كتاب :البداية والنهاية
الامام الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن
كثير الدمشقي
رحيم.
ما المسيح بن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام أنظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون) [ المائدة: 72 - 75 ] حكم تعالى بكفرهم شرعا وقدرا فأخبر أن هذا صدر منهم مع أن الرسول إليهم هو عيسى بن مريم قد بين لهم أنه عبد مربوب مخلوق مصور في الرحم داع إلى عبادة الله وحده لا شريك له وتوعدهم على خلاف ذلك بالنار وعدم الفوز بدار القرار والخزي في الدار الآخرة والهوان والعار ولهذا قال: (إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار) ثم قال: (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد) قال ابن جرير وغيره المراد بذلك قولهم بالاقانيم الثلاثة.
أقنوم الاب وأقنوم الابن وأقنوم الكلمة المنبثقة من الاب إلى الابن على اختلافهم في ذلك ما بين الملكية واليعقوبية والنسطورية عليهم لعائن الله كما سنبين كيفية اختلافهم في ذلك ومجامعهم الثلاثة في زمن قسطنطين بن قسطس وذلك بعد المسيح بثلاثمائة سنة وقبل البعثة المحمدية بثلاثمائة سنة ولهذا قال تعالى: (وما من إله إلا إله واحد) أي وما من إله إلا الله وحده لا شريك له ولا نظير له ولا كفؤ له ولا صاحبة له ولا ولد ثم توعدهم وتهددهم فقال: (وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم) ثم دعاهم برحمته ولطفه إلى التوبة والاستغفار من هذه الامور الكبار
والعظائم التي توجب النار فقال: (أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم) ثم بين حال المسيح وأمه وأنه عبد رسول وأمه صديقة أي ليست بفاجرة كما يقوله اليهود لعنهم الله وفيه دليل على أنها ليست بنبية كما زعمه طائفة من علمائنا وقوله: (كانا يأكلان الطعام) كناية عن خروجه منهما كما يخرج من غيرهما أي ومن كان بهذه المثابة كيف يكون إلها تعالى الله عن قولهم وجهلهم علوا كبيرا.
وقال السدي وغيره المراد بقوله لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة زعمهم في عيسى وأمه أنهما الالهان مع الله يعني كما بين تعالى كفرهم في ذلك بقوله في آخر هذه السورة الكريمة: (وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله.
قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب.
ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شئ شهيد.
إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) [ المائدة: 116 - 118 ].
يخبر تعالى أنه يسأل عيسى بن مريم يوم القيامة على سبيل الاكرام له والتقريع والتوبيخ لعابديه ممن كذب عليه وافترى وزعم أنه ابن الله أو أنه الله أو أنه شريكه تعالى الله عما يقولون فيسأله وهو يعلم أنه لم يقع منه ما يسأله عنه ولكن لتوبيخ من كذب عليه فيقول له: (أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك) أي تعاليت أن يكون معك شريك (ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق) أي ليس هذا يستحقه أحد سواك (وإن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب).
وهذا
تأدب عظيم في الخطاب والجواب: (ما قلت لهم إلا ما أمرتني به) [ أي ما قلت غير ما أمرتني عليه ] (1) حين أرسلتني إليهم وأنزلت علي الكتاب الذي كان يتلى عليهم ثم فسر ما قال لهم بقوله: (أن أعبدوا الله ربي وربكم) أي خالقي وخالقكم ورازقي ورازقكم (وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني) أي رفعتني إليك حين أرادوا قتلي وصلبي فرحمتني وخلصتني منهم وألقيت
شبهي على أحدهم حتى انتقموا منه فلما كان ذلك (كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شئ شهيد).
ثم قال على وجه التفويض إلى الرب عزوجل والتبري من أهل النصرانية (إن تعذبهم فإنهم عبادك) أي وهم يستحقون ذلك (وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم).
وهذا التفويض والاسناد إلى المشيئة بالشرط لا يقتضي وقوع ذلك ولهذا قال: (فإنك أنت العزيز الحكيم) ولم يقل الغفور الرحيم.
وقد ذكرنا في التفسير ما رواه الامام أحمد عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام بهذه الآية الكريمة ليلة حتى أصبح (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) وقال: " إني سألت ربي عزوجل الشفاعة لامتي فأعطانيها وهي نائلة إن شاء الله تعالى لمن لا يشرك بالله شيئا " (2).
وقال: (وما خلقنا السماء والارض وما بينهما لاعبين.
لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون.
وله من في السموات والارض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون) [ الانبياء: 16 - 20 ] وقال تعالى: (لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار.
خلق السموات والارض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لاجل مسمى ألا هو العزيز الغفار) [ الزمر: 4 - 5 ].
وقال تعالى: (قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين سبحان رب السموات والارض رب العرش عما يصفون) [ الزخرف: 81 - 82 ] وقال تعالى: (وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا) [ الاسراء: 111 ] وقال تعالى: (قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد) [ الاخلاص: 1 - 4 ] وثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يقول الله تعالى: " شتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك يزعم أن لي ولدا وأنا الاحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد " (3) وفي الصحيح أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا أحد أصبر على أذى سمعه
__________
(1) ما بين المعكوفين سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
(2) مسند أحمد ج 5 / 149 والبخاري في صحيحه 8 / 215 فتح الباري وأبو داود الطيالسي في مسنده.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه 59 / 1 / 3193 فتح الباري وفي 65 / 112 / 4975 فتح وأخرجه النسائي في سننه.
من الله إنهم يجعلون له ولدا وهو يرزقهم ويعافيهم " (1).
ولكن ثبت في الصحيح أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته " ثم قرأ: (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة أن أخذه أليم شديد) [ هود: 102 ] وهكذا قوله تعالى: (وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلى المصير) [ الحج: 48 ] وقال تعالى: (نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ) [ لقمان: 24 ] وقال تعالى: (قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون) [ يونس: 69 - 70 ] وقال تعالى: (فمهل الكافرين أمهلهم رويدا) [ الطارق: 17 ] [ ذكر ] (2) منشأ عيسى بن مريم عليهما السلام [ ومرباه في صغره وصباه ] (2) وبيان بدء الوحي إليه من الله تعالى قد تقدم أنه ولد ببيت لحم قريبا من بيت المقدس.
وزعم وهب بن منبه أنه ولد بمصر وأن مريم سافرت هي ويوسف بن يعقوب النجار وهي راكبة على حمار ليس بينهما وبين الاكاف شئ.
وهذا لا يصح والحديث الذي تقدم ذكره دليل على أن مولده كان ببيت لحم، كما ذكرنا ومهما عارضه فباطل.
وذكر وهب بن منبه أنه لما ولد خرت الاصنام يومئذ في مشارق الارض ومغاربها.
وأن الشياطين حارت في سبب ذلك، حتى كشف لهم إبليس الكبير أمر عيسى فوجدوه في حجر أمه والملائكة محدقة به وأنه ظهر نجم عظيم في السماء وأن ملك الفرس اشفق من ظهوره، فسأل الكهنة عن ذلك فقالوا هذا لمولد عظيم في الارض، فبعث رسله ومعهم ذهب ومر ولبان (3) هدية
إلى عيسى فلما قدموا الشام سألهم ملكها (4) عما أقدمهم فذكروا له ذلك فسأل عن ذلك الوقت فإذا قد ولد فيه عيسى بن مريم ببيت المقدس واشتهر أمره بسبب كلامه في المهد فأرسلهم إليه بما معهم وأرسل معهم من يعرفه له ليتوصل إلى قتله إذا انصرفوا عنه فلما وصلوا إلى مريم بالهدايا ورجعوا قيل لها إن رسل ملك الشام إنما جاؤوا ليقتلوا ولدك فاحتملته فذهبت به إلى مصر (5) فأقامت به حتى
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه 45 / 15 / 2583 كما رواه البخاري في التفسير وابن ماجه في الفقه.
(2) سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
(3) المر: يجبر به الجرح والكسر ; واللبان: ينال دخانه السماء ولا ينالها دخان غيره.
(4) في الطبري: أن رسل ملك فارس صاروا إلى هيرودس غلطا، وكان الرياسة على بيت المقدس لقيصر والملك من قبل قيصر عليها هيرودس الكبير.
(5) قال ابن الاثير في الكامل والطبري في تاريخه: كان سبب قدومها مصر خوفها من ملك بني إسرائيل، وكان من الروم واسمه هيرودس وإن اليهود اغروه بقتله.
بلغ عمره اثنتي عشرة سنة، وظهرت عليه كرامات ومعجزات في حال صغره.
فذكر منها أن الدهقان الذي نزلوا عنده افتقد مالا من داره وكانت داره لا يسكنها إلا الفقراء والضعفاء والمحاويج فلم يدر من أخذه وعز ذلك على مريم عليها السلام وشق على الناس وعلى رب المنزل وأعياهم أمرها فلما رأى عيسى عليه السلام ذلك عمد إلى رجل أعمى، وآخر مقعد من جملة من هو منقطع إليه فقال للاعمى: احمل هذا المقعد وانهض به فقال: إني لا أستطيع ذلك فقال بلى كما فعلت أنت وهو حين أخذتما هذا المال من تلك الكوة من الدار فلما قال ذلك صدقاه فيما قال وأتيا بالمال فعظم عيسى في أعين الناس وهو صغير جدا (1).
ومن ذلك أن ابن الدهقان عمل ضيافة للناس بسبب طهور أولاده فلما اجتمع الناس وأطعمهم ثم أراد أن يسقيهم شرابا يعني خمرا كما كانوا يصنعون في ذلك الزمان لم يجد في جراره شيئا فشق ذلك عليه فلما رأى عيسى ذلك منه قام فجعل يمر على تلك الجرار ويمر يده على أفواهها
فلا يفعل بجرة منها ذلك إلا امتلات شرابا من خيار الشراب.
فتعجب الناس من ذلك جدا وعظموه وعرضوا عليه وعلى أمه مالا جزيلا فلم يقبلاه وارتحلا قاصدين بيت المقدس والله أعلم.
وقال إسحاق بن بشر: أنبأنا عثمان بن ساج وغيره، عن موسى بن وردان، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد وعن مكحول عن أبي هريرة قال: إن عيسى بن مريم أول ما أطلق الله لسانه بعد الكلام الذي تكلم به وهو طفل فمجد الله تمجيدا لم تسمع الآذان بمثله لم يدع شمسا ولا قمرا ولا جبلا ولا نهرا ولا عينا إلا ذكره في تمجيده فقال: اللهم أنت القريب في علوك، المتعال في دنوك، الرفيع على كل شئ من خلقك.
أنت الذي خلقت سبعا في الهواء بكلماتك مستويات طباقا أجبن وهن دخان من فرقك، فأتين طائعات لامرك فيهن ملائكتك يسبحون قدسك لتقديسك، وجعلت فيهن نورا على سواد الظلام وضياء من ضوء الشمس بالنهار، وجعلت فيهن الرعد المسبح بالحمد، فبعزتك يجلو ضوء ظلمتك، وجعلت فيهن مصابيح يهتدي بهن في الظلمات الحيران، فتباركت اللهم في مفطور سمواتك وفيما دحوت من أرضك دحوتها على الماء فسمكتها على تيار الموج الغامر، فأذللتها إذلال التظاهر، فذل لطاعتك صعبها واستحيى لامرك أمرها وخضعت لعزتك أمواجها، ففجرت فيها بعد البحور الانهار ومن بعد الانهار الجداول الصغار ومن بعد الجداول ينابيع العيون الغزار، ثم أخرجت منها الانهار والاشجار والثمار ثم جعلت على ظهرها الجبال فوتدتها أوتادا على ظهر الماء، فأطاعت أطوادها وجلمودها، فتباركت اللهم فمن يبلغ بنعته نعتك، أم من يبلغ بصفته صفتك ؟ تنشر السحاب وتفك الرقاب وتقضي الحق وأنت خير الفاصلين، لا إله إلا أنت سبحانك أمرت أن نستغفرك من كل ذنب، لا إله إلا أنت سبحانك سترت السموات عن الناس، لا إله إلا أنت سبحانك إنما يغشاك من عبادك
__________
(1) الخبر رواه الطبري في تاريخه: ج 2 / 21 و 25.
الاكياس، نشهد أنك لست بإله استحد ثناك، ولا رب يبيد ذكره، ولا كان معك شركاء فندعوهم ونذرك، ولا أعانك على خلقنا أحد فنشك فيك، نشهد أنك أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن
لك كفوا أحد.
وقال إسحاق بن بشر، عن جويبر ومقاتل، عن الضحاك عن ابن عباس: أن عيسى بن مريم أمسك عن الكلام بعد أن كلمهم طفلا حتى بلغ ما يبلغ الغلمان ثم انطقه الله بعد ذلك الحكمة والبيان فأكثر اليهود فيه وفي أمه من القول وكانوا يسمونه ابن البغية وذلك قوله تعالى (وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما) [ النساء: 156 ] قال فلما بلغ سبع سنين أسلمته أمه في الكتاب فجعل لا يعلمه المعلم شيئا إلا بدره إليه فعلمه أبا جاد فقال عيسى: ما أبو جاد ؟ فقال المعلم: لا أدري فقال عيسى: كيف تعلمني ما لا تدري ؟ فقال المعلم: إذا فعلمني.
فقال له عيسى: فقم من مجلسك، فقام فجلس عيسى مجلسه فقال سلني: فقال المعلم ما أبو جاد فقال عيسى: الالف آلاء الله.
والباء بهاء الله والجيم بهجة الله وجماله.
فعجب المعلم من ذلك فكان أول من فسر أبا جاد.
ثم ذكر أن عثمان سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأجابه على كل كلمة بحديث طويل موضوع لا يسأل ولا يتمادى.
وهكذا روى ابن عدي من حديث إسماعيل بن عياش، عن إسمعيل بن يحيى، عن ابن أبي مليكة عمن حدثه عن ابن مسعود، وعن مسعر بن كدام عن عطية، عن أبي سعيد رفع الحديث في دخول عيسى إلى الكتاب وتعليمه المعلم معنى حروف أبى جاد وهو مطول لا يفرح به.
ثم قال ابن عدي وهذا الحديث باطل بهذا الاسناد لا يرويه غير اسمعيل، وروى ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة قال كان عبد الله بن عمر يقول: كان عيسى بن مريم وهو غلام يلعب مع الصبيان فكان يقول لاحدهم: تريد أن أخبرك ما خبأت لك أمك ؟ فيقول نعم فيقول: خبأت لك كذا وكذا.
فيذهب الغلام منهم إلى أمه فيقول لها أطعميني ما خبأت لي.
فتقول وأي شئ خبأت لك ؟ فيقول كذا وكذا.
فتقول له: من أخبرك ؟ فيقول عيسى بن مريم.
فقالوا والله لئن تركتم هؤلاء الصبيان مع ابن مريم ليفسدنهم فجمعوهم في بيت وأغلقوا عليهم، فخرج عيسى يلتمسهم فلم يجدهم فسمع ضوضاءهم في بيت فسأل عنهم فقالوا: إنما هؤلاء قردة وخنازير.
فقال اللهم كذلك فكانوا كذلك رواه ابن عساكر.
وقال اسحق بن بشر، عن جويبر، ومقاتل عن الضحاك، عن ابن عباس قال: وكان عيسى يرى العجائب في صباه إلهاما من الله، ففشا ذلك في اليهود وترعرع عيسى، فهمست به بنو إسرائيل، فخافت أمه عليه فأوحى الله إلى أمه أن تنطلق به إلى أرض مصر فذلك قوله تعالى: (وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين) [ المؤمنون: 50 ] وقد اختلف السلف والمفسرون في المراد بهذه الربوة التي ذكر الله من صفتها أنها ذات قرار
ومعين، وهذه صفة غريبة الشكل، وهي أنها ربوة وهو المكان المرتفع من الارض الذي أعلاه مستو يقر عليه وارتفاعه متسع، ومع علوه فيه عيون الماء معين، وهو الجاري السارح على وجه الارض فقيل المراد المكان الذي ولدت فيه المسيح وهو نخلة بيت المقدس ولهذا (ناداها من تحتها الا تحرني قد جعل ربك تحتك سريا) (1) وهو النهر الصغير في قول جمهور السلف.
وعن ابن عباس بإسناد جيد أنها أنهار دمشق فلعله أراد تشبيه ذلك المكان بأنهار دمشق.
وقيل ذلك بمصر كما زعمه من زعمه من أهل الكتاب ومن تلقاه عنهم والله أعلم، وقيل هي الرملة.
وقال إسحاق بن بشر قال لنا إدريس عن جده وهب بن منبه، قال إن عيسى لما بلغ ثلاث عشرة سنة أمره الله أن يرجع من بلاد مصر إلى بيت إيليا قال فقدم عليه يوسف ابن خال أمه فحملهما على حمار حتى جاء بهما إلى إيليا وأقام بها حتى أحدث الله له الانجيل وعلمه التوراة وأعطاه إحياء الموتى وإبراء الاسقام والعلم بالغيوب مما يدخرون في بيوتهم وتحدث الناس بقدومه وفزعوا لما كان يأتي من العجائب، فجعلوا يعجبون منه فدعاهم إلى الله ففشا فيهم أمره.
بيان نزول الكتب الاربعة ومواقيتها قال أبو زرعة الدمشقي: حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني معاوية بن صالح عمن حدثه قال: " أنزلت التوراة على موسى في ست ليال خلون من شهر رمضان.
ونزل الزبور على داود في انثتي عشر ليلة خلت من شهر رمضان.
وذلك بعد التوراة بأربعمائة سنة واثنتين وثمانين سنة.
وأنزل الانجيل على عيسى بن مريم في ثمانية عشر ليلة خلت من رمضان بعد الزبور بألف عام
وخمسين عاما وأنزل الفرقان على محمد صلى الله عليه وسلم في أربع وعشرين من شهر رمضان وقد ذكرنا في التفسير عند قوله: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) [ البقرة: 185 ] الاحاديث الواردة في ذلك وفيها أن الانجيل أنزل على عيسى بن مريم عليه السلام في ثماني عشرة ليلة خلت من شهر رمضان.
وذكر ابن جرير في تاريخه (2) أنه أنزل عليه وهو ابن ثلاثين سنة ومكث حتى رفع إلى السماء وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
وقال إسحاق بن بشر وأنبأنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة ومقاتل، عن قتادة، عن عبد الرحمن بن آدم، عن أبي هريرة قال: أوحى الله عزوجل إلى عيسى بن مريم: يا عيسى جد في أمري ولا تهن واسمع وأطع يابن الطاهرة البكر البتول: إنك من غير فحل وأنا خلقتك آية للعالمين، إياي فاعبد، وعلي فتوكل خذ الكتاب بقوة، فسر لاهل السريانية بلغ من بين يديك: إني أنا الحق الحي القائم (3) الذي لا أزول صدقوا
__________
(1) سورة مريم الآية 24 بلفظ: فناداها.
(2) تاريخ الطبري 2 / 21.
(3) العبارة في البيهقي: إني أنا الله الحي القيوم.
النبي الامي العربي صاحب الجمل والتاج (وهي العمامة) والمدرعة والنعلين والهرواة (وهي القضيب) الانجل العينين، الصلت الجبين، الواضح الخدين، الجعد الرأس، الكث اللحية، المقرون الحاجبين، الاقنى الانف، المفلح الثنايا، البادي العنفقة (1) الذي كان عنقه ابريق فضة وكأن الذهب يجري في تراقيه له شعرات من لبته إلى سرته تجري كالقضيب ليس على بطنه ولا على صدره شعر غيره، شثن الكف والقدم، إذا التفت التفت جميعا، وإذا مشى كأنما يتقلع من صخر وينحدر من صبب، عرقه في وجهه كاللؤلؤ، وريح المسك تنفح منه ولم ير قبله ولا بعده مثله، الحسن القامة الطيب الريح، نكاح النساء ذا النسل القليل (2)، إنما نسله من مباركة لها بيت يعني في الجنة من قصب لا نصب فيه ولا صخب تكفله يا عيسى في آخر الزمان كما كفل زكريا أمك له
منها فرخان مستشهدان وله عندي منزلة ليس لاحد من البشر.
كلامه القرآن ودينه الاسلام وأنا السلام طوبى لمن أدرك زمانه وشهد أيامه وسمع كلامه " (3).
قال عيسى يا رب وما طوبى ؟ قال: غرس شجرة أنا غرستها بيدي فهي للجنان كلها أصلها من رضوان وماؤها من نسيم وبردها برد الكافور وطعمها طعم الزنجبيل وريحها ريح المسك من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا.
قال عيسى يا رب اسقني منها قال: حرام على النبيين أن يشربوا منها حتى يشرب ذلك النبي وحرام على الامم أن يشربوا منها حتى يشرب منها أمة ذلك النبي.
قال: يا عيسى أرفعك إلي ؟ قال رب ولم ترفعني قال: أرفعك ثم اهبطك في آخر الزمان لترى من أمة ذلك النبي العجائب ولتعينهم على قتال اللعين الدجال أهبطك في وقت صلاة ثم لا تصلي بهم لانها مرحومة ولا نبي بعد نبيهم.
وقال هشام بن عمار، عن الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن زيد، عن أبيه أن عيسى قال: يا رب انبئني عن هذه الامة المرحومة قال: أمة أحمد هم علماء حكماء كأنهم انبياء يرضون مني بالقليل من العطاء وأرضى منهم باليسير من العمل، وأدخلهم الجنة بلا إله إلا الله.
يا عيسى هم أكثر سكان الجنة لانه لم تذل ألسن قوم قط بلا إله إلا الله كما ذلت ألسنتهم، ولم تذل رقاب قوم قط بالسجود كما ذلت به رقابهم.
رواه ابن عساكر.
وروى ابن عساكر من طريق عبد الله بن بديل العقيلي، عن عبد الله بن عوسجة قال: أوحى الله إلى عيسى بن مريم: أنزلني من نفسك كهمك واجعلني ذخرا لك في معادك وتقرب إلي بالنوافل أحبك ولا تول غيري فأخذ لك، اصبر على البلاء وأرض بالقضاء، وكن لمسرتي فيك فإن مسرتي أن أطاع فلا أعصى، وكن مني قريبا وأحيي ذكري بلسانك، ولتكن مودتي في صدرك، تيقظ من
__________
(1) العنفقة: الشعيرات الخفيفة بين الشفة السفلى والذقن.
(2) في البيهقي: زاد: كأنه أراد الذكور من نسله.
(3) أخرجه البيهقي في الدلائل - سوى الجزء الاخير منه - عن مقاتل بن حيان ج 1 / 378 وأورده ابن عساكر تاريخه المختصر 1 / 344.
ساعات الغفلة واحكم في لطيف الفطنة، وكن لي راغبا راهبا، وأمت قلبك في الخشية لي، وراع الليل لحق مسرتي واظم نهارك ليوم الري عندي، نافس في الخيرات جهدك واعترف بالخير حيث توجهت، وقم في الخلائق بنصيحتي، واحكم في عبادي بعدلي فقد أنزلت عليك شفاء وسواس الصدور من مرض النسيان وجلاء الابصار من غشاء الكلال، ولا تكن حلسا كأنك مقبوض وأنت حي تنفس.
يا عيسى بن مريم ما آمنت بي خليقة إلا خشعت، ولا خشعت لي إلا رجت ثوابي، فاشهدك أنها آمنة من عقابي ما لم تغير أو تبدل سنتي.
يا عيسى بن مريم البكر البتول ابك على نفسك أيام الحياة بكاء من ودع الاهل وقلا الدنيا وترك اللذات لاهلها، وارتفعت رغبته فيما عند إلهه وكن في ذلك تلين الكلام وتفشي السلام وكن يقظان إذا نامت عيون الابرار، حذرا ما هو آت من أمر المعاد وزلازل شدايد الاهوال قبل أن لا ينفع أهل ولا مال، واكحل عينك بملول (1) الحزن إذا ضحك البطالون وكن في ذلك صابرا محتسبا، وطوبي لك إن ذلك ما وعدت الصابرين رج من الدنيا بالله يوم بيوم وذق مذاقة ما قد حرب منك أين طعمه وما لم يأتك كيف لذته فرح من الدنيا بالبلغة وليكفك منها الخشن الجئيب (2)، قد رأيت إلى ما يصير، اعمل على حساب فإنك مسؤول، لو رأت عيناك ما أعددت لاوليائي الصالحين ذاب قلبك وزهقت نفسك.
وقال أبو داود في " كتاب القدر ": حدثنا محمد بن يحيى بن فارس، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن الزهري، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: لقي عيسى بن مريم إبليس فقال: أما علمت أنه لن يصيبك إلا ما كتب لك ؟ قال إبليس: فارق بذروة هذا الجبل فترد (3) منه فانظر هل تعيش أم لا - فقال ابن طاوس - عن أبيه.
فقال عيسى أما علمت أن الله قال: لا يجربني عبدي فإني أفعل ما شئت.
وقال الزهري: إن العبد لا يبتلي ربه ولكن الله يبتلي عبده.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عبدة، أنبأنا سفيان، عن عمرو، عن طاوس قال: أتى الشيطان عيسى بن مريم فقال: أليس تزعم أنك صادق فأت هوة فألق نفسك.
قال: ويلك أليس قال يا ابن آدم لا تسألني هلاك نفسك فإني أفعل ما أشاء.
وحدثنا أبو توبة الربيع بن نافع، حدثنا حسين بن طلحة، سمعت خالد بن يزيد قال: تعبد الشيطان مع عيسى عشر سنين أو سنتين أقام
يوما على شفير جبل، فقال الشيطان أرأيت أن ألقيت نفسي هل يصيبني إلا ما كتب لي قال: إني لست بالذي ابتلي ربي، ولكن ربي إذا شاء ابتلاني وعرفه أنه الشيطان ففارقه.
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا شريح بن يونس، حدثنا علي بن ثابت، عن الخطاب بن القاسم، عن أبي عثمان قال: كان عيسى عليه السلام يصلي على رأس جبل فأتاه إبليس فقال: أنت الذي تزعم أن كل
__________
(1) ملول: جمع ملة، وهي الرماد الحار ينضج فيه الخبز.
(2) الجئيب: الغليظ، وفي المطبوعة: الجثيب وهو تحريف.
(3) في نسخ البداية فتروى، وهو خطأ والصواب لغة ما أثبتناه.
شئ بقضاء وقدر قال: نعم.
قال: ألق نفسك من هذا الجبل وقل قدر علي فقال: يالعين الله يختبر العباد وليس العباد يختبرون الله عزوجل.
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا حدثنا الفضل بن موسى البصري، حدثنا إبراهيم بن بشار، سمعت سفيان بن عيينة يقول: لقي عيسى بن مريم إبليس فقال له إبليس: يا عيسى بن مريم الذي بلغ من عظيم ربوبيتك إنك تكلمت في المهد صبيا.
ولم يتكلم فيه أحد قبلك قال بل الربوبية للاله الذي انطقني ثم يميتني ثم يحييني قال: فأنت الذي بلغ من عظم ربوبيتك أنك تحيي الموتى قال بل الربوبية لله الذي يحيي [ من يشاء ] (1) ويميت من أحييت ثم يحييه قال والله إنك لاله في السماء وإله في الارض قال: فصكه جبريل صكة بجناحيه فما نباها دون قرون الشمس، ثم صكه أخرى بجناحيه فما نباها دون العين الحامية، ثم صكه أخرى فأدخله بحار السابعة فأساخه، وفي رواية فأسلكه فيها حتى وجد طعم الحمأة، فخرج منها وهو يقول: ما لقي أحد من أحد ما لقيت منك يا بن مريم.
وقد روي نحو هذا بأبسط منه من وجه آخر فقال الحافظ أبو بكر الخطيب: أخبرني أبو الحسن بن رزقويه، أنبأنا أبو بكر أحمد بن سبدي، حدثنا أبو محمد الحسن بن علي القطان، حدثنا إسماعيل بن عيسى العطار، أنبأنا علي بن عاصم، حدثني أبو سلمة سويد، عن بعض أصحابه قال صلى عيسى ببيت المقدس فانصرف فلما كان ببعض العقبة عرض له إبليس فاحتبسه فجعل يعرض عليه ويكلمه ويقول له: إنه لا ينبغي لك
أن تكون عبدا فأكثر عليه وجعل عيسى يحرص على أن يتخلص منه فجعل لا يتخلص منه فقال له فيما يقول: لا ينبغي لك يا عيسى أن تكون عبدا قال: فاستغاث عيسى بربه، فأقبل جبريل وميكائيل فلما رآهما إبليس كف، فلما استقر معه على العقبة اكتنفا عيسى وضرب جبريل إبليس بجناحه فقذفه في بطن الوادي قال فعاد إبليس معه وعلم أنهما لم يؤمرا بغير ذلك فقال لعيسى: قد أخبرتك أنه لا ينبغي أن تكون عبدا إن غضبك ليس بغضب عبد، وقد رأيت ما لقيت منك حين غضبت، ولكن أدعوك لامر هو لك آمر الشياطين فليطيعوك فإذا رأى البشر أن الشياطين أطاعوك عبدوك، أما إني لا أقول أن تكون إلها ليس معه إله، ولكن الله يكون إلها في السماء وتكون أنت إلها في الارض، فلما سمع عيسى ذلك منه استغاث بربه، وصرخ صرخة شديدة، فإذا اسرافيل قد هبط فنظر إليه جبريل وميكائيل فكف إبليس، فلما استقر معهم ضرب إسرافيل إبليس بجناحه، فصك به عين الشمس ثم ضربه ضربة أخرى فأقبل إبليس يهوي ومر عيسى وهو بمكانه فقال يا عيسى لقد لقيت فيك اليوم تعبا شديدا فرمى به في عين الشمس فوجد سبعة أملاك عند العين الحامية قال: فغطوه فجعل كلما خرج (2) غطوه في تلك الحمأة قال والله ما عاد إليه بعد.
قال وحدثنا إسماعيل العطار، حدثنا أبو حذيفة، قال واجتمع إليه شياطينه فقالوا: سيدنا لقد (3)
__________
(1) ما بين معكوفين سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
(2) في نسخ البداية المطبوعة: كلما صرخ.
(3) في نسخة قد والصواب ما أثبتناه.
لقيت تعبا قال: إن هذا عبد معصوم ليس لي عليه من سبيل، وسأضل به بشرا كثيرا وأبث فيهم أهواء مختلفة وأجعلهم شيعا ويجعلونه وأمه إلهين من دون الله، قال: وأنزل الله فيما أيد به عيسى وعصمه من إبليس قرآنا ناطقا بذكر نعمته على عيسى فقال: (يا عيسى بن مريم إذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس) [ المائدة: 110 ] يعني إذ قويتك بروح القدس يعني جبريل (تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل وإذ تخلق
من الطين كهيئة الطير) [ المائدة: 110 ] الآية كلها وإذ جعلت المساكين لك بطانة وصحابة وأعوانا ترضى بهم وصحابة وأعوانا يرضون بك هاديا وقائدا إلى الجنة فذلك فاعلم خلقان عظيمان من لقيني بهما فقد لقيني بأزكى الخلائق وأرضاها عندي، وسيقول لك بنو إسرائيل صمنا فلم يتقبل صيامنا، وصلينا فلم يقبل صلاتنا، وتصدقنا فلم يقبل صدقاتنا، وبكينا بمثل حنين الجمال فلم يرحم بكاؤنا، فقل لهم ولم ذلك وما الذي يمنعني إن ذات يدي قلت أو ليس خزائن السموات والارض بيدي انفق منها كيف أشاء، وإن البخل يعتريني (1) أو لست أجود من سئل (2) وأوسع من أعطى أو أن رحمتي ضاقت وإنما يتراحم المتراحمون بفضل رحمتي.
ولولا أن هؤلاء القوم يا عيسى بن مريم غروا (3) أنفسهم بالحكمة التي تورث.
في قلوبهم ما استأثروا به الدنيا أثره على الآخرة لعرفوا من أين أوتوا، وإذا لايقنوا أن أنفسهم هي أعدى الاعداء لهم، وكيف أقبل صيامهم وهم يتقوون عليه بالاطعمة الحرام، وكيف أقبل صلاتهم وقلوبهم تركن إلى الذين يحاربوني ويستحلون محارمي وكيف أقبل صدقاتهم وهم يغصبون الناس عليها فيأخذونها من غير حلها.
يا عيسى إنما أجزي عليها أهلها، وكيف أرحم بكاءهم وأيديهم تقطر من دماء الانبياء (4)، ازددت عليهم غضبا.
يا عيسى وقضيت يوم خلقت السموات والارض أنه من عبدني وقال فيكما بقولي أن أجعلهم جيرانك في الدار ورفقائك في المنازل وشركاءك في الكرامة وقضيت يوم خلقت السموات والارض أنه من اتخذك وأمك إلهين من دون الله أن أجعلهم في الدرك الاسفل من النار.
وقضيت يوم خلقت السموات والارض أني مثبت هذا الامر على يدي عبدي محمد وأختم به الانبياء والرسل ومولده بمكة ومهاجره بطيبة وملكه بالشام، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الاسواق ولا يتزين (5) بالفحش ولا قوال بالخنا أسدده لكل أمر جميل واهب له كل خلق كريم، واجعل التقوى ضميره والحكم معقوله والوفاء طبيعته والعدل سيرته والحق شريعته والاسلام ملته.
اسمه أحمد، أهدي به بعد الضلالة وأعلم به بعد الجهالة وأغني به بعد العائلة وارفع به بعد الضيعة أهدي به وافتح به بين
__________
(1) في نسخ البداية المطبوعة: لا يعتريني.
(2) في نسخ البداية المطبوعة: من سأل.
(3) في نسخ البداية المطبوعة: عدوا وهو تحريف.
(4) إشارة إلى أن بني اسرائيل أكثروا من قتل أنبيائهم والفتك بهم.
(5) في نسخ البداية المطبوعة: يزر.
آذان صم وقلوب غلف، وأهواء مختلفة متفرقة أجعل أمته خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر إخلاصا لاسمي وتصديقا لما جاءت به الرسل الهمهم التسبيح والتقديس والتهليل في مساجدهم ومجالسهم وبيوتهم ومنقلبهم ومثواهم يصلون لي قياما وقعودا وركعا وسجودا ويقاتلون في سبيلي صفوفا وزحوفا قرباتهم دماؤهم وأناجيلهم في صدورهم وقربانهم في بطونهم رهبان بالليل ليوث في النهار ذلك فضلي أوتيه من أشاء وأنا ذو الفضل العظيم.
وسنذكر ما يصدق كثيرا من هذا السياق مما سنورده من سورتي المائدة والصف إن شاء الله وبه الثقة.
وقد روى أبو حذيفة إسحق بن بشر بأسانيده عن كعب الاحبار، ووهب بن منبه وابن عباس وسلمان الفارسي دخل حديث بعضهم في بعض قالوا: لما بعث عيسى بن مريم وجاءهم بالبينات جعل المنافقون والكافرون من بني إسرائيل يعجبون منه ويستهزئون به، فيقولون ما أكل فلان البارحة، وما ادخر في منزله فيخبرهم فيزداد المؤمنون إيمانا والكافرون والمنافقون شركا (1) وكفرانا.
وكان عيسى مع ذلك ليس له منزل يأوي إليه إنما يسيح في الارض ليس له قرار، ولا موضع يعرف به، فكان أول ما أحيا من الموتى أنه مر ذات يوم على امرأة قاعدة عند قبر وهي تبكي فقال لها مالك أيتها المرأة ؟ فقالت: ماتت ابنة لي لم يكن لي ولد غيرها، وإني عاهدت ربي أن لا أبرح من موضعي هذا حتى أذوق ما ذاقت من الموت أو يحييها الله لي، فأنظر إليها فقال لها عيسى أرأيت إن نظرت إليها أراجعة أنت ؟ قالت: نعم، قالوا فصلى ركعتين ثم جاء فجلس عند القبر فنادى يا فلانة قومي بإذن الرحمن فاخرجي قال فتحرك القبر ثم نادى الثانية فانصدع القبر بإذن الله ثم نادى الثالثة فخرجت وهي تنفض رأسها من التراب فقال لها عيسى: ما أبطأ بك عني ؟ فقالت لما جاءتني الصيحة الاولى بعث الله لي ملكا فركب خلقي، ثم جاءتني الصيحة الثانية فرجع إلي
روحي، ثم جاءتني الصيحة الثالثة فخفت أنها صيحة القيامة فشاب رأسي وحاجباي وأشفار عيني من مخافة القيمة، ثم أقبلت على أمها فقالت يا أماه ما حملك على أن أذوق كرب الموت مرتين يا أماه أصبري واحتسبي فلا حاجة لي في الدنيا يا روح الله وكلمته سل ربي أن يردني إلى الآخرة وأن يهون علي كرب الموت فدعا ربه فقبضها إليه واستوت عليها الارض فبلغ ذلك اليهود فازدادوا عليه غضبا.
وقدمنا في عقيب قصة نوح أن بني إسرائيل سألوه: أن يحيي لهم سام بن نوح فدعا الله عز وجل وصلى لله فأحياه الله لهم فحدثهم عن السفينة وأمرها ثم دعا فعاد ترابا (2).
وقد روى السدي عن أبي صالح وأبي مالك عن ابن عباس في خبر ذكره وفيه أن ملكا من ملوك بني إسرائيل مات وحمل على سريره فجاء عيسى عليه السلام فدعا الله عزوجل فأحياه الله عزوجل فرأى الناس أمرا هائلا
__________
(1) في نسخ البداية المطبوعة: شكا.
(2) الكامل في التاريخ لابن الاثير 1 / 315.
ومنظرا عجيبا قال الله تعالى وهو أصدق القائلين: (إذ قال الله يا عيسى بن مريم إذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الاكمه والابرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون) [ المائدة: 110 - 111 ] يذكره تعالى بنعمته عليه وإحسانه إليه في خلقه إياه من غير أب بل من أم بلا ذكر وجعله له آية للناس ودلالة على كمال قدرته تعالى ثم إرساله بعد هذا كله (وعلى والدتك) في اصطفائها واختيارها لهذه النعمة العظيمة وإقامة البرهان على براءتها مما نسبها إليه الجاهلون ولهذا قال: (إذ أيدتك بروح القدس) وهو جبريل بالقاء روحه إلى أمه وقرنه معه في حال رسالته ومدافعته عنه لمن كفر به
(تكلم الناس في المهد وكهلا) أي تدعو الناس إلى الله في حال صغرك في مهدك وفي كهولتك (وإذ علمتك الكتاب والحكمة) أي الخط والفهم نص عليه بعض السلف (1) (والتوراة والانجيل) وقوله: (وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني) أي تصوره وتشكله من الطين على هيئته عن أمر الله له بذلك (فتنفخ فيه فتكون طيرا بإذني) أي بأمري قيؤكد تعالى بذكر الاذن له في ذلك لرفع التوهم وقوله: (وتبرئ الاكمه) قال بعض السلف وهو الذي يولد أعمى ولا سبيل لاحد من الحكماء إلى مداواته (والابرص) هو الذي لا طب فيه بل قد مرض بالبرص وصار داؤه عضالا (وإذ تخرج الموتى) أي من قبورهم أحياء بإذني وقد تقدم ما فيه دلالة على وقوع ذلك مرارا متعددة مما فيه كفاية.
وقوله: (وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين) وذلك حين أرادوا صلبه فرفعه الله إليه وانقذه من بين أظهرهم صيانة لجنابه الكريم عن الاذى، وسلامة له من الردى وقوله: (وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون) قيل المراد بهذا الوحي وحي إلهام أي أرشدهم الله إليه ودلهم عليه كما قال: (وأوحى ربك إلى النحل) [ النحل: 68 ] (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم) [ القصص: 7 ] وقيل المراد
__________
(1) قال الرازي في الآية: والاقرب عندي أن يقال: المراد من الكتاب تعليم الخط والكتابة، ثم المراد بالحكمة تعليم العلوم وتهذيب الاخلاق لان كمال الانسان في أن يعرف الحق لذاته والخير لاجل العمل به.
ثم بعد أن صار عالما بالخط والكتابة ومحيطا بالعلوم العقلية والشرعية، علمه التوراة ثم بعد أن عظمت درجته في العلم وأحاط بأسرار الكتاب الذي أنزله تعالى على من قبله من الانبياء، أنزل عليه كتاب آخر وأوقفه على أسرار فذلك هو الغاية القصوى.
وحي بواسطة الرسول وتوفيق في قلوبهم لقبول الحق (1) ولهذا استجابو قائلين: (آمنا واشهد بأننا مسلمون).
وهذا من جملة نعم الله على عبده ورسوله عيسى بن مريم أن جعل له أنصارا وأعوانا ينصرونه ويدعون معه إلى عبادة الله وحده لا شريك له كما قال تعالى لعبده محمد صلى الله عليه وسلم: (هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الارض جميعا ما الفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم) [ الانفال: 62 - 63 ] وقال تعالى: (ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فانفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وابرئ الاكمه والابرص واحيي الموتى بإذن الله وانبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولاحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من انصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله وأشهد بأنا مسلمون ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين.
ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين) [ آل عمران: 48 - 54 ].
كانت معجزة كل نبي في زمانه بما يناسب أهل ذلك الزمان فذكروا أن موسى عليه السلام كانت معجزته مما يناسب أهل زمانه وكانوا سحرة أذكياء فبعث بآيات بهرت الابصار وخضعت لها الرقاب، ولما كان السحرة خبيرين بفنون السحر، وما ينتهي إليه وعاينوا ما عاينوا من الامر الباهر الهائل، الذي لا يمكن صدوره إلا عمن أيده الله وأجرى الخارق على يديه تصديقا له أسلموا سراعا ولم يتلعثموا، وهكذا عيسى بن مريم بعث في زمن الطبائعية الحكماء، فأرسل بمعجزات لا يستطيعونها ولا يهتدون إليها وأنى لحكيم إبراء الاكمه الذي هو أسوأ حالا من أعمى والابرص والمجذوم ومن به مرض مزمن، وكيف يتوصل أحد من الخلق إلى أن يقيم الميت من قبره، هذا مما يعلم كل أحد معجزة دالة على صدق من قامت به وعلى قدرة من أرسله وهكذا محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين بعث في زمن الفصحاء البلغاء فأنزل الله عليه القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، فلفظه معجز تحدى به الانس والجن أن يأتوا بمثله أو بعشر سور من مثله أو بسورة وقطع عليهم بأنهم لا يقدرون لا في الحال ولا في الاستقبال فإن لم
__________
(1) قال القرطبي في أحكامه: قال أبو عبيدة: أوحيت بمعنى أمرت: والوحي في كلام العرب معناه الالهام ويكون أقسام: - وحي بمعنى ارسال جبريل إلى الرسل عليهم السلام.
- وحي بمعنى الالهام كما في هذه الآية، أي ألهمتهم وقذفت في قلوبهم.
- وحي بمعنى الاعلام في اليقظة والمنام.
يفعلوا ولن يفعلوا وما ذاك إلا لانه كلام الخالق عزوجل، والله تعالى لا يشبهه شئ لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله.
والمقصود أن عيسى عليه السلام لما أقام عليهم الحجج والبراهين، استمر (1) أكثرهم على كفرهم وضلالهم وعنادهم وطغيانهم فانتدب له من بينهم طائفة صالحة، فكانوا له أنصارا وأعوانا قاموا بمتابعته ونصرته ومناصحته وذلك حين هم به بنو إسرائيل ووشوا به إلى بعض ملوك ذلك الزمان فعزموا على قتله وصلبه فأنقذه الله منهم، ورفعه إليه من بين أظهرهم وألقى شبهه على أحد أصحابه فأخذوه فقتلوه وصلبوه وهم يعتقدونه عيسى وهم في ذلك غالطون وللحق مكابرون وسلم لهم كثير من النصارى ما ادعوه وكلا الفريقين في ذلك مخطئون قال تعالى: (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين) [ آل عمران: 54 ] وقال تعالى: (وإذ قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين.
ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى للاسلام والله لا يهدي القوم الظالمين يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون) [ الصافات: 6 - 8 ] إلى أن قال بعد ذلك: (يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى بن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين) [ الصف: 14 ] فعيسى عليه السلام هو خاتم أنبياء بني إسرائيل وقد قام فيهم خطيبا فبشرهم بخاتم الانبياء الآتي بعده ونوه
باسمه، وذكر لهم صفته ليعرفوه ويتابعوه إذا شاهدوه إقامة للحجة عليهم وإحسانا من الله إليهم كما قال تعالى: (الذين يتبعون الرسول النبي الامي الذين يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم اصرهم والاغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون) [ الاعراف: 157 ].
__________
(1) بعد أن شرح عيسى لهم تلك المعجزات، بعد ادعائه النبوة، أخذوا يتعنتون عليه وطالبوه بالمزيد، فجاء بها وطالبهم بطاعته فيما يأمرهم به عن ربه، وإقرارهم لله بالعبودية فظهر كفرهم وأعلنوه.
قال الرازي: اختلفوا في السبب الذي به ظهر كفرهم على وجوه: - قال السدي: أنه تعالى لما بعثه رسولا إلى بني اسرائيل جاءهم ودعاهم إلى دين الله فتمردوا وعصوا فخافهم واختفى عنهم..وبعد أن صار امره مشهورا قصدوا قتله واظهروا الطعن فيه وكفروا به.
- إن اليهود كانوا عارفين بأنه هو المسيح المبشر به في التوراة، وأنه ينسخ دينهم فكانوا أول الطاعنين فيه..ثم طلبوا قتله.
- أن عيسى ظن من قومه الذين دعاهم للايمان لا يؤمنون فأحب امتحانهم، فقال لهم (من أنصاري إلى الله) فما أجابه إلا الحواريون، فأحس أن من سواهم كافرون مصرون على انكار دينه وطلب قتله.
قال محمد بن إسحاق: حدثني ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا يارسول الله أخبرنا عن نفسك قال: " دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورأت أمي حين حملت بي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور بصري من أرض الشام " (1).
وقد روي عن العرباض بن سارية وأبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا وفيه: " دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى " (2) وذلك أن إبراهيم لما بني الكعبة قال: (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم الآية) [ البقرة: 129 ] ولما انتهت النبوة في بني إسرائيل إلى عيسى قام فيهم خطيبا فأخبرهم أن النبوة قد انقطعت عنهم، وأنها بعده في النبي العربي الامي خاتم الانبياء على الاطلاق أحمد، وهو محمد بن
عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم الذي هو من سلالة اسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهم السلام قال الله تعالى: (فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين) [ الصف: 6 ] يحتمل عود الضمير إلى عيسى عليه السلام ويحتمل عوده إلى محمد صلى الله عليه وسلم ثم حرض تعالى عباده المؤمنين على نصرة الاسلام وأهله ونصرة نبيه ومؤازرته ومعاونته على إقامة الدين ونشر الدعوة فقال: (يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى بن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله) أي من يساعدني في الدعوة إلى الله (قال الحواريون نحن أنصار الله) وكان ذلك في قرية يقال لها الناصرة فسموا بذلك النصارى قال الله تعالى: (فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة) يعني لما دعا عيسى بني إسرائيل وغيرهم إلى الله تعالى منهم من آمن ومنهم من كفر وكان ممن آمن به أهل انطاكية بكمالهم فيما ذكره غير واحد من أهل السير والتواريخ والتفسير بعث إليهم رسلا ثلاثة أحدهم شمعون الصفا فآمنوا واستجابوا وليس هؤلاء هم المذكورون في سورة يس لما تقدم تقريره في قصة أصحاب القرية وكفر آخرون من بني إسرائيل وهم جمهور اليهود فأيد الله من آمن به على من كفر فيما بعد، وأصبحوا ظاهرين عليهم قاهرين لهم كما قال تعالى: (إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة الآية) [ آل عمران: 55 ] فكل من كان إليه أقرب كان غالبا (3) فمن دونه ولما كان قول المسلمين فيه هو الحق الذي لا شك فيه من أنه عبد الله ورسوله كانوا ظاهرين على النصارى الذين غلوا فيه، واطروه، وأنزلوه فوق ما أنزله الله به، ولما كان النصارى أقرب في الجملة مما ذهب إليه
__________
(1) أخرجه البيهقي في الدلائل ج 1 / 83 - 84 وسيرة ابن هشام 1 / 170 والخبر في طبقات ابن سعد 1 / 102 والحاكم في المتسدرك 2 / 600 وصححه، وأقره الذهبي.
(2) أخرجه البيهقي في الدلائل ج 1 / 80 و 83 وأخرجه أحمد في مسنده 4 / 127 - 128 والحاكم في المستدرك.
وقال: هذا حديث صحيح الاسناد.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 8 / 223 وقال: رواه أحمد والطبراني والبزار وأحد أسانيد أحمد رجاله رجال الصحيح غير سعيد بن سويد وقد وثقه ابن حبان.
(3) في نسخ البداية المطبوعة: عاليا وهو تحريف.
اليهود [ فيه ] (1) عليهم لعائن الله كان النصارى قاهرين لليهود في أزمان الفترة (2) إلى زمن الاسلام وأهله.
ذكر خبر المائدة قال الله تعالى: (إذ قال الحواريون يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين قال عيسى بن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لاولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين.
قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين) [ المائدة: 112 - 115 ] قد ذكرنا في التفسير الآثار الواردة في نزول المائدة عن ابن عباس وسلمان الفارسي وعمار بن ياسر وغيرهم من السلف، ومضمون ذلك أن عيسى عليه السلام أمر الحواريين بصيام ثلاثين يوما، فلما أتموها سألوا من عيسى إنزال مائدة من السماء عليهم ليأكلوا منها، وتطمئن بذلك قلوبهم أن الله قد تقبل صيامهم وأجابهم إلى طلبتهم، وتكون لهم عيدا يفطرون عليها يوم فطرهم، وتكون كافية لاولهم وآخرهم لغنيهم وفقيرهم: فوعظهم عيسى في ذلك وخاف عليهم أن لا يقوموا بشكرها ولا يؤدوا حق شروطها فأبوا عليه إلا أن يسأل لهم ذلك من ربه عزوجل.
فلما لم يقلعوا عن ذلك قام إلى مصلاه ولبس مسحا من شعر وصف بين قدميه وأطرق رأسه وأسبل عينيه بالبكاء وتضرع إلى الله في الدعاء والسؤال أن يجابوا إلى ما طلبوا فأنزل الله تعالى المائدة من السماء والناس ينظرون إليها تنحدر بين غمامتين وجعلت تدنو قليلا قليلا وكلما دنت سأل عيسى ربه عزوجل أن يجعلها رحمة لا نقمة وأن يجعلها بركة وسلامة، فلم تزل تدنو حتى استقرت بين يدي عيسى عليه السلام وهي مغطاة بمنديل فقام عيسى يكشف عنها وهو يقول: (بسم الله خير الرازقين) فإذا عليها سبعة من الحيتان وسبعة أرغفة (3).
ويقال: وخل.
ويقال: ورمان وثمار ولها رائحة عظيمة جدا قال الله لها كوني فكانت ثم أمرهم بالاكل منها فقالوا: لا نأكل حتى تأكل فقال: إنكم الذين ابتدأتم
السؤال لها فأبوا أن يأكلوا منها إبتداء فأمر الفقراء والمحاويج والمرضى والزمنى وكانوا قريبا من ألف وثلثمائة فأكلوا منها فبرأ كل من به عاهة أو آفة أو مرض مزمن، فندم الناس على ترك الاكل منها لما رأوا من إصلاح حال أولئك.
ثم قيل: إنها كانت تنزل كل يوم مرة فيأكل الناس منها يأكل آخرهم كما يأكل أولهم حتى قيل إنها كان يأكل منها نحو سبعة آلاف.
ثم كانت تنزل يوما بعد يوم كما كانت
__________
(1) سقطت من النسخ المطبوعة.
(2) الفترة: بين ظهور المسيح وبعث محمد عليهما السلام.
(3) في الرازي: سمكة مشوية بلا شوك ولا فلوس تسيل دسما وخمسة أرغفة على واحد منها زيتون والثاني عسل وعلى الثالث سمن وعلى الرابع جبن وعلى الخامس قديد.
ناقة صالح يشربون لبنها يوما بعد يوم.
ثم أمر الله عيسى أن يقصرها على الفقراء أو المحاويج دون الاغنياء فشق ذلك على كثير من الناس وتكلم منافقوهم في ذلك، فرفعت بالكلية ومسخ الذين تكلموا في ذلك خنازير.
وقد روى ابن أبي حاتم وابن جرير جميعا: حدثنا الحسن بن قزعة الباهلي، حدثنا سفيان بن حبيب، حدثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن خلاس، عن عمار بن ياسر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " نزلت المائدة من السماء خبز ولحم وأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا ولا يرفعوا لغد فخانوا وادخروا ورفعوا فمسخوا قردة وخنازير " (1) ثم رواه ابن جرير عن بندار عن ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن خلاس [ بن عمرو ] عن عمار موقوفا وهذا أصح وكذا رواه من طريق سماك عن رجل من بني عجل عن عمار موقوفا وهو الصواب والله أعلم.
وخلاس عن عمار منقطع فلو صح هذا الحديث مرفوعا لكان فيصلا في هذه القصة فإن العلماء اختلفوا في المائدة هل نزلت أم لا فالجمهور أنها نزلت (2) كما دلت عليه هذه الآثار كما هو المفهوم من ظاهر سياق القرآن ولا سيما قوله: (إني منزلها عليكم) كما قرره ابن جرير والله أعلم.
وقد روى ابن جرير بإسناد صحيح إلى مجاهد وإلى الحسن بن أبي الحسن البصري، أنهما قالا: لم تنزل وانهم أبوا نزولها حين
قال: (فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين) ولهذا قيل إن النصارى لا يعرفون خبر المائدة وليس مذكورا في كتابهم مع أن خبرها مما يتوفر الدواعي على نقله.
والله أعلم.
وقد تقصينا الكلام على ذلك في التفسير (3) فليكتب من هناك.
ومن أراد مراجعته فلينظره من ثم ولله الحمد والمنة.
فصل قال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا رجل سقط اسمه، حدثنا حجاج بن محمد، حدثنا أبو هلال محمد بن سليمان، عن بكر بن عبد الله المزني قال: فقد الحواريون نبيهم عيسى فقيل لهم توجه نحو البحر فانطلقوا يطلبونه فلما انتهوا إلى البحر إذا هو يمشي على الماء يرفعه الموج مرة ويضعه أخرى، وعليه كساء مرتد بنصفه ومؤتزر بنصفه، حتى انتهى إليهم فقال لهم بعضهم قال أبو هلال ظننت أنه من أفاضلهم - ألا أجئ إليك يا نبي الله ؟ قال: بلى، قال: فوضع إحدى
__________
(1) رواه الطبري في تفسيره 2 / 130 والترمذي في صحيحه 48 كتاب التفسير القرآن - 6 باب 3061 مرفوعا وقال لا نعرفه مرفوعا من حديث الحسن بن قزعة.
ورواه موقوفا وقال: هذا أصح ولا نعلم للحديث المرفوع أصلا.
ورواه ابن كثير في تفسيره 2 / 120 دار الفكر.
(2) قال الرازي: نزلت ثم طارت ثم عصوا من بعدها فمسخوا قردة وخنازير ; ولم يذكره أنهم أكلوا منها.
وقال وقال الجمهور الاعظم من المفسرين: أنها نزلت.
(3) رواه ابن كثير في التفسير ج 2 / 120 دار الفكر.
رجليه على الماء ثم ذهب ليضع الاخرى، فقال: أوه غرقت يا نبي الله.
فقال: أرني يدك يا قصير الايمان لو أن لابن آدم من اليقين قدر شعيرة مشى على الماء.
ورواه أبو سعيد بن الاعرابي عن إبراهيم بن أبي الجحيم، عن سليمان بن حرب، عن أبي هلال عن بكر بنحوه.
ثم قال ابن أبي الدنيا: حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن سفيان، حدثنا إبراهيم بن الاشعث، عن الفضيل بن عياض قال: قيل لعيسى بن مريم، يا عيسى بأي شئ تمشي على الماء ؟ قال: بالايمان واليقين.
قالوا فإنا آمنا كما آمنت وأيقنا كما أيقنت قال: فامشوا إذا قال فمشوا معه في الموج فغرقوا.
فقال لهم عيسى: مالكم ؟ فقالوا: خفنا الموج، قال: ألا خفتم رب الموج ؟ قال: فأخرجهم ثم ضرب بيده إلى الارض، فقبض بها ثم بسطها فإذا في إحدى يديه ذهب، وفي الاخرى مدر، أو حصى فقال: أيهما أحلى في قلوبكم ؟ قالوا: هذا الذهب قال: فإنهما عندي سواء.
وقدمنا في قصة يحيى بن زكريا عن بعض السلف أن عيسى عليه السلام كان يلبس الشعر ويأكل من ورق الشجر ولا يأوي إلى منزل ولا أهل ولا مال ولا يدخر شيئا لغد.
قال بعضهم كان يأكل من غزل أمه صلوات الله وسلامه عليه.
وروى ابن عساكر عن الشعبي أنه قال: كان عيسى عليه السلام إذا ذكر عنده الساعة صاح ويقول: لا ينبغي لابن مريم أن تذكر عنده الساعة ويسكت، وعن عبد الملك بن سعيد بن بحر أن عيسى كان إذا سمع الموعظة صرخ صراخ الثكلى.
وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر، حدثنا جعفر بن بلقان: أن عيسى كان يقول: اللهم إني أصبحت لا أستطيع دفع ما أكره ولا أملك نفع ما أرجو وأصبح الامر بيد غيري وأصبحت مرتهنا بعملي، فلا فقير أفقر مني، اللهم لا تشمت بي عدوي ولا تسؤ بي صديقي، ولا تجعل مصيبتي في ديني، ولا تسلط علي من لا يرحمني.
وقال الفضيل بن عياض عن يونس بن عبيد، كان عيسى يقول لا يصيب أحد حقيقة الايمان حتى لا يبالي من أكل الدنيا (1).
قال الفضيل: وكان عيسى يقول فكرت في الخلق فوجدت من لم يخلق أغبط عندي ممن خلق.
وقال إسحاق بن بشر، عن هشام بن حسان، عن الحسن قال: إن عيسى رأس الزاهدين يوم القيامة.
قال: وإن الفرارين بذنوبهم يحشرون يوم القيامة مع عيسى.
قال: وبينما عيسى يوما نائم على حجر قد توسده وقد وجد لذة النوم إذ مر به إبليس فقال: يا عيسى ألست تزعم أنك لا تريد شيئا من عرض الدنيا ؟ فهذا الحجر من عرض الدنيا فقال: [ فقام عيسى ] (2): فأخذ الحجر ورمى به إليه وقال: هذا لك مع الدنيا.
وقال معتمر بن سليمان: خرج عيسى على أصحابه وعليه جبة صوف وكساء وتبان حافيا باكيا شعثا مصفر اللون من الجوع يابس الشفتين من العطش فقال: السلام عليكم يا بني إسرائيل، أنا الذي أنزلت الدنيا منزلتها
__________
(1) في نسخ البداية المطبوعة: لا نصيب حقيقة الايمان حتى لا نبالي من أكل الدنيا.
(2) سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
بإذن الله ولا عجب ولا فخر، أتدرون أين بيتي ؟ قالوا: أين بيتك يا روح الله ؟ قال بيتي المساجد، وطيبي الماء، وإدامي الجوع، وسراجي القمر بالليل، وصلاتي في الشتاء مشارق الشمس، وريحاني بقول الارض، ولباسي الصوف (1) وشعاري خوف رب العزة، وجلسائي الزمنى والمساكين، أصبح وليس لي شئ وأمسي وليس لي شئ، وأنا طيب النفس غير مكترث فمن أغنى مني وأربح.
رواه ابن عساكر.
وروى في ترجمة محمد بن الوليد بن ابان بن حبان أبي الحسن العقيلي المصري، حدثنا هانئ بن المتوكل الاسكندراني، عن حيوة بن شريح، حدثني الوليد بن أبي الوليد، عن شفى بن ماتع (2) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أوحى الله تعالى إلى عيسى: أن يا عيسى انتقل من مكان إلى مكان لئلا تعرف فتؤذى، فوعزتي وجلالي لازوجنك ألف حوراء ولاولمن عليك أربعمائة عام ".
وهذا حديث غريب رفعه وقد يكون موقوفا من رواية شفى بن ماتع (2) عن كعب الاحبار أو غيره من الاسرائيليين والله أعلم.
وقال عبد الله بن المبارك عن سفيان بن عيينة، عن خلف بن حوشب قال: قال عيسى للحواريين: كما ترك لكم الملوك الحكمة فكذلك فاتركوا لهم الدنيا.
وقال قتادة: قال عيسى عليه السلام: سلوني فإني لين القلب وإني صغير عند نفسي.
وقال إسماعيل بن عياش، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: قال عيسى للحواريين: كلوا خبز الشعير، واشربوا الماء القراح، واخرجوا من الدنيا سالمين آمنين بحق ما أقول لكم أن حلاوة الدنيا مرارة الآخرة، وأن مرارة الدنيا حلاوة الآخرة وأن عباد الله ليسوا بالمتنعمين بحق ما أقول لكم، إن شركم عالم يؤثر هواه على علمه يود أن الناس كلهم مثله.
وروي نحوه عن أبي هريرة.
وقال أبو مصعب عن مالك أنه بلغه أن عيسى كان يقول: يا بني إسرائيل عليكم بالماء القراح والبقل البري وخبز الشعير وإياكم وخبز البر فإنكم لن تقوموا بشكره (11).
وقال ابن وهب عن سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، قال: كان عيسى يقول
اعبروا الدنيا ولا تعمروها، وكان يقول حب الدنيا رأس كل خطيئة، والنظر يزرع في القلب الشهوة.
وحكى وهيب بن الورد مثله وزاد: ورب شهوة أورثت أهلها حرنا طويلا.
وعن عيسى عليه السلام: يا بن آدم الضعيف اتق الله حيث ما كنت، وكن في الدنيا ضيفا، واتخذ المساجد بيتا، وعلم عينك البكاء وجسدك الصبر وقلبك التفكر، ولا تهتم برزق غد فإنها خطيئة.
وعنه عليه السلام أنه قال: كما أنه لا يستطيع أحدكم أن يتخذ على موج البحر دارا فلا يتخذ الدنيا قرارا وفي هذا يقول سابق البربري:
__________
(1) في نسخ البداية المطبوعة: الصون، وهو تحريف.
(2) في نسخ البداية المطبوعة: سفي بن نافع وهو تحريف.
شفى بن ماتع الاصبحي ثقة من الثالثة، ذكره بعضهم في الصحابة خطأ، مات في خلافة هشام.
تقريب التهذيب 1 / 93 / 353.
(3) رواه مالك في الموطأ 1688 ص 515.
لكم بيوت بمستن السيوف وهل * يبنى على الماء بيت أسه مدر وقال سفيان الثوري قال عيسى بن مريم: لا يستقيم حب الدنيا وحب الآخرة في قلب مؤمن كما لا يستقيم الماء والنار في إناء.
وقال إبراهيم الحربي عن داود بن رشيد، عن أبي عبد الله الصوفي قال قال عيسى: طالب الدنيا مثل شارب ماء البحر كلما ازداد شربا ازداد عطشا حتى يقتله.
وعن عيسى عليه السلام: إن الشيطان مع الدنيا ومكره مع المال (1) وتزينه مع الهوى واستمكانه عند الشهوات.
وقال الاعمش عن خيثمة: كان عيسى يضع الطعام لاصحابه ويقوم عليهم ويقول: هكذا فاصنعوا بالقرى.
وبه قالت امرأة لعيسى عليه السلام: طوبى لحجر حملك ولثدي أرضعك.
فقال: طوبى لمن قرأ كتاب الله واتبعه.
وعنه طوبى لمن بكى من ذكر خطيئته وحفظ لسانه ووسعه بيته.
وعنه: طوبى لعين نامت ولم تحدث نفسها بالمعصية وانتبهت إلى غير اثم.
وعن مالك بن دينار قال: مر عيسى وأصحابه بجيفة فقالوا: ما أنتن ريحها فقال: ما أبيض
أسنانها.
لينهاهم عن الغيبة.
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا الحسين بن عبد الرحمن، عن زكريا بن عدي قال: قال عيسى ابن مريم: يا معشر الحواريين ارضوا بدني الدنيا مع سلامة الدين كما رضي أهل الدنيا بدني الدين مع سلامة الدنيا.
قال زكريا وفي ذلك يقول الشاعر: أرى رجالا بأدنى الدين قد قنعوا * ولا أراهم رضوا في العيش بالدون فاستغن بالدين عن دنيا الملوك كما * استغنى الملوك بدنياهم عن الدين وقال أبو مصعب عن مالك قال عيسى بن مريم عليه السلام: لا تكثروا الحديث بغير ذكر الله فتقسو قلوبكم فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب العباد كأنكم أرباب وانظروا فيها كأنكم عبيد، فإنما الناس رجلان معافى ومبتلى فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية وقال الثوري: سمعت أبي يقول عن إبراهيم التيمي، قال: قال عيسى لاصحابه: بحق أقول لكم: من طلب الفردوس فخبز الشعير والنوم في المزابل مع الكلاب كثير.
وقال مالك بن دينار قال عيسى: إن أكل الشعير مع الرماد والنوم على المزابل مع الكلاب لقليل في طلب الفردوس.
وقال عبد الله بن المبارك: أنبأنا سفيان، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، قال: قال عيسى: اعملوا لله ولا تعملوا لبطونكم انظرو إلى هذا الطير تغدو وتروح لا تحرث ولا تحصد والله يرزقها، فإن قلتم نحن أعظم بطونا من الطير فانظروا إلى هذه الاباقر (2) من الوحوش والحمر فإنها تغدو وتروح لا تحرث ولا تحصد والله يرزقها [ اتقوا فضول الدنيا فإن فضول الدنيا عند الله رجز ] (3).
وقال صفوان بن عمرو: عن شريح بن عبد الله، عن يزيد بن ميسرة، قال: قال
__________
(1) في نسخ البداية المطبوعة، وفكرة من المال.
(2) في نسخ البداية المطبوعة: الاباقير وهو تحريف.
(3) ما بين معكوفين سقطت من أصول البداية، واستدركت العبارة من نص الحديث في كتاب الزهد لابن المبارك ; وروى الحديث ابن مالك في الموطأ.
الحواريون للمسيح: يا مسيح الله انظر إلى مسجد الله ما أحسنه.
قال: آمين آمين بحق ما أقول
لكم لا يترك الله من هذا المسجد حجرا قائما إلى أهلكه بذنوب أهله، إن الله لا يصنع بالذهب ولا بالفضة ولا بهذه الاحجار التي تعجبكم شيئا إن أحب إلى الله منها القلوب الصالحة وبها يعمر الله الارض، وبها يخرب الله الارض إذا كانت على غير ذلك.
وقال الحافظ أبو القاسم بن عساكر في تاريخه: أخبرنا أبو منصور أحمد بن محمد الصوفي، أخبرتنا عائشة بنت الحسن بن إبراهيم الوركانية قالت: حدثنا أبو محمد عبد الله بن عمر بن عبد الله بن الهشيم املاء، حدثنا الوليد بن أبان املاء، حدثنا أحمد بن جعفر الرازي، حدثنا سهيل بن إبراهيم الحنظلي، حدثنا عبد الوهاب بن عبد العزيز، عن المعتمر، عن ليث، عن مجاهد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مر عيسى عليه السلام على مدينة خربة، فأعجبه البنيان فقال: أي رب مر هذه المدينة أن تجيبني ؟ فأوحى الله إلى المدينة أيتها المدينة الخربة جاوبي عيسى.
قال: فنادت المدينة عيسى حبيبي وما تريد مني قال: ما فعل أشجارك وما فعل أنهارك وما فعل قصورك وأين سكانك ؟ قالت: حبيبي جاء وعد ربك الحق فيبست أشجاري، ونشفت أنهاري وخربت قصوري ومات سكاني.
قال: فأين أموالهم فقالت جمعوها من الحلال والحرام موضوعة في بطني.
لله ميراث السموات والارض.
قال فنادى عيسى عليه السلام: تعجبت (1) من ثلاث أناس: طالب الدنيا والموت يطلبه، وباني القصور والقبر منزله، ومن يضحك ملء فيه والنار أمامه ! ابن آدم لا بالكثير تشبع ولا بالقليل تقنع تجمع مالك لمن لا يحمدك وتقدم على رب لا يعذرك إنما أنت عبد بطنك وشهوتك وإنما تملا بطنك إذا دخلت قبرك وأنت يابن آدم ترى حشد مالك في ميزان غيرك.
هذا حديث غريب جدا وفيه موعظة حسنة فكتبناه لذلك.
وقال سفيان الثوري عن أبيه، عن إبراهيم التيمي، قال: قال عيسى عليه السلام: يا معشر الحواريين اجعلوا كنوزكم في السماء فإن قلب الرجل حيث كنزه.
وقال ثور بن يزيد، عن عبد العزيز بن ظبيان قال قال عيسى بن مريم: من تعلم وعلم وعمل دعي عظيما في ملكوت السماء.
وقال أبو كريب روي أن عيسى عليه السلام قال: لا خير في علم لا يعبر معك الوادي ويعبر بك النادي.
وروى ابن عساكر بإسناد غريب عن ابن عباس مرفوعا أن عيسى قام في بني
إسرائيل فقال: يا معشر الحواريين لا تحدثوا بالحكم غير أهلها فتظلموها ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم والامور ثلاثة: أمر تبين رشده فاتبعوه، وأمر تبين غيه فاجتنبوه، وأمر اختلف عليكم فيه فردوا علمه إلى الله عزوجل.
وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر، عن رجل عن عكرمة، قال قال عيسى: لا تطرحوا اللؤلؤ إلى الخنزير فإن الخنزير لا يصنع باللؤلؤ شيئا، ولا تعطوا الحكمة من لا يريدها فإن الحكمة خير من اللؤلؤ ومن لا يريدها شر من الخنزير.
وكذا حكى وهب وغيره عنه
__________
(1) في نسخ البداية المطبوعة: فعجبت وهو تحريف.
وعنه أنه قال لاصحابه: أنتم ملح الارض فإذا فسدتم فلا دواء لكم، وإن فيكم خصلتين من الجهل: الضحك من غير عجب والصبحة من غير سهر.
وعنه أنه قيل له: من أشد الناس فتنة ؟ قال زلة العالم فإن العالم إذا زل يزل بزلته عالم كثير.
وعنه أنه قال: يا علماء السوء جعلتم الدنيا على رؤوسكم والآخرة تحت أقدامكم قولكم شفاء وعملكم داء مثلكم مثل شجرة الدفلى تعجب من رآها وتقتل من أكلها.
وقال وهب قال عيسى: يا علماء السوء جلستم على أبواب الجنة فلا تدخلوها ولا تدعون المساكين يدخلونها، إن شر الناس عند الله عالم يطلب الدنيا بعلمه.
وقال مكحول التقى يحيى وعيسى، فصافحه عيسى وهو يضحك فقال له يحيى: يابن خالة مالي أراك ضاحكا كأنك قد أمنت ؟ فقال له عيسى: مالي أراك عابسا كأنك قد يئست ؟ فأوحى الله إليهما: إن أحبكما إلي أبشكما بصاحبه.
وقال وهب بن منبه: وقف عيسى هو وأصحابه على قبر وصاحبه يدلى فيه، فجعلوا يذكرون القبر وضيقه فقال: قد كنتم فيما هو أضيق منه في (1) أرحام أمهاتكم فإذا أحب (2) الله أن يوسع وسع.
وقال أبو عمر الضرير: بلغني أن عيسى كان إذا ذكر الموت يقطر جلده دما.
والآثار في مثل هذا كثيرة جدا.
وقد أورده الحافظ ابن عساكر منها طرفا صالحا اقتصرنا منه على هذا القدر والله الموفق للصواب.
[ ذكر ] (3) رفع عيسى عليه السلام إلى السماء في حفظ الرب وبيان كذب اليهود والنصارى في دعوى الصلب
قال الله تعالى: (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين.
إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون) [ آل عمران: 54 - 55 ].
وقال تعالى: (فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الانبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا.
وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما.
وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما (4).
وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم
__________
(1) في نسخ البداية المطبوعة: من أرحام.
(2) في نسخة: فإذا أراد.
(3) سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
(4) قال القرطبي: رفعه الله إلى السماء من غير وفاة ولا نوم كما قاله الحسن وابن زيد وهو اختيار الطبري، وهو الصحيح عن ابن عباس وقال الضحاك.
شهيدا) [ النساء: 155 - 159 ] فأخبر تعالى أنه رفعه إلى السماء بعدما توفاه بالنوم على الصحيح المقطوع به وخلصه ممن كان أراد أذيته من اليهود الذين وشوا به إلى بعض الملوك الكفرة في ذلك الزمان.
قال الحسن البصري ومحمد بن إسحاق: كان اسمه داود بن نورا (1) فأمر بقتله وصلبه، فحصروه في دار ببيت المقدس وذلك عشية الجمعة ليلة السبت، فلما حان وقت دخولهم ألقى شبهه على بعض أصحابه الحاضرين عنده ورفع عيسى من روزنة [ من ] (2) ذلك البيت إلى السماء وأهل البيت ينظرون ودخل الشرط فوجدوا ذلك الشاب الذي ألقى عليه شبهه فأخذوه ظانين أنه عيسى فصلبوه ووضعوا الشوك على رأسه إهانة له، وسلم لليهود عامة النصارى الذين لم يشاهدوا ما كان من أمر عيسى أنه صلب وضلوا بسبب ذلك ضلالا مبينا كثيرا فاحشا بعيدا.
وأخبر تعالى بقوله:
(وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته) أي بعد نزوله إلى الارض في آخر الزمان قبل قيام الساعة فإنه ينزل ويقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ويضع الجزية، ولا يقبل إلا الاسلام.
كما بينا ذلك بما ورد فيه من الاحاديث عند تفسير هذه الآية الكريمة من سورة النساء وكما سنورد ذلك مستقصى في " كتاب الفتن والملاحم " عند أخبار المسيح الدجال فنذكر ما ورد في نزول المسيح المهدي عليه السلام من ذي الجلال لقتل المسيح الدجال الكذاب الداعي إلى الضلال.
وهذا ذكر ما ورد في الآثار في صفة رفعه إلى السماء: قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا أبو معاوية، عن الاعمش عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما أراد الله أن يرفع عيسى إلى السماء خرج على أصحابه وفي البيت اثنا عشر رجلا منهم من الحواريين، يعني فخرج عليهم من عين في البيت ورأسه يقطر ماء فقال [ لهم ]: إن منكم من يكفر بي اثني عشرة مرة بعد أن آمن بي، ثم قال: أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني فيكون معي في درجتي ؟ فقام شاب من أحدثهم سنا فقال له: اجلس ثم أعاد عليهم فقام الشاب فقال [ أنا: فقال عيسى ] (3) اجلس.
ثم أعاد عليهم فقام الشاب فقال أنا.
فقال: أنت هو ذاك.
فألقى عليه شبه عيسى، ورفع عيسى من روزنة في البيت إلى السماء.
قال وجاء الطلب من اليهود فأخذوا الشبه فقتلوه ثم صلبوه فكفر به بعضهم اثني عشرة مرة بعد أن آمن به وافترقوا ثلاث فرق، فقالت طائفة: كان الله فينا ما شاء ثم صعد إلى السماء.
وهؤلاء اليعقوبية.
وقالت فرقة كان فينا ابن الله ما شاء ثم رفعه الله إليه وهؤلاء النسطورية، وقالت فرقة: كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء ثم رفعه الله إليه، وهؤلاء المسلمون.
فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها فلم يزل الاسلام طامسا حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم.
قال ابن عباس وذلك قوله تعالى: (فأيدنا الذين آمنوا على
__________
(1) في الطبري: كان الملك اسمه: هيرودس الصغير.
(2) سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
وروزنة: كوة ; وفي رواية: سقف البيت.
(3) ما بين معكوفين في الحديث زيادة من تفسير القرطبي.
عدوهم فأصبحوا ظاهرين) [ الصف: 14 ] وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس (1) على شرط مسلم ورواه النسائي عن أبي كريب عن أبي معاوية به نحوه.
ورواه ابن جرير عن مسلم بن جنادة عن أبي معاوية وهكذا ذكر غير واحد من السلف.
وممن ذكر ذلك مطولا محمد بن إسحق بن يسار قال: وجعل عيسى عليه السلام يدعو الله عزوجل أن يؤخر أجله يعني ليبلغ الرسالة ويكمل الدعوة ويكثر الناس الدخول في دين الله قيل وكان عنده من الحواريين اثني عشر رجلا: بطرس ويعقوب بن زبدا ويحنس أخو يعقوب واندراوس وفليبس وابرثلما ومتى وتوماس ويعقوب بن حلقيا وتداوس وفتاتيا ويودس كريا يوطا وهذا هو الذي دل اليهود على عيسى.
قال ابن إسحق: وكان فيهم رجل آخر اسمه سرجس كتمته النصارى، وهو الذي ألقى شبه المسيح عليه، فصلب عنه (2) قال: وبعض النصارى يزعم أن الذي صلب عن المسيح وألقى عليه شبهه هو يودس بن كريا يوطا.
والله أعلم.
وقال الضحاك عن ابن عباس: استخلف عيسى شمعون وقتلت اليهود يودس الذي ألقى عليه الشبه.
وقال أحمد بن مروان: حدثنا محمد بن الجهم، قال: سمعت الفراء يقول في قوله: (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين) قال: إن عيسى غاب عن خالته زمانا فأتاهم فقام رأس الجالوت اليهودي فضرب على عيسى حتى اجتمعوا على باب داره فكسروا الباب ودخل رأس جالوت ليأخذ عيسى فطمس الله عينيه عن عيسى، ثم خرج إلى أصحابه فقال: لم أره ومعه سيف مسلول، فقالوا: أنت عيسى وألقى الله شبه عيسى عليه فأخذوه فقتلوه وصلبوه فقال جل ذكره: (وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم) وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا يعقوب القمي، عن هرون بن عنترة، عن وهب بن منبه قال: أتى عيسى ومعه سبعة عشر من الحوارين في بيت فأحاطوا بهم، فلما دخلوا عليهم صورهم الله كلهم على صورة عيسى فقالوا لهم: سحرتمونا لتبرزن إلينا عيسى أو لنقتلنكم جميعا فقال عيسى لاصحابه: من يشتري منكم نفسه اليوم بالجنة ؟ فقال رجل: أنا فخرج إليهم فقال: أنا عيسى، وقد صوره الله على صورة عيسى، فأخذوه فقتلوه وصلبوه فمن ثم شبه لهم وظنوا أنهم قد قتلوا عيسى فظنت النصارى مثل ذلك أنه
عيسى ورفع الله عيسى من يومه ذلك.
قال ابن جرير (3): وحدثنا المثنى، حدثنا إسحاق [ بن الحجاج ]، حدثنا اسماعيل بن عبد الكريم، حدثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهبا يقول: إن عيسى بن مريم لما أعلمه الله أنه خارج من الدنيا جزع من الموت وشق عليه فدعا الحواريين وصنع لهم طعاما فقال: احضروني
__________
(1) روى الحديث القرطبي في تفسيره عن أبي بكر بن أبي شيبة عن ابن عباس ورواها السيوطي 2 / 238.
(2) ذكره الطبري 2 / 24 وفي رواية أخرى عنده: اسمه: ايشوع بن فنديرا.
(3) تاريخ الطبري 2 / 22 - 23.
ما بين معكوفين زيادة استدركت من الطبري.
الليلة فإن لي إليكم حاجة، فلما اجتمعوا إليه من الليل، عشاهم وقام يخدمهم فلما فرغوا من الطعام، أخذ يغسل أيديهم ويوضئهم بيده ويمسح أيديهم بثيابه، فتعاظموا ذلك وتكارهوه فقال ألا من رد علي شيئا الليلة مما أصنع فليس مني ولا أنا منه فأقروه حتى إذا فرغ من ذلك قال: أما ما صنعت بكم الليلة مما خدمتكم على الطعام وغسلت أيديكم بيدي فليكن لكم بي أسوة، فإنكم ترون أني خيركم، فلا يتعظم بعضكم على بعض وليبذل بعضكم لبعض نفسه كما بذلت نفسي لكم، وأما حاجتي التي استعنتكم عليها فتدعون الله [ لي ] وتجتهدون في الدعاء أن يؤخر أجلي، فلما نصبوا أنفسهم للدعاء، وأرادوا أن يجتهدوا أخذهم النوم حتى لم يستطيعوا دعاء، فجعل يوقظهم ويقول سبحان الله أما تصبرون لي ليلة واحدة تعينوني فيها ؟ فقالوا: والله ما ندري مالنا والله لقد كنا نسمر فنكثر السمر وما نطيق الليلة سمرا وما نريد دعاء إلا حيل بيننا وبينه، فقال: يذهب بالراعي وتتفرق الغنم، وجعل يأتي بكلام نحو هذا ينعى به نفسه.
ثم قال الحق ليكفرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك ثلاث مرات، وليبيعني أحدكم بدراهم يسيرة وليأكلن ثمني، فخرجوا وتفرقوا وكانت اليهود تطلبه فأخذوا شمعون أحد الحواريين فقالوا: هذا من أصحابه فجحد، وقال: ما أنا بصاحبه فتركوه.
ثم أخذه آخرون فجحد كذلك، ثم سمع صوت ديك فبكى وأحزنه.
فلما أصبح أتى أحد الحواريين إلى اليهود فقال: ما تجعلون لي إن دللتكم على المسيح
فجعلوا له ثلاثين درهما فأخذها ودلهم عليه، وكان شبه عليهم قبل ذلك، فأخذوه واستوثقوا منه وربطوه بالحبل، وجعلوا يقودونه، ويقولون: أنت كنت تحيي الموتى، وتنتهر الشيطان، وتبرئ المجنون، أفلا تنجي نفسك من هذا الحبل ؟ ويبصقون عليه ويلقون عليه الشوك حتى أتوا به الخشبة التي أرادوا أن يصلبوه عليها فرفعه الله إليه وصلبوا ما شبه لهم فمكث سبعا.
ثم إن أمه والمرأة التي كان يداويها عيسى فأبرأها الله من الجنون جاءتا تبكيان حيث كان المصلوب، فجاءهما عيسى فقال على م تبكيان قالتا: عليك.
فقال: إني قد رفعني الله إليه، ولم يصبني إلا خير، ون هذا شئ شبه لهم فأمرا الحواريين أن يلقوني إلى مكان كذا وكذا فلقوه إلى ذلك المكان أحد عشر وفقد الذي كان باعه ودل عليه اليهود، فسأل عنه أصحابه فقالوا: إنه ندم على ما صنع فاختنق ؟ وقتل نفسه فقال: لو تاب لتاب الله عليه.
ثم سألهم عن غلام [ كان ] (1) يتبعهم يقال له يحيى فقال: هو معكم فانطلقوا فإنه سيصبح كل إنسان منكم يحدث بلغة قوم فلينذرهم وليدعهم.
وهذا إسناد غريب عجيب وهو أصح مما ذكره النصارى من أن المسيح جاء إلى مريم وهي جالسة تبكي عند جذعه فأراها مكان المسامير من جسده وأخبرها أن روحه رفعت وأن جسده صلب وهذا بهت وكذب واختلاق وتحريف وتبديل وزيادة باطلة في الانجيل على خلاف الحق ومقتضى الدليل (2).
__________
(1) سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
(2) في النسخ المطبوعة: ومقتضى النقل.
وحكى الحافظ ابن عساكر من طريق يحيى بن حبيب، فيما بلغه، أن مريم سألت من بيت الملك بعد ما صلب المصلوب بسبعة أيام وهي تحسب أنه ابنها، أن ينزل جسده، فأجابهم إلى ذلك ودفن هنالك فقالت مريم لام يحيى: ألا تذهبين بنا نزور قبر المسيح ؟ فذهبتا فلما دنتا من القبر قالت مريم لام يحيى: ألا تستترين فقالت: وممن أستتر ؟ فقالت من هذا الرجل الذي هو عند القبر.
فقالت أم يحيى: إني لا أرى أحدا فرجت مريم أن يكون جبريل، وكانت قد بعد
عهدها به، فاستوقفت أم يحيى وذهبت نحو القبر فلما دنت من القبر قال لها جبريل، وعرفته: يا مريم أين تريدين ؟ فقالت أزور قبر المسيح فأسلم عليه وأحدث عهدا به.
فقال: يا مريم إن هذا ليس المسيح إن الله قد رفع المسيح وطهره من الذين كفروا.
ولكن هذا الفتى الذي القى شبهه عليه وصلب وقتل مكانه.
وعلامة ذلك أن أهله قد فقدوه فلا يدرون ما فعل به فهم يبكون عليه فإذا كان يوم كذا وكذا فأت غيضة كذا وكذا فإنك تلقين المسيح.
قال: فرجعت إلى أختها وصعد جبريل فأخبرتها عن جبريل وما قال لها من أمر الغيضة.
فلما كان ذلك اليوم ذهبت فوجدت عيسى في الغيضة فلما رآها اسرع إليها وأكب عليها فقبل رأسها وجعل يدعو لها كما كان يفعل، وقال يا أمه إن القوم لم يقتلوني ولكن الله رفعني إليه وأذن لي في لقائك والموت يأتيك قريبا فاصبري واذكري الله كثيرا ثم صعد عيسى فلم تلقه إلا تلك المرة حتى ماتت.
قال: وبلغني أن مريم بقيت بعد عيسى خمس سنين وماتت ولها ثلاث وخمسون سنة (1) رضي الله عنها وأرضاها.
وقال الحسن البصري كان عمر عيسى عليه السلام يوم رفع أربعا وثلاثين سنة وفي الحديث: " إن أهل الجنة يدخلونها جردا مردا مكحلين أبناء ثلاث وثلاثين " (2).
وفي الحديث الآخر: " على ميلاد عيسى وحسن يوسف " وكذا قال حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب أنه قال رفع عيسى وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة.
فأما الحديث الذي رواه الحاكم في " مستدركه " ويعقوب بن سفيان الفسوي في " تاريخه " عن سعيد بن أبي مريم، عن نافع بن يزيد، عن عمارة بن غزية، عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان أن أمه فاطمة بنت الحسين حدثته: أن عائشة كانت تقول أخبرتني فاطمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرها: أنه لم يكن نبي كان بعده نبي إلا عاش الذي بعده نصف عمر الذي كان قبله وأنه أخبرني أن عيسى بن مريم عاش عشرين ومائة سنة فلا أراني إلا ذاهب على رأس ستين.
__________
(1) في الطبري: بقيت بعد رفعه (عيسى) ست سنين وكان جميع عمرها نيفا وخمسين وسنة ; وذكر أنها حملت به وكان عمرها ثلاث عشرة وان عيسى عاش إلى أن رفع اثنتين وثلاثين سنة وبقيت بعده ست سنوات (وإذا حسبنا أشهر الحمل) يصبح عمرها 52 سنة.
(2) أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 10 / 399 عن أبي هريرة رفعه.
وقال: قلت في الصحيح بعضه، ورواه الطبراني في الصغير والاوسط وإسناده حسن.
هذا لفظ الفسوي فهو حديث غريب.
قال الحافظ ابن عساكر: والصحيح أن عيسى لم يبلغ هذا العمر، وإنما أراد به مدة مقامه في أمته، كما روى سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار عن يحيى بن جعدة، قال: قالت فاطمة قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن عيسى بن مريم مكث في بني إسرائيل أربعين سنة وهذا منقطع.
وقال جرير والثوري عن الاعمش إن إبراهيم مكث عيسى في قومه أربعين عاما ويروى عن أمير المؤمنين علي أن عيسى عليه السلام رفع ليلة الثاني والعشرين من رمضان وتلك الليلة في مثلها توفي علي بعد طعنه بخمسة أيام.
وقد روى الضحاك عن ابن عباس أن عيسى لما رفع إلى السماء جاءته سحابة فدنت منه حتى جلس عليها وجاءته مريم فودعته وبكت ثم رفع وهي تنظر، وألقى إليها عيسى بردا له وقال هذا علامة ما بيني وبينك يوم القيامة، وألقى عمامته على شمعون، وجعلت أمه تودعه باصبعها تشير بها إليه حتى غاب عنها، وكانت تحبه حبا شديدا لانه توفر عليها حبه من جهتي الوالدين إذ لا أب له وكانت لا تفارقه سفرا ولا حضرا.
قال بعض الشعراء: وكنت أرى كالموت من بين ساعة * فكيف ببين كان موعده الحشر وذكر إسحاق بن بشر، عن مجاهد بن جبير: أن اليهود لما صلبوا ذلك الرجل الذي شبه لهم وهم يحسبونه المسيح وسلم لهم أكثر النصارى بجهلهم ذلك، تسلطوا على أصحاب بالقتل والضرب والحبس فبلغ أمرهم إلى صاحب الروم وهو ملك دمشق في ذلك الزمان فقيل له إن اليهود قد تسلطوا على أصحاب رجل كان يذكر لهم أنه رسول الله وكان يحيي الموتى ويبرئ الاكمه والابرص ويفعل العجائب فعدوا عليه فقتلوه وأهانوا أصحابه وحبسوهم فبعث فجئ بهم وفيهم يحيى بن زكريا وشمعون وجماعة فسألهم عن أمر المسيح فأخبروه عنه فبايعهم في دينهم وأعلى كلمتهم وظهر الحق على اليهود وعلت كلمة النصارى عليهم وبعث إلى المصلوب (1) فوضع عن
جذعه وجئ بالجذع الذي صلب عليه ذلك الرجل فعظمه فمن ثم عظمت النصارى الصليب ومن هاهنا دخل دين النصرانية في الروم وفي هذا نظر من وجوه: أحدها: أن يحيى بن زكريا نبي لا يقر على أن المصلوب عيسى فإنه معصوم يعلم ما وقع على جهة الحق.
الثاني أن الروم لم يدخلوا في دين المسيح إلا بعد ثلثمائة سنة وذلك في زمان قسطنطين بن قسطن باني المدينة المنسوبة إليه على ما سنذكره.
الثالث أن اليهود لما صلبوا ذلك الرجل ثم ألقوه بخشبته جعلوا مكانه مطرحا للقمامة والنجاسة وجيف الميتات والقاذورات فلم يزل كذلك حتى كان في زمان قسطنطين المذكور فعمدت أمه هيلانة الحرانية الفندقانية فاستخرجته من هنالك معتقدة أنه المسيح ووجدوا الخشبة التي صلب عليها المصلوب فذكروا أنه ما مسها ذو عاهة إلا عوفي.
فالله أعلم أكان هذا أم لا ؟ وهل كان
__________
(1) نقل الخبر الطبري عن ابن إسحاق ; وفيه أن المصلوب سرجيس.
ج 2 / 24.
هذا لان ذلك الرجل الذي بذل نفسه كان رجلا صالحا أو كان هذا محنة وفتنة لامة النصارى في ذلك اليوم حتى عظموا تلك الخشبة، وغشوها بالذهب واللآلئ، ومن ثم اتخذوا الصلبانات وتبركوا بشكلها وقبلوها.
وأمرت أم الملك هيلانة فأزيلت تلك القمامة وبني مكانها كنيسة هائلة مزخرفة بأنواع الزينة فهي هذه المشهورة اليوم ببلد بيت المقدس التي يقال لها القمامة باعتبار ما كان عندها، ويسمونها القيامة، يعنون التي يقوم جسد المسيح منها.
ثم أمرت هيلانة بأن توضع قمامة البلد وكناسته وقاذوراته على الصخرة التي هي قبلة اليهود فلم يزل كذلك حتى فتح عمر بن الخطاب بيت المقدس فكنس عنها القمامة بردائه وطهرها من الاخباث والانجاس، ولم يضع المسجد وراءها ولكن أمامها حيث صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الاسراء بالانبياء وهو [ المسجد ] (1) الاقصى.
[ ذكر ] (2) صفة عيسى عليه السلام وشمائله وفضائله قال الله تعالى: (ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسول وأمه صديقة) [ المائدة: 75 ] قيل سمي المسيح لمسحه الارض وهو سياحته فيها وفراره بدينه من الفتن في ذلك
الزمان لشدة تكذيب اليهود له وافترائهم عليه وعلى أمه عليهما السلام.
وقيل لانه كان ممسوح القدمين.
وقال تعالى: (وقفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى بن مريم وآتيناه الانجيل فيه هدى ونور) [ الحديد: 27 ] وقال تعالى: (وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس) [ البقرة: 87 ] والآيات في ذلك كثيرة جدا وقد تقدم ما ثبت في الصحيحين: " ما من مولود إلا والشيطان يطعن في خاصرته حين يولد فيستهل صارخا إلا مريم وابنها ذهب يطعن فطعن في الحجاب " (3) وتقدم حديث عمير بن هانئ، عن جنادة، عن عبادة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته التي ألقاها إلى مريم وروح منه والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل " رواه البخاري وهذا لفظه، ومسلم (4).
وروى البخاري ومسلم من حديث الشعبي، عن أبي بردة بن أبي موسى، عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أدب الرجل أمته فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها فتزوجها كان له أجران وإذا آمن بعيسى بن مريم ثم آمن بي فله أجران، والعبد إذا اتقى ربه وأطاع مواليه
__________
(1) سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
(2) سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
(3) تقدم تخريجه قريبا فليراجع.
(4) تقدم تخريجه قريبا فليراجع.
فله أجران " (1) هذا لفظ البخاري.
وقال البخاري: حدثنا إبراهيم بن موسى، أنبأنا هشام، عن معمر وحدثني محمود حدثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر، عن الزهري، أخبرني سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ليلة أسري بي لقيت موسى قال فنعته فإذا رجل حسبته قال مضطرب رجل الرأس كأنه من رجال شنؤة.
قال ولقيت عيسى فنعته النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " ربعة أحمر كأنما خرج من ديماس، يعني الحمام، ورأيت إبراهيم وأنا أشبه ولده به.
الحديث " (2) وقد تقدم
في قصتي إبراهيم وموسى ثم قال: حدثنا محمد بن كثير، أنبأنا إسرائيل، عن عثمان بن المغيرة، عن مجاهد، عن ابن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " رأيت عيسى وموسى وإبراهيم.
فأما عيسى فأحمر جعد عريض الصدر.
وأما موسى فآدم جسيم سبط كأنه من رجال الزط " (3).
تفرد به البخاري.
وحدثنا إبراهيم بن المنذر، حدثنا أبو ضمرة، حدثنا موسى بن عقبة، عن نافع، قال قال عبد الله بن عمر: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يوما بين ظهراني الناس المسيح الدجال فقال: إن الله ليس بأعور إلا أن المسيح الدجال أعور العين اليمنى كأن عينه عنبة طافية، وأراني الليلة عند الكعبة في المنام فإذا رجل آدم كأحسن ما يرى من آدم الرجال تضرب لمته بين منكبيه رجل الشعر، يقطر رأسه ماء، واضعا يديه على منكبي رجلين، وهو يطوف بالبيت فقلت من هذا ؟ فقالوا المسيح بن مريم.
ثم رأيت رجلا وراءه جعد قطط أعور عين اليمنى كأشبه من رأيت بابن قطن.
واضعا يده على منكبي رجل يطوف بالبيت فقلت من هذا ؟ فقالوا المسيح الدجال.
ورواه مسلم من حديث موسى بن عقبة.
ثم قال البخاري: تابعه عبد الله بن نافع ثم ساقه من طريق الزهري، عن سالم بن عمر قال الزهري: وابن قطن رجل من خزاعة هلك في الجاهلية.
فبين صلوات الله وسلامه عليه صفة المسيحين: مسيح المهدي، ومسيح الضلالة، ليعرف هذا إذا نزل فيؤمن به المؤمنون، ويعرف الآخر فيحذره الموحدون.
وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " رأى عيسى بن مريم رجلا يسرق فقال له أسرقت قال كلا والذي لا إله إلا هو فقال عيسى آمنت بالله وكذبت عيني " وكذا رواه [ مسلم عن ] (4) محمد بن رافع عن عبد الرزاق (5).
وقال أحمد: حدثنا عفان،
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد 145 والعتق 14، 16 وأحاديث الانبياء 48 وأخرجه مسلم في 1 كتاب الايمان 241 والترمذي في كتاب النكاح 25 والنسائي في النكاح 65 والامام أحمد في مسنده 4 / 395، 402، 405، 414.
(2) أخرجه البخاري في أحاديث الانبياء وباب 49 والترمذي في أول تفسير سورة الاسراء عن محمود بن غيلان.
ورواه مسلم في الصحيح عن محمد بن رافع في 1 كتاب الايمان (272) وأخرجه البيهقي في الدلائل 2 / 387.
(3) أخرجه البخاري في كتاب الانبياء 24، 48 وكتاب بدء الخلق 7.
(4) ما بين معكوفين سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
(5) أخرجه مسلم في 43 / 40 / 149 / 2368.
حدثنا حماد بن سلمة، عن حميد الطويل، عن الحسن وغيره، عن أبي هريرة قال: ولا أعلمه إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " رأى عيسى رجلا يسرق فقال يا فلان أسرقت فقال لا والله ما سرقت فقال آمنت بالله وكذبت بصري " (1).
وهذا يدل على سجية طاهرة حيث قدم حلف ذلك الرجل فظن أن أحدا لا يحلف بعظمة الله كاذبا على ما شاهده منه عيانا فقيل عذره ورجع على نفسه فقال آمنت بالله أي صدقتك وكذبت بصري لاجل حلفك.
وقال البخاري: حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان، عن المغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تحشرون حفاة عراة غرلا ".
ثم قرأ: (كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين) [ الانبياء: 104 ] فأول الخلق يكسى إبراهيم ثم يؤخذ برجال من أصحابي ذات اليمين وذات الشمال، فأقول: أصحابي فيقال: إنهم لن يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم.
فأقول كما قال العبد الصالح عيسى بن مريم: (وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شئ شهيد.
إن تعذبهم فإنهم عبادك.
وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) [ المائدة: 117 - 118) " (2) تفرد به دون مسلم من هذا الوجه.
وقال أيضا: حدثنا عبد الله بن الزبير الحميدي، حدثنا سفيان، سمعت الزهري يقول: أخبرني عبد الله بن عبد الله عن ابن عباس سمع عمر يقول على المنبر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله " (3).
وقال البخاري: حدثنا إبراهيم، حدثنا جرير بن حازم، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة عيسى وكان في بني إسرائيل رجل يقال له جريج يصلي إذ جاءته أمه فدعته فقال أجيبها أو أصلي فقالت: اللهم لا تمته حتى تريه وجوه
المومسات وكان جريج في صومعة فعرضت له امرأة وكلمته فأبى فأتت راعيا فأمكنته من نفسها فولدت غلاما فقيل لها ممن قالت من جريج فأتوه وكسروا صومعته فأنزلوه وسبوه فتوضأ وصلى ثم أتى الغلام فقال: من أبوك يا غلام قال فلان الراعي قالوا أنبني صومعتك من ذهب قال: لا إلا
__________
(1) مسند أحمد ج 2 / 314.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه 81 / 45 ومسلم في صحيحه 51 / 56 / 58 والترمذي في سننه 44 / 17 / 7 ورواه النسائي وابن ماجه والدارمي في سننهم وأحمد في مسنده 1 / 220 - 223 - 229، 3 / 495 ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده حديث 2638.
ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد ج 10 / 345 - 346 عن جابر وقال: رواه الطبراني في الاوسط بنحوه ورجال أحمد وثقوا.
(3) أخرجه البخاري في أحاديث الانبياء 48 والدارمي في الرقاق 68 وأحمد في مسنده 1 / 22، 24، 47، 55، 60.
من طين.
وكانت امرأة ترضع ابنا لها في بني إسرائيل فمر بها رجل راكب ذو شارة فقالت اللهم اجعل ابني مثله فترك ثديها وأقبل على الراكب فقال: اللهم لا تجعلني مثله.
ثم أقبل على ثديها يمصه.
قال أبو هريرة كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يمص أصبعه ثم مر بأمه فقالت: اللهم لا تجعل ابني مثل هذه فترك ثديها فقال: اللهم اجعلني مثلها فقالت: لم ذلك ؟ فقال: الراكب جبار من الجبابرة وهذه الامة يقولون سرقت وزنت ولم تفعل " (1).
وقال البخاري حدثنا أبو اليمان حدثنا شعيب عن الزهري أخبرني أبو سلمة أن أبا هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " أنا أولى الناس بابن مريم والانبياء أولاد علات ليس بيني وبينه نبي " (2) تفرد به البخاري من هذا الوجه.
ورواه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي داود الحفري، عن الثوري، عن أبي الزناد، عن أبي سلمة عن أبي هريرة وقال أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان هو الثوري، عن أبي الزناد، عن الاعرج، عن أبي
هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنا أولى الناس بعيسى عليه السلام والانبياء أخوة أولاد علات وليس بيني وبين عيسى نبي " (3).
وهذا إسناد صحيح على شرطهما ولم يخرجوه من هذا الوجه وأخرجه أحمد عن عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.
وأخرجه ابن حبان من حديث عبد الرزاق نحوه.
وقال أحمد: حدثنا يحيى، عن ابن أبي عروبة، حدثنا قتادة، عن عبد الرحمن بن آدم، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الانبياء أخوة لعلات.
ودينهم واحد وأمهاتهم شتى.
وأنا أولى الناس بعيسى بن مريم لانه لم يكن بيني وبينه نبي، وإنه نازل فإذا رأيتموه فاعرفوه فإنه رجل مربوع إلى الحمرة، والبياض سبط كان رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل بين مخصرتين فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية ويعطل الملل، حتى يهلك في زمانه كلها غير الاسلام، ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال الكذاب وتقع الامنة في الارض حتى ترتع الابل مع الاسد جميعا، والنمور مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان والغلمان بالحيات لا يضر بعضهم بعضا، فيمكث ما شاء الله أن يمكث، ثم يتوفى فيصلي عليه المسلمون ويدفنونه " (4).
ثم رواه أحمد عن عفان، عن همام، عن قتادة، عن عبد الرحمن عن أبي هريرة فذكر نحوه وقال: " فيمكث أربعين سنة.
ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون " (5).
ورواه أبو داود عن هدبة بن خالد، عن همام بن يحيى به نحوه.
وروى هشام بن عروة عن صالح مولى أبي هريرة عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " فيمكث في الارض أربعين سنة.
وسيأتي بيان
__________
(1) رواه أحمد في مسنده 2 / 307 - 308.
(2) تقدم تخريجه قريبا فليراجع.
(3) مسند أحمد ج 2 / 406.
مسند أحمد ج 2 / 437.
مسند أحمد ج 2 / 319، 406، 482.
نزوله عليه السلام في آخر الزمان في " كتاب الملاحم " كما بسطنا ذلك أيضا في التفسير عند قوله تعالى
في سورة النساء: (وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا) [ النساء: 159 ] وقوله: (وإنه لعلم للساعة) الآية [ الزخرف: 61 ] وأنه ينزل على المنارة البيضاء بدمشق (1) وقد أقيمت صلاة الصبح فيقول له إمام المسلمين.
تقدم يا روح الله فصل فيقول: لا بعضكم على بعض أمراء مكرمة الله هذه الامة.
وفي رواية فيقول له عيسى: إنما أقيمت الصلاة لك فيصلي خلفه.
ثم يركب ومعه المسلمون في طلب المسيح الدجال فيلحقه عند باب لد فيقتله بيده الكريمة.
وذكرنا أنه قوي الرجاء حين بنيت هذه المنارة الشرقية بدمشق التي هي من حجارة بيض وقد بنيت أيضا من أموال النصارى حين حرقوا التي هدمت وما حولها فينزل عليها عيسى بن مريم عليه السلام فيقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ولا يقبل من أحد إلا الاسلام، وأنه يحج من فج الروحاء حاجا أو معتمرا أو لثنتيهما، ويقيم أربعين سنة، ثم يموت فيدفن فيما قيل في الحجرة النبوية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه (2).
وقد ورد في ذلك حديث ذكره ابن عساكر في آخر ترجمة المسيح عليه السلام في كتابه عن عائشة مرفوعا أنه يدفن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر في الحجرة النبوية ولكن لا يصح إسناده وقال أبو عيسى الترمذي: حدثنا زيد بن أخزم الطائي، حدثنا أبو قتيبة مسلم بن قتيبة، حدثني أبو مودود المدني، حدثنا عثمان بن الضحاك، عن محمد بن يوسف بن عبد الله بن سلام، عن أبيه عن جده، قال: مكتوب في التوراة صفة محمد وعيسى بن مريم عليهم السلام يدفن معه (3).
قال أبو مودود: وقد بقي من البيت موضع قبر.
ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن كذا قال.
والصواب الضحاك بن عثمان المدني.
وقال البخاري هذا الحديث لا يصح عندي ولا يتابع عليه.
وروى البخاري عن يحيى بن حماد، عن أبي عوانة، عن عاصم الاحول، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان قال: الفترة ما بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ستمائة سنة وعن قتادة خمسمائة وستون سنة.
وقيل خمسمائة وأربعون سنة وعن الضحاك أربعمائة وبضع وثلاثون سنة.
والمشهور ستمائة سنة (4).
ومنهم من يقول ستمائة وعشرون سنة بالقمرية لتكون ستمائة بالشمسية والله أعلم.
وقال ابن حبان في صحيحه: " ذكر المدة التي بقيت فيها أمة عيسى على هديه ": حدثنا أبو
__________
(1) أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 8 / 205 عن أوس بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال رواه الطبراني ورجاله ثقات.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه 1 / 356 من عدة طرق عن الزهري.
(3) ورواه الهيثمي في الزوائد 8 / 206 عن عبد الله بن سلام.
قال: ورواه الطبراني وفيه عثمان بن الضحاك وثقه ابن حبان وضعفه أبو داود.
(4) جاء في مروج الذهب: 2 / 285: بين مولد المسيح إلى مولد النبي صلى الله عليه وسلم 521 سنة، وبين أن رفع الله المسيح وهو ابن 33 سنة إلى سنة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم 546.
وبين مبعث المسيح وهجرة النبي صلى الله عليه وسلم 594 سنة.
يعلى، حدثنا أبو همام، حدثنا الوليد بن مسلم، عن الهيثم بن حميد، عن الوضين بن عطاء، عن نصر بن علقمة، عن جبير بن نفير، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد قبض الله داود من بين أصحابه فما فتنوا ولا بدلوا ولقد مكث أصحاب المسيح على سنته وهديه مائتي سنة " (1).
وهذا حديث غريب جدا وإن صححه ابن حبان.
وذكر ابن جرير (2) عن محمد بن إسحاق: أن عيسى عليه السلام قبل أن يرفع وصى الحواريين بأن يدعو الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له وعين كل واحد منهم إلى طائفة من الناس في إقليم من الاقاليم من الشام والمشرق وبلاد المغرب، فذكروا أنه أصبح كل إنسان منهم يتكلم بلغة الذين أرسله المسيح إليهم.
وذكر غير واحد أن الانجيل نقله عنه أربعة لوقا ومتى ومرقس ويوحنا، وبين هذه الاناجيل الاربعة تفاوت كثير بالنسبة إلى كل نسخة ونسخة وزيادات كثيرة ونقص بالنسبة إلى الاخرى وهؤلاء الاربعة منهم اثنان ممن أدرك المسيح ورآه وهما متى ويوحنا ومنهم اثنين من أصحاب أصحابه وهما مرقس ولوقا.
وكان ممن آمن بالمسيح وصدقه من أهل دمشق رجل يقال له ضينا وكان مختفيا في مغارة داخل الباب الشرقي قريبا من الكنيسة المصلبة خوفا من بولس اليهودي وكان ظالما غاشما مبغضا للمسيح، ولما جاء به.
وكان قد حلق رأس ابن أخيه حين آمن بالمسيح وطاف به في البلد.
ثم رجمه حتى مات رحمه الله.
ولما سمع بولص أن المسيح عليه السلام قد توجه نحو دمشق جهز بغاله وخرج ليقتله فتلقاه عند كوكبا، فلما واجه أصحاب المسيح، جاء إليه ملك فضرب وجهه بطرف جناحه
فأعماه.
فلما رأى ذلك وقع في نفسه تصديق المسيح، فجاء إليه واعتذر مما صنع وآمن به فقبل منه وسأله أن يمسح عينيه ليرد الله عليه بصره، فقال إذهب إلى ضينا عندك بدمشق في طرف السوق المستطيل من المشرق فهو يدعو لك، فجاء إليه فدعا فرد عليه بصره وحسن إيمان بولص بالمسيح عليه السلام أنه عبد الله ورسوله وبنيت له كنيسة باسمه فهي كنيسة بولص المشهورة بدمشق من زمن فتحها الصحابة رضي الله عنهم حتى خربت.
فصل اختلف أصحاب المسيح عليه السلام بعد رفعه إلى السماء على أقوال، كما قاله ابن عباس وغيره من أئمة السلف كما أوردناه عند قوله: (فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين) [ الصف: 14 ] قال ابن عباس وغيره: قال قائلون منهم: كان فينا عبد الله ورسوله فرفع إلى
__________
(1) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد 8 / 207 وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات وفي بعضهم خلاف.
(2) تاريخ الطبري 2 / 24: عين فطرس إلى رومية وتوماس إلى أرض بابل من أرض المشرق، وفيليبس إلى أرض القيروان وقرطاجنة وهي افريقيا ويحنس إلى دفسوس وابن تلما إلى ارض الحجاز وسيمن إلى أرض البربر دون أفريقيا ويعقوبس إلى أوري شلم.
السماء وقال آخرون هو الله.
وقال آخرون هو ابن الله (1).
فالاول هو الحق والقولان الآخران كفر عظيم كما قال: (فاختلف الاحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم) [ مريم: 37 ] وقد اختلفوا في نقل الاناجيل على أربعة أقاويل ما بين زيادة ونقصان وتحريف وتبديل.
ثم بعد المسيح بثلمائة سنة حدثت فيه الطامة العظمى والبلية الكبرى.
اختلف البتاركة الاربعة وجميع الاساقفة والقساوسة والشمامسة والرهابين في المسيح على أقوال متعددة لا تنحصر ولا تنضبط.
واجتمعوا وتحاكموا إلى الملك قسطنطين باني القسطنطينة وهم المجمع الاول (2).
فصار الملك إلى قول أكثر فرقة اتفقت على قول من تلك المقالات، فسموا الملكية (3) ودحض من عداهم وأبعدهم وتفردت الفرقة التابعة لعبد الله بن إديوس الذي ثبت على أن عيسى عبد من عباد الله
ورسول من رسله فسكنوا البراري والبوادي وبنوا الصوامع والديارات والقلايات وقنعوا بالعيش الزهيد ولم يخالطوا أولئك الملل والنحل وبنت الملكية الكنائس الهائلة عمدوا إلى ما كان من بناء اليونان فحولوا محاربيها إلى الشرق وقد كانت إلى الشمال إلى الحدي.
بيان بناء بيت لحم والقمامة وبنى الملك قسطنطين بيت لحم على محل مولد المسيح وبنت أمه هيلانة القمامة يعني على قبر
__________
(1) تقدم التعليق حول الفرق الثلاث التي اختلفت في رفعه عليه السلام.
وقال صاحب الملل والنحل: لما رفع إلى السماء اختلف الحواريون وغيرهم فيه.
وإنما اختلافاتهم تعود إلى أمرين: - كيفية نزوله واتصاله بأمه وتجسد الكلمة.
- كيفية صعوده واتصاله بالملائكة وتوحد الكلمة.
ص 100.
(2) حضر المجمع الاول بمدينة نيقية ألفان وثمانية وأربعون أسقفا.
فتم اختيار ثلاثمائة وثمانية عشر اسقفا متفقين ; فوضعوا شرائع النصرانية وكان رئيس هذا المجمع بطرق الاسكندرية.
وحضر الاجتماع البطاركة الثلاثة الآخرون: بطرك انطاكية - بطرك مدينة رومية - بطرك القسطنطينية واتفقوا - على ما قال الشهرستاني وذلك قولهم: " نؤمن بالله الواحد الآب مالك كل شئ، وصانع ما يرى وما لا يرى وبالابن الواحد يسوع المسيح، ابن الله الواحد، بكر الخلائق كلها، الذي ولد من أبيه قبل العوالم كلها، وليس بمصنوع، إله حق من إله حق، من جوهر أبيه الذي بيده أتقنت العوالم، وخلق كل شئ من أجلنا، ومن أجل معشر الناس، ومن أجل خلاصنا، نزل من السماء وتجسد من روح القدس وصار إنسانا، وحبل به، وولد من مريم البتول، وقتل وصلب أيام فيلاطوس ودفن، ثم قام في اليوم الثالث، وصعد إلى السماء وجلس عن يمين أبيه، وهو مستعد للمجئ تارة أخرى بين الاموات والاحياء، ونؤمن بروح القدس الواحد روح الحق الذي يخرج من أبيه، وبعمودية واحدة لغفران الخطايا وبجماعة واحدة قدسية مسيحية جاثليقية وبقيام أبداننا، وبالحياة الدائمة أبد الآبدين " الملل والنحل ص 101.
(3) كذا في الاصول، وهم المعروفون في كتب النحل والتفسير بالملكانية.
قال الشهرستاني: وهم أصحاب ملكا
الذي ظهر بأرض الروم واستولى عليها قالوا: إن الكلمة اتحدت بجسد المسيح.
وقالوا: إن المسيح ناسوت كلي لا جزئي (101).
لمصلوب (1) وهم يسلمون لليهود أنه المسيح.
وقد كفرت هؤلاء وهؤلاء ووضعوا القوانين والاحكام.
ومنها مخالف للعتيقة التي هي التوراة وأحلوا أشياء هي حرام بنص التوراة، ومن ذلك الخنزير وصلوا إلى الشرق، ولم يكن المسيح صلى إلا إلى صخرة بيت المقدس وكذلك جميع الانبياء بعد موسى.
ومحمد خاتم النبيين صلى إليها بعد هجرته إلى المدينة ستة عشر أو سبعة عشر شهرا ثم حول إلى الكعبة التي بناها ابراهيم الخليل.
وصوروا الكنائس ولم تكن مصورة قبل ذلك ووضعوا العقيدة التي يحفظها أطفالهم ونساؤهم ورجالهم التي يسمونها بالامانة وهي في الحقيقة أكبر الكفر والخيانة وجميع الملكية والنسطورية أصحاب نسطورس أهل المجمع الثاني (2) واليعقوبية أصحاب يعقوب البرادعي أصحاب المجمع الثالث (3) يعتقدون هذه العقيدة ويختلفون في تفسيرها وها أنا أحكيها وحاكي الكفر ليس بكافر لابث على ما فيها ركة الالفاظ وكثرة الكفر والخبال المفضى بصاحبه إلى النار ذات الشواظ فيقولون نؤمن بإله واحد ضابط الكل خالق السموات والارض كل ما يرى وكل ما لا يرى وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الاب قبل الدهور نور من نور إله حق من إله حق مولود غير مخلوق مساو للاب في الجوهر الذي كان به كل شئ من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من روح القدس ومن مريم العذراء وتانس وصلب على عهد ملاطس النبطي وتالم وقبر وقام في اليوم الثالث كما في الكتب وصعد إلى السماء وجلس عن يمين الاب.
وأيضا فسيأتي بجسده ليدبر الاحياء والاموات الذي لا فناء للملكه وروح القدس الرب المحيي المنبثق من الاب مع الاب والابن مسجود له وبمجد الناطق في الانبياء كنسبة واحدة جامعة مقدسة يهولية واعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا وأنه حي قيامة الموتى وحياة الدهر العتيد كونه آمين.
كتاب أخبار الماضين
من بني إسرائيل وغيرهم إلى آخر زمن الفترة سوى أيام العرب وجاهليتهم فإنا سنورد ذلك بعد فراغنا من هذا الفصل إن شاء الله تعالى قال الله تعالى: (كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا) [ طه 99 ] وقال: (نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين) [ يوسف: 3 ].
__________
(1) قال ابن الاثير: في الكامل: اخرجت الخشبة التى تزعم النصارى أن المسيح صلب عليها، وجعلت ذلك اليوم عيدا، وهو عيد الصليب وهو لاربع عشرة تخلو من أيلول وبنت الكنيسة المعروفة بقمامة وتسمى القيامة.
1 / 330 مروج الذهب 1 / 329 (2) عقد بالقسطنطينية على مقدونس وأشياعه، وعدة المجتمعين فيه من الاساقفة مائة وخمسون رجلا.
(3) عقد في ملك تدوس الصغير بن تدوس الكبير لاحدى وعشرين سنة من ملكه، وعقد بمدينة أفسس، وحضره مائتا أسقف وكان سببه ما ظهر من نسطورس بطرك القسطنطينية من مخالفته مذهبهم فلعنوه ونفوه.
خبر ذي القرنين قال الله تعالى: (ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا.
إنا مكنا له في الارض وآتينا من كل شئ سببا فأتبع سببا حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوما.
قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا.
قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا.
وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا.
ثم أتبع سببا.
حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا.
كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا.
ثم أتبع سببا حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا.
قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الارض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا.
قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا.
فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له
نقبا.
قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا) [ الكهف: 83 - 98 ].
ذكر الله تعالى ذا القرنين هذا وأثنى عليه بالعدل، وأنه بلغ المشارق والمغارب، وملك الاقاليم وقهر أهلها، وسار فيهم بالمعدلة التامة والسلطان المؤيد المظفر المنصور القاهر المقسط.
والصحيح: أنه كان ملكا من الملوك العادلين وقيل كان نبيا.
وقيل رسولا.
وأغرب من قال ملكا من الملائكة.
وقد حكي هذا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: فإنه سمع رجلا يقول لآخر يا ذا القرنين فقال: مه ما كفاكم أن تتسموا بأسماء الانبياء حتى تسميتم بأسماء الملائكة ذكره السهيلي.
وقد روى وكيع عن إسرائيل عن جابر عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو قال كان ذو القرنين نبيا.
وروى الحافظ ابن عساكر من حديث أبي محمد بن أبي نصر، عن أبي إسحاق بن إبراهيم بن محمد بن أبي ذؤيب، حدثنا محمد بن حماد، أنبأنا عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن أبي ذؤيب، عن المقبري (1) عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا أدري أتبع كان لعينا أم لا ولا أدري الحدود كفارات لاهلها أم لا ولا أدري ذو القرنين كان نبيا أم لا " (2).
وهذا غريب من هذا الوجه، وقال إسحاق بن بشر عن عثمان بن الساج، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان ذو القرنين ملكا صالحا رضي الله عمله وأثنى عليه في كتابه وكان منصورا، وكان الخضر وزيره.
وذكر أن الخضر عليه السلام كان على مقدمة جيشه وكان عنده بمنزلة المشاور، الذي هو من الملك بمنزلة الوزير في إصلاح الناس اليوم، وقد
__________
(1) في أبي داود: عن ابن أبي ذئب، عن سعيد بن أبي سعيد.
(2) أخرجه أبو داود في كتاب السنة عن محمد بن المتوكل العسقلاني باب التخيير بين الانبياء ح 4674 وفيه: ما أدري أتبع لعين هو أم لا، وما أدري أعزير نبي هو أم لا ؟.
ذكر الازرقي (1) وغيره أن ذاالقرنين أسلم على يدي إبراهيم الخليل وطاف معه بالكعبة المكرمة هو واسماعيل عليه السلام وروى عن عبيد بن عمير وابنه عبد الله وغيرهما أن ذا القرنين حج ماشيا وأن إبراهيم لما سمع بقدومه تلقاه ودعا له ورضاه وأن الله سخر لذي القرنين السحاب (2) يحمله
حيث أراد والله أعلم.
واختلفوا في السبب الذي سمي به ذا القرنين فقيل: لانه كان له في رأسه شبه القرنين.
قال وهب بن منبه: كان له قرنان من نحاس في رأسه وهذا ضعيف.
وقال بعض أهل الكتاب لانه ملك فارس والروم.
وقيل: لانه بلغ قرني الشمس غربا وشرقا.
وملك ما بينهما من الارض وهذا أشبه من غيره وهو قول الزهري وقال الحسن البصري: كانت له غديرتان من شعر يطافهما فسمي ذا القرنين.
وقال إسحاق بن بشر: عن عبد الله بن زياد بن سمعان، عن عمر بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أنه قال دعا ملكا جبارا إلى الله فضربه على قرنه فكسره ورضه.
ثم دعاه فدق قرنه الثاني فكسره فسمي ذا القرنين.
وروى الثوري عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي الطفيل، عن علي بن أبي طالب أنه سئل عن ذي القرنين فقال: كان عبدا ناصح الله فناصحه، دعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات، فأحياه الله فدعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه الآخر فمات فسمي ذا القرنين.
وهكذا رواه شعبة القاسم بن أبي بزة عن أبي الطفيل عن علي به (3).
وفي بعض الروايات عن أبي الطفيل عن علي قال لم يكن نبيا ولا رسولا ولا ملكا ولكن كان عبدا صالحا.
وقد اختلف في اسمه فروى الزبير بن بكار عن ابن عباس: كان اسمه عبد الله بن الضحاك ابن معد وقيل مصعب بن عبد الله بن قنان بن منصور بن عبد الله بن الازد بن عون (4) بن نبت بن
__________
(1) أخبار مكة 1 / 74.
(2) عن علي بن أبي طالب كما في تفسير القرطبي.
(3) في ذي القرنين واسمه تنازع الناس وكثرت الاقوال حتى التناقض ; والخلاف فيه كثير ولا طائل تحته - قال ناس أنه من الملائكة ; ومنهم من قال نبيا ومنه من قال كان عبدا صالحا.
إلى جانب ما ذكره ابن كثير في تسميته بذي القرنين قيل: - سمي بذي القرنين لانه انقض في وقته قرنان من الناس.
- كان على رأسه ما يشبه القرنين.
- كان لتاجه قرنان.
- عن النبي صلى الله عليه وسلم: لانه طاف قرني الدنيا يعني شرقها وغربها.
- لانه رأى حلما في المنام كأنه تعلق بطرفي الشمس وقرنيها.
- لانه دخل النور والظلمة.
- كان له صفيرتان أي قرنان.
(راجع المسعودي - تفسير الرازي - تفسير القرطبي - المعارف لابن قتيبة).
(4) في أنساب السمعاني: غوث.
مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن قحطان.
وقد جاء في حديث أنه كان من حمير (1) وأمه رومية وأنه كان يقال له ابن الفيلسوف لعقله.
وقد أنشد بعض الحميريين (2) في ذلك شعرا يفتخر بكونه أحد أجداده فقال: قد كان ذو القرنين جدي مسلما * ملكا تدين له الملوك وتحشد (3) بلغ المشارق والمغارب يبتغي * أسباب أمر من حكيم مرشد (4) فرأى مغيب الشمس عند غروبها * في عين ذي خلب وثأط حرمد (5) من بعده بلقيس كانت عمتي * ملكتهم حتى أتاها الهدهد قال السهيلي وقيل كان اسمه مرزبان بن مرزبة.
ذكره ابن هشام (6) وذكر في موضع (7) آخر أن اسمه الصعب بن ذي مرائد وهو أول التبابعة وهو الذي حكم لابراهيم في بئر السبع (8).
وقيل إنه أفريدون بن أسفيان الذي قتل الضحاك وفي خطبة قس: يا معشر إياد بن الصعب ذو القرنين، ملك الخافقين، وأذل الثقلين، وعمر ألفين.
ثم كان ذلك كلحظة عين.
ثم أنشد ابن هشام للاعشى: والصعب ذو القرنين أصبح ثاويا * بالجنو في جدث أشم مقيما وذكر الدارقطني وابن ماكولا أن اسمه هرمس ويقال هرويس بن قيطون بن رومي بن لنطى
__________
(1) قال أبو الريحان المنجم الهروي البيروني في كتاب الآثار الباقية عن القرون الخالية: قيل هو أبو كرب شمر بن عبير بن افريقس الحميري ; وقال: ويشبه أن يكون هذا القول أقرب لان الاذواء كانوا من اليمن وهم الذين لا
تخلوا أساميهم من ذي.
وقال المسعودي في مروج الذهب: قيل ان بعض التبابعة غزا مدينة رومية وأسكنها خلقا من اليمن، وأن ذا القرنين الذي هو الاسكندر من أولئك العرب المتخلفين بها.
تفسير الرازي 21 / 164.
(2) وهو تبع اليماني.
كما في تفسير القرطبي والمسعودي ولم يذكر الابيات.
(3) في تفسير الرازي والقرطبي: قبلي بدل جدي ; وفي القرطبي تسجد بدل تحشد.
وعجزه في الرازي: ملكا علا في الارض غير مفند (4) في تفسير الرازي: عجزه: أسباب ملك من كريم سيد.
(5) الخلب: الطين، الثأط: الحمأة.
الحرمد: الاسود.
(6) قال ابن إسحاق: مرزبان بن مرذبة اليوناني من ولد يونان بن يافث بن نوح ; وذكر ابن هشام: اسمه الاسكندر سيرة ابن هشام.
(7) أي في التيجان.
(8) قال السهيلي: والظاهر من علم الاخبار أنهما اثنان: أحدهما كان على عهد إبراهيم عليه السلام ويقال انه قضى لابراهيم حين تحاكموا إليه في بئر السبع بالشام (وقد تقدم عن الازرقي أنه طاف معه ماشيا وأسلم على يديه) - والآخر كان قريبا من عهد عيسى عليه السلام.
ابن كشلوخين بن يونان بن يافث بن نوح فالله أعلم.
وقال إسحق بن بشر عن سعيد بن بشير عن قتادة قال اسكندر هو ذو القرنين وأبوه أول القياصرة وكان من ولد سام بن نوح عليه السلام.
فأما ذو القرنين الثاني فهو اسكندر بن فيلبس بن مصريم بن هرمس بن مطيون بن رومي بن لنطي بن يونان بن يافث بن يونة بن شرخون بن رومة بن شرفط بن توفيل بن رومي بن الاصفر بن يقز بن العيص بن إسحق بن إبراهيم الخليل كذا نسبه الحافظ ابن عساكر في تاريخه (1).
المقدوني اليوناني المصري باني اسكندرية الذي يؤرخ بأيامه الروم، وكان متأخرا عن الاول بدهر طويل كان هذا قبل المسيح بنحو من ثلاثمائة سنة وكان أرطا طاليس الفيلسوف وزيره وهو الذي قتل دارا بن دارا وأذل
ملوك الفرس وأوطأ أرضهم.
وإنما نبهنا عليه لان كثيرا من الناس يعتقد أنهما واحد، وأن المذكور في القرآن هو الذي كان أرطا طاليس وزيره فيقع بسبب ذلك خطأ كبير وفساد عريض طويل كثير (2)، فإن الاول كان عبدا مؤمنا صالح وملكا عادلا وكان وزيره الخضر، وقد كان نبيا على ما قررناه قبل هذا (3).
وأما الثاني فكان مشركا وكان وزيره فيلسوفا وقد كان بين زمانيهما أزيد من ألفي سنة.
فأين هذا من هذا لا يستويان ولا يشتبهان إلا على غبي لا يعرف حقائق الامور.
فقوله تعالى: (ويسألونك عن ذي القرنين) كان سببه أن قريشا سألوا اليهود عن شئ يمتحنون به علم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا لهم سلوه عن رجل طواف في الارض وعن فتية خرجوا لا يدري ما فعلوا فأنزل الله تعالى قصة أصحاب الكهف وقصة ذي القرنين.
ولهذا قال: (قل سأتلوا عليكم منه ذكرا) أي من خبره وشأنه (ذكرا) أي خبرا نافعا كافيا في تعريف أمره، وشرح حاله فقال: (إنا مكنا له في الارض وآتيناه من كل شئ سببا) أي وسعنا مملكته في البلاد، وأعطيناه من آلات المملكة ما يستعين به على تحصيل ما يحاوله من المهمات العظيمة، والمقاصد الجسيمة.
قال قتيبة، عن أبي عوانة، عن سماك، عن حبيب بن حماد قال: كنت عند علي بن أبي طالب وسأله رجل عن ذي القرنين كيف بلغ المشرق والمغرب فقال له: سخر له السحاب ومدت له الاسباب
__________
(1) قال الطبري وابن الاثير: وأما الروم وكثير من أهل الانساب فإنهم يقولون (وفي الكامل: يزعمون) أنه: الاسكندر بن بيلبوس بن مطريوس ويقال مصريم بن هرمس بن هروس بن ميطون بن رومي بن ليطي بن يونان بن يافث بن ثوبة بن سرحون بن رومية بن نزمط بن نوقيل بن رومى بن الاصفر بن أليفز بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم.
ويقال: إنه أنه أخو دارا لابيه.
(2) قال الرازي: إن تعظيم الله إياه يوجب الحكم بأن مذهب أرسطا طاليس حق وصدق وذلك مما لا سبيل إليه.
(3) قال الرازي في تفسيره: من قال أنه كان نبيا احتج بوجوه: - قوله (إنا مكنا له في الارض) والاولى حمله على التمكين في الدين، والتمكين الكامل في الدين هو النبوة.
- قوله (وآتيناه من كل شئ سببا) ومن جملة الاشياء النبوة.
- قوله (قلنا يا ذا القرنين..) والذي يتكلم معه الله لا بد وأن يكون نبيا.
وقال الدارقطني في كتاب الاخبار: إن ملكا يقال له رباقيل (رفائيل) كان ينزل على ذي القرنين.
وبسط له في النور [ فكان الليل والنهار عليه سواء ] (1) وقال أزيدك فسكت الرجل وسكت علي رضي الله عنه.
وعن أبي إسحاق السبيعي، عن عمرو بن عبد الله الوادعي سمعت معاوية يقول: ملك الارض أربعة.
سليمان بن داود النبي عليهما السلام.
وذو القرنين ورجل من أهل حلوان.
ورجل آخر.
فقيل له الخضر قال: لا.
وقال الزبير بن بكار: حدثني إبراهيم بن المنذر، عن محمد بن الضحاك، عن أبيه، عن سفيان الثوري قال: بلغني أنه ملك الارض كلها أربعة: مؤمنان وكافران سليمان النبي وذو القرنين ونمرود وبخت نصر.
وهكذا قال سعيد بن بشير: سواء.
وقال إسحاق بن بشر، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة عن الحسن قال: كان ذو القرنين ملك بعد النمرود وكان من قصته أنه كان رجلا مسلما صالحا أتى المشرق والمغرب مد الله له في الاجل ونصره حتى قهر البلاد، واحتوى على الاموال، وفتح المدائن، وقتل الرجال، وجال في البلاد والقلاع فسار حتى أتى المشرق والمغرب فذلك قول الله: (ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا) أي خبرا (إنا مكنا له في الارض وآتيناه من كل شئ سببا) أي علما بطلب أسباب المنازل.
قال إسحاق، وزعم مقاتل أنه كان يفتح المدائن ويجمع الكنوز فمن اتبعه على دينه وتابعه عليه وإلا قتله.
وقال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وعبيد بن يعلى والسدي وقتادة والضحاك (وآتيناه من كل شئ سببا) يعني علما وقال قتادة ومطر الوراق معالم الارض ومنازلها وأعلامها وآثارها وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم يعني: تعليم الالسنة كان لا يغزو قوما إلا حدثهم بلغتهم والصحيح أنه يعم كل سبب يتوصل به إلى نيل مقصوده في المملكة وغيرها فإنه كان يأخذ من كل أقليم من الامتعة والمطاعم والزاد ما يكفيه ويعينه على أهل الاقليم الآخر.
وذكر بعض أهل الكتاب أنه مكث ألفا وستمائة سنة يجوب الارض ويدعو أهلها إلى عبادة
الله وحده لا شريك له وفي كل هذه المدة نظر.
والله أعلم.
وقد روى البيهقي وابن عساكر حديثا متعلقا بقوله: (وآتيناه من كل شئ سببا) مطولا جدا وهو منكر جدا.
وفي إسناده محمد بن يونس الكديمي وهو متهم فلهذا لم نكتبه لسقوطه عندنا والله أعلم وقوله: (فاتبع سببا) أي طريقا (حتى إذا بلغ مغرب الشمس) يعني من الارض انتهى إلى حيث لا يمكن أحدا أن يجاوزه ووقف على حافة البحر المحيط الغربي الذي يقال له أوقيانوس الذي فيه الجزائر المسماة بالخالدات التي هي مبدأ الاطوال على أحد قولي أرباب الهيئة، والثاني من ساحل هذا البحر كما قدمنا.
وعنده شاهد مغيب الشمس فيما رآه بالنسبة إلى مشاهدته (تغرب في عين حمئة) والمراد بها البحر في نظره فإن من كان في البحر أو على ساحله، يرى الشمس كأنها تطلع من البحر وتغرب فيه ولهذا قال: (وجدها) أي في نظره ولم يقل: فإذا هي تغرب في عين حمئة أي ذات حمأة.
قال كعب
__________
(1) ما بين معكوفين زيادة استدركت من القرطبي وتفسير الطبرسي.
الاحبار: وهو الطين الاسود.
وقرأه بعضهم حامية.
فقيل يرجع إلى الاول.
وقيل من الحرارة وذلك من شدة المقابلة لوهج ضوء الشمس وشعاعها.
وقد روى الامام أحمد: عن يزيد بن هارون، عن العوام بن حوشب، حدثني مولى لعبد الله بن عمرو عن عبد الله.
قال نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشمس حين غابت فقال: " في نار الله الحامية لولا ما يزعها (1) من أمر الله لاحرقت ما على الارض " (2) فيه غرابة وفيه رجل منهم لم يسم ورفعه فيه نظر وقد يكون موقوفا من كلام عبد الله بن عمرو، فإنه أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب المتقدمين فكان يحدث منها والله أعلم.
ومن زعم من القصاص أن ذا القرنين جاوز مغرب الشمس وصار يمشي بجيوشه في ظلمات مددا طويلة فقد اخطأوا بعد النجعة وقال ما يخالف العقل والنقل.
بيان طلب ذي القرنين عين الحياة وقد ذكر ابن عساكر: من طريق وكيع، عن أبيه، عن معتمر بن سليمان، عن أبي جعفر
الباقر، عن أبيه، زين العابدين خبرا مطولا جدا فيه: أن ذا القرنين كان له صاحب من الملائكة يقال له رناقيل (3) فسأله ذوالقرنين هل تعلم في الارض عينا يقال لها عين الحياة فذكر له صفة مكانها فذهب ذو القرنين في طلبها، وجعل الخضر على مقدمته فانتهى الخضر إليها في واد في أرض الظلمات فشرب منها، ولم يهتد ذو القرنين إليها.
وذكر اجتماع ذي القرنين ببعض الملائكة في قصر هناك وأنه أعطاه حجرا فلما رجع إلى جيشه سأل العلماء عنه فوضعوه في كفة ميزان وجعلوا في مقابلته ألف حجر مثله فوزنها حتى سأل الخضر فوضع قباله حجرا وجعل عليه حفنة من تراب فرجح به.
وقال هذا مثل ابن آدم لا يشبع حتى يوارى بالتراب فسجد له العلماء تكريما له وإعظاما والله أعلم (4).
ثم ذكر تعالى أنه حكم في أهل تلك الناحية (قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا.
قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا)
__________
(1) يزعها: يزجرها ويمنعها.
(2) مسند أحمد 2 / 207.
(3) في قصص الانبياء للثعلبي: " رفائيل " وفي الدر المنثور " زرفائيل " وهذا الملك على ما ذكره الدارقطني في " الاخبار ": هو الذي يطوي الارض يوم القيامة.
وينقصها فتقع اقدام الخلائق كلها بالساهرة، فيما ذكره بعض أهل العلم، والساهرة: أرض يجددها الله يوم القيامة.
(4) ذكر الطبري وابن الاثير: فلما فرغ من أمر السد، وبعد أن دانت له عامة الارضين وملك التبت والصين، دخل الظلمات مما يلي القطب الشمالي والشمس جنوبية، فلهذا كانت ظلمة، وإلا فليس في الارض موضع إلا تطلع الشمس عليه أبدا، فلما دخل الظلمات أخذ أربعمائة رجل من أصحابه يطلب عين الخلد، فسار فيها ثمانية عشر يوما ثم خرج ولم يظفر بها، وكان الخضر على مقدمته فظفر بها وسبح فيها وشرب منها.
ورجع (ذو القرنين) إلى العراق فمات في طريقه بشهرزور.
(تاريخ الطبري 2 / 9، الكامل في التاريخ 1 / 287).
[ الكهف: 87 - 88 ] أي فيجتمع عليه عذاب الدنيا والآخرة وبدأ بعذاب الدنيا لانه أزجر عند الكافر (وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا)
[ الكهف: 89 ] فبدأ بالاهم وهو ثواب الآخرة وعطف عليه الاحسان منه إليه وهذا هو العدل والعلم والايمان قال الله تعالى: (ثم اتبع سببا) أي سلك طريقا راجعا من المغرب إلى المشرق فيقال إنه رجع في ثنتي عشرة سنة (حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا) أي ليس لهم بيوت ولا أكنان يستترون بها من حر الشمس.
قال كثير من العلماء ولكن كانوا يأوون إذا اشتد عليهم الحر إلى أسراب قد اتخذوها في الارض شبه القبور (1) قال الله تعالى: (كذلك وقد احطنا بما لديه خبرا) أي ونحن نعلم ما هو عليه ونحفظه ونكلؤه بحراستنا في مسيره ذلك كله من مغارب الارض إلى مشارقها.
وقد روي عن عبيد بن عمير وابنه عبد الله وغيرهما من السلف: أن ذا القرنين حج ماشيا فلما سمع ابراهيم الخليل بقدومه تلقاه فلما اجتمعا دعا له الخليل ووصاه بوصايا ويقال إنه جئ بفرس ليركبها فقال: لا أركب في بلد فيه الخليل (2) فسخر الله له السحاب وبشره إبراهيم بذلك فكانت تحمله إذا أراد.
وقوله تعالى: (ثم اتبع سببا.
حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا) [ الكهف: 92 - 93 ] يعني غشما.
يقال إنهم هم الترك أبناء عم يأجوج ومأجوج فذكروا له أن هاتين القبيلتين قد تعدوا عليهم وأفسدوا في بلادهم وقطعوا السبل عليهم، وبذلوا له حملا، وهو الخراج، على أن يقيم بينهم وبينهم حاجزا يمنعهم من الوصول إليهم فامتنع من أخذ الخراج اكتفاءا بما أعطاه الله من الاموال الجزيلة (قال ما مكني فيه ربي خير) ثم طلب منهم أن يجمعوا له رجالا وآلات ليبني بينهم وبينهم سدا وهو الردم بين الجبلين وكانوا لا يستطيعون الخروج إليهم إلا من بينهما وبقية ذلك بحار مغرقة وجبال شاهقة فبناه كما قال تعالى من الحديد والقطر وهو النحاس المذاب.
وقيل الرصاص والصحيح الاول فجعل بدل اللبن حديدا وبدل الطين نحاسا ولهذا قال تعالى: (فما اسطاعوا أن يظهروه) أي يعلوا عليه بسلالم (3) ولا غيرها (وما استطاعوا له نقبا) أي بمعاول ولا فؤوس ولا غيرها فقابل الاسهل بالاسهل والاشد بالاشد (قال هذا رحمة من ربي) أي قدر الله وجوده ليكون رحمة منه بعباده أن يمنع بسببه عدوان هؤلاء القوم على من جاورهم في تلك المحلة (فإذا جاء وعد ربي) أي الوقت الذي قدر
__________
(1) قال الحسن: كانت أرضهم لا جبل فيها ولا شجر، وكانت لا تحمل البناء، فإذا طلعت عليهم الشمس نزلوا في الماء، فإذا ارتفعت عنهم خرجوا، فيتراعون كما تتراعى البهائم.
(القرطبي - تفسير الرازي).
(2) تقدم الخبر في الازرقي وفيه: قال: ما كنت لاركب وهذا (إبراهيم) يمشي فحج ماشيا.
(3) قال القرطبي في تفسيره: كان ارتفاع السد مائتا ذراع وخمسون ذراعا، وروي: في طوله ما بين طرفي الجبلين مائة فرسخ، وفي عرضه خمسون فرسخا (عن وهب بن منبه).
خروجهم على الناس في آخر الزمان (جعله دكاء) أي مساويا للارض ولا بد من كون هذا ولهذا قال: (وكان وعد ربي حقا) [ الكهف: 98 ] كما قال تعالى: (حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون.
واقترب الوعد الحق) الآية [ الانبياء: 96 - 97 ] ولذا قال ههنا: (وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض) [ الكهف: 99 ] يعني يوم فتح السد على الصحيح (ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا) وقد أوردنا الاحاديث المروية في خروج يأجوج ومأجوج في التفسير وسنوردها إن شاء الله في " كتاب الفتن والملاحم " من كتابنا هذا إذا انتهينا إليه بحول الله وقوته وحسن توفيقه ومعونته وهدايته.
قال أبو داود الطيالسي: عن الثوري: بلغنا أن أول من صافح ذو القرنين.
وروي عن كعب الاحبار أنه قال لمعاوية: إن ذا القرنين لما حضرته الوفاة أوصى أمه إذا هو مات أن تصنع طعاما وتجمع نساء أهل المدينة وتضعه بين أيديهن، وتأذن له فيه إلا من كانت ثكلى فلا تأكل منه شيئا، فلما فعلت ذلك لم تضع واحدة منهن يدها فيه فقالت لهن سبحان الله كلكن ثكلى ؟ فقلن أي والله ما منا إلا من أثكلت فكان ذلك تسلية لامه.
وذكر إسحاق بن بشر عن عبد الله بن زياد عن بعض أهل الكتاب وصية ذي القرنين وموعظة أمه موعظة بليغة طويلة فيها حكم وأمور نافعة وأنه مات وعمره ثلاثة آلاف سنة وهذا غريب.
قال ابن عساكر وبلغني من وجه آخر أنه عاش ستا وثلاثين سنة.
وقيل كان عمره ثنتين وثلاثين سنة.
وكان بعد داود بسبعمائة سنة وأربعين سنة.
وكان بعد آدم بخمسة آلاف ومائة
وإحدى وثمانين سنة.
وكان ملكه ست عشرة سنة (1).
وهذا الذي ذكره إنما ينطبق على إسكندر الثاني لا الاول وقد خلط في أول الترجمة وآخرها بينهما والصواب التفرقة كما ذكرنا اقتداء بجماعة من الحفاظ والله أعلم.
وممن جعلهما واحدا الامام عبد الملك بن هشام راوي السيرة وقد أنكر ذلك عليه الحافظ أبو القاسم السهيلي رحمه الله إنكارا بليغا ورد قوله ردا شنيعا وفرق بينهما تفريقا جيدا كما قدمنا قال ولعل جماعة من الملوك المتقدمين تسموا بذي القرنين تشبها بالاول.
والله أعلم.
ذكر أمتي يأجوج ومأجوج وصفاتهم وما ورد من أخبارهم وصفة السد هم من ذرية آدم بلا خلاف نعلمه ثم الدليل على ذلك ما ثبت في الصحيحين: من طريق الاعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يقول الله تعالى يوم القيامة يا آدم [ ! فيقول: لبيك وسعديك، والخبر في يديك ]: قم فابعث بعث النار من ذريتك فيقول: يا رب وما بعث النار ؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة.
__________
(1) في المسعودي خمس عشرة سنة، وكان عمره لما ملك إحدى وعشرين سنة مات ابن ست وثلاثين.
فحينئذ يشيب الصغير وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد ".
[ قال: فاشتد ذلك عليهم ] قالوا يارسول الله أينا ذلك الواحد ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ابشروا فإن منكم واحدا ومن يأجوج ومأجوج ألفا " (1) وفي رواية فقال: " ابشروا فإن فيكم أمتين ما كانتا في شئ إلا كثرتاه ".
أي غلبتاه كثرة وهذا يدل على كثرتهم وإنهم أضعاف الناس مرارا عديدة.
ثم هم من ذرية نوح لان الله تعالى أخبر أنه استجاب لعبده نوح في دعائه على أهل الارض بقوله: (رب لا تذر على الارض من الكافرين ديارا) وقال تعالى: (فأنجيناه وأصحاب السفينة) وقال: (وجعلنا ذريته هم الباقين) وتقدم في الحديث المروي (2) في المسند والسنن أن نوحا ولد له ثلاثة وهم سام وحام ويافث فسام أبو العرب وحام أبو السودان ويافث أبو الترك فيأجوج ومأجوج طائفة من الترك وهم مغل المغول وهم أشد بأسا وأكثر
فسادا من هؤلاء ونسبتهم إليهم كنسبة هؤلاء إلى غيرهم.
وقد قيل إن الترك إنما سموا بذلك حين بنى ذو القرنين السد وألجأ يأجوج ومأجوج إلى ما وراءه فبقيت منهم طائفة لم يكن عندهم كفسادهم فتركوا من ورائه.
فلهذا قيل لهم الترك.
ومن زعم (3) أن يأجوج ومأجوج خلقوا من نطفة آدم حين احتلم فاختلطت بتراب فخلقوا من ذلك وأنهم ليسوا من حواء فهو قول حكاه الشيخ أبو زكريا النواوي في شرح مسلم وغيره وضعفوه.
وهو جدير بذلك إذ لا دليل عليه بل هو مخالف لما ذكرناه من أن جميع الناس اليوم من ذرية نوح بنص القرآن.
وهكذا من زعم أنهم على أشكال مختلفة وأطوال متباينة جدا.
فمنهم من هو كالنخلة السحوق.
ومنهم من هو غاية في القصر.
ومنهم من يفترش أذنا من أذنيه ويتغطى بالاخرى فكل هذه أقوال بلا دليل ورجم بالغيب بغير برهان.
والصحيح أنهم من بني آدم وعلى أشكالهم وصفاتهم.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله خلق آدم وطوله ستون ذراعا " (4) ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن.
وهذا فيصل في هذا الباب وغيره.
وما قيل من أن أحدهم لا يموت حتى يرى من ذريته ألفا (5) فإن صح في خبر قلنا به وإلا فلا نرده إذ يحتمله العقل والنقل أيضا قد يرشد إليه
__________
(1) أخرجه مسلم في 1 كتاب الايمان 96 باب يقول الله لآدم 379 / 222 ص 1 / 201 والبخاري حديث رقم: 1584.
وما بين معكوفين زيادة من مسلم.
وبعث النار: البعث هنا بمعنى المبعوث الموجه إليها، ومعناه ميز أهل النار من غيرهم.
(2) رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ولد لنوح سام وحام ويافث فولد سام العرب وفارس والروم والخير فيهم وولد يافث يأجوج ومأجوج والترك والصقالبة ولا خير فيهم وولد حام القبط والبربر والسودان ".
تقدم تخريجه.
(3) قاله كعب الاحبار.
وفي الخبر أن آدم احتلم ; وفي هذا نظر لان الانبياء لا يحتلمون قاله القرطبي.
(4) أخرجه مسلم في 51 / 11 / 28 / 2841 وأحمد في مسنده ج 2 / 315.
(5) رواه الهيثمي في الزوائد عن حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال رواه الطبراني في الاوسط وفيه يحيى بن سعيد العطار وهو ضعيف.
والله أعلم.
بل قد ورد حديث مصرح بذلك إن صح قال الطبراني: حدثنا عبد الله بن محمد بن العباس الاصبهاني، حدثنا أبو مسعود أحمد بن الفرات حدثنا أبو داود الطيالسي، حدثنا المغيرة، عن مسلم، عن أبي إسحاق، عن وهب بن جابر عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن يأجوج ومأجوج من ولد آدم ولو أرسلوا لافسدوا على الناس معائشهم ولن يموت منهم رجل إلا ترك من ذريته ألفا فصاعدا.
وإن من ورائهم ثلاث أمم (تأويل وتاريس ومنسك) " (1).
وهو حديث غريب جدا وإسناده ضعيف.
وفيه نكارة شديدة.
وأما الحديث الذي ذكره ابن جرير في تاريخه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب إليهم ليلة الاسراء فدعاهم إلى الله فامتنعوا من إجابته ومتابعته وأنه دعا تلك الامم التي هناك (تاريس وتاويل ومنسك) فأجابوه فهو حديث موضوع اختلقه أبو نعيم عمرو بن الصبح أحد الكذابين الكبار الذين اعترفوا بوضع الحديث والله أعلم.
فإن قيل فكيف دل الحديث المتفق عليه أنهم فداء المؤمنين يوم القيامة أنهم في النار ولم يبعث إليهم رسل.
وقد قال الله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) فالجواب أنهم لا يعذبون إلا بعد قيام الحجة عليهم والاعذار إليهم كما قال تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) [ الاسراء: 15 ] فإن كانوا في زمن الذي قبل بعث محمد صلى الله عليه وسلم قد أتتهم رسل منهم فقد قامت على أولئك الحجة وإن لم يكن قد بعث الله إليهم رسلا فهم في حكم أهل الفترة.
ومن لم تبلغه الدعوة وقد دل الحديث المروي من طرق (2) عن جماعة من الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن من كان كذلك يمتحن في عرصات القيامة فمن أجاب الداعي دخل الجنة ومن أبى دخل النار " وقد أوردنا الحديث بطرقه وألفاظه وكلام الائمة عليه عند قوله: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) وقد حكاه الشيخ أبو الحسن الاشعري إجماعا عن أهل السنة والجماعة، وامتحانهم لا يقتضي نجاتهم، ولا ينافي الاخبار عنهم بأنهم من أهل النار لان الله يطلع رسوله صلى الله عليه وسلم على ما يشاء من أمر الغيب وقد اطلعه على أن هؤلاء من أهل الشقاء وأن سجاياهم تأبى قبول الحق والانقياد له فهم لا يجيبون الداعي إلى يوم القيامة فيعلم من هذا أنهم كانوا أشد تكذيبا للحق في الدنيا لو بلغهم فيها لان في عرصات القيامة ينقاد خلق ممن كان مكذبا في الدنيا فإيقاع الايمان هناك لما يشاهد من
الاهوال أولى وأحرى منه في الدنيا والله أعلم.
كما قال تعالى: (ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا ابصرنا وسمعنا فارجعنا فعمل صالحا إنا موقنون) [ السجدة: 12 ] وقال تعالى: (أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا) [ مريم: 38 ].
وأما الحديث الذي فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " دعاهم ليلة الاسراء فلم يجيبوا " فإنه حديث منكر بل موضوع وضعه عمرو بن الصبح.
__________
(1) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد ج 8 / 6 وقال رواه الطبراني في الكبير والاوسط ورجاله ثقات.
(2) رواه ابن كثير في تفسير سورة الاسراء - الآية 15 - ج 3 / 48 وما بعدها.
(دار احياء التراث).
وأما السد فقد تقدم أن ذا القرنين بناه من الحديد والنحاس وساوى به الجبال الصم الشامخات الطوال فلا يعرف على وجه الارض بناء أجل منه ولا أنفع للخلق منه في أمر دنياهم.
قال البخاري: وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم رأيت السد قال: " وكيف رأيته ؟ " قال مثل البرد المحبر (1) فقال: " رأيته هكذا ".
ذكره البخاري معلقا بصيغة الجزم ولم أره مسندا من وجه متصل أرتضيه غير أن ابن جرير رواه في تفسيره مرسلا فقال: حدثنا بشر، حدثنا يزيد، حدثنا سعيد، عن قتادة قال ذكر لنا أن رجلا قال: يا رسول الله قد رأيت سد يأجوج ومأجوج قال: " انعته لي " قال: كالبرد المحبر طريقة سوداء وطريقة حمراء قال: " قد رأيته ".
وقد ذكر أن الخليفة الواثق بعث رسلا من جهته وكتب لهم كتبا إلى الملوك يوصلونهم من بلاد إلى بلاد حتى ينهوا إلى السد فيكشفوا عن خبره وينظروا كيف بناه ذو القرنين على أي صفة ؟ فلما رجعوا أخبروا عن صفته وأن فيه بابا عظيما وعليه أقفال وأنه بناء محكم شاهق منيف جدا وأن بقية اللبن الحديد والآلات في برج هناك وذكروا أنه لا يزال هناك حرس لتلك الملوك المتاخمة لتلك البلاد ومحلته في شرقي الارض في جهة الشمال في زاوية الارض الشرقية الشمالية، ويقال: إن بلادهم متسعة جدا وإنهم يقتاتون بأصناف من المعايش من حراثة وزراعة واصطياد من البر ومن البحر، وهم أمم وخلق لا يعلم عددهم إلا الذي خلقهم.
فإن قيل فما الجمع بين قوله تعالى: (فما
اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا) [ الكهف: 97 ] وبين الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن زينب بنت جحش أم المؤمنين رضي الله عنها قالت استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم من نوم محمرا وجهه وهو يقول: " لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه " (2) وحلق تسعين قلت: يارسول الله أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال: نعم إذا كثر الخبث (3).
وأخرجاه في الصحيحين: من حديث وهيب، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا وعقد تسعين " (4).
فالجواب أما على قول من ذهب إلى أن هذا إشارة إلى فتح أبواب الشر والفتن وإن هذا استعارة محضة وضرب مثل فلا إشكال.
وأما على قول من جعل ذلك إخبارا عن أمر محسوس كما هو الظاهر المتبادر فلا إشكال أيضا لان قوله: (فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له
__________
(1) البرد المحبر: الثوب المنمق.
(2) أخرجه مسلم في 52 كتاب الفتن - (1) باب 2 / 2880 ص 4 / 2207 - 2208 والبخاري حديث رقم: 1582.
(3) الخبث: فسره الجمهور بالفسوق والفجور، وقيل المراد: الزنى خاصة وقيل أولاد الزنى والظاهر أنه المعاصي مطلقا، ومعنى الحديث أن الخبث إذا كثر فقد يحصل الهلاك العام وإن كان هناك صالحون.
(4) الحديث 3 / 2881 والبخاري رقم 1583 راجع الحاشية رقم (2).
نقبا) أي في ذلك الزمان لان هذه صيغة خبر ماض، فلا ينفي وقوعه فيما يستقبل بإذن الله لهم في ذلك قردا وتسليطهم عليه بالتدريج قليلا قليلا حتى يتم الاجل، وينقضي الامر المقدور فيخرجون كما قال الله تعالى: (وهم من كل حدب ينسلون) [ الانبياء: 96 ] ولكن الحديث الآخر أشكل من هذا وهو ما رواه الامام أحمد في مسنده قائلا: حدثنا روح، حدثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، حدثنا أبو رافع، عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فستحفرونه غدا
فيعودون إليه كأشد ما كان حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فستحفرون غدا إن شاء الله ويستثني فيعودون إليه وهو كهيئة يوم تركوه، فيحفرونه ويخرجون على الناس فيستقون (1) المياه، وتتحصن الناس في حصونهم فيرمون بسهامهم إلى السماء فترجع وعليها كهيئة الدم، فيقولون قهرنا أهل الارض وعلونا أهل السماء فيبعث الله عليهم نغفا (2) في أقفائهم فيقتلهم بها " (3).
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والذي نفس محمد بيده إن دواب الارض لتسمن وتشكر شكرا من لحومهم ودمائهم " ورواه أحمد أيضا عن حسن بن موسى عن سفيان عن قتادة به، وهكذا رواه ابن ماجه من حديث سعيد عن قتادة إلا أنه قال حديث أبو رافع.
ورواه الترمذي من حديث أبي عوانة عن قتادة به.
ثم قال غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
فقد أخبر في هذا الحديث أنهم كل يوم يلحسونه حتى يكادوا ينذرون شعاع الشمس من ورائه لرقته فإن لم يكن رفع هذا الحديث محفوظا وإنما هو مأخوذ عن كعب الاحبار كما قاله بعضهم فقد استرحنا من المؤنة وإن كان محفوظا فيكون محمولا على أن صنيعهم (4) هذا يكون في آخر الزمان عند اقتراب خروجهم كما هو المروي عن كعب الاحبار أو يكون المراد بقوله: (وما استطاعوا له نقبا) أي نافذا منه فلا ينفى أن يلحسوه ولا ينفذوه والله أعلم.
وعلى هذا فيمكن الجمع بين هذا وبين ما في الصحيحين عن أبي هريرة فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وعقد تسعين أي فتح فتحا نافذا فيه والله أعلم.
قصة أصحاب الكهف قال الله تعالى: (أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهئ لنا من أمرنا رشدا فضربنا على آذانهم في
__________
(1) في ابن ماجه: ينشفون الماء: أي ينزحونه.
(2) النغف بالتحريك: دود يكون في أنوف الابل والغنم واحدتها: نغفة.
(3) مسند أحمد ج 2 / 510 والترمذي في 48 كتاب تفسير القرآن 19 باب حديث 3153 وقال: هذا حديث حسن غريب.
(4) في نسخ البداية المطبوعة: ضيعهم وهو تحريف والصواب ما أثبتناه.
الكهف سنين عددا ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا.
نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى.
وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات والارض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا.
هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا.
وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهئ لكم من أمركم مرفقا.
وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه ذلك من آيات الله من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا.
وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم.
قالوا ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا.
إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا.
وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا.
سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب.
ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم.
قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا.
ولا تقولن لشئ إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لاقرب من هذا رشدا.
ولبثوا في كهفهم ثلثمائة سنين وازدادوا تسعا.
قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السموات والارض أبصر به واسمع ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا) [ الكهف: 9 - 26 ].
كان سبب نزول قصة أصحاب الكهف وخبر ذي القرنين ما ذكره محمد بن إسحاق في السيرة
وغيره أن قريشا بعثوا إلى اليهود يسألونهم عن أشياء يمتحنون بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسألونه عنها ليختبروا ما يجيب به فيها فقالوا: سلوه عن أقوام ذهبوا في الدهر فلا يدري ما صنعوا، وعن رجل طواف في الارض وعن الروح (1)، فأنزل الله تعالى: (ويسألونك عن الروح) [ الاسراء: 85 ] (ويسألونك عن ذي القرنين) [ الكهف: 83 ] وقال ههنا: (أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا) أي ليسوا بعجب عظيم بالنسبة إلى ما أطلعناك عليه من الاخبار العظيمة والآيات الباهرة والعجائب الغريبة.
والكهف: هو الغار في الجبل (2).
قال شعيب
__________
(1) قال ابن إسحاق: إن الذي سأل يهود هو النضر بن الحارث من شياطين قريش وكان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم - وزاد ابن إسحاق - فإن أخبركم فهو نبي وإلا فهو متقول.
(2) وفي أقوال: الكهف: النقب (الغار) الواسع في الجبل، فإذا صغر ولم يتسع فهو غار.
الجبائي واسم كهفهم حيزم، وأما الرقيم فعن ابن عباس أنه قال: لا أدري ما المراد به.
وقيل هو الكتاب المرقوم فيه أسماؤهم وما جرى لهم كتب من بعدهم اختاره ابن جرير وغيره.
وقيل هو اسم الجبل الذي فيه كهفهم.
قال ابن عباس وشعيب الجبائي واسمه بناجلوس.
وقيل هو اسم واد عند كهفهم وقيل اسم قرية هنالك والله أعلم.
قال شعيب الجبائي: واسم كلبهم حمران (1) واعتناء اليهود بأمرهم ومعرفة خبرهم، يدل على أن زمانهم متقدم على ما ذكره بعض المفسرين أنهم كانوا بعد المسيح، وأنهم كانوا نصارى.
والظاهر من السياق أن قومهم كانوا مشركين يعبدون الاصنام.
قال كثير من المفسرين والمؤرخين وغيرهم: كانوا في زمن ملك يقال له دقيانوس وكانوا من أبناء الاكابر.
وقيل من أبناء الملوك واتفق اجتماعهم في يوم عيد لقومهم فرأوا ما يتعاطاه قومهم من السجود للاصنام والتعظيم للاوثان فنظروا بعين البصيرة وكشف الله عن قلوبهم حجاب الغفلة، وألهمهم رشدهم فعلموا أن قومهم ليسوا على شئ، فخرجوا عن دينهم وانتموا إلى عبادة الله وحده لا شريك له.
ويقال إن كل واحد منهم لما أوقع الله في نفسه ما هداه إليه من التوحيد انحاز عن الناس واتفق اجتماع هؤلاء الفتية في
مكان واحد كما صح في البخاري: " الارواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف " فكل منهم سأل الآخر عن أمره، وعن شأنه، فأخبره ما هو عليه واتفقوا على الانحياز عن قومهم والتبري منهم والخروج من بين أظهرهم والفرار بدينهم منهم وهو المشروع حال الفتن وظهور الشرور.
قال الله تعالى: (نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات والارض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين) [ الكهف: 13 - 15 ] أي بدليل ظاهر على ما ذهبوا إليه وصاروا من الامر عليه (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله) [ الكهف: 15 - 16 ] أي وإذ فارقتموهم في دينهم، وتبرأتم مما يعبدون من دون الله، وذلك لانهم كانوا يشركون مع الله كما قال الخليل: (إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين) [ الزخرف: 27 ] وهكذا هؤلاء الفتية قال بعضهم إذ قد فارقتم قومكم في دينهم، فاعتزلوهم بأبدانكم لتسلموا منهم أن يوصلوا إليكم شرا (فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهئ لكم من أمركم مرفقا) أي يسبل عليكم ستره وتكونوا تحت حفظه وكنفه ويجعل عاقبة أمركم إلى خير كما جاء في الحديث: " اللهم أحسن عاقبتنا في الامور كلها وأجرنا من خزي الدنيا ومن عذاب الآخرة " (2) ثم ذكر تعالى صفة الغار الذي آووا إليه وأن بابه موجه إلى نحو الشمال وأعماقه إلى جهة القبلة وذلك أنفع
__________
(1) اختلف في اسمه قيل: فعن علي: ريان، وابن عباس " قطمير.
وعبد الله بن سلام: بسيط.
وهب: نقيا.
(2) أخرجه أحمد في مسنده ج 4 / 181 عن هيثم بن خارجة ثنا محمد بن أيوب بن ميسرة بن حلبس قال سمعت أبي يحدث عن بسر بن أبي أرطأة القرشي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو..وذكر الحديث.
الاماكن أن يكون المكان قبليا وبابه نحو الشمال فقال: (وترى الشمس إذا طلعت تزاور) وقرئ تزور: (عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال) فأخبر أن الشمس يعني في زمن الصيف وأشباهه تشرق أول طلوعها في الغار في جانبه الغربي ثم تشرع في الخروج منه
قليلا قليلا وهو ازوارها (1) ذات اليمين فترتفع في جو السماء وتتقلص عن باب الغار ثم إذا تضيفت للغروب تشرع في الدخول فيه من جهته الشرقية قليلا قليلا إلى حين الغروب كما هو المشاهد بمثل هذا المكان والحكمة في دخول الشمس إليه في بعض الاحيان أن لا يفسد هواؤه (2) (وهم في فجوة منه ذلك من آيات الله) أي بقاؤهم على هذه الصفة دهرا طويلا من السنين لا يأكلون ولا يشربون ولا تتغذى أجسادهم في هذه المدة الطويلة من آيات الله وبرهان قدرته العظيمة (من يهد الله فهو المهتد ومن يظلل فلن تجد له وليا مرشدا وتحسبهم أيقاظا وهم رقود) [ الكهف: 16 - 18 ] قال بعضهم لان أعينهم مفتوحة لئلا تفسد بطول الغمض (وتقلبهم ذات اليمين وذات الشمال) قيل في كل عام يتحولون مرة من جنب إلى جنب (3) ويحتمل أكثر من ذلك فالله أعلم (وكلبهم باسط ذراعية بالوصيد) قال شعيب الجبائي اسم كلبهم حمران، وقال غيره الوصيد اسكفة الباب.
والمراد أن كلبهم، الذي كان معهم وصحبهم حال انفرادهم من قومهم، لزمهم ولم يدخل معهم في الكهف بل ربض على بابه ووضع يديه على الوصيد وهذا من جملة أدبه ومن جملة ما أكرموا به فإن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب ولما كانت التبعية مؤثرة حتى كان في كلب هؤلاء صار باقيا معهم ببقائهم لان من أحب قوما سعد بهم فإذا كان هذا في حق كلب فما ظنك بمن تبع أهل الخير وهو أهل للاكرام.
وقد ذكر كثير من القصاص والمفسرين لهذا الكلب نبأ وخبرا طويلا أكثره متلقى من الاسرائيليات وكثير منها كذب ومما لا فائدة فيه كاختلافهم في اسمه ولونه.
وأما اختلاف العلماء في محلة هذا الكهف فقال كثيرون هو بأرض أيلة.
وقيل بأرض نينوى.
وقيل بالبلقاء وقيل ببلاد الروم وهو أشبه.
والله أعلم.
ولما ذكر الله تعالى ما هو الانفع من خبرهم والاهم من أمرهم ووصف حالهم حتى كأن السامع راء والمخبر مشاهد لصفة كهفهم وكيفيتهم في ذلك الكهف وتقلبهم من جنب إلى جنب وأن كلبهم باسط ذراعيه بالوصيد.
قال:
__________
(1) ازوراها: الزور الميل، تزاور: تتنحى وتميل والازور في العين: المائل النظر إلى ناحية ومن اللفظة قال عنترة: فازور من وقع القنا بلبانه * وشكا إلى بعبرة وتحمحم (2) قال الزجاج: كان ازورار الشمس عن الكهف فعلا خارقا للعادة وكرامة عظيمة خص الله بها أصحاب
الكهف.
قال: ولو كان الامر عاديا مألوفا فلم يكن ذلك من آيات الله، علما أن الله تعالى أخبر أنهم كانوا في متسع من الكهف ينالهم فيه برد الريح ونسيم الهواء ; فالمعنى أنه بقدرته منع وصول ضوء الشمس ; وهو ذلك التزاور والميل.
(انظر القرطبي - تفسير الرازي).
(3) قال الرازي: " وأقول هذا عجيب لانه تعالى لما قدر على أن يمسك حياتهم مدة ثلاثمائة سنة وأكثر فلم لا يقدر على حفظ أجسادهم أيضا من غير تقليب ؟ ".
(لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا) أي لما عليهم من المهابة والجلالة في أمرهم الذي صاروا إليه ولعل الخطاب ههنا لجنس الانسان المخاطب لا بخصوصية الرسول صلى الله عليه وسلم كقوله: (فلما يكذبك بعد بالدين) [ التين: 7 ] أي أيها الانسان وذلك لان طبيعة البشرية تفر من رؤية الاشياء المهيبة غالبا ولهذا قال: (لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا) ودل على أن الخبر ليس كالمعاينة كما جاء في الحديث، لان الخبر قد حصل ولم يحصل الفرار ولا الرعب.
ثم ذكر تعالى أنه بعثهم من رقدتهم بعد نومهم بثلاثمائة سنة وتسع سنين فلما استيقظوا قال بعضهم (1) لبعض: (كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة) [ الكهف: 19 ] أي بدراهمكم هذه يعني التي معهم إلى المدينة ويقال كان اسمها دفسوس (2) (فلينظر أيها أزكى طعاما) أي أطيب (3) مالا (فليأتكم برزق منه) أي بطعام تأكلونه وهذا من زهدهم وورعهم (وليتلطف) أي في دخوله إليها (ولا يشعرن بكم أحدا أنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا) أي إن عدتم في ملتهم بعد إذ أنقذكم الله منها وهذا كله لظنهم أنهم رقدوا يوما أو بعض يوم أو أكثر من ذلك ولم يحسبوا أنهم قد رقدوا أزيد من ثلثمائة سنة وقد تبدلت الدول أطورا عديدة وتغيرت البلاد ومن عليها وذهب أولئك القرن الذين كانوا فيهم وجاء غيرهم وذهبوا وجاء غيرهم ولهذا لما خرج أحدهم وهو تيذوسيس (4) فيما قيل وجاء إلى المدينة متنكرا لئلا يعرفه أحد من قومه فيما يحسبه تنكرت له البلاد واستنكره من يراه من أهلها واستغربوا شكله وصفته ودراهمه، فيقال إنهم حملوه
إلى متوليهم، وخافوا من أمره أن يكون جاسوسا أو تكون له صولة يخشون من مضرتها، فيقال إنه هرب منهم، ويقال بل أخبرهم خبره ومن معه وما كان من أمرهم فانطلقوا معه ليريهم مكانهم فلما قربوا من الكهف دخل إلى إخوانه فأخبرهم حقيقة أمرهم ومقدار ما رقدوا فعلموا أن هذا أمر قدره الله فيقال إنهم استمروا راقدين ويقال بل ماتوا بعد ذلك.
وأما أهل البلدة فيقال إنهم لم يهتدوا إلى موضعهم من الغار وعمى الله عليهم أمرهم، ويقال لم يستطيعوا دخوله حسا (5) ويقال مهابة لهم.
__________
(1) قال الطبري وصاحب بدائع الزهور: القائل هو: يمليخا.
(2) في بدائع الزهور لابن إياس: افسوس من أرض رومية ولما جاء الاسلام غيروا اسمها وسموها ترسوس.
(3) أزكى: أطيب ; والطعام الطيب هنا والمزكى: البعيد عن الغصب ; وقال ابن إياس هو الطعام الذي لا يوضع به شئ من شحم الخنزير.
وقال ابن عباس: أحل ذبيحة.
(4) تقدم التعليق أن اسمه يمليخا ; وفي الطبري أن تيذوسيس هو الملك الذي كان على المدينة حين قيامهم.
وقال المسعودي: اسم الملك: أوالس.
(5) قوله " حسا " كذا بالاصول ولعل المراد: جبنا أو تحسبا.
واختلفوا في أمرهم فقائلون يقولون (ابنوا عليهم بنيانا) أي سدوا عليهم باب الكهف لئلا يخرجوا أو لئلا يصل إليهم ما يؤذيهم وآخرون وهم الغالبون على أمرهم قالوا: (لنتخذن عليهم مسجدا) أي معبدا يكون مباركا لمجاورته هؤلاء الصالحين.
وهذا كان شائعا فيمن كان قبلنا، فأما في شرعنا فقد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " (1) يحذر ما فعلوا وأما قوله: (وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها) [ الكهف: 21 ] فمعنى أعثرنا أطلعنا على أمرهم الناس.
قال كثير من المفسرين ليعلم الناس أن المعاد حق، وأن الساعة لا ريب فيها.
إذا علموا أن هؤلاء القوم رقدوا أزيد من ثلثمائة سنة ثم قاموا كما كانوا من غير تغير منهم، فإن من
أبقاهم كما هم، قادر على إعادة الابدان وإن أكلتها الديدان وعلى إحياء الاموات وإن صارت أجسامهم وعظامهم رفاتا وهذا مما لا يشك فيه المؤمنون (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) [ يس: 82 ].
هذا ويحتمل عود الضمير في قوله ليعلموا إلى أصحاب الكهف إذ علمهم بذلك من أنفسهم أبلغ من علم غيرهم بهم، ويحتمل أن يعود على الجميع والله أعلم.
ثم قال تعالى: (سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم) فذكر اختلاف الناس في كميتهم فحكى ثلاثة أقوال وضعف الاولين وقرر الثالث فدل على أنه الحق إذ لو قيل غير ذلك لحكاه ولو لم يكن هذا الثالث هو الصحيح لوهاه فدل على ما قلناه (2) ولما كان النزاع في مثل هذا لا طائل تحته ولا جدوى عنده أرشد نبيه صلى الله عليه وسلم إلى الادب في مثل هذا الحال إذا اختلف الناس فيه أن يقول الله أعلم.
ولهذا قال: (قل ربي أعلم بعدتهم) وقوله: (وما يعلمهم إلا قليل) أي من الناس (فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا) أي سهلا ولا تتكلف أعمال الجدال في مثل هذا الحال ولا تستفت في أمرهم أحدا من الرجال ولهذا أبهم تعالى عدتهم في أول القصة فقال: (إنهم فتية آمنوا بربهم) ولو كان في تعين عدتهم كبير فائدة لذكرها عالم الغيب والشهادة وقوله تعالى: (ولا تقولن لشئ إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لاقرب من هذا رشدا) [ الكهف: 23 - 24 ] أدب عظيم أرشده الله تعالى إليه وحث خلقه عليه وهو ما إذا قال أحدهم إني سأفعل في المستقبل كذا، فيشرع له أن يقول: إن شاء الله ليكون ذلك تحقيقا لعزمه، لان العبد لا يعلم ما في غد ولا
__________
(1) أخرجه مسلم في 5 كتاب المساجد - 3 باب 19 / 529 عن عروة بن الزبير عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأخرجه من عدة طرق عن أبي هريرة وابن عباس، وأخرجه البخاري حديث رقم: 285 و 287.
(2) ذكرهم الطبري قال: قال ابن إسحاق عدد الفتية ثمانية وكلبهم تاسعهم سماهم: مكسملينا - محسملينا - يمليخا - مرطوس - كسوطونس - بيرونس - رسمونس - بطونس - قالوس.
(2 / 40 دار قاموس حديث).
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كانوا سبعة واسماؤهم: مكسلمينا - يمليخا - مسليتنا - مرنوس - دبرنوس - ساونوس.
والسابع الراعي / تفسير الرازي.
يدري أهذا الذي عزم عليه مقدر أم لا، وليس هذا الاستثناء تعليقا وإنما هو الحقيقي ولهذا قال ابن عباس يصح إلى سنة ولكن قد يكون في بعض المحال لهذا ولهذا كما تقدم في قصة سليمان عليه السلام حين قال لاطوفن الليلة على سبعين امرأة تلد كل واحدة منه غلاما يقاتل في سبيل الله فقيل له.
قال: إن شاء الله، فلم يقل، فطاف فلم تلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لم يحنث وكان دركا لحاجته " (1).
وقوله: (واذكر ربك إذا نسيت) وذلك لان النسيان قد يكون من الشيطان، فذكر الله يطرده عن القلب فيذكر ما كان قد نسيه.
وقوله: (وقل عسى أن يهدين ربي لاقرب من هذا رشدا) أي إذا اشتبه أمر، وأشكل حال، والتبس أقوال الناس في شئ فارغب إلى الله ييسره لك ويسهله عليك ثم قال: (ولبثوا في كهفهم ثلثمائة سنين وازدادوا تسعا).
لما كان في الاخبار بطول مدة لبثهم فائدة عظيمة ذكرها تعالى وهذه التسع المزيدة بالقمرية وهي لتكميل ثلثمائة شمسية فإن كل مائة قمرية تنقص عن الشمسية ثلاث سنين (قال الله أعلم بما لبثوا) أي إذا سئلت عن مثل هذا وليس عندك في ذلك نقل فرد الامر في ذلك إلى الله عزوجل (له غيب السموات والارض) أي هو العالم بالغيب فلا يطلع عليه إلا من شاء من خلقه (أبصر به واسمع) يعني أنه يضع الاشياء في محالها لعلمه التام بخلقه وبما يستحقونه ثم قال: (ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا) أي ربك المنفرد بالملك والمنصرف وحده لا شريك له.
قصة الرجلين المؤمن والكافر قال الله تعالى في سورة الكهف بعد قصة أهل الكهف: (واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لاحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا كلتا الجنتين آت أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا.
وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لاجدن خيرا منها منقلبا - إلى قوله - هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا)
[ الكهف: 32 - 44 ].
قال بعض الناس هذا مثل مضروب ولا يلزم أن يكون واقعا والجمهور أنه أمر قد وقع وقوله: (واضرب لهم مثلا) يعني لكفار قريش في عدم اجتماعهم بالضعفاء والفقراء وازدرائهم بهم وافتخارهم عليهم كما قال تعالى: (واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون) [ يس: 13 ] كما قدمنا الكلام على قصتهم قبل قصة موسى عليه السلام والمشهور أن هذين كانا رجلين مصطحبين وكان أحدهما مؤمنا والآخر كافرا (2) ويقال إنه كان لكل
__________
(1) أخرجه البخاري في كفارات 9 - والايمان 3 وأخرجه مسلم في كتاب الايمان 23، 24 والترمذي في النذور 7 والنسائي في الايمان 43 وابن ماجه في الكفارات 6 ومالك في الموطأ نذور (10) وأحمد في مسنده ج 2 / 275.
(2) قيل من بني اسرائيل أحدهما كافر اسمه براطوس، والآخر مؤمن اسمه يهوذا.
وقيل هما المذكوران في سورة =
منهما مال فأنفق المؤمن ماله في طاعة الله ومرضاته ابتغاء وجهه.
وأما الكافر فإنه اتخذ له بساتين وهما الجنتان المذكورتان في الآية على الصفة والنعت المذكور.
فيهما أعناب ونخيل تحف تلك الاعناب والزروع في ذلك والانهار سارحة ههنا وههنا للسقي والتنزه، وقد استوثقت فيهما الثمار، واضطربت فيهما الانهار، وابتهجت الزروع والثمار وافتخر مالكهما على صاحبه المؤمن الفقير قائلا له: (أنا اكثر منك مالا وأعز نفرا) أي أوسع جنانا.
ومراده: أنه خير منه ومعناه: ماذا أغنى عنك إنفاقك ما كنت تملكه في الوجه الذي صرفته فيه كان الاولى بك أن تفعل كما فعلت لتكون مثلي فافتخر على صاحبه: (ودخل جنته وهو ظالم لنفسه) أي وهو على غير طريقة مرضية قال: (ما أظن أن تبيد هذه أبدا) وذلك لما رأى من اتساع أرضها، وكثرة مائها، وحسن نبات أشجارها ولو قد بادت كل واحدة من هذه الاشجار لاستخلف مكانها أحسن منها وزروعها دارة لكثرة مياهها.
ثم قال: (وما أظن الساعة قائمة) فوثق بزهرة الحياة الدنيا الفانية وكذب بوجود الآخرة الباقية الدائمة.
ثم قال: (ولئن رددت إلى ربي لاجدن خيرا منها منقلبا) أي ولئن كان ثم آخرة ومعاد فلاجدن هناك خيرا من هذا وذلك لانه اغتر بدنياه، واعتقد أن الله لم يعطه ذلك فيها.
إلا لحبه له: وحظوته عنده كما قال العاص بن وائل فيما قص الله من خبره وخبر خباب بن الارت
في قوله: (أفرأيت الذي كفر بآياتنا) وقال: (لاوتين مالا وولدا.
أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا) [ مريم: 78 ] وقال تعالى إخبارا عن الانسان أذا أنعم الله عليه (ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى) [ فصلت: 5 ] قال الله تعالى: (فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ) [ فصلت: 50 ] وقال قارون: (إنما أوتيته على علم عندي) [ القصص: 78 ] أي لعلم الله بي أني أستحقه قال الله تعالى: (أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون) [ القصص: 78 ] وقد قدمنا الكلام على قصته في أثناء قصة موسى.
وقال تعالى: (وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون) [ سبأ: 37 ].
وقال تعالى: (أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون) [ المؤمنون: 55 ].
ولما اغتر هذا الجاهل بما خول به في الدنيا فجحد الآخرة وادعى أنها إن وجدت ليجدن عند ربه خيرا مما هو فيه، وسمعه صاحبه يقول ذلك قال له: (وهو يحاوره) أي يجادله (أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا) [ الكهف: 37 ] أي أجحدت المعاد وأنت تعلم أن الله خلقك من تراب.
ثم من نطفة ثم صورك أطوارا حتى صرت رجلا سويا سميعا بصيرا تعلم وتبطش وتفهم فكيف أنكرت المعاد والله قادر على البداءة (لكنا هو الله ربي) أي لكن أنا أقول بخلاف ما قلت
__________
= الصافات (قال قائل منهم..) وهما: من أهل مكة: أبو سلمة عبد الله بن عبد الاسد المخزومي المؤمن والاسود بن عبد الاسود، الكافر - (انظر القرطبي - تفسير الرازي).
وأعتقد خلاف معتقدك (هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا) أي لا أعبد سواه.
وأعتقد أنه يبعث الاجساد بعد فنائها، ويعيد الاموات، ويجمع العظام الرفات، وأعلم أن الله لا شريك له في خلقه ولا في ملكه ولا إله غيره، ثم أرشده إلى ما كان الاولى به أن يسلكه عند دخول جنته فقال: (ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله) [ الكهف: 39 ] ولهذا يستحب لكل من
أعجبه شئ من ماله أو أهله أو حاله أن يقول كذلك وقد ورد فيه حديث مرفوع في صحته نظر (1).
قال أبو يعلي الموصلي: حدثنا جراح بن مخلد، حدثنا عمرو بن يوسف، حدثنا عيسى بن عون، حدثنا عبد الملك بن زرارة، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما أنعم الله على عبد نعمة من أهل أو مال أو ولد فيقول ما شاء الله لا قوة إلا بالله " (2) فيرى فيه أنه دون الموت وكان يتأول هذه الآية: (ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله) قال الحافظ أبو الفتح الازدي عيسى بن عون: عن عبد الملك بن زرارة، عن أنس لا يصح.
ثم قال المؤمن للكافر: (فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك) أي في الدار الآخرة (ويرسل عليها حسبانا من السماء) قال ابن عباس والضحاك وقتادة أي عذابا من السماء.
والظاهر أنه المطر المزعج الباهر الذي يقتلع زروعها وأشجارها (فتصبح صعيدا زلقا) وهو التراب الاملس الذي لا نبات فيه (أو يصبح ماؤها غورا) وهو ضد المعين السارح (فلن تستطيع له طلبا) يعني فلا تقدر على استرجاعه قال الله تعالى: (وأحيط بثمره) أي جاءه أمر أحاط بجميع حواصله وخرب جنته ودمرها (فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها) [ الكهف: 42 ] أي خربت بالكلية فلا عودة لها وذلك ضد ما كان عليه أمل حيث قال: (وما أظن أن تبيد هذه أبدا) وندم على ما كان سلف منه من القول الذي كفر بسببه بالله العظيم فهو يقول: (يا ليتني لم أشرك بربي أحدا).
قال الله تعالى: (ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا هناك) [ الكهف: 43 ] أي لم يكن أحد يتدارك ما فرط من أمره وما كان له قدرة في نفسه على شئ من ذلك كما قال تعالى: (فما له من قوة ولا ناصر) [ الطارق: 10 ] وقوله: (الولاية لله الحق) ومنهم من يبتدئ
__________
(1) عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابي موسى ألا أدلك على كلمة من كنز الجنة، قلت بلى قال: لا حولا ولا قوة إلا بالله أخرجه مسلم.
وأخرج الترمذي من حديث أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من قال باسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله.." قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وأخرجه أبو داود وابن ماجه في سننيهما.
(2) روى الطبراني عن عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أنعم الله عليه نعمة فأراد بقاءها فليكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله.
وروى ابن ماجه عن محمد بن الحسن الخلال عن أنس، قال قال رسول الله: " ما أنعم الله على عبد فقال الحمد لله إلا كان الذي أعطي أفضل مما أخذه " رواه في ثواب التسبيح.
بقوله: (هنالك الولاية لله الحق) وهو حسن أيضا لقوله: (الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا) [ الفرقان: 26 ] فالحكم الذي لا يرد ولا يمانع ولا يغالب في تلك الحال، وفي كل حال لله الحق.
ومنهم من رفع الحق جعله صفة للولاية وهما متلازمتان وقوله: (هو خير ثوابا وخير عقبا) [ الكهف: 44 ] أي معاملته خير لصاحبها ثوابا وهو الجزاء وخير عقبا وهو العاقبة في الدنيا والآخرة.
وهذه القصة تضمنت أنه لا ينبغي لاحد أن يركن إلى الحياة الدنيا ولا يغتر بها ولا يثق بها بل يجعل طاعة الله والتوكل عليه في كل حال نصب عينيه.
وليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يديه.
وفيها أن من قدم شيئا على طاعة الله والانفاق في سبيله عذاب به، وربما سلب منه معاملة له بنقيض قصده.
وفيها أن الواجب قبول نصيحة الاخ المشفق وأن مخالفته وبال ودمار على من رد النصيحة الصحيحة.
وفيها أن الندامة لا تنفع إذا حان القدر ونفذ الامر الحتم بالله المستعان وعليه التكلان.
قصة أصحاب الجنة قال الله تعالى: (إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين.
ولا يستثنون.
فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون.
فأصبحت كالصريم.
فتنادوا مصبحين.
أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين.
فانطلقوا وهم يتخافتون.
أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين.
وغدوا على حرد قادرين.
فلما رأوها قالوا إنا لضالون.
بل نحن محرومون.
قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون.
قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين.
فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون.
قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين.
عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها إنا إلى ربنا راغبون.
كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون) [ القلم: 17 - 33 ].
وهذا مثل ضربه الله لكفار قريش فيما أنعم به عليهم من إرسال الرسول العظيم الكريم إليهم فقابلوه بالتكذيب والمخالفة كما قال تعالى: (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار.
جهنم يصلونها وبئس القرار) [ إبراهيم 28 - 29 ].
قال ابن عباس هم كفار قريش فضرب تعالى لهم مثلا بأصحاب الجنة المشتملة على أنواع الزروع والثمار التي قد انتهت واستحقت أن تجد وهو الصرام (1) ولهذا قال: (إذ أقسموا) فيما بينهم (ليصرمنها) أي ليجدنها وهو الاستغلال (مصبحين) أي وقت الصبح حيث لا يراهم فقير ولا محتاج فيعطوه شيئا فخلفوا على ذلك، ولم يستثنوا في يمينهم، فعجزهم الله وسلط عليها الآفة التي أحرقتها وهي السفعة (2) التي اجتاحتها ولم تبق بها شيئا ينتفع به ولهذا قال: (فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون.
فأصبحت
__________
(1) الصرام: يقال قد صرم العذق عن النخلة، وأصرم النخل إذا حان وقت صرامه، أي قطعه وقطاف ثمره.
(2) السفعة: العين ; المراد بها هنا عذاب، وقيل إن الطائف هو جبريل فاقتلعها فأصبحت الجنة كالصريم ; وقال الكلبي: إن الله ارسل عليها نارا من السماء فاحترقت وهم نائمون.
كالصريم) أي كالليل الاسود المنصرم من الضياء وهذه معاملة بنقيض المقصود (فتنادوا مصبحين) أي فاستيقظوا من نومهم فنادى بعضهم بعضا قائلين: (أغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين) أي باكروا إلى بستانكم فاصرموه قبل أن يرتفع النهار ويكثر السؤال (فانطلقوا وهم يتخافتون) أي يتحدثون فيما بينهم خفية قائلين: (لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين) أي اتفقوا على هذا واشتوروا عليه (وغدوا على حرد قادرين) اي انطلقوا مجدين في ذلك قادرين عليه، مضمرين على هذه النية الفاسدة.
وقال عكرمة والشعبي: (وغدوا على حرد) أي غضب على المساكين، وأبعد السدي في قوله أن اسم حرثهم حرد (فلما رأوها) أي وصلوا إليها، ونظروا ما حل بها، وما قد صارت إليه من الصفة المنكرة بعد تلك النضرة، والحسن والبهجة فانقلبت بسبب النية الفاسدة فعند ذلك (قالوا إنا لضالون) أي قد نهينا عنها، وسلكنا غير طريقها ثم
قالوا: (بل نحن محرومون) أي بل عوقبنا بسب سوء قصدنا وحرمنا بركة (1) حرثنا (قال أوسطهم).
قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد هو أعدلهم وخيرهم (ألم أقل لكم لولا تسبحون) قيل يستثنون، قاله مجاهد والسدي وابن جرير وقيل تقولون خيرا بدل ما قلتم من الشر (قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين.
فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون.
قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين).
فندموا حيث لا ينفع الندم، واعترفوا بالذنب بعد العقوبة، وذلك حيث لا ينجع وقد قيل: إن هؤلاء كانوا أخوة وقد ورثوا هذه الجنة من أبيهم، وكان يتصدق منها كثيرا، فلما صار أمرها إليهم استهجنوا أمر أبيهم، وأرادوا استغلالها من غير أن يعطوا الفقراء شيئا، فعاقبهم الله أشد العقوبة ولهذا أمر الله تعالى بالصدقة من الثمار، وحث على ذلك يوم الجداد كما قال تعالى: (كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده) [ الانعام: 141 ] ثم قيل كانوا من أهل اليمن من قرية يقال لها ضروان (2).
وقيل من أهل الحبشة والله أعلم قال الله تعالى: (كذلك العذاب) أي هكذا نعذب من خالف أمرنا ولم يعطف على المحاويج من خلقنا (ولعذاب الآخرة أكبر) أي أعظم وأحكم من عذاب الدنيا (لو كانوا يعلمون) [ القلم: 33 ].
وقصة هؤلاء شبيه بقوله تعالى: (ضرب (3) الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان
__________
(1) روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إياكم والمعاصي إن العبد ليذنب الذنب فيحرم به رزقا كان هيئ له - ثم تلا - (فطاف عليها طائف من ربك) الآيتين.
(2) ضروان من أرض اليمن على فرسخ من صنعاء.
(3) سورة النحل الآية 112 ونصها: (وضرب الله..) قالوا فيها: ضرب الله مثلا لاهل مكة لما خرجوا إلى بدر حلفوا على أن يقتلوا محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وإذا رجعوا إلى مكة طافوا بالكعبة وشربوا الخمور، فأخلف الله ظنهم فقتلوا وأسروا كأهل هذه الجنة لما خرجوا عازمين على الصرام فخابوا.
وقيل هو وعظ لاهل مكة بالرجوع إلى الله لما ابتلاهم بالجدب لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ; (انظر تفسير القرطبي - تفسير الرازي).
فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون.
ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون) [ النحل: 112 - 113 ] قيل هذا مثل مضروب لاهل مكة وقيل هم أهل مكة أنفسهم ضربهم مثلا لانفسهم ولا ينافي ذلك والله أعلم اه.
قصة أصحاب أيلة الذين اعتدوا في سبتهم قال الله تعالى في سورة الاعراف: (واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون.
وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون.
فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون.
فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين) [ الاعراف: 163 - 166 ] وقال تعالى في سورة البقرة: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين.
فجعلنا نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين) [ البقرة: 65 - 66 ] وقال تعالى في سورة النساء: (أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا) [ النساء: 47 ].
قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة والسدي وغيرهم هم أهل ايلة.
زاد ابن عباس بين مدين والطور.
قالوا وكانوا متمسكين بدين التوراة في تحريم السبت في ذلك الزمان، فكانت الحيتان قد ألفت منهم السكينة في مثل هذا اليوم، وذلك أنه كان يحرم عليهم الاصطياد فيه وكذلك جميع الصنائع، والتجارات، والمكاسب، فكانت الحيتان في مثل يوم السبت يكثر غشيانها لمحلتهم من البحر، فتأتي من ههنا وههنا ظاهرة آمنة مسترسلة، فلا يهيجونها ولا يذعرونها (ويوم لا يسبتون لا تأتيهم) وذلك لانهم كانوا يصطادونها فيما عدا السبت قال الله تعالى: (كذلك نبلوهم) أي نختبرهم بكثرة الحيتان في يوم السبت (بما كانوا يفسقون) أي بسبب فسقهم المتقدم فلما رأوا ذلك احتالوا على اصطيادها في يوم السبت بأن نصبوا الحبال والشباك والشصوص وحفروا الحفر التي يجري معها الماء إلى مصانع قد أعدوها إذا دخلها
السمك لا يستطيع أن يخرج منها ففعلوا ذلك في يوم الجمعة، فإذا جاءت الحيتان مسترسلة يوم السبت علقت بهذه المصايد، فإذا خرج سبتهم أخذوها فغضب الله عليهم ولعنهم لما احتالوا على خلاف أمره، وانتهكوا محارمه بالحيل التي هي ظاهرة للناظر، وهي في الباطن مخالفة محضة فلما فعل ذلك طائفة منهم افترق الذين لم يفعلوا فرقتين.
فرقة أنكروا عليهم صنيعهم هذا واحتيالهم على مخالفة الله وشرعه في ذلك الزمان.
وفرقة أخرى لم يفعلوا ولم ينهوا بل أنكروا على الذين نهوا وقالوا: (لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا) يقولون ما الفائدة في نهيكم هؤلاء وقد استحقوا العقوبة لا محالة فأجابتهم الطائفة المنكرة بأن قالوا: (معذرة إلى ربكم) أي فيما أمرنا به من الامر بالمعروف والنهي عن المنكر فنقوم به خوفا من عذابه (ولعلهم يتقون) أي لعل هؤلاء يتركون ما هم عليه من هذا الصنيع فيقيهم الله عذابه ويعفو عنهم إذا هم رجعوا
واستمعوا.
قال الله تعالى " فلما نسوا ما ذكروا به) أي لم يلتفتوا إلى من نهاهم عن هذا الصنيع الشنيع الفظيع (أنجينا الذين ينهون عن السوء) وهم الفرقة الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر (وأخذنا الذين ظلموا) وهم المرتكبون الفاحشة (بعذاب بئيس) وهو الشديد المؤلم الموجع (بما كانوا يفسقون).
ثم فسر العذاب الذي أصابهم فبقوله: (فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين).
وسنذكر ما ورد من الآيات في ذلك والمقصود هنا أن الله أخبر أنه أهلك الظالمين ونجى المؤمنين المنكرين وسكت عن الساكتين.
وقد اختلف فيهم العلماء على قولين: فقيل إنهم من الناجين وقيل إنهم من الهالكين، والصحيح الاول عند المحققين وهو الذي رجع إليه ابن عباس إمام المفسرين وذلك عن مناظرة مولاه عكرمة فكساه من أجل ذلك حلة سنية تكرمة.
قلت وإنما لم يذكروا مع الناجين لانهم وإن كرهوا ببواطنهم تلك الفاحشة، إلا أنهم كان ينبغي لهم أن يحملوا ظواهرهم بالعمل المأمور به من الانكار القولي الذي هو أوسط المراتب الثلاث: التي أعلاها الانكار باليد ذات البنان، وبعدها الانكار القولي باللسان، وثالثها الانكار بالجنان.
فلما لم يذكروا نجوا مع الناجين إذ لم يفعلوا الفاحشة بل
أنكروها.
وقد روى عبد الرزاق: عن ابن جريج، عن رجل، عن عكرمة، عن ابن عباس وحكى مالك: عن ابن رومان، وشيبان عن قتادة وعطاء الخراساني ما مضمونه: أن الذين ارتكبوا هذا الصنع اعتزلهم بقية أهل البلد ونهاهم من نهاهم منهم، فلم يقبلوا فكانوا يبيتون وحدهم، ويغلقون بينهم وبينهم أبوابا حاجزا لما كانوا يترقبون من هلاكهم فأصبحوا ذات يوم وأبواب ناحيتهم مغلقة لم يفتحوها وارتفع النهار واشتد الضحاء فأمر بقية أهل البلد رجلا أن يصعد على سلالم، ويشرف عليهم من فوقهم، فلما أشرف عليهم إذا هم قردة لها أذناب يتعاوون ويتعادون ففتحوا عليهم الابواب فجعلت القردة تعرف قراباتهم ولا يعرفهم قراباتهم، فجعلوا يلوذون بهم ويقولون لهم الناهون: ألم ننهكم عن صنيعكم فتشير القردة برؤوسها أن نعم.
ثم بكى عبد الله بن عباس وقال: إنا لنرى منكرات كثيرة.
ولا ننكرها ولا نقول فيها شيئا.
وقال العوفي عن ابن عباس: صار شباب القرية قردة وشيوخها خنازير.
وروى ابن أبي حاتم من طريق مجاهد عن ابن عباس: أنهم لم يعيشوا إلا فواقا ثم هلكوا ما كان لهم نسل وقال الضحاك عن ابن عباس أنه لم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام، ولم يأكل هؤلاء ولم يشربوا ولم ينسلوا، وقد استقصينا الآثار في ذلك في تفسير سورة البقرة والاعراف.
ولله الحمد والمنة.
وقد روى ابن أبي حاتم وابن جرير من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة وخنازير وإنما هو مثل ضربه الله (كمثل الحمار يحمل أسفارا) [ الجمعة: 5 ] وهذا صحيح إليه وغريب منه جدا ومخالف لظاهر القرآن ولما نص عليه غير واحد من السلف والخلف والله أعلم.
قصة أصحاب القرية (إذ جاءها المرسلون) تقدم ذكرها قبل قصة موسى عليه السلام.
قصة سبأ سيأتي ذكرها في أيام العرب إن شاء الله تعالى وبه الثقة.
قصة قارون وقصة بلعام
تقدمتا في قصة موسى.
وهكذا (قصة الخضر) و (قصة فرعون والسحرة) كلها في ضمن قصة موسى و (قصة البقرة) تقدمت في قصة موسى.
وقصة (الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت) في قصة حزقيل.
وقصة (الملا من بني إسرائيل من بعد موسى) في قصة شمويل.
وقصة (الذي مر على قرية) في قصة عزير.
قصة لقمان قال تعالى: (ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد.
وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ووصينا الانسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير.
وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعمها وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون.
يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الارض يأتي بها الله إن الله لطيف خبير.
يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الامور.
ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الارض مرحا إن الله لا يحب كل مختار فخور.
واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الاصوات لصوت الحمير) [ القمان: 12 - 19 ] هو لقمان بن عنقاء بن سدون (1).
ويقال لقمان بن ثاران (2) حكاه السهيلي عن ابن جرير والقتيبي.
قال السهيلي وكان نوبيا من أهل أيلة.
قلت وكان رجلا صالحا ذا عبادة وعبارة وحكمة عظيمة.
ويقال كان قاضيا في زمن داود عليه السلام فالله أعلم.
وقال سفيان الثوري عن الاشعث، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان عبدا حبشيا نجارا (3).
وقال قتادة: عن عبد الله بن الزبير: قلت لجابر بن عبد الله ما انتهى إليكم في شأن لقمان ؟ قال: كان قصيرا أفطس من النوبة.
وقال:
__________
(1) في مروج الذهب: لقمان بن عنقاء بن مربد بن صاوون.
وكان نوبيا مولى للقين بن جسر
(2) قال ابن قتيبة في المعارف: كان اسم ابنه ثاران.
وفي القرطبي: قال السيهلي: اسم ابنه ثاران في قول الطبري والقتبي.
(3) في المعارف: عن سعيد بن المسيب: كان خياطا.
وزاد: كان عبدا حبشيا.
يحيى بن سعيد الانصاري: عن سعيد بن المسيب قال: كان لقمان من سودان مصر ذو مشافر أعطاه الله الحكمة ومنعه النبوة (1).
وقال الاوزاعي حدثني عبد الرحمن بن حرملة قال: جاء أسود إلى سعيد بن المسيب يسأله فقال له سعيد: لا تحزن من أجل أنك أسود فإنه كان من أخير الناس ثلاثة من السودان بلال ومهجع مولى عمر ولقمان الحكيم كان أسود نوبيا ذا مشافر.
وقال الاعمش عن مجاهد كان لقمان عبدا أسود عظيم الشفتين مشقق القدمين وفي رواية مصفح القدمين.
وقال عمر بن قيس: كان عبدا أسود غليظ الشفتين مصفح القدمين فأتاه رجل وهو في مجلس أناس يحدثهم فقال له: ألست الذي كنت ترعى معي الغنم في مكان كذا وكذا ؟ قال: نعم، قال: فما بلغ بك ما أرى ؟ قال: صدق الحديث والصمت عما لا يعنيني رواه ابن جرير عن ابن حميد عن الحكم عنه.
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة، حدثنا صفوان، حدثنا الوليد، حدثنا عبد الرحمن ابن أبي يزيد بن جابر قال: إن الله رفع لقمان الحكيم لحكمته، فرآه رجل كان يعرفه قبل ذلك فقال ألست عبد ابن فلان الذي كنت ترعى غنمي بالامس ؟ قال: بلى قال فما بلغ بك ما أرى ؟ قال: قدر الله وأداء الامانة وصدق الحديث وترك ما لا يعنيني.
وقال ابن وهب: أخبرني عبد الله بن عياش الفتياني عن عمر مولى عفرة، قال: وقف رجل على لقمان الحكيم فقال: أنت لقمان أنت عبد بني النحاس ؟ قال: نعم قال: فأنت راعي الغنم الاسود ؟ قال: أما سوادي فظاهر فما الذي يعجبك من أمري قال وطئ الناس بساطك وغشيهم بابك ورضاهم بقولك قال يا ابن أخي إن صنعت ما أقول لك كنت كذلك قال: ما هو ؟ قال لقمان: غضي بصري وكفي لساني، وعفة مطمعي، وحفظي فرجي، وقيامي بعدتي، ووفائي بعهدي، وتكرمتي ضيفي، وحفظي جاري، وتركي ما لا يعنيني، فذاك الذي صيرني كما ترى.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا
أبي، حدثنا ابن فضيل، حدثنا عمرو بن واقد، عن عبدة بن رباح، عن ربيعة، عن أبي الدرداء أنه قال يوما وذكر لقمان الحكيم فقال: ما أوتي عن أهل، ولا مال، ولا حسب، ولا خصال ولكنه كان رجلا ضمضامة، سكيتا طويل التفكر، عميق النظر، لم ينم نهارا قط، ولم يره أحد يبزق، ولا يتنحنح، ولا يبول، ولا يتغوط، ولا يغتسل، ولا يعبث، ولا يضحك، وكان لا يعيد منطقا نطقه إلا أن يقول حكمة يستعيدها إياه أحد، وكان قد تزوج وولد له أولاد فماتوا فلم يبك عليهم وكان يغشى السلطان ويأتي الحكام لينظر ويتفكر ويعتبر فبذلك أوتي ما أوتي.
ومنهم من زعم أنه عرضت عليه النبوة فخاف أن لا يقوم بأعبائها فاختار الحكمة لانها أسهل عليه وفي هذا نظر.
والله أعلم.
وهذا مروي عن قتادة كما سنذكره.
وروى ابن أبي حاتم وابن جرير
__________
(1) وفي المعارف: روى يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب أنه قال: كان لقمان نبيا.
وعلق صاحب المعارف: ولم يكن نبيا في قول أكثر الناس.
وفي بدائع ابن إياس عن وهب بن منبه قال: كان من الانبياء ثلاثة سود الالوان: لقمان وذو القرنين ونبي الله صاحب الاخدود.
ج 1 ص 250.
من طريق وكيع عن إسرائيل عن جابر الجعفي عن عكرمة أنه قال كان لقمان نبيا وهذا ضعيف لحال الجعفي.
والمشهور عن الجمهور أنه كان حكيما وليا ولم يكن نبيا، وقد ذكره الله تعالى في القرآن فأثنى عليه، وحكى من كلامه فيما وعظ به ولده الذي هو أحب الخلق إليه، وهو أشفق الناس عليه فكان من أول ما وعظ به أن قال: (يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم) [ لقمان: 13 ].
فنهاه عنه وحذره منه.
وقد قال البخاري: حدثنا قتيبة، حدثنا جرير: عن الاعمش، عن إبراهيم، عن علقمة عن عبد الله قال لما نزلت: (الذين آمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم) [ الانعام: 82 ] شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: أينا لم يلبس إيمانه بظلم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنه ليس بذاك ألم تسمع إلى قول لقمان: (يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم) رواه مسلم من حديث سليمان بن مهران الاعمش به.
ثم اعترض تعالى بالوصية
بالوالدين وبيان حقهما على الولد وتأكده، وأمر بالاحسان إليهما حتى ولو كانا مشركين، ولكن لا يطاعان على الدخول في دينهما إلى أن قال مخبرا عن لقمان فيما وعظ به ولده (يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الارض يأت بها الله إن الله لطيف خبير) [ لقمان: 16 ] ينهاه عن ظلم الناس ولو بحبة خردل فإن الله يسأل عنها ويحضرها حوزة الحساب ويضعها في الميزان كما قال تعالى: (إن الله لا يظلم مثقال ذرة) وقال تعالى: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين) [ الانبياء: 47 ] وأخبره أن هذا الظلم لو كان في الحقارة كالخردلة، ولو كان في جوف صخرة صماء، لا باب لها ولا كوة، أو لو كانت ساقطة في شئ من ظلمات الارض أو السموات في اتساعهما وامتداد أرجائهما، لعلم الله مكانها (إن الله لطيف خبير) أي علمه دقيق فلا يخفى عليه الذر مما ترا آي للنواظر، أو توارى كما قال تعالى: (وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الارض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) [ الانعام: 59 ] وقال: (وما من غائبة في السماء والارض إلا في كتاب مبين) [ النمل: 75 ] وقال: (عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الارض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين) [ سبأ: 3 ] وقد زعم السدي في خبره عن الصحابة أن المراد بهذه الصخرة، الصخرة التي تحت الارضين السبع وهكذا حكى عن عطية العوفي وأبي مالك والثوري والمنهال بن عمر وغيرهم وفي صحة هذا القول من أصله نظر.
ثم إن في هذا المراد نظر آخر فإن هذه الآية نكرة غير معرفة فلو كان المراد بها ما قالوه لقال فتكن في الصخرة وإنما المراد فتكن في صخرة كانت كما قال الامام أحمد: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لخرج عمله
للناس كائنا ما كان " (1) ثم قال: (يا بني أقم الصلاة) أي أدها بجميع واجباتها من حدودها وأوقاتها وركوعها وسجودها وطمأنينتها وخشوعها وما شرع فيها واجتنب ما ينهى عنه فيها.
ثم
قال: (وامر بالمعروف وانه عن المنكر) أي بجهدك وطاقتك أي إن استطعت باليد فباليد، وإلا فبلسانك فإن لم تستطع فبقلبك ثم أمره بالصبر فقال (واصبر على ما أصابك) وذلك أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر في مظنة أن يعادى وينال منه، ولكن له العاقبة، ولهذا أمره بالصبر على ذلك ومعلوم أن عاقبة الصبر الفرج وقوله: (إن ذلك من عزم الامور) التي لا بد منها ولا محيد عنها.
وقوله: (ولا تصعر خدك للناس) [ لقمان: 18 ] قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك ويزيد بن الاصم وأبو الجوزاء وغير واحد معناه لا تتكبر على الناس وتميل خدك حال كلامك لهم وكلامهم لك على وجه التكبر عليهم والازدراء لهم.
قال أهل اللغة وأصل الصعر داء يأخذ الابل في أعناقها فتلتوي رؤوسها فشبه به الرجل المتكبر الذي يميل وجهه إذا كلم الناس أو كلموه على وجه التعظم عليهم.
قال أبو طالب في شعره: وكنا قديما لا نقر ظلامة * إذا ما ثنوا صعر الخدود نقيمها وقال عمرو بن حيي (2) التغلبي: وكنا إذا الجبار صعر خده * أقمنا له من ميله فتقوما (3) وقوله: (ولا تمش في الارض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور) ينهاه عن التبختر في المشية على وجه العظمة والفخر على الناس كما قال تعالى: (ولا تمش في الارض مرحا إنك لن تخرق الارض ولن تبلغ الجبال طولا) [ الاسراء: 37 ].
يعني لست بسرعة مشيك تقطع البلاد في مشيتك هذه، ولست بدقك الارض برجلك تخرق الارض بوطئك عليها، ولست بتشامخك وتعاظمك وترفعك تبلغ الجبال طولا، فاتئد على نفسك فلست تعدو قدرك.
وقد ثبت في الحديث بينما رجل يمشي في برديه يتبختر فيهما، إذ خسف الله به الارض فهو يتجلل فيها إلى يوم القيامة (4)
__________
(1) مسند أحمد 3 / 28.
(2) في القرطبي: حنى التغلبي.
(3) قال ابن عطية: تقوما خطأ لان قافية الشعر مخفوضة وقبله في معجم الشعراء للمرزباني:
تعاطى الملوك الحق ما قصدوا بنا * وليس علينا قتلهم بمجرم وقال المرزباني وهذا البيت - بيت الشاهد ; يروى من قصيدة المتلمس التي أولها: يعيرني أمي رجال ولن ترى * أخا كرم إلا بأن يتكرما (4) أخرجه البخاري في كتاب اللباس (5) وكتاب الانبياء (54) ومسلم في كتاب اللباس 49 - 50 والنسائي في الزينة (101) وابن ماجه في الفتن 22 والدارمي في المقدمة (40) وأحمد في مسنده 2 / 66 - 267 - 315، 390، 413، 456، 467، 531، 3 / 40.
وفي الحديث الآخر: " إياك وإسبال الازار فإنها من المخيلة لا يحبها الله " (1) كما قال في هذه الآية: (إن الله لا يحب كل مختال فخور) ولما نهاه عن الاختيال في المشي أمره بالقصد فيه، فإنه لا بد له أن يمشي فنهاه عن الشر وأمره بالخير، فقال: (واقصد في مشيك) أي لا تتباطأ مفرطا ولا تسرع إسراعا مفرطا ولكن بين ذلك قواما كما قال تعالى: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الارض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) [ الفرقان: 63 ] ثم قال: (واغضض من صوتك) [ لقمان: 19 ] يعني إذا تكلمت لا تتكلف رفع صوتك، فإن أرفع الاصوات وأنكرها صوت الحمير.
وقد ثبت في الصحيحين الامر بالاستعاذة عند سماع صوت الحمير بالليل فإنها رأت شيطانا (2)، ولهذا نهى عن رفع الصوت حيث لا حاجة إليه، ولا سيما عند العطاس فيستحب خفض الصوت، وتخمير الوجه كما ثبت به الحديث من صنيع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأما رفع الصوت بالاذان، وعند الدعاء إلى الفئة للقتال، وعند الاهلاك ونحو ذلك فذلك مشروع فهذا مما قصه الله تعالى عن لقمان عليه السلام في القرآن من الحكم والوصايا النافعة الجامعة للخير المانعة من الشر وقد وردت آثار كثيرة في أخباره ومواعظه وقد كان له كتاب يؤثر عنه يسمى بحكمة لقمان ونحن نذكر من ذلك ما تيسر إن شاء الله تعالى.
قال الامام أحمد: حدثنا علي بن إسحاق، أنبأنا ابن المبارك، أنبأنا سفيان، أخبرني نهيك ابن يجمع الضبي، عن قزعة، عن ابن عمر قال أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن لقمان الحكيم
كان يقول إن الله إذا استودع شيئا حفظه " (3).
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الاشج، حدثنا عيسى بن يونس، عن الاوزاعي عن موسى بن سليمان، عن القاسم بن مخيمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني إياك والتقنع فإنه مخونة بالليل مذمة بالنهار ".
وقال أيضا: حدثنا أبي، حدثنا عمرو بن عمارة، حدثنا ضمرة، حدثنا السري بن يحيى قال لقمان لابنه: " يا بني إن الحكمة أجلست المساكين مجالس الملوك " وحدثنا أبي، حدثنا عبدة بن سليمان، أنبأنا ابن المبارك، أنبأنا عبد الرحمن المسعودي، عن عون بن عبد الله، قال قال لقمان لابنه: يا بني إذا أتيت نادي قوم فادمهم بسهم الاسلام - يعني السلام - ثم اجلس بناحيتهم فلا تنطق حتى تراهم قد نطقوا، فإن أفاضوا في ذكر الله فاجل سهمك معهم، وإن
__________
أخرجه أحمد في مسنده 4 / 65، 5 / 63، 64، 378 وأخرجه أبو داود في سننه كتاب اللباس باب 24.
(2) أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق (15) وأبو داود في كتاب الادب (106) والترمذي في كتاب الدعوات (56).
أقول في الآية: - دليل على تعريف قبح رفع الصوت في المخاطبة والملاحاة بقبح أصوات الحمير لانها عالية.
- هذه الآية أدب من الله تعالى بترك الصياح في وجوه الناس تهاونا بهم، أو بترك الصياح جملة.
(3) مسند أحمد ج 2 / 87.
أفاضوا في غير ذلك فحول عنهم إلى غيرهم: وحدثنا أبي، حدثنا عمرو بن عثمان، حدثنا ضمرة، عن حفص بن عمر، قال وضع لقمان جرابا من خردل إلى جانبه وجعل يعظ ابنه وعظة ويخرج خردلة حتى نفد الخردل فقال: يا بني لقد وعظتك موعظة لو وعظها جبل تفطر قال فتفطر ابنه.
وقال أبو القاسم الطبراني حدثنا يحيى بن عبد الباقي المصيصي، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الحراني، حدثنا عثمان بن عبد الرحمن الطرائفي، عن ابن سفيان المقدسي، عن خليفة بن سلام، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اتخذوا السودان فإن ثلاثة منهم من أهل الجنة لقمان الحكيم والنجاشي وبلال
المؤذن " قال الطبراني يعني الحبشي وهذا حديث غريب منكر.
وقد ذكر له الامام أحمد في كتاب الزاهد ترجمة ذكر فيها فوائد مهمة جمة فقال: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن رجل عن مجاهد (ولقد آتينا لقمان الحكمة) قال الفقه والاصابة في غير نبوة.
وكذا روي عن وهب بن منبه، وحدثنا وكيع، حدثنا سفيان عن أشعث، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان لقمان عبدا حبشيا.
وحدثنا أسود، حدثنا حماد، عن علي بن يزيد، عن سعيد بن المسيب أن لقمان كان خياطا (1).
وحدثنا سياد، حدثنا جعفر، حدثنا مالك يعني ابن دينار قال: قال لقمان لابنه: يا بني اتخذ طاعة الله تجارة تأتك الارباح من غير بضاعة.
وحدثنا يزيد، حدثنا أبو الأشهب عن محمد بن واسع، قال كان لقمان يقول لابنه: يا بني اتق الله ولا تري الناس أنك تخشى الله ليكرموك بذلك وقلبك فاجر.
وحدثنا يزيد بن هرون، ووكيع قالا: حدثنا أبو الأشهب، عن خالد الربعي، قال كان لقمان عبدا حبشيا نجارا فقال له سيده: اذبح لي شاة، فذبح له شاة، فقال ائتني بأطيب مضغتين فيها فأتاه باللسان والقلب، فقال [ له ] (2): أما كان فيها شئ أطيب من هذين.
قال: لا.
قال: فسكت عنه ما سكت ثم قال له اذبح لي شاة فذبح له شاة فقال له: وألق أخبثها مضغتين فرمى باللسان والقلب.
فقال أمرتك أن تأتيني بأطيبها مضغتين فأتيتني باللسان والقلب، وأمرتك أن تلقي أخبثها مضغتين فألقيت اللسان والقلب، فقال له: إنه ليس شئ أطيب منهما إذا طابا، ولا أخبث منهما إذا خبثا (3).
وحدثنا داود بن رشيد، حدثنا ابن المبارك، حدثنا معمر، عن أبي عثمان رجل من أهل البصرة يقال له الجعد أبو عثمان قال: قال لقمان لابنه: لا ترغب في ود الجاهل فيرى أنك ترضى عمله، ولا تهاون بمقت الحكيم فيزهده فيك.
وحدثنا داود بن أسيد، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن ضمضم بن زرعة، عن
__________
(1) أنظر كتاب المعارف لابن قتيبة: رواه عن يزيد بن هارون عن حماد به.
ص 25.
(2) زيادة من تفسير القرطبي.
(3) في هذا المعنى رفع أكثر من حديث من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت الجسد كله ألا وهي القلب " وجاء في اللسان قوله صلى الله عليه وسلم: " من وقاه الله شر اثنتين ولج الجنة ;
ما بين لحييه ورجليه ".
شريح بن عبيد الحضرمي، عن عبد الله بن زيد قال: قال لقمان: ألا أن يد الله على أفواه الحكماء، لا يتكلم أحدهم إلا ما هيأ الله له.
وحدثنا عبد الرزاق: سمعت ابن جريج قال: كنت أقنع رأسي بالليل، فقال لي عمر: أما علمت أن لقمان قال: القناع بالنهار مذلة معذرة أو قال معجزة بالليل فلم تقنع رأسك بالليل ؟ قال: قلت له: إن لقمان لم يكن عليه دين.
وحدثني حسن بن الجنيد، حدثنا سفيان قال لقمان لابنه: يا بني ما ندمت على السكوت قط، وإن كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب.
وحدثنا عبد الصمد ووكيع قالا: حدثنا أبو الأشهب، عن قتادة أن لقمان قال لابنه: يا بني اعتزل الشر يعتز لك فإن الشر للشر خلق.
وحدثنا أبو معاوية: حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه قال مكتوب في الحكمة يا بني إياك والرغب، فإن الرغب كل الرغب يبعد القريب من القريب ويزيل الحكم كما يزيل الطرب، يا بني إياك وشدة الغضب فإن شدة الغضب ممحقة لفؤاد الحكيم.
قال الامام أحمد حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا نافع بن عمر، عن ابن أبي مليكة، عن عبيد بن عمير قال قال لقمان لابنه وهو يعظه: يا بني اختر المجالس على عينك، فإذا رأيت المجلس يذكر فيه الله عزوجل فاجلس معهم فإنك إن تك عالما ينفعك علمك وإن تك غبيا يعلموك وإن يطلع الله عليهم برحمة تصيبك معهم.
يا بني لا تجلس في المجلس الذي لا يذكر الله فيه، فإنك إن تك عالما لا ينفعك علمك، وإن تك غبيا يزيدوك غبيا وان يطلع الله إليهم بعد ذلك بسخط يصيبك معهم يا بني لا تغبطوا أمراء رحب الذراعين يسفك دماء المؤمنين فإن له عند الله قاتلا لا يموت.
وحدثنا أبو معاوية حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه قال مكتوب في الحكمة: بني لتكن كلمتك طيبة، وليكن وجهك بسطا تكن أحب إلى الناس ممن يعطيهم العطاء.
وقال مكتوب في الحكمة أو في التوراة: " الرفق رأس الحكمة " وقال مكتوب في التوراة كما ترحمون ترحمون وقال مكتوب في الحكمة: " كما تزرعون تحصدون " وقال مكتوب في الحكمة أحب خليلك وخليل
أبيك.
وحدثنا عبد الرزاق عن معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة قال: قيل للقمان أي الناس أصبر ؟ قال: صبر لا يتبعه أذى.
قيل فأي الناس أعلم ؟ قال من ازداد من علم الناس إلى علمه.
قيل فأي الناس خير قال الغني.
قيل الغني من المال قال لا ولكن الغني الذي إذا التمس عنده خير وجد وإلا أغنى نفسه عن الناس.
وحدثنا سفيان هو ابن عيينة قال قيل للقمان أي الناس شر قال الذي لا يبالي أن يراه الناس مسيئا.
وحدثنا أبو الصمد، عن مالك بن دينار قال: وجدت في بعض الحكمة يبدد الله عظام الذين يتكلمون بأهواء الناس ووجدت فيها لا خير لك في أن تعلم ما لم تعلم ولما تعمل بما قد علمت فإن مثل ذلك رجل احتطب حطبا فحزم حزمة ثم ذهب يحملها فعجز عنها فضم إليه أخرى.
وقال عبد الله بن أحمد: حدثنا الحكم بن أبي زهير، وهو الحكم بن موسى، حدثنا الفرج بن
فضالة، عن أبي سعيد قال قال لقمان لابنه: يا بني لا يأكل طعامك إلا الاتقياء وشاور في أمرك العلماء.
وهذا مجموع ما ذكره الامام أحمد في هذه المواضع وقد قدمنا من الآثار كثيرا لم يروها كما أنه ذكر أشياء ليست عندنا والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا العباس بن الوليد، حدثنا زيد بن يحيى بن عبيد الخزاعي حدثنا سعيد بن بشير، عن قتادة قال: خير الله لقمان الحكيم بين النبوة والحكمة فاختار الحكمة على النبوة.
قال: فأتاه جبريل وهو نائم فذر عليه الحكمة قال فأصبح ينطق بها.
قال سعد سمعت قتادة يقول: قيل للقمان كيف اخترت الحكمة على النبوة وقد خيرك ربك ؟ فقال: إنه لو أرسل إلي بالنبوة عزمة (1) لرجوت فيه الفوز منه (2)، ولكنت أرجو أن أقوم بها ولكن خيرني فخفت أن أضعف عن النبوة فكانت الحكمة أحب إلي.
وهذا فيه نظر لان سعيد بن بشير عن قتادة قد تكلموا فيه، والذي رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله: (ولقد آتينا لقمان الحكمة) قال يعني الفقه والاسلام ولم يكن نبيا ولم يوح إليه.
وهكذا نص على هذا غير واحد من السلف (3) منهم مجاهد وسعيد بن المسيب وابن عباس والله أعلم.
قصة أصحاب الاخدود قال الله تعالى: (والسماء ذات البروج واليوم الموعود وشاهد ومشهود قتل أصحاب الاخدود النار ذات الوقود.
إذ هم عليها قعود.
وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود.
وما نقموا منهم إلا أن يومئذ بالله العزيز الحميد.
الذي له ملك السموات والارض والله على كل شئ شهيد إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق) [ البروج: 1 - 10 ].
قد تكلمنا على ذلك مستقصى في تفسيره هذه السورة ولله الحمد.
وقد زعم محمد بن إسحاق: أنهم كانوا بعد مبعث المسيح، وخالفه غيره فزعموا أنهم كانوا قبله.
وقد ذكر غير واحد أن هذا الصنيع مكرر في العالم مرارا في حق المؤمنين من الجبارين الكافرين ولكن هؤلاء المذكورون في القرآن قد ورد فيهم حديث مرفوع، وأثر أورده ابن إسحاق، وهما متعارضان وها نحن نوردهما لتقف عليهما.
قال الامام أحمد: حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صهيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كان ملك فيمن كان قبلكم وكان له ساحر فلما كبر الساحر قال للملك إني قد كبرت سني وحضر أجلي فادفع إلي غلاما فلاعلمه
__________
(1) عزمة: عزائم الله فرائضه التي أوجبها على عباده.
(2) في تفسير القرطبي: لرجوت فيها العون منه.
(3) قال ابن عطية: عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لم يكن لقمان نبيا ولكن كان عبدا كثير التفكر حسن اليقين، أحب الله تعالى فأحبه فمن عليه بالحكمة وخيره في أن يجعله خليفة يحكم بالحق.
فقال: رب، إن خيرتني قبلت العافية وتركت البلاء ; وان عزمت علي فسمعا وطاعة ".
السحر فدفع إليه غلاما فكان يعلمه السحر وكان بين الملك وبين الساحر راهب فأتى الغلام على الراهب فسمع من كلامه، فأعجبه نحوه وكلامه وكان إذا أتى الساحر ضربه، وقال ما حبسك ؟ وإذا أتى أهله ضربوه وقالوا: ما حبسك ؟ فشكا ذلك إلى الراهب فقال إذا أراد الساحر أن يضربك فقل حبسني أهلي، وإذا أراد أهلك أن يضربوك فقل حبسني الساحر، قال فبينا هو ذات يوم إذ
أتى على دابة (1) فظيعة عظيمة قد حبست الناس فلا يستيطعون أن يجوزوا فقال اليوم أعلم أمر الساحر أحب إلى الله أم أمر الراهب ؟ قال: فأخذ حجرا فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك وأرضى من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يجوز الناس، ورماها فقتلها، ومضى [ الناس ] فأخبر الراهب بذلك.
فقال: أي بني أنت أفضل مني وإنك ستبتلى فإن ابتليت فلا تدل علي فكان الغلام يبرئ الاكمه والابرص وسائر الادواء ويشفيهم الله على يديه، وكان جليس للملك فعمى فسمع به فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: اشفني ولك ما ههنا اجمع فقال: ما أنا اشفي أحدا، إنما يشفي الله عزوجل، فإن آمنت به ودعوت الله شفاك فآمن فدعا الله فشفاه.
ثم أتى الملك فجلس منه نحو ما كان يجلس، فقال له الملك: يا فلان من رد عليك بصرك ؟ فقال: ربي قال: أنا.
قال: لا ربي، وربك الله قال: ولك رب غيري ؟ قال: نعم ربي وربك الله فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام [ فبعث إليه ] فأتي به فقال: أي بني بلغ من سحرك أن تبرئ الاكمه والابرص وهذه الادواء، قال: ما أشفي أنا أحدا إنما يشفي الله عزوجل، قال: أنا قال: لا قال: أو لك رب غيري ؟ قال ربي وربك الله.
قال: فأخذه أيضا بالعذاب، ولم يزل به حتى دل على الراهب، فأتى الراهب فقال: ارجع عن دينك، فأبى فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه وقال للاعمى ارجع عن دينك، فأبى فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه [ في الارض ] وقال للغلام، ارجع عن دينك فأبى فبعث به مع نفر إلى جبل كذا وكذا وقال إذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فدهدهوه [ من فوقه ] فذهبوا به فلما علوا الجبل قال: اللهم أكفنيهم بما شئت فرجف بهم الجبل، فدهدهوا أجمعون.
وجاء الغلام يتلمس حتى دخل على الملك فقال: ما فعل أصحابك فقال كفانيهم الله، فبعث به مع نفر في قرقرة (2) فقال: إذا لججتم البحر فإن رجع عن دينه وإلا فاغرقوه في البحر فلججوا به البحر فقال الغلام: اللهم اكفنيهم بما شئت [ فانكفأت بهم السفينة ] (3) فغرقوا أجمعون، وجاء الغلام حتى دخل على الملك، فقال: ما فعل أصحابك فقال كفانيهم الله [ عزوجل ] ثم قال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به فإن أنت فعلت ما آمرك به قتلتني، وإلا فإنك لا تستطيع قتلي قال: وما هو قال تجمع الناس في
__________
(1) في الترمذي: أن الدابة كانت أسدا.
(2) قرقرة: وفي المسند وصحيح مسلم قرقور وهو الصواب، والقرقور: السفينة الصغيرة.
(3) من صحيح مسلم.
صعيد واحد ثم تصلبني على جذع وتأخذ سهما من كنانتي (1).
ثم قل: بسم الله رب الغلام، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني، ففعل ووضع السهم في كبد القوس، ثم رماه وقال بسم الله رب الغلام فوقع السهم في صدغه فوضع الغلام يده على موضع السهم ومات (2) فقال الناس: آمنا برب الغلام آمنا برب الغلام، فقيل للملك: أرأيت ما كنت تحذر فقد والله نزل بك، قد آمن الناس كلهم، فأمر بأفواه السكك فحفر فيها الاخاديد وأضرمت فيها النيران، وقال: من رجع عن دينه فدعوه، وإلا فأقحموه فيها، وقال: فكانوا يتعادون فيها ويتواقعون (3) فجاءت امرأة بابن لها ترضعه فكأنها تقاعست أن تقع في النار، فقال الصبي: اصبري يا أماه فإنك على الحق " (4) كذا رواه الامام أحمد ورواه مسلم والنسائي من حديث حماد بن سلمة زاد النسائي وحماد بن زيد كلاهما عن ثابت به.
ورواه الترمذي من طريق عبد الرزاق عن معمر، عن ثابت بإسناده نحوه وجرد إيراده كما بسطنا ذلك في التفسير.
وقد أورد محمد بن إسحاق هذه القصة على وجه آخر فقال: حدثني يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب وحدثني أيضا بعض أهل نجران عن أهلها أن أهل نجران كانوا أهل شرك يعبدون الاوثان وكان في قرية من قراها قريبا من نجران - ونجران هي القرية العظمى التي إليها جماع أهل تلك البلاد - ساحر يعلم غلمان أهل نجران السحر، فلما نزلها فيمون، ولم يسموه لي بالاسم الذي سماه ابن منبه، قالوا رجل نزلها فابتنى خيمة بين نجران وبين تلك القرية التي فيها الساحر، وجعل أهل نجران يرسلون غلمانهم إلى ذلك الساحر يعلمهم السحر، فبعث التامر ابنه عبد الله بن التامر مع غلمان أهل نجران، فكان إذا مر بصاحب الخيمة أعجبه ما يرى من عبادته وصلاته، فجعل يجلس إليه ويسمع منه، حتى أسلم، فوحد الله وعبده، وجعل يسأله عن
شرائع الاسلام، حتى إذا فقه فيه جعل يسأله عن الاسم الاعظم، وكان يعلمه فكتمه إياه، وقال له: يابن أخي إنك لن تحمله، أخشى ضعفك عنه، والتامر لا يظن إلا أن ابنه عبد الله يختلف إلى الساحر كما يختلف الغلمان، فلما رأى عبد الله أن صاحبه قد ضن به عنه وتخوف ضعفه فيه، عمد إلى قداح (5) فجمعها، ثم لم يبق لله اسما يعلمه إلا كتبه في قدح لكل اسم قدح، حتى إذا أحصاها أوقد نارا، ثم جعل يقذفها [ فيها ] قدحا قدحا، حتى إذا مر بالاسم الاعظم قذف فيها بقدحه، فوثب القدح حتى خرج منها لم تضره شيئا، فأخذه ثم أتى به صاحبه، فأخبره أنه قد علم
__________
(1) الكنانة: بالكسر: جعبة السهام تتخذ من جلود لا خشب فيها، أو من خشب لا جلود فيها.
(2) في الترمذي: أن الغلام دفن، قال: فيذكر أنه أخرج في زمن عمر بن الخطاب وأصبعه على صدغه كما وضعها حين قتل.
(3) في المسند: يتدافعون.
(4) مسند أحمد ج 6 / 16 - 17 - 18.
وما بين معكوفين في الحديث زيادة من المسند.
(5) قداح: بالكسر جمع قدح: السهم قبل أن ينصل ويراش.
الاسم الاعظم الذي قد كتمه [ إياه ] فقال: وما هو ؟ قال: كذا وكذا.
قال: وكيف علمته ؟ فأخبره بما صنع.
قال: أي ابن أخي قد أصبته، فأمسك على نفسك، وما أظن أن تفعل.
فجعل عبد الله بن التامر إذا دخل نجران لم يلق أحدا به ضر إلا قال: يا عبد الله أتوحد الله وتدخل في ديني، وأدعو الله لك فيعافيك عما أنت فيه من البلاء [ فيقول: نعم، فيوحد الله ويسلم، حتى لم يبق أحد بنجران به ضر إلا أتاه فاتبعه على دينه ] ؟ ودعا له فعوفي، حتى رفع شأنه إلى ملك نجران، فدعاه فقال [ له ] أفسدت علي أهل قريتي، وخالفت ديني ودين آبائي، لامثلن بك.
قال: لا تقدر على ذلك.
فجعل يرسل به إلى الجبل الطويل، فيطرح على رأسه، فيقع إلى الارض ما به بأس.
وجعل يبعث به إلى مياه بنجران.
بحور لا يلقى فيها شئ إلا هلك، فيلقى به فيها فيخرج ليس به بأس، فلما غلبه قال له عبد الله بن التامر، والله لا تقدر على
قتلي حتى توحد الله فتؤمن بما آمنت به، فإنك إن فعلت سلطت علي فقتلتني، قال: فوحد الله ذلك الملك وشهد شهادة عبد الله بن التامر، ثم ضربه بعصا في يده فشجه شجة غير كبيرة فقتله.
وهلك الملك مكانه، واستجمع أهل نجران على دين عبد الله بن التامر وكان على ما جاء به عيسى بن مريم من الانجيل وحكمه.
ثم أصابهم ما أصاب أهل دينهم من الاحزاب (1) فمن هنالك كان أصل دين النصرانية بنجران.
قال ابن إسحاق فهذا حديث محمد بن كعب وبعض أهل نجران عن عبد الله بن التامر فالله أعلم أي ذلك كان.
قال: فسار إليهم ذو نواس بجنده [ من حمير ] فدعاهم إلى اليهودية، وخيرهم بين ذلك أو القتل.
فاختاروا القتل فخذوا الاخدود، وحرق بالنار وقتل بالسيف، ومثل بهم فقتل منهم قريبا من عشرين ألفا (2).
ففي ذي نواس وجنده أنزل الله على رسوله: (قتل أصحاب الاخدود النار ذات الوقود) الآيات [ البروج: 4 - 5 ].
وهذا يقتضي أن هذه القصة غير ما وقع في سياق مسلم وقد زعم بعضهم أن الاخدود وقع في العالم كثيرا كما قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو اليمان أنبأنا صفوان، عن عبد الرحمن بن جبير قال: كانت الاخدود في اليمن زمان تبع وفي القسطنطينة زمان قسطنطين حين صرف النصارى قبلتهم عن دين المسيح والتوحيد، واتخذ أتونا وألقى فيه النصارى الذين كانوا على دين المسيح والتوحيد وفي العراق في أرض بابل في زمان بخت نصر حين صنع الصنم، وأمر الناس فسجدوا له فامتنع دانيال وصاحباه عزريا ومشايل فأوقد لهم أتونا وألقى فيها الحطب والنار ثم ألقاهما فيه فجعلها الله عليهم بردا وسلاما وأنقذهم منها، وألقى فيها الذين بغوا عليه وهم تسعة رهط فأكلتهم النار وقال اسباط عن السدي في قوله: (قتل أصحاب الاخدود) قال كان الاخدود
__________
(1) في تفسير القرطبي: الاحداث.
(2) ما بين معكوفين في الخبر من تفسير القرطبي واستدركت لمقتضى السياق.
- في القرطبي وابن إسحاق: الثامر بالثاء.
- ذو نواس: واسمه زرعة بن تبان أسعد الحميري.
ثلاثة: خد بالشام وخد بالعراق وخد باليمن رواه ابن أبي حاتم.
وقد استقصيت ذكر أصحاب الاخدود والكلام على تفسيرها في سورة البروج ولله الحمد والمنة.
بيان للاذن في الرواية عن اخبار بني اسرائيل قال الامام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا همام، حدثنا زيد، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال " حدثوا عني ولا تكذبوا علي ومن كذب علي متعمدا فليتبوء مقعده من النار وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ".
وقال أيضا: حدثنا عفان، حدثنا همام، أنبأنا زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال " لا تكتبوا عني شيئا غير القرآن فمن كتب عني شيئا غير القرآن فليمحه " وقال: " حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج حدثوا عني ولا تكذبوا علي قال: " ومن كذب علي - قال همام احسبه قال - متعمدا فليتبوأ مقعده من النار " وهكذا رواه مسلم والنسائي من حديث همام ورواه أبو عوانة الاسفراييني عن أبي داود السجستاني عن هدبة، عن همام، عن زيد بن أسلم به.
ثم قال: قال أبو داود: أخطأ فيه همام، وهو من قول أبي سعيد كذا قال: وقد رواه الترمذي عن سفيان، عن وكيع، عن سفيان بن عيينة، عن زيد بن أسلم ببعضه مرفوعا فالله أعلم.
قال الامام أحمد: حدثنا الوليد بن مسلم، أنبأنا الاوزاعي، حدثنا حسان بن عطية، حدثني أبو كبشة السلولي: أن عبد الله بن عمرو بن العاص حدثه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني يقول: " بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ".
ورواه أحمد أيضا عن عبد الله بن نمير، وعبد الرزاق كلاهما عن الاوزاعي به.
وهكذا رواه البخاري عن أبي عاصم النبيل عن الاوزاعي به.
وكذا رواه الترمذي عن بندار عن أبي عاصم ثم رواه عن محمد بن يحيى الذهلي عن محمد بن يوسف العرياني عن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان عن حسان بن عطية وقال حسن صحيح (1).
وقال أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن المثنى - أبو موسى - حدثنا هشام بن معاوية، حدثنا أبي، عن قتادة، عن أبي حسان، عن عبد الله بن عمرو قال كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا عامة ليلة عن بني إسرائيل حتى نصبح ما نقوم فيها إلا لمعظم صلاة ورواه أبو داود عن
محمد بن مثنى، ثم قال البزار حدثنا محمد بن مثنى، حدثنا عفان، حدثنا أبو هلال عن قتادة، عن أبي حسان، عن عمران بن حصين (2)، قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم " يحدثنا عامة ليلة عن بني
__________
(1) حديث: من كذب علي متعمدا.." متواتر، رواه عن النبي ثمانية وتسعون صحابيا منهم العشرة، ولا يعرف ذلك لغيره فيض القدير 6 / 214.
وقال المنذري في الترغيب: وهذا الحديث قد روي عن غير واحد من الصحابة في الصحاح والسنن والمسانيد وغيرها حتى بلغ مبلغ التواتر.
والله أعلم 1 / 111.
روى الحديث الهيثمي في مجمع الزوائد 1 / 142 باب: فيمن كذب على رسول الله صلى الله عليه من طرقه المختلفة مطولا وعلل رواته وناقليه.
(2) في نسخ البداية المطبوعة حسين وهو تحريف.
إسرائيل لا يقوم إلا لمعظم صلات " (1) قال البزار وهشام أحفظ من أبي هلال يعني أن الصواب عن عبد الله بن عمرو لا عن عمران بن حصين والله أعلم.
وقال الامام أحمد: حدثنا يحيى، هو القطان، عن محمد بن عمرو، حدثنا أبو سلمة، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج " (2) إسناد صحيح ولم يخرجوه.
وقال الحافظ أبو يعلى حدثنا أبو خيثمة، حدثنا وكيع، حدثنا ربيع بن سعد الجعفي، عن عبد الرحمن بن سابط عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " حدثوا عن بني إسرائيل فإنه قد كان فيهم الاعاجيب " (3) ثم أنشأ يحدث صلى الله عليه وسلم: قال خرجت طائفة من بني إسرائيل حتى أتوا مقبرة من مقابرهم فقالوا لو صلينا ركعتين ودعونا الله عزوجل فيخرج لنا رجلا قد مات نسائله يحدثنا عن الموت ففعلوا فبينما هم كذلك إذ أطلع رجل رأسه من قبر من تلك القبور بين عينيه أثر السجود فقال يا هؤلاء ما أردتم إلي فقدمت منذ مائة عام فما سكنت عني حرارة الموت حتى الآن فادعوا الله أن يعيدني كما كنت وهذا حديث غريب.
إذا تقرر جواز الرواية عنهم فهو محمول على ما يمكن أن يكون صحيحا فأما ما يعلم أو يظن بطلانه لمخالفته الحق الذي بأيدينا عن المعصوم، فذاك متروك مردود لا يعرج عليه ثم مع هذا كله لا يلزم من جواز روايته أن تعتقد صحته لما رواه البخاري قائلا: حدثنا محمد بن يسار، حدثنا عثمان بن
عمر، حدثنا علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لاهل الاسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون " (3) تفرد به البخاري من هذا الوجه.
وروى الامام أحمد من طريق الزهري عن أبي نملة الانصاري، عن أبيه أنه كان جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إذا جاء رجل من اليهود فقال: يا محمد هل تتكلم هذه الجنازة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الله أعلم " فقال اليهودي: أنا أشهد أنها تتكلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله فإن كان حقا لم تكذبوهم وإن كان باطلا لم تصدقوهم " (4) تفرد به أحمد.
وقال الامام أحمد: حدثنا شريح بن
__________
(1) أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 1 / 191 عن عمران بن حصين وفيه: لعظم الصلاة.
وقال: رواه البزار وأحمد والطبراني في الكبير وإسناده صحيح.
(2) رواه الهيمثي في مجمع الزوائد 1 / 151 وقال: رواه أحمد وفيه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف وبقية رجاله رجال الصحيح.
(3) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد 1 / 191 وقال: رواه البزار عن شيخه جعفر بن محمد بن أبي وكيع عن ابيه ولم أعرفهما وبقية رجاله ثقات.
وفي هامشه قال: " إنما قال البزار حدثنا جعفر بن محمد بن أبي وكيع نا عبد الله بن نمير، ما رأيت فيه عن أبيه - فليحرر هذا - كما في هامش الاصل ".
(4) مسند أحمد 4 / 136.
النعمان، حدثنا هشيم، أنبأنا مجالد، عن الشعبي، عن جابر بن عبد الله، أن عمر بن الخطاب أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه على النبي صلى الله عليه وسلم قال فغضب وقال: " أمتهوكون فيها يابن الخطاب ؟ والذي نفسي به لقد جئتكم به بيضاء نقية لا تسألوهم عن شئ فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به والذي نفسي به لو أن موسى كان حيا ما وسعه إلا
أن يتبعني " (1).
تفرد به أحمد وإسناده على شرط مسلم، فهذه الاحاديث دليل على أنهم قد بدلوا ما بأيديهم من الكتب السماوية، وحرفوها، وأولوها ووضعوها على غير مواضعها، ولا سيما ما يبدونه من المعربات التي لم يحيطوا بها علما وهي بلغتهم فكيف يعبرون عنها بغيرها، ولاجل هذا وقع في تعريبهم خطأ كبير، ووهم كثير، مع ما لهم من المقاصد الفاسدة والآراء الباردة ؟ وهذا بتحققه من نظر في كتبهم التي بأيديهم، وتأمل ما فيها من سوء التعبير، وقبيح التبديل والتغيير، وبالله المستعان وهو نعم المولى ونعم النصير.
وهذه التوراة التي يبدونها ويخفون منها كثيرا فيما ذكروه فيها تحريف وتبديل وتغيير وسوء تعبير يعلم من نظر فيها وتأمل ما قالوه وما أبدوه وما أخفوه وكيف يسوغون عبارة فاسدة البناء والتركيب باطلة من حيث معناها وألفاظها.
وهذا كعب الاحبار من أجود من ينقل عنهم وقد أسلم في زمن عمر، وكان ينقل شيئا عن أهل الكتاب فكان عمر رضي الله عنه يستحس بعض ما ينقله لما يصدقه من الحق وتأليفا لقلبه فتوسع كثير من الناس في أخذ ما عنده وبالغ أيضا هو في نقل تلك الاشياء التي كثير منها ما يساوي مداده.
ومنها ما هو باطل لا محالة.
ومنها ما هو صحيح لما يشهد له الحق الذي بأيدينا.
وقد قال البخاري: وقال أبو اليمان، حدثنا شعيب، عن الزهري: أخبرني حميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية يحدث رهطا من قريش بالمدينة.
وذكر كعب الاحبار فقال إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب (2).
يعني من غير قصد منه.
وروى البخاري من حديث الزهري عن عبيدالله بن عبد الله عن ابن عباس أنه قال: كيف تسألون أهل الكتاب عن شئ وكتابكم الذي أنزل الله على رسوله أحدث الكتب بالله تقرأونه محضا لم يشب وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله وغيروه وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا: هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم لا والله ما رأينا منهم رجلا يسألكم عن الذي أنزل عليكم (3).
وروى ابن جرير عن عبد الله بن مسعود أنه قال: لا تسألوا أهل الكتاب عن
__________
(1) مسند أحمد ج 3 / 387.
ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد قال: رواه أحمد وأبو يعلى والبزار وفيه مجالد بن سعيد ضعفه أحمد ويحيى بن سعيد وغيرهما 1 / 174.
(2) صحيح البخاري - كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لا تسألوا أهل الكتاب ص 8 / 160 دار الفكر - بيروت.
(3) انظر المرجع السابق.
- قوله لم يشب: أي لم يخلط بغيره.
- قوله أحدث: أي أقرب نزولا.
شئ فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا إما أن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل (1) والله أعلم.
قصة جريج أحد عباد بني اسرائيل قال الامام أحمد: حدثنا وهب بن جرير، حدثني أبي سمعت محمد بن سيرين، يحدث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة عيسى بن مريم " (2) قال وكان في بني إسرائيل رجل عابد يقال له جريج، فابتنى صومعة وتعبد فيها، قال: فذكر بنو سرائيل عبادة جريج فقالت بغي منهم لئن شئتم لافتتنه فقالوا: قد شئنا ذاك قال فأتته فتمرضت له فلم يلتفت إليها فأمكنت نفسها من راع كان يؤوي غنمه، إلى أصل صومعة جريج فحملت فولدت غلاما فقالوا ممن ؟ قالت من جريج، فأتوه فاستنزلوه فشتموه وضربوه وهدموا صومعته فقال: ما شأنكم ؟ قالوا إنك زنيت بهذه البغي فولدت غلاما فقال وأين هو ؟ قالوا هو هذا.
قال فقام فصلى ودعا ثم انصرف إلى الغلام فطعنه باصبعه فقال بالله يا غلام من أبوك ؟ فقال أنا ابن الراعي فوثبوا إلى جريج فجعلوا يقبلونه، وقالوا: نبني صومعتك من ذهب.
قال: لا حاجة لي في ذلك ابنوها من طين كما كانت.
قال وبينما امرأة في حجرها ابن لها ترضعه إذ مر بها راكب ذو شارة (3) فقالت: اللهم اجعل ابني مثل هذا ؟ قال فترك ثديها، وأقبل على الراكب فقال: اللهم لا تجعلني مثله.
قال: ثم عاد إلى ثديها فمصه.
قال أبو هريرة فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي صنيع الصبي ووضع إصبعه في فيه يمصها.
ثم مرت بأمة تضرب فقالت: اللهم لا تجعل ابني مثلها قال فترك ثديها وأقبل على الامة فقال اللهم اجعلني مثلها قال فذاك حين تراجعا الحديث (4).
فقالت:
خلفي (5) مر الراكب ذو الشارة، فقلت: اللهم اجعل ابني مثله.
فقلت: اللهم لا تجعلني مثله، ومررت بهذه الامة فقلت " اللهم لا تجعل ابني مثلها، فقلت اللهم اجعلني مثلها (6) فقال يا أمتاه إن الراكب ذو الشارة جبار من الجبابرة وإن هذه الامة يقولون: زنت ولم تزن وسرقت ولم تسرق، وهي تقول حسبي الله.
وهكذا رواه البخاري في أحاديث الانبياء وفي المظالم عن مسلم بن إبراهيم ومسلم في كتاب الادب عن زهير بن حرب عن يزيد بن هرون كلاهما عن جرير بن حازم به طريق
__________
(1) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد 1 / 192 عن أبي الزعرا عن عبد الله وفيه: " وقد أضلوا أنفسهم إما أن يحدثوكم بصدق فتكذبونهم أو بباطل فتصدقونهم " رواه الطبراني في الكبير ورجاله موثقون.
(2) مسند أحمد ج 2 / 307، 308 وأخرجه مسلم في 45 كتاب البر والادب 2 باب تقديم بر الوالدين 8 / 2550.
(3) ذو الشارة: الشارة الهيئة واللباس.
(4) صحيح مسلم في 45 كتاب الادب 2 / 8 / 2550 والبخاري في أحاديث الانبياء حديث رقم: 653.
(5) في صحيح مسلم: حلقى: أي أصابه الله بوجع في حلقه.
(6) هنا: إشارة إلى سلامتها من المعاصي ; يعني اللهم اجعلني سالما من المعاصي مثلها كما هي سالمة.
أخرى وسياق آخر (1).
قال الامام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا سليمان بن المغيرة، حدثنا حميد بن هلال، عن أبي رافع عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كان جريج يتعبد في صومعته قال: فأتته أمه فقالت يا جريج أنا أمك وكلمني قال وكان أبو هريرة يصف كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع يده على حاجبه الايمن قال وصادفته يصلي قال: يا رب أمي وصلاتي، فاختار صلاته فرجعت، ثم أتته فصادفته يصلي فقالت: يا جريج أنا أمك فكلمني فقال: يا رب أمي وصلاتي فاختار صلاته، فقالت: اللهم هذا جريج وإنه ابني وإني كلمته فأبى أن يكلمني اللهم فلا تمته حتى تريه المومسات.
ولو دعت عليه أن يفتتن لافتتن.
قال: وكان راع يأوي إلى ديره فخرجت امرأة فوقع عليها الراعي فولدت غلاما فقيل ممن هذا ؟ فقالت: هو من صاحب الدير فأقبلوا بفؤوسهم
ومساحيهم وأقبلوا إلى الدير فنادوه فلم يكلمهم فأقبلوا يهدمون ديره، فنزل إليهم فقالوا سل هذه المرأة - قال أراه تبسم - قال: ثم مسح رأس الصبي فقال من أبوك ؟ قال راعي الضأن قالوا يا جريج نبني ما هدمنا من ديرك بالذهب والفضة قال: لا ولكن اعيدوه كما كان ففعلوا ورواه مسلم في الاستيذان عن شيبان بن فروخ عن سليمان بن المغيرة به (2).
سياق آخر قال الامام أحمد (3) حدثنا عفان حدثنا حماد أنبأنا ثابت عن أبي رافع عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كان في بني إسرائيل رجل يقال له جريج كان يتعبد في صومعته فأتته أمه ذات يوم فنادته فقالت: أي جريج، أي بني، أشرف علي أكلمك أنا أمك أشرف علي فقال: أي ربي صلاتي وأمي فأقبل على صلاته، ثم عادت فنادته مرارا فقالت: أي جريج أي بني اشرف علي فقال: أي رب صلاتي وأمي فأقبل على صلاته فقالت: اللهم لا تمته حتى تريه المومسة وكانت راعية ترعى غنما لاهلها ثم تأوي إلى ظل صومعته فأصابت فاحشة فحملت فأخذت.
وكان من زنى منهم قتل، فقالوا ممن ؟ قالت من جريج صاحب الصومعة فجاؤوا بالفؤوس والمرور، فقالوا: أي جريج أي مرائي ؟ انزل فأبى وأقبل على صلاته يصلي فأخذوا في هدم صومعته فلما رأى ذلك نزل، فجعلوا في عنقه وعنقها حبلا فجعلوا يطوفون بهما في الناس فوضع أصبعه على بطنها فقال: أي غلام من أبوك ؟ فقال: أبي فلان راعي الضأن، فقبلوه وقالوا إن شئت بنينا لك صومعتك من
__________
(1) تراجعا الحديث: معناه أقبلت على الرضيع تحدثه، وكانت، أولا، لا تراه أهلا للحديث، فلما تكرر منه الكلام علمت أنه أهل له فسألته وراجعته.
(2) صحيح مسلم 45 / 2 / 7 / 2550 وأحمد في مسنده 2 / 433.
- المومسات: الزواني البغايا المتجاهرات بذلك، الواحدة: مومسة.
- ديره: الدير الكنيسة المنقطعة عن العمارة، تنقطع فيها رهبان النصارى لتعبدهم، وهو بمعنى الصومعة.
- مساحيهم: المساحي جمع مسحاة وهي كالمجرفة إلا أنها من حديد.
ذهب وفضة قال أعيدوها كما كانت وهذا سياق غريب وإسناده على شرط مسلم ولم يخرجه أحد من
أصحاب الكتب من هذا الوجه (1).
فهؤلاء ثلاثة تكلموا في المهد عيسى بن مريم عليه السلام وقد تقدم الكلام على قصته وصاحب جريج ابن البغي من الراعي كما سمعت واسمه يابوس كما ورد مصرحا به في صحيح البخاري والثالث ابن المرأة التي كانت ترضعه فتمنت له أن يكون كصاحب الشارة الحسنة فتمنى أن يكون كتلك الامة المتهومة بما هي بريئة منه وهي تقول: حسبي الله ونعم الوكيل.
كما تقدم في رواية محمد بن سيرين عن أبي هريرة مرفوعا.
وقد رواه الامام أحمد عن هوذة عن عوف الاعرابي عن خلاس عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بقصة هذا الغلام الرضيع وهو إسناد حسن.
وقال البخاري: حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب، حدثنا أبو الزناد، عن عبد الرحمن الاعرج حدثه أنه سمع أبا هريرة، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " بينما أمرأة ترضع ابنها إذ مر بها راكب وهي ترضعه فقالت اللهم لا تمت ابني حتى يكون مثل هذا فقال: اللهم لا تجعلني مثله، ثم رجع في الثدي ومر بامرأة تجر ويلعب بها، فقالت: اللهم لا تجعل ابني مثل هذه فقال: اللهم اجعلني مثلها.
فقال أما الراكب فإنه كافر.
وأما المرأة فإنهم يقولون إنه تزني وتقول حسبي الله ويقولون تسرق وتقول حسبي الله.
وقد ورد في من تكلم في المهد أيضا شاهد يوسف كما تقدم وابن ماشطة آل فرعون والله أعلم.
قصة برصيصا وهي عكس قضية جريج فإن جريجا عصم وذلك فتن.
قال ابن جرير: حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي، أنبأنا أبي، عن أبيه، عن جده، عن الاعمش، عن عمارة، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله بن مسعود في هذه الآية: (كمثل الشيطان إذ قال للانسان اكفر فلما كفر قال إني برئ منك إني أخاف الله رب العالمين.
فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين) [ الحشر: 16 - 17 ].
قال ابن مسعود وكانت امرأة ترعى الغنم وكان لها اخوة أربعة وكانت تأوي بالليل إلى صومعة راهب قال: فنزل الراهب ففجر بها فحملت، فأتاه الشيطان فقال له اقتلها ثم ادفنها فإنك رجل تصدق ويسمع قولك فقتلها ثم دفنها قال فأتى الشيطان
أخوتها في المنام فقال لهم: إن الراهب صاحب الصومعة فجر بأختكم فلما أحبلها قتلها ثم دفنها في مكان كذا وكذا.
فلما أصبحوا قال رجل منهم: والله لقد رأيت البارحة رؤيا ما أدري أقصها عليكم أم أترك قالوا: لا بل قصها علينا قال فقصها فقال الآخر: وأنا والله لقد رأيت ذلك فقال الآخر: وأنا والله لقد رأيت ذلك قالوا فوالله ما هذا إلا لشئ فانطلقوا فاستعدوا (2) ملكهم على
__________
(1) مسند أحمد ج 2 / 385.
(2) استعدوا ملكهم: أي استعانوا به فأنصفهم منه.
ذلك الراهب فأتوه فأنزلوه.
ثم انطلقوا به فأتاه الشيطان، فقال: إني أنا أوقعتك في هذا، ولن ينجيك منه غيري فاسجد لي سجدة واحدة وانجيك مما أوقعتك فيه قال فسجد له فلما أتوا به ملكهم تبرأ منه وأخذ فقتل.
وهكذا روي عن ابن عباس وطاوس ومقاتل ابن حيان نحو ذلك.
وقد روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه بسياق آخر.
فقال ابن جرير: حدثنا خلاد بن أسلم، حدثنا النضر بن شميل، أنبأنا شعبة، عن أبي إسحاق: سمعت عبد الله بن نهيك، سمعت عليا يقول: إن راهبا تعبد ستين سنة، وإن الشيطان أراده فأعياه فعمد إلى امرأة فأجنها ولها أخوة فقال لاخوتها عليكم بهذا القس فيداويها قال: فجاؤوا بها إليه فداواها وكانت عنده، فبينما هو يوما عندها إذ أعجبته فأتاها فحملت فعمد إليها فقتلها فجاء إخوتها فقال الشيطان للراهب أنا صاحبك إنك اعييتني أنا صنعت هذا بك فأطعني أنجك مما صنعت بك اسجد لي سجدة، فسجد له قال: إني برئ منك إني أخاف الله رب العالمين فذلك قوله: (كمثل الشيطان إذ قال للانسان اكفر فلما كفر قال إني برئ منك إني أخاف الله رب العالمين).
قصة الثلاثة الذين أووا إلى الغار فانطبق عليهم فتوسلوا إلى الله تعالى بصالح أعمالهم ففرج عنهم.
قال الامام البخاري: حدثنا اسماعيل بن خليل، أخبرنا علي بن مسهر، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر،
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " بينما ثلاثة نفر ممن كان قبلكم يمشون إذ أصابهم مطر فآووا إلى غار فانطبق عليهم، فقال بعضهم لبعض: إنه والله يا هؤلاء لا ينجيكم إلا الصدق، فليدع كل رجل منكم بما يعلم أنه قد صدق فيه فقال واحدا منهم: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أجير عمل لي على فرق (1) من أرز فذهب وتركه وإني عمدت إلى ذلك الفرق فزرعته فصار من أمره أني اشتريت منه بقرا وأنه أتاني يطلب أجره فقلت اعمد إلى تلك البقرة فسقها فقال لي إنما لي عندك فرق من أرز فقلت له اعمد إلى تلك البقر فإنها من ذلك الفرق فساقها فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا.
فانساخت عنهم الصخرة.
فقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت آتيهما كل ليلة بلبن غنم لي فأبطأت عنهما ليلة فجئت وقد رقدا وأهلي وعيالي يتضاغون (2) من الجوع وكنت لا أسقيهم حتى يشرب أبواي فكرهت أن أوقظهما وكرهت أن ادعهما فيستكنا لشربتهما فلم أزل أنتظر حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا.
فانساخت عنهم الصخرة حتى نظروا إلى السماء.
فقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أنه كانت لي ابنة عم من أحب الناس إلي وإني راودتها عن نفسها فأبت إلا أن آتيها بمائة دينار
__________
(1) فرق: بفتح الراء واسكانها والفتح أشهر: هو إناء يسع ثلاثة آصع.
(2) يتضاغون: يصيحون ويستغيثون من الجوع.
فطلبتها حتى قدرت فأتيتها بها فدفعتها إليها فأمكنتني من نفسها فلما قعدت بين رجليها (1) قالت اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه (2) فقمت وتركت المائة دينار، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا ففرج الله عنهم فخرجوا، رواه مسلم عن سويد بن سعيد عن علي بن مسهر به وقد رواه الامام أحمد منفردا به عن مروان بن معاوية، عن عمرو بن حمزة بن عبد الله بن عمر، عن سالم، عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه (3).
ورواه الامام أحمد من حديث وهب بن منبه عن النعمان بن بشير، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو من هذا السياق وفيه زيادات ورواه البزار من طريق أبي إسحاق عن رجل من بجيلة عن النعمان بن بشير مرفوعا مثله ورواه البزار في مسنده من حديث أبي
حنش عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.
خبر الثلاثة الاعمى والابرص والاقرع روى البخاري ومسلم من غير وجه: عن همام بن يحيى، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، حدثني عبد الرحمن بن أبي عمرة أن أبا هريرة حدثه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن ثلاثة في بني إسرائيل أبرص (4) وأعمى وأقرع بدا لله أن يبتليهم فبعث الله إليهم ملكا فأتى الابرص فقال له: أي شئ أحب إليك فقال لون حسن، وجلد حسن قد قذرني الناس قال: فمسحه فذهب عنه فأعطي لونا حسنا وجلدا حسنا.
فقال: أي المال أحب إليك قال الابل أو قال البقر - هو شك في ذلك أن الابرص والاقرع قال أحدهما الابل وقال الآخر البقر - فأعطي ناقة عشراء (5) فقال يبارك لك فيها.
قال وأتى الاقرع فقال له: أي المال أحب إليك قال: شعر حسن، ويذهب عني هذا قد قذرني الناس فمسحه فذهب وأعطي شعرا حسنا قال: فأي المال أحب إليك قال: البقر فأعطاه بقرة حاملا وقال يبارك لك فيها قال وأتى الاعمي فقال: أي شئ أحب إليك قال: يرد الله إلي بصري فأبصر به الناس قال: فمسحه فرد الله إليه بصره قال: فأي المال أحب إليك قال: الغنم فأعطاه شاة والدا (6) فانتج هذان وولد هذا فكان لهذا واد من الابل ولهذا واد من البقر ولهذا واد من الغنم ثم أنه أتى الابرص في صورته وهيئته فقال: رجل مسكين تقطعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال بعيرا أتبلغ عليه في سفري فقال له: إن الحقوق كثيرة فقال له كأني أعرفك ألم تكن أبرص
__________
(1) قعدت بين رجليها: أي جلست مجلس الرجل للوقاع.
(2) لا تفض الخاتم إلا بحقه: الخاتم كناية عن بكارتها، وقولها بحقه: أي بنكاح لا بزني.
(3) مسند الامام أحمد 2 / 116.
صحيح البخاري كتاب الوكالة - باب إذا زرع بمال قوم بغير اذنهم ص 3 / 69.
(4) أبرص: البرص بياض يظهر في ظاهر البدن، لفساد مزاج.
قاموس.
(5) ناقة عشراء: هي الحامل القريبة الولادة.
(6) شاة والدا: أي وضعت ولدها، وهو معها.
يقذرك الناس فقيرا فأعطاك الله عزوجل فقال: لقد ورثت لكابر عن كابر، فقال إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت وأتى الاقرع في صورته وهيئته فقال له مثل ما قال لهذا فرد عليه مثل ما رد عليه هذا.
فقال: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت.
وأتى الاعمى في صورته فقال رجل مسكين وابن سبيل وتقطعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك اسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري فقال قد كنت أعمى فرد الله إلي بصري وفقيرا فقد أغناني فخذ ما شئت فوالله لا أجهدك اليوم بشئ أخذته لله عزوجل فقال أمسك مالك فإنما ابتليتم فقد رضي الله عنك وسخط على صاحبيك.
هذا لفظ البخاري في أحاديث بني إسرائيل (1).
حديث الذي استلف من صاحبه ألف دينار فأداها قال الامام أحمد: حدثنا يونس بن محمد، حدثنا ليث، عن جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز، عن أبي هريرة عن رسول صلى الله عليه وسلم أنه ذكر: " أن رجلا من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار فقال ائتني بشهداء أشهدهم قال: كفى بالله شهيدا قال: ائتني بكفيل قال كفى بالله كفيلا قال: صدقت فدفعها إليه إلي أجل مسمى فخرج في البحر فقضى حاجته، ثم التمس مركبا يقدم عليه للاجل الذي أجله فلم يجد مركبا فأخذ خشبة فنقرها، وأدخل فيها ألف دينار وصحيفة معها إلى صاحبها ثم زجج (2) موضعها ثم أتى بها البحر.
ثم قال: اللهم إنك قد علمت أني استسلفت فلانا ألف دينار فسألني كفيلا فقلت كفى بالله كفيلا فرضي بذلك، وسألني شهيدا فقلت كفى بالله شهيدا فرضي بذلك، وإني قد جهدت أن أجد مركبا أبعث إليه بالذي أعطاني فلم أجد مركبا وإني أستو دعتكها فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه ثم انصرف وهو في ذلك يطلب مركبا إلى بلده فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركبا يجيئه بماله فإذا بالخشبة التي فيها المال فأخذها لاهله حطبا فلما كسرها وجد المال والصحيفة ثم قدم الرجل الذي كان تسلف منه فأتاه بألف دينار وقال والله ما زلت جاهدا في طلب مركب لآتيك بمالك فما وجدت مركبا قبل الذي أتيت فيه قال هل كنت بعثت إلي بشئ قال: ألم أخبرك أني لم أجد مركبا
قبل هذا الذي جئت فيه قال: فإن الله أدى عنك الذي بعثت به في الخشبة فانصرف بألفك راشدا.
هكذا رواه الامام أحمد مسندا وقد علقه البخاري (3) في غير موضع من صحيحه بصيغة الجزم عن الليث بن سعد وأسنده في بعضها عن عبد الله بن صالح كاتب الليث عنه، والعجب
__________
(1) أخرجه مسلم في 53 كتاب الزهد 10 / 2964 ص 4 / 2275 - 2276.
والحديث في صحيح البخاري رقم: 1626.
(2) زجج: أي سوى موضع النقر وأصلحه.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب في اللقطة - باب إذا وجد خشبة.
ج 3 / 93 دار الفكر، وفي كتاب الاجارة - باب الكفالة ج 3 / 56.
من الحافظ أبي بكر البزار كيف رواه في مسنده عن الحسن بن مدرك عن يحيى بن حماد، عن أبي عوانة، عن عمر بن سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه ثم قال لا يروى إلا من هذا الوجه بهذا الاسناد.
قصة أخرى شبيهة بهذه القصة في الصدق والامانة قال البخاري: حدثنا إسحاق بن نصر أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اشترى رجل من رجل عقارا " (1) له فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب فقال له الذي اشترى العقار خذ ذهبك مني إنما اشتريت منك الارض ولم ابتع منك الذهب وقال الذي له الارض إنما بعتك الارض وما فيها فتحاكما إلى رجل فقال الذي تحاكما إليه ألكما ولد قال أحدهما لي غلام، وقال الآخر لي جارية قال انكحوا الغلام الجارية وانفقوا على أنفسهما منه وتصدقا.
هكذا روى البخاري هذا الحديث في أخبار بني إسرائيل وأخرجه مسلم (2) عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق به وقد روى أن هذه القصة وقعت في زمن ذي القرنين.
وقد كان قبل بني إسرائيل بدهور متطاولة والله أعلم.
قال إسحاق بن بشر في كتابه المبتدأ عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن: أن ذا
القرنين كان يتفقد أمور ملوكه وعماله بنفسه وكان لا يطلع على أحد منهم خيانة إلا أنكر ذلك عليه، وكان لا يقبل ذلك حتى يطلع هو بنفسه.
قال فبينما هو يسير متنكرا في بعض المدائن، فجلس إلى قاض من قضاتهم أياما لا يختلف إليه أحد في خصومة فلما أن طال ذلك بذي القرنين ولم يطلع على شئ من أمر ذلك القاضي وهم بالانصراف إذا هو برجلين قد اختصما إليه فادعى أحدهما فقال: أيها القاضي إني اشتريت من هذا دارا عمرتها ووجدت فيها كنزا وإني دعوته إلى أخذه فأبى علي فقال له القاضي: ما تقول ؟ قال: ما دفنت وما عملت به فليس هو لي ولا أقبضه منه قال المدعي: أيها القاضي مر من يقبضه فتضعه حيث أحببت فقال القاضي تفر من الشر، وتدخلني فيه ما أنصفتني وما أظن هذا في قضاء الملك فقال القاضي هل لكما أمرا نصف مما دعوتماني إليه قالا: نعم قال: للمدعي ألك أبن ؟ قال نعم وقال للآخر ألك ابنة ؟ قال: نعم قال: اذهبا فزوج ابنتك من ابن هذا وجهزهما من هذا المال وادفعا فضل ما بقي إليهما يعيشان به فتكونا مليا بخيره وشره فعجب ذو القرنين حين سمع ذلك ثم قال للقاضي: ما ظننت أن في الارض أحدا يفعل مثل هذا أو قاض يقضي بمثل هذا فقال القاضي وهو لا يعرفه وهل أحد يفعل غير هذا قال
__________
(1) العقار: هو الارض وما يتصل بها، وحقيقة العقار الاصل، سمي بذلك من العقر ومنه: عقر الدار.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه 30 كتاب الاقضية 11 باب 21 / 1721 ص 3 / 1345 والحديث في البخاري رقم: 1630.
ذو القرنين: نعم قال القاضي فهل يمطرون في بلادهم فعجب ذو القرنين من ذلك وقال بمثل هذا قامت السموات والارض.
قصة أخرى قال البخاري: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن أبي عدي، عن شعبة، عن قتادة عن أبي الصديق الناجي، عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنسانا ثم خرج يسأل فأتى راهبا فسأله فقال هل من توبة قال لا فقتله فجعل
يسأل فقال له رجل ائت قرية كذا وكذا فأدركه الموت فناء بصدره (1) نحوها فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فأوحى الله إلى هذه أن تقربي وأوحى إلى هذه أن تباعدي وقال قيسوا ما بينهما فوجد إلى هذه أقرب بشبر فغفر له هكذا رواه ههنا مختصرا وقد رواه مسلم عن بندار به ومن حديث شعبة ومن وجه آخر عن قتادة بن مطولا (2).
حديث آخر قال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، حدثنا أبو الزناد، عن الاعرج، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح ثم أقبل على الناس فقال بينما رجل يسوق بقرة إذ ركبها فضربها فقالت إنا لم نخلق لهذا إنما خلقنا للحرث فقال الناس سبحان الله بقرة تكلم فقال فإني أؤمن بهذا أنا وأبو بكر وعمر وما هما ثم (قال) وبينما رجل في غنمه إذ عدا الذئب فذهب منها بشاة فطلب حتى كأنه استنقذها منه فقال له الذئب هذا ! استنقذتها مني فمن لها يوم السبع يوم لا راعي لها غيري فقال الناس سبحان الله ذئب يتكلم قال فإني أو من بهذا أنا وأبو بكر وعمر وما هما " (3).
ثم (قال) وحدثنا علي قال حدثنا سفيان، عن مسعر، عن سعد بن إبراهيم، عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله.
وقد أسنده البخاري في المزارعة عن علي بن المديني ومسلم عن محمد بن عباد كلاهما عن سفيان بن عيينة وأخرجاه من طريق شعبة كلاهما عن مسعر به.
وقال الترمذي حسن صحيح وأخرج مسلم الطريق الاول من حديث سفيان بن عيينة وسفيان الثوري كلاهما عن أبي الزناد.
حديث آخر قال البخاري: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثنا إبراهيم، عن سعد، عن أبيه، عن
__________
(1) نأى بصدره: أي نهض.
(2) أخرجه مسلم في 49 كتاب التوبة 8 باب ح 46 / 47، 2766 وأخرجه البخاري في كتاب الانبياء ح 54.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب فضائل أصحاب النبي (5) وكتاب الانبياء (54) ومسلم في كتاب فضائل الصحابة 12 وأحمد في مسنده ج 2 / 245، 502.
أبي سلمة، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنه كان فيما مضى قبلكم من الامم محدثون وإنه إن كان في أمتي هذه منهم فإنه عمر بن الخطاب " (1) لم يخرجه مسلم من هذا الوجه وقد روى عن إبراهيم بن سعد عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها.
حديث آخر قال البخاري: حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن [ بن عوف ] أنه سمع معاوية بن أبي سفيان عام حج على المنبر فتناول قصة من شعر كانت في يدي حرسي فقال يا أهل المدينة أين علماؤكم ؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذه ويقول: " إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذها نساؤهم " (2).
وهكذا رواه مسلم وأبو داود من حديث مالك وكذا رواه معمر ويونس وسفيان بن عيينة عن الزهري بنحوه.
وقال الترمذي حديث صحيح.
وقال البخاري حدثنا آدم حدثنا شعبة حدثنا عمرو بن مرة قال سمعت سعيد بن المسيب قال قدم معاوية بن أبي سفيان المدينة آخر قدمة قدمها فخطبنا فأخرج من كمه كبسة (3) شعر وقال ما كنت أرى أحدا يفعل هذا غير اليهود إن النبي صلى الله عليه وسلم: " سماه الزور " - يعني الوصال في الشعر - تابعه غندر عن شعبة والعجب أن مسلما رواه من غير وجه عن غندر عن شعبة ومن حديث قتادة عن سعيد بن المسيب به (4).
حديث آخر قال البخاري، حدثنا سعيد بن تليد، حدثنا ابن وهب.
قال: أخبرني جرير بن حازم، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بينما كلب يطيف بركية كاد يقتله العطش إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل فنزعت موقها فسقته فغفر لها به ".
ورواه مسلم عن أبي الطاهر بن السرح عن ابن وهب به (5).
__________
(1) أخرجه البخاري في فضائل الصحابة (6) والانبياء (54) ومسلم في كتاب فضائل الصحابة (23) والترمذي في المناقب (17) وأحمد في مسنده 6 / 55.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه 37 كتاب اللباس 122 / 2127 ورواه عن معمر: وفي روايته: إنما عذب بنو اسرائيل.
والحديث في صحيح البخاري رقم 1627.
(3) كبة: هي شعر مكفوف بعضه على بعض.
(4) صحيح مسلم 37 / 123 - 124.
(5) أخرجه مسلم في 39 كتاب السلام 154 / 155 / 2245.
والبخاري في الانبياء (54).
- يطيف: أي يدور حولها.
- ركية: بئر.
- موقها: الموق هو الخف، فارسي معرب، والمعنى أنها نزعت له بموقها أي استقت.
حديث آخر قال البخاري: حدثنا عبد الله بن أسماء، حدثنا جويرية، عن نافع، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار، فلا هي أطعمتها ولا سقتها إذ حبستها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الارض ".
وكذا رواه مسلم عن عبد الله بن محمد بن أسماء به (1).
حديث آخر قال الامام أحمد: حدثنا عثمان بن عمر، حدثنا المستمر بن الريان، حدثنا أبو نضرة عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كان في بني إسرائيل امرأة قصيرة فصنعت رجلين من خشب فكانت تمشي بين امرأتين قصيرتين (2) واتخذت خاتما من ذهب وحشت تحت فصه أطيب الطيب والمسك فكانت إذا مرت بالمجلس حركته فنفح ريحه " (3).
رواه مسلم من حديث المستمر وخليد بن جعفر كلاهما عن أبي نضرة عن أبي سعيد مرفوعا قريبا منه وقال الترمذي حديث صحيح.
حديث آخر
قال البخاري حدثنا آدم حدثنا شعبة عن منصور سمعت ربعي بن حراش يحدث عن ابن مسعود قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الاولى " إذا لم تستح فاصنع ما شئت " (4) تفرد به البخاري دون مسلم وقد رواه بعضهم عن ربعي بن حراش عن حذيفة مرفوعا وموقوفا أيضا والله أعلم.
حديث آخر قال الامام أحمد: حدثنا هاشم بن القسم، حدثنا عبد الحميد - يعني ابن بهرام - حدثنا شهر بن حوشب قال: قال أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بينما رجل وامرأة له في السلف الخالي لا يقدران على شئ فجاء الرجل من سفره فدخل على امرأته جائعا قد أصابته [ مسغبة ]
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه 39 / كتاب السلام 152 / 2243 والبخاري في آذان 90 وفي كتاب المساقاة (9) والانبياء 54، وابن ماجه في الاقامة 152 وأحمد في مسنده 4 / 251.
(2) عند مسلم: طويلتين.
(3) مسند أحمد ج 3 / 40، ومسلم في صحيحه 40 كتاب الالفاظ من الادب (5) باب استعمال المسك 18 - 19 / 2252.
(4) البخاري في صحيحه كتاب الانبياء 54 والادب 78 ; وأبو داود في كتاب الادب (6) وابن ماجه في الزهد (17) ومالك في الموطأ سفر 46 وأحمد في مسنده ج 4 / 121، 122 - 5 / 273.
شديدة، فقال لامرأته: عندك شئ قالت: نعم أبشر أتاك رزق الله فاستحثها فقال: ويحك ابتغي إن كان عندك شئ قالت: نعم هنيئة نرجو رحمة الله حتى إذا طال عليه المطال قال: ويحك قومي فابتغي إن كان عندك شئ فأتيني به فإني قد بلغت الجهد وجهدت فقالت: نعم الآن ينضج التنور فلا تعجل، فلما أن سكت عنها ساعة، وتحينت أيضا أن يقول لها قالت من عند نفسها لو قمت فنظرت إلى تنوري فقامت فوجدت تنورها ملآن من جنوب الغنم ورحاها تطحن فقامت إلى الرحى فنفضتها واستخرجت ما في تنورها من جنوب الغنم قال أبو هريرة: فوالذي نفس أبي
القاسم بيده عن قول محمد صلى الله عليه وسلم: لو أخذت ما في رحيبها ولم تنفضها لطحنت إلى يوم القيامة " (1).
وقال أحمد: حدثنا أبو عامر، حدثنا أبو بكر، عن هشام، عن محمد، عن أبي هريرة قال: دخل رجل على أهله فلما رأى ملبهم من الحاجة خرج إلى البرية فلما رأت امرأته ما لقي قامت إلى الرحى فوضعتها وإلى التنور فسجرته ثم قالت: اللهم ارزقنا فنظرت فإذا الجفنة قد امتلات قال وذهبت إلى التنور فوجدته ممتلئا قال: فرجع الزوج قال: أصبتم بعد شيئا قالت امرأته: نعم من ربنا فرفعتها إلى الرحى ثم قامت فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال: " أما أنه لو لم ترفعها لم تزل تدور إلى يوم القيامة " قال شهدت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: " والله لان يأتي أحدكم بحزمة حطب ثم يحمله فيبيعه فيستعفف منه خير له من أن يأتي رجلا فيسأله " (2).
قصة الملكين التائبين قال الامام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا المسعودي، عن سماك بن حرب، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه قال: بينما رجل فيمن كان قبلكم كان في مملكته ففكر فعلم أن ذلك منقطع عنه وأن ما هو فيه قد شغله عن عبادة ربه، [ فتسرب ] فانساب ذات ليلة من قصره.
وأصبح في مملكة غيره، وأتى ساحل البحر فكان به يضرب اللبن بالآجر، فيأكل ويتصدق بالفضل، ولم يزل كذلك حتى رقي أمره [ وعبادته وفضله ] إلى ملكهم فأرسل إليه فأبى أن يأتيه، فركب إليه الملك، فلما رآه ولى هاربا فركض في أثره فلم يدركه، فناداه: يا عبد الله إنه ليس عليك مني بأس، فقام حتى أدركه فقال له: من أنت رحمك الله ؟ فقال: أنا فلان بن فلان صاحب مملكة كذا وكذا ففكرت في أمري فعلمت إنما أنا فيه منقطع، وأنه قد شغلني عن عبادة ربي عزوجل.
فتركته وجئت ههنا أعبد ربي فقال له: ما أنت بأحوج لما صنعت مني قال: فنزل عن دابته فسيبها وتبعه فكانا جميعا يعبدان الله عزوجل فدعوا الله أن يميتهما جميعا فماتا ".
قال عبد الله
__________
(1) مسند أحمد 2 / 421.
المسغبة: الجوع مع التعب.
(2) مسند أحمد ج 2 / 257 وفيه: والذي نفسي بيده لان يأخذ أحدكم حبله فيذهب إلى الجبل فيحتطب ثم يأتي به
يحمله على ظهره فيبيعه فيأكل خير له من أن يسأل الناس..".
فلو كنت برملية (1) مصر لاريتكم قبورهما بالنعت الذي نعت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث آخر قال البخاري: حدثنا أبو الوليد، حدثنا أبو عوانة، عن قتادة، عن عقبة بن عبد الغافر، عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إن رجلا كان قبلكم رغسه الله مالا فقال لبنيه لما حضر: أي أب كنت لكم ؟ قالوا: خير أب.
قال: فإني لم أعمل خيرا قط فإذا مت فاحرقوني ثم اسحقوني ثم اذروني في يوم عاصف ففعلوا.
فجمعه الله عزوجل فقال: ما حملك ؟ فقال: مخافتك.
فتلقاه برحمته " (2).
ورواه في مواضع أخر.
ومسلم من طرق عن قتادة به.
ثم رواه البخاري ومسلم من حديث ربعي بن حراش عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.
ومن حديث الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.
حديث آخر قال البخاري: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن عبيدالله بن عبد الله بن عتبة، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كان رجل يداين الناس فكان يقول لفتاه إذا أتيت معسرا فتجاوز عنه لعل الله أن يتجاوز عنا.
قال فلقي الله فتجاوز عنه " (3).
وقد رواه في مواضع أخر ومسلم من طريق الزهري به.
حديث آخر قال البخاري: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثني ملك، عن محمد بن المنكدر، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيدالله، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، أنه سمعه يسأل أسامة بن زيد ماذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطاعون ؟ قال أسامة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الطاعون رجس أرسل على طائفة من بني إسرائيل وعلى من كان قبلكم، فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا فرارا منه " (4).
قال أبو النضر لا يخرجكم إلا
فرارا منه.
ورواه مسلم من حديث مالك، ومن طرق أخر عن عامر بن سعد به: حدثنا
__________
(1) مسند أحمد ج 1 / 451 ما بين معكوفين من المسند.
رملية في المسند رميلة ; ولم أجدها، وورد في معجم البلدان رميلة: قال السمعاني رميلة من قرى بيت المقدس.
(2) رواه البخاري في كتاب التوحيد (35) والانبياء (54) وكتاب الرقاق (25) وأخرجه مسلم في كتاب التوبة 25 و 27.
والنسائي في الجنائز 117 وابن ماجه في الزهد 30 والدارمي في الرقاق 92 والموطأ جنائز 52 وأحمد في مسنده 1 / 5، 398، 2 / 269، 304، 3 / 13، 17، 19 - 4 / 118، 447، 5 / 3، 383، 407.
(3) أخرجه البخاري في الانبياء (54) ومسلم في كتاب المساقاة (31) وأحمد في مسنده ج 2 / 263، 332، 339.
(4) أخرجه البخاري في الانبياء (54) وكتاب القدر (15) والطب (31) ومسلم في السلام، 92، 94، 95 وأحمد في مسنده 1 / 182، 5 / 35، 213.
موسى بن اسماعيل، حدثنا دواد بن أبي الفرات، حدثنا عبد الله بن بريدة، عن يحيى بن يعمر عن عائشة قالت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون أخبرني: " أنه عذاب يبعثه الله على من يشاء من عباده وأن الله جعله رحمة للمؤمنين ليس من أحد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابرا محتسبا يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر شهيد ".
تفرد به البخاري عن مسلم من هذا الوجه (1).
حديث اخر قال البخاري: حدثنا قتيبة، حدثنا ليث، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة أن قريشا أهمهم شأن المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه أسامة.
فقال: أتشفع في حد من حدود الله ؟ ثم قام فخطب ثم قال: " إنما هلك الذين من قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد.
وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها " (2).
وأخرجه بقية الجماعة من طرق عن الليث بن سعد به.
حديث اخر وقال البخاري: حدثنا آدم، حدثنا شعبة، حدثنا عبد الملك بن ميسرة: سمعت النزال بن سبرة الهلالي، عن ابن مسعود قال سمعت رجلا قرأ، وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ خلافها فجئت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فعرفت في وجهه الكراهية وقال: " كلاكما محسن ولا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا) (3) تفرد به البخاري دون مسلم.
حديث اخر قال البخاري: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثنا ابراهيم، عن صالح، عن ابن شهاب، قال: قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: إن أبا هريرة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم " (4).
تفرد به دون مسلم وفي سنن أبي داود: " صلوا في
__________
(1) البخاري في صحيحه كتاب الطب (31) وبرواية أخرى عند مسلم في كتاب الامارة (165).
(2) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم 18، الانبياء 54 حدود 12 ومسلم في حدود 8، 9 - وأبو داود في حدود 4 والترمذي حدود 6 والنسائي - سارق 5، 6 وابن ماجه حدود 6 والدارمي حدود 5 وأحمد في مسنده 3 / 286 - 5 / 9، 6 / 329.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه في خصومات (1) والانبياء (54) وأحمد في مسنده: 1 / 405، 412 - 5 / 124.
(4) البخاري في الصحيح كتاب الانبياء (50) وأبو داود ترجل 18 والنسائي في الزينة 14 وأحمد في مسنده 2 / 240، 260، 309، 401.
نعالكم خالفوا اليهود " (1).
حديث اخر قال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، عن عمرو، عن طاوس، عن ابن عباس: سمعت عمر يقول: قاتل الله فلانا ألم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها.
فباعوها " (2) رواه مسلم من حديث ابن عيينة.
ومن حديث
عمرو بن دينار به ثم قال البخاري تابعه جابر وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا الحديث طرق كثيرة وسيأتي في باب الحيل من كتاب الاحكام إن شاء الله وبه الثقة.
حديث اخر قال البخاري: حدثنا عمران بن ميسرة، حدثنا عبد الوارث، حدثنا خالد عن أبي قلابة، عن أنس بن مالك، قال: ذكروا النار والناقوس، فذكروا اليهود والنصارى: " فأمر بلال أن يشفع الاذان وأن يوتر الاقامة " (3).
وأخرجه بقية الجماعة من حديث أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي به.
والمقصود من هذا مخالفة أهل الكتاب في جميع شعارهم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة كان المسلمون يتحينون وقت الصلواة بغير دعوة إليها.
ثم أمر من ينادي فيهم وقت الصلاة (الصلاة جامعة) ثم أرادوا أن يدعوا إليها بشئ يعرفه الناس فقال قائلون: نضرب بالناقوس وقال آخر: نوري نارا، فكرهوا ذلك لمشابهة أهل الكتاب فأري عبد الله بن زيد بن عبد ربه الانصاري في منامه الاذان فقصها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بلالا فنادى كما هو مبسوط في موضعه من باب الاذان في كتاب الاحكام.
حديث اخر قال البخاري: حدثنا بشر بن محمد، أنبأنا عبد الله، أنبأنا معمر ويونس عن الزهري، أخبرني عبيد الله بن عبد الله: أن عائشة وابن عباس قالا: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة على وجهه فإذا اغتم كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك: لعنة الله على اليهود والنصارى
__________
(1) سنن أبي داود: صلاة (88).
ح 652 ص 1 / 176 وفيه قال صلى الله عليه وسلم: " خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم " عن شداد بن أوس.
(2) صحيح البخاري: أنبياء (50) تفسير سورة رقم 6 / 6.
بيوع: 103، 112.
ومسلم في المساقاة: 72.
والنسائي في البيوع: 93.
وأحمد في مسنده: 1 / 25، 2 / 213 - 3 / 324، 326.
(3) صحيح البخاري الاذان: 1 - 23 أنبياء: (50) ومسلم في صحيحه كتاب الصلاة: 2 - 3 - 5 وأبو داود في صلاة 29 - والترمذي في سننه كتاب الصلاة 27 والنسائي في سننه: اذان (2) وابن ماجه في سننه: أذان:
6 - والدارمي في سننه صلاة: 6 وأحمد في مسنده 3 / 102 - 1089.
اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " (1) يحذر ما صنعوا وهكذا رواه في غير موضع ومسلم من طرق عن الزهري به.
حديث اخر قال البخاري: حدثنا سعيد بن أبي مريم، حدثنا أبو غسان، قال: حدثني زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لنتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه (2)، فقلنا يا رسول الله اليهود والنصارى قال النبي صلى الله عليه وسلم: " فمن ؟ " وهكذا رواه مسلم من حديث زيد بن أسلم به.
والمقصود من هذا الاخبار عما يقع من الاقوال والافعال المنهى عنها شرعا، مما يشابه أهل الكتاب قبلنا أن الله ورسوله ينهيان عن مشابهتهم في أقوالهم وأفعالهم، حتى ولو كان قصد المؤمن خيرا لكنه تشبه ففعله في الظاهر فعلهم، وكما نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها لئلا تشابه المشركين الذين يسجدون للشمس حينئذ، وإن كان المؤمن لا يخطر بباله شئ من ذلك بالكلية وهكذا قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم) [ البقرة: 104 ].
فكان الكفار يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم في كلامهم معه: راعنا أي انظر إلينا ببصرك، واسمع كلامنا، ويقصدون بقولهم راعنا من الرعونة فنهى المؤمنين أن يقولوا ذلك، وإن كان لا يخطر ببال أحد منهم هذا أبدا.
فقد روى الامام أحمد والترمذي من حديث عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له وجعل رزقي تحت ظل رمحي وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري ومن تشبه بقوم فهو منهم فليس للمسلم أن يتشبه بهم لا في أعيادهم ولا مواسمهم ولا في عباداتهم " (3).
لان الله تعالى شرف هذه الامة بخاتم الانبياء الذي شرع له الدين العظيم القويم الشامل الكامل الذي لو كان موسى بن عمران الذي أنزلت عليه التوراة وعيسى بن مريم الذي
أنزل عليه الانجيل حيين لم يكن لهما شرع متبع بل لو كانا موجودين بل وكل الانبياء لما ساغ لواحد منهم أن يكون على غير هذه الشريعة المطهرة المشرفة المكرمة المعظمة فإذا كان الله تعالى قد من علينا بأن جعلنا من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم فكيف يليق بنا أن نتشبه بقوم قد ضلوا من قبل، وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل قد بدلوا دينهم وحرفوه وأولوه حتى صار كأنه غير ما شرع لهم أولا.
ثم هو
__________
(1) صحيح البخاري: أنبياء (5) ; صلاة (55) مغازي 83.
ومسلم في صحيحه: كتاب المساجد: 22 والنسائي مساجد 13 والدارمي في سننه: صلاة (120) وأحمد في مسنده 6 / 229، 275.
(2) صحيح البخاري أنبياء (50)، اعتصام (14) ومسلم في كتاب العلم / 6 ; وابن ماجه في سننه في كتاب الفتن 17 وأحمد في مسنده ج 2 / 325.
(3) مسند أحمد ج 2 / 50، 62.
بعد ذلك كله منسوخ والتمسك بالمنسوخ حرام لا يقبل الله منه قليلا ولا كثيرا ولا فرق بينه وبين الذي لم يشرع بالكلية والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم حديث اخر قال البخاري: حدثنا قتيبة، حدثنا الليث، عن نافع، عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنما أجلكم من أجل من خلا من قبلكم من الامم كما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس وإنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كرجل استعمل عمالا فقال: من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط قيراط فعملت اليهود إلى نصف النهار على قيراط قيراط، ثم قال: من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط فعملت النصارى من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط، ثم قال: من يعمل لي من صلاه العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين، ألا فأنتم الذين تعملون من صلاة العصر إلى المغرب على قيراطين قيراطين ألا لكم الاجر مرتين، فغضب اليهود والنصارى فقالوا نحن أكثر عملا وأقل عطاء قال الله تعالى: (هل ظلمتكم من حقكم شيئا فقالوا: لا قال: فإنه فضلي أوتيه من أشاء) (1) وهذا الحديث فيه دليل على أن مدة هذه الامة
قصيرة بالنسبة إلى ما مضى من مدد الامم قبلها لقوله إنما أجلكم في أجل من خلا من الامم قبلكم كما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس، فالماضي لا يعلمه إلا الله، كما أن الآتي لا يعلمه إلا هو، ولكنه قصير بالنسبة إلى ما سبق ولا اطلاع لاحد على تحديد ما بقي إلا الله عزوجل كما قال الله تعالى: (لا يجليها لوقتها إلا هو) [ الاعراف: 187 ] وقال: (يسألونك عن الساعة أيان مرساهم فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها) [ النازعات: 41 - 43 ].
وما تذكره بعض الناس من الحديث المشهور عند العامة من أنه: " عليه السلام لا يؤلف تحت الارض " فليس له أصل في كتب الحديث وورد فيه حديث أن الدنيا جمعة من جمع الآخرة وفي صحته نظر (2).
والمراد من هذا التشبيه بالعمال تفاوت أجورهم وأن ذلك ليس منوطا بكثرة العمل وقلته، بل بأمور أخر معتبرة عند الله تعالى، وكم من عمل قليل أجدى ما لا يجديه العمل الكثير، هذه ليلة القدر العمل فيها أفضل من عبادة ألف شهر سواها وهؤلاء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أنفقوا في أوقات لو أنفق غيرهم من الذهب مثل أحد ما بلغ من أحدهم ولا نصيفه من تمر وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه الله على رأس أربعين سنة من عمره وقبضه وهو ابن ثلاث وستين على المشهور وقد برز في هذه المدة التي هي ثلاث وعشرون سنة في العلوم النافعة والاعمال الصالحة على سائر الانبياء قبله حتى على نوح الذي لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ويعمل بطاعة
__________
(1) صحيح البخاري: أنبياء (50) فضائل القرآن (17)، والترمذي في كتاب الادب 92 وأحمد في مسنده 2 / 112، 124.
(2) قال الهروي في " الموضوعات الصغرى " 379 / 200 لا أصل له باطل.
الله ليلا ونهارا، صباحا ومساء، صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الانبياء أجمعين، فهذه الامة إنما شرفت وتضاعف ثوابها ببركة سيادة نبيها وشرفه وعظمته كما قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم.
لئلا يعلم أهل الكتاب أن لا يقدرون على شئ من فضل الله وأن الفضل بيد الله
يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم) [ الحديد: 28 - 29 ].
فصل وأخبار بني إسرائيل كثيرة جدا في الكتاب والسنة النبوية، ولو ذهبنا نتقصى ذلك لطال الكتاب ولكن ذكرنا ما ذكره الامام أبو عبد الله البخاري في هذا الكتاب ففيه مقنع وكفاية وهو تذكرة وأنموذج لهذا الباب والله أعلم.
وأما الاخبار الاسرائيلية فيما يذكره كثير من المفسرين والمؤرخين فكثيرة جدا ومنها ما هو صحيح موافق لما وقع، وكثير منها بل أكثرها مما يذكره القصاص مكذوب مفترى وضعه زنادقتهم وضلالهم وهي ثلاثة أقسام: منها ما هو صحيح لموافقته ما قصه الله في كتابه أو أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنها ما هو معلوم البطلان لمخالفته كتاب الله وسنة رسوله، ومنها ما يحتمل الصدق والكذب فهذا الذي أمرنا بالتوقف فيه فلا نصدقه ولا نكذبه كما ثبت في الصحيح: " إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالذي أنزل الينا وأنزل إليكم " (1).
وتجوز روايته مع هذا الحديث المتقدم: " وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج " (2).
تحريف أهل الكتاب وتبديلهم أديانهم أما اليهود فقد أنزل الله عليهم التوراة على يدي موسى بن عمران عليه السلام وكانت كما قال الله تعالى: (ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شئ) [ الانعام: 154 ] وقال تعالى: (قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا) [ الانعام: 91 ] وقال تعالى: (ولقد آتينا موسى وهرون الفرقان وضياء وذكرى للمتقين) [ الانبياء: 48 ] وقال تعالى: (وآتيناهما الكتاب المستبين وهديناهما الصراط المستقيم) [ الصافات: 117 - 118 ] وقال تعالى: (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والاحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشوني ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا.
ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) [ المائدة: 44 ] فكانوا يحكمون بها وهم متمسكون بها
__________
(1) تقدم تخريجه فليراجع في مكانه.
(2) تقدم تخريجه فليراجع في مكانه.
برهة من الزمان، ثم شرعوا في تحريفها وتبديلها وتغييرها وتأويلها وإبداء ما ليس منها، كما قال الله تعالى: (وإن منهم لفريقا يلوون السنتهم ك بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) [ آل عمران: 78 ] فأخبر تعالى أنهم يفسرونها ويتأو لونها ويضعونها على غير مواضعها وهذا ما لا خلاف فيه بين العلماء وهو أنهم يتصرفون في معانيها ويحملونها على غير المراد، كما بدلوا حكم الرجم بالجلد، والتحميم مع بقاء لفظ الرجم فيها، وكما أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، مع أنهم مأمورون بإقامة الحد والقطع على الشريف والوضيع.
فأما تبديل ألفاظها فقال قائلون: بأنها جميعها بدلت، وقال آخرون: لم تبدل واحتجوا بقوله تعالى: (وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله) [ المائدة: 43 ] وقوله: (الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات) الآية [ الاعراف: 157 ] وبقوله: (قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين) [ آل عمران: 93 ] وبقصة الرجم فإنهم كما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر وفي صحيح مسلم عن البراء بن عازب وجابر بن عبد الله وفي السنن عن أبي هريرة وغيره لما تحاكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة اليهودي واليهودية اللذين زنيا فقال لهم: ما تجدون في التوراة (1) في شأن الرجم ؟ فقالوا: نفضحهم ويجلدون فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بإحضار التوراة فلما جاؤوا بها وجعلوا يقرأونها ويكتمون آية الرجم التي فيها ووضع عبد الله بن صور بأيده على آية الرجم وقرأ ما قبلها وما بعدها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ارفع يدك يا أعور، فرفع يده فإذا فيها آية الرجم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجمهما وقال: " اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه "، وعند أبي داود: أنهم لما جاؤوا بها نزع الوسادة من تحته فوضعها تحتها وقال آمنت بك وبمن أنزلك، وذكر بعضهم أنه قام لها
ولم أقف على إسناده والله أعلم (2).
وهذا كله يشكل على ما يقوله كثير من المتكلمين وغيرهم: أن التوراة انقطع تواترها في زمن بخت نصر ولم يبق من يحفظها إلا العزيز، ثم العزير إن كان نبيا فهو معصوم والتواتر إلى المعصوم يكفي، اللهم إلا أن يقال إنها لم تتواتر إليه لكن بعده زكريا ويحيى وعيسى وكلهم كانوا متمسكين بالتوراة فلو لم تكن صحيحة معمولا بها لما اعتمدوا عليها وهم أنبياء
__________
(1) ما تجدون في التوارة: قال العلماء: هذا السؤال ليس لتقليدهم ولا لمعرفة الحكم منهم، وإنما هو لالزامهم بما يعتقدونه في كتابهم.
(2) الحديث أخرجوه من عدة طرق وبروايات مختلفة، صحيح البخاري توحيد (51) جنائز (60) مناقب 26 تفسير آل عمران / 6 اعتصام 16 ومسلم في كتاب الحدود: 13 - 26 - 27 - 28 والترمذي في سننه حدود (10) وابن ماجه في سننه حدود (10) وأبو داود في سننه حدود (25) والدارمي في سننه: حدود (15) ومالك في الموطأ حدود (1) وأحمد في مسنده ج 2 / 7، 62، 63، 76، 126، 280 - 4 / 255، 5 / 91، 92، 94، 95، 96، 104، 108.
معصومون.
ثم قد قال الله تعالى فيما أنزل على رسوله محمد خاتم الانبياء صلوات الله وسلامه عليه وعلى جميع الانبياء منكرا على اليهود في قصدهم الفاسد إذ عدلوا عما يعتقدون صحته عندهم وأنهم مأمورون به حتما لى التحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يعاندون ما جاء به لكن لما كان في زعمهم ما قد يوافقهم على ما ابتدعوه من الجلد والتحميم (1) المصادم لما أمر الله به حتما وقالوا: إن حكم لكم بالجلد والتحميم فاقبلوه وتكونون قد اعتذرتم بحكم نبي لكم عند الله يوم القيامة، وإن لم يحكم لكم بهذا بل بالرجم فاحذروا أن تقبلوا منه، فأنكر الله تعالى عليهم في هذا القصد الفاسد الذي إنما حملهم عليه الغرض الفاسد وموافقة الهوى لا الدين الحق فقال: (وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين اسلموا للذين هادوا والربانيون والاحبار بما استحفظوا من كتاب الله) الآية [ المائدة: 43 - 44 ] ولهذا حكم بالرجم قال: اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه،
وسألهم ما حملهم على هذا ولم تركوا أمر الله الذي بأيديهم ؟ فقالوا: إن الزنا قد كثر في أشرافنا، ولم يمكنا أن نقيمه عليهم، وكنا نرجم من زنى من ضعفائنا.
فقلنا تعالوا إلى أمر نصف نفعله مع الشريف والوضيع فاصطلحنا على الجلد والتحميم فهذا من جملة تحريفهم وتبديلهم وتغييرهم وتأويلهم الباطل وهذا إنما فعلوه في المعاني مع بقاء لفظ الرجم في كتابهم كما دل عليه الحديث المتفق عليه فلهذا قال من قال: هذا من الناس إنه لم يقع تبديلهم إلا في المعاني وإن الالفاظ باقية وهي حجة عليهم إذ لو أقاموا ما في كتابهم جميعه لقادهم ذلك إلى اتباع الحق ومتابعة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم كما قال الله تعالى: (الذين يتبعون الرسول النبي الامي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والاغلال التي كانت عليهم) [ الاعراف: 157 ] الآية.
وقال تعالى: (ولو أنهم أقاموا التوراة والانجيل وما أنزل إليهم من ربهم لاكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة) الآية [ المائدة: 66 ] وقال تعالى: (قل يا أهل الكتاب لستم على شئ حتى تقيموا التوراة والانجيل وما أنزل إليكم من ربكم) الآية [ المائدة: 68 ] وهذا المذهب وهو القول بأن التبديل إنما وقع في معانيها لا في ألفاظها حكاه البخاري عن ابن عباس في آخر كتابه الصحيح وقرر عليه ولم يرده.
وحكاه العلامة فخر الدين الرازي في تفسيره عن أكثر المتكلمين.
ليس للجنب لمس التوراة وذهب فقهاء الحنفية إلى أنه لا يجوز للجنب مس التوراة وهو محدث، وحكاه الحناطي في فتاويه عن بعض أصحاب الشافعي وهو غريب جدا.
وذهب آخرون من العلماء إلى التوسط في هذين القولين منهم شيخنا الامام العلامة أبو العباس بن تيمية رحمه الله فقال: أما من ذهب إلى
__________
(1) التحميم: تسويد الوجوه بالحمم وهو الفحم.
أنها كلها مبدلة من أولها إلى آخرها ولم يبق منها حرف إلا بدلوه فهذا بعيد، وكذا من قال لم يبدل شئ منها بالكلية بعيد أيضا، والحق أنه دخلها تبديل وتغيير وتصرفوا في بعض ألفاظها بالزيادة
والنقص، كما تصرفوا في معانيها وهذا معلوم عند التأمل ولبسطه موضع آخر والله أعلم.
كما في قوله في قصة الذبيح: اذبح ابنك وحيدك وفي نسخة بكرك إسحاق.
فلفظة إسحاق مقحمة مزيدة بلا مرية.
لان الوحيد وهو البكر إسماعيل لانه ولد قبل إسحاق بأربع عشرة سنة فكيف يكون الوحيد البكر إسحاق.
وإنما حملهم على ذلك حسد العرب أن يكون إسماعيل غير الذبيح، فأرادوا أن يذهبوا بهذه الفضيلة لهم، فزادوا ذلك في كتاب الله افتراء على الله وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد اغتر بهذه الزيادة خلق كثير من السلف والخلف ووافقوهم على أن الذبيح إسحاق والصحيح الذبيح إسماعيل كما قدمنا والله أعلم.
وهكذا في توراة السامرة في العشر الكلمات زيادة الامر بالتوجه إلى الطور في الصلاة وليس ذلك في سائر نسخ اليهود والنصارى.
وهكذا يوجد في الزبور المأثور عن داود عليه السلام مختلفا كثيرا وفيه أشياء مزيدة ملحقة فيه وليست منه والله أعلم.
قلت وأما ما بأيديهم من التوراة المعربة فلا يشك عاقل في تبديلها وتحريف كثير من ألفاظها وتغيير القصص والالفاظ والزيادات والنقص البين الواضح وفيها من الكذب البين والخطأ الفاحش شئ كثير جدا فأما ما يتلونه بلسانهم ويكتبونه بأقلامهم فلا إطلاع لنا عليه والمظنون بهم أنهم كذبة خونة يكثرون الفرية على الله ورسله وكتبه.
وأما النصارى فأناجيلهم الاربعة من طريق مرقس ولوقا ومتى ويوحنا أشد اختلافا وأكثر زيادة ونقصا وأفحش تفاوتا من التوراة وقد خالفوا أحكام التوراة والانجيل في غير ما شئ قد شرعوه لانفسهم فمن ذلك صلاتهم إلى الشرق وليست منصوصا عليها ولا مأمورا بها في شئ من الاناجيل الاربعة وهكذا تصويرهم كنائسهم وتركهم الختان ونقلهم صيامهم إلى زمن الربيع وزيادته إلى خمسين يوما وأكلهم الخنزير ووضعهم الامانة الكبيرة وإنما هي الخيانة الحقيرة والرهبانية (1) وهي ترك التزويج لمن أراد التعبد وتحريمه عليه
__________
(1) قال صلى الله عليه وسلم: لا رهبانية في الاسلام.
وقال صلى الله عليه وسلم: إن لانفسكم عليكم حقا فصوموا وافطروا وقوموا وناموا ; فإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر.
وآتي النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني.
قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم.
)، في الآية وكلام النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن
الرهبانية.
قال الرازي في تفسيره: الحكمة في نهي الله تعالى عن الرهبانية فيها وجوه: - أن الرهبانية المفرطة والاحتراز التام عن الطيبات واللذات مما يوقع الضعف في الاعضاء الرئيسة التي هي القلب والدماغ، فتختل الفكرة وتشوش العقل.
وأن أكمل السعادات إنما هو معرفة الله تعالى: فإذا كانت الرهبانية الشديدة مما يوقع الخلل في ذلك بالطريق الذي بيناه لا جرم وقع النهي عنها.
وكتبهم القوانين التي وضعتها لهم الاساقفة الثلاثمائة والثمانية عشر (1) فكل هذه الاشياء ابتدعوها ووضعوها في أيام قسطنطين بن قسطن باني القسطنطينية وكان زمنه بعد المسيح بثلاثمائة سنة وكان أبوه أحد ملوك الروم وتزوج أمه هيلانة في بعض أسفاره للصيد من بلاد حران وكانت نصرانية على دين الرهابين المتقدمين فلما ولد لها منه قسطنطين المذكور تعلم الفلسفة وبهر فيها وصار فيه ميل بعض الشئ إلى النصرانية التي أمه عليها، فعظم القائمين بها بعض الشئ وهو على اعتقاد الفلاسفة، فلما مات أبوه واستقل هو في المملكة سار في رعيته سيرة عادلة فأحبه الناس، وساد فيهم وغلب على ملك الشام بأسره مع الجزيرة، وعظم شأنه وكان أول القياصرة.
ثم اتفق اختلاف في زمانه بين النصارى ومنازعة بين بترك الاسكندرية اكصندروس وبين رجل من علمائهم يقال له عبد الله بن أريوس فذهب اكصندروس إلى أن عيسى ابن الله تعالى الله عن قوله وذهب ابن أريوس إلى أن عيسى عبد الله ورسوله واتبعه على هذا طائفة من النصارى، واتفق الاكثرون الاخسرون على قول بتركهم ومنع ابن أريوس من دخول الكنيسة هو وأصحابه فهذب يستعدي على اكصندروس وأصحابه، إلى ملك قسطنطين فسأله الملك عن مقالته فعرض عليه عبد الله بن أريوس ما يقول في المسيح من أنه عبد الله ورسوله واحتج على ذلك فحال إليه وجنح إلى قوله فقال له قائلون فينبغي أن تبعث إلى خصمه فتسمع كلامه فأمر الملك باحضاره وطلب من سائر الاقاليم كل أسقف وكل من عنده في دين النصرانية وجمع البتاركة الاربعة من القدس وانطاكية ورومية والاسكندرية فيقال إنهم اجتمعوا في مدة سنة وشهرين ما يزيد على ألفي أسقف فجمعهم في مجلس
واحد وهو المجمع الاول من مجامعهم الثلاثة المشهورة، وهم مختلفون اختلافا متباينا منتشرا جدا.
فمنهم الشرذمة على المقالة التي لا يوافقهم أحد من الباقين عليها فهؤلاء خمسون على مقالة.
وهؤلاء ثمانون على مقالة أخرى.
وهؤلاء عشرة على مقالة وأربعون على أخرى ومائة على مقالة ومائتان على مقالة وطائفة على مقالة ابن أريوس وجماعة على مقالة أخرى فلما تفاقم أمرهم وانتشر اختلافهم حار فيهم الملك قسطنطين مع أنه سئ الظن بما عدا دين الصابئين من أسلافه اليونانيين فعمد إلى أكثر جماعة منهم على مقالة من مقالاتهم فوجدهم ثلثمائة وثمانية عشر أسقفا قد اجتمعوا على مقالة اكصندروس ولم يجد طائفة بلغت عدتهم فقال هؤلاء أولى بنصر قولهم لانهم أكثر الفرق فاجتمع بهم خصوصا ووضع سيفه وخاتمه إليهم وقال: إني رأيتكم أكثر الفرق قد اجتمعتم على مقالتكم هذه
__________
= - إن اشتغال النفس بطلب اللذات، إنما هو مسلم لكن في حق النفوس الضعيفة أما النفوس المستعلية الكاملة فإنها لا يكون استعمالها في الاعمال الحسية مانعا لها من الاستكمال بالسعادات العقلية ; فالرهبانية الخالصة دليل على نوع من الضعف والقصور.
- إن من استوفى اللذات الحسية كان غرضه منها الاستعانة بها على استيفاء اللذات العقلية.
- الرهبانية التامة توجب خراب الدنيا وانقطاع الحرث والنسل.
11 / 70 - 71.
(1) في المجمع السكوني الاول.
فأنا أنصرها وأذهب إليها فسجدوا له وطلب منهم أن يضعوا له كتابا في الاحكام وأن تكون الصلاة إلى الشرق لانها مطلع الكواكب النيرة وأن يصوروا في كنائسهم صورا لها جثث فصالحوه على أن تكون في الحيطان فلما توافقوا على ذلك أخذ في نصرهم وإظهار كلمتهم وإقامة مقالتهم وإبعاد من خالفهم وتضعيف رأيه وقوله، فظهر أصحابه بجاهه على مخالفيهم وانتصروا عليهم وأمر ببناء الكنائس على دينهم وهم المليكة نسبة إلى دين الملك فبني في أيام قسطنطين بالشام وغيرها في المدائن والقرى أزيد من اثنتي عشر ألف كنيسة، واعتنى الملك ببناء بيت لحم يعني على مكان مولد المسيح وبنت أمه هيلانة قمامة بيت المقدس على مكان المصلوب الذي زعمت اليهود والنصارى بجهلهم
وقلة علمهم أنه المسيح عليه الصلاة والسلام، ويقال إنه قتل من أعداء أولئك وخد لهم الاخاديد في الارض، وأجج فيها النار، وأحرقهم بها كما ذكرناه في سورة البروج.
وعظم دين النصرانية وظهر أمره جدا بسبب الملك قسطنطين وقد أفسده عليهم فسادا لا إصلاح له ولا نجاح معه ولا فلاح عنده وكثرت أعيادهم بسبب عظمائهم وكثرت كنائسهم (1) على أسماء عبادهم، وتفاقم كفرهم، وغلظت مصيبتهم، وتخلد ضلالهم، وعظم وبالهم، ولم يهد الله قلوبهم ولا أصلح بالهم بل صرف قلوبهم عن الحق، وأمال عن الاستقامة ثم اجتمعوا بعد ذلك مجمعين في قضية النسطورية واليعقوبية، وكل فرقة من هؤلاء تكفر الاخرى وتعتقد تخليدهم في نار جهنم، ولا يرى مجامعتهم في المعابد والكنائس وكلهم يقول بالاقانيم (2) الثلاثة أقنوم الاب وأقنوم الابن وأقنوم الكلمة.
ولكن بينهم اختلاف في الحلول والاتحاد فيما بين اللاهوت والناسوت هل تدرعه (3) أوحل فيه أو اتحد به، واختلافهم في ذلك شديد وكفرهم بسببه غليظ، وكلهم على الباطل إلا من قال من الاريوسية أصحاب عبد الله بن أريوس إن المسيح عبد الله ورسوله وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، كما يقول المسلمون فيه سواء ولكن لما استقر أمر الاريوسية على هذه المقالة تسلط عليهم الفرق الثلاثة بالابعاد والطرد حتى قلوا فلا يعرف اليوم منهم أحد فيما يعلم.
والله أعلم.
كتاب الجامع لاخبار الانبياء المتقدمين قال الله تعالى: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس) الآية [ البقرة: 253 ] وقال تعالى:
__________
(1) قال براستد في العصور القديمة: وكان ارتقاء الفنون بين المسيحيين الاولين بطيئا، ولكن الحاجة إلى وجود أماكن للاجتماع أدت إلى نبوغ بنائين من الدرجة الاولى بين المسيحيين الاولى فبنوا في عهد قسطنطين أماكن للاجتماع مهيبة جدا على نمط الباسيليكا التجارية القوية.
ص 662.
(2) الاقانيم الثلاثة: قال الشهرستاني: يعنون بالاقانيم الصفات كالوجود والحياة والعلم وسموها: الاب والابن وروح القدس، وإنما العلم تدرع وتجسد دون سائر الاقانيم.
(3) تدرع: من فعل ادرع أي دخل، يقال: ادرع الليل: دخل في ظلمته، وكل ما أدخلته في جوف الشئ فقد
أدرعته.