأخرجه مسلم في صحيحه في 32 كتاب الجهاد (11) باب تحليل الغنائم لهذه الامة 32 / 1747 وأخرجه البخاري في صحيحه 67 / 58 / 5157 فتح الباري - مختصرا.

ثم لما دخلها اغتسل وصلى ثماني ركعات، وهي صلاة الشكر على النصر، على المشهور من قولي العلماء.
وقيل إنها صلاة الضحى، وما حمل هذا القائل على قوله هذا إلا لانها وقعت وقت الضحى.
وأما بنو اسرائيل فإنهم خالفوا ما أمروا به قولا وفعلا دخلوا الباب يزحفون على أستاههم يقولون: حبة في شعرة، وفي رواية: حنطة في شعرة.
وحاصله أنهم بدلوا ما أمروا به، واستهزؤا به، كما قال تعالى حاكيا عنهم في سورة الاعراف وهي مكية (وإذا قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم فارسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون) [ الاعراف: 161 - 162 ] وقال في سورة البقرة وهي مدينة مخاطبا لهم (وإذ
قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين.
فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون) [ البقرة: 58 - 59 ].
وقال الثوري عن الاعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس (وادخلوا الباب سجدا) قال: ركعا من باب صغير.
رواه الحاكم وابن جرير وابن أبي حاتم.
وكذا روى العوفي عن ابن عباس، وكذا روى الثوري عن ابن اسحاق، عن البراء.
قال مجاهد والسدي والضحاك والباب هو باب حطة من بيت إيلياء ببيت المقدس.
قال ابن مسعود فدخلوا مقنعي رؤوسهم ضد ما أمروا به وهذا لا ينافي قول ابن عباس: أنهم دخلوا يزحفون على أستاههم.
وهكذا في الحديث الذي سنورده بعد فإنهم دخلوا يزحفون وهم مقنعوا رؤوسهم.
وقوله: وقولوا: " حطة " الواو هنا حالية لا عاطفة أي ادخلوا سجدا في حال قولكم حطة.
قال ابن عباس وعطاء والحسن وقتادة والربيع أمروا أن يستغفروا * قال البخاري: حدثنا محمد، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن ابن المبارك، عن معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " قيل لبني اسرائيل ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة فدخلوا يزحفون على استاههم فبدلوا وقالوا حطة حبة في شعرة " (1).
وكذا رواه النسائي من حديث ابن المبارك ببعضه، ورواه عن محمد بن اسماعيل بن إبراهيم، عن ابن مهدي به موقوفا.
وقد قال عبد الرزاق: أنبأنا معمر، عن همام بن منبه، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قال الله لبني اسرائيل ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم فبدلوا فدخلوا الباب يزحفون على أستاههم فقالوا: حبة في شعرة " (2).
ورواه البخاري
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه 6 / 2 / 3، 8 / 125 / 228 فتح الباري.
وأخرجه أحمد في مسنده ج 2 / 318.
(2) أخرجه مسلم في 54 كتاب التفسير 1 / 3015 والبخاري حديث رقم 1602.
وأخرجه الترمذي في 48 كتاب تفسير القرآن 3 باب من سورة البقرة حديث 2956 وفيه قال: " دخلوا متزحفين على أوراكهم ".

ومسلم والترمذي من حديث عبد الرزاق وقال الترمذي حسن صحيح.
وقال محمد بن اسحاق: كان تبديلهم كما حدثني صالح بن كيسان، عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة وعمن لا أتهم، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " دخلوا الباب الذي أمروا أن يدخلوا فيه سجدا يزحفون على أستاههم وهم يقولون حنطة في شعيرة ".
وقال اسباط عن السدي عن مرة عن ابن مسعود قال في قوله (فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم) قال قالوا: " هطى سقانا ازمة مزيا " فهي في العربية: " حبة حنطة حمراء مثقوبة فيها شعرة سوداء ".
وقد ذكر الله تعالى أنه عاقبهم على هذه المخالفة، بإرسال الرجز الذي أنزله عليهم، وهو الطاعون، كما ثبت في الصحيحين من حديث الزهري عن عامر بن سعد، ومن حديث مالك عن محمد بن المنكدر وسالم أبي النضر، عن عامر بن سعد، عن أسامة بن زيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن هذا الوجع (أو) السقم رجز عذب به بعض الامم قبلكم " (1).
ورى النسائي وابن أبي حاتم وهذا لفظه من حديث الثوري عن حبيب بن أبي ثابت، عن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، وأسامة بن زيد وخزيمة بن ثابت قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الطاعون رجز عذاب عذب به من كان قبلكم " وقال الضحاك عن ابن عباس: الرجز العذاب.
وكذا قال مجاهد وأبو مالك والسدي والحسن وقتادة.
وقال أبو العالية ; هو الغضب.
وقال الشعبي: الرجز إما الطاعون وإما البرد.
وقال سعيد بن جبير هو الطاعون.
ولما أستقرت يد بني إسرائيل على بيت المقدس أستمروا فيه، وبين أظهرهم نبي الله يوشع يحكم بينهم بكتاب الله التوراة حتى قبضه الله إليه وهو ابن مائة وسبع وعشرين (2) سنة فكان مدة حياته بعد موسى سبعا وعشرين سنة (3).
[ ذكر قصتي ] (4) الخضر والياس عليهما السلام أما الخضر: فقد تقدم أن موسى عليه السلام رحل إليه في طلب ما عنده من العلم اللدني، وقص الله من خبرهما في كتابه العزيز في سورة الكهف، وذكرنا في تفسير ذلك هنالك، وأوردنا هنا ذكر الحديث المصرح بذكر الخضر عليه السلام وأن الذي رحل إليه هو موسى بن عمران نبي بني إسرائيل عليه السلام الذي أنزلت عليه التوراة.
وقد اختلف في الخضر في اسمه ونسبه ونبوته وحياته، إلى الآن - على أقوال - سأذكرها لك
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده ج 1 / 193 والبخاري في صحيحه 90 / 13 / 6974 فتح الباري.
(2) في الطبري: مائة وست وعشرون سنة، وفيه: انها مات قبل فتح بيت المقدس، مات وهو يقاتل ملوك الشام ; وأما من فتح بيت المقدس.
وذكر المسعودي: كان عمره مائة وعشرون سنة.
(3) ذكر المسعودي 1 / 48: بقي بعد موسى تسعا وعشرين سنة، وأما الطبري فكالاصل.
(4) في النسخ المطبوعة: قصتا.

ههنا إن شاء الله وبحوله وقوته.
قال الحافظ ابن عساكر: يقال إنه الخضر بن آدم عليه السلام لصلبه، ثم روى من طريق الدارقطني: حدثنا محمد بن الفتح القلانسي، حدثنا العباس بن عبد الله الرومي، حدثنا رواد بن الجراح، حدثنا مقاتل بن سليمان، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: الخضر بن آدم لصلبه ونسئ له في أجله حتى يكذب الدجال.
وهذا منقطع وغريب.
وقال أبو حاتم سهل بن محمد بن عثمان السجستاني: سمعت مشيختنا منهم أبو عبيدة وغيره قالوا: إن أطول بني آدم عمرا الخضر، واسمه خضرون بن قابيل بن آدم.
قال: وذكر ابن إسحق: أن آدم عليه السلام لما حضرته الوفاة أخبر بنيه أن الطوفان سيقع بالناس، وأوصاهم إذا كان ذلك أن يحملوا جسده معهم في السفينة، وأن يدفنوه [ معهم ] (1) في مكان عينه لهم.
فلما كان الطوفان حملوه معهم، فلما هبطوا إلى الارض أمر نوح بنيه أن يذهبوا ببدنه فيدفنوه حيث أوصى.
فقالوا إن الارض ليس بها أنيس وعليها وحشة فحرضهم وحثهم على ذلك.
وقال إن آدم دعا لمن يلي دفنه بطول العمر، فهابوا المسير إلى ذلك الموضع في ذلك الوقت، فلم يزل جسده عندهم حتى كان الخضر هو الذي تولى دفنه، وأنجز الله ما وعده فهو يحيى إلى ما شاء الله له أن يحيي.
وذكر ابن قتيبة في المعارف (2) عن وهب بن منبه أن اسم الخضر " بليا " * ويقال ايليا بن ملكان بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام.
وقال إسماعيل بن أبي
أويس اسم الخضر فيما بلغنا والله أعلم: المعمر بن مالك بن عبد لله بن نصر بن لازد.
وقال غيره هو خضرون بن عمياييل بن اليفز بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم الخليل.
ويقال هو أرميا (3) بن خلقيا فالله أعلم.
وقيل إنه كان ابن فرعون صاحب موسى ملك مصر وهذا غريب جدا.
قال ابن الجوزي رواه محمد بن أيوب، عن ابن لهيعة وهما ضعيفان.
وقيل إنه ابن مالك.
وهو أخو الياس قاله السدي كما سيأتي.
وقيل أنه كان على مقدمة ذي القرنين.
وقيل كان ابن بعض من آمن بإبراهيم الخليل وهاجر معه وقيل كان نبيا في زمن بشتاسب بن لهراسب.
قال ابن جرير والصحيح أنه كان متقدما في زمن أفريدون ابن اثفيان حتى أدركه موسى عليهما السلام.
وروى الحافظ ابن عساكر عن سعيد بن المسيب أنه قال الخضر أمه رومية وأبوه فارسي.
وقد ورد ما يدل على أنه كان من بني إسرائيل في زمان فرعون أيضا.
قال أبو زرعة في
__________
(1) سقطت من نسخ البداية والنهاية المطبوعة.
(2) المعارف ص 19 وزاد وكان أبوه ملكا.
(3) علق الطبري ج 1 / 194 قال: ويدل على خطأ قول من قال انه أو رميا بن خلقيا (قال بنو إسرائيل انه أو رميا - الكامل في التاريخ) لان أو رميا كان في أيام بختنصر وبين عهد موسى وبختنصر من المدة لا يشكل قدرها على أهل العلم ; أكثر من ألف عام كما في الكامل لابن الاثير.
ج 1 / 160 - 163.

" دلائل النبوة ": حدثنا صفوان بن صالح الدمشقي، حدثنا الوليد، حدثنا سعيد بن بشير، عن قتادة، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ليلة أسرى به وجد رائحة طيبة فقال: " يا جبريل ما هذه الرائحة الطيبة ؟ " قال: هذه ريح قبل الماشطة وابنتها وزوجها.
وقال وكان بدء ذلك أن الخضر كان من أشراف بني إسرائيل وكان ممره براهب في صومعته فتطلع عليه الراهب فعلمه الاسلام فلما بلغ الخضر زوجه أبوه امرأة فعلمها الاسلام، وأخذ عليها أن لا تعلم أحدا، وكان لا يقرب النساء، ثم طلقها ثم زوجه أبوه بأخرى فعلمها
الاسلام، وأخذ عليها أن لا تعلم أحدا ثم طلقها، فكتمت إحداهما وأفشت عليه الاخرى، فانطلق هاربا حتى أتى جزيرة في البحر فأقبل رجلان يحتطبان، فرأياه فكتم أحدهما وأفشى عليه الآخر، قال: قد رأيت العزقيل ومن رآه معك قال: فلان، فسئل فكتم، وكان من دينهم أنه من كذب قتل، فقتل وكان قد تزوج الكاتم المرأة الكاتمة، قال: فبينما هي تمشط بنت فرعون إذ سقط المشط من يدها فقالت نعس فرعون فأخبرت أباها وكان للمرأة ابنان وزوج، فأرسل إليهم فراود المرأة وزوجها أن يرجعا عن دينهما فأبيا فقال: إني قاتلكما، فقالا: احسان منك إلينا إن أنت قتلتنا أن تجعلنا في قبر واحد فجعلهما في قبر واحد، فقال: وما وجدت ريحا أطيب منهما، وقد دخلت الجنة وقد تقدمت قصة مائلة بنت فرعون وهذا المشط في أمر الخضر قد يكون مدرجا من كلام أبي بن كعب أو عبد الله بن عباس والله أعلم.
وقال بعضهم كنيته أبو العباس، والاشبه والله أعلم أن الخضر لقب غلب عليه.
قال البخاري - رحمه الله: حدثنا محمد بن سعيد الاصبهاني، حدثنا ابن المبارك، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إنما سمي الخضر لانه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز من خلفه، خضراء " (1) تفرد به البخاري وكذلك رواه عبد الرزاق عن معمر به.
ثم قال عبد الرزاق الفروة: الحشيش الابيض وما أشبهه يعني: الهشيم اليابس، وقال الخطابي وقال أبو عمر الفروة: الارض البيضاء التي لا نبات فيها، وقال غيره هو الهشيم اليابس شبهه بالفروة ومنه قيل فروة الرأس وهي جلدته بما عليها من الشعر كما قال الراعي: ولقد ترى الحبشي حول بيوتنا * جذلا إذا ما نال يوما ما كلا صعلا أصك كأن فروة رأسه * بذرت فأنبت جانباه فلفلا (2) قال الخطابي: إنما سمي الخضر خضرا لحسنه وإشراق وجهه.
قلت: هذا لا ينافي ما ثبت في الصحيح فإن كان ولا بد من التعليل بأحدهما فما ثبت في الصحيح أولى، وأقوى بل لا يلتفت
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه 60 كتاب المناقب 27 / 3402 فتح الباري، وأحمد في مسنده ج 2 / 312 - 318.
والترمذي في سننه.
(2) في نسخة: جعدا أصك.
والصعل: الصغير الرأس، والاصك: المعوج الركبتين والعقبين.

إلى ما عداه وقد روى الحافظ ابن عساكر هذا الحديث أيضا من طريق إسماعيل بن حفص بن عمر الايلي، حدثنا عثمان وأبو جزي وهمام بن يحيى، عن قتادة، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إنما سمي الخضر خضرا لانه صلى على فروة بيضاء فاهتزت خضراء ".
وهذا غريب من هذا الوجه.
وقال قبيصة عن الثوري عن منصور عن مجاهد قال إنما سمي الخضر لانه كان إذا صلى اخضر ما حوله وتقدم أن موسى ويوشع عليهما السلام رجعا يقصان الاثر وجداه على طنفسة خضراء على كبد البحر، وهو مسجى بثوب، قد جعل طرفاه من تحت رأسه وقدميه، فسلم عليه السلام فكشف عن وجهه فرد وقال: أني بأرضك السلام ؟ من أنت ؟ قال: أنا موسى.
قال: موسى [ نبي ] (1) بني إسرائيل.
قال: نعم فكان من أمرهما ما قصه الله في كتابه عنهما.
وقد دل سياق القصة على نبوته من وجوه.
أحدها: قوله تعالى (فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من من لدنا علما) [ الكهف: 65 ].
الثاني: قول موسى له (هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا.
قال إنك لن تستطيع معي صبرا وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا.
قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصى لك أمرا.
قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شئ حتى أحدث لك منه ذكرا) [ الكهف: 66 - 70 ] فلو كان وليا وليس بنبي لم يخاطبه موسى بهذه المخاطبة، ولم يرد على موسى هذا الرد، بل موسى إنما سأل صحبته لينال ما عنده من العلم الذي اختصه الله به دونه، فلو كان غير نبي لم يكن معصوما، ولم تكن لموسى، وهو نبي عظيم ورسوله كريم، واجب العصمة، كبير رغبة ولا عظيم طلبة، في علم ولي غير واجب العصمة، ولما عزم على الذهاب إليه والتفتيش عليه، ولو أنه يمضي حقبا من الزمان قيل ثمانين سنة، ثم لما اجتمع به تواضع له وعظمه واتبعه في صورة مستفيد منه،
دل على أنه نبي مثله يوحى إليه كما يوحى إليه، وقد خص من العلوم اللدنية، والاسرار النبوية، بما لم يطلع الله عليه موسى الكليم نبي بني إسرائيل الكريم، وقد احتج بهذا المسلك بعينه الرماني (2) على نبوة الخضر عليه السلام.
الثالث: أن الخضر أقدم على قتل ذلك الغلام وما ذاك إلا للوحي إليه من الملك العلام.
وهذا دليل مستقل على نبوته.
وبرهان ظاهر على عصمته لان الولي لا يجوز له الاقدام على قتل النفوس، بمجرد ما يلقي في خلده، لان خاطره ليس بواجب العصمة إذ يجوز عليه الخطأ بالاتفاق.
ولما أقدم الخضر على قتل ذلك الغلام، الذي لم يبلغ الحلم علما منه بأنه إذا بلغ يكفر.
__________
(1) سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
(2) في نسخة البلقاني.

ويحمل أبويه عن الكفر لشدة محبتهما له فيتابعانه عليه، ففي قتله مصلحة عظيمة تربو عل بقاء مهجته، صيانة لابويه عن الوقوع في الكفر وعقوبته، دل ذلك على نبوته وانه مؤيد من الله بعصمته.
وقد رأيت الشيخ أبا الفرج ابن الجوزي طرق هذا المسلك بعينه في الاحتجاج على نبوة الخضر وصححه.
وحكى الاحتجاج عليه الرماني أيضا.
الرابع: أنه لما فسر الخضر تأويل تلك الافاعيل لموسى، ووضح له عن حقيقة أمره وجلى، قال بعد ذلك كله (رحمة من ربك وما فعلته من أمري) [ الكهف: 82 ] يعني ما فعلته من تلقاء نفسي، بل [ أمر ] (1) بل أمرت به وأوحى إلي فيه.
فدلت هذه الوجوه على نبوته.
ولا ينافي ذلك حصول ولايته، بل ولا رسالته كما قاله آخرون، وأما كونه ملكا من الملائكة [ فقول ] (2) غريب جدا، وإذا ثبتت نبوته كما ذكرناه لم يبق لمن قال بولايته وإن الولي قد يطلع على حقيقة الامور دون أرباب الشرع الظاهر، مستند يستندون إليه، ولا معتمد يعتمدون عليه.
وأما الخلاف في وجوده إلى زماننا هذا، فالجمهور على أنه باق إلى اليوم.
قيل لانه دفن آدم بعد خروجهم من الطوفان فنالته دعوة أبيه آدم بطول الحياة.
وقيل لانه شرب من عين الحياة
فحيى (3).
وذكروا أخبارا استشهدوا بها على بقائه إلى الآن وسنوردها [ مع غيرها ] (4) إن شاء الله تعالى وبه الثقة.
وهذه وصيته لموسى حين (قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئكم بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا) [ الكهف: 78 ] روي في ذلك آثار منقطعة كثيرة.
قال البيهقي: أنبأنا أبو سعيد بن أبي عمرو، وحدثنا أبو عبد الله الصفار، حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا، حدثنا إسحاق بن إسماعيل، حدثنا جرير، حدثني أبو عبد الله الملطي قال: لما أراد موسى أن يفارق الخضر، قال له موسى: أوصني قال: كن نفاعا ولا تكن ضرارا.
كن بشاشا ولا تكن غضبان.
ارجع عن اللجاجة ولا تمش في غير حاجة.
وفي رواية من طريق أخرى زيادة: (ولا تضحك إلا من عجب).
وقال وهب بن منبه: قال الخضر: يا موسى إن الناس معذبون في الدنيا على قدر همومهم بها، وقال بشر بن الحارث الحافي: قال موسى للخضر: أوصني، فقال: يسر الله عليك طاعته، وقد ورد في ذلك حديث مرفوع رواه ابن عساكر من طريق زكريا بن يحيى الوقاد إلا أنه من الكذابين الكبار.
قال قرئ على عبد الله بن وهب وأنا أسمع قال الثوري: قال مجالد: قال أبو الوداك: قال أبو سعيد الخدري، قال عمر بن الخطاب، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قال أخي موسى يا
__________
(1) سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
(2) سقطت من نسخ المطبوعة.
(3) تناول الرازي في التفسير موضوعة الخضر بتفاصيل واسعة ومسائل كثيرة.
انظر ج 21 / 158 وما بعدها.
(4) سقطت من نسخ البداية المطبوعة.

رب - وذكر كلمته - فأتاه الخضر وهو فتى طيب الريح حسن بياض الثياب، مشمرها فقال: السلام عليك ورحمة الله يا موسى بن عمران، إن ربك يقرأ عليك السلام.
قال موسى: هو السلام وإليه السلام، والحمد لله رب العالمين، الذي لا أحصى نعمه، ولا أقدر على أداء شكره إلا بمعونته.
ثم قال موسى: أريد أن توصيني بوصية ينفعني الله بها بعدك.
فقال الخضر: يا
طالب العلم إن القائل أقل ملالة (1) من المستمع، فلا تمل جلساءك إذا حدثتهم، وأعلم أن قلبك وعاء فانظر ماذا تحشو به وعاءك.
واعزف (2) عن الدنيا وانبذها وراءك.
فإنها ليست لك بدار ولا لك فيها محل قرار، وإنما جعلت بلغة للعباد والتزود منها ليوم المعاد، ورض نفسك على الصبر تخلص من الاثم.
يا موسى تفرغ للعلم إن كنت تريده، فإنما العلم لمن تفرغ له.
ولا تكن مكثارا للعلم مهذارا فإن كثرة المنطق تشين العلماء وتبدي مساوي السخفاء.
ولكن عليك بالاقتصاد فإن ذلك من التوفيق والسداد.
وأعرض عن الجهال وماطلهم، واحلم عن السفهاء، فإن ذلك فعل الحكماء وزين العلماء، وإذ شتمك الجاهل فاسكت عنه حلما.
وجانبه حزما، فإن ما بقي من جهله عليك وسبه إياك أكثر وأعظم.
يا ابن عمران ولا ترى أنك أوتيت من العلم إلا قليلا.
فإن الاندلاث والتعسف من الاقتحام والتكلف.
يا ابن عمران لا تفتحن بابا لا تدري ما غلقه، ولا تغلقن بابا لا تدري ما فتحه.
يا ابن عمران من لا ينتهي من الدنيا نهمته، ولا تنقضي منها رغبته ومن يحقر حاله، ويتهم الله فيما قضى له كيف يكون زاهدا (3).
هل يكف عن الشهوات من غلب عليه هواه ؟ أو ينفعه طلب العلم والجهل قد حواه ؟ لان سعيه إلى آخرته وهو مقبل على دنياه.
يا موسى تعلم ما تعلمت لتعمل به، ولا تعلمه لتحدث به، فيكون عليك بواره، ولغيرك نوره، يا موسى بن عمران، اجعل الزهد والتقوى لباسك، والعلم والذكر كلامك، واستكثر من الحسنات فإنك مصيب السيئات، وزعزع بالخوف قلبك فإن ذلك يرضى ربك واعمل خيرا فإنك لا بد عامل سوء.
قد وعظت إن حفظت * قال فتولى وبقي موسى محزونا مكروبا يبكي.
لا يصح هذا الحديث وأظنه من صنعة زكريا بن يحيى الوقاد المصري كذبه غير واحد من الائمة والعجب أن الحافظ بن عساكر سكت عنه * وقال الحافظ أبو نعيم الاصبهاني: حدثنا سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني، ثنا عمرو بن إسحاق بن إبراهيم بن العلاء الحمصي، حدثنا محمد بن الفضل بن عمران الكندي، حدثنا بقية بن الوليد (4) عن محمد بن زياد، عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لاصحابه: " ألا أحدثكم عن الخضر ؟ " قالوا: بلى يا رسول الله قال:
__________
(1) في نسخ البداية المطبوعة: ملامة: وهو تحريف.
(2) في نسخ البداية المطبوعة: واغرق من الدنيا وهو تحريف.
(3) في نسخة: عابدا.
(4) بقية بن الوليد بن صائد بن كعب الكلاعي ; أبو يحمد صدوق كثير التدليس عن الضعفاء من الثامنة مات سنة سبع وتسعين وله سبع وثمانون.
تقريب التهذيب 1 / 105.

" بينما هو ذات يوم يمشي في سوق بني إسرائيل أبصره رجل مكاتب فقال: تصدق علي بارك الله فيك فقال الخضر: آمنت بالله ما شاء من أمر يكون ما عندي من شئ أعطيكه فقال المسكين أسألك بوجه الله لما تصدقت علي فإني نظرت إلى السماء في وجهك ورجوت البركة عندك فقال الخضر: آمنت بالله ما عندي من شئ أعطيكه إلا أن تأخذني فتبيعني فقال المسكين: وهي يستقيم هذا ؟ قال: نعم الحق لك لقد سألتني بأمر عظيم أما أني لا أخيبك بوجه ربي بعني قال: فقدمه إلى السوق فباعه بأربعمائة درهم فمكث عند المشتري زمانا لا يستعمله في شئ.
فقال له: إنك ابتعتني التماس خير عندي فأوصني بعمل قال: أكره أن أشق عليك إنك شيخ كبير ضعيف.
قال ليس يشق علي.
قال فانقل هذه الحجارة وكان لا ينقلها دون ستة نفر في يوم فخرج الرجل لبعض حاجاته ثم انصرف وقد نقل الحجارة في ساعة.
فقال: أحسنت وأجملت وأطقت ما لم أرك تطيقه.
ثم عرض للرجل سفر فقال إني أحسبك أمينا فاخلفني في أهلي خلافة حسنة قال: فأوصني بعمل قال: إني أكره أن أشق عليك قال: ليس تشق علي قال: فاضرب من اللبن لبيتي حتى أقدم عليك، فمضى الرجل لسفره فرجع وقد شيد بناؤه فقال أسألك بوجه الله ما سبيلك ؟ وما أمرك ؟ فقال: سألتني بوجه الله والسؤال بوجه الله أوقعني في العبودية سأخبرك من أنا، أنا الخضر الذي سمعت به سألني مسكين صدقة فلم يكن عندي من شئ أعطيه، فسألني بوجه الله فامكنته من رقبتي، فباعني وأخبرك أنه من سئل بوجه الله فرد سائله وهو بقدر، وقف يوم القيامة جلده لا لحم له، ولا عظم يتقعقع.
فقال الرجل آمنت بالله، شققت عليك يا نبي الله ولم أعلم، فقال لا بأس أحسنت وأبقيت.
فقال الرجل بأبي وأمي يا نبي الله أحكم في أهلي ومالي بما أراك الله أو
أخيرك فأخلي سبيلك فقال: أحب أن تخلي سبيلي فأعبد ربي فخلى سبيله.
فقال الخضر الحمد لله الذي أوقعني في العبودية ثم نجاني منها ".
وهذا حديث رفعه خطأ والاشبه أن يكون موقوفا وفي رجاله من لا يعرف فالله أعلم.
وقد رواه ابن الجوزي في كتابه " عجالة المنتظر في شرح حال الخضر " من طريق عبد الوهاب بن الضحاك وهو متروك عن بقية.
وقد روى الحافظ ابن عساكر بإسناده إلى السدي: أن الخضر وإلياس كانا أخوين وكان أبوهما ملكا فقال إلياس لابيه: إن أخي الخضر لا رغبة له في الملك، فلو أنك زوجته لعله يجئ منه ولد يكون الملك له فزوجه أبوه بامرأة حسناء بكر، فقال لها الخضر: إنه لا حاجة لي في النساء فإن شئت أطلقت سراحك وإن شئت أقمت معي تعبدين الله عزوجل وتكتمين علي سري ؟ فقال: نعم وأقامت معه سنة.
فلما مضت السنة دعاها الملك فقال إنك شابة وابني شاب فأين الولد فقالت: إنما الولد من عند الله إن شاء كان وإن لم يشأ لم يكن.
فأمره أبوه فطلقها وزوجه بأخرى ثيبا قد ولد لها فلما زفت إليه قال لها كما قال للتي قبلها فأجابت إلى الاقامة عنده.
فلما مضت السنة سألها الملك عن الولد فقال إن ابنك لا حاجة له بالنساء فتطلبه أبوه فهرب، فأرسل وراءه فلم يقدروا عليه.
فيقال إنه قتل المرأة الثانية لكونها

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55